تشنيف المسامع بجمع الجوامع

الزركشي، بدر الدين

تَشْنِيفُ المَسَامِعِ بِجَمْعِ الجَوَامِعِ لِتَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ المُتَوَفَّى 771 هِجْرِيَّةً تأليفُ الإمامِ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بنِ بَهَادِرَ بنِ عبدِ اللهِ الزَّرْكَشِيِّ (المُتَوَفَّى 794 هـ)

مقدمة الشارح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، حَمْداً يَلِيقُ بِجَلالِهِ، والصلاةُ والتسليمُ الأَتَمَّانِ الأَكْمَلاَنِ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ. أمَّا بعدُ: فلَمَّا كانَ كِتَابُ (جَمْعِ الجوامعِ) في أُصُولِ الفِقْهِ لِقَاضِي القُضَاةِ أبي نَصْرٍ عبدِ الوَهَّابِ بنِ الشيخِ الإمامِ أبي الحَسَنِ السُّبْكِيِّ - بَرَّدَ اللهُ مَضْجَعَهُ - مِن الكُتُبِ التي دَقَّتْ مَسَالِكُها، ورَقَّتْ مَدَارِكُها؛ لِمَا اشْتَمَلَ عليه مِن النُّقُولِ الغريبةِ، والمسائلِ العجيبةِ، والحدودِ المنيعةِ، والموضوعاتِ البديعةِ، معَ كثرةِ العِلْمِ، ووَجَازَةِ النَّظْمِ، قد عَلاَ بَحْرُهُ الزاخِرُ، وأَصْبَحَ اللاحِقُ يقولُ: كم تَرَكَ الأوَّلُ للآخِرِ؟ - قد اضْطُرَّ الناسُ إلى حَلِّ مَعَاقِدِهِ، وبيانِ مقاصدِهِ، والوقوفِ على كُنُوزِهِ، ومَعْرِفَةِ رُمُوزِهِ، وليسَ عليه ما نَمَى بهذه المسالِكِ، بَيْدَ أنَّ مُؤَلِّفَه أجابَ عن مواضعَ قليلةٍ مِن ذلكَ، فاسْتَخَرْتُ اللهَ تعالَى في تعليقٍ نافعٍ عليه، يَفْتَحُ مُقْفَلَه، ويُوَضِّحُ مُشْكِلَه، ويُشْهِرُ غَرَائِبَه، ويُظْهِرُ عَجَائِبَه، مُرْتَفِعاً عن الإقلالِ المُخِلِّ، مُنْحَطًّا عن الإطنابِ المُمِلِّ، واللهَ أَسْأَلُ أنْ يَجْعَلَهُ خَالِصاً لِوَجْهِهِ الكريمِ، مُقَرِّباً للفوزِ بجَنَّاتِ النعيمِ، وسَمَّيْتُهُ (تَشْنِيفَ المَسَامِعِ بِجَمْعِ الجَوَامِعِ). ص (نَحْمَدُكَ اللَّهُمَّ على نِعَمٍ يُؤْذِنُ الحمدُ بازْدِيَادِها).

ش: الحمدُ: الثَّنَاءُ بالوصفِ الجميلِ على جِهَةِ التعظيمِ. هذا أحسنُ حُدُودِهِ، فـ (الثَّنَاءُ) جِنْسٌ، وبـ (الجميلِ) فَصْلٌ يُخْرِجُ إطلاقَه على غيرِهِ، ومِنه (فَأَثْنَوْا عليها شرًّا)، والفصلُ الثاني يُخْرِجُ التَّهَكُّمَ، نحوُ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}. وافْتَتَحَ المصنِّفُ بالجملةِ الفعليَّةِ دونَ الاسميَّةِ؛ لِدَلالَةِ الفعليَّةِ على التجَدُّدِ والحُدُوثِ، بخلافِ الاسميَّةِ؛ فإنَّها مَسْلُوبَةُ الدَّلالةِ على الحُدُوثِ وَضْعاً. ولَمَّا كانَ هذا الكِتابُ مِن النِّعَمِ المُتَجَدِّدَةِ، نَاسَبَ أنْ يُؤْتَى بِمَا يَدُلُّ على التجدُّدِ، وانْفَصَلَ المؤلِّفُ بهذا عن سؤالِ عدمِ تَأَسِّيهِ بالقرآنِ في الافتتاحِ بالجملةِ الاسميَّةِ؛ فإنَّه قديمٌ لم يَحْدُثْ ولم يَتَجَدَّدْ، فالاسميَّةُ به أنسبُ، قالَ: وهذا معنًى لطيفٌ اسْتَنْبَطْتُه،

وبه يَعْتَضِدُ مَنِ افْتَتَحَ كتابَه بالجملةِ الفعليَّةِ؛ كالغَزَالِيِّ والرَّافِعِيِّ. قلتُ: وحينَئذٍ فكانَ حَقُّه التعبيرَ بالصيغةِ المُتَعَيَّنَةِ للإفرادِ، وهي: (أَحْمَدُكَ)، لا (نَحْمَدُكَ)؛ لأنَّ النونَ لا تَصْلُحُ هنا للجماعةِ؛ فإنَّ تصنيفَ الكتابِ خاصٌّ به، وهي إنَّما تكونُ للمتكلِّمِ وَحْدَهُ إذا كانَ مُعَظِّماً نفسَه، وهو غيرُ لائقٍ هنا، وقد يَلْتَزِمُ الأَوَّلَ ويَدَّعِي شُمُولَ النِّعْمَةِ بذلكَ له ولغيرِهِ بالانتفاعِ، أو يكونُ الجَمْعُ باعتبارِ التجريدِ البيانِيِّ، لكِنْ يَمْنَعُ من هذا قولُه فيما بعدُ: ونَضْرَعُ إليكَ في منعِ الموانِعِ عن إكمالِ (جمعِ الجوامعِ). فإنَّ هذا خاصٌّ به، وقد حَكَى الحَرِيرِيُّ في (شرحِ المُلْحَةِ)

خِلافاً في عِلَّةِ نونِ الجمعِ في كلامِ اللهِ تعالَى، فقِيلَ: للعَظَمَةِ، وليسَ لمخلوقٍ أنْ يُنَازِعَه فيها، فعلى هذا يُكْرَهُ استعمالُ الملوكِ لها في قَوْلِهِم: نحنُ نَفْعَلُ. وقِيلَ في عِلَّتِها: لَمَّا كانَتْ تَصَارِيفُ أَقْضِيَتِه تعالَى تَجْرِي على أَيْدِي خَلْقِهِ، نَزَلَتْ أفعالُهم مَنْزِلَةَ فِعْلِه؛ فلذلك وَرَدَ الكلامُ مَوَارِدَ الجمعِ، فعلى هذا القولِ يَجُوزُ أنْ يَسْتَعْمِلَ (النونَ) كلُّ مَن لا يُبَاشِرُ العملَ بنفسِه، فأمَّا قولُ العالِمِ: نحنُ نَشْرَحُ، ونحنُ نُبَيِّنُ. فمفسوحٌ له؛ لأنَّه يُخْبِرُ بنونِ الجمعِ عن نفسِه وأهلِ مقالتِه. انْتَهَى. وذكَرَ ابنُ السيِّدِ في (الاقتضابِ) نحوَه، وزادَ فيه وَجْهاً آخرَ، وهو أنَّ الرجلَ الجليلَ القَدْرِ يَنُوبُ وَحْدَهُ مَنَابَ جماعةٍ، ويَنْزِلُ مَنْزِلَةَ عَدَدٍ كثيرٍ في فَضْلِهِ وعِلْمِهِ؛ ولهذا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي سُفْيَانَ:

((كُلِ الصَّيْدَ فِي جَوْفِ الْفَرَا)). والزَّمَخْشَرِيُّ اسْتَفْتَحَ (المُفَصَّلَ) بالجملةِ الفعليَّةِ، و (الكَشَّافَ) بالاسميَّةِ؛ لأنَّ النعمةَ التي ذَكَرَها في (المُفَصَّلِ) خاصَّةٌ به، وفي (الكَشَّافِ) عامَّةٌ، وفي التعبيرِ بالمُضَارِعِ فائدةٌ أُخْرَى؛ فإنَّ التجَدُّدَ في الماضي معناه الحُصولُ، وفي المضارِعِ معناه الاستمرارُ، يعني: أنَّ مِن شأنِهِ أنْ يَتَكَرَّرَ ويَقَعَ مَرَّةً بعدَ أُخْرَى، كما قالَه الزَّمَخْشَرِيُّ عندَ قولِهِ تعالَى: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}.

وأمَّا (اللَّهُمَّ) فلا خِلافَ - كما قالَه ابنُ السيِّدِ - أنَّ المرادَ به: يا اللهُ، وأنَّ الميمَ زائدةٌ، لَيْسَتْ بأصلٍ في الجملةِ. ثمَّ اخْتَلَفُوا بعدَ ذلكَ في هذه (الميمِ) على ثلاثةِ مذاهِبَ: فذَهَبَ سِيبَوَيْهِ والبَصْرِيُّونَ إلى أنَّهم زَادُوا (المِيمَ) في آخِرِهِ عِوَضاً عن حرفِ النداءِ؛ ولهذا لا يُجْمَعُ بينَهما؛ لِمَا فيه مِن الجمعِ بينَ العِوَضِ والمُعَوَّضِ. وقالَ الكُوفِيُّونَ: (الميمُ) عِوَضٌ عن جملةٍ محذوفةٍ، والتقديرُ: يا اللهُ أُمَّنَا بخيرٍ؛ أي: اقْصِدْنَا، ثمَّ حُذِفَ للاختصارِ، ولكثرةِ الاستعمالِ وَرَدَ بعدمِ اطِّرَادِ هذا التقديرِ في أكثرِ المواضِعِ؛ قالَ تعالَى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. ولو كانَتِ (الميمُ) عِوَضَ (أُمَّنَا) لَمَا احتاجَ الشرطُ إلى جوابٍ؛ لأنَّ الفعلَ يكونُ الجوابَ، وهو أُمَّنَا. والثالثُ: أنَّ (الميمَ) زائدةٌ للتعظيمِ والتفخيمِ؛ لِدَلاَلَتِها على معنَى الجمعِ، كما زِيدَتْ في: زُرْقُمٍ؛ لِشِدَّةِ الزُّرْقَةِ، وابْنُمٍ في الابنِ، قالَ ابنُ السيِّدِ: وهذا غيرُ خارجٍ عن مذهَبِ سِيبَوَيْهِ؛ لأنَّه لا يَمْنَعُ أنْ تكونَ للتعظيمِ، وأنْ تكونَ عِوَضاً عن

حَرْفِ النداءِ، كما أنَّ (التاءَ) في قَوْلِنا: تَاللهِ. بَدَلٌ مِن (الباءِ)، وفيها زيادةُ معنى التعجُّبِ. قالَ: وهذا القولُ أحسنُ الأقوالِ. وذَكَرَ ابنُ ظَفَرٍ في أوَّلِ (شَرْحِ المُقَامَاتِ)، أنَّ (اللهَ) للذَّاتِ، و (الميمَ) للصفاتِ، فجَمَعَ بينَهما؛ إيذاناً بالسؤالِ بجميعِ أسمائِهِ وصفاتِهِ. وقَوَّاهُ بعضُهم واحْتَجَّ بقولِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: اللَّهُمَّ مُجَمِّعَ الدعاءِ. وقولِ النَّضْرِ بنِ شُمَيْلٍ: مَن قالَ: اللَّهُمَّ فقد دَعَا اللهَ بجميعِ أسمائِهِ، وكأنَّه قالَ: يا اللهُ الذي له الأسماءُ الحسنَى. ولهذا قيلَ: إنَّه اسمُ اللهِ الأعظمُ. وبذلك يَظْهَرُ أيضاًً حُسْنُ ابتداءِ المصنِّف بها. وقولُه: (على نِعَمٍ) التنكيرُ فيها للتعظيمِ؛ بدليلِ الوصفِ. و (على) إمَّا للتعليلِ على رأيِ الكُوفِيِّينَ، أو على بابِها للاستعلاءِ؛ لِمَا فيه مِن الإشارةِ إلى تفخيمِ الحمدِ،

لكِنَّ الاستعلاءَ على النعمةِ غيرُ مُنَاسِبٍ، وكانَ الأحسنُ تَجَنُّبَها هنا؛ فإنَّها إنما تُسْتَعْمَلُ في جانبِ النِّقْمَةِ، وتُتْرَكُ في جانبِ النعمةِ، واستعمالاتُ القرآنِ والسنَّةِ على ذلك، وفي الحديثِ: كانَ إذا رَأَى ما يَكْرَهُ قالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ))، وإذا رَأَى ما يُعْجِبُهُ قالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ)). وأمَّا قولُه تعالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. فلِمَا كانَ في ذلك المَحَلِّ مِن استعلاءِ التكبيرِ برفعِ الصوتِ. و (النِّعَمُ) جمعُ نعمةٍ، وهي اليدُ والصَّنِيعَةُ والمِنَّةُ، وما أَنْعَمَ به عليكَ؛ قالَه الجَوْهَرِيُّ، والمرادُ هنا الجميعُ. و (يُؤْذِنُ) بمعنَى يُعْلِمُ، يُقالُ: آذَنْتُكَ بالشيءِ، أَعْلَمْتُكَهُ، وفَسَّرَهُ الراغبُ بالعلمِ الذي يُتَوَصَّلُ إليه بالسماعِ، لا مُطْلَقِ العلمِ.

و (الازْدِيَادُ) أَبْلَغُ من الزيادةِ، كما أنَّ الاكتسابَ أَبْلَغُ مِن الكَسْبِ، وهو أخذُ الشيءِ بعدَ الشيءِ. و (الدالُ) بدلٌ عن (التاءِ)، وأصلُه ازْتِيَادٌ، أَبْدَلَ من التاءِ دالاً؛ لِتَوَافُقِ الزايِ والدالِ في الجَهْرِ؛ لِيَتَشَاكَلَ اللفظُ، وهو مأخوذٌ من قولِهِ تعالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}. ص: (ونُصَلِّي على نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ هادِي الأُمَّةِ لِرَشَادِها). ش: الصيغةُ صِيغَةُ خَبَرٍ، والمقصودُ الطَّلَبُ؛ لِيَكُونَ امْتِثَالاً لقولِهِ تعالَى: {صَلُّوا عَلَيْهِ}، وهو مِن عَطْفِ الإنشاءِ على الإنشاءِ؛ إذ لو قُدِّرَ خَبَراً لَزِمَ عَطْفُ الخبرِ على الإنشاءِ، وهو مُمْتَنِعٌ عندَ البَيَانِيِّينَ، ولو قُدِّرَ هنا إرادتُهما لم يَبْعُدْ، وفَسَّرُوا الصلاةَ مِن اللهِ عَزَّ وجَلَّ بالرحمةِ، ومن الآدَمِيِّ بالدعاءِ. ورُدَّ الأوَّلُ بأنَّ الرحمةَ فِعْلُها مُتَعَدٍّ، والصلاةَ فِعْلُها قاصِرٌ، ولا يَحْسُنُ تفسيرُ القَاصِرِ بالمُتَعَدِّي، وبأنَّه يَلْزَمُ جوازُ رحمةِ اللهِ عليه والتَّكْرَارُ في قَوْلِهِ تعالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}. ولهذا فَسَّرَها بعضُهم من اللهِ بالمغفرةِ؛ لأجلِ ذِكْرِ الرحمةِ بعدَها. ورُدَّ الثاني بأنَّه يَلْزَمُ جوازُ: دَعَا عليه، وأُجيب بأنَّها لَمَّا ضُمِّنَتْ معنى العطفِ والتحَنُّنِ عُدِّيَتْ بـ (على)، والأحسنُ ما قاله الغَزَالِيُّ وغيرُه: إِنَّ الصلاةَ موضوعةٌ للقَدْرِ المشترَكِ، وهو الاعتناءُ بالمُصَلَّى عليه. و (النبيُّ) اخْتُلِفَ في لفظِه ومعناه: أمَّا لفظُه فاختُلِفَ في أنه مهموزٌ أم لا؟ فقيلَ: ليسَ بمهموزٍ، مِن النَّبْوَةِ: وهو ما

ارْتَفَعَ من الأرضِ، سُمِّيَ نَبِيًّا؛ لارتفاعِهِ وشَرَفِهِ، ولهذا ذَكَرَه الجَوْهَرِيُّ في بابِ المُعْتَلِّ، واحْتَجَّ عليه الأخفشُ بقولِهِ تعالَى: {وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ}. قالَ: فهذا جمعُ غيرِ المهموزِ؛ كصَفِيٍّ وأَصْفِيَاءَ، ولو كانَ مهموزاً لقيلَ: نُبَآءُ؛ ككَريمٍ وكُرَمَاءَ. وقيلَ: مهموزٌ مِن النَّبَأِ بمعنى الخبرِ، واحْتَجُّوا بقراءةِ نافعٍ: النَّبِيْء والأَنْبِياء والنُّبُوءَة في جميعِ القرآنِ بالهمزِ، إلاَّ في موضعيْنِ: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}، و {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ}. وفي (مُسْتَدْرَكِ الحاكِمِ) أنَّ أعرابيًّا قالَ: يا نَبِيءَ اللهِ.

فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تُغَيِّرِ اسْمِي)). وقالَ الجَوْهَرِيُّ: نَهَى عن ذلك؛ لأنَّه يُقالُ: نَبَاتُ من أرضٍ إلى أرضٍ؛ إذا خَرَجْتَ مِنها إلى أُخْرَى، وهذا المعنى أرادَ الأعرابيُّ بقولِهِ: يا نَبِيءَ اللهِ. أي: يا مَن خَرَجَ من مكَّةَ إلى المدينةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو مِن النَّبْوَةِ بمعنى الرفعةِ، فهو أبلغُ من الهمزِ؛ لأنَّه ليسَ كلُّ مُنْبِئٍ رَفِيعَ المَحَلِّ؛ ولهذا نَهَى عن الهمزِ. وقالَ ابنُ خَرُوفٍ في (شَرْحِ الكِتابِ): إنَّما نَهَى مَن خَفَّفَهُ من أهلِ التحقيقِ، وهم قليلٌ، وجماعةٌ من العربِ من أهلِ التحقيقِ، والتحقيقُ على البدلِ، والقراءةُ بالتحقيقِ ضعيفةٌ، لم يَقْرَا بها في السبعِ غيرُ المَدَنِيِّ. انتهَى. وكذا قالَ ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ: كلُّ ما لَزِمَ من البدلِ فإنَّه لا يَجُوزُ رَدُّه إلى الأصلِ، إلاَّ في ضرورةٍ؛ فلذلك أَنْكَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهمزةَ، وإنْ كانَ هو الأصلَ. قالَ: وقد حَمَلَ هذا الحديثَ قومٌ مِن الجُهَّالِ باللغةِ، حتَّى زَعَمُوا أنَّ النبيَّ مُشْتَقٌّ مِن النَّبْوَةِ، وهذه فِرْيَةٌ على الأنبياءِ؛ لأنَّ النَّبْوَةَ ليسَتْ بالارتفاعِ كما ظَنُّوا، وإنما يُقالُ للسيفِ: نَبَا فهو نابٍ، وللفرسِ: النابِي، وكذلك النابِي من الأرضِ؛ لِمَا غَلُظَ وشَقَّ على سالِكِهِ، فامْتَنَعَ منه الناسُ، وليسَ هو ارتفاعاً فقطْ، بل هو وَصْفٌ له معَ ذَمٍّ. وقالَ الفَارِسِيُّ في كتابِ (الحُجَّةِ): مَن حَقَّقَ الهمزَ في

النبيِّ، صارَ كأنَّه رَدَّ الشيءَ إلى أصلِهِ المرفوضِ استعمالُه؛ كوَذَرَ ووَدَعَ، فمِن ثَمَّ كانَ الأمرُ فيه التخفيفَ؛ ولذلك قالَ سِيبَوَيْهِ: بَلَغَنَا أنَّ قَوْماً من أهلِ الحِجازِ من أهلِ التحقيقِ يُحَقِّقُونَ (نَبِيّ وبَرِيَّة). قالَ: وذلك رَدِيءٌ، وإنَّمَا اسْتَرْدَأَهُ؛ لأنَّ الغالبَ في مِثْلِهِ التخفيفُ على وجهِ البدلِ من الهمزِ، وذلك الأصلُ كالمرفوضِ، فضَعْفُه عندَهم لاستعمالِهِم فيه الأصلَ الذي قد تَرَكَه سائِرُهم، لا لأنَّ النبيَّ الهمزُ فيه غيرُ الأصلِ. قالَ الفَارِسِيُّ: أمَّا ما رُوِيَ من إنكارِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهمزَ، فأَظُنُّ أنَّ مِن أهلِ النقلِ مَن ضَعَّفَ إسنادَه. قالَ: ومِمَّا يُقَوِّي تضعيفَه أنَّ مَن مَدَحَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا خَاتَمَ النُّبَآءِ. لم يُؤْثَرْ فيه إنكارٌ عليه، ولو كانَ في واحدِهِ نَكِيرٌ لَكَانَ الجمعُ كالواحدِ، وأيضاًً فلم يُعْلَمْ أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ أَنْكَرَ على الناسِ أنْ يَتَكَلَّمُوا بِلُغَاتِهِم. وأمَّا معناه: فقيلَ: هو والرسولُ بمعنًى واحدٍ. والصوابُ تَغَايُرُهما، واخْتُلِفَ في التمييزِ بينَهما، والمُعْتَمَدُ ما قالَه الحَلِيمِيُّ وغيرُه؛ مِن أنَّ النبيَّ مُشْتَقٌّ مِن النَّبَأِ، وهو الخبرُ، إلاَّ أنَّ المُرَادَ هنا خَبَرٌ خاصٌّ عمَّن يُكْرِمُه اللهُ تعالَى بأنْ يُوقِفَه على شَرِيعَتِهِ، فإنِ انْضَافَ إلى هذا التوقيفِ أَمْرٌ بتبليغِهِ الناسَ ودُعَائِهِم إليه كانَ نَبِيًّا ورسولاً، وإلاَّ

كانَ نبيًّا غيرَ رسولٍ. ثمَّ ذَكَرَ سِتَّةً وأربعينَ خَصْلَةً يَخْتَصُّ بها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحاصِلُه أنَّ النبيَّ هو مَن أُوحِيَ إليه، فإنِ انْضَافَ إليه الأمرُ بالتبليغِ كانَ رسولاً ونبيًّا، وإلاَّ كانَ نبيًّا لا رسولاً، فالنبيُّ أعمُّ، فكلُّ رسولٍ نَبِيٌّ ولا يَنْعَكِسُ. وفي كلامِ الحَلِيمِيِّ فائدةٌ، وهي: تقييدُ الوحيِ بالشريعةِ، فإنْ صَحَّ هذا خَرَجَ وَحْيُهُ إلى مَرْيَمَ وأُمِّ مُوسَى عليهم السلامُ، ولَعَلَّه بَنَاهُ على عَدَمِ ثُبُوتِهِما، وفيه خِلافٌ ذَكَرْتُهُ في أُصُولِ الدِّينِ مِن هذا الشرحِ. فظَهَرَ بما ذَكَرْنَاهُ أفضلِيَّةُ الرسالةِ على النُّبُوَّةِ، وتَخْرُجُ منه مُنَازَعَةُ المُصَنِّفِ في إِيثَارِهِ هنا صِفَةَ النُّبُوَّةِ على الرسالةِ، ولَعَلَّه لَحَظَ ما صارَ إليه الشيخُ عِزُّ الدِّينِ من تفضيلِ النبوَّةِ على الرسالةِ مِن جِهَةِ شَرَفِ التعلُّقِ، والراجِحُ خِلافُه، وعليه نَقْدٌ آخَرُ، وهو: عَدَمُ تَسْلِيمِهِ، وقد قالَ العلماءُ: يُكْرَهُ إفرادُ الصلاةِ عن التسليمِ. وقولُه: (هَادِي الأُمَّةِ) مأخوذٌ من قولِهِ تعالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ

مُسْتَقِيمٍ}. وفَسَّرَ الراغِبُ الهِدَايَةَ بالدَّلالةِ بِلُطْفٍ، قالَ: وأمَّا قولُه تعالَى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}. فهو على التهَكُّمِ. وفي الحديثِ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ)). قالَ الرَّازِيُّ: الكثيرُ ضَمُّ (الميمِ)، بمعنى أنَّ اللهَ تعالَى أَهْدَاهُ إلى الناسِ، وكانَ ابنُ البرْقِيُّ يقولُ: بكسرِ (الميمِ) مِن الهِدَايَةِ. وكان ضابِطاً فَهِماً مُتَصَرِّفاً في الفِقْهِ واللُّغةِ، والذي قالَه أجودُ؛ لأنَّه بُعِثَ للهِ هَادِياً؛ كما قالَ تعالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. و (الرَّشَادُ) ضِدُّ الغَيِّ.

ص: (صَلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه، ما قَامَتِ الطُّرُوسُ والسطورُ لِعُيُونِ الألفاظِ مَقَامَ بَيَاضِها وسَوَادِها). ش: كانَ الأَوْلَى إضافةَ الآلِ إلى الظاهرِ؛ لأنَّه الوارِدُ في السنَّةِ، وللخروجِ من خِلافٍ مِن مَنْعِ إضافتِهِ إلى الضميرِ؛ كالكِسَائِيِّ والنَّحَّاسِ والزُّبَيْدِيِّ، قالَ ابنُ

مالِكٍ: وقد ثَبَتَتْ إِضَافَتُه إلى مُضْمَرٍ. وقيلَ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَن آلُكَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: ((آلِي كُلُّ تَقِيٍّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ تَمَّامٌ في فَوَائِدِهِ. وقيلَ: إنَّه اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظِه، وفَسَّرَهُ سِيبَوَيْهِ فيما حَكَاهُ ابنُ عَطِيَّةَ: بالقومِ

الذين يَؤُولُ أَمْرُهُم إلى المضافِ إليه، وهو نَصٌّ في أنَّ (آل) ليسَ أصلُه أَهْلاً كما زَعَمَ النحَّاسُ، وقالَ الإمامُ في تفسيرِ سورةِ مَرْيَمَ: الآلُ: خاصَّةُ الرجُلِ الذين يَؤُولُ أَمْرُهُم إليه، ثُمَّ قد يَؤُولُ أَمْرُهُم إليه للقَرَابَةِ تَارَةً وللصُّحْبَةِ أُخْرَى؛ كآلِ فِرْعَوْنَ، وللموافقةِ في الدِّينِ؛ كآلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى. وهو حَسَنٌ يَجْمَعُ الأقوالَ ويَقْتَضِي أنَّه مُشْتَرَكٌ، ولا يُسْتَعْمَلُ إلاَّ في التعظيمِ، وآلُهُ بنو هَاشِمٍ والمُطَّلِبِ، وقيلَ: جميعُ الأُمَّةِ. وقيلَ: أولادُ فاطمةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. والأصحابُ: جمعُ صاحبٍ، وهو كلُّ مُسْلِمٍ رَأَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقَدَّمَ الآلَ لِشَرَفِهِم، وعَطَفَ الأصحابَ عليهم؛ لأنَّ بينَهما عُمُوماً وخُصُوصاً مِن وَجْهٍ؛ لأنَّ التابعيَّ الذي هو من بني هاشمٍ وبني المطَّلِبِ من

الآلِ، وليسَ من الصحابةِ، وسَلْمَانُ - مثلاً - بالعكسِ، وعليٌّ - مثلاً - صَحَابِيٌّ وآلٌ. وقولُه: (ما قَامَتْ) ما: في وَضعِ الظرفِ؛ أي: مُدَّةَ. و (الطُّرُوسُ): جَمْعُ طِرْسٍ، بكسرِ الطاءِ، فَسَّرَهُ الجَوْهَرِيُّ بالصَّحِيفَةِ، ثمَّ قالَ: ويُقالُ: هي التي مُحِيَتْ ثمَّ كُتِبَتْ. وعلى هذا اقْتَصَرَ في (المُحْكَمِ)، وحكَى فيها لغةً أُخْرَى: طِلْسٌ، باللامِ بدلَ الراءِ، وقالَ الفَرَّاءُ في (الجامِعِ): الطِّرْسُ: الكتابُ الذي قد مُحِيَ ما فيه ثمَّ كُتِبَ. وقيل: هو الصحيفةُ بعينِها، وإنما يُقالُ للذي مُحِيَ: طُلِسَ، وحُكِيَ فيها: طِرْسٌ وطِرْصٌ، بالسينِ والصادِ، واستعمالُ المصنِّفِ (عُيُونَ الألفاظِ) استعارةٌ بليغةٌ، ورَشَّحَها بالبياضِ والسوادِ؛ فإنَّهما من لَوَازِمِ العيونِ، وفيه لَفٌّ ونَشْرٌ مُرَتَّبٌ، فالبَياضُ للطُّرُوسِ، والسوادُ للسطورِ، وفيه استعمالُ الطُّرُوسِ للصحيفةِ البَيضاءِ، وفيه ما سَبَقَ، وفي الطُّرُوسِ والسُّطُورِ جِناسُ القَلْبِ؛ لاخْتِلافِهِما في ترتيبِ الحروفِ، فهو نظيرُ: (اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وآمِنْ رَوْعَاتِنا) .. ومقصودُ المُصَنِّفِ تَابِيدُ الصلاةِ عليه على الدوامِ؛ إذ لا تَزَالُ طائفةٌ مِن الأُمَّةِ على الحقِّ

حتَّى تَقُومَ الساعةُ، ووجودُ الطُّرُوسِ مِن لَوَازِمِ بَقَائِها، فعَبَّرَ باللازِمِ وأرادَ الملزومَ، وخَصَّ التعليقَ على ذلك دُونَ غيرِهِ مِن الأشياءِ المُؤَبَّدَةِ؛ لِشَرَفِ العلمِ المبعوثِ به النبيُّ الكريمُ صَلَّى اللهُ تعالَى عليه وسَلَّمَ. ص: (ونَضْرَعُ إليكَ في مَنْعِ الموانعِ عن إكمالِ جمعِ الجوامِعِ، الآتي مِن فَنَّيِ الأصولِ بالقواعدِ القواطِعِ، البالِغِ مِن الإحاطةِ بالأصليْنِ مَبْلَغَ ذَوِي الجِدِّ والتَّشْمِيرِ، والوارِدِ مِن زُهَاءِ مِائَةِ مُصَنَّفٍ مَنْهَلاً يُرْوِي ويَمِيرُ، المُحِيطِ بِزُبْدَةِ ما في شَرْحِي على المُخْتَصَرِ والمِنْهَاجِ معَ مَزِيدِ كَثِيرٍ). ش: ضَرَعَ الرجُلُ ضَرَاعَةً؛ خَضَعَ وذَلَّ، قالَ الفَرَّاءُ: يُقالُ: جاءَ فلانٌ يَتَضَرَّعُ ويَتَعَرَّضُ: بمعنَى إذا جاءَ يَطْلُبُ إليكَ الحاجةَ. ولا شكَّ أنَّ التضَرُّعَ أبلغُ؛ فإنَّه نهايةُ السؤالِ؛ فلهذا آثَرَهُ المصنِّفُ. و (في مَنْعِ) مُتَعَلِّقٌ بِنَضْرَعُ، و (عن) مُتَعَلِّقٌ بِمَنْعِ، وحذفُ تاءِ المضارعةِ فيه تَسْهِيلاً، وأصلُه نَتَضَرَّعُ، ثمَّ أُدْغِمَ. وكأنَّه طَلَبَ مِن اللهِ تَعَالَى دَفْعَ الموانِعِ العائقةِ له عن إكمالِ هذا الكتابِ، وذلك يَسْتَلْزِمُ

طَلَبَ كمالِهِ، وكأنَّه إنَّما لم يَطْلُبْهُ ابتداءً؛ لأنَّه قد يَصْحَبُهُ مانِعٌ، فسَأَلَ رَفْعَ الموانِعِ أصلاً ورأساً. و (الآتي): صِفَةٌ لجمعِ الجوامِعِ، وهو اسمُ فاعلٍ مِن أَتَى بمعنى جاءَ، ومنه قولُهم: ما أَقْرَبَ ما هو آتٍِ. و (بالقواعدِ) مُتَعَلِّقٌ به، و (مِن فَنَّيِ الأصولِ) متعلِّقٌ بالقواعِدِ، و (مِن) للبيانِ، والفَنُّ: النوعُ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: فَنَّ الرجُلُ؛ كَثُرَ تَفَنُّنُه في الأمورِ؛ أي: تَنَوُّعُهُ. والفُنُونُ: الأنواعُ. والأفانِينُ: الأساليبُ. والألفُ واللامُ في (الأُصُولِ) للاستغراقِ؛ لِيَعُمَّ أصولَ الفقهِ وأصولَ الدِّينِ؛ بدليلِ تَثْنِيَةِ فَنٍّ، وقولِهِ بعدَه: من الإحاطةِ بالأصليْنِ. وفي (القواعِدِ) و (القواطِعِ) الجناسُ اللاحِقُ؛ لاتِّفَاقِ الكَلِمَتَيْنِ في عددِ الحروفِ والهيئاتِ، واخْتِلاَفِهما في الآخِرِ، فهو نظيرُ قولِهِ تعالَى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ}. وفي التعبيرِ بـ (البالِغِ) و (الإحاطةِ) من النهايةِ في الاطِّلاعِ على الأصليْنِ ما لا يَخْفَى. و (مَبْلَغَ) منصوبٌ بالبالِغِ. و (الجِدُّ) بكسرِ الجيمِ: الجَهْدُ. (وزُهَاءَ مائةٍ) أي: قَدْرَ مائةٍ، هذا مدلولُه لُغَةً، وكلامُ الفُقَهَاءِ في بابِ الوصيَّةِ يُخَالِفُه، ثُمَّ كلامُ الأخفشِ يَقْتَضِي أنَّها ممدودةٌ؛ فإنَّه ذَكَرَها في بابِ ما يُمَدُّ، ولكِنَّ صَاحِبَ (الصِّحَاحِ) ذَكَرَها في المُعْتَلِّ، وعلى المدِّ اقْتَصَرَ صاحِبُ (المَشَارِقِ)، قالَ: ويُقالُ: لُهَاء، باللامِ بَدَلَ الزايِ. و (يُرْوِي) بضمِّ أَوَّلِهِ: من الرِّيِّ، وهو الشِّبَعُ من الماءِ، يقالُ منه: رَوِيتُ، بكسرِ الواوِ، أَرْوَى رَيًّا ورِيًّا، وفي الحديثِ: (رَوَيتُ) بالفتحِ، وما أحسنَ قولَ بعضِهم: رَوَيْتُ وما رَوِيتُ من الروايةِ. و (يَمِيرُ): بفتحِ أوَّلِهِ، ويَجُوزُ ضَمُّها؛ لأنَّه يقالُ: مارَ وأمارَ بمعنًى، من قولِهم: مارَ أهلَه يَمِيرُهُم؛ إذا حَمَلَ لهم المِيرَةَ، وهو الطعامُ، ومنه قولُهم: ما عندَهم خيرٌ ولا مَيْرٌ.

ص: (ويَنْحَصِرُ في مُقَدِّمَاتٍ وسَبْعَةِ كُتُبٍ). ش: الانحصارُ مُطَاوِعُ حَصَرَ، وحقُّ انْفَعَلَ أنْ يُطَاوِعَ مِثلَ الثلاثيِّ، نحوُ: ضَرَبْتُهُ فانْضَرَبَ، ويَقِلُّ في الرُّبَاعِيِّ: أَزْعَجْتُهُ فانْزَعَجَ، قالَ أبو السَّعَادَاتِ: والحَصْرُ: التَّضْيِيقُ، قالَ تعالَى: {وَاحْصُرُوهُمْ}، وانْحِصَارُ الشيءِ في أشياءَ يكونُ على وجهيْنِ: أَحَدُهما: انحصارُه في جُزْئِيَّاتِه؛ كانحصارِ الكَلِمَةِ في الاسمِ والفعلِ والحرفِ. الثاني: انْحِصَارُه في أجزائِهِ؛ كانحصارِ الكلامِ في الاسمِ والفعلِ والحرفِ أيضاًً. والفرقُ بينَهما أنَّ اسمَ المحصورِ في الأوَّلِ يكونُ صَادِقاً على كلِّ واحدٍ مِن الأشياءِ المحصورِ فيها هو، بخلافِ الثاني، والضميرُ في قَوْلِهِ: (ويَنْحَصِرُ) إمَّا أنْ يعودَ على هذا المُخْتَصَرِ، أو إلى أُصُولِ الفِقْهِ، لا جائزَ أنْ يعودَ على المُخْتَصَرِ المدلولِ عليه بقولِهِ في الخُطْبَةِ: (جَمْعِ الجوامِعِ الآتي من فَنَّيِ الأصولِ بالقواعدِ القواطِعِ)؛ فإنَّ (جمعَ الجوامِعِ) يَشْتَمِلُ على غيرِ المقدِّمَةِ والسبعةِ كُتُبٍ، من علمِ أصولِ الدينِ وخاتمةِ التصوُّفِ، فلا انْحِصَارَ، وإمَّا أنْ يعودَ إلى أصولِ الفِقْهِ المدلولِ عليه بقولِهِ في الخُطْبَةِ: (المُحِيطِ بِزُبْدَةِ ما في شَرْحِي على (المُخْتَصَرِ) و (المِنْهَاجِ) معَ مَزِيدِ كثيرٍ)، وليسَ المذكورُ في الشرحيْنِ غيرَ أصولِ الفقهِ، فيقالُ عليه: إنَّ مِن جملةِ المُقَدِّمَاتِ حَدَّ أُصُولِ الفقهِ وغيرِه مِن قواعدِ المَنْطِقِ، ونَحْوِها مِمَّا لا يُعَدُّ مِن أُصُولِ الفِقْهِ، فلا يكونُ جُزْءاً منه؛ لِخُرُوجِها عنه اصطلاحاً، وقد يُجابُ بأنَّه لَمَّا تَوَقَّفَ الأصولُ عليها، جَعَلَها جُزْءاً منه على طريقِ التغليبِ، ووجهُ الانحصارِ فيما ذَكَرَه أنَّ ما تَضَمَّنُه الأصولُ إمَّا مقصودٌ بالذاتِ، أو لا، والثاني: المُقَدِّمَاتُ؛ إذ لا بُدَّ أنْ يَتَوَقَّفَ عليهِ المقصودُ، وإلاَّ لم يُحْتَجْ إليه، والأوَّلُ: إنْ كانَ الغرضُ مِنه استنباطَ الأحكامِ، فالبحثُ إمَّا عن نفسِ الاستنباطِ، وهو الاجتهادُ، وإمَّا عمَّا تُسْتَنْبَطُ هي مِنه، إمَّا عندَ تَعَارُضِها، وهو الترجيحُ، أو لا، وهو الأدِلَّةُ والاستدلالُ.

الكلام في المقدمات

ص: (الكلامُ في المُقَدِّمَاتِ). ش: المُقَدِّمَاتُ: جمعُ مُقَدِّمَةٍ، وهي في اصطلاحِ الحكماءِ: القَضِيَّةُ المَجْعُولَةُ جُزْءَ الدليلِ؛ كقولِنا: العالِمُ مُمْكِنٌ، وكلُّ مُمْكِنٍ له سببٌ، فيَنْتُجُ: أنَّ العالِمَ له سَبَبٌ، فكلُّ وَاحِدَةٍ من هذه تُسَمَّى مُقَدِّمَةً، وأمَّا عندَ المُتَكَلِّمِينَ: فما يَتَوَقَّفُ عليه حُصُولُ أمرٍ آخرَ، وهو مرادُ المصنِّفِ، وهي أعمُّ مِن الأُولَى، فالمقدِّمَةُ لبيانِ السوابِقِ، والفصولُ المُعَبَّرُ عنها هنا بالكتبِ لبيانِ المقاصِدِ، وهي مأخوذةٌ مِن مُقَدِّمَةِ العَسْكَرِ، وهو أوَّلُ ما يَبْدُو، وفيها لغتانِ: فتحُ الدالِ، باعتبارِ المفعوليَّةِ، بمعنى قُدِّمَتْ على المقصودِ إعانةً على فَهْمِهِ، وكَسْرُها، باعتبارِ الفاعليَّةِ، بمعنى مُتَقَدِّمَةٍ، من قولِه تعالَى: {لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ}. قيلَ: والكسرُ أشهرُ. وكأنَّهم لَحَظُوا أنَّه لَمَّا وَجَبَ تَقَدُّمُها بالذاتِ؛ لابتناءِ ما بعدَها عليه، رَجَحَ تقديرُ الفاعليَّةِ فيها؛ للإشعارِ بأنَّها تَقَدَّمَتْ بنفسِها، بخلافِ الفتحِ. ص: (أُصُولُ الفِقْهِ: دلائلُ الفِقْهِ الإجماليَّةُ، وقيلَ: مَعْرِفَتُها). ش: الدلائلُ جِنْسٌ،

والإجماليَّةُ فَصْلٌ أَخْرَجَ به الأدِلَّةَ التفصيليَّةَ بحَسَبِ مسألةٍ مسألةٍ، وهو الفِقْهُ،

ومعنى الإجماليَّةِ كما قالَ أبو الحُسينِ في المُعْتَمَدِ: إِنَّها غيرُ مُعَيَّنَةٍ، ألاَ تَرَى أنَّا إذا تَكَلَّمْنَا في أنَّ الأمرَ للوجوبِ، لم نُشِرْ إلى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، وكذلك النهيُ والإجماعُ والقياسُ، وليسَ كذلك أَدِلَّةُ الفِقْهِ؛ لأنَّها مُعَيَّنَةٌ، نحوُ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)). قالَ: ولهذا كانَ قولُ مَن قالَ: أصولُ الفقهِ كلامٌ في أَدِلَّةِ الفقهِ - يَلْزَمُ عليه أنْ يكونَ كلامُ الفقهاءِ في أدلَّةِ الفقهِ المعيَّنَةِ كلاماً في أصولِ الفِقْهِ؛ فلهذا قَيَّدْنَا الأدِلَّةَ الإجماليَّةَ. انْتَهَى. وهذا هو المُخْتَارُ في تَعْرِيفِهِ، أعنِي أنَّ الأصولَ نَفْسُ

الأدِلَّةِ، لا مَعْرِفَتُها؛ لأنَّ الأدِلَّةَ إذا لم تُعْلَمْ لا تَخْرُجُ عن كَوْنِها أُصُولاً، وهو الذي ذَكَرَه الحُذَّاقُ؛ كالقاضي أبي بكرٍ، وإمامِ الحَرَمَيْنِ، والرَّازِيِّ والآمِدِيِّ

وغيرِهم، واختارَهُ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ بنُ دَقِيقِ العِيدِ. وقيلَ: بل أصولُ الفقهِ مَعْرِفَةُ الأدِلَّةِ. وعليه جَرَى في (المِنْهَاجِ). وكذا ابنُ الحاجِبِ، إلاَّ أنَّه عَبَّرَ بالعلمِ بها، ووَجَّهَهُ بعضُهم بأنَّ العِلْمَ

بالأدِلَّةِ مُوصِلٌ إلى المَدْلُولِ، والأدِلَّةُ لا تُوصِلُ إلى المدلولِ إلا بواسطةِ العِلْمِ بها. والحاصلُ: أنَّ الأدِلَّةَ لها حقائِقُ في أَنْفُسِها من حيثُ دَلاَلَتُها، ومِن حيثُ تَعَلُّقُ العِلْمِ بها، فهل موضوعُ أصولِ الفقهِ تلكَ الحقائقُ أو العِلْمُ بها؟ والمختارُ الأوَّلُ؛ لأنَّ أهلَ العُرْفِ لا يُسَمُّونَ العلومَ أُصُولاً، ويقولُ: هذا كتابُ أُصُولٍ، ولأنَّ الأصولَ لُغَةً: الأدِلَّةُ، فجَعْلُه اصطلاحاً نفسَ الأدِلَّةِ أقربُ إلى المدلولِ اللُّغَوِيِّ، ومِن هنا جَعَلَ المصنِّفُ وغيرُه الفِقْهَ: العلمَ بالأحكامِ، لا نَفْسَها؛ لأنَّه أقربُ إلى الاستعمالِ اللُّغَوِيِّ؛ إذ الفِقْهُ لغةً: الفَهْمُ، وليسَ كذلك الأصولُ، وبهذا يَنْفَصِلُ عن سؤالِ جَعْلِ الأصولِ الأدِلَّةَ، والفِقْهِ العِلْمَ بالأحكامِ. هذا تقريرُ كلامِ المصنِّفِ، وفيه كَلِمَاتٌ: الأُولَى: أَنَّه إنَّما يُحَدُّ اللَّقَبِيُّ، لا الإضافيُّ؛ بدليلِ أنَّه لم يُعَرِّفِ الأصولَ بمفردِهِ، وحينَئذٍ فكيفَ يَصِحُّ جَعْلُه نفسَ الأدِلَّةِ؟! فإنَّ اللَّقَبِيَّ هو ما نُقِلَ عن الإضافةِ وجُعِلَ عَلَماً على الفَنِّ، أو صارَ عَلَماً بالغَلَبَةِ، لا نَقْلَ فيه. وكيفَ يَصِحُّ أنْ يَحْكِيَ فيه قَوْلاً: إنَّه معرفةُ الأدِلَّةِ، وليسَ ذلك خِلافاً مُتَوَارِداً على مَحَلٍّ واحدٍ، بل هما طريقانِ لمقصوديْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، فمَن قَصَدَ الإضافِيَّ فَسَّرَهُ بالأدِلَّةِ، ومَن قَصَدَ اللَّقَبِيَّ فَسَّرَهُ بالعِلْمِ بها؛ ولهذا لَمَّا جَمَعَ ابنُ الحاجِبِ بينَهما عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ بالعِلْمِ، والإضافِيَّ بالأدِلَّةِ، ومَن أَوْرَدَ عليه أنَّ أصولَ الفقهِ نفسُ تلكَ القواعدِ، لا العِلْمُ بها؛ لِثُبُوتِها في نفسِ الأمرِ، عَلِمَ بها أم لا - فقد غَفَلَ عن هذا المعنَى، ولم يَقَعْ على مُرَادِهِ؛ فإنَّه قبلَ العِلْمِيَّةِ بمعنى الأدِلَّةِ، وأمَّا بعدَه فصارَ معنى

أصولِ الفقهِ عِلْمَ أُصُولِهِ، كما يُقالُ: سورةُ البقرةِ، ثمَّ يقالُ: البقرةُ؛ باعتبارِ النقلِ إلى عِلْمِ السورةِ. وإمامُ الحَرَمَيْنِ لَمَّا عَرَّفَه في (البُرْهَانِ) بالأدلَّةِ قالَ شَارِحُه الإبياريُّ: أرادَ الإضافِيَّ. نَعَم المصنِّفُ تابَعَ والدَه الشيخَ الإمامَ، فإنَّه اقْتَنَصَ ذلك مِن تَخَالُفِ عبارةِ (المِنْهَاجِ) (والمحصولِ)، معَ أنَّ كُلاًّ مِنهما حَدَّ اللَّقَبِيِّ، فالبَيْضَاوِيُّ جَعَلَه العِلْمَ بالأدلَّةِ والكَيْفِيَّتَيْنِ، والإمامُ جَعَلَه عبارةً عن

الثلاثةِ، قلتُ: وتَابَعَه الهِنْدِيُّ على ذلك، وقالَه قبلَهما ابنُ بُرْهَانَ في (الأوسطِ)، ونَقَلَ إجماعَ المُتَقَدِّمِينَ على أنَّ أَدِلَّةَ الفِقْهِ تُسَمَّى أُصُولَ الفِقْهِ، والناظِرُ فيها يُسَمَّى أُصُولِيًّا، وقالَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ: أُصُولُ الفِقْهِ عندَ الفقهاءِ: طُرُقُ الفِقْهِ

التي يُؤَدِّي الاستدلالُ بها إلى معرفةِ الأحكامِ. انْتَهَى. ويُمْكِنُ رَفْعُ الخلافِ؛ فإنَّه كما يَتَوَقَّفُ الفِقْهُ على هذه الحقائقِ يَتَوَقَّفُ على العِلْمِ بها، فيَجُوزُ حينَئذٍ إطلاقُ أصولِ الفقهِ على الأدلَّةِ نفسِها، وعلى العلمِ بها، لكِنَّ إطلاقَه على نفسِ الأدلَّةِ أَوْلَى؛ لأنَّ الغرضَ ما يُسْتَنْبَطُ منه الأحكامُ، لا العلمُ بتلك الطرقِ، نَعَمْ يَنْبَغِي تخريجُ خلافٍ في أنَّ الفقهَ هل هو مدلولُ تلك الأدلَّةِ أو العلمُ بالمدلولِ من الخلافِ الكلاميِّ، فيما إذا أَقَمْنَا دليلاً على حدوثِ العالَمِ مثلاً، فهل المدلولُ حُدُوثُ العالَمِ أو العلمُ بحدوثِ العالَمِ؟ والصحيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ حدوثَ الأكوانِ دالٌّ على حدوثِ الجواهِرِ، سواءٌ أَنَظَرَ الناظِرُ أم لا، والدليلُ مُرتبِطٌ بالمدلولِ؛ نَظَرَ الناظِرُ أم لا، وهذا الخِلافُ قيلَ: إنَّه لَفْظِيٌّ؛ إذ لا يَصِحُّ ثُبُوتُ العلمِ دونَ المعلومِ. الثانيةُ: جَعْلُه (الإجماليَّةَ) قَيْداً (للأَدِلَّةِ)، والأَشْبَهُ - كما قَرَّرَهُ والِدُه - أنَّه قَيْدٌ (للمعرفةِ)؛ فإنَّ أدلَّةَ الفِقْهِ لها جِهَتَانِ: إحداهما: أعيانُها، والثانيةُ: كُلِّيَّاتُها، فلَيْسَتِ الأدلَّةُ تَنْقَسِمُ إلى ما هو إجماليٍّ غيرِ تَفصيليٍّ، أو تفصيليٍّ غيرِ إجمالِيٍّ، بل كلُّها شيءٌ واحدٌ لها جهتانِ، فالأُصُولِيُّ يَعْلَمُه مِن إِحْدَى الجِهَتَيْنِ، والفقيهُ يَعْلَمُه مِن الجِهَةِ الأُخْرَى، نَعَمْ يَصِحُّ أيضاًً جَعْلُها قَيْداً (للأدلَّةِ) باعتبارِ أنَّ لها نِسْبَتَيْنِ، فهي باعتبارِ إحداهما، غيرُها باعتبارِ الأُخْرَى. الثالثةُ: المرادُ بالأدلَّةِ الكتابُ والسنَّةُ والإجماعُ والقياسُ والاستدلالُ، وقالَ إمامُ الحَرَمَيْنِ والغزاليُّ: ثلاثةٌ فقطْ، وأَسْقَطَا القياسَ والاستدلالَ، فالإمامُ بَنَاهُ على أنَّ الأدلَّةَ لا تَتَنَاوَلُ إلاَّ القَطْعِيَّ، فلَزِمَ إخراجُ القياسِ مِن أُصُولِ الفِقْهِ، ثمَّ اعْتَذَرَ عن إدخالِهِ فيه بِقِيَامِ القاطِعِ على العملِ به، والغزاليُّ خَصَّ الأدِلَّةَ بالمُثْمِرَةِ للأحكامِ،

فلهذا كانَتْ ثلاثةً، وجَعَلَ القياسَ من طرقِ الاستثمارِ؛ فإنَّ دَلالَتَه من حيثُ مَعْقُولُ اللفظِ، كما أنَّ العمومَ والخصوصَ دَلالَتُه من حيثُ صِيغَتُه. الرابعةُ: أُورِدَ على المُصَنِّفِ أنَّه هَلاَّ قالَ: أُصُولُ الفقهِ: دلائلُه الإجماليَّةُ. وأجابَ بثلاثةِ أجوبةٍ: أَحَدُها: أنَّه لو أَعَادَهُ مُضْمَراً لأَوْهَمَ عَوْدَه إلى نفسِ الأصولِ؛ لأنَّها المُحَدَّثُ عنها. وثانيها: أنَّ التعاريفَ يُجْتَنَبُ فيها الضمائرُ ما أَمْكَنَ الإتيانُ بالمُظْهَرِ؛ لأنَّها موضوعةٌ للبيانِ، فإذا قلنا: الإنسانُ هو الحيوانُ الناطِقُ، لا يقالُ: هو الحيوانُ الناطقُ، تعريفٌ؛ لأنَّ (هو) ضميرٌ يَفْتَقِرُ إلى الوقوفِ على ما قبلَه. ثالثُها، وهو المُعْتَمَدُ: أنَّ الفِقْهَ في قَوْلِهِ: (دلائلُ الفقهِ) غيرُ الفقهِ في قَوْلِهِ: أصولُ الفقهِ؛ لأنَّ الفقهَ في قولِنا: أصولُ الفقهِ. أحدُ جُزْئَيِ اسمِ لَقَبٍ مُرَكَّبٍ مِن مُتَضَايِفَيْنِ، وفي قولِنا: دلائلُ الفقهِ العَلَمُ المعروفُ. ص: (والأُصُولِيُّ: العارِفُ بها، وبِطُرُقِ اسْتِفَادَتِها ومُسْتَفِيدِها). ش: الأُصُولِيُّ صِفَةٌ لمحذوفٍ؛ أي: والمَرْءُ الأُصُولِيُّ، نِسْبَةً إلى معرفةِ الأصولِ، فهو العارِفُ بها، غيرَ أنَّ معرفتَه بِدُونِ أنْ يَعْرِفَ طُرُقَ اسْتِفَادَتِها ومُسْتَفِيدِها - مُحَالٌ، ضرورةَ تَوَقُّفِ العلمِ بالشيءِ على مُقَدِّمَاتِهِ، فهو العارِفُ بها وبِطُرُقِ اسْتِفَادَتِها، وهو بابُ التراجيحِ؛ أي: ترتيبُ الأدلَّةِ؛ بأنْ يُقَدَّمَ الخاصُّ على العامِّ، والمُبَيَّنُ على المُجْمَلِ، والظاهرُ على المُؤَوَّلِ، وهكذا. (ومُسْتَفِيدِها)؛ أي: وهو المُجْتَهِدُ إنِ اسْتَفَادَ مِن الأدلَّةِ، والمُقَلِّدُ إنِ اسْتَفَادَ مِن المُجْتَهِدِ. قالَ المصنِّفُ: وقد عُلِمَ بهذا أنَّ المَعْرِفَةَ بِطُرُقِ الاستفادةِ

والمستفيدِ لا بُدَّ مِنهما في صِدْقِ مُسَمَّى الأُصُولِيِّ، وإنْ لم تَكُنْ تلك الطرُقُ جُزْءاً مِن مُسَمَّى الأُصُولِ. قالَ: وجَعْلُ المعرفةِ بِطُرُقِ استفادَتِها جُزْءاً من مدلولِ الأُصُولِيِّ دُونَ الأُصُولِ - أَمْرٌ لم يَسْبِقْنِي إليه أحدٌ. ووجهُه أنَّ الأُصُولَ لَمَّا كانَ عندَنا نفسُ الأدلَّةِ، لا مَعْرِفَتُها، لَزِمَ من ذلك أنْ يكونَ الأُصُولِيُّ هو المُتَّصِفَ به؛ لأنَّ الأصولِيَّ نِسْبَةٌ إلى الأصولِ، وهو مَن قامَ به الأصولُ، وقيامُ الأصولِ به معناه معرفتُه إيَّاه، ومَعْرِفَتُه إيَّاه مُتَوَقِّفَةٌ على أنْ يَعْرِفَ طُرُقَ الاستفادةِ؛ فإنَّ مَن لا يَعْرِفُ الطريقَ إلى الشيءِ مُحَالٌ أنْ يَعْرِفَ الشيءَ، فمِن ثَمَّ لَزِمَ كونُ معرفةِ الطرقِ أَمْراً لا بُدَّ مِنه في صِدْقِ مُسَمَّاهُ؛ ولهذا ذُكِرَ في أُصُولِ الفقهِ، وإنْ لم تَكُنْ نفسَ الأصولِ ولا مِنه. ولا يُنْكَرُ اشْتِرَاطُنا في الأصوليِّ ما ليسَ جُزْءاً من نفسِ الأصولِ؛ فإنَّ الناسَ قاطِبَةً قد عَرَفُوا الفِقْهَ بالعلمِ بالأحكامِ. إلى آخِرِهِ. وقالَ: الفقيهُ: المُجْتَهِدُ، وهو ذو الدرجةِ الوُسْطَى عربِيَّةً وأُصُولاً. إلى آخِرِ صِفاتِ المجتهِدِ، فما قالُوا: الفقيهُ: العالِمُ بالأحكامِ، بل: مَن قَامَتْ به شرائطُ الاجتهادِ، وعَدَّدُوها؛ لأنَّ بِدُونِها لا يُمْكِنُ العلمُ بالأحكامِ، فكذلك بدونِ الطرقِ لا يُمْكِنُ العلمُ بالأصولِ، فلْتَكُنِ الطرُقُ جُزْءاً من مُسَمَّاهُ أو شَرْطاً لِصِدْقِ اسْمِهِ، وإنْ لم يَكُنْ جُزْءاً ولا شَرْطاً فلا بأسَ بِذِكْرِها في تعريفِهِ؛ لِتَتِمَّتِهِ. انْتَهَى. قلتُ: وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ طُرُقَ الاستفادةِ ثابتةٌ في أنفُسِها، سواءٌ عَرَفَها الأصوليُّ أم لا، كما قلنا في الأدلَّةِ سواءٌ، فوَجَبَ أنْ يَدْخُلَ في مُسَمَّى الأصولِ، لا الأُصُولِيِّ. وإنما افْتَقَرَ العالِمُ بالأدِلَّةِ إلى ذلك؛ لِيَصِحَّ كَوْنُه عَالِماً بالأدلَّةِ على الحقيقةِ، وما انْفَصَلَ به المصنِّفُ عن سؤالِ الاشتراطِ في الأصولِيِّ، ما ليسَ جُزْءاً من نفسِ الأصولِ بما ذَكَرَهُ في الفقيهِ -فممنوعٌ؛ لأنَّ قولَهم في الفقهِ: إنَّه العِلْمُ بالأحكامِ المُكْتَسَبُ مِن أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ-

صريحٌ في اعتبارِ الاجتهادِ؛ لأنَّ العِلْمَ المكتسَبَ إنما يكونُ بالاستنباطِ، وذلك موافقٌ لقولِهِم: الفقيهُ: المُجْتَهِدُ ... إلى آخرِهِ، فلم يَشْتَرِطُوا في الفقيهِ ما ليسَ شرطاً في الفِقْهِ، ثمَّ قولُه: فما قالُوا: الفقيهُ: العالمُ بالأحكامِ. ممنوعٌ؛ فقد قالَ الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرَازِيُّ في كِتَابِهِ المسمَّى (بالحدودِ والحقائِقِ): الفقيهُ: مَن له الفِقْهُ، فكلُّ مَن له الفقهُ فهو فَقِيهٌ، ومَن لا فِقْهَ له فليسَ بفقيهٍ. وقيلَ: الفقيهُ هو: العالِمُ بأحكامِ أفعالِ المكلَّفِينَ التي يَسُوغُ فيها الاجتهادُ. هذا كلامُه، والأحسنُ طريقةً الشيخُ وابنُ بُرْهَانَ وغيرُهما: أنَّ أصولَ الفقهِ الأدلَّةُ، وكيفيَّةُ الاستدلالِ خاصَّةٌ؛ ضرورةَ أنَّ المُسْتَدِلَّ إذا كانَ غيرَ عالِمٍ بِمُقَدِّمَاتِ الدليلِ، أو بما يَتَرَتَّبُ عليه الدليلُ، لم يُتَصَوَّرْ أنْ يكونَ عالِماً بالدليلِ، وأمَّا حالَ المستفيدِ فليسَ من مُسَمَّاهُ؛ ولهذا قالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ: لو اقْتَصَرَ على الدلائلِ وكيفيَّةِ الاستفادةِ منها، لَكَفَى، ويكونُ حالُ المستفيدِ كالتابِعِ والتَّتِمَّةِ، لكِنْ جَرَتِ العادةُ بإدخالِهِ في أصولِ الفقهِ وَضْعاً، فأُدْخِلَ فيه حَدًّا. قلتُ: ولو قيلَ: إنَّ المرادَ بمعرفةِ الدلائلِ مَعْرِفَتُها في نفسِها، ومعرفةُ أقسامِها، والعلمُ بأحوالِها التي لا بُدَّ مِنها في معرفةِ الأحكامِ الشرعيَّةِ - لكَفَى الاقتصارُ على الدلائلِ؛ كما فَعَلَ المصنِّفُ معَ التوفِيَةِ بطريقِ الجمهورِ. وقد أُورِدَ على المصنِّفِ أنَّه إذا كانَ الأُصُولُ عندَه الأدِلَّةَ، لَزِمَ أنْ يكونَ الأُصُولِيُّ العارِفَ بها، فحينَئذٍ فزيادةُ: (طُرُقِ اسْتفادتِها ومُسْتَفِيدِها) غيرُ محتاجٍ إليه، وأجابَ بأنَّ الأُصُولَ: نفسُ الأدلَّةِ، لا مَعْرِفَتُها، وأمَّا الأُصُولِيُّ: فهو المُتَلَبِّسُ بتلكَ الأدِلَّةِ؛ أي: العارِفُ بها، غيرَ أنَّ العِرْفَانَ لا يَتَهَيَّأُ إلاَّ لِمَن عَرَفَ طُرُقَ الاستفادةِ والمُسْتَفِيدِ؛ لأنَّ للمعرفةِ شُرُوطاً لا

يَتَهَيَّأُ إلاَّ بها، فإذنْ مَعْرِفَةُ تلكَ الطرقِ تُوصِلُ إلى معرفةِ الأدلَّةِ المُقْتَضِيَةِ لتسميةِ العارِفِ أُصُولِيًّا، كما أنَّ الضربَ هو الإيلامُ، والضاربَ هو المؤلِمُ على كيفيَّةٍ خاصَّةٍ. ص: (والفِقْهُ: العِلْمُ بالأحكامِ الشرعيَّةِ العَمَلِيَّةِ، المُكْتَسَبُ مِن أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ). ش: هذا حَدُّ الفِقْهِ اصْطِلاحاً، فالعِلْمُ جِنْسٌ، ولو عَبَّرَ بالمعرفةِ لكانَ أحسنَ، كما قالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ؛ فإنَّ العلمَ يُطْلَقُ بمعنى حصولِ المعنَى في الذهنِ،

ويُطْلَقُ على أخصَّ من ذلك، وهو الاعتقادُ الجازِمُ المطابِقُ لِمُوجِبٍ، ولهذا جاءَ سؤالُ الفقهِ من بابِ الظنونِ، فلا يَحْسُنُ جَعْلُه عِلْماً، ومَن عَبَّرَ بالمعرفةِ سَلِمَ منه لذلكَ. انْتَهَى. وقد انْفَصَلَ المصنِّفُ عن هذا، فقالَ: المرادُ به هنا الصِّنَاعةُ، كما تقولُ: عِلْمُ النحوِ؛ أي: صِنَاعَتُه، وحينَئذٍ يَنْدَرِجُ فيه الظنُّ واليقينُ، ولا يَرِدُ سؤالُ الظنِّ، وهذا يُنَازِعُ فيه أنَّ جَوَابَهُم عن السؤالِ بالطريقِ التي ذَكَرُوها، يَدُلُّ على أنَّ مُرَادَهم بالعلمِ اليقينُ، وإلاَّ كانَ جَوَابُهُم أنَّ الظنَّ دَاخِلٌ في العلمِ، ولو تَجَنَّبَهُ المصنِّفُ لَسَلِمَ مِن التَّمَحُّلِ لِدَفْعِ السؤالِ. وقولُه: (بالأحكامِ) فَصْلٌ يُخْرِجُ الإدراكَ بلا حُكْمٍ؛ كالعلمِ بالذواتِ والصفاتِ الحقيقيَّةِ والإضافةِ، فلا شيءَ مِن هذه العلومِ بِفِقْهٍ.

وقولُه: (الشرعيَّةِ) يُحْتَرَزُ به عن العلمِ بالأحكامِ العقليَّةِ، مثلُ كونِ العَرَضِ هل يَبْقَى زَمَانَيْنِ، والمرادُ بالشرعيَّةِ ما يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُها على الشرعِ، والشرعُ: الحُكْمُ، والشارِعُ هو اللهُ تعالَى. والرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغٌ، ويُطْلَقُ عليه أيضاًً بهذا الاعتبارِ. واعْلَمْ أنَّ جَعْلَ قولِهم: بالأحكامِ الشرعيَّةِ، قيديْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ، حتَّى يُحْتَرَزَ بكلِّ واحدٍ مِنهما عن شيءٍ. وهي طريقةُ الإمامِ في (المحصولِ) ومُتَابِعِيهِ. والتحقيقُ أنَّ الأحكامَ الشرعيَّةَ لفظٌ مُفْرَدٌ لا يَدْخُلُ جُزْؤُه فيه على شيءٍ؛ فإنَّ الأحكامَ الشرعيَّةَ جمعُ الحكمِ الشرعيِّ، وهو عِلْمٌ لِمَا سيأتي تَعْرِيفُه مِن الخطابِ المُنْقَسِمِ إلى الإيجابِ والتحريمِ وغيرِهما، وقد صَرَّحَ إِمامُ الحَرَمَيْنِ في (البُرهانِ) بأنَّ المرادَ بالأحكامِ الشرعيَّةِ في حَدِّ الفِقْهِ ذلكَ، فلْيُتَفَطَّنْ له؛ فإنَّه مِن النفائِسِ. قولُه: (العَمَلِيَّةِ) قَيْدٌ لم يَذْكُرْهُ القاضِي، ولكِنْ ذَكَرَه المُتَأَخِّرُونَ، واخْتَلَفُوا في المُحْتَرَزِ عنه؛ فقالَ الإمامُ: إنَّه احترازٌ عن العِلمِ بكونِ الإجماعِ حُجَّةً، وخبرِ الواحدِ والقياسِ حُجَّةً؛ فإنَّ العِلمَ به ليسَ عِلْماً بكيفيَّةِ عَمَلٍ، فلا يكونُ فِقهاً، وفَسَّرُوا العَمَلِيَّةَ بما يكونُ العلمُ به عِلْماً بكيفيَّةِ عَمَلٍ. واسْتَشْكَلَهُ ابنُ دَقِيقِ العِيدِ؛ لأنَّ جميعَ هذه القواعدِ التي ذَكَرَ أنَّه يُحْتَرَزُ عنها - فإنما الغايةُ المطلوبُ منها العملُ. والخَلاَصُ من هذا بزيادةِ الكيفيَّةِ غيرُ واضحٍ كلَّ الوضوحِ، إلاَّ أنْ يَرُدُّوا الأمرَ إلى الاصطلاحِ، وتفسيرِ معنى ما يُرِيدُه المتكلِّمُ من

كلامِهِ، فيَقْرُبَ الحالُ. وقالَ القَرَافِيُّ: يُخْرِجُ العِلْمِيَّةَ؛ كأصولِ الدينِ، وساعَدَهُ الشيخُ علاءُ الدينِ البَاجِيُّ، وخَالَفَه صَاحِبُه الشيخُ الإمامُ السُّبْكِيُّ، وقالَ: أُصُولُ الدينِ مِنه ما يَثْبُتُ بالعقلِ وَحْدَهُ؛ كوُجُودِ البارِي، ومنه ما يَثْبُتُ بكلِّ واحدٍ مِن العقلِ والسمعِ؛ كالوَحْدَانِيَّةِ والرؤيةِ، ومِنه ما لا يَثْبُتُ إلاَّ بالسمعِ؛ ككَثِيرٍ مِن أحوالِ القيامةِ، فأمَّا ما يَثْبُتُ بالعقلِ فخَرَجَ بقولِنا: الشرعيَّةِ، وتَفْسِيرِنا إيَّاها بما يَتَوَقَّفُ على الشرعِ، وأمَّا ما يَتَوَقَّفُ على السمعِ فقد يقالُ: إنها داخلةٌ في حَدِّ الشرعيَّةِ. وقولُه: (المُكْتَسَبُ) مرفوعٌ على أنَّه صفةٌ للعِلْمِ، وخَرَجَ به علمُ اللهِ تعالَى، وما يُلْقِيهِ في قلوبِ الأنبياءِ والملائكةِ عليهم الصلاةُ والسلامُ مِن الأحكامِ بلا

اكتسابٍ. وقولُه: (مِن أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ) قالَ الإمامُ وغيرُه: يُخْرِجُ اعتقادَ المُقَلِّدِ؛ فإنَّه مُكْتَسَبٌ مِن دليلٍ إجماليٍّ، وهو أنَّ هذا أَفْتَانِي به المُفْتِي، وكلُّ ما أَفْتَانِي به فهو حكمُ اللهِ في حَقِّي. وقالَ المصنِّفُ: خروجُ اعتقادِ المقلِّدِ به يَسْتَدْعِي سَبْقَ حُصُولِهِ، ولا أُسَلِّمُ أنَّ الحاصلَ عندَ المقلِّدِ عِلْمٌ، وقد قالَ الإمامُ في تعريفِ العلمِ: إنَّه لا بُدَّ أنْ يكونَ عن مُوجِبٍ. وعِلْمُ المُقَلِّدِ ليسَ لِمُوجِبٍ، فالأَوْلَى أنْ يُخْرَجَ بِقَيْدِ (التفصيليَّةِ) عِلْمُ الخلافِ؛ فإنَّه عِلْمٌ مُكْتَسَبٌ بأحكامٍ شرعيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ، لكِنَّها إجماليَّةٌ؛ لأنَّ الجَدَلِيَّ لا يَقْصِدُ صورةً بعينِها، وإنما يَضْرِبُ الصورةَ مِثالاً لقاعدةٍ كلِّيَّةٍ، فيَقَعُ عِلْمُهُ مُسْتَفَاداً من الدليلِ الإجمالِيِّ، لا من التفصيليِّ؛ كذا قالَ الأصفهانيُّ في (شرحِ

المحصولِ): اعتقادُ المُقَلِّدِ لا يُسَمَّى عِلماً. وقد صَرَّحَ بذلك في (المحصولِ) في تقسيمِهِ، وجَعَلَ اعتقادَ المُقَلِّدِ قَسِيماً للعلمِ، وحينَئذٍ فهو خارجٌ بقيدِ العلمِ، فلا حاجةَ إلى الاحترازِ عنه بقيدٍ آخرَ. قلتُ: الأَوْلَى أنْ يُقالَ: خُرُوجُ المُقَلِّدِ يَسْتَدْعِي سَبْقَ دُخُولِهِ، ولا أُسَلِّمُ أنَّ قولَ المُفْتِي دليلُ الحكمِ الشرعيِّ؛ فإنَّ دليلَه النصُّ والإجماعُ والقياسُ، والظاهرُ أنَّ ذِكْرَها ليسَ للاحترازِ عن شيءٍ؛ فإنَّ اكتسابَ الأحكامِ لا يكونُ من غيرِ أَدِلَّتِها التفصيليَّةِ، وإنما ذُكِرَ للدَّلالةِ على المُكْتَسَبِ مِنه بالمطابقةِ. قيلَ: وقولُ الإمامِ: علمُ المُقَلِّدِ ليسَ لِمُوجِبٍ ممنوعٌ، بل لا بُدَّ له مِن مُوجِبٍ؛ كحُسْنِ ظَنِّهِ بِمَن قَلَّدَهُ فيه. قلتُ: مرادُه (بالموجِبِ) ما كانَ عن بُرْهَانٍ حِسِّيٍّ أو عقليٍّ أو مُرَكَّبٍ مِنهما، واعتقادُ المُقَلِّدِ خارِجٌ عن ذلك، ولهذا قالَ في (المَطَالِبِ العالِيَةِ): أمَّا التقليدُ فهو أنْ يَعْتَقِدَ الإنسانُ اعتقاداً جازِماً في الشيءِ من غيرِ دليلٍ ولا شُبْهَةٍ. وقولُه: إنَّه يَخْرُجُ به علمُ الخلافِ. أي: فإنَّ الخلافِيَّ يقولُ: يَجِبُ بالمُقْتَضِي ولا يَجِبُ بالنافِي، بلا تَعْيِينٍ للمُقْتَضِي ولا للنافي، فغيرُ سَدِيدٍ؛ لأنَّ قولَ المُسْتَدِلِّ بالمُقْتَضِي أو النافي لا يُفِيدُ شَيْئاً إنْ لم يُعَيِّنْهُما، ثمَّ الظاهرُ أنَّ المرادَ به في كلامِهِ مُقْتَضٍ ونافٍ معهودٌ، فلم يَخْرُجْ عن التفصيلِ، فكانَ الصوابُ الاقتصارَ على (أَدِلَّتِهَا) من غيرِ وَصْفِها (بالتفصيليَّةِ)؛ لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ أنَّه قيدٌ زائدٌ.

ص: (والحُكْمُ: خِطَابُ اللهِ تعالَى المُتَعَلِّقُ بفعلِ المكلَّفِ مِن حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ). ش: لَمَّا عَرَّفَ الفِقْهَ بالحُكْمِ، وَجَبَ تعريفُ الحكمِ، والألِفُ واللامُ فيه للعَهْدِ؛ أي: الشرعيُّ؛ لِيُحْتَرَزَ به عن العقليِّ، وبهذه القَرِينَةِ اسْتَغْنَى المُصَنِّفُ عن التقييدِ. فالخِطَابُ: جِنْسٌ، والمرادُ به: ما وُجِّهَ من الكلامِ نحوَ الغيرِ لإفادتِهِ، وبإضافتِه إلى اللهِ تعالَى يَخْرُجُ خِطَابُ غيرِه. واسْتَغْنَى عن تَقْيِيدِهِ بالقديمِ؛ لأنَّ كلامَه قديمٌ. و (المُتَعَلِّقُ بفعلِ

المكلَّفِ) يُخْرِجُ أربعةَ أشياءَ: ما تَعَلَّقَ بذاتِهِ، نحوُ: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}، وبفعلِهِ، نحوُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، وبالجماداتِ نحوُ: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}، وبذواتِ المُكَلَّفِينَ، نحوُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}. وإنَّما أَفْرَدَ المُكَلَّفَ ولم يَجْمَعْهُ؛ لِئَلاَّ يَرِدَ عليه ما يَتَعَلَّقُ بمُكَلَّفٍ واحدٍ؛ كخَوَاصِّ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقولُه: (من حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ) يُخْرِجُ ما تَعَلَّقَ بفِعْلِ المُكَلَّفِ، لا مِن حيثُ تكليفُه؛ كخبرِ اللهِ عن أفعالِ المكلَّفِينَ، نحوُ: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، فقولُه: {وَمَا تَعْمَلُونَ} مُتَعَلِّقٌ بعملِ المكلَّفِ، لا مِن حيثُ فِعْلُه؛ بدليلِ أنَّه يَعُمُّ المُكَلَّفَ وغيرَه، بل مِن حيثُ إنَّه مخلوقٌ للهِ تعالَى، وليسَ ذلك حُكْماً شرعيًّا، بل هو مِن بابِ العقائدِ، لا الأحكامِ. وكذا قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الرِّزْقِ)) وغيرُه. وهذا القيدُ مُغْنٍ عن قولِ البَيْضَاوِيِّ: بالاقتضاءِ أو التخييرِ. وهو يُفْهِمُ اختصاصَ التعلُّقِ بوجهِ التكليفِ، لا يقالُ: فحينَئذٍ يَخْرُجُ ما سِوَى الإيجابِ والحَظْرِ، من الندبِ والإباحةِ والكراهةِ وخلافِ الأَوْلَى؛ لأنَّا نقولُ: هذه تَخُصُّ أفعالَ المُكَلَّفِينَ. وقولُ الفقهاءِ: (الصبيُّ يُثَابُ ويُنْدَبُ له) كلُّه على سبيلِ

التجَوُّزِ عندَ الأُصُولِيِّينَ، فلا يكونُ نَدْبٌ ولا كراهةٌ إلاَّ في فِعْلِ المكلَّفِ، وهذا أمرٌ مفروغٌ منه عندَ الأُصُولِيِّينَ، نَبَّهُوا عليه بقولِهِم: المُتَعَلِّقُ بأفعالِ المكلَّفِينَ. كذا قالَه المصنِّفُ، وسَبَقَه إليه الهِنْدِيُّ، فقالَ: الدليلُ على أنَّه لا يَتَعَلَّقُ بفعلِ الصبيِّ حُكْمٌ شرعيٌّ, الإجماعُ؛ فإنَّ الأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على أنَّ شرطَ التكليفِ العقلُ والبلوغُ، وإذا انْتَفَى التكليفُ عنهم؛ لِفَقْدِ شَرْطِهِ، انْتَفَى الحكمُ الشرعيُّ عن أفعالِهم، والمعنى مِن تَعَلُّقِ الضمانِ بإتلافِ الصبِيِّ أمرُ الولِيِّ بإخراجِهِ من مالِهِ. وقالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ: عَبَّرَ بعضُهم بأفعالِ العبادِ؛ لِيَشْمَلَ الضمانَ المُتَعَلِّقَ بِفِعْلِ الصبِيِّ والمجنونِ. ومَنِ اعْتَبَرَ التكليفَ، رَدَّ ذلك الحُكْمَ إلى الوَلِيِّ، وتكليفُه بأداءِ قَدْرِ الواجِبِ. قلتُ: وكذا القولُ في إتلافِ البَهيمةِ ونحوِهِ؛ فإنَّه حُكْمٌ شرعيٌّ، وليسَ مُتَعَلِّقاً بفعلِ المكلَّفِ، والحاصلُ رَدُّهُ إلى التعلُّقِ بفعلِ المكلَّفِ، إلاَّ أنَّ التَّعَلُّقَ تارَةً يكونُ بواسطةٍ، وتَارَةً يكونُ بغيرِ واسطةٍ، وكذا القولُ فيما يَثْبُتُ بِخِطَابِ الوضعِ على أحدِ الأقوالِ؛ فإنَّ الزوالَ سببٌ لوجوبِ الصلاةِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بفعلِ مُكَلَّفٍ؛ إذ مُوجِبُهُ وُجُوبُ الصلاةِ، لا أنَّه بِوَاسِطَةٍ، وقد أُورِدَ على المصنِّفِ أنَّه كانَ يَنْبَغِي أنْ يَزِيدَ: به، فيقولَ: مِن حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ به؛ لأنَّ الخطابَ من الشارِعِ لا يكونُ إلاَّ معَ المُكَلَّفِ، لا معَ الصبيِّ والمجنونِ، وأجابَ بأنه لو قالَ: به، لاقْتُضِيَ أنَّ المُكَلَّفَ لا يُخَاطَبُ إلاَّ بما هو مُكَلَّفٌ به، وليسَ كذلكَ؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَبٌ بما كَلَّفَ به الأُمَّةَ، بمعنى تَبْلِيغِهم، وكذا جميعُ المُكَلَّفِينَ بفرضِ الكفايةِ، وإنْ كانَ المكلَّفُ به بعضَهم، لا

الكلَّ، على المختارِ. ولقائلٍ أنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ امتناعَ كونِ المكلَّفِ لا يُخَاطَبُ إلاَّ بما كُلِّفَ به؛ فإنَّ سائرَ التكليفاتِ كذلك، ولا يَرِدُ عليه تكليفُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتبليغِ دونَ العملِ؛ فإنَّه لم يُكَلَّفْ إلاَّ بالتبليغِ، ولا يَضُرُّ تَعَلُّقُ التكليفِ بغيرِهِ مِن جِهَةٍ أُخْرَى، فصَدَقَ قَوْلُنا: إنَّه لم يُخَاطَبْ إلاَّ بما هو مُكَلَّفٌ به، ويَبْقَى سؤالُ المُعْتَرِضِ وتنظيرُه بفرضِ الكفايةِ عجيبٌ؛ فإنَّ كونَ الجميعِ مُخَاطَبِينَ معَ القولِ بأنَّ المكلَّفَ بعضُهم - مِمَّا لا يُمْكِنُ، والأَوْلَى أنْ يُقالَ: لو قالَ: به، لاقْتَضَى أنَّ المكلَّفَ لا يُخَاطَبُ إلاَّ بما كُلِّفَ به، وليسَ كذلك؛ فإنَّ المندوبَ والمكروهَ والمباحَ مُخَاطَبٌ بها، معَ أنَّه غيرُ مكلَّفٍ بها؛ على ما اخْتَارَهُ المصنِّفُ فيما سيأتِي، ولا تكليفَ في الحقيقةِ إلاَّ بالواجبِ والمحظورِ، فوَجَبَ حذفُ (به) لِيَتَنَاوَلَ جميعَ الأحكامِ المخاطَبِ بها؛ مُكَلَّفاً به وغيرَ مكلَّفٍ به. فائدةٌ: قولُه: (مِن حيثُ إنَّه) بكسرِ الهمزةِ، ثَمَّ، وقد أُولِعَ الفقهاءُ بالفتحِ، وعُدَّ مِن اللَّحْنِ، لكِنْ يَجِيءُ على رأيِ الكِسَائِيِّ في إضافةِ حيثُ إلى المفردِ. ص: (ومِن ثَمَّ لا حُكْمَ إلاَّ للهِ). ش: هذه المسألةُ فرعٌ لِمَا سَبَقَ، ولهذا قالَ: (ومِن ثَمَّ) وهي هنا للمكانِ المجازيِّ؛ أي: مِن أجلِ أنَّ الحُكْمَ خِطابُ اللهِ، وحيثُ لا خِطابَ لا حُكْمَ، فعُلِمَ أنه لا حُكْمَ إلاَّ للهِ، خِلافاً للمعتزلةِ في دَعْوَاهُم أنَّ العقلَ يُدْرِكُ الحكمَ بالحُسْنِ والقُبْحِ، فهو عندَهم طريقٌ إلى العلمِ بالحُكْمِ الشرعيِّ.

فائدةٌ: قالَ الراغِبُ: (ثَمَّ) إشارةٌ إلى المُتَبَعِّدِ من المكانِ، و (هناكَ) للمُتَقَرِّبِ، وهما ظرفانِ في الأصلِ، وقولُه تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} فهو في موضعِ المفعولِ. انْتَهَى. وقولُه: إنَّ (هناكَ) للمتقرِّبِ. خلافُ المشهورِ، وقولُه: إنَّها في الآيةِ مفعولٌ. مردودٌ؛ لأنَّه ظرفٌ لا يَنْصَرِفُ. ص: (والحَسَنُ والقَبيحُ بمعنى مُلاَءَمَةِ الطبعِ ومُنَافَرَتِهِ، وصفةِ الكمالِ والنقصِ -عقليٌّ، وبمعنَى تَرَتُّبِ الذمِّ عاجِلاً والعِقابِ آجِلاً -شَرْعِيٌّ، خِلافاً للمعتزلةِ). ش: الحُسْنُ والقُبْحُ يُطْلَقُ بثلاثِ اعتباراتٍ. أَحَدُهما: ما يُلائِمُ الطَّبْعَ ويُنَافِرُه؛ كإنقاذِ الغريقِ واتِّهَامِ البَرِيءِ. والثاني: صِفَةُ الكمالِ والنقصِ؛ كقولِنا: العلمُ حَسَنٌ، والجهلُ قبيحٌ. وهو بهذيْنِ الاعتباريْنِ عقليٌّ بلا خلافٍ؛ إذ العقلُ مُسْتَقِلٌّ بإدراكِ الحُسْنِ والقُبْحِ منهما، فلا حَاجَةَ في إِدْرَاكِهِما إلى الشرعِ. والثالثُ: ما يُوجِبُ المَدْحَ أو الذمَّ الشرعيَّ عاجلاً، والثوابَ أو العقابَ آجِلاً، فهو مَحَلُّ النِّزَاعِ.

فالمُعْتَزِلَةُ قالُوا: هو عقليٌّ أيضاًً، يَسْتَقِلُّ العقلُ بإدراكِهِ دونَ الشرعِ؛ إمَّا لذاتِ الفعلِ، أو لصفةٍ عائدةٍ إلى الأحكامِ، أو لِوُجُوهٍ واعتباراتٍ على خلافٍ لهم، وأهلُ السنَّةِ قالُوا: هو شرعيٌّ؛ أي: لا يُعْلَمُ استحقاقُ المدحِ أو الذمِّ، ولا الثوابِ أو العقابِ شَرْعاً على الفعلِ، إِلاَّ مِن جِهَةِ الشرعِ. ومِن المُحَقِّقِينَ مَن رَدَّ هذا القِسْمَ إلى الأوَّلِ، وقالَ: إنَّه في الحقيقةِ راجِعٌ إلى الألَمِ واللَّذَّةِ؛ ولهذا سَلَّمَ الرَّازِيُّ في آخِرِ عُمُرِهِ ما ذَكَرَه في كِتَابِهِ (نِهَايَةِ العقولِ): أنَّ الحُسْنَ والقُبْحَ العَقْلِيَّيْنِ ثابتانِ في أفعالِ العبادِ؛

إذ كانَ معناهما يَؤُولُ إلى اللَّذَّةِ والأَلَمِ. تَنبيهاتٌ: الأوَّلُ: أنَّ المُعْتَزِلَةَ لا يُنْكِرُونَ أنَّ اللهَ تعالَى هو الشارِعُ للأحكامِ، وإنما يقولون: إنَّ العقلَ يُدْرِكُ أنَّ اللهَ شَرَعَ أحكامَ الأفعالِ بِحَسَبِ ما يَظْهَرُ مِن مَصَالِحها ومَفَاسِدِها، فهو طريقٌ عندَهم إلى العلمِ بالحكمِ الشرعيِّ، والحكمُ الشرعيُّ تابعٌ لهما، لا عَيْنُهما، فما كانَ حَسَناً جَوَّزَهُ الشرعُ، وما كانَ قَبِيحاً مَنَعَه، فصارَ عندَ المُعْتَزِلَةِ حُكْمَانِ: أَحَدُهما: عقليٌّ، والآخرُ شرعيٌّ تابعٌ له، فبانَ أنَّهم لا يقولون: إنَّه - يعني العقابَ والثوابَ - ليسَ بشرعيٍّ أَصْلاً، خِلافاً لِمَا تُوهِمُهُ عبارةُ المصنِّفِ وغيرِهِ. الثاني: ما اقْتَصَرَ عليه المصنِّفُ من حكايةِ قَوْلَيْنِ هو المشهورُ، وتَوَسَّطَ قومٌ فقالوا: قُبْحُها ثابتٌ بالعقلِ، والعقابُ يَتَوَقَّفُ على الشرعِ، وهو الذي ذَكَرَه سعدُ بنُ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيُّ مِن أَصْحَابِنا، وأبو الخَطَّابِ من الحنابلةِ، وذَكَرَه

الحَنَفِيَّةُ، وحَكَوْهُ عن أبي حَنِيفَةَ نَصًّا، وهو المنصورُ؛ لِقُوَّتِهِ مِن حيثُ الفِطْرَةُ وآياتُ القرآنِ المجيدِ وسلامتُهُ مِن الوَهَنِ والتناقُضِ، فههنا أمرانِ: أحدُهما: إدراكُ العقلِ حُسْنَ الأشياءِ وقُبْحَها. والثاني: أنَّ ذلك كافٍ في الثوابِ والعقابِ، وإنْ لم يَرِدْ شَرْعٌ، ولا تَلاَزُمَ بينَ الأمريْنِ؛ بدليلِ قولِهِ تعالَى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ}؛ أي: بِقَبِيحِ فِعْلِهِم، {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}؛ أي: لم تَاتِهِم الرسُلُ والشرائِعُ، ومِثْلُه: {وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: من القبائِحِ، {فَيَقُولُونَ رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً}. الثالِثُ: إنَّما ذَكَرَ المُصَنِّفُ الذمَّ والعِقَابَ وأَهْمَلَ المَدْحَ والثوابَ؛ لِتَلاَزُمِهِمَا نَفْياً

وإِثْبَاتاً، وخَصَّ الذَّمَّ والعقابَ بالذِّكْرِ؛ لأنَّه على أُصُولِ المُعْتَزِلَةِ، لا يَتَخَلَّفُ ولا يَقْبَلُ المزيدَ، بخلافِ الأجرِ والثوابِ؛ فإنَّه قابلٌ للزيادةِ، فعَبَّرَ بما يُنَاسِبُ أُصُولَ الخُصُومِ، ومرادُهُ بِتَرَتُّبِ العِقابِ نَصُّ الشارعِ عليه، وهو لا يُنَافِي جوازَ العفوِ، ولو قالَ: كونُه مُتَعَلِّقَ العِقَابِ، لكانَ أحسنَ. فإنْ قُلْتَ: كيفَ قالَ: عقليٌّ وشرعيٌّ والمبتدأُ اثنانِ، والخبرُ يَجِبُ مطابقتُه للمبتدأِ؟ قلتُ: يَجُوزُ أنْ يكونَ الخبرُ حُذِفَ أحدُ جُزْأَيْهِ؛ أي: كلاهما عَقْلِيٌّ، أو هو خبرٌ عن الثاني، وحُذِفَ من الأوَّلِ لِدَلالتِه عليه. ويَجُوزُ في انتصابِ قولِهِ: (خِلافاً) وجهانِ: أَحَدُهما: أنْ يكونَ مصدراً، والثاني: أنْ يكونَ حَالاً؛ أي: أقولُ ذلك خِلافاً لهم؛ أي: مُخَالِفاً، واسْتَحْضِرْ هذا في كلِّ موضعٍ ذُكِرَ فيه هذا. وكذا قولُهم: وِفَاقاً. ص: (وشُكْرُ المُنْعِمِ واجبٌ بالشرعِ، لا بالعقلِ، خِلافاً للمعتزلةِ). ش: عادَةُ الأُصُولِيِّينَ أنْ يَذْكُرُوا بعدَ هذا الأصلِ فرعيْنِ على طريقِ التنَزُّلِ، فتَابَعَهُمُ المصنِّفُ. أحدُهما: شُكْرُ المُنْعِمِ غيرُ واجبٍ عقلاً؛ لأنَّه لو وَجَبَ عَقْلاً، لَعُذِّبَ تَارِكُه قبلَ الشرعِ، لكنَّه لا يُعَذَّبُ؛ لقولِهِ تعالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}؛

فإنَّه نَفَى التعذيبَ مُطْلقاً إلى البَعْثَةِ، فإنْ قِيلَ: التعذيبُ ليسَ بلازمٍ لِتَرْكِ الواجِبِ؛ لِجَوازِ العفوِ. قلنا: تَرْكُ الواجبِ يَلْزَمُهُ التعذيبُ قبلَ التوبةِ عندَهم، والعفوُ غيرُ جائزٍ قبلَها. فإنْ قيلَ: كيفَ يُسْتَدَلُّ عليهم بالآيةِ، والتفريعُ على تسليمِ الحُسْنِ والقُبْحِ العقلِيَّيْنِ. قيلَ: لأنَّ عندَهم لا يَجُوزُ وُرُودُ الشرعِ بِخِلافِ العقلِ، فصَارَتِ المُعْتَزِلَةُ إلى وُجُوبِهِ بالعقلِ، وأَوْرَدَ عليهم الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازِيُّ في كتابِهِ (الحُدُودِ) مُنَاقَضَةً؛ فإنَّهم قالُوا: يَجِبُ على اللهِ أنْ يُثِيبَ المُطِيعِينَ، وأنْ يُنْعِمَ على الخَلْقِ، وإذا كانَ الثوابُ وَاجِباً، فلا معنى للشكرِ؛ لأنَّ مَن قَضَى دَيْنَه فلا يَسْتَحِقُّ الشكرَ، ففي الجمعِ بينَ هذيْنِ القوليْنِ تناقُضٌ. ص: (ولا حُكْمَ قبلَ الشرعِ، بل الأمرُ موقوفٌ إلى وُرُودِهِ).

ش: الفرعُ الثاني في حكمِ الأشياءِ قبلَ الشرعِ، وقد ذَهَبَ أَئِمَّتُنا إلى أنَّه لا حُكْمَ فيها؛ فإنَّ الحكمَ عندَهم عبارةٌ عن الخِطابِ؛ كما تَقَدَّمَ، والأحكامُ هي نَفْسُ الشريعةِ، فلا تَثْبُتُ الشريعةُ قبلَ ثُبُوتِها، ثمَّ ظاهرُ كلامِ المصنِّفِ انتفاءُ الحُكْمِ نفسِه؛ أي: أنَّ الحكمَ مُنْتَفٍ ما لم تَرِدِ البَعْثَةُ، وهو ما قالَه النَّوَوِيُّ في (شرحِ المُهَذَّبِ): إِنَّه الصحيحُ عندَ أَصْحَابِنا. وقيلَ: المرادُ عَدَمُ العِلْمِ بالحُكْمِ؛ أي: أنَّ لهما حُكْماً قبلَ وُرُودِ الشرعِ، لكِنَّا لا نَعْلَمُهُ، قالَ البيضاويُّ: وهذا مرادُ الشيخِ بالوقفِ في هذه المسألةِ؛ لأنَّ الحكمَ عندَه قديمٌ، فتفسيرُ الوقفِ بعدمِ الحكمِ يَلْزَمُ منه حدوثُ الحكمِ، وهو خلافُ مَذْهَبِهِ. والصوابُ ما جَرَى عليه المصنِّفُ؛ فإنَّه المنقولُ. وقد قالَ القاضي أبو بَكْرٍ في (مُخْتَصَرِ التقريبِ): صارَ أهلُ الحقِّ إلى أنَّه لا حُكْمَ قبلَ وُرُودِ الشرعِ. وعَبَّرُوا عن نَفْيِ الأحكامِ بالوقفِ، ولم يُرِيدُوا بذلكَ الوقفِ الذي

يكونُ حُكْماً في بعضِ مسائلِ الشرعِ، وإنَّما عَنَوْا به انتفاءَ الأحكامِ، وذَكَرَ مِثْلَه الإمامُ في (البُرْهَانِ) والغزاليُّ وابنُ السمعانِيِّ وغيرُهم من الأصحابِ، وإنما قالَ المصنِّفُ: بل الأمرُ موقوفٌ إلى وُرُودِهِ؛ دَفْعاً لِتَوَهُّمِ مَن ظَنَّ أنَّ القولَ بالوقفِ غيرُ القولِ بنفيِ الأحكامِ، وليسَ كذلك، بل مُرَادُهم بالوقفِ أنَّ الأمرَ موقوفٌ على وُرُودِ الشرعِ، وأنَّ الحكمَ مُنْتَفٍ ما لم يَرِدِ الشرعُ. ص: (وحَكَّمَتِ المُعْتَزِلَةُ العقلَ، فإنْ لم يَقْضِ فثَالِثُها لهم: الوقفُ عن الحَظْرِ والإِبَاحَةِ). ش: هذا من المصنِّفِ تحريرٌ لنقلِ مذهبِ الاعتزالِ؛ فإنَّ الإمامَ الرَّازِيَّ عَمَّمَ الخلافَ عنهم في جميعِ الأفعالِ، وليسَ كذلك، بل الأفعالُ الاختياريَّةُ عندَهم تَنْقَسِمُ إلى ما يَقْضِي العقلُ فيها بِحُسْنٍ أو قُبْحٍ، فيُتَّبَعُ فيها حُكْمُ العقلِ، وتَنْقَسِمُ إلى الأحكامِ الخمسةِ بِحَسَبِ تَرَجُّحِ الحُسْنِ أو القُبْحِ وتَعَادُلِهِما، ولا خِلافَ عندَهم في هذا، وإليه أشارَ بقولِهِ: (وحَكَّمَتِ المُعْتَزِلَةُ العقلَ)؛ أي: فيما يَقْضِي فيه العقلُ، ودَلَّ

عليه قولُه بعدَه: (فإنْ لم يَقْضِ)، وإنَّما الخلافُ فيما لا يَقْضِي العقلُ فيه بِحُسْنٍ ولا قُبْحٍ؛ كفُضُولِ الحاجاتِ والتنَعُّمَاتِ هل هو واجبٌ أو مُبَاحٌ أو الوَقْفُ؟ ثلاثةُ مذاهبَ، والقائلون بالحَظْرِ - كما قالَه ابنُ التِّلِمْسَانِيِّ - لا يُرِيدُونَ به باعتبارِ صفةٍ في المَحَلِّ، بل حَظْرٌ احتياطيٌّ، كما يَجِبُ اجتنابُ المنكوحةِ إذا اخْتَلَطَتْ بأجنبيَّةٍ، والقائلونَ بالوقفِ أرادوا وقفَ حِيرَةٍ. وطريقُ البحثِ معَهم في هذه المسألةِ والتي قبلَها: أنَّ كلَّ احتمالٍ عَيَّنُوه، وبَنَوْا عليه حُكْماً قابَلْنَاهُم بِنَقِيضِهِ، فنُعَارِضُ شُبَهَ القائلينَ بالإباحةِ بِشُبَهِ القائلينَ بالحَظْرِ، وشُبَهَ الواقفينَ بِشُبَهِهِمَا. تنبيهاتٌ: الأوَّلُ: تحريرُ النقلِ عنهم هكذا تَابَعَ فيه الآمِدِيَّ، قالَ القَرافِيُّ: وإطلاقُ الإمامِ الخلافَ عنهم يُنَافِي قواعدَهم؛ فإنَّ القولَ بالحَظْرِ مُطْلَقاً يَقْتَضِي تحريمَ إنقاذِ الغَرِيقِ ونحوِهِ، والقولُ بالإباحةِ مُطْلَقاً يَقْتَضِي إباحةَ القتلِ والفسادِ، أمَّا ما لم يَطَّلِعِ العقلُ على مَفْسَدَتِه أو مَصْلَحَتِهِ فيُمْكِنُ أنْ يَجِيءَ فيه الخلافُ. قالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ كلامَ أبي الحُسَيْنِ في (المُعْتَمَدِ) وقد حَكَى عن شِيعَةِ المُعْتَزِلَةِ الخلافَ مُطْلَقاً من غيرِ تَقْيِيدٍ، وهو أعلمُ بِمَذْهَبِ القومِ، فرَجَعْتُ إلى طريقةِ الإمامِ. الثاني: قولُه: (وحَكَّمَتِ المعتزلةُ العقلَ) يَقْتَضِي أنَّ مَذْهَبَهم أنَّ العقلَ مُنْشِئُ الحكمِ مُطْلَقاً، وليسَ كذلك، بل التحقيقُ في النقلِ عنهم أنَّهم قالُوا: الشرعُ مُؤَكِّدٌ لحكمِ العقلِ فيما أَدْرَكَهُ مِن حُسْنِ الأشياءِ وقُبْحِها؛ كحُسْنِ الصدقِ النافعِ والإيمانِ،

وقبحِ الكَذِبِ الضارِّ والكُفرانِ، وليسَ مُرَادُهُم أنَّ العقلَ يُوجِبُ أو يُحَرِّمُ، وقد لا يَسْتَقِلُّ بذلك، بل يُحْكَمُ به بواسطةِ وُرُودِ الشرعِ بالحُسْنِ والقُبْحِ؛ كحُكْمِهِ بِحُسْنِ الصلاةِ في وقتِ الظهرِ وقُبْحِها في وقتِ الاستواءِ. الثالِثُ: يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إلى استشكالِ قولِ المصنِّفِ (لهم)؛ فإنَّ الخِلافَ أيضاًً يُحْكَى عن جماعةٍ مِن أصحابِنا؛ كابنِ أبي هُرَيْرَةَ وغيرِهِ، والذي فَعَلَه المصنِّفُ هو الصوابُ؛ لأنَّ الخلافَ المَحْكِيَّ عن أصحابِنا في ذلك إنما هو لِمُقْتَضَى الدليلِ الشرعيِّ الدالِّ على ذلكَ بعدَ مَجِيءِ الشرعِ، لا بِمُجَرَّدِ العقلِ، وليسَ خِلافُهم في أصلِ التحسينِ والتقبيحِ بالعقلِ، وصارَ الفرقُ بينَهم وبينَ أصحابِنا في هذا الخلافِ مِن ثلاثةِ أوجهٍ: أَحَدُها: أنَّهم خَصُّوا هذه الأقوالَ بما لا يَقْضِي العقلُ فيه بِحُسْنٍ ولا قُبْحٍ، وأمَّا ما يَقْضِي فيَنْقَسِمُ إلى الأحكامِ الخمسةِ؛ ولهذا نَسَبَهُم أصحابُنا إلى التناقُضِ في

قولِ مَن رَجَّحَ الإباحةَ أو الحَظْرَ؛ لأنَّ ذلك عندَهم يَسْتَنِدُ إلى دليلِ العقلِ، وفَرْضُ المسألةِ فيما لم يَظْهَرْ للعقلِ حُسْنُهُ ولا قُبْحُهُ، وأمَّا أصحابُنا فأقوَالُهُم في جميعِ الأفعالِ، هذا على طريقةِ الآمِدِيِّ ومَن تَابَعَهُ. والثاني: أنَّ مُعْتَمَدَهُم دليلُ العقلِ، ومُعْتَمَدُ أصحابِنا الدليلُ الشرعيُّ؛ إمَّا على التحريمِ؛ لقولِهِ تعالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}. ومفهومُه أنَّ المتقدِّمَ قبلَ الحِلِّ هو التحريمُ، فدَلَّ على أنَّ حُكْمَ الأشياءِ كلِّها على الحَظْرِ، وإمَّا على الإباحةِ؛ لِقَوْلِهِ تعالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}، وقولِهِ تعالَى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}؛ وذلك يَدُلُّ على الإذنِ في الجميعِ، وأمَّا الوقفُ فلِتَعَارُضِ الأدِلَّةِ، فهذه المَدَارِكُ الشرعيَّةُ الدالَّةُ على الحالِ قبلَ وُرُودِ الشرائِعِ، فلو لم تَرِدْ هذه النصوصُ لقالَ الأصحابُ: لا عِلْمَ لنا بتحريمٍ ولا إباحةٍ، ولقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: المُدْرِكُ عِنْدَنا العَقْلُ، فلا يَضُرُّ عدمُ ورودِ الشرائِعِ. والثالثُ: أنَّ الوَاقِفِينَ أَرَادُوا وَقْفَ حِيرَةٍ؛ كما قَالَه ابنُ التِّلِمْسَانِيِّ، وأمَّا أَصْحَابُنا فأَرَادُوا به انتفاءَ الحكمِ على ما سَبَقَ. ص: (والصوابُ: امتناعُ تكليفِ الغافلِ والمُلْجَأِ، وكذا المُكْرَهُ على الصحيحِ، ولو على القتلِ، وأَثِمَ القاتِلُ؛ لإيثارِهِ نفسَه. ش: فيه مسائلُ: أحَدُها: يَمْتَنِعُ تكليفُ الغافِلِ؛ كالنائِمِ والناسِي؛ لِمُضَادَّةِ هذه الأمورِ الفَهْمَ،

فيَنْبَغِي شرطُ صِحَّةِ التكليفِ، ولا يَرِدُ ثُبُوتُ الأحكامِ في أفعالِهِ في الغَفْلَةِ والنومِ؛ لأنَّ ذلك من قَبِيلِ رَبْطِ الأحكامِ بالأسبابِ، وقالَ القَفَّالُ: إِنَّمَا طَلَبَ منه سُجُودَ السهوِ، ووَجَبَتِ الكَفَّارَةُ على المُخْطِئِ؛ لكونِ الفعلِ في نفسِهِ مُحَرَّماً مِن حيثُ إنَّه محظورٌ عَقْدُه، لا إِنَّه في نَفْسِهِ غيرُ مَنْهِيٍّ عنه في هذه الحالةِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُهُ التحفُّظُ منه، وتعبيرُ المصنِّفِ بـ (الصوابِ) يُشْعِرُ بأنَّ مُقَابِلَه قَوْلٌ مُزَيَّفٌ، وإليهِ أشارَ في (المِنْهَاجِ) بقولِهِ: بِنَاءً على التكليفِ بالمُحَالِ. أي: فإنْ مَنَعْنَاهُ فهَهُنا أَوْلَى، وإنْ جَوَّزْنَاهُ فللأَشْعَرِيِّ هنا قَوْلانِ، نَقَلَهُما ابنُ التِّلِمْسَانِيِّ وغيرُه. قالُوا: والفرقُ أنَّ

للتكليفِ هناكَ فائدةً، وهي الابتلاءُ، وهنا لا فائدةَ له، لكِنْ نَقَلَ ابنُ بُرهانَ في (الأوسطِ) عن الفقهاءِ أنَّه يَصِحُّ تكليفُ الغافلِ على معنَى ثُبُوتِ الفِعْلِ في الذمَّةِ، وعن المُتَكَلِّمِينَ المَنْعُ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ ذلك عندَهم. وقد يُظَنُّ أنَّ الشافعيَّ يَرَى تكليفَ الغافلِ مِن نَصِّهِ على تكليفِ السَّكْرَانِ، وهو فاسدٌ؛ فإنَّه إنما كَلَّفَ السكرانَ عُقُوبَةً له؛ لأنَّه تَسَبَّبَ بِمُحَرَّمٍ حَصَلَ باختيارِهِ؛ ولهذا وَجَبَ عليه الحَدُّ، بخلافِ الغافِلِ.

الثانيةُ: يَمْتَنِعُ تكليفُ المُلْجَأِ أيضاًً، والمرادُ به مَن لا يَجِدُ مَنْدُوحَةً على الفعلِ معَ حضورِ عَقْلِهِ، وذلك كمَن يُلْقَى من شاهِقٍ، فهو لا بُدَّ له من الوقوعِ، ولا اختيارَ له فيه، ولا هو بفاعلٍ له، وإنما هو آلةٌ مَحْضَةٌ كالسِّكِّينِ في يدِ القاطِعِ، فلا يُنْسَبُ إليه فِعْلٌ، وحَرَكَتُه كحركةِ المُرْتَعِشِ، وسِيَاقُ المُصَنِّفِ يَقْتَضِي حكايةَ خلافٍ في هذه الحالةِ، وكلامُ الآمِدِيِّ في (الإحكامِ) يُشِيرُ إليه؛ بِناءً على جوازِ تكليفِ ما لا يُطَاقُ عقلاً، وإنِ امْتَنَعَ سَمْعاً. الثالثةُ: يَمْتَنِعُ تكليفُ المُكْرَهِ، والمرادُ به مَن يُنْسَبُ إليه الفعلُ، فيقالُ: فَعَلَ مُكْرَهاً غيرَ مُخْتَارٍ، وهو مَن لا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عن الفعلِ إلاَّ بالصبرِ على إيقاعِ ما أُكْرِهَ به، كمَن قالَ له قادرٌ على ما يَتَوَعَّدُ: اقْتُلْ زَيْداً وإلاَّ قَتَلْتُكَ. لا يَجِدُ مندوحةً عن قتلِهِ إلاَّ بتسليمِ نفسِه للهلاكِ، فهذا إقدامُه على قَتْلِ زيدٍ ليسَ كَوُقُوعِ الذي أُلْقِيَ مِن شاهِقٍ، وإنِ اشْتَرَكَا في عدمِ التكليفِ، لكِنَّ تكليفَ هذا المُكْرَهِ أَقْرَبُ مِن تكليفِ المُلْجَأِ، كما أنَّ تَكْلِيفَ المُلْجَأِ أَقْرَبُ من تكليفِ الغافلِ الذي لا يَدْرِي، فإذاً المَرَاتِبُ ثلاثةٌ كما رَتَّبَهَا المصنِّفُ: فأَبْعَدُها تكليفُ الغافِلِ؛ فإنَّه لا يَدْرِي. ويَتْلُوها: تَكْلِيفُ المُلْجَأِ؛ فإنَّه يَدْرِي، ولكِنْ لا مَنْدُوحَةَ له عن الفعلِ. ويَتْلُوها: المُكْرَهُ؛ فإنَّه يَدْرِي وله مَنْدُوحَةٌ عن الفعلِ، لكِنْ بطريقٍ تارَةً لم يُكَلِّفْهُ الشرعُ الصبرَ عليها؛ كما

في الإكراهِ على شُرْبِ الخَمْرِ وكَلِمَةِ الكُفْرِ، وتَارَةً قيلَ: إنَّه كَلَّفَه، كما في الإكراهِ على القتلِ، فيَعْتَقِدُ أكثرُ الفقهاءِ أنَّه كُلِّفَ الصبرَ على قتلِ نفسِه، والمختارُ عندَ المصنِّفِ أنَّه كُلِّفَ أنْ لا يُؤْثِرَ نفسَه على نفسِ غيرِ المكافِئِ له؛ لاسْتِوَائِهِما في نظرِ الشارعِ، فلَمَّا آثَرَ وأقدَمَ لمجرَّدِ حَظِّ نفسِه وَجَبَ عليه القِصاصُ في الأصحِّ، وأَثِمَ بلا خلافٍ، وهذا معنى قولِه: (ولو على القتلِ). وأمَّا قولُهُ: (وإثمُ القاتلِ) فهوَ جوابٌ عنْ سؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ تقديرُهُ: إذَا كَانَ المُكْرَهُ غيرَ مُكَلَّفٍ، فَمَا بالُ المُكْرَهِ على القتلِ يَاثَمُ؟ وَأَجَابَ بأَنَّهُ لاَ يَاثَمُ مِنْ حَيثُ إِنَّهُ مُكْرَهٌ وَإِنَّهُ قَتَلَ؛ بَلْ مِنْ حَيثُ إِنَّهُ آثَرَ نَفْسَهُ على غيرِهِ. فَهُوَ ذُو وجهينِ: جِهَةُ الإكراهِ ولاَ إِثْمَ فيها، وجِهَةُ الإِيثَارِ ولاَ إِكْرَاهَ فيها، وَهَذَا لأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: اقْتُلْ زَيْداً وإِلاَّ قَتَلْتُكَ. فمعنَاهُ التخييرُ بينَ نَفْسِهِ وزيدٍ، فإذا آثَرَ نَفْسَهُ فقدْ أَثِمَ؛ لأَنَّهُ اختيارٌ، وهذا كَمَا يُقَالُ فِي خِصَالِ الكَفَّارَةِ: مَحِلُّ التخييرِ لاَ وُجُوبَ فِيهِ، وَمَحِلُّ الوجوبِ لاَ تخييرَ فِيهِ، فَكَذَا هُنَا، أَصْلُ القتلِ لاَ عِقَابَ فِيهِ، وَالْقَتْلُ المخصوصُ فِيهِ عِقَابٌ؛ لِتَضَمُّنِهِ الاختيارَ، وَهُوَ إِيثَارُ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ. قالَ: وهذا تحقيقٌ حَسَنٌ، وبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لاَ استثناءَ لصورةِ القتلِ مِنْ قولِنَا: الْمُكْرَهُ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ. وقولُ الفقهاءِ: (11 أ) الإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التصرفِ إِلاَّ في صُوَرٍ - إِنَّمَا ذَكَرُوهُ لِضَبْطِ تلكَ الصُّورَةِ؛ لاَ لأنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ حقيقتِهِ شَيءٌ.

تنبيهانِ: الأولُ: مَا اخْتَارَهُ المُصَنِّفُ هُنَا مِنَ امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، خِلاَفَ مَا عَلَيْهِ الأصحابُ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ آخِراً وَوَافَقَ الأَشْعَرِيَّةَ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاقِعٍ. قالَ ابنُ بُرْهَانَ في (الأَوْسَطِ): المُكْرَهُ عِنْدَنَا مُخَاطَبٌ بالفعلِ الذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، قالَ: وَانْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَاطَباً بِمَا عَدَا مَا أُكْرِهَ عَلَيهِ مِنَ الأَفْعَالِ، وَنَقَلَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَهَذَا خَطَأٌ في النَّقْلِ عَنْهُمْ؛ بَلْ عِنْدَهُمْ إِنَّهُ مُخَاطَبٌ، إِلاَّ أَنَّ العلماءَ رَأَوا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْمُلْجَأَ ليسَ بِمُخَاطَبٍ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُلْجَأَ والْمُكْرَهَ وَاحِدٌ، وليسَ كَذَلِكَ. انتهَى. وَكَانَ حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لِيُخْرِجَ الصُّورَةَ التِي حَكَى ابنُ بُرْهَانَ فِيهَا الإجماعَ، وَكأنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ؛ لأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لَيْسَ بِمُكْرَهٍ. الثَّانِي: مَا اخْتَارَهُ فِي القَاتِلِ، هُوَ بِظَاهِرِهِ مُصَادِمٌ للإِجْمَاعِ، فِفِي (التَّلْخِيصِ) لإمامِ الحرمينِ: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى تَوْجِيهِ النَّهْي عَلَى المُكْرَهِ عَلَى القتلِ، وَهَذَا عَيْنُ التَّكْلِيفِ فِي حَالِ الإِكْرَاهِ، وَهُوَ مِمَا لاَ مَنْجَى مِنْهُ. انتهَى. وَقَالَ الشيخُ فِي (شَرْحِ اللُّمَعِ): انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ المُكْرَهَ عَلَى القتلِ مأمورٌ باجتنابِ القتلِ، وَدَفْعِ المُكْرَهِ عَنْ نَفْسِهِ، وإِنْ أَثِمَ بِقَتْلِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قتلِهِ، وَذَلِكَ يَدْلُّ عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ الإِكْرَاهِ. وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِهِ الغزاليُّ وَغيرُهُ، وَاقْتَضَى كلامُهُمْ تخصيصَ الخلافِ بِمَا إِذَا وَافَقَ دَاعِيَةُ الإِكْرَاهِ دَاعِيَةَ الشرعِ، كَالإِكْرَاهِ عَلَى قتلِ الكافرِ، وِإِكْرَاهِهِ عَلَى الإسلامِ، وَأَمَّا مَا خَالَفَ فِيِه دَاعِيَةُ الإِكْرَاهِ دَاعِيَةَ الشرعِ كَالإِكْرَاهِ عَلَى

القتلِ، فَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ التكليفِ بِهِ. انتهَى. (ص): (وَيَتَعَلَّقُ الأمرُ بالمعدومِ تَعَلُّقاً معنوياً خِلافاً للمعتزلةِ). (ش): المعدومُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مأموراً عِنْدَنَا خِلافاً للمعتزلةِ، وَلاَ نُرِيدُ تَنْجِيزَ التكليفِ، أي: إِنَّهُ مأمورٌ حالَ عدمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مستحيلٌ؛ بَلِ المُرَادُ تَعَلُّقُ الأمرِ بِهِ فِي الأَزَلِ، وَإِذَا وُجِدَ وَاسْتَجْمَعَ شرائطَ التكليفِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُكَلَّفاً بِذَلِكَ الطلبِ القديمِ مِنْ غيرِ تَجَدُّدِ طلبٍ آخَرَ، هَكَذَا حَرَّرَهُ عَنِ الأَشْعَرِىِّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى إثباتِ كلامِ النفسِ، وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَتِ المعتزلةُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قديمٍ أَزَلِيٍّ قائمٍ بِذَاتِهِ، لَزِمَ وجودُ الأمرِ فِي الأَزَلِ، وَلاَ مأمورَ، للعلمِ بِأَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ حَادِثٌ. وَاعْتَرَضَ الخُصُومُ وَقَالُوا: يَلْزَمُ وجودُ أَمْرٍ وَلاَ مأمورَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لكونِهِ عَبَثاً، ولأَنَّ الأمرَ مِنَ المعانِي المُتَعَلِّقَةِ؛ وَوُجُودُ مُتَعَلِّقٍ وَلاَ مُتَعَلَّقَ بِهِ،

مُحَالٌ، وَقَدِ ارْتَاعَ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، والقَلاَنِسِيُّ مِنْ أصحابِنَا، وَمَالاَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسَمَّى فِي الأَزَلِ أَمْراً وَلاَ نَهْياً، وَلاَ خَبَراً، ثُمَّ صَارَ فِيمَا لاَ يَزَالُ كَذَلِكَ، فَجَعَلاَهُ مِنْ صِفَاتِ الأفعالِ. والفرقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مذهبِ الأَشْعَرِيِّ: أَنَّ الأَشْعَرِيَّ يَقْولُ: الأمرُ بذاتِهِ وصفتِهِ فِي الأَزَلِ، وَلاَ مأمورَ فِي الأَزَلِ. وَهُمَا يَقُولاَنِ: الموجودُ فِي الأَزَلِ (11 ب) الأمرُ بِذَاتِهِ بدونِ وصفِ كَوْنِهِ أَمْراً. وَاسْتَضْعَفَ المحققونَ هَذَا التوسطِ، بِأَنَّا لاَ نعقلُ مِنْ كَلاَمِ اللَّهِ إِلاَ الأمرَ والنَّهْيَ والخبرَ، فَإِذَا قِيلَ بِحُدُوثِهَا، لَزِمَ حُدُوثُ كلامِ اللَّهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَجَابُوا عَنْ شُبْهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَمَّا لُزُومُ الْعَبَثِ: فَلِبِنَائِهِ عَلَى التحسينِ والتقبيحِ، وَأَمَّا الثَّانِيَ: فَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّ الأمرَ مِنَ الحقائقِ الْمُتَعَلِّقَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ شأنِهِ أَنْ يَتَعَلَّقَ، والتعليقُ أمرٌ نسبيٌّ، والنسبُ والإضافاتُ موجودةٌ فِي الذهنِ دُونَ الخارجِ، وبهذا التقريرِ يَزُولُ الإشكالُ وَظَهَرَ أَنَّهُ تَعَلُّقٌ ذِهْنِيٌّ مَجَازِيٌّ لاَ حَقِيقِيٌّ، وَيُوَضِّحُهُ مَا يَقُولُهُ الفقيهُ: إِنَّ الوصيةَ للحملِ صحيحةٌ، لِتَوَقُّعِ

وُجُودِهِ، بِخِلاَفِ الوصيةِ للمعدومِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَتَخَرَّجُ الحُكْمُ عَلَى الأشياءَ المعدومةِ وَتُقَدَّرُ مَوْجُودَةً، كالإيمانِ فِي حَقِّ أطفالِ المؤمنينَ، وَالْكُفْرِ فِي أولادِ الكُفَّارِ؛ حتى يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ، وَقَدْ حَقَّقَ الإمامُ الْمُقْتَرِحُ ـ جَدِّ الشيخِ تَقِيِّ الدينِ بْنِ دَقِيقِ العِيدِ لأُمِّهِ ـ العبارةَ عَنْ هَذِهِ المسألةِ بِمَا يُفْسِدُ تعبيرَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: الأمرُ لَمْ يُتَعَقَّلْ بالمعدومِ، بَلْ بالموجودِ المُتَوَقَّعِ، فكما أَنَّ العِلْمَ الأَزَلِيَّ يَتَعَلَّقُ بالموجودِ الذِي سَيَكُونُ، فَكَذَلِكَ الطلبُ الأَزَلِيُّ يُتَعَقَّلُ بِالْمُكَلَّفِ الذِي سَيَكُونُ. تَنْبِيهَاتٌ: الأول: قَدْ تُسْتَشْكَلُ هَذِهِ المسألةُ مَعَ التي قَبْلَهَا مِنِ امْتِنَاعِ تكليفِ الغافلِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ المُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ مأموراً فِي حالةِ الغفلةِ، وَلاَ يَكُونُ مأموراً بَعْدَ تَذَكُّرِهِ بالأمرِ الموجودِ فِي حالةِ غفلتِهِ - اسْتُشْكِلَ الفرقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المعدومِ؛ بَلِ الغَافِلُ أَوْلَى بالجوازِ؛ لأَنَّهُ إِذَا كَانَ المعدومُ مأموراً بَعْدَ وجودِهِ بالأمرِ المُتَقَدِّمِ عَلَى وجودِهِ كَانَ الغافلُ مأموراً بَعْدَ تَذَكُّرِهِ بالأمرِ الوَارِدِ قَبْلَ تَذَكُّرِهِ بطريقِ الأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ المرادُ أَنَّهُ لاَ يَكْونُ مأموراً حَالَ غفلتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مأموراً بَعْدَ تَذَّكُرِهِ بالأمرِ الوَارِدِ فِي حَالِ غفلتِهِ - فَيَكُونُ حُكْمُ الغافلِ كَحُكْمِ المعدومِ سواءً فِي أَنَّ كُلاَّ مِنْهُمَا لاَ يَكُونُ مأموراً حَالَ عَدَمِهِ، ولاَ حَالَ غَفْلَتِهِ، وَيَكُونُ مأموراً بَعْدَ تَذَكُّرِهِ أَوْ وُجُودِهِ بالأمرِ الواردِ فِي حالةِ العدمِ وحالةِ الغفلةِ، فَهُمَا سَوَاءٌ، وِحِينَئِذٍ فَلاَ وَجْهَ لإفرادِ كُلٌّ مِنْهُمَا بمسألةٍ،

وَقَدْ عَمَّيْتُ الجوابَ لِتَشْحِيذِ الأذهانِ. الثَّانِي: لاَ يَخْتَصُّ الخلافُ بالمعتزلةِ، فَإِنَّ الإمامَ نَقَلَ مذهبَنَا ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا سَائِرُ الفِرَقِ فَقَدْ أَنْكَرُوهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْهِنْدِيُّ ـ خِلاَفاً للمعتزلةِ وأكثرِ الطوائفِ؛ بَلْ كلامُ إِمَامِ الحرمينِ فِي (الْبُرْهَانِ) يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ المعتزلةِ؛ إِذْ قَالَ ـ: إِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ المعدومَ مأمورٌ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ [المعقولِ] =، وقولُ القائلِ: إِنَّهُ مأمورٌ عَلَى تقديرِ الوجودِ تلبيسٌ، فَإِنَّهُ إِذَا وُجِدَ لَيْسَ معدوماً، ولاَ شَكَّ أَنَّ الْوُجُودَ شرطٌ فِي كَوْنِ المأمورِ مأموراً، فَإِذَا لاَحَ ذَلِكَ بَقِيَ النظرُ فِي أَمْرٍ بِلاَ مأمورٍ، وَهَذَا مُعْضِلٌ فَإِنَّ الأَمْرَ مِنَ الصفاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بالنفسِ، وفرضُ مُتَعَلِّقٍ ولاَ مُتَعَلَّقَ لَهُ مُحَالٌ. هَذَا كلامُهُ، وجوابُهُ بِمَا سَبَقَ، وَقَدْ نُظِرَ فِي (الشَّامِلِ) قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ. الثالثُ: أَنَّ الخِلاَفَ لاَ يَخْتَصُّ بالأمرِ، فالنَّهْيُ كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ لدخولِهِ ضِمْناً أَوْ لأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بالفرقِ؛ بَلْ يَجْرِي أَيْضاًً فِي الخَبَرِ، وَهَذِهِ المسألةُ فرعٌ لأصلٍ، وَهُوَ أَنَّ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى (12 أ) فِي الأَزَلِ، هَلْ يُسَمَّى خِطَاباً؟ وَسَيَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَاتِي. اهـ.

(ص): (فَإِنِ اقْتَضَى الخطابُ الفعلَ اقتضاءً جازماً فإيجابٌ، أَوْ غَيْرَ جازمٍ فَنَدْبٌ، أَوِ التركِ جازماً فتحريمٌ، أَوْ غَيْرَ جازمٍ بِنَهْيٍ، مخصوصٍ فكراهةٌ، أَوْ غَيْرَ مخصوصٍ فَخِلاَفُ الأَوْلَى، أَوِ التخييرَ فإباحةٌ). (ش): الخطابُ إِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ الفعلَ أَوِ التركَ أَوْ لاَ يَقْتَضِيَ واحداً مِنْهُمَا، فِإِنِ اقْتَضَى الفعلَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الجزمِ أَوْ لاَ، والأولُ الإيجابُ، والثانِي النَّدْبُ، وَإِنِ اقْتَضَى التَّرْكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الجزمِ أَوْ لاَ، وَالأولُ التحريمُ، والثانِي هُوَ الْمُقْتَضِي للتَّرْكِ مَعَ عدمِ الجزمِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مخصوصٌ أَوْ لاَ، والأولُ المكروهُ والثانِي خِلاَفُ الأَوْلَى؛ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى كتركِ صلاةِ الضُّحَى، أَوْ عَدَمُهُ أَوْلَى كصومِ عرفةَ بعرفةَ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ الفعلَ وَلاَ التَّرْكَ فَإِبَاحَةٌ، وَقَيَّدَ فِي (الْمِنْهَاجِ)

الاقْتِضَاءَ بالمانعِ مِنَ النَّقِيضِ، وَعَدَلَ عَنْهُ الْمُصَّنِفُ إِلَى الجازمِ؛ لأَنَّهُ أَخْصَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ والدُهُ: لَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَكَانَ المانعِ مِنَ النقيضِ (الجازمَ) فَهُمَا مترادفانِ. فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (الخِطَابُ) أَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي كَوْنِهِ إِبَاحَةً إِذْنَ الشَّارِعِ فِيهِ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عُلِمَتْ إِبَاحَتُهُ بطريقِ البَرَاءَةِ الأصليةِ، فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، وَلاَ يُسَمَّى مُبَاحاً، إِذْ لاَ خِطَابَ. تنبيهانِ: الأولُ: انْحَصَرَتْ بِذَلِكَ الأحكامُ فِي خَمْسَةٍ، والذِي زَادَهُ الْمُصَنِّفُ: خِلاَفُ الأَوْلَى، وَهُوَ مُتَّبِعٌ فِي ذَلِكَ إمامَ الحرمينِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنَ (النهايةِ) وَقَرَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المكروهِ بِمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، إِلاَّ أَنَّ الإمامَ عَبَّرَ بالمقصودِ وغيرِ المقصودِ، وَغَيَّرَهُ الْمُصَنِّفُ إِلَى: المخصوصِ. قَالَ والدُهُ فِي بعضِ مُؤَلَّفَاتِهِ: وَأَوَّلُ مَا عَلِمْنَاهُ ذَكَرَ هَذَا إِمَامُ الحرمينِ: فالمكروهُ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ نَهْيٍ عَنْهُ، وَلَمْ يَكْتَفِ بقولِهِ: (نَهْيٍ) لأَنَّ الأمرَ بالشيءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فَكُلُّ مأمورٍ بِهِ، تَرْكُهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لَكِنَّ النَّهْيَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الأمرِ، إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ بطريقِ الالتزامِ، لاَ بطريقِ القصدِ فلذلكَ احْتَرَزَ، وَقَالَ: (نَهْيٌ مَقْصُودٌ)، فَكُلُّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مقصودٌ، مكروهٌ، ومَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ مقصودٌ، لَيْسَ َبمكروهٍ، ومَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ أَصْلاً، أَبْعَدُ عَنِ الكراهةِ، هَذَا حَظُّ الفقيهِ مِنْ ذَلِكَ، وَالأُصُولِيُّ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُرِيدَ مَا وَرَدَ

فِيهِ نَهْيٌ، إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الكراهةِ النَّهْيُ لاَ مَا يُفْهَمُ فِي العرفِ مِنَ الكراهةِ التِي هِيَ ضِدُّ الإِرَادَةِ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الدينِ. قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهَ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ مُرَاداً بِالنَّهْيِ المقصودِ بِأَنْ يَكُونَ نَصاً وَلاَ بُدَّ، فِإِنَّا نَرَاهُمْ يَحْكُمُونَ بكراهةِ أشياءَ لاَ نَصَّ فِيهَا، وَلَكِنَّ المرادَ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ إِمَّا نَصٌّ، وَإِمَّا إِجْمَاعٌ، وَإِمَّا قِيَاسٌ، وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَدِلَّةِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهَا. قُلْتُ: لَمْ يَنْفَرِدِ الإمامُ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَبَيْنَ الكراهةِ والإباحةِ وَاسِطَةٌ، وَهِيَ خِلاَفُ الأَوْلَى، وَالتَّعَرُّضُ للفصلِ بينَهُمَا مِمَّا أَحْدَثَهُ المتأخرونَ. انْتَهَى. وَهَذَا الذِي ذَكَرُوهُ فِي الفرقِ، مُتَعَقَّبٌ، فإنَّ الأصحابَ يُطْلِقُونَ خِلاَفَ الأَوْلَى عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مقصودٌ، كصومِ يومِ عرفةَ للحاجِ. الثَّانِي: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْولَ: فَإِنِ اقْتَضَى الخطابُ الفعلَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ كَفٍّ جَازِماً .... إلخ، أَوْ يَقُولَ: أَوْ كَفًّا جَازِماً .... إلى آخرِهِ؛ لأَنَّ الاقْتِضَاءَ (12 ب) ـ وَهُوَ الطلبُ - إِنَّمَا يَكُونُ دَائِماً للفعلِ؛ لأَنَّهُ المقدورُ، وَلأَنَّ التركَ فعلٌ وُجُودِيٌّ، فَلاَ يَكُونُ قَسِيماً للفعلِ، وَهَذَا بَحَسْبِ حقيقةِ الفعلِ عَقْلاً، لَكِنْ لَمَّا كَانَ أهلُ العرفِ يُقَابِلُونَ بَيْنَ الفعلِ والتركِ الْمُطْلَقَيْنِ اعْتَمَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التقسيمِ. (ص): (وَإِنْ وَرَدَ سبباً، وشرطاً، ومانعاً، وصحيحاً، وفاسداً - فَوُضِعَ، وَقُدْ عُرِفَتْ حُدُودُهَا). (ش): الضميرُ فِي وَرَدَ عائدٌ للخطابِ، وَهُوَ قَسِيمُ قولِهِ: (فِإِنِ اقْتَضَى)، وَإِنَّمَا عَبَّرَ هُنَا بِالْوُرُودِ؛ لأَنَّ الوضعَ لَيْسَ فِيهِ اقتضاءٌ، ومقصودُهُ أَنَّ الخطابَ يَنْقَسِمُ إِلَى طلبٍ وَهُوَ يَشْمَلُ الأحكامَ الخمسةَ، وإِلَى غَيْرِ طلبٍ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ التخييرِ وَهُوَ الإباحةُ، وَقَدْ سَبَقَتْ أَوَّلاً مَعَ التخييرِ فَهُوَ الوضعُ، والكلامُ الآنَ فِيهِ، وحقيقتُهُ: الخطابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ لاَ بالاقتضاءِ والتخييرِ، سُمِّيَ بذلك؛ لأَنَّهُ شيءٌ وَضَعَهُ اللَّهُ فِي شَرَائِعِهِ لإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ، تُعْرَفُ بِهِ الأحكامُ تَيْسِيراً لَنَا فَإِنَّ الأحكامَ غَيْبٌ، والفرقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الحقيقةُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْوَضْعِ هُوَ قَضَاءُ الشَّرْعِ عَلَى الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ سَبَباً أَوْ مَانِعاً أَوْ شَرْطاً، وَخِطَابُ التكليفِ لطلبِ أَدَاءِ مَا تَقَرَّرَ بالأسبابِ والشروطِ والموانعِ، وَأَنَّهُ لاَ يَتَوَقَّفُ الوضعُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْبُلُوغِ، فَإِنَّ القتلَ سَبَبٌ

لِلضَّمَانِ، وَإِنْ صَدَرَ مِنَ الصَّبِيِّ والمجنونِ، والنجاسةُ مانعةٌ للصلاةِ بالنسبةِ للبالغِ والصَّبِيِّ، وَكَذَا الوضوءُ شرطٌ للصلاةِ بالنسبةِ إِلَيْهِمَا. وَقَسَّمَهُ إِلَى خمسةِ أقسامٍ كَمَا قَسَّمَ خِطَابَ التَّكْلِيفِ إِلَى سِتَّةٍ، وَكَوْنُ السببِ والشرطِ والمانعِ مِنْ أقسامِ خطابِ الوضعِ ظاهرٌ، وَأَمَّا الصِّحَّةُ والفسادُ فَعَلَى الصحيحِ؛ لأَنَّهُ حُكْمٌ مِنَ الشَّارِعِ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ الحَاجِبِ: إِنَّهُمَا عَقْلِيَّانِ. وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ وَهْمَ مَنِ ادَّعَى عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ قَصَدَ إِدْخَالَ الوضعِ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وكيفَ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ جَعَلَهُ قَسِيماً لَهُ، وَحَذَا حَذْوَ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي خِطَابِ التَّكلْيِفِ وَهُوَ اخْتَيِارُ الإمامِ الرَّازِيِّ؛ لأَنَّ معنَى كَوْنِ الشيءِ شَرْطاً حُرْمَةُ ذَلِكَ الشيءِ بِدُونِ الشرطِ، وَكَوْنُهُ مَانِعاً كَذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ تسميةَ هَذِهِ الأشياءَ الْوَضْعِيَّةِ أَحْكَاماً، وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ عَلاَمَاتٌ لِلأَحْكَامِ، وَهُوَ ضعيفٌ إِذْ لاَ تَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا أَحْكَاماً شَرْعِيَّةً. وَقَوْلُهُ: (وَقَدْ عُرِفَتْ حُدُودُهَا) إشارةٌ إِلَى أنواعِ التقسيمِ الأَوَّلِ، فإنَّهُ بالحصرِ

يُعْلَمُ حَدُّ كُلِّ واحدٍ بمفردِهِ، بِأَنْ يُؤْخَذَ مَوْرِدُ التقسيمِ الذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِهَا، وَيُمَيَّزَ كُلُّ واحدٍ مِنْهَا، وَقَيَّدَ الأَوَّلَ بالثانِي، وهذه طريقةٌ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي كُلِّ حصرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ مَوْرِدَ التقسيمِ قَدْ لاَ يَكُونُ جِنْساً، وَالْمُمَيِّزُ قَدْ لاَ يَكُونُ فَصْلاً، وَلاَ يُعْرَفُ بِهَذَا التقسيمِ حُدُودُهَا، إِلاَّ أَنْ يُرِيدُوا بِالحَدِّ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْحَدِّ وَالرسمِ. والحاصلُ أَنَّ التقسيمَ الحاصرَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ الْحَدُّ، وَلاَ يَجِبُ ذَلِكَ، لِجَوَازِ وُقُوعِ التقسيمِ فِي أَعَمٍّ، لاَ يَكُونُ جِنْساً؛ بَلْ عَرَضاً عَامًّا، كَقَوْلِنَا: الماشِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاطِقاً أَوْ لاَ، وَلَيْسَ حَدُّ الإنسانِ أَنَّهْ مَاشٍ نَاطِقٌ. وَقَالَ الصَّفَّارُ فِي (شَرْحِ سِيبَوَيْهِ): إِنَّمَا يُحَدُّ الشيءُ لامْتِنَاعِ الحصرِ، فَإِذَا انْحَصَرَ فَلاَ يَنْبَغِي (3 أ) أَنْ يُحَدَّ، وَإِنَّمَا وُسِّطَ هَذَا بَيْنَ مَا سَبَقَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: (وَقَدْ عُرِفَتْ) لِيَتِمَّ التقسيمُ، وَكَأَنَّهُ قَدْ قَصَدَ بقولِهِ: (عُرِفَتْ حُدُودُهَا) التنبيهَ عَلَى الاستغناءِ بِذَلِكَ عَنِ الرسومِ المذكورةِ فِي (الْمِنْهَاجِ) بَعْدَ التقسيمِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: فَإِنْ وَرَدَ سبباً أَوْ شَرْطاً أَوْ مَانِعاً؛ لأنَّ السببَ نَفْسَهُ لَيْسَ هُوَ الْحُكْمُ؛ بَلْ جَعَلَ الشَّارِعُ إِيَّاهُ. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهَا بِمَصْدَرٍ محذوفٍ، أَيْ: بجعلِهِ الوصفَ سبباً. (ص): (وَالْفَرْضُ وَالوَاجِبُ مُتَرَادِفَانِ، خِلاَفاً لأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ لَفْظِيٌّ).

(ش): لاَ فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الفرضِ والواجبِ؛ بل هُمَا مترادفانِ عَلَى مُسَمًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا سَبَقَ، وَاحْتَجَّ الإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي (أَمَالِيهِ) بِحَدِيثِ الأعرابِيِّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَ الفرضِ والتَّطَوُّعِ واسطةً؛ بَلْ أَدْخَلَ كُلَّ مَا أَخْرَجَهُ مِنِ اسْمِ الفرائضِ فِي جُمْلَةِ التطوعاتِ، وَلَوْ كَانَ واسطةٌ لَبَيَّنَهَا. نعم: فَرَّقَ أصحابُنَا بَيْنَ رُتَبِ الواجبِ، حَيْثُ جَعَلُوا الركنَ فِي الْحَجِّ مَا لَمْ يُجْبَرْ بالدمِ، والواجبَ مَا يُجْبَرُ بالدمِ. وَفَرَّقَتِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَهُمَا فَقَالُوا: الفرضُ مَا ثَبَتَ بدليلٍ قَطْعِيٍّ كالصلاةِ

والزكاةِ. والواجبُ مَا ثَبَتَ وجوبُهُ بدليلٍ ظَنِّيٍّ وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالقِيَاسِ أَوْ خَبَرِ الواحدِ كصدقةِ الفِطْرِ وَكالوترِ والأضحيةِ عَلَى قاعدتِهِمْ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا، أَنَّا نُكَفِّرُ جَاحِدَ الأولِ دُونَ الثَّانِي، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الأَحْكَامِ فَلا بُدَّ مِنَ الاختلافِ فِي الاسمِ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يَقْدَحُ هَذَا فِي جَعْلِ الْمُصَنِّفِ الخلافَ لَفْظِيًّا،

فَإِنَّ غايتَهُ أَنَّ بَعْضَ الواجباتِ يُكَفَّرُ جَاحِدُهَا، وَكَوْنُنَا لاَ نُسَمِّيهِ واجباً خِلاَفٌ فِي اللفظِ، فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ ببعضِ الواجباتِ إِذَا جُحِدَتْ، وَيُنْفَى عَنْهَا اسمُ الوجوبِ، وَالْخَصْمُ يُكَفِّرُ بِهَا أَيْضاًً؛ وَلَكِنْ لاَ يَنْفِي عَنْهَا اسمَ الوجوبِ؛ ثُمَّ إِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ مِنْ هَذِهِ التفرقةِ مُجَرَّدَ الاصْطِلاَحِ، فَلاَ مشاحَّةَ. لَكِنَّ الْمُصْطَلِحَ عَلَى الشيءِ يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرَينِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يُخَالِفَ الوضعَ العَامَّ لُغَةً أَوْ عُرْفاً. والثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ مُتَقَارِنَيْنِ يُبْدِي مُنَاسَبَةَ [لَفْظِ] = كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا بالنسبةِ إِلَى مَعْنَاهُ؛ وَإِلاَّ كَانَ تَخْصِيصُهُ لأَحَدِ المعنيينِ بِعَينِهِ بِذَلِكَ اللفظِ بِعَيْنِهِ، لَيْسَ أَوْلَى مِنَ العكسِ. قَالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ: وَهَذَا الموضعُ الذي فَعَلَهُ الحنفيةُ مِنْ هذا القَبِيلِ؛ لأَنَّهُمْ خَصُّوا المفروضَ بالمعلومِ قَطْعاً مِنْ حَيْثُ إِنَّ الفَرْضَ هو التقديرُ، والواجبَ بِغَيْرِ المعلومِ قَطْعاً مِنْ حَيْثُ إِنَّ الوَاجِبَ هو الساقطُ، وهذا كَمَا قُلْنَا لَيْسَ فيه مُنَاسَبَةٌ ظاهرةٌ بالنسبةِ إِلَى كُلِّ لَفْظَةٍ مَعَ مَعْنَاهَا الذِي ذَكَرُوهُ، وُلَوْ عُكِسَ الأَمْرُ لَمَا امْتَنَعَ؛ فالاصطلاحُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِذَلِكَ الحسنِ. (ص): (والمندوبُ والمستحبُ والتطوعُ والسنةُ مُتَرَادِفَةٌ، خلافاً لبعضِ

أصحابِنَا، وهو لَفْظِيٌّ). (ش): لاَ فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ هذه الألفاظِ عَلَى المشهورِ. وَمُرَادُهُ بـ (بعضِ أصحابِنَا) القَاضِي حُسَينٌ، فَإِنَّهُ غَايَرَ بَيْنَهَا فَقَالَ: السُّنَّةُ: مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمستحبُ: مَا فَعَلَهُ مرةً أَوْ مرتينِ. والتطوعُ: مَا يُنْشِئُهُ الإنسانُ باختيارِهِ مِنَ الأَوْرَادِ. وَتَبِعَهُ صاحبُ (التَّهْذِيبِ) وَ (الكَافِي). وَكَذَا ذَكَرَهُ الغَزَالِيُّ فِي (الإِحْيَاءِ) قَالَ: وَتُسَمَّى الأَقْسَامُ الثلاثةُ نوافلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّفْلَ هُوَ الزيادةُ وَجُمْلَتُهَا زَائِدَةٌ عَلَى الفَرَائِضِ، انْتَهَى. والجمهورُ لاَ فَرْقَ. وَجَعْلُهُ (13 ب) الخلافَ لَفْظِيًّا قَدْ يُنَازَعُ فِيهِ؛ لأَنَّ مَا

ثَبَتَ مُوَاظَبَتُهُ عَلِيهِ الصلاةُ والسلامُ عَلِيهِ لاَ شَكَّ أَنَّهُ آكِدٌ مِمَّا فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ كَوْنَ بعضُ السننِ آكِدٌ مِنْ بعضٍ لاَ يُوجِبُ تَغَايُراً عَلَى مَا سَبَقَ فِي الواجبِ والفرضِ. (ص): (وَلاَ يَجِبُ بالشروعِ، خلافاً لأَبِي حَنِيفَةَ). (ش): أَيْ: مَنْ تَلَبَّسَ بنفلِ صلاةٍ أو صومٍ، فله قَطْعُهَا عِنْدَنَا بِالعُذْرِ وبغيرِهِ، وَلاَ يَجِبُ عليه القضاءُ، لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أحياناً يَنْوِي صومَ التطوعِ ثُمَّ يُفْطِرُ، نَعَمْ يُسْتَحَبُّ الإتمامُ، لقولِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ لَهْ بقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ

إِذَا لَبِسَ لامَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ)) وهذا الاستدلالُ ضعيفٌ، وفي الحديثِ إشارةٌ إلى الاختصاصِ، فَقَوْلُهُ: ((لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ)) يَدُلُّ عَلَى مخالفةِ غَيْرِ النبيِّ لَهُ. وَاحْتَجَّ لأَبِي حَنِيفَةَ بقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابِيِّ لَمَّا قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: ((لاَ؛ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ شَيئاً)). والجوابُ مِنْ ثلاثةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: (لاَ) أَيْ: لَيْسَ عليكَ غَيْرُهَا، والاستثناءُ منقطعٌ. وَثَانِيهَا: مِنْ قَوْلِهِ: (تَطَوَّعَ) فَسَمَّاهُ تَطَوُّعاً؛ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَقْدِيرُهُ: إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ فَيَلْزَمُكَ التطوعُ. ونحنُ نَقُولُ: تُقْدِيرُهُ: فَيَكُونُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ. وَتَقْدِيرُنَا أَرْجَحُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. ثَالِثُهَا: أَنَّ الاستثناءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الأولِ، فَيَلْزَمُ خِلاَفُ الإِجْمَاعِ، أَوْ مِنْ جِنْسِهِ فَيِلْزَمُ الْمُدَّعِيَ، وَقَدْ أَوْرَدَ القاضِي حسينٌ عَلَى هَذَا الأَصْلِ مَا لَوْ شَرَعَ المسافرُ فِي الصلاةِ بِنِيَّةِ الإِتْمَامِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِيهَا مَقْصُورَةً؛ بَلْ تَامَّةً، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ فَرْضٌ الْتَزَمَهُ بِعَقْدِهِ، (لأَنَّ الفرضَ عَلَى المسافرِ الإِتْمَامُ كالمقيمِ، إِلاَّ أَنَّهُ جُوِّزَ لَهُ القصرَ فِإِذَا لَمْ يَنْوِهِ فَقَدِ الْتَزَمَ الفرضَ بِعَقْدِهِ، بخلافِ

مَا لَوْ شَرَعَ فِي التطوعِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بِحُكْمِ عَقْدِهِ. تنبيهانِ: الأولُ: كلامُ الْمُصَنِّفِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لاَ خلافَ فِيهِ عِنْدَنَا، لَكِنَّ فِي (شَرْحِ الْفُرُوعِ) للشيخِ أَبِي عَلِيِّ السِّنْجِي+: أَنَّ أَبَا زيدٍ الْمَرْوَزِيَّ وبعضَ الأصحابِ قَالاَ: بوجوبِ إتمامِ الطوافِ عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ، ثُمَّ غَلَّطَهُمَا فِيهِ، قَالَ بعضُهُمْ: والظاهرُ أَنَّ ذلكَ مُخْتَصُّ بالطوافِ الواجبِ في الحجِّ، والْعُمْرَةِ وَيُحْمَلُ كلامُهُمَا عليه، وَإِنْ كَانَ الحجُّ والعمرةُ تطوعينِ؛ لأَنَّهُ يَجِبُ إتمامُ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا إِذَا أُحْرِمَ بِهِ، بخلافِ التطوعِ بالطوافِ لاَ يَجِبُ إتمامُهُ إِلاَّ إِذَا نَذَرَهُ. الثانِي: حكايتُهُ الخلافَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ المشهورُ، لَكِنْ رَأَيْتُ في (شَرْحِ التَّلْخِيصِ) للشيخِ أَبِي عَلِيِّ السِّنْجِيِّ+ قَبْلَ كِتَابِ الزكاةِ، أَنَّ هذا مَحْكِيٌّ عَنْهُ في

(نَوَادِرِ ابْنِ سَمَاعَةَ) وَلَمْ نَزَلْ نَعْتَمِدُهُ هَكَذَا حَتَّى قَدَمَ عَلَيْنَا أَبُو نَصْرِ الْعِرَاقِيُّ وَقَالَ: لأَبِي حَنِيفَةَ في كتابِ الصَّدَاقِ أَنَّ لَهُ الخروجَ مِنْ صَوْمِ التطوعِ إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ القضاءُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَلْوَةِ: تُوجِبُ كَمَالَ الْمَهْرِ، وَلَوْ خَلاَ بِهَا مُحْرِماً أَوْ صَائِماً وهي، مُحْرِمَةٌ أَوْ صَائِمَةٌ صَوْمَ فَرْضٍ، لاَ يَكْمُلُ الْمَهْرُ، لِفَسَادِ الْخَلْوَةِ، وَلَوْ خَلاَ بِهَا صَائِمٌ صَوْمَ تَطَوُّعٍ، كَمَّلَهُ، فَدَلَ عَلَى أَنَّهْ جَعَلَ لَهُ الخروجَ مِنْ صَوْمِ التطوعِ حتى جَعَلَهْ كالمفطرِ، فَكَمُلَ الْمَهْرُ بِهَا، وَلَوْ حَرَّمَ الخروجَ لأَفْسَدَ الْخَلْوَةَ بِهِ، وَلَمَا أَكْمَلَ الْمَهْرَ كَمَا جَعَلَهْ في صومِ الفرضِ، ثُمَّ كَانَ أَبُو نَصْرِ (14 أ) الْعِرَاقِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ الروايتينِ، فَيَقُولُ: إِنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ أَنْ يَقْضِيَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ. قَالَ: فَأَمَّا وُجُوبُ القَضَاءَ فَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ الشيخُ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ نَاقَضَ فَجَوَّزَ الْقُعُودَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ، فَطَرَدَا الْقِيَاسَ وَمَنَعَا العُقُودَ.

(ص): (وُجُوبُ إِتْمَامِ الحجِّ؛ لأَنَّ نَفْلَهُ كَفَرْضِهِ: نِيَّةَ وَكَفَّارَةً وَغَيْرَهُمَا). (ش): هَذَا جوابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: إِنَّ مَنْ تَلَبَّسَ بَحَجٍّ تَطَوُّعٍ، فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهُ، وَلاَ يَجُوزُ قَطْعُهُ عِنْدَنَا، وَأَجَابَ: إِنَّمَا خَرَجَ الْحَجُّ عَنِ القاعدةِ لِخُصُوصِيَّةٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ حُكَمَ نَفْلِهِ كَحُكْمِ فَرْضِهِ فِي النيَّةِ والكَفَّارَةِ وغَيْرِهِمَا. والذي يَظْهَرُ: عَدَمُ الاحْتِيَاجِ إلى هذا؛ لأَنَّ الكلامَ في المندوبِ عَيْناً، والحَجُّ بخلافِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ لَنَا حَجُّ تَطَوُّعٍ، فِإِنَّ الْمُخَاطَبُ بِهِ إِنَّمَا هُوَ المستطيعُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَحُجْ فَهُوَ فِي حَقِّهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَإِلاَّ فَفَرْضُ، كِفَايَةٍ فَإِنَّ إِقَامَةِ شَعَائِرِ الحَجِّ مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَةِ على الْمُكَلَّفِينَ، وَحِينَئِذٍ فَلاَ يَبْقَى إِشْكَالٌ في امْتِنَاعِ الخروجِ مِنْهُ إِلاَّ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لاَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، عَلَى مَا سَيَاتِي. وَهُنَا تنبيهانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ فِي (الأُمِّ) هَذَا السؤالَ وَأَجَابَ عَنْهُ باختصاصِ الْحَجِّ بِأَحْكَامٍ مِنْهَا: لُزُومُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ بِخِلاَفِ الصلاةِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَوَابِ الْمُصَنِّفِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ، فَكَيْفَ فِي صَحِيحِهِ؟ وَذَكَرَ المَاوَرْدِيُّ فِي (الْحَاوِي) الفَرْقَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ كَلاَمَ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ القاعدةِ غَيْرُ الحجِّ، لَكِنْ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ أَيْضاًً: الأُضْحِيَةَ، فَإِنَّهَا سُنَّةٌ، وَإِذَا ذُبِحَتْ لَزِمََتْ بالشروعِ، ذَكَرَهُ

السَّاجِيُّ في (نُصُوصِ الشَّافِعِيُّ). (ص): (والسببُ: مَا يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَيْهِ للتعلقِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَعْرُفٌ أَوْ غَيْرُهُ). (ش): الأحكامُ الثابتةُ بخطابِ الوضعِ أصنافٌ، منها: الْحُكْمُ عَلَى الوصفِ بِكَوْنِهِ سَبَباً، وهو خَاصٌّ بِالحُكْمِ الذي عُرِفَتْ عِلَّتُهُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِراً مَضْبُوطاً مُخَيَّلاً أَوْ شَبَهِيًّا؛ فُلَلَّهِ تَعَالَى في الزَّانِي حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ ذَلِكَ عليه، والثانِي: جَعْلُ زِنَاهُ سَبَباً لِوُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: (للتعلقِ بِهِ)، إلى أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ حُكْماً تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ إِيرَادُهُمْ، أَنَّ الزِّنَا حَادِثٌ، والإيجابُ قديمٌ، والحادثُ لاَ يُؤَثِّرُ في القديمِ.

وبقولِهِ: (مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَعْرُفٌ) إلى أَنَّهُ لَيْسَ المرادُ مِنَ السببِ كَوْنِهِ مُوجِباً لِذَلِكَ لِذَاتِهِ أو لصفةٍ ذَاتِيَّةٍ كَمَا تَقُولُ المعتزلةُ؛ بَلْ المرادُ مِنْهُ إِمَّا الْمُعَرِّفُ للحُكْمِ، وعليه الأكثرونَ، أَوِ المُوجِبُ لاَ لِذَاتِهِ وَلاَ لِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ، وَلَكِنْ بِجَعْلِ الشارعُ إِيَّاهُ مُوجِباً وَهُوَ اختيارُ الغَزَالِيِّ وإليه أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بقولِهِ: (أَوْ غَيْرِهِ) لِيَمْشِيَ التعريفُ عَلَى المذاهبِ كُلِّهَا، فَعَلَى الثانِي هُوَ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ، وعلى الثالثِ مَا يُضَافُ إليه بِجَعْلِ الشارعُ إِيَّاهُ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ لهذا الخلافِ في بابِ القياسِ، صَدْرُ الكلامِ عَلَى العِلَّةِ، وَلاَ يُقَالُ: هَذَا التعريفُ صَادِقٌ على العِلَّةِ؛ لأَنَّا نَقُولُ: لاَ بُدَّ فِي العِلَّةِ مِنَ المناسبةِ بخلافِ السببِ، وَمُرَادُ الغَزَالِيِّ أَنَّ الموجبَ للحُكْمِ بالحقيقةِ هو الشارعُ، وَإِنَّمَا نَصَبَ السببَ للحُكْمِ لِعُسْرِ الوقوفِ على خطابِ اللَّهِ تَعَالَى، لاَ سِيَّمَا بَعْدَ انقطاعِ الوَحْيِ، كَالعَلامَةِ فَشَابَهَ مَا يَحْصُلُ الحُكْمُ، عِنْدَهُ لاَ بِهِ فَيُسَمَّى

باسمِهِ. (ص): (وَالشَّرْطُ يَاتِي). (ش): يَعْنِي: فِي بَابِ التخصيصاتِ (14 ب) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي السببِ مِنَ الظهورِ والإخالةِ، ولا وَجْهَ لاقتصارِ الْمُصَنِّفِ عَلَى شرطِ ذَلِكَ فِي المانعِ دُونَ السببِ والشرطِ، وَقَدْ جَعَلُوا النصابَ فِي الزكاةِ سبباً، والْحَوْلَ شَرْطاً. فَإِنْ قِيلَ: هَلاَّ عَكَسُوا؟ قُلْنَا: لأَنَّ الشارعَ إِذَا رَتَّبَ حُكْماً عَقِبَ أَوْصَافٍ، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مناسبةً، فالجميعُ عِلَّةٌ كالقتلِ العَمْدِ العُدْوَانِ، وَإِنْ نَاسَبَ البعضُ فِي ذَاتِهِ دُونَ البعضِ، فالمناسبُ فِي ذَاتِهِ سببٌ والمناسبُ فِي غَيْرِهِ شرطٌ، فالنصابُ يَشْتَمِلُ عَلَى الغِنَى ونعمةِ الملكِ في نَفْسِهِ، والحولُ مُكَمِّلٌ لنعمةِ الملكِ بالتمكينِ بالتنميةِ في جميعِ الحَوْلِ فهو شرطٌ. (ص): (والمانعُ: الوصفُ الْوُجُودِيُّ الظاهرُ الْمُنْضَبِطُ الْمُعَرِّفُ نَقِيضَ الحُكْمِ كالأبوةِ فِي القصاصِ).

(ش): الوصفُ المحكومُ عليه بِكَوْنِهِ مَانِعاً يَنْقَسِمُ إلى: مانعِ الحُكْمِ، ومانعِ السببِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ هُنَا إِلاَّ إلى الأولِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَقُولَ: مَعَ بَقَاءِ حِكْمَةِ المُسَبِّبِ، فَإِنَّ الأبوةَ مانعةٌ للحُكْمِ الذِي هُوَ القِصَاصُ لِحِكْمَةٍ وهي كَوْنُ الأبِ سبباً فِي إِيجَادِهِ فَلاَ يَكُونُ الابْنُ سبباً في إِعْدَامِهِ، وهذه الحكمةُ تَقْتَضِي عَدَمَ القِصَاصِ الذِي هُوَ نقيضُ الحُكْمِ، وَحِكْمَةُ السببِ باقيةٌ وهي الحياةُ، وَأَمَّا المانعُ للسببِ فَهُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ حِكْمَةً تُخِلُّ بحكمةِ السببِ كَالدَّيْنِ في الزكاةِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ مانعٌ مِنَ الوجوبِ، فَإِنَّ حِكْمَةَ السببِ، وهي الغِنَى، مواساةُ الفقراءِ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ، وَلَمْ يَدَعِ الدَّيْنُ مِنَ المالِ فَضْلاً يُواسِي بِهِ. قالَ الْمُصَنِّفُ: وَإِنَّمَا لَمْ أَذْكُرْ هُنَا مانعَ

السببِ؛ لأَنَّ كلامَنَا هُنَا فِي الحُكْمِ ومُتَعَلَّقَاتِهِ، وليستِ الأسبابُ عِنْدَنَا مِنَ الأحكامِ خِلاَفاً لابْنِ الْحَاجِبِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ كِتَابُ القياسِ تعريفَ مانعِ السببِ، حَيْثُ قُلْنَا فَيهِ عِنْدَ ذِكْرِ الْعِلَّةِ: وَمِنْ شروطِ الإلحاقِ بِهَا اشتمالُهَا عَلَى حكمةٍ تَبْعَثُ على الامْتِثَالِ وَتَصْلُحُ شَاهِداً لإِنَاطَةِ الحُكْمِ، وِمِنْ ثَمَّ كَانَ مَانِعُهَا وَصْفاً وُجُودِياً يُخِلُّ بحكمتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هو إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الأحكامِ فهو مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الأحكامِ فَكَانَ يَنْبَغِي ذِكْرُهُ. قُلْنَا: الْمَعْنِيُّ بِمُتَعَلَّقَاتِ الأحكامِ: حاكمٌ ومحكومٌ به وعليه، وشروطُ كُلِّ واحدٍ مِنْهَا، وليستِ الأسبابُ مِنْ ذلك. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: فَكَيْفَ لَمْ يَذْكُرْ مانعَ السببِ لذلكَ وَذَكَرَ السببَ؟ وَقَوْلُهُ: الْمَعْنِيُّ بِمُتَعَلَّقَاتِ الأحكامِ مَا ذِكْرُهُ ممنوعٌ، بَلِ الأعمُ مِنْ ذلك، وَمَا المانعُ مِنْهُ؟ (ص): (والصحةُ: مُوَافَقَةُ ذِي الوجهينِ الشرعَ، وَقِيلَ: فِي العبادةِ إسقاطُ القضاءِ). (ش): المرادُ بِذِي الوجهينِ، مَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ تَارَةً بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيِهِ حُكْمُهُ، وَتَارَةً بِحَيْثُ لاَ يَتَرَتَّبُ كالصلاةِ والصومِ والبيعِ، وَاحْتَرِزْ بِهِ عَمَّا لاَ يَقَعُ إِلاَّ على جهةٍ واحدةٍ، كمعرفةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَدِّ الوديعةِ، فَلاَ يُوصَفُ بالصحةِ وَعَدَمُهَا. وَقَولُهُ: الشرعَ، أَيْ: لأَمِرِ الشرعِ، وَسَوَاءٌ وَجَبَ قَضَاؤُهُ أَمْ لاَ، وَهَذَا التعريفُ لِلْمُتَكَلِّمِينَ، وَمُرَادُهُمْ: فِي ظَنِّ الْمُكَلَّفِ، لاَ فِي نَفْسِ الأمرِ، وَعُلِمَ مِنْ إطلاقِهِ،

شُمُولُ العباداتِ والمعاملاتِ، فَكَمَا أَنَّ العبادةَ إِنْ وَقَعَتْ مُسْتَجْمَعَةَ الأركانِ والشروطِ كَانَتْ صحيحةً وَإِلاَّ ففاسدةٌ، كذلك العقودُ إذا صَدَرَتْ على الوجهِ الشرعِيِّ كَانَتْ صحيحةً وَإِلاَّ ففاسدةٌ، وَقَدْ أَشَارَ إلى ذلك في العقودِ القاضِي أَبُو بَكْرٍ وغيرُهُ، فَلاَ الْتِفَاتَ (15أ) لِمَنْ خَصَّ التعريفَ بالعبادةِ، وإلى التعميمِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بقولِهِ: وَقِيلَ فِي العباداتِ، فَعُلِمَ أَنَّ السابِقَ للأَعَمِّ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَعَلْتَ التعميمَ شامِلاً للأمرينِ فَلاَ حاجةَ لِقَولِهِ ثانياً، وبصحةِ العقدِ تُرَتَّبُ آثَارُهُ. قُلْنَا: هذا يُعْرَفُ جوابُهُ بِمَا سَيَاتِي، وَكَانَ حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: لاَ عَلَى وَجْهِ التَّشَبُهِ، لِيُخْرِجَ المتعدِي بالفطرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عليه الإمساكُ = [تَشَبُّهاً] بالصائمينَ، وليسَ في صومٍ شَرْعِيٍّ على الصحيحِ، ولهذا لَوِ ارْتَكَبَ مَحْظُوراً لاَ شيءَ عليه سِوَى الإثمِ، بخلافِ الْمُحْرِمِ إِذَا أَفْسَدَ إِحْرَامَهُ، وَأَشَارَ بقولِهِ (وَقِيلَ) إلى أَنَّ منهم مَنْ فَسَّرَ الصحةَ في العبادةِ بإسقاطِ القضاءَ، وَبَنَوا على القولينِ صَلاَةَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ حَدَثُهُ، فَعِنْدَ المتكلمِينَ وَقَعَتْ صحيحةً بالنسبةِ إِلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ، وَعِنْدَ الفُقَهَاءِ بَاطِلَةٌ. وَأَشَارَ بعضُهُمْ إِلَى أَنَّ النزاعَ لَفْظِيٌّ، والأحكامَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَجَرَى عليه +القَرَافِيُّ، قَالَ: لأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا على أَنَّهُ مُوافِقٌ لأمرِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ لاَ يَجِبُ عليه القضاءُ إِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ حَدَثُهُ، وَيَجِبُ إِذَا تَبَيَّنَ، وَلَكِنَّ خلافَهُمْ في لفظِ الصحةِ: هَلْ وُضِعَ لَمَّا وَافَقَ الأَمْرَ سَوَاءٌ أَوَجَبَ القضاءُ أَمْ لَمْ يَجِبْ، أَوْ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ قَضَاءٌ؟ وليسَ كذلكَ بَلِ الخلافُ معنويٌّ، والمتكلمُونَ لا يُوجِبُونِ القضاءِ، وَوَصْفُهُمْ إِيَّاهَا بالصحةِ صَرِيحٌ في ذلكَ، فَإِنَّ الصحةَ هِيَ الغايةُ، ولاَ يُسْتَنْكَرُ هَذَا، فللشافعيِّ فِي القديمِ مِثْلُهُ، فِيمَا إِذَا صَلَّى بِنَجَسٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، ثُمَّ عَلِمَهُ، أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلِيهِ

القضاءُ، نَظَراً لموافقةِ الأمرِ حَالَ التلَبُّسِ، وَكَذَا مَنْ صَلَّى إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ الخطأَ، ففي القضاءِ قَوْلاَنِ للشافعيِّ، بَلِ الخلافُ بينهم فيه على أَصْلٍ، وهو أَنَّ القضاءَ هَلْ يَجِبُ بالأمرِ الأولِ أَوْ بمتجددٍ؟ فَعَلَى الأولِ بَنَى الفقهاءُ قولَهُمْ: إِنَّهَا سقوطُ القضاءِ، وعلى الثانِي بَنَي المتكلمُونَ قولَهُمْ: إِنَّهَا مُوَافَقَةُ الأمرِ، فَلاَ يُوجِبُونَ القضاءَ، مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ جديدٌ، وَيُؤَيِّدُ ذلكَ أَنَّ المتكلمِينَ يَقُولُونَ: القضاءُ لاَ يَجِبُ بالأمرِ الأولِ، بَلْ بأمرٍ جديدٍ، والفقهاءُ يَقُولُونَ بالأمرِ الأولِ، ولهذَا فَسَّرُوا الصحةَ بسقوطِ القضاءِ. تنبيهانِ: الأولُ: في صحةِ هَذَا القولِ عِنْدَ الفقهاءِ نَظَرٌ، والموجودُ فِي كُتُبِ الأصحابِ فِي بابِ صلاةِ الجماعةِ تقسيمُ مَنْ صَحَّتْ صلاتُهُ إلى مَا يُغْنِي عَنِ القضاءِ

وَمَا لاَ يُغْنِي، فَلَمْ يَجْعَلُوا الصحةَ عبارةً عَمَّا أَسْقَطَ القضاءَ. الثاني: على تقديرِ ثبوتِهِ، فليسَ المرادُ مِنْهُ أَنَّ الصحةَ نَفْسُ سقوطِ القضاءِ كَمَا يَقْتَضِيهِ نَقْلُ الْمُصَنِّفِ وغيرِهِ، بَلِ المرادُ كَمَا قَالَ الصَفِيُّ الْهِنْدِيُّ: كَوْنُ تلكَ العبادةِ بِحَيْثُ تُسْقِطُ القضاءَ، وليسَ المعنَى أَنَّهُ وَجَبَ القضاءُ ثُمَّ سَقَطَ بتلكَ العبادةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وِفَاقاً، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ القضاءَ يَجِبُ بِأَمْرٍ جديدٍ فظاهرٌ، وَإِنْ قُلْنَا بالأمرِ السابقِ فَكَذَلِكَ؛ لأَنَّ القضاءَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ فَوَاتِ الفعلِ عَنْ وَقْتِهِ، أَمَّا قَبْلَ الفواتِ فليسَ القضاءُ واجباً عِنْدَ أحدٍ حَتَّى تَكُونَ العبادةُ المُؤَادَّةُ في الوقتِ مُسْقِطَةٌ للقضاءِ، بَلْ معناهُ أَنَّهُ سَقَطَ قضاءُ مَا انْعَقَدَ بسببِ وُجُوبِهِ، وعلى هذا فَيَسْقُطُ مَا أَوْرَدَهُ الإمامُ وغَيْرُهُ عَلَى هَذَا القولِ مِنَ الإِشْكَالِ. (ص): (وبصحةِ العقدِ تُرَتَّبُ آثَارُهُ). (ش): المرادُ بالآثارِ مَا شُرِعَ ذلكَ العقدُ لَهُ، كالتصرفِ فِي البيعِ والاستمتاعِ فِي النكاحِ وَنَحْوِهِ. وَقَوْلُهُ: وبصحةِ العقدِ، خَبَرٌ مقدمٌ، وَقَوْلُهُ: تُرَتَّبُ آثارُهُ، هُوَ المبتدأُ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الخبرُ لأمرَيْنِ: صناعيٌّ، وهو عَوْدُ الضميرِ مِنَ المبتدأِ (15 ب) وهو (الهَاءُ) فِي آثارِهِ، على بَعْضِ الخبرِ وهو (صحةُ العقد) ِ على حِدِّ قولِهِ تَعَالَى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، والثانِي بَيَانِيٌّ: وَهُوَ التنبيهُ على الحصرِ، فَإِنَّ تقديمَ المعمولِ يُفِيدُ الحصرَ عِنْدَ جماعةٍ، والمعنَى أَنَّ تَرَتُّبَ الأثرِ واقعٌ لصحةِ العقدِ لاَ غَيْرَ، أَيْ: يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ المقصودُ مِنَ التصرفِ، كَالْحِلِّ في النكاحِ، والمِلْكِ في البيعِ والْهِبَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ تعريفِ غَيْرِهِ (صحةُ العقدِ بِتَرَتُّبِ الأَثَرِ) كَمَا تَقُولُهُ الفقهاءُ، فَإِنَّ تَرَتُّبَ الأثرِ أَثَرٌ على صحةِ العقدِ، فَإِنَّا نَقُولُ: صَحَّ العقدُ فَتَرَتَّبَتْ آثَارُهُ عليهِ، فلهذا لَمْ يَجْعَلِ الْمُصَنِّفُ

صحةَ العقدِ تَرَتُّبَ الأَثَرِ، بَلْ بصحةِ العقدِ يَتَرَتَّبُ الأَثَرُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِنَا: الصحةُ يَنْشَأُ عَنْهَا تَرَتُّبُ الأَثَرِ، وَتَرَتُّبُ الأَثَرِ يَنْشَأُ عَنِ الصحةِ، فَإِنَّ الأولَ يَقْتَضِي أَنَّهَا حَيْثُ وُجِدَتْ تَرَتَّبَ عليهَا الأَثَرُ، وعلى هذا فَيَجِيءُ الاعتراضُ بالبيعِ قَبْلَ القبضِ، أَوْ فِي زَمَنِ الخيارِ، فَإِنَّهُ صحيحٌ، وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عليه أَثَرُهُ، إِذْ لَيْسَ للمشترِي التصرفُ مَعَ إمكانِ الانفصالِ عَنْهُ، فَإِنَّ الأثرَ ليسَ الانتفاعُ، بَلْ حصولُ الملكيةِ التِي يَنْشَأُ عَنْهَا إباحةُ الانتفاعِ، والثانِي لاَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهُ أَنَّ تَرَتُّبَ الأثرِ إِذَا وُجِدَ مَنْشَؤُهُ الصحةُ، فَلاَ يَلْزَمُ مِنِ ارتفاعِهِ ارتفاعُ الصحةِ، وَمَعَ سلامَتُهَا مِنَ الاعتراضِ السابقِ ففيها إشارةٌ إلى أَنَّ المانعَ إِذَا زَالَ كالخيارِ، عَمِلَتِ الْعِلَّةُ عَمَلَهَا غيرَ مُسْتَنِدٍ عَمَلُهَا إلى زَوَالِ المانعِ، هَذَا حاصلُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَكَ أَنْ تُورِدَ عَلِيهِ الخُلْعَ والكتابةَ الفاسدَيْنِ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عليهما أَثَرَهُمَا مِنَ الْبَيْنُونَةِ والْعِتْقِ مَعَ أَنَّهُمَا غَيْرُ صحيحَيْنِ، فَلَمْ يصحَّ قَوْلُهُ: إِنَّ تَرَتُّبَ الأثرِ يَنْشَأُ عَنِ الصحةِ، وكذلكَ الوكالةُ والقِرَاضُ الفاسدَينِ، فإنَّ الوكيلَ والعاملَ يستفيدانِ بِهِ التصرُّفَ، وَجَوَابُهُ مِنْ وجهَينِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ المرادَ تَرَتُّبُ كُلُّ آثَارِهِ عليه، أَمَّا مَا يَتَوَقَّفُ على وجودِ شرطٍ أَوْ فَقْدِ مانعٍ، بِحَيْثُ لَوْ حَصَلَ الشرطُ وَزَالَ المانعُ، يَحْصُلُ. والثانِي: أَنَّ هَذِه الآثَارَ ليستْ مِنْ نَاحِيَةِ هذا العقدِ الفاسدِ بَلِ الأمرُ خارجٌ عَنْ تَضَمُّنِهِ، وَهُوَ صحيحٌ فِي نَفْسِهِ، أَمَّا الْخُلْعُ والكتابةُ، فَمِنْ جِهَةِ التعليقِ، وَأَمَّا الوكالةُ والقِرَاضُ فَمِنْ جِهَةِ الإِذْنِ، وَمَا فَرَّ مِنْهُ فِي عبارةِ الجمهورِ، لاَ يَرُدُّ عليهم؛ لأَنَّ مُرَادُهُمْ بالترتبِ بالقوةِ لاَ بالفعلِ فَيَخْرُجُ البيعُ مُدَّةَ الخيارِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِنَّهُ لاَ تَتَرَتَّبُ ثَمَرَتُهُ عَلَيْهِ، وليسَ ذَلِكَ لِعَدَمِ صحتِهِ، بَلْ لمانعٍ، وهو عَدَمُ اللزومِ، ثُمَّ القولُ بِأَنَّ الصحةَ ليستْ تَرَتُّبَ الأثرِ، بَلْ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ الأثرُ عَلَيْهِ، بمعنَى: وُقُوعُهُ عَلَى وَجْهٍ مخصوصٍ - فَذَلِكَ أَمْرٌ عقليٌّ، ولأَجْلِهِ قَالَ ابْنُ الحَاجِبِ: إِنَّ الصحةَ حُكْمٌ عقليٌّ لا شرعيٌّ والْمُصَنِّفُ لا يَقُولُ بِهِ. تَنْبِيهٌ: في معنَى العقدِ الحَلِّ كَالْفُسُوخِ، فَيَاتِي فِيهِ مَا سَبَقَ.

(ص): (والعبادةِ إِجْزَاؤُهَا - أَيْ: كِفَايَتُهَا - فِي سُقُوطِ التَّعَبُدِ، وَقِيلَ إِسْقَاطُ القَضَاءِ). (ش): العبادةُ مجرورٌ بالعطفِ على صحةِ العقدِ، أَيْ: وبصحةِ العبادةِ إجزاؤُهَا، على حَدِّ قَوُلِهِ: وبصحةِ العقدِ تَرَتُّبُ آثَارُهُ، والمعنَى أَنَّ إِجْزَاءَ العبادةِ نَاشِئٌ عَنْ صحتِهَا، كَمَا فِي الصحةِ تَقُولُ: صَحَّتِ العبادةُ فَأَجْزَأَتْ. وَقَوْلُهُ: أَيْ: كِفَايَتُهَا، ـ تَفْسِيرٌ للإِجْزَاءِ، أَيِ: الإجزاءُ هُوَ كفايةُ العبادةِ، أَيْ: كَوْنُ الفعلِ كافياً فِي سقوطِ التعبدِ، فَإِذَا كَفَتْ فِي صحةِ التعبدِ فهو الإجزاءُ (16 / أ) الناشيءُ عَنِ الصحةِ. وَقَوْلُهُ: في سُقُوطِ التعبدِ، أَيْ: بالفعلِ، والمرادُ في الجملةِ لاَ الفعلُ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وَإِلاَّ لَوَرَدَ على هذا القيدِ المغصوبُ إِذَا حَجَّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ مَعَ أَنَّهُ ليسَ مُتَعَبِّداً بِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَوْ قَالَ: إِسْقَاطٌ بَدَلَ سُقُوطٍ لَكَانَ أَحْسَنُ، وَهَذَا كَلُّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الصحةَ بِمُوَافَقَةِ الأَمْرِ. وَقَوْلُهُ: وَقِيلَ: إسقاطُ القضاءِ، وَنَقَلَهُ فِي (الْمُنْتَخَبِ) عَنِ الفقهاءِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ، قَالَ: الفقهاءُ لاَ يَقْتَصِرُونَ فِي حَدِّ الإِجْزَاءِ على ذلكَ، لِيَلْزَمَ عليه مَا أَلْزَمَهُمْ مِنْ أَنَّ سقوطَ القضاءِ بِطَرَيانِ+ العُذْرِ يَكُونُ إِجْزَاءً، وَإِنَّمَا الفقهاءُ والمتكلمُونَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ فيه مِنْ أَخْذِ الامتثالِ، فالأُصُولِيُّونَ يَقْتَصِرُونَ عليه، والفقهاءُ يُضِيفُونَ إليه إسقاطَ القضاءِ، فَيَقُولُونَ: الصحيحُ: المجزئُ وهو الأداءُ الكافِي، وَهَذَا بِنَاءً منهم على أَصْلِهِمْ، أَنَّ القضاءَ بالأمرِ الأولِ، والقضاءُ عِنْدَ المتكلمِينَ بأمرٍ ثانٍ. تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الإِجْزَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْعِبَادَةِ، بخلافِ الصحةِ فَإِنَّهَا

تَكُونُ في العبادةِ والعقودِ. (ص): (وَيَخْتَصُّ الإجزاءُ بالمطلوبِ وَقِيلَ: بالواجِبِ). (ش): مِمَّا يَفْتَرِقُ فيه الصحةُ والإجزاءُ: أَنَّ الصحةَ تَكُونُ في كُلِّ مطلوبٍ وغيرِهِ وِفَاقاً. وَاخْتُلِفَ في الإِجْزَاءِ: هَلْ يَعْمُّ كُلَّ مطلوبٍ مِنْ واجبٍ ومندوبٍ، أَوْ يَخْتَصُّ بالواجبِ، فَلاَ يُوصَفُ المندوبُ بالإجزاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ؟ والثانِي نَصَرَهُ الْقَرَافِيُّ وَالأَصْبَهَانِيُّ شَارِحاً (الْمَحْصُولِ) وَاسْتَبْعَدَهُ والدُ الْمُصَنِّفِ فِي (شَرْحِ الْمِنْهَاجِ)، وَقَالَ: كلامُ الفقهاءِ يَقْتَضِي أَنَّ المندوبَ يُوصَفُ بالإجزاءِ كالفرضِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الحديثِ: (أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِئُ فِي الأَضَاحِي) وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بوجوبِ الأُضْحِيَةِ،

وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. ولهذا رَجَّحَ الْمُصَنِّفُ هَذَا القولَ حَيْثُ صَدَّرَ بِهِ كلامَهُ، وَفِيمَا نَقَلَهُ عَنِ الفقهاءِ نَظَرٌ، وَقَدِ احْتَجَّ أصحابُنَا عَلَى إِيجَابِ الفَاتِحَةِ بروايةِ الدَّارَقُطْنِيِّ: ((لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ)) وَقَالُوا: إِنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الوجوبِ مِنْ روايةِ الصحيحَينِ. (لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَكَذَا احتجاجُهُمْ عَلَى إِيجَابِ الاستنجاءِ بحديثِ: ((إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ)) قَالُوا: والإجزاءُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَنْ وَاجِبٍ. (ص): (وَيُقَابِلُهَا الْبُطْلاَنُ وهو الفسادُ خلافاً لأَبِي حَنِيفَةَ). (ش): الضميرُ في (يُقَابِلُهَا) عائدٌ على مُطْلَقِ الصحةِ، لاَ على صحةِ العقودِ، ولاَ صحةِ العباداتِ، فَيَاتِي في تفسيرِهِ الخلافُ، فَيَكُونُ الْبُطْلاَنُ مُخَالَفَةُ ذِي

الوجهَيْنِ الشرعَ، أَوْ عَدَمُ إسقاطِ القضاءِ في العبادةِ، وهو والفسادُ، عِنْدَنَا مترادفانِ، فَنَقُولُ: بَطُلَتِ العبادةُ وَفَسَدَتْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مُتَبَايِنَانِ؛ فَالباطلُ عِنْدَهُ: مَا لَمْ يُشَرَّعْ بِالْكُلِّيَةِ، كبيعِ مَا في البطونِ. والفاسد: مَا شُرِّعَ بأصلِهِ، وَلَكِنِ امْتَنَعَ لاشتمالِهِ على وَصْفٍ كَالرِّبَا. نَعَمْ: فَرَّقَ أصحابُنَا بَيْنَ الباطلِ والفاسدِ فِي الْحَجِّ، والْعَارِيَةِ

والْخُلَعِ والْكِتَابَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الأَبْوَابِ. (ص): (وَالأَدَاءُ فِعْلُ بعضٍ ـ وَقِيلَ:= [كُلُّ]ـ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ). (ش): قَوْلُهُ: فِعْلُ بَعْضٍ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ، جِنْسٌ يَدْخُلُ فِيهِ بعضُ مَا دَخَلَ وقتُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ، وَمَا دَخَلَ وَلَمْ يَخْرُجْ. وَقَوْلُهُ: قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَصْلٌ، يُخْرِجُ فِعْلَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ، وهو القضاءُ، وَإِنَّمَا قَالَ: بَعْضٍ لأَنَّ الأَصَّحَ عِنْدَنَا (16 ب) فَيمَنْ فَعَلَ بعضَ العبادةِ في الوقتِ، وبعضُهَا خَارِجَهُ ـ أَنَّهَا تَكُونُ أداءً كُلُّهَا، لَكِنْ بشرطِ أَنْ يَكُونَ المَاتِيُّ بِهِ فِي الوقتِ رَكْعَةٌ. ولاَ يُفْهَمُ مِنْ لفظِ: بعضٍ، أَنَّهُ للتقييدِ، حَتَّى يَلْزَمَ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ الكُلَّ لاَ يَكُونُ أَدَاءً؛ لأَنَّ مَنْ فَعَلَ الكُلَّ فَقَدْ فَعَلَ البعضَ وَزَادَ. إِذَنْ فاعلُ البعضِ صادقٌ على الصورتَينِ،

وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ السؤالُ أَنَّ لَوْ قَالَ: فِعْلُ البعضِ يُفِيدُ البعضيةَ، وليسَ الأمرُ كذلكَ، مَعَ أَنَّ كَوْنَ فِعْلُ الكُلِّ في الوقتِ أداءً في غَايَةِ الوضوحِ، وَأَوْلَى بِكَونِهَا أداءً مِنْ فِعْلِ البعضِ، واعْلَمْ أَنَّ كلامَهُ إِنْ سَلِمَ مِنْ هذه الحيثيةِ، فهو خارجٌ عَنْ صناعةِ الحدودِ، فَإِنَّ المفعولَ جميعَهُ في الوقتِ هو المقصودُ، فَجَعْلُهُ مُسْتَفَاداً مِنَ المفهومِ، أَوْ مِنْ أمرٍ خارجٍ عَنِ اللفظِ ـ إجحافٌ لاَ حاجةَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَطْلَقَ البعضَ، فَشَمَلَ مَا دُونَ رَكْعَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إَنُّهُ إذا أَتَمَّ، إِنَّمَا هَذَا إِنَّمَا يَاتِي فِي الصلاةِ، وكلامُهُ في العبادةِ مِنْ حَيْثُ هي، فكيفَ يُعْرَّفُ العَامُّ بالخاصِّ، وَأَشَارَ بقولِهِ: (وَقِيلَ: كُلُّ) إلى الوجهِ المقابلِ لَهُ وهو أَنَّهَا لاَ تَكُونُ أَدَاءً، وَمَنْ قَالَ: بَعْضُهَا أَدَاءٌ وَبَعْضُهَا قَضَاءٌ، فهو قائلٌ بِأَنَّهَا ليست أَدَاءً، والكلامُ عَنِ العبادةِ بِتَمَامِهَا، وقولُهُ: كُلُّ وبعضُ مضافانِ، وَفَصَلَ بَيْنَ المضافِ إِلَيْهِ، وهو مَا دَخَلَ وَقْتُهُ قَبْلَ خروجِهِ، وَبَيْنَ المضافِ وهو: بَعْضُ ـ بَقَوْلِهِ: وَقِيلَ: اختصاراًَ، وهو على حَدِّ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِغُلاَمِ إِمَّا زَيْدٍ وَإِمَّا عَمْرٍو، إِذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّهُ غُلاَمُ أَحَدِهِمَا وَشَكَكْتَ فِي عَيْنِهِ، ومِثْلُهُ: قَطَعَ اللَّهُ يَدَ وَرِجْلَ مَنْ قَالَهَا، تَقْدِيرُهُ: يَدَ مَنْ قَالَهَا وَرِجْلَ مَنْ قَالَهَا. قَالَ الفَرَّاءُ: لاَ يَجُوزُ حَذْفَ المضافِ إليهِ فِي مِثْلِ هَذَا إِلاَّ في الْمُصْطَحَبَيْنِ، كاليدِ والرجلِ، والنصفِ والربعِ، وقبلَ وبعدَ، وَأَمَّا نَحْوَ: دَارٍ وغلامٍ فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فَيِهَا، لَوْ قُلْتَ: اشْتَرَيْتُ دَارَ وَغُلاَم َزَيْدٍ، لَمْ يَجُزْ. قُلْتُ: وَمِنَ الْمُصْطَحَبَيْنِ: بعضٌ وكلٌّ في كلامِ المصنفِ. إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا القيدَ الذِي زَادَهُ الْمُصَنِّفُ على الْمُخْتَصَرَاتِ الأُصُولِيَّةِ ـ إِنَّمَا هُوَ رَايُ الفقهاءِ، دَعَاهُمْ إليهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ)) وَلَعَلَّ الأصوليينَ لاَ يُوَافِقُونَهُمْ على تسميتِهِ أَدَاءً، وعبارتُهُمْ طافحةٌ بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا يَتِّمُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مُرَادُ الفقهاءِ بقولِهِمْ ـ في مفعولِ البعضِ ـ إِنَّهُ أُدَاءٌ، مَعَ الْحُكْمِ عَلَى الباقِي بخروجِ الوقتِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِالأَدَاءِ تَبَعاً، وهو أَحَدُ الاحتمالَيْنِ للشيخِ الإمامِ، وَقَالَ: إِنَّهُ المتبادرُ مِنْ كلامِهِمْ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا بالاحتمالِ

الثانِي، وهو أَنَّ الكُلَّ فِي الوقتِ، فَلاَ يَصِحُّ الاستدراكُ لأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ شيءٌ خارجَ الوقتِ، وهذا هو الذي يَدُلُّ عليه لفظُ الشافعيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (الْمُخْتَصَرِ) فَإِذَا طَلَعَتْ الشمسُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي مِنْهَا رَكْعَةً، فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا، فمفهومُهُ أَنَّهُ إِذَا صَلَّى ركعةً، لاَ يَخْرُجُ وَقْتُهَا، وَأَنَّ الوقتَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بالنسبةِ إِلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَةً. الثانِي: أَنَّهُ حَيْثُ لاَحَظَ الاصطلاحَ الفقهيَّ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: مَا دَخَلَ وقتُهُ الأصلِيُّ والتبعيُّ، كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ الصلاتَيْنِ تأخيراً، فَإِنَّ الْمُؤَخَّرَةَ تَكُونُ أَدَاءً على الصحيحِ مَعَ أَنَّهُ خَرَجَ وَقْتُهَا الأصليُّ، لَكِنَّ وقتَ الثانيةِ وَقْتٌ لَهَا بالتبعِ، وَحَكَى الإِمَامُ وَجْهاً: أَنَّهَا تَكُونُ (17 أ) مَقْضِيَّةً عَلَى القاعدةِ، وفائدةُ الرخصةِ رَفْعُ الإِثْمِ وَتَجْوِيزُ قَصْرِ الظُّهْرِ. (ص): (وَالْمُؤَدَّى مَا فُعِلَ). (ش): لَمَّا فَرَغَ مِنْ تعريفِ الأداءِ الذِي هو مصدرٌ، أَخَذَ فِي تعريفِ الْمُؤَدَى الذِي هُو اسمُ المفعولِ، وَإِنَّمَا عَرَّفَهُ، لِيُسْتَفَادَ وَلِيُنَبِّهَ عَلَى مكانِ الاعتراضِ على مَنْ عَرَّفَ الأَدَاءَ بِمَا لاَ يَصِحُّ إِلاَّ تعريفاً لِلْمُؤَدَّى، وَلِهَذَا قَالَ: مَا فُعِلَ، وَلَمْ يَقُلْ المفعولَ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ المفعولِ أَخْصَرُ مِنْ لفظِ مَا فُعِلَ؛ لأَنَّهُ أَرَادَ حِكَايَةَ لفظِ ابْنِ الحَاجِبِ أَوْ بعضِهِ لِيُتَفَطَّنَ لَهُ؛ لأَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا فُعِلَ، نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أَيْ: شيءٌ فُعِلَ. والأداءُ في الحقيقةِ، فِعْلُ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ: وَفَرْقٌ بَيْنَ المصدرِ واسمِ المفعولِ فَإِنْ قُلْتَ: يُخَلِّصُهُ مِنْ هَذَا جَعْلُهَا مصدريةً، قُلْتُ: لاَ يَصِحُّ؛ لأَنَّ (مَا) المصدريةَ حَرْفٌ لاَ يَعُودُ عَلَيْهَا ضَمِيرٌ، وَهُنَا ضميرٌ عَائِدٌ إليها، وهو قَوْلُهُ: في وَقْتِهِ، والضميرُ لاَ يَعُودُ إِلاَّ على الأسماءِ. (ص): (والوقتُ: الزمانُ الْمُقَدَّرُ لَهُ شَرْعاً مُطْلَقاً). (ش): هذا أَيْضاًً مِنْ زياداتِ الْمُصَنِّفِ على المختصراتِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفْرِدُوا ضَابِطَ الوقتِ في الأداءِ، وَإِنْ كَانَتْ عبارةُ ابْنِ الحَاجِبِ فِي حَدِّ الأداءِ تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَأَخَذَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ كلامِ وَالِدِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: الأحسنُ عِنْدَي فِي تفسيرِهِ: أَنَّهُ الزمانُ

المنصوصُ عليه للفعلِ مِنْ جِهَةِ الشرعِ، فَإِنَّ المأمورَ بِهِ تَارَةً يُعَيِّنُ الآمِرُ وَقْتَهُ كالصلواتِ الخمسِ وتوابعِهَا، وصيامِ رمضانَ، وزكاةِ الفطرِ، فَإِنَّ جميعَ ذلكَ قُصِدَ فيه زمانٌ مُعَيَّنٌ، وَتَارَةً يَطُلُبُ الفعلَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ للزمانِ، وَإِنْ كَانَ الأمرُ يَدُلُّ عَلَى الزمانِ بالالتزامِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ الفعلِ وُقُوعُهُ في زمانٍ وَلَكِنْ ليسَ مقصوداً للشارعِ، وَلاَ مأموراً بِهِ قَصْداً، فَالْقِسْمُ الأولُ يُسَمَّى مُؤَقَّتاً، والثانِي يُسَمَّى غَيْرَ مُؤَقَّتٍ فَإِنَّ القصدَ مِنْهُ الفعلَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ للزمانِ، والقسمُ الأولُ قُصِدَ فيه الفعلُ والزمانُ إِمَّا لمصلحةٍ اقتضَتْ تَعِيينَ ذَلِكَ الزمانِ، وَإِمَّا تَعَبُّداً مَحْضاً. والقسمُ الثانِي ليسَ فيه إِلاَّ قَصْدُ الفعلِ، فَلاَ يُوصَفُ فِعْلُهُ بِأَدَاءٍ وَلاَ قَضَاءٍ؛ لأَنَّهُمَا فَرْعَا الوقتِ، وَلاَ وَقْتَ لَهُ، وَمِنْ هذا القسمِ: الإيمانُ والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عَنِ المنكرِ، وَعَنْ هَذَا احْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بقولِهِ: شَرْعاً وقولِهِ: مُطْلَقاً. أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ مُضَيَّقاً كصومِ رمضانَ، أَوْ مُوَسَّعاً كالصلاةِ، وَقَدْ تَكُونُ العبادةُ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ لاَ نِهَايَةَ لَهُ كالطوافِ للإفاضةِ. قُلْتُ: وَقَدْ ظَنَّ الْمُصَنِّفُ وغيرُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ تَحْرِيرَاتِ وَالِدِهِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إلى ذلكَ الشيخُ عِزُّ الدِّينِ فِي (أَمَالِيهِ) حَيْثُ قَالَ: الوقتُ على قِسْمَيْنِ: وقتٌ يُسْتَفَادُ مِنَ الصيغةِ الدالةِ على المأمورِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الشرعِ حَدَّ للعبادةِ ذلكَ الوقتَ أَوْ لَمْ يَحُدَّ، ووقتٌ يَحُدُّهُ الشارعُ للعبادةِ مَعَ قَطْعِ النظرِ عَنْ كَوْنِ اللفظِ اقتضاهُ أَمْ لاَ. والمرادُ بالوقتِ فِي حَدِّ الأَدَاءِ هو الثانِي دُونَ الأولِ، وَبُنِيَ على ذَلِكَ أَنَّا إِذَا قُلْنَا بالقولِ فِي الأوامرِ، فَأَخَذَ المأمورُ لاَ يَكُونُ قضاءً لأَنَّهَا إِنَّمَا خَرَجَتْ عَنِ الوقتِ الذِي دَلَّ عليهِ اللفظُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَنْ لَوْ خَرَجَتْ عَنِ وَقْتِهَا المضروبُ لَهَا. (ص): والقضاءُ فِعْلُ كُلِ ـ وَقِيلَ: بعضِ ـ مَا خَرَجَ وَقْتُ أَدَائِهِ، استدراكاً لِمَا سَبَقَ لَهُ مُقْتَضٍ لِلْفِعْلِ مُطْلَقاً) (17 ب).

(ش): مَا سَبَقَ شرحُهُ فِي الأداءِ يَاتِي بِعَيْنِهِ في القضاءِ فَنَقُولُ: (فِعْلُ كُلِّ)، جنسٌ يَدْخُلُ فِيهِ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ وَمَا لَمْ يَخْرُجْ، وَاسْتَظْهَرَ بِقَوْلِهِ، ـ وَقِيلَ: الوجهَ الصائرَ إلى أَنَّ الواقعَ فِي بعضِ الوقتِ يكونُ قضاءً، وَقَوْلُهُ: خَرَجَ وقتُ أدائِهِ، يُخْرِجُ الأداءَ وَكَذَا الإعادةَ؛ لأَنَّ وَقْتُهَا وَقْتُ الأداءِ، وَقَدْ يُرَدُّ عَلَى هَذَا القيدِ، مَا لَوْ شَرَعَ فِي الصلاةِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ ثَانِياً، فَإِنَّهُ قضاءٌ كَمَا قَالَهُ القاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي في (التَّتِمَّةِ) وَيَتَصَوَّرُ صَلاَةً تَكُونُ فِي الوقتِ قضاءً بهذه الصورةِ. انْتَهَى. لَكِنَّ الأصوليُونَ لاَ يُوافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ العادمَ لِلْهَدْي يَصُومُ ثلاثةَ أيامٍ قَبْلَ عَرَفَةَ، وَإِذَا تَأَخَّرَ عَنْ أيامِ التشريقِ صَارَ قضاءً، فَلَوْ فَرَضَ أَنَّهُ أَخَّرَ

طوافَ الزيارةِ عَنْ أيامِ التشريقِ، بِنَاءً على أَنَّهُ لاَ آخِرَ لوقتِهِ وَصَامَهَا لاَ يَكُونُ أَدَاءً، وَإِنْ بَقِيَ الطوافُ؛ لأَنَّ تأخيرُهُ عَنْ أَيَّامِ التشريقِ مِمَّا يَبْعُدُ وَيَنْدُرُ، فَلاَ يَقَعُ، مُرَاداً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الإمامِ وَغَيْرِهِ، ـ وَقَدْ تَقَعُ الصلاةُ خارجَ الوقتِ وَتَكُونُ أَدَاءً في قَوْلِ بعضِ أصحابِنَا فيما لَوْ صَلَّى بالاجتهادِ، ثُمَّ بَانَ الوقتُ. وَقَوْلُهُ: (استدراكاً)، احترازاً عَمَّا فُعِلَ بَعْدَ وقتِ الأداءِ لاَ بقصدِ الاستدراكِ، فَإِنَّهُ لاَ يُسَمَّى قضاءً. وَقَوْلُهُ: (لِمَا سَبَقَ لَهُ مُقْتَضٍ للفعلِ) دَخَلَ في تعبيرِهِ بالمقتضِي: الواجبُ، والمندوبُ فَإِنَّ القضاءَ يَدْخُلُ فِيهِمَا، ولهذا قَالَ الفقهاءُ: يَقْضِي الرواتبَ، وهو أَحْسَنُ مِنْ تَعْبِيرِ (الْمِنْهَاجِ) وَ (الْمُخْتَصَرِ) بالوجوبِ. والحاصلُ أَنَّهُ لاَ يُؤْمَرُ بقضاءِ عبادةٍ إِلاَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ سببُ الأمرِ بِأَدَائِهَا وَمَتَى لَمْ

يَتَقَدَّمْ ذَلِكَ، لَمْ يُؤْمَرْ بالقضاءِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ القضاءِ تَقَدُّمُ الوجوبِ، بَلْ تقدمُ سَبَبِهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الإمامُ وغيرُهُ، فَإِنَّ الحائضَ تَقْضِي مَا حُرِّمَ عَلَيْهَا فِعْلُهُ فِي وَقْتِ الحيضِ، والحرامُ لاَ يَتَّصِفُ بالوجوبِ. وَقَوْلُهُ: مُطْلَقاً. أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ كَالظُّهْرِ المتروكةِ عَمْداً أَمْ لَمْ يَجِبْ وَأَمْكَنَ كصومِ المسافرِ، أَوِ امْتَنَعَ عَقْلاً كصلاةِ النائمِ، أَوْ شرعاً كصومِ الحائضِ، وَهَذَا مِنَ الْمُصَنِّفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وجوبِهِ وَلَمْ يَجِبْ لِمَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ تخفيفاً مِنَ الشارعِ سُمِّيَ تَدَارُكُهُ بَعْدَ الوقتِ قضاءً على وجهِ الحقيقةِ، وهي طريقةُ المتأخرِينَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ إِطْلاَقَ اسمِ القضاءِ على هذه الصورةِ يَكُونُ على وجهِ المجازِ، لَكِنْ جَزَمَ بذلكَ فِي الحائضِ والمريضِ الذِي كَانَ يَخْشَى الهَلاَكَ في الصومِ وَتَرَدَّدَ في بَقِيَّةِ الصورِ، ثُمَّ رَجَّحَ كَوْنَهُ مَجَازاً. قِيلَ: والخلافُ في ذلكَ لَفْظِيٌّ. قُلْتُ: قَدْ تَظْهَرُ فائدتُهُ في النِّيَّةِ، إِذَا شَرَطْنَا التعرضَ لِنِيَّةِ القضاءِ، قَالَ بَعْضُهُمْ والحقُّ أَنَّ الْحَدَّ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِمْ: خَارِجُ وَقْتِهَا، وَلاَ حَاجَةَ إلى قيدٍ آخَرَ؛ لأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَتَقَدَّمْ سببُهَا لاَ يَكُونُ المفعولُ بَعْدَ الوقتِ تِلْكَ العبادةِ بَلْ غَيْرَهَا، ـ والمقضيُّ المفعولُ مَا سَبَقَ في المُؤَدَّى يَاتِي بِعَيْنِهِ هُنَا حَتَّى يَعْتَرِضَ عَلَى ابْنِ الحَاجِبِ فِي قَوْلِهِ: القضاءُ مَا فُعِلَ لتعريفِ الْمَقْضِيِّ لاَ القضاءُ الذِي هو المصدرُ، وَعَبَّرَ هُنَا بالمفعولِ لأَنَّهُ الأحسنُ وَإِنَّمَا عَبَّرَ هُنَاكَ بِمَا فُعِلَ للتنبيهِ على الاعتراضِ، فَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ تَكْرِيرِ العبارةِ هُنَا (18 أ).

(ص): (والإعادةُ: فِعْلُهُ فِي وَقْتِ الأَدَاءِ، قِيلَ: لِخَلَلٍ، وَقِيلَ: لِعُذْرٍ. فَالصَّلاَةُ الْمُكَرَّرَةُ مُعَادَةٌ). (ش): إِنَّمَا قَالَ: (فِعْلُهُ) وَلَمْ يَقُلْ (مَا فُعِلَ) كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ، لِمَا سَبَقَ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بَعْدَ تَعْرِيفِ الإعادةِ، وَالمُعَادُ المَفْعُولُ. كَمَا فَعَلَ فِي الأَدَاءِ والقضاءِ، وَكَأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا سَبَقَ، وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ أَنَّ الإعادةَ قِسْمٌ مِنَ الأداءِ. وَقَوْلُهُ: (فِي وَقْتِ الأَدَاءِ) يُخْرِجُ القضاءَ، والمُرَادُ فِعْلُهُ ثَانِياً لِيُخْرِجَ الأَدَاءَ وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: (فِعْلُهُ) أَيْ: فِعْلُ المعادِ. واعتبارُ الْمُصَنِّفِ الوقتَ في الإعادةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا قِسْمٌ مِنَ الأداءِ لاَ قَسِيمُهُ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الآمِدِيُّ خِلاَفاً لِمَا وَقَعَ فِي عبارةِ (الْمِنْهَاجِ) (وَالتَّحْصِيلِ). وَفِي اعتبارِ الوقتِ فِيهِمَا اختلافُ عباراتِ الْمُصَنِّفِينَ مِنَ الأُصُولِيِّينَ، وَمُقْتَضَى كلامِ الفقهاءِ أَنَّهَا للأعمِّ مِنْ ذَلِكَ الوقتِ وَبَعْدَهُ إِذَا كَانَ مَسْبُوقاً بِأَدَاءٍ مُخْتَلٍّ كصلاةِ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ، والْعَارِي، والمحبوسِ في موضعٍ نجسٍ لاُ يُجَدُ غَيْرَهُ، وَمَنْ عليه نَجَاسَةٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَتِهَا، وَالمَرِيضُ لاَ يَجِدُ مَنْ يُحَوِّلُهُ إلى القِبْلَةِ، وَنَحْوَهُ. مَعَ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَلَى الثانِيَةِ لفظَ الإعادةِ وَإِنْ فُعِلَتْ خارجَ الوقتِ، فَعُلِمَ أَنَّ الإعادةَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الوقوعُ فِي الوقتِ، بَلْ هي عبارةٌ عَنْ فَعِلِ مِثْلِ مَا مَضَى، سَوَاءٌ كَانَ المَاضِي صَحِيحاً أَوْ فَاسِداً، وَعَلَى هذا فَبَيْنَ الإعادةِ والأداءِ عمومٌ وخصوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فينفردُ الأداءُ فِي الفعلِ الأولِ وتنفردُ الإعادةِ فِيمَا إِذَا قَضَى صلاةً

وَأَفْسَدَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا، وَيَجْتَمِعَانِ فِي الصلاةِ الثانيةِ في الوقتِ. وَقَوْلُهُ: (قِيلَ لِخَلَلٍ) أَيْ: اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: هِيَ فِعْلُ ذلكَ لِخَلَلٍ واقعٍ فِي الأُولَى، وَبِهِ جَزَمَ فِي (الْمِنْهَاجِ) وَرَجَّحَهُ فِي (الْمُخْتَصَرِ) وَأَرَادَ بِالْخَلَلِ فَوَاتَ الرُّكْنِ أَوِ الشرطِ كَمَا في المسائلِ السابقةِ. وَ (قِيلَ لِعُذْرٍ) عليه والمرادُ بِهِ مَا تَكُونُ الثانيةُ فِيهِ أَكْمَلُ مِنَ الأُولَى وَإِنْ كَانَتِ الأُولَى صحيحةً، وَبُنِيَ عليه الصلاةُ المُكَرَّرَةُ، فعلى الأولِ لَيْسَتْ مُعَادَةً لانْتِفَاءِ الْخَلَلِ، وعلى الثَّانِي بِخِلاَفِهِ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَ الْمُصَنِّفُ الخِلاَفَ بِلاَ تَرْجِيحٍ لأَنَّهُ زَيَّفَ في (شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ) القولَيْنِ بِمَا إِذَا تَسَاوَتِ الجماعتَانِ مِنْ كُلِّ وجهٍ، وَاخْتَارَ لِذَلِكَ أَنَّهَا مَا فُعِلَتْ فِي وَقْتِ الأَدَاءِ ثَانِياً مُطْلَقاً، أَيْ: أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِخَلَلٍ أَوْ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وهو ممنوعٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي القبولَ في أَيِّهِمَا، فالاحتياطُ الإعادةُ، كَمَا لَوْ تَرَجَّحَتِ الثانيةُ، وَأَوْرَدَ عليه أَنَّهُ يَنْبَغِي زيادةُ المكررةِ بالجماعَةِ؛ لأَنَّ تِلَكَ الصلاةِ تُسَمَّى مُعَادَةً على القولِ الثانِي، لاَ الأولَ؛ لأَنَّ فضيلةَ الجماعةِ عُذْرٌ بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَرَّرَ الصلاةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّهَا لاَ تُسَمَّى إِعَادَةً، وَأَجَابَ أَوَّلاً بِأَنَّ المرادَ المكررةُ لعذرٍ لاَ مطلقَ المكررةِ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ الإعادةَ مُطْلَقُ فِعْلِهِ فِي وقتِ الأَدَاءِ، بَلْ فِعْلُهُ فِيهِ إِمَّا لِخَلَلٍّ وَإِمَّا لِعُذْرٍ، ـ وثانياً: إِنَّا نَمْنَعُ أَنَّ إِعَادَةَ الصلاةِ إِلاَّ لِعُذْرٍ يُسَمَّى إِعَادَةً. (ص): (والْحُكْمُ الشرعيُّ إِنْ تَغَيَّرَ إلى سهولةٍ لِعُذْرٍ مَعَ قيامِ السببِ للحُكْمِ الأصلِيِّ، فَرُخْصَةٌ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالْقَصْرِ، وَالسَّلَمِ، وَفِطْرِ مُسَافِرٍ لاَ يُجْهِدُهُ

الصومُ وَاجِباً وَمَنْدُوباً، وَمُبَاحاً وَخِلاَفُ الأَوْلَى). (ش): جَعْلُ الرخصةِ والعزيمةِ مِنْ أقسامِ الحُكْمِ ذَكَرَهُ الغَزَلِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ، لَكِنْ جَعَلَهُ الآمِدِيُّ وابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ أقسامِ الفعلِ، فالحُكْمُ جِنْسٌ. وَقَوْلُهُ: (الشرعيُّ) قَيْدٌ زَادَهُ على الْمُخْتَصَرَيْنِ (18 ب) وهو مُسْتَغْنًى عَنْهُ لأَنَّ كلامَهُ إِنَّمَا هو في الشرعِيِّ، وَقَدْ قَالَ في أولِ الكتابِ، وَمِنْ ثَمَّ لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: (إِنْ تَغَيَّرَ إلى سَهَولِةٍ) فَصْلٌ خَرَّجَ بِهِ الحدودَ والتعازيرَ مَعَ تكريمِ الآدميِّ المقتضِي للمنعِ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: (لِعُذْرٍ) أَخْرَجَ التخصيصَ، فَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ لَكِنْ لاَ لِعُذْرٍ. وَقَوْلُهُ: (مَعَ قِيامِ السَّبَبِ لِلْحُكْمِ الأَصْلِيِّ) يُرِيدُ أَنَّ شرطَ الرخصةِ أَنْ يَكُونَ المقتضِي لِلْحُكْمِ

قَائِماً، وَيُعَارِضُهُ المانعُ لسببٍ راجحٍ عليه، كَأَكْلِ الميتةِ في حالِ الْمَخْمَصَةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ مَعَ قيامِ دليلِ التحريمِ على أَكْلِ الميتةِ، واحترزَ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخاً كَالآصَارِ التي كَانَتْ على مَنْ قَبْلَنَا وَنُسِخَتْ فِي شريعتِنَا تيسيراً وتسهيلاً فلا يُسَمَّى نَسْخُهَا لَنَا رُخْصَةً، وَأَشَارَ فِي (الْمُسْتَصْفَى) إلى أَنَّهَا تُسَمَّى رُخْصَةً مَجَازاً، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هذا التعريفَ لا يَطَّرِدُ، فَإِنَّ تَرْكَ صلاةِ الحائضِ عزيمةٌ لاَ رخصةً، وهو مشروعٌ لِعُذْرِ الحَيْضِ مَعَ قيامِ الدليلِ الْمُحَرِّمِ لَوْلاَ عُذْرُ الحيضِ، إِذْ يَحْرُمُ التركُ على الطاهِرَةِ، كَمَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مَشْرُوعٌ لِعُذْرِ الاضطرارِ مَعَ قِيامِ المُحَرِّمِ وَلَوْلاَ الاضطرارُ؛ إِذْ يَحْرُمُ أُكْلُ الميتةِ على غَيْرِ المضطرِ. وَقَسَّمَهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: رخصةٌ واجبةٌ، كَأَكْلِ الميتةِ، وهو الصحيحُ، وَقِيلَ: لاَ يَلْزَمُ الأكلُ؛ بَلْ يَجُوزُ، وَمِثْلُهُ وُجُوبُ استدامَةِ لِبْسِ الْخُفِّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنَ المَاءِ مَا يَكْفِيهِ على وَجْهٍ مَرْجُوحٍ، وَقَدْ يُنَازَعُ في مُجَامَعَةِ الرُّخْصَةِ الوجوبَ؛ لأَنَّ الرخصةَ تَقْتَضِي التَّسْهِيلَ، ولهذا قَالَ الإمامُ فِي بَابِ صلاةِ المسافرِ مِنَ

(النَّهَايَةِ): يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَكْلُ الميتةِ ليسَ برخصةٍ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ، ويَجُوزُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بالتيممِ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى فَاقِدِ المَاءِ وهو مَعْدُودٌ مِنَ الرخصِ، وهذا مِنَ الإمامِ يَقْتَضِي تَرَدُّداً في أَنَّ الوجوبَ يُجَامِعُ الرخصةَ أَمْ لاَ؟ ************ ولأَجْلِهِ قَالَ صَاحِبُهُ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ= في كتابِهِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ): الصحيحُ عِنْدَنَا أَنَّ أكلَ الميتةِ للمضطرِ عزيمةٌ لاَ رخصةً، كالفطرِ للمريضِ فِي رمضانَ ونحوه، وَقَالَ الشيخُ تقيُّ الدينِ: لاَ مَانِعَ مِنْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ رخصةٌ مِنْ وَجْهٍ وعزيمةٌ مِنْ وجهٍ، فَمِنْ حَيْثُ قِيَامُ الدليلُ المانعُ نُسَمِّيهِ رخصةً، وَمِنْ حَيْثُ الوجوبِ نُسَمِّيهِ عزيمةً. فَحَصَلَ في مجامعةِ الرخصةِ للوجوبِ ثلاثةُ آراءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاياً ثَالثاً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا تنقيحاً للخلافِ وهو الأقربُ. الثانِي: مندوبةٌ، كالفطرِ للمسافرِ، يَعْنِي: إِذَا بَلَغَ ثلاثةَ مراحلَ. الثالثُ: مُبَاحَةٌ، وهو كُلُّ مَا رُخِّصَ فيه مِنَ المعاملاتِ كَالسَّلَمِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ

النهيُ عَنْ بيعِ مَا ليسَ عِنْدَكَ وَرُخِّصَ فِي السَّلَمِ، فشرطُ العنديةِ في البيعِ لسببِ المقدرةِ على التسليمِ، ثُمَّ أُسْقِطَ هذا الشرطُ في السَّلَمِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مشروعاً، حتى كَانَتِ العنديةُ في السَّلَمِ مُفْسِدَةً لَهُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ هذا الشرطُ فيه، تَيْسِيراً على المحتاجِينَ لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى مقاصدِهِمْ مِنَ الأَثْمَانِ قَبْلَ إدراكِ غَلاَّتِهِمْ، مَعَ توصلِ صاحبِ الدراهمِ إلى مقصودِهِ مِنَ الربحِ، فَكَانَ رخصةً. وَمِثْلُهُ: الْمُسَاقَاةُ وَالْقِرَاضُ وَالإِجَارَةُ وَالْعَرَايَا، وَقَدْ صَحَّ الحديثُ بالتصريحِ فيها بالرخصةِ، فَقَالَ: (وَأُرَخِّصُ فِي الْعَرَايَا) فَلَوْ مَثَّلَ بِهِ الْمُصَنِّفُ لَكَانَ أَحْسَنُ، وَلأَنُّ الْغَزَالِيُّ فِي (الْمُسَتَصْفَى) تَرَدَّدَ في ذَلِكَ فَقَالَ: قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ رخصةً لأَنَّ عُمُومَ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ مَا ليسَ عِنْدَهُ يُوجِبُ تحريمَهُ. قَالَ: (19 أ) وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: السَّلَمُ عقدٌ آخرُ، فَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ، وذلكَ بَيْعُ عَيْنٍ، فَافْتَرَقَا وافتراقُهُمَا في الشرطِ لاَ يُلْحِقُ أَحَدَهُمَا الرُّخَصَ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَجَازاً، وَأَنَّ قولَ الراوِي: نَهْيٌ عَنْ بَيِعِ مَا ليسَ عِنْدَكَ، وَأُرَخِّصُ فِي السَّلَمِ ـ تَجُوزُ فِي العبارةِ. قُلْتُ: وقريبٌ مِنْ هذينِ الاحتمالَينِ وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا المَاوَرْدِيُّ: أَنَّ السَّلَمَ أَصْلٌ بنفسِهِ، أَوْ عَقْدُ غَرَرٍ، جُوِّزَ للحاجةِ كالإجارةِ، وَأَمَّا الاعتراضُ بِأَنَّهُ قَدْ يُنْدَبُ السَّلَمُ، بِأَنْ يُحْتَاجَ إلى مَالِ الصبيِّ فَيُسْلَمَ فيه، فضعيفٌ؛ لأَنَّ ذَلِكَ لأمرٍ عارضٍ، ليسَ لِكَوْنِهِ

سَلَماً، بَلْ لِكَوْنِهِ يُعَيِّنُ مصلحةَ اليتيمِ، والكلامُ فِي السَّلَمِ مِنْ حَيْثُ هو سَلَمٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَمْثِيلَ الْمُصَنِّفِ وغيرِهِ يُوهِمُ قَصْرَ الرخصةِ في المباحِ على المعاملاتِ وليسَ كذلكَ، فَإِنَّهُ يَاتِي في العباداتِ كتعجيلِ الزكاةِ، وفي الحديثِ التصريحُ بالرخصةِ للعباسِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الأصحابِ باستحبابِهَا، بَلِ اخْتَلَفُوا فِي الجَوَازِ، ـ والصحيحُ الجوازُ، بَلْ قَدْ تَاتِي فِي غَيْرِ العباداتِ والمعاملاتِ، وَلِهَذَا قَالَ في (الْبَسِيطِ): شَعْرُ المأكولِ إِذَا جُزَّ فِي حياتِهِ ـ طَاهِرٌ، رخصةً، لمسيسِ الحاجةِ إليها في المفارشِ، وَقَالَ الإمامُ في (النهايةِ): إِنَّ لَبَنَ المأكولِ طاهرٌ، وَذَلِكَ عِنْدِي فِي حُكْمِ الرُّخَصِ، فَإِنَّ الحاجةَ مَاسَّةٌ إليها، وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِإِحْلاَلِهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنَازَعُ فِي مُجَامَعَةِ الرخصةِ للإباحةِ إِذَا كَانَ أَصْلُهَا التحريمُ، فَإِنَّ القاضِي حُسَين+ فِي فَتَاوَاهُ لَمَّا تَكَلَّمَ على الإكراهِ على النقبِ والإخراجِ أَنَّهُ شُبْهَةً فِي سقوطِ القَطْعِ، قَالَ الشيخُ

العباديُّ: لاَ أَقُولُ: أُبِيحُ لِلْمُكْرَهِ النقبَ والإخراجَ عَنِ الْحِرْزِ، بَلْ أَقُولُ: رُخِّصَ لَهُ فِيهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الإباحةِ والرخصةِ، فَإِنَّهُ لَوْ حَلِفَ لاَ يَاكُلُ الحرامَ، فَأَكَلَ الميتةَ للضرورةِ، حَنَثَ في يَمِينِهِ؛ لأَنَّهُ حَرَامٌ إِلاَّ أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ فيه. انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لأَنَّ الأَعْيَانَ لاَ تُوصَفُ بِحِلٍّ وَلاَ حُرْمَةٍ، فَيَبْقَى التناولُ وهو واجبٌ، فيكفَ يَكُونُ حَرَاماً وليسَ ذَا وَجْهَينِ؟! ثُمَّ رَأَيْتُ الإِمَامَ عَبْدَ الْعَزِيزِ شَارِحَ البَزْدَوِيِّ قَالَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ الضرورةِ: أَنَّهَا تَصِيرُ

مباحةً أَوْ تَبْقَى عَلَى الحرمةِ؟ فَذَهَبَ بعضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَحِلُّ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ الفعلُ إِبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ، كَمَا فِي الإِكْرَاهِ عَلَى الكُفْرِ، وهو رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَأَحَدُ قَوْلَيِّ الشَّافِعِي، وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ في هذه الحالةِ، وَذَكَرَ للخلافِ فائدتَينِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ إِذَا صَبَرَ حتى مَاتَ لاَ يَكُونُ آثِماً على الأولِ، بخلافِهِ على الآخرِ. الثانيةُ: إِذَا حَلَفَ لاَ يَاكُلُ حَرَاماً فَتَنَاوَلَهَا في حالِ الضرورةِ، يحنثُ على الأولِ ولاَ يَحْنَثُ على الثانِي. الرابعُ: خِلاَفُ الأَوْلَى، كالفطرِ لِمَنْ لاَ يَتَضَرَّرُ بالصومِ َ، وَإِنَّمَا لَمْ يُمَثِّلْ بمسحِ الْخُفِّ كَمَا مَثَّلَ بِهِ غيرُهُ؛ لأَنَّ فِي كَوْنِهِ رخصةً أَوْ عزيمةً كالفطرِ خِلاَفاً، كَمَا رَأَيْتُهُ فِي تعليقِ الشيخِ أَبِي حَامِدٍ. تَنْبِيهَاتٌ: الأولُ: عُلِمَ مِنِ اقْتِصَارِهِ عَلَى هَذِهِ الأربعةِ، أَنَّ الرخصةَ لاَ تُجَامِعُ

التحريمَ وَلاَ الكراهةَ، وهو ظاهرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ .....)). لَكِنَّ في كلامِ الأصحابِ مَا يُوهِمُ مَجِيئَهَا مَعَ الرخصةِ. أَمَّا التحريمُ: فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوِ اسْتَنْجَى بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَجْزَأَهُ، مَعَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ (19 ب) الذهبِ والفِض‍َََََّّّةِ حرامٌ، والاستنجاءَ بغيرِ الماءِ رخصةٌ، إِلاَّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا لَهُ جِهَتَانِ، والتحريمُ مِنْ ناحيةِ مُطْلَقِ الاستعمالِ، لاَ مِنْ خصوصِ الاستنجاءِ الذي هُوَ رخصةٌ، وَأَمَّا الكراهةُ فَكَالقَصْرِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثلاثةِ مَرَاحِلَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، كَمَا قَالَهُ المَاوَرْدِيُّ فِي بابِ الرَّضاعِ. الثانِي: تقسيمُهُ الرخصةِ إلى واجبٍ ومندوبٍ ومباحٍ وخلافِ الأَوْلَى -صريحٌ في أَنَّهَا مِنْ خطابِ الاقتضاءِ لاَ الوضعِ، وَصَرَّحَ الآمِدِيُّ بِأَنَّهَا مِنْ أصنافِ خطابِ الوضعِ.

الثالثُ: ضَبَطَ النَّوَوِيُّ في جزءِ القيامِ الرخصةَ بِضَمِّ الخاءِ وإسكانِهَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ في (الْمُحْكَمِ)، وَاقْتَصَرَ فِي لُغَاتِ الرَّوْضَةِ عَلَى التسكينِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الضمَّ، واشْتُهِرَ على أَلْسِنَةِ كثيرٍ مِنَ الفقهاءِ ضَمُّ الراءِ وفتحُ الخاءِ، وهو لاَ يُعْرَفُ فِي كُتُبِ اللغةِ، والمشهورُ أَنَّ المُتَرَخَّصَ فِيهِ، يُقَالُ فَيهَ: رُخْصَةٌ، بضمتَينِ وَبِضَمِّ الأولِ وإسكانِ الثانِي، ولاَ يُقَالُ بالفتحِ إِلاَّ للشخصِ المُتَرَخِّصِ في الأمورِ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَضَحِكَةٍ، وفيها لُغَةٌ ثالثةٌ: خرصةٌ، بتقديمِ الخَاءِ حَكَاهَا الفَارَابِيُّ، والظاهرُ أَنَّهَا مقلوبةٌ مِنَ الأُوْلَى. (ص): (وَإِلاَّ فَعَزِيمَةٌ). (ش): يَعْنِي، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرِ الحُكْمُ، أَوْ تَغَيَّرَ، وَلَكِنْ لاَ لعذرٍ على وجهِ التيسيرِ فعزيمةٌ.

سَوَاءٌ أَكَانَ وَاجِباً، أَوْ مَنْدُوباً، أَمْ مُبَاحاً، أَمْ مَكْرُوهاً أَمْ حَرَاماً، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عَزَمَ أَمْرَهُ؛ أَيْ: قَطَعَ وَحَتَّمَ، سَهُلَ على المُكَلَّفِ أَوْ شَقَّ، وَمَا اقْتَضَاهُ إطلاقُ الْمُصَنِّفِ مِنْ مَجِيءِ الأَحْكَامِ الخَمْسَةِ فِيهَا، هو قضيةُ كلامِ البَيْضَاوِيِّ، وَقِيلَ عليها سِوَى الحرامِ وهو قضيةُ كلامِ الإمامِ، وَقَالَ القِرَافِيُّ+: الوَاجِبُ والمندوبُ فَقَطْ؛ لأَنَّهُمَا طَلَبٌ مُؤَكَدٌ، فَلاَ يَجِيءُ المُبَاحُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: المَشْهُورُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ في الواجبِ لأَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِمَا لَزِمَ العبادَ بإلزامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ أَيْ: بَإِيجَابِهِ على مَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ.

(ص): (والدليلُ مَا يُمْكِنُ التوصُّلُ بصحيحِ النظرِ فيه إلى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ). (ش): قَالَ: (مَا يُمْكِنُ التوصُّلُ) وَلَمْ يَقُلْ مَا يَتَوَصَّلُ للإشارةِ إلى أنَّ المرادَ التوصُّلُ بالقوةِ لاَ بالفعلِ؛ لأنَّ الدليلَ قَدْ لاَ يُنْظَرُ فيه، ولاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يُسَمَّى دليلاً، وَخَرَجَ (بِصَحِيحِ النظرِ) فَاسِدُهُ، كالشبهةِ، لعلهم أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ

التوصُّلَ لاَ يَحْصُلُ بالدليلِ، إِنَّمَا يَحْصُلُ بالنظرِ فيه، والمرادُ بالمطلوبِ الخبريِّ، التصديقيُّ؛ أَيْ بالنسبةِ المستفادةِ مِنَ الخبرِ، فَخَرَجَ الْحَدُّ وَالرَّسْمُ، فَإِنَّهُمَا لبيانِ التصورِ لا التصديقِ، وهذا التعريفُ يَعُمُّ الدليلَ القطعيَّ والأَمَارَةَ، قَوْلِيًّا كَانَ أَوْ فِعْلِيًّا، فَإِنَّ المطلوبَ يَعُمُّ ذَلِكَ، وَمَنْ خَصَّ الدليلَ بالقطعيِّ احتاجَ إلى أَنْ يَزِيدَ فِيهِ إلى العَالِمِ بمطلوبٍ خبريٍّ، وَتَدْخُلُ فيه المقدماتُ السابقةُ الصادقةُ، وَإِنْ حَصَلَ فيها فَسَادٌ نُظِرَ بِفَسَادِ الترتيبِ؛ لأنَّ هذه المقدماتُ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصُّلَ بصحيحِ النظرِ فيها إلى المطلوبِ، وإطلاقُ الدليلِ على مَا أَفَادَ العلمَ أَوِ الظنَّ هو طريقةُ الفقهاءِ، وَاخْتَارَهُ الشيخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَقَالَ: مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: مَا يُؤَدِي إلى الظَّنِ لاَ يُقَالُ لَهُ دَلِيلٌ، بَلْ أَمَارَةٌ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لأَنَّ العربَ لاَ تُفَرِّقُ في التسميةِ بَيْنَ مَا يُؤَدِي إلى العلمِ والظنِّ، فَلَمْ يَكُنْ لهذا الفرقِ وَجْهٌ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ؛ لأنَّ هذا مِنْ بابِ الاصطلاحِ، ولاَ حَجْرَ فيه، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ العربِ لاَ تَعْرِفُهُ مَنْعُهُ عُرْفاً (20 أ).

(ص): (وَاخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا هَلِ العلمُ عَقِيبُهُ مُكْتَسَبٌ). (ش): مَنْ أَحَاطَ عِلْماً بوجهِ دليلِهِ لاَ بُدُّ أَنْ يَكُونَ عالماً بالمدلولِ ضرورةً، إِذَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُ دليلِهِ صادقةً منتظمةً على وجهٍ يَتَضَمَّنُ العلمُ بهِ صِحَّةَ العلمِ بالمدلولِ، لَكِنْ هَلْ هو واقعٌ لقدرةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، اضطراراً، ولاَ مدخلَ للقدرةِ الحادثةِ فيهِ، أَوْ هُوَ مَقْدُورٌ مُكْتَسَبٌ بالقدرةِ الحادثةِ؟ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا، فَذَهَبَ جماهيرُهُمْ إلى الثانِي، وَذَهَبَ الأستاذُ أَبُو إِسْحَاقَ والإمامُ في (الْبُرْهَانِ) والجَاحِظُ وَغَيْرُهُ مِنَ

المعتزلةِ إِلَى الأُوَلِ، واحتجَّ الأستاذُ بِأَنَّ الناظرَ إِذَا أَنْهَى نظرَهُ، وَصَحِبَتْهُ السلامةُ مِنَ الآفاتِ وَقَعَ لَهُ العلمُ بالمنظورِ فِيهِ، شَاءَ أَوْ أَبَى، قَالَ: فَلَوْ كَانَ العِلْمَ وَاقِعاً مِنْ فَعْلِ العبدِ لَكَانَ وَاقِعاً بِحَسْبِ قصدِهِ حتى كَانَ يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ، وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ، وَاحْتَجَّ الجمهورُ، بِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُمْكِنْهُ الانصرافُ عَنْهُ لأَنَّ العلمَ بوجهِ الدليلِ يَتَضَمَّنُ العلمَ بالمدلولِ، والقدرةُ على العلمِ بِوَجْهِ الدليلِ يَتَضَمَّنُ القدرةَ على العلمِ بالمدلولِ، وحاصلُ هذا الخلافِ يَؤَوَّلُ إلى مسألةٍ أُخْرَى مترجمةٍ، فَإِنَّ العلومَ الحادثةَ تَنْقَسِمُ إلى ضَرُورِيٍّ وَكَسْبِيٍّ عِنْدَ الجمهورِ، وَقَالَ الأستاذُ: إِنَّهَا بِأَسْرِهَا ضروريةٌ، وَتَنْقَسِمُ عِنْدَهُ إِلَى هَمَجِيٍّ وإلى فِكْرِيٍّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ الْمُصَنِّفُ: اخْتَلَفَ بِالبِنَاءِ للمَفْعُولِ، وَحَذَفَ أَئِمَّتُنَا مَعَ أَنَّهُ أَخْصَرُ؛ لِأنَّهُ أَرَادَ التنبيهَ عَلَى أَنَّ الخلافَ فيهنَّ وَقَعَ مِنْ أَئِمَّتِنَا لاَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ فِرَقِ المخالفِينَ مِنَ المعتزلةِ وغيرِهِمْ، وَاخْتُلِفَ أَيْضاًً فِي العلمِ المستفادِ بالنظرِ بَعْدَ الاتفاقِ على جوازِ وقوعِهِ ضَرُورِيًّا في قضيةِ العقلِ، هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ مُكْتَسَباً بالقدرةِ الحادثةِ ابتداءً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ نَظَرٍ، فَأَحَالَهُ القاضِي وَمُعْظَمُ النظارِ في قضيةِ العقلِ، وَجَوَّزَهُ الأستاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وإمامُ الحَرَمَيْنِ. وَلاَ خِلاَفَ أَنَّهُ ممتنعٌ بِحُكْمِ العادةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ المتكلمِينَ أَجْمَعُوا على ثبوتِ التلازُمِ، هَلْ هُوَ عقليٌّ أَوْ عاديٌّ؟ فَذَهَبَ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا إلى الأولِ، وَقَالُوا: النظرُ يَتَضَمَّنُ العلمَ بالمنظورِ فيه؛ أَيْ: يُلاَزِمُهُ عَقْلاً لاَ يَنْفَّكُ عَنْهُ، وَقَالَ الآمِدِيُّ: إِنَّهُ الحقُّ وَذَهَبَ الأَشْعَرِيُّ إلى

الثانِي كَمَا يَحْصُلُ الشِّبَعُ عَقِبَ الأكلِ، وَرَدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كذلكَ، لَكَانَ خَرْقُهُ جَائِزاً وَعَدَمُهُ مُمْكِناً وَهَهُنَا حُصُولُ العلمِ وَاجِبٌ لاَ مَحَالَةَ، فَيَسْتَحِيلُ أَلاَّ يُحَصَّلَ عَقِبَ كَمَالِ النظرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بالإيجابِ، وصَحَّحَهُ الإمامُ في (الْمُحَصَّلِ)، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بالتوليدِ، وهو قولُ المعتزلةِ، فَعَلَى القولِ الأولِ، يَكُونُ العلمُ الحاصلُ عُقَيْبَ النظرِ ضَرُورِيًّا، وهو المختارُ عِنْدَ إِمَامِ الحرمينِ وَإِلِكْيَا= وَغَيْرِهِمَا. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ بالعادةِ، فَلاَ يَجُوزُ خَرْقُهَا، فَيَخْرُجُ حينئذٍ عَنْ كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا؛ إِذِ الضروريُّ هو الذي يَلْزَمُ النفسَ لُزُوماً لاَ يَتَأَتَّى مَعَهُ الانْفِكَاكُ عَقْلاً. (ص): (وَالحَدُّ الجَامِعُ المَانِعُ، وَيُقَالُ: المُطَّرِدُ المُنْعَكِسُ). (ش): ذَكَرُوا فِي الحَدِّ عِبَارَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَامِعاً؛ أي: لأَفْرَادِ المحدودِ مَانِعاً؛ أي: مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ فِيهِ، كَقَوْلِنَا: الإنسانُ حيوانٌ نَاطِقٌ، وَلَوْ جَمَعَ وَلَمْ يَمْنَعْ، كـ الإنسانُ حيوانٌ، أَوْ مَنَعَ وَلَمْ يَجْمَعْ كـ الإنسانُ رجلٌ، لَمْ يَكُنْ حَدًّا صحيحاً للإنسانِ. الثانيةُ: أَنْ يَكُونَ مُطَّرِداً مُنْعَكِساً، وَهَذَا مَعُنَاهُ يَتَضَمَّنُ أَرْبَعَ قَضَايَا (20 ب) كُلَّمَا وُجِدَ الحَدُّ وُجِدَ المحدودُ، وَكُلَّمَا انْتَفَى المحدودُ انْتَفَى الحَدُّ، والثانيةُ لازمةٌ للأُولَى؛ لأنَّهَا عَكْسُ نَقِيضِهَا فَأَغْنَتِ الأُولىَ عَنْهَا، وَكُلَّمَا انْتَفَى الحَدُّ انْتَفَى المحدودُ،

وَكُلَّمَا وُجِدَ المَحْدُودُ وُجِدَ الحَدُّ. والرابعةُ لازِمَةٌ للثالثةِ؛ لأنَّها عَكْسُ نَقِيضِهَا، كَمَا أَنَّ الثانيةَ لازمةٌ للأُولَى، فَصَارَتِ الأُولَى والثالثةُ شَرْطَينِ لاَ بُدَّ مِنْهُمَا، ولهذا اقْتَصَرَ عليهما ابْنُ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ: أَيْ: إِذَا وُجِدَ وُجِدَ، وَإِذَا انْتَفَى انْتَفَى، وبهذا التقديرِ يَنْدَفِعُ تَوَهُّمُ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَعْنَى الاطِّرَادِ والانْعِكَاسِ كُلَّمَا وُجِدَ الحَدُّ وُجِدَ المحدودُ، وَكُلَّمَا انْتَفَى المحدودُ انْتَفَى الحَدُّ، ولاَ يَاخُذُ ذَلِكَ مِنْ عَكْسِ القَضَايَا، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَوَهَّمَ لَمْ يَكْنْ لِذِكْرِ الانْعِكَاسِ فَائِدَةٌ. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالمُطَّرِدُ هو المانعُ، والمُنْعَكِسُ هو الجامعُ، هَذَا قَوْلُ الْغَزَالِيُّ وابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرِهِمَا. وَفَوَاتُ الاطِّرَادِ هو أَنْ يُوجَدَ الحَدُّ بدونِ المحدودِ كَقَوْلِنَا في الإنسانِ: إِنَّهُ حَيَوَانٌ. وَفَوَاتُ الانْعِكَاسِ أَنْ يَنْتَفِي الحَدُّ ولاَ يَنْتَفِي المحدودُ، كَقَوْلِنَا في الإنسانِ: إِنَّهُ رَجُلٌ. وَأَمَّا القِرَافِيُّ+، فَإِنَّهُ عَكَسَ هذا، وَقَالَ: المُطَّرِدُ هو الجامعُ والمُنْعَكِسُ هو المانعُ، وَتَمَسَّكَ بالاستعمالِ اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّ المفهومَ مِنْ قَوْلِنَا: اطَّرَدَ كَذَا أَنَّهُ وُجِدَ وَاسْتَمَرَّ فَمَعْنَى الحَدِّ المُطَّرِدِ هو الموجودُ في جَمِيعِ صُوَرِ المحدودِ واعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَعْنَى وَصْفِهِ بِالاطِّرَادِ أَنَّ تعريفَهُ المحدودُ مُطَّرِدٌ، وهو الذي تَحَقَّقَ وَصْفُهُ بالحَدِّ، فالمرادُ اطِّرَادُ التعريفِ وَمُقْتَضَى هذا الاعتراضِ، أَنْ يَكْتَفِيَ بِذْكِرِ الاطِّرَادِ عَنْ ذِكْرِ الانْعِكَاسِ؛ لأنَّ اطِّرَادَ التعريفِ إِنَّمَا يَكُونُ بِهِمَا. والحقُ مَا قَالَهُ الأَوَّلُونَ، وهذا اصطلاحٌ غَيْرُ مُنَافٍ للاستعمالِ اللُّغَوِيِّ فَلاَ مَشَاحَّةَ فِيهِ، وَلَيْسَ في كلامِ الْمُصَنِّفِ تصريحٌ باختيارِ واحدٍ مِنَ القولَينِ لاحتمالِ قَوْلِهِ المُطَّرِدِ المُنْعَكِسِ طَرِيقَيِّ اللَّفِ والنشرِ،

وَمِثْلُ هذا البحثِ يَجِيءُ في وصفِ العِلَّةِ بالاطِّرَادِ، فَاسْتَحْضِرْهُ في بَابِ القياسِ، والحاصلُ أَنَّهُ: هَلِ المُطَّرِدُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الوجودُ، وَمِنْ عَدَمِهِ العَدَمُ، أَوْ عِبَارَةٌ عَمَّا يَكُونُ شَامِلاً لِجَمِيعِ أَفْرَادِ المُعَرَّفِ بِحَيْثُ لاَ يَشِذُّ مِنْهَا شيءٌ، وعلى هذا فالجامعُ مرادفٌ لِلْمُطَّرِدِ، وَالمُنْعَكِسُ مرادفٌ للمانعِ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هذا الخلافَ حَادِثٌ بَيْنَ المتأخرِينَ حتى وَقَفْتُ على كتابِ (التَّذْكِرَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ) لأَبِي عَلِيِّ التَّمِيمِيِّ فَقَالَ: الْجَمْعُ يُسَمَّى في اصطلاحِ عُلَمَائِنَا طَرْداً، وَالْمَنْعُ عَكْساً. وَقَالَ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الطَّرْدِ والعكسِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلى أَنَّ الطَّرْدَ يُفِيدُ آحَادَ المحدودِ عَلَى الشُّمُولِ بِلَفْظِ الإثباتِ كقولِنَا: كُلُّ عَلَمٍ مَعْرِفَةٌ، والمنعَ يُفِيدُ مَنْعَ غَيْرِ المحدودِ مِنَ الدخولِ فِيهِ على طريقةِ الطَّرْدِ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الإثباتِ، كقولِنَا: وَكُلُّ مَعْرِفَةٍ عَلَمٌ، قَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ؛ إِذِ العَكْسُ رَدُّ المتقدمِ متأخراً والمتأخرِ متقدماً، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلى أَنَّ مجموعَ هَاتَيْنِ العبارتَيْنِ طَرْداً، واسْتَعْمَلُوا فِي العَكْسِ حَرْفَ النفِي، فَقَالُوا: كُلُّ مَا لَيْسَ بِعَلَمٍ فليسَ بِمَعْرِفَةٍ، وَكُلُّ مَا ليسَ بِمَعْرِفَةٍ فليسَ بِعَلَمٍ. انْتَهَى. تَنْبِيهَاتٌ: الأَوَّلُ: ذَكَرَ صاحبُ (التذكرةِ) أَيْضاًً أَنَّ هَذَا التعريفَ لِلْحَدِّ قَوْلُ المتكلمِينَ، وَأَمَّا المَنَاطِقَةُ فَقَالُوا: إِنَّ القَوُلَ الدالَّ على مَاهِيَّةِ الشيءِ، وهو مَا يُتَحَصَّلُ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ القريبِ وفصلِهِ، قَالَ: وَلاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلى ذِكْرِ الطَّرْدِ والْعَكْسِ؛ لأنَّ ذلكَ يَتْبَعُ المَاهِيَّةَ، ثُمَّ قَالَ (21 أ) بَعْدَهُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّرْد ِ والعَكْسِ، هَلْ هُمَا مِنْ لَوَازِمِ صِحَّةِ الحَدِّ، أَوْ شَرْطَانِ في صِحَّتِهِ؟ وفائدةُ الخلافِ أَنَّ مَنْ ذَهَبَ إلى أَنَّهُمَا مِنْ لَوَازِمِ صِحَّتِهِ حَكَمَ بصحةِ الحَدِّ قَبْلَهُمَا، وَمَنْ جَعَلَهُمَا شَرْطَينِ في الحَدِّ أَوْقَفَ صحتَهُ على حُصُولِهِمَا؛ إِذْ لاَ يُعْلَمُ وُجُودُ المشروطِ مَعَ انتفاءِ الشرطِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لاَ يَصِّحُ في

الحَدِّ الحقيقيِّ فَإِنَّ الطَّرْدَ والعَكْسَ فيه مِنْ لَوَازِمِ صِحَّتِهِ؛ لأنَّهُمَا يَتْبَعَانِ المَاهِيَّةَ بالضرورةِ. الثانِي: استعمالُ المُطَّرِدِ مَرْدُودٌ في العربيةِ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: اطَّرَدَ، وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ على مَنْعِهِ، فَقَالَ في بابِ مَا طَاوَعَ الذي فَعَلَهُ على فِعْلٍ: وَرُبَّمَا اسْتَغْنَى عَنِ انْفَعَلَ في هذا البابِ، فَلَمْ يُسْتَعْمَلْ، وذلكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: طَرَدْتُهُ فَذَهَبَ، وَلاَ يَقُولُونَ: فَانْطَرَدَ، وَلاَ فَاطَّرَدَ، يَعْنِي أَنَّهُمْ اسْتَغْنَوْا عَنْ لَفْظِهِ بلفظٍ لكونِهِ في معنَاهُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يَقُولُونَ: طَرَدُّتُهُ فَذَهَبَ، وَلاَ يَقُولُ مِنْهُ انْفَعَلَ وَلاَ افْتَعَلَ إِلاَّ في لُغَةٍ رَزِيلَةٍ. قُلْتُ: على هذه اللغةِ قَوُلُ الشاعرِ ـ وهو قَيْسُ بْنُ الخَطِيمِ ـ أَنْشَدَهُ صاحبُ (المُحْكَمِ): *أَتَعْرِفُ رَسْماً كَالطِّرَادِ المَذْهَبِ* ... وعليه يِتَخَرَّجُ قَوْلُ الْمَنْطِقِيِّينَ. الثالثُ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الحَدَّ عَقِبَ الدليلَ لانحصارِ المطالِبُ فيها، فالدليلُ بأقسامِهِ لبيانِ المطلوبِ التصديقِيِّ، والحَدُّ بأقسامِهِ لبيانِ المطلوبِ التصوُّرِيِّ.

(ص): (والكلامُ في الأزلِ قِيلَ: لاَ يُسَمَّى خِطَاباً، وَقِيلَ: لاَ يَتَنَوَّعُ). (ش): فيه مسألتَانِ: إِحْدَاهُمَا: كلامُ اللَّهِ تَعَالَى في الأَزَلِ هَلْ يُسَمَّى خِطَاباً؟ فيه خِلاَفٌ، حَكَاهُ الشيخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ في كتابِ (الْحُدُودِ) وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ في (الْمُرْشِدِ)

قَالاَ: فَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلى أَنَّهُ لاَ يُسَمَّى خِطَاباً وَأَمْراً ونَهْياً في الأَزَلِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِذَلِكَ فِيمَا لاَ يَزَالُ عِنْدَ وجودِ المُخَاطَبِ، وهو حدوثُ تسميةٍ لاَ حدوثٌ عَنِ الكلامِ، ولاَ تتغيرُ بِذَلِكَ صِفَتُهُ في نَفْسِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يصيرُ أَباً وعَمًّا وَزَوْجاً بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مِنْ ذلكَ، وَلَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ، وَإِنَّمَا بِتَغَيُّرِ الغيرِ اسْتَحَقَّ هَذِهِ الأسماءَ حَقِيقَةً؛ فَعَلَى هَذَا كُلُّ خِطَابٍ كلامٌ، ولاَ يَنْعَكِسُ لأنَّ كلامَهُ في الأَزَلِ ليسَ بِخِطَابٍ. والثانِي: وعليه المتأخرونَ يُسَمَّى خِطَاباً بِشَرْطِ حُدُوثِ المُخَاطَبِ، وَقَالَ ابْنُ القُشَيْرِيِّ: وهو قَوْلُ الأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ الصحيحُ؛ لأنَّ الآمِرَ أَمَرَ لنفسِهِ، والصفاتُ النفسيةُ لاَ تَتَحَدَّدُ بِتَحَدُّدٍ. قُلْتُ: وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الأَشْعَرِيُّ: إِنَّ المعدومَ مَامُورٌ بِالأَمْرِ الأَزَلِيِّ عَلَى تقديرِ الوُجُودِ، وَحَكَى الشيخُ السُّبْكِيُّ في (شَرْحِ الْمِنْهَاجِ) المنعَ عَنِ القاضِي أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَهَلْ يُسَمَّى بَعْدَ ذَلِكَ وُجُودُ المُخَاطَبِ والمأمورِ، يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ حَصَلَ إِسْمَاعُهُ لذلكَ كَمَا فِي مُوسَى (عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ) يُسَمَّى خِطَاباً بِلاَ شَكٍّ، وَإِلاَّ فَلاَ على قياسِ قَوْلِ القاضِي. قُلْتُ: المانعُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لاَ يُسَمَّى خِطَاباً وَأَمْراً عِنْدَ وُجُودِ المخاطبِ والمأمورِ كَمَا سَبَقَ عَنِ الشيخِ وابْنِ الْقُشَيْرِيِّ، وهو عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الأفعالِ بِمَثَابَةِ اتِّصَافِ الرَّبِ تَعَالَى فِي الأَزَلِ، بِكَوْنِهِ خَالِقاً رَازِقاً، وَذَكَرَ بعضُهم أَنَّ الخلافَ لَفْظِيٌّ؛ لأنَّ الطلبَ الأزلِيَّ، إِنَّمَا هُوَ طَلَبٌ بالصلاحِيَّةِ، لاَ بالتعلُقِ؛ إِذِ الكلامُ الأزَلِيُّ فيِ نفسِهِ عَلَى صِفَةِ الاقتضاءِ مِمَنْ سَيَكُونُ، فَإِذَا كَانَ تَعَلَّقَ به ذلكَ الاقتضاءُ (21 ب) فيكونُ اقتضاءً بالفعلِ، فهذا يُسَمَّى اقتضاءً حقيقةً، والأولُ يُسَمَّى اقتضاءً مجازاً، ولهذا اخْتُلِفَ في جَوَازِ إِطْلاَقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الخِلافُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تفسيِر الخطابِ، فَمَنْ فَسَّرَهُ بالكلامِ الذي يُقْصَدُ بِهِ إِفْهَامُ مَنْ هُوَ مُتَهَيِّئٌ لِفَهْمِهِ في الحالِ. قَالَ: لاَ يُسَمَّى خِطَاباً، وَمَنْ قَالَ: يُقْصَدُ بِهِ الإفهامُ في الجملةِ، أَطْلَقَهُ عليه.

والحقُّ أَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ، وَمِمَّا يُفَرَّعُ عَلَيْهِ، أَنَّ الكلامَ حُكْمٌ فِي الأَزَلِ، أَوْ يَصِيرُ حُكْماً فِيمَا لاَ يَزَالُ، هي مسألةُ أَمْرِ المعدومِ السابقةُ. الثانيةُ: هَلْ يَتَنَوَّعُ الكلامُ؟ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ـ كَمَا قَالَ الإِمَامُ فيِ (المُحَصِّلِ) ـ إلى تَنَوُّعِهِ إِلَى خَمْسِ كَلِمَاتٍ: الأمرُ، والنهيُ، والخبرُ، والاستخبارُ، والنداءُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ إِلَى سَبْعَةٍ، وَزَادَ: الوعدَ، والوعيدَ. والجمهورُ على أَنَّهُ لاَ يَتَنَوَّعُ، وَحَكَى إِمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي (الإِرْشَادِ): فِيهِ الاتفاقَ، وَلَهُمْ فِيهِ مَسَالِكُ، مِنْهَا التمسكُ بنوعٍ مِنَ الإجماعِ، وَهِيَ طريقةُ القاضِي، فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى نَفْيِ كلامٍ ثانٍ قديمٍ وَنَفْيِ إِرَادَةٍ ثانيةٍ قديمةٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا صِرْتُ إلى هَذَا؛ لأَنَّا وَجَدْنَا الْعِلْمَ القديمَ مُتَعَلِّقاً لِسَائِرِ المعلوماتِ قائماً مقامَ علومٍ مختلفةٍ في الشاهدِ، وليسَ في العقلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ قِيَامِ العِلْمِ القَدِيمِ مَقَامَ القُدْرَةِ، وَلاَ يُؤَدِّي إلى وُجُوبِ تَعَلُّقِ العلمَ بجميعِ المعلوماتِ فَاضْطُرِرْنَا إلى الرجوعِ إلى الإجماعِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ في الإجماعِ بِمَا حَكَى عَنِ الأستاذِ أَبِي سَهْلِ الصُّعْلُوكِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ بِكُلِّ معلومٍ

عِلْمٌ، فَلَهُ عُلُومٌ لاَ نهايةَ لَهَا، وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ يُجْرِيهِ فيِ الكَلاَمِ وَالقُدْرَةِ، وَسَائِرَ الصفاتِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا دَخُولُ مَا لاَ نهايةَ لَهُ في الوجودِ، وَيَسْتَحِيلُ حَصْرُ مَا لاَ يَنْحَصِرُ، ودخولُ مَا لاَ تَنَاهِيَ لَهُ في الوجودِ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ، وَمِنْهَا التمسكُ بالعقلِ، فَإِنَّ الدليلَ العقليَّ قَامَ على وجوبِ اتحادِ كُلِّ صِفَةٍ لِلَّهِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مُتَعَلَّقَاتُهَا، فَكَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ بعِلِمْ ٍواحدٍ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ واحدةٍ عَلَى جَمْعِ الْمَقْدُرَواتِ، والعلومُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَإِنَّهُ يَجْمَعُهَا حقيقةٌ واحدةٌ، وهي العلميةُ ـ فكذلكَ الكلامُ مُتَّحِدٌ لاَ كَثْرَةَ فِيهِ فِي نَفْسِهِ، بَلِ الكَثْرَةُ إِنَّمَا هِيَ في مُتَعَلَّقَاتِهِ الخارجيةِ، فَإِذَا تَعَلَّقَ بالمأمورِ سُمِّيَ أَمْراً، وَبِالْمَنْهِيِّ سُمِّيَ نَهْياً، وَإِنْ كَانَ بالنسبةِ إلى حالةٍ مَا فَهُوَ الخبرُ، فَاخْتِلاَفُ التسميةِ بِحَسْبِ اختلافِ تَعَلُّقَاتِهِ، وليسَ راجعاً إلى نفسِ الكلامِ، بَلْ إلى أمرٍ خارجٍ عَنْهُ، ولهذا لَوْ قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ هَذِهِ لمَ ْيَرْتَفِعْ نَفْسُ الكلامِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَجْمَعَ العقلاءُ على انقسامِ الكلامِ إلى أمرٍ، ونهيٍ، وخبٍر، وغيرِ ذلكَ مِنَ الأنواعِ. فالجوابُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ لهذا الإشكالِ الْتَزَمَ الأستاذُ رَدَ جميعِهَا إلى الخبرِ لِيَنْتَظِمَ لَهُ القَوْلُ بالوحدةِ، فَقَالَ: الأمرُ خَبَرٌ عَنْ تَحَتُّمِ الفعلِ، والنهيُ خَبَرٌ عَنْ تَحَتُّمِ التركِ، وَكَذَا قَالَ الإمامُ فِي (الْمُحَصِّلِ) قَالَ: وَالاسْتِخْبَارُ إِخْبَارٌ عَنْ طَلَبِ شيءٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ، والنداءُ خبٌر عَنْ أَنَّ المنادَى يَصِيرُ بَعْدَ النداءِ مُخَاطَباً، وَذَكَرَ الآمِدِيُّ نَحْوَهُ، وَقَالَ: الاستخبارُ يَسْتَحِيلُ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلى التقديرِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الخَبَرِ. قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَعَلَّقَ بِمَا حُكِمَ بِفِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ يُسَمَّى طَلَباً، وَإِنْ تَعَلَّقَ بغيرِهِ سُمِّيَ خَبَراً. وثانِيهَا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: لاَ يَتَّصِفُ في الأزلِ بكونِهِ أَمْراً وَنَهْياً (22 أ) وَخَبَراً، وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بذلكَ عِنْدَ وُجُودِ المخاطَبِ زَالَ الإشكالُ، وَإِنْ قُلْنَا بِاتِّصَافِهِ في الأَزَلِ بذلكَ كَمَا ـ هو رَايُ الأَشْعَرِيِّ ـ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يَكُونَ فِي نفسِهِ مَعْنًى وَاحِدٌ، والاختلافُ فيه يَرْجِعُ إلى التعبيراتِ عنه بِحَسْبِ تَعَلُّقِهِ كَمَا سَبَقَ، وَلاَ مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الكلامُ

واحداً، والمتعلقاتُ متعددةٌ على نَحْوِ تَعَلُّقِ الشمسِ بِمَا قَابَلَهَا، واسْتِضَاءَتُهَا مِنْ زجاجاتٍ مختلفةٍ، فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الأَلْوَانُ مِنْ أسودَ وأبيضَ وأخضرَ، لاَ يُوجِبُ وُقُوعَ التَّعَدُّدِ في الشمسِ نَفْسِهَا، وهو نَحْوَ قَوْلَ الفيلسوفِ في المبدأِ الأولِ حَيْثُ قَضَي بِوَحْدَتِهِ، وَأَنَّ تَكَرُّرَ أسمائِهِ بسببِ سلوبٍ وإضافاتٍ لاَ تُوجِبُ صفاتٍ زائدةٍ على الذاتِ، قَالَ الآمِدِيُّ في (غَايَةِ المَرَامِ): وَمَنْ فَهْمِ هذا التحقيقِ انْدَفَعَ عَنْهُ الإشكالُ وَزَالَ الخَيَالُ فَإِنَّهُ غَيْرُ بعيدٍ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى خَبَرٌ عَنْ إرسالِ نُوحٍ مَثَلاً، وَيَكُونُ التعبيُر عَنْهُ قَبْلَ إرسالِهِ، بِأَنَّا نُرْسِلُهُ، وبَعْدَ الإرسالِ {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوْحاً} فالمعبرُ عَنْهُ يَكُونُ واحداً في نفسِهِ على مَمَرِّ الدهورِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمُعَبَّرُ بِهِ، قَالَ: وهذا جَلِيٌّ لِكُلِّ مُنْصِفٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ على هذا الطريقِ أَنَّكُمْ إِذَا جَعَلْتُمْ التنوعَ باختلافِ المتعلقاتِ أُشْكِلَ عَلَيْكُمْ بالإرادةِ والعلمِ والقدرةِ وغيرِهَا مِنَ الصفاتِ، فَهَلاَّ قُلْتُمْ: إِنَّهَا تَرْجِعُ لِمَعْنًى واحدٍ، وَيَكُونُ التعبيُر عَنْهُ بسببِ المتعلقاتِ لاَ بسببِ اختلافِهِ في ذاتِهِ فَسُمِّيَ إِرَادَةً عِنْدَ تَعَلُّقِهِ بِالْمُخَصِّصِ، وَقُدْرَةً عِنْدَ تَعَلُّقِهِ بالإيجادِ، وَكَذَا سَائِرُ الصفاتِ، وَأَجَابَ المحققونَ بِأَنَّا لَوْ قُلْنَا بِرُجُوعِ العِلْمِ أَوِ القدرةِ لأَدَّى إلى عدمِ الفَرْقِ بَيْنَ المعلوماتِ والمقدوراتِ، وهو مُمْتَنِعٌ، فَكَذَلِكَ وَجَبَ اختلافُ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ المعلوماتُ والمقدوراتُ، وَلَمْ يَجِبْ في الكلامِ، وَحَكَى الآمِدِيُّ فِي (الأَبْكَارِ) عَنِ الأصحابِ أَنَّهُمْ أَجَابُوا بِأَنَّ القدرةَ والإرادةَ تَخْتَلِفُ مَعَهَا التَأَثُّرَاتُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الاخْتِلاَفِ في نَفْسِ المُؤَثِّرِ بخلافِ الكلامِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَهُ بِمُتَعَلَّقَاتِهِ لاَ يُوجِبُ أَثَراً، فَضْلاً عَنْ كَوْنِهِ مختلفاً، ثُمَّ اسْتَشْكَلَ الْهُذَلِيُّ هذا الجوابَ، وَقَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِي كُلُّهُ، وَلِعُسْرِ جَوَابِهِ ذَهَبَ بعضَ أصحابِنَا إلى تَعَدُّدِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ الدليلَ قَدْ دَلَّ

عَلَى وُجُودِ أَصْلِ الكلامِ فالقولُ بِنَفْيِهِ تَقْصِيٌر، والقولُ بِتَكْثِيرِهِ إِفْرَاطٌ، وَكُلُّ خَارِجٍ عَنْ جَوْدَةِ الاحتياطِ، واسْتَجْوَدَ الآمِدِيُّ في (غَايَةِ الْمَرَامِ) هذا، قَالَ: ولعمري إن ممن رام نفي التكثر عن الكلام وغيره من الصفات بغير هذا الطريق ـ لم يجد مسلكاً وقد أورد على القول بالإيجاد أنه كيف يسوغ ما أخبر اللَّه عنه من القصص الماضية وهي مختلفة متمايزة، فإنَّ ما جرى لكل نبي غير ما جرى للآخر، وكذلك المأمورات والمنهيات، فكيف يكون ما جرى لآدم هو نفس الخبر عما جرى لموسى أو عيسى، أم كيف يكون الأمر بالحج هو نفس الأمر بالصلاة، وكيف يكون {قل هو اللَّه أحد} نفس {تبت يدا أبي لهب} فلم يبق إلا أنه أنواع مختلفة الذوات مشتركة في الكلام، والكلام كالجنس لها، والجواب: أنا لم نرد بذلك أن ما يرد بذلك أن ما عبر عنه بالنهي عين ما عبر عنه بالأمر أو ما عبر عنه في بعض الأخبار عين ما عبر عنه في الآخر، فإنَّ ذلك محال، بل قلنا: إن حقيقة الكلام واحدة، واختلاف الأساس باعتبار اختلاف التعلقات والإضافات (22 ب) إلى الأمور الخارجة، وليس ذلك بمحال، وإنما انقسام القديم، وهو مقصودنا بنفي التنوع، ولهذا قلنا في الحادث بالتنوع، إذ هو من قبيل الأعراض المتجددة المتغيرة، وذلك يستحيل في حق القديم. ص: (والنظر: الفكر المؤدي إلى علم أو ظن).

ش: الفكر جنس، ولا يريد به الفكر للنظر؛ لأنَّه ليس أظهر منه حتى يفسر به، ولو أنه أراده لم يقيده بما قيده به، وإنما يريد به الفكر الذي يعد في خواص الإنسان، وهو حركة النفس في المعقولات، أي حركة كانت سواء في محسوس وهو التخييل، أو في غيره، وقوله: (المؤدي) فصل خرج به مالا يؤدي كذلك، أعني به الحدس، ودخل فيه الفكر الذي يطلب به التصور، والذي يطلب به التصديق وأطلق العلم ليشمل العقلي وغيره، تصوراً وتصديقاً، بخلاف الظن، فإنَّ المراد به التصديق، والأول يسمى دليلاً والثاني أمارة، وهذا الحد للقاضي أبي بكر نقله عنه الإمام في الشامل، وقالَ: ليس هو كل فكر، بل ضرب مخصوص منه، وهو الذي يطلب به علم وظن، ومن هنا يظهر فساد ظن من تكلم على هذا الحد من شارحي المختصر، وأن القصد منه تعريف الفكر والنظر جميعاً.

ص: (والإدراك بلا حكم تصور وبحكم تصديق، وجازمه الذي لا يقبل التغير علم، والقابل اعتقاد صحيح إن طابق، فاسداً إن لم يطابق، وغير الجازم ظن ووهم وشك؛ لأنَّه إما راجح، أو مرجوح، أو مساو). ش: إدراك الماهية من غير اعتبار حكم عليها يسمى تصوراً، وإدراكه معَ الحكم يسمى تصديقاً، لكن اختلفوا هل التصديق مجموع الأمرين أو الحكم وحده؟ فذهب القدماء إلى أنه الحكم، وذهب الإمام فخر الدين أنه الإدراك للماهية معَ الحكم، قالَ الشيخ تقي الدين: وهذا أقرب وأنسب إلى ما ذكرناه من جعل العلم المنقسم إلى تصور وتصديق مجرد الإدراك، ليكون كل واحد من قسميه إدراكاً يتميز أحدهما بعدم الحكم تقييداً والآخر بالحكم مقيداً، ثمَّ الإدراك معَ الحكم إما أن يكون جازماً أو لا، فإنَّ كانَ جازماً لا يقبل التغيير، أي: لا في نفس الأمر ولا بالتشكيك، فهو العلم، وإن قبله فهو الاعتقاد، ثمَّ إن طابق الواقع كاعتقادنا حدوث

العالم فصحيح وإلا ففاسد، كاعتقاد الفلاسفة عدمه، وإن لم يكن جازماً فإما أن يتساوى طرفاه فهو الشك، أو يترجح أحدهما فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم، فهذه خمسة أقسام: اثنان باعتبار الجزم وثلاثة باعتبار عدم الجزم وعلم منه أن مسمى الشك مركب؛ لأنَّه اسم لاحتمالين فأكثر، ومسمى الظن والوهم بسيط، لأن الظن اسم للاحتمال الراجح والوهم للمرجوح، وهذا على رأي الأصوليين، وأما الفقهاء فعندهم: الظن والشك متساويان غالباً، إذا علمت هذا فقد أورد عليه أنه أدخل الشك والوهم تحت غير الجازم فيكونان داخلين تحت الحكم ولا حكم معَ الشك والوهم. وأجيب عنه بالمنع، بل الواهم والشاك حاكمان، أمَّا الواهم فلأن الظان حاكم بالراجح فيلزم أن يكون حاكماً بالطرف الآخر حكماً مرجوحاً، وأما الشاك فله حكمان متساويان بمعنى أنه حاكم بجواز وقوع هذا النقيض مثلاً بدلاً عن النقيض الآخر وبالعكس (23 أ) تردد العقل بينَ حكمين، بدليلين متساويين شك أَيْضاًً، ولهذا يوصف به من شأنه ذلك، نعم انحصاره في التردد المساوي كما أشعر به كلام الْمُصَنِّف غير مرضي. الثاني: جعله الشك والوهم من أقسام التصديق، معَ أنه لا اعتقاد ولا حكم فيهما بل هما منافيان للحكم، ولذلك قالَ ابن سينا: إذا قلت: البياض لون

وشككت فيه، كانَ من قبيل التصور، ومعنى التصور أنك تصورت البياض واللون وصورة التأليف بينهما. لكن ضعف الْمُصَنِّف هذا، فإنَّ قولك البياض لون، مبتدأ وخبر، محمول وموضوع، ومعناه الحكم على البياض باللونية، وذلك يقبل التصديق والتكذيب. ص: (والعلم قالَ الإمام: ضروري، ثمَّ قالَ: هو حكم الذهن الجازم المطابق لموجب، وقيل: هو ضروري فلا يحد، وقالَ إمام الحرمين: عسر فالرأي الإمساك عن تعريفه). ش: اختلف في العلم فقال الإمام فخر الدين: هو ضروري، أي تصوره بديهي لأنَّ ما عدا العلم لا يعرف إلا به، فيستحيل أن يكون غيره كاشفاً له، ولأني أعلم بالضرورة كوني عالماً بوجودي، وتصور العلم جزء منه، وجزء البديهي بديهي، فتصور العلم بديهي، وأجاب صاحب تلخيص المحصل عن الأول

بأن المطلوب من حد العلم هو العلم بالعلم، وما عدا العلم ينكشف بالعلم لا بالعلم بالعلم، وليس من المحال أن يكون هو كاشفاً عن العلم به، وأجاب غيره عن الثانِي: أمَّا على القول بأن التصديق هو الحكم وحده ـ كما هو رأي الجمهور ـ فلأن التصورات الواقعة في القضايا ليست بأجزاء للحكم، وإنما هي شروط، وأما على القول بأن التصديق هو الحكم معَ تصور طرفيه كما هو رأي الإمام، فلأنا نمنع أن أجزاء التصديق الضروري بحقائقها ضروري، بل يكفي تصورها باعتبار صادق عليها فاستدلاله بكون هذا التصور ضرورياً لا يفيد مدعاه من كون تصور حقيقة العلم ضرورياً، واعلم أن ما نقله الْمُصَنِّف عن الإمام من أنه ضروري، ذكره في المحصول، ثمَّ إنه ذكر بعد ذلك تقسيماً حصر فيه العلم وأضداده، وعرف فيه العلم بأنه: الحكم الجازم المطابق لموجب، وإليه أشار الْمُصَنِّف بقوله، ثمَّ قالَ: هو حكم الذهن، فتحصل من كلام الإمام أنه ضروري، وأنه يحد، وكأن الْمُصَنِّف أشار بذلك إلى تناقضه، ووجهه أن فائدة حد الشيء أن تصور حقيقته ضرورة، وإذا كانَ ضرورياً فلا فائدة في حده، والمراد بالموجب في كلام الإمام إما العقلي أو الحسي أو المركب منهما، فالأول ينقسم إلى بديهي ونظري، والثاني العلم بالمحسنات والثالث ينقسم إلى التواترات إن كانَ الحس سمعاً، وإلا فالمجربات والحدسيات، وقوله: (وقيل ضروري) يشير إلى ما دل عليه قول ابْن الْحَاجِبِ: والعلم قيل لا يحد لأنَّه ضروري وإنما عكس عبارته؛ لأنَّه كونه ضرورياً يترتب عليه عدم الحد لا العكس؛ لأنَّ الكلام في عدم حده، لا في كونه ضرورياً أو غير ضروري، وذهب

إمام الحرمين إلى أنه يعسر تعريفه وإنما يعرف بالتقسيم، والمثال دون غيرهما وفي ذلك اعتراف بإمكان تعريفه في الجملة، ومال الْمُصَنِّف إلى هذا بقوله، فالرأي الإمساك عن تعريفه، واعترض عليه بأن هذا غير مختص بالعلم، بل الحدود والرسوم كلها عسرة، وإن كانَ العسر في العلم أزيد من ذلك (23 ب) وما نقله الْمُصَنِّف عن إمام الحرمين هو الصواب، ونقل ابْن الْحَاجِبِ عنه منع الحد، وهو باطل، فإنَّه صرح في البرهان وغيره بإمكان التعبير عنه، وإن أعسر الحد، بجميع أنواع التعريف، وكلام الْغَزَالِيّ في (المستصفى) يقتضي اختصاص ذلك بالحقيقي، ويحسن أن يكون توسطاً بينَ القولين. ص: (ثم قالَ المحققون: لا يتفاوت، وإنما التفاوت بكثرة المتعلقات). ش: اختلفوا في أن العلم هل يتفاوت، فيقال: علم أجلي من علم أم لا، وما حكاه الْمُصَنِّف، ذكره إمام الحرمين في (الشامل) وسوى بينَ العلوم الضرورية والنظرية، فقالَ: صارَ المحققون إلى أن العلوم المرتبطة بصروف النظر لا تتفاوت،

فلا يتصور علم أبين من علم، إذ العلم بينَ المعلوم على ما هو به ولا يجامعه استرابة أصلاً، وكيف يجامعه وهما متضادان، ثمَّ قالَ بعد ذلك، وإن العلم الضروري بمثابة العلم النظري في حكم التبيين، والذي يوضح الحق في ذلك الاتفاق على أن العلم الواقع بالشيء نظراً، يماثل العلم الواقع به ضرورة، كما تماثل الحركة الضرورية، الحركة الكسبية، والحركتان متماثلتان، ومن حكم المتماثلين وجود استوائهما في صفات النفس، ولو كانَ الضروري مخالفاً للكسبي في وجه من البيان، لما كانَ مثله ثمَّ أشار إلى الفرق بينهما، وجعل من وجوه الفرق أن العلوم المكتسبة مقدورة بخلاف البديهية، وقالَ ابن التلمساني: المحققون على عدم تفاوت العلوم، وإنما التفاوت بحسب التعلقات واختاره إمام الحرمين والإبياري في شرح البرهان، ولكن الأكثرين على التفاوت، ونقله الإمام في البرهان عن أئمتنا، ومن فوائد الخلاف في هذه المسألة أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقص بناء على أن الإيمان من قبيل العلوم لا الأعمال خلافاً للمعتزلة.

ص: (والجهل انتفاء العلم بالمقصود، وقيل: تصور المعلوم على خلاف هيئته). ش: هذا الخلاف في تعريف الجهل أخذه الْمُصَنِّف من القصيدة الصلاحية وهي من أحسن تصانيف الأشعرية في باب العقائد، وكان السلطان صلاح الدين يأمر بتلقينها للصبيان في المكاتب، قالَ ابن مكي مصنفها. وإن أردت أن تحد الجهلا ... من بعد حد العلم كانَ سهلاً وهو انتفاء العلم بالمقصود ... فاحفظ فهذا أوجز الحدود

وقيل في تحديد ما أذكر ... من بعد هذا والحدود تكثر تصور العلم هذا جزؤه ... وجزؤه الآخر يأتي وصفه مستوعباً على خلاف هيئته ... فافهم فهذا القيد من تتمته وإطلاق القولين هكذا غريب وإنما المعروف تقسيم الجهل إلى بسيط ومركب، فالمركب ما ذكره في الحد الثانِي، هكذا ذكره الإمام والسمعاني والآمدي وغيرهم، وقالَ الرافعي في كلامه على قاعدة مد عجوة: الجهل معناه المشهور: الجزم بكون الشيء على خلاف ما هو عليه، ويطلق ويراد به عدم العلم بالشيء انتهى، وسمي مركباً لأنَّه مركب من جزأين أحدهما عدم العلم، والثاني اعتقاد غير مطابق، كاعتقاد المعتزلة أن الباري لا يرى في الآخرة، وأما البسيط فهو عدم العلم مما شأنه أن يكون عالماً سمي بسيطاً لأنَّه لا تركيب فيه وإنما هو جزء واحد كعدم (24 أ) علمنا بما تحت الأرض، وما يكون في البحار وغيره، والتقييد بما من شأنه، ذكره الآمدي في أبكار الأفكار، فقالَ: أمَّا البسيط فعدم العلم فيما من شأنه أن يكون عالماً لا عدم العلم مطلقاً، وإلا لوصفت الجمادات بكونها جاهلة، إذ هي غير عالمة، وعلى هذا فالجهل بهذا الاعتبار إثبات عدم لا أنه صفة إثبات والفرق بينَ الأمرين ظاهر. انتهى. وعلى هذا فلا يصح قول من قالَ: قال حمار الحكيم: توما ... لو انصفوني لكنت أركب

لأنني جاهل بسيط ... وراكبي جاهل مركب ولو قالَ الْمُصَنِّف: تصور الشيء لكان أولى من المعلوم؛ لأنَّ هذا جهل لا علم فيه والمراد بقوله على خلاف هيئته، أن يتصور ما هو معلوم في نفسه، على خلاف الواقع، واحترز به عن التصور بهيئته فإنَّ ذلك علم، قالَ الْمُصَنِّف، وهذا أحسن من قول إمام الحرمين على خلاف ما هو به، فإنَّه ظاهر التدافع لأنَّ تصور المعلوم، يعطى وقوع تصوره وقوله: (على خلاف ما هو به) يعطي أنه لم يقع تصوره، وقد يجاب عن الإمام بأن مراده بقوله: تصور الشيء على ما في زعمه، وقوله: على خلاف ما هو به في نفس الأمر. ص: (والسهو: الذهول عن المعلوم). ش: أي فما لا يعلم لا يقال للذاهل عنه ساه، وقالَ السكاكي: السهو ما ينبه صاحبه بأدنى تنبيه، وفرق صاحب ضوء المصباح بينَ السهو والنسيان، بأن السهو الغفلة وهو قريب من الذكر، ولذلك يقال: أغفلت الشيء إذا تركته على ذكر

منك، وأما النسيان فهو خلاف الذكر، وهو أخص من السهو؛ لأنَّه إذا حصل النسيان حصلت الغفلة لأنَّها بعضه، وليس إذا حصلت الغفلة يحصل النسيان؛ لأنَّ النسيان غفلة وزيادة، وزمن السهو قصير وزمن النسيان طويل لاستحكامه. ص: (مسألة: الحسن: المأذون، واجباً ومندوباً ومباحاً قيل وفعل غير المكلف). ش: تنقسم صفة الفعل الذي هو متعلق الحكم إلى حسن، وعرف الحسن بالمأذون فيه، أي سواء كانَ يثاب على فعله أم لا، فيشمل الواجب والمندوب، ولا خلاف فيهما، وكذلك المباح، وهو الصحيح للإذن فيه، واحتج له بقوله تَعَالَى: {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} ووجهه أن أحسن: أفعل تفضيل، ومن شرطه أن يضاف إلى بعضه، فالتقدير، لنجزينهم أحسن أعمالهم، وأعمالهم التي يتعلق بها الحسن إما واجبة أو مندوبة أو مباحة، والواجب أحسن قطعاً، والمندوب أحسن من المباح؛ لأنَّه لا ثواب في المباح فلزم أن يكون حسناً، وأما فعل غير المكلف كالنائم والساهي والبهيمة، ففيه خلاف مرتب على الخلاف في المباح وأولى بالمنع، وهو الذي اختاره إمام الحرمين، وكلام الْمُصَنِّف يشعر بترجيحه، ومنهم من قالَ: لا يسمى حسناً ولا قبيحاً، إذ لا يتوجه إليهم مدح ولا ذم بسبب

الفعل، وإن كانَ يجب بسببها ضمان وأرش في مالهم، وقالَ الرافعي في باب الزنا: لو مكنت البالغة العاقلة مجنوناً أو مراهقاً أو نائماً أو صبياً، فعليها الحد خلافاً لأبي حنيفة، حَيْثُ قالَ: لا يجب؛ لأنَّ فعله والحالة هذه ليس بزنا. قلنا: لا نسلم أنه ليس بزنا، ولكن لا يجب به الحد. انتهى. ص: (والقبيح المنهي ولو بالعموم فدخل خلاف الأولى). ش: وجه دخوله أن المنهي إما معَ الجزم بالحرمة أو لا معَ الجزم بها وهو النهي، وهو إما نهي مخصوص فالكراهة (24 ب) أولى بنهي مخصوص، وإليه أشار بقوله: (ولو بالعموم فخلاف الأولى) فشمل التعريف حينئذ الحرام والمكروه، وخلاف الأولى، وفي إطلاق القبيح على خلاف الأولى نظر، ولم أره لغير الْمُصَنِّف، وغاية ما عندَه أخذه من إطلاقهم القبيح أنه المنهي عنه، ويمكن أن يريدوا النهي المخصوص، بل هو الأقرب لإطلاقهم وسيأتي في كلامه أن المكروه ليس بقبيح فكيف خلاف الأولى؟ ولا يساعده قول ابْن الْحَاجِبِ ـ تبعاًَ للغزالي وغيره، ـ أن المكروه يطلق على

خلاف الأولى؛ لأنَّه لبيان إطلاق حملة الشرع، والكلام في حقيقة القبيح، والظاهر أن الْمُصَنِّف أخذ هذا من كلام الهندي، فإنَّه قالَ: القبيح عندَنا: ما يكون منهياً عنه، ونعني به ما يكون تركه أولى، وهو القدر المشترك بينَ المحرم والمكروه، فإنَّ جعل النهي فيه حقيقة فلا كلام وإلا فاستعماله فيه بطريق التجوز فيدخل فيه المحرم والمكروه. ص: (وقالَ إمام الحرمين: ليس المكروه قبيحاً ولا حسناً). ش: لأنَّ القبيح ما يذم، وهذا لا يذم عليه، والحسن ما يسوغ الثناء عليه، وهذا لا يسوغ الثناء عليه، قالَ والد الْمُصَنِّف: ولم نر أحداً نعتمده خالف الإمام في هذا إلا أناساً أدركناهم، قالُوا: إنه قبيح؛ لأنَّه منهي عنه، والنهي أعم من تحريم وتنزيه، وهذا تمسك بإطلاق، قلت: وينبغي جريان هذا الخلاف في خلاف الأولى، وأولى بالمنع. ص: (مسألة: جائز الترك ليس بواجب، وقالَ أكثر الفقهاء: يجب الصوم على الحائض والمريض والمسافر، وقيل المسافر دونهما، وقالَ الإمام: عليه أحد الشهرين والخلف لفظي). ش: هذه الترجمة تجمع مسائل، فلهذا صدر بها، ووجهه أن الواجب مركب من طلب الفعل معَ المنع من الترك، فلو كانَ جائز الترك واجباً، لاستحال كونه جائزاً، وكان ينبغي أن يزيد مطلقاً، حتى يخرج الواجب الموسع،

والمخير، فإنَّه يَجُوز تركهما في حالة، ومع ذلك فهما واجبان، لكن لا يَجُوز الترك مطلقاً، ويمكن أن يقال: إطلاقه يفهم ذلك، فمنها: قالَ أكثر الفقهاء: يجب الصوم على من ذكر معَ أنه يَجُوز لهم تركه، والمصنف في هذا النقل متبع لصاحب المحصول، وقالَ الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه في الأصول: إن مذهبنا يجب عليهم في الحال إلا أنه يَجُوز لهم تأخيره إلى العذر قلت: لكن نص الشافعي في أوائل الرسالة على أن الصوم لا يجب على الحائض، وقالَ النَّوَوِيّ: أجمع المسلمون على أنه لا يجب عليها الصوم في الحال، ثمَّ قالَ الجمهور: ليست مخاطبة به في زمن الحيض، وإنما يجب القضاء بأمر جديد، وذ كر بعض أصحابنا وجهاً، أنها مخاطبة به في حال الحيض، وتؤمر بتأخيره، وليس بشيءٍ، انتهى، والقول بوجوبه على المسافر دونهما حكاه ابن السمعاني عن الحنفية، والقول بوجوب أحد الشهرين إما الحاضر أو آخر غيره أي على المسافر كالواجب المخير ـ هو قول القاضي أبو بكر نص عليه في كتاب (التقريب) ونقله الشيخ أبو إسحاق في (شرح اللمع) عن بعض الأشعرية، واختاره الإمام فخر الدين، قالَ في (المحصول) عندَنا أنه لا يجب على المريض والحائض، وأما المسافر فيجب (25 أ)

عليه صوم أحد الشهرين وأيهما أتى به كانَ هو الواجب كخصال الكفارة وقد استضعف هذا بأنه لا فرق في ذلك بينَ المريض والمسافر، إلا أن سبب أحدهما اضطراري وسبب الآخر اختياري، وهذا لا تأثير له في اختلاف الحكم المذكور، فإنَّ كل واحد منهما مخير بينَ صوم الشهر الحاضر، وصوم شهر آخر بالنص، إلا فرض مريض يضره الصوم ضرراً، لا يَجُوز معه الصوم فحينئذ يصير كالحائض في حرمة الصلاة، وقوله: (والخلف لفظي) تابع فيه الشيخ أبا إسحاق، فقالَ: لا فائدة له لأنَّ تأخير الصوم حالة العذر جائز بلا خلاف، والقضاء بعد زواله واجب بلا خلاف، قلت: لكن هل وجب بأمر جديد أو بالأمر الأول، وهذا فائدته، ونقل ابن الرفعة ظهور فائدته في وجوب التعرض للأداء والقضاء في النية. تنبيه: استغنى الْمُصَنِّف بهذه القاعدة عن مسألة المنهاج الزائد على ما ينطلق عليه الاسم ليس بواجب؛ لأنَّه يَجُوز تركه، فلا تظنه أهملها. ص: (وفي كونه المندوب مأموراً به خلاف).

ش: أكثر أصحابنا على أنه مأمور به حقيقة، كما قاله ابن الصباغ في (العدة) ولهذا قسموا الأمر إلى واجب وندب، ونقله القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي، وقيل: ليس مأموراً به حقيقة بل مجازاً وهو اختيار الشيخ أبي

حامد وغيره، واحتج له الخطيب البغدادي بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فضل الصلاة بالسواك على الصلاة بغير سواك سبعون ضعفاً))، معَ قَوْلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم)) قالَ: قيد في الأول عندَ كل صلاة، وأخبر في الثانِي أنه لم يأمر به، فدل على أن المندوب غير مأمور به حقيقة، وظاهر كلام الْمُصَنِّف: أن الخلاف في كونه مأموراً به أم لا وإنما الخلاف في أنه حقيقة أو مجازاً. ص: (والأصح ليس مكلفاً به). ش: ما صَحَّحَهُ هو اختيار إمام الحرمين، فإنَّ التكليف يشعر بتطريق المخاطب الكلفة من غير خيرة من المكلف، والندب فيه تخيير، ومقابل الأصح هو

مذهب القاضي. قال الإمام: والخلاف يرجع إلى مناقشة في العبارة، وزيف مذهب الإمام بوجهين. أحدهما: أن التخيير عبارة عما خير بينَ فعله وتركه، والندب مطلوب الفعل مثاب عليه، فلم يحصل التساوي. والثاني: أن التخيير يضاد الاقتضاء، فلا خيرة شرعية في الندب والكراهة، ص: (وكذا المباح ومن ثمَّ كانَ التكليف إلزام ما فيه كلفة، لا طلبه، خلافاً للقاضي). ش: أي: يجري الخلاف في المباح، والأصح أنه ليس مكلفاً به، وبه قالَ

الجمهور، وقالَ الأستاذ: الإباحة من التكليف على معنى أنا كلفنا اعتقاد إباحته، ورد بأن العلم بحكم المباح خارج عن نفس المباح، واعتذر المقترح عنه بأن الإباحة حكمها وجوب اعتقاد أن الفعل مباح، والوجوب من التكليف، فقد لازمت ما فيه كلفة فأطلق عليها من التكليف لأجل الملازمة، وأشار بقوله: (ومن ثم) إلى أن الخلاف في المسألتين مفرع على الخلاف في حقيقة التكليف، ماذا هو؟ هل هو إلزام ما فيه كلفة، فلا يكون المندوب والمباح مكلفاً به أو طلب ما فيه كلفة؟ وما نقله عن القاضي نقله عن إمام الحرمين في (البرهان) لكنه في كتاب (التلخيص من التقريب) للقاضي صرح بأنه إلزام ما فيه كلفة، وقد أورد على العبارة الثانية أن الشارع قد ندب المكلف إلى (25 ب) تعجيل الفطر وتأخير السحور، معَ أن النفوس تشوف إلى ذلك بالطبع، فلم يوجد فيه كلفة، ولذلك قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أرحنا بالصلاة يا بلال)) كذلك التكليف بترك تناول السموم ونحوها، والجواب: أن الكلفة باعتبار الجنس لا كل فرد فرد. تنبيه: استغنى الْمُصَنِّف بالخلاف في حد التكليف عن مسألة (المختصر): أن المكروه غير مكلف به على الأصح؛ لأنَّ هذه أصلها، فلا تظنه أهملها. ص: (والأصح أن المباح ليس بجنس للواجب). ش: أي: بل هما نوعان داخلان تحت الحكم، أي: نوعان في مرتبة، وهذا ما رجحه ابْن الْحَاجِبِ وغيره فإنَّه لو كانَ جنساً له لاستلزم النوع أي: لاستلزم الواجب التخيير، وهو محال، وجوزه آخرون لأنَّ المباح هو المأذون فيه، وهو

شامل ويَجُوز أن يكون قول الْمُصَنِّف فيما بعد: (والخلف لفظي) راجعاً إلى هذه أَيْضاًً، فإنَّ بعضهم ادعى ذلك هنا، قالَ: لأنَّ من فسر المباح بالمخير لم يجعله جنساً، ومن فسره بالمأذون فيه جعله جنساً. ص: (وأنه غير مأمور به من حَيْثُ هو، والخلف لفظي). ش: المخالف فيه الكعبي، قالَ: إنه مأمور به لكنه دون الندب، كما أن الندب مأمور به دون الإيجاب، كذا حكاه عنه القاضي والغزالي في (المستصفى)، وزيفه بأن الأمر اقتضاء وطلب، والمباح غير مطلوب بل مأذون فيه ومطلق له، واحتج هو بأن كل فعل يوصف بأنه مباح باعتبار ذاته فهو واجب باعتبار أنه يترك به الحرام، ورد بأنه قد يترك بالندب حراماً فيكون واجباً وقد يترك بالحرام حراماً آخر فيكون الشيء الواحد واجباً وحراماً، وهو تناقض، والتحقيق في العبارة عنه: أن

يقال: ترك الحرام يحصل عندَ فعل المباح لا بفعل المباح، كقول القاضي في الصلاة في الدار المغصوبة: يسقط الفرض عندَها لا بها وجعل الْمُصَنِّف الخلاف لفظياً بقوله: من حَيْثُ هو، يعني: فإنَّ له اعتبارين: أحدهما بالنظر إلى ذاته، ولا شك أنه غير مأمور به، والكعبي لا يخالف فيه، والثاني: باعتبار أمر عارض له، وهو ترك الحرام، ولا شك أنه مأمور به من هذه الحيثية، والجمهور لا يخالفونه، وأشار الهندي إلى أنه معنوي من جهة أخرى، فإنَّه بناه على الخلاف في أن الأمر حقيقة في ماذا؟ فإنَّ قلنا: في رفع الحرج عن الفعل أو في الإباحة، فهو مأمور به، وإن قلنا: حقيقة في الوجوب أو في الندب أو في القدر المشترك، فليس بمأمور به، قالَ القاضي: وهو إن أطلق الأمر على المباح فلا يسمى المباح واجباً، ولا الإباحة إيجاباً. ص: (وأن الإباحة حكم شرعي). ش: على معنى أن الشرع ورد بها، كما قاله إمام الحرمين، والمخالف فيه بعض المعتزلة والخلف لفظي يلتفت إلى تفسير المباح، هل هو نفي الحرج، وهو ثابت قبل الشرع، أو الإعلام بنفي الحرج؟ فكان ينبغي للمصنف أن يؤخر قَوْلُه:

(والخلف لفظي) عن هذا، ليعود للصور الثلاث، فإنَّ قيل: كيف تجتمع هذه المسألة معَ قَوْلُه أولاً: (إن المباح ليس مكلفاً به)؟ فالجواب: أنه لا يلزم من كون الإباحة حكماً شرعياً، أن يكون مكلفاً بها، فإنَّ التكليف تفعيل مما فيه كلفة، إما بالتزام فيه أو طلبه، ولا كلفة ولا إلزام ولا طلب في المباح. ص: (وأن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز، أي: عدم الحرج، وقيل: الإباحة، وقيل: الاستحباب). ش: (26أ) الجواز يطلق لمعنيين: أحدهما: رفع الحرج عن الفعل، فيدخل فيه الواجب وغيره، والثاني: رفع الحرج عن الفعل والترك، وهو مستوى الطرفين، وهو المباح في اصطلاح المتأخرين والأول لا شك أنه لازم للوجوب، والثاني ضده فلا يكون جازماً، قالَ القرافي: وظاهر كلامهم إرادته، وأما الْمُصَنِّف فأشار بقوله: أي رفع الحرج، إلى أن القائل ببقاء الجواز، اختلفوا في تفسيره: هل معناه رفع الحرج الذي هو جنس غير مقيد بالتخيير، أو رفع الحرج عن الفعل والترك على السواء وهو الإباحة، أو لا معَ السواء وهو الندب؟ والفرق بينَ هذا وبين الأول: أن الأول يجعل الجواز للقدر المشترك بينَ الندب والإباحة في ضمن واحد لإبقاء نوع منهما على التعيين، والثاني والثالث بخلافه، فأما الأول: فهو قضية كلام (المحصول) وأتباعه،

حَيْثُ جعلوا شبهة الخصم فيه: أن الجنس يتقوم بالفصل، ولا يتم ذلك إلا إذا كانَ النزاع في رفع الحرج الذي هو جنس غير مقيد بتخيير، والثاني: هو قضية كلام (المستصفى) حَيْثُ قالَ في الرد على من قالَ ببقاء الجواز: حقيقة الجواز التخيير بينَ الفعل والترك، والتساوي بينَهما تسوية الشرع. وأما الثالث: فصرح ابن القشيري والغزالي بأنه لم يصر إليه أحد، أمَّا ابن القشيري فقالَ: لو جاز أن يقال بنفي الجواز، لساغ أن يقال بنفي الندب لا سيما الاقتضاء الكائن في الندب كائن في الندب كائن في الوجوب، والمحكي قصر الخلاف على الجواز، وأما الْغَزَالِيّ فقالَ: هذا بمنزلة قول القائل: كل واجب فهو ندب وزيادة، فإذا نسخ الوجوب يبقى الندب ولا قائل به، انتهى، لكن هذا لا يحسن في الرد عليهم، إذا ثبت أن مرادهم بالجواز المعنى الأول من غير تعيين نوعن فإنَّ قلت: فما عمدة الْمُصَنِّف في حكاية الندب؟ قلت: الظاهر أنه أخذه من المسودة

الأصولية للشيخ مجد الدين ابن تَيْمِيَّةَ، فإنَّه قالَ: إذا صرف الأمر عن الوجوب، جاز أن يحتج به على الندب والإباحة، وبه قالَ بعض الشافعية وبعض الحنفية. انتهى، وذهب جمع من المتأخرين إلى أن الخلاف لفظي؛ لأنَّا فسرنا الجواز برفع الحرج عن الفعل والترك، ولا شك أنه غير داخل فيها، بل هو ينافيها وحاصله رفع النزاع في المسألة لعدم توارده على محل واحد، واعلم أن ما اختاره الْمُصَنِّف نقله في (شرح المنهاج) عن الأكثرين، وليس كذلك وإنما شيء قاله الإمام الرَّازِيّ وأتباعه، والذي وجدته في كلام أكثر أصحابنا الأقدمين: أنه لا يحتج به على الجواز، ويرجع الأمر إلى ما كانَ عليه قبل الوجوب من براءة أصلية أو تحريم أو ندب أو إباحة أو كراهة. ص: (مسألة الأمر بواحد من أشياء يوجب واحداً لا بعينه، وقيل: الكل ويسقط

بواحد، وقيل: الواجب معين، فإنَّ فعل غيره سقط، وقيل: هو ما يختاره المكلف). ش: هذه مسألة الواجب المخير كخصال الكفارة، وحكي فيها أربعة مذاهب، أصحها: أن الواجب واحد لا بعينه، وهو الكل المشترك بينَ الخصال المأمور بها، ونقل القاضي إجماع سلف الأمة وأئمة الفقهاء عليه، وحرر ابْن الْحَاجِبِ معنى الإبهام فقالَ: إن متعلق الوجوب هو القدر المشترك بينَ الخصال ولا تخيير فيه؛ لأنَّه لا يَجُوز تركه، ومتعلق التخيير خصوصيات الخصال ولا وجوب فيها (26 ب) والثاني: أن الكل واجب ولكن يسقط بفعل واحد، ونقله القاضي عن أبي علي

وابنه من المعتزلة، وبعض الفقهاء، ولم يصحح إمام الحرمين النقل عنه، قالَ: لأنَّه لا يؤثم التارك إثم من ترك واجبات، ولا يثبت لمن فعل الجميع ثواب واجبات ومن فعل واحداً سقط عنه الوجوب فلا خلاف معنى، قلت: مأخذ الخلاف الحسن والقبح العقليان، إذ الوجوب عندَه يتبع الحسن الخاص، فيجب عندَ التخيير استواء الجميع في الحسن الخاص وإلا وقع التخيير بينَ حسن وغيره، وهذا تحقيق ما نقلوه عنه، وأنه لم يرد ما لمحه الإمام من الثواب والعقاب، ولهذا قالَ الناصرون لمذهبه: إن إيجاب مبهم ممتنع، إذا كانَ واحد من الثلاثة واجباً واثنان غير واجب، لخلا اثنان من المقتضي للوجوب، فلا بد وأن يكون كل واحد بخصوصه مشتملاً على صفة تقتضي وجوبه، ولكن كل منهما يقوم مقام الآخر ولهذا يسمى بالواجب المخير. والثالث: أن الواجب مبهم عندَنا معين عندَ اللَّه تَعَالَى، ويسقط الوجوب به، وبفعل غيره من الأشياء المذكورة، ويسمى قول التراجم؛ لأنَّ الأشاعرة تنسبه إلى المعتزلة، والمعتزلة تنسبه إلى الأشاعرة، واتفق الفريقان على فساده، قالَ والد الْمُصَنِّف، وعندي أنه لم يقل به أحد، وإنما المعتزلة تضمن ردهم علينا ومبالغتهم في

تقرير تعلق الوجوب بالجميع ـ ذلك، فصار معنى يرد عليهم، وأما رواية أصحابنا له عن المعتزلة ـ، فلا وجه له، لمنافاته قواعدهم، قلت: لكن أبا الحسين القطان من أئمة أصحابنا حكاه في كتابه (أصول الفقه) عن بعض الأصوليين. والرابع: أن الواجب واحد وهو ما يفعله المكلف كذا حكاه ابْن الْحَاجِبِ، وأغرب ابن السمعاني في (القواطع) فحكاه عن جمهور الفقهاء: إنه يتعين بالفعل، فيكون مبهما قبل الفعل متعينا بعد الفعل بفعله. انتهى. قيل: فلو فعل الجميع كانَ الكل واجباً على هذا القول. واعلم أن تعبير الْمُصَنِّف عنه بقوله: (ما يختاره المكلف) غير مطابق، والذي تحققته أنه قول خلاف الذي قيل، ولهذا قالَ الشيخ تقي الدين في (شرح الإلمام) اختلف في الواجب المخير، فقيل: الكل واجب على البدل، وقيل:

الواجب واحد لا بعينه يتعين باختيار المكلف، وقيل يتعين بالفعل لا بالاختيار، انتهى. وحينئذ تصير المذاهب خمسة، ولا يقال: إن هذا هو القول الأول الصحيح؛ لأنَّ مذهب أصحابنا أنه مبهم لم يزل وإذا فعل فمتعلق الوجوب مسمى أحدهما لا ذلك المفعول بخصوصه، ثمَّ قالَ المحققون منا كإمام الحرمين والشيخ إبي إسحاق وغيرهما، ومنهم كأبي الحسين البصري: إنه لا خلاف بينَ الفريقين في المعنى لاتفاقهما على أنه لا يجب الإتيان بالكل، ولا ترك كل واحد، وعليه أن يأتي بأي واحد منها شاء نعم، يتحقق الخلاف على القولين السابقين عن ابن دَقِيقِ العِيدِ: أن الوجوب التخييري هل معناه: أن باختياره يصير واجباً أو أن باختياره يصير معينا للوجوب؟ وقالَ ابن فورك، والغزالي: تظهر فائدته في الثواب كما سيأتي. تنبيه: موضع المسألة ما إذا كانَ ثابتاً بالنص في أصل المشروعية، وأما ما شرع من غير تنصيص على التخيير، كتخيير المستنجي بينَ الماء والحجر، والتخيير في الحج (27أ) بينَ الإفراد والقران والتمتع ونحوها، فهذا لا يدخل في المسألة والغالب في أكثرها الترجيح، وقد يستحب الجمع بينَهما كالماء والحجر، لكن الشيخ أبو مُحَمَّد الجويني في باب

الاستنجاء من (الفروق) جعل التخيير بينَ الماء والحجر، من هذا الباب. ص: (فإن فعل الكل فقيل: الواجب أعلاها، وإن تركها فقيل: يعاقب على أدناها). ش: حق الْمُصَنِّف أن يقول فعل الكل معاً، فإنَّه لو فعلها على التعاقب، كانَ الأول هو الواجب، ويتصور فعل الكل معا في الكفارة بأن يوكل فيها أو يوكل في البعض، ويباشر في البعض، وتتفق أفعالهم في وقت واحد، وما حكاه الْمُصَنِّف من أن الواجب أعلاها، حكاه ابن السمعاني في (القواطع) عن الأصحاب، فقالَ: قالَ أصحابنا: إذا فعل الجميع فالواجب أعلاها، لتكثير ثوابه، انتهى. وحكاية هذا عن الأصحاب غريب، ولعله بناه على اختياره أن الوجوب يتعين بالفعل، ونقله عن الجمهور وسبق منازعته فيه، وقياس قول الأصحاب أن الواجب أحدها: ـ أنه يثاب على مسمى واحد منها؛ لأنَّه الواجب من غير نظر إلى الأعلى؛ لأنَّ الأعلى ليس هو الواجب بخصوصه، وقد نقل القاضي عن أصحابنا أن الواجب واحد إذا أتي بالجميع من غير تقييد بالأعلى، وجزم الشيخ أبو إسحاق في (اللمع) بأنه يسقط عنه الفرض بواحد منها، والباقي تطوع، وأما إذا تركها فالقول بأنه يعاقب على أدناها نقله ابن

السمعاني عن الأصحاب، وقد يوجه بأن الوجوب يسقط بفعل الأدنى، وقد أنكر عليه بعضهم، وقالَ: إنما هو قول القاضي أبو بكر، قلت: وعبارة القاضي أبي الطيب الطبري، يأثم بمقدار عقاب أدناها لا أنه نفس عقاب أدناها، وينبغي أن يأتي هنا قول أنه لا يعاقب إلا على مسمى أحدها. ص: (ويَجُوز تحريم واحد لا بعينه، خلافاً للمعتزلة وهي كالمخير). ش: النهي عن واحد من الأشياء على التخيير كقوله: لا تكلم زيداً أو عمراً، يقتضي تعلق النهي بواحد لا بعينه، فله فعل أحدهما دون الآخر، وإنما يمتنع الجمع بينهما، هذا قول أصحابنا وقاسوه على الأمر بواحد من أشياء، فإنَّه لا يقتضي وجوب الجميع، فكذلك الأمر بالترك في أحد شيئين لا يقتضي وجوب تركهما وإلحاقهما بالمخيرة، وذكره الآمدي وابْن الْحَاجِبِ، لكن المعتزلة لم يوجبوا فعل الجميع هناك، وههنا أوجبوا اجتناب الجميع، فلا يَجُوز له فعل واحد منهما، وبنوا هذا على أصلهم: أن النهي لا يرد إلا عن قبيح، فإذا نهي عنهما ثبت قبحهما

وكانا منهيين وإن ورد النهي بلفظ التخيير، اللهم إلا أن يدل دليل على أن كل واحد منهما منهي عنه بشرط وجود الآخر، فيكون للتخيير ههنا فائدة بأن يقال: لا تأكل أو لا تشرب، ويدل الدليل على أنه إنما نهى عن الأكل بعد وجوب الشرب، وكذا إنما نهي عن الشرب بعد وجود الأكل فيكونا منهيين على طريقة التخيير على هذا الوجه، هذا تحرير مذهب المعتزلة كما قالَ ابن السمعاني وغيره، وحينئذ فلا يصح إطلاق إلحاقها بالمخير، واستشكل القرافي القول بأن النهي يرد معَ التخيير بينَ أمرين فصاعداً، وفرق بينه وبين الأمر بواحد من أشياء، بأن الأمر هناك يتعلق بمفهوم أحدها الذي هو قدر مشترك بينها، لصدقه على كل واحد منها، ومتعلق التخيير الخصوصيات، ولا يلزم من إيجاب المشترك إيجاب (27 ب) الخصوصيات كما في إيجاب رقبة مطلقة في العتق، لا يلزم منه إيجاب رقبة معينة، وأما النهي فإنَّه يتعلق بمشترك حرمت أفراده كلها، ويلزم فيه من تحريم المشتركات تحريم الخصوصيات، ثمَّ أجاب عن الجمع بينَ الأختين ونحوها، بأن التحريم إنما يتعلق بالمجموع عيناً لا بالمشترك بينَ الأفراد، والمطلوب أن لا يدخل ماهيته في الوجود وهو المجموع، والماهية تنعدم بانعدام جزء منها، قالَ بعض الفضلاء: والظاهر أن هذا مرادهم بتحريم واحد من الأشياء لا ذاك الذي استشكله، وهو الكلي المشترك؛ لأنَّ من المحال عقلاً أن يفعل الإنسان فرداً من جنس أو نوع أو كلي مشترك من حَيْثُ الجملة، ولا يفع ذلك المشترك المنهي عنه، فإنَّ الكلي مندرج في الجزئي بالضرورة، لكن يشكل كل هذا إحالتهم الكلام في هذه على الكلام في الأمر بواحد من أشياء. ص: (وقيل: لم ترد به اللغة). ش: ذكر الْمُصَنِّف أن الماوردي حكاه في (شرح البرهان)، قلت: وقد سبقه إليه القاضي في (التقريب) فحكاه عن بعض المعتزلة، وأولوا قَوْلُه تَعَالَى: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} على جعل (أو) بمعنى الواو، وقالَ الإمام في (التلخيص) أنكر معظم المعتزلة النهي عن شيئين على التخيير، ثمَّ اختلفوا، فمنهم

من أنكره من جهة اللفظ واللغة، ومنهم من منعه من جهة العقل؛ لأنَّه إذا قبح أحدهما قبح الآخر، قالَ: فأما ما أنكروه من جهة اللغة فساقط لا طائل تحته، فإنا لم نخالفهم في لفظ بعينه فيفرض الكلام فيه، وإنما خالفناهم في تصور ورود النهي على معرض التخيير، فإنَّ استبعدوا ذلك في الألفاظ التي استشهدوا بها أوردنا عليهم من الصرائح ما لا يجدون إلى جحده سبيلاً، وأما المنكرون له عقلاً، فمبني على أن القبح يرجع إلى صفة ذاتية، وهو باطل. ص: (مسألة: فرض الكفاية مهم يقصد حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله). ش: أصل هذا التعريف للغزالي، فإنَّه قالَ: كل مهم ديني يقصد الشرع حصوله من غير نظر إلى فاعله، وقد حكاه الرافعي عنه في كتاب السير، وقالَ: أشار به إلى حقيقة فرض الكفاية، ومعناه أن فروض الكفايات أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية ودنيوية، لا ينتظم الأمر إلا بحصولها، يقصد الشارع تحصيلها، ولا يقصد تكليف الواحد وامتحانه بها، بخلاف فروض الأعيان، فإنَّ الكل مكلفون بها ممتحنون بتحصيلها، هذا كلام الرافعي وقد غيره الْمُصَنِّف بالزيادة والنقص فقوله: (مهم يقصد حصوله) جنس يشمل فرض العين والكفاية، وقوله: (من غير نظر إلى فاعله)، فصل، يخرج فرض العين، وحذف قَوْلُه ديني، فإنَّه ليس من شرط

فرض الكفاية أن يكون دينياً، فإنَّ الحرف والصناعات مهمات وليست دينية، وزاد قَوْلُه: (بالذات) لأنَّ تعريف الْغَزَالِيّ يقتضي أن فرض الكفاية، لا ينظر إلى فاعله ألبتة، وليس كذلك، ولهذا كانَ متعلق الثواب والعقاب، نعم ليس الفاعل منه مقصوداً بالذات، والمقصود بالذات وقوع الفعل، وإنما هو مقصود بالغرض؛ لأنَّه لا بد لكل فعل من فاعل. ص: (وزعمه الأستاذ وإمام الحرمين وأبوه أفضل من العين). ش: النقل عن الأستاذ أبي إسحاق والشيخ أبي مُحَمَّد (28 أ) ذكره ابن الصَّلاَحِ في فوائد رحلته، والنقل عن الإمام موجود في كتابه الغياثي، ونقله النَّوَوِيّ في (زوائد الروضة)، فقالَ: قالَ الإمام: الذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين؛ لأنَّ فاعله ساع في صيانة الأمة كلها عن المأثم، ولا شك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهمات الدين. انتهى، وقوله: (الذي

أراه) يوهم أنه من تفقهه، فلهذا صرح الْمُصَنِّف بالنقل عن غيره، بل نقله الشيخ أبو علي السنجي في أول (شرح التلخيص) عن المحققين، لكن لم يقل أحد منهم: إن فرض الكفاية أفضل من فرض العين ـ كما عبر به الْمُصَنِّف ـ بل قالُوا: القيام أو الاشتغال بالكفاية أفضل من القيام بفرض العين أو للقيام بفرض الكفاية مزية على القيام بفرض العين، وبين العبارتين تفاوت فليتأمل، وقد قالَ الشيخ عز الدين في أماليه: لا يقال فرض العين أفضل من فروض الكفاية، ولا المضيق أفضل من الموسع، لكون المعين معيناً والمضيق مضيقاً، بل التفضيل على حسب المصالح المتضمنة في الأفعال، فإنَّ جهلت المصالح، أمكن الاستدلال بالتضييق والتعيين على التفضيل، وكذلك نازع في هذا الإطلاق من المتأخرين العبد الصالح: عز الدين عمر النشائي، وقالَ: أمَّا جانب الترك فلا تمييز له على فرض العين، من حَيْثُ إن أثم

الجميع إنما كانَ لترك الجميع لا ترك بعضهم، فهو في جانب الترك كالمعين، وأما جانب الفعل، فليس المقصود من الواجب رفع الحرج، إنما المقصود الفعل معَ ما يترتب عليه من عبادة اللَّه تَعَالَى، ونيل ثوابه، ففي فعل المعين ذلك معَ رفع الحرج كما ذكره، وفرق بينَ هذا وبين سقوط يترتب عليه رفع الحرج فقط، فهذا معارض لما ذكره، والترجيح معنا؛ لأنَّ كل ما تأكد طلبه، كانَ إلى السقوط أبعد، وكل ما خف طلبه كانَ إلى السقوط أسرع، فقد ظهر أن لسقوط فرض الكفاية طريقين، ولفرض العين طريقاً واحداً، فهو آكد. ص: (وهو على البعض، وفاقاً للإمام، لا الكل، خلافاً للشيخ الإمام والجمهور). ش: اختلفوا في فرض الكفاية: هل يتعلق بالكل أو بالبعض؟ على قولين: أصحهما عندَ الجمهور: أنه بالكل، ونقله الآمدي عن الأصحاب، وسبق جزم الرافعي به ووجهه تأثيم الجميع عندَ الترك، والإثم فرع الوجوب، وإنما سقط بفعل البعض؛ لأنَّ المقصود به تحصيل تلك المصالح، كإنقاذ الغريق، وتجهيز الميت ونحوه، فلا تتكرر المصلحة بتكرره بخلاف فرض العين، فإنَّ القصد منه تعبد جميع المكلفين فلا يسقط بفعل البعض، لبقاء المصلحة المشروعة لها، وهو تعبد كل فرد. والثاني: أنه بالبعض ونقله الْمُصَنِّف عن اختيار الإمام فخر الدين، وكلام

(المحصول) مضطرب في ذلك، واحتج الْمُصَنِّف على اختياره بقوله تَعَالَى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} وقوله تَعَالَى: {فولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} وأما تأثيم الكل بالترك، فذاك مشروط بألا يظن قيام البعض به، وتعلقه بالجميع يوجب إشكالاً، وهو سقوط الواجب عن شخص لا ارتباط بينه وبين الآخر بفعل الآخر، وهذا لا يعقل، وفي استدلاله بالآيتين نظر، وقد قالَ القرافي: الوجوب متعلق بالمشترك لأنَّ المطلوب فعل أحد الطوائف (28 ب) ومفهوم أحد الطوائف قدر مشترك بينهما، لصدقه على كل طائفة كصدق الحيوان على جميع أنواعه، واستدل بالآيتين.

ص: (والمختار: البعض مبهم، وقيل: معين عندَ اللَّه، وقيل: من قام به). ش: إذا قلنا: إنه على البعض، فهل هو مبهم أو معين؟ قولان، والأول منقول عن المعتزلة، وهو مقتضى كلام (المحصول) وإذا قلنا بأنه معين، فهل هو معين عندَ اللَّه دون الناس، أو من قام به؟ قولان، ويجتمع من ذلك أقوال كما صرح به الْمُصَنِّف، وهذا نظير الخلاف في الواجب المخير. ص: (ويتعين بالشرع على الأصح) ش: هذه من مسائل الفقه، ولم يتعرض لها الأصوليون وما قاله من الترجيح ذكره ابن الرفعة في (المطلب) في باب الوديعة، ولم يرجح الرافعي والنَّوَوِيّ في هذه القاعدة شيئاًَ بخصوصه، وهي عندَهما من القواعد التي لا يطلق فيها ترجيح، لاختلاف الترجيح في فروعها كما في الإبراء: هل هو إسقاط أو تمليك؟ ونظائره، وقالَ القاضي البارزي في (التمييز) ولا يلزم فرض الكفاية بالشروع في الأصح

إلا في الجهاد وصلاة الجنازة، وقد حررت هذا الموضع في كتاب السير من (خادم الرافعي والروضة). ص: (وسنة الكفاية كفرضها). ش: هذا يقتضي ثلاثة أمور: أحدها: انقسام السنة إلى كفاية وعين، والفرق بينَهما أن سنة الكفاية أن يكون القصد الفعل من غير نظر إلى الفاعل كتشميت العاطس وابتداء السلام والأضحية في حق أهل البيت الواحد، والعجب من قول القاضي حسين في باب الجمعة من تعليقه، والشاشي: إنه ليس لنا سنة كفاية غير ابتداء السلام، وسنة العين أن يقصد الفاعل كسنن الوضوء، والصلاة وغيرها. وثانيها: طرد الخلاف السابق هنا، بمعنى أنها مطلوبة من الجميع أو من البعض، ولم أر من تعرض لذلك، وثالثها: أنها أفضل من سنة العين.

ص: (مسألة: الأكثر أن جميع وقت الظهر جوازاً ونحوه وقت لأدائه، ولا يجب على المؤخر العزم على الامتثال خلافاً لقوم). ش: اختلفوا في الواجب الموسع، وهو أن يكون وقته زائداً على فعله، والجمهور على أن جميع الوقت وقت لأدائه، بمعنى: أي جزء أوقعه فيه وقع عن الواجب، ولا يقيد الوجوب بأول ولا بآخر، وهو معنى قول أصحابنا: إن الفعل يجب بأول الوقت وجوباً موسعاً، وله تأخره عن أوله، ولا ينافيه قولهم: إنه لو مات أو جن أو حاضت قبل أن يمضي من وقت الصلاة ما يمكن فعلها فيه، فإنا نتبين أن الصلاة لم تجب، كما قاله القاضي أبو الطيب وغيره، فإنَّ المقصود بالمذكور هنا الوجوب ظاهراً، واحترز بقوله: جوازاً عن وقت الضرورة، فإنَّه أوسع من ذلك، وهذا قيد زاده على المصنفين لا بد منه، وأراد بنحوه: غيرها من الواجبات الموسع وقتها، وأشار بقوله: (ولا يجب) إلى أنه على هذا القول هل يجب العزم على الفعل قبل خروج الوقت، أو يكفي عدم العزم على عدم الفعل؟ وفيه وجهان حكاهما الماوردي في (الحاوي)، وقالَ النَّوَوِيّ في (شرح المهذب): وأصحهما الوجوب، وبه جزم في (المستصفى) وخالف الْمُصَنِّف، وقالَ: لا يعرف القول بوجوب

العزم إلا عن القاضي ومن تابعه كالآمدي، وبالغ في تشنيع هذا القول على (29 أ) قائله، قالَ: وهو معدود من هفوات القاضي ومن العظائم في الدين، فإنَّه إيجاب بلا دليل، وكأنه أعمد قول الإمام في (البرهان) القائلون بذلك لا أراهم يوجبون تجديد العزم في الجزء الثانِي، بل يحكمون بأن العزم الأول ينسحب على جميع الأزمنة، كانسحاب النية على العبادة الطويلة معَ عزوبها قالَ الْمُصَنِّف في (شرح المختصر) الفعل في أول الوقت إن لم يكن واجباً فلا حاجة إلى البدل، وإن كانَ تمام الواجب، فيتأدى ببدله، وإلا يلزم أن يكون واجبان، ولا دليل عليه، وقد ألم القاضي في كتاب (التقريب) بهذا البرهان القاطع، ثمَّ حام على إفساده فقالَ: قول خصومي: إنه لا دليل على العزم ـ ممنوع، بل دليله أنه إذا ثبت جواز الترك معَ الحكم عليه بأنه واجب، فلا بد أن يكون تركه على خلاف الفعل ليتميز عنه، فيتعين القول بوجوب العزم لذلك، وضعفه الْمُصَنِّف، وقالَ: يكفي في تميزه عن الفعل، أن إخراج الوقت عنه يؤثم من غير احتياج إلى ما ذكر، قالَ: وأقوال الشافعي لا تؤخذ من الفروع، وهذه نصوص الشافعي ومتقدمي أصحابه موجودة، ليس فيها هذه المقالة، قالَ: وإنما موضع النظر أن من نوى الترك هل يعصى بالنية؟ وفيه تفصيل، وهو أنه إن اقترن بهذه النية عدم الفعل عصى بهما جميعاً، لحديث: ((ما لم تتكلم)) وإلا ففي معصيته بالنية التي كذبها الفعل نظر واحتمال، وحديث: ((الفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) يدل على عدم المعصية، لكن القاضي حكى الإجماع على أن العزم

يؤخذ به، وكأن العزم قدر زائد على النية، انتهى، وقطع الشيخ في (اللمع) بوجوب العزم على الامتثال على الفور وقالَ ابن برهان في (الوجيز) العزم تابع للفعل، فإنَّ كانَ المعزوم عليه على الفور، كانَ العزم على الفور، وإن كانَ على التراخي فعلى التراخي. ص: (وقيل: الأول، فإنَّ أخر فقضاء، وقيل: الآخر، فإنَّ قدم فتعجيل، والحنفية: ما اتصل به الأداء من الوقت وإلا فالآخر، والكرخي: إن قدم وقع واجباً بشرط بقائه مكلفاً). ش: المنكرون للواجب الموسع اختلفوا على مذاهب: أحدها: أن الوجوب يتعلق بأول الوقت فإنَّ أخره عنه فقضاء، وعزاه البيضاوي لبعض الشافعية، وهو لا يعرف عنهم، لكن الشافعي في (الأم) حكاه عن بعض المتكلمين، ووجهه: أن الوجوب معَ جواز التأخير متنافيان، والأصل ترتب المسبب على سببه، فيكون الوجوب الذي هو مسبب، أول الوقت، وما بعده قضاء، يسد مسد الأداء. والثاني: أنه متعلق بآخره، فإنَّ قدمه فتعجيل، وعزي للحنفية. والثالث: أنه

متعلق بالجزء الذي يتصل به الأداء وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا ينفصل عنه، وادعى الصفي الهندي أنه المشهور عن الحنفية، وتابعه الْمُصَنِّف، لكن المشهور عنهم قول الجمهور، كما ثبت في كتاب (الوصول إلى ثمار الأصول). والرابع: أن المكلف إذا أتى به أول الوقت فهو موقوف، فإنَّ بقي بصفة التكليف إلى آخر الوقت كانَ ما فعله واجباً وإلا فنفل، وعزى للكرخي، وإنما قاله مراراً مما ورد على أصحابه من تعلقه بآخر الوقت من إجزاء النفل عن الفرض، فاختار هذه الطريقة وهي ضعيفة؛ لأنَّ كون الفعل حالة الإيقاع لا يوصف بكونه فرضاً ولا نفلاً خلاف

القواعد، وحكي عنه أَيْضاًً أن الواجب يتعين بالفعل في أي وقت كان. ص: (ومن أخر معَ ظن (29 ب) الموت، عصى فإنَّ عاش وفعله، فالجمهور: أداء، وقالَ القاضيان أبو بكر والحسين: قضاء). ش: ما سبق فيما إذا كانَ يغلب على ظنه السلامة إلى آخر الوقت، فإنَّ كانَ يتوقع الهلاك، ويغلب على ظنه عدم البقاء ـ فإنَّ الوقت يتضيق عليه بالظن، فإنَّ أخر عصى بالاتفاق لجراءته على التأخير، فلو عاش وفعله في الوقت، فذهب الْغَزَالِيّ وجماعة إلى أنه أداء، إذ لا عبرة بالظن الذي يتبين خطؤه، وبه يعرف أن التضييق ليس مؤثراً في نفس الأمر، وذهب القاضي أبو بكر والقاضي حسين إلى أنه قضاء، نظراً إلى الظاهر، فإنَّه حكم بالتضييق أولاً فيكون الوقت قد خرج، والصحيح الأول، فإنَّ النظر في الأداء والقضاء إلى أمر الشارع لا إلى غيره، وينبغي أن يكون

موضع خلاف القاضي إذا مضى من وقت الظن إلى حين الفعل زمن يسع الفرض، حتى يتجه القول بالقضاء، أمَّا إذا لم يمض ذلك وبقي منه بقية فشرع فيها، فليكن على الخلاف إذا وقع بعض الصلاة في الوقت وبعضها خارجه، والصحيح إن وقع ركعة في الوقت فالجميع أداء وإلا فقضاء، ثمَّ في كلام الْمُصَنِّف أمور: أحدها: تصوير المسألة ذكره غيره، وإنما هو مثال وليس بقيد كما يقتضيه تعليلهم، بل الضابط ظن الإخراج عن وقته بأي سبب كان، يمنع من الوجوب كالحيض والإغماء والجنون، ولهذا قالَ إمام الحرمين في (النهاية) في الكلام على مبادرة الاستحاضة: لو كانت معتادة طروء الحيض عليها في أثناء الوقت من يوم معين، فإنَّ الوقت يتضيق عليها الثانِي: ما عزاه للجمهور يقتضي أنه الراجح، لكن ذكر الرافعي فيما إذا صلى بالاجتهاد، ثمَّ بان أنه بعد الوقت، فهل يكون قضاء أو أداء؟ وجهان أصحهما: قضاء، نظراً لما في نفس الأمر؛ لأنَّه المكلف به، ويفرق بينَهما بأن هذا خارج الوقت في نفس الأمر، ومسألتنا في الوقت في نفس الأمر وخارجة في ظنه. الثالث: ما نقله عن القاضي أبي بكر هو كذلك في كتاب (التقريبئ) وأما القاضي حسين، فلا يعرف عنه التصريح بذلك، والظاهر أن الْمُصَنِّف أخذه بالاستلزام من قَوْلُه: فيما إذا شرع في الصلاة ثمَّ أفسدها ثمَّ صلاها في وقتها، كانت قضاء؛ لأنَّه بالشروع يضيق الوقت بدليل أنه لا يَجُوز الخروج عنها، فلم يبق لها وقت شروع، فإذا أفسدها فقد فات وقت الشروع، فلم يكن فعلها بعد ذلك إلا قضاء وفيه نظر؛ لأنَّ مأخذهما مختلف، فمأخذ القاضي أبو بكر في أنها قضاء لاعتقاده أن الوقت قد خرج، كما سبق في تعريف القضاء، وأما القاضي حسين، فإنَّه معَ القول بأنها قضاء يقول: إن الوقت باق، وبهذا صرح في باب صفة الصلاة من تعليقه،

فقالَ: قد يكون الظهر ظهراً في الوقت، ولا يكون أداء بأن يشرع فيها ثمَّ يفسدها، والوقت باق، فيلزمه أن يصليها في الوقت ثانياً بنية القضاء، ثمَّ قالَ بعدها بنحو ورقة: مقتضى قول أصحابنا أنه ينوي القضاء؛ لأنَّه يقضي ما التزمه في الذمة؛ لأنَّ الشروع يلزم الغرض في الذمة، بدليل أن المسافر لو نوى إتمام الصلاة، وشرع فيها ثمَّ أفسدها، لا يقضيها مقصورة، بل تامة؛ لأنَّه التزم الإتمام، قالَ: وعلى قول القفال يتخير بينَ نية القضاء والأداء، وكذا لما ذكر المتولي في (التتمة) المسألة صرح بأنها قضاء، وإن فعلت في الوقت، ولا شك في خروجه عن قاعدة الأصول، وليقيد كلام القاضي بما إذا فعلها ثانياً بعد مضي جميع وقت فعلها لأنَّ يتحقق الفوات كما سبق (30 أ) وقد خالفهم الشيخ أبو إسحاق فجزم في (اللمع) بأنها أداء، والتحقيق خلاف ذلك، وأنها إعادة لا قضاء ولا أداء. ص: (ومن أخر معَ ظن السلامة، فالصحيح لا يعصي، بخلاف ما وقته العمر كالحج). ش: الموسع قد يكون وقته محدوداً كالصلاة، وقد يكون مدة العمر كالحج، وقضاء الفائتة بعذر، فأما الأول فيعصي فيه بطريقين: لخروج وقته، وبتأخيره عن وقت يظن فوته بعده كما سبق، فإنَّ غلب على ظنه السلامة فمات قبل الفعل، فقيل يعصي، وإلا لم يتحقق الوجوب، والصحيح: لا يعصي؛ لأنَّه مأذون له في التأخير، وهذا فيما إذا كانَ الطارئ يرفع الوجوب كالموت، فإنَّ كانَ لا يرفعه كالنوم والنسيان، فقال ابن الصَّلاَحِ (في الفتاوى): إذا نام في أثناء الوقت إلى أن

خرج، فينبغي أن يعصي قطعاً، قالَ: فإنَّ غلبه النوم فكالموت، وأما الموسع بالعمر، فيعصي فيه بالموت على الصحيح، سواء غلب على ظنه قبل ذلك البقاء أم لا؛ لأنَّ التأخير له مشروط بسلامة العاقبة، وهو في غاية الإشكال؛ لأنَّ العاقبة عندَه مستورة. والثاني: لا يموت عاصياً، ولكنه ينسب إلى التفريط، كما ينسب تارك الصلاة عن أول وقتها حتى مات، وهو أشكل من الأول، للزوم انتفاء ثمرته، وقد أطلق الماوردي وغيره حكايته هكذا، والصواب تقييده بما إذا كانَ عازماً على الفعل ثمَّ اخترمته المنية، وكذا حكى ابن الصباغ في (الشامل) فمن لم يعزم عصى قطعاً، وليس من موضع الخلاف، وبه يرتفع الإشكال السابق، وجعل ابن الرفعة التقييد وجهاً غير وجه الإطلاق، وحكاها أربعة أوجه، وليس بجيد، لكن يمكن توجيهه بأنه مفرع على أنه لا يجب العزم في الواجب الموسع كما سبق. والثالث: يفرق بينَ الشيخ فيعصي، والشاب فلا، واختاره الْغَزَالِيّ، وعلى هذا فلم يتعرضوا

لضابطه، وحكى الحوزي عن الأصحاب: تقدير التأخير المستنكر ببلوغه نحو من خمسين سنة أو ستين؛ لأنَّ العمر في الأغلب من الناس ستون، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أعمار أمتي ما بينَ الستين إلى السبعين)) وهو غريب. ص: (مسألة: المقدور الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب وفاقاً للأكثر. وثالثها إن كانَ سبباً كالنار للإحراق، وقالَ إمام الحرمين: إن كانَ شرطاً شرعياً لا عقلياً أو عادياً). ش: حاصله أنه يشترط لوجوب المقدمة شرطان أحدهما: أن يكون مقدوراً للمكلف؛ لأنَّ غير المقدور لا يتحقق معه وجوب الفعل، وهذا الشرط يعتبره من لا يَجُوز تكليف، ما لا يطاق دون مجوزه، كذا قاله الصفي الهندي، وحينئذ فالمصنف ممن يَجُوزه كما سيأتي، فكيف يحسن منه هذا التقييد؟. الثاني: أن يكون مطلقاً ليحترز عن الواجب المقيد بحالة حصول التوقف عليه، كقوله: إن ملكت النصاب

فزكه، فلا يقتضي إيجاب ملك النصاب اتفاقاً، وكذا: حج إن استطعت، وفي هذا القيد أَيْضاًً نظر؛ لأنَّه لا يتم الوجوب إلا به، وكلامه فيما لا يتم الواجب إلا به، وبينهما فرق، ولهذا لما عبر ابْن الْحَاجِبِ بالواجب، لم يذكر المطلق، ولما عبر في (المنهاج) بالوجوب ذكره، وقالَ في (المحصول): النظر الثانِي في أحكام الوجوب، ثمَّ ذكر الشرطين، والمراد بالمطلق أي: غير مشروط بذلك الشيء، ولكن وقوع ذلك الشيء شرطاً، كما إذا قالَ له: صل، وعلمنا أنه يتعذر إيقاع الصلاة دون الطهارة (30 ب) فهذا هو موضوع المسألة. وقوله: لا يتم الواجب إلا به، يشمل ثلاثة أشياء: الجزء، والسبب، والشرط، لكن الجزء ليس مراداً هنا؛ لأنَّ الأمر بالكل أمر به تضمناً، ولا تردد في ذلك وإنما المتردد في السبب والشرط، ـ وحاصله أن الأمر بالشيء، هل يستلزم الأمر بسببه أو شرطه أو لا؟ ولذلك عبروا عنه بالمقدمة، والأكثرون على الوجوب فيهما. والثاني: المنع فيهما، وسواء كانَ

الشرط شرعياً كالوضوء للصلاة، أو عقلياً كترك ضد الواجب، أو عادياً كغسل جزء من الرأس بغسل الوجه. والثالث: يوجب السبب دون الشرط، ويعزى للشريف المرتضي، والمراد بالسبب العلة كما إذا أمر بإحراق زيد، فإنَّ ذلك الواجب يتوقف على النار الذي هو سبب الإحراق. والرابع: يوجب الشرط الشرعي كالوضوء، دون العقلي والعادي، إذا كانَ يتأتى الفعل به عقلاً أو عادة، لكن الشرع جعله شرطاً للفعل، وهو قول إمام الحرمين، واختاره ابْن الْحَاجِبِ، وكلامه يقتضي أن مراده بالشرط الذي أوجبه، الشرط والسبب جميعاً، لاشتراكهما في كل منهما، يلزم من عدمه العدم، ولهذا لم يذكر في صدر كلامه السبب، واقتضى كلام إمام الحرمين: أنه لم يحترز بالشرط الشرعي عن العقلي الذي يتوقف عليه وجود الفعل عقلاً، وإنما احترز عن لازمه أي: الذي يلزم وجوده عقلاً أو عادة، ولا يسميه شرطاً؛ لأنَّ الشرط خارج، وهذا داخل مسماه، ولذلك قالَ في (التلخيص) وقد أورد غسل شيء من الرأس لغسل الوجه: إنه يلزم من جعله شرطاً متضمناً للأمر بغسل الوجه، كما أن الوضوء للصلاة، قلنا هذا لأنَّه نصه، بل نقول: ما لا يتم

نفسه، هذا كلامه، واللازم غير الشرط، فإنَّه لزم من عدمه عدم المشروط؛ لأنَّا إنما نعني بالشرط هنا: ما يتوقف عليه وجود المشروط، وحينئذ ففي تصريح الْمُصَنِّف بنفي العقلي نظر. ص: (فلو تعذر ترك المحرم إلا بترك غيره وجب). ش: إذا لم يمكن الكف عن المحرم إلا بالكف عما ليس بمحرم، كما إذا اختلط النجس بالماء الطاهر القليل، فيجب الكف عن استعماله، كما قاله جمع من الأصحاب منهم ابن السمعاني في (القواطع) وظاهر كلامه: أنه لا يأتي فيه الخلاف السابق، وإنما حكى الخلاف في كيفية التحريم، قالَ: فمنهم من قالَ: يصير كله نجساً، وهو اللائق بمذهبنا، وقيل: إنما حرم الكل لتعذر الإقدام على تناول

المباح، لاختلاط المحرم به، قالَ: وهو اللائق بمذهب الحنفية. ص: (فلو اختلطت منكوحة بأجنبية حرمتا). ش: أي: لوجوب الكف عنهما، أمَّا الأجنبية فبالأصالة، والمنكوحة لاشتباهها بالأجنبية، فالكف عنهما هو طريق حصول العلم بالكف عن الأجنبية وحكى في (المحصول) عن قوم: إن الحرام هي الأجنبية، والمنكوحة حلال، وزيفه بأن المراد بالحل رفع الحرج، والجمع بينه وبين التحريم متناقض، وقوله: (الأجنبية) مثال، فالأجنبيتان كذلك، قالَ النَّوَوِيّ في (شرح المهذب): وليس له وطء واحدة منهن بالاجتهاد، بلا خلاف؛ لأنَّه إنما يستباح بالعقد لا بالتحري. ص: (أو طلق معينة ثمَّ نسيها). ش: أي فيحرم عليه الجميع حتى يتذكر، إذ لا يمكن الكف عنها إلا بذلك، هذا هو المعروف، ويلتحق به ما لو قالَ لزوجتيه: إحداكما كما طالق. وذكر الإمام في (المحصول) احتمالاً أنه يحل وطؤهما وأيده (31 أ) الْمُصَنِّف في (شرح المنهاج) بما نقله ابن الرفعة عن كتاب الوزير ابن هبيرة أنه حكى عن ابن أبي هُرَيْرَةَ من

أصحابنا، أنه إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها ثمَّ نسيها، طلاقاً رجعياً، أنه لا يحال بينه وبين وطئهن، وله وطء أيتهن شاء، وإذا وطئ واحدة انصرف الطلاق إلى صاحبتيها، ولا حاجة لنقله عن ابن هبيرة، ففي الرافعي في باب الشك في الطلاق عن صاحب (الشامل) وغيره: أنا إذا قلنا: الوطء تعيين كما هو المرجح للزوج وطء أيتهما شاء وإنما يمتنع من الوطء إذا لم يجعله تعييناً. تنبيه: أهمل الْمُصَنِّف مسألة (المنهاج) إحداكما طالق حرمتا، إما أنه رأى دخولها في التي قبلها، أعني: اختلاط المنكوحة بالأجنبية، ولا فارق بينهما، إلا أن إحدى المرأتين في ذلك ـ وهي الأجنبية ـ محرمة في نفس الأمر، وكل واحدة منهما في إحداكما على حد سواء، أو رأى أنها أولى بالتحريم من صورة تطليق المعينة، ثمَّ نسيانها التي ذكرها، لكن هناك الطلاق موقوف، وهنا اتصل بمحل ثمَّ التبس. ص: (مسألة: مطلق الأمر لا يتناول المكروه، خلافاً للحنفية، فلا

تصح الصلاة في الأوقات المكروهة وإن كانت كراهة تنزيهئ، وهو الصحيح). ش: هذه المسألة أصل الصلاة في الدار المغصوبة التي اقتصر المصنفون على ذكرها وأهملوا أصلها، وكان العكس أجدر، ووجه كونه لا يتناول المكروه أنه مطلوب الترك، والمأمور مطلوب الفعل، فيتناقضان، والخلاف على هذه الحالة حكاه ابن السمعاني في (القواطع) وهو عمدة في الحكاية عن الحنفية، لكونه كانَ حنفياً ثمَّ تشفع، فقالَ: الفعل بوصف الكراهة لا يتناوله الأمر المطلق، وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يتناوله، والخلاف يظهر فائدته في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} فعندنا لا يتناول الطواف بغير طهارة ولا الطواف منكوساً، وعلى مذهبهم يتناوله، فإنَّهم وإن اعتقدوا كراهية هذا الطواف، ذهبوا إلى أنه

دخل في الأمر، حتى يتصل به الإجزاء الشرعي، وعندنا لا يدخل ولا جواز لمثل ذلك في الطواف، قالَ: وهذا المثال على أصلهم يتصور، فأما عندَنا فإنا لا نقول: إن ذلك طواف مكروه، بل لا طواف أصلاً، لقيام الدليل على أن الطهارة شرط فيه كالصلاة، على أن الطواف على هيئة مخصوصة، لا توجد إذا طاف منكوساً قالَ: وحجتنا أن الأمر يفيد الوجوب حقيقة، والندب والإباحة مجازاً، فما ليس بواجب ولا مندوب ولا مباح لا يتصور أن يتناوله الأمر، وأشار الْمُصَنِّف بقوله: (فلا تصح): إلى أن من فروعها أَيْضاًً الخلاف في صحة الصلاة في الأوقات المكروهة، وما صرح به من تصحيح البطلان، وإن قلنا: إنها كراهة تنزيه هو كذلك، فإنا وإن قلنا إنها كراهة تنزيهية على وجه قطع الثديجي، فإنَّ الصلاة تبطل على المرجح المفرع على الوجهين جميعاً، ولهذا قالَ في (الروضة) في الكلام على الماء المشمس، إنه كراهة تنزيه لا يمنع من صحة الطهارة، وقالَ في دقاقها: احترزت بهذا القيد عما يكره تنزيها ويمنع من الصحة، كالصلاة في الوقت المكروه، لكن قد استشكل ذلك، إذ كيف يقال: إن العبادة لا تنعقد، ومع ذلك فعلها جائز، معَ أن الإقدام على العبادة التي لا تنعقد حرام بالاتفاق، لكونه تلاعباً (31 ب) وقالَ الشيخ نجم الدين في (المطلب): الحق عندَي أن الصلاة في الوقت المكروه لا تنعقد، وإن كانت غير محرمة؛ لأنَّ كلامنا في صلاة نفل لا سبب لها، والمقصود منها إنما هو طلب الأجر، وتحريمها أو كراهيتها يمنع حصوله، وما لا يترتب عليه مقصوده باطل، كما تقرر من قواعد الشريعة، وقد يرد على إطلاق الْمُصَنِّف الصوم المكروه، كتخصيص يوم الجمعة، فإنَّه منهي عنه نهي تنزيه، وظاهر كلامهم أنه ينعقد إلا أن يدعى أنه لأمر خارج، ولك أن تبحث عن قول الْمُصَنِّف: (مطلق الأمر) وعدوله عن عبارة ابن السمعاني: (الأمر المطلق).

ص: (أما الواحد بالشخص له جهتان كالصلاة في المغصوب، فالجمهور: تصح ولا يثاب، وقيل: يثاب، والقاضي والإمام: لا تصح، ويسقط الطلب عندَها: وأحمد: لا صحة ولا سقوط). ش: الواحد بالشخص إن لم يكن له إلا جهة واحدة، فلا خلاف في امتناع كونه مأموراً به منهياً عنه، إلا إن جوزنا تكليف ما لا يطاق؛ لأنَّ المأمور به يمتنع تركه بمقتضى الأمر، ومقتضى النهي: المنع من فعله، والجمع بينَهما جمع بينَ المتنافين، وإن كانَ له جهتان فهل يَجُوز أن يؤمر به من وجه وينهى عنه من وجه؟ كالصلاة في المغصوب؟ فقال الجمهور: يصح؛ لأنَّ تعدد الجهات موجب للتغاير لتعدد الصور،

وجعلوا اختلاف الجهتين كاختلاف المحلين؛ لأنَّ كل واحدة من الجهتين منفكة عن الأخرى، واجتماعهما إنما وقع باختيار المكلف، فليسا بالمتلازمين، فلا تناقض، وذهب طائفة إلى أنه لا يصح، ثمَّ افترقوا فرقتين: ففرقة قالت: لا يسقط بها الفرض. وهو منقول عن أحمد وفرقة ذهبت إلى السقوط، ونقله المصنف

عن القاضي أبي بكر والإمام الرَّازِيّ، وفي كل منهما نظر، وعبارة المحصول في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة: وإن لم تكن مأموراً بها، إلا أن الفرض يسقط عندَها لا بها؛ لأنَّا بينا بالدليل امتناع ورود الأمر بها، والسلف أجمعوا على أن الظلمة لا يؤمرون، بقضاء الصلاة المؤداة في الدور المغصوبة، ولا طريق إلى التوفيق بينَهما إلا بما ذكرناه، وهو مذهب القاضي أبي بكر، انتهى. وقالَ الصفي الهندي: الصحيح أن القاضي إنما يقول بذلك لو ثبت القول بصحة الإجماع على سقوط القضاء، فأما إذا لم يثبت ذلك فلا نقول بسقوط القضاء بها وعندها، انتهى. ولا إجماع معَ خلاف أحمد وطائفة، وممن منع الإجماع: إمام الحرمين وابن السمعاني وغيرهما. وقد حكى القاضي حسين في تعليقته في باب صلاة المسافر وجهين لأصحابنا: أحدهما لا تصح للمعصية. والثاني تصح لأنَّ المعصية ليست في عين الصلاة، بل للمقام في أرض الغير، انتهى. وأما قول المصنف: (ولا يثاب)، فهذه من مسائل الفقه، نقلها النَّوَوِيّ في (شرح المهذب) عن القاضي أبي منصور ابن أخي ابن الصباغ فقال في فتاواه التي جمعها عن عمه: المحفوظ من كلام أصحابنا بالعراق أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة ولا ثواب فيها، قالَ القاضي أبو منصور، رأيت أصحابنا بخراسان اختلفوا فمنهم من أبطل صلاته قالَ: وذكر شيخنا ـ يعني ابن الصباغ ـ في كتابه (الشامل) أنه ينبغي حصول الثواب عندَ من

صَحَّحَهُا، قالَ القاضي: وهو القياس، انتهى، فقول المصنف: (وقيل: يثاب)، هو احتمال ابن الصباغ (32 أ). ص: (والخارج من المغصوب تائباً آت بواجب، وقالَ أبو هاشم: لا، آت إلى محرم، وقالَ إمام الحرمين: هو مرتبك في المعصية معَ انقطاع تكليف النهي عنه، وهو دقيق). ش: (تائباً) منصوب على الحال، وقوله: (آت بواجب) خبر قوله: (والخارج) أي: لا تحريم فيه، وإن وجد منه اعتباران: الشغل والتفريغ؛ لأنَّه لا يمكن إلا بالشغل، وقالَ أبو هاشم: خروجه كلبثه؛ لأنَّه يتصرف في ملك الغير بغير إذنه، وذلك قبيح لعينه، (فهو منهي عنه بهذا الاعتبار، ومأمور به؛ لأنَّه

انفصال عن المكث، وبناه على الفاسد في الحسن والقبح، ولكنه أخل بأصله الآخر، وهو منع التكليف بالمحال، فإنَّه قالَ: لو خرج عصى، ولو مكث عصى، فحرم عليه الشيء وضده جميعاً، وقالَ إمام الحرمين: هو مأمور بالخروج، وإنما يعصي بما تورط به من العدوان السابق، وقالَ: وهو مرتبك في المعصية لحكم الاستصحاب معَ انقطاع تكليف النهي، واستبعده ابن الحاجب وضعفه الغزالي لاعترافه بانتفاء النهي، فالمعصية إلى ماذا تستند؟ قلت: وهو نظير قول الفقهاء فيمن ارتد ثمَّ جن ثمَّ أفاق وأسلم: إنه يجب قضاء صلوات أيام الجنون لاستصحاب حكم معصية الردة عليه، والمرتبك هو المشتبك الذي لا يمكنه أن يخلص. ص: (والساقط على جريج يقتله إن استمر، وكفؤه، إن لم يستمر وقيل: يتخير، وقالَ إمام الحرمين: لا حكم فيه، وتوقف الغزالي). ش: إنما ذكر هذه عقيب ما سبق؛ لأنَّ إمام الحرمين قالَ: إن غرضه يظهر بمسألة ألقاها أبو هاشم، فحارت فيها عقول الفقهاء وهي أن من توسط جمعاً من الجرحى وجثم على صدر واحد منهم، وعلم أنه لو بقي لأهلكه، ولو انتقل لهلك آخر، قالَ: لم أحصل فيها من قول الفقهاء على ثبت، والوجه القطع بسقوط التكليف عنه معَ استمرار حكم سخط الله تعالى وغضبه، وقد سأله الغزالي عن هذا، فقالَ: كيف تقول: لا حكم، وأنت ترى أن لا تخلو واقعة عن حكم؟ فقالَ:

حكم الله أن لا حكم، قالَ الغزالي: فقلت له: لا أفهم هذا، قالَ الأبياري: وهذا أدب حسن، وتعظيم للمشايخ؛ لأنَّ هذا تناقض، وإذ لا حكم: نفي عام، فكيف يتصور ثبوت الحكم معَ نفيه على العموم؟ فهذا لا يفهم، لا لعجز السامع عن الفهم، بل لكونه غير مفهوم في نفسه، انتهى، وللإمام أن يقول: لا حكم: بمعنى انتفاء الأحكام الخمسة، والبراءة الأصلية حكم الله، ولا تخلو واقعة عن حكم بهذا الاعتبار، ومثله قول النحاة: ترك العلامة علامة، فكذلك نفي الحكم حكم بهذا الاعتبار، ويشهد له ما بينا، ذكره الشيخ عز الدين، وقالَ في (المنخول) المختار أن لا حكم لله فيه، فلا نؤمر بمكث ولا انتقال، وقالَ في آخر الكتاب: حكم الله فيه أن لا حكم، هذا ما قاله الإمام ولم أفهمه بعد، انتهى. وذكر في هذا الكتاب احتمالين: أحدهما: أنه يمكث، فإنَّ الانتقال فعل مستأنف. الثاني: يتخير، وكلام المصنف يوهم أن هذين القولين لغيره،

وفرض الشيخ عز الدين في قواعده المسألة: الساقط على أطفال، وقالَ: قيل: ليس في هذه المسألة حكم شرعي وهي باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها، ولم نر الشريعة (32 ب) تخير بينَ هاتين المفسدتين، قالَ: فلو كانَ بعضهم مُسْلِماً، وبعضهم كافراً، فهل يلزمه الانتقال إلى الكافر؛ لأنَّ قتله أخف مفسدة؟ الأظهر عندَي لزومه؛ لأنَّا نجوز قتل أولاد الكفار عندَ التترس بهم، حيث لا يَجُوز مثل ذلك في أطفال المسلمين. انتهى ولا يخفى أن هذا التردد في الطفل الكافر المعصوم دمه، فإنَّ كانَ حربياً، فلا شك في لزوم الانتقال إليه، ويحتمل ـ على بعد ـ طرده فيه. ص: (مسألة: يَجُوز التكليف بالمحال مطلقاً ومنع أكثر المعتزلة والشيخ أبو حامد، والغزالي، وابن دَقِيقِ العِيدِ ما ليس ممتنعاً، لتعلق العلم بعدم وقوعه، ومعتزلة بغداد والآمدي: المحال لذاته، وإمام الحرمين: كونه مطلوباً لا ورود صيغة الطلب). ش: القول بالجواز هو مذهب جماهير الأصحاب. وقوله: (مطلقاً)، أي: سواء امتنع لذاته، وهو ما يلزم من تصوره المحال كالجمع بينَ الضدين، كالتكليف بالفعل معَ استمرار المانع، واحتج الشيخ الأشعري في كتاب الوجيز على القائلين باستحالته بقوله تعالى: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فقالَ: لو كانَ ذلك محالاً لما استقام الابتهال إلى اللهِ بدفعه. والثاني: امتناعه مطلقاً، وبه قالَ أكثر

المعتزلة، وساعدهم كثير من أئمتنا، كما قاله ابن القشيري في المرشد، لكن مأخذهم يختلف، فمأخذ المعتزلة في المنع التفريع على أصلهم في القبح العقلي؛ لأنَّه يقبح في العقلي، وعندنا لا يقبح من اللهِ تعالى شيء، وإنما مأخذ المنع أن الفعل والترك لا يصحان من العاجز فبطل تقدير الوجوب، ونقله المصنف عن الشيخ أبي حامد الإسفراييني والغزالي، وهو فيه تابع للصفي الهندي، لكن سيأتي عن الغزالي التفصيل، وكلامه في (المستصفى) يصرح به، وزاد المصنف عن ابن دَقِيقِ العِيدِ، قالَ في شرح المنهاج: إنه صرح به في شرح العنوان، لكن عبارة شرح العنوان: المختار عندَنا عدم جواز التكليف بالمحال، ثمَّ قالَ: والذي نمنعه المحال لنفسه لا المحال لغيره، فكأن المصنف نظر صدر الكلام دون آخره، وحينئذ فهنا قول الآمدي الذي نقله بعده، نعم، وافقهم من المتأخرين الأصفهاني شارح المحصول، واحتج بأن قيام حقيقة الطلب النفساني من العالم بالاستحالة لذاته أو لغيره ـ محال، قالَ: والقضية بديهية، فإنَّ انفصل عن هذا بأن حقيقة الطلب غائباً غير حقيقة الطلب

شاهداً ـ لزم فساد قاعدة كلام النفس وإثباتها، وأشار بقوله: (ما ليس ممتنعاً) إلى أن محل الخلاف في المتعذر عادة سواء كانَ معه التعذر العقلي أم لا، أمَّا التعذر عقلاً لتعلق علم الله تعالى به فأجمعوا على جوازه، وقد كلف الله الثقلين أجمعين بالإيمان معَ قوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} لكن في هذا الاستثناء خدش من جهة أنه إنما يأتي على القول بأن ما تعلق العلم بعدمه، مستحيل، وليس ذلك متفقاً عليه، وقد ذهب قوم منهم الغزالي في المنخول: إلى أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه، لا يسمى مستحيلاً؛ لأنَّه في ذاته جائز الوقوع، فلا تتغير حقيقته بالعلم، وقد أقدر الله الكفار على الإيمان، وعلم أنهم يمتنعون معَ القدرة، فكان كما علم، فلم ينقلب المقدور (33 أ) معجوزاً بسبب علمه. والثالث إن كانَ ممتنعاً لذاته لم يجز، وإلا جاز، واختاره الآمدي، وادعى أن الغزالي مال إليه. والرابع: قول إمام الحرمين وحكاه عنه ابن القشيري في المرشد، إن أريد بالتكليف بالمحال: طلب الفعل، فهو محال من العالم باستحالة وقوع المطلوب، وإن أريد ورود الصيغة وليس المراد بها طلباً، مثل قوله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} فغير ممتنع،

واختاره الغزالي في المنخول، وهو في الحقيقة تنقيح مناط، ففي جعل المصنف له مذهباً رابعاً، نظر، ولهذا قالَ ابن برهان: الخلاف على هذا لفظي، بخلافه على قول المعتزلة، ومن ثمَّ حاول بعض المتأخرين نفي الجواز عن الأشعري، وزعم أن الذي جوزه ورود صيغة مضاهية لصيغة الأمر والغرض منها تعجيز وتبيين حلول العقاب الذي لا محيص عنه وليس المراد طلباً واقتضاء ويخرج مما ذكرناه مناقشات على كلام المصنف ونزيد هنا أمرين. أحدهما: قوله: (ما ليس ممتنعاً، لتعلق العلم بعدمه) أي: هذا موضع النزاع، أمَّا الممتنع لذلك فأجمع الكل على جوازه، وهذا تابع فيه ابن الحاجب، وليس بمسلم كما بينته في (الدرر على المنهاج والمختصر) وقد ظن بعضهم أن عبارة المصنف منعكسة، وهو غلط، بل هي الصواب كما بيناه. ثانيا: لك أن تسأل عن الفرق بينَ المذهب الثاني والثالث وإنهما واحد، وإنما اختلفت العبارة؛ لأنَّ الإيمان من الكفار، الذي علم الله أنهم لا يؤمنون ـ مستحيل، لكن استحالته ليست لذاته بل نظراً لتعلق العلم بالكفر، فهو ممتنع لغيره، ولهذا قالَ المصنف في قول ابن الحاجب: والإجماع على صحة التكليف بما علم الله أنه لا يقع ـ: (إن هذا ضرب من الممتنع لغيره، وحينئذ فيرجع هذا القول إلى التفصيل بينَ الممتنع لذاته ولغيره، وغاية ما يلمح في الفرق بينهما، أن الثالث: يَجُوز الممتنع لغيره

في نوع خاص وهو ما تعلق بعدمه لكن يلزم من هذا إثبات قول في الممتنع لغيره بالتفصيل بينَ ما تعلق العلم بعدمه وبين غيره، ولم يذكره أحد من المصنفين، وإن كانَ كلامهم يقتضيه، وقد يتوقف فيه، وما وجه الفرق، ويشهد لذلك نقل إمام الحرمين في (الشامل) عن معتزلة بغداد أنه يصح أن يؤمر بإيقاع فعل في وقت، معَ العلم بأن العبد سيمنع منه، قالَ: وهو لا جوزو الأمر بما علم الله نسخه، والموقع للمصنف في هذا الكلام، الصفي الهندي، لكن الهندي كالمتوقف في صحة الإجماع، فلهذا ساغ منه حكاية التفصيل فإنَّه قالَ: المشهور عن المعتزلة منع التكليف بالمحال مطلقاً، غير أن بعضهم نقل أن الفرق كلها أجمعوا على جواز التكليف بما علم الله أنه لا يكون من الممكنات عقلاً وعلى وقوعه شرعاً، كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن كأبي جهل إلا بعض الثنوية، قالَ: فإنَّ صح هذا النقل يجب أن يفصل بينَ ما يكون محالاً بسبب تعلق العلم بعدم وقوعه، وبين ما لا يكون كذلك، فنسب إليهم امتناع التكليف بالشيء دون امتناعه مطلقاً، ثمَّ قالَ: ومنهم من فصل بينَ أن يكون محالاً لذاته، وبين ما لا يكون كذلك فاختار التكليف بالثاني دون الأول، وإليه ذهب بعض معتزلة بغداد، قالُوا: يَجُوز أن يكلف الله العبد بالفعل في وقت علم الله تعالى أن يكون ممنوعاً منه. انتهى (33 ب). ص: (والحق وقوع الممتنع بالغير لا بالذات). ش: القائلون بالجواز اختلفوا في وقوعه، والذي يتحصل منه مذاهب: الوقوع مطلقاً، وعدمه مطلقاً وحكاه الإمام في (الشامل) عن الجمهور، والثالث التفصيل بينَ الممتنع لذاته، كقلب الحقائق معَ بقاء الحقيقة الأولى فيمتنع، وأما الممتنع لغيره فيَجُوز، وهو ظاهر اختيار الإمام في (الشامل) وجرى عليه صاحب (المنهاج)

وغيره، واعترض عليه المصنف في شرحه تبعاً للنور الأردبيلي، فقالَ: إنه يفهم منه وقوع الممتنع لغيره مطلقاً والحق فيه التفصيل أيضاًً، فإنَّ كانَ مما قضت العادة بامتناعه كحمل الصخرة العظيمة للرجل النحيف ـ فحكمه حكم الممتنع لذاته في الجواز وعدم الوقوع، وأما ما امتنع، لتعلق العلم به، فذاك ليس محل النزاع بل هو واقع الإجماع وهذا وارد على إطلاقه. ص: (مسألة: الأكثر أن حصول الشرط الشرعي ليس شرطا في صحة التكليف). ش: أي بالمشروط، بل يصح التكليف بالمشروط حالة عدم الشرط، خلافاً لأهل الرأي والمراد بـ (الشرط الشرعي) ما يتوقف عليه صحة الشيء شرعاً كالوضوء للصلاة فخرج ما يتوقف عليه وجوده عقلاً كالتمكن من الأداء الزائل بالنوم والفهم من الخطاب الزائل بالغفلة والنسيان فإنَّ حصوله شرط في صحة التكليف، وقد سبق، وقد استشكل الفرق بينَهما وبين المسألة السابقة في مقدمة الواجب، فإنَّها إذا وجبت وجب تحصيل الشرط فما فائدة ذكر هذه المسألة؟ قلت: الكلام في حصول الشرط الشرعي بالنسبة إلى الصحة، فعندنا لا يتوقف صحة التكليف على حصوله، ومسألة المقدمة بالنسبة إلى الواجب نفسه إذا توقف على أمر آخر من شرط أو غيره،

هل يوجب المقدم، فهما غيران لا تعلق لأحدهما بالآخر. ص: (وهي مفروضة في تكليف الكافر بالفروع). ش: أي وإن كانت أعم منه، لكن الخلاف في هذه المسألة، هذا أصله، وقد نازع الصفي الهندي في ترجمتها بما ذكره المصنف، فإنَّ المحدث يكلف بالصلاة إجماعاً، وقضية هذه الترجمة طرد الخلاف فيه ولأجل هذا ذكر المصنف أن المراد بها خاص بقوله: (وهي مفروضة في تكليف الكافر). ص: (والصحيح وقوعه، خلافاً لأبي حامد الإسفراييني وأكثر الحنفية مطلقاً ولقوم في الأوامر فقط، ولآخرين فيما عدا المرتد).

ش: ذهب الأَئِمَّة الثلاثة إلى أنهم مخاطبون مطلقاً في الأوامر والنواهي وخالف الخنفية، وساعدهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني منا، وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في أصوله قولاً للشافعي. والثالث: أن النواهي متعلقة بهم دون الأوامر لإمكان الانتهاء معَ الكفر بخلاف المأمور، فإنَّ شرطه القربة، ونقله صاحب اللباب من الحنفية عن أصحابهم، وأغرب الشيخ صدر الدين بن الوكيل في كتاب (النظائر) فحكى عن بعض الأصحاب عكس هذا المذهب، وتابعه

العلائي في (الفوائد) وهذا لا يعرف، بل قالَ الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه في الأصول وصاحبه البندنيجي في باب قسم الصدقات من تعليقه: إن الخلاف في تكليفهم بالأوامر، وأما المعاصي فمنهيون عنها بلا خلاف من المسلمين، فكيف يثبت لنا قول بأنهم مكلفون بالأوامر دون النواهي؟. والرابع: أن المرتد مكلف دون غيره، لإلزامه أحكام الإسلام، حكاه القاضي عبد الوهاب، ولهذا يجب

عليه قضاء ما فاته زمن ردته، وزيف، فإنَّ مأخذ المنع فيهما سواء، وهو الجهل باللهِ وبعضهم يجعل الخلاف (34 أ) في الأصلي، ويقول: المرتد مكلف بلا خلاف وفيه نظر. فائدة قالَ الشيخ عز الدين في (القواعد): إن قيل: لم وجه الله تعالى الخطاب إلى العاصي معَ علمه بأنهم لا يطيعونه؟ قلنا: أحسن ما قيل في ذلك: أن توجه الخطاب إلى الأشقياء الذين لا يمتثلون، ليس طلباً على الحقيقة، وإنما هو علامة وضعت على شقاوتهم وأمارة نصبت على تعذيبهم. ص: (قال الشيخ الإمام: والخلاف في خطاب التكليف وما يرجع إليه من الوضع، لا الإتلافات والجنايات وترتب آثار العقود). ش: أطلق الأصوليون الخلاف السابق وهو يوهم أن القائل بتكليفهم يقول: إن كل حكم ثبت في حق المسلمين، ثبت في حقهم أيضاًً، وأن من لا يقول بذلك لا

يثبت في حقهم شيئاً من فروع الأحكام، قالَ والد المصنف رَحِمَه اللهُ تعالى وليس كذلك، بل الخطاب قسمان: خطاب تكليف وخطاب وضع، فخطاب التكليف بالأمر والنهي هو محل الخلاف، وليس كل تكليف أيضاًَ بل هو في غير ما يعلم اختصاصه بالمؤمنين أو بعضهم، وإنما المراد العمومات التي شملتهم لفظا، هل يكون الكفر مانعاً من تعلقها بهم أو لا؟ وأما خطاب الوضع فمنه ما يكون سبب الأمر والنهي ككون الطلاق سبباً لتحريم الزوجة، فهذا من محل الخلاف، والفريقان مختلفان في أنه هل هو سبب في حقهم أيضاً؟ ومنه كون إتلافهم وجنايتهم سبباً في الضمان، وهذا ثابت في حقهم إجماعاً، بل ثبوته في حقهم أولى من ثبوته في حق الصبي، وكذلك كون العقول على الأوضاع الشرعية سبباً فيه كما في البيع والنكاح وغيرهما، وهذا لا نزاع فيه، وفي ترتب الأحكام الشرعية عليه في حقهم كما في حق المسلم، وكذا كون الطلاق سبباً للفرقة، فإنَّها تثبت إذا قلنا بصحة أنكحتهم والخلاف في ذلك لا وجه له، ويشهد أن أبا حنيفة قالَ بصحة أنكحتهم معَ قوله بعد تكليفهم بالفروع، قلت: بل كلام الأصحاب على إطلاقه ولا وجه لهذا التفصيل ولا يصح دعوى الإجماع في الإتلاف والجناية، بل الخلاف جار في الجميع، وقد حكى الرافعي عن الأستاذ أبي إسحاق: أن الحربي إذا قتل المسلم، أو أتلف عليه مالاً، ثمَّ أسلم، أنه يجب ضمانها، إذا قلنا إن الكفار مكلفون بالفروع، وحكاه العبادي في الطبقات عنه فيما إذا صارَ ذمياً والجمهور أنه لا يضمن ونقلوا وجهين أيضاًً، فيما لو دخل الكافر الحرم وقتل صيداً هل يضمن؟

أصحها: نعم، قالَ صاحب (الوافي) وهما شيئان بالوجهين في تمكينه من المسجد إذا كانَ جنباً ـ يعني نظراً لعقيدته ـ بل قالَ الإمام في الأساليب من كتاب (السير): إن الكفار إذا استولوا على مال المسلمين، فلا حكم لاستيلائهم، وأعيان الأموال لأربابها وكأنهم في استيلائهم وإتلافهم كالبهائم، قالَ: وبنى بعضهم هذه المسألة على الخلاف في تكليفهم بالفروع، وقالَ: هم منهيون عن استيلائهم، وقول الشيخ: بل ثبوته في حقهم أولى من ثبوته في حق الصبي ـ ممنوع كانسحاب حكم الإسلام على الصبي بخلافهم، ولهذا قطعوا في الصبي بالضمان، وأجرى الخلاف عليهم ترغيباً في الإسلام، ومن هنا صحح أبو حنيفة أنكحتهم، وإن لم يكلفهم بالفروع، وأشار الإمام في (النهاية) إلى أن الشافعي خرج عن قياس مذهبه في تكليفهم بالفروع حيث صحح أنكحتهم، وقاعدة مذهبه أن لا يستتبع عقائدهم، ولهذا (34 ب) نفى الضمان عمن يريق خمر الذمي، ولكنه تركه في النكاح للأخبار، وأنه خصه ترغيباً لهم في الإسلام، وقالَ الغزالي في (البسيط) مضعفاً للقول بفساد أنكحتهم: هذا يجر إلى أن لا نوقع طلاقهم، ولا يتجاسر عليه فقيه. قلت: قد تجاسر عليه الحسن البصري وقتادة وربيعة الرأي ومالك، قالُوا: ليس طلاقهم بطلاق، وهذا قدح في دعوى النسخ، والإجماع على نفوذ الطلاق، ولذلك قالَ الحنفية: لا يصح ظهار

الذمي بناء على أنهم غير مكلفين بالفروع. ص: (مسألة: لا تكليف إلا بفعل، فالمكلف، به في النهي: الكف، أي: الانتهاء، وفاقاً للشيخ الإمام، وقيل: فعل الضد، وقالَ قوم: الانتفاء، وقيل: يشترط قصد الترك). ش: لا خلاف أن المكلف به في الأمر الفعل، وأما المكلف به في النهي ففيه أربعة مذاهب أصحها عندَ ابن الحاجب وغيره: أنه كف النفس عن الفعل، والكف فعل. الثاني: وينسب للجمهور: أنه فعل ضد المنهي عنه، فإذا قالَ: لا تتحرك، فمعناه: افعل ضد الحركة. الثالث، وبه قالَ أبو هاشم: انتفاء الفعل فالمكلف به في هذا المثال، نفس ألا تفعل، وهو عدم الحركة، وكأن الجمهور نظروا إلى حقيقة ما هو مكلف به، وأبو

هاشم نظر إلى المقصود، وهو إعدام دخول المنهي عنه في الوجود، والمختار عندَ المصنف ـ تبعاً لوالده رحمهما الله تعالى ـ الأول، وحرر العبارة عنه فقالَ: إن مطلوبه الكف، أي: الانتهاء، فإذا قلت: لا تسافر، فقد نهيته عن السفر والنهي يقتضي الانتهاء لأنَّه مطاوعه، يقال: نهيته فانتهى، والانتهاء: هو الانصراف عن المنهي عنه، وهو الترك، قالَ: واللغة والمعقول يشهدان له، وفرق بينَ قولنا: لا تسافر وبين قولنا: أقم فإنَّ أقم أمر بالإقامة من حيث هي، فقد لا يستحضر معها السفر، وأن لا تسافر: نهي عن السفر، فمن أقام قاصداً ترك السفر يقال فيه انتهى عن السفر، ومن لم يخطر السفر له بالكلية، لا يقال له انتهى عن السفر والانتهاء أمر معقول وهو فعل، ويصح التكليف به، وكذلك في جميع النواهي الشرعية، كالزنا والسرقة والشرب ونحوها، المقصود في جميعها الانتهاء عن تلك الرذائل، ومن لازم ذلك الانتهاء التلبس بفعل ضد من أضداد المنهي عنه، قالَ: فالعبارة المحررة أن يقال: المطلوب بالنهي الانتهاء، فيلزم من الانتهاء فعل ضد من أضداد المنهي عنه، والعبارة المنقولة عن الجمهور مختلفة فإنَّ النهي قسيم الأمر، والأمر: طلب الفعل فلو كانَ النهي طلب فعل الضد لكان أمراً، ولكان النهي من الأمر، وقسيم الشيء لا يكون قسماً منه.

[[[سقط صـ 293]]] (الدلائل والأعلام) بأن الواجب على الإنسان في المنهيات إذا ذكرها، اعتقاد تحريمها، وهو على أول الحال من الاعتقاد والكف، وقول المصنف: (وقيل: يشترط قصد الترك) هذا قول غريب، إن أجري على ظاهره، حتى يأثم إذا تركه ولم يقصد الترك (35 أ) وإنما يتجه هذا في حصول الثواب وهي مسألة أخرى، ثمَّ رأيت في (المسودة) لابن تَيْمِيَّةَ ما نصه، وقيل: إن قصد الكف معَ التمكن من الفعل أثيب، وإلا فلا ثواب ولا عقاب، انتهى. وقد قالَ القاضي حسين في باب صفة الصلاة من تعليقه: الشرعية تشتمل على الأوامر والنواهي، فما كانَ من النواهي لا يحتاج إلى صحة تركها إلى النية، وما كانَ من الأوامر لا يصح امتثاله بدون النية. انتهى. وإذا قلنا: يشترط قصد الترك، فهل يحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات أو يكفي نية عامة لكل منهي عنه، فيه نظر. ص: (والأمر عندَ الجمهور بتعلق الفعل قبل المباشرة بعد دخول وقته

إلزاماً، وقبله إعلاماً). ش: النقول في هذه المسألة مضطربة، فقال القاضي في مختصر التقريب: الفعل مأمور به في حال حدوثه، ثمَّ قالَ المحققون من أصحابنا: الأمر قبل حدوث الفعل المأمور به أمر إيجاب وإلزام، ولكنه يتضمن الاقتضاء والترغيب، وإذا تحقق الامتثال فالأمر يتعلق به، ولكنه لا يقتضى ترغيباً معَ تحقق المقصود، وذهب بعض من ينتمي إلى التحقيق، إلى أنه إنما يؤمر به حال المباشرة، وإذا تقدم عليه، فهو أمر إنذار، وإعلام بحقيقة الوجوب عندَ الوقوع، قالَ: وهذا باطل، انتهى. وهذا الذي زيفه هو الذي يدل عليه صريح نقل الإمام الرَّازِيّ عن الأصحاب كما قالَ الصفي الهندي قالَ: ونقل إمام الحرمين في مذهب أصحاب الشيخ، ما يقتضي أنه ليس بمأمور به قبل حدوثه، وهو الذي يقتضيه أصلهم أن الاستطاعة معَ الفعل لا قبله، لكن أصلهم الآخر ـ وهو جواز تكليف المحال ـ يقتضي جواز الأمر بالفعل حقيقة قبل الاستطاعة، فعلى هذا يكون المأمور مأموراً قبل التلبس بالفعل، والمأمور به مأموراً به قبل حدوثه، لكن لعلهم فرعوا هذا في استحالته، أي وإن قالُوا بجوازه، لكنهم قالُوا ذاك بناء على عدم وقوعه، ونقل الكل عن المعتزلة، أي أن الفعل إنما يصير مأموراً به عندَهم قبل حدوثه لا عندَه، بل عندَه ينقطع تعلق التكليف، به، وهو اختيار إمام

الحرمين، وهو موافق لأصلهم في أن الاستطاعة قبل الفعل، وأن تكليف مالا يطاق، غير جائز، ونقل بعضهم، كالآمدي: أن الناس اتفقوا على جواز كون الفعل مأموراً به قبل حدوثه سوى شذوذ من أصحابنا، وعلى امتناع كون ذلك وقت حدوثه، فأثبته أصحابنا، ونفاه المعتزلة، وبه يشعر كلام الغزالي، وهذا صريح في أن الخلاف بينَ معظم الأصحاب والمعتزلة في المأمور، والمأمور إنما هو في وقت التلبس والحدوث لا قبله، والنقل الأول يقتضي تحققه فيهما، فبينهما تناقض، ولا يجمع بينَهما بأن يقال: إن الأول تفريع منهم على استحالة تكليف المحال، والثاني على جوازه ـ لأنَّه يقتضي جواز كون الفعل مأموراً به بعد حدوثه، وهذا الناقل نقل امتناعه وفاقاً، والتحقيق أنه قبل المباشرة مكلف بإيقاع الفعل في الزمن المستقبل، وامتناع الفعل في هذه الحالة بناء على عدم علته التامة، لا ينافي كون الفعل مقدوراً ومختاراً له، بمعنى صحة تعلق إرادته وقصده إلى إيقاعه، وإنما الممتنع تكليف ما لا يطاق، بمعنى أن يكون الفعل مما لا يصح تعلق قدرة (35 ب) العبد به، وقصده إلى إيجاده، وبهذا يندفع قولهم: إن الفعل تدور علته التامة ممتنع، ومعها واجب، فلا تكليف إلا بالمحال؛ لأنَّ في الأول تكليفاً بالمشروط عندَ عدم الشرط، وفي الثاني تكليفاً بتحصيل الحاصل. ص: (والأكثر: يستمر حال المباشرة، وقالَ إمام الحرمين والغزالي: ينقطع).

ش: ما حكاه عن الأكثر سبق نقل الآمدي أنه عن الأصحاب، وقالَ ابن برهان: إنه قول أهل السنة، وقالت المعتزلة: ينقطع تعلق التكليف به واختاره الإمام والغزالي؛ لأنَّ حقيقة الأمر الاقتضاء والطلب، والحاصل لا يطلب، وجوابه أنه غير مقتضي حال الإيقاع، ولكنه معَ هذا مأمور به، بمعنى أنه طاعة وامتثال، وهذا لا يخالف فيه أحد. ص: (وقالَ قوم: لا يتوجه إلا عندَ المباشرة، وهو التحقيق. ش: هذا القول هو اختيار الإمام فخر الدين والبيضاوي وغيرهما ونسبه المصنف إلى الأشعري، قالَ: وقول إمام الحرمين: إن هذا المذهب لا يرتضيه لنفسه عاقل مؤول، للعلم بأنه لا يطلق مثل هذه العبارة على من دون الشيخ، وذلك أنه ألزم الشيخ تحصيل الحاصل، ثمَّ قالَ: يقال في الحادث: هذا هو الذي أمر به المخاطب، فأما أن يستمر القول في تعلق الأمر به طلباً واقتضاء معَ حصوله، فلا يرتضى هذا لنفسه عاقل، ومراده بالمذهب الذي لا يرتضيه لنفسه عاقل، إيجاب تحصيل الحاصل الذي ألزم الشيخ به، وهو يعرف أن الشيخ لا يقوله ولا غيره، ووجه

ما ادعاه المصنف من التحقيق في هذا المذهب، أمور منها: أن الأمر يتناول زمان إمكان الفعل، لامتناع التكليف بالواجب والممتنع، وزمان وقوع الفعل زمان إمكانه، فإنَّه ليس زمان امتناعه، لامتناع وقوع الفعل في زمن امتناعه، وليس زمان وجوبه الذاتي قطعاً، فإنَّ كانَ له وجوب فيه، كانَ ذلك الوجوب وجوبا بشرط المحمول أي: بشرط وجوده، وأنه لا يمتنع، أمَّا حال وقوعه أو قبله وفاقاً، فلو كانَ الوجوب بشرط المحمول مانعاً من التكليف، لم يكن المأمور مأموراً أصلاً، فثبت أن زمان الوقوع زمان إمكانه، فوجب أن يتناول الأمر إياه. ومنها: أنه قبل المباشرة مشغول بالضد، فهو مكلف بترك الضد، فلا يكون مكلفاً بالفعل في تلك الحالة وإلا لاجتمع النقيضان، وكان تكليفاً بما لا يطاق، ولأنَّه لو كانَ كذلك لم يكن ممتثلاً إلا في مدة الحال وذلك محال، ولأن الله تعالى لا يكلف بشيئين في حالة واحدة، ولهذا قلنا عندَ كل جزء، هو مكلف به، وقبله وبعده ليس مكلفاً به؛ لأنَّه يلزم أن يكون مكلفاً بالشيء وضده في حالة واحدة، بل كلما انقضى جزء يقتضي تكليفه به، وكلما دخل في جزء كلف به إلخ، فإنَّ قلت: فعلى هذا لا يصح أن يعاقب على ترك الفعل بل على فعل الضد، قلنا: بل يعاقب على ترك الفعل وعدمه، صح ترك فعل الضد حين تحصيل المباشرة، فإنَّ قلت: ما فررت منه وقعت فيه، وهو أنه كيف يكون مكلفاً بالشيء وضده ـ. قلت: لا نسلم: بل هو في هذه الحالة، مكلف بالترك، وهو الإعدام فما كلف بشيءٍ آخر ولا يجيء (36 أ) هذا الإعدام إلا بالمباشرة من الفعل، وهذا جزء من الفعل الذي هو الواجب، ولا يقال: إن هذا مقدمة الواجب فصح قولهم: إن الأمر قبل المباشرة، محال. ص: (فالملام قبلها على التلبس بالكف المنهي عنه). ش: هذا جواب سؤال مقدر تقديره، أنه يلزم من القول بأنه لا يتوجه إلا عندَ

المباشرة سلب التكاليف، وأن المكلف لا يعطي بترك مأمور؛ لأنَّه إن أتى به كانَ ممتثلاً، وإن لم يأت به كانَ معذوراً لعدم التكليف. وجوابه، أنه لا يلزم؛ لأنَّا نلومه على التلبس بالكف، والكف عندَنا فعل، وهو حرام، فقد باشر الترك، فتوجه عليه التكليف، فالحرمة حال مباشرة الترك، والعقاب ليس إلا على الترك، وهذا من النفائس، وقد أشار إليه إمام الحرمين في مسألة: تكليف ما لا يطاق. ص: (مسألة: يصح التكليف ويوجد معلوماً للمأمور أثره معَ علم الآمر، وكذا المأمور في الأظهر انتفاء شرط وقوعه عندَ وقته، كأمر رجل بصوم يوم، علم موته قبله، خلافاً لإمام الحرمين والمعتزلة، أمَّا معَ جهل الآمر فاتفاق). ش: المكلف به إذا كانَ وقوعه مشروطاً بشرط يتحقق انتفاؤه عندَ وقته، هل يصح التكليف به؟ أمَّا معَ العلم فله حالتان. الأولى: أن يعلم الآمر انتفاءه دون المأمور، كأمر الله تعالى رجلاً بصوم غد، معَ علمه بموته قبله، فذهب الجمهور إلى أنه يصح، ومنعه إمام الحرمين والمعتزلة، ومنشأ الخلاف أن فائدة التكليف هل هي الامتثال فقط، أو

الابتلاء أيضاًً، فعلى الأولى لا يصح، وعلى الثاني يصح، ومن فوائده الفرعية: أن المجامع في نهار رمضان، إذا مات أو جن في أثناء النهار، هل يجب في تركته الكفارة فعلى الأول نعم، وعلى الثاني لا؛ لأنَّه لم يكن مأموراً للعلم بانتفاء شرط وقوعه عندَ وقته. الثانية: أن يعلم المأمور انتفاء الشرط أيضاًً، وإليه أشار بقوله: (أولا) وكذا المأمور في الأظهر، فالمختار عندَ المصنف الصحة، وهذا مما خالف فيه الأصوليين، فإنَّهم أطبقوا على المنع، وفرقوا بينَهما بانتفاء فائدة التكليف ونقل الصفي الهندي عليه الاتفاق، إلا على رأي من يقول بتكليف مالا يطاق ومستند المصنف في خلافهم قول الفقهاء فيمن علمت أنها تحيض أثناء النهار: يجب عليها افتتاح النهار بالصوم ـ قالَ: ويقرب منه ـ وهو عكسه ـ من نذر الصوم يوم قدوم زيد، وتبين أنه يقدم غداً، فنوى الصوم من الليل أجزأه عن نذره على الصحيح، ولم يقولوا: إنه يجب عليه، بل اختلفوا في الإجزاء كما رأيت ونظير عدم الوجوب فيه الوجوب في الحائض، قالَ: ولا يعكر على هذا أن الصحيح فيمن نذر الصيام يوم مقدم زيد، أنه يلزمه الصوم من أول اليوم، ويقال كما تبين بقدوم زيد في أثناء النهار وجوب الصوم

من أوله، فكذلك تبين نظيره بأن الحيض تحريمه من أوله؛ لأنَّا نقول: هذا التبين إنما هو بعد ظهور الوقت المقتضي في مسألة النذر، والمانع في مسألة الحيض وقبل ظهورهما لا أثر لهما سوى تحقق أنهما يظهران أم لا، فقد تبين تحقق التكليف علماً، وإن أمكن الاحترام قبل ذلك، ثمَّ إذا ورد العجز أو الموت أو النسخ لم يتبين أنه لم يكن مأموراً، بل نقول: انقطع التكليف (36 ب) قلت: وهذا الذي اختاره المصنف ولم ينقله عن أحد، قد ذكره الشيخ مجد الدين ابن تَيْمِيَّةَ في (المسودة الأصولية) فقال بعد ذكر الخلاف في الحالة: وينبغي على مساق هذا أن نجوزه، وإن علم المأمور أنه يموت قبل الوقت، كما تجوز توبة المجبوب من الزنا، والأقطع من السرقة، ويكون فائدته العزم على الطاعة بتقدير القدرة، قالَ: وليست هذه المسألة مبنية على تكليف خلاف المعلوم، ولا على تكليف ما لا يطاق، وإن كانَ لها به ضرب من التعلق، لكن تشبه النسخ قبل التمكن؛ لأنَّ ذلك رفع للحكم بخطاب، وهذا رفع للحكم بتعجيز وقد نبه ابن عقيل على ذلك، وينبني على أنه قد يأمر بما لا يريد، انتهى. وأما معَ جهل الآمر بعدم وقوع الشرط، كأمر السيد عبده بخياطة الثوب في الغد، فيصح بالاتفاق، كذا قاله المصنف تبعاً لابن الحاجب، لكن قالَ الصفي الهندي: في كلام بعضهم إشعار بخلاف فيه، إذا علمت هذا فقول المصنف: (ويوجد معلوماً

أثره) أي: التكليف، أي حالة اتصال الخطاب به، ولا يتوقف علمه بذلك على مضي زمن يمكن فيه الامتثال، وأتى بذلك لينبه على قصور عبارة المختصر، فإنَّه نصب الخلاف في الصحة، وهو في الحقيقة خلاف في تحقيق الوجوب على المكلف، ولهذا ترجم الأكثرون المسألة: أنه هل يعلم المأمور كونه مأموراً قبل التمكن من الامتثال أو لا، حتى يمضي عليه زمن الإمكان. قال: فالفعل الممكن بذاته، إذا أمر الله به عبده فسمع الأمر في زمن لم يفهمه في زمن يليه، هل يعلم إذ ذاك أنه مأمور، معَ أن من الجائز أن يقطعه عن الفعل قاطع: عجز أو موت، أو يكون شاكاً في ذلك؛ لأنَّ التكليف مشروط بسلامة العاقبة وهو لا يتحققها؟ أصحابنا على الأول، فيرون تخفيفاً مستفاداً من صيغة الأمر، وإنما الشك من رافع يرفعه المستقر، والقوم على العكس، قالَ: ويلزمهم ألا يوجد منه عبادة لحصول الشك، فلا يصح لهم عمل، وأقول هنا مسألتان. إحداهما: بالنسبة إلى المأمور، أن الأمر إذا اتصل به ولا مانع، فيعلم علماً قطعياً، أنه مأمور في الحال، وكذا في الأزمنة المستقبلة بشرط بقائه على صيغة التكليف، وقالت المعتزلة: لا يصح علمه بتوجه الأمر عليه إلا بعد الامتثال، أو مضي زمن يسعه معَ تركه. الثانية: بالنسبة إلى الأمر، هل يصح ورود الأمر المقيد بشرط علم الآمر عدم وقوعه؟ وهي مبنية على ما قبلها، فمن قالَ: إن الآمر يعلم كونه مأموراً قبل التمكن، جوز وروده، ومن لم يقل به لم يَجُوزه إلا أن الخلاف هنا لا يختص بما علم عدم وقوعه، بل يجري خلاف المعتزلة في المعلوم الوقوع أيضاًً، فحاصل مذهبهم: إحالة تصور الأمر بشرط في حق الله تعالى، سواء علم وقوعه، أو عدم وقوعه، فظهر بذلك قصور عبارة ابن الحاجب والمصنف وغيرهما، حيث ترجموا المسألة ببعض أفرادها، فأوهموا موافقتهم في معلوم الوقوع، ولزم من ذلك نسبة ابن الحاجب للتناقض حيث ادعى الإجماع في خلاف المعلوم، أنه يصح التكليف به، وهنا حكى الخلاف

فيه، وسلم المصنف في شرحه السؤال، وجمع بينَهما بما لا يشفى (37 أ) وإذا عرفت حقيقة المسألة، زال الاضطراب فإنَّها ليست موضوعة فيما علم انتفاء شرط وقوعه، بل في أنه هل يصح تكليف الله عبده بشرط أم لا؟ فالمعتزلة يقولون: إن ذلك محال سواء علم وقوعه أو علم عدم وقوعه؛ لأنَّه معَ العلم بالوقوع لا يكون شرطاً وإلا لكان ذكره عبثاً، ومع العلم بعدم الوقوع، لا يكون أمراً إلا على رأي بعض من يَجُوز تكليف ما لا يطاق، وقول المصنف: يلزمهم بطلان العبادات لعدم الجزم، فغير لازم؛ لأنَّ الشك ليس في نفس العبادة، بل في بقائه إلى فراغها، وساغ له الإقدام عليها معَ ذلك استصحاباً بالأصل السلامة، ولهذا قالَ أبو الحسين في (المعتمد): قالَ أصحابنا: إنما يجب التأهب للصلاة لثبوت أمارة بقائه سالماً إلى وقتها فوجب عليه لهذه الأمارة التحرز من ترك ما لا يؤمن وجوبه. ص: (خاتمة: الحكم قد يتعلق بأمرين على الترتيب، فيحرم الجمع أو يباح أو يسن). ش: مثال الأول: أكل المذكى والميتة لعذر الاضطرار المبيح للميتة، ومثال الثاني: الوضوء والتيمم، كذا قالَ في (المحصول) وغلط، فإنَّ التيمم معَ وجود الماء لا يصح، والإتيان بالعبادة الفاسدة حرام، وإن استعمله لا على قصد العبادة فلا يكون تيمماً وقالَ القرافي: مراده صورة التيمم، أمَّا التيمم الشرعي المبيح

للصلاة، فلا تتصور حقيقته معَ الوضوء؛ لأنَّه حينئذ غير مشروع، قلت: ويمكن تصويره على رأي ابن سريج في الماء المختلف في طهوريته كالمستعمل والنبيّذ، الذي يَجُوز أبو حنيفة الطهارة به، فإنَّه نص في كتاب الودائع على أنه يتوضأ به ويتيمم خروجاً من الخلاف ومثله قول أبي حنيفة في سؤر الحمار: إن لم يجد غيره توضأ به وتيمم.

الكتاب الأول: في الكتاب

ومثال الثالث: خصال الكفارة المرتبة، كذا قالَ في (المحصول) وفي كون الجمع بينها سنة يحتاج إلى دليل، ولم يذكره الفقهاء، بل في تصويره نظر، فإنَّه إذا كفر بالعتق مثلا ثمَّ صام، فقد سقطت الكفارة بالأولى، فلا ينوي بالثانية الكفارة لعدم بقائها عليه، وينبغي أن يكون على الخلاف فيما إذا بطل الخصوص هل يبطل العموم؟ ص: (وعلى البدل كذلك). ش: أي هذه الأشياء كما تكون في المرتب تكون في المخير، ومثل الإمام وغيره، المحرم الجمع: تزويج المرأة من كفأين والمباح: ستر العورة بثوبين، والمندوب: بالجمع بينَ خصال كفارة الحنث، وفيه ما سبق في الكفارة المرتبة. [الكتاب الأول: في الكتاب] ص: (الكتاب الأول: في الكتاب ومباحث الأقوال: الكتاب: القرآن، والمعني به هنا: اللفظ المنزل على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للإعجاز بسورة منه، المتعبد بتلاوته). ش: لما كانَ الكتاب أصلاً لسائر الأدلة الشرعية، قدم البحث عنه على البحث عن سائرها، والألف واللام فيه للغلبة؛ لأنَّ المراد به الذي يتعارفه المسلمون، المقابل للسنة، فيقال: الكتاب والسنة، فقوله: (الكتاب القرآن) هو قولنا:

الإنسان البشر، والقمح البر، وقوله: (والمعني) إشارة إلى أن القرآن يطلق تارة ويراد به مدلول اللفظ، وهو المعنى القائم بالنفس، وذلك محل نظر المتكلمين وأخرى ويراد به الألفاظ الدالة على ما في النفس، قالَ تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} والمسموع هو العبارات، وهذا محل (37 ب) نظر الأصوليين والفقهاء والنحاة وغيرهم، فقوله: (اللفظ) كالجنس، فيخرج به النفسي، وإنما عبر به دون القول، وإن كانَ القول أخص من اللفظ فإنَّه لا يتناول غير المستعمل ـ لأنَّ القصد هنا التنصيص على أن البحث عن الألفاظ، ولو أتي بالقول لم يفهم ذلك، وقوله: (المنزل) فصل أول، يخرج اللفظ غير المنزل، وقوله: (على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فصل ثان، يخرج المنزل على غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، و (للإعجاز)،ـ فصل ثالث، يخرج المنزل لا للإعجاز كالأحاديث، كذا قالُوا، وساعدهم قول الحليمي في المنهاج: علوم القرآن توجد في السنة إلا الإعجاز، فإنَّه من خصائص الكتاب، ولهذا جوزوا رواية الحديث بالمعنى، وينبغي أن يكون مرادهم: أن

الأحاديث لم تنزل للإعجاز، أي لقصده، فإنَّها لا تخلو عنه، كيف وهو القائل: ((أوتيت جوامع الكلم)) وبذلك يؤول قول الحليمي، وقوله: (بسورة منه) من تتمة الفصل الثالث، وهو بيان للواقع لا الإخراج، والمعنى فيه: أن الإعجاز واقع بسورة منه، فلو أطلق (المنزل للإعجاز) لأوهم أن الإعجاز بكله، وليس كذلك، ولا ينبغي أن يتوهم أنه فصل رابع يخرج ما نزل للإعجاز، ولكن لا بسورة منه، فإنَّ ذلك لم يوجد، أعني كلاماً نزل للإعجاز على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بسورة منه، و (المتعبد بتلاوته) فصل رابع يخرج منسوخ التلاوة، مثلا، وقوله: (بسورة) يقتضي أنها أقل ما وقع التحدي به، لقوله تعالى: {فَاتُوا بِسُورَةٍ مثله} لكن قوله تعالى: {فليأتوا بحديث مثله} يقتضي الإعجاز بآية.

ص: (ومنه البسملة في أول كل سورة غير (براءة) على الصحيح). ش: هي آية من أول الفاتحة بلا خلاف عندَنا، وكذا فيما عداها من باقي السورة سوى (براءة) على أظهر قولي الشافعي، والثاني: ليست من القرآن بالكلية ونسبه بعضهم للأئمة الثلاثة، وهو مقابل الصحيح في كلام المصنف، وعمدتنا ثبوتها في شواذ المصحف أول كل سورة، وأجمع الصحابة على أنه لا يكتب في المصحف ما ليس بقرآن، وأن ما بينَ الدفتين كلام الله تعالى، قاله القاضي الحسين، والغزالي، والنَّوَوِيّ، وغيرهم، وهو أحسن الأدلة، وإذا قلنا بأنها من القرآن، فالمشهور أنها آية كاملة، وفي قول: بعض آية، وحكى ابن الرفعة وجهاً، إن كانَ الحرف الأخير من السورة قبله ياء ممدودة كالبقرة، فالبسملة آية كاملة منها،

وإن لم يكن كـ {اقتربت الساعة} فبعض آية، وعلم من قوله: (أول كل سورة) أنها آية منها، والمخالف فيه أبو بكر الرَّازِيّ، من الحنفية إلى أنها آية مفردة، أنزلت للفصل بينَ السور، حكاه عنه ابن السمعاني في (الاصطلام) وسيأتي عن رواية الرَّبِيع، عن الشافعي ما يقتضيه، نعم ظاهر كلام المصنف يقتضي أنها من القرآن على سبيل القطع كسائر القرآن، وهو وجه مرجوح، حكاه الماوردي والإمام وغيرهما، قالَ الماوردي: والجمهور على أنها آية حكماً لا قطعاً لاختلاف العلماء فيها، ومعنى حكماً: أنه لا تصح الصلاة إلا بها في أول الفاتحة، وضعف الإمام قول من قالَ: إنها قرآن على سبيل القطع، وقالَ: هذه غباوة عظيمة من قائله؛ لأنَّ ادعاء العلم حيث لا قاطع، محال، وصحح النَّوَوِيّ أنها قرآن على سبيل الحكم،

واستدل إلى أنه لا يكفر (38 أ) بالإجماع، ولو كانت على سبيل القطع لكفر، وبنوا على هذا الخلاف أنه هل يقبل في إثباتها خبر الواحد؟ إن قلنا: آية حكماً فنعم كسائر الأحكام، وإن قلنا: قطعاً، فلا كسائر القرآن، وكان شيخنا بهاء الدين بن عقيل ـ رَحِمَه اللهُ تعالى يقول: الذي يظهر أن إثباتها قرآناً لا يكون إلا بقاطع كغيرها، ويَجُوز كونه خبر الواحد الذي احتفت به القرائن وهو إجماعهم على كتبها في المصاحف كلها بقلم القرآن، وعدم تكفيرنا فيها لكون القطع ناشئاً عن ثبوت الخبر المحتف بالقرائن، وهذا لم يحصل للنافي، على أن العمراني حكى في زوائده عن صاحب (الفروع) أنا إذا قلنا: إنها من الفاتحة قطعاً كفرنا نافيها، وفسقنا تاركها، ولكن المعروف الأول، قالَ ابن السمعاني: وقولهم: لو كانت قرآنا لنقلت بدليل يفيد القطع ـ مردود؛ لأنَّا نريد بكونها من القرآن في رأس كل سورة عملاً لا علماً، ونظيره الحجر هو من البيت بدلائل لا توجب العلم، بل توجب العمل، وهو الطواف عليه، وسائر الكعبة قبلة بدليل مقطوع يوجب العلم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال،

ويرتفع خيال القاضي في قطعه بتخطئة من جعلها من القرآن؛ لأنَّه لا يثبت إلا بقاطع، وهو مفقود لأنَّه بان مراد المثبت بكونها قرآناً، وتزول الشبهة في التكفير من الجانبين، وهو من أجل ما يستفاد في هذا الموضع، ومن الفوائد ما حكاه ابن خالويه في (الطارقيات) عن الرَّبِيع بن سليمان، سمعت الشافعي يقول: أول الحمد بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وأول البقرة الم). ولهذا وجه حسن، وهو أن البسملة لما ثبتت أولاً في سورة الفاتحة فهي من السور إعادة لها وتكرار، فلا تكون من تلك السورة ضرورة، فلا يقال: هي آية من أول كل سورة، بل هي آية في أول كل سورة. ص: (لا ما نقل آحاداً على الأصح). ش: حكاية الخلاف في هذا على الإطلاق لم أره في شيء من كتب الأصول معَ كثرة التتبع، وابن الحاجب وإن أشار إلى الخلاف فيها، حيث أفردها بمسألة، ونصب فيها الأدلة، لكن ظهر أن مقصوده فيها البسملة بخصوصها، وأنها ليست من

القرآن، وأما المصنف فغاير بينهما، وأفهم أن البسملة من القرآن بالتواتر لا بالآحاد، وقد سبق ما فيه، والحق أن ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله لا خلاف في شرط التواتر فيه، وأما بحسب محله ووضعه وترتيبه، فهل يشترط فيه التواتر، أم يكفي فيه نقل الآحاد؟ هذا الذي يليق أن يكون محل الخلاف، ثمَّ رأيت الخلاف مصرحاً به في كتاب (الانتصار) للقاضي أبي بكر، فقال ما نصه: وقالَ قوم من الفقهاء والمتكلمين: يَجُوز إثبات قراءات وقراءة حكماً لا علماً بخبر الواحد دون الاستفاضة، وكره أهل الحق ذلك وامتنعوا منه انتهى، ولا تتخيل من إفراد الأَئِمَّة كتباً في القراءات الشواذ ـ أنها ملحقة عندَهم بالقرآن، بل إنما فعلوا ذلك لفوائد: منها ما يتعلق بعلم العربية، ومنها الاستشهاد بها في تفسير القرآن، وعلى هذا اقتصر ابن عبيد في كتاب فضائل القرآن، فقالَ: القصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة (38 ب) المتواترة، وتبين معناها، وذلك كقراءة عَائِشَة {والصلاة

الوسطى} (وصلاة العصر) وقراءة سعد، {وله أخ أو أخت} (من أم) وإذا كانوا يرجعون لأقوال التابعين في التفسير فما ظنك بالصحابة؟ ص: (والسبع المتواترة، قيل: فيما ليس من قبيل الأداء، كالمد، والإمالة، وتخفيف الهمزة، قالَ أبو شامة: والألفاظ المختلف فيها بينَ القراء). ش: أمَّا كون السبع متواترة، فمما أجمع عليه من يعتد به، بشرط صحة إسناده إليهم؛ لأنَّها لو لم تكن متواترة لكان بعض القرآن غير متواتر، واللازم باطل وتشعب بعض المتأخرين، وقالَ: لا شك في تواترها عن الأَئِمَّة السبعة، وأما

بأسانيدهم عن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي أخبار آحاد كما يعرف من طرقهم، وجوابه: لعلها كانت متواترة فيما بينهم، واقتصروا على بعض الطرق، ولا يلزم من عدم النقل ألا يكون كذلك، وقوله: (قيل) يشير به إلى ما ذكره ابن الحاجب، وإنما أورده بصيغة التمريض؛ لأنَّه وإن وافقه في استثناء ما ليس من قبيل الأداء، لكن لا يوافق في التمثيل، فإنَّ أصل المد والإمالة متواتر بلا شك، وإنما اختلف القراء في اختياراتهم، فمنهم من رآه طويلاً، ومنهم من رآه قصيراً، ومنهم من بالغ في القصر، فمنهم من تزايد، حمزة وورش بمقدار ست ألفات، وقيل خمس، وقيل أربع، وصححوه، وعن

عاصم: ثلاث، وعن الكِسَائِيّ ألفين ونصف، وعن قالون: ألفين وعن السوسي:

ألف ونصف) وقالَ الداني في التيسير: أطولهم مداً في الضربين جميعاً ـ يعني المتصل والمنفصل ـ ورش وحمزة، ودونهما عاصم ودونه ابن عامر والكِسَائِيّ ودونهما أبو عمرو من طريق أهل العراق فهذه الأمارات والطرق في كيفية التلفظ بالمد ليست متواترة، ولهذا كره أحمد ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قراءة حمزة لما

فيها من طول المد وغيره، ولو كانت متواترة لما كره. وأما الإمالة فقسمان: محضة، وهي أن ينحو بالألف إلى الياء، وبالفتحة إلى الكسرة، وبين بين، وهي كذلك إلا أن الألف والفتحة أقرب، وهي أصعب الإمالتين، وهي المختارة عندَ الأَئِمَّة، فلا شك في تواتر الإمالة، وإنما اختلفوا في كيفيتها مبالغة وقصداً، فهذا هو الذي لا تواتر فيه، وكذلك تخفيف الهمز، أصله متواتر، وإنما الخلاف في كيفيته، وأما الألفاظ المختلف فيها بينَ القراء، فهي ألفاظ قراءة واحدة، والمراد تنوع القراء في أدائها، ولذلك، قالَ: وألفاظ القراء: ولم يقل: القراءات، ومثاله: أن منهم من يرى المبالغة في تشديد الحرف المشدد، فكأنه زاد حرفاً، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يرى الحالة الوسطى فهذا الذي ادعى أبو شامة عدم تواتره وتوقف فيه المصنف، وقالَ: الظاهر تواترها، فإنَّ اختلافهم ليس

إلا في الاختيار، ولا يمنع قوم قوماً، فقول ابن الحاجب: فيما ليس من قبيل الأداء ـ لو اقتصر عليه لأمكن حمله على ادعاء التواتر في المد والإمالة بالمعنى السابق، لكنه لما مثل بهما دل على أن مراده أصل المد والإمالة، فلا يمكن رده إلى ما قررناه إلا بتأويل، بأن يقال: المراد بالمد كيفية (39 أ) المد، وكذلك الإمالة، لكنه يعكر عليه قراءته بتخفيف الهمز. ص: (ولا تجوز القراءة بالشاذ). ش: حكى ابن عبد البر فيه الإجماع قالَ النَّوَوِيّ في (شرح المهذب): لا

في الصلاة ولا في غيرها، لكن عبارة الرافعي: يسوغ القراءة بالسبع، وكذا القراءة بالشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى، ولا زيارة حرف ولا نقصانه، وكلام النَّوَوِيّ في (شرح المهذب) يفهمه أن الرافعي لم يتكلم إلا في الصحة لا في الجواز. ص: (والصحيح أنه ما وراء العشرة، وفاقاً للبغوي والشيخ الإمام، وقيل: ما وراء السبعة). ش: السبعة معروفة، والمراد بالثلاثة الزائدة: قراءة يعقوب وخلف

وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وهذه لا تخالف رسم السبع فمن الناس من عدها من الشواذ، ورجح المصنف التحاقها بالسبع، قالَ: والقول بأنها غير متواترة في غاية السقوط، ولا يصح القول به عمن يعتبر قوله في الدين، وما حكاه عن البغوي فالذي رأيته في أول تفسيره، التعرض لاثنين، فقالَ: وقد ذكر الأَئِمَّة السبعة، ثمَّ زاد، وأبو جعفر ويعقوب، ثمَّ قالَ: فذكرت قراءة هؤلاء للاتفاق على جواز القراءة

بها، هذا لفظه، نعم، قالَ الشيخ أثير الدين أبو حيان وكان من أئمة هذا الشأن: لا نعلم أحداً من المسلمين حظر القراءة بالثلاثة الزائدة على السبع، بل قرئ بها في سائر الأمصار. ص: (أما إجراؤه مجرى الآحاد، فهو الصحيح). ش: ضمير (إجراؤه) يرجع إلى الشاذ، والمراد بإجرائه مجرى الآحاد، في الاحتجاج به؛ لأنَّه بطل خصوص كونه قرآناً، لفقد شرطه وهو التواتر فبقي عموم كونه خبراً، كذا وجهوه، وهو يقتضي أن الخلاف فيما إذا صرح برفعه إلى النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن الشافعي أطلق في (البويطي) الاحتجاج بالقراءة الشاذة، وتابعه جمهور الأصحاب، ولهذا احتجوا في إيجاب قطع اليمين من السارق بقراءة ابن مَسْعُودٍ

(فاقطعوا أيمانهما) ومقابل الصحيح قوله: إنه ليس بحجة، واختاره ابن الحاجب، وأغرب إمام الحرمين في (البرهان) فعزاه للشافعي، مستنبطاً له من عدم إيجابه التتابع في صوم كفارة اليمين، معَ علمه بقراءة ابن مَسْعُودٍ، وهذا لا يدل، فإنَّ الشافعي في الجديد أجراها مجرى التأويل، ولم يثبت عندَه أنه قالَ على أنه قرآن، نعم، ذكر الماوردي في تفسيره أن الشافعي إنما أوجب التتابع في أحد قوليه، لأجل قراءة ابن

مَسْعُودٍ، فإنَّ صح ذلك كانَ في المسألة قولان. ص: (ولا يَجُوز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة خلافاً للحشوية). ش: فإنَّهم قالُوا: يَجُوز ذلك، بل هو واقع مثل {كهيعص} ونحوها من الحروف المتقطعة أوائل السور، ومثل: {كأنه رؤوس الشياطين} والصحيح أن ذلك ممتنع، إذ اللفظ بلا معنى له، هذيان لا يليق بعاقل، فكيف الباري سُبْحَانَهُ وتَعَالَى وأما هذه الحروف فالصحيح أنها أسماء للسور، وأما (رؤوس الشياطين) فإنَّ العرب عادتها ضرب الأمثال بما يتخيلونه قبيحاً ومستهجناً، وحكى ابن برهان في (الوجيز) القولين، ثمَّ قالَ: والحق التفصيل بينَ الخطاب الذي يتعلق به تكليف، فلا يَجُوز أن يكون (39 ب) غير مفهوم المعنى، وما لا يتعلق به تكليف فيَجُوز، فتحصل ثلاثة مذاهب. تنبيهات: الأول: إلحاق الحديث ذكره صاحب (المحصول) وقالَ الأصفهاني في شرحه: لم أره لغيره.

الثاني: أن خلاف الحشوية فيما له معنى لكن لم نفهمه، كالحروف المقطعة وآيات الصفات، وقالوا: لا طريق لدركها أصلاً؛ لأنَّ موجب العقل فيه خالف موجب السمع، ولا يمكن رد إحداهما فأشبه الأمر حتى سقط طلب المراد منه، أمَّا ما لا معنى له أصلاً فاتفاق العقلاء، لا يَجُوز وروده في كلام الله نعم، كلام صاحب العهد يفهم أن الخلاف في أنه هل يَجُوز أن يتكلم الله بشيءٍ ولا يعني به شيئاً؟ وهو بعيد. الثالث: كثر على الألسن فتح الشين من الحشوية، قالَ ابن الصَّلاَحِ: وهو غلط، وإنما هي بالإسكان، وجوز غيره الفتح؛ لأنَّهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فلما أنكر خلافهم قالَ: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة، أي: إلى جانبها. ص: (ولا ما يعنى به غير ظاهره إلا بدليل، خلافاً للمرجئة). ش: قالَ المرجئة: يَجُوز أن يكون في كلام الله ما المراد به غير ظاهره من غير بيان، والصحيح أن ذلك لا يَجُوز؛ لأنَّ اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره لا يدل عليه

فهو كالمهمل، واحترز (بالدليل) عن جواز ورود العموم وتأخير الخصوص ونحوه ولو قالَ: (فيهما) لكان أدل على مراده في الكتاب والسنة، وقد قالَ الشافعي في (الرسالة) وكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ظاهره. ص: (وفي بقاء المجمل غير مبين، ثالثها: الأصح لا يبقى المكلف بمعرفته). ش: اختلفوا هل في القرآن مجمل لا يعرف معناه بعد وفاة النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعه بعضهم؛ لأنَّ الله تعالى أكمل الدين، وقالَ آخرون بإمكانه، وفصل إمام الحرمين، فجوزه فيما لا تكليف فيه، ومنعه فيما فيه التكليف خوفاً من تكليف ما لا يطاق، والظاهر أن هذا تنقيح للقول الثاني لا مذهب ثالث مفصل. ص: (والحق أن الأدلة النقلية قد تفيد اليقين بانضمام تواتر أو غيره). ش: الأدلة النقلية هل تفيد اليقين؟ فيه مذاهب، أحدها تفيده مطلقاً ونقله الآمدي في (الأبكار) عن الحشوية قالَ: حتى بالغوا وقالوا: لا يعلم شيء بغير الكتاب والسنة، والثاني أنها لا تفيده مطلقاً، لتوقف النفس فيها على أمور غير متيقنة، وما توقف على غير اليقين فليس بمتيقن، قالُوا: ولا يحصل اليقين إلا بأمور لا طريق إلى القطع إلا بها أحدها: عصمة رواة مفردات ألفاظها إن نقلت بطريق الآحاد، وإلا فيكفي التواتر، وثانيها: صحة إعرابها وتصريفها: وثالثها: عدم الاشتراك فيها والمجاز، والتخصيص، والإضمار، والتقديم، والتأخير ونحوها مما

يوجب حمل اللفظ على غير المعنى الظاهر منه بانفراده، والاحتمال معَ اليقين متضادان ورابعها: عدم التعارض العقلي، فمتى وجدت هذه الأمور أفاد الدليل اللفظي اليقين، لكن ذلك قلما يوجد، بل ربما يمتنع وجوده، بناء على أنه لا عصمة لغير الشارع، وإن انتفى بعضها لم يفد؛ لأنَّه إن انتفت عصمة الناقل جاز عليه التحريف، وقد وقع كثيراً، وحينئذ فلا يوثق به فلا يفيد الظن (40 أ) فضلاًَ عن اليقين، وإن اختلف الإعراب أو التصريف وقع اللبس لأنَّ الإعراب هو المصحح للمعاني؛ وذلك كاختلاف أهل السنة والشيعة في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما تركنا صدقة)) برفع صدقة ونصبها، واختلاف أهل السنة والقدرية في قَوْلِهِ عليه السلام: ((فحج آدم موسى)) في رفع (آدم) ونصبه، واختلاف الحنفية والشافعية في قَوْلِهِ: ((ذكاة الجنين ذكاة أمه)) في رفع (ذكاة) ونصبه، وكتردد نحو: مختار ومنقاد بينَ اسم الفاعل والمفعول، وأما الاشتراك وما بعده فظاهر إخلاله بالوثوق بدلالة اللفظ، وأما المعارض العقلي فيجب عندَهم تقديمه؛ لأنَّ الدليل العقلي إنما ثبت به، فلو قدم النقلي لكان قدحاً في الأصل والفرع، الثالث وهو الحق: أن الدليل اللفظي إن وجدت فيه الأمور الأربعة أفاد اليقين باتفاق، وإن لم يوجد، فقد يقترن

بمحسوس، وهو اختيار الآمدي في (الأبكار) والإمام في (المحصول) و (الأربعين) فإنَّه حكى أنه لا يفيده، ثمَّ قالَ: وهذا على إطلاقه ليس بصحيح؛ لأنَّه ربما اقترنت بالدلائل النقلية أمور عرف وجودها بالأخبار المتواترة، وتلك الأمور تنفي هذه الاحتمالات، وحينئذ تكون مفيدة اليقين، انتهى، وبه يعلم غلط من نقل عنه اختيار المنع مطلقاً، نعم كلامه في المعالم يقتضيه، وأشار الشيخ نجم الدين الطوفي إلى أن الخلاف لفظي، فإنَّ ما احتجنا فيه إلى اليقين فقد قرر القرآن نواهيه العقلية كأدلة التوحيد والمعاد وغيرهما، وما عدا ذلك فهو عندَنا من الاجتهاديات، والأدلة اللفظية تفي بإثباته، وإن لم تفد اليقين فاندفع عنا إفادة الدليل اللفظي اليقين أم لا؟ والظاهر أن الخلاف معنوي، ومن فوائده: إذا تعارض السمع وما أدركه العقل من أحكام العقائد، فأيهما يقدم؟ وستأتي هذه المسألة في باب الأخبار إن شاء الله تعالى، وقسم بعض المتأخرين تقسيماً حسناً إلى: نقلية، وغير نقلية، فغير النقلية ثلاثة أضرب: ما اتفق على أنه قطعي، وهو الإجماع المُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وما اتفق على أنه ظني كالاستصحاب، وشرع من قبلنا إذا قلنا بحجيتهما وكذلك دلالة الإشارة والتنبيه ومفهوم المخالفة بأنواعه، وما اختلف فيه كالقياس الجلي ومفهوم الموافقة، وأما النقلية ـ والمراد بها الكتاب والسنة ـ فهي على أربعة أضرب: أحدها ما هو قطعي السند والمتن كالآيات الصريحة، والأحاديث المتواترة المجمع على أن المراد بها مدلولاتها. وثانيها: ما هو ظنيهما، كأخبار الآحاد التي لم يقترن بسندها شيء مما قيل:

باب المنطوق والمفهوم

إنه يفيد العلم، وليست متونها نصوصاً في مواردها. وثالثها: قطعي السند ظني المتن، كالآيات العامة والمطلقة التي دخلها التخصيص أو التقييد. ورابعها: عكسه، كأخبار الآحاد التي متونها نصوص لا تحتمل غير مدلولها، ولم يقترن بسندها شيء مما قيل: إنه يفيد العلم، فهذه الأربعة قطعها وظنها مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ووراءه ضربان: أحدهما: ما اختلف في متنه: قطعي أو ظني، كالعام الذي لم يخص، فإنَّ مذهب الحنفية أن دلالته على أفراده بطريق النصوص فتكون نقلية، وعندنا (40 ب) بطريق الظهور بأنها ما اختلف في سنده، هل يفيد القطع أو الظن؟ كالخبر المحتف بالقرائن، والذي تلقته الأمة بالقبول، واتفقوا على العمل به. باب المنطوق والمفهوم. ص: (المنطوق والمفهوم). ش: لما كانَ الاستدلال بالقرآن لكونه عربياً، يتوقف على معرفة أقسام اللغة ـ شرع في سردها، وهي تنقسم باعتبارات. فباعتبار المراد من اللفظ إلى: منطوق، ومفهوم. وباعتبار دلالة اللفظ على الطلب بالذات: إلى أمر ونهي. وباعتبار دلالته على عوارض مدلوله من كونها محصورة، تنقسم إلى: عام، وخاص، ومطلق ومقيد. وباعتبار كيفية دلالتها من خفاء وجلاء إلى: مجمل ومبين. وباعتبار دلالته على ارتفاع الأحكام وبقائها إلى: ناسخ ومنسوخ. وقد ذكرها المصنف على هذا الترتيب، ولا يخفى ما فيه من المناسبة، فإنَّ معنى

اللفظ سابق على كل شيء، وكما أن النسخ أمر خارجي عن اللفظ، تأخر عن الجميع، وتقديم الأمر على العام تقديم ما بالذات على ما بالعرض، وظهر بهذا أن تأخير ابن الحاجب المنطوق، ليس بمناسب. ص: (المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق). ش: أي ما دل عليه بغير واسطة أخرى، كتحريم التأفيف الذي دل عليه قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} ولهذا خصوه باسم المنطوق؛ لأنَّه فهم من دلالة اللفظ قطعاً، فخرج المفهوم، فإنَّ دلالة اللفظ عليه لا في محل النطق بل في محل السكوت، كتحريم الضرب الذي يدل عليه قوله: {فلا تقل لهما أف}. ص: (وهو نص إن أفاد معنى لا يحتمل

غيره كزيد، ظاهر إن احتمل مرجوحاً كالأسد). ش: ينقسم المنطوق إلى: نص، وظاهر، فالنص، ما أفاد معنى لا يحتمل غيره، كزيد، لدلالته على الشخص بعينه، وهذا أحسن حدوده، سمي بذلك، لارتفاعه على غيره من الألفاظ في الدلالة، من قولهم: نصت الظبية جيدها إذا رفعته، ومنها منصة العروس، لكن عود الضمير في كلام المصنف إلى المنطوق يقتضي أن مفهوم الموافقة لا يسمى نصاً، وإن قلنا: دلالته لفظية، وليس كذلك، ثمَّ كانَ التقييد حقه: بخطاب واحد، ليخرج المجمل معَ المبين، فإنَّهما وإن أفادا معنى ولا يحتملان غيره لكنهما ليسا بخطاب، فلا يسميان نصاً، واعلم أن النص يطلق بثلاث اعتبارات. إحداها: مقابل الظاهر، وهو المراد هنا. والثاني: ما يدل على معنى قطعاً ويحتمل معه غيره، كصيغ العموم، فإنَّ

دلالتها على أصل المعنى قطعية، وعلى الأفراد ظاهرة، كما سيأتي. والثالث: ما دل على معنى ظاهر، وهو غالب في استعمال الفقهاء، كقولهم: نص الشافعي على كذا، وقولهم: لنا النص والقياس، يريدون بالنص، الكتاب والسنة مطلقاً. وقوله: (ظاهر إن احتمل مرجوحاً) أي: حد الظاهر: ما أفاد معنى معَ أنه يحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً، فقوله: (يفيد معنى) كالجنس يتناول الحقائق

الثلاثة منفردة كانت أو مشتركة، والمجازات الغير الراجحة، وتبقي الحقائق المنفردة والمجازات الراجحة، إذ اللفظ ظاهر بالنسبة إلى المجاز الراجح دون الحقيقة المرجوحة، كالأسد فإنَّ دلالته على الحيوان (41 أ) أرجح من دلالته على الرجل الشجاع، والمراد بالظاهر ما يتبادر الذهن إليه إما لكونه حقيقة لا يعارضها مقاوم لها، أو لكونه مجازاً مشتهراً، صارَ حقيقة عرفية، وكذا إن لم يصر عندَ من يرجحه على الحقيقة المهجورة. ص: (واللفظ إن دل جزؤه على جزء المعنى فمركب وإلا فمفرد). ش: المراد باللفظ الذي هو مورد القسمة، الموضوع لمعنى، واستغنى عنه بقوله: على جزء المعنى، وإنما قدم تعريف المركب على المفرد؛ لأنَّ التقابل بينَهما تقابل العدم والملكة، والأعلام إنما تعرف بملكاتها، والحاصل أن المركب ما دل

جزؤه على جزء المعنى المستفاد منه، سواء كانَ في تركيبه إسناد كقام زيد، أو تركيب مزج كخمسة عشر أو إضافة كغلام زيد، وقد أورد عليه حيوان ناطق إذا جعل علماً لإنسان، فإنَّه مفرد معَ أن جزءه يدل على جزء معناه، ولهذا زاد فيه بعضهم: حين هو جزء، ومنع آخرون إيراده، فإنَّ التلفظ به حال كونه علماً، لا يقصد شيئاً من جزئيه بقيد الوحدة، بل قصده المجموع، فلا فرق بينه وبين عبد الله، العلم مثلاً، وقوله: (إن دل جزؤه) أي: كل واحد من أجزائه؛ لأنَّ اسم الجنس المضاف يعم، ولا يعد (ز) جزء من زيد قائم، ولا يدل على جزء المعنى؛ لأنَّ المراد بالجزء ما كانَ بغير واسطة، وجزء (ز) لزيد قائم بواسطة كونه خبراً لزيد الذي هو جزء لزيد قائم، فلا يرد نقضاً، والمراد بجزئيه، ما صارَ به اللفظ مركباً كزيد وحده، وقائم وحده. وقوله: (وإلا فمفرد) أي: وإن لم يدل جزؤه على جزء المعنى فهو المفرد، فيشمل مالا جزء له أصلاً كباء الجر، وما له جزء لكن لا يدل على معنى كرجل، فإنَّ أجزاءه وهي حروفه الثلاثة، إذا أفرد شيء منها لا يدل على شيء مما دلت عليه جملته، بخلاف قولنا: غلام زيد، فإنَّه مركب؛ لأنَّ كلا من جزئيه وهما غلام وزيد ـ دال على جزء المعنى الذي دل عليه جملة غلام زيد، وبعض المتأخرين من المناطقة ثلث القسمة وقالَ: إما ألا يدل جزؤه على شيء أصلاً فالمفرد، أو يدل على شيء فإنَّ كانَ على جزء معناه فالمركب، أو لا على جزء معناه فالمؤلف، والمشهور أن المؤلف والمركب واحد.

ص: (ودلالة اللفظ على معناه مطابقة وعلى جزئه تضمن، ولازمة الذهني التزام). ش: الدلالة تنحصر في المطابقة والتضمن والالتزام؛ لأنَّ اللفظ إما أن يدل على معناه الموضوع له أم لا، والأول المطابقة كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، والثاني إما أن يدل على جزء مسماه أو خارج عنه، والأول التضمن كدلالته على الحيوان وحده وعلى الناطق وحده، والثاني الالتزام، كدلالته على الكاتب أو الضاحك، سميت الأولى مطابقة لتطابق اللفظ والمعنى، والثانية تضمناً لتضمن

الكلام لجزئيه، والثالثة التزاماً لما فيها من الاستلزام، ولم يقيد المصنف المعنى بالتمام أو الكمال كالمختصر والمنهاج للتنبيه على أنه غير محتاج إليه عندَه؛ لأنَّهما إنما احترزا به عن جزء المسمى، ولا شك أن جزء المسمى ليس نفس المسمى، لكن كلام ابن الحاجب في المنتهى يدل على أنه إنما احترز به عن الدلالة إذا أريد بها نفس اللفظ، مثل زيد مبتدأ لأنَّها ليست دلالته في معناها (41 ب) بل في لفظها، وقوله: الذهني، إشارة إلى أن المعتبر في الالتزام، اللزوم الذهني دون الخارجي، أمَّا الأول، فلأن اللفظ غير موضوع للازم فلو لم يكن اللازم بحيث يلزم من تصور مسمى اللفظ بصوره لما فهم من اللفظ، وأما الثاني فلحصول الدلالة بدون اللزوم الخارجي، كدلالة العمى على البصر، فإنَّ العمى يدل على البصر بالالتزام، معَ أنه لا لزوم بينَهما في الخارج، وقيد في (المحصول) اللزوم الذهني بالظاهر؛ لأنَّ القطعي غير معتبر، وإلا لم يجز إطلاق اسم اليد على القدرة ونحوه، فإنَّ اليد لا تستلزم

القدرة قطعاً؛ لأنَّها قد تكون شلاء، بل ظاهراً، واعلم أن اشتراط اللزوم الذهني هو رأي المنطقيين، وأما الأصوليون، وأهل البيان فلا يشترطونه، بل دلالة الالتزام عندَهم ما يفهم منه معنى خارج عن المسمى، سواء أكان المفهم للزوم بينَهما في ذهن كل أحد كما في العدم والملكة، أو عمد العالم بالوضع، أو كانَ في الخارج ولم يكن بينَهما لزوم أصلاً لكن القرائن الخارجية استلزمته، ولهذا يجري فيها الوضوح والخفاء بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال وهذا أظهر، والأولون إن ذكروه اصطلاحاً فلا مشاحة، أو بالوضع فممنوع، وقد أورد القرافي على الحصر في الدلالات الثلاث دلالة العام على أفراده، وقالَ: إنها خارجة عن الثلاث، وجوابه يعلم من باب العموم، ومنهم من أورد دلالة اللفظ المركب على مفرادته، فإنَّ الواضع لم يضعه لمفهومه، ولا لشيء ذلك المفهوم داخل فيه، ولا لخارج عنه لازم له، وأجيب بأن المراد بوضع اللفظ للمعنى وضع عينه لعينه أو وضع أجزائه لأجزائه، بحيث يطابق مجموع اللفظ مجموع المعنى، والثاني موجود في المركب، فإنَّ الواضع ـ وإن لم يضع مجموع زيد قائم، لمدلوله ـ فقد وضع كل جزء من أجزائه لجزء من مفهومه، فإنَّه وضع (زيداً) للذات (وقائماً) للصفة، والحركة المخصوصة أعني دفعهما لإثبات الثاني للأول. ص: (والأولى لفظية والثنتان عقليتان). ش: اختلف في هذه الدلالات على ثلاثة مذاهب. أحدها: أن الوضعية هي دلالة المطابقة؛ لأنَّ الذهن ينتقل من اللفظ إلى المعنى ابتداء، والتضمن والالتزم عقليتان، أي: إنما يدلان بالعقل؛ لأنَّ اللفظ الموضوع للمجموع لم يوضع لجزئيه، فلا يدل عليه بالوضع، بل بالعقل لأنَّ فهم المجموع بدون

فهم جزئيه محال عقلاً، وكذلك اللفظ يدل على الملزوم بالوضع، ثمَّ ينتقل الذهن من الملزوم إلى اللازم بالعقل، وهو اختيار صاحب المحصول، وتابعه ابن التلمساني والهندي وغيرهما. والثاني: أن الكل لفظية؛ لأنَّ وضع اللفظ للمجموع كما أنه واسطة لفهم المجموع منه، فكذلك هو واسطة لفهم الجزء اللازم، وعزاه بعضهم للأكثرين. والثالث: أن دلالة التضمن وضعية كالمطابقة، ودلالة الالتزام عقلية؛ لأنَّ الجزء داخل فيما وضع له اللفظ بخلاف اللازم، فإنَّه خارج عنه، وهو رأي الآمدي وابن الحاجب، والحق أن لكل من الوضع والعقل مدخلاً في التضمن والالتزام، فيصح أن يقال: إنهما عقليتان باعتبار أن الانتقال من المسمى إلى الجزء اللازم إنما حصل بالعقل ووضعيتان، باعتبار أن الوضع سبب لانتقال العقل إليهما، فهما

عقليتان ووضعيتان باعتبارين، ومن هنا (42 أ) شكك بعضهم على محل الخلاف، فقالَ: هذا الخلاف لا تحقيق له؛ لأنَّه إن أريد بالوضع، أنه يفيد الاقتصار، فلا خلاف أنه ليس كذلك، وإن أريد تقييد الانضمام، فلا خلاف أنه كذلك، فلم يبق إلا أن يقال: موضوع للهيئة الاجتماعية من الأجزاء أو لا، فعلى الأول يكون الجزء كالشرط للموضوع لا يلاقيه الوضع، وعلى الثاني بخلافه. تنبيه: ليس لك أن تقول: كيف قالَ المصنف أولا: (دلالة اللفظ)، فجعل الثلاثة لفظية، ثمَّ فصل ثانياً؟ لأنَّه لا خلاف أن الدلالات الثلاثة لفظية، بمعنى أن للفظ فيها مدخلاً وهو شرط في استفادتها منه، وإنما الخلاف في أن اللفظ موضوع لها أم لا. ص: ثمَّ المنطوق إن توقف الصدق أو الصحة على إضمار فدلالة اقتضاء. ش: اعلم أن اللفظ يدل على المعنى بطريقين، أحدهما بصيغته، والثاني باقتران أمر به، إذا لحظه المتكلم، استغنى عن التعبير عنه بالتعبير عن ملازمه، وينقسم إلى دلالة اقتضاء وإشارة. الأول: الاقتضاء، وهو ما يفهم عندَ اللفظ ولا يكون منطوقاً به، ولكن يكون من ضرورة المنطوق به، إما من حيث إنه لا يمكن أن يكون المتكلم صادقاً إلا به، أو أنه لا يثبت الملفوظ به، عقلاً إلا به، أو أنه يمتنع ثبوته شرعاً إلا به، فهذه ثلاثة أقسام، الأول، المقتضى لضرورة صدق المتكلم كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)) فإنَّه لا بد من تقدير الحكم أو المؤاخذة لتعذر حمله على حقيقته،

فإنهما واقعان، والثاني كقوله تعالى: {فانفلق} فإنَّه إنما ينتظم بإضمار فضرب، وقوله تعالى: {واسأل القرية} إذ لو لم يقدر أهل القرية، لم يصح عقلاً، فصحة السؤال عقلاً يتوقف على إضمار أهل، لا يقال: هذا غير لازم، لجواز الإعجاز، فإنا نقول: الإعجاز يحصل بأي جماد كانَ فالتخصيص بالقرية يدل على معنى غير إظهار المعجزة. والثالث كفهم حصول الملك، كمن قالَ لغيره: أعتق عبدك عني على ألف، قبيل العتق؛ لأنَّ العتق بدون الملك لا يصح شرعاً، واعلم أن تسمية الكل دلالة اقتضاء هو قول أصحابنا وذهب جمع من الحنفية كالبزدوي إلى أن المقتضي هو الثالث فقط، وسمى الباقي محذوفاً ومضمراً وفرقوا بينَ المحذوف والمقتضي بأن المقتضي لا يتغير ظاهر الكلام عن حاله وإعرابه عندَ التصريح به، بل يبقى كما كانَ قبله، بخلاف المحذوف كـ {اسأل القرية}.

ص: (وإن لم يتوقف ودل على أمر لم يقصد فدلالة إشارة). ش: أي: وإن لم تتوقف الصحة أو الصدق على إضمار ودل على أمر ليس هو بالمقصود من اللفظ الأصلي الذي عبر به، ولكنه وقع من توابعه، فسمى دلالة اللفظ عليه إشارة، كقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ..} الآية، فإنَّ قوله: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، يعلم منه جواز صوم الجنب، ولا شك أنه لم يقصد من الآية، ولكن يلزم من استغراق الليل بالرفث والمباشرة، أن يكون جنباً في جزء من النهار، وهذا الاستنباط محكي عن مُحَمَّد بن كَعْب القرظي من أئمة التابعين، وذكر ابن الحاجب هنا دلالة التنبيه والإيماء (42 ب) كفهم كون الوصف علة الحكم المرتب عليه بفاء التعقيب وأهمله المصنف، فراراً من التكرار لأنَّه ذكره في القياس.

ص: (والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق). ش: قوله: (ما دل عليه اللفظ) جنس و (لا في محل النطق)، فصل يخرج به المنطوق، يشير بذلك إلى أن دلالته ليست وضعية، وإنما هي انتقالات ذهنية، فإنَّ الذهن ينتقل من فهم القليل إلى فهم الكثير، وذلك بطريق التنبيه بأحدهما على الآخر، وسمي مفهوماً؛ لأنَّه لا يفهم غيره وإلا لكان المنطوق أيضاًً مفهوماً، بل لما فهم من غير تصريح به، وقضية هذا أن يسمى دلالة الاقتضاء والإشارة مفهوماً، وعليه جرى بعضهم، لكن الجمهور خصوه بما فهم عندَ النطق على وجه يناقض المنطوق به أو يوافقه. ص: (فإن وافق حكمه المنطوق فموافقة، وفحوى الخطاب: إن كانَ أولى منه ولحنه إن كانَ مساوياً، وقيل: لا يكون مساوياً). ش: حكم غير المنطوق إما موافق لحكم المنطوق نفياً أو إثباتاً أو لا، والأولى مفهوم الموافقة وهل يشترط فيه الأولوية على قولين أحسنهما: لا، بل يكون أولى

ومساوياً، ثمَّ إن كانَ أولى سمي فحوى الخطاب لأنَّ الفحوى ما يعلم من الكلام بطريق القطع كتحريم الضرب من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} وإن كانَ مساوياً سمي لحن الخطاب أي معناه من قوله تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} أي معناه كثبوت الوعيد في إتلاف مال اليتيم وإحراقه من قوله تعالى {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} الآية؛ لأنَّه مثل الأكل والثاني أنه يشترط فيه الأولوية، ولا يكون في المساوي، وهو قضية ما نقله إمام الحرمين عن الشافعي، وعزاه الهندي للأكثرين، والخلاف راجع إلى الاسم، ولا خلاف في

الاحتجاج بالمساوي كالأولى. ص: (ثم قالَ الشافعي والإمام دلالته قياسية، وقيل: لفظية، فقال الغزالي والآمدي: فهمت من السياق والقرائن، وهي مجازية من إطلاق الأخص على الأعم، وقيل: نقل اللفظ إليها عرفاً). ش: ما حكاه عن الشافعي نقله الصيرفي وغيره، ثمَّ قيل: إن مراده، أنه قياس حقيقة، ولهذا ينظر فيه إلى المناسبة، وسماه القياس الجلي ونقله الرافعي في الأقضية عن الأكثرين، وقيل بل أراد أن يشبهه؛ لأنَّ الضرب لما لم يذكر في قَوْلِهِ تعالى: {فلا تقل لهما أف} وإنما استفيد علمه من ناحية المذكور أشبه علمنا بالفرع من ناحية أصله، وإليه مال ابن السمعاني، والقول بأن دلالته لفظية، قالَ

الشيخ: أبو حامد الإسفراييني في كتابه في الأصول: إنه الصحيح من المذهب، ولهذا قالَ به منكرو القياس، ولأنَّه لو كانَ قياساً، لكنا لا نفهمه قبل ورود الشرع بالقياس، وأهل اللغة يفهمون من السياق ذلك، والمراد بكونه لفظياً، أن فهمه مستند إلى اللفظ، لا أن اللفظ تناوله، ثمَّ القائلون بذلك اختلفوا، فقال المحققون منهم كالغزالي والآمدي: فهمت من السياق والقرائن، ودلالة اللفظ عليه مجاز من باب إطلاق الأخص على الأعم، وهؤلاء يقولون: إن صيغ التنبيه بالأدنى على الأعلى موضوعة في الأصل للمجموع المركب من الأمرين، وهو ثبوت الحكم في ذلك الأدنى الذي هو مذكور وتأكيد ثبوته في الأعلى (43 أ) المسكوت عنه، وقالَ آخرون، إنها وإن كانت في الأصل موضوعة لثبوت الحكم في المذكور لا غير، لكن العرف الطارئ نقلها عنها إلى ثبوت الحكم في المذكور والمسكوت عنه معاً، وعلى هذا والذي قبله فلا يكون من المفهوم، بل منطوقاً به، وهذا الذي أخره المصنف وضعفه هو الذي ذكره في باب العموم حيث قالَ: وقد يعم اللفظ عرفاً كالفحوى.

فإن قلت: هل من تناف بينَ ثبوته بالمفهوم وثبوته بالقياس؟ ولم لا يكون إلحاق الضرب بالتأفيف باتفاقهما جميعاً؟ قلت: زعم الصفي أن الحق عدم تنافيهما لكون المفهوم مسكوتاً عنه، والقياس إلحاق مسكوت عنه بمنطوق، قالَ: والدلالة اللفظية إذا لم يرد بها المطابقة، ولا التضمن لا ينافيها القياس، وقد يقال: هما متنافيان؛ لأنَّ المفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق والمقيس ما لا يدل عليه اللفظ ألبتة. واعلم أن إمام الحرمين في باب القياس من (البرهان) قد أشار إلى أن الخلاف لفظي، والظاهر أنه معنوي، ومن فوائده جواز النسخ به وسيأتي فيه خلاف في النسخ إن شاء الله تعالى. ص: (وإن خالف فمخالفة، وشرطه ألا يكون المسكوت عنه ترك لخوف ونحوه، ولا يكون المذكور خرج للغالب، خلافاً لإمام الحرمين، أو لسؤال، أو حادثة، أو للجهل بحكمه أو غيره مما يقتضي التخصيص بالذكر). ش: مفهوم المخالفة أن يكون المسكوت عنه مخالفاً للمنطوق، ويسمى دليل الخطاب، وله شروط منها ما يرجع للمسكوت، ومنها ما يرجع للمذكور، فمن

الأول ألا تظهر أولوية ولا مساواة فيه، فيصير موافقة، ذكره ابن الحاجب وغيره، واستغنى المصنف عنه بما سبق، ومنه ألا يكون ترك ذكره لخوف، فإنَّ كانَ هناك خوف يمنع عن ذكر حال المسكوت عنه، فلا مفهوم له؛ لأنَّ الظاهر أن هذه فائدة التخصيص، واعلم أن كلام ابن الحاجب يقتضي عد هذا من شروط المذكور، وتقريره ألا يكون المذكور وأرداً لدفع خوف، فإنَّ ورد فلا مفهوم له، كما لو قيل لمن خاف ترك الصلاة أول الوقت: يَجُوز ترك الصلاة المفروضة في أول الوقت، فإنَّه لا يدل على عدم جواز تركها في غيره، ومن الثاني أن لا يكون المذكور خرج

مخرج الغالب، أي: أن العادة جارية باتصاف المذكور بالوصف، كقوله تعالى {وربائبكم اللاتي في حجوركم} فإنَّه إنما ذكر هذا القيد لأنَّ الغالب كون الربيبة في الحجر، وقوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} فذكر السفر لأنَّ الغالب أن يفقد فيه الكاتب، وهذا الشرط نقله إمام الحرمين عن الشافعي، ثمَّ قالَ: والذي أراه أن خروج الكلام على العرف لا يسقط التعليق بالمفهوم، لكن ظهوره أضعف من ظهوره غيره. قلت: وإنما صارَ الشافعي إلى ذلك بناء على أصله، أن القيد لا بد له من فائدة، والفائدة منحصرة في نفي الحكم عما عدا المنطوق، فإذا لاح في التخصيص فائدة أخرى غير نفي الحكم تطرق الاحتمال إلى المفهوم، وعلى هذا فيصير عندَه مجملاً، كاللفظ المجمل، حتى لا يحكم بمخالفة ولا موافقة أشار إلى ذلك في (الرسالة) والإمام وإن لم يسقط التعلق به، لكنه قالَ: يضعف دلالته حتى لو عارضه دليل لم

يبلغ في القوة ذلك المبلغ أسقطه، ووافقه (43 ب) ابن عبد السلام، وزاد فقالَ: ينبغي العكس، أي: لا يكون له مفهوم إلا إذا خرج مخرج الغالب، محتجاً بأن القيد إذا كانَ الغالب يدل عليه، فذكره حينئذ بغير فائدة أخرى، وهي المفهومية، بخلاف ما إذا لم يخرج مخرج الغالب، وأجاب في أماليه، بأن المفهوم إنما قلنا به لخلو القيد عن الفائدة لولاه، أمَّا إذا كانَ الغالب وقوعه، فإذا نطق باللفظ أولاً فهم القيد لأجل غلبته، فذكره بعد يكون تأكيداً لثبوت الحكم للمتصف بذلك القيد، فهذه فائدة أمكن اعتبار القيد فيها، فلا حاجة إلى المفهوم بخلاف غير الغالب. ومنه: ألا يكون خرج لسؤال عن حكم إحدى الصفتين، مثل: إن سأل: هل في الغنم السائمة زكاة؟ فيقول: في الغنم السائمة الزكاة. ومنه: ألا يخرج مخرج حادثة خاصة بالمذكور، كما لو قيل بحضرة النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لزيد غنم سائمة، فقالَ: فيها زكاة، فإنَّ القصد بيان الحكم فيه لا النفي عما عداه، ولك أن تقول: كيف جعلوا هنا السبب قرينة صارفة عن إعمال المفهوم، ولم يجعلوه صارفاً عن إعمال العام، بل قدموا اللفظ على السبب، وبتقدير أن يكون كما قالوه. فهلا جرى فيه خلاف العبرة بعموم اللفظ، أو بخصوص السبب؟ ثمَّ رأيت صاحب المسودة، حكى عن القاضي عن أصحابهم فيه احتمالين، ولعل الفارق أن دلالة المفهوم ضعيفة بخلاف اللفظ العام. ومنه: ألا يكون المنطوق خرج لتقدير جهالة من المخاطب لحكم المسكوت

عنه، فإنَّ خرج لذلك، كما لو علم شخص أن في المعلوفة زكاة ولم يعلمها في السائمة، فقال النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((في السائمة زكاة)) فلا مفهوم له؛ لأنَّ التخصيص حينئذ لإزالة جهل المخاطب لا لنفي الحكم عما عداه فلا مفهوم له، وقوله: (أو غيره مما يقتضي التخصيص) أي تخصيص حكم المنطوق بالذكر من الفوائد التامة التي لا تحتاج معها إلى تقدير فائدة أخرى، ويجمع ما سبق أن نقول، وشرطه ألا يظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت عنه، وعليه اقتصر في (المنهاج) لكن المصنف تابع ابن الحاجب في سرد

الصور. ص: (ولا يمنع قياس المسكوت بالمنطوق، بل قيل: يعمه المعروض، وقيل: لا يعمه إجماعاً). ش: الضمير في قَوْلِهِ: لا يمنع عائد على قوله: (مما يقتضي التخصيص والمعنى أن شرطه، ألا يكون هناك شيء من الأسباب التي تقتضي تخصيص القيد بالذكر، ولا يمنع أن يقاس المسكوت على المنطوق، ويَجُوز عوده على التخصيص بالذكر، والمعنى: ولا يمنع التخصيص ـ والحالة هذه ـ بالذكر أن يلحق المسكوت بالمنطوق، إذا اقتضى القياس إلحاقه، والغرض من هذا مسألة حسنة، وهي أنا حيث لا نجعل القيد مخصصاً، فهل نقول: إن ما وراء ذي القيد كالمعلوفة في قولنا: الغنم السائمة ـ داخل في عموم قولنا: الغنم، وإن وجود لفظ السائمة كالمعدوم، إذ لا تأثير له في منع المعلوفة من الدخول تحت عموم لفظ الغنم؟ أو نقول: إنه منع دخوله تحت العموم، وبقي مسكوتاً عنه كما كان، إذ لا مفهوم ينفيه، ولا لفظ يقتضيه؟ والمختار الثاني، وادعى بعضهم فيه الإجماع وهو قضية قول (44 أ) ابن الحاجب في أثناء المسألة، وأجيب بأن ذلك فرع العموم ولا قائل به، وقالَ بعضهم بالأول، وإليه أشار المصنف بقوله: (بل قيل: يعمه المعروض) وأشار بقوله: (إجماعاً) إلى أن هذا القول قد ادعي قيام الإجماع عليه، فيكون ما وراءه خارقاً للإجماع، ولا فائدة في قَوْلِهِ: (وقيل: لا يعمه إجماعاً) إلا التنبيه على ذلك، وإلا نفى قوله: (ولا يمنع قياس المسكوت بالمنطوق) ما يفهم أن الإلحاق به قياس سائغ، وبهذا يخرج الجواب عمن اعترض على المصنف بأنه حكى قولاً بالتعميم، والإجماع في مقابله، وتحريره أنه لم يدع قيام الإجماع على مقابله، بل نقل أن بعضهم ادعى ذلك، وأما المعروض فهو اللفظ العام، وهو الغنم مثلاً، في قولنا: الغنم السائمة، إذ لفظ السائمة عارض له، وإنما قالَ: المعروض ولم يقل الموصوف، لئلا يتوهم اختصاص ذلك بمفهوم الصفة، وهو لا يختص به، إذ هذه الأمور تمنع القول بالمفهوم في الصفة والشرط وغيرهما، ولم يقيد المقيد؛ لأنَّ من يدعي أن اللفظ عام، وأنه لا ينافي العموم، فيَجُوز الإلحاق به قياساً لا يسلم وجود قيد، ويقول: لفظ السائمة ليس

قيداً؛ لأنَّ ما جاء للتقييد، وإنما خرج لغرض وراء التقييد. ص: (وهو صفة كالغنم السائمة أو سائمة الغنم لا مجرد السائمة على الأظهر). ش: مفهوم الصفة، أن يذكر الاسم العام مقترناً بالصفة الخاصة، كقوله: (في الغنم السائمة زكاة) يفهم نفيها عن المعلوفة، وقوله: (لا وصية لوارث)، يفهم جوازها لغير الوارث، وليس المراد بالصفة النعت فقط، كما هو اصطلاح النحوي، ولهذا يمثلون بـ ((مطل الغني ظلم)) فجعل الغنى صفة، والتقييد فيه بالإضافة، وإنما غاير المصنف بينَ المثالين بالعطف بـ (أو) لينبه على تغايرهما فإنَّ

كلام (المنهاج) يقتضي تساويهما ومختار المصنف خلافه، وإن لكل منهما مفهوماً غير المفهوم من الآخر، وبنى ذلك على أن مرادهم بالصفة تفسير لفظ مشترك المعنى، بلفظ آخر مختص ليس بشرط ولا استثناء ولا غاية قالَ: فإنَّ المقيد في: (في الغنم السائمة الزكاة) إنما هو الغنم، وفي: (في سائمة الغنم زكاة) إنما هو السائمة، فمفهوم الأول عدم الوجوب في الغنم المعلوفة، التي لولا التقيد بالسوم، لشملها لفظ الغنم، ومفهوم الثاني عدم وجوب الزكاة في سائمة غير الغنم كالبقر مثلاً، التي لولا تقييد السائمة بإضافتها إلى الغنم لشملها لفظ السائمة، وأما عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة بالنسبة إلى هذا التركيب الثاني، فإنَّه من باب مفهوم اللقب؛ لأنَّ قيد الغنم لم يشمل غيرها كالبقر مثلاً، فلم يخرج بالصفة التي لو أسقطت لم يختل الكلام، وأما قوله: لا مجرد السائمة، يشير به إلى أن صورة مفهوم الصفة المُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أن تذكر الذات العامة، ثمَّ تذكر إحدى صفتيها، كالمثالين المذكورين، أمَّا إذا ذكرت الصفة فقط، مثل السائمة فقط، هل هو كالصفة أو لا مفهوم له؟ لأنَّ الصفة إنما جعل لها مفهوم؛ لأنَّه لا فائدة لها إلا نفي الحكم، والكلام بدونها لا يختل، وأما الصفة المجردة فكاللقب يختل الكلام بدونه على قولين، حكاها الشيخ أبو حامد، وابن السمعاني وغيرهما، قالَ ابن السمعاني: وجمهور أصحاب الشافعي على التحاقه بالصفة (44 ب) وهذا خلاف ترجيح المصنف، وعلى الأول فلا ينبغي أن يفهم تساويهما، بل الصفة المقيدة بذكر موصوفها أقوى في الدلالة من الصفة المطلقة؛ لأنَّ المقيدة بذكر موصوفها كالنص، وقالَ الهندي: الخلاف في هذا

أبعد؛ لأنَّ في صورة التخصيص بالصفة من غير ذكر العام، يمكن أن يكون الباعث للتخصيص هو عدم خطوره بالبال، وهذا الاحتمال إن لم يمنع في العام المرادف بالصفة الخاصة في معرض الاستدراك فلا شك في بعده جداً، وقيد الوصف بالذي يطرأ ويزال احترازاً عن الصفة اللازمة للجنس كالطعم لما يؤكل، نحو قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: ((لا تبيعوا الطعام بالطعام)) فإنَّ هذا، ليس الخلاف فيه كالخلاف في تينك الصورتين، بل أبعد وهو قريب من الخلاف في التخصيص بالاسم. ص: (وهل المنفي غير سائمتها أو غير مطلق السوائم قولان). ش: لا خلاف أن المنفي غير السائمة، لكن اختلفوا هل هي غير سائمة الغنم أو غير سائمة كل شيء؟ مثاله: (إذا قالَ: في الغنم السائمة زكاة، هل يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة مطلقاً من سائر الأجناس، سواء كانت معلوفة الغنم أو الإبل أو البقر أو يختص النفي عن ذلك الجنس، وهي معلوفة الغنم فقط؟ وهذا الخلاف حكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه في (الأصول) والإمام في (المحصول) عن أصحابنا وصححا الثاني، ووجهه أن المفهوم نقيض المنطوق والمنطوق سائمة الغنم دون غيرها، قالَ المصنف: ولعل الخلاف مخصوص بصورة (في الغنم السائمة) أمَّا صورة سائمة الغنم، فقد قلنا: إن المنفي فيها سائمة غير الغنم، فالمنفي سائمة لا غير سائمة، والمنفي هناك غير سائمة، لكن غير سائمة، على الغنم أو غير سائمة على الخصوص؟ فيه القولان.

ص: (ومنها العلة، والظرف والحال، والعدد) ش: الضمير في (منها) يعود إلى الصفة، وعادة الأصوليين، يغايرون بينَ الصفة وبين هذه المذكورات، وجعلها إمام الحرمين أقساما من الصفة وراجعه إليها فقالَ: ولو عبر معبر، عن جميع هذه الأنواع بالصفة، لكان ذلك منقدحاً، فإنَّ المحدود والمعدود موصوفان بعددهما وحدهما، والمخصوص بالكون في زمان أو مكان موصوف بالاستقرار فيها، فقول القائل: زيد في الدار أي: مستقر فيها وكائن فيها وكذا القتال يوم الجمعة أي: كائن فيه، وقد صرح به القاضي أبو الطيب في العدد، وقالَ: إنه قسم من الصفة لأنَّ قدر الشيء صفته، وأشار إليه ابن الحاجب أيضاًًَ، وجرى عليه المصنف. ومنها مفهوم العلة، فهو تعليق الحكم بالعلة، نحو: ما أسكر كثيره فقليله حرام، مفهومه: أن ما لا يسكر كثيره لا يحرم، والفرق بينه وبين مفهوم الصفة: أن الصفة قد تكون تكملة العدد لا علة، وهي أعم من العلة، فإنَّ الزكاة لم تجب في السائمة لكونها تسوم، وإلا لوجبت الزكاة في الوحوش، وإنما وجبت لنعمة الملك وهو معَ السوم أتم منها، معَ العلف، كذا قاله القرافي، ولك أن تقول:

انتفاء الحكم عن المسكوت لأجل انتفاء العلة المعلق عليها الحكم لا من ناحية المفهوم، والأصل عدم علة أخرى، وأما مفهوم الظرف فهو يتناول ظرف الزمان (45 أ) والمكان وهو حجة عندَ الشافعي كما قاله إمام الحرمين فالزمان كقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} والمكان كقوله تعالى: {فاذكروا الله عندَ المشعر الحرام} وأما مفهوم الحال، أي: تقييد الخطاب بالحال، فكقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} ذكره ابن السمعاني في (القواطع)، وقالَ: إنه كالصفة، وأما العدد، أي: تعلق الحكم بعدد مخصوص، كقوله تعالى: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} وهو كالصفة كما نقله الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي، وكذا الماوردي في باب بيع الطعام قبل أن يستوفي، ومثله بقوله: في أربعين شاة، شاة، قوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً) وفي هذا الثاني نظر، وقد

قالَ ابن الصباغ في (العدة): مذهب الشافعي أن مفهوم العدد حجة إلا إذا كانَ في ذكر المعدود تنبيه على ما يزاد عليه، كقوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً)، فإنَّه ينبه على أن ما زاد عليهما أولى بأن لا يحمل، قلت: وهذا قاله الشافعي في اختلاف الحديث، فقالَ: وفي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً))، دلالتان: إحداهما: أن ما بلغ قلتين فأكثر لم يحمل نجساً؛ لأنَّ القلتين إذا لم يتنجساً، لم ينجس أكثر منهما، وهذا يوافق حديث بئر بضاعة، والثانية: أنه إذا كانَ دون القلتين حمل النجاسة؛ لأنَّ قوله: إذا كانَ الماء كذا لم يحمل النجاسة، دليل على أنه إذا لم يكن كذا حمل النجاسة، وهذا يوافق حديث أبي هُرَيْرَةَ في

غسل الإناء من الولوغ؛ لأنَّ آنيتهم كانت صغاراً، انتهى، وعلى هذا الثاني يحمل كلام الماوردي وأنه حجة بالنسبة إلى عدم النقصان لا الزيادة. ص: (وشرط) ش: هذا قسيم قوله: وهو صفة، ومفهوم الشرط هو تعليق الحكم على شرط، وهو يدل على انتفاء الحكم قبل وجود الشرط، وهو معنى قولهم: المعلق بالشرط عدم، قبل وجود الشرط، وإلا لكان التعليق بالشرط قبيحاً، واقتضى كلام الإمام فخر الدين أن الخلاف في أن عدم المشروط مستفاد من عدم الشرط، أو لا، وليس كذلك فإنَّ القاضي من المنكرين له، وهو قائل بعدم الشرط، لكن علة عدمه استصحاب الأصل، وغيره يعلله بعدم الشرط فالخلاف إنما هو في دلالة حرف الشرط على العدم عندَ العدم لا على أصل العدم عن العدم، فإنَّ ذلك ثابت بالأصل، قبل أن

ينطق الناطق بكلام، وكذا القول في سائر المفاهيم، وهل المراد بالشرط الاصطلاحي أو اللغوي حتى يدخل فيه السبب في أنه يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم فيه بحث. ص: (وغاية) ش: مفهوم الغاية مد الحكم إلى غاية بإلى وحتى، فيدل على نفي الحكم عما بعدها لقوله تعالى: {وأتموا الصيام إلى الليل} {ولا تقربوهن حتى يطهرن} ونص الشافعي في (الأم) على القول به، ومنهم من أنكره، وقالَ:

هو نطق بما قبل الغاية، وسكوت عما بعدها، فيبقى على ما كانَ عليه. ص: (وإنما ومثل لا عالم إلا زيد، وفصل المبتدأ من الخبر بضمير الفصل وتقديم المعمول). ش: مفهوم الحصر أنكره قوم، وقالَ آخرون هو من المنطوق، والجمهور على أنه من المفهوم ويدخل فيه صور منها: إنما، نحو: ((إنما الولاء لمن أعتق)) فإنَّه يفيد إثباته للمعتق، ونفيه عن غيره بالمفهوم، وسيذكر المصنف الخلاف فيه، ومنها المنفي بما أو بلا، والاستثناء، نحو (45 ب) لا عالم إلا زيد وما قام إلا زيد، صريح في نفي العلم عن غير زيد، ويقتضي إثبات العلم له، قيل بالمنطوق، وقد رأيت في كتاب ابن فورك الجزم به، وقالَ: فيه قضيتان، نفي وإثبات بخلاف النفي المجرد نحو: ((لا صيام لمن لم يبيت الصيام)) فإنَّه قضية واحدة لها مفهوم: انتهى.

والصحيح أنه بالمفهوم لما سنذكره وتمثيله بالاستثناء المفرغ يقتضي خلافه لو قلت: ما قام أحد إلا زيد، ولا فرق، ومنها ضمير الفصل بينَ المبتدأ والخبر نحو: زيد هو القائم يفيد ثبوت القيام له، ونفيه عن غيره بالمفهوم، وعليه قوله تعالى: {أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي} وقوله: {إن شانئك هو الأبتر} وهذا ذكره البيانيون ومنها: تقديم المعمول، نحو: {إياك نعبد وإياك نستعين} أي: نخصك بالعبادة والاستعانة، وبالغ البيانيون في إفادته الاختصاص، وسيأتي الخلاف فيه. وأطلق المعمول ليشمل المفعول والحال والظرف، وكذلك تقدم الخبر على المبتدأ نحو: تميمي أنا، وبه صرح صاحب (المثل السائر) وأنكر عليه صاحب (الفلك الدائر) وقالَ:

لم يقل به أحد، واحتج أصحابنا على تعيين لفظتي التكبير والتسليم بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم} ومنعته الحنفية معتقدين أنه من قبيل المفاهيم، وزيفه إمام الحرمين بأن التعيين يستفاد من الحصر المدلول عليه بالمبتدأ والخبر، فإنَّ التحريم ينحصر في التكبير كانحصار زيد في صداقتك، إذا قلت: صديقي زيد، وقرر الشيخ بهاء الدين النحاس بأن المبتدأ لا يكون أعم من الخبر، لا تقول: الحيوان الإنسان، فإنَّ قلت: زيد صديقي، كانَ الخبر صالحاً لأنَّ يكون أعم من المبتدأ فيجعله كذلك، وكذلك قالُوا: لا يلزم انحصار الصداقة في زيد بخلاف قولك: صديقي زيد، فإنا لا يمكننا أن نجعل الخبر الذي هو زيد أعم من المبتدأ، فما بقي إلا أن نجعله مساوياً، وإلا كانَ الخبر أخص من المبتدأ وأنه غير جائز، وإذا كانَ مساوياً يلزم الانحصار، ضرورة صدق، أن كل من هو صديقي زيد حينئذ.

ص: (وأعلاه لا عالم إلا زيد ثمَّ ما قيل: إنه منطوق أي: بالإشارة ثمَّ غيره). ش: أي: أقوى المفاهيم من باب الحصر النفي وإلا؛ لأنَّ إلا موضوعة للاستثناء وهو الإخراج، فدلالته على الإخراج بالمنطوق لا بالمفهوم، ولكن الإخراج من عدم القياس ليس هو غير القيام، بل قد يستلزمه، فلذلك كانَ من المفهوم، واعلم أن بعض الجدليين حكى خلافاً في الاستثناء، هل هو منطوق أو مفهوم؟ ورجح الأول بدليل أنه لو قالَ: ما له علي إلا دينار، كانَ ذلك إقراراً بالدينار حتى يؤاخذ به، ولولا أنه منطوق لما ثبتت المؤاخذة به؛ لأنَّ دلالة المفهوم لا تعتبر في الإقرار بالاتفاق، وقوله: (ثم ما قيل: إنه منطوق) أي: كأنها، وإنما قالَ: أي: بالإشارة للتنبيه على أنه ليس مراد القائل بكونه منطوقاً إنه منصوص، فذلك بعيد، بل مراده إشارة النص إليه، ولا شك أنه بهذا الاعتبار مرتفع عن رتبة المفاهيم، إذ دلالة النص أقوى من مفهومه، فإنَّ قلت: لا حاجة لقوله أولاً: (وأعلاه لا عالم إلا زيد) لأنَّ من الناس من قالَ: إنه منطوق، وقالَ القرافي: إنه الظاهر (46 أ) فهو داخل في قَوْلِهِ: (ما قيل: إنه منطوق) قلت: لا بد منه؛ لأنَّ القائل بالمنطوق في النفي، قيل إلا أن يدعي أنه منطوق، بخلاف إنما والغاية، ولهذا قالَ: أي بالإشارة والذي أحوجه إلى هذا أنه قصد إثبات تعاقب رتبها في المفهوم، وإن جعلناها من المفهوم، فليست دلالتها على

السواء، وقوله: ثمَّ غيره أي: من أنواع الحصر الذي كما وهو ضمير الفصل وتقديم المعمول ويلحق به حصر المبتدأ في الخبر. ص: (مسألة: المفاهيم إلا اللقب حجة لغة، وقيل: شرعاً، وقيل: معنى). ش: الألف واللام للعهد، وهي الأربعة السابقة في أنواع المخالفة، فإنَّ مفهوم الموافقة يجمع على القول به كما قاله القاضي أبو بكر وغيره، وقالَ الهندي لا نعلم خلافاً في صحته، بل أطبق الكل عليه حتى منكرو القياس، وقوله: إلا اللقب، لا وجه للاستثناء؛ لأنَّه لم يتقدم له ذكر، وإنما ذكره فيما بعد، وأخره لأنَّه يخالفها في الحجة، وقوله: حجة، أي: ظاهر في المفهوم، مثل العموم ظاهر في الاستغراق، ولهذا نقدمه على القياس، ونؤخره عن النص، قالَ ابن السمعاني، لكن اختلف القائلون به، هل نفى الحكم فيه عما عدا المنطوق به من جهة اللغة، أي: ليس من المنقولات الشرعية، بل هو باق على أصله، أو من جهة الشرع بتصرف منه زائد على وضع اللغة، أو من قبيل المعنى أي: العرف العام، ورجح ابن السمعاني الأول وتابعه المصنف وعزاه لأكثر الأصحاب، وعزا الثالث للإمام، وهو متابع فيه للهندي، وإنما قاله الإمام في (المعالم) وأما في المحصول فاختار مذهب الحنفية، معَ أن المصنف في باب العموم جزم بأن تعميم مفهوم المخالفة بدلالة العقل، ثمَّ أحاله على المذكور هنا، واستثنى من حجية المفاهيم مفهوم اللقب، وهو تعلق الحكم بالاسم الجامد، نحو: قام زيد، فلا يدل على نفي الحكم عما عداه على الصحيح؛ لأنَّ اللفظ لم يتعرض له، وتخصيصه بالذكر، لغرض الإخبار عنه، لا لنفيه عن غيره، وليس المراد باللقب الاصطلاحي: النحوي بل الأعم من اللقب والاسم والكنية.

ص: (واحتج باللقب الدقاق والصيرفي وابن خويز منداد وبعض الحنابلة). ش: زيفوا مذهب الدقاق، بأن المصير إليه ينفي تعيين كل ما اعتبر الشرع عينه، ويستلزم إثبات قيام كل من في العالم عندَ قولنا: زيد جالس، ويلزم تكفير من قالَ: عيسى رسول الله، وله أن يجيب بأن المفهوم اللقبي يحتج به عندَ عدم معارضة المنطوق كغيره من المفاهيم، واعلم أن نسبته إلى الدقاق مشهور وأما

الصيرافي فاعتمد المصنف فيه أن السهيلي نقله في (نتائج الفكر) في باب عنه وهو غريب ولعله تحرف علة بالدقاق، وأما حكايته عن ابن خويز منداد، فذكره الماوردي وغيره، وقالَ المصنف: إن الإمام في البرهان حكاه عن طوائف من أصحابنا، وأنه إخبار للاحتجاج به إذا اقترن به ما يفيد نفي الحكم، كقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} فائدة: ابن خويز منداد اشتهر على الألسنة بالميم، وعن ابن عبد البر أنه بالباء الموحدة المكسورة.

ص: (وأنكر أبو حنيفة الكل مطلقاً، وقوم في الخبر، والشيخ الإمام في غير الشرع، وإمام الحرمين صفة لا تناسب الحكم، وقوم العدد دون غيره). ش: المنكرون للمفهوم في الجملة اختلفوا (46 ب) على مذاهب، فمنهم من أنكر الكل، أي مفاهيم المخالفة، وقوله: (مطلقاً) لأجل التفصيل الذي بعده، والعجب على اقتصاره على أبي حنيفة، وحده فإنَّه وجه عندَنا صارَ إليه الغزالي، وتوهم ابن الرفعة في (المطلب) أن أبا حنيفة يقول بمفهوم الصفة لإسقاط الزكاة في المعلوفة، وليس مأخذ السقوط عندَه المفهوم، بل إن الأصل عدم الوجوب مطلقاً، خرجت السائمة بدليل، فبقي في المعلوفة على الأصل، ومنهم من أنكره في الخبر، واعترف به في الأمر، فهذا أخذه المصنف من ابن الحاجب، فإنَّه ذكر في أدلة النفاة أنه لو ثبت المفهوم لثبت في الخبر وهو باطل؛ لأنَّ من قالَ في الشام: الغنم السائمة، لم يدل على خلافه قطعاً، وأجاب بالتزامه في الخبر أيضاًً، وبأنه قياس في اللغة ثمَّ زيفها، وقالَ: الحق في الفرق بينَ الإنشاء والخبر، فإنَّ الخبر وإن دل على المسكوت ـ غير مخبر به، فلا يلزم أن يكون حاصلاً في الخارج لأنَّ الخبر يفتقر إلى خارج وهو تعلقه، بخلاف الحكم، إذ لا خارجي له حتى يجري فيه ذلك، وفرق ابن السمعاني فإنَّ المخبر قد يكون له غرض في الإخبار، بأن في الشام غنماً سائمة مثلاً وأن زيداً الطويل في الدار، ولا يكون له غرض في الإخبار، عن غير الشام ولا عن غير زيد الطويل فخصهما، بالإخبار لذلك، وأما الشارع في مقام الإنشاء وإن بينَ جميع الأحكام فإذا قالَ: زكوا عن الغنم السائمة، علمنا أنه لو كانت الزكاة في جميع الغنم لعلق بمطلق الاسم. واعلم أن مقتضى كلام من ذكر أن القول ينفيه في الخبر محل اتفاق، ولهذا تمحلوا طريق الفرق، وصرح به القاضي في التقريب، ومع ذلك فلا يخفى ما في حكاية المصنف له قولاً مفصلا، لكن صاحب (المسودة) حكى عن القاضي وعن أصحابه فيه قولين، مرة سوى بينهما، ومرة فرق، فقالَ: إذا قلت: زيد الطويل في الدار، لم يدل على القصير بنفي ولا إثبات، وقالَ والد المصنف: إنما هو حجة في خطاب الشارع لعلمه بواطن الأمور وظواهرها وليس بحجة في كلام

المصنفين والناس لغلبة الذهول عليهم، وعلى هذا فالمفهوم بمنزلة القياس، ويشهد له ما حكاه الرافعي عن فتاوى القاضي حسين، أنه لو ادعى عليه عشرة، فقالَ: لا تلزمني اليوم ـ لا يطالب بها؛ لأنَّ الإقرار لا يثبت بالمفهوم، قلت: لكن كلام المصنف يقتضي أنه لا فرق بينَهما في طرد الخلاف وقد حكى الغزالي في البسيط فيما لو قالَ: قارضتك على أن لي النصف وسكت عن جانب العامل ـ فظاهر النص إنه فاسد؛ لأنَّ جميع أجزاء الربح تضاف إليه بحكم الملك، وإنما ينصرف عنه بإضافته إلى غيره ولم يضف، وذكر ابن سريج قولاً مخرجاً أنه يصح تمسكاً بالفحوى والمفهوم، انتهى. وقالَ الهروي في (الإشراف) لو قالَ: ما لزيد علي أكثر من مائة درهم، لم يكن مقراً بالمائة؛ لأنَّه نفي مجرد، فلا يدل على الإثبات، وفيه وجه أنه إقرار، وهو قول أبي حنيفة، وأصل هذا أن دليل الخطاب، هل هو حجة أم لا؟ انتهى. ثم رأيت ابن تَيْمِيَّةَ في بعض مؤلفاته، حكى هذا التفصيل عن بعض الناس، وقالَ: إنه خلاف الإجماع، فإنَّ الناس إما قائل بأن المفهوم من جملة دلالات الألفاظ أو ليس من جملتها، فالتفصيل إحداث قول ثالث، ثمَّ القائلون بأنه حجة إنما قالُوا: هو حجة في الكلام مطلقاً، واستدلوا على كونه حجة في كلام الناس بأنه دلالة (47 أ) من جملة الدلالات كالعموم، وأما القياس فإنما لم يكن حجة في كلام الناس؛ لأنَّه ليس من دلالات الألفاظ المعلومة من جهة اللغة، وإنما يصير دليلاً بنص الشارع بخلاف المفهوم، فإنَّه دليل لغة والشارع بينَ الأحكام بلغة العرب، وقد يقال: إن هذا التفصيل قريب من الذي قبله، أعني التفصيل بينَ الخبر والإنشاء؛ لأنَّ المصنفين مخبرون عن حكم الله لا منشئون وقد عكس بعض الحنفية، ففي (حواشي الهداية) للخبازي في باب جنايات الحج أن شمس الأَئِمَّة ذكر في (السفر الكبير) أن

تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن الحكم بخلافه، إنما هو في خطابات، فأما في معاملات الناس وعرفهم فإنَّه يدل، ويؤيده ما سبق عن حكاية الهروي، فإنَّ أبا حنيفة جعله مقراً معَ أنه لا يقول بالمفهوم، على أنه قد يقال: لا معنى لنقل المصنف ذلك عن والده، بل الخلاف فيه قديم من غير خصوصية بالمفهوم، فقد حكى إلكيا الطبري، خلافاً في أن قواعد أصول الفقه المتعلقة بالألفاظ كالعموم والخصوص وغير ذلك، هل يختص بكلام الشارع أو تجري في كلام الآدمي، وسيأتي في باب العموم حكايته عن القاضي الحسين أيضاًً، والراجح الاختصاص، ويشهد له مناط قولهم: إن مفهوم الصفة إنما كانَ حجة لما فيه من معنى العلة، والعلل لا نظر إليها في كلام الآدمي، إذ لا قياس فيها قطعاً وقولهم لا يمكن أن يكون المخصص المذكور بالذكر خطوره بالبال دون صيغة؛ لأنَّ ذلك لا يتأتى إلا في كلام الله تعالى، ويعلم من هذا أن تخريج المتأخرين مسائل الفروع على القواعد الأصولية لا يخلو من نزاع، وأنكر أمام الحرمين المفهوم في الصفة، إذ لم تشتمل على معنى يناسب للحكم، كقولهم: الإنسان الأبيض ذو إرادة، بخلاف المشتملة على المناسب كالسائمة، فإنَّ خفة المؤنة ظاهرة في الإيجاب، وعدمها في عدمه، قالَ ابن السمعاني: وهو خلاف مذهب الشافعي، فإنَّ العلة ليس من شرطها الانعكاس، وهذا أورده الإمام على نفسه، وأجاب بأن قضية اللسان هي الدلالة عندَ إحالة الوصف على ما عداه بخلافه، وزعم أن هذا وضع اللسان ومقتضاه بخلاف العلل المستنبطة، واستفيد مما نقله المصنف عن إمام الحرمين صواب النقل عنه، فإنَّ صاحب المحصول والمنهاج نقلا عنه اختيار المنع كأبي حنيفة ونقل ابن الحاجب عنه القول بغير ذلك، والموجود في البرهان ما حكاه

المصنف من التفصيل، وأنكر قوم العدد دون غيره من المفاهيم ـ يعني خلا اللقب وهذا منسوب إلى الإمام في المحصول، فإنَّه ذكر تفصيلاً حاصله أنه لا، والمنقول عن الشافعي، أنه يدل ممن نقله الماوردي وأبو حامد، لكنه مثل بقوله: إذا بلغ الماء قلتين، والأشبه أنه من الشرط، فإنَّه لا اسم عدد هنا كاثنين وثلاثة بل المعدود. ص: (مَسْأَلَةٌ: الغايةُ قيلَ: مَنْطُوقٌ: والحقُّ مَفْهومٌ). ش: ذَهَبَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلى أنَّ الحُكْمَ في الغايةِ منطوقٌ، وادَّعَى أنَّ أهلَ اللُغَةِ وقَّفُونَا= على ما يَقُومُ مُقامَ نَصِّهِم، على أنَّ تَعْلِيقَ الحُكْمِ بالغايةِ موضوعٌ للدَّلالَةِ على أنَّ ما بعدَها خلافُ ما قبْلَها؛ لأنَّهم اتَّفَقُوا على أنَّ الغايةَ ليسَتْ كلاماً مُسْتَقِلاًّ، فإنَّ قولَه: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وقولَه: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، لا بُدَّ فيه من إضْمَارٍ لضَرُورَةِ تتْمِيمِ الكلامِ، وذلك الضميرُ إمَّا ضِدَّ ما قَبْلَه أو غَيْرَه، والثاني باطِلٌ؛ لأنَّه ليسَ في الكلامِ ما يَدُلُّ عليه، فتَعَيَّنَ الأوَّلُ، فتقديرُه: حتى يَطْهُرْنَ

فاقْرَبُوهُنَّ، وحتى تُنْكَحَ فتَحِلُّ. قالَ: والإضْمارُ بمنزلَةِ المَلْفوظِ به؛ فإنَّه إنَّما يَضْمُرُ لسَبْقِه إلى فِهْمِ العارفِ باللسانِ، وعلى ذلك جَرَى صاحبُ (البَدِيعِ) من الحَنَفِيَّةِ، فقالَ: هو عندَنا من قَبِيلِ دلالَةِ الإشارَةِ، لا المفهومُ، ومن هذا يُعْلَمُ أنَّ كلامَ ابنِ الحاجبِ في النَّقْلِ عن القَاضِي يَقْتَضِي أنَّه مَفْهُومٌ، ليسَ بجَيِّدٍ، وكلامُ القَاضِي في التَّقْرِيبِ مُصَرَّحٌ بما ذَكَرْنَا، لكنْ الجمهورُ على أنَّه مفهومٌ، ومَنَعُوا وَضْعَ اللُغَةِ لذلك. ص: (ويَتْلُوهُ الشَّرْطُ، فالصِّفَةُ المُناسبَةِ، فمُطْلَقُ الصفَةِ غيرَ العَدَدِ، فالعَدَدُ. فتَقْدِيمُ المَعْمُولِ لِدَعْوَى البَيَانِيِّينَ إفَادَتُه الاخْتصاصُ، وخَالَفَهُم ابنُ الحاجِبِ وأَبُو حَيَّانَ). ش: لمَّا فَرَغَ من بَيانِ كونِه حُجَّةً بينَ مَراتِبِها قُوَّةً وضَعْفاً، فإنَّه لم يُرَتِّبْها فيما سَبَقَ عندَ إيِرادِها، ومن فوائدِه الترْجِيحُ به عندَ التعارضِ، فأقْواها بعدَ مفهومِ الحَصْرِ بإلاَّ، مفهومُ الغايةِ، ولهذا قيلَ بأنَّه مَنْطُوقٌ، كالقَاضِي، ويَلْتَحِقُ به مَفْهُومُ (إنَّما)، فإنَّ فيها هذه المُرَجَّحَاتِ كما سَيَاتِي، ذَكَرَ ذلك المُصَنِّفُ في شَرْحِه لِلْمُخْتَصَرِ، فجَعَلَ أعْلاهَا (مَا) (وإلاَّ) ثمَّ مَفْهومُ (إنَّما) والغايةُ، ثمَّ حَصْرُ المُبْتَدَأِ في الخبَرِ، ثمَّ الشرْطُ انْتَهَى، وتَقْدِيمِه حَصْرُ المُبْتَدَأ في الخبْرِ على الشرْطِ تَابَعَ فيه الغَزَالِيُّ، وإنَّما أَخَّرَ هنا الشرْطَ على الغايةِ؛ لأنَّه لم يقُلْ أَحَدٌ: إنَّه بالنُّطْقِ، فكانَ دُونَ ما قَبْلَه، وقَدَّمَه على

الصِّفَةِ؛ لأنَّه قالَ به بعضَ مَن لا يَقُولُ بها كابْنِ سُرَيْجٍ. ثمَّ الصفَةُ المُنَاسَبَةِ؛ لأنَّها مُتَّفَقٌ عَلَيْهِا عندَ القائلِ بالصفَةِ. ثمَّ مُطْلَقُ الصفَةِ غيرَ العدَدِ، واقْتَضَى كلامُه أنَّ بَقِيَّةَ أقْسَامِ الصفَةِ من العِلَّةِ والظرْفِ والحالِ على السواءِ، ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ أعْلاهَا العِلَّةُ لدَلالَتِهَا على (إنَّما)، فهي قريبةٌ من النصِّ. ثمَّ العَدَدُ، ثمَّ تَقْدِيمُ المَعْمُولِ، وإنَّما أَخَّرَهُ؛ لأنَّه لا يُفِيدُ في كلِّ صُوَرِه وأَحْوالِه، ولأنَّ المَحْفوظَ فيه عن القائلِ به لفْظُ الاخْتصاصِ لا الحَصْرُ، وكذا قالَهُ البيانِيُّونَ، وخَالَفَ ابنُ الحَاجِبِ وأَبُو حَيَّانَ، أمَّا ابنُ الحَاجِبِ فقالَ في شَرْحِ (المُفَصَّلِ): إنَّ الاخْتصاصَ الذي يَتَوَهَّمَهُ كثيرٌ من الناسِ في تَقْدِيمِ المَعْمُولِ وَهْمٌ، والتمَسُّكُ فيه مثلَ قولِه تعالى: {بَلْ اللهَ فَاعْبُدْ} ضعيفٌ؛ لأنَّه قد جَاءَ {فَاعْبُدِ اللهَ} واعْبُدِ اللهَ؛ أي: لو كانَ التقديمُ مُفيداً للحَصْرِ، لكَانَ التاخِيرُ مُفِيداً عَدَمُه، لكونِه نَقِيضُه، وفيما قالَه نَظَرٌ؛ لأنَّه ليسَ عَدَمِ إفادتِه التاخِيرِ الحَصْرُ لعَدَمِ الحَصْرِ، ليَكُونَ سَبَباً في إفادةِ التقديمِ الحَصْرُ، بل تَاخِيرُ المَفْعُولِ غيرُ مُسْتَلْزِمٍ للحَصْرِ ولا لِعَدَمِه، والحاصلُ أنَّ القَصْدَ إنْ تَعَلَّقَ بعِبَادَةِ اللهِ تعالى فقطْ أَخَّرَ المَفْعُولَ، وإنْ تَعَلَّقَ بعِبَادَتِه وعَدَمِ عِبَادَةِ غَيْرِه قُدِّمَ، وأمَّا قولُه: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً} فـ {مُخْلِصاً} أَغْنَى عن إفِادَةِ الحَصْرِ في الآيةِ الأولى. وأمَّا أَبُو حَيَّانَ فَرَدَ في أوَّلِ تَفْسِيرِه على مَن يَدَّعِي الاخْتصاصُ، ونَقَلَ عن سِيبَوَيْهِ، أنَّ التَّقْدِيمَ للاهْتمَامِ والعنايةُ لا للاخْتصاصِ، فإنَّه قالَ: فإنَّهم يُقَدِّمونَ الذي شأنَه أهَمُّ، وَهُم ببَيَانِه أَغْنَى، وأنَّه ذَكَرَ أنَّ الاهْتمامَ والعنَايَةَ في التقْدِيمِ والتاخيرِ سواءٌ في مثالِ: ضَرَبْتَ زَيداً وزَيداً ضَرَبْتَ، وإذا قَدَّمْتَ الاسْمَ فهو عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ كما كانَ ذلك يَعْنِي تَاخِيرُه عَرَبِيًّا جَيِّداً، وذلك قولُه: زَيدٌ ضَرَبْتَ، والاهْتَمامُ والعنايةُ هنا في التقْدِيمِ والتاخِيرِ سواءٌ مثلُه في: ضَرَبَ زَيدٌ عَمْراً، وضَرَبَ عَمْراً زَيدٌ، انْتَهَى، وهذا لا حُجَّةَ فيه، فإنَّ سِيبَوَيْهِ ذَكَرَهُ في بابِ الفاعِلِ الذي يَتَعَدَّاهُ فِعْلُه إلى مَفْعُولٍ، قالَ: وذلك كقولِهم: ضَرَبَ زيداً عبدُ اللهِ، ثمَّ قالَ: كأنَّهم يُقَدِّمُونَه إلى آخِرَهُ وهذا ليسَ مَحَلُّ النِّزاعِ؛ لأنَّ الكلامَ في تَقْدِيمِ المَعْمولِ على العاملِ لا في تَقْدِيمِه على الفاعلِ، فإنَّ قُلْتَ: فقد ذَكَرَهُ في بابِ ما يَكُونُ الاسمُ فيه مَبْنِيًّا على الفِعْلِ، قالَ: وذلك قولُك: زَيداً ضَرَبْتَ، فالاهْتِمامُ والعنايةُ هنا في التقديمِ والتأخيرِ سواءٌ، مثلُه في: ضَرَبَ زَيدٌ عَمْراً، وضَرَبَ

عَمْراً زَيدٌ. قلتُ: إنْ كانَ هذا مَحَلَّ النِّزاعِ فلا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّه إنَّما ذَكَرَهُ من الجِهَةِ التي شَابَهُ بها تَقْدِيمَ الفَاعِلِ على المفعولِ، أو العكسِ في المثالَيْنِ، وليسَ فيه من هذه الجَهَةِ إلاَّ الاهتمامُ، ولا يَبْقَى ذلك الذي اخْتَصَّ به إذا تَقَدَّمَ على العامِلِ وهي الحَصْرُ، ويُمْكِنُ تَنْزِيلُ كَلامِ سِيبَوَيْهِ أنَّ الاهتمامَ والعنايةَ في التقديمِ والتأخيرِ سواءٌ بالنِّسْبَةِ إلى الإسْنادِ، والواقعُ في الكلامِ ورَبْطُ الفِعْلِ بالفاعلِ والمفعولِ، لا بالنِّسْبَةِ إلى ما يَلْمَحُ من معنٍى آخَرَ زائِدٍ على ذلك، وفي كلامِه ما يُشِيرُ إلى ذلك، حيثُ قالَ: كأنَّهم يُقَدِّمُونَ الذي شَانَه أَهَمُّ لهم وهُم بِبَيَانِه أَعْنَى، وإنْ كَانَا جَمِيعاً يَهُمَّانِهم، فانْظُرْ كيفَ أَثْبَتَ زِيادَةَ معنًى في التقْدِيمِ، وأَتَى بأَفْعَلِ التفْضِيلِ؟ فإنَّ أنْزَلْتَ كلامَه الأوَّلُ= والثاني على هذا التقديرِ، وجُعِلَتُ اسْتِواءُ التقديمِ والتأخيرِ بالنسبةِ إلى الإسنادِ الحاصلِ، وأنَّ ذلك لا تَتَغَيَّرُ دلالَتُه عندَ التقديمِ والتأخيرِ، إلاَّ أنَّ التقديمَ يُفيدُ زيادةً في الاهتمامِ، ـ عَرَفْتَ أنَّه ليسَ في كلامِه هذا ما يَمْنَعُ من إفادَةِ الاخْتِصاصِ عندَ تأخيرِ العاملِ، فإنَّا لا نَمْنَعُ أنَّ التقْدِيمَ والتاخِيرَ، سواءٌ بالنسبةِ إلى رَبْطِ الفِعْلِ بالفاعِلِ والمفعولِ، وإنَّما المُدَّعِي قَدْرٌ زائدٌ على ذلك، ومن العَجَبِ أنَّ أَبَا حَيَّانَ ذَكَرَ كلامَ سِيبَوَيْهِ عَقِبَ كلامِه الأوَّلِ، مُؤَيِّداً له به مُقَرِّراً بها امْتِناعُ الاخْتصاصُ. وممَّا اسْتَدَلَّ به بعضُ المتأَخِّرينَ على عَدَمِ إفادةِ الحَصْرِ وقوعُ الأمْرَيْنِ في القرآنِ، نحوَ: {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمَرْسَاهَا}. وقالَ تعالى: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِكَ}. ونَظَائِرُها كمَا سَبَقَ في: {فَاعَبْدِ اللهَ} {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ}. ولَحْنُ كلٍّ منها فصيحٌ في بابِه، ولا يَكادُ التقْديمُ فيه يقومُ مُقامَ التأخِيرِ ولا العكسُ، بل فيها ما يَرْشُدُ إلى الاخْتِصاصِ، فإنَّ قولَه: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ}. لا يَمْنَعُ أنْ يَقْرَأَ بغَيرِ الاسْمِ، وقولُه: {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا}. تَمَنَعُ أنَّها تَجْرِي إلاَّ بِاسْمِه. وقالَ

صاحبُ (الفَلَكِ الدَائِرِ): الحقُّ أنَّه لا يَدُلُّ على الاخْتصاصِ إلاَّ بالقَرائِنِ، وإلاَّ فقد كَثُرَ في القرائنِ التصْريحُ به معَ عَدَمِه، كقَولِه: {إنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى} ولم يَكُنْ ذلك مُخْتَصًّا به، فقد كانَتْ حواءٌ كذلك. ص: (والاخْتصاصُ الحَصْرُ، خِلافاً للشيخِ الإمامِ حيثُ أثْبَتَهُ، وقالَ: ليسَ هو الحَصْرُ). ش: اشْتَهَرَ في كلامِ البَيَانِيِّينَ أنَّ تقديمَ المعْمولِ يُفِيدُ الاخْتصاصَ، ويَفْهَمُ كثيرٌ من الناسِ من الاخْتصاصِ الحَصْرَ، فإذا قُلْتَ: زَيداً ضَرَبْتُ، يكونُ معناهُ: مَا ضَرَبْتُ إلاَّ زَيداًَ. وخَالَفَهم والِدُ المُصَنِّفِ وقالَ: الفُضَلاءُ لم يَذْكُرُوا في تَقْدِيمِ المعْمولِ إلاَّ لفْظَ الاخْتصاصِ، منهم الزَّمَخْشَرِيُّ في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وغيرُها، والحقُّ أنَّهما مُتَغَايرانِ، والفرْقُ بينَهما أنَّ الاخْتِصاصَ افْتعالٌ من الخُصوصيَّةِ، والخصوصُ مُرَكَّبٌ من شَيْئَيْنِ: أحدُهما عامٌّ مُشْتَرِكٌ بينَ أشياءٍ. والثاني: معنى يَنْضَمُّ إليه بفَصْلِه عن غيرِه كضَرْبِ زَيدٍ، فإنَّه أَخَصُّ من مُطْلَقِ الضرْبِ، فإذا قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيداً، أَخْبَرْتَ بضَرْبٍ عامٍّ، وَقَعَ منك على شَخْصٍ خاصٍّ، فصَارَ ذلك الضَّرْبُ المُخْبِرُ به خاصًّا لمَا انْضَمَّ إليه مِنْكَ ومِن زَيْدٍ، وهذه المعانِي الثلاثةُ، أعْنِي: مُطْلَقُ الضَرْبِ، وكونَه واقعاً مِنْكَ، وكونَه واقعاً على زَيدٍ ـ قد يكونُ مَقْصودُ المُتَكَلِّمِ لها ثَلاثَتُها على السواءِ، وقد يُرَجِّحُ قصْدَه لبَعضِها على بعضٍ، ويُعْرَفُ ذلك بما ابْتَدَأَ كلامَه، فإنَّ الابْتِداءَ بالشيءِ يَدُلُّ على الاهتمامِ به، فإذا قُلْتَ: زَيدٌ ضَرَبْتُ، عُلِمَ أنَّ خُصوصَ الضرْبِ على زيدٍ هو المقصودُ، ولا شَكَّ أنَّ الكُلَّ مُرَكَّبٌ من خاصٍّ وعامٍّ من جهَتَيْنِ، فقد يُقْصَدُ من جِهَةِ عُمُومِه، وقد يُقْصَدُ من جِهَةِ خُصوصِه، فقَصْدُه من

جِهَةِ خُصُوصِه هو الاخْتصاصُ، وأنَّه هو الأهَمُّ عندَ المُتَكَلِّمِ، وهو الذي قَصَدَ إفادَتَه السَامِعَ من غيرِ تَعَرُّضٍ ولا قَصْدٍ لغَيْرَهِ بإثباتٍ ولا نَفْيٍ، وأمَّا الحَصْرُ فمَعْنَاه: إثباتُ المَذْكورِ= ونَفْيُ غيرِه، وهو زائدٌ على الاخْتصاصِ، وإنَّما جَاءَ هذا في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} للعِلْمِ بأنَّه لا يَعْبُدُ غيرَ اللهِ، لا من موضوعِ اللفْظِ، ألاَّ تَرَى أنَّ بَقِيَّةَ الآياتِ لم يَطَّرِدُ فيها ذلك، فإنَّ قولَه تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ} لو جَعَلَ في معنَى: ما يَبْغُونَ إلاَّ غيرَ دِينِ اللهِ، وهَمْزَةُ الإنْكارِ داخلِةٌ عليه، لَزِمَ أنْ يَكونَ المُنْكَرُ الحَصْرَ، لا مُجَرَّدٌ بَغَْيهِم غيرِ دينِ اللهِ، ولا شَكَّ أنَّ مُجَرَّدَ بَغْيهِم غيرِ دِينِ اللهِ مُنْكَرٌ، وكذلك بَقِيَةُ الآياتِ إذا تَأَمَّلْتَها. انْتَهى مُلخصًّا. وحاصلُه: أنَّ الاخْتصاصَ في إعْطاءِ الحُكْمِ للشيءِ والسُّكوتِ عمَّا عَدَاهُ، الحَصْرُ: إعطاءُ الحُكْمِ للشيءِ والتعَرُّضُ لنَفْيهِ عمَّا عَدَاهُ، ففِي الاخْتِصاصِ قضِيَّةٌ واحِدَةٌ، وفي الحَصْرِ قَضِيَّتَانِ، وقد يَحْتَجُّ للتغَايُرِ بقولِه تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}. فإنَّه لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ بحَصْرِ رحْمَتِه؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ حَصْرُها. ص: مسألَةٌ: (إنَّما) قالَ الآمِدِيُّ وأَبُو حَيَّانَ: لا تُفِيدُ الحَصْرَ، وأَبْو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ والغَزَالِيُّ والكِيَا والشيخُ الإمَامُ: تُفِيدُ فَهْماً، وقيلَ: نُطْقاً). ش: اخْتَلَفَ الأصُولِيُّونَ في (إنَّما) هل تُفِيدُ الحَصْرَ؟ فقيلَ: تُفِيدُ، وقيلَ:

لا تُفِيدُ، واخْتَلَفَ القائِلُونَ به: هل هو مَنْطُوقٌ أو مَفْهُومٌ؟ والقولُ بأنَّها لا تُفِيدُ هو رَايُ الآمِدِيُّ، وإنَّما يُفِيدُ تَاكِيدَ الإثباتِ، وهو قضيةُ كلامِ ابنِ دَقِيقِ العِيدِ، فإنَّه قالَ: إنَّ دَلَّ السياقُ، والمقْصودُ من الكلامِ على الحَصْرِ في شيءٍ مَخْصُوصٍ ـ قُيِّدَ به، وإنْ لم يَدُلُّ عليه، فاحْمِلِ الحَصْرَ على الإطْلاقِ، كقولِه تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}، فإنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَنْحَصِرُ في النَذَارَةِ، بل له أَوْصافٌ جَمِيلَةٌ كثيرةٌ كالبِشارَةِ وغيرِها. ولكنَّ مفهومَ الكلامِ يَقْتَضِي حَصْرَهُ في النذَارَةِ لِمَنْ لا يُؤْمِنُ، واخْتَارَهُ الشيخُ أَبُو حَيَّانَ وكانَ يقولُ: إنَّها لا تَدُّلُ على الحَصْرِ بالوَضْعِ، كما أنَّ الحَصْرَ لا يُفْهَمُ من أخواتِها التي كَفَّتْ بما، فلا فَرْقَ بينَ: لَعَلَّ زيداً قَائِمٌ، ولعَلَّمَا زيدٌ قائمٌ، وكذلك: إنَّ زيداً قائمٌ، وإنَّما زَيدٌ قائمٌ، وإذا فُهِمَ حُصِرَ= فإنَّما يُفْهَمُ من سياقِ الكلامِ، لا أنَّ (إنَّما) دَلَّتْ عليه، واشْتَدَّ نَكِيرُه على مَن يُخالِفُه، ونَقَلَه عن البَصْرِيِّينَ وفيه نَظَرٌ، فإنَّ الأَزْهَرِيَّ، من أَئِمَّةِ اللُغَةِ في كتابِه (الزَّاهِرُ) عن أهْلِ اللُغَةِ: إنَّها تَقْتَضِي

إِيجَابُ شيءٍ ونَفْيُ غيرِه، كقولِك: إنَّما المَرْءُ بأَصْغَرَيْهِ؛ أي: كَمَالُه بِهَذَيْنِ العُضُوَيْنِ لا بِرُؤيَتِه ومَنْظَرِه، والقولُ بأنَّها تُفِيدُ من جِهَةِ المفهومِ. قالَ به الشيخُ أَبُو إِسْحَاقَ ومَن ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وفيه نَظَرٌ، فإنَّ الغَزَالِيَّ نَقَلَ عن القَاضِي أنَّه ظَاهِرٌ في الحَصْرِ ومُحْتَمِلٌ للتَّوْكيدِ، ثمَّ قالَ: وهو المختارُ، ووافَقَهُ الكِيَا، والذي في (التَّقْرِيبِ) للقَاضِي: أنَّها مُحْتَمِلَةٌ لتَاكِيدِ الإثْباتِ ومُحْتَمِلَةٌ للحَصْرِ، وزَعَمَ أنَّ العَرَبَ اسْتَعْمَلَتْها لكلٍّ مِن الأَمْرَيْنِ، ثمَّ قالَ: ولا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: ظاهرٌ في الحَصْرِ، وقالَ السَّكَاكِيُّ: ليسَ الحَصْرُ في (إنَّما) من جِهَةِ أنَّ (مَا) للنَّفِيِّ كما يَفْهَمَهُ مَن لا وُقُوفَ له على عِلْمِ النَّحْوِ، يُريدُ به طَريقَةَ الرَّازِيِّ والبَيْضَاوِيِّ؛ لأنَّها لو كانَتْ للنَّفْيِ لكانَ لها صَدْرُ الكلامِ، وإنَّما هي (مَا) الكَافَّةُ لـ (إِنَّ) عن العَمَلِ. ثمَّ حَكَى عن عَلِيِّ بنِ عِيسَى الرَّبْعِيِّ، واسْتَلْطَفَه: أنَّ

(إِنَّ) لتوكِيدِ إثبَاتِ المُسْنَدِ للمُسْنَدِ إليه و (مَا) مُؤكِّدَةٌ فيُنَاسِبُ تَضَمُّنِ معنى الحَصْرِ، وفيه نَظَرٌ، إذ لا يَلْزَمُ الحَصْرُ بحصولِ تَاكِيدٍ على تَاكِيدٍ، نحوَ: قَامَ القومُ كُلُّهم أَجْمَعُونَ، وكانَ بعضُ مشايخِنَا يقولُ: أَحْسَنُ ما يُسْتَدَلُّ به على الحَصْرِِ في (إنَّما) انْفِصالُ الضميرِ بعدَها (هو) أمَّا احْتِجَاجُ ابنُ دَقِيقِ العِيدِ بأنَّ ابنَ عَبَّاسٍ فَهِمَ الحَصْرَ من قولِه: ((إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ))، فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ ابنَ عَبَّاسٍ روَى الحَدِيثَ بهذا اللفظِ، ورَوَاهُ عن أُسامَةَ بنِ زيدٍ بلفظٍ: ((لَيْسَ الرِّبَا إِلاَّ فِي النَّسِيئَةِ)). كما ثَبَتَ في صحيحِ مُسْلِمٍ، وهذه الصيغَةُ الثانيةُ، صيغةُ حَصْرٍ بالإجْماعِ، فما المَانِعُ أنْ يكونَ

ابنُ عَبَّاسٍ إنَّما فَهِمَه من هذه الصِّيَغَةِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِا، لا صيغَةَ (إنَّما) المُخْتَلِفُ فيها؟ ومَثَلُ الشيخُ على تَحْقِيقِه وتَدْقِيقِه لا يُسامِحُ بتساوِي الصِّيغَتَيْنِ، والقولُ بأنَّها مَنْطُوقٌ، حَكَاهُ الشيخُ أَبُو إِسْحَاقَ في (التَّبْصِرَةِ) عن القَاضِي أَبِي حَامِدَ المَرُوزِيِّ، قالَ معَ نَفْيهِ لدليلِ الخِطابِ: وتَظْهَرُ فائِدَةُ الخلافِ فيما لو قالَ: إنَّما قَامَ زَيدٌ، ثمَّ قالَ: وعَمْرٌو، فهل يَكُونُ قولُه: وعمرٌو تَخْصِيصاً أو نَسْخاً؟ فمَن قالَ: إنَّه بالمَنْطوقِ يَدُلُّ على عَدَمِ قِيامِ غيرِه ـ كانَ نَسْخاً، ومَن قالَ: إنَّه بالمَفْهُومِ ـ كانَ تَخْصيصاً. ص: (وبِالفَتْحِ، الأصَحُّ أنَّ حَرْفَ (أنَّ) فيها فَرْعُ المَكْسُورَةِ، ومِن ثَمَّةِ

ادَّعَى الزَّمَخْشَرِيُّ إِفَادَتَه= الحَصْرِ). ش: مَا تَقَدَّمَ في (إنَّما) بكَسْرِ (إنَّ) أمَّا المَفْتُوحَةُ فزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكلامِ على قولِه: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهَكَمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إِفَادَتُها القَصْرُ، وجَعَلَ المُصَنِّفُ مَاخَذَهُ البِنَاءُ على أَصْلٍ نَحْوِيٍ، وهي أنَّها فَرْعُ المَكْسُورَةِ وهو الأَصَحُّ، وقيلَ: المَفْتُوحَةُ أَصْلٌ، وقيلَ: كلُّ منْهُما أَصْلٌ بنَفْسِه، هكذا حَكَى ابنُ الخَبَّازِ النَّحْوِيُ الأقْوالِ الثلاثَةِ، ومن هنا يُسْتَنْكَرُ على الشيخِ أَبِي حَيَّانَ دَعْواهُ أنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ تَفَرَّدَ بهذه المقالَةِ، وأنَّه لا يَعْرِفُ القولَ بذلك إلاَّ في (إنَّما) بالكَسْرِ، وهذا مَرْدُودٌ، فإنَّها فَرْعُها، ولهذا قالَ سِيبَوَيْهِ في بابِ إنَّ وأخواتُها: بابُ الأَحْرُفِ الخَمْسَةِ، فعدَّ (إنَّ) و (أنَّ) واحِدَةٌ. وإذا كانَتْ المَفْتُوحَةُ فَرْعُ المَكْسُورَةِ، فكلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ للأَصْلِ ثَبَتَ للفَرْعِ ما لم يَمْنَعْ مَانِعٍ، واعْتُرِضَ عليه أيضاًً بأنَّ دَعْوَى الحَصْرِ فيها بَاطلٌ؛ باقْتِضاءِ إنَّه لم يُوحَ إليه سِوَى التوحيدِ، وهو عَجِيبٌ من وجْهَيْنِ: أحدُهما: أنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يَلْتَزِمُ ذلك بناءً على رَايهِ الفاسدِ في الاعْتزالِ من إنْكارِ الصفاتِ، بل لَعَلَّ هذا هو مَاخَذَهُ في دَعْوَى الحَصْرِ. ثانيهُما: أنَّ هذا حَصْرٌ مُقَيَّدٌ، فإنَّ الخِطابَ معَ المُشْركِينَ فالمعنَى ما أُوحِيَ إليَّ في أَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ إلاَّ التوحيدَ لا الإشراكَ، ويُسَمِّيهِ البَيانِيُّونَ قَصْرُ قَلْبٍ لقَلْبِ اعْتِقادِ المُخاطَبِ.

ص: (مَسْأَلَةٌ: من الأَلْطافِ حُدوثُ المَوْضوعَاتِ اللُغَوِيَّةِ ليُعَبَّرَ عمَّا في الضمِيرِ، وهي أَفْيَدُ من الإشارةِ والمثالِ وأَيْسَرُ). ش: وجْهُ كونِه من الألْطافِ، حَاجَةُ الخَلْقِ إلى إعْلامِ بعضُهم بعضاً، ما في ضمائِرِهم من أمْرِ مَعاشِهم للمُعامَلاتِ وأَمْرِ مَعَادِهم لإفادِةِ المَعْرِفَةِ والأحْكامِ، فوضَعَ لهم الألفاظَ لمَعانِيها ووقَّفَهم عليه على قولِ التَّوقُّفِ، أو جَعَلَهم قَادِرِينَ على وَضْعِ الألفاظِ لمَعانِيها، على قولِ الاصْطلاحِ، ولهذا عَبَّرَ المُصَنِّفُ بالحُدوثِ، ليُنَبِّهَ= على أنَّه لُطْف= على كلا القَوْلَيْنِ، بخلافِ تَعْبِيرِ ابنِ الحَاجِبِ بالإِحْداثِ، فإنَّه يُوهِمُ التخْصيصُ بالتَّوَقُّفِ، ثمَّ إنَّه جَعَلَ ذلك بالنُّطْقِ دونَ الإشارَةِ والمثالِ؛ لكونِه أَفْيدُ وأَسْهَلُ. أمَّا كونُه أَفْيدُ، فلأنَّ اللفْظَ يَعُمُّ كلَّ موجودٍ ومَعْدُومٍ بخلافِ الإشارَةِ، فإنَّها للموجودِ، وبخلافِ المِثالِ، وهو أنْ يَجْعَلَ لِمَا في الضميرِ مُشْكلاً، فإنَّه أيضاًً كذلك؛ لأنَّه يَعْسُرُ، بل يَتَعَذَّرُ أنْ يَجْعَلَ لكلِّ شيءٍ مثالٌ= يُطابِقُه، وأمَّا كونُه أَيْسَرُ فلأنَّه يُوافِقُ الأمْرَ الطبيعِيِّ؛ لأنَّ الحروفَ كيْفِيَّاتٍ تُعْرَضُ للنَّفْسِ الضَرُورِيُّ، ولا شَكَّ أنَّ المُوافِقَ للأمْرِ الطبِيعِيِّ أسْهَلٌ من غيرِ فَخْفَتِ المَؤنَةُ وعَمَّتِ الفائِدَةُ. ص: (وهي الألفاظُ الدَّالَّةُ على المعانِي). ش: الضميرُ راجِعٌ إلى الموضوعاتِ اللُّغَوِيَّةِ، والألفاظُ جِنْسٌ قريبٌ، فيَخْرُجُ ما دَلَّ على معنًى، وليسَ بلَفْظٍ كالخَطِّ والعقودُ، والإشارَةُ فلا يَكُونُ شيءٌ منها لُغَةً، والمرادُ بالألفاظِ كلُّ ما كانَ مَلْفُوظاً به حقيقةً أو حكماً، لتَدْخُلَ الضَّمائِرُ المُسْتَتِرَةُ في الأفْعَالِ، فإنَّها ملفوظٌ بها حُكْماً بدليلِ إسنادِ الفِعْلِ إليها، وجوازِ تَاكِيدِها، والعَطْفِ عليها، وخَرَجَ بالدَّلالَةِ على المعانِي المُهْمَلاتِ، ودَخَلَ في هذا الحَدِّ المُفْرَدُ والمُرَكَّبُ حُكْماً، إذِ اللُّغَةُ تلطف= على الجميعِ، وعُلِمَ منه أنَّ دلالَةَ الألفاظِ المُرَكَّبَةِ على معانِيها وَضْعِيَّةٌ، وسَيَذْكُرُها المُصَنِّفُ في بابِ الأَخْبَارِ، وهذا التعريفُ أَحْسَنُ من قولِ ابنِ

الحَاجِبِ: كُلُّ لفظٍ وُضِعَ لمعنًى، لِمَا في (كُلِّ) من الإشكالِ. ص: (وتُعْرَفُ بالنَّقْلِ تواتراً أو آحاداً أو باسْتِنْباطِ العَقْلِ من النَّقْلِ، لا بِمُجَرَّدِ العَقْلِ). ش: يُعْرَفُ وَضْعُ اللفظِ للمعنَى بطريقِ الحَصْرِ، إمَّا النَّقْلُ الصَّرْفُ أو العَقْلُ الصَّرْفُ أو المُرَكَّبُ منهُما. فأمَّا العقلُ الصَّرْفُ، فلا مَدْخَلَ له في ذلكَ، فإنَّه لا يَسْتَقِرُّ بالأمورِ الوَضْعِيَّةِ. وأمَّا النَّقْلُ الصَّرْفُ، فهو إمَّا متواترٌ كالسماءِ، والحَرِّ والبَرْدِ، ونحوِها ممَّا لا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ، وهو يُفِيدُ القَطْعَ، وإمَّا آحادٌ كالقَرْءِ ونحوِه، وهو يُفِيدُ الظَّنَّ، فيَتَمَسَّكُ به في المَسائِلِ الظِّنِّيَّةِ دونَ القَطْعِيَّةِ. وأمَّا المُرَكَّبُ منهُما، كما إذا نُقِلَ إلِينَا أنَّ الجَمْعَ المُعَرَّفُ بالألِفِ واللاَّمِ للعمومِ. وكانَ الشيخُ زَينُ الدِّينِ الكِنَانِيُّ

يَعْتَرِضُ على هذا المثالِ بأنَّ المُقَدِّمَتَيْنِ نَقْلِيَّتَانِ، وإذا تَرَكَّبَ الدليلُ من مقدمتَيْنِ نَقْلِيَّتَيْنِ لم يَصِحَّ أنْ يُقالَ: إنَّه مُرَكَّبٌ من العَقْلِ والنَّقْلِ، وإنَّما غايتُه أنَّ العَقْلَ تَفَطَّنَ لنَتِيجَتِهِمَا، وهذا مردودٌ، فإنَّ الدليلَ ليسَ مُرَكَّباً من نَقْلِيَّتَيْنِ ضَرَورَةٌ عَدَمِ تَكَرُّرِ الحَدِّ الأوسْطِ فيهما، وإنَّما هو مُرَكَّبٌ من مُقَدِّمَةٍ نَقْلِيَّةٍ مَحْضَةٍ، وهي الاستثناءُ، إخْراجُ بعضِ ما يَتَنَاولُه اللفظُ، ومُقَدِّمَةٍ عَقْلِيَّةٍ لازمَةٍ لمُقَدِّمَةٍ أُخْرَى، وهي أنَّ كُلَّ ما دَخَلَه الاستثناءُ عامٌّ، لأنَّه لو لم يكنُ عاماً لم يَدْخُلِ المُسْتَثْنَى فيه، ثمَّ جُعِلَتْ هذه القضيةُ كُبْرَى للمُقَدِّمَةِ الأُخْرَى النَّقْلِيَّةِ، فصَارَ صُورَةُ الدليلِ هكذا: الجَمْعُ المُحَلَّى بألْ يَدْخُلُه الاستثناءُ، وكلُّ ما يَدْخُلُه الاستثناءُ عامٌّ، يَنْتُجُ أنَّ المُحَلَّى بألْ عَامٌّ. ص: (ومَدْلُولُ اللفظِ إمَّا معنًى جُزْئِيٌّ أو كُلْيٌّ، أو لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُسْتَعْمَلٌ، كالكَلِمَةِ فهي قَوْلٌ وُضِعَ لمَعنًى مُفْرَدٍ، أو مُهْمَلٍ كأسماءِ حروفِ الهَجاءِ، أو مُرَكَّبٌ). ش: مدلولُ اللَفْظِ يَنْقَسِمُ إلى أقسامٍ؛ لأنَّ مدلولَه إمَّا معنًى أو لَفْظٌ، والأوَّلُ يَنْقَسِمُ إلى جُزْئِيٍّ وكُلُّيٍّ، لأنَّه إمَّا أنْ يَكُونَ المَعْنَى مُشْتَرِكاً بينَ الأفْرَادِ المَوْجُودَةِ أو المُتَوَهِّمَةِ، فهو الكُلُّيُّ كالإنسانِ والعنقاءِ أو لا يَكُونُ فهو الجُزْئِيُّ كزيدٍ.

والثاني: إمَّا أنْ يَكُونَ اللفظُ الذي هو مَدْلُولُه مُفْرَداً أو مُرَكَّباً، وكلُّ منهما إمَّا أنْ يَكُونَ مُهْمَلاً أو مُسْتَعْمَلاً، فالأوَّلُ: الكلمةُ، فإنَّه لَفْظُ مدلولِه، لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُسْتَعْمَلٌ، وهو الاسمُ والفِعْلُ والحَرْفُ، إنَّما قالَ: (قَولٌ) ولم يَقُلْ: لفظٌ؛ لأنَّ القَوْلَ جِنْسٌ قَرِيبٌ، لاخْتِصاصِهِ بالمُسْتَعْمَلِ، بخلافِ اللفْظِ، ولهذا لم يَقُلْ: وُضِعَ لمعنًى مُفْرَدٍ، كما قالَهُ غيرُه؛ لأنَّ أولئِكَ أَخَذُوا اللفظَ جِنْساً، فاحْتَاجُوا للاحْتِرَازِ عن المُهْمَلِ بذِكْرِ الوَضْعِ، والمُصَنِّفُ لمَّا أَخَذَ القَوْلُ جِنْساً وهو خاصٌّ بالوَضْعِ أَغْنَاهُ عن اشْتِرَاطِ الوَضْعِ. والثانِي: كَأَسْمَاءِ حُرُوفِ التَّهَجِّي، فإنَّ مَدْلُولَه لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُهْمَلٌ، ألاَ تَرَى أنَّ حُرُوفَ جَلَسَ لم يُوضَعْ لمعنًى، معَ أنَّ كُلاًّ منها قد وُضِعَ له اسمٌ، فالأوَّلُ الجيمُ، والثانِي اللاَّمُ، والثالثُ السِّينُ. والثالثُ: كلفظِ الخَبَرِ، فإنَّ مدلولَه لفظٌ مُرَكَّبٌ مُسْتَعْمَلٌ، نحوَ: قَامَ زَيدٌ. والرابعُ: أنَّ يَكُونَ المَدْلُولُ لفْظاً مُرْكباً مُهْمَلاً، وفي كونِه مُجْرَداً خلافٌ، حَكَاهُ المصنف في بابِ الأَخْبَارِ، وقد تَعَرَّضَ في المِنْهاجِ هنا لأقْسامِ المُرَكَّبِ، وأَهْمَلَه المُصَنِّفُ؛ لأنَّه ذَكَرَه في بابِ الأَخْبَارِ. ص: (والوَضْعُ جَعَلَ اللفظَ دَلِيلاً على المعنَى). ش: أي: جَعَلَه مُهَيَّأً لأنْ يُفِيدَ ذلك المعنَى عندَ اسْتِعْمَالِ المُتَكَلِّمِ له على وجْهٍ

مَخْصُوصٍ، كتَسْمِيَةِ الوَلَدُ زَيْداً، ومنهُم مَن قَالَ بتَخْصيصِ الشَّيءِ بالشيءِ، بحيثُ إذا أُطْلِقَ الأوَّلُ فُهِمَ منه الثانِي، فإنَّك إذا أَطْلَقْتَ قولَك: قَامَ زيدٌ، فُهِمَ منه القيامُ، وهذا التعريفُ الذي ذَكَرَه المُصَنِّفُ لأحَدِ أقْسامِ الوَضْعِ وهو اللُّغَوِيُّ وهو مُرَادُهُ، ويُطْلَقُ باعتبارَيْنَ آخَرَيْنِ: أحدُهما: على عِلَّتِه، اسْتِعْمَالُ اللَّفْظُ في المعنَى، حتى يَصِيرَ أشْهَرَ فيه من غيرِه، وهذا وَضْعُ المَنْقُولاتِ الثلاثِ الشَّرْعِيِّ كالصلاةِ، والعُرْفِيِّ العامِّ كالدابَّةِ، والعُرْفِيِّ الخاصِّ كالجَوْهَرِ والعَرَضِ عندَ المتكلمِينَ. والثاني: أصْلُ الاسْتِعْمالِ من غيرِ غَلَبَةٍ، كقولِهم: هل مِن شَرْطِ المَجَازِ الوَضْعُ؟ ص: (ولا يُشْتَرَطُ مُنَاسَبَةُ اللفظِ للمعنَى، خلافاً لعَبَّادٍ حيثُ أَثْبَتَها، فقيلَ بمعنَى أنَّها حامِلَةٌ على الوضْعِ، وقيلَ: بل كافيةٌ في دلالةِ اللفظِ على المعنَى) ش: ذَهَبَ عَبَّادٌ إلى أنَّ دلالَةَ اللفظِ على المعنَى لمُنَاسَبَةِ طَبِيعِيَّةٍ، وإلاَّ لِمَا كَانَ اختصاصُ ذلك اللفظِ أَوْلَى من غيرِه، وخَالَفَه الجمهورُ، مُحْتَجِّينَ بِصِحَّةِ

الوَضْعِ للشيءِ ونَقِيضِه وضدِّه، ولو كَانَتِ المُنَاسَبَةُ شَرْطاً لمَا جَازَ؛ لأنَّ الشيءَ الواحدُ لا يُنَاسِبُ الضِّدَّيْنِ مُنَاسَبَةً طبيعِيَّةً، وأَجَابُوا عن شُبْهَةِ (عَبَّادٍ) بأنَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ الوَاضِعَ هو اللهُ، فسَبَبُ التَّخْصِيصِ هو الإرَادَةُ القَدِيمَةُ، وإنْ كانَ هو العبدُ، فسَبَبُه هو خُطُورُ ذلك المَعْنَى ببَالِه دونَ غيرِه كتَخْصِيصِ الأعلامِ بالأشخاصِ، والنَّقْلُ عَن عَبَّادٍ مُخْتَلِفٌ، فقيلَ: إنَّه أَثْبَتَها بمعنَى أنَّها ـ أي: المُنَاسَبَةُ ـ حامِلَةٌ على الوَضْعِ، سواءٌ كانَ الواضِعُ هو اللهُ أو غيرُه، وهو قَضِيَّةٌ نَقَلِ الآمِدِيِّ، وقيلَ: بل تِلْكَ المُنَاسَبَةُ كافيَةٌ في دلالَةِ اللفْظِ على المعنَى من غيرِ افْتِقَارٍ إلى الوَضْعِ لمَا بينَهما من المناسبةِ الطبيعِيَّةِ، وهو قَضِيَّةُ نَقْلِ المَحْصُولِ. وتَرَدَّدَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ في حَمْلِ مَذْهَبِ عَبَّادٍ على هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، وقَالَ: إنْ أَرَادَ الأوَّلُ فهو قَرِيبٌ، لكنْ لا يُمْكِنُ ادَّعَاؤهُ في كلِّ الألفاظِ واللُّغاتِ، لأنَّا لا نَعْلَمُ بالضَّرُورَةِ أنَّ ما يَلْمَحُونَه من المناسبةِ بينَ حُروفِ الألفاظِ ومَعانِيها غيرَ مَرْعِيٍّ في كلِّ الألفاظِ واللُّغَاتِ، وعلى هذا فإفْسادُ الآمِدِيِّ

مَذْهَبُه، فإنَّا نَعْلَمُ أنَّ الواضِعَ في ابتداءِ الوَضْعِ لو وُضِعَ لفظُ الوجودِ للعَدَمِ أو بالعَكْسِ لِمَا كَانَ مُمْتَنِعاً، غيرُ مُسْتَقِيمٍ، إذِ الخِصْمُ لا يَقُولُ: إنَّ ذلك مُمْتَنِعٌ على هذا التَّقْدِيرِ، بل غايتُه أنُّه يَلْزَمُ القَوْلُ بالمُناسبَةِ الطبيعِيَّةِ وهو غيرُ مُمْتَنِعٌ، قَالَ: وإنْ أَرَادَ الثاني، فهو مَعْلُومُ الفسادِ بالضرُورَةِ، يعنِي: لأنَّه لو كانَ كذلكَ لعَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ جميعَ اللُّغَةِ؛ لعَدَمِ الاختلافِ في دلالةِ الذاتِ، ولَعَلَّ عَبَّاداً يَدَّعِي ما يَدَّعِيهِ الاشْتِقَاقِيُّونَ من مُلاحَظَةِ الواضِعِ مُنَاسَبَةً ما بينَ اللفظِ ومدلولِه في الوَضْعِ، وإلاَّ فبُطْلانُه ضرورِيٌّ. تنبيهانِ: الأوَّلُ: جَعْلُه الخلافَ في الاشْتِراطِ وعَدَمِه قد يُنَاقِشُ فيه، وإنَّما مَذْهَبُ عَبَّادٍ أنَّ إفادَةَ اللفظُ المعنَى لذاتِه، وقد أَنْكَرَ الأصْفَهَانِيُّ في (شَرْحِ المَحْصُولِ) على مَن حَمَلَ مَذْهَبَ عَبَّادٍ على أنَّ شَرْطَ وَضْعِ اللفظِ بإزاءِ المعنَى المُنَاسَبَةُ الذَّاتِيَّةُ. وقالَ: المذاهبُ لا تُنْتَقَلُ بالاحْتِمَالِ، والمَنْقُولِ عنه ما ذَكَرْنَا، ثمَّ ذلك بَاطِلٌ بالضرورَةِ، فإنَّه يُمْكِنُنَا وَضْعُ أَلْفَاظُ المعانِي من غيرِ مُرَاعَاةِ المُنَاسَبَةِ الذاتِيَّةِ قَطْعاً، ولو كانَ شَرْطاً لِمَا أَمْكَن. الثاني: قد يَشْتَمِلُ مَحَلُّ الخلافَ، فإنَّا إذا قُلْنَا: إنَّ اللُّغَةَ توقِيفِيَّةٌ، فيَنْبَغِي ألاَّ يَشْتَرِطُ قَطْعاً، وإنَّما يَتَّجِهُ الخلافُ في أنَّه هل يَخْلُو الوَضْعُ عن المُنَاسَبَةِ أم لا؟ لأنَّ الواضِعَ حَكِيمٌ، كما في نَظِيرِه من الخلافِ في أنَّ الأحْكَامِ هل تُعَلَّلُ بالمصالِحِ أم لا؟ وإذا قُلْنَا: اصْطِلاحِيَّةٌ، فيَنْبَغِي أنْ يُشْتَرَطَ قَطْعاً، فأينَ الخلافُ، وجوابُ هذا يُعْلَمُ من تخصيصِ الخلافِ عن عَبَّادٍ، وقد عَبَّرَ الطَّرْطُوشِيُّ بعِبَارَةٍ حَسَنَةٍ تُزِيلُ الإشْكالَ،

فقالَ: الخطابُ إنَّما يُفِيدُ بالمُواطَأَةِ والمُوَاضَعَةِ، وليسَ يُفِيدُ لذاتِه ولا لِصَفَةٍ هو في العَقْلِ عليها، ألاَ تَرَى أنَّ سَامِعَه إذا لم يَعْرِفُ المُوَاطَأَةَ لم يَسْتَفِدْ به شيئاًَ. ص: (واللفظُ مَوْضُوعٌ للمعنَى الخارجيِّ لا الذهنيِّ، خلافاً للإمامِ، وقالَ الشيخُ الإمامُ: للمعنَى من حيثُ هو). ش: اخْتُلِفَ في أنَّ اللفظَ وُضِعَ لماذا؟ على مذاهبَ: أرْجُحَها: أنَّه موضوعٌ للمعنَى الخارجيِّ؛ أي: الموجودُ في الخارجِ، وبه جَزَمَ الشيخُ أَبُو إِسْحَاقَ في (شَرْحِ اللُمَعِ)؛ لأنَّه به تَسْتَقِرُّ الأحكامُ، ونَصَرَهُ ابنُ مالِكٍ في كتابِ (المُفَضَّلَ على المُفَصَّلِ). والثاني: للمعنى الذِّهْنِيِّ؛ أي: سواءٌ طَابَقَ أم لا، واختارَهُ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ والبَيْضَاوِيُّ، لدَوَرَانِ الألفاظِ على المعانِي الذِّهْنِيَّةِ وجوداً وَعَدَماً، فإنَّ الإنسانَ إذا رَأَى شَبَحاً من بَعيدٍ تَخَيَّلَه طَللاً، سَمَّاهُ طللاً، فإذا رَآهُ يَتَحَرَّكُ ظَنَّهُ شَجَراً سَمَّاهُ شَجَراً، ثمَّ لَمَّا قَرُبَ منه ورآهُ رُجَلاً سَمَّاهُ رُجُلاً، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ اختلافَ الألفاظِ للمعانِي الذِّهْنِيَّةِ إنَّما هو لاعتقادِ أنَّها في الخارجِ كذلك، لا لِمُجَرَّدِ اخْتِلافِها في الذِّهْنِ فلا يَدُلُّ على أنَّها موضوعَةٌ بإزاءِ المعانِي الذهنِيَّةِ فقطْ، ويَلْزَمُ مِن أنَّه لم يُوضَعْ لِمَا في الخَارِجِ، أنْ تَكُونَ دلالَةُ اللفظِ على ما في الخارجِ ليْسَتْ مُطَابَقَةً ولا تَضَمُّناً.

والثالثُ: أنَّه موضوعٌ للمعنَى من حيثُ هو أَعَمٌّ من الذهْنِيِّ والخارجيِّ، وهذا ما ذَهَبَ إليه والِدُ المُصَنِّفِ، وَرَدَّ مَذْهَبُ الإمامُ إليه، وأَفْرَدَ المسألَةُ بالتَّصْنِيفِ، والحقُّ أنَّ دلالَتَه على المعانِي الخَارِجِيَّةِ إنَّما هو بتوسُّطِ دلالتِها على المعانِي الذِّهْنِيَّةِ، ودلالَتُها على المعانِي الذَِّهْنِيَّةِ بغيرِ وَسْطٍ، ويَنْبَغِي تَنْزِيلُ كلامَ الإمامِ عليه، وأنَّه لم يَرِدْ أنَّها لم تُوضَعُ للمَعَانِي الخارجِيَّةِ ابتداءً، لأنَّها غيرَ مَقْصُودَةٍ أَصْلاً، فإنَّ ذلك باطلٌ؛ لأنَّ المُخْبِرَ إذا أَخْبَرَ غَيْرَه بقولِه: جَاءَ زَيدٌ، فمَقْصُودُ الإخبارِ بمَجِيءِ زيدٍ في الخارجِ. ص: (وليسَ لكلِّ معنًى لفظٍ، بل كلُّ معنًى مُحْتَاجٍ إلى اللفظِ). ش: لا يَجِبُ أنْ يكونَ لكلِّ معنًى من المعانِي لفظُ مَوْضِعٍ بِإزَائِه وهو ظاهرٌ، فإنَّ أنواعَ الأراييحِ كثيرةٌ، مع أنَّهم لم يَضَعُوا لها ألْفاظاً، تُؤْذِنُ= بها، وأيْضاً كانَ يَلَزَمُ انتفاءَ المجازِ المعلومُ ثُبوتُه ضرورَةً، واسْتَدَّلَ في (المحصولِ) بأنَّ المعانِي غيرُ مُتناهِيَةٍ، والألفاظُ متناهِيَةٌ، لتَرَكُّبِها من الحروفِ المُتَنَاهِيَةِ، والمُرَكَّبُ من المُتَنَاهِي يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُتَناهِياً، وقد يُمْنَعُ عَدَمُ تناهِي المعانِي، فإنَّ المَعْقُولَ مُتَنَاهٍ وبه صَرَّحَ الإمامُ في مسألَةِ المُشْتَرَكِ، ثمَّ قالَ الإمامُ: فإذا ثَبَتَ هذا فالمَعانِي قسمانِ: أحدُهما: ما تُشْتَدُّ الحاجَةُ إلى التَّعبيرِ عنه، فيَجِبُ الوَضْعُ له لأَجْلِ الإفهامِ بالمُخَاطَبَةِ.

والثاني: ما لا تُشْتَدُّ الحاجَةُ إليه، فيَجُوزُ فيه الأمرانِ، يعني: الوَضْعُ وعَدَمِه، أمَّا عَدَمُ الوَضْعُ فإنَّه ليسَ ممَّا يَحْتَاجُ إليه، وأمَّا الوَضْعُ فللفوائدِ الحاصلَةِ به. واعْلَمْ أنَّ لفظَ (المحصولِ): لا يَجِبُ أنْ يَكُونَ لكُلِّ لفظٍ معنًى، بل ولا يَجُوزُ واقْتَصَرَ في (الحاصلِ) على نَفْيِ الوجوبِ، وفي (المُنْتَخَبِ) على نَفْي الجوازِ، والمُصَنِّفُ أَتَى بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُمَا. ص: (والمُحْكَمُ المُتَّضَحُ المَعْنَى والمُتَشَابِهُ، ما اسْتَاثَرَ اللهُ تعالَى بعِلْمِه، وقد يُطْلِعُ عليه بعضَ أصْفِيائِه). ش: في القرآنِ مُحْكَمٌ ومُتَشَابِهٌ، كما قالَ تعالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٍ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٍ} وقد كَثَرُ الخِلافَ في مَعْنَاهِمَا.

والمُصَنِّفُ في تَفْسِيرِ المُحْكَمِ مُتَابِعٌ لابنِ الحَاجِبِ، والمُرَادُ بالمُتَّضَحِ هو المَعْنَى الذي لا يَتَطَرَّقُ إليه إشكالٌ، مَاخُوذٌ من الإحْكامِ وهو الاتفاقُ، فيَدْخُلُ فيه النَّصُّ والظاهرُ، وقالَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ أَحَسَنُ الأقوالِ فيه: ما أَمْكَنَ مَعْرَفَةُ المُرَادُ بظَاهرٍ أو بدَلالَةٍ تُكْشَفُ عنه، وفَسَّرَ المُصَنِّفُ المُتَشابِهُ بحُكْمِه، وإلاَّ فهو مُقَابِلُ المُحْكَمِ، فيكونُ ما لم يَتَّضِحْ معناهُ، فيَشْمَلُ المُجْمَلَ وما ظاهِرُه التَّشْبِيهُ، وهو المقصودُ هنا. وقد اخْتُلِفَ في إدْراكِ عِلْمِ المُتشابِه، فذَهَبَ الأشْعَرِيُّ والمُعْتَزِلَةُ إلى أنَّه لا بُدَّ أنْ يَكُونَ في جُمْلَةِ

الرَّاسِخِينَ مَن يَعْلَمُه، ووَقَفُوا على قولِه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}. وقالَ ابنُ الحَاجِبِ: إنَّه الظاهرُ؛ لأنَّ الخِطَابَ بما لا يُفْهَمُ بعيدٌ، وقالَ النَّوَوِيُّ في كتابِ العِلْمِ من (شَرْحِ مُسْلِمٍ)، إنَّه الأَصَحُّ؛ لأنَّه يَبْعُدُ أنْ يُخَاطِبَ اللهُ عِبادَه بما لا سبيلَ لأَحَدٍ من الخَلْقِ إلى مَعْرِفَتِه، قالَ: وقد اتَّفَقَ أصْحَابُنَا وغيرُهم من المُحَقِّقِينَ على أنَّه يَسْتَحِيلُ أنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ بما لا يُفِيدُ. وذَهَبَ كثيرٌ من أصْحَابِنَا المُتَكَلِّمِينَ والفقهاءِ كالحَارِثِ والقَلانِسِيِّ إلى أنَّه لا يَعْلَمُ تَاوِيلَه إلاَّ اللهُ، ووَقَفُوا على قولِه: {إِلاَّ اللهُ}. قالَ الأستاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وهو الأَصَحُّ عندَنا؛ لأنَّه قولُ الصحابَةِ. وقالَ ابنُ

السَّمْعَانِيِّ: إنَّه المُخْتَارُ على طَرِيقَةِ أهلِ السُّنَّةِ. ص: (قالَ الإمامُ: واللفظُ الشائعُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَوْضُوعاً لِمَعنًى خَفِيٍ إلاَّ على الخواصِّ، كما يَقُولُ مُثْبِتُو الحالِ: الحركةُ معنًى تُوجِبُ تَحَرُّكُ الذَّاتِ). ش: مَنَعَ الإمامُ فَخْرِ الدِّينِ أنَّ اللفظَ المَشْهورَ المتداولَ بينَ الخاصَّةِ والعامَّةِ في معنَى ـ أنْ يُوضَعَ لمَعنًى خَفِيٍّ جِداً، بحيثُ لا يَعْرِفُه إلا الخواصُّ، والغَرَضُ من هذه المسألَةِ الرَّدُ على مُثْبِتِي الأحوالِ؛ لأنَّهم يَقُولُونَ: الحركَةُ معنًى يُوجِبُ كَوْنِ الذاتِ مُتَحِرِّكَةٌ، والمَشْهُور بين الخاصَّةِ والعامَّةِ أنَّها نَفْسُ الانتقالِ، لا معنًى أَوْجَبَ الانتقالَ، يَمْتَنِعُ أنْ تَكونَ موضوعَةٌ لذلك المعنَى، إذِ يَتَعَذَّرُ تَعَقُّلُه على غيرِ الخواصِّ. وقد رَدَّ عليه الأصْفَهَانِيُّ في شَرْحِه، وقالَ: قد يُدْرِكُ الإنسانُ معانِي خَفِيَّةٍ لَطِيفَةٍ، ولا يَجِدُ لها لفْظاً دالاًّ عليها؛ لأنَّ ذلك المعنَى مُبْتَكِرٌ، ويَحْتَاجُ إلى وَضْعِ لفظٍ بإزائِهِ؛ ليَفْهَمَ ذلك الغيرُ ذلك المعنَى، سواءٌ أَكَانَ اللفظُ من الألفاظِ المشهورةِ أو لا، ولا حَجْرَ في الاصْطِلاحَاتِ، والكُتُبِ العِلْمِيَّةِ مَشْحُونَةٌ، بأمثالِ هذه الألفاظِ، وذلك يُمْكِنُ رَدُّهُ بالدليلِ، نَعَمْ، إنْ ادَّعَى الخِصْمُ أنَّ هذا اللفْظَ المشهورَ موضوعٌ بإزاءِ المعنَى الخَفِيِّ أو

لا فمَمْنُوعٌ، قالَ: وأسماءُ اللهُ تعالَى المُقَدَّسَةُ من قَبِيلِ القسمِ الأوَّلِ، فإنَّ منها ألفاظاً مشهورةً، وبإزائِها مَعَانِي دَقِيقَةٍ غَامِضَةٍ لا يَفْهَمُها إلا الخواصُّ. ص: (مسألَةٌ: قالَ ابنُ فُورَكْ والجمهورُ: اللُّغاتُ تَوْقِيفِيَّةٌ عَلَّمَها اللهُ تعالَى بالوَحْيِ أو خَلْقِ الأصْواتِ، أو العِلْمِ الضَّرُورِيَّ، وعُزِيَ إلى الأشْعَرِيِّ، وأكثرِ المعتزلِةِ اصطلاحِيَةٌ، حَصَلَ عِرْفَانُها بالإشارَةِ والقريِنَةِ كالطِّفْلِ، والأستاذُ: القَدْرُ المُحْتَاجُ في التعريفِ تَوْقِيفِيٌّ وغيرُه مُحْتَمَلٌ، وقيلَ: عَكْسُهُ، وتَوَقَّفَ كثيرٌ، والمُخْتَارُ الوَقْفُ عن القَطْعِ، وأنَّ التَّوْقِيفَ مَظْنُونٌ). ش: هذه المَسْأَلَةُ في البحثِ عن الواضِعِ، وفيها أقوالٌ: إحدَاها: قولُ الجمهورُ: إنَّها تَوْقِيفِيَّةٌ وأنَّ الواضِعَ هو اللهُ تعالَى، والتَّعْرِيفُ إمَّا الوَحْيُ أو الإلْهَامُ، بأنْ عَلَّمَها بالوَحْيِ إلى الأنبياءِ أو خَلْقِ أصواتٍ تَدُلُّ على اللُّغَاتِ وإسْمَاعِها لواحدٍ أو جَمَاعَةٍ، أو بخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُوريٍّ في الصدورِ لصِيَغٍ مَخْصُوصَةٍ لمَعَانٍ، فبَيَّنَ العُقلاءُ الصِّيَغَ ومعانِيها. قالَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ: فيكونُ معنَى التَّوقيفَ أنْ

تَلْقَفُوا وَضْعَ الصِّيَغِ على حُكْمِ الإرَادَةِ والاختيارِ، واخْتَارَهُ ابنُ فارسٍ في كتابِه (فِقُهُ العَرَبِيَّةِ) واحْتَجَّ له بالإجماعِ على الاحتجاجِ بلُغَةِ القَوْمِ، ولو كانَتِ اللُّغَةُ مُواضِعَةٌ لم يَكُنْ أُولئكَ في الاحتجاجِ بهم بأَوْلَى منَّا في الاحتجاجِ، فقالُوا: اصْطَلَحْنَا على لُغَةِ القَوْمِ ولا فَرْقَ، واحْتَجَّ غيرُه من النُّحاةِ، بأنَّه لو كانَ اصْطِلاحاً لم يَخْتَلَفُوا، فيَقُولُ بعضُهم: مَرَرْتُ بِأَبِيكَ، وآخَرُونَ: بآبَائِكَ، وأيضاً فقد اسْتِعْمَلُوا أَبْنِيَةً وتَرَكُوا غَيْرَها، ولا سَبيلَ إلى الاصطلاحِ؛ لأنَّه لم يُوجَدْ قَط أُمَّةٌ وُلِدَتْ مُتَكَلِّمَةً، ولا تَكَلَّمَتْ حتى وُلِدَتْ، حَكَاهُ ابنُ خَروفٍ في (شَرْحِ سِيبَوَيْهِ) وقالَ: الأَقْرَبُ أنَّه إِلْهَامٌ من اللهِ تعالَى، وهذا المَذْهَبُ عَزَاهُ جماعَةٌ إلى الأشْعَرِيِّ، وإنَّما لم يَجْزِمِ المُصَنِّفُ بنِسْبَتِه إليه لِمَا سَنَذْكُرُه، ولكنَّه عَزَاهُ لأكَابِرِ أصْحَابِه كابنِ فَوْرَكٍ، وقد رَأَيْتُه في كِتَابِه، فقالَ: الذي يَصِحُّ من ذلك قولُ من قالَ: إنَّه تَوْقِيفِيٌّ؛ وذلك لأنَّه لو وَقَعَ اصْطِلاحاً، لم يَقَعْ كذلك إلاَّ بِلُغَةٍ أُخْرَى أو إِشَارَةٍ أو كِتَابَةٍ أُخْرَى، وكانَ يَحْتَاجُ من الاصطلاحِ مثلَ ما يَحْتَاجُ إليه ما وَرَاءَهَا= إلى أنْ يَنْتَهِيَ إلى أَمْرٍ غيرَ مُصْطَلَحٍ عليه، فنقول: الأمْرُ فيه إلى التوقيفِ. والثاني: وعليه أَكْثَرُ المُعْتَزِلَةُ أنَّها اصْطِلاحِيَّةٌ بمعنَى أنَّ واحداً من البشرِ أو جَماعةُ وَضَعَها، وحَصَلَ التعريفُ للباقِينَ بالإشارَةِ والقرائنَ. كتعريفِ الوالدَيْنِ لُغَتَهُما للأطفالِ، وفَسَّرَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ الاصطلاحَ؛ بأنَّه لا يَبْعُدُ أنْ يُحَرِّكَ اللهُ به نُفُوسَ العُقلاءِ لذلك؛ أي: يَعْلَمُ بَعْضَهم مَرادَ بَعْضٍ، ثمَّ يُنْشِؤُونَ على اختيارٍ منهم صِيغاً لتِلْكِ المعانِي التي يُرِيدُونَها، ألاَ تَرَى أنَّ الإنسانَ يُولَدُ له مولودٌ فيُنْشِئُ له اسْماً، وكذا يَجُوزُ أنْ تَسْتَحْدِثَ صِيغَةً دالَّةً، فتَصِيغُ للصِّفَةِ اسماً

وللآلَةِ اسماً. الثالثُ: مَذْهَبُ الأستاذُ أنَّ القَدْرَ المُحْتَاجَ إليه منها في التعريفِ تَوْقِيفِيٌّ، والباقِي مُحْتَمَلٌ للتَّوْقِيفِ وغيرِه، كذا حَكَاهُ ابنُ بُرْهَانَ والآمِدِيُّ وغيرُهما، والذي في (المَحْصُولِ) و (المِنْهَاجِ) عنه: أنَّ الباقِي مُصْطَلَحٌ، مع أنَّه في (المحصولِ) عندَ الاسْتِدْلالِ عليه حَكَى الأوَّلُ، وهذا هو الصوابُ كما رَأَيْتُه في كِتَابِه، وعلى هذا فيكونُ مَذْهَبَه مُرَكَّباً من الوَقْفِ والتَّوْقِيفِ. الرابعُ: عَكْسُه، وهو يُفْهَمُ أنَّ القَدْرَ المُحْتَاجَ إليه اصطلاحٌ والباقِي مُحْتَمَلٌ، لكنَّ الذين حَكُوا هذا المَذْهَبَ قالُوا: إنَّ الباقِي مُصْطَلَحٌ. والخامسُ: الوَقْفُ، بمعنَى أنَّ الجميعَ مُمْكِنٌّ لتَعَارُضِ الأدِلَّةِ، وعَزَاهُ في (المَحْصُولِ) للقَاضِي وجُمْهُورِ المُحَقِّقِينَ. والسادسُ: الوَقْفُ عن القَطْعِ بواحدٍ من هذه الاحْتِمَالاتِ، وتَرْجِيحُ مَذْهَبُ الأشْعَرِيِّ بغَلَبَةِ الظَّنِّ، وهذا ما اخْتَارَهُ ابنُ الحَاجِبِ والمُصَنِّفِ، ويَخْرُجُ من كلامِ

ابنِ السَّمْعَانِيِّ. سابعٌ: وهو تَجْوِيزُ الكُلِّ مع ظهورِ مَذْهَبِ الأستاذِ؛ فإنَّه قالَ: المُخْتَارُ تَجْويزُ كُلِّ ذلك، ثمَّ قالَ: والظاهرُ أنَّ بعضَها كَانَ تَوْقِيفاً من اللهِ تعالَى على ما نَطَقَ به الكتابُ، وبعضَها كانَ اصطلاحاً وتَوَاطُؤًا، ومن المُتَأَخِّرِينَ مَن قالَ: منها ما يَقْطَعُ فيه بالاصطلاحِ كالأعلامِ، وقيلَ إنَّ الأشْعَرِيَّ إنَّما تَكَلَّمَ في الوقوعِ معَ تَجْوِيزِ صُدُورِ= اللُّغَةِ اصطلاحاً، ولو مُنِعَ الجَوازُ لنَقَلَهُ عن القاضِي وغيرِه من أصْحَابِه، وذَكَرَ إمامُ الحَرَمَيْنِ الخلافَ في الجوازِ ثمَّ قالَ: إنَّ الوقوعَ لم يَثْبُتْ. فائدةٌ: تَكَلَّمُوا في فَائِدَةِ هذه المسألَةِ، فمنْهُم مَن نَفَاهَا كالأَبْيَارِيِّ شارحُ (البُّرْهَانِ) وقالَ: ذَكَرَها في الأُصُولِ فُضُولٌ، ومنهم مَن قالَ: فائدُتُها قَلْبُ اللُّغَةِ، وقالَ المَاوَرْدِيُّ في تَفْسِيرِه: فائِدَةُ الخلافِ أنَّ مَن جَعَلَ الكلامَ تَوْقِيفاً جَعَلَ التَّكْلِيفَ مُقَارِناً لكَمَالِ العَقْلِ، ومَن جَعَلَه اصْطِلاحاً جَعَلَ التَّكْلِيفَ مُتَأَخِّراً عن العَقْلِ مُدَّةَ الاصطلاحِ على مَعْرِفَةِ الكلامِ.

ص: (مسأَلَةٌ: قالَ القَاضِي، وإمَامُ الحَرَمَيْنِ، والغَزَالِيُّ والآمِدِيُّ: لا تَثْبُتُ اللُّغَةُ قياساً، وخَالَفَهُم ابنُ سُرَيْجٍ، وابنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وأَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْرَازِيُّ، والإمامُ، وقيلَ: تَثْبُتُ الحقيقةُ لا المجازَ، ولفظُ القياسَ يُغْنِي عن قولِك: مَحَلَّ الخلافِ، ما لم يَثُبُتْ تَعْمِيمُه باسْتِقَرَاءِ). ش: اتَّفَقُوا كُلَّهُم على امْتِناعِ جَرَيانِ القِياسِ في أَسْمَاءِ الأعْلامِ؛ لأنَّها غيرُ مَعْقُولَةِ المعنَى، والقياسُ فَرْعُ المعنَى، فهو كحُكْمٍ تَعَبُّدِيٍّ لا يَعْقُلُ معنَاهُ، وكذلك على امْتِنَاعِه في الصِّفَاتِ من اسمِ الفاعلِ والمفعولِ ونحوِهما؛ لأنَّ القياسَ لا بُدَّ فيه من أَصْلٍ، وهو غيرُ مُتَحَقِّقٌ فيها، إذ ليسَ جَعَلَ= البعضُ أصلاً والبعضُ الآخَرَ فَرْعاً أَوْلَى من العَكْسِ، واطْرِادَهما في محالِهما مُسْتَفَادٌ من الوَضْعِ لا القياسُ، فلأنَّهم وَضَعُوا القائمَ والقاعِدَةَ بإزاءِ كُلٍّ من قَامَ وقَعَدَ، وعلى امْتِنَاعِه فيما يَثْبُتُ بالاسْتِقْرَاءِ إرَادَةً للمعنَى الكُلِّيِّ، كقولِنا: الفاعلُ مرفوعٌ، والمفعولُ منصوبٌ، وإنَّما مَحَلُّ الخلافِ فيما إذا أَطْلَقُوا اسْماً مُشْتَمَلاً على وَصْفٍ، واعْتَقَدْنَا أنَّ التَّسْمِيَةَ لذلك الوصفِ، فأَرَدْنَا تَعْدِيَةَ الاسمَ إلى مَحَلٍّ آخَرَ مَسْكُوتٌ عنه، كما إذا اعْتِقَدْنا أنَّ إطلاقَ اسمَ الخَمْرِ باعْتِبارِ التَّخْمِيرِ، فعَدَيْنَاهُ إلى النَّبْيذِ وفيه مذاهبَ.

أحدُها: المَنْعُ، وبه قالَ مُعْظَمُ أصْحابِنا والحَنَفِيَّةُ، وفي ذِكْرِ القاضِي مِن المَانِعِينَ فائدةٌ، وهي: الرَّدُّ على ابنِ الحَاجِبِ حِكَايَتَه عن القاضِي الجَوازُ، والموجودُ في (التقريبِ) للقاضِي المَنْعُ، وكذا حَكَاهُ عن المَاوَرْدِيِّ وغيرِه، ومِن أَدِلَّتِهم: ما مِن شيءٍ إلاَّ ولَه اسمٌ في اللُّغَةِ توقيفاً فلا يَجُوزُ أنْ يَثْبُتَ له اسمٌ آخَرَ بالقياسِ، كما إذا ثَبَتَ لشيءٍ حَكَمَ بالنَّصِّ لم يُجِزْ أنْ يَثْبُتْ له حُكْمٌ آخَرَ بالقياسِ؛ ولأنَّ الخلافَ إنَّما هو الأسماءُ في المُشْتَقَّةِ والعُرْفِ لا يَلْزَمُ طَرْدُ القياسِ في الاشتقاقِ، فإنَّهم سَمُّوا الدَّابَةَ لدِبِيبِها، ولم يُسَمُّوا كلَّ ما دَبَّ دَابَّةً، ولأنَّ الخَمْرَ فُسِّرَ في معنَى اسمِها الاضطرابُ، وإنَّما هي من المُخَامَرَةُ أو التَّخْمِيرِ، فلو شَاعَ الاسْتِمْساكُ بالاشتقاقِ لكانَ كلُّ ما يُخَامَرُ العقلُ وإنْ لم يَضْطَرِبْ يكونُ خَمْراً. والثاني: الجوازُ؛ لأنَّ الاشتقاقَ في الاسمِ بمَنْزِلةِ التعليلِ، فكأنَّهم جَعَلُوا المُشْتَقَّ بمنزلَةِ الفَرْعِ، والمُشْتَقَّ منهُ بمنزلَةِ الأصْلِ، والمعنَى الذي لأَجْلِه بمنزلَةِ العِلَّةِ، وما عَزَاهُ المُصَنِّفُ للإمامِ صحيحٌ، ولا يُنَافِيهِ قولُه: في مواضِعَ، هذا قياسٌ في اللُّغَةِ فلا نَقُولُ به، فهذا اسْتِطْرادٌ لا يُؤَثِّرُ فيما ذَكَرَهُ مَظِنَّةٌ؛ ولأنَّ المُنَاظَرَةَ قد يَرْتَكِبُ فيها غيرُ

المَذْهَبِ، نَعَمْ، ما عَزَاهُ لابنِ سُرَيْجٍ فيه نَظَرٌ؛ فإنَّ ابنَ السَّمْعَانِيِّ بعدَ أنْ سَرَدَ أَدِلَّةَ المانِعِينَ، قالَ: وهذه الأدِلَّةُ قَوِيَّةٌ جِدًّا، فالأوْلَى أنْ نَقُولَ: يَجُوزُ إثباتُ الأسَامِي شَرْعاً، ولا يَجُوزُ إثباتُها لُغَةً، وهو الذي اخْتَارَهُ ابنُ سُرَيْجٍ، والدليلُ على جوازِ ذلكَ أنَّا نَعْلَمُ أنَّ الشرِيعَةَ إنَّما سَمَّتِ الصلاةَ صلاةً لصفَةِ متى انْتَفَتْ عنها لم تُسَمَّ صلاةً، ففِعْلُه إنْ مَا شَارَكَها في تلك الصِّفَةِ يَكُونُ صلاةً، فبَانَ بهذا ثُبُوتُ الأسماءِ الشَّرْعِيَّةِ بالعِلَلِ، وإذا ثَبَتَ هذا الاسمُ لِمَعَانٍ، جَازَ قِياسُ كلَّ مَحَلٍّ وُجِدَ فيه ذلك المعنَى وتَسْمِيتَه بذلك الاسمِ، وعلى هذا خَرَجَتِ الأسماءُ اللُّغَوِيَّةُ، ولم يَلْزَمْ ما ذَكَرُوهُ من اطِّرَادِ معانِي الاسمِ، وعلى هذا يَثْبُتُ اسمُ الخَمْرِ للنَّبِيذِ شَرْعاً، ويَثْبُتُ للِّواطِ اسمُ الزِّنَا شَرْعاً، ثم يَجِبُ الحَدُّ بالآيةِ، ويَثْبُتُ السارِقُ للنَّبَّاشِ شَرْعاً، ثمَّ يَجِبُ القَطْعُ بالآيةِ. انتهى. ويَتَحَصَّلُ أربعةُ مَذاهِبَ: المَنْعُ، والجَوَازُ، إثباتُ الاسمِ بالشَّرْعِ، إثْبَاتُه باللُّغَةِ، وفائِدَةُ الخلافِ في هذه المسألَةِ: أنَّ مَن أَثْبَتَ عُمُومُ الاسمِ بِطَرِيقِ القياسِ اللُّغَوِيِّ، انْدَرَجَتِ المُسَمِّياتِ تحتَ العُمُومِ ولم يَحْتَجْ إلى القياسِ الشَّرْعِيِّ وشَرَائِطِه، فيَدْخُلُ تَحْتَ قولِه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}. ومَن لم يُثْبِتْه بالقياسِ اللُّغَوِيِّ احْتَاجَ إلى ذلك. وعلى الأوَّلِ: يُقْطَعُ النَّبَّاشُ بالنَّصِّ. وعلى الثاني: بالقياسِ الشَّرْعِيِّ على السرقةِ. والمَذْهَبُ الثالثُ: يَجْرِي في الحقيقةِ لا في المجازِ، وهو يَخْرُجُ من كلامِ القاضِي عبدِ الوَهَّابِ.

لأنَّ المجازَ أَخَسُّ رُتْبَةً من الحقيقةِ، فيَجِبُ تَمْييزُ الحقيقةِ عليه. وقولُه: (ولَفْظًُ القِياسِ) يُشِيرُ إلى الاستغناءِ عن قولِ ابنِ الحَاجِبِ: ليسَ الخلافُ فيما يَثْبُتُ تَعْمِيمُه بالاسْتِقْرَاءِ كرَفْعِ الفاعلِ ونَصْبِ المفعولِ، ووَجْهُ الاسْتِغْنَاءُ عنه، أنَّ لَفْظَ القياسِ الذي هو موضوعُ المسألَةِ يُعْطِي ذلك؛ لأنَّ اطِّرادَ ذلك في كلِّ ما أُسْنِدَ إليه فِعْلٌ مَعْلُومٌ بالنَّصِّ لا بالقياسِ، ولذلك لم يَحْتَجْ إلى استثناءِ الأعلامِ، فإنَّه لا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ القياسِ فيها لِمَا سَبَقَ. ص: (مسألَةٌ: اللفظُ والمعنَى إنِ اتَّحَدَا فإنْ مَنَعَ تَصَوُّرَ مَعْنَاهُ الشركةُ، فجُزْئِيٌّ وإلاَّ فَكُلِّيٌّ). ش: هذه المسألةُ في تَقْسيمِ اللفْظِ المُفْرَدِ باعتبارِ نِسْبَتِه إلى المعنَى، وهو أربعةُ أقسامٍ: الأوَّلُ: أنْ يَتَّحِدَ اللفظُ والمعنَى، فإنْ مَنَعَ تَصَوُّرُ معنَاهُ من وقوعِ الشركةِ في مَفْهُومِه، فهو جُزْئِيٌّ كالعَلَمِ نحوَ: زَيدٌ، وغيرُه من سائرِ الأعْلامِ؛ فإنَّه لا يُشَارِكُه فيه غيرُه، وإنْ لم يَمْنَعْ تَصَوُّرُ معناهُ من وقوعِ الشركةِ فيه، فهو الكُلِّيُّ كالحيوانِ والإنسانِ. واعْلَمْ أنَّ الجُزْئِيَّ والكُلِّيَّ بالذاتِ هو ذلك المعنَى، وإنَّما يُقَالُ للَّفْظِ الدَّالِ عليه: كُلِّيٌّ وجُزْئِيٌّ بالعَرَضِ والتَّبِعَيَّةِ تَسْمِيةٌ للدَّالِ باسمِ المَدْلُولِ، وغيرُ المُصَنِّفِ قالَ: نَفْسُ تَصَوُّرِ معناهُ، وإنَّما قَيَّدَ التَّصَوُّرَ؛ ليَخْرُجَ بعضُ أقسامِ الكًُلِّيِّ، وهو ما تَمْتَنِعُ فيه الشركةُ لا لِنَفْسِ مَفْهُومِه، بل لأمْرٍ خارجٍ كواجِبِ الوجودِ، والمُصَنِّفُ حَذَفُه؛ لأنَّه ظَنَّ تَمَامَ الحَدِّ= بدونِه وليسَ كذلكَ، فإنَّه لَمَّا أَخَذَ التَّصُوُّرَ في تعريفِ الكُلِّيُّ، عَلِمْنا أنَّ الكُلْيَّةَ والجُزْئِيَّةَ من عوارِضِ الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ، فيهما تَوَهَّمٌ؛ أنَّه لو كانَ من الصُّوَرِ الذهنِيَّةِ مالا يَمْنَعُ الشرِكَةُ، كانَتْ حَقِيقَتُها الخارجِيَّةِ كذلك؛ لأنَّ الصَّورَ الذهنِيَّةَ مُطَابِقَةٌ للخَارِجِ، فأُزِيلَ هذا الوَهْمُ، فإنْ مَنَعَ التَّصَوُّرَ الذِّهْنِيَّ للشركةِ وعَدَمَ منعِه ليسَ بالنَّظَرِ

إلى ذاتِها بل من حيثُ تَصَوَّرِها. وقولُه: (لاَ يَمْنَعُ تَصَوُّرَهُ مِن الشركَةِ) أعمٌّ من أنْ يكونَ قَابِلاً للشركةِ أو غيرِ قابلٍ؛ لأنَّ عَدَمَ المَنْعِ أَعَمٌّ من القبولِ، وبهذا يَظْهَرُ حُسْنُ التعبيرِ بنَفْسِ التَّصَوُّرِ؛ لأنَّ المقصودَ أنَّه لا يُشْتَرَطُ كُونُ الشركةِ مُمْكِنَةً عقلاً، بل لم يُنْظَرْ في وَضْعِه إلى الشرِكَةِ، ولا إلى الوقوعِ في الخارجِ، فإنَّ الكُلَّ قد لا يَقْبَلُ الوجودَ بالكُلْيَّةِ كالمُسْتَحِيلِ، وقد يَقْبَلَهُ، ولم يُوجَدْ واحِدٌ من أفرادِه، كبحرٍ من زِئْبَقٍ، أو وُجِدَ واحدٌ إمَّا مع إمْكانِ غيرِه, كالشَّمْسِ عندَ مَن يُجَوِّزُ وُجودَ شَمْسٍ أُخْرَى, أو امتناعِ غيرِه كهي عندَ مَن لا يُجَوِّزُه، كذا قالَه الهِنْدِيُّ، وغيرُه، وقالَ الآمِدِيُّ في (رُمُوزِ الكُنُوزِ) لفظُ الشمْسِ والقَمَرِ كُلِّيَّانِ إلاَّ أنْ يُرَادَ به هذا الشمسُ وهذا القمرُ. تنبيهان: أحدُهما: هذا التعريفُ أَحْسَنُ من تعريفِ ابنِ الحَاجِبِ؛ فإنَّ الاشتراكَ ليسَ بشَرْطٍ، وتعبيرُ ابنُ الحَاجِبِ يُوهِمُ شَرْطِيَّتَه، ولا بُدَّ أنْ يَلْحَظَ في الجُزْئِيِّ قَيْدَ التشْخِيصِ والتَّعْيينِ، فإنَّ مع انْتِفاءِ ذلك، لا بُدَّ أنْ يَشْتَرِكا ولو في أَخَصِّ صفاتِ النَّفْسِ. الثاني: قالَ التَّسْتَرِيُّ، في حَدِّ الكًُلِّيِّ، في حالِ الإيجابِ، قالَ: فإنَّ زيداً

يَشْتَرِكُ كثيرُونَ في سَلْبِه عن مَفْهُومِه معَ أنَّه ليسَ بِكُلِّيٍّ، وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ تَصَوُّرَ معناهُ غيرُ الحُكْمِ عليه بالإيجابِ والسَّلْبِ. ص: (مُتَوَاطِئٌ إنِ اسْتَوَى، ومُشَكِّكٌ إنْ تَفَاوَتَ). ش: يَنْقَسِمُ الكُلِّيُّ إلى مُتَوَاطِئٍ ومُشَكِّكٍ؛ لأنَّه إنْ كانَ حُصُولُ معناهُ في أفْرَادِه على التَّساوِي، فهو المُتَواطِئُ كدلالَةِ الإنسانِ على زَيدٍ وعمرٍو ونحوِه، إذِ كُلُّ فَرْدٍ من أَفْرَادِه لا يَزِيدُ على الآخَرِ في الإنسانِيَّةِ، فإنَّ الإنسانِيَّةَ التي في زَيدٍ مَثَلاً ليْسَتْ بِأَسَدٍ ولا أَوْلَى ولا أَقْدَمُ منها في عمرٍو، سُمِّيَ بذلك لمُطَابَقَةِ كلِّ واحدٍ من أفرادِه معناهُ، والمُوَاطَأَةُ: المُوَافَقَةُ، وإنْ كانَ حُصُولُ ذلك المعنَى في بعضِ أفْرَادِه يَتَفَاوتُ في مَفْهُومِه لشِدَّةٍ أو ضَعْفٍ، أو تَقَدُّمٍ أو تَأَخُّرٍ ـ فهو المُشَكِّكُ، كإطلاقِ الأبَيضِ على الثَّلْجِ والعَاجِّ ونحوِه، فإنَّ البَياضَ الذي في الثَّلْجِ أَشَدُّ منه في العَاجِّ، سُمِّيَ مُشَكِّكاً؛ لأنَّه يُشَكِّكُ النَّاظِرَ هل هو مُتَوَاطِئٌ لوحِدَةِ الحقيقَةِ فيه، أو مُشْتَرِكٌ لِمَا بينَهُما من الاختلافِ؟ وجَوَّزَ الهِنْدِيُّ فَتْحَ الكافِّ على أنَّه اسمُ مفعولٍ، لكونِ

الناظرِ يَتَشَكَّكُ فيه، في ذلكَ، وقد أَوْرَدَ عليه أنَّ الأَبْيَضَ مثلاً، إذا أُطْلِقَ على الثَّلْجِ فإمَّا أنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُه فيه مع ضَمِيمَةِ تلكَ الزيادَةِ، أو لا، فإنَّ لم تَكُنْ فهو المُتَوَاطِئُ، وإنْ كانَ فهو المْشَتَرِكُ، فإذا لا حقيقةَ لهذا القِسْمِ المُسَمَّى بالمُشَكِّكِ، وأُجِيبَ بأنَّ تركيبَ الشَّبَهَيْنِ يُحْدِثُ له طبيعَةً أُخْرَى، كالخُنْثَى لا ذَكَرَ ولا أُنْثَى، واعْلَمْ أنَّه رُبَّما اتَّفَقَ في الاسم الواحدِ بالنَّظَرِ إلى مُسَمِّيَيْنِ؛ التَّوَاطُؤِ والاشِتراكِ من جِهَتَيْنِ كالأسودِ إذا قيلَ على شَيْئَيْنِ مُلَوَّنَيْنِ بالسوادِ فإنَّه مُشْتَرِكٌ إنْ جُعِلَ لَقَباً لهما ومُتَوَطِّئَينِ إنْ دَلَّ عليْهِما باعتبارِ سَوَادَيْهِما. ص: (وإنْ تَعَدَّدَا فمُتَبَايُنٌ). ش: القِسمُ الثاني: أنْ يَتَعَدَّدَ اللَّفْظُ والمعنَى، فهي الألفاظُ المُتَبايِنَةٌ كالإنسانِ والفَرَسِ والبَقَرِ، وغيرِ ذلك من الألفاظِ المُخْتَلِفَةِ المَوْضُوعَةِ لمَعانٍ مُخْتَلِفَةٍ، سُمِّيَ بذلك لتَبَايُنِها في الدلالَةِ والألفاظِ. ص: (وإنْ اتَّحَدَ المعنَى دونَ اللفظِ فمُتَرادِفٌ). ش: الثالثُ: أنْ يكونَ اللفظُ كثيراً والمعنَى واحدٌ، فهي الألفاظُ المترادفِةُ، كالإنسانِ والبَشَرِ لِواحدٍ، قالَ الآمِدِيُّ: واتِّحادُ موضوعِ المُسَمِّياتِ المُنْفِرِدَةِ لا

يُوجِبُ الترادُفَ، كالسيفِ والصارمِ والهِنْدِيِّ، بل هي مُتَبَايَنَةٌ. ص: (وعَكْسُه إنْ كانَ حَقِيقَةٌ فيهما فمُشْتَرَكٌ، وإلاَّ فحقيقةٌ ومجازٌ). ش: الرابعُ: أنْ يَتَّحِدَ اللفظُ ويَتَكَثَّرَ المعنَى، وهو يَشْتَمِلُ على أقسامٍ، لأنَّه وُضِعَ لمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أو أَزْيدَ دَفْعَةَ فهو المُشْتَرِكُ، كالعَيْنِ: للبَاصِرَةِ والجَارِيَةِ والدينارِ وغيرِها، وإنْ وُضِعَ لمعنًى ثمَّ نُقِلَ عنه إلى معنًى آخَرَ لعَلاقَةٍ ولم يَغْلُبْ اسْتِعْمَالُه في المَنْقُولِ إليه ـ فهو بالنِّسْبَةِ إلى المعنَى الأوَّلِ حقيقةٌ، وإلى الثاني مجازٌ، كالأسَدِ الموضوعِ للحيوانِ المُفْتَرِسِ المَنْقُولِ إلى الرجُلِ الشجاعِ للمُنَاسبَةِ بينَهما، وهي القَوْلَةُ؛ فإنْ غَلَبَ سُمِّيَ لفظاً مَنْقُولاً، وقَسَّمُوهُ باعتبارِ الناقلِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ؛ لأنَّه إمَّا الشرعُ أو العُرْفُ العامُّ أو الخاصُّ، وسُمِّيَتِ المنقولةُ مجازاً، اشْتِقاقاً من التجاوزِ، وهو التَّعَدِّي، إذِ التَّجَوَّزُ يَتَعَدَّى المعنى الحقيقيَّ. ص: (والعَلَمُ: ما وُضِعَ لمُعَيِّنٍ لا يَتَنَاولُ غيرَه). ش: هذا منه بيانٌ لبعضِ أقسامِ الجزئيِّ، وعَرَّفَه تَوْطِئَةً لِمَا سيَذْكُرُه من الفرقِ بينَ الشخْصِيِّ منه والجِنْسِيِّ، فقولُه: (ما وُضِعَ لمُعَيِّنٍ) جِنْسٌ يَتَنَاولُ جميعَ المعارفِ، وخَرَجَ عن المنكراتِ. وقولُه: (لا يَتَنَاولُ غيرَه) فَصَلَ خَرَجَ به ما عَدَاهُ من المعارفِ؛ فإنَّ اسمَ الإشارةِ صَالِحٌ لكلِّ مُشَارٍ إليه، والضميرُ صالِحٌ لكلِّ مُتَكَلِّمٍ ومُخَاطَبٍ وغَائِبٍ، وهذا الحدُّ ذَكَرَهُ ابنُ الحَاجِبِ في مُقَدِّمَتِه النَّحْوِيَّةِ، وزَادَ فيه: بوَضْعٍ واحدٍ، لئلاَّ يَتَوَهَّمَ أنَّ زيداً إذا سُمِّيَ به رجُلاً ثمَّ سُمِّيَ به آخَرَ فهو مُتَنَاولٌ لغَيْرِه فلا يكونُ الحَدُّ جامعاً، فلمَّا قالَ: بوَضْعٍ واحدٍ، دَخَلَ ذلك؛ فإنَّه وإنْ تَنَاولَ غيرَه، لكنْ ليسَ

بوَضْعٍ واحدٍ بل بأوضاعٍ. وقالَ في شَرْحِه: خَرَجَ بقولِه: لا يَتَنَاولُه غيرَه، قولُكَ: أنتَ وأنتَ مُخَاطِبٌ زيداً، فإنَّه يَصِحُّ أنْ يُقالَ: وأنتَ، لعَمْرٍو إذا خَاطَبْتُه أيضاً، ومُرادُه بذلك أنَّ (أنتَ) يُوضَعُ لشيءٍ بعَيْنِه، وهو معَ ذلكَ مُتَنَاولٌ لغيرِ ما وُضِعَ له على التَّعْيينِ، واعْتُرِضَ عليه؛ بأنَّ هذا اللفظَ وُضِعَ للمُخَاطَبِ على التَّعْيينِ، فهو لا يَتَنَاولُ غيرَه، لكنْ قد يَعِرضُ الاشتراكَ بحَسَبِ مُخَاطَبَيْنِ أو ثلاثةٍ، وهذا بعينِه. فقالَ: في العَلَمِ؛ لأنَّ زيداً أيضاً قد يَقَعُ فيه الاشتراكُ بحَسَبِ الاتفاقِ، وذلكَ لا عِبْرَةَ له؛ لأنَّ واضِعَ اللُّغَةِ جَعَلَ النَّكِرَاتَ شَائِعَةً في نوعِها أو جِنْسِها من غيرِ نَظَرٍ إلى فَرْدٍ من أفرادِها، وجَعَلَ المَعْرَفَةَ لشيءٍ له بعينِه, ثم إنَّ العَالَمَ بلُغَتِه يَسْتَعْمَلَ ألفاظَ المعارِفِ بعدَ عَدَمِ أشخاصِها لأشخاصٍ أُخَرَ، معَ مُرَاعَاةِ غَرِضِ الواضِعِ، وهو التَّّعْيينُ في الأصْلِ، والحقُّ أنَّ الضَّمِيرَ كُلِّيٌّ باعتبارِ صلاحيتِه لكلِّ مُتَكَلِّمٍ ومُخَاطَبٍ وغَائِبٍ، وجُزْئِيٍّ باعتبارِ عُروضِ الجُزْئِيَّةِ والشخْصِيَّةِ بسَبَبِ قَصْدُكَ به مُعِيناً فقولُهم: إنَّه وُضِعَ لمعنًى، إنَّما هو باعتبارِ العارضِ. ص: (فإنْ كانَ التَّعْيينُ خارجيًّا، فعَلَمُ الشَّخْصُ، وإلاَّ: فعَلَمُ الجِنْسِ، وإنَّ للمَاهِيَّةِ من حيثُ هي: فاسمُ جِنْسٍ). ش: العَلَمُ إمَّا مُسَمَّاهُ جُزْئِيٌّ مخصوصٌ كزيدٍ، ويُسَمَّى عَلَمُ الشخصِ، أو كُلِّيٌّ شائعٌ، كأُسَامَةَ للأسدِ، وثُعَالَةَ للثَّعْلَبِ، ويُسَمَّى عَلَمُ الجِنْسِ، وهو عَلَمٌ لفظاً، نَكِرَةٌُ معنًى، فاسمُ أُسَامَةَ صَالِحٌ لكلِّ أَسَدٍ، بخلافِ عَلَمُ الجِنْسِ، وقد كَثُرَ كلامُ الناسِ في الفرقِ بينَ هذه الثلاثةِ، أعْنِي عَلَمُ الشَّخْصِ، وعَلَمُ الجِنْسِ، واسمُ الجِنْسِ النَّكِرَةِ كأسدٍ، وهو من نَفَائِسِ المَبَاحِثِ، قالَ القِرَافِيُّ: وكانَ الخسروشاهيُّ

يُقَرِّرُهُ، ولم أَسْمَعْه من أَحَدٍ إلاَّ منهُ، وكانَ يقولُ: ما في البلادِ المصريَّةِ مَن يَعِرِفُه، وفَرَّقَ بينَ العَلَمَيْنِ، بأنَّ عَلَمَ التَّشَخُّصِ مَوْضوعٌ للحقيقَةِ بقَيْدِ التَّشَخُّصِ الخارجيِّ، وعَلَمَ الجِنْسِ مَوْضوعٌ للمَاهِيَّةِ بقَيْدِ التَّشَخُّصِ الذِّهْنِيِّ، وفَرَّقَ بينَ اسمِ الجِنْسِ وعَلَمِ الجِنْسِ بخصوصِ الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ، فإنْ وُضِعَ لها من حيثُ خُصُوصُها فهو عَلَمُ الجِنْسِ، أو من حيثُ عُمُومُها فاسمُ الجِنْسِ، وعلى هذا الفَرْقِ مَشَى المُصَنِّفُ، أنَّ اسمَ الجِنْسِ هو الموضوعُ للحقيقةِ الذِّهْنِيَّةِ من حيثُ هي، فـ (أَسَدٌ) موضوعٌ للحقيقةِ من غيرِ اعتبارِ قَيْدٍ مَعَهَا أَصْلاً، وعَلَمُ الجِنْسِ مَوْضوعٌ للحقيقةِ باعتبارِ حضورِها الذِّهْنِيِّ، الذي هو نَوْعُ تَشَخُّصٍ لها مع قَطْعِ النَّظَرِ عن أَفْرَادِها، ونَظِيرُه المُعَرَّفَةُ باللاَّمِ التي هي للحقيقةِ والماهِيَّةِ، فإنَّ الحقيقةَ الحاضِرَةُ في الذِّهْنِ وإنْ كانَتْ عامَّةٌ بالنسْبَةِ إلى أفرادِها، فهي باعتبارِ حُضُورِها فيه أَخَصٌّ من مُطْلَقِ الحقيقةِ، فإذا اسْتَحْضَرَ الواضِعُ صورةَ الأسَدِ، ليَضَعَ لها تلكَ الصورةَ الكائنَةَ في ذِهْنِه، جُزْئِيَّةً بالنسبَةِ إلى مُطْلَقٍ صورةِ الأسدِ، فإنَّ هذه الصورةَ واقِعَةٌ لهذا الشَّخْصِ في زمانٍ، ومِثْلُها يَقَعُ في زمانٍ آخَرَ، وفي ذِهْنٍ آخَرَ والجميعُ مُشْتَرِكٌ في مُطْلَقِ صُورَةِ الأسَدِ، وفي كلامِ سِيبَوَيْهِ إشارةٌ إلى هذا الفَرْقِ، فإنَّه قالَ في بابِ تَرْجَمَتِه (هذا بابُ مِن المَعْرِفَةِ يكونُ الاسمُ الخاصُّ فيه شائعاً في أُمَّتِه، ليسَ واحداً منها بأَوْلَى من الآخَرِ) ما نَصَّهُ: إذا قلتَ: هذا أَبُو الحَارِثَ، إنَّما تُرِيدُ هذا الأسدُ، أي: هذا الذي سَمِعْتَ باسْمِه لو عَرَفْتَ أشْبَاهَه، ولا تُرِيدُ أنْ تُشِيرَ إلى شيءٍ قد عَرَفْتَه كزيدٍ، ولكنَّه أَرَادَ هذا الذي كلَّ واحدٍ من أمَّتِه له هذا الاسمِ. انتهى. فجَعَلَه بمَنْزِلَةِ المُعَرَّفِ باللاَّمِ التي للحقيقةِ، وقولًُه: (هذا) إشارَةٌ إلى شيءٍ بعَيْنِه، فصَارَ أُسَامَةُ يُغْنِي عن هذا، كما أنَّ زيداً يُغْنِي عن قولِك: الرجُلُ المعروفِ بكذا وكذا، وكونُ أُسَامَةَ وَاقِعٌ على كلِّ أَسَدٍ إنَّما كانَ؛ لأنَّ التعريفَ فيه للحقيقةِ، وهي مَوْجُودَةٌ فيه كذا قَرَّرَهُ ابنُ عَمْرُونَ قالَ:

ونَظِيرُه: يا رُجُلَ، إذا أَرَدْتَ مُعَيَّناً، فأيُّ رَجُلٍ أَقْبَلْتَ عليه ونَادَيْتَه، كانَ مُعَرَّفَةٌ لوجودِ القَصْدِ إليه، فكذا أُسَامَةُ؛ أي: أَسَدٌ رَأَيْتَه، فإنَّك تُرِيدُ هذه الحقيقةَ المَعْرُوفَةَ بكذا، فالتَّعَدُّدِ ليسَ بطريقِ الأصلِ. انتهى. وقالَ ابنُ مَالِكٍ بعدَ ذِكْرِه نَصَّ= سِيبَوَيْهِ هذا: جَعَلَه خَاصًّا شائعاً في حالةٍ واحدةٍ مَخْصُوصَةٍ، باعتبارِ تَعْيينِه الحقيقَةُ= في الذِّهْنِ، وشِيَاعُه باعتبارِ أنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ من أشخاصِ نَوْعِه قِسْطاً من تلك الحقيقةِ في الخارجِ، والذي اخْتَارَهُ والدُ المُصَنِّفِ أنَّ عَلَمَ الجِنْسِ: ما قُصِدَ به تَمْييزُ الجِنْسِ عن غيرِه مع قَطْعِ النَّظَرِ عن أفرادِه. واسمُ الجِنْسِ: ما قُصِدَ به مُسَمَّى الجِنْسِ باعتبارِ وقُوعِه على الأفرادِ، حتى إذا دَخَلَتْ عليه الألِفُ واللاَّمُ الجِنْسِيَّةُ، صَارَ مُساوياً لعَلَمِ الجِنْسِ؛ لأنَّ الألِفَ واللاَّمَ الجِنْسِيَّةَ لتَعْرِيفِ المَاهِيَّةِ، وفَرَّعَ على ذلك أنَّ عَلَمَ الجِنْسِ لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، لأنَّ الحقيقةَ من حيثُ هي لا تَقْبَلُ جمعاً ولا تَثْنِيَةً؛ لأنَّ التَّثْنِيَةَ والجَمْعُ إنَّما هو للأفرادِ، لكنْ صَرَّحَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ في (القواطعِ) أنَّ الألِفَ واللاَّمَ الداخِلَةِ على اسمِ الجِنْسِ، لعَهْدِ الجَنْسِ لا للتَّعْرِيفِ. وقالَ ابنُ الحَاجِبِ في (شَرْحِ المُفَصَّلِ) في الفَرْقِ بينَ أُسَامَةَ وزَيدٍ: إنَّ أسداً مَوْضُوعٌ لفَرْدٍ من أفرادِ النَّوْعِ لا بعَيْنِه، فالتَّعَدُّدُ فيه من أَصْلِ الوَضْعِ، وأُسَامَةَ موضوعٌ للحقيقةِ المُتَّحِدَةِ في الذِّهْنِ، فإذا أَطْلَقْتَ أسداً على واحدٍ أَطْلَقْتَه على أَصْلِ وَضْعِه، وإذا أَطْلَقْتَ أُسَامَةَ على الواحدِ فإنَّما أَرَدْتَ الحقيقةَ، ويَلْزَمُ من ذلك التَّعَدُّدُ في الخارجِ، فالتَّعَدُّدُ فيه ضِمْناً لا قَصْداً بالوَضْعِ، وهذه الفروقُ إنْ أُرِيدَ بها أنَّ وَضْعَ اللُّغَةِ ذلك فيَحْتَاجُ إلى دليلٍ وإلاَّ فهِيَ تَحَكُّمَاتٍ.

ص: (مسألةٌ: الاشتقاقُ: رُدَّ لَفْظٌ إلى آخَرَ ولو مَجازاً، لمُنَاسبَةٍ بينَهما في المعنَى والحروفِ الأصْلِيَّةِ). ش: قولُه: (رُدَّ لَفْظٌ) جِنْسٌ، والمرادُ به جَعَلَ أحدَهُما أَصْلاً، والآخَرَ فَرْعاً، والفَرْعُ مَرْدُودٌ إلى الأصلِ، وشَمِلَ اللفظُ للاسِمِ والفِعْلِ، وقولُه: (ولو مَجازاً) إشَارَةٌ إلى أنَّ الاشتقاقَ يكونُ من حقيقةٍ، ولا خلافَ فيه، ويكونُ من مجازٍ، وخَالَفَ فيه القَاضِي أَبُو بَكْرٍ، والغَزَالِيُّ، والكَيَا، فمَنَعُوا الاشتقاقَ من المَجَازَاتِ، وقالُوا: إنَّما يَكُونُ الاشتقاقُ من الحقائقِ، كالأمْرِ، فإنَّه يَشْتَقُّ منه الآمِرَ والمَامُورَ وغيرَهما، باعتبارِ معنَاها الذي هو الفِعْلُ لكونِه مجازاً فيه، والرَّاجِحُ الجوازُ فيه كالحقيقةِ، ويَشْهَدُ له إجماعُ البيانِيِّينَ على صِحَّةِ الاستعارَةِ التَّبَعِيَّةِ وهي مُشْتَقَّةٌ من المجازِ؛ لأنَّ الاستعارَةَ أوْلاً تكونُ في المَصْدَرِِ، ثم يُشْتَقُّ منه، ولأجْلِ الخلافِ فيه أَتَى المُصَنِّفُ بـ (لو). وقولُه: (لِمُنَاسَبَةٍ)؛ أي: بأنْ يَكُونَ فيه معنَى الأصْلِ، إمَّا معَ زيادَةٍ كالضربِ والضاربِ، فإنَّ الضاربَ ذاتَ له الضربَ، وإمَّا دونَها كالقَتْلِ مَصْدَراً من قَتْلٍ. وقولُه: (والحروفُ الأصْلِيَّةِ) خَرَجَتِ الزيادَةُ فلا عِبْرَةَ بها كالاسْتِعْجَالِ والاشتقاقِ، ولا يُشْتَرَطُ في الأصلِيَّةِ أنَّ تكونَ مَوْجُودَةٌ؛ لأنَّه رُبَّما حَذَفَ بعضَها لمانِعٍ، كخَفْ من الخَوْفِ، نَعَمْ، يُشَتَرَطُ التَّرْتِيبُ، وأَهْمَلُوهُ.

واعْلَمْ أنَّ الاشتقاقَ ثلاثةُ أقسامٍ: أَصْغَرُ: وهو اتِّفَاقُ اللفظَيْنِ في الحروفِ والترتيبِ، نحوَ: نَصَرَ ونَصِيرٍ. وصغيرٌ: ويُسَمَّى أَوْسَطُ: وهو اتِّفَاقُهُما في الحروفِ دونَ التَّرْتِيبِ، نحوَ: جَبَذَ وجَذَبَ. وأكْبَرُ: وهو اتِّفاقُهما في بعضِ الحروفِ دونَ بعضٍ، نحوَ: ثَلَمَ وثَلَبَ. ومنه قولُهم: الضَّمانُ مُشْتَقٌّ من الضَّمِّ، فيَظْهَرُ أنَّه يَعْتَبِرُ في الأوَّلِ مُوافَقَةُ المعنَى والحروفِ الأصلِيَّةِ مع الترتيبِ، وفي الأخيرَيْنِ المُنَاسَبَةُ فقطْ، فإنْ أَرَادَ المُصَنِّفُ تعريفَ الأصْغَرِ فلْيُزِدْ قَيْدَ الترتيبِ، وأَجَابَ بأنَّ المُرادَ الأصغرُ، ولا حَاجَةَ لقَيْدِ الترتيبِ، فإنَّه إنْ لم يَكُنْ على تَرْتِيبِه لم يُنَاسِبْهُ، فإنْ قيلَ: المُنَاسبَةُ أَعَمٌّ، قُلْنَا: لا نُسَلِّمُ. ص: (ولا بُدَّ من تَغْييرٍ). ش: أي: بينَ اللَّفْظَيْنِ بزِيادَةٍ أو نُقْصَانٍ أو بهما في حَرْفٍ أو حَرَكَةٍ أو فِيهِمَا، والتغييرُ المَعْنَوِيُّ إنَّما يَحْصُلُ بطريقِ التَّبَعِ، وهذا أَحَسَنُ من قولِ ابنِ الحَاجِبِ، وقد يُرَادُ بتَغْييرِ ما. فإنَّه يُوِهِمُ أنَّه من تَمَامِ الحَدِّ، وإنَّما هو شَرْطٌ ذُكِرَ تَمْهِيداً للقِسْمَةِ التي ذَكَرُوها إلى خَمْسَةَ عَشَرَ صورةً فصاعداً لا قَيْداً، وقيلَ: المُرادُ بالتَّغْييرِ: المَعْنَوِيُّ،

كما صَرَّحَ به صَاحِبُ (المُنْتَهَى)؛ لأنَّ التغييرَ اللفظيَّ فُهِمَ من قولِه أوْلاً. (رُدَّ لَفْظٌ إلى آخَرَ) لاستحالَةِ رَدِّ الشيءِ إلى نَفْسِه، والأَوْلَى أنْ يُرَادَ كلٌّ منهُما، والأوْلَى وإنْ فُهِمَ منه التغييرُ اللفظيُّ، لكنْ ذَكَرَهُ ثانياً لأمْرَيْنِ: أحدُهما: ليَدُلَّ له بطريقِ المُطَابَقَةِ. وثانيهما: أنَّه لَمَّا كانَ التغييرُ اللفظيُّ لا يَجِبُ أنْ يكونَ حقيقةً، بل لو كانَ تَقدِيرِيًّا كَفَى، كما في الفُلْكِ مُفْرَداً وجَمْعاً، احْتَاجَ إلى ذِكْرِه ثانياً ليُنَبِّهَ على أنَّ المُرادَ بالتغييرِ ما هو الأَعَمُّ من الحقيقيِّ والتقديريِّ. وبهذا يُجَابُ عن اعتراضِ بعضِهم على اشْتِراطِ أصْلِ التغييرِ بنحوِ: طَلَبَ من الطَلَبِ، وغَلَبَ من الغَلَبِ، وجَلَبَ من الجَلَبِ، فإنَّ هذه الأفْعَالِ مُشْتَّقَةٌ من هذه المصادِرِ معَ عَدَمِ التغييرِ لبَقَاءِ الحَرَكَةِ فيه على وجْهِ المصادِرِ. وأَجَابَ الأصْفَهَانِيُّ وغيرُه بالتغييرِ حاصلٌ تقديراً، فإنَّ الحركةَ في الفعلِ للبناءِ، وفي المصدرِ للإعرابِ، والأوْلَى كالجزءِ من الكَلِمَةِ لثُبُوتِها. والثانيةُ عَارِضَةٌ لتَبَدُّلِها بغيرِها، ولم يَرْتَضِ صاحبُ (البَدِيعِ) هذا الجوابُ، فقالَ: مُطْلَقُ الحَرَكَةِ لازِمٌ، والذي يُنْظَرُ فيه الاشتقاقيُّ.

ص: (وقد يُطَّرَدُ كاسمِ الفاعلِ، وقد يُخْتَصُّ كالقارورَةِ). ش: المُشْتَّقُ قد يُطَّرَدُ استعمالاً كاسمِ الفاعلِ، وما في معناهُ من: اسمِ المفعولِ، والصفةِ المُشَبَّهَةِ، وأفعلِ التفضيلِ، والزمانِ، والمكانِ، والآلةِ، وقد لا يُطَّرَدُ. وهو المختصُّ: كالقارورةِ، لاخْتصاصِها بالزُّجاجَةِ، والدَّبَرَانِ لمنزلَةِ القَمَرِ، فإنَّهما لم يَطَّرِدَا مع اشْتِقَاقِهِما من الاسْتِقْرارِ والدَّبُورِ، والقَصْدُ بهذا أنَّ وجودَ معنى الأصْلِ في مَحَلِّ التَّسْمِيَةِ قد يُعْتَبَرُ من حيثُ إنَّه داخلٌ في التَّسْمِيَةِ، والمرادُ ذاتُ ما، باعتبارِ نَسَبِه له إليها، فهذا يَطَّرِدُ في كلِّ ذاتٍ كذلك، وقد يُعْتَبَرُ من حيثُ إنَّه مُصَحِّحٌ للتَّسْمِيَةِ، مُرَجِّحٌ لها من الأسماءِ من غيرِ دُخولِه في التَّسْمِيَةِ، والمرادُ ذاتٌ مَخْصُوصَةٌ فيها المعنَى، لا من حيثُ هو فيها، بل باعتبارِ خصوصِها، فهذا لا يُطَّرَدُ، وحاصلُه الفَرْقِ بينَ تَسْمِيَةِ الغيرِ لوجودِه فيه أو بوجودِه فيه.

ص: (ومَن لم يَقُمْ به وَصْفٌ لم يَجُزْ أنْ يَشْتَقَّ له منه اسمٌ، خلافاً للمعتزلَةِ، ومن بنائِهِم أنَّ إبراهيمَ ـ عليه السلامُ ـ ذابِحٌ، واخْتِلافِهم هل إسماعيلُ مَذْبُوحٌ). ش: أصلُ الخلافِ في هذه المسألَةِ أنَّ اللهَ تعالَى يُسَمَّى مُتَكَلِّماً بالاتِّفاقِ، وهو مُشْتَقٌّ من الكلامِ، ثم إنَّ الأشاعرَةَ أَطْلَقُوهُ على اللهِ وما منهُ الاشتقاقُ قَائِمٌ بذاتِه الكريمَةِ، وهو الكلامُ النَّفْسِي، وأمَّا المعتزلَةُ فيَطْلِقُونَ اسمَ المُتَكَلِّمِ على اللهِ باعتبارِ قيامِه بغيرِه لا بذَاتِه، وهو خَلْقُه الكلامَ= في اللَّوْحِ المحفوظِ أو في غيرِه، ولا يَعْتَرِفُونَ بالكلامِ النَّفْسِيِّ، فلَزِمَ من مَذْهَبِهم جوازُ صِدْقِ المُشْتَقِّ على مَن لم تَقُمْ به صِفَةُ الاشْتقاقِ، وعلى هذا ففِي نِسْبَةِ الجوازِ لُغَةٌ إليهم، نَظَرٌ، بناءٌ على أنَّ الخلافَ في أنَّ لازِمَ المذهبِ هل هو مذهبٌ أم لا؟ والصحيحُ المَنْعُ، ولهذا لم يُنْسَبِ القولُ المُخَرَّجَ= إلى الشَّافِعِيِّ على الصحيحِ. وقولُه: (ومن بنائِهم) يُشِيرُ إلى ما ذَكَرُوهُ في مسألَةِ النَّسْخِ قبلَ الفِعْلِ، فإنَّ المُعْتَزِلَةَ مَنَعُوهُ، واسْتَدَّلَ أَصْحَابُنا عليهم، بأنَّ إبراهيمَ عليهِ

الصلاةُ والسلامُ، أَمَرَ بالذَّبْحِ، ثم نُسِخَ قبلَ التَّمَكُّنِ، فأَجَابُوا بأنَّه ذَبَحَ وكانَ يَلْتَحِمُ، فأَبْطَلَ أصحابُنا هذا بأنَّهم اتَّفَقُوا على أنَّ إسماعيلَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، ليسَ بمذبوحٍ، واخْتَلَفُوا في أنَّ إبراهيمَ هل هو ذابِحٌ؟ فقالَ قومٌ: هو ذابحٌ للقَطْعِ، والولَدُ ليسَ بمَذْبُوحٍ للالتئامِ، وأَنْكَرَهُ قومٌ، وقالُوا: ذابِحٌ ولا مَذْبُوحٌ مُحَالٌ، فإنْ قُلْتَ: كيفَ يَسْتَحِيلُ عندَ المُعْتَزِلَةِ إثباتُ ذابحٍ ولا مذبوحٍ مع قولِهم: يَجُوزُ اشتقاقُ اسمُ الفاعلِ لِمَنْ لم يَقُمْ به الفِعْلُ؟ قلتُ: اسمُ الفاعلِ لا يُطْلَقُ إلاَّ عندَ وقوعِ الفِعْلِ بالإجماعِ، لكنْ هل يَخْتَصُّ بمَنْ قَامَ به أو يُطْلَقُ على مَن لم يَقُمْ به؟ فيه الخلافُ بينَنا وبينَهم، وهذا عندَ هؤلاءِ أنَّ الفِعْلَ لم يَقَعْ؛ لأنَّ الفِعْلَ هو الذَّبْحُ، وحقيقَتُهُ على ما يَقُولُونَ ـ ثُبُوتِ مَذْبُوحٍ تَزْهَقُ رُوحَه، كذا قالَه المُصَنِّفُ في (شَرْحِ المُخْتَصَرِ)، وهو أَوْلَى من قولِه هنا: اتَّفَقُوا على أنَّ إبْرَاهِيمَ ذابِحٌ، واخْتَلَفُوا في أنَّ إسماعيلَ مَذْبُوحٌ. ص: (فإنْ قَامَ بِمَا له اسمٌ، وَجَبَ الاشْتِقاقُ، أو بِمَا ليسَ له اسمٌ كأنْواعِ الرَّوائِحِ، لم يَجِبْ). ش: المعنى القائمُ بالشيءِ هل يَجِبُ أنْ يُشْتَقَّ لمَحَلٍّ منه اسمٌ؟ اخْتَلَفُوا فيه، وقالَ الإمامُ في (المَحْصُولِ): الحقُّ التفصيلُ، فإنْ كانَ لذلكَ المعنَى اسمٌ، وَجَبَ أنْ يُشْتَقَّ اسماً له عندَ أئِمَّتِنَا المُتَكَلِّمِينَ، فإنَّ المُعْتَزِلَةَ لَمَّا قالُوا: إنَّ اللهَ يَخْلُقُ كلامَه في جِسْمٍ، قالَ أصْحابُنا لهم: لو كانَ كذلكَ لَوَجَبَ أنْ يُشْتَقَّ لذلكَ المَحَلِّ اسمُ المُتَكَلِّمِ من ذلكَ الكلامِ، وعندَ المُعْتَزِلَةِ: أنَّه غيرُ وَاجِبٍ، وإنْ لم يَكُنْ له اسمٌ كأنْواعِ الروائحِ والآلامِ، اسْتِحَالَ أنْ يُشْتَقَّ لمَحَلِّه منه اسمٌ بالضرورةِ.

ص: (والجمهورُ على اشتراطِ بقاءِ المُشْتَقِّ منه في كونِ المُشْتَقِّ حقيقةً إنْ أَمْكَنَ، وإلاَّ فآخِرُ جُزْءٍ، وثالثُها: الوَقْفُ). ش: إطْلاقُ اسمُ المُشْتَّقِ باعتبارِ المُسْتَقْبَلِ مجازاً إجماعاً، وباعتبارِ الحالِ حقيقةً إجماعاً، وأمَّا بعدَ انقضاءِ ما منه الاشتقاقُ كالضاربِ، المُشْتَقُّ منه اسمُ المُشْتَقِّ حقيقةً أم لا؟ وفيه مذاهبَ: أحدُها: أنَّه لا يُشْتَرَطُ مُطْلَقاً، بل يُطْلَقُ بعدَ الانْقضاءِ حقيقةً، وعُزِيَ لابنِ سِينَا وأَبِي هاشِمٍ. والثاني: اشْتِرَاطُه مُطْلَقاً، وهو بعدُ الانقضاءِ مجازٌ، وقالَ في (المحصولِ): إنَّه الأقربُ.

والثالثُ: التفصيلُ بينَ ما يُمْكِنُ الحصولُ بتمامِه كالقيامِ والقعودِ، فيُشْتَرَطُ بقاؤُه، فلا يُصَدَّقُ قائمٌ وقَاعِدٌ حقيقةً، بعد انقضاءِ القعودِ والقيامِ، وبينَ ما لا يُمْكِنُ كالمصادرِ السَّيَّالَةِ، مثلَ الكلامِ وأنواعِه، فوجودُ آخَرِ جُزْءٍ منه كافٍ في الإطلاقِ الحقيقيِّ، والفرقُ أنَّ الأوَّلُ لا يُمْكِنُ أنْ تُوجَدَ أجْزاءُ أصْلِه معاً في الخارجِ فاشْتَرَطَ دوامَ أصْلِه. والثاني: اتِّباعُ أجْزائِه معاً، فالتَقَى بآخَرِ جُزْءٍ منها، حتى يكونَ المُتَكَلِّمُ وغيرُه صادقاً حقيقةًَ قبلَ الفراغِ من الدالِّ في: قَامَ زيدٌ، ومن المِيمِ في: زيدٌ قائمٌ، بعدَ الشُّرُوعِ في الكلامَيْنِ، وإذا فَرَغَ عنهما، كانَ حينَئذٍ مجازاً لا حقيقةً، وهذا ما عَزَاهُ المُصَنِّفُ إلى الجمهورِ، وتَابَعَ فيه الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ، وفيه نَظَرٌ، فإنَّ كلامَ الإمامِ في (المحصولِ) مُصَرَّحٌ بأنَّه بَحْثٌ له، لم يَقُلْ به أَحَدٌ، فإنَّه أَوْرَدَ من جِهَةِ المَانِعِ أنَّه لو كانَ وجودُ المعنَى شَرْطاً في كونِ المُشْتَقِّ حقيقةً، لِمَا كانَ اسمُ المُتَكَلِّمِ والمُخْبَرِ حقيقةً في شيءِ أَصْلاً؛ لأنَّ الكلامَ اسمٌ لِجُمْلَةِ الحُروفِ المُرَكَّبَةِ، ويَسْتَحِيلُ قيامُ حَمْلِها بالمُتَكَلِّمِ حالَ التَّكَلُّمِ، ضرورةٌ أنَّه لا يُمكنُ النَّطْقُ بالجُمْلَةِ دُفْعَةٌ واحدَةٌ، بل على التَّدْرِيجِ، مع أنَّه يُقالُ: زيدٌ مُتَكَلِّمٌ ومُخْبِرٌ، والأصْلُ في الإطلاقِ الحقيقةُ، ثمَّ قالَ: فإنْ أَجَبْتَ بأنَّه لم لا يَجُوزُ أنْ يُقَالَ: حصولُ المُشْتَّقِ منه شَرْطٌ في كونِ المُشْتَقِّ حقيقةً، إذا كانَ مُمْكِنُ الحصولِ، فأمَّا إذا لم يكنْ كذلك فلا؟ قلنَا: هذا باطلٌ، لأنَّه لم يَقُلْ بهذا الفَرْقِ أَحَدٌ من الأمَّةِ، هذا لَفْظُه، وقالَ الآمِدِيُّ في (الإحكامِ): هل يُشْتَرَطُ بقاءُ الصفَةِ المُشْتَقِّ منها في إطلاقِ اسمِ المُشْتَقِّ حقيقةً؟ فأَثْبَتَه قومٌ ونَفَاهُ آخَرُونَ، وفَصَّلَ بعضُهم بينَ المُمْكِنِ الحصولِ، فاشْتُرِطَ ذلك فيه، وبينَ ما لا يُمْكِنُ فلا، والظاهرُ أنَّ مُرادَهُ به احتمالُ صاحبِ (المحصولِ)، وأمَّا حكايةُ المُصَنِّفِ قولاً بالوَقْفِ فلم أَرَهُ صريحاً لأَحَدٍ إلاَّ أنَّ العَضَدَ في (شرحِ المُخْتَصَرِ) قالَ: كانَ مَيْلُ ابنُ الحَاجِبِ إلى التَّوَقُّفِ في

المَسْأَلَةِ ولذلك ذَكَرَ دلائلَ الفَرْقِ، وأَجَابَ عنها، لكنْ قَالَ الشَّرِيفُ: إنَّه اختارَ الثالثُ، ولا يَنْبَغِي أنْ يَقُولَ: ورابِعُها الوَقْفُ؛ لأنَّ التَّفْصِيلَ السابِقَ هو ثالثُها، كما صَرَّحَ به ابنُ الحَاجِبِ. ص: (ومَن ثُمَّ كانَ اسمُ الفاعلِ والمفعولِ حقيقةً باعتبارِ الحالِ؛ أي: حَالَ التَّلَبُّسِ لا النُّطْقِ خلافاً للقِرَافِيِّ). ش: أي: من هذه الحَيْثِيَّةِ، يُعْلَمُ أنَّ إطلاقَ الاسمِ المُشْتَقِّ، كاسمِ الفاعلِ والمفعولِ، باعتبارِ الحالِ حقيقةً، ولا خلافَ فيه، كتَسْمِيَةِ الخَمْرِ خَمْراً، وإنَّما الخلافُ

باعتبارِ الماضِي، كإطلاقِ الضَّارِبِ على مَن صَدَرَ منه الضَّرْبُ، ثمَّ المرادُ بقولِنا: اسمُ الفاعلِ بمعنَى الحالِ حقيقةً؛ أي: حالَ التَّلَبُّسِ بالفِعْلِ، لا حالَ النُّطْقِ باللفْظِ المُشْتَقِّ، فإنَّ حقيقةَ الضاربِ والمَضْرُوبِ، لا يَتَقَدَّمُ على الضَّرْبِ، ولا يَتَأَخُّرُ عنه، وبهذا يُعْلَمُ أنَّ نحوَ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً))، حقيقةً، وأنَّ ما ذَكَرَهُ الأئِمَّةُ مِن أنَّه سُمِيَّ قَتِيلاً باعتبارِ مُشَارَفَتِه القَتْلَ لا تحقيقَ له، والمُخَالِفُ في هذه القاعدَةِ القِرَافِيُّ، فإنَّه قالَ: مَحَلُّ الخلافِ إذا كانَ المُشْتَقُّ مَحْكوماً به، كقولِنا: زيدٌ مُشْرِكٌ أو زَانٌ، فإنَّ كانَ مَحْكوماً عليه، كقولِنا: السارقُ تُقْطَعُ يَدَه، فإنَّه حقيقةٌ مُطْلَقاً فيمَنْ اتَّصَفَ به في الماضِي والحالِ والاستقبالِ، قالَ: ولولا ذلكَ لأَشْكَلَ القَطْعُ والجَلْدُ؛ لأنَّ هذه الأَزْمِنَةِ إنَّما هي بحَسَبِ زَمَنِ إطلاقِ اللفظِ المُشْتَرَكِ، فتكونُ الآياتُ المذكورةُ ونظائرُها مجازاتٍ باعتبارِ مَن اتَّصَفَ بهذه الصفاتِ في زمانِنَا؛ لأنَّهم في المستقبلِ غيرُ زَمَنِ الخِطَابِ عندَ النُّزولِ على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ. ولا نَخْلُصُ من هذا الإشكالِ إلاَّ بما سَبَقَ، قالَ: فاللهُ تعالَى لم يَحْكُمْ في تلك الآياتِ بشِرْكِ أَحَدٍ ولا بزِنَاهُ.

وإنَّما حُكْمُه بالقَتْلِ والجَلْدِ وغيرِهما، والموصوفُ بتلكَ الصِّفَاتِ يَعُمُّ مُتَعَلِّقُ هذه الأحكامِ، هذا حاصلٌ ما قالَ. وذَكَرَ الأصْفَهَانِيُّ شَارِحَ (المحصولِ) نحوه، قالَ: ولا يُقَالُ: إنَّه لِمَا كانَ موصوفاً بالمُشْتَقِّ منه وهو الزنَا والسرقةُ وَجَبَ عليه ما هو مُقْتَضَى ذلك، ثمَّ يَسْتَوْفِي منه ما وَجَبَ أولاً؛ لأنَّا نَقُولُ: هذا غيرُ واقِعٍ لِمَا ذَكَرْنَا؛ لأنَّ كلامَنَا مَفْرُوضٌ في امتثالِ الأمْرِ، وذلك الأَمْرُ أمْرٌ بجَلْدِ الزانِي وقَطْعِ السارقِ، ولو كانَ بقاءُ وجْه الاشتقاقِ شَرْطاً، لم يَبْقَ زانياً ولا سارقاً بعدَ انقضائِه، فلا يَكُونُ الجَلْدُ جَلْداً لزانٍ، ولا القَطْعُ قَطْعاً لسارقٍ، فلا يَقَعُ امتثالاً للأمْرِ، والحقُّ أنَّ اسمَ الفاعلِ لا دلالَةَ له على زَمَنِ الخِطَابِ الْبَتَّةَ، بل مَدْلُولُه شَخْصٌ مُتَّصِفٌ بِصَفَةٍ صَادِرَةٍ منه لا تُعْرَضُ له لزمانٍ، كما هو شأنُ الأسماءِ كلِّها، وإذا لم يَدُلَّ على الزمانِ الأَعَمِّ من الحالِ فلا يَدُلُّ على الحالِ الأَخَصِّ منه بالأوْلَى، وإنَّما جَاءَ الفَسادُ من جِهَةِ أنَّهم فَهِمُوا من قولِنا: زيدٌ ضاربٌ، أنَّه ضاربٌ في الحالِ، فاعْتَقَدُوا أنَّ هذا لدلالَةِ اسمِ الفاعلِ عليه، وهو باطلٌ؛ لأنَّك تَقُولُ: هذا حَجَرٌ، وتُرِيدُ إنساناً، فيُفْهَمُ منه الحالُ أيضاً، مع أنَّ الحَجَرَ والإنسانَ لا دَلالَةَ لهُما على الزمانِ، وهذا مِن تَحْقِيقِ والِدِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُما اللهُ تعالَى. ص: (وقيلَ: إنْ طَرَأَ على المَحَلِّ وَصْفٌ وُجُودِيٌّ يُنَاقِضُ الأوَّلَ، لم يُسَمَّ بالأوَّلِ إجْمَاعاً). ش: جَعَلَ بعضُهم مَحَلَّ الخلافِ فيما إذا لم يَطْرَا على المَحَلِّ ما يُنَاقِضُه، كالقاتلِ والسارقِ، فيَبْقَى صِدْقُ المُشْتَقِّ على قَوْلٍ، فإنْ طَرَأَ عليه ما يُضَادُّه، واشْتَقَّ له اسمُ غيرَ المُشْتَقِ الأوَّلِ، فحينَئذٍ لا يُصَدَّقُ المُشْتَقُّ الأوَّلُ قَطْعاً، كاللونِ إذا قَامَ به البياضُ يُسَمَّى أَبْيضُ، فإذا اسْوَدَّ لا يُقَالُ في حالة السَّوادِ: إنَّه أَبيضُ بالإجماعِ، وهذا مُتَّجَهٌ، وكلامُ الآمِدِيِّ في أثناءِ الحجَّاجِ يَدُلُّ عليه، فلا وَجْهَ

لتَضْعِيفِ المُصَنِّفِ، وإنْ كانَ الجمهورُ أَطْلَقَ الخلافَ. ص: (وليسَ في المُشْتَّقِ إشْعارٌ بخصوصِيَّةِ الذاتِ). ش: أي: التي يُصَدِّقُ عليها من كونِها جِسْماً أو جَمَاداً أو غيرَه، لا بطريقِ المُطَابَقَةِ ولا التَّضَمُّنِ؛ ولأنَّه لا معنًى، إلاَّ أنَّه وإنْ قَامَ به المُشْتَقُّ منه كالأسْوَدِ مثلاً، فإنَّه يَدُلُّ على ذاتٍ مُتَّصِفَةٍ بِسوادٍ من غيرِ دلالَةٍ على خصوصِ تلك الذاتِ، وإنْ دَلَّتْ على خصوصِيَّةِ كونِه جِسْماً أو حيواناً أو غيرِه، فإنَّما يَدُلُّ عليه بطريقِ الالتزامِ، كذا قالَهُ الصِّفِيُّ الهِنْدِيُّ، فليُحْمَلُ نَفْيُ المُصَنِّفِ الإشعارُ على المُطَابَقَةِ والتَّضَمُّنِ خاصَّةً. ص: (مسألَةٌ: التَّرَادُفُ واقِعٌ، خلافاً لثَعْلَبٍ وابنُ فَارِسٍ: مُطْلَقاً، والإمامُ: في الأسماءِ الشَّرْعِيَّةِ). ش: في وقوعِ التَّرَادُفِ في اللُّغَةِ مذاهبُ، أَصَحُّهَا: نَعَمْ، ولُغَةُ العَرَبِ طَافِحَةٌ به. والثاني: المَنْعُ، وحَكَاهُ ابنُ فَارِسٍ في كتابِه المُسَمَّى بـ (فِقْهِ العَرَبِيَّةِ) عن

ثَعْلَبٍ، واختارَهُ؛ لأنَّ وَضْعَ اللفظَيْنِ لمعنًى واحدٍ عِيٍّ يَجِلُّ الواضِعَ عنه، وما وَرَدَ مِمَّا يُوهِمُ التَّرَادُفُ يَتَكَلَّفُونَ له التَّغَايُرَ. وحَكَى القَاضِي ابنُ العَرَبِيِّ بسَنَدِه عن أَبِي عَلِيٍّ الفَارِسِيِّ، قالَ: كُنْتًُ بمَجْلِسِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بحَلَبَ، بالحَضْرَةِ جماعَةٌ من أهْلِ اللُّغَةِ ومنهم ابنُ خَالَوَيْهِ إلى أنْ قالَ ابنُ خالَوَيْهِ: أَحْفَظُ للسَّيْفِ خَمْسِينَ اسْماً، فتَبَسَّمَ أَبُو عَلِيٍّ وقَالَ: مَا أَحْفَظُ له إلاَّ اسْماً واحداً وهو السَّيِفُ، قالَ ابنُ خَالَوَيْهِ، فأَيْنَ المُهَنَّدُ؟ وأينَ الصَّارِمُ؟ وأينَ الرُّسُوبُ، وأينَ المُخَدَّمُ؟ وجَعَلَ يُعَدِّدُ، فقالَ

أَبُو عَلِيٍّ: هذه صفاتٌ، وكانَ الشيخُ لا يُفِرِّقُ بينَ الاسمِ والصِّفَةِ، والحاصلُ أنَّ مَن جَعَلَها مُتَرَادِفَةً نَظَرَ إلى اتِّحَادِ دلالتِها على الذاتِ، ومَن مَنَعَ نَظَرَ إلى اختصاصِ بعْضِها بمزيدِ معنًى، فهي تُشْبِهُ المُتَرَادِفَةُ في الذَّاتِ، والمُتَبَايِنَةُ في الصفاتِ. ومِن ثمَّ قالَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ: يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ هذا قِسْماً آخَرَ وسَمَّاهُ: المُتَكَافِئَةُ، قالَ: وأَسْمَاءُ اللهِ تعالَى الحُسْنَى، وأَسْمَاءُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كلُّها من هذا النوعِ، فإنَّك إذا قُلْتَ: إنَّ اللهَ عزيزٌ، غفورٌ، رحيمٌ، قديرٌ، فكلُّها دالَّةٌ على الموصوفِ بهذه الصفاتِ، فهذا يَدُلُّ على العِزَّةِ، وهذا يَدُلُّ على الرَّحْمَةِ. قالَ الأَصْفَهَانِيُّ: ويَنْبَغِي أنْ يَحْمَلَ كلامَهُم على مَنْعِه في لُغَةٍ واحدةٍ، فأمَّا في لُغَتَيْنِ فلا يُنْكِرُه عَاقِلٌ. والثالثُ: يَقَعُ في اللُّغَةِ لا في الأسماءِ الشَّرْعِيَّةِ، وإليه ذَهَبَ الإمامُ في (المحصولِ) في الحقيقةِ الشَّرْعِيَّةِ، بعدَ ما ذَكَرَ وقوعُ الأسماءِ المُشْتَرَكَةِ، فقالَ: أمَّا التَّرَادُفُ فالأظْهُرُ أنَّه لم يُوجَدْ؛ لأنَّه يَثْبُتُ على خلافِ الأصْلِ، فيَتَقَدَّرُ بقَدَرِ الخاصَّةِ. انتهى. هذا والإمامُ نَفْسُه ممَّنْ يقولُ بأنَّ الفَرْضَ والواجِبَ مُتَرَادِفَانِ، وكذا السُّنَّةُ والتَّطَوُّعُ. ص: (والحَدُّ والمَحْدُودُ ونحوَ: حَسَنَ بَسَنَ ـ غيرَ مترادفَيْنِ على الأصَحِّ). ش: فيه مسألَتَانِ: إحدَاهُما: قيلَ: الحَدُّ والمحدودُ مُتَرَادِفَانِ، والصحيحُ تَغَايُرُهُما؛ لأنَّ كُلَّ مُتَرَادَفَيْنِ يَدُلُّ كلٌّ منهما بالمطابَقَةِ على ما يَدُلُّ عليه الآخَرَ بالإجْماعِ، وليسَ فقط الحدُّ والمحدودُ كذلكَ؛ لأنَّ المحدودَ يَدُلُّ على المَاهِيَّةِ، من حيثُ هي، والحدُّ يَدُلُّ عليها باعتبارِ دلالَتِه على أجزائِها، واعْلَمْ أنَّ أَصْلَ هذا الخلافُ حَكَاهُ الغزالِيُّ في مُقَدِّمَةِ

(المُسْتَصْفَى) ثمَّ زَيَّفَ قولُ مَن جَعَلَه خلافاً مُحَقَّقاً، فقالَ: اخْتُلِفَ في حَدِّ الحَدِّ، فقيلَ: حَدُّ الشيءِ: هو نَفْسُه وذاتُه، وقيلَ: هو اللفظُ المُفَسِّرُ لمعناهُ على وَجْهٍ يَجْمَعُ ويَمْنَعُ، وظَنَّ آخرونَ أنَّ هذا خلافٌ، وليسَ كذلكَ، فإنَّهما لَمَّا يَتَوَارَدَا على مَحَلٍّ واحدٍ، بل الأوَّلُ اسمُ الحدِّ عندَه موضوعٌ لمدلول لفظِ الحَدِّ، والثاني اسمُ الحدِّ عندَه موضوعٌ للفظِ نَفْسِه. والحاصلُ أنَّه باعتبارَيْنِ، فمَن نَظَرَ إلى الحقيقةِ في الذِّهْنِ قالَ بالأوَّلِ، ومن نَظَرَ إلى العبارَةِ عنَها قال بالثاني؛ ولهذا قالَ القِرَافِيُّ في (التَّنْقِيحِ): وهو غيرُ المحدودِ إنْ أُرِيدَ به اللفظُ، ونَفْسُه إنْ أُرِيدَ المعنَى. الثانيةُ: ما لا يُسْتَعْمَلُ إلاَّ تَابِعاً، نحوَ: حَسَنَ بَسَنَ، وجَامَعَ مَانَعَ، وفيه صَنَّفَ ابنُ خَالَوَيْهِ كتابَ (الإتباعِ والإلماعِ) قيلَ: هما مُتَرَادِفَانِ، والصحيحُ المَنْعُ؛ لأنَّ التَّابِعَ لا يَدُلُّ على ما يَدُلُّ عليه المتبوعُ إلاَّ بتَبَعِيَّةِ الأوَّلِ، وإذا قَطَعَ عنه لا يَدُلُّ على شيءٍ أَصْلاً بخلافِ المُتَرَادِفَيْنِ. ص: (والحقُّ إفادَةُ التَّابِعِ التَّقْوِيَةَ). ش: خلافاً لإطلاقِ (المِنْهَاجِ) أنَّه لا يُفِيدُ، والدليلُ عليه أنَّ العَرَبَ لا تَضَعَهُ

سُدًى، وقالَ الإمامُ: شَرْطُ كونِه مفيداً تَقَدَّمَ الأوَّلُ عليه، وعبارَةُ المُصَنِّفِ مُصَرَّحَةٌ بأنَّه لا فائِدَةَ له إلاَّ التَّقْوِيَةَ، وهو حَسَنٌ، ليُنَبِّهَ على الفَرْقِ بَيْنَه وبينَ التَّوْكِيدِ، فإنَّ من الناسِ مَن يَظُنُّ أنَّه تأكيدٌ، فإنَّه أيضاً إنَّما يُفِيدُ التقويةَ، لكنَّ الفَرْقَ بينَهما أنَّ التأكيدَ يُفِيدُ مع التَّقْوِيَةِ نَفْيُ احتمالِ المجازِ، فإنَّك إذا قُلْتَ: قَامَ القَوْمُ، احْتَمَلَ بعضُهم مجازاً، ويَنْتَفِي بقولِك: كلُّهم. ص: (ووقوعُ كُلٌّ من المُتَرَادَفَيْنِ مَكَانَ الآخَرِ إنْ لم يَكُنْ تَعَبَّدَ بلَفْظِه، خلافاً للإمامِ: مُطْلَقاً، والبَيْضَاوِيُّ والهِنْدِيُّ: إذا كانَا مِن لُغَتَيْنِ). ش: هل يَجِبُ صِحَّةُ إقَامَةِ كلًَّ واحدٍ من المترادفَيْنِ مكانَ الآخَرِ؟ ففيه مذاهبَ: أحدُها: أنَّه واجِبُ بمعنَى أنَّه يَصِحُّ مُطْلَقاً، وهو اختيارُ ابنُ الحاجَبِ والأَصْفَهَانِيُّ وغيرُهما، وتَابَعَهُما المُصَنِّفُ، فيَجُوزُ أنْ تَقُولَ: هذا قَمْحٌ جَيِّدٌ، وهذه حِنْطَةٌ جَيِّدَةٌ؛ لأنَّ صِحَةَ ضَمِّ الأَلْفَاظِ بعضِها إلى بعضٍ تَابِعَةٌ لصِحَّةِ ضَمِّ المعانِي وحُجَّةٍ في التَّرْكِيبِ. والثاني: أنَّه غيرُ واجِبٍ؛ أي: جوازُ تَبْدِيلِ أحدِهما بالآخَرِ غيرُ لازمٍ، قالَ الإمامُ: وهو الحقُّ؛ لأنَّ صِحَّةَ الضَّمِّ قد تكونُ من عوارضِ الألفاظِ.

والثالثُ: وهو اختيارُ البَيْضَاوِيُّ والصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ: إنْ كَانَا مِن لُغَةٍ وَاحِدَةٍ صَحَّ وإلاَّ فلا، وفي كلامِ (المِنْهَاجِ) إشارَةٌ إلى أنَّ الخلافَ في حالِ التَّرْكِيبِ، أمَّا في حالِ الإفْرادِ ـ كما في تَعْدِيدِ الأشياءِ ـ فلا خلافَ في الجوازِ. وأَشَارَ المُصَنِّفُ بقولِهِ: (إنْ لم يَكُنْ تَعَبَّدَ) إلى تَقْييدِ مَحَلِّ الخلافِ ذلك، أمَّا ما تَعَبَّدْنَا بلَفْظِه، فلا يَجُوزُ كالتَّكْبِيرِ في الصلاةِ، وهذا القَيْدُ ليسَ مُنَاسباً للمَسْأَلَةِ، فإنَّ عِلَّةَ المَنْعِ في التَّعَبُّدِي ليسَ هو لامتناعِ إقَامَةِ أَحَدِ المُتَرَادِفَيْنِ مكانَ الآخَرِ، بل لَمَّا وَقَعَ التَّعُبُّدُ بجَوْهَرِ لَفْظِه، كالخلافِ في أنَّ لَفْظَ النَّكَاحِ، هل يَنْعَقِدُ بالعَجَمِيَّةِ؟ ونحوٍِه. وقوله: (يَكُنْ) هي تَامَّةٌ إنْ جَعَلْتَ ما بَعْدَها اسْماً، وإنْ جَعَلْتَه فِعْلاً مَبْنِيًّا للمفعولِ كانَتْ ناقِصَةً.

ص: (مسألَةٌ: المُشْتَرِكُ واقِعٌ، خلافاً لثَعْلَبٍ والأَبْهَرِيِّ والبَلْخِيِّ مُطْلَقاً، ولقومٍ: في القرآنِ، وقيلَ: في الحديثِ، وقيلَ: واجِبُ الوقوعِ، وقيلَ: مُمْتَنِعٌ، وقالَ الإمامُ: مُمْتَنِعٌ في النَّقِيضَيْنِ فقط). ش: جَمَعَ المُصَنِّفُ سَبْعَةَ مَذَاهِبَ: أَصَحُّهَا: أنَّه جائزٌ واقِعٌ، وليسَ بواجبٍ.

الثاني: جَائزٌ غيرُ واقِعٍ، وحَكَاهُ عن ثَعْلَبٍ ومَن معَهُ، كابنِ العَارِضِ المُعْتَزَلِيِّ في كتابهِ (النُّكَتْ). وقيلَ: المعروفُ غيرها ولا الإحالةَ. والثالثُ: أنَّه غيرُ واقِعٍ في القرآنِ خاصَّةً، ونُسِبَ لابنِ دَاودَ الظَّاهِرِيِّ. والرابعُ: في القرآنِ والحديثِ دونَ غيرِهما. والخامسُ: أنَّه واجبُ الوقوعِ. والسادسُ: أنَّه مُحالٌ، وهو المُرادُ بقولِه: (وَقِيلَ مُمْتَنِعٌ)؛ أي: عَقْلاً، وهذا هو الفرقُ بينَ هذا والقولِ المَحْكِيِّ عن ثَعْلَبٍ، فإنَّ ذلك مَنْعَهُ لُغَةً.

والسابعُ: أنَّه يَمْتَنِعُ مع النَّقِيضَيْنِ خاصَّة، ً وإليه صَارَ الإمامُ. وقد نَازَعَ الأَصْفَهَانِيُّ في تَعْدَادِ المَذَاهِبِ، وجَعَلَها رَاجِعَةٌ إلى قولَيْنِ، وهُما: الوقوعُ وعَدَمُه، قالَ: لأنَّ الوجوبَ هَهُنا هو الوجوبُ بالغَيْرِ، إذ لا معنًى للوجوبِ بالذاتِ، والمُمْكِنُ الواقعُ هو الواجبُ بالغيرِ، فحينَئذٍ لا فَرْقَ بينَهُما، وكذا بينَ المُمْكِنِ غيرِ الواقِعِ والمُمْتَنِعِ. قالَ: ولهذا لم يَتَعَرَّضِ ابنُ الحَاجِبِ إلاَّ لقَوْلِ الوقوعِ وعَدَمِه، وليسَ كما قالَ، فإنَّ قولَ الوقوعِ معَ الإمكانِ والوجوبِ، قولانِ ثابتَانِ مُتَغايرانِ، ولا يَلْزَمُ من أحدِهما الآخَرُ، نَعَمْ، في ثُبوتِ تَغَايُرِ القولِ بالقرآنِ والسُّنَّةِ نَظَرَ، فإنَّ المُنْكَرَ لِوقُوعِه في القرآنِ، الظاهرُ أنَّه مُنْكَرٌ لِوقُوعِه في السُّنَّةِ أيضاً؛ لأنَّ الشُّبْهَةَ شامِلَةٌ، وقد صَرَّحَ بذلك صَاحِبُ (التحصيلِ) واحْتَجَّ في (المحصولِ) على أنَّه لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللفظُ مَوْضُوعاً لنقيضَيْنِ لوجودِ الشيءِ وعَدَمِه، قالَ: لأنَّ سَمَاعَه لا يُفِيدُ عندَ التَّرَدُّدِ بينَ الأَمْرَيْنِ، وهو حاصلٌ بالعَقْلِ، فالوَضْعُ له عَبَثٌ، وأُجِيبَ بأنَّه جَازَ أنْ يَكُونَ له فائِدَةٌ، وهي اسْتِحْضَارُ التَّرَدُّدِ بينَ الأمرَيْنِ، يَغْفُلُ الذِّهِنُ عنهما، والفائِدَةُ الإجمالِيَّةُ مَقْصُودَةٌ. ص: (مسألَةٌ: المُشْتَرَكُ يَصِحُّ إطْلاقُه على مَعْنَيَيْهِ معاً مجازاً، وعن الشَّافِعِيِّ والقَاضِي والمُعْتَزِلَةِ حقيقةً، زَادَ الشَّافِعِيُّ: وظاهرٌ فيهما عندَ التَّجَرُّدِ عَن القرائنِ، فيَحْمِلُ عليهما، وعن القَاضِي: مُجْمَلٌ ولكنْ يُحْمَلَ عليهما احتياطاً،

وقالَ أَبُو الحُسَيْنِ والغَزَالِيُّ: يَصِحُّ أنْ يُرَادَ، لا أنَّه لُغَةٌ، وقيلَ: يَجُوزُ في النَّفْيِ لا الإثباتِ. ش: اخْتَلَفَ في صِحَّةِ إطْلاقِ المُشْتَرَكِ على مَعْنَيَيْهِ معاً، على مذاهبَ: أحدُها: مَنَعُه مُطْلَقاً، ونَصَرَه ابنُ الصَّبَّاغِ في (العُدَّةِ)، والإمامُ في (المحصولِ) مع أنَّه قالَ في بابِ الإجْماعِ: إنَّ المُضَارِعَ مُشْتَرِكٌ بينَ الحَالِ والاسْتِقْبَالِ، ويُحْمَلُ عليهما في قولِه تعالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ} ثمَّ اخْتَلَفَ المَانِعُونَ في سَبَبِ المَنْعِ، فمِنْهُم مَن قالَ: سبَبُه الوَضْعُ، واختارَهُ في (المحصولِ)، وسَيَحْكِيه المُصَنِّفُ عن الغَزَالِيِّ، ومعناهُ أنَّ الوَاضِعَ لم يَضَعِ اللَّفْظَ لهُما على الجَمْعِ، بل على البَدَلِ، ومِنْهُمْ مَن قَالَ: سَبَبُه أنَّه يَرْجِعُ إلى القَصْدِ؛

لأنَّ إرَادَةَ كُلِّ واحدَةٍ منهما مُسْتَلْزِمَةٌ لعَدَمِ إِرَادَةِ الأُخْرَى؛ لأنَّه تَقَرَّرَ أنَّه مَوْضُوعٌ لهما على البَدَلِيَّةِ، لا على المَعِيَّةِ، فلو كانَ مُرَادَيْنِ معاً، لَزِمَ ألاَّ يَكُونَ مُرَادَيْنِ معاً، وهو مُحَالٌ، والثاني: وعليه الأكثرونَ: الجوازُ، فلا يَمْتَنِعُ أنْ يَقًُولَ: العَيْنُ مَخْلُوقَةٌ، ويُرِيدُ جَمِيعُ مَحامِلِها، وشَرَطُوا ألاَّ يَمْتَنِعُ الجَمْعُ لأمْرِ خارجيٍّ، كما في الجَمْعِ بينَ الضِّدَيْنِ، ومَثَّلُوهُ بصِيغَةِ افْعَلْ، للأمْرِ والتَّهْدِيدِ فإنَّه يَمْتَنِعُ الجَمْعُ بينَهما، وصِحَّةُ الجَمْعِ بينَ المَعْنَيَيْنِ، يَكُونُ بأنْ يَصِحَّ انْتِسَابُه إلى كلِّ واحدٍ من المَعْنَيَيْنِ في التَّرْكِيبِ، كقولُنا: العَيْنُ مُتَحَيِّزٌ، ونُرِيدُ الجَارِحَةُ والذَّهَبُ، أو بأنَّ يَكُونَ المَنْسُوبُ إليه في التَّرْكِيبِ قَابِلاً للتَّوْزِيعِ بالنَّسْبَةِ بأنْ يَكُونَ البَعْضُ مَنْسُوباً إلى أَحَدِهما، والبعضُ مَنْسُوباً إلى الآخَرِ، كما في قولِه تعالَى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} فإنَّ الضميرَ قَابِلٌ للتَّوْزِيعِ، لاخْتِلافِ مَدْلُولِ الصَّلاةِ بالنِّسْبَةِ إلى اللهِ تعالَى وإلى الملائكةِ، ثم اخْتَلَفَ المُجَوِّزُونَ هل هو حقيقةٌ أو مجازٌ؟. فالمُخْتَارُ عندَ ابنِ الحَاجِبِ والمُصَنِّفِ أنَّه مَجَازٌ، وإليه مِيلَ إمامُ الحَرَمَيْنِ، فإنَّه صَرَّحَ بأنَّه لا يُسْتَعْمَلُ في الجميعِ إذا تَجَرَّدَ عن القرائنِ وبالجوازِ معَ قرينَةٍ مُتَّصِلَةٍ، وعَلَلَّ المَنْعَ بكونِ الواضِعِ إنَّما وَضَعَهُ لهُما على

البَدَلِ لا على الجَمْعِ، وقيلَ: بطَرِيقِ الحقيقةِ، ونَقَلَهُ الآمِدِيُّ عن الشافِعِيِّ والقَاضِيِّ، وتَابَعَه المُصَنِّفُ، وفيه نَظَرٌ، واخْتَلَفَ المُجَوِّزُونَ للاسْتِعْمَالِ، هل يَجِبُ حَمْلُه عليهما إذا تَجَرَّدَ عن قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ؟ فقيلَ: لا يَجِبُ، ويكونُ مُجْمَلاً، وعَزَاهُ الهِنْدِيُّ للأكْثَرِينَ، وبه قالَ الإمامُ تَفْرِيعاً على القولِ بالجوازِ؛ لأنَّ اللفظَ كما هو حقيقةٌ في المجموعِ، فكذا هو حقيقةٌ في أحدِهما على البَدَلِ أيضاً، فلو قُلْنَا بوجوبِ الحَمْلِ عليهما عندَ تَجَرُّدِه عن القرينَةِ، لكانَ ذلك تَرْجِيحاً لأحدِ المَفْهُومَيْنِ على الآخَرِ من غيرِ مُرَجَّحٍ، ونُقِلَ عن الشافِعِيِّ والقَاضِي وجُوبُه، وليسَ ذلك تَرْجِيحاً بلا مُرَجَّحٍ، كأنْ عَمَّ المَانِعُ، بل بمُرَجَّحٍ، وهو تَكْثِيرُ الفائدَةِ، ودَفْعُ الإجْمَالِ، لكنِ اخْتَلَفَ هل هو للاحتياطِ أو من بابِ العُمُومِ؟ فالمَنْقُولُ عن القَاضِي الأَوَّلُ، وعن الشَّافِعِيِّ الثاني، فيَرَى أنَّه ظَاهِرٌ فيهما دونَ أَحَدِهما، فيُحْمَلُ عندَ التَّجَرُّدِ عليهما، ولا يُحْمَلُ على أحدِهما خاصَّةً إلاَّ بقَرِينَةٍ، وهذا معنى المُشْتَرَكِ، والعامُّ عندَه قِسْمَانِ: قِسْمٌ مُتَّفَقُ الحقيقةِ، وقِسْمٌ مُخْتَلِفُ الحقيقةِ، واعْلَمْ أنَّ هذا النَّقْلَ عن القَاضِي تَابَعَ المُصَنِّفُ فيه = (المحصولَ) وغيرَه، وليسَ كذلكَ فقد صَرَّحَ القاضِي في (التقريبِ)

بأنَّه لا يَجُوزُ حَمْلُه عليهما ولا على واحدٍ منهما إلاَّ بقرينَةٍ، قالَ: وهكذا كُلُّ مُحْتَمَلٍ من القولِ وليسَ بموضوعٍ في الأصْلِ لأحدِ مُحْتَمَلَيْهِ. انتهى. فكانَ الصوابُ أنْ يَقُولَ: وقالَ القَاضِي بالوَقْفِ، فلا يُحْمَلُ على شيءٍ إلا بدليلٍ، وهكذا حَكَاهُ الأستاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وقالَ: إنَّه قولُ الواقِفِيَّةُ في صِيَغِ العُمُومِ؛ أي: وفيهم القاضِي. والثالثُ: وبه قالَ أَبُو الحُسَيْنِ والغَزَالِيُّ: يَصِحُّ أنْ يُرَادَ باللفظِ الواحدِ مَعْنَيَيْهِ بوَضْعٍ جديدٍ، ولا مَانِعَ من القَصْدِ، لكنْ ليسَ من اللُّغَةِ، فإنَّ اللغَةَ مُنِعَتْ منه، ولولا مَنْعُها منه لم يُمْنَعْ منه النَّقْلُ. والرابِعُ: لا يَجُوزُ في الإثباتِ، ويَجُوزُ في النَّفْيِ، كما لو قالَ: الحَامِلُ لا قَرْءَ لها تَعْتَدُّ به؛ لأنَّ النَّكِرَةَ في سياقِ النَّفْيِ تَعَمُّ، فيَجُوزُ أنْ يُرَادَ به مَدْلُولاتُه المُخْتَلِفَةُ، وإليه ذَهَبَ صاحبُ (الهِدَايَةِ) من الحَنَفِيَّةِ في بابِ الوَصِيَّةِ. والخامسُ: يَجُوزُ في الجَمْعِ، نحوَ: اعْتَدِّي بالأقْرَاءِ، دونَ المُفْرَدِ، سواءٌ الإثباتُ والنَّفْيُ؛ لأنَّ الجَمْعَ في حُكْمِ تَعْدِيدِ الأفْرادِ، فكأنَّه ذَكَرَ أَلَفْاظاً وأَرَادَ بكلِّ

معنًى بخلافِ المُفْرَدِ. ص: (والأكثرُ على أنْ جَمْعَهُ باعتبارِ مَعْنَيَيْهِ إنْ سَاغَ، مَبْنِيٌّ عليه). ش: اخْتُلِفَ في جَمْعِ المُشْتَرَكِ باعتبارِ مَعْنَيَيْهِ، نحوَ: عُيُونُ زَيدٍ، وتُرِيدُ به بَاصِرَةً، وذَهَب= وجاريَةً، فالأكْثَرُونَ: إنَّه مَبْنِيٌّ على الخلافِ في المُفْرَدِ، فإنْ جَوَّزْنَا اسْتِعْمَالَ المُفْرَدِ في مَعْنَيَيْهِ جَوَّزْنَا بالمجموعِ في جميعِ مَعَانِيهِ، وإنْ مَنَعْنَاهُ امْتَنَعَ، ومنهُم مَن قالَ: يَجُوزُ فيه، وإنْ قُلْنَا بالمَنْعِ في المُفْرَدِ، والصحيحُ طريقةُ الأكْثَرِ أنَّه يَلْزَمُ من امْتِنَاعِ المُفْرَدِ امْتَناعُ المجموعِ؛ لأنَّ المجموعَ إنَّما يُفِيدُ ما وُضِعَ له اللفظُ حالَ الإفرادِ، ولا يَزِيدُ عليه إلاَّ بِصِيغَةِ الجَمْعِ، وهو إفادَةُ الكَثْرَةِ خاصَّةً، فإنْ كانَ المُفْرَدُ مُتَنَاوِلاً لمَعْنَيَيْه، كانَ جَمْعُه كذلك، وإنْ كانَ لا يُفِيدُ إلاَّ أحدَهما، فجَمْعُه كذلك، وكانَ يَنْبَغِي للمُصَنِّفِ أنْ يَذْكُرَ مسألَةَ الخلافِ في المُثَنَّى كذلك، ونِسْبَتُه على الإثباتِ، فإنَّ النَّفْيَ لَمَّا اقْتَضَاهُ الإثْباتُ، فإنْ كانَ مُقْتَضَى الإثباتِ الجَمْعُ بينَ المَعْنَيَيْنِ، فكذلك النَّفْيُ، وإنْ كانَ مُقْتَضَاهُ أَحُدُ المَعْنَيَيْنِ، فالنَّفْيُ كذلك. وقولُه: (إنْ سَاغَ) قَيْدٌ زَادَهُ المُصَنِّفُ على المُخْتَصِرَاتِ، أَشَارَ به إلى خلافِ النُّحَاةِ في تَثْنِيَةِ اللفظَيْنِ المُخْتَلِفَيْنِ في المعنَى، وفيه مذاهبُ: أحدُها ـ ورَجَحَّهُ ابنُ مَالِكٍ ـ: الجوازُ مُطْلَقاً، ففي الحديثِ: ((الأَيْدِي ثَلاثَةٌ)). وصَحْحَ

قَوْلُ الحَرِيرِيِّ: فانثنَى بلا عَيْنَيْنِ، يريدُ الباصرةَ والذَهَبَ. والثاني، ورَجَّحَه ابنُ الحَاجِبِ في (شَرْحِ المُفَصَّلِ): المَنْعُ مُطْلَقاً، وحَكَاهُ عن الأكثرِينَ. والثالثُ: وعليه ابنُ عُصْفُورٍ: إنْ اتَّفَقَا في المعنَى المُوجِبِ للتَّسْمِيَةِ، نحوَ: الأحْمَرَانِ، للذَّهَبِ والزَّعْفَرَانِ ـ جَازَ، وإلاَّ فلا، كالعَيْنِ الباصرَةِ، والذَّهَبِ. فإنْ قيلَ: جَمْعُه باعتبارِ مَعْنَيَيْه مبنيٌّ عليه، سواءٌ سَاغَ ذلك في اللُّغَةِ أم لا، فما فائدَةُ هذا القَيْدِ؟ قلُنَا: حُمِلَ المُشْتَرِطُ على مَعْنَيَيْه إنَّما صَحَّتْ عنه في كلامِ الشَّارِعِ، أو مَن سَلَكَ بكلامِه مَسْلَكَ العَرَبِ في ألفاظِهم، فمَنْ خَرَجَ عن اللُّغَةِ لا مَحْمَلَ لكَلامِه، وهو موضوعٌ مُحْتَمَلٌ. تنبيهٌ: ما ذَكَرَه المُصَنِّفُ من البناءِ تَابَعَ فيه ابنُ الحَاجِبِ، وقد سَبَقَ منهُما أنَّ ذلك الإطلاقَ مجازٌ لا حقيقةٌ، فلْيَكُنْ ما ابْتَنَى عليه مجازاً أيضاً، وحينَئذٍ فخَرَجَ منه أنَّ تَثْنِيَةَ المُخْتَلَفِ المعنَى وجَمْعَه إنْ وُرِدَ منه شيءٌ قُبِلَ، وأمَّا تَجْوِيزُه قياساً، فعلى المجازِ لا لأنَّ الصناعَةَ النَّحْوِيَّةَ تَقْتَضِيهِ.

ص: (وفي الحقيقةِ والمجازِ الخلافُ، خلافاً للقَاضِي، ومن ثَمَّ عَمَّ نحوَ: وافْعَلوا الخَيْرَ، الواجبَ والمَنْدُوبَ، خلافاً لِمَنْ خَصَّه بالواجبِ ومَن قالَ: للقَدْرِ المُشْتَرَكِ). ش: هذا الخلافُ يَجْرِي على إطلاقِ اللفظِ الصالحِ للحقيقةِ والمجازِ وإرادَتِهما معاً، بشَرْطِ ألاَّ يَكُونَ بينَهما تَنَافٌ، ويَنْبَغِي جَرَيَانُ خلافَ عِلَّةِ المَنْعِ السابقَةِ هنا، واحْتَجَّ القَاضِي على المَنْعِ هنا، بأنَّ الحقيقةَ استعمالُ اللفظِ فيما وُضِعَ له، والمجازَ فيما لم يُوضَعْ له، وهما مُتَنَاقِضَانِ، فلا يَصِحُّ أنْ يُرَادَ بالكَلِمَةِ الواحدةِ مَعْنَيَانِ مُتَنَاقِضَانِ، وهو ضعيفٌ، لَمَا سَنَذْكُرُه، والشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه مَشَى على مَنْوالٍ واحدٍ، فحُمِلَ اللفظُ على مَعْنَيَيْه، سواءٌ كانَا حَقِيقَتَيْنِ، أو أحدُهما مجازٌ, كما جَوَّزَ الاستعمالَ فيهما, وأمَّا القَاضِي فسَوَّى بينَ الحَقِيقَتَيْنِ, وبينَ الحقيقةِ والمجازِ في صِحَّةِ الاستعمالِ بالنِّسْبَةِ إلى المُتَكَلِّمِ، وفَرَّقَ بينَهما في الحَمْلِ بالنِّسْبَةِ إلى السَّامِعِ، فقالَ في الحقيقتَيْنِ: لا يُحْمَلُ على أَحَدِهِما إلا بدليلٍ، وقالَ في الحقيقةِ والمجازِ: يَسْتَحِيلُ الجَمْعُ، لئلاَّ يَلْزَمَ الجَمْعُ بينَ النَّقِيضَيْنِ، هذا عزيزُ النَّقْلِ عن القاضِي في هاتَيْنِ المسألتَيْنِ. وقد غَلَّطَ جَماعَةٌ في النَّقْلِ عنه، واخْتَلَطَ عليهم مسألَةُ الحَمْلِ بمسألَةِ الاستعمالِ، ومنهم المُصَنِّفُ، فنُقِلَ عن القَاضِي التَّجْويزُ في الحقيقتَيْنِ دونَ الحقيقةِ والمجازِ. فقولُه: (خلافاً للقَاضِي) إنْ أَرَادَ في الاستعمالِ فهو مُوافِقٌ لا مُخَالِفٌ، وإنْ أَرَادَ في الحَمْلِ فهَهُنا يُحِيلُ وهناك يَجُوزُ مع القرينةِ. وأمَّا قولُ الكِيَا في (التَّلْويحِ): قالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لا يَجُوزُ أنْ يُرَادَ بالعِبَارَةِ الواحدَةِ الحقَيقَةُ والمَجَازُ والكِنَايَةُ والتَّصْرِيحُ؛ ولهذا لا يَجُوزُ أنْ يُرَادَ باللَّمْسِ الوِقَاعُ والجَسُّ باليدِ معاً، ولا يُرَادُ بالنِّكاحِ العَقْدُ والوطءُ معاً، وصَارَ إلى هذا الرَايِ أَبُو عَبْدِ اللهِ البَصْرِيُّ من المعتزلَةِ. انتهى. فمُرادُه الحَمْلُ، وكذا شيخُه ابنُ البُرْهَانِ عن القَاضِي ولم يَحْكِ الهِنْدِيُّ غيرَه، وعلى

المُصَنِّفِ نَقْدٌ آخَرَ، فإنَّه أَطْلَقَ الخلافَ، وموضوعُه كما فَرَضَه ابنُ السَّمْعَانِيِّ فيما إذا سَاوَى المَجَازُ الحقيقةَ لشُهْرَةٍ في الاسْتِعْمالِ ونحوِه، فإنَّ خَلاَ المَجازُ من ذلك امْتَنَعَ الحَمْلُ قَطْعاً؛ لأنَّ المَجَازَ لا يَعْلَمُ= تَنَاولُ اللفظِ له إلاَّ بقَيْدٍ، والحقيقةُ تُعْلَمُ بالإطلاقِ، فلما تَنَافَى الموضوعاتُ امْتَنَعَ، وبهذا تَرِدُ دَعْوَى القَاضِي التَّنَاقِضُ في الحَمْلِ على معنَى الحقيقَةِ والمجازِ، فإنَّ ذلك خَارِجَ عن مَحَلِّ النِّزَاعِ، وأَشَارَ المُصَنِّفُ إلى أنَّ مِن فوائدِ الخلافِ في هذه المسألَةِ، الخلافُ في عُمُومِ قولِه تعالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} فمَنْ قالَ بالجَوازِ حَمْلُه على الواجبِ والنَّدْبِ، واسْتَدَّلَ بالآيةِ علَيْهِما، ومَن مَنَعَ خَصَّهُ بالواجبِ، وكذا القائِلُ إنَّه للقَدْرِ المُشْتَرَكِ بينَهما وهو الطَّلَبُ، ومنهم مَن جَعَلَ البناءَ في الآيةِ من جِهَةِ الخِطَابِ، فإنَّ قولَه: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} هذا خطابٌ للرجالِ حقيقةٌ وللنساءِ مجازاً، فقد اسْتُعْمِلَ اللفظُ في حقيقتِه ومجازِه. ص: وكذا المجازاتُ. ش: اسْتِعْمَالُ اللفظُ في مَجَازَيْهِ مثلَ أنْ يَقولَ: واللهُ لا أَشْتَرِي، ويُرِيدُ السَّوْمَ وشراءَ الوكيلِ، يَجْرِي فيه الخلافُ السابِقُ، وهي مسألَةٌ غريبَةٌ قُلْ مَن تَعْرَّضَ لها من الأُصُولِيِّينَ، وقد ذَكَرَها إمامُ الحَرَمَيْنِ، وابنُ السَّمْعانِيِّ في (القواطعِ) وكذلكَ الآمِدِيِّ وابنُ الحَاجِبِ في بابِ المُجْمَلِ لكنِ اخْتَارَا فيه الإجْمَالُ، وهو مُخَالِفٌ لاختيارِهم في الحقيقتَيْنِ الإعمالِ، ومَشَى الإمامُ فَخْرُ الدِّينَ على منوالٍ واحدٍ، فاخْتَارَ الإجْمَالَ في الموضعَيْنِ، ولا يَخْفِي أنَّ صُورَةَ المسألَةِ حيثُ تَعَذَّرَتِ الحقيقةُ، ولا بُدَّ

من تَقْييدِ المجازَيْنِ بالمتساويَيْنِ، فإنَّه متى رَجَّحَ أَحَدُهما تَعَيَّنَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَجْرِيَ فيه خلافَ الحقيقةِ والمجازِ؛ لأنَّ المجازَ الراجِحُ هنا بمثابَةِ الحقيقةِ هناك. قالَ الأَصْفَهَانِيُّ: وحيثُ قلنا: يُحْمَلُ اللفظُ على جميعِ مجازاتِه، يُشْتَرَطُ ألاَ تَكُونَ تلكَ المَجازَاتِ مُتَنَافِيَّةٌ كالتهديدِ والإباحَةِ، إذا قلنا: إنَّ صِيغَةَ الأمْرِ حقيقةٌ في الإيجابِ، مجازٌ في الإباحَةِ والتهديدِ. ص: الحقيقةُ: لفظٌ مُسْتَعْمَلٌ فيما وُضِعَ له ابتداءٌ.

ش: قولُه: (لَفْظٌ) جِنْسٌ يَشْمَلُ الحقيقةَ والمجازَ والمُسْتَعْمَلَ والمُهْمَلَ، خَرَجَ بـ (المُسْتَعْمَلِ): المُهْمَلِ، واللفظُ قبلُ الاستعمالِ. وقولُه: (فيمَا وُضِعَ له) إمَّا أنْ يكونَ من تمامِ الفَصْلِ، لإخراجِ ما ذَكَرْنَا، وإمَّا أنْ يكونَ فَصْلاً برأَسِه؛ ليَخْرُجَ اللفظُ المُسْتَعْمَلَ فيما لم يُوضَعْ له، كالوَضْعِ الجديدِ، فإنَّ واضِعَ اللُّغَةِ لم يَضَعْه، والمُسْتَعْمَلُ في غيرِ ما وُضِعَ له غَلَطاً، والمَجَازُ الخَالِي عن الوَضِعِ. وقولُه: (ابتداءً) خَرَجَ المجازُ بأنواعِه، فإنَّه وإنْ كانَ مَوْضوعاً فليسَ موضوعاً وَضْعاً أوليًّا، وإنَّما عَبَّرَ بالابتداءِ دُونَ الأوَّلِ، كما عَبَّرَ به ابنُ الحَاجِبِ، للخلافِ في أنَّ الأوَّلَ هل يَسْتَلْزِمُ ثانياً؟ وإنْ قلنا: يَسْتَلْزِمُه، لَزِمَ أنَّ الحقيقةَ تَسْتَلْزِمُ المجازَ، ولا قائلٌ بذلك وإنَّما اخْتَلَفُوا في عَكْسِه، وهو اسْتِلْزَامُ المجازِ الحقيقةَ، فلهذا أَتَى المُصَنِّفُ بما يُزِيلُ هذا الإيهامُ، ولم يَحْتَجْ أنْ يَقُولَ: في اصطلاحِ التَّخَاطُبِ، كما قالَ غيرُه ليَدْخُلَ الحقيقتَيْنِ: الشَّرْعِيَّةُ

والعُرْفِيَّةُ، وإلاَّ فهما مُسْتَعْمَلانِ في وَضْعٍ ثانٍ يَصُدُقُ عليه أنَّه وُضِعَ ابتداءً، ولم يَرِدْ بالوَضْعِ الوَضْعُ الأصْلِيُّ وهو اللُّغَوِيُّ، ولو أَرَادَهُ لاحْتاجَ إلى هذا القَيْدِ لا مَحَالَةَ، بل أَرَادَ بالوَضْعِ المُبْتَدَأِ بما يَكُونَ أولاً بالنِّسْبَةِ إلى الاصطلاحِ الذي يَقَعُ به التَّخَاطُبُ، لا مَا يَكُونُ أولاً باختيارِ اللُّغَةِ، فإنَّ الوَضْعَ الأوَّلَ أَعَمٌّ من الوَضِعِ باعتبارِ اللُّغَةِ، فلهذا اسْتُغْنِيَ عن قَيْدِ التَّخَاطُبِ، وقد ضَايَقَ الأَصْفَهَانِيُّ شَارِحَ (المحصولِ) في قيدِ الأَوَلِيَّةِ، وقالَ: إنَّه غيرُ محتاجٍ إليه، فإنَّه إنَّما احْتَرَزَ به عن المجازِ، ولا حاجَةَ إلى الاحترازِ فإنَّ لَفْظَةَ الوَضْعِ تُخْرِجُهُ؛ لأنَّ المجازَ إنْ قُلْنَا: إنَّه غيرُ موضوعٍ، فذاكَ، وإنْ قلنَا: موضوعٌ، فهو غيرُ الوَضْعِ المُعْتَبَرِ في الحقيقةِ، وهو استعمالُ العُرْفِ ذلك النَّوْعُ، لا استعمالَ آحادِ النَّوْعِ بخلافِ الوَضْعِ في الحقيقةِ، وزَادَ صاحبُ (المِنْهَاجِ) (مِن غيرِ تَاويلٍ في الوَضْعِ) ليَحْتَرِزَ به عن الاستعارَةِ، فإنَّها مُسْتَعْلَمَةٌ فيما وُضِعَتْ له ولَيْسَتْ بحقيقةٍ، لسَدِّهِ دَعْوَى المُسْتَعَارِ مَوْضُوعاً للمُسْتَعَارِ له على ضَرْبٍ من التأويلِ. ص: (وهي لُغَوِيَّةٌ، وعُرْفِيَّةٌ، وشَرْعِيَّةٌ). ش: لأنَّ الحقيقةَ لا بُدَّ لها من وَضْعٍ، والوَضْعُ لا بُدَّ له من وَاضِعٍ، فوَاضِعُها إنْ كانَ وَاضِعُ اللُّغَةِ، فلُغَوِيَّةٌ كالأسدِ للحيوانِ المُفْتَرِسِ، أو الشَّرِعِ، فشَرْعِيَّةٌ، كالصَّلاةِ للعِبَادَةِ المَخْصُوصَةِ، أو العُرْفِ المُتَعَيَّنِ أو المُطْلَقِ، فعُرْفِيَّةٌ، فالعُرْفِيَّةُ المُطْلَقَةُ، كالدَّابَةِ لذواتِ الأَرْبَعِ، والخَاصِّ كاصطلاحِ النُّحَاةِ والأصوليِّينَ. ووجْهُ الحَصْرِ أنَّ اللفظَ إنْ كانَ مَوْضُوعاً في أصْلِ اللُّغَةِ لمعنًى واسْتَمَرَّ من غيرِ طُرُوءِ نَاسِخٍ عليه، فهو الحقيقةُ اللُّغَوِيَّةُ، وإنْ طَرَأَ عليه نَاسِخٌ نَقَلَهُ إلى اصْطِلاحٍ آخَرَ، فإنْ كانَ النَّاقِلُ الشَّرْعَ، فهي الشَّرْعِيَّةُ، أو العُرْفَ، فهي العُرْفِيَّةُ، فثَبَتَ أنَّ اللُّغَوِيَّةَ أَصْلُ الكُلِّ. وقد مَنَعَ الأَصْفَهَانِيُّ إِدْخَالَ الثلاثَةِ في حدٍّ واحدٍ من جِهَةِ اختلافِ معنَى الوَضْعِ فيها، فإنَّ الوَضْعَ في اللُّغَوِيَّةِ بمعنَى الاصطلاحِ، وهو تَعْلِيقُ لفظٍ بمعنًى. وأمَّا في الشرعيَّةِ والعرْفيَّةِ، فليسَ

بهذا المعنَى، إذ لم يُنْقَلْ عن الشَّرْعِ لَفْظُ الصلاةِ بإزاءِ معنَاها الشرْعِيِّ، بل غَلَبَ اسْتِعْمَالُه لها بإزاءِ المعنَى الشرعيِّ، بحيثُ صَارَتِ الحقيقةُ اللغويَّةُ مَهْجُورَةً، وكذلك العرفيَّةُ إنَّما اشْتَهَرَتْ بكَثْرَةِ الاستعمالِ دونَ الوَضْعِ، قالَ: وحينَئذٍ إنْ خَصَّصْنا لَفْظَ الوَضْعِ في الحدِّ بالاصطلاحِ، خَرَجَتِ الشرعيَّةُ والعرْفيَّةُ، وإنْ لم نَخُصُّه، لَزِمَ الاشتراكُ، وهو ما تُصَانُ الحدودُ عنه، قالَ: فيَجِبُ أنْ تُحَدَّ لهما حدًّا غيرَ حدِّ اللغويَّةِ، بأنْ يُقالَ: المُسْتَعْمَلُ فيما يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُه، ولكَ أنْ تقولَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ الشَارِعَ اسْتِعْمَلَ ولم يَضَعْ، فإنَّ الوَضْعَ: تَعْلِيقُ لفظٍ بمعنًى، وذلك مُتَناولٌ لها، إلاَّ أنَّ سببَ نَقْلِه إلى المعنَى في اللُّغَةِ إعلامِه بالوَضْعِ والاصْطِلاحِ، وفي الشَّرْعِ كَثْرَةُ اسْتِعْمَالِه، كَثْرَةٌ تَقُومُ مَقامَ الوَضْعِ ابتداءً. ص: (ووَقَعَ الأَوْلَيانِ، ونَفَى قَوْمٌ إمكانُ الشَّرْعِيَّةِ، والقَاضِي وابنُ القُشَيِّرِ=: وقوعُها، وقالَ قومٌ: وَقَعَتْ مُطْلَقاً، وقومٌ: إلاَّ الإيمانَ، وتَوَقَّفَ الآمِدِيُّ، والمُخْتَارُ وِفَاقاً لأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، والإمامَيْنِ، وابنُ الحاجِبِ ـ وقوعُ الفَرْعِيَّةِ لا الدِّينِيَّةِ). ش: لا خلافَ في وقوعِ اللغويَّةِ والعرفيَّةِ، وأمَّا الشرعيَّةِ ففي (المحصولِ): اتَّفَقُوا على إمكانِها؛ يعني: أنَّ الاسمَ اللُّغَوِيَّ يَجُوزُ أنْ يَنْقُلُه الشَّرْعُ إلى معنًى آخَرَ، فيَصِيرُ اللَّفْظُ في ذلك المعنَى حقيقةً شرعيَّةً، لكن في شَرْحِه للأصْفَهَانِيِّ عن شَرْحِ

المُعْتَمَدِ لأَبِي الحُسَيْنِ عن قومٍ أنَّهم مَنَعُوا إمْكانِها، وعليه اعْتَمَدَ المُصَنِّفُ. لكنِ الذي رَأَيْتُه في (المُعْتَمَدِ) لأَبِي الحُسَيْنِ لَمَّا حَكَى عن قومٍ من المُرْجِئَةِ أنَّهم نَفُوا الحقائقَ الشرعيَّةَ؛ أي: وقوعَها، قالَ: وبعضُ عِلَلِهم تَدُلُّ على أنَّهم أَحَالُوا ذلكَ، هذا لَفْظُه، وحينَئذٍ فلم يُصِرِّحُوا به، نَعَمْ. قالَ بعضُهم: مَن يَقُولُ بأنَّ دلالَةَ الألفاظِ طَبِيعِيَّةٌ، لا يقولُ بالجوازِ هنا؛ لأنَّ الاسمَ عندَه واجبٌ للمُسَمَّى، وأمَّا وقوعُها ففيه مذاهبَ:

أحدُها: إنْكَارُه مُطْلَقاً، وهو قولُ القاضِي أَبِي بَكْرٍ، وابنِ القُشَيِّرِيِّ وغيرِهما، ونَقَلَه المَاوَرْدِيُّ في (الحاوِي) عن الجُمْهُورِ، وزَعَمُوا أنَّ لَفْظَ الصلاةِ والصومِ وغيرِهما في الشَّرْعِ مُسْتَعْمَلٌ في المعنَى اللُّغَوِيِّ، وهو الدُّعاءُ والإمْساكُ، لم يُنْقَلْ أصْلاً، وأنَّها بَاقِيَةُ على أوضاعِها، لكنَّ الشارِعَ شَرَطَ في الاعتدادِ بها أُمُوراً أُخْرَى، نحوَ: الركوعِ، والسجودِ، والكفِّ عن الجِمَاعِ، والنِّيَّةِ، فهو مُتَصَرِّفٌ بوَضْعِ الشَّرْطِ لا بتَغْييرِ الوَضْعِ. والثاني: إثباتًُها مُطْلَقاً، وهو قولُ المُعْتَزِلَةِ، وقالُوا: نَقَلَ الشارعُ هذه الألفاظَ من الصلاةِ والصومِ وغيرِهما من مُسَمِّيَاتِها اللُّغَوِيَّةِ، وابتداءُ= وَضْعِها لهذه المعانِي الشَّرْعِيَّة من غيرِ مُرَاعَاةِ النَّقْلِ إلى المجازِ اللغويِّ، فلَيْسَتْ حقائقٌ لُغَوِيَّةٌ ولا مَجازاتٌ عنها، وكذلك قالُوا: الإيمانُ لُغَةً: التصديقُ، ونَقَلَه الشَّرْعُ إلى العِبَاداتِ من غيرِ مُنَاسَبَةٍ، ولهذا قالَ ابنُ الحَاجِبِ، وأَثْبَتَ المُعْتَزِلَةُ الدِّينِيَّةِ أيضاً، فدَلَّ على أنَّهم

يَثْبُتُونَ شَرْعِيَّةً غيرَ دِينَيِّةٍ، وقَصْدِهم من هذا أنَّ مُرْتَكِبَ الكبيرَةِ ليسَ مُؤْمِناً ولا كَافِراً. والثالثُ: التَّفْصِيلُ بينَ الإيمانِ وغيرِه، وهو الذي اخْتارَهُ الشيخُ أَبُو إسحاقَ في (شَرْحِ اللُمَعِ) أنَّ الإيمانَ مَبْقِيٌّ على مَوْضوعِه في اللُّغَةِ، وأنَّ الألفاظَ التي ذَكَرْنَاها من الصلاةِ والصيامِ والحجِّ وغيرِ ذلك، منقولَةٌ. قالَ: وليسَ من ضرورةِ النَّقْلِ أنْ

يَكُونَ في جميعِ الألفاظِ، وإنَّما يكونُ على حَسَبِ ما يَقُومُ عليه الدليلُ. والرابعُ: الوَقْفُ، وإليه مِيلَ الآمِدِيُّ. والمختارُ عندَ المُصَنِّفِ ـ وِفَاقاً لِمَنْ ذَكَرَه ـ الوقوعُ في فُرُوعِ الشريعَةِ فقطْ كالصومِ والصلاةِ، دونَ أُصُولِه كالإيمانِ، والمُرادِ بـ (الدِّينِيَّةِ) كما قاله في (المُسْتَصْفَى): ما نَقَلَه الشَّرْعُ إلى أَصْلِ الدِّينِ كالإيمانِ والكُفْرِ والفِسْقِ. ثمَّ في كلامِ المُصَنِّفِ أَمْرَانٍ: أحدُهما: أنَّ هذا الذي اخْتَارَهُ يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إلى أنَّه عينُ قولِه: (وقَومٌ إلاَّ الإيمانَ) فما الفارقُ بينَهما؟ وإنَّما يَظْهَرُ التَّغَايُرُ بينَهما بالتقريرِ الذي سنَذْكُرُه في مَذَهْبِ الإمامَيْنِ، والقائلُ الأوَّلُ يقولُ: إنَّ الشرعَ أَبْقَى الإيمانَ على موضوعِه اللُّغَوِيُّ، ونَقَلَ ما عَدَاهُ من الفروعِ نَقْلاً كُلِّيًّا إلا على مُلاحَظَةِ أُسْلُوبِ اللُّغَةِ بوَجْهٍ، وحِكَايَتُه هكذا تُؤْخَذُ من نَقْلِ مُحَمَّدِ بنِ نَصْرٍ من كتابِ (تَعْظِيمِ قَدْرِ الصلاةِ)، عن أَبِي

عُبَيْدٍ، وتصيرُ المذاهبُ خَمْسَةً. الثاني: ما أَطْلَقَه في نَقْلِ مذهبِ الإمامَيْنِ، فيه نَظَرٌ، أمَّا إمامُ الحرمَيْنِ فإنَّه قالَ: ثَبَتَ منها نوعانٍ: أحدُهما: قَصْرُ التَّسْمِيَةِ على بعضِ مُسَمِيَاتِها، فإنَّ الصلاةَ لُغَةً: الدُّعاءُ، وقَصَرَهُ الشَّرْعُ على دُعاءٍ مَخْصُوصٍ. والثاني: التَّجَوُّزُ، كإطلاقِها على الأفعالِ من السجودِ ونحوِه مجازاً من الدُّعاءِ؛ لأنَّ الدَّاعِيَ خَاضِعٌ وكذا السَّاجِدُ، قالَ: فالمُثْبَتُ للنَّقْلِ إنْ أَرَادَ القَصْرَ النَّحْوِيُّ فلا معنَى لإنْكَارِه، وإنْ أَرَادَ غيرَه فبَاطِلٌ، هذا كلامُه، ولم يُفَصِّلْ بينَ شَرْعِيَّةٍ ولا أَصْلِه. وأمَّا الإمَامُ الرَّازِيُّ فإنَّه اخْتَارَ أنَّ الشَّرْعَ لم يَنْقُلْهَا عن معناها اللُّغَوِيِّ، لكنَّه لم يَسْتَعْمِلْها في حَقِيقَتِها اللُّغَوِيَّةُ، وإلاَّ تَبَادَرَ الذِّهْنُ إليها بل في مَجَازِهَا اللُّغَوِيُّ، فإنَّ العَرَبَ تَكَلَّمُوا بالمَجَازِ كما تَكَلَّمُوا بالحقيقةِ، ومن مجازِهِمْ تَسْمِيَةُ الشيءِ باسمِ أَجْزَائِه، والصلاةُ كذلِكَ، فإنَّ الدُّعاءَ جُزْؤُها، فكَأَنَّ الإمامَ يَقولُ: إنَّها مُفَسِّرَةٌ على مَجَازِها اللُّغَوِيُّ، كما أنَّ القَاضِي يَقُولُ: إنَّها مُفَسِّرَةٌ على حَقَيقَتِها اللُّغَوِيَّةُ، واشْتَرَكَ المَذْهَبَانِ في إذا لم يَخْرُجْ بها عن أسْلُوبِ العَرَبِ، ولم يَفْصِلْ الإمامُ بينَ فَرْعِيَّةٍ ولا دِينِيَّةٍ أيضاً، بل صَرَّحَ بالتَّسْوِيَّةِ في عبارتِه، قُلْنَا: لم لا يَكْفِي فيها المجازُ؟ وهو تَخْصِيصُه الألفاظُ المُطْلَقَةُ ببَعْضِ مَوارِدُها، فإنَّ الإيمانَ والصلاةَ والصومَ، كانَتْ مَوضوعَةٌ لمُطْلَقُ التَّصْدِيقِ والدُّعاءِ والإمْساكِ، ثم خَصَّتْ في الشَّرْعِ بتَصْدِيقٍ مُعَيَّنٍ ودُعَاءٍ مُعَيَّنٍ وإمْسَاكٍ مُعَيَّنٍ إلى آخِرِه، والفَرْقُ بينَ

مَذْهَبِه ومَذْهَبِ إمامُ الحرمَيْنِ، أنَّ إمامَ الحرمَيْنِ يقولُ: إنَّ الشَّرْعَ غيرُ وَضْعِ اللغةِ على الهَيْئَةِ السَّابِقَةِ، والإمامُ الرَّازِيُّ يقولُ بعَدَمِ التَّغْييرِ، وإنْ لم يَخْرُجْ عن طَرِيقِهم، وكلامُه في الأدلَّةِ غيرُ مُصَرَّحٍ بذلك، لكنَّه قريبٌ في المعنَى منه، هذا تحريرُ النَّقْلِ عن الإمامَيْنِ، فاجْتَنِبْ ما وَقَعَ للنَّاقِلِينَ عنهما. وقالَ الأَصْفَهَانِيُّ بعدَ حِكَايَتِه المَذَهبَيْنِ الأولَيْنِ: والثالثُ: اخْتِيارُ المُصَنِّفُ وإمامُ الحرمَيْنِ، أنَّه مَنْقُولٌ شَرْعاً لكنْ إلى مَعَانٍ هي مجازاتٌ لُغَوِيَّةٌ، يعنِي مِن بابِ التَّعْبِيرِ بالجُزْءِ عن الكُلِّ في الصلاةِ؛ لأنَّ الصلاةَ جُزْؤُهَا الدُّعَاءُ، قالَ: وهو يُخَالِفُ القَولَيْنِ الأولَيْنِ. أمَّا مذهبُ القَاضِي؛ فلأنَّه يَقُولُ: ما نَقَلَتْ أَصْلاً. وأمَّا مذهبُ المُعْتَزِلَةِ؛ فلأنَّهم لم يَشْتَرِطُوا في النَّقْلِ كونُ المَنْقُولِ إليه مَجَازاً لُغَوِيًّا، والحاصلُ أنَّ الألفاظَ المُتَدَاولِةُ شَرْعاً، وقد اسْتُعْمِلَتْ في غيرِ مَعَانِيها اللُّغَوِيَّةِ، هل هي بَاقِيَةٌ على أَوْضَاعِها اللُّغَوِيَّةِ، ولم تَنْقُلْ - وهو قولُ القاضِي - أو نَقَلَها إلى غيرِ مَعانِيها؟ والقائِلُونَ به اخْتَلَفُوا: فمِنْهم مَن قالَ: إلى مَجَازَتِها اللُّغَوِيَّةِ كما اختارَ الإمَامَانِ، ومنْهُم مَن قالَ: إلى غيرِ معانِيها على الإطلاقِ، وهو قولُ المُعْتَزِلَةِ، فتَحَصَّلَ أنَّ المُثْبِتِينَ للحقيقةِ الشَّرْعِيَّةِ، هُم المُعْتَزِلَةُ؛ لأنَّهم لم يَشْتَرِطُوا في النَّقْلِ المُنَاسَبَةَ. وأمَّا الإمامانِ ومَن وَافَقَهُمَا، فاشْتَرَطُوا المُنَاسَبَةَ لمَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةُ، فتَكُونُ عندَهُم في انتفاءِ النَّقْلِ مجازاتٌ لُغَوِيَّةٌ بسبَبِ عَدَمِ اشْتِهَارِها، ثمَّ غَلَبَتْ في المعانِي الشرعيَّةِ لكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِها في الشَّرْعِ، فصَارَتْ حقيقةٌ عُرْفِيَّةٌ لهم. وفائدةُ هذا أنَّا إذا وَجْدَنَاهَا في كلامِ الشارعِ مُجَرَّدَةً عن القَرِينَةِ مُحْتَمِلَةٍ للمعنَى اللُّغَوِيِّ والشَرْعِيِّ، فعلامُ تُحْمَلُ. وأمَّا في استعمالِ حَمْلَةِ الشَّرْعِ فتُحْمَلُ على الشرعِيِّ بلا خلافٍ؛ لأنَّ الحقيقةَ اللغويَّةَ مهجورةٌ عندَهم، فلا يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ عندَ اسْتِعْمَالِهم قَصْدَها الْبَتَّةَ، ويَنْبَغِي تَنْزِيلُ إطلاقِ المُصَنِّفِ على ما ذَكَرْنَا، وبهذا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ لكَ فََسَادُ ما وَقَعَ في الشَّرْحِ في هذه المسألَةِ.

ص: (ومعنَى الشرعِيِّ: ما لم يُسْتَفَدْ اسمُه إلاَّ من الشرْعِ، وقد يُطْلَقُ على المَنْدُوبِ والمُبَاحِ). ش: الحقيقةُ الشرعيَّةُ هي: اللفْظَةُ التي اسْتُفِيدَ وَضْعُها لمعنًى من جِهَةِ الشَّرْعِ، فخَرَجَ بالقَيْدِ الأخيرِ: الحقائقُ اللُّغويَّةُ والعُرْفِيَّةُ، ودَخَلَ فيه المَنْقُولُ الشرعيُّ، وهو اللفْظُ الموضوعِ لمعنًى، ثمَّ نُقِلَ في الشَّرْعِ إلى معنًى ثانٍ لمُنَاسَبَةٍ بينَهُما، وغَلَبَ اسْتِعْمَالُه في الثاني، والمَوْضُوعاتِ المُبْتَدِأَةِ الشرعيِّةِ، وهي الألفاظُ التي وَضَعَها الشارِعُ للمَعَانِي الشرعيَّةِ من غيرِ اعتبارِ نَقْلٍ من اللُّغَةِ أو من غيرِ اعتبارِ المُنَاسَبَةِ، قالَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ: وأَقْسَامُها المُمْكِنَةُ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُها: أنْ يَكُونَ اللفظُ والمعنَى مَعْلُومَيْنِ عندَ أهلِ اللُّغَةِ، لكنَّهم لم يَضَعُوا ذلك الاسمَ بذلك المعنَى. وثانيها: أنْ يكونَا مَجْهُولَيْنِ. والثالثُ: أنْ يكونَ اللفظُ مَعْلُوماً لهم دونَ المعنَى. ورابِعُها: عَكْسُه. قالَ: والمَنْقُولَةُ الشرعيَّةُ، من هذه الأقسامِ إنَّما هي الأوَّلُ والثالثُ. قالَ: والأَشْبَة= وقوعُ هذه الأقسامِ كلِّها.

تَفْرِيعاً على القولِ بالحقَيقَةِ الشرعيَّةِ، وصَرَّحَ الأَصْفَهَانِيُّ بأنَّ النِّزَاعَ في الأقْسَامِ كُلِّها، وهو ظاهرٌ كلامُ (المحصولِ)، والتحقيقُ أنَّ هذا التفسيرَ الشرعيِّ وشمولَه لهذه الأقسامِ، إنَّما يَصِحُّ على مذهبِ المُعْتَزِلَةِ، وكذلك صَرَّحَ أَبُو الحُسَيْنِ في (المُعْتَمَدِ) بأنَّه ذَكَرَ هذا التفسيرُ، ثم قالَ: فيَدْخُلُ فيه كذا إلى آخَرِه. أمَّا إذا قًُلْنَا بأنَّها مَجازاتٌ لُغَوِيَّةٌ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ ذلك اللفظُ والمعنَى من حيثُ هو مجازٌ لُغَوِيٌّ، فعَلَمَها أهلُ اللًُّغَةِ، لاسْتِحَالَةِ نَقْلِ الشَّرْعِ لَفْظَةً لُغَوِيَّةً إلى معنًى هو مجازً لُغَةً، ولا يَعْلَمُها أهلُ اللُّغَةِ، ولا يَخْفَى بعدَ هذا ما على المُصَنِّفِ في هذا التفسيرِ من التقديمِ إنْ كانَ حَقُّه تَقْدِيمَ هذا على ما قبلَه؛ لأنَّ التصديقَ مسبوقٌ بالتَّصَوُّرِ، وحيثُ ذَكَرَ الشَّرْعِيَّ فليَذْكُرُ الدِّينِيَّ، وقد سَبَقَ تَفْسِيرُه. وقولُه: (يُطْلَقُ) هذا بالنَّسْبَةِ

إلى عُرْفِ الفُقَهاءِ لا الأصُوليِّينِ، لكنْ قد يَتَوَقَّفُ في إطْلاقِه على المباحِ، ولهذا قالَ إمامُ الحرمَيْنِ في (الأساليبِ): الذي يَعْنِيهِ الفَقِيهُ بالشرعيِّ هو: الواجبُ والمندوبُ. وقالَ النَّوَوِيُّ في صلاةِ الجَمَاعَةِ من (الرَّوْضَةِ) قولُهم: لا تُشْتَرَطُ الجَماعَةُ في النوافلِ المُطْلَقَةِ؛ أي: لا تُسْتَحَبُّ، فلو صَلاَّهَا جَماعَةٌ جَازَ، ولا يُقالُ: مَكْرُوهَةٌ. ص: (المَجَازُ: اللَّفْظُ المُسْتَعْمَلُ بِوَضْعٍ ثَانٍ لِعَلاَقَةٍ). ش: خَرَجَ بِالوَضعِ الثَّانِي، الحَقيقةُ، وَبِالقَيدِ الثَّالثِ، العَلَمُ المنقولَُ، كَبَكرٍ وكَلْبٍ، فإنَّهُ لَيسَ بِمَجَازٍ؛ لأنَّهُ لَم يُنقَلْ لِعَلاقةٍ، ومثلُ استِعمالِ لفظِ الأَرضِ فِي السَّمَاءِ، ويَشمَلُ هذا الحدُّ أنواعَ المجازِ الثَلاثَةِ منَ اللغَويِّ والشَّرعِيِّ والعُرفِيِّ، فاللفظُ

الوَاحدُ بِالنِّسبَةِ إلى المَعنَى الوَاحِدِ، قَدْ يكونُ حقيقةً باصطِلاحٍ، مَجَازاً باصطِلاحٍ آخَرَ، كَلفظِ الصلاةِ مَثلاً، بِالنسبةِ إلى الدُّعاءِ، فِإنَّه حَقيقةً بِاصطِلاحِ أهلِ اللغةِ، مَجازاً باصطِلاحِ أهلِ الشَّرعِ، وبِالنسبةِ إلى الأفْعَالِ المَخصُوصةِ بِالعَكسِ، وَعِبَارَةُ ابنِ الحَاجِبِ: في غيرِ وضعٍ أوَّلٍ، وهُوَ يَقتضي أنَّ المَجَازَ غَيرُ مَوضوعٍ، ولذلكَ عَدَلَ المُصَنِّفُ إلى قَولِهِ: (بِوَضِعٍ ثَانٍ) وَعِبَارَتُه أيضاًً على وَجهٍ يَصِحُّ، وعَدَلَ عَنه المُصَنِّفُ إلى قولِه: (لِعَلاقَةٍ) واسْتَحسَنَ العَضَدُ تَعبيرَ ابنِ الحَاجِبِ على هذه العِبارَةِ لانْطِبَاقَهِ على مَذهَبَي وجوبِ النَّقلِ فيه والاكتِفَاءِ بِالعَلاقَةِ، فكانَ أحْسَنَ مِمَّا يَختَصُّ بِمَذهَبٍ. ص: (فَعُلِمَ وُجُوبُ سبقِ الوضعِ ـ وهُوَ اتِّفاقٌ ـ لا الاسْتِعمَالُ، وهُو المُختَارُ، قيلَ: مُطْلَقاً، والأصَحُّ: لِمَا عَدَا المَصدَرُ). ش: عُلِمَ مِن قَولِه: بِوَضعٍ (ثانٍ) أنَّ المَجَازَ يَستلزِمُ وَضعاً سابِقاً عَل يه، ومِن ثَمَّ كانَ الْلَفظُ في أولِ الوضعِ قَبلَ استِعمَالِه فيما وُضِعَ لَه ـ ليسَ بِحقيقةٍ ولا مَجَازٍ، وهذا لا خِلافَ فيه، لَكنَّه لا يَستَلزِمُ سَبقَ الحَقيقةِ، وهوَ مُرَادُ المُصَنِّفِ بِالاستِعمَالِ، وَهِيَ مَسأَلةٌ: الخِلافُ في أنَّ المَجَازَ هَلْ يَستَلْزِمُ الحَقيقةَ؟ بِمَعنَى أنَّ استِعمالَ اللفظِ فِي غَيرِ وَضعٍ أَوَّلٍ، هَلْ يَكُونُ مَشرُوطاً بِاستعمالِه في وضْعٍ أوَّلٍ قبلَ هذا الاستعمالِ أمْ لا، بل يَجُوزُ أنْ يُسْتَعْمَلَ في الوضْعِ الثاني، ولا يُسْتَعْمَلَ فيما وُضِعَ له أصْلاً؟ والمُختارُ عندَ الآمِدِيِّ والمُصَنِّفِ عدَمِ الاسْتِلْزامِ، عَزَاهُ في (البديعِ) إلى

المُحَقِّقينَ، وذَهَبَ أَبُو الحُسَيْنِ البَصْرِيُّ وابنُ السَّمْعَانِيِّ والإمامُ الرَّازِيُّ إلى الاستلزامِ، مُحْتَجِّينَ بأنَّه لو لم يَسْتَلْزمْ لخَلاَ الوضْعُ عن الفائدةِ، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ الفائدةَ غيرُ مُنْحصرَةٌ في استعمالِ اللفظِ فيما وُضِعَ له، بل هي حاصِلَةٌ بالتجوُّزِ. تنبيهٌ: تفريقُ المُصَنِّفِ هنا بينَ الوضْعِ والاستعمالِ هو الصوابُ، وفي كلامِ القِرافِيِّ ما يُخَالِفُه، فإنَّه لمَّا تَكَلَّمَ على أنَّ الوضْعَ جَعَلَ اللفظَ دليلاً على المعنَى، قالَ: ويُطْلَقُ على غَلَبَةِ الاستعمالِ، وعلى أصلِ الاستعمالِ من غيرِ غَلَبةٍ، قالَ: وهذا هو مُرادُ العلماءِ بقولِهم: هل من شَرْطِ المجازِ الوضعُ أم لا؟ قولانِ: يُريدُونَ بالوضْعِ ههُنا مُطْلَقُ الاستعمالِ، ولو مَرَّةً يَسْمَعُ من العربِ استعمالَ ذلك النوعِ من المجازِ، فيَحْصُلُ الشرْطُ.

ص: (وهو واقعٌ خلافاً للأستاذِ والفارسيِّ مُطْلَقاً، والظَّاهِرِيَّةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ). ش: النقلُ عن الأستاذِ أَبِي إِسْحَاقَ مَشهورٌ، لكنْ قالَ الإمامُ والغزاليُّ: الظَّنُّ بالأستاذِ أنَّه لا يَصِحُّ عنه، ولعَلَّهُ أَرَادَ أنَّه ليسَ بثابتٍ ثُبوتُ الحقيقةِ. وأمَّا الفارسيُّ فالمرادُ أَبُو عَلِيٍّ النَّحْوِيُّ، وعُمْدَةُ المُصَنِّفِ فيه نَقَلَ ابنُ الصَّلاَحِ في فوائدِ الرحْلةِ، وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ تلميذَه أَبَا الفَتْحِ بنَ جِنِّي أَعْرَفُ بمَذْهَبِه، وقد نُقِلَ عنه في كتابِ (الخصائصِ) عَكْسُ هذا المقالَةِ، أنَّ المجازَ غالبٌ على اللغاتِ كما هو مذهبُ ابنُ جِنِّي، والنقلُ عن الظاهريةِ بمَنْعِه في القرآنِ والحديثُ، نَقَلَه الإمامُ عن ابنِ دَوادَ الظَّاهِرِيُّ، وزَعَمَ الأصْفَهَانِيُّ أنَّه تَفَرَّدَ بنَقْلِه في الحديثِ لكنْ في (الإحكامِ) لابنِ

حَزْمٍ، أنَّ قَوْماً مَنَعُوهُ في القرآنِ والسُّنَّةِ. وقالَ ابنُ الحاجبِ في بابِ الإضافةِ من (شَرْحِ المُفَصَّلِ): ذَهَبَ القاضِي إلى أنَّه لا مجازَ في القرآنِ، وأنَّ مثلَ قولُه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} محمولٌ على أنَّ القريةَ تُطْلَقُ للأهلِ والجدارِ جميعاً على وجْهِ الاشتراكِ، وليسَ بجَيِّدٍ؛ لأنَّه مَعْلومٌ أنَّ القريةَ موضوعةٌ للجُدْرانِ المخصوصَةِ، دونَ الأهلِ، فإذا أُطْلِقَتْ على الأهلِ، لم تُطْلَقْ إلاَّ بقيامِ قرينةٍ تَدُلُّنَا على المحذوفِ، ولو كانتْ مُشْترِكَةً لم تَكُنْ كذلك.

ص: (وإنَّما يَعْدِلُ إليه لثِقَلِ الحقيقةِ، أو بشَاعَتِها، أو جَهْلِها، أو بلاغَتِه، أو شُهْرَتِه أو غيرِ ذلك). ش: للعدولِ عن استعمالِ الحقيقةِ إلى استعمالِ المجازِ أسبابٌ: أحدُها: ثِقَلُ لفظِ الحقيقةِ على اللسانِ، كالحنفقيق=؛ اسمٌ للداهيَةِ، فيَعْدِلُ إلى النائِبَةِ أو الحادثَةِ ونحوِه. الثَانِي: بشاعَةُ لَفظِهَا، كَمَا يُعَبَّرُ بالغائِطِ عن الخَرَاةِ. الثَالِثُ: أنْ لا يَعْرِفَ المُتكَلِمُ والمُخَاطَبُ لَفظَه الحَقيقي. الرَّابِعُ: بَلاغَةُ لَفظِ المجازِ لصَلاحِه للسَّجْعِ والتجْنِيسِ وسائرِ أصْنافِ البديعِ دونَ الحقيقةِ. الخامسُ: شُهْرَتُه لكونِ المجازِ أَعْرَفُ من الحقيقةِ وأَشَارَ بقولِه: (وغيرُ ذلكَ) إلى أنْ لا يكونَ للمعنَى الذي عَبَّرَ بالمجازِ لَفْظٌ حقيقيٌّ، أو يكونَ معلوماً عندَ المُخاطَبِينَ، ويَقْصِدانِ إخفاءَهُ على غيرِهما.

ص: (وليسَ غالباً على اللغاتِ خلافاً لابنِ جِنِّي). ش: قالَ في (المحصولِ) ادَّعَى ابنُ جِنِّي أنَّ المجازَ غالبٌ على كلِّ لغةٍ، سواءٌ لغةَ العربِ وغيرُها، فإنَّ قولُنا: قَامَ زيدٌ، مفيدُ المَصْدَرِ، وهو جنسٌ يَتَناولُ جميعَ أفرادِ القيامِ، وهو غيرُ مرادٍ بالضرورةِ. قالَ: وهذا ركيكٌ، فإنَّ المصدرَ لا يَدُلُّ على أفرادِ الماهيَّةِ بل على القدْرِ. قالَ: وقولُك: ضَرَبْتُ زيداً، مجازاً من جِهَةٍ أُخْرَى، فإنَّك إنَّما ضَرَبْتَ بعضَه لا كلَّه، واعْتَرَضَ عليه تَلْمِيذُه عبدُ اللهِ بنُ متويه= المُتَكَلِّمِ، بأنَّ المُتَأَلِّمَ بالضربِ كلُّه لا بعضَه، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه إنَّما التَزَمَ المجازُ في لفظِ الضربِ لا في لفظِ التأَلُّمَ، والضربُ: إمساسُ جِسْمٍ بعنفٍ، والإمساسُ حكْمٌ يَرْجِعُ إلى الأعضاءِ لا إلى الجُمْلَةِ، والتَّأَلُّمُ أَثَرُ ذلك الإمساسِ. ص: (ولا مُعْتَمَدٌ حيثُ تَسْتَحيلُ الحقيقةُ خلافاً لأَبِي حَنِيفَةَ). ش: ومعنَى هذه المسأَلَةِ: أنَّه إذا اسْتَعْمَلَ لفظٌ وأُرِيدَ به المعنَى المَجازِيُّ، هل يُشْتَرَطُ إمكانُ المعنَى الحقيقيُّ بهذا اللفظِ أم لا؟ فعِنْدَنَا يُشْتَرَطُ، فحيثُ تُمْنَعُ الحقيقةُ لا يُصَحُّ المجازُ، وعندَه: لا، بل يَكْفِي صِحَّةُ اللفظِ إعْمالاً للكلامِ ما أَمْكَنَ، والحاصلُ أنَّ اللفظَ عندَنا إذا كانَ مُحالاً بالنسبةِ إلى الحقيقةِ لَغْوٌ، وعندَ أَبِي حَنِيفَةَ يُحْمَلُ على المجازِ، وعلى هذا الأصلِ مسائلٌ بينَنا وبينَهم، منها: إذا قالَ لغُلامِه الذي هو أسَنُّ منه: هذا ابْنِي، فلا يَصْلُحُ عندَنا مجازاً عن العتقِ؛ لأنَّ اللفظَ إنَّما يَصْلُحُ مجازاً إذا كانَ له حقيقةٌ، وهذا اللفظُ في هذا المَحَلِّ لا حقيقةَ له، فكانَ لَغْواً وإنْ حَمَلْنَاهُ

على الإضمارِ؛ أي: مثلَ ابْنِي؛ أي: في الخيرِ، فعَدَمُ عَتْقِه أَظْهَرُ، ولو قالَ له: أَوْصَيْتُ له بنَصِيبِ ابنِي فوجهانِ؛ أصَحُّهُما عندَ العراقيين= والبَغَوَيِّ: بطلانُ الوصيَّةِ لورُودِها على حقِّ الغَيْرِ، وعَزَاهُ الرَّافِعِيُّ إلى أَبِي حَنِيفَةَ، وقد يُسْتَشْكَلُ على أصْلِه هنا. والثاني: وبه قالَ مالكٌ: إنَّها صحيحةٌ، والمعنَى: بمثلِ نَصِيبِ ابنِي، ومثلُه كثيرٌ في الاستعمالِ، وصَحَّحَهُ الإمامُ والرَّوَيَانِيُّ وغيرُهما، ويَجْرِيانِ فيما لو قالَ: بِعْتُكَ عَبْدِي بما بَاعَ فُلانٌ فَرَسَه، وهما يَعْلَمَانِ قَدْرَهُ. ص: (وهو والنَّقْلُ خلافُ الأصلِ). ش: فيه مسألَتَانِ: إحدَّاهُما: أنَّ المجازَ خلافُ أصْلِه، والأصْلُ يُطْلَقُ ويُرَادُ به الغالبُ، وتارةً يُرادُ به الدليلُ، فإنْ كانَ الأوَّلُ فالخلافُ فيه معَ ابنِ جِنِّي وقد سَبَقَ، وإنْ كانَ الثاني فالتَّعَرُّضُ به أنَّ الأصْلَ الحقيقةُ والمجازُ، وهي خلافُ الأصلِ، فإذا دَارَ اللفظُ بينَ احتمالِ المجازِ واحتمالِ الحقيقةِ، فاحتمالُ الحقيقةِ أَرْجَحٌ؛ لأنَّ الحقيقةَ لا تَخِلُّ بالفهمِ بخلافِ المجازِ، فيكونُ مَرْجُوحاً. الثانيةُ: النقلُ خلافَ الأصلِ، بمعنَى إذا دَارَ اللفظُ بينَ أنْ يكونَ مَنْقولاً وبينَ أنْ يكونَ مُبْقَى على الحقيقةِ اللُّغويَّةِ ـ كانَ الثاني أوْلَى، لتَوَقُّفِ الأوَّلِ على الوضْعِ اللغويِّ، ثمَّ نَسَخَه، ثمَّ وَضَعَ جديدٌ، ولأنَّ الأصْلَ بقاءُ ما كانَ على ما كانَ،

فإنْ قيلَ: لم يَتَقَدَّمِ المُصَنِّفُ ذِكْرُ النقْلِ حتى يَذْكُرَ تَعارُضُه بخلافِ صاحبِ (المنهاجِ) فإنَّه ذَكَرَه في التقسيمِ السابقِ، قُلْنَا: بل الخلافُ في الحقيقةِ الشرعيَّةِ هو خلافٌ في النَّقْلِ، فإنَّ القاضِيَ يَمْنَعُ نَقْلَ اللفظِ اللغويِّ إلى غيرِ معناهُ البَتَّةَ، والجمهورُ يُجَوِّزُونَه، وهذه المسألةُ لا تَجِيءُ على رَاي القاضِي لإنْكَارِه النَّقْلُ، وإنَّما تَجِيءُ على رَاي الأخيرَيْنِ. ص: (وأوْلَى من الاشْتراكِ). ش: فيه مسألتان: إحدَّاهُما: إذا تَعَارَضَ المجازُ والاشتراكُ، فالمجازُ أولى، لكَثْرَتِه ولاستعمالِ اللفظُ دائماً في الحقيقةِ، معَ عَدَمِ القرينةِ، وفي المجازِ معها بخلافِ الاشتراكِ، فإنَّه يَخِلُّ بالفَهْمِ حيثُ لا قَرينةَ. وقالَ قومٌ: المُشْتَرِكُ أوْلَى، لتَوَقُّفِ المجازِ على وضعَيْنِ وعلاقَةٌ دونَ المُشْتَرِكِ الحَاصِلُ بوَضْعٍ واحدٍ. الثانيةُ: تعارضُ النقلِ والاشتراكِ، فالجمهورُ على أنَّ النقْلَ أوْلَى؛ لأنَّ معنَى

المنقولِ واحدٌ بخلافِ المشتركِ، فإنَّه مُتَعَدِّدُ المعانِي، فيَخِلُّ بالفَهْمِ حتى تَرَّدَ القرينةُ. وقالَ قومٌ: المشتركُ أوْلَى لتوقُّفِ النقلِ على النسخِ؛ أي: قد يَصِيرُ إلى النسخِ، والمشتركُ أوْلَى منه، والتوقُّفُ على المرجوحِ أوْلَى بأنْ يكونَ مَرْجُوحاً، وأُجِيبَ بأنَّ الشارعَ إذا نَقَلَ اشْتَهَرَ المعنَى المنقولُ إليه. ص (وقيلَ: من الإضْمارِ). ش: اخْتَلَفُوا في تَعارُضِ المجازِ والإضمارِ على ثلاثةِ مذاهبَ: فقالَ الإمامُ في (المَعالِمِ): المجازُ أوْلَى لِكَثْرَتِه، ولأنَّ إلْحَاقَ الفردِ بالأعَمِّ الأغْلَبِ أوْلَى، وقيلَ: الإضمارُ أوْلَى؛ لأنَّ قَرِينَتَه مُتَّصِلَةٌ، وقيلَ: بتَساوِيهِما، لاحتياجِ كلٍّ منهُما إلى ثلاثِ قرائِنَ، وجَزَمَ به في (المحصولِ) وتَابَعَه البَيْضَاوِيُّ، وعلى هذا فيكونُ اللفظُ مُجْمَلاً حتى لا يَتَرَجَّحَ أحدُهما على الآخَرِ إلا بدليلٍ، ومثَّلَ بعضُهم المسألَةَ بقولِه لعَبْدِه الذي أكْبَرُ منه سِنًّا: هذا ابنِي وقد سَبَقْتُ. واعْلَمْ أنَّ

كلامَ المصنِّفِ يَقْتَضِي جَريانَ الخلافِ في تَعارُضِ النقلِ والإضمارِ، والمعروفُ أوْلَوِيَّةٌ: الإضمارُ؛ لأنَّه من بابِ البلاغةِ، بخلافِ النقلِ، ولأنَّ النقلَ يَقْتَضِي النسخَ بخلافِ الإضمارِ، ولأنَّ النقلَ أنْكَرَه كثيرٌ من المُحَقِّقِينَ وأَجْمَعُوا على الإضْمارِ. ص: (والتخصيصُ أوْلَى منْهُما). ش: أي: من المجازِ ومن النقلِ، أمَّا كونُه أوْلَى من المجازِ، فلأنَّ دلالةَ العامِّ على أفْرادِهِ بعدَ التخصيصِ يَحْتَمِلُ أنْ تكونَ حقيقةٌ، ودلالةُ المجازِ على مَعْناهُ المجازيِّ لا تَحْتَمِلُ ذلك لكونِه خلافَ الإجماعِ، والحقيقةُ راجِحَةٌ على المجازِ، والمُحْتَمَلُ للراجِحِ راجِحٌ، فيكونُ التخصيصُ راجحاً، كقولِنَا: العمرةُ فَرْضٌ لقولِه تعالَى: {وَأَتَمِّوُا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ}، والأمرُ للوجوبِ فيقولُ المالكيُّ: تخصيصُ النصِّ بالحجِّ والعمرَةِ المشروعِ فيهما؛ لأنَّ استعمالَ الإتمامِ في الابتداءِ مجازٌ، والتخصيصُ أوْلَى من المجازِ، وأمَّا كونُه أوْلَى من النقلِ، فلأنَّ التخصيصَ خيرٌ من المجازِ والمجازُ خيرٌ من النقلِ كما بَيَّنَّا، والخيرُ من الخيرِ خيرٌ، لقولِ المالكيِّ: يَلْزَمُ الظِهارُ من الأمَةِ، لقولِه تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} فإنْ قالَ الشافعيُّ: هو منقولٌ في العُرْفِ للحرَّةِ، فلا يَتَناولُ مَحَلَّ النزاعِ، ولو لم يكنْ منقولاً لَلَزِمَ أنْ يكونَ مُخَصَّصاً بذواتِ المحارمِ، فإنَّهم من نِسائِهم ولا يَلْزَمُ فيهنَّ ظهارٌ، كانَ للمالكيِّ أنْ يقولَ: إذا تَعَارَضَ النقلُ والتخصيصُ، فالتخصيصُ أوْلَى، وعُلِمَ منه أنَّه أوْلَى من الإضْمارِ؛ لأنَّ التخصيصَ خيرٌ من المجازِ، والمجازُ مساوٍ= للإضمارِ، والأوْلَى، من المساوِي أوْلَى، كقولِ المالكيِّ: الكلبُ طَاهِرٌ، لقولِ اللهِ تعالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}. والضميرُ عامٌّ

في جميعِ الجوارحِ، فيَجُوزُ أكلُّ أيُّ مَوْضِعٍ فيه، عَمَلاً بالظاهرِ. فيقولُ الشافعيُّ: يَلْزَمُكُمْ جوازُ ما أَمْسَكَ بعدَ القُدْرَةِ عليه من غيرِ زكاةٍ، وليسَ كذلك فيَلْزَمُ التخصيصُ بل هنا إضمارٌ تقديرُه: كُلُوا من حَلالِ ما أَمْسَكْنَ، وكونُ موضعٍ فيه من الحَلالِ مَحَلَّ النزاعِ. فللمَالِكِيِّ أنْ يقولَ: ما ذَكَرْنَاهُ يَلْزَمُ منه التخصيصُ وعلى ما ذَكَرْتُمُوهُ يَلْزَمُ الإضمارُ، والتخصيصُ أوْلَى. تنبيهٌ: إنَّما اقْتَصَرَ المصنِّفُ على هذه الخمسةِ، أعنِي المجازَ، والنقلَ، والاشتراكَ، والإضمارَ، والتخصيصَ؛ لأنَّها أصْلُ ما يُخَلُّ بالتَّفَاهُمِ، ثمَّ يَقَعُ التعارضُ بينَ الاشتراكِ وبينَ الأربعَةِ الباقِينَ، ثمَّ بينَ النقلِ وبينَ الثلاثةِ الباقيةِ، ثمَّ بينَ المجازِ وبينَ الوجْهَيْنِ الباقيَيْنِ، ثمَّ بينَ الإضمارِ والتخصيصِ. ص: (وقد يكونُ بالشَّكْلِ أو صِفَةً ظاهرةً، أو باعتبارِ ما يكونُ قَطْعاً أو ظَنًّا لا احتمالاً، وبالضِّدِّ والمجاورةِ، والزيادةِ والنقصانِ، والسببِ للمُسَبِّبِ، والكلِّ للبعْضِ، والمُتَعَلِّقِ للمُتَعَلِّقِ بالعكوسِ، وما بالفِعْلِ على ما بالقُوَّةِ). ش: المجازُ لا بُدَّ فيه من العَلاقَةِ، بينَه وبينَ الحقيقةِ ولا يَكْفِي مُجَرَّدُ الاشتراكِ في أَمْرٍ ما، وإلاَّ لجَازَ إطلاقُ كلِّ شيءٍّ على ما عَدَاهُ، ويُتَصَوَّرُ من وجوهٍ: أحدُها: الاشْتراكُ في الشكْلِ، كإنسانٍ للصورةِ المَنْقُوشَةِ على الجدارِ.

والثاني: الاشتراكُ في الصفَةِ، ويَجِبُ أنْ تكونَ ظاهرةٌ ليَنْتَقِلَ الذِّهْنُ إليها، كإطلاقِ الأسدِ على الشجاعِ بخلافِ إطْلاقِهِ على الأُبْخَرِ=. الثالثُ: باعتبارِ ما يكونُ كذا أطْلَقُوا هنا، وهو إنَّما يكونُ فيما إذا تَحَقَّقَ المثالُ إمَّا قَطْعاً، كقولِه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. أو غالباً كما في تَسْمِيَةِ العَصيرِ خَمْراً في قَوْلِهِ تعالَى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً}؛ لأنَّه في الغالبِ يَصِيرُ خَمْراً، ولو قالَ المصنِّفُ: أو غالباً بَدَلٌ= أو ظَنًّا لكانَ أَوْلَى. واعْلَمْ أنَّ الأصْحابَ وإنْ لم يَذْكُرُوا هذا القَيْدَ هنا لكنَّهم ذَكَرُوه في بابِ التأويلِ في كلامِهم معَ الحَنَفِيَّةِ، في ((أَيُّمَا امْرَأَةٌ نَكَحَتْ نَفْسَهَا فَنِكَاحُهَا بِاطِلٌ)). حيثُ قالُوا: آيِلٌ للبُطْلانِ باعتراضِ الوليِّ،

قالَ أصْحَابُنَا: المآلُ إلى البطلانِ هنا ليسَ قَطْعاً ولا غالباً الذي هو شَرْطٌ في استعمالِ هذا النوعِ، بل إطْلاقُ البطلانِ باعتبارِ ما يَؤُولُ إليه في المَحَلِّ المذكورِ نادِرٌ. وحُمِلَ كلامُ الشارعِ الخارجِ مَخْرَجَ التعْمِيمِ عليه لا يَجُوزُ، فلو قالَ المصنِّفُ بَدَلَ قولِه: أو ظَنًّا لا احْتمالاً، غالباً لا نادراً لكانَ أوْلَى، وشَرَطَ الكَيَا الهَرَّاسُ: أنْ يكونَ المآلُ مَقْطُوعاً به، ولا يَكْفِي الظَّنُّ، وإطلاقُ الجمهورِ يَقْتَضِي أنَّه لا فَرْقَ، فلهذا سَوَّى المصنِّفُ بينَهُما، نَعَمْ، لا يَكْفِي الاحتمالُ المرجوحُ بالاتفاقِ، وحَقُّهُ إذا زَادَ هذا الَقيْدُ على المُصَنِّفِينَ أنْ يقولَ بل بنَفْسِه كالحُرِّ ليَخْرُجَ العَبْدُ، فإنَّه لا يُطْلَقُ عليه حُرًّا باعتبارِ ما يُؤَوَّلُ إليه. الرابعُ: تَسْمِيَةُ الشيءِ باسمِ ضِدِّه كقولِه تعالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}. أطْلَقَ على الجزاءِِ سَيِّئَةً معَ أنَّه ليسَ سَيِّئَةً. الخامسُ: تَسْمِيَةُ الشيءِ باسمِ ما يُجَاوِرُه كإطْلاقِ لفظِ الراويةِ على القُرْبَةِ التي هي ظرْفُ الماءِ فإنَّ الراويةَ لغَةُ اسمٍ للجَمَلِ الذي يُسْقَى عليه، ثمَّ أَطْلَقَ على القُرْبَةِ لمُجَاوِرَتِها.

السادسُ: الزيادَةُ، ومَثَّلُوه بقولِه تعالَى: {لَيْسَ كَمَثْلِهِ شَيْءٌ} فإنَّ الكافَ زائدةٌ، والتقديرُ ليسَ مثلَ مثْلِه شيءٌ، وإلاَّ لَزِمَ المثلُ وهو مُحالٌ، ويَجُوزُ أنْ تكونَ غيرَ زائدةٍ ولاَ يَلْزَمُ المحذورُ، لوجوهٍ: أحدُها: أنَّه يَجُوزُ سَلْبُ الشيءِ عن المعْدومِ، كما يَجُوزُ سَلْبُ الكتابَةِ عن زيدٍ وهو معدومٍ. وثانيها: أنَّ المثْلَ يَاتِي بمعنَى الشَّبَهِ كالشبهِ، والشبَهُ والمِثْلُ: الصفةُ، قالَ تعالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}؛ أي: صِفَتُها، والتقديرُ ليسَ كصِفَتِه شيءٌ. ثالثُها: أنْ يكونَ لَفْظُ المِثْلِ كهُوَ، في قَوْلِهِم: مِثْلُك لا يَبْخَلُ؛ أي: أنتَ لا تَبْخَلُ فلا يُرادُ غيرُ ما أُضِيفَ إليه، وإليه، أَشَارَ الشاعرُ بقولِه: ولم أَقُلْ مِثْلُكَ نَعْنِي بِه غَيْرَكَ ... يَا فَرْداً بِلاَ مُشَبَّهٍ وهنا ضَرْبٌ من الكنايةِ التي هي أَبْلَغُ من التصريحِ، لتَضَمُّنِها إثباتُ الشيءِ

بدَلَيلِه، فيكونُ المعنَى ليسَ كهو شيءٌ. السابعُ: النقصانُ في اللفظِ، كقولِه تعالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}؛ أي: أهْلَ القريةِ، فإنَّ القريةَ عبارةٌ عن الأبْنِيَةِ وهي لا تُسْأَلُ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: يَخْلُقُ اللهُ تعالى فيها قُدْرَةً على الكلامِ، ويكونُ ذلك مُعْجِزَةً لذلك النبيِّ، ويَبْقَى اللفظُ على حقيقتِهِ، قالَ الشيخُ عِزُّ الدِّينِ في كتابِ (المجازِ): ليسَ حَذْفُ المضافِ من المجازِ؛ لأنَّ المجازَ استعمالُ اللفظِ في غيرِ مَوْضِعِه، والكلمةُ المَحْذُوفَةُ ليسَتْ كذلك، وإنَّما التجوُّزُ في أنْ نُسِبَتْ إلى المُضافِ إليه ما كانَ مَنْسُوباً إلى المُضافِ فجَعَلَهُ من مَجازِ التَّرْكِيبِ العَقْلِي لا من اللُّغويِّ الإفراديِّ. الثامنُ: إطلاقُ السببُ على المُسَبِّبِ، سواءٌ كانَ السببُ فاعِليًّا كتِسْمِيَةِ المَطَرِ باسمِ السماءِ، أو مَاديًّا

كقولِك: سَالَ الوادِي، أو صُورِيًّا، كتِسْمِيَةِ القُدْرَةِ باليدِ، أو غَائِياً كتِسْمِيَةِ العِنَبِ خَمْراً. التاسعُ: عَكْسُه، كتِسْمِيَةِ المَرْضِ الشديدِ بالمَوْتِ. العاشرُ: إطلاقُ اسمُ الكلِّ على البعضِ، كقولِه تعالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}؛ أي: أَنَامِلَهُم. الحادي عَشَرْ: عَكْسُه، كقولِه للزنْجِيِّ أسْوَدٌ، معَ أنَّ فيه بياضٌ

أسنَانِه. الثاني عَشَرَ: تَسْمِي‍َةُ المُتَعَلِّقِ باسمِ المُتَعَلِّقِ، كتِسْمِيَةِ المَخْلُوقِ خَلْقاً قالَ اللهُ تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللهِ}. الثالثَ عَشَرَ: عَكْسُه كقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللهِ سِتًّا أَوْ سَبْعاً)). والمعنَى: تَحِيضِي ستًّا أو سَبْعاً وهو معلومُ اللهِ تعالى، وقد أَطْلَقَ عليه العِلْمَ، فقولُ المُصَنِّفُ، وبالعكوسِ راجِعٌ للثلاثَةِ الأخيرَةِ وقد بَيَّنَّاهُ. الرابعَ عَشَرَ:

إطْلاقُ ما بالفِعْلِ على ما بالقوَّةِ، كتَسْمِيَةِ الخَمْرِ حالَ كونِه في الدَّنِّ بالمُسْكِرِ، وقد يُقالُ: تَرْجِعُ هذه إلى قولِه أوَّلاً: باعتبارِ ما كانَ، لكنَّ الظاهرَ أنَّ ما صَنَعَه المصنِّفُ في حذْفِها أوْلَى، خلافاً للمُخْتَصِرِينَ؛ لأنَّهم جَزَمُوا بأنَّ إطلاقَ اللفظِ باعتبارِ ما كانَ مَجَازٌ، ثمَّ تَرْجَمُوا مَسْأَلَةَ إطلاقِ اسمِ الفاعل باعتبارِ الماضِي، وحَكُوا فيها الخلافَ، وهي عَيْنُ المسألَةِ المذكورةِ. ص: (وقد يكونُ في الإسنادِ خلافاً لقومٍ). ش: المجازُ إمَّا أنْ يكونَ في مُفْرداتِ الألفاظِ، كإطلاقِ الأسدِ على الشجاعِ، والحمارِ على البَلِيدِ ونحوِه، وهو ما سَبَقَ يُسَمَّى اللُّغَوِيُّ، وإمَّا أنْ يكونَ في تَرْكِيبِها، وهو أنْ يُسْنِدَ الفِعْلُ إلى غيرِ مَن يَصْدُرُ عنه بضَرْبٍ من التأويلِ، كقولِه تعالَى:

{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}. {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلَّنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}، فإنَّه اسْتَعْملَ كلُّ واحدَةٍ من ألفاظِه المفردَةِ في موضوعِه، لكنْ أُسْنِدَ الزيادَةُ والإضلالُ إلى الآياتِ والأصنامِ، فجَعَلَ المجازُ في الترْكيبِ، ويُسَمَّى: العَقْلِيُّ؛ لأنَّ التجوُّزَ فيه نسبةُ الفِعْلِ إلى غيرِ مَن صُدِرَ منه، وهو أَمْرٌ عَقْلِيٌّ لا وَضْعِيٌّ، وأَنْكَرَه السَّكَاكِيُّ، ورَدَّه إلى اللُّغَوِيِّ فيكونُ المَجازُ كلَّه لُغَوِيًّا، وتَبِعَهُ ابنُ الحَاجِبِ في أَمَالِيهِ ومُخْتَصَرِه الكبيرِ تَصْريحاً، واسْتَبْعَدَه في (الصغيرِ) لكنِ اخْتَلَفَا فيما هو، ويَتَلَخَّصُ في (أَنْبَتَ الرَّبِيع البقْلُ) أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحدُها: أنَّ المجازَ في (أَنْبَتَ) وهو المُسَبَّبُ العادِي، وإنْ كانَ وَضَعَه للسَّبَبِ الحقيقيِّ وهو رَايُ ابنُ الحَاجِبِ، فالمجازُ عندَه في الأفرادِ. الثاني: أنَّه في الرَّبِيع فإنَّه تَصَورٌ بصُورَةِ فاعلٍ حقيقيٍّ فأَسْنَدَ إليه ما يُسْنَدُ إلى الفاعلِ الحقيقيِّ وهو رَايُ السَّكَاكِيِّ إنَّه من الاستعارةِ بالكِنايةِ. الثالثُ: إنَّه في الإسنادِ وهو أنَّ كلَّ هيئةٍ تَرْكَيبَيْةٍ وُضِعَتْ بإزاءِ تأليفٍ مَعْنَوِيٍّ، وهذِه وُضِعَتْ لمُلابَسَةِ الفاعلِيَّةِ، فإذا اسْتُعْمِلَتْ لمُلابَسَةِ الظرفيَّةِ أو نحوِها، كانَتْ مَجَازاً وذلك نحوَ: صَامَ نَهارَه وقَامَ لَيْلَهُ، وهو رَأَيُ عبدُ القاهرِ.

والرابعُ: إنَّه تَمْثِيلٌ، فلا مَجازَ فيه في الإسنادِ ولا في الإفرادِ بل هو كلامُ أُورِدَ ليُتَصَوَّرَ معناهُ، فيَنْتَقِلُ الذِّهْنُ منه إلى إثباتِ اللهِ ليُصَدَّقَ فيه، وهو اختيارُ الإمامِ فَخْرِ الدِّينِ في (نِهايةِ الإيجَازِ) قالَ القاضِي عَضَدُ الدِّينِ: والحَقُّ أنَّها تَصَرُّفَاتٌ عَقْلِيَّةٌ ولا حَجْرَ فيها فالكلُّ مُمْكِنٌ، والنَّظَرُ إلى قَصْدِ المُتَكَلِّمِ. ص: (وفِي الأفعالِ والحروفِ وِفاقاً لابنِ عبدِ السلامِ والنقْشَوَانِيِّ، ومَنَعَ الإمامُ الحَرْفَ مُطْلقاً، والفعلُ والمُشْتَّقُ إلاَّ بالتبَعِ). ش: قالَ الشيخُ عِزُّ الدِّينِ في كتابِ (المَجازِ) وقد تَجَوَّزَتِ العَرَبُ في الأسماءِ والأفعالِ والحروفِ، فمِن التجَوُّزِ في الأسماءِ: التعبيرُ بالأسدِ عن الشجاعِ، وبالبحْرِ عن الجوادِ وهو كثيرٌ، وأمَّا الحروفُ فقد تَجَوَّزُوا ببَعْضِها، كهَلْ، تَجَوَّزُوا بها عن الأمْرِ نحوَ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}؛ أي: فَأَسْلَمُوا، أو النفْيِ نحوَ: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}؛ أي: مَا تَرَى، أو التقْدِيرُ، نحوَ: {هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ} وَعَدَّ حُرُوفاً كَثِيرَةَ، وأمَّا الأفعالُ فقد تَجَوَّزُوا بالمَاضِي عن المستقبلِ تَشْبِيهاً له في التحقيقيِّ، كقولِه تعالَى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}، {ونَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ}، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ}، وعَكْسَه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتّْلُوا الشَّيَاطِينِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانِ}؛ أي: تَلَتْه، وبِلَفْظِ الخَبَرِ عن الأمَرِ

نحوَ: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَّ أَوْلاَدَهُنَّ} وعكسُه، نحوَ: {مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فلَيُمْدِدْ لَهُ الرَّحْمَنِ مَدَّا}. وأَكْثَرُ من ذلك. وكذلك قالَ النَّقْشَوَانِيُّ في رَدِّه على الإمامِ في مَنْعِه الدخولُ في الحروفِ؛ لأنَّ للحَرْفِ مُسَمًّى في الجُمْلَةِ، وقد اسْتُعْمِلَ في مَوْضوعِه، فيكونُ حقيقةٌ، فإذا اسْتُعْمِلَ في غيرِه لعلاقَةٍ كانَ مجازاً، ومثَّلَ بقولِه تعالَى: {لأُصْلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فإنَّ حقيقةَ (في) الظرفيَّةِ، وهنا اسْتُعْمِلَتْ لغيرِها، وقالَ الإمامُ في (المحصولِ) لا يَدْخُلُ في الحرْفِ، أي: بالأصالَةِ؛ لأنَّ مَفْهُومَه غيرُ مُسْتَقِلٌّ بنفسِه، فإنَّ ضُمَّ إلى ما يَنْبَغِي ضَمَّه، كانَ حقيقةً، وإلاَّ فهو مجازٌ في التركيبِ عَقْلِيٌّ لا لُغَوِيٌّ. وأمَّا الأفعالُ والمُشْتَقَّاتُ فقالَ الإمامُ: لا يَدْخُلُها المجازُ بالذاتِ؛ لأنَّهما: يَتْبَعَانِ أُصُولَهُما، وأصْلُ كلٍّ منهما المصْدرُ، لكونِ الأفعالُ مُشْتَقَّةً من المصادرِ على الصحيحِ، والأفعالُ أصْلٌ للصِّفَاتِ المُشْتَقَّةِ منها، فتكونُ المصادرُ أصْلاً لها أيضاًً، وإذا كانَ كذلك فيَمْتَنِعُ دُخولُ المَجازِ فيها إلا بعدَ دُخُولِه في المصادرِ التي في ضِمْنِها فإنْ كانَ المَصْدَرُ حقيقةً كانَا كذلك وإلاَّ فلا، والحاصلُ إنَّه لا يَدْخُلُ فيهما المَجازُ إلاَّ بواسطَةِ دُخُولِه في المصْدرِ، ومثلُه قُوْلُ البَيانِيِّينَ في الاستعارةِ التَّبِعِيَّةِ، تكونُ في الأفعالِ والصفاتِ المشتقَّةِ والحروفِ،

وأنَّها لا تَحْتَمِلُ الاستعارةُ بأنْفُسِها، وإنَّما المُحْتَمَلُ للاستعارةِ في الأفعالِ والصفاتِ مصادِرُها. وفي الحروفِ: مُتَعَلِّقاتُ مَعانِيهَا فتَقَعُ الاسْتِعَارَةُ في المصْدرِ، ثمَّ يَسْرِي إلى الحروفِ، فلا يُسْتَعارُ الفعلُ إلاَّ بعدَ استعارَةٍ مَقْصُودَةٍ فلا تقولُ نَطَقْتَ الحالَ بكذا بَدَلَ دَلَّتْ، إلاَّ بعدَ تقديرِ استعارَةِ نُطْقِ الناطِقِ لدَلالَةِ الحالِ، وإذا أُرِيدَ استعارَةُ (لَعَلَّ) لغيرِ معناها، قُدِّرَتْ الاستعارةُ في معنَى الترَجِيِّ، اسْتُعْمِلَتْ هناك (لَعَلَّ)، وإذا أُرِيدَ اسْتِعارَة (لامَ العَرَضِ) قًُدِّرَتْ الاستعارَةُ في معنَى العرْضِ، ثمَّ اسْتُعْمِلَتْ لامَ العَرْضِ هناك، وقد ضَعَّفَ شُرَّاحُ (المحصولِ) كلامَ الإمامِ في الفِعْلِ، فإنَّه كثيراً ما يُسْتَعْمَلُ في المستقبلِ مجازاً، وكذا صيغَةُ المُسْتَقْبَلِ في الماضِي معَ عَدَمِ دُخُولِ المجازِ في المَصْدَرِ، الذي هو في ضِمْنِ الفعْلِ الماضِي أو المُسْتَقْبَلِ. وأمَّا في المُشْتَقِّ، فلأنَّ اسمَ الفاعلِ قد يُسْتَعْمَلُ في المفعولِ مَجازاً، وعَكْسِه معَ عَدَمِ دُخُولِ المَجازِ في المصْدَرِ، وأيضاًً فقد يُطْلَقُ الضارِبُ على مَن صَدَرَ منه الضرْبُ، وعلى مَن سَيَصْدُرُ منه في المستقبلِ بطريقِ المجازِ معَ عَدَمِ دُخُولِ المجازِ في الضرْبِ الذي هو مَصْدَرُه إذا عَلِمْتَ هذا فقولُ المُصَنِّفُ، (ومَنَعَ الإمِامُ الحَرْفَ مُطْلَقاً) مَرادُه بالنسبَةِ إلى مجازِ الأفرادِ، وإلاَّ فقد سَبَقَ أنَّه يَجُوزُ دُخولُ المجازِ فيه بالانْضمامِ، لكنَّه جَعَلَه من بابِ مجازِ التَّرْكِيبِ لا الإفرادِ الذي هو بَحْثُ الأُصُولِيِّ. ص: (ولا يكونُ في الأعْلامِ خِلافاً للغزالِيِّ في مُتَلَّمَّحِ الصفَةِ). ش: لا يَدْخُلُ المجازُ في الأعلامِ لا بالذاتِ ولا بالواسطةِ؛ لأنَّها وَضَعَتْ للفَرْقِ بينَ ذاتٍ وذاتٍ، فلو دَخَلَها المجازُ لبَطُلَ هذا الغَرَضُ، ولأنَّها لا تُنْقَلُ لعَلاقَةٍ، وشَرْطُ المَجَازِ العَلاقَةُ، فإنَّ استعمالَ العِلْمِ في مُسَمَّاهُ إنَّما هو وَضْعٌ مُسْتَقِلٌّ له لا بالنقلِ للعَلاقَةِ، وسواءٌ سَبَقَ بَوَضْعِه لمُسَمًّى آخَرَ، وهو الذي يُسَمِّيه النحْوِيونَ، عَلَماً مَنْقولاً، أو لم يُسْبَقْ، وهو الذي يُسَمُّونَه: مُرْتَجِلاً، كغطفانَ.

كذا قالَه الإمامُ والبَيْضَاوِيُّ، وفَصَّلَ الغزالِيُّ، فقالَ: يَدْخُلُ في الأعلامِ المَوْضُوعَةِ للصفَةِ كالأَسْوَدِ والحَارِثِ، دونَ الأعلامِ التي لم تُوضَعْ إلاَّ للفَرْقِ بينَ الذواتِ كزَيْدٍ وعَمْرٍو، وهو حَسَنٌ. وقالَ بعضُ شَارِحِي (المحصولِ) إنَّما قالَ الغزالِيُّ ذلك بناءٌ على رَايه في عَدَمِ اعتبارِ العَلاقَةِ في المَجازِ، فإنَّ المَجازَ عندَه: ما اسْتَعْمَلَتْه العَرَبُ في غيرِ موضوعِه وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّه لو قالَ ذلك بناءً على عَدَمِ اعتبارِ العَلاقَةِ لم يَفْصِلْ بينَ زيدٍ والحارثِ، بل جَعَلَ الكلَّ مَجازاً، إذا يُصَدِّقَ على كلِّ منهُما أنَّه اسْتَعْمَلَتْه العَرَبُ في غيرِ موضوعِه. واعْلَمْ أنَّ المصنِّفَ لم يَحْكِ قولاً بالتَّجَوُّزِ في الأعلامِ مُطْلَقاً، وقد حَكَاهُ الأَبْيَارِيُّ، فتَجْتَمِعُ ثلاثةُ مذاهبَ، ووجْهَهُ بأنَّك تقولُ: قَرَاتُ سِيبَوَيْه، وأنت تُرِيدُ (الكتابُ)، فقد تَجُوزُ بإطلاقِ اسمِ صاحِبِ الكتابِ عليه ثمَّ ضَعَّفَه، فإنَّ سِيبَوَيْه باقٍ على الدلالةِ على الرجُلِ، وإنَّما جَاءَ التَّجَوُّزُ من جِهَةِ= حَذْفِ الكتابِ لا من جِهَةِ إطلاقِ لفظِ صاحبِ الكتابِ عليه. وقالَ ابنُ يَعِيشَ في شرحِ (المفصَّلِ) قالَ النحْوِيُّونَ: العَلَمُ ما يَجُوزُ تَبْدِيلُه وتَغْييرُه ولا يَلْزَمُ من ذلك تَغْييرِ اللُّغَةِ، فإنَّ لك أنْ تَنْقُلَ اسمَ وَلَدِك من خَالدٍ إلى جَعْفَرٍ، ومن بَكْرٍ إلى

مُحَمَّدٍ، وليسَ كذلك اسمُ الجنسِ، فإنَّك لو سَمَّيْتَ الرجُلَ فَرَساً أو الفَرَسُ رجُلاً كانَ ذلك، تَغَيُّراً للُّغَةِ، إنَّما أَتَى بالأعْلامِ للاخْتصارِ، وتَرَكَ التَّطْويلُ بتَعْدَادِ الصفاتِ. ص: (ويُعْرَفُ بتَبَادُرِ غيرُه، لولا القَرينَةُ وصِحَّةِ النَّفْيِ وعَدَمِ وُجُوبِ الاطْرادِ، وجَمْعُه على خلافِ جَمْعِ الحقيقةِ، وبالْتِزامِ تَقْييدِه وتَوَّقُفِهِ على المُسَمَّى الآخَرِ والإطْلاقُ على المستحيلِ. ش: يُعْرَفُ المجازُ بوجوهٍ: أوَّلُها: وهو الأقْوَى، ولهذا صَدَرَ به أنْ يَتَبَادَرَ غيرُه إلى الفِهْمِ، لولا القرينةِ، والحقيقةُ بالعكسِ، وأَوْرَدَ عليه المجازُ الراجحُ، وأُجِيبَ بأنَّه نادرٌ، فلا يَقْدَحُ، إذ الغالبُ أنَّ المُتبادَرَ إنَّما هو الحقيقةُ. ثانيها: صِحَّةُ النَّفْيِ، كقولِك للبَلِيدِ: ليسَ بحُمَارٍ، وللجَدِّ: ليسَ بأَبٍ، وصِحَّةُ النَّفْيُ دَلِيلٌ على أنَّه مَجازٌ فيه، وعَكْسُه الحقيقَةُ، وزَادَ بَعْضُهم: في نَفْسِ الأمْرِ، ليَحْتَرِزَ عن نفْسِ الظَّانِّ، فإنَّه لا يَدُلُّ عليه واخْتارَ صاحبُ (البديعِ) أنَّ صِحَّةَ النَّفْيِ حُكْمٌ من أحكامِ المجازِ،

لا يُعْرَفُ له معنًى، إنَّه حُكْمٌ ثابتٌ في الواقعِ، إذا عُلِمَ أنَّه مَجازٌ بطريقَةٍ، عُلِمَ صِحَّةَ نَفْيهِ؛ لأنَّ كونَه مُعَرَّفاً مُسْتَلْزِمٌ للدورِ. ثالثُها: أنَّه لا يَجِبُ فيه الاطْرَادُ، فإنَّه يُسْتَعْمَلُ لوجودِ معنًى في مَحَلٍّ، ولا يَجُوزُ اسْتَعْمَالُه في مَحَلٍّ آخَرَ معَ وجودِ ذلك المعنَى فيه كما تقولُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}؛ لأنَّه سؤالٌ لأهْلِها، فلا تقولُ: اسْأَلِ البِساطَ وإنْ وُجِدَ فيه ذلك. قالَ ابنُ الحَاجِبِ: وهو لا يَنْعَكِسُ؛ أي: ليسَ الاطْرَادُ دليلُ الحقيقةِ، فإنَّ المَجازَ قد يَطَّرِدُ، كالأسدِ للشجاعِ، وجوابُه: إنَّه وإنْ اطَّرَدَ لكنَّه لا يَجِبُ، ومن هنا حَسُنَ زِيادَةُ المُصَنِّفِ الوجوبَ عليه. رابِعُها: جَمْعُه على صِيغَةٍ مُخالِفَةٍ كمُسَمًّى آخَرَ هو فيه حقيقةٌ، كالأمْرِ، فإنَّه بمَعْنَى القولِ، يُجْمَعُ على أوامِرَ، وبمعنَى الفعْلِ، على أمورٍ، ونُوَزِّعُ في هذا المثالِ. خامسُها: التزامُ تَقْييدِه، فلا يُسْتَعْمَلُ في ذلك المعنَى عندَ الإطلاقِ كجُناحِ الذُّلِّ ونارُ الحرْبِ، فإنَّ الجُناحَ والنارَ قد تُسْتَعْمَلُ في معانيهِما الحقيقةُ بدونِ قَيْدٍ، ومتى اسْتَعْمَلُوها في الذُّلِّ والحرْبِ،

قَيَّدُوهُما: فَدَلَّ على كونِه مَجازاً فيه، وإنَّما قالَ: بالتزامِ تَقْييدِه، ولم يَقُلْ: بتَقْييدِه، احْتِرازاً عن الحقيقةِ في اللفْظِ المُشْتَرَكِ، فإنَّه قد يُقَيَّدُ أيضاًً، كما يُقالُ في العَيْنِ: رَأَيْتُ عَيْناً جَارِيَةً، لكنْ لا على طريقِ الالتزامِ. سادسُها: توقَّفَ اسْتِعْمَالُها على المُسْمَّى الآخَرِ، سواءٌ كانَ ذلك ملفوظاً به، كقولِه تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} فلا يُقالُ: مَكْرُ اللهِ ابتداءً أو مُقَدَّراً كقولِه تعالَى: {قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً}. ولم يَتَقَدَّمْ لمَكْرِهم ذِكْرٌ في اللفْظِ، لكنَّه مَذْكورٌ معنَى، الإطلاقُ على المُسْتَحيلِ، فإنَّ الاستحالةَ تَقْتَضِي أنَّه غَيرَ موضوعٍ له فيكونُ مجازاً، كقولِه تعالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةِ} وأَورَدَ بأنَّ المجازَ العَقْلِيُّ كذلك معَ أنَّه حقيقةٌ لُغَوِيَّةٌ، وأُجِيبَ بأنَّ المُرادَ ما يَقَعُ تَعْلِيقُه به بالبَدِيهَةِ، والذي في المجازِ العَقْلِيِّ امْتِناعُه نظراً. ص: والمختارُ اشْتِراطُ السمْعِ في نوعِ المجازِ وتوقَّفَ الآمِدِيُّ. ش: يُشْتَرَطُ أنْ يَكُونَ بينَ المفهومِ الحقيقيُّ والمَجَازِيُّ عَلاقَةٌ مُعْتَبِرَةٌ، وإلاَّ جَازَ اسْتِعمالُ كلُّ لفْظٍ في كلِّ معنًى، وهو باطلٌ، ضرورةٌ. إذا عَلِمْتَ هذا، فجِنْسُ العَلاقَةُ يُشْتَرَطُ بالإجْماعِ لمَا ذَكَرْنَا، وشَخَّصَها غيرُ مُشْتَرَطٍ بالإجماعِ، فلا يُقالُ: لا

يُطْلَقُ الأسدُ على الشجاعِ إلاَّ بنَقْلٍ عن العربِ، ومَحَلِّ الخلافُ إنَّما هو في النوعِ، هل يَكْفِي بالعَلاقَةِ إلى نَظَرِ العربِ إليها، كإطْلاقِهم السببُ على المُسَبَّبِ، ويزيدُ عليه كالمُسَبَّبِ على السببِ أو لا يَتَعَدَّى عَلاقَةُ السببِ إلى عَلاقةٍ أُخْرَى، وإنْ سَاوَتْها، ما لم تَفْعَلِ العربُ ذلك، فاختارَ المصنِّفُ الثاني تَبَعاً للرَّازيِّ والبَيْضَاوِيِّ، وإلاَّ لجَازَ التَّجَوُّزُ بالأسدِ عن الأَبْخَرِ لوجودِ شَبَهٌ، إمَّا= واختارَ ابنُ الحَاجِبِ الأوْلَى، وتَوَقَّفَ الآمِدَيُّ للتَّعارُضِ. ص: مسألَةٌ: المُعْرَبُ لفظٌ غيرُ عَلَمٍ اسْتَعْمَلَتْه العَرَبُ في معنَى وَضْعٍ له في غيرِ لُغَتِهم. ش: عَقَّبَ المَجازَ بهذه المسألَةِ؛ لأنَّها تُشْبِهُه في أنَّ كلاًّ منهما ليسَ من الموضوعاتِ الحقيقيةُ للُغَةِ العَرَبِ، وخَرَجَ بقولِه: غيرَ عَلَمٍ، الأعلامُ كإبْرَاهِيمَ وإِسْمَاعِيلَ، وخَرَجَ بالأخيرِ، الحقيقةُ، فإنَّها استعمالٌ فيما وُضِعَ له في لُغَتِهم، وكذلك المَجازُ، وقد يُقالُ: لا حَاجَةَ لقولِه: غيرَ عَلَمٍ، فإنَّ الأعلامَ ليسَتْ مُعْرَبَةٌ، بل هي مُعْرَبَةٌ قَطْعاً، وإنَّما خَرَجَتْ عن مَحَلِّ الخلافِ، لوقوعُها في القرآنِ، لأجلِّ إجماعِ النحْوِيِّينَ على أنَّ إِبْرَاهِيمَ ونحوَه ممنوعٌ من الصرْف للعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، ولو كانَ من قبلِ توافُقِ اللُّغَتَيْنِ لكانَ مُنْصَرِفاً، نظراً إلى الوَضْعِ العَرَبِيِّ. قالَ أَبُو مَنْصُورٍ الجَوَالِيقِي:

وكلُّ أسماءِ الأنْبياءَ أَعْجَمِيَّةٍ، إلاَّ أرْبَعَةً: آدَمٌ وصالِحٌ وشُعَيْبٌ ومُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ص: وليسَ في القرآنِ، وِفاقاً للشافعيِّ وابنِ جَريرٍ. ش: ما نَقَلَه عن الشَّافِعِيِّ ذَكَرَه في (الرِّسَالَةِ) وبَالَغَ في الإنْكَارِ على منْ أَثْبَتَه، ونَصَرَه القاضِي في (التَّقْرِيبِ) وابنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ، في تَفْسِيرِه لقولِه تعالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} سَمَّاه عَرَبِيًّا، لكونِه دالاًّ على المعانِي المخصوصَةِ بوَضْعِ العَرَبِ، فَدَلَّ على أنَّه ليسَ فيه شيءٌ من غيرِ لسانِ العَرَبِ، وعَزَاهُ ابنُ الحَاجِبِ للأكثرِينَ ثمَّ خَالَفَهم وتَمَسَّكَ بالمِشْكَاةِ، فإنَّها هِندِيَّةٌ، والاسْتَبْرَقِ وسِجِّيلٍ فارسيةٍ، والقِسْطَاسِ رُومِيَّةٍ، والجمهورُ يَرَدُّونَه إلى أنَّه ممَّا اتَّفَقَ عليه اللُّغَاتُ، وعَلِمَ من كلامِه

المُصَنِّفُ أنَّه في اللُّغَةِ بلا خلافٍ، وإنَّما في اشتمالِ القرآنِ عليه. وقالَ ابنُ دَقِيقِ العِيدِ: الخلافُ في مُثْبِتِي الحقيقةِ الشرعيَّةِ، فمَن أ‍َثْبَتَها وجَعَلَها مَجازَاتٍ لُغَوِيَّةً، لا يَلْزَمُ من قولِه أنْ يكونَ القرآنُ غيرَ عربيٍّ. فائدةٌ: ذَكَرَ ابنُ جِنِّي وغَيْرُه من النُّحاةِ أنَّه متَى خَلا اسمٌ رُبَاعِيِّ الأصولِ أو خُمَاسِيَّها عن بعضِ حروفِ الزلاقَةِ السِّتَّةِ، وهي المجموعةُ في قولِك: فرَّ من لُبٍّ ـ فهو أَعْجَمِيٌّ. ص: مسألَةُ اللفظِ إمَّا حقيقةٌ أو مجازٌ أو حقيقةٌ ومجازٌ باعتبارَيْنِ، والأمرانِ مُنْتَفَيَانِ قبلَ الاستعمالِ. ش: الغرضُ بهذا التقسيمِ إثباتُ الواسطةِ بينَ الحقيقةِ والمجازِ، وحاصلُه: أنَّ

اللفظَ الواحدُ يَنْقَسِمُ إلى أَرْبَعَةِ أقْسامٍ: أَحَدُها: ما هو حقيقةٌ فقط، وهو المُسْتَعْملُ في موضوعِه، كالأسدِ في الحيوانِ المخصوصِ. والثاني: ما هو مجازٌ فقط، وهو المُسْتَعْمَلُ لا في موضوعِه، كالأسَدِ على الرجُلِ الشجاعِ. والثالثُ: ما هو حقيقةٌ ومجازٌ باعتبارَيْنِ، إمَّا بمعنيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فهو كثيرٌ، ومن ألفاظِ العامِّ المخصوصِ، على قولِ مَن يقولُ: هو حقيقةٌ باعتبارِ دَلالَتِه على ما بَقِيَ مجازٌ، باعتبارِ سَلْبُ دلالَتِه على ما أَخْرَجَ، وإنَّما بمعنًى واحدٍ، فإنْ كانَ بحسَبِ وَضْعٍ واحدٍ فمُحالٌ، لامتناعِ اجْتماعِ الإثباتِ والنفْيِ من جِهَةٍ واحدةٍ، وإنْ كانَ بحسَبِ وضعَيْنِ، كلُغَوِيٍّ وعُرْفِِيٍّ مثلاً، فجائزٌ كالدابَةِ إلى الحمارِ، فإنَّها حقيقةٌ بالنسبةِ إلى الوضْعِ الأوَّلِ، مجازٌ بحسَبِ الوضْعِ العُرْفِيِّ، ومن هذا يُعْلَمُ أنَّ الحقيقةَ قد تَصِيرُ مَجازاً بالعكسِ. وحَكَى صَاحِبُ (المُعْتَمَدِ) الاتفاقُ على جوازِه، قالَ: واخْتَلَفُوا في وقوعِه، قالَ: والذين أَجَازُوا انْتِقالَ الاسمِ عن موضوعِه في اللُّغَةِ بالعُرْفِ إنَّما أَجَازُوا ذلك ما لم يكنْ الاسمُ اللُّغَوِيُّ، ما لم يَتَعَلَّقْ به حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فإنْ تَعَلَّقَ به لم يُجْزْ نَقْلُه عن موضوعِه إلى معنًى آخَرَ قَطْعاً لأمْرٍ يَرْجِعُ إلى المُتَكَلِّمِينَ.

رابِعُها: ما لا يكونُ حقيقةً ولا مجازاً، فمنه اللفظُ في أوَّلِ وضْعِه قبلَ اسْتِعْمالِه فيما وُضِعَ له، فإنَّه ليسَ بحقيقةٍ ولا مجازٍ؛ لأنَّ الاسْتِعْمالَ شَرْطٌ في كلٍّ من الحقيقةِ، والمجازُ على ما سَبَقَ في تعريفِها، فحيثُ انْتَفَى الاستعمالُ انْتَفَيَا، كذلك أَطْلَقَ أَبُو الحُسَيْنِ وتَابَعَهُ الرَّازِيُّ والآمِدِيُّ وابنُ الحَاجِبِ والبَيْضَاوِيُّ وغيرُهم، وتَابَعَهم المُصَنِّفُ ويَجِبُ أنْ يكونَ مُرادُهم ليسَ بمَجازٍ فيما وُضِعَ له، أمَّا في غيرِه فلا يَمْتَنِعُ أنْ يكونَ مجازاً فيه، إذ الاستعمالُ لمُنَاسَبَةٍ بينه وبينَ الموضوعِ الأوَّلِ قبلَ الاستعمالِ فيه مُمْكِنٌ، وقد جَرَى على ذلك الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ، وذَكَرَ في (المِنْهاجِ) في أمْثَلَةِ هذا القِسمُ الأعْلامُ، وإنَّما لم يَذْكُرُه المُصنِّفُ؛ لأنَّ كلامَه فيما سَبَقَ يَقْتَضِي أنَّها حَقيقَةٌ، وكذا اقْتَصَرَ ابنُ الحَاجِبِ على اللفظِ قبلَ الاستعمالِ وقد يُقالُ: التقسيمُ ناقِصٌ، وبَقِيَ عليه اجْتماعُهُما في الإرَادَةِ على قَوْلِنا: يَجُوزُ الجَمْعُ بينَ الحقيقةِ والمجازِ. ص: ثمَّ هو محمولٌ على عُرْفِ المُخَاطَبِ أَبَداً، ففي الشرْعِ الشرْعِيِّ؛ لأنَّه عَرَّفَه، ثمَّ العُرْفِ العامِّ ثمَّ اللُّغَوِيِّ، وقالَ الغَزَالِيُّ والآمِدِيُّ في الإثباتِ الشرْعِيِّ،

وفي النَّفْيِ الغزالِيُّ مُجْمَلٌ، والآمِدِيُّ اللُّغَوِيُّ. ش: هذه المسألَةُ في تعارضِ الحقيقةِ الشرعيَّةِ واللُّغويَّةِ والعُرْفِيَّةِ، والضابِطُ أنَّه يُحْمَلُ على عُرْفِ المخاطَبِ أبداً فإنْ كانَ المُخَاطَبُ هو الشارعُ، حُمِلَ على المعنَى الشرعيِّ لا اللغويِّ؛ لأنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ بُعِثَ لبيانِ الشريعةِ لا اللُّغَةِ، إذ هو وغيرُه فيها سواءٌ، ولأنَّ الشرْعَ طارئٌ على اللُّغَةِ وناسخٌ لها فالحَمْلُ على الناسخِ أوْلَى، وبهذا ضَعَّفُوا قولَ من حَمَلَ الوضوءَ من أَكْلِ لَحْمِ الجزورِ، ونحوَه ـ على التنظيفِ بغَسْلِ اليدِ، فإنْ تَعَذَّرَ حُمِلَ على العُرْفِ؛ لأنَّه المُتَبَادَرُ إلى الفَهْمِ، وهذا إذا كَثُرَ اسْتِعْمالُ الشرْعِيِّ والعُرْفيِّ إلى حدٍّ يَسْبِقُ إلى الذِّهْنِ أحدُهما دونَ اللُّغَوِيِّ، فأمَّا إذا لم يُفْهَمْ أحدُهما إلاَّ بقَرِينَةٍ، صارَ مُشْتَرِكاً بينَ المفهومَيْنِ، ثمَّ بَعْدَهُما يُحْمَلُ على المفهومِ اللُّغَوِيِّ الحقيقيِّ، ومن أمثلَتِه قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيُجِبْ، فإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيْأَكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِماً فَلْيَصِلْ))، قالَ ابنُ حِبَّانَ في صحيحِه؛

أي: فلْيَدَعْ، ثمَّ المجازيُّ صيانةً للكلامٍ، هذا ما ذَكَرَهُ الأصولِيُّونَ، ويُخَالِفُه قولُ الفقهاءِ، ما ليسَ له ضابطٌ في الشرْعِ ولا اللُّغَةِ يَرْجِعُ فيه إلى العُرْفِ، فإنَّه يَقْتَضِي تَاخِيرَ العُرْفِ عن اللغةِ، وجَمَعَ بَعْضُهم بينَهما، فحُمِلَ كلامُ الأصُولِيِّينَ في اللفظِ الصادرِ من كلامِ الفقهاءِ في الصادرِ من غيرِه، وفيه نظرٌ، فإنَّ الفقهاءَ يَسْتَعْمِلُونَ هذه العبارةَ في لفظِ الشارعِ أيضاًً، كالقبْضِ في البيعِ وغيرِه، وكانَ البَاجِيُّ يَجْمَعُ بينَهُما، بأنَّ مُرادَ الأصُولِيِّينَ ما إذا تَعارَضَ معناهُ في اللُّغَةِ والعُرْفِ، فيُقَدَّمُ العُرْفُ، ومُرادُ الفُقهاءِ: إذا لم يُعْرَفْ حَدُّهُ في اللّغَةِ، فإنَّا نَرْجِعُ فيه إلى العُرْفِ، ولهذا قالُوا: كلَّ ما ليسَ له حَدٌّ في اللُّغَةِ، ولم يَقُولُوا: ليسَ له معنًى. وحَكَى الآمِدِيُّ في تَعَارُضِ الحقيقةِ الشرعيَّةِ مذاهبُ: أحدُها: ما ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ وصَحَّحَهُ ابنُ الحَاجِبِ تَقْدِيمَ الشَّرْعِيِّ؛ لأنَّ غَرَضَ الشارِعُ تعريفُ المعانِي الشرعيَّةِ لا اللُّغَوِيَّةِ. والثاني: مُجْمَلٌ، لصَلاحِيَّتِه لكلٍّ منهما. والثالثُ: قالَ الغزالِيُّ ما وَرَدَ في صِيَغِ الأمْرِ والإثباتِ يُحْمَلُ على المُسَمَّى الشرعيِّ كقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّي إِذِنْ أَصُومُ)). حتى يُسْتَدَلَّ به على صِحَّةِ النفْلِ بنِيَّةٍ من النهارِ، وما وَرَدَ في النَّفْيِ مُجْمَلٌ، كالنَّهْيِ عن صَوْمِ يومِ النَّحْرِ، فإنَّه

لو حُمِلَ على الشرْعِيِّ دَلَّتْ على صِحَّتِه، لاسْتِحالَةِ النهْيِ عمَّا لا يُتَصَوَّرُ وقوعُه، بخلافِ ما إذا حُمِلَ على اللُّغَوِيِّ. قالَ الآمِدِيُّ: والمُختارُ أنَّه إنْ وُرِدَ في الإثباتِ حُمِلَ على الشرعيِّ؛ لأنَّه عَرَّفَه، وإنْ وُرِدَ في النَّهْيِ حُمِلَ على اللُّغَوِيِّ، للاسْتحالَةِ المُتَقَدِّمَةِ، والصحيحُ الأوَّلُ، ويُعَضِّدُهُ حَمْلٌ، نحوَ قولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعِي الصَّلاةَ أيامَ أَقْرَائِكِ)). على المعنَى الشرعيِّ بالاتِّفاقِ معَ أنَّه في معنَى النهْيِ. ص: وفي تَعَارُضِ المجازِ الرَّاجِحِ والحقيقةِ المرجُوحَةِ، أقوالٌ: ثالثُها المُختارُ: مُجْمَلٌ. ش: صُورَةُ هذه المسألَةِ: أنْ يَغْلِبَ الاستعمالُ المَجازيُّ على الاستعمالِ الحقيقيِّ كما في الدَّابَّةِ، فإنَّه في اللُّغَةِ لكلِّ ما يُدَبُّ، ثمَّ نُقِلَ في العُرْفِ إلى الحمارِ، وكَثُرَ حتى صارَ حقيقةً عُرْفِيَّةً، وصَارَ الوضْعُ الأوَّلُ مَجازاً بالنسبةِ إلى العُرْفِ، لقِلَّةِ اسْتِعْمالِه فيه، وفيها مذاهبُ: إحدَاها، تَقْدِيمُ الحقَيقَةِ، تَمَسُّكاً بالأصْلِ، وهو قُوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

والثاني: المجازُ، لغَلَبَتِه، وهو قولُ أَبِي يُوسُفَ، واخْتَارَهُ القِرَافِيُّ؛ لأنَّ الظهورَ هو المُكَلَّفُ به. والثالثُ: يَحْصُلُ التعَارُضُ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ راجِحٌ على الآخَرِ من وجْهٍ، فإنَّ قوَّةَ الحقيقةِ قد عَارَضَها كَثْرَةُ الاسْتِعْمَالِ المَجازِيِّ، فيَتَعَادَلانِ ولا يُحْمَلُ على أَحَدِهما إلاَّ بالنِّيَّةِ، وهذا ما اخْتَارَهُ البَيْضَاوِيُّ، وتَابَعَهُ المُصَنِّفُ. قالَ الهِنْدِيُّ: وعُزِيَ ذلك إلى الشَّافِعِيِّ، والخلافُ مَحَلُّه إذا كانَتْ الحقيقةُ غيرَ مهجورةٍ، كما لو قالَ: لأَشْرَبَنَّ من ماءِ هذا النَّهَرِ، فهو حقيقيةٌ في الكَرْعِ بفِيهِ، وإذا اغْتَرَفَ بإنَاءٍ وشَرِبَ فمجازٌ، والحقيقةُ قد تُرَادُ؛ لأنَّ كثيراً من الرُّعاءِ، وغيرُهم يَكْرُعُ بفِيهِ، أمَّا إذا كانَتْ الحقيقةُ مهجورةٌ لا تُرَادُ في العُرْفِ، فلا خِلافَ بينَ أَبِي حَنِيفَةَ وأَبِي يُوسُفَ في تقديمِ المَجازِ؛ لأنَّه إمَّا حَقِيقَةٌ شرعيَّةٌ كالصلاةِ، أو عُرْفِيَّةٌ كالدابَةِ، وهما مُتَقَدِّمانِ على الحقيقةِ اللغويَّةِ. وقالَ الرَّافِعِيُّ في (كتابِ الإيمانِ): المجازُ المُتعارَفُ يُقَدَّمُ على الحقيقةِ البعيدَةِ، كما لو حَلِفَ لا يَاكُلُ من هذه الشَّجَرَةِ، فإنَّ اليمينَ تُحْمَلُ على الأكْلِ من ثَمَرِها دونَ الورَقِ والغُصونِ، بخلافِ ما لو حَلِفَ لا يَاكُلُ من هذه الشاةِ، فإنَّ اليمينَ تُحْمَلُ على لَحْمِها ولَبَنِها ولَحْمِ وَلَدِها؛ لأنَّ الحقيقةَ مُتَعارَفَةٌ. ص: وثبوتُ حُكْمٌ يُمْكِنُ كونُه مُراداً من خِطابٍ، لكنَّ مجازاً لا يَدُلُّ على أنَّه المرادُ منه، بل يَبْقَى الخِطابُ على حَقِيقَتِه، خلافاً للكَرْخِيِّ والبَصْرِيِّ.

ش: هذه من مسائلِ (المحصولِ)، وصُورَتُها أنَّ الخطابَ الذي له حقيقةٌ ومجازٌ، ومُوجِبُ المجازُ ثابتٌ في بعضِ الصوَرِ بدليلٍ هل يَقْتَضِي إرادَةُ المجازِ من ذلك الخطابِ، ويَلْزَمُ منه أنْ لا يُحْمَلُ على الحقيقةِ، وإلاَّ يُلْزَمُ باسْتِعْمالِ اللفْظِ في حقيقَتِه ومَجازِه، أو لا يَقْتَضِي ذلك مثالُه: لفظُ المُلامَسَةُ حقيقةٌ في اللَّمْسِ مجازٌ في الوقاعِ، وقد ثَبَتَ مُوجِبُ المجازِ من الآيةِ لانْعقادِ الإجْماعِ على جَوازِ التَّيَمُّمِ للمُجامِعِ، فهل يَدُلُّ على أنَّ المُرادَ بالمُلامَسَةِ فيها الجماعُ؟ حتى لا يَصِحُّ الاستدلالُ بها على أنَّ اللَّمْسَ باليَدِ المُخْتَلِفُ فيه كذلك. فذَهَبَ الكَرْخِيُّ من الحَنَفِيَّةِ، والبصريِّ من المُعْتزلَةِ إلى أنَّه يَدُلُّ، وذَهَبَ القَاضِي عَبُدُ الجَبَّارِ وتَابَعَه في (المحصولِ) إلى أنَّه لا يَدُلُّ. وحاصلُ الخلافُ أنَّ ثُبُوتَ مُوجِبُ المَجازَ في صورَةٍ بدلَيلٍ يَمَنْعُ إجراءَ الخِطابِ على حقيقَتِه على رَايٍ، ولا يَمْنَعُ منه على آخَرَ، وهو الصحيحُ؛ لأنَّ المُقْتَضِيَ لإرادَةِ الحقيقَةِ من هذا اللفْظِ فأعَمٌّ ولا مُعارِضٌ له، فلا يَجُوزُ صَرْفُه عنه بمُجَرَّدِ ما ذُكِرَ، وتَوَّسَطَ الشيخُ علاءُ الدِّينِ بنُ النَّفِيسِ، في كتابِه المُسَّمَى بالإيضاحِ فقالَ: مثلُ هذا وإنْ لم يَدُلُّ على ذلك، فهو يُفِيدُ رُجْحَاناً باعتبارِ ذلك المجازُ، فكذلك يكونُ في مَسْأَلَتِنَا، وهو حِينَما يَقْتَضِي حَمْلُ اللفظِ على أَحَدِ مجازاتِه مُوجَباً لاعتبارِ ذلك المجازُ، إذا عَلِمَتْ هذا فأَعْلَمْ أنَّ المسألَةَ مُفَرَّعَةًَ على امْتناعِ اسْتِعْمالِ اللفْظِ في حقيقَتِه ومجازِه، كما صَرَّحَ به الأَصْفَهَانِيُّ، وهو ظاهرٌ، فإنَّ المُجَوِّزَ لذلك يَحْمِلُه عليهما، ويَجْعَلُ

ذلك الدليلُ قرينَةً إرادَةَ المجازِ، وحينَئذٍ فكانَ حَقُّ المُصَنِّفُ التَّنْبِيهُ على ذلك، وإلاَّ لنَاقَضَ اخْتيارَهُ فيما سَبَقَ، ثمَّ إنَّه ليسَ من عادَتِه التفْرِيعُ على الضعيفِ عندَه. ص: مسألةٌ: الكنايةُ لفظٌ اسْتُعْمِلَ في معناهُ مُراداً منه لازمُ المعنَى، فهي حقيقةٌ (فإنْ لم يُرِدِ المعنَى وإنَّما عَبَّرَ بالمَلْزُومِ فهو مجازٌ). ش: قسَّمَه البيانِيُّونَ إلى صريحٍ وكنايةٍ وتعريضٍ، وزَعَمَ كثيرٌ منهم أنَّ الكنايةَ حقيقةٌ، وتَابَعَهُم الشيخُ عِزُّ الدِّينِ في (كتابِ المجازِ) فقالَ: الظاهرُ أنَّ الكنايةَ ليسَتْ من المجازِ؛ لأنَّها اسْتُعْمِلَتْ فيما وُضِعَتْ له، وأُرِيدَ بها الدلالَةُ على غيرِهِ كدليلِ الخطابِ في مثلِ:

{وَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}. ومثلُه نَهْيُهُ عن التضْحِيَةِ بالعَوْراءِ والعرجاءِ. وصاحبُ (التلخيصِ) قالَ: ليسَتْ بحقيقةٍ ولا مجازٍ، وأمَّا المصنِّفُ فتَابَعَ والِدُه في انْقِسامِها إلى حقيقةٍ ومجازٍ، فإنَّك إذا قُلْتَ: زيدٌ كثيرُ الرمادِ، فإنَّ أَرَدْتَ معناهُ ليُسْتَفَادَ منه الكرمُ، فإنَّ كثرةَ الرمادِ والطبْخ لازمٌ له غالباً، فهذا حقيقةٌ؛ لأنَّك

اسْتَعْمَلْتَ لَفْظَها فيما وُضِعَ له، والحقيقةُ كذلك سواءٌ كانَ الوضْعُ مَقْصوداً لذاتِه أم لغيرِه، وإنْ لم تَرِدْ المعنَى وإنَّما عَبَّرَتْ بالملزومِ وأَرَدْتَ اللازمَ كما إذا اسْتَعْمَلْتَ كثرةَ الرمادِ وأَرَدْتَ الكرمَ، فهو مجازٌ لاستعمالِه في غيرِ ما وُضِعَ له، وحَاصِلُه أنَّ الحقيقةَ فيها أنْ يُسْتَعْمَلَ اللفظُ فيما وُضِعَ له ليُفِيدَ غيرَ ما وُضِعَ له، والمجازُ فيها أنْ يُرِيدَ به غيرَ موضوعِه اسْتِعْمَالاً وإِفادَةً، أو نقولُ: تارةً يُرَادُ به المعنَى الحقيقيِّ ليَدُلَّ على المعنَى المجازيِّ، فيكونُ حقيقةٌ، وتارةً يُرَادُ به المعنَى المجازيِّ لدلالَةِ المعنَى الحقيقيِّ الذي هو موضوعُ اللفظِ عليه فيكونُ من أقسامِ المجازِ. ص: والتعريضُ: لفظٌ اسْتُعْمِلَ في معناهُ ليَلُوحَ به غيرُه، فهو حقيقةٌ أيضاًً. ش: التعريضُ: إنَّما يُرَادُ به اسْتِعْمَالُه في المعنَى الحقيقيِّ، لِكَي يَلُوحَ به إلى غَرَضٍ آخَرَ هو المقصودُ، سُمِّيَ تَعْرِيضاً؛ لأنَّ المعنَى باعتبارِه يُفْهَمُ من عَرْضِ اللفظِ؛ أي: من جَانِبِه، فهو يُشْبِه الكنايةَ، إذا قُصِدَ بها الحقيقةُ، وهو أَخَصُّ من الحقيقةِ؛

لأنَّها مُرادَةٌ من حيثُ هي هي، ولا يَدْخُلُه مجازٌ بخلافِ الكنايةِ إذا قُصِدَ بها الحقيقةُ كقولِ الخليلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}؛ أي: أنَّ كبيرَ الأصنامِ غَضِبَ أنْ تُعْبَدَ هذه الأصنامُ الصغارُ فكَسَرَها فكذلك يَغَضَبُ اللهُ لعبادِه من دونِه، فهذا اللفظُ ظاهرُ الاستعمالِ في معناهُ، ولكنْ لَوَّحَ السامِعُ منه غيرَه. فائدةٌ: ذَكَرْتُ في كتابِ (البُرْهَانَ في علومِ القرآنِ) أقْسَامَ الكنايةِ الواقعةِ في القرآنِ إلى عَشَرَةِ أقسامٍ، أخريها=: أنْ يَعْمَدَ إلى جُمْلَةٍ وَرَدَ معناها على خلافِ الظاهرِ، فيَاخُذُ الخُلاصَةَ منها من غيرِ اعتبارِ مُفْرَدَاتِها بالحقيقةِ أو المجازِ، فتُعْبِّرُ بها عن مقصودِك، وهذه الكنايةُ اسْتَنْبَطَها الزَّمَخْشَرِيُّ وخَرَّجَ عليها قولَه تعالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. فإنَّه كنايةٌ عن المُلْكِ؛ لأنَّ الاستقرارَ على السريرِ لا يَحْصُلُ إلاَّ معَ المُلْكِ، فجَعَلُوهُ كنايةً عنه، وكقولِه تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ}. إنَّه كنايةٌ عن عَظَمَتِه وجَلالِه من غيرِ ذِهابٍ بالقَبْضِ واليمينِ إلى جِهَتَيْنِ؛ حقيقةٍ ومجازٍ. وقد اعْتَرَضَ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ على المُلْكِ بأنَّها تَفْتَحُ بابَ تَاوِيلاتِ البَاطِنِيَّةِ: فلَهُم أنْ يَقُولُوا: المُرادُ من قولِه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} الاستغراقُ في الخِدْمَةِ من غيرِ الذهابِ إلى نَعْلٍ وخَلْعِه، وكذا نظائرُه، وهذا مَرْدُودٌ؛ لأنَّ هذه

الكنايةَ إنَّما يُصارُ إليها عندَ قيامِ دليلٍ على عَدَمِ إجراءِ اللفظِ على ظاهرِه معَ قرائنَ تَحُفُّ، إنَّها المُرادُ كما سَبَقَ من الأمثلَةِ، بخلافِ خَلْعِ النعْلَيْنِ ونحوِه. ص: الحروفُ. ش: المرادُ بالحروفِ التي يُحْتَاجُ إلى معرفتِها الفَقَيهُ، وليسَ المرادُ هنا ما هو قَسَيمُ الاسمِ والفِعْلِ، بل أسماءُ وظروفٌ وحروفٌ يَكْثُرُ تداولُها، فأُطْلِقَ الحَرْفُ على ذلك؛ لأنَّها أجزاءُ الكلامِ، من بابِ إطلاقِ الجزءِ وإرادةِ الكلِّ، هذا مُصْطَلَحُ الأصولِيِّينَ والفقهاءِ، فجَرَى المُصَنِّفُ عليه وليسَتْ الكلماتُ التي سَرَدَها كلَّها حروفاً، ولهذا عَدَا إمامُ الحرمَيْنِ في (البُرْهانِ) (مَا) في الحروفِ معَ تصريحِه بأنَّها اسمٌ، وكذلك فَعَلَ القاضِي الحُسَيْنِ في مسألةٍ: أي: عَبْدِي ضَرَبَكَ، قلتُ: بل عَبَّرَ بذلك سِيبَوَيْه إمامُ الصناعةِ. قالَ الصَّفَّارُ في (شَرْحِ سِيبَوَيْه) يُطْلِقُه سيبويه على الاسمِ والفعلِ بدليلِ قولِه: ولم يَسَكِّنُوا آخَرَ الحرفِ، يعني: فِعْلٌ؛ لأنَّ فيه بعضُ ما في المُضارَعَةِ، أَرَادَ بالحرفِ الفِعْلَ المَاضِي، وقالَ في قَوْلِهِ تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقِهِمْ}. فمَا لم يَمْنَعِ الباءَ من العمَلِ في الحرفِ نَقْصاً وهو اسمٌ. انتهى. ص: أحدُها: إذن، قالَ سِيبَوَيْه: للجوابِ والجزاءِ، قالَ الشَّلَوْبِينَ:

دائماً، وقالَ الفارسيُّ: غالباً. ش: إذن: مَعنَاها: الجوابُ والجزاءُ، فإذا قالَ: أنا صَدِيقُكَ، فقلتَ: إذن أُكْرِمَكَ، فقد أَجَبْتَه وصَيَّرْتَ إِكْرَامَك إيَّاهُ جزاءً على قَصْدِه. قالَ الزجاجُ: تأويلُها: إنْ كانَ الأمْرُ كما ذَكَرْتَ فأنَا أُكْرِمُكَ، فأَغْنَتْ إذنْ عن ذِكْرِ الشَّرْطِ في الجوابِ كما أَغْنَتْ نَعَمْ عن ذِكْرِ المسؤولِ عنه في الجوابِ، فهي كذلك تُفِيدُ معنيَيْنِ: أحدُهما: جوابُ كلامِه. والثاني: جزاءُ فِعْلِه. واعْلَمْ أنَّ مُجِيبَها لهما هو نصُّ سِيبَوَيْه، واخْتُلِفَ فيه، فحَمَلَه قومٌ منهم الشَّلَوْبِينَ على ظاهرِه، وقالَ: إنَّها لهُما في

كلِّ مَوْضِعٍ. وتَكَلَّفَ تَخْرِيجَ ما خَفِيَ فيه ذلك، وذَهَبَ الفارسيُّ إلى أنَّها قد تَرِدُ لهُما وهو الأكثرُ، وقد تَتَمَحَّضُ للجوابِ وَحَدَه، نحوَ قولِك: أُحِبُّكَ. فتقولُ: إذنْ أَظُنَّكَ صَادِقاً. فلا يُتَصَوَّرُ هنا الجزاءُ، وحُمِلَ كلامُ سَيبَوَيْه على ذلك كما قالَ في (نَعَمْ): إنَّها عُدَّةٌ= وتصديقٌ باعتبارِ حالَيْنِ. وقالَ بعضُ المُتَأَخِّرِينَ: (إذن) وإنْ دَلَّتْ على أنَّ ما بعدَها مُتَسَبِّبٌ عمَّا قَبْلَها ـ على وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُما: أنْ تَدُلَّ على إنشاءِ الارتباطِ والشَّرْطِ بحيثُ لا يُفْهَمُ الارتباطُ من غيرِها في ثاني الحالِ، فإذا قلتَ: أَزُورُك. فقلتَ: إذنْ أَزُورَكَ. فإنْ أَرَدْتَ أنْ تَجْعَلَ فِعْلَه شَرْطاً لفِعْلٍ، وإنشاءُ السبَبِيَّةِ في ثاني حالٍ من ضرورتِه إنَّها تكونُ في الجوابِ وبالفِعْلِيَّةِ في زمانٍ مُسْتَقْبَلٍ. والثاني: أنْ تكونَ مُؤَكِّدَةُ جوابٍ ارْتَبَطَ بمُتَقَدِّمٍ، أو مُنَبِّهَةٍ على سببٍ حَصَلَ في الحالِ، نحوَ: إنْ آتَيْتَنِي إذنْ آتِكَ، وواللهِ إذنْ أفَعْلَ، وإذنْ أُظُنَّكَ صادقاً، تقولُه لمَنْ حَدَّثَكَ، فلو حَذَفْتَ (إذنْ) فُهِمَ الرَّبْطُ، وإذا كانَ بهذا المعنَى ففي دُخُولِها على الجُمْلَةِ الصريحةِ، نحوَ: إنْ يَقُمْ زيدٌ إذنْ عمرٌو قائمٌ، نظرٌ، والظاهرُ الجوازُ. ص: الثاني: إنَّ للشروطِ والنَّفْيِ والزيادَةِ. ش: مَجِيئَها للشرْطِ هو الغالبُ: وهي أمُّ أدواتُ الشرْطِ، ومجيئَها للنَّفْيِ بمعنَى (مَا) نحوَ: إنْ زيدٌ قائماً، وهي تارةٌ تكونُ معه عاملَةٌ، تَرْفَعُ الاسمُ وتَنْصِبُ الخَبَرَ عندَ الكُوفِيِّينَ، كقراءَةِ سعيدِ بنَ جُبَيْرٍ: (إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ

عِبَاداً أَمْثَالُكُمْ). وتارةً تكونُ غيرُ عاملَةٍ، وهو كثيرٌ كقولِه تعالى: {إِنِ الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ}، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حَافِظٌ} وادَّعَى بَعْضُهم أنَّها لا تَجِيءُ نافِيَةٌ إلاَّ بعدَها (إلاَّ) أو (لمَّا) المُشَدَّدَةُ التي بمعنَى (إلاَّ) ويَرُدُّه قولُه تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا}، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ}. ومَجِيئِها للزيادَةِ أَكْثَرُه بعدَ (مَا) النافيةِ لتَوْكيدِ النَّفْيِ نحوَ: ما إنْ زيدٌ قائمٌ، وزَعَمَ ابنُ الحَاجِبِ: أنَّها تُزادُ بعدَ (لمَّا) الإيجابِيَّةِ، وغَلَطَ فيه، وإنَّما تلك المَفْتُوحَةِ. تنبيهٌ: لم يَذْكُرْ (إنَّ) المُشَدَّدَةَ ومَجِيئِهَا للتعليلِ، وذَكَرَه في بابِ القياسِ في

مَسَالِكِ العِلَّةِ، وكأنَّه اسْتَغْنَى عنه كذلك، وقد أنْكَرَهُ ابنُ الأنْبَارِيِّ في مَسائِلِ سُئِلَ عنها في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهَا مِنَ الطَّوَافِينَ عَلَيْكُمْ)) فقالَ: لم تَاتِ للتَّعْلِيلِ بالإجماعِ، وإنَّما هي للتاكِيدِ، وبمعنَى نَعَم لا غيرُ، والتعليلُ إنَّما اسْتُفِيدَ من الطوافِ لا من إنَّ. ص: الثالثُ: أو للشَّكِّ والإبْهامِ والتخْييرِ ومُطْلَقُ الجَمْعُ والتَّقْسِيمُ وبمعنَى إلِى والإضْرابُ كـ (بَلْ) قالَ الحَرِيرِيُّ: والتقريبُ نحوَ: ما أَدْرِي أَسَلَّمَ أو وَدَّعَ. ش: مثالُ الشَّكِّ: قامَ زيدٌ أو عَمْرٌو، وإذا لم تَعْلَمْ أيُّهما قَامَ، ومنه: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} والفرقُ بينها وبينَ إمَّا، إذا اسْتُعْمِلَتْ للشَّكِّ، أنَّ الكلامَ معَ إمَّا لا يكونُ إلاَّ مبنيًّا على الشَّكِّ، و (أو) بخلافِه، وقد يُبْنَى الكلامُ أولاً على الشَّكِّ فتكونُ كإمَّا، وقد يُبْنَي المُتَكَلِّمُ كلامُه أولاً على اليقينِ ثمَّ يُدْرِكُه الشَّكُّ. ومثالُ الإبْهامِ: قَامَ

زَيدٌ أو عَمْرٌو، إذا كُنْتَ تَعْلَمُ القائمَ منهما، إلاَّ أنَّك قَصَدْتَ الإيهامَ على المُخاطَبِ، ومنه قولُه تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} والفرْقُ بينَهُما: أنَّ الشَّكَّ من جِهَةِ المُتَكَلِّمِ والإبْهامِ من جِهَةِ السامِعِ، وجَوَّزَ القِرَافِي في الإبِهامِ قراءَتَه بالمُوَحَدَّةِ والمُثَنَّاةِ؛ لأنَّ المقصودَ التلْبِيسُ على السامِعِ، ومثالُ التخْييرِ وهي الواقعةُ بعدَ الطَّلَبِ، وقيلَ: ما يُمْنَعُ فيه الجَمْعُ نحوَ: تَزَوَّجْ هنداً أو أُخْتَها، وخُذْ من مالِي دِرْهَماً أو دِيناراً. واسْتُشْكِلَ على التفسيرِ الثاني تَمْثِيلُ الأَئِمَّةِ بآيَتِي الكفَّارَةِ والفِدْيَةِ، للتَّخْييرِ معَ إمْكانِ الجَمْعِ، وأَجَابَ صاحبُ (البسيطِ) من النحْويينَ بأنَّه إنَّما يَمْتَنِعُ الجَمْعُ بينَهما في المحظورِ؛ لأنَّ أحدَهما يَنْصَرِفُ إليه الأمَرُ، والآخَرُ يَبْقَى محظوراً لا يَجُوزُ له فِعْلُه، ولا يَمْتَنِعُ في خِصالِ الكفَّارَةِ؛ لأنَّه يأتِي بمَا عدا الواجبُ مُتَبَرِّعاً ولا مَنَعَ من التبَرُّعِ، ولم يَذْكُرْ المُصَنِّفُ الإبَاحَةَ، ومنهم مَن غَايَرَ بينَهما وبينَ التخييرِ، ومثلُ الإبَاحَةِ بما يَجُوزُ الجَمْعُ بينَهما نحوَ: أَصْحَبَ العلماءُ أو الزهادُ، والتخييرُ بما يُمْنَعُ الجمعُ نحو: خُذْ الثوْبَ أو الدينارَ، والظاهرُ أنَّهما قِسْمٌ واحدٌ؛ لأنَّ حقيقةَ الإباحةِ هي التخييرُ، وإنَّما امتنع الجمع في الثوب أو الدينار للقرينة العرفية لا من مدلول اللفظ، كما أن الجمع بينَ صحبة العلماء والزهاد وصف (69 أ) كمال لا نقص فيه،

والفرق بينَ الإباحةِ والتخييرِ، وبقيةُ معانِي (أَوْ) أنَّ الإباحةَ والتخييرِ في الطَلَبِ والشَّكِّ والإيهامِ والتنْويعِ في الخَبَرِ، فإنْ جَاءَتْ (أو) بعدَ النهْيِ وَجَبَ اجْتِنابُهُما معاً كقولِه تعالى: {وَلاَ تُطِعْ فيهِم آثِماً أَوْ كَفُوراً}؛ أي: لا تُطِعْ أحدُهما، فلو جَمَعَ بينَهما لفِعْلِ المَنْهِيِ عنه مَرْتَيْنِ، وفي (الارْتِشافِ) إذا نَهَيْتَ عن المُبَاحِ اسْتَوْعَبْتَ ما كانَ مُباحاً، باتفاقِ النُّحَاةِ، منه، ولا تُطِعْ منهم آثماً أو كَفُوراً، وإذا نَهَيْتَ عن المُخَيَّرِ فيه، فذَهَبَ السِّيرَافِيُّ إلى أنَّه يَسْتَوْعِبُ الجميعَ، وذَهَبَ ابن كَيْسَانَ إلى جوازِ أنْ يكونَ النَّهْيُ عن واحدٍ وأنْ يكونَ عن الجميعِ. انتهى. ومثال: مُطْلَقُ الجمْعِ كالواوِ، قولُه تعالَى: {أَوْ يَزِيدُونَ} وهذا قولٌ كُوفِيٌّ. ومثالُ التقسيمِ: الكَلِمَةُ اسمٌ أو فِعْلٌ أو حرفٌ، وأَبْدَلَ ابنُ مالِكٍ التقسيمُ بالتفريقِ المُجَرَّدِ، يعني من المعانِي السابِقَةِ، ومثلُه بقولِه تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى}. قالَ: والتعبيرُ عنه بالتفريقِ أوْلَى من التقسيمِ؛ لأنَّ استعمالَ الواوِ فيما هو تَقْسيمٌ أَجْوَدٌ من اسْتِعِمَالِ (أو)، ونُوَزِّعُ في ذلك بأنَّ مَجِيءَ الواوِ في التقْسيمِ أكْثَرُ، لا يَقْتَضِي أنَّ (أو) لا يَاتِي له، بل يَقْتَضِي ثُبُوتُ ذلك غيرَ أكثرَ. ومثالُ (إلى): لأَلْزَمَنَّكَ أو تَقْضِي حَقِّي، وجَعَلَ منه بعضُهم قولِه تعالى: {أَوْ

تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةٌ} إذا قُدِّرَ تَفْرِضُوا مَنْصُوباً بأنْ مُضْمَرَةً، ويَكونُ غايةٌ لنَفْي الجناح=. ومثالُ الإضرابِ قولُه تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ}. قالَ الفَرَّاءُ هنا: (أو) بمعنَى بل، وقد تَجِيءُ للإضرابِ مُطْلَقاً، وعن سِيبَوَيْه بشرْطَيْنِ، تَقَدَّمَ نَفْيٌ أو نَهْيٌ، وإعادةُ العامِلُ، نحوَ: ما قَامَ زيدٌ أو ما قَامَ عَمْرٌو، ولا يَقُمْ زَيدٌ أو لا يَقُمْ عمرٌو. ومثالُ التقْريبِ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ: ما أَدْرِي أَسْلَمَ أو وَدَّعَ؛ أي: لسُرْعَتِه، وإنْ كانَ يَعْلَمُ أنَّه سَلَّمَ أولاً، وجَعَلَ مثلَه: ما أَدْرِي أَذَّنَ أو أَقَامَ، وحكايتُه عن الحَرِيرِيِّ تَابَعَ فيه الشيخُ في (المُغْنِي)، وقد ذَكَرَهُ أَبُو البَقاءِ أيضاًً، وجَعَلَ منه قولَه تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}. ثمَّ قالَ الشيخُ: وهو بَيَّنَ الفسادَ، و (أو) فيه إنَّما هي للشَّكِّ، وإنَّما اسْتُفِيدَ التقريبُ من: إثباتِ اشتباهِ السلامِ بالتوْدِيعِ، إذ حصولُ ذلك معَ تَبَاعُدِ ما بينَ الوقتَيْنِ مُمْتَنِعٌ أو مُسْتَبْعِدٌ، قلتَ: وهذا لا يَتَأَتَّى في

الآيةِ إلاَّ برجوعِه إلى الإبْهامِ على المُخاطَبِ، وأمَّا دَعْوَى إسنادِه ذلك فيما بعدَ (أو)، فلا خُصوصِيَّةٍ له بهذا المعنَى، ولهذا ذَهَبَ قومٌ إلى أنَّها موضوعةٌ للقَدْرِ المُشْتَرَكِ بينَ المعانِي السابِقَةِ، وهي لأحَدِ الشيئَيْنِ أو الأشياءِ، وإنَّما فُهِمَتْ هذه المعانِي من القرائنِ. ص: الرابعُ: أي: بالفتحِ والسكونُ للتَّفْسيرِ والنداءِ القريبِ أو البعيدِ أو المتوسطِ، أقوالٌ: ش: معنى التفسيرُ: أنْ تكونَ تفسيراً لِمَا قَبْلَها وعبارَةٌ عنه، وهي أَعَمٌّ من (أنْ) المُفَسِّرَةِ؛ لأنَّ (أي) تَدْخُلُ على الجُمْلَةِ والمُفْرَدِ، ويَقَعُ بعدَها القولُ وغيرُه. مثالُ المُفْرَدِ: عندَي عَسْجَدُ، أي: ذَهَبَ. ومثالُ الجُمْلَةِ: قولُ الشاعرِ: وتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أي أَنْتِ مُذْنِبٌ ... وتقلينني لَكِنْ إيَّاكِ لاَ أَقلي فجَعَلَ (أنت مُذْنِبٌ) تفسيراً لـ (تَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ) إنْ كانَ (تَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ) معناهُ: تَنْظُرُ إلى نَظَرٍ مُغْضِبٍ، ولا يكونُ ذلك إلاَّ عن ذَنْبٍ. وأَغْرَبَ ابنُ أَبِي الفَتْحِ في (شَرْحِ الجُمَلِ) فقالَ: شَرْطُها أنْ يكونَ ما قَبْلَها جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مُسْتَغْنِيَةٌ بنَفْسِها يَقَعُ بعدَها جُمْلَةٌ أُخْرَى تَامَّةٌ أيضاًً، تكونُ الثانيةُ هي الأولَى في المعنَى مُفَسِّرَةً لهَا، فتَقَعُ بينَهما (أي) وادَّعَى بعضُهم أنَّها اسمُ فِعْلٍ بمعنَى: عُوا= أو فهموا=، وُضِعَتْ لِعَدَمِ دلالَتِها على معنًى في نَفْسِه بغيرِ إضَافَةٍ. وحَكَى ابنُ مالِكٍ عن صاحبِ (المُسْتَوْفِي) أنَّها حَرْفُ عَطْفٍ، ثمَّ قالَ: والصحيحُ أنَّها حَرْفُ تفسيرٍ تَابِعٍ يَتْبَعُ ما بعدَها الأجْلَى الأخْفَى، وهو عَطْفُ بيانٍ يُوافِقُ ما قَبْلَها في التعريفِ والتنكيرِ. ومثالُ النداءِ: أي زيدٌ، وفي الحديثِ: ((أي رَبُّ))، وعلى هذا فهل يُنَادَى بها القريبُ

أو البعيدُ مسافةً أو حُكْماً، أو المُتَوَسِّطُ، أقوالٌ: وبالأوَّلِ قالَ المُبَرِّدُ والزَّمَخْشَرِيُّ، وبالثالثِ قالَ ابنُ بُرْهانٍ، وفيه إثباتُ رُتْبَةٍ ثالثةٍ وهو التَّوَسُّطُ ولا يَعْرِفُه الجمهورُ، والراجحُ الثاني، ونَقَلَه ابنُ مالِكٍ عن سِيبَوَيْه؛ لأنَّه صَرَّحَ بأنَّها مثلُ (هنا) و (أيا) في البعيدِ، وعَلْلَّ القَوَّاسُ الأوَّلَ بقلَّةِ لفظِها وعَدَمِ الحاجةِ لمَدِّ الصوتِ، وتَظْهَرُ فائدَةُ العِلَّتَيْنِ في الأُولَى، فعَلَى الأوَّلِ هي مُساوِيَةٌ لها وعلى الثاني فلا، وفي كتابِ (الأدَواتِ)؛ أي: للقريبِ حاضراً إذا كانَ مُعْرِضاً عنك، والألِفُ للقريبِ المُقْبِلِ عليك، و (يا) للجَمْعِ. ص: وبالتشديدِ: الشرْطُ والاستفهامُ ومَوصولَةٌ ودَالَّةٌ على معنَى الكمالِ ووصْلَةٌ لنداءٍ ما فيه (أل). ش: أي: بالفتحِ والتشديدِ، مثالُ الشرْطِ: أيُّهم يُكْرِمُنِي أَكْرِمْه. والاستفهامُ {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً}. قالَ الآمِدِيُّ: ولا تكونُ اسْتِفْهَامِيَّةً أو شَرْطِيَّةً إلاَّ مَعْرِفَةً وهو مردودٌ، بل يَجُوزُ أنْ تكونَ مَعْرِفَةً أو نَكَرِةً حسَبِ ما تُضَافُ إليه. ومثالُ الموصولةِ: أي: بمعنَى (الذي)، قولُه تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ}. التقديرُ: لِنَنْزِعَنَّ الذي هو أَشَدُّ، قالَه سِيبَوَيْه وخَالَفَه الكُوفِيُّونَ،

والدالَّةُ على معنَى الكمالِ هي الصفَةُ. وتَقَعُ تَارَةً صِفَةً للنَّكِرَةِ: نحوَ: زيدٌ رجلٌ أيَّ رَجُلٍ؛ أي: كاملٌ في صفاتِ الرجالِ. وحالاً للمَعْرِفَةِ: كمَرَرْتُ بعَبْدِ اللهِ أيَّ رَجُلٍ. واعْلَمْ إنَّها إذا وَقَعَتْ صِفَةٍ، فإنَّ أُضِيفَتْ إلى مُشْتَقٍّ كانَتْ للمَدْحِ بالمُشْتَقِّ منه خاصَّةً، وإنْ أُضِيفَتْ إلى غيرِ المُشْتَقِّ، كانَتْ للمَدْحِ بكلِّ صِفَةٍ يُمْكِنُ أنْ يُثَنَّي بها، فالأوَّلُ: كمَرَرْتُ بعالِمٍ أيَّ عَالِمٍ، فالثناءُ عليه بالعِلْمِ خَاصَّةً، والثاني: كمَرَرْتُ برجُلٍ أيَّ رجُلٍ، فالثناءُ عليه بكلِّ ما يُمْدَحُ به الرَّجُلُ، وكلامُ المصنِّفِ شاملٌ للضرْبَيْنِ. ومثالُ الوَصْلَةِ: يا أَيُّها الرجلُ، وزَادَ بَعْضُهم مَجيئِها للتَّخْصِيصِ، نحوَ: اللَّهُمَ اغْفِرْ لنا أيَّتُها العِصَابَةُ. والتَّعَجُّبِ كقولِه: أيَّ فَتَى الهَيْجَاءِ أنت، وجَارَةٌ وهذا رَاجِعٌ إلى الاسْتِفْهامِ. تنبيهٌ: كانَ يَنْبَغِي أنْ يَذْكُرَ (إيْ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وسُكُونِ الياءِ، ليَسْتَوْفِي جميعِ أقْسامِها، وهي حَرْفُ جَوابٍ بمعنَى نَعَمْ، ولا يُجَابُ بها إلاَّ معَ القِسْمِ في جوابِ الاسْتِفْهامِ نحوَ: {ويَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي}. ص: الخامسُ: إذ: اسمٌ للماضِي ظَرْفاً، ومفعولاً به، وبَدَلاً من المفعولِ، ومُضَافاً إليها اسمُ زمانٍ والمستقبلُ في الأصَحِّ، وتُرَدُّ للتَّعْلِيلِ حرفاً، وقيلَ: ظرفاً وللمُفَاجَأَةِ وفاقاً لسِيبَوَيْه. ش: أَجْمَعُوا على سبَبِيَّةِ (إذ) بدليلِ تَنْوينِها في نحوَ: يومَئذٍ، والإضافةُ إليها نحوَ: {إِذْ هَدَيْتَنَا}. وهي اسمٌ للمَاضِي نحوَ: قُمْتُ إِذ قَامَ زَيدٌ، سواءٌ دَخَلَتْ على الماضِي أو غيرِه. ومثالُ اسْتِعْمَالِها ظَرْفاً: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَدَّمَه المُصَنِّفُ؛ لأنَّه الغَالِبُ فيها. ومثالُ المَفْعُولِيَّةِ: {وَاذْكُرُوا إِذْ

كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}. ومثالُ البدلَيَّةِ: {اذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انْتَبَذَتْ}، فإذ: بَدَلُ اشْتِمالٍ من مريمَ على حدِّ البَدَلِ في قَوْلِهِ تعالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}. ومثالُ المُضَافِ إليها الزمانُ: أي: سواءٌ صَلُحَ الاسْتِغْنَاءُ عنه نحو: يومَئذٍ، أو لا، نحوَ: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}. ومثالُ المستقبلِ: بمعنَى إذا: {يَوْمَئذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارِهَا} وهذا ما اخْتَارَهُ ابنُ مالِكٍ وجَمْعٍ من المُتَأَخِّرِينَ مُحْتَجِّينَ بقولِه تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}. ولكنَّ الأكثرِينَ على المَنْعِ، وأَجَابُوا عمَّا تَمَسَّكَ به الأوَّلُونَ بأنَّ الأمورَ المُسْتَقْبَلَةَ لمَّا كانَتْ في أَخْبَارِ اللهِ مُتَيَقِّنَةٍ مَقْطُوعاً بها، عَبَّرَ عنها بلفْظِ المَاضِي، وبِهذا أَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وابنُ عَطِيَّةَ، وغيرُهما. ومثالُ التعْلِيلِ: {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا}. ثمَّ اخْتَلَفَ النحْويُّونَ في أنَّها حينَئذٍ هل تَكونُ حَرْفاً بمَنْزِلَةِ لامِ العِلَّةِ ـ ونُسِبَ لسِيبَوَيْه، وصَرَّحَ به ابنُ مالِكٍ في بَعْضِ نُسَخِ (التسْهيلِ) ـ أو ظَرْفاً؟ والتعليلُ مُسْتَفَادٌ من قوَّةِ الكلامِ لا من اللفظِ. والمرادُ بالمُفاجأةِ: الواقعةُ بعدَ (بينا) و (بينما)، قالَ سِيبَوَيْه: بيْنَا أنَا كذا إذ جَاءَ زَيدٌ،

فهو لمَّا تَوَقَّعَه ويهجم= عليه، والخلافُ السابقُ آتٍ هنا: هل هي حرفٌ بمعنَى المفاجأةِ، أو باقيةٌ على ظرْفِيَّتِها الزمانيَّةِ، ويَزِيدُ هنا قولُ: إنَّها ظرفُ مكانٍ كما قيلَ به في إذا الفُجَائِيَّةِ. ص: السادسُ: إذا للمُفَاجَأَةِ. ش: وهي التي يَقَعُ بعدَها المبتدأُ، فرقاً بينها وبينَ الشرْطِيَّةِ، نحو: خَرَجْتُ فإذا الأسدُ بالبابِ، ومنه قولُه تعالى: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}. قالَ صاحبُ (الكَشَّافِ) إنَّها إذا الكائنَةُ بمعنَى الوقْتِ، الطالِبَةُ ناصِباً لها وجُمْلَةٌ تُضَافُ إليها، خَصَّتْ في بَعْضِ المَواضِعِ بأنْ يكونَ ناصِبُها فِعْلاً مَخْصُوصاً، وهو فعْلُ المفاجأةِ، والجملةُ ابتدائيَّةٌ لا غيرَ، نحو قولِه تعالى: {حِبَالُهُمْ وعِصِيُّهُمْ} وفَاجَأَ مُوسَى وقْتَ تَخَيُّلِ سَعْيِّ= حِبَالِهم. وقالَ ابنُ الحَاجِبِ: معنَى المفاجأةِ: حضورُ الشيءِ معَكَ في وصْفٍ من أوصافِك الفِعْليَّةِ، وتصويرُه في المثالِ حضورُ السبْعِ معَك في زَمَنِ وصفِك بالخروجِ، أو في مكانِ خروجِك؛ لأنَّ حَصْرَ ذاتِكَ في مكانِ فِعْلِك حينَ تَلَبُّسِكَ به أَمَسُّ من حَصْرِكَ في زَمَنِ فِعْلِكَ حينَ تَلَبَّسَكَ به؛ لأنَّ ذلك المكانَ يَخُصُّكَ ذلك الحينُ دونَ مَن أشْبَهَك، وذلك الزمانُ لا يَخُصُّكَ دونَ مَن أَشْبَهَكَ، وكلمَّا كانَ الفاجِئُ ألَصَفُ بالمُفَاجَأِ، كانَتْ المُفَاجَأَةِ أَقْوَى.

ص: حرفاً، وِفَاقاً للأخْفَشِ وابنِ مالِكٍ، وقالَ المُبَرِّدُ وابنُ عُصْفُورٍ ظَرْفُ زمانٍ، والزجَّاجُ والزَّمَخْشَرِيُّ: ظرْفُ مكانٍ. ش: اخْتَلَفُوا فيها على ثلاثةِ مذاهبَ: أَصَحَّهَا: أنَّها حَرْفٌ؛ لأنَّ المُفاجأةَ معنًى من معانِي الكلامِ كالاسْتفهامِ والنفْيِ، والأصْلُ في المعانِي أنْ تُؤَدِّي بالحروفِ نحوَ: (لم) و (قد) و (ما) ورَجَّحَ قولُهم: فإذا إنَّ زيداً بالبابِ بكَسْرِ إنَّ، إذ لا يُعْمَلُ ما بعدَ إنَّ فيما قبْلَها. والثاني: أنَّها ظَرْفُ زمانٍ. والثالثُ: أنَّها ظرفُ مكانٍ بدليلِ وُقوعِها خَبَراً عن الجُثَّةِ بدليلِ: خَرَجْتُ فإذا زَيدٌ، وظرفُ الزمانِ لا يَقَعُ خَبَراً عن الجُثَّةِ، وأَجَابَ الثاني بأنَّه على حَذْفِ مُضافٍ؛ أي: حضورُ زيدٍ، ونَسَبَ هذا وما قَبْلَه لسِيبَوَيْه. وفائدةُ الخلافِ تَظْهَرُ إذا قُلْتَ: خَرَجْتُ فإذا الأسدُ، فعَلَى الأوَّلُ لا يَصِحُّ كونُها خبراً؛ لأنَّ الحرْفَ لا يُخْبَرُ به ولا عنه، وكذا على الثاني؛ لأنَّ الزمانَ لا يُخْبَرُ به عن الجُثَّةِ، ويَصِحُّ على الثالثِ؛ أي: فبالحَظِيرَةِ الأسدُ. ص: وتَرِدُ ظَرْفاً للمُسْتَقْبَلِ مُضَمَّنَةً معنَى الشرطِ غالباً. ش: ولذلِكَ تُجَابُ بمَا يُجابُ به أَدَواتُ الشرْطِ، نحوَ: إذا جَاءَ زيدٌ فَقُمْ

إليه، قالُوا: واخْتُصَّتْ من بينَ أدواتِ الشرْطِ بأنَّها لا تكونُ إلاَّ في المُحَقَّقِ، نحوَ: إذا طَلَعَتِ الشمْسُ فاتِنِي. أمَّا (إنَّ) ونحوها فتكونُ للمَشْكُوكِ فيه، ولهذا قالَ تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} لمَّا كانَ المَسُّ في البحرِ مُحَقَّقاً، بخلافِ قولِه: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} فإنَّه لم يُقَيِّدْ مَسُّ الشَّرِّ بل أَطْلَقَه، ولمَّا قَيَّدَه بالبحرِ الذي يَتَحَقَّقُ ذلك أَتَى بهذا، وهذا يُضْعِفُ التاويلَ الذي حَكَاهُ البُخَارِيُّ عن إِسْحَاقَ بنِ رَاهُويَهْ في الحديثِ الذي حَسَّنَه التِّرْمِذِيِّ: ((أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ، كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ)) أنَّ معناهُ: إنِ اشْتَهَى الولَدَ كانَ

ولكنْ لا يَشْتَهِيهِ، فقيلَ: ليسَ هذا طبيعَةُ (إذا)، بل طبيعةُ غيرِها من أدواتِ الشرْطِ، واسْتَظْهَرَ بقولِه: غالباً إلى مَجِيئِهَا مُجَرَّدَةً من معنَى الشرْطِ كما سَيَاتِي. ص: ونَدَرَ مَجيئُها للماضِي والحالِ. ش: أمَّا المَاضِي فعَلامَتُها أنْ تَقَعَ مَوْقِعَ إذ، كقولِه تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُم} وقولِه: {وَإِذَا رَأَوُا تِجَارَةُ أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} خَبرٌ أَثْبَتَه بعضُهم، وتَابَعَه ابنُ مالِكٍ، والجمهورُ مَنَعُوهُ، وتَأَوَّلُوا ما أَوْهَمَ ذلك. وأمَّا الحالُ وعَلامَتُها بعدَ القَسَمِ نحوَ: {وَالْلَيْلِ إِذَا يَغْشَى}، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}؛ لأنَّها لو كانَتْ للاسْتِقْبَالِ لم تَكُنْ ظَرْفاً لفِعْلِ القَسَمِ؛ لأنَّه إنشاءٌ لا إخْبارٌ عن قِسْمٍ ثانٍ؛ لأنَّ قَسَمَه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى قديمٌ، ولا يكونُ محذوفٌ هو حالٌ من الليلِ والنجمِ؛ لأنَّ الاستقبالَ والحالَ مُتنافِيانِ، وإذا بَطُلَ هذانِ تَعَيَّنَ أنَّه ظَرْفٌ لأحدِهما على أنَّ المُرَادَ به الحالُ. وقالَ ابنُ الحَاجِبِ في (شَرْحِ المُفَصَّلِ): قد تَاتِي لمُجَرَّدِ الظرفيَّةِ دونَ الشرطيَّةِ، نحوَ: {وَالْلَيْلِ إِذَا يَغْشَى}؛ لأنَّها لو كانَتْ شَرطيَّةٌ لاحْتَاجَتْ إلى جوابٍ، وليسَ في اللفظِ، فيكونُ مُقَدَّراً يَدُلُّ عليه فِعْلُ القَسَمِ، وهو فَاسِدٌ؛ لأنَّه يَصِيرُ المعنَى: إذا يَغْشَى أَقْسَمَ، فيكونُ القسمُ مُتَعَلِّقاً بالشرطِ وهو ظاهرُ الفسادِ، وإذا ثَبَتَ أنَّها لمُجَرَّدِ الظرفيَّةِ فليسَتْ مُتَعَلِّقَةٌ بفِعْلِ القَسَمِ؛ لأنَّه يَصِيرُ المَعْنَى: أَقْسَمَ في هذا الوَقْتِ بالليلِ، فيَصِيرُ القسمُ مبتدأً، والمعنَى على خلافِه، بل يَتَعَلَّقُ بفِعْلٍ محذوفٍ؛ أي: أَقْسَمَ بالليلِ حاصلاً في هذا الوقْتِ، فهي إذاً في مَوْضِعِ الحالِ من الليلِ. انتهى. وقد وقع في محذورٍ آخَرَ، وهو أنَّ الليلَ عبارَةٌ عن الزمانِ المعروفِ، فإذا جَعَلْتَ إذا مَعْمُولَةٌ لفِعْلٍ هو حالٌ من الليلِ لَزِمَ وقوعُ الزمانِ في الزمانِ وهو مُحالٌ، والحقُّ أنَّ (إِذَا) كما تَجَرَّدَ عن الشرْطِ تَجَرَّدَ كذلك عن الظرْفِ، فهي هنا

لمُجَرَّدِ الوقْتِ من دونِ تَعَلُّقِها بشيءٍ تَعَلُّقَ الظرفيَّةِ، وهي مجرورَةُ المَحَلِّ هَهنا لكونِها بَدَلاً عن الليلِ، كما جَرَتْ بحتى في قَوْلِهِ تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا} والتقديرُ: أَقْسَمَ بالليلِ وقتَ غَشَيَانِه؛ أي: أَقْسَمَ بوقَتِ غَشيانِ الليلِ. ص: السابعُ: الباءُ للإلصاقِ حقيقةً أو مجازاً. ش: معنَى الإلصاقِ: أنْ تُضِيفَ إلى ما كانَ لا يُضافُ إليه وتُلْصِقُه به لولاَ دُخُولُها نحوَ: خُضْتُ الماءَ برِجْلِي، ومَسَحْتُ برَاسِي، وهو أَصْلُ مَعانِيها، ولم يَذْكُرْ لها سِيبَوَيْه غيرَه، ولهذا قالَ المَغَارِبَةُ: لا تَنْفَكَّ عنه إلاَّ أنَّها قد يَتَجَرَّدَ له، وقد يُدْخِلُها معَ ذلك معنًى آخَرَ. وقالَ عبدُ القاهرِ: قولُهم الباءُ للإلصاقِ إنْ حَمْلْنَاهُ على ظاهرِه اقْتَضَى إفادتُها في كلِّ ما تَدْخُلُ عليه وهذا محالٌ؛ لأنَّها تَجِيءُ معَ الإلصاقِ نَفْسُه كقولِنَا: أَلْصَقَتْهُ به ولُصِقَتْ به، وحينَئذٍ فلا بُدَّ من تَاويلِ كلامِهم، والوجْهُ فيه أنْ يكونَ غَرَضَهُمْ من ذلك أنْ يقولُوا للمُتَعَلِّمِ: انْظُرْ إلى قولِك: أَلْصَقَتْهُ به، وتَأَمَّلِ المُلابَسَةَ التي بينَ المُلْصِقِ والمُلْصَقِ به، واعْلَمْ أنَّ الباءَ أينَما كانَت، كانَت المُلابَسَةُ التي تَحْصُلُ بها شَبِيهَةً بهذِه المُلابَسَةِ التي تَرَاهَا في قولِك: أَلْصَقَتْه به.

انتهى. ثمَّ الإلصاقُ قد يكونُ حقيقةً وهو الأكثرُ، نحوَ: أَمْسَكْتُ الحَبْلَ بِيَدِي، قالَ ابنُ جِنِّي: أي أَلْصَقْتُها به، وقد يكونُ مجازاً، نحوَ: مَرَرْتُ بزيدٍ، فإنَّ المرورَ لم يُلْصَقْ بزَيدٍ، وإنَّما التصورُ بمكانٍ يَقْرُبُ منه. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المعنَى: أَلْصَقْتُ مُرُورِي بمَوْضِعٌ يَقْرُبُ منه، كأنَّه يَلْتَصِقُ به، فهو على الاتساعِ. ص: والتَّعْدِيَةُ. ش: وهي التي يُقالُ لها: باءُ النقْلِ؛ لأنَّها تَنْقُلُ الفاعلَ ليَصِيرَ مَفْعُولاً، نحوَ: قُمْتُ بزيدٍ؛ أي: أَقَمْتُهُ، وذَهَبْتُ بزَيدٍ؛ أي: أَذْهَبْتُه، وإنْ كَانَتْ التَّعْدِيَةُ لا يُفَارِقُها، ولكنَّ المرادَ بالتعدِيَةِ هذا النوعُ الذي في مُقَابَلَةِ الهمْزَةِ. قالَ ابنُ مالكٍ: وهي القائِمَةُ مُقامَ النَّقْلِ في إيصالِ معنَى الفِعْلِ اللازمِ إلى المَفْعُولِ به، نحوَ: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} و {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} واعْتَرَضَهُ الشيخُ أَبُو حَيَّانٍ بأنَّها قد وَرَدَتْ معَ المُتَعَدِّي نحوَ: صَكَكْتُ الحَجَرَ بالحَجَرِ، ودَفَعْتُ بعضَ الناسِ ببَعْضٍ، فلهذا كانَ الصوابُ قولَ غيرِه، هي الداخلةُ على الفاعلِ فيَصِيرُ مفعولاً، ليَشْمَلَ المتعدِيَ واللازمَ. وغَلِطَ الشيخُ في ذلك؛ لأنَّ الباءَ في المثالَيْنِ إنَّما دَخَلَتْ على ما كانَ مفعولاً، والمُغَلَّطُ غالطٌ، بل إنَّما دَخَلَتْ على ما كانَ فاعلاً، والأصلُ: دَفْعُ بعضِ الناسِ بعضاً، وَصَكُّ الحجرِ الحجرَ بتَقْدِيم المفعولِ؛ لأنَّ المعنَى أنَّ المُتَكَلِّمَ صَيَّرَ البعضُ الذي دَخَلَتْ عليه الباءُ واقعاً للبعضِ المُجَرَّدِ عنها. ولكنْ قولُه: وأَصْلُه دَفْعُ بعضِ الناسِ بعضاً، وصَكُّ الحجرِ الحجرَ ـ ليسَ بجَيِّدٍ؛ لأنَّه قَدَّمَ الفاعلَ، فأَوْهَمَ كونُ الباءِ دَخَلَتْ على ما كانَ مفعولاً، كما فَهِمَ المُعْتَرِضُ. وهنا فوائدُ: أحدُها: مَذْهَبُ الجمهورِ أنَّ باءَ التعديةِ بمعنَى همزةِ النقلِ لا تَقْتَضِي مُصَاحَبَةَ الفاعلِ للمفعولِ في الفعلِ، فإذا قلتَ: قُمْتُ بزَيدٍ، فالمعنَى: جَعَلْتُه يَقُومُ، ولا يَلْزَمُ أنْ يَقُومَ معه، وذَهَبَ المُبَرِّدُ والسُّهَيْلِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ إلى اقْتِضائِها المُصاحبةُ بخلافِ الهمزةِ. قالَ السُّهَيْلِيُّ: إذا قلتََ: قَعَدْتُ به، فلا بُدَّ من

مشاركةٍ، ولو باليدِ، وَرَدَّ عليهما بقولِه: ذَهَبَ الله بِنُورِهِم؛ لأنَّ اللهَ تَعالَى لا يُوصَفُ بالذهابِ معَ النورِ، وأُجِيبَ بأنَّه يَجُوزُ على معنًى يَلِيقُ به، كما وَصَفَ نفسَه بالمجيءِ في قَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} وهو ظاهرُ البُعْدِ، ويُؤَيَّدُ بأنَّ باءَ التعديةِ بمعنَى الهمزةِ. قَرَأَ اليَمَانِيُّ: (أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ) الثانيةُ: إنْ قيلَ: كيفَ جَاءَ قولُه تعالَى {تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ} في قراءةٍ: ضَمُّ الباءِ، وتُنْبِتُ: مضارعُ أنْبَتَ، والهمزةُ في أَنْبَتَ للنقلِ، فكيفَ جَازَ الجَمْعُ بينَهما وبينَ الباءِ وهي للنقلِ، بل حَقُّهُ أنْ يَقُولَ: تُنْبِتُ بالدُّهْنِ أو تُنْبِتُ الدُّهْنَ؟ فالجوابُ أنَّها تَخْرُجُ على ثلاثةِ أوجِهٍ: أحدُها: أنَّ الباءَ للحالِ؛ أي: تُنْبِتُ ثَمَرِها، وفيه الدُّهْنُ أو في هذه الحالِ. ثانيها: أنَّ أَنْبَتَ ونَبَتَ بمعنًى واحدٍ، فكما يُقالُ نَبَتَ بالدُّهْنِ فكذا أَنْبَتَ بالدُّهْنِ. ثَالِثُها: أنَّها زَائِدَةٌ. الثالثةُ: نَازَعَ ابنُ الخَبَّازِ وغيرُه في جَعْلِ التعديةِ قَسِيماً للإلصاقِ؛ لأنَّ الإلصاقَ تعديةٌ، وجوابُه: أنَّ المرادَ بها نوعٌ خاصٌّ على ما تَقَدَّمَ، والإلصاقُ أَعَمٌّ منها؛ ولهذا قالَ الشيخُ أَبُو الفَتْحِ إذا قُلْتَ: أَمْسَكْتُ زَيْداً، احْتَمَلَ أنْ يكونَ باشَرْتُه

بِيَدِكَ، وأنْ تكونَ مَنَعَتْهُ من التصرُّفِ من غيرِ مُبَاشَرَةٍ، فإذا قلتَ: أَمْسَكْتُ بزيدٍ، دَلَّتْ على أنَّ مُبَاشَرَتِكَ له بِيدِكَ، فالباءُ مُلْصَقَةٌ غيرُ مُتَعَدِّيَةٍ. ص: والاستعانةُ والسبَبِيَّةُ. ش: باءُ الاستعانةِ هي الداخلةُ على آلَةِ الفعلِ، نحوَ: كَتَبْتُ بالقلمِ وبَرَيْتُ بالسكينِ، ومنه: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}. والسَّبَبِيَّةُ، نحوَ: {فُكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} ومنهُ: لَقِيتُ بزيدٍ الأسدَ؛ أي: بسببِ لِقائِي إِياهُ، ولم يَذْكُرْ في (التسهيلِ) باءُ الاستعانةِ وأَدْرَجَها في السبَبِيَّةِ. وقالَ في شرحِه: باءُ السببِيَّةِ هي الداخلةُ على صريحٍ؛ للاستعانَةِ عن فاعلٍ يَتَعَدَّاها مجازاً، نحوَ: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} فلو قَصَدَ إسنادَ الإخراجِ إلى الباءِ لحُسُنَ، ولكنَّه مَجازٌ. قالَ: ومنه: كَتَبْتُ بالقَلَمِ، وقَطَعْتُ بالسكينِ، والنحْويُّونَ يُعَبِّرونَ عن هذه الباءِ باءَ الاستعانةِ، =وأوثرتْ على ذلك التعبيرِ بالسببِيَّةِ من أجلِ الأفعالِ المنسوبةِ إلى اللهِ تعالى، فإنَّ استعمالَ السببِيَّةِ فيها يَجُوزُ، واستعمالُ الاستعانةِ فيها لا يَجُوزُ، ولم يَذْكُرِ المُصَنِّفُ باءَ التعليلِ استغناءً عنه بالسببِيَّةِ؛ لأنَّ العِلَّةَ والسببَ واحدٌ، وابنُ مالكٍ غايَرَ بينهما، ومثلُ التعْلِيلِيَّةِ بقولِه تعالى: {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} {فَبُظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} وقالَ بعضُهم: إذا قلتَ: ضَرَبْتُه بسوءِ أَدَبِه، احْتُمِلَ العِلِيَّةَ والسببِيَّةَ، والفرقُ بينَهما: أنَّ العِلَّةَ مُوجِبَةٌ لمَعْلُولِها، بخلافِ السببِ لمُسَبِّبِه فهو للأمَارَةِ عليها، ومن هنا اخْتَلَفَ أهلُ السُّنَّةِ والمُعْتَزل‍َةِ في أنَّ الأعمالَ طاعةٌ ومعصيةٌ هل هي عِلَّةٌ للجزاءِ ثواباً وعقاباً أو سببٌ؟ فقالَت المعتزلةُ بالأوَّلِ وأهلُ السُّنَّةِ بالثاني، واخْتُلِفَ في

الحجِّ عن الغيرِ، فمَنْ رَأَى العملُ عِلَّةً، قالَ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ عَمَلَ زيدٌ لا يكونُ عِلَّةٌ لبِرَاءَةِ ذِمَّةِ عَمْرٍو=، ومَن رَآهُ سَبَباً، قالَ: يَصِحُّ، لجوازِ أنْ يكونَ سبباً للبراءةِ وعَلَماً عليها. ص: وللمُصاحَبَةِ. ش: وهي التي يَصْلُحُ في مَوْضِعِها (معَ) أو تُغْنِي عنها وعن مصحوبِها الحالُ، كقولِه تعالَى: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ}؛ أي: معَ الحقِّ أو مُحِقًّا، ولهذا يُسَمِّيهَا كثيرٌ من النحويِّينَ باءُ الحالِ؛ لأنَّ ما تَدْخُلُ عليه يَصْلُحُ أنْ يكونَ حالاً، فمَنْ لاحَظَ المَوْضِعَ عَبَّرَ عنها بما تَقِعُ فيه، فسَمَّاهَا باءُ الحالِ، ومَن لاحَظَ معنَى المعيَّةِ الموجودِ معها، عَبَّرَ عنها بالمُصَاحَبَةِ، إذ مَعنَى (مع) المصاحَبَةُ. ص: والظَّرْفِيَّةُ. ش: وهي التي يَصْلُحُ مَوْضِعُها (في) وتكونُ معَ اسمِ الزمانِ، كقولِه تعالَى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِالْلَيْلِ}، ومعَ المكانِ نحوَ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ونحوَ: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ} ويَنْبَغِي أنْ يُقَيَّدَ هذا بالظرفيَّةِ الحقيقَةِ، وإلاَّ فحينَئذٍ يَدُخُلُ مجازانِ في الكلامِ، وهي كونُها للظرفيَّةِ والتوَسُّعُ في الظرفيَّةِ. ص: والبَدَلُ. ش: بأنْ يَجِيءَ مَوْضِعُهَا بَدَلٌ، وفي الحديثِ: ((مَا يَسُرُّنِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمْ)،

أي: بَدَلَها. ص: والمُقَابَلَةُ. ش: قالَ ابنُ مالِكٍ: هي الباءُ الداخلةُ على الأثمانِ والأعراضِ، نحوَ: اشْتَرَيْتُ الفَرَسَ بأَلْفٍ، وقالَ بعضُهم: تَرْجِعُ وما قَبْلَها إلى السببِ، فإنَّ التقديرَ: هذا مُسْتَحَقٌّ بذلك أي: بسبَبِه، واسْتَشْكَلَ الفارِسِيُّ دخولَ الباءِ على الآياتِ في قَوْلِهِ تعالَى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}. وقالَ: مُشْكَلٌ؛ لأنَّ الباءَ دَخَلَتْ على المُثْمَنِ دُونَ الثَّمَنِ، فلا بُدَّ أنْ يُضْمَرَ الثمَنُ حتى يكونَ الثمنُ هو المُشْتَرَى، وعلى رَاي الفَرَّاءِ لا يَحْتَاجُ إلى المُضْمَرِ؛ لأنَّه قالَ: إذا كانَ المُتَقابِلاتُ في العُقودِ نَقْدَيْنِ جَازَ دخولَ الباءِ على كلِّ واحدٍ منهما، وكذا كانَا معنَيَيْنِ، نحوَ: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} والباءُ تَدْخُلُ على المَتْروكِ المرغوبِ عنه في بابِ الشراءِ بخلافِ البَيْعِ. ص: والمُجَاوَزَةُ. ش: وعَبَّرَ عنه بَعْضُهم بمُوافَقَةِ عن، وتَكْثُرُ بعدَ السؤالِ نحوَ: {فَاسْأَلْ بِهِ

خَبِيراً}، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} وقليلٌ بعدَ غيرِه، نحوَ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} وهذا منقولٌ عن الكُوفِيِّينَ وتَأَوَّلَ الشَّلَوْبِينُ على أنَّها للسببِيَّةِ؛ أي: فاسْأَلْ بسبَبَلشافِعِيِّ، ويُؤَيِّدُه قولَه تعالى: {هَلْ آمَنَكُمْ عَلَيْهِ}. ص: والقَسَمُ، والغَايَةُ، والتَّوْكِيدُ. ش: فالأوَّلُ نحوَ: باللهِ لأفَعْلَنَّ، وهي أصْلُ حروفِ القَسَمِ. والثاني نحوَ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي}؛ أي: إليَّ. والثالثُ وهي الزائِدَةُ إمَّا معَ الفاعلِ، نحوَ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجْذِعِ النَّخْلَةِ} أو المُبْتَدَأِ نحوَ: بحَسْبِكُ زيدٌ، أو الخَبَرِ نحوَ:

{أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدُهُ}. ص: وكذا التَّبْعِيضُ، وِفَاقاً للأصْمَعِيِّ، وابنِ مالِكٍ. ش: مُسْتَدِلِينَ بقولِه تعالَى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ}؛ أي: منْها، وخَرَجَ عليه: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} ولم تَرِدْ باءُ التَّبْعِيضِ عندَ مُثْبِتِها إلاَّ معَ الفعلِ المُتَعَدِّي، وأَنْكَرَهُ قومٌ، منهم ابنُ جِنِّي وتَأَوَّلُوا أَدِلَّةَ المُثْبَتِينَ على التَّضْمِينِ، أو أنَّ التَّبْعِيضِ اسُتِفيدَ من القرائنِ، واعْتَرَضَ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ على كلامِ ابنِ جِنِّي، فقالَ: شهادةٌ على النَّفْي وهي غيرُ مَقْبُولَةٍ، هذا معَ أنَّه قبلَ هذا قالَ: إنَّها للسببِيَّةِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه لم يَقُلْ به أَحَدٌ من أهْلِ اللُّغَةِ، فقد وَقَعَ فيما أَنْكَرَهُ، وأَجَابَ ابنُ دَقِيقِ العِيدِ فيما كَتَبَهُ على (فُروعِ ابنِ الحَاجِبِ): بأنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّها شهادةٌ، بل هي إخْبَارٌ مَبْنِيٌّ على ظَنٍّ غالبٍ مُسْتَنَداً إلى الاستقراءِ مَن أُهِّلَ لذلك، مُطَلِّعٌ على لسانِ العَرَبِ فيَسْمَعُ كسائِرِ أَحْكَامِهِم في نَفْي ما دَلَّ الاستقراءُ على نَفْيهِ كقولِهم: ليسَ في كلامِ العَرَبِ: اسمٌ آخِرَهُ واوٌ قَبْلَها ضَمَّةٌ، وإنَّ تركيبَ (ق ب ش)، و (ق ب ع)،

مُهْمَلٌ. نَعَمْ إنْ وَقَعَ نَقْلٌ إثْبَاتِيٌّ من مُعْتَبَرٍ في الصنْعَةِ، أنَّها للتَّبْعِيضِ قُدِّمَ على هذا النفْيِ، فمَن ادَّعَى هَهُنا، فَعَلَيْه إظْهَارُه. انتهى. وذَكَرَ ابنُ مالِكٍ في (شَرْحِ الكافيَةِ) أنَّ الفارسيَّ في (التَّذْكِرَةِ) أَثْبَتَ مَجِيئِها للتَّبْعِيضِ، وكذا الأصمعيِّ في قولِ الشاعرُ: شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعْتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئيجٌ قالَ في (شَرْحِ الإِلْمَامِ) المُثْبِتُونَ للتَّبْعِيضِ فَرَّقُوا بينَ الفِعْلِ المُتَعَدِّي بنفسِه وبحَرْفِ الجَرِّ، فقالَ: إنَّ المُتَعَدِّيَ بنفسِه تكونُ الباءُ فيه للتبعيضِ؛ لأنَّها لو لم تَكُنْ كذلك لكانَتْ زائدَةٌ، والأصْلُ عَدَمُ الزيادةِ، واعْتُرِضَ بوجْهَيْنِ: أحدُهما: مَنَعَ المُلازَمَةَ بينَ عدَمِ كونِها للتبعيضِ وكونِها زائدةً، وهذا ما قالهُ ابنُ العَرَبِي، وهي كونِها تُفِيدُ فائدَةُ الدلالَةِ على مسموحٍ به، وجَعَلَ الأصْلُ فيه امْسَحُوا رُؤُوسَكُمْ بالماءِ، فيكونُ من بابِ المقلوبِ؛ أي: امْسَحُوا بالماءِ رُؤُوسَكُم. الثاني: أنْ يُقالَ: سَلَّمْنَا أنَّ الأصْلَ عَدَمُ الزيادةِ، فنَقُولُ: الأصلُ مَتْروكٌ إذا دَلَّ الدليلُ على تَرْكِه، وقد دَلَّ، وهو عَدَمُ ثُبُوتِ الباءِ للتبعيضِ في اللغةِ ثُبُوتاً يَرْجِعُ إليه في قولِ مَن يَجِبُ الرجوعَ إليه، قولُه: وأيضاًً فالزيادةُ في الحروفِ كثيرةٌ، وطريقُ إثباتِ اللغةِ النَّقْلُ. فائدةٌ: ذَكَرَ العِبَادِيُّ في زِيادَاتِه مَجِيءُ الباءِ للتعْلِيقِ كانَ، فإنْ قالَ: أنْتَ طَالِقٌ

بمشيئَةِ اللهِ أو بِإرَادَتِه أو بِرِضَاهُ ـ لم تُطَلَّقْ، قالَ: لأنَّ الباءَ في كلِّ هذا في ظاهرِ اللغةِ تُحْمَلُ على التعليقِ، ألاَ تَرَاهُ يقولُ: أَخْرَجُ بمَشِيئَةِ اللهِ، معناهُ: إنْ شاءَ اللهُ، وأَنْتِ طَالِقٌ بدُخولِ الدَّارِ؛ أي: إنْ دَخْلَتْ، ثمَّ قالَ: ولو قالَ: أنتِ طالقٌ بأَمْرِ اللهِ، أو بقَدَرِ اللهِ، أو بِحُكْمِ اللهِ، أو بِعِلْمِ اللهِ ـ طُلِّقَتْ في الحالِ؛ لأنَّه لا يَتَعَارَفُ كونُه شَرْطاً يُرِيدُونَ به التحْقِيقَ، انتهى. وهذا يَدُلُّ على أنَّ التفْرِقَةَ أَخَذَهَا من العُرْفِ لا مِن اللغةِ، ومَسائِلُ الفِقْهِ لا تُبْنَى على دقائقِ النَّحْوِ. ص: الثامنُ: بل للعَطْفِ والإضرابِ، إمَّا للإبْطالِ أو الانْتقالِ من غَرَضٍ إلى آخَرَ. ش: (بل) إمَّا أنْ يَقَعَ بَعْدَها المُفْرَدُ أو الجُمْلَةُ، فإنْ وَقَعَ بَعْدَها مُفْرَدٌ كانَتْ للعَطْفِ ثمَّ إمَّا أنْ يُعْطَفَ بها في الإثباتِ أو النفْيِ، فالأوَّلُ نحوُ: جَاءَ زَيدٌ بل عَمْرٌو، فهي لنَقَلِ الحُكْمِ عمَّا قَبْلَهَا وجَعْلِهُ لَمَّا بَعْدَهَا قَطْعاً، ولا نَعْنِي بذلك أنَّها تَنْفِيَه عمَّا قَبْلَها، وتُجْعَلُ ضِدَّهُ لِمَا بَعْدَها فتُقَرِّرُ نَفْيَ القيامِ عن زيدٍ وتُثْبِتُه لعَمْرٍو، وأَجَازَ المُبَرِّدُ وابنُ عَبْدِ الوارثِ، وتلميذُه الجُرْجَانِيُّ معَ ذلك أنْ تكونَ نَاقِلَةً حُكْمَ النَّفْيِ لِمَا بعدَها، كما في الإثباتِ فتَحْتَمِلُ عندَهم في نحوِ: ما قَامَ زيدٌ بل عمرٌو، أنْ يكونَ التقديرُ: بل ما قَامَ عمرٌو، وإذا لا يَضْرِبْ زيدٌ عمراً، يكونُ ناهياً عن ضربِ كلِّ واحدٍ منهما، وإذا قالَ: ما له عليَّ دِرْهَمٌ بل دِرْهَمَانِ، لا يَلْزَمَه شيءٌ؛ لأنَّ الدرهمَ مَنْفِيٌّ صريحاً، وعُطِفَ عليه الدرْهَمَانِ مَنْقُولاً النفْيُ إليهما، فصَارَ كأنَّه قالَ: ما له عَلَيَّ دِرْهَمٌ وما له

عَلَيَّ دِرْهَمَانِ. قالَ القَوَّاسُ في (شرحِ الدرَّةِ) وأَوْجَبُوا تقديرَ حَرْفِ النَّفْيِ بعدَها لتحقيقِ المُطَابَقَةِ في الإضرابِ عن مَنْفِيٍّ، كما يَتَحَقَّقُ عن مُوجَبِ إلى مُوجَبٍ، قالَ: ويَجِبُ أنْ يُقالَ: إنْ كانَ المعطوفُ غَلَطاً، قَدَّرَ حَرْفَ النفْيِ، ليَشْتَرِكَا في نَفْيِ الفِعْلِ عنْهُما، وإنْ لم يَكُنْ غَلَطاً لم يُقَدَّرْ حَرْفَ النَّفْي؛ لأنَّ الفِعْلَ ثَابِتٌ له، فلا يُنْفَى عنه انْتَهَى. وضَعَّفَ مَذَهْبَ المُبَرِّدِ ما قالَه الفَارِسِيُّ في (الإيِضاحِ) في مسألةِ: ما زيدٌ خارجاً بل ذاهبٌ، لا يَجُوزُ إلاَّ الرَّفْعُ؛ لأنَّ الخَبَرَ مُوجَبٌ، وما الحِجَازِيَّةُ لا تَعْمَلُ في الخبرِ إلاَّ مَنْفِيًّا، فلو كانَتْ لنَقْلِ حُكْمِ الأوَّلِ لجَازَ النَّصْبِ بتقديرٍ: بل هو ذاهباً، والإجْماعُ مُنْعَقِدٌ على مَنْعِه، وإنَّما لم تُجِزِ العربُ ذلك لئلاَّ يُلْتَبِسُ أَحَدُ المعنيَيْنِ بالآخَرِ، فإذا أَرَادُوا أنَّ ما بَعَدَ بل مَنْفِيٍ، أَتَوُا بحَرْفِ النَّفْيِ، فقالُوا: ما قَامَ زَيدٌ بل ما قَامَ عَمْرٌو. وإنْ وَقَعَ بعدَها الجُمْلَةُ، لم تَكُنْ حرْفَ عطْفٍ بل حرفَ ابتداءٍ، نحوَ: ما قَامَ زيدٌ بل عمرٌو قِائمٌ، ومعناها الإضرابُ أيضاًً، لكنِ الإضرابُ تَارَةً يكونُ لإبطالِ السابقِ نحوَ: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ}، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنَ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وتَارَةً تكونُ للانتقالِ من غَرَضٍ إلى آخَرَ من غيرِ إبطالٍ، كقولِه تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ}، قولِه: {بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}. لم يُبْطِلْ شيءٌ ممَّا أَخْبَرَ عنه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، بل المعنَى: بل يَكْفِي الحديثُ في هذه القصةِ ولنَّدْخُلَ في أُخْرَى، فهو لقَطْعِ الخَبَرِ لا المُخْبَرِ عنه، ووَهَمَ ابنُ مالِكٍ في (شَرْحِ الكافِيَةِ) فزَعَمَ أنَّها لا تَقَعُ في القرآنِ إلاَّ على هذا الوجْهِ. وسَبَقَه إلى ذلك صَاحِبُ (البسيطِ)، وبَالَغَ فقالَ: ولا في كلامِ فصيحٍ. إذا عَلِمْتَ هذا فكلامُ المُصَنِّفِ يَقْتَضِي أموراً: أَحدُها: إذا كانت للعَطْفِ لا يكونُ معناها الإضرابُ وليسَ كذلك. ثانيها: أنَّها إذا كانَتْ للإضْرابِ لا تكونُ عاطفةٌ،

وهو ما عليه الجمهورُ، وظاهرُ كلامِ ابنِ مالكٍ أنَّها عاطفَةٌ، وصَرَّحَ به وَلَدُه، في (شَرْحِ الخُلاصَةِ) وكانَ بعضُ الأكَابِرِ يقولُ: لِمَ لمْ تكنْ عاطفَةٌ إذا وَقَعَتْ بعد الجُمَلِ، وما الفرقُ بينَها وبينَ الواوِ، فإنَّها تكونُ عاطفةٌ للجُمَلِ، وإنْ كانَ الحُكْمُ مَنْفِيًّا أو مُثْبَتاً تقولُ: ما قَامَ زَيدٌ ولم يَخْرُجُ عَمْرٌو، وما قَامَ بَكْرٌ وخَرَجَ خَالِدٌ، والذي يَظْهَرُ في الفرقِ أنَّ أصْلَهَا للإضْرَابِ، صَارَ ما قَبْلَها كأنَّه لم يَذْكُرْ، فكأنَّه لا شيءٌ يَعْطُفَ، وكانَ مُقْتَضَى هذا أنَّ لاَ يَعْطِفَ المُفْرَدَاتَ، لكنْ لمَّا حَصُلَ التشْرِيكُ في الإعرابِ وكانَ ما بعدَها معْمُولاً لِمَا قبْلَها ـ لم يكنْ إلغاؤهُ من هذا الوجْهِ، فلمَّا بَقِيَ تَعَلَّقَ ما قَبْلَها لِمَا بَعْدَها لم يَحْصُلُ الإضرابُ إلاَّ في نِسْبَةِ الحُكْمِ لِمَا قَبْلَها فقط، لكنْ كانَ مُقْتَضَى هذا أنْ تكونَ (حتى) عاطفةٌ إذا وَقَعَ بعدَها الجُمْلَةُ، إلاَّ أنَّها لم يكنْ أصْلَها العطفُ، بل أصْلَها الغايَةُ والانْتِهاءُ= كـ (إلى) فلمَّا وَقَعَ بعدَها الجُمَلُ لم يَتَعَّدَ بقاؤُهُا على أصَالَتِها، ولما وَقَعَ بعدَها المُفْرَدُ معَ عَدَمِ صلاحِيَّتِها للغَايَةِ، جُعِلَتْ حَرْفَ عطفٍ؛ ولهذا يُدَّعَى فيها معَ كونِها عاطفةً معنَى الغايةِ. ص: التاسعُ: بَيْدَ بمعنى غيرَ، وبمعنَى: من أجْلٍ، وعليه، بَيْدَ أنِّي من قريشٍ. ش: بَيْدَ ويُقالُ: مَيْدَ بالمِيمِ: اسمٌ مُلازمٌ للإضافةِ إلاَّ إنْ وصْلَتَها، ولها مَعْنِيانِ: أَحَدُهما: بمعنَى غيرَ، ومنه الحديثُ: (نَحْنُ الآخَرُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا). وثانيهما: بمعنَى مِن أَجْلِ، قالَه الشافِعِيُّ فيما رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ في صحيحِه عنهُ

عَقَبَ الحديثُ= المُتَقَدِّمِ، وعلى هذا الحديثُ الآخَرِ: ((أنَّا أفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ) وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في (الفائقِ) هو من تأكيدِ المدْحِ بمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ. ص: العاشرُ: ثمَّ: حَرْفُ عطْفٍ للتشْرِيكِ والمُهْلَةُ على الصحيحِ. ش: ينْبَغِي أنْ يكونَ الخلافُ رَاجِعاً إلَيْهِما، ـ فأمَّا التشْرِيكُ فالمُخَالِفُ فيه الكُوفِيِّونَ، قالُوا: قد تَتَخَلَّفُ بِوقُوعِها زائدةً، فلا تكونُ عاطفةً البَتَّةَ، كقولِه تعالَى: {وَظَنَّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}. وأمَّا المُهْلَةُ والمُرادُ به الترَاخِي، ولذلك قالَ سِيبَوَيْه: إذا قُلْتَ: مَرَرْتُ بِرجُلٍ ثمَّ امرأةٍ، فالمرورُ هنا مرورَانِ، يُريدُ أنَّ المرورَ الثانِيَ لم يَقَعْ إلاَّ بعدَ انْقضاءِ المُرورِ الأوَّلِ، والمخالفُ فيه الفَرَّاءُ. قالَ: قد

يَتَخَلَّفُ، بدليلِ: أَعْجَبَنِي ما صَنَعْتَ اليومَ ثمَّ ما صَنَعْتَ أَمْسِ أَعْجَبُ؛ لأنَّ (ثمَّ) في ذلك لترتيبِ الأخبارِ، ولا تَراخِي بينَ الإخبارَيْنِ، ووَافَقَهُ ابنُ مالِكٍ وقالَ: تَقَعُ (ثمَّ) في عَطْفِ المُتَقَدِّمِ بالزمانِ اكتفاءً بترتيبِ اللفْظِ وجَعَلَ منه قولَه تعالَى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} والصحيحُ الأوَّلُ، قالَ الشيخُ في (شَرْحِ الإلمامِ) ولأجْلِ إفادَةَ (ثمَّ) التَّراخِي امْتَنَعَ أنْ يَقَعَ في جوابٍ، فلا تَقولُ: إنْ تُعْطِنِي ثمَّ أنَّا أَشْكُرَكَ، كما تَقولُ: فأنَّا أَشْكُرُكَ لأنَّ الجزاءَ لا يَتراخَى عن الشرطِ، فالمعنيانِ مُتَنافِيَانِ، وكذلك أيضاًً لا يَقَعُ في بابِ الافْتِعالِ والتفاعُلِ لمُنَافَاةٍ معناها. وقالَ ابنُ عُصْفُورٍ فيما قَيَّدَه على (الجَزُولِيَّةِ): من الدليلِ على أنَّ (ثمَّ) ليسَتْ كالواوِ، إجماعُ الفقهاءِ على أنَّه لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: يمينُ اللهِ ويَمِينُكَ، وأَجَازُوا: هذا بيَمِينِ الله ثمَّ بيمينِكَ، ولو كانَتْ بمعنَى الواوِ ما فَرُّوا إليها، وفي الحديثِ: أنَّ بعضَ اليهودِ قالَ لبعضِ أصْحَابِه: أَنْتُمْ تَزْعُمونَ أنَّكُم لا تُشْرِكُونَ باللهِ شيئاً، وأَنْتُم تَقُولُونَ: شَاءَ اللهُ وشِئْتُ، ذُكِرَ ذلك للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: ((لا تَقُولُوهَا، ولكنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثمَّ شِئتُ))، رَوَاهُ قَاسِمُ بنُ أَصْبَغَ،

في مُسْنَدِه واعْلَمْ أنَّ الراغِبَ ذَكَرَ في (ثمَّ) عبارَةً جَامِعَةً، فقالَ: حَرْفُ عَطْفٍ يَقْتَضِي تَأَخُّرَ ما بَعْدَه عمَّا قبلَه، إمَّا تَأَخُّراً بالذاتِ أو بالمَرْتَبَةِ أو الوَضْعِ. ص: والترتيبُ، خلافاً للعَبَّادِيِّ. ش: في إطلاقِ حكايةِ هذا عن العَبَّادِيِّ نَظَرٌ، فإنَّه إنَّما قالَه في مَوْضِعٍ خَاصٍّ، لا في مَدْلُولِ ثمَّ، نَقَلَ القَاضِي الحُسَيْنُ عنه في بابِ الوقفِ، أنَّه لو قالَ: وَقَفْتُ على أولادِي ثمَّ على أولادِ أولادِي بَطْناً بعدَ بطْنٍ ـ فهي للترْتيبِ. وقالَ العَبَّادِيُّ: هو للجَمْعِ. انتهى. ولعلَّ مَاخَذَهُ أنْ (وَقَفْتُ) إنشاءٌ، فلا مَدْخَلَ للترتيبِ فيه، كقولِكِ: بِعْتُكَ هذا ثمَّ هذا، بل عَدَاهُ القاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ إلى بعضِ الأخبارِ، فقالَ في بابِ الإقْرارِ من تَعْليقِه: لو قالَ: له عَلَيَّ درْهَمٌ ثمَّ دِرْهَمٌ لزِمَه دِرْهَمَانِ؛ لأنَّ ثمَّ مِن حروفِ العَطْفِ الخالصِةِ كالواوِ غيرَ أنَّه للفَصْلِ والمُهْلَةِ ولا فائِدَةَ للفَصْلِ والمُهْلَةِ هنا، فيكونُ كقولِه: دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ. انتهى. وهو المذهبُ، نَعَمْ، القولُ بأنَّها كالواوِ لا تَرْتِيبَ فيها ـ منقولٌ عن الفَرَّاءِ، حكاهُ السِّيَرَافِيُّ وعَزَاهُ غيرُه للأَخْفَشِ مُحْتَجًّا بقولِه: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ومعلومٌ أنَّ هذا الجَعْلَ كانَ قبلُ خَلْقِنَا، والجمهورُ تَأَوَّلُوُهُ على الترتيبِ الإخْباريِّ، وفيها مذهبٌ ثالثٌ: أنَّها للترتيبِ في المفرداتِ نحوَ: قَامَ زيدٌ ثمَّ عَمْرٌو. ودونَ الجُمَلِ، كقولِه تعالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}؛ إذ شهادةُ اللهِ تعالى مُقَدَّمَةٌ على المرْجِعِ، قالَه ابنُ بُرْهَانَ ومِثْلُه قولُ ابنِ السَّمْعَانِيِّ في (القواطعِ) تُسْتَعْمَلُ في موضعِ الواوِ مجازاً، كقولِه: {ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ}، والصحيحُ أنَّها للترتيبِ مُطْلَقاً لكنَّها في المفردِ ترتيبُ الواقعِ نحوَ: قَامَ زَيدٌ ثمَّ قَامَ عَمْرٌو، ومعَ الجُمَلِ تَدُلُّ على ترتيبِ خَبَرٍ، على خَبَرٍ لا على ترتيبِ خَبَرٍ على المُخْبَرِ عنه، كقولِه: إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدَّهُ

ص: الحادِي عَشْرٌ: حتى لانْتَهاءِ الغايَةِ غالباً، وللتعليلِ، ونَدَرَ للاستثناءِ. ش: حتى: على أرْبَعَةِ أقْسَامٍ: جَارَةٌ نحوَ: سِرْتُ حتى الليلِ، ومنه قولُه تعالَى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، وخَالَفَ فيه الكِسَائِيُّ، وقالَ: الجَرُّ بـ (إِلَى) مُضْمَرَةٌ بعد حتَّى؛ أي: حتى انْتَهَى التَّسْلِيمُ إلى مَطْلَعِ الفجْرِ. وعَاطِفَةٌ كالواوِ، نحوَ: قَدِمَ الحُجَّاجُ حتَّى المُشَاةُ، وخَالَفَ فيه الكُوفِيُّونَ، ويُعْرِبُونَ ما بَعْدَها على إضْمَارِ عَامِلٍ. وابتدائِيَّةٌ؛ أي: مُسْتَانِفٌ بعدَها الجُمَلُ، إمَّا الاسْمِيَّةِ نحوَ: حتى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ، أو الفعليَّةُ نحوَ: {حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ} على قَراءَةِ الرَّفْعِ، وناصبِةً

للفعلِ عندَ الكُوفِيِّينَ نحوَ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، أنَّها الجَارَةُ والناصبُ (أنَّ) مُضْمَرَةً بعدَها. إذا عَلِمْتَ هذا فإطْلاقُ المُصنِّفِ يَقْتَضِي، الغَايَةِ تَشْمَلُ جميعَ أقْسَامِها، فنَقُولُ: أمَّا الجارةُ فلا شَكَّ أنَّ معناها الغايَةُ. واخْتُلِفَ في المجرورِ بها: هل يَدْخُلُ فيما قَبْلَها أو لا؟ على مذاهبَ: أحدُها: وهو قولُ الجمهورِ منهم المُبَرِّدُ، وابنُ السَّرَّاجِ، والفَارِسِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابنُ الحاجِبِ وغيرَهم، أنُّه دَاخِلٌ، فإنَّ غايةَ الشيءِ بعضُه، واسْتَثْنَى بعضُهم ما إذا دَلَّتْ قرينَةٌ على خُروجِهِ، نحوَ: صُمْتُ حتى الفِطْرَةِ، وذَكَرَ صاحِبُ (الإيضاحِ): أنَّ سِيبَوَيْه صَرَّحَ بِأَنَّ ما بَعْدَها دَاخِلٌ فيما قَبْلَها ولا بُدَّ، لكنَّه مَثَّلَ بما هو بَعْضٌ. والثاني: لا يَدْخُلُ ورَجَّحَهُ ابنُ عُصْفُورٍ. والثالثُ: قد يَدْخُلُ وقد لا، وحُكِيَ عن ثَعْلَبٍ، وقالَ ابنُ مالِكٍ: حتى لانتهاءِ الغايَةِ بمَجْرُورِها أو عندَه يعني: أنَّه يُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ دَاخلاً فيما قَبْلَها أو غيرُ داخِلٍ، فإذا قلتَ: ضَرَبْتُ القومَ حتى زيدٍ، فيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ زيدٌ مَضْرُوباً انْتَهَى الضرْبُ به، ويَجُوزُ أنْ يكونَ غيرُ مضروبٍ انْتَهى الضرْبُ عندَه. وذَكَرَ أنَّ سِيبَوَيْه والفَرَّاءَ أَشَارَا إلى ذلك، وتَحَصَّلَ أنَّ الجمهورَ على الدخولِ بخلافِ (إلى)، وزَعَمَ

القِرَافِيِّ أنَّه لا خِلافَ في وجوبِ دُخُولِ ما بَعْدَ حتى، وأنَّه لا يَجْرِي فيها الخِلافُ الذي في (إلى) لاتِّفاقِ النُّحاةِ على أنَّ شرطَ (حتى) أنْ يكونَ ما بَعْدَها من جِنْسِ ما قَبْلَها ودَاخِلاً في حُكْمِه، وليسَ كما قالَ، بل الخلافُ فيها مشهورٌ وإنَّما الاتِّفاقُ في (حتى) العاطفةِ لا الخافضةِ، والفرقُ أنَّ العَاطِفَةَ بمنزلَةِ الواوِ فتَفَطِّنْ له، وأمَّا العاطفةُ فيَلْزَمُ أنْ يكونَ ما بعدَها غايةٌ لما قَبْلَها في زيادةٍ أو نَقْصٍ. قالَ النَّحَّاسُ في كتابِ (الكَافِيِ) اعْلَمْ أنَّ حتى فيها معنى الغايةِ وإنْ عُطِفَ بها، ولهذا وُجِبَ أنْ تكونَ لإخراجِ شيءٍ من شيءٍ انْتَهَى، يَعْنِي: أنْ يُؤْتَى بها لِدَفْعِ ما يُتُوَّهَمُ إِخْرَاجُه معَ صِحَّةِ شُمُولِ الأدِلَّةِ له وهذا عَكْسُ إلاَّ، فإنَّه يُؤْتَى بها لإخْراجِ ما يُظَنُّ دُخُولُه، وأمَّا الاستثناءُ به فأَثَرُها واضِحٌ، وأمَّا الناصِبَةُ: فالمشهورُ أنَّ لها معنيَيْنِ: أحدُهما: الغايةُ. والثاني: التعليلُ، نحوَ: كَلَّمْتُه حتى يَامُرَنِي بشيءٍ، وعلامُة كونِها للغايةِ أنْ يَجِيءَ مَوْضِعُها (إلى أنْ)، وكونُها للتعليل أنْ يَجِيءَ مَوْضِعُها (كي) وزَادَ ابنُ مالِكٍ في (التسهيلِ) معنى ثالثاً وهو معنَى (إلاَّ)؛ أي: تكونُ للاستثناءِ المُنْقَطِعُ، لقولِ الشاعرِ: ليسَ العطاءَ من الفضولِ سَمَاحَةٌ ... حتَّى تَجُودَ وما لَدَيْكَ قليلٌ ويمكنُ جَعْلَهُ بمعنَى (إلى). فائدةٌ: من المُهِمِّ البحثِ عن حُكْمِهِا في الترتيبِ، وكانَ يَنْبَغِي للمُصَنِّفِ

التَّعَرَّضَ له، واخُتُلِفَ فيه، فقالَ ابنُ الحَاجِبِ، حتى مِثْلُ الفاءِ، يعني: في الترتيبِ، وقالَ الخفافُ= والصَّيْمَرِيُّ=: هي في العطفِ كالواوِ، وجَرَى عليه ابنُ مالِكٍ في (شَرْحِ العُمْدَةِ) قالَ: وزَعَمَ بعضُ المُتَأَخِّرِينَ أنَّها تَقْتَضِي الترْتِيبَ. وليسَ بصحيحٍ، بل يَجُوزُ أنْ تقولَ: حَفِظْتُ القرآنَ حتى سورةَ البَقَرَةِ، وإنْ كانَتْ أوَّلَ ما حَفِظْتَه أو مُتَوَسِّطَ، وفي الحديثِ: ((كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ حَتَّى الْعَجَزُ والكَيْسُ)). ولا ترتيبَ في تَعَلُّقِ القضاءِ بالمُقْضَياتِ، إنَّما الترتيبُ في كونِها، وتوسَّطَ ابنُ أَبَانٍ فقالَ: الترتيبُ الذي تَقْتَضِيهِ (حتى) ليسَ على تَرْتِيبِ الفاءِ، وثمَّ، وذلِك أنَّهما يُرَتِّبانِ أَحَدَ الفِعْلَيْنِ على الآخَرِ في الوجودِ، وهي تُرَتَّبُ ترتيبَ الغايةِ والنهايَةِ، ويُشْتَرَطُ أنْ يكونَ ما بَعْدَها من جِنْسِ ما قَبْلَها، ولا يَحْصُلُ ذلك إلاَّ بذِكْرِ الكُلِّ قبلَ الجُزْءِ. قالَ الجُرْجَانِيُّ: الذي أَوْجَبَ ذلك أنَّها للغَايَةِ والدلالَةِ على أَحَدِ طَرَفِي الشيءِ، وطَرَفُ الشيءِ لا يكونُ من غيرِه؛ ولهذا كانَ فيها معنَى التعظيمِ والتحقيرِ؛ وذلك لأنَّ الشيءَ إنْ أَخَذْتَه من أعلاهُ فأَدْنَاهُ غايَتُه وهي التحقيرُ، وإنْ أَخْذَتَه من أَدْنَاهُ فأَعْلاهُ غايَتُه وهي التعظيمُ، قلتَ: وقد يَرِدُ على القائلِينَ أنَّها لَيسَتْ للترتيبِ قولُهم: إنَّها للغايةِ إمَّا في نَقْصٍ أو زيادةٍ، نحوَ: غَلَبَكَ الناسُ حتى النائِيَ، وسُبْحَانَ مَنْ يُحْصِي الأشْياءَ حتى مَثاقِيلَ الذَّرِّ، والجمْعُ بينَ الكلامَيْنِ مُشْكَلٌ، فإنَّها لو لم تكنْ للترتيبِ، لم يكنْ لاشتراطِ القوَّةِ والضعْفِ فائدَةٌ، ولو لم يَقْتَضِ التأخِيرَ عقلاً أو عَادَةً لم يُحْسِنْ ذلك،

فإنَّ قلت: فائدتُه فائدةُ العمومِ، قلتُ ذلك مُسْتَفادٌ من اللفظِ قَبْلَها. وقالَ القَّوَّاسُ: تُفِيدُ معَ الترتيبِ المُهْلَةُ، إلاَّ أنَّ المُهْلَةَ فيها أقلُّ من ثمَّ، وقيلَ: لا مُهْلَةَ فيها كالفاءِ، وقيلَ: هي بمنزلَةِ الواوِ، قالَ: والأوَّلُ أظْهَرُ لأنَّ شَرْطَها في العَطْفِ أنْ يكونَ ما بَعْدَها جُزْءاً ممَّا قَبْلَها، فلو لم تُفِدْ الترتيبَ للَزِمَ جَوَازُ تَقَدُّمِ خَبَرُ الشيءِ المُتَأَخِّرِ عليه وهو مُحَالٌ. ص: الثانِي عَشَرَ: رُبَّ للتَّكْثِيرِ والتَّقْلِيلِ، ولا يُخْتَصُّ بأَحدِهما، خلافاً لِمَنِ ادَّعَى ذلك. ش: اخْتُلِفَ في رُبَّ على مذاهبَ: أحدُها: أنَّها للتقليلِ دائماً، وعليه الجمهورُ، ونَسَبَه صاحبُ (البَسِيطِ) لسِيبَوَيْه. والثاني: للتَّكْثيرِ دائماً، وبه قالَ صَاحبُ (المُعينِ) واخْتارَهُ ابنُ دِرْسَتَوَيْه والجُرْجَانِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ، وعَزَاهُ ابنُ خَروفٍ وابنُ مالِكٍ إلى سِيبَوَيْه، مُسْتَدَلِّينَ بقولِه: في بابِ لم، ومعنَاها معنَى رُبَّ. والثالثُ: أنَّها تَرِدُ لهُما، فمِنَ التَّكْثِيرِ قولِه تعالى: {رُبَمَا يُوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} وقولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا رَبُّ كَاسِيَةٍ فِي الْدُّنْيَا عَارِيَةَ يَوْمَ القِيَامَةِ))، ومنَ التقْلِيلِ قولُ الشاعِرِ:

ألاَ رُبَّ مَوْلُودٍ ولَيسَ لَهُ أَبٌ ... وذِي وَلَدٍ لَمْ يَلَدْهُ أَبَوانٍ ومُقْتَضَى تعبيرِ المُصنِّفِ: أنَّها تَرِدُ لهما على السواءِ فيَكُونُ مِن الأضدادِ، وهو قولُ الفارِسِيِّ في كتابِ (الحُروفِ)، لكنَّ المُختارَ عندَ ابنِ مَالكٍ أنَّها أَكثَرُ ما تَكُونُ للتكثيرِ، والتقليلُ بها نادرٌ، وهو المختارُ، ويَتَحَصَّلُ مِن ذلك أَربعةُ مَذَاهبَ، ويَخرجُ مِن كلامِ جمعٍ مِن المَغَاربةِ. خَامسٌ: وهو أنَّها للتكثيرِ في مواضعِ المُبَاهاةِ والافتخارِ. وسادسٌ: وهو أنَّها حرفُ إثباتٍ لم تُوضَعْ لتقليلٍ ولا تكثيرٍ، وإنَّما يُستَفَادُ ذلك مِن القَرائنِ، واختَارَهُ أَبُو حَيَّانَ، وفيه بُعْدٌ؛ للُزومِه وجودَ حرفٍ لا يُفيدُ معنًى أصلاً إلاَّ بالقَرائنِ المُصَحِّحَةِ. ص: الثَّالثَ عَشَرَ: على الأصحِّ أنَّها قد تكونُ اسماً بمعنَى فوقَ، وتكونُ حَرْفاً. ش: ذَهَبَ ابنُ طَاهِرٍ وابنُ خَرُوفٍ .....

وابنُ الطَّرَاوَةَ والآمِدِيِّ والشَّلَوْبِينَ إلى أنَّها اسمٌ أبداً، وزَعِمُوا أنَّه مَذْهُبُ سيِبَوَيْه، ومشهورُ مذهبُ البصريِّينَ أنَّها حَرْفُ جرٍّ، إلاَّ إذا دَخَلَ عليها حَرْفُ جرٍّ كقولِ الشاعرِ: غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بعدَما تَمَّ ظَمَؤُهَا .... وزَادَ الأَخْفَشَ مَوْضِعاً آخَرَ، وهو أنْ يكونَ مجرورُها، وفاعلُ مُتَعَلِّقِها ضَمَيرَيْنِ لمُسَمٍّى واحدٍ، كقولِه تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجُكَ}. وقالَ الفَرَّاءُ: حَرْفٌ ولو دَخَلَ عليها حَرْفُ الجَرِّ، فهذه أربعةُ مذاهبَ: حَرْفُ مُطْلَقاً، اسم مُطْلَقاً إلاَّ في مَوْضِعِ حَرْفٍ إلاَّ في موضعَيْنِ كالأخَفْشِ. ص: للاسْتِعْلاءِ، والمصاحَبَةِ، والمجاوزَةِ، والتعليلِ والظرفيَّةِ، والاسْتِدْراكِ، والزيادَةِ. ش: الاستعلاءُ إمَّا حِسِيٌّ، كقولِه تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}. أو

معنويٌّ، كقولِه: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ونحوَ: عليه دَيْنٌ، كأنَّ بلُزُومِه له عَلاَ علَيْهِ؛ ولهذا يُقالُ: رَكِبَهُ الدَّيْنُ، وهذا المعنَى يُطْرَقُ أَوْجُهُهَا الثلاثَةُ، فإنَّك إذا قلتَ: زَيدٌ على الحائطِ فقد دَلَلْتَ على استعلائِه عليه، وكذا عَلاَ زيدٌ على الحائطِ، وكذا سِرْتُ مِن عليهِ، فإنَّ السائِرَ من فوقٍ مُسْتَعْلٍ على السائِرِ من أسْفَلِ، ولم يُثْبِتْ لها أكثرُ البصريِّينَ غيرَ هذا المعنَى، وأَوَّلُوا ما أَوْهَمَ خلافَه؛ ولهذا قَدَّمَهُ المُصَنِّفُ. وأمَّا نحوُ: تَوَكَّلْتُ على اللهِ واعْتَمَدْتُ عليه، وقولُه: {وَتَوْكَّلْ عَلَى الْحَيِّ} فهي بمعنَى الإضافَةِ والإسنادِ؛ أي: أَضَفْتَ تَوَكُّلِي وأَسْنَدْتُه إلى اللهِ تَعَالَى، لا للاسْتِعْلاءِ، فإنَّها لا تُفِيدُه هَهنا حقيقةً ولا مجازاً. ومثالُ المُصاحَبَةِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} والمُجَاوَزَةِ بمعنَى (عن) كقولِه: إذا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا وخَرَّجَ عليه المُزَنِيُّ

وابن خُزَيْمَةَ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ))؛ أي: عنه فلا يَدْخُلُها، والتعليلُ: {وَلُتَكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. والظرفيَّةُ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانِ} والاسْتِدَراكِ، فلانٌ لا يَدْخُلُ الجنَّةَ لسُوءِ صُنْعِه، على أنَّه لا يَيْأَسُ من رحْمَةِ اللهِ، والزيادةُ كقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَلِفَ عَلَى يَمِينٍ))؛ أي: يَمِيناً، وقد تُزَادُ للتَّعْويضِ من أُخْرَى محذوفَةٌ كقولِ الشاعرِ:

............... ... إنْ لَمْ يَجِدْ يَوْماً عَلَى مَنْ يَتَّكِلْ أي: عَلَيْه، وفي هذا خلافُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْه أنَّ (على) و (عن) لا يُزَادَانِ. ص: أمَّا عَلاَ يَعْلُو، فَفََعَلَ. ش: ومنه قولُه تعالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ} فإنَّها لو كانَتْ حَرْفاً لمَّا دَخَلَتْ على (فِي) وقد اجْتَمَعَتْ الفِعْلِيَّةِ والظَّرْفِيَّةِ في قَوْلِهِ تعالَى: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وأَشَارَ المصنِّفُ بذلك إلى أنَّها تَاتِي اسماً وفِعْلاً وحَرْفاً. ونَبَّهَ بقولِه: (يَعْلُو) على أنَّ الفعليَّةَ تُفَارِقُ الاسميَّةَ بتَصَرُّفِها، قالَ لبيدُ: يَعْلُو بِهَا حَربَ الإكَامِ مُسَحَّجٌ ... قدْ رَابَهُ عِصْيَانُها ووحَامُها

ص: الرابعَ عَشَرَ: الفَاءُ عاطفَةٌ للترتيبِ المعنويِّ والذِكْرِيِّ. ش: مثالُ المعنويُّ: قَامَ زَيْدٌ فعَمْرٌو، والذِكْرِيُّ: هو عَطْفٌ مُفَصَّلٌ على مُجْمَلٍ هو هو في المعنَى، نحو: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانَ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}، ونحوُ: تَوَضَّأَ فغَسَّلَ وجْهَهُ ويَدَيْهِ ومَسَحَ برَاسِه، ورِجْلَيْه. وقالَ الفَرَّاءُ: لا تُفِيدُ الترتيبَ، واسْتُنْكِرَ هذا منهُ معَ قولِه بأنَّها تُفِيدُ الترتيبَ، واحْتَجَّ بقولِه: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَاسُنَا} وأُجِيبَ بأنَّها للترتيبِ الذِكْرِيُّ أو على حَذْفٍ؛ أي: أَرَدْنَا إِهْلاكُهَا، واقْتِصارُ المُصنِّفُ على هَذَيْنِ النوعَيْنِ يَخْرُجُ الترْتِيبُ في الأخْبارِ، وذَكَرَ جماعةٌ أنَّ الفاءَ تُشَارِكُ (ثمَّ) في الترتيبِ الإخْبارِيِّ كما تُشَارِكُهَا في الترتيبِ الوجُودِيِّ نحو: مُطِرْناً بمَكانِ كذا فمَكانِ كذا، ورُبَّمَا لم نَذْكُرْ كيفَ نَزَلَ بها، ورُبَّمَا ذَكَرْتُ الذي كانَ أولاً وآخِراً، ونَقَلَ الشيخُ في (شَرْحِ الإلمامِ) فَصْلاً عمَّن يَرَى في الترتيبِ بثُمَّ ضَعْفاً، والقولُ بالترتيبِ الإخْبارِيِّ، قالَ بعدَ أنْ قَرُبَ أنَّ ثمَّ للترتيبِ الثاني على الأوَّلِ في الوجودِ بمُهْلَةٍ: ثمَّ تَاتِي لتِفَاوُتِ الترتيبِ، ثمَّ قالَ: ومَجِيءُ هذا المعنَى أيضاًً مقصودٌ بالفاءِ العاطفةِ، نحوَ: خُذِ الأفْضَلَ فالأكْمَلَ، واعْمَلِ الأحْسَنَ

فالأجْمَلَ، ونحوَ: يَرْحَمُ اللهُ المُحْلِقِينَ فالمَقْصِّرِينَ، فالفاءُ في الأوَّلِ لتفاوُتِ مَرْتَبَةِ الأفْضَلِ من الكمَالِ والحَسَنُ من الجَمَالِ، وفي الثاني لتِفَاوُتِ رُتَبِ المُحْلِقينَ من المُقَصِّرِينَ بالنِّسْبَةِ إلى تَحْلِيقِهِم وتَقْصِيرِهِم. وقولِه تعالَى: {وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} تُحْتَمَلُ فيه الفاءُ المَعْنَيَيْنِ معاً، فيَجُوزُ أنْ يُرَادَ بها تَفَاوُتِ رُتْبَةِ الصَّفِّ من الزَّجْرِ، ورُتْبَةُ الزَّجْرِ من التلاوةِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بها تفاوُتُ رُتْبَةِ الجِنْسِ للزاجرِ بالنسبةِ إلى صَفِّهِم وزَجْرِهم. ص: وللتَّعْقِيبِ في كلِّ شيءٍ بحَسْبِه. ش: معنَى التَّعْقِيبِ في المشهورِ كونِ الثانِي بعدَ الأوَّلِ من غيرِ مُهْلَةٍ، بخلافِ ثمَّ؛ ولهذا قالَ بعضُهم: (ثمَّ) لمُلاحَظَةِ أوَّلِ زَمَنِ المعطوفِ عليه، والفاءُ لملاحظةِ آخِرِهِ، قالَ ابنُ جِنِّي في خَاطِرِيَّاتِهِ، وقد أَجَادَ العِبَارَةَ أَبُو إِسْحَاقَ في قَوْلِهِ: الفاءُ للتَّفْرِيقِ على مُواصَلَةٍ، فقولُه: للتفْرِيقِ؛ أي: ليسَتْ كالواوِ في أنَّ ما عُطِفَ بها معَ ما قَبْلَهُ بمَنْزِلَةِ المُتَّبَعِ في لفظٍ واحدٍ. وقولُه: على مواصَلَةٍ؛ أي: لِمَا فيها من قُوَّةِ الاتْباعِ وأنَّه لا مُهْلَةَ بينَهُما، انْتَهى، وصَارَ المُحَقِّقُونَ إلى أنَّ التعْقِيبَ في كلِّ شيءٍ بحَسَبِه؛ ولهذا يُقالُ: تَزَوَّجَ فُلانٌ فَولِدَ لهُ، إذا لم يكنْ بينَهما إلا مُدَّةَ الحَمْلِ، وإنْ كانَتْ مُتَطَاوِلَةً، ودَخَلَتِ البَصْرَةَ فالكُوفَةَ، إذا لم يُقِمْ في البصرةِ ولا بينَ البلدَيْنِ، وفي هذا انْفِصالٌ عمَّا أَوْرَدَهُ السِّيرَافِيُّ على قولِ البصرِيِّينَ: أنَّ الفاءَ للتعقيبِ في هذه الأمثلَةِ، فإنَّا نقولُ: هي للتعقيبِ على الوجْهِ الذي يُمْكِنُ. قالَ ابنُ الحاجِبِ: المرادُ

بالتعقيبِ: ما يُعَدُّ في العادَةِ تَعْقِيباً لا على سَبيلِ المُضَايَقَةِ، قَرُبَ الفِعْلَيْنِ بعدَ الثانِي عَقِبَ الأوَّلِ عادَةً، وإنْ كانَ بينَهما أزمانٌ كثيرةٌ كقولِه تعالى: {خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} الآيةَ، ونَصَّ الفارسيُّ في (الإيضاحِ) على أنَّ ثمَّ أَشَدَّ تَراخِياً من الفاءِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الفاءَ فيها تَرَاخٍ، ووجْهُهُ ابنُ أَبِي الرَّبِيعِ بأنَّ الاتصالَ يكونُ حقيقةً ومجازاً، فإذا كانَ حقيقةً فلا تَرَاخِي فيه وإذا كانَ مجازاً ففيه تراخٍ بلا شَكَّ، نحوَ: دَخَلْتُ البَصْرَةَ فالكوفةَ، وقد يكونُ التراخِي قليلاً، فيكونُ كالمُسْتَهْلَكِ، وتَوَسَّعَ ابنُ مَالِكٍ فذَهَبَ إلى أنَّها تَكونُ مَعهَا مُهْلَةٌ، كـ (ثمَّ) كقولِه تعالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فُتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةٌ} والأَحْسَنُ أنَّها للتعقيبِ على ما سَبَق. تنبيهٌ: قضيةُ كلامِ المصنِّفِ اختصاصُ التعقيبِ بالعاطفةِ فتَخَرَّجَ الرابِطَةِ للجوابِ، وبه صَرَّحَ القاضِي أَبُو بَكْرٍ في (التقريبِ) وقالَ: إنَّها لا تَقْتَضِي التعقيبَ في الأجوبَةِ فِرَاراً من مذَهْبِ المُعْتَزَلَةِ في أنَّ الكلامَ حروفٌ وأصواتٌ، فقالُوا في قَوْلِهِ تعالَى: {كُنْ فَيَكُونَ}: إنَّ الكلامَ عندَهم القديمُ هو الكافُ والنونُ، فإذا تَعَقَّبَهُ الكائنُ فإمَّا أنْ يُؤَدِّي إلى قِدَمِ الحادثِ أو حَدَثُ القَدِيمِ.

ص: وللسَّبَبِيَّةِ. ش: نحوَ: {فَتَلَّقَى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} {لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} وجَعَلَ منه العَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الجُمَلِ: طَلَعَتِ الشمْسُ فوُجِدَ النهَارُ، وحديثُ: ((فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا)). فالتَّقَدُّمُ هنا بالسبَبِيَّةِ، فإنَّ لم يَتَقَدَّمْ طلوعُ الشمْسِ لوجودِ النهارِ بالزمانِ، فقد تَقَدَّمَ بأنَّه سَبَبُ وجودِ النهارِ، وكذلك الإمامُ فإنْ لم يَتَقَدَّمْ رُكُوعَه ولا سُجُودَه بالزمانِ سُجودَ المأمومِ ورُكُوعِه، فقد تَقَدَّمَاهُما بالسَّبَبِيَّةِ، وجَعَلَهُ السُّهَيْلِيُّ حقيقةً في التَّعْقِيبِ، وَرَدَ الترتيبُ والسببِيَّةُ إليه؛ لأنَّ الثانيَ بعدَها إنَّما يَجِيءٌ في عَقِبِ الأوَّلِ. ص: الخامِسَ عَشَرَ: في للظَّرْفَيْنِ.

ش: أي: المَكَانِيُّ والزَّمَانِيُّ، واجْتَمْعَا في قَوْلِهِ تعالَى: {الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}. والمرادُ بالظرفِيَّةِ أنْ يَكُونَ مَحَلاًّ لوقوعِ الشَّيءِ إمَّا حقيقةٌ كما سَبَقَ؛ لأنَّ الأجْسامِ هي القابِلَةُ للحُلولِ، أو مَجازاً نحوَ: نَظَرَ في الكتابِ وسَعَى في الحاجَةِ؛ لأنَّ العَلَمَ قد صَارَ وِعَاءً لنَظَرِه، ومنه قولُه تعالَى: {لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}؛ لأنَّ الرَّحْمَةَ كَأَنَّهَا صَارَتْ مُحِيطَةٌ بالمُؤْمِنِينَ إِحَاطَةَ الجِسْمِ بالجِسْمِ، وفي هذا تأكيدٌ للتفصيلِ، حيثُ أَخَرَجَ العَرَضَ إلى حُكْمِ الجَوْهَرِ، والضابطُ أنَّ الظَّرْفَ والمَظْرُوفَ إنْ كانَا جِسْمَيْنِ كزيدٍ في الدارِ، أو الظرفُ جسماً والمظروفُ عَرَضاً كالصَّبْغِ في الثوابِ، فالظَّرْفِيَّةِ حقيقةٌ، وإنْ كانا عَرَضَيْنِ كالنجاةِ في الصِّدْقِ أو الظَّرْفُ عَرَضاً والمظروفُ جِسْماً نحوَ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغْلٍ فَاكِهُونَ} كانَتِ الظَّرْفِيَّةِ مَجَازاً فائدة: لو قال: أَنْتِ طالِقٌ اليومَ وفي الغَدِ وفيما بعد الغَدِ، وَقَعَ في كُلِّ يومٍ طَلْقَةً؛ لأنَّ حَرْفَ (في) للظرفِيَّةِ، والظَّرْفُ لا بُدَّ له من مظروفٍ، كذا قالَهُ المُتَوَلِيُّ، قالَ الرَّافِعِيُّ: وليسَ هذا التوْجِيهُ بواضِحٍ، إذ يَجُوزُ أنْ يَخْتَلِفَ الظَّرْفُ ويَتَّحِدَ المظروفُ.

ص: وللمُصَاحَبَةِ والتَّعْلِيلِ والاسْتِعْلاءِ. ش: مثالُ المصاحَبَةِ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} والتعْلِيلِ: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} والاستعلاءِ: {لأَصْلِبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وهذا قولٌ كُوفِيٌّ، ومَنَعَهُ بعضُهم؛ لأنَّه يَلَزَمُ منه المجازُ، فيَكُونُ مَجَازَانِ: اسْتِعْمالُ (فِي) بمَعْنَى (عَلَى) وكَوْنِ (على) ليسَ فيها العُلُوُّ على حقيقَتِه، وإنَّما هي على بابِها، وهو اختيارُ صَاحِبُ (المُفَصَّلِ) فقالَ: وقولُهم: لأنَّها في الآيةِ بمعنَى (على) يُحْمَلُ على الظاهرِ. ص: والتوكيدُ والتَّعْويضُ وبمعنَى الباءِ، وإلى، ومِنْ. ش: مثالُ التوكيدِ: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا}. والتَّعْويضِ؛ هي الزائدةُ عِوَضاً مِن أُخْرَى مَحْذُوفَةٍ، كقولِك: ضَرَبْتُ فيمَنْ رَغِبْتُ؛ أي: فيه، قالَهُ ابنُ مالِكٍ. والباءِ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}؛ أي: يَلْزَمُكُمْ به. وإلى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي

أَفْوَاهِهِمْ}. ومِنْ: كقولِ امْرُئ القَيْسِ. وهلْ يعمن مَن كانَ أَحْدَثَ عَهْدَهُ ... ثلاثِينَ شَهْراً في ثلاثةِ أَحْوالٍ. أي: مِن ثلاثةِ أَحْوالٍ، وفيه رَدَّ على ابنِ مالِكٍ حيثُ زَعَمَ أنَّه لا يُسْتَعْمَلُ (عِمْ) إلاَّ فِعْلُ أَمْرٍ. ص: السادسَ عَشَرَ: كِي للتَّعْلِيلِ. ش: أي: بمَنْزِلَةِ اللامِ، قالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ طَلْحَةَ: كَي: حَرْفُ سَبَبٍ وعِلَّةٍ،

كذا يقولُ النَّحْوِيُّونَ، وإذا تَأَمَلَّتْ وَجَدَّتَها حرفاً يَقَعُ بينَ فِعْلَيْنِ، الأوَّلُ سببٌ للثانِي، والثانِي عِلَّةٌ للأوَّلِ، وكذا قولُك: جِئْتُكَ كي تُكْرُمُنِي فالمَجِيءُ سببٌ لوجودُ الكرامَةِ، والكرامَةُ عِلَّةٌ في وجودِ المَجِيءِ. ص: وبمَعْنَى أنْ المَصْدَرِيَّةِ. ش: لقولِه تعالَى: {لِكَيْلاَ تَاسُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} فإنَّها لو كَانَتْ حَرْفَ تعليلٍ لم يَدْخُلْ عليها حَرْفُ تعليلٍ، ويَلْزَمُ اقْتِرَانُها باللاَّمِ لَفْظاً، أو تَقْديراً فإذا قلتَ: جِئْتُ لكِي تُكْرِمُنِي، فكَي هنا نَاصِبَةٌ للفِعْلِ بنَفْسِها؛ لأنَّ دخولَ اللاَّمِ عليها يُعَيَّنُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وإذا قلتَ: جِئْتُ كي تُكْرِمُنِي، احْتَمَلَ أنْ تكونَ مَصْدِرِيَّةً بنَفْسِها، واللاَّمُ قَبْلَها مُقَدَّرَةٌ، وأنْ تَكُونَ حَرْفُ جَرٍّ، و (أنْ) بَعْدَها مُقَدَّرَةٌ هي الناصِبَةُ. ص: السَّابِعَ عَشَرَ: (كلُّ) اسمٍ لاستغراقِ أفرادِ المُنْكَرِ والمُعَرَّفِ المجموعُ، وأجْزاءِ المُفْرَدِ المُعْرَّفِ. ش: لـ (كلٍّ) ثلاثةُ أحوالٍ؛ لأنَّها إمَّا أنْ تُضَافَ إلى نَكِرَةٍ فهي للاستغراقِ في جُزْئياتِ ما دَخَلَتْ عليه، نحوَ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وإمَّا أنْ تُضَافَ إلى مَعْرِفَةٍ، وتَحْتَهُ قِسْمَانٍ: أحدُهما: أنْ يَكونَ مَجْمُوعاً نحوَ: كلُّ الرجالِ. والثاني: أنْ يكونَ مُفْرَداً، نحوَ: كلُّ زيدٍ حَسَنٍ، فيُفِيدُ العمومَ في أجزائِه ولا خِلافَ

في هذا القِسْمِ. وأمَّا الذي قَبْلَه، فهل يَقُولُ الألِفَ واللاَّمَ تُفِيدُ العمومَ، و (كلُّ) تأكيدٌ لها، أو لِبِيانِ الحَقِيقَةِ، و (كلُّ) تأسيسٌ؟ فيه احتمالانِ لوالِدِ المُصَنِّفِ، ثمَّ قالَ: ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: أنَّ الألِفَ واللاَّمَ تُفِيدُ العُمُومَ في مَراتِبٍ ما دَخَلَتْ عليه، و (كلُّ) تُفِيدُ العُمُومَ في أجزاءِ كُلِّ من تلكِ المراتِبِ، فإذا قلتَ: كلُّ الرجالِ، أَفَادَتِ الألِفُ واللاَّمُ استغراقَ كلِّ مَرْتَبَةٍ من مَرَاتِبِ جميعِ الرجالِ، وأَفَادَتِ (كُلُّ) استغراقَ الآحادِ، وكما قيلَ في أجْزاءِ العَشَرَةِ، فيَصِيرُ لِكُلٍّ منهُما معنًى وهو أَوْلَى من التَّاكِيدِ. قالَ: ومِن هُنَا يُعْلَمُ أنَّها لا تَدْخُلُ على المُفْرَدِ المُعَرَّفِ بالألِفِ واللاَّمِ إذا أُرِيدَ بكُلٍّ منْهُما العمومَ، وقد نَصَّ عليه ابنُ السَّرْاجِ في (الأصولِ) قلتُ: لم لا يَجُوزُ على أنَّ (كُلَّ) مُؤَكِّدَةٌ كما هو أَحَدُ الاحْتمالَيْنِ السابقَيْنِ عندَه في المُعَرَّفِ المجموعِ، ويُمْكِنُ الفَرْقُ، وذَكَرَ أَخُو المُصَنِّفِ، أنَّ مِن دُخُولِها على المُفْرَدِ المُعْرَّفِ قولَه تعالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}. وقولَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ الطَّلاَقِ وَاقِعٌ إِلاَّ طَلاقَ المَعْتُوهِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قلتُ: وكأنَّه نَظَرَ إلى صورةِ اللفْظِ، وإلاَّ فهو في

الحقيقةِ من قِسْمِ المجموعِ؛ لأنَّ المقصودَ به الجِنْسِ، ونظيرُه: كلُّ الناسِ يَغْدُو. ص: الثامنَ عَشَرَ: اللاَّمُ للتَّعْلِيلِ، والاسْتِحْقَاقِ، والاخْتِصَاصِ والمُلْكِ. ش: مثالُ التَّعْلِيلِ: زُرْتُكَ لشَرَفِكَ، ومنهُ قولُه تعالَى: {لَتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}، {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلْنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وخَرَّجَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا: أَنْتِ طالِقٌ لرِضَا زيدٍ، إذا طُلِّقَ فإنَّه يَقَعُ في الحالِ رَضِيَ فُلانٌ أو سَخِطَ؛ لأنَّ اللاَّمَ للتَّعْلِيلِ. ومثالُ الاسْتِحْقَاقِ، النَّارُ للكافرِينَ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}. قالَ بعضُهم: وهو معنَاها العامُّ لا يُفَارِقُها، ومنه الثوبُ. ومثالُ الاختصاصِ، نحوَ: الجَنَّةُ

للمؤمنِينَ، وفَرَّقَ القِرَافِيُّ بينَ الاستحقاقِ والاختصاصِ، بأنَّ الاستحقاقَ أَخَصُّ، فإنَّ ضابطَه ما شَهِدَتْ به العادةُ، كما شَهِدَتْ للفَرَسِ بالسَّرْجِ وللدارِ بالبابِ، وقد يَخْتَصُّ الشيءُ بالشيءِ من غيرِ شهادةٍ عادةً، نحوَ: هذا ابنُ زيدٍ، فإنَّه ليسَ من لوازمِ البشرِ أنْ يكونَ له وَلَدٌ، كما تَقُولُ في الفَرَسِ معَ السَّرْجِ. ومثالُ المُلْكِ: المالُ لِزَيدٍ، قالَ الرَّاغِبُ: ولا نَعْنِي بالمُلْكِ مُلْكُ العَيْنِ، بل قد يَكونُ مُلْكاً لبَعْضِ المَنَافِعِ، أو لضَرْبٍ من التَّصَرُّفِ، فمُلْكُ العَيْنِ نحوَ: قولُه تعالَى: {وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ومُلْكُ التَّصَرُّفِ، كقولِكِ لِمَنْ يَاخُذُ مَعَكَ خَشَباً، خُذْ طَرْفُكَ لاخذ= طَرْفِي، قُلتُ: كذا جَعَلُوا المُلْكَ والاستحقاقَ قَسِيماً للاختصاصِ، والظاهرُ أنَّ أَصْلَ مَعانِيهَا الاختصاصُ، ولهذا لم يَذْكُرْ الزَّمَخْشَرِيُّ في مُفَصَّلِهِ غيرَه، وأمَّا المُلْكُ فهو نَوْعٌ من أنواعِ الاختصاصِ وهو أَقْوَى أنْواعُه وكذلكَ الاستحقاقُ؛ لأنَّ مَن اسْتَحَقَّ منهما، فقد حَصَلَ له نَوْعُ اختصاصٍ، وحَكَى ابنُ السَّمْعَانِيِّ عن بعضِ النَّحْوِيِّينَ إنْكارَ مجيءِ اللاَّمِ للمُلِكِ، وقالُوا: إذا قيلَ: هذا أَخٌ لِعَبْدِ اللهِ، فاللاَّمُ لمُجَرَّدِ المُقَارَبَةِ، وليسَ أحدُهما في مُلْكِ الآخَرِ، وفي قَوْلِهِم: وهذا الغلامُ لعَبْدِ اللهِ، فإنَّما عَرَفْتَ المُلْكَ بدلَيلٍ آخَرَ، قالَ: وزَعَمَ هذا القائلُ أنَّ لاَمَ الإضَافَةِ تَحْتَمِلُ الأوَّلَ لاصِقاً بالثانِي فحَسْبٌ، قالَ: والذي ذَكَرْنَاهُ هذا الذي يَعْرِفُه الفقهاءُ. ص: والصَّيْرُورَةِ؛ أي: العَاقِبَةِ. ش: أي: تُسَمَّى لامُ العَاقِبَةِ، ولامُ المآلِ، نحوَ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُّوًّا وَحَزَناً}. وقالَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ في (القواطعِ) عندَي أنَّ هذا

على طريقِ التَّوَسُّعِ والمجازِ، فإنَّ هذه مثالٌ لِمَا يَزْعَمُه المعتزلِةُ من تَاوِيلِ قولِه تعالَى: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كِثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ}. قلتُ: وكذا قالَه الزَّمَخْشَرِيُّ: التحقيقُ أنَّها لامُ العِلَّةِ وأنَّ التعليلَ فيها وَارِدٌ على طريقِ المَجَازِ دُونَ الحقيقةِ، فإنَّه لم تَكُنْ داعيةُ الالتقاطِ، أنْ يَكُونَ لهم عَدُوًّا، بل المَحَبَّةُ والتَّبَنِّي، غيرَ أنَّ ذلِكَ لمَّا كانَ نَتِيجَةَ الْتِقَاطِهِم له وثَمَرَتَه، شَبَّهَ بالدَّاعِي الذي مُعَدُّ الفِعْلِ لأجْلِه، فاللاَّمُ مُسْتَعَارَةٌ لِمَا يُشْبِه التعليلُ، كما اسْتُعِيرَ الأَسَدُ لِمَنْ يُشْبِه الأَسَدُ. وقالَ ابنُ عَطِيَّةَ: قيلَ اللاَّمُ في قَوْلِهِ تعالَى: {لِجَهَنَّمَ} لامُ العَاقِبَةِ؛ أي: مآلِهِمْ، وليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ لامَ العَاقِبَةِ إنَّما تَتَصَوَّرُ إذا كانَ فِعْلُ الفاعلِ لم يُقْصَدْ ما يَصِيرُ الأمْرُ إليه، وأمَّا هنا فالفِعْلُ قًُصِدَ به ما يَصِيرُ الأمْرُ إليه من سُكْنَاهِم، واعْلَمْ أنَّ بعضَهم حَكَى عن البصريَّينَ إنْكارَ لامِ العاقبةِ، لكنْ رَأَيْنَا في كتابِ (المُبْتَدَى) لابنِ خَالَوَيْه: فأمَّا قولُه: {لِيَكُونَ لَهُمْ عُدَوًّا وَحَزَناً} فهي لامُ (كِي) عندَ الكُوفِيِّينَ، ولامُ الصَّيْرُورَةِ عندَ البصريِّينَ، انتهى. ص: والتَّمْلِيكُ وشِبْهُهُ. ش: مثالُه: وَهَبْتُ لزيدٍ ديناراً، وقولُه تعالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}. وشِبْهُهُ نحوَ: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} وكانَ يَنْبَغِي للمُصَنِّفِ أنْ يَذْكُرَ ممَّا سَبَقَ شِبْهُ المُلْكِ، نحوَ: أَدْوَمَ لكَ ما دُمْتَ لي. ص: وتوكيدُ النَّفْي. ش: نحوَ: {مَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} وتُسَمَّى لامُ الجُحُودِ، لِمَجِيئِهَا بعدَ النَّفْيِ؛ لأنَّ الجَحْدَ عبارةٌ عن نَفْيِ ما سَبَقَ ذِكْرُه.

قالَ ابنُ الحَاجِبِ: وهي كلَفْظِ لامِ كي، وفَرَّقَ غيرُه بأنَّ تلكَ للتَّعْلِيلِ بخلافِ هذه، ولأنَّ هذه لو أُسْقِطَتْ لا يَخْتَلُّ المعنَى، بخلافِ المرادِ، وتلكَ لو أُسْقِطَتْ اخْتَلَّ، وبأنَّ هذه بعدَ نَفْيٍ دَاخِلٍ على (كانَ) بخلافِ تلكَ، وكانَ يَنْبَغِي للمصنِّفِ تَقْييدِ النَّفْيِ بالدَّاخِلِ على (كانَ)، لِمَا سَبَقَ. ص: والتَّعْدِيَةُ. ش: نحوَ: مَا أَضْرَبْ زيداً لِعَمْرٍو، وجَعَلَ منه ابنُ مالِكٍ قولُه تعالَى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}. والظاهرُ أنَّها لشِبْه التَّمْلِيكِ، وقَسَّمَ الرَّاغِبُ المُتَعَدِيَّةَ للفِعْلِ على ضربَيْنِ: ما يَمْتَنِعُ خلافُه، نحوَ: {وَتَلَّهُ لِلْجَبَينِ}. وما يَجُوزُ، نحوَ: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}، وقالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ}. فأَثْبَتَ في مَوْضِعٍ وحَذَفَ في مَوضِعٍ آخَرَ. ص: والتَّاكِيدُ. ش: وهي إمَّا لِتَقْوِيَةُ عَامِلٍ ضُعِّفَ بالتَّاخِيرِ، نحوَ: {إِنْ كُنْتُمْ لِلْرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}. فإنَّ الأصْلَ: إنْ كُنْتُم تُعَبِّرُونَ الرُّؤيا، فلمَّا قَدَّمَ المفعولَ، زَادَ اللاَّمَ، أو لكونِه فَرْعاً في العَمَلِ، نحوَ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}. وهذان يَجُوزُ القياسُ علَيْهِما. وغيرُ المَقِيسَةِ: أنْ يُزَادَ معَ المفعولِ في غيرِ ذلكَ، نحوَ: {رَدِفَ لَكُمْ}،

ولم يَذْكُرْ سِيبَوَيْه زيادَةَ اللاَّمِ، وتَابَعَه الفَارِسِيُّ، وقد أَوَّلَ بعضُهم (رَدِفَ لَكُمْ) على التَّضْمِينِ، أي: اقْتَرَبَ، ويُشْهَدُ لهُ مَا في الْبُخَارِيِّ: رَدِفَ بمعنَى قَرُبَ. ص: وبمعنَى: إِلَى، وعَلَى، وفِي، وعِنْدَ، ومِن، وعَن. ش: مِثالُ إلَى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}، {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}. وَأَنْكَرَ الرَّاغِبُ ذلكَ؛ لأنَّ الوَحْيَّ للنَّحْلِ، جَعَلَ ذلكَ لهُ بالتَّسْخِيرِ والإلْهَامِ، وليسَ ذلك كالوَّحْيِ المُوحَى إلى الأنْبياءِ، فنَبَّهَ باللاَّمِ على جَعْلِ ذلكَ الشيءِ لهُ بالتَّسْخِيرِ. انتهى. وكانَ نَظِيرُه انْتَقَلَ مِن آيةِ الزَّلْزَلَةِ إلى آيةِ النَّحْلِ، وآيةُ النَّحْلِ إنَّما هي بـ (إلَى) لا باللاَّمِ، وعلى قولِه: {يُخَّرُونَ لِلأَذْقَانِ}. وحَكَى البَيْهَقِيُّ، عَن

حَرْمَلَةَ، عن الشَّافِيِّ في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاءَ))؛ أي: عليهِم، وفي: {نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وعندَ: والمرادُ بها التَّاقِيتُ إذا قُرِنَ بالوَقْتِ أو بما يَجْرِي مَجْرَاهُ، مثلَ: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ)). ومنهُ: كَتَبْتُهُ لخَمْسِ ليالٍ، وجَعَلَ منهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ

لِحَيَاتِي}. وجَعَلَ منه ابنُ جِنِّي قِراءَةَ الجَحْدَرِيِّ: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: عندَما جَاءَهُم. ومثالُ (مِن): سَمِعْتُ له صُرَاخاً؛ أي: منهُ. و (عَن): وهي الجارَةُ، اسمٌ مَن غَابَ حقيقةً أو حُكْماً عَن قولِ قائِلٍ يَتَعَلَّقُ به، نحوَ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}؛ أي: عَن الذينَ آمَنُوا، وإلاَّ لَقِيلَ: ما سَبَقْتُمُونَا، ولم يَخُصَّهُم بعضَهم بما بعدَ القولِ، ومثلَهُ تَقُولُ العَرَبُ: لَقِيتُهُ كفهُ؛ لأنَّهم قالُوا: لَقِيتُهُ كفه لكفِّه؛ أي: عن كَفِّه؛ لأنَّهم قالُوا: لَقِيتُهُ عن كَفِّه، والمعنَى واحدٌ، واعْلَمْ أنَّ مَجَيئِهَا لهذه المعانِي مذهبٌ كُوفِيٌّ، وأمَّا حُذَّاقُ البَصْرِيِّينَ فهي عندَهم عَلَى بابِها ثمَّ يُضَمِّنُونَ الفِعْلَ ما يَصْلَحُ معها، ويَرَوْنَ التَّجَوُّزَ في الفِعْلِ أَسْهَلُ من الحَرْفِ. ص: التاسعَ عَشَرَ: لولاَ: حَرْفٌ معناهُ في الجُمْلَةِ الاسمِيَّةِ: امْتِنَاعُ جَوابِه لوُجودِ شَرْطِه. ش: نحوَ: لولاَ زيدٌ لأَكْرَمْتُكَ؛ أي: لولاَ زيدٌ موجودٌ، ولا يَرِدُ قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهْمْ)). التقديرُ: لولاَ مَخَافَةَ أنْ أَشُقَّ لأَمَرْتُهُم، أَمْرُ إيجابٍ وإلاَّ انْعَكَسَ المعنَى، إذ المُمْتَنِعُ المَشَقَّةُ، والموجودُ الأمْرُ.

ص: وفي المُضَارِعَةِ التحضيضِ. ش: نحوَ: {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ}. والتحضيضُ: طَلَبُ بَحْثٍ، وكذا للعَرْضِ، وهو الطَلَبُ بلِينٍ، نحوَ: {لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}. وكأنَّ المُصَنِّفَ اسْتَغْنَى عنه بالتحضيضِ؛ لأنَّه يُفْهَمُ من بابٍ أوْلَى، (وَأَخَّرْتَنِي) معناهُ الاستقبالُ. ص: وفي الماضِيَةِ التَّوْبِيخُ. ش: نحوَ: {لَوْلاَ جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}، {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ}. ص: وقيلَ تَرِدُ للنَّفْيِ. ش: بمَنْزِلَةِ (لم) قالَ الهَرَويُّ في (الأَزْهِيَةِ): وجَعَلَ منهُ: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ}، والجمهورُ: أنَّها للتَّوْبِيخِ؛ أي: فهلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ واحدَةٌ من القُرَى المُهْلَكَةِ تَابَتْ عندَ الكُفْرِ قبلَ مَجِيءِ العذابِ، فنَفَعَها ذلك.

ص: العشرونَ: لو شُرِطَ للمَاضِي. ش: أي: وإنْ دَخَلَتْ على المضارعِ فإنَّها تُصْرِفُه للمِضِيِّ، والقَصَدُ أنَّها تُفِيدُ الشَّرْطُ في الماضِي، وبهذا فَارَقَتْ إنِ الشَّرْطِيَّةَ، فإنَّها تَصْرِفُ الماضِيَ إلى الاستقبالِ، وما صَرَّحَ به المُصَنِّفُ هو قولُ ابنُ مالِكٍ والزَّمَخْشَرِيِّ وغيرِهما، وأَبَى قَومٌ تَسْمِيتُها حَرْفاً؛ لأنَّ حقيقةَ الشرْطِ إنَّما تَكُونُ في الاستقبالِ، و (لو) إنَّما هي للتَّعْلِيقِ في الماضِي، فليسَتْ من أدواتِ الشرْطِ، وقيلَ: إنَّ النزاعَ لَفْظِيٌّ، فإنَّ أُرِيدَ بالشرْطِ الرَّبْطُ المَعْنَوِيُّ الحُكْمِيُّ، فلا شَكَّ أنَّها تَقَعُ شَرْطاً، وإنْ أُرِيدَ به ما يَعْمَلُ في الجُزْءَيْنِ، فلا. ص: ويَقِلُّ للمُسْتَقْبَلِ. ش: أي: قد يَرِدُ بمعنَى إنِ الشَّرْطِيَةَ يَلِيهَا المُسْتَقْبَلُ ويَصْرِفُ الماضِي إلَى الاسْتِقْبَالِ، كقولِه تعالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلُوْ كُنَّا صَادِقِينَ} وقولِه:

{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاًَ خَافُوا عَلَيْهِمْ} كذا قالَهُ جماعةٌ. وخَطَّأَهُم ابنُ الحَاجِّ في نَقْدِه على (المُقَرَّبِ) قالَ: والقاطِعُ بذلكَ أنَّكَ لا تَقُولُ: لو يَقُومُ زيدٌ فعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ. وقالَ بَدْرُ الدِّينِ بنُ مَالِكٍ: عندِي أنَّها لا تَكُونُ لغيرِ الشَّرْطِ في الماضِي، ولا حُجَّةَ فيمَا تَمَسَّكُوا به، لصِحَّةِ حَمْلِه على المِضِيِّ. ص: قالَ سِيبَوَيْهِ: حَرْفٌ لِمَا كانَ سَيَقَعُ لوقوعِ غيرِه، وقالَ غيرُه: حَرْفُ امْتِناعٍ لامتناعٍ، وقالَ الشَّلَوْبِينُ: لمُجَرَّدِ الرَّبْطِ، والصحيحُ وِفَاقاً للشيخِ الإمامِ: امتناعُ ما يَلِيهِ واسْتِلْزِامُه لتَالِيه، ثمَّ يَنْتَفِي التَّالِي إنْ نَاسَبَ، ولم يَخْلُفْ المُتَقَدِّمُ غيرَه، كـ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهَ لَفَسَدَتَا} لا إنْ خَلَفَه غيرُه، كقولِكَ: لو كانَ إنساناً لكانَ حيواناً، ويُثْبِتُ التالِيَ إنْ لم يُنَافِ، ونَاسَبَ بالأوْلَى كـ (لو) لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِه، أو بالمُسَاوَاةِ كـ (لو) لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتُه لِمَا حَلَّتْ للرضاعِ، أو الأَدُونَ كقولِكَ: لو انْتَفَتْ أُخُوَّةُ النَّسْبِ لما حَلَّتِ للرضَاعِ. ش: حَاصِلُه أنَّ في (لو) أربعُ مقالاتٍ:

أحدُها: قولُ سِيبَوَيْهِ: حَرْفٌ لِمَا كانَ سَيَقَعُ لوقوعِ غيرِه، ومعناه كما قالَ البَدْرُ بنُ مَالِكٍ: أنَّها تَقْتَضِي فِعْلاً ماضياً كانَ يَتَوَقَّعُ ثُبُوتَه لثُبُوتِ غيرِه، والتَّّوَقُّعُ غيرُ واقِعٍ، فكأنَّه قالَ: (لو): حَرْفٌ يَقْتَضِي فِعْلاً، امْتَنَعَ لامتناعِ ما كانَ يَثْبُتُ لثُبُوتِه. والثاني: حَرْفُ امتناعٍ لامتناعٍ؛ أي: يَدُلُّ على امْتِناعِ الثاني لامتناعِ الأوَّلِ، فإذا قُلْتَ: لو جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، أَفَادَ أنَّه مَا حَصَلَ المَجِيءُ ولا الإكرامُ، وهي عبارةُ الأكثرِينَ المُعَرَّبِينَ، وظاهِرُها غيرُ صحيحٍ لأنَّها تَقْتَضِي كونُ جوابُ (لو) مُمْتَنِعاً غيرُ ثَابِتٍ دائماً، وذلك غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ جوابَها قد يَكُونُ ثَابِتاً في بعضِ المواضعِ، كقولِكِ لطَائِرٍ، لو كانَ إنْساناً لكانَ حيواناً فإنْسانِيَّتُه مَحْكُومٌ بامْتِنَاعِها وحَيَوانِيَّتُه ثَابِتَةٌ، وكذا قولُه في صُهَيْبٍ: ((لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ)) فَعَدَمِ المعصيَةِ مَحْكومٌ بثبوتِه؛ لأنَّه إذا كانَ ثَابِتاً على تقديرِ عَدَمِ الخَوْفِ، فالحُكْمُ بثبوتِه معَ تقديرِ ثبوتِ الخَوْفِ أَوْلَى، وكذا قولُه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةِ أَقْلامٌ} الآيةَ، مُقَدَّمُ النَّفَاذِ ثابتٌ على تقديرِ كونِ ما في الأَرْضِ من شَجَرَةٍ =أقلام، والبَحْرِ =مداد، أو سَبْعَةِ أمثالِه، فثُبُوتُ عَدَمَ النفاذِ على تقديرِ عَدَمِ ذلكَ أوْلَى، وكذا قولُه تعالَى:

{وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْؤ} يَقْتَضِيِ أَنَّه مَا عَلِمَ فيهِم خيراً وما أَسْمَعَهُم، ثمَّ قولُه: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ} فيَكُونُ معناهُ أنَّه ما أَسْمَعَهُم، وأنَّهم ما تَوَلَّوْا، لكنْ عَدَمُ التَّوَلِّي خَيْرٌ من الخَيْرَاتِ، فأوَّلُ الكلامِ يَقْتَضِي نَفْيَ الخَيْرِ، وآخِرُه يَقْتَضِي حصولَه، وهما مُتَنَافِيَانِ ولهذا الإشكالُ صَارَ قومٌ إلى المَذْهَبَيْنِ الآتِيَيْنِ: والثالثُ: قولُ الشَّلَوْبِينُ: إنَّها لِمُجَرَّدُ الرَّبْطِ؛ أي: إنَّما تَدُلُّ على التَّعْلِيقِ في الماضِي كما دَلَّتْ على التَّعْلِيقِ في المُسْتَقْبَلِ، ولا تَدُلُّ على امتناعِ الشَّرْطِ ولا امتناعِ الجوابِ، وتَابَعَه ابنُ هِشامٍ الخَضْرَاوِيُّ، وهو ضعيفٌ بل جَحَدٌ للضَّرُورِيَّاتِ، فإنَّ كلَّ مَن سَمِعَ (لو فَعِلَ) فَهِمَ عَدَمُ وقوعِ الفِعْلِ من غيرِ تَرَدُّدٍ، ولهذا جَازَ اسْتِدْراكُه فتَقُولُ: لو جَاءَنِي أَكْرَمْتُه لكنَّه لم يَجِئْ. الرابعُ: أنَّها تَقْتَضِي امتناعَ ما يَلِيهِ واسْتِلْزَامِه لتالِيهِ، وحَكَاهُ المُصَنِّفُ عن والِدِه، وهذه العبارَةُ وَقَعَتْ في بعضِ نُسَخِ (التَّسْهِيلِ) وانْتُقِدَتْ بأنَّها لا تُفِيدُ أنَّ اقْتِضَاءَها للامْتِناعِ في الماضِي، فلو قالَ: تَقْتَضِي في المَاضِي امْتِناعَ ما يَلِيهِ، كانَ أَوْضَحَ. وحَاصِلُهُ أنَّها تَدُلُّ على أَمْرَيْنِ: أحدُهما: امْتِناعُ شَرْطِهَا، والأُخْرَى: كونُه مُسْتَلْزِماً لجَوابِها, ولا يَدُلُّ على امتناعِ الجوابِ في نَفْسِ الأمْرِ، ولا بثُبُوتِه، فإذا قلتَ: لو قَامَ زيدٌ لقَامَ عَمْرٌو. فقِيامُ زيدٍ مَحْكومٌ بانْتِفَائِه فيمَا مَضَى، وبِكَوْنِه مُسْتَلْزِماً ثُبُوتَ قِيامِ عَمْرٍو، وهل لِعَمْرٍو

قيامٌ آخَرَ غيرُ اللاَّزمِ عن قيامِ زيدٍ، أو ليسَ له؟ لا تَعَرُّضَ في الكلامِ لذلك، ولكنَّ الأكْثَرَ كونُ الأوَّلِ والثاني غيرَ واقِعَيْنِ، وقولُه: ثمَّ يَنْتَفِي التالِي؛ أي: وأَمَّا التالِي فإمَّا أنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ بَيْنَه وبَيْنَ الأوَّلِ تَنَاسُباً، أو لا، فإنْ كانَ مُنَاسِباً نُظِرَ إنْ لم يَخْلُفِ المُقَدَّمُ غيرَه فالتالِي مُنْتَفٍ في هذه الصورةِ، نحوَ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهَ لَفَسَدَتَا}. وقولُك: لو جِئتَنِي لأَكْرَمْتُكَ، لكنَّ المقصودَ الأعظمَ في المثالِ الأوَّلِ: نَفْيُ الشَّرْطِ رَدًّا على مَن ادَّعَاهُ، وفي الثاني: أنَّ المُوجِبَ لانْتِفاءِ الثاني هو الأوَّلُ لا غيرَ، وإنْ كانَ للأوَّلِ عندَ انتفاءِ شيءٍ آخَرَ يَخْلُفُه ممَّا يَقْتَضِي وجودَ الثانِي نحوَ: لو كانَ إنساناً لكانَ حيواناً، فإنَّه عندَ انتفاءِ الإنْسانِيَّةِ قد يَخْلُفُها غيرُها ممَّا يَقْتَضِي وجودَ الحيوانِيَّةِ، وإنْ لم يكنِ الترتيبُ بينَ الأوَّلِ والثانِي مُنَاسِباً لم يَدُلُّ على انتفاءِ الثاني بل على وجودِه من بابِ أَوْلَى، نحوَ: ((نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْبٍ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ)). فإنَّ المَعْصِيَةَ مُنْتَفِيَةٌ عندَ عَدَمِ الخوفِ فعِنْدَ الخوفِ أوْلَى، ثمَّ جَعَلَ المُصَنِّفُ للمُناسِبِ مَراتِبَ: أَحدُها: أنْ يكونَ بالأوْلَى كـ (لو) لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِه. وثانِيها: بالمساواةِ؛ أي: تكونُ مُنَاسِبَةَ التالي مُساويَةً لمناسبةِ المُقَدَّمِ. كقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

في بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ: ((إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتَي فِي حِجْرِي، مَا حُلَّتْ لِي، إِنَّهَا لابْنَةَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعِ)). فإنَّ حِلَّها له عليه الصلاةُ والسلامُ مُنْتَفٍ من وَجْهَيْنِ، كونُها رَبِيبَتُه، وكونُها ابنةُ أَخِيهِ من الرضاعِ. ثالثُها: أنْ تكونَ المُناسبَةُ في ذلك دونَ مُناسبَةِ المُقَدَّمِ، فيَلْحَقُ به أيضاًً، للاشتراكِ في المَعْنَى، كقولِكِ في أُخْتِكَ من النَّسَبِ والرَّضاعِ: لو انْتَفَتْ أُخُوَّةُ النَّسَبِ لَمَا كانَتْ حَلالاً؛ لأنَّها أُخْتٌ من الرَّضاعةِ، فتُحْرَمُ أُخْتٌ من الرَّضاعَةِ دونَ تَحْريمِ أُخْتُ النَّسَبِ، ولكنَّها عِلَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ للتَّحْرِيمِ كاقْتِضاءِ السَّبَبِ ولو انْتَفَتْ أَقْوَى العِلَّتَيْنِ، لاسْتَقَلَّتْ الضعِيفَةُ بالتعليلِ، إذا كانَتْ في نَفْسِها صالِحَةً له، وإنَّما قالَ المُصَنِّفُ: كقولِك؛ لأنَّه لا وُجودَ له في كلامِ الشارعِ ولا العُرْفِ، وكذا قولُه: لو كانَ إنساناً لكانَ حيواناً، بخلافِ الأمْثِلَةِ الباقِيَةِ، وحاصلُ الخلافِ في إفَادَتِها الامتناعُ، أقوالٌ: أحدُها: لا تُفِيدُه أبداً، وهو قولُ الشَّلَوْبِينِ. والثاني: تُفِيدُ امْتِناعَ الشرْطِ وامتناعَ الجوابِ جميعاً، وهو قولُ البَصْرِيِّينَ. والثالثُ: تُفِيدُ امتناعَ الشرطِ خاصَّةً، ولا دلالَةَ لها على امتناعِ الجوابِ ولا على ثُبُوتِه، ولكنَّه إنْ كانَ مُساوياً للشرْطِ في العمومِ، نحوَ: لو كَانَتِ الشَّمْسُ طالِعَةً كانَ النهارُ موجوداً ـ لَزِمَ انْتِفَاؤُه؛ لأنَّه يَلْزَمُ من انْتفاءِ السَّبَبِ المُسَاوِي انْتِفاءَ مُسَبِّبِه،

وإنْ كانَ أَعَمٌّ، نحوَ: لو كَانَتْ الشَّمْسُ طَالِعَةً كانَ الضوءُ موجوداً، فلا يَلْزَمُ انتفاءَ القَدَرِ المُساوِي فيه للشرْطِ، وعَزَاهُ بعضُ الأَئِمَّةِ المُحَقِّقِينَ، وهو ظاهرُ عبارةِ سِيبَوَيْهِ، فإنَّ قولَه: لَمَّا كانَ سَيَقَعُ، دليلٌ على أنَّه لم يَقَعْ، وهذا تصريحٌ بأنَّها دالَّةٌ على امتناعِ شَرَاطِها، وقد اعْتَنَى بَدْرُ الدِّينِ بنُ مَالِكٍ بكلامِ المُعَرَّبِينَ، وَرَدَّهُ لكلامِ سِيبَوَيْهِ، وقالَ: إنَّه يَسْتَقِيمُ على وَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنْ يكونَ المُرادُ أنَّ جوابَ (لو) مُمْتَنِعٌ لامتناعِ الشرطِ غيرُ ثَابِتٍ لثبوتِ غيرِه، بِنَاءٌ منهُم على مفهومِ الشرطِ في حُكْمِ اللُّغَةِ لا في حُكْمِ العَقْلِ. الثاني: أنْ يكونَ المرادُ أنَّ جوابَ (لو) امْتَنَعَ لامتناعِ شرْطِه، وقد يكونُ ثابتاً لثبوتِ غيرِه؛ لأنَّها إذا كانَتْ تَقْتَضِي نَفْيَ تالِيهَا واسْتِلْزَامِه لتالِيه، فقد دَلَّتْ على امتناعِ الثاني لامتناعِ الأوَّلِ؛ لأنَّه متى انْتَفَى شيءٌ انْتَفَى مُساوِيهُ في اللُّزومِ، معَ احتمالِ أنْ يَكُونَ ثَابِتاً لثبوتِ أَمْرٍ آخَرَ، فإذا قلتَ: لو كانَتِ الشمسُ طالعِةً، كانَ الضوءُ موجوداً، فلا بُدَّ من انتفاءِ القَدْرِ المُساوِي منه للشَّرْطِ، فصَحَّ أنْ يُقالَ: (لو) حَرْفٌ يَدُلُّ على امتناعِ الثاني لامتناعِ الأوَّلِ. ص: وتَرِدُ للتَّمَنِّي. ش: نحوَ: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}؛ أي: فلَيْتَ لنَا، ولهذا نَصَبَ (نكونَ) في جوابِها، كما انْتَصَبَ (فأَفُوزَ) في جوابِ ليْتَ في: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ

فَأَفُوزَ} وهل هي الامْتِنَاعِيَّةُ، أُشْرِبَتْ معنَى التَّمَنِّي لكونِها لا تَقَعُ غالباً إلاَّ بعدَ مُفْهَمِ تَمَنٍّ؟ ثلاثةُ أقوالٍ، وإلى الأخيرِ صَارَ ابنُ مالِكٍ، وغَلَّطَ الزَّمَخْشَرِيُّ في عَدِّهَا حَرْفُ تَمَنٍّ لمَجِيئِها معَ فِعْلِ التَّمَنِّي في قَوْلِهِ: {وَدُّوا لَوُ تُدْهِنُ} ولو كانَتْ لِلتَّمَنِّي لَمَا جَمَعَ بينَهما كما لم يَجْمَعْ بينَ لَيْتَ وفِعْلَ تَمَنَّ، وهذا مَرْدُودٌ؛ لأنَّ حَالَةَ دخولِ فِعْلَ التَّمَنِّي عليها لا تكونُ حَرْفُ تَمَنٍّ، بل مُجَرَّدَةٌ عنه، فمرادُ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيرَه ممَّنْ أَثْبَتَها للتَّمَنِّي حيثُ لم تَلِ فِعْلَ تَمَنٍّ. ص: ولِلْعَرْضِ والتَّحْضِيضِ. ش: فالأوَّلُ: نحوَ: لو تَنْزِلُ عندَنا فتُصِيبُ خيراً، والثاني: لو فَعَلْتَ كذا يا هذا، بمعنَى افْعَلْ، والفرقُ بينَهما أنَّ العَرْضَ طَلَبٌ بلِينٍ، والتحضيضُ طَلَبٌ بِحَثٍّ، وقَلَّ مَن ذَكَرَ التحضيضَ، وقد ذَكَرَهُ العَكْبَرَاوِيُّ في (الشامِلِ) ومثلُه بما ذَكَرَنَا، قالَ: وأكثرُ ما تَجِيءُ معَ ما. ص: والتقليلُ نحوَ: ولو بِظُلْفٍ مُحْرَقٍ.

ش: أَثْبَتَهُ ابنُ هِشَامٍ الخَضْرَاوِيُّ، وابنُ السَّمْعَانِيِّ في (القواطعِ)، والحقُّ أنَّه مُسْتَفَادٌ ممَّا بعدَها لا مِن الصِّيغَةِ، والظَّلَفُ بالكَسْرِ: للبَقَرِ والغَنَمِ، كالحافِرِ للفَرَسِ، وإنَّما لم يُمَثِّلِ المُصَنِّفُ: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوُ بِشِقِّ تَمْرَةٍ))، ((الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتِماً مِنْ حَدِيدٍ)). معَ أنَّهما أَصَحُّ ممَّا ذَكَرَه، لإفَادَتِه النهايةُ في التقليلِ بخلافِ التَّمَرَةِ والخَاتَمِ. ص: الحَادِي والعشرونَ: (لَنْ) حَرْفُ نَفْيٍ ونَصْبٍ واسْتِقْبَالٍ، ولا تُفِيدُ تَاكِيدَ النَّفْيِ ولا تَابيدِه، خلافاً لِمَا زَعَمَه. ش: (لَنْ) تَنْصِبُ المضارعَ وتُخْلِصُه للاستقبالِ، نحوَ: لَنْ يَقُومَ زَيدٌ، وهي تُفِيدُ مُطْلَقُ النَّفْيِ، وزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ في (الكَشَّافِ) أنَّها تُفِيدُ تَاكِيدَ النَّفْيِ، وفي (الأَنْمُوذَجِ) تُفِيدُ تَابيدِه، قالَ ابنُ مَالِكٍ: وحَمَلَه على ذلك اعتقادُه أنَّ اللهَ تعالَى لا يُرَى، وهو اعتقادٌ باطلٌ. وقالَ ابنُ عُصْفُورٍ، ما ذَهَبَ إليه دَعْوَى بلا دليلٍ عليها، بل قد يكونُ النَّفْيُ بـ (لا) آكِدٌ من النَّفْيِ بـ (لن)؛ لأنَّ المَنْفِيَّ بـ (لا) قد يكونُ

جواباً للقَسَمِ، والمَنْفِيَّ بـ (لن) لا يكونُ جواباً له، ونَفْيُ الفِعْلِ إذا أَقْسَمَ عليه آكِدٌ، ورَدَّهُ غيرَه بأنَّها لو كانَتْ للتَّابيدِ لم يُقَيَّدْ مَنْفِيهَا باليومِ في قَوْلِهِ تعالَى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}، ولكانَ ذَكَرَ الأبَدُ في قَوْلِهِ تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} تِكْرَاراً، إذِ الأصْلُ عَدَمُه، بقولِه تعالَى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} ولو كَانَتْ للتَّابيدِ لَمَا صَحَّ أنْ يُوَقِّتَ. قلتُ: ووافَقَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الثاني ابنُ عَطِيَّةَ، واقْتَضَى كلامُه أنَّها مَوْضُوعَةٌ في اللُّغَةِ لذلكَ، حتى قالَ: ولو بَقِينَا على هذا النَّفْيِ بمُجَرَّدِه لتَضَمَّنَ أنَّ مُوسَى لا يَرَاهُ أَبَداً ولا في الآخِرَةِ، لكنْ وَرَدَ من جِهَةٍ أُخْرَى في الحديثِ المُتَواتِرُ أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَرَوْنَهُ. قلتُ: ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرادُه أنَّ نَفْيَ المُسْتَقْبَلِ بعدَها يَعُمُّ جميعَ الأزْمِنَةِ المُسْتَقْبَلَةِ من جِهَةِ أنَّ الفِعْلَ نَكِرَةٌ، والنكرةُ في سِياقِ النَّفْيِ تَعُمُّ. وَوَافَقَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الأوَّلِ جماعَةٌ منهم ابنُ الخَبَّازِ في (شَرْحِ الإيضاحِ) فقالَ: (لن) لِنَفْيِ المُضَارِعُ على جِهَةِ التَّاكِيدِ، ونَفْيهُ أَبْلَغُ من نَفْيِ (لا) ألاَ تَرَى أنَّه يُسْتَعْمَلُ في المواضِعِ التي يَسْتَمِرُ عَدَمِ الاتصالِ فيها كقولِه: {لَنْ تَرَانِي} ليسَ لا يَرَاهُ في الدُّنْيَا، وقولُه: {وَلَنْ يَخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ}؛ لأنَّ خُلْفُ= الوَعْدِ على اللهِ مُحَالٌ، ومنهم صَاحِبُ (التِّبْيَانِ) فقالَ: إنْ (لن) لنَفْيِ المَظْنُونِ حُصوله= ولا لنَفِي المَشْكُوكِ فيه، فـ (لن) آكِدٌ، وأنَّ (لن) تَنْفِي ما قَرُبَ، ولا

يَمْتَدُّ معنَى النَّفْيِ فيها كما يَمْتَدُّ في (ما)؛ لأنَّ ما آخِرُه ألِفٌ يَمْتَدُّ معه الصُّوْتُ بخلافِ ما في آخِرِه نُونٌ، وقد رَدَّ عليه ابنُ عَمِيرَةَ في (التَّنْبِيهَاتِ) هذا الكلامُ وقيلَ: إنَّ السُّهَيْلِيَّ ذَكَرَهُ في (نَتَائِجِ الفِكْرِ). ص: وتَرِدُ للدُّعاءِ وِفَاقاً لابنِ عُصْفُورٍ. ش: أي: كَمَا أنَّ (لا) لذلكَ حَكَاهُ ابنُ السَّرَّاجِ عن قَوْمٍ، وخَرَّجَ عليه. قولَه تعالى: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} والصحيحُ عندَ ابنِ مالِكٍ وغيرِه، أنَّه يُسْتَعْمَلُ في الدُّعاءِ من حروفِ النَّفْيِ إلاَّ (لا) خاصَّةً، ولا حُجَّةَ فيما

اسْتَدَلُّوا به لاحْتِمَالِ أنْ يَكُونَ خَبَراً، ولأنَّ الدُّعاءَ لا يَكُونُ للمُتَكَلِّمِ، اعْلَمْ أنَّ عِبَارَةَ (التَّسْهِيلِ) ولا يَكُونُ الفِعْلُ مَعَها دعاءً خلافاً لبعضِهم، وبه ظَهَرَ أنَّ تَعْيينِ المُصَنِّفِ مُنْتَقِدٌ. ص: الثاني والعِشْرونَ: (ما) تَرِدُ اسْمِيَّةٌ وحَرْفِيَّةٌ مَوْصُولَةٌ، ونَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وللتَّعَجُّبِ واسْتِفْهَامِيَّةٌ وشَرْطِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ وغيرُ زَمَانِيَّةٍ. ش: تَرِدُ (ما) اسماً وحَرْفاً، فالاسْمِيَّةُ: هي التي يَكُونُ لها مَوْضِعٌ من الإعْرابِ، والحَرْفِيَّةُ خلافَ ذلك، وللاسِمِيَّةُ مَوارِدٌ: أحدُها: أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةٌ، وهي ما صَلَحُ في مَوْضِعِها (الذي) نحوَ: يُعْجِبُنِي ما عندَك، ونحوَ: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ}. ثانيها: نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وتُقَدَّرُ بشيءٍ نحوَ: مَرَرْتُ بِمَا مُعْجَبٌ لكَ؛ أي: بشيءٍ، وأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: رُبَّمَا تَكْرُه النُّفُوسَ من الأمْرِ ... لَهُ فُرْجَةً كَحَلِّ العِقَالِ أي: رُبَّ شَيءٍ وتَكْرَهُ النُّفوسَ، صِفَةً لَهُ، والعَائِدُ مَحْذُوفٌ؛ أي: تَكْرَهُهُ. ثالثُها: تَعَجُّبِيَّةٌ، نحوَ: مَا أَحْسَنَ زَيداً؛ أي: شيءً، والفِعْلُ بعدَها في مَوْضِعِ خَبَرِها، كأنَّه قيلَ: شيءٌ أَحَسَنَ زيداً؛ أي: صَيَّرَهُ حَسَناً عندِي، وجَازَ الابْتِدَاءُ بالنَّكِرَةِ لمَكانِ التَّعَجُّبِ، كما جَازَ في قَوْلِهِم: عَجَبٌ لزيدٍ، وهذا على مذهبِ سِيبَوَيْهِ. وقالَ

الأخْفَشُ: مَوْصُولَةٌ، والفِعْلُ بعدَها صِلَةٌ، والخَبَرُ محذوفٌ لازِمُ الحَذْفِ، وحَمَلَهُ على ذلكَ اعْتِقَادَه أنَّه لم تُوجَدْ (ما) نَكِرَةٌ غيرَ مَوْصُوفَةٍ إلاَّ في شَرْطٍ أو اسْتِفْهَامٍ، وهو باطلٌ، بدليلِ قولِهم: غَسْلَته غسلاً نعما=، وممَّا يُفْسِدُ قولُه: إنَّ التَّعَجُّبَ إنَّما يكونُ من شيءٍ خَفِيِّ السَّبَبِ، واعْلَمْ أنَّ هذه لَيْسَتْ قَسِيماً للنَّكَرَةِ كما يُوهِمُ= كلامُ المُصَنِّفِ، بل النَّكِرَةُ قِسمَانِ: نَاقِصَةٌ وهي المَوْصُوفَةٌ، وتَامَّةٌ وهي التَّعَجُّبِيَّةٌ، نحوَ: ما أَحَسَنَ زيداً؛ أي: شيءٌ حَسَنُ زيداً. رابعُها: اسْتِفْهَامِيَّةٌ: نحوَ: {وَمَا تِلْكَ بِيمَينِكِ يَا مُوسَى} ثمَّ إمَّا أنْ يُسْتَفْهَمَ بها مُسْتَثْبِتاً أو غيرَ مُسْتَثْبِتٍ، فإنْ كُنْتَ غيرَ مُسْتَثْبِتٍ لم يَجُزْ حَذْفُ إلاَّ معَ الخوافضِ، نحوَ: بِمَ جِئْتَ وعَمَّ سَأَلْتَ؟ وإلامَ سِرْتَ؟ قالَ تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {وَبِمَ تُبَشِّرُونَ} ولا تُحْذَفُ معَ غيرِ الخَافِضِ إلاَّ في ضرورةٍ، وإنْ كُنْتَ مُسْتَثْبِتاً حَذَفْتَ أَلَفَها معَ الخافضِ، فإذا قلتَ: رَأَيْتُ شيئاً حَسَناً، قلتَ له: مَا رَأَيْتُ أو رَأَيْتُ بهِ. خامِسُها: الشَّرْطِيَّةُ، نحو: ما تَصْنَعُ وأَصْنَعُ؛ أي: إنْ تَصْنَعَ شيئاً أَصْنَعَه، وهي تَنْقَسِمُ إلى زَمَانِيَّةٍ، نحوَ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}؛ أي: اسْتَقِيمُوا لهم مُدَّةَ اسْتِقامَتِهم لَكُم. وقد أَثْبَتَ ذلك الفَارِسِيُّ وابنُ مالِكٍ. وإلى غيرِ زَمانِيَّةٍ: {مَا نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}. وذَكَرَ إمامُ الحَرَمَيْنِ في بابِ الطلاقِ من (النهايةِ) قَوْلُ الأصحابِ في: كُلَّمَا لم أُكَلِّمُكِ فأَنْتِ طالِقٌ، إنَّه لِلْفَوْرِ، وليسَ فيه

تَعَرُّضٌ للوَقْتِ، وأَجَابَ بأنَّ أهلَ العَرَبِيَّةِ أَجْمَعُوا على أنَّ (ما) في (كُلَّمَا) ظَرْفُ زَمانٍ؛ يعنِي بمَثَابَةِ إذا قلتَ: وإنَّما الذي أَجْمَعُوا عليه انْتِصابَ (كلَّ) في (كلَّما)، على الظرفِيَّةِ، وجَاءَتِ الظَّرْفِيَّةُ من جِهَةِ ما، فإنَّها مُحْتَمِلَةٌ؛ لأنَّ تَكُونَ اسْماً نَكِرَةً بمعنَى وَقْتٌ، أو حَرْفاً مَصْدَراً، والأصْلُ: كُلُّ وقْتٍ لم يَحْصُلْ كَلامٌ، ثمَّ عَبَّرَ عن معنَى المَصْدَرِ بمَا والفِعْلِ، ثمَّ أَنْبَأَ عن الزمانِ. ص: ومَصْدَرِيَّةٌ كذلك، ونَافِيَةٌ كذلك وزَائِدَةٌ كَافَّةٌ، وغيرُ كَافَّةٍ. ش: للحَرْفِيَّةِ اسْتعْمَالاتٍ: أحدُها: أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةٌ؛ أي: يَكُونُ ما بَعْدَها في تَاويلِ المَصْدَرِ، نحوَ: أَعْجَبَنِي ما قُلْتَ؛ أي: قَوْلُكَ، وأَشَارَ بقولِه: {كَذَلِكَ} إلى أنَّها تَجِيءُ ظَرْفِيَّةً وغيرُ ظَرْفِيَّةٍ، فغيرُ الظَّرْفِيَّةِ: يُعْجِبُنِي ما تَقُومُ؛ أي: قِيامُكَ، وقولُه تعالى: {لَمَا تَصِفُ أَلْسِنَتِكُمْ}؛ أي: لوَصْفٍ. والظَّرْفِيَّةُ؛ أي: تَقَعُ مَوْقِعَ الظَّرْفِ، نحوَ: {مَا دُمْتُ حَيًّا}؛ أي: مُدَّةَ دَوَامِي حياًّ {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وتَقْسِيمُ المَصْدَرِيَّةِ كذلك ذَكَرَهُ الجَزُولِي،

ونَازَعَ فيه ابنُ عُصْفُورٍ؛ لأنَّ الظرفِيَّةَ، ليْسَتْ من معانِي (ما) بل معَ الفِعْلِ بمَنْزِلَةِ المَصْدَرِ، والمَصَادِرُ قد تُسْتَعْمَلُ ظُروفاً؛ لقولِهم: أَتَيْتُكَ خُفُوقَ= النَّجْمِ أو خِلافَةَ= فُلانٍ؛ أي: مُدَّةَ خُفُوقِ النَّجْمِ ومُدَّةَ خَلافَتِه، فلا يَنْبَغِي أنْ تُعَدَّ قَسِيماً للمَصْدَرِ. ثانيها: نَافِيَةٌ، إمَّا عَامِلَةٌ، كقولِه تعالَى: {مَا هُنَّ أُمْهَاتِهِمْ} أو غيرَ عَامِلَةٍ، نحوَ: مَا قَامَ زَيدٌ ومَا يَقُومُ عَمْرٌو. ثالثُها: الزَّائِدَةُ، وهي إمَّا كَافَّةٌ أو غيرَ كَافَّةٍ، فالكَافَّةُ إمَّا عَن عَمَلِ الرَّفْعِ، نحوَ: (قَلَّمَا) و (طَالَمَا). أو النَّصْبِ والرَّفْعِ، وهي المُتَّصِلَةُ بإنَّ وأَخَواتِها، نحوَ: {إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. أو الجَرِّ، وهي المُتَّصِلَةُ بُرُبَّ، وغيرُ الكافَّةِ، إمَّا عِوَضاً، أمَّا أنتَ مُنْطَلِقاً انْطَلَقْتُ، أو غيرُه نحوَ: شَتَّانَ ما بينَ زَيدٍ وعَمْرٍو. ص: الثالثُ والعشرونَ: (مِن) لابْتِداءِ الغَايَةِ غَالِباً. ش: أي: ويُعْرَفُ بأنْ يُذْكَرَ معَها (إلى) التي للغَايَةِ لَفْظاً، نحوَ: سِرْتُ مِن

البَصْرَةِ إلى بَغْدَادَ. أو تَقْدِيراً، بأنْ يَتَعَرَّضَ للابْتِداءِ من غيرِ قَصْدٍ إلى انْتِهاءٍ مَخْصُوصٍ، إذا كانَ المعنَى لا يَقْتَضِي إلاَّ المُبْتَدَأَ منه، نحوَ: أَعُوذُ باللهِ من الشيطانِ الرَّجِيمِ، وزَيدٌ أَفْضَلُ من عمرٍو ونحوِه. وقالَ الخَفَافُ: معنى الابتداءُ به التي يَقَعُ بعدَها المَحَلُّ الذي ابْتَدَأَ منه الفِعْلُ، نحوَ: جِئْتُ من المَسْجِدِ؛ أي: ابْتِداءُ المَجِيءِ منه، ولا بُدَّ بعدَها من ذِكْرِ مَوْضِعِ الانْتِهاءِ، وقد يُحْذَفُ للعِلْمِ به، وقد يَقَعُ بعدَها المَحَلُّ الذي وُجِدَ فيه ابتداءُ الفِعْلِ وانْتِهاؤُهُ كأَخَذْتُ المَالَ من الكيسِ. وأَشَارَ المُصَنِّفُ بقولِه (غالباً) إلى أنَّه الغالبُ عليها، حتى قالَ بعضُهم: إنَّها حيثُ وُجِدَتْ كانَتْ لابتداءِ الغَايَةِ، وسائِرِ مَعانِيهَا تَرْجِعُ إليه، تَقُولُ: أَخَذْتُ من الدَّراهِمِ، فقد جَعَلَ مالَه ابتداءَ غايةِ ما أَخَذَ، إنَّما دَلَّ على البَعْضِ من حيثُ صَارَ ما بَقِيَ انْتِهاءٌ له، قالَ ابنُ السَّمْعَانِيُّ: هذا قولُ النَّحْوِيِّينَ، وأمَّا الذي يَعْرِفُه الفقهاءُ، فهو لابتداءِ الغايَةِ والتَّبْعِيضِ جميعاً، وكلُّ واحدٍ في مَوضِعِه حقيقةٌ، ثمَّ هي لابتداءِ الغايَةِ في المكانِ اتِّفاقاً، نحوَ: {مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ}. وفي الزمانِ عندَ الكُوفِيِّينَ، نحوَ: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}، {وَمِنَ الْلَيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ}، و {للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}. وصَحَّحَهُ ابنُ مالِكٍ وغيرُه لكَثْرَةِ شَواهِدِه، وتَأَوْيلُ البَصْرِيِّينَ مُتَعَسِّفٌ، لكنْ ذَكَرَ ابنُ أَبِي الرَّبِيعِ أنَّ مَحَلَّ الخِلافِ بينَ الفريقَيْنِ في أنَّ (مِن) هل يَجُوزُ أنْ تَقَعَ مَوْقِعَ مُدَّةَ، فإنَّها لابتداءِ غايةِ الزمانِ بلا خلافٍ، فالبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَ ذلك، والكُوفِيِّونَ يُجِيزُونَهُ، وما وَرَدَ في القرآنِ لا يُحْتَجُّ به على البَصْريِّينَ؛ لأنَّه لم يَرِدْ مُدَّةً، قبلُ وبعدُ. (ص) وللتَّبْعِيضِ. (ش) نحوَ: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ}، وعلامَتُها جَوازُ الاسْتِغْنَاءِ عنها بـ (بعضِ)، وهنا بَحْثَانِ:

أحدُهُما: أنَّه يَظُنُّ تَساوِي الصِّيغَتَيْنِ، أَعْنِي، (بعضَ) و (مِن) قالَ ابنُ أَبِي الرَّبِيعِ: كانَ بعضُهم يقولُ ذلك، وليسَ كما قالَ. قالَ: فإذا قُلْتَ: أَكَلْتُ من الرَّغِيفِ دَلَّتْ (مِن) على أنَّ الأكْلَ وَقَعَ بالرَّغِيفِ على جِهَةِ التَّبْعِيضِ، أو مُتَعَلِّقُ الأكْلِ بالرَّغِيفِ على وَجْهَيْنِ؛ إمَّا على أنَّها عَمَّهُ أو خَصَّ بعضَه، فدَخَلَتْ (مِن) لِبَيانِ ذلك. وإذا قلتَ: أَكَلْتُ بعضَ الرَّغِيفِ، فليسَ الرَّغِيفُ مُتَعِلِّقُ الأكْلِ، وإنَّما مُتَعَلِّقُ البَعْضِ، وسِيقَ الرَّغِيفُ لتَخْصِيصِ ذلك البعضِ وزَوالِ= شِياعِه. وإذا قلتَ: أَكَلْتُ من الرَّغِيفِ، فالرَّغِيفُ مُتَعَلِّقُ الأكْلِ، ودَخَلَتْ للتَّبْيينِ؛ إنَّه لم يَتَعَلّ‍َقْ به على أنَّه عَمَّه، بل تَعَلَّقَ به على أَنَّه وَقَعَتْ به على جِهَةِ التَّبْعِيضِ. الثاني: في صِدْقِ البَعْضِ على النِّصْفِ أو ما دُونَه قولانٍ لأهلِ اللُّغَةِ، وقياساً جَرَيانُه هنا، ويَدُلُّ للثاني قولُه تعالَى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ}. وقالَ الإمِامُ في كتابِ (الوَكَالَةِ من النِّهايَةِ) لو قالَ: بِعْ من عَبِيدِي مَن شِئْتَ، ليسَ للوَكِيلِ أنْ يَبِيعَ جَمِيعَهم، فإنَّ (مِن) تَقْتَضِي التَّبْعِيضِ، فلو بَاعَ جَمِيعَهم إلاَّ واحداً نَفُذَ باتفاقِ الأصحابِ، وإن كانَ التَّبْعِيضُ في النَّظَمِ= المَعْرُوفِ، رُبَّمَا يُورَدُ على النِّصْفِ ممَّا دُونَه قالَ: وهذا يُنَاظِرُ الاسْتِثْنَاءَ، فإنَّ الغَالِبَ اسْتِثْنَاءُ الأقَلِّ واسْتِبْقَاءُ الأكْثَرِ، ولكنْ لو قالَ: على عَشْرَةٍ إلاَّ تِسْعَةٍ، صَحَّ وجُعِلَ مُقِرًّا بِدِرْهَمٍ. ص: ولِلتَّبْيينِ: ش: نحوَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}. فإنَّ الأوثانَ كلُّها رِجْسٌ، فجَاءَ التَّبْيينُ بمَا بَعْدَها لجِنْسِ الذي قَبْلَها، وقولُه: {خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ}، وقولُه {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}؛ أي: الذي هُمْ أَنْتُمْ؛ لأنَّ الخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فلا

يُتَصَوَّرُ أنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وعلامَتُها أنْ يَصِحَّ جَعْلَ= الذي مكانَها، فإنَّه لو قيلَ: اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الذي مِن الأوثانِ لصَحَّ، أو أنْ يَكُونَ ما بعدَها وَصْفاً لِمَا قَبْلَها، لصِحَّةِ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الوَثَنِيَّ، وجَعَلَ منه صَاحِبُ (الأَزْهِيَةِ) قولُ سِيبَوَيْهِ: هذا بابُ علم ما الكلم من العربِيَّةِ=؛ لأنَّ الكَلِمَ قد يَكُونَ عَرَبِيًّا وعَجْمِيًّا، فبَيَّنَ المُرادُ وهو العربِيَّةُ، كأنَّه قالَ: ما الكَلِمُ، الذي هو العربِيَّةُ. وحَكَى الصيمريُّ من أَصْحَابِنَا عن الشَّافِعِيِّ فيما لو قالَ له: من هذا المَالُ ألْفٌ، فكانَ المالُ كلُّه أَلْفاً، إنَّه إقرارٌ بجَميعِه حَمْلاً، لـ (مِن) على التَّبْيينِ. ص: والتَّعْلِيلُ والبَدَلُ. ش: مثالُ الأوَّلِ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ}. والثاني: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}. ص: والغَايَةُ: ش: يُحْتَمَلُ تَعْبِيرُهُ بالغايَةِ دونَ انتهاءِ الغايةِ؛ أمَرَيْنِ: أحدُهما: أنَّ الغايةَ كلُّها، وحَكَاهُ ابنُ أَبِي الرَّبِيعِ عن قوم، ٍ نحوَ: أَخَذْتُ من الياقوتِ، فالياقوتُ مُبْتَدَأُ الأَخْذِ ومُنْتَهاهُ، فدَخَلَتْ (مِن) الغايَةُ كلَّها، قالَ: وهذا إذا حُقِّقَ رَجَعَ لابتداءِ الغايَةِ؛ لأنَّها دَخَلَتْ، ولَمَّا لم يكنْ لِلْفِعْلِ امتدادٌ، وَجَبَ أنْ يكونَ المبتدأُ والمُنْتَهَى واحدٌ، ألاَ تَرَى مِن لا يَجِدُها للانتهاءِ خاصَّةً، وإنَّما تكونُ للابتداءِ وما زَادَ على ذلك فبالانْجرارِ

والثاني: وهو الظاهرُ أنَّه على حَذْفِ مُضَافٍ؛ أي: انتهاءِ الغَايَةِ، منزلَة= (إلى) فتَكُونُ لابتداءِ الغايَةِ من الفاعَلِ، ولانتهاءِ غايةَ الفِعْلِ من المفعولِ، مثلَ: رَأَيْتُ الهِلالَ مِن دَارِي من خَلَلِ السحابِ؛ أي: مِن مَكانِي إلى خَلَلِ السحابِ، فابتداءُ الرُّؤْيَةِ وَقَعَ من الدارِ وانْتِهاؤُها في خللِ السحابِ. وذَكَرَ ابنُ مالِكٍ أنَّ سِيبَوَيْهِ أَشَارَ إلى هذا المعنَى، وأَنْكَرَهُ جماعةٌ، وقالُوا: لم يَخْرُجْ عن ابتداءِ الغايَةِ، لكنَّ الأوْلَى ابتداؤُها في حقِّ الفاعلِ، والثانيةَ في حقِّ المفعولِ؛ لأنَّ الرؤيةَ إنَّما وَقَعَتْ بالهِلالِ، وهو في خَلَلِ السحابِ، ومنهم مَن جَعَلَها في الثانيةِ لابتداءِ الغايَةِ أيضاًً، إلاَّ أنَّه جَعَلَ العامِلَ فيها فِعْلاً، كأنَّه قالَ: رَأَيْتُ الهلالَ من دَارِي ظاهِراً من خَلَلِ السحابِ، وَرَدَ بأنَّ الخَبَرَ المحذوفَ الذي يَقُومُ المجرورُ مَقَامَه، إنَّما يَكُونُ بما يُنَاسِبُ معنَاهُ الحَرْفُ، و (مِن) الابتدائِيَّةُ لا يُفْهَمُ منها معنَى الكَوْنِ ولا الظهورِ، فلا يَنْبَغِي أنْ يُحْذَفَ، ومنهم مَن جَعَلَها بَدَلاً من الأُولَى. ص: وتَنْصِيصُ العُمُومِ. ش: وهي الدَّاخِلَةُ على نَكِرَه=، لا تَخْتَصُّ بالنَّفْيِ، نحوَ: مَا جَاءَنِي مِن رَجُلٍ، فإنَّه قَبْلَ دُخُولِها تَحْتَمِلُ نَفْيَ الجِنْسِ ونَفْيَ الواحِدِ؛ ولهذا يَصِحُّ أنْ تَقُولَ: بل رَجُلانِ، ويَمْتَنِعُ ذلك بعدَ دُخولِ (مِن)، أمَّا الواقِعَةُ بعدَ الأسماءِ العامَّةِ التي لا تُسْتَعْمَلُ إلاَّ في النَّفْيِ فتُفِيدُ معنَى التَّاكِِيدِ لا غيرَ، نحو: ما جَاءَنِي مِن أَحَدٍ، فهو كقولِك: ما جَاءَنِي أَحَدٌ سِواهُ، قالَهُ الخَفَافُ والصَّيْمَرِيُّ وابنُ بَابَشَاذٍ وغيرُهم، أمَّا الواقعةُ في الإثباتِ،

فلا يَجُوزُ زِيادَتُها خلافاً للكوفيِّينَ: ولا حجه= لهم فيه {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} لجَوازِ إرادَةِ البعْضِ، فإنَّ من الذنوبِ حُقوقاً لعِبادِه، واللهُ لا يَغْفِرُها بل يَسْتَوْهِنُها، وما نُقِلَ أنَّ قولَه: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} إنَّما وَرَدَ في قومِ نُوحٍ، ولو سَلَّمَ أنَّها في هذه الآيةِ الأمَّةُ، فلا بُدَّ أنْ يَغْفِرَ بعضُ الذنوبِ لقومٍ، وجميعُها لآخَرِينَ. ص: والفَصْلُ. ش: نحوَ: {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحَ} وتَعَرَّفْ بدُخولِها على ثانِي المُتَضَادَيْنِ. ص: ومُرادَفَةُ (الباءُ) و (في) و (عندَ) و (على). ش: فالأوَّلُ: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}. قالَ يُونُسُ: أي بطَرْفٍ خَفِيٍّ، وتُحْتَمَلُ ابتداءُ الغايَةِ.

والثاني: نحوَ: {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} كذا قالُوا، والظاهرُ أنَّها على بابِها، والمعنَى صحيحٌ، والأَحْسَنُ التَّمْثِيلُ بما حَكَاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في (الشاملِ) عن الشَّافِعِيِّ في قَوْلِهِ تعالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} أنَّها بمعنَى (في) بدليلِ قولِه تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. والثالثُ: نحوَ: {لَنْ تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالِهِمْ وَلاَ أَوْلاَدِهِمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً}، قالَه أَبُو عُبَيْدَةَ. والرابعُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ}. وقيلَ: على التَّضْمِينِ؛ أي: مَنَعْنَاهُ. ص: الرابعُ والعشرونَ من شَرْطِيَّةٍ واسْتِفْهَامِيَّةٍ ومَوْصُولَةٍ ونَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ، قالَ أَبُو عَلِيٍّ: ونَكِرَةٌ تَامَّةٌ. ش: (مَن) بالفَتْحِ تَاتِي شَرْطِيَّةً، نحوَ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}. واسْتِفْهَامِيَّةً، نحوَ: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}. ومَوْصُولَةً، نحوَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}.

ونَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، نحوَ: مَرَرْتُ بمَن مُعْجَبٌ لك، تُرِيدُ بإنسانٍ مُعْجَب=، فوصْفُكَ لـ (مَن) بمُعْجَبٍ، وهو نَكِرَةٌ، دليلٌ على أنَّ (مَن) نَكِرَةٌ، ولا تُسْتَعْمَلُ مَوْصُوفَةٌ إلاَّ في حالِ التَّنْكِيرِ، سواءٌ كانَ المَوضِعُ صالحاً؛ لأنْ تَقَعُ فيه المَعْرِفَةُ أو لم تَكُنْ، خِلافاً للكِسائِيِّ، فإنَّه زَعَمَ أنَّ العَرَبَ لا تَسْتَعْمِلُها نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إلاَّ بِشَرْطِ وُقُوعِها في مَوْضِعٍ لا تَقَعُ فيه إلاَّ النَّكِرَةُ، نحوَ: رُبَّ مَن عَالِمٍ أَكْرَمْتُ، ورُبَّ مَن أَتَانِي أَحْسَنْتُ إليه، وهذا ضعيفٌ، وقد أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: فكَفَى بِنَا فَضْلاً على مَن غيرنا ... حُبُّ النبيِّ مُحَمَّدٍ إِيَانَا بخَفْضِ غيرَ؛ أي: على أُنَاسٍ غَيْرَنَا، وأَثْبَتَ أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيٍّ مَجِيئِهَا نَكِرَةً تَامَّةً، قالَه في قَوْلِهِ: ونِعْمَ مَنْ في سِرٍّ وإعْلانٍ، فزَعَمَ أنَّ الفَاعِلَ مُسْتَتِرٌ، و (مَنْ) تَمْييزُه، وقولُه: هو، مَخْصُوصٌ بالمَدْحِ، وقالَ غيرُه، مَنْ مَوصُولُ فاعلٍ، وعُلِمَ من ذِكْرِ المُصَنِّفِ الزيادَةُ فيما دونَ (مَنْ) أنَّها لا تَجِيءُ زائدَةً، وهو مذهبُ البَصْرِيِّينَ؛ لأنَّ الأسْمَاءَ لا تُرادُ بالقياسِ خلافاً للكِسَائِيِّ. ص: الخامسُ والعشرونَ: (هَلْ) لطَلَبِ العِلْمِ= التصديقُ الإيجابيُّ لا التصوريُّ ولا للتصديقِ السلبيِّ. ش: (هَلْ) حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، ولا يُسْتَفْهَمُ بها عن التَّصَوُّرِ، وهو العِلْمُ بالمُفْرَدَاتِ؛ أي: لا يُسْأَلُ بها عن مَاهِيَّةِ الشيءِ، وإنَّما يُسْتَفْهَمُ بها عن التَّصْدِيقِ الإيجَابِيِّ كقولِك: هل قَامَ زَيْدٌ.

ص: السادسُ والعشرونَ: (الواو) لمُطْلَقِ الجَمْعِ، وقيلَ: للتَّرْتِيبِ، وقيلَ: لِلْمَعِيَّةِ. ش: في الواوِ العَاطِفَةِ مذاهِبَ، أَصَحُّهَا: أنَّها لمُطْلَقِ الجَمْعِ؛ أي: لا تَدُلُّ على

تَرْتِيبٍ ولا مَعِيَّةٍ، فإذا قلتَ: قَائمٌ زيدٌ وعَمْرٌو، احْتَمَلَ ثلاثةَ معانٍ، قيامُها في وقتٍ واحدٍ، وكونُ المُتَقَدَّمِ قَامَ أوْلاً، وكونُ المُتَأَخِّرِ قَامَ أوْلاً. قالَ ابنُ مالِكٍ: لكنْ تَاخِيرَ العَاطِفَ كثيرٌ وتَقَدَّمَه قليلٌ والمَعِيَّةُ احْتِمَالٌ رَاجِحٌ، وهذا مُخَالِفٌ لكلامِ سِيبَوَيْه فإنَّه قالَ: وكذلك قولُك: مَرَرْتُ برَجُلٍ وحمارٍ، وكأنَّك مَرَرْتَ بأحدِهما، وليسَ في هذا دليلٌ أنَّه بَدَأَ بشيءٍ قبلَ شيءٍ ولا شيءٍ بعدَ شيءٍ. انتهى. واسْتَدَّلَ ابنُ مالِكٍ بقولِه تعالَى: عَن مُنْكِرِي البَعْثِ {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}. فالموتُ بعدَ الحياةِ معَ أنَّهم قَدَّمُوه لِمَا كانَ الغَرَضُ نَفْيُ الجَمْعِ لا التَّرْتِيبِ. وإنَّما عَبَّرَ المُصَنِّفُ بمُطْلَقِ الجَمْعِ دونَ الجَمْعِ المُطْلَقِ كما عَبَّرَ ابنُ الحَاجِبِ؛ تَنْبِيهاً على صوابِ العِبَارَةِ، فإنَّ الجَمْعَ المُطْلَقُ هو الجَمْعُ المَوْصُوفُ بالإطْلاقِ؛ لأنَّا نَقُولُ بالضَّرُورَةِ بينَ الماهيَّةِ بلا قَيْدٍ، والمَاهِيَّةُ المُقَيَّدَةُ ولو بقَيْدِ= لا، والجَمْعُ المَوْصُوفُ بالإطْلاقِ لا يَتَنَاولُ غيرُ صُورَةٍ وهي قولُنا مَثَلاً: قَامَ زَيدٌ وعَمْرٌ، ولا يَدْخُلُ فيه المُقَيَّدُ بالمَاهِيَّةِ ولا بالتَّقْدِيمِ ولا بالتَّاخِيرِ لخُروجُهِمِا بالتَّقْييدِ عن الإطْلاقِ، وأمَّا مُطْلَقُ الجَمْعُ فعَامٌّ في؛ أي: جَمْع=

كانَ، سواءٌ كانَ مُرَتَّباً أو غيرَ مُرَتَّبٍ، فتَدْخُلُ فيه الصُّوَرُ الثلاثةُ، ونَظِيرُه قولُهم: مُطْلَقُ الماءِ، والماءُ المُطْلَقُ. والقولُ الثاني: أنَّها تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، ونُقِلَ عن الفَرَّاءِ وثَعْلَبٍ وأَنْكَرَهُ السِّيرَافِيُّ وقالَ: لم أَرَهُ في كتابِ الفَرَّاءِ، وعَزَاهُ المَاوَرْدِيُّ في بابِ الوضوءِ للجُمْهُورِ من أصْحَابِنَا. والثالثُ: أنَّها للمَعَيِّةِ: ونسبهُ الإمامُ في (البُرْهَانِ) للحَنَفِيَّةِ، وعَلِمَ بذلك أنَّ ما ذَكَرَهُ السِّيرَافِيُّ والفَارِسِيُّ والسُّهَيْلِيُّ من إجماعِ النُّحاةِ بَصْرِيِّهُمْ وكُوفِيِّهِم على أنَّ (الواو) لا تُرَتَّبَ، غيرُ صحيحٍ، وعَزَى ابنُ الخَبَّازِ وغيرُه من النَّحْوِيِّينِ التَّرْتِيبُ للشَّافِعِيِّ، وهو غَلَطٌ وقد اشْتَّدَ نَكِيرَ ابنُ السَّمْعَانِيُّ والأستاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وغيرُهما على مَن نَسَبَ ذلك إلى الشَّافِعِيِّ. وقالَ ابنُ عُصْفُورٍ في (شَرْحِ الإيضاحِ): الخِلافُ في أنَّ (الواو) للتَّرْتِيبِ، مَحَلَّه إذا كانَ الفِعْلُ يُمْكِنُ صُدُورُه من واحدٍ، فأمَّا نحوَ: اخْتَصَمَ زيدٌ وعمرٌو، فلا خِلافَ أنَّها لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وذَكَرَ في (شرحِ الجُمَلِ) مُحْتَجًّا على القائلِ بالتَّرْتِيبِ، بأنَّ هذه الأفعالَ لا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، فكذا غيرُها.

باب الأوامر والنواهي

الجزء الثاني باب الأوامر والنواهي (باب الأمر والنهي) (ص) الأمر: أم ر، حقيقة في القول المخصوص مجازا في الفعل، وقيل: للقدر المشترك وقبل مشترك بينهما قيل وبين الشأن والصفة والشيء. (ش) نبه بقوله: (أم ر) أنه لا يعني بالأمر مدلوله كما هو المتعارف في الإخبار عن اللفظ إن تلفظ به والمراد مدلوله، بل المراد بلفظ الأمر، كما يقال: زيد اسم، وضرب فعل ماض، ومن: حرف جر. وهذا اللفظ حقيقة في القول: المخصوص. المراد بالقول الصيغة: والمراد بالمخصوص: الطالب للفعل، وهو: افعل وما يجري مجراه وهو قسم من أقسام الكلام، وقد يطلق على الفعل نحو: زيد في أمر عظيم إذا كان في سفر أو غيره، وقوله تعالى: {أتعجبين من أمر الله}، {حتى إذا جاء أمرنا} ثم اختلفوا على مذاهب. أحدها: وهو قول الأكثرين: أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص، مجاز في الفعل وغيره.

وإلا لزم الاشتراك والمجاز خير منه. الثاني: أنه مشترك بين القول والفعل، بالاشتراك اللفظي، لأنه أطلق عليهما والأصل الحقيقة وعزاه في (المحصول) لبعض الفقهاء، وعزاه ابن برهان إلى كافة العلماء. والثالث: أنه متواطئ فيكون موضوعا للقدر المشترك بين الفعل والقول دفعا للاشتراك والمجاز، واعلم: أن هذا القول لا يعرف قائله وإنما ذكره صاحب (الإحكام) على سبيل الفرض والالتزام، أي لو قيل: فما المانع منه، لهذا حكاه ابن الحاجب ثم قال في آخر المسألة: وأيضا فإنه قول حادث هنا، وإذا علمت هذا تعجبت من المصنف في حكايته وترك ما قبله. والرابع: أنه مشترك بينهما أي بين القول الفعل - وبين الشأن لقوله تعالى:

{وما أمر فرعون برشيد} والصفة كقول الشاعر: لأمر ما يسود من يسود أي لصفة من صفات الكمال، والشيء كقولنا: تحرك هذا الجسم لأمر، أي: لشيء وهذا ما عزاه المصنف لأبي الحسين البصري، فإنه قال في (المعتمد): وأنا أذهب إلى أن قول القائل: (أمر) مشترك بين الصفة والشيء والطرائق وبين جملة الشأن والطرائق، وبين القول المخصوص. انتهى. وقضيته: أنه مشترك عنده بين خمسة أشياء لكنه في (شرح المعتمد): فسر الشأن والطريق بمعنى واحد، فتكون الأقسام عنده أربعة، فلهذا حذف المصنف الطريق لكن عليه نقد، فإنه يقتضى أنه مشترك عنده بين هذه المفاهيم، ومن جملتها الفعل بخصوصه، وأبو الحسين لم يتعرض للفعل بخصوصه، وإنما تعرض للشأن والطريق كما تراه، وبهذا اعترض الأصفهاني على صاحب (التحصيل) و (المنتخب) فإنهما عبرا بعبارة المصنف، ولهذا لم

يتعرض في (المحصول) للفعل (83ب) في حكايته عن أبي الحسين. (ص) وحده: اقتضاء فعل غير كف مدلول عليه بغير كف. (ش) البحث في الأمر في مقامين: أحدهما: في لفظه وقد سبق. والثاني: في مدلوله والكلام الآن فيه وقد اختلف فيه فذهب نفاة الكلام النفسي إلى أنه عبارة عن اللفظ الطالب للفعل، وذهب المثبتون إلى تفسيره بالمعنى الذهني، وهو: ما قام بالنفس من الطلب، لأن الأمر بالحقيقة هو ذلك الاقتضاء واللفظ دال عليه وعليه جرى المصنف، ولهذا صدر الحد بالاقتضاء دون القول، فاقتضاء الفعل جنس يشمل الأمر والنهي، والمراد بالاقتضاء ما قام بالنفس من الطلب فخرج ما ليس باقتضاء كالإباحة في قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} والتعجب في: {فأتوا بسورة} وأمثالهما، فالصيغة صيغة أمر

في هذه المواضع إلا أنه ليس بأمر على الحقيقة لعدم الاقتضاء وقوله: (غير كف) فقيل: خرج به النهي فإنه وإن كان فعل أيضا، ولكن فعل هو كف، لأن مقتضاه كف النفس عن الفعل. وقوله: (مدلول عليه بغير كف) هذا قيد زاده على ابن الحاجب فإنه قد يرد عليه نحو: كف نفسك عن كذا فإنه أمر بالكف مع أنه ليس غير كف، بل هو لاقتضاء فعل هو كف وحينئذ فيكون مدلوله مجرورا صفة لكف المضاف إليه في قوله: غير كف، والمعنى أن الفعل الذي يقتضيه الأمر فعل خاص وهو غير كف، ولا نريد غير مطلق الكف، بل غير كف خاص وهو المدلول عليه بغير كف، أما المدلول عليه بقولك كف أو أمسك ونحوه فهو أمر، فإذن ليس فعل هو كف غير أمر، بل إنما يكون غير أمر إذا دل عليه بلفظ غير قولنا: اكفف ونحوه مثل لا تفعل ونحوه، ولمن يعتني بابن الحاجب أن يقول: أراد غير كف عن الفعل الذي انتفت منه صيغة الاقتضاء فلا يرد عليه اكفف ونحوه. (ص) ولا يعتبر فيه علو ولا استعلاء، وقيل: يعتبران واعتبرت المعتزلة وأبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والسمعاني: العلو. واعتبر أبو الحسين والإمام والآمدي وابن الحاجب: الاستعلاء. (ش) في اعتبار العلو والاستعلاء في الأمر أربعة مذاهب.

أصحها: عدم اعتبارهما ونقله في (المحصول) عن الأصحاب، لإمكان أن يقوم بذات الأدنى طلب من الأعلى ويتخيل أنه يأمره ويتبعه والفرق بين العلو والاستعلاء أن العلو: كون الأمر في نفسه أعلى درجة، والاستعلاء: أن يجعل نفسه عاليا بكبرياء أو غيره، وقد لا يكون في نفس الأمر كذلك. فالعلو: من الصفات العارضة للناطق، والاستعلاء: من صفات كلامه. والثاني: يعتبران وبه جزم ابن القشيري. والثالث: يعتبر العلو، وبه قالت المعتزلة وجمع من أصحابنا وقالوا: لا يصدق إلا به، بأن يكون الطالب أعلى رتبة من المطلوب منه، فإما أن يكون مساويا له فهو التماس (83أ) أو دونه فسؤال. الرابع: يعتبر الاستعلاء دون العلو وأفسد البيضاوي المذهبين بقوله تعالى

حكاية عن قول فرعون لقومه في مجلس المشاورة: {ماذا تأمرون} ومعلوم انتفاء العلو، إذ كان فرعون في تلك الحالة أعلى رتبة منهم وقد جعلهم آمرين له. وانتفاء الاستعلاء إذ لم يكونوا مستعلين عليه، وهذا بناء منه على أن معنى الأمر في الآية، القول المخصوص وليس كذلك، وإنما المراد الصورة. نعم قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} يقتضي مجامعة الأمر، مع أن الآمر أدون رتبة. وأفسد مذهب أبي الحسين بأن كثيرا من آيات الأمر في القرآن في غاية التلطف ونهاية الاستجلاب بتذكير المنعم والوعيد بالنعم. كما في قوله تعالى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} وقوله: {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم} إلى غير ذلك من الآيات المنافية للاستعلاء وإلا يلزمه إخراجها عن الأوامر. (ص) واعتبر أبو على وابنه إرادة الدلالة باللفظ على الطلب. (ش) مذهب الفقهاء أن الأمر أمر بصيغته ولا ينعكس كمن معه إرادة

أخرى لأن هذه الصيغة وضعت لمعنى فلا يفتقر في إفادتها إياه إلا الإرادة كسائر الألفاظ الدالة على معانيها، وذهب أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وعبد الجبار، وأبو الحسين إلى اعتبار إرادة الدلالة بها على الأمر، وعلى هذا قالوا: لا تكون صيغة التهديد أمرا، ولا يكون المعلوم من الله موته على الكفر، مأمورا بالإيمان لانتفاء الدلالة على الطلب، فإن شرط الدلالة على الطلب، كون المدلول عليه بالصيغة مرادا فحيث لم يرد لم تكن الصيغة دالة على الطلب لانتفاء شرطه واحتجوا بأن الصيغة كما ترد للطلب ترد للتهديد مع خلوه عن الطلب فلا بد من مميز بينهما ولا مميز سوى الإرادة وأجيب بأن المميز حاصل بدون الإرادة لأن صيغة الأمر حقيقة في القول، مجاز في الفعل، وهذا كاف في التمييز واعلم أن ابن برهان قال: الإرادات ثلاث: إحداها: إرادة إيجاد الصيغة، احترازا عن النائم وهو متفق على اعتبارها.

وثانيها: إرادة صرف اللفظ عن غير جهة الأمر إلى جهة الأمر احترازا عن التهديد ونحوه فاختلف أصحابنا فاعتبرها المتكلمون ولم يعتبرها الفقهاء وقالوا: الصيغة محمولة على الأمر. وثالثها: إرادة فعل المأمور به والامتثال: احترازا عن الحاكي والمبلغ وهذه مسألة خلاف بيننا وبين من ذكر من المعتزلة وهذه غير طريقة المصنف. (ص) والطلب بديهي. (ش) لما أخذوا في الحد الاقتضاء، وهو الطلب أورد عليهم أن الطلب أخفى من الأمر فهو تعريف بالأخفى، فأجابوا بالمنع. فإن الطلب بديهي التصور فإن كل أحد يفرق بالبداهة بين طلب الفعل وطلب الترك وبينهما وبين المفهوم من الخبر لأنه من الأمور الوجدانية كالجوع والشبع وهذا النوع من الاستدلال عولوا عليه في مواضع كثيرة في إثبات بداهة الشيء (83ب) وهو ضعيف لأنه لا يلزم من الحكم بالشيء

والتفرقة بينه وبين غيره بالبديهة أن يكون ذلك الشيء معلوما بكنه حقيقته بالبديهة نعم، يلزم منه أن يكون معلوما من بعض الوجوه بالبديهة، وذلك لا يلزم بداهته فإن قيل: البديهي لا يفتقر إلى الدليل وأنتم قد استدللتم عليه قلنا: قد يكون التصور بديهيا ولا يفتقر حصوله إلى تصور آخر وبداهته لا تكون بديهية ولهذا حدوا البديهي من التصورات بالذي لا يفتقر في حصوله إلى تصور آخر ليعلم بالحد ماهيته ولا يقدح ذلك في بداهته غير ذاتية وإنما القادح في بداهته، توقف حصوله على أمور أخر، وقد فسروا الطلب بأنه الأمر القائم بالنفس يجري مجرى العلم والقدرة وسائر الصفات القائمة به، وهذه الصيغة المخصوصة دالة عليه. (ص) والأمر غير الإرادة خلافا للمعتزلة. (ش) لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أن الأمر دل على الطلب وإنما اختلفوا في حقيقة الطلب فعند المعتزلة: هو إرادة المأمور به، وعندنا: هو شيء غير الإرادة وأنه يقوم بالنفس معنى سوى إرادة الفعل المأمور به فإنا نجد الآمر يأمر بما لا يريده لأن الإيمان من الكفار مطلوب بالإجماع، ومنهم من أخبر الله بأنه لا يؤمن فكان إيمانه محالاً؛ لإخبار الله بعدمه، والمحال لا يكون مراد الله تعالى ولأن الطلب قد يتحقق بدون الإرادة لأنه يجتمع مع كراهته، ولأنه لو كان الأمر الإرادة، لوجب وجود أوامر الله تعالى كلها، فإن إرادة الفعل، تخصيصه بحال حدوثه فإذا لم يوجد لم

يتخصص به فإن قيل: هلا قال المصنف: وهو غير الإرادة فإنه أخص وكما عبر به في (المنهاج) قلنا: كل منهما صحيح، لأن الأمر دال على الطلب النفساني والطلب مدلول الأمر، فصح أن يقال: الأمر غير الإرادة، وأن يقال: الطلب غير الإرادة، لكن تعبير المصنف أولى، لأن الطلب كله ليس هو أمرا عند المعتزلة بل أمر خاص وهو مع العلو. فلهذا صرح بلفظ الأمر، لأنه محل الخلاف لا الطلب مع الإرادة. (ص) مسألة: القائلون بالنفسي اختلفوا: هل للأمر صيغة تخصه؟ والنفي: عن الشيخ فقيل: للوقف وقيل: للاشتراك والخلاف في صيغة (افعل): (ش) المثبتون للكلام النفسي اختلفوا في الأمر هل له صيغة تخصه؟ فنقل عن الشيخ الأشعري، أنه لا صيغة له تختص به وإن قول القائل: (افعل) متردد بين الأمر والنهي وإن فرضة حمله على النهي فهو محتمل متردد بين جميع محتملاته ثم اختلف في تنزيل مذهبه: فقيل: أراد الوقف على معنى لا يدري على أي وضع جرى فقول القائل: (افعل) في اللسان، وقيل: للاشتراك فاللفظ صالح لجميع المحامل صلاحية اللفظ المشترك للمعاني، التي يثبت اللفظ بها، وأشار بقوله: والخلاف إلى ما قاله إمام الحرمين والغزالي: وإن خلاف الأشعري إنما هو في صيغة

خاصة لكونها مترددة (84أ) في اللغة بين محامل كثيرة فأما قول القائل: أمرتك وأنت مأمور وأوجبت وألزمت، فلا خلاف أنه من صيغ الأمر ولا ينكره الأشعري ونازعهم الآمدي وغيره فقالوا: لا وجه لتخصيص الخلاف بصيغة (افعل) فإنه مذهب الشيخ: إن الأمر عبارة عن الطلب القائم بالنفس وليس صيغة مخصوصة به، بل يعبر عنه بالعبارات والإشارات الدالة عليه بواسطة انضمام القرائن معها وقال غيره من مثبتي كلام النفس: إن له صيغة مختصة به، لا يفهم منها غيره عند تجردها عن القرائن الصارفة عنه وهي كصيغة (افعل) و (ليفعل) و (فعال) وما في معناها من سائر اللغات، ونحو: قول القائل: أمرتك، وأنت من صيغ الإخبار وليس من صيغ الأمر فلا بد مع ذلك الخلاف إذ الخلاف في الأمر هل له صيغة إنشاء مختصه به أم لا؟ وهذا الخلاف إنما هو عند القائلين بكلام النفس وأما المنكرون له كالمعتزلة وغيرهم، فالأمر وسائر أقسام الكلام لا حقيقة له عندهم إلا العبارات فلا يتأتى ذلك الخلاف عندهم. (ص) وترد للوجوب، والندب والإباحة والتهديد والإرشاد وإرادة الامتثال والإذن والتأديب والإنذار والامتنان والإكرام والتسخير والتكوين والتعجيز، والإهانة، والتسوية، والدعاء والتمني والاحتقار والخبر والإنعام والتفويض والتعجب والتكذيب، والمشورة والاعتبار. (ش) ترد صيغة (افعل) لستة وعشرين.

معنى أولها: الوجوب: نحو {وأقيموا الصلاة} ثانيها: الندب: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} ثالثها: الإباحة ... {كلوا من الطيبات} وقال أبو علي الجبائي في قوله تعالى في أهل الجنة: {وكلوا واشربوا} هو إباحة ولا يريده القديم تعالى، ولا

يكرهه كمباحات الدنيا، وقال أبو هاشم: يجوز أن يريده لما فيه من زيادة السرور للمثاب وقال القاضي عبد الجبار: يجب أن يريده لأن الثواب لا يصح إلا بها. رابعها: التهديد، {اعملوا ما شئتم} خامسها: الإرشاد {واستشهدوا شهيدين} والفرق بينه وبين الندب أن المندوب مطلوب لثواب الآخرة والإرشاد لمنافع الدنيا ولا يتعلق به ثواب الآخرة فإنه لا ينقص الثواب بترك الإشهاد ولا يزيد بفعله. سادسها: إرادة الامتثال وقد يظن تفرد المصنف بذكره، وليس كذلك

فقد أشار إليه في (المستصفى) في الكلام على أن الأمر لا يستلزم الإرادة إلا أنه يذكره عند تعداد معاني (افعل) ومثله بقولك عند العطش: اسقني ماء، فإنك لا تجد من نفسك إلا إرادة السقي، أعني طلبه والميل إليه، وهو خلاف المعاني السابقة وإن فرضنا ذلك من السيد في حق عبده تصورا أن تكون للوجوب والندب مع هذه الزيادة وهو أن يكون لغرض السيد فقط، وذلك غير متصور في حق الله تعالى، فإن الله غني عن العالمين، ويدل على أن مراد المصنف حكايته: أن صيغة (افعل) حقيقة لإرادة الامتثال بالمعنى الذي سنبينه ولولا أنه قدمه نصا لم يحسن ذكره. سابعها: الإذن كقولك لمن طرق الباب: ادخل، وكأنه قسم من الإباحة. ثامنها: (84ب) التأديب كقوله: صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة، (كل مما يليك)

وجعله بعضهم قسما من المندوب، لأن الأدب مندوب إليه. تاسعها: الإنذار {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} وجعله بعضهم قسما من التهديد والصواب تغايرهما فإن التهديد هو التخويف والإنذار هو الإبلاغ لكن لا يكون إلا في الخوف فقوله تعالى: {تمتعوا} أمر إبلاغ هذا للكلام المخوف الذي عبر عنه بالأمر.

عاشرها: الامتنان نحو: {كلوا مما رزقكم الله} والفرق بينه وبين الإباحة أن الإباحة مجرد إذن وأنه لا بد من اقتران الامتنان بذكر احتياج الخلق إليه وعدم قدرتهم عليه ونحوه وأن الإباحة قد يتقدمها حظر مثل {وإذا حللتم فاصطادوا} حادي عشرها: الإكرام نحو {ادخلوها بسلام آمنين} فإن قرينة {سلام آمنين} تدل عليه قال صاحب (التنقيحات).

ولا وجه لحمله على الوجوب كما زعم بعض المعتزلة فإن الآخرة ليست دار تكليف ولا تكليف فيها فالوعيد على الترك. ثاني عشرها: التسخير نحو: {كونوا قردة خاسئين} وتوهم القرافي أن المراد به الاستهزاء فقال: اللائق تسميته سخرية بكسر السين لا تسخير، فإن التسخير، النعمة والإكرام قال الله تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار} {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض} {فسخرنا له الريح تجري بأمره} والسخرى بالكسر الهزء قال تعالى: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} قلت: وإنما التسخير لغة: التذليل والإهانة، والمراد أنه عبر بهذا عن نقلهم من حالة إلى أخرى إذلالا لهم.

ثالث عشرها: التكوين نحو: {كن فيكون} وسماه الغزالي بكمال القدرة لأن المراد منه إظهار كمال قدرة الله وأن مراده لا يتأخر عن إرادته والفرق بينه وبين التسخير أن التكوين سرعة الوجود من العدم وليس فيه انتقال إلى حالة ممتهنة بخلاف التسخير فإنه لغة: الذلة والامتهان في العمل. رابع عشرها: التعجيز نحو {فأتوا بسورة من مثله}

خامس عشرها: الإهانة {ذق إنك أنت العزيز الكريم} ومنهم من يسميه: التهكم وضابطه أن يؤتى بلفظ يدل على الخير أو الكرامة ويراد منه ضده. سادس عشرها: التسوية {فاصبروا أو لا تصبروا} سابع عشرها: الدعاء اللهم اغفر لي. ثامن عشرها: التمني كقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... ....................

تاسع عشرها: الاحتقار كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام يخاطب السحرة: {ألقوا ما أنتم ملقون} يعني: أن السحر وإن عظم ففي مقابلة المعجزة حقير والفرق بينه وبين الإهانة: أن الإهانة إنما تكون بالقول والفعل أو تركهما دون مجرد الاعتقاد والاحتقار لا بد فيه من الاعتقاد بدليل أن من اعتقد في شيء أنه لا يعبأ به ولا يلتفت إليه يقال: إنه احتقره ولا يقال: إنه أهانه ما لم يصدر منه قول أو فعل ينبئ عن ذلك. العشرون: الخبر كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) أي:

صنعت ما شئت، على أحد الأقوال. الحادي والعشرون: الإنعام: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} كذا قاله الإمام (85أ) في (البرهان) فقال: وهو وإن كان فيه معنى الإباحة فإن الظاهر منه تذكير النعمة. الثاني والعشرون: التفويض نحو {فاقض ما أنت قاض} ذكره الإمام. الثالث والعشرون: التعجب ذكره الصفي الهندي ومثله بقوله تعالى:

{قل كونوا حجارة أو حديدا} وهذا مثل به ابن برهان والآمدي للتعجيز ولكن العبادي في طبقاته مثل للتعجب بقوله تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} الرابع والعشرون: التكذيب نحو {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} الخامس والعشرون: المشورة نحو: {فانظر ماذا ترى} السادس والعشرون: الاعتبار {انظروا إلى ثمره} (ص) والجمهور: حقيقة في الوجوب لغة أو شرعا أو عقلا مذاهب، وقيل: في الندب وقال الماتريدي: للقدر المشترك وقيل: مشتركة بينهما

وتوقف القاضي والغزالي والآمدي فيهما، وقيل: مشتركة فيها وفي الإباحة وقيل: في الثلاثة والتهديد وقال عبد الجبار: لإرادة الامتثال وقال الأبهري: أمر الله تعالى للوجوب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المبتدأ للندب، وقيل: مشتركة بين الخمسة الأول، وقيل: بين الأحكام الخمسة، والمختار وفاقا للشيخ أبي حامد وإمام الحرمين: حقيقة في الطلب الجازم، فإن صدر من الشارع أوجب الفعل. (ش) أجمعوا على أن صيغة (افعل) ليست حقيقة في جميع هذه المعاني وإنما الخلاف في بعضها وفيه مذاهب أحدها: قول الجمهور: إنه حقيقة في الوجوب فقط، مجاز في البواقي، وهو المحكي (عن الشافعي رضي الله عنه، واختلف القائلون به: هل ذلك لغة

أو شرعا أو عقلا؟ وصحح الشيخ أبو إسحاق أنه بوضع اللغة ونقله إمام الحرمين) عن الشافعي ولهذا صدر به المصنف. والثاني: أنه حقيقة في الندب وبه قال أبو هاشم وغيره. والثالث: قول أبي منصور الماتريدي من الحنفية: إنه للمشترك بينها أي: القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب فيكون متواطئا. والرابع: أنه مشترك بينهما بالاشتراك اللفظي، وبه قال المرتضى من الشيعة. والخامس: قول القاضي ومن تبعه الوقف فقالوا: هو حقيقة إما في الوجوب وإما في الندب وإما فيهما جميعا بالاشتراك اللفظي، لكنا لا ندري ما هو الواقع في

الأقسام الثلاثة وحكى الصفي الهندي عن القاضي وإمام الحرمين والغزالي التوقف في أنه حقيقة في الوجوب فقط، أو الندب فقط، أو فيهما بالاشتراك اللفظي، وهذا يقتضي تردده بين أربعة، والذي في (المستصفى) تردده بين ثلاثة ولم يذكر الاشتراك المعنوي. والسادس: مشترك بين الوجوب والندب والإباحة، واختلف القائلون به: هل هو من الاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ وإطلاق المصنف حكايته تحتمل الأمرين. والسابع: مشترك بين هذه الثلاثة والتهديد. والثامن: قول عبد الجبار: إنه حقيقة في إرادة الامتثال فقط والوجوب وغيره يستفاد من القرائن وعزاه السمعاني لأبي هاشم وأوضحه فقال: إذا قال القائل لغيره (افعل) دل على أنه يريد منه الفعل فإذا كان القائل حكيما وجب كون الفعل على صفة زائدة على حسبه مستحق لأجلها المدح، فإذا كان المقول له مكلفا جاز أن يكون واجبا وأن يكون مندوبا فإذا لم يقم دليل على وجوب الفعل وجب نفيه والاقتصار على المحقق، وهو كون الفعل ندبا يستحق فاعله المدح. واعلم أن هذا من المصنف تكرار فقد سبق في قوله: واعتبر أبو علي وابنه إرادة الدلالة باللفظ على الطلب ثم إن هذه المسألة مفرعة على القول بالكلام النفسي، وعبد الجبار ممن ينكره، وكان ينبغي أن يقول: وأما المنكرون له فقالوا لا يكون (85ب) أمرا إلا بالإرادة. والتاسع: التفصيل بين أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فأمر الله حقيقة في الوجوب، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المبتدأ للندب، وحكاه القاضي عبد الوهاب في (الملخص)

عن شيخه أبو بكر الأبهري، واحترز بـ (المبتدأ) عما كان موافقا لنص أو مبينا لمجمل فيكون للوجوب أيضا، وذكر المازري أن النقل اختلف عن الأبهري فروي عنه هذا، وروي عنه أنه للندب مطلقا. والعاشر: أنه صيغة (افعل) مشتركة بين الخمسة الأول، أي: بين الوجوب والندب والإباحة والإرشاد والتهديد، كذا حكاه الغزالي. الحادي عشر: مشتركة بين الأحكام الخمسة أعني: الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم حكاه في (المحصول). الثاني عشر: قول الشيخ أبي حامد الإسفرائيني وإمام الحرمين وغيرهما: إنه حقيقة في الطلب الجازم من جهة اللسان، وكون هذا الطلب متوعدا عليه شيء آخر

ثابت في أوامر الشرع بدليل من خارج، وحينئذ فالوجوب مستفاد بهذا التركيب من الشرع واللغة، فقد وافق القائلين بالوجوب وإن كان قد خالفهم في هذا، واعتمد المصنف في هذا النقل المازري فإنه قال في (شرح البرهان): هذا الذي اختاره إمام الحرمين صرح به الشيخ أبو حامد الإسفرائيني وسبقه إلى اختياره فأشار إلى أن الأمر يقتضي حصر المأمور على الفعل واقتضاؤه منه اقتضاء جازما، ولكن إذا ثبت هذا من جهة اللسان ثبت بعده الوعيد، قال المصنف: وهو المختار عندنا، فإن الوعيد لا يستفاد من اللفظ، بل هو أمر خارجي عنه، ولكنا نقول: المنقول عن الشافعي رضي الله عنه: أن الصيغة تقتضي الوجوب، ومراده الصيغة الواردة في الشرع إذ لا غرض له في الكلام في شيء غيرها، ولم يصرح الشافعي بأن اقتضاءها للوجوب مستفاد منها فلعله يرتضي هذا التركيب ويقول به، وهذا المذهب يغاير المذهبين السابقين صدر المسألة، أعني: القول بأن الوجوب هل هو بالشرع أو باللغة فتصير المذاهب ثلاثة: الوجوب بالشرع، والوجوب باللغة، والوجوب بضم الشرع إلى اللغة. (ص) وفي وجوب اعتقاد الوجوب قبل البحث خلاف العام. (ش) ما سبق في صيغة (افعل) من حيث هي، فأما إذا صدرت من الشارع مجردة عن القرائن وجب الفعل، عملا بالحقيقة وهل يجب اعتقاد أن المراد بها الوجوب قبل البحث عن الكون المراد بها؟ ذلك فيه خلاف العام في وجوب اعتقاد عمومه قبل البحث عن المخصص، وسيأتي إن شاء الله تعالى في مباحث العام، وهذه المسألة قل من ذكرها، وممن صرح بجريان الخلاف هنا: الشيخ أبو حامد الإسفرائيني فكتابه في (الأصول) وابن الصباغ في (العدة).

(ص) فإن ورد بعد حظر، قال الإمام: أو استئذان فللإباحة وقال أبو الطيب والشيرازي والسمعاني والإمام: للوجوب. وتوقف إمام الحرمين. (ش) الخلاف في ورود الأمر بعد حظر سابق كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} مشهور وأما وروده بعد الاستئذان فذكره الإمام الرازي ومثله بقول الصحابة: كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا (اللهم صل على محمد). وفيه ثلاثة مذاهب: أصحها: أنه للإباحة فإنه سبق الحظر قرينة صارفة. قال صاحب (القواطع): وهو ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء والمتكلمين.

والثاني: للوجوب، لأن الصيغة تقتضيه (86أ) ووروده بعد الحظر لا تأثير له وهو اختيار القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق والسمعاني والإمام في (المحصول) ونقله الشيخ أبي حامد الإسفرائيني في كتابه عن أكثر أصحابنا ثم قال: وهو قول كافة الفقهاء وأكثر المتكلمين. والثالث: الوقف بينهما، وهو اختيار إمام الحرمين، مع كونه أبطل للوقف في لفظه ابتداء من غير تقدم حظر واعلم أنهم لم يحكوا هنا القول الآتي في المسألة بعدها برجوع الحال إلى ما كان قبلها ولا ببعد طرده. تنبيهان: الأول: قوله أولا: قال الإمام: أو استئذان - ليس معناه أن الإمام قال: إن ورد بعد حظر أو بعد استئذان فللإباحة بل معناه: أن وروده بعد الاستئذان فائدة أفادها الإمام أن حكمه حكم وروده بعد الحظر، فيه الخلاف، وهي نافعة في

الاستدلال على وجوب الصلاة في التشهد. الثاني: ترجمة المسألة بالأمر بعد الحظر قاله الجمهور عن القاضي أبي بكر أنه رغب عنها، وقال: الأولى: أن يقال: (افعل بعد الحظر) لأن (افعل) تكون أمرا تارة وغير أمر، والمباح لا يكون مأمورا به، وإنما هو مأذون فيه. (ص) أما النهي بعد الوجوب: فالجمهور: للتحريم، وقيل: للكراهة، وقيل: للإباحة، وقيل: لإسقاط الوجوب. وإمام الحرمين على وقفه. (ش) النهي الوارد بعد الوجوب: هل يقتضي التحريم؟ على مذاهب: أصحها: قول الجهور: إنه للتحريم، ولا ينتهض للوجوب السابق قرينة في حمل النهي على رفع الوجوب، وحكى القاضي والأستاذ فيه الاتفاق وفرقوا بينه وبين الأمر بعد الحظر، حيث اعتبروا القرينة هناك، ولم يعتبروها ههنا، فوجهين: أحدهما: أن النهي لدفع المفاسد والأمر لجلب المصالح واعتناء الشارع بدفع المفاسد أكثر من جلب المصالح. ثانيها: أن النهي عن الشيء موافق للأصل الدال على عدم الفعل ولا كذلك الأمر. الثاني: أنه لكراهة التنزيه. وهذا القول موجود في (المسودة الأصولية) لابن

تيمية، عن حكاية القاضي أبي يعلى منهم. الثالث: أنه للإباحة، كالقول به هناك ويدل له قوله تعالى: {قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني}. الرابع: أنه لرفع الوجوب فيكون نسخا، ويعود الأمر إلى ما كان قبله وهذا يؤخذ من نقل صاحب (المسودة الأصولية). وللخامس: أنه على الوقف. وهو قول إمام الحرمين فقال: أما أنا فأسحب

ذيل الوقف عليه، كما قدمته في صيغة الأمر بعد الحظر. (ص) مسألة: الأمر لطلب الماهية، لا لتكرار ولا مرة والمرة ضرورية وقيل: مدلوله وقال الأستاذ والقزويني: للتكرار مطلقا، وقيل: إن علق بشرط أو صفة وقيل بالوقف. (ش) الأمر بطلب الماهية، أي: المجرد عن التقييد، بالمرة أو الكثرة، اختلفوا فيه على مذاهب: أصحها: قول المحققين: إنه لا يدل على المرة ولا على التكرار وإنما يدل على طلب ماهية المأمور به فقط، ثم إن المرة الواجبة لا بد منها في الامتثال فهي من ضروريات الإتيان بالمأمور به لأن الأمر يدل عليها بذاته. والثاني: أنه يدل على المرة بلفظه، ولا يحتمل التكرار أصلا، وإنما يحمل عليه

بدليل، ونقله الشيخ أبو إسحاق عن أكثر أصحابنا وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء. والثالث: للتكرار مطلقا، المستوعب لزمان العمر، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق، والشيخ أبو حاتم القزويني فيما نقله عنه صاحبه الشيرازي في (شرح اللمع)، لكن شرط هذا القول (86 ب) الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة والنوم وضروريات الإنسان، كما قاله الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ ومراد المصنف بالإطلاق ما سيذكره في مقابله من الخلاف. والرابع: إن علق بشرط أو صفة، اقتضى التكرار مثل: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} {والسارق والسارقة فاقطعوا} وإن كان مطلقا لم يقتضه واختار الآمدي وابن الحاجب أنه لا يقتضي التكرار في المعلق أيضا قال البيضاوي: لا يقتضيه لفظا ويقتضيه قياسا.

الخامس: الوقت، قالوا: وهو محتمل لشيئين: أحدهما: أن يكون مشتركا بين التكرار والمرة، فيتوقف إعماله في أحدهما على قرينة. والثاني: أنه لأحدهما ولا نعرفه، فنتوقف لجهلنا بالواقع. (ص) ولا لفور، خلافا لقوم، وقيل: للفور أو العزم، وقيل: مشترك. (ش) (ولا لفور) عطف على قوله: (لا لتكرار) أي: الأمر المطلق مقتضاه طلب الفعل المأمور به ولا دلالة على خصوص الفور أو التراخي فيجوز البدار إلى الامتثال عقيب وروده ويجوز التأخير ولا يتعين أحدهما بخصوصه إلا بدليل قال إمام الحرمين: ينسب إلى الشافعي رضي الله عنه، وأصحابه، وهو الأليق بتعريفاته في الفقه، وإن لم يصرح به في مجموعاته في الأصول.

والثاني: إنه يقتضي الفور، أي: وجوب البدار إلى الفعل، ومنع التأخير عن أول وقت الإمكان بلا عذر، وهو قول الحنفية والحنابلة وكذلك المالكية كما قاله القاضي عبد الوهاب، واختاره من أصحابنا أبو حامد المروزي وأبو بكر الصيرفي. والثالث: أنه للفور أو العزم وهذا كعائد لأعم من المضيق والموسع ثم العزم إنما يكون في الموسع ولا ينافي هذا العود إلى الأعم، إذ إفراد القاضي إفراد الأعم بالحكم لا يوجب عدم العود إلى الأعم، ولهذا قال ابن الحاجب: وقال القاضي: إما الفور وإما العزم مع تصويره المسألة بمطلق الأمر، غير مقيدها بموسع

ولا مضيق وكل من تكلم على المسألة حتى القاضي نفسه تكلم عليها مطلقا، ثم اختار هذا بناء على أصله في الواجب الموسع وأن العزم فيه واجب عند التأخير. الرابع: أنه مشترك حكاه في (المنهاج) وأصله أن في المسألة قولا بالوقف، إما لعدم العلم بمدلوله أو لأنه مشترك بين اقتضاء الفور والتراخي بالاشتراك اللفظي فكان الأحسن التصريح بالوقف، ليشمل هذين الاحتمالين. (ص) والمبادر ممتثل، خلافا لمن منع ومن وقف. (ش) لو بادر إلى فعله أول الوقت من غير تأخير فالمشهور أنه ممتثل سواء قلنا: الأمر يقتضي الفور أم لا. ووراءه قولان غريبان: أحدهما: حكاه ابن الصباغ في (العدة) عن بعضهم أنه قال: لا يقطع بكونه ممتثلا لجواز إرادة التراخي وقال: إن القائل به خرق الإجماع ومثله قول الإمام في (البرهان): إنه من ترجم المسألة بأن الصيغة هل تقتضي التراخي، فلفظه مدخول، فإنه يقتضي اقتضاءها التراخي على قول، حتى لو فرض الامتثال على البدار لم يعتد به وليس هذا معتقد أحد.

الثاني: إننا نتوقف لكونه مشكوكا في أن المراد به الفور أو التراخي فيتوقف في الامتثال وهو قضية كلام إمام الحرمين. (ص) مسألة: الرازي والشيرازي وعبد الجبار: الأمر يستلزم القضاء وقال الأكثر: القضاء بأمر جديد. (ش) إذا أمر الشارع بالفعل في وقت معين فخرج (87أ) الوقت ولم يفعل فهل يجب القضاء بأمر جديد ابتداء أم يجب بالأمر السابق، بمعنى أنه يستلزمه لا أنه عينه؟ قولان: فذهب عبد الجبار والإمام في (المحصول) إلى الثاني محتجين بقوله

صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)). فقوله: ((إذا ذكرها)) دليل على أن الأمر الأول باق عليه، وأن الواجب بعد الوقت هو الواجب، الذي كان في الوقت، وما نقله المصنف عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي سهو فإنه صحح في (اللمع) قول الأكثرين. وذهب الأكثرون إلى أن القضاء بأمر جديد لأنه فات الأمر بفوات الوقت فيفوت الوجوب، والحديث حجة لنا، لأن قوله: (فليصلها) أمر جديد فلو كان الأمر الأول باقيا عليه لم يحتج إلى هذا الثاني، فلما ذكره دل على وجوبه بهذا الأمر لا بالأمر الأول.

(ص) والأصح أن الإتيان بالمأمور به يستلزم الإجزاء. (ش) إتيان المكلف بالمأمور به على الوجه المشروع يستلزم الإجزاء وإلا لكان الأمر بعد الامتثال مقتضيا إما لذلك المأتي به، ويلزم تحصيل الحاصل أو لغيره ويلزم أن لا يكون الإتيان بتمام المأمور به بل ببعضه، والغرض خلافه قال أبو هاشم وعبد الجبار: لا يوجبه كما لا يوجب النهي الفساد قال في (المنتهى): إن أراد أنه لا يمتنع أن يرد أمر بعده بمثله فمسلم، ويرجع النزاع في تسميته قضاء وإن أراد أنه لا يدل على سقوطه فساقط قلت: وبالأول صرح عبد الجبار في (العمد): أنه لا يستلزمه بمعنى أنه لا يمتنع أن يقول الحكيم: افعل كذا، فإذا فعلت أديت الواجب، ويلزمك مع ذلك القضاء والخلاف مبني على

تفسير الإجزاء بسقوط القضاء أما إذا فسرناه بسقوط التعبد به فالامتثال يحصل للإجزاء بلا خلاف، فكان حق المصنف التنبيه على ذلك ليعرف به خلل من أطلق الخلاف. (ص) وأن الآمر بالشيء ليس أمرا به. (ش) أي: ليس آمرا لذلك الغير بذلك الشيء على الأصح فإنه صلى الله عليه وسلم قال: لعمر لما طلق ابنه عبد الله زوجته في الحيض:

((مره فليراجعها)) فلم تكن المراجعة واجبة على عبد الله لما كان الأمر له بذلك من أبيه بخلاف أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أخبره أن الله يأمره، أو أني أأمره بها ولا يصار إلى أنه أمر إلا بدليل ونقل العالمي من الحنفية عن بعضهم أنه أمر، وحكى سليم الرازي في (التقريب) ما يقتضي أنه يجب على الثاني الفعل جزما، وإنما الخلاف في تسميته أمرا، وقال في (المحصول): الحق أن الله إذا قال لزيد: أوجب على عمرو كذا فلو قال لعمرو: وكل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك، فالآمر بالأمر بالشيء أمر بالشيء في هذه الصورة، ولكنه بالحقيقة إنما جاء من قوله: كل ما أوجب فلان عليك فهو واجب عليك أما لو لم يقل ذلك فلا يجب، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ((مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع)) فإن ذلك الأمر لا

يقتضي الوجوب على الصبي انتهى. والحق التفصيل: فإن كان للأول أن يأمر الثالث، فالأمر الثاني بالأمر للثالث أمر بالثالث وإلا فلا. (ص) وأن الآمر بلفظ يتناوله داخل فيه. (ش) الآمر بلفظ يتناول (87ب) نفسه، هل يدخل في الأمر، نظرا لعموم اللفظ وكونه أمرا لا يصلح معارضا، وفيه قولان: أصحهما: عند المصنف: نعم، وهذا تابع فيه الهندي، فإنه عزاه للأكثرين لكن ذكرت في كتاب (الوصول إلى ثمار الأصول) في باب العموم: أن الأكثرين - وهو مذهب الشافعي - عدم الدخول، لا سيما على قول من اشترط في الأمر العلو، وينبغي أن يكون موضع الخلاف ما إذا لم يكن مأمورا بمخاطبة غيره، فإن كان، لم يدخل فيه قطعا، ولهذا قطع أصحابنا فيما لو وكله ولو بصيغة الأمر ليبرئ غرماءه والوكيل من جملة الغرماء - إنه ليس له أن يبرئ نفسه، وعلله

صاحب (التتمة) بما ذكرنا، ونص الشافعي رضي الله عنه، أنه لو وكله ليفرق ثلثه على الفقراء - ليس له صرفه إلى نفسه وإن كان فقيرا أو مسكينا. ووجه القاضي أبو الطيب في تعليقه، بأن المذهب الصحيح: أن المخاطب لا يدخل في أمر المخاطب إياه في أمر غيره، قال: فإذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أمته أن يفعلوا كذا، لم يدخل هو في ذلك الأمر. انتهى. واحترز بقوله: (بلفظ يتناوله) عما إذا أمر بلفظ خاص، فإنه لا يدخل الأمر تحته قطعا وقد اعترض على المصنف فقيل: كيف يجتمع هذا مع قوله في آخر العام: الأصح أن المخاطب داخل إن كان خبرا لا أمرا. وقد اعترف بجودة السؤال ثم انفصل عنه وقال: الامر يطلق على (المنشئ) وعلى المبلغ عن المنشئ فقول الله سبحانه أمر بطريق إنه المنشئ الحاكم بمضمون الأمر، وهذا بطريق الحقيقة ويطلق على النبي صلى الله عليه وسلم بطريق المجاز باعتبار أنه المبلغ عن الله تعالى. إذا عرفت هذا فالأمر بلفظ يتناوله قد يجيء بغيره كالتثنية والجمع غير المحلى، إذا تحقق دخول فيهما بطريق من الطرق وحاصل أن موضوع المسألتين مختلف: فمسألة الأمر في الإنشاء من منشئ أو مبلغ، ومسألة العموم في الخطاب أعم من أن يكون إنشاء أو خبرا ولا يخفى ما فيه من التعسف مع وروده في الصورة التي يجتمعان فيها، ولو جمع بينهما يحمل المذكور هنا على ما إذا كان الخطاب يتناوله كقوله: إن الله يأمركم بكذا، وقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} ونحوه. عملا بعموم الصيغة والمذكور ثم على ما إذا لم يكن اللفظ متناولا له كقوله: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} فلا يدخل فيه

كما لم يدخل موسى في ذلك الأمر، بدليل قوله في آخر القصة: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} ولا يظن بموسى عليه السلام ذلك. وقول المصنف: هنا (بلفظ يتناوله) ولم يذكر هذا القيد هناك - صريح فيما ذكرت: والعجب منه: كيف لم يقع على هذا وهو ظاهر من لفظه وبه يرتفع الإشكال، وقد رأيت في (التمهيد) لأبي الخطاب هذا التفصيل في هذه المسألة، ولله الحمد، وغاية ما يلزم المصنف أنه فرق المسألة في موضعين وذكر كل قطعة في موضع. (ص) وأن النيابة تدخل المأمور إلا لمانع. (ش) قال الآمدي: يجوز عندنا دخول النيابة فيما كلف به من الأفعال البدنية خلافا للمعتزلة، واستدلوا بأن الوجوب إنما كان لقهر النفس وكسرها والنيابة تنافي ذلك، وأجاب أصحابنا بأن النيابة لا تأباه لما فيها من بذل المؤنة وتحمل المنة، وقول المصنف: إلا لمانع، قيد لا بد منه ليخرج بعض البدني، كالصلاة والاعتكاف وكذا الصوم على الجديد، ومن الناس من عكس هذه العبارة، فقال: الطاعات لا تدخلها النيابة إلا الحج والصوم على قول (88أ) لأن القصد من الطاعة الإجلال والإثابة ولا يلزم من تعظيم الوكيل تعظيم الموكل، فكأنه وكله على ما لا يقدر عليه فلا يصح، وعلى هذا نص الشافعي في (الأم) كما بينته في (بحر الأصول) واقتصر الشيخ عز الدين في (أماليه) قال: وبهذا يظهر أن ثواب

العبادة البدنية لا يصح للغير، لأنه مرتب على الإجلال وهو حاصل من الغير وإن شئت قلت: تمتنع الاستنابة إلا في فعل تحصل مصلحته من الوكيل، كما تحصل من الموكل وحرر الصفي الهندي المسألة فقال: اتفقوا على جواز دخول النيابة في المأمور به إذا كان ماليا، وعلى وقوعه أيضا واتفاقهم على أنه يجوز للغير صرف زكاة ماله بنفسه، وأن يوكل فيه، وكيف لا وصرف زكاة الأموال الظاهرة إلى الإمام إما واجب أو مندوب ومعلوم أنه لم يصرفها للفقراء إلا بطريق النيابة واختلفوا في جواز دخولها فيه إذا كان بدنيا: فذهب أصحابنا إلى الجواز والوقوع معا محتجين بأنه لا يمنع لنفسه، إذ لا يمتنع قول السيد لعبده: أمرتك بخياطة هذا الثوب، فإن خطته بنفسك أو استنبت فيه أثبتك، وإن تركت الأمرين عاقبتك، واحتجوا بالنيابة في الحج وفيه نظر، فإنه لا يدل على جواز النيابة في المأمور به إذا كان بدنيا صرفا بل إنما يدل على ما هو بدني ومالي معا كالحج ولعل الخصم يجوز ذلك فلا يكون دليلا عليه، واحتج المانع بأن القصد من إيجاب العبادة البدنية امتحان المكلف والنيابة تخل بذلك، وأجيب بأنه لا يخل به مطلقا، فإن النيابة امتحان أيضا. (ص) مسألة: قال الشيخ والقاضي: الأمر النفسي بشيء معين نهي عن ضده الوجودي، وعن القاضي: يتضمنه وعليه عبد الجبار وأبو الحسين والآمدي

وقال إمام الحرمين والغزالي: لا عينه ولا يتضمنه وقيل: أمر الوجوب يتضمن فقط، أما اللفظي فليس عين النهي قطعا، ولا يتضمنه على الأصح. (ش) مسألة: الكلام في هذه المسألة يقع على وجهين: أحدهما: في النفساني وهو: الطلب القائم بالنفس، والمثبتون له اختلفوا على مذاهب:

أحدها: أنه عين النهي عن ضده وهو قول الأشعري والقاضي وأطنب في نصرته في (التقريب) بناء على أصلهم أن كلام الله واحد لا يتنوع، وهو بنفسه أمر بما أمر ونهى عما نهى، فكان تأثير الأمر بالشيء نهيا عن ضده، وعلى العكس. والثاني: ليس عينه ولكن يتضمنه عقلا، وذكر إمام الحرمين أن القاضي صار إليه في آخر مصنفاته ونقله الشيخ أبو حامد الإسفرائيني عن أكثر أصحابنا ونقله المصنف عن عبد الجبار ومن معه، وفيه شيء نذكره. والثالث: أنه ليس نهيا عن ضده ولا متضمنا له، بل هو مسكوت عنه واختاره إمام الحرمين والغزالي وابن الحاجب وقال الكيا: إنه الذي استقر عليه القاضي. والرابع: التفصيل بين أمر الإيجاب، فيتضمن النهي عن ضده, وأمر الندب ليس نهيا عن ضده ولا متضمنا له فإن أضداده مباحة غير منهي عنها، وهو قول بعض المعتزلة، ومن لم يفصل جعل أمر الندب نهيا عن ضده نهي ندب، حتى يكون

الامتناع عن ضده مندوبا كما يكون فعله مندوبا وإنما قيدنا هذا الخلاف بالنفسي للتنبيه على أنه ليس الخلاف على صيغة الأمر وصيغة النهي إذ لا نزاع في أنهما صيغتان مختلفتان وإنما النزاع عند القائلين بالنفسي بأن الأمر هو الطلب القائم بالنفس (88ب) راجع إلى أن طلب فعل الشيء هل هو طلب ترك أضداده أم لا؟ وهذا وإن لم يصرح به الجمهور وأطلقوا الخلاف، فهو متضمن لما ذكرنا والشيخ والقاضي ما تكلما إلا في النفسي وذكرا أن اتصاف الشيء يكون أمرا ونهيا - بمثابة اتصاف اللون الواحد بكونه قريبا من شيء بعيدا من غيره، الثاني: اللساني والمنكرون للنفسي الذاهبون إلى أن الأمر هو نفس صيغة افعل وهم المعتزلة - قد اتفقوا على أن الأمر ليس نهيا عن ضده، ضرورة تغاير صيغة افعل لصيغة لا تفعل، ولهذا لم يصر أحد إلى أن الأمر نفس النهي، وإنما اختلفوا هل يستلزم النهي عن ضده من جهة المعنى على مذهبين، ومعناه: إن صيغة (افعل) مثلا تقتضي إيجاد القعود فهل يستلزم النهي عن القيام من حيث هي مقتضية لإيجاد القعود أم لا؟ فذهب قدماء مشايخهم إلى منعه، وذهب القاضي عبد الجبار وأبو الحسين وغيرهما إلى إثباته وهؤلاء لم يتكلموا إلا في اللساني، فإن الأمر عندهم العبارة فقط. تنبيهان: الأول: ظهر بما شرحناه أن حكاية المصنف عن عبد الجبار وأبي الحسين في المقام الأول منتقدة، فإنهما لم يتكلما إلا في اللساني، وأما الآمدي فإنه قال: إن

جوزنا تكليف ما لا يطاق فليس عينه ولا يستلزمه وإن منعناه استلزمه. الثاني: احترز بقوله: معينا، عن الواجب الموسع والمخير، فإن الأمر بهما ليس نهيا عن الضد، والمسألة مقصورة على الواجب على التعيين، صرح بذلك الشيخ أبو حامد الإسفرائيني والقاضي في (التقريب) وغيرهما، واحترزنا بالوجودي عن الترك، فإن الأمر بالشيء نهي عن تركه قطعا. وأما النهي فقيل: أمر بالضد وقيل: على الخلاف. اختلفوا في النهي عن الشيء، هل هو أمر بضده؟ على طريقين: إحداهما: أنه على الخلاف السابق في الأمر. والثانية: أنه بالضد قطعا وهي طريقة القاضي في (التقريب) فإنه جزم بأن النهي أمر بالضد، بعد ما حكى الخلاف في الأمر، ووجهه أن دلالة النهي على مقتضاه أقوى من دلالة الأمر على مقتضاه، ويدل لذلك أن مطلوب النهي فعل الضد، فاستحضار الضد في جانب النهي أولى منه في جانب الأمر، لأنه في جانب النهي المطلوب، ولا يطلب القائل إلا ما يحضر ذهنه، فالنهي يستدعي جانب المفسدة والأمر يستدعي جانب المصلحة، واعتناء الشارع بدرء المفاسد أكثر من اعتنائه

بالثاني وضعف إمام الحرمين هذه الطريقة، وقال: يلزم منها القول بمذهب الكعبي في نفي المباح فإنه إنما صار إلى ذلك من قال: لا شيء مقدرا مباحا إلا وهو ضد محظور فيكون حينئذ واجبا واعلم أن ابن الحاجب حكى الطريقة الثانية، وحكى بدل الأولى أنه ليس بالضد قطعا وبه يجتمع في المسألة ثلاث طرق، لكن المصنف نازعه في ثبوتها، وقال: إنه لم يعثر عليه نقلا، ولم يتجه له عقلا، وقال غيره: إنه مبني على أن النهي طلب نفي الفعل لا طلب الكف عنه الذي هو ضده كما هو مذهب أبي هاشم، فلا يكون أمرا بالضد. (ص) مسألة: الأمران غير متعاقبين أو بغير متماثلين غيران والمتعاقبان بمتماثلين ولا مانع من التكرار، والثاني غير معطوف. قيل: معمول بهما،

وقيل: تأكيد، وقيل بالوقف، وفي المعطوف التأسيس أرجح، وقيل: التأكيد فإن رجح التأكيد بعادي قدم، وإلا فالوقف. (ش) إذا صدر من الآمر أمران، فإن كانا غير متعاقبين (أي لم يكن الثاني عقب الأول) فلا يخلو إما أن يختلف المأمور بينهما أو يتماثلا، فإن اختلفا فكذلك (89أ) يجيئان قطعا سواء أمكن الجمع بينهما كـ (صل وصم) أو امتنع كالصلاة مع أداء الزكاة وإن كانا متماثلين فلا يخلو إما أن يكون المأمور به مما يمتنع فيه التكرار أو لا يمتنع، فإن امتنع فالثاني تأكيد قطعا، كقوله: اقتل زيدا

اقتل زيدا وإن لم يمتنع فلا يخلو إما أن يكون الثاني معطوفا على الأول أولا، فإن لم يكن معطوفا نحو: صل ركعتين (صل ركعتين) ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعمل بهما، فيجب التكرار لأن التأسيس أولى من التأكيد وعزاه الهندي للأكثرين. والثاني: تأكيد، فتجب المرة لكثرة التأكيد في كلامهم، والأصل عدم الزائد وبه قال الصيرفي وقد رأيته في كتابه (الدلائل والأعلام). والثالث: الوقف بين حمل الثاني على الوجوب أو التأكيد للأول، لتعارض الاحتمالين وبه قال أبو الحسين البصري وغيره وأما إذا كان معطوفا، مثل: صل ركعتين وصل ركعتين - فحكى المصنف قولين: أرجحهما: يجب العمل بهما، فيجب التكرار، لاقتضاء العطف المغايرة فيكون التأكيد مرجوحا.

والثاني: يحمل على التأكيد، فيجب مرة لأنه المتيقن فإن رجح في المعطوف التأكيد بعادي من تعريف نحو: صل ركعتين وصل الركعتين، وقع التعارض بين العطف ومانع التكرار فالعطف والتأسيس يقتضي التكرار والتعريف، والعادة تمنعه ويفيدان التوكيد، فيصار إلى الترجيح، فيقدم الأرجح وهو العمل بالثاني لأن حرف العطف المقتضي التغاير معارض بلام التعريف وتبقى أظهرية التأسيس سالمة من المعارضة وإن لم يوجد المرجح بل تساويا وجب الوقف كذا قالوا: ويظهر أن التوكيد في هذا الأخير أرجح، لأن التأسيس يعارضه مخالفة دليل براءة الذمة، فيبقى العطف ويعارضه أحد الأمرين، فيبقي الأمر الآخر سالما عن المعارضة وهو يقتضي التوكيد، وهذا شرح كلام المصنف وقد زاد على ابن الحاجب حكاية قول في المعطوف بحمله على التأكيد، وفيه نظر، فإن ظاهر سياقه تصوير مسألة العطف بما إذا لم يكن معه لام التعريف وفي هذه الحالة صرح جماعة بأنه لا خلاف في حمله على التأسيس لأن الشيء يعطف على نفسه ومنهم الهندي في (النهاية) قال: وأما إذا كان معرفا، فمنهم من حمله على التأسيس؛ لأجل العطف وهو الأولى - يعني لما سبق - ومنهم من توقف فيه، كأبي الحسين البصري بناء على تساوي دلالتهما على الاتحاد والمغايرة على ما سبق من أصله قال: وأما أصل الصيرفي فيقتضي حمله على غيره ما اقتضاه الأول لو قيل بتساوي دلالتهما وإلا فيجب إثبات مقتضى الراجح قلت: وكذا حكي عن ابن الصباغ في (العدة) فجزم بالتأسيس مع العطف، ثم قال: فإن دخله لام التعريف والعطف مثل: صل ركعتين وصل الركعتين فقيل: يحمل

على الاستئناف، وقيل بالوقف. فائدة: ذكر ابن الحاجب هنا مسألة الأمر بفعل مطلق الماهية أمر بجزئي وخالف (المحصول) وقد ذكرها المصنف في باب المطلق والمقيد، فلا تظن أنه أهملها. (ص) النهي اقتضاء كف عن فعل، لا بقول: كف. (ش) الاقتضاء: جنس لتناوله الأمر، وإضافته إلى الكف يخرج الأمر، لأنه اقتضاء فعل، وقوله: (لا بقول: كف معناه أنه ليس كل اقتضاء كف عن فعل، نهيا كما اقتضاه إطلاق ابن الحاجب (89ب) وغيره، بل النهي اقتضاء كف عن فعل، ويكون ذلك الاقتضاء دالا على ذلك الكف لا بقول: كف، وإن دل بقول: كف، كان أمرا ولم يكن نهيا، كما سبق في حد الأمر، والحاصل أن: كف، واكتف، وأمسك، وذر، ودع، وجاوز، وتنح، وعد، وحاذر، وإياك، ورويدك، ومهلا وقف، وأمثالها - أوامر بالمطابقة وإن اقتضت كفا، وإنما تكون نواهي بالتضمن بناء على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ضمنا.

(ص) وقضيته الدوام ما لم يقيد بالمرة، وقيل: مطلقا. (ش): النهي إن قيد بمرة حمل عليها قطعا، وإن كان مطلقا فقضيته الدوام، بمعنى أنه يفيد الانتهاء عن المنهي عنه دائما وهذا بخلاف الأمر لأنه لا يحصل الانتهاء إلا بذلك وقيل: إنه يقتضي الدوام مطلقا، وأطلق الشيخ أبو حامد وغيره الإجماع عليه وقضية عبارة المصنف في حكايته القول به مع التقييد بالمرة، وقال المازري: (حكى غير واحد الاتفاق على أن النهي يقتضي الاستيعاب للأزمنة بخلاف الأمر)، لكن حكى القاضي عبد الوهاب قولا: أنه كالأمر في اقتضائه المرة الواحدة، والقاضي وغيره أجروه مجرى الأمر في أنه لا يقتضي الاستيعاب. انتهى. فحصل ثلاثة مذاهب. (ص) وترد صيغته للتحريم والكراهة والإرشاد والدعاء وبيان العاقبة والتقليل والاحتقار واليأس. (ش): ترد صيغة (لا تفعل) لسبعة أمور:

أحدها: التحريم، كقوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى} وثانيها: الكراهة، كقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}. ثالثها: الإرشاد، كقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء} كذلك مثل إمام الحرمين وفيه نظر بل هو للتحريم والفرق بين الإرشاد والكراهة ما سبق في الفرق بينه وبين الندب، ولهذا اختلف أصحابنا في كراهة المشمس شرعية، أو إرشادية أي متعلق الثواب - أو ترجع إلى مصلحة طبية. رابعها: الدعاء، نحو: {ربنا لا تزغ قلوبنا} خامسها: بيان العاقبة، نحو: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله

أمواتا} أي عاقبة الجهاد الحياة لا الموت. سادسها: التقليل والاحتقار أي للمنهي عنه كقوله تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به} فهو احتقار للدنيا قاله في (البرهان) وفيه نظر بل هو للتحريم. سابعها: اليأس، نحو: {لا تعتذروا}. وفات المصنف الخبر، نحو: {لا يمسه إلا المطهرون}. والتهديد: كقولك لمن لا يمتثل أمرك: لا تمتثل أمري، والإباحة: وذلك في النهي بعد الإيجاب، فإنه إباحة للترك، والالتماس كقولك لنظيرك: لا تفعل هذا. (ص): وفي الإرادة والتحريم ما في الأمر. (ش): أي هل يعتبر في النهي إرادة الدلالة باللفظ على الترك أم لا؟ وكذا الكلام في أن صيغة النهي هل هي حقيقة في التحريم أو الكراهة أو مشتركة بينهما، أو موقوفة على ما سبق في الأمر؟ وقد سبق أن الأمر المجرد عن القرينة يقتضي الوجوب،

فالمختار أن النهي المجرد عن القرينة يقتضي التحريم، وهل نقول: ذلك مستفاد من الشرع أو اللغة أو المعنى، يجيء فيه ذلك كله. (ص): وقد يكون عن واحد ومتعدد جمعا، كالحرام المخير، وتفريقا كالنعلين يلبسان أو ينزعان ولا يفرق وجميعا كالزنا والسرقة. (ش) النهي إما أن يكون عن واحد وهو كثير، وإما أن يكون عن متعدد أي شيئين فصاعدا وأما أن يكون نهيا عن الجمع أي عن الهيئة الاجتماعية فيحرم الجمع بينهما، ويجوز له فعل أحدهما أيهما شاء كالجمع بين الأختين ومثله المصنف بالحرام المخير وقد سبق هناك عن الأصحاب أن الحرام المخير لا يقتضي تحريمهما جميعا، بل (90أ) تحريم أحدهما فقط، فله أن يأتي بأحدهما دون الآخر، ويخير في ذلك وقالت المعتزلة: يقتضي تحريمهما جميعا فيجب عليه ترك كل

واحد منهما. وإما أن يكون نهيا عن الفراق، نحو النعلان يلبسان أو ينزعان فلا يجوز التفريق بأن يلبس إحداهما وينزع الأخرى. وإما أن يكون النهي عن الجميع أي عن كل واحد سواء أتى به مع صاحبه أو منفردا كالنهي عن الزنا والسرقة. (ص) ومطلق نهي التحريم، وكذا التنزيه في الأظهر، للفساد شرعا، وقيل: لغة، وقيل: معنى فيما عدا المعاملات مطلقا، وفيها إن رجع، قال ابن عبد السلام: أو احتمل رجوعه إلى أمر داخل، أو لازم، وفاقا للأكثر وقال الغزالي والإمام: في العبادات فقط. (ش): النهي عن الشيء هل يدل على فساده؟

فيه مذاهب: أحدها: أنه يقتضي الفساد مطلقا في العبادات والمعاملات وعزاه ابن السمعاني لأكثر الأصحاب، وقال: إنه الظاهر من مذهب الشافعي رضي الله عنه وعلى هذا، فهل يدل عليه من جهة الشرع أو وضع اللغة، لأن صيغته (تدل على عدم المشروعية)؟ وجهان. حكاهما القاضي في (التقريب) وابن السمعاني، ونقل عن طائفة من الحنفية ثالثا: أنه يقتضيه (من جهة المعنى لا من حيث اللفظ، لأن النهي يدل على قبح المنهي عنه وحظره، وهو مضاد للمشروعية، وقال: إنه الأولى. والثاني: لا يقتضيه مطلقا، واختاره القفال الشاشي والقاضي أبو بكر والغزالي وغيرهم، قالوا: وإنما الاعتماد في فساده على فوات الشرط، ويعرف الشرط بدليل يدل عليه، وعلى ارتباط الصحة به، والقائلون به افترقوا فرقتين: فالجمهور على أنه لا يدل على الصحة أيضا، بل يحتاج إلى دليل خارجي من براءة ذمة أو وجوب فعل مثله، وادعى القاضي فيه الاتفاق ومنهم من قال: بل يدل على الصحة، وعزى لأبي حنفية ومحمد بن الحسن رحمهما الله تعالى.

والثالث: وهو ما أورده المصنف: التفصيل بين المعاملات، وما عداها من العبادات والإيقاعات ففي العبادات والإيقاعات يدل على الفساد مطلقا، أي سواء نهي عنها لعينها أو لأمر خارج عنها لازم لها، وفي المعاملات ينظر، فإن رجع إلى أمر داخل فيها، كبيع الملاقيح أو إلى أمر خارج عنه لازم كبيع الربا فإن المفاضلة لازمة للعقد 0 اقتضي الفساد في هذين وإن رجع إلى أمر خارج غير لازم، لم يقتض الفساد، كالبيع وقت نداء الجمعة فإن النهي فيه راجع إلى تفويت الجمعة، وهو أمر مفارق غير لازم للعقد، هكذا صرح الأصحاب بالراجع إلى أمر داخل أو خارج أو لازم، وكنوا عما شككنا فيه أراجع إلى داخل أو خارج، وقد تعرض الشيخ عز الدين في (القواعد) فقال: كل تصرف منهي عنه لأمر يجاوره أو يفارقه مع توفير شرائطه وأركانه فهو صحيح، وكل تصرف نهي عنه، ولم يعلم لماذا نهي عنه فهو

باطل حملا للفظ النهي على الحقيقة، انتهى. وهي مسألة مهمة زادها المصنف على الأصوليين. والرابع: أنه يدل على الفساد في العبادات فقط دون المعاملات والإيقاعات وهو مذهب أبي الحسين البصري واختاره الإمام في (المحصول) ونقله المصنف عن الغزالي وفيه نظر. وقد صرح في آخر المسألة من (المستصفى) بأن كل نهي يتضمن ارتكابه الإخلال بشرطه دل على الفساد من حيث الإخلال بالشرط لا من حيث النهي وهذا تفصيل آخر حكاه ابن السمعاني إن كان في فعل النهي إخلال بشرط في صحته إن كان عبادة أو نفوذه إن كان عقدا وجب القضاء بفساده، وإن لم يكن فيه إخلال (90ب) بما ذكرنا لم يجب القضاء بفساده. تنبيهات: الأول: احترز بـ (مطلق النهي) عن النهي المقيد المقترن بقرينة تدل على الفساد، أو تدل على عدمه، فليس من محل الخلاف. الثاني: أشار بقوله: (نهي التحريم) إلى موضع الخلاف في النهي، هل يقتضي الفساد إنما هو التحريم وأن التنزيه ملحق به في الأظهر، لأن المكروه مطلوب الترك والصحة أمر شرعي، فلا يمكن كونه صحيحا، لأن طلب تركه يوجب عدم

الاعتبار به، إذا وقع وذلك هو الفساد ولكن يعكر على تعبيره بالأظهر قول الصفي الهندي: محل الخلاف في نهي التحريم أما التنزيه فلا خلاف فيه على ما يشعر به كلامهم، صرح بذلك بعض المصنفين. انتهى. أي لا خلاف في عدم اقتضائه الفساد لكن ما قاله الهندي ممنوع، وقد سبق في مسألة أن الأمر لا يتناول المكروه، خلافه ولهذا صحح الأصحاب فساد الصلاة في الوقت المكروه، وإن قلنا النهي للتنزيه، ولا ينقضه عدم فساد الصلاة في الحمام والكنيسة ونحوها، فإن عدم الفساد في تلك لدليل يخصها، ولهذا لم يختلف أصحابنا في عدم إفسادها وإن اختلفوا في الصلاة في الوقت المكروه، وكذا الوضوء بالماء المشمس، الكراهة فيه للتنزيه قطعا، ولا يمنع صحة الطهارة بلا خلاف. الثالث: ما اختاره المصنف من المذاهب، عمدته فيه أن ابن برهان حكاه عن الشافعي رضي الله عنه وذكر غيره أنه منصوص في (الرسالة) لكن قد يورد على إطلاقهم الفساد فيما عدا المعاملات، أن النهي قد يكون للتحريم ولا يمنع الصحة في الأمر الخارج، كاستعمال أواني الذهب والفضة في الطهارة، وكذا يرد على إطلاقهم الفساد في اللازم بيع الحاضر للبادي فإن النهي لأمر خارج لازم ومع ذلك لم

يقتض الفساد ويبعد أن نقول: خرج ذلك بدليل لأنه استرواح لا يليق بالقواعد. (ص) فإن كان لخارج كالوضوء بمغصوب لم يفد عند الأكثر، وقال أحمد: يفيد مطلقا. (ش) ما سبق في النهي عن الشيء لرجوعه لأمر داخل أو خارج لازم، فإن كان لأمر خارج عنه ينفك عنه في بعض موارده، سواء كان في العبادات كالصلاة في الدار المغصوبة والوضوء والتيمم بمغصوب والذبح بسكين مغصوب، فإن النهي راجع لأمر خارج عن الصلاة والوضوء، وهو شغل مال الغير أو إتلافه أو في العقود كالبيع وقت النداء، أو في الإيقاعات كطلاق الحائض، فالأكثرون على أنه لا يقتضي الفساد ونقل بعضهم الاتفاق فيه، لكن عن أحمد: أنه يفيد مطلقا أي في النهي عنه لعينه أو لخارج عنه ولهذا أبطل الصلاة في الدار المغصوبة، وسبق هناك. وفي تعميم الإطلاق عنه نظر. وإنما قال ذلك في بعض العبادات وبعض العقود خاصة كالبيع عند النداء والصلاة في المغصوب وإلا فهو موافق على وقوع الطلاق في الحيض، وفي طهر جامعها فيه وإرسال الثلاث، وإن كان منهيا عنها. (ص) ولفظه حقيقة وإن اقتضى الفساد لدليل. (ش) هذا مفرع على المنقول عن أحمد، أن النهي يقتضي الفساد وهو أنه إذا

قام دليل على النهي ليس للفساد، كان اللفظ باقيا على حقيقته، ولم يكن مجازا لأنه لم ينتقل عن جميع موجبه، وإنما انتقل عن بعض موجبه فصار (91ـ أ) كالعموم الذي خرج بعضه تنفي حقيقته فيما بقي وهذا ذكره ابن عقيل في كتابه (الواضح) وهو مبني على أن لفظ النهي يدل على الفساد بصيغته وإلا فإذا قلنا: إنه يدل عليه شرعا أو معنى، لم يكن فيه إخراج بعض مدلول اللفظ، ولعل هذه المسألة من فوائد الخلاف السابق أنه يدل لغة أو شرعا. (ص) وأبو حنيفة: لا يفيد مطلقا، نعم المنهي عنه لعينه غير مشروع ففساده عرضي، ثم قال: والمنهي عنه لوصفه يفيد الصحة. (ش) أطلق بعضهم النقل عن الحنفية، أن النهي بـ (لا) يفيد الفساد واستدرك عليه المصنف فقال: إنما خلافهم في المنهي عنه لغيره، أما المنهي عنه لعينه، فلا يختلفون في فساده، بذلك صرح أبو زيد في (تقويم الأدلة) وغيره ثم قال

- يعني: أبو حنيفة - والمنهي عنه لوصفه، وإن كان لا يفيد الفساد فلا يفيد الصحة أي: ولم يقل ذلك في المنهي عنه لعينه، وقد صرح شمس الأئمة السرخسي من الحنفية بأن المنهي عنه لعينه غير مشروع أصلا وعبارة ابن الحاجب توهم أن القائل بالصحة يطرده فيها وليس كذلك، فلهذا استظهره المصنف، وتحرير مذهبهم أنه يدل على فساد ذلك الوصف لا فساد المنهي عنه وهو الأصل لكونه مشروعا بدون الوصف، وبنوا على هذا ما لو باع درهما بدرهمين، ثم طرحا الزيادة، أنه يصح العقد واحتج القائلون باقتضائه الصحة أن النهي عن التصرف يقتضي إمكانه والقدرة عليه، لأن نهي العاجز قبيح، إذ لا يقال للزمن لا تقم، وللأعمى: لا تبصر وأجيب بأن ذلك إذا كان المنهي عنه أمرا محسوسا فإن كان تصرفا شرعيا على

معنى أنه لا تفيد أحكامه لم يقبح كما إذا نهي المحدث عن الصلاة والحائض عن الصوم وأيضا فنهي العباد إنما يقبح إذا لم يكن العجز مستفادا من النهي كما ذكرتم فإن استفيد منه فإنه صحيح، كما إذا أنهى الموكل وكيله عن البيع فإنه يصير عاجزا لأنه يصير بالنهي معزولا، فلا يكون ذلك قبيحا، وإن كان نهيا للعاجز لما كان العجز مستفادا من النهي، ولعل هذا معنى قول أئمتنا: النهي عن التصرفات الشرعية يكون نسخا لها، لأنه بسبب النهي يعجز عنه ويتعطل عن أحكامه. (ص) وقيل: إن نفى عنه القبول، وقيل: بل النفي دليل الفساد. (ش): إذا نفي عن الفعل القبول نحو: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)) ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث)) فقيل: يقتضي الصحة بناء على تغاير الصحة والقبول، ويظهر أثر عدم القبول في نفي الثواب وعدم الصحة في سقوط القضاء وقيل بل نفي القبول يدل على الفساد وهي قضية استدلال أصحابنا بالحديثين السابقين على اشتراط الطهارة وستر العورة في الصلاة بناء على أن الصحة والقبول متلازمان، وممن حكى الخلاف في هذه المسألة ابن عقيل من الحنابلة

في كتابه في (الأصول)، وقال: الصحيح لا يكون إلا مقبولا ولا يكون مردودا إلا ويكون باطلا وحكى ابن دقيق العيد في تفسير القبول قولين: أحدهما: ترتيب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء يقال: قبل فلان عذر فلان، إذا رتب على عذره الغرض المطلوب وهو عدم المؤاخذة بالجناية وعلى هذا فالصحة والقبول متلازمان (91ب). والثاني: إن القبول كون العبادة بحيث يترتب الثواب عليها، وعلى هذا فالقبول أخص من الصحة فكل مقبول صحيح ولا ينعكس. (ص) ونفي الإجزاء كنفي القبول، وقيل: أولى بالفساد. (ش) مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن)) رواه الدارقطني وقوله: ((أربع لا تجزئ في الأضاحي)) فيه مذهبان: أصحهما: القطع أنه لنفي القبول. والثاني: فيه الخلاف السابق بالترتيب وأولى بدلالته على الفساد، لأن الصحة قد توجد حيث لا قبول، بخلاف الإجزاء مع الصحة.

باب العام والخاص

باب العام والخاص (ص) العام: لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر. (ش) (لفظ) جنس يتناول العام والخاص، وفيه احتراز من المعاني، فإن العموم من عوارض الألفاظ، ويعني به الواحد للاحتراز عن الألفاظ المتعددة الدالة على

أشياء متعددة وقوله: يستغرق أي: يستغرق لما يصلح أن يدخل تحته فخرج النكرة في الإثبات ولو بصيغة الجمع كالرجال، وقوله: من غير حصر، يحترز به عن أسماء العدد، فإنها متناولة لكل ما يصلح له، لكن مع الحصر، وهذا بناء على أنها ليست بعامة وهو المعروف وبه صرح ابن الحاجب هنا وجعل الحد غير مانع لو لم يحترز عنها لكن كلامه في بحث الاستثناء يقتضي أنها عامة وقد تابعه المصنف هناك، ومنهم من زاد في هذا الحد بوضع واحد ليحترز عما يتناوله بوضعين فصاعدا كالمشترك وما له حقيقة ومجاز، لأن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا، وإنما لم يذكره المصنف للتنبيه على أنه غير محتاج إليه، لأنا إن قلنا: لا يحمل المشترك على معنييه، فقد خرج بقيد الاستغراق فإنه لا يستغرق جميع ما يحصل له عندهم، وإن قلنا: يحمل، فلأن التعريف للعام بحسب الشمول والمشترك، وما له حقيقة ومجاز له عموم على رأي الجمهور، ولكن بطريق البدلية. (ص) والصحيح دخول النادرة وغير المقصودة تحته. (ش) فيه مسألتان: إحداهما: أن الصورة النادرة هل تدخل تحت العموم؟ فيه خلاف زعم

المصنف أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي: حكاه، ولم أجده في كتبه، وإنما يوجد في كلام الأصوليين اضطراب فيه يمكن أن يؤخذ منه الخلاف، وكذا في كلام الفقهاء ولهذا اختلفوا في المسابقة على الفيل على وجهين: أصحهما: نعم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا سبق إلا في خف أو حافر)). والثاني: لا لأنه نادر عند المخاطبين بالحديث، ولم يرد باللفظ، وقال الغزالي في (البسيط): لو أوصى بعبد، أو برأس من رقيق جاز دفع الخنثى وذكر صا حب (التقريب) وجها، أنه لا يجزئ لأنه نادر لا يخطر بالبال، وهو بعيد، لأن العموم يتناوله انتهى. وذكروا في المتمتع العادم للهدي أنه يصوم الأيام في الحج قبل عرفه فلو أخر طواف الزيارة عن أيام التشريق وصامها، لا يكون أداء وإن بقي الطواف، لأن تأخيره عن أيام التشريق مما يبعد ويندر، فلا يقع مرادا

من قوله تعالى: {ثلاثة أيام في الحج} بل هو محمول على الغالب المعتاد، قال الرافعي: كذا حكاه الإمام وغيره. وفي (النهاية) حكاية وجه ينازع فيه قلت: وهذا الخلاف ينبغي أن يكون فيما ظهر اندراجه في اللفظ، فإن لم يظهر وساعده المعنى فلم أرهم تعرضوا له (92أ) وينبغي أن يجري فيه خلاف بين أصحابنا في منع الأب مال ولده من نفسه وبالعكس هل يثبت فيه خيار المجلس؟ على وجهين: أحدهما: لا، فإن المعول الخبر، وهو إنما ورد في المتبايعين، والولي قد تولى الطرفين وأصحهما الثبوت وأنه بيع محقق، وغرض الشارع إثبات الخيار في البيع وإنما خصص المتبايعين بالذكر إجراء للكلام على الغالب المعتاد وكذا وجهه الإمام في (النهاية) فلو قال المصنف: والصحيح دخول النادرة تحت العموم ولو بالمعنى ليشمل هذه الصورة. الثانية: إن الصور غير المقصودة هل تدخل في العموم؟ فيه خلاف حكاه القاضي عبد الوهاب في كتابه المسمى بـ (الملخص) والصحيح الدخول، لأن المراد إنما هو اللفظ، فلا مبالاة بصورة لم تقصد، فإن المقاصد لا انضباط لها، والرجوع إلى منضبط أولى. قلت: ويوجد الخلاف فيها في كلام أصحابنا أيضا، ولهذا لما حكى في (البسيط) الخلاف في التوكيل بشراء عبد، فاشتري من يعتق على الموكل. قال: ومثار الخلاف التعلق بالعموم أو الالتفات إلى المقصود، هذا لفظه، قال المصنف: وليست غير المقصودة هي النادرة، كما توهم بعضهم، بل النادرة هي التي لا تخطر غالبا ببال المتكلم لندرة وقوعها، وغير المقصودة قد تكون مما يخطر بالبال

ولو غالبا فرب صورة تتوفر القرائن على أنها لم توجد وإن لم تكن نادرة، ورب صورة تدل القرائن على إنها مقصودة وإن كانت نادرة، فإذا ذكر اللافظ لفظا عاما وهناك صورة لم تقصد ولكنها داخلة في دلالة اللفظ وكثيرا ما يقع هذا في ألفاظ الواقفين - فهل يعتبر لفظه، وتدخل تلك الصورة وإن لم يقصدها أو يقتصر على المقصود؟ والأصح الأول، والحنابلة يميلون إلى ترجيح الثاني ويبنون عليه أصولا عظيمة في باب الوقف، واستنبط ابن الرفعة من كلام الغزالي في الفتاوى أن مقاصد الواقفين يعتبر فيخصص بها العموم ويعمم بها الخصوص وليس المراد أن المقصود إخراجها تدخل وفرق بين غير المقصودة والمقصودة الإخراج فمقصودة الإخراج لا سبيل إلى القول بدخولها، غير أنا نقول: لا اطلاع على قصد الإخراج إلا بدليل وذلك الدليل مخصص بهذا اللفظ فلا يمنع دخول الصورة، في مدلوله، لأن التخصيص إخراج من الحكم لا من المدلول، ومسألة الكتاب إنما هي غير المقصودة فبنوا قصد إخراجها أم لا، فإن لم يقصد دخل لفظا وحكما وإن قصد إخراجها دخلت لفظا وخرجت حكما كسائر المخصصات ونظير غير المقصودة المخاطب - بكسر الطاء - هل يدخل في عموم خطابه، فإن المخاطب لا يقصد نفسه غالبا؟ (ص) وأنه قد يكون مجازا. (ش): لا خلاف أن حكم الحقيقة ثبوت ما وضع اللفظ له خاصا كان أو عاما؟ واختلفوا في المجاز هل هو كذلك فيثبت ما استعير له اللفظ خاصا كان أو عاما؟ فالأكثرون: نعم فيستويان في إثبات الأحكام بهما ولم ينقل عن أحد

من أئمة اللغة، أن الألف واللام أو النكرة في سياق النفي وغيرها يفيدان العموم بشرط أن يكون في الحقيقة بل أدلة العمل (92أ) بالعام مطلقة فيشملها وخالف بعض الحنفية فزعم أن المجاز لا يعم بصيغته لأنه على خلاف الأصل فيقتصر به على الضرورة كما قالوه في مسألة عموم المقتضى، أن ما يفيد بالضرورة يقدر بقدرها فإذا ورد: ((لا تبيعوا الطعام بالطعام، إلا سواء بسواء)). وورد إلا الصاع بالصاعين، أيصرف إليه، ولم يعم كل مكيل؟ وهذا ضعيف وليس المجاز مما يختص بمحال الضرورات بل هو عند قوم غالب على اللغات وليس العموم ذاتيا للحقيقة بل بأسباب زائدة كتعريف الجنس باللام وغيره، فإذا وجد هذا السبب في المجاز تعين المصير إليه، ثم عين الصاع في الحديث غير مراد، بل المراد ما كيل فيه، بطريق المجاز فتعين عموم المجاز، كما تعين عموم الحقيقة، ومن الدليل على أن العام قد يكون مجازا الاستثناء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه الكلام)). فإن الاستثناء معيار العموم، فدل على تعميم كون الطواف صلاة، وكون الطواف صلاة. مجاز.

تنبيهان: الأول: ظهر بهذا أن العبارة مقلوبة، والصواب أن نقول: وأن المجاز يدخل العموم، فإن صورة المسألة أن يشتمل المجاز على السبب المقتضي للعموم من الألف واللام وغيرها، والمحل قابل للعموم، فهل يجب القول بعمومه، عملا بالمقتضى السالم عن المعارضة، كما يجب العمل عند وجوده في الحقيقة أم لا؛ لأنه ثبت للضرورة؟ ومن ثم ذكر هذه المسألة صاحب (البديع) في بحث المجاز لا في بحث العموم وعبارة ابن السمعاني في (القواطع): واختلف أصحابنا في المجاز، هل يتعلق به العموم؟ على وجهين: فقيل: لا يدخل في العموم إلا الحقائق وقال آخرون: يدخل فيه المجاز كالحقيقة، لأن العرب تتخاطب به كما تتخاطب بالحقيقة. الثاني: ظن المصنف في (منع الموانع) أن هذه مسألة المقتضي وليس كذلك، فإن المقتضي لم يشتمل على دليل العموم، لأنه ليس بملفوظ، وإنما يقدر لأجل صحة الملفوظ، ومن هنا يضعف مأخذ من ألحقه بالمقتضي لأن التقدير لأجل الصحة ضروري فلا يجوز أن يقدر زائد على قدر الحاجة، فإذا خولف هذا الأصل لضرورة لا يجوز أن تزاد المخالفة على قدر الضرورة، بخلاف المجاز المشتمل على إرادة العموم فإنه إذا لم يحمل على العموم يلزم منه إلغاء دليل العموم. (ص) فإنه من عوارض الألفاظ، قيل: والمعاني وقيل به في الذهني. (ش) لا خلاف أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة قال في (البديع): بمعنى وقوع الشركة في المفهوم لا بمعنى الشركة في اللفظ يريد أنه ليس المراد

بوصف اللفظ بالعام هو وصفه به مجردا عن المعنى فإن ذلك لا وجه له بل المراد وصفه به باعتبار معناه الشامل للكثرة، واختلفوا في المعاني على مذاهب: أحدها: إنه ليس من عوارضها لا حقيقة ولا مجازا، وهو أبعد الأقوال، بل في ثبوته نظر. والثاني: إنه من عوارضها مجازا، وعزاه الهندي للجمهور، لأنه لا يتصور انتظامها تحت لفظ واحد، إلا إذا اختلفت في أنفسها، وإذا اختلفت تدافعت وقولهم: عمهم الخصب والرخاء متعدد، فإن ما خص هذه البقعة غير ما خص (93أ) الأخرى. والثالث: إنه يعرض لها حقيقة كما يعرض للفظ، فكما صح، في الألفاظ شمول أمر لمتعدد يصح في المعاني شمول معنى لمعاني متعددة بالحقيقة فيهما وقال

القاضي عبد الوهاب: مراد قائله: حمل الكلام على عموم الخطاب، وإن لم يكن هناك صيغة تعمها، كقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} أي: نفس الميتة وعينها، لما لم يصح تناول التحريم لها عممنا بالتحريم جميع التصرف فيها من الأكل والبيع واللبس وسائر أنواع الانتفاع وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم لا بعموم ولا بخصوص. والرابع: التفصيل بين المعاني الكلية الذهنية، فهي عامة، بمعنى أنها بمعنى واحد متناول لأمور كثيرة دون المعاني الخارجية، لأن كل ما له وجود في الخارج فلا بد أن يكون متخصصا بمحل وحال مخصوص لا يوجد في غيره، فيستحيل شموله لمتعدد، وهذا التفصيل بحث للصفي الهندي. تنبيهان: الأول: عطف المصنف على الأصح يقتضي وجود خلاف في كونه من عوارض اللفظ، وليس كذلك، فينبغي أن يجعل استئنافا لا عطفا على ما قبله. الثاني: ظهر بما سبق أنه ليس المراد بكون العموم من عوارض المعاني - المعاني التابعة للألفاظ، بل المعاني المستقلة، كالمقتضي والمفهوم، فإن المعاني التابعة للألفاظ

لا خلاف في عمومها لأن لفظها عام. (ص) ويقال للمعنى: أعم، وللفظ: عام. (ش) يقال في اصطلاح الأصوليين للمعنى: أعم وأخص وللفظ: عام وخاص، وقال القرافي: ووجه المناسبة أن صيغة أفعل تدل على الزيادة والرجحان والمعاني أهم من الألفاظ فخصت بصيغة أفعل التفضيل ومنهم من يقول: فيها عام وخاص أيضا. (ص) ومدلوله كلية، أي: محكوم فيه على كل فرد مطابقة إثباتا أو سلبا لا كل ولا كلي. (ش) هذا يتوقف على معرفة الفرق بين الكلية والكلي والكل: أما الكل: فهو المجموع الذي لا يبقى بعده فرد، والحكم فيه على المجموع من حيث هو مجموع لا على الأفراد كأسماء العدد ويقابله الجزء وهو ما تركب منه ومن غيره كل، كالخمسة مع العشرة. وأما الكلي: فهو الذي يشترك في مفهومه كثيرون، كمفهوم الحيوان في أنواعه والإنسان في أنواعه، فإنه صادق على جميع أفراده ويقابله الجزئي كزيد، فهو: الكلي مع قيد زائد، وهو تشخصه فلك أن تقول: الكلي بعض الجزئي.

وأما الكلية: فهي التي يكون فيها الحكم على كل فرد بحيث لا يبقى فرد، كقولنا: رجل يشبعه رغيفان غالبا، فإنه يصدق باعتبار الكلية، أي: كل رجل على حدته يشبعه رغيفان غالبا لا يصدق باعتبار الكل أي: المجموع من حيث هو مجموع، فإنه لا يكفيه رغيفان لا قناطير متعددة، لأن الكل والكلية تندرج فيها الأشخاص الحاضرة والماضية والمستقبلة وجميع ما في مادة الإمكان وإنما الفرق بينهما: أن الكل يصدق من حيث المجموع والكلية تصدق من حيث الجميع، وفرق بين المجموع والجميع، فإن المجموع الحكم على الهيئة الاجتماعية، لا على الأفراد، والجميع على كل فرد فرد، ويقابلها الجزئية وهي الحكم على أفراد حقيقة من غير تعيين كقولك: بعض الحيوان إنسان فالجزئية بعض الكلية، إذا علمت هذا فمسمي العموم كلية لا كل، وإلا لتعذر الاستدلال به على ثبوت حكمه للفرد (93ب) المعين في النفي والنهي، إلا إذا كان معناه الكلية التي يحكم فيها على كل فرد فرد، بحيث لا يبقى فرد كما عرفت وحينئذ يستدل بها على فرد ما من الأفراد في النفي والنهي إنما يختلف الحال بين الكل والكلية في النفي النهي لا في الأمر، وحين الثبوت فمدلول العموم كلية لا كل، لصحة الاستدلال به على ثبوت حكمه لكل فرد من أفراده عند القائلين به، إجماعا فإن قوله تعالى: {لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} دال على تحريم قتل كل فرد من أفراد النفوس بالإجماع، وليس معناه: ولا تقتلوا مجموع النفوس وإلا لم يدل على فرد فرد فلا يكون عاصيا بقتل الواحد، لأنه لم يقتل

المجموع وبهذا التقرير يزول الإشكال الذي تشعب به القرافي، فإنه قال: فإن دلالة العموم على كل فرد من أفراده نحو: زيد المشرك مثلا من المشركين لا يمكن أن يكون بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام، وإذا بطل أن يدل لفظ العموم على زيد مطابقة وتضمنا والتزاما- بطل أن يدل لفظ العموم مطلقا لانحصار الدلالة في الأقسام الثلاثة وإنما قلنا: لا يدل عليه بطريق المطابقة؛ لانتهاء دلالة اللفظ على مسماه بكماله. ولفظ العموم لم يوضع لزيد فقط حتى تكون الدلالة عليه مطابقة, وإنما قلنا: لا تدل بالتضمن لأنها دلالة اللفظ على جزء مسماه والجزء إنما يصدق إذا كان المسمى كلا لأنه مقابله ومدلول لفظ العموم ليس كلا كما عرفت فلا يكون زيد جزء فلا يدل عليه تضمنا وإنما قلنا: لا يدل عليه بالالتزام لأن الالتزام هي دلالة اللفظ على لازم مسماه ولازم المسمى لا بد وأن يكون خارجا عن المسمى وزيد ليس بخارج عن مسمى العموم لأنه لو خرج لخرج عمرو وخالد وحينئذ لا يبقى في المسمى شيء وأجاب عنه الشيخ شمس الدين الأصفهاني شارح (المحصول) بأنا حيث قلنا بدلالة اللفظ على الثلاث، إنما هو في لفظ مفرد دال على معنى، ليس ذلك المعنى هو نسبة بين مفردين، وذلك لا يتأتى هنا، فلا ينبغي أن يطلب ذلك وحينئذ فقوله: {فاقتلوا المشركين} في قوة جملة من القضايا وذلك لأن مدلوله: اقتل هذا المشرك واقتل هذا المشرك إلى آخر الأفراد. وهذه الصيغ إذا اعتبرت بجملتها فهي لا تدل على قتل زيد المشرك، ولكنها تتضمن ما يدل على قتل زيد المشرك، لا بخصوص كونه زيدا، بل بعموم، كونه فردا ضرورة تضمنه اقتل زيد المشرك فإنه من جملة هذه القضايا وهي جزء من

مجموع تلك القضايا فتكون دلالة هذه الصيغة على وجهين، قتل زيد المشرك لتضمنها ما يدل على ذلك الوجوب والذي هو في ضمن ذلك المجموع هو دال على ذلك مطابقة، قال: فافهم ما ذكرناه فإنه من دقيق الكلام وليس ذلك من قبيل دلالة التضمن، بل هي من قبيل دلالة المطابقة. تنبيه: ما قالوه، أن دلالة العموم كلية بمعنى أن الحكم فيها على كل فرد هو في الإثبات فإنه كان في النفي فلا يرتفع الحكم عن كل فرد فرد، وفرق بين عموم السلب وسلب العموم. (ص) ودلالته على أصل المعنى قطعية، وهو عن الشافعي رضي الله عنه وعلى كل فرد بخصوصه ظنية وهو عن الشافعية، وعن الحنفية قطعية. (ش) للعام دلالتان إحداهما على أصل المعنى، وهي قطعية بلا خلاف والثانية على استغراق الأفراد، أي: على كل فرد بخصوصه هل هي ظنية أو قطعية المنسوب للشافعية الأول وقالوا لا تدل على القطع (94أ) إلا بالقرائن كما أنه لا تسقط دلالتها إلا بالقرائن واحتجوا بأن هذه الألفاظ تستعمل تارة للاستغراق وتارة للبعض، فامتنع القطع ولم يضره الإجمال للقطع بأن الصحابة وأهل اللغة طلبوا دليل التخصيص لا دليل العموم. واحتجوا أيضا بأنه لولا ذلك لما جاز تأكيد الصيغ العامة، إذ لا فائدة

فيه وقد قال تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} والمنسوب للحنفية الثاني وأنها توجب الحكم في جميع الأفراد الداخلة تحته قطعا ويقينا كالخاص فيما يتناوله، وعزاه الأبياري في (شرح البرهان) إلى المعتزلة وأن مأخذهم فيه اعتقادهم استحالة تأخير البيان عن مورد الخطاب، فلو كان المراد به غير ما هو ظاهر فيه للزم تأخير البيان وما عزاه المصنف للحنفية، مراده جمهورهم وإلا فطائفة منهم على الأول، منهم أبو منصور الماتريدي ومن تبعه من مشايخ سمرقند وما قيد به محل الخلاف مانع فيه المازري فإنه قيده بما زاد على أقل الجمع. أما دلالته على الأقل فهو قطعي بلا خلاف وما عزاه في الأول للشافعي رضي الله عنه، فلا خصوصية له به، بل القائلون بصيغ العموم عليه وهو محل وفاق ثم يقتضي أنه لم ينقل عن الشافعي رضي الله عنه، في المقام الثاني. وقد قال إمام الحرمين في (البرهان) أما الفقهاء فقد قال جمهورهم: إن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الأقل ظواهر فيما زاد عليه، والذي صح عندي من مذهب الشافعي رضي الله عنه، أن الصيغة العامة لو صح تجردها عن القرائن لكانت نصا في الاستغراق قال: وإنما التردد فيما عدا الأقل، من جهة عدم القطع بانتفاء القرائن المخصوصة ثم أشار الإمام إلى توسط في المسألة، وهو أن بعضها يدل على القطع وبعضها بخلافه وكان ينبغي للمصنف إذ قيد محل الخلاف أن يتمم ذلك بتجرده عن القرائن ليخرج ما يثبت إنه غير مجمل للتخصيص بدليل، فإن دلالته على

بحيث الأفراد قطعية بلا خلاف كقوله تعالى: {والله بكل شيء عليم}. {لله ما في السموات وما في الأرض} {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} ونحوه، وكذلك ما لا يحتمل إجراؤه على العموم (أي لا يمكن اعتبار العموم فيه، لكون المحل غير قابل له كقوله: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} فإنه حينئذ يكون العام كالمجمل، يجب التوقف فيه إلى بيان المراد منه) فإنه خارج عن محل الخلاف وقد استثناه بعض الحنفية، ومن فوائد الخلاف في هذه المسألة، وجوب اعتقاد العموم وتخصيصه بالقياس وخبر الواحد وغيرها من المظنونات. (ص) وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والبقاع وعليه الشيخ الإمام. (ش) وممن صرح به من المتقدمين الإمام أبو المظفر بن السمعاني في (القواطع) في كلامه على الاستصحاب وخالف في ذلك جماعة من المتأخرين فقالوا العام في الأشخاص مطلق باعتبار الأحوال والأزمنة والبقاع. وقالوا: لا يدخلها العموم إلا بصيغة وضعت لها، فإذا قال: {فاقتلوا المشركين} عم كل مشرك بحيث لا

يبقى فرد ولا يعم .... الأحوال حتى يقتل في حال الهدنة وفي حال الذمة لا خصوص المكان حتى يدل على المشركين في أرض الهند مثلا، ولا الزمان حتى يدل على يوم السبت أو يوم الأحد مثلا وقد شغف الشيخ أبو العباس القرافي بهذا البحث، وظن أنه يلزم من هذه القاعدة أنه لا يعمل بجميع العمومات في هذا الزمان، لأنه قد عمل بها في زمن ما (94ب) والمطلق يخرج عن عهدته بالعمل به في صورة وقد أنكره عليه جماعة من المحققين منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقال: من أخرج شيئا من ذلك فقد خالف مقتضى العموم بلا دليل، واستدل بحديث أبي أيوب، لما قدم الشام فوجد مراحيض قد بنيت قبل القبلة فهذا أبو أيوب من أهل اللسان والشرع فهم العموم من

الأمكنة وتوسط الشيخ علاء الدين الباجي بين المقالتين وقال: معنى كون العام في الأشخاص مطلقا في الأزمان والأحوال، إنه إذا عمل به في الأشخاص في زمان ما ومكان ما وحالة ما لا يعمل به في تلك الأشخاص مرة أخرى في زمان آخر ونحوه، أما في أشخاص أخر مما يتناوله ذلك اللفظ العام، فيعمل به لأنه لو لم يعمل به فيهم لزم التخصيص في الأشخاص، كما قال ابن دقيق العيد فالتوفية بعموم الأشخاص أن لا يبقى شخص ما في أي زمان ومكان وحال إلا حكم عليه، والتوفية بالإطلاق أن لا يتكرر ذلك الحكم فكل زان مثلا يجلد بعموم الآية وإذا جلد مرة ولم يتكرر زناه بعد ذلك لا يجلد ثانية في زمان آخر أو مكان آخر، فإن المحكوم عليه وهو الزاني والمشرك ونحوه، فيه أمران: أحدهما: الشخص والثاني: الصفة، كالزنا والشرك، فأداة العموم لما دخلت عليه أفادت عموم الأشخاص لا عموم الصفة، والصفة باقية على إطلاقها، فهذا معنى قولهم العام في الأشخاص مطلق في غيره. (ص) مسألة: كل والذي والتي وأي وما ومتي وأين وحيثما ونحوها للعموم حقيقة، وقيل: للخصوص، وقيل: مشتركة وقيل: بالوقف. (ش) اختلف في أنه هل للعموم صيغة تخصه على مذاهب:

أحدها: وعزي للأشعري- إنكارها على معنى أن اللفظة الواحدة لا تشعر بمعني الجمع بمجردها ولم ينكروا أنه يدل على ذلك بأكثر من لفظة واحدة أو قيام قرينة، إذ لا مجال للعقل في إثبات اللغات ولم تجئ اللغة به، لأنه لو كان بالتواتر لاشترك العقلاء في علمه والآحاد تستحيل إثبات مسائل الأصول والاعتقاد بها. والثاني: أنها موضوعة للخصوص وهو أقل الجمع، إما الجمع إما اثنان أو ثلاثة، لأنه المتيقن واستعمل في العموم مجازا. والثالث: مشتركة بين العموم والخصوص وعليه أكثر الواقفية. والرابع: الوقف.

ونقله القاضي في (مختصر التقريب) عن الأشعري ومعظم المحققين واختاره وقال: وحقيقة ذلك أنهم قالوا: سبرنا اللغة ووضعها فلم نجد صيغة دالة على العموم سواء وردت مطلقة أو مقيدة بضروب من التأكيد. والخامس: قول الجمهور: إثبات الصيغ لأن العموم معنى من المعاني محتاج إلى التعبير عنه فوجب أن يضع الواضع له لفظا كما وضع لغيره من المعاني المحتاج إليها وهذا هو الصحيح وعليه التفريع وإنما عدد المصنف أمثلة الصيغ للتنبيه على تقسيمها إلى ما يشتمل على جميع المفهومات وهو الأربعة الأول، وإلى ما يختص عمومه ببعضها، وهو الباقي وإنما بدأ بـ (كل) لأنها أقوى صيغ العموم., والعجب من ابن الحاجب في إهمالها ولا فرق بين أن تقع مبتدأ بها، نحو {كل من عليها فان} أو تابعة نحو: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} وسبق

الكلام عليها في الحروف، وأراد بالذي والتي وما يتفرع عنهما جمعا وتثنية (95أ) وجميع لغاتهما، كقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} {واللذان يأتيانها منكم} {واللاتي تخافون نشوزهن} {واللائي يئسن من المحيض} وأطلق ابن السمعاني وابن الحاجب وغيرهما: أن الأسماء الموصولة من صيغ العموم واحترزوا بالأسماء من الحروف كـ (إن وما) المصدريتين فليست منها ولم يذكر جمع من الأصوليين الموصولات في الصيغ وأما (أي) فعامة فيما تضاف إليه من الأشخاص والأزمان والأمكنة والأحوال، ومنه: ((أيما امرأة نكحت نفسها)). أي زمان سرت سرت معك، أي مكان جلست جلست معك، أي حال كنت كنت عليه، أي فعل فعلت فعلت، وحقه أن يقيدها بالاستفهام والشرطية والموصولة، نحو مررت بأيهم قام أي: بالذي قام لتخرج الصفة كمررت برجل أي رجل، والحال نحو مررت بزيد أي رجل، ومن صرح بتعميم الموصولة القرافي وهو داخل في إطلاق من أطلق تعميم الموصولات ومنهم من أخرج الموصولة، وفيه ما ذكرنا.

وأما القسم الثاني وهو ما يختص ببعض المفهومات فينقسم إلى ما يعم كل ما لا يعقل، وهو (ما) الشرطية والاستفهامية، وإلى ما يختص ببعض من لا يعقل وهو الباقي فمتى يختص بالزمان نحو: متى تقم أقم، وأين وحيثما بالمكان نحو: أين تجلس أجلس ... قال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت}. {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم} قال الأصفهاني شارح (المحصول): وقيد ابن الحاجب الزمان بالمبهم فلا تقول: متى زالت الشمس فأتني، وتقول: متى جاء زيد جئتك. تنبيهان: الأول: ينبغي أن يجيء خلاف في أن العموم حجة في كلام الشارع دون كلام الناس، من الخلاف السابق في المفهوم وشاهده أنه لو وكله ببيع عبده ثم قال: وافعل ما شئت فهل له أن يوكل غيره في بيعه على وجهين: أصحهما لا لأنه لم ينص عليه، والثاني: يعم، لأنه أمره أمرا عاما، قال القاضي حسين في تعليقه: ومن قال بالأول قال: العموم إنما يستنبط من أمر صاحب الشرع لا من أمر العباد. الثاني: أن (من) وغيرها من ألفاظ الشرط، تقتضي عموم الأشخاص لا عموم الأفعال، بدليل إنه لو قال: من دخل داري من نسائي فهي طالق فدخلت واحدة مرتين لم تطلق إلا واحدة، إلا أنه يقتضي وجود الجزاء عند أول وجود الشرط، أما التكرار فلا يقتضيه إلا أنه قد يتحقق التكرار في بعض المواضع بواسطة قياس إذ فهم أن الشرط علة، فإن الأصل: ترتب الحكم على علته فيلزم التكرار كقوله تعالى:

{من عمل صالحا فلنفسه} {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} وأما الألفاظ الموضوعة لعموم الأفعال فهي: كل، ومتي، وما، ومهما، فلو قال: كلما دخلت فأنت طالق، اقتضى التكرار. (ص) والجمع المعرف باللام أو الإضافة للعموم ما لم يتحقق عهد خلافا لأبي هاشم مطلقا، وإمام الحرمين إذا احتمل معهود. (ش) قد يستفاد من العموم لا من جهة وضعه بل بواسطة القرينة، وهو إما أن يكون في الإثبات وذلك في الجمع المعرف باللام من غير عهد كقوله تعالى: {إن الله بريء من المشركين} والإضافة نحو: عبيدي أحرار ونسائي طوالق، وسواء فيه جمع السلامة والتكسير والجمهور على أنه للعموم إذا لم يكن هناك عهد محقق ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر التشهد: ((السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض)). فدل على

اقتضاء المضاف (95ب) العموم، ولأنه يحسن الاستثناء تقول: أعط المسلمين إلا فلانا، والاستثناء معيار العموم، ولأنه لو قال: رأيت مسلمين علم أنه رأى من هذا الجنس ولا يفيد الاستغراق فلا بد أن يفيد دخول الألف واللام فائدة ولا فائدة إلا الاستغراق وذهب أبو هاشم إلى أنه يفيد الجنس لا العموم مطلقا. أي سواء احتمل عهد أم لا وحكاه صاحب (الميزان) عن أبي علي الفارسي أيضا وعزاه المازري لأبي حامد الإسفرائيني. وأشار المصنف بقوله: ما لم يتحقق عهد إلى أن محل الخلاف إذا لم يكن

هناك عهد، فإن كان انصرف إلى المعهود ولا يعم بالاتفاق كما قاله في (المحصول) وغيره، وإن لم يكن هناك دليل على إرادة الجنس ولا العهد فتوقف إمام الحرمين فيه، وقال: إنه محتمل لهما، وإنما تفيد الاستغراق عنده، إذا تحقق أن تعريفه للجنس، والجمهور قالوا في هذه الصورة أيضا: إنه للاستغراق ولا ينصرف عنه إلا إذا كان ثم معهود ينصرف التعريف إليه. تنبيهات: الأول: اعترض على دعوى الأصوليين، العموم في العرف، بأن سيبويه وغيره من أئمة اللغة، نصوا على أن جمع السلامة للقلة، وهو من الثلاثة إلى العشرة، والعموم ينافي القلة، وجمع إمام الحرمين بين الكلامين فحمل كلام النحاة على ما إذا كانت نكرة وأجراه غيره على ظاهره، وقال: إنه لا مانع أن يكون أصل، وضعها للقلة لكن غلب استعمالها في الكثرة، إما بعرف الاستعمال أو بعرف الشرع، وهو قوي، فإن الموضوع للقلة كثيرا ما يستعمل في الكثرة، فنظر الأصوليون إلى غلبة الاستعمال ونظر النحاة إلى أصل الوضع، فلا خلاف. وقيل: إن السؤال لا يرد من أصله، ولا تنافي بين القلة والعموم، فإنك إذا قلت: أكرم الزيدين، معناه: أكرك كل واحد يجتمع مع تسعة أو دونها، بخلاف أكرم الرجال فمعناه: أكرم كل واحد منهم يكون إلى عشرة فأكثر. وإنما ينافي العموم أن لو كان معناه الأمر بإكرام مسمى الجمع وليس كذلك.

الثاني: علم منه أن الأصل في الألف واللام العموم حتى دليل على خلافه ويقع في كلام بعضهم: الأصل فيها العهد حتى يقوم دليل على عدم إرادته ويظهر أثر هذا الخلاف فيما إذا لم تقم قرينة على إرادة عهد، وشككنا أن العهد مراد أولا، هل يحمل على العموم أو لا؟ الأقرب الأول وهنا سؤال وهو أنه كيف الجمع بين هذا وبين قولهم: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع أن السبب قرينة في انصرافه إلى العهد، وأجيب بأن تقدم السبب الخاص قرينة في أنه مراد لا أن غيره ليس بمراد فنحن نعمل بهذه القرينة فنقول: دلالة هذا العام على محل السبب قطعية ودلالته على غيره ظنية، إذ ليس في السبب ما ينفيه. الثالث: إن خلاف أبي هاشم والإمام إنما هو في الجمع المعرف دون المضاف وطرد المصنف فيه لعدم الفارق.

(ص) والمفرد المحلى مثله خلافا للإمام مطلقا، ولإمام الحرمين والغزالي إذا لم يكن واحده بالتاء، زاد الغزالي: أو تميز بالوحدة. (ش) في مثل: {وأحل الله البيع}، {والسارق والسارقة} مذاهب: أصحها: أنه للعموم، إذا لم يكن هناك معهود، ويرجع إليه بدليل صحة الاستثناء في قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا}. ونص عليه الشافعي في الرسالة فقال: إن الزانية والزاني من العام الذي (96أ)

خص قال ابن التلمساني وغيره: وشرط دلالتها على الاستغراق أن يحسن موضعها كل نحو: {إن الإنسان لفي خسر} بخلاف نحو: {فعصى فرعون الرسول} فإن المراد به موسى - عليه السلام - فلا يحسن تقديرها بكل. والثاني: قال الإمام في المحصول ليس بالعام إلا بقرينة. وقال: إنه يراد به تعريف الماهية لا العموم، قال ابن الخباز النحوي: واحتج على ذلك بأمور لا يصبر على النظر حق الصبر، والذي يضعف مذهبه أنها لو كانت لتعريف الماهية لم يكن بين المعرفة والنكرة فرق؛ لأن النكرة تدل على الماهية دلالة وضعية كفرس وحجر، فإذا قلت: الفرس والحجر ولم تقصد العهد وأردت نفس الماهية، فقد عنيت ما عناه الواضع، وأضعت حق الألف واللام، فثبت أن المراد بها العموم كما قال المبرد. والثالث: التفصيل بين ما يدخل واحده التاء وما لا يدخله فما ليس فيه التاء إن تجرد عن عهد، فللجنس نحو {الزانية والزاني} وإن لاح قصد

المتكلم للجنس، فالاستغراق نحو: الدينار أشرف من الدرهم، وإن لم يعلم الحال فمجمل وأما ما تدخله التاء كالتمر فنقل في تعميمه قولين ولم يصرح باختيار شيء لكن رأى أن التمر أدل على استغراق الجنس من التمور، فإن التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة اللفظ. والتمور يتخيل فيها الواحد. تم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع خلاف وبما ذكرنا يعلم: أن المصنف لم يعرف بنقل مذهب إمام الحرمين على وجهه. والرابع: التفصيل بين أن يتميز فيه لفظ الواحد عن الجنس بالتاء كالتمرة والتمر فإذا عري عن التاء اقتضى الاستغراق كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا البر بالبر ولا التمر بالتمر)) وإن لم تدخله تاء التوحيد، فإن لم يتشخص مدلوله ولم يتعدد كالذهب والماء، فهو لاستغراق الجنس إذ لا يعبر عن أبعاضه بالذهب الواحد، وإن تشخص وتعدد كالدينار والرجل، احتمل العموم وتعريف الماهية فلا يحمل على

العموم إلا بدليل، قاله في المستصفى. تنبيهات: الأول: سكت المصنف هنا عن الإضافة في المفرد، وقال الهندي: لم ينصوا عليها لكن قضية التسوية بين الإضافة ولام التعريف في الأولى أن يكون كذلك ههنا، قلت: قد صرح بالتسوية جماعة، لكن الإمام في (المحصول) أنكر العموم في المفرد المعرف، وأما المضاف فصرح في أثناء الاستدلال على أن الأمر للوجوب بأنه يعم وكأن الفرق على طريقته: أن الإضافة أدل على العموم من الألف واللام. الثاني: أشار بقوله: مثله إلى أن شرط تعميمه: أن لا يتحقق عهد، فإن كان هناك عهد انصرف إليه قطعا وإن احتمل فعام على الصحيح ويجيء هنا توقف إمام الحرمين أيضا بل هو هنا أولى، وقد صرح به فقال: إن كان التعريف مبنيا على تنكير سابق كقولك: أقبل رجل ثم تقول: قرب الرجل فلا يعم، وإن لاح قصد الجنس عم، وإن لم يعرف لماذا أخرج الكلام، فالذي صار إليه المعظم أنه للجنس، والذي أراه: أنه مجمل وأنه حيث يعم لا يعم بصيغة اللفظ، وإنما ثبت عمومه وتناوله الجنس بحالة مقترنة معه مشعرة بالجنس.

الثالث: تعبيره بالمفرد خلاف تعبير ابن الحاجب باسم الجنس، والأول أعم فإن المفرد المحلى ينقسم إلى اسم جنس، واسم ليس بجنس، فاسم الجنس (96أ) ما لا وأحد له من لفظه، كالناس والنساء والإبل والحيوان ومن هذه الجهات يفارق المجموع وأما الاسم المفرد فنحو: الدينار والدرهم ويفارق اسم الجنس فإن اسم الجنس لا ينكر عندما تنكير مدلوله بخلاف المفرد فإذا أشرت إلى شيء من الذهب ثم زدت عليه أمثاله لم يتغير الاسم، ولو أشرت إلى جماعة من الآدميين وقلت: هؤلاء ناس فلو زيد فيهم لم يتغير لفظ الإشارة وكانت الإشارة إليهم مع الزيادة، بقولك: هؤلاء ولو أشرت إلى درهم أو دينار تغير اللفظ تقول هذان درهمان ولا يصدق هذا درهم، كذا فرق بين التلمساني في بعض مصنفاته ولا أثر له بالنسبة له إلى العموم فإن عمومها استغراقي باعتبار الألف واللام. (ص) والنكرة في سياق النفي للعموم وضعا، وقيل لزوما وعليه الشيخ الإمام، نصا إن بنيت على الفتح وظاهر إن لم تبن. (ش) مراده بالنكرة ما هو أعم من المطلق والنكرة، لا النكرة المقابلة للمعرفة وقوله: في سياق النفي كان الأحسن أن يقول: في النفي ليعم ما كانت في سياقه وما انصب النفي عليها وسيف الدين الآمدي فرق بين النكرة في سياق النفي

وبين ما كان النفي داخلا عليها فقال: إن النكرة في سياق (النفي ليست للعموم ذكره في الأبكار ومثل للنكرة في سياق النفي) في كتابه (الإحكام) بقوله: ليس في الدار رجل وفيه نظر وإطلاق النفي يشمل النفي بما ولن ولا، التي للنهي والدليل على أنها للعموم قوله تعالى: {ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله}. ومنهم من احتج بقوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} وقد تدعى استفادته من (من أحد) ومنهم من احتج بأنه لو لم يكن كذلك، لم يكن لا إله إلا الله توحيد والإجماع على خلافه ثم أشار المصنف فيها إلى بحثين نفيسين: أحدهما: اختلفوا في أنها عمت وضعا، أي أن اللفظ وضع لسلب كل فرد من أفراد الكلية بالمطابقة، وليس المراد به أنه يدل بالمنطوق، بل ما يفيد معنى الوضع المقابل للزوم وهو ظاهر كلام أصحابنا واختاره القرافي أو عمت لزوما، ومعناه أن عمومها ليس باعتبار دلالة اللفظ على جميع الأفراد بطريق المنطوق، بل باعتبار أن نفي فرد منهم يقتضي نفي جميع الأفراد ضرورة، ونسب للحنفية واختاره والد المصنف.

وحاصل الخلاف: أنها هل عمت لذاتها أو لنفي المشترك منها، فلم يحصل العموم عندهم إلا لأن حرف النفي اقتضى نفي الماهية الكلية، ونفي الأعم يلزم منه نفي الأخص، فحصلت السالبة الكلية بطريق اللزوم لأن اللفظ موضوع في اللغة للسالبة ... الكلية، والأول أظهر، لأن المتكلم إنما يقصد بنفيه نفي كل رجل لا نفي المشترك ويؤيده دخول الاستثناء على هذه الصيغة اتفاقا وهو على الثاني لم يخرج الاستثناء شيئا من مدلول اللفظ، لأن مدلوله عندهم إنما هو الماهية الكلية فالاستثناء إنما توجه على لازم المدلول بالمطابقة وهي نفي الأفراد اللازمة لنفي المشترك فيكون منقطعا، وعلى رأي الجمهور يكون الاستثناء من مسمى اللفظ، فيكون متصلا. وينبني على الخلاف: التخصيص بالنية، فإن قلنا بقول الحنفية، من أنه نفي للكلي فلا يؤثر حتى لو قال لا أكلت ونوى معينا فلا يسمع وإن قلنا: إنه نفي للكل فيؤثر بتخصيص بعض الأفراد بالنية واختار المصنف في غير هذا الكتاب، التفصيل (97أ) بين النكرة المبنية على الفتح فباللزوم وبين غيرها فبالوضع.

البحث الثاني: أن قدماء الأصوليين أطلقوا تعميم النكرة المنفية من غير فرق واعترض عليهم القرافي بالنكرة المقترنة مع لا، فإن سيبويه نص على أنه يصح أن يقال: لا رجل في الدار بل رجلان، وقال ابن السيد: إذا قلت: لا رجل في الدار لا يعم لأنه جواب لمن قال: هل في الدار رجل واحد، فيقال له: لا رجل في الدار بل رجلان. بخلاف ما إذا بنيت مع لا، فإنه جواب لمن قال: هل من رجل في الدار، فكان سؤاله عن مطلق مفهوم الرجل فكان جوابه بعموم السلب وهذا الاعتراض مردود وكلام الأئمة على ظاهره، وهي عامة في كل مواردها، لكنه يتفاوت وبه يجمع بين كلام النحاة والأصوليين فإن بنيت على الفتح مثل لا إله إلا الله فالعموم فيها نص وإن لم تبن على الفتح فإن كانت في تقديره نحو: ما جاءني من رجل فكالأولى نحو: {وما من إله إلا الله}. ولا خلاف في ذلك وإنما اختلفوا في أن العموم استفيد من دخول (من) أو كان موجودا قبلها، إن كانت عاملة عمل ليس نحو: لا رجل في الدار، فإنها مع الاسم تنصب الخبر فهذا موضع الخلاف الذي ظنه القرافي وليس كذلك، بل الصواب القطع بأنها للعموم، لكنه فيها بطريق الظهور لا النصوصية فيتطرق إليه التأويل وادعاء خلاف الظاهر ويساعد إطلاق الأصوليين على ذلك قول سيبويه الذي حكاه إمام الحرمين في معاني الحروف عنه. وقال: ولهذا نص سيبويه على جواز مخالفته فتقول: ما

فيها رجل بل رجلان كما يعدل عن الظاهر فتقول: جاء الرجال إلا زيدا فظهر الجمع بين كلام الفريقين وإنه لا خلاف بينهما ويحمل قول من قال إنها ليست للعموم في هذه الحالة كما نقل عن الجرجاني والزمخشري أنه أراد ليست نصا فيه ويشهد لذلك أيضا، ما نقله الشيخ أبو حيان في (الارتشاف) عن سيبويه أنها لتأكيد الاستغراق مع الإعراب في قولك: ما جاءني من رجل. تنبيهات: الأول: ظاهر قوله: وظاهرا إن لم تبن، يتناول صورتين: العاملة عمل ليس وهو واضح، والداخلة عليها من، ولا خلاف أنها نص كما سبق. الثاني: لا وجه لتخصيصه النفي، بل هي في سياق الشرط والاستفهام ونحوهما، كذلك قال تعالى: {من عمل صالحا فلنفسه} {وإن أحد من المشركين استجارك} وقالوا: هل رأيت أحدا ونحوه.

(ص) وقد يعم اللفظ عرفا كالفحوى {وحرمت عليكم أمهاتكم} (ش) يستفاد العموم إما من جهة اللغة، أو العرف، أو العقل، ووجه الحصر: أنه إما أن يكون لفظا أو غير لفظ، واللفظ لا بد أن تكون دلالته على معناه، إما باصطلاح عام وهو اللغة، أو خاص وهو العرف، وما ليس بلفظ هو العقل، أي: فهم العموم بطريق العقل فالذي يدل عليه بالعرف شيئان. أحدهما: الفحوى والمراد به مفهوم الموافقة إذا قلنا دلالته لفظية، فإن الحكم فيه إنما ثبت من طريق الأولى لأجل (أن العلة فيه أولى، ولكونه مساويا لأجل أن العلة اقتضت ذلك، وقد سبق في المفهوم تقرير) استفادته من العرف، وأنه رأي لم يرتضه المصنف.

الثاني: إضافة الحكم إلى الأعيان، كقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} فإن أهل العرف نقلوا تحريم العين إلى تحريم (97ب) جميع الاستمتاعات المقصودة من النساء فتفيد جميع الاستمتاعات من الوطء ومقدماته وقيل: إن التعميم فيه من باب الاقتضاء لأن تحريم الأعيان محال لقيام دليل العقل على أن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بأفعال المكلفين دون أعيانهم فلا بد من إضمار يستقيم الكلام فيكون على الخلاف في عموم المقتضى، وقد يترجح بقولهم الإضمار، خير من النقل، كما في قوله تعالى: {وحرم الربا}. (ص) وعقلا كترتيب الحكم على الوصف وكمفهوم المخالفة. (ش) المفيد للعموم بطريق العقل شيئان: أحدهما: ترتيب الحكم على الوصف، فإنه يشعر بكونه علة له، وذلك يفيد العموم بالعقل، على معنى أنه كلما وجدت العلة وجد المعلول، وكلما انتفت انتفى فهذا دل العقل لا باللغة ولا بالعرف. وثانيهما: مفهوم المخالفة عند القائلين به كقوله صلى الله عليه وسلم: ((في سائمة الغنم الزكاة)). فيدل على انتفاء الوجوب في كل ما ليس بسائمة غنم، وهذا تابع فيه (المحصول) وأسقطه من (المنهاج) فلم يذكر غير المقالة الأولى وهو حسن

لأن دلالته مفهوم المخالفة لم يقل أحد إنها عقلية، بل الذي أختاره في (المعالم): أنه لا يدل على النفي بحسب اللغة، وإنما يدل عليه بحسب العرف العام، فيكون من القسم الأول، قال ابن السمعاني: هل دل عليه من حيث اللغة أو الشرع؟ على وجهين: أصحهما: الأول. (ص) والخلاف في أنه لا عموم له لفظي. (ش) قال الغزالي: المفهوم لا عموم له لأن العام لفظ والمفهوم ليس لفظ وأثبته الأكثرون لعموم موجبه كما سبق وإذا حرر محل النزاع لم يتحقق خلاف لأنه إن كان الخلاف في أن مفهومي الموافقة والمخالفة يثبت فيهما الحكم في جميع ما سوى المنطوق، من الصور أو لا، فالحق الإثبات وهو مراد الأكثرين والغزالي لا يخالفهم فيه لأنه من القائلين بأن المفهوم حجة، وإن فرض في أن ثبوت الحكم فيهما بالمنطوق أو لا، فالحق النفي وهو مراد الغزالي وهم لا يخالفون فيه ولا ثالث ههنا يمكن فرضه محلا للنزاع. والحاصل أنه نزاع يعود إلى تفسير العام بأنه ما يستغرق في محل النطق أو ما يستغرق في الجملة وزعم بعضهم أن الغزالي يقول: إن المفهوم إن كان عن لفظ ثبوتي اقتضى المفهوم السلب فيكون للعموم وإن كان عكس ذلك فيكون غير عام والذي يشكل على الغزالي أنه جعل دلالة الالتزام لفظية، والمفهوم من جملة أقسامها، ومع ذلك لا يتجه فيه القول، بأنه لا يعم العلة التي ذكرها. (ص) وفي أن الفحوى بالعرف والمخالفة بالعقل تقدم. (ش) أي: فصل المفهوم وهو صحيح في الفحوى، وأما المخالفة فالمذكور

هناك أنه هل دل باللغة أو بالشرع أو بالمعنى، ولم يذكر العقل، وفسرنا هناك المعنى بالعرف العام فيرجع للتقسيم السابق. (ص) ومعيار العموم الاستثناء. (ش) أي: فإن الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله في المستثنى منه فلزم أن تكون كل للأفراد واجبة الاندراج ولا معنى للعموم إلا ذلك وإنما قلنا بوجوب الاندراج، لأنه جائز بالاتفاق فلو لم يكن واجبا - أيضا - لكان يجوز الاستثناء من الجمع المنكر، لاشتراكهما في إمكان اندراج كل فرد من أفرادها تحته، فنقول: جاء رجال إلا زيد، وقد نص النحاة على منعه. وقضية هذا التوجيه أن الاستثناء (98أ) إذا دخل على لفظ عام نقل دلالته على أفراده من الظهور إلى التنصيص وبه صرح بعضهم قال: وإلا لم يكن لتخصيص المستثنى فائدة، وقد أورد على المصنف دخول الاستثناء في مقادير الأعداد ولا عموم فيها، وأجاب بأنا لم نقل: كل مستثنى منه عام، بل قلنا: كل عام يقبل الاستثناء فمن أين العكس وفيه نظر. واعلم أن هذا الأصل ليس متفقا عليه، فقد ذهب ابن مالك إلى أنه لا يشترط في صحة الاستثناء كونه من عام، بل يجوز من النكرة في الإثبات بشرط الفائدة نحو جاءني قوم صالحون إلا زيدا وخرج عليه الاستثناء من العدد نحو {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} وقال ابن الدهان الاستثناء، إخراج بعض ما

يوجبه اللفظ من عموم ظاهر، أو عموم حكم، أو معنى يدل عليه اللفظ بعموم اللفظ، نحو: قام القوم إلا زيدا وعموم الحكم نحو: لا أكلمك إلا يوم الجمعة لأن لا أكلمك حكمه أن لا يكلمه أبدا، فيوم الجمعة داخل فيه، فأخرج بالاستثناء. (ص) والأصح أن الجمع المنكر ليس بعام. (ش) أي: بل يحمل على ثلاثة أو اثنين على الخلاف في أقل الجمع وقال الجبائي: يقتضيه كالمعرف وهو ضعيف، لأنه لو اقتضى الاستغراق لتعرف وهو

محال قال الهندي: والذي أظنه أن الخلاف في غير جمع القلة، وإلا فالخلاف فيه بعيد جدا، إذ هو مخالف على أنه للعشرة فما دونها قلت: وقضية كلام القاضي وغيره في النقل عن الجبائي أنه لا فرق فإنهم قالوا: جعل الجمع المنكر بمنزلة المعرف. (ص) وإن أقل مسمى الجمع ثلاثة لا اثنان (ش) أي: ولا يطلق على دون الثلاثة إلا مجازا وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة - رضي الله عنه -.

وقال مالك: اثنان واختاره الأستاذ والغزالي محتجين بأن الجمع مشتق من اجتماع الشيء مع الشيء واحتج الأولون بأن لفظ الواحد يسلم في التثنية ولا يسلم في الجمع فلم يجز أن يتفق العدد فيهما مع اختلاف صيغة الجمع الموضوع لهما، وهذا إنما يتمشى في المكسر، أما الصحيح فلا، وأجابوا عما قاله الخصم من الاشتقاق بأنه مشتق من اجتماع الجماعة كما أن التثنية مشتقة من اجتماع الاثنين وفائدة قوله: مسمى، التنبيه على أن محل الخلاف في اللفظ المسمى بالجمع في اللغة كمسلمين ونحوه لا في المفهوم من لفظ الجمع لغة، وهو ضم شيء إلى شيء فإن ذلك في الاثنين والثلاثة وما زاد بلا خلاف ثم الخلاف في جمع القلة لا جمع الكثرة فإن أقله أحد عشر بإجماع النحاة كذا قالوا لكن قال الرافعي في فروع الطلاق: لو قال: إن تزوجت النساء أو اشتريت العبيد، فهي طالق، لم يحنث إلا إذا تزوج ثلاث نسوة أو اشترى ثلاثة أعبد، وكان ينبغي أن لا يحنث إلا بأحد عشر وقال الإمام في (البرهان) ذكر بعض الأصوليين من فوائد الخلاف، أن لو أقر بدراهم هل يحمل على ثلاثة أو على اثنين وما أظن أن الفقهاء يسمحون بهذا وهو عجيب فإن الخلاف عندنا حكاه الهروي في (الإشراف) وجهين بناء على هذا الأصل وذكره الماوردي في (الحاوي) أيضا.

(ص) وأنه يصدق على الواحد مجازا. (ش) ذهب إمام الحرمين إلى أنه يصح رد لفظ الجمع إلى الواحد بشرط قيام قرينة تدل على أن المراد به واحد، وطرد ذلك في الاثنين من باب أولى ولهذا اقتصر المصنف على الواحد ومثله بقول الزوج وهو يرى امرأته تتصدى لناظر لها: تتبرجين للرجال، (98ب) ولم يرد إلا رجلا واحدا لأن مقصوده استواء الجمع والواحد من جهة أن الأنفة والحمية إنما منشؤها التبرج للجنس آحادا أو جمعا، والذي ينقسم منها في الواحد ينقسم منها في الجنس ولعل لفظ الجمع أوفق للغرض. وقال: وإذا لم يكن في الكلام مثل هذه القرينة لم ينقدح حمل صيغة الجمع على الواحد، ثم إن تحقق عدمها فلا وجه للرد إليه، وإن تردد في اقترانها باللفظ توقف فيه قال المازري: يريد أنه لو لم يكن في طبيعة الكلام ما يحسن به القرينة ما جاز إطلاقه ولو اقترنت به القرينة ونازعه ابن عطاء الله في التمثيل فإن المتكلم

لم يطلق الرجال على واحد بل على جمع لظنه أنها ما تبرجت لهذا الواحد إلا وقد تبرجت لغيره فتبرجها للواحد سبب لإطلاق اللفظ، لا أن المراد برجال واحد ومثل القاضي عزيزي في (البرهان) مجيء الجمع والمراد الواحد بقوله تعالى: {وإني مرسلة إليهم بهدية} فالهاء والميم للجمع، والمراد به سليمان وحده، وكذا قوله {بم يرجع المرسلون} والرسول واحد بدليل قوله: {ارجع إليهم} وقوله: {مبرؤون مما يقولون} والمراد به أم المؤمنين وحدها، وفيها ثلاث كلمات للعموم، وهي: أولئك ومبرؤون ولهم مغفرة.

(ص) وتعميم العام بمعنى المدح والذم إذا لم يعارضه عام آخر وثالثها يعم مطلقا. (ش) العام إذا تضمن معنى المدح أو الذم كقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} ونحوه، والمراد به مدح قوم وذم آخرين وتعلق به ذكر النقد، فهو عام نظرا للفظ، ولا تنافي بين قصد العموم والذم. وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني: إنه المذهب وقيل: ليس بعام نظرا لما قصد به ونسب للشافعي رضي الله عنه، ولهذا منع التمسك بآية الزكاة في وجوب زكاة الحلي لأن اللفظ لم يقع مقصودا له، وربما نقلوا عنه أنه قال: الكلام يفصل في مقصوده ويحمل في غير مقصوده وهذا الخلاف أطلقه المتأخرون.

والصواب أن محله إذا لم يعارضه عام آخر لم يقصد به المدح أو الذم. فإن عارضه يرجح الذي لم يسبق لذلك عليه بلا خلاف، قاله الشيخ أبو حامد، وابن السمعاني وغيرهما من أصحابنا وأطلق غيرهم الخلاف وطردوه في الحالتين، وحينئذ فيجتمع ثلاثة أقوال كما أشار إليه المصنف، ومثال المعارض قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} مع قوله تعالى {أو ما ملكت أيمانكم} فالأولى سيقت لبيان الحكم فقدمت على ما سياقها المنة بإباحة الوطء بملك اليمين، وبهذا رد الأصحاب على داود احتجاجه بالثانية على إباحة الأختين بملك اليمين. وقال الشيخ عز الدين: ليس من هذا الباب العام المرتب على شرط تقدم ذكره بل يختص اتفاقا كقوله تعالى: {إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا} فالشرط المتقدم هو صلاح المخاطبين الحاضرين وصلاحهم لا يكون سببا للمغفرة لمن تقدم من الأمم قبلهم أو يأتي بعدهم، فإن قواعد الشرع تأبى ذلك، وأن صلاح كل أحد لا يتعداه لغفران غيره إلا أن يكون فيه سبب وههنا لا سبب فلا يتعدى فيتعين أن يكون المراد {فإنه كان للأوابين غفورا} فإن شرط الإجزاء لا يتعين جزاؤه على غيره، وهذه قاعدة لغوية شرعية، أما إذا لم يكن شرطا أمكن جريان الخلاف فيه. تنبيه: هذه (99أ) المسألة متكررة مع قوله أول الباب: وغير المقصودة فإن القاضي عبد الوهاب لما حكى الخلاف في تعميمها مثل بآية الزكاة ووافق عليه

الشيخ تقي الدين في شرح (الإلمام) ولهذا حكى الأصفهاني في شرح (المحصول) الخلاف الذي نقله القاضي عبد الوهاب في غير المقصودة هنا، وبه يظهر العجب من المصنف في (منع الموانع) فإنه استغرب الخلاف في غير المقصودة حتى نقله عن (المسودة) الأصولية لابن تيمية. (ص) وتعميم نحو: لا يستوون. (ش) قوله تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} يقتضي نفي الاستواء من كل وجه حتى يستدل بها على أن الفاسق لا يلي عقد النكاح خلافا للحنفية وقد مثل الأصوليون هذه المسألة بقوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هو الفائزون} فإن أصحابنا تمسكوا بها على أن المسلم لا يقتل بالكافر، لأن نفي الاستواء يقتضي نفي الاستواء من جميع الوجوه فلو قتل المسلم بالكافر لاستويا في شرعية القصاص إذ التقاضي مبني على

المساواة، قال المصنف: وإنما عدلت عن التمثيل بها إلى الآية الأولى، لأن قوله تعالى: {أصحاب الجنة هم الفائزون} قرينة أنه إنما أراد نفي المساواة في الفوز لا مطلقا بخلافه في الآية الأخرى، لكن يخدش فيه شيئان: أحدهما: أن هذا يمكن أن يقال بمثله في لا يستوون لقوله تعالى بعدها: {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآيتين لكن هو في (لا يستوون) أبعد منه في (لا يستوي) لأنه في اثنين، الثاني: احتمال أن يكون المراد بالفاسق الكافر، فلا يدل على نفي ولاية الفاسق للنكاح وهي المسألة الخلافية نعم، هذا لا أثر له لأنه إن لم يدل على نفي ولاية الفاسق دل على نفي ولاية الكافر على ابنته وينبغي التمثيل أيضا بقوله تعالى في سورة آل عمران {ليسوا سواء} وفي سورة الجاثية: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء} على قراءة النصب وقوله تعالى في سورة الحديد {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} وفي سورة الزمر: {هل يستويان} فليتأمل موارد هذه الآيات، وقد اختار المصنف أمرا خالف فيه المذهبين، واعتقد أن لفظ المساواة معناه المعادلة، والسواء العدل، وفلان لا يساوي فلانا، معناه: لا يعادله ولا يكون وزانه، ومنه قوله: وليس سواء عالم وجهول. وقوله واعلم علما أن تسليما وتركا للامتشابهات، ولا سواء أي لا يتعادلان ولا

قريبا من المعادلة. وإذا كان معناه المعادلة والكفاءة فقولنا: فلانا لا يساوي فلانا، معناه: لا يكافئه أو يساويه فمعناه تكافئه نفيا وإثباتا وحينئذ يتوقف الاستدلال بالآية على عدم القصاص بين المسلم والكافر، وبالأخرى على عدم ولاية الفاسق على أنه ليس بكفء وإن الكفاءة معتبرة. (ص) ولا أكلت. (ش) الفعل المتعدي إذا وقع في سياق النفي مثل: لا آكل إذا اقتصر عليه، ولم يتعرض للمفعول فهو عام في معقولاته، فيعم المواكيل كلها، لأنها نكرة في سياق النفي وقال أبو حنيفة: لا يعم فلا يقبل التخصيص. وتظهر فائدة الخلاف في أنه لو نوى به مأكولا معينا، قبل على الأول حتى لا

يحنث بأكل غيره بناء على عموم اللفظ له، فيقبل التخصيص ببعض مدلولاته ولا يقبل على الثاني تخصيصه به لأن التخصيص فرع العموم، ولا عموم فيه، فلو خصه 99 ب بمأكول لم يقبل ومأخذ النزاع أن المفعول به محذوف كسائر التعليقات أو مقدر أي: مذكور بالقوة وهو بعض فيقبل تفسير ذلك لأنه ضروري للفعل المتعدي دون غيره والاستعمال وارد بكل منهما إنما الكلام في الظهور، واختار في (المحصول) مذهب أبي حنيفة وقاس المفعول به على المفعول فيه، يعني أنه إذا قال: لا أكلت وأراد بعض الأزمنة أو بعض المواضع دون بعض، حنث، ولم يكن هذا اللفظ قابلا للتخصيص بالنية. فوجب أن يكون المفعول به كذلك، وفرق الآمدي في (الإحكام)، وصاحب (التحصيل) بينهما، بأن تعلق الفعل بالمفعول به أقوى من تعلقه بالمفعول فيه، ولهذا قبل ذلك التخصيص ولم يقبله هذا وهذا الفرق مبني على أن الحكم في المفعول فيه

كذلك وقد خولف فيه الإمام، وقيل بقبول الفعل التخصيص في الزمان والمكان بالنية أيضا. تنبيهان: الأول: هذه هي المسألة السابقة في أن حرف النفي إذا دخل على النكرة عم لذاته، أو هو سلب الكلي، وهو القدر المشترك في الأكل، فإن قلنا بالثاني لم يقبل التخصيص، لأنه نفي الحقيقة وهو شيء واحد ليس بعام والتخصيص فرع العموم وإن قلنا بالأول عم فهذه المسألة فرع لتلك فذكرهما المصنف جمعا بين الأصل والفرع. الثاني: علم من تمثيله تصوير المسألة بأن يكون الفعل متعديا غير مقيد بشيء وهو الذي ذكره الإمام، والغزالي والآمدي وغيرهم وعلى هذا لا يتناول الأفعال القاصرة لكن القاضي عبد الوهاب في كتاب (الإفادة) قال: الفعل في سياق النفي، هل يقتضي العموم؟ كالنكرة في سياق النفي، لأن نفي الفعل نفي لمصدره فإذا قلنا: لا يقوم فكأنا قلنا: لا يقام، وعلى هذا التصوير تعم المسألة القاصرة. (ص) قيل وإن أكلت. (ش) هذا الذي ضعفه هو الذي أورده ابن الحاجب فيسوي بين ما وقع في سياق النفي أو في سياق الشرط، نحو: إن أكلت فأنت طالق، لأن الشرط في معنى النفي، لأن المشترط لم يجزم بوقوع الشرط حيث جعله شرطا ولهذا تجعله النحاة في مقابلة الثبوت فإن الفعل في الشرط والاستفهام عندهم كل كلام غير موجب، وهو مبني على أن النكرة في سياق الشرط تعم، كهي في سياق النفي، وهو ما صرح به القاضي وإمام الحرمين، ومثله بقولك من يأتني بمال أكرمه، قال: ولا يختص

هذا بمال معين، قال المصنف في (شرح المنهاج): ومراده العموم البدلي لا الشمولي يعني فإنه لا يتوقف الجزاء على الإتيان بجميع الأموال بل يكفي واحد كما لو قال: إن رأيت رجلا فأنت طالق يقع برؤية واحد ولأجل هذا توقف المصنف ههنا في إلحاق الشرط بالنفي، وأن العموم في النفي بالشمول وفي الشرط بالبدل، وفهم الأبياري من كلام إمام الحرمين في الشرط أنه أراد عموم الشمول فقال: لو كان للعموم لما استحق الإكرام بمال واحد، بل كان مفتقرا للإتيان بجميع الأموال، كما لو قال: من يأتني بكل مال، وأما عموم الشرط فتوجه في حق كل آت بمال، لا بما تعلق به الشرط من المال. (ص) لا المقتضى. (ش) شرع في صور عدها بعضهم من العموم والصحيح فيها خلاف ذلك، فمنها: المقتضى سمي بذلك لأنه أمر اقتضاه النص وهو بكسر الضاد اللفظ الطالب للإضمار وبفتحها ذلك المضمر بعينه الذي اقتضاه الكلام تصحيحا له وهو المراد هنا فإذا كان الكلام لا يستقيم إلا بتقديرات متعددة، ليستقيم الكلام بكل واحد منها، فلا عموم له في مقتضاه (100أ) فلا يقدر الجميع بل يقدر واحد بدليل فإن لم يقم دليل معين لأحدهما كان مجملا مثل ((رفع عن

أمتي الخطأ والنسيان)). هذا ما اختاره الشيخ أبو إسحاق والغزالي وابن السمعاني والرازي والآمدي وابن الحاجب وغيرهم؛ لأن العموم من عوارض اللفظ والمقتضى معنى لا لفظ ولأن الضرورة تندفع بإثبات فرد ولا دلالة على إثبات ما وراءه فبقي على عدمه والأصلي بمنزلة المسكوت عنه ومقابله حكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر الشافعية والمالكية وصححه النووي في (الروضة) في كتاب الطلاق، نعم إذا تعين بدليل، فهو كالملفوظ وإن كان موضعه العموم، فعام، وإلا فلا. تنبيه: جعل بعض الحنفية المسألة السابقة من فروع هذه أعني: لا آكل، أو إن أكلت، ومنعه بعضهم فإن قبوله للتخصيص بوجود المحلوف عليه في كل صورة لا لعموم المقتضى. (ص) والعطف على العام. (ش) أي: لا يقتضي عموم المعطوف عليه خلافا للحنفية حيث قالوا: إن

قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقتل مسلم بكافر)) لو كان عاما للذمي لكان المقدر في قوله: (ولا ذو عهد في عهده) عاما ضرورة اشتراك المعطوفين وليس كذلك، إذ الكافر الذي لا يقتل به المعاهد إنما هو الحربي، وأجاب أصحابنا بأن اشتراك المتعاطفين في أصل الحكم لا في صفته، مع أن تعليل الإضمار هو الأصل، واعلم أن ترجمة المصنف، تقتضي أمورا: أحدها: أن الحنفية يسلمون أن (بكافر) في قوله: ((لا يقتل مسلم بكافر)) - عام، وأنهم يقدرون في الثاني كذلك، وهو فاسد، فإن الحنفية يمنعون عموم الأول، ضرورة وجوب تقديره ثانيا، وذلك لاشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم وصفته.

والثاني: أنها تقتضي مطلق العطف سواء عطف العام على العام أو الخاص على العام وهو كذلك لكن تعميم المعطوف إذا كان عاما ليس من قبيل عطفه بل هو من جوهر لفظه. الثالث: أنها عبارة تتجاوز المقصود لانطباقها على صورة لا خلاف فيها، كما لو قيل: ولا ذو عهد في عهد يجزي، وهذا لا يقول أحد فيه باقتضاء العطف على العام العموم وإن المقصود إنما هو بيان أن إحدى الجملتين إذا عطفت على الأخرى وكانت الثانية تقتضي إضمارا ليستقيم كقوله: (ولا ذو عهد في عهده) على قول الحنفية فإنه لا يستقيم عندهم بدون إضمار فهل يضمر ما تقدم ذكره أو ما يستقل به الكلام قالت الحنفية بالأول، فمن ثم عزي إليهم أن العطف على العام يقتضي عموم المعطوف. وقال أصحابنا بالثاني ولما رأى ابن الحاجب ترجمة

المتأخرين مختلة عدل عنها وقال مثل قوله صلى الله عليه وسلم إلخ، ويمكن أن يقال: إن هذا جار مجرى اللقب فلا يضر تجاوز لفظه عن المقصود فيه. (ص) والفعل المثبت، ونحو: كان يجمع في السفر. (ش) فيه مسألتان: إحداهما: الفعل المثبت لا عموم له بالنسبة إلى الأحوال التي يمكن أن يقع عليها العموم لاحتمال أن يقع عليها أو على وجه واحد مع الاحتمال والشك لا يثبت العموم خلافا لقوم ومثاله قول الراوي: صلى داخل الكعبة، فلا يعم الفرض والنفل ولا يتعين إلا بدليل وهذا مبني على أصلي نحوي، وهو أن الأفعال نكرات والنكرة في سياق الإثبات لا تعم، وقد حكى الزجاجي إجماع النحاة على أن الأفعال نكرات، واحتج بأنها لا تخلو من

الفاعلين والفعل والفاعل جملة، والجمل نكرات كلها (100ب) ومن ثم امتنع الإضافة إلى الأفعال، لانتفاء فائدة الإضافة إليها، واحترز المصنف بقوله: المثبت، عن المنفي فإنه يعم وقد سبق أن الشرط في معناه على خلاف فيه، نعم المثبت إن كان في سياق الامتنان عم. الثانية: نحو قوله: كان يجمع بين الصلاتين في السفر لا يعم جمع التقديم والفرق بين هذا وبين الذي قبله، أن لفظة (كان) تدل عند قوم على تكرار الفعل بخلاف مطلق الفعل المثبت فلا يلزم من إنكار تعميم الأول تعميم الثاني، فلهذا جمع المصنف بينهما، نعم، إن قلنا: إن كان لا يقتضي تكرار الفعل، فهو من القسم الذي قبله وفيه ثلاثة مذاهب: صحح ابن الحاجب أنها تقتضيه قال:

وهذا استفدناه من قولهم: كان حاتم يقري الضيف وصحح في (المحصول) أنها لا تقتضيه لا عرفا ولا لغة وقال الهندي: إنه الحق وقال عبد الجبار يقتضيه في العرف لا اللغة فإنه لا يقال في العرف: فلان كان يتهجد، إذا تهجد مرة واحدة واعلم أن المصنف قد ذكر مسألة: قضى بالشفعة للجار في آخر التخصيص فلا تظنه أهلها. (ص) ولا المعلق بعلة، لفظا، لكن قياسا خلافا لزاعمي ذلك. (ش) إذا علق الشارع حكما على علة كما لو قال: حرمت الخمر لكونه مسكرا، هل يعم، حتى يؤخذ الحكم في جميع صور وجود العلة، فيعم كل مسكر على قول فإذا قلنا: يعم فعمومه بالشرع قياسا (أو باللغة يجتمع ثلاثة أقوال: أصحها أن عمومه بالشرع قياسا) بناء على الاشتراك في العلة، فإن ذكر الوصف عقب الحكم تفيد عليته والاشتراك في العلية، يوجب الاشتراك في الحكم فيكون الحكم عاما لعموم علته لا.

لأن اللفظ يفيد تعميمه وقال القاضي أبو بكر: لا يعم وقيل: يعم بالصيغة ومن أمثلته قوله صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: ((زملوهم بكلومهم ودمائهم، فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما)). فإنه يعم كل شهيد، وقوله: خلافا لزاعمي ذلك، راجع إلى المسائل الخمس من قوله: لا المقتضى إلى هذه المسألة. (ص) وإن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم. (ش) هذه العبارة للشافعي رضي الله عنه، وعليه اعتمد في صحة أنكحة الكفار في الإسلام على أكثر من أربع، فإن غيلان أسلم على عشرة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم

بإمساك أربع ولم يسأله عن كيفية ورود العقد عليهن في الجمع والترتيب فكان إطلاق القول دالا على أنه لا فرق واستحسنه محمد بن الحسن، على خلاف ما يقوله أبو حنيفة، من أن العقد إذا ترتب، تعينت الأربع الأوائل ومقابل الأصح المقدر في كلام المصنف أنه مجمل فيبقى على الوقف، وصار إمام الحرمين إلى أنه يعم، إذا لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بتفاصيل الواقعة، فإن علم فلا يعم، وكان تقييدا للأول؛ ولهذا قال في (المحصول) بعد حكاية قول الشافعي رضي الله عنه، وفيه نظر، لاحتمال أنه أجاب بعد أن عرف الحال واعلم أنه قد جاء عن الشافعي رضي الله عنه، ما يعارض هذه العبارة وهي قوله: حكايات الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال ولهذا أثبت بعضهم

للشافعي رضي الله عنه، في المسألة قولين، وليس بشيء وجمع القرافي بين العبارتين بما لا يتحصل، والصواب حمل الثانية على الفعل المحتمل للوقوع على وجوه مختلفة فلا يعم، لأنه فعل والأولى على ما إذا أطلق اللفظ جوابا عن سؤاله فإنه يعم أحوال السائل لأنه قول، والعموم من عوارض الأقوال دون الأفعال. (ص) وأن نحو: يا أيها النبي لا يتناول الأمة إلا بدليل. (ش) الخطاب المختص بالنبي صلى الله عليه وسلم (101أ) نحو: {يا أيها النبي} {يا أيها الرسول} لا تدخل تحته الأمة، ولا يدخل الرسول تحت الخطاب المختص بالأمة بالإجماع، لا إذا دل الدليل على دخولهم تحته من قياس أو غيره، وحينئذ فيشملهم الحكم لا باللفظ، وقيل: يدخل في اللفظ فهو عام إلا بدليل يخرجه، ونقل عن أبي

حنيفة وأحمد واختاره إمام الحرمين. (ص) ونحو يا أيها الناس يشمل الرسول عليه الصلاة والسلام وإن اقترن بقل وثالثها التفصيل. (ش) الخطاب المتناول للرسول والأمة: كقوله: {يا أيها الناس}، {يا عبادي} يشملهما عند الأكثرين لصدق اللفظ عليه والثاني: لا يدخل تحته النبي صلى الله عليه وسلم لأجل الخصائص الثابتة له، والثالث: التفصيل بين أن يقترن بقل، فلا يشمله لأن

الأمر بالتبليغ قرينة عدم وطوله وإلا تناوله ونقل عن الصيرفي وزيفه إمام الحرمين وغيره. (ص) وأنه يعم العبد والكافر. (ش) فيه مسألتان: إحداهما: أن الخطاب يا أيها الناس ونحوه، يعم الأحرار والعبيد اتباعا لموجب الصيغة، ولا يخرج العبد إلا بدليل ولا يلتحق بالبهائم من جهة ماليته، وكونه مملوكا لتوجه التكاليف عليه بالإجماع في الصلوات وغيرها، ونقله ابن برهان عن معظم الأصحاب وقيل: لا يدخلون إلا بدليل. الثانية: أن يعم الكافر فلا يخرج إلا بدليل لأنه من الناس وبني آدم حقيقة والأصل عدم المخصص وقيل: لا يدخل، ولعله بناء على أنهم غير مكلفين وقد

سبقت قال الهندي: والقائلون بعدم دخول العبد والكافر إن زعموا أنه لا يتناولهما من حيث اللغة فهو مكابرة وإن زعموا التناول لكن الرق والكفر في الشرع يخصصهم فهو باطل للإجماع على أنهم مكلفان في الجملة. (ص) ويتناول الموجودين دون من بعدهم. (ش) الخطاب الوارد شفاها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (يا أيها الذين آمنوا) (ويا أيها الناس) يختص بالموجودين حالة الخطاب، ولا يتناول من بعدهم أي لغة إلا بدليل منفصل من قياس أو غيره وقالت الحنابلة: بل هو عام بنفسه والخلاف لفظي للاتفاق على عمومه، لكن هل هو بالصيغة أو بالشرع، قياسا أو غيره. (ص) وإن من الشرطية تتناول الإناث.

(ش) ويدل عليه قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى} فدل التعبير بالذكر والأنثى عليه، وقوله تعالى: {ومن يقنت منكن لله ورسوله}. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه)). فقالت أم سلمة: (فكيف يصنع النساء بذيولهن؟) صححه الترمذي. فهمت أم سلمة دخول النساء في صيغة (مَنْ) وأقرها النبي ولأنه لو قال: من دخل داري فهو حر فدخلها النساء عتقن بالإجماع كما قاله في (المحصول) وقيل: يختص بالذكور لقولهم في الاستفهام منه ومنتان حكاه ابن الحاجب وغيره وأغرب ابن الدهان النحوي، فعزاه للشافعي رضي الله عنه، وإنما عزي

لبعض الحنفية وأنهم تمسكوا بذلك في مسألة المرتدة، فجعلوا قوله صلى الله عليه وسلم ((من بدل دينه فاقتلوه)) لا يتناول المؤنث وهنا أمور: أحدها: تقييد المصنف الخلاف بالشرطية ذكره إمام الحرمين وهي تخرج الموصولة والاستفهامية وقال الصفي الهندي: الظاهر أنه لا فرق والخلاف جار في الجميع، واعتذر بعضهم عن الإمام بأنه إنما خص بالشرطية، لأنه لم يذكر الاستفهامية والموصولة في صيغ العموم. الثاني: أن ابن الدهان النحوي، حكى الخلاف في أنها موضوعة للمذكر والمؤنث، أو أنها للمذكر أصل، يعني: ولا يمتنع استعمالها في المؤنث. الثالث: أن هذا لا يختص بـ (من) بل (ما) ونحوها (101 ب) مما لا يفرق فيه بين المذكر المؤنث وإن كان العائد فيه مذكرا كذلك.

(ص) وأن جمع المذكر السالم لا يدخل فيه النساء ظاهرا. (ش) اللفظ إن اختص بالمذكر كالرجال أو بالمؤنث كالنساء لا يدخل أحدهما تحت الخطاب باللفظ المختص بالآخر. فإن تناولهما، جميعا وليس لعلامة التذكير والتأنيث فيه مدخل، كلفظ الناس دخل فيه كل واحد منهما اتفاقا وإن استعمل اللفظ فيهما لكن بعلامة التأنيث في المؤنث وبحذفها في المذكر وجوبا، وهو كلفظ: مسلمين ومسلمات، فاختلفوا فيه. فذهب الجمهور إلى أن المؤنث لا يدخل في المجرد من العلامة نحو المسلمين ظاهرا إلا بدليل منفصل كما لا يدخل الرجال في لفظ المؤنث إلا بدليل وقال الشيخ أبو حامد وغيره: إنه مذهب الشافعي وقالت

الحنابلة بتناولهما ظاهرا، ولا يخرج عنه المؤنث إلا بدليل ورأى إمام الحرمين الدخول بالتغليب لا بأصل الوضع، فإن اللفظ لم يوضع له واقتضى كلامه تخصيص الخلاف في الخطابات الواردة في الشرع، لقرينة غلبة المشاركة في الأحكام الشرعية قال الصفي الهندي: واتفق الكل على أن المذكر لا يدخل تحته وإن ورد مقترنا بعلامة التأنيث وهذا يعلم من تخصيص المصنف الخلاف بالمذكور. ووقع في بعض النسخ: وكذا المكسر وضميرها وهو استدراك على تصويرهم المسألة بالجمع السالم فإن المكسر كذلك، ولم أر لهم تصريحا بذلك بل رأيت في بعض المسودات أن جمع التكسير، لا خلاف في عدم الدخول فيه، ويشهد له ما لو وقف على بني زيد، فإنه لا يدخل فيه البنات نعم إن دلت قرينة على الدخول دخلن على الأصح، كما لو وقف على بني تميم أو هاشم فإن القصد الجهة. (ص) وإن خطاب الواحد لا يتعداه وقيل: يعم عادة. (ش) الخطاب الخاص لغة بواحد من الأمة، هل هو خطاب للباقين، الجمهور

على المنع وأنه لا يتعداه إلا بدليل منفصل وقيل: يعم بنفسه عادة وأشار المصنف بهذا القيد إلى أن القائلين بالتعميم لم يريدوا لغة، وإلا كان مكابرة فإن صيغة الواحد غير صيغة الجمع، بل أرادوا أن العادة تقتضيه، وقال إمام الحرمين: الخلاف لفظي وقال غيره: بل معنوي، وهو أنا نقول: الأصل ما هو، هل هو مورد الشرع أو مقتضى العرف. (ص) وإن خطاب القرآن والحديث بـ {يا أهل الكتاب} لا يشمل الأمة. (ش) الخطاب الخاص بأهل الذمة نحو: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا} ونحوه لا يشمل الأمة

إلا بدليل منفصل، لأن اللفظ قاصر عليهم كذا قاله المصنف ولكن جزم الشيخ مجد الدين في مسودته، بأنه يشملهم إن شركوهم في المعنى، وإلا لم يشملهم بمثابة خطابه لأهل أحد وعتابه لهم بقوله: {إذ همت طائفتان منكم} الآيات وخطابه لأهل بدر قوله: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} وهو نظير خطابه لواحد من المكلفين: فإنه يثبت الحكم في حقه مثله قال: ثم الشمول ههنا، هل بطريق العادة العرفية أو الاعتبار العقلي فيه الخلاف، وعلى هذا يبنى استدلال الأئمة على حكمنا بمثل قوله: {أتأمرون الناس بالبر} الآية، فإن هذه الضمائر مرجعها لبني إسرائيل قال: وهذا كله في الخطاب على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أما خطابه لهم على لسان موسى (102أ) أو غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فهي مسألة شرع من قبلنا والحكم ههنا لا يثبت بطريق العموم الخطابي قطعا، بل بالاعتبار العقلي عند الجمهور. تنبيه: سكت المصنف عن عكسها، وهو أن الخطاب المختص بالمؤمنين، هل

يختص بهم؟ وحكى ابن السمعاني في الاصطلام عن بعض الحنفية الاختصاص ثم اختار أنه ثابت في حق الكل، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} خطاب تشريف لا خطاب تخصيص، بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا لله وذروا ما بقي من الربا} وقد ثبت تحريم الربا في حق أهل الذمة بالإجماع، قلت: وفيه نظر، لأن الكلام في التناول بالصيغة، لا بأمر خارج وهذه المسألة ترجع إلى أن الكفار هل هم مخاطبون بالفروع. (ص) وأن المخاطب داخل في خطابه إن كان خبرا لا أمرا. (ش) المخاطب بكسر الطاء، هل يدخل في خطابه، فيه مذاهب أحدها: يدخل مطلقا سواء كان خبرا أو أمرا أو نهيا لعموم الصيغة كقوله تعالى: {والله بكل شيء عليم} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة)). وقول القائل: من أحسن فأكرمه، أو فلا تهنه، كذا قاله في (المحصول)

وعزاه للأكثرين. والثاني: لا يدخل نظرا للقرينة. والثالث: التفصيل بين الخبر فيدخل تحته، أو الأمر فلا، وهو اختيار أبي الخطاب من الحنابلة قال: والفرق بينهما، أن الأمر، استدعاء الفعل على جهة الاستعلاء فلو دخل المتكلم تحت ما يأمر به غيره، لكان مستدعيا من نفسه مستعليا وهو محال وأكثر من نقل الخلاف في المسألة صورها بالأمر، للتنبيه على أنه في الخبر بخلافه فلهذا فصل المصنف بين الخبر فيدخل وبين الأمر فلا يدخل لأن كونه أمرا قرينة مخصصة، وقد ذكره في (المحصول) احتمالا له، والحق أنه إن كان وضع المسألة في أن ما وضع للمخاطب يشمل المتكلم وضعا فليس كذلك، سواء كان أمرا أم خبرا، وإن كان المراد حكما فمسلم إذا دل عليه دليل أو كان الوضع شاملا له، كألفاظ العموم، وعند هذا نقول: إن كان بلفظ المخاطبة

للمخاطبين كقوله: ((إن الله ينهاكم أن تحلفوا بأبائكم))، ((ولا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول)). فلا يدخل عليه السلام في الخطاب، لأن الصيغة مختصة بالمخاطب، ومن حكى فيه خلافا فقد شذ، وهو قريب من قول بعض الحنابلة: إن الخطاب مع الموجودين يتناول من بعدهم بغير دليل منفصل، بل لمجرد الخطاب الأول، وأما إذا كان بغير لفظ الخطاب كقوله: ((من نام فليتوضأ)). ((من أحيا أرضا ميتة فهي له)). والصحيح الدخول، وقد سبق من المصنف في باب الأوامر ما يخالف ما اختاره هنا وذكرنا ما فيه. (ص) وإن نحو: {خذ من أموالهم صدقة} تقتضي الأخذ من كل نوع وتوقف الآمدي. (ش) ما صححه المصنف نص عليه الشافعي رضي الله عنه، في (الرسالة) والبويطي، ونقله ابن برهان وغيره عن الأكثرين، وكذلك ابن

الحاجب ثم اختار خلافه، وأنه يكفي أخذ صدقة واحدة من جملة الأموال ونقل عن الكرخي وحجة (102ب) الجمهور، إضافتها إلى جمع أموال الجميع والجمع المضاف للعموم، وقول الكرخي قوي، لأن (من) للتبعيض المطلق والواحد من الجميع يصدق عليها ذلك وتوقف الآمدي فإنه قال في آخر المسألة: وبالجملة فهي محتملة، ومأخذ الكرخي دقيق وقال ابن حبان في (صحيحه) في حديث: ((ليس فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة)).

وهذا بين أن المراد من قوله {خذ من أموالهم} مراد به بعض المال، إذ اسم المال يقع على ما دون الخمس من ذلك، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم إيجاب الصدقة عن ما دون الذي أخذ.

باب التخصيص

باب التخصيص التخصيص: قصر العام على بعض أفراده. (ش) لم يقل اللفظ العام ليتناول ما عمومه عرفي أو عقلي وكالمفهوم على ما سبق، فإنه يدخله التخصيص مع أنه ليس بلفظ، وإنما لم يقل بدليل، لأن القصر لا يكون إلا كذلك، وتناول ما أريد به جميع الأفراد أولا، ثم أخرج بعضها كما في الاستثناء وما لم يرد إلا بعض أفراده ابتداء، كما في غيره وعدل عن قول ابن الحاجب: على بعض مسمياته أي: أفراده، فإن مسمى العام واحد، وهو كل الأفراد، نعم من جملة الأفراد النادرة (وغير المقصود كما سبق أنهما يدخلان في العموم، فكان ينبغي تقييدها بالغالب، فإن القصد على الأفراد النادرة) ليس بتخصيص شرعي خلافا للحنفية كتأويلهم: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها

فنكاحها باطل بحمله على المكاتبة أو المملولكة لندرة، هذا وظهور قصد العموم فيه واعلم أنه قال هنا قصر ثم قال: في الاستثناء إخراج، فقد يتوهم أن القصر ينافي الإخراج، وليس كذلك، بل القصر أعم منه، فكل إخراج قصر ولا عكس، وإن الإخراج يستدعي سبق الدخول أو تقديره والقصر قد يكون كذلك وقد يكون مانعا للدخول البتة وحاصله أن الإخراج لعين العام مخصوص أما القصر غير الإخراج فمراد به الخصوص. (ص) والقابل له حكم ثبت لمتعدد. (ش) الذي يقبل التخصيص هو الحكم الثابت لمتعدد إما من جهة اللفظ كقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} أو المعنى كالمفهوم وتخصيص العلة عند من

جوزه فلا يجوز التخصيص في الأفعال لأنه لا يدخلها عموم والتخصيص فرع العموم، وكذلك النص، والواحد لا يجوز تخصيصه لأن التخصيص إخراج بعض من كل ولا يعقل ذلك في الواحد، واعترض القرافي بأن الواحد يندرج فيه الواحد بالشخص وهو يصح إخراج بعض أجزائه بصحة قولك: رأيت زيدا، وتريد بعضه وإن تعذر إخراج بعض الجزئيات فينبغي التفصيل واعلم أن قوله: لمتعدد، قد يتوهم منافاته لتعريف العام باستغراق الصالح له من غير حصر ولا تنافي بينهما فإن التعدد لا ينافي عدم الحصر، فإن كل غير منحصر متعدد نعم ليس كل متعدد غير منحصر فقد أورد على هذا شيئان: أحدهما: أسماء الأعداد، فإنها حكم ثبت لمتعدد مع أنها لا تقبل التخصيص فإن قلتم: تقبل التخصيص، لزم أن تكون عامة فبطل قولكم في حد العام من غير حصر. والثاني: الجمع المنكر فإنه يقتضي ثبت لمتعدد (103أ) ولا يقبل التخصيص لأنه ليس بعام، وأجاب المصنف عن الأول: أن مدلول أسماء الأعداد واحد لا متعدد فإن التعدد في المعدود لا في اسم العدد، وعن الثاني بأنا لا نسلم أنه لا يقبل التخصيص، وقولك: لعدم عمومه، قلنا: هو صالح للعموم بقرينة لفظية أو معنوية ولا يلزم من قابلية التخصيص وقوع التخصيص فيه حال تنكيره وتجرده عن قرائن العموم، كما أن الإنسان قابل للثبوت على الراحلة، ولا يلزم خروج المغصوب عن حد الإنسان

(ص) والحق جوازه إلى واحد إن لم يكن لفظ العام جمعا، وإلى أقل الجمع إن كان وقبل مطلقا وشذ المنع مطلقا، وقيل بالمنع، إلا أن يبقى غير محصور، وقيل إلا أن يبقى قريب من مدلوله. (ش) اختلف في ضابط القدر الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب: أحدها: التفصيل بين أن لا يكون لفظ العام جمعا، بل صالح للجمع والمفرد، مثل من، والألف واللام الداخلة على اسم الجنس المفرد، فيجوز التخصيص فيه إلى أقل المراتب الذي ينطلق عليها ذلك اللفظ المخصوص، وهو الواحد بل ادعى الشيخ أبو حامد أنه لا خلاف في هذا. وإن كان جمعا كالمسلمين، جاز التخصيص فيه حتى يبقى أقل الجمع إما ثلاثة أو اثنين على الخلاف فيه مراعاة لمدلول الصيغة وهذا التفصيل للقفال الشاشي. قال المصنف: وما أظنه يقول به، في كل تخصيص ولا يخالف في صحة استثناء الأكثر، أي: الواحد، بل الظاهر أن قوله مقصور على ما عدا الاستثناء من التخصيصات بدليل احتجاج بعض أصحابنا عليه بقول القائل، علي عشرة إلا تسعة، ويحتمل أن يعم الخلاف، إلا أن الظاهر خلافه قلت:

الاستثناء إن كان من جمع أو ما في معناه كالقوم، فهو يشترط بقاء اسم الجمع كما صرح به وإن كان من عدد، فليس الكلام فيه، إذ لا عموم. والثاني: يجوز في جميع ألفاظ العموم إلى الواحد، وهو قول الشيخ أبي إسحاق واستدل بقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} فإن المراد نعيم بن مسعود، الأشجعي.

والثالث: لا يجوز وروده إلا إلى أقل الجمع مطلقا حكاه ابن برهان. والرابع: أنه لا بد من بقاء جمع غير محصور، وصححه الإمام الرازي والبيضاوي. والخامس: لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام قبل التخصيص، وحكاه ابن الحاجب عن الأكثر، كذا جعل المصنف هذا المذهب غير الذي قبله، والظاهر أنه هو، وإنما اختلفت العبارة والمراد بقوله: يقرب من مدلول العام أن يكون غير محصور، فإن العام هو المستغرق له ويصلح له من غير حصر ولهذا قابله ابن

الحاجب بأقوال الحصر، حيث قال بعده: وقيل: يكفي ثلاثة، وقيل: اثنان، وقيل: واحد ووجهه أنه إذا بقي غير محصور كانت الصيغة باقية على عمومها في الباقي، ثم يتغير مدلول العام. (ص) والعام المخصوص مراد عمومه تناولا لا حكما، والمراد به الخصوص ليس مرادا بل كلي استعمل في جزئي ومن ثم كان مجازا قطعا. (ش) اعلم أن البحث عن التفرقة بين العام المخصوص، والعام الذي أريد به الخصوص من مهمات هذا العلم ولم يتعرض له الأصوليون، وقد كثر بحث المتأخرين فيه، ومنهم والد المصنف، وفرق بأن العام المخصوص هو أن يراد معناه في التناول لكل فرد، ولكن يخرج منه بعض أفراده، فلم يرد عمومه في الكل، حكما لقرينة التخصيص، والعام المراد به الخصوص هو أن (103ب) يطلق اللفظ العام ويراد به بعض ما يتناوله فلم يرد عمومه لا تناولا ولا حكما، بل كلي استعمل في جزئي، ولهذا كان مجازا قطعا، لما فيه من نقل اللفظ عن معناه إلى غيره واستعماله في غير موضوعه، وهذا إذا قلنا إن العام لا يدل على أفراده دلالة مطابقة فإن قلنا: يدل لم يتجه القول بأنه استعمل في غير موضوعه، بل هو كاستعمالنا المشترك في أحد معنييه، وهو استعمال حقيقي. وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: مما يجب أن يتنبه له الفرق بين قولنا: هذا عام أريد به الخصوص، وبين قولنا هذا عام مخصوص، فإن الثاني أعم من الأول، ألا ترى أن المتكلم إذا أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهره من العموم ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ كان عاما مخصوصا، ولم يكن عاما أريد به الخصوص، ويقال: إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج،

وهذا يتوجه إذا قصد العموم وفرق بينه وبين ألا يقصد الخصوص، بخلاف ما إذا نطق باللفظ العام مريدا به بعض ما يتناوله في هذا. (ص) والأول الأشبه حقيقة وفاقا للشيخ الإمام والفقهاء، وقال الرازي: إن كان الباقي غير منحصر وقوم إن خص بما لا يستقل وإمام الحرمين حقيقة ومجاز باعتبارين تناوله والاقتصار عليه والأكثر مجازا مطلقا، وقيل: إن استثنى منه وقيل إن خص بغير لفظ. (ش) قد سبق أن العام الذي أريد به الخصوص مجازا بلا خلاف، وأما المخصوص وهو المراد بالأول فقد اختلف هل يكون في الثاني حقيقة؟ على

مذاهب. أحدها: نعم، وقال الشيخ أبو حامد إنه مذهب الشافعي وأصحابه، ومن حجتهم أن الواضع وضعه للدلالة على الجميع، فلا تبطل دلالته على الباقي بخروج البعض بدليل وإذا دل وجوب كون دلالته حقيقة عملا بالوضع الأول فهو الأصل، فإنه بخروج البعض لم تبطل دلالته على البعض الخارج أيضا من حيث الصيغة، بل عمل بالدليل الخاص، وترك العمل بالعموم فيها. الثاني: وبه قال أبو بكر الرازي، حقيقة إن كان الباقي غير منحصر أي في كثرة لعسر العلم بعددها وإلا فمجاز. والثالث: وبه قال أبو الحسين وغيره، حقيقة، إن خص بما لا يستقل بنفسه من شرط أو صفة أو استثناء أو غاية، فإن خص بمستقل من سمع أو عقل فمجاز. والرابع: وبه قال إمام الحرمين حقيقة في تناول ما بقي مجاز في الاقتصار عليه. والخامس: أنه مجاز مطلقا، لأنه حقيقة في الاستغراق، فلو كان حقيقة

في البعض لزم الاشتراك والمجاز خير منه، ونقله الإمام الرازي وغيره عن الأكثرين، واختاره ابن الحاجب والبيضاوي. والسادس: مجاز إن استثنى منه حقيقة إن خص بشرط أو صفة. والسابع: مجاز إن خص بغير لفظ، حقيقة إن خص بدليل لفظي اتصل وانفصل. تنبيهان: الأول: هذه المذاهب حكاها ابن الحاجب في (المختصر) وعزا السادس منها إلى عبد الجبار، إلا أنه وقع فيها إبهام احترز عنه المصنف، فإن عبارة المختصر: عبد الجبار

إن خص باستثناء أو صفة وشرحوه على أنه إن خص بشرط أو صفة فهو حقيقة وإن خص باستثناء أو غيره فمجاز، فأما شرحهم أنه في الشرط والصفة حقيقة فصحيح، وأما أنه في الاستثناء وغيره مجاز، فصحيح بالنسبة إلى الاستثناء لا غير، فإن غيره من المتصلات الغاية، ولا يحفظ عن عبد الجبار فيهما (104أ) نقل إنما الذي يحفظ أنه في الشرط والصفة حقيقة في الاستثناء مجاز سكت عن الغاية كذا نقله عنه أبو الحسين في (المعتمد) فقال ما نصه: وقاضي القضاة قال: يكون مجازا إلا أن يكون مخصصه شرطا أو تقييدا بصفة وجعله مجازا بالاستثناء انتهى. فلهذا سلم المصنف من ذكر الغاية، فإنه اقتصر على أنه إذا استثنى منه فهو مجاز فأما إذا لم يستثن فلم يصرح فيه بشيء، وحكمه أنه في الصفة والشرط حقيقة وفي (الغاية) لا نحفظه منقولا. الثاني: أهمل المصنف مذهب القاضي المنقول في (المختصر)، قصدا لكونه لم يصح عنه، وأن الثابت عنه قولان أولهما كونه مجازا مطلقا والثاني: وهو الموجود في كلامه، أنه إن خص بما لا يستقل به من شرط أو صفة أو غاية، أو استثناء فهو حقيقة، أو بمستقل من سمع أو عقل فمجاز. (ص) والمخصص، قال الأكثر: حجة، وقيل: إن خص بمعين، وقيل: بمتصل وقيل: إن أنبأ عنه العموم وقيل: في أقل الجمع، وقيل: غير حجة مطلقا. (ش) العام بعد التخصيص هل يبقى حجة فيما لم يدخله التخصيص؟ فيه مذاهب:

أحدهما: أنه حجة مطلقا سواء خص بمعين، كما لو قال: اقتلوا المشركين (إلا زيدا، أو بمبهم كاقتلوا المشركين) إلا بعضهم لأن أكثر المعمومات مخصوصة، ولم تمنع الأئمة من الاحتجاج بها. والثاني: أنه حجة إن خص بمعين، وليس بحجة إن خص بمبهم لإجماله وهو طريقة المعظم، وكلام المصنف يقتضي أن الأكثر على أنه حجة وإن خص بمبهم، وهو فيه متابع لابن برهان في (الوجيز) فإنه قال: العام إذا دخله التخصيص لم يصر مجملا. وقال عيسى بن أبان: إن كان التخصيص بدليل مجهول صار مجملا، انتهى. وفيه رد على الآمدي وغيره ممن خص الخلاف بالمعين. وقال في (المبهم): إنه لا خلاف أنه ليس بحجة، وإذا ثبت أن الخلاف جار في العام المخصوص مطلقا،

مبهما أو معينا، جاء قول بالتفصيل بينهما كما أورده المصنف. والثالث: حجة إن خص بمتصل كالشرط والاستثناء وإلا فلا قاله الكرخي. والرابع: حجة إن أنبأ عنه العموم قبل التخصيص وإلا فلا، مثاله {فاقتلوا المشركين} فإنه ينبئ عن الحربي إنباءه عن الذمي، بخلاف {والسارق والسارقة فاقطعوا} فإنه لا ينبئ عن كون المال في نصاب السرقة هو الرابع ومخرجا من حرز، فإذا بطل العمل به في صورة انتفائهما لم يعمل به صورة وجودهما. والخامس: يجوز التمسك به في أقل الجمع، ولا يجوز فيما زاد عليه، قال الهندي: وهذا يشبه أن يكون قول من قال: لا يجوز التخصيص إلى أقل الجمع. والسادس: أنه غير حجة مطلقا، ونسب لعيسى بن أبان وأبي ثور ومرادهم أنه يصير مجملا وينزل منزلة ما إذا كان المخصوص مجهولا، فلا يستدل

به في بقية المبهمات إلا بدليل كذا قاله الشيخ أبو إسحاق وغيره. (ص) ويتمسك بالعام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البحث عن المخصص وكذا بعد الوفاة خلافا لابن سريج. (ش) أي: حيث أوجب التوقف فيه حتى ينظر في الأصول التي يعرف منها الأدلة، فإن ظفر بتخصيصه عمل به وإلا اعتقد عمومه وعمل بموجبه، والمذهب وجوب العمل به حتى يبلغه التخصيص، لأن الأصل عدم المخصص، ولأن احتمال الخصوص مرجوح، وظاهر خصوص صيغة العموم راجح، والعمل بالراجح واجب بالإجماع، وكما نقول في المنسوخ سواء. وقد هم عثمان رضي الله عنه،

برجم التي ولدت لستة أشهر وأمر عمر رضي الله عنه، برجم مجنونة عملا بالعمومات، حتى نهاهما علي رضي الله عنه، بالنص (104ب) الخاص واعلم أن اقتصار المصنف على ابن سريج تابع فيه (المحصول) و (المنهاج) وقد حكاه الشيخ أبو حامد الإسفرائيني والشيخ أبو إسحاق وغيرهما من عامة أصحابنا سوى الصيرفي وهذه الطريقة أصح من طريقة الآمدي وابن الحاجب، فإنهما حكيا الإجماع على امتناع التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص، ومنهم من جمع بينهما وجعلهما مسألتين: وجوب العمل وهو موضع المنع، واعتقاد العموم وهو موضع الخلاف، ويأبى هذا تعبير المصنف بالتمسك، ونبه على فائدة أخرى وهي

تخصيص الخلاف بما إذا ورد الخطاب العام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أما في عهده فتجب المبادرة إلى الفعل واجراؤه على عمومه بلا خلاف وبذلك خرج الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني في كتابه ولا يختص هذا الخلاف بالعموم، بل يجري في كل دليل مع معارضه كما قال ابن الحاجب. (ص) ثم يكفي في البحث الظن خلافا للقاضي. (ش) إذا أوجبنا البحث فقيل: يبحث إلى أن يغلب على الظن عدم المخصص ونقله الآمدي عن الأكثر، وابن سريج، وذهب القاضي وجماعة إلى أنه لا بد من القطع بعدمه قال: ويحصل ذلك بتكرير النظر والبحث واشتهار كلام العلماء فيه من غير أن يذكر أحد منهم مخصصا وحكى الغزالي قولا ثالثا: أنه لا يكفي الظن ولا يشترط القطع، بل لا بد من اعتقاد جازم وسكون النفس بانتفائه. (ص) المخصص قسمان: (ش) المخصص حقيقة، هو: إرادة المتكلم ويطلق على الدال على الإرادة مجازا، وهو المراد هنا. ثم هو إما منفصل أو متصل، لأنه إما أن يستقل بنفسه كالمنفصل أو لا، بل تعلق معناه باللفظ الذي قبله كالمتصل.

(ص) الأول المتصل وهو خمسة (أشياء الأول) الاستثناء وهو الإخراج بإلا أو إحدى أخواتها. (ش) نوع الجمهور المتصل أربعة أنواع، وزاد ابن الحاجب - وتبعه - المصنف خامسا: فالأول: الاستثناء وعرفه بما ذكره فقوله: إخراج جنس يندرج تحته كل المخصصات وقوله: (بإلا) أخرج منه ما عدا الاستثناء. وقوله: أو إحدى أخواتها أي: مثل: خلا وعدا وحاشا.

وخص إلا بالذكر لأنها أصل أدوات الاستثناء وإنما عبر بأو، للتنبيه على فساد تعبير المنهاج بالواو، كما قاله في شرحه، والعذر له جعلها بمعنى أو، لأن الاستثناء لا يكون بالمجموع بل بواحد منها، ولم يحتج إلى تقييد إلا بغير الصفة احترازا عن الصفة كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} كما فعل في المنهاج لأن السابق إلى ذهن السامع عند ذكر إلا، معنى الاستثناء فأغنى ذلك عن الاحتراز لا سيما مع تقدم ذكر الإخراج، كذا اعتذر الشيخ جمال الدين بن مالك في (شرح الكافية) عمن لم يقيد، وهو مصرح بأن إلا التي للصفة لا إخراج فيها، وسيأتي تحقيق معناه، وقوله: (بإلا أو إحدى أخواتها) فخرج ما لو قال: علي ألف استثنى مائة أو أحط، وفيه وجهان في (الحاوي) للماوردي: أحدهما: أنه استثناء صحيح، لأنه صرح بحكمه فأغنى عن لفظه. والثاني: لا يصح، لأنه واعد بالاستثناء إذ قال أستثني وأحط من بغير استثناء أو قال أحط. (ص) من متكلم واحد وقيل مطلقا. (ش) اعتبر بعض الأصوليين في الاتصال كونه من متكلم واحد، فيخرج ما

لو قال الله تعالى {فاقتلوا المشركين} فقال النبي صلى الله عليه وسلم على الاتصال: ((إلا الذميين)) فهو منفصل وقيل: منقطعا، ونزلوا استثناء النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الاستثناء المصرح به في كلام الله تعالى وجعلوه (105أ) متصلا، وكان ينبغي للمصنف تأخير هذا الخلاف عن ذكر الاتصال، وهو في ترجيح الأول متابع للهندي. وقال القاضي أبو بكر في (التقريب): إنه الصحيح لكن مأخذه في ذلك البناء على ما رآه أن من شرط الكلام صدوره من ناطق واحد حتى لو قال القائل مثلا: زيد، فقال آخر: قائم لم يكن كلاما، وقد زيف ابن مالك هذه المقالة وقال: بل هو كلام، لاشتماله على حد الكلام، وليس اتحاد الناطق معتبرا، كما لم يجب اتحاد الكاتب معتبرا في كون الخط خطا، وللقاضي أن يمنع اشتماله على حد الكلام. وقوله: (فإنه لو اصطلح رجلان إلى آخره) ليس مثله فإنه إذا كتب رجل (زيد) سمى هذا خطا، ولو لم يكتب معه غيره، بخلاف ما إذا قال: (زيد) فإنه ليس كلاما فافترقا، ثم ولو كتب مع زيد فاضل ونحوه من كاتب آخر يمتنع كون المجموع خطا، بل هما خطان بحسب الحقيقة، ثم قال: فإن قيل: لو كان كلاما لترتب عليه ما ترتب عليه من نطق الواحد من إقرار وتعديل وتجريح وقذف وغير ذلك وذلك منتف فبطل كونه كلاما يترتب عليه ما ترتب عليه من نطق الواحد وأجاب بأن انتفاء ترتيب الحكم على الكلام لا يمنع كونه كلاما، فإن بعض الكلام صريح وبعضه غير صريح فنطق المصطلحين، وإن كان كلاما فهو غير صحيح، لأن السامع لا يعلم ارتباط أحد جزئيه بالآخر، كما يعلم ذلك من نطق الواحد، فلذلك اختلفا في الحكم، وما ذكره من انتفاء ترتب الحكم عليه يوافقه ما في الرافعي لو

قال لي عليك مائة، فقال: لا درهما، لم يكن مقرا بما عدا المستثنى على الأصح. (ص) ويجب اتصاله عادة وعن ابن عباس إلى شهر، وقيل: سنة وقيل: أبدا، وعن سعيد بن جبير أربعة أشهر، وعطاء والحسين في المجلس ومجاهد سنتين، وقيل: ما لم يأخذ في كلام آخر، وقيل: بشرط أن ينوي في الكلام، وقيل يجوز في كلام الله فقط. (ش) يشترط في الاستثناء أن يكون متصلا بالمستثنى منه عادة وإلا لما استقر عتق ولا طلاق ولا حنث لجواز الاستثناء بعده ولأن المستثنى منه في حكم الجملة الواحدة واحترز بقوله: (عادة) عما إذا طال الكلام، فإن ذلك لا يمنع صحة الاستثناء كما قاله الإمام وكذلك قطع الكلام بالنفس والسعال، ونقل عن ابن عباس: أنه لا يشترط الاتصال. واختلف النقل عنه على ثلاث روايات، فقيل يجوز

تأخيره إلى شهر وقيل: سنة وقيل: أبدا، وعن سعيد بن جبير إلى أربعة أشهر وعن عطاء والحسن أنهما جوزا الاستثناء ما دام في المجلس، حكاه الشيخ أبو إسحاق وعن مجاهد سنتين وقيل: يجوز ما لم يأخذ في كلام

آخر وقيل: يشترط أن ينوي في الكلام وعلى هذا نزل القاضي مذهب ابن عباس فقال: لعل مراده - إن صح النقل - ما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام، ثم أظهر نيته بعده فإنه يدين. وقول المصنف في الكلام أعم من أن تكون النية قبل الفراغ أو من أو من اللفظ والأصح اشتراطه قبل الفراغ وإنما لم يذكر المصنف هذا لأنها مسألة فقهية لا تشتد حاجة الأصولي إليها وليست (قيل) هنا في كلامه للتمريض وإنما يكون إذا قوبل بمذهب مختار وقال قوم بصحة الاستثناء المنفصل في كتاب الله دون غيره وحمل بعضهم مذهب ابن عباس عليه وأنه جوز ذلك في استثناءات القرآن. سؤال: لو قال له: علي ألف إلا شيئا، رجع في تفسير الشيء إليه (105ب) وقد استشكل على اشتراط اتصال الاستثناء حيث قبل منه التفسير المنفصل عن اللفظ، والجواب: ليس أصل الاستثناء كالتفسير، لأن الاستثناء لفظ ظاهره الإسقاط، فإذا

اتصل جعل منعا لابتداء الوجوب، إذ الكلام بآخره، وإذا انفصل تمحص ابتداء إسقاط فكان مردودا. فأما اللفظ المجمل فيجوز إن تراخى تفسيره عن وقت وروده، كألفاظ الشريعة، قال الروياني: وعلى هذا قال أصحابنا: لو فسر المجمل تفسيرا غير مقبول فأراد أن يستأنف تفسيرا آخر مكن منه، ولو وصل بالأصل استثناء يرفع الجميع ثم أراد أن يستثني مرة أخرى لم يمكن. (ص) أما المنقطع فثالثها متواطئ والرابع مشترك والخامس الوقف. (ش) المراد بالمنقطع عندهم: ما كان من غير الجنس كقولك: ما بالدار أحد إلا الحمار، وقد اختلف فيه: هل هو استثناء حقيقة أو مجازا والأكثرون

على أنه مجاز فيه ولهذا لا يحمل العلماء الاستثناء على المنقطع إلا عند تعذر المتصل. والثاني: أنه حقيقة؛ لأنه استعمل والأصل في الإطلاق الحقيقة. والثالث: أنه متواطئ أي بقول بالاشتراك المعنوي على المتصل والمنقطع. والرابع: بالاشتراك اللفظي بكونه موضوعا لكل واحد منهما أولا إذا لا قدر مشترك بينهما فإن المتصل إخراج والمنفصل يختص بالمخالف من غير إخراج. الخامس: الوقف وهو من زوائده على المختصر، ولم يذكره في شرحه، ولا يخفى ما في التعداد من التداخل فإن أحدهما مجاز والآخر حقيقة واختلف القائلون به، هل هو حقيقة على سبيل التواطؤ أو على سبيل الاشتراك؟ واعلم أن المصنف لم يذكر حد المنقطع، وذكر ابن الحاجب على القول بالاشتراك والمجاز أنه لا يمكن جمع الاستثناء المتصل والمنقطع في حد واحد، لأن أحدهما مخرج من حيث المعنى والآخر غير مخرج وإذا اختلفا في الحقيقة بعد رجعهما بحد واحد، نعم يمكن حدهما بحد واحد باعتبار اللفظ وهو أن يقال: هو المذكور بعد إلا وأخواتها وفيما قاله نظر، فإن صحة تعريف المطلق لا يفتقر إلى ذكر جميع أنواعه في التعريف حتى يمنع اختلاف حقيقة نوعي المستثنى عن تعريف المستثنى من حيث هو. (ص) والأصح وفاقا لابن الحاجب: أن المراد بعشرة في قولك: عشرة إلا ثلاثة العشرة باعتبار الأفراد ثم أخرجت ثلاثة، ثم أسند إلى الباقي تقديرا وإن كان قبله ذكرا. وقال الأكثر: المراد سبعة، و (إلا) قرينة، وقال القاضي: عشر إلا ثلاثة، بإزاء اسمين مفرد ومركب.

(ش) اختلف في تقدير دلالة الاستثناء على مذاهب. أحدها، وبه قال ابن الحاجب: أن المستثنى منه يراد به أفراده ولكن لا بحكم الإسناد حتى يخرج منه ما يريد إخراجه بالأداة فإذا أخرج منه ما أراد فحينئذ بحكم الإسناد فإذا قال له علي عشرة إلا ثلاثة فالمراد بالعشرة عشرة باعتبار أفراده ولكن لا بحكم إسناد الخبر، وقوله إلى المبتدأ وهو عشرة إلا بعد إخراج الثلاثة منه، ففي اللفظ استند إلى عشرة، وفي المعنى استند إلى سبعة والإسناد بعد الإخراج فلم يسند إلا إلى سبعة، وعلى هذا فليس الاستثناء مبينا للمراد بالأول بل به يحصل الإخراج. والثاني: وعزي للأكثر، أن المراد بعشرة: سبعة، و (إلا) قرينة تبين أن الكل استعمل وأريد الجزء مجازا وعلى هذا فالاستثناء مبين لغرض المتكلم بالمستثنى منه، فإذا قال: علي عشرة كان (ظاهرا في الجميع، فإذا قال: إلا ثلاثة فقد بين أن مراده) بالعشرة سبعة فقط (106أ) كما في سائر التخصيصات.

والثالث: أن المستثنى والمستثنى منه جميعا وضعا لمعنى واحد، وهو ما يفهم من الكلام آخرا، حتى كأن العرب وضعت اسمين لمعنى السبعة، أحدهما مفرد وهو السبعة والثاني مركب وهو عشرة إلا ثلاثة. تنبيهان: الأول: أصل الخلاف في هذه المسألة إشكال معقولية الاستثناء لأنك إذا قلت: جاء القوم إلا زيدا، فلا يخلو إما أن يكون زيد دخل في القوم أم لا، فإن لم يكن دخل، فكيف صح إخراجه، وقد أجمع أهل العربية على أن الاستثناء إخراج وإن كان قد دخل فقد تناقض الكلام، لأنك أثبته أولا، ثم نفيته، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون الاستثناء في كلام إلا وهو كذب من أحد الطرفين وهو باطل لاشتمال القرآن عليه. ولهذه الشبهة فر القاضي إلى مذهبه السابق، وقال: لا إخراج فيه فعورض بإجماع أهل العربية على أن الاستثناء إخراج ما بعد ذكر (إلا) مما قبلها، وإجماعهم حجة في تفاصيل العربية، وصار ابن الحاجب إلى ما سبق، وقال: إنه يرفع الإشكالين. قال في (شرح المفصل): ولا يحكم بالنسبة إلى بعد كمال ذكر المفردات في كلام المتكلم فإذا قال المتكلم: قام القوم إلا زيدا، فهم القيام أولا بمفرده وفهم القوم بمفرده وإن فيهم زيدا، وفهم إخراج زيد منه، بقوله: إلا زيدا، ثم حكم بنسبة القيام إلى هذا الفرد الذي أخرج منه، وقد يحصل الجمع بين المسالك المقطوع بها على وجه يستقيم وهو أن الإخراج حاصل بالنسبة إلى المفردات وفيه توفية بإجماع النحويين، وتوفية إنك ما نسبت إلا بعد أن أخرجت زيدا، ولا يؤديى إلى المناقضة المذكورة، قلت: لكن فيه مخالفة لمذهب سيبويه وجمهور البصريين أن المستثنى لم يندرج في الاسم المستثنى منه ولا في حكمه، ومذهب الكسائي لا يندرج في المستثنى منه

وهو مسكوت عنه فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا فزيد يحتمل أنه قام وأنه لم يقم، وذهب الفراء إلى أن زيدا، لم يخرج من القوم، وإنما خرج وصفه من وصفهم، نبه على هذا الاستدراك إمام العصر القاضي محب الدين - برد الله مضجعه. الثاني: ينشأ من هذا الخلاف خلاف في عد الاستثناء من المخصصات فعلى قول القاضي ليس بتخصيص وعلى قول الأكثرين تخصيص، لأن اللفظ قد أطلقه البعض إرادة وإسنادا وأما على قول ابن الحاجب فمحتمل لكونه أريد الكل وأسند إلى البعض، كذا قاله ابن الحاجب، وينبغي القطع بأنه ليس بتخصيص لأن التخصيص شرطه الإرادة المتعارفة وهي منتفية إلا في قصد الاستثناء كما سبق، وتظهر فائدة الخلاف في كون الاستثناء مبينا، أم لا، ما لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، ووقع الاستثناء بعد موتها، فإن قلنا: ليس ببيان، طلقت ثلاثا وإلا فثنتان.

(ص) ولا يجوز المستغرق خلافا لشذوذ. (ش) أي سواء في العدد وغيره، فلو قال: عشرة إلا عشرة أو اقتلوا المشركين إلا المشركين، لم يصح لأن الاستثناء من أنواع التخصيص، وكما لا يجوز أن يرفع التخصيص جميع ما تقدم، كذلك الاستثناء وادعى جماعة منهم الآمدي وابن الحاجب الإجماع عليه وأشار المصنف بالشذوذ إلى ما حكاه القرافي في (المدخل) لابن طلحة في: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا - قولين في اللزوم، وقد رأيتهما

فيه فعدم اللزوم يقتضي تصحيح الاستثناء المستغرق ويقرب من ذلك ما نقله الشيخ أثير الدين عن الفراء: أنه يجوز أن يكون أكثر، ومثله بقوله: علي ألف إلا ألفين، قال إلا أنه (106ب) يكون منقطعا، وقريب منه ما حكاه المحاملي في التجريد، إذ قال: له علي ألف إلا ثوبا وفسر الثوب بما قيمته ألف فيه وجهان: (أصحهما بطلان التفسير والاستثناء والثاني: يبطل التفسير فقط فيطالب ببيان صحيح، وليس لنا وجه بصحة التفسير أيضا، فيكون مستغرقا كما يوهمه إيراد المصنف، وهذا إذا كانت الصيغة ألف درهم، كما عبر به في (الروضة) أما لو كان التعبير بألف منكر، كما نقله المصنف عن (التجريد) فإنه يطالب بتفسيرها كما قال الرافعي، فإن فسرها بالثياب كان من الجنس وإلا فلا) وينبغي تقييد محل الإجماع بما إذا اقتصر عليه، فلو عقبه باستثناء آخر، فالخلاف فيه ثابت عندنا فيما إذا قال: علي عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة، فقيل: يلزمه عشرة، فإن الاستثناء الأول لم يصح، وقيل: يلزمه ثلاثة، واستثناء الكل من الكل إنما لا يصح إذا اقتصر عليه، أما إذا عقبه باستثناء صحيح فيصح، وهذا هو الصحيح والثالث: يلزمه سبعة والاستثناء الأول لا يصح ويسقط من البين.

(ص) وقيل: لا الأكثر ولا المساوي: وقيل: إن كان العدد صريحا. (ش) ما ضعفه المصنف هو مذهب نحاة البصرة، قال صاحب (الارتشاف) ذهب البصريون إلى أنه لا يجوز استثناء الأكثر ولا المساوي وإنما يستثنى دون النصف وذهب أبو عبيدة إلى جواز استثناء الأكثر، وذهب قوم إلى جواز المساوي دون الأكثر. انتهى. وبالأول قال القاضي، وبالثاني قال كثير من الأصوليين، فلو قال: علي عشرة إلا تسعة لزمه درهم واحتجوا بأنه يجوز إخراج أكثر أفراد العموم بالتخصيص، فكذلك إخراج أكثر الجملة بالاستثناء، وبالثالث قالت الحنابلة ونقل الشيخ أبو إسحاق عنهم امتناع المساوي

أيضا كالقاضي وقال قوم: إن كان العدد صريحا لم يجز استثناء الأكثر، مثل: عشرة إلا تسعة، وإلا جاز مثل خذ هذه الدراهم إلا ما في الكيس الفلاني، وكان ما في الكيس أكثر من الباقي وقال بعض النحويين: الصحيح الامتناع في الأكثر، لأن المسألة لغوية، وقد أنكر أهل اللغة جواز ذلك، وإذا كان ليس في اللغة فلا يفيد وأما الآية التي احتجوا بها في قوله تعالى: {إلا عبادك منهم المخلصين} مع قوله: {إلا من اتبعك من الغاوين} فاستثناء كل واحد منهما من الآخر، وأيهما كان الأكثر حصل المقصود ففيها جوابان: أحدهما: أنه استثنى في إحدى الآيتين (المخلصين) من نبي آدم وهم الأقل وفي الأخرى استثنى (الغاوين) من جميع العباد وهم الأقل، فإن الملائكة من عباد الله تعالى قال تعالى: {بل عباد مكرمون} وهم غير غاوين. وثانيهما: أن قوله: {إلا من اتبعك من الغاوين} استثناء منقطع بمعنى لكن، بدليل أنه قال في الآية الأخرى: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} وحيث قلنا: يجوز الأكثر، فلا خلاف في استكراهه واستحسان

استثناء القليل وقال ابن فارس في (فقه العربية): الصحيح في العبارة أن يقال: يستثنى القليل من الكثير، ويستثنى الكثير مما هو أكثر منه، وقول من قال: يستثنى الكثير من القليل ليس بجيد، واحتج على جواز النصف بقوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا نصفه} فالضمير في (نصفه) عائد إلى الليل (ونصفه) بدل منه، فإما أن يكون من الليل بعد الاستثناء فيكون (إلا قليلا) نصفا، وأما من قليل فتبين به إنما أراد بالقليل نصف الليل. (ص) وقيل: لا يستثنى من العدد عقد صحيح، وقيل: لا مطلقا. (ش) الكلام في الاستثناء من العدد مبني على صحته، وللنحاة فيه مذاهب (107أ): أحدها: لا يجوز، لأنها نصوص وصححه ابن عصفور وأجاب عن نحو قوله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} بأن الألف لما كان

يستعمل للتكثير كقولك أقعد ألف سنة، تريد زمنا طويلا، قلت: ويحتمل أن الاستثناء إنما جاء فيها باعتبار النقص الذي في السنين، فتكون السنة أطلقت وأريد بها المعظم، فالاستثناء لم يرد على العدد، وإنما ورد على المعدود وهو السنين. والثاني: وهو المشهور، الجواز. والثالث: إن كان المستثنى عقدا من العقود لم يجز نحو عشرين إلا عشرة وإن لم تكن عقدا أجاز، نحو: مائة إلا ثلاثة وممن حكى هذه الثلاثة الشيخ أبو حيان في (شرح التسهيل)، ولبعض الأصوليين مذهب رابع: لا يجوز أن يستثنى الأكثر ولا يجوز استثناء عقد تام بالنسبة إلى المستثنى فلا يجوز له عشرة إلا واحدا، ويجوز إلا نصف واحد آخر من الواحد ولا يجوز له على مائة إلا عشرة، ويجوز إلا تسعة ولا يجوز على ألف إلا مائة ويجوز إلا تسعة وتسعين وهذه المذاهب كلها تنفع في الأقارير فأما الطلاق فمحصور في الثلاث وإنما يجيء الخلاف السابق في استثناء الأكثر أولا. تنبيه: ذكر المصنف في شرح المختصر أن القاضي حسين والمتولي وافقا ابن عصفور في المنع، حيث قالا: لو قال لنسوته الأربع: أربعتكن طوالق إلا ثلاثة، لا يصح، لأنه نص وليس كما قال فإنهما صرحا بجواز الاستثناء من العدد مع

تقديم الاستثناء كقوله: أربعتكن إلا ثلاثة طوالق، وإنما منعناه مع التأخير. وكذا حكاه عنهما الرافعي وليس مدركهما في ذلك ما توهمه المصنف، وإلا لمنعناه مطلقا ولجاء هنا قول بالتفصيل بين التقديم والتأخير ولا أثر لذلك، وإنما مدركهما أن الحكم في صورة التقديم وقع بعد الإخراج، فلا يلزمه التناقض بخلاف الصورة السابقة. (ص) والاستثناء من النفي إثبات وبالعكس خلافا لأبي حنيفة. (ش) الاستثناء من النفي إثبات عندنا، لأن الاستثناء ضد المستثني منه وهو مذهب نحاة البصرة، وقال أبو حنيفة ليس بإثبات بل هو مسكوت عنه فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا، فالقوم محكوم عليهم بالقيام، وزيد محكوم عليه بعدم القيام وعنده مسكوت عنه غير محكوم عليه بشيء واختاره الإمام في (المعالم) والحق مذهب الجمهور، لأن قولنا: لا إله إلا الله توحيد وإثبات للإله، فلو لم يكن

المستثنى من النفي مثبتا لم يكن لا إله إلا الله توحيدا، والحنفية يقولون: إنما استفيد الحكم بالتوحيد من القرائن، فإن ظاهر حال كل متلفظ بها أنه إنما يقصد بها التوحيد لا التعطيل وأما العكس وهو الاستثناء من الإثبات نفي نحو قام القوم إلا زيدا فهو نفي القيام عن زيد ونقل جماعة منهم الإمام في (المعالم): الاتفاق، وليس كذلك، بل الخلاف جار فيه كما قاله الهندي وغيره، ولهذا أجرى المصنف الخلاف في الحالين وقدم ما الخلاف فيه (محقق، وآخر ما الخلاف) مشكوك فيه ليبين أنه يخالف فيهما جميعا، وهذا من محاسنه فإنه لو عكس كالمنهاج والمختصر لتوهم أن قوله: خلافا لأبي حنيفة - مقصور على الثاني ومراده شمول الأمرين.

تنبيهان: الأول: حاصل مذهب الجمهور: أن الاستثناء دال على نقيض ما تقدم من النفي أو الإثبات من جهة دلالة العقل على أن النقيضين لا ثالث لهما، فلو كان لهما ثالث لم يكن أن يتعين النفي ولا الثبوت بل أمكن أن يقال الواقع هو القسم الثالث. الثاني: أن الخلاف يقوى في غير الاستثناء المفرغ، أما المفرغ (107ب) فيقوى أنه إثبات قطعا، فإذا قلت: ما قام إلا زيد، فليس معك شيء تثبت له القيام فيكون فاعلا به إلا زيد، فهو متعين ضرورة للإثبات بخلاف قولك: ما قام أحد إلا زيد ويحتمل أن يقال: كمل الكلام قبل الاستثناء وصار هذا فضلة فأمكن ألا يكون محكوما عليه بشيء لقول الحنفية. (ص) (والمتعددة إن تعاطفت فللأول وإلا فكل لما يليه ما لم يستغرقه) (ش) الاستثناءات المتعددة إما أن يكون بعضها معطوفا على بعض أو لا، فإن كان الأول عاد الكل إلى الأول المستثنى منه، نحو قوله: علي عشرة إلا أربعة وإلا ثلاثة وإلا اثنين، فإن الكل يرجع إلى الأول، فلا يلزم المقر إلا واحدا لأن الاستثناء يجب أن يتعقب المستثنى منه ولا يجوز فصلة عنه، فإذا عطف بعضه على بعض صار

كالجملة الواحدة، وإلا لم يصح أن يكون استثناء ووجهه بعض أصحابنا بأنه عطف على المنفى فيكون نفيا. وإن لم يكن بعضها معطوفا على بعض، فإما أن يكون استثناء الثاني مستغرقا للأول، أو لا، فإن كان مستغرقا إما بالتساوي نحو: له عشرة إلا ثلاثة إلا ثلاثة. وإما بالزيادة نحو عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة - فإنها لا تبطل، بل تعود جميعها إلى المستثنى منه حملا للكلام على الصحة كذا قاله في (المحصول) و (المنهاج) وهو في الزائد صحيح وفي المساوي معارض بأن الثاني يكون توكيدا لما قاله الرافعي في الإقرار وإن لم يكن الثاني مستغرقا عاد الثاني إلى الأول، نحو: عشرة إلا ثمانية إلا سبعة فيلزمه تسعة كذا قطعوا به، لكن ذكر الرافعي في الطلاق في كلامه على الاستثناء من النفي إثبات، لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة، أنه يقع ثنتان وقال الحناطي: يحتمل أن يعود الاستثناء الثاني إلى أول اللفظ. قال في (الروضة): والصواب الأول.

فائدتان: الأولى هذه المسألة مفرعة على جواز الاستثناء من الاستثناء وهو الصحيح كقوله تعالى: {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته}. قال الروياني: ومن أهل اللغة من ينكر ذلك. ويقول: العامل في الاستثناء الفعل الأول بتقوية حرف الاستثناء والعامل الواحد لا يعمل في معمولين، ويقول في الآية: إن الاستثناء الثاني من قوله (أجمعين) وغيره يجوز ذلك، وبقول العامل (إلا) الثانية لا يقال: سكت الأصوليون عن عكس هذه المسألة وهي أن يتعدد المستثنى منه، ويتحد المستثنى، لأنا نقول هي مسألة الاستثناء عقب الجمل وسنذكرها. (ص) والوارد بعد جمل متعاطفة للكل وقيل: إن سبق الكل لغرض وقيل: إن عطف بالواو، وقال أبو حنيفة والإمام: للأخيرة، وقيل: مشترك، وقيل بالوقف. (ش) الاستثناء الواقع عقب جمل، عطف بعضها على بعض كقوله

تعالى: {والذين يرمون المحصنات} الآية، اختلفوا فيه فعندنا يعود إلى الجميع ما لم يقم دليل على إرادة البعض، لأن الأصل اشتراك المتعاطفين في جميع المتعلقات كالحال والشرط، وتكون الجمل معطوفا بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة، هذا هو المشهور عند الشافعي وأصحابه.

وكان ابن الرفعة يتوقف في نسبة ذلك إليه، لأن ابن الصباغ نقل عن نص البويطي، إذا قال: أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا أربعا وقعت ثلاث قال ابن الصباغ: وهذا إنما هو، لأنه أوقع جملتين، واستثنى إحداهما بجملتها، فلم يقع لأن الاستثناء يرجع إلى الأخيرة من الجملتين. انتهى. وجوابه أن شرط العود للجميع إمكان (108هـ) عوده إلى كل واحدة منهما وهو منتف هنا فلهذا خص بالأخيرة. وذكر المصنف في (شرح المختصر) في الجواب عن مثل هذا السؤال تخصيص المسألة بغير العدد وليس كما قال. ثم القائلون بعوده إلى الجميع منهم من شرط فيه أن يساق الكلام لغرض واحد كأكرم بني تميم واخلع عليهم، فإن الغرض التعظيم فيهما، فإن اختلفا عاد إلى

الأخيرة وهي قول أبي الحسين. ومنهم من شرط كون العطف بالواو وهذا ما نقله الرافعي في كتاب الوقف عن إمام الحرمين بعد أن ذكر أن أصحابنا أطلقوا العطف، فقال: رأى الإمام تقييده بأمرين: أحدهما: أن يكون العطف بالواو الجامعة، فإن كان ثم، اختص بالأخيرة والثاني: ألا يتخلل بين الجملتين كلام طويل، وعليه جرى الآمدى وابن الحاجب والصواب أن (الفاء) و (ثم) و (حتى) كالواو، وقد صرح الغزالي في باب الوقف من (البسيط) بأن كل حرف يقتضي الترتيب كذلك، وصرح القاضي في (التقريب) بالفاء وغيرها، وذهب أبو حنيفة إلى عوده للأخيرة لأن الجملة الأولى قد استقرت من غير استثناء لأنه إذا تخلل بين المستثنى والمستثنى منه كلام استقر، ولم يجز أن يرجع إليه، واختاره الإمام في (المعالم) وقال

المرتضى: مشترك لأنه جاء لهما وعن القاضي والغزالي الوقف بمعنى عدم العلم بمدلوله في اللغة فلا يدرى ما حكمه. سؤال كان القاضي جلال الدين القزويني رحمه الله تعالى يقول: إن عود الاستثناء إلى الجميع يلزم منه توارد عوامل على معمول واحد. وجوابه أن من

يجعل العامل هو (إلا) - ومنهم ابن مالك - لا يرد عليه ذلك، ومن يجعل العامل غيرها، له أن يقول: إنه قد حذف من المتقدم لدلالة المتأخر ثم إن توارد العوامل على معمول واحد فيه خلاف، وقد ذكروا في باب النعت، إذا قلت: جاءني زيد وأتى عمرو العاقلان فابن مالك وجماعة يجوزون ذلك من غير قطع، وغيرهم يمنعه ويقدره مقطوعا على تقديره مبتدأ. (ص) والوارد بعد مفردات أولى بالكل. (ش) صور الأصوليون المسألة بالوارد بعد الجمل، والظاهر أنه جرى على الغالب، فإن الوارد بعد المفردات أولى بعوده إلى الكل لعدم استقلالها، ولهذا اقتضى كلام الجماعة، الاتفاق في المفردات، وجعل الرافعي قوله: عمرة وحفصة طالقتان إن شاء الله تعالى - من باب الاستثناء عقب الجمل. (ص) أما القران بين الجملتين لفظا فلا يقتضي التسوية في غير المذكور حكما، خلافا لأبي يوسف والمزني. (ش) القران بين الشيئين (في اللفظ في حكم) لا يقتضي التسوية بينهما في غيره من الأحكام ولهذا يعطف الواجب على المندوب، كقوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} وقال أبو يوسف من الحنفية والمزني منا:

يقتضي التسوية لأن العطف يقتضي الشركة، كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} يقتضي أن لا تجب الزكاة على الصبي كالصلاة للاشتراك في العطف وهو ضعيف، فإن الأصل ألا يشترك المعطوف والمعطوف عليه إلا في المذكور، فإن اشتركا في غيره فلدليل خارج لا أنه من نفس العاطف وقد أجمعوا على أنه لو كان عمومان وخص أحدهما لم يلزم منه تخصيص الآخر، وهنا أمور: أحدها: أن المصنف وغيره أطلقوا الخلاف في هذه المسألة والذي في كتب الحنفية التفصيل بين الجمل الناقصة فالقران فيها موجب القران في الحكم بخلاف الجمل التامة ومثلوا الأول بقوله تعالى (108ب) {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا}. لأن حكم الجملتين لما لم يختلف كانتا كالجملة الواحدة، والإشهاد في المفارقة غير واجب، فكذا في الرجعة، ومثلوا الثاني بقوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فإن كل واحدة من الجملتين مستقلة بنفسها لم يلحقها ما ينافي

استقلالها فلا يقتضي ثبوت الحكم في إحداهما ثبوته في الأخرى. الثاني: أن ما ذكره في تفسير القران مخالف لتفسير الجدليين، فإنهم قالوا: صورته أن يجمع بين شيئين في الأمر أو في النهي، ثم يبين حكم أحدهما، فيستدل بالقران على ثبوت ذلك الحكم للآخر، ومثلوه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل)). فقرن البول فيه بالاغتسال ثم البول فيه يفسده، فكذا الاغتسال وهذا غير مرضي عند المحققين لاحتمال أن يكون النهي عن الاغتسال فيه لمعنى غير المعنى الذي منع من البول فيه لأجله، ولعل المعنى في النهي عن الاغتسال فيه أنه لا يرفع جنابة كما هو مذهب المصري. الثالث: لا يخفى وجه مناسبة ذكر هذه المسألة هنا، وغيره ذكرها في باب الأدلة المختلف فيها، وهو السبب، وذكرها صاحب (البديع) في المفاهيم.

(ص) الثاني: الشرط وهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. (ش) أي سواء الشرط العقلي كالحياة مع العلم، والشرعي كالإحصان مع الرجم، والعادي كالسلم مع الصعود فإن هذه الشروط يلزم من عدمها العدم في

الشروط، ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم، فقد يوجد المشروط عند وجودها، كوجوب الزكاة عند الحول الذي هو شرط وقد يفارق الدين فيمنع الوجوب فإن قيل: هذا التعريف صادق على السبب المعين (قيل: السبب المعين) لا يلزم من انتفائه من حيث هو سبب انتفاء الممكن، بل هو مع ضميمة كونه معينا، وكونه معينا إشارة إلى عدم غيره. لا أي شيء في نفسه، وبهذه الزيادة يتضح الفرق بين الشرط والسبب المعين, واعلم أن هذا التعريف قال القرافي: إنه أجود الحدود، فالقيد الأول احتراز من المانع، فإنه لا يلزم من عدمه شيء، والثاني من السبب، فإنه يلزم من وجوده الوجود، والثالث من مقارنة الشرط وجود السبب، فيلزم الوجود كالحول مع النصاب، لا يستلزم المانع فيلزم العدم، ولكن ذلك ليس لذاته، بل لوجود السبب والمانع وكذلك احترز به من الشرط الآخر فإنه إذا جعل المشروط لا لذاته بل لضرورة كونه أخيرا مثاله الحياة شرط للعلم والعقل شرط للعلم والاشتغال شرط للعلم، فإذا اشتغل وحصل لم يحصل العلم إلا بالمجموع هذا اصطلاح الأصوليين قال ابن الرفعة: الشرط في اصطلاح الفقهاء ما يلزم من انتفائه انتفاء الشيء الذي جعل شرطا فيه مع أنه ليس بمقوم له فعدمه حينئذ علامة على النفي واحترزوا بقولهم: ليس بمقوم له عن الركن فإنه يلزم من نفيه النفي، لكنه مقوم له، بمعنى أنه داخل في مسماه، ولا يتصور ركن إلا للمركب والشرط يتصور للمركب والبسيط. (ص) وهو كالاستثناء اتصالا، وأولى بالعود إلى الكل على الأصح. (ش) يجب اتصال الشرط بالكلام بالاتفاق وكلام المصنف قد يوهم أنه

يجري فيه خلاف الاستثناء ولا يعرف ذلك وإذا ورد بعد جمل، نحو: أكرم ربيعة وأعط مضرا، إن نزلوا بك فعلى (109أ) الخلاف في أنه للكل أو للأخيرة أو الوقف وأولى بعوده إلى الكل ولهذا قال في (المحصول) إن أبا حنيفة وافقنا على عوده للكل وفرق بين الاستثناء والشرط، بأن الشرط له صدر الكلام، وهو مقدم تقديرا لكن نقل في (المحصول) في الكلام عن التخصيص بالشرط عن بعض الأدباء أن الشرط يختص بالجملة الأخيرة، فإن تقدم اختص بالأولى، وإن تأخر اختص بالثانية ثم قال: والمختار الوقف كما في الاستثناء قلت: ولا يبعد مجيء توقف القاضي هنا أيضا. (ص) ويجوز إخراج الأكثر به وفاقا. (ش) اتفقوا - كما قاله في (المحصول) - على أنه يجوز تقييد الكلام بشرط يكون الخارج به أكثر من الباقي ولا يأتي فيه الأقوال الثلاثة التي في الاستثناء فلو

قال: أكرم بني زيد إن كانوا علماء وكان الجهال أكثر، جاز وفاقا قال الصفي الهندي: وهذا يجب تنزيله على ما علم أنه كذلك، وأما ما يجهل الحال فيه، فإنه يجوز أن يقيد ولو بشرط لا يبقى من مدلولاته شيء، كقولك: أكرم من يدخل الدار إن أكرمك، وإن اتفق أن أحدا منهم لم يكرمه ولك أن تقول: سبق من المصنف حكاية الخلاف في نذر الباقي بعد التخصيص في كل مخصص فما وجه إعادته في الشرط؟ وكيف يحسن بعد الاتفاق على إخراج الأكثر؟ وهناك قول، أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام. والممكن في جوابه حمل إطلاقه هنا على ما إذا كان الباقي بعد الإخراج غير محصور ليوافق ما سبق، وإنما أعاده لينبه على أنه ليس كالاستثناء في مجيء الخلاف. (ص) الثالث: الصفة كالاستثناء في العود ولو تقدمت، أما المتوسطة فالمختار اختصاصها بما وليته. (ش) من المخصصات المتصلة: الصفة، نحو: أكرم بني تميم الطوال وهي

كالاستثناء في العود على متعدد، وهل يعود إلى الكل أو يختص بالأخيرة، كما قاله في المختصر وغيره ولو تقدمت أي: الصفة المتقدمة كالمتأخرة في عود الخلاف، والأصح عودها على الجميع، كما لو قال وقفت على محتاجي أولادي وأولادهم فتشترط الحاجة في أولاد الأولاد. قال الرافعي: وأطلق الأصحاب ذلك، ورأى الإمام تقييده بالقيدين السابقين في الاستثناء. أما المتوسطة مثل أولادي المحتاجين وأولادهم، فقال المصنف: لا نعلم فيها نقلا، ويظهر اختصاصها بما وليته ويدل له ما

نقله الرافعي في الأيمان عن ابن كج أنه لو قال: عبدي حر إن شاء الله وامرأتي طالق، نوى صرف الاستثناء إليهما، فمفهومه أنه إذا لم ينو لا يحمل الاستثناء عليهما، وإذا كان هذا في الشرط، الذي له صدر الكلام، وقال بعوده إلى الجميع بعض من لا يقول بعود الاستثناء والصفة، فلأن يكون في الصفة بطريق أولى. فائدة: قال الروياني: الفرق بين غير إذا كانت استثناء وبينها إذا كانت صفة أنها إذا كانت صفة لم توجب شيئا للاسم الذي بعدها ولم تنف عنه. (جاءني رجل غير زيد فوصفت بها ولم تنف عن زيد المجيء ويجوز أن يقع مجيئه وألا يقع، وإن كانت استثناء فإن كان ما قبلها إيجابا فما بعدها نفي، أو نفيا فإيجاب وإذا كانت صفة وصف بها الواحد والجمع وإذا كانت استثناء فلا يأتي إلا بعد جمع، أو ما هو في معنى الجمع، قال الشلوبين: إذا كانت صفة لم توجب شيئا لغير الاسم الذي بعدها ولم تنف عنه) وفيه نظر وفي كلام سيبويه ما يقتضي خلافه. (ص) الرابع: الغاية كالاستثناء في العود، والمراد غاية تقدمها عموم يشملها أو لم تأت مثل {حتى يعطوا الجزية} أما مثل {حتى مطلع الفجر} فلتحقيق

العموم وكذا قطعت أصابعه من الخنصر إلى البنصر. (ش) الغاية هي نهاية الشيء ومنقطعه، وحكم ما بعدها خلاف ما قبلها أي ليس داخلا فيه، بل محكوما عليه بنقيض حكمه، لأن ذلك الحكم لو كان ثابتا فيه أيضا، لم يكن الحكم منتهيا فلا تكون الغاية غاية، وهو محال (109ب) هذا مذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - والجمهور. وقيل: يدخل فيما قبله وقيل: يدخل إن كان من الجنس، وقيل: إن لم يكن معه (من) دخل وإن كان معه فلا وهى كالاستثناء في العود على المتعدد، كقوله: وقفت على أولادي وأولاد أولادي إلى أن يستغنوا.

والمصنف تابع ابن الحاجب في إلحاقها بالاستثناء في العود على المتعدد وليس المراد التخصيص فإنها كـ (هو) في الاتصال أيضا، وقد أطلق الأصوليون أن الغاية من جملة المخصصات. قال الشيخ الإمام السبكي: وهذا إنما (هو) في إذا تقدمها عموم يشملها، لو لم يأت بها، كقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية} فلولا هذه الغاية لقاتلناهم أعطوا الجزية أم لم يعطوها أما مثل قوله {حتى مطلق الفجر} فإن الغاية فيها لتأكيد العموم لا للتخصيص، فإن طلوعه وزمن طلوعه ليسا من الليل حتى يشملها قوله: {سلام هي} قلت: كذا مثل به وفيه نظر، لأن الليلة ليست بعامة إلا أن يريد مثل هذا إذا وردت في صيغة عموم، ولا فرق بين تخصيص العام وتقييد المطلق، ثم قال: فإطلاقهم الخلاف في انتهاء الغاية، هل يدخل؟ لا بد أن يستثنى منه شيئان: أحدهما: الغاية التي لو سكت عنها لم يدل عليها اللفظ، كطلوع الفجر في قوله: {حتى مطلع الفجر} وكقوله: {حتى يطهرن} فإن حالة الطهر لا يشملها اسم الحيض. ثانيهما: ما يكون اللفظ الأول شاملا لهما، كقولك: قطعت أصابعه كلها من الخنصر إلى الإبهام فإنه لو اقتصر على قوله: قطعت أصابعه كلها، لأفاد الاستغراق فكان قوله: من الخنصر إلى الإبهام - توكيدا، وكذا قرأت من القرآن من فاتحة الكتاب

إلى خاتمته وهي في الحقيقة راجع إلى الأول وأن القصد بها تحقيق العموم واستغراقه لا تخصيصه وإن افترقا في أن الذي حصل غاية في الثاني طرف المغيا، وفي الأول ما بعده ففي هذين الموضعين الغاية لا خلاف فيها بل هي في الأول خارجة قطعا، وفي الثانية داخلة قطعا. فائدة: لو قال: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار، لم تدخل الجدران في البيع، ولو قال: له علي من درهم إلى عشرة لم يدخل العاشر على الأصح والفرق مشكل. (ص) الخامس: بدل البعض من الكل، ولم يذكره الأكثرون، وصوبهم الشيخ الإمام. (ش) مثاله: أكرم الناس العلماء، وهذا زاده ابن الحاجب ولم يذكره الجمهور وقد أنكره عليه الأصفهاني شارح المحصول، والصفي الهندي في الرسالة السيفية، وكذا الشيخ الإمام، لأن المبدل منه في نية الطرح فلم يتحقق.

فيه معنى الإخراج والتخصيص لا بد فيه من الإخراج على ما تقدم تعريفه، ألا ترى أن قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} تقديره: لله حج البيت على من استطاع إليه سبيلا وأيضا لو لم يكن البدل مستغنى به في التقدير، لم يكن لتسميته بدلا معنى، لأن حق البدل ألا يجتمع مع المبدل منه فإذا اجتمعا فلا أقل من تقدير عدم اجتماعهما وفاء بمقتضى التسوية، وأيضا فلأن كلامنا في العام المخصوص لا في المراد به الخصوص. (ص) القسم الثاني: المنفصل، يجوز التخصيص بالحس والعقل خلافا لشذوذ ومنع الشافعي تسميته تخصيصا وهو لفظي. (ش) المنفصل: هو ما استقل بنفسه ولم يحتج في ثبوته إلى ذكر لفظ العام معه (110أ) بخلاف المتصل وهو ثلاثة: الحس، والعقل والدليل السمعي

فمثال التخصيص بالحس - والمراد به الواقع بالمشاهدة - قوله تعالى {وأوتيت من كل شيء} وإنما كان هذا تخصيصا بالحس، لأنها لم تؤت السماوات والأرض ولا ملك سليمان، ومثال التخصيص بدليل العقل ضروريا كان أو نظريا، فالأول كقوله تعالى: {خالق كل شيء} وإنما كان هذا تخصيصا بالعقل، لقيام الدليل الدال على خروج الذات والصفات العلية، والثاني كتخصيص {ولله على الناس حج البيت من استطاع} لغير الطفل والمجنون، لعدم فهمهما الخطاب وخالف بعض الناشئة - كما قال إمام الحرمين - في التخصيص بالعقل وهذا هو ظاهر

كلام الشافعي رضي الله عنه، في (الرسالة) وحكاه جمع من أصحابنا خلافا محققا ورده المصنف إلى الخلاف في التسمية واختاره القرافي قال: لأن خروج هذه الأمور من هذا العموم لا ينازع فيه مسلم غير أنه لا يسمى بالتخصيص إلا ما كان باللفظ أما بقاء العموم على عمومه فلا يقوله أحد ويشهد له قول الأستاذ أبي منصور: أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم، واختلفوا في تسميته تخصيصا وذهب جماعة إلى أن الخلاف معنوي، لأن العام المخصوص بدليل العقل - على قول من يجوز تخصيصه به ويجري فيه الخلاف السابق في أنه حقيقة فيه أو مجاز وعلى قول من لا يجوز تخصيصه به - فلا، بل هو عندهم حقيقة بلا خلاف كذا قاله الصفي الهندي: قلت: أو يكون عنده من باب العام المراد به الخصوص، لا من باب

العام المخصوص فيجيء فيه الكلام السابق في كونه حقيقة أو مجازا وجعل أبو الخطاب - من الحنابلة - مأخذ الخلاف التحسين والتقبيح العقلي فإن صح ذلك كانت هذه فائدة ثانية. وقوله: (خلافا لشذوذ) هو عائد إلى ما يليه، وهو: العقل فإن التخصيص بالحس لا نعلم فيه خلافا، نعم ينبغي أن يطرقه خلاف من المنكرين لإسناد العلم إلى الحواس، لأنها عرضة الآفات والتخيلات واعلم أن الإمام في أول (البرهان) حكى خلافا في تقديم العقل على الحس فقال: ومما خاضوا فيه تقديم ما يدرك بالحواس على ما يدرك بالعقل، وهو اختيار شيخنا أبي الحسن، وقدم القلانسي من أصحابنا: المعقولات بالأدلة النظرية على المحسوسات من حيث إن العقل مرجع المقولات ومحلها ومرجع المحسوسات إلى الحواس وهي عرضة الآفات. انتهى. وينبغي جريان مثل هذا الخلاف هنا، إذا تعارض اللفظ بين أن يكون مخصوصا بالعقل أو بالحس، أيهما يخصص به ولم يتعرضوا لذلك. (ص) والأصح جواز تخصيص الكتاب به، والسنة بها وبالكتاب والكتاب بالمتواتر. (ش) فيها أربع صور: أحدها: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب خلافا لبعض الظاهرية لنا:

وقوعه قال الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وهذا عام في أولات الأحمال وغيرهن وقد خص {أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة بها خلافا لداود وطائفة حيث

قالوا: يتعارضان لا ينبي أحدهما على الآخر، حكاه الشيخ أبو حامد، وقال القرافي: وتصوير هذه المسألة في السنتين المتواترتين (110ب) في زمننا عسير لفقد المتواتر، حتى قال بعض الفقهاء: ليس في السنة متواتر، إلا حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) قلت: إنما تواتر من أحد الطرفين، ولو مثل بحديث: ((من كذب علي متعمدا)). لكان أقرب، قال: وإنما تصور هذه المسألة في عصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فإن الأحاديث كانت في زمنهم متواترة لقرب العهد بالمروي عنه، وشدة القيام بالرواية وشمل إطلاق المصنف تخصيص الآحاد منها بمثلها، ودليله الوقوع ما في حديث: ((لا زكاة فيما دون خمسة

أوسق)). فتخصص بقوله: ((فيما سقت السماء العشر)). الثالثة: يجوز تخصيص السنة متواترة كانت أو آحادا بالكتاب، خلافا لبعض أصحابنا، واختاره القفال الشاشي في كتابه فقال: متى وردت السنة عامة،

وفي الكتاب ما يخرج بعض ذلك عن حكم السنة، وعلم أنه لا نسخ فيهما - فالسنة مرتبة على الكتاب وتكون الآية مبينة للسنة، على معنى أن الكتاب لما ورد بما ورد به منه وكانت السنة غير منسوخة تبين بذلك أن السنة إنما أطلق القول فيها مطابقا لما في الآية ومرتبا عليها، انتهى. وحاصله أنه يجعل السنة عاما أريد به الخصوص، لا عاما مخصوصا، ولا يرجع الخلاف إلى اللفظ. الرابعة: يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة قال الآمدي: لا أعلم فيه خلافا وصرح الهندي فيه بالإجماع ومنهم من حكى خلافا في السنة الفعلية.

(ص) وكذا بخبر الواحد عند الجمهور، وثالثها: إن خص بقاطع وعندي عكسه، وقال الكرخي: بمنفصل، وتوقف القاضي. (ش) فيه صورتان: إحداهما: يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد إذ لا بد من إعمال الخاص، وإلا لزم إبطاله مطلقا، وحكاه ابن الحاجب عن الأئمة الأربعة لكن الحنفية ينكرونه. الثاني: المنع مطلقا، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين. الثالث: قاله عيسى بن أبان: إنه لا يجوز في العام الذي لم يخصص، ويجوز

فيما خصص لأن دلالته تضعف، وشرط أن يكون الذي خص به دليلا قطعيا. الرابع: عكسه، يعني إن خص بقاطع لم يتطرق إليه التخصيص بالآحاد، وإلا فجائز أن يقدم على تخصيصه بالآحاد، وهذا الاحتمال من تفقه المصنف ولم يقل به أحد، ووجهه فيما لم يخص بقاطع أنه يخص بالآحاد لأن غالب العمومات مخصصة، حتى قيل: ما من عام يقبل التخصيص إلا وقد خص، وقيل: لا يعمل بالعام حتى يبحث عن الخاص فيما لم يظهر تخصيص العام يكتفى بالعموم لاعتضادها بالغالب والظاهر أن العام مخصوص فيقدم على تخصيصه) (بها وهذا الخلاف فيما إذا كان العام قد خص بقاطع فإن لم يبق غالب ولا ظاهر فكيف يقدم على تخصيصه) ثانيا بالظن؟ وبهذا فارق العام النسخ، فإن الخاص غالب على العام وليس النسخ غالبا على الأحكام، بل الغالب غير منسوخ. والخامس: إن خص قبله بدليل منفصل جاز، وإن لم يخص أو كان بمتصل لم يجز، قاله الكرخي، وشبهته أن تخصيصه بمنفصل يصيره مجازا كما هو رأيه وإذا كان مجازا ضعف فيسلط عليه التخصيص. والسادس: الوقف، قيل: بمعنى لا أدري، وقيل: بمعنى أنه يقع التعارض في ذلك القدر الذي دل العموم على إثباته والخصوص على نفيه، فتوقف عن العمل وهذا ظاهر كلام القاضي في (التقريب). تنبيه: هذا الخلاف موضعه في خبر الواحد الذي لم يجمعوا على العمل به، فإن أجمعوا عليه كقوله (111أ) (لا ميراث لقاتل).

و (لا وصية لوارث) ونهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها فيجوز تخصيص العموم به بلا خلاف، لأن هذه الأخبار بمنزلة المتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها وإن لم ينعقد على روايتها، نبه عليه ابن السمعاني. (ص) وبالقياس خلافا للإمام: مطلقا، والجبائي: إن كان خفيا (ولابن أبان: إن لم يخص مطلقا) ولقوم: إن لم يكن أصله مخصصا من العموم، وللكرخي: إن لم يخص بمنفصل، وتوقف أما الحرمين.

(ش) الثانية: في جواز تخصيص العموم من الكتاب والسنة بالقياس أي بقياس نص خاص كما قاله الغزالي فيه مذاهب: أحدها: الجواز مطلقا وبه قالت الأئمة الأربعة وغيرهم. والثاني: المنع مطلقا، واختاره الإمام في المعالم لكنه في المحصول اختار الجواز واستدل لترجيحه فيكون له في المسألة رأيان فلا يصح الجزم عنه بأحدهما إلا إذا علم المتأخر.

والثالث: يجوز تخصيصها بالقياس الجلي دون الخفي، وهو رأي ابن سريج. قال القفال: ولا معنى له إذا حقق، لأن العمل بها يلزمه، فمن جوز التخصيص بأحدهما جوز التخصيص بالآخر، ونقله المصنف عن الجبائي والمعروف عن الجبائي المنع وتقدم العام على القياس مطلقا. والرابع: أنه إن كان ذلك الأصل المقيس عليه مخرجا من ذلك العموم بنص جاز وإلا فلا. والخامس: إن تطرق إليهما التخصيص جاز وإلا فلا قاله الكرخي. والسادس: الوقف في القدر الذي تعارضا فيه والرجوع إلى دليل آخر سواهما وهو قول القاضي، وإمام الحرمين في كتبه الأصولية، لكنه في مسألة بيع اللحم بالحيوان من (النهاية) قال: يخص الظاهر بالقياس الجلي إذا كان التأويل لا ينبو عن النص، بشرط أن يكون القياس صدر من غير الأصل الذي ورد فيه الظاهر فإن لم يتجه قياس من غير مورد الظاهر لم تجز إزالة الظاهر- يعني مستنبط منه يتضمن تخصيصه وقصره على بعض المسميات. وفي المسألة مذهب سابع: وهو أن يرجح أحدهما بغلبة الظن بحسب القوة

والضعف فتارة يكون العموم أرجح، لظهور قصد العموم فيه، ويكون القياس المعارض قياس سنة مثلا، فمثل هذا لا يشكك في تقديم العموم عليه، وتارة يكون بالعكس فإن تعارضا، فالوقف وهذا هو اختيار الغزالي وغيره من المحققين، وقال ابن دقيق العيد: إنه مذهب جيد. تنبيه: هذا الخلاف فيما إذا كان العام من الكتاب والسنة متواترا فإن كان خبر واحد جرى الخلاف في الترتيب وأولى بالجواز من ذلك، ومن ذلك تخرج طريقة قاطعة هنا بالجواز، وكلام القرافي يشير إلى تصوير القياس بما إذا كان أصله ثابتا بالتواتر فإن كان ثابتا بأخبار الآحاد كان المنع من التخصيص به أقوى، لضعف أصله. (ص) وبالفحوى. (ش) أي بمفهوم الموافقة ومقتضى كلام المصنف وغيره الاتفاق فيه وبه

صرح في (شرح المختصر) وهو ظاهر إذا قلنا: دلالته لفظية، فإن جعلناها قياسية فيتجه أن يكون على الخلاف في المسألة قبلها، وأولى هنا بالتخصيص لما قيل فيه، إنه من قبيل اللفظ، والظاهر أنه يجوز قطعا، وإن قلنا: دلالته معنوية، لأنه أقوى دلالة من المنطوق على ثبوت الحكم، إذ الحكم فيه أولى بالثبوت، ونفيه مع ثبوت حكم المنطوق يعود نقصا على الفرض في الأكثر، بخلاف نفي الحكم عن بعض المنطوق وإثباته في البعض. تنبيه يستفاد من عطف المصنف (111ب) هذه المسألة على ما سبق أن الفحوى ليست من باب القياس لكنه في باب المفهوم، نقل عن الشافعي رضي الله عنه، أنها قياسية، وقيل: لفظية وقيل: كونها قياسا مجيء الخلاف في التخصيص بالقياس. (ص) وكذا دليل الخطاب في الأرجح (ش): أي مفهوم المخالفة ووجه التخصيص به أن دلالته خاصة، فلو قدم العموم عليه عمل بالعموم فيما عدا المفهوم، والعمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما، مثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه))

رواه ابن ماجه بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا)). وكما في المتعة فإن مفهوم قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن} يقتضي أنه لا متعة للممسوسة وقوله تعالى: {وللمطلقات متاع} يقتضي إيجاب المتعة للممسوسة وللشافعي رضي الله عنه، في إيجاب المتعة لها قولان، وهو يؤيد كلام ابن السمعاني في (القواطع) فإنه يقتضي أن الخلاف قولان للشافعي رضي الله عنه، قال: وأظهرهما الجواز، واختار غيره المنع لأنه أضعف دلالة من المنطوق لا محالة، فكان التخصيص به تقديما للأضعف على الأقوى، وهو غير جائز، والخلاف إذا قلنا: إنه حجة، فإن قلنا: ليس بحجة، امتنع قطعا. (ص) وبفعله عليه السلام. (ش) إذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظ عام في تحريم، ثم فعل بعضه - كان ذلك تخصيصا للفظ العام، إلا أن اختصاصه بما فعل خلافا للكرخي قال ابن

السمعاني: ولذلك لم يخص النهي عن استقبال القبلة وباستدباره في التخلي باستدبراه صلى الله عليه وسلم بالمدينة الكعبة، وقد خصت الصحابة قوله عليه الصلاة والسلام في الجمع بين الجلد والرجم، بفعله في رجم ماعز والغامدية من غير جلد، هكذا

ذكر الأصحاب وعندي أن هذا بالنسخ أشبه. وقال بعضهم: صورة المسألة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داخلا تحت ذلك العموم كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة بعد العصر)) ثم صح عنه الصلاة بعده، فتبين بهذا الفعل أنه مخصص من ذلك العموم، فأما إذا لم يتناول خطابه إلا أمته فقط مثل: ((لا تواصلوا)) ثم وجدناه يواصل فلا يكون ذلك تخصيصا له بل خصوصا به إذا لم يتناوله ذلك العموم إلا أن يقوم دليل بمساواته لأمته في ذلك الحكم. (ص) وتقريره في الأصح.

(ش) تقريره صلى الله عليه وسلم واحدا من أمته على خلاف مقتضى العموم - تخصيص لذلك العموم في حق ذلك الواحد، وأما في حق غيره فإن تبين في ذلك الواحد معنى حمل عليه كل من شاركه في تلك العلة، وإن لم يتبين، فالمختار عند ابن الحاجب أنه لا يتعدى إلى غيره، وخالفه المصنف في شرحه واختار التعميم وإن لم يظهر المعنى، ما لم يظهر ما يقتضي التخصيص ثم إن استوعبت الأفراد كلها فهو نسخ وإلا فتخصيص. تنبيه: لم يذكر المصنف التخصيص بالإجماع مع أنه مذكور في (المختصر) و (المنهاج) لأن التخصيص في الحقيقة بدليل الإجماع لا بنفس الإجماع وكان في أصل المصنف هنا: والأصح: أن مخالفة الأمة تتضمن ناسخا، ثم ضرب عليه، وألحقه بباب النسخ، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى. وكان قياسه هنا أن يقول: إن عمل الأمة في بعض أفراد العام بما يخالفه (112أ) يتضمن تخصيصا.

(ص) وإن عطف العام على الخاص ورجوع الضمير إلى البعض ومذهب الراوي ولو صحابيا وذكر بعض أفراد العام، لا يخصص. (ش) فيه صور: أحدها: عطف العام على الخاص لا يوجب تخصيص العام كقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} فكان هذا للمطلقات ثم قال: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}. وهو عام في المطلقات، والمتوفى عنهن فلا يكون هذا العطف تخصيصا للعام كما لا يكون عطف الخاص على العام يوجب تخصيص العام، واعلم: أن هذه المسألة قل من ذكرها وقد وجدتها في كتاب أبي بكر القفال الشاشي في الأصول ومثلها بآية الطلاق الكريمة، أما عطف الخاص على العام، فلا يوجب تخصيص العام عندنا خلافا للحنفية، وقد سبقت في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهد)) ويمكن أن يجري هذا الخلاف في مسألة الكتاب، لأن المأخذ اشتراك المتعاطفين في الأحكام. الثانية: إذا ذكر عاما ثم عقبه بضمير يختص ببعض ما تناوله - لم يوجب ذلك تخصيص العام.

خلافا لإمام الحرمين كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ثم قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} فإن ذلك يختص بالرجعيات فلا يوجب تخصيص التربص بهن بل يعم البائن والرجعية. الثالث: مذهب الراوي سواء الصحابي وغيره لا يخصص العموم الذي رواه خلافا للحنفية.

والحنابلة وقال بعضهم: يخص مطلقا وإن كان غير صحابي، لأن المجتهد المتبحر في الأدلة يجوز أن يطلع على حديث. يدل على قرائن تدله على تخصيص ذلك العام، كما في الصحابي وبعضهم: إن كان الراوي صحابيا. ولنا أن العموم حجة ومذهب الصحابي ليس بحجة فلا يجوز تخصيصه به, وإذا ثبت هذا في الصحابي فغيره أولى للاتفاق على أن قوله ليس بحجة والتخصيص بغير دليل لا يجوز، واعلم: أن ما صور به المصنف المسألة هو الصحيح، وبه صرح إمام الحرمين، لكن شرط كون الراوي من الأئمة ولم يذكر المصنف هذا القيد استغناء بقوله: (مذهب) وجعل الآمدي وابن الحاجب موضوعها في الصحابي يعمل بخلاف العام سواء كان هو الراوي للعام أم لا، لا في راوي الخبر مطلقا، وقصره

القرافي على مخالفة الصحابي إذا كان راويا للعام، والأول أولى، فإن القائلين بأن مذهب الصحابي حجة، يخصون العموم به على خلاف فيه، وإن لم يكن راويا، ولهذا جعلها سليم الرازي في (التقريب) مسألتين: إحداهما: التخصيص بقول الصحابي وخص الخلاف فيه بما إذا لم يعلم انتشاره وإن انتشر وانقرض العصر كان التخصيص به لأنه إما إجماع أو حجة. الثانية: أنه يروي الصحابي خبراً عاما ثم يصرفه إلى الخصوص، فلا يحمل عليه على القول المزيد خلافا لأبي حنيفة، ومثل الماوردي المسألة بحديث (الولوغ) فإن أبا هريرة روى السبع، وأفتى بالثلاث، وبحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) فإن ابن عباس رواه، وأفتى بأن المرتدة لا تقتل وهذا الثاني أحسن، لأن الأول ليس من باب العموم، فإن قيل: قد خص الشافعي تحريم الاحتكار بالأقوات، لأن حديث: (من احتكر فهو خاطئ) رواه سعيد بن المسيب وكان يحتكر الزيت فقيل له: فقال: إن معمرا

راوي الحديث كان يحتكر. رواه مسلم قلنا: من هنا خرج بعضهم (112ب) قولا للشافعي رضي الله عنه، أن مذهب الراوى يخصص العموم، لكن المعروف عنه: المنع، وكأنه استنبط من النص معنى يخصصه، ورأى العلة الاضرار، فخصه بالأقوات وعضد ذلك بمذهب الصحابي. الرابعة: إذا حكم على العام بحكم، ثم أفرد منه فردا وحكم عليه، بذلك الحكم بعينه، فلا يكون ذلك تخصيصا للعام أي حكما على باقي أفراده بنقيض ذلك مثال قوله: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) مع قوله صلى الله عليه وسلم

في شاة ميمونة: ((هلا أخذتم إهابها فدبغتموه)). وقال أبو ثور: التعبير بذلك الفرد يدل بمفهومه على التخصيص وهذا ضعيف لأنه مفهوم لقب، و (الشاة) لقب وقد ينازع في هذا لأن الشاة لم تقع في لفظ الشارع وليس هذا من أبي ثور قولا بمفهوم اللقب كما توهم بعضهم، لأنه لا يعرف عنه القول به ولكنه يجعل ورود الخاص بعد تقدم العام قرينة في أن المراد بذلك العام هذا الخاص، ويجعل العام كالمطلق والخاص كالمقيد، وحينئذ فهو عنده من باب العام الذي أريد به الخصوص، لا من باب العام المخصوص فتفطن لذلك، ثم لا يخفى أن صورة المسألة إذا كان الخاص موافقا لحكم العام، فإن كان له مفهوم يخالفه كالصفة فهي مسألة تخصيص العموم بالمفهوم وقد سبقت (ص) وإن العادة بترك بعض المأمور تخصص إن أقرها النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع وأن العام لا يقصر على المعتاد ولا على ما وراءه بل تطرح له العادة السابقة.

(ش) التخصيص بالعادة مما اختلف فيه نقل الإمام الرازي والآمدي وأتباعهما فذكر الإمام أن العادة تخصص، وعكس الآمدي وابن الحاجب فمن الناس من أجراه على ظاهره، ومنهم من حاول الجمع بينهما ظانا تواردهما على محل واحد والصواب أن للمسألة صورتين: إحداهما: وهي التي تكلم فيها صاحب (المحصول) وأتباعه، أن يوجب النبي صلى الله عليه وسلم أو يحرم شيئا بلفظ عام، ثم يرى من بعد العادة جارية بترك بعضها أو بفعله، فالمختار كما قال في (المحصول): إنه إن علم جريان العادة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع عدم منعه منها فتخصيص والمخصوص في الحقيقة تقريره وإن علم عدم جريانها لم يخص إلا أن يجمع عليه فيصح ويكون المخصص هو الإجماع لا العادة، وإن جهل فاحتمالان. الثانية: وهي التي تكلم فيها الآمدي وابن الحاجب، أن تكون العادة جارية على ورود العام بفعل معين كأكل طعام معين مثلا، ثم إنه - عليه السلام - ينهاهم عنه بلفظ يتناوله، كما لو قال: حرمت الربا في الطعام فهل يكون النهي مقتصرا على ذلك الطعام فقط أو يجري على عمومه ولا تأثير للعادة فيه؟ والحق الثاني وعندهم: إن الذي جرت به العادة مرادا قطعا، وإنما الخلاف في أن غيره هل هو مراد معه؟ وقال ابن دقيق العيد: الصواب التفصيل بين العادة الراجعة إلى الفعل وإلى القول فما رجع إلى الفعل يمكن أن يرجح فيه العموم على العادة مثل أن يحرم بيع

الطعام بالطعام، وتكون العادة بيع البر، فلا يخص عموم اللفظ بهذه العادة الفعلية. وأما ما يرجع إلى القول فمثل أن يكون أهل العرف اعتادوا تخصيص اللفظ ببعض موارده اعتيادا يسبق الذهن فيه إلى ذلك الخاص، فإذا أطلق اللفظ العام فيقوى (113أ) تنزيله على الخاص المعتاد، لأن الظاهر أنه إنما يدل باللفظ على ما ساغ استعماله فيه، لأنه المتبادر إلى الذهن. (ص) وإن نحو: (قضى بالشفعة للجار) لا يعم، وفاقا للأكثر. (ش) لأن ما ذكره ليس لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بل حكاية فعله، ويحتمل أن يكون قضاؤه لجار كان بصفة يختص بها، وقد يتأيد بقول الشافعي رضي الله عنه، وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال وخالف ابن الحاجب: فاختار أنه يعم الجار مطلقا، وإنما ذكره الآمدي بحثا فأقامه ابن الحاجب مذهبا وارتضاه وقال: وقال الشيخ في (شرح العنوان): اختار بعض الفقهاء عموم نحو: (قضى بالشفعة للجار) على عدالة الصحابي، ومعرفته باللغة، ومواقع

اللفظ، مع وجوب أن تكون الرواية على وفق السماع من غير زيادة ولا نقصان، ومنهم من قال: لا يعم، لأن الحجة في المحكي، ولا عموم للمحكي، والحق التفصيل: فإن كان المحي فعلا لو شوهد لم يجز حمله على العموم، فلذلك وجه وإن كان فعلا لو حكي لكان دالا على العموم، فعبارة الصحابي عنه يجب أن تكون مطابقة للقول لما تقدم من معرفته وعدالته. تنبيهان: الأول: قد يتخيل أن هذه المسألة مكررة مع قوله في باب العموم: (أن الفعل المثبت ليس بعام) وليس كذلك، ولهذا أطلق ابن الحاجب أن الفعل المثبت ليس بعام في أقسامه ثم ذكر (قضى بالشفعة للجار) واختار أنه يعم، والفرق أن الفعل لا صيغة له حتى يتمسك بعمومه، بخلاف القضاء والأمر والنهي، فإنه لا يصدر إلا عن صيغة وقد يفهم الراوي منها العموم فيرويه على ذلك. الثاني: أن هذا لا يختص بـ (قضى) بل يجري في نحو نهى عن بيع الغرر ونكاح الشغار.

وأمر بقتل الكلاب كما قاله الغزالي وخالفه غيره، وقطع هنا بالتعميم لأن (أمر) و (نهى) عبارة عن أنه وقع منه خطاب بالتكليف، ولما لم يذكر مأمورا ولا منهيا علم أن المخاطب به الكل. (ص) مسألة: جواب السائل غير المستقل دونه تابع للسؤال في عمومه، والمستقل الأخص جائز إذا أمكنت معرفة المكسوت والمساوي واضح. (ش) لا إشكال في دعوى العموم فيما يذكره الشارع من الصيغ السابقة ابتداء أما ما ذكره جوابا لسؤال سائل فلا يخلو إما أن يستقل بنفسه بدون السؤال أولا. فإن لم يستقل بحيث لا يصح الابتداء به فهو على حسب السؤال، إن كان عاما فهو عام.

وإن كان خاصا فهو خاص حتى كأن السؤال معاد فيه، مثل أن يسأل: هل يتوضأ بماء البحر فيقول: نعم، ولا خلاف فيه وإن استقل بنفسه بحيث لو ورد مبتدأ لكان يفيد العموم، فهو على ثلاثة أقسام إما أن يكون أخص من السؤال أو مساويا أو أعم. والأول: الأخص، مثل قولك من جامع في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر في جواب السؤال: من أفطر في نهار رمضان، وهذا الجواب إنما يجوز بثلاثة شرائط: أحدها: أن يكون فيما خرج من الجواب تنبيه على ما لا يخرج منه، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. وثانيها: أن يكون (السائل من أهل الاجتهاد، وإلا لم يفد التنبيه) وثالثها: أن لا يفوت وقت العمل بسبب اشتغال) السائل بالاجتهاد لئلا

يلزم التكليف بما لا يطاق، والأولان يمكن فهمهما من قول المصنف إذا أمكنت معرفة المسكوت (113ب) وسكت عن حكمه في العموم والخصوص، وهو كحكم السؤال في ذلك، لكن لا يسمى عاما، وإن كان السؤال عاما، لأن الحكم في غير محل التنصيص غير مستفاد من اللفظ بل من التنبيه، قاله الصفي الهندي. والثاني: المساوي أن يكون الجواب مساويا للسؤال، وهو إما في العموم كما لو سئل عمن أفطر في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر؟ وإما في الخصوص كما لو قلت: ماذا يجب علي؟ وقد أفطرت في رمضان؟ فقيل: يجب عليك كفارة الظهار وحكمه ظاهر، وحكي في (المستصفى) هنا عن الشافعي حمله على العموم وأنه المراد بقوله: ترك الاستفصال مع تعارض الاحتمال يدل على عموم الحكم، ومثله بقول القائل: أفطر زيد في نهار رمضان فقال: يعتق رقبة، أو طلق ابن عمر زوجته وهي حائض فقال: (ليراجعها). (ص) والعام على سبب خاص معتبر عمومه عند الأكثر. (ش) ورود العموم على سبب خاص لا يقدح في عمومه، فيتناول السبب وغيره، لأن العدول عن الخاص الذي هو السبب إلى محل العام دليل على إرادة العموم وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه، كما قاله القاضي أبو الطيب

والماوردي وغيرهما، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية وأكثر الشافعية والمالكية واحتج له الماوردي في كتاب (اللغات) بأمرين: أحدهما: أن السبب قد كان موجودا ولا حكم، ثم ورد اللفظ فتعلق به الحكم، فكان اعتبار ما وجد الحكم بوجوده أولى من اعتبار ما لم يوجد الحكم بوجوده. والثاني: أن تخصيص العموم إنما يقع بما ينافي اللفظ، ولا يقع بما يوافقه والسبب موافق فلم يجز أن يكون مخصصا وعن المزني والقفال: أنه يقتصر على ما خرج عليه السبب.

وقال إمام الحرمين: إنه الذي صح عنده من مذهب الشافعي رضي الله عنه، وقد أنكر الإمام فخر الدين في المناقب ذلك. وقال: معاذ الله أن يصح هذا النقل عنه كيف، وكثير من الآيات نزلت في أسباب خاصة، ثم لم يقل الشافعي رضي الله عنه، بقصرها على تلك الأسباب وفي المسألة مذهب ثالث: إن كان الشارع ذكر السبب في الحكم اقتضى تخصيصه به، وإن لم يكن السبب إلا في كلام السائل فالجواب على عمومه، حكاه ابن القطان في كتابه عن ابن أبي هريرة. تنبيه: لا فرق في هذا القسم بين أن يكون السبب سؤالا أم لا، ولهذا صرح المصنف بذكر السبب وقطعه عما قبله. (ص) فإن كانت قرينة التعميم فأجدر. (ش) محل الخلاف حيث لا قرينة تدل على قصره على السبب أو تعميم، فإن كانت قرينة تقتضي التعميم فأجدر بالتعميم مثال التعميم قوله تعالى: {والسارق والسارقة} والسبب رجل سرق رداء صفوان فالإتيان بالسارقة معه قرينة

تدل على الاقتصار على المعهود، ومثال القرينة القاصرة له على السبب تخصيص الشافعي رضي الله عنه نهيه عن قتل النساء والصبيان بالحربيات لخروجه على سبب وهو أنه صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة في بعض غزواته فقال: ((لم قتلت وهي لا تقاتل)). ونهي عن قتل النساء والصبيان فعلم أنه أراد به الحربيات، ويخلص بذلك عن استدلال أبي حنيفة على امتناع قتل المرتدة، فلم يعمل الشافعي رضي الله عنه بعموم هذا الخبر وقصره على سببه مع أن العبرة عنده (114أ) بعموم اللفظ، لكن لما عارضه قوله: ((من بدل دينه فاقتلوه)) ولم يكن بد من تخصيص أحدهما بالآخر، فوجب تخصيص الوارد على سبب وحمل الآخر على عمومه، لأن السبب من أمارات التخصيص قال الماوردي في (الحاوي): ومن هنا قال ابن دقيق العيد: ينبغي أن يفرق بين سبب لا يقتضي السياق التخصيص به، وبين سبب يقتضي السياق والقرائن التخصيص به، فإن كان من الباقي فالواجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن. إذ به يتبين مقصود الكلام وبه يرشد إلى بيان المجملات وتمييز المجملات وفهم مأخذ الخطاب.

(ص) وصورة السبب قطعية الدخول عند الأكثر فلا تخص بالاجتهاد وقال الشيخ الإمام: ظنية، قال: ويقرب منها خاص في القرآن، تلاه في الرسم عام للمناسبة. (ش) العام إذا ورد على سبب، فصورة السبب هل هي قطعية الدخول حتى لا يجوز تخصيصها بالاجتهاد، بخلاف ما زاد عليه، فإنه يجوز تخصيصه به، أو كغيرها من الأفراد فالجمهور على الأول وربما ادعى فيه الإجماع، لأن العام يدل عليه بطريقين وعن أبي حنيفة الثاني، وأنه يجوز إخراج السبب عن العموم استنباطا من مصيره إلى أن الولد يلحق بالفراش في الحرة دون الأمة، وإن كان حديث ابن زمعة إنما ورد في الأمة

والحق أن السبب لا يكون قرينة في القطع بالدخول، وهذا لا يجوز أن يصير اللفظ نصا صريحا في بعض مسمياته لقرينة خارجية تتصل به (بالنسبة إليه وهو صار نصا فيه لقرينة الورود فيه لا من حيث الوضع، ودلالة العام إما أن تتحد) بالنسبة إلى مسمياته من حيث الوضع لا غير فلا منافاة بين كونه نصا صريحا في محل الورود وبين كونه عاما هذا ما ذهب إليه الشيخ الإمام، فقال: القطع بالدخول ينبغي أن يكون محله إذا دلت قرائن حالية أو مقالية على ذلك، أو على اللفظ العام يشمله بطريق الوضع لا محالة، وإلا فقد ينازع الخصم دخوله وضعا تحت اللفظ العام ويدعي أنه يقصد المتكلم بالعام إخراج السبب، وبيان أنه ليس بداخل في الحكم فإن للحنفية أن يقولوا في حديث عبد بن زمعة: أن قوله صلى الله عليه وسلم ((الولد للفراش)). وإن ورد في الأمة فهو وارد لبيان حكم ذلك الولد، وبيان حكمه إما بالثبوت وإما الانتفاء فإذا ثبت أن الفراش هي الزوجة، لأنها الذي يتخذ لها الفراش غالبا، وقال: الولد للفراش، كان فيه حصر أن الولد للحرة ومقتضى ذلك لا يكون للأمة، فكان فيه بيان الحكمين جميعا، نفي السبب عن المسبب وإثباته لغيره، ولا يليق دعوى القطع والمقطوع به أنه لا بد من بيان حكم السبب، أما كونه بقطع دخوله في ذلك أو بخروجه عنه فلا يدل على تعيين واحد منهما، قال: وجميع ما تقدم في السبب وبقية الأفراد التي دل اللفظ العام بالوضع عليها وبين ذينك الشيئين رتبة متوسطة، فيقول: قد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة، وتوضع كل واحدة منها ما يناسبها من الآية رعاية لنظم القرآن وحسن اتساقه فذلك الذي وضعت معه الآية النازلة على سبب خاص للمناسبة، إذا كان مسوقا لما نزل في معنى يدخل في ذلك اللفظ

العام، أو كان من جملة الأفراد الداخلة وضعا تحت اللفظ العام فدلالة اللفظ عليه يحتمل أن يقال: إنه كالسبب فلا يخرج ويكون مرادا من الآية قطعا ويحتمل أن يقال إنه لا ينتهى في القوة إلى (114ب) ذلك لأنه قد يراد غيره وتكون المناسبة لشبهه به والحق أنه رتبة متوسطة دون السبب وفوق العموم المجرد مثاله: قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} فإن مناسبتها لما قبلها وهو قوله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} إن ذلك إشارة إلى كعب بن الأشرف كان قدم مكة وشاهد قتلى بدر، وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم فسألوه من هو أهدى سبيلا، فقال: أنتم، كذبا منه وضلالة.

فتلك الآية في حقه وحق من شاركه في تلك المقالة وهم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وقد أخذت عليهم المواثيق أن لا يكتموا ذلك وأن ينصروه وكان ذلك أمانة لازمة فلم يؤدوها وخانوا فيها وذلك يناسب الأمر بأداء الأمانة. تنبيه: لا ينبغي ذكر هذه المسألة في العام المخصوص عند من اعتبر السبب لأنه من العام الذي أريد به الخصوص، وقد سبق الفرق بينهما. (ص) مسألة: إن تأخر الخاص عن العمل نسخ العام وإلا خصص، وقيل: إن تقارنا تعارضا في قدر الخاص كالنصين وقالت الحنفية وإمام الحرمين: العام المتأخر ناسخ فإن جهل فالوقف أو التساقط. (ش) هذه المسألة في بقاء العام على الخاص إذا وجد نصان متنافيان أحدهما عام والآخر خاص، فإما أن يعلم تاريخهما أولا فإن علم (فإما أن يعلم) تأخر أحدهما على الآخر أو تقاربهما، فإن علم المتأخر فإما أن يتأخر عن وقت العمل أم لا، فهذه أقسام: الأول: أن يكون الخاص متأخرا عن وقت العمل بالعام، فهنهنا يكون الخاص

ناسخا لذلك القدر الذي تناوله العام بلا خلاف، ولا يمكن حمله على التخصيص لأن تأخر بيانه عن وقت العمل ممتنع، وقول المصنف نسخ العام أي الفرد الذي تناوله العام وإلا فلا خلاف أنه يعمل بالعام في بقية الأفراد في المستقبل. الثاني: أن يتأخر عن وقت الخطاب بالعام دون وقت العمل به، فمن منع تأخير بيان التخصيص كالمعتزلة أحال المسألة ومن جوز اختلفوا والأكثرون أن الخاص يكون مخصصا للعام، لأنه وإن جاز أن يكون ناسخا لذلك القدر منه لكن التخصيص أقل مفسدة، وعن الحنفية أن الخاص إذا تأخر عن العام بحيث يتخلل بينهما زمان يتمكن المكلف به من العمل أو الاعتقاد لمقتضي العام، كان الخاص ناسخا. الثالث: أن يتأخر العام عن وقت العمل بالخاص فههنا ينبنى العام على الخاص عندنا، وذهب بعض الحنفية إلى أن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم. الرابع: أن يتأخر العام عن وقت الخطاب بالخاص، لكنه قبل وقت العمل به فكالذي قبله وإن علم مقارنتهما، فإما أن يكون الخاص مقارنا للعام نحو: ((فيما سقت السماء العشر)). ثم يقول عقيبه: ((لا زكاة فيما دون خمسة أوسق)) فالخاص يخصص العام، وأما إن كان العام مقارنا للخاص نحو: ((لا زكاة فيما دون خمسة أوسق)) ثم يقول عقيبه: (فيما سقت السماء العشر) فكذلك ((وحكى في المحصول قولا))

أنهما يتعارضان في القدر الذي تناوله الخاص وعزاه ابن السمعاني للقاضي أبي بكر وهو ينفي نقل الشيخ أبي حامد وغيره الإجماع على تقدم الخاص، وأما إذا لم يعلم تاريخهما، فعندنا ينبني العام على الخاص وعند أبي حنيفة يتوقف (115أ) إلى ظهور التاريخ أو الترجيح، أو يرجع إلى غيرهما، وإلى هذه الأقسام كلها أشار المصنف بقوله:،إلا خصص أي يقضى بالخاص على العام، تأخر العام وتقدم الخاص أو عكسه، أو تقارنا وعلم المتقدم أو تقارنا وجهل. ولما كان خلاف التعارض عند المقارنة غريبا صرح به، وقوله: (فإن جهل) من تمام قول الحنفية فتفطن له، وابن الحاجب اقتصر على حكاية التساقط عنهم، وصاحب البديع على الوقف، فلهذا جمع المصنف بينهما وهما متقاربان زاد في البديع ويؤخر المحرم احتياطا. (ص) وإن كان كل عاما من وجه، فالترجيح وقالت الحنفية: المتأخر ناسخ. (ش) إذا تعارض خطابان، أحدهما خاص ومن وجه عام من وجه والآخر خاص، من وجه عام من وجه وتنافيا في الحكم الذي ابتنى عليهما، فيصار إلى الترجيح

ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)). مع نهيه عن قتل النساء فإن الأول خاص في المرتدين عام في النساء والرجال والثاني خاص في النساء عام في الحربيات والمرتدات. قال الشيخ تقي الدين في (شرح الإلمام): وكان مرادهم الترجيح العام الذي لا يخص مدلول العموم كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجية عن مدلول العموم من حيث هو، وفيما قاله نظر، فإن صاحب (المعتمد) حكى عن بعضهم في هذه المسألة، أن أحدهما إذا دخله تخصيص مجمع عليه فهو أولى بالتخصيص، وكذا إذا كان أحدهما مقصودا بالعموم فإنه يرجح على ما كان عمومه اتفاقا وعلم من إطلاق المصنف أنه لا فرق في هذا القسم بين أن يعلم تقدم أحدهما على الآخر أو مقارنتهما وهو كذلك، وما حكاه عن الحنفية من أن المتأخر هو الناسخ فهو قياس ما سبق عنهم في التي قبلها لكن لم أجده صريحا في هذه المسألة. (ص) المطلق والمقيد، المطلق الدال على الماهية بلا قيد، وزعم الآمدي وابن الحاجب دلالته على الوحدة الشائعة توهماه النكرة، ومن ثم قالا: الأمر بمطلق الماهية أمر يجزئي وليس بشيء وقيل: بكل جزئي، وقيل: إذن فيه. (ش) المراد بالدال على الماهية بلا قيد، من حيث هي، من غير اعتبار عارض

من عوارضها كقولنا الرجل خير من المرأة، فخرج بقوله: بلا قيد المعرفة والنكرة أما المعرفة فلأنها تدل على الحقيقة مع وحدة معينة كزيد، وأما النكرة فلأنها تدل عليها مع وحدة معينة كرجل، وظهر بهذا الفرق بين المطلق والنكرة، وقيل: لا فرق بينهما وبه صرح الآمدي فقال: المطلق (فعبارة عن النكرة) في سياق الإثبات وتابعه ابن الحاجب، فقال: المطلق ما دل على شائع في جنسه، وقوله: (شائع) أي لا يكون متعينا، بحيث يمتنع صدقه على كثيرين، وقوله: في جنسه، أي له أفراد تماثله وهذا يتناول الدال على الماهية من حيث هي، والدال على واحد غير معين، وهو النكرة؛ لأنها أيضا لفظ دال على شائع في جنسه وقول المصنف: توهماه النكرة، ممنوع بل تحققاه وما صنعاه خير مما صنعه المصنف، ولا شك أن مفهوم الماهية بلا قيد ومفهومها مع قيد الوحدة، متغايران. لا يخفى على ابن الحاجب ولا غيره ولكن الأصوليون لم يفرقوا بينهما، لأنه لا فرق بينهما في تعلق التكليف بهما، فإن التكليف لا يتعلق إلا بالموجود في الخارج والمطلق الموجود في الخارج هو (115ب)

واحد غير معين في الخارج، لأن المطلق لا يوجد في الخارج إلا في ضمن الآحاد ووجوده في ضمنه هو صيرورته عينه بانضمام مشخصاته إليه، فيكون المطلق الموجود واحدا غير معين، وذلك هو مفهوم النكرة والأصولي إنما يتكلم فيما يقع به التكليف فلهذا فسره بالمعين وأما الاعتبارات العقلية كما فعله المصنف فلا تكليف بها، إذ لا وجود لها في الخارج، لأن المكلف به يجب إيقاعه والإتيان بما لا يقبل الوجود في الخارج لا يمكن فلا تكليف به، ولهذا ذكر صاحب (البديع) من الحنفية، المطلق كما ذكره ابن الحاجب مع قوله: فيما بعد أن الحق تفسير المطلق (بالماهية من حيث هي والحاصل أن الماهية من حيث هي لا يمكن أن توجد في الخارج إلا في ضمن الجزئيات) فعند ورود الأمر بها يكون المطلوب بها جزئيا من جزئياتها، لأنها نص مطلوبة بالقصد الأول، فورود الأمر بها لدلالتها عليها بالمطابقة وتصير قيدا من القيود الموجبة لجزئيتها مقصودا بالقصد الثاني لتوقف وجودها عليه، فيؤول الأمر إلى أن يكون المطلوب بها جزئيا من جزئياتها فيؤول الأمر باللفظ الدال على الماهية عند استعماله في التكليف إلى الدلالة على جزئي وهو النكرة فلا فرق بينهما في التكاليف، فلهذا صح تسمية كل منهما بالمطلق، وتفسير المطلق بكل واحد منهما. وقوله: (ومن ثم) أي ولأجل هذا التأصيل قال الآمدي وابن الحاجب: إن الأمر بمطلق الماهية أمر بجزئي من جزئيات الماهية، لا بالكلي المشترك، فإذا قيل أمرت من غير تعيين فالمطلوب الفعل الجزئي الممكن المطابق للماهية الكلية المشتركة لأن الماهية هي المطلوبة لأن الماهية الكلية يستحيل وجودها في الأعيان فلا تطلب. قال المصنف: وليس بشيء يعني لأنا نفرق بين الماهية بشرط شيء

وبشرط لا شيء وبلا شرط، وإذا قرنت بينها علمت أن المطلوب الماهية من حيث هي لا بقيد الجزئية ولا بقيد الكلية، ولا يلزم من عدم اعتبار أحدهما اعتبار الآخر، ثم إن ذلك غير مستحيل بل موجود في الجزئيات، وذهب الإمام فخر الدين إلى أنه أمر بالماهية المشتركة بين الأفراد لا بجزئي معين وهو ما حكاه أبو المناقب الزنجاني عن مذهب الشافعي رضي الله عنه، وأن الأول مذهب أبي حنيفة، والحق أن الماهية من حيث هي لا تستلزم التعدد ولا الوحدة بل هي صالحة لأن يعرضها كل واحد منهما، ووجه ما أشار إليه المصنف من بناء هذه المسألة على هذا الأصل، أن من قال إن الأمر بمطلق الماهية أمر بواحد من جزئياته فالمطلق عنده عبارة عن ((جزئي ممكن مطابق الماهية لا عين)) الماهية من حيث هي، واشتمالها في الأصول لكونها هي المرادة منه، وقوله: إذن فيه إشارة إلى احتمال أبداه الصفي الهندي في القياس في الكلام على حجيته بقوله تعالى: {فاعتبروا} حيث اعترض الخصم بأن الدال على الكلي لا يدل على الجزئي، فلا يلزم الأمر بالقياس الذي هو جزئي للكلي الذي هو مطلق الاعتبار قال الهندي: ويمكن أن يجاب بأن الآمر بالماهية الكلية، وإن لم يقتض الأمر بجزئياتها، لكن يقتضي تخيير المكلف في الإتيان بكل

واحد من تلك الجزئيات بدلا عن الآخر (116أ) عند عدم القرينة المعينة لواحد منها أو لجميعها ثم التخيير بينهما يقتضي جواز فعل كل واحد منها. (ص) مسألة: المطلق والمقيد كالعام والخاص (وزيادة) أنهما إن اتحد حكمهما وموجبهما، وكانا مثبتين، وتأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق، فهو ناسخ وإلا حمل المطلق عليه، وقيل: المقيد ناسخ إن تأخر، وقيل: يحمل المقيد على المطلق. (ش) ما سبق في مسائل الخاص والعام من متفق عليه ومختلف فيه، يجري في المطلق والمقيد، ويزيد مسألة في حمل المطلق على المقيد فلا يخلو إما أن يختلف حكمهما أو لا، فإن لم يختلف حكمهما فلا يخلوان، إما أن يتحد موجبهما أي سببها أو لا، فإن اتحد موجبهما، فلا يخلوان إما أن يكونا مثبتين أو منفيين أو أحدهما مثبتا والآخر منفيا. القسم الأول: أن يكونا مثبتين بأن يذكر الرقبة مطلقة في كفارة القتل وتقيد بالإيمان في كفارة القتل أيضا، فإن تأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق فهو ناسخ، وإن لم يتأخر المقيد ففيه ثلاثة مذاهب: أصحها: حمل المطلق على المقيد جمعا بين الدليلين ويكون المقيد بيانا للمطلق، أي يكون المراد بالمطلق المقيد، لا نسخا له، سواء تقدم المطلق أو تأخر.

والثاني: أن يحمل المطلق على المقيد، ويكون المقيد ناسخا للمطلق إن تأخر المقيد. والثالث: أن يحمل المقيد على المطلق سواء تقدم أو تأخر وحاصله أنهما مسألتان: حمل المطلق على المقيد وفيه قولان: والثانية: إذا قلنا: يحمل فهو بيان أو نسخ قولان والأصح الأول، واعلم أن جماعة نقلوا الاتفاق في هذا القسم على حمل المطلق على المقيد منهم القاضي أبو بكر، وليس الأمر كذلك، وذكر ابن السمعاني في (القواطع): أن الحنفية اتفقوا على أنه لا يحمل إذا اختلف السبب واختلفوا إذا اتفق السبب. فقال بعضهم: يحمل المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده كما إذا اختلف السبب ومنهم من قال: بحمل المطلق على المقيد في هذه الصورة انتهى وذكر الطرطوشي من المالكية: أن أصحابه اختلفوا في حمل المطلق على المقيد مع اتحاد السبب والحكم كإطلاق المسح في قوله: (يمسح المسافر ثلاثة أيام) وتقييده بقوله: (إذا تطهر فلبس). (ص) وإن كانا منفيين فقائل المفهوم يقيده به وهو خاص وعام. (ش) القسم الثاني: أن يكونا منفيين نحو، لا تعتق مكاتبا ولا تعتق مكاتبا كافرا، فمن يخصص بالمفهوم لا بد أن يقيد المكاتب بمفهوم قوله مكاتبا كافرا، وهو من باب تخصيص العام لكونه في سياق النفي لا تقييد المطلق، وأما من لا يقول بالمفهوم فلا يعتق المكاتب أصلا، ويعمل بمقتضى الإطلاق، ولا يخصه بالنهي

المقيد، لأنه بعض ما دخل تحته، هذا حاصل مراد المصنف، وفيه تنبيه على أن جعل ابن الحاجب لهذا من باب المطلق والمقيد معترض. وكلام ابن دقيق العيد يخالفه فإنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول)) أنه يقتضي تقييد النهي بحالة البول ووردت رواية أخرى في النهي عن مسه باليمين مطلقا من غير تقييد بحالة البول، فمن الناس من أخذ بهذا المطلق وقد يسبق إلى الفهم أن العام محمول على الخاص، فيخص النهي بهذه الحالة وفيه بحث، لأن هذا يتجه في باب الأمر والإثبات، فأما لو جعلنا الحكم للمطلق أو للعام، في صورة الإطلاق أو العموم كان فيه (116ب) إخلال باللفظ الدال على طلب القيد وذلك غير جائز، وأما في باب النهي فإنا إذا جعلنا الحكم للمقيد، أخللنا بمقتضى اللفظ المطلق مع تناول النهي له وذلك غير سائغ، وهذا كله بعد النظر في تقديم المفهوم على ظاهر العموم. (ص) وإن كان أحدهما أمرا والآخر نهيا، فالمطلق مقيد بضد الصفة. (ش) الثالث: أن يكون أحدهما مثبتا والآخر منفيا مثل: إن ظاهرت فاعتق رقبة ويقول: لا تملك رقبة كافرة، فإنه تقييد المطلق بنفي الكفر، لاستحالة إعتاق الرقبة الكافرة مع عدم تملكها، والحمل هنا ضروري لذلك، لا من أجل أن المطلق فيها محمول على المقيد

ولهذا قال المصنف، فالمطلق مقيد بضد الصفة. (ص) وإن اختلف السبب فقال أبو حنيفة: لا يحمل، وقيل: يحمل لفظا، وقال الشافعي رضي الله عنه: قياسا. (ش) ما سبق جميعه عند اتحاد السبب، فإن اختلف كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار وتقييدها بالإيمان في القتل، فهي محل الخلاف. فقال أبو حنيفة: لا يحمل عليه أصلا، وإلا يلزم رفع ما اقتضاه المطلق بأي صورة كانت فيكون نسخا، والقياس لا يكون ناسخا وذهب المعظم إلى أنه يحمل المطلق على المقيد ثم اختلفوا هل يحمل بموجب اللفظ، ولا يتوقف على جامع أو لا بد من دليل من قياس

أو غيره، كما يجوز تخصيص العموم بالقياس وغيره. والأول هو الذي عليه جمهور أصحابنا وقال الماوردي والروياني في باب القضاء: إنه ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه، وأما المصنف فتابع فيه الآمدي في نسبة الثاني إلى الشافعي رضي الله عنه والأقرب الأول، فإن أصحاب الشافعي رضي الله عنه أعرف بمذهبه. وقد قال سليم الرازي في (التقريب): إنه ظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه وظهر أن في حكاية كلام المصنف لهذا المذهب أمرين: أحدهما: ما ذكرناه. وثانيهما: تخصيصه الحمل بالقياس وهو فيه متابع لابن الحاجب مع أن القائل بأنه لا يحمل بنفس اللفظ، يقول: لا بد من دليل إما قياس أو غيره على ما سبق ولا يخصه بالقياس. (ص) وإن اتحد الموجب واختلف حكمهما فعلى الخلاف. (ش) كذا قاله القاضي أبو بكر في كتابه المسمى (المحصول) ومثله بآية الوضوء، فإنه قيد فيها غسل اليدين إلى المرفقين، وأطلق في التيمم الأيدي والسبب واحد وهو الحدث، وابن الحاجب قال: إن اختلف حكمهما مثل: اكس ثوبا،

وأطعم طعاما نفيسا فلا يحمل أحدهما على الآخر بوجه اتفاقا أي سواء اتحد السبب أو اختلف، وقال المصنف وأومأ غيره إلى المخالفة: فقال ينبغي أن يكون الثوب نفيسا كالطعام، ويشهد لجريان الخلاف وهو ما ذكره الباجي في الفصول وغيره، اختلاف قولي الشافعي وإن القاتل إذا لم يقدر على الصيام هل يجب عليه الإطعام حملا لكفارة القتل على كفارة الظهار، كما قيدنا الرقبة المطلقة بالإيمان حملا لها على الآية المقيدة، والأصح المنع، لأن آية القتل لم تتعرض إلا للإعتاق والصيام. فلا يلحق بهما خصلة ثالثة وإنما اعتبرنا الإيمان، لأن الرقبة مذكورة في الآيتين، وإن أطلقت في إحداهما وأما الإطعام فمسكوت عنه من أصله والمسكوت لا يحمل على المذكور. (ص) والمقيد بمتنافيين يستغنى عنهما إن لم يكن أولى بأحدهما قياسا. (ش) ما سبق جميعه فيما إذا قيد في موضع وأطلق في موضع، فأما إذا أطلق في موضع، ثم قيد في موضعين بقيدين (117أ) متنافيين، فمن قال بالحمل لفظا، قال: يبقى المطلق على إطلاقه، إذ ليس التقييد بأحدهما أولى. ومن قال بالحمل قياسا حمله على ما حمله عليه أولى، فإن لم يكن قياسا رجع إلى أصل الإطلاق، وبهذا يندفع اعتراض الحنفية، حيث قالوا: لم قلتم لا يشترط التتابع في قضاء رمضان مع كونه ورد مطلقا في {فعدة من أيام أخر} ولم يحملوه على القتل ولا على صوم الظهار وكذا صوم كفارة اليمين لم يحملوه على الصوم في كفارة القتل

والظهار، فإن الأظهر عندكم جواز التفريق (فيه لأنا نقول هذا الحمل قد تحاذيه أعني صوم المتعة، حيث نص فيه على التفريق) وصوم الظهار حيث نص فيه على التتابع فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من إلحاقه بالآخر، فتركناه على حاله، والكلام في مطلق له مقيد واحد. ونازع بعض الحنفية في كون صوم التمتع مقيدا بالتفريق وإنما لم يجز قبل يوم النحر، لأنه مضاف إلى وقت الرجوع بحرف إذا في قوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} سلمناه لكن ليس هو في الكل بل في بعض أجزائه قال لأصحابه: ويجب بقاء كل من المقيدين على تقييده وأما حمله على تقييد صاحبه فينظر فيه، فإن تنافى الجمع بينهما كصوم الظهار مع صوم التمتع، لم يحمل أحدهما على الآخر وإن لم يتنافيا ففي حمله من غير دليل وجهان، فإن حملناه صار كل منهما مقيدا بالقيدين معا، قاله الماوردي والروياني في باب القضاء: قالا: وعلى هذا يجوز حمل المطلق أيضا على المقيدين، ويصير كل من الكلامين مفيدا بشرطين: (ص) الظاهر والمؤول: الظاهر ما دل دلالة ظنية. (ش) الظاهر لغة: الواضح واصطلاحا ما دل على معنى دلالة ظنية إما

بالوضع اللغوي كالأسد، أو العرفي كالغائط فقوله: ما دل، جنس، وقوله: ظنية: احتراز عن النص، فإنه يدل دلالة قطعية وهذا التعريف أعم مما ذكره المصنف في باب المنطوق والمفهوم حيث قال: ظاهر إن احتمل مرجوحا كالأسد: فإن المراد هنا، ما يفيد معنى سواء أفاده مع معنى آخر إفادة مرجوحه أو لم يفده. (ص) والتأويل: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح فإن حُمل لدليل فصحيح أو لما يظن ففاسد أو لا لشيء فلعب لا تأويل. (ش) التأويل لغة: من آل يؤول، أي رجع يرجع. واصطلاحا: ما ذكره فقوله حمل الظاهر، خرج حمل النص على معناه وحمل المشترك على أحد معنييه فلا يسمى تأويلا. وقوله: على المحتمل أخرج حمل الظاهر على ما لا يحتمله. وقوله: المرجوح احتراز عن حمل الظاهر على معناه الراجح، فلا يسمى تأويلا، ويخرج به حمل اللفظ على مدلوله الظاهر المرجوح والمحتمل معا فلا يسمى تأويلا، وهذا التعريف يشمل الصحيح والفاسد فإن حمل لدليل يصيره راجحا فصحيح سواء كان ذلك الدليل قطعيا

أم ظنيا، أو لما يظن دليلا وليس كذلك ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل. (ص) ومن البعيد تأويل أمسك أربعا على ابتدى. (ش) التأويل قد يكون قريبا فيترجح بأدنى مرجح وقد يكون فيحتاج للأقوى، وقد يكون بعيدا متعذرا فيرد. وقد جرت عادة الأصوليين بذكر ضروب من التأويلات هنا، ليتميز الصحيح عن الفاسد، ليقاس عليها غيرها، والقصد بها التمرين والتدريب للرياضة نحو مسائل العويص (117ب) في الفرائض فمن البعيد تأويل الحنفية قوله صلى الله عليه وسلم لغيلان بن سلمة وقد أسلم على عشر ((أمسك أربعا وفارق سائرهن)). فإنهم حملوا أمسك على ابتدى النكاح في أربع منهن، ووجه بعده أنه لم ينقل تجديد لا منه ولا من غيره مع كثرة إسلام الكفار المتزوجين.

(ص) وستين مسكينا على ستين مدا. (ش) من البعيد أيضا قولهم في قوله تعالى: {ستين مسكينا} أي إطعام طعام ستين مسكينا لأن القصد رفع الحاجة وحاجة ستين مسكينا في يوم واحد كحاجة واحد في ستين يوما، فجعلوا المعدوم وهو طعام مذكورا فيصح كونه مفعولا لإطعام وقد جعلوا ستين مسكينا عدما مع صلاحه لأن يكون مفعولا لإطعام، ثم هذه العلة رافعة لاعتبار العدد الذي هو حكم الأصل، فكانت مبطلة له، ولا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعكر على أصله بالإبطال ولأن في العدد فائدة، وهي أن دعاءهم أقرب إلى الإجابة فلا يجوز إلغاؤها. (ص) وأيما امرأة نكحت نفسها على الصغيرة والأمة والمكاتبة. (ش) أي حملوا المرأة في الحديث على ذلك ووجه بعده، أن الصغيرة ليست بامرأة في حكم اللسان، كما أن الصبي ليس برجل، وألزموا سقوط التأويل على مذهبهم، فإن الصغيرة لو زوجت نفسها فالعقد عندهم صحيح موقوف نفاذه على

إجازة الولي ففروا من ذلك وقالوا هو محمول على الأمة، فألزموا بطلانه بقوله: فلها المهر ومهر الأمة لا يجب لها بل لسيدها ففروا من ذلك، وقالوا: هو محمول على المكاتبة فقيل لهم: هو باطل أيضا، والقياس وإن قوي هنا في نفسه لكن دلالة العام قوية، لأنه قال: أي، وهي كلمة عامة، وأكدها بكلمة ما، فيبعد الإتيان بهذه الصيغة المؤكدة مع إرادة صورة نادرة فيما بين النساء، بل لا تخطر بالبال، ومن هذا التقرير يظهر لك حسن جمع المصنف بين هذه الثلاثة وإيرادها على هذا الترتيب وهو فيه متبع لابن الحاجب وقد غفل عنه شراحه. (ص) ولا صيام لمن لم يبيت على القضاء والنذر. (ش) لما ثبت عندهم من صحة الصيام بنية في النهار، فجعلوه كاللغز، إذ حملوه على النادر مع اشتماله على صيغة العموم.

(ص) وذكاة الجنين ذكاة أمه على التشبيه. (ش) عند الحنفية تجب ذكاة الجنين، وعند الشافعي رضي الله عنه أن ذكاة أمه تغني عن ذكاته إن لم تتمكن ذكاته، والحديث يروى برفع الذكاة ونصبها، والرفع هو المعروف المحفوظ، وبه ينتهض استدلال الشافعي رضي الله عنه ورواه الحنفية بالنصب، وزعموا أنه يدل لهم على كلا الروايتين، ووجهوا النصب بوجهين: أحدهما: أن التقدير كذكاة أمه، حذف الكاف فانتصب أي ذكاة كما تذكرون أمه. وثانيهما: أنه أعمل فيه الذكاة الأولى، لأنها مصدر، فكأنه قال: فإن ذكاة الجنين ذكاة مثل ذكاة أمه والخبر محذوف أي واجبة، وأما على الرفع فلأن التقدير مثل ذكاة أمه، وحاصله حمله على التشبيه كما قاله المصنف وأما أصحابنا فوهموا رواية النصب وقالوا: المحفوظ في الرواية كما قاله حملة الحديث كالخطابي وغيره. وهي تحتمل أوجها أحسنها ذكاة الجنين خبر مقدم. وذكاة أمه

مبتدأ والتقدير ذكاة أم الجنين ذكاة له، قالوا: ولو كان كما قالت الحنفية لم يكن للجنين مزية (118أ) وحقيقة الجنين ما كان في البطن وذبحه في البطن لا يمكن فعلم أنه ليس المراد أنه يذكى كذكاة أمه، بل ذكاة أمه كافية، ويؤيده رواية البيهقي ذكاة الجنين في ذكاة أمه. وفي رواية بذكاة، وأما توجيه الحنفية فضعيف، أما الأول، وهو تقدير النصب بحذف حرف الجر، قال ابن عمرون: ليس بشيء، لأنه يلزم منه جواز قولك: زيد عمرا، أي كعمرو وأما الثاني فلأن فيه حذف حرف الجر والأصل خلافه بل رواية النصب - إن صحت - محمولة على أن تقديره وقت ذكاة أمه ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب على الظرف، وهو يدل للشافعي رضي الله عنه، ولأن الثاني إنما يكون وقتا للأول إذا أغنى الفعل الثاني عن الأول، وإلا فمن المحال وقوع الذكاة في وقت الثانية وهذا التقدير للنصب أولى من تقديرهم لوجهين: أحدهما: عدم احتياجه للمحذوف. وثانيهما: موافقته لرواية الرفع، وأما ما قالوه في تقديره الرفع، فساعدهم ابن جني على عادته، وقال: إذا حمل على ما قاله أبو حنيفة يكون المجاز وقع في الخبر وهو الكثير فكان الحمل عليه أولى، وهذا مردود كما قاله ابن عمرون، لأن سياق الحديث وسؤالهم نلقيه أم نأكله، لم يكن لأنهم شكوا أن ما أدرك ذكاته وذكى

من هذا الصنف المأكول حل أكله، وإنما سألوه عما تعذر فيه الذبح فوجب حمله على ذلك ليكون الجواب مطابقا للسؤال. (ص) {وإنما الصدقات} على بيان المصرف. (ش) أي دون إرادة استيعاب الأصناف بالعطاء ولا شك أن المقتصر على الإعطاء لصنف واحد معطل. للتناول.

(ص) ومن ملك ذا رحم محرم على الأصول والفروع. (ش) هذا الحمل لبعض الشافعية ووجه بعده تعطيل لفظ العموم فإنه يبعد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة العامة ويريد به الأب والابن مع أنه له اسم آخر يعرف به وهو أبلغ في التعريف كمن قال من دخل داري فله درهم، ثم قال: أردت به الأب، لا يستحسن فإن قيل: كيف جعل المصنف هذا بعيدا وهو مذهبه فالجواب أن مذهبنا اختصاص العتق بالأصول والفروع، أما حمل الحديث فلا، وإنما تلك طريقة ضعيفة لبعض الأصحاب وحذاقهم لا يرتضونها لأنهم لا يثبتون الحديث، فقال البيهقي حديث منكر، وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة عليه وهو خطأ عند أهل الحديث وكذا قال ابن عساكر والذي قضى عليه بالبعد: إنما

هو حمل الحديث على خلاف ظاهره، وأما مقام الاحتجاج به فأمر آخر، وكذلك ما قضى عليه بالبعد من تأويلات الخصوم، فإنما بعده من قبل لفظه، ولا ينكر أن يكون عليه دليل من خارج، إلا أن تلك صناعة فقهية، وحظ الأصولي ما بنيناه. (ص) والسارق يسرق البيضة على الحديد. (ش) هذا التأويل حكاه ابن قتيبة.

عن يحيى بن أكثم قال: حضرت مجلسه فرأيته يتأول البيضة على الحديد والحبل على حبال السفن ورأيته يعجب به، وهو باطل، فإن هذا ليس موضع تكثير لما يأخذه السارق إنما هو موضع تقليل، وأنه لا يقال: قبح الله فلانا عرض نفسه للضرب. في عقد جوهر، إنما يقال: عرض يده في خلق رث أو كبة شعر، قال: وكان الحديث أورد على (118ب) ظاهر الآية في قطع القليل والكثير، وأراد بالبيضة بيضة الدجاجة، ثم أعلم بعد: أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار فصاعدا. (ص) وبلال يشفع الآذان، على أن يجعله شفعا لآذان ابن أم مكتوم. (ش) المشهور أن الآذان مثنى لقوله: ((إن بلالا)).

يشفع الآذان ونقل عن بعض السلف إفراده، وأول قوله: يشفع، يجعل آذانه شفعا لآذان ابن أم مكتوم، وهو ضعيف، لأن بلالا كان ينادي بليل، وابن أم مكتوم يتأخر حتى يقال له: أصبحت أصبحت فكيف يكون الأول شفعا للثاني، وقد اعترض على المصنف في هذا المثال، بأن يشفع فعل مثبت لا عموم له وجوابه: أن العموم في المتعلق به وهو الآذان فيتناوله بجميع كلماته. (ص) المجمل: ما لم تتضح دلالته.

د (ش) إنما قال: (ما) ولم يقل: لفظ ليشمل القول والفعل وإنما قال: لم تتضح دلالته، ولم يقل: لم يدل بمعين، احترازا عن المهمل، إذ لا دلالة له، وهذا له دلالة ولكن غير واضحة. (ص) فلا إجمال في آية السرقة. (ش) أي لا في اليد ولا في القطع خلافا لبعض الحنفية فإن اليد

للعضو إلى المنكب حقيقة وإطلاقها هنا على الكوع من إطلاق الكل على الجزء وقد دل عليه دليل، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع، وذلك أولى من الإجمال المؤدى إلى التعطيل، وأما القطع فإبانة المفصل فهو ظاهر فيه، فلا إجمال. (ص) ولا في نحو: {حرمت عليكم أمهاتكم} (ش) أي فيما وقع فيه التحريم. على الأعيان لأن المعقول فيه التصرف فيعم جميع أنواعه من العقد على الأم، ووطئها وهذه المسألة مكررة سبقت في باب العموم في قوله: وقد يعم اللفظ عرفا كالفحوي ونحو: {حرمت عليكم أمهاتكم} وإنما أعادها، لأن عادة

الأصوليين يذكرون هنا الخلاف عن الكرخي واحتج عليه الشيخ أبو حامد، بأن الصحابة احتجوا بظاهر هذه الآيات في إثبات التحريم ولم يرجعوا لغيره وعلى الأول فيكون من المجاز المنقول حتى صار حقيقة عرفية، وقيل: إنه من باب الحذف بقرينة دلالة العقل على أن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بأفعال المكلفين دون أعيانهم ولهذا عرفوا الحكم بأنه الخطاب المتعلق بفعل المكلف، وذهب السرخسي وفخر الإسلام من الحنفية إلى أن الحكم متعلق بالعين، كما يتعلق بالفعل ومعنى حرمة العين خروجها من أن تكون محلا للفعل شرعا كما أن حرمة الفعل خروجه من الاعتبار شرعا فلا ضرورة إلى اعتبار الحذف أو المجاز وأيضا معني الحرمة المنع، فمعنى حرمة الفعل، أن العبد يمنع من اكتسابه وتحصيله، فالعبد ممنوع عنه، ولذلك لا يقال: لا تشرب هذا الماء وهو بين يديه، ومعنى حرمة العين، منعه من التصرف فيها، فالعين ممنوعة. والعبد ممنوع عنها وذلك كما إذا صببت الماء الذي بين يديه وهو أبلغ. (ص) {وامسحوا برؤوسكم} (ش) أي لا إجمال فيها خلافا لبعض

الحنفية بل هو حقيقة فيما ينطلق عليه الإسلام وهو القدر المشترك بين مسح الكل والبعض فيصدق مسح البعض، وعزاه في المحصول للشافعي رضي الله عنه، ونقل ابن الحاجب عنه ثبوت التبعيض بالعرف. (ص) (لا نكاح إلا بولي). (ش) (119أ) الصيغ الواردة في الشرع لذوات واقعة كقوله: ((لا نكاح إلا بولي)) و ((ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)) ((لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)).

اختلفوا فيها فالجمهور على أنها ليست مجملة بناء على القول بثبوت الحقائق الشرعية وأن الشرعي مخصوص بالصحيح، وأنه محمول على الشرعي دون اللغوي وغيره من المجملات ومع ذلك لا وجه للإجمال إذ لا شك في انتفاء الذوات وذهب القاضي أبو بكر وبعض المعتزلة إلى أنها مجملة بناء على نفيه الحقائق الشرعية، وأن الشرعي للأعم من الصحيح والفاسد، والقائلون بالإجمال اختلفوا في سببه على ثلاثة مذاهب: أحدها: كون اللفظ لم يرد به نفي الوقوع، إذ وقوعه مشاهد وإنما أريد به أمر آخر لم يذكر، وهو غير معلوم فكان مجملا. والثاني: أنها ظاهرة في نفي الوجود ونفي الحكم فصار مجملا. الثالث: إنها مترددة بين نفي الكمال ونفي الجواز وهو الذي صرح به القاضي في التقريب وزعم المازري أن القاضي يقول بالوقف في هذه المسألة قال: وهو غير مذهب الإجمال، فنقول: يحتمل عندي نفي الإجمال ونفي الكمال لا أكثر من ذلك، حتى يعلم دليل من أحد الأمرين، والقائل بالإجمال يقول إنه يستغرق جميع الأشياء فالتحق بالمجملات.

(ص) ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)). (ش) ذهب أبو الحسين وأبو عبد الله البصريان إلى أنه مجمل لتردده والجمهور على خلافه لظهوره في نفي المؤاخذة والعقاب ولكن هل ذلك بالعرف أو باللغة؟ جزم ابن الحاجب بالأول، وهو الذي قاله القاضي في التقريب تفريعا على ثبوت الأسماء الشرعية وذكر ابن السمعاني الثاني. واعلم أن المصنف تقدم له في باب العموم، نفي أن يكون هذا عاما، حيث قال: لا المقتضى وهنا نفى أن يكون مجملا وهو في هذا الاضطراب متابع لابن الحاجب. (ص) ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)). (ش) هذه سبقت في ((لا نكاح إلا بولي)). فلا وجه للتكرار، وقال ابن دقيق العيد: صار بعض الأصوليين إلى أن هذا اللفظ مجمل من حيث إنه يدل على نفي الحقيقة وهي غير منتفية، فيحتاج إلى الإضمار ولا سبيل إلى إضمار كل محتملة لوجهين: أحدهما: أن الإضمار إنما احتيج إليه للضرورة، والضرورة تندفع بإضمار فرد، فلا حاجة إلى إضمار أكثر منه.

وثانيهما: أن إضمار الكل قد يناقض، لأن إضمار الكل يقتضي إثبات أصل الصحة ونفي الصحة معارضة وإذا تعين إضمار فرد، فليس البعض أولى من البعض، فتعين الإجمال. وجواب هذا، بأنا لا نسلم أن الحقيقة غير منتفية إنما تكون غير منتفية لو حمل لفظ الصلاة، على غير عرف الشرع وكذلك الصيام وغيره، وأما إذا حمل على عرف الشرع، فيكون منتفيا حقيقة ولا يحتاج إلى الإضمار المؤدي إلى الإجمال، ولكن ألفاظ الشرع محمولة على عرفه، لأنه الغالب ولأنه المحتاج إليه عنه، فإنه بعث لبيان الشرعيات لا لبيان موضوعات اللغة. (ص) لوضوح دلالة الكل وخالف قوم. (ش) هو راجع لجميع ما سبق وقد بينا وجه الظهور والخلاف فيها. (ص) وإنما الإجمال في مثل: القرء والنور والجسم، ومثل: المختار لتردده بين الفاعل والمفعول. (ش) الإجمال يكون تارة في المفرد وتارة في المركب وللأول (119ب) أسباب: أحدها: أن يكون وضع لذلك كالقرء للطهر والحيض، والشفق على الحمرة والبياض وهذا ما ذكره ابن الحاجب وغيره لكن للإمام تقي الدين في شرح المقترح، دقيقة الفرق بين المجمل والمشترك أن المجمل يستدعي ثبوت احتمالين متساويين بالنسبة إلى الفهم سواء وضع اللفظ لهما على وجه الحقيقة أو في أحدهما مجاز وفي الآخر حقيقة فالإجمال إنما هو بالنسبة إلى الفهم، والمشترك لا يكون إلا لاحتمالين متساويين بالنسبة إلى الوضع لا بالنسبة إلى الفهم فلا يكون مجملا. انتهى.

ثانيها: صلاحية اللفظ لمتماثلين بوجه، وذلك كالنور، للعقل ونور الشمس بالنهار. ثالثها: صلاحيته لمتماثلين وذلك كالجسم للسماء والأرض، والرجل لزيد وعمرو، وهذا الذي قلته ذكره الغزالي. رابعها: صلاحيته للفاعل والمفعول، كالمختار تقول: اخترت فلانا، فأنا مختار وهو مختار، قال العسكري ويتميز بحرف الجر، فتقول في الفاعل مختار لكذا وفي المفعول مختار من كذا. (ص) وقوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}. (ش) الإجمال في التركيب له أمثلة منها هذه الآية، لتردد الذي بيده عقدة النكاح بين الزوج والولي ولذلك اختلف فيه فقال الشافعي

بالأول ومالك بالثاني. ويرجح قول الشافعي لأنه المروى عن علي وابن عباس عالمي الصحابة، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، إنما المخالف الزهري ومجاهد والحسن، ثم هو جار على القواعد، فإن الولي لا يجوز له أن يعفو عن مال اليتيم بوجه من الوجوه وحمل المحتمل على موافقة القواعد الشرعية أولى. واعلم أن المصنف تابع ابن الحاجب في جعله هذا من الإجمال، وهو منازع فيه على مذهبه، لظهوره عند الشافعي رضي الله عنه في الزوج ومع ذلك لا إجمال. (ص) {إلا ما يتلى عليكم} (ش) ومنها أن يكون موضوعا لجملة معلومة، إلا أنه دخلها استثناء مجهول، فيكون مقتضيا لإجمال جميعه كقوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} فإنه صار مجملا لما دخله

الاستثناء ومثله قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} لما كان الحق مجملا صار ما نهى عنه من القتل مجملا، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا)). (ص) {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم}. (ش) ومنها التردد بين العطف والقطع كالواو في قوله تعالى: {والراسخون في العلم} ومن ثم جاء الخلاف في جواز الوقف على قوله: {إلا الله} وقد سبقت هذه المسألة. وهذا يحسن أن يكون معدودا من أسباب الخلاف، لا أن الأصح فيه الإجمال لما سبق من ترجيح خلافه. (ص) وقوله عليه السلام: ((لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره)).

(ش) ومنها التردد في مرجع الضمير إلى ما تقدم، فإن ضمير الجوار يحتمل العود على نفس، (أي في جدار نفسه) وعلى جاره أي في جدار جاره، ولهذا اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في الجدار المختص بأحد الجارين هل للآخر وضع الجذوع عليه، والجديد المنع، بناء على أن الضمير في جداره لصاحب الخشبة أي لا يمنعه الجار أن يضع خشبة على جدار نفسه، ويرجح هذا بأنه الأوفق للقاعدة النحوية في عود الضمير للأقرب. (ص) وقولك زيد طبيب ماهر. (ش) ومنها التردد في مرجع الصفة فإن ماهرا قد يرجع إلى الطبيب

(120أ) وقد يرجع إلى زيد ويتفاوت المعنى باعتبارهما. (ص) والثلاثة زوج وفرد. (ش) ومنها تردد اللفظة بين جميع الأجزاء وجميع الصفات نظرا إلى اللفظ وإن كان أحدهما يتعين من خارج، كقولك: الثلاثة زوج وفرد، فإنه بالنظر إلى دلالة اللفظ. لا يتعين أحدهما، وبالنظر إلى صدق القائل يتعين أن يكون المراد منه جميع الأجزاء فإن حمله على جميع الصفات أو بعضها يوجب كذبه. (ص) والأصح وقوعه في الكتاب والسنة. (ش) أي خلافا لداود وقال الصيرفي: ولا أعلم أحدا أباه غيره الدليل على ما سبق من الآيات والأحاديث. فائدة: هل نكلف بالتزام شيء قبل ورود البيان قال صاحب (القواطع) قالوا: إن التزام المجمل قبل بيانه واجب، واختلف أصحابنا في كيفية التزامه قبل البيان على قولين: أحدهما: أنا متعبدون قبل البيان بالتزامه بعد البيان. الثاني: أنا متعبدون قبل البيان بالتزامه مجملا، وبعد البيان بالتزامه مفسرا.

وهذا الخلاف مما فات المصنف ذكره، وهو قريب من الخلاف السابق في العام، هل يجب اعتقاد عمومه قبل ورود التخصيص؟ (ص) وأن المسمى الشرعي أوضح من اللغوي وقد تقدم. (ش) أي فيحمل على الشرعي إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوي، لاستقراء عرف الشارع غالبا في إطلاق لفظ الصلاة والصوم وغيرهما، لما ثبت له فيه عرف استعمال، وقيل: مجمل، وبه قال القاضي قال الأبياري: وهو يناقض مذهبه في نفي الأسماء الشرعية اللهم إلا أن يكون له قول آخر بإثباتها، وإلا فالإجمال، مع اتحاد جهة الدلالة محال، أو يكون ذلك تفريعا منه على قول من يثبتها وهذا ضعيف فإنه من أين له الحكم عليهم بأنهم يسوون بين النسبة إلى المسميين؟ وقوله: وقد تقدم، أي فصل الحقيقة والمجاز. (ص) فإن تعذر حقيقة فيرد إليه بتجوز أو يحمل على اللغوي أقوال: (ش) إذا وردت لفظة لها مسمى لغوي ومسمى شرعي وتعذر الشرعي حقيقة، ولم يمكن الرد إليه إلا بتجوز، كقوله: (الطواف بالبيت صلاة) فإنه لا يمكن

حمله على الصلاة الشرعية حقيقة. رد إلى المجاز فيحمل على أن حكمه حكم الصلاة في الطهارة والستر ونحوها، لأن عرف الشارع تعريف للأحكام، فيرد كلامه إلى الشرعي ما أمكن، وقيل: يحمل على اللغوي حتى يقال: المراد بالصلاة، الدعاء وقيل: مجمل، لتردده بينهما، ولم يحك ابن الحاجب فيه القول بالحمل على اللغوي. ونظير المسألة أيضا، أن يتعذر الحمل على اللغوي كما يتعذر على الشرعي فهل يرد إلى الشرعي أو يكون مجملا، فيه هذا الخلاف، وعبارة المصنف شاملة لكل من الصورتين، فإن قوله: تعذر، أعم من الشرعي أو اللغوي، والغزالي ذكر الأولى ومثل لها الطواف بالبيت صلاة كما ذكرنا ويمكن أن يكون مثالا للثانية، فإن الطواف ليس هو نفس الصلاة الشرعية ولا اللغوية، فهل يرد إلى الشرعية أو يكون مجملاً ومثل الأولى بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الاثنان فما فوقهما جماعة)) قال: فإنه يحتمل أن يكون المراد به أنه يسمى جماعة (ويحتمل أن يكون المراد به) انعقاد الجماعة أو حصول فضيلتها.

(ص) والمختار أن اللفظ المستعمل لمعنى (تارة ولمعنيين ليس ذلك المعنى) أحدهما: مجمل، فإن كان أحدهما فيعمل به ويوقف الآخر؟ (ش) إذا أمكن حمل الكلام على ما يفيد معنيين، وحمله على ما يفيد معنى واحدا وهو متردد بينهما، فهو مجمل، وقيل: يترجح حمله على ما يفيد معنيين كما لو دار بين ما يفيد وبين ما لا يفيد (120ب) واختاره الآمدي وأطلق المسألة تبعا للغزالي وحمله المصنف على ما إذا كان المعنى الواحد ليس واحدا من المعنيين، فهذا لا يتجه خلاف في الحمل بذلك المعنى، بل يقطع بكونه مجملا، ولا يقال: الحمل على ما يفيد معنيين أولى، لكونه أكثر فائدة، لأنا نقول: إنما يتحقق هذا لو كان المعنى الواحد أحد المعنيين، أما إذا لم يكن فهو قسيمه، وفي العمل به دفع لأحد محتملي اللفظ بمجرد كونه الآخر أكثر فائدة وهو لا يوجب هذا، فأما إذا كان المعنى الواحد، أحدهما، أي أحد المعنيين من المحل الآخر فيعمل به أي بالمعنى الواحد على كل حال، ولا يتجه فيه خلاف، لأنه إن كان هو تمام المراد باللفظ فلا إشكال، وإلا فهو أحد المرادين فلا مانع من العمل ويقف الآخر فإنه محل النظر.

البيان والمبين

البيان والمبين (ص) البيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي. (ش) هذا نقله ابن السمعاني وغيره عن أبي بكر الصيرفي وزاد عنه إمام

الحرمين وابن الحاجب والوضوح وإنما اختاره المصنف لأنه أجاب عما أورده ابن الحاجب عليه، فإن القاضي قال: يخرج عنه البيان ابتداء وهو الظاهر من غير سبق إجمال. وأجاب المصنف أن الصيرفي منع تسميته بيانا، فإن البيان الذي هو فعل المبين، إنما يكون لما ليس واضحا ولأن ما ورد ابتداء أفاد علما لم يكن حاصلا للسامع فهو قبل السماع. كمن أشكل عليه خطاب سبق وروده، واعترض عليه إمام الحرمين بأنه تجوز بالخبر والمجاز لا يدخل في التعريف، وأجاب المصنف بأن المجاز الظاهر يجوز دخوله وإلا لم يسلم لهم تعريف. (ص) وإنما يجب لمن يريد فهمه اتفاقا. (ش) لأن الفهم شرط التكليف، وإن لم يرد لم يجب، ولهذا ذهب بعضهم إلى

أنه لا يجب البيان في الخبر، وإنما يجب في التكاليف التي يحتاج إلى معرفتها للعلم بها. (ص) والأصح أنه قد يكون بالفعل. (ش) بدليل أنه - عليه الصلاة والسلام- بين الصلاة والحج بالفعل، وقال: ((خذوا عني مناسككم)). ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وقيل: يمتنع لأنه يطول فيتأخر البيان به مع إمكان تعجيله، ومحل الخلاف ما إذا ورد مجملا ثم فعل فعلا يصلح أن يكون بيانا له (فيعلم بذلك أنه واقع منه على جهة البيان وإلا للزم خلو المجمل عن البيان، وهو ممتنع أما إذا قال القصد بما كلفتهم بهذه الآية ما أفعله ثم فعل فعلا فلا خلاف أن يكون بيانا له) قاله القاضي في (التقريب). واعلم أنه لا خلاف في وقوع البيان بالقول وإنما الخلاف في الفعل، وسكتوا عن الإشارة والكتابة فيحمل أن يكون على خلاف الفعل، لكن قال صاحب

كتاب (الواضح) من الحنفية لا أعلم خلافا في أن البيان يقع بهما. (ص) وأن المظنون يبين المعلوم. (ش) هذا نقله القاضي في (التقريب) عن الجماهير وقال: إنه المختار واختاره الإمام الرازي واقتصر ابن الحاجب على نقله عن أبي الحسين ثم اختار أن البيان يجب أن يكون أقوى دلالة من المبين وعن الكرخي المساواة واستنكر الهندي ذلك وقال: لا يتوهم في حق أحد، أنه ذهب إلى اشتراط أنه كالمبين في قوة الدلالة فإنه لو كان كذلك لما كان بيانا له، بل كان هو يحتاج إلى بيان آخر وحكى القاضي

عن العراقيين التفصيل بين ما يعم وجوبه سائر المكلفين لبيان أقدار الصلاة والزكاة وصفاتهما وميقاتهما، فيجب أن يكون بيانه معلوما متواترا وبين ما لا تعم به البلوى وتختص معرفته بالعلماء كقدر نصاب السرقة وأحكام المدبر والمكاتب فيقبل في بيانه خبرا لواحد فحصل ثلاثة مذاهب. (ص) وإن المتقدم وإن جهلت عينه من القول والفعل (121أ) هو البيان وإن لم يتفق البيانان كما لو طاف بعد الحج طوافين وأمر بواحد، فالقول وفعله ندب أو واجب متقدما أو متأخرا وقال أبو الحسين المتقدم. (ش) إذا ورد بعد المجمل قول وفعل، فإما أن يتفقا في الحكم أو يختلفا: فإن اتفقا فإما أن يعلم المتقدم منهما أولا فإن اتفقا وعلم المتقدم منهما فهو البيان قولا كان أو فعلا، والثاني تأكيد وإن جهل فأحدهما هو البيان من غير تعيين له، وقيل: يتعين غير الأرجح للتقديم، لأن المرجوح، لا يكون تأكيدا للراجح لعدم الفائدة

واختاره الآمدي وإن لم يتفقا كما لو طاف صلى الله عليه وسلم بعد الحج طوافين وأمر بطواف واحد فالمختار أن البيان هو القول (وفعله إما ندب له صلى الله عليه وسلم أو واجب عليه لا علينا سواء كان) متقدما على الفعل أو متأخرا، لأن الجمع بين الدليلين أولى وقال أبو الحسين: البيان هو المتقدم قولا كان أو فعلا، كما في صورة اتفاق

القول والفعل وهو باطل، لأنه يلزمه نسخ الفعل بالقول إذا وقع القول متقدما مع إمكان الجمع بينهما. (ص) مسألة: تأخير البيان عن وقت الفعل غير واقع وإن جاز. (ش) أي بناء على جواز تكليف ما لا يطاق، وعدل عن تعبير ابن الحاجب بالحاجة فإن الأستاذ أبا إسحاق، لم يستحسنها، وقال: هي عبارة تليق بمذهب المعتزلة القائلين إن بالمؤمنين حاجة إلى التكليف، وعدل عن قوله ممتنع، إلى قوله:

غير واقع لمطابقته لأصول الأشاعرة فإنهم وإن جوزوه، فلا يقضي بوقوعه كما سبق، والغرض أنه لم يقع، وقوله: إن جاز، لا ينافي قوله في مباحث الكتاب: ولا ما يعني به غير ظاهره إلا بدليل. تنبيه: قولهم لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو الفعل، هل المراد به وقت إمكان الفعل، أو وقت تضييق الزمان، مثاله: إذا زالت الشمس ولم يبين للمكلف ما يفعل هل يكون هذا تأخيرا للبيان، أو لا يكون إلى أن يبقى من الوقت ما يسع تلك الصلاة. الذي صرح به القاضي أبو بكر، أن المراد وقت جواز الشروع في الفعل، فيكون تأخير البيان عن وقت الزوال تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة، وعلى هذا يشكل تعليلهم المنع بأنه تكليف ما لا يطاق، لأنه إذا تبين له في نصف الوقت لم يكن تكليفا بما لا يطاق، وهو تأخير البيان عن وقت الحاجة.

(ص) وإلى وقته واقع عند الجمهور، سواء كان للمبين ظاهر أم لا، وثالثها: يمتنع في غير المجمل وهو ما له ظاهر، ورابعها: يمتنع تأخير البيان الإجمالي فيما له ظاهر بخلاف المشترك والمتواطئ وخامسها: يمتنع في غير النسخ، وقيل: يجوز تأخير النسخ اتفاقا، وسادسها: لا يجوز تأخير بعض دون بعض. (ش) في تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل مذاهب. أحدها: أنه جائز وواقع مطلقا، سواء كان للمبين ظاهر، كتأخير بيان التخصيص وبيان مدة النسخ، أم لا، وبه قال أكثر أصحابنا وغيرهم. والثاني: أنه ممتنع، وعزاه القاضي في (التقريب) للمعتزلة ووافقهم كثير من الظاهرية كابن داود ومن أصحاب الشافعي رضي الله عنه، كأبي إسحاق المروزي وأبي بكر

الصيرفي وتبعه ابن الحاجب في النقل عن الصيرفي لكن نقل الأستاذ أبو إسحاق رجوعه عنه. وثالثها: يمتنع في غير المجمل، (وهو ما له ظاهر) وقد سبق تفسيره، وبه قال الكرخي، قال الأبيارى في شرح البرهان: من المعتزلة من فرق بين العام والمجمل، فقال: يجوز تأخير بيان المجمل، إذ لا يحصل فيه تجهيل (121ب) ولا يجوز تأخير بيان العموم لما فيه من إلباس، ومنهم من عكس ذلك فقال: يجوز تأخير بيان العموم لما فيه من أجل الفائدة بخلاف المجمل، فإن وروده لا فائدة فيه، وكان ينبغي للمصنف أن يقول: وقيل عكسه. ورابعها: يمتنع تأخير البيان الإجمالي، ومثل هذا العموم مخصوص، وهذا المطلق مقيد وهذا الحكم ينسخ. ولا يمتنع تأخير البيان التفصيلي، وبه قال أبو الحسين، لكنه خصه بما له ظاهر بخلاف المشترك. وخامسها: يمتنع في غير النسخ، ويجوز فيه وهو قول الجبائي وعبر بعضهم عن هذا بتعبير حسن فقال: ومنهم من جوز في الأحكام لقبولها النسخ، وهو عندهم يرجع إلى البيان دون الوعد والوعيد، وظهر بهذا السياق أن النسخ من محل الخلاف لكن قضية كلام القاضي وإمام الحرمين والغزالي أنه يجوز تأخير النسخ بلا خلاف والخلاف فيما عداه. وسادسها: لا يجوز تأخير بعض دون بعض، وإنما يجوز التأخير دفعة، وإلا لاعتقد المخاطب بيان البعض أن لا إشكال بعده وهذا يتعلق بمسألة أخرى وهي أنه

على القول بالجواز فهل يجوز التدريج في البيان؟ فمنهم من منعه وقال: إذا شرع في البيان وجب أن يبين الجميع، فإن اقتصاره على إخراج صورة من العموم يوهم كون الباقي مقطوعا باستقراره والصحيح الجواز فإنه كان يبين ما تدعو الحاجة إليه، ولما سئل عن الاستطاعة فقال: ((زاد وراحلة)) ولم يتعرض لأمن الطريق في ذلك الوقت وإن كان شرطا. (ص) وعلى المنع المختار أنه يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم تأخير التبليغ إلى وقت الحاجة، وإنه يجوز أن لا يعلم الموجود بالمخصص، ولا بأنه مخصص. (ش) يتفرع على المنع من تأخير البيان مسألتان: إحداهما: يجوز تأخيره صلى الله عليه وسلم تبليغ الحكم إلى وقت الحاجة، فإن وجوب معرفتها إنما هو لوجوب العمل ولا عمل قبل الوقت، وقيل: يمتنع لوجوب المبادرة عليه، وكلام الرازي والآمدي يقتضي أن الخلاف في تبليغ غير القرآن من الأحكام،

أما القرآن فيجب ذلك فيه قطعا ولا يتجه بينهما فرق. الثانية: يجوز أن لا يعلم الموجود بالمخصص، بل يجوز إسماع المخصوص بدون مخصصه، خلافا للجبائي فإنه منعه من المخصص السمعي دون العقلي، وتعبير المصنف بالموجود يفهم أن من ليس موجودا حالة نزول التخصيص لا يشترط إسماعه بلا خلاف، لعدم إمكانه وينبغي جعل الألف واللام فيه للعموم، فإن القائل بالإعلام يشترط إعلام الجميع ولا يكتفي بإسماع بعضهم، وقوله: ولا بأنه مخصص هذا العطف يقتضي طرد الخلاف السابق هنا وليس كذلك بل ينبغي الجمع - كما قال القاضي - على جواز أن يسمع الله المكلف العام من غير أن يعلمه أن في العقل ما يخصصه ولعله أراد المخصص السمعي. (ص) النسخ: اختلف في أنه رفع أو بيان.

(ش) أكثر المحققين من الأصوليين على أنه رفع، وبه قال القاضي والغزالي ومعناه أنه لولا طريان النسخ لبقى الحكم، إلا أنه زال لطريان الناسخ، وذهب الأستاذ أبو إسحاق وإمام الحرمين وأكثر الفقهاء إلى أنه بيان ومعناه أن الخطاب الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت ثم حصل بعده حكم والدليل الذي يرد مبينا للحكم

الجديد يعرف ذلك بيان، وأنكروا كونه (122أ) رفعا، بناء على أن الحكم راجع إلى كلام الله تعالى، هو قديم، والقديم لا يرتفع وأجيب بأن المرفوع تعلق الحكم النسبي لا ذاته، وحاصله أنهم اتفقوا على أن الحكم السابق انعدم، لانعدام تعلقه لا لانعدام ذاته إذ الحكم قديم، واتفقوا على أن الحكم اللاحق عنده يتحقق عدم الأول، لكن اختلفوا في عدم الأول، هل يضاف إلى وجود الثاني فيقال: إنما ارتفع الأول بوجود الثاني، فهو حينئذ رافع له، أو لا يضاف إليه بل يقال: الأول انتهى، لأنه من نفس الأمر لم يكن له صلاحية الدوام لكونه مغيا عند الله تعالى إلى غاية معلومة، فيكون النسخ بيانا لها؟ وهو كالخلاف الكلامى في أن زوال الأعراض بالذات أو بالضد؟ فإن من قال ببقائها. قال: إنما ينعدم المتقدم لطريان الطارئ (ولولاه لبقي، ومن لم يقل ببقائها قال: إنه ينعدم بنفسه ثم يحدث الضد الطارئ) وليس له تأثير في إعدام الضد الأول. وكالخلاف الفقهي في الزائل العائد، فإن القائل بأنه كالذي لم يزل - يجعل العود بيانا لاستمرار حكم الأول، والقائل بأنه كالذي لم يعد - يقول: ارتفع الحكم بالزوال فلا يرتفع حكمه بالعود، وبهذا يظهر وهم من ظن أن النزاع لفظي. (ص) والمختار رفع الحكم الشرعي بخطاب. (ش) هذا أقرب الحدود على القول بأنه رفع، فخرج بالرفع: المباح بحكم

الأصل، إذ ليس حكما شرعيا ولهذا رد الأصحاب ما نقل عن مالك أن الكلام كان مباحا في الصلاة في ابتداء الإسلام على الإطلاق، ثم نسخ بما لا يتعلق بمصلحة الصلاة، بالإجماع وبقي ما سواه على أصل الإباحة، فقالوا: هذا ليس بنسخ، لأن إباحة الكلام لم تكن بخطاب من جهة الشرع، وإنما كان الناس منه على الأصل، ويخرج أيضا: ابتداء إيجاب العبادة من الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا وقوله: بخطاب: يشمل النسخ باللفظ والمفهوم، إذ يجوز النسخ بذلك كما سيأتي وخرج به الرفع بالنوم والغفلة والموت والجنون. تنبيهان: قد يشكل على الحصر في الخطاب جواز النسخ بالفعل، وقد جعل الأئمة منه نسخ الوضوء مما مست النار بأكل الشاة ولم يتوضأ ولا خطاب فيه، وهو كثير ثم رأيت المصنف قال: قولنا: بخطاب، لا ينافيه قولنا بعد ذلك أن المتأخر من أقواله وأفعاله ناسخ (لأنه لم يرد بالخطاب إلا ما يقابل الفعل، ولأن المراد بالناسخ هناك ما دل على النسخ، لا أنه نفسه ناسخ) والفعل نفسه لا ينسخ، وإنما يدل على نسخ سابق، ولا يمكن أن يكون فعلا ناسخا، لأن له أزمنة متعاقبة فلو كان هو الناسخ لما تحقق نسخ إلا بعد انقضائه فكان قبل انقضائه واقفا على وجه باطل، وهذا محال. انتهى. ولا يخفى

ما فيه من الخروج عن ظاهر كلام الأصحاب مع أنه قد أطلق على الفعل تخصيصا كما سبق في باب التخصيص ولم يذكر فيه هذا التأويل. الثاني: علم من اقتصار المصنف على هذا أن قول ابن الحاجب متأخر فيخرج نحو: صل عند كل زوال إلى آخر الشهر لا حاجة إليه، فإن هذا ليس يرفع، لأن الحكم لم يثبت بأول الكلام إذ الكلام بآخره فكيف يرفع. والاستغناء عنه بقولنا: بخطاب، فإنه لا بد أن يتأخر عن الذي رفعه، وعدل عن قوله: بدليل شرعي، إلى: خطاب - ليفرع عليه المسألة الآتية. (ص) فلا نسخ بالعقل، وقول الإمام: من سقط رجلاه نسخ غسلهما - مدخول. (ش) علم من قوله: الحكم الشرعي بخطاب أنه لا بد أن يكون الحكمان - أعني الناسخ والمنسوخ - شرعيين، لأن العجز يزيل التعبد الشرعي، ولا يقال: إنه نسخ، ولا يكون (122ب) النسخ بالعقل وخالف فيه الإمام فقال في (المحصول): من سقط رجلاه فقد نسخ عنه غسلهما، وهو مدخول إذ لا خطاب، وزوال الحكم لزوال سببه لا يكون نسخا، ولكن الخلاف فيه سهل لرجوعه إلى التسمية. (ص) ولا بالإجماع، ومخالفتهم تتضمن ناسخا. (ش) هذا ألحقه المصنف بخطه على الحاشية وضرب عليه في باب التخصيص، لأن المسألة هنا أمس، وحاصله أنه لا يقع النسخ بالإجماع، لأنه لا

ينعقد إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتصور أن ينسخ ما كان من الشرعيات في زمنه، وبعده لا نسخ، فأما الإجماع بما يخالف النص الخاص أو العام بالكلية، فلا يكون إجماعهم ناسخا لذلك النص، بل يكون إجماعهم تضمن ناسخا اقتضى ذلك، وهو مستند الإجماع وحاصله أن النسخ بدليل الإجماع لا بنفس الإجماع، وعلى هذا ينزل نص الشافعي رضي الله عنه، الذي نقله البيهقي في (المدخل)، أن النسخ

كما يثبت بالخبر يثبت بالإجماع. (ص) ويجوز على الصحيح نسخ بعض القرآن تلاوة وحكما أو أحدهما فقط. (ش) مثال نسخهما معا ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن) فنسخن بخمس معلومات ومثال نسخ الحكم دون التلاوة الاعتداد في الوفاة بالحول، لقوله تعالى: {متاعا إلى الحول غير إخراج} نسخ بقوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} ومثال نسخ التلاوة دون الحكم ما رواه الشافعي رضي الله عنه، وغيره عن عمر - رضي الله عنه - كان فيما أنزل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهم البتة) قال ابن السمعاني: ومنع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه، ومن نسخ الحكم مع بقاء لفظه، لأنه يؤدي إلى أن يبقى الدليل ولا مدلول والآخر يؤدي إلى أن يرتفع الأصل ويبقى التابع، والصحيح هو الجواز، لأن التلاوة والحكم في الحقيقة شيئان مختلفان، فجاز نسخ إحداهما وتبقية الآخر كالعبادتين تنسخ إحداهما دون الأخرى، وظاهر كلام المصنف طرد الخلاف في نسخهما معا وعليه عبارة ابن الحاجب وقال في شرحه: الخلاف في

نسخهما معا لا يتجه إلا لمن يمنع نسخ القرآن من حيث هو، والمقصود بهذا الخلاف الخاص إنما هو نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس وإنما ذكروا نسخهما لضرورة التقسيم وإن كان لا يخالف فيه أحد ممن يجوز وقوع النسخ في القرآن وعلم من قوله: بعض القرآن امتناع نسخ كل القرآن وهو إجماع. (ص) ونسخ الفعل قبل التمكن. (ش) إذا أوجب شيئا ثم نسخه قبل التمكن من الفعل فالجمهور على الجواز وقال القاضي في (التقريب): إنه قول جميع أهل الحق، ونقل ابن السمعاني عن الصيرفي وأكثر الحنفية المنع، وتصوير المصنف ذكره الغزالي وغيره، وصورها أبو الحسين بالنسخ قبل وقت الفعل، وتبعه ابن الحاجب والأحسن أن يقال قبل

مضي مقدار ما يسعه (من وقت، ليشمل ما إذا حضر وقت العمل ولكن لم يمض مقدار ما يسعه) فإن هذه الصورة من محل النزاع، وعبارة المصنف تشملها، والقائلون بالجواز أرادوا أنه نسخ الخطاب الذي لم يتقدم به عمل البتة، وحينئذ فلا يتوجه نقل الإمام، فإن المراد نسخ الحكم المتلقى من الخطاب قبل التمكن من مقتضاه البتة. (ص) والنسخ بالقرآن لقرآن وسنة. (ش) يجوز نسخ القرآن بالقرآن بالإجماع كالعدتين (123أ) ويجوز القرآن للسنة كالتوجه لبيت المقدس، إذا قلنا إنه كان ثابتا بالسنة فإنه نسخ بالقرآن، وكذلك المباشرة بالليل كانت محرمة على الصائم بالسنة ثم نسخت بالقرآن قال ابن السمعاني: وذكر الشافعي رضي الله عنه، في (الرسالة) ما يدل على أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز ولوح في موضع آخر بالجواز فخرجه أكثر أصحابنا على قولين:

أحدهما: لا يجوز، وهو الأظهر من مذهبه، والثاني: يجوز وهو الأولى بالحق فإن النبي صلى الله عليه وسلم صالح المشركين عام الحديبية، على أن ما جاءه من المشركات مسلمة يردها إليهم، ثم نسخها الله تعالى بقوله: {فلا ترجعوهن إلى الكفار} وترك الصلوات يوم الخندق حتى مضى هوي من الليل ثم صلاها على الترتيب. ثم نسخ

بقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية. (ص) وبالسنة للقرآن وقيل: ممتنع بالآحاد والحق لم يقع إلا بالمتواترة وقال الشافعي: حيث وقع بالسنة فمعها قرآن، أو بالقرآن فمعه سنة عاضدة له تبين توافق الكتاب والسنة. (ش) يجوز النسخ بالسنة للقرآن متواترا أو آحادا أما الآحاد: فنقل جماعة الاتفاق على الجواز، ونقل بعضهم المنع، والحق أنها مسألة خلافية وممن حكى الخلاف فيها القاضي أبو بكر وغيره، واختاروا الجواز، وجعلوا القول بالمنع ساقطا، لكن عزاه بعضهم للأكثرين، وأنهم فرقوا بينه وبين تخصيص العام، المتواتر بالآحاد، أن التخصيص بيان وجمع بين الدليلين والنسخ رفع وإبطال، فإن قلت: كيف ساغ للمصنف تمريض قول الأكثرين؟ قلت: لأنهم إنما أنكروا الوقوع ولم ينكروا الجواز إلا الأقلون، وكلامه في الجواز، وهذا وارد على عبارة ابن الحاجب، قال في شرحه: والأكثرون نفوا الوقوع وخالف جماعة من الظاهرية. وفصل القاضي والغزالي فقالا بوقوعه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم دون ما بعده، ونقل القاضي الإجماع على المنع فيما

بعده قال: وإنما اختلفوا في زمانه، وقال أبو الحسين في (المعتمد): إن قيل: فقد قبلوا خبر الواحد في نسخ حكم معلوم، نحو قبول أهل قباء نسخ القبلة، قيل: ذلك جائز في العقل وفي صدر الإسلام. قال أصحابنا: ولولا إجماع الصحابة على المنع لجوزناه. وقد قال أبو علي الجبائي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أخبرهم بنسخ القبلة وأنه ينفذ إليهم بنسخها فلانا، وأعلمهم صدقه فكانوا قاطعين على صدقه، فلم ينسخوا القبلة إلا بخبر معلوم، وأما المتواتر فالمشهور الجواز أيضا إذ هما جميعا وحي من الله تعالى، ويوجبان العلم والعمل، وإنما اختلفا في أن السنة نقص منها الإعجاز، كذا وجهه ابن عطية، وقيل: لا ينسخ وإنما يكون حكم القرآن مؤقتا، ثم تأتي السنة مستأنفة من غير أن يتناوله نسخ، قال ابن عطية: وهذا لا يستقيم، لأنا نجد السنة ترفع ما استقر من حكم القرآن على حد النسخ ولا يرد ذلك نظر ولا يتحوم منه أصل. واعلم أن المنصوص للشافعي رضي الله عنه المنع، وظاهره إنما نفى الوقوع فقط، والحق الوقوع لكن وراء الوقوع أمر آخر، وهو أنه إذا وقع نسخ السنة بالكتاب فعلى أي وجه يكون؟ هل يشترط اقتران سنة معاضدة للكتاب ناسخة؟ وإذا وقع نسخ الكتاب بالسنة هل يشترط العاضد؟ فهذا هو محل كلام الشافعي رضي الله عنه وحاصله أنه لا يقع نسخ السنة إلا بالكتاب والسنة جميعا، لتقوم الحجة على الناس بالأمرين معا، ولئلا يتوهم انفراد أحدهما عن الآخر، فإن الكل

(123ب) في الحقيقة من عند الله تعالى، ولكن لبيان حكم الله تعالى طريقان: طريقة الكتاب وطريقة السنة، فليجتمعان هنا دفعا لهذا التوهم، ولتقوم الحجة على الناس بهما، ولأمر ثالث وهو: انتقال المكلفين من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنته (وفي ذلك فائدة الاطلاع على عظمة النبي صلى الله عليه وسلم في نسخ القرآن بسنته، وأما العكس فانتقال الناس من سنة إلى سنة) كما يترتب عليه الأجر العظيم، لأن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب السنة الحسنة كلها، فله الأجور أبدا لا تتناهى فإذا نسخ الله تعالى سنة نسختها سنة ليتحصل له هذا الأجر، ودليل هذا كله الاستقراء وإنه لم يقع إلا على هذا الوجه، هذا تقرير كلام المصنف، وكلام الشافعي رضي الله عنه في (الرسالة) يقتضي أن السنة لا يثبت نسخها إلا بسنة، ولا ينعقد الإجماع على أنها منسوخة إلا مع ظهور الناسخ، قال: فإن قال: أيحتمل أن تكون له سنة مأثورة وقد نسخت، ولا تؤثر له السنة التي نسختها؟ فلا يحتمل هذا، وكيف يحتمل أن يؤثر ما وضع فرضه، ويترك ما يلزم فرضه، ولو جاز هذا خرجت عامة السنن بأن يقولوا لعلها منسوخة وليس ينسخ فرض أبدا إلا إذا أثبت مكانه فرض فإن قال: فهل تنسخ السنة بالقرآن؟ قيل: لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة تبين أن سننه الأولى منسوخة بسنته الآخرة حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله.

(ص) وبالقياس، وثالثها: إن كان جليا، والرابع: إن كان في زمنه عليه الصلاة والسلام والعلة منصوصة. (ش) صورة النسخ بالقياس أن ينص على إباحة التفاضل في الأرز مثلا، فهل ينسخ بالمستنبط من نهيه عليه الصلاة والسلام عن الأصناف الستة أو عن بيع الطعام مثلا بمثل؟ اختلفوا فيه على مذاهب. أحدها: الجواز مطلقا، وجرى عليه المصنف. والثاني: المنع مطلقا وهو المذهب المنصوص للشافعي رضي الله عنه، كما رأيته في كلام أبي إسحاق المروزي، وهو الموافق لما سبق عنه أن النسخ لا يكون إلا بجنسه، فلا ينسخ الكتاب إلا بالكتاب والسنة إلا بالسنة، وقال القاضي حسين: إنه المذهب، وابن السمعاني: إنه الصحيح، لأن القياس لا يستعمل مع عدم النص، فلا يجوز أن ينسخ النص وعزاه القاضي أبو بكر للأكثرين واختاره، وجعل المانع السمع لا العقل.

والثالث: يجوز بالقياس الجلي دون غيره. قال الأنماطي: وهذا في الحقيقة يرجع إلى ما قبله، لأنه القياس الجلي في معنى النص.

والرابع: إن كان في زمنه عليه الصلاة والسلام وعلته منصوصة جاز، وإلا فلا واختاره الآمدي وجعل ذلك الهندي محل وفاق، أعني المنع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم قال: وينبغي أن يكون الخلاف بالنسبة إلى حكم ثابت بالقياس، إذ الثابت بالنص لا ينسخ بالقياس الظني، وأما بالقياس القطعي سواء نص على علته أم لا، كقياس الأمة على العبد في التقويم فإنه يجوز لأنه في معنى النص على الحكم وأما الثابت بالإجماع فلا يمكن نسخه به، لأن الإجماع لا ينسخ كما لا ينسخ. واقتضى كلام ابن السمعاني تخصيص الخلاف في نسخه لأخبار الآحاد، خاصة وقد أورد على المصنف أنه كيف يجتمع تجويزه هذا، مع قوله - تبعا للأصوليين - في القياس على المستنبط أن لا تكون معارضة في الأصل بمعارض وإذا كانت المعارضة (124أ) تقطعها عن العمل فقياس المستنبط ملغى عند المعارضة وإذا كان ملغى لا يكون ناسخا، قال المصنف: وهذا السؤال لا يختص بنا، بل هو على من جوز النسخ بالقياس، واشترط في العلة أن لا تعارض في الأصل، قال: ونحن إذا قلنا: ينسخ، فلا نريد به إلا القياس المعتبر الصحيح، ولا يكون صحيحا معتبرا، إلا إذا سلمت العلة فيه عن معارض في الأصل، فلا مناقضة بين الكلامين، ونحن لم نقل: إن القياس ينسخ وإن كانت علته مستنبطة، بل أطلقنا بأنه ناسخ، وإنما يكون ناسخا إذا كان معتبرا، وإنما يعتبر إذا سلمت علته عن المعارضة. (ص) ونسخ القياس في زمنه عليه الصلاة والسلام وشرط ناسخه إن كان قياسا أن يكون أجلى وفاقا للإمام وخلافا للآمدي. (ش) ذهب عبد الجبار وغيره إلى أنه لا يجوز نسخ القياس لأنه مستنبط من

أصل فما دام حكم الأصل باقيا، وجب بقاء حكم الفرع، وجوزه الجمهور لكن في زمن النسخ، وهو زمنه صلى الله عليه وسلم لأن طريق النسخ حاصل وهو الوحي، فأما بعد الرسول فلا يتصور نسخه، لأنه إما أن ينسخ بنص حادث وهو مستحيل، أو بنص كان موجودا من قبل لكن المجتهد المستنبط لعلة القياس غفل عنه، فباطل لأنه تبين فساد القياس من أصله، فلا نسخ، وإما أن ينسخ بالإجماع وهو باطل لما ذكرنا وصورة المسألة أن يقول الشارع: حرمت المفاضلة في البر لأنه مطعوم فهذا نص منه على الحكم وعلته، فإذا قلنا: هذا إذن في القياس فقاسوا الأرز على البر فعاد وقال بعد ذلك: بيعوا الأرز بالأرز متفاضلا، جاز، قالوا: ولا يشترط أن يكون ناسخه النص كما مثلنا بل يجوز بالقياس أيضا بأن ينص على حكم آخر على ضد حكم أصل ذلك القياس، وشرط الإمام الرازي وغيره في هذا الناسخ: أن يكون أجلى بأن تكون الأمارة الدالة على علية المشترك بين هذا الأصل والفرع راجحة على الأمارة الدالة على علية المشترك بين الأصل والفرع، وفي المسألة مذهب ثالث صار إليه كثير من الحنابلة كأبي الخطاب: الفرق ما بين ما علته منصوصة، فهو كالنص ينسخ كما ينسخ به، وإن كانت مستنبطة فلا، ومتى وجدنا نصا بخلافه تبينا فساد

القياس واختاره الآمدي قال الهندي: وينبغي أن يكون موضع الخلاف في أنه هل يمكن نسخه بدون نسخ أصله؟ أما نسخه مع نسخ أصله، أو نسخ أصله ولم يتعرض لنسخه ففيه خلاف الحنفية، إذ جوزوا صوم رمضان بنية من النهار قياسا على ما ثبت من نسخه صوم عاشوراء بنية من النهار، حين كان واجبا مع زوال حكمه بالنسخ وبقاء الفرع على حاله لكن لا يكون هذا النسخ إلا بالنص، لأن حكم النص لا ينسخ بالقياس، قلت: سيأتي في قول المصنف: والمختار أن نسخ حكم الأصل لا يبقى معه الفرع، وكان ينبغي جمعهما في موضع واحد. (ص) ويجوز نسخ الفحوى دون أصله كعكسه على الصحيح. (ش) فيه مسألتان: إحداهما: يجوز نسخ الفحوى دون أصله، فينسخ الضرب دون التأفيف، كالنصين ينسخ أحدهما مع بقاء الآخر، وحكاه ابن السمعاني عن أكثر المتكلمين، والثاني: المنع، ونقله عن أكثر الفقهاء ولعل مأخذ الخلاف أن دلالته لفظية أو قياسية. الثانية: يجوز نسخ الأصل (124ب) دون الفحوى كنسخ التأفيف دون الضرب، لأن التأذي به أعظم، ولا يلزم من إباحة اليسير إباحة

الكثير، وقيل: يمتنع, لأن الفرع يتبع الأصل، ويتحصل في الصورتين ثلاثة أقوال: ثالثها: منع الأول وجواز الثاني وعليه ابن الحاجب. (ص) والنسخ به. (ش) أي بالفحوى وادعى له الإمام والآمدي فيه الاتفاق ولكن الخلاف موجود، نقله الشيخ أبو إسحاق في (شرح اللمع) بناء على أن الفحوى قياس، والقياس لا يكون ناسخا وحكاه ابن السمعاني عن الشافعي رضي الله عنه، قال: لأنه جعل الفحوى في قوله تعالى: {ولا تقل لهما أف} في تحريم الضرب قياسا على التأفيف فعلى قوله لا يصح النسخ به، لأن القياس لا يجوز أن ينسخ النص وهذه المسألة في المنهاج، دون المختصر.

(ص) والأكثر أن نسخ أحدهما يستلزم الآخر. (ش) إذا قلنا بالجواز ففي استتباع نسخ أحدهما نسخ الآخر، مذاهب: أحدها: نعم واختاره البيضاوي لتلازمهما. والثاني: المنع. والثالث: أن نسخ الأصل يتضمن نسخ الفحوى لأنها تابعة ولا يتصور بقاء التابع بدون متبوعه، ونسخ المفهوم لا يتضمن نسخ الأصل، وقال ابن برهان في (الأوسط): إنه المذهب. واعلم أن هذا التعليل مشكل بقولهم: إذا نسخ الوجوب بقي الجواز. (ص) ونسخ المخالفة وإن تجردت عن أصلها لا الأصل دونها في الأظهر. (ش) أي يجوز نسخ مفهوم المخالفة مع نسخ الأصل ودونه ذكره القاضي عبد الوهاب وغيره.

وقد قالت الصحابة: (إنما الماء من الماء) نسخ مفهومه بقوله: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)) وبقي أصله وهو وجوب الغسل من الإنزال، وأما نسخ الأصل بدون مفهوم المخالفة، فذكر الصفي الهندي فيه احتمالين قال: وأظهرهما أنه لا يجوز، لأنه إنما يدل على العدم، باعتبار ذلك القيد المذكور، فإذا بطل تأثير ذلك القيد بطل ما بني عليه، وعلى هذا نسخ الأصل نسخ المفهوم، وليس المعنى منه أنه يرتفع العدم ويحصل الحكم الثبوتي، بل المعنى أن يرتفع العدم الذي كان شرعيا، ويرجع إلى ما كان عليه من قبل. (ص) ولا النسخ بها. (ش) هذا تابع فيه ابن السمعاني فإنه قال: دليل الخطاب يجوز نسخ موجبه،

ولا يجوز النسخ بموجبه، لأن النص أقوى من دليله لكن الشيخ أبو إسحاق في (اللمع) حكاه وجها، وقال: المذهب الصحيح الجواز، لأنه في معنى النطق. (ص) ونسخ الإنشاء ولو كان بلفظ القضاء أو الخبر أو قيد بالتأبيد وغيره مثل: صوموا أبدا صوما حتما، وكذا: الصوم واجب مستمر أبدا، إذا قاله إنشاء خلافا لابن الحاجب. (ش) النسخ يقع في الإنشاء في الجملة بالإجماع، لكن اختلف في صور منه: إحداها: أن يقع الإنشاء بلفظ نحو: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} ونحوه. وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز وقوع النسخ فيه، وزعم أن لفظ القضاء إنما يستعمل فيما لا يتغير حكمه، وهذا القول غريب لا يعرف في كتب الأصول وإنما أخذه المصنف من كتب التفسير. الثانية: جميع الأخبار المقصود بها الأمر أو النهي نحو: {والوالدات يرضعن أولادهن} فهو وإن كان صورته صورة الخبر، لكن معناه الإنشاء، فيرد النسخ عليه كسائر الأوامر، وخالف فيه أبو بكر الدقاق، كما نقله ابن السمعاني وغيره

تغليبا للفظ الخبر على معنى الأمر. الثالثة: إذا قيد (125أ) بالتأبيد، وما في معناه نحو: صوموا أبدا، صوموا حتما، نقل ابن السمعاني عن بعض المتكلمين منعه لمناقضته الأبدية، وقالوا: لا يجوز النسخ إلا في خطاب مطلق، وزعموا أن جوازه يؤدي إلى البداء والصحيح الجواز لأنه إذا جاز أن يقال: لازم غريمك أبدا ويريد إلى وقت القضاء - جاز أن يقال: افعل كذا أبدا، ويراد إلى وقت النسخ ونقله ابن برهان عن المعظم، قال: لأن القصد به المبالغة لا الدوام. الرابعة: الصوم واجب مستمر أبدا، إذا قاله إنشاء منع ابن الحاجب نسخه لأنه خبر فتطرق النسخ إليه يلزم الخلف، بخلاف الإنشاء لفظا ومعنى نحو: صوموا

أبدا، واختار المصنف التسوية بين الصورتين لأنه وإن كان بصورة الخبر فهو في معنى الإنشاء فجاز كالإنشاء المحض، وحاصله أن المقيد بالتأبيد لا يمتنع معه النسخ، بل هو تأكيد سواء كان في الخبر أو الإنشاء. (ص) ونسخ الأخبار بإيجاب الإخبار بنقيضها. (ش) أطلق الجمهور أن النسخ لا يدخل الخبر، وفصل القاضي أبو بكر، فقال: هذا في خبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم فأما أمرنا بالإخبار بشيء فيجوز نسخه بالنهي عن الإخبار به، وجرى عليه المصنف، وسواء كان مما يتغير، كما لو قال: كلفتكم أن تخبروا بقيام زيد، ثم يقول: كلفتكم بأن تخبروا بأن زيدا ليس بقائم، ولا خلاف في جوزاه لاحتمال كونه قائما وقت الإخبار بقيامه، غير قائم وقت الإخبار بعدم قيامه، أو كان مما لا يتغير وككون السماء فوق الأرض مثلا وفي هذه الصورة منعت المعتزلة؛ لأن أحدهما كذب والتكليف به قبيح، وهو مبني على التقبيح العقلي (ص) لا الخبر، وقيل: يجوز إن كان عن مستقبل.

(ش) أما نسخ خبر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فيمتنع مطلقا، أما إذا لم يتغير مدلوله فبالإجماع، وأما المتغير كإيمان زيد وكفره ونحو ذلك - فكذلك سواء كان الخبر ماضيا أو ... مستقبلا على الصحيح لأنه يؤدي إلى دخول الكذب في أخبار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مثاله قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) وقيل: يجوز مطلقا، وهو قول القاضي أبي يعلى، وعلى هذا يجوز نسخ الوعد والوعيد قبل الفعل، كقوله:

من بنى هذا الحائط فله درهم، ثم يرفع ذلك، وقيل: يجوز إن كان مدلوله مستقبلا وإلا فلا، واختاره البيضاوي قال الخطابي: إنه الصحيح فقال: النسخ يجري فيما أخبر الله تعالى أن يفعله، لأنه يجوز تعليقه على شرط بخلاف إخباره عما لا يفعله، إذ لا يجوز دخول الشرط فيه، قال: وعلى هذا تأول ابن عمر النسخ بعد ذلك في قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فإن نسخها بعد ذلك برفع حديث النفس وجرى ذلك مجرى العفو والتخفيف عن عباده، وهو كرم وفضل وليس بخلف. (ص): ويجوز النسخ ببدل أثقل. (ش) كصوم عاشوراء برمضان، والحبس في البيوت في الزنا بالحد، ومنع منه بعضهم عقلا، وبعضهم سمعا وهو قول ابن داود، وذكر ابن برهان أن بعضهم نقله

عن الشافعي رضي الله عنه، وليس بصحيح، أما الأخف والمماثل فلا خلاف في جواز النسخ به كالعدة. (ص) وبلا بدل (125ب) لكن لم يقع، وفاقا للشافعي. (ش) في النسخ بلا بدل مسألتان: إحداهما: الجواز، وعليه المعظم، لأن المصلحة قد تقتضيه وخالف فيه جماهير المعتزلة، كما قاله إمام الحرمين بناء على أن النسخ يجمع معنى الرفع والنقل. الثانية: الوقوع، وعليه الأكثر وكلام الشافعي رضي الله عنه، في

الرسالة يقتضي المنع، ومراده أنه لم يقع، بحيث يعود الأمر كهو قبل الشرع، كقوله: نسخت الصدقة عند المناجاة، وصيرت الحال بعد النسخ غير محكوم عليه بشيء بل هو كالأفعال قبل الشرع وهذا وإن قلنا بجوازه لم يقع ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، وكلام الشافعي رضي الله عنه، مصرح بأن البدل الذي لا يقع النسخ إلا به انتقالهم، من حكم شرعي إلى حكم شرعي، وذلك أعم من أن يعادوا إلى ما كانوا عليه، كمناجاة الرسول، أو يحدث شيء مغاير لذلك، كما في نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالكعبة، وأنهم لا يتركون غير محكوم عليهم بشيء، وجعل المصنف الصور أربعا: إحداها: الجواز، ولم يخالف فيه إلا بعض المعتزلة. ثانيها: الوقوع بلا بدل أصلا بحيث يعود الأمر كهو قبل الشرع، ولا يعرف في منعه خلاف. ثالثها: وقوعه ببدل من الأحكام الشرعية أما إحداث أمر مخالف لما كان

واجبا أولا، كالكعبة بعد القدس، أو الحكم بإباحة ما كان واجبا كالمناجاة، والنسخ لم يقع إلا هكذا، كما قال الشافعي رضي الله عنه. رابعها: وقوعه ببدل بشرط أن يكون تأصيلا لأمر آخر، كالكعبة بعد القدس، ولم يشترطه الشافعي رضي الله عنه، ومن ذهب إليه فقوله مردود عليه، ومن نقله عن الشافعي رضي الله عنه، فلم يفهم مراده بالبدل. (ص) مسألة: النسخ واقع عند كل المسلمين وسماه أبو مسلم تخصيصا فقيل: خالف، فالخلف لفظي. (ش) أشار بالمسلمين إلى أن غيرهم خالف فيه - وهم اليهود - فرارا من لزوم البداء وهو محال على الله تعالى لأن المصلحة بعد تسليمها تختلف

باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في وقت أو حال، وضرورة في آخر، فلم يتجدد ظهور ما لم يكن، بل تجددت مصلحة لم تكن، فلم يلزم البداء. وعن أبي مسلم الأصفهاني، إنكار النسخ، ثم قيل: لم ينكر النسخ مطلقا

وإنما أنكر النسخ في القرآن، لقوله تعالى: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} وقيل: خلافه لفظي، لأنه يجعل ما كان مغيا في علم الله - تعالى-، كما هو مغيا باللفظ، ويسمى الجميع تخصيصا، ولا فرق عنده بين أن يقول: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} وأن يقول: (صوموا مطلقا، وعلمه محيط بأنه سينزل لا تصوموا وقت الليل) والجمهور يجعلون الأول تخصيصا والثاني نسخا، فلا خلاف في المعنى. (ص) والمختار أن نسخ حكم الأصل لا يبقى معه حكم الفرع. (ش) أي خلافا للحنفية لأن الفرع تابع للأصل، فإذا بطل الحكم في الأصل، بطل في الفرع، وإذا قلنا: لا يبقى فسماه بعضهم نسخا ولم يستحسنه

المصنف، فلهذا عبر - تبعا لابن الحاجب - بقوله: لا يبقى ولم يقل: ينسخ معه حكم الفرع فإن الأصحاب لا يقولون: إن حكم الفرع ينسخ بارتفاع حكم الأصل، بل يزول حكمه لزوال كون العلة معتبرة، وإذا زال لزوال علته لا يقال: إنه منسوخ. (ص) وإن كل شرعي يقبل النسخ، ومنع الغزالي رحمه الله نسخ جميع التكاليف، والمعتزلة: نسخ وجوب المعرفة والإجماع على عدم الوقوع. (ش) فيه مسألتان: إحداهما: اختلفوا في أن كل واحد من الأحكام هل هو قابل للنسخ أم لا؟ فذهب (126أ) أصحابنا إلى تجويزه وصارت المعتزلة إلى أن من الأحكام ما لا يقبل هو ما يكون بذاته أو يلازم ذاته حسنا أو قبيحا، لا يختلف باختلاف الأزمان، كحسن معرفة الباري والعدل، وقبح الجهل والجور، وهو بناء على أصلهم من الحسن والقبح العقليين. الثانية: اختلفوا في أنه هل يجوز أن تزول التكاليف بأسرها بطريق النسخ؟ فمنعه المعتزلة، ووافقهم الغزالي، لأن نسخها يستدعي معرفة الناسخ والمنسوخ فيجب معرفته

ضمنا، وهو نوع من التكليف، فلو انتفت جميع التكاليف لم تنتف. والمختار الجواز كغيرها، وأجمع الكل على عدم الوقوع، وإنما الخلاف في الجواز ردها العقلي. تنبيه: علم بهذا التقرير أنه كان ينبغي للمصنف تقديم نسخ المعرفة على نسخ جميع التكاليف. (ص) والمختار أن الناسخ قبل تبليغه صلى الله عليه وسلم الأمة، لا يثبت في حقهم وقيل: يثبت بمعنى الاستقرار في الذمة، لا الامتثال. (ش) الحكم الشرعي ما دام في السماء لا يثبت له حكم، كفرض خمسين صلاة ليلة الإسراء، وكذلك بعد نزوله من السماء وقبل أن يبلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم يثبت حكمه في حقه (وحق كل من بلغه، وأما من لم يبلغه، فإن تمكن من العلم به ثبت حكمه في حقه) قطعا، وإلا فهو محل الخلاف، والجمهور أنه لا يثبت، لا بمعنى الامتثال ولا بمعنى الثبوت في الذمة، وقال بعضهم يثبت بالمعنى الثاني كالنائم، ولا نعلم أحدا قال بثبوته بالمعنى الأول، وذكر القاضي

في (التقريب): أن الخلاف لفظي، وذكر في (مختصر التقريب): أن المثبتين يقولون: لو قدر ممن لم يبلغه الناسخ إقدام، على الحكم الأول كان دليلا لكنه تعذر لجهله، واعلم أن ما رجحه المصنف تابع فيه ابن الحاجب وغيره، لكن ابن برهان في (الأوسط) عزاه للحنفية، وحكى الثبوت عن مذهبنا، ونصره وهو ما يوجد لأصحابنا المتقدمين وقال الروياني في باب الوكالة من (البحر): إذا نسخ الله حكما وعلم رسوله، هل يكون نسخا في حق من لم يعلم من أمته؟ فيه طريقان: أحدهما: فيه وجهان كالوكالة. والثاني: لا يكون نسخا في حقهم قطعا، وبه قال أبو حنيفة، لأن أمر الشريعة

يتضمن تركه المعصية ولا يجوز أن يكون عاصيا مع جهله به، وما فسر به المصنف الثبوت لا بد منه، وقال ابن دقيق العيد: لا شك أنه لا يثبت في حكم التأثيم، وهل يثبت في حكم القضاء إذ هو من الأحكام الوضعية؟ هذا فيه تردد، لأنه ممكن بخلاف الأول، لأنه يلزم منه تكليف ما لا يطاق. (ص) أما الزيادة على النص فليست بنسخ خلافا للحنفية، ومثاره هل رفعت وإلى المأخذ عود الأقوال المفصلة والفروع المبينة. (ش) الزيادة إما أن تستقل بنفسها عن العبادة المزيد فيها أو لا، والأول إما أن يكون من غير جنس الأول كزيادة وجوب الزكاة على الصلاة، فليس بنسخ بالإجماع، أو من جنسه، كزيادة صلاة على الصلوات الخمس، فليس بنسخ أيضا عند الجماهير وقال بعض أهل العراق: إنه نسخ، لأنه تغير الوسط. والثاني: ما ليس بمستقل كزيادة ركعة، أو ركوع، أو زيادة صفة في رقبة الكفارة، كالإيمان فذهب أصحابنا إلى أنه لا تكون نسخا وقالت الحنفية:

إنها نسخ واختاره بعض أصحابنا وادعى أنه مذهب الشافعي رضي الله عنه، وزيفه ابن السمعاني ومثار الخلاف أن الزيادة هل رفعت حكما شرعيا فيكون نسخا أو لم ترفع فلا؟ فلو وقع الاتفاق على أنها رفعت حكما شرعيا (لوقع على أنها نسخ أو على أنها لا ترفع) لوقع على أنها ليست بنسخ، فالنزاع على الحقيقة في أنها رفع أم لا، وإلى هذا المأخذ ترجع الأقوال المفصلة في المسألة فعن عبد الجبار هي نسخ إن غيرت حكم المزيد عليه (126ب) كجعل الصلاة الثنائية أربعا وإن لم تغير كإضافة التغريب إلى الجلد - فليس بنسخ، واختاره القاضي، وقيل: إن أسقطت دليل الخطاب كانت نسخا، وإن تغير موجب النص كما في قوله: ((إنما الماء من الماء)) مع الأمر بالغسل من التقاء الختنانين، حكاه أبو حاتم في (اللامع) عن بعض أصحابنا، وقيل: إن أفاد النص خلافها، وأبو الحسين: إن أزالت حكما يجوز انتساخه بدليلها، جاز إثباتها ثم ذلك نسخ إن كان الحكم الزائل شرعيا. (ص) وكذا الخلاف في جزء العبادة أو شرطها.

(ش) كما أن الزيادة على النص ليست بنسخ فكذا النقصان منه عندنا سواء كان المنسوخ جزءا أو شرطا ومنهم من قال: يكون نسخا ومنهم من فصل بين الجزء والشرط، فقال: إسقاط الجزء نسخ للعبادة كالركوع أو السجود وإسقاط الشرط كالطهارة ليس نسخا، وهو مذهب القاضي عبد الجبار ووافقه الغزالي في الجزء، وتردد في الشرط، وجعل الهندي الخلاف في الشرط المتصل كاستقبال القبلة في الصلاة، فأما المنفصل منها كالطهارة فإيراد إمام وغيره يشعر بأنه لا خلاف فيه، وكلام غيره يقتضي إثبات الخلاف في الكل، قلت: وبالأول صرح صاحب (المسودة) فقال: الخلاف في المتصل كالتوجه، فأما المنفصل كالوضوء فلا يكون نسخا لها إجماعا لكن صرح ابن السمعاني بالثاني، فقال: صورة المسألة فيما لو قدر ناسخ الوضوء أو نسخ استقبال القبلة، وفي هذا وأمثاله يكون الكلام ظاهرا في أنه لا يكون نسخا للصلاة، قال: فأما في إسقاط الجزء كالركوع فينبغي أن

يكون على ما ذكرنا فيما إذا زيدت ركعة على ركعتين. قلت: يشير إلى أنه يجيء هنا مذهب عبد الجبار من التفصيل بين أن يغير المزيد عليه أو لا. (ص) خاتمة: يتعين الناسخ بتأخره، وطريق العلم بتأخره الإجماع، أو قوله صلى الله عليه وسلم: هذا ناسخ: أو بعد ذاك، أو كنت نهيت عن كذا فافعلوه، أو النص على خلاف الأول، أو قول الراوي: هذا سابق. (ش) يتعين الناسخ بتأخره عن المنسوخ بأنه رفع لحكم سابق وللعلم بتأخره طرق: أولها: الإجماع كنسخ الزكاة سائر الحقوق في المال ذكره ابن السمعاني وقول زر لحذيفة:

(أي ساعة تسحرتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع) وأجمع المسلمون على أن طلوع الفجر يحرم الطعام والشراب مع بيان ذلك من قوله تعالى: {وكلوا واشربوا} ذكره الخطيب البغدادي: قال الأصحاب: فيكون الإجماع مبينا لا ناسخا. ثانيها: نصه عليه السلام على ذلك: (كقوله: هذا ناسخ، أو هذا بعد ذلك، كحديث المتعة، أو كنت نهيت عن كذا فافعلوه) كقوله عليه السلام: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)). ثالثها: أن ينص على خلاف الأول، ولا يمكن الجمع. رابعها: أن يقول الراوي: هذا سابق، كقول جابر: (كان آخر الأمرين من رسول الله

صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) وقول علي: (أمرنا بالقيام للجنازة ثم قعد). (ص) ولا أثر لموافقته أحد النصين للأصل، أو ثبوت إحدى الآيتين في المصحف، وتأخر إسلام الراوي: وقوله: هذا ناسخ لا الناسخ خلافا لزاعميها. (ش) قيل: يثبت النسخ بأمور غير ما سبق، والأصح فيها خلافه، فههنا كون أحد النصين شرعيا والآخر موافق للبراءة الأصلية، زعم بعضهم أن الناسخ الشرعي، لأن الانتقال من البراءة إلى اشتغال الذمة يقين، والعود إلى الإباحة ثانيا شك (127أ) وهو بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة، ومنها: ثبوت إحدى الآيتين في المصحف قبل الأخرى فإن ترتيب الآيات ليس على ترتيب النزول، ومنها: تأخر

إسلام الراوي لجواز أن يسمع متقدم الإسلام بعده، ومنها: قول الراوي، هذا ناسخ لأنه قد يكون عن اجتهاد وقيل: يثبت به وقال الكرخي: إن عينه فقال: هذا ناسخ هذا - لم يرجع إليه، لاحتمال أنه قال عن اجتهاد، وإن لم يعينه، بل قال: هذا منسوخ - قبل، حكاه أبو الحسين في (المعتمد) قلت: وظاهر نص الشافعي رضي الله عنه: أنه يثبت به النسخ، وقد احتج أصحابنا بقول عائشة في الرضعات: (أن العشر منهن نسخن بخمس) وقول المصنف: (لا الناسخ) أي إذا ثبت كون الحكم منسوخا، ولم يدر ما نسخه فقال الراوي: هذا الناسخ، فإنه يقبل، وهذه مسألة غريبة قل من استثناها أو ذكرها: ويقال عليه: ما الفرق بين قول الراوي: هذا ناسخ، وقوله: هذا الناسخ حيث لم نقبله في الأول، ونقبله في الثاني؟ والجواب: أنا لم نقبله في هذا ناسخ، لأنه قد يكون عن اجتهاد، بخلاف ما إذا ثبت النسخ على الجملة ولكن لم ندر عين الناسخ، فإنه إذا عينه قبلناه منه، لأنه لما ثبت أصل النسخ، من غيره كان تعيينه أسهل من أصل ابتدائه، ونظيره من الفقه: لو عرف عموم الحريق وجهل هل أحرقت الوديعة، يقبل قول المودع: إنها احترقت من غير يمين، بخلاف ما إذا لم يعرف عمومه وكذلك لو قال من طلق زوجته رجعيا: طلقتك

وقال: أردت الطلقة السابقة، لا إحداث طلقة أخرى - يقبل، بخلاف ما لو لم يكن تقدمه طلاق.

الكتاب الثاني في السنة

[الكتاب الثاني في السنة] (ص) الكتاب الثاني في السنة. وهي أقوال محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله. (ش) المراد بأقواله: التي ليس على وجه الإعجاز ويدخل في الأفعال التقرير، لأنه كف عن الإنكار، والكف فعل على المختار، فكان ينبغي أن يزيد وهمه، وقد احتج (الشافعي رضي الله عنه، في الجديد على استحباب تنكيس الرداء في خطبة الاستسقاء بجعله= أعلاه أسفله لحديث) إنه صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها يجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه فجعلوا ما هم به ولم يفعله سنة، وقد سبقت مباحث الأقوال من الأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، والكلام الآن في الأفعال. (ص) الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون لا يصدر عنهم ذنب ولو صغيرة سهوا وفاقا للأستاذ والشهرستاني وعياض والشيخ الإمام.

(ش) أي لا يصدر عنهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة لا عمدا ولا سهوا بل طهر الله تعالى ذواتهم عن جميع النقائض=. ونقله ابن برهان عن اتفاق المحققين، لأنا أمرنا باتباعهم في أفعاله وآثارهم وسيرهم، أمرا مطلقا من غير إلزام قرينة، وما ورد مما يخالفه حمل على أنهم فعلوه بتأويل، ومنهم من يحمله على ما قبل النبوة وهذه الطريقة يجب اعتقادها وإطراح ما عداها، فجزى الله تعالى المصنف خيرا بالجزم بها. (ص) فإذا لا يقر محمد صلى الله عليه وسلم أحدا على باطل. (ش) أي بلا خلاف، وأتى بالفاء، لينبه على تفرع ذلك على وجوب العصمة، وعلى وجه المناسبة لذكر هذه المسألة قبل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي يجب اتباعه فيها وإنما قال: أحدا، لئلا يتوهم قراءة، لا يقر بفتح القاف فيكون خطأ (127ب). (ص) وسكوته بلا سبب ولو غير مستبشر على الفعل مطلقا، وقيل: إلا فعل من يغريه الإنكار، وقيل: إلا الكافر ولو منافقا وقيل: إلا الكافر غير المنافق - دليل الجواز للفاعل وكذا لغيره، خلافا للقاضي. (ش) إذا فعل فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو في عصره, وعلم به، ولم ينكر -

كان دليلا على الجواز مطلقا، لما سبق. وسواء استبشر به مع ذلك أم لا، لكن دلالته على الجواز، مع الاستبشار أقوى، وقد تمسك الشافعي رضي الله عنه، في القيافة، واعتبارها في النسب بكلا الأمرين: الاستبشار وعدم الإنكار في قصة المدجلي، ولهذا قال المصنف: (ولو غير مستبشر) ليعلم حكم المستبشر من طريق الأولى، وسواء كان المسكوت عنه ممن يغريه الإنكار أو لا، كافرا كان أو منافقا والقول باستثناء من يغريه الإنكار إغراء حكاه ابن السمعاني عن المعتزلة بناء على أنه لا يجب إنكاره عليه للإغراء قال: والأظهر أنه يجب إنكاره ليزول توهم الإباحة، والقول باستثناء ما إذا كان الفاعل كافرا أو منافقا - قول إمام الحرمين

والقول بالاقتصار على الكافر ذهب إليه المازري، وهو أظهر، لأنه أهل للانقياد في الجملة، وكما يدل للجواز للفاعل، فكذا لغيره إذا ثبت حكمه على الواحد، حكمه على الجماعة وذهب القاضي إلى اختصاصه بمن قرر، ولا يتعدى إلى غيره، فإن التقرير لا صيغة له تعم، والصحيح أنه يعم سائر المكلفين، لأنه في حكم الخطاب، وخطاب الواحد خطاب للجميع. تنبيهان: الأول: علم من تفسيره بالجواز أنه يدل على الإباحة وقد سأل الشيخ صدر الدين بن الوكيل عن هذه المسألة الشيخ الإمام السبكي، أنه هل يحمل على الإباحة (أو لا يقضي بكونه مباحا أو واجبا أو ندبا محل توقف؟ فلم يستحضر الشيخ الإمام فيها نقلا، واحتج إلى أنه يدل على الإباحة) لأنه لا يجوز الإقدام على فعل حتى يعرف حكمه فمن هنا دل التقرير على الإباحة، قلت: وقد ذكرها أبو نصر بن القشيري في كتابه في الأصول، وحكى التوقف فيه عن القاضي، ثم رجع حمله

على الإباحة لأنه الأصل. الثاني: سكت عما علم فعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يعلم انتشاره انتشارا يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني في شرح كتاب (الترتيب): هل يجعل ذلك سنة؟ اختلف قول الشافعي فيه، ولهذا أجرى قولين بإجزاء الأقط في الفطرة، لأنه لم يكن قد علم أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يخرجون في الزكاة من الأقط. (ص) وفعله غير محرم، للعصمة، وغير مكروه، للندرة. (ش) فعله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقع فيه محرم، لوجوب العصمة، ولا مكروه، لندرة وقوعه من آحاد المسلمين فكيف من سيد المتقين، كذا قالوه، وأنا أقول: لا يتصور منه وقوع مكروه، فإنه إذا فعل شيئا وكان مكروها في حقنا، فليس بمكروه منه، لأنه يفيد به التشريع وبيان الجواز، ولهذا قال ابن الرفعة في كلامه على الجمع بين الأذان والإقامة: الشيء قد يكون مكروها ويفعله النبي صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، ويكون أفضل في حقه صلى الله عليه وسلم. تنبيه: سكتوا عن خلاف الأولى، وفيه ما ذكرنا في المكروه، وقد قال النووي في وضوئه صلى الله عليه وسلم مرة مرة (128أ) ومرتين مرتين: قال العلماء: هو في ذلك الوقت أفضل في حقه من التثليث لأجل بيان التشريع.

(ص) وما كان جبليا أو بيانا أو مخصصا به فواضح. (ش) الجبلي: كالقيام والقعود والأكل، والشرب. والبيان: كقطعه السارق من الكوع، بيانا لقوله تعالى: {فاقطعوا أيديهما} والمخصص به كالضحى والأضحى ووجه الوضوح، أما في الجبلي، فالندب لاستحباب التأسي به، وحكى الأستاذ أبو إسحاق فيه وجهين: أحدهما: هذا، وعزاه لأكثر المحدثين، قال: والأقل فيه أن يستدل به على إباحة ذلك. الثاني: أنه لا يتبع فيه إلا بدلالة. انتهى. أما في البيان والمخصص به، فكونه واجبا عليه، لأنه عليه السلام بعث للتشريع فيما يجب عليه منه بيان المجمل

وبيان التخصيص، وقال أبو علي بن أبي هريرة: قد يفعل الشيء لمعنى يختص به ثم يصير بعد ذلك سنة، كالاضطباع والرمل وسكت الأصوليون عن قسم آخر، وهو ما إذا شككنا، هل فعله لمعنى يختص به، أو يشاركه فيه غيره؟ وقد تعرض له الماوردي في باب صلاة العيدين من (الحاوي) وحكى عن أبي إسحاق المروزي أنه يفعل مثل فعله اقتداء به. (ص) وفيما تردد بين الجبلي والشرعي كالحج راكبا تردد. (ش) أي يحمل على الجبلي لأن الأصل عدم التشريع، أو على الشرعي لأنه عليه السلام بعث لبيان الشرعيات وقد حكى الرافعي فيه وجهين في مسألة ذهابه

إلى العيد في طريق ورجوعه في آخر وقال: إن الأكثرين على التأسي فيه وقال أبو حاتم القزويني في كتابه (تجريد التجريد): إن أصحابنا اختلفوا في جلسة الاستراحة: فمنهم من قال: هي مسنونة، ومنهم من قال: شرعت للاستراحة وليس لها محل السنن، والصحيح الأول. (ص) وما سواه إن علمت صفته فأمته مثله على الأصح. (ش) ما سوى ما تقدم إن علمت صفته من وجوب أو ندب أو إباحة فأمته مثله في الأصح، لوجوب الاقتداء به، وقيل: مثله في العبادات فقط. (ص) وتعلم بنص وتسوية بمعلوم الجهة ووقوعه بيانا أو امتثالا لدال على وجوب أو ندب أو إباحة.

(ش) تعلم جهة الفعل بجهات: منها: نصه على أنه واجب، أو مندوب، أو مباح. ثانيها: تسويته بما علمت جهته، كقوله: هذا الفعل مساو للفعل الفلاني وكان ذلك الفعل المشار إليه معلوم الجهة. ثالثها: وقوعه بيانا لآية مجملة دل على أحدهما، ولم يظهر بيانها بالقول فنعلم أن هذا الفعل بيان لها. رابعها: كونه امتثالا لنص يدل على وجوب أو ندب أو إباحة فيلحق بما دل عليه. واعلم أن قوله: (بيانا) أي يكون حكمه حينئذ في حقنا كالمبين وحاصله أن فعله إذا كان بيانا كان له جهتان: من حيث البيان هو تابع لما بينه ومن حيث التشريع واجب مطلقا، واتباع التأسي له إنما هو في الأولى، وأما الثانية فكالجبلي فلهذا قرنه المصنف فيما سبق مع الجبلي في الوضوح. أي لا يجب علينا اتباعه فيه من تلك الحيثية، وبهذا اندفع إشكال في كلامه حيث قال: وما سواه، أي سوى ما هو بيان أو جبلي أو تخصيص ثم قسمه إلى بيان وامتثال، فجعل قسم الشيء قسيمه. (ص) ويخص الوجوب أمارته كالصلاة بالأذان وكونه ممنوعا لو لم يجب كالختان والحد. (ش) يعلم الوجوب بالعلامات الدالة عليه غير ما سبق، فمنها: وقوعه على صفة تقرر في الشرع أنها أمارة الوجوب، كالصلاة بالأذان والإقامة ومن ثم كانت صلاة العيدين والكسوفين والاستقساء سنة، لأنه لم يكن يؤذن لها، ومنها: أن يكون

(128 أب) ممنوعا منه لو لم يجب، فإذا فعله الرسول صلى الله عليه وسلم استدللنا بفعله على وجوبه كالختان وقطع اليد في السرقة فإن الجرح والإبانة ممنوع منهما، فجوازهما دليل وجوبهما وإنما عدل المصنف عن تمثيل (المنهاج) و (المحصول) بالقيامين والركوعين في الخسوف لأن ذلك مستفاد من جهة أنه بيان للمأمور لا من هذه الجهة، ولأن الأصح أنه لا يجب، بل لو صلاها كسائر الصلوات صح كما قاله النووي رحمه الله في (شرح المهذب) لكن هذه القاعدة منقوضة بسجود السهو والتلاوة في الصلاة، فإنه سنة مع أنه زيادة ممتنعة لو لم يرد الشرع بها، وكذا رفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد، وذكر في (المنهاج) خاصية ثالثة، وهو كونه جزء شرط لموافقة نذر، وحذفه المصنف، لأن النذر لا يتصور من النبي صلى الله عليه وسلم بناء على أنه مكروه وفيه ما سبق. (ص) والندب مجرد قصد القربة وهو كثير. (ش) الندب منصوب على أنه مفعول يخص السابق أي يخص الندب قصد القربة مجردا عن أمارة دالة على الوجوب، فإنه يدل على أنه مندوب، لأن الرجحان

ثبت بقصد القربة والأصل عدم الوجوب، وهو كثير. ومنها: التخيير بينه وبين فعل لم يثبت وجوبه، لأن التخيير لا يقع بين واجب وما ليس بواجب وذكر الماوردي في (الحاوي) محتجا على عدم وجوب الأذان بأنه إنما ثبت عن مشورة أوقعها النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حتى يقرروا رؤيا عبد الله بن زيد على الأذان، وليس هذا من صفات الواجب وإنما يكون من صفات المندوب، لأنه ما شرعه بنفسه وإنما أثره على فعل غيره. (ص) وإن جهلت فللوجوب وقيل: للندب، وقيل: للإباحة، وقيل بالوقف في الكل، وفي الأولين مطلقا، وفيها إن لم يظهر قصد القربة. (ش) إذا لم تعلم جهة الفعل بالنسبة إليه وبالنسبة إلى الأمة، فيه مذاهب:

أحدها: الوجوب، قال ابن السمعاني: إنه الأشبه بمذهب الشافعي رضي الله عنه، وأنه الصحيح لكنه لم يتكلم إلا فيما ظهر فيه قصد القربة والمصنف مال إلى الوجوب مطلقا. والثاني: الندب، وعزي الشافعي رضي الله عنه. والثالث: الإباحة، واختاره الإمام في (البرهان). والرابع: الوقف في الكل حتى يقوم دليل على ما أريد منا، وعليه جمهور المحققين، كالصيرفي، والغزالي وأتباعهم، وصححه القاضي أبو الطيب ونقله عن

الدقاق وابن كج، وقالوا: لا يدرى أنه للوجوب أو الندب أو الإباحة، لاحتمال هذه الأمور كلها، واحتمال الخصوصية به، ثم منهم من أجرى الخلاف في الأولين أي الوجوب، أو الندب مطلقا، أي سواء ظهر قصد القربة أم لا، كما نقله الهندي، غير أن الأول تقوى فيه الوجوب والندب، لأن القربة قرينة على إرادتهما وتضعف الإباحة، والثاني بالعكس وقوله: وفيهما إن لم يظهر قصد القربة - كذا رأيته بخط المصنف في الأصل، وهو معكوس، والصواب: إن ظهر قصد القربة فللوجوب أو للندب، وإلا فللإباحة وعلم من تخصيصه بالأولين أنه لا يجيء هنا القول بالإباحة، لأن قصد القربة لا يجامع استواء الطرفين، وأجراه الآمدي، وفيه نظر. (ص) وإذا تعارض القول والفعل ودل دليل على تكرر مقتضى القول - فإن كان خاصا به فالتأخر ناسخ، فإن جهل فثالثها: الأصح الوقف، وإن كان خاصا بنا فلا معارضة فيه. وفي الأمة: المتأخر ناسخ إن دل على التأسي (فإن جهل التاريخ فثالثها: الأصح، يعمل بالقول) وإن كان عاما لنا (129أ) وله فتقدم

الفعل أو القول له وللأمة كما مر إلا أن يكون العام ظاهرا فيه، فالفعل تخصيص. (ش) التعارض بين الشيئين تقابلهما على وجه يمنع كل واحد منهما صاحبه والقسمة العقلية فيه بحسب ما تقدم ثلاثة، لأنه إما أن يتعارض الفعلان، أو القولان أو الفعل والقول، فأما الأول: فالمشهور عند المتأخرين أنه غير متصور، لأن الفعلين إن تناقض حكمهما فيجوز أن يكون الفعل في ذلك الوقت واجبا وفي غيره بخلافه، لأن الأفعال لا عموم لها، ولعل لهذا لم يذكر المصنف هذا القسم وإن ذكره في (المنهاج) و (المختصر) بقولهما: الفعلان لا يتعارضان، ولم يحك في شرحه لهما خلافا فيه، لكن حكى جماعة قولا بحصول التعارض وطلب الترجيح من خارج كما اتفق في صلاة الخوف. ولهذا رجح الشافعي رضي الله عنه، منهما ما هو أقرب لهيئة الصلاة، وقدم بعضهم الأخير منها إذا علم. نعم، استثنى ابن الحاجب وغيره ما إذا دل دليل من خارج على وجوب تكرير الفعل أو لأمته، فإن الفعل الثاني يكون ناسخاً لكن العمل في الحقيقة بذلك الدليل، وأما تعارض القولين فقد ذكره في باب التعادل والترجيح والكلام هنا في تعارض القول والفعل، وحاصل ما قاله أنه إن دل على تكرر مقتضى القول: فالقول إما خاص به، أو خاص بنا، أو عام لنا وله: الأول: أن يكون خاصا به، فالمتأخر ناسخ للمتقدم، سواء كان قولا، أو فعلا،

ولا تعارض بينهما في حق الأمة، لعدم تناول القول إياهم، فإن جهل المتأخر منهما فأقوال: أحدها: العمل بالقول لقوته. والثاني: بالفعل. والثالث: الوقف إلى قيام الدليل، لأنه لو عمل بأحدهما لزم الترجيح بلا مرجح. الثاني: أن يكون القول خاصا بنا، فلا معارضة فيه أي في حقه، لعدم تناول القول إياه، وأما في حق الأمة فإما أن يدل على وجوب التأسي في ذلك الفعل أو لا، فإن دل فالمتأخر ناسخ للمتقدم قولا أو فعلا، وإن لم يدل فلا تعارض بالنسبة إلينا لعدم تعلق الحكم بنا، فإن جهل التاريخ فالأقوال الثلاثة، لكن الأصح عند الجمهور هنا العمل بالقول، لأنه أقوى من الفعل، وإنما لم يكن الوقف هنا مختارا لكونه

ضعيفا بخلاف الأول، وهو ما إذا كان القول خاصا به، لأنا متعبدون في هذا القسم بأحد الحكمين، أي القول أو الفعل، بخلاف الأول فاعلمه. الثالث: أن يكون القول عاما له ولنا، فنقدم الفعل أو القول له وللأمة كما سبق، يعني أن المتأخر ناسخ قولا كان أو فعلا هذا إذا كان القول المتأخر متناولا له بطريق النص، فإن كان بطريق الظهور كالإتيان بلفظ عام، مثل أن يقول: هذا الفعل واجب على المكلفين، وقلنا: المخاطب يدخل في عموم خطابه، فيكون الفعل السابق مخصصا لهذا العموم، لأن التخصيص عندنا لا يشترط تأخيره عن العام وهذا الاستثناء زاده المصنف على المختصرات.

الكلام في الأخبار

الكلام في الأخبار المركب إما مهمل، وهو موجود خلافا للإمام، وليس موضوعا. (ش) لا خلاف أن المهمل يوجد في المفردات أما المركبات بأن يكون المدلول لفظا مركبا مهملا - فقال الإمام: الأشبه أنه غير موجود، لأن التركيب إنما يصار إليه لغرض الإفادة، فحيث لا إفادة لا تركيب وخالفه البيضاوي ومثله بلفظ الهذيان فإن موضوعها ألفاظ مركبة مهملة فيقال لضرب من الهوس أو غيره لا

يقصد بها الدلالة (129 ب) على شيء، وجرى عليه المصنف، وحكى الهندي كلام الإمام ثم قال: وهذا حق، إن عنى بالمركب ما يكون جزؤه دالا على جزء المعنى حين هو جزؤه وإن عنى به ما يكون لجزئه دلالة في الجملة ولو في غير معناه، وما يكون مؤتلفا من لفظين كيف كان التأليف، وإن لم يكن لشيء من أجزائه دلالة فهو باطل أما الأول فمثل: عبد الله، إذا كان علما فإن اسم العلم يدل عليه، وهو لفظ مركب على هذا التقدير غير دال على المعنى المركب، وأما الثاني: فلفظ الهذيان، فإنه يدل على المركب من مهملتين، أو من لفظة مهملة ومستعملة وهو غير دال على المعنى المركب، هذا إن أراد بعدم دلالته على معنى المعنى المركب، أما إن أراد به لا يدل على معنى أصلا، وأراد باللفظ المركب المعنى الثاني - فينتقض بالثاني دون الأول. انتهى. (وليس موضوعا) أي: للعرب بلا خلاف. (ص) وإما مستعمل والمختار أنه موضوع. (ش) يشير إلى الخلاف في أن المركبات موضوعة أم لا؟ والراجح - كما قاله القرافي وغيره - أنها موضوعة، لأن العرب حجرت في التراكيب كما حجرت في المفردات، فعلى هذا تكون دلالة المركب على معناه بالمطابقة لكن الذي رجحه

النحويون، كابن مالك، وابن الحاجب وغيرهما، أنها ليست موضوعة، وإلا لكان استعمال الجمل يتوقف على النقل عن العرب كما في المفردات. (ص) والكلام ما تضمن من الكلم إسنادا مفيدا مقصودا لذاته. (ش) (ما تضمن من الكلم): بيان لجنس الكلام، وأنه ليس خطأ ولا رمزا ولا إشارة، وإطلاق الكلام عليها مجازا، و (ما) بمعنى شيء فيصلح للواحد فما فوقه وقوله: (من الكلم) يخرج به الواحد وهو أحسن من قول (المفصل): (ما تركب من كلمتين) لشموله ذات الكلمات، فإن بعض الكلام تكثر أجزاؤه حتى يصير خمسين كلمة وستين كلمة وثمانية كلمة، كقوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض} إلى {يعقلون} وقوله تعالى: {إذا الشمس كورت} إلى {أحضرت} وقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} إلى {ما ملكت أيمانكم} وأحسن من قول ابن الحاجب: ما تضمن من كلمتين (لأنه إن سلم من عدم تناول ذي الكلمتين - لكن لم يتناول ذا الكلمات، لأن ما تضمن كلمتين) لا بد من كونه، ذا أجزاء من جملتها الكلمتان، فإن التضمن غير المتضمن، والشيء لا يتضمن نفسه، والمراد

بالإسناد: تعليق خبر بمخبر عنه، كزيد قائم أو طلب مطلوب عنه، كاضرب فيخرج النسبة التقيدية، كنسبة الإضافة في: غلام زيد، ونسبة النعت في نحو: الرجل الخياط (من قولنا: جاء الرجل الخياط) واحترز بالمفيد من نحو: السماء فوق الأرض والواحد نصف الاثنين، فلا يسمى كلاما إلا مجازا، وبالمقصود: عن كلام النائم (والساهي والطيور والقابلة للتلقين، وبالذات: عن المقصود لغيره كجهله للشرط قبل جوابها فإنها ليست بكلام) لأنها لم تقصد لذاتها، بل المقصود لذاته هو الجواب، والشرط مذكور لأجله فإن قولك: إن يقم زيد أقم، لم تقصد الحديث عن زيد، بل عن نفسك بالقيام مشروطا بقيام زيد، وكذا الجمل الموصول بها، من: جاء أبوه، من قولنا: الذي جاء أبوه، لأن من شرط صحة الوصل بها كون معناها معهودا عند السامع، وإنما يقصد بها إيضاح معنى الموصول، لأنها منزلة منزلة جزء كلمة، والكلمة التامة ليست كلاما فكيف بما هو جزء منها؟ تنبيهات: الأول: هذا التعريف ذكره ابن مالك في (التسهيل)، وهو لا يخلو عن إشكال، ولك أن تنازع في عدم تسمية نحو: السماء فوق الأرض - كلاما، لأنه خبر بدليل أن يقال فيه: صدقت أو كذبت، ومتى كان خبرا كان كلاما، لأنه قسم منه، ولا حاجة لقوله: مقصودا فإن ذكر الإسناد يغني عما احترز به (130 أ) عنه لما سبق في تفسير الإسناد وهو منتف في النائم ونحوه، وكذا لا حاجة للقيد

الأخير، لأنهم شرطوا في جملة الصلة، والصلة كونها خبرية، وهو قسم من الكلام والظاهر أنه أخذ القيد هنا بالمعنى الأعم، لا ما يحسن السكوت عليه، وإلا فمتى أخذناه بهذا المعنى الخاص، فركنا الكلام، التركيب والإفادة ولهذا قال في (شرح الكافية): وفي الاقتصار على (مفيد) كفاية. الثاني: هذا بالنسبة لاصطلاح النحاة، وقد سبق أول الاستثناء أن القاضي أبا بكر يشرط فيه صدوره من ناطق واحد، وسبق ما فيه في (الارتشاف) وليس من شرط الكلام، قصد الناطق به، ولا كونه صادرا من ناطق واحد، ولا إفادة المخاطب شيئا يجهله، خلافا لزاعمي ذلك بل إذا حصل الإسناد كان كلاما ولو من غالط أو ساه أو مخطئ أو من ناطقين أو تركيب لا يستفيد المخاطب منه شيئا أو تركيب محال. انتهى. وهذا اعتبار كثير من النحويين - أعني اعتبار التركيب الإسنادي فقط - وأما في اصطلاح الفقهاء فيطلق على الكلمة الواحدة، وأقل ما تكون من حرفين، أو حرف مفهم، ولهذا أبطلوا الصلاة به، قال ابن مالك في (التسهيل): ولهذا انتهى الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن الكلمة فما

فوقها حين نهوا عن الكلام في الصلاة وهو شائع في اللغة، وفي (الصحاح) الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير، فيقع على الكلمة الواحدة وعلى الكلام بخلاف الكلم فإنه لا يكون أقل من ثلاث كلمات. الثالث: قال النحاة: لا يتركب الكلام إلا من اسمين، أو اسم وفعل، لأنه يستدعي محكوما عليه ومحكوما به، والمحكوم عليه لا يكون إلا اسما، والمحكوم به يصح أن يكون اسما وأن يكون فعلا. ونقضه المنطقيون بالقضية الشرطية قالوا: ولا محيص عنه إلا بتخصيص المدعي بالقول الجازم ونقض أيضا بالنداء فإنه كلام مركب من اسم وحرف وأجيب بأن النداء في تقدير الفعل، وقيل عليه: لو كان في تقدير الفعل لكان محتملا للصدق والكذب، وجاز أن يكون خطابا مع الثالث، لأن الفعل الذي قدر النداء به كذلك وجوابه منع الملازمتين، وإنما يصدقان لو كان الفعل

المقدر به إخبارا لا إنشاء، غاية ما في الباب أنه في بعض موارد الاستعمال إخبار، لكن لا يلزم منه أن يكون إخبارا في جميع الموارد، لجواز أن يكون من الصيغ المشتركة بين الإخبار والإنشاء كألفاظ العقود. (ص) وقالت المعتزلة: إنه حقيقة في اللساني: (وقال الأشعري مرة: في النفساني وهو المختار ومرة: مشترك، وإنما يتكلم الأصولي في اللساني). (ش) والكلام يطلق بثلاثة اعتبارات: أحدها: اللفظي التام، وهو اصطلاح النحاة. وثانيها: اللفظ الناقص وهو الكلمة الواحدة وهو اصطلاح اللغويين، وقد سبقا. والثالث: النفسي، وهو الفكر التي يدبرها الإنسان في نفسه قبل أن يعبر عنها باللسان، وعبر عنه ابن مالك بالمعنوي فقال: وهو الذي أشار إليه عمر رضي الله عنه، إذ قال: وكنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقدمها بين يدي أبي بكر

ومن الدليل على إثباته قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم} وقوله تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} ومعلوم أن الله تعالى ما كذبهم في قوله: {إنك لرسول الله} لأنهم صدقوا فيه، بل في القول القائم بنفوسهم وهو قولهم في أنفسهم: ما أنت برسول. وقوله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه (130ب) عليم بذات الصدور} فأخبر أن ما يسره قول، وأيضا فإن قول القائل: افعل، يريد به الإيجاب أو الندب أو الإباحة، وصورة اللفظ واحد، فيعلم أن الإيجاب: معنى في النفس يتميز بالقرائن. إذا علمت هذا، فاختلف في أنه حقيقة في ماذا على أقوال. أحدها: أنه حقيقة في اللساني خاصة، وإنما خصه المصنف بالمعتزلة، لأنه لم يصر إليه أحد من أئمتنا. والثاني: أنه حقيقة في النفساني، مجاز في اللفظي الدال عليه، تسمية للدليل باسم المدلول، فيطلق عليها كلام مجازا، لدلالتها على الكلام الحقيقي، كما تسمي علما في قولك: سمعت علما، وإنما تريد العبارات الدالة على المعلوم، والمجاز قد يشتهر اشتهار الحقائق، وهو أحد قولي الأشعري، واختاره إمام الحرمين في باب

الأوامر من (البرهان) قال: لكون النفسي جنسا ذا حقيقة لا يتغير والعبارات تختلف فما لم يتغير الاسم له حقيقة وأنكر عليك ذلك، فإنه لا يتلقى معرفة الحقيقة والمجاز مثل ذلك، قال الهندي: ولا شك أن الاشتقاق لا يشهد لهم في أنه حقيقة في هذا المعنى، قلت: مرادهم في القديم لا يطلق الكلام، فإنهم يوافقونا على أنه في الحادث حقيقة في اللفظ، وإنما صار الأشعري في أحد قوليه إلى هذا فرارا من قول المعتزلة المؤدي إلى خلق القرآن، ومن قول الحشوية بأنه الحرف والصوت المؤدي إلى أن تكون الذات المقدسة محلا للحوادث، ولم يرد الأشعري أنه حقيقة لغوية، وقد قال الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي في كتاب (الحدود): الكلام نوعان: قديم، ومحدث: فالمحدث كلام المخلوقين، وينقسم إلى: معنى في النفس يجده كل عاقل بالضرورة قبل أن ينطق به، وإلى ما يكون أصواتا مترتبة، وكلاهما كلام على الحقيقة، والقديم: هو كلام الله سبحانه، قائم بذاته المقدسة لا يشبه كلام المخلوقين، فليس بحرف ولا صوت، لأن الكلام صفته (ومن شأن الصفة أن تتبع الموصوف، فإذا كان الموصوف لا يشبه شيئا فكذلك) صفاته لا تشبه صفات غيره، وإنما غلط الخصوم في إلحاقهم الغائب بالشاهد قال: فحصل أن كلام الخلق ينقسم إلى نفسي ولفظي بخلاف القديم وهو كما تقول: علم المخلوق ينقسم إلى ضروري وكسبي، بخلاف القديم فكما أن علمنا لا يشبه علمه، فكذلك كلامنا لا يشبه كلامه، وإن كان الكلام في الجملة حد جامع، وهي الصفة التي يستحق من قامت به أن يشتق منها اسم المتكلم لكن يختلفان في التفصيل، قال:

ومن أصحابنا من قال: كلام الخلق في الحقيقة هو ما في النفس، وما يوجد بالنطق يسمى كلاما مجازا، قال: والأول أصح، لما قلناه ولأنه أحسم للشغب. انتهى. والثالث: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك، وعزاه الهندي للأكثرين، وقال إمام الحرمين: إنه الطريقة المرضية عندنا وهو معنى كلام الأشعري، وكذا قال ابن القشيري والشيخ أبو إسحاق وغيرهما، وقالوا: إنها تدرأ تشعب الخصوم، وحكاه في (المحصول) عن المحققين وقال الآمدي في (غاية المرام): إنكار تسمية النفسي كلاما لا يستقيم نظرا إلى إطلاق الوضع اللغوي، فإنه يصح أن يقال: في نفسي كلام، وفي نفس كلام ومنه قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم} قال: ولا نظر إلى كونه أصليا فيه أو فيما يدل عليه (131أ) من العبارات أو فيهما كيف، وحاصل هذا النزاع ليس إلا في قضية لغوية، وإطلاقات لفظية، ولا حرج فيها بعد فهم المعنى، وكذا قال الأبياري في (شرح البرهان): المسألة لغوية محضة، والقطع بأحدهما لم يثبت عندي وأهل العربية مطبقون على إطلاق الكلام على الألفاظ. (ص) فإن أفاد بالوضع طلبا، فطلب ذكر الماهية استفهام وتحصيلها أو

تحصيل الكف عنها أمر ونهي، ولو من ملتمس وسائل. (ش) فاعل أفاد هو المركب وأراد بالوضع أنه يفيده إفادة أولية، وعدل عن قول (المنهاج): بالذات للتنبيه على صواب العبارة واحترز عما يفيد الطلب باللازم، كقولك: أنا أطلب منك أن تذكر لي حقيقة الإنسان، فإنه لا يسمى استفهاما وأن تسقيني الماء فإنه لا يسمى أمراً لأنهما وإن دلا على الطلب لكن ليس بالصيغة، لأن صيغة الخبر لم توضع للطلب، وعدل عن قول (المنهاج): الطالب للماهية إلى قوله: (طلب ذكر الماهية) لأنها أحسن لموافقتها المقصود والحاصل أن المركب إن أفاد طلبا لذاته فإن كان الطلب لذكر ماهية الشيء فهو استفهام كقولك: ما هذا؟ ومن هذا؟ أو إن كان لتحصيل أمر ما من الأمور - فأمر، أو الكف عنه فنهي، وزاد المصنف هذا على قول (المنهاج): ولتحصيل أمر، فإنه إن أراد تحصيل الفعل الذي ليس بكف، فالتقسيم غير حاصر لخروج طالب الكف بالمنهي عنه وإن أراد تحصيل الفعل مطلقا كفا كان أو غيره، لزم دخول النهي في حد الأمر، وهما حقيقتان مختلفتان، فلهذا استوفى المصنف القسمين بالحصر، وهو بناء على أن الكف فعل وهو

المختار. ومثال الملتمس: قول القائل لمماثله: افعل كذا، أو السائل هو المشتغل كقول من يجعل نفسه دون المطلوب منه وهو سؤال سواء كان دونه في نفس الأمر أم لا وما صرح به المصنف من دخولهما في الأمر بناء على ما سبق منه في باب الأوامر إن الأمر لا يشترط فيه العلو ولا الاستعلاء واستند إلى قول ابن دقيق العيد في شرح العنوان (أن تسمية التساوي بالالتماس اصطلاح خاص وقال الأبياري في شرح (البرهان): اختلف في تسمية الدعاء أمرا، فأباه النحويون وأكثر الأصوليين، ومنهم من قال: يصح أن يأمر الأدنى الأعلى، وهذا غير متحقق في التحريم والإيجاب، فإن قيل: كلامه إنما هو في المركب، وصيغة الأمر مفردة، لأن جزء لفظها لا يدل على جزء معناها - قلنا: في صيغة الأمر ضمير مستكن في حكم اللفظ به، بدليل توكيده وتثنيته وجمعه فقم، قم أنت قوما وقوموا. (ص) وإلا فما لا يحتمل الصدق والكذب تنبيه وإنشاء ومحتملها الخبر. (ش) أي وإن لم يفد بالوضع طلبا، أي لا يدل على طلب الفعل دلالة أولية، لكنه يدل عليه باللازم، فإما أن يحتمل الصدق والكذب أولا، فما لا يحتملها يسمى تنبيها، أي نبهت به على مقصودك بالكلام، ويندرج في التنبيه التمني، كـ (ليت) الشباب يعود والترجي نحو: لعل لي مالا فأنفقه، والقسم والنداء فإنه لا

يحسن أن يقال لقائلها: صدقت أو كذبت، وهو في هذا متابع للمحصول فإنه جعل هذه الأقسام مما لا يدل على الطلب بالوضع لكن البيانيون أطلقوا عليها اسم الطلب وقالوا (131ب): إنه يتنوع إلى طلب حصول ما في الخارج أن يحصل في الذهن كالاستفهام أو طلب حصول ما في الذهن أن يحصل في الخارج، وقالوا: إنه ينحصر بالاستقراء في خمسة أقسام: الاستفهام والأمر، والنهي، والنداء، والتمني، وادعاء القرافي في (الفروق) الإجماع على أن الأمر والنهي والقسم والترجي والتمني والنداء من قسم الإنشاء - لا يخالف ما نقلناه عن البيانيين، لأنهم جزموا بأن الطلب من الإنشاء، وقسموا الإنشاء إلى طلب وغيره نعم الأمر والنهي ليسا من الإنشاء على طريقة الرازي، وتابعه المصنف، وقوله: وإنشاء أي ويسمى أيضا إنشاء من قولهم: أنشأ يفعل كذا، أي ابتدأ ثم نقل إلى إيقاع لفظ لمعنى يقارنه في الوجود، وقوله: ومحتملهما: أي وإن احتمل الصدق والكذب فهو الخبر، وزعم قوم منهم الغزالي أن التعبير بالتصديق والتكذيب أحسن من الصدق والكذب، لأن من الأخبار ما لا يحتمل إلا الصدق كخبر الصادق، وما لا يحتمل إلا الكذب، كما لو قال:

الواحد نصف العشرة ولم يرتضه المصنف فإن احتماله لهما بحسب المفهوم، والخبر من حيث هو محتمل لذلك، وتعين أحد الاحتمالين في بعض الأفراد بحسب الخارج لخصوصية ومزية - لا يخرج احتمال ماهية الخبر، من حيث هي محتملاتها، ثم إن التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار بكون الكلام صدقا أو كذبا فتعريفه دور. (ص) وأبى قوم تعريفه كالعلم والوجود والعدم، وقد يقال: الإنشاء ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام والخبر خلافه أي ماله خارج صدق أو كذب. (ش) ذهب قوم - منهم الإمام الرازي - إلى أن الخبر لا يحد، لأنه ضروري لأن كل واحد يعلم أنه موجود، والخبر جزء من هذا الخبر وقيل: يعسر الحد، وهو كالخلاف في تعريف العلم والوجود والعدم، والصحيح خلافه، ثم اختلف القائلون بتحديده، فقيل: ما يحتمل الصدق والكذب، وقد سبق ومنهم من قال:

يعرف بتعريف مقابله فقال: الإنشاء ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام، كبعت وتزوجت وطلقت فإنه إذا وردت من المكلف رتب عليها الشرع مقتضياتها، إما مع اللفظ أو آخر حرف منه على الخلاف المشهور، والمراد بالخارج ما هو خارج عن كلام النفسي المدلول عليه بذلك اللفظ، والخبر بخلافه، أي ما يقال له في الخارج صدق أو كذب، والحاصل أن النسبة في الإنشاء وجودها مع وجود اللفظ لا وجود لها قبله والنسبة في الخبر خارجية قبل وجود اللفظ ثم اللفظ يخبر عنها وهو معنى قولهم: الإنشاءات يتبعها مدلولها، والأخبار تتبع مدلولاتها قال القرافي: وليس المراد التبعية في الوجود وإلا لما صدق ذلك إلا في الماضي فقط، فإن الحاضر مقارن، والمستقبل وجوده بعد الخبر، بل المراد أنه تابع لتقرر مخبره في زمانه ماضيا كان أو حاضرا أو مستقبلا وقد أورد على هذا التعريف الإخبار عن المستقبلات

نحو: سيقوم زيد فإنه عند النطق به ليس له خارج صدق ولا كذب، فلا يمكن وصفه بذلك وعند وجود المخبر ليس الخبر موجودا حتى يصفه بصدق، ولا شك أن الإخبار عن المستقبلات بوصف (132أ) للصدق والكذب، قال تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} فلو قال: إن كان محكوما فيه بنسبة خارجية فهو الخبر - كما فعل ابن الحاجب - كان أولى، وكان بعض مشايخنا يقول: التحقيق أن لكل من نسبة الإنشاء والخبر العقليين نسبة في الخارج غير أن النسبة العقلية في الخبر تابعة للنسبة الخارجية، وأخرج الكلام تابعا لها في الظاهر والنسبة الخارجية في إنشاء تابعة للنسبة العقلية، أخرج الكلام ليوقع على حسبه. تنبيهات: الأول: قوله: (وقد يقال): إشارة إلى قول آخر خلاف ما ذكره أولا من التقسيم إلى ثلاثة: طلب وإنشاء وخبر، وهذا القائل قسمه إلى قسمين: خبر أو إنشاء وجعل الطلب داخلا في الإنشاء، لأنه ردد الكلام بين ما له خارج وبين ما لا خارج له، وجعل الإنشاء ما ليس له خارج، وذلك يشمل الطلب والإنشاء، وذهب ابن مالك إلى قول ثالث، وهو انقسامه إلى خبر وطلب، ويرد عليه أن من الكلام ما ليس خبرا ولا طلبا كالشرط في الإنشاء نحو: إن دخلت الدار فأنت طالق، فإنه ليس بخبر، إذ لا يحتمل الصدق والكذب ولا بطلب لانحصار الطلب عندهم في الأقسام الخمسة السابقة واعلم أن من حصره في ثلاثة أقسام (فسر الإنشاء بإيقاع لفظ بمعنى يقاربه في الوجود، كإيقاع البيع ببعت، ومن حصره في قسمين) فسر الإنشاء بما لا نسبة له في الخارج، وبهذا ينحل الإشكال المشهور في أن الطلب لا يدخل في الإنشاء، إذ الإنشاء لا بد فيه من المقارنة، والطلب بخلافه فإن هذا

اعتراض مركب على المذهبين، فإن من قسمه قسمين لم يفسر الإنشاء بهذا التفسير. الثاني: قوله: والخبر بخلافه أي ماله خارج، جعله هذا قسيما لما قبله - فيه نظر، فإن من فسر الإنشاء بما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام فسر الخبر بما يحصل وجوده في الخارج بغيره مثل: زيد منطلق فإنه يمكن علمه بالمشاهدة بخلاف الأمر والنهي فإنه لا يمكن استفادته إلا من المتكلم ومن فسر الخبر بما له خارج يطابقه أولا، فسر الإنشاء بما ليس له خارج أصلا، ولم يفسر أحد الطرفين، كما فصل المصنف، وقد أورد على القائلين) بما له خارج أن الخبر قد يكون متعلقه ذهنيا فلا يشترط في الخبر مطابقته لما في الخارج، بل مطابقته لما في نفس الأمر. الثالث: وهو سؤال على قولهم: إن صدق الخبر ومطابقته للواقع فإن المخبر بالواقع قد أكذبه الله تعالى في القذف في قوله: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} وقال العلماء: لا تصح توبته إلا بإكذابه نفسه (ولا شك قد يكون صادقا في نفس الأمر، فكيف يكون كاذبا ويؤمر بتكذيب نفسه)؟ وأجيب بأن القاذف كاذب في حكم الله تعالى، وإن كان خبره مطابقا لمخبره، أي أنه يعاقب معاقبة المفتري الكذاب، فلا تتحقق توبته حتى يعترف بأنه كاذب عند الله، كما أخبر به عنه، فإذا لم يعترف بذلك وقد جعله الله كاذبا، أي قوله له، مع إصراره على مخالفة حكم الله عليه بالكذب. (ص) ولا مخرج له عنهما، لأنه إما مطابق للخارج، أو لا وقيل بالواسطة فالجاحظ: إما مطابق مع الاعتقاد ونفيه، أولا مطابق مع الاعتقاد ونفيه، فالثاني

فيهما واسطة، وغيره: الصدق: المطابقة لاعتقاد المخبر، طابق الخارج أولا وكذبه عدمها، فالساذج واسطة، والراغب الصدق: المطابقة الخارجية مع الاعتقاد فإن فقدا فمنه كذب وموصوف بهما بجهتين. (ش) ذهب الجمهور إلى أن الخبر لا يخرج عن (132ب) كونه صدقا أو كذبا، لأنه إما أن يطابق المخبر عنه أو لا، والأول صدق، والثاني كذب، والعلم باستحالة حصول الواسطة بينهما على هذا التفسير - ضروري، وقيل: بينهما واسطة، واختف القائلون به على مذاهب: أحدها: قول الجاحظ صدق المخبر مطابقته للخارج، مع اعتقاد مطابقته وكذبه: عدم مطابقته مع اعتقاد المخبر عدم مطابقته وغيرهما ليس بصدق ولا كذب، فأثبت الواسطة في أربع صور، وهي ما إذا كان مطابقا وهو غير معتقد لشيء أو مطابقا وهو معتقد عدم المطابقة، أو غير مطابق وهو يعتقد المطابقة، أو غير مطابق ولا يعتقد شيئا، فالأربعة ليس بصدق ولا كذب وإليها أشار أولا بقوله: أو لا مطابق مع الاعتقاد ونفيه أي وما ليس معه الاعتقاد والمطابقة هو الواسطة، وقوله (مع الاعتقاد) أي (أو الظن) كذا حكاه عنه أبو الحسين في (المعتمد) قال: وقد أفسده عبد الجبار، بأن ظن المخبر واعتقاده يرجع إليه لا إلى الخبر، فلم يكن شرطا في كونه كذبا. الثاني: صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر، سواء طابق الخارج أو لا، وكذبه

عدمهما ولو كان صوابا وعلى هذا فالساذج واسطة ونعني بالساذج: الخبر الذي لا اعتقاد معه، أو معه اعتقاد العدم، ولكن صاحب الإيضاح البياني صرح بأن صاحب هذا القول لا يثبت الواسطة، وعلى هذا يدخل في قوله: (عدمها) ما لا اعتقاد معه أو معه اعتقاد العدم بل يدخل فيه خبر الشأن، والكل عنده كذب، وما فهمه المصنف في حكاية هذا القول - ذكره الخطيب، احتمالا في كلام صاحب (التلخيص) وهو اشتراط الاعتقاد فقط في كل من الطرفين، ليكون خبر غير المعتقد واسطة، لكنه لم يثبت عن أحد، بل أصل هذا القول غريب، قيل: إنه لم يحكه سوى صاحب (الإيضاح) وإن كان ظاهر عبارة ابن الحاجب تقتضيه إلا أن المحققين من شراحه حملوه على خلافه. الثالث: وهو قول أبي القاسم الراغب في كتاب (الذريعة): أن الصدق التام هو المطابقة للخارج والاعتقاد معاً، فإن انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقا تاما بل إما أن لا يوصف بالصدق والكذب كقول المبرسم الذي لا قصد له: زيد في الدار، فلا يقال له:

إنه صدق ولا كذب، وأما أن يوصف تارة بالصدق وتارة بالكذب بنظرين مختلفين إذا كان مطابقا للخارج غير مطابق للاعتقاد كقول الكفار: {نشهد إنك لرسول الله} فإن هذا يصح أن يقال فيه: صدق، لكون المخبر عنه كذلك، ويصح أن يقال كذب، لمخالفة قوله ضميره فلهذا كذبهم الله تعالى، وكذلك إذا قال: من لم يعلم كون زيد في الدار، إنه في الدار، يصح أن يقال: صدق وأن يقال: كذب بنظرين مختلفين. انتهى. إذا علمت هذا فما نقله المصنف عنه لا يطابق كلامه، لأنه لم يعرف مطلق الصدق بما ذكره، بل الصدق التام والصدق عنده قسمان. وكذا قوله: فإن فقدا فمنه كذب إنما تكلم على ما إذا فقد أحدهما ثم وصفه بالجهتين، إنما يكون في هذه الحالة لا في حالة فقدهما. فائدة: الساذج بذال معجمة: قال في (المحكم): أي أصله ساده فمعرب. (ص) ومدلول الخبر، الحكم بالنسبة لا ثبوتها، وفاقا للإمام وخلافا للقرافي وإلا لم يكن شيء من الخبر كذبا. (ش) (133أ) قال الإمام في (المحصول): إذا قلت: العالم حادث فمدلول هذا الكلام حكمه بثبوت الحدوث للعالم، لا نفس ثبوت الحدوث للعالم إذ لو

كان مدلوله نفس ثبوت الحدوث للعالم لكان حيثما وجد قولنا: العالم محدث، كان العالم محدثا لا محالة، فوجب أن لا يكون الكذب خبرا ولما بطل ذلك علمنا أن مدلول الصيغة هو الحكم بالنسبة لا نفس النسبة. انتهى واعترض عليه بأنه توهم أن يكون الكذب متحققا لا بصفة الخيرية=، والواقع على هذا التقدير انتفاء الكذب وتوهم جماعة أن هذا انقلب على الإمام، وغيره في (التحصيل)، فقال: وإلا لم يكن الخبر كذبا وهو أيضا عبارة فاسدة لما توهم من أن كل خبر كذب، والحق أن عبارة الإمام صحيحة وتقريرها أن مدلول النسبة لو كان ثبوتا كان الكذب غير خبر، لكن اللازم منتف ضرورة أن الكذب أحد قسمي الخبر الذي هو صدق وكذب، فالملزوم مثله، وبيان الملازمة أن ثبوت النسبة وقوعها في الخارج، فلا يكون إلا خارجا عنه كذبا، وأوضح منها عبارة المصنف، ومن محاسنه أنه أخر التعليل عن ذكر الإمام لينبه على أن هذا التعليل لم يذكره الإمام والغرض منه وقوع الخطأ لقوم في فهمه، ومنهم من نازع الإمام في الدليل، وقال: إنه غير لازم، لأن اللفظ دليل على وجوب النسبة وقد لا تكون موجودة، لأن الخبر دليل بمعنى المعرف، وقد يتأخر المعرف عن (المعرف لأمر ما، ثم ما قاله قد يعكس، فيقال: لو كان مدلول النسبة الحكم لم يكن خبره كذبا) لأن كل من قال: قام زيد، فقد حكم بقيامه فيكون خبره مطابقاً سواء كان في الخارج أو لا ولا سيما والإمام قائل بأن الألفاظ وضعت بإزاء المعاني الذهنية ثم يقول: لو كان المدلول الحكم بالنسبة لكان الخبر إنشاء ولم يكن ثم خارج يطابقه، وإما أن العرب لم تضع الخبر إلا للصدق، قال: وظن جماعة من الفقهاء أن احتمال الخبر للصدق والكذب مستفاد من الوضع اللغوي، وليس كذلك بل لا يحتمل

الخبر من حيث الوضع إلا الصدق، لاتفاق اللغويين والنحاة على أن معنى قولنا: قام زيد - حصول القيام منه في الزمن الماضي ولم يقل أحد منهم: إن معناه صدور القيام أو عدمه، وإنما احتمله من جهة المتكلم لا من جهة الوضع اللغوي، وعلى هذا يستقيم قول محمد بن الحسن في (الجامع): إن أخبرتني أن فلانا قدم، يحنث بالصدق والكذب، لأنه يستعمل فيهما من جهة المتكلم والمخاطب، وقلت: وكذا قال أصحابنا لكن نضعف مذهب القرافي بأمور: أحدها: القول بأن المركبات ليست موضوعية. ثانيها: ما ذكره المصنف من القاعدة. ثالثها: لا نسلم أن مدلول: قام زيد، حصول القيام، وإنما مدلوله الحكم بحصوله القيام، وذلك يحتمل الصدق والكذب. رابعها: اتفاق الناس على أن الخبر أعم من الصدق والكذب. (ص) ومورد الصدق والكذب النسبة التي تضمنها ليس غير كقائم، في: زيد ابن عمرو قائم، لا بنوة زيد، ومن ثم قال مالك وبعض أصحابنا الشهادة بتوكيل فلان ابن فلان فلانا - شهادة بالوكالة فقط، والمذهب، بالنسب ضمنا والوكالة أصلا. (ش) مورد الصدق والكذب في الخبر هو النسبة التي تضمنها الخبر لا واحد من طرفيها، فإذا قيل: زيد بن عمرو قائم، فقيل: صدقت أو كذبت (133ب) فالصدق والكذب راجعان إلى القيام لا إلى بنوة زيد وقوله: ومن ثم، أي من

هناك وهو أن الثابت النسبة فقط، قال مالك وبعض أصحابنا إذا شهد شاهدان بأن فلان بن فلان وكل فلانا، كانت شهادة بالتوكيل، ولا يستفاد منها، أنهما شهدا بالبنوة، فليس له في محاكمة أخرى في البنوة أن يقول: هذان شهدا لي بالبنوة لقولهما في شهادة التوكيل: إني فلان ابن فلان، والمذهب الصحيح عندنا أنه شهادة بالوكالة أصلا، وهذا واضح لأنه مورد الكلام ومقصده وبالنسب ضمنا، وهذا قد يستشكل على هذا الأصل، ولا إشكال فيه، لأنا لما صدقنا الشاهدين كان قولهما متضمنا لذلك، وهذه المسألة مذكورة في (الإشراف) للهروي و (الحاوي) للماوردي، و (البحر) للروياني واعلم أن هذه القاعدة مهمة، وقد أهملها الأصوليون وذكرها البيانيون كالسكاكي ومنهم أخذ المصنف وقد أورد عليهم ما رواه البخاري مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقال للنصارى يوم القيامة ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد)) وكذلك استدل الشافعي رضي الله عنه وغيره من الأئمة على صحة أنكحة الكفار بقوله تعالى: {وقالت امرأة فرعون} وينبغي أن يخرج الفرع الذي ذكره المصنف تفصيلا في المسألة، وهو يدل على نسبة المحمول للموضوع بالمطابقة وعلى غيره بالالتزام قال بعضهم: وهذا هو الحق, وينبغي أن يستثنى من ذلك ما لو كانت صفة المسند إليه مقصودة بالحكم بأن يكون المحكوم عليه في المعنى الهيئة الحاصلة من المسند إليه كقوله عليه الصلاة والسلام: ((الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)) فإنه لا يخفى أن

المراد الذي جمع كرم نفسه وآبائه وهو يوسف وليس المراد الإخبار عن الكريم الذي اتفق له صفة الكرم كما في قولك: زيد العالم قائم وكذلك الصفات الواقعة في الحدود نحو: الإنسان حيوان ناطق فإن المقصود الصفة والموصوف معا، ولو قصدت الإخبار بالموصوف فقط لفسد الحد، ولم يقف والد المصنف على نقل في المسألة، فقال في (فتاويه): إنه لا يدل على ذلك في كلام الآدميين, وإن دل فبالالتزام وهو غير نافع، بل لا بد أن يصرح به الشاهد بخلاف كلام الله تعالى، فإنه محتج به وبما يدل عليه مطابقة كان أو التزاما فافهم الفرق بين الموضعين فهذا كلامه. فائدة: يجوز في قوله: ليس غير، أربعة أوجه: فتح الراء وضمها بلا تنوين فيهما على إضمار الاسم، وبالتنوين فيهما، وعدل عن قول غيره من المصنفين: لا غير لأن بعضهم لحنهم في ذلك، وقال: إنها تقطع عن الإضافة لفظا إذا تقدمت (كلمة ليس، خاصة ونازع في ذلك آخرون منهم ابن بري وقال: ويجوز بناؤها على الضم، مع لا، لانقطاعها) عن الإضافة كما فعل بقبل وبعد، والتقدير: لا غير ذلك، فلما منعت الإضافة رفعت. (ص) مسألة الخبر إما مقطوع بكذبه - كالمعلوم خلافه - ضرورة أو استدلالا

(ش) الخبر وإن كان من حيث هو محتمل للصدق والكذب، لكنه قد يقطع بصدقه أو كذبه لأمور خارجية أو لا يقطع بواحد منهما، لفقدان ما يوجب القطع، فقد يقطع بكذبه لما علم بخلافه، إما ضرورة كالإخبار باجتماع النقيضين أو ارتفاعهما أو استدلالا كإخبار الفيلسوف بقدم العالم فإنه يعلم كذبه بالاستدلال على حدوث العالم. (134أ). (ص) وكل خبر أوهم باطلا ولم يقبل التأويل فمكذوب أو نقص منه ما يزيل الوهم. (ش) عدم قبوله التأويل أما لمعارضته الدليل العقلي أو غيره مما يوجب ذلك فيمتنع صدوره عنه عليه السلام قطعا، فإن الشرع يرد بمجوزات العقول لا بمستحيلاتها كقوله: إن الله خلق نفسه وغيره من الأحاديث المختلقة في التشبيه والقصد بهذا أنه إذا تعارض السمع وما أدركه العقل من أحكام العقائد وغيرها أيهما يقدم؟ والمتكلمون يقدمون مدرك العقل، لأنه السمع إنما يثبت بدليل العقل، فلو قدم السمع كان ذلك قدحا في الأصل بالفرع ثم في الفرع تبعا لأصله وأنه باطل لكن تصرف المحدثين يقتضي تقديم السمع لاحتمال غلط العقل لا سيما في الأمور الإلهية، والشرع أوثق منه في ذلك. والحق بناؤه على الخلاف السابق في مباحث الكتاب أن الأدلة النقلية تفيد اليقين أم لا؟ وقد نازع ابن دقيق العيد في عدهم هذا القسم مما يقطع بكذبه، وقال: إنما يصح إذا حددنا الكذب بما يخالف الواقع من غير أن يعتبر قصد المخبر، أما إذا اعتبرنا فيه قصده فقد يكون ذلك الخبر وإن كان غير مطابق -

قطعا يوهم رواية أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتعمد الكذب فيه، فعلى هذا، الصواب أن يقال: يقطع بعدم مطابقته للواقع وتحرز بقوله: ولم يقبل التأويل، عما إذا قبله فإنه لا يقطع بكذبه، لاحتمال أن يكون المراد هو المعنى الصحيح. وقوله: أو نقص منه ما يزيل الوهم، قد تمثل له بما ذكره ابن قتيبة في (مختلف الحديث) أنه عليه السلام ذكر مائة سنة أنه لا يبقى على ظهرها يومئذ نفس منفوسة، وهذا خلاف للمشاهدة، وإنما سقط منه ((لا يبقى على الأرض منكم)) فأسقط الراوي ((منكم)) وكذلك قول ابن مسعود في ليلة الجن: ما شهدها أحد منا، مع أنه جاء عنه شهودها، ولكن الراوي سقط منه: غيري وتابعه على هذا ابن السيد في كتاب (أسباب الخلاف) وهو عجيب، ففي صحيح مسلم: هل كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا. (ص) وسبب الوضع نسيان أو افتراء أو غلط أو غيرها. (ش) سبب وقوع الكذب عليه صلى الله عليه وسلم إما نسيان الراوي لطول عهده بالخبر المسموع فربما حمله النسيان على ما يخل بالمعنى، أو برفع ما هو موقوف أو غير ذلك من أسباب النسيان، وما افتراء كوضع الزنادقة أحاديث تخالف المعقول، ونسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تنفيرا للعقلاء عن الشريعة، وإما غلط، بأن أراد النطق بلفظ فسبق لسانه إلى ما سواه، أو وضع لفظ مكان آخر، ظانا أنه يؤدي معناه أو غيرها، يعني كما ذهب إليه بعض الكرامية من جواز وضع الحديث في باب الترغيب والترهيب، حكاه أبو بكر بن

السمعاني في (أماليه) وهو راجع إلى الافتراء. (ص) ومن المقطوع بكذبه على الصحيح خبر مدعي الرسالة بغير معجزة تصديق الصادق، وما نقب عنه ولم يوجد عند ذويه، وبعض المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي على نقله خلافا للرافضة. (ش) والمقطوع بكذبه غير ما سبق صور: أحدها: ذكره إمام الحرمين: أن يتنبأ متنبئ من غير معجزة فيقطع بكذبه قال: وهذا مفصل عندي، وأقول: إن تنبأ وزعم أن الخلق كلفوا متابعته وتصديقه من غير آية فهذا كذب، فإن مساقه يفضي إلى (134ب) تكليف ما لا يطاق, وهو العلم بصدقه من غير سبيل يؤدي إلى العلم, وأما إذا قال: ما كلف الخلق اتباعي ولكن أوحي إلي فلا نقطع بكذبه، قلت: وهذا فيما قبل ظهور خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فأما الآن فنقطع بكذبه لقيام القاطع أن لا نبي بعده.

ثانيها: ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد استقرار الأخبار، ثم فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب، ولا في صدور الرواة، ذكره الإمام الرازي وسبقه إليه صاحب (المعتمد) قال: كما لو قال الراوي: هذا الخبر في الكتاب الفلاني فلم نشاهده فيه وهذا قد ينازع في إفضائه إلى القطع، وإنما غايته غلبة الظن ولهذا قال القرافي: يشترط استيعاب الاستقراء بحيث لا يبقى ديوان ولا راو إلا وكشف أمره في جميع أقطار الأرض، وهو عسير أو متعذر، وقد ذكر أبو حازم، في مجلس هارون الرشيد حديثا، وحضره الزهري، فقال: لا أعرف هذا الحديث فقال:

أحفظت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كله؟ قال: لا، قال: فنصفه؟ قال: أرجو، قال: اجعل هذا في النصف الذي لم تعرفه، هذا وهو الزهري شيخ مالك فما ظنك بغيره نعم إن فرض دليل عقلي أو شرعي يمنع منه عاد إلى ما سبق. ثالثها: بعض الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الآحاد مقطوع بكذبه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سيكذب علي)) وهذا الحديث لا يعرف. رابعها: المنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي على نقله إما لكونه أمرا غريبا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة، أو لتعلق أصل من أصول الدين به كالنص الذي زعم الروافض أنه دل على إمامة علي رضوان الله عليه فعدم تواتره دليل على عدم صحته.

(ص) وإما بصدقه كخبر الصادق وبعض المنسوب إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمتواتر معنى أو لفظا. (ش) الخبر المقطوع بصدقه أنواع: منها خبر الصادق، أي الذي لا يجوز عليه الكذب أصلا، إما لعلمه وغناه، وهو خبر الله تعالى لتنزهه عن جميع النقائض أو لأنه عصم من الكذب، إما لدلالة المعجزة، وهو خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخبر به مشافهة أو ينقل عنه متواترا، ومنهم من استدل عليه بالإجماع على صدقه. قال ابن دقيق العيد: وهو غير جيد، بل الدليل الصحيح أن المعجزة دلت عليه، فإنها دلت على الصدق في التبليغ، إذ لا معنى للرسالة سوى ذلك، كل ما أخبر به فهو داخل تحت مدلول المعجزة. انتهى. وإما لشهادة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم له بذلك، وخبر جميع الأمة ومنها بعض المنسوب إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإن كنا لا نعرف ذلك إلا بجملة معينة، وأنه قد سبق أنهم قد كذبوا عليه ومنها ما أخبر عنه عدد التواتر قال الغزالي: وليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرد الإخبار إلا المتواتر، وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل يدل عليه سوى نفس الخبر وحكى صاحب (المعتمد) عن النظام أنه يشترط القرينة

في اقتضائه العلم في الآحاد، وهو غريب، وسواء التواتر المعنوي واللفظي والفرق بينهما أن أخبار الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب إن اتفقوا في اللفظ والمعنى فذاك، وإن اختلفوا فيهما مع وجود معنى كلي فيما أخبروا به، وقع عليه الاتفاق كما إذا أخبر واحد عن حاتم أنه أعطى بعيرا وآخر (135أ) أنه أعطى فرسا وآخر أنه أعطى دينارا وهلم جرا فإن المخبرين وإن اختلفوا في الأداء فقد اتفقوا على معنى كلي، وهو الإعطاء وهو دون التواتر اللفظي، لأجل الاختلاف في طريق النقل، قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يكاد يقع الاحتجاج به إلا في شيء من الأصول ومسائل قليلة من الفروع كغسل الرجلين مع الروافض والمسح على الخفين مع الخوارج. تنبيه: كان ينبغي أن يزيد الخبر المعلوم صدقه بضرورة العقل أو بنظره على قياس ما ذكر أولا في نقيضه مما يقطع بكذبه. (ص) وهو خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عن محسوس. (ش) الضمير راجع إلى اللفظي، لا المتواتر من حيث هو فيخرج بالجمع خبر

الواحد، ويمتنع تواطؤهم عن جماعة لا يمتنع فيهم ذلك، وزاد بعضهم: (بنفسه) ليخرج ما امتنع فيهم ذلك بالقرائن، أو موافقة دليل عقلي أو غير ذلك، وإنما لم يذكره المصنف لأن المفيد للقطع هو مع القرائن، وقوله: (عن محسوس) هو في قوة شرطين: أحدهما: أن يكون عن علم لا عن ظن. وثانيهما: أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس، ونعني بالمحسوس ما يدرك بإحدى الحواس الخمس، وإنما شرط علمهم ذلك عن الحس بخصوصه ذكره الرازي والآمدي وأتباعهما والذي صرح به الأقدمون كالقاضي اشتراط كونه عن ضرورة إما بعلم، الحس من سماع أو مشاهدة وإما بأخبار متواترة، فلو أخبروا عن نظر لم يفد العلم لتفاوت العقلاء في النظر، ولهذا يتصور الخلاف منه نفيا وإثباتا وقال إمام الحرمين: لا وجه لاشتراط الحس، بل يكفي فيه العلم الضروري فإن المطلوب صدور الخبر عن العلم الضروري، ثم قد يترتب على الحواس ودركها، وقد يحصل عن قرائن الأحوال كصفرة الوجل وحمرة الخجل، فإنه ضروري عند المشاهدة، ولا أثر للحس فيها على الاختصاص.

(ص) وحصول العلم آية اجتماع شرائطه ولا تكفي الأربعة وفاقا للقاضي والشافعية وما زاد عليها صالح من غير ضبط، وتوقف القاضي في الخمسة وقال الإصطخري: أقله عشرة، وقيل: اثنا عشر، وعشرون، وأربعون، وسبعون، وثلاثمائة، وبضعة عشر. (ش) اختلف هل يشترط فيه عدد معين، والجمهور على أنه ليس فيه حصر، وإنما الضابط حصول العلم، فمتى أخبر هذا الجمع، وأفاد خبرهم العلم - علمنا أنه متواتر وإلا فلا. قال القاضي: أقطع بأن قول الأربعة لا يفيد، وتوقف في الخمسة وقال ابن السمعاني: ذهب أكثر أصحاب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه لا يجوز التواتر بأقل من خمسة، وما زاد. فعلى هذا لا يجوز أن يتواتر بأربعة، لأنه عدد معين في الشهادة الموجبة لغلبة الظن دون العلم والمشترطون للعدد اختلفوا واضطربوا فقيل: يشترك عشرة ونسب للإصطخري والذي في (القواطع) عنه: لا يجوز أن

يتواتر بأقل من عشرة، وإن جاز أن يتواتر بالعشرة فما زاد، لأنها ما دونها جمع الآحاد فاختص بأخبار الآحاد، والعشرة فما زاد جمع الكثرة، وقيل: اثنا عشر، لأنهم عدد النقباء وقيل عشرون لقوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون} وقيل: أربعون عدد الجمعة، وقيل: سبعون، لقوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا} وقيل: ثلاثمائة وبعضة عشر، عدد أهل بدر وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بخبرهم للمشركين، والبضع بكسر الباء ما بين الثلاثة إلى التسعة قال ابن قتيبة في كتابه (مختلف الحديث): والذي يؤكد ضعف هذه الأقاويل أنه يلزم منها (135ب) إثبات قول بثمانية، كقوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} وإثبات قول تسعة عشر لقوله تعالى: {عليها تسعة عشر} ولم يصيروا إليه فدل على فساد حجتهم. (ص) والأصح لا يتشرط فيه إسلام ولا عدم احتواء بلد. (ش) لا يشترط في ناقل التواتر الإسلام.

خلافا لابن عبدان من أصحابنا، قال ابن القطان: وإنما غلط لتسويته بين ما طريقه الاجتهاد وما طريقه الخبر، ولا يشترط في المخبرين أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد خلافا لقوم، لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لأفاد خبرهم العلم. (ص) وأن العلم فيه ضروري وقال الكعبي والإمامان: نظري، وفسره إمام الحرمين بتوقفه على مقدمات حاصلة لا احتياج إلى النظر عقيبه، وتوقف الآمدي. (ش) فيه إشارة إلى مسألتين: إحداهما: أن خبر التواتر يفيد العلم، ولم ينقل فيه خلاف إلا عن السمنية.

وهو مكابرة على الضرورة: وهذه من مسائل (المنهاج). الثانية: ذهب الجمهور إلى أن العلم في التواتر ضروري لا على معنى إنه يعلم بغير دليل بل معنى إنه يلزم التصديق فيه ضرورة إذا وجدت شروطه، كما يلزم التصديق بالنتيجة الحاصلة عن المقدمات ضرورة، وإن لم تكن في نفسها ضرورية واستدلوا بأنه لو لم يفد العلم الضروري لوجدنا أنفسنا شاكين في وجود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي وجود بغداد، وذلك باطل، لأن كل ما لا يعرض فيه الشك فليس بنظري، فالعلم الحاصل عن التواتر ليس بنظري وذهب الكعبي إلى أنه

كسبي مفتقر إلى تقدم استدلال ونقله المصنف عن الإمامين - يعني إمام الحرمين والرازي - فأما إمام الحرمين فهو قد صرح في (البرهان) بموافقته الكعبي، لكنه نزله على أن العلم الحاصل عقيبه من باب العلم المستند إلى القرائن والمقدمات الحاصلة قال: وهذا هو مراد الكعبي، ولم يرد نظرا عقليا وفكرا سبريا على مقدمات ونتائج وقريب منه تقسيم الغزالي في (المستصفى) العلم النظري إلى ما يدرك بنظر قريب وإلى ما يدرك بنظر بعيد، وجعل التواتر من الأول، وقال: إنه يحصل العلم به عن مقدمتين: إحداهما: هي أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وتباين أغراضهم لا يجمعهم على الكذب جامع. والثانية: أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة، فينبني العلم بالصدق على مجموع المقدمتين، وأما الإمام الرازي فالذي في (المحصول) موافقة الجمهور

وتوقف الشريف المرتضي والآمدي. (ص) ثم إن أخبروا عن عيان فذاك وإلا فيشترط ذلك في كل الطبقات والصحيح ثالثها، إن علمه لكثرة العدد متفق وللقرائن قد يختلف فيحصل لزيد دون عمرو. (ش) عدد التواتر إن أخبروا عن معاينة فذاك، وإن لم يخبروا عن معاينة اشترط وجود هذا العدد، أعني الجمع الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل الطبقات وهو معنى قول الأصوليين: لا بد فيه من استواء الطرفين والواسطة، ولهذا يعلم أن التواتر قد ينقلب آحادا عند الاندراس وأشار بقوله: والصحيح إلى أنه هل يجب اطراد حصول العلم بالنسبة إلى سائر الأشخاص بإخبار عدد التواتر الذي حصل العلم بخبرهم عن واقعة بالنسبة إلى شخص أم لا؟ اختلفوا فيه فذهب القاضي أبو بكر وغيره إلى وجوب الاطراد، وآخرون إلى عدمه، وتوسط الهندي (136أ) فقال: الحق إن

حصول العلم في الصورة التي حصل العلم فيها بمجرد الخبر من غير احتفاف قرينة لا من جهة المخبرين ولا من جهة السامعين، فالاطراد واجب وإن لم يكن بمجرده بل لانضمام أمر آخر إليه فلا يجب الاطراد. (ص) وإن الإجماع على وفق خبر لا يدل على صدقه، وثالثها: يدل إن تلقوه بالقبول. (ش) إذا اجتمعت الأمة على وفق خبر، فهل يدل على القطع بصدقه؟ فيه مذاهب: أصحها: المنع، لأنه يحتمل أن يكون عملهم لدليل آخر غايته إنه لم ينقل إلينا وذلك لا يدل على عدمه. والثاني: عليه وبه قال الكرخي وبعض المعتزلة. والثالث: إن اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه، حملا للآمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد، وإن تلقوه بالقبول قولا وفعلا، حكم بصدقه، ونقله إمام الحرمين عن ابن فورك.

واعلم أنهما مسألتان: إحداهما: الإجماع على وفقه من غير أن يبين أنه مستندهم وفيها قولان في أنه هل يدل على صدقه قطعا أم لا؟ والثانية: أن يجمعوا على قبوله والعمل به، ولا خلاف أنه يدل على صدقه، وإنما الخلاف في أنه هل يدل قطعا أو ظنا؟ فالجمهور من أصحابنا على القطع، وذهب القاضي أبو بكر وإمام الحرمين إلى الظن، وجمع المصنف في المسألتين ثلاثة أقوال، ولكنه يقتضي أن الصحيح أنه لا يدل على صدقه وإن تلقوه بالقبول، وهذا لا يقوله أحد. (ص) وكذلك بقاء خبر تتوفر الدواعي على إبطاله خلافا للزيدية. (ش) قالت الزيدية: بقاء النقل مع توفر الدواعي على إبطاله يدل على صحته قطعا، كخبر الغدير والمنزلة فإنه سلم نقلهما في زمان بني أمية مع توافر

دواعيهم على إبطالها، وهو ضعيف لأن المروي بالآحاد قد يستقر بحيث يعجز العدو عن إخفائه، هذا إن تمسك بشهرة النقل وإن تمسك بتسليم الخصم فهو أيضا لا يدل على الصحة، لاحتمال أنه سلمه على وجه غلبة الظن بصدقه. (ص) وافتراق العلماء بين مؤول ومحتج خلافا لقوم. (ش) إذا قبل الحديث شطر الأمة وعملوا به واشتغل الشطر الأخير بتأويله هل يدل ذلك على صحته على وجه القطع؟ اختلفوا فيه: فذهب الأكثرون أنه لا يدل وهو الحق لأنه من قبله وعمل به لعله قبله لكونه مظنون الصدق، ولو فرض أنه كان في مسألة عملية ولعل من أوله ولم يحتج به، يطعن فيه أنه من باب الآحاد، إذ لا يجوز أن يكون مقطوعا به، وتأوله ولا معارض له، وذهبت طائفة منهم ابن السمعاني - إلى أنه يدل عليه، لأن الكل تلقوه بالقبول وهو يفيد القطع بصحته، غايته أن بعضهم أوله وذلك لا يقدح في متنه. تنبيه: ما صور به المصنف المسألة أن بعضهم احتج به وبعضهم أوله وهو المذكور في (المحصول) وأتباعه لكن الآمدي في (الإحكام) صورها بما إذا عملت طائفة بمقتضى الخبر والباقون أولوه، لا يدل على صدقه لاحتمال علمهم بغيره ولئن سلمناه

لكن العمل بالظن جائز أيضا وهذا مخالف لتصوير (المحصول). (ص) وأن المخبر بحضرة قوم لم يكذبوه ولا حامل، على سكوتهم - صادق. (ش) إذا أخبر واحد بحضرة جمع كثير بحيث لا يخفى على مثلهم عادة وسكتوا عن تكذيبه، ولا حامل لهم على سكوتهم من خوف أو طمع. فذهب الجمهور إلى أنه يدل على صدقه قطعا قال الأستاذ: وبهذا النوع أثبتت المعجزات. وقال آخرون: ليس بقطعي، لاحتمال مانع من التكذيب، واختاره الرازي والآمدي. (ص) وكذا المخبر (136ب) بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا حامل على التقرير والكذب خلافا للمتأخرين، قيل: إن كان عن دنيوي.

(ش) إذا اخبر واحد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيبه، فهل يدل على صدقه؟ فقال جماعة: نعم، لأنه لو كان كذبا لأنكره، وأنكره بعضهم مطلقا، وعزاه المصنف إلى المتأخرين، يعني: الآمدي وابن الحاجب وقال الهندي تبعا للمحصول إن كان خبرا عن أمر ديني دل على صدقه، لكن بشروط: أحدها: أن لا يكون قد تقدم بيان ذلك الحكم فلو تقدم لم يكن السكوت دليل الصدق لاحتمال الاستغناء عن الإنكار بالسابق. ثانيها: أن يجوز تغيير ذلك الحكم عما بينه، فلو لم يكن مما يغير اندفع احتمال النسخ فلم يكن السكوت موهما للصدق. ثالثها: أن يكون ذلك المخبر ممن لم يعرف عناده النبي صلى الله عليه وسلم وكفره به، فإن عرف لم ينفع فيه الإنكار، فلم يجب عليه إنكاره بالنسبة إليه، وأما بالنسبة إلى غيره فلا يجب أيضا، لاحتمال أن يكون ذلك الوقت لم يكن وقت الحاجة إليه، وإن كان خبرا عن أمر دنيوي، فهو أيضا يدل على صدقه، بشروط: أحدها: أن يستشهد بالنبي صلى الله عليه وسلم وإلا لم يدل، فإنه لا يجب عليه بيان الأمور الدنيوية وفيه نظر، لأنه وإن لم يجب عليه ذلك، لكن يجب عليه المنع من تعاطي الكذب. ثانيها: أن يعلم أنه صلى الله عليه وسلم عالم بالقضية، وإلا لم يكن دليلا على صدقه، لاحتمال أن سكوته لأنه لم يعلم حقيقة الحال فيه.

ثالثها: أن يكون المخبر ممن لا يعلم أنه لا ينفع فيه الإنكار، فإن علم أنه لا ينفع سقط الأمر عن الإنكار عليه، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: أولا، ولا حامل على التقرير والكذب، فلهذا استغنى عن تقييد المذهب المفصل. (ص) وأما مظنون الصدق فخبر الواحد، وهو ما لم ينته إلى التواتر، ومنه المستفيض وهو الشائع عن أصل، وقد يسمى مشهورا وأقله اثنان وقيل: ثلاثة (ش) الثالث: الخبر الذي لا يقطع بصدقه ولا بكذبه وهو خبر الواحد وليس المراد ما يرويه الواحد فقط, بل المراد منه الخبر الذي لم ينته إلى حد التواتر سواء انتهى إلى حد الاستفاضة والشهرة أم لا, فعلى هذا ينقسم خبر الواحد إلى مستفيض ومشهور مفيد الظن المولد إلى ما ليس كذلك وذهب ابن فورك إلى أن المستفيض يفيد القطع,

فجعله من أقسام التواتر ثم المختار في تعريفه: إنه الشائع عن أصل, فخرج الشائع لا عن أصل يرجع إليه، فإنه مقطوع بكذبه، وقد يسمى المستفيض مشهورا وأقله اثنان، وقيل: ثلاثة، وبه جزم الآمدي وابن الحاجب ثم ذكر الرافعي في الشهادات عن الشيخ أبي حامد وأبي إسحاق المروزي وأبي حاتم القزويني: إن أقل ما ثبت به الاستفاضة سماعه من اثنين وإليه ميل إمام الحرمين. قال: واختار ابن الصباغ وغيره سماعه من عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب، قال: وهو أشبه بكلام الشافعي وهو يؤيد مقالة ابن فورك في أنه قسم من المتواتر. تنبيه: جعل المصنف أقسام الخبر ثلاثة، تابع فيه الأصوليين وقد نازع فيه العبدري

في شرحه (للمستصفى) وقال: هذا الثالث، إنما هو قسم ثالث بالنسبة إلينا، وأما هو في نفسه: فلا بد أن يكون إما من القسم الأول وإما من الثاني. (ص) مسألة: خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة، وقال الأكثر: لا مطلقا وأحمد: يفيد العلم مطلقا، والأستاذ وابن فورك: يفيد (137أ) المستفيض علما نظريا. (ش) خبر الواحد العدل المتجرد عن القرائن لا يفيد العلم مطلقا عند الجمهور: وقيل: يفيده مطلقا، ونقله الباجي عن أحمد وابن خويز منداد وحمله بعض المحققين على الخبر المشهور، وهو الذي صحت له أسانيد متعدد سالمة عن الضعف والتعليل فإنه يفيد العلم النظري، لكن لا بالنسبة إلى كل أحد، بل إلى الحافظ المتبحر، قال: ولعل هذا مراد أحمد لا مطلق الخبر، وقال أبو الحسين حكى= عن قوم أنه يقتضي العلم الظاهر، وعنوا بذلك الظن والثالث: أنه يفيده إن احتفت به قرائن وإلا فلا، وهو المختار عند المصنف وفاقا للإمام والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي وغيرهم فإن خبر الموت مع قرينة البكاء

وإحضار الكفن يفيد القطع بالموت، واعترض بأنه قد يقال: أغمي عليه، والجواب: أن عدم إفادة هذه القرينة العلم، لا يوجب عدم إفادة باقي القرائن إذ منها ما لا يعبر عنه كما يظهر بوجه الخجل والوجل، وفصل الأستاذ أبو إسحاق وابن فورك فقالا: غير المستفيض لا يفيد العلم، وأما المستفيض فيفيد العلم النظري بخلاف المتواتر فإنه يفيد ضرورة. (ص) مسألة: يجب العمل به في الفتوى والشهادة إجماعا وكذا سائر الأمور الدينية الظنية قيل: سمعا، وقيل: عقلا، وقالت الظاهرية: لا يجب مطلقا. (ش) لا خلاف في وجوب العمل بخبر الواحد في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية وإنما الخلاف في الأمور الدينية، كذا قاله في (المنهاج) فتابعه المصنف،

وإنما تعرض في (المحصول) للجواز، لا للوجوب، ثم مرادهم بقبول الواحد في الفتوى، والاثنين في الشهادة، ولهذا قال ابن السمعاني في (القواطع): إضافة الفتوى إلى المفتي يقبل فيها خبر الواحد، وأما إن أخبر بحكم الحاكم فإنه لا يقبل إلا بما يقبل به سائر الشهادات، انتهى. وأما الأمور الدينية، فالجمهور قالوا: يجب العمل به ثم اختلفوا فالأكثرون: إنه يجب سمعا وأما الخبر المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يرسل كتبه بأحكام الله تعالى على يد الآحاد من غير تكليف جمع، وهذا مقطوع به ضرورة، وأما إجماع الصحابة على العمل به، فإن معظم فتاويهم مستندة إليه، وقال القفال: يجب

عقلا على معنى أنه لو لم يرد الدليل السمعي بوجوب العمل به لدل على ذلك العقل، وإلا لتعطلت الأحكام وعن أبي الحسين: دل عليه العقل مع السمع وكان ينبغي للمصنف، أن يقول: وقيل: عقلا، فإن الكل اتفقوا على أن الدليل السمعي يدل عليه، كما قاله الإمام في (المحصول) قال: وإنما اختلفوا في الدليل العقلي، هل دل عليه مع ذلك أم لا؟ فالأكثرون على نفيه، وقال ابن سريج والقفال والصيرفي وغيرهم: بل الدليل العقلي دل عليه، وهو الاحتياج إلى معرفة بعض الأشياء من الخبر، وتنبه أن القائلين بوجوب العمل لا يريدون أنه يوجب العمل لذاته وإنما يوجب العمل بما يجب به العلم بالعمل، وهي الأدلة القطعية على وجوب العمل عند رواية الآحاد، وهكذا حكاه الإمام في أول (البرهان) عن المحققين، قال: وهكذا القول في العمل بالقياس ومن الناس من أنكر التعبد به، وعزاه المصنف للظاهرية وإنما يعرف عن بعضهم كالقاشاني وابن داود، كما نقله

ابن الحاجب بل قد قال ابن حزم في كتاب (الإحكام) مذهب داود أنه يوجب العلم والعمل جميعا ثم المنكرون انقسموا بينهم إلى مذاهب: الأول: إنه لم يوجد ما يدل على أنه حجة، فوجب القطع بأنه غير حجة. والثاني: أن الدليل (137ب) السمعي قام على أنه غير حجة، وهو رأي القاشاني وابن داود. والثالث: أن الدليل العقلي قام على امتناع العمل به، وعليه جماعة من المتكلمين كالجبائي. (ص) والكرخي في الحدود، وقوم في ابتداء النصب، وقوم فيما عمل الأكثر بخلافه، والمالكية فيما عمل أهل المدينة، والحنفية فيما تعم به البلوى، أو خالفه راويه، أو عارض القياس، وثالثها في معارض القياس، إن عرفت العلة بنص راجح على الخبر، ووجدت قطعا في الفرع لم يقبل، أو ظنا فالوقف وإلا قبل. (ش) ذهب قوم إلى أنه لا يعمل بخبر الواحد في صور، منها: قال الكرخي: لا يقبل في الحدود لأن الآحاد شبهة، والحدود تدرأ بها وعبارة أبي الحسين في

كتابه: (هذا القول أن يكون مما ينتفي بالشبهة) وهي أعم من تعبير المصنف وأيضا فإنه يقبله في إسقاط الحدود، ولا يقبله في إثباتها، كما قاله أبو الحسين ومنها: ما لا يقبل في ابتداء النصب، نقله ابن السمعاني عن بعض الحنفية، وفرقوا بين ابتداء النصاب وثواني النصاب، فقبلوا خبر الواحد في النصاب الزائد على خمسة أوسق، لأنه فرع ولم يقبلوا في ابتداء نصاب الفصلان والعجاجيل، لأنه أصل. ومنها: لا يقبل فيما عمل الأكثر بخلافه، والأصح أنه لا أثر له، فإن تحول البعض ليس بحجة، نعم هو من المرجحات عند التعارض، ومنها: قالت المالكية: لا يقبل إذا خالف عمل أهل المدينة، لهذا نفوا خيار المجلس، قال القرطبي: إذا فسر عملهم بالمنقول تواترا كالأذان والإقامة والمد والصاع، فينبغي أن لا يقع فيه خلاف لانعقاد الإجماع على أنه لا يعمل بالمظنون إذا عارضه قاطع ومنها: قالت الحنفية: لا يقبل فيما تعم به البلوى ولهذا أنكروا نقض الوضوء بمس الذكر.

والجهر بالبسملة وغيره. ومنها: ما خالفه راويه، ولهذا لم يوجبوا السبع في الولوغ، لمخالفة أبي هريرة لروايته، وقسمه صاحب (البديع) من الحنفية إلى ثلاثة أقسام: لأنه إما أن يخالف ما رواه قبل الرواية فلا يرد أو بعدها فترد، وإن جهل التاريخ لم ترد لجواز التقدم فليخصص إطلاق المصنف وغيره، ومنها: ما عارضه القياس، ولهذا ردوا خبر المصراة، وظاهر سياق المصنف أن ذلك قول الحنفية، وقد نقل في

(المنهاج) عنهم إنهم اشترطوا فقه الراوي، إذا خالف الحديث القياس، وهو تصريح بأنهم لا يردونه مطلقا، وسيذكره المصنف فيما بعد، وفي (اللمع) للشيخ أبي إسحاق، قال أصحاب مالك رحمه الله: إذا خالف القياس لم يقبل، وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: إذا خالف القياس الأصول لم يقبل، وذكروه في أحاديث الوقف والقرعة والمصراة، فإن أرادوا بالأصول القياس على ما ثبت بالأصول، فهو قول المالكية وإن أرادوا نفس الأصول التي هي الكتاب والسنة والإجماع، فليس معهم فيما ردوه كتاب ولا سنة، انتهى. والثاني: وهو الصحيح تقديم الخبر مطلقا وحكاه في (البديع) عن الأكثرين وقال الباجي: إنه الاصح عندي من قول مالك، فإنه سئل عن حديث المصراة، فقال: أولا. في هذا الحديث رأى=، وقال: وهذا عندي على تقدير وجوده، وإلا فما أعلم حديثا يعارضه نظر صحيح، لأن النظر الصحيح ملغى في حديث صحيح، وإنما يعارض ظواهر الأحاديث والتأويل يجمع بينهما على الوجه الصحيح. والثالث: وهو المختار عند الآمدي، وابن الحاجب، إن كانت العلة ثبتت بنص راجح على الخبر في الدلالة فإن كان وجود العلة في الفرع قطعيا، فالقياس مقدم، وإن كان وجودها فيه ظنيا (138أ) فالتوقف وإن ثبت لا بنص راجح فالخبر مقدم وحكى الباجي عن القاضي أبي بكر رابعا: أنهما متساويان. (ص) والجبائي: لا بد من اثنين أو اعتضاد، وعبد الجبار: لا بد من أربعة في الزنا. _ (ش) ذهب الجبائي إلى: أنه يشترط في الخبر اثنان. فإن لم يوجد فلا بد أن

يعتضد إما بظاهر، أو عمل بعض الصحابة أو اجتهاد أو كونه منتشرا وهذا الذي نقله المصنف هو الصواب وهو الذي حكاه أبو الحسين في (المعتمد) وبه يعلم غلط من نقل عنه اعتبار العدد مطلقا، كالإمام في (البرهان)، وقد احتج له بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل خبر ذي اليدين، حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فصدقاه ولم يقبل أبو بكر خبر المغيرة.

حتى روى معه محمد بن مسلمة ولم يقبل عمر خبر أبي موسى في

الاستئذان حتى روى معه أبو سعيد ونظائر ذلك وأجيب بأن توقفهم لمعان أوجبت التوقف، وإلا فقد قبلوا خبر الواحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفذ الآحاد إلى الملوك والسعاة للزكوات، وما نقله عن عبد الجبار تابع فيه (المحصول)، ولم يقله عبد الجبار

وإنما حكاه عبد الجبار عن الجبائي، كذا قاله أبو الحسين في (المعتمد) وأنه قاسه على الشهادة عليه، ومقتضى كلام (المستصفى) في حكاية هذا القول: التعميم في كل خبر، لا في الزنا بخصوصه، فإنه قال: يشترط الجبائي في قبول الخبر العدد، وقال قوم: لا بد من أربعة أخذا من شهادة الزنا. (ص) مسألة: المختار وفاقا للسمعاني، وخلافا للمتأخرين: أن تكذيب الأصل الفرع لا يسقط المروي، ومن ثم لو اجتمعا في شهادة لم ترد. (ش) وجهه ابن السمعاني بأنه قال: ذلك على ما ظنه، وقوله: ما رويته أصلا يعارضه قول الراوي: إني سمعته منه، وكل واحد منهما ثقة، ويجوز أن يكون المروي عنه، رواه ثم نسيه، فلا تسقط رواية الراوي بعد أن يكون ثقة مع هذا التجوز وأيد المصنف ذلك بأن الأصل والفرع لو اجتمعا في شهادة، لم ترد بالاتفاق فدل ذلك على أنه غير قادح، لكن ينازع في ذلك قول الهندي: إنه لا يصير بذلك واحد منهما بعينه مجروحا وإن ولا بد من جرح واحد منهما لا بعينه،

كالبينتين المتكاذبتين، قال: وفائدته تظهر في رواية كل واحد منهما، وشهادته إن انفرد وعدم قبول روايته وشهادته مهما اجتمعتا ولو كان في غير ذلك الحديث. وفي المسألة قول ثالث صار إليه إمام الحرمين: إنهما متعارضان ويرجح أحدهما بطريق من طرق الترجيح، واعلم أن حكاية الإسقاط عن المتأخرين قصور، بل الذي عليه الأصحاب كما قاله ابن السمعاني، وذكر إمام الحرمين أن القاضي عزاه للشافعي رضي الله عنه، بل حكى الهندي الإجماع عليه، ولم يحفظ المصنف الخلاف فيه عن غير السمعاني وقد جزم به الماوردي والروياني في الأقضية، وقالا: لا يقدح ذلك في صحة الحديث، إلا أنه لا يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل وهذا كله إذا كان الفرع جازما فإن لم يكن وقال: أظن أني سمعت منك والأصل جاحد، تعين الرد، قطع به في (المحصول) وغيره. (ص) وإن شك أو ظن والفرع العدل جازم فأولى بالقبول وعليه الأكثر. (ش) ما سبق فيما إذا جزم الأصل بالتكذيب، فإن شك أو ظن والفرع العدل جازم فوجهان: أحدهما: وحكاه ابن كج عن بعض الأصحاب: لا يقبل، لأن راوي الأصل كشاهد الأصل، ثم شاهد الأصل إذا أنكر شهادة شاهد الفرع لم تقبل شهادته كذلك هنا، وأصحهما: القبول، لجواز أنه رواه ثم نسيه، وقد (138ب) وقع ذلك لكثير من الأئمة وصنف فيه الدارقطني والخطيب ويفارق الشهادة فإنها لها مزيد

احتياط ويجتمع من الصورتين ثلاثة أوجه، ثالثها: يقبل فيما إذا تردد دون ما إذا جحد، قال القاضي: وهو مذهب الدهماء من العلماء والفقهاء من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنفية وحكي غيره عن أكثر الحنفية الرد، ولهذا ردوا خبر الولي في النكاح، لأن راويه الزهري قال: لا أذكره، وقوله: والفرع جازم أي: بالرواية عنه، وهو يخرج صورتين: إحداهما: أن يكون ظانا بأن يقول الخبر: إني سمعته منك، وهو الأغلب على ظني، قال الهندي: فإن كان الأصل شاكا بأن قال: أشك، أو لا أذكر فالأشبه أنه من جملة صور الخلاف وإن كان هو أيضا ظانا بأن قال: أظن أني ما حدثتك، فالأشبه أنه من صور الوفاق على عدم القبول، والضابط أنه مهما كان قول الأصل معادلا لقول الفرع، فإنه من جملة صور الاتفاق، ومهما كان قول الفرع راجحا على قول الأصل فإنه من جملة صور الخلاف. الثانية: أن يكون شاكا، فلا تقبل روايته قطعا، وإن كان الشيخ مصدقا له،

لفقد شرط الرواية، فإن من شرطها جزم الراوي أو ظنه. (ص) وزيادة العدل مقبولة إن لم يعلم اتحاد المجلس، وإلا فثالثها: الوقف، ورابعها: إن كان غيره لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة لم يقبل، والمختار وفاقا للسمعاني: المنع، إن كان غيره لا يغفل، أو كانت تتوفر الدواعي على نقلها. (ش) دخل في قوله: إن لم يعلم اتحاد المجلس، صورتان: إحداهما: أن يعلم تعدده وزعم الأبياري وابن الحاجب والهندي، وغيرهم: أنه لا خلاف فيه وليس كذلك وقد أجرى فيها ابن السمعاني التفصيل الذي سيحكيه المصنف عنه، فيما إذا اتحد المجلس ووجه القبول: أنه لا يمتنع أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكلام في أحد المجلسين بدون زيادة وفي الأخرى بها. والثانية: أن لا يعلم هل تعدد المجلس أو اتحد، وبهذا صرح الآمدي قال: وحكمه حكم المتحد، وأولى بالقبول نظرا إلى احتمال التعدد، وألحقها الأبياري بالتي قبلها حتى يقبل بلا خلاف وقال الهندي: ينبغي أن يكون فيها خلاف

مرتب على الخلاف في الاتحاد، وأولى بالقبول، لأن المقتضى لصدقه حاصل والمعارض له غير محقق وقوله: وإلا، أي: وإن علم اتحاد المجلس، فأقوال: الجمهور على القبول مطلقا، لأنه لو انفرد بنقل الحديث عن الجمهور لقبل، فكذا الزيادة وعن الحنفية: المنع مطلقا، وحمل الأمر في الزيادة على الغلط، وعزاه ابن السمعاني لبعض أهل المدينة. والثالث: الوقف للتعارض، فإن من يثبت الزيادة يعارض من ينفيها والرابع: إن كان غيره لا يغفل مثله عن مثلها عادة لم تقبل، وإلا قبلت وهو قول الآمدي وابن الحاجب، والخامس: قول السمعاني واختاره المصنف لا يقبل إن كان غيره لا يغفل، أو كانت تتوفر الدواعي على نقلها وإلا قبلت والذي رأيته في

(القواطع) بعد أن صحح القبول، قال: واعلم أن على موجب هذه الدلالة ينبغي أن يقال: إن الذين تركوا رواية الزيادة لو كانوا جماعة لا يجوز عليهم أن يغفلوا عن تلك الزيادة، وكان المجلس واحدا، أن لا تقبل رواية راوي الزيادة، ثم قال في الحجاج مع الخصوم: قد بينا أن الذي ترك (139أ) الزيادة لو كانوا جماعة لا يجوز عليهم الغفلة ينبغي أن لا تقبل رواية هذا الواحد، قلت: وينبغي أن تقول الجماعة أنهم لم يسمعوه، فإنهم إذا لم يقولوا ذلك يجوز أنهم رووا بعض الحديث ولم يرووا البعض لغرض لهم. انتهى. (ص) فإن كان الساكت أضبط أو صرح بنفي الزيادة على وجه يقبل تعارضا. (ش) الخلاف السابق فيما إذا اتحد المجلس ونقل بعضهم الزيادة، ونقله آخرون بدونها، ولم يصرحوا بنفيها لفظا ولا معنى، واستوى الكل في الضبط وإن كان الساكت عن الزيادة أضبط، من راويها، أو صرح بنفي الزيادة على وجه يقبل -تعارضا، وهذا مختار الإمام، فإنه قال: يقبل إلا أن يكون الممسك من الزيادة أحفظ وأن لا يصرح بنفيها، فإن صرح وقع التعارض وقال الأبياري: إذا اتحد المجلس وأثبت قوم ونفى آخرون، قال قائلون: هو تعارض فينظر إلى أعدل البينتين، وقال

آخرون: الإثبات مقدم قال: وهذا هو الظاهر عندنا فإنه إذا لم يكن به من تطرق الوهم إلى أحدهما، لاستحالة صدقهما، وامتنع الحمل على تعمد الكذب، لم يبق إلا الذهول والنسيان والعادة ترشد إلى نسيان ما جرى أقرب من تخيل ما لم يجر، وحينئذ فالمثبت أولى. وقوله: على وجه يقبل قيد زاده على المحصول، ولعله تصيده من مثاله، فإنه قال: لو صرح المتمسك بنفي الزيادة، وقال: إنه عليه الصلاة والسلام وقف على قوله: ((فيما سقت السماء العشر)) فلم يأت بعده بكلام آخر مع انتظاري له، فههنا تعارض القولان ويصار إلى الترجيح، وقال أبو الحسين في (المعتمد): إن قال: إن نفي علمه بالزيادة أو قال: ما سمعتها، ولم يقطعه قاطع عن سماعها - فإنه يكون ناقلا للنفي، ولارتفاع الموانع، كما نقل الآخر الزيادة فتتعارض الروايتان، وإن قال: لم تكن هذه الزيادة فإنه يحتمل أن يكون ذلك موضع اجتهاد، ويحتمل أن يقال: رواية المثبت أولى، لأنه يحتمل أن يكون النافي إنما نفى الزيادة بحسب ظنه، ويحتمل أن يقال: يرجع إلى رواية النافي إذا كان أضبط. (ص) ولو رواها مرة وترك أخرى فكراوبين=. (ش) هذا كله إذا كان المتفرد بالزيادة واحد والساكت عنها غيره، فأما إذا اختلفت رواية الواحد في ذلك، بأن روى الزيادة مرة، ولم يروها أخرى، فإن أسندهما إلى مجلس غير مجلس الناقص قبلت، وإن أسندهما إلى مجلس واحد فيجيء الخلاف السابق، وهو في هذه العبارة متابع لابن الحاجب، وقال في (المحصول): إن اتحد المجلس بالزيادة، ولم يغير الإعراب فإما أن تكون روايته للزيادة مرات أقل من مرات الإمساك، أو بالعكس أو

يتساويان فلا يقبل في الأول، ويقبل في الثاني والثالث. (ص) ولو غيرت إعراب الباقي تعارضا، خلافا للبصري. (ش) هذا كله فيما إذا لم تغير الزيادة إعراب الباقي، فأما إذا غيرت كما إذا روى أحدهما: في أربعين شاة شاة، وروى الآخر: نصف شاة، فرواية شاة تكون بالرفع ورواية النصف تكون بالجر، والرفع والجر ضدان فالأكثرون كما قاله الهندي على أنه لا يقبل للتعارض لأن كل واحد منهما يروي ضد ما رواه الآخر، فيكون نافيا له، فيحصل التعارض فلا يقبل إلا بعد الترجيح، والفرق بينه وبين ما إذا لم تغير إعراب الباقي، لأن مع أحدهما زيادة علم، ليس الآخر نافيا له، وقال أبو عبد الله (139ب) البصري: يقبلان، كما إذا لم تغير إعراب الباقي لأن الموجب إنما هو زيادة العلم بذلك الزائد الذي لم ينفه الساكت عنه واختلاف إعراب تابع للاختلاف في ذلك الزائد، فلا يكون مانعا من القبول. (ص) ولو انفرد واحد عن واحد قبل عند الأكثر. (ش) أي: لقيام الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد، وشرط الجبائي العدد في كل خبر ونقل القرافي عن كتاب المحصول (لابن العربي): أن الجبائي اشترط في

قبول الخبر اثنين وشرط على الاثنين اثنين إلى أن ينتهي الخبر إلى التابعي وكذا نقله عن الشيخ في (اللمع) وهذا الذي قاله مردود بقبول الصحابة خبر العدل الواحد لعمل علي بخبر المقداد وتعويلهم على خبر عائشة في التقاء الختانين، وغير ذلك، ولك أن تقول: ما هذه المسألة مع قوله أولا: والجبائي: لا بد من اثنين أو اعتضاد. (ص) ولو أسند وأرسلوا أو وقف ورفعوا فكالزيادة. (ش) أي: فالقول قول من أسند ومن رفع على الصحيح، لأن الرفع والإسناد زيادة على من لم يرو ذلك وهذا تفريع على رد المرسل، فأما من يقبله فلا شبهة

عنده في قبوله والمصنف في إلحاقها بالزيادة متابع لصاحب (القواطع) وابن الحاجب إذا هو يقتضي مجيء المذاهب السابقة كلها هنا، ولم يصرح به أكثر النقلة وليس ببعيد، وقد قال بعضهم: الراجح من قول أئمة الحديث: أن الرفع والوقف، والوصل والإرسال يتعارضان، وهذا نظير القول بالوقف هناك، وأهمل المصنف ما إذا أرسل ثم أسند أو وقف ثم رفع وهو في (المنهاج) ورجح القبول. (ص) وحذف بعض الخبر جائز عند الأكثر إلا أن يتعلق الحكم به. (ش) يجوز حذف بعض الخبر ورواية الباقي والأكثرون: أنه جائز إذا كان مستقلا، لأنهما كخبرين وقد فرق أئمة الحديث حديث جابر الطويل في حج النبي صلى الله عليه وسلم على الأبواب. وأما إذا تعلق بالمذكور تعلقا بغير المعنى، كما في (الغاية) نحو: لا تباع الثمرة حتى تزهو

والاستثناء نحو: لا يباع البر بالبر إلا سواء سواء، لم يجز حذفه، لاختلاف المقصود وسواء كان التعلق لفظيا كما ذكرنا، أو معنويا كما في بيان التخصيص والنسخ وبيان المجمل بالجمل المتصلة، واعلم أن إمام الحرمين وابن القشيري حكيا ثلاثة أقوال: أحدها: يجوز. والثاني: لا يجوز. والثالث: هذا التفصيل. وقال: إنه المرضي عند القاضي وقضيته: أن الأول يجوز مطلقا، ولو مع التعلق وفيه بعد. وقال الهندي والأبياري في المتعلق: لا خلاف في عدم جوازه، وقسم الأبياري غير المتعلق إلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقطع بذلك، فلا يبعد طرد قول المنع هنا، حسما للذريعة وحذرا من الإفضاء إلى موضع الإشكال. ثانيها: أن يظن فلا يجوز الحذف بحال. ثالثها: أن يعلم ذلك بنوع من النظر، فعلى الخلاف في جواز الرواية بالمعنى للعارف. (ص) وإذا حمل الصحابي - قيل: أو التابعي - مرويه على أحد محمليه المتنافيين فالظاهر حمله عليه، وتوقف أبو إسحاق الشيرازي، وإن لم يتنافيا فكالمشترك في حمله على معنييه. (ش) إذا روى الصحابي خبرا محتملا، وحمله على أحد محمليه، فإن تنافيا

كالقرء فحمله الراوي على الأطهار، فالظاهر حمله عليه لأن الظاهر أنه لم يحمله عليه إلا لقرينة معينة، وتوقف الشيخ أبو إسحاق كذا حكاه عنه في هذه (140أ) الحالة، وعبارة الشيخ في (اللمع): وإذا احتمل اللفظ أمرين احتمالا واحدا، فصرفه إلى أحدهما، كما روي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه حمل قوله عليه الصلاة والسلام: ((الذهب بالذهب ربا، إلا هاء وهاء)) على القبض في المجلس فقد قيل: إنه يقبل، لأنه أعرف بمعنى الخطاب، وفيه نظر عندي. انتهى. وإن لم يتنافيا وقلنا: اللفظ المشترك ظاهر في جميع محامله كالعام - فتعود المسألة إلى التخصيص بقول الصحابي، وإن قلنا: لا يحمل على جميعها ففي (البديع): أن المعروف حمله على ما عينه، لأن الظاهر أنه لم يحمله عليه إلا لقرينة. قال: ولا يبعد أن يقال: لا يكون تأويله حجة على غيره، ثم قال: فإن اجتهد فلاح له تأويله، يعني: إن اجتهد المجتهد، ولاح

له تأويل غير ذلك وجب، وإلا فتعيين الراوي الصالح للترجيح، انتهى. وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه، في باب بيع الثمار: مذهب الشافعي رضي الله عنه، أن الراوي إذا روى حديثا له احتمالان وفسره بأحد محمليه، وجب قبوله، كتفسير ابن عمر التفرق بالأبدان، دون الأقوال، وينبغي تقييد كلام المصنف في الحمل على جميعها بما إذا لم يجمعوا على أن المراد أحدهما، وجوزوا كلا منهما، وقد ذكر الماوردي في (الحاوي) حديث ابن عمر في التفرق في خيار المجلس، هل هو التفرق بالأبدان أو بالأقوال؟ قال: وأجمعوا على أن المراد أحدهما، فكان ما صار إليه الراوي أولى، وقال أبو علي بن أبي هريرة: أحمله عليهما معا، فأجعله لهما في الحالين الخيار بالخبر. قال الماوردي: وهذا صحيح لولا أن الإجماع منعقد على أن المراد أحدهما، والخلاف كما قاله الهندي فيما إذا ذكر ذلك لا بطريق التفسير للفظه، وإلا فتفسيره أولى بلا خلاف، واعلم أن الجمهور قد فرضوا المسألة في الراوي الصحابي، ومنهم من قال: يجري في الراوي مطلقا، وإن كان تابعيا، وقد بينا ما فيه في باب التخصيص والمصنف هناك سوى بينهما، بخلاف ما يقتضيه كلامه هنا ولا بد من التقييد بكونه من الأئمة. (ص) فإن حمله على غيره ظاهره، فالأكثر على ظهوره، وقيل: على تأويله مطلقا، وقيل: إن صار إليه لعلمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم إليه. (ش) هل يجوز ترك شيء من الظواهر بقول الراوي، مثل أن يحتمل الخبر أمرين، وهو في أحدهما أظهر، فيصرفه الراوي إلى الآخر، كصرف اللفظ عن حقيقته

إلى مجازه، أو من الوجوب إلى الندب؟ فيه ثلاثة مذاهب. أصحها: الحمل على الظاهر قال الآمدي: وفيه قال الشافعي رضي الله عنه، كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتهم لحججتهم؟ والثاني: يحمل على ما عينه مطلقا، لأنه لا يفعله إلا عن توقيف، وبه قال أكثر الحنفية. والثالث: وبه قال أبو الحسين: يحمل على تأويله إن صار إليه، لعلمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم من مشاهدته قرائن تقتضي ذلك، وإن جهل وجوز أن يكون لظهور نص أو قياس أو غيرهما - وجب النظر في الدليل، فإن اقتضى ما ذهب إليه وجب وإلا فلا واختار في (الإحكام): إن علم مأخذ خلافه وإنه مما يوجبه صبر إليه، اتباعا للدليل وإن جهل عمل بالظاهر، لأن الأصل في خبر العدل وجوب العمل ومخالفة الراوي للظاهر يحتمل النسيان. تنبيه: سبق في باب التخصيص أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي على الأصح، ولا شك أن صرف العام إلى الخصوص من خلاف الظاهر، فتكرار

المصنف لهذه (140ب) من باب ذكر العام بعد الخاص. (ص) مسألة: لا يقبل مجنون وكافر. (ش) أي: بالإجماع، ولأن قبول الراوي منصب شريف، والكافر ليس أهلا لذلك، وسواء علم من دينه التحرز عن الكذب أم لا، والمراد بالجنون: المطبق، أما المتقطع فإن أثر جنونه في زمن إفاقته لم يقبل، وإلا قبل، قاله ابن السمعاني في (القواطع) بل حكاها الشيخ أبو زيد المروزي قولين للشافعي رضي الله عنه. (ص) وكذا صبي في الأصح. (ش) الخلاف ثابت عندنا واستبعد القرافي القول بجواز روايته وقال: إنه منكر من حيث النظر والقواعد، بخلاف التحمل وجوابه: أن المأخذ أمارة قوة الظن، وقد يحصل برواية الصبي، وهو يرد دعوى القاضي الإجماع، على عدم قبوله، ثم لا بد من

تقييد الخلاف بأمرين: أحدهما: لمن لم يجوز عليه الكذب، وإلا فلا يقبل بلا خلاف. وثانيهما: أن يكون المخبر به رواية محضة، فلو أخبر برؤية الهلال، وجعلناه رواية لا شهادة، لم يقبل جزما، ولم يخرجه الجمهور على الوجهين لما ذكرنا. (ص) فإن تحمل فبلغ فأدى - قبل عند الجمهور. (ش) للإجماع على قبول رواية ابن عباس، وابن الزبير، وابن بشير رضي الله عنهم وغيرهم، من أحداث الصحابة من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده

ولو قال المصنف: فبلغ وأسلم فأدى، لكان أحسن، ليشمل ما لو تحمل في حال كفره ثم أسلم وأدى، والحكم سواء على الصحيح، وكذا إذا تحمل فاسقا وروى عدلا، وأهل الحديث يجوزون رواية ما سمعه الصبي الصغير، وإن لم يعلم عند التحمل ما سمع، وأكثرهم على أنه لا يجوز سماع من له دون خمس سنين، وأما الفقهاء فلا يرون ذلك، بل لا بد من تمييز الصبي عند التحمل. ولا بد من ضبط ما سمعه وحفظه حتى يؤديه كما سمعه والاعتبار بضبط اللفظ، وإن لم يعرف المعنى، ومنهم من اشترط المعنى وهم الأقل وهذا حجر يتعذر مع العمل به رواية الحديث إلا على الآحاد قاله ابن الأثير في شرح المسند.

(ص) ويقبل مبتدع يحرم الكذب وثالثها قال مالك: إلا الداعية. (ش) المبتدع إما أن يكفر ببدعته أو لا. فالأول: إن علم من مذهبه جواز الكذب لنصرة مذهبه أو غيره - لم تقبل روايته ببدعته اتفاقا، وإن علم منه تحريمه وتحرزه منه، فقولان: الأكثرون على أنه لا يقبل أيضا، وقال أبو الحسين: يقبل، واختاره في (المحصول) و (المنهاج) لأن ذلك يمنعه من الإقدام عليه. والثاني: إن كان مما يرى الكذب - فلا يقبل اتفاقا وإلا فأقوال: أحدهما: يقبل مطلقا سواء كان داعية لمذهبه أو لا وعزاه الأصوليون للشافعي

رضي الله عنه لأجل قبول شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية. والثاني: لا يقبله مطلقا وعليه الأكثرون لأنه فاسق وإن كان متأولا. والثالث: قول مالك: لا يقبل الداعية، أي: الذي يدعو الناس إلى بدعته، فإنه لا يؤمن أن يصنع الحديث على وفق بدعته، ويقبل إن لم يدعهم حكاه عنه القاضي عبد الوهاب، وقال الخطيب: أنه مذهب أحمد وعزاه ابن الصلاح

للأكثرين وقال: إنه أعدل المذاهب وأولاها. (ص) ومن ليس فقيها، خلافا للحنفية فيما يخالف القياس. (ش) هذا إنما هو قول بعض الحنفية، ولهذا لم يحكه صاحب (البديع) منهم إلا عن فخر الإسلام بعبارة غير متبعة، فقال: الخبر مقدم على القياس عند الأكثر وقيل: بالعكس. وعيسى بن أبان: إن كان الراوي (141أ) ضابطا غير متساهل قدم، وإلا فموضع اجتهاد. وفخر الإسلام: وإن كان الراوي من المجتهدين كالخلفاء الراشدين، والعبادلة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، قدم، لأنه يقيني في الأصل والقياس ظني أو من الرواة كأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهما فالأصل العمل ما لم توجب الضرورة تركه، كحديث المصراة، فإنه معارض بالإجماع في ضمان العدوان بالمثل أو القيمة دون الثمن. انتهى. والشيخ

أبو إسحاق في (اللمع) لم يحكه عن الحنفية، إلا فيما خالف قياس الأصول لا مطلق القياس كما سبق، ولا يخفى ما في هذه المسألة من التكرار، عند قول المصنف فيما سبق، أو عارض القياس. (ص) والمتساهل في غير الحديث، وقيل: يرد مطلقا. (ش) إذا كان الراوي يتساهل في أحاديث الناس، ويتحرز في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل على الصحيح لأنه يحصل ظن صدقه ولا معارض له، وقيل: يرد مطلقا، ونص عليه أحمد، وأنكر على من قبل روايته إنكارا شديدا، وهو ظاهر كلام ابن السمعاني وغيره، واحترز بقوله: في غير الحديث، عن المتساهل في الحديث، فلا خلاف أنه لا يقبل، قاله في (المحصول) وغيره.

(ص) والمكثر وإن ندرت مخالطته المحدثين إذا أمكن تحصيل ذلك القدر في ذلك الزمان. (ش) ليس من شرط الراوي أن يكون مكثرا لسماع الحديث وروايته ومشهورا بمخالطة المحدثين ومجالستهم وقد قبلت الصحابة حديث أعرابي لم يرو غير حديث وهذه من مسائل (المحصول) قال: تقبل رواية من لم يرو إلا خبرا واحدا فأما إذا أكثر من الروايات مع قلة مخالطته لأهل الحديث، فإن أمكن تحصيل ذلك القدر من الأخبار في ذلك القدر من الزمان - قبلت أخباره، وإلا توجه الطعن في الكل. (ص) وشرط الراوي العدالة، وهي ملكة تمنع من اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة، وهوى النفس والرذائل المباحة كالبول في الطريق. (ش) العدالة لغة: التوسط والاستقامة وشرعا: ما ذكره المصنف. والضابط:

أن كل ما لا تؤمن معه الجراءة على الكذب، يرد به الراوية، وما لا فلا وإنما عبر بالملكة (وكالمنهاج) دون الهيئة، (كالبديع) لأن الصفة النفسانية، وإن كانت راسخة (يقال لها: الملكة، وإن لم تكن راسخة) يقال لها: الحالة، فالكيفية النفسانية أول حدوثها حال، ثم تصير ملكة، فقال: ملكة، لينبه على رسوخها ولهذا قال محمد بن يحيى في تعليقه: العدل: من اعتاد العمل بواجب الدين واتبع إشارة العقل فيه برهة من الدهر، حتى صار ذلك عادة وديدناً له والعادة طبيعة خاصة فيغلب دينه بحكم التمرين، والترسخ في النفس، فيوثق بقوله، بخلاف الفاسق فإنه الذي يتبع نفسه هواها زمانا طويلا، حتى ألف ارتكاب المحظورات وضري باقتضاء الشهوات فضعف وازع الدين بسببه، فلا يوثق بقوله. وإذا لم يقبل قول العدل لمعارضة الأبوة أو العداوة فكيف يقبل الفاسق مع قيام الفسق والمراد بالكبائر جنسها، وإلا فتعاطي الكبيرة الواحدة يقدح، ولم يحتج أن يقول: والإصرار على الصغيرة، لأنها بالإصرار تصير كبيرة، فلو ذكرها لكرر من غير فائدة وقوله: وصغائر الخسة، أي: وما يخل بالمروءة من الصغائر كسرقة لقمة وتطفيف حبة قصدا (141ب) وكون هذا صغيرة استثنى الحليمي منه ما إذا كان المسروق منه مسكينا لا غنى به عما أخذ منه، فيكون كبيرة وعلم من قوله: صغائر

الخسة: أن القادح ببعض الصغائر لا كلها، فإن من الصغائر ما لا يكون منه إلا مجرد المعصية كالكذبة التي لا يتعلق بها ضرر، والنظر للأجنبية (إنما المؤثر ما يقدح في المروءة، أو يدل على استهزاء بالدين، وقوله: وهوى النفس، أي: وتمنعه) عن هوى النفس وهذا القيد من تفقه والده، فإنه قال: لا بد عندي في العدالة من وصف لم يتعرضوا له، وهو الاعتدال عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه عن اتباع هواه فإن المتقي الكبائر والصغائر الملازم للطاعة والمروءة - قد يستمر على ذلك، ما دام سالما من الهوى، فإذا غلبه هواه خرج عن الاعتدال، وانحل عصام التقوى، وانتفاء هذا الوصف، هو المقصود من العدل، قال الله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} وقوله: والرذائل المباحة أي: لا بد من تجنب ذلك، كالبول في الشارع، والأكل في الطريق، وصحبة الأراذل ونحوه مما يدل على أنه غير مكترث باستهزاء الناس قال الغزالي: إلا أن يكون ممن يقصد كسر النفس وإلزامها التواضع، كما يفعله كثير من العباد. (ص) فلا يقبل المجهول باطنا، وهو المستور، خلافا لأبي حنيفة، وابن فورك وسليم، وقال إمام الحرمين: يوقف ويجب الانكفاف إذا روى التحريم إلى الظهور. (ش) إذا ثبت أن العدالة شرط فلا بد من تحقيقها, فلهذا لا يقبل المجهول, بل

لا بد من البحث عن سيرته باطنا وقال أبو حنيفة: يقبل، اكتفاء بالإسلام وعدم ظهور الفسق، ووافقه منا ابن فورك كما نقله المازري في شرح (البرهان) وسليم، كما رأيته في كتاب (التقريب في أصول الفقه) وعزاه قوم إلى الشافعي رضي الله عنه، وهو غلط توهموه من قوله: ينعقد النكاح بشهادة المستورين، وذكر صاحب (البديع) وغيره من الحنفية: أن أبا حنفية إنما قبل ذلك في صدر الإسلام حيث الغالب على الناس العدالة، فأما اليوم فلا بد من التزكية.

لغلبة الفسق وقال إمام الحرمين: يوقف إلى استبانة حاله فلو كنا على اعتقاد في حل شيء فروى لنا مستور تحريمه وجب الانكفاف إلى استتمام البحث عن حاله، قال: وهذا إذا أمكن البحث عنه، فلو فرض اليأس من ذلك فهذه مسألة اجتهادية والظاهر أنه لا يجب الانكفاف وانقلبت الإباحة كراهة. (ص) أما المجهول باطنا وظاهرا فمردود إجماعا. (ش) لأن من لا يعرف عينه، كيف تعرف عدالته، وهي شرط في قبول الرواية وفي هذا الإجماع نظر، فإن ابن الصلاح قد حكى الخلاف فيه. (ص) وكذا مجهول العين. (ش) قال المحدثون: مجهول العين أن تسمي اسما لا يعرف من هو، مثل: عمرو بن ذي مر، وجيار الطائي وسعيد بن جدان لا يعرف من هؤلاء

قال الخطيب: ولم يرو عنهم غير أبي إسحاق السبيعي قال المصنف: لا نعرف خلافا في رد روايته، وهو ظاهر عطفه هنا، وليس كذلك، بل قيل فيه بالقبول وهو من لم يشترط في الراوي مزيدا على الإسلام وقيل: إن كان الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل كيحيى بن سعيد قبل، وإلا فلا. (ص) فإن وصفه نحو الشافعي بالثقة، فالوجه قبوله، وعليه إمام الحرمين خلافا للصيرفي والخطيب. (ش) والضمير في (وصفه) عائد إلى أقرب مذكور، وهو مجهول العين، لا

مطلق المجهول ومراده به نحو: حدثني رجل أو إنسان، ووصفه الراوي عنه بالثقة أو قال أخبرني الثقة (142أ) كما يقع للشافعي رضي الله عنه، كثيرا فلا يخلو هذا القائل إما أن يكون من أئمة الشأن العارفين لما يشترطه هو وخصومه، في العدل وقد ذكره في مقام الاحتجاج أولا، فإن لم يكن - فلا يقبل وإن كان وذلك كالشافعي رضي الله عنه، يقوله في معرض الاحتجاج على خصمه، فالوجه: قبوله، وبه قطع إمام الحرمين وخالف فيه الصيرفي والخطيب وطوائف، فقالوا: يجوز أن يكون الخصم اطلع فيه على جارح لم يطلع عليه العدل، فلا يكتفى بقوله: هو ثقة والجواب أن مثل الشافعي رضي الله عنه، لا يطلق ذلك إلا حيث يأمن الاحتمال. فائدة: عاب بعض المتعنتين على الإمام الشافعي رضي الله عنه، إيهام الشيخ من وجهين: أحدهما: أنه يشعر بسوء الحفظ، والثاني: أنه ضرب من الإرسال، والمراسيل ليست بحجة عنده، وأجيب عن الأول بأن الحافظ الماهر قد تعتريه ريبة، فيتورع ولا يجزم احتياطا وقد فعل مثله الأئمة، فروى مالك في (الموطأ) في كتاب الزكاة عن الثقة عنده عن سليمان بن يسار وعن الثاني: بأنه لم يبهم ذكر الراوي إلا في

حديث معروف عند أهل الحديث، براو معلوم الاسم والعدالة، فلا يضره تركه تسمية الشيخ. قال الرافعي في شرح المسند: ولك أن تقول: المحتاج إلى الوضوء إذا قاله له من يعرفه بالعدالة: هذا الماء نجس، بسبب كذا - يلزمه قبول قوله، وترك ذلك الماء ولو قال وهو أهل للتعديل: أخبرني عدل أن هذا الماء نجس، بسبب كذا، ولم يسم ذلك العدل، فيشبه أن يكون الحكم كذلك، وإذا جاز الاعتماد على قوله: العدل في الإخبار عن عدل غير مسمى هناك، فكذلك هنا، ويؤيده أن الحديث الذي يروى عن رجل من الصحابة يحتج به، ولا يعد من المراسيل، وإن لم يكن الصحابي مسمى، وذلك للعلم بعدالتهم جميعا. (ص): وإن قال: لا اتهمه، فكذلك: وقال الذهبي: ليس توثيقا. (ش) هذه درجة دون قوله: أخبرني الثقة ويقع أيضا في عبارة الشافعي رضي الله عنه، كقوله: أخبرني من لا أتهمه فعند المصنف: أنه يقبل من مثل الشافعي رضي الله عنه ومعنى قوله: فكذلك، أي في أصل القبول، وإلا فالدرجة متفاوتة قال: ورأيت بخط شيخنا الذهبي: ليس قوله حدثني من لا أتهمه توثيقا بل نفي للتهمة، ولم يتعرض لإتقانه ولا لأنه حجة. انتهى. قال: وهو صحيح غير أن هذا إذا وقع من الشافعي رضي الله عنه، محتجا به على مسألة في دين الله - فهي والتوثيق سواء في

أصل الحجة وإن كان مدلول اللفظ لا يزيد على ما ذكره الذهبي، فمن ثم خالفناه في مثل الشافعي رضي الله عنه، أما من ليس مثله، فالأمر على ما وصفه شيخنا رحمه الله تعالى انتهى. والعجب من اقتصاره على نقله عن الذهبي مع أن ذلك قاله طوائف من فحول أصحابنا وقد رأيت في كتاب (الدلائل والإعلام) لأبي بكر الصيرفي: إذا قال المحدث: حدثني الثقة عندي أو حدثني من لم أتهمه - لا يكن حجة، لأن الثقة عنده قد لا يكون ثقة عندي فاحتاج إلى علمه. انتهى. وقال الماوردي والروياني في القضاء إذا قال: أخبرني الثقة أو من لا أتهم - فليس بحجة، لأنه قد يثق به، ويكون مجروحا عند غيره. (ص) ويقبل من أقدم جاهلا على مفسق مظنون أو مقطوع في الأصح. (ش) المراد بالمفسق المظنون: أن يقدم على أمر يعتقد أنه على صواب لمستند قام عنده ونحن نظن بطلان ذلك المستند ولا نقطع به، أما لو ظننا فسقه ببينة شهدت بفسقه (142ب) فليس من هذا القبيل بل ترد روايته والمراد بالمقطوع: أن يقطع ببطلان مأخذه، فالأول: خالف ظننا، والثاني: خالف قطعنا، وهذا التفصيل نقلوه عن الشافعي رضي الله عنه، أما في المظنون، فلقوله: إذا شرب الحنفي النبيذ من غير سكر - قبل شهادته واحدة لأنه لم يقدم عليه جرأة، ودليل تحريمه ليس قطعيا، حتى لا يعتبر ظنه معه - فتقبل روايته، وأما في المقطوع فلقوله: أقبل رواية أهل الأهواء إلا الخطابية، ووجهه فيهما: أن المقتضي لقبول روايته قائم، وهو ظن صدقه، لأنه يرى الكذب قبيحا كغيره، والعارض المتفق عليه منتف، وهو الفسق الذي لا تؤمن معه الجرأة، على الكذب، والأصل عدم غيره، فوجب أن يقبل، عملا بالمقتضي ولا بد أن يستثنى على هذا القول من المقطوع بفسقه - من يرى الكذب والتدين به، فلا يقبل بلا خلاف، وإليه أشار الشافعي رضي الله عنه، بقوله: إلا الخطابية فلا وجه لطرح المصنف له، والثاني: لا يقبل، لأنه فاسق فاندرج تحت الأدلة المانعة من قبول قول الفاسق، والثالث: الفرق بين المقطوع والمظنون، لأن ظن

الصدق يضعف في المقطوع دون المظنون وههنا أمران: أحدهما: اقتضى كلامه حكاية قول في عدم قبول المظنون، وحكى في (المحصول) الاتفاق فيه على القبول قال الهندي: والأظهر ثبوت الخلاف فيه، كما في الشهادة، فإن فيها وجها، أنها ترد به، وذلك جار في الرواية أيضا، إذ لا فرق بينهما فيما يتعلق بالعدالة. الثاني: قوله جاهلا، ليس مطابقا لوضع المسألة لأنها مفروضة فيمن يقدم عليه معتقدا جوازه بتأويل، وأما الجاهل بكونه فسقا فلم يتكلم فيه الأصوليون والذي أوقع المصنف في ذلك عبارة (المنهاج) والحاصل أن الصور ثلاثة: أحدها: أن يعتقد كونه فسقا ويقدم عليه عالما به، فروايته مردودة بالإجماع، كما قاله في (المحصول): لا يؤمن معه الإقدام على الكذب، وكأن المصنف عبر بالجهل ليحترز عنها. والثانية: أن يستحله بتأويل، كشبهة أو تقليد وهي مسألتنا وهي التي تكلم فيها الشافعي رضي الله عنه، والقاضي. والثالثة: أن يقدم جاهلا بكونه فسقا فهذا لم يتعرض له الأصوليون وهو من وظيفة الفقهاء وفيه تفصيل لهم، وقد قال الماوردي: أما ما اختلف في إباحته كشرب النبيذ والنكاح بلا ولي - إن فعله معتقد التحريم، كان كبيرة، وإن لم يعتقد تحريمه ولا إباحته مع علمه بالخلاف فيه وجهان: قال البصريون: هو فاسق مردود الشهادة لأن ترك الاسترشاد في الشبهات تهاون بالدين وقال البغداديون: لا يفسق، لأن اعتقاده الإباحة أغلظ من التعاطي ولا يفسق معتقد الإباحة، وحكى المصنف في شرحه (للمنهاج) الوجهين وأسقط منهما قوله مع علمه بالخلاف فيه، فأشكل الأمر عليه وقال: لا بد من فرضهما في جاهل بالقاعدة المشهورة، وهي أن المكلف لا يجوز

له أن يقدم على فعل شيء حتى يعرف حكم الله تعالى فيه، وحكى الشافعي رضي الله عنه فيه الإجماع، ثم إنهما لا يتجهان إلا تخريجا على حكم الأشياء قبل ورود الشرع والماوردي كثيرا ما يخرج على ذلك وقد يكون ظانا الحل فتقبل روايته. (ص): وقد اضطرب في الكبيرة، فقيل: ما توعد عليه بخصوصه وقيل: ما فيه حد، (وقيل: ما نص الكتاب على تحريمه وأوجب في جنسه حد) والأستاذ والشيخ الإمام: كل ذنب، ونفيا الصغائر (143أ) والمختار - وفاقا لإمام الحرمين - كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين. (ش): في حد الكبيرة أوجه: أحدها: ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة. والثاني: المعصية الموجبة للحد قال الرافعي: وهم إلى ترجيح هذا أميل والأول ما يوجد لأكثرهم وهو الأوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر. والثالث: هو قول الأستاذ والقاضي أبي بكر والإمام ابن القشيري: كل ذنب، بناء على أنه لا صغيرة في الذنوب، ونقله ابن فورك عن الأشعرية، واختاره نظرا إلى من عصى بها، قال القرافي: وكأنهم كرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة إجلالا له عز وجل، مع أنهم وافقوا في الجرح أنه لا يكون بمطلق المعصية وإن من الذنوب ما يكون قادحا في

العدالة ومنها لا يكون قادحا، هذا مجمع عليه، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق والصحيح التغاير، لقوله تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} فجعلها رتبا، وسمى بعض المعاصي فسقا دون البعض، وفي الصحيح: ((الكبائر سبع)) وخص الكبائر ببعض الذنوب، ولأن ما عظمت مفسدته أحق باسم الكبيرة. والرابع: قول إمام الحرمين في (الإرشاد) واختاره المصنف: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة قال الإمام: وكل جريمة لا تؤذن بذلك، بل يبقى حسن الظن بصاحبها فهي التي لا تحبط العدالة، قال: وهذا أحسن ما يميز أحد الضدين على الآخر، وذكر في (النهاية) ما حاصله

أن الصادر إن دل على الاستهانة، لا استهانة بالدين بل استهانة غلبة التقوى وتمرين غلبة رجاء العفو - فهو كبيرة، وإن صدر عن فلتة خاطر أو لفتة ناظر فصغيرة. والتحقيق أن التعاريف السابقة اقتصار على بعض الكبائر، والضبط أن يقال: كل ذنب قرن به وعيد، أو حد، أو لعن، أو أكثر من مفسدته أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعارا - مع الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصوما فظهر أنه يستحق دمه، أو وطئ امرأة ظانا أنه زان، فإذا هي زوجته أو أمته، ولهذا حكى الروياني وجها بوجوب الحد وطرده في القتل وعن سفيان الثوري: أن ما تعلق بحق الله تعالى فصغيرة أو بحق آدمي فكبيرة، وقال الواحدي: الصحيح أنه ليس للكبائر حد، يعرفه العباد ويتميز به عن الصغائر

تمييز إشارة ولو عرف ذلك، لكان الصغائر مباحة ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد فيجتهد كل أحد في اجتناب ما نهي عنه، رجاء أن يكون مجتنبا للكبائر ونظير هذا إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في رمضان.

(ص) (ورقة الديانة) كالقتل. (ش) أي: العمد بغير حق، وشبهة العمد دون الخطأ كما قاله شريح الروياني، وجعله الحليمي مراتب وقال: إن قتل أبا أو ذا رحم في الجملة أو أجنبيا محرما بالحرم أو بالشهر الحرام - فهو فاحشة فوق الكبيرة، فإن قلت: كيف لم يبدأ بالشرك وهو أعظمها، ففي الصحيح: (سئل أي الذنب أعظم؟) قال: ((أن تجعل لله ندا وهو خلقك))، قال: (ثم أي؟) قال: ((أن تقتل ولدك)) الحديث؟ قلت: لأن كلامه في قادح العدالة بعد ثبوت صفة الإسلام. (ص) والزنا واللواط. (ش) أما الزنا ففي الصحيح عده كبيرة وألحق به اللواط، لاشتراكهما في وجوب الحد، واللواط أفحش وأقبح (143ب) وقد أخبر الله تعالى أنه أهلك قوم لوط به، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا زنا العبد خرج منه الإيمان وكان كالظلة فإذا أقلع منه رجع إليه الإيمان)) قال الذهبي: على شرط، الشيخين ويلتحق به وطء الزوجة والأمة في الموضع المكروه. (ص) وشرب الخمر ومطلق المسكر. (ش) شرب الخمر وإن لم يسكر، وثبت عن ابن عباس: لما نزل تحريم الخمر

مشى الصحابة بعضهم إلى بعض وقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك. وإنما قال: ومطلق المسكر، أي: من غيرها، لأن الخمر اسم للعنب خاصة, وفي مسلم مرفوعا: ((أن على الله عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) وهو عرق أهل النار ويلتحق به كل ما يزيل العقل لغير ضرورة، وما قاله المصنف هو المشهور. وقال شريح الروياني: من اعتقد مذهب الشافعي: إذا شرب النبيذ فهل يكون كبيرة؟ فيه وجهان، وسبق عن الماوردي وزعم الحليمي أن من مزج خمرا بمثلها من الماء فذهبت شدتها وشربها فذاك من الصغائر، واستغربه المصنف في (الطبقات) وليس بغريب بل هو جار على المذهب، لأن المنع حينئذ للنجاسة لا للإسكار. (ص) والسرقة والغصب. (ش) للتوعد والحد في السرقة والتوعد في الغصب، لقوله: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضين لعن الله من غير منار الأرض أو سرق منار الأرض)) رواه مسلم وقيد العبادي وشريح الروياني وغيرهما الغصب بما يبلغ قيمته ربع دينار، وكأنهم قاسوه على السرقة، قال الحليمي: وأما سرقة الشيء التافه فهو صغيرة إلا إذا كان المسروق منه مسكينا لا غنى به عما أخذه فيكون كبيرة. قلت

لا من جهة السرقة، بل من جهة إيذائه ويأتي مثل ذلك في الغصب. (ص) والقذف. (ش) لقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات} وفي الصحيح عده من السبع الموبقات، أما قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فكافر، لتكذيبه القرآن وقد يباح القذف لمصلحة كما إذا علم الزوج أن الولد ليس منه ويجرح الشاهد والراوي بالزنا، بل يجب قال ابن عبد السلام: والظاهر أن من قذف محصنا في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله والحفظة - أن ذلك ليس بكبيرة موجبة للحد، لانتفاء المفسدة، وما قاله قد يظهر فيما إذا كان صادقا دون الكاذب، لجرأته على الله تعالى وقال الحليمي: قذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر ومراده بالصغيرة: من لا تحتمل الوقاع، بحيث يقطع بكذب قاذفها، وفي المملوكة نظر، وفي الصحيح: (من قذف عبدا أقيم عليه الحد يوم القيامة). (ص) والنميمة. (ش) وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد قال تعالى: {مشاء بنميم} وفي الصحيحين: ((لا يدخل الجنة نمام)) ولا يشكل على

كونها كبيرة، حديث: ((وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة)) لأن المراد لا تعده الناس كبيرة، لقوله تعالى: {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} وقد تجوز إذا اشتملت على مصلحة للمنموم إليه، بل يجب، كما لو قيل له: إن فلانا عزم على قتلك، قال تعالى: {إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} وما حكاه الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم عن المنافقين. تنبيه: سكوت المصنف عن الغيبة يوهم إنها ليست بكبيرة، وهو ما نقله الرافعي عن صاحب (العدة) ولم يخالفه، وهو ضعيف، أو باطل، كيف وقد نقل عن المتأخرين في حد (144أ) الكبيرة ما توعد عليه، والوعيد عليها طافح من الكتاب والسنة، بل نقل القرطبي في تفسيره الإجماع، على أنها كبيرة وظفرت بنص الشافعي رضي الله عنه، في ذلك كما حكيته في (خادم الرافعي) و (الروضة) وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الدماء والأموال والأعراض والحرمة، وفي معناها السكوت على الغيبة، فإن السامع شريك المتكلم. (ص) شهادة الزور.

(ش) ففي الصحيحين أنها من أكبر الكبائر، وفي الحديث الثابت: ((لا تزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى تجب له النار)) وقوله: ((عدلت شهادة الزور الشرك بالله)) وإنما عادلته، لقوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} ثم قال بعدها: {والذين لا يشهدون الزور} والزور: الكذب والباطل، ومنه قوله: ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) قال الراغب: نبه بذلك على أنه كاذب في قوله وفعله فتضاعف عنه وزره، وعليه حملوا قوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} قال القرافي: ومقتضى العادة أنها لا تكون كبيرة إلا إذا عظمت مفسدتها، لكن الشرع جعلها مفسدة مطلقا، وإن كان لم يتلف بها على المشهود عليه إلا فلسا. (ص) واليمين الفاجرة.

(ش) ففي الصحيح: ((من اقتطع حق مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار)). قيل: يا رسول الله ولو كان شيئا يسيرا؟ قال: ((ولو كان قضيبا من أراك)) وفي صحيح البخاري في باب استتابة المرتدين: ((الإشراك بالله ثم عقوق الوالدين ثم اليمين الغموس))، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: ((الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب)). (ص) وقطيعة الرحم. (ش) لقوله تعالى: {وتقطعوا أرحامكم} وفي الصحيح: ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) والرحم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب من جهة النساء، والقطيعة: الهجران والصد، فعيلة من القطع وهو ضد الصلة. (ص) والعقوق. (ش) ففي الصحيحين: أنها من أكبر الكبائر، وقال عليه السلام: ((رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين)) قال الذهبي: إسناده صحيح

وفي الحديث: ((كل الذنوب يؤخر منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه)) وإنما قال المصنف: العقوق، ولم يقيد بالوالدين، لما في الحديث: ((الخالة بمنزلة الأم)) وصححه الترمذي، وعلى قياسه العم أب، وفي الصحيح: ((عم الرجل صنو أبيه)). (ص) والفرار. (ش) أي: من الزحف، وهو من السبع الموبقات، لكنه قد يجب إذا علم أنه يقتل من نكاية في الكفار، لأن التغرير في النفوس إنما جاز لمصلحة إعزاز الدين، وفي الثبوت ضد هذا المعنى. (ص) ومال اليتيم. (ش) لقوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} الآية. وعده في الصحيحين من السبع الموبقات، وقيل: إنه مجلب لسوء الخاتمة، أعاذنا الله من ذلك! وقال الشيخ عز الدين في (القواعد): قد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر، فإن وقعا في مال خطير فظاهر، وإن وقعا في مال حقير كزبيبة أو تمرة فهذا مشكل، فيجوز أن يجعل من الكبائر فطاما عن هذه المفاسد كشرب قطرة من الخمر، ويجوز أن

يضبط ذلك المال بنصاب السرقة قلت: ويؤيد هذا ما سبق في الغصب. (ص) وخيانة الكيل والوزن. (ش) لقوله تعالى: {ويل للمطففين} ومطلق الخيانة أيضا من الكبائر قال تعالى: {إن الله لا يحب الخائنين} وفي معني الكيل والوزن: الزرع في المزروعات. (ص) وتقديم الصلاة وتأخيرها. (ش) أي: تقديمها على وقتها (144ب) وتأخيرها عنه، بلا عذر من سفر أو مرض، وعليه حملوا حديث الترمذي: ((من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من الكبائر)) قال ابن حزم: ولا ذنب بعد الشرك أعظم من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وقتل مؤمن بعير حق وعلم منه من تركها من باب أولى، وهو المراد بقوله: {ما سلككم في سقر} وروى الجريري عن عبد الله بن شقيق

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة رواه الحاكم وأخرجه الترمذي دون ذكر أبي هريرة وحكى البغوي في (التهذيب) وجها غريبا: أن من ترك صلاة واحدة فليس بصاحب كبيرة حتى يعتاد ذلك مرارا. (ص) والكذب على محمد صلى الله عليه وسلم. (ش) لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) بل ذهب الشيخ أبو محمد الجويني إلى أن الكذب عليه كفر، ولا شك أن تعمد الكذب عليه في تحليل الحرام أو تحريم الحلال كفر محض وإنما الخلاف في تعمده فيما سوى ذلك، وفي الحديث: ((من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)).

قال الذهبي: ومن هنا يعلم أن رواية الموضوع لا تحل، وتقييد المصنف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوهم أن الكاذب على غيره ليس بكبيرة وليس على إطلاقه ومنه الكذاب في غالب أقواله قال تعالى: {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} وقال: {قتل الخراصون} وفي الصحيحين: ((إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) ومن محاسن الشريعة: إباحة المعاريض فلا ضرورة حينئذ تدعو إلى الكذب، ولا خلاف في جوازها حيث يضطر إليها كما قاله الراغب وغيره وقيل: ورد: في المعاريض مندوحة عن الكذب وفي الحديث لمن سأله من أين أنت؟ قال: ((من الماء)). (ص) وضرب المسلم. (ش) أي: بلا حق أو زيادة على ما يستحقه وفي الصحيح: ((صنفان من أهل النار: قوم معهم كأذناب البقر يضربون بها الناس)) وخص المصنف المسلم،

لأنه أفحش أنواعه، وإلا فالذمي بغير حق كذلك. (ص) وسب الصحابة. (ش) لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من عادى لي وليا فقد آذنني بالحرب)) رواه البخاري وقال: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) متفق عليه. (ص) وكتمان الشهادة. (ش) لقوله تعالى: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} وفي التفسير: أنه مسخ القلب وهذا الوعيد لمن لم يذكر في غيره من الكبائر، قال ابن القشيري: من كتمان الشهادة الامتناع عن أدائها، بعد تحملها، ومنه أن لا يكون عند صاحب الحق علم بأن له شهادة وخانه صاحبه. (ص) والرشوة. (ش) لحديث: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)) وهي مثلثة الراء، أن

يبذل مالا ليستحق باطلا أو يبطل حقا أما من بذل مالا لمن يتكلم في أمره مع السلطان فهو جعالة قاله العبادي وغيره. (ص) والدياثة والقيادة. (ش) الأول المستحسن على أهله، والثاني: على أجنبي، قال تعالى: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} وقد روى سليمان بن يسار عن الأعرج حدثنا سالم بن عبد الله عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة (145أ) لا يدخلون الجنة: العاق والديه، والديوث ورجلة النساء)) قال الذهبي: إسناده

صالح لأن بعضهم يقول: عن أبيه عن عمر مرفوعا، قال: فمن كان يظن بأهله الفاحشة ويتغافل لمحبته فيها فهو دون من يعرص عنه ولا خير فيمن لا غيرة له). (ص) والسعاية. (ش) أي عند السلطان أي: إنما يضر المسلم وإن كان صدقا قال صاحب (نهاية الغريب): وفي حديث ابن عباس: الساعي لغير رشده، أي: الذي يسعى بصاحبه إلى السلطان ليؤذيه يقول: هو ليس بثابت النسب ولا ولد حلال، ومنه حديث كعب: الساعي مثلث يريد أن نهلك بسعايته ثلاثة نفر: السلطان والمسعى به ونفسه، وفي (الحلية) لأبي نعيم، عن الشافعي رضي الله عنه قال: قبول السعاية أضر من السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز، قال:

والساعي ممقوت إذا كان صادقا لهتكه العورة وإضاعته الحرمة، ويعاقب إن كان كاذبا لمبارزته الله تعالى بقول البهتان، وشهادة الزور. (ص) ومنع الزكاة. (ش) لقوله تعالى: {الذين لا يؤتون الزكاة} والمتوعد عليه كبيرة وقد قاتل الصديق مانع الزكاة وأجمع عليه الصحابة، ثم لا يخفى أن المراد المنع المجرد مع الاعتراف بوجوبها فإن جاحدها كافر، والمراد أصلها لا كل فرد حتى لا يكفر جاحد زكاة الفطر، ولا جاحدها في مال الصبي والمجنون وغيره من المختلف فيه، وفي معنى منع الزكاة تأخيرها إذا وجبت لا لعذر. (ص) ويأس الرحمة وأمن المكر. (ش) أما الأول، فلقوله تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} فمن قال: لا يغفر فقد حجر واسعا وكذب القرآن في قوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} وأضاف بعضهم إليه القنوط، قال تعالى: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} ولك أن تسأل الفرق بينهما وفسر الراغب القنوط باليأس من الخير وفسر اليأس بانتفاء الطمع، قلت: ويحتمل تفسير اليأس بظن لا ينتهي إلى القطع والقنوط بما فوقه وقد اجتمعا في قوله تعالى: {وإن مسه الشر فيئوس قنوط} والثاني كقوله تعالى: {فلا يأمن مكر الله

إلا القوم الخاسرون} فيسترسل في المعاصي ويتكل على رحمة الله تعالى، قال تعالى: {ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} قال بعضهم: من مكر الله تعالى إمهال العبد وتمكينه من أغراض الدنيا، ولهذا قال علي رضي الله عنه: من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في عقله. (ص) والظهار. (ش) أي وهو قوله لزوجته: أنت علي كظهر أمي، اشتق من الظهر، ودل على تحريمه قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} لأنهم صيروا كأمهاتهم من لا يكون بمنزلتهن، ولهذا جعلت الكفارة قبل المسيس، ليحل له غشيانها، بخلاف كفارة القتل وغيرها. (ص) ولحم الخنزير والميتة. (ش): أي: بغير ضرورة، لقوله تعالى: {إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} وهو من عطف الخاص على العام. (ص) وفطر رمضان. (ش) لأن صومه ركن الإسلام، وروى ((من أفطر يوما من رمضان من غير

عذر ولا رخصة لم يقضه صيام الدهر)). (ص) والغلول. (ش) أي: وهو تدرع الخيانة من الغنيمة وبيت المال والزكاة: قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} وروي: لا إغلال ولا إسلال أي لا خيانة ولا سرقة (145ب) وقال الإمام أحمد: ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقتال= نفسه، وما فسرت به الغلول هو الذي قاله الأزهري وغيره وقال أبو عبيد: الغلول من الغنم خاصة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد فإنه يقال: أغل يغل، ومن الحقد غل يغل بكسر الغين، ومن الغلول: غل يغل الضم، وقال ابن أبي هريرة: تنكية، صورة الغلول من الزكاة أن يخفي ماله لئلا تؤخذ منه الزكاة، أو يقل: لم يحل على مالي الحول، أو لم يكن لي نصاب في جميع الحول، وعرفنا خلاف ما قال. (ص) والمحاربة. (ش) لقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ...} الآية. (ص) والسحر. (ش) ففي الصحيح عده من السبع الموبقات ولأن الساحر لابد أن يكفر، قال تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} (ص) والربا.

(ش) وهو مقابلة مال بمال مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حال العقد أو مع تأخيره في البدلين أو أحدهما لقوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وفي الصحيح عده من السبع الموبقات، وفيه: ((لعن آكل الربا وموكله)) قال الشيخ عز الدين في (القواعد): ولم أقف على المفسدة المقتضية لعجله من الكبائر، فإن كونه مطعوما وقيمة الأشياء أو مقدرا، لا يقتضي أن يكون كبيرة، ولا يصح التعليل بأنه لشرفه حرم ربا الفضل وربا النسا فإن من باع ألف دينار بدرهم واحد صح بيعه ومن باع كر شعير بألف كر حنطة، أو مد شعير بألف مد من حنطة، أو مداً من حنطة بمثله، أو ديناراً بمثله وأجل ذلك للحظة - فإن البيع يفسد، مع أنه لا يلوح في مثل هذه الصورتين معنى يصار إليه، قلت: وذكر الغزالي في (الإحياء) في توجيه المفسدة كلاما فلينظر فيه وقال السهيلي: من تأمل أبواب الربا لاح له سر التحريم من جهة الجشع المانع من حسن المعاشرة والذريعة إلى ترك الفرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق، ولذلك قال تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} نبهنا فيه على العلة، ولهذا قالت عائشة: إن تعاطى ما شبهه إلا بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تقبل صلاته ولا صيامه لأن السيئات لا تحبط الحسنات، ولكن خصت الجهاد بالإبطال، لأنه حرب لأعداء الله وآكل الربا قد آذن بحرب من الله فهو ضده ولا يجتمع الضدان، والظاهر أنه تعبد وكان الذين يتعاطونه يقولون: هذا الربح أخيرا كالربح ابتداء، لو بعت الثوب الذي قيمته عشرة بخمسة عشر، والله تعالى فرق بين الربح في الابتداء وبين الربح في الانتهاء، وله= يحكم بما يريد ولا يجمع بين متفرق. ويجوز أن يقرأ كلام المصنف بالياء المثناه من تحت فإنه من الكبائر أيضا وفي مسلم في حديث: الشهيد والغازي والمنفق في سبيل الله تعالى يقال لهم: إنما فعلت ليقال، ثم يؤمر بهم فيسحبوا

إلى النار وصحح الحاكم: ((اليسير من الرياء شرك)). (ص) وإدمان الصغيرة. (ش) أي: فإنه بمنزلة الكبيرة، ولهذا أخره المصنف عن الكل، وهذا هو المشهور، وحكى الديبلي في (أدب القضاء) وجها: أنه لا تصير الصغيرة بالمداومة عليها كبيرة، كما لا تصير الكبيرة بالمداومة عليها كفرا. والإدمان يكون باعتبارين: الإصرار بالفعل، والإصرار حكما وهو (146أ) العزم على فعلها بعد فراغه منها،

فحكمه حكم من كررها فعلا وتعبير المصنف بـ (إدمان) تفسير منه للإصرار لهذا قال ابن فورك: الإصرار: الإقامة على الشيء (بالعقد عليه من جهة العزم على فعله، والإصرار على الذنب يقتضي التوبة منه. انتهى. وهل المراد الإدمان) على نوع واحد من الصغائر أم الإكثار من الصغائر سواء كانت من نوع أو أنواع؟ فيه تردد للأصحاب، قال الرافعي: والثاني يوافق قول الجمهور: من غلبت معاصيه طاعته كان مردود الشهادة. تنبيهان: الأول: إنما عدد المصنف هذه الأنواع لئلا يتوهم حصرها في سبع ولهذا قيل لابن عباس: الكبائر سبع، فقال: هي إلى السبعين أقرب وعن ابن جبير: هي إلى السبعمائة أقرب، قال ابن ظفر: ولا تعد مثل هذا خلافا، فكل معصية كبيرة إذا أضيفت إلى ما هو دونها، فهو إخبار عما استفاده من مقامات الكبائر، ونحوه قال الحليمي: ما من ذنب وإلا في نوعه كبيرة وصغيرة إلا الكفر بالله، فإنه أفحش الكبائر، وليس في نوعه صغيرة، وقد جاءت أحاديث بعدها سبعا، وأحاديث بأكثر من ذلك كما بيناه، فلا مفهوم مخالفة لواحد منها، لأنها لم تتفق على سبعة معينة، بل بينها تفاوت، وطريق الجمع ما قيل في أفضل الأعمال، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص في كل وقت بعض الكبائر بالذكر لحاجة السامعين حينئذ إلى بيانه على حسب حال بعض الحاضرين، واقتصر في بعض الأحايين على أكبرها كقوله: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)). الثاني: لم يراع المصنف ترتبيها، وقال القرطبي: أكبرها الشرك ثم الإياس من رحمة الله تعالى، لأنه تكذيب للقرآن، ثم الأمن من مكر الله تعالى، ثم القتل لأن فيه إذهاب النفس وإعدام الموجود، ثم اللواط، لأن فيه قطع النسل، والزنا، لاختلاط الأنساب، ثم الخمر، لذهاب العقل الذي هو مناط التكليف وقلت:

ويحتمل جعل عقوق الوالدين بعد الشرك، لأن الله تعالى واحد، فإذا جعل معه ثانيا فقد أشرك، والأب أعظم من على الابن له حق، فإذا استحق به فأحرى بغيره ولهذا قرن بينهما في قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} وقال: {أن أشكر لي ولوالديك} وجاء في بعض الأحاديث العقوق بعد الإشراك. (ص): مسألة: الإخبار عن عام لا ترافع فيه الرواية، وخلافه الشهادة. (ش): الفرق بين الرواية والشهادة من مهمات هذا العلم وقد خاض فيه المتأخرون وغاية ما فرقوا بينهما باختلافها في بعض الأحكام كاشتراط العدد والحرية والذكورة، وغيرها، وذلك لا يوجب تخالفهما في الحقيقة، وقال القرافي: وأقمت مدة أتطلب الفرق بينهما حتى ظفرت به في كلام المازري فذكر ما حاصله: أنهما خبران غير أن المخبر عنه إن كان عاما لا يختص بمعين، ولا ترافع فيه إلى الحكام فهو الرواية، وإن كان خاصا بمعين والترافع فيه ممكن فهو الشهادة وإذا لاح الفرق بينهما وصح مناسبة اعتبار العدد في الشهادة استظهاراً دون الرواية - فإنه يدخل من التهمة في إثبات الحقوق المعينة ما لا يدخل في إثباتها في الجملة، فجاز أن تؤكد الشهادة بما

لا تؤكد الرواية، فلهذا أكدت بالعدد وعدم العداوة وغيرها، لكن قد يعارض هذا بأن الخبر وإن لم يتضمن إثبات الحق على أحد معين، لكن يقتضي إثبات شرع في حق جميع المكلفين، إلى يوم القيامة فالاحتياط فيه أجدر من الاحتياط في إثبات الحق على واحد معين في شيء معين. ويحقق المناسبة وجوه، ذكرها الشيخ عز الدين: أحدها: أن الغالب (146ب) من المسلمين مهابة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف شهادة الزور، فاحتيج إلى الاستظهار فيها. والثاني: أنه قد ينفرد بالحديث النبوي شاهد واحد، فلو لم يقبل لفات على أهل الإسلام تلك المصلحة العامة، بخلاف فوات حق واحد على شخص واحد في المحاكمات. والثالث: أن بين كثير من الناس والمسلمين إحنا وعداوات تحملهم على شهادة الزور، بخلاف الأخبار النبوية. (ص): وأشهد إنشاء تضمن الإخبار لا محض إخبار أو إنشاء على المختار. (ش): تضمن ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه إخبار محض وهو ظاهر كلام اللغويين، قال ابن فارس في (المجمل): الشهادة خبر عن علم، وقال الإمام فخر الدين في تفسير قوله تعالى: {وما شهدنا إلا بما علمنا} فيه دلالة على أن الشهادة، مغايرة للعلم، قال: وليست الشهادة عبارة عن قوله: أشهد، لأن أشهد إخبار عن الشهادة، والإخبار عن الشهادة غير الشهادة، بل الشهادة عبارة عن الحكم الذهني، وهو الذي يسميه

المتكلمون كلام النفس. والثاني: أنه إنشاء وإليه مال القرافي لأنه لا يدخله تكذيب شرعا وأما قوله تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} - فعائد إلى تسميتهم ذلك شهادة لأن الإخبار إذا خلا عن مواطأة القلب اللسان لم يكن ذلك حقيقة. والثالث: أنه إنشاء تضمن الخبر عما في النفس، وفي هذا ما يجمع القولين. واعلم أن نقل المذاهب هكذا في هذه المسألة لا يوجد مجموعا وإنما يوجد متفرقا في كلام الأئمة بالتلويح، نعم اختلف أصحابنا في قول الملاعن: أشهد بالله هل هو يمين مؤكد بلفظ الشهادة، أو يمين فيها شوب شهادة؟ والصحيح الأول. (ص): وصيغ العقود كبعث إنشاء، خلافا لأبي حنيفة. (ش): اختلف في صياغ الخبر المستعملة في الإنشاء كبعث= واشتريت التي قصد بها إيقاع هذه العقود: هل هي على ما كانت عليه من الخبرية، أو نقلت عن الخبرية بالكلية وصارت إنشاء؟ على قولين، قال في (المحصول): ولا شك أنها في اللغة موضوعة للإخبار وقد يستعمل في الشرع لذلك أيضا، وفي استحداث الأحكام، وإنما

النزاع أنها حيث استعملت لاستحداث أحكام لم تكن من قبل، فهل هي إخبارات باقية على الوضع اللغوي أو إنشاءات؟ الأقرب الثاني. انتهى. وعزاه الهندي للأكثرين وكذلك الأصفهاني، وعزا مقابله للحنفية، قال: وهو اختيار أئمة النظر من علم الخلاف، قال: وهذا تفريع على القول بالنقل الشرعي، إما مطلقا كقول المعتزلة، أو إلى مجازاتها اللغوية، ولا يتأتى هذا التفريع على رأي القاضي، انتهى. وأما المصنف فنسبه إلى أبي حنيفة وفيه نظر، لأنه لا يعرف لأبي حنيفة فيه نص وغاية ما وقع في كلام المتأخرين نسبته للحنفية، وقد أنكر ذلك القاضي شمس الدين السروجي وكان من أئمة الحنفية العارفين بمذهبه: فقال في (كتاب النكاح من الغاية): وقد حكي عن القرافي أنه نسب ذلك إلى الحنفية، وهذا لا أعرفه لأصحابنا بل المعروف عندهم أنها إنشاءات استعملت، ولهذا قال صاحب (البديع): الحق أنها إنشاء، ولهذا يسأل المطلق رجعيا عن قوله: طلقتك ثانيا وكذا قال غيره من الحنفية، قالوا: وليس معنى كونها إنشاء، في الشرع أنها نقلت عن معنى الإخبار بالكلية (147أ) ووضعها لإيقاع هذه الأمور بل معناه أنها صيغ تتوقف صحة مدلولاتها اللغوية على ثبوت هذه الأمور، من جهة المتكلم، فاعتبر الشرع إيقاعها من جهته بطريق الاقتضاء تصحيحا لهذه الأمور من حيث إن هذه الأمور لم

تكن ثابتة ولهذا كان جعله إنشاء للضرورة، حتى لو أمكن العمل بكونه إخبارا لم يجعل إنشاء بأن يقول للمطلقة المنكوحة: إحداكما طالق، لا يقع الطلاق، قلت: وكذلك عندنا، إذا قصد الأجنبية وقال بعض المتأخرين: الحق أنها إن جردت عن الخبرية صارت إنشاء لأنها لا تحتمل الصدق والكذب، ولكان العاقد مخبرا عن سابق فلا ينعقد بها، وإن أريد بها إيقاع الفعل كانت إنشاء، وإن أريد بها الإخبار، كانت خبرا. واحتج القائلون بأنها إخبارات في ثبوت الأحكام فإن معنى قولك: (بعت) الإخبار عما في قلبك، فإن أصل البيع هو التراضي ووضعت لفظة (بعت) دلالة على الرضا، فكأنه أخبر بها عما في ضميره ورد بأنه لا يقصد بهذه الصيغ الحكم بنسبة خارجية، فلا تدل (بعت) على بيع آخر غير البيع الذي يقع به ولا معنى للإنشاء إلا هذا، وأيضا لا يوجد فيها خاصية الإخبار أعني احتمال الصدق والكذب للقطع بتخطئة من يحكم عليها بأحدهما. تنبيه: لا يختص الخلاف في العقد بل يجري في الحلول، كفسخت وطلقت فالطلاق إنشاء ولا يقوم الإقرار مقامه، ولكن يؤاخذ بما أقر به، وبعضهم يجعل الإقرار على صيغته وقرينته إنشاء، فإذا أقر بالطلاق نفذ ظاهرا ولا ينفذ باطنا، وحكي وجه أنه يصير إنشاء حتى تحرم باطنا، قال إمام الحرمين: وهو ملتبس فإن الإقرار والإنشاء يتنافيان فذلك إخبار عن ماض، وهذا إحداث في الحال، وذلك يدخله الصدق والكذب، وهذا بخلافه. (ص): وقال القاضي: يثبت الجرح والتعديل بواحد، وقيل: في الرواية فقط، وقيل: لا فيهما. (ش): في الاكتفاء بجرح الواحد، وتعديله في الرواية والشهادة - مذاهب:

أحدها: الاكتفاء به فيهما، وبه قال القاضي أبو بكر، وعبارته في (التقريب): هذا القول قريب، لا شيء عندنا يفسده، وإن كان الأحوط ألا يقبل في تزكية الشاهد خاصة أقل من اثنين والمخبر قريب من بابه. انتهى. والثاني: يعتبر العدد فيهما وهو رأي بعض المحدثين ووهاه الإمام. والثالث: يكتفى به في الرواية دون الشهادة ونسب للأكثر، لأن شرط الشيء لا يزيد على أصله، بل قد ينقص كالإحصان يثبت باثنين وإن لم يثبت الزنا إلا بأربعة فإذا قبلت رواية الواحد فلا تقبل تزكية الواحد أو جرحه فيها أولى، لأن غاية مرتبة الشرط أن يلحق بمشروطه فإذا لم يقبل في الشهادة إلا اثنين لم يقبل في تزكيتها أقل من اثنين. (ص): وقال القاضي: يكفي الإطلاق فيهما، وقيل: بذكر سببهما، وقيل: سبب التعديل فقط، وعكس الشافعي وهو المختار في الشهادة، وأما الرواية فيكفي الإطلاق إذا عرف مذهب الجارح. (ش): ينبغي أن تكون الواو في قوله: وقال القاضي - بمعني ثم، لأنه دخول منه في مسألة أخرى، والضمير في قوله: فيهما عائد للجرح والتعديل وحاصله أن في التعرض لسبب الجرح والتعديل مذاهب: أحدها: أنه يكفي الإطلاق فيهما، ولا يجب ذكر السبب لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية، وإن كان (147ب) بصيرا به فلا معنى للسؤال وهذا ما نص عليه في (التقريب) ونقل عنه إمام الحرمين التفصيل الآتي في

الثالث. والثاني: يجب ذكر سببهما للاختلاف في أسباب الجرح والمبادرة إلى التعديل بالظاهر. والثالث: يذكر سبب التعديل دون الحرج، لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة، لتسارع الناس إلى الثناء اعتمادا على الظاهر، فلا بد من سبب قال إمام الحرمين: وهذا أوقع في مأخذ الأصول. والرابع: عكسه يجب في الجرح دون التعديل، وهو قول الشافعي رضي الله عنه، إذ قد يجرح بما لا يكون جارحا، لاختلاف المذاهب فيه، بخلاف العدالة، إذ ليس لها إلا سبب واحد. والخامس: التفصيل بين الشهادة والرواية، ففي الشهادة يجب السبب في الجرح فقط، وفي الرواية يكفئ= الإطلاق إذا علم أن مذهب الجارح أنه لا يجرح إلا بالمؤثر، لكن أطلق النووي في شرح مسلم أن معنى عدم قبول الجرح المطلق في

الراوي أنه يجب التوقف عن العمل بروايته إلى أن يبحث عن السبب.

(ص): وقول الإمامين: يكفي إطلاقهما للعالم بسببهما، هو رأى القاضي إذ لا تعديل وجرح إلا من العالم. (ش): ذهب إمام الحرمين والرازي إلى تفصيل في المسألة: وهو أنا إن علمنا علم الراوي بأسبابهما، لم يجب ذكر السبب فيهما إذ الراوي يصير عدلا، وإلا أوجبناه ونبه المصنف على أن هذا ليس بمذهب، خلاف ما تقدم، بل هو راجع إلى كلام القاضي، لأنه إذا لم يكن عارفا بشروط العدالة، لم يصلح للتزكية، فقوله: (للعالم) أي: بأسباب الجرح والتعديل فإن العالم المتقن لا يجرح بأمر مختلف فيه. (ص): والجرح مقدم إن كان عدد الجارح أكثر من المعدل إجماعا، وكذا إن تساويا أو كان الجارح أقل، وقال ابن شعبان: يطلب الترجيح. (ش): إذا تعارض الجرح والتعديل، فإما أن يكون عدد الجارح أقل من المعدل أو أكثر أو يتساويا، فإن كان الجارح أكثر قدم بالإجماع، كذا قال المازري والباجي وغيرهما، لاطلاعه على زيادة لم ينفها المعدل، وإن تساويا فكذلك وحكى

القاضي في (مختصر التقريب) الإجماع عليه أيضا، لكن ابن الحاجب حكى قولا أنهما يتعارضان ولا يترجح أحدهما إلا بمرجح، وإن كان الجارح أقل فالجمهور على تقديم الجرح أيضا لما سبق، وقيل: يقدم المعدل بزيادة عدده وقال ابن شعبان المالكي: يطلب الترجيح، حكاه عنه المازري واعلم أن القول بتقديم الجرح إنما يصح بشرطين ذكرهما ابن دقيق العيد: أحدهما: مع اعتقاد المذهب الآخر، وهو أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا. والثاني: أن يكون الجرح بناء على أمر مجزوم به، أي: بكونه جارحا لا بطريق اجتهادي كما اصطلح عليه أهل الحديث في الاعتماد في الجرح على اعتبار حديث الراوي مع اعتبار حديث غيره، والنظر إلى كثرة الموافقة والمخالفة والتفرد والشذوذ. (ص): ومن التعديل حكم مشترط العدالة بالشهادة، وكذا عمل العالم في الأصح، ورواية من لا يروي إلا للعدل. (ش): التعديل يحصل بالتزكية الصريحة، بأن يقول: هو عدل ويذكر سببه، فيقول: لأني رأيت منه كذا، أو لا يذكره إن لم توجبه، وكذا السماع المتواتر والمستفيض بالعدالة، قال القرافي: وقد نص الفقهاء على أن من عرف بالعدالة لا تطلب له تزكية وسكت عنه المصنف لوضوحه، ويحصل بالضمني وهو الذي ذكره المصنف لغموضه وله مراتب (148أ):

أحدها: وهو أعلاها: أن يحكم الحاكم بشهادته لأنه لو لم يكن عدلا لما جاز بناء الحاكم على شهادته وهذا إذا كان الحاكم مستوفى العدالة، وهذا القيد ذكره الآمدي وغيره، ولا بد منه، وأهمله في (المنهاج)، ثم فيه شيئان: أحدهما: أن هذا إنما يقدح إذا منعنا حكم الحاكم بعلمه، فإن جوزناه فحكمه بالشهادة ظاهر، أيقوم معه احتمال أنه حكم بعلمه باطنا، وهذا يقدح في جعل الغزالي هذه المرتبة أقوى من التعديل بالقول، وحينئذ يتجه التفصيل الآتي في التي بعدها، فإن علم يقينا أنه حكم بشهادته فتعديل، وإن لم يعلم يقينا فلا، وهو ما اقتصر عليه العبدري في (شرح المستصفى). الثاني: أن هذه المرتبة من خواص الشهادة دون الرواية، لكنهم ذكروها في تعديل الراوي بالاستلزام. ثانيها: عمل العالم بروايته تعديل إذا علم منه أنه عمل بها لا على وجه الاحتياط ونقل الآمدي فيه الاتفاق لكن الخلاف محكي في (البرهان) و (المحصول) وغيرهما فلهذا عبر المصنف بالأصح، قال إمام الحرمين: عمل

الراوي بما رواه مع ظهور إسناده العمل إلى الرواية قال قائلون: إنه تعديل، وقال آخرون: ليس بتعديل والذي أراه: إذا ظهر أن مستند فعله ما رواه ولم يكن ذلك من مسالك الاحتياط - فهو تعديل، وإن كان ذلك في سبيل الاحتياط فليس بتعديل، لأن المجرح يتوقى الشبهات كما يتوقى الجليات وفصل الشيخ تقي الدين ابن تيمية بين أن يعمل بذلك في الترغيب والترهيب دون غيرهما. وثالثها: وهو أدناها: رواية العدل عنه، قيل: تعديل مطلقا، وقيل: عكسه والأصح: التفصيل: إن علم عادته أنه لا يروي إلا من عدل كيحيى بن

سعيد القطان، وشعبة، ومالك - فهو تعديل وإلا فلا قال المازري: وهو قول الحذاق وهو المختار في (الإحكام). ثم هنا أمران: أحدهما: أن هذا تفريع على جواز تعديل الراوي لمن روى عنه، وفي باب الأقضية من (الحاوي) حكاية وجهين في أنه هل يجوز للراوي تعديل من روى عنه كالخلاف في تزكية شهود الفرع للأصل. الثاني: النظر في الطريق التي يعرف بها كونه لا يروي إلا عن عدل، فإن كان ذلك بتصريحه فهو الغاية، وإن كان ذلك باعتبارنا بحاله في الرواية، ونظرنا إلى أنه لم يرو عمن عرفناه إلا عن عدل، فهذا دون الدرجة الأولى ذكره ابن دقيق العيد قال: وهل يكتفى بذلك في قبول روايته عمن لا يعرفه؟ فيه وقفة لبعض أصحاب الحديث من المعاصرين وفيه تشديد. (ص) وليس من الجرح ترك العمل بمرويه والحكم بمشهوده. (ش) أي: لأنه يتوقف في رواية العدل وشهادته، لأسباب أخر غير الجرح

وقال القاضي: إن تحقق تركه له مع ارتفاع الموانع كان جرحا، وإن لم يثبت قصده إلى مخالفته لم يكن جرحا (واعلم أن مرادهم ليس جرحا، أي: ليس دليلا على الفسق وإن كان دليلا على عدم اعتبار شهادته وروايته وإلا لفسق التارك بذلك). (ص): ولا الحد في شهادة الزنا ونحو النبيذ. (ش): فيه مسألتان: إحداهما: ليس من الجرح الحد في الشهادة بالزنا، إذا لم يكمل النصاب، لأن الحد لأجل نقص العدد، لا لمعنى في الشاهد وهذا بناء على أظهر قولي الشافعي رضي الله عنه، فيما إذا شهد ثلاثة بالزنا، أنهم يحدون، لقصة المغيرة، وألحق الرافعي به جارح الراوي بذكر الزنا إذا لم يوافقه غيره حتى يكون قاذفا على الأصح، وخالفه النووي وقال المختار (148ب) أو الصواب: أنه لا يجعل قاذفا لأنه معذور في شهادته بالجرح فإنه مسؤول عنها، وهي في حقه فرض كفاية أو متعينة بخلاف شهود الزنا فإنهم مندوبون إلى الستر فهم مقصرون، وما قاله النووي هو الذي قطع به الشيخ أبو حامد والقاضي الحسين، وغيرهما، ولم يخرجوه على الخلاف في شهود الزنا. الثانية: ليس من الجرح ارتكاب ما اختلف فيه، وقال بحله بعض العلماء في مسألة اجتهادية كشرب النبيذ الذي لا يسكر، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه، في الحنفي: أحده، وأقبل شهادته، لما سبق في الكلام على المفسق المظنون، وكذلك قال: لا أرد شهادة المستحل لنكاح المتعة والمفتي به والعامل به وهذا بناء على أنه فسقه مظنون كما سبق وخالف مالك، واعتقد أنه مقطوع، فقال: أحده للمعصية، وأرد شهادته لفسقه وقال القرافي: وهو أوجه من قول الشافعي رضي الله عنه، لسلامته من التناقض ولأن هذا منع التقليد فيه، فمن قلد فيه بمثابة من لم يقلد فيكون عاصيا فيفسق وليس

كما قال فإن مأخذ الحد ورد الشهادة مختلف فالحد للزجر، فلم يراع فيه مذهب المخالف، والرد لارتكاب الكبيرة عند فاعلها وهذا متأول في شربه فعذر بتأويله واعلم أن هذه المسألة مكررة مع قوله: فيما سبق ويقبل من أقدم على مفسق مظنون. (ص) ولا التدليس بتسمية غير مشهورة قال ابن السمعاني: إلا أن يكون بحيث لو سئل لم يبينه. (ش) أي: ليس من الجرح التدليس بالتسمية الغريبة لوقوعه من الأكابر كسفيان وغيره، لأنه محقق في نفس الأمر، واستثنى ابن السمعاني ما إذا لم ينبه عليه لو سئل عنه، لأنه تزوير وإيهام لما لا حقيقة له، وذلك يؤثر في صدقه بخلاف ما لو كان إذا (سئل عنه أخبر باسمه، أو أضاف الحديث إلى ناقله فقد كان سفيان ابن عيينة يدلس فإذا) سئل عمن حدثه بالخبر نص على اسمه ولم يكتمه، وفصل

الآمدي بين أن يكون تغيير الاسم لضعف المروي عنه فيكون مجروحا، وإن كان لصغر سن المروي عنه، أو لأن المروي عنه اختلف في قبول روايته وهو يعتقد قبولها كأهل البدع، فلم يذكر باسمه المشهور حتى لا يقدح فيه فلا يكون جرحا، وهذا هو الظاهر لأن الأول يوجب العمل بخبر غير الثقة بخلاف الثاني، وسكت عما إذا لم يعلم تغييره لماذا وهو محتمل. (ص) ولا باعطاء شخص اسم آخر تشبيها كقولنا: أبو عبد الله الحافظ يعني: الذهبي، تشبيها بالبيهقي يعني: الحاكم. (ش) عادة البيهقي فيما يرويه عن شيخه الحاكم أن يقول: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، والمصنف رحمه الله يقول في بعض مصنفاته: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ يعني: به الذهبي نبه على أن هذا ليس من التدليس، للعلم بالمقصود وظهوره. (ص) ولا بإيهام اللقى والرحلة. (ش) كقولنا: حدثنا وراء النهر موهما جيحون ويشير إلى نهر عيسى ببغداد، أو الجيزة بمصر، لأن ذلك من المعاريض لا من الكذب، قاله في (الإحكام). (ص): أما مدلس المتون فمجروح.

(ش) قال الأستاذ أبو منصور: وهو الذي يسميه المحدثون بالمدرج، أي أنه أدرج كلامه مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يميز بينهما فيظن أن جميعه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو عكس رواية بعض الحديث. (ص) مسألة: الصحابي: من اجتمع مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يرو ولم يطل، بخلاف التابعي مع الصحابي، وقيل: يشترطان وقيل: أحدهما، وقيل: الغزو أو سنة. (ش) (من) موصولة بمعنى: الذي، وهو مع الاجتماع جنس، (ومؤمنا) حال من الموصول، وهو (149أ) فصل يخرج المجتمع حال كفره، (وبمحمد) صلى الله عليه وسلم فصل ثان يخرج المجتمع بغيره، وإنما غير المصنف لفظة: (رأى) الواقع في مختصر ابن الحاجب وغيره لأنك إن نصبت النبي في قولهم: رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر - لم يطرد، لورود ابن أم مكتوم وأبي وغيرهما من عميان الصحابة، فإنهم لم يروه ولم ينعكس لأن من رآه في

النوم فقد رآه حقا وليس بصحابي وإن رفعت لزم أن يكون من وقع بصر محمد صلى الله عليه وسلم عليه صحابيا وإن لم يقع بصره على محمد صلى الله عليه وسلم ولا قائل به ولو قيل به لزم أن يكون كل من عاصره بهذه المثابة، لأنه كشف له ليلة الإسراء وغيرها عنهم أجمعين ورآهم كلهم فلهذا عدل المصنف إلى لفظة الاجتماع وزاد الإيمان وقد ذكره ابن الصلاح من المحدثين، والآمدي من الأصوليين ولا بد منه، فإن من اجتمع كافرا به صلى الله عليه وسلم لا تثبت له صحبة، قاله البخاري في (صحيحه) حيث قال: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. وحكاه القاضي عياض وغيره عن أحمد بن حنبل، وأشار بقوله: وإن لم يرو ولم يطل - إلى الاكتفاء بمجرد الرواية والصحبة ولو ساعة، سواء روى عنه أو لم يرو عنه، وسواء اختص به أم لا، وهو مقتضى لفظ الصحبة من حيث الوضع بدليل أنه يصح تقسيم الصحبة إلى الصحبة ساعة وإلى الصحبة مدة طويلة، وكذا يصح أن يقال: صحبه ولم يرو عنه، وأشار بقوله: بخلاف التابعي إلى أنه لا يكتفى في كون الشخص تابعيا بمجرد اجتماعه بالصحابي كما يكتفى في الصحابي والفرق أن طلعة المصطفى صلى الله عليه وسلم ينطبع من رؤيتها أو مجالستها نور لا يتهيأ لأحد من خلق الله مثله فالمرجع في تفسير التابعي إلى العرف. وقيل يشترطان، أي: طول المجالسة والرواية عنه وقيل تشترط الرواية (ولا تشترط الصحبة الطويلة، وقيل: تشترط) الصحبة الطويلة ولا تشترط الرواية، وهذا مراد المصنف بقوله: وقيل: أحدهما، لأنه لم يذهب أحد إلى اشتراط الرواية، دون المجالسة كما يوهمه ظاهر هذه العبارة قال

الهندي: والخلاف لفظي، والوضع يصحح مذهب االأولين، والعرف مذهب المتأخرين، وكذا قال ابن الحاجب، لكن لفظه وإن ابتنى عليه الخلاف في تعديلهم وقيل: يشترط الغزو أو مدة سنة، وهو قول سعيد بن المسيب، حكاه ابن الصلاح وهو ضعيف يلزم منه إخراج جرير بن عبد الله ووائل بن حجر.

ومعاوية بن الحكم السلمي ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع وبعده، فأسلم وأقام بعده أياما، ثم رجع إلى قومه وروى عنه أحاديث، ولا خلاف في أنهم من الصحابة. (ص): ولو ادعى المعاصر العدل الصحبة قبل وفاقا للقاضي. (ش): لأن وازع العدل يمنعه من الكذب وإنما حكاه المصنف عن القاضي لأن كلام ابن الحاجب يقتضي أن المسألة غير منقولة، وتوقف فيها من حيث إنه يدعي رتبة لنفسه، فهو متهم فيها كما لو قال: أنا عدل.

(ص): والأكثر على عدالة الصحابة وقيل: هم كغيرهم، وقيل: إلى= قتل عثمان، وقيل: إلا من قاتل عليا. (ش): جمهور الخلف والسلف على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم عدول فلا حاجة إلى الفحص عن عدالتهم، لقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} والخطاب للموجودين، قال إمام الحرمين: ولعل السبب فيه أنهم حملة الشريعة، فلو ثبت توقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم (149ب) ولما استرسلت على سائر الأعصار، وقيل: إن حكمهم في العدالة كغيرهم فيجب البحث عنها ومعرفتها في كل واحد منهم، ومنهم من زعم أن الأصل فيهم العدالة إلى أيام قتل عثمان لظهور الفتن، ومنهم من زعم أن من قاتل عليا فهو فاسق لخروجهم

على الإمام الحق. وهذه المذاهب كلها باطلة، سوى مذهب الجمهور. (ص): مسألة المرسل: قول غير الصحابي: قال النبي صلى الله عليه وسلم. (ش): غير الصحابي يشمل التابعي وتابع التابعي، وهلم جرا، هذا قول الأصوليين، وأما المحدثون فيخصونه بالتابعين، وبعضهم بكبار التابعين كسعيد

بن المسيب فإن سقط واحد قبل التابعي، كقول من روى عن سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمى منقطعا، وإن سقط أكثر سمي معضلا، وعلى هذا فتفسير الأصوليين أعم، فما انقطع دون التابعي مرسل عند الأصوليين، منقطع عند المحدثين، وعلم من كلامه: أنه لا مرسل للصحابة، وهو كذلك، وسيأتي. (ص): واحتج به أبو حنيفة ومالك والآمدي مطلقا، وقوم إن كان المرسل من أئمة النقل، ثم هو أضعف من المسند خلافا لقوم، والصحيح رده، وعليه الأكثر منهم الشافعي والقاضي، قال مسلم: وأهل العلم بالأخبار. (ش): اختلف في قبول المرسل على مذاهب: أحدها: أنه حجة مطلقا، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في أشهر الروايتين واختاره الآمدي.

والثاني: يقبل مرسل من هو من أئمة النقل دون غيره، وهو قول عيسى بن أبان، واختاره ابن الحاجب، وصاحب (البديع) وأئمة النقل، يدخل فيه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، ثم هو على القول بكونه حجة أضعف من المسند خلافا لقوم من الحنفية، حيث زعموا أنه أقوى من المسند. والثالث: أنه ليس بحجة، وعليه الشافعي واختاره القاضي أبو بكر، وقال مسلم في (صحيحه): المرسل في أصل قولنا، وقول أهل العلم، بالأخبار ليس بحجة، فلهذا نقله المصنف عن الأكثر، وفي ذلك فائدة، وهي الرد على من زعم أن الشافعي أول من أبى قبول المرسل، وفي تسوية المصنف بين الشافعي رضي الله عنه، والقاضي في الإنكار مطلقا نظر، فإن الشافعي رضي الله عنه، قبله في بعض المواضع، قال القاضي: ونحن لا نقبل المراسيل مطلقا، ولا في الأماكن التي قبلها فيه الشافعي رضي الله عنه، حسما للباب، بل زاد القاضي فأنكر مرسل الصحابي إذا احتمل سماعه من تابعي نص عليه في (التقريب).

(ص): فإن كان لا يروي إلا عن عدل كابن المسيب - قبل، وهو مسند. (ش): هذا إشارة إلى توسط في المسألة، وتنزيل كلام الشافعي رضي الله عنه عليه، وهو التفصيل بين أن يكون المرسل من عادته الرواية عن العدل وغيره، فليس بحجة، وهو قول الشافعي رضي الله عنه بإطلاق المنع، وإن كان إماما عالما بالقوادح، وعادته أن لا يروي إلا عن عدل - فمرسله حجة، فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا بالغ في ثقته عمن روى له، ولأن مأخذ رد المرسل عند الشافعي رضي الله عنه إنما هو احتمال ضعف الواسطة، وأن المرسل لو سماه لبان أنه لا يحتج به، فإذا علم من عادة المرسل أنه لا يسمي إلا ثقة - كان مرسله حجة والتحق بالمسند. وقد أشار إمام الحرمين إلى أن هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه مستندا إلى قوله: وأقبل مراسيل ابن المسيب، لأني اعتبرتها فوجدتها لا ترسل إلى عمن يقبل خبره، قال: ومن هذا حاله أحببت (150أ) مراسيله، وفي هذا فائدتان: إحداهما: أن الشافعي رضي الله عنه لا يرد المرسل مطلقا. والثانية: أنه لا يخص القبول بمرسل سعيد كما فهمه جماعة، فلهذا جعل

المصنف الضابط انحصار روايته عن العدل، نعم جعله كالمسند فيه نظر، لما سنذكره عن الشافعي رضي الله عنه أنه جعله صالحا للترجيح، وقال النووي في (الإرشاد): اشتهر عند فقهاء أصحابنا أن مرسل سعيد حجة عند الشافعي رضي الله عنه وليس كذلك، وإنما قال الشافعي في (مختصر المزني): وإرسال ابن المسيب عنده حسن، فذكر صاحب (المهذب) وغيره من أصحابنا في أصول الفقه في معنى كلامه وجهين: أحدهما: أن مراسيله حجة، لأنها فتشت فوجدت مسانيد. والثاني: ليس بحجة، بل هي كغيرها وإنما رجح الشافعي به، والترجيح بالمرسل صحيح وحكاه الخطيب ثم قال: الصحيح عندنا الثاني، لأن في مراسيل سعيد: ما لم يوجد مسندا بحال من وجه يصح وذكر البيهقي نحوه، وأن الشافعي لم يقبل مراسيل لابن المسيب حيث لم يجد لها ما يؤكدها وإنما يزيد ابن المسيب على غيره أنه أصح التابعين إرسالا فيما زعم الحفاظ، قال النووي: فهذا كلام الخطيب والبيهقي وهما ماهران في معرفة نصوص الشافعي وطريقته، وأما قول القفال في شرح (التلخيص): قال الشافعي في (الرهن الصغير) مرسل ابن المسيب حجة عندنا - فهو محمول على ما قاله الخطيب والبيهقي. (ص): وإن عضد مرسل كبار التابعين ضعيف مرجح كقول صحابي، أو فعله، أو الأكثر إسنادا أو إرسالا، أو قياس، أو انتشار أو عمل العصر - كان المجموع حجة، وفاقا للشافعي لا مجرد المرسل ولا المنضم.

(ش): عمدة الشافعي في رد المراسيل أن حذف الواسطة يخرم الثقة ويتطرق التردد إلى الخبر فحيث اقترن به ما يؤكده ويغلب على الظن الثقة به -فإنه يقبله وذلك يتناول صورا: إحداها: أن يعتضد بقول صحابي أو فعله، فإن الظن يقوى عنده. ثانيها: بقول الأكثر من أهل العلم وظن القاضي أن الشافعي رضي الله عنه يريد الإجماع أو قول العوام، فردد عليه الكلام وإنما أراد أكثر أهل العلم. ثالثها: أن يسنده غير مرسله، قال في (المحصول): وهذا في سند لم تقم الحجة بإسناده يعني وإلا فالعمل حينئذ بالمسند. رابعها: أن يرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ الأول. خامسها: أن يعضده قياس. سادسها: أن ينتشر ولا نكير. سابعها: أن يعضده عمل أهل العصر، وبه أشار المصنف بقوله: (كان المجموع حجة) إلى الجواب عما اعترض به القاضي وغيره على الشافعي في هذه المواضع بأن قول الصحابي لا يحتج به كغيره، وكذا قول الأكثر ومجيئه مرسلا وضمه الضعيف إلى الضعيف لا يوجب القبول، وأجاب المحققون بأن مراد الشافعي أن

الاحتجاج بالمجموع، فإن حالة الاجتماع تفيد ظنا غالبا، وهذا شأن كل ضعيفين اجتمعا، لأن الظن يتقوى، فلا يلزم من عدم الاحتجاج بالأضعف عدم الاحتجاج بالأقوى، ولم يعتمد الشافعي على مجرد المرسل ولا على المنضم إليه، ونظيره خبر الواحد إذا احتفت به القرائن يفيد القطع عند قوم، مع أنه لا يفيد ذلك بمجرده ولا القرائن بمجردها، فإن قيل: هذا صحيح إذا كان المنضم إليه ضعيفا، فإن كان قويا كالمسند فالعمل حينئذ بمجرد المنضم، ولهذا قال ابن الحاجب: الأول غير وارد (على الشافعي والثاني وارد. قلنا: بل هو غير وارد) أيضا، لأنه إذا أسنده غير مرسله، فقد انضم مسند إلى مرسل، وذلك يوجب التقوية (150ب) أيضا، وحتى لو عارض مسندا آخر يكون راجحا عليه، لكونه مسندا ومرسلا معا، والآخر مسند فقط. تنبيهات: الأول: أن من تأمل نصوص الشافعي في (الرسالة)، وجدها مصرحة بأنه لم يطلق القول بأن المرسل حينئذ يصير حجة مطلقا كما نقله المصنف وغيره، بل سوغ الاحتجاج به، ولهذا قال الشافعي بعد ذلك: ولا أستطيع أن أقول: الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل. انتهى. وفائدة ذلك أنه إذا عارضه متصل كان المتصل مقدما عليه، ولو كان حجة مطلقا لتعارضا، وقد قال القاضي في (التقريب): قال الشافعي: في هذه المواضع أستحب قبوله، ولا أستطيع أن أقول: الحجة تثبت به ثبوته بالمتصل، قال: فقد نص على أن القبول عند هذه الأمور مستحب لا واجب، لكن قال البيهقي: مراده بقوله: أجبنا، اعتبرنا. الثاني: نبه بقوله (كبار التابعين) على أن هذه الأسباب تختص بهم دون صغارهم، وإلى هذا أشار الشافعي في (الرسالة) فيستدل به على إطلاق (المنهاج)

و (المختصر) وغيرهما اعتضاد مطلق المرسل بهما، وإنما قرن نفس كبار التابعين وصغارهم هنا، لأن المأخذ عنده مزيد القوة، وذلك موجود في كبار التابعين دون غيرهم. الثالث: قوله: (ضعيف) فاعل (عضده) وقوله: (مرجح) صفة له أي ضعيف صالح للترجيح، ليحترز به عن ضعيف لا يصلح للترجيح فلا أثر له، وكذا القوي، إذ لا حاجة له بالمرسل، إلا أن ذكره المسند في أمثلة المرجح الضعيف منتقد، فلو قال: أو إسناد غير منتهض، لاستقام. (ص): فإن تجرد ولا دليل سواه فالأظهر الانكفاف لأجله. (ش): هذا الذي رجحه توسط بين قولين، فإن الماوردي في باب الربا من (الحاوي) زعم أن الشافعي يحتج بالمرسل إذا لم يجد في الباب دلالة سواه، وإن لم يكن شيء من الرجحان، وقال البيهقي: قال الشافعي: يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها فإن لم ينضم إليها ما يؤكدها لم يقبلها سواء كان مراسيل ابن المسيب وغيره. (ص) مسألة: الأكثر على جواز نقل الحديث بالمعنى للعارف، وقال الماوردي: إن نسي اللفظ وقيل: إن كان موجبه علما، وقيل: بلفظ مرادف وعليه الخطيب ومنعه ابن سيرين، وثعلب، والرازي، وروي عن ابن عمر. (ش) في رواية الحديث بالمعنى مذاهب: أحدها: يجوز ويجب قبوله، كما لو روي باللفظ، وبه قال الأئمة الأربعة وأكثر السلف، لكن بشرط أن يكون الراوي عارفا بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها، وأن لا يزيد ولا ينقص فيه، ويساوي الأصل في الجلاء والخفاء وشرط

إمام الحرمين أن يقطع بالتساوي يعني فلو ظن ذلك لم يجز، لأن الخطاب تارة يقع بالمحكم، وأخرى بالمتشابه وغير ذلك مما لله تعالى فيه من حكمة، فلا يجوز تغيرها عن موضعها. الثاني: يجوز إن نسي اللفظ، لأنه قد تحمل اللفظ والمعنى وعجز عن أحدهما، فيلزمه أداء الآخر، لا سيما أن تركه قد يكون كتما للأحكام، فإن كان يحفظ اللفظ لم يجز أن يؤديه بغيره، لأن في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما لا يوجد في غيره، وهذا قول الماوردي في (الحاوي) لنفسه، وجعل محل الخلاف في الصحابي وأما غير الصحابي فلا يجوز له قطعا. الثالث: إن كان يوجب العلم من ألفاظ (151أ) الحديث، فالمعول فيه على المعنى، ولا يجب مراعاة اللفظ، وأما الذي يجب العمل به منها، فمنه ما لا يجوز الإخلال بلفظه، كقوله: ((تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)) و ((خمس يقتلن في الحل والحرام)) حكاه ابن السمعاني وجها لبعض أصحابنا.

والرابع: يجوز إبدال اللفظ بما يرادفه دون غيره، وعليه الخطيب البغدادي. والخامس: المنع مطلقا، سواء كان عارفا بدلالة الألفاظ أم لا، وهو مذهب ابن سيرين واختاره ثعلب وأبو بكر الرازي من الحنفية ورواه ابن السمعاني عن ابن عمر.

(ص) مسألة: الصحيح يحتج بقول الصحابي: قال صلى الله عليه وسلم. (ش) أي حملا على سماعه منه، لأن الظاهر من حال الصحابي: أنه لا يجزم بذلك إلا فيما سمعه وحكى الآمدي وابن الحاجب عن القاضي أنه متردد بين أن يكون قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره، فينبني على عدالة جميع الصحابة، من يقول بعدالتهم فحكمه حكم ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يقل بها فكالمرسل وهذا هو مقابل الصحيح في كلام المصنف لكنه زعم في (شرح المختصر)، أنه لا خلاف في ذلك، وأن حكاية ابن الحاجب والآمدي عن القاضي أبي بكر وهم. وكذا قال الهندي في (النهاية) في كلامه على المرسل، فأما الصحابي إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقبول لا يتجه فيه خلاف، لظهوره في الرواية عنه صلى الله عليه وسلم وبتقدير روايته عن الصحابي فغير قادح لثبوت عدالتهم، وأما احتمال روايته عن تابعي

فنادر، قلت: لكن القاضي في (التقريب) لما ذكر المرسل واختار رده - قال: وكذلك مرسل الصحابي إذا احتمل سماعه من تابعي، وهو مذهب الأستاذ أبو إسحاق وأغرب ابن برهان في (الأوسط) فقال: إنه الأصح، ويتحصل من كلامهم خلاف في سبب المنع، وإن كان الكل عدولا، هل هو احتمال روايته عن تابعي أو عن صحابي قام به مانع كسارق رداء صفوان ونحوه، وقال ابن الأثير: ظاهره النقل وليس نصا صريحا فيه إذ يقول الواحد منا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه. (ص) وكذا عن وإن على الأصح. (ش) لظهوره في السماع، وصححه البيضاوي والهندي، وليس مقابل الأصح المنع، بل التوقف، كما يقتضيه كلام (المحصول) وأما الخلاف في (إن) فإنما ذكره المحدثون بالنسبة إلى غير الصحابي، قال ابن عبد البر: ذهب أبو بكر البرديجي أن حرف (إن) محمول على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى قال: والجمهور على أن (عن) و (إن) سواء إذا ثبت السماع واللقي. انتهى. نعم، لا تبعد التسوية بين (عن) و (إن) في إجراء الخلاف بالنسبة للصحابي أيضا، ثم رأيت الهندي صرح به في (عن)، فقال: منهم من ذهب إلى أنه ظاهر في

أنه أخبره به إنسان آخر عنه عليه الصلاة والسلام وهو ساقط كما سبق في المرسل. (ص) وكذا: سمعته أمر ونهى. (ش) أي على الأصح لأنه وإن اختلف في صيغ الأمر والنهي، وأن الأمر نهي عن أضداده إلى غير ذلك - فالظاهر منه مع معرفته باللغة وعدالته أنه لا يطلق ذلك إلا عند تحققه، وحكى القاضي في (التقريب) عن بعض أهل العلم: أنه ليس بحجة، لاحتمال أن يظن ما ليس بأمر أمرا. (ص) أو أمرنا. (ش) أمر بصيغة البناء للمفعول، لانصرافه إلى من له الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم فيكون حجة، وعن الصيرفي والكرخي أنه متردد بين أمره كل الأمة، أو بعض الولاة. (ص) أو حرم وكذا: رخص، في الأظهر. (ش) لأن ذلك وإن احتمل أن مسنده استنباط أو قياس، لكونه من الشرع فيضيفه إليه صلى الله عليه وسلم (151ب) لكنه ضعيف وفي حكاية المصنف الخلاف نظر، فقد قال الشيخ أبو إسحاق في (التبصرة): إذا قال صحابي: أرخص لنا بكذا - يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. (ص) والأكثر يحتج بقوله: من السنة. (ش) حملا له على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه المتبادر عند الإطلاق، وهذا ما

عليه الإمام والآمدي، والمتأخرون، ويؤيده قول الشافعي في (الأم) في باب عدد الكفن: ابن عباس والضحاك ابن قيس صحابيان، لا يقولان السنة، إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفه الصيرفي والكرخي والمحققون كما نقله الإمام في (البرهان) لاحتمال أن يريد به غير سنة الرسول ويشهد له قول الصيدلاني في أسنان إبل الخطأ: أن الشافعي في القديم كان يرى أن ذلك مرفوع إذا صدر من الصحابي أو التابعي ثم رجع عنه لأنهم قد يطلقونه ويريدون به سنة البلد.

فإن قلت: يخرج من هذا، أن هذا لا يختص بالصحابي، ولهذا ذكر الشافعي قول سعيد بن المسيب في إعسار الرجل بالنفقة، يفرق بينهما، فقيل له: سنة؟ فقال: (نعم) قال الشافعي: فيشبهه أن يريد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: مراده أنه يصير مرسلا، وحينئذ فلا يحتج به إلا مع الاعتضاد بما سبق، بخلاف ما إذا كان قائله صحابيا فإنه لا إرسال فيه. (ص) فكنا معاشر الناس، أو كان الناس يفعلون في عهده صلى الله عليه وسلم (ش) لأن الظاهر من حال الصحابي قصد تعليم الشرع، وحكاه الهندى عن الأكثرين، وقال المصنف: لا يتجه أن يكون فيه خلاف، لتصريحه بنقل الإجماع المعتضد بمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم. (ص) فكنا نفعل في عهده، فكان الناس يفعلون فكانوا لا يقطعون في الشيء التافه. (ش) هذه ثلاث صيغ متفاوتة، وهي دون ما قبلها، فلهذا أتى بالفاء: أولها: أن لا يصرح بجميع الناس، وهو دون ما قبلها، لأن الضمير في كنا، يحتمل طائفة مخصوصة، وحكى ابن الصلاح عن أبي بكر الإسماعيلي إنكار كونه من المرفوع أما إذا قال: كنا نفعل ولم يضفه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم فموقوف بلا خلاف.

ثانيها: أن لا يصرح بعهده صلى الله عليه وسلم وهي دون ما قبلها من جهة عدم التصريح بالعهد، لكنها فوقها، من جهة تصريحه بجميع الناس فيحتمل تساويها، والأظهر رجحان تلك، لأن التقييد بالعهد ظاهر في التقرير وهو تشريع. ثالثهما: نحو قول عائشة رضي الله عنها: (كانوا لا يقطعون اليد في الشيء التافه)، وهي دون الكل، ولهذا أخرها لعدم التصريح بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما يعود عليه الضمير في قوله: كانوا. (ص) خاتمة: مسند غير الصحابي: قراءة الشيخ إملاء وتحديثا، فقراءته عليه، فسماعه. (ش) إذا كان الراوي غير صحابي: فمراتب روايته عشر: أعلاها: أن يسمع قراءة الشيخ إملاء وتحديثا من غير إملاء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يعلم أصحابه السنن ويقرأ عليهم القرآن، وسواء كان سماعه من حفظه أو من كتاب.

ثانيها: قراءته على الشيخ، والشيخ ساكت يسمع اقتداء بالذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: سألت أهل العلم فأخبروني أنه على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإن على امرأة هذا الرجم، فصدق عليه السلام قوله هذا، وأقره عليه، وكان الناس يسألون الصحابة رضي الله عنهم الأحكام، فيقرون الحق وينكرون الباطل، وشرط إمام الحرمين في صحة التحمل بها أن يكون بحيث لو فرض من القارئ تحريف (152أ) أو تصريف لرده الشيخ، وسموها عرضا، من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه، ويقول له بعد الفراغ: هل سمعت؟ فيقول الشيخ: نعم، وما صرح به المصنف إنها دون السماع وهو الأصح، وقيل: مثله، وقيل: فوقه، وذكره صاحب (البديع): أن الأول قول المحدثين، وأن التسوية هو المختار، وخص الخلاف بما إذا قرأ الشيخ من كتاب، لأنه قد يسهو فلا فرق بينه وبين القراءة عليه، أما إذا قرأ الشيخ من حفظه فهو أعلاها بالاتفاق.

ثالثها: سماعه بقراءة غيره، وهي المرتبة الثالثة وشرط قوم إقرار الشيخ بها نطقا. (ص) فالمناولة مع الإجازة، فالإجازة بخاص في خاص، فخاص في عام، فعام في خاص فعام في عام، فلفلان ومن يوجد ومن سيوجد من نسله، فالمناولة فالإعلام فالوصية، فالوجادة. (ش) الرتبة الرابعة: المناولة مع الإجازة، بأن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابلا به، فيقول: هذا سماعي لروايتي عن فلان، فاروه عني، أو أجزت لك روايته عني، وإنما قال: مع الإجازة، لينبه على أنها أعلى أنواع الإجازة، وأجمعوا على صحتها كما قال القاضي عياض في (الإلماع) وإنما اختلفوا في أنها في رتبة

السماع أم لا كما حكاه ابن الصلاح، وصحح أنها منحطة عنه، وحكاه الحاكم عن الشافعي، وصاحبيه المزني والبويطي، ولهذا أتى المصنف بعدها بالفاء لينبه على التراخي في الرتبة، وقال ابن خزيمة: هي في مرتبة السماع. حكاه عنه الخطيب: وفائدة هذا الخلاف تظهر في أنه هل يجوز له أن يقتصر على قوله: أخبرني أو حدثني، قال الهندي: والأظهر أنه لا يجوز، لأنه يشعر بنطق الشيخ بذلك وهو كذب. الخامسة: الإجازة المجردة عن المناولة، وهي أقسام: أعلاها: أن يجيز لخاص في خاص بأن يقول: أجزت لك الكتاب الفلاني، ثانيها: أن يجيز لخاص في عام مثل: أجزت لك أو أجزت لكم جميع مسموعاتي، والخلاف في هذا النوع أقوى من الذي قبله والجمهور على تجويزه، ثالثها: أن يجيز لعام في خاص، مثل: أجزت للمسلمين أو أجزت، لمن أدرك حياتي رواية البخاري عني، فمنعه جماعة، وجوزه

الخطيب وغيره. رابعها: أن يجيز لعام في عام مثل: أجزت لجميع المسلمين أن يرووا عني جميع مسموعاتي. المرتبة السادسة: الإجازة للمعدوم تبعا، نحو: أجزت لفلان ومن يوجد من نسله، وقد فعله أبو بكر بن أبي داود، فقال: أجزت لك ولولدك ولحبل الحبلة

أما لو ذكر المعدوم ابتداء فقال: أجزت لمن يولد لفلان، فالصحيح المنع. السابعة: المناولة المجردة بأن يناوله الكتاب ويقول: هذا من حديثي أو سماعي ولا يقول: اروه عني فكلام المصنف يفهم صحة التحمل بها، وإنها دون ما قبلها وليس كذلك، بل لها صورتان: إحداهما: أن يقتصر على المناولة بالفعل، أو يقول: خذ هذا الكتاب ولا يخبر بسماعه ولا يأذن له في روايته عنه فلا يجوز له عنه الرواية بالاتفاق كما قاله الهندي. الثانية: أن يقول مع ذلك: هذا من سماعي ولا يأذن له في روايته، قال ابن الصلاح: وهي مناولة مختلة لا تجوز الراوية بها عند الجمهور وحكى الخطيب عن قوم جوازها. الثامنة: الإعلام المجرد عن المناولة والإجازة، بأن يقول: هذا سماعي من فلان، وهذا أولى بالمنع من التي قبلها، فليس له أن يرويه عنه خلافا لابن جريج وطائفة

من المحدثين والظاهرية حتى قالوا: لو قال: ولا تروه عني رواه، لأن ذلك الكتاب قد يكون مسموعه ولا يأذن له في روايته (152ب) لخلل علمه منه فلا تجوز روايته. التاسعة: الوصية بالكتب بأن يوصي الراوي بكتاب يرويه عند موته أو سفره لشخص، فعن بعض السلف أنه جوز به رواية الموصى له بذلك عن الموصي قال ابن الصلاح: وهو بعيد جدا وأنكره عليه ابن أبي الدم، وقال: الوصية أرفع مرتبة من الوجادة بلا خلاف وهي معمول بها عند الشافعي وغيره، كما سيأتي فهذه أولى. العاشرة: الوجادة، وهي مصدر مؤكد ليس عن العرب بأن يجد الحديث

بخط رجل فيقول: وجدت بخط فلان أو قرأت بخطه، ولا يجوز إطلاق حدثنا وأخبرنا، وهي معمول بها عند الشافعي ونظار أصحابه خلافا لمعظم المحدثين والفقهاء إذ قد يغلب على الظن، بل يقرب من القطع صحة ذلك عن المروي عنه وإلا لانسد باب النقل. (ص) ومنع الحربي وأبو الشيخ والقاضي والحسين والماوردي الإجازة وقوم العامة منها والقاضي أبو الطيب، من يوجد من نسل زيد، وهو الصحيح، والإجماع على منع من يوجد مطلقا. (ش) الجمهور على الرواية والعمل بالإجازة، ومعناه إذا صح عنده أن مجيزه روى هذا بطريق صحيح فيرويه هو عنه، يقتضي الإجازة فيتصل السند، وإذا اتصل جاز العمل، وحكى الباجي فيه الاتفاق ولكن منع منها طائفة من المحدثين، منهم

الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني وإبراهيم بن إسحاق الحربي وكذلك شعبة وأبو زرعة الرازي، وقال: ما رأيت أحدا يفعله ولو تساهلنا لذهب العلم، ولم يكن للطلب معنى، ومن الفقهاء: القاضيان الحسين والماوردي وقالا: لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة، وهذا الاحتجاج قاله قبلهما شعبة فيما حكاه

الخطيب بل هو قول الشافعي رواه الربيع عنه، ونقل ابن وهب عن مالك قال: لا أرى هذا يجوز ولا يعجبني ونقله في (الإحكام) عن أبي حنيفة وقال أبو طاهر الدباس من قال لغيره: أجزت لك أن تروي عني، فكأنه يقول له: أجزت لك أن تكذب علي، إذ الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع، وقال ابن حزم إنها بدعة غير جائزة وفي المسألة مذهب ثالث: إن كان المجيز والمستجاز يعلمان ما في الكتاب

من الأحاديث جاز وإلا فلا وهو اختيار أبي بكر الرازي من الحنفية ونقل عن مالك، فعلى هذا الإجازة بكل ما يثبت أنه مسموع الشيخ لا يجوز، ضرورة، أنهما لا يعلمان جميع تلك الأحاديث، وقال في (البديع): المختار إن كان المجيز عالما بما في الكتاب والمجاز له فهما ضابطا جازت الرواية وإلا بطلت عند أبي حنفية ومحمد وصحت عند أبي يوسف تخريجا من كتاب القاضي إلى مثله، فإن علم ما فيه شرط عندهما لا عنده والأحوط ما قالاه صونا للسنة وحفظا لها واحتج ابن الصلاح للجواز بأنه إذا جاز له أن يروي عنه مروياته فقد أخبره بها جملة فهو كما لو أخبره بها تفصيلا وإخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا كما في القراءة على الشيخ. ومنع قوم الإجازة العامة، كأجزت لجميع المسلمين ومنع القاضي أبو الطيب الإجازة للمعدوم ابتداء، كأجزت من يوجد من نسل زيد وهو الصحيح، لأن الإجازة في حكم الأخبار بالمجاز جملة، فكما لا يصح الإخبار

للمعدوم لا يصح إجازته، وجوزها الخطيب وغيره وانعقد الإجماع على الإجازة للمعدوم مطلقا، أي: على العموم وكأنها إجازة من معدوم لمعدوم. تنبيه: ما حكاه المصنف عن إبراهيم الحربي تابع فيه ابن الصلاح وكذا حكاه عنه الخطيب، ثم روى في موضع آخر عن سليمان بن إسحاق الجلاب، قال: سألت إبراهيم الحربي قلت: سمعت كتاب الكلبي، وقد تقطع علي والذي هو عنده يريد الخروج، فكيف ترى لي ترى أستجيزه أو أسأله أن يكتب به إلي؟ قال: قل له يكتب به إليك، فتقول: كتب إلي فلان والإجازة ليست هي شيئا. قال الخطيب: قد ذكرنا فيما تقدم أن إبراهيم الحربي كان لا يعد الإجازة والمناولة شيئا وههنا قد اختار المكاتبة على إجازة المشافهة والمناولة أرفع من المكاتبة لأن المناولة إذن ومشافهة في رواية لمعين، والمكاتبة مراسلة بذلك، قال: فأحسب أن إبراهيم رجع عن القول الذي أسلفناه عنه إلى ما ذكره ههنا من تصحيح المكاتبة وأما اختياره لها على إجازة المشافهة فإنه قصد بذلك، إذا لم يكن للمستجيز بما استجازه نسخة منقولة من أصل المجيز ولا مقابلة به (وهذا القول في معنى ما ذكره لي البرقاني عند سؤالي إياه عن الإجازة المطلقة، ويروى أن إبراهيم ذهب إلى أن

الإجازة لمن لم يكن له نسخة منقولة من الأصل أو مقابلة به ليست شيئا لأن تصحيح ذلك سماعا للراوي ومقابلا بأصل كتابه، وربما كان في غير البلد الذي الطالب فيه متعذر إلا بعد المشقة، والمكاتبة بما يروي وإنفاذه إلى الطالب أقرب إلى السلامة وأجدر بالصحة. (ص): وألفاظ الرواية من صناعة المحدثين. (ش): أي: ألفاظ الراوي عند الأداء إذ الحمل بالطريق السابقة من صناعة المحدثين، فلا وجه لذكرها هنا، خوفا من خلط العوام. اهـ ما أردته والحمد لله أولا وآخرا. لقد تم بحمد الله تعالى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله الفصل السادس في المصالح المرسلة

الفَصْلُ السَّادِسُ في المَصالِحِ المُرسَلَةِ

تَمْهيدٌ خلَقَ اللَّهُ الإنسانَ وتكفَّلَ بحِفْظِهِ ورِعايَتِهِ، ومهَّدَ له السَّبيلَ لِلحُصولِ على ما يَحتاجُ إليه في مَعاشِه ومَعادِه، وأَرسلَ الرُّسُلَ لِهِدايتِه، وشَرَعَ الأحكامَ لِتنظيمِ حَياتِه وسُلوكِه، فجاءتِ الشَّرائعُ شَريعةً بعدَ شَريعةٍ بِأحكامٍ تُلائِمُ الظُّروفَ والأَحْوالَ والزَّمانَ والمكانَ، وقدِ ارْتَبَطَتِ الأحكامُ بالمَصالِحِ، بَل الشَّرائِعُ نفْسُها قَصَدَتْ إلى تحقيقِ المصلحةِ لِلْخَلْقِ ودفعِ الضَّرَرِ عنهم، والدَّليلُ على ذلكَ حُدوثُ التَّغْييرِ في الشَّرائِعِ ووُقوعُ النَّسْخِ فيها حتَّى كانتْ رِسالةُ سيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتَمةَ الرِّسالاتِ، وشَريعَتُه خاتَمَةَ الشَّرائِعِ، وقدْ بيَّنَ سبحانَهُ وتعالَى أنَّ شَريعَةَ الإِسلامِ هيَ شَريعةٌ كاملةٌ، بما اشْتَملَتْ عليهِ مِن قواعدَ وأصولٍ يُعرَفُ بها الحُكْمُ مِنَ الدَّليلِ، وعنْ طَريقِها يَستنبِطُ المُجتهدُ الأحكامَ مِنَ النُّصوصِ، فالتَّشريعُ للَّهِ وَحْدَهُ {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وقدْ نصَّ على بعضِ الأحكامِ صَراحةً، ونبَّهَ علَى البَعْضِ بِطريقِ الإشارةِ والتَّنبِيهِ، كما أشارَ إلَى العِلَلِ والمَعانِي في كَثيرٍ مِن النُّصوصِ الَّتي ارْتَبَطتِ الأحكامُ بها وشُرِعَتْ مِن أجْلِها، فما شَرَعَهُ اللَّهُ مِن أُمورٍ تعبُّديَّةٍ خالِصَةٍ لهُ تعالَى، خصَّها بِنُصوصٍ مُحْكَمَةٍ لا يصِحُّ الخُروجُ عنْها بِالتَّاوِيلِ؛ لِئَلاَّ يكونَ ذلكَ ذَرِيعَةً لِلابْتِداعِ في الدِّينِ، وأمَّا تَشْريعُه تعالَى في المُعامَلاتِ فقدْ قَصَدَ منْه ما يُصْلِحُ النَّاسَ في دُنْياهمْ وأُخْراهمْ، فوَضعَ الحُدُودَ، وقيَّدَ المُعاملاتِ أوْ أَطْلقَها، وخَصَّ بعضَها بِالذِّكْرِ اتِّباعاً أوِ اجْتِناباً وسَكَتَ عنْ أُمورٍ، أوْ وَكَلَ أمْرَها لِلْقائِمينَ علَى شُؤُونِ المسلِمِينَ، وأوْحَى إِلَى رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُبيِّنَ لهمْ طريقَ الاجتِهادِ في اسْتِنباطِ الأَحْكامِ، فأبانَهُ بِنورِ الحقِّ سُبحانَه وتعالَى، لِيَقِفوا مِن خِلالِه علَى ما يُصْلِحُ حالَهمْ في الدُّنيا والآخرةِ، وبذلكَ تكونُ المصالحُ مِن حيثُ اعتِبارُ الشَّارعِ الحكيمِ لها وعَدَمِهِ ثلاثةَ أنواعٍ: نوعٌ اعتبَرَه، ونوعٌ ألغاهُ، ونوعٌ سَكَتَ عنه فلمْ يَنُصَّ علَى اعْتِبارِه أوْ إلغائِه. وقَبلَ بيانِ هذهِ الأنْواعِ نُعَرِّفُ أوَّلاً المصلحةَ في اللُّغَةِ والاصطِلاحِ.

تعريفُ المَصلحةِ: تُطْلَقُ المصلحةُ في اللُّغةِ بِعِدَّةِ إطْلاقاتٍ: الأوَّلُ: أنَّ المَصلحةَ مَصدرٌ بِمعنَى الصَّلاحِ، كالمنْفَعةِ بِمعنَى النَّفْعِ، والصَّلاحُ: كونُ الشَّيءِ علَى هيئَةٍ كاِملةٍ بِحَسَبِ ما يُرادُ ذلكَ الشَّيءُ لهُ، كالقَلَمِ يكونُ علَى هيئَتِه الصَّالِحَةِ لِلْكِتابَةِ بِه، والسَّيفِ علَى هيئَتِه الصَّالِحَةِ لِلضَّربِ. كَما تُطْلقُ المصلحةُ علَى الواحِدَةِ مِنَ المَصالِحِ، فهيَ بهذا اسْمٌ كالمنفعةِ واحِدَةُ المَنافِعِ، وعلَى هذا تكونُ المَصْلَحةُ بِهذا الإِطْلاقِ لغةً: واحِدَةُ الْمَصالِحِ، وهيَ إمَّا مَصدرٌ بمعنَى الصَّلاحِ، أوِ المَنفعةِ بمعنَى النَّفْعِ، وإمَّا اسمٌ لِلْواحِدَةِ مِنَ المَصالِحِ؛ كالمَنْفعةِ اسْمٌ لِلواحِدَةِ مِن المنافعِ. الثَّاني: أنَّ المصلحةَ وسيلةُ الشَّيءِ، كالعَمَلِ الَّذي يَبذُلُه الإنسانُ لِيَتَوصَّلَ بِه إلَى ما يَطلُبُه، وفي ذلكَ يقولُ صاحبُ (الْمِصْبَاحِ): وفِي الأمْرِ مَصلحَةٌ؛ أي: خيرٌ، وقالَ فِي مَوضِعٍ آخرَ: والنَّفْعُ: الخَيرُ وهو ما يَتَوصَّلُ بِه الإنسانُ إلَى مَطلوبِه، فإذَنِ

المصلحةُ خيرٌ، والخيرُ ما يُتَوصَّلُ بهِ إلَى المَطْلوبِ، فالمصلحةُ ما يُتَوصَّلُ بِه إلَى المَطْلوبِ. ومِن اسْتِعْمالِها فِي هذا المَعْنَى قولُ الشَّيخَينِ أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ رضيَ اللَّهُ عنهما: (هوَ واللَّهِ خيرٌ) في شأنِ جَمْعِ القُرآنِ الكرِيمِ في المُصْحَفِ حِينَما اسْتَحَرَّ القتلُ بالقُرَّاءِ يومَ اليَمامَةِ، فالضَّميرُ في َقولِهما: (هُوَ) يعودُ إلًى جَمْعِ القرآنِ، ولا شكَّ في أنَّ جَمْعَ القرآنِ مُؤَدٍ إِلى مَطْلوبٍ لهما، بَلْ إلى مَطْلوبٍ عامٍّ وهوَ حِفْظُ القرآنِ الكريمِ مِن أنْ يَضيعَ. الثَّالِثُ: تُطلَقُ المصلحةُ علَى ذاتِ الفِعْلِ الجالِبِ لِلنَّفْعِ والدَّافِعِ لِلضَّررِ، فإطْلاقُ المصلحةِ علَى الفِعلِ إطْلاقٌ مَجازِيٌّ، مِن بابِ إطْلاقِ المُسَبَّبِ علَى السَّبَبِ، وعَلاقَتُه السَّبَبِيَّةُ والمُسَبَّبِيَّةُ، فأُطْلِقَ لفظُ المصلحةِ الَّتي هي حاصلةٌ بسببِ الفِعلِ علَى الفِعلِ الَّذي هوَ سببٌ لها، فيُقالُ: التِّجارَةُ مَصلَحةٌ؛ أي: َسببٌ لِلمَنافِعِ المادِّيَّةِ، وطَلبُ العِلْمِ مَصلحةٌ، بمعنَى أنَّه سببٌ لِلمَنافِعِ المَعْنَوِيَّةِ، فالمَصلحةُ ضِدُّ المَفْسدَةِ فهُما نَقيضانِ لا يَجتمِعانِ ولا يَرتفِعانِ، كما أنَّ النَّفْعَ ضِدُّ الضَّررِ، وعلى هذا يكونُ دفْعُ المَضرَّةِ مَصْلحةً. قالَ صاحبُ (لِسَانِ العَرَبِ): الصَّلاحُ ضِدُّ الفَسادِ، وأصْلَحَه ضِدُّ أفْسَدَه، والإصْلاحُ نقيضُ الإِفْسادِ، والمصْلحةُ واحدةُ المَصالِحِ، والاسْتِصْلاحُ نَقيضُ الاسْتِفْسادِ. اهـ. والمصلحةُ بِمعْناها الأَعمِّ كَما يَتصَوَّرُها الإنسانُ: كلُّ ما فيه نفْعٌ له سَواءٌ أكانَ بالجَلْبِ والتَّحْصيلِ كتَحْصيلِ الفَوائِدِ واللَّّّّّّذائذِ، أوْ بالدَّفْعِ والارْتِقاءِ كاسْتِبْعادِ المَضارِّ والآلاَمِ، فكُلُّ ما فيهِ نَفْعٌ جدِيرٌ بأنْ يُسمَّى مَصلَحةً. وقدْ عرَّفَها الأُصُولِيُونَ في مَوضِعَينِ: الأوَّلُ: عندَ الكَلامِ على المُناسِبِ المُرْسَلِ، فقالوا: هو الوَصْفُ الظَّاهِرُ المُنضَبِطُ

الَّذي يترتَّبُ على شَرْعِ الحُكْمِ عندَه جَلْبُ مصْلحةٍ مقصُودَةٍ للشَّارعِ أو دفْعُ مضرَّةٍ. وهذا إذا اعتبرْناهُ تعْريفاً للْمَصْلَحةِ، يكونُ تعرِيفاً لها بالفِعْلِ الَّذي اشْتملَ عليها، فهوَ مِن بابِ إِطلاقِ السَّببِ وإرادةِ المُسَبَّبِ، ومِنه تعْريفُ الإمامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ المصْلحةَ بالفِعْلِ الَّذي يجْلِبُ مَنفعَةً راجِحَةً ولمْ يرِدْ في الشَّرْعِ ما ينفِيهِ. المَوضُوعُ= الثَّانِي: عندَ الكَلامِ عنها بِاعتِبارِها دليلاً شرْعيًّا فقالوا: المصْلَحةُ في الأصْلِ عِبارةٌ عن جلْبِ منفَعَةٍ أوْ دفْعِ مَضرَّةٍ. فالمصْلَحةُ تُطلَقُ على المَنفَعَةِ أوْ دفْعِ المَضرَّة كما تُطلَقُ على المُناسِبِ، كما أشارَ إلى ذلكَ الغَزَالِيُّ في تعريفِه، قالَ: ونَعْنِي بها ـ أي المصْلحةِ ـ المُناسِبَ المُخَيَّلَّ، وهذا مواِفقٌ لمَعْناها في اللُّغَةِ، فقدْ سبَقَ أنَّ المَصْلحةَ تُطلَقُ على المَنفَعةِ حقيقَةً وعلى السَّبَبِ المُؤَدِّي لها مَجازاً، ولمَّا كانتِ المصلحةُ نقِيضَ المَفْسدَةِ كان دفْعُ المَفْسَدةِ مصْلَحةً أيضاً، ولِهذا جاءَ في تعْريفِها: جلْبُ منْفَعةٍ أوْ دفْعُ مضَرَّةٍ. وقدْ قسَّموا المَصْلحةَ والمَفْسدَةَ إلى: نفْسِيٍّ، وبدَنِيٍّ، ودُنْيَوِيٍّ، وأُخْرَوِيٍّ، ومثَّلُوا لِلْمصلَحةِ بالمَلَذَّاتِ وأسْبابِها، ولِلمَفْسدَةِ بالآلاَمِ وأسْبابِها. قالَ العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: المَصالِحُ أرْبعَةُ أنْواعٍ: اللَّذَّاتُ وأسْبابُها، والأَفْراحُ وأسْبابُها، والمَفاسِدُ أرْبعَةُ أنْواعٍ: الآلاَمُ وأسْبابُها، والغُمُومُ وأسْبابُها، وهي مُنقسِمَةٌ إلى دُنْيَوِيَّةٍ وأُخْرَوِيَّةٍ، فأمَّا لذَّاتُ الدُّنيا وأسْبابُها، وأفْراحُها وأسبابُها، وآلامُها وأسبابُها، وغُمومُها وأسبابُها، فمَعْلومَةٌ بالعاداتِ، ومِن أفْضَلِ لذَّاتِ الدُّنْيا لذَّاتُ المَعارِفِ، وأمَّا لذَّاتُ الآخِرَةِ وأسْبابُها، وأفْراحُها وأسْبابُها وآلامُها وأسْبابُها، وغُمومُها وأسبابُها، فقدْ دَلَّ عليه الوَعِيدُ والزَّجْرُ والتَّهديدُ، وأمَّا اللَّذَّاتُ فمِثْلَ قوْلِه

تعالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} وأمَّا الأفْراحُ ففي مِثْلِ قوْلِه تعالَى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وأمَّا الآلاَمُ ففي مِثْلِ قولِه تعالَى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وأمَّا الغُمومُ ففي مِثْلِ قولِه تعالَى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}. فصارَتِ المصالِحُ ضرْبَينِ، أحدُهمَا: حقِيقيٌّ، وهو اللَّذَّاتُ والأفْراحُ. والثَّاني: مَجازِيٌّ، وهو أسْبابُها، وصارتِ المَفسَدةُ كذلكَ. ورُبَّما تكونُ أسبابُ المصالحِ مَفاسِدَ فيُؤمَرُ بها أو تُباحُ لا لِكَونِها مَفاسِدَ بَلْ لِكَونِها مُؤَدِّيَةً إلى المَصالِحِ، وذلكَ كقَطْعِ الأيْدي المُتآكِلةِ، فإنَّ القَطْعَ مَفْسدَةٌ لكِنْ لمَّا كانَ إبْقاؤُها يُؤدِّي إلى ضرَرٍ أصْبحَ القَطْعُ سَبباً لِمَصلَحةٍ هي: حِفْظُ النُّفُوسِ، وكذلكَ الجِهادُ؛ فإنَّ فيه مُخاطرَةً بالنَّفْسِ، فإنَّ هلاكَ النَّفسِ مَفسدَةٌ، لكِنْ شُرِعَ معَ هذه المُخاطَرَةِ لِمصلحةٍ هي: المُحافظةُ على بَقاءِ كِيانِ الأُمَّةِ وإعْلاءِ كَلِمةِ اللَّهِ، وكذلك العقوباتُ مِن قَتْلٍ ورَجْمٍ وجَلْدٍ هي مَضارٌ ومَفاسِدٌ واقِعةٌ على الأشخاصِ الَّتي هي مَحَلُ تلكَ العُقوباتِ، لكنَّها مَصالِحُ اعتَبَرَها الشارِعُ بالنَّظرِ لِما يترَتَّبُ عَليها مِن مَصالِحَ مَقصودَةٍ للشَّارِعِ. والمصلحةُ أُمورٌ اعْتِبارِيَّةٌ تخْتَلِفُ حَسَبَ اخْتِلافِ مَشاعرِ النَّاسِ وعاداتِهمْ وأخْلاقِهمْ، وليسَ هذا هو المَقْصودُ هُنا، ولَكنَّ المَقصودَ بالمصلحةِ هنا: المُحافظةُ على مَقصودِ الشَّارعِ مِن المَصالِحِ النَّافِعةِ، الَّتي وَضَعَها وحدَّدَ حُدودَها، لاَ على مُقتَضى أهْواءِ النَّاسِ وشَهَواتِهمْ، لأِنَّه لا شَكَّ أنَّ المصالحَ المَبْنِيَّةَ على أهْواءِ النَّاسِ وشَهَوَاتِهمْ

هي مَفاسدُ في نَظرِ الشَّرْعِ كَوَادِ البَناتِ، وغَيرِه قالَ الغَزَالِيُّ: ونَعْني بالمَصلَحةِ: المُحافَظةَ على مَقْصودِ الشَّرْعِ، ومَقصودُ الشَّرعِ مِن الخَلْقِ خَمْسةٌ: وهو أنْ يَحفظَ عليهم دِينَهمْ ونَفْسَهمْ وعَقْلَهمْ ونَسْلَهمْ ومالَهمْ، فكُلُّ ما يضْمنُ حِفْظَ هذه الخَمْسةِ فهو مَصلحةٌ، وكُلُّ ما يُفَوِّتُ هذه الأُصولَ فهو مَفسدَةٌ ودَفْعُه مَصلحةٌ، وإذا أطْلَقْنا المَعْنى المُخَيَّلَ أوِ المُناسِبَ في بابِ القِياسِ أرَدْنا به هذا الجِنسَ. اهـ. وبَعْدَ تعْريفِ المَصلحةِ نَعودُ إلى بَيانِ أنْواعِها مِن حَيثُ الاعتبارُ الشَّرْعِيُّ لها وعدَمُه: النَّوعُ الأَوَّلُ: المصلحةُ المُعتَبَرَةُ؛ أي: ما عُلِمَ اعْتِبارُ الشَّرْعِ لها، وهي كُلًُّ مَصلحةٍ ثَبَتَ الحُكْمُ المُؤَدِّي إليها بِدَليلٍ مِن نَصٍّ، أوْ إجْماعٍ. وقدْ عبَّرَ الأُصولِيُّونَ عنْها بِالمَصْلَحةِ المُعْتَبرَةِ، أوِ المُناسِبِ المُعْتَبَرِ، وهذا النَّوعُ يَجوزُ بِناءُ الأحْكامِ عليه، والتَّعْليلُ به بِإجْماعِ القائِلينَ بحُجِّيَّةِ القِياسِ. وقدْ أشارَ الشَّاطِبِيُّ إلى ذلكَ بِقولِه: المَعْنى المُناسِبُ الَّذي يُربَطُ به الحُكْمُ لا يَخْلو مِن ثَلاثَةِ أقْسامٍ: أحدُها: أنْ يشْهدَ الشَّرعُ بِقَبولِه؛ فَلا إشْكالَ في صِحَّتِه، ولا خِلافَ في إعْمالِه، وإِلاَّ كان مُناقَضةً للشَّريعَةِ؛ كشَرْعيَّةِ القِصاصِ حِفْظاً لِلنَّفسِ والأَطْرافِ. اهـ. وهو أربعةُ أقْسامٍ: القسْمُ الأوَّلُ: أنْ يُعْتبَرَ عَيْنُ الوَصْفِ في عَينِ الحُكْمِ بِنصٍ أوْ إجْماعٍ، وهو المُؤَثِّرُ، سُمِّيَ بذلكَ لِحُصولِ التَّاثيرِ فيه عَيْناً وجِنْساً فظَهرَ تاثيرُه في الحُكْمِ، ويُعْرَفُ عندَ الأُصولِيِّينَ بِالمَصلحةِ المُؤَثِّرَةِ أوِ المُناسِبِ المُؤَثِّرِ، والأمثِلَةُ لِهذا القِسْمِ كَثيرَةٌ.

مِثالُ اعْتِبارِه بالنَّصِّ، قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)) فقدْ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ عَينَ الوَصْفِ، وهو السُّكْرُ، في عَينِ الحُكْمِ، وهو التَّحْريمُ، بالنَّصِّ مُحافظَةً على العَقْلِ، وهو مَقصودٌ للشَّارِعِ فإنَّ العَقلَ مَناطُ التَّكْليفِ، والمُحافظةُ عليه مَصلحةٌ مَقصودةٌ للشَّارِعِ. ومِثالُه أيضاً قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّا))، فإن الشَّارِعَ اعْتَبرَ عَينَ الوَصْفِ وهو مَسُّ المُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ في عَينِ الحُكْمِ وهو الحَدثُ. ومِثالُ اعْتبارِه بِالإجْماعِ: وَصفُ الصِّغَرِ فإنَّه مُعتَبرٌ في عَينِ وِلايَةِ المالِ، مُحافظةً على المالِ بِالإجْماعِ، فقدْ أجْمعَ العُلماءُ على أنَّ عَينَ وَصْفِ الصِّغَرِ هو العِلَّةُ في عَينِ وِلايةِ المالِ، قالَ الإِمامُ الغَزَالِيُّ: فإنْ ظَهرَ تاثيرُ عَينِ الوَصْفِ في عَينِ الحُكْمِ فهو قِياسٌ في مَعْنى الأَصْليِّ، وهو المَقْطوعُ بِه الَّذي رُبَّما اعْترَفَ به مُنْكِرو القِياسِ، إذْ لا يَبقَى بَينَ الأَصلِ والفَرْعِ مُبايَنةٌ إلاَّ تَعَدُّدُ المَحلِّ فإنَّه إذا ظَهرَ أنَّ عَينَ السُّكرِ أثرٌ في تَحريمِ عَينِ الشُّربِ مِن الخَمرِ فالنَّبيذُ مُلْحقٌ به قَطْعاً. اهـ. القِسمُ الثَّاني: أنْ يَعتَبرَ الشَّارعُ عَينَ الوصْفِ في جِنسِ الحُكمِ، وهذا القِسمُ وما يَليهِ - أي: اعْتبارُ جِنْسِ الوَصفِ في عَينِ الحُكمِ، واعْتبارُ جِنسِ الوَصفِ في

جِنْسِ الحُكمِ ـ يُسمَّى مُلائِماً لِكونِه مُوافِقاً لِما اعْتَبرَه الشَّارعُ. مِثالُه- أي: اعْتبارُ عَينِ الوَصفِ في جِنسِ الحُكمِ- ثُبوتِ وِلايةِ النِّكاحِ على الصَّغيرِ كما ثَبَتَتْ وِلايةُ المالِ لِوَصفِ الصِّغرِ وهو واحِدٌ، والحُكمُ الوِلايةُ وهو جِنسٌ، فاعْتَبرَ عَينَ الصِّغرَ وهو مُعيَّنٌ في جِنسِ الوِلايةِ، وهو جِنسٌ يَشملُ الوِلايَةَ على النَّفسِ في النِّكاحِ والوِلايةِ على المَالِ، ومِثالُه أيضاً: اعْتبارُ الشَّارعِ تَقديمَ الأَخِ مِنَ الأَبَوَينِ على الأَخِ مِن الأبِ في الإِرْثِ، وقِيسَ عليه تَقديمُه في وِلايَةِ النِّكاحِ وغيرِها مِن الأَحكامِ الَّتي قُدِّمَ عليه فيها، فإنَّه وإنْ لَمْ يَعتبِرْهُ الشَّارعُ في غيرِ هذه الأحْكامِ ولَكنِ اعْتبرَهُ في جِنسِها وهو التَّقدُمُ في الجُملَةِ. قالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ والزَّرْكَشِيُّ وغيرُهما: هذا القِسْمُ دُونَ ما قَبلَه؛ لأِنَّ المُقارَنَةَ بينَ المَسْألتَينِ بِحَسَبِ اخْتِلافِ المَحَلَّينِ أقلُّ مِن المُقارَنةِ بينَ نَوعَينِ مُخْتلِفَينِ. اهـ. القِسمُ الثَّالثُ: أنْ يُعتَبَرَ جِنسُ الوَصفِ في عَينِ الحُكمِ. مِثالُه: المَشقَّة ُفإنَّها جِنسٌ أثَّرَ في نَوعٍ، وهو إسْقاطُ صلاةٍ، أمَّا في الحَيضِ فبِالكُلِّيَّةِ، وأمَّا في السَّفرِ فبِإسقاطِ نِصفِ الرُّباعيَّةِ، وإنَّما جَعلَ الوَصفَ هنا جِنساً والإِسْقاطَ نَوْعاً، لأِنَّ مَشقَّةَ السَّفرِ نَوعٌ مُخالِفٌ لِمشقةِ الحَيضِ، وأمَّا السُّقوطُ فأمْرٌ واحدٌ وإنِ اخْتَلَفَتْ مَحالُّهُ. القِسمُ الرَّابعُ: أنْ يُعتبرَ جِنسُ الوَصفِ في جِنسِ الحُكمِ. مِثالٌ: جِنايَةُ القَتْلِ العَمْدِ العُدْوانُ، فإنَّ هذا الوَصفَ عِلَّةٌ في وجُوبِ القِصاصِ، وقدْ اعْتبرَ الشَّارعُ مُطْلقَ جِنايَةِ العَمدِ العُدْوانَ، والجِنايَةُ جِنسٌ تَشْملُ الجِنايَةَ على النَّفسِ والجِنايَةَ على الأطْرافِ والحُكمُ هو وجُوبُ القِصاصِ، وهو جِنسٌ يَشملُ القِصاصَ في الأنْفُسِ والقِصاصَ في الأطْرافِ فجِنسُ الجِنايَةِ مُعتَبرٌ في جِنسِ قِصاصِ النَّفسِ، قالَ الإِمامُ الزَّرْكَشِيُّ: وهذا القِسْمُ أبْعدُها فإنَّه يكونُ في تَعْليلِ الأحْكامِ بِالحِكْمةِ الَّتي لا تَشْهدُ لها أُصولٌ مُعَيَّنَةٌ. ومِمَّا تَقدَّمَ يَتَبيَّنُ أنَّ المَصلحَةَ المُعْتبرَةَ تَنقَسِمُ إلى مَصلحةٍ مُؤَثِّرَةٍ: وهي الَّتي اعْتبرَ

الشَّارعُ عَينَها في عَينِ الحُكمِ بِنصٍّ أوْ إِجْماعٍ، وإلى مَصلحةٍ مُلائِمَةٍ وهي الَّتي اعْتبَرَ الشَّارعُ عَينَها في جِنسِ الحُكْمِ، أوْ جِنسَها في عَينِ الحُكمِ، أو جِنسَها في جِنسِ الحُكمِ وهي دُونَ المَصلحةِ المُؤَثِّرَةِ. وتنْقَسِمُ المَصلحةُ المُعْتبَرَةُ بِحَسَبِ قُوَّتِها في ذَاتِها؛ أوْ بِالنِّسبَةِ لِحاجَةِ الإنْسانِ إليها إلى: ضَرُورِيَّةٍ، حاجِيَّةٍ، تَحْسِينيَّةٍ. أوَّلاً: الضَّرُورِيَّةُ: وهي ما لاَ بُدَّ مِنها في قِيامِ مَصالحِ الدِّينِ والدُّنْيا بِحيثُ إذا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ َمصالحُ الدُّنيا على اسْتِقامَةٍ، بَلْ على فَسادٍ وتَهارُجٍ وفَوتِ حَياةٍ، وفي الآخِرَةِ فَوتِ النَّجاةِ والنَّعيمِ والرُّجُوعِ بالخُسْرانِ المُبينِ. فَهي الَّتي تَتََضمَّنُ حِفْظَ مَقْصودٍ مِن المَقاصدِ الخَمْسةِ وهي: حِفْظُ الدِّينِ بِشَرْعِيَّةِ القَتْلِ والقِتالِ، فالقَتلُ للرِّدَّةِ وغيرِها مِن مُوجِباتِ القَتلِ لأِجْلِ مَصلحةِ الدِّينِ، والقِتالُ في جِهادِ أهلِ الحَرْبِ، وحِفظُ النَّفسِ بِشَرعِيَّةِ القِصاصِ، وحِفظُ العَقْلِ بِشرعِيَّةِ الحَدِّ على شُرْبِ المُسْكِرِ، وحِفظُ النَّسلِ بِتَحْريمِ الزِّنا وإِيجابِ العُقوبَةِ عليه، وحِفظُ المَالِ بِإيجابِ الضَّمانِ على المُتَعَدِّي فيهِ، وبِالقَطعِ في السَّرِقَةِ، وهي المَجْموعَةُ في قولِه تعالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنُّ وَلاَ يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} الآيَةُ. وزَادَ الطُّوفِيُّ الحَنْبَلِيُّ وتَبِعَهُ التَّاجُ السُّبْكِيُّ سادِساً، وهو حِفظُ الأَعْراضِ، فإنَّ عادَةَ العُقلاءِ بَذْلُ نُفوسِهمْ وأَمْوالِهمْ دُونَ أعْراضِهمْ، وما فُدِيَ بِالضَّرورِيِّ أوْلى أنْ يكونَ ضَرُورِيًّا.

وفي الصَّحيحَينِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ في خُطْبةِ الوَداعِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ)) الحديثَ. ثانِياً: الحاجِيَّةُ: وهي الأَمْرُ الَّذي يَفتَقِرُ إليه النَّاسُ مِن حيثُ التَّوسِعَةُ ورَفْعِ الحَرَجِ والضِّيقِ اللَّاحِقَينِ بِالإنسانِ. قالَ الشَّاطِبِيُّ: فَمعْناها أنَّها مُفْتقَرٌ إليها مِن حيثُ التَّوسِعةُ ورَفْعِ الضِّيقِ المُؤَدِّي في الغَالِبِ إلى الحَرَجِ والمَشقَّةِ الَّلاحِقَةِ بِفَوتِ المَطلوبِ، فإذا لَمْ تُراعَ دخَلَ على المُكَلَّفينَ ـ على الجُمْلَةِ ـ الحَرَجُ والمَشقَّةُ ولكِنَّه لا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الفَسادِ العادِي المُتَوقَّعِ في المَصالحِ العامَّةِ. اهـ. وذلكَ كالبَيعِ والإِجارَةِ والمُضارَبَةِ والمُساقاةِ وغيرِها، لأِنَّ مالِكَ الشَّيءِ قدْ لا يهَبُهُ فيحتاجُ إلى شِرائِهِ، ولا يُعِيرُهُ فيَحتاجُ إلى اسْتِئْجارِه، وليسَ كُلُّ ذِي مالٍ يُحْسِنُ التِّجارَةَ فيَحتاجُ إلى مَن يَعملُ له في مالِه، وليسَ كُلُّ مالكِ شَجَرٍ يُحْسِنُ القِيامَ على شَجَرِهِ فيَحتاجُ إلى مَن يُساقِيهِ علَيهِ. قالَ الآمِدِيُّ: وهذا القِسمُ في الرُّْتبَةِ دُونَ القِسمِ الأَوَّلِ ـ أي: الضَّرُورِي ـ ولِهذا جازَ اخْتِلافُ الشَّرائِعِ فيه دُونَ القِسمِ الأَوَّلِ اهـ. ثالِثاً التَّحْسِينيَّةُ: وهي الَّتي تَقتَضِيها المُرُوءَةُ ومَكارِمُ الأَخْلاقِ ومَحاسِنُ العاداتِ بحيثُ لَو فُقِدَتِ المَصلحةُ التَّحْسينيةُ لا يَختلُّ بِفُقْدانِها نِظامُ الحَياةِ كما هو الحالُ في المَصلحةِ الضَّرُوريَّةِ، ولا يَدخُلُ على المُكَلَّفِ حَرَجٌ وضِيقٌ بِفَوَاتِها كما في المَصلَحةِ الحاجيَّةِ، ولكنْ بِفَواتِها تَكونُ الحَياةُ مُستَنْكَرَةً عندَ ذَوِي العُقولِ وأصْحابِ الفِطْرَةِ السَّليمةِ، فالعَملُ بِالمَصلحةِ التَّحسِينيَّةِ يَرجِعُ إلى مَكارِمِ الأَخْلاقِ ومَحاسِنِ

العاداتِ. قالَ الإِمامُ الرَّازِيُّ: هي تَقريرُ النَّاسِ على مَكارِمِ الأَخْلاقِ ومَحاسِنِ الشِّيَمِ، وقدْ سمَّاها القَرَافِيُّ بِما هُو مَحَلُّ التَّتِمَّاتِ لأنَّه تَتِمَّةُ المَصالحِ. النَّوعُ الثَّاني: المَصالِحُ المُلْغاةُ: وهي كُلُّ مَصْلحةٍ عُلِمَ مِن الشَّارِعِ عَدَمُ اعْتِبارِها وشّهِدَ لها بالبُطْلانِ والإِلْغاءِ لِما فيها مِن تَحُقُّقِ الضَّررِ، ولَو تَوَهَّمَ الإنسانُ أنَّ فيها مَصلحةً سَواءٌ أكانَ ضَرَرُها واضِحاً أمْ أنَّها تُؤَدِّي إلى ضَرَرٍ لاحِقٍ أوْ لا يُدْرَكُ ضَررُها إلاَّ بِالنَّظَرِ والفِكْرِ. مِثالُه: فَتْوَى يَحْيَى بنِ يَحْيَى ـ صاحِبِ الإِمامِ مالكٍ وعالِمِ الأَندَلُسِ ـ لِعَبدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَكَمِ الأُمَوِيِّ ـ المَعْرُوفِ بالمُرْتَضَى، صاحِبِ الأَنْدَلُسِ ـ حيثُ جامَعَ في نَهارِ رمضانَ فأَفْتاهُ بِإيجابِ صيامِ شَهْرَينِ مُتَتابِعَينِ ابْتِداءً، كَفَّارَةً لِجِنايَتِهِ على الصَّومِ، فأنْكَرَ عليه العُلماءُ ذلكَ فعَلَّلَ ذلكَ بأنَّه لَو أفْتاهُ بِالإعْتاقِ أوِ الإِطْعامِ ابْتِداءً لَسَهُلَ عليه ذلكَ لاِتِّساعِ مالِه ولاَنْتَهكَ حُرْمَةَ الشَّرعِ كُلَّما شاءَ، فكانتِ المَصْلَحةُ في إيجابِ الصَّومِ ليَنْزَجِرَ، فهذا وإنْ كانَ مُناسِباً إلاَّ أنَّ الشَّرْعَ ألْغاهُ حيثُ أثبَتَ التَّخْييرَ بينَ الصَّوم أوِ الإِطْعامِ أوِ الإِعْتاقِ، وهذا النَّوعُ لا تُبْنَى عليه الأَحكامُ ولا يَصحُّ التَّعليلُ بِه. النَّوعُ الثَّالثُ: وهي المَصالِحُ الَّتي سَكتَ الشَّارعُ عنها، فلَمْ يَشْهَدْ لها بِالاعْتِبارِ

أوِ الإِلْغاءِ بِنصٍ مُعَيَّنٍ، فلا دَليلَ يدلُّ على الإِذْنِ بِتَحصيلِها وبِناءِ الأَحكامِ عليها، ولا دَليلَ يدُلُّ على المَنْعِ مِن تَحْصيلِها وعَدَمِ بِنَاءِ الأحْكامِ عليها، بَلْ تَرَكَها لأُولِي الأَمْرِ مِن المُجْتَهدينَ ياخُذونَ بِها إذا اقْتَضَى حالُها الأَخْذَ، ويَتْرُكونَها إذا تَرَتَّبَ عليها مَفْسدَةٌ؛ فَهذا النَّوعُ هو (المَصْلَحةُ المُرْسَلةُ) وهو مَحَلُّ خِلافٍ بَينَ العُلماءِ، وهو المَقْصودُ بِالبَحْثِ.

المَصْلحةُ المُرْسَلَةُ تعْريفُها في اللُّغَةِ: المَصْلَحةُ المُرْسَلةُ مُرَكَّبٌ تَوصيفِيٌّ مِن المَصلَحةِ والمُرسَلةِ، مَعْناهُ: الخَبَرُ الَّذي لَمْ يُقَيَّدْ وقدْ سَبَقَ بَيانُ المَصلحةِ، فَأَغْنَى عن إِعادَتِه، وأمَّا الإِرْسالُ في اللُّغةِ فمَعناهُ: الإِطْلاقُ عن التَّقَييدِ، قالَ صاحِبُ (المِصْباحِ المُنيرِ): أَرْسَلْتُ الطَّائِرَ مِن يَدِي إِذا أَطلَقْتُه، وأَرْسَلْتُ الكَلامَ إِرْسالاً: أطْلَقْتُه مِن غيرِ تَقْييدٍ. وقالَ ابنُ مَنظُورٍ: أَرْسَلَ الشَّيءَ أَطْلَقَهُ وأَهْمَلَهُ. وعلى هذا تَكونُ المَصلحةُ المُرسَلةُ هي: الوَصْفُ المُطْلَقُ الَّذي لَمْ يُقَيَّدْ. ولكِنْ ليسَ مَعْنى (المُرْسَلَةِ) هو الإِرْسالُ الحَقيقِيُّ؛ أي: الخُلُوُّ التَّامُّ عن أي دَليلٍ شَرْعيٍ، وإنَّما هو اصْطِلاحٌ أُرِيدَ به التَّفْرِقَةُ بَينَهُ وبينَ القِياسِ، فالقِياسُ لا بُدَّ أنْ يَكونَ لِلْفرْعِ فيه شاهِدٌ مِن أصْلٍ وُجِدَتْ فيه عِلَّةُ الفَرْعِ، وقام َالدَّليلُ مِن نَصٍّ أوْ إجْماعٍ على عِلِّيَتِها، أوْ على جَرَيانِ الحُكْمِ على وِفْقِها. أمَّا المَصالِحُ المُرسَلةُ فهِي: ما كانتْ خَالِيَةً عنْ مِثلِ هذا الشَّاهِدِ، ولكِنَّها في الوَقْتِ نفْسِه مُلائِمَةٌ لاعْتِباراتِ الشَّارِعِ وجُمْلَةِ مَقاصِدِهِ وأحْكامِه، فقَدْ شَهِدَ الشَّارعُ لها بِالاعْتِبارِ في الجُمْلَةِ مِن حيثُ وُجُودِ دَليلٍ يدُلُّ على اعْتِبارِ جِنسِ المَصالِحِ. تعْريفُها في الاصْطِلاحِ: اختَلَفَ الأُصُولِيُّونَ في التَّعْبيرِ عن المَصْلحةِ المُرسَلَةِ، فقدْ عَبَّرَ بعْضُهم عنها بالمُناسِبِ المُرسَلِ، وبعْضُهم بِالاسْتِدْلالِ المُرْسَلِ، وبعضُهم

بِالاسْتِدْلالِ فَقَطْ، وبعْضُهم بِالاسْتِصْلاحِ، وهذه الألْفاظِ وإنْ كانتْ مُخْتَلِفةً إلاَّ أنَّها بِمَعْنىً واحِدٍ وهو: الفائِدَةُ أوِ الثَّمَرَةُ المُتَرَتِبَةُ على مَشْرُوعِيَّةِ حُكْمٍ لَمْ يَدلَّ الدَّليلُ المُعَيَّنُ على اعْتِبارِها أو إلْغائِها، غايَةُ الأَمْرِ أنَّ إطْلاقَ الاسْتِدْلالِ فَقَطْ على المَصالِحِ المُرْسَلَةِ فيه تَجَوُّزٌ؛ لأِنَّ الاسْتِدْلالَ دَليلٌ ليسَ بِنصٍّ ولا إِجْماعٍ ولا قِياسٍ؛ فيَشْمَلُ كُلَّ الأَدِلَّةِ المُختَلَفِ فيها، فإطْلاقُه على نَوعٍ مُعَينٍ منها وهو المَصالِحُ المُرسَلَةُ، مِن بابِ إطْلاقِ الكُلِّ على البَعْضِ، فأمَّا المُناسِبُ المُرْسَلُ أو الاسْتِدْلالُ المُرْسلُ فهو كما قالَ الغَزَالِيُّ: التَّعلُّقُ بِمُجرَّدِ المَصلَحَةِ مِن غَيرِ اسْتِشْهادٍ بِأصْلٍ مُعَيَّنٍ. أي: تَعَلُّقُ المُجْتَهِدِ أو الفَقِيهِ في إثْباتِ حُكمٍ مِن الأَحْكامِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِه على المَصْلحَةِ الَّتي لَمْ يَدُلَّ الدَّليلًُ المُعيَّنُ على اعْتِبارِها أو إلْغائِها، وهذا هو الإرْسالُ. ووجْهُ إطْلاقِه -أي: المُناسِبُ المُرسَلُ أو الاسْتِدْلالُ المُرْسَلُ- على المَصْلَحةِ المُرسَلَةِ: أنَّ المَصلحَةَ مُلازِمَةٌ لِلْوَصْفِ المُناسِبِ؛ وذلكَ لأنَّ الحُكْمَ المَبْنِيَّ على هذا الوَصْفِ المُرْسَلِ تَكونُ مَصْلحتُه المُتَرَتِّبةُ عليه مُرسَلةً أيضاً، بِمَعْنى أنَّه كُلَّما كانَ الوَصْفُ أو العِلَّةُ مُرسَلةً كانت المَصلَحةُ المُترتِّبةُ على الحُكمِ المَبْنِيِّ على هذا الوَصفِ أو العِلَّةِ مُرسَلَةً أيضاً. وأمَّا الاسْتِصْلاحُ فهو: عِبارَةٌ عن اسْتِنباطِ المُجْتَهدِ الحُكمَ مِن الَواقِعةِ الَّتي لا نَصَّ فيها ولا إجْماعَ ولا قِياسَ بِناءً على المَصلحَةِ المُرْسَلَةِ.

ووجْهُ تَسْمِيَةِ المَصلَحَةِ به: أنَّ المُجْتهدَ يَطْلُبُ صَلاحَ المُكَلَّفينَ باتِّباعِ المَصلحَةِ المَذْكورَةِ ومُراعاتِها. وأمَّا المَصلحَةُ المُرسَلةُ فهي: الوَصْفُ المُناسِبُ لِتشْريعِ الحُكمِ الَّذي لَمْ يَشْهدْ له الشَّارعُ بِالاعْتِبارِ أو الإِلْغاءِ. أي: هي الوَصف الَّذي يَحصلُ عَقلاً مِن تَرْتيبِ الحُكمِ عليه ما يَصلُحُ أنْ يَكونَ مَقْصوداً لِلشَّارعِ مِن دَفعِ المَفاسِدِ عن الخَلْقِ وجَلْبِ المَصالِحِ لهم، وسَكَتَ عنه الشَّارعُ فَلَمْ يَشْهدْ له بِالاعْتِبارِ ولا بِالإلْغاءِ بَلْ أَرْسَلَ عن دائِرَةِ الاعْتِبارِ والإلْغاءِ لكِنْ عُلِمَ مِن الشَّارِعِ كَونُه مَقْصوداً بِأدِلَّةِ الكِتابِ أو السُّنَّةِ أو الإجْماعِ أوِ قَرائِنِ الأَحْوالِ، فقدْ شَهدَ الشَّرعُ لِجْنسِ المَصلَحةِ بِأدِلَّةٍ مُتَعدِّدَةٍ أثْبَتَتِ القَطْعَ لِهذه القاعِدَةِ ووُجُوبَ العَملِ بها، ولَمْ يَدُلَّ دليلٌ خاصٌ على اعْتِبارِ عَينِها في عَينِ الحُكْمِ، قالَ الغَزَالِيُّ: عُرِفَتْ لا بِدَليلٍ واحِدٍ بَلْ بِأدِلَّةٍ كَثيرَةٍ لا حَصرَ لها مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ وقَرائِنِ الأحْوالِ وتَفارِيقِ الأَماراتِ. شُروطُ العَمَلِ بالمَصلحَةِ المُرسَلةِ: احْتاطَ الفُقَهاءُ في تََََََََََرْجيحِ المَصلحةِ واعْتِبارِها دَليلاً تُبْنى عليه الأحْكامُ، حتَّى لا يَفْتَحوا البَّابَ على مِصْراعَيْهِ فيَتَهافَتُ النَّاسُ ـ العالِمونَ والمُتَعالِمونَ ـ في طَلَبِ المَصلحَةِ، والعَمَلِ بأحْكامِها؛ فَيُهْمِلوا النُّصوصَ، أو يَتَناسَوها حِينَ حُكْمِهمْ بِالمَصلَحةِ؛ فَتَعْتَلِي المَصلحَةُ عِندَهُم مَرْتَبةَ النَّصِّ، لِذا اشْترَطَ الفُقَهاءُ لها شُرُوطاً لا تَتَحقَّقُ المَصلَحةُ المُرسَلَةُ إلاَّ بِها، فمُعْظَمُ الشَّافِعيَّةِ يَشْتَرِطونَ

لِتَحقيقِ الأَخْذِ بِالمَصالِحِ المُرسَلَةِ شُروطاً ثَلاثَةً نَصَّ عليها الغَزَالِيُّ في (المُسْتَصْفَى) ونَقَلَها عنه مَن جاءَ بَعدَه واعْتَبرُوها مَذهَباً لَه، وهي. الأَوَّلُ: أنْ تَكونَ المَصلَحةُ ضَرُورِيَّةً، أي: ليسَتْ حاجِيَّةً ولا تَحْسِينيَّةً، بِمَعْنى أنَّها تَحْفَظُ ضَرورَةً مِن الضَرُورَاتِ الخَمْسِ، أمَّا المَصلحَةُ الحاجِيَّةُ والتَّحْسِينِيَّةُ فَلا يَجوزُ الحُكمُ بِمُجَرَّدِها ما لَمْ تَقْصدْ بِشَهادَةِ الأُصولِ؛ لأِنَّه يَجرِي مَجْرَى وَضْعِ الشَّرعِ بِالرَّاي ـ وذلكَ لا يَجوزُ ـ وإذا أُيِّدَتْ بِأَصْلٍ فهي قِياسٌ، وقدْ ذَهَبَ الغَزَاِليُّ في (شِفَاءِ الغَلِيلِ) إلى أنَّ المَصلحَةَ تَكونُ: ضَرورِيَّةً أو حاجِيَّةً، وهي -أي: المصلحة الضرورية ـ تَكونُ مِن بابِ ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلاَّ بِه فَهو واجِبٌ. الثَّاني: أنْ تَكونَ المَصلحَةُ كُلِّيَّةً لا جُزْئِيَّةً؛ بِمَعْنَى أنَّها عامَّةٌ تُوجِبُ نَفْعاً لِلْمُسلِمينَ ولَيسَتْ خاصَّةً بِالبَعْضِ، وذلكَ بأنْ يرْجِعَ النَّفعُ، أو دَفْعُ الضَّررِ المُترَتِّبِ على تشْريعِ الحُكمِ لِجميعِ الأُمَّةِ أو لأِكْثرِ أفْرادِها، فإِذا ظَهَرَ في تَشْريعِ الحُكمِ مَصلحَةُ البَعْضِ، كأميرٍ أو مَلِكٍ فَلا يَجوزُ بِناءُ الحُكمِ عليها، لأِنَّها مَصلحةٌ خاصَّةٌ ولَيستْ عامَّةً. الثَّالِثُ: أنْ تَكونَ المَصلحَةُ قَطْعيَّةً لا ظَنِّيَّةً، بِأنْ تَثْبُتَ بِطريقٍ قَطْعِيٍّ لا شُبْهَةَ فيه. وتَتَحَقَّقُ الشُّروطُ الثَّلاثَةُ فيما إذا تَتَرَّسَ الكُفارُ حالَ التِحامِ الحَرْبِ بِأُسارَى المُسلِمينَ ـ بِأنْ يَجعَلوا أَسْرَى المُسْلِمينَ أَمَامَهم كالتُّرْسِ يَتَلَقَّى عنْهم الضَّرْبَ والطَّعْنَ ـ فَيَكونَ مانِعاً لِلْمُسلِمينَ مِن تَوجِيهِ الضَّربِ والرَّمْي إلَيهِمْ، وبِذلكَ يَتَمكَّنُ الكُفَّارُ مِن مُهاجَمَةِ الحُصونِ فَلَو امْتَنَعْنا عَن القَتْلِ لَصَدَمُونا واسْتَولَوا على دِيارِنا وقَتَلوا كافَّةَ المُسْلِمِينَ ثُمَّ يَقتُلُونَ الأَسْرَى أيضاً، ولَو رَمَينا التُّرْسَ لَقَتَلْنا مُسْلِماً مَعْصوماً لَمْ يُقَدِّمْ ذَنْباً يَسْتَحِقُ عليه المَوتَ فَيجوزُ والحَالُ هذه رَمْيُ التُّرْسِ لأِنَّ هذا الأَسيرَ مَقْتولٌ بِكُلِّ حالٍ، لأِنَّا لَوْ كَفَفْنا عنْ قَتْلِه لَتَسَلَّطَ الكُفَّارُ علَى جَميعِ المُسْلِمينَ فَيَقْتُلونَهم ثُمَّ يَقْتُلونَ الأُسارَى أيضاً، فَحِفْظُ جَميعِ المُسْلِمِينَ أقْربُ إلى مَقْصودِ الشَّرعِ، لأِنَّ مَقْصودَه تَقْليلُ القَّتْلِ وحَسْمُ َسَبيلِه عِندَ الإِمْكانِ فإنْ لَمْ نَقْدْرِ على الحَسْمِ فَقَدْ قَدَرْنا على التَّقْليلِ، فهذه مَصلَحَةٌ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ، كَونُها مَقْصودَةً لِلشَّارِعِ، وثَبَتَتْ لا بِدَليلٍ واحِدٍ بَلْ بِأَدِلَّةٍ خارِجَةٍ عَن الحَصْرِ، ولَكِنَّ تَحْصيلَ هذا المَقْصودِ بِهذا الطَّريقِ وهو قَتْلُ مَن لَمْ يُذْنِبْ لَمْ

يَشْهدْ له أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فالمَصْلحةُ هُنا غَيرُ مَاخُوذَةٍ بِطَريقِ القِياسِ على أصْلٍ مُعَيَّنٍ، وإنَّما كانَ اعْتِبارُها مُقَيَّداً بِأوْصافٍ ثَلاثَةٍ كَونُها ضَرُورِيَّةً كُلِّيَّةً قَطْعيةً. وذَكَرَ الَّشاطِبِيُّ وغَيرُه شُروطاً أُخْرَى غَيرَ الَّتي شَرَطَها الغَزَالِيُّ، وهي أقْرَبُ مِساساً بِالمَصالِحِ المُرسَلَةِ، وأَوْسَعُ في اسْتِعْمالِها وَأَكْثَرُ في رَفْعِ الحَرَجِ مِن غَيرِها: الأَوَّلُ: أنْ تَكونَ المَصلَحَةُ المُرسَلَةُ مُلائِمَةً لِمَقصودِ الشَّرعِ، بحيثُ لا تُنافِي أَصْلاً مِن أُصولِه ولا دَليلاً مِن دَلائِلِه، فَالمَصلحَةُ المُناقِضَةُ لِمَقْصودِ الشَّرْعِ المُعارِضَةُ لأِصْلٍ مِن أُصولِه ودَليلاً مِن أَدِلَّتِه مَرْدُودَةٌ بِالاتِفاقِ، وقدْ زادَ الغَزَالِيُّ في (شِفاءِ الغَلِيلِ) هذا الشَّرْطَ كما أَشَرْنَا. الثَّانِي: أنْ تَكونَ مَعْقولَةً في ذاتِها، بِأنْ تَكونَ جارِيَةً عَلى الأَوْصافِ المُناسِبَةِ المَعْقولَةِ بِحيثُ لَوْ عُرِضَتْ على أَهْلِ العُقُولِ السَّليمَةِ تَلَقَّوها بِالقَبُولِ. الثَّالِثُ: أنْ تَكونَ المَصلحَةُ حقِيقِيَّةً لا وَهْمِيَّةً، وذلكَ يَتَحَقَّقُ عندَ المُجتَهِدِ بِأنَّ بِناءِ الحُكْمِ عَلَيها يَجْلِبُ نَفْعاً ويَدْفَعُ ضَرَراً، فَإِذا تَوَهَّمَ المُجْتَهِدُ النَّفْعَ في المَصلحَةِ دُونَ أنْ يُوازِنَ بَينَهُ وبَينَ الضَّرَرِ لا يَجوزُ بِناءُ الحُكمِ علَيها. مِثالُه: سَلْبُ الزَّوجِ حَقَّ الطَّلاقِ وجَعْلُه لِلقاضِي في جَميعِ الحالاتِ، بِناءً على أَنَّ هذا مَصْلَحةٌ راجِعةٌ إلى المَرْأَةُ، فَهذِه مَصْلحَةٌ وَهْمِيَّةٌ، لأِنَّ اللَّهَ تَعالى شَرَعَ الطَّلاقَ بِيدِ الرَّجُلِ لأِنَّه هو الَّذي عَليه النَّفَقَةُ ويَتَحَمَّلُ المَسْئُولِيَّةَ، ولا يَقْدُمُ على هذا إلاَّ إذا رَأَى البَقاءَ أَكْثَرَ ضَرَراً مِن الطَّلاقِ. الرَّابِعُ: أنْ يَكونَ حاصِلُها يَرجِعُ إلى رَفْعٍ لِحَرَجٍ لازِمٍ في الدِّينِ، لِقولِه تَعالَى:

{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَهِي رَاجِعةٌ إلى بابِ التَّخْفيفِ لا إلى التَّشْديدِ، فهذه الشُّروطُ قدْ تَكونُ أيْسَرَ علَى النَّاسِ، وأَوْسَعَ رَحْمَةً بِنا في اسْتِخْراجِ أحْكامِ اللَّهِ تعالَى عنْ طَريقِ المَصالِحِ. أسْبابُ اخْتِلافِ العُلَماءِ في الاحْتِجاجِ بِالمَصلَحةِ المُرْسَلَةِ: أوَّلاً: نَظْرَةُ العُلَماءِ إلى المَصْلحَةِ المُرْسَلةِ مِن حيثُ المُرادِ مِنها، وذلكَ مِن حيثُ المُلاءَمَةِ أو الشُّروطِ الَّتي يَجبُ تَوافُرُها فيها كَثْرَةً وقِلَّةً، وعلى ذلكَ فعِندَ الأَئِمَّةِ الأَرْبعَةِ أصْحابِ المذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأَرْبَعَةِ نَراها تَاخُذُ مَساراً عِندَ كُلِّ إِمامٍ حَسْبَما يَرَى مِن تَحقِيقِ المَصْلحَةِ المُرسَلَةِ في الفَرْعِ الَّذي يَحْكُمُ عُليهِ. ثانِياً: نَظْرَةُ العُلَماءِ إلى المَصلَحةِ في كَونِها دَلِيلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه أو مُنْدَرِجَةً تَحْتَ غَيرِه مِن الأَدِلَّةِ، فالَّذينَ مالُوا إلى إنْكارِها ورَدِّها وتَصْحيحِ أنَّ مُعْظَمَ العُلَماءِ لَمْ يَقولوا بِها كالآمِدِيِّ، وابْنِ الحَاجِبِ وغَيرِهِما، إنَّما قَصَدُوا بِذلكَ إنْكارَ كَونِها دَلِيلاً مُسْتَقِلاًّ، وكَلامُهمْ بِهذا القَصْدِ صَحيحٌ، لأِنَّ مُعْظَمَ الأَئِمَّةِ لَمْ يَرَوها أصْلاً مُسْتَقِلا. ًّ لِذَلكَ جَعَلَها الغَزَالِيُّ مِن الأُصُولِ المَوهُومَةِ في أَوَّلِ كَلامِه عَنها، وهذا يَعْنِي إلْغاءَها وعَدَمَ العَمَلِ بِها، ولَكِنَّه ما لَبِثَ أنْ انْتَهَى في آخِرِ كَلامِه إلى القَولِ بِأنَّ كُلَّ مَصلَحَةٍ داخِلَةٍ ضِمْنَ مَقاصِدِ الشَّرْعِ فَهيَ مَقْبُولَةٌ، حَيثُ يَقولُ: فَإنْ قِيلَ: قدْ مِلْتُمْ في أَكْثَرِ المَسائِل إِلى القَولِ بِالمَصالِحِ ثُمَّ أوْرَدْتُمْ هذا الأَصْلَ في الأُصولِ المَوهُومَةِ، فَلْيُلْحَقْ هذا بِالأُصولِ الصَّحيحَةِ لِيَصيرَ أصْلاً خامِساً بَعْدَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ والعَقْلِ، قُلْنا: هذا مِن الأُصولِ المَوهُومَةِ إذْ مَن ظَنَّ أنَّه أصْلٌ خامِسٌ فقدْ أخْطَأَ، لأِنَّا رَدَدْنَا المَصْلحَةَ إلى حِفْظِ مَقاصِدِ الشَّرْعِ.

فَلَعْلَ سَبَبَ ذلكَ أنَّه لاحَظَ عِندَ وَضْعِ العُنْوَانِ الرَّدَّ علَى مَن اعْتَبَرَ المَصلَحَةَ المُرْسَلَةَ أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه، ولاَحَظَ في غِمارِ بَحْثِه بَعْدَ ذلكَ إِيضاحَ أنَّها مَقْبُولَةٌ مِن حيثُ ذاتِها بِقَطْعِ النَّظَرِ عنْ عَدِّها أَصْلاً مُسْتَقِلاًّ. وأمَّا الَّذينَ مَالُوا إلى القَولِ بِالمَصْلَحةِ المُرْسَلَةِ، ونَقَلوا عنْ مُعْظَمِ الأَئِمَّةِ اعْتِبارَها كإِمامِ الحَرَمَينِ والغَزَاِليِّ وغَيرِهِما، إنَّما أرَادُوا بِذلكَ اعْتِبارَها داخِلَةً في الأُصولِ الأُخْرَى، فَكَلامُهمْ بِهذا القَصْدِ أيضاً صَحيحٌ، لأِنَّ عامَّةَ الأَئِمَّةِ ياخُذُونَ بِها عَلى هذا الأَساسِ، فكانَ يَنبَغِي أنْ يَخْرُجَ اخْتِلافُ العُلَماءِ في هذه المَسْأَلَةِ على هذا الوَجْهِ، حتَّى يُمْكنَ التَّوافُقُ والانْسِجامُ بَينَ كَلامِهمْ، فَمَحَلُّ الخِلافِ بَينِ العُلَماءِ إِذَنْ لَيسَ في اعْتِبارِ المَصْلحَةِ في حَدِّ ذاتِها فَهذا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عليهِ بَينَ جُمْهُورِ العُلَماءِ، وإِنَّما هُوَ في أنَّها هَلْ تُعْتَبَرُ أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه أَمْ مُنْدَرِجَةً في الأُصولِ الأُخْرَى. ثَالِثاً: عَدَمُ التَّثَبُّتِ والتَّأَكُّدِ مِن الآرَاءِ المُسْنَدَةِ إلى الإِمامِ مَالِكٍ في القَضايَا الَّتي مَبْناها المَصالِحُ المُرْسَلَةُ، والَّتي نُقِلَ عنه بِسَبَبِها أنَّه أَفْرَطَ واسْتَرْسَلَ في الأَخْذِ بِالمَصالِحِ المُرْسَلَةِ، ولَمْ يَلْتَفِتْ فيها إلى ضَرُورَةِ مُلاءَمَتِها لأُصُولِ الشَّرْعِ وتَصَرُّفَاتِه، كاسْتِحْلالِ القَتْلِ، وأَخْذِ المَالِ لِمَصالِحَ يَقْتَضِيهَا غالِبُ الظَّنِّ، وقَتْلِ ثُلُثِ الأُمَّةِ لاِسْتِبْقاءِ ثُلُثَيْها، كَذا حَكاهُ عَنه إِمامُ الحَرَمَينِ في (البُرْهانِ). فَالواقِعُ أنَّ هذهِ المَسائِلَ لَمْ يَقُلْ بِها الإِمامُ مَالِكٌ، ولا أَحَدٌ مِن أَصْحابِهِ ولا أَساسَ لَه مِن الصِّحَّةِ، وَإَنَّما نَسَبَهُ إِلَيه بَعْضُ العُلَمَاءِ؛ فَلَيسَ بِمَعْقُولٍ أَنْ يَقولَ ذلكَ إِمامُ دارِ الهِجْرَةِ الَّذي عُرِفَ بِاتِّباعِه لِلسُّنَّةِ حتَّى يَتَصوَّرَ المُتَتَبِّعُ لِفِقْهِهِ وأقْوالِهِ أنَّه مُقَلِّدٌ لِمَن قَبْلَه، والَّذي تَفَرَّدَ بِه الإِمامُ مَالِكٌ هُوَ تَوسِعَتُه في المُعامَلاتِ؛ نَظَراً لِتَطْبيقِ هذه القاعِدَةِ في هذا البابِ أَكْثَرَ مِن غَيرِه مِن الفُقَهاءِ، فَشَمَلَتْ كَثِيراً مِن أبْوابِ الفِقْهِ، فقَدْ اسْتَرْسَلَ في المَعانِي المَصْلَحِيَّةِ في بابِ المُعامَلاتِ مَعَ فَهْمِهِ لِلنُّصوصِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ غَيرَ خارِجٍ عَن مَقْصودِ الشَّارِعِ وغَيرَ مُناقِضٍ له، وقدْ أَثْنَى على الإِمامِ مَالِكٍ الإِمَامُ أَحْمَدٌ، وأبُو دَاوُدَ، وابْنُ مَهْدِي، وإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بِالاتِّباعِ ومُلازَمَةِ السُّنَّةِ.

قالَ أبُو العِزِّ المُقْتَرِحِ =في حَواشِيهِ على (البُرْهانِ): إنَّ هذا القَولَ لَمْ يَصِحَّ عنْ مالِكٍ، هكَذا قَالَه أصْحابُه، وأنْكَرَهُ ابْنُ شَاشٍ في (التَّحْرِيرِ) علَى الإِمامِ، وقَالَ: أقْوالُه تُؤْخَذُ مِن كُتُبِهِ وكُُتُبِ أصْحابِه لا مِن نَقْلِ النَّاقِلينَ، وكذلكَ اسْتَنْكَرَه القُرْطُبِيُّ، وقالَ: ذَهبَ الشَّافِعِيُّ ومُعْظَمُ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ إِلى الاعْتِمادِ عَليه، وهُوَ مَذْهَبُ مالِكٍ، قالَ: وقدْ اجْتَرَأَ إِمامُ الحَرَمَينِ وجازَفَ فِيما نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن الإِفْرَاطِ في هذا الأَصْلِ، وهذا لا يُوجَدُ في كِتابِ مَالِكٍ، ولا فِي شَيءٍ مِن كُتُبِ أصْحابِه. رَابِعاً: نُقِلَ عَن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْكارُ الاسْتِحْسانِ بِشِدَّةٍ، واعْتِبارُهُ قَولاً بالتَّشَهِّي وتَشْريعاً بِالهَوَى، دُونَ أنْ يَسْتَثْنِيَ مِن ذلكَ بِعِبارَةٍ صَرِيحَةٍ مَا اسْتَنَدَ فيهِ المُجْتَهِدُ إلَى مَصْلَحَةٍ مُرْسَلَةٍ داخِلَةٍ ضِمْنَ مَقاصِدِ الشَّارِعِ مُلائِمَةٍ لأِحْكامِه وتَصَرُّفاتِه، مِمَّا جَعَلَ كَثيراً مِمَّن لَمْ يَتَدَبَّرُوا أُصُولَ الشَّافِعِيِّ وطُرُقَ اجْتِهاداتِه يَظُنُّونَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُنْكِرُ الأَخْذَ بِالمَصْلَحَةِ المُرسَلَةِ، لأِنَّهم يَتَصَوَّرُونَ أنَّ مَحَلَّ البَحْثِ إنَّما هُوَ في حُكْمِ المَصْلَحَةِ المُرْسَلةِ مِن حَيث ُاعْتِبارِها أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه، ولَمْ يَرَوا مَا يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ بَينَ الاسْتِحْسانِ الَّذي يُنْكِرُه الشَّافِعِيُّ وبَينَ المَصلَحَةِ المُرْسَلَةِ الَّتي لَمْ يُرِدْها فِي شَيءٍ مِن أُصُولِه وكِتابَاتِه، وأنَّ في اسْتِدْلاَلاَتِ الشَّافِعِيِّ علَى رَدِّ الاسْتِحْسانِ ما يَكْفِي لِرَدِّ المَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ أيضاً. والوَاقِعُ أنَّ السَّبَبَ الأَوَّلَ والثَّانِيَ شَكْلِيَّانِ لا يُخْرِجانِ المَصلَحَةَ المُرْسَلَةَ عَن الاحْتِجاجِ بِها، إذْ مَدارُهُما عَلَى تَحْديدِ المَقْصودِ بِالمَصالِحِ المُرْسَلَةِ الَّتي تُعْتَبَرُ حُجَّةً، هَلْ هِيَ المَصالِحُ الغَرِيبَةُ المَسْكُوتُ عَنها، أو المَصالِحُ المُلائِمَةُ لِمَقاصِدِ الشَّارعِ الَّتي شَهِدَ لِجِنْسِها بِالاعْتِبارِ، وهَلْ المَقْصودُ بِاعْتِبارِها حُجَّةً كَونُها أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذاتِه أو كَونُها مُنْدَرِجَةً في دَليلٍ آخَرَ؟ أمَّا السَّبَبُ الثَّالِثُ: فقَدْ أشَرْنَا أنَّ الإِمَامَ مالِكاً لَمْ يَعْمَلْ بِالمَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ إلاَّ إذا كانَتْ مُسْتَكْمِلَةً لِمَا اشْتَرَطَهُ فِيها مِن كَونِها مُلائِمةً لِتَصَرُّفاتِ الشَّارِعِ، ودَاخِلَةً تَحْتَ

جِنسٍ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، وهذا عَينُ مَا اشْتَرَطَهُ العُلَمَاءُ مِن الحَنَفِيَّةِ والشَّافِعِيَّةِ والحَنَابِلَةِ فِيها. وأمَّا السَّبَبُ الرَّابِعُ: فإنَّه لاَ يَلْزَمُ مِن إنْكارِ الشَّافِعِيِّ لِلاسْتِحْسانِ إنْكارُه لِلْمصالِحِ المُرْسَلَةِ، ولاَ يَلْزَمُ مِن عَدَمِ ذِكْرِه لَها بِصَرِيحِ العِبارَةِ عَدَمُ احْتِجَاجِهِ بِها، بَلْ مَن يَتَدَبَّرُ طُرُقَ اجْتِهادِهِ يَعْلَمُ أنَّه يَحْتَجُّ بِها، ويَتَّضِحُ بِذلكَ: أنَّ المَصْلَحةَ المُرْسَلَةَ قالَ بِها الأَئِمَةُ، ولَمْ يَخْلُ مِن القَولِ بِها مَذْهَبٌ مِن المَذاهِبِ. قالَ القَرَافِيُّ: وأمَّا المَصلَحَةُ المُرسَلةُ فَغَيرُنا يُصَرِّحُ بِإِنْكارِها، ولَكِنْ عندَ التَّفْرِيعِ نَجِدُهمْ يُعَلِّلُونَ بِمُطْلَقِ المَصلَحَةِ، ولا يُطالِبُونَ أنْفُسَهم عِندَ الفُرُوقِ والجَوَامِعِ بِإِبْداءِ الشَّاهِدِ لها بِالاعْتِبارِ، بَلْ يَعْتَمِدُونَ على مُجَرَّدِ المُناسَبَةِ، وهذا هُو المَصْلَحةُ المُرْسَلةُ. ويقُولُ الأُسْتاذُ الدُّكْتُورُ البُوَيْطِي: صَفْوَةُ القَولِ: المَصالِِحُ المُرْسَلَةُ مَقْبُولَةٌ بِالاِتِّفاقِ وإنَّما أَعْنِي بِالاِتِّفاقِ: اتِّفاقَ الصَّحابَةِ والتَّابِعينَ والأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ، فَلَيسَ مِن المُهِمِّ بَعْدَ ثُبُوتِ ذلكَ أنْ تُنْكِرَه فِئَةُ الظَّاهِرِيَّةِ فقَدْ أنْكَرُوا القِياسَ مِن قَبْلِهِ، مَعَ أنَّه مُعْتَمَدٌ مِن عامَّةِ المُسْلِمينَ، كمَا أنَّه لاَ يَضِيرُ هذا الاتِّفَاقَ أنْ يُنْكِرَ القَولَ بِه آحادٌ مِن الأُصُولِيِّينَ كالقَاضِي أبي بَكْرِ البَاقِلاَّنِيِّ والآمِدِيِّ فأَغْلَبُ الظَّنِّ أنَّ إنْكارَهُما لَها إنَّما هُوَ يَعْنِي عَدَمَ اعْتِبارِها أصْلاً مُسْتَقِلاًّ في التَّشْرِيعِ، ويَتَبَيَّنُ بِذلكَ أنَّ الاحْتِجاجَ بِالمَصلَحةِ المُرسَلةِ مَحَلُّ اتِّفاقٍ ولَيسَتْ مَحَلَّ خِلافٍ ـ إلاَّ مَا نُقِلَ عنِ الظَّاهَرِيَّةِ ـ وإنَّما مَحَلُّ الخِلافِ في اعْتِبارِها أصْلاً مُسْتَقِلاًّ بِذَاتِه، أو كَونِها مُنْدَرِجَةً تَحتَ دَليلٍ آخَرَ. تََحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ: أوَّلاً: مَحَلُّ الوِفَاقِ: قدْ اتَّفَقَ العُلَماءُ على ما يَاتِي: 1 - أنَّ المَصالِحَ المُعْتَبرَةَ الَّتي ثَبَتَتْ بِوَجْهٍ مِن وُجُوهِ الاعْتِبارِ لَيستْ مَحَلَّ خِلافٍ، وإنَّما هي مَحَلُّ وِفاقٍ في جَوازِ التَّعْليلِ بها، وهذه المَصالِحِ لَيستْ مُرسَلَةً.

2 - أنَّ المَصالِحَ الَّتي ثبت إلغاؤها ودل الدليل على إهدارها فلا يجوز التعليل بها بالاتفاق، فهي مردودة اتفاقاً. 3 - أن أحكام العبادات والمقدرات كالحدود والكفارات وفروض الإرث وشهور العدة بعد الموت أو الطلاق، وكل ما شرع محدداً واستأثر الشارع بعلم المصلحة فيم حدد به، فإنه يقتصر فيها على ما ورد به النص، فكما لا يعتد فيها بالقياس، لا يصح العمل فيها بالمصالح المرسلة. قال الشاطبي: فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره والحج، ونحو ذلك. ثانياً محل الخلاف: سبق أن أحكام العبادات والمقدرات كالحدود والكفارات وفروض الإرث وغيرها لا يصح العمل فيها بالمصالح المرسلة، بل يقتصر فيها على ما ورد به النص، فأما المعاملات، والسياسة الشرعية والعادات، فهي الميدان المعقول للاجتهاد فيها، لأن العقل يدرك معناها ويستطيع أن يقف على أسرار التشريع فيها وهي المجال الذي يمكن اعتبار المصلحة المرسلة فيه أصلاً تشريعياً للأحكام، وذلك لأنها ينظر فيها إلى مصالح الناس، ويقصد بالأحكام التي تشرع لها تحقيق تلك المصالح، وهذه هي التي اختلف العلماء في اعتبار المصلحة المرسلة فيها من حيث الحجية وبناء الأحكام عليها. مذاهب الأصوليين في حجية المصالح المرسلة. اختلف الأصوليون في الاحتجاج بالمصلحة المرسلة واعتبارها دليلاً يعتد به وقاعدة يعتمد عليها، على مذاهب. المذهب الأول: أنها حجة مطلقاً سواء أكانت ملائمة أم غريبة ـ أي خلت عن الملائمة=، بشرط ألا تناقض أصلاً ولا تصادم قاعدة، ولا تخالف دليلا، وقد اشتهر

ذلك عن الإمام مالك رضي الله عنه قال الشاطبي: القول بالمصالح المرسلة ليس متفقاً عليه، بل قد اختلف فيه أهل الأصول، فذهب الإمام مالك إلى اعتبار ذلك ونسب هذا القول إلى أبي حنيفة، والشافعي في القديم، والإمام أحمد رضي الله عنهم جميعاً، وهو اختيار نجم الدين الطوفي الحنبلي، بل زاد عليه تقديم المصلحة على النص. الأدلة: استدل أصحاب هذا المذهب بدليل خاص بمذهبهم، وبأدلة أخرى مشتركة بينهم وبين أصحاب المذهب الثاني القائل بحجية المصلحة المرسلة بشرط الملائمة

لمقصود الشارع. أولاً: الدليل الخاص بالمالكية. استدل المالكية على مذهبهم بأن المصالح المرسلة في ترتيب الحكم عليها لا يخلو الحال فيها من أمرين: الأول: أن تكون المصلحة خالصة. الثاني: أن تكون المصلحة راجحة. وكل ما هو مصلحة خالصة أو راجحة يظن اعتبار الشارع لها، فينتج: أن المصالح المرسلة، يظن اعتبار الشارع لها، والعمل بالظن واجب بالإجماع، فالعمل بالمصالح المرسلة واجب، وهو المطلوب. أما كون المصلحة المرسلة في ترتيب الحكم عليها مصلحة خالصة أو راجحة فظاهر، لأنه هو المفروض، إذ الفرض عدم وجود مصلحة أخرى معتبرة تعارضها. وأما الدليل على أن كل ما كان مشتملاً على مصلحة خالصة أو راجحة يظن اعتبار الشارع لها ـ فلأن الله تعالى قد اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام، واعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتبار المصلحة المرسلة لكونها من جملة أفراد المصالح. وأما كون العمل بالظن واجباً، فهذا محل وفاق. قال القرافي مستدلاً على مذهب الإمام مالك: لنا أن الله تعالى إنما بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحصيل مصالح العباد عملاً بالاستقراء (أي أنه ثبت بالاستقراء أن الله تعالى قد بعث الرسل بالأحكام تحقيقاً لمصالح الناس) فمهما وجدنا مصلحة، غلب على ظننا أنها مطلوبة للشرع.

وقال الإسنوي: إن الشارع اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام، واعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة لكونها من أفرادها. مناقشة هذا الدليل: نوقش هذا الدليل: بأنه لو وجب اعتبار المصالح المرسلة بمجرد مشاركتها للمصالح التي اعتبرها الشارع في كونها مصالح، لوجب إلغاؤها أيضاً، لمشاركتها للمصالح التي ألغاها الشارع في ذلك، فيلزم اعتبارها وإلغاؤها، وهو محال، لأن المصالح المرسلة هي التي لم يشهد لها الشارع بالاعتبار ولا بالإلغاء، فكما يجوز إلحاقها بالمصالح المعتبرة يجوز إلحاقاً بالملغاة، إذ الكل وصف مصلحي، فالتعويل على المشاركة للمصالح المعتبرة دون العكس، ترجيح بلا مرجح. الجواب: لا نسلم أن المصالح المرسلة من جنس المصالح الملغاة، لأن الإلغاء لا يكون إلا بدليل شرعي، ولم يوجد هذا الدليل في المصالح المرسلة، ومجرد اشتراك المصالح المرسلة مع المصالح الملغاة في التسمية لا يرجح الإلحاق بها، لأنه ترجيح بلا مرجح. قال الشاطبي: المصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعاً، فقد بين أن كون المصلحة غالبة دليل على كونها مقصودة للشارع، فمن باب أولى إذا كانت المصلحة خالصة عن المفسدة، وهذا الدليل استدل به القرافي على مذهبه في القول بالمصلحة مطلقاً، وعزاه البيضاوي في منهاجه للإمام مالك وتبعه، شراحه، إلا أنه يصلح أيضاً أن يكون دليلاً للمذهب القائل بالمصلحة المرسلة بشرط الملاءمة، وذلك بأن يقول: اعتبار الشارع جنس المصالح في جنس الأحكام، يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة الملائمة، والعمل

بالظن واجب. ثانياً: الأدلة المشتركة بين المالكية وغيرهم. أولاً: من القرآن الكريم: استشف القائلون بالمصالح المرسلة، العديد من آيات الله تعالى الدالة على أن التشريع الإسلامي إنما قصد مصلحة الخلق في دنياهم وأخراهم. من ذلك قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. وجه الدلالة: أن الآية تدل على أن رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة، حيث إن شريعته راعت مصالح العباد الدنيوية والأخروية، فما جاء به من الأخبار والمواعظ البالغة والوعد والوعيد والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة وغير ذلك ـ هي سبب لسعادة الدارين، فمن المحال أن نجد آية فيه تدعو إلى ما يخالف المصلحة الحقيقية، لأن الله سبحانه وتعالى نفى في هذه الآية جميع العلل والأحوال التي يمكن الإرسال من أجلها إلا حالة واحدة هي الرحمة، فانحصر الإرسال فيها، واقترن بها، ولو خلا من المصلحة لخلا الإرسال من الرحمة، فينافي ما نطقت به، وهذا أمر باطل. ومنه قوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}. وجه الدلالة: أن الشارع قد راعى مصلحة العباد في الآيتين الكريمتين من وجوه: الأول: قوله تعالى: {قد جاءتكم موعظة} حيث في توعظهم أكبر صالح،

إذ في الوعظ كفهم عن الأذى، وإرشادهم إلى الهدى. الثاني: وصف القرآن بأنه (شفاء لما في الصدور) من الشكوك وسوء الاعتقاد ونحوه، ولا ريب أن هذه مصلحة عظيمة للمشفي. الثالث: وصفه بالهدى، الذي يهدي إلى الحق واليقين. الرابع: وصفه بالرحمة، وفي الهدى والرحمة غاية المصلحة، حيث أنزل عليهم فنجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان. الخامس: الفرح بذلك، لقوله تعالى {فبذلك فليفرحوا} وهو معنى التهنئة لهم بذلك، والفرح والتهنئة إنما يكونان لمصلحة عظيمة. السادس: قوله تعالى: {هو خير ما يجمعون} من حطام الدنيا، وهي مصالح دنيوية، فالقرآن ونفعه أصلح من مصالحهم، والأصلح من المصلحة غاية المصلحة. فهذه وجوه ستة تدل على أن الشرع راعى مصلحة المكلفين واهتم بها. ومنه قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم}. فقد أشار سبحانه وتعالى إلى رفع العسر، وإزالة الحرج عن الناس فيما ألزمهم به من أحكام، ومقتضى هذا أن تكون تلك الأحكام دائرة مع مصالحهم، ومتطلبات سعادتهم في الدنيا والآخرة بتيسير العبادة لهم، وتطهيرهم من رجز الدنيا والآخرة، وما ذلك إلا للسعادة في الآخرة، ولو أن الأحكام لم يراع فيها المصالح، لكان فيها عسر وحرج، لكن العسر والحرج في الأحكام مرفوع، فارتفع كون الأحكام لم تراع فيها المصالح التي تعود على المكلفين. وغير ذلك مما ورد في القرآن من آيات القصاص والحدود التي شرعها الله

للمحافظة على أرواحهم، وأنسابهم وأعراضهم، وأموالهم، وما ذلك إلا حفاظاً على مصالح الناس في الدنيا والآخرة. ثانياً: من السنة النبوية المطهرة: أولاً: حديث معاذ رضي الله عنه وذلك لما بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن، وقال له: ((بم تقضي؟)) قال: بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: بسنة رسول الله قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: أجتهد رأيي ولا آلو. وجه الدلالة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أقر معاذاً على اجتهاده، والاجتهاد أعم من القياس، فكما يكون بقياس النظير على النظير، يكون ببناء الحكم على قواعد الدين ومبادئ التشريع العامة من الكتاب والسنة، وهذا يشمل المصالح المرسلة. قال الإمام الغزالي في (المنخول) بعد أن ساق هذا الحديث، للاستدلال به على مذهب الشافعي: واجتهاد الرأي مشعر باتباع قضية النظر في المصلحة، ولم يكلفه الشارع ملاحظة النصوص معه. وقال في (شفاء الغليل) فإن قال قائل: لم قلتم: إن هذا الجنس ـ أي المناسب المرسل ـ حجة؟ وما وجه التمسك به؟ وما الدليل عليه، وقد اضطربت فيه مسالك العلماء، وقد قطعتم القول بقبوله؟ قلنا: إنما دلنا عليه ما دلنا على أصول القياس، فإنا بينا أن حاصل ذلك كله راجع إلى القول بالرأي الأغلب في فهم مقاصد الشرع، وإلى هذا يرجع ما يجوز التمسك به. وما قاله الغزالي واضح في أن الدليل على إثبات المصلحة المرسلة هو الدليل

المثبت للقياس. ثانياً: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا ضرر ولا ضرار)) فالضرر: هو الإضرار بالآخرين، لمنفعة تعود على المضر، والضرار: هو الإضرار بالآخرين بدون منفعة تعود على فاعل الضرر. وقال الطوفي: الضرر: إلحاق مفسدة بالغير مطلقاً، والضرار: إلحاق مفسدة به على جهة المقابلة ـ أي كل منهما يقصد ضرر صاحبه ـ فالحديث ينفي إلحاق المرء الضرر بغيره مطلقاً. فهذه قاعدة عامة، أغلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها منافذ الضرر والفساد، سواء أكان الضرر فيه منفعة تعود على المضر أم لا، وإذا نهي عن الضرر كان الأمر بضده، وهو مراعاة المصالح بين الناس، ثابتاً بالمفهوم المخالف، لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما. ثالثاً: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)). فقد حدد الحديث حقيقة الدين بين طرفين اثنين، يبدأ أولهما بعقيدة التوحيد، حيث يمتد الدين من هذه البداية منتهياً بأبسط شيء يعود على المجتمع بالمصلحة العامة، وهو إماطة الأذى عن الطريق، أي ما يؤذي من حجر أو شوك ونحو ذلك، فتكون جميع المصالح ـ المختلفة الأنواع المتعددة الفوائد، المتدرجة المراتب ـ محصورة

بين طرفيه. ثالثاً: الإجماع: استدل القائلون بحجية المصالح المرسلة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بها، وإجماعهم حجة، فهم أقرب الناس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفهم الناس بالتشريع، وأعرفهم بأسراره، وأشد الناس تمسكاً به، فهم القدوة والأسوة في النظر فنهجهم مستمد من نهج رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والاقتداء بهم وارد في حديثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)). وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعملون بالمصالح في بناء الأحكام عليها بالشواهد العامة من غير استناد إلى دليل معين في الواقعة المعروضة عليهم، فالمتتبع لأحوال الصحابة يقطع بأنهم كانوا يقنعون بمجرد اشتمالها على مصلحة راجحة، ولا يبحثون عن أمر آخر، فكانوا يبنون الكثير من الأحكام عليها، ما دام لم يوجد لديهم دليل معين على الواقعة، ولم ينكر عليهم أحد ذلك، وإلا لنقل إلينا، فكان هذا إجماعاً منهم على وجوب العمل بالمصالح المرسلة، والاعتداد بها في تشريع الأحكام. وقد أشار الإمام الغزالي إلى ذلك في (المنخول) قال: تمسك الشافعي بأن الصحابة رضي الله عنهم استرسلوا في الفتوى، ـ وكانوا لا يرون الحصر ـ والنصوص ومعانيها لا تفي بجملة المسائل، فلا بد من المصير إلى المصالح في كل فتوى.

وهذا واضح في أن الإمام الشافعي كان يتمسك فيما لا نص ولا إجماع ولا قياس ـ بالمصلحة، والسند في ذلك عمل الصحابة وإجماعهم على ذلك، فكان حجة على اعتبار المصالح المرسلة في التشريع. ويؤيد ذلك ما قاله القرافي: إن أموراً كثيرة لا تعد ولا تحصى، ولم يكن في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء منها، بل اعتمد الصحابة فيها على المصالح مطلقاً، سواء تقدم بها نظير أم لا، وهذا يفيد القطع باعتبار المصالح المرسلة مطلقاً، كانت في موطن الضرورات أو الحاجات أو التتمات. وقال الإسنوي نقلاً عن الإمام مالك: احتج مالك بأن من تتبع أحوال الصحابة رضي الله عنهم قطع بأنهم كانوا يقنعون بمجرد الوقائع، ولا يبحثون عن أمر آخر، فكان ذلك إجماعاً منهم على قبولها. فهذه النصوص وغيرها تؤكد أن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يلتزمون في إصدار الأحكام في الوقائع المعروضة عليهم، بالنص أو الإجماع أو القياس بل كانوا يتعدون ذلك إلى المصالح المرسلة بمجرد اشتمال الواقعة المعروضة عليهم، على مصلحة راجحة، ما دام لم يدل الدليل المعين على حكم هذه الواقعة. وهذا الدليل استدل به القائلون باعتبار المصلحة المرسلة مطلقاً، سواء أكانت ملائمة أم غير ملائمة، ما دام العمل بها لم يخالف نصا، ولم يناقض مقصود الشارع، وقد شهد الشارع لجنسها في الجملة، وهو أيضاً دليل للقائلين، باشتراط الملاءمة، لأنه يقول: الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتمدون في الفتوى على المصالح الملائمة لتصرفات الشارع، ما دام لم يوجد الدليل المعين الذي يدل على الواقعة المعروضة عليهم وأما الدليل على أن الصحابة كانوا يبنون أحكام الوقائع على المصالح ويعتمدون عليها من غير أن يبحثوا عن أمر آخر ـ ما نقل عنهم من أحكام كثيرة منها: 1 - جمع القرآن الكريم من الصحف والعسب واللخاف المتفرقة وغيرها مما

كتبت فيه، ووضعه في مصحف واحد، على الترتيب الذي أوقفهم عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوقيف من الله تعالى ولم يكن هناك نص معين يدل على جمعه. فاتفاقهم على هذا العمل لم يرد به نص معين، حتى يمكن حمله عليه، وليس له نظير يمكن أن يقاس عليه، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعاً، فبعد موقعة اليمامة التي استحر فيها القتل بكثير من حفاظ القرآن، اقتضت مصلحة المسلمين حفظ القرآن من الضياع، وذهاب تواتره بموت حفاظه من الصحابة، فدفع ذلك أبا بكر للعمل على جمعه بعد مشاورة عمر رضي الله عنهما له، وقد جاء هذا الفعل محققاً لحفظه، مصداقاً لقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. ومنها: استخلاف أبي بكر لعمر رضي الله عنهما من بعده، مع أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستخلف أبا بكر، لكنه لم ينه عنه أيضاً، فلم يكن (أي استخلاف أبي بكر لعمر) إلا ابتغاء المحافظة على مصالح الأمة ووحدة كلمتها، فقد خشي إن هو قبض، ولم يعهد الخلافة إلى أحد يجمع شتات المسلمين ويوحد صفوفهم ـ أن يعود الاختلاف بينهم أخطر مما كان عليه بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيطمع فيهم العدو، فهذه مصلحة ملائمة لمقاصد الشارع، وإن لم يرد بها نص معين، وليس لها نظير تقاس عليه. 3 - وقد أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمصالح المرسلة، فهو أول من أنشأ الدواوين في الإسلام، وتدوينه فيها ما يتعلق بمصالح المسلمين، قال الماوردي: والديوان موضوع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال،

ومن يقوم بها من الجيوش والعمال، وأول من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب. اهـ. 4 - ومنها: اتخاذ عمر رضي الله عنه داراً خاصة للسجن لمعاقبة أهل الجرائم، ولم يكن في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا في زمن أبي بكر رضي الله عنه سجن، ولكنه رأى أن المصلحة في اتخاذ دار خاصة للسجن، ففعل، ولم ينكره عليه أحد، فكان إجماعاً. قال الشنقيطي في (نشر البنود) لم يكن في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، سجن، فلما انتشرت الرعية في زمان عمر ابتاع بمكة داراً، وجعلها سجناً يسجن فيها. 5 - ومنها: ترك عمر رضي الله عنه العمل بتطبيق سهم المؤلفة قلوبهم على الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، وقد كانا يتقاضيانه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أبي بكر ومنعه عمر عنهما معللاً ذلك، بأن الله قد أعز الإسلام، وما ذلك إلا لمصلحة المسلمين. 6 - ومنها: أن عمر رضي الله عنه لم يقطع يد السارق زمن المجاعة، لأنه رأى أن هذه السرقة كانت لحفظ الحياة، وحفظ الحياة مقدم على حفظ المال، مع أن آية السرقة صريحة في الأمر بقطع يد السارق. 7 - ومنها: اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على جعل حد شارب الخمر ثمانين، وذلك حين رأى الناس تتابعت في شرب الخمر، واستحقروا الحد المشروع فيه، فجمع الصحابة واستشارهم فضربوا فيه بسهام الرأي، حتى قال علي كرم الله وجهه: (من شرب سكر ومن سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى عليه حد

المفترين) فأخذوا برأيه واستصوبوه واستمروا عليه، وإنما كان مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال بالمرسل، فلم يكن في زمان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حد مقدر، وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزيز=، ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر رضي الله عنه قرره على طريق النظر بأربعين. قال الغزالي بعد حكايته ذلك: وهذه هي المصلحة المرسلة التي يجوز اتباع مثلها. 8 - ومنها: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد جمع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على قراءة واحدة، ومصحف واحد، وحرق ما دونه من المصاحف الأخرى، اتقاء للفتنة التي نشأت على إثر اختلاف المسلمين في القراءة. فقد روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام، وأهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان، فأفزعه اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى، فنسخ عثمان رضي الله عنه المصاحف، وبعث في كل أفق بمصحف، ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف أن تحرق وذلك حفاظاً على مصلحة الأمة في توحيد صفوفها وجمع كلمتها، فلا يكون بينها ما يدفع إلى النزاع أو يثير الفتنة والشقاق في صفوفها، ولم يرد بذلك نص ولكن مصلحة ذلك راجعة إلى حفظ الشريعة، والأمر بحفظها معلوم. 9 - ومنها: هدم عثمان رضي الله عنه الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، وكذلك تجديده أذاناً في

الجمعة بالسوق وهو الأذان الأول، ثم نقل إلى المسجد. 10 - ومنها: أن الصناع في صدر الإسلام كانوا لا يضمنون ما يصنعون إذا ادعوا تلفه، فلما رأى على بن أبي طالب كرم الله وجهه أن الناس لا يستغنون عن الصناع عادة، لشدة حاجتهم إليهم وأن من طبيعة عمل الصانع أن يسمح له بإبعاد الأمتعة التي يصنعها عن أعين أصحابها، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلما رأى علي رضي الله عنه هذا، قضى بتضمين الصناع ما يدعون تلفه من الأمتعة إذا لم يقيموا الدليل على تلفه بغير سبب منهم، وقال رضي الله عنه: لا يصلح الناس إلا ذاك، فهذا الحكم الجديد إنما شرع رعاية للمصلحة وحدها، حيث لا نص، ولا نظير يقاس عليه، قال الشاطبي: فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم، لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين، هذا معنى قوله: لا يصلح الناس إلا ذاك اهـ. فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقفوا جامدين أمام الوقائع والحوادث التي جدت واحتاجت إلى حكم بعد عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما شرعوا لها من الأحكام ما يكفل مصالح الناس فيها، مسترشدين بمقاصد الشريعة العامة، فلم يمنعهم من رعاية المصالح أن النصوص لم ترد بها جميعها ـ إذا لم يكن ذلك ممكناً، ولم يمنعهم كذلك أن بعضها ليس له نظير يقاس عليه، فيعطى حكمه، ولم يشترطوا الإجماع على هذه الأحكام وأمثالها، ما دام وجه المصلحة واضحاً فيها. مناقشة هذا الدليل: نوقش هذا الدليل بعدم تسليم أن الصحابة رضوان الله عليهم اعتبروا المصالح المرسلة في التشريع، وأنهم كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصلحة، ولا يبحثون عن أمر آخر وراء ذلك، بدليل أنه لو كان الأمر كذلك لم ينعقد الإجماع بعدهم على

إلغاء بعض المصالح، فدل على أنهم لم يعتبروا من المصالح إلا ما اطلعوا على اعتبار الشرع لنوعها أو جنسها القريب، فإن الشارع لم يعتبر المصالح مطلقاً، بل بقيود وشرائط لا تهتدي العقول إليها، إذ غاية العقل أن يحكم بأن جلب المصلحة مطلوب، والعقل لا بد له في معرفة المصالح بالاسترشاد بأدلة الشرع، فهو وإن تصور المصلحة وحكم بجلبها، لكن لا يستطيع أن يستقل بإدراك الطريق الخاص، فلا بد من وجود دليل شرعي يعين له الطريق الخاص بالاطلاع على معرفة المصالح، ويرشده إلى معرفة المقصد فيقبل هذا الدليل، فيثبت أن اعتبار المصالح المرسلة من غير شهادة الشرع لنوعها أو جنسها في بناء الأحكام ـ غير جائز. الجواب: أنه قد ثبت من تتبع كثير من الشواهد التي اعتمد فيها الصحابة على المصالح، أنهم كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصلحة، ولا يبحثون عن شيء آخر وراء ذلك، وقد مرت الشواهد التي تؤيد ذلك، كجمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر، ونسخه في مصحف واحد في عهد عثمان، واتخاذ عمر رضي الله عنه الدواوين وداراً خاصة للسجن، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وقد وقعت منهم، ونظروا إلى المصلحة، وبنوا الحكم عليها، فالقول كانوا لا يعتمدون من المصالح في بناء الحكم عليها، إلا ما اعتبر نوعه أو جنسه القريب تحكم، وقول من غير دليل، وتخصيص من غير مخصص. أما القول بأن الصحابة لو كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصالح لم ينعقد الإجماع بعدهم على إلغاء بعض المصالح ـ فمحل إيراده: أن لو كانوا يقنعون بالمصالح وإن ألغاها الشارع، ولكن الواقع غير ذلك، فإنهم كانوا لا يعتمدون إلا على المصالح المعتبرة شرعاً، أو المرسلة الملائمة لمقاصد الشريعة، فالمصالح التي انعقد الإجماع على إلغائها إنما هي المصالح التي ألغاها الشارع، وليس الكلام فيها. والعقل لا يستقل بإدراك الطريق الخاص في جلب المصلحة إلا بدليل يعين له ذلك الطريق، فهو أمر مسلم، فلا بد من وجود دليل يرشد العقل إلى الطريق الخاص في معرفة المصلحة، سواء أكان الدليل نصاً أم غيره، دل بظاهره أم بعمومه على وجود المصلحة، أم كان الدليل هو الاسترشاد بمقاصد الشريعة، فهذا مسلم أيضاً، فإن

المجتهد يسترشد بمقاصد الشريعة في إدراك المصلحة، وكونها مناسبة للحكم، أما بدون هذا الاسترشاد فلا يهتدي العقل إلى المصالح، أما منع إدراك العقل للمصالح، ولو مع الاسترشاد بمقاصد الشريعة ـ ممنوع، ولم يسلم الإمام الغزالي هذا الاعتراض ورد عليه، وإن سلم أصل الاحتمال، فقال في (المنخول): والذي نراه أن هذا في مظنة الاحتمال، والاحتكام عليهم بعد تمادي الزمان لا معنى له. اهـ. رابعاً: المعقول: استدل المثبتون لحجية المصالح المرسلة بالمعقول، فقالوا: لو لم تكن المصالح المرسلة حجة، وترك العمل بها، لخلا بعض الحوادث عن الأحكام، ولتعطلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولوقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس، ولكن خلو بعض الحوادث عن الأحكام باطل، فبطل ما أدى إليه، وهو أن المصالح المرسلة ليست بحجة وثبت نقيضه، وهو أن المصالح المرسلة حجة، وهو المطلوب. بيان الملازمة: أن النصوص محصورة، والأحكام الثابتة بها محدودة، ومعاني النصوص لا تتناول أحكام الوقائع المستجدة، لأنها محصورة متناهية، والوقائع المستجدة غير متناهية، والقياس لا يصح إلا بوجود أصل يقاس عليه، ولم يوجد هذا في الوقائع المستجدة فيلزم من عدم اعتبار المصالح المرسلة حجة خلو كثير من الوقائع عن الأحكام، وهذا باطل. دليل بطلان التالي: وهو خلو الوقائع عن الأحكام، قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}. فإن الآية صريحة في أن الله تعالى قد أكمل لنا الدين أصولاً وفروعاً وبين لنا جميع أحكام الوقائع ما كان منها، وما يكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

مناقشة هذا الدليل: نوقش هذا الدليل بمنع الملازمة، وهي أن ترك العمل بالمصلحة المرسلة يلزم منه خلو الحوادث والوقائع عن الأحكام بثلاثة أوجه. الأول: أن العمومات والأقيسة تغني عن القول بحجية المصالح المرسلة، لشمولها جميع الوقائع والحوادث، فلا حاجة إلى المصالح المرسلة. الثاني: على فرض تسليم عدم كفاية العمومات والأقيسة لأحكام الوقائع والحوادث المتجددة، لا نسلم خلوها عن الأحكام الشرعية لأن من المقرر أن عدم وجود دليل على الحادثة بالإذن أو المنع، دليل على التخيير في تلك الحادثة بين الفعل والترك، والتخيير حكم شرعي، فلم تخل الوقائع والحوادث عن الأحكام مع القول بعدم حجية المصالح المرسلة. الثالث: لا نسلم بطلان خلو الوقائع والحوادث عن الأحكام، بل يجوز أن تخلو بعض الوقائع والحوادث عن الأحكام، كما قال القاضي. الجواب عن هذه المناقشات: الجواب عن الوجه الأول: أن العمومات والأقيسة لا تستوعب جميع أحكام الحوادث المستجدة، لأن الحوادث تتجدد والمصالح تتغير بتغير الزمان والمكان، والعمومات ثابتة وقد تتعارض مع دليل المصلحة، ودليل المصلحة خاص فيقدم على العام والقياس لا يصح إلا بوجود أصل يقاس عليه، والوقائع بعضها ليس له نظير وليس له أصل يلحق به، فلا تغني العمومات والأقيسة عن العمل بالمصالح المرسلة، لأنه لا يعمل بالمصلحة المرسلة إلا عند عدم وجود نص أو قياس، فإذا وجد في الواقعة

دليل أو قياس يثبت حكمها ويدل عليه ـ فلا عمل بالمصلحة المرسلة، وإذا لم يوجد نص أو قياس، عمل بالمصلحة المرسلة، فثبت أن العمومات والأقيسة لا تغني عن القول بحجية المصالح المرسلة. الجواب عن الوجه الثاني: وهو أن فقد الدليل يعتبر إذناً بالتخيير بين الفعل والترك، فهذا غير مسلم، لأن التخيير حكم شرعي لا يعلم إلا بدليل شرعي، ولم يجعل الشارع فقد الدليل دليلاً على التخيير، وأقصى ما يفيده عدم وجدان الدليل الشرعي الناقل عن البراءة الأصلية هو الرجوع إلى البراءة الأصلية، وهي ليست حكماً شرعياً، ضرورة أنه لا حكم قبل الشرع، ولا معنى للخلو عن الحكم إلا هذا. والخلاصة: أن المعترض إن أراد بالتخيير بين الفعل والترك، الإذن الشرعي ـ فمسلم أنه حكم شرعي، ولكنه لا يثبت إلا بدليل شرعي، وليس فقد الدليل دليلاً شرعياً على الحكم فمن ادعاه فعليه البيان، وإن أراد به البراءة الأصلية بمعنى عدم ورود الإذن الشرعي في الفعل أو الترك، فلا نسلم أن التخيير بهذا المعنى حكم شرعي، لأنه ثابت قبل الشرع، ولا حكم قبل الشرع. الجواب عن الوجه الثالث: (وهو خلو بعض الوقائع عن الأحكام) بأنه لا توجد حادثة إلا في الشرع دليل عليها، إما بالقبول أو بالرد، ولو أمكن خلو واقعة ما عن حكم، لوقع ذلك، ولو وقع لنقل إلينا، فلما لم ينقل إلينا ذلك، علمنا أنه لا توجد حادثة خالية عن حكم، فثبت من هذا أن كل واقعة لا بد لها من حكم، والمخالف في هذا هو القاضي أبو بكر الباقلاني، ولا يعتد به، لأن خلافه لا يقوى في مواجهة قول جمهور العلماء بأنه لا تخلو حادثة عن حكم لله تعالى. المذهب الثاني: أن المصالح المرسلة حجة بشرط ملاءمتها لمقاصد الشرع: وهو المشهور عن الإمام الشافعي رضي الله عنه كما حكاه عنه ابن برهان في (الوجيز) وقال: إنه الحق وحكاه إمام الحرمين في (البرهان) عن الإمام الشافعي ومعظم الحنفية.

ونسب للإمام مالك، وهو مقابل المشهور عنه، ونسب أيضاً لإمام الحرمين وابن تيمية، فهؤلاء يقولون بالمصالح المرسلة، ويعتبرونها دليلاً تبنى عليه الأحكام، ما دامت قد جاءت هذه المصالح المرسلة ملائمة للمصالح المعتبرة التي دعا الشارع لحفظها. قال الشاطبي في (الموافقات) كل أصل شرعي لم يشهد له أصل معين، وكان ملائماً لتصرفات الشارع، ومأخوذ معناه من أدلته ـ فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به، لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم دون انضمام غيرها إليها، ويدخل تحت هذا ضرب من الاستدلال بالمرسل، الذي اعتبره الإمامان: مالك والشافعي رضي الله عنهما فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين، فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين، وقد يربو عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه. اهـ. إلا أن الشافعية يشترطون في العمل بالمصالح الملائمة، شهادة الأصل، والمراد بشهادة الأصل: أن يكون للحكم المعلل أصل معين من نوعه، يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه، كما قال السعد في (التلويح) وقد استدل أصحاب هذا المذهب بالأدلة المشتركة بينهم وبين المالكية، والتي سبق توضيحها في أدلة المذهب الأول. المذهب الثالث: أن المصلحة المرسلة تكون حجة إذا كانت ضرورية كلية قطعية، فإن فات أحد هذه القيود الثلاثة، لم تعتبر، قال به الغزالي في (المستصفى) وهو اختيار البيضاوي

وصرح الغزالي في (شفاء الغليل) بأن المصلحة إذا كانت في الضرورة أو الحاجة، جاز التعليل بها. الأدلة: استدل الإمام الغزالي ومن تبعه بأن العمل بالمصالح المرسلة في الضروريات والحاجيات عمل بالظن الغالب المبني على فهم مقاصد الشريعة، وكل ما كان كذلك يجب العمل به، فينتج أن المصالح المرسلة يجب العمل بها في الضروريات والحاجيات، وهو المطلوب، أما الكبرى فهي مسلمة بالاتفاق، لوجود الإجماع الدال على وجوب العمل بالظن، وأما الصغرى فيدل عليها، ما يأتي: 1 - أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقر معاذاً على الاجتهاد بالرأي، وهو عام يشمل القياس على أصل معين، كما يتناول الاجتهاد بالرأي بطريق المصالح المرسلة. 2 - إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز العمل بالمصالح المرسلة، وقد تقدمت الأمثلة في أدلة المذهب الأول، وإجماعهم حجة. 3 - أن النصوص الشرعية محصورة ومتناهية، والوقائع والأحداث غير متناهية والمتناهي لا يحيط بما لا يتناهى، وترك بعض الوقائع بدون نص يتنافى مع كمال الشريعة الإسلامية، فلا سبيل للخروج من ذلك إلا بتفويض العقلاء ذوي الدراية بمآخذ الشريعة ومصالحها، ليحكموا في هذه الوقائع، مهتدين بمقاصد الشريعة. ويلاحظ أن هذه الأدلة هي أدلة المثبتين للمصالح المرسلة مطلقاً, وقد اشترط الغزالي ومن تبعه في المصلحة المرسلة هذه الأمور ـ أي كونها ضرورية قطعية كلية ـ للقطع بالعمل بها، فإن المصلحة إن كانت مناسبة لضروري،

فلا نزاع في جواز التعليل به، وترتيب الحكم من المجتهد على وفقه. وقد أشار التاج السبكي إلى أن هذه الشروط الثلاثة إنما أوردها الإمام الغزالي للإشارة إلى الأمكنة التي تجتمع فيها آراء المسلمين على اعتبارها والأخذ بها، ويبقى ما وراء ذلك مجال بحث واجتهاد، فأخرجها من المصالح بقوله: (وليس منه مصلحة ضرورية كلية قطعية} لأنه مما دل الدليل على اعتباره، أي: الدليل العام، وهو أن حفظ الكل في نظر الشرع أهم وأولى من حفظ البعض. المذهب الرابع: منع التمسك بالمصالح المرسلة مطلقاً. وهو مذهب الظاهرية الذين التزموا بالنصوص، وقد اعتبروا من المصالح ما وردت بظاهر النصوص، فأخذوها عن طريقها ورفضوها، إذا لم يدل النص عليها دلالة ظاهرة، لأن شرع الله تعالى قد كمل لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} فليس في حاجة إلى ما يكمله، فالقول بالمصالح المرسلة تقول على الله تعالى فهو مردود. وذلك لأنهم أنكروا القياس، ورفضوا القول بتعليل أحكام الله تعالى وأفعاله بالمصالح ما لم يدل النص على ذلك دلالة واضحة، فإذا كانوا أنكروا القياس الذي له أصل يلحق به الفرع، فمن باب أولى ينكرون القول بحجية المصالح المرسلة. وهو ـ أي: منع التمسك بالمصالح المرسلة مطلقاً ـ قول كثير من العلماء منهم: القاضي أبو بكر الباقلاني، وحكاه إمام الحرمين عن طوائف من المتكلمين

وهو اختيار الآمدي، وابن الحاجب، وصححه ابن قدامة في الروضة، وحكاه الأبهري عن الإمام مالك والإمام الشافعي رضي الله عنهما ونسب إلى الحنفية أيضاً، وهو قول متأخري الحنابلة من أهل الأصول والجدل وقال الشوكاني: وإليه ذهب الجمهور. الأدلة: استدل أصحاب هذا المذهب بما يأتي: أولا: أن العمل بالمصالح المرسلة التي لا يشهد لها دليل خاص بها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس ـ عمل بالظن المجرد عن الدليل، والأصل عدم العمل بالظن، لأنه لا يؤمن فيه من الوقوع في الخطأ، ومجانبة الحق واتباع الهوى فينتج أن القول بحجية المصالح المرسلة باطل، لأن الإنسان قد يظن الشيء مصلحة وهو مفسدة، وقد يظن الشيء مفسدة وهو مصلحة.

الدليل على صحة الصغرى: وهي أن العمل بالمصالح المرسلة عمل بالظن المجرد عن الدليل، فإن المصلحة دليل ظني بدليل الاختلاف فيها، فلو كان القول بها مقطوعاً به لما وقع فيها الخلاف، والدليل على أن العمل بها عمل بالظن المجرد عن الدليل، أنه لو وجد دليل يثبت الظن بالمصالح المرسلة في بناء الأحكام عليها لكانت معتبرة غير مرسلة، فوصف الإرسال فيها أمارة على تجرد الظن فيها عن الدليل. الدليل على صحة الكبرى: وهي أن الأصل عدم العمل بالظن، قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً} فالظن موصوف بأنه لا يغني من الحق شيئاً، وهو الظن الخالي عن الدليل، فالعمل به باطل. مناقشة الدليل: إن العمل بالمصالح المرسلة ليس عملاً بالظن المجرد عن الدليل، وإنما هو عمل بالظن المبني على الدليل، فإن المصلحة المرسلة ثبت العمل بها بأدلة متعددة دالة على اعتبارها في الجملة وإن لم يدل دليل خاص على اعتبار عينها، وإنما دل الدليل العام على اعتبار جنسها في بناء الأحكام عليها، فقد شهد لاعتبارها الأصول العامة ومبادئ الشريعة ومقاصدها فهي مقصودة للشارع، والظن الوارد في الآية المقابل للحق، هو الظن المبني على الهوى وهو باطل بالاتفاق، لأنه منهي عنه، فلا يجوز العمل به، أما الظن بالمصالح المرسلة فهو ظن مأمور به شرعاً، وقد أقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً على مطلق الاجتهاد عند فقده الكتاب والسنة، فلم يقيده باجتهاد إلحاق الفروع بالأصول، فيكون شاملاً للاجتهاد المصلحي، وتخصيصه بنوع دون نوع تخصيص بلا دليل، فيكون العمل بالمصلحة المرسلة عمل بالظن المعتبر وداخل في الاجتهاد الذي أذن فيه الشارع. ثانياً: إن الأدلة الشرعية التي تثبت بها الأحكام هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فالكتاب والسنة متلقيان بالقبول، والإجماع ملتحق بهما، لأن سند الحكم

الثابت به مرجعه إليهما، والقياس إنما هو إلحاق فرع على أصل متفق على حكمه، أما المصالح المرسلة: فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة، ولا يوجد دليل معين على عينها، فانتفاء الدليل على العمل بالمصالح المرسلة دليل على انتفاء العمل بها، وهذا الدليل حكاه إمام الحرمين عن القاضي الباقلاني. الجواب: إن القول بانتفاء الدليل عن المصالح المرسلة غير مسلم، لأن هذه المصالح وإن لم يرد بشأنها دليل بعينه من نص أو إجماع أو ليس لها نظير تقاس عليه، إلا أنها مستندة إلى ما هو معتبر، بل ربما كان ما تستند إليه أكثر قوة وقطعية من الدليل المعين، قال الغزالي: وكون هذه المعاني عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال، وتفاريق الأمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة. ثالثاً: أنه لو صح اتباع كل مصلحة مرسلة والاعتماد عليها في بناء الأحكام، لترتب عليه أن العاقل ذا الرأي العالم بوجوه سياسات الخلق، وتدبير شؤون الحكم ممن ليس من أولي الحكم الشرعي، إذا راجع المفتين في حادثة، وأعلموه أنها ليست منصوصة ـ أي: لم يرد فيها نص بالاعتبار أو الإلغاء ـ ولا أصل لها يضاهيها فتقاس عليه ـ لساغ له حينئذ العمل بالأصوب عنده، ولتجرأ على الفتوى فيها، وهذا أمر باطل، لأنه يحكم بما ليس له به علم، وهو منهي عنه في قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ومساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء وإحكام الحكماء، وهو غير مسلم. ولترتب على ذلك أن تصير الشريعة فوضى بين ذوي الأهواء، ومن ليس أهلاً للاجتهاد، للانطلاق من أحكام الشريعة وإيقاع الظلم بأهلها باسم المصلحة، فيطلقون المصلحة ولا يتقيدون بالمشروع منها، وإطلاق المصلحة لم يقل به أحد، قال ابن حزم: وهذا باطل لأنه اتباع الهوى وقول بلا برهان.

الجواب: ويجاب عن ذلك بأنه ليس المقصود بالمصلحة المرسلة كل ما يبدو للعقل فيدخل في قبيل المصالح المرسلة، وإنما المصلحة المرسلة هي التي يتدبرها ويتوصل إليها من هو أهل لمعرفة الأحكام من مآخذها حتى يثق بأنه لم يرد في الشريعة شاهد على اعتبارها أو إلغائها، وإنما جاءت ملائمة لجنس تصرفات الشارع ومقاصده، ولن يصل إلى ذلك إلا من بلغ رتبة الاجتهاد من العلماء، لذلك اشترط القائلون بالمصلحة المرسلة في الناظر أهلية الاجتهاد، وأن يكون متكيفاً بأخلاق الشريعة مراعياً لمقاصدها بخلاف العالم بالسياسات إذا كان جاهلاً بأصول الشريعة فإن طبعه يكون بعيداً عن أخلاق الشريعة، فيفتي بما يخالفها، وما دام قد اشترط القائلون بالمصالح المرسلة في الناظر في أصول الشريعة ومقاصدها، أهلية الاجتهاد، وأن يكون متكيفاً بقواعدها مراعياً مقاصدها، فلا وجه للقول بأن العمل بالمصالح المرسلة يصير الشريعة فوضى بين ذوي الأهواء، لأن من منع العمل بها لا يمنع المفسدين من الفساد، فإن من فسد ضميره وساء عمله يسلك كل الطرق لبلوغ مآربه وأهوائه، وإنما يؤدي إلى سد باب من أبواب رحمة الله تعالى. وإن كان من الواجب شرعاً أن لا توكل شؤون الأمة إلا لمن كمل إيمانه وحسن عمله، وبلغ درجة الاجتهاد، كان لزاماً على الأمة أن تكف المفسد عن الفساد، وتولي أمرها من يصلح لذلك. وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم أو لتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض)) فيه الهدى والدليل لما يجب أن يكون عليه أولو الأمر. رابعاً: إن المصالح منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتباره، وإلى ما عهد منه إلغاؤه، وهذا القسم ـ أي: المصالح المرسلة ـ متردد بينهما، فيحتمل إلحاقه بالمصالح

المعتبرة ويحتمل إلحاقه بالمصالح الملغية، فامتنع الاحتجاج به مع هذا الاحتمال، لأنه ترجيح بدون مرجح. الجواب: ويجاب عن ذلك بأن التردد في إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح المعتبرة أو بالمصالح الملغية ممنوع، لأن التردد إنما كان في أول النظر والبحث عن علة للحكم، لكن بعد وجود أمارات تدل على ترجيح المصلحة على المفسدة وكونها ملائمة لمقصود الشارع يحصل ظن بوجودها وترتيب الحكم عليها، والظن كاف في الأحكام الشرعية العملية، فحينئذ ترجح إلحاقها بالمصالح المعتبرة، ولأنا لو قارنا بين المصالح التي ألغاها الشارع والمصالح التي اعتبرها، وجدنا أن المصالح التي ألغاها الشارع قليلة بالنسبة للمصالح التي اعتبرها فإذا كانت هناك مصلحة لم يقم دليل على اعتبارها أو إلغائها، وكانت ملائمة لتصرفات الشرع كان الظاهر والغالب إلحاقها بالكثير الغالب دون القليل النادر، على أن ما ألغاه الشارع من المصالح لم يلغها إلا إذا ترتب على اعتبارها مفسدة تساويها أو ترجح عليها، وهذا غير متحقق في المصالح المتنازع فيها، لأن جانب المصلحة فيها راجح على جانب المفسدة، فلا يصح إلحاقها بالمصلحة الملغية، ويتعين إلحاقها بالمصالح المعتبرة. قال البدخشي: لأنه إذا ظن في هذا الحكم مصلحة غالبة على المفسدة، ومعلوم أن كل مصلحة كذلك معتبرة شرعاً ـ لزم ظن أن هذه المصلحة معتبرة والعمل بالظن واجب. خامساً: استدل المنكرون خامساً بأن القول بالمصالح المرسلة يؤدي إلى اختلاف الأحكام الشرعية تبعاً لاختلاف الزمان والمكان والأشخاص، فتتبدل الأحكام وتتغير بتبدل المصالح المرسلة وتغيرها تبعاً لاختلافها بتبدل الأشخاص والأزمنة والأمكنة فالقول بها يؤدي إلى تغير أحكام الشريعة كلها، وهذا مناقض لعموم الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان. الجواب: ويجاب عن ذلك بأن الأحكام المبنية على المصالح المرسلة تختلف

باختلاف المصالح تبعاً لاختلاف الزمان والمكان وتبدل الأشخاص، وهذا أمر مسلم، لأن هذا الاختلاف في الأحكام مبني على اختلاف الأسباب، فتتغير الأحكام بتغير أسبابها، وهذا طريق من طرق صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، فالقول بالمصالح لا ينافي صلاحية الشريعة ولا ينافي عمومها، لأن شرط العمل بها ألا تهجم على نص ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرفع، ومن شروطها أيضاً أن تكون ملائمة لمقصود الشارع، لا تعارض نصوصه وأصوله وقواعده، فالاختلاف في التطبيق لأصل عام من أصول الشريعة، وليس اختلافاً في أصل الخطاب، فالأحكام الشرعية نوعان: 1 - نوع ثابت بالخطاب لا يتغير كالوجوب والحرمة، فالتغير في هذا النوع من الأحكام لا يكون إلا بالنسخ، ونسخ الأحكام لا يكون إلا من الله. 2 - نوع معلق على الأسباب، وهي الأحكام التي ثبتت شرعاً معلقة على أسبابها فهذا النوع من الأحكام يتغير بتغير الأسباب، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً فيتغير بتغير العلة. قال الشاطبي: اعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب، لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف، كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف في أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها. سادساً: استدل المنكرون سادساً بأن القول بالمصالح المرسلة يؤدي إلى القول بقصور النصوص القرآنية والأحاديث النبوية عن بيان الأحكام الشرعية، وهذا ينافي تبليغ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبليغاً كاملاً، وينافي قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فالمصالح إما أن تكون معتبرة أو

غير معتبرة، وغير المعتبرة لا حاجة إليها لأنه لا يجوز تعليل الحكم الشرعي بمصلحة ليست معتبرة شرعاً، وإذا كانت المصلحة معتبرة فلا حاجة إليها في بناء الأحكام عليها للاستغناء عنها بالنص والقياس، لأن المصالح المعتبرة داخلة في عموم النص والقياس. الجواب: ويجاب عن ذلك بأن حصر المصالح في المعتبرة وغير المعتبرة غير مسلم ولا دليل عليه، بل القسمة ثلاثية: مصالح معتبرة، ومصالح ملغاة، ومصالح سكت عنها الشارع فلم يشهد لها بالاعتبار ولا بالإلغاء، وهي المصالح المرسلة، وهي التي اعتبرها الشارع في الجملة حيث شهد لجنسها ولم يشهد لعينها، وهي معتبرة في بناء الأحكام عليها، ولم يؤد القول بها إلى قصور الشريعة عن البيان، وتقصير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التبليغ، بل أثبت القول باعتبارها أنه يؤدي إلى القول بوفاء الشرعية ببيان وتبليغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد بلغ ما أمر به وبين أحكام شرعه، وأن المصلحة المرسلة مرعية في التشريع حيث أقر معاذا رضي الله عنه على الاجتهاد بالرأي، وهو عام يتناول القياس والمصلحة المرسلة، وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك وحكموا في وقائع كثيرة بمطلق المصالح المرسلة من غير وجود دليل معين على اعتبارها، ومن غير وجود أصل تقاس عليه كجمع القرآن، وتوسيع المسجد وغير ذلك من الوقائع التي لا تعد ولا تحصى. الترجيح: وبعد ذكر مذاهب العلماء وأدلتها ومناقشتها، ظهر أن المذهب الراجح في المسألة هو القول بحجية المصالح المرسلة حيث كانت ملائمة لمقصود الشرع، ولم تعارض نصاً، ولم تصادم قاعدة شرعية مقررة، خاصة وأنه استند إلى عمل السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وهم أعلم بمراد الشارع الحكيم، وأحرص الناس على اتباعه، فإذا ثبت عنهم العمل بهذا الأصل كان أكبر دليل على جواز العمل به شرعاً، وهو مذهب الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنه وجمهور الأصوليين، لأنه المصالح المرسلة هي المصدر الخصب لأحكام الوقائع المستجدة، الصالح لكل زمان ومكان،

ولا عبرة بقول الظاهرية المنكرين للقياس، فإن خلافهم جاء بعد انعقاد الإجماع من الصحابة على العمل بالمصالح المرسلة، فلا عبرة بخلافهم. ولتمام الفائدة نذكر بإيجاز الفرق بين المصلحة المرسلة والقياس والاستحسان. أولاً: الفرق بينها وبين القياس: تقدم أن المصلحة المرسلة: هي كل مصلحة لم يرد من الشارع دليل معين يدل على اعتبارها ولا على إلغائها، وكانت ملائمة لمقاصد الشارع. أما القياس فهو: إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت. ولما كان كل منهما يقوم على الاجتهاد بالرأي، فهناك أمور مشتركة بينهما وأمور غير مشتركة، فهما يتفقان فيما يأتي. أولاً: أن العمل بهما لا يكون إلا في الوقائع التي لا يوجد لها حكم خاص في الكتاب والسنة والإجماع. ثانياً: أن كلا منهما مبني على رعاية المصلحة التي يغلب على الظن أنها تصلح أن تكون مناطاً وعلة لتشريع الحكم. وجه المخالفة بينهما: ويختلفان فيما يأتي: أولاً: أن الوقائع التي يحكم فيها بالقياس لها نظير وشبيه منصوص على حكمه في الكتاب أو السنة أو الإجماع، يمكن قياسها عليه لاشتراكهما في العلة التي من أجلها شرع الحكم في المنصوص أو المجمع عليه. أما الوقائع التي يحكم فيها بالمصالح المرسلة فليس لها نظير ولا شبيه منصوص عليه أو مجمع على حكمه تقاس عليه، بل يثبت الحكم فيها ابتداء بناء على ما يكون فيها من المعنى الملائم لتصرفات الشارع الذي يترتب على تشريع الحكم وبنائه عليه

تحقيق مصلحة للناس أو دفع مفسدة عنهم. ثانياً: أن المصلحة التي بني عليها الحكم في القياس، قد قام الدليل المعين على اعتبارها، أما المصلحة التي بني الحكم عليها في المصالح المرسلة فلم يقم الدليل المعين على اعتبارها أو إلغائها، بل سكت الشارع عنها لكنه اعتبر جنسها. ثانياً: الفرق بين المصالح المرسلة والاستحسان: الاستحسان هو: العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي هذا العدول، وهو حجة عند أبي حنفية وأصحابه والحنابلة. وعليه فإنه يمكن التفرقة بين المصالح المرسلة والاستحسان: بأن الاستحسان يقتضي أن يكون للمسألة التي يحكم به فيها نظائر قد حكم فيها على خلاف ذلك وأن تكون المسألة استثنيت من حكم نظائرها، واختص بحكمها لدليل أقوى يوجب ذلك. أما المصالح المرسلة فليس لمحلها نظائر ثبت لها حكم على خلاف ما تقتضيه المصلحة في ذلك المحل، بل الحكم فيه ثابت بها ابتداء، فهي قاعدة عامة يثبت الحكم فيها في جميع الصور والوقائع التي لا نص فيها ولا إجماع وليس له أصل تقاس عليه، لكن الحكم الثابت بالاستحسان قد يكون له أصل يقاس عليه، ولهذا قالت الحنفية: هو قياس خفي في مقابلة قياس جلي لقوة علته. مثال الاستحسان: أن عقد المزارعة عند الحنفية ينتهي بموت العاقدين أو أحدهما كما في الإجارة، ولكنهم استثنوا من ذلك بعض الصور منها: إذا مات صاحب الأرض والزرع لم يدرك بعد، فحكموا ببقاء العقد فيها استحساناً على

خلاف القاعدة المقررة عندهم حفظاً لمصلحة العامل ودفعاً للضرر عنه، والله أعلم.

القسم التحقيقي

الكتاب الثالث في الإجماع

بسم الله الرحمن الرحيم [الكتاب الثالث في الإجماع] (ص) الكتاب الثالث في الإجماع (ش): قدمه على القياس، لأنه معصوم من الخطأ بخلافه (ص): وهو اتفاق مجتهد الأمة بعد وفاة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عصر على أي أمر كان. (ش): الاتفاق: جنس يعم الأقوال، والأفعال، والسكوت

والتقرير، وقوله: مجتهد، فصل خرج به اتفاق بعضهم، واتفاق العامة، وبإضافته إلى الأمة يخرج اتفاق الأمم السابقة وبقوله: بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإجماع في زمنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا ينعقد، وقوله: في

عصر، يخرج توهم اجتماع كلهم في جميع الأعصار إلى يوم القيامة، بل يكفي وجوده في عصر ثم يصير حجة عليهم، وعلى من بعدهم، وهذا القيد زاده الآمدي، ومن لم يذكره قال: المقصود العمل، وإنما يكون في عصره. وقوله: على أي أمر كان، يعم الإثبات والنفي، والأحكام الشرعية والعقلية واللغوية، وفائدة هذه القيود تأتي مشروحة فيما بعد، وقد أورد عليه: أن مجتهدي جمع أقله ثلاثة فيقتضي أنه لو لم يكن في العصر إلا مجتهدان لا يكون قولهما إجماعاً.

وأجاب المصنف: بأن مجتهد لا يكتب بالياء إذ ليس جمعاً سقطت نونه بالإضافة وبقيت الياء، وإنما هو مفرد فدخل الاثنان فصاعداً، لأن المفرد المضاف عام. فإن قلت: فيلزم أن يكون قول الواحد المجتهد إذا لم يكن في العصر سواء إجماعاً، والمختار خلافه. قلت: لا لخروجه بلفظ الاتفاق، فإن الاتفاق إنما يكون من اثنين فصاعداً وإنما نكر عصراً، ولم يدخل عليه صيغة العموم وأدخلها على الأمر، تنبيهاً على أن تنكير ابن الحاجب لهما قد يظهر في بادئ الرأي تصويبه لأن الأعصار كلها سواء والأمور كلها سواء، لكن عبارة المصنف هو التحرير، أما تنكير عصر فلأنه لا

يظهر فرق بين عصر وعصر، فكأن الحكم للقدر المشترك بين الأعصار، كلها، فعصر نكرة مراد به الحقيقة من حيث هي، حتى لو ابتدأ به جاز، لأنه من مسوغات الابتداء بالنكرة عند النحاة أن يراد بها الحقيقة من حيث هي نحو: رجل خير من امرأة، وتمرة خير من جرادة، لأن الوحدة غير مقصودة، فاندفع الإيهام، وحصلت الفائدة المسوغة للابتداء، وأما التصريح بتعميم ما يقع الإجماع فيه فقولنا: أي أمر كان فلأن الفرق ظاهر بين الأمور، ألا ترى إلى اختلاف العلماء في الفرق بين أمر وأمر نحو اختلافهم في الإجماع في العقليات هل هو صحيح، وفيما أصله أمارة ونحو ذلك.

ولم يقل أحد بالفرق بين عصر وعصر، فلما ظهر الفرق نص على العموم دفعاً للإيهام، بخلاف العصر، ثم أورد على نفسه أنه لو لم يفترق الأعصار، لما كان عصر السالفين لا يختص فيه الإجماع بخلاف أعصار هذه الأمة، ولما قال قوم إن الإجماع يختص بعصر الصحابة. وأجاب بأن الخلاف لم ينشأ عن اختلاف الأعصار في أنفسها بل عن المختلفين، فالقائل، باختصاص الإجماع بهذه الأمة يدعي تميزها بذلك فالخلاف لأجل أهل العصر لا للعصر فلم يقبل أن إحداث الإجماع يختص بعصر الصحابة

بل إنه مختص بالصحابة ويظهر أثر هذا فيما لو كان بين الصحابة تابعي مجتهد، وذلك كثير فأجمعوا دونه فإن قلنا: يختص بالصحابة، لم يعتد بخلافه فيهم، وإن قلنا: يختص بالعصر نفسه، اعتد، لأنه من أهل عصرهم. (ص): فعلم اختصاصه بالمجتهدين، وهو اتفاق، واعتبر قوم وفاق العوام مطلقاً، وقوم في المشهور بمعنى إطلاق أن الأمة أجمعت لا افتقار الحجة إليهم خلافاً للآمدي.

(ش): مسائل هذا الباب كلها مستخرجة من هذا التعريف، وقد أبدع المصنف في ذلك بحيث يلوح للفطن الاكتفاء بالتعريف عن النظر في آحاد المسائل، فعلم ـ أي: من قولنا مجتهد ـ اختصاص الإجماع بالمجتهدين، أي: لا يعتبر إلا بهم ولا اعتبار بقول العوام وفاقاً ولا خلافاً، وهذا قول الأكثرين، لأنهم ليسوا من أهل الاجتهاد فلا عبرة بقولهم كالصبي والمجنون، ولأن قول المجتهد بالنسبة إلى العوام كالنص بالنسبة إلى المجتهد، فكما أن حجية النص لا تتوقف على رضا المجتهدين فكذلك حجية قولهم لا تتوقف على رضا العوام به، وقيل: يعتبر قولهم مطلقاً أي: سواء المسائل المشهورة والخفية لأن قول الأمة إنما كان حجة لعصمتها عن الخطأ، ولا يمتنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة، وحينئذ لا يلزم من ثبوت العصمة للكل ثبوتها للبعض، وهذا ما اختاره الآمدي، ونقله الإمام وغيره

عن القاضي. وفي المسألة مذهب ثالث: أنه يعتبر وفاقهم في المشهور دون الخفي كدقائق الفقه، وهو ما حكاه القاضي عبد الوهاب في (الملخص)، وأشار المصنف بقوله: بمعنى إلى تحقيق محل الخلاف، وأن في إطلاق اللفظ، أي: إذا خالفت

العوام وأجمع العلماء، هل يقول أجمعت الأمة أم لا؟ أما عدم الاعتبار بقولهم: فلا خلاف فيه وإليه أشار بقوله أولاً: (وهو اتفاق) وهذا عكس ما فهمه جماعة عن القاضي والصواب ما ذكره المصنف، وقد صرح القاضي في (التقريب) أن خلاف العوام لا يعتبر به، وقال فيه في الكلام على الخبر المرسل: لا عبرة بقول العوام وفاقاً ولا خلافاً. (ص): وآخرون: الأصولي في (الفروع). (ش): المجتهد الذي يعتبر ليس هو المجتهد كيف كان، بل هو المجتهد مطلقاً أو المجتهد في ذلك الفن الذي يحصل الإجماع على مسألة من مسائله، فأما لو كان مجتهداً في فن، فإنه لا يعتبر قوله في فن آخر، لأنه عامي بالنسبة إليه، فعلى هذا المعتبر في مسائل الكلام إنما هو قول المتكلمين لا غير، وفي مسائل الفقه (2/ك) قول (79/ز) المتمكن من الاجتهاد في الفقه، لا قول المتكلمين واختلفوا في الأصولي الذي ليس بفقيه، والفقيه الذي ليس بأصولي، هل يعتبر في الفروع؟ على أربعة مذاهب. أحدها: يعتبر قولهما: نظراً لما لهما من الأهلية المناسبة بين الفنين. الثاني: لا يعتبران، لعدم أهلية الاجتهاد.

وثالثهما: اعتبار قول الأصولي دون الفقيه الحافظ للأحكام، لأنه أقرب إلى مقصود الاجتهاد واستنباط الأحكام من مآخذها، وليس من شرط الاجتهاد حفظ الأحكام، واختاره القاضي، وقال الإمام: إنه الحق. والرابع: قول الفقيه الحافظ للأحكام دون الأصولي، لكونه أعرف بمواقع الاتفاق والاختلاف. واعلم أن المصنف إنما ذكر المسألة عقب العامي، ليرتبها عليها، فإن من اعتبر وفاق العامي اعتبر الأصولي والفقيه الحافظ بطريق الأولى، ومن منع: فمنهم من ألحقها بالعامي مطلقاً، لعدم الاجتهاد، ومنهم من أدخلها، نظراً إلى تفاوت الرتبة،

ومنهم من فصل فاعتبر الفقيه، ومنهم من اعتبر الأصولي. (ص): وبالمسلمين فخرج من نكفره. (ش): علم من قوله: (مجتهد الأمة) اختصاصه بالمسلمين فلا اعتبار بالكافر فيه، لأن أدلة الإجماع لم تتناوله إنما تناولت المؤمنين على الخصوص، ولأنه غير مقبول القول، فلا اعتبار به في حجة شرعية، ولا بقول المبتدع الذي نكفره ببدعته، لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه, ولا خلاف فيه، فإن لم نكفره، فالمختار أنه لا ينعقد الإجماع دونه، نظراً إلى دخوله في مفهوم الأمة، وقيل: ينعقد دونه، وقيل: لا ينعقد عليه، بل على غيره، فيجوز له مخالفة إجماع من عداه، ولا يجوز ذلك لغيره،

واعلم أنه سيأتي أن الإجماع قد يكون على أمر دنيوي، وحينئذ فلا يبعد أن لا يختص بالمسلمين، لا سيما إذا بلغ المجمعون، حد التواتر ولم يشترط في ناقل التواتر الإسلام. (ص): وبالعدول إن كانت العدالة ركنا، وعدمه إن لم تكن، وثالثها: في الفاسق يعتبر في حق نفسه، ورابعها: إن بين مأخذه. (ش): علم من قوله: (مجتهد) اختصاص الإجماع بالعدول، إن جعلنا العدالة ركناً في الاجتهاد.

فإن قلنا: ليست بركن لم يختص الإجماع بالعدول، وعلم منه حكاية قولين في اعتبار قول الفاسق، وأن مأخذهما البناء على أن العدالة ركن في الاجتهاد أم لا؟ وقد صحح المصنف في باب الاجتهاد أن العدالة لا تشترط، فيلزم منه ترجيح اعتبار قول الفاسق، لكن الأكثرين، على عدم اعتباره، ثم في هذا البناء نظر من جهة أن أهلية الاجتهاد ـ الذي هو استنباط الأحكام، وتصحيح المقاييس، وترتيب المقدمات إلى غير ذلك ـ مما لا تعلق لها بالديانة أصلاً. والثالث: يعتبر خلافه في حق نفسه دون غيره. ورابعها: إن بين مأخذه وإلا فلا، قال ابن السمعاني: ولا بأس به، قال:

وعند هذا القائل يفارق العدل الفاسق، لأن العدل إذا أظهر خلافه جاز الإمساك عن استعلام دليله، لأن عدالته تمنعه عن اعتقاد شرع بغير دليل، قال: وهذا كله في الفاسق بلا تأويل، أما الفاسق بتأويل فكغيره وقد نص الشافعي رضي الله عنه على قبول شهادة أهل الأهواء، وهو محمول على ما إذا لم يؤد إلى التكفير، وإلا فلا عبرة به. (ص): وأنه لا بد من الكل، وعليه الجمهور، وثانيها: يضر الاثنان، وثالثها: الثلاثة، ورابعها: بالغ عدد التواتر، وخامسها: إن ساغ الاجتهاد في مذهبه، وسادسها: في أصول الدين، وسابعها: لا يكون إجماعاً بل حجة. (ش): علم من قوله: (مجتهد الأمة) أنه لا بد من وفاق جميعهم، فلو خالف واحد لم يكن قول غيره إجماعاً، وهذا مذهب الجمهور.

والثاني: يضر الاثنان لا الواحد. وثالثها: تضر الثلاثة لا الواحد ولا الاثنان. ورابعها: عن بلغ الأقل عدد التواتر لم يعتد بالإجماع دونه، وإلا اعتد به، حكاه الغزالي والآمدي وقال القاضي في (مختصر التقريب): إنه الذي يصح عن ابن جرير.

والخامس: إن سوغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف كان خلافه معتداً به كخلاف ابن عباس في العول، وإن لم يسوغوا له الاجتهاد بل أنكروه عليه

كالمتعة وربا الفضل ـ فلا، وهو قول الجرجاني من الحنفية وحكاه السرخسي

عن أبي بكر الرازي. والسادس: يضر في أصول الدين دون غيره من العلوم. وسابعها: لا يكون إجماعاً، بل هو حجة فهذا هو الذي رجحه ابن الحاجب، فإنه قال: لو ندر المخالف مع كثرة المجمعين لم يكن إجماعاً قطعاً، والظاهر أنه حجة، لبعد أن يكون الراجح متمسك المخالف قال الهندي والظاهر أن من قال:

إنه إجماع، فإنما يجعله إجماعاً ظنياً لا قطعياً، وبه يشعر إيراد بعضهم. وحكى ثامناً: أنه إجماع وحجة. وتاسعاً: أنه ليس بحجة ولا إجماع لكن الأولى اتباع الأكثر، وإن كان لا يحرم مخالفتهم. (ص): وأنه لا يختص بالصحابة، خلافاً للظاهرية. (ش): لأن الأدلة على كون الإجماع حجة لا تفرق بين عصر وعصر، قال ابن حزم:

وذهب داود وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو إجماع الصحابة فقط وهو قول لا يجوز خلافه، لأن الإجماع إما أن يكون عن توقيف، والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف فإن قيل فما تقولون في إجماع من بعدهم أيجوز أن يجمعوا على خطأ؟ قلنا هذا لا يجوز لأمرين: أحدهما: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمنا من ذلك بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)). والثاني: أن سعة الأقطار بالمسلمين وكثرة العدد لا يمكن أحداً ضبط أقوالهم، ومن ادعى هذا لم يخف كذبه على أحد انتهى.

(ص): وعدم انعقاده في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (ش): علم من قوله: بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا ينعقد الإجماع في حياته، لأنه إن أجمع معهم فالحجة في قوله وإلا فلا اعتبار بقولهم. (ص): وأن التابعي المجتهد معتبر معهم، فإن نشأ بعد فعلى الخلاف في انقراض العصر.

(ش): علم من إطلاقه المجتهد أن التابعي إذا كان موجوداً في عصر الصحابة فلا يعتد بإجماع الصحابة مع مخالفته خلافاً لقوم. لنا: تناول أدلة الإجماع للكل، واستدل كثيرون منهم الإمام فخر الدين بتسويغ الصحابة للتابعي مخالفتهم، ورجوعهم إليه في بعض الوقائع لقول أنس: (سلوا الحسن) وابن عباس،

لما سئل عن نذر ذبح الولد: سلوا مسروقاً وقصة أبي سلمة في العدة،

وهذا لا يدل، لأن ذلك جوز عند اختلاف الصحابة فلا يلزم من اعتبار قوله عند الخلاف اعتباره عند وفاقهم، وهذا إذا كان مجتهداً وقت إجماعهم، فإن نشأ بعدهم أي: صار مجتهداً بعد الإجماع فخلافه مبني على أنه هل يشترط في الإجماع انقراض العصر؟ فمن شرط انقراضه قال: لا ينعقد إجماع الصحابة (3/ك) مع مخالفته، ومن لم يشترط لم يعتد بخلافه وهو ما قطع به الغزالي وابن السمعاني، كمن أسلم بعد تمام الإجماع، واعلم أن هذه المسألة من جملة أفراد التي قبلها، وهي مخالفة الواحد هل يؤثر؟ ولهذا قال الغزالي: هذه المسألة إنما يتصور الخلاف فيها مع من يوافق على أن إجماع الصحابة يندفع بخلاف واحد منهم كما سبق، أما من ذهب إلى أنه لا يدفع إجماع الأكثر بالأقل كيفما كان لا يختص كلامه بالتابعي. (ص): وأن إجماع كل من أهل المدينة وأهل البيت، والخلفاء الأربعة، والشيخين، وأهل الحرمين وأهل المصرين ـ الكوفة والبصرة ـ غير حجة. (ش): قوله: غير حجة، مرفوع خبر أن، أي: علم من عموم مجتهد الأمة

أن إجماع من ذكر ليس بحجة، لأنهم ليسوا كل الأمة، والأول خالف فيه مالك فأجراه أكثر أصحابه على ظاهره وأوله بعض أصحابه على ترجيح

روايتهم على غيرهم مع مخالفة غيرهم لهم، وقد أشار الشافعي رضي الله عنه إليه في القديم ورجح رواية أهل المدينة على رواية غيرهم، وبعضهم قال: أراد اتباعهم أولى مع تجويز المخالفة لعلو، وبعضهم قال: أراد الصحابة، وبعضهم: التابعين وتابعيهم. وقال ابن دقيق العيد: الذي نقطع به ولا يصح سواه أن علمهم إنما يقوى فيما طريقة النقل، وما تقتضي العادة فإنه لو تغير لعلم التغيير وزمانه، وأما مسائل الاجتهاد فلا، هذا مع أنه قد ادعى أنه لم يختلف في مسألة في غير المدينة إلا وقد

اختلف فيها أهل المدينة. انتهى. والثاني: خالف فيه الشيعة محتجين بقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} فنفى الخطأ. وأجيب: بأنها نزلت في الأزواج لدفع التهمة عنهم، وسياقها يدل على ذلك، فإن قيل: لو كان المراد الأزواج لقيل: عنكن الرجس.

قلنا: لأنه أراد معهن غيرهن من الذكور كعلي، والحسن والحسين، وإذا اشتمل الجمع على مذكر ومؤنث غلب المذكر كقوله تعالى: {أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت}. والثالث: خالف فيه أبو حازم

من الحنفية وتعبير المصنف بالخلفاء أحسن من تعبير ابن الحاجب بالأئمة الأربعة، لأنه أظهر في إرادة أبي بكر وعمر وعثمان،

وعلي رضي الله تعالى عنهم. والرابع: خالف فيه قوم. لقوله: ((واقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)). والخامس والسادس: حكى الغزالي الخلاف فيه عن طائفة، ومدركهم

انتشار الصحابة في هذه البلاد دون غيرها، وهو في الحقيقة راجع لخلاف الظاهرية المخصصين، له بالصحابة إلا أنه أخص من ذلك. (ص): وأن المنقول بالآحاد حجة وهو الصحيح في الكل. (ش): أي: في المسائل الست السابقة، وفيه تنبيه على الخلاف فيها لكن الصحيح هنا أن المنقول بالآحاد حجة، لأن الإجماع من جملة الأدلة، فلا يشترط التواتر في نقله قياساً على نقل السنة وهذا ما صححه الإمام والآمدي وغيرهما، وخالف الأكثرون فشرطوا التواتر في نقله محتجين بأنا إنما عملنا بخبر الواحد لإجماع الصحابة عند نقل العدل عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما إذا نقل الإجماع بطريق الآحاد.

فلا يجوز أن يستند إليه إلا بالقياس على محل الإجماع، ولم يتعبد بالقياس في قواعد الشريعة هذا كلام الشيخ أبي حامد الإسفراييني، والأصح الأول، وقال الغزالي: من جعل مأخذ الإجماع دليل العقل في استحالة الخطأ بحكم العادة ـ لزمه اشتراط عدد التواتر، ومن جعل مأخذه السمع، اختلفوا على قولين. (ص): وأنه لا يشترط عدد التواتر، وخالف إمام الحرمين. (ش): أي علم من مجتهد الأمة وجود مسمى الجمع، ولا يشترط في المجمعين بلوغهم عدد التواتر عند الأكثرين، لأن أدلة الإجماع تدل على عصمة المؤمنين والأمة مطلقاً، من غير فرق بين بلوغهم حد التواتر أم لا،

خلافاً للإمام والذي رأيته في (البرهان) ذهب بعض الأصوليين إلى أنه لا يجوز انحطاط علماء العصر عن مبلغ التواتر، وجوزه الأستاذ أبو إسحاق وقال: لو أجمعوا كان إجماعهم حجة ثم طرد قياسه، فقال: يجوز أن لا يبقى في الدهر إلا مفت واحد، ولو اتفق ذلك فقوله حجة كالإجماع، قال الإمام: والذي نرتضيه ـ وهو الحق ـ أنه يجوز انحطاط عددهم، بل يجوز شغور الزمان عن العلماء وتعطيل الشريعة، وأما القول بأن إجماع المنحطين عن مبلغ التواتر حجة، فهو غير مرض، فإن مأخذ الإجماع يستند إلى طرد العادة، ومن لم يحسن إسناد الإجماع إليه لم

يستقر له قدم فيه انتهى. فعلى هذا هنا مسألتان: جواز ذلك، وهل هو حجة أم لا؟ والإمام يوافق على الأول، ولكنه يخالف في الثاني، وكلام المصنف فيه، واعلم أن التجويز إنما يتجه إذا قلنا بثبوت الإجماع بدليل السمع، فأما من يثبته بدليل العقل كإمام الحرمين، وهو أن الجمع الكثير لا يمكن تواطؤهم على الخطأ عادة فلا بد من اشتراط التواتر عنده. (ص): وأنه لو لم يكن إلا واحد لم يحتج به وهو المختار. (ش): أي علم من قولنا: اتفاق ـ أنه لو لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فليس بحجة لأن العصمة إنما تثبت للأمة، وقال الأستاذ أبو إسحاق: إنه حجة وعزاه الهندي للأكثرين، قيل: أما كونه ليس بإجماع فلا خلاف فيه.

قلت: ذكر الغزالي أنا إن اعتبرنا موافقة العوام (82/ز) فإذا قال الواحد قولاً وساعده العوام فهو إجماع الأمة فيكون حجة، وإن لم نلتفت إلى قولهم فلم يوجد ما يتحقق به اسم الاجتماع، لأنه يستدعي عدداً حتى يسمى إجماعاً. (ص): وأن انقراض العصر لا يشترط، وخالف أحمد وابن فورك وسليم فشرطوا انقراض كلهم أو غالبهم أو علمائهم، أقوال اعتبار العامي والنادر، وقيل: يشترط في السكوتي، وقيل: إن كان فيه مهلة، وقيل: إن بقي منهم كثير، وأنه لا يشترط تمادي الزمن، وشرطه إمام الحرمين في الظني. (ش): علم من قوله: في عصر ـ أنه لا يشترط في انعقاد الإجماع انقراض عصر المجمعين، وفيه مذاهب. أصحها: عند المحققين: أنه لا يشترط، بل يكون اتفاقهم حجة وإن لم ينقرضوا حتى لو رجع بعضهم كانت الحجة عليه. والثاني: يشترط، وهو قول أحمد،

واختاره ابن فورك، وسليم الرازي، من أصحابنا. وإذا قلنا بهذا فهل يشترط انقراض كلهم أو انقراض غالبهم أو انقراض

علمائهم؟ ثلاثة أقوال، وهي مبنية على الخلاف السابق، والقائل باشتراط غالبهم هو القائل بأنه لا يعتبر بمن ندر عن المجمعين، والقائل باشتراط انقراض علمائهم هو القائل بأنه لا عبرة بوفاق العوام، وإليه أشار بقوله، أقوال اعتبار العامي والنادر والقائل انقراض الكل ـ هو الذي لا يشترط شيئاً من ذلك. والثالث: إن كان سكوتياً اشترط لضعفه بخلاف القولي وهو رأي البندنيجي واختاره الآميدي. والرابع: ينعقد قبل الانقراض فيما لا مهلة فيه، ولا يمكن استدراكه من قتل نفس أو استباحة فرج دون غيره، وحكاه ابن السمعاني، وسيأتي نظيره في السكوتي. والخامس: إن لم يبق من المجتمعين إلا عدد ينقصون عن أقل عدد التواتر فلا

يكترث ببقائهم ويحكم بانعقاد الإجماع حكاه القاضي، وقوله: وأنه لا يشترط أي: لا يشترط في انقراض العصر تمادي الزمان وطول المكث وفصل إمام الحرمين بين أن يكون الإجماع مقطوعاً به فلا يشترط فيه الانقراض ولا طول المكث بعد قوله، وبين أن يكون حكماً مطلقاً يسنده المجمعون إلى الظن، فلا بد فيه من غلبة الزمن، فإذا طال ولم ينقدح على طوله لواحد منهم خلاف فهو يلتحق بقاعدة الإجماع. ونقل ابن الحاجب مذهب الإمام في أصل المسألة أنه إن كان عن قياس اشترط وإلا فلا، وقال الهندي: فصل الإمام بين أن يعلم أن متمسكهم ظني فليس بحجة حتى يطول الزمان، وتتكرر الواقعة، قال: ومقتضى هذا أنهم لو انقرضوا عقب الإجماع لا تستقر حجته، ولو بقوا بعد التكرر وتطاول الزمان يكون حجة، وإن كان قطعياً فلا يعتبر الانقراض، ولا التطاول، وعلى هذا فاقتصار المصنف في النقل عن الإمام على تمادي الزمن وحده ليس بجيد، بل لا بد أن يقول: وتكرر الواقعة، وعليه الإمام في (البرهان) وشرط ما ذكرناه: أن يغلب عليهم في الزمن الطويل ذكر تلك

الواقعة وتردد الخوض فيها فلو وقعت الواقعة فسبقوا إلى حكم فيها ثم تناسوها إلى ما سواها فلا آخر الزمان والحالة هذه، ثم بني على ذلك أنهم لو قالوا عن ظن ثم ماتوا على الفور لا يكون إجماعاً، ثم أشار إلى ضبط الزمن فقال: المعتبر زمن لا يعرض في مثله استقرار الجم الغفير على رأي إلا عن حاصل قاطع، وما نزل منزلة القاطع على الإقرار. (ص): وأن إجماع السالفين غير حجة وهو الأصح. (ش): علم ذلك من قوله: الأمة، فإجماع الأمم السالفة ليس بحجة لأنه إنما صار حجة بالشرع، والشرع لم يرد إلا بعصمة هذه الأمة، وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن إجماع كل أمة حجة ولم يبينوا أن الخلاف في كونه حجة عندنا أو عندهم، ويحتمل أنه عندنا، وهو مفرع على كونه حجة عندهم فإذا ثبت أنه حجة عندهم فيتفرع على أنه شرع لنا أو لا؟

فإن قلنا: نعم، فيكون عندنا إجماعهم حجة وإلا فلا وفيه نظر.

(ص): وأنه قد يكون عن قياس خلافاً لمانع جواز ذلك أو وقوعه مطلقاً أو الخفي. (ش): علم من إطلاق الاجتهاد أنه يكون مستنده إلى النص، ولا خلاف فيه، ويكون عن قياس وفيه مذاهب. أحدها: أنه جائز واقع وعليه الجمهور. وثانيها: جائز غير واقع. والثالث: أنه غير ممكن إذ لا يتصور اتفاق الخلق الكثير في مظنة الظن وهو قول داود وابن جرير. والرابع: إن كانت الأمارة جلية جاز أو خفية فلا، وقال المقترح: عندي

لا يستحيل ذلك في العادة لكن بعض صور الإجماع تتشعب فيها الظنون فيستحيل عند عدم ظهور الظن ودقة النظر في الواقعة الإجماع على ذلك الظن البعيد عادة، ثم اختلف القائلون بالوقوع في أنه يحرم مخالفته، إذا ما وقع إطباقهم على أنه حجة. (ص): وأن اتفاقهم على أحد القولين قبل استقرار الخلاف جائز، ولو من الحادث بعدهم، وأما بعده منهم فمنعه الإمام، وجوزه الآمدي مطلقاً، وقيل: إلا أن يكون مستندهم قاطعاً وأما من غيرهم فالأصح يمتنع إن طال الزمان. (ش) إذا اختلف أهل العصر على قولين، ثم اتفقوا فله حالتان: إحداهما: أن يكون قبل استقرار الخلاف، فالجمهور على جوازه خلافاً للصيرفي؛ لرجوعهم إلى الصديق في قتال مانعي الزكاة بعد سبق الخلاف

فيه وإذا جوزنا ذلك لهم جاز للحادث بعدهم. الثانية: أن يستقر ويمضي أصحاب الخلاف عليه مدة، وفيه مسألتان. إحداهما: إذا اختلف أهل العصر على قولين فهل يجوز لأهل ذلك العصر بعينهم بعد استقرار الخلاف، الاتفاق على أحد القولين، والمنع من المصير إلى القول الآخر فيه خلاف مبني على اشتراط انقراض العصر، فإن شرطناه جاز قطعاً وإلا ففيه مذاهب. أحدها ـ وهو اختيار الإمام ـ: أنه لا يجوز مطلقاً.

الثاني: وهو اختيار الآمدي (83/ز) عكسه. والثالث: يجوز إن كان مستند اتفاقهم على الخلاف القياس والاجتهاد ولا دليل قاطع. المسألة الثانية: إذا اختلفوا على قولين، ومضوا على ذلك، فهل يتصور انعقاد إجماع العصر الثاني بعدهم على أحدهما، حتى يمتنع المصير إلى القول الآخر فذهب الجمهور إلى امتناعه، منهم الأشعري، وأحمد بن حنبل، وإمام الحرمين والغزالي.

وذهب جماعة إلى الجواز، وأشار بقوله: إن طال الزمان، إلى أنه إذا تمادى الزمان المتطاول على قولين بحيث يقضي العرف بأنه لو كان ينقدح وجه في سقوط أحد القولين مع طول المباحثة لظهر ذلك في الباحثين فحينئذ لا يجعل ذلك إجماعاً، بخلاف ما إذا قرب فإنه لا أثر للاختلاف السابق، وهذا التفصيل اختاره إمام الحرمين، قال الكياالهراسي: ذهب قوم إلى أن هذا النوع لا يتصور وإليه ميل إمام الحرمين، والذين أحالوا تصويره اختلفوا على ثلاثة طرق، فقيل: لأن إجماع التابعين لا يحتج به، وقيل: لأن الإجماع لا يصدر إلا عن اجتهاد، والخلاف على قولين يقتضي صدور الأقوال عن الاجتهاد، وقال الإمام: استحالة تصوره من حيث إنه إذا تمادى الخلاف في زمان متطاول بحيث يقضي العرف بأنه لو كان يقدح وجه

في سقوط أحد القولين مع طول المباحثة لظهر في المباحثين فإذا انتهى الأمر إلى هذا المنتهى، ولم يتجدد بلوغ ما يجب الحكم به فلا يقع في العرف درس مذهب طال الذب عنه، فإن فرض ذلك فالإجماع محمول على بلوغ خبر يجب الحكم بمثله سوى ما كانوا خائضين فيه من مجال الظنون. (ص): وأن التمسك بأقل ما قيل حق. (ش): أخذ الشافعي بأقل ما قيل إذا لم يجد دليلاً ووافقه القاضي وكثيرون وخالفه قوم، مثاله: اختلاف العلماء في دية الكتابي، قيل: كدية المسلم، وقيل النصف، وقيل بل الثلث فقط، فأخذ به الشافعي، وظن جماعة أنه

راجع للإجماع، فإن الأمة أجمعت على ذلك الأقل، فإن من أوجب الكل والنصف فقد أوجب الثلث ضرورة كونه بعضه فالكل مطبقون على وجوب الثلث، وهذا هو ظاهر إدراج المصنف له في باب الإجماع، لكن القاضي أبو بكر في (التقريب) ذكر أن بعضهم عزى ذلك إلى الشافعي، ثم قال: ولعل الناقل عنه زل في كلامه، وقال الغزالي: هو سوء ظن به، فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر ولا مخالفة فيه، والمختلف فيه سقوط الزيادة، ولا إجماع فيه، وحينئذ فليس ممسكاً بالإجماع، بل مجموع هذين الدليلين. أحدهما: (5/ ك) على إثبات الأقل، والآخر: على نفي الزيادة وهو البراءة الأصلية. قال شارحه العبدري: (ليس تمسكاً بالإجماع) أي في إبطال الزيادة على أصل ما قيل بها في أقل ما قيل، فهو تمسك بالإجماع بدليل قوله: المجمع عليه وجوب هذا القدر ولا مخالف فيه لهم، وما زاد ينازع فيه، والأصل براءة الذمة منه فلا يزاد بغير دليل، وهنا تنبيه آخر وهو أن الشافعي رضي الله عنه إنما أخذ بالأقل إذا كان الأقل مجمعاً عليه، ولم يدل دليل على الزيادة، بل الزيادة منفية بالبراءة الأصلية فأما إذا دل دليل على الزيادة أقوى من البراءة الأصلية فلا يأخذ بالأقل مطلقاً ولهذا لما اختلف الناس في العدد الذي تنعقد به الجمعة، فقيل: أربعون

وقيل ثلاثة فلم يأخذ الشافعي رضي الله عنه بالأقل لأنه وجد في الأكثر دليلاً أقوى من البراءة الأصلية ربما ذكرناه= يندفع استشكال من أوردها على هذا الأصل. (ص): أما السكوتي فثالثها حجة لا إجماع، ورابعها: يشترط الانقراض، وقال ابن أبي هريرة: إن كان فتيا، وأبو إسحاق المروزي عكسه، وقوم إن وقع فيما يفوت استدراكه، وقوم في عصر الصحابة، وقوم إن كان الساكتون أقل، والصحيح حجة، وفي تسميته إجماعاً خلاف لفظي، وفي كونه إجماعاً حقيقة تردد مثاره أن السكوت المجرد عن أمارة رضا وسخط مع بلوغ الكل ومضى= مهله= النظر عادة عن مسألة اجتهادية تكليفية وهي صورة السكوت هل يغلب ظن الموافقة؟ (ش): تناول إطلاقه الاتفاق في الحد السابق القولي والسكوتي وما سبق في القولي, أما الإجماع السكوتي: فهو أن يفتي واحد ويسكت الباقون بعد علمهم, نظرهم, وفيه مذاهب: أحدها: أنه ليس بإجماع ولا حجة لاحتمال توقفه في المسألة، أو ذهابه إلى تصويب كل مجتهد وحكاه القاضي أبو بكر عن الشافعي رضي الله عنه واختاره وقال: إنه آخر أقواله، وإمام الحرمين وقال: إنه ظاهر مذهبه, ولهذا قال: لا ينسب إلى ساكت قول, قال الإمام: وهي من عبارته الرشيقة, وقال الغزالي في (المنخول): نص عليه في (الجديد).

الثاني: أنه إجماع وحجة، وحكاه الآمدي عن بعض أصحابنا واختاره صاحب (البديع) ... والثالث: حجة لا إجماع، وبه قال الصيرفي، واختاره الآمدي وابن الحاجب في مختصره الكبير، وقال: لا إجماع قطعي، ونبه الآمدي في مسألة انقراض

العصر على شرط فيه، وهو ما قبل انقراض العصر فأما بعد انقراضه، فإنه يكون إجماعاً. والرابع: إجماع بشرط انقراض العصر، وهو رأي البندنيجي من أصحابنا، وقال الشيخ في (اللمع): إنه المذهب، قال: فأما قبل انقراضه، فهل يقول إنه ليس بإجماع قطعاً، وعلى الخلاف طريقان. والخامس: إجماع إن كان فتيا لا إن كان حكماً وهو قول ابن أبي هريرة كذا حكاه الآمدي، والذي في (المحصول) عنه:

لا إن كان من حاكم، وبينهما فرق إذ لا يلزم من صدوره من الحاكم: أن يكون قاله على جهة الحكم، فقد يفتي الحاكم، وهذا وجه إعراض المصنف عن ذكر مقالته في الشق الآخر كما لم يتحرر له فيه شيء. والسادس: عكسه قاله أبو إسحاق المروزي، معتلاً، بأن الأغلب أن الصادر عن الحاكم يكون عن تشاور. السابع: إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم واستباحة فرج كان إجماعاً وإلا فلا حكاه ابن السمعاني. والثامن: إن كان في عصر الصحابة كان إجماعاً وإلا فلا (48/ز) حكاه الماوردي.

التاسع: إن كان الساكتون أقل كان إجماعاً وإلا فلا حكاه السرخسي من الحنفية وما صححه المصنف سبقه إليه الرافعي، حيث قال في كتاب القضاء: المشهور عند الأصحاب أن الإجماع السكوتي حجة، وهل هو إجماع؟ فيه وجهان وقال الشيخ أبو إسحاق في شرح (اللمع): إنه إجماع على المذهب، وأشار المصنف إلى أن الخلاف حينئذ في تسميته إجماعاً لفظي لأن التفريع على كونه حجة، وفي كونه إجماعاً حقيقة تردد مثاره أن السكوت المجرد عن أمارات الرضا والسخط مع العلم ببلوغ جميع أهل العصر الواقعة ولم يخالفوا ومضى عليهم مهلة النظر عادة في مسألة واقعة في محل الاجتهاد ليخرج الاتفاقية، وخرج بالتكليفية، ما لو كانت المسألة في تفضيل شخص على آخر، وهذه شروط الإجماع

السكوتي هل يغلب ظن الموافقة أم لا؟ وفات المصنف من الشروط: أن يتكرر مع طول المدة، وأن يكون قبل استقرار المذاهب. (ص): وكذا الخلاف فيما لا ينتشر. (ش): إذا أفتى واحد ولم ينتشر بين أهل عصره ولم يعرف له مخالف، ذهب بعضهم إلى أنه إجماع أو حجة على الخلاف السابق، لأن الظاهر وصوله إليهم مع الانتشار فيكون كالسكوت مع العلم به، وعلى هذا تأتي مذاهب التفصيل، لكن الأكثرين، هنا على أنه ليس بحجة، وقال الرازي: إن كان القول مما تعم به البلوى كان كالسكوتي وإلا لم يكن حجة. (ص) وأنه قد يكون في دنيوي وديني وعقلي لا تتوقف صحته عليه.

(ش): علم من قوله: على أمر، أنه يستدل بالإجماع في الأمور الدنيوية كالآراء والحروب، وتدبير الجيوش، وأمور الرعية، لأن أدلة الإجماع لم تفصل بين أن يتفقوا على أمر ديني أو دنيوي وللقاضي عبد الجبار فيه قولان، ووجه المنع أن المصالح تختلف بحسب الأزمان فلو كان حجة للزم ترك المصلحة وإثبات ما لا يصلح فيه، وقطع به الغزالي، وقال ابن السمعاني إنه الأصح، لا لهذا المأخذ المعتزلي، بل ذكره غيره، ومنهم من فصل بين ما يكون بعد استقرار الرأي وبين ما

يكون قبله فقال بحجية الأول دون الثاني حكاه الهندي، وأما الأمور الدينية كوجوب الصلاة والزكاة فبالاتفاق، وأما العقلي فيستدل به فيما لا تتوقف حجته على الإجماع كحدوث العالم ووحدة الصانع، لجواز معرفة هذين قبل معرفة الإجماع، وأما ما يتوقف على إثباته فلا يستدل به كإثبات الصانع والنبوة فإن الإجماع يتوقف على ذلك وإلا لزم الدور. (ص): ولا يشترط فيه إمام معصوم. (ش): أي خلافاً للروافض بناء على رأيهم أنه لا يجوز خلو زمن من أزمنة التكليف عن الإمام المعصوم، ومتى كان كذلك كان الإجماع حجة من حيث إن

الإمام داخل فيهم لا من حيث الإجماع. (ص): ولا بد له من مستند وإلا لم يكن لقيد الاجتهاد معنى وهو الصحيح في الكل. (ش): مذهب الجماهير أنه لا يجوز حصول الإجماع إلا عن مستند شرعي، قالوا: وإذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقول ما يقوله إلا عن وحي فالأمة أولى أن لا يقولوا ما يقولونه إلا عن دليل، وهذا معلوم من قوله في الحد مجتهد الأمة، وإلا لم يكن لقيد الاجتهاد فائدة. وقال قوم: يجوز أن يحصل بالمصادفة بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير توقيف على مستند، لكن سلموا أن ذلك غير واقع كما قاله الآمدي

وإذا ثبت أنه لا ينعقد الإجماع إلا عن دليل فلا خلاف أنه ينعقد عن الكتاب والسنة، ثم إن كان عن نص غير محتمل، كان الحكم ثابتاً بالنص، ولو لم يكن للإجماع تأثير في ثبوتهم، وإن كان النص خبر واحد فالحكم ثابت بالنص والقطع بصحته ثابت بالإجماع، وإن كان المستند ظاهراً فالحكم ثابت بالظاهر، ونفي الاحتمال عن الظاهر والقطع بصحة الحكم ناشئ عن الإجماع واختلفوا هل يجوز أن ينعقد عن القياس؟ وبه يثبت. (ص): مسألة: الصحيح إمكانه وأنه حجة في الشرع وأنه قطعي حيث اتفق المعتبرون لا حيث اختلفوا كالسكوتي، وما ندر مخالفه، وقال الإمام والآمدي: ظني مطلقاً. (ش): فيه ثلاث مسائل: الأولى: الإجماع ممكن خلافاً للنظام. في إحالته، ولمن قال بإمكانه لكن لا سبيل إلى الاطلاع عليه لتعذر الإحاطة

بأقوال الخلق، والدليل عليه أنا نعلم اتفاق الخلق الكثير والجم الغفير في شرق البلاد وغربها على نبوة سيدنا محمد (6/ك) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبب معجزته القاطعة، واتفاق أهل السنة على مقتضاها فأين الاستحالة والعسر. الثانية: إذا ثبت إمكانه فهو حجة خلافاً لمن قال بتصوره وأنكر حجيته،

والصحيح أنه حجة لله في شريعته وقد تضافرت أدلة الكتاب والسنة على ذلك ومنهم من احتج عليه بطريق العقل،

ومنهم من احتج بالعادة. الثالثة: إذا قلنا إنه حجة فهل هو حجة قطعية بحيث نكفر أو نضلل مخالفه، أو ظنية؟ فذهب الأكثرون إلى الأول، وذهب الآمدي والإمام إلى الثاني، واختار المصنف تفصيلاً في المسألة، وهو إما أن يتفق المعتبرون على كونه حجة إجماعاً أو لا، فإن اتفقوا على أنه إجماع فهو حجة قطعية كالإجماع بالحد السابق، وإن اختلفوا في الشيء هل هو إجماع أم لا؟ فهو حجة ظنية كالإجماع السكوتي، وما ندر مخالفه ولهذا لما حكى ابن السمعاني الخلاف في السكوتي، وأنه هل هو

ظني أو قطعي اختار أنه ظني وقال ابن الحاجب: فيما ندر مخالفه لا يكون إجماعاً قطعياً وقال الهندي من قال إنه إجماع فإنما يجعله إجماعاً ظنياً لا قطعياً، وإنما مثل المصنف بمثالين للتنبيه على أن المختلف فيه لا فرق بين أن يكون الأصح أنه ليس بحجة كما ندر مخالفه أو يكون حجة كالسكوتي. (ص): وخرقه حرام فعلم تحريم إحداث ثالث، والتفصيل إن خرقاه، وقيل خارقان مطلقاً، وأنه يجوز إحداث دليل أو تأويل أو علة إن لم يخرق، وقيل: لا. (ش): خرق الإجماع حرام، لأن الله تعالى توعد عليه بقوله: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} ولا خلاف فيه إذا كان عن نص، فإن كان عن اجتهاد فحكى القاضي عبد الجبار قولاً: إنه يجوز لمن تقدم، مخالفته، لأنه قول صادر عن اجتهاد ... فيجوز خلافه والصحيح (85/ز) المنع؛ لأن الإجماع إذا وجد بأي دليل كان، صار حجة وحرم خلافه، وفرع المصنف عليه مسائل: إحداها: أنه يحرم إحداث قول ثالث في مسألة واحدة، فإذا اختلف أهل العصر على قولين فهل لمن بعدهم إحداث ثالث؟ فيه مذاهب: أصحها المنع مطلقاً وعليه الجمهور كما إذا أجمعوا على قول واحد، حرم إحداث ثان.

الثاني: الجواز وأشار المصنف بفاء التفريع إلى أن= لا يجوز ثالث مع اعتقاد أنه خارق بل من جوز الثالث اعتقده غير خارق ومن منعه اعتقده خارقاً. الثالث: وهو الحق عند المتأخرين أن الثالث إن لزم منه رفع ما أجمعوا عليه كان خارقاً فيكون حراماً، وإلا جاز، مثاله أن الشافعي رضي الله عنه يقول: ما أسكر كثيره فقليله حرام سواء ماء العنب وهو المسمى بالخمر أو غيره وأبو

حنيفة، يقول: المسكر من كل شيء حرام، وأما غير المسكر، فإن كان خمراً فكذلك، وإلا فلا يحرم منه إلا القدر المسكر، فمن قال بحل ما لا يسكر من خمر وغيره وقصر التحريم على القدر المسكر من كل شيء ـ فقد خرق الإجماع، لأن قوله في الخمر لم يقل به أحد. الثانية: إذا لم يفصل أهل العصر بين مسألتين بأن قال بعضهم بالحل فيهما وآخرون بالتحريم فيهما، وأراد من بعدهم بالتفصيل، فإن قالوا: لا فصل بين هاتين المسألتين امتنع التفصيل، بالاتفاق لأنه إجماع صريح كغيره من الإجماعات، كذا قاله الهندي، لكن الخلاف فيه ثابت، ومثله ما إذا لم ينصوا عليه بل يعلم اتحاد الجامع بين المسألتين كتوريث العمة والخالة لأنه رفع مجمع، وإلا فقيل: لا يجوز الفرق، وقيل: يجوز، وهو المختار، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: والتفصيل، أي: ويحرم

التفصيل، وقوله: إن خرقاه، قيد في هذه والتي قبلها، وقوله: وقيل: خارقان، راجع إليهما أيضاً، وخرقه يتصور بما إذا نصوا على عدم الفصل أو علم اتحاد الجامع. الثالثة: إذا استدل المجمعون بدليل على حكم أو ذكروا تأويلاً أقر عليه, فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل أو علة؟ فإن كان فيه إلغاء الأول وإبطاله لم يجز لأنه يقتضي إبطال ما أجمعوا عليه وخرق الإجماع حرام، وإن لم يكن فيه ذلك فالأكثرون على الجواز، لأنه قد يكون على الشيء أدلة، وقيل: لا يجوز

لأن التأويل الجديد والدليل ليس سبيلاً للمؤمنين فوجب أن لا يجوز قبوله. (ص): وأنه يمتنع ارتداد الأمة سمعاً وهو الصحيح. (ش): اختلفوا في إمكان ارتداد الأمة في عصر من الأعصار سمعاً لا عقلاً فمنهم من جوزه، والمختار الامتناع، لأنه خطأ وضلال، وهما منفيان عن الأمة بالأحاديث الدالة على عصمتها عن الخطأ، وأشار المصنف بقوله: سمعاً، إلى عدم امتناعه عقلاً. (ص): لاتفاقهم على جهل ما لم تكلف به على الأصح لعدم الخطأ. (ش): يمتنع جهل جميع الأمة لما كلفوا به، كالجهل بكون الوتر واجباً أم لا، وهل يجوز أن تشترك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به كالتفاضل بين عثمان وحذيفة

ذهب كثيرون إلى الجواز لأن عدم العلم به ليس بخطأ، لأن الخطأ في الشرعيات عبارة عن مصادفة الحكم أو عدم مصادفة طريقة فلا يلزم من إجماعهم على عدم العلم به إجماعهم على الخطأ، وذهب قوم إلى المنع لأنهم لو أجمعوا عليه لكان عدم العلم سبيلاً فكان يجب اتباعهم فيه فيحرم تحصيل العلم به وهو ضعيف، لأن عدم العلم ليس بسبيل لهم لأن السبيل ما يختاره الإنسان من قول أو عمل، واعلم أن ابن الحاجب لم يذكر هذه المسألة، وإنما ذكر مسألة هل يمكن وجود خبر أو دليل ولا معارض له وتشترك الأمة في عدم العلم به، وقال الهندي: الخلاف فيه مرتب على الخلاف السابق فمن منع هناك منع هنا بطريق الأولى، ومن وافق، ثم اختلفوا هنا فمنهم من جوزه، ومنهم من منع، ومنهم من فصل: فجوز فيما إذا كان عملهم، موافقاً لمقتضاه دون ما ليس كذلك وهو الأولى لأنه لا يجوز ذهولهم عما كلفوا به وإلا لزم إجماعهم على الخطأ، ووجه ترتيب الخلاف فيه على

الخلاف السابق أن عدم التكليف هنا لأمر عارض وهو عدم علمهم به، وأما في السابقة فبالأصالة. (ص): وفي انقسامها فرقتين كل مخطئ في مسألة تردد مثاره هل أخطأت. (ش): هل يجوز انقسام الأمة إلى قسمين كل قسم مخطئ في مسألة أخرى غير مسألة صاحبه، كاتفاق شطر الأمة على أن الترتيب في الوضوء واجب وفي الصلوات الفائتة لا يجب، واتفاق الشطر الآخر على أن الترتيب في الفوائت واجب وفي الوضوء غير واجب؟ فذهب الأكثرون إلى المنع لأن خطأهم في المسألتين لا يخرجهم من أن يكونوا قد اتفقوا على الخطأ، وهو منفي عنهم وجوزه المتأخرون، لأن المخطئ في كل واحدة، بعض الأمة، ومثار الخلاف أن المخطئين

في المسألتين جميعاً كل الأمة أو بعضهم. (ص): وأنه لا إجماع يضاد إجماعاً سابقاً خلافاً للبصري. (ش): ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن ينعقد إجماع بعد إجماع البت، على خلافه، لأنه يستلزم تعارض دليلين قطعيين، وأنه يمتنع، وذهب أبو عبد الله البصري إلى أنه غير ممتنع، لأنه لا امتناع في جعل الإجماع على قول حجة قاطعة ما لم يطرأ عليه إجماع آخر كما في الإجماع على تجويز الأخذ بكلا القولين وتجويز الاجتهاد، لكن لما أجمعوا على أن كل ما أجمعوا عليه على وجه البت فإنه حق واجب العمل به في جميع الأمصار أمناً من وقوع هذا الجائز، فعدم الجواز عنده مستفاد من الإجماع الثاني لا من الإجماع الأول، وعند الجماهير هو مستفاد من الإجماع الأول من غير حاجة إلى الثاني، والحاصل إن تبين كون الإجماع

حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف له عند الجماهير، وعند البصري لا يقتضي ذلك لإمكان تصور (7/ك) كونه حجة إلى غاية إمكان حصول إجماع آخر. (ص): وأنه لا يعارضه دليل، إذ لا تعارض بين قاطعين ولا (86/ز) قاطع ومظنون. (ش): الإجماع لا يعارضه دليل، لأن ذلك إن كان قطعياً فمحال، لأن تعارض دليلين قطعيين محال، لأنه يقتضي خطأ أحدهما، وإن كان ظنياً كالقياس وخبر الواحد، فظاهر، لأن الظني لا يعارض القطعي وتقديم القطعي على الظني ليس من باب الترجيح، وعلم من إطلاقه الدليل أنه لا فرق فيه بين أن يكون نصا أو إجماعاً آخر، وتعارض الإجماعين، يستحيل، لاقتضاء أن يكون أحدهما خطأ وباطلاً، وهو غير جائز على الإجماع، بخلاف النص فإنه يحتمل أن يكون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، وعلم منه أن كلامه في الإجماع القطعي، أما الظني فتجوز معارضته، فالإجماع المتفق عليه أولى من المختلف فيه. (ص): وأن موافقته خبراً لا تدل على أنه عنه، بل ذلك الظاهر إن لم يوجد غيره. (ش): الإجماع الموافق لمقتضى دليل إذا لم يعلم له دليل آخر لا يجب أن يكون مستنداً إلى ذلك الدليل، لاحتمال أن يكون له دليل آخر وهو مستنده، ولم ينقل إلينا استغناء بالإجماع، هذا قول الجمهور، وعن أبي عبد الله البصري: أنه يكون

مستنده، ويجب تأويله على أنه أراد أن ذلك هو الظاهر إذا لم يوجد في المسألة دليل سواه، لا أنه لذلك على سبيل الوجوب، وحكاه ابن برهان في (الوجيز) عن الشافعي أيضاً، وموضع الخلاف عبد الوهاب، فكان حق المصنف تقييد الخبر بالآحاد، ولينظر في هذا المسألة مع قوله فيما سبق في الأخبار: وأن الإجماع على وفق خبر لا يدل على صدقه. ثالثها: إن تلقوه بالقبول، فإن كون مستند الإجماع ودلالة الإجماع على صدقة متقارب، وقد اقتصر ابن السمعاني على إيراد هذه هنا وقال: إنها

تبنى على مسألة أخرى، وهي أن الإجماع يكون منعقداً على الحكم الثابت بالدليل أو على الدليل الموجب للحكم، قال: وأصحهما الأول، لأن الحكم هو المطلوب من الدليل، ولأجله انعقد الإجماع. (ص): خاتمة: جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كافر قطعاً، وكذا المشهور المنصوص في الأصح، وفي غير المنصوص تردد، ولا يكفر جاحد الخفي، ولو منصوصاً. (ش): من جحد مجمعاً عليه فله أحوال: أحدها: أن يكون ذلك المجمع عليه معلوماً من الدين بالضرورة كأركان الإسلام فهو كافر قطعاً وليس كفره من حيث إنه مجمع عليه بل لجحده، ما اشترك الخلق في معرفته، ولأنه صار بخلافه جاحداً، لصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واعلم أنه قد يستشكل قولهم: المعلوم من الدين بالضرورة، فإنه ليس في الأحكام الشرعية على قاعدة الأشعرية شيء يعلم كونه حكماً شرعياً إلا بدليل، وجوابه: أنها تثبت بأعظم دليل، وإنما سميت ضرورية في الدين من حيث أشبهت العلوم الضرورية في عدم تطرق الشك إليها واستواء الخواص والعوام في تركها. الثانية: أن لا يبلغ رتبة الضروري لكنه مشهور، فينظر، فإن كان فيه نص كالصلوات ففي تكفيره خلاف والأصح نعم، وإن لم يكن فيه نص ففي الحكم

بتكفيره خلاف، وصحح النووي في باب الردة التكفير، ونقل الرافعي في باب حد الخمر عن الإمام أنه لم يستحسن إطلاق القول بتكفير المستحل، وقال: كيف يكفر من خالف الإجماع، ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع؟ وإنما نبدعه ونضلله، وأول ما ذكره الأصحاب على ما إذا صدق المجمعين على أن التحريم ثابت في الشرع ثم خالفه فإنه يكون رداً للشرع. الثالثة: أن يكون خفياً لا يعرفه إلا الخواص كفساد الحج بالوطء قبل الوقوف، وتوريث بنت الابن السدس مع بنت الصلب فإذا اعتقد المعتقد في شيء من هذا أنه خلاف إجماع العلماء لم يكفر، لكن يحكم بضلاله وخطئه، ولا فرق في هذا القسم بين المنصوص عليه وغيره لاشتراك الكل في الخفاء ولا نعلم خلافاً،

وأنكروا على ابن الحاجب حيث أوهمت عبارته حكاية قول فيه بالتكفير وهذا التقسيم المذكور يسلم شعث المسألة ويزيل كل إشكال فجزى الله تعالى المصنف خيراً، وختم لي بالحسنى بمنه وكرمه.

الكتاب الرابع: في القياس

[الكتاب الرابع: في القياس] (ص): الكتاب الرابع: في القياس (ص): وهو حمل معلوم على معلوم لمساواته في علة حكمه عند الحامل وإن خص بالصحيح حذف الأخير.

(ش): المراد بحمل معلوم على معلوم: إلحاقه به، وليس المراد بالمعلوم مطلق متعلق العلم فقط بل ومتعلق الاعتقاد والظن، والفقهاء يطلقون لفظ العلم على هذه الأمور وإنما قال معلوم ولم يقل موجود ولا شيء لجريان القياس في المعدوم والموجود، ممكناً كان أو ممتنعاً، فإن القياس يجري فيهما جميعاً، والشيء لا يطلق على المعدوم، وإنما لم يذكر بدل المعلوم الأصل والفرع ـ كما عبر به ابن الحاجب ـ لرفع إيهام كون الفرع والأصل وجوديين وليس بشرط ثم إن الأصل والفرع إنما يعقلان بعد معرفة القياس فتعريف القياس بهما دور، نعم في التعبير بالأصل والفرع فائدة، وهي خروج ما لو كان أحدهما ليس أصلاً للآخر فلا يكون قياساً كالبر والشعير المتساويين في علة حرمة الربا فإن أحدهما ليس أصلاً للآخر، لأن حرمة الربا

ثابتة فيهما بالنص، وإنما قال: في معلوم آخر، لأن القياس هو الإلحاق فيستدعي وجود شيئين، وإنما قال: لمساواته في علة حكمه، لأن القياس لا يوجد بدون العلة، واحترز به عن إثبات الحكم بالنص فإنه لا يكون قياساً، كما لو ورد نص يخص الأرز بتحريمه الربا كما ورد في البر. وقد يخرج به حمل أحد الشيئين على الآخر إذا كان الفرع أولى بالحكم، من الأصل فليس من شرط القياس المساواة، بل زيادته عليه كذلك، وكذا يخرج به حمله عليه لمجرد نفي الفارق بينهما مع أنه من أنواع القياس وإنما عدل عن قولهم لاشتراكهما في علة الحكم إلى قوله: لمساواته، لأمرين.

أحدهما: أن القياس (78/ز) لغة: المساواة، فلفظ المساواة يطابق معناه اللغوي بخلاف لفظ الاشتراك. ثانيهما: أن لفظ المشاركة يصدق بوجهين. أحدهما: المناصفة، تقول: شارك زيد عمراً، أو اشترك زيد مع عمرو في المال، وهذا ليس مرادهم في قولهم: شارك الفرع الأصل في علة حكمه، لأن العلة لم تقسط عليهما حتى كان في كل منهما بعضها ولا تجري فيما بينهما. وثانيهما: المساواة، كما تقول: اشترك زيد وعمرو في الإنسانية، أي تساويا فيها، وهذا هو المقصود، وأما لفظ المساواة فلا يستعمل إلا في هذا المعنى فكان ذكره أولى من لفظ الاشتراك. هكذا قرره المصنف، وأحسن منه أن يقال: إنما اعتبر بالمساواة دون المشاركة لأن المشاركة في أمر ما لا توجب استواءهما في الحكم، ما لم يكن ذلك الأمر فيهما بالسواء، أو بالقرب من السواء، أما لو اختلفا فيه من الجهة التي بها يقتضي الحكم لكان ذلك فرقاً يمنع التسوية بينهما، ولك أن تقول: قوله: في علة حكمه، كان ينبغي تجنبه كما تجنب لفظ الأصل والفرع، لأن العلة من أركان القياس فلا يمكن تعريفها إلا به فأخذها في تعريف القياس يلزم الدور، ولهذا قال بعضهم: لاستوائهما في مشعور به، وإنما قال: (عند الحامل) ليشمل الصحيح والفاسد في

نفس الأمر والحد لماهية القياس الذي هو أعم من (8/ ك) الصحيح والفاسد خلافاً لمن ظن أن التعريف إنما يكون للصحيح وليس كذلك بل القياس من حيث هو ثم إذا أريد تخصيصه بالصحيح حذف قوله: عند الحامل، وإنما عبر بالحامل دون المجتهد لأنه ليس من شرط القياس الاجتهاد، فقد يقيس على أصول إمامه، واعلم أن أصل هذا التعريف للقاضي أبي بكر وإنما اختاره المصنف لأن المحققين من أصحابنا عليه، وبينوا وهم من أشار بالاعتراض عليه، وتبين به أن قول القاضي (في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما) ليس هو من تمام الحد كما توهم ابن الحاجب فأورد عليه: أن

الحكم فيهما معاً ليس هو القياس، وليس كذلك وإنما التعريف تم عندما قاله المصنف، ثم هذه الزيادة بيان للحمل، فإن الحمل والإلحاق له جهات كثيرة، كذلك اعتراضه بأن جعل الحمل جنساً وهو غير صادق على القياس لأنه ثمرة القياس، لا نفس القياس: ضعيف، لأن الحمل ليس ثمرة القياس بل ثمرته هو العلم بثبوت حكم الفرع. (ص): وهو حجة في الأمور الدنيوية، قال الإمام: اتفاقاً، وأما غيرها فمنعه قوم عقلاً وابن حزم شرعاً، وداود غير الجلي. (ش): إذا علمنا أن الحكم في الأصل معلل بكذا وعلمنا ذلك الوصف في صورة النزاع علمنا مثل ذلك الحكم فيها بلا خلاف بين العقلاء، فأما إذا كانت هاتان المقدمتان ظنيتين أو إحداهما ظنية، كان حصول ذلك الحكم في صورة الفرع ظنياً لا محالة، وهذا النوع لا يفيد العلم والجزم بالنتيجة بل إن كان ذلك في الأمور الدنيوية وقد اتفقوا على وجوب العمل به كما في الأدوية والأغذية والأسفار، وإنما الخلاف في الأمور الشرعية كذا قاله الإمام الرازي، ـ وإنما صرح به المصنف ليبرأ من عهدته ثم منهم من منع العمل به عقلاً، وهو مذهب طائفة من الشيعة والمعتزلة على ما

حكاه القاضي أبو الطيب ومنهم من خص الامتناع عقلاً بشرعنا كالنظام ومنهم من منعه شرعاً كابن حزم، وصنف فيه رسالتين، والقائلون بهذا منعوه مطلقاً، وعن داود: غير الجلي وأما الجلي فلا ينكره، وإنما قال غير الجلي ليشمل المساوي كذا حكاه الآمدي لكن داود وإن قال بالجلي وهو ما كان الملحق أولى

بالحكم من الملحق به لا يسميه قياساً، فاستدراك المصنف ليس على وجهه، وابن حزم أعلم بمذهبه، قال في كتاب (الإحكام): وداود وأصحابه لا يقولون بشيء من القياس سواء كانت العلة فيه منصوصة أو غيره، قال الأستاذ أبو منصور في كتاب (التحصيل): وأما داود الأصبهاني والنظام فإنهما اعترضا القول في نفي القياس، أما داود فإنه قال: لو قيل لنا حرمت المسكر لأنه حلو لم يدل ذلك على تحريم حلو آخر والمنقول عن ابن حزم أنه يدعي أن المنصوص يستوعب جميع الحوادث بالأسماء اللغوية التي لا تحتاج إلى استنباط واستخراج حتى أنه نفى دلالة فحوى الخطاب وتنبيهه في معنى الأصل ونحوه من المواضع التي يدل فيها اللفظ الخاص على العام،

وعكس هذا قول إمام الحرمين إن القياس يحتاج إليه في معظم الشريعة لقلة النصوص الدالة على الأحكام، والحق والتوسط وهو إثبات النصوص على أكثر الحوادث وما خرج عن ذلك استعمل فيه القياس لا سيما القياس في معنى الأصل وفحوى الخطاب فإنه في دلالة اللفظ عند قوم. (ص): وأبو حنيفة في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات. (ش): مثال الحدود: إيجاب قطع النباش قياساً على السارق بجامع أخذ مال الغير خفية ومثال الكفارات: إيجابها على قاتل النفس عمداً بالقياس على المخطئ، والمقدر كأعداد الركعات والرخص ظاهر، ومنع أبو حنيفة ذلك كله، لأن الحد يدرأ بالشبهة، والمقدر غير معقول، وعندنا هو حجة في الجميع لعموم الأدلة ودرء الحد

بالشبهة مردود بإثباتها بخبر الواحد والشهادة والظنيين، هكذا حكى الخلاف في (المحصول) قال: وحاصل هذه المسألة أنه هل في الشريعة جملة من المسائل التي لا يجري القياس فيها؟ وما ذكره لا ينفي ذلك، وأشار الشافعي رضي الله عنه إلى أن الحنفية قد ناقضوا أصلهم فأوجبوا الكفارة بالإفطار بالأكل قياساً على الإفطار بالجماع، وفي قتل الصيد خطأً قياساً على قتله عمداً، وقاسوا في التقديرات حتى قالوا في الدجاجة إذا ماتت في البئر: يجب كذا وكذا دلو، وفي الفأرة أقل من ذلك، وليس هذا التقدير عن نص ولا إجماع فيكون قياساً، وقال القاضي أبو الطيب في باب الحجر من تعليقه: التقدير عندنا (88 ز) بمنزلة سائر الأحكام وتثبت بما يثبت به سائر الأحكام، وقال أبو حنيفة: لا تثبت إلا بتوقيف أو اتفاق وناقض في تقدير مدة الرضاع وتقدير العدد الذي تنعقد به الجمعة، وتقدير مسح الرأس بما

ليس فيه توقيف ولا اتفاق واعلم أن ما قاله الإمام وتبعه المصنف في أن الشافعي رضي الله عنه يجوز القياس في الكل صحيح فيما عدا الرخص أما الرخص فلا، لأنه نص في (الأم) على المنع فقال في آخر صلاة العيد: ولا يعد بالرخصة مواضعها وكذا نقله البويطي. (ص): وابن عبدان ما لم يضطر.

(ش): قال أبو الفضل بن عبدان في كتاب (شرائط الأحكام): من شرط القياس حدوث حادثة تؤدي الضرورة إلى معرفة حكمها، وأن لا يوجد نص يفي بإثبات حكمه، وقد حكاه ابن الصلاح في طبقاته عنه ثم قال: وعد هذا الثاني شرطاً في موضع التحقيق غريب، وإنما يعرف ذلك بين المتناظرين في مقام الجدل، وأما الشرط الأول فطريق يأباه وضع الأئمة الكتب الطافحة بالمسائل القياسية من غير تقييد بالحادثة. (ص): وقوم في الأسباب والشروط والموانع. (ش): الحكم الثابت من جهة الشرع نوعان: أحدهما: إثبات الأحكام ابتداء من غير ربط بالسبب، وهو قابل للتعليل

والقياس باتفاق القائلين بالقياس. والثاني: نصب الأسباب والشروط والموانع عللاً للأحكام كجعل الزنا موجباً للحد، وجعل الجماع موجباً للكفارة، فالجمهور على أنها قابلة للقياس مهما ظهرت العلة المتعدية، كقياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد ومنعه قوم (9/ك) لأنه لا يحسن أن يقال في طلوع الشمس: إنه موجب للعبادة كغروبها، واختاره الآمدي وابن الحاجب والبيضاوي لكن الإمام في (المحصول) حكى عن أصحابنا الجواز وعليه جرى المصنف، وقال في (شرح المختصر)، المختار عندي: إن قلنا بعود

السببية للأحكام، صح وإلا فالوقف، وكلام الهندي يقتضيه، فإنه قال محتجاً على الجواز: لنا أن السببية حكم شرعي فإذا عقلت علتها ووجدت في صورة أخرى وجب إلحاقها به لأدلة القياس، وقياساً على الأحكام التي هي غير السببية وجعل المقترح هذا الخلاف مبنياً على أن الخلاف في أن حكم السببية من خطاب الوضع أو خطاب التكليف، واعلم أن جريانه في الشروط والموانع قل من ذكره فقد صرح به إلكياالطبري، قال: وقد نفى الشافعي رضي الله عنه اشتراط الإسلام في الإحصان إلحاقاً له بالجلد فقال الجلد أعلى أنواع العقوبة ثم استوى فيه إنكار المسلمين والكفار فالرجم كذلك.

(ص): وقوم في أصول العبادات. (ش): منع الحنفية والجبائي إثبات أصول العبادات بالقياس وبنوا عليه أنه لا يجوز إثبات الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس، محتجين بأنه لو جاز لأمكن إثبات عبادة مستقلة قياساً على العبادات المشروعة بجامع المصالح المتعلقة بالعبادات، وذهب أصحابنا إلى الجواز لعموم أدلة القياس وأجابوا عن شبههم بأن ذلك ليس من القياس في شيء بل هو تشريع باطل. (ص): وقوم الجزئي الحاجي إذا لم يرد نص على وفقه كضمان الدرك. (ش): هذا الخلاف لا يعرف في كتب الأصول وإنما ذكره الشيخ صدر الدين ابن الوكيل في (الأشباه والنظائر).

ومنه أخذ المصنف فقال: القياس الجزئي إذا لم يرد من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيان على وفقه مع عموم الحاجة إليه في زمانه أو عموم الحاجة إلى خلافه هل يعمل بذلك القياس الجزئي؟ فيه خلاف أصولي وبينه بصور، فذكر منها: ضمان الدرك القياس الجزئي يقتضي منعه لأنه ضمان ما لم يجب، ولكن عموم الحاجة إليه لمعاملة الغرباء وغيرهم يقتضي جوازه فقال ابن سريج بالمنع على مقتضى القياس وخرجه قولاً، والأصح صحته بعد قبض الثمن لا قبله، لأنه وقت الحاجة المؤكدة. (ص): وآخرون في العقليات.

(ش): منع قوم من الحشوية وغلاة الظاهرية القياس في العقليات والجماهير على الجواز، ومثاله قول أصحابنا في مسألة الرؤية الله تعالى موجود وكل موجود يرى فيكون مرئياً، وإذا قلنا به فلا بد من جامع عقلي وإلا لكان الجمع تحكماً.

محضاً كتوغل الفلاسفة، وأهل البدع في مسائل العقائد في ذلك، وادعى ابن برهان في (الوجيز) أن المحققين على أنه ليس في المعقولات قياس وإنما يتعرف حكم التفصيل بها من الجملة والقياس الصحيح وهو الشرعي. (ص): وآخرون في النفي الأصلي. (ش): اختلفوا في النفي الأصلي هل يعرف بالقياس بعد اتفاقهم على أن استصحاب حكم العقل كاف فيه؟ قال في (المستصفى): والمراد بالنفي الأصلي البقاء على ما كان قبل ورود الشرع، ومثاله إذا وجدنا صورة لا حكم لله فيها، ثم وجدنا أخرى تشبهها فهل يبحث عن حكها أيضاً أو لا؟ بل نقيسها على التي بحثنا عنها ولم نعلم حكمها، قيل: يجوز، وقيل: يمتنع، وتوسط الغزالي والإمام قالا: يجوز بقياس الدلالة وهو أن يستدل بانتفاء آثار الشيء وانتفاء خواصه على عدمه، ولا يجوز بقياس العلة لأن العدم الأصلي أزلي، والعلة حادثة بعده فلا يعلل بها، وعزاه الهندي للمحققين ولقائل أن يقول: العلل الشرعية معرفات، ولا يمتنع تأخرها واحترز المصنف بالأصلي عن العدم الطارئ فإنه يجري فيه القياسات بالاتفاق لأنه حكم شرعي حادث فهو كسائر الأحكام الوجودية. (ص): وتقدم قياس اللغة.

(ش): أي: في فصل اللغات فأغنى عن إعادته ونبه عليه لئلا يعتقد إخلاله به لم جرت عادتهم بذكره هنا. (ص): والصحيح حجة إلا في العادية والخلقية. (ش): هذا الاستثناء ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ومثله بأقل الحيض

أو النفاس وأكثره، وأقل مدة الحمل وأكثره (89/ز) فلا قياس فيه لأن معناها لا يعقل، بل طريق إثباتها خبر الصادق، ولكن ذكر الماوردي والروياني في كتاب القضاء أن المقادير يجوز القياس فيها على الصحيح، ومثلا بأقل الحيض وأكثره وقد يجمع بين الكلامين بحمل الأول على الحيض من حيث الجملة، والثاني في الأشخاص المعينة، وما نقلناه عن الشيخ أبي إسحاق هو الموجود في (اللمع)، وقال في شرحها: ما طريقه العادة إن كان عليه أمارة جاز إثباته بالقياس كالشعر هل تحل فيه الروح، والحامل هل تحيض؟ وإذ لم يكن عليه أمارة كأقل الحيض وأكثره، فلا.

(ص): وإلا في كل الأحكام. (ش): يجوز أن تثبت الأحكام جميعها بالنصوص قطعاً إذ لا يلزم منه محال، واختلفوا هل ثبتت كلها بالقياس؟ فذهب قوم إلى جريانه لأن حد الشرعي يشمل الكل، وقد جرى في البعض وفاقاً فكذلك في البعض الآخر، والجمهور على امتناعه، لأن القياس حمل فرع على أصل فكيف يتصور القياس، بل في بعضها ما لا يجري القياس فيه، لأن أنواعه مختلفة الأحكام ولأنه لو ثبت الجميع بالقياس لزم التسلسل ولأن من الأحكام ما لا يعقل معناه كضرب الدية على العاقلة والقياس فرع تعقل المعنى، واعلم أن هذه المسألة أصل للمسألة السابقة في استعمال القياس في الحدود والكفارات والمقدرات كما ذكره ابن السمعاني وغيره، وسبق من الإمام أن حاصل الخلاف، ثم يرجع إلى ذلك، فكأن المصنف ذكرهما استيفاء للأصل والفرع. (ص): وإلا القياس على منسوخ خلافاً للمعممين.

(ش): لا يجوز القياس على أصل منسوخ فإن التعدية مع أن الأصل منسوخ غير ممكنة، وقول المصنف خلافاً للمعممين، راجع لجميع المستثنيات من قوله: والصحيح حجة إلا ... إلى آخره، إلا أنه لا يعرف خلافاً في امتناع القياس على منسوخ، إلا أنه سبق في النسخ عن الحنفية إذا نسخ حكم الأصل يبقى حكم الفرع، وهو يقتضي جواز القياس على المنسوخ، فإنهم قالوا: يبقى حكم الفرع فلعل المصنف أراد هذا لكن بين في (شرح المختصر) أنه لا منافاة بينهما، قلت:

ولو أنه قال ولا القياس على مخصوص لأمكن الخلاف، فإن الشيخ أبا إسحاق في (اللمع) ذكر من مفسدات القياس: كون الأصل ورد الشرع بتخصيصه مثل قياس أبي حنفية (10/ ك) نكاح غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جواز النكاح بلفظ الهبة على نكاح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد ورد الشرع بتخصيصه بذلك. (ص): وليس النص على العلة ولو في الترك أمراً بالقياس خلافاً للبصري، وثالثها التفصيل. (ش): النص على علة الحكم يدل على ثبوت الحكم لأجل العلة في ذلك المحل خاصة بلا خلاف، وهل يدل على تعدية الحكم بتلك العلة إلى غير محل الحكم المنصوص عليه دون ورود التعبد بالقياس؟ فالجمهور على أنه لا يدل سواء كان في الفعل، كأكرم زيداً لعلمه، أو في الترك كحرمت الخمر لإسكارها قال

أبو الحسين البصري والشيخ أبو إسحاق وأبو بكر الرازي وغيرهم: يكفي. وقال أبو عبد الله البصري: إن كانت علة التحريم كفى، أو الإيجاب أو الندب فلا، قال الغزالي: وبني على هذا أن التوبة لا تصح من بعض الذنوب، بل من ترك ذنباً لكونه معصية يلزمه، ترك كل ذنب، أما من أتى بعبادة لأنها طاعة، لا يلزمه الإتيان بكل طاعة، قال: وهذا محال في الطرفين، واعلم أن ابن الحاجب نقل عن البصري التفصيل، ومراده أبو عبد الله، والمصنف نقل عنه الاكتفاء مطلقاً ومراده أبو الحسين كما ذكرنا.

(ص): وأركانه أربعة. (ش): أي: الأصل والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع، ولم يذكروا منها حكم الفرع، لأنه ثمرة القياس ونتيجته لتأخره عنه، فلا يجوز أن يكون ركنا له وإلا لزم توقفه على المتوقف على نفسه. (ص): الأصل: وهو محل الحكم المشبه به، وقيل: دليله، وقيل: حكمه. (ش): لم يحك المصنف في ركنية الأصل خلافاً، وقيل: يجوز القياس بغير أصل، قال ابن السمعاني: وهو قول من أخلط الاجتهاد بالقياس، والصحيح أنه لا بد له من، أصل لأن الفروع لا تتفرع إلا عن أصول، ووجه تقديم الأصل على غيره من الأركان ظاهر، لأنه أصل الحكم الذي هو أصل العلة التي هي أصل الفرع والقول الأول، هو قول الفقهاء وساعدهم كثير من المتكلمين.

والثاني: قول المتكلمين. فإذا قسنا النبيذ في تحريم شربه على الخمر المنصوص على تحريمها، بقوله: حرام، قال الفقهاء: الأصل فيه هو الخمر التي هي محل التحريم، لأنها يشبه بها الفرع فتكون أصلاً له، وقال المتكلمون: الأصل هو النص الدال على تحريم الخمر لأنه الذي فيه التحريم. وقال بعضهم: الأصل هو التحريم الثابت في الخمر لأنه الذي يتفرع عليه تحريم النبيذ، والجميع ممكن، إلا أن مساعدة الفقهاء أولى لئلا يحتاج إلى تغيير مصطلحهم وهم الخائضون في عمدة القياس، فلهذا صدر به المصنف، والنزاع لفظي، لأن حكم الخمر إذا كان مبنياً على الخمر من حيث إنها محل له فهي أصل له، وهو أصل لحكم النبيذ لكونه مبنياً عليه، وأصل الأصل أصل، فيكون الخمر أيضاً أصلاً لحكم النبيذ وأصل الأصل أصل وكذلك إذا كان حكم الخمر مبنياًً على النص من حيث إنه مستفاد منه فيكون النص مبيناً لحكم النبيذ أصلاً له، وهو أصل وأصل الأصل أصل فيكون النص أيضاً أصلاً لحكم النبيذ والحاصل رجوع الخلاف إلى ما هو أصل بالذات أو بالعرض.

تنبيه: قد جعل القول بأنه دليله مرجوحاً وكلامه في أول الكتاب يخالف هذا، وصوابه أن اصطلاح الأصوليين في المقدمات: إطلاق الأصل على شيء، وفي القياس: إطلاقه على آخر. (ص): ولا يشترط دال على جواز القياس عليه بنوعه أو شخصه، ولا الاتفاق على وجود العلة فيه، خلافاً لزاعميهما. (ش): فيه مسألتان: إحداهما: لا يشترط في الأصل أن يقوم دليل على جواز القياس عليه بحسب الخصوصية نوعية كانت أو شخصية، بل كل حكم انقدح فيه معنى مخيل غلب على الظن اتباعه، فإنه يجوز أن يقاس عليه، وخالف عثمان البتي فشرطه، فإذا كانت المسألة (90/ز) من مسائل البيع، فلا بد من دليل على جواز القياس في أحكام البيعات أو في النكاح فكذلك.

الثانية: لا يشترط الاتفاق على وجود العلة في الأصل، بل يكفي انتهاض الدليل عليه خلافاً لبعضهم، قال الشيخ أبو إسحاق: إن أراد بالاتفاق إجماع الأمة أدى إلى إبطال القياس، لأن نفاة القياس من جملتهم، وإن أراد إجماع بعض القياسيين فهم بعض الأمة وليس قولهم بدليل. (ص): الثاني حكم الأصل ومن شرطه ثبوته بغير القياس وقيل والإجماع. (ش): لحكم الأصل شرائط. الأول: أن لا يكون الدليل الدال على حكم الأصل قياساً عند الجمهور خلافاً لبعض المعتزلة والحنابلة،

وأبي عبد الله البصري، لنا أنه اتحدت العلة فالقياس على الأصل الأول، وذكر الثاني لغو، وإن اختلفت لم ينعقد القياس لعدم التساوي في العلة. واعلم أن الدليل لا ينحصر في الكتاب والسنة، بل جاز أن يكون إجماعاً، لأنه أصل في إثبات الأحكام فجاز القياس على ما ثبت بالإجماع وحكى الشيخ أبو إسحاق وجهاً: أنه يشترط أن يكون كتاباً أو سنة ولا يجوز القياس على ما ثبت بالإجماع إلا أن يعلم النص الذي أجمعوا لأجله ولم يذكر المصنف في حكاية هذا الوجه الاستثناء، لأن القياس حينئذ على النص. (ص): وكونه غير متعبد فيه بالقطع. (ش): الثاني أن لا يتعبد فيه بالعلم ليخرج ما تعبد فيه بالعلم كإثبات كون خبر الواحد حجة بالقياس على قبول الشهادة، والقبول على قول من زعم أنه من

المسائل العلمية وكون الاجتهاد، جائزاً في طلب الحكم الشرعي قياساً على جواز الاجتهاد في طلب القبلة، وذلك لأن القياس الجلي لا يفيد إلا الظن فإثبات المسألة العلمية به إثبات العلم بالظن وهو ممتنع. تنبيهات: الأول: هذا الشرط الذي ذكره الإمام وقال الهندي إنما يستقيم إذا كان المراد بالحكم الذي هو ركن القياس الظني المختلف فيه، فأما إن أريد تعريف الحكم الذي هو ركن القياس كيف كان فلا يستقيم ذلك بل يجب حذف قيد العلم عنه. الثاني: قد يشكل هذا الشرط مع ترجيح المصنف فيما سبق جريان القياس في العقليات مع أنا متعبدون فيها بالقطع.

(ص): وشرعياً إن استلحق شرعيا. (ش): الثالث: في كون الحكم شرعياً ليخرج اللغوي والعقلي، فأما بتقدير أن يجري القياس فيهما، فإنه ليس قياساً شرعياً بل لغوياً وعقلياً، وكلامنا في الشرعي، كذا قرروه، وقال المصنف: لك أن تقول إذا أجرينا القياس فيهما ترتب على ذلك أمر شرعي، وهو تحريم النبيذ مثلاً لصدق اسم الخمر عليها قياساً فلهذا زاد عليهم هنا هذا القيد وهو قوله: إن استلحق شرعياً. (ص): وغير فرع إذا لم يظهر للوسط فائدة، وقيل مطلقاً. ش الرابع: أن يكون حكم الأصل غير فرع عن أصل خلافاً للحنابلة وبعض المعتزلة ثم إن (11 ك) الأصوليين أطلقوا الشرط، وقال المصنف: هو مخصوص عندي بما إذا لم يظهر للوسط فائدة البتة كقياس السفرجل على التفاح، والتفاح على البر، أما إذا ظهرت له فائدة فلا يمتنع أن يقاس فرع على فرع، وقولهم: إن كل فرع قيس عليه فرع فالعلة فيه إما متحدة فيكون حشواً أولا فيفسد، نقول عليه: بين

الأمرين واسطة وهو أن يكون حكم الفرع المقيس عليه هو الذي وسط أظهر وأولى بحيث لو قيس الفرع الأول الذي هو فرع الفرع على الأصل الأول لاستنكر في بادئ الأمر جداً، بخلاف ما إذا جعله مندرجاً مثاله: التفاح ربوي قياساً على الزبيب، والزبيب ربوي قياساً على التمر، والتمر ربوي قياساً على الأرز، والأرز ربوي قياسا على البر، إذا قصد بقياس التفاح على الزبيب الوصف الجامع بينهما، وهو الطعم، وبقياس الزبيب على التمر الطعم مع الكيل، وبالتمر على الأرز الطعم والكيل مع التقوت، وبالأرز على البر الطعم والكيل والقوت الغالب، ولو قيس ابتداء التفاح على البر لم يسلم من مانع يمنع علية الطعم فجمع بين الزبيب والتمر في الكيل، ثم أخذ يسقط الكيل والقوت عن الاعتبار ليثبت له دعوى أن العلة الطعم فقط. تنبيه: ينبغي تأمل هذا الشرط مع قوله قبله ثبوته بغير القياس، لأنه إذا كان الحكم في الأصل ثابتاً بالقياس فهو فرع لأصل آخر، ولهذا، أورده ابن الحاجب بهذه الصيغة والبيضاوي بالصيغة الأولى ولم يجمع واحد منهما بينهما، ثم رأيت من أورده على المصنف فقال قد علم اشتراط كونه غير فرع من اشتراط ثبوته بغير القياس فما الفائدة.

لهذا؟ وأجاب المصنف: بأنه لا يلزم من اشتراط كونه غير فرع ـ وهو ما ذكرنا ثانياً ـ ثبوته بالقياس، لجواز أن يكون ثابتاً وثبوته بغير القياس، لأنه قد يثبت بالقياس ولا يكون فرعاً للقياس المراد ثبوت الحكم فيه، وإن كان فرعاً لأصل آخر، وكذلك لا يلزم من كونه غير فرع أن لا يكون ثابتاً بالقياس، لجواز أن يكون ثابتاً بالقياس ولكنه ليس فرعاً في هذا القياس الذي يراد إثبات الحكم فيه. (ص): وأن لا يعدل عن سنن القياس. (ش): الخامس: أن لا يكون معدولاً به عن سنن القياس، لتعذر التعدية حينئذ، والمعدول به هو الخارج عن المعنى لا المعنى فيخرج منه شيئان. أحدهما: ما شرع ابتداء لا لمعنى فإنه لم يدخل حتى يقال خرج. والثاني: ما استثني عن معقول المعنى كالعرايا استثنيت من الربويات لحاجة

الفقراء وقد سماها الغزالي معدولاً بهما عن سنن القياس وفيه تجوز (ص): ولا يكون دليل حكمه شاملاً لحكم الفرع. (ش): السادس: أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملاً لحكم الفرع، وإلا

فليس جعل أحدهما أصلاً والآخر فرعاً أولى من العكس. (ص): وكون الحكم متفقاً عليه، قيل بين الأمة، والأصح بين الخصمين وأنه لا يشترط اختلاف الأمة. (ش): السابع: كون الحكم متفقاً عليه مخافة أن يمنع فيحتاج القائس إلى إثباته عند توجه المنع إليه فيكون المشروع فيه انتقالاً من (19/ز) مسألة إلى أخرى، ثم اختلفوا في كيفية الاتفاق عليه، فقيل: يشترط أن يكون متفقاً عليه بين الأمة، وقيل: يكفي اتفاق الخصمين وقيل: يشترط اتفاق الخصمين واختلاف الأمة حتى لا يكون مجمعاً عليه وهو رأي الآمدي، فإنه متى كان مجمعاً عليه بين الأمة لم يكن للخصم منعه، والصحيح جواز كونه مجمعاً عليه بين الأمة.

(ص): فإن كان الحكم متفقاً بينهما ولكن لعلتين مختلفتين فهو مركب الأصل أو العلة، يمنع الخصم وجودها في الأصل فمركب الوصف، ولا يقبلان خلافاً للخلافيين. (ش): سمى بعضهم المتفق عليه بين الخصمين فقط بالقياس المركب، ثم إن كان الحكم متفقاً عليه بين الخصمين لكن لعلتين مختلفين فهو مركب الأصل، سمي بذلك لاختلافهما في تركيب الحكم على العلة في الأصل. كما في قياس حلي البالغة على حلي الصبية فإن عدم الوجوب في حلي الصبية متفق عليه بين الخصمين لكن لعلتين مختلفتين فإنه عندنا لعلة كونه حلياً وعندهم لعلة كونه مالاً للصبية، وإن كان الخصم يوافق على العلة ولكن يمنع

وجودها في الأصل فهو مركب الوصف، سمي بذلك لاختلافهما في نفس الوصف الجامع كقولنا في تعليق الطلاق قبل النكاح تعليق الطلاق فلا يصح، كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق، فيقول الحنفي: العلة وهي كونه تعليقاً مفقودة في الأصل، فإن قوله زينب التي أتزوجها طالق تنجيز لا تعليق، ثم المشهور عند الأصوليين أن النوعيين غير مقبولين أما الأول: فلأن الخصم لا ينفك عن منع

العلة في الفرع أو منع الحكم في الأصل، وعلى التقديرين فلا يتم القياس، وأما الثاني فلأنه لا ينفك عن منع الأصل كما لو لم يكن التعليق ثابتاً فيه، أو منع الحكم في الأصل إذا كان ثابتاً، وعلى التقديرين لا يتم القياس وحكاية القبول عن الخلافيين ذكره الهندي. (ص): ولو سلم العلة فأثبت المستدل وجودها أو سلمه المناظر انتهض الدليل. (ش): لو سلم الخصم العلة فأثبت المستدل في القسم الثاني أنها موجودة في الأصل، أو سلم أن العلة التي عينها المستدل في الأول هي العلة، وأنها موجودة في الفرع، انتهض الدليل عليه فيصح القياس لاعتراف الخصم بما هو موجب لصحة القياس، كما لو كان مجتهداً أو غلب على ظنه صحة القياس فإنه لا يكابر نفسه فيما أوجبه ظنه. (ص): فإن لم يتفقا على الأصل ولكن رام المستدل إثبات حكمه ثم إثبات العلة فالأصح قبوله.

(ش): ما سبق فيما إذا كان حكم الأصل متفقاً عليه مطلقاً أو بين الخصمين، فإن لم يتفقا عليه، ولم يكن مجمعاً عليه، ولكن حاول المستدل إثبات حكم الأصل بنص ثم أثبت العلة بطريق من طرقها، فقيل: لا يقبل ذلك منه بل لا بد من الإجماع بين الخصمين صونا للكلام عن الانتشار والأصح قبوله وإلا لم يقبل في المناظرة مقدمة تقبل المنع. (ص): والأصح لا يشترط الاتفاق على تعليل حكم الأصل أو النص على العلة. (ش): لا يشترط في الأصل أن يكون عقد الإجماع على أن حكمه معلل، وإن ثبتت علته عيناً بالنص بل لو ثبت بالطرق الظنية، جاز القياس عليه وخالف فيه بشر المريسي، فزعم أن لا يقاس على أصل آخر حتى يدل نص على عين علة ذلك

الحكم أو انعقد الإجماع على كون حكمه معللاً وهو باطل لأن أدلة القياس مطلقة. (ص): الثالث: الفرع وهو المحل المشبه، وقيل: حكمه. (ش): الأول: قول الفقهاء وهو النبيذ في المثال السابق الأصل. والثاني: للمتكلمين حكم المشبه: وهو تحريم النبيذ، ومنهم من مال إليه هنا لتفرعه عن القياس بخلاف المحل، ولم يقل أحد هنا إنه دليله، كيف ودليله القياس. (ص): ومن شرطه: وجود تمام العلة فيه، فإن كانت قطعية فقطعي، أو ظنية فقياس الأدون كالتفاح على البر بجامع الطعم. (ش): هذا أخذه من نقول ابن الحاجب أن يساوى الفرع في العلة، علة الأصل، لإيهام لفظ المساواة أن الزيادة تضر فيخرج قياس الأولى: بخلاف حصول المعنى بتمامه فإن الزيادة لا تنافيه، ولا يخرج قياس الأدون فإنه ليس المعني بالأدون كون المعنى فيه أقل من الأصل، لكن حصول المعنى (12/ك) المظنون فيه بتمامه، وذلك لأن الأصل في العلة قد يكون مقطوعاً بها كالإسكار في الخمر، وقد

تكون مظنونة كالطعم في البر، فإذا كانت قطعية، ووجدت في فرع كان القياس فيه قياس المساواة، وإن كان مظنونة فوجدت في فرع يشتمل عليها ولا يشتمل على الوجه الآخر المحتمل للعلية، وإن كانت مرجوحاً فقياس الفرع حينئذ قياس أدون لأنه ليس ملحقاً بالأصل إلا على تقدير أن العلة فيه كذا مع احتمال غيره، فلم يكن لإلحاقه به من القوة ما لإلحاق الفرع المشتمل على الأوصاف المحتملة كلها، والحاصل أن المساواة لا بد منها، وإلا لم يمكن تعدي الحكم؟ (ص): وتقبل المعارضة فيه بمقتضى نقيض أو ضد لا خلاف الحكم على المختار.

(ش): من الشروط ـ على المختار ـ أن لا يعارض الفرع بمعارض يقتضي نقيض الحكم، بأن يقول ما ذكرت من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه، فتوقف دليلك، وقد ذكر ابن الحاجب هذه المسألة في فصل المعارضة واقتصر على ذكر النقيض، وضم إليه المصنف الضد، إذ لا فرق، وأشار إلى مخالفة الخلاف، وهذا لأن المستدل إذا ذكر وصفاً فعورض بوصف قائم في الفرع يقتضي نقيض ما رامه المستدل، كما إذا كان وصف المستدل يقتضي ثبوت الحرمة ووصف المعترض يقتضي ثبوت نقيضها، وهو لا حرمة أو يقتضي فيه ضد مرام المستدل كما إذا كان وصفه يقتضي ثبوت الحرمة ووصف المعترض يقتضي ثبوت الوجوب أو الاستحباب مثلاً، فلا شك في قبول هذه المعارضة، لأنها تهدم قاعدة المستدل وتبطل قصده أما إذا عورض، بما يقتضي خلاف الحكم الذي رامه فلا يقبل

ذلك لأنه لا يبطل قوله لإمكان اجتماع مرامه معه، وهذا كما إذا أتى بعلة تقتضي في الفرع الحرمة فعارضه بعلة تقتضي فيه وجوب الحد، فوجوب الحد لا ينافي الحرمة، فله أن يقول: هب إن ما عارضت به صحيح، ولكنه لا يعترض غرضي لجواز اجتماع (92/ز) الحرمة والحد، مثال النقيض: لو باع الجارية إلا حملها صح في وجه كما لو باع هذه الصيعان إلا صاعاً، فنقول: لا يصح كما لو باع الجارية إلا يدها وهذا قريب الشبه من الفرع إذا تجاذبه أصلان متقابلان والشافعي رضي الله عنه يلحقه بأغلبهما وهذا إذا عارض بعلة أخرى تقتضي في الفرع نقيض الحكم، فإن علة المستدل نفسها تقتضي النقيض فذلك قلب لا معارضة، ومثال الضد: الوتر واجب قياساً على التشهد في الصلاة بجامع مواظبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهما، فنقول يستحب قياساً على الفجر. بجامع أن كلا منهما يفعل في وقت معين لفرض معين من فروض الصلاة، فإن الوتر في وقت العشاء، والفجر وقت الصبح،

ولم يعهد من الشرع وضع صلاتي فرض في وقت واحد، ولو قيل: الجامع المواظبة لكان قلباً لا معارضة، فهذان قادحان، لأن النقيض والضد إذا ثبت لزم تقابل قول المستدل بخلاف الخلاف، ومثال الخلاف اليمين الغموس لا توجب الكفارة كشهادة الزور، بجامع أن كلا منهما قول آثم قائله، فيقال: الغموس توجب التعذير قياساً على الزور بجامع إظهار الباطل على وجه من التأكيد، يغلب ظن كونه حقاً، ففي الغموس باليمين، وفي الزور بالشهادة، واليمين والشهادة أخوان، ولا نقول بجامع الإثم كي لا يكون قلباً لا معارضة، فهذا غير قادح، إذ لا مساواة بين ثبوت التعذير والكفارة. تنبيهات: الأول: سبق المصنف إلى ذكر هذا في شروط الفرع هنا ابن الحاجب في (المنتهى)، والهندي وقالا: إنه إنما يتم اشتراطه على القول بجواز تخصيص العلة فإن

لم نجوزها فلا يشترط ثم قال الهندي: وهذا في الحقيقة ليس شرطاً للفرع الذي يقاس بل للفرع الذي ثبت فيه الحكم بمقتضى القياس. الثاني: أن هذا تفريع على ما سيذكره المصنف في شرط العلة من انتفاء المعارض المنافي في الفرع الحكم بمقتضى القياس. الثالث: ظهر بما قررناه أن قوله ضد أو نقيض منصوبان بالوصف قبلهما والأصل بما يقتضي نقيض الحكم أو ضده. (ص): والمختار قبول الترجيح، وأنه لا يجب الإيماء إليه في الدليل. (ش): طريقه في دفع المعارضة القدح فيما اعترض به عليه، فإن عجز عن القدح فهل يجوز دفعه بالترجيح بوجه من وجوهه المذكورة في باب الترجيح؟ والمختار قبوله لأنه إذا ترجح وجب العمل به بالإجماع على وجوب العمل بالراجح، وقيل لا يقبل، لأن تساوي الظن حاصل

فيهما غير معلوم وعلى المختار فهل يجب الإيماء إلى الترجيح في متن الدليل بأن يقول في أمان العبد أمان من مسلم عاقل موافقاً للبراءة الأصلية؟ فيه خلاف، فقيل يجب لأنه شرط في العمل به لا يثبت الحكم دونه فكان كجزء العلة، والمختار أنه لا يجب لأن الترجيح على ما يعارضه خارج عن الدليل. (ص): ولا يقوم القاطع على خلافه وفاقاً، ولا خبر الواحد عند الأكثرين. (ش): أما اشتراط الأول: فوجهه أن القياس مظنون فلا يعارض القطعي. وأما الثاني: فهي مسألة معارضة القياس لخبر الواحد وقد سبقت في باب الأخبار. (ص): وليساو الأصل، وحكمه حكم الأصل فيما يقصد من عين أو جنس، فإن خالف فسد القياس. وجواب المعترض بالمخالفة ببيان الاتحاد.

(ش): من الشروط أن يساوي حكم الأصل حكم الفرع فيما يقصد المساواة فيه، من عين الحكم أو جنس الحكم، أما العين فكقياس القصاص في النفس بالمثقل عليه في القتل بالمحدود، فالحكم في الفرع هو الحكم في الأصل بعينه وهو القتل وأما الجنس فكقياس إثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها على إثبات الولاية عليها في مالها، فإن ولاية النكاح من جنس ولاية المال فإنها سبب لنفاذ التصرف وليست عينها لاختلاف التصرفين فإن خالف أي كان حكم الفرع مخالفاً لحكم الأصل فسد القياس كقولنا: الظهار يوجب الحرمة في حق الذمي كالمسلم، فيقول الحنفي: الحرمة متناهية بالكفارة، والحرمة في الذمي مؤبدة لأنه

ليس من أهل الكفارة فيختلف الحكم فيهما وجواب هذا المعترض بالمخالفة بأن يبين المستدل الاتحاد وهو منع كون الذمي ليس من أهل الكفارة. (ص): ولا يكون منصوصاً بموافق خلافاً لمجوز دليلين ولا بمخالف إلا لتجربة النظر, (ش): من الشروط أن لا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه وإلا لم يكن للقياس فائدة، كذا أطلق جماعة، والتحقيق ما نقله الشيخ الهندي وتابعه المصنف أن للمسألة صورتين: إحداهما: أن يكون النص على موافقة القياس، فإما أن يكون النص الدال على ثبوت حكم الفرع هو بعينه الذي دل على حكم الأصل، قال: فينبغي أن يكون القياس باطلاً إذ ليس جعل تلك الصورة أصلاً والأخرى فرعاً أولى من العكس، وليس هذا القسم مراد المصنف، وإما أن يكون غيره وهو مراده، فأطلق جماعة المنع

وقالوا: لا يجوز القياس (13/ك) على المنصوص عليه مطلقاً لقضية معاذ فإنها تفهم امتناع القياس عند وجدان النص، ولكن الأكثرين هنا كما قاله الهندي على الجواز لأن ترادف الأدلة على مدلول واحد جائز لإفادة زيادة الظن ويخالف ما إذا كان النص الدال على حكم الأصل والفرع واحداً، فإن القياس في هذه الصورة لا

يفيد زيادة الظن أصلاً، لأن الفرع لا يؤكده أصله بخلاف ما إذا كانا متغايرين. الثانية: أن يكون ذلك الحكم المنصوص عليه مخالفاً للقياس فيمتنع مطلقاً، وإلا لزم تقديم القياس على النص، وقوله: إلا لتجربة يعني لا فائدة للقياس، ولا يعمل به لكنه قياس صحيح في نفسه، ولهذا نقول: إذا تعارض النص والقياس فالنص مقدم، وإنما يتعارضان عند صحتهما، وفائدته حينئذ التمرين ورياضة الذهن في المسائل لا غير. (ص): ولا متقدما على حكم الأصل وجوزه الإمام عند دليل آخر. (ش): من الشروط أن لا يتقدم على حكم الأصل كقياس الوضوء على التيمم في النية لأن التعبد بالتيمم إنما ورد بعد الهجرة، وكان التعبد بالوضوء قبلها

وإنما شرط ذلك لئلا يلزم ثبوت حكم الفرع قبل ثبوت العلة لتأخير الأصل وفصل أبو الحسين في (المعتمد) وتابعه الإمام الرازي (93/ز) وأتباعه قالوا: إذا تقدم حكمه فإن لم يدل على ثبوت حكمه إلا القياس على ذلك الأصل، لم يصح، لأنه لا يجوز، أن لا يكون لنا على الحكم دليل في الحال، وإن دل على حكم الفرع دليل متقدم لم يبطل ذلك القياس، لأنه يجوز أن يدلنا الله تعالى على الحكم بأدلة مترادفة، ألا ترى أن المعجزات تتواتر بعد المعجزة المقارنة لابتداء الدعوة ولك أن تقول الكلام في تفرعه عن الأصل المتأخر، وذلك لا يمكن سواء كان عليه دليل غيره أم لا؟ قلت: ولم يحفظ المصنف في هذه المسألة خلافاً سوى تفصيل الإمام، وقد أطلق ابن الصباغ في العدة امتناع هذا الشرط، وجوز أن يكون الحكم عليه

أمارات متقدمة ومتأخرة، قال: فإن الدليل على الشيء يجوز تأخيره عن ثبوته، ولهذا معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها ما قارن نبوته، ومنها ما تأخر عنه، ويجوز الاستدلال على نبوته بما نزل من القرآن بالمدينة فكذا في الأحكام المظنونة. (ص): ولا يشترط ثبوت حكمه بالنص جملة خلافاً لقوم.

(ش): منهم أبو هاشم حيث شرطوا ثبوته بالنص في الجملة لا التفصيل، ويطلب بالقياس تفصيله، فلولا العلم بورود ميراث الجد جملة لما جاز القياس في توريثه مع الإخوة والجمهور على أنه ليس بشرط فإن العلماء قاسوا أنت علي حرام تارة على الطلاق فتحرم وتارة على الظهار فيوجب الكفارة، وتارة على اليمين فيكون إيلاء، ولم يوجد النص في الفرع جملة ولا تفصيلاً. (ص): ولا انتفاء نص أو إجماع يوافقه خلافاً للغزالي والآمدي. (ش): أي لا يشترط انتفاء نص، ويكون فائدة القياس زيادة معرفة العلة أو الحكم، وفائدة النص ثبوت الحكم، فإن قيل: ما هذا من قول المصنف قبله، وأن

لا يكون منصوصاً فالجواب أن ذلك في الفرع نفسه يشترط أن لا يكون منصوصاً عليه، إذ لا يبقى للقياس فائدة، وههنا في أنه لا يكون منصوصاً على شبهه وفرق بين شبه الشيء والشيء. (ص): الرابع العلة قال أهل الحق المعرف، وحكم الأصل ثابت بها لا بالنص خلافاً للحنفية، وقيل: المؤثر بذاته، وقال الغزالي بإذن الله وقال الآمدي: الباعث. (ش): لم يحك المصنف خلافا ًفي ركنية العلة، وفيه خلاف شاذ حكاه ابن السمعاني أنه يصح القياس من غير علة إذا لاح بعض الشبه وهو باطل، وقد اختلفوا في تعريف العلة على أقوال:

أحدها: وهو قول السنة أنها المعرف للحكم، أي بأن تكون دالة على وجود الحكم وليست بمؤثرة، لأن المؤثر هو الله تعالى، فقيل لهم: المعرف هو النص، فأجابوا: بأن الوصف معرف لفرد آخر غير الأصل، وحكم الأصل أي المعلل ثابت بالعلة المشتركة بينه وبين الفرع عند أصحابنا، وقالت الحنفية بالنص وإنما ذكر المصنف هذه المسألة بعد هذا التعريف لينبه على توهم ابن الحاجب وغيره أن أصحابنا ذكروا هذا على أنها بمعنى الباعث، وليس كذلك، بيانه أن الأصحاب لما قالوا:

إنه ثابت بالعلة، قيل لهم: هذا لا يتأتى إلا إذا فسرت العلة بالمؤثر أو الباعث، فإن كونه منصوصاً عليه حينئذ لا ينافي أن يكون معللاً بهذا المعنى، أما إذا فسرت بالمعرف فكونه منصوصا عليه ينافي التعليل بهذا المعنى، وعلى هذا جرى ابن الحاجب وقال: إنما عنت الشافعية أنها بمعنى الباعث، وليس كما قال، وإنما دعاه إلى ذلك أنه يجعلها فرعاً للأصل أصلاً للفرع خوفاً من لزوم الدور، فإنها مستنبطة من النص فلو كانت معرفة له وهي إنما عرفت به جاء الدور، ونحن لا نفسرها بالباعث، بل بالمعرف، وليس معنى كونها معرفاً إلا أنها نصب أمارة يستدل بها المجتهد على وجدان الحكم إذا لم يكن عارفاً به، ويجوز أن يتخلف في حق العارف كالغيم الرطب أمارة على المطر، وقد يتخلف، وتخلف التعريف بالنسبة إلى العارف لا يخرج الأمارة عن كونها أمارة، فوضح أن العلة هي المعرف في الأصل والفرع، وليس الدور بلازم، وقالت الحنفية: ثابت بالنص، فإن أرادوا أن النص إنشاء الحكم فخطأ، لأن الحاكم في الحقيقة هو الناص، وإن أرادوا أنه عرفه فهو إنما يعرف من عرفت منه، أما من عرف من العلة فلم يعرفه، هذا حاصل ما قرره المصنف وما أنكره على ابن الحاجب في نقله عن الأصحاب ممنوع، فإن الغزالي قد ذكره فقال بعد نقله عن الأصحاب إن الحكم يضاف إلى العلة وهو نزاع لا تحقيق تحته، فإنا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم فنقول: إن الحكم يضاف إلى الخمر والنبيذ بالنص لكن إضافة الحكم إليه معلل بالشدة بمعنى أن باعث الشرع على التحريم هي الشدة، ونازعه العبدري وقال: إنما الباعث على وضعها أمارة حفظ العقول لا الشدة، وأما ما قاله المصنف أولاً فيخالف كلام الهندي فإنه قال: فسروا العلة بالمعرف لا بمعنى أنها تعرف حكم الأصل، فإن ذلك يعرف بالنص، بل حكم الفرع، لكن يخدشه ما هو المشهور من قول أصحابنا، لأن حكم الأصل تعلل بالعلة بينه وبين الفرع مع أنه غير معرف بها، وقال في المسألة الخلافية إن عنى بالعلة المؤثر أو الباعث، فلا شك أن كونه منصوصاً عليه لا ينافي أن يكون معللاً بالعلة بهذا المعنى، وعليه ينزل قول أصحابنا: إن الحكم

المنصوص عليه ثابت بالعلة ولا أظن أن الخصم ينكره، وإن عنى بالعلة المعرف فلا شك أن كونه منصوصاً عليه ينافي التعليل بالعلة بهذا المعنى، والخصم إنما ينكر كونه معللاً بالعلة بهذا المعنى، وأصحابنا لا ينكرون ذلك فلا خلاف، ـ ثم إن الآمدي وابن الحاجب والهندي ذكروا أنه لا خلاف في المعنى بل هو لفظي، وليس كما قالوا، بل له فوائد كثيرة منها: التعليل بالقاصرة والخلاف فيها يصح ترتيبه على هذا الأصل فإن أصحابنا لما أثبتوا الحكم في محل النص بالعلة لم تعر القاصرة عن فائدة فاعتبرت، والحنفية لما أثبتوا الحكم في محل النص به عرت القاصرة عن فائدة (94/ز) لأن أثرها لم يظهر في محل النص ولا في غيره، فلم يعتبر القول. الثاني: أنها بمعنى المؤثر بذاته لا بجعل الله تعالى، وهو قول المعتزلة بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين.

الثالث: أنها المؤثرة لا بذاتها ولا لصفة ذاتية ولكن بجعل الشارع إياها مؤثرة، وهو قول الغزالي، وزيفه الإمام بأن الحكم قديم والعلة حادثة والحادث لا يؤثر في القديم وبنى البحث على أنه هل يعقل تأثير من غير أن يكون المؤثر مؤثراً بذاته أو بصفة قائمة به أو لا يعقل ذلك؟ وعلى هذا تبنى مسألة خلق الأفعال فأصحابنا ينكرون تأثير العبد في فعله، ويقولون الصادر عنه فعل الله تعالى، والمعتزلة يقولون بتأثيره بذاته أو بصفة، وشذوذ منا توسطوا فقالوا بمثل كلامهم هنا في السببية ويلزمهم.

والرابع أنها الباعث على التشريع، بمعنى أنه لا بد وأن يكون الوصف مشتملاً على مصلحة صالحة، وأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب، وهو مأخذ القائلين بأن الرب تبارك وتعالى يعلل أفعاله بالأغراض، والمنصوص عند الأشرعية خلافه، فإن الرب تعالى لا يبعثه شيء على شيء، وقال الإمام تقي الدين أبو العز المقترح، من فسر العلة بالباعث للشارع على الحكم والحاملة أو الداعية، إن أراد به إثبات غرض حادث له فهو محال قررنا بطلانه في علم التوحيد، وإن أراد به أن يعقبها حصول الصلاح في العادة فسميت باعثة تجوزاً فهذا لا

يجوز إطلاقه على الباري تعالى، لما فيه من الإيهام بالمحال، إلا أن يتحقق إذن من الشارع في إطلاقه ولا سبيل إليه. (ص): وقد تكون دافعة أو رافعة أو فاعلة الأمرين. (ش): الوصف المجعول علة ثلاثة أقسام: الأول: يكون دافعاً للحكم فقط، كالعدة فإنها دافعة لحل النكاح إذا وجدت في ابتدائه وليست رافعة له إذا وجدت في أثنائه، فإن الموطوءة بشبهة تعتد وهي باقية على الزوجية. الثاني: أن يكون رافعاً للحكم فقط كالطلاق فإنه يرفع حل الاستمتاع ولكن لا يدفعه، إذ الطلاق لا يمنع وقوع نكاح جديد. الثالث: أن يكون رافعاً دافعاً كالرضاع، فإنه يمنع من ابتداء النكاح ومن دوامه إذا طرأ، وإنما كانت موانع النكاح تمنع في الابتداء والدوام لتأبدها واعتضادها بكون الأصل في الأوضاع هو الحرمة. (ص): ووصفاً حقيقاً ظاهراً منضبطاً أو عرفياً مطرداً وكذا في الأصح لغوياً أو حكماً شرعياً، وثالثهما إن كان المعلول حقيقاً. (ش): العلة باعتبار ذاتها تارة تكون وصفاً حقيقاً وتارة تكون شرعياً وتارة تكون لغويا، وتارة تكون عرفياً، ولا يخلو معلوم بوضع علة عن هذه الأقسام، ووجه

الحصر فيها هو أن ما لم يعلم لا يخلو إما أن يتوقف العلم به على وضع أم لا فإن لم يتوقف على وضع وإخبار فهو المسمى في الاصطلاح وصفاً حقيقياً وهو الذي يعقل باعتبار نفسه، وما يتوقف على وضع إما أن يكون الواضع الشرع أو غيره. فالأول: الحكم الشرعي. والثاني: إن كان العرب فاللغوي، أو من بعدهم فالعرفي. أما الوصف الحقيقي فلا خلاف في التعليل به إذا اشتمل على ما ذكره المصنف كقولنا: مطعوم فيكون ربوياً، والطعم يدرك بالحس، وهو أمر حقيقي أي لا تتوقف معقوليته على معقولية غيره، فاحترز بالظاهر عن الخفي، والمنضبط عن غيره، وما خلا منها سيذكر الخلاف فيه، والمراد بالمنضبط أن يتميز عن غيره، وأما الأوصاف العرفية وهي الشرف والخسة، والكمال والنقص، فيجوز التعليل بها حيث أمكن كما في الكفاءة وغيرها، فإن الشرف يناسب التعظيم والتكريم والإهانة، والخسة تناسب ضد هذه الأحكام، ويشترط أن يكون مطردا أي لا يختلف باختلاف الأوقات، فإنه إن لم يكن كذلك لجاز أن لا يكون ذلك العرف حاصلاً باختلاف الأوقات، فإنه إن لم يكن كذلك لجاز أن لا يكون ذلك العرف حاصلاً في زمان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحينئذ لا يجوز التعليل به وهي من مسائل (المحصول).

وأما بالأمر الغوي كقولنا في النبيذ: إنه مسمى الخمر، فيحرم كالمنعصر من العنب وأما الشرعي فذهب الأكثرون، إلى تجويز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، كتعليل حرمة بيع الكلب بنجاسته لأن العلة هي العرف، فلا بدع في جعل الحكم معرفاً للآخر، وقيل: يمتنع لأنه معلول فكيف يكون علة، وعلى الأصح فلو كان الحكم حقيقياً فهل يجوز تعليله بالحكم الشرعي؟ على قولين حكاهما في (المحصول)، وأصحهما كما قاله الهندي وغيره الجواز، لأن المراد من العلة المعرف ولا يبعد أن يكون الحكم الشرعي يعرف الحكم الحقيقي، وفي المسألتين يتحصل ثلاثة

مذاهب ومثال الحقيقي قولنا في إثبات الحياة في الشعر بأنه يحرم بالطلاق ويحل بالنكاح فيكون حياً كاليد. (ص): أو مركباً وثالثها لا تزيد عن خمس. (ش): تنقسم العلة باعتبار كميتها إلى الوصف الواحد، ولا خلاف في التعليل به، وإلى المركبة من أوصاف، والتعليل به جائز عند المعظم، فإنا نعلل القصاص بوجود القتل العمد العدوان الذي لا شبهة فيه، وهذه أوصاف مناسبة فلا يبعد أن تكون الهيئة الاجتماعية ينشأ عنها الحكم، وقيل: يمتنع لأنه يفضي إلى تخلف المعلول عن العلة العقلية، أو تحصيل الحاصل وهما محالان، وفي المسألة قول ثالث غريب: إنه لا تزيد الأوصاف على خمسة، وعزاه صاحب (الخصال) إلى الجرجاني من الحنفية،

وحكاه أبو إسحاق وغلط قائله، وأما الإمام فذكر أن الشيخ حكاه سبعة. (ص): ومن شروط الإلحاق بها اشتمالها على حكمة تبعث على الامتثال وتصلح شاهداً لإناطة الحكم، ومن ثم كان مانعها وصفاً وجودياً يخل بحكمتها. (ش): وجه اشتراط اشتمالها على الحكمة ظاهر، وقوله: تبعث (15/ك) على الامتثال، فيه بيان للمراد بقول الفقهاء: الباعث على الحكم كذا أنهم لا يريدون بعث الشارع بل إن العلة باعثة للمكلف على الامتثال، مثاله: حفظ النفوس فإنه علة باعثة على القصاص (95/ز) الذي هو فعل المكلف المحكوم به من جهة الشرع، فحكم الشرع لا علة باعثة عليه، لأنه قادر أن يحفظ النفوس، بدون ذلك بخلاف المكلف فإذا انقاد المكلف امتثالاً لأمر الله تعالى إلى حفظ النفوس، كان لهم أجران، أجر على القصاص، وأجر على حفظ النفوس وكلاهما مأمور به من جهة الله تعالى أحدهما: بقوله: {كتب عليكم القصاص} والثاني: بالإيماء من قوله

تعالى: {ولكم في القصاص حياة} وقوله: (ومن ثم كان مانعها) أي مانع العلة وهو مراد الأصوليين بمانع السبب فإنهم جعلوا من خطاب الوضع الحكم على الوصف بالمانع وقسموه إلى قسمين مانع الحكم وقد ذكره المصنف في صدر الكتاب ومانع السبب وذكره المصنف هنا، وهو منعه لسبب الحكم لحكمة تخل بحكم السبب كالدين المانع للزكاة عند القائل به، فإن الدين وصف مانع لسبب الحكم، والحكم وجوب الزكاة، والسبب هو الاستغناء عن قدر النصاب، فالدين مانع من الاستغناء الذي هو السبب ومنعه كذلك لحكمة هي احتياج مالكه إليه، وهذه الحكمة تخل بحكم السبب في وجوب الزكاة، فإن الحكمة التي لأجلها

وجبت الزكاة في ذلك النصاب وهي الاستغناء أزالها الدين، فإن المديون ليس مستغنياً عن النصاب الذي ملكه. (ص): وأن تكون ضابطاً لحكمة وقيل: يجوز كونها نفس الحكمة، وقيل إن انضبطت. (ش): لفظ الحكمة يطلق في استعمالهم لمعنيين. أحدهما: بإزاء المصلحة المقصودة لشرع الحكم. والثاني: بمعنى الوصف الضابط لها إذا كان خفياً وهذا مجازاً، لأنه ضابط الحكمة لا نفس الحكمة من باب تسمية الدليل باسم المدلول، فأما الحكمة بالمعنى الأول فلا يصح نصبها أمارة الحكم، إذ هي متأخرة عن الحكم في الوجود، فكيف يعرف الشيء بما لا يوجد إلا بعد وجوده، وكيف يعلل الحكم بفرع ثبوته؟ وأما بالمعنى الثاني فيمتنع التعليل بها لخفائها واضطرابها فإن كان الوصف الحقيقي مستقلاً كانت مظنته مستقلة هكذا قاله المقترح وحاصل ما ذكره المصنف في جواز التعليل بالحكمة ثلاثة مذاهب. أحدها: وهو الأصح عند الإمام: الجواز.

والثاني: المنع. والثالث: التفصيل. فإن كانت ظاهرة منضبطة بحيث يجوز ربط الحكم بها جاز التعليل بها، وإلا فلا، واختاره الهندي وصححه ابن الحاجب لأنا نعلم قطعاً أنها هي المقصود للشارع، وإنما عدل عن اعتبارها لمانع خفائها واضطرابها فإذا زال المانع جاز اعتبارها. (ص): وأن لا تكون عدما في الثبوتي وفاقاً للإمام وخلافاً للآمدي. (ش): مثاله: بيع الآبق باطل لعدم القدرة على التسليم، وقد صار كثيرون إلى امتناعه، فإنه لا يناسب الحكم ولا يشعر به، فإن المناسبة، ما تقتضيه مصلحة عادة، والعادة مطردة في أن الإنسان لا يقنع بالنفي المحض، ووجهه بعض الجدليين: بأن العدم طرد، والتعليل بالطرد ممتنع، قال: ولو قال الشارع أثبت حكم كذا لعدم كذا ـ كان للتأقيت بمعنى إذا انعدم فاعرفوا ثبوت الحكم لا للتعليل فإنه غير صالح للتعليل، وجوزه آخرون لجواز كون العدم مظنة لمعنى مناسب فصح أن يكون علته،

ووجهه الإمام في الرسالة البهائية بتوجيه حسن فقال: الوصف إذا كان ضابطاً لمصلحة يلزم حصول المفسدة عند ارتفاعها، فكان عدم ذلك الوصف ضابطاً لتلك المفسدة، فيكون ذلك العدم مناسباً للحرمة، قال المقترح، والصحيح الأول، لأن العدم لا يصلح أن يكون مظنة، لأنه إما أن يكون مطلقا ًأو مضافاً، فالعدم المطلق نسبته إلى كل الأحكام متساوية ضرورة، فلا مطمع في جعله مظنة لمعين ـ وإن كان مضافاً وهو عدم أمر ما فهذا الذي قدر عدمه إن كان وجوده منشأ مصلحة فلا يناسب تعليق الحكم على عدمه، وإن كان وجوده منشأ مفسدة فهو تابع ولا بد من مقتضى، وإن لم يكن منشأ شيء فلا فرق بين وجوده وعدمه، ونبه على أنه ليس المراد بالوجود المشترط الذات المتحققة كما يريده الأصوليون، بل هو أمر تعليقي أو نسبي أو إضافي، إذا علمت هذا فنسبة المصنف المنع للإمام والجواز للآمدي معكوس وهو سبق قلم، فإن الإمام قال في (المحصول): يجوز التعليل بالعدم خلافاً لبعض الفقهاء، وقال الآمدي في (الإحكام): المختار أن العدم لا يصلح أن يكون علة بمعنى الباعث، وعول في دليله على أن العلة أمر وجودي، لأن (لا علة) أمر عدمي، ولا يقال: فالإمام اختار في المعالم المنع، لأنا نقول لم يختر الآمدي الجواز على أن في ثبوت الخلاف بينهما نظراً، لعدم تواردهما على محل واحد، فإن الإمام بناه على رأيه أن العلة بمعنى المعرف، وهو بهذا التفسير لا ينبغي أن يقع فيه خلاف، إذ لا امتناع في أن يكون العدم علة للموجود، والآمدي بناه على أنها بمعنى الباعث.

وذكر ابن التلمساني بناء هذه المسألة على تخصيص العلة فمن منع التخصيص جوز هنا، ومن جوز التخصيص يقول العلة ضابط المصلحة والعدم لا شيء والمصلحة شيء. تنبيه: أهمل المصنف أن يكون العدم جزءاً من العلة، وقد (ذكر هذا) ابن الحاجب والخلاف فيه كالخلاف في أصل المسألة، فلو قال: وأنه لا تكون عدما هي أو أجزاؤها، لكان أشمل، والعجب من المصنف كيف أسقط المسألة في (شرح المختصر) وهي ثابتة في (المختصر الكبير) و (الصغير)؟ وجعل ـ أعني المصنف ـ ما جعله ابن الحاجب دليلاً لهذه المسألة دليلاً لمسألة التعليل بالمحل وهو عجيب، وكلام ابن الحاجب في الكبير مصرح بخلافه. (ص): والإضافي عدمي.

(ش): الوصف الإضافي: هو ما يعقل باعتبار غيره كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر والمعية والقبلية والبعدية، وسيأتي في المباحث الكلامية الخلاف في الإضافيات هل هي وجودية أو عدمية؟ فإذا قلنا عدمية وهو المختار، فهل يجوز التعليل بها؟ والعلة بمعنى الأمارة أم لا؟ فيه خلاف مفرع على الأمر العدمي هل يجوز أن يكون علة للأمر الوجودي أم لا؟ ووجه التفريع ظاهر فمن منع هناك منع هنا لاستوائها في العدم في الخارج، وإنما يفترقان (16/ك) في أن الإضافة وجودها ذهني فقط، أي موجود في الأذهان مقدرة في الأعيان، والأوصاف العدمية عدم مطلقاً في الذهن والخارج. (ص): ويجوز التعليل بما لا يطلع (96/ز) على حكمته، فإن قطع بانتفائها في صورة فقال الغزالي وابن يحيى، يثبت الحكم فيها للمظنة وقال الجدليون: لا. (ش): يجوز التعليل بما لا يطلع على حكمته لأنه لا يخلو عنها في نفس الأمر، وليس التعبدي عبارة عما لا علة له، بل عما لا نعلم علته، فينظر لذلك، وما لا تعقل فيه المناسبة نسميه أمارة، فإن قطع بانتفائها في بعض الصور: كاستبراء الصغيرة، فإن الاستبراء شرع لتيقن براءة الرحم وهو مفقود في الصغيرة، فقال الغزالي رحمه الله

وصاحبه محمد بن يحيى: يثبت له الحكم للمظنة، فإن الحكم قد صار معلقاً بها، وذهب الجدليون إلى أنه لا يثبت لانتفاء الحكمة فإنها روح العلة واقتصار المصنف في نقل الخلاف عمن ذكر هو باعتبار الممكن في نظر الأصوليين، وإلا فالخلاف في هذه المسألة ثابت بين الأصحاب فإنهم قالوا: يكره لمن قام من نوم وشك في طهارة يده غمسها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً فلو تيقن طهارتها فلا يكره له الغمس قبل الغسل، وقال إمام الحرمين: يكره، وإن كان قد علق الغسل في الخبر على توهم النجاسة، وقال: يجوز أن يكون للتوهم ثم يعم ما وجد منه ذلك، وما عدم كالعدة شرعت لبراءة الرحم في موضع يعلم فيه البراءة قال الشاشي في (المعتمد)

والمذهب الأول، لأنه علق على علة، معلومة وهي توهم النجاسة، وما علق على معنى معلوم قصر عليه، ولا يلحق به ما لم يوجد المعنى فيه، هذا هو الأصل في العلل، قال: وقد أبعد المزني في تشبيهه بالعدة، وإلحاقه بالنجاسة المحققة أولى، فإنها تؤثر في المنع من غمس اليد في الإناء، ثم لا يثبت هذا الحكم فيه إذا كانت النجاسة متوهمة، أو يجعل توهم النجاسة كتحققها كما قال أحمد في المنع، ويلحق ذلك بالعدة، فإذا لم يلحق حال توهم النجاسة بالعدة في وجوب المنع فلأن يلحق حال تحقق الطهارة في الاستحباب بالعدة أولى، والعدة فيها ضرب من التعبد، وحال تحقق البراءة حالة نادرة فألحقت بالغالب، لعدم إمكان الضبط، وتيقن الطهارة ليس بنادر والأصل طهارة اليد انتهى، ومن أمثلة المقطوع بانتفائها أيضاً: ما لو قال أنت طالق في آخر حيضتك أو مع آخر حيضتك فهل هو سني أو بدعي؟

وجهان: أصحهما: سني ونسبه الإمام في النهاية للقياسين. والثاني: بدعي قال الإمام: وهذا القائل يعتضد بالرجوع إلى التوقف بالتعبد. انتهى. ومأخذ الأول: أن الحكم في تحريم طلاق الحائض تطويل العدة، وهو مقطوع بانتفائه في هذه الصورة فلا يثبت الحكم. ومأخذ الثاني: أن الحكمة وإن انتفت فالعلة وهي الحيض ثابتة فيعلق بها، وليس معنى قول الإمام بالتعبد أنه لا علة له، ولا يخفى أن العلة الحيض فقد يكون الشيء متعبداً من وجه معقولاً من وجه، وطلاق الحائض من ذلك، فمن علقه بمسمى الحيض، فقد قضى بالتعبد من حيث إرادته الحكم على هذا الاسم سواء وجد معه تطويل العدة أم لا، وكل من تعلق بالمظنة شرط اشتمالها على الحكمة، وهذا هو الجاري على المعنى، واعلم أن أصحابنا ذكروا خلافاً في باب صلاة العيد أن ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعنى وزال هل تبقى سنيته أم لا؟ على وجهين كالرمل ونحوه، وليس هو هذا الخلاف المذكور هنا، لأنا حيث قلنا تبقى سنيته

فلا بد له من علة، وهو جار على قولنا: يجوز تعليل الحكم الواحد في حال بعلة وفي أخرى بغيرها. (ص): والقاصرة منعها قوم مطلقاً، والحنفية إن لم تكن بنص أو إجماع والصحيح جوازها، وفائدتها معرفة المناسبة، ومنع الإلحاق، وتقوية النص، قال الشيخ الإمام: وزيادة الأجر عند الامتثال لأجلها. (ش): العلة القاصرة وهي التي لم تتعد عن محل النص بل مقتصرة عليه إن عرفت عليتها بنص أو إجماع جاز التعليل بها، ونقل الاتفاق عليه جماعة منهم القاضي أبو بكر لكن القاضي عبد الوهاب طرد فيها الخلاف الآتي وإليه أشار بقوله: منعها قوم مطلقاً وإن عرفت عليتها بغيرهما كتعليل الربا في النقدين بجوهريتهما، فذهب الحنفية إلى بطلانها، وذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة إلى

الصحة لأنها مناسبة للحكم فيصح، والمانعون قالوا: لو كانت صحيحة كانت مفيدة لكنها غير مفيدة، لأن الحكم في الأصل ثابت بغيرها، وليس لها فرع إذ هي قاصرة، وهذا منقوض بالقاصرة بنص أو إجماع، فإن الخصم وافق على تجويزه فلو صح ما قالوه كان النص عليها عبثاً، والإجماع عليها خطأ، وبأن الفائدة غير منحصرة فيما ذكرتم من إثبات الحكم بها، بل لها فوائد، فقول المصنف: فائدتها هو جواب عن سؤال الخصم وذكر لها أربع فوائد. أحدها: معرفة حكمة الحكم فيكون أدعى إلى القبول والانقياد مما لا تعلم مناسبته، ونازع المقترح في هذه الفائدة بأن مشروعية حكم السببية لم يكن لذلك،

بل للتعريف فماذا ينفع النظر في فوائد لم يشرع لها الشيء. ثانيها: أنها تفيد منع حمل الفرع على الأصل كما أن المتعدية تفيد إثبات الحمل فإنه إذا علمنا أنها قاصرة امتنع القياس عليه. ثالثها: أنها تزيد النص قوة ويتعاضدان، ذكره القاضي أبو بكر وغيره، قال: وكذلك سبيل كل دليلين اجتمعا في مسألة، فيكون الحكم ثابتاً بالعلة والنص معاً، وينبغي أن يحمل هذا على ما إذا كان النص ظاهراً فيمكن أن يقال: إنها تقوي الظاهر وتعصمه من التأويل، فكأنها باقية في محل النصوصية منه متعدية إلى ما يقبل التأويل، أما إذا كان بقاطع فلا تقوية إذن، وقد صرح بذلك الإمام في (البرهان). رابعها: إن المكلف يقصد الفعل لأجلها فيحصل له أجران: أجر قصد الفعل للامتثال وأجر قصد الفعل لأجلها فيفعل المأمور به لكونه أمراً وللعلة، ذكره والد المصنف،

وظهر بهذه الفوائد بطلان قول أبي زيد الحنفي، إنها لا تفيد علماً ولا عملاً. (ص): ولا تعدى لها عند كونها محل الحكم (97/ز) أو جزأه الخاص أو وصفه اللازم. (ش): علة الحكم إما محله الذي يثبت فيه أو جزء ماهيته الخاص، أو وصفه اللازم للموصوف. فالأول: كقولنا: الذهب ربوي لكونه ذهباً، فإن علة ذلك الحكم ذلك المحل، وكذلك علة حرمة الخمر كونه معتصراً من العنب.

الثاني: كونه معتصراً فقط. والثالث: كالنقدية في الذهب والفضة (17/ك) فإنه وصف لازم لهما، ومثله في (المستصفى) بالصغر يعني في الولاية عليه، وفيه نظر لأنه يزول بالكبر، فأشبه الشدة المسكرة في العروض، وهذه الثلاثة لا تكون إلا في العلة القاصرة، لاستحالة وجود خصوصية المحل أو جزئه الخاص أو وصفه اللازم له في غيره، وإما أن يكون جزء العام المشترك بينه وبين غيره لا يكون إلا في المتعدية، كتعليل إباحة البيع بكونه عقد معاوضة فعقد المعاوضة من حيث إنها جنسه جزء له لا يختص به، وعلم من كلامه جواز التعليل بمحل الحكم جزئه الخاص، وهو قول الأكثرين، وقال الهندي: الخلاف فيه مبني على جواز التعليل بالقاصرة، فإن جوز ذلك جوز هذا وإن منع منع، وقال الأصفهاني شارح (المحصول): ذهب

الأكثرون إلى جواز التعليل بالمحل وبجزئه، وقيل يمتنع فيهما، وقيل: يجوز بالجزء دون المحل ومختار الإمام: يجوز التعليل بالمحل في القاصرة دون المتعدية، وقد يقال: لا حقيقة لهذا المذهب، لأن العلة بالمحل هي القاصرة، وإطلاق الأول وإن أطلق فهو مخصوص بها فكيف يصح التفصيل. (ص): ويصح التعليل بمجرد الاسم اللقب، وفاقاً لأبي إسحاق الشيرازي وخلافاً للإمام، وأما المشتق فوفاق، وأما نحو الأبيض فشبه صوري. (ش): للتعليل بالاسم ثلاث صور: أحدها: اسم اللقب، كما لو عللنا كون النقدين ربويين بأن اسمهما ذهب وفضة، قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): يجوز أن يكون وصف العلة صفة كالطعم في البر واسماً كقولنا: تراب وماء، وقيل: لا يجوز أن يكون الاسم علة، وهو خطأ، لأن كل معنى جاز أن يعلق الحكم عليه من جهة النص، جاز أن يستنبط من النص، ويعلق الحكم عليه كالصفات والأحكام، وأما الإمام في (المحصول)

فقال: اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم كتعليل تحريم الخمر بأن العرب سمته خمراً، فإنا نعلم بالضرورة أن هذا اللفظ لا أثر له، فإن أريد به تعليله بمسمى هذا الاسم من كونه مخامراً للعقل، فذلك تعليل بالوصف لا بالاسم فتحصل طريقان: أحدهما: القطع بالمنع. والثانية: إثبات خلاف، والصحيح الجواز، وهو الذي صححه ابن السمعاني وغيره وقد استعمله الشافعي رضي الله عنه فقال في بول ما يؤكل لحمه: لأنه بول فأشبه بول الآدمي وذكر صاحب (الخصال) من الحنابلة: أن الإمام أحمد نص على التعليل به أيضاً. الثانية: اسم اشتق من فعل كالسارق والقاتل فيجوز جعله علة، وحكاية المصنف فيه الاتفاق، ممنوع، ففي (التقريب) لسليم الرازي حكاية قول بمنع الاسم

مطلقاً لقباً ومشتقاً. الثالثة: اسم اشتق من صفة كالأبيض والأسود، وقال ابن السمعاني فهذا من علل الاشتباه الصورية، فمن احتج بالشبه الصوري احتج به. تنبيه: لك أن تسأل عن مسألة الفرق بين العلة القاصرة والتعليل بالمحل والتعليل بالاسم، والجواب: أن العلة القاصرة أعم من المحل لأن المحل ما وضع له اللفظ كالخمر والبر، والقاصرة وصف اشتمل عليه محل النص لم يوضع له اللفظ كالنقدية، فكل محل علة قاصرة وليس كل علة قاصرة محلاً، وأما الفرق بين المحل والاسم فقيل من وجهين. أحدهما: أن المراد بالاسم الجامد الذي لا ينبئ عن صفة مناسبة، فيصح إضافة الحكم إليها بخلاف الخمر الدال على التخمير المناسب للتحريم، وهذا يشكل بالبر، فإنه يجوز التعليل به وهو جامد. والثاني: أن يكون المراد التعليل بالتسمية نحو: حرمت الخمر لتسميتها خمراً، والتفاضل في البر لتسميته براً ونحوه، إذ التسمية لا تأثير لها بخلاف المعنى المستفاد من المحل بإشارة وتنبيه، وربما التفت الكلام ههنا إلى الاسم والمسمى، ثم قال: هما واحد أو متغايران، والمراد المسمى الذي هو مدلول الاسم فحكمه حكم سائر العلل، إن كان مؤثراً أو مناسباً علل به وإلا فلا، ومن أراد الاسم الذي هو اللفظ لم يعلل به قطعاً.

(ص): وجوز الجمهور التعليل بعلتين، وادعوا وقوعه وابن فورك والإمام في المنصوصة دون المستنبطة ومنعه إمام الحرمين شرعاً مطلقاً وقيل: يجوز في التعاقب، والصحيح القطع بامتناعه عقلاً مطلقاً للزوم المحال من وقوعه كجمع النقيضين. (ش): يجوز تعليل الحكم الواحد نوعاً المختلف شخصاً بعلل مختلفة، وفاقاً، كتعليل إباحة قتل زيد بردته وعمرو بالقصاص، وخالد بالزنا، أما الواحد بالشخص فلا خلاف في امتناع تعليله بعلل عقلية، وأما بعلل شرعية كتحريم وطء الحائض المعتدة المحرمة، فعلى مذاهب: أحدهما: وعليه الجمهور: جوازه مطلقاً ووقوعه فإن اللمس والبول والغائط والمذي يثبت بكل واحد منها الحدث، والقصاص والردة يثبت بكل منهما القتل، وكذلك إذا أرضعت صغيرة لبن زوجة أخيك وأختك، حرمت لكونك خالها وعمها دفعة، ويخرج المانع كل صورة على أنها أحكام متعددة كقولهم في القتل بأسباب: أن أشخاص القتل متعددة، وإن اتحد النوع بمحل، فإن القتل في صورة واحدة محال تعدده، إذ هو إزهاق الروح، وصورة العم والخال يدفع كل إشكال. الثاني: المنع مطلقاً، واختاره الآمدي ونقله عن القاضي وإمام الحرمين.

والثالث: يجوز في المنصوصة دون المستنبطة وهو رأي الأستاذ ابن فورك، واختاره الإمام وأتباعه. والرابع: يجوز عقلاً ولكنه يمتنع شرعاً، وهو ما نقله ابن الحاجب (98/ز) عن إمام الحرمين، وقال الصفي الهندي: إنه الأشهر عنه، يعني: بخلاف نقل الآمدي وعليه جرى المصنف، فإنه الموجود في (البرهان) حيث قال: ليس ممتنعاً عقلاً وتسويغاً، ونظراً إلى المصالح الكلية لكنه ممتنع شرعاً، وحاصله أنه جائز عقلاً لكنه لم يقع قط، وذكر أنه تصفح الشريعة فلم يجد ذلك، وقال: إن المختلفين في المسائل يختلفون في العلل كاختلافهم في الحكم كمسألة الربا هذا مع أنه في كتب الفروع قال في تدبير المستولدة: إنه يصح، ويكون لعتقها يوم موت السيد سببان، لكنه اعترف بأنه لا أثر لبقاء التدبير، وكأنه إنما منع اجتماع علتين معرفان أو مؤثران، فحيث لا يحصل التأثير لم يجتمع، وهل يجري هذا الخلاف في التعليل (18/ك) بعلتين سواء كانا متعاقبين

أو معاً، أو هو مختص بالمعية؟ كلام ابن الحاجب يقتضي الأول، والصواب عند المصنف الثاني، ولهذا ضعفه، بقوله: وقيل يجوز في التعاقب، واحتج عليه بأنه يلزم من شموله حالة التعاقب أن يكون في الأمة من يمنع أن اللمس والمس مثلاً ليسا بعلتين وإن وجد أحدهما بمفرده بل لا علة إلا واحد فقط، فلا يكون للحدث مثلاً غير علة واحدة، وهذا لا يقوله أحد، ثم الصحيح عند المصنف القطع بامتناعه عقلاً. (ص): المختار وقوع حكمين بعلة إثباتاً كالسرقة للقطع والغرم، ونفياً كالحيض للصوم والصلاة وغيرهما، وثالثها: إن لم يتضاداً. (ش): في تعليل الحكمين بعلة مذاهب: أصحها: الجواز، سواء الإثبات كالسرقة، فإنها تناسب القطع زجراً للسارق حتى لا يعود، وتناسب التغريم جبراً لصاحب المال، وفي النفي كالحيض يناسب المنع من الصلاة والصوم وغيرهما من الأحكام كالطواف وقراءة القرآن، ومس المصحف.

والمذهب الثاني: المنع مطلقاً. والثالث: الجواز إن لم يتضادا كالحيض لحرمة الصوم والصلاة دون ما إذا تضاداً، كما يكون مبطلاً لعقد مصححاً لآخر كالتأبيد في الإجازة والبيع. (ص): ومنها أن يكون ثبوتها متأخراً عن ثبوت حكم الأصل خلافاً لقوم. (ش): أي: من أهل العراق كما قاله القاضي عبد الوهاب كما يقال فيما أصابه عرق الكلب: أصابه عرق حيوان نجس فيكون نجساً كلعابه فيمنع كون عرق الكلب نجساً فيقال: لأنه مستقذر، فإن استقذاره إنما يحصل بعد الحكم بنجاسته وقال الهندي: الحق الجواز إن أريد بالعلة المعرف، وإن أريد بها الموجب أو الباعث فلا. (ص): ومنها أن لا تعود على الأصل بالإبطال.

(ش): لأن العلة فرع هذا الحكم، والفرع لا يرجع إلى إبطال أصله، وإلا يلزم أن يرجع إلى نفسه بالإبطال، ولهذا ضعف مأخذ الحنفي في تأويله حديث: ((في أربعين شاة شاة))، أي: قيمة شاة، لأن القصد دفع الحاجة بالشاة أو القيمة، فإنه يلزم منه أن لا تجنب الشاة عينا فإن غير الشاة ليست بشاة، قال السهروردي: وأنصف أمير المتأخرين، يعني: الغزالي رحمه الله، فقال: ليس هذا دافعاً للنص وإنما يلزم أن لو جوزوا الترك مطلقاً إما إلى بدل فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة، فإن من أدى خصلة من خصال الكفارة المخير فيها فقد أدى واجباً وإن كان الوجوب يتأدى بغيرها، فهذا موضع الوجوب لا إسقاط له، وأما تخصيص الشاة بالذكر فيجوز أن يكون لكثرة الوجود عندهم، كتخصيصهم الاستنجاء بذكر الحجر مع الجواز بالمدر، أو لسهولة الأداء على المالك، قلت: فيه رفع للنص من حيث إبطال تعلق الزكاة

بالعين، ونقلها إلى الذمة، ولئن سلم أنه لا يتضمن الإبطال لكنه يتضمن التغيير ولا يجوز تغير حكم النص بعلته لا سيما ومبنى الزكاة على التعبد. (ص): وفي عودها بالتخصيص لا التعميم قولان. (ش): الخلاف في عودها بالتخصيص ليس هو الخلاف في تخصيص العموم بالقياس كما توهمه بعضهم، لأن ذلك في قياس نص خاص إذا قابل عموم نص آخر، وهذا معناه أن العلة المستنبطة من أصل عام من كتاب أو سنة، هل يشترط أن لا تعود على أصلها بالتخصيص؟ فيه قولان للشافعي رضي الله عنه مستنبطان من اختلاف قوليه في نقض الوضوء بلمس المحارم. أحدهما: لا ينقض نظراً إلى أن العلة مظنة الاستمتاع لا سيما إذا فسر الملامسة في الآية بالجماع فهذه العلة عادت على الأصل بالتخصيص. والثاني: ينتقض تمسكاً بالعموم، وكذلك ورد النهي عن بيع اللحم

بالحيوان، وعمومه يقتضي عدم الفرق بين المأكول وغيره، والمعنى يقتضي تخصيصه بالمأكول لأنه بيع الربوي بأصله وما ليس بربوي لا مدخل له في النهي وللشافعي رضي الله عنه في بيعه بغير المأكول قولان مأخذهما هذا الأصل، والأصح المنع تمسكاً بالعموم وإنما لم يرجح شيئاًَ من القولين لأن الأصحاب لم يطردوا فيه ترجيحاً بل في بعض الصور يخصونه بالمعنى كالمحارم، وفي بعضها لا يخصونه كاللحم بالحيوان، وذكر الهندي في (الرسالة السيفية) أن القولين هما القولان في تخصيص العلة فقال: ما استنبط من الحكم يجب أن لا يبطله بالكلية لأنه فرعه، وإن اقتضى تخصيصه ففيه خلاف مبني على تخصيص العلة لأن التخصيص مناف، والفرع لا ينافي أصله ثم قال: قيل المستنبطة لا يجوز أن تكون مخصصة للكتاب والسنة المتواترة وهو بناء على أنه لا يجوز تخصيصهما بالقياس ومذهبنا صحته، وذكر في موضع آخر أن ما ثبت علته بالإيماء وهو ترتيب الحكم على الوصف لا يجوز أن يستنبط منه تخصيص الحكم قطعاً، وإن جوز ذلك في غيره وهو مصرح بتخصيص الخلاف بالعلة المنصوصة، وجزم في (المستصفى) بأن العلة إذا عكرت على الأصل بالتخصيص لا تقبل، واستثنى ما إذا سبق المعنى إلى الفهم فيجوز أن

يكون قرينة مخصصة للعموم، قال: أما المستنبطة بالتأمل ففيه نظر، وأما عودها (99/ز) على الأصل بالتعميم فمحل وفاق، وهو غالب الأقيسة، كاستنباط ما يشوش الفكر من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) قال القاضي أبو الطيب الطبري: وأجمعوا على أنه ليس لنا علة تعود على أصلها بالتعميم إلا هذا المثال وذلك جائز بالإجماع وفيما قاله نظر. (ص): وأن لا تكون المستنبطة معارضة بمعارض مناف موجود في الأصل، قيل: ولا في

الفرع. (ش): من الشروط إذا كانت مستنبطة أن لا تكون معارضة بمعارض مناف موجود في الأصل صالح للعلية ليس موجوداً في الفرع، فإنه متى كان للأصل وصفان متعارضان يقتضي كل منهما نقيض حكم الآخر لم يصح إعمال واحد منهما إلا بترجيح، ومثاله قول الحنفية، في التبييت: صوم عين فيؤدى بالنية قبل الزوال كالنفل فنقول: صوم فرض فيحتاط فيه ولا يبنى على السهولة، قيل: ولا في الفرع أي ويشترط أيضاً (19/ك) أن لا يكون في الفرع وصف معارض، وإلا فمتى عورضت لم يثبت الحكم لأنه من حيث إنه معارض مناف يلحقها بأصل آخر مثله في مسح الرأس: ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه، فيعارض الخصم فيقول: مسح فلا يسن تثليثه كالمسح على الخفين، وإنما قيد المعارض بالمنافي مع أن التعارض ظاهر في المنافي تحقيقاً، لأنه المراد هنا خلافاً لما ظن أن المراد به الإتيان بوصف آخر لا ينافي، وهو باطل فإنه لو كان المراد بالمعارض هنا غير المنافي لم يمتنع اجتماعهما، ويكونان علتين، وقد صرح المصنف بأن المعارض لا يكون منافياً فيما بعده، بقوله: والمعارض هنا وصف صالح إلى آخره، بقي أن قوله: قيل: ولا في الفرع يقتضي أن الراجح خلافه، ولا ينافيه قوله فيما سبق في شروط الفرع تقبل المعارضة على المختار، وذلك أن القول بأنه شرط في العلة: أن لا يعارض مستنبطها في

الفرع ضعيف عنده، وإليه أشار بقوله: وقيل: وهذا لأن انتفاء التعارض في الفرع شرط ثبوت حكم العلة فيه لا شرط صحة العلة في نفسها، فإنها في نفسها يجوز أن تكون صحيحة سواء ثبت الحكم في الفرع أم تخلف لسبب من الأسباب اقتضى تخلفه، فمن ادعاه شرطاًَ للعلة نفسها فقد وهم، وأما قبول المعارضة في الفرع فحق لأن ذلك دافع لغرض المستدل فكان قبوله والانفصال عنه حقاً، والحاصل أن انتفاء المعارض في الفرع شرط ثبوت الحكم لا شرط صحة العلة، فليس من قوادح العلة في شيء، وإن كان من قوادح القياس، قال المصنف: وليس في الكتاب أشكل من هذه المسألة، قال: وفي الحقيقة قولنا هناك وتقبل المعارضة جواب سؤال مقدر وتقديره: إذا لم يشترط نفي المعارض في الفرع فهل تقبل المعارضة؟ وتقرير الجواب نعم تقبل لا لكونها قدحاً في العلة، بل لكونها قدحاً في القياس. (ص): وأن لا تخالف نصاً أو إجماعاً. (ش): لأنهما أولى من القياس ومثال مخالفة النص قول الحنفي: المرأة مالكة لبضعها فيصح نكاحها بغير إذن وليها قياساً على بيع سلعتها فهذه علة مخالفة

نص قوله عليه الصلاة والسلام: ((إيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) ومثال الإجماع: قياس صلاة المسافر على صومه في عدم الوجوب بجامع السفر الموجب للمشقة، فهذه علة مخالفة للإجماع. (ص): ولا تتضمن زيادة عليه إن نافت الزيادة مقتضاه وفاقاً للآمدي. (ش): أي زيادة على النص (بأن يكون النص) دالاً على علية وصف، ويزيد الاستنباط على ذلك الوصف قيداً، ثم منهم من أطلق ذلك، وقال الآمدي: إنما يشترط إذا نافت الزيادة مقتضى النص، واختاره المصنف، وقال الهندي: إنما يتجه الأول لو كانت الزيادة على النص نسخاً، وليس كذلك.

(ص): وأن تتعين خلافاً لمن اكتفى بعلية مبهم مشترك. (ش): ذهب بعضهم إلى أنه يجوز الإلحاق بمجرد الاشتراك في وصف عام أو مطلق كقول عمر رضي الله عنه: (اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك) قالوا: ويكفي في كون الشيء شبهاً للشيء الاشتراك في وصف واحد قال الهندي وأطلق الجماهير على فساده لإفضائه إلى التسوية بين العامي والمجتهد في إثبات الأحكام الشرعية في الحوادث لأن ما من عامي جاهل بغرض إلا ويعلم أن هذا النوع أصل من الأصول في وصف عام وقد أجمع السلف على أنه لا بد في الإلحاق من الاشتراك بوصف خاص فإنهم كانوا يتوقفون في الحادثة ولا يلحقونها بأي أصل اتفق بعد عجزهم عن إلحاقها بما شاركها في وصف خاص. (ص): وأن لا تكون وصفاً مقدراً وفاقاً للإمام.

(ش): مثاله أن يقول: جواز التصرف نحو البيع والهبة والوقف والإعتاق معلل بالملك، ولا وجود له حقيقة ولا تقديراً فيكون عدماً محضاً، وهو ممتنع فيكون الملك معنى مقدراً وشرعياً في المحل، أثره جواز التصرف المذكور، وما نقله المصنف عن الإمام صحيح وعبارته في (المحصول): الحق أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة خلافاً للفقهاء العصريين، بل قال صاحب (تنقيح المحصول): أنكر المصنف وجماعة تصور التقدير في الشرع فضلاً عن التعليل به.

(ص): وأن لا يتناول دليلها حكم الفرع بعموم أو خصوصه على المختار. (ش): مثال العموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((الطعام بالطعام مثلاً بمثل)) فإنه دال على علة الطعم، فلو قلنا: التفاح ربوي قياساً على البر بجامع الطعم، فإنه علة لهذا الحديث ـ لم يصح، لأن النص يتناول التفاح بحكم العموم فلا يحتاج إلى القياس، ثم إنه قد يحكم بجعل البر أصلاً والتفاح فرعاً وليس هو بأولى من العكس، ومثال الخصوص كما روي: ((من قاء أو رعف فليتوضأ)) فلو قيل في القيء خارج من غير السبيلين فينقض، كالخارج منهما، ثم استدل على أن الخارج منهما ينقض بهذا الحديث لم يصح، لأنه تطويل بلا فائدة.

(ص): والصحيح لا يشترط القطع بحكم الأصل. (ش): شرط بعضهم في العلة أن تكون مستنطبة من أصل مقطوع بحكمه، وهو باطل، لأنه يجوز القياس على الذي ثبت حكمه بدليل ظني كخبر الواحد والبراءة الأصلية والعموم والمفهوم وغيرها. (ص): ولا انتفاء مخالفة مذهب الصحابي. (ش): شرط بعضهم ألا تكون مخالفة لمذهب الصحابي، وهو أيضاً باطل، لأنه ليس بحجة، وبتقدير كونه حجة فلا نسلم أرجحيته على القياس. (ص): ولا القطع بوجودها في الفرع. (ش): شرط بعضهم أن يعلم وجودها في الفرع على وجه القطع، وهو أيضاً باطلح= لأنه من جملة مقدمات القياس فجاز أن يكون ظنياً كغيره من المقدمات. (ص): أما انتفاء المعارض فمبني على التعليل بعلتين.

(ش): قد سبق اشتراط انتفاء المعارض المنافي، وأما غير المنافي ففي اشتراطه خلاف مبني على التعليل بعلتين، صرح بذلك إمام الحرمين والآمدي وغيرهما، ثم شرع المصنف في بيان المراد بالمعارض غير المنافي (20/ك). (ص): والمعارض هنا وصف صالح للعلية كصلاحية المعارض غير مناف، ولكن يؤول إلى الاختلاف كالطعم مع الكيل في الربا لا ينافي، ويؤول إلى الاختلاف. (ش): أشار بقوله (هنا) إلى أن المعارضة تطلق ويراد بها شيئان. أحدهما: الإتيان بوصف يقتضي مقابل ما اقتضاه المستدل، كما إذا اعتل بوصف يقتضي التحريم فعارضه بوصفه يقتضي الجواز، وهذا هو المراد بقوله فيما سبق: المعارضة في الفرع، بما يقتضي نقيض الحكم. الثاني: الإتيان بعلة صالحة لأن يتعلق بها في الحكم كما صلحت علية المستدل، وينشأ الخلاف عنهما في الفرع لا في الأصل، وهو المراد بقوله هنا: وصف، أي يقابل وصف المستدل بوصف آخر صالح للعلية كصلاحية وصف المعارض غير مناف، أي: في الأصل، ولكن يؤول إلى الاختلاف، أي: بين المتناظرين في الفرع المعقود له مجلس المناظرة، وإيضاحه: أنهما إذا اتفقا مثلاً على كون البر ربوياً، واعتل أحدهما بالطعم، وبين وجه مناسبته ـ كان للمعترض أن يقول: لا، تعلقت

بالكيل، وهو أيضاً مناسب، وبين ذلك، وإذا لاحت مناسبتهما، واحتج إلى أن التعليق بأحدهما وترك الآخر تحكم، فإذا قال الشافعي: التفاح ربوي، قياساً على البر بجامع الطعم، فللمعترض أن يقول: إن العلة غير الطعم، وجاز أن تكون الكيل، فلا يكون التفاح ربوياً، فآل اعتراضه إلى النزاع في الفرع، وليس من شرط المعارضة أن تأتي بوصف تكون مناسبته أو شبهه مساوياً لمناسبة أو لشبه في وصف المستدل، بل يجوز كونه دونه في المناسبة والشبه إذا اشتركا في أصل المناسبة والشبه، فلا يفهم من قوله: كصلاحية وصف المعارض ـ أنه مساو له من كل وجه، بل المراد أصل المساواة في صلاحية التعليل. (ص): ولا يلزم المعترض نفي الوصف عن الفرع، وثالثها: إن صرح بالفرق. (ش): هل يلزم المعترض بيان نفي الوصف الذي عارض به الأصل عن الفرع؟ فيه مذاهب. أحدها: لا يلزمه، وهو الصحيح. والثاني: يلزمه لتنفعه دعوى التعليل به، إذ لولاه لم تنتف العلة في الفرع، وإذا لم تنتف ثبت الحكم فيه. والثالث: يلزمه إن صرح المعترض بالفرق بين الأصل والفرع، لأنه إذا صرح به فقد التزمه فعليه الوفاء به، جرياً على قضية التزامه وإلا فلا وإنما قال المصنف: نفي

الوصف، ولم يقل: بيان نفي الوصف، كما عبر به ابن الحاجب وغيره، لنكتة حكاه عن والده رحمه الله وهي: النفي في اللغة له معنيان. أحدهما: فعل الفاعل للنفي، تقول: نفيت الشيء فانتفى، وهذا هو أظهر المعنيين. والثاني: نفس الانتفاء، تقول: نفيت الشيء هكذا سمع من اللغة، وعلى هذا المعنى الثاني يكون الإثبات والنفي نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ويكون المراد بالإثبات الثبوت كما أن المراد بالنفي الانتفاء، وأما إذا أردت بالنفي نفيك للشيء، وبالإثبات إثباتك له فيكونان ضدين لا نقيضين، لأنك لا تنفي ولا تثبت، إذا ثبت هذا فقوله: (نفي الوصف) أحسن من قوله: بيان نفيه، لأن ابن الحاجب أراد بالنفي الانتفاء وأظهر معنييه خلافه والمصنف أراد أظهر معنييه، فلذلك لم يحتج إلى لفظ بيان فكان أخصر وأحسن، ولا يقال: إن ابن الحاجب وغيره أراد بالنفي فعل الفاعل، لأنهم لو أرادوا ذلك لم يحتاجوا إلى لفظ بيان، بل كان حشوا. (ص): ولا إبداء أصل على المختار. (ش): أي: لا يلزم المعترض إبداء أصل يبين تأثير الوصف الذي هو

عارض به وشهد له بالاعتبار، كما تقول: العلة الطعم دون القوت بدليل الملح، لأن حاصل سؤاله نفي الحكم في الفرع لعدم العلة أو صد المستدل على التعليل بذلك الوصف لجواز تأثير هذا، وهو لا يدعي عليه ما أبداه حتى يحتاج إلى شهادة أصل. (ص): للمستدل الدفع بالمنع والقدح وبالمطالبة بالتأثير أو الشبه إن لم يكن سبراً، وببيان استقلال ما عداه في صورة ولو بظاهر عام إذا لم يتعرض للتعميم. (ش): للمستدل دفع المعارضة بوجوه: أولها: منع وجود الوصف في الأصل فتقول مثلاً: لو عورض طعمية البطيخ بالكيل لا نسلم أنه مكيل، لأن العبرة بعادة زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان إذ ذاك موزوناً أو معدوداً. ثانيها: القدح في الوصف بأنه يقول: ما ذكرت من الوصف خفي فلا يعلل به، أو غير منضبط، أو غير ظاهر، أو غير وجودي، ونحوه، والمراد هنا فساد العلة بطريق من طرق إفسادها، وليس المعنى به مطلق القدح في الدليل عليها، وإلا لم يعطفه على المنع مع أن المنع قدح، وكذلك المطالبة بالتأثير وما بعده، ومن هذا العطف يعلم أنه أراد قدحاً خاصاً، وأن اللفظ أطلق اختصاراً وهذان الجوابان يشملان التعليل بالمناسب والشبه والسبر وغيرها.

ثالثها: يختص (101/ز) بما إذا لم يكن الطريق الذي أثبت بها الوصف سبراً، وهو أن يطالبه بتأثير الوصف شبهاً كان أو مناسباً، أما إذا كان أثبت وصفه بطريق السبر والتقسيم فليس له أن يطالب المعترض بالتأثير، فإن مجرد الاحتمال كاف في دفع السبر، فعليه دفعه لتتم طريقة السبر. رابعها: أن يبين المستدل أن ما عدا الوصف الذي عورض به مستقل في صورة من الصور، إما بظاهر من النصوص أو إجماع، فيمتنع لذلك أن يكون وصف المعترض عليه في موضع التعليل، لئلا يلزم إلغاء المستقل واعتبار غيره. وقوله: إذا لم يتعرض للتعميم، قيد في هذا الرابع، أي: يشترط أن لا يتعرض للتعميم وإلا فتستحيل صورة المسألة، لأنه لو تعرض للتعميم لكان مثبتاً للحكم بالنص لا بالقياس، ويخرج عما نحن فيه، ويحصل بهذا اندفاع المعارضة بطريقين عامين وهما: المنع والقدح، وبطريق يختص بما إذا لم يكن القياس سبراً، وهو الثالث، وبطريق بشرط أن لا يتعرض فيه للتعميم (21/ك) لئلا تستحيل صورة المسألة وهو الرابع، وهذا هو السبر في إثباته بحرف الجر في الثالث والرابع حيث قال: وبالمطالبة وببيان وعدم إثباته في القدح. (ص): ولو قال: ثبت الحكم مع انتفاء وصفك ـ لم يكف إذا لم يكن معه

وصف المستدل، وقيل: مطلقاً وعندي أنه منقطع لاعترافه ولعدم الانعكاس. (ش): لو قال المستدل: ثبت الحكم في صورة مع انتفاء هذا الوصف الذي عارضتني به فتارة يأتي بصورة مشتملة على الوصف الذي ادعى هو أنه العلة، وتارة يأتي بصورة لا تشتمل عليه ـ فإن كان الأول فهو كاف، لأنه في الحقيقة قادح في وصف المعترض لعدم الانعكاس والعكس شرط بناء على منع تعدد العلل، وإن كان لم يكف، لأنه كما يفسد علية المعترض كذلك يفسد علية المستدل، لأن الانعكاس لازم لهما لوجدان الحكم بدون وصفهما، وعند المصنف المستدل ينقطع حينئذ بإيراد الصورة المشار إليها لاعترافه بعدم انعكاس علته، ـ قال: وينقطع سواء منعنا التعليل بعلتين أو جوزنا، إذا منعناه فواضح، وأما إن جوزناه فلأنه بإيراده الصورة التي لم تشتمل إلا على وصف المعترض، ولا على وصفه، واعترف بأنها قادحة، وإلا لم يكن لإيراده إياها وجه، وقدحها في وصفه كقدحها في وصف المعترض سواء، فإذا قدح بها وصف المعترض كان معترفاً ببطلان وصفه، وذلك عين الانقطاع، وأشار بقوله: إذا لم يكن معه وصف المستدل ـ إلى أنه يكفي إذا كان معه، فشمل كلامه الصورتين، وقوله: وقيل مطلقاً، يعني: قيل: إنه لا يكفي مطلقاً سواء اشتملت الصورة التي أوردها على وصفه أم لم تشتمل، وهذا ظاهر إطلاق ابن الحاجب حيث قال: ولا يكفي إثبات الحكم في صورة دونه لجواز علة أخرى. (ص): ولو أبدى المعترض ما يخلف الملغى سمي تعدد الوضع، وزالت فائدة

الإلغاء ما لم يلغ المستدل الخلف بغير دعوى قصوره أو دعوى من سلم وجود المظنة ضعف المعنى خلافاً لمن زعمهما إلغاء. (ش): لو أبدى المعترض أمراً آخر يخلف الوصف الذي ألغاه المستدل ويقوم مقامه ـ سمي تعدد الوضع، لتعدد أصل العلة فإنها تعددت بأصلين، لأن المعترض أورد الوصف، فلما ألغاه، عوض بآخر وصار معللاً بكل منهما، كقولنا فيما إذا أمن العبد حربياً: أمان مسلم عاقل فصح كالحر، لأن الإسلام والعقل مظنتان لإظهار مصالح الإيمان، فيعترض المعترض بالحرية مدعياً أنها جزء العلة، فالعلة أمان المسلم العاقل الحر، لا المسلم العاقل فقط، فإن الحرية مظنة الفراغ للنظر فيكون النظر فيها أكمل، فلا يجوز قياس العبد على الحر فيلغيها المستدل بالمأذون له في القتال، فإن الحنفية وافقونا على صحة أمانه، فيقول المعترض: خلف الإذن الحرية في صورة المأذون، فإن الإذن مظنة لبذل الوسع في النظر إذ لا شاغل له، وقول المصنف: وزالت فائدة الإلغاء أحسن من قول ابن الحاجب: فسد الإلغاء، فإن الإلغاء لا يفسد بل هو صحيح، وإذا أتى المعترض بما يخلفه فذلك اعتراف منه بصحته ولن إتيانه بما يخلفه يزيل فائدته التي هي سلامة وصف المستدل، لأنه المعترض، وقوله: ما لم يلغ ـ يشير إلى أن للمستدل إلغاء الخلف وإخراجه عن درجة الاعتبار بما بينا من الطرق، إلا طريقين: أحدهما: عام لكل مستدل وهو دعوى أن الخلف الذي ذكره المعترض قاصر، فإن قصوره لا يخرجه عن كونه صالحاً للعلية، لجواز التعليل بالقاصرة ولكونها

للمتعدية، إذ لا ترجح العلة بتعديها، والخلاف فيها معروف، أما في التعليل بالقاصرة فسبق في القياس: وأما في أنه هل ترجح المتعدية أو القاصرة أو يستويان فذكره في باب التراجيح. والثاني: خاص بمستدل سلم وجود المظنة، فلا يفيده، أن يقول: الوصف الثاني الذي عارضتني به ضعيف المعنى لأن ضعف معناه لا يضر بعد ثبوت المظنة التي بها التعليل. وإلى الطريقين أشار بقوله: بغير دعوى قصوره أو دعوى من سلم وجود المظنة ضعف المعنى، أي: فإنه لا إلغاء بهذين و (ما) في قوله ما لم يلغ، مصدرية، أي: مدة إلغاء المستدل الخلف، وقوله خلافاً لمن زعمهما إلغاء، أي زعم أن دعوى القصور إلغاء، وهذا من قاله إما بناء على أن التعليل بالقاصرة باطل إذا كان يعتقد ذلك، أو على أنها دون المتعدية عند التعارض وأن رجحان وصف المستدل كان في دفع المعارضة، ورغم أن تسليم وجود المظنة لا يدفع الإلغاء لضعف المعنى، وهو مذهب ضعيف، وأشار بقوله: زعمهما إلغاء ـ إلى أن أحداً لا يقول: إنهما غير إلغاء، ويجوز للمستدل ذكرهما، وإنما يجوز للمستدل ذكرهما ويجعلهما رافعين للخلف من يعتقدهما إلغاء،

فعاد الخلاف إلى أنهما هل هما إلغاء أو لا؟ فمن قال: هما إلغاء ـ ادعاهما مفسدين للإلغاء، ومن قال: ليس بإلغاء ـ لا يمكنه إلا دعوى عدم قبولهما لعدم فائدتهما. (ص): ويكفي رجحان وصف المستدل بناء على منع التعدد. (ش): سبق أنه لا يشترط في الوصف المعارض كونه مساوياً لوصف المستدل بل يكفي اشتراكهما في أصل المناسبة أو الشبه، نعم إذا عارض بوصف (102/ ز) لا يكون مساوياً من كل وجه فللمستدل الدفع بأن وصفه أنسب وأخيل أو أكثر شبهاً إن كان القياس شبهاً، ويكفي رجحان وصف المستدل على وصف المعترض في دفع المعارضة، وهذا قاله (22/ك) المصنف بناء على اختياره منع تعدد العلل فمتى كان وصفان صالحان للعلة تعلقنا بأولاهما وحذفنا الآخر عن درجة الاعتبار، وأما ابن الحاجب فاختار أنه لا يكفي حيث قال: ولا يكفي رجحان المعين، أي: لا يكفي في جواب المعارضة كون الوصف المعين راجحاً على وصف المعترض وذلك بناء منه على جواز اجتماع علتين على معلول واحد، فكل منهما جرى على أصله. (ص): وقد يعترض باختلاف جنس المصلحة وإن اتحد ضابط الأصل والفرع. (ش): كقولنا في اللائط، أولج فرجاً في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً فحد

كالزاني، فيقال: الضابط وإن كان متحدا ًلكن الحكمة مختلفة، إذ حكمة الفرع الصيانة عن رذيلة اللواط، وفي الأصل دفع محذور الأنساب فقد يتفاوتان في نظر الشرع فيناط الحكم بإحدى الحكمتين دون الأخرى، وعلم من ذكر المصنف القدح باختلاف جنس المصلحة هنا أنه ضرب من المعارضة في الأصل لأنه أبدى، خصوصية فيه كأنه قال: بل العلة ما ذكرت مع كونه مؤدياً إلى اختلاف الأنساب واستغنى المصنف بذكر تعدد الوضع واختلاف جنس المصلحة هنا عن ذكرها في القوادح. (ص): فيجاب بحذف خصوص الأصل عن الاعتبار. (ش): أي بطريق من الطرق، فتكون العلة القدر المشترك، أو يبين أن حكم الفرع مثل حكم الأصل أو أكثر كما في مسألتنا فإن الزنا وإن أدى إلى ضياع المولود المؤدي إلى انقطاع النسل فاللواط يؤدي إلى عدم الولادة بالكلية. (ص): وأما العلة إذا كانت وجود مانع أو انتفاء شرط فلا يلزم وجود المقتضى وفاقاً للإمام وخلافاً للجمهور. (ش): وإذا كانت العلة لانتفاء الحكم، وجود مانع كعدم وجوب القصاص على الأب لمانع الأبوة.

أو انتفاء شرط كعدم وجوب الرجم لعدم الإحصان الذي هو شرط وجوب الرجم، لم يلزم وجود المقتضى، وهو اختيار الإمام في المحصول وأتباعه لم يتصور لأن التعليل بالمانع لا نتصوره فضلاً عن أن يكون مشروطاً ببيان وجود المقتضى أم لا وهو في هذا البناء متابع للإمام وفيه نظر، فقد يقول المانع من تخصيصها ما تسمونه بالمانع هو مقتضى عندي للحكم بالعدم، فالقتل المكافئ في غير الأب هو من العلة في إيجاب القصاص وقتل الأب بخصوصه هو المقتضى لعدم الإيجاب، ويعود الخلاف عند التحقيق لفظياً. (ص): مسالك العلة: الأول الإجماع. (ش): المراد بالمسالك الطرق الدالة على أن الوصف علة، وقدم الإجماع على

النص تبعاً للبيضاوي، لأنه مقدم عليه في العمل وقدم ابن الحاجب وغيره النص وهو الأولى لأنه أصل الإجماع فإذا أجمعوا على علية وصف إجماعاً قطعياً أو ظنياً تثبت علته، مثاله قوله عليه الصلاة والسلام ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) قال القاضي أبو الطيب: أجمعوا أن النهي فيه لأن الغضب يشغل قلبه.

(ص): الثاني النص الصريح مثل: العلة كذا، فلسبب، فمن أجل، فنحو: كي وإذن. (ش): المراد بالنص هنا ما دل عليه من الكتاب والسنة على العلية وهو قسمان: صريح وعبر عنه البيضاوي بالقاطع، وهو ما يدل بالوضع على العلية من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال، وله ألفاظ منها: لعلة كذا أو بسبب كذا أو لأجل كذا كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)). ومنها (كي) لقوله تعالى: {كي لا يكون دولة} أي: إنما وجب تخميسه كي لا يتداوله الأغنياء منكم فلا يحصل للفقراء شيء، ومنها: إذن لقوله عليه

الصلاة والسلام لأبي بن كعب وقد قال له أجعل لك صلاتي كلها قال ((إذن يغفر الله لك ذنبك كله)) وجعل ابن السمعاني لأجل وكي دون ما قبلهما في الصراحة، فلهذا أتى المصنف بفاء التعقيب المشعرة بتراخي الرتبة.

(ص): والظاهر كاللام ظاهرة فمقدرة نحو إن كان كذا، فالباء فالفاء في كلام الشارع فالراوي الفقيه فغيره. (ش): الثاني من قسمي النص الظاهر وهو ما يحتمل غير العلية احتمالاً مرجوحاً، وله ألفاظ منها: اللام وهي إما مظهرة كقوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} وإنما لم يكن صريحاً لاحتمال الاختصاص والملك وغيره، وإما مقدرة نحو: أن كان كذا بفتح أن كقوله: {عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين} لأن ذلك في تقدير اللام فهي في الحقيقة لام مقدرة، ولهذا جعلها المصنف بعد رتبة المظهرة، ومنها الباء كقوله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} وإنما لم يكن صريحا لمجيئها لغير التعليل ومنها: ترتب الحكم على العلة بحرف الفاء لأنها ظاهرة في التعقيب، ويلزم من ذلك العلية غالباً لأنه لا معنى لكون الوصف علة إلا ما ثبت الحكم عقبه، وترتب عليه، وإنما لم

تكن صريحاً لأنها قد ترد بمعنى الواو، وقد تجئ للتعقيب من غير علة ثم هي ضربان. أحدهما: أن تدخل الفاء على العلة فيكون الحكم مقدماً كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحرم الذي وقصته ناقته: ((لا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)) متفق عليه، وهذا أولى من تمثيل ابن الحاجب بقوله: فإنهم يحشرون فإنه لا يحفظ بهذا اللفظ. وثانيهما: أن تدخل على الحكم في كلام الشارع كقوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} أو في كلام الراوي مثل (سها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسجد). وسواء كان الراوي فقيهاً أو غيره لكن هي في كلام الفقيه أقوى ممن ليس

بفقيه، كما أن الفاء في كلام الشارع أقوى دلالة على العلية منه، في كلام الراوي لتطرق احتمال الخطأ إليه، وهذا الترتيب مستفاد من تعقبة المصنف بينهن بالفاء، وجعل ابن الحاجب دلالة هذه الأقسام من باب الصريح، وخالفه المصنف، وقال ترتيب الحكم على الوصف (23/ك) بحرف الفاء يفيد العلية بوضع اللغة، ولم تضع العرب ذلك دالاً على مدلوله بالقطع والصراحة بل بالإيماء والتنبيه، وإنما يجعله صريحاً لتخلفه في بعض محاله عن أن يكون إيماء (301/ز) وهو حيث تكون الفاء بمعنى الواو فكانت دلالته أضعف ويقوي كلام ابن الحاجب إذا كان فيه صريح شرط أو معنى شرط كالنكرة الموصوفة، والاسم الموصول فإنه لا يمكن حمل الفاء فيهما على الواو العاطفة إذ العطف لا يحسن قبل تمام الجملة، ومن هنا يظهر لك أنه لا يصح تمثيلهم الظاهر بقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا} ((أحيا أرضاً ميتة فهي له)) لأن الأول فيه معنى الشرط، والثاني

صريحه فيكون نصاً في اعتبار الوصيف المذكور، نعم جعل ابن الحاجب: سها فسجد، وزنا ماعز فرجم من أمثلة الصريح، وهذا ليس بمسلم له، على أنه قد

يقال في الأول: وإن كان نصاً في الاعتبار فليس نصاً في الاستقلال، بل يجوز أن يعتبر جزاء آخر لم يذكر كقوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} والقيام لا يستقل بالوجوب بدون الحدث ولكن قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا} والسرقة لا تستقل بالوجوب نعم هو ظاهر في الاستقلال أو هو الأصل في الاتباع، والفاء في اللسان متبعة الثاني للأول وإنما يكون ذلك حقيقة عند الاستقلال تنبيه: أطلقوا أن هذه الصيغ من قسم الظاهر، وهو باعتبار الأصل، لكن قد يدل بالصريح، وذلك فيما إذا تعذر حملها على غير التعليل في بعض المواضع لدليل خاص فتصير نصاً في التعليل، ذكره بعض الجدليين، قال: لذلك يكون حملها على غير التعليل يؤدي إلى حمل كلام الشارع على الركيك المستهجن، فحينئذ لا يحمل عليه ويصير نصاً في التعليل قلت: وكذا إذا كان فيه صريح شرط أو معناه كما سبق. (ص): ومنه إن وإذا وما مضى من الحروف. (ش): تجيء إن للتعليل كقوله تعالى: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك} وقوله عليه الصلاة والسلام ((الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير)) وقد

أنكر التبريزي في (التنقيح) مجيئها للتعليل وسبقه إليه ابن الأنباري، ومما لم يذكره الأصوليون (إذا) قال ابن مالك: تجيء حرفاً للتعليل، كقوله تعالى: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف} {اذكروا نعمة الله عليكم

إذ جعل فيكم أنبياء} ومنها حروف أخر سبقت في فصل الحروف فلتراجع. (ص): الثالث الإيماء وهو اقتران الوصف الملفوظ، قيل أو المستنبط بحكم ولو مستنبطاً، لو لم يكن للتعليل هو أو نظيره كان بعيداً. (ش): الإيماء وهو الإشارة إلى التعليل: عبارة عن اقتران الوصف بحكم لو لم يكن للتعليل هو أي وصف أو نظيره كان ذلك، أي ذلك الاقتران بعيداً من الشارع تنزه عنه فصاحته، والوصف ستأتي أمثلته، والتقدير في النظير، لمن سألته الحج عن أبيها: ((أرأيت لو كان عليه دين فقضيته أكان ينفعه؟)) قالت: نعم

فنظيره في السؤال كذلك وفيه تنبيه على الأصل الذي هو دين الآدمي، والفرع

وهو الحج الواجب عليه، والعلة هي قضاء دين الميت، وأشار بقوله، قيل إلى أنه لا خلاف في إفادته العلية إذا ذكر الوصف والحكم معاً، فإن ذكر الحكم صريحاً والوصف مستنبط كما في أكثر العلل المستنبطة نحو: ((لا تبيعوا البر بالبر)) أو بالعكس، أي: ذكر الوصف صريحاً والحكم مستنبط، مثل: {وأحل الله البيع وحرم الربا} فإن الوصف الذي هو حل البيع مصرح به، والحكم وهو الصحة غير ملفوظ به، بل مستنبط من الحل، فإنه يلزم من حله صحته فاختلفوا على مذاهب: ثالثها، واختاره الهندي: أن الأول: وهو التلفظ بالوصف، إيماء إلى تعليل الحكم المصرح به لا العكس، بل ادعى بعضهم الاتفاق على أن الثاني: ليس بإيماء ومال إليه الهندي، وقال: الخلاف فيه بعيد لفظاً ومعنى، لأنه يقتضي أن تكون العلة والإيماء متلازمين، لا

ينفك أحدهما عن الآخر. (ص): كحكمه بعد سماع وصف، وكذكره في الحكم وصفاً لو لم يكن علة لم يفد، وكتفريقه بين حكمين بصفة مع ذكرهما أو ذكر أحدهما أو شرط أو غاية أو استثناء أو استدارك، وكترتيب الحكم على الوصف، وكمنعه مما قد يفوت المطلوب. (ش): الإيماء على خمسة أوجه: أحدها: أن يحكم عقب علمه بصفة المحكوم عليه، وقد انتهى إليه المحكوم عليه حاله، كقول الأعرابي، واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: ((أعتق رقبة)) رواه ابن ماجه وأصله في الصحيح فإنه دليل أن الوقاع علة للتكفير كأنه قال: إذا واقعت فكفر أو أعتق رقبة لكونك واقعت، إذ الأمر بالعتق ابتداء من غير ترتيب

بعيد، وقد ثبت أن الوصف إذا رتب عليه الحكم في كلام الشارع بفاء التعقيب تحقيقاً، فإنه يكون علة، فكذلك، إذا رتب عليه بالفاء تقديراً. ثانيها: أن يذكر الشارع في لفظه وصفاً لو لم يكن علة فيه لم يكن لذكره فائدة، فيدل على عليته إيماء، وإلا كان ذكره عبثاً، كقولك: إنك تدخل على بني فلان وعندهم هرة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات)) وفي هذا الحديث جهتان يدلان على التعليل بما ذكرنا وتقديره: فإن.

ثالثها: أن يفرق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين شيئين في الحكم إما بذكر صفة فاصلة، فهو تنبيه على أن الوصف الفاصل هو الموجب للحكم الذي عرف به المفارقة، ثم تارة يذكر القسمان كقوله: ((للفرس سهمان، وللراجل سهم)) رواه البخاري وتارة يقتصر على ذكر أحدهما مثل: ((القاتل لا يرث)) رواه الترمذي فإنه تقرر أن القريب وارث، فإذا بان أن القاتل لا يرث علم أن القتل هو

العلة في نفي الإرث، وإما أن يفرق بينهما بصيغة الشرط كقوله: إذا اختلف الجنسان، أو الغاية كقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} أو الاستثناء {فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون} أو الاستدراك كقوله تعالى (24/ك) {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} فدل على أن التعقيد علة المؤاخذة، والمعتمد في هذا النوع على أنه لا بد للتفرقة من فائدة، وجعل الوصف سبب التفرقة فائدة، والأصل عدم غيره.

رابعها: ترتيب (104/ ز) الحكم على الوصف، كذا أطلق المصنف، وفي (المنهاج) قيده بالفاء، وحسن ذلك منه، لأنه لم يذكر الفاء في قسم النص، وابن الحاجب ذكر الفاء في قسم النص، وجعل هذا من الإيماء لكن عبر عنه بقوله: ذكر وصف مناسب مع الحكم، ومثله بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) فإنه فيه إيماء إلى أن الغضب علة، لأنه يشوش الفكر، والأحسن في هذا المقصود عبارة ابن الحاجب، والفرق بين العبارتين أن الوصف تارة يعتبر من جهة خصوصه، وتارة من جهة عمومه، وأن يشتغل تارة بكون الوصف مذكوراً، وتارة لا يكون. فالأول: هو المعبر عنه بترتيب الحكم على الوصف، وقد سبقت أمثلته، والوصف فيها كلها مذكور، ولهذا جعلت من قسم الظاهر الملفوظ به. والثاني: هو المعبر عنه بذكر الوصف المناسب مع الحكم فإنه يشعر بأن الغضب علة لكيلا، نعلم أن خصوص كونه غضباً لا مناسبة فيه، فيلزم أن يكون معتبراً من جهة عمومه، وهو كونه مشوشاً للفكر، وهذا الوصف غير مذكور لكنه مناسب، فيلزم أن يلحق به ما في معناه من الجوع والعطش وغيرهما: وظهر بهذا أن العلة في الحقيقة إنما هي التشويش لا الغضب خلافاً لما وقع في عبارة كثير من الناس، وقال الإمام فخر الدين: لا ملازمة بين التشويش والغضب، لأن التشويش إنما ينشأ عن الغضب الشديد لا عن مطلقه، لأن مطلق الغضب لا يمنع، فلا يصح للدلالة على العلية،

والجواب: أن وصف الغضب مظنة التشويش الذي هو الحكمة، ولما كانت الحكمة التي هي تشويش الذهن غير منضبطة علق الحكم على مظنتها وهو الغضب كالسفر مع المشقة. خامسها: إذا نهى عن فعل يمنع الإتيان به حصول ما تقدم وجوبه علينا، كان إيماء إلى أن علة ذلك النهي كونه مانعاً من الوجوب كقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فإنه لما أوجب السعي ونهى عن البيع مع علمنا بأنه لو لم يكن المنهي عنه، لمنعه من السعي الواجب لما جاء ذكره في هذا الموضع لكونه يخل بالفصاحة، دل على إشعاره بالعلة، وقال القرافي: إنه يستفاد من السياق فإن الآية لم تنزل لبيان أحكام البياعات بل لتعظيم شأن الجمعة. (ص): ولا يشترط مناسبة المومئ إليه عند الأكثر. (ش): في اشتراط المناسبة في صحة علل الإيماء مذاهب: أحدها: يشترط مطلقاً، واختاره الغزالي رحمه الله لأن تصرفات العقلاء المستندة إلى التعليل لا تتعدى التعليل بالحكمة فلا يصح أكرم الجاهل وأهن العالم.

الثالث: واختاره ابن الحاجب أن فهم التعليل من المناسبة كما في قوله: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) اشترطت المناسبة لامتناع فهم التعليل منه بدون فهم المناسبة، وإن لم يفهم التعليل منها لم يشترط الامتناع وجود المناسبة من غير فهم التعليل، واعلم أن هذا الخلاف إنما هو بالنسبة إلى أنه هل يشترط ظهور المناسبة، وإلا فلا بد منهما في نفس الأمر قطعاً للاتفاق على امتناع خلو الأحكام من الحكمة إما وجوباً أو تفضيلاً على الخلاف الكلامي. (ص): الرابع: السبر والتقسيم، وهو: حصر الأوصاف في الأصل وإبطال ما لا يصلح فيتعين الباقي. (ش): أي: العلية تسمى بذلك لأن الناظر في العلة يقسم الصفات ويختبر صلاحية كل واحدة منها للعلية، والسبر في اللغة: الاختبار، لا يقال: كان الأولى

أن يقول: التقسيم والسبر لأنه يقسم ثم يسبر، لأنا نقول: ما ذكره أولى، وقولكم يقسم إلى آخره ـ صحيح لكنه ثاني سبر، لأنه يسبر المحل أولاً، هل فيه أوصاف أو لا؟ ثم يقسم ثم يسبر ثانياً، فيكون السبر والتقسيم علماً على السبر في الأصل، ويكون من القسمية بالمعطوف والمعطوف عليه. (ص): ويكفي قول المستدل: بحثت فلم أجد، والأصل عدم ما سواها. (ش): من طرق نفي العلة قول المستدل وهو أهل ثقة: بحثت فلم أجد سوى الأوصاف المذكورة، لأنه إذا كان عدلاً أهلاً للنظر غلب على الظن انتفاء ما سوى المذكور، أي: إلا أن يدل الدليل فإنه يحصل ظن الحصر فيما ذكره، فإن بين المعترض وصفاً آخر لزم المستدل إبطال كونه علة حتى يتم الاستدلال، هذا كله في حق المناظر، وحينئذ يكون الحكم بنفي وصف آخر مستنداً إلى الظن بعدمه لا إلى

عدم العلم به. (ص): والمجتهد يرجع إلى ظنه، فإن كان الحصر والإبطال قطعياً فقطعي، وإلا فظني. (ش): متى كان الحصر في الأوصاف، ودليل بعضها قطعياً فتعليل الناظر بالوصف الباقي، وحكم المجتهد قطعي، وقوله: وإلا يشمل صورتين: أن يكونا ظنيين أو أحدهما ظني والآخر قطعي، فتعليل المناظر بالوصف الباقي وحكم المجتهد به ظني. (ص): وهو حجة للناظر والمناظر عند الأكثر، وثالثاً إن أجمع على تعليل ذلك الحكم وعليه إمام الحرمين ورابعها للناظر دون المناظر, (ش): الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وهو الظني، فإنه متى كان الحصر والإبطال قطعياً كان دليلاً قطعياً بلا خلاف، وإنما اختلفوا في الظني على مذاهب: أحدها: أنه حجة مطلقة لأنه يثير غلبة الظن، واختاره القاضي أبو بكر وقال: إنه أقوى ما تثبت به العلل. والثاني: ليس بحجة مطلقاً وحكاه في (البرهان) عن بعض الأصوليين.

والثالث: حجة بشرط انعقاد الإجماع على تعليل حكم الأصل على الجملة واختاره إمام الحرمين، قال: فإذا أجمعوا على كون المحل معللاً فهنا يفيد السبر فإذا ما نفي علته أدى تقدير بطلانه وقد بطل غيره خطأ أهل الإجماع قيل له: فالقائسون بعض الأمة، قال: بل منكر القياس وليس من العلماء. الرابع: أنه حجة للناظر دون المناظر (105/ز) واختاره الآمدي. (ص): فإن أبدى المعترض وصفاً زائداً لم يكلف بيان صلاحيته للتعليل، ولا ينقطع المستدل حتى يعجز عن إبطاله. (ش): إذا تم السبر بركنيه، وهو الحصر ظاهراً وإبطال سائر الأقسام، فللمعترض إبداء وصف آخر لم يدخل في حصر المستدل ويكفيه ذلك ولا يحتاج إلى بيان كونه علة أو صالحاً للتعليل، وعلى السابر إبطال التعليل به ولا يتم دليله إلا بذلك، وإلا فيحتمل أن تكون العلة ما أبداه المعترض، ولا يعد المستدل منقطعاً بمجرد بيان المعترض وصفاً آخر ما لم يعجز عن إبطاله، فإنه لم (25/ك) يدع القطع

بالحصر، بل جوز أن يكون ثم وصف آخر شذ عن سبره، فإذا ظهر فما لم يبطله لم يتعين ما استبقاه، وإنما لم يلزم من ذلك انقطاع المستدل فيما يقصده من التعليل بالوصف الباقي، إذ غايته منع مقدمة من مقدمات دليله، وقيل: ينقطع لأنه ادعى حصراً أظهر بطلانه، قال المصنف: وعندي أنه ينقطع إن كان ما اعترض به مساوياً في العلة لما ذكره في حصره وإبطاله لأنه ليس ذكر المذكور وإبطاله أولى من ذلك المسكوت عنه المساوي له، وإن كان دونه فلا انقطاع له لأن له أن يقول: هذا لم يكن عندي محتملاً البتة بخلاف ما ذكرته وأبطلته. (ص): وقد يتفقان على إبطال ما عدا وصفين فيكفي المستدل التردد بينهما. (ش): لو اتفق الخصمان على انحصار العلة في وصفين وإبطال ما عداهما لم يحتج المستدل إلى ذكر ما اتفقا على بطلانه في التقسيم، بل يردد بين الباقي ويثبت أن العلة أحدها، ولو قال: اتفقنا على أن هذا معلل، وأن العلة فيه أحد المعنيين، إما المعنى الذي ذكرته أنا الذي ذكرته أنت ومع علتي مرجح كذا، فقال القاضي أبو الطيب في مناظرته مع أبي الحسين

القدوري: لا يكفي، فإن اتفاقي معك على أن العلة أحد المعنيين لا يكفي في الدلالة على صحة العلة، لأن إجماعنا ليس بحجة، وإنما تنهض الحجة بإجماع الأمة، وقال القدروي: يكفي ذلك لقطع المنازعة. (ص): ومن طرق الإبطال بيان أن الوصف طرد ولو في ذلك الحكم كالذكورة والأنوثة في العتق. (ش): أي من طرق إبطال كون بعض الأوصاف علة بيان أن الوصف طردي من جنس ما علم من الشارع إلغاؤه إما مطلقاً، أي: في جميع أحكام الشرع، كالطول والقصر، فإنه لم يعتبره في القصاص، ولا في الكفارة، ولا الإرث، والعتق، ولا التقديم للصلاة ولا غيرها، فلا يعلل به حكم أصلاً، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم كالذكورة في أحكام العتق، إذ هي ملغاة فيه مع كونها معتبرة في الشهادة والقضاء وولاية النكاح والإرث، فلا يعلل بها شيء من أحكام العتق وقد ينازع في هذا

بأن الشارع اعتبرها في حصول الأجر، فروى الترمذي: ((من أعتق عبداً مسلماً أعتقه الله من النار، ومن أعتق اثنين مسلمين أعتقه الله من النار)). (ص): ومنها ألا تظهر مناسبة المحذوف ويكفي قول المستدل: بحثت فلم أجد موهم مناسبة، فإن ادعى المعترض أن المستبقى كذلك فليس للمستدل بيان مناسبته لأنه انتقال، ولكن يرجح سبره بموافقة التعدية. (ش): من طرق الإبطال أن لا تظهر مناسبة الوصف المقصود حذفه بعد البحث، وإذا لم تظهر مناسبته سقط.

عن درجة الاعتبار، ويكفي أن يقول المناظر: بحثت فلم أجد مناسبة بينه وبين الحكم لغلبة الظن بذلك، فإن ادعى المعترض أن الوصف المستبقى كذلك، لأني بحثت فلم أجد مناسبة بينه وبين الحكم تعارضا، وليس للمستدل بيان مناسبته، لأنه حينئذ انتقال من السبر إلى المناسبة لكن المستدل يحتاج إلى إثبات مرجح يترجح به سبره على سبر المعترض بأن يبين أن سبره موافق لتعدية الحكم. وسبر المعترض قاصر، وهو بناء على أن المتعدية أرجح من القاصرة وهو المختار، وقد نازع بعضهم في الترجيح، لأن المعترض إذا قال: بحثت عن المستبقى فلم أجد له مناسبة فلا يخلو، إما أن يتعرض إلى نفي مناسبة المحذوف أيضاً أو يسكت، فإن كان الأول كما هو ظاهر كلام ابن الحاجب فكل منهما سبر لمحذوف والمستبقى سبره المعترض فلم يجده مناسباً والمستدل لم يسبره فكيف يرجح عدم السبر على السبر أو سبر واحد على سبرين، وكل منهما يكفيه: بحثت فلم أجده مناسباً، ويمكن الجواب على ثبوت مقدمة وهو أنه لما ثبت أن الأحكام معللة، وكان سبر المستدل يؤدي إلى ثبوت العلة، ويتعدى الحكم إلى الفرع، وسبر المعترض يؤدي إلى قصور الحكم على محله لعدم ظهور علته، كان سبر المستدل أولى، وإن كان الثاني وهو

بيان عدم مناسبة المستبقى والسكوت، عن المحذوف، أو ادعى نقيضه للعلة، لأن المعترض حصر الأوصاف فقد تعارض السبران، فكيف يقدم سبر المستدل عليه، لا يقال: يمكن أن يكون الوصف المحذوف قاصراً والمستبقى متعدياً في سبر المستدل بخلاف المعترض فلذلك رجح سبر المستدل، لأنا نقول: المسألة عامة وهذا جزئي ولا يثبت الكلية بمثال جزئي. (ص): الخامس: المناسبة والإخالة، ويسمى استخراجها تخريج المناط، وهو في الاصطلاح: تعيين العلة بإبداء مناسبة مع الاقتران والسلامة عن القوادح كالإسكار. (ش): سميت بالإخالة لأنه بالنظر إليه يخال أنه علته أي: يظن، واستخراج المناط لأنه ابتداء ما نيط به الحكم، أي: علق عليه، وهو تعيين العلة، أي: في

الأصل بإبداء مناسبة بينها، وبين الحكم مع اقتران الحكم للوصف والسلامة عن القوادح، فخرج بقوله: بإبداء المناسبة تعين العلة بالطرد، وهو ما عدي عن المناسبة، وكذا تعينها (106/ز) بالشبه، وابن الحاجب قال: من ذاتية الأصل ليخرجه، فإن مناسبته بالتبع، وقوله: مع الاقتران قيد زائد، زاده على ابن الحاجب وهو لبيان اعتبار المناسبة لا لتحقيق ماهيتها بدليل قولهم: المناسبة مع الاقتران دليل العلية، ولو دخل الاقتران في ماهية المناسبة لما صح هذا، وتمثيله بالإسكار في تحريم الخمر فإن تحريمه منصوص، وعلته غير منصوص عليها، ولكن استنبطها الأئمة بالنظر والاجتهاد، فإن الإسكار لكونه مزيلا للعقل المطلوب حفظه يناسب التحريم وألحقوا به النبيذ، وهذا هو الاستنباط القياسي الذي عظم الخلاف فيه وأنكره أهل الظاهر وغيرهم،

وقيل في هذا التعريف دور، لأن معرفة إبداء المناسبة تتوقف على معرفة المناسبة، فكيف يعرف بها، وجوابه أن المناسبة المذكورة في التعريف لغوية بمعنى الملائمة، فلا دور، (ص): ويتحقق الاستقلال بعدم ما سواه بالسبر. (ش): أي ولا يكفي قوله بحثت فلم أجد، وإلا لزم الاكتفاء فيه بذلك ابتداء في مسألة خلافية، ولا قائل به بخلافه فيما سبق حيث اكتفي بذلك في جانب النفي لأنه لا طريق له سواه. (ص): والمناسب الملائم لأفعال العقلاء عادة (26/ك) وقيل ما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً وقال أبو زيد ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول، وقيل: وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح كونه مقصوداً للشارع من حصول مصلحة أو دفع مفسدة. (ش): للمناسب تعريفات. أحدها: الملائم لأفعال العقلاء في العادة، أي ما يكون بحيث يقصد العقلاء تعقله على مجرى العادة لتحصيل مقصود مخصوص، كما يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة، وهذه الجبة تناسب هذه العمامة. والثاني: ما يجلب نفعاً أو يدفع مضرة، والمراد بالنسبة للعبد لتعالي الرب عز

وجل عن الضرر والانتفاع وعليه اقتصر في (المنهاج)، والإمام ذكر التفسيرين واختلافهما باختلاف قول الناس في تعليل أفعال الله تعالى فمن أباه قال بالأول، ومن قال به قال بالثاني، ولما كان الحق قول الأشعري عدم التعليل صدر المصنف به. والثالث: قول أبي زيد، قال في (البديع): وهو أقرب إلى اللغة وبنى عليه امتناع الاحتجاج به على العلة في قيام المناظرة دون النظر، لإمكان أن يقول الخصم: هذا لا يتلقاه عقلي بالقبول، وليس الاحتجاج على تلقي عقل غيري له أولى من الاحتجاج على ذلك الغير بعدم تلقي عقلي له بالقبول، ومنهم من اعتنى به، وقال الحاكم: ليس عقله ولا عقل مناظره بل العقول السليمة والطباع المستقيمة فإذا عرض عليها وتلقته انتهض دليلاً على مناظره.

والرابع: للآمدي وابن الحاجب بالظاهر المنضبط احتراز عن الوصف الخفي وما لا ينضبط فإنه لا يسمى مناسباً، (وما يصلح كونه مقصوداً) فاعل (يحصل) احتراز عن الوصف المستبقى في السبر والمدار في الدوران، وغيرهما من الأوصاف التي تصلح للعلية، ولا تكون متعددة بالمعنى المذكور، وهو حصول مصلحة أو دفع مفسدة وقوله: من حصول مصلحة أو دفع مفسدة بيان لما فيما يصلح، واعلم أن قوله: وصف، جرى على الغالب، وإلا فقد سبق أن العلة تكون حكماً شرعياً ووصف =عرفياً ولغوياً، فلو قال معلوم لعم ذلك. (ص): فإن كان خفياً أو غير منضبط اعتبر ملازمه وهو المظنة. (ش): الضمير إن كان يعود للوصف أي فإن كان الوصف الذي يحصل من ترتيب الحكم عليه المقصود خفياً أو غير منضبط لم يعتبر، لأنه لا يعلم به الحكم؟ فامتنع التعليل به فالطريق أن يعتبر ملازمه أي يعتبر وصف ظاهر منضبط ملازم الوصف الخفي الغير المنضبط أي يوجد بوجوده، ويعدم بعدمه، فيجعل معرفاً للحكم وهو المظنة أي مظنة المناسبة كالسفر للمشقة فإنه

المناسب لترتيب الرخص واعتبارها في نفسها متعذر لعدم انضباطها فنيط الترخيص بملازمها وهو السفر. (ص): وقد يحصل المقصود من شرع الحكم يقيناً أو ظناً كالبيع والقصاص، وقد يكون محتملاً سواء كحد الخمر أو نفيه أرجح كنكاح الآيسة للتوالد، والأصح جواز التعليل بالثالث والرابع، كجواز القصر للمترفه. (ش): لحصول المقصود من شرع الحكم مراتب. أحدها: أن يحصل يقيناً كالبيع فإنه إذا كان صحيحاً حصل منه الملك الذي هو المقصود يقيناً. الثاني: أن يحصل ظناً كالقصاص للانزجار، فإن مشروعيته تقلل الإقدام على القتل، وليس قطعياً لتحقق الإقدام عليه من شرع القصاص كثيراً. الثالث: أن يكون حصول المقصود من شرع الحكم ونفي الحصول منه

متساويين، قال في البديع: ولا مثال له على التحقيق ويقرب منه ما مثل ابن الحاجب بالحد على الشارب لحفظ العقل، فإن حصول المقصود من ذلك مساو لنفيه، لأن كثرة المجتنبين له مساوية تقريباً لكثرة المقدمين عليه. الرابع: أن يكون نفي المقصود من شرع الحكم أرجح من حصوله كنكاح الآيسة لمصلحة التوالد، فإنه وإن أمكن حصول الولد منها عقلاً، غير أنه بعيد عادة فكان نفي حصول المقصود في هذه الصورة أرجح من حصوله، فأما الأولان فظاهر كلام المصنف الاتفاق على الاعتبار بهما من القائلين بالمناسبة وهو كذلك، وأما الثالث والرابع، فقيل لا يعلل بهما، أما الثالث فلتردده بين حصول المقصود وعدمه من غير ترجيح، وكذا الرابع لرجحان نفي المقصود والأصح عنده وفاقاً لابن الحاجب الجواز، فإن السفر مظنة المشقة، وقد اعتبر، وإن انتفى الظن في الملك المترفه فدل على الاكتفاء في صحة التعليل لمجرد احتمال المقصود وقال في البديع: وأما الأخيران فاتفقوا على اعتبارهما إذا كان المقصود ظاهراً من الوصف في محال صور الجنس وإلا فلا. (ص): فإن كان فائتاً قطعاً فقالت الحنفية: يعتبر، والأصح لا يعتبر سواء ما لا تعبد فيه كلحوق نسب المشرقي بالمغربية، وما فيه تعبد كاستبراء جارية اشتراها بايعها في المجلس.

(ش): لو كان القصد من شرع الحكم فائتاً قطعاً في بعض الصور النادرة (107/ز) مع حصوله في غالب الصور كلحوق نسب المشرقي بتزويج مغربية توكيلاً فأتت بولد مع القطع بأن الولد ليس منه، وإن كان لحوق الولد بالزوج ظاهراً فيما عدا هذه الصورة كذلك صورة الاستبراء فإنا نعلم قطعاً عدم العلوق منه في الأولى وبراءة الرحم في الثانية فلا وجه لاعتباره لأن شرع الحكم مع انتفاء الحكمة لا يكون مفيداً وإنما أوجب أصحابنا الاستبراء، والحالة هذه بمجرد نقل الملك على ما عرف في الفقهيات، وهو يؤول إلى ضرب من التعبد، فلهذا غاير المصنف بينه وبين الأولى، وليستحضر قوله في شرائط العلة، فإن قطع بانتفائها إلى آخره، وتحقيقه مع هذا.

(ص): والمناسب ضروري فحاجي فتحسيني، والضروري كحفظ الدين فالنفس فالعقل فالنسب فالمال والعرض. (ش): المناسب إما أن يكون في محل الضرورة أو الحاجة، أو في محل الضرورة ولا الحاجة، بل كان مستحسناً في العادات، وهو التحسين، واستفيد من عطف المصنف بالفاء ترتيبها هكذا في التقديم عند التعارض، ومثال اجتماعها في وصف واحد وهو أن نفقة النفس ضرورية، والزوجة حاجية، والأقارب تتمية، وتكملة ولهذا فقد قدم الأول (27/ك) فالأول الضروري، وهو أعلاها في إفادة ظن الاعتبار بما تضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة التي دعيت في كل مسألة، ووجه الحصر فيها مستفاد من العادة وهي المجموعة في قوله تعالى: {على أن لا يشركن بالله ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فحفظ الدين كقتل الكافر وعقوبة الداعين إلى البدع والنفس كالقصاص، والعقل كحد الشرب، والنسب كحد الزاني، والمال كعقوبة السارق والمحارب، هذا ما ذكره الأصوليون، وزاد المصنف سادساً ذكره الطوفي أيضاً وهو

العرض ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) الحديث وما من مصنف في الشرعيات إلا وفيه تحرم الأعراض، وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، وحفظه بحد القذف، أما كونه من الكليات فشيء آخر يحتمل أن يجعل في رتبة الأموال فيكون في مرتبة أدنى الكليات، وإليه يشير عطف المصنف إليه بالواو دون الفاء، ويحتمل أن يجعل فيما دونها، فيكون من الملحق بها، والظاهر أن الأعراض تتفاوت فيها ما هو في الكليات، وهي الأنساب، وهي أرفع من الأموال، فإن حفظ النسب بتحريم الزنا تارة وبتحريم القذف المؤدي إلى الشك المؤذي في أنساب الخلق

ونسبهم إلى أهلهم أخرى، وتحريم الأنساب مقدم على الأموال وفيها ما هو دونها وهو ما هو من الأعراض غير الأنساب. (ص): ويلحق به مكمله كحد قليل المسكر. (ش): يلحق بالضروري مكمل الضروري كالمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب قليل المسكر، والحد عليه، ووجه كونه مكملاً أن الكثير من المسكر مفسد للعقل، ولا يحصل إلا بإفساد كل واحد من أجزائه فحد شارب القليل، لأن القليل متلف لجزء من العقل، وإن قل، ومثله: المبالغة في حفظ الدين بتحريم البدعة، وعقوبة المبتدع، والمبالغة في حفظ النسب بتحريم النظر والمس، والتعزير عليه. (ص): والحاجي كالبيع والإجارة وقد يكون ضرورياً كالإجارة لتربية الطفل. (ش): الثاني ما يكون في محل الحاجة كتجويز البيع والإجارة والقراض ونحوها فليست ضرورية، إذا لا يلزم من فواتها فوات شيء من الضرورات الخمس، لكن الحاجة داعية إليها،

وادعى إمام الحرمين أن البيع ضروري فإن الناس لو لم يبادلوا ما بأيديهم لجر ذلك ضرورة فيلحق بمشروعية القصاص وقوله: وقد تكون أي قد يرقى بعضها إلى الضرورة وهذا نادر ولهذا أتى فيه بقد، ومثله تمكين الولي من شراء المطعوم والملبوس له. (ص): ومكمله كخيار البيع. (ش): يلحق بالحاجي مكمله كالخيار في البيع فإنه شرع للتروي، وإن كان أصل الحاجة حاصلة بدونه. (ش): والتحسيني غير معارض القواعد كسلب العبد أهلية الشهادة، والمعارض كالكتابة. (ش): الثالث التحسيني وهو قسمان.

أحدهما: ما لا تعارضه قاعدة معتبرة كسلب أهلية الشهادة عن العبد، لأنه نازل القدر، والشهادة منصب شريف فلا يليق بحاله. والثاني: ما يعارضها قاعدة معتبرة كالكتابة فإنها وإن كانت مستحسنة في العادات لكن احتمل الشرع فيها جزم قاعدة سهلة، وهي امتناع بيع الرجل ماله بماله. (ص): ثم إن المناسب إن اعتبر بنص أو إجماع عين الوصف في عين الحكم فالمؤثر وإن لم يعتبر بهما، بل بترتيب الحكم على وفقه ولو باعتبار جنسه في جنسه فالملائم، وإن لم يعتبر فإن دل الدليل على إلغائه فلا يعلل به وإلا فهو المرسل. (ش): الوصف بحسب شهادة الشرع له بالاعتبار وعدمه ينقسم ثلاثة أقسام:

إما أن يعلم أنه اعتبره أو ألغاء، أو لا يعلم واحد منهما، الأول: المعتبر وهو إما أن يعتبر عين الوصف في عين الحكم بنص أو إجماع، أو بترتيب الحكم على وفقه في أصل بنص أو إجماع، فالأول، هو المؤثر، سمي بذلك لظهور تأثيره فيهما، فإنه إذا ثبت بالنص أو الإجماع أن الوصف يؤثر لم يحتج إلى المناسبة حتى لو ثبت بهما أن إيلاج الفرج في الفرج المحرم يؤثر في وجوب الحد، ووجدنا هذا المعنى في اللائط حكمنا بالحد وإن لم نجد مناسبة حفظ الأنساب مثال اعتباره بالنص مس الذكر، فإن الشارع اعتبر عين مس المتوضئ ذكره في عين الحدث بنصه عليه في قوله: ((من مس ذكره فليتوضأ)) ومثال اعتباره بالإجماع

الصغر، فإنه اعتبر عينه في عين ولاية المال بالإجماع وقول المصنف: (بنص أو إجماع) تابع فيه ابن الحاجب وغيره، وهو يخرج ما علم اعتباره بطريق الإيماء والتنبيه وحكى الهندي فيه خلافاً منهم من جعله قسيم المؤثر، ومنهم من جعله من قسيم الملائم. الثاني: أن لا يعتبر عين الوصف في عين الحكم بالنص أو الإجماع، بل بترتيب (108/ز) الحكم على وفقه، فقط أن يثبت معه في المحل من غير نص ولا إجماع على كونه علة لعين الحكم المرتب عليه، وذلك صادق على ثلاث صور، أن يعتبر النص أو الإجماع عين الوصف في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو جنس الوصف في جنس الحكم، وهو الملائم سمي بذلك لكونه موافقاً لما اعتبره الشرع، وهذه المسألة مستفادة من قول المصنف وإن لم يعتبر بهما، ففاعل (يعتبر) هو ما سبق في قوله: عين الوصف في عين الحكم، وانتفاء هذا يصدق بالصور الثلاث وصرح منها بالثالث بلو لأنه أبعدها فإنه يكون في تعليل الأحكام بالحكمة التي لا تشهد لها أصول معينة، ومثلوه بحد القذف مع حد الشرب، فإن الشرب مظنة الافتراء، كما أن الخلوة بالأجنبية مظنة وطئها، فألحق حد الشرب بحد القذف إقامة للشرب مقام الافتراء الذي هو مظنة الافتراء، فقد أثر جنس المظنة في جنس

الحرمة ومثال تأثير عين الوصف في جنس الحكم ثبوت ولاية النكاح على الصغير كما ثبتت ولاية المال لوصف الصغر، وهو واحد، والحكم الولاية وهو جنس فاعتبر عين الصغر في جنس الولاية، ومثال تأثير جنس الوصف في عين الحكم: المشقة فإنها جنس أثر في نوع، وهو إسقاط صلاة، أما في الحيض فبالكلية، وأما السفر فإسقاط (28/ ك) شطر الرباعية، وهذه الأنواع متفاوتة، وتأثير النوع في الجنس مقدم على تأثير الجنس في النوع، وهو مقدم على تأثير الجنس في الجنس وقول المصنف: إن لم يعتبر بهما، يوهم اشتراط نفي اجتماعهما، وليس كذلك، غير أن وضوح أن كلا من النص والإجماع حجة بمفرده يزيل هذا الإبهام، وأيضاً فالضمير بين المتعاطفين بـ (أو) يجب إفراده. الثاني: قد يعلم أن الشارع ألغاه فلا يعلل به بالاتفاق كقول بعضهم

لبعض الملوك وقد سأله عن وقاعه في رمضان فأفتاه بصوم شهرين متتابعين وقال: لو أفتيته بالعتق لاستحقره في مقابلة شهوة الجماع لاتساع ماله، وانتهك حرمة الشرع كلما شاء، فكانت المصلحة في الصوم لينزجر، فهذا وإن كان مناسباً لكن الشرع ألغاء بإطلاقه لإيجاب الترتيب على كل مكلف من غير فرق بين المكلفين. الثالث: أن لا يعلم أن الشرع اعتبره ولا ألغاه فهو المرسل، ويسمى بالمصالح المرسلة، فإن قيل يلزم على هذا أن يكون كل المرسل ملائماً، لأن كل مرسل لا بد أن يكون مشتملاً على مصلحة، وقد اعتبر الشارع جنس المصالح في جنس الأحكام قلنا: المراد بالوصف هنا الأقرب دون الأبعد فإن جنس المصالح يعتبر في جنس الأحكام وليس بملائم. فائدة: قال الشيخ عز الدين في (الفوائد) ملك جارية لابن بإحبال الأمة مفسدة في حق الابن مصلحة الأب لا أعرف لها مشاهداً بالاعتبار.

(ص): وقد قبله مالك مطلقاً، وكاد إمام الحرمين يوافقه مع مناداته عليه بالنكير، ورده الأكثر مطلقاً وقوم في العبادات، وليس منه مصلحة ضرورية كلية قطعية، لأنها مما دل الدليل على اعتبارها، فهي حق قطعاً واشترطها الغزالي، للقطع بالقول به لا الأصل القول به، قال: والظن القريب من القطع كالقطع. (ش): الضمير في (قبله) عائد إلى أقرب مذكور، وهو مرسل، لأن المؤثر مقبول بالاتفاق والملغى مردود بالاتفاق، كما نقل ابن الحاجب، ومن ظن أن مالكاً يخالف فيه فقد أخطأ، وقد قال إمام الحرمين في كتاب (التراجيح): لا نرى التعلق عندنا بكل مصلحة، ولم ير ذلك أحد من العلماء، ومن ظن بمالك فقد أخطأ انتهى، وإنما الخلاف في المرسل بالتفسير السابق، وفيه مذاهب. أحدها: المنع منه مطلقاً وعليه الأكثرون. والثاني: قبوله مطلقاً لأنه يفيد ظن العلية، لأن الحكم إن ثبت لا العلة فهو بعيد، أو بعلة غير ظاهرة فكذلك فتعين هذه الظاهرة وهو المنقول عن مالك،

وقول المصنف كاد الإمام يوافقه، يعني لاعتباره المصلحة في الجملة، لكنه لم يعتبر جنس المصلحة مطلقاً كمالك، بل قد بالغ في (البرهان) في الرد عليه، وقال: الذي ننكر من مذهبه تركه رعاية ذلك، وجريانه على استرساله في (الاستصواب) من غير اقتصاد، ونحن نعرض على مالك، واقعة نادرة لا يعهد مثلها، ونقول: لو رأى ذو نظر فيها جدع أنفه، أو اصطلام سيفه، وأبدى رأيه لا تنكره العقول صائراً إلى أن العقوبة شرعت لحسم الفواحش وهذه العقوبة لائقة بهذه النازلة للزمك التزام هذا لأنك تجوز لأصحاب الإيالات القتل في التهمة العظيمة، حتى نقل عنك الثقات أنك قلت: أقتل ثلث الأمة في استبقاء ثلثيها، ثم إنا نقول له ثانياً: لا يجوز التعلق بكل رأي فإن أبى ذلك لم نجد مرجعاً يفد عنه إلا ما ارتضاه الشافعي رضي الله عنه من اعتبار المصالح المشبهة بما علم اعتباره، وإن لم يذكر ضابطاً، وصرح بأن كل ما لا نص فيه، ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي، واستصواب ذوي العقول، فهذا اقتحام عظيم، وخرج عن الضبط، ومصير إلى إبطال أبهة الشريعة، وأن كلا يفعل ما يرى ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان ولصيانة الخلق وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون.

المذهب الثالث: التفصيل بين العبادات وغيرها مما يتعلق بالبيع والنكاح وفصل الخصومات في القصاص والحدود، وظهر فيه المعنى المناسب اعتبر، وما لا يظهر فيه وهو العبادات فلا يعلل فيها بالمعاني القريبة، وإن كانت ظاهرة، لأنا لم نعتمد على نفس المعنى بخلاف المعاملات، وهذا التفصيل قاله الأبياري في (شرح البرهان) وقال: إنه الذي يقتضيه مذهب مالك. الرابع: إن كانت تلك المصلحة ضرورية كلية قطعية كتترس الكفار بأسارى المسلمين أعتبرت وإلا فلا، وهذه ثلاث قيود ضرورية أي لا يمكن تحصيلها بطريق آخر، كلية: أي راجعة إلى كافة الأمة، قطعية: أي حاصلة بشرع

الحكم قطعاً ويقيناً، لا ظناً ولا تخميناً، واختاره البيضاوي وأخذه من الغزالي، فإنه قال (109/ز): يحصل قتالهم بهذا الطريق، وهو قتل من لم يذنب، لم يشهد له أصل معين فيقدح اعتبار هذه المصلحة باعتبار الأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية قطعية كلية فليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، فإنه لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة، فيعدل عنها، وليس في معناها، ما إذا لم يقطع بظفرهم فإنها ليست قطعية بل ظنية، وهذا منه إشارة إلى اعتبار القطع بحصول المصلحة ونازع المصنف في اشتراط القطع، وقد حكى الأصحاب في مسألة التترس وجهين من غير تصريح منهم باشتراط القطع وعللوا وجه المنع أن غاية الأمر أن نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا يباح بالخوف، وهذا تصريح بجريان الخلاف في صورة الخوف ولا قاطع فيه، وقد يقال: إن المسألة في حالة القطع مجزوم باعتبارها، والخلاف إنما هو في حال الخوف، وقد صرح الغزالي بذلك في (المستصفى) فقال: إنما يجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع وقول المصنف: وليس منه رد على الإمام والآمدي وغيرهم في قولهم إن الشافعي رضي الله عنه لم يقل بالمرسل إلا في هذه المسألة وعلى تفصيل (المنهاج) فإنه لم

يلاق موضوع المسألة فإن هذا ليس من المرسل الذي لم يعتبر، بل مما دل الدليل على اعتباره، فإن قول القائل: هذا سفك دم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر حفظ الكلي على الجزئي، وأن حفظ أصل الإسلام عن اصطلام الكفار، أهم في مقصود الشرع، فقد رجعت المصلحة (29/ك) فيه إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصوداً بالنص والإجماع، فليس هذا خارجاً من الأصول، لكنه لا يسمى قياساً بل مصلحة مرسلة، إذ القياس له أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا لدليل واحد بل بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال تسمى لذلك مصلحة مرسلة، قال الغزالي، وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف فيها، بل نقطع بكونها حجة، وحيث جاء خلاف فهو عند تعارض مصلحتين ومقصودين فيرجح الأقوى ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحاً لكلمة الكفر، والشرب لأن الحذر من سفك دم أشد من هذه الأمور، ولا يباح به الزنا لأنه في مثل محذور الإكراه. (ص): مسألة المناسبة تنخرم بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية خلافاً للإمام. (ش): لا خلاف أن الوصف إذا اشتمل على المصلحة الخالية عن المفسدة، والراجحة عليها يكون مناسباً ويعتبر تناسبه، وأما إذا اشتمل على مفسدة تلزم من الحكم راجحة على المصلحة أو مساوية لها، هل تنخرم مناسبته بترك المفسدة فيه

مذهبان: أحدهما - واختاره ابن الحاجب والصفي الهندي -: نعم. والثاني - وبه جزم الإمام والبيضاوي: المنع والمراد بانخرامها وبطلانها: هو ما لا يقضي العقل بمناسبتها للحكم إذ ذاك، فلا يكون لها أثر في اقتضاء الأحكام لأنه يلزم خلو الوصف عن استلزام المصلحة، وذهابها عنه، فإن ذلك لا يكون معارضاً، واعلم أن اشتراط الترجيح في تحقيق المناسبة، يتحقق على قول من يمنع تخصيص العلة، وأما من يجوزه ويجوز إحالة انتفاء الحكم على تحقيق المانع المعارض مع وجود المقتضى فلا بد له من الاعتراف بالمناسبة سواء كانت المصلحة مرجوحة أو مساوية، وإلا لكان انتفاء الحكم لانتفاء المناسبة، لا لوجود المانع المعارض، ومن الفروع المرتبة هذه المسألة لو سلك السائر الطريق البعيد لا لغرض لا يقصر لانخرام المناسبة.

(ص): السادس الشبه منزلة بين المناسب والطرد، وقال القاضي: هو المناسب بالتبع. (ش): جعله المصنف بين منزلتين لأنه يشبه المناسب الذاتي من حيث التفات الشارع إليه، ويشبه الوصف الطردي من حيث إنه غير مناسب، ويتميز عن الطردي بأن وجوده كالعدم بخلاف الشبه فإنه معتبر في بعض الأحكام، ويتميز عن المناسب بأن مناسبته عقلية، وإن لم يرد شرع كالإسكار في التحريم بخلاف الشبه، وهذا مما لا خلاف فيه، وإن أكثر الأصوليون والجدليون في تعاريفه وقد اعترف إمام الحرمين بأنه لا يتحرر فيه عبارة مستمرة في صناعة الحدود، وقال القاضي: إنه

المناسب بالتبع، أي بالالتزام كالطهارة لاشتراط النية فإن الطهارة من حيث هي لا تناسب اشتراط النية لكن تناسبها من حيث إنها عبادة، والعبادة مناسبة لاشتراط النية، وقال بعض الجدليين: الأوصاف ثلاثة وصف علم مناسبته فلا كلام فيه، ووصف لم تعلم مناسبته، وينقسم إلى ما علم عدوله عن المناسبة وهو الطردي وإلى ما لم يعلم عدوله عن المناسبة وهو الشبه. (ص): ولا يصار إليه مع إمكان قياس العلة إجماعاً فإن تعذرت فقال الشافعي رضي الله عنه حجة، وقال الصيرفي والشيرازي: مردود. (ش): أجمع الناس كما قاله القاضي في (التقريب) على أنه لا يصار إلى القياس الشبه مع إمكان قياس العلة، فإن تعذر قياس العلة، ولم يصادف في محل الحكم إلا الوصف الشبهي، وهو محتمل للمناسبة فاختلفوا فيه، فظاهر مذهب الشافعي قبوله لأنه يغلب على الظن عليته حينئذ، فإنا بين أمور ثلاثة: إما أن نقول لا علة لهذا الحكم وهو مستحيل، فإن الحكم لا بد أن يكون مشروعاً لحكمة، وإما أن نقول العلة غير هذا وهذا وإن كان ممكناً لكنا لم نصادفه، فتعين الثالث وهو أن العلة هذا الوصف الشبهي وكان قدماء الأصحاب يستعملونه في المناظرات

وحكي عن الحليمي والأستاذ أبي إسحاق أنه حجة إذا انضم إليه السبر، قال ابن السمعاني: وقد أشار الشافعي رضي الله عنه إلى الاحتجاج به في مواضع من كتبه لقوله في إيجاب النية في الوضوء كالتيمم طهارتان كيف يفترقان ورده القاضي أبو بكر والصيرفي وأبو إسحاق المروزي (110/ز) وأبو إسحاق الشيرازي. ونازع في صحة القول به عن الشافعي رضي الله عنه وقال: إنما أراد قياس العلة، وأنه يرجح أحد العلتين في الفرع بكثرة الشبه ثم اختلف القائلون

بقياس الشبه فمنهم من اعتبره مطلقاً ومنهم من شرط في اعتباره أن يجتذب الفرع أصلان فيلحق بأحدهما بغلبة الأشباه، ويسمونه قياس غلبة الأشباه، وهو ما يدل عليه نص الشافعي في (الأم). (ص): وأعلاه قياس غلبة الأشباه في الحكم والصفة، ثم الصوري، وقال الإمام المعتبر حصول المشابهة لعلة الحكم أو مستلزمها. (ش): لا شك أن رتب الشبه عند القائل به متفاوتة، فأعلاه قياس غلبة الأشباه وهو أن يتردد الفرع بين أصلين، ويشبه أحدهما في أكثر الأحكام،

فيلحق به وعليه اعتمد الشافعي رضي الله عنه في إيجاب القيمة في قتل العبد ما بلغت، لأنه يشبه الأموال في أكثر الأقسام ويشبه الأحرار في قليل منها، فوجب اعتبار الكثير ومنهم من يعتبر الأشباه الحكمية ثم الراجعة إلى الصفة، ومنهم من يسوي بينهما، ثم شبه الصورة كقياسنا الخيل على البغال والحمير في سقوط الزكاة، وقياسهم في حرمة اللحم، وقال الإمام في (المحصول): المعتبر حصول المشابهة فيما يظن أنه علة الحكم، أو مستلزم لعلته سواء كان ذلك في الصورة، أو في الحكم عملاً بموجب الظن واعلم أن ظاهر كلام المصنف أن هذه المراتب من القائلين بحجيته، وليس كذلك فإن الشافعي رضي الله عنه لا يقول بالشبه الصوري كما بينه ابن برهان وغيره.

(ص): السابع الدوران: وهو أن يوجد الحكم عند وجود وصف وينعدم عند عدمه، قيل: لا يفيد، وقيل قطعي، والمختار وفاقاً للأكثر ظني. (ش): إنما قال (عند وجود وصف) ولم يقل بوجود وصف كما عبر في (المنهاج) وغيره لئلا يوهم المناسبة والكلام في الدوران المجرد المناسبة، والمراد من كون الحكم يوجد عند وجود الوصف وكونه يحال تعذره إما (30/ ك) حقيقة أو تقديراً، وإن تقدم عليه في التصوير حتى تدخل حركة الأصبع فإنها ملازمة لحركة الخاتم، ومثال الحرمة مع وصف الإسكار في العصير، فإنه إذا وجد فيه الإسكار حرم، وإذا عدم وصار خلاً عدمت الحرمة،

وفيه مذاهب: أحدها: أنه لا يفيد بمجرد ظن العلة ولا القطع بها لجواز أن يكون الوصف الدائر ملازماً للعلة لا نفسها، إلا أن يدل دليل على أن هذا الوصف معتبر في إثبات الحكم فحينئذ يكون حجة، وهو قول القاضي وأبي الطيب الطبري، واختاره ابن السمعاني والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب. والثاني: يفيد القطع بها ونقل عن بعض المعتزلة. والثالث: أنه يفيد الظن بها وعليه الأكثر منهم القاضي والإمام الرازي قال: ونعني بالدوران الذي يقيم دليلاً على أنه ليس من دوران العلة مع المعلول، فإن قيل الاطراد وحده لا يكفي والعكس غير معتبر شرعاً قلنا: المجموع غيرهما.

فائدة: نص ابن الحاجب والحريري وغيرهما على أنه لا يجوز أن يأتي بالفعل مطاوعاً لفعل لازم، وقولهم: انعدم الشيء وانفسد وانضاف لحن، فلو قال المصنف: وينتفي عند انتفائه لاستقام. (ص): ولا يلزم المستدل بيان نفي ما هو أولى منه. (ش): لا يجب على المستدل نفي ما هو أولى منه بالعلة، لأنه من قبل نفي المعارض، ولا يجب على المستدل بيان نفي المعارض وعلى من يدعي وصفاً آخر إبداؤه بخلاف الشبه كما سبق، هذا ما أطبق عليه الجدليون معتلين بأنه لو لزم المستدل ذلك للزمه بيان السلامة على سائر القوادح، وأن لا يبقى للخصم كلام، وينتشر الكلام ويخرج عن الضبط، وذهب القاضي أبو بكر إلى أنه يلزمه ذلك، قال الغزالي في (شفاء الغليل): وكان من عادة القاضي في المناظرة ذلك فكان يستقصي في

أول الأمر كل ما يتوهم تعلق الخصم به بطريق السبر ويبطله بحيث كان لا يبقي للخصم متعلقاً، قال وهذا بعيد في حق المناظر لما ذكرنا، متجه في حق المجتهد، إذ على المجتهد تمام النظر لتحل له الفتوى، وليس على المعلل الارتقاء مرتبة من مراتب النظر إلى أن ينزل عنه إلى مرتبة أخرى بالمعاونة والمناظرة فتحصلنا على ثلاثة مذاهب. (ص): فإن أبدى المعترض وصفاً آخر ترجح جانب المستدل بالتعدية، وإن كان متعدياً إلى الفرع ضر عند مانع العلتين أو إلى فرع آخر طلب الترجيح. (ش): لو أبدى المعترض وصفاً آخر مثل الأول تعادلا، وترجح جانب المستدل بأن دورانه موافق لتعدية الحكم، والوصف الحادث قاصر، وهو بناء على أن المتعدية أرجح من القاصرة، وأن المتعدي إلى فروع أولى من المتعدي إلى فرع واحد، فإن كان الوصف الذي أبداه المعترض متعدياً إلى الفرع المتنازع فيه انبنى على التعليل بعلتين، فإن منعنا ضر وإلا فلا، إذ يجوز اجتماع معرفين على معرف واحد، وإن كانت علته متعدية إلى فرع آخر غير صورة النزاع تعادلا وطلب الترجيح من خارج، أما إذا كان الوصف الذي أبداه المعترض مناسباً، والأول غير مناسب قدم قطعاً. فائدة: استدل المالكية على طهارة الكلب بأن الحياة علة للطهارة، فإن الشاة ما دامت حية فهي طاهرة، فإذا زالت الحياة زالت الطهارة، واعترض على الدوران بالمزكى والجلد المدبوغ، فأجابوا: بأن العلل الشرعية يخلف بعضها بعضاً فالزكاة والدباغ علتان للطهارة، خلفتا الحياة، وأقوى من إيراد المزكى والمدبوغ إيراد السمك والجراد، فإنه لا يتجدد فيها سوى الموت، ولا يمكن إحالة طهارتهما على شيء آخر

يخلف الحياة. (ص): الثامن الطرد: وهو مقارنة الحكم للوصف والأكثر على رده، قال علماؤنا: قياس المعنى مناسب والشبه تقريب، والطرد تحكم وقيل: إن قارنه فيما عدا صورة النزاع أفاد وعليه الإمام وكثير، وقيل: تكفي المقارنة في صوره وقال الكرخي: يفيد المناظر دون الناظر, (ش): ما عرف به الطرد ذكره القاضي فقال: المقارن للحكم إن ناسب بالذات فهو المناسب أو بالتبع فهو الشبه، وإن لم يناسبه مطلقاً فهو الطرد، وإنما لم يصرح المصنف بنفي المناسبة لأنه معلوم مما قبله ومثاله: قول بعضهم في إزالة النجاسة بنحو خل مائع لا تبنى القنطرة عليه فلا يجوز إزالة النجاسة به كالدهن، وقولهم: في عدم نقض الوضوء بمس الذكر: طويل مشقوق فأشبه البوق وقولهم

في طهارة الكلب: حيوان مألوف له شعر كالصوف فأشبه الخروف وظاهر كلام المصنف اعتبار المقارنة في جميع الصور ولهذا قال صاحب (البديع): قيل: إنه الموجود عند (111/ز) الوجود ولكن الذي في (المنهاج) اعتبار المقارنة فيما سوى صورة النزاع، فيقول: يثبت فيها إلحاقاً للفرد بالأعم الأغلب وعزاه في (المحصول) للأكثرين، قال: وبالغ بعضهم فقال يكفي الاقتران في صورة واحدة وهو ضعيف ثم فيه مذاهب: أحدها: أنه مردود مطلقاً، وعليه الجمهور كما قاله إمام الحرمين وغيره فإنه لا يفيد علماً ولا ظناً فهو تحكم قال القاضي والأستاذ من طرد عن غرة فجاهل، ومن مارس الشريعة واستجازه فهازئ بالشريعة، قال: ومثل الحليمي فساد الوضع والمخيل والطرد.

فالأول: كمن تنسم نسيماً بارداً فقال: وراءه حريق. والثاني: كمن رأى دخاناً فقال: وراءه حريق، والثالث كمن رأى غباراً فقال: وراءه حريق، وما حكاه المصنف عن علمائنا هو الذي أورده ابن السمعاني في (القواطع) فقال: قياس المعنى: تحقيق والشبه تقريب والطرد تحكم ثم قال: فقياس المعنى ما يناسب الحكم ويستدعيه، ويؤثر فيه، والطرد عكسه، والشبه أن يكون فرع تجاذبه أصلان فيلحق بأحدهما بنوع شبه مقرب، أي يقرب الفرع من الأصل في الحكم المطلوب من غير تعرض لبيان المعنى، وهو حسن. الثاني: إن قارن الحكم في جميع صور حصوله غير صورة النزاع أفاد العلية وإلا فلا، واختاره الإمام في (المحصول)، وقال: إنه قول كثير من فقهائنا. والثالث: أنه حجة مطلقاً ولا يشترط ذلك بل تكفي المقارنة ولو في صورة واحدة. والرابع: قول الكرخي: إنه يفيد المناظر دون المجتهد، قال في (البرهان): وقد

ناقص إذ المناظرة بحث عن المآخذ الصحيحة فإذا كان مذهبه أنه لا يصلح مأخذاً فهذا مراد خصمه في الجدل وليس في الجدل ما يقبل مع الاعتراف بأنه باطل. (ص): التاسع تنقيح المناط: وهو أن يدل ظاهراً على التعليل (31/ك) بوصف فيحذف خصوصه عن الاعتبار بالاجتهاد، ويناط بالأعم أو تكون أوصاف فيحذف بعضها ويناط بالباقي. (ش): التنقيح لغة: التخليص والتهذيب، يقال نقحت العظم ـ إذا استخرجت مخه والمناط ما نيط به الحكم أي علق عليه، والمناط اسم للعلة من حيث ارتباط الحكم بها يقال: نيطت به الأمور إذا علقت به وهو الاجتهاد في تعيين السبب الذي أناط الشارع الحكم به، وأضافه إليه وهو قسمان: أحدهما: أن يرد ظاهر في التعليل بوصف ينحذف ذلك الوصف بخصوصه عن الاعتبار بالاجتهاد ويناط بالأعم، وهذا كما فعل مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى في حديث المجامع.

فإنهما حذفا خصوص الوقاع واجتهدا فعلقا الكفارة بوصف عام وهو مطلق الإفطار. والثاني: أن يدل لفظ ظاهر على التعليل بمجموع أوصاف، فيحذف بعضها عن درجة الاعتبار إما لأنه طردي أو لثبوت الحكم على بقية الأوصاف بدونه، ويناط بالباقي فهو بمنزلة لفظ عام أخرج بعضه وبين المراد به بالاجتهاد، كتعيين وقاع المكلف لاعتبار الكفارة من الأوصاف المذكورة في حديث الأعرابي من كونه أعرابياً أو كون الموطوءة زوجة أو أمة، أو في قبلها، وكونه شهر تلك السنة فإنها كلها طردية حاشا الوقاع في نهار رمضان، وحذف مالك وأبو حنيفة خصوص الوقاع وأوجبا الكفارة في الأكل والشرب، ولا بد لهما من دليل على الحذف، وتنقيح المناط قال به أكثر منكري القياس حتى إن أبا حنيفة ينكر القياس في الكفارة واستعمل تنقيح المناط فيها، وسماه استدلالاً، وحاصله تأويل ظاهر بدليل قال ابن التلمساني، واعتراف منكري القياس بهذا النوع بناء على مسألة أخرى، وهي أن النص على

التعليل نص على التعميم أم لا فمن قال: نعم اعترف بهذا وأنكر القياس. (ص): أما تحقيق المناط فإثبات العلة في آحاد صورها كتحقيق أن النباش سارق وتخريجه مر. (ش): عادة الجدليين يتعرضون للفرق بين الثلاثة تنقيح المناط، تحقيق المناط، وتخريج المناط، وقد عرفت التنقيح، وأما تحقيق المناط فهو أن يتفق على علية وصف بنص أو إجماع، وتختلف في وجوده في صورة النزاع فتحقق وجودها مثاله أن يقال أخذ المال خفية علة القطع وهو موجود في النباش والحياء علة الاكتفاء للبكر في تزويجها بالسكوت، وهو موجود فيمن زالت بكارتها بغير نكاح، وهل يشترط القطع بتحقيق المناط أم يكتفى فيه بالظن؟ حكى ابن التلمساني فيه أقوالاً ثالثها الفرق بين أن تكون ذات العلة وصفاً شرعياً أو وصفاً حقيقياً أو عرفياً، إن كان شرعياً جاز إثباته بطريق الظنون وإن كان عقلياً أو عرفياً فلا بد من القطع بوجوده، قال: وهذا أعدل الأقوال وأما تخريج المناط فقد مر أي في مسلك المناسبة، وهو الاجتهاد في استنباط علة الحكم الثابت بنص أو إجماع من غير تعرض لبيان

علته لا بالصراحة، ولا بالإيماء، كقوله: ((لا تبيعوا البر بالبر)) فإنه ليس فيه ما يدل على أن العلة الطعم لكن المجتهد نظر فاستنبطها فكأنه أخرج العلة من خفاء، فلذلك سمي تخريج المناط بخلاف تنقيح المناط فإنه لم يستخرجها لكونها مذكورة في النص بل نقح النص، وأخذ منه ما يصلح للعلية، وترك ما لا يصلح. (ص): العاشر إلغاء الفارق كإلحاق الأمة بالعبد في السراية وهو الدوران والطرد ترجع إلى ضرب شبه إذ تحصل الظن في الجملة ولا تعين جهة المصلحة. (ش): إلغاء الفارق هو بيان أن الفرع لم يفارق الأصل إلا فيما لا يؤثر فيلزم اشتراكهما في المؤثرة، هو بالضد من قياس العلة فإن القياس هناك عين جامعاً بين الأصل والفرع وعين هنا الفارق بينهما، وكما أن السبر عين هناك الجامع، فالسبر عين هنا الفارق، فإذا تعين بحيث لا يبقى فارق آخر فحينئذ يبحث عما بين له، والذي يسبر أن الفارق لا أثر له، هو أن يكون طرداً محضاً أو ملغى، فإن حصل ذلك عن دليل قاطع، فالإلحاق بمعلوم وإلا فمظنون مثال: المقطوع به: النهي عن البول في الماء الراكد يعطي أن صب البول من كوز في معناه، وكذلك صب

غير البول من النجاسات، وقد خص بعض النظار هذا النوع بالقياس في معنى الأصل والمظنون بنفي الفارق، والأمر فيه قريب، ونحو منه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أعتق شركاً له في عبد قوم عليه)) فالأمة في معناه، وقد تخيل قوم أن هذا من قبيل المعلوم، وليس كذلك، لاحتمال أن يلاحظ الشرع (112/ز) في عتق العبد أنه إذا أعتق استقل بنفسه في الجهاد والجمعة وغيرهما مما لا مدخل للمرأة فيه، لكن الأظهر فيه أن المقصود التخلص من موت الرق وإحياؤه بالحرية فهو إذن ظاهر قوي وفسر في (المنهاج) تنقيح المناط: بالغاء الفارق: نحو لا فارق بين العبد والأمة في سراية العتق فوجب استواؤهما فيه، والتحقيق التغاير بينهما، وإنما أخره عن تنقيح المناط إذا لم يعتضد بظاهر في التعليل بمجموع أوصاف واعتضد به تنقيح المناط، نعم قد يكون السبر الدال على نفي الفارق قاطعاً والفارق المحقق طرداً محضاً

فبلغ نفي الفارق رتبة المؤثر بدليل قاطع، وبين في غير المؤثر بدليل ظاهر كما سبق. (ص): خاتمة: ليس تأتي القياس بعلية وصف ولا العجز عن إفساده دليل عليته على الأصح فيهما. (ش): هذان طريقان ظن بعض الأصوليين أنهما يفيدان العلية ختم المصنف بهما. أحدهما: أن يقال: هذا الوصف على تقدير عدم عليته لا يتأتى معه ذلك فوجب أن يكون علة ليمكن الإتيان (. .) (¬1) بالمأمور به، وهو دور لأن تأتي القياس متفق على ثبوت العلة فلو أثبتنا العلة (. .) (¬2) ثبوت العلة عليه، ولزم الدور. الثاني: عجز الخصم عن إفساد كون الوصف علة دليل على كونه علة، بدليل أن المعجزة، من أقوى الأدلة، وإنما انتهضت دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لعجز الناس عن معارضتها، وإذا كان العجز دليلاً في المعجزة التي هي عصام الأدلة فبطريق الأولى ما نحن فيه، وهو فاسد لأنه ليس جعل العجز عن الإفساد على الصحة أولى من جعل العجز على التصحيح دليلاً على الإفساد، وليس نظيراً لعجزه لأن العجز هناك من الخلق، وهنا من الخصم وحده فمن أين له أن سائر الناس كذلك. (ص): القوادح. (ش): مراده بالقوادح ما يقدح في الدليل بجملته سواء العلة وغيرها. ¬

(¬1) (*) كلمة ساقطة من الأصل. (¬2) (*) كلام ساقط من الأصل.

(ص): منها تخلف الحكم عن العلة وفاقاً للشافعي رضي الله عنه وسماه النقض، وقالت (32/ك) الحنفية: لا يقدح وسموه تخصيص العلة، وقيل: في المستنبطة، وقيل: عكسه، وقيل: يقدح إلا أن يكون لمانع أو فقد شرط وعليه أكثر فقهائنا، وقيل: يقدح إلا أن يرد على جميع المذاهب كالعرايا وعليه الإمام، وقيل: يقدح في الحاضرة، وقيل في المنصوصة: إلا بظاهر عام، والمستنبطة إلا لمانع أو فقد شرط، وقال الآمدي: إن كان التخلف لمانع أو فقد شرط أو في معرض الاستثناء أو كانت منصوصة بما لا يقبل التأويل لم يقدح. (ش): النقض وجود المدعى علة مع تخلف الحكم عنه، وفي (المحصول) هو وجود كالعلة، ولا حكم، لا وجود الحكم ولا علة فيه مذاهب: أحدها: أنه يقدح مطلقاً بناء على أن شرط العلة الاطراد وعزاه المصنف

للشافعي رضي الله عنه لكن قال الغزالي في (شفاء الغليل): إنه لا يعرف له فيها نص، وعمدة المصنف فيما نقله ابن السمعاني في (القواطع) أن ذلك مذهب الشافعي رضي الله عنه وجميع أصحابه إلا القليل منهم قال: وهو قول كثير من المتكلمين وقالوا: تخصيصها نقض لها ونقضها يتضمن إبطالها وعلى هذا فالفرق بينها وبين اللفظ العام حيث جاز تخصيصه: أن العام لغة يجوز إطلاقه على بعض ما تناوله فإذا أورد لم ينافه، وأما العلة المستنبطة فإنها منتزعة بالقياس من الأصل ومقتضاه الاطراد هكذا رأيته في كتاب القفال الشاشي وهو صحيح. والثاني: لا يقدح وهو المشهور عن الحنفية ولا يسمونه نقضاً بل تخصيص العلة لكن ابن السمعاني عزاه للعراقيين منهم وادعى أبو زيد أنه مذهب أبي حنيفة

وأصحابه قال وأما الخراسانيون منهم فقالوا بالأول، حتى قال أبو منصور الماتريدي: تخصيص العلة باطل، ومن قال بتخصيصها فقد وصف الله تعالى بالسفه والعبث، فأي فائدة في وجود العلة ولا حكم. والثالث: يقدح في المستنبطة دون المنصوصة، ومثلوا تخصيص المنصوصة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما ذلك دم عرق)) مع القول بعدم النقض بالخارج

النجس من غير السبيلين، فإنه تخصيص لعلة منصوصة، ومثلوا تخصيص المستنبطة بقولنا: القتل العمد العدوان علة القصاص مع القول بعدم استيفائه في قتل الأب. الرابع: عكسه هكذا حكاه المصنف تبعاً لابن الحاجب، لكن قال في شرحه: إن مراده لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو عدم شرط دون المنصوصة. الخامس: يقدح إلا أن يكون لمانع أو فقد شرط فلا يقدح مطلقاً سواء العلة المنصوصة والمستنبطة، واختاره البيضاوي والهندي. السادس: يقدح إلا أن يرد على سبيل الاستثناء ويعترض على جميع المذاهب كالعرايا، وعزاه المصنف للإمام والذي في (المحصول)، أنه إن تخلف لمانع لم يقدح وإلا قدح، ثم قال: فإن كان وارداً على سبيل الاستثناء هل يقدح؟ قال قوم: لا يقدح سواء كانت العلة معلومة أو مظنونة، أما المعلومة فلأنا نعلم أن من لم يقدح على جناية لم

يؤاخذ بضمانها، ثم هذا لا ينقض بضرب الدية على العاقلة، وأما المظنونة فالتعليل بالطعم فإنه لا ينقض بمسألة العرايا فإنها وردت على سبيل الاستثناء رخصة، قال الإمام: واعلم أنا إنما نعلم ورود النقض على سبيل الاستثناء إذا كان لازماً جميع المذاهب مثل مسألة العرايا فإنها لازمة على جميع العلل ـ كالقوت والكيل والمال والطعم، وإنما قلنا إن الواردة على مورد الاستثناء لا يقدح في العلة، لأن الإجماع لما انعقد على أن حرمة الربا لا تعلل إلا بأحد الأمور الأربعة ومسألة العرايا واردة عليها أربعتها فكانت هذه المسألة واردة على علة قطعنا بصحتها والنقض لا يقدح في مثل هذه العلة، وأما أنه هل يجب الاحتراز عنه في اللفظ؟ فقد اختلفوا فيه والأولى الاحتراز عنه انتهى. والسابع: إن كانت علة حظر لم يجز تخصيصها وإلا جاز حكاه القاضي عن بعض المعتزلة. والثامن: يقدح في المنصوصة إلا إذا كان بظاهر عام، وإنما قال بظاهر، لأنه لو كان بقاطع لم يتخلف الحكم عنه، وإنما قال عام لأنه لو كان خاصاً بمحل الحكم لم يثبت التخلف وهو خلاف المقدر، والحاصل يجوز في النص الظني، ولو قدر مانع أو فوات شرط ولا يجوز في القطعي، أي لا يمكن وقوعه.

وأما المستنبطة: فيجوز في صورتين لا يقدح فيهما، وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط، ولا يجوز في صورة واحدة فيقدح فيها (113/ز) وهي ما إذا كان التخلف دونهما وهو مختار ابن الحاجب. والتاسع: إذا كان التخلف لمانع أو فقد شرط أو في معرض الاستثناء أو كانت منصوصة بما لا يقبل التأويل لم يقدح وإلا قدح وهو رأي الآمدي، فإن قيل كيف يقبل النص التأويل؟ قلت: مراده بالنص ما هم أعم من الصريح والظاهر ولا يخفى قبول الظاهر للتأويل. فائدة معرض: بكسر الميم وفتح الراء. (ص): والخلاف معنوي لا لفظي خلافاً لابن الحاجب ومن فروعه التعليل بعلتين والانقطاع وانخرام المناسبة بمفسدة وغيرها. (ش) زعم إمام الحرمين في (البرهان) وابن الحاجب وغيرهما أن الخلاف في

هذه المسألة لفظي لا فائدة فيه، لأن من جوز تخصيص العلة، ومن لم يجوزه اتفقوا على اقتضاء العلة للحكم لا بد فيه من عدم المخصص، وسلموا أن المعلل لو ذكر القيد في ابتداء التعليل لاستقامت العلة، فلم يبين الخلاف إلا ذلك القيد العدمي، هل يسمى جزء العلة أم لا؟ ورد الإمام في (المحصول) هذه المقالة. وقال: إذا فسرنا العلة بالداعي أو الموجب لم نجعل العدم جزءاً من العلة بل كاشفاً عن حدوث جزء العلة، ومن يجوز التخصيص لا يقول ذلك، وإن فسرنا العلة بالأمارة ظهر الخلاف في المعنى أيضاً، لأن من أثبت العلة بالمناسبة يبحث عن ذلك القيد العدمي، فإن وجد فيه مناسبة صحح العلة وإلا أبطلها، ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة البتة، من هذا القيد العدمي، وذكر المصنف لها فوائد منها: أن يترتب عليها مسألة التعليل بعلتين، وقد سبقت. ومنها: انقطاع الخصم، وأنه لا تسمع منه بعد ذلك دعوى أنه إنما أراد بالعموم الخصوص، وباللفظ المطلق ما وراء محل النقض، لأنه يشبه الدعوى بعد الإقرار فلا يسمع إلا ممن له قدرة على الإنشاء في الوصفين، والقائلون بجواز التخصيص يقبلون دعواه، كذا قال المصنف، وفيه نظر، فإن إمام الحرمين قال في (البرهان) إذا ذكر لفظ مقتضياً عموم العلة فورد نقض فقال: اخصص لفظي، نظر فإن كان النقض مبطلاً لم يقبل فيه التخصيص، وإن كان غير مبطل فمن الجدليين من جعله منقطعاً إذا لم يف بظاهر لفظه، قال: والمختار لا يكون منقطعاً، لكنه خالف الأحسن، إذ كان ينبغي له أن يشير إليه فيقول هذه علة ما لم يستثن (33/ك). (ص): وجوابه منع وجود العلة أو انتفاء الحكم إن لم يكن انتفاؤه مذهب المستدل وعند من يرى نفي الموانع بيانها. (ش): جواب النقض بوجوه. أحدها: منع وجود العلة في محل النقض بناء على وجود قيد مناسب أو مؤثر في العلة، وهو غير حاصل في صفة النقض، كما لو قيل في الحلي: مال معد للاستعمال مباح فلا يجب فيه الزكاة كثياب البذلة، فإن نقض بالمعد لاستعمال محرم أو مكروه فدفعه واضح لأنه غير معد لاستعمال مباح. ثانيها: يمنع انتفاء الحكم عن صورة النقض إذا لم يكن انتفاؤه مذهب

المستدل، فأما إذا كان مذهباً للمستدل فقط أو مذهباً له وللمعترض لم يكن ذلك. ثالثها: أن يبين المعلل مانعاً من ثبوت الحكم في صورة النقض فيدفع النقض بذلك عند من يجعل تخلف الحكم لمانع لا يقدح. ورابعها: وكان ينبغي للمصنف ذكره: دفعه بورود صورة النقض على سبيل الاستثناء فإنه مانع عند من يجعله غير قادح. (ص): وليس للمعترض الاستدلال على وجود العلة عند الأكثر للانتقال،

وقال الآمدي ما لم يكن دليل أولى بالقدح. (ش): إذا منع المستدل وصف العلة في صورة النقض فهل يمكن المعترض من الاستدلال على وجودها فيه مذاهب: أحدها: وعليه الأكثر منهم الإمام الرازي وأتباعه: لا، لأنه انتقال من مسألة قبل تمامها إلى أخرى. وثانيها: نعم، لأن فيه تحقيقاً للنقض فكان من متمماته. وثالثها: قال الآمدي: إنه يمكن ما لم يكن للمعترض دليل أولى بالقدح من النقض، فإن أمكنه القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا. وحكى ابن الحاجب: رابعاً: يمكن ما لم يكن حكماً شرعياً، وإنما لم يحكه المصنف لقوله في شرح المختصر: إنه لا يوجد لغيره، وهو عجب، فلم يذكر الإمام أبو منصور البروي تلميذ محمد بن يحيى في كتاب (المقترح) غيره، فقال: إن كان حكماً شرعياً كما لو علل الحنفي في مسألة المضمضة بأنه عضو يجب غسله عن الخبث، فيجب في الجنابة،

فإذا نقض تعليله بالعين فله منع وصف العلة بأن العين لا يجب غسله من الخبث فليس للمعترض أن يثبت عليه وجوب غسل العين من الخبث فإنه وضع للكلام، في مسألة أخرى استدلالا من الابتداء، وإن كان وصف العلة أمراً حقيقياً فله ذلك كما إذا علل الحنفي مسألة الأجرة بأنه عقد على منفعة فلا يملك عوضه بنفس العقد كالمضاربة، فإذا انتقض بالنكاح منع ورود النكاح على المنفعة قلنا إثباته بالدليل انتهى وجرى عليه شارحه الإمام أبو العز جد ابن دقيق العيد لأمه فقال: لأن الأمر الحقيقي يمكن الاستدلال عليه لقربه من الأحكام الشرعية إذا كانت مختلفة فهي في مظنة تشعب الظنون، والوصف الحقيقي يكون في الغالب من جهة عدم تصور حقيقة=. (ص): ولو دل على وجودها بموجود في محل النقض ثم منع وجودها فقال ينتقض دليلك فالصواب أنه لا يسمع لانتقاله من نقض العلة إلى نقض دليلها. (ش): ولو دل المستدل (على وجود العلة في محل التعليل بدليل موجود في محل النقض، ثم منع بعد ذلك وجودها في صورة النقض) فقال المعترض:

ينتقض دليلك على العلة، لم يسمع منه عند الجدليين، لأنه انتقال من نقض العلة بنفسها إلى نقض دليلها، مثاله قول الحنفي في التبييت آتي بمسمى الصوم فصح كما في النفل، واستدل على وجود العلة بالإمساك مع النية، فيقول المستدل: لا نسلم وجود العلة فيما إذا نوى بعد الزوال فيقول ينتقض دليلك الذي استدللت به على وجود العلة في محل التعليل ومقابل الصواب احتمال ابن الحاجب بجواز الانتقال لأن المعترض في مكان دفع العلة فليكن له القدح فيها تارة وفي دليلها أخرى، ولا يكون انتقالاً ممنوعاً. (ص): وليس له الاستدلال على تخلف الحكم في الأصح وثالثها إن لم يكن طريق أولى. (ش): لو منع المستدل تخلف الحكم عن العلة، فإن كان عدم الحكم في صورة النقض مجمعاً عليه أو مذهبه لم يسمع منعه وإلا سمع، وإذا سمع منعه فهل يتمكن المعترض من إقامة الدليل على تخلف الحكم؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: نعم إذ به يتحقق نقض العلة. وثانيها: المنع لما فيه من قلب القاعدة بانقلاب المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً وعليه أكثر النظار.

وثالثها: يتمكن من ذلك ما لم يكن له (114/ز) طريق (أولى بالقدح في كلام المستدل من ذلك، أما إذا كان له طريق) آخر أفضى إلى المقصود فلا. (ص): ويجب الاحتراز منه على المناظر مطلقاً وعلى المناظر إلا فيما اشتهر من المستثنيات فصار كالمذكور، وقيل يجب مطلقاً، وعلى الناظر إلا في المستثنيات مطلقاً. (ش): إذا قلنا: إن النقض يقدح فهل يجب على المستدل الاحتراز في دليله منه ابتداء؟ على مذاهب. أحدهما: وعزاه الهندي للأكثرين لا يجب، لأن المستدل مطالب بذكر الدليل فقط، وليس ذلك إلا في الوصف أو حكمته، وأما نفي المانع فمن قبل دفع المعارض فلم يجب كما في سائر المعارض. والثاني: يجب مطلقاً لأنه مطالب بالمعرف للحكم وليس هذا الوصف فقط، بل هو مع عدم المانع. والثالث: يجب إلا في الصور المستثناة من القاعدة كالعرايا، والمختار عند

المصنف الوجوب، لكنه قيده بقيد حسن، وهو أن لا يكون مشتهراً وإلا فالمشتهر منزل منزلة المذكور، فلا حاجة للتصريح به، وجعل محل الخلاف في المجتهد الناظر، أما المناظر فيجب الاحتراز منه مطلقاً، وقال صاحب (المقترح): إن كانت صورة النقض مستثناة، فالاتفاق لم يكلف الاحتراز عنها، وإن اتفق الخصمان على أنها مستثناة فإن كان اعتماده على إيماء النص في ثبوت القول بالتعليل فلا يجوز أن يتحرز إلا بوصف يشهد له الإيماء، وإن كان بطريق الاستنباط فلا فرق بينهما عند الاعتذار إلا بوصف هو موجود في صورة النقض حتى يصلح كونها مانعاً فيكون تأويلاً لدلالة تخلف الحكم من الوصف، ولا يلزم الاحتراز ابتداء، بل إن ورد عليه النقض احترز عنه. (ص): ودعوى صورة معينة أو مبهمة أو نفيها ينتقض بالإثبات أو النفي العامين وبالعكس. (ش): المقصود من هذا التنبيه على ما يتجه من النقوض، ويستحق الجواب، وما ليس كذلك. اعلم: أن المقصود من ثبوت الحكم إما إثباته ونفيه معاً أو أحدهما، فإن كان الأول ولم يتعرض له المصنف وجب أن يكون الحكم مطرداً ومنعكساً مع علته، كالحد مع المحدود، فمتى ثبت عند عدمه أو عدم عند وجوده، توجه عليه النقض، وإن كان الثاني فالمدعى إما ثبوت الحكم أو نفيه، وكل منهما، إما أن يكون في بعض الصور أو جميعها، وإذا كان في بعض الصور فإما أن يكون في (34/ك) صورة معينة أو مبهمة، فهذه أربعة أقسام داخلة في كل من القسمين، أعني ثبوت الحكم أو نفيه

في صورة أو ثبوته أو نفيه مطلقاً، والحاصل أن الحكم إذا ثبت في صورة معينة كقولنا (زيد كاتب، أو في صورة غير معينة كقولنا) إنسان ما كاتب، فالثبوت في هاتين الصورتين يناقضه النفي العام، كقولنا: لا شيء من الإنسان كاتب، وكذلك قولنا: زيد ليس بكاتب، أو إنسان ما ليس بكاتب، يناقضه كل إنسان كاتب، وإذا ادعينا الثبوت العام كقولنا: كل إنسان كاتب، ناقضه النفي عن صورة معينة، كقولنا: زيد ليس بكاتب، أو مبهم كقولنا: إنسان ما ليس بكاتب، وكذلك إذا ادعينا النفي العام كقولنا: لا شيء من الإنسان بكاتب, ناقضه الثبوت في صورة معينة، كقولنا: زيد كاتب أو مبهمة، كقولنا: إنسان ما كاتب فعلم أن الثبوت في الصورة المعينة أو المبهمة يناقضه النفي العام، وبالعكس، وأن النفي غير صورة معينة أو مبهمة يناقضه الإثبات العام وبالعكس. (ص): ومنها الكسر قادح على الصحيح، لأنه نقض المعنى وهو إسقاط وصف من العلة إما مع إبداله كما يقال في الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها كالأمن، فيعترض بأن خصوص الصلاة ملغى فليبدل العبادة ثم ينقض بصوم الحائض، أو لا يبدل فلا يبقى علة إلا يجب قضاؤها وليس كل ما يجب قضاؤه يؤدى دليله الحائض.

(ش): اختلف في تعريف الكسر ففي (المنهاج) أنه عدم تأثير أحد جزأي العلة ونقض الآخر المؤثر، وهو قضية كلام الإمام، وعبر الآمدي وابن الحاجب عن هذا بالنقض المكسور وهو تعبير حسن، وجعلا الكسر إبداء الحكمة بدون الحكم، قال الآمدي: وهو نقض على العلة دون ضابطها وقال الأكثرون من الأصوليين والجدليين: الكسر عبارة عن إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة وخارجه عن الاعتبار، أي يتبين أن أحد جزأي العلة لا أثر له، على هذا جرى المصنف، قال الشيخ أبو إسحاق في (الملخص): هو سؤال مليح، والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه، وتصحيح العلة، واتفق أكثر أهل العلم على صحته، وإفساد العلة به، ويسمونه النقض من طريق المعنى، والإلزام من طريق الفقه وأنكر ذلك طائفة من الخراسانيين انتهى، ولهذا صححه المصنف، وذكر للكسر صورتين:

إحداهما: أن يبدل ذلك الوصف الخاص بوصف عام ثم ينقضه عليه. الثانية: أن لا يفعل ذلك، بل يعرض عن ذلك الذي أسقطه بالكلية، ويذكر صورة النقض، ومثاله: قولنا في إثبات صلاة الخوف، صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها كصلاة الأمن، فيقول المعترض: خصوص كونها صلاة ملغى لا أثر له، لأن الحج كذلك، وليس بصلاة فلم يبق إلا الوصف العام، وهو كونها عبادة وينقضه، فهذا كسر، ثم هو بالخيرة بين أمرين: إما أن يأتي بكسره على الصورة الأولى فيلزمه بالتعليل بكونها عبادة، ويقول: كأنك قد قلت عبادة إلى آخر ما ذكرت، ويلزمك صوم الحائض فإنه عبادة يجب قضاؤها، ولا يجب أداؤها، بل يحرم، وأما على الصورة الثانية، فيقول: إذا أسقط وصف الصلاة الذي هو أحد أوصاف علتك، فلم يبق إلا قولك: يجب قضاؤها إلى آخره، وليس كل ما يجب قضاؤه يجب أداؤه بدليل الحائض، وقد ظهر لك أنه نقض يرد على المعنى، وبذلك صرح ابن الحاجب في الاعتراضات، وإن كان هنا سماه النقض المكسور، واختار، أنه لا يبطل، وهو اسم لا يعرفه الجدليون فإنهم لا يعرفون إلا الكسر،

وهو أن يبين عدم التأثير، وذكر الآمدي أن الأكثرين على أن الكسر لا يقدح، وليس كذلك (فقد ذكر) أستاذ أرباب الجدل أبو إسحاق الشيرازي وتبعه ابن السمعاني وغيره أن الأكثر أنه قادح وهو كما قال، لأنه نقض، فالكلام فيه كالكلام في النقض سواء بسواء، والشيخ الهندي قال: الكسر نقض يرد على بعض أوصاف العلة وذلك هو ما عبر عنه الآمدي بالنقض المكسور، ثم قال الهندي: وهو مردود عند الجماهير (إلا إذا بين الخصم إلغاء القيد، قال المصنف (115/ ز): ونحن لا نعني بالكسر إلا إذا بين، أما إذا لم يبين فلا خلاف في أنه) مردود، كيف وهو كلام غير موجه؟ وكل ما كان كذلك فهو رد على قائله. فائدة: قال الشيخ في (المهذب) لو ماتت الأمهات أو بقي منها دون النصاب ونتجت تامة وجبت الزكاة، وقال الأنماطي ينقطع الحول بموت كل الأمهات، قال الشيخ: وينكسر عليه بأم الولد فإن يثبت لولدها حكمها في الاستيلاد مع بقائها حتى تعتق بموت السيد كما تعتق هي بموته، ولو ماتت قبل السيد لم

يبطل هذا الحكم في حق الولد، وإن بطل في حقها. (ص): ومنها العكس وهو انتفاء الحكم لانتفاء العلة فإن ثبت مقابله فأبلغ وشاهده قوله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) في جواب: أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟. (ش): ما ذكره المصنف في التعريف ذكره ابن الحاجب وغيره وقال الهندي: إنه الأولى، قال: وإنما قلنا لانتفاء العلة ولم نقل: لانتفاء علته، لأنه يقتضي أن يشعر بانتفاء جميع علته، ولا نزاع في أن العكس بهذا المعنى يضر وعرفه في (المنهاج) تبعاً للإمام في (المحصول): بحصول مثل هذا الحكم في صورة أخرى لعلة تخالف العلة الأولى، ورده الهندي بأنه ليس من شرط العكس أن يحصل مثل ذلك الحكم في صورة أخرى، بل لو حصل في تلك الصورة بعينها لعلة أخرى كان ذلك عكساً أيضاً وهو أبلغ في قياس العكس، وإليه أشار المصنف بقوله: فإن ثبت مقابله فأبلغ واستشهد له بقوله صلى الله عليه وسلم حين عدد لأصحابه

وجوه الصدقة: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله! أو يأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام)) يعني أكان يعاقب؟ قالوا: نعم قال: ((فكذلك إذا وضعها في حلال يؤجر)) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم نقيض حكم الوطء المباح وهو الإثم في غيره، وهو الوطء الحرام لافتراقهما في علة الحكم، وهو كون هذا مباحاً وهذا حراماً. (ص): وتخلفه قادح عند مانع علتين. (ش): لأنه حينئذ لا يكون للحكم إلا دليل واحد فينتفى عند انتفاء العلة لانتفاء الحكم عند انتفاء دليله، فإن قلنا: لا يجوز فليس بقادح، وهذا البناء ذكره القاضي أبو بكر والجمهور وجعله في (المنهاج) بالتفسير السابق مبنياً على منع تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين، وبناؤه ظاهر لأن النوع باق (35/ك) فيه. (ص): ونعني بانتفائه انتفاء العلم أو الظن إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. (ش): أي لا يلزم من انتفاء الدليل على شيء انتفاؤه عن نفسه، بل انتفاء العلم

به فقط، فلا يلزم من انتفاء الدليل على وجود الصانع انتفاء الصانع. (ص): ومنها عدم التأثير أي أن الوصف لا مناسبة فيه ومن ثم اختص بقياس المعنى وبالمستنبطة المختلف فيها. (ش): عرف عدم التأثير بكون الوصف لا مناسبة فيه، أي لثبات الحكم ولا نفيه، ووجهه أن التأثير، وهو إفادة الوصف أثره، فإذا لم يفده فهو عدم التأثير، وعرفه في (المحصول) و (المنهاج) بثبوت الحكم بدون الوصف وتعريف المصنف أعم ويبنى على هذا التفسير أن هذا السؤال إنما يقدح في قياس المعنى دون الشبه، والطرد وفي المستنبطة المختلف فيها دون المنصوصة أو المستنبطة المجمع عليها. واعلم أن الوصف إنما يكون عديم التأثير (إذا لم يفد فائدة أصلاً، فإن كان فيه فائدة دفع النقض بأن يشير إلى أن الفرع حال مما يمنع ثبوت الحكم فيه أو إلى اشتمال الفرع على شرط الحكم فلا يكون عديم التأثير) كقوله: في التبييت صوم مفروض، فافتقر إلى التبييت قياساً على القضاء فإن كونه مفروضاً يتحقق به شرط اعتبار النية في الفرع، وهو صوم رمضان، وأنه خال عما يمنع، ثبوت التبييت فيه،

ويندفع به النقض بالنفل إذ لو قال: صوم فافتقر إلى التبييت لا ينتقض بالنفل، لأنه صوم ولا يفتقر إليه، مع أن فرضية الصوم بالنسبة إلى تبييت النية طردي لا مناسبة فيه. (ص): وهو أربعة. (ش): عدم التأثير ينقسم إلى أربعة أقسام: ما لا تأثير له مطلقاً، وما لا تأثير له في ذلك الأصل، وما اشتمل على قيد لا تأثير له، وما لا يظهر فيه شيء عن ذلك، ولكن لا يطرد في محل النزاع، فعلم من ذلك عدم تأثيره، ولكل قسم اسم. (ص): في الوصف بكونه طردياً. (ش): الأول عدم التأثير في الوصف بكونه طردياً، كقولهم في الصبح صلاة لا تقصر فلا يقدم أذانها كالمغرب لأن عدم القصر في نفي التقديم طردي لا مناسبة له ولا شبه، ولذلك كان الحكم الذي هو منع تقديم الأذان على الوقت موجوداً فيما قصر من الصلوات ويرجع حاصله إلى سؤال المطالبة بالدلالة على كون العلة علة. (ص): وفي الأصل مثل مبيع غير مرئي فلا يصح كالطير في الهواء فيقول لا أثر لكونه غير مرئي، فإن العجز عن التسليم كاف وحاصله معارضة في الأصل. (ش): الثاني عدم التأثير في ذلك الأصل بأن يقع الاستغناء عنه بوصف آخر

كقولنا في بيع الغائب: بيع مرئي فلا يصح كالطير في الهواء بجامع عدم الرؤية، فيقول الخصم لا أثر لكونه غير مرئي، فإن العجز عن التسليم في الطير كاف بأمارة الحكم فكونه غير مرئي وإن ناسب نفي الصحة لا تأثير له هنا، كذا أطبقوا على هذا المثال، وأنه قادح، وقال القاضي أبو الطيب الطبري في تعليقه في الكلام على بيع الغائب: لنا أنه باع عيناً لم ير منها شيئاًَ فلا يصح كما لو باع النوى في التمر، فإن قيل: قولكم: لم ير منها شيئاً لا تأثير له، لأن بعض النوى إذا كان ظاهراً يراه، وبعضه غير ظاهر، فإن البيع لا يصح، فالجواب: أنه ليس من شرط التأثير أن يكون موجوداً في كل موضع، وإنما يكون وجود التأثير في موضع واحد، وتأثيره في بيع البطيخ واللوز فإنه يرى بعضها ويكون بيعها صحيحاً، وقال الإمام في البرهان: عدم التأثير في الأصل هو تقييد علة الأصل بوصف لا أثر لأصله في الأصل كقول الشافعي رضي الله عنه في منع نكاح الأمة الكتابية: أمة كافرة فلا تنكح كالأمة المجوسية فلا أثر للرق في الأصل، قال: والمحققون على فساد العلة بذلك وقيل بصحتها إذ للرق على الجملة أثر في المنع وشبهه بالشاهد الثالث المستظهر به وهو ضعيف، إذ الثالث منهي لوقوعه، وكذا عند تعذر أحد الشاهدين بخلاف (116/ز)

الرق ثم نبه الإمام على أن ذلك الوصف إذا لم يكن له أثر ولا عرض فيه، فهو لغو ولا يبطل العلة لاستقلالها مع حذف القيد، وهو قول المصنف: وحاصله معارضة في الأصل أي بإبداء علة أخرى، وهو العجز عن التسليم، ولذلك بناه بانون على التعليل بعلتين. (ص): وفي الحكم وهو أضرب لأنه إما أن لا يكون لذكره فائدة كقولهم في المرتدين مشركون أتلفوا مالا في دار الحرب فلا ضمان كالحربي، ودار الحرب عندهم طردي فلا فائدة لذكره، إذ من أوجب الضمان أوجبه وإن لم يكن في دار الحرب، وكذا من نفاه فيرجع إلى الأول لأنه يطالب بتأثير كونه في دار الحرب أو تكون له فائدة ضرورية كقول معتبر العدد في الاستجمار بالأحجار: عبادة متعلقة بالأحجار ولم يتقدمها معصية فاعتبر فيها العدد كالجمار فقوله لم يتقدمها معصية عديم التأثير في الأصل والفرع لكنه مضطر إلى ذكره لئلا ينتقض بالرجم، أو غير ضرورية فإن لم تغتفر الضرورية لم يغتفر وإلا فتردد مثاله

الجمعة صلاة مفروضة فلم يفتقر إلى إذن الإمام كالظهر فإن مفروضه حشو إذ لو حذف لم ينتقض بشيء لكنه ذكر لتقريب الفرع من الأصل بتقوية الشبه بينهما إذ الفرض بالفرض أشبه. (ش): الثالث عدم التأثير في الحكم المعلل وهو أضرب. أحدها: أن لا يكون لذكره فائدة، أي ولا تأثير له أصلاً لا في الأصل ولا في الفرع ووجه تسميته عدم التأثير في الحكم: أنه لا مدخل له في الحكم ولا تعلق له به، مثاله: قولهم في المرتدين: مشركون أتلفوا مالا في دار الحرب فلا ضمان عليهم كالحربي، ودار الحرب عندهم طردي فلا فائدة في ذكره، فإن من أوجب الضمان أوجبه مطلقاً، ومن نفاه نفاه مطلقاً، سواء كان في دار الحرب أم غيرها فيرجع إلى القسم الأول، لأنه مطالب بتأثير كونه في دار الحرب، إذ لا تأثير للوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور في القسمين فلا فرق بينهما.

الثاني: أن لا يكون له تأثير فيها، ولكن لذكره فائدة ضرورية، كقول من اعتبر العدد في الاستجمار بالأحجار عبادة متعلقة بالأحجار لم يتقدمها معصية (فاعتبر فيها العدد كرمي الجمار في الحج، فقوله لم يتقدمها معصية) عديم التأثير في الأصل والوصف، والمعلل مضطر إلى ذكره إذ لو حذفه لانتقضت عليه بالرجم فإنه عبادة تتعلق بالأحجار ولا يعتبر فيها العدد، وهو كالذي قبله في رجوعه إلى الأول فلا فرق. الثالث: أن يكون له فائدة، لكل المعلل لا يضطر إليه ويسمى الحشو، فإن اغتفر له ذكر ما اضطر إليه اغتفر له هذا وإلا ففيه خلاف مثاله، قولنا في الجمعة تصح بغير إذن الإمام لأنها صلاة مفروضة فلم تفتقر إقامتها إلى إذنه كالظهر، فنقول: هذا قيد زائد لا لإثبات الحكم بل لتقريب الفرع من الأصل وتقوية الشبه بينهما إذ الغرض (36/ك) بالفرض أشبه من غيره. (ص): الرابع في الفرع مثل زوجت نفسها (بغير كفء فلا يصح كما لو زوجت) من غير كفء وهو كالثاني إذ لا أثر للتقييد بغير الكفء ويرجع إلى المناقشة في الفرض وهو تخصيص بعض صور النزاع بالحجاج والأصح جوازه، وثالثها بشرط البناء أي بناء غير محل الفرض عليه.

(ش): الرابع عدم التأثير في الفرع من جهة أن الوصف لا يطرد في جميع صور النزاع، كقولنا: في ولاية المرأة: زوجت نفسها من كفء فلا يصح كما لو زوجت من غير كفء، فالتزويج من غير كفء وإن ناسب البطلان إلا أنه لا اطراد له في صورة النزاع إذ النزاع فيمن زوجت نفسها مطلقاً فبان أن الوصف لا تأثير له في الفرع المتنازع فيه، وحاصله كالثاني، أي من حيث إن حكم الفرع هنا إلى غير الوصف المذكور فيه كما أن حكم في الأصل= في القسم الثاني مضاف إلى غير الوصف المذكور، وهو في ذلك متابع لابن الحاجب في مختصره الصغير، لكنه قال في الكبير إنه كالثالث، وقيل إنه الصواب، وقوله: ويرجع إشارة إلى أن قبول هذا مبنى الفرض فمن منع جواز الفرض في الدليل رده، ومن لم يمنع من ذلك قبله، والفرض تخصيص بعض الصور النزاع بالدليل كما إذا قال المسؤول عن نفوذ عتق

الراهن: أفرض الكلام في العسر أو عن من زوجت نفسها أفرض فيمن زوجت من غير كفء فإذا خصص المستدل تزويجها نفسها من غير الكفء بالدليل فقد فرض دليله في بعض صور النزاع وفيه مذاهب: أحدها: المنع منه وهو قول ابن فورك وقال: من شرط الدليل أن يكون عاماً لجميع مواقع النزاع ليكون دفعاً لاعتراض الخصم مطابقاً للسؤال. والثاني: وهو الذي عليه الجمهور الجواز، لأنه قد لا يساعده على الكل أو يساعده غير أنه لا يقدر على دفع كلام الخصم بأن يكون كلامه في بعض الصور أشكل، فيستفيد من الفرض غرضاً صحيحاً وليس منه ما يوجب فساد الجواب، فإن من يسأل عن الكل فقد سأل عن البعض وقال ابن الحاجب: إن كان الوصف المجهول في الفرض طرداً فمردود وإلا فمقبول وقال ابن التلمساني: الوجه أن يقال: قد يستفاد بالفرض تضييق مجاري الاعتراض على الخصم، وهو من مقصود الجدل أو وضوح التقرير، ولهذا المعنى عدل الخليل عليه الصلاة والسلام في تقرير الاستدلال على النمرود بالأثر على المؤثر من صورة إن الله يحيي ويميت لما اشتبه

عليه إلى أوضح منها عند النمرود فقال: {إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} الآية. الثالث: يجوز بشرط البناء، أي: بناء ما خرج عن محل الفرض إلى محل الفرض واختلفوا في طريق البناء، فقيل: يكفيه فيه أن يقول: إذا ثبت الحكم في بعض الصور لزم القول بثبوته في الباقي ضرورة إذ لا قائل بالفرق، وقيل: لا يكفيه ذلك بل يحتاج إلى رد ما خرج عن محل الفرض إلى محل الفرض لجامع صحيح كما هو قاعدة القياس، وقيل: إن كان الفرض في صورة السؤال فلا يحتاج إلى البناء، وإن عدل في الفرض إلى غير محل السؤال فعند ذلك لا بد من بناء على السؤال على محل الفرض بطريق القياس. (ص): ومنها القلب وهو دعوى أن ما استدل به في المسألة على ذلك الوجه عليه لا له إن صح، ومن ثم أمكن معه تسليم صحته، وقيل هو تسليم للصحة مطلقاً، وقيل: إفساد مطلقاً.

(ش): قوله: في المسألة. أي: في تلك المسألة بعينها (ليخرج ما يدل عليه في غير تلك المسألة التي استدل هو به عليها فلا يسمى قلباً وقوله على ذلك الوجه ليخرج ما يدل عليه (117/ز) في تلك المسألة لكن على غير ذلك الوجه مثل: أن يستدل المستدل بنص بطريق الحقيقة، والمعترض يستدل به عليه في تلك المسألة بطريق التجوز، وكان ينبغي إسقاط قوله: لا له، ولهذا قال الآمدي: قلب الدليل: هو أن يبين القلب، أن ما ذكره المستدل يدل عليه لا له أو يدل عليه وله قال: والأول قل ما يتفق له مثال في الأقيسة، ومثله بالمنصوص من استدلال الحنفي في توريث الخال بقوله عليه الصلاة والسلام ((الخال وارث من لا وارث له)) فأثبت إرثه عند

عدم وارث غيره، فيقول المعترض: هذا يدل عليك لا لك، إذ معناه نفي توريث الخال بطريق المبالغة أي: الخال لا يرث كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له، والصبر حيلة من لا حيلة له، أي: ليس الجوع زاداً ولا الصبر حيلة، والثاني: وهو يدل على المستدل وله، إما أن يتعرض القالب فيه لتصحيح مذهب نفسه كمسألة الاعتكاف أو إبطال مذهب المستدل صريحاً كمسح الرأس أو التزاماً كمسألة الخيار، وقول

المنصف: إن صح أي على تقدير الترك ولهذا يمكن مع القلب تسليم صحة الدليل (وقيل: هو تسليم للصحة مطلقاً) أي تسليم لأن الجامع دليل صحيح، وإنما اختلفوا في أنه دليل للمستدل أو عليه، وقيل: إنه إفساد العلة مطلقاً، وتبين أنه لا يصح التعلق بها لواحد منهما لأن الشيء الواحد، لا يجوز أن يعتبر بالشيء وضده. واعلم: أن الخلاف هكذا لا يوجد صريحاً، وإنما المصنف أخذ الأول من ظاهر قول من سمى القلب معارضة، فإن المعارضة لا تفسد العلة، بل تمنع من التعلق بها إلى أن يثبت رجحانها من خارج، وأخذ الثاني: من قول بعض أصحابنا: القلب شاهد زور كما يشهد لك يشهد عليك، وقول ابن السمعاني توجيه سؤال القلب: أن يقال: إذا علق على العلة ضد ما علقه المستدل من الحكم، فلا يكون أحد الحكمين أولى من الآخر، ويبطل تعلقها بهما قلت: كذا ذكره

المصنف في (شرح المختصر) أنه استنبط الخلاف من ذلك، وقال الإمام في (البرهان): ذهب ذاهبون إلى رده لكون ما جاء به القالب ليس مناقضاً لما صرح به المعلل بل كالمعارضة الجامدة، وقيل: بقبوله لكون العلة وقلبها مشتملين على حكمين يستحيل الجمع بينهما، فهو مناقض للمقصود، قال: ولا يمكن القالب أن يعتقد صحة قلبه لكون قياس العلل قلباً له بل هو عنده من باب معارضة الفاسد بالفاسد بخلاف المعارضة إذ قد تكون صحيحة لترجيحها على قياس المعلل، ونازعه بعضهم في ذلك وقال: ربما كان القلب أرجح من قياس المعلل فيكون صحيحاً فهو كالمعارضة، وقد أشار الإمام فيما بعد إلى ذلك، وقال النيلي في جدله القسم الأول من القلب، وهو ما يدل على (37/ك) المستدل لا له من قبل الاعتراضات ولا يتجه إلى قبوله خلاف، وأما الثاني وهو ما يدل على المستدل من وجه آخر كمثال الاعتكاف، ومسح الرأس، وبيع الغائب، فاختلفوا فيه هل هو اعتراض أو معارضة؟ فزعم قوم أنه معارضة، لأن المعترض يعارض دلالة المستدل بدلالة أخرى فحقيقة المعارضة موجودة فيه، وذكر لهذا الخلاف فوائد منها: أنه إذا قيل معارضة جازت الزيادة في علته كقوله في بيع الغائب: عقد معاوضة مقتضاه التأبيد، فلا ينعقد على خيار الرؤية

كالنكاح، وإن قيل: هو اعتراض لم تجز الزيادة، انتهى. والفرق بين المعارضة والاعتراض أن المعارضة كدليل مستقل فلا يتعذر بدليل المستدل، بخلاف الاعتراض فإنه منع للدليل فتمتنع الزيادة عليه إذ يكون كالكذب على المستدل حيث يقول ما لم يقل ومنها إن قلنا: معارضة جاز قلبه من المستدل كما يعارض العلة كما سيأتي في بيع الفضولي، ومن قال: إنه اعتراض لم يجز ذلك، لأنه منع والمنع لا يمنع، ومنها إن قلنا: (إنه معارضة جاز أن يتأخر عن المعارضة لأنه كالجزء منها وإن قلنا) اعتراض لم يجز ووجب تقديمه عليها، لأن المنع مقدم على المعارضة، ومنها إن قلنا: معارضة قبلنا فيها الترجيح، وإن قلنا: اعتراض فلا، لأن المعارضة تقبل الترجيح كالدليل المبتدأ، والمنع لا يقبل الترجيح. (ص): وعلى المختار فهو مقبول معارضة عند التسليم قادح عند عدمه، وقيل: شاهد زور لك وعليك. (ش): أي إذا قلنا: إنه لا يفسد العلة، فإن كان لتسليم صحة الدليل فهو معارضة بقياس بجامع المستدل وأصله فيجاب عنه بالترجيح، وإن لم يكن فهو اعتراض قادح قال علماؤنا: المعارضة قد تكون لعلة أخرى وهي ما عدا القلب، وقد تكون لعلة المستدل نفسها وهي القلب، وتسمى مشاركة في الدليل، وقال الهندي: يمتاز القلب عن مطلق المعارضة بأمرين لا غير: أحدهما: أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة، وسائر المعارضات يمكن. وثانيهما: أنه لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل، لأن أصل القالب

وفرعه هما أصل المستدل وفرعه ويمكن ذلك في سائر المعارضات وقول المصنف: وقيل: شاهد زور هو القول الذي حكاه أولاً بالإفساد. (ص): وهو قسمان الأول لتصحيح مذهب المعترض إما مع إبطال مذهب المستدل صريحاً كما يقال في بيع الفضولي: عقد في حق الغير بلا ولاية فلا يصح كالشراء، فيقال: عقد فيصح كالشراء أولاً مثل لبث فلا يكون بنفسه قربة كوقوف عرفة، فيقال: فلا يشترط فيه الصوم كعرفة). (ص): القلب لتصحيح مذهب المعترض ضربان: أحدهما: أن يدل مع ذلك على بطلان مذهب المستدل بالصراحة، كقولنا: في بيع الفضولي عقد في حق الغير بلا ولاية ولا نيابة فلا يصح، قياساً على ما إذا اشترى شيئاً لغيره بغير إذنه، فيقول الخصم: أنا أقل هذا الدليل، فأقول: تصرف في مال الغير بلا ولاية ولا نيابة فلا يقع عن أضافة =إليه كالشراء فإن الشراء لم يصح لمن أضيف له وهو المشتري له بل صح للمشتري وهو الفضولي.

والثاني: أن لا يدل مع ذلك على إبطال مذهب المستدل صريحاً كقول الحنفي في الاعتكاف: لبث في محل مخصوص فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة، وغرضه التعرض لاشتراط الصوم فيه، ولكنه لم يتمكن من (118/ز) التصريح باشتراطه إذ لو صرح به لم يجده أصلاً، فيقول الشافعي: لبث في محل مخصوص فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة، فقد تعرض للعلة بتصريحه بنقض المقصود وقد تكلم إمام الحرمين في هذا المثال، وقال: الصوم عبادة مستقلة، فوقوعه شرطاً بعيداً وليس تعبداً، فإن الإيمان مقصود في نفسه، وهو شرط في كل عبادة (ص): الثاني لإبطال مذهب المستدل بالصراحة عضو وضوء فلا يكفي أقل ما يطلق عليه الاسم كالوجه، فيقال: فلا يتقدر غسله بالربع كالوجه، أو بالالتزام عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالعوض كالنكاح فيقال: فلا يشترط خيار الرؤية كالنكاح. (ش): القلب لإبطال مذهب المستدل ضربان: ضرب بالصراحة وضرب بالالتزام فالأول كقولك في مسح الرأس عضو وضوء فلا يكتفى فيه بأقل ما ينطلق عليه اسم المسح كغيره (من أعضاء الوضوء، فيقول الشافعي فلا يتقدر بالربع)

كغيره. والثاني: كقوله في بيع الغائب، عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالعوض كالنكاح، فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح فقد تعرض لإبطال مذهب المستدل بالالتزام، لأنه أبطل لازم الصحة وهو خيار الرؤية لأن من قال في بيع الغائب بالصحة، قال بخيار الرؤية، فالخيار لازم للصحة، فإذا انتفى اللازم، وهو خيار الرؤية انتفى الملزوم وهو الصحة. (ص): ومنه ـ خلافاً للقاضي ـ قلب المساواة مثل طهارة بالمائع، فلا تجب فيها النية كالنجاسة، فيقول: فيستوي جامدها ومائعها كالنجاسة. (ش): يلحق بالقسم الآخر نوع يقال له قلب المساواة وهو أن يكون في الأصل قسمان. أحدهما: منتف في الفرع باتفاق الخصمين، والآخر متنازع فيه بينهما فإذا أراد أن يثبته في الفرع قياساً على الأصل فيقول المعترض تجب التسوية بينهما في

الفرع بالقياس على الأصل، ويلزم من وجود التسوية في الفرع عدم ثبوته فيه كقولهم في نية الوضوء: طهارة بالماء فلا يفتقر إلى النية كإزالة النجاسة، فنقول يستوي جامدها ومائعها في النية كإزالة النجاسة، وقد اختلف فيه فذهب الأكثرون منهم الأستاذ أبو إسحاق وإمام الحرمين، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى قبوله أيضاً وذهب القاضي أبو بكر، وابن السمعاني وطائفة ممن قبل أصل القلب إلى رده، لأنه لا يمكن التصريح فيه بحكم العلة، فإن الحاصل في الأصل نفي، وفي الفرع إثبات، ألا ترى المستدل يعتبر الوصفين في الأصل، والمعترض لا يعتبرهما، بمقتضى القلب، والأول هو المختار عند المصنف، فإن القياس على الأصل إنما هو حيث عدم الاختلاف، وهو ثابت فيه، فلا يضر كونه في الأصل الصحة، وفي الفرع عدمها، إذ هذا الاختلاف غير مناف لأصل الاستواء الذي جعل جامعاً.

(ص): ومنها: القول بالموجب وشاهده {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} في جواب {ليخرجن الأعز منها الأذل} وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع كما يقال في المثقل: قتل بما يقتل غالباً فلا ينافي القصاص كالإحراق، فيقال: سلمنا عدم المنافاة، ولكن لم قلت يقتضيه وكما يقال: التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص كالمتوسل إليه، فيقال مسلم، ولكن لا يلزم إبطال مانع انقضاء الموانع ووجود (38/ك) الشرايط والمقتضى. (ش): الموجب بفتح الجيم أي القول بما أوجبه دليل المستدل، واقتضاه، أما الموجب بكسرها فهو الدليل المقتضي للحكم، وهو غير مختص بالقياس ومنه الآية الكريمة، أي صحيح ما يقولونه من أن الأعز يخرج الأذل والنزاع باق فإن العزة لله ولرسوله فالله ورسوله يخرجانكم، وتعريف المصنف له: بتسليم الدليل تبع فيه ابن الحاجب.

وقال بعضهم: ينبغي أن يقال: تسليم مقتضى الدليل لأن تسليم الخصم، إنما هو لمقتضى الدليل وموجبه، لا لنفس الدليل إذ الدليل ليس مراداً لذاته، بل لكونه وسيلة إلى معرفة المدلول وهو أقسام. أحدها: أن يستنتجه ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه، كقولنا في القتل بالمثقل، قتل بما يقتل غالباً، فلا ينافي وجوب القصاص كالإحراق، فيقول المعترض: عدم المنافاة ليست محل النزاع ولا تقتضيه، وأنا أقول بموجب ما ذكرته، وإنما النزاع في وجوب القصاص، وهو ليس عدم المنافاة ولا ملازمة. الثاني: تستنتجه إبطال ما يتوهم أنه مأخذ مذهب الخصم، كقولنا في القتل بالمثقل أيضاً التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص، كالتفاوت في المتوسل إليه، فيقول الخصم: أنا أقول بموجب هذا الدليل وأن التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص، ولكن لا يلزم من ذلك وجوب القصاص الذي هو محل النزاع، إذ لا يلزم من إبطال كون التفاوت في الوسيلة مانعاً، انتفاء كل مانع لوجوب القصاص، فلا يلزم وجود جميع شرايطه، ووجود مقتضيه، فيجوز أن لا يجب القصاص لمانع آخر آو لفوات شرط، أو لعدم المقتضى.

(ص): والمختار تصديق المعترض في قوله: ليس هذا مأخذي. (ش): لأنه أعرف بمذهبه، وقيل: لا يصدق إلا ببيان مأخذ آخر، إذ ربما كان ذلك مأخذه، ولكنه يعاند قصداً لإيقاف كلام خصمه، والصحيح الأول، كيف؟ وإنا لو أوجبنا عليه إبداء المأخذ فإن ملكنا المستدل من إبطاله لزم قلب المستدل معترضاً، والمعترض مستدلاً وإن لم نملكه فلا فائدة في إبداء المأخذ لإمكان ادعائه ما لا يصلح ترويجاً لكلامه. (ص): وربما سكت المستدل عن مقدمة غير مشهورة مخافة المنع فيرد القول بالموجب. (ش): من أنواع القول بالموجب أن يسكت عن الصغرى، وهي غير مشهورة كقول الشافعي في افتقار الوضوء إلى النية، ما ثبت أنه قربة فشرطه النية كالصلاة وسكت عن قوله والوضوء قربة مخافة المنع فيرد القول بالموجب، أي فيقول المعترض: أنا أقول بموجب ما ذكرته، ولكن مقدمة واحدة لا تنتج، فلا يثبت

مدعاك، فلو ذكرها فقال: والوضوء قربة، وكلما ثبت كونه قربة شرط النية كالصلاة، فينتج أن الوضوء شرط النية فلا يرد عليه إلا منع الصغرى (119/ز) أو الكبرى، فيقول: لا نعلم أن الوضوء قربة، ويكون حينئذ منعاً للصغرى لا قولاً بالموجب، وإنما قال: غير مشهورة، لأنها لو كانت مشهورة كانت بمنزلة المذكورة فيمتنع، أو كانت متفقاً عليها فلا يتأتى المنع أصلاً وإن صرح بذكرها. فائدة: جعله القلب من مفسدات العلة ذكره الآمدي والهندي، ووجهوه بأنه إذا كان تسليم موجب ما ذكره من الدليل لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم، ونازع المصنف في (شرح المنهاج) فيه، وقال: هذا التقرير يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته، بل الحق أن القول بالموجب تسليم له وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين، وإليهم المرجع في ذلك، وحينئذ لا يتجه عده من مبطلات العلة، قلت: وبه صرح إمام الحرمين في (البرهان) فقال متى تحقق انقطع المستدل، وليس اعتراضاً في الحقيقة لاتفاق الخصمين فيه على صحة العلة، وإنما ينشأ من اعتناء المعلل بالموجب.

(ص): ومنها القدح في المناسبة وفي صلاحية إفضاء الحكم إلى المقصود، وفي الانضباط وفي الظهور، وجوابها بالبيان. (ش): هذه أربعة قوادح في العلة، وإنما جمعها المصنف في موضع واحد لاختصاصها بالمناسبة. أولها: القدح في المناسبة هو إبداء مفسدة راجحة أو مساوية لما مر أن المناسبة تنخرم بالمعارضة، وهذه المسألة عين تلك، فلا فرق وإنما أعيدت لتعداد صور القوادح وجوابه: بيان رجحان تلك المصلحة على تلك المفسدة تفصيلاً أو إجمالاً. ثانيها: القدح في صلاحية إفضائه إلى المصلحة المقصودة من شرع الحكم له كما لو علل حرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب المؤدي إلى الفجور فإذا تأبد التحريم انسد باب الطمع المفضي إلى مقدمات الهم، فيقول المعترض، بل سد باب النكاح أفضى إلى الفجور والنفس مائلة إلى الممنوع، وجوابه: بيان أن التأبيد يمنع عادة من ذلك لانسداد باب الطمع، فيصير بتطاول الأمر وتماديه كالطبيعي بحيث لا يبقى المحل مشتهى كالأمهات. ثالثها: كون الوصف غير منضبط مثل الجرح يجعل علة للفطر، والمشقة في القصر، والزجر في التعذير فإنها لا تتميز، وتختلف بالأشخاص والأحوال والزمان، ولا يمكن تعيين القدر المقصود منها، وجوابه: ببيان أنه منضبط إما بنفسه كما يقول في المشقة والمضرة: إنه منضبط عرفاً، وإما بوضعه كالمشقة في السفر والزجر بالحد.

ورابعها: كون الوصف غير ظاهر كالرضى في العقود، والقصد في الأفعال الدالة على الإزهاق في وجوب القصاص فإن الحكم الشرعي خفي، والخفي لا يعرف الخفي، وجوابه: أن يبين ظهوره بصفة ظاهرة كضبط الرضى بما يدل عليه من الصيغ، وضبط القصد بفعل يدل عليه عادة كاستعمال الجارح والمثقل، ولما اشتركت هذه القوادح في أن جوابها بالبيان بالمعنى السابق جمع المصنف في الجواب بذلك. (ص): ومنها الفرق، وهو راجع إلى المعارضة في الأصل أو الفرع، وقيل إليهما معاً والصحيح أنه قادح، وإن قيل: إنه سؤالان. (ش): من القوادح في العلة الفرق بين الأصل والفرع فينقطع به الجمع كقول الحنفي في التبييت (39/ك) صوم عين فيتأدى بالنية قبل الزوال كالنفل فيقال: ليس المعنى في الأصل ما ذكرت، بل إن النفي يبنى على السهولة، فجاز بنية متأخرة بخلاف الفرض، وهو في التحقيق راجع إلى سؤال المعارضة في الأصل أو الفرع فحكمه رداً وقبولاً حكمها، واستغنى المصنف بذلك عن التعرض لتعريفه،

وفي جواب المستدل عنه وعند كثير من المتقدمين: هو معارضة في الأصل والفرع معاً، حتى لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقاً وذكر إمام الحرمين أنه وإن اشتمل على معارضة، لكن ليس المقصود منه المعارضة، وإنما الغرض منه المناقضة للجمع، فالكلام في الفرق وراء المعارضة وخاصيته وسر نفيه تناقض أصل الجمع، وقد رده من يقبل المعارضة، وأشار بقوله: والصحيح إلى أنه اختلف في قبوله على قولين: أحدهما: أنه مردود فلا يكون قادحاً وعزاه ابن السمعاني للمحققين، وقال: إنه ليس مما يمس العلة التي نصبها المعلل بوجه ما ووجهه غيره بأن الوصف الواقع فرقاً إن استقل بالمناسبة فهو علة أخرى ولا تناقض بينهما، وإن لم يستقل، بل كان محل المصلحة، فلا حاجة إلى هذه الزيادة، بل المستقل هو المعتبر وأصحهما: أنه مقبول لأنه على أي وجه ورد يوهن غرض المستدل من الجميع، ويبطل مقصوده، وذكر الشيخ أبو إسحاق في (الملخص): أنه أفقه شيء يجري في النظر، وبه يعرف فقه المسألة،

وذكر إمام الحرمين أنه الذي عليه جماهير الفقهاء لأن شرط علة الخصم خلوها من المعارض، والحق أنه إن كان معارضة في الفرع فهو قادح قطعاً، وإن كان في الأصل انبنى على التعليل بعلتين: فمن منع رآه اعتراضاً قادحاً وإلا للزم تعدد العلة، ومن لم يمنعه لم ير ذلك قادحاً، إذ لا امتناع في إبداء معنى آخر، واجتماع علتين القدر المشترك والتعيين الخاص وقوله: وإن قيل إنه سؤالان، إشارة إلى الخلاف في أنه سؤال واحد أو سؤالان فقال ابن سريج: إنه سؤالان لاشتماله على معارضة علة الأصل بعلة، ثم معارضة علة الفرع بعلة مستنبطة في جانب الفرع، وقيل: سؤال واحد لاتحاد المقصود منه، هو قطع الجمع فإن قلنا بهذا: فهو مقبول قطعاً، وإن قلنا: سؤالان ففي قبوله خلاف فمنهم من منعه لجمعه بين أسئلة مختلفة المراتب، فإنه منع لعلة الأصل، فهو سؤال مستقل وإبداء لعلة أخرى موجودة في الأصل، وهو المعارضة في الأصل، وموجودة في الفرع وهي المعارضة في الفرع، وكل واحد منها سؤال مستقل فلا وجه للجمع فينبغي أن يورد كل سؤال على حياله، والصحيح (120/ز) القبول، وجاز الجمع بينهما لأنه أضبط للغرض، وأجمع لشعب الكلام، وقال إمام الحرمين: حاصل القول في مذهب الجدليين يؤول إلى ثلاثة مذاهب: أحدها: رده، وإنما يستمر مع القول برد المعارضة في الأصل والفرع وهو

مذهب ساقط. والثاني: ويعزى إلى ابن سريج واختاره الأستاذ أبو إسحاق أن الفرق ليس سؤالاً على حياله، وإنما هو معارضة معنى الأصل بمعنى، ومعارضة الفرع بعلة مستقلة، ومعارضة العلة بعلة مقبولة وإن تردد في معارضة. والثالث: وهو المختار عندنا وارتضاه كل من ينتمي إلى التحقيق أنه صحيح مقبول، وإن اشتمل على معنى معارضة الأصل ومعارضة علة الفرع بعلة، فليس المقصود منه المعارضة، بل مناقضة الجمع إذا علمت هذا فالقائل بأنه سؤالان لم يقبله على أنه فرق بل معارضة، فكلام المصنف ينخدش بهذا. (ص): وأنه يمتنع تعدد الأصول للانتشار، وإن جوز علتان. (ش): القائلون بأنه من القوادح اختلفوا في أنه هل يجب على الفارق نفيه عن الفرع فمنهم: من أوجبه لأن قصده افتراق صورتين، وقيل: لا يجب، وقيل: بالتفصيل إن صرح في أفراد الفرق بالافتراق بين الأصل والفرع فلا بد من نفيه عنه، وإن لم يصرح بل قصد المعارضة، ودليله غير تام فلا، وقال المقترح: إنه أقرب إلى الصواب، هذا إذا كان المقيس عليه واحداً منهما وهو المختار عند المصنف، وإن جوزنا علتين، ومنهم من جوز ذلك لما فيه من تكثير الأدلة هو أقوى في إفادة الظن. (ص): قال المجيزون: ثم لو فرق بين الفرع وأصله منها كفاه وثالثها

إن قصد الإلحاق بمجموعها (ثم في اقتصار المستدل على جواب أصل واحد قولان). (ش): المجوزون للتعداد اختلفوا في أنه إذا فرق المعترض بين واحد وبين الفرع هل يكفيه ذلك أم لا؟ والأصح كما قاله الهندي: الاكتفاء، لأن إلحاق الفروع بتلك الأصول بأسرها غرض المستدل وإلا لم يعدده، وهو غير حاصل ضرورة أنه لم يكن ملحقاً بالأصل الذي فرق المعترض بينه وبين الفرع فلم يكن ملحقاً به بأسرها. والثاني: لا يكفيه بل يحتاج إلى أن يفرق بين الفرع وبين كل واحد من تلك الأصول ثم اختار الهندي تفصيلاً. ثالثاً: وهو أنه إن كان غرض المستدل من الأقيسة المتعددة إثبات المطلوب بصفة الرجحان، وغلبة الظن المخصوص، فالفرق المذكور قادح في غرضه ومحصل لغرض المعترض، وإن كان غرضه إثبات أصل المطلوب أو إثباتها برجحان ما فيها في قياس واحد أو التزامه سليماً عن الفرق لم يقدح ذلك في غرضه، ولا يحصل به غرض المعترض.

(ص): ومنها فساد الوضع بأن لا يكون الدليل على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتيب الحكم كتلقي التخفيف من التغليظ والتوسيع من التضييق والإثبات من النفي مثل: القتل جناية عظيمة فالتكفير كالردة. (ش): ينبغي أن تعرف أولاً وضع القياس حتى تسهل معرفة فساد وضعه، فإن معرفة الضد تعين على معرفة الضد الآخر، وصحة وضع القياس أن يكون (40/ك) على هيئة صالحة، بحيث يترتب عليه ذلك الحكم المطلوب إثباته، وحينئذ ففساد الوضع أن يكون على هيئة غير صالحة لأن يترتب عليه ذلك الحكم، سواء كان على هيئة تصلح لأن يترتب عليه ضد ذلك الحكم من النفي أو الإثبات أو التخفيف أو التغليظ كما إذا كان المذكور في القياس وصفاً مشعراً بضد ذلك الحكم أو لم يصلح لذلك أيضاً كما إذا كان المذكور في القياس وصفاً لا يصلح للعلية كالطردي فمثال تلقي التخفيف من التغليظ: قول الحنفي القتل العمد جناية عظيمة فلا يجب فيه الكفارة، كما في غيره من الكبائر نحو الردة والفرار من

الزحف، فإن كونه جناية عظيمة يناسب التغليظ لا التخفيف، ومثال التوسيع من التضييق: كقولهم في أن الزكاة على التراخي مال وجب على وجه الإرفاق لدفع الحاجة، فكان على التراخي كالدية على العاقلة، فإن كونه وجب لدفع الحاجة يقتضي أن يكون واجباً على الفور لا التراخي ومثال الإثبات من النفي: قولنا في بيع المعاطاة في المحقرات: بيع لم يوجد فيه سوى الرضى فوجب أن لا ينعقد كما في غير المحقرات، فإن حصول الرضى مما يناسب الانعقاد لا عدمه.

(ص): ومنه كون الجامع ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم. (ش): أي أن المقيس عليه يشعر بنقيض الحكم كقول الحنفي في تنجيس سؤر السباع: سبع ذو ناب فكان سؤره نجساً كالكلب فيقول: علقت على العلة ضد مقتضاها لأن كونه سبعاً علة للطهارة بدليل أنه صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار قوم فأجاب دون دار آخرين، فقال: ((إن في دراهم كلباً)) قيل: وفي دار الذين أجبتهم هرة، فقال: ((الهرة سبع)) فجعل السبع علة للطهارة. واعلم أن ابن الحاجب لم يذكر لفساد الوضع غير هذا القسم فكأن المصنف

قصد التنبيه على الاعتراض عليه في اقتصاره على نوع منه، وتفسيره الكل بالجزء، وقال إمام الحرمين في (البرهان): فساد الوضع نوعان: أحدهما: بيان أن القياس مخالف لمتمسك تقدم عليه لمخالفة النص. والثاني: أن يشعر المعنى بنقيض الحكم، وهو أوضح فساداً من الطرد. (ص): وجوابهما بتقرير كونه كذلك. (ش): أي جواب النوعين بتقرير المدعى أما في الأول: فلأنه قد يكون للوصف وجهتان يناسب بإحداهما التغليظ، والأخرى التخفيف، وأما الثاني فبأن يمنع كون علته تقتضي نقيض ما علق عليه، أو نسلم ذلك، ولكن تبين وجود مانع في أصل المعترض. (ص): ومنها فساد الاعتبار بأن يخالف نصاً أو إجماعاً، وهو أعم من فساد الوضع وله تقديمه على المنوعات وتأخيره. (ش): النص يشمل الكتاب والسنة، مثال ما خالف الكتاب: (121/ز) قولنا: في التبييت صوم مفروض فلا يصح بنية من النهار كالقضاء، قال: هذا فاسد الاعتبار لمخالفة قوله تعالى: {والصائمين والصائمات} فإنه يدل على أن كل من صام يحصل له الأجر العظيم وذلك يستلزم الصحة.

ومثال ما خالف السنة: قولنا: لا يصح السلم في الحيوان لأنه عقد يشتمل على الضرر فلا يصح كالسلم في المختلطات فيقال: هذا فاسد الاعتبار لمخالفته ما روي أنه صلى الله عليه وسلم رخص في السلم ومثال ما خالف الإجماع، قول الحنفي: لا يجوز للرجل أن يغسل زوجته لأنه يحرم النظر إليها كالأجنبية فيقال: هذا فاسد الاعتبار لمخالفته الإجماع السكوتي وهو أن علياً

رضي الله عنه غسل فاطمة رضي الله عنها. واعلم أن اقتصار المصنف على تفسيره المخالفة بالنص أو الإجماع غير واف بحقيقته، بل منه كما قال الهندي وغيره: أن يكون أحد مقدماته مخالفاً للنص أو الإجماع، أو كان الحكم مما لا يمكن إثباته بالقياس كإلحاق المصراة، بغيرها من المعيب في حكم الرد وعدمه ووجوب بدل لبنها الموجود في الضرع، لأن هذا القياس مخالف لصريح النص الوارد فيها، أو كان تركيبه مشعراً بنقيض الحكم المطلوب سمي بذلك لأن اعتبار القياس مع مخالفته النص أو الإجماع اعتبار له مع دليل أقوى

منه، وهو اعتبار فاسد لحديث معاذ فإنه أخر الاجتهاد عن النص وقوله: (وهو أعم جواب= عن سؤال مقدر، وهو أن هذا النوع يؤول إلى ما قبله لاشتراكهما في أنه اجتهاد في مقابلة النص فما وجه تميزه عنه، وأجاب بأن بينهما عموم وخصوص مطلقاً، وهذا أعم فإن من جملة أقسام فاسد الاعتبار: كون تركيبه مشعراً بنقيض الحكم المطلوب، وهذا قاله الجدليون في ترتيب الأسئلة، قالوا: يقدم بعد الاستفسار سؤال فساد الاعتبار، لأنه نظر في فساد القياس من حيث الجملة، وهو قبل النظر في تفصيله، ثم سؤال فساد الوضع لأنه أخص من فساد الاعتبار، لأن فساد وضع القياس يستلزم عدم اعتبار القياس لأنه قد يكون بالنظر إلى أمر خارج عنه.

واعلم أن الأعمية ذكرها الصفي الهندي أيضاً، ولكن ظاهره على تفسيره فساد الاعتبار بما ذكرنا، وأما على تفسير المصنف لمخالفة النص أو الإجماع، وتفسير فساد الوضع بأن لا يكون على الهيئة الصالحة، وبأن يعتبر الجامع في نقيض الحكم فهذا يقتضي أن فساد الوضع أعم فلينظر، وللمستدل تقديم هذا السؤال على سؤال المنوعات لأنه لما كان فاسد الاعتبار أغنى ذلك عن منع مقدماته، وله أن يؤخره لأن المستدل يطالب أولاً بتصحيح مقدمات ما ادعاه من صحة القياس، فإذا قام به فبعد ذلك إن أمكن إثبات مقتضاه أثبت وإلا رد لعدم اعتباره.

(ص): وجوابه الطعن في سنده أو المعارضة له أو منع الظهور أو التأويل. (ش): للجواب عن هذا السؤال طرق منها: الطعن في النص الذي ادعى أن القياس على خلافه إما بمنع صحته لضعف إسناده، وإما بمنع دلالته ولهذا أطلق ابن الحاجب الطعن وقيده المصنف (41/ك) بالسند، وحمله في شرحه كلام ابن الحاجب عليه وليس كذلك. ومنها: المعارضة بنص آخر مثله حتى يتساقطا، فيسلم قياسه. ومنها: منع ظهور دلالته ما يلزم منه فساد القياس. ومنها: إن سلم ظهوره أن يدعي أنه مؤول بدليل يرجحه على الظاهر، وهذا الذي ذكره المصنف ليس للحصر.

فمنها: القول بالموجب بأن يبقيه على ظاهره، ويدعي أن مدلوله لا ينافي القياس، وغير ذلك. (ص): ومنها منع علية الوصف ويسمى المطالبة بتصحيح العلة، والأصح قبوله. (ش): من القوادح منع كون الوصف علة، وهو من أعظم الأسئلة لعمومه في كل ما يدعى عليته، ويسمى المطالبة بتصحيح العلة بل إذا أطلق في عرفهم المطالبة لم يفهم سواه، ومتى أريد غيره ذكر مقيداً قيل المطالبة بكذا، واختلف فيه فقيل لا يقبل وإلا أدى إلى الانتشار وعدم الضبط، والأصح نعم وإلا أدى الحال إلى اللعب في التمسك بكل وصف طردي. (ص): وجوابه بإثباته. (ش): جواب هذا السؤال بأن يثبت المستدل علية الوصف بأحد المسالك من

الإجماع أو النص والمناسبة والسبر غيره. (ص): ومنه منع وصف العلة كقولنا في إفساد الصوم بغير الجماع الكفارة للزجر عن الجماع المحذور في الصوم فوجب اختصاصها به كالحد فيقال: بل عن الإفطار المحذور منه. (ش): من جملة المنوع القوية منع وصف العلة، كقولنا: في إفساد صوم رمضان بالأكل والشرب: لا يوجب الكفارة لأنها شرعت زجراً عن ارتكاب الجماع الذي هو محذور الصوم، فوجب أن يختص به كالحد، فيقول المعترض: لا نسلم أن الكفارة شرعت زجراً عن الجماع الذي هو محذور الصوم لخصوصيته بل زجراً عن الإفطار الذي هو محذور الصوم، وهو شامل للموضعين أعني الجماع والإفطار.

(ص): وجوابه تبيين اعتبار الخصوصية، وكأن المعترض ينقح المناط والمستدل يحققه. (ش): جوابه أن يبين أن ذلك الوصف حاصل في العلة، لأنه عليه الصلاة والسلام رتب الكفارة على الجماع، لأن الأعرابي لما سأله عن ذلك، أوجب عليه الكفارة فكان نازلاً منزلة قوله: جامعت في نهار رمضان فكفر، وترتب الحكم على الوصف يشعر بالعلية، فوجب أن تكون العلة هي الجماع بخصوصيته لا الإفطار بعمومه، لأنه ترتب على عموم الإفطار، وكأن المعترض ينقح المناط لأنه حذف خصوص الجماع، وأناط بالأعم وهو الإفطار: والمستدل يحققه، أي يحقق وصف الخصوصية المتنازع فيه، ولك أن تقول: كل منهما من مسالك العلة وذلك يؤدي إلى التوقيف للتعارض، وجوابه أن التحقيق يترجح لأنه يرفع النزاع. (ص): ومنع حكم الأصل، وفي كونه قطعاً للمستدل مذاهب ثالثها: قال: الأستاذ: إن كان ظاهراً وقال الغزالي: يعتبر (122/ز) عرف المكان، وقال أبو إسحاق الشيرازي لا يسمع. (ش): مثال منع حكم الأصل: قول الشافعي: الخل مائع لا يرفع حكم الحدث، فلا يزيل حكم النجاسة كالدهن، فيقول الحنفي: لا أسلم الحكم في

الأصل: فإن الدهن عندي مزيل لحكم النجاسة، واختلفوا في أن هذا بمجرده، هل يكون قطعاً للمستدل؟ على مذاهب: أصحها: ليس قطعاً له، لأنه منع مقدمة من مقدمات القياس، فيمكن إثباته كسائر المقدمات. والثاني: ينقطع لأنه انتقال من حكم الفرع إلى حكم الأصل فلا يتم مقصوده فينقطع. والثالث: إن كان المنع جلياً بحيث يعرفه أكثر الفقهاء صار منقطعاً في بناء الفرع عليه، لأنه بنى المختلف فيه على المختلف فيه وإن كان المنع خفياً لا يعرفه إلا الخواص فلا، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق، نقل ابن برهان في (الأوسط) عنه أنه استثنى من الجلي ما إذا تقدم منه في صدر الاستدلال بهذه الشريطة بأن يقول:

إن سلمت، وإلا نقلت الكلام إليه فلا يعد منقطعاً وهذا وارد على نقل المصنف. والرابع: يتبع في ذلك عرف المكان فإن عدوه منقطعاً فذاك وإلا لم ينقطع، قالوا: وللجدل عرف ومراسم في كل مكان فيتبع، ونقل عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أن سؤال المنع لا يسمع ولا يجب عليه ذكر الدلالة على الحكم أيضاً، بل له أن يقول: أنا قست على أصلي، وهو بعيد، لأن القياس على أصل غير ثابت حكمه عند الخصم لا بطريق الاعتقاد ولا بطريق الدلالة على علية، لا ينهض دليلاً على الخصم، نعم يستقيم ذلك إذا فرع على مذهب نفسه، لكن لا يتصور في ذلك منع، ولا تسليم وما نقله المصنف عن الشيخ أبي إسحاق تابع فيه ابن الحاجب وغيره، ولكن الموجود في الملخص له سماع المنع، ثم كان ينبغي أن يعكس فيحكي الخلاف في أنه هل يسمع أم لا؟ وإذا قلنا: بالسماع فهل ينقطع أم لا؟ (ص): فإن دل عليه لم ينقطع المعترض على المختار، بل له أن يعود ويعترض. (ش): إذا قلنا إن المنع يسمع وعلى المستدل إقامة الدليل عليه، فإذا أقام الدلالة، فقيل ينقطع المعترض بمجرد الدلالة لأن اشتغاله بالاعتراض على دليل المنع خارج عن المقصود الأصلي، والمختار أنه لا ينقطع، بل للمعترض أن يعود ويعترض على دليل المنع محل المنع، إذ لا يلزم من وجود صورته دليل صحته. (ص): وقد يقال: لا نسلم حكم الأصل، سلمنا ولا نسلم أنه مما يقاس فيه، (سلمنا ولا نسلم أنه معلل، سلمنا ولا نسلم أن هذا الوصف علته، سلمنا ولا نسلم وجوده فيه) سلمنا ولا نسلم أنه متعد، سلمنا ولا نسلم وجوده في الفرع.

(ش): هذه سبع اعتراضات، ثلاثة تتعلق بالأصل، ثلاثة بالعلة وواحدة بالفرع، وعلم من إيرادها هكذا وجوب الترتيب، لأنه المناسب للترتيب الطبيعي فيقدم من الاعتراضات ما يتعلق بالأصل من منع حكمه أو كونه مما لا يقاس عليه، أو ليس بمعلل وغيره، ثم بعده العلة لأنها كمستنبطة منه فتكون فرعاً عليه فيمنع وجودها في الأصل، أو كونه غير متعد أو ظاهر أو منضبط، ثم بعد ما يتعلق بالفرع لانبنائه عليهما كمنع وجود العلة في الفرع، ومخالفة حكمه حكم الأصل وسؤال القلب وغيره. (ص): (فيجاب بالدفع بما عرف من الطرق) ومن ثم عرف جواز إيراد المعارضات من نوع، وكذا من أنواع وإن كانت مترتبة أي يستدعي تاليها تسليم متلوه، لأن تسليمه تقديري، وثالثها التفصيل (42/ك). (ش): علم مما سبق أمران. أحدهما: الترتيب وقد ذكرناه. وثانيهما: جواز إيراد المعارضات، وتفصيل القول بأنها كانت من نوع واحد بأن يورد نقوضاً كثيرة، أو معارضات في الأصل والفرع، فيجوز بلا خلاف، ولا يلزم منه تناقض، ولا انتقال من سؤال إلى آخر، بل الكل بمنزلة سؤال واحد، وإن كانت من أنواع مختلفة كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة نظر، فإن كانت غير مرتبة أي لا يستدعي تاليها تسليم متلوه كالنقض مع عدم التأثير فإن كلا منهما يقدح

في أن الوصف ليس بعلة ولا ترتيب بينهما إذ يجوز أن يقال: ما ذكرت من الوصف ليس بعلة لأنه منقوض أو غير مؤثر، فالجمهور على جواز التعدد لما سبق، ومنع منه أهل سمرقند للانتشار وأوجبوا الاقتصار على سؤال واحد، قال الهندي: ويلزمهم ذلك في النوع الواحد، ولهم أن يفرقوا فإن الانتشار في المختلفة أكثر منه في المتفقة، فلا يلزم من ذلك المنع عند الكثرة المنع عند القلة، وإن كانت مرتبة، أي يستدعي تاليها تسليم متلوه كالمعارضة مع منع وجود الوصف في الأصل، فإن المعارضة إنما تكون بعد تسليم وجود الوصف في الأصل، فالجمهور على المنع لما فيه من التسليم المتقدم، فإن السؤال الثاني يتضمن تسليم الأول، والثالث يتضمن تسليم الثاني، وهلم جرا، لأنك تقول: لا نسلم ثبوت الحكم في الأصل، ولئن

سلمناه، فلا نسلم أن العلة فيه ما ذكره ففي الآخر تسليم الأول فتعين الآخر للجواب، فلا يستحق ما قبله الجواب، والمختار الجواز قال الهندي وهو الحق وعليه العمل في المصنفات، لأن التسليم ليس بتحقيقي بل تقديري، ومعناه ولو سلم الأول فالثاني وارد وذلك لا يستلزم التسليم في نفس الأمر، وعلى هذا فيجب ترتيب الأسئلة، وإلا كان إيرادها بلا ترتيب منعاً بعد تسليم، فإنك لو قلت: لا نسلم أن الأصل معلل بكذا فقد سلمت ضمناً ثبوت الحكم، فكيف تمنعه بعد؟ ومن هذا الخلاف في المسألتين، أعني في الأنواع المترتب وغيرها يجمع مذاهب. ثالثها: التفصيل فيجوز في المترتبة، ويمنع في غيره. (ص): ومنها اختلاف الضابط في الأصل والفرع لعدم الثقة بالجامع وجوابه: بأن القدر المشترك أو بأن الإفضاء سواء، لا إلغاء التفاوت. (ش): حاصل (123/ز) هذا السؤال يرجع إلى منع وجود علة الأصل في الفرع، مثاله: قولنا في شهادة الزور بالقتل: تسببوا بالشهادة إلى القتل عمداً فوجب عليهم القصاص كالمكره فيقول المعترض: الضابط في الفرع الشهادة، وفي

الأصل الإكراه، فلا يتحقق التساوي بينهما في ضبط الحكمة، فلا يصح الإلحاق ولم يحك المصنف تبعاً لابن الحاجب خلافاً في كونه قادحاً، وحكى أبو العز في (شرح المقترح) في قبوله قولين، قال: ومدار الكلام فيه ينبني على شيء واحد وهو أن المعتبر في القياس القطع بالجامع أو ظن وجود الجامع كاف، وينبني على ذلك القياس في الأسباب، فمن اعتبر القطع منع القياس فيها، إذ لا يتصور عادة القطع بتساوي المصلحتين، فلا يتحقق جامع بين الوصفين باعتبار يثبت حكم السببية بكل واحد منهما، ومن اكتفى بالظن صحح ذلك، إذ يجوز تساوي المصلحتين، فيتحقق الجامع، ولا يمنع القياس ولم يذكر المصنف اختلاف جنس المصلحة، كما فعل ابن الحاجب بهذا السؤال عنه، لأن تعدد الضابط في الأصل والفرع تارة يكون مع اتحاد المصلحة، وتارة يكون مع اختلافها، فإذا قدح مع الاتحاد فلأن يقدح مع اختلاف الجنس في التأثير فإنه يحصل جهتين في التفاوت، جهة في كمية المصلحة ومقدارها، وجهة في إفضاء ضابطها إليها، فالتساوي يكون أبعد. وجوابه بأن يبين أن الجامع هو عموم ما اشترك فيه الضابطان بين التسبب المضبوط عرفاً، وإما بأن يبين أن إفضاء الضابط في الفرع إلى المقصود مثل: إفضاء ضابط الأصل إليه أو أرجح وهو معلوم من اقتصار المصنف على

المساواة من باب أولى، وقوله ولا إلغاء التفاوت أي لا يفيد قوله إن التفاوت في الصورتين ملغى، مراعاة لحفظ النفس كما ألغي التفاوت بين قطع الأنملة إذا أسرى إلى النفس، وقطع الرقبة في وجوب القصاص لحفظ السبب، وإن كان قطع الرقبة أشد إفضاء، وإنما لم يفده ذلك لأنه من إلغاء تفاوت القابل إلغاء كل تفاوت. (ص): والاعتراضات راجعة إلى المنع. (ش): قال الجدليون: الاعتراضات ترجع إلى المنع في المقدمات أو المعارضة في الحكم لأنه متى قصد الجواب عنها تم الدليل، ولم يبق للمعترض مجال فيكون ما سواهما من الأسئلة باطلاً، فلا يسمع، وقال المصنف: لقائل أن يقول كلها راجعة إلى المنع وحده، لأن المعارضة منع العلة عن الجريان. قلت: وهذا صار إليه بعض الجدليين، فقال: إن المعارضة ترجع إلى المنع فعلى هذا تكون سائر الاعتراضات ترجع إلى المنع، واستثنى بعضهم الاستفسار لأنه طلب بيان المراد من اللفظ ويمكن رجوعه إلى المنع، لأن الكلام إذا كان مجملاً لا يحصل غرض المستدل إلا بتفسيره، فالمطالبة بتفسيره يستلزم منع تحقق الوصف، ومنع لزوم الحكم عنه.

(ص): ومقدمها الاستفسار وهو طلب ذكر معنى اللفظ حيث غرابة أو إجمال. (ش): هو استفعال من الفسر وهو لغة: طلب الكشف والإظهار، ومنه التفسير لأنه يفسر عن باطن الألفاظ، وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف فأما الغرابة فتارة تكون بحسب الاصطلاح، بأن يذكر في القياس الفقهي لفظ الدور والتسلسل والهيولي والمادة والمبدأ، والغاية ونحوه من اصطلاح المتكلمين، فيقول مثلاً: في شهود القتل إذا رجعوا لا يجب القصاص، لأن وجوب القصاص تجرد مبدؤه عن غاية مقصودة فوجب أن لا يثبت، فإن لفظ المبدأ، والغاية باصطلاح المتكلمين أشبه منهما باصطلاح الفقهاء، إلا أن يعلم من خصمه معرفة ذلك فلا غرابة، وتارة يكون

بحسب الوضع (43/ك) بذكر وحشي الألفاظ، كقوله: لا يحل السيد يعني الذئب فيقال: ما تعني بذلك، وأما الإجمال، فلأنه لا يفيد معنى معيناً، مثل أن يقول يجب على المطلقة أن تعتد بالأقراء فيقول، ما تعني بالأقراء، وقول المصنف: حيث غرابة أو إجمال لا ينحصر في ذلك، وقد قال القاضي: ما ثبت فيه الاستبهام صح عنه الاستفهام، حكاه ابن الحاجب في مختصره الأكبر عنه، وإنما كان هذا مقدم الاعتراضات لأنه إذا لم يعرف مدلول اللفظ استحال منه المنع أو المعارضة، وكان شيخنا عماد الدين الإسنوي رحمه الله يقول: في كون الاستفسار من جملة الاعتراضات: نظر، إذ الاعتراض: عبارة عما يخدش به كلام المستدل،

والاستفسار ليس من هذا القبيل، بل هو معرف المراد، ومبين له ليتوجه عليه السؤال، فإذا هو طليعة السؤال، وليس بسؤال، قلت: وحكى الهندي عن بعض المتأخرين من الجدليين أنه أنكر هذا السؤال. (ص): والأصح أن بيانهما على المعترض ولا يكلف بيان تساوي المحامل، ويكفيه أن الأصل عدم تفاوتهما. (ش): على المعترض بيان اشتمال اللفظ على إجمال أو غرابة ليصح منه الاستفسار فتثبت، الغرابة بعدم شهرته لغة أو شرعاً، وإجماله بصحة وقوعه على متعدد، وقيل بل على المستدل، لأن شرط الدليل عدم إجماله أو غرابته فليكن عليه، والصحيح الأول، لأن الأصل، عدم الإجمال والغرابة، فليبرهن عليه المعترض، ولا يكلف بيان تساوي المحامل، أي تساوي إطلاق اللفظ على المعاني المتعددة من المقصودة وغيره لأنه يعسر عليه ذلك، وقوله: ويكفيه أي في البيان أن يقول:

التفاوت بينهما يستدعي ترجيحاً بأمر والأصل عدم ذلك الأمر وهذا تابع فيه ابن الحاجب فإنه قال: إنه جيد، وفي (جودته نظر فإنا لا نسلم أن الأصل عدمه، بل وجوده لأن ذلك الأمر المرجح هو الأصل عدم الإجمال) والأصل وجوده فإذا ثبت أن الأصل عدم الإجمال فيثبت مقابله، وهو الظهور، فتسقط جودة هذا الدليل ويبقى سؤال الاستفسار وارداً. (ص): فيبين المستدل عدمهما أو يفسر اللفظ بمحتمل قيل: وبغير محتمل، وفي قبول دعواه (124/ ز) الظهور في مقصده دفعاً للإجمال لعدم الظهور في الآخر خلاف. (ش): جواب المستدل أن يبين عدم الإجمال والغرابة بطريقه فيثبت ظهور اللفظ في مقصده بالنقل عن أهل اللغة أو الشرع أو بالعرف، أو يفسره بمحتمل في اللغة أو العرف، فإن فسره بما لا يحتمل ذلك، وهي المسألة المعروفة بالعناية، فقد: قيل يقبل لأن غاية الأمر أنه ناطق بلغة جديدة قال الجوادي: وهو الحق

والأصح عند كثيرين المنع لأن مخالفة ظاهر اللفظ من غير قرينة بعيد عن الإرشاد، والمناظرة ينبغي أن تكون على وجه يحسم مادة العناد، وفي قبوله فتح باب لا ينسد ولو قال المستدل الأصل خلاف الإجمال فيلزم ظهور اللفظ فيما قصدت لأنه غير ظاهر في معنى آخر اتفاقاً إذ هو مجمل عندك، وعندي ظاهر فيما ادعيته دون غيره فقد صوبه بعض الجدليين دفعاً للإجمال، ومنعه آخرون: لأنه لا يلزم من عدم ظهوره في الآخر ظهوره في مقصوده، لجواز عدم الظهور فيهما جميعاً. (ص): ومنها التقسيم: وهو كون اللفظ بين أمرين أحدهما: ممنوع والمختار وروده. (ش): التقسيم في الاصطلاح، تردد اللفظ بين احتمالين متساويين أحدهما: مسلم لا يحصل المقصود، والآخر ممنوع وهو يحصل المقصود، وأهمل المصنف

تبعاً لابن الحاجب كون الممنوع هو المحصل للمقصود ولا بد له منه، لأن كلاهما لو كانا مسلمين يحصلان المقصود أو لا يحصلانه لم يكن للتقسيم معنى لأن المقصود حاصل على التقديرين أو غير حاصل على التقديرين، نعم لو كانا يحصلان المقصود ويرد على أحدهما من القوادح بخلاف ما يرد على الآخر، كان من التقسيم أيضاً لأنه له حينئذ غرضاً صالحاً في التقسيم. مثاله: أن يستدل على ثبوت حصول الملك للمشتري في زمن الخيار بأنه وجد سبب ثبوت الملك للمشتري، فوجب أن يثبت وتبين وجود السبب بالبيع الصادر من الأهل المضاف إلى المحل، فيعترض بأن بالسبب مطلق البيع، أو البيع المطلق الذي لا شرط فيه، والأول ممنوع، والثاني مسلم، لكنه مفقود في صورة

النزاع، ضرورة أنه مشروط بالخيار. وقول المصنف: متردد بين أمرين (أي على السواء، إذا لو كان ظاهراً في أحدهما وجب تنزيله على ما هو الظاهر فيه وقوله (بين أمين) ليس لشرط، بل إن كان متردداً بين ثلاثة فصاعداً جاز، كما لو استدل في المرأة بأنها بالغة عاقلة، فيصح منها إنكاح، كالرجل، فيقول المعترض: ما الذي تعني بالعاقلة؟ التي لها التجربة، أو التي لها حسن الرأي والتدبير، أو التي لها عقل غريزي، والأول والثاني ممنوع، والثالث مسلم، ولكن لم يكف، إذ للصغيرة عقل غريزي، ولا يصح منها النكاح، ثم اختلفوا في هذا الاعتراض، فقيل: لا يرد، وسؤال الاستفسار كان، والمختار وروده لكن بعدما يبين المعترض الاحتمالين.

(ص): وجوابه أن اللفظ موضوع ولو عرفا أو ظاهر ولو بقرينة في المراد. (ش): جواب هذا السؤال بأمور: أحدها: أن يبين أن اللفظ موضوع لهذا المعنى المقصود إثباته بالنقل عن أئمة اللغة، أو بالاستعمال، فإنه دليل الحقيقة. ثانيها: إن لم يمكن دعوى ذلك ادعى أنه ظاهر بحسب عرف الاستعمال كما في الألفاظ الشرعية والعرفية العامة والمجازات الراجحة بعرف الاستعمال. ثالثها: أن يدعي ظهور أحد احتمالي اللفظ بسبب ما انضم إليه من القرينة من لفظ المستدل إن كان هناك قرينة لفظية وإلا فيدعي قرينة عقلية أو حالية. فائدة: لا نظن أن المصنف أهمل التركيب فقد تقدم في شروط حكم الأصل: أنه راجع إلى منع حكم الأصل أو منع العلة أو وجودها، ولا التعدية، وتعدد الوضع واختلاف جنس المصلحة لرجوعها إلى المعارضة، فإنها معارضة خاصة. (ص): ثم المنع لا يعترض الحكاية بل الدليل، إما قبل تمامه لمقدمة منه أو بعده: والأول إما مجرد أو مع المستند كلا نسلم ولم لا يكون كذا أو إنما يلزم كذا، لو كان كذا وهو المناقضة فإن احتيج لانتفاء المقدمة فغصب لا يسمعه المحققون، والثاني إما مع منع دليل بناء على تخلف حكمه، فالنقض

الإجمالي، أو مع تسليمه والاستدلال بما ينافي ثبوت المدلول فالمعارضة فيقول: ما ذكرت وإن دل فعندي ما ينفيه وينقلب مستدلاً. (ش): لما أنهى القوادح شرع في شرح ألفاظ يتداولها أهل الجدل، وذكر لها ضابطاً، وهو: أن المنع في الدليل إما أن يمنع قبل تمامه لمقدمة من مقدماته، أو بعده والأول إما أن يكون مجرداً عن المستند أو مع المستند وهو المناقضة، ولهذا قال الجدليون: المناقضة منع مقدمة الدليل سواء ذكر معنى المستند أو لم يذكر، قالوا: ومسند المنع هو ما يكون المنع مبنياً عليه لقوله: لا نسلم كذا أو لم لا يكون كذا، أو لا نسلم لزوم كذا وإنما يلزم هذا أن لو كان كذا، وأشار بقوله: وإن احتيج إلى تفسير الغصب أي غصب منصب التعليل، فهو عبارة عن تصدي المعترض لإقامة دليل على فساد مقدمة من مقدمات الدليل، وهو غير مسموع عند النظار لاستلزامه الخبط في البحث، نعم يتوجه ذلك من المعترض بعد إقامة المستدل الدليل على تلك المقدمة. والثاني: أي وهو المنع بعد تمامه، فإما أن يكون مع منع الدليل بناء على تخلف حكمه فهو النقض الإجمالي وإنما قيده بالإجمالي، لأن الجدليين عرفوا النقض: بتخلف الحكم عن الدليل ثم قسموه إلى إجمالي وتفصيلي فالإجمالي هو تخلف الحكم عن الدليل بالقدح في مقدمة من مقدماته (على التعيين والتفصيلي: هو تخلف الحكم عنه في مقدمة معينة من مقدماته) وإما أن يكون مع تسليم الدليل والاستدلال مما ينافي ثبوت المدلول فهو المعارضة فهي تسليم للدليل وممانعة لدلالته

(125/ز) وعلم منه أن المعارضة إنما تكون بعد تسليم الدليل، فلا يسمع منه بعدها منع، فضلاً عن سؤال الاستفسار، وتوجهه أن يقول المعترض: ما ذكره من الدليل، وإن دل على ما يدعيه فعندي ما ينفيه، أو يدل على نقيضه ويثبته بطريقته، وأشار بقوله: فينقلب مستدلاً، إلى الخلاف في قبوله فلم يقبله بعضهم لما فيه من انقلاب دست المناظرة ضرورة إذ يصير المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً، ولأن وظيفة المعترض الهدم لا البناء والصحيح قبوله، لأنها بناء بالعرض، هدم بالذات، والمستدل مدع بالذات معترض بالعرض والمعترض عكسه، فصارا كالمتخالفين مثاله: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالوجه فيعارضه قائلاً مسح فلا يسن تثليثه كالمسح على الخفين. (ص): وعلى الممنوع الدفع بدليل فإن منع ثانياً فكما مر وهكذا وهلم إلى إفحام المعلم إن انقطع بالمنوع أو إلزام المانع بالانتهاء إلى ضروري أو يقيني مشهور. (ش): (على المعلل وهو الممنوع دفع الاعتراض عنه بدليل ولا يكفيه المنع المجرد، فإن ذكر دليله، ومنع) ثانياً فكما سبق.

وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إما إلى الإقحام أو الإلزام، والإفحام عندهم عبارة عن انقطاع المستدل بالمنع أو المعارضة، والالتزام: عبارة: عن انتهاء دليل المستدل إلى مقدمات ضرورية أو يقيني مشهور، يلزم المعترض الاعتراف به ولا يمكنه جحده فينقطع بذلك، فإذا الإلزام من المستدل للمعترض، والإفحام من المعترض للمستدل. (ص): خاتمة: القيام مع الدين، وثالثها حيث يتعين. (ش): الأقوال الثلاثة غريبة جداً وقد ظفرت بها في المعتمد لأبي الحسين فقال: وأما كون القياس دين الله فلا ريب فيه إذا عنى أنه ليس ببدعة، وإن أريد غير ذلك فعند الشيخ أبي الهذيل، لا يطلق عليه، وذلك لأن اسم الدين يقع على من هو ثابت مستمر، وأبو علي الجبائي يصف ما كان واجباً منه بذلك وبأنه إيمان دون ما كان منه ندباً، والقاضي عبد الجبار يصف بذلك واجبه ومندوبه، وكلام المصنف ظاهر في ترجيح مقالة عبد الجبار والحق إن عنوا الأحكام المقصودة لأنفسها بالوجوب والندب فليس القياس كذلك، فليس بدين، وإن عنوا ما تعبدنا

به فهو دين. (ص): ومن أصول الفقه خلافاً لإمام الحرمين. (ش): شبهته أن أصول الفقه: أدلته، وأدلته إنما تطلق على المقطوع بها والقياس لا يفيد إلا الظن، وهذا ممنوع لأن القياس، قد يكون قطعياً، سلمنا لكن لا نسلم أن أصول الفقه عبارة عن أدلته فقط وهذا ممنوع سلمنا لكن لا نسلم أن الدليل لا يقع إلا على المقطوع به. (ص): وحكم المقيس، قال ابن السمعاني يقال: إنه دين الله تعالى وشرعه ولا يجوز أن يقال: قاله الله تعالى.

(ش): قال ابن السمعاني يقال: إنه دين الله تعالى أو دين رسول صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يقال: قول الله تعالى أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم. (ص): ثم هو فرض كفاية يتعين على مجتهد احتاج إليه. (ش): القياس فرض كفاية مع تعدد المجتهدين، وفرض عين على من تعين عليه الاجتهاد مع ضيق الوقت، ومندوب فيما يجوز حدوثه، ولم يحدث بعد كغيره من الأدلة الشرعية، لا سيما، وقد ورد قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} وقوله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} والاعتبار اعتبار الشيء بغيره واجراء حكمه عليه والاستنباط إخراج المعنى المودع في النص، وقول معاذ: أجتهد برأيي عند فقد الكتاب والسنة وإن كان خبر واحد تكلم في سنده، لكن العلماء تلقوه بالقبول. (ص): وهو جلي وخفي، فالجلي: ما قطع فيه بنفي الفارق أو كان

احتمالاً ضعيفاً، والخفي خلافه، وقيل: الجلي هذا، والخفي: الشبه، والواضح بينهما، وقيل الجلي الأولى، والواضح المساوي، والخفي الأدون. (ش): القياس ينقسم باعتبار القوة والضعف إلى جلي، وخفي، فالجلي ما قطع فيه بنفي الفارق أو كان احتمال الفارق فيه ضعيفاً، مثال الأول (45/ك) إلحاق الأمة بالعبد في التقويم على العتق، وكقياس الصبية على الصبي في الأمر بالصلاة، فإنا نقطع بعدم اعتبار الشرع الذكورة والأنوثة فيه، ونقطع أن لا فارق سوى ذلك، ومثال الثاني: إلحاق العمياء بالعوراء في حديث المنع من التضحية بالعوارء ونقل ابن

برهان أن فيهم من سمى الأول أجلى والثاني جلياً، والخفي: بخلافه فيهما، ومن أصحابنا من قسمه إلى ثلاثة أقسام: جلي وواضح وخفي، فالجلي الأولى، والخفي قياس الشبه، والواضح ما بينهما، وقيل: الجلي ما كان ثبوت الحكم في الفرع أولى من الأصل، والواضح ما كان مساوياً لثبوته في الأصل كالنبيذ مع الخمر، والخفي ما كان دونه كقياس اللينوفر على الأرز لجامع الطعم، وكونه ينبت في الماء وهذه أمور اصطلاحية. (ص): وقياس العلة ما صرح فيه بها، وقياس الدلالة ما جمع فيه بلازمها فأثرها فحكمها، والقياس في معنى الأصل الجمع بنفي الفارق.

(ش): ينقسم باعتبار العلة إلى: قياس علة وقياس دلالة وقياس في معنى الأصل، لأنه إما أن يكون بذكر الجامع، أو بالغاء الفارق، إن كان بذكر الجامع فذلك الجامع إن كان هو العلة فهو قياس العلة، سمي بذلك لكون المذكور في الجمع بين الأصل والفرع يتضمن العلة، كقولنا في المثقل: قتل عمد عدواني فيجب فيه القصاص، كما في صورة الجارح، ويسمى في المنطق بالقياس الجلي، وقياس التمثيل، وفي علم الكلام برد الغائب إلى الشاهد، وإن كان الجامع وصفاً لازماً من لوازم العلة، وأثراً من آثارها أو حكماً من أحكامها فهو قياس الدلالة، سمي بذلك لكون المذكور في الجمع بينهما ليس عين العلة، بل شيء يدل عليها. فمثال الأول: قياس تحريم النبيذ على تحريم الخمر بجامع الرائحة الفائحة الملازمة للشدة، المطربة، وهي ليست نفس العلة، بل هي لازمة من لوازمها. ومثال الثاني: قولنا في المثقل قتل أثم به صاحبه من حيث كونه قتلاً فوجب أن يجب فيه القصاص كالجارح، فكونه آثماً به ليس هو نفس العلة، بل أثر من آثارها. (ومثال الثالث: قولنا في قطع الأيدي) باليد قطع فوجب كوجوب الدية عليهم فيكون واجباً كوجوب القصاص عليهم، كما لو قتل جماعة واحداً

فوجوب الدية على المباشر ليس نفس العلة الموجبة للقصاص، بل هو حكم من أحكام العلة الموجبة للقصاص، بدليل اطرادها وانعكاسها، كما في القتل العمد، والخطأ وشبه العمد (126/ز)، وإن كان بإلغاء الفارق فهو قياس في معنى الأصل كإلحاق البول في الكوز، وصبه في الماء الدائم بالبول فيه، في النهي عنه، وقد سبق من المصنف تسميته تنقيح المناط، وهذه الأنواع متفق عليها بين القائلين بالقياس، لكن أبا الحسين في المعتمد لما حكى عن الشافعي رضي الله عنه تقسيم القياس إلى ما تحقق فيه العلة، وإلى ما لم يتحقق كإيجابه الجمعة على من هو خارج المصر إذا سمع النداء، ثم قال ويبعد أن يستدل على الأحكام بطريق

مستنبطة لا تحقق فيها للعلة، لأن العلة هي الطريق إلى الحكم، فما لا يتحقق لا يمكن التوصل فيه إلى الحكم، وقال إمام الحرمين في باب التراجيح: حكينا خلافاً فيما هو في معنى الأصل، هل يسمى قياساً، والمختار إن كان في اللفظ إشارة إليه فليس بقياس، كإلحاق الأمة بالعبد، وإلا فقياس، كإلحاق عرق الكلب بلعابه في التعدد والتعفير.

الكتاب الخامس: في الاستدلال

الكتاب الخامس: في الاستدلال وهو دليل ليس بنص ولا إجماع ولا قياس فيدخل الاقتراني والاستثنائي، وقياس العكس. (ش): لما انتهى الكلام في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وكان الأئمة أجمعوا على أن الأدلة لا تنحصر فيها، وأنه ثم دليل شرعي غيرها، واختلفوا في تشخيصه من استصحاب واستحسان، وغيرها، عقد هذا الكتاب لذلك، وإنما أفردوه عما قبله، لأن تلك الأدلة قام القاطع عليها ولم يتنازع المعتبرون في شيء منها فكان قيامها لم ينشأ من اجتهادهم، بل أمر ظاهر، وأما المعقود في هذا الكتاب فهو شيء قاله كل إمام بمقتضى اجتهاده وإنما سمعوه استدلالاً، لأنه في وضع اللسان عبارة عن طلب الدليل، أو اتخاذه دليلاً كاستأجر أجيراً أي اتخذه كما تقول احتج بكذا، وعرفه في الاصطلاح بما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس

والمراد بقوله ولا قياس أي شرعي بالمعنى الخاص لا نفي القياس مطلقاً وإلا يخرج عنه القياس الاقتراني والاستثنائي، وهذا خلاف عنده في الاستدلال، لا يقال: هذا تعريف بالمساوي في الجلاء والخفاء، لأنه عرف الاستدلال ببعض الأنواع وهو ما ليس بنصه إلى آخره، لدخول الاستدلال وغيره تحت العام وهو ذكر الدليل، ولا يجوز التعريف بالمساوي كما لا يعرف الإنسان بأنه ليس بحمار ولا فرس، للاستواء فيهما، لأنا نسلم تساويهما، فإن النص والإجماع والقياس كل منهما متقدم معلوم فصارت أعرف من الاستدلال فهو إذا تعريف للمجهول بالمعلوم. واعلم: أن هذا اصطلاح حادث، وقد كان الشافعي، رضي الله عنه يسمي القياس استدلالا، لأنه فحص ونظر، ويسمي الاستدلال قياساً لوجود التعليل فيه حكاه أبو الحسين في (المعتمد) وقوله: (فيدخل فيه أي في هذا التعريف أمور منها القياس الاقتراني: وهو الذي لا تذكر النتيجة ولا نقيضها في المقدمتين وهو مراد المنطقيين بقولهم: قول مؤلف من قضايا متى سلمت لزم عنه لذاته قول آخر كقولنا

العالم متغير وكل متغير حادث، فإنه متى سلم أن العالم متغير (وسلم أن كل متغير) حادث، لزم من هذا القول لذاته من غير واسطة قضية أخرى لزوماً ذهنياً، وإن كابر الخصم، وتلك القضية: العالم حادث، لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم، والتغيير (46/ك) مستلزم للحدوث، وهو حجة في العقليات على المشهور، وفي الشرعيات: اختلف فيه فقيل: ليس بحجة إلا إذا تأيد بأحد الأدلة الأربعة كما يقال: لو كان القيء ناقضاً للطهارة لكان قليله ناقضاً لأن خروج النجس يوجب الانتقاض كما في السبيلين ومنها الاستثنائي: وهو ما تكون

النتيجة أو نقيضها مذكوراً فيه كقولنا: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان ولكن ليس هذا بحيوان فليس بإنسان، قال الله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} والتقدير، والله أعلم (لو كان في خلق السماوات والأرض اجتماع آلهة لفسدتا لكن لم يتحقق الفساد، بل يقينا منتظمين، فلم يكن خالقهما آلهة وسمي هذا والذي قبله بالقياس العقلي، ويختص الاستثنائي بالشرطيات (ووضع المقدم أعني الملزوم فيه غير منتج، وكذا رفع التالي أعني اللازم) ورفع المقدم ووضع التالي غير منتج لاحتمال عموم اللازم، كما يقال: لو كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنه إنسان فهو حيوان، أو هذا ليس بحيوان فلا يكون إنساناً، أما لو قلت: فليس هذا بإنسان فلا ينتج أنه ليس بحيوان، وكذا لو قلت: هذا حيوان، فلا ينتج أنه إنسان، ولما قلنا من عموم اللازم، فالقياس إذاً لم ينتج في مادة من المواد لا نعتمد عليه في الإنتاج، مثال وضع المقدم، قوله تعالى: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاًَ} أي لو جعلنا الرسول ملكاً لجعلناه في صورة رجل، وقد أنزل جبريل عليه السلام في صورة دحية، وأخرى في صورة أعرابي، ولولا بيان محمد صلى الله عليه

وسلم لالتبس عليهم الأمر، ومثال رفع التالي قوله تعالى: {وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} أي لو كان مع الله تعالى آلهة لأفنى كل ما خلقه الآخر، ولعلا بعضهم على بعض، ومنها قياس العكس وهو إثبات نقيض حكم الشيء في شيء آخر لافتراقهما في العلة، كقولنا في الصبح: لا تقصر شفع فلا تصير وتراً كما أن الوتر لا يصير شفعاً يعني صلاة المغرب، وحكى الشيخ أبو إسحاق في (الملخص): والاستدلال به وجهين لأصحابنا أصحهما وقال إنه المذهب أنه يصح، وقد استدل به الشافعي في عدة مواضع ويدل عليه أن الله تعالى دل على التوحيد بالعكس، قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} وهذه دلالة بالعكس فدل على أن ذلك طريق

الأحكام: انتهى، وقد سبق من المصنف في العكس ذكر حديث: ((أيأتي أحدنا بضعه ويؤجر عليه)). (ص): وقولنا: الدليل يقتضي أن لا يكون كذا خولف في كذا لمعنى مفقود في صورة النزاع فيبقى على الأصل. (ش): الدليل الملقب بالنافي، كقولنا: الدليل يقتضي تحريم قتل الإنسان مطلقاً إلا أنا خالفناه في الأصل لمعنى يختص به، فيجب العمل بالدليل (127/ ز) النافي فيما عداه، وكقولنا في تزويج المرأة نفسها: الدليل النافي للصحة موجود، وما خولف لأجله مفقود فوجب استصحاب حكم الدليل وتقريره أن النكاح إذلال للمرأة في إرقاق، والإنسانية تأبى ذلك إظهاراً، لشرفها، وقد ظهر اعتبار ما ذكرناه في السفاح غير أنا خالفنا هذا الدليل فيما إذا صدر عن الرجل لكمال عقله وصحة نظره، وهذا مفقود في المرأة فوجب أن يبقى على مقتضى الدليل.

(ص): وكذا انتفاء الحكم لانتفاء مدركه، كقولنا الحكم يستدعي دليلاً وإلا لزم تكليف الغافل ولا دليل بالسبر أو الأصل. (ش): ومن أنواعه الاستدلال على انتفاء الحكم بانتفاء دليله، وتقريره: أن الحكم الشرعي لا بد له من دليل لأنه لو ثبت من غير دليل، فإما أن نكون مكلفين به أولا والثاني باطل لأنه لا معنى للحكم الشرعي إلا خطاب يتعلق بعقل المكلف والأول باطل أيضاً، لأن التكليف بالشيء من غير الشعور به، ومن غير طريق يفضي إلى الشعور به تكليف ما لا يطاق فثبت أنه لو كان ثابتاً لكان عليه دليل، والدليل إما النص أو الإجماع أو القياس، وهو هنا منتف بالسبر أو بأن يقول شيء من هذه الملازمة غير موجود، إذ الأصل عدمه، والأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا ما اختاره البيضاوي، وجعله من جملة الأدلة وهو بناء على أن النفي حكم شرعي سواء استفدناه من دليل ناف أو انتفاء دليل مثبت وقد يتعين دليلاً في بعض المسائل لإعواز سائر المسالك والاعتراض عليه بأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. (ص): وكذا قولهم وجد المقتضى أو المانع أو فقد الشرط خلافاً للأكثر. (ش): من أنواع الاستدلال ما يقتصر فيه على إحدى المقدمتين اعتماداً على شهرة الأخرى كقولنا: وجد المقتضى أي السبب فيوجد المسبب، أو وجد المنافع

فينتفي الحكم (أو فقد الشرط فينتفي الحكم) فإنه ينتج بناء على مقدمة أخرى مقدرة وهي: قولنا: كل سبب إذا وجد وجد الحكم فأهملت لظهوروها= كما في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فإنه لولا إضمار وما فسدتا لأعقلت النتيجة مثال قولنا في مسألة الأيدي باليد: وجد سبب وجوب القصاص فيجب وعلى المستدل وظيفتان: بيان السبب وبيان وجوده، وقد اختلف فيه فقيل: ليس بدليل، بل دعوى دليل، لأن معنى قولنا: وجد السبب أنه وجد الدليل، فهو دعوى وجوده، وكذا الباقي، وقيل: بل دليل، فإنه يلزم من ثبوته ثبوت المطلوب والقائلون بهذا اختلفوا في أنه استدلال أم لا؟ فقيل: إنه استدلال مطلقاً لدخوله في تعريف الاستدلال، فإنه ليس بنص ولا إجماع ولا قياس وقيل: إن أثبت السبب أو المانع أو الشرط بغير النص أو الإجماع أو القياس، فهو الاستدلال وإلا فلا والأصح عند المصنف الأول لأن أحد الثلاثة حينئذ دليل على إحدى مقدمتي) استدلال المثبت للحكم لا نفس الاستدلال.

(ص): مسألة: الاستقراء بالجزئي على الكلي إن كان تاماً، أي بالكل إلا صورة النزاع فقطعي عند الأكثر أو ناقصاً أي: بأكثر، الجزئيات فظني ويسمى إلحاق الفرد بالأغلب. (ش): من أنواع الاستدلال الاستقراء وهو ينقسم إلى تام، وناقص، فالتام: هو إثبات الحكم في جزئي لثبوته في الكلي كقولنا: كل جسم متحيز، فإنا استقرينا جميع الأجسام كذلك، وهذا هو القياس القطعي المنطقي المفيد للقطع عند الأكثرين قال الهندي، وهو حجة لا خلاف والناقص إثبات الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته من غير أن يبين العلة المؤثرة في الحكم (47/ك) وهو المسمى عند الفقهاء بإلحاق الفرد بالأعم الأغلب، وقد اختلف فيه، واختيار المتأخرين كالبيضاوي وصاحب الحاصل والهندي أنه يفيد الظن لا القطع، لاحتمال أن يكون ذلك الجزئي مخالفاً لباقي الجزئيات المستقراة وقال الإمام الرازي: الأظهر أنه لا يفيد الظن إلا بدليل منفصل ثم بتقدير الحصول يكون حجة، وبهذا يعلم أن الخلاف في

أنه هل يفيد الظن لا في أن الظن المستفاد منه هل يكون حجة؟ ومثاله تمسك أصحابنا في أن الوتر ليس بواجب، لأنه يؤدى على الراحلة (وهذه مقدمة مجمع عليها ثم قالوا: لا شيء من الواجبات يؤدى على الراحلة) وتمسكوا في هذه المقدمة بالاستقراء فقالوا: إنا استقرينا الواجبات من الصلوات أداء وقضاء فرأيناها لا تفعل على الراحلة وبقي من التقسيم إثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر بجامع، وهو القياس الشرعي، ويخالف الاستقراء الناقص فإنه حكم بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته. (ص): مسألة: قال علماؤنا: استصحاب العدم الأصلي، والعموم أو النص إلى ورود المغير وما دل الشرع على ثبوته لوجود سببه حجة مطلقاً وقيل في الدفع دون الرفع، وقيل: بشرط أن لا يعارضه ظاهر مطلقا ًوقيل: ظاهر غالب وقيل: ذو سبب ليخرج بول وقع في ماء كثير فوجد متغيراً واحتمل كون التغير به، والحق سقوط الأصل إن قرب العهد، واعتماده إن بعد. (ش): أطلق جماعة من الأصوليين الخلاف في الاستصحاب، والتحقيق أن للاستصحاب عندنا صوراً.

إحداها: استصحاب العدم الأصلي، وهو الذي عرف العقل نفيه بالبقاء على العدم الأصلي، كنفي وجوب صلاة سادسة وصوم شوال فالعقل يدل على وجوب انتفاء ذلك، لا لتصريح الشارع، لكن لأنه لا مثبت للوجوب، فيبقى على النفي الأصلي، لعدم ورود السمع وأصحابنا مطبقون على أنه حجة وفيه خلاف لغيرهم، كذا قال المصنف وغيره، لكن ذكر جماعة من أصحابنا لما ذكروا الأقوال في الأفعال قبل ورود الشرع أن فائدة الخلاف أن من حرم شيئاً أو أباحه فسئل عن

حجته فقال طلبت دليلاً في الشرع فلم أجد فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة، هل يصح ذلك أم لا؟ ثم هل يلزم خصمه المحاجة لهذا (128/ز) القول أم لا؟ ثانيها: استصحاب مقتضى العموم أو النص إلى أن يرد المخصص أو الناسخ، ولم يختلف أصحابنا في أنه حجة، ومنع ابن السمعاني من تسميته (بالاستصحاب، قال: لأن ثبوت الحكم فيه من ناحية اللفظ لا الاستصحاب. ثالثها: استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه لوجود سببه كالملك عند حصول السبب، وشغل الذمة عن قرض أو إتلاف، وهذا إن لم يكن حكماً أصلياً فهو حكم شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعاً، ولولا أن الشرع دل على دوامه إلى أن يوجد السبب المزيل أو المبرئ لما جاز استصحابه، ولا نعرف

في الثلاثة خلافاً عندنا، ولهذا قال المصنف حجة مطلقاً، ونقل عن بعض المتكلمين أنه ليس بحجة، وعزاه الإمام للحنفية، والموجود في كتبهم: المذهب أنه حجة لإبقاء ما كان لأنه ترجيح جانب الوجود في الوجود، وليس بحجة لإثبات أمر لم يكن ولهذا قالوا مسألة المفقود لا يرث ولا يورث منه، أما أنه لا يورث منه لإبقاء ما

لي= ما كان، والأصل الحياة، وأما أنه لا يرث فباعتبار أنه لم يكن مالكاً لمال مورثه قبل هذه الحالة، والأصل دوامه، إذ في الحياة شك وإلى هذا أشار المصنف بقوله: وقيل: في الدفع دون الرفع وهو حسن، وينبغي أن يخرج عندنا وجهاً مثله، فإنه لو بلغ مصلحاً لماله صالحاً لدينه ارتفع عنه الحجر، فلو عاد المفسق في الدين دون المال فقال ابن سريج: يحجر عليه كما يستدام به الحجر، وقال الجمهور: لا يحجر، ويخالف الاستدامة، لأن الحجر كان ثابتاً، والأصل بقاؤه وههنا يثبت الإطلاق والأصل بقاؤه، فلا يلزم من الاكتفاء بالفسق للاستصحاب الاكتفاء به لترك الاستصحاب، ونظيره إذا ظهر لبنت تسع لبن فارتضع منه صغير حرم ولا يحكم ببلوغها، قالوا: لأن احتمال البلوغ قائم، والرضاع كالنسب، يكفي فيه الاحتمال والمذهب وجوب فطرة العبد الغائب المنقطع الخبر، ولا يجوز إعتاقه عن الكفارة وأشار بقوله: وقيل: بشرط أن لا يعارضه، إلى أن شرط العمل

بالأصل بالاتفاق أن لا يعارضه ظاهر، فإن عارضه ظاهر، فهي قاعدة الأصل، والظاهر المشهورة في الفقه، وللشافعي فيما إذا تعارض أصل وظاهر قولان في ترجيح أحدهما على الآخر، قال ابن عبد السلام في القواعد: لا من جهة كونه استصحاباً، بل لمرجح ينضم إليه من خارج، ثم قيل: القولان يجريان دائماً، وقيل غالباً ثم قيل: الأصح الأخذ بالأصل دائماً، وقيل: غالباً، والأول هو الذي أطلق الرافعي ترجيحه في باب الاجتهاد في الأواني، قال: لأن الأصل أصدق وأضبط من الغالب الذي يختلف باختلاف الأزمان والأحوال، والنقل يعضده فقد حمل النبي صلى الله عليه وسلم أمامة في الصلاة.

وكانت بحيث لا تحترز عن النجاسة، انتهى، والتحقيق الأخذ بأقوى الظنين فيترجح الأصل جزماً إن عارضه احتمال مجرد كاحتمال حدث لمن تيقن الطهر بمجرد مضي الزمان وعلى الأصح: إن استند الاحتمال إلى سبب ضعيف عام كثياب مدمني الخمر وطين الشوارع، ويرجح الظاهر، منها: إن استند إلى سبب منصوب

شرعاً كالشهادة، تعارض الأصل براءة الذمة، وقوله: وقيل مطلقاً يشير إلى أن القائلين بالظاهر الغالب اختلفوا، فقيل: يشترط السبب، وقيل: مطلقا إلا أنه أطلق السبب، وعلى الصحيح إن كان سبباً قوياً خاصاً، كحيوان يبول في ماء كثير ثم يوجد متغيراً، فإن استند إلى سبب، كما لو رأى ظبية تبول في الماء الكثير وكان بعيداً عن الماء فانتهى إليه فوجده متغيراً وشك أنه تغير بالبول، أو بغيره فنص الشافعي رضي الله عنه على أنه نجس، وتابعه الأصحاب إعمالاً للسبب الظاهر، ومثله: ما لو جرح صيداً وغاب عنه فوجده ميتاً، حل أكله على المشهور، وكذا لو جرح رجلاً، ومات فإنه يضمنه وإن جاز أن يموت بسبب آخر سواه لأنه قد وجد سبب يمكن الإحالة عليه، لكن يشكل (48/ك) على هذا ما لو جرح المحرم صيداً ثم غاب عنه ثم وجده ميتاً، ولم يدر أمات بجراحه أم بحادث، فهل يلزمه جزاء كامل أم أرش الجرح فقط؟ قولان أظهرهما في (زوائد الروضة) الثاني قلت: ونص عليه في (الأم) فلم يعمل السبب الظاهر، وما قال المصنف: إنه الحق ذكره القفال في (شرح التلخيص) في هذه المسألة، أي بول الظبية، فقال: هذا إذا

رأى الماء قبل بول الظبية عن قرب غير متغير، فإن لم يتعهده أصلاً أو طال عهده به، فهو طاهر عملاً بالأصل وذكره الجرجاني المعروف بالختن مثله في (شرح التلخيص)، فقال: هذا إذا تعقب التغير البول فإن لم يتعقبه بأن غاب عنه زماناً ثم وجده متغيراً لم يحكم عليه بالنجاسة، لأن إحالته على السبب الظاهر قد ضعف بطول الزمان. (ص): ولا يحتج باستصحاب حال الإجماع في محل الخلاف خلافاً للمزني والصيرفي وابن سريج والآمدي. (ش): الرابعة: من صور الاستصحاب، استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف، وهو: أن يحصل الإجماع على حكم في حال فيتغير الحال، ويقع الخلاف، فهل يستصحب حال الإجماع؟ هذا محل الخلاف بين أصحابنا، والأكثرون منهم الغزالي على أنه ليس بحجة.

وما نقله ابن الحاجب عنه بخلافه مردود قال أصحابنا: والقول به في موضع الخلاف يؤدي إلى التكافؤ لأنهما ما من أحد يستصحب حال الإجماع في موضع الخلاف وإلا ولخصمه أن يستصحب حال الإجماع في مقابله، وبيانه أن من قال في مسألة التيمم: إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل، لأن أجمعنا على صحة صلاته فلا يبطل الإجماع إلا بدليل، قيل له: أجمعنا على اشتغال ذمته بفرض الصلاة ولا يسقط إلا بدليل. (ص): فعرف أن الاستصحاب ثبوت أمر في الثاني (129/ز) لثبوته في الأول لفقدان ما يصلح للتغيير أما ثبوته في الأول لثبوته في الثاني فمقلوب وقد يقال فيه: لو لم يكن الثابت اليوم ثابتاً أمس لكان غير ثابت فيقضي استصحاب أمس بأنه الآن غير ثابت وليس كذلك فدل على أنه ثابت. (ش): علم مما سبق أن الاستصحاب ثبوت أمر في الثاني لثبوته في الأول لعدم وجدان ما يصلح أن يكون مغيراً بعد البحث التام وأما ثبوته في الأول لثبوته في الثاني فهو الاستصحاب المقلوب، كما إذا وقع النظر في هذا الكيل، هل كان على

عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال: نعم إذ الأصل موافقة الماضي للحال، قال الشيخ الإمام: ولم يقل الأصحاب به إلا في مسألة واحدة فيمن اشترى شيئاً، وادعاه مدع وأخذه منه بحجة مطلقة، فقالوا: يثبت له به الرجوع على البائع بل لو باع المشتري، أو وهبه وانتزع الثاني المتهب أو المشترى منه كان للمشتري الأول الرجوع أيضاً، وهذا استصحاب الحال في الماضي، فإن البينة لا توجب الملك، ولكنها تظهره فيجب أن يكون الملك سابقاً على إقامتها، ويقدر له لحظة لطيفة، ومن المحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي، ولكنهم استصحبوا مقلوباً وهو عدم الانتقال منه قلت: قالوا به في صور كثيرة بينتها في غير هذا الموضع منها: لو قذفه فزنا المقذوف سقط الحد عن القاذف، وأشار بقوله: وقد يقال: إلى أن الطريق في الاستصحاب المقلوب أن يقال: لو لم يكن الحكم

الثابت الآن ثابتاً أمس لكان غير ثابت، إذ لا واسطة، وإن كان غير ثابت فيقضى الاستصحاب بأنه الآن غير ثابت، فدل أنه كان ثابتاً أيضاً. (ص): مسألة لا يطالب النافي بالدليل إن ادعى علماً ضرورياً وإلا فيطالب به في الأصح. (ش): النافي للشيء إن دل عليه أمر ضروري لم يطالب بالدليل إذ الضروريات لا يذكر عليها الدليل بل يثبته عليها، وإلا لكانت نظرية، وإن لم يكن ضرورياً فاختلفوا فيه فذهب الأكثرون إلى أنه يجب عليه الدليل مطلقاً كما في الإثبات وقيل: لا يجب عليه مطلقاً، وعزاه المصنف في (شرح المختصر) للظاهرية والذي في كتاب (الإحكام) لابن حزم أن عليه الدليل محتماً.

بقوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم} {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} والثالث: يجب في العقليات دون الشرعيات وأطلق الهندي حكاية الأقوال، ثم قال: لا يتجه فيها الخلاف، لأنه إذا أريد بالنافي من يدعي العلم أو الظن بالنفي فهذا يجب عليه الدليل، لأنه إذا لم يكن المنفي معلوماً بالضرورة، إذ الكلام مفروض فيه، إذ الضروري لا يستدل عليه فإما أن يكون معلوماً بالنظر والاستدلال أو مظنوناً بالنظر في العلامات والأمارات، وإلا استحال حصول العلم أو الظن، وعلى التقديرين يجب عليه ذكر ذلك، كما في الإثبات وإن أريد من يدعى عدم علمه أو ظنه فهذا لا دليل عليه لأنه يدعي جهله بالشيء والجاهل بالشيء غير مطالب بالدليل على جهله. (ص): وهل يجب الأخذ بأقل المقول، وقد مر. (ش): هذه المسألة قد مرت عند الإجماع السكوتي، فلم يحتج لشرحها، وإنما ذكرها هنا لئلا يتوهم أنه أهملها وكان ينبغي له أن ينبه على دلالة الاقتران

أيضاً فإنها من جملة أنواع الاستدلال، وقد مرت له في تعقب الاستثناء الجمل. (ص): وهل يجب الأخذ بالأخف أو الأثقل فيه أو لا يجب شيء أقوال. (ش): ذهب بعضهم إلى أن من جملة طرق الاستدلال الأخذ بأخف القولين وأنه واجب على المكلف كما قيل هناك: يجب الأخذ بأقل ما قيل لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) ويرجع حاصل هذا أن الأصل في الملاذ الإذن والمضار المنع، أو الأخف فيهما هو ذلك، وذهب بعضهم إلى

أن الأخذ بأثقل القولين واجب كما قيل هناك يجب بالأكثر، لأنه أكثر ثواباً، فكان المصير إليه واجباً، لقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} ومنهم من لم يوجب الأخذ بشيء. واعلم أن هذه المسألة قد تكون في المذاهب وقد تكون بين أقوال الرواة، وقد تكون بين الاحتمالات التي تتعارض أماراتها. (ص): مسألة اختلفوا هل كان المصطفى صلى الله عليه وسلم متعبداً قبل النبوة بشرع، واختلف المثبت فقيل: نوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم، وما ثبت أنه شرع أقوال والمختار الوقف تأصيلاً وتفريعاً وبعد النبوة المنع. (ش): في المسألة بحثان أحدهما فيما كان النبي صلى الله (49/ك) عليه وسلم قبل أن يبعث برسالته، قال إمام الحرمين: وهذا يرجع فائدته إلى ما يجري مجرى التواريخ، وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب: أحدها: أنه كان قبل النبوة متعبداً بشرع، واختاره ابن الحاجب والبيضاوي

وضبط المصنف بخطه متعبداً بفتح الباء وعلى هذا، فقيل: كان على شريعة آدم وقيل: نوح، وقيل: إبراهيم وقيل: موسى، وقيل: عيسى صلى الله عليهم وسلم، وقال بعضهم: ما ثبت أنه شرع من غير تخصيص. والثاني: لم يكن قبل البعثة متعبداً بشيء أصلاً، ونقله القاضي عن جمهور المتكلمين، واختلف القائلون به هل انتفى ذلك عقلاً لما فيه من التنفير عنه أو نقلاً وعزاه القاضي عياض

لحذاق أهل السنة فإنه لو كان لنقل ولتداولته الألسنة. والثالث: الوقف وبه قال إمام الحرمين والغزالي والآمدي: وهو المختار وقد اعتمد القاضي على ما ذهب إليه أنه لم يقع، ولكنه غير ممتنع عقلاً فإنه لو كان على ملة لاقتضى العرف ذكره لها لما بعثه نبياً، ولتحدث أحد بذلك، في زمانه وبعده، وعارض ذلك إمام الحرمين بأنه لو لم يكن على دين أصلاً لنقل فإن ذلك أبدع وأبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي، قال: فقد تعارض الأمران والوجه (130/ز) أن يقال: كانت العادة انخرقت لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور منها: انصراف همم الناس عن أمر دينه والبحث عنه، ولا يخفى أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو بالنسبة للفروع التي تختلف فيها الشرائع، أما ما اتفقوا

عليه كالتوحيد فلا شك في حصوله للكل قبل النبوة. الثاني: وهو نظير الخلاف في التي قبلها في أنه صلى الله عليه وسلم، هل تعبد بعد النبوة بشرع من قبله، والخلاف هنا مع من لم ينفه فيما قبله، وأما من نفاه قبل النبوة فقد نفاه بعدها بطريق أولى، وقد ذهب الأكثرون منا والمعتزلة إلى أنه لم يكن متعبداً بشرع أصلاً ثم افترقوا، فقالت المعتزلة: إن التعبد غير جائز عقلاً لتضمنه نقيضه في شرعنا، وقال آخرون العقل لا يحيله ولكنه ممنوع شرعاً واختاره الإمام والآمدي، وقالت طائفة: كان متعبداً بما لم ينسخ من شرع من قبله، على أنه موافق لا متابع، واختاره ابن الحاجب قال إمام الحرمين: وللشافعي

رضي الله عنه ميل إلى هذا وبنى عليه أصلاً من أصوله في كتاب الأطعمة وتابعه معظم أصحابه. (ص): مسألة حكم المنافع والمضار قبل الشرع مر وبعده الصحيح أن أصل المضار التحريم، والمنافع الحل، قال الشيخ الإمام إلا أموالنا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)). (ش): حكم المنافع والمضار فيما قبل الشرع مر في أول الكتاب عند قوله: ولا حكم قبل الشرع بل الأمر موقوف إلى وروده، والكلام الآن فيما بعد ورود الشرع، والأصل في المنافع الإذن وفي المضار التحريم خلافاً لبعضهم، لنا قوله

تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} ذكره في معرض الامتنان، فلو لم يجز لم يمتن به، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) وأطلق الجمهور أن الأصل في المنافع الإباحة، قال والد المصنف: ولك أن تقول الأموال من جملة المنافع، والظاهر أن الأصل فيها التحريم لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم ...)) الحديث، وهو أخص من الدلائل المتقدمة التي استدلوا بها على الإباحة، فيكون قاضياً عليها إلا أنه أصل طارئ على أصل سابق، فإن المال من حيث كونه من المنافع الأصل فيه الإباحة بالدلائل السابقة، ومن خصوصيته الأصل فيه التحريم بهذا الحديث. (ص): مسألة الاستحسان قال به أبو حنيفة وأنكره الباقون، وفسر بدليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عنه عبارته، ورد بأنه إن تحقق فمعتبر، وبعدول عن قياس إلى أقوى ولا خلاف فيه، أو عن الدليل إلى العادة، ورد بأنه إن ثبت

أنها حق فقد قام دليلها، وإلا ردت فإن تحقق استحسان مختلف فيه فمن قال به فقد شرع. (ش): حكايته القول به عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى خاصة يقدح في حكاية ابن الحاجب له عن الحنابلة أيضاً وذكر أبو الخطاب الحنبلي قول أحمد: أصحاب أبو حنيفة إذا قالوا شيئاً خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون ما يزعمون أنه الحق بالاستحسان وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه، قال أبو الخطاب: وعندي أنه أنكر عليهم الاستحسان من غير دليل، فلو كان عن دليل لم ينكره، لأنه حق وهو معنى قوله: أنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه، أي أنا أترك القياس بالخبر وهو الاستحسان بالدليل وقال القاضي

عبد الوهاب: ليس بنصوص عن مالك إلا أن كتب أصحابنا مملوءة بذكره، والقول نص عليه ابن القاسم وأشهب، وغيرهما. انتهى. ولا بد أولاً من تبيين المراد بالاستحسان، وذكر المصنف ثلاث مقالات لهم: الأولى: أنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته فلا يقدر أن يفوه به، ورده ابن الحاجب بأنه لم يتحقق كونه دليلاً فمردود اتفاقاً، وإن تحقق فمعتبر اتفاقاً ورده البيضاوي بأنه لا بد من ظهوره ليتميز صحيحه عن فاسده، فإن ما ينقدح في نفس المجتهد قد يكون وهماً لا عبرة له. الثانية: أنه عدول عن قياس إلى قياس أقوى، ولا خلاف فيه أي أن أقوى القياس معمول به عند التعارض.

الثالثة: أنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس كدخول الحمام من غير تقدير الماء، وشرب الماء من السقاء، ورد بأن العادة إن ثبت جريانها بذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام فهو ثابت بالسنة أو في زمانهم من غير إنكار فهو إجماع وإلا فهو مردود وظهر بهذا أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه، فإن تحقق استحسان مختلف فيه فمن قال به فقد شرع وهو بتشديد الراء أي لو جاز أن يستحسن بغير دليل لكان هذا نصب شريعة على خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا دليل عليه يوجب تركه. (ص): أما استحسان الشافعي رضي الله عنه التحليف على المصحف والخط في الكتابة ونحوها فليس منه. (ش): هذا جواب عن سؤال (50/ ك) مقدر وهو أن الشافعي رضي الله عنه استحسن في مسائل كثيرة، وجوابه يعلم مما سبق وأن الخلاف لفظي راجع إلى معنى التسمية، وأن المنكر عند أصحابنا، إنما هو جعل الاستحسان أصلاً من

أصول الشريعة مغايراً لسائر الأدلة، أما استعمال لفظ الاستحسان مع موافقة الدليل فلا ينكر، فقد قال الشافعي رضي الله عنه أستحسن التحليف على المصحف وأستحسن أن يترك للمكاتب شيء من نجوم الكتابة، وحسن أن يضع أصبعيه في صماخي أذنيه إذا أذن واستحسن في المتعة ثلاثين درهماً، ونحو ذلك فلم يرد الشافعي رضي الله عنه أن دليل هذه الأمور الاستحسان، ألا ترى أنه

لم يوجب التحليف، ولا الخط، وإنما استحسن ذلك لمآخذ فقهية لا من الاستحسان المجرد، كيف؟ والشافعي رضي الله عنه من أشد المنكرين للاستحسان؟ وقال: من استحسن فقد شرع، هذا حاصل ما أجاب به الأصحاب، لكن رأيت في سنن الشافعي رضي الله عنه وقد ذكر خيار الشفعة (131/ ز) ثلاثاً وقال الشافعي رحمه الله ورضي الله عنه: قلت: هذا استحسان مني ليس بأصل، ولا بد من تأويله. (ص): مسألة: قول الصحابي رضي الله عنه على الصحابي غير حجة وفاقاً، وكذا على غيره، قال الشيخ الإمام: إلا في التعبدي، وفي تقليده قولان لارتفاع الثقة بمذهبه إذ لم يدون.

(ش): مذهب الصحابي المجتهد ليس حجة على صحابي آخر اتفاقاً، سواء كان مجتهداً أم لا، أما إن كان فواضح وأما إن لم يكن فوظيفته التقليد، وليس قول المجتهد حجة في نفسه، وإنما لم يقل المصنف مذهب الصحابي العالم كما قيده بعض الحنابلة، لأن العامي لا قول له، لأنه صادر عن غير نظر، ونقله الاتفاق تابع فيه ابن الحاجب، وغيره، لكن الشيخ أبا إسحاق في (اللمع) قال: إذا اختلفوا على قولين ينبني على القولين في أنه حجة أم لا، فإن قلنا: ليس بحجة لم يكن على قولين ينبني على القولين في أنه حجة أم لا، فإن قلنا: ليس بحجة لم يكن قول بعضهم حجة على بعض ولم يجز تقليد واحد منهما، بل يرجع إلى الدليل، وإن قلنا: إنه حجة فيها فهما دليلان تعارضا يرجح أحدهما على الآخر بكثرة العدد من أحد الجانبين أو يكون فيهما إمام. انتهى. وأما قول الصحابي هل يكون حجة على غير الصحابي اختلفوا فيه وللشافعي رحمه الله ورضي عنه وأحمد رحمه الله قولان، والجديد أنه ليس بحجة وادعى الشيخ الإمام أن

الشافعي رحمه الله ورضي عنه استثنى من قوله في الجديد ليس بحجة الأمر التعبدي الذي لا مجال للقياس فيه، قال: لأن الشافعي رحمه الله رضي الله عنه قال في اختلاق الحديث: روي عن علي رضي الله عنه (أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات) ولو ثبت ذلك عن علي رضي الله عنه قلت به، فإنه لا مجال للقياس فيه، فالظاهر أنه نقله توقيفاً، هذا كلام الشافعي رحمه الله ورضي عنه،

وذكر الأصوليون هذا من تفاريع القديم فالظاهر أنه حجة قديماً وجديداً، لأنه يفيد ظناً لا معارض له، قلت: ولا نقل عند المصنف ووالده في ذلك، وقد جزم به ابن الصباغ في كتاب الإيمان من كتابه المسمى بـ (الكامل) والإمام في (المحصول) في باب الأخبار وإذا قلنا إنه ليس بحجة فهل يجوز للمجتهد تقليده ينبني على أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد فإن جوزناه مطلقاً فتقليد الصحابي

أولى، وإن منعناه ففي تقليد الصحابة ثلاثة أقوال للشافعي رحمه الله ورضي عنه الجديد: أنه لا يجوز مطلقاً، الثاني: يجوز، والثالث وهو قديم: إن انتشر جاز وإلا فلا وأما غير المجتهد من العامة فهل يجوز لهم تقليده وهو مراد المصنف؟ فيه خلاف حكاه إمام الحرمين وقال: إن المحققين على الامتناع، وليس هذا، لأنهم دون المجتهد من غير الصحابة، فهم أجل قدراً بل لأن مذاهبهم لا يوثق بها فإنها لم تثبت حق الثبوت، كما تثبت مذاهب الأئمة الذين لهم أتباع وبهذا جزم ابن الصلاح في كتاب (الفتيا) وزاد أنه لا يقلد التابعين أيضاً ولا غيرهم ممن لم يدون مذهبه وأن التقليد يتعين للأئمة الأربعة دون غيرهم، لأن مذاهبهم انتشرت وانبسطت حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص عامها، وأما غيرهم فنقلت عنهم الفتاوى مجردة، فلعل لها مكملاً أو مقيداً أو مخصصاً لو انبسط كلام

قائله لظهر خلاف ما يبدو منه، بخلاف هؤلاء الأربعة فامتناع التقليد إذن لتعذر نقل حقيقة مذهبهم، وذهب غيرهم إلى أنهم يقلدون لأنهم قد نالوا رتبة الاجتهاد، وهم بالصحبة، يزدادون رفعة، قال المصنف: وهذا هو الصحيح عندي غير أني أقول: لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقاً وإلا فلا لا لكونه لا يقلد بل لأن مذهبه لم يثبت حق الثبوت. قلت: الخلاف يتحقق من وجه آخر ذكره ابن برهان في (الأوسط) فقال: تقليد الصحابة مبني على جواز الانتقال في المذاهب فمن منعه منع تقليدهم، لأن فتاويهم لا يقدر على استحضارها في كل واقعة، وإلى العلة الأولى أشار المصنف بقوله: لارتفاع الثقة بمعرفة مذهبه إذ لم يدون والمأخذ الذي ذكره ابن برهان للمنع حسن أيضاً، وما ذكره في هاتين المسألتين أعني الحجة والتقليد قد صرح به الغزالي والرازي والآمدي، وغيرهم وأفردوا لكل حكم مسألة فتوهم صاحب (الحاصل)

خلاف ذلك وخلط مسألة بمسألة وتابعه عليه البيضاوي فوقع في الغلط، ولا يلزم من كون قوله غير حجة أن لا يقلد ألا ترى إلى المقلدين غيرهم، فإنهم يقلدون وليست أقوالهم بحجة. (ص): وقيل حجة فوق القياس فإن اختلف صحابيان فكدليلين، وقيل: دونه، وفي تخصيصه العموم قولان، وقيل: حجة إن انتشر، وقيل: إن خالف القياس، وقيل: إن انضم إليه قياس تقريب، وقيل: قول الشيخين فقط وقيل: الخلفاء الأربعة، وعن الشافعي رحمه الله ورضي عنه إلا علياً رضي الله عنه. (ش): يخرج مما سبق ثلاثة أقوال أحدها: أنه غير حجة مطلقاً. والثاني: غير حجة إلا في التعبدي. والثالث: غير حجة ولكن يصلح للتقليد. والرابع: عن القديم أنه حجة مطلقاً يقدم على القياس، وهو قول مالك وأكثر الحنفية وعلى هذا فإن اختلف صحابيان كان كدليلين تعارضا فيرجح أحدهما

بدليل. والخامس: حجة دون القياس (51/ك) وعلى هذا فتخصيص العموم حكاهما الرافعي في الأقضية بلا ترجيح، أحدهما: الجواز لأنه حجة شرعية، والثاني: المنعئ= لأنه محجوج بالعموم وقد كانت الصحابة يتركون أقوالهم إذا سمعوا العموم، قال المصنف: وهذه المسألة غير التي سبقت في باب التخصيص حيث قلنا: إن العام لا يخص بمذهب الراوي، ولو كان صحابياً، أي سواء كان قوله حجة أو لا، والمذكور هنا: أنا إن فرعنا على أن قوله حجة دون القياس ففي التخصيص به قولان، وهذا سواء كان الصحابي راوياً أم لا، قلت: لكن قوله في الأولى لا يخص به سواء كان قوله (132/ز) حجة أم لا فيه نظر، فإن الشيخ أبا إسحاق وغيره قالوا هناك: إن قلنا قوله ليس بحجة امتنع التخصيص به قطعاً، وإن قلنا: حجة، ففي التخصيص به وجهان، وإنما جعل المصنف الوجهين مفرعين على القول بأنه حجة دون القياس وإن أطلقهما مرة، لأنهما لو كانا مفرعين على أنه حجة فوق

القياس لم يجز خلافه عندنا في التخصيص به، وإذا قطع الشافعي رضي الله عنه وغيره من الأئمة قولهم بجواز التخصيص بالقياس فلئن يخص بما فوقه أولى. والسادس: إن انتشر ولم يخالف فهو حجة ونقله الأصوليون عن القديم، أيضاً، لكن قال ابن الصباغ في (العدة): إنما احتج الشافعي رضي الله عنه بقول

عثمان في الجديد في مسألة البراءة من العيوب، لأن مذهبه أنه إذا انتشر ولم يظهر له مخالف كان حجة، انتهى، واعترض الغزالي، وقال: السكوتي ليس بقول فأي فرق بين إن انتشر أو لا قال الهندي: والعجب منه فإنه تمسك بمثل هذا الإجماع في القطع على أن خبر الواحد والقياس حجة، ولعله إنما قال ذلك لاعتقاده أن حجته لو قيل بها ليس على طريق الإجماع بل بغيره وهو الحق، وحينئذ فلا يكون لسكوت الغير في حجته مدخل. والسابع: إن خالف القياس كان حجة، وإلا فلا، وقال ابن برهان في

(الوجيز) إنه الحق البين، وإن نصوص الشافعي رحمه الله ورضي عنه يدل عليه. والثامن: حجة إن انضم إليه قياس التقريب حكاه الماوردي قولاً للشافعي رضي الله عنه. والتاسع: قول الشيخين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهما. والعاشر: قول الخلفاء الأربعة حجة دون غيرهم وإذا تأملت هذه المذاهب عرفت أن بعضها ينظر إلى القائلين كهذا وما فعله، وبعضها إلى صفة القول كالثلاثة التي قبلهما. والحادي عشر: قول الخلفاء الأربعة إلا علياً، وهذا أخذوه من قول الشافعي رضي الله عنه في الرسالة القديمة أن الصحابة إذا اختلفوا وفي أحد الطرفين أبو بكر

أو عمر أو عثمان رجح ولم يذكر علياً فاختلف أصحابنا على ثلاثة أوجه حكاها القفال في أول شرح (التلخيص). أحدها: أن حكمة حكمهم وإنما تركه اختصاراً أو اكتفاء بذكر الأكثر، وهذا ما اختاره ابن القاص فقال: قاله يعني الشافعي رضي الله عنه في أبي بكر وعمر وعثمان نصاً وقلته في علي تخريجاً. والثاني: إنما لم يذكره لأنه كان يرمى بالتشيع فأراد نفي الريبة عن نفسه، وهذا ساقط. والثالث: وصححه القفال وجماعة أنه إنما لم يذكره لأنه ليس في قوله من القوة والحجة، كما في قولهم: وليس ذلك لتقصير في قوته الاجتهادية معاذ الله بل قالوا: وسبب ذلك أن الصحابة كانوا كثيرين إذ ذاك، وكان الخلفاء الثلاثة تستشيرهم كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في مسألة الجدة وعمر رضي الله عنه

في الطاعون وغير ذلك فكان قول كل منهم كقول أكثر الصحابة، ولما آل الأمر إلى علي رضي الله عنه خرج إلى الكوفة، وما مات خلق من الصحابة رضي الله عنهم فلم يكن قوله كقولهم لهذا المعنى لا نقصان فيه كرم الله وجهه، ورضي عنه، وهذا ما حكاه المصنف هنا من الأقوال في هذه المسألة، وإذا نظرت كلامه فيما سيأتي في باب التراجيح حيث قال: وثالثها في موافق الصحابي إن كان. حيث ميزه النص كزيد إلى آخره يجتمع أقوال =آخر أحدها: أنه غير حجة

ولا ترجيح به. وثانيها: غير حجة ولكن يصلح للترجيح. وثالثها: غير حجة ولا ترجيح فيه إلا أن يكون أحد الأربعة فيرجح به فقط. رابعها: يترجح بمن ميزه نص. (ص): أما وفاق الشافعي رحمه الله زيداً رضي الله عنه في الفرائض فلدليل لا تقليداً. (ش): لما بين أن الصحيح في المذاهب أن قول الصحابي لا يحتج به، استشعر سؤالاً، وهو أن الشافعي رضي الله عنه نظر في مواضع اختلاف الصحابة في الفرائض، واختار مذهب زيد حتى تردد قوله: حيث ترددت الرواية عن زيد، وأجاب: بأن ذلك لم يكن تقليداً، ولكن رجح عنده مذهبه من وجهين. أحدهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفرضكم زيد)). والثاني: قال القفال: ما تكلم أحد من الصحابة في الفرائض إلا وقد وجد له قول في بعض المسائل هجره الناس بالاتفاق إلا زيداً فإنه لم يقل بقول مهجور بالاتفاق. وذلك يقتضي الترجيح كالعمومين إذا وردا وقد خص أحدهما بالاتفاق دون

الثاني، كان الثاني أولى واعترض الرافعي رحمه الله بأنه إن رجح عنده مذهب زيد لدليل فهو اجتهاد وافق اجتهاده، وإن لم يكن عن دليل لم يخرج عن كونه تقليداً، والجواب: أنه لم يذهب إلى ما صار إليه إلا عن دليل لكنه استأنس بما يرجح عنده من مذهب زيد، وربما ترك به القياس الجلي في بعض الصور وعضض =قوله بالقياس الخفي، كما نقول في قول الواحد من الصحابة إذا اشتهر ولم يعرف له مخالف، فباعتبار الاستئناس قيل: إنه أخذ مذهب زيد، وباعتبار الاحتجاج، قيل: إنه لم يقلده. واعلم أن الشافعي رضي الله عنه خرج في مواضع كثيرة من كتبه الجديدة بتقليد الصحابة، فقال في (الأم) في قتال المشركين، وكل من يحبس نفسه بالترهيب: تركنا قتله اتباعاً لأبي بكر يرحمه الله، ثم قال: وإنما قلنا: هذا اتباعاً لا قياساً، وقال في البويطي: لا يحل تفسير المتشابه إلا بسنة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خبر عن أصحابه أو عن واحد من أصحابه أو إجماع العلماء هذا لفظه. (ص): مسألة الإلهام إيقاع شيء في الصدر يثلج له الصدر يخص به الله تعالى بعض أصفيائه وليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوماً بخواطره خلافاً لبعض (52/ ك) الصوفية. (ش): معنى يثلج: يطمئن، وهو بضم اللام وفتحها لغة ذكرها الجوهري،

ويقال في ماضيه: بفتح اللام وجرها على اللغتين، ذكره الإلهام في هذا الباب لم يفعل أصحابنا، إنما ذكره الحنفية منهم أبو زيد وقد نقل ابن السمعاني كلامه في (القواطع) قال أبو زيد (133/ز): الإلهام ما حرك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به من غير استدلال به ولا نظر في حجة، قال: والذي عليه جمهور العلماء أنه خيال لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها في باب ما أبيح له علمه بغير علم وقال بعض الجبرية: إنه حجة بمنزلة الوحي المسموع عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واحتج بقوله تعالى: {ونفس وما سواها فألهمها

فجورها وتقواها} أي: عرفها بالإيقاع في القلب، وبقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا فراسة المؤمن)) وقوله عليه الصلاة والسلام ((الإثم ما حاك في قلبك فدعه وإن أفتاك الناس وأفتوك)) فقد جعله عليه الصلاة والسلام شهادة قلبه بلا حجة أولى من الفتوى، فثبت أن

الإلهام حق وأنه وحي باطن إلا أن العبد إذا عصى الله وعمل بهواه حرم هذه الكرامة، وأما حجة أهل السنة فقوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فألزمهم الكذب لعجزهم عن إظهار الحجة، والإلهام حجة باطنة لا يمكن إظهارها، وأنات الأمر بالنظر والاعتبار، ولم يأمر بالرجوع إلى القلب، وكذلك حديث معاذ بم يحكم، ولم يذكر فيه إلهام القلب، ولأن الإلهام قد يكون من الله تعالى ومن الشيطان ومن النفس ولا علامة قطعية على التعيين، وأما قوله: {فألهمها فجورها} أي عرفها طريق العلم قال ابن السمعاني: وإنكار أصل الإلهام لا يجوز، ويجوز أن يفعل الله تعالى ذلك بعبده بلطفه كرامة له، ويقول في التمييز بين الحق والباطل: والحق من ذلك أن كلما استقام على شرع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في الكتاب أو السنة ما يرده فهو مقبول، وما لا فمردود، ويكون من تسويلات النفس، على أنا لا ننكر زيادة نور من الله تعالى كرامة للعبد، وزيادة نظر فأما أنه يرجع إلى قلبه في جميع الأمور كلها فقول لا

نعرفه، قلت: وممن أثبته الإمام شهاب الدين السهروردي قال في بعض أماليه: هو علوم تحدث في النفوس المطمئنة الزكية، وفي الحديث: ((إن من أمتي محدثين مكلمين وإن عمر منهم)) وقال تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} أخبر أن النفوس ملهمة، فالنفس الملهمة علوماً لدنية هي التي تبدلت صفتها واطمأنت بعد أن كانت أمارة، ثم نبه على أمر حسن يرتفع به الخلاف، فقال: وهذا النوع لا تتعلق به المصالح العامة من عالم الملك والشهادة، بل تختص فائدته بصاحبه دون غيره، إذا لم يكن له ثمرة السراية إلى الغير على طريق العموم وإن كانت له فائدة تتعلق بالاعتبار على وجه خاص قال وإنما لم يكن له ثمرة السراية إلى الغير طريق العموم من مفاتيح الملك لكون محله النفس، وقربها من الأرض والعالم السفلي، بخلاف المرتبة الأولى، وهي الوحي الذي قام به الملك الملقى، لأنه محله القلب المجانس للروح الروحاني العلوي وقال في كتابه (رشف النصائح الإيمانية): قد غسلت بتوفيق الله كتاب ابن سينا المترجم (بالشفاء) نحو اثني عشر مجلداً بإذن شريف مقدس نبوي. فائدة: أهمل المصنف سد الذرائع عند المالكية وبسطه في (شرح المختصر).

(ص): خاتمة قال القاضي حسين: مبنى الفقه على أن اليقين لا يرفع الشك، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير والعادة محكمة، قيل: والأمور بمقاصدها. (ش): زعم القاضي الحسين أن مبنى الفقه على هذه القواعد الأربع وزعم بعضهم أنه أهمل خامسة وهي: الأمور بمقاصدها، وقال الإسلام بني على

خمس والفقه مبني على هذه واستحسنه بعضهم بأن الشافعي رضي الله عنه قال يدخل في حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) ثلث العلم واعتذر آخرون عن القاضي الحسين في إهمالها لرجوعها إلى قاعدة: تحكم العادة كما سنبينه، والتحقيق أنه إن أريد رجوع الفقه إلى الخمس فتعسف، وقول جملي وقد رجعها الشيخ عز الدين إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد، ولو ضايقه مضايق لقال: أرجع الكل إلى اعتبار المصالح فإن درء المفاسد من جملتها وإن أريد الرجوع بوضوح تفصيلي فإنها تربوا على المائتين ثم المراد بها ما لا يخص باب من أبواب الفقه، وهو المراد هنا، ويسمى

بالقاعدة في اصطلاح الفقهاء، وأما ما يخص بعض الأبواب فيسمى الضوابط، ولا بد من الإشارة إلى قول جملي في هذه القواعد فتقول: القاعدة الأولى: اليقين لا يرفع بالشك، وأصلها: ((لا ينصرفن حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) وله أمثلة أحدها: انتفاء الأحكام عن المكلفين يقين فلا يزال بالشك، بل بدليل مثبت له أو لسببه، إذ لا حكم إلا بالشرع، والدليل منطوق وحي والمنبت له مفهومه أو معقوله، والمثبت لسببه البينات والعيان نحو الزوال وآلات المواقيت. وثانيها: انتفاء الأفعال وعدم وقوعها من الإنسان يقين فلا يزال بالشك. وثالثها: ثبوت الأحكام عند قيام سببها المقتضي بيقين شرعي فلا يزال بالشك، بل بمانع يزيل بنفيه أصل عدمه، من أجل هذا لا يصرف اللفظ عن حقيقة من شمول عام، ووجوب مأمور، وحرمة منهي إلا لعارض أرجح، ولا يزول

حكم فعل وضوء مثلاً إلا لناسخ فعل أخر كحدث وبهذا التقرير تبين أنه لا تختص هذه القاعدة بالفقه كما يوهمه كلام القاضي، بل تجرى في أصوله ويمكن رجوع غالب مسائل الفقه إلى هذه القاعدة إما بنفسها أو بدليلها، ولأجل هذه القاعدة كان الاستصحاب حجة، ولم يكن على المانع في المناظرة (53/ك) دليل وكان القول قول نافي الوطء غالباً، ولو وجد الماء الراكد متغيراً، فإن علم أنه لطول المكث فطهور أو لنجاسة فنجس وإن أشكل فهو على أصل الطهارة، نص عليه في (الأم) والبويطي ولو رأى كلباً يلغ في ماء كثير فشك هل شرب منه حتى نقص عن القلتين أم لا؟ فهو على الكثرة ما لم يعلم نقصه، ويكون طاهراً ذكره الحاوي قال في البحر: وهو صحيح. القاعدة الثانية: الضرر يزال ولعلها شرط الفقه فإن مقصود الأحكام

الفقهية مهمات جلب المنافع ودفع المضار، فالقسم الثاني كله وبعض الأول مثال لهذه القاعدة (134/ز) إذ يشمل الباب على حدود الجنايات وفصل الخصومات، فالحدود لدفع الضرر عن الضروريات الخمس الشرعية في كل مسألة المجموعة في آية الممتحنة فما سبق في المناسبة، فالشرك مضرة في الدين فيزال بقتال المشركين المحاربين والمرتدين {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} فلا يبقى إلا مسلم أو مسالم بهدنة أو بجزية، ومن حفظ الدين الانقيادي الملازم للإيمان الحقيقي تقرير مباني الإسلام المزيلة ضرر الغفلة والقسوة على الشهوات الحسية، والدعوات النفسية، ومنهم إيجاب تبليغ الرواة المزيل ضرر الدين ودراية الدين المزيل ضرر الشبه والشكوك، ومن ثم كان الإقامة بحجج الأصول من فرائض الكفايات، والسرقة مضرة في المال، ومثلها المحاربة والإتلافات والغصب والتفويت فيزال بقطع السارق والمحارب، وبضمان المتلفات والغصوب بأنواعها، وبالحجر على الصبي والمجنون والسفيه والمفلس والراهن والعبد والمريض، فيما زاد على الثلث وسائر

أنواع الحجر التي أنهيت إلى نحو الخمسين، والزنا مضرة في النسل، ومثله الاستفراش قبل تبين الحال، والإلحاق البهتاني والاتهام فيزال بحد الزاني رجما وجلداً، فإنه مع ذلك ينزجر أو يقل فساده، وبالعدد والاستبراء، وباللعان وتحريم خفي البهتان، وبدعوى النسب والإقرار به، والقتل وقد يفضي إلى قطع الأطراف، ونحوه مضرة في النفس تزال بالقصاص أو الدية، وبحل الميتة للمضطر وإتلاف المكره مالاً وتلفظه بالكفر والبهتان إن ضر في النسل فقد تقدم، أو في العرض فيزال ضرره بالتعزير أو بحد القذف، وزوال العقل مضرة في ذلك كله فيزال بتحريم المسكر وبالحد، والصيال على الدين أو المال أو البضع أو النفس أو الأطراف أو غير ذلك مضرة فيزال بدفع الصائل، وإن أتى على نفسه، وأما الخصومات المضرة في ذلك كله فيزال بأن يفصلها إمام مقسط فيعتمد الحق في الدعاوي والبينات والإقرار، قال بعضهم: فهذه القاعدة ترجع إلى تحصيل المقاصد أو تقريرها بدفع المفاسد أو تخفيفها ويدخل فيها: (الضرر لا يزال بالضرر) ومن ثم لا تجب العمارة على الشريك في الجديد، وإذا وقع جريح على جرحى، وإذا وقع في نار ولم يمكنه

الخلاص إلا بأن يرمي نفسه في ماء يموت فيه، وقطع السلعة التي يخاف منها ووجوب القصاص على المكره على القتل، وكذلك: (الضرورات تبيح المحظورات) بشرط عدم نقصانها عنها ومن ثم جاز، بل وجب أكل الميتة عند المخمصة. الثالثة: المشقة تجلب التيسير ومثالها موجود في العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات أما العبادات: فكون الصلاة خمساً فقط، وكون مجموعها سبعة عشر ركعة وتفريقها على أوقات الفراغ توسعاً، وإباحة الجمع والقصر فيها للمسافر واغتفار الفعل الفاحش في الصلاة للخائف، وكيف أمكنه لمن اشتد خوفه وإسقاطها بالأعذار من حيض أو صبى أو جنون، واشتراط الطهارة فيها عن نجاسة

تفحش لا غير، والاكتفاء فيها بالتطهير برش في بول صبي أو إبقاء أثر إذا عسر زواله، وإخراج شعر المأكول ولبنه وأنفحته والمسك وقاربه، ونحو ذلك منها، واشتراط الوضوء في الأعضاء الأربعة دون جميع البدن وعند الحدث لا عند كل صلاة، وحصر الأحداث فيما يقل وجوده مع أنه أربعة فقط، والجنابة فيما ندر، وإقامة التراب بدل الماء في مواضعه، ومسح الخف والرأس مقام الغسل، وأحكام الحيض والاستحاضة وجعل المطهر الماء العام الموجود المتيسر الحصول، وعدم تنجيسه ببعض النجاسات، وعدم إفساده ببعض المغسولات والمغيرات وإعادة الطهورية إليه بعد سلبها باستعمال أو تنجس أو غير ذلك، والاكتفاء في القبلة بمجتهد

البلد ومحاريب المسلمين وعدم اعتبارها في حق العاجز والخائف، ومسافر يتنفل، وفي عورة غير الحرة السرة والركبة، والعفو عن بعض الأفعال والأقوال، والاكتفاء بما يستطاع في أركان الصلاة وشروطها في الخوف والأمن وإسقاط الأعذار للجمعة والجماعة، وعدم مخاطبة الناقص بهما وندبية العبد، والاستسقاء والكسوفين دون إيجابها، وجعل الجنازة فرض كفاية، كل ذلك تيسير جلبه مشقة ما سوى ذلك، وتقريره تعالى نصب الزكوات مع اشتراط الحول، والسوم، وتقليل الواجب ورعاية العشر ونصفه، واعتبار المتمكن للأداء والضمان وما يعفى عنه من خيل ورقيق وعقار وغير ذلك وتعيين الأصناف المستحقين، وتجويز التعجيل والتوكل واستحباب صدقة التطوع الشاق تركها على سخي أو متقرب إلى الله تعالى، أو رقيق القلب رحمة من غير تقييد بجنس ولا قدر ولا مصرف ولا زمان ولا مكان وتقديره الصيام بشهر، وإلى الليل فقط، والعفو عما يشق وإباحة الفطر، وبالعذر واستحباب صيام التطوع، وكونه بنية من النهار وإباحة الخروج منه لمن يشاء وتوسيع القضاء وفدية لحواملهم ونحوه، وتقديره تعالى وجوب الحج بالاستطاعة والمواقيت بأماكنها المقاربة للحرم، وتقليل الأعمال، وتوسيع وجوبه، وتجويز النيابة فيه، وإباحة محظوراته بالعذر، وتقدير كفاراته، وتجويز التحلل بالإحصار والفوات وشبهه،

وإيجابه تعالى الجهاد (54/ك) على الكفاية، وفي السنة كلها مرة واحدة، وتجويز المتحرف للقتال والتحيز إلى فئة، والفرار لأكثر من الضعف وإحلال الغنائم، وتملك النساء والصبيان، وقبول الجزية ونحوه، وعفوه تعالى عن لغو اليمين وتكفيرها قبل الحنث، والتخيير بينها وبين المنذور لجاجاً، واستحبابه تعالى العتق والتدبير والكتابة من غير وجوب ولا تحريم، وإباحته تعالى الطيبات والتشبع منها، والتداوي حتى بالنجس ولبس غير النقدين والحرير الصرف وإباحة الذبائح من كل مناكح ونحوه، وأنواع الصيد وأما (135/ز) الأموال فإحلال الله تعالى البيع من غير إيجاب له وإطلاقه في الأماكن والأزمان، وإثبات الخيار فيه، ثم جعله لازماً، وإباحة الرد بالعيب وخلف الشرط، وتجويز الإقالة والتحالف، وتأجيل الثمن في أي جنس، وبأي قدر، والنهي عن العقود المؤدية وإباحة العرايا والقرض، والسلم والحوالة والرهن والصلح، والضمان وإحلاله الإجارة والعارية وتجويز عقد الإرفاق

وجعلها غير لازمة كالوكالة والقراض والشركة العارية والوديعة، وشرعية الأوقاف والهبات والهدايا والمواريث والوصايا، وإحياء الموات واللقطة، ومن ذلك الشفعة والقسمة وما يوهم ضرراً، وأما النكاح فإباحته من غير إيجاب وإطلاقه في غير المحارم، وتجويز مثنى وثلاث ورباع ومن غير معاينة، وإطلاق الاستمتاع فيه، وتفويضه للأولياء، وتقرير أنكحة الكفار وتجويز فسخه بأسباب الفسخ وإطلاق الصداق في الجنس والقدر وتشطيره، وإسقاطه بالمفارقة، وإيجاب القسم وحسن المعاشرة، وإباحة الخلع والطلاق والرجعة ومطالبة الولي، وتحريم الظهار، وإعادة الحل للمظاهر بالكفارة، وإيجاب النفقات وجعلها على الموسر قدره وعلى المقتر قدره وأما الجنايات فبالعصمة في غير العمد المحض ورعاية المماثلة، وتحريم المثلة، وتجويز العفو وقتال البغات والإعلام بأنه تعالى لم يجعل شفاء فيما حرم، وإنما الخمر داء وأن التعريض ليس بقذف وجعل الإمامة والقضاء على الكفاية، واعتماد الظاهر ولو بالاجتهاد وإثابة من أخطأ دون تأثيمه ورد شهادة المتهم وقبول غيرها، واليمين

مع الشاهد، ورجل مع امرأتين والنسوة الخلص في مواطن الحاجة ومن جعل الدية من هذا فقد وهم، لأنها زاجرة عن ضرر المجني عليه وجابرة ما فات عليه، والعفو عليها رافع ضرر القتل عن الجاني قال الأئمة، وقد تقوم الحاجة مقام المشقة في نظر عورة أو امرأة. القاعدة الرابعة: العادة تحكم وذكر القاضي الحسين أصلها من حديث ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)) والمعروف عند المحدثين في هذا: الوقف على ابن مسعود، والأحسن الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم لهند: ((خذي من ماله ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف))

وقوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف} وقال ابن السمعاني في (القواطع): والعرف في الآية ما يعرفه الناس ويتعارفونه فيما بينهم، وكذا قال ابن عطية: معناه بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة، وقال ابن ظفر في (الينبوع): ما عرفته العقلاء أنه حسن وأقرهم الشارع عليه فمنه الرجوع إلى العرف، والعادة في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية كصغر صبية وكبرها، وإطلاق ماء وتقييده، وكثرة تغيره وقلته، وغالب الكثافة ونادر العذر ودائمة، وقرب منزلة وبعدها، وطول فصل في السهو وقصره، وكثرة فعل أو كلام وقلته ومشقة احتراز من نجاسة مثلاً وسهولته، وقوة خف وضعفه وتكلب الجوارح وما

يعد ساتراً وطيباً للمحرم، ومقابلاً بعوض في البيع، وعيناً وفضلاً بين المتعاقدين وثمن مثل، وكفء نكاح، وتهيؤ زفاف، وحفظ ماشية وزرع ومؤنة وكسوة وسكنى مثل، ومردود وظرف هدية وفرس غاز وما يليق بحال الشخص في متعة وفي عدواة برد الشهادة والحكم، ومنها الرجوع إليها في مقادير الحيض والنفاس، والطهر وأكثر مدة الحمل وسن اليأس، ومهر مثلها، ومنها الرجوع إليها في فعل غير منضبط رتبت عليه الأحكام كالقصر والإحياء والحد وإعراض عن معدن ومتحجر وضال، والإذن في الضيافات وإباحة نحو أكل وشرب دابة، ودخول بيت حميم والتبسط مع الأصدقاء، وما يعد قبضاً وإيداعاً وإعطاء وهدية وغصباً ومعروف المعاشرة، وتصرف الملاك، وانتفاع عارية، وحفظ وديعة وتجارة قراض ونحل ومساقاة، وصيغة إجارة، وصغار ذمي وناقض عهده وموجب لوث، ومنها الرجوع إليها في تخصيص عين أو فعل أو مقدار يحمل اللفظ عليه كألفاظ الأيمان والأوقات والوصايا والتعويضات، والدينار والدرهم والصاع والوسق، والقلة والأوقية، وكذا إطلاق النقود في المعاملات ينصرف إلى الغالب ومنه صحة المعاطاة بما يعده الناس بيعاً على المختار في الفتوى.

الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح

الخامسة: الأمور بمقاصدها ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) فمنه العبادات لا يميزها عن العادات ولا يميز رتب بعضها عن بعض إلا النية، ولا يحصل الثواب غيرها، ومنه كتابات العقود، وكل أداء ملتبس ونحوه يفتقر إلى النية المميزة ولو كان من كافر، وأما كونها تقربة إلى الله تعالى من أنها موصلة إلى عبادة فتختص بالمسلمين، ومنها: أن المباحات كلها لا تتميز عن المعاصي إلا بالنية، وبما صارة= قربة بنية قبول رخصة الله والاستعانة بها ذكره، ومنها أن ما تميز بنفسه لا يحتاج إلى النية، ومن ثم لم يحتج الإيمان والعرفان والآذان والأذكار والقراءة إلى نية التقرب، بل يكفي مجرد القصد ليخرج الذاهل فإنه غير فاعل على الحقيقة، قال بعض مشايخنا المحققين: وإنما ترك القاضي الحسين هذه القاعدة لعلة الاستغناء عنها بأن العادة تحكم فغير المنوي من غسل وصلاة وكتابة مثلاً لا تسمى في العادة غسلاً ولا قربة ولا عقداً. [الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح] (ص): الكتاب السادس في (55/ك) التعادل والتراجيح. (ش): لما انتهى الكلام في الأدلة المتفق عليها، والمختلف فيها وكان معرفة الأدلة من حيث هي لا بد معه (136/ز) في الاستدلال من شروط وهي كيفية الاستدلال بها عند التعارض، عقد هذا الكتاب لذلك، وأخرها عن الأدلة، لأنها صفات للأدلة فترتيبها متأخرة عنها.

(ص): يمتنع تعادل القاطعين وكذا الأمارتين في نفس الأمر على الصحيح. (ش): التعادل بين القاطعين ممتنع عقليين كانا أم نقليين، وإلا ثبت مقتضيهما وهما نقيضان، وكذا بين القطعي والظني لانتفاء الظن عند القطع بالنقيض، وأما التعادل بين الأمارتين في الأذهان فصحيح وأما في نفس الأمر فمنعه الكرخي، والإمام أحمد، وجمع من أصحابنا لأنه يقتضي التخيير بين الحكمين والإجماع

على بطلانه، وهل منعوه عقلاً أو شرعاً؟ فيه نظر وجوزه الباقون، وهو أن ينصب علامات متساويات في اقتضاء الظنين، وفصل الإمام الرازي فقال: إما أن يكون بين حكمين متناقضين والفعل واحد، أو بين فعلين متنافيين، والحكم واحد، فالأول ككون الفعل الواحد واجباً وحراماً ومباحاً، فيجوز، ولكنه غير واقع شرعاً، إذ لا يمكن العمل بهما ولا تركهما، وبأحدهما تحكم، والتخيير بين مباح ومحرم، إذن في الترك وهو ترجيح عين أمارة الإباحة وهو تحكم، والثاني جائز كوجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على الظن أنهما جهتا القبلة، ونقح الشيخ عز الدين في قواعده فقال: لا يتصور في الظنون تعارض كما لا يتصور في العلوم، وإنما يقع التعارض بين أسباب الظنون، قال وإذا تعارضت أسباب الظنون فإن حصل الشك لم يحكم بشيء، وإن وجدنا الظن في أحد الطرفين حكمنا به، لأن ذهاب مقابله يدل على ضعفه، وإن كان كل منهما مكذباً للآخر تساقطا لتعارض الخبر والشهادتين، وإن لم يكذب كل منهما صاحبه عمل به على حسب الإمكان كدابة عليها راكبان، نحكم بها لهما، لأن كل من اليدين لا تكذب الأخرى.

(ص): فإن توهم التعادل فالتخيير، أو التساقط، أو الوقف، أو التخيير في الواجبات أو التساقط في غيرها، أقوال. (ش): إذا جوزنا تعادلهما فاختلفوا في حكمه عند وقوعه على مذاهب. أحدها: التخيير وهو اختيار القاضي أبي بكر منا وأبي علي، وأبي هاشم من المعتزلة. وثانيها: التساقط، ويجب الرجوع إلى غيرها وهو البراءة الأصلية وهو مذهب كثير من الفقهاء. وثالثها: الوقف كالبينتين المتعارضتين. والرابع: إن وقع التعادل بالنسبة إلى الواجبات، فالتخيير، إذ لا يمتنع التخيير في الشرع بينهما، كمالك مائتين من الإبل يجب أن يخرج ما شاء من الحقاق وبنات اللبون.

عند من يجعل الخيرة للمالك، وإن وقع بالنسبة إلى حكمين متناقضين، كالإباحة والتحريم، فحكمه التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية، وقضية إطلاق المصنف جريان هذا الخلاف فيما إذا وقع هذا التعادل للإنسان في عمل نفسه أو للمفتي، وقال الهندي: جريان قول الوقف في عمل نفسه بعيد جداً، إذ الوقف فيه لا إلى غاية تنتظر أو لا يرجى منه ظهور الرجحان، وإلا لم تكن مستثناة بخلاف التعادل الذهني فإنه يتوقف فيه إلى أن يظهر المرجح وقوله: (فإن توهم) أحسن من قول غيره: (فإن ظن) الظن للطرف الراجح ولا يوجد ذلك وإنما هو بالنسبة إلى ظن المجتهد. (ص): وإن نقل عن مجتهد قولان متناقضان فالمتأخر قوله وإلا فما ذكر

فيه المشعر بترجيحه وإلا فهو متردد، ووقع للشافعي رضي الله عنه في بضعة عشر مكاناً، وهو دليل على علو شأنه علماً وديناً. (ش): تعارض القولين لمجتهد واحد بالنسبة إلى المقلدين كتعارض الأمارتين عند المجتهدين، فلذلك أعقبه بتعادل الأمارتين، وحاصله: أنه إذا نقل عن مجتهد قولان فإما أن يكونا في موضع واحد أو لا: الحالة الأولى: أن يكون في موضعين فإن علم المتأخر منهما فهو مذهبه، ويكون الأول مرجوعاً عنه، وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا بد وأن ينص على الرجوع فلو لم ينص في الجديد على الرجوع عن القديم لم يكن رجوعاً، حكاه الرافعي في باب صلاة الجماعة، وإن جهل الحال حكي عنه القولان، ولا يحكم عليه بالرجوع إلى أحدهما بعينه، وإن كان أحدهما مرجوعاً عنه ظاهراً، قال الهندي: ولا يخفى عليك أنه لا يجوز العمل بأحدهما إذ ذاك قبل التبيين.

الثاني: أن يكون في موضع واحد بأن يقول في هذه المسألة القولان، فإذا عقب أحدهما بما يشعر بترجيحه كقوله: وهذا أشبه ولو بالتفريع عليه، فيكون ذلك قولاً له، لأن قول المجتهد ليس غير ما يترجح عنده، وإن لم يكن شيئاً من ذلك فيدل على توقفه في المسألة لعدم ترجيح أحد الحكمين في نظره وقوله: (فيها قولان) يحتمل أن يريد احتمالين على سبيل التجويز لوجود أمارتين متساويتين، ولكن يريد بهما مذهبين لمجتهدين وعلى التقديرين لا ينسب إليه قول في المسألة لتوقفه فيها، وهذا قاله الإمام في (المحصول) وتابعه المصنف، وقال الآمدي: يجب اعتقاد نسبة أحدهما إليه، ورجوعه عن الآخر غير معين دون نسبتهما جميعاً، ويمتنع العمل بهما حتى يتبين، كالنصين إذا علمنا نسخ أحدهما غير معين، وكالراوي إذا اشتبه عليه ما رواه من شيئين وهذا أحسن من قول الإمام لكنه خلاف عمل الفقهاء، وفي المسألة رأي ثالث صار إليه القاضي وهو: أن له قولين وحكمهما التخيير قال إمام الحرمين في (التلخيص): وهذا بناه القاضي على اعتقاده أن مذهب الشافعي رضي الله عنه تصويب المجتهدين، لكن الصحيح من مذهبه: أن المصيب واحد فلا يمكن منه القول بالتخيير، وأيضاً فقد يكون القولان بتحريم وإباحة ويستحيل التخيير بينهما واعلم أنه قد وقع الحالان للشافعي رضي الله عنه لكن

وقوعه في موضع واحد من غير تنبيه على ما يشعر (137/ز) بترجيح أحدهما قليل. نقل الشيخ أبو إسحاق في (شرح اللمع) عن القاضي أبي حامد المروزي أنه ليس للشافعي رضي الله عنه ذلك إلا في بضعة عشر موضعاً وهو ستة عشر أو سبعة عشر، وهو دليل على علو شأنه. أما الحالة الأولى: فلدلالة على صرف عمره في النظر والمأخذ ولاج في الدقائق، وعلى دينه لإظهار الشيء يلوح له غير مبال بما صدر منه أولاً ولا واقف (56/ك) عند كلام غبي ينسبه للتناقض في المقال، وقد عاب عليه القولين من قصر نظره عن مقاصده. وأما في الثانية: فإن المجتهد كلما زاد علماً وتدقيقاً كان نظره أتم تنقيحاً وتحقيقاً، وعلى دينه فلم يكن ممن إذا ظهر وجه الرجحان صمم على مقالته الأولى بل أبطل تلك وعدل إلى ما هو الأولى، وفائدة ذكر القولين من غير ترجيح، التنبيه على أن ما سواهما لم يترجح عنده، وأن هذين الاحتمالين لم يترجح أحدهما في نظره، فأطلق القولين بمعنى أن كل واحد منهما يمكن جعله قولاً لا أنهما معاً مذهبه، وقد

وقع مثل ذلك عمر رضي الله عنه في الشورى على ستة وحصر الخلافة فيهم؛ تنبيهاً على أن الاستحقاق منحصر فيهم، وأن غيرهم ليس أهلاً لذلك، ولم ينكر ذلك عليه أحد، بل اتبعوه، وفيه أيضاً التنبيه على المأخذ وانحصار جهتها في ذينك القولين، فإن قلت: فلا معنى لقولهم للشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة قولان، إذ هو متوقف غير حاكم بشيء، قلت: قال إمام الحرمين في (التلخيص): هكذا القول ولا نتحاشى منه وإنما وجه إضافته إلى الشافعي رضي الله عنه ذكره لهما واستقصاؤه وجوه الاشتباه فيهما. (ص): ثم قال الشيخ أبو حامد: مخالف أبي حنيفة منهما أرجح من موافقه، وعكس القفال. والأصح الترجيح بالنظر فإن وقف، فالوقف. (ش): قد سبق ترجيح أحد القولين على الآخر بتأخره أو بالإشعار بترجيحه وذكر هنا مرجحاً آخر وهو: ما إذا كان أحد القولين يوافق مذهب أبي حنيفة والآخر يخالفه فقال القفال: الموافق أولى، وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: المخالف أولى، فإن الشافعي رضي الله عنه إنما خالفه لاطلاعه على دليل يقتضي المخالفة، والأول هو الأصح عند الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في (شرح المهذب) و (الروضة) وهو بناء على طريقته في الترجيح في المذهب بالكثرة كالرواية، وهو

ضعيف فإن الكثرة إنما يظهر تأثيرها في النقل، وأما الاجتهاد فالمعتبر فيه قوة الدليل لا جرم كان ما صححه المصنف هو الأصح، وقال بعضهم: تصوير هذا الفرع يحتاج إلى نظر، فإن أحد القولين فيه إما أن يكون قبل الآخر أو لا، فإن كان، فالعمل بالمتأخر، لأنه كالجديد بالنسبة إلى القديم، وإن كان فيما إذا قالهما معاً أو لم يعلم، فالتعليل بأنه ما خالف إلا بعد اطلاعه على مقتضى المخالفة يقتضي تقديم الموافقة، وينظر في السبعة عشر مسألة التي نص فيها على قولين معاً هل هي بهذه الصفة أعني: أحدهما يوافق أبا حنيفة والآخر يخالفه أم لا؟ وينتج من هذا البحث أنهم لم يطرحوا القديم فإن قول القفال يقتضي أن يكون متقدماً، فإن الشافعي رضي الله عنه وافق أبا حنيفة في الاجتهاد ثم خالفه لظهور دليل يقتضي المخالفة. (ص): وإن لم يعرف للمجتهد قول في المسألة، لكن في نظيرها، فهو قوله المخرج فيها على الأصح لا ينسب إليه مطلقاً بل مقيداً، ومن معارضة نص آخر للنظير تنشأ الطرق. (ش): ذكر الشيخ أبو إسحاق أنه إذا نص الإمام في واقعة على حكم وفي

الأخرى شبهها على خلافه لا يجوز نقل قوله من إحديهما إلى أخرى، وتخريجها على قول وأن ما يقتضيه قوله لا يجعل قولا له إلا إذا لم يحتمل، كقوله: تثبت الشفعة في الشقص من الدار، فيقال: قوله في الحانوت كذلك، قال الرافعي: والمعروف في المذهب خلاف ما قاله وإلى هذا الخلاف عبر المصنف بالأصح، وإذا قلنا بجواز التخريج فهل ينسب القول المخرج لذلك المجتهد؟ فيه وجهان، أصحهما المنع، لأنه ربما يذكر فرقاً ظاهراً لو رجع، ومأخذهما أن لازم المذهب هل هو مذهب؟ والمختار أنه ليس بمذهب، ولهذا قال الرافعي: الأولى أن يقال: هذا قياس قوله، أو قياس أصله، ولا يقال: هو قوله، وإليه أشار المصنف بقوله: ولا ينسب إليه مطلقاً بل مقيداً، وأشار بقوله: (من معارضة نص)، إلى سبب اختلاف الطرق في نقل المذهب: أن يجيب الشافعي رضي الله عنه بحكمين مختلفين في صورتين متشابهتين، ولا يظهر ما يصلح للفرق بينهما فيختلف حينئذ الأصحاب، فمنهم من يقرر النصين ويتكلف فرقاً، ومنهم من ينقل جوابه في كل صورة إلى أخرى فيجعل في كل صورة منهما قولان منصوص ومخرج، والمنصوص في هذه هو المخرج في تلك، والمنصوص في تلك هو المخرج في هذه، وحينئذ فيقولون: قولان بالنقل والتخريج، أي نقل المنصوص من هذه الصورة إلى تلك وخرج فيها، وكذا بالعكس، والغالب في مثل هذا عدم إطباق الأصحاب على

التخريج بل ينقسمون إلى فريقين: فريق مخرج وفريق يمنع ويستخرج فارقاً بينهما ليستند إليه، وهذا هو منشأ الخلاف في أن القول المخرج هل ينسب إليه. (ص): والترجيح تقوية أحد الطريقين. (ش): أي المتعارضين، على الآخر، ليعمل بالقوية، وهذه عبارة (المحصول)، وعبر في (المنهاج) بالأمارتين، عوض الطريقين واستحسنه المصنف في شرحه، إذ يمتنع الترجيح في غير الأمارتين الأمارتين فلا أدري لما خالفه هنا، وقد نازع الهندي في جعلهم الترجيح عبارة عن التقوية التي هي مستندة إلى الشارع أو المجتهد حقيقة وإلى ما به الترجيح مجازاً (138/ز) وهو غير ملائم له بحسب الاصطلاح، إذ هو في الاصطلاح عبارة عن نفس ما به الترجيح، فلا يجوز أن يجعل عبارة عن التقوية قلت: ولذلك قال أبو الحسين: هو الشروع في تقوية أحد الطريقين على الآخر وزاد صاحب (البديع) في الحد قوله: (وصفا) ليخرج الترجيح بدليل مستقل فلا يجوز لأنه يؤدي إلى انتقال إلى دليل آخر، إذ لا تعلق للثاني بالأول، بل هو مستقل بنفسه، فيكون تركا له وعدولاً إلى الثاني وهو معنى الانتقال.

(ص): والعمل بالراجح واجب، وقال القاضي: إلا ما رجح ظنا، إذ لا ترجيح بظن عنده، وقال البصري: إن رجح أحدهما بالظن فالتخيير. (ش): ذهب الأكثرون إلى وجوب العمل بالراجح، سواء كان المترجح معلوماً أو مظنوناً، حتى أن المنكرين للقياس عملوا بالترجيح في ظواهر الأخبار، والمخالف فيه رجلان أحدهما القاضي أبو بكر؛ قال: لا يجوز العمل بالترجيح المظنون، قال: وأنا أقبل الترجيح المقطوع به كتقديم النص على القياس، وأما المظنون وهو الترجيح بالأوصاف والأحوال وكثرة الأدلة ونحوها فأرده وأخالف فيه، لأن الأصل المقرر أنه لا يجوز اتباع شيء من الظنون، لأنه عرضة الغلط، والخطأ، خالفنا هذا (57/ك) في الظنون المستقل بأنفسها لإجماع الصحابة عليها والترجيح عمل بظن لا يستقل بنفسه دليلاً، فيبقى على الأصل في عدم اتباعه، وأجيب بأن الإجماع منعقداً أيضاً على وجوب العمل بالظن الذي لا يستقل كالمستقل.

والثاني أبو عبد الله البصري أنكر التمسك بالترجيح، فقال: عند التعارض يلزم التخيير أو الوقف، ولا نرجح أحد الطرفين على الآخر وإن تفاوتا، قال الإمام في (البرهان) هذا حكاه القاضي عن البصري وهو الملقب بجعل، قال: ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها، وقال: غيره إن صح عنه لم يلتفت إليه، فإنه مسبوق بإجماع الصحابة والأمة قاطبة بترجيح بعضهم على بعض الأدلة، وهذا معلوم بالضرورة ولا التفات لمن قاس عدم الترجيح في الأخبار على عدمه في الشهادات، فإن هذه مسألة من مسائل الاجتهاد، وقد قال بعضهم بالترجيح فيها، ومن أنكر فمستنده نوع من التعبد في الشهادات لا يكفي في غيرها. (ص): ولا ترجيح في القطعيات لعدم التعارض. (ش): الترجيح مختص بالدلائل الظنية، ولا جريان له في الدلائل اليقينية عقلية أو نقلية، لأن الترجيح فرع وقوع التعارض وهو غير متصور فيها، لأنه لو وقع لزم اجتماع النقيضين، أو ارتفاعهما، وبحث الشيخ الهندي فيها بما حاصله أنه إن

كان هذا دليلاً على منع تعارض القاطعين في نفس الأمر وليس الكلام فيه، وهو غير ممكن، وإن كان على المنع في الأذهان فممنوع، لأنه قد يتعارض عند المجتهد شيئان يعتقد أنهما دليلان يقينيان، ويعجز عن القدح في أحدهما، وإن كان يعلم بطلان أحدهما في نفس الأمر وحينئذ فيجوز بطريق الترجيح إليها بناء على هذا التعارض بالنظر في أحوال المقدمات والتراكيب، ويرجح بقلة المقدمات والتراكيب، وهذا طريق يقبله العقل ولا يدفعه ما ذكرتم، قلت: ولا سيما إذا قلنا العلوم تتفاوت. (ص): والمتأخر ناسخ. (ش): إن كان التاريخ معلوماً والمدلول قابل للنسخ، فالمتأخر ناسخ للمتقدم سواء كانا آيتين أو خبرين، أو أحدهما آية والآخر خبراً متواتراً، قال في (المحصول) فإن قلت فما قول الشافعي رضي الله عنه هنا مع أن مذهبه أن القرآن لا ينسخ بالخبر المتواتر ولا بالعكس؟ قلت: القصد من هذه المسألة: أنه لو وقع لكان

المتأخر ناسخاً للمتقدم والشافعي رضي الله عنه يقول: لم يقع ذلك فليس بين مقتضى هذا وبين قول الشافعي رضي الله عنه منافاة وأشار المصنف بقوله (وإن نقل المتأخر بالآحاد) إلى أن كون المتأخر ناسخاً للمتقدم إذا علم المتأخر بالقطع. (ص): إن نقل المتأخر بالآحاد عمل به لأن دوامه مظنون. (ش): أي: لأن الأصل فيه الدوام، وهذه المسألة ذكر الأبياري في (شرح البرهان) له فيها احتمالين أحدهما: المنع، لأنه يؤدي إلى إسقاط المتواتر بالآحاد، وهو ممنوع قال: والأظهر القبول، ولا يكون بمثابة استقلال قول العدول بنقل

التواتر، وقال أبو العز في (المقترح): يكفي في التأخير نقل الآحاد، لأن السلف اكتفوا بذلك فإنا نعلم قطعاً أنه لو نقل الصديق تأخير آية حكموا بها على الأخرى، ولم يستريبوا مع أنه يمكن أن يقال: إن غلبة الظن بأنه ناسخ مرجح لأحد النصين على الآخر فيعمل بالراجح وهذا لا خفاء به. (ص): والأصح الترجيح بكثرة الأدلة والرواة. (ش): فيه مسألتان إحداهما: يجوز الترجيح بكثرة الأدلة، خلافاً للحنفية فإنها تفيد تقوية الظن والظنيين أقوى من الظن الواحد لكونه أقرب إلى القطع. الثانية: يرجح أحد الخبرين على الآخر بكثرة الرواة والخلاف فيه أضعف من الذي قبله، ولهذا وافق هنا بعض المخالفين ونقل صاحب (الميزان) من الحنفية

المنع عن أكثر أصحابهم كالشهادة، ولأن خبر الواحد يحتمل أن يكون متأخراً فيكون ناسخاً فلا معنى للترجيح والكثرة، ونقل إمام الحرمين هنا عن بعض المعتزلة وقال: الذي ذهب إليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد، ثم نقل أن القاضي قال: ما أرى تقديم الخبر بكثرة الرواة قطعياً والوجه فيه أن المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكاً إلا الخبرين، واستوى رواتهما في العدالة والثقة وزاد أحدهما بعدد الرواة فالعمل به، قال: بهذا أقطع لأنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لو تعارض لهما خبران بهذه الصفة لم يعطلوا الواقعة بل كانوا يقدموا هذه قال: وأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية (وهذا الذي ذكره القاضي حق، ويشبه أن لا يكون محل الخلاف إلا في الصورة التي جعلها ظنية) وأما في الأولى فلا مساغ له، نعم، لو اجتمع مزية الثقة وقوة العدد بأن روى أحد (139/ز) الخبرين ثقة، وروى الآخر جمع لا يبلغ آحادهم مبلغ راوي الخبر الآخر في الثقة والعدالة، فهذه صورة أخرى، وقد اعتبر بعض المحدثين مزية العدد وبعضهم مزية الثقة، قال إمام الحرمين: والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع، والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة فإن الغلب= على الظن أن الصديق لو روى خبراً وروي جمع على خلافه لكان الصحابة يؤثرون رواية الصديق. انتهى.

(ص): وأن العمل بالمتعارضين ـ ولو من وجه ـ أولى من إلغاء أحدهما ولو سنة قابلها كتاب ولا يقدم الكتاب على السنة، ولا السنة عليه خلافاً لزاعمهما. (ش): إنما يرجح أحد الدليلين على الآخر إذا لم يمكن العمل بكل واحد منهما، فإن أمكن ولو من وجه دون وجه فلا يصار إلى الترجيح بل يصار إلى ذلك لأنه أولى من العمل بأحدهما دون الآخر، إذ فيه إعمال الدليلين، فالإعمال أولى من الإهمال ومثاله: ((أيما إهاب دبغ فقد طهر)).

مع قوله: ((لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)) فيحمل الحظر على ما قبل الدباغ والإباحة على ما بعده، فيستعمل المتنان على الوجه الممكن، ولا نطرح أحدهما بالآخر وقوله: (ولو سنة) أي إذا تقابل ظاهر الكتاب وظاهر السنة سواء أمكن الجمع بينهما من وجه صرنا إليه وقيل: نحمله ونخصص ظاهره، فيقدم الكتاب، لأنه أرجح، ولحديث معاذ، وقيل: تقدم السنة، لأنها بيان ومثاله (58/ك) قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: ((الحل ميتته)) فإنه عام في ميتة البحر مطلقاً،

سواء خنزيره وغيره، مع قوله: {أو لحم خنزير} فإنه يقتضي تحريم كل لحم سوى خنزير البحر وغيره، فتعارض عموم السنة، والكتاب في الخنزير، فمنهم من يقدم الكتاب ويحرمه، ومنهم من يقدم السنة ويحلله، ومنهم من يقول: ننظر فإن أمكن الجمع ولو من وجه ـ جمعنا، وإلا قضينا بالتقابل ونقول: إذ ذاك نقدم الكتاب إن كانت السنة آحاداً، وإن كانت متواترة فسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى، وقد يقال: إن هذه المسألة عين المسألة السابقة في باب التخصيص أنه يخص عموم القرآن بخبر الواحد، ولهذا قال في (المستصفى) هناك: خبر الواحد إذا ورد مخصصاً لعموم القرآن، اتفقوا على جواز التعبد فيه بتقديم أحدهما على الآخر، لكن اختلفوا في وقوعه على أربعة مذاهب، فقال قوم بتقديم العموم، وبتقديم الخبر قوم، وبتقابلهما، والتوقف إلى ظهور دليل آخر، وقال قوم إن كان العموم مما دخله التخصيص بقاطع فقد ضعف فالخبر أولى، وإلا فالعموم أولى انتهى، لكن يلزم من هذا مع التكرار المناقضة، فإن المصنف اختار هناك التخصيص، وهنا التعارض، فلينظر (ص): فإن تعذر وعلم المتأخر فناسخ، وإلا رجع إلى غيرهما، وإن تقارنا

فالتخيير إن تعذر الجمع والترجيح، وإن جهل التاريخ وأمكن النسخ رجع إلى غيرهما، وإلا فخير أن تعذر الجمع والترجيح. (ش): تعارض الدليلين إن أمكن معه العمل بكل منهما فقد سبق، وإن تعذر فإما أن يكون أحدهما متقدماً والآخر متأخراً، أو يتقارنا، أو يجهل التاريخ. الحالة الأولى: أن يعلم المتأخر فإن كان حكم المتقدم قابلاً للنسخ فالمتأخر ناسخ للمتقدم، سواء كانا معلومين أو مظنونين، وإن لم يقبل النسخ فإن كانا معلومين وهو مراد المصنف تساقطا، ويجب الرجوع إلى غيرهما، كذا قاله الإمام، واعترض عليه التقشواني بأن المدلول إذا لم يقبل النسخ يمتنع العمل بالمتأخر فلا يعارض المتقدم، بل يجب إعمال المتقدم كما كان قبل ورود المتأخر، وإن كانا مظنونين طلب الترجيح. الثانية: إن يتقارنا والحكم قابل للنسخ فحكمه التخيير إن أمكن لتعذر الجمع والترجيح، أما الجمع فلأن صورة المسألة أن يتعذر العمل بكل منهما، وأما الترجيح فلأن المعلوم لا يقبل الترجيح لا بحسب الإسناد، ولا بحسب الحكم، لجواز أن يكون الحكم حظراً أو مثبتاً أو شرعياً لأنه يقتضي طرح المعلوم بالكلية. الثالثة: أن يجهل التاريخ، فإن كان الحكم قابلاً للنسخ وجب الرجوع إلى غيرهما، لأنه يجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر فيكون ناسخاً لحكم

المتأخر وأن يكون هو المتقدم فيكون منسوخاً بالآخر، فلم يجز تقدم على الآخر فيجب الرجوع إلى غيرهما وإن لم يكن قابلاً للنسخ فحكمه حكم المتقارنين وقد علمته، وكان ينبغي للمصنف أن يحيل عليه. (ص): فإن كان أحدهما أعم فكما سبق. (ش): هذا إذا تساويا في العموم أو الخصوص، فإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه فقد سبق في آخر التخصيص أنه يصار إلى الترجيح، فلا حاجة إلى الإعادة.

(ص): مسألة: يرجح بعلو الإسناد وفقه الراوي، ولغته، ونحوه، وورعه، وضبطه، وفطنته، ولو روى المرجوح باللفظ إلى آخره. (ش): ترجيح الأخبار، ويقع في سبعة أوجه. الأول: بحسب حال الراوي وذلك باعتبارات أولها: بكثرة الرواة وقد مر. ثانيها: بقلة الوسائط، وعلو الإسناد، لأن احتمال الخطأ فيما قلت وسائطه أقل (وما برحت الحفاظ والجهابذة تطلب علو) الإسناد وتفتخر به. ثالثها: بفقه الراوي: سواء كانت الرواية بالمعنى أو باللفظ، ومنهم من قال: إن روى باللفظ فلا يرجح بذلك والصحيح الأول، لأن للفقيه مزية التمييز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز بخلاف الجاهل.

رابعها: أن يكون أحدهما عالماً باللغة والنحو، لأن العالم بهما يمكنه التحفظ عن مواقع الزلل، فكان الوثوق بروايته أكثر، قال الإمام: ويمكن أن يقال: هو مرجوح، لأن العالم بهما يعتمد على معرفته فلا يبالغ في الحفظ، والجاهل بهما يكون خائفاً يبالغ في الحفظ. خامسها: أن يكون أحدهما راجحاً على الآخر في وصف يغلب ظن الصدق كالورع، والضبط، والفطنة، ولذلك رجح أصحابنا رواية مالك وسفيان عن أبي حازم حديث ((زوجتكها بما معك من القرآن)) على رواية عبد العزيز بن أبي

حازم وزائدة عن أبي حازم بلفظ ((ملكتكها)) لأن مالكاً وسفيان أعلم منهما وأوثق وأضبط، وقوله: (ولو روي (المرجوح) هو بالرفع، أي: يرجح بذلك، ولو كان الراجح بها روي بالمعنى (140/ز) والمرجوح روي) باللفظ وقد سبق ذكر الخلاف فيه في فقه الراوي. سادسها: حسن اعتقاد الراوي، فرواية غير المبتدع أولى من رواية المبتدع، كذا قطعوا به، وفيه احتمال إذا كانت بدعته بذهابه إلى أن الكذب كفر أو

كبيرة فإن ظن صدقه أغلب. سابعها: شهرة عدالته، وفي معناه شهرته بالصفات السابقة من ورع، وفطنة، علم. ثامنها: كونه مزكى بالاختبار والممارسة فيقدم على من عرفت عدالته بالتزكية، لأن الخبر أضعف من المعاينة. تاسعها: كثرة المزكين للراوي، ولهذا قدمنا حديث بسرة في مس الذكر على حديث

طلق. عاشرها: رواية معروف النسب راجحة على رواية مجهوله، قاله في (المحصول)، وقال الآمدي وابن الحاجب: يقدم مشهور النسب، وعلله الآمدي بأن احترازه عما يوجب نقيض منزلته المشهورة يكون أكثر، واختار المصنف أنه لا يرجح بشهرة النسب، ولهذا ضعفه، والأول أقوى، لأن من ليس بمشهور النسب قد يشاركه ضعيف في الاسم. حادي عاشرها: من صرح بتزكيته على من حكم بشهادته وعمل بروايته، وهذا تابع فيه الآمدي وغيره وقدم في (المنهاج) من ثبتت عدالته بعمل من روى عنه على ما راويه معدل بغير ذلك فالمراتب عنده ثلاثة: التعديل بالاختبار، ثم بالعمل، ثم بغير ذلك.

ثاني عاشرها: حفظ المروى بأن يحكي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر ينقله في الجملة، كقول أبي محذورة: لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشر= كلمة ويروي عبد الله (الأذان بلا ترجيع) لا يحكيه لفظاً (59/ ك) عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ثالث عشرها: بذكر السبب على من لم يذكره لزيادة الاهتمام من

حاكي السبب بمعرفة ذلك الحكم. رابع عشرها: أن يكون أحدهما يعول على حفظه فيما يرويه، والآخر على كتابه، فالأول أولى، لما لعله يعتور الخط من نقص وتغيير، قال الإمام: وفيه احتمال، قال المصنف: وهذا الاحتمال بعيد، بل ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يحتج برواية من يعول كتابه، قال أشهب: سئل مالك أيؤخذ ممن لا يحفظ وهو ثقة صحيح أيؤخذ عنه الأحاديث؟ فقال: لا يؤخذ عنه، أخاف أن يزاد في كتبه بالليل. قلت: بل هذا الاحتمال قوي إذا كانت النسخة محفوظة عنده وهي بخط ضابط، أو يؤمن الحافظ، وما ذكره من تطرق النقض للخط، معارض بتطرق النسيان، والاشتباه إلى الحفظ دون الكتابة. خامس عشرها: بأن يكون أحدهما سمع شفاها والآخر من وراء حجاب، كرواية القاسم عن عائشة رضي الله عنها.

أن بريرة عتقت وكان زوجها عبداً، رواه مسلم ـ على من روى أنه كان حراً، لأن عائشة رضي الله عنها عمة القاسم، فسمع منها شفاها بخلاف الأسود. سادس عشرها: كونه من أكابر الصحابة لقربه من ـ غالباً ـ مجلس النبي

صلى الله عليه وسلم، والمراد بالأكابر رؤساء الصحابة، لا الأكابر بالسن، وعن أحمد أنه لا يرجح بذلك ونظيره: كونه أكثر صحبة فيقدم، ولهذا قدموا خبر عائشة رضي الله عنها في صحة صوم الجنب على رواية أبي هريرة ((أنه لا صوم له)) وإذا قلنا بتقديم رواية الأكابر على غير الأكابر فينبغي أن تقدم رواية الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم على غيرهم، ولذلك كان: علي رضي الله عنه يحلف

الرواة ويقبل رواية الصديق رضي الله عنه من غير تحليف. سابع عشرها: بكونه ذكراً يرجح على رواية المرأة، لأن الضبط مع الذكورة أشد، هذا ما رجحه المصنف، وهو ضعيف، والصواب ما قاله الأستاذ، أنه لا يرجح بها. وقال ابن السمعاني في (القواطع): إنه ظاهر المذهب ولم يذكر الأول إلا احتمال له وحكى الكيا الطبري= الاتفاق عليه، فقال: اعلم أننا لا ننكر تفاوتاً بين الذكور والإناث في جودة الفهم، وقوة الحفظ، ومع هذا كله لم يقل أحد: إن رواية الرجال مرجحة على رواية النساء، ولم نر أحداً من المتقدمين ذكره مع استقصائهم وجوه الترجيح، وكأن المانع من ذلك أن الذي يقتضي الترجيح يجب رجوعه إلى عين ما وقع الاحتجاج به ويظهر به التفاوت بين المتعارضين والتفاوت بين الذكور والإناث في قوة الحفظ أمر كلي، يرجع إلى الجنس، كما يقال: الفرس أعقل، وهذا النوع لا يظهر رجوعه إلى آحاد الجنس فلا يقع في التفاضل وقد يفرض امرأة أضبط من الرجل أو أحفظ فإذا لم يظهر التفاوت في غير الخبر لم ينظر إلى الجنس وإنما ينظر إليه في تمهيد الصواب، وذلك في الشرع كما فعل في شهادة النسوة مع الرجال، وهذا مقطوع به لا ريبة فيه، انتهى، وفي المسألة مذهب ثالث: التفصيل

بين أن يكون المروى في أحكام النساء فيقدمن على غيرهن، لأن همتهن إلى حفظه أكثر وإن كان في أحكام غيرهن قدم، حكاه الأستاذ. ثامن عشرها: كونه حرا وهذا ضعيف كالذي قبله، قال ابن السمعاني: والحرية لا تأثير لها في قوة الظن. تاسع عشرها: كونه متأخر الإسلام، لأنه يحفظ آخر الأمرين، وكذا إذا كان أحدهما متأخر الصحبة ولذلك قدموا خبر أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم (سلم من اثنتين) وتكلموا على حديث ابن مسعود في الكلام في

الصلاة وقدموا رواية ابن عباس في التشهد على رواية ابن مسعود، ونقل ابن السمعاني عن الحنفية أنه لا يقدم بهذا، لأن المتقدم قد دامت صحبته إلى حال وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون للمتأخر ترجيح عليه قال وما قلناه أولى، لأن سماع المتأخر تحقق تأخيره، وسماع المتقدم يحتمل التقدم والتأخر، فما تأخر سماعه يتعين أن يكون أولى، ولهذا قال ابن عباس: كنا نأخذ بالأحدث

فالأحدث انتهى، وأما ابن الحاجب، والهندي فجزما بتقديم رواية متقدم الإسلام وتابعا فيه الآمدي، وعلله بأنها تثير قوة الظن لزيادة أصالته في الإسلام، وتجرزه فيه ولكن الهندي ذكر هذا في الترجيح بما يرجع إلى نفس الراوي، ثم ذكر أواخر الباب فيما يرجع إلى الترجيح بأمر خارج أن متأخر الإسلام يقدم مطلقاً، وهذا منه رجوع إلى قول الجمهور. العشرون: كونه محتملاً= بعد التكليف، وهو يشتمل ما إذا لم يرو شيئاً إلا بعد بلوغه، يقدم على من لم يرو إلا في صباه، لأن البالغ أقرب إلى الضبط، وعلى من روى البعض في صباه، والبعض في بلوغه، لاحتمال أن هذا الحديث من المحتمل في الصبا، ويشمل تعبيره بالتكليف من روى حال الكفر أو حال الكفر والإسلام فإن من (141/ز) لم يرو إلا في الإسلام يقدم عليه. الحادي والعشرون: كونه غير مدلس مقدم على رواية المدلس، أي: إن

كان بحيث تقبل روايته، وإلا فليس هو من باب الترجيح، وكأن المصنف استغنى عن تقييده لذلك. الثاني والعشرون: كونه اشتهر باسم واحد مقدم على من اشتهر باسمين، لاحتمال أنه مجروح بأحدهما. الثالث والعشرون: كونه مباشراً للواقعة فإنه أعرف بالقصة من الآخر، ولهذا قدم الشافعي رواية أبي رافع في (نكاح النبي صلى الله عليه وسلم

ميمونة حلالاً) على رواية ابن عباس رضي الله عنه (أنه كان محرماً). الرابع والعشرون: كونه صاحب الواقعة كرواية ميمونة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال) رواه مسلم. الخامس والعشرون: كونه راوياً باللفظ على الراوي بالمعنى، والمشكوك فيه كونه مروياً باللفظ أو المعنى حتى يرجح الحديث المشتمل على صيغة واحدة مروية

بلفظها على ما كله مروي بالمعنى. السادس والعشرون: كونه لم ينكر الأصل رواية الفرع فيه، فيقدم على ما أنكره، مثل إنكار أبي معبد، ما حدث به عنه عمرو بن دينار من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير، وهذا إذا صمم على إنكاره، فإن لم يصمم، وحمل أمر شكه، في نفسه على النسيان فلا تظهر مرجوحيته وقد كانوا يحدثون بعد ذلك عن من روى

عنهم، كما فعل سهيل في حديث ((القضاء باليمين مع الشاهد)) وقول المصنف: راوي الأصل، هي عبارة (المحصول) و (المنهاج)، وقال المصنف في شرحه الصواب زيادة في الراوي أو حذفه بالكلية. السابع والعشرون: (60/ ك) كونه في الصحيحين مقدم على ما التزم فيه بالصحة في غيرها ولو كان على شرطهما، لأن لشهرتهما بتلقي الأمة لهما بالقبول

ما ليس لغيرهما، وإن ساويهما في درجة الصحة، ولذلك قال الأستاذ وغيره: إن كل ما فيهما مقطوع به. (ص): والقول فالفعل فالتقرير فالفصيح لا زائد الفصاحة على الأصح، والمشتمل على زيادة، والوارد بلغة قريش، والمدني، والمشعر بعلو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، والمذكور فيه الحكم مع العلة، والمتقدم فيه ذكر العلة على الحكم وعكس النقشواني، وما كان فيه تهديد أو تأكيد، وما كان عموماً مطلقاً على ذي السبب إلا في السبب، والعام الشرطي على النكرة المنفية على الأصح، وهي على الباقي، والجمع المعرف على ما ومن، والكل على الجنس المعرف لاحتمال العهد قالوا: وما لم يخصص وعندي عكسه والأقل تخصيصاً، والاقتضاء على الإشارة والإيماء، ويرجحان على المفهومين، والموافقة على المخالفة، وقيل عكسه. (ش) الترجيح بحسب المتن يقع بأمور: أولها: كونه عن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن فعله, فالقول أولى لأن دلالة اللفظ غير مختلف فيه بخلاف دلالة الفعل؛ لأن ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل اختصاصه به, ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بمنفصل بخلاف اللفظ, فإنه متميز بنفسه.

ثانيها: أن يكون عن فعله والآخر عن تقريره، فالفعل أولى، لأن دلالة التقرير على التشريع مختلف فيها، وتطرق الاحتمال إليها أشد منه في الفعل فكان راجحاً. ثالثها: فصاحة أحد اللفظين مع ركاكة الآخر، ومن الناس من لم يقبل الركيك، والحق قبوله، وحمله على أن الراوي رواه بلفظ نفسه. رابعها: قال قوم: يترجح الأفصح على الفصيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب فلا ينطق بغير الأفصح، والحق ـ وبه جزم في (المنهاج) ـ أنه لا يترجح به، لأن البليغ قد يتكلم بالأفصح والفصيح، لا سيما إذا كان مع ذوي لغة لا يعرفون سوى تلك اللفظة الفصيحة لقصد إفهامهم وإنما قال: (لا زائد الفصاحة) ولم يقل: لا الأفصح، كما قاله في (المنهاج) ـ لأن الأفصح: أن يكون في كلمة واحدة لغتان إحداهما أفصح من الأخرى، والأزيد فصاحة: أن يكون في كلمات منها الفصيح والأفصح، ولكن الأفصح فيها أكثر. خامسها: اشتمال أحدهما على زيادة لم يتعرض الآخر لها، لاشتماله على زيادة علم (كالتكبير في العيد سبعاً).

مقدم على رواية (الأربع). سادسها: الخبر المشتمل على لغة قريش وأهل الحجاز راجح على ما ليس كذلك. سابعها: المدني مرجح على المكي، لأن المدنيات متأخرة عن الهجرة والمكيات متقدمة إلا قليلاً والقليل يلحق بالكثير. ثامنها: يرجح الخبر الدال على علو شأن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم على ما ليس كذلك لأنه يدل على تأخيره، فإن الزيادة العظمى في علو شأنه، وظهوره، كانت في آخر أيامه وقال الإمام: إن دل الأول على علو الشأن والثاني على الضعف ظهر تقديم الأول، أما إذا لم يدل الثاني لا على القوة ولا الضعف فمن أين يجب تقديم الأول عليه؟ ورد بأن المشعر بعلو الرسول صلى الله عليه وسلم معلوم التأخير أو مظنونه، وما لم يشعر بذلك مشكوك فيه فليرجح الأول.

تاسعها: المذكور فيه الحكم مع علته مقدم على ما لم يذكر فيه علته، لأن ذكر علته يدل على الاهتمام به كحديث: ((من بدل دينه فاقتلوه)) مقدم على حديث النهي عن قتل النساء لأنه نيط الحكم فيه بوصف الردة، وهو مناسب لا يختلف مناسبته بالنسبة إلى الرجال والنساء، ولفظ النساء لا وصف فيه فأمكن حمله على الحربيات، ومن هذا القبيل أن يكون أحدهما مقروناً بمعنى ظاهر في المناسبة والآخر بخلافه. عاشرها: المتقدم فيه ذكر العلة على الحكم أقوى من المتقدم فيه الحكم على العلة، وهذا لم يذكره الأصوليون هنا بل هو من زيادات المصنف، وهو بناء على أن الأول أقوى من الثاني، وهو ما قاله الإمام في (المحصول) في الكلام على الإيماء فقال: يشبه أن يكون تقدم العلة على الحكم أقوى وفي الإشعار بالعلية من الثاني، لأن الطرد واجب في العلل دون العكس، وعكس النقشواني الأمر معترضاً على الإمام بأنه إذا تقدم الحكم تطلب نفس السامع العلة فإذا سمع وصفاً معقباً بالفاء سكنت نفسه عن الطلب وركنت إلى أن ذلك هو العلة، وأما إذا تقدم معنى لم نعلم بعد حكمه، مثل السارق والسارقة، فالنفس تطلب الحكم، فإذا صار الحكم مذكوراً فبعد ذلك قد يكتفي في العلة بما سبق إن كان شديد المناسبة، مثل: {والسارق والسارقة} وقد لا يكتفي بل طلب العلة بعد ذلك بطريق آخر، بأن

يقول: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} تعظيماً للمعبود، وأما فيما تأخر ذكر العلة فلا يجوز ذكر علة أخرى، قال: ولو (142/ز) ذكر عد مناقضاً، فكان الإشعار بالعلية على عكس ما قاله الإمام، كيف وترتب الحكم على الوصف عند الإمام يقتضي العلة، وإن لم يكن مناسباً، ويلزمهم أن يقولوا إشعار قول القائل: أما الطوال فأكرموهم، فالعلية أقوى من: أكرموا هؤلاء فإنهم طوال، وليس كذلك، لإمكان قول القائل في الأول: لم أجعل الإكرام علة دون الثاني، وأما قول القائل: إشعار العلة بالمعلول أقوى، فهذا لا يتأتى إلا في شيء عرف كونه علة قبل الكلام، أو قبل الحكم، أما ما إذا كانت العلة فيه مستنبطة من ذلك الكلام فلا يتأتى فيه ما ذكر. حادي عاشرها: ما فيه تهديد على ما لا يكون كذلك كقوله: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم). ثاني عاشرها: ما دلالته مؤكدة على ما ليس كذلك كقوله: ((أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل, فنكاحها باطل))

فإنه راجح على ما ترويه الحنفية: ((الأيم أحق بنفسها من وليها)) ولو سلم دلالته على المطلوب، وشمل كلامه ما لو استويا في إفادة الظن لكن تأكد أحدهما بدلالة سياق فهو راجح على عين المتأكد. ثالث عشرها: العام إذا ورد على سبب خاص وعارضه عام مطلق فإن تعارضا فيما عدا صورة السبب، فالعام المطلق أرجح للخلاف في تعميم الوارد على سبب صرح به أصحابنا.

قال إمام الحرمين: فإن قلنا إنه عام فهو عموم ضعيف، لتعين محل النص وهو السبب، ومتى امتاز أحد الظاهرين بقوة، ترجح، قالوا: وهو كما لو أجرينا: ((من بدل دينه فاقتلوه)) على عمومه وفسرنا نهيه عن (61/ك) قتل النساء بالحربيات، وأما إذا تعارضا في صورة السبب، فالعام في السبب يقدم، لأنا إن قلنا: إن الوارد على سبب يختص به فظاهر، لأنه حينئذ يكون خاصاً، والخاص يقدم على العام، وإن لم نقل به فكذلك، لأن دلالته على السبب الذي ورد عليه أقوى، ولهذا لا يجوز تخصيصه بالنسبة إليه. واعلم: أن ما ذكره المصنف من التفصيل متعين، وقد أشار إليه ابن الحاجب وصرح به أصحابنا منهم: سليم الرازي في (التقريب) وشارحو لمع الشيخ أبي إسحاق ووجهوه بأن العام الذي لم يرد أدل فيما عدا صورة السبب، ولم يقف

الهندي على هذا نقلاً فذكره بحثا. رابع عشرها: العام الشرطي، أي: الذي في معرض الشرط، كأي، ومن وما ـ راجح على النكرة المنفية، فإن الأول فيه معنى التعليل فيكون أدل على المقصود بما ليس بمعلل، وحينئذ فإلغاء العام الشرطي يوجب إلغاء السببية الحاصلة بالشرط، وإلغاء العام غير الشرطي لا يوجب غير إلغاء العموم مفسدة أخرى، فكان أولى لذلك، وهذا ما قطع به ابن الحاجب وغيره، ويؤيده قول (المحصول) هناك: إن عموم الأول: بالوضع، والثاني بالقرينة، وجزم الهندي هنا بتقديم النكرة المنفية على غيرها من أنواع العموم، ولم يوجهه، وقد يوجه بقوة دلالتها من جهة بعد التخصيص فيها، فإن قال: لا رجل في الدار، وكان فيها واحد، يعد خلفاً في الكلام بخلاف غيرها من أنواع العموم، فإنه بخروج واحد من أفراده لا يعد خلفا، بل يحمل على التخصيص ويجيء قول ثالث: إنهما سواء، فإن الإمام في (البرهان) هناك سوى بين العام الشرطي والنكرة المنفية في معنى العموم، وادعى القطع بأن العرب وضعتها كذلك. واعلم: أن ابن الحاجب قال: والعموم الشرطي على النكرة المنفية وغيرها، وإنما حذف المصنف غيرها، لأنه يؤخذ من طريق أولى، وقوله: وهي أن النكرة المنفية تقدم على باقي العمومات كالمعرف باللام، والمضاف وغيرها، ولهذا قيل:

إن دلالة النكرة على العموم بالوضع، واتفقوا في الباقي على أنه بالقرينة وقوله: (والجمع المعرف على من وما) مراده غير الشرطيتين بأن يكونا للاستفهام ولا بد من هذا القيد وإلا لتناقض كلامه، فإنه قدم أن الشرطي أعلاها، فكيف يكون في الرتبة الثالثة؟ وحاصله أن الجمع المعرف راجح على (ما ومن) لإمكان حمل (من وما) على واحد وعدم إمكان حمل المجموع على واحد، فكان المخصوص في من وما أقرب، وقوله: (والكل) أي: الجمع المعرف، وما ومن، راجح على اسم الجنس المعرف باللام، لأن الثلاثة لا تحتمل العهد أو تحتمله على بعد، بخلاف اسم الجنس، فإنه يحتمل العهد احتمالاً قريباً، ولذلك قال أكثر المحققين: إنه لا يفيد العموم. خامس عشرها: يقدم العام الذي لم يخصص على العام الذي خص، لأن الذي دخله التخصيص صار مجازاً لإزالته عن تمام مسماه والاختلاف في حجيته بخلاف الأول، فإن حقيقة ولم يختلف في حجيته، هكذا قالوا، قال المصنف:

وعندي عكسه، يعني لأنه إذا كان الغالب أن كل عام مخصص، أو أنه ما من عام إلا وقد خصص، فالعمل بالمخصوص أولى، لأنه التحق بالغالب، فاطمأنت إليه النفس، ولم تنتظر بعده تطرق التخصيص إليه، بخلاف الباقي على عمومه فإن النفس لا تستيقن ذلك وهذا الاحتمال سبقه إليه الهندي فمال إلى العكس، قال لأن الخصوص راجح من حيث كونه خاصاً بالنسبة إلى ذلك العام الذي لم يدخله التخصيص، والخاص أولى من العام، فكان ما دخله التخصيص أولى.

سادس عشرها: ما قل تخصيصه على ما كثر، وينبغي أن يجيء فيه الاحتمال السابق. سابع عشرها: دلالة الاقتضاء راجحة على دلالة الإشارة لترجيحها بقصد المتكلم، وعلى دلالة الإيماء لتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به فيه بخلاف الإيماء وقوله: (ويرجحان) أي: دلالة الإشارة والإيماء على دلالة المفهومين، أي: مفهوم الموافقة والمخالفة أما مفهوم المخالفة فللاتفاق على دلالة الاقتضاء والخلف في المخالفة، وأما في الموافقة فلجواز أن لا يكون المسكوت أولى أو مساويا، وقول المصنف: (المفهومين) أوضح من قول ابن الحاجب: المفهوم.

ثامن عشرها: إذا كان أحدهما يدل بمفهوم الموافقة والآخر بمفهوم المخالفة، فالأول مقدم على الثاني، لأن الأول متفق عليه والثاني مختلف فيه، منهم من يرجح مفهوم المخالفة، واختاره الهندي، لأن فائدته تأسيسه بخلاف مفهوم الموافقة فإنه للتأكيد. (ص): والناقل عن الأصل عند الجمهور، والمثبت على النافي (143/ز) وثالثها: سواء، ورابعها: إلا في الطلاق والعتاق، والنهي على الأمر، والأمر على الإباحة، والخبر على الأمر والنهي، وخبر الحظر على الإباحة، وثالثها: سواء، والوجوب والكراهة على الندب، والندب على المباح في الأصح، ونافي الحد، خلافاً لقوم والمعقول معناه، والوضعي على التكليفي في الأصح. (ش): الترجيح باعتبار مدلول الخبر يقع بأمور: أحدها: كون أحدهما مقرراً لحكم الأصل، والآخر ناقل، فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل: لأنه يفيد حكماً شرعياً ليس في الآخر كحديث: ((من مس ذكره فليتوضأ)) مع حديث ((هل هو إلا بضعة منك)) وذهب الإمام والبيضاوي وغيرهما إلى ترجيح المقرر، لأن حمل الحديث على ما لا يستفاد إلا

من الشرع أولى من حمله على ما يستقل العقل بمعرفته، والتحقيق أنه إن تقرر حكم الناقل مدة في الشرع عند المجتهد، وعمل بموجبه ثم نقل له المقرر، وجهل التاريخ فههنا يرجح المقرر، لتضمنه العمل بالخبرين بالناقل في زمان والمقرر بعد ذلك، وإن كان الثابت بمقتضى البراءة الأصلية، ونقل الخبران، فههنا يتعارضان ويرجع إلى البراءة الأصلية، على أن القاضي عبد الجبار قال: إن تقديم الناقل أو المقرر على الخلاف ليس من باب الترجيح بل من النسخ لكنه ضعيف، وإلا لم يصح رفعه إلا بما يصح رفع الحكم الشرعي. ثانيها: كون أحدهما مثبتاً والآخر نافيا، وهما شرعيان، كخبر بلال وأسامة في الصلاة في الكعبة،

فالمثبت مقدم على النافي عند الفقهاء لزيادة علمه، وعكس قوم، وقال القاضي عبد الجبار: يتساويا، لأن المثبت إن كان معه زيادة علم، فالنافي يعتضد بالأصل فتعارضا، ورابعها: يقدم النافي إلا في الطلاق والعتاق، وهذا أخذه المصنف من قول ابن الحاجب: إن الخبر الموجب للطلاق والعتاق راجح على المزيل لهما، لموافقته النفي الأصلي، قال: وقد يعكس فيقدم (62/ك) النافي للطلاق والعتق، وهو رأي قوم: ويجيء من كلام (المستصفى) مذهب خامس: أنهما لا يتعارضان لامتناع التعارض بين الفعلين لاحتمال وقوعهما في حالين فلا يكون بينهما تعارض، وإنما قيدت المسألة بالشرعي، لأن النفي الأصلي هو عين المسألة السابقة في الناقل والمقرر. ثالثها: كون أحدهما أمراً والآخر نهياً، فالنهي أولى، لأن طلب الترك فيه أشد من طلب الفعل في الأمر، ولهذا قال كثير من المحققين ـ ممن قال الأمر لا يفيد

التكرار أن النهي يفيده. رابعها: كون أحدهما أمراً والآخر مبيحاً فالأمر أولى، لأنه أحوط، ولأن فيه حمل كلام الشرع على الحكم التكليفي، فإن المباح لا تكليف فيه، وقيل: المبيح أولى ورجحه الهندي، لأنه لو رجح الأمر لزم منه تعطيل المبيح بالكلية، وترجيح المبيح فيه تأويل الأمر بصرفه عن ظاهره، والتأويل أولى من التعطيل. خامسها: كون أحدهما أمراً والآخر خبراً، فالخبر أولى، لأن دلالته على الثبوت والتحقيق أقوى من دلالة غيره عليه، ولأنه لو لم يقل به لزم الخلف في خبر الشارع، وبه يعلم أن صورة المسألة في الخبر المحض ليخرج ما صيغته خبر ومعناه فكالأمرين.

سادسها: كون أحدهما خبراً والآخر نهياً لما سبق. سابعها: خبر الحظر على الإباحة للاحتياط وقيل العكس، لأنهما حكمان شرعيان، وفي ثالث: يستويان، ورجحه في (المستصفى)، وحكاه الهندي عن أبي هاشم وعيسى بن أبان. ثامنها: كون أحدهما يقتضي الوجوب، والآخر الندب فالوجوب أولى لما ذكرنا. تاسعاً: كون أحدهما يقتضي الكراهة والآخر الندب، فالكراهة أولى لما ذكرها. عاشرها: كون أحدهما يقتضي الندب والآخر يقتضي الإباحة، فالندب أولى، قال الهندي: ويمكن أن نرجح الإباحة بكونه متأيداً بالأصل في جانب الفعل والترك وبكونه أعم وأسهل من حيث إنه مفوض إلى خيرة المكلف، ومن حيث إنه لا

احتمال في الصيغة الدالة عليه، بخلاف الندب فإنه يثبت بصيغة الأمر، وفيها الاحتمال، ولهذا الاحتمال عبر المصنف بالأصح. حادي عاشرها: النافي للحد على الموجب له، لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وفي وجه لأصحابنا أنهما سواء، ورجحه الغزالي، لأن الشبهة تؤثر في ثبوته شرعاً، ألا ترى أنه يثبت بخبر الواحد والقياس مع الشبهة فيهما ولأن الحد إنما يسقط بالشبهة إذا كانت في نفس الفعل يبيحه قوم ويحظره قوم، كالوطء في نكاح بلا ولي وليس هنا اختلاف في نفس الفعل، وإنما تعارض الخبران فيه فكانا سواء، وقد يظن أن الخلاف لفظي، فإن القائل بالتساوي يؤول قوله لتقديم النافي، فإنهما يتعارضان فتساقطا ويرجع إلى غيرهما إن كان هناك دليل شرعي، وإلا بقي الأمر على الأصل، فيلزم نفي الحد، والصواب أنه معنوي، فإن الأول يقول: نفي الحد بالحكم الشرعي، والآخر يقول: بالبقاء على العدل الأصلي.

ثاني عاشرها: كون أحدهما يثبت حكماً معقول المعنى والآخر غير معقول، فالأول أولى، لأن انقياد المكلف له أكثر فيكون أسرع إلى القبول، وأفضى إلى الوقوع، فيكون حصول مقصود الشارع أتم، ولأنه أكثر فائدة، لأنه يلحق علته بالقياس بخلاف غير المعقول. ثالث عاشرها: المثبت للحكم الوضعي أولى من المثبت للحكم التكليفي، لأن الوضعي لا يتوقف على ما يتوقف عليه التكليفي من أهلية المخاطب وفهمه وتمكنه من الفعل، فكان أولى، وقيل: بالعكس، حكاه الهندي، لأنه مقصود بالذات ولأنه الأكثر من الأحكام فكان أولى. (ص): والموافق دليلا آخر، وكذا مرسلاً أو صحابياً أو أهل المدينة أو الأكثر في الأصح، وثالثها: في موافق الصحابي إن كان حيث ميزه النص كزيد في الفرائض، ورابعها: إن كان أحد الشيخين مطلقاً، وقيل إلا أن يخالفهما معاذ في الحلال والحرام، أو زيد في الفرائض ونحوهما، قال الشافعي رضي الله عنه: وموافقة زيد في الفرائض فمعاذ فعلي، ومعاذ في أحكام غير الفرائض فعلي: (ش): ترجيح الخبر بالأمور الخارجية يقع بأمور: أحدها: بموافقة أحدهما لدليل آخر من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس، والآخر غير موافق، فالموافق أولى ولهذا قدمنا حديث عائشة رضي الله عنها في

التغليس على حديث رافع في الإسفار لموافقته قوله تعالى: {حافظوا على (144/ ز) الصلوات} ومن المحافظة: إيقاعها أول الوقت. ثانيها: موافقة أحدهما لخبر مرسل وإن لم يقل بحجيته، لأن التعاضد أقوى

في النفس، ولهذا عمل الشافعي رضي الله عنه بالمرسل إذا عضده مرسل، وألحق به الغزالي ما إذا عضده خبر مردود عنده لكن قال به بعض العلماء، قال: فهذا مرجح لكن بشرط أن لا يكون قاطعاً ببطلان مذهب القائلين به، بل يرى ذلك في محل الاجتهاد. ثالثها: بموافقته لقول صحابي، أي: لم ينتشر، فإن انتشر وسكت عليه الآخرون، وقلنا إنه إجماع ـ صار قاطعاً وسقط الظن في مقابلته، وفيه خلاف سنذكره. رابعها: بموافقته لعمل أهل المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وإن لم يقل إن إجماعهم حجة كما قدمنا رواية (إفراد الإقامة) على رواية

أبي محذورة تعليمه الإقامة سبع عشرة كلمة على أنه صح عن أبي محذورة وأولاده دوام إفراد الإقامة، قال البيهقي: وهو يضعف رواية شفعها أو يدل على أن الأمر صار إلى إفرادها، وذكر إلكيا الطبري هذا الترجيح بالنسبة للرواية، فقال: حديث ينقل بمكة وآخر ينقل بالمدينة، تقدم رواية المدينة من حيث إن الهجرة تراخت، وإن اتفقت له غزوات إلى مكة. خامسها: بموافقة الأكثر إذا كان الآخر لا يجوز خفاؤه عليهم، لأن الأكثر يوفق للصواب ما لا يوفق له الأقل، هذا ما جزم به كثيرون، ومنع آخرون منهم الغزالي من حصول الترجيح به، لأنه لا حجة في قول الأكثر، ولو شاع الترجيح بمذهب بعض المجتهدين لانسد باب الاجتهاد على البعض الآخر، والتحقيق أنه إن لم يكن في مقابلة الأكثر إلا شذوذ رجح به لأنه إجماع على أحد القولين، بل هو من باب تقديم الدليل على ما ليس بدليل إن قلنا بحجيته، وإن ينته إلى هذه الحالة فلا ترجيح بالكثرة وفي موافقة الصحابي مذاهب. أحدها: يرجح به كما سبق. والثاني: لا، بناء على عدم حجيته.

والثالث: التفصيل بين أن يكون ذلك الصحابي ممن شهد له الشرع بمزية المدرك في ذلك الفن أم لا، فإن لم يشهد له الشرع كان قوله كقول غيره من الأئمة وإن شهد له كزيد (63/ك) في الفرائض رجح به، ونسبه إمام الحرمين للشافعي رضي الله عنه. والرابع: يرجح بموافقة أحد الشيخين أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما. والخامس: يرجح بعمل أحد الشيخين إلا أن يخالفهما معاذ في الحلال والحرام أو زيد في الفرائض ونحوها، وهو أقرب من الثالث، فإن المأخذ تمييزهما بالنص وأصحاب القول الرابع يقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أفرضكم زيد وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ وأقضاكم علي)) خطاب شفاهي لمخاطبين لم يكن فيهم أبو بكر ولا عمر ولا عثمان رضي الله عنهم فلم يدخلوا فيه، فلم يلزم كون من ذكر أرجح من الثلاثة فيما ذكر، وهذا هو الظاهر، قال الشافعي رضي الله عنه وإذا كان نصان أحدهما أعم أخذ بالأخص فالنص على أن زيداً أفرض أخص من النص على أن معاذاً أعلم بالحلال والحرام، فيرجح قول زيد في الفرائض على معاذ، ومعاذ على علي وعلي على غيره، لأنه جاء: ((أفرضكم زيد وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ، وأقضاكم علي)) والقضاء أعم من الكل، فالشهادة لزيد أخص من الجميع وبعده معاذ وبعدهما علي، فهي ثلاث مراتب، هكذا حكاه إمام الحرمين عن الشافعي رضي الله عنه، ثم قال: فإن اعتضد بقول الشيخين رضي الله عنهما فهي مرتبة رابعة أعم من الشهادة لعلي رضي الله عنه لاحتمال أن يكون إنما أشار إلى الخلافة، وإبداء الطاعة لهما، قال: ثم قال: الشافعي رضي الله عنه: قول علي

رضي الله عنه في القضاء كقول زيد في الفرائض، وقول معاذ في التحليل والتحريم ـ في غير الفرائض ـ كقول زيد في الفرائض، والحاصل: أنه في غير الفرائض يرجح معاذ ثم علي، وهو راجع إلى المقصود من خصوص الشهادة وعمومها فإن الشهادة لعلي رضي الله عنه أعم من الشهادة لزيد رضي الله عنه إذ الحلال والحرام يكون في المواريث وغيرها، ـ والشهادة لزيد في الفرائض أخض الشهادات، فإذا عارض قول علي رضي الله عنه قول معاذ رضي الله عنه في الحلال والحرام، قدم قول معاذ، وإذا عارض قول معاذ في الفرائض قول زيد قدم قول زيد، وإذا عارض قول معاذ قول علي رضي الله عنه في القضاء في غير الفرائض قدم قول علي رضي الله عنه وإذا عارض قول معاذ في الحلال والحرام قول زيد في غير الفرائض قدم قول معاذ. (ص): والإجماع على النص، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على غيرهم، وإجماع الكل على ما خالف فيه العوام، والمنقرض عصره، وما لم يسبق بخلاف على غيرهما. (ش): هذه المسائل في ترجيح بعض الإجماعات على بعض، وقدم أولاً أنه يرجح الإجماع على النص كتاباً كان، أو سنة متواترة، لأن النسخ مأمون فيه، وإذا تعارض إجماعان قدم المتقدم منهما على ما بعده كالصحابة على التابعين، والتابعين على تابعيهم، وهكذا، لأنهم أعلى رتبة وأقرب إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم المشهود لهم بالخيرية، ثم ذكر أن الإجماع المتفق عليه أولى من

المختلف فيه، فعلى هذا: الإجماع المشتمل على قول كل الأمة من المجتهدين والعوام أولى من الإجماع الذي يشتمل على قول المجتهدين فقط، ولك أن تقول: هذا يخالف ما قرره المصنف في باب الإجماع أنه لم يخالف أحد في عدم اعتبار قول العامة، وإجماع المنقرض عصرهم على من لم ينقرض للاتفاق على حجية الأول بخلاف الثاني، وكذا إجماع من لم يسبق بخلاف على المسبوق، للخلاف فيه، وبخط المصنف على الحاشية وقيل: المسبوق أولى، وقيل: سواء، ومنه يعرف الترجيح في بقية الإجماعات، قال الهندي ـ متابعاً لابن الحاجب ـ: واعلم أن هذه المسألة لا تتصور في الإجماعين القاطعين، لأنه لا ترجيح بين القاطعين، ولأنه لا يتصور التعارض بينهما وإنما يتصور في الظنيين، وما قالاه

ممنوع، فإن تعارض الإجماعين في نفس الأمر مستحيل، سواء كانا ظنيين أم قطعيين، وظن تعارض الإجماعين ممكن، سواء كانا في القطعي أم في الظني. (ص): والأصح تساوي المتواترين من كتاب أو سنة (145/ز)، وثالثها السنة، لقوله عز وجل: {لتبين}. (ش): في تعارض المتواترين من كتاب أو سنة، وهما في الدلالة على رتبة واحدة، مذاهب: ـ أصحها: تساويهما، لأن الكل من عند الله. والثاني: تقدم الكتاب فإنه المنقول عن عمل الصحابة. والثالث: تقدم السنة، لقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} وحكى إمام الحرمين الأقوال ورجح الأول وضعف الثاني بالتعذر، والثالث بأنه ليس الخلاف في السنة المفسرة، وإنما الخلاف في السنة المعارضة، وهو جواب صحيح، وإنما قيد المصنف المتواتر من كتاب أو سنة، ليخرج المتواتر من سنته، فإنما يتساويان قطعاً. (ص): ويرجح القياس بقوة دليل حكم الأصل، وكونه على سنن القياس، أي: فرعه من جنس أصله.

هذا باب تراجيح الأقيسة وهو الغرض الأعظم من باب التراجيح وفيه اتساع الاجتهاد وهو يقع بأربعة أشياء، وهي: أصله، وفرعه، والعلة، وخارج عن ذلك. الأول: بحسب حكم الأصل، وذكر فيه قسمين، أحدهما: بحسب قوة دليله، وهو يشمل صوراً، منهما: أن يكون أحد القياسين دليله مقطوع به والآخر بخلافه، فالقطعي أولى، ومنها: كون أحدهما دليله نطق والآخر مفهوم، فما عرف بالنطق أولى فيكون المتفرع منه أقوى، ومنها: أن دليل أحدهما عموماً لم يخص والآخر عموماً مخصص، فما لم يدخله التخصيص أولى كما سبق، ومنها: أن يكون أصل إحدى العلتين قد نص بالقياس عليه وأصل الآخر لم ينص بالقياس عليه، فما ورد النص بالقياس عليه أولى، ومنها: أن يثبت حكم أصل أحدهما. القسم الثاني: القياس الذي حكم أصله غير معدول به عن سنن القياس ـ راجح على الذي حكم أصله معدول عنه، والمراد بكونه على سنن القياس أن يكون أصل أحدهما من جنس الفرع المتنازع فيه دون أصل الآخر، فيرجح ما هو من جنسه، لأنه على سننه، صرح به القاضيان: أبو الطيب، والماوردي، والشيخ أبو

إسحاق وابن السمعاني وغيرهم مثل قياسنا ما دون أرش الموضحة في تحمل العاقلة إياه، فهو أولى من قياسهم ذلك على غرامات الأموال في إسقاط التحمل، لأن الموضحة من جنس ما اختلف فيه فكان على سننه، والجنس بالجنس أشبه، كما تقول: قياس الطهارة على الطهارة أولى من قياسها على ستر العورة. قلت: وإنما احتاج المصنف لهذا التفسير، لأن من شرط الأصل أن لا يكون مخالفاً لسنن القياس. (ص): والقطع بالعلة أو الظن الأغلب، وكون مسلكها أقوى، وذات أصلين على ذات أصل، وقيل: لا ـ وذاتية على حكمية، وعكس السمعاني (64/ك)، لأن الحكم بالحكم أشبه، وكونها أقل أوصافاً، وقيل عكسه، والمقتضية احتياطاً في الفرض وعامة الأصل، والمتفق على تعليل أصلها، والموافقة الأصول على موافقة أصل واحد، قيل: والموافقة علة أخرى إن جوز علتان، وما ثبتت علته بالإجماع فالنص القطعيين، فالظنيين، فالإيماء، فالسبر، فالمناسبة، فالشبه، فالدوران، وقيل: النص فالإجماع، وقيل: الدوران فالمناسبة وما قبلها وما بعدها وقياس المعنى على الدلالة، وغير المركب عليه إن قبل، وعكس الأستاذ، والوصف الحقيقي، فالعرفي، فالشرعي الوجودي، فالعدمي البسيط،

فالمركب، والباعثة على الأمارة، والمطردة المنعكسة، ثم المطردة فقط على المنعكسة فقط، وفي المتعدية والقاصرة أقوال، ثالثها: سواء، وفي الأكثر فروعاً قولان. (ش): الثاني يعود إلى علة حكم الأصل ويقع بأمور. أحدها: أن يكون بالقطع بالعلة، أي: يكون وجود علة أحد القياسين مقطوعاً به بخلاف علة الآخر، فما وجود علته في أصله قطعي أولى، لكونه أغلب على الظن بصحة القياس، وكذلك ما يكون وجود العلتين في أصل القياس ظنياً ولكن وجودها في أصل أحد القياسين أغلب على الظن من وجود العلة الأخرى في أصل القياس الآخر فالأغلب على الظن أولى. ثانيها: يرجح القياس الذي مسلك علته قطعي، من إجماع أو نص، دال على علته، على القياس الذي مسلك علته ظني. ثالثها: أن تكون إحدى العلتين مردودة إلى أصل واحد، والأخرى مردودة إلى أصول أو أصلين، فذات الأصلين أولى، ومن أصحابنا من قال: هما سواء، قال ابن السمعاني: والأول أصح، لأن ما كثرت أصوله كان أولى، وحكاه في (المستصفى) عن قوم، ثم قال: وهذا يظهر إن كان طريق الاستنباط مختلفاً، فإن كان مساوياً فهو ضعيف، ولا يبعد أن يقوى ظن مجتهد فيه، ويكون كثرة

الأصول ككثرة الرواة للخبر، مثاله: إذا تنازعا في أن يد السوم لم يوجب الضمان، فقال الشافعي رضي الله عنه علته أنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق وعداه إلى المستعير، وقال الخصم: بل علته أنه أخذ ليتملك فيشهد لعلة الشافعي رضي الله عنه يد الغصب، ويد المستعير من الغاصب، ولا يشهد لعلة أبي حنيفة رحمه الله إلا يد الرهن، ولا يبعد أن يغلب رجحان علة الشافعي رضي الله عنه ـ عند مجتهد ويكون كل أصله كأنه شاهد آخر، وكذلك الربا إذا علل بالطعم يشهد له الملح، وإذا علل بالقوت لم يشهد، فلا يبعد أن يكون من المرجحات، فحصل أربعة مذاهب، رابعها: إن اختلف مسلك التعليل في كل أصل رجح به، وإن اتحد مرجع الأصول فلا. رابعها: أن تكون إحداهما صفة ذاتية والأخرى صفة حكمية، فالذاتية أولى، لأنها ألزم وقيل: الحكمية، وصححه ابن السمعاني، لأن الحكم بالحكم أشبه فيكون الدليل عليه أولى، وفي (المستصفى): إذا كان إحدى العلتين حكماً ككونه حراماً أو نجساً، والآخر حسياً ككونه قوتاً أو مسكراً، زعموا أن رد الحكم إلى الحكم أولى حتى إن تعليل الحكم بالرق والحرية أولى من تعليله بالتمييز والعقل، وتعليله بالتكليف أولى من تعليله بالإنسانية، وهذا من المرجحات الضعيفة. انتهى.

خامسها: أن تكون إحداهما أقل أوصافاً والأخرى أكثر أوصافاً، فالقليلة أولى، لأنها أسلم، وقيل: الكثيرة أولى، لأنها أكثر شبهاً بالأصل. سادسها: أن تكون إحداهما تقتضي احتياطاً في الغرض والأخرى لا تقتضيه، فالأولى أولى، لأنها أكثر شبهاً بالأصل وهذا ذكره ابن السمعاني في (القواطع) وبخط المصنف الفرض (بالفاء) وإنما ذكره ابن السمعاني: الغرض بالغين المعجمة. سابعها: أن تكون إحداهما تعم حكم أصلها والأخرى تخص حكم أصلها، كتعليل الربا في البر بالطعم بعد ثبوت الربا في جميع البر قليله وكثيره، وتعليله بالكيل ينفيه ثبوت الربا فيما لا يكال من البر، وهو القليل، فيترجح التعليل بالطعم، لأنه عم حكم أصله، على التعليل بالكيل، لأنه خص حكم أصله. ثامنها: أن تكون إحداهما مأخوذة من أصل متفق على تعليله والأخرى من

أصل مختلف في تعليله، فالأولى أولى. تاسعها: أن تكون علة إحداهما على وفق (146/ز) الأصول الممهدة في الشريعة دون الأخرى فترجح الأولى لشهادة كل واحد من تلك الأصول لاعتبار تلك العلة، وقوله: (قيل والموافقة) يشير إلى خلاف حكاه ابن السمعاني أن انضمام علة إلى علة أخرى يوجب رجحان تلك العلة أي: إن جوزنا التعليل بعلتين، قال: والأصح أنها لا تترجح بذلك، لأن الشيء لا يتقوى إلا بصفة توجد في ذاته، أما بانضمام غيره إليه فلا تقوي الدليل علة المحسوسات، فكذلك العلل لا يتصور تقويتها بانضمام علة أخرى إليها، وإنما تتقوى بوجود صفة فيها، ولهذا قلنا: إن الشهادة لا تترجح بكثرة العدد. عاشرها: ما ثبت علته بالنص، لأن النقل يقبل النسخ، والتخصيص، والتأويل، بخلاف الإجماع، وهذا ما نقله الإمام في (المحصول)، ثم قال: ويمكن أن يقدم النص على الإجماع، لأن الإجماع فرع عن النص يتوقف ثبوته على الأدلة القطعية، والأصل تقدم الفرع على علته، وعلى هذا جرى صاحب (الحاصل) و (المنهاج) وقوله: (والقطعي) أي: إذا استوى الإجماع والنص في القطع في المتن والدلالة، كان ما دليله الإجماع راجحاً لما ذكرنا، ودونهما إذا كانا ظنيين

بأن كان أحدهما نصاً ظنياً والآخر إجماعاً ظنياً، فما كان دليله الإجماع راجحاً أيضاً، لما ذكره أن الدليل القطعي يقبل النسخ والتخصيص بخلاف الإجماع، قال الهندي: وهذا صحيح بشرط التساوي في الدلالة، فأما إذا اختلفا في ذلك فالحق أنه يتبع فيه الاجتهاد، فما تكون إفادته للظن أكثر فهو أولى، فإن الإجماع وإن لم يقبل النسخ والتخصيص، لكن ربما تضعف دلالته على المطلوب بالنسبة إلى الدلالة القطعية، فقد ينجبر النقص بالزيادة وقد لا ينجبر، فيتبع فيه الاجتهاد. حادي عشرها: ما ظهرت علته بالإيماء راجح على ما ظهرت علته بالطرق العقلية، لاستناد الظن فيه إلى سبب خاص، هذا إن (65/ك) لم يشترط المناسبة في الوصف المومئ إليه، فإن شرطناه فاللائق به ترجيح بعض الطرق العقلية عليه كالمناسبة لاستقلالها بإثبات العلية، بخلاف الإيماء، والإمام نقل اتفاق الجمهور على تقديم الإيماء على غيره مطلقاً من غير فصل، ثم قال: وفيه نظر، لأن الإيماء لم يوجد فيه لفظ يدل على العلية فلا بد وأن يكون الدال على عليته أمر آخر سوى اللفظ، وهو إما المناسبة، أو الدوران، أو السبر، وإذا ثبت أن الإيماء لا يدل إلا بواسطة أحد هذه الثلاثة كانت هي الأصل، والأصل ـ لا محالة أقوى ـ من الفرع، فكان كل واحد من هذه الثلاثة أقوى من الإيماء.

ثاني عشرها: يرجح ما ثبت علية وصفه بالسبر على ما ثبتت علته بالمناسبة، لإفادته لظن العلية ونفي المعارض، بخلاف المناسبة، فإنها لا تدل على نفي المعارض، وهذا ما اختاره الآمدي وابن الحاجب، ومنهم من قدم المناسبة، والخلاف في غير المقطوع به فإن العمل بالمقطوع متعين وليس من قبيل الترجيح، وإنما النزاع في السبر الذي بعض مقدماته قطعي أكثر من الظن الحاصل بالمناسبة، فهو أولى، وإلا فهما متساويان أو المناسبة أولى. ثالث عشرها: المناسبة تقدم على النسبة، قال إمام الحرمين: وأدنى المعاني في المناسبة يرجع على أعلى الأشباه. رابع عشرها: يرجح الثابت علية وصفه بالشبه على الثابت علية وصفه بالدوران لضعف الظن في الدوران، كذا جزم به المصنف، لكن ذكر إمام الحرمين في كلامه على ترتيب الأقيسة أن ما ثبت بالطرد والعكس، مقدم على غيره من الأشباه لجريانه مجرى الألفاظ ويجوز أن يحمل قوله فالدوران ما ثبتت علته

بالدوران مقدم على ما ثبتت علته بالطرد، إن قلنا إنه من المسالك وقوله: (وقيل النص فالإجماع) هو قول البيضاوي وقد سبق في الحادي عشر، وقوله: (وقيل الدوران فالمناسبة) أي: قدم بعضهم الدوران على المناسبة، محتجاً بأن المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية، وهذا ضعيف فإن العلل الشرعية أمارات، والعقلية عند القائل بها موجبة، فلا يمكن اعتبار هذه بتلك. خامس عشرها: يقدم قياس المعنى على قياس الدلالة وهذا يرجع إلى تقديم المناسبة على الشبه. سادس عشرها: يقدم غير المركب على المركب للاختلاف فيه، كما سبق في شروط حكم الأصل، ولهذا قال المصنف: (إن قبل) لأنه رجح هناك أن مركب الأصل ومركب الوصف لا يقبلان، وعكس الأستاذ، وقال إمام الحرمين: وهو من أكبر المركبين للمركب. سابع عشرها: يرجح القياس المعلل بالوصف الحقيقي الذي هو مظنة

الحكمة على غيره، ولهذا أطلقه، فشمل تقديمه على القياس المعلل بنفس الحكمة للإجماع من القياسين على صحة التعليل بالمظنة، فيرجح التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بنفس المشقة، وعلى القياس المعلل فيه بوصف اعتباري، أو وصف حكمي كقولنا في المني: مبتدأ خلق بشر، فأشبه الطين، مع قولهم: مانع يوجب الغسل فأشبه الحيض. ثامن عشرها: يقدم التعليل بالوصف العرفي على الوصف الشرعي، لأن العلة الشرعية بمعنى الأمارة، والعرفي مناسب. تاسع عشرها: يرجح الوجودي على العدمي، كقولنا في السفرجل: مطعوم، فكان ربوياً كالبر، مع قولهم ليس بمكيل ولا موزون، وهذا إذا كان الحكم وجودياً والعلة وجودية فإنه يرجح على ما كانا عدميين كما مثلناه، وعلى ما إذا كان أحدهما عدمياً، أما إذا كان الحكم عدمياً والعلة ثبوتية أو العكس فقال الإمام الرازي وأتباعه: إنه مرجوح بالنسبة إلى ما إذا كانا عدميين، واعتلوا بالمشابهة بين التعليل بالعدمي والعدمي. العشرون: يقدم التعليل بالبسيط على التعليل بالمركب، لأن البسيطة تكثر

فروعها وفوائدها، وهذا ما عليه الجدليون، واختاره البيضاوي، وقيل: بترجيح المركبة، وقيل: هما سواء، وفي (التلخيص) لإمام الحرمين: قال القاضي: ولعله الصحيح، وقال في (البرهان): قدم بعضهم البسيطة على المركبة، لكثرة فروعها ولقلة الاجتهاد فيها، وهو باطل، فإن إطلاق القول بأن الوصف الواحد أكثر فروعاً لا يصح (147/ز) فقد يكون أقل وقد يكون قاصراً، نعم، إن فرضنا من أصل واحد فالمفردة أكثر فروعاً وينبني على التعليل بعلتين. الحادي والعشرون: يقدم القياس الذي علته بمعنى الباعثة على الذي علته بمعنى الأمارة، لأن قبول الطاعة عليه أسرع، كذا ذكره ابن الحاجب قال المصنف في شرحه: (ولقائل أن يقول: العلة أبداً إما بمعنى الباعث، أو الأمارة، أو المؤثر، على ما سبق الخلاف فيه، أما القول بأنها تارة بمعنى الباعث وتارة بمعنى الأمارة، فلم يقل به أحد، وكأن مراده أن ذات التأثير والتخيل أرجح من التي لا يظهر لها معنى قلت: مراده: يرجح بالجامع الباعث على ما الجامع الأمارة للاتفاق على صحة التعليل بالوصف الباعث والخلاف في الأمارة، وهذا نظير ما لو كان إحداهما اسماً والأخرى وصفاً، فالصفة أولى من الاسم، لأن الأصح أن الاسم

لا يجوز أن يكون علة. قاله ابن السمعاني. الثاني والعشرون: تقدم المطردة المنعكسة على التي لا تنعكس، لأن الأولى أغلب على الظن. الثالث والعشرون: يقدم ما تكون العلة فيه مطردة فقط ـ أي: غير منعكسة ـ على ما تكون العلة فيه منعكسة فقط، أي: غير مطردة، لأن اعتبار الاطراد متفق عليه بخلاف الانعكاس. الرابع والعشرون: رجح قوم العلة المتعدية على القاصرة، وعكس آخرون منهم الأستاذ، وذهب القاضي إلى أنه لا ترجيح بقصور ولا تعدية، واختاره ابن السمعاني، وحكى الأقوال الثلاثة إمام الحرمين وهي عنده لا تقع، لأنها من باب اجتماع علتين لحكم، ومن قال بوقوع ذلك فلا حاجة إلى الترجيح عنده إذ يقول بهما، وأما من لا يرى اجتماع العلتين فجمهورهم على ترجيح المتعدية لإفادتها، واحتج من رجح القاصرة بشهادة (66/ك) النص لها في جميع مواردها، فالتمسك بها أمن من الخطأ، ومنع القاضي ترجيح المتعدية بالفائدة، وقال: لا ترجيح

بالفائدة وإنما ينشأ الترجيح من مثار دليل صحتها، وعدم الفائدة لا تبطلها ولا يقدح في عليتها وهو قبحه، واختار الإمام ترجيح المتعدية لو وقع ذلك، قال: لوجداننا في الفرع وصفاً مناسباً مستنداً إلى أصل، ومال الغزالي إلى ترجيح القاصرة فإنها أوفق للنص، قال وترجيح المتعدية ضعيف عند من لا يفسد القاصرة لا بكثرة الفروع بل وجود أصل الفروع لا تبين قوة في ذات العلة قلت: ولو رجح المتعدية بأنها متفق عليها والقاصرة مختلف فيها لم يبعد. الخامس والعشرون: إذا كان إحداهما أكثر فروعاً والأخرى قليلة، ففي ترجيح إحداهما على الأخرى قولان، ومن رجح المتعدية رجح الكثيرة الفروع على القليلة، واختاره الإمام على أصله السابق في أنا متى وجدنا في بعض الفروع معنى صحيحاً مستنداً إلى أصل، فلا يترك لعدم غيره، وإذا رجحنا بكثرة الفروع فإذا كانت القليلة الفروع لها نظائر تساوي في عدتها كثرة الفروع فهل تقوم كثرة النظائر مقام كثرة الفروع؟ فيه نظر، وقد عقد الإمام لها مسألة.

(ص): والأعرف من الحدود السمعية على الأخفي، والذاتي على العرضي والصريح والأعم، وموافقة نقل السمع واللغة، ورجحان طريق اكتسابه. (ش): لما انتهى من وجوه الترجيح في الأدلة ختم بالترجيح في الحدود، وهي إما عقلية كتعريف الماهيات، وإما سمعية لثبوتها من الأحكام، وهو المقصود هنا، وهو إما باعتبار اللفظ، أو بحسب أمر خارج، فالأول يترجح الحد بمعرف أعرف عند السامع على الحد بمعرف أخفى، لأن الأول أفضى إلى مقصود التعريف من الثاني، ويترجح الحد بالذاتي على الحد بالعرضي، لأن الأول يوجب تصور كونه المطلوب بخلاف الثاني ويرجح بالألفاظ الصريحة على غيرها، وبكون أحدهما أعم على الآخر لفائدته المتكثرة، وقيل يرجح الأخص للاتفاق على ثبوت مدلوله الأخص، والاختلاف في ثبوت مدلول الأعم من الزيادة، ومدلوله متفق عليه أولى من المختلف فيه. والثاني: يرجح الحد الموافق للنقل الشرعي أو اللغوي على غير الموافق لهما،

لأنه أغلب على الظن صحته من غيرها، ويرجح الحد برجحان طريق اكتسابه على الحد الذي يكون طريق اكتسابه مرجوحاً بأن كان طريق أحدهما قطعياً والآخر ظنياً، وإنما يترجح أحدهما على الآخر بهذا الطريق، لأن الحد السمعي لما كان متلقى من النقل، وطريق النقل قابلة للقوة والضعف جرى الترجيح فيه بحسب ترجيح الطرق بعضها على بعض. (ص): والمرجحات لا تنحصر، ومثارها غلبة الظن وسبق كثير فلم نعده. (ش): يشير إلى تقديم بعض أنواع المفاهيم على بعض، وسبق في بحث المفهوم، وإلى تقديم الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي، وسبق في بحث الحقيقة، وإلى تعارض ما يخل بالفهم كالمجاز والاشتراك، وإلى تعارض القول والفعل، وسبق في بحث السنة، وإلى دخول الفاء في كلام الشارع أو الراوي الفقيه وغيره، وسبق في مسالك العلة، وإلى تقديم بعض أنواع المناسب على بعض، وسبق في فصل المناسبة وغير ذلك.

الكتاب السابع: في الاجتهاد

الكتاب السابع: في الاجتهاد ش: إنما أخر عن الجميع، لأن الاجتهاد متوقف على معرفة الأدلة وعلى معرفة التعادل والتراجيح. ص: الاجتهاد استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم. ش: الاجتهاد لغة: بذل الوسع فيما فيه كلفة، قال الماوردي: مأخوذ من جهاد النفس وكدها في طلب المراد، وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف والمراد بالاستفراغ: بذل تمام الطاقة بحيث تحس النفس بالعجز عن المزيد وهو جنس والفقيه احتراز عن المقلد، وقال: لتحصيل ظن، لأنه لا اجتهاد في القطعيات

ولم يحتج لتقييد الحكم بالشرعي كما فعل ابن الحاجب لأنه قد دل عليه الفقيه وإلا لم يكن لذكر الفقيه في الحد معنى، وقد يورد عليه اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يسمى فقيها عرفا، ولعدم الإذن فيه، إلا أن يقال: المحدود اجتهاد (148/ز) الفقيه لا مطلق الاجتهاد وقال الماوردي: بذل المجهود في طلب المقصود، ونسب ابن أبي هريرة للشافعي رضي الله عنه أن الاجتهاد: هو القياس. وليس كذلك بل التبس عليه كلامه في (الرسالة)، فإنه قال: معنى الاجتهاد معنى القياس أي أن كلا منهما يتوصل به إلى حكم غير منصوص عليه. ص: والمجتهد الفقيه، وهو البالغ العاقل، أي ذو ملكة يدرك بها العلوم وقيل: العقل نفس العلم: ضرورية. ش: علم بهذا التعريف ركنا الاجتهاد. وهما المجتهد والمجتهد فيه، فالمجتهد هو الفقيه ثم أخذ في شروطه فاستطرد بالعاقل، لذلك الخلاف في تعريف العقل، وذكر فيه ثلاث مقالات: أحدها: أنه ملكة، أي: هيئة راسخة يدرك بها العلوم وهو معنى قول غيره: قوة طبيعية يفصل بها بين حقائق المعلومات. والثاني: أنه نفس العلم، وهو قول الأشعري، وحكاه الأستاذ أبو إسحاق عن

أهل الحق، وأنهم قالوا بترادف العقل والعلم وإن اختلف الناس في العقول لكثرة العلوم وقلتها. والثالث: أنه بعض العلوم الضرورية وهو قول القاضي أبي بكر وتابعه جمع من أصحابنا، كابن الصباغ وسليم الرازي، فخرجت العلوم الكسبية، لأن العاقل يتصف بكونه عاقلا مع انتفاء العلوم النظرية، وإنما قلنا: بعضها، لأنه لو كان جميعها لوجب أن يكون الفاقد للعلم بالمدركات، لعدم الإدراك المتعلق بها، غير عاقل، قال القاضي عبد الوهاب: فقلت له: أفتخص هذا النوع من الضرورة بوصف؟ فقال: يمكن أن يقال ما صح معه الاستنباط ونقل القشيري في (المرشد) عنه أنه قال: لا أنكر ورود العقل في اللغة بمعنى العلم، فإنهم يقولون: عقله وعلمه

بمعنى، ولكن غرضي أن أبين العقل الذي ربط به التكليف. ص: فقيه النفس (67/ك) ش: هذا شرط آخر وهو سجية النفس بالفقه، وهي: أن تكون عنده قوة الفهم على التعرف بالجمع والتفريق، والترتيب، والتصحيح، والإفساد، فإنه ملاك الصنعة، كذا قاله الأستاذ أبو إسحاق، قال: ومن كان موصوفا بالبلادة وبالعجز عن التصرف، لم يكن من أهل الاجتهاد وما أحسن قول الغزالي: إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة يسمعها - فليس بفقيه، حكاه الهمداني في طبقات الحنفية. ص: وإن أنكر القياس وثالثا إلا الجلي. ش: هذا ألحقه المصنف بخطه على الحاشية، وأشار بذلك إلى أن منكري القياس يعدون من المجتهدين حتى يعتبر خلافهم، وهذه المسألة تخرج من كلام الناس فيها مذاهب: أحدها: اعتبار خلافهم مطلقا، وهو ظاهر كلام أصحابنا في (الفروع) ولهذا يذكر الشيخ أبو حامد والماوردي، والقاضي أبو الطيب وغيرهم خلافهم في كتب الفقه ويحاججونهم. والثاني: المنع مطلقا، وهو قول القاضي أبو بكر، وتابعه إمام الحرمين،

وقالا: هم في الشرع كمنكري البداية في العقول، فلا أثر لخلافهم ولا وفاقهم. والثالث: إن أنكروا القياس الجلي لم يعتد بخلافهم، وإلا اعتد، وهو ظاهر كلام ابن الصلاح وغيره، وهو المختار وقال الأبياري في (شرح البرهان): إن كانت المسألة مما تتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي، وليس للقياس فيها مجال - فلا يصح أن ينعقد الإجماع دونهم، إلا على قول من يرى أن الاجتهاد قضية واحدة لا تتجزأ، فإن قلنا بالتجزئ فلا يمتنع أن يقع النظر في نوع هم فيه محققون. ص: والعارف بالدليل العقلي والتكليف به. ش: شرط الغزالي والإمام الرازي: كونه عارفا بدليل العقل، أي: البراءة الأصلية ويعرف أنا مكلفون بالتمسك به ما لم يرد دليل ناقل من نص أو إجماع أو غيرهما قال الهندي: ولم يذكرا فيه القياس، فإن كان ذلك بناء على أنه متفرع

من الكتاب والسنة فالإجماع والعقل أيضا كذلك، فكان يجب أن لا يذكراهما وإن كان ذلك بناء على أنه ليس بمدرك، فكونه حجة ينفي ذلك، بل هو أيضا مدرك من المدارك فينبغي أيضا أن يكون المجتهد عارفا به وبأنواعه وأقسامه وشرائطه المعتبرة وطرق عليته. ص: ذو الدرجة الوسطى لغة وعربية وأصولا وبلاغة. ش: أما اعتبار اللغة والعربية فلأن شرعنا عربي، فلا يمكن التوصل إليه إلا بفهم كلام العرب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولو أن المصنف عبر بدل العربية بالنحو لكان أحسن لشموله الإعراب والتصريف، وأشار بقوله (الدرجة الوسطى) إلى أنه لا يشترط في ذلك بلوغه إلى حد الأصمعي والخليل

وسيبويه بل يكفي عرفانه بأوضاع العرف، بحيث يميز العبارة الصحيحية عن الفاسدة والراجحة عن المرجوحة، فإنه يجب حمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ما هو الراجح، وإن كان عكسه مرجوحا جائزا في كلام العرب، وقال الأستاذ: فأما الحروف التي يختلف عليها المعاني فيجب فيه التبحر والكمال ويكتفى بالتوسط فيما عداها، وأما اللغة فيجب فيها الزيادة على التوسط حتى لا يشذ عنه المستعمل في الكلام في غالب اللغة، وأما اعتبار أصول الفقه فلأن به يقوى على معرفة الأدلة وكيفية الاستنباط، وكلما كان أكمل في معرفته، كان منصبه أتم وأعلى في الاجتهاد، وأما اعتبار معرفة البلاغة فلأن الكتاب والسنة في الذروة العليا من الإعجاز فلا بد من معرفة الإعجاز، ومواقعه وأساليبه ليتمكن بذلك من الاستنباط. ص: ومتعلق الأحكام من كتاب وسنة، وإن لم يحفظ المتون. ش: (متعلق) بفتح اللام بخط المصنف، أي: لا بد له من معرفة كتاب الله قالوا: ولا يشترط معرفة جميعه، بل ما يتعلق بالأحكام، وذكر أنها خمسمائة آية

وكأنهم أرادوا بالمطابقة وإلا فغالب القرآن - بل كله - لا يخلو عن مستنبط حكم لمن وهب له، قالوا: ولا يشترط حفظها بل يكفي أن يكون عارفا بمواقعها حتى يطلب منها الآية التي يحتاج إليها عند نزول الواقعة، ولا بد له من معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشترط أيضا معرفة جميعها، بل ما (149/ز) يتعلق بالأحكام ثم لا يشترط حفظها، بل معرفة مواقعها حتى يطلب منها عند الحاجة إليها. ص: وقال الشيخ الإمام: هو من هذه العلوم ملكة له، وأحاط بمعظم قواعد الشرع ومارسها، بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع ويعتبر، قال الشيخ الإمام: لإيقاع الاجتهاد لا لكونه صفة فيه كونه خبيرا بمواقع الإجماع كي لا يخرقه. ش: ما سبق من الشروط يعتبر لكونه صفة في المجتهد، وذكر شروطا أخرى وهي في الحقيقة شروط لإيقاع الاجتهاد واستعماله لا لصفة راجعة إليه فلهذا فصلها المصنف عما قبلها، ونقل ذلك عن والده، وفي كلام الغزالي ما يشير إليه، فإنه ميز هذه عما قبلها، وجعلها متممة للاجتهاد ولم يدرجها في

شروطه الأصلية، فمنها: أن يعرف مواقع الإجماع، أي: حتى لا يفتي بخلافه ولكنه لا يلزمه حفظ جميع مواقعه، بل كل مسألة يفتي فيها، فينبغي أن يعلم أن فتواه ليست مخالفة للإجماع، إما بأن يعلم موافقته مذهب عالم، أو بأن تكون الواقعة متولدة في العصر ليس لأهل الإجماع فيها خوض. ص: والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وشرط المتواتر والآحاد والصحيح والضعيف وحال الرواة، وسير الصحابة، ويكفي في زماننا الرجوع إلى أئمة ذلك. ش: ومنها: كونه خبيرا بالناسخ والمنسوخ، مخافة أن يقع في الحكم المنسوخ والمتروك، ولا يشترط حفظ ذلك جميعا، بل كل واقعة يفتي فيها بآية أو حديث، فينبغي أن يعلم أنه ليس من جملة المنسوخ، كما تقدم في الإجماع، ومنها معرفته بأسباب النزول في النصوص الأحكامية، ليعلم الباعث على الحكم، وقد يقتضي التخصيص (68/ك) به أو يفهم به معناه، ومنها معرفة شرط المتواتر والآحاد ليقدم الأول

عند التعارض ومنها: معرفة الصحيح والضعيف، ليحتج بالصحيح ويطرح الضعيف، ومنها: حال الرواة في القوة والضعف، ليتميز المقبول عن المردود. وقال الشيخ أبو إسحاق والغزالي وغيرهما، ويعول في ذلك على قول أئمة الحديث كأحمد والبخاري ومسلم والدارقطني، وأبي داود ونحوهم، لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجاز الأخذ بقولهم كما نأخذ بقول المقومين في القيم، ومنها: معرفة جملة أحكام الصحابة وفتاويهم. ص: ولا يشترط علم الكلام وتفاريع الفقه والذكورة والحرية، وكذا العدالة على الأصح.

ش: عدم اشتراط علم الكلام، قاله الأصوليون، وقال الرافعي: عد الأصحاب من شروط الاجتهاد معرفة أصول العقائد قال الغزالي: وعندي أنه يكفي اعتقاد جازم، ولا يشترط معرفتها على طريق المتكلمين، وبأدلتهم التي يحررونها انتهى. وكان بعض مشايخنا ينازع في نسبة الاشتراط للأصحاب، وقال: لم أر في كتبهم ذلك. ومنها: لا يشترط تفاريع الفقه، وكيف يحتاج إليها والمجتهد هو الذي يولدها ويحكم فيها؟ فإذا كان الاجتهاد نتيجة فلو شرط فيه لزم الدور، وعن الأستاذ أبي إسحاق: يشترط الفقه، ولعله أراد ممارسته وإليه مال الغزالي فقال: إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق يحصل الدربة في هذا الزمان، ولم يكن الطريق في زمن الصحابة ذلك. ومنها: لا يعتبر في صحة الاجتهاد أن يكون رجلا ولا أن يكون حرا، ولا أن يكون عدلا، وإنما تعتبر العدالة في الحكم

والفتوى فلا يجوز استفتاء الفاسق، وإن صح استفتاء المرأة والعبد، ولا يصح الحكم إلا من رجل عدل، فصار= شروط الفتيا أغلظ من شروط الاجتهاد بالعدالة، لما تضمنه من القبول يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص، لأن ذلك في جواز التمسك بالظاهر المجرد عن القرائن والكلام هنا في اشتراط معرفة المعارض أي بعد ثبوت كونه معارضا، ولهذا قال في (المحصول): يشترط أن يعرف الأدلة التي تقتضي تخصيص العموم في الأعيان، وهو المسمى بالتخصيص، أو في الأذهان وهو النسخ، والذي يقتضي تعميم الخاص وهو القياس، وحينئذ يجب أن يكون عارفا بشرائط القياس ليميز ما يجوز عما لا يجوز، ولكن الأبياري في (شرح البرهان) أجرى الكلام على ظاهره، وحكى الخلاف السابق في باب العموم هنا وأن ذلك جار في كل دليل مع معارضه، وإلى أي وقت يبحث فيه الخلاف السابق في باب العموم، وهذا هو الظاهر، وبه يعلم تناقض (المحصول) ومن تبعه.

ومنها: أن يعرف من حال المخاطب أنه يعني باللفظ ما يقتضيه ظاهره إن تجرد عن القرينة المعينة، وإن كان معه قرينة فما تقتضيه القرينة، وإلا لما حصل الوثوق بشيء من الأحكام (150/ز) لجواز أن يقال: إنه عنى بالخطاب الذي يدل ظاهره على حكم، أو خبر، أو وعد، أو وعيد غير ظاهره، مع أنه لم ينبه عليه، فيجب على المجتهد أن يبحث عن القرينة إلى أن يغلب على الظن وجودها أو عدمها فيعمل بمقتضاها إن وجدها، وإلا فما يقتضيه ظاهر اللفظ. ص: دونه مجتهد المذهب وهو المتمكن من تخريج الوجوه على نصوص إمامه، ودونه مجتهد الفتيا وهو المتبحر المتمكن من ترجيح قول على قول آخر. ش: اجتماع تلك العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع، وقد انقطع الآن، ودونه في الرتبة مجتهد المذهب وهو من ينتحل مذهب إمام من الأئمة وعرف مذهبه وصار حاذقا فيه بحيث لا يشذ عنه شيء من أصول مذهبه ومنصوصاته فإذا سئل عن حادثة، إن عرف لصاحبه نصا أجاب وإلا اجتهد فيها على مذهبه وخرجها على أصول صاحبه، وادعى ابن أبي الدم أن هذا النوع قد انقطع في هذه الأعصار كالذي قبلها، ودونهما في المرتبة مجتهد الفتيا وهو المتبحر في المذهب المتمكن من ترجيح قول على آخر، وهذا أدنى المراتب، وما بقي بعده إلا العامي ومن في معناه.

ص: والصحيح جواز تجزؤ الاجتهاد. ش: أي يجوز أن يقال: رجل منصب الاجتهاد وفي بعض المسائل دون بعض وفي فن دون فن، فإذا ظهر له ترجيح في شيء قال به، وإذا لم يظهر له قلد، لأنه لو لم يتجزأ لعلم المجتهد جميع الأحكام ومداركها وقد سئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين: لا أدري، وقيل: لا يجوز لتعلق البعض بالبعض وهو ممنوع.

ص: وجواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم (69/ك) ووقوعه وثالثها في الآراء والحروب فقط. ش: اختلف في النبي صلى الله عليه وسلم هل كان يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه فذهب الجمهور إلى جوازه، وقال الواحدي في (البسيط) إنه

مذهب الشافعي رضي الله عنه وعزاه إلى سائر الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ولا حجة للمانع في قوله تعالى: {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} فإن القياس على النصوص بالوحي اتباع للوحي، ثم منهم من قال بوقوعه وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب ومنهم من أنكر وقوعه وتوقف فيه جمهور المحققين وذهب أبو علي وابنه أبو هاشم إلى أنه لم يكن متعبدا به وشذ قوم فقالوا بامتناعه عقلا، كما حكاه القاضي كما في (التخليص) لإمام الحرمين ومنهم

من جوزه في أمور الحروب دون الأحكام الشرعية وادعى القرافي أن محل الخلاف في الفتاوى، وأن الأقضية يجوز فيها من غير نزاع، ويشهد له ما رواه أبو داود عن أم سلمة، قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست، فقال: ((إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه)) واحتج المانعون بأن: الاجتهاد إنما يسوغ عند فقد النص، والأنبياء لا يفقدونه لتمكنهم من استطلاع الوحي، وأجيب: بأنه إذا لم يأتهم الوحي في الواقعة فهم كغيرهم في البحث عن معاني النصوص، إلا أنهم يفارقون غيرهم في العصمة من الخطأ. ص: والصواب أن اجتهاده عليه الصلاة والسلام لا يخطئ؟ ش: إذا جوزنا الاجتهاد على النبي صلى الله عليه وسلم فالصواب أنه لا يخطئ

اجتهاده وهذا هو الحق، وعليه جرى البيضاوي وهو خير من قول ابن الحاجب لا يقر على خطأ فإن الذي يعتقده عدم وقوع الخطأ فيه البتة، ويقال لمن جوزه بشرط عدم التقرير: أليس يصدق صدور الخطأ المضاد لمنصب النبوة، ويلزمك محال من الهذيان، وهو أن يكون بعض المجتهدين في حال إصابته أكمل من المصطفى صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة معاذ الله! ص: وأن الاجتهاد جائز في عصره صلى الله عليه وسلم وثالثها بإذنه صريحا قيل: أو غير صريح، ورابعها للبعيد، وخامسها للولاة. ش: الكلام في هذه المسألة في مقامين أحدهما: في الجواز وفيه مذاهب: أحدها: يجوز مطلقا وهو المختار عند الأكثرين

إمكان النص لا يضاد الاجتهاد وإنما الذي يضاد نفس النص. والثاني: المنع مطلقا، وهو ههنا أظهر منه المسألة التي قبلها، لأن مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم أسهل من طلب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالوحي الذي قد يتأخر. والثالث: إن ورد الإذن بذلك جاز، وإلا فلا، ثم منهم من نزل السكون على المنع منه مع العلم بوقوعه منزلة الإذن، ومنهم من اشترط صريح الإذن. والرابع: يجوز للغائبين مطلقا بخلاف الحاضرين لأن الغائب لو أخر الحادثة إلا لقائه لفاتت المصلحة بل حكى الأستاذ أبو منصور الإجماع في الغائب.

والخامس: يجوز للغائبين عنه من القضاة والولاة، كعلي ومعاذ لما بعثهما إلى اليمن، دون الحاضرين، كذا حكاه الغزالي والآمدي قال الإمام: والخوض في هذه المسألة قليل الفائدة، لأنه لا ثمرة له في الفقه، واعترضه الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وقال: في مسائل الفقه ما ينبني عليه، لو شك في نجاسة الإناءين ومعه ماء طاهر بيقين غيرهما ففي جواز الاجتهاد وجهان أصحهما: نعم وهو قول من يجوز في زمنه، والثاني: المنع، وتابعه المصنف في (شرح المنهاج)، وفيه نظر. ص: وأنه وقع وثالثها لم يقع للحاضر ورابعها: الوقف. ش: المقام الثاني: في الوقوع، وفيه مذاهب: أحدها: وقوعه من مجتهدي الصحابة في حضوره وغيبته ظنا، قال ابن الحاجب: وهو المختار، قيل: ولم يقل أحد: إنه وقع قطعا لكن لما ذكر الهندي أدلة الوقوع قال: فإن قلت: هذه أخبار آحاد لا يتمسك بها فيما نحن فيه، لأنها من المسائل العلمية، قال: قلنا: وإن كانت أخبار آحاد، لكن تلقتها الأمة بالقبول

فجاز أن يقال: إنها تفيد القطع، للاتفاق عليه. والثاني: لم يقع. والثالث: لم يقع لحاضر. والرابع: الوقف، واختاره البيضاوي ونسبه للأكثرين. والخامس: الوقف في حق الحاضرين، وأما الغائبون فالظاهر وقوع تعبدهم به ولا قطع. ولا شك أن الأدلة في هذه (151/ز) المسألة متعارضة وأحاديث موافقة عمر رضي الله عنه ربه تبارك وتعالى. تشهد للوقوع من الحاضرين.

ص: مسألة: المصيب في العقليات واحد، ونافي الإسلام فخطيء آثم كافر، وقال الجاحظ والعنبري: لا يأثم المجتهد، قيل: مطلقا، وقيل: إن كان مسلما. وقيل: زاد العنبري: كل مصيب، أما المسألة التي لا قاطع فيها فقال الشيخ والقاضي أبو يوسف ومحمد وابن سيرين: كل مجتهد مصيب ثم قال الأولان: حكم الله تابع لظن المجتهد، وقال الثلاثة: هناك ما لو حكم لكان به ومن ثم قالوا أصاب اجتهاداً لا حكما، وابتداء لا انتهاء، والصحيح وفاقا للجمهور: أن المصيب واحد ولله تعالى قبل الاجتهاد، قيل: لا دليل عليه، والأصح: أن عليه أمارة، وأنه مكلف بإصابته، وأن مخطئه لا يأثم بل يؤجر، أما الجزئية التي فيها قاطع فالمصيب فيها واحد وفاقا، وقيل: على الخلاف ولا يأثم المخطئ على الأصح، ومتى قصر مجتهد أثم وفاقا. ش: اعلم أن النسخ ههنا اختلفت والذي استقر عليه المصنف ما أثبته هنا، وهي مقصودة، لأن المصيب واحد أو متعدد، والمسائل قسمان: عقلية وغير عقلية، أما العقلية: فالمصيب فيها واحد، ومن لم يصادف الواقع هو آثم وإن بالغ في النظر، سواء كان مدركه عقليا، كحدوث العالم وخلق الأفعال، أو شرعيا كعذاب القبر أما نافي الإسلام كاليهود والنصارى فهم مخطئون آثمون كافرون وخالف

الجاحظ والعنبري فقالا: لا يأثم المجتهد، ثم اختلف النقل عنهم فمنهم من أطلق ذلك فشمل سائر الكفار والضلال، ومنهم من شرط (69/ك) الإسلام وهذا هو اللائق بهما، وقال القاضي في (مختصر التقريب): إنه أشهر الروايتين عن العنبري وقال ابن قتيبة: سئل عن أهل القدر وأهل الإجبار، فقال: كل

مصيب فهؤلاء قوم عظموا الله وهؤلاء قوم نزهوا الله وقال الكيا الهراسي: ذهب العنبري إلى أن المصيب في العقليات واحد، ولكن ما تعلق بتصديق الرسل وإثبات حدوث العالم والصانع، فالمخطئ فيه غير معذور، وأما ما تعلق بالقدر والجبر وإثبات الجهة ونفيها، فالمخطئ فيه معذور، ولو كان مبطلا في اعتقاده بعد الموافقة في تصديق الرسل والتزام الملة، وبنى على ذلك أن الخلق ما كلفوا إلا باعتقاد تعظيم الله تعالى، وتنزيهه من وجه، ولذلك لم يبحث الصحابة عن معنى الألفاظ الموهمة للتشبيه علما منهم بأن اعتقادهم لا تجر حرجا. القسم الثاني: المسائل غير العقلية وهي التي ليست أصلا من أصول الشرع المجمع عليه، فينقسم إلى ما ليس عليه برهان (وإلى ما عليه برهان) وإلى الأول أشار بقوله: أما المسألة التي لا قاطع فيها، فقال الشيخ أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر، والقاضي أبو يوسف

ومحمد بن الحسن وابن سريج: كل مجتهد مصيب، ثم اختلف هؤلاء فقال الأولان - وهما الشيخ والقاضي -: حكم الله تابع لظن المجتهد، فما ظنه كان حكم الله في حقه، وقال الثلاثة أبو يوسف، ومحمد، وابن سريج، في أصح الروايات عنه مقالة تسمى بالأشبه وهي أن في كل حادثة أمر ما لو حكم الله لم يحكم إلا به، قال في (المنخول): وهذا حكم على الغيب، ثم هؤلاء القائلون بالأشبه يعبرون عنه بأن المجتهد مصيب في اجتهاده مخطئ في الحكم، أي: إذا صادف خلاف ما لو حكم لم يحكم إلا به، وربما قالوا مخطئ انتهاء لا ابتداء هذا آخر تفاريع القول بأن كل مجتهد مصيب.

وقال الجمهور - وهو الصحيح - المصيب واحد، وقال ابن السمعاني في (القواطع): إنه ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه ومن حكى عنه غيره فقد أخطأ ولله تعالى في كل واقعة حكم سابق على اجتهاد المجتهدين، وفكر الناظرين ثم اختلفوا أعليه دليل أم هو كدفين يصيبه من شاء الله تعالى ويخطئه من شاء؟ والصحيح أن عليه أمارة واختلف القائلون بأن عليه أمارة في أن المجتهد هل هو مكلف بإصابة الحق أو لا؟ لأن الإصابة ليست في وسعه والصحيح الأول، ثم اختلفوا فيما إذا أخطأ الحق هل يأثم، والصحيح لا يأثم بل له أجر على ما قاله

صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد)) ومن تفاريع هذا أنه على ماذا يؤجر، ولم يتعرض المصنف له، وقال في المنع: المختار أنه يؤجر على بذل وسعه لا على نفس الخطأ لأنه ليس من صنعه وأما إذا أصاب فله أجران: أحدهما على بذله الوسع، وهذا كما في المخطئ والثاني يحتمل أن يقال: إنه على نفس الصواب، فإن قيل: أليس أنه ليس من صنعه؟ قلنا: قد يثاب المرء على ما ليس من صنعه، وإنما هو من آثار صنعه، ولا كذلك الإثم، ويحتمل أن يقال: إنه على كونه سن سنة حسنة يقتدي بها من يتبعه من المقلدين ومن هنا نقول: المخطئ لا يؤجر على اتباع المقلدين له بخلاف المصيب، لأن مقلد المصيب قد اهتدى به، لأنه صادق الهدى، وهو الحق على: ((ولأن يهدي الله بك واحدا خير لك من حمر النعم)) بخلاف المخطئ فإن مقلده لم يحصل على شيء، غاية الأمر سقوط الحق عنه باعتبار ظنه، أما حصول ثواب زائد ففيه نظر

وقد استدل على أن كل مجتهد ليس مصيبا (بأن القائل كل مجتهد مصيب) إن كان مصيبا صحت مقالته هذه لمطابقة خبره مخبره، وإن كان مخطئا فقد اختلف كلية دعواه به نفسه، فليس كل مجتهد مصيبا. القسم الثاني: ما فيه قاطع وإليه الإشارة بقوله: أما الجزئية التي فيها قاطع فالمصيب فيها واحد بالإجماع وإن دق مسلك ذلك القاطع وقيل: على الخلاف في التي قبلها وهو غريب ثم إذا أخطأ نظره، فإن لم يقصر وبذل المجهود في طلبه ولكن تعذر عليه الوصول إليه، فهل يأثم؟ فيه مذهبان: وأصحهما. المنع: والثاني: نعم وهو قول من يقول: إن المخطئ فيما لا قاطع فيه يأثم، وبعض من يوافق هناك على أنه لا يأثم فلذلك كان القول بأنه يأثم (هنا أقوى من القول بأنه يأثم) حيث لا قاطع، ولهذا عبر بلفظ: الأصح هنا، ولفظ: الصحيح هناك إشارة إلى أن هذا له وجه من الصحة، ومقابل ذلك فاسد، وكلام المصنف جازم بأنه مخطئ في هذه الحالة، وقال الغزالي: النص قبل أن يبلغه ليس حكما في حقه فليس مخطئا حقيقة ولهذا لا نقول في أهل قباء في صلاتهم (152ز) لبيت المقدس، قبل أن يبلغهم الخبر بتحويل القبلة: إنهم مخطئون إذ ذاك ليس حكما في حقهم قبل

بلوغه لعدم تقصيرهم ثم قال الغزالي: إذا ثبت هذا في مسألة فيها نص، فالتي لا نص فيها كيف يتصور خطأ المجتهد فيها؟ وقوله: ومن قصر، أي: وإن قصر في الاجتهاد فآثم وفاقا سواء في ذات القطع وغيرها، وعبارة ابن الحاجب: مخطئ آثم، وحذف المصنف لفظ: مخطئ لأنه إن أراد: مخطئ في الحكم فلسنا على يقين من ذلك، إذ يحتمل أنه أخطأ وأنه أصاب، ولكنه يأثم لتقصيره، وقد يكون مع ذلك أصاب كواجد دفين، وإن أراد: مخطئ في نفس الاجتهاد فلا كلام فيه. فائدة: من صوب المجتهد شرط في ذلك: أن لا يكون مذهب الخصم مستندا إلى دليل ينقض الحكم المستند إليه، قاله الشيخ عز الدين. ص: مسألة: لا ينقض الحكم في الاجتهاديات وفاقا، فإن خالف نصا أو ظاهرا جليا ولو قياسا أو حكم بخلاف اجتهاده أو حكم بخلاف نص إمامه غير مقلد غيره حيث يجوز النقض. ش: لا يجوز نقض حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية، لا من الحاكم - إذا تغير اجتهاده. ولا من غيره باتفاق (7/ك) إذ لو جاز النقض لجاز نقض النقض

ويتسلسل وذلك يؤدي إلى عدم الوثوق بحكم الحاكم، وهو معنى قول الفقهاء في الفروع: ولا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، وهذا إذا كان حكمه لم يتبين أنه خالف قطعيا فإن خالف قاطعا من كتاب، أو سنة متواترة، أو إجماع، أو ظاهر جلي، أعم من أن يكون مفهوم الموافقة الأولوي أو القياس الجلي - نقض، لأن ذلك مقطوع، مقدم على المظنون، وهنا أمران: أحدهما: أنه قد يتوهم من عدم النقض في الاجتهاد أن الثاني لا أثر له، وليس كذلك، ولهذا قال الشيخ عز الدين في (القواعد): لو اجتهد ثم بان خلاف ظنه، فإن تبين ذلك بظن يساويه أو ترجح عليه أدنى رجحان، فإن تعلق به حكم ينقض وبنى على اجتهاده الثاني فيما عدا الأحكام المبنية على الاجتهاد الأول، وإن لم يتعلق به حكم وبنى على ما أدى إليه اجتهاده ثانيا إلى أن يستوي الظنان، فيجب التوقف على الأصح. الثاني: محل قولنا: إن النص يبطل حكم الاجتهاد إذا كان النص المخالف موجودا قبل الاجتهاد فإن كان النص حادثا بعد الاجتهاد - ويتصور هذا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم - فالحكم بالاجتهاد السابق نافذ، قاله الماوردي في باب التيمم من (الحاوي) وأشار المصنف بقوله:

(إن حكم بخلاف اجتهاده) إلى أنه ينقض حكمه في صورتين إن كانا في الاجتهاديات: إحداهما: لو حكم المجتهد على خلاف اجتهاد نفسه، كان حكمه باطلا سواء قلد غيره أم لا، لأنه يجب عليه العمل بظنه. الثانية: إذا حكم مقلد بخلاف قول إمامه، انبنى على أنه هل يجوز له تقليد غيره؟ فإن قلنا: لا يجوز بل عليه اتباع مقلده، فينتقض وإن جوزنا تقليد من شاء فلا، كذا قاله ابن الحاجب وغيره. وأما تقييد المصنف هذه المسألة بما إذا لم يقلد غيره فسهو أصله أن الغزالي قال: إذا معنا من قلد أن يقلد غيره، وفعل وحكم بقوله فينبغي أن لا ينفذ قضاؤه لأنه في ظنه أن إمامه أرجح ونقله عنه الرافعي إلا أنه حذف لفظة (ينبغي) فأوهم أنه منقول لا بحث، واختصره النووي رحمه الله في (الروضة) فحذف التعليل فأوهم أن المسألة فيمن قلد غير إمامه، سواء كان لدليل ساقه بحيث يظن أن الحق مع

غيره في تلك المسألة أم لا، بل لمجرد صده عن إمامه، وإنما هي في الثاني، أما الأول فلا يقال فيه: إن في ظنه أن إمامه أرجح فحذف التعليل أوهم التعميم وتابعه المصنف وزاد التصريح بكونه غير مقلد، وإنما هي فيما إذا قلد غير إمامه، فهو في الحقيقة وهم ثالث على وهمين سابقين. ص: ولو تزوج بغير ولي ثم تغير اجتهاده فالأصح تحريمها عليه، وكذا المقلد يتغير اجتهاد إمامه. ش: في نقض الاجتهاد مسألتان: إحداهما: المجتهد إذا أدى اجتهاده (إلى حكم في حق نفسه ثم تغير اجتهاده كما إذا أدى اجتهاده) إلى صحة النكاح بغير ولي، ثم تغير اجتهاده إلى أنه باطل فالمختار عند ابن الحاجب التحريم مطلقا، وحكاه الرافعي عن الغزالي، ولم ينقل غيره. الثاني: إن لم يصل به حكم وحرم، وإن اتصل لم يحرم، لئلا يلزم نقض الاجتهاد بالاجتهاد وهو ما جزم به البيضاوي والهندي أما لو نكحها حنفي بغير

ولي، ثم زوجها وليها ثانيا بشافعي مجتهد يعتقد بطلان النكاح الأول، والمرأة مترددة بين دعوتيهما قال إمام الحرمين في (التلخيص): القائلين بأن المصيب واحد صاروا في مثل هذه الصورة إلى الوقف حتى يترافعان إلى القاضي، فينزلهما على اعتقاد نفسه وحكم الله عليها حينئذ دال ومنهم من قال تسلم (إلى الزوج) الأول فإنه نكحها نكاحا يعتقد صحته وهو السابق، قال: والذي عندنا أنه يجتهد فيها المجتهد، وما أدى إليه اجتهاده فهو حكم الله من وقف، أو تقديم، أو غيرهما. الثانية: إذا أفتى المجتهد على وفق اجتهاده العامي ثم تغير اجتهاده فعلى الخلاف السابق وقال الهندي: إن اتصل به حكم قبل تغير اجتهاده فكما سبق في المجتهد وإن لم يتصل به فاختلفوا فيه والأولى التحريم، كما في المجتهد في حق نفسه، ومنهم من لم يوجبه، لأنه يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد، وهو ضعيف، لأن زوال ذلك الحكم ليس بطريق النقض، بل لزوال شرطه وهو بقاء المجتهد عليه

ص: ومن تغير اجتهاده أعلم المستفتي ليكف ولا ينقض معموله. ش: المجتهد إذا أفتى بشيء ثم تغير اجتهاده لزمه إعلام المستفتي ليكف وقضية كلام المصنف اللزوم مطلقا قبل العمل وبعده، والمنقول في (الروضة) في الأقضية أنه يلزم إعلامه قبل العمل، وكذا بعده حيث يجب النقض ونقل ابن السمعاني في (القواطع) أنه إن كان عمل به لم يلزمه إعلامه، وإن لم يكن عمل به فينبغي أن يعرفه إن تمكن منه، لأن العامي إنما يعمل به لأنه قول المفتي، ومعلوم أنه ليس قوله في تلك الحالة التي يريد أن يعمل به فيها، ومن أطلقه المصنف من أنه لا ينقض ما عمله موجه بأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وبه يعلم تقييد هـ بما إذا كان القول الثاني في محل الاجتهاد، أما إذا كان بدليل قاطع فيجب نقضه لا محالة، وقد صرح الصيمري وغيره من أصحابنا بهذا التفصيل.

ص: ولا يضمن المتلف إن تغير لا لقاطع. ش: إذا عمل بفتواه في إتلاف ثم بان أنه أخطأ فإن لم يخالف لقاطع لم يضمن لأنه معذور (153/ز) وإن خالف لقاطع، فأطلق المصنف التضمين ونقل الشيخ محيي الدين النووي عن الأستاذ أبي إسحاق: إذا كان أهلا للفتوى وإلا لم يضمن لأنه= المستفتي مقصر ولم يحتج المصنف إلى هذا القيد، لأن الكلام في المجتهد، وقال النووي: ينبغي أن يخرج على قولي الغرور أو يقطع بعدم الضمان مطلقا، إذا لم يوجد منه إتلاف ولا ألجأ إليه بإلزام. ص: مسألة: يجوز أن يقال: لنبي ومجتهد: احكم بما تشاء فهو صواب، ويكون مدركا شرعيا ويسمى التفويض وتردد الشافعي رضي الله عنه (72/ك) قيل: في الجواز، وقيل: في الوقوع وقال ابن السمعاني: يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم دون العالم، ثم المختار لم يقع. ش: الحكم المستفاد من العباد على أضرب: أحدها: ما جاء في طريق التبليغ عن الله تعالى، وهذا يختص بالرسل

صلوات الله عليهم وسلامه وهم فيه مبلغون فقط. والثاني: المستفاد من اجتهادهم وبذلهم الوسع، وهو من وظائف علماء الأمة، وفي جوازه للنبي صلى الله عليه وسلم خلاف سبق. الثالث: ما يستفاد بطريق تفويض الله تعالى إلى نبي أو عالم، بمعنى أن يجعل له أن يحكم بما شاء في مثله، ويكون ما يجيء به هو حكم الله تعالى الأزلي في نفس الأمر، لا بمعنى أن يجعل له أن ينشئ الحكم، فهذا من خصائص الربوبية وإنما الكلام في هذه المسألة في أنه هل يجوز أن يفوض إليه بحكم حادثة إلى رأي نبي أو عالم؟ فيقول: احكم بما شئت، فما صدر منك فهو حكمي في عبادي، ويكون إذ ذاك قوله من جملة المدارك الشرعية فذهب جمهور المعتزلة إلى منعه، وجوزه الباقون، وقال أبو علي الجبائي في أحد قوليه: يجوز ذلك للنبي دون العالم واختاره ابن السمعاني، قال: وذكر الشافعي رضي الله عنه في (الرسالة) ما يدل عليه وتردد الشافعي رضي الله عنه واختلف أصحابنا فقال الإمام: تردد في الجواز وقال الجمهور تردد في الوقوع مع الجزم بالجواز، ثم إذا قلنا: بالجواز

فالمختار عند ابن الحاجب وغيره أنه لم يقع ولهذا لم يذكر المصنف المسألة في باب الاستدلال وإن ذكرها البيضاوي فيه وجزم بوقوعه موسى بن عمران من المعتزلة. ص: وفي تعليق الأمر باختيار المأمور تردد. ش: هذه المسألة ذكرها هنا استطراداً للتنظير وإنما محلها باب الأوامر ووجه المنع التضاد، فإن الأمر يقتضي الجزم (بالفعل والتخيير) ينافيه ووجه الجواز كما في خصال الكفارة فإن الواجب منها واحد ثم إن الله تعالى خير المكلف في ذلك، (ويشبه أن الخلاف في أمر الإيجاب كما يقتضيه التقييد السابق، أما أمر الندب فلا مضادة، وفي صحيح البخاري (الأمر بالركعتين، قبل المغرب ثلاثا وقال في الثالثة: ((إن شاء)).

ص: مسألة: التقليد: أخذ قول الغير من غير معرفة دليله. ش: كذا ثبت في النسخة الأولى بخط المصنف وقوله (أخذ) جنس يشمل أخذ الإنسان بقول ثقة وبقول غيره، ومعنى الأخذ: تلقية= بالاعتقاد إما مع العمل به أو لا مع العمل، فكم من مقلد يعتقد وهو لا يعمل بما يعتقده، إما لفسق أو لغيره وقد أخذ إمام الحرمين على من أخذ القول قيدا في الحد، لأنه ليس من شرط المذهب أن يكون قولا، وقال: ينبغي الإتيان بلفظ يعمهما ولهذا يرجع المصنف عن هذا الحد الذي هنا وضرب عليه بخطه وكتب: التقليد أخذ المذهب من غير معرفة دليله وهذا الذي قاله الإمام غير وارد، لأن القول يطلق

على الرأي والاعتقاد إطلاقا وتعارفا، وساغ ذلك حتى صار كأنه حقيقة عرفية، وحينئذ فلا فرق بين القول والمذهب، وقد قال صاحب (المحكم) المذهب المعتبر الذي يذهب إليه إذا علمت هذا، فالأخذ: جنس وقوله: المذهب، فصل خرج به غير المذهب من أقوال وأفعال لقائليها وفاعليها، لا على أنها مذاهب لهم دعاهم إليها اجتهادهم إما لكونها ليست من مسائل الاجتهاد بل مما علم من الدين بالضرورة، أو لكونها خارجة عن مسائل الدين، أو لغير ذلك، والمذهب يعم القول والفعل. وقوله: (من غير معرفة). فصل خرج به الأخذ مع المعرفة، فذاك مجتهد إن عرف حق المعرفة وإلا فهو في رتبة التقليد وإن حوم على فهم المأخذ، ولهذا تراهم يقولون: أخذ الشافعي رضي الله عنه بقول مالك أو بقول أبي حنيفة (رحمهما الله تعالى) في مسائل سبقاه إلى القول بها، والضمير في قوله: (دليله) عائد على الغير أي: دليل الغير، فعلم بذلك أن المعنى: من غير معرفة المقلد الآخذ دليل الآخر القائل وعدل عن قول المختصر والإحكام بغير حجة، إلى معرفة دليله، ليشمل

الأخذ بقول من قوله حجة، ولا يجوز عليه الخطأ وتسمية هذا تقليدا شائع، وأما رجوع المجتهد إلى مثله - حيث يجوز - فهو رجوع عامي إلى مجتهد في الحقيقة لأنه لا اجتهاد له في تلك المسألة التي تبعه فيها، وأما رجوع القاضي إلى البينة فيحتمل أن يكون تقليدا ويحتمل أن لا يكون لأنه نصاب شرعي وحجة، إذا نهضت لم تقبل التغيير، إلا إن تبين أنها لم تنهض لفقد شرط ونحوه، وكذلك الرجوع إلى خبر الواحد يحتمل أن لا يكون تقليدا، نعم صرح ابن القاص في (التخليص) بأن قبول خبر الواحد وقبول البينة تقليد وتبعه شراح (التلخيص) القفال وغيره، وجزم الرافعي في باب استقبال القبلة بعكسه في قبول الخبر، وقال: ليس من التقليد في شيء وحكى ابن السمعاني فيه وجهين، فإن قيل: قد ظهر معنى قوله (من غير معرفة دليله) وعدوله عن قول غيره، من غير حجة لكنه ناقض بعد ذلك حيث قال بعد حكاية مذهب الشيخ: في إيمان المقلد والتحقيق: إن كان أخذ بقول الغير بغير حجة، وفي هذا تعريف للتقليد بأنه: أخذ قول الغير بغير حجة، قلنا: هنا دقيقة هي من دقائق هذا الكتاب، وهي أن إيمان المقلد الذي حكى عن الشيخ صحته إنما هو إيمان مقلد من يجوز عليه الخطأ بخلاف مقلد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإن ذلك إما أن لا يسمى مقلدا فيخرج بقوله التقليد، أو يسمى فيخرج بقوله من غير

حجة، لأنه حجة في نفسه، وهو قدم اختيار أنه يسمى بذلك، وحينئذ فيحسن إذا فرض الكلام في تقليد من يجوز عليه الخطأ أن يقال: من غير حجة، ولما كان كلامه هناك في إيمان المقلد يختص بمقلد من يجوز عليه الخطأ تعين أن يقول من غير حجة ليخرج مقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أصح الإيمان وأقواه وقال ابن الصلاح: وهو قبول قول من يجوز عليه الاحتراز عن الخطأ بغير الحجة على عين ما قبل قوله فيه، واحترز بقيد الاحتراز عن الرجوع إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والإجماع (73/ك) وبقيد: بغير الحجة على عين ما قبل قوله فيه عن استفتاء العامي، وقبول القاضي البينة وقضية كلام المصنف أنه تقليد. تنيبه: (154/ز) سبق في أول الكتاب في تقسيم الإدراك، أن الاعتقاد القابل للتغير إن طابق فصحيح وسماه الإمام الرازي: تقليدا، وقال: إنه الاعتقاد المطابق لا الموجب واعترض عليه بأنه الموجب وهو التقليد، وهذا فاسد لأنه أراد بالموجب ما كان عن برهان حسي، أو عقلي أو مركب منهما، واعتقاد المقلد خارج عن ذلك، وحينئذ فالتقليد يطلق باعتبارين المذكور هنا أحدهما. ص: ويلزم غير المجتهد، وقيل: يشترط تبين صحة اجتهاده، ومنع الأستاذ التقليد في القواطع، وقيل لا يقلد عالم، وإن لم يكن مجتهدا. ش: غير المجتهد يشمل صورتين: العامي في العرف والمخالف فيه معتزلة بغداد قالوا: يجب عليه الوقوف على طريق الحكم، ولا يرجع إلى العالم إلا لتنبيه على

أصولها وفصل الجبائي فقال: يجوز في المسائل الاجتهادية دون ما عداها كالعبادات الخمسة. الثانية: العالم الذي يتسامى عن رتبة العامة، فالمختار أنه كالعامي أيضا، فيلزمه تقليد المجتهد أي: في الفروع، وإن كان غير المجتهد عالما بغير ما قلد فيه، وقيل: يلزم العالم التقليد بشرط أن يتبين له صحة اجتهاد من يقلده، فيما قلده فيه بدليل يدل على صحة ذلك الاجتهاد، وإلا فلا يلزمه وما رجحه المصنف قال ابن الحاجب: إنه المختار محتجا بقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وكاد ابن حزم يدعي الإجماع على النهي عن التقليد وحكى من كلام مالك والشافعي رحمهما الله تعالى وغيرهما ذلك، قال: ولم يزل الشافعي رضي الله عنه في جميع كتبه ينهى عن تقليده وتقليد غيره، هكذا رواه المزني عنه وقال الصيدلاني:

إنما نهى الشافعي رضي الله عنه عن التقليد لمن يبلغ رتبة الاجتهاد فأما من قصر عن هذه الرتبة فليس له إلا التقليد، ويقال في معارضة كلام ابن حزم: وقد قال القاضي أبو بكر: ليس في الشريعة تقليد، فإن حقيقة التقليد: قبول القول من غير حجة ودليل، فكما أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام مقبول لقيام المعجزة الدالة على صدقه فكذلك قبول أخبار الآحاد وأقوال المفتين والحكام مقبول بالإجماع؛ لقيام الدليل الشرعي على وجوب العمل به، فنزل أقوال المفتين الظنية في وجوب العمل عليهم بالإجماع منزلة أخبار الآحاد والأقيسة عند المجتهدين في المصير إليها بالإجماع وقال الأستاذ: لا تقليد في القواطع التي هي أصول الشريعة وسياتي ومنهم من قال: لا يجوز للعالم التقليد وإن لم يكن مجتهدا بل يجب عليه معرفة الحكم بدليله، لأن له صلاحية المعرفة بخلاف العامي هنا أولى من الخلاف في العامي، والخلاف الصرف لكونه عالما ببعض الظنون. ص: أما ظان الحكم باجتهاده فيحرم عليه التقليد وكذا المجتهد عند الأكثر، وثالثها: يجوز للقاضي، ورابعها: يجوز تقليد الأعلم، وخامسها: عند ضيق الوقت، وسادسها: فيما يخصه. ش: الحالة الثالثة: إن بلغ المكلف رتبة الاجتهاد، فإن كان قد اجتهد في المسألة، ووضح في ظنه وجه الصواب لم يقلد غيره بالاتفاق وإن لم يكن قد اجتهد فيها فاختلفوا على مذاهب: أحدها: المنع من التقليد مطلقا وهو قول الجمهور.

والثاني: التجويز مطلقا، وعليه سفيان الثوري وأحمد وإسحاق. والثالث: يجوز للقاضي دون غيره. والرابع: يجوز تقليده الأعلم منه ولا يجوز لمساويه ودونه، وإليه ذهب محمد بن الحسن. والخامس: فيما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد فيه دون ما لا يفوت وهو رأي ابن سريج. والسادس: فيما يخصه دون ما يفتي به غيره، وحكى ابن الحاجب سابعا وعزاه إلى الشافعي: لا يقلد إلا صحابي أرجح من غيره من الصحابة، فإن استووا تخير وهو

يعزى للقديم قال الهندي: وقضيته أنه لا يجوز للصحابة تقليد بعضهم بعضا. ص: مسألة: إذا تكررت الواقعة وتجدد ما يقتضي الرجوع ولم يكن ذاكرا للدليل الأول - وجب النظر قطعاً وكذا إن لم يتجدد لا إن كان ذاكرا وكذا العامي يستفتي ولو مقلد ميت ثم تقع تلك الحادثة هل يعيد السؤال؟ ش: إذا تكررت الواقعة نظر، فإن تجدد ما يوجب رجوعه ولم يكن ذاكرا للدليل وجب تجديد النظر قطعا، لأنه لا ثقة ببقاء الظن وهو مراد المصنف بالقطع عند أصحابنا وإلا فقد حكى الأصوليون قولا أنه لا يجب في هذه الحالة بناء على أن الغالب على ظنه أن المأخذ الذي تمسك به قوي، فلا يلزم استئناف الاجتهاد وإن لم يتجدد له ما يقتضي رجوعه فإن لم يكن ذاكرا للدليل فكذلك يلزمه أن يجتهد ثانيا، فإن أدى اجتهاده إلى الأول فظاهر، وإن أدى إلى خلافه لزمه، وإن كان ذاكرا لم يلزمه قطعا، وكذا العامي يستفتي المجتهد وتقع له الواقعة. ثانيا: هل يلزمه أن يعيد السؤال ثانيا؟ فيه وجهان لأصحابنا، وأصحهما: نعم، لاحتمال تغير الاجتهاد وقطع به القاضي أبو الطيب في تعليقه والوجهان فيما إذا عرف استناد الجواب إلى الرأي والقياس أو شك والمقلد حي فإن

عرف استناد الجواب إلى نص أو إجماع فلا حاجة إلى السؤال ثانيا قطعا، ذكره الرافعي قال: وكذا لو كان المقلد ميتا وجوزناه وهو ظاهر في أنه لا يلزمه في الميت قطعا فما اقتضاه كلام المصنف من جريان الخلاف فيه منتقد. ص: مسألة: تقليد المفضول، ثالثها: المختار يجوز لمعتقده فاضلا أو مساويا ومن ثم لم يجب البحث عن الأرجح، فإن اعتقد رجحان واحد منهم تعين. ش: هل يجوز للمقلد أن يقلد المفضول من المجتهدين وإن قدر على تقليد الفاضل؟ فيه مذاهب: المشهور الجواز، وذهب أحمد وابن سراج إلى تعين الأرجح، واختاره القاضي الحسين وابن السمعاني وفي ثالث: يجوز لمن يعتقده فاضلا أو مساويا واختاره المصنف (74/ك) قال: ولهذا لا يجب البحث عن الأرجح كما لا يلزمه طلب الدليل، وابن سريج يخالف في ذلك ويوجب البحث عليه، لأنه

يجب عليه تقليده فوجب عليه عرفانه فإن اعتقد رجحان واحد فنقل الرافعي عن الغزالي أنه لا يجوز تقليد غيره، وإن قلنا لا يجب عليه البحث عن الأعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم، قال النووي رحمه الله تعالى وهذا وإن كان ظاهرا ففيه نظر، لما ذكرناه من سؤال آحاد الصحابة مع وجود أفاضلهم. ص: والراجح علما فوق الراجح ورعا في الأصح. ش: لأنه لا تعلق لمسائل الاجتهاد بالورع، ولهذا يقدم في الإمامة في الصلاة ولأن الظن الحاصل بقوله أكثر، ومقابل الأصح تقديم الأورع، ويحتمل التخيير. ص: ويجوز تقليد الميت خلافاً للإمام، وثالثها: إن فقد، ورابعها: قال الهندي: إن نقله مجتهد في مذهبه. ش: يجوز تقليد الميت سواء وجد حيا مجتهدا أو لا، أما إذا كان فقد المجتهدون فلا خلاف فيه عند المصنف وإن وجد مجتهد فإن كان دون الميت فيحتمل أن يقال: يقلد الميت لأرجحيته ويحتمل أن يقال: الحي لحياته، ويحتمل أن يقال -وهو الأظهر-: يجوز تقليد كل منهما لتعارض المرجحين، ثم الجمهور على الجواز وفيه (155/ز) يقول الشافعي رضي الله عنه: المذاهب لا تموت بموت أربابها.

والثاني: المنع مطلقا، وعزاه في (المنخول) لإجماع الأصوليين واختاره الإمام الرازي ومن تأمل كلام (المحصول) علم أن الإمام يمنع التقليد مطلقا، ومن فهم عنه خلاف ذلك وعزاه إليه فقد غلط، وقوله: (وثالثها): هذا هو القول المفصل والمصنف قطع به، وحمل إطلاق المطلقين على فقدان حي مماثل للميت أو راجح وأما إذا فقد مطلقا فكيف يترك الناس هملا ولا حامل لهم. قوله ورابعها: هذا حكاه الهندي فقال: ومنهم من فصل بين أن يكون

الحاكي أهلا للمناظرة ومجتهدا في ذلك المذهب الذي يحكي عنه فيجوز، وإلا فلا، ثم قال: هذا أظهر، قال المصنف وهذا التفصيل غير واقع في محل النزاع، لأن الكلام فيما إذا ثبت أنه مذهب الميت، فإن فرض أن الناقل بحيث لا يوثق بنقله فهما وإن وثق به نقلا، تطرق عدم الوثوق بفهمه إلى عدم الوثوق بنقله، وصار عدم قبوله لعدم صحة المذهب عن المنقول إليه، لا لأن الميت لا يقلد فليس التفصيل واقعا، غير أن عذر الشيخ الهندي أنه لم يعقد المسألة لتقليد الميت كما فعل الإمام. ص: ويجوز استفتاء من عرف بالأهلية أو ظن باشتهاره بالعلم والعدالة وانتصابه والناس مستفتون ولو قاضيا وقيل: لا يفتي قاض في المعاملات. ش: القائلون بوجوب الاستفتاء اتفقوا على جواز استفتاء من عرف بالعلم والعدالة أو ظن باشتهاره بذلك، أو رآه منتصبا للفتوى والناس مستفتون معظمون له، ولا يجوز له استفتاء من لم يغلب على ظنه أهليته، وإنما وجب عليه ذلك، ولأنه بمنزلة نظر المجتهد في الأمارات، ومن كان أهل الفتوى وهو قاض فهو كغيره على الصحيح، وقيل: له أن يفتي في العبادات وغيرها مما لا يتعلق بالأحكام، وفي الأحكام وجهان، وقال ابن المنذر:

يكره فتواه في الأحكام دون غيرها. ص: لا المجهول. ش: اختلفوا في جواز استفتاء من لا يعرفه المستفتي بعلم ولا جهالة، ولا بفسق ولا عدالة، والمختار عدم جوازه، بل ربما يجب القطع به، قال الهندي: والخلاف فيه في غاية البعد لو صح الخلاف، لأن العلماء وإن اختلفوا في قبول المجهول حاله في الرواية والشهادة، فلوجود ما يقتضي المنع من الفسق ظاهرا وهو الإسلام الوازع عن الفسق والمعصية، وليس يوجد في مجهول الحال ما يقتضي حصول العلم ظاهرا، ولا سيما العلم الذي يحصل به رتبة الإفتاء كيف واحتمال العامية راجح على احتمال العالمية، لكون العامية أصلا وهي أغلب أيضا، بخلاف العالمية فإنها على خلاف الأصل، وهي قليلة وعند هذا أظهر أنه لو تردد في عدالته دون علمه فربما يتجه الخلاف في جواز الاستفتاء منه، وأنه لا يجوز قياس المجهول علمه على المجهول عدالته لظهور الفارق. ص: والأصح وجوب البحث عن علمه والاكتفاء بظاهر العدالة وبخبر الواحد. ش: إذا لم يعرف علمه وجب البحث عنه بسؤال الناس، وقيل: لا يجب ويكفي الاستفاضة بين الناس، وهو الراجح في الروضة، ونقله عن الأصحاب وإن لم يعرف عدالته، قال الرافعي: ذكر الغزالي فيه احتمالين:

أحدهما: أن الحكم كذلك. وأشبههما: الاكتفاء، لأن الغالب من حال العلماء العدالة بخلاف البحث عن العلم فليس الغالب من الناس العلم قال النووي رحمه الله تعالى: هذان الاحتمالان وجهان ذكرهما غيره وهما في المستور وهو: الذي ظاهره العدالة: ولم يختبر باطنه وإذا وجب البحث، فذكر الغزالي أيضا احتمالين في أنه يفتقر إلى عدد التواتر أم يكفي إخبار عدل أو عدلين، أصحهما الثاني قال النووي رحمه الله تعالى: والمنقول خلافهما، فالذي قاله الأصحاب: إنه يجوز استفتاء من استفاضت أهليته، وقيل: لا يكفي للاستفاضة ولا التواتر بل إنما يعتمد قوله أهل الفتوى، لأن الاستفاضة والشهرة من العوام لا وثوق بها فقد يكون أصلها تلبيسا وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس، والصحيح الأول، لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته، لأن الصورة فيمن يوثق بدينه وقال الشيخ أبو إسحاق: يقبل في أهليته خبر عدل واحد. (قال النووي رحمه الله تعالى: وهذا محمول على من عنده معرفة يميز بها المتلبس من غيره ولا يعتمد في ذلك خبر) آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليه من التلبيس في ذلك.

ص: وللعامي سؤاله عن مأخذه استرشادا ثم عليه بيانه إن لم يكن خفيا. ش: قال ابن السمعاني يجوز (75/ك) للعامي أن يطالب العالم بدليل الجواز لأجل احتياطه لنفسه، ويلزم العالم أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به لإشرافه على العلم بصحته، ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعا به، لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه فهم العامي. ص: مسألة: يجوز للقادر على التفريع والترجيح - وإن لم يكن مجتهدا - الإفتاء بمذهب مجتهد اطلع على مأخذه واعتقده، وثالثها: عند عدم المجتهد، ورابعها: وإن لم يكن قادرا لأنه ناقل. ش: لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد المطلق مراتب. أحدها: أن يصل إلى رتبة الاجتهاد المقيد فيستقل بتقرير مذهب إمام معين كما هي صفة أصحاب الوجوه فيجوز الإفتاء قطعا. ثانيها: من لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس، حافظ للمذهب، قادر على التفريع والترجيح هل له الإفتاء في ذلك المذهب؟ فيه أقوال: أصحها: يجوز والثاني: المنع، والثالث: عند عدم المجتهد، والرابع: يجوز مطلقا وإن لم

يكن قادرا على التفريع والترجيح، لأنه ناقل: أما العامي إذا عرف حكم حادثة بدليل، فليس له الفتيا بها، وقيل: يجوز وقيل: إن كان نقليا جاز وإلا فلا، وقيل: إن كان دليلها من الكتاب والسنة جاز، وإلا فلا. ص: ويجوز خلو الزمان عن مجتهد خلافا للحنابلة مطلقا، ولابن دقيق العيد: ما لم يتداع الزمان بتزلزل القواعد، والمختار: لم يثبت وقوعه. ش: المختار عند الأكثرين أنه يجوز خلو عصر من الأعصار عن الذي يمكن تفويض الفتوى إليه، سواء كان مجتهدا مطلقا أم مجتهدا في مذهب المجتهد، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا)) ومنع منه الحنابلة محتجين بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله)) وأجيب: بأنه لا يدل على نفي الجواز، بل لو دل فإنما يدل على (156/ك) عدم الوقوع، واختار الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في (شرح العنوان) مذهب الحنابلة

لكن إلى الحد الذي ينتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان وقال في خطبة (شرح الإلمام) والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة والأمة الشريفة لا بد فيها من سالك إلى الحق على وضح المحجة إلى أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى، ويتتابع بعده ما لا يبقى معه إلا قدوم الأخرى، ومراده بالأشراط الكبرى طلوع الشمس من مغربها مثلا ونحوه، وقد يوجه ما اختاره من أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد لئلا يلزم اجتماع الأمة على ترك الاجتهاد الذي هو فرض على الكفاية، وله أن يحمل الحديث السابق ((حتى إذا لم يبق)) على ما قبل ذلك وقال والده العلامة مجد الدين في كتابه (تلقيح الأفهام) عز المجتهد في هذه الأعصار وليس ذلك لتعذر حصول آلة الاجتهاد، بل لإعراض الناس في اشتغالهم عن الطريق المفضية إلى ذلك. واعلم أن هذا الذي نقله عن ابن دقيق العيد قد أشار إليه إمام الحرمين في باب الإجماع من (البرهان) لما تكلم عن انحطاط علماء العصر عن مبلغ التواتر، فقال: والذي نرتضيه وهو الحق أنه يجوز انحطاطهم بل يجوز شغور الزمان عن العلماء وتعطيل الشريعة وانتهاء الأمر إلى الفترة، وهذا نستقصيه في كتاب الفتوى

إن شاء الله تعالى. انتهى. وهكذا قال ابن برهان في (الأوسط) هناك: إن كلام الخصم يقتضي أن فتور الشريعة لا يجوز وهذا محال، لأن صاحب الشرع قد أخبر بفتور الشريعة واندرس أعلامها فقال: ((لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول لا إله إلا الله)) وقال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا وإنما يقبضه بقبض العلماء)) والمختار عند المصنف: أنه يجوز لكن لم يقع، وأدلة الحنابلة تدل على عدم الوقوع. ص: وإذا عمل العامي بقول مجتهد فليس له الرجوع عنه، وقيل: يلزمه العمل بمجرد الإفتاء، وقيل: بالشروع في العمل، وقيل: إن التزمه، وقال ابن السمعاني: إن وقع في نفسه صحته، وقال ابن الصلاح: إن لم يوجد مفت آخر، فإن وجد تخير بينهما. ش: إذا عمل العامي بقول مجتهد في حادثة فليس له الرجوع عنه إلى فتوى غيره في تلك الحادثة بعينها بالإجماع، نقله ابن الحاجب والهندي وغيرهما، وأما قبل العمل فقيل: يلزمه بمجرد الإفتاء، لأنه في حقه كالدليل بالنسبة إلى المجتهد: (وقيل: يلزمه إذا أخذ في العمل وهو احتمال لابن السمعاني، وقيل: لا يلزمه العمل

به إلا بالتزامه) وقيل: يلزمه إذا وقع في نفسه وحقيقته حكاه ابن السمعاني وقال في الآخر: إنه أقوى الأوجه وقال ابن الصلاح: الذي تقتضيه القواعد أنه إن لم يجد سواه تعين عليه الأخذ بفتياه، ولا يتوقف ذلك على التزامه ولا سكون نفسه إلى حجيته، وإن وجد فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق، لزمه بناء على تقليد الأفضل، وإن لم يتبين لم يلزمه وقال النووي في (الروضة): المختار ما نقله الخطيب وغيره إن لم يكن هناك مفت آخر لزمه بمجرد فتواه وإن لم تسكن نفسه. وإن كان هناك آخر لم يلزمه بمجرد إفتائه، إذ له أن يسأل غيره وحينئذ فقد يخالفه فيجيء فيه الخلاف السابق في اختلاف المفتين. ص: والأصح جوازه في حكم آخر. ش: إذا منعناه من تقليد غيره في تلك الحادثة، فهل يجوز له أن يقلد غيره في وقائع أخرى؟ فمنهم من منعه مطلقا ومنهم من جوزه مطلقا، وفي (المختصر): أنه المختار ومنهم من فصل بين عصر الصحابة والتابعين، وبين عصر الأئمة الذين

تقررت فيهم المذاهب، يجوز في الأول دون الثاني، وإليه ميل إمام الحرمين. ص: وأنه يجب التزام مذهب معين يعتقده أرجح أو مساويا ثم ينبغي السعي في اعتقاده أرجح. ش: هل يجب على العامي أن ينتحل مذهبا معينا ابتداء، وإن لم يوجد منه تقليد لأحد؟ فيه وجهان حكاهما ابن برهان (76/ك). أحدهما: لا، فعلى هذا هل له تقليد من شاء أو يبحث عن أشد المذاهب؟ فيه وجهان، كالبحث عن الأهلية. والثاني: وبه قطع إلكيا أنه يجب عليه، فعلى هذا يلزمه أن يختار مذهبا يقلده في كل شيء وليس له التمذهب بمجرد التشهي، قال النووي رحمه الله تعالى: هذا كلام الأصحاب والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي من شاء لكن من غير تلقط الرخص، ولعل من منعه لم يثق بعدم تلقطه وقال الهندي: الخلاف في المسألة السابقة يجري هنا لكن بالترتيب فإن قلنا في الأول لا يجب عليه تقليده، فلأن لا يجب عليه تقليد مذهب معين ابتداء بطريق أولى، وإن قلنا هناك يجب تقليده، فههنا وجهان. وهذا يعكس على المصنف، فإنه صحح في الأول الجواز وههنا الوجوب، وقوله: ثم ينبغي السعي

في اعتقاد أنه أرجح، أي: من حيث الاحتمال، وهذا لا يخالف قوله فيما سبق ومن ثم لم يجب البحث عن الأرجح، لأن الانبغاء ليس على سبيل الوجوب. ص: ثم في خروجه عنه، ثالثهما: لا يجوز في بعض المسائل. ش: إذا التزم مذهب معينا فهل يمتنع الخروج عنه؟ اختلفوا فيه، فمنهم من جوزه وهو الأصح في الرافعي، بناء على أن التزامه بمذهب معين غير ملزم فلا يلزمه ذلك، ومنهم من منع، لأنه لما التزم مذهبا معينا (صار لازما له، كما لو التزم مذهبه في حكم واقعة، ومنهم من قال: إنه كالعامي الذي لم يلتزم مذهبا معينا) فكل مسألة عمل فيها بقول إمام ليس له تقليد غيره، وكل مسألة لم يعمل فيها بقوله فلا مانع فيها من تقليد غيره. ص: والأصح أنه يمتنع تتبع الرخص، وخالف أبو إسحاق المروزي. ش: حيث جوزنا له الخروج عنه، فشرطه أن لا يتتبع الرخص بأن يختار من

كل مذهب، ما هو الأهون عليه، وإلا فيمتنع قطعا، وقال بعض المحتاطين: من بلي بوسواس أو شك أو قنوط أو يأس، فالأولى أخذه بالأخف والرخص لئلا يزداد ما به (ويخرج عن الشرع، ومن كان قليل الدين كثير التساهل أخذ بالأثقل والعزيمة لئلا يزداد ما به) فيخرج إلى الإباحة وكلام المصنف يقتضي أن أبا إسحاق يجوز تتبع الرخص وهو ممنوع فقد رأيت في (فتاوى الحناطي): من تتبع الرخص قال أبو إسحاق المروزي يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق (157/ز) هكذا حكاه عنه الرافعي في الأقضية. (وقال الشيخ نجم الدين البالسي رحمه الله: تفسيقه مع القول بإصابة كل مجتهد مشكل، أما إذا جعلنا المصيب واحداً ففيه نظر، من حيث إن اختياره الأهون يشعر بانحلال وتساهل، لكنه معارض بأن العدالة ثابتة، واختياره الأهون يحتمل أن يكون على وجه يشعر بانحلال ويحتمل خلافه، فالفسق مع الشك في مقتضيه ممنوع. قلت: احتمال خلاف الانحلال بعيد، لأن التتبع يقتضيه وذلك للعدالة)

ص: مسألة: اختلف في التقليد في أصول الدين وقيل: النظر فيه حرام. وعن الأشعري: لا يصح إيمان المقلد، وقال القشيري: مكذوب عليه، والتحقيق: إن كان آخذا لقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم فلا يكفي وإن كان جزما فيكفي خلافا لأبي هاشم. ش: لما انتهى من المباحث المتعلقة بأصول الفقه وما يتبعها من علم النحو، والبيان والجدل، شرع في المباحث المتعلقة بالعقائد وهي أصول الدين، وقسمها إلى ما هو علمي وعملي، أي: يجب اعتقاده ولا تصح العقيدة إلا به، ومنها ما هو (علمي لا عملي) أي: لا يجب معرفته في العقائد، وإنما هو من رياضات العلم ولقد أحسن في التمييز بينهما، وذكر في الثاني جملة من علم الحكمة والطبيعي، وجميع المسائل الاعتقادية تنقسم إلى مسائل المبدأ ومسائل المعاد، ففي الأولى: يتبين العلم بالصانع تعالى وصفاته وأفعاله، وأسمائه، وفي الثانية: يتبين العلم بالحشر والنشر والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة، فنقول: أصول الدين: علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى، وما يجب له ويمتنع من الصفات وأحوال الممكنات والمبدأ والمعاد على قانون الإسلام، ويسمى علم الكلام لأن أول مسألة

دارت فيه مسألة الكلام، وقد اختلف في التقليد فيه على مذاهب: أحدها: -وهو قول الجمهور -المنع، للإجماع على وجوب المعرفة ولقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} فأمر بالعلم بالوحدانية، والتقليد لا يفيد العلم وقد ذم الله تعالى التقليد في الأصول، وحث عليه في الفروع، فقال في الأصول: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} وحث على السؤال في الفروع بقوله تعالى: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} والثاني: الجواز، ونقل عن العنبري وغيره، لإجماع السلف على قبول

كلمتي الشهادة من الناطق بها، ولم يقل أحد لهم هل نظرت أو تبصرت بدليل؟ والثالث: يجب التقليد وأن النظر والبحث فيه حرام، والقائل بهذا المذهب طائفتان: طائفة ينفون النظر ويقولون إذا كان المطلوب في هذا العلم، والنظر لا يفضي إليه فالاشتغال به حرام، وطائفة يعترفون بالنظر ولكن يقولون: ربما أوقع النظر في هذا العلم في الشبه فيكون ذلك سبب الضلال وقد زل بسببه طائفة من العقلاء فتحريم الاشتغال به لأجل ذلك، وقد يتوهم أن هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه وغيره من السلف، لنهيهم عن علم الكلام والاشتغال به، ولا شك أن منعهم منه ليس هو لأنه ممنوع مطلقا، كيف وقد قطع أصحابه بأنه من فروض الكفايات؟ وإنما منعوا منه لمن لا يكون له قدم صدق في مسائل التحقيق فيؤدي إلى الارتياب والشك والكفر وذلك البيهقي في (شعب الإيمان) هذا قال: وكيف يكون الذي يتوصل به إلى معرفة الله تعالى وعلم صفاته ومعرفة رسله، والفرق بين النبي الصادق والمتنبي مذموما أو مرغوبا عنه؟. ولكنهم لإشفاقهم على الضعفة أن يبلغوا ما يريدون منه فيضلوا نهوا عن الاشتغال به وقد بسط الحليمي الكلام على تعلمه إعداداً لأعداء الله تعالى، وقال غيره: إن القصد من هذا الخلاف أن الواجب هل هو من فروض الأعيان فلا يجزئ العوام صحيح الاعتقاد بالتقليد أو من فروض الكفايات إذا قام به العلماء سقط عن غيرهم؟ وهو الصحيح

كسائر علوم الشريعة (77/ك) ونقل عن الأشعري: أن إيمان المقلد لا يصح وأنه يقول بتكفير العوام وأنكره الأستاذ أبو القاسم القشيري، وقال: هذا كذب وزور من تلبيسات الكرامية، على العوام فإنهم يقولون: الإيمان الإقرار المجرد، ومن لا يقول: الإيمان: الإقرار، انسد عليه طريق التمييز بين المؤمن والكافر، لأنه إنما فرق بينهما بالإقرار وعند الأشعري: الإيمان: هو التصديق والظن بجميع عوام المسلمين أنهم يصدقون الله تعالى في أخباره، فأما ما ينطوي عليه العقائد فالله تعالى أعلم به، انتهى. وقال غيره من أئمتنا: لو صح عنه فإنما أراد به من اختلج في قلبه شيء من صدق السمعيات القطعية، من حدوث العالم، أو الحشر أو النبوة، وجب أن يجتهد في إزالته بالدليل العقلي، فإن بقي على ذلك لم يصح إيمانه، وقال الأستاذ أبو منصور في (المقنع): أجمع أصحابنا على أن العوام مؤمنون عارفون

بالله تعالى وأنهم حشو الجنة للأخبار والإجماع فيه، لكن منهم من قال: لا بد من نظر عقلي في العقائد، وقد حصل لهم منه القدر الكافي، فإن فطرتهم جبلت على توحيد الصانع وقدمه وحدوث الموجودات، وإن عجزوا عن التعبير عنه على اصطلاح المتكلمين، والعلم بالعبارة على زائد لا يلزمهم، وكذا نقل إلكيا في تعليقه إجماع الأصحاب على أنهم مؤمنون، وإنما الخلاف في أنهم عارفون بالأدلة وإنما قصرت عباراتهم عن أدائها، أو أنهم مؤمنون غير عالمين فإن العلم معرفة المعلوم على وجه لا يمكن الانفكاك عنه، وإذا جرت شبهة لا يرتاع لها، وهذا منتف في حقهم، وإن قيل: كيف يكونون مؤمنين غير عارفين؟ قلنا: لأن الله لم يوجب عليهم غير هذا القدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتفي من الأعراب بالتصديق مع العلم بقصورهم عن معرفة النظر والأدلة. قلت: وفي (صحيح مسلم) عن معاوية بن الحكم في الأمة السوداء التي أراد عتقها وسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((ائتني بها)) فجاءت فقال لها: ((أين الله؟)) فقالت: في السماء، قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) وهذا دليل على الاكتفاء بالشهادتين في صحة العقد وإن لم يكن عن نظر (158/ز) واستدلال، بل اكتفى بما فطرت عليه، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يسألها من أين علمت ذلك؟ قال النووي رحمه الله في شرحه: وهذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور وكذلك قوله صلى الله

تعالى عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) ولم يقل: حتى يستدلوا أو ينظروا، وإنما يقع النظر بعد النطق بالشهادتين، وقال ابن عبد السلام في قواعده وقد ذكر ما يجب من معرفة الله: اعتقاد ذلك واجب في حق العامة وهو قائم مقام العلم في حق الخاصة لما في تكليفهم ذلك من المشقة الظاهرة للعامة، وقال صاحب (الصحائف): من اعتقد أركان الدين تقليدا فإن اعتقد مع ذلك جواز شبهة فهو كافر، ومن لم يعتقد ذلك فاختلفوا فيه، فقيل: مؤمن وإن كان عاصيا بترك النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة أدلة قواعد الدين، وهو مذهب الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري وكثير من المتكلمين، وقيل: لا يستحق اسم المؤمن إلا بعد عرفان الأدلة وهو مذهب الأشعري، انتهى. وما ذكره المصنف من التحقيق

هو تنقيح مناط للخلاف السابق، وحاصله: أن التقليد يطلق تارة بمعنى قبول قول الغير بلا حجة، وتارة بمعنى: الاعتقاد الجازم، لا لموجب، فالتقليد بالمعنى الأول قد يكون ظنا أو وهما كما في تقليد إمام في فرع من الفروع مع تجويز أن يكون الحق في خلافه، ولا شك أن هذا لا يكفي في الإيمان عند الأشعري وسائر الموحدين، وينزل عليه مقصود الأشعري إيمان مقلد لا يصح أن يثبت عنه، وأما التقليد بالمعنى الثاني فلم يقل أحد من الأئمة إنه لا يكفي في الإيمان إلا أبو هاشم من المعتزلة كذا حكاه المصنف عن والده وكذا نقله الآمدي في (الأبكار)؛ فقال: وصار أبو هاشم إلى أن من لا يعرف الله تعالى بالدليل فهو كافر، لأن ضد المعرفة النكرة، والنكرة كفر، وأصحابنا يجمعون على خلافه، وإنما اختلفوا فيما إذا كان الاعتقاد موافقا للمعتقد، من غير دليل ولا شبهة فمنهم من قال: إن صاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب، ومنهم من اكتفى بمجرد الاعتقاد الموافق للمعتقد وإن لم يكن عن دليل وسماه علما، وعلى هذا فلا يلزم من وجوب المعرفة بهذا التفسير وجوب النظر. ثم قال المصنف: إن الإنسان إذا مضى عليه زمن لا بد أن يحصل عنده دليل وإن لم يكن على طريقة أهل الجدل فإن فرض تصحيح

جازم ولا دليل عنده فهو الذي ينكره أبو هاشم ولعله المنسوب للأشعري، والصحيح أنه ليس بكافر، وأن الأشعري لم يقل بذلك، نعم اختلف أهل السنة في عصيانه والأصح عند أبي حنيفة أنه مطيع وعند آخرين أنه عاص، وهو الخلاف في وجوب النظر، وأقول من منع التقليد وأوجب الاستدلال لم يرد التعمق في طرق المتكلمين بل اكتفى بما لا يكاد يخلو عنه من نشأ بين أظهر المسلمين كالاستدلال بالمصنوع على الصانع، ويحكى عن بعض الأعراب أنه قيل له: بما عرفت ربك؟ فقال: البعر يدل على البعير وآثار الخطا يدل على المسير فهيكل علوي وجوهر سفلي لم لا يدلان على العليم الخبير؟ وهذا هو الموافق لطريقة السلف، فكل من وجد في نفسه إيمانا جازما بما ذكرناه وكان صدره منشرحا وقلبه مطمئنا كفاه ذلك في استحقاق اسم الإيمان سواء اتضحت له الطرق التي حصل له ذلك بها أم لا، أحسن التعبير عنها أم لا، فإن قيل: كيف يمكن حصول الإيمان الجازم لمن لا يعرف الدليل؟ قيل: إذا حصل في الذهن مقدمات ضرورية وتآلفت من غير قصد تآلفا صحيحا أنتجت العلم وإن كان العالم بالنتيجة (78/ك) لو سئل عنها كيف حصلت له؟ ما اهتدى لذلك ألا ترى أن من تواتر عنده شيء حتى أورث له العلم به يجد نفسه عالما به، وإن كان لا يستحضر أفراد المخبرين له ولا أخبارهم كما نجد أنفسنا عالمين بالأمم السالفة ولا نستحضر السبب الذي علمنا به ذلك، وبهذا يتضح كون الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عنهم اعتناء بهذه القوانين، مع الاتفاق على أنهم أقوى الخلق بعد النبيين إيمانا. والله تعالى يغنينا عن عقائدنا بأنواره ويكشف حجاب قلوبنا عن حقائق أسراره. فائدة: قال ابن عبد السلام في (القواعد): إذا بلغ المكلف وليس له اعتقاد

صحيح لزمه النظر بحسب الإمكان فإن مات قبل إمكان النظر من غير تقصير فلا معصية ولا عذاب، وإن أخر النظر فمات قبل مضي زمان يتسع مثله للنظر فهو عاص بالتأخير، وهل يعذب كافر؟ فيه نظر واحتمال. ص: فليجزم عقده بأن العالم محدث. ش: العالم بفتح اللام هل هو مشتق من العلم أو العلامة؟ لأنه علامة على وجود صانعه، قولان: ينبني عليهما أن العالم يعم جميع الكائنات أو يختص بذوي العلم منه، والأصح عمومه، قال ابن أبي الربيع: وكونه من العلامة أقوى، لأن اسمه يكون مأخوذا من صفته، وإذا أخذ من العلم يكون اسمه مأخوذا من صفة غيره وهو العلم الحاصل عن النظر فيه. انتهى. وهو عند المتكلمين كل موجود سوى الله ومنهم من قال: سوى الله وصفاته. والأول يقول: لا يحتاج إلى هذا فإن إطلاق اسم الله تعالى اسم له بجميع صفاته قاله إليكا، وكذا قال الآمدي: الصفات الوجودية لله تعالى خارجة من قولنا: كل موجود سوى الله تعالى فإن الصفات ليست غير الله على ما تقرر عند الأشعري وللمتكلمين في بيان أنواع العالم تقسيم إجمالي: وهو أن

الموجود الممكن أما أن يكون متحيزا أو صفة للمتحيز، أو لا متحيزا ولا صفة للمتحيز فهذا أقسام ثلاثة. الأول: المتحيز وهو إما أن يكون قابلا للقسمة وهو الجسم، أو لا يكون قابلا لها، وهو الجوهر الفرد، ثم الجسم إما أن يكون من الأجسام العلوية وهي الأفلاك الكواكب وما ثبت بالشرع كالعرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة، وإما أن يكون من الأجسام السفلية، وهي إما بسيطة أو مركبة، أما البسيطة فهي: العناصر الأربعة: كرة الأرض كرة الماء وكرة الهواء وكرة النار، وأما المركبة فهي: المعادن والنبات والحيوان على كثرة أقسامها. والثاني: وهو الذي يكون صفة (159/ز) للمتحيز: هو الأعراض وذكروا منها ما يقرب من أربعين جنسا. والثالث: وهو ما ليس بمتحيز ولا صفة له، هو الأرواح، وهي أما سفلية أو علوية، والسفلية إما خيرة، وهو صالحو الجن، أو شريرة خبيثة وهم مردة الشياطين وأما العلوية، فهي إما متعلقة بالأجسام وهي: الأرواح الفلكية، وأما غير متعلقة بالأجسام وهي: الأرواح المطهرة المقدسة، قالوا: فهذه إشارة إلى تقسيم موجودات العالم ولو أن الإنسان يكتب ألف مجلد في شرحها لما وصل إلى أول مرتبة من مراتبها، وهذا العالم بجملته علويه وسفليه جواهره وأعراضه - محدث، أي: بمادته وصورته، كان عدما فصار موجودا وعليه إجماع أهل الملل ولم يخالف إلا

الفلاسفة ومنهم: الفارابي، وابن سينا قالوا: إنه قديم بمادته وصورته وقيل: قديم المادة محدث الصورة وحكى الإمام في (المطالب) قولا رابعا بالوقف وعدم القطع وعزاه لجالينوس فإنه قال في مرض موته: اكتب عني أني ما عرفت أن العالم محدث أو قديم وأني ما عرفت أن النفس هو المزاج أو شيء غيره، قال: ولهذا طعن به عليه، وقيل: إنه خرج من الدنيا كما دخل حيث لم يعرف حقيقة هذه الأشياء.

وكل هذه الأقوال باطلة وقد ضللهم المسلمون في ذلك وكفروهم، وقالوا: من زعم أنه قديم فقد أخرجه عن كونه مخلوقا لله تعالى، قالوا: وهذا أخبث من قول النصارى، لأن النصارى أخرجوا من عموم خلقه شخصا واحدا أو شخصين ومن قال بقدم العالم فقد أخرج العالم العلوي والسفلي والملائكة عن كونه مخلوقا لله تعالى وقد برهن الأئمة على حدوثه بالبراهين القاطعة ومنها: أن تتغير عليه الصفات ويخرج من حال إلى حال وهو آية الحدوث، واقتفوا في ذلك بطريقة الخليل صلوات الله عليه فإن الله تعالى سماها حجة، وأثنى عليها فاستدل بأفول الكواكب وشروقها وزوالها بعد اعتدالها على حدوثها، واستدل بحدوث الأفل على وجود المحدث، والحكم على السماوات والأرض بحكم النيرات الثلاثة وهو الحدوث طردا للدليل في كل ما هو مدلوله لتساويها في علة الحدوث وهي الجسمانية، فإذا وجب القضاء بحدوث جسم من حيث إنه جسم، وجب القضاء بحدوث كل جسم، وهذا هو المقصود من طرد الدليل، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين: جاء نفر من اليمن، قالوا: يا رسول الله

جئناك نتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال: ((كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر، كل شيء وخلق السماوات والأرض)) وفي لفظ: ((ثم خلق السماوات والأرض)) قال أئمتنا: وهذا تلقين من النبي صلى الله عليه وسلم إياهم أصول الدين وتعريف لهم حدوث العالم، ووجوده بعد أن لم يكن موجودا وانفراد الرب بالوجود الأزلي دون ما سواه من سائر الموجودات والعجب من الإمام الرازي في (المطالب) حيث ضعف هذه المسألة، وقال: إن الشريعة سكتت عن الخوض فيها، وذلك أنها بلغت في الصعوبة إلى حيث تعجز العقول البشرية عن الوصول إليها، وأورد ألفاظا من التوراة تشهد بذلك وما ينبغي له ذلك فإنه لا يجوز مطالعتها فضلا عن حكايتها لا سيما في العقائد. قال الحليمي: وفي الاعتراف بانقضاء العالم وفنائه اعتراف بحدوثه إذ القديم لا يفنى، وسلك الأصفهاني شارح (المحصول) طريقا آخر، فقال: اتفق الكل على أن

العالم حادث لكن اختلفوا (79/ك) في الحدوث، فقال أهل الحق: المراد بالحدوث تقدم عدم العالم على العالم تقدما مغايرا للتقدمات الخمسة المشهورة وقالت الفلاسفة: المراد بالحدوث تقدم عدم العالم على العالم بالذات، فقد اختلف تصور الحدوث باختلاف المذهبين. انتهى. واعلم أن الخلاف في هذه المسألة معهم مبني على مأخذين: أحدهما: أن القديم لا يجوز افتقاره إلى مؤثر عندنا، فلا جرم لما اتفقنا على أن العالم مفتقر إلى المؤثر منعنا قدمه، لأن افتقاره من لوازم حدوثه فهو وقدمه لا يجتمعان وعندهم لا يمنع افتقار القديم إلى المؤثر فلا جرم أثبتوا قدم العالم مع استناده إلى المؤثر. المأخذ الثاني: أن الباري تعالى عند المسلمين فاعل بالاختيار أي: بالإرادة وعند الفلاسفة: فاعل بالذات، وأن صدوره عنه كصدور ضوء الشمس

منها فجوزوا استناد القديم إلى الفاعل، وقالوا: العالم قديم وإن كان المؤثر فيه الله تعالى وهذه العقيدة الفاسدة أصل لمسائل كثيرة ضلوا فيها وموهوا بها على ما لا قدم له راسخ في الإسلام نسأل الله تعالى العافية. ص: وله صانع وهو الله الواحد. ش: العالم كما يدل على أنه محدث يدل على أن له محدثا، لأن الحادث جائز الوجود والعدم، ولا يختص بالوجود دون العدم، إلا بمخصص هو جاعله فوجب أن يكون الخلق لا بد له من خالق وإذا ثبت أن له محدثا، فالدليل على أن الله تعالى الواحد هو المحدث له وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وسئل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن بدء هذا الأمر فقال: ((كان الله ولم يكن شيء غيره ....)) ثم ذكر الخلق وقد سبق من العقل ما ثبت أن أحدنا ليس بقادر على خلق جارحة لنفسه، أو رد سمع أو بصر في حالة كماله وتمام عقله، فلأن يكون في حال كونه نطفة أو عدمها أولى فوجب أن يكون الخالق هو الله، فإن قيل: وهل في العقل دليل على أن صانع العالم واحد؟ قيل: دلالة التمانع المشار إليها في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتفق على أحكام ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما وذلك لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته. فإما أن تنفذ إرادتهما فيتناقض لاستحالة تجزئ الفعل إن فرض الاتفاق أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف (160/ز) وإما أن لا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه، والإله لا يكون عاجزا لأنه يلزم منه عجز قديم إذ لا يقوم به الحوادث، والعجز القديم محال لأنه يستدعي معجوزا عنه وإنما يتعلق

العجز بالممكن لا بالمستحيل. فائدة: اسم الصانع اشتهر على ألسنة المتكلمين في هذا العلم ولم يرد في الأسماء، قال والد المصنف: ولكنه قرئ شاذا (صنعة الله) فمن اكتفى في إطلاق الأسماء بورود الفعل اكتفى بمثل ذلك، قلت وأين هو من قوله تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء}. ص: والواحد: الشيء الذي لا ينقسم ولا يشبه بوجه. ش: هذا التفسير نقله إمام الحرمين عن اصطلاح الأصوليين والله سبحانه أحدي الذات لأنه لو قبل الانقسام لقبل الزيادة والنقص وهو منزه عن ذلك. وقوله: لا ينقسم، أي: لا بأجزاء المقدار ولا بأجزاء الحد الإضافة وهو أن يكون وجوده مضافا إلى ذاته والمضاف والمضاف إليه شيئان، وإنما لم يكن كذلك، لأن الانقسام دليل الكثرة وهو محال على الله تعالى. واعلم: أن الوحدة تطلق في حق الإله من ثلاثة أوجه: بأحدها: بمعنى نفي الكثرة المصححة للقسمة عن ذاته تعالى وهي تفسير الأحد الصمد. الثاني: بمعنى نفي النظير عنه في ذاته وصفاته كما يقال: الشمس واحد بمعنى لا نظير لها في الوجود ووجود نظير الرب محال.

والثالث: بمعنى أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتدبير، فلا مساهم له في شيء من اختراع المصنوعات وتدبير المخترعات. ومنهم: من زاد معنى آخر وهو أنه لا يشبهه شيء، قال الشيخ أبو إسحاق وهذا الاسم حقيقة في هذه المعاني، ومن أصحابنا من قال: إنه حقيقة فيما لا ينقسم في نفسه ولا يتجزأ في ذاته، وإذا قيل: واحد في الأفعال لذاته لا شبيه له فهو على المجاز وفي خطب ابن نباتة: الحمد لله الواحد الذي لا تثنى له الخناصر، قال عبد اللطيف البغدادي: أي: لا يقال: واحد فيقال بعده اثنين فالخنصر إنما يثنى في العدد ليثنى بعده البنصر، أي: وحدته، ليست من قبيل وحدة العدد التي يتألف منها العدد ويأتي بعدها اثنان، وقوله: ولا يشبه بوجه، أي: لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء من المخلوقات، كيف؟ وهو قديم والعالم محدث، وعلم من قوله: نفي الشبه في كل شيء حي في الوجود لأن ما بالذات غير ما بالعرض. قال الله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق}

ص: والله تعالى قديم لا ابتداء لوجوده. ش: أما كونه قديما فلأنه لو كان حادثا لأفتقر إلى محدث، وكان حكم الثاني والثالث، وما ينتهى إليه كذلك وينساق إلى إثبات ما لا أول له من الحوادث وهو محال، وكان يستحيل وجود الخالق والمخلوق جميعا، وإذا استحال الحدوث عليه سبحانه وهو ابتداء الأولية وجب الحكم بقدمه وهو نفي ابتداء الأولية عنه إذ لا واسطة بين النفي والإثبات إذا اتحدت جهتهما وأصل هذه الدلالة قوله تعالى: {الأول والآخر} فبين أنه كان قبل كل ما يشار إليه بأنه محدث، وإطلاق المصنف القديم على الله تعالى وقد يتوقف فيه من لم يره في الأسماء، وقد عده الحليمي من جملة الأسماء وبدأ به، وقال: لم يرد في الكتاب نصا ولكنه ورد في السنة، ومعناه: الموجود الذي لا ابتداء لوجوده وهو في اللغة السابق، لأنه القادم من قدم بمعنى سبق، قال الله تعالى: {يقدم قومه يوم

القيامة} فالله تعالى قديم أي: سابق الموجودات كلها فيلزم أن لا ابتداء لوجوده ولا سبب له وإلا أوجده غيره فيكون مسبوقا لموجده هذا خلف والقديم يستلزم الأولية والآخرية لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه وإنما فسر المصنف القديم بذلك، لأنه قد يراد به طول مدة الوجود وإن كان مسبوقا بالعدم ومنه قوله تعالى: {إنك لفي ضلالك القديم} واعلم أن القديم قد يستعمل فيه التعريف (80/ك) العدمي وهو: عدم الأولية أو عدم السبق بالعدم، وهو مراد المصنف، وقد يستعمل فيه التعريف الوجودي، وهو: استغراق الأزمنة الحقيقية والتقديرية بالوجود، وإنما قلنا ذلك، لأن الزمان ضربان: تحقيقي: وهو الصادر عن حركات الأفلاك، وتقديري: وهو ما قبل خلق الأفلاك بمعنى اتحادها قبل أن يخلقها الباري سبحانه وتعالى كان ممكنا وكانت حينئذ الأزمنة التحقيقية تصدر عنها، وعلى هذا فلا بد من الجواب عن الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق الله تعالى الجبال فيها يوم الأحد)) الحديث فإن هذه الأيام لا تحقق إلا بوجود الشمس في الفلك على حركتها المعلومة، وقوله في الحديث: ((وخلقا النور يوم الأربعاء)) ولا شك أنا لا نعلم نورا

إلا نور النجوم السماوية كالشمس والقمر ونحوهما، وقبل الأربعاء بماذا تحققت الأيام؟ وأيضا فإن الشمس التي بها يتحقق الزمان لو خلقت في الزمان لزم تسلسل الأزمنة والشموس وأن يكون قبل الشمس شمس بها يتحقق الزمان الذي خلقت فيه وهذا سؤال فلسفي، والجواب: أن المراد بالزمان الذي خلقت فيه الشمس الزمن التقديري لا التحقيقي، وأن الأيام كانت حينئذ تقديرية كما جاء ذكر الزمان والتقدير بالسنين في مقام أهل الجنة، ولا شمس عندهم ولا غيرها من مخصصات الزمان اليومي. ص: حقيقة مخالفة لسائر الحقائق. ش: أي: مخالفة مطلقا لا يشاركها شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله وقد بين الله تعالى ذلك في قوله: {فكبكبوا فيها هم والغاوون} إلى قوله: {تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون} وزعم بعض المتكلمين أن الذوات كلها متساوية، وامتياز بعضها عن بعض بصفات مخصوصة (161/ز) وامتياز ذات الله تعالى عن غيرها بالصفات الإلهية وهي الوجود والقدرة التامة والعلم الكامل وأشار صاحب (الصحائف) إلى أن الخلف لفظي، وقول المصنف: حقيقته يقتضي الجزم بإثبات الحقيقة، وذكر أبو علي التميمي تلميذ الغزالي في (التذكرة) خلافا في الرب هل له ماهية؟ قال

ويعني بالماهية ما يسأل عنها (بما) كما قال فرعون: {وما رب العالمين} فمنهم من منعها وهم الفلاسفة ومنهم من أثبتها لأنها من لوازم الوجود العيني، إذ يستحيل دخول الوجود المرسل في قضية العقل في الأعيان ثم وجود الشيء عندنا بنفسه وليس بصفة زائدة عليه، والنفوس مختلفة الحقائق بالضرورة وقد عاب ابن أبي هريرة قول من قال: لا تدرك ماهيته، وقال: الصواب أن يقال، لا تدرك له ماهية في مثال، ولا يخطر له كيفية ببال. ص: قال المحققون ليست معلومة الآن. ش: اتفق المثبتون للماهية على أنه لا حد لها، واختلفوا هل يصح العلم بها للبشر الآن؟ أي: في الدنيا، فذهب القاضي وإمام الحرمين والغزالي والكيا الهراس في (منتخبه) إلى الامتناع، وحكاه الإمام الرازي عن جمهور المحققين، قال: وكلام الصوفية يشعر به، ولهذا قال الجنيد رحمه الله والله ما عرف الله إلا الله وذكر الطرطوشي

في الرد على أرسطاطليس أن الحارث المحاسبي قال: لا يمكن أن تكون معلومة للخلق، وحكوا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من انتهض لطلب مدبره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبه، وإن اطمأن إلى العدم الصرف فهو معطل، وإن اطمأن إلى موجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحد، وهو معنى قول الصديق الأكبر رضي الله عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك: أي: إذا انتهى علمك إلى أن تعلم العجز عن معرفته فقد عرفت الحق. واحتج إمام الحرمين بأنه يمتنع أن يكون الكلي معلوما للجزئي، لأن الجزئي متناه والكلي غير متناه، وذهب كثير من المتكلمين إلى أنها معلومة محتجين بوجهين: أحدهما: أنا مكلفون بمعرفة وحدانيته وذلك يتوقف على معرفة حقيقته فلو لم نوجبها لكلفنا ما لا يطاق وهو ضعيف، إذ لا دليل على التوقف. وثانيها: أنا نحكم على ذات الله تعالى بأحكام، والحكم مسبوق بتصور

المحكوم عليه: وهو ضعيف أيضا، لأن تصور المحكوم عليه كاف بوجه ما وبه يصير النزاع لفظياً، والحق في التعبير العبارة الأولى، وقد قال تعالى: {ولا يحيطون به علما} والمعلوم من الله تعالى ليس إلا الصفات وذلك لا يوجب العلم بكنه حقيقته ولذلك قال لما قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: {وما رب العالمين} أجابه بالصفة حيث قال: {رب السماوات والأرض} لتعذر الجواب بالماهية فعجب فرعون قومه من عدوله عن الجواب المطابق لسؤاله ولم يعلم بغباوته أنه هو المخطئ في السؤال عن الماهية وأن ما أتى به الكليم في الجواب أقصى ما يمكن وذكر أبو علي التميمي تلميذ الغزالي في (التذكرة) احتجاج إمام الحرمين السابق قال: وهذا إذا حقق سقط الاحتجاج به وذلك أن نفي النهاية عن الله تعالى يرجع إلى استمرار وجوده أزلا وأبدا، وإلى أن متعلقات صفاته لا نهاية لها وأما ذاته فواحدة وحقيقة ذاته واحدة، إذ لا جزء لذاته ولا لحقيقة ذاته، قال وإذا تحقق ذلك لمن يمتنع في العقول تعلق العلم بذاته على ما هو عليه من حقيقة ذاته، والرب سبحانه وتعالى موصوف بالقدرة على ذلك، لأنه ممكن ولا امتناع فيه، وما احتجوا به لا حجة فيه وما ذكرناه فهو الجاري على أصول أئمتنا رضي الله تعالى عنهم. قلت: وهذا منه يقتضي أن المسألة منصوبة في الجواز لا في الوقوع فحصل فيها مقامات والحق الامتناع والأدب مع الله تعالى على ما سبق بيانه، وإذا كان

الإنسان لم يدرك حقيقة نفسه فكيف يدرك الجبروت؟ وغاية معرفة الإنسان لربه أن يعرف أجناس الموجودات جواهرها وأعراضها المحسوسة، والمعقولة ويعرف أنها مصنوعة ومحدثة، وأن محدثها الذي يصح ارتفاع كلها مع قيامه ولا يصح بقاؤها وارتفاعه، وفي هذا المقام قال الصديق الأكبر رضي الله عنه: سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلا إلى معرفته (81/ك) إلا بالعجز عن معرفته وهو سبحانه مسمى له أسماء، موصوفا له صفات ولا يعلم ذلك الجلال ولا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره ولولا لطفه ورأفته ورحمته وبره وجميل رضاه وإحسانه وتنزله من عظيم عظمته وعزه إلى قلوب عباده ما استطاع أحد أن يعلم شيئا من علمه، فإنه سبحانه لم يظهر لخلقه من جلال كبريائه سوى أنه مصمود إليه في الحوائج وأما حديث ((من عرف نفسه فقد عرف ربه)) فلم يصح ولو ثبت فقال إمام الحرمين في (الرسالة النظامية): معناه من عرف نفسه بصفات الافتقار عرف استغناء الرب عن صفاته، وقال الغزالي في (المقصد الأسنى): إن قيل ما السبيل إلى معرفته سبحانه بقدر ما يمكن الخلق وقد دعاهم إلى ذلك؟ قيل: يحصل الجواب بمثال وهو أنه لو قال: لنا صبي ما السبيل إلى معرفة

لذة الوقاع، أو أعمى: ما السبيل إلى معرفة لذة النظر إلى المرأة الحسناء؟ قلنا: هنا طريقان: إحداهما أن نصفه حتى يعرفه، والآخر أن تصبر حتى تبلغ، فتباشره فتعلمه أو تصير بصيرا فتعلمه، أما الأولى فغايتنا تشبيه لذة الوقاع بحلاوة السكر ليقيس ذلك بهذه، وهذا تعريف إيناسي من حيث اشتراكهما في مطلق اللذة، وإن اختلفا في الحقيقة فكذلك لمعرفة الله عز وجل سبيلان: إحداهما قاصرة والأخرى مسدودة، فالقاصرة: معرفته بأسمائه وصفاته والمسدودة، وهي الانتظار إلى أن يصير (162/ز) له الصفات الإلهية على الحقيقة كما ينتظر الصبي، فإن ذلك محال، ولا يتصور معرفة الله تعالى على الكمال إلا الله تعالى. ص: واختلفوا هل يمكن علمها في الآخرة؟ ش: من جوز علمها الآن ففي الآخرة أجوز وأما المانعون فاختلفوا هل تصير معلومة في الآخرة فمنهم من طرد المنع. كالفلاسفة وبعض أصحابنا كإمام الحرمين والغزالي ومنهم من توقف كالقاضي أبي بكر كذا نقله عنه الإمام في

(نهاية العقول) والآمدي في (الأبكار) ونقله عنه الشريف في (شرح الإرشاد) القطع بالمنع وفي الصحيحين في حديث الرؤية: ((فيأتيهم الله تعالى في صورة لا يعرفونها، فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورته التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه)) قال الأئمة: المعنى أنهم يرون الله تعالى على ما كانوا يعتقدونه من الصفات التي هو عليها من تنزيهه وتقديسه وفي حديث آخر (وكيف يعرفونه؟ قالوا: إنه لا شبيه له). ص: ليس بجسم.

ش: لقوله تعالى: {وزاده بسطة في العلم والجسم} فدل على أن الجسم قد يزيد على جسم آخر، وذلك لأجل التأليف والاجتماع وكثرة الأجزاء، وذلك مستحيلة= في حق الباري، فكذلك لازمة، ولا عبرة بخلاف المبتدعة من الكرامية ويلزم المجسمة القول بقدم العالم، لأن الجهة والتحيز والمكان من جملة العالم قال الأئمة لا تستطيع المجمسة أبدا إثبات حدوث العالم، لأن الأجسام متماثلة فلا يتصور أن يكون فيها قديم ومحدث ونقل صاحب (الخصال) من الحنابلة عن أحمد أنه قال: من قال: جسم لا كالأجسام كفر، ونقل عن الأشعرية أنه يفسق، وهذا النقل عن الأشعرية ليس بصحيح.

ص: ولا جوهر. ش: أي: بإجماع المسلمين ولا عبرة بخلاف ابن كرام فإن الجوهر لغة هو الأصل، ومنه جوهر الحديد لأنه أصل المركبات والباري سبحانه وتعالى ليس بأصل لغيره ولا يركب منه شيء، ولأن الجوهر: ما يقبل العرض فيتغير به من حال إلى حال، والله تعالى منزه عن ذلك، ولعل ابن كرام إنما جوز إطلاق الاسم دون المعنى وهو ممنوع، لأن الأسماء توقيفية ومن جوز الإطلاق فيشترط عدم الإيهام.

ص: ولا عرض. ش: فإن العرض لغة: القليل البقاء قال تعالى: {تريدون عرض الدنيا} واصطلاحا: المستحيل البقاء وقد ثبت أن للباري سبحانه وتعالى بقاء لم يزل ولا يزال فاستحال كونه عرضا، ولأن العرض ما يطرأ في المحل أو يفتقر إلى محل يقوم به والله تعالى منزه عن ذلك. ص: لم يزل وحده ولا زمان ولا مكان ولا قطر، ولا أوان ثم أحدث هذا العالم من غير احتياج ولو شاء ما اخترعه لم يحدث بابتداعه في ذاته حادث. ش: اتفق العلماء على أن وجود الباري سبحانه وتعالى ليس وجوديا زمانيا قال الآمدي: ولم ينقل فيه خلاف وإن كان مذهب المجسمة يجر إليه كما يجر إلى التحيز والمكان وما ذكره المصنف مستمد من حديث عمران بن حصين السابق لما سألوه عن أول الأمر فقال: ((كان الله ولم يكن شيء قبله)) وفي لفظ ((معه)) وفي

لفظ ((غيره)) الحديث فأثبت وجود الباري تعالى بلا زمان ولا جهة ولا هواء ولا ملاء ولا خلاء. وقوله: ثم أحدث هذا العالم، أي باختياره خلافا للفلاسفة في قولهم فاعل بالذات وقد سبق فساده والله سبحانه وتعالى فاعل بالاختيار فله تقديم الفعل وله تأخيره بحسب اختياره والدليل عليه قوله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} {إن الله على كل شيء قدير} {فعال لما يريد} وقد برهن على ذلك بقوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات} الآية وتقديره أنه لو كان فاعلا بالطبع كما زعموا لما اختلفت أفعاله مع اتحاد أسبابها كالنار في إحراقها والماء في إغراقه وتبريده والشمس في تسخينها ولكن أفعاله مختلفة مع اتحاد أسبابها لأن الجنس الواحد في الشجر كالرمان مثلا يسقى بماء واحد ثم يختلف في طعمه فمنه حلو ومنه حامض، فاختلاف طعومه مع اتحاد ما يغذيه وينميه دليل على أن الصانع فاعل بالاختيار لا بالطبع، وقوله: ولم يحدث بابتداعه في ذاته حادث، أي وإلا لزم النقص فيما لم يزل والقصد بذلك أن من أصول العقائد كما قال الحليمي: إثبات أن وجود كل ما سواه كان من جهة (82/ك) إبداعه واختراعه إياه لتقع البراءة به من قول من قال: بالعلة والمعلول وهم قوم من الأوائل قالوا: إن الباري موجود غير أنه علة لسائر الموجودات وسبب لها بمعنى أن وجودها اقتضى وجودا شيئا فشيئا على ترتيب لهم يذكرونه، فإن المعلول لا يفارق العلة فواجب إذا كان الباري لم

يزل أن يكون مادة هذا العالم لم يزل معه، فمن أثبت إيجاده العالم باختياره وإرادته المخترع لها لا من أصل، فقد انتفى عن قوله التعليل الذي هو في وجوب اسم الكفر لقائله كالتعطيل. ص: فعال لما يريد. ش: هذا ثابت من سورة البروج وهو حجة على عموم تعليق إرادته بالكائنات خيرها وشرها، والمعتزلة قالوا: إنما يصح ذلك بعد ثبوت أنه مريد لكل كائن، وهو فعال لما يريد، والأولى ممنوعة، لأنه إنما يريد الخير والطاعة لا الشر والمعاصي، وجوابه: أنا نثبت أنه مريد لكل كائن، لأن المصحح لتعلق إرادته بالخير والطاعة، وإنما هو إمكانها والإمكان بين الجميع، فيكون مريدا لسائر الكائنات الممكنة وهو المطلوب وحكى الإمام فخر الدين في (شرح الأسماء) أن القاضي عبد الجبار

دخل على الأستاذ أبي إسحاق وهو في دار الصاحب بن عباد فقال القاضي: سبحان من تنزه عن الفحشاء معرضا بالأستاذ على مذهب أهل السنة في خلق الأفعال وإرادة الكائنات فقال الأستاذ: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء قلت: أشار عبد الجبار إلى قوله تعالى: {إن الله لا يأمر بالفحشاء} وعنده الإرادة شرط في الأمر فلا جرم لزم على رأيه أن الله منزه عن الفحشاء أمرا واردا وأشار الأستاذ إلى قوله تعالى: {فعال لما يريد} فقد جمعا عقيدة الطائفتين في كلمتيهما إلا أن كلمة عبد الجبار جاءت على شفا جرف هاو، ولأنه منازع في أن الإرادة شرط للأمر، وفي أن النهي عما يريد وقوعه أو بالأمر بما لا يريد وقوعه جائز، وذلك محال على الله تعالى. ص: ليس كمثله شيء. ش: {وهو السميع البصير} هذه الآية أولها تنزيه وآخرها (163/ز)

إثبات فمن جمع بينهما بأن أثبت لله تعالى ما له ونزهه عما لا يليق به من مشابهة المخلوقات وأثبت غير ممثل ونزه غير معطل، فقد أصاب فصدرها سرد على المجسمة وعجزها رد على المعطلة، في ترتيبها سر لطيف لأنه لو بدأ بذكر الصفات لأوهم تشبيها بينه وبين المخلوقات من حيث إن لغيره سمعا وبصرا فإذا وقع نفي التشبيه أولا انتفى هذا المحظور، وصار إثباته للسمع والبصر لنفسه لا يشاركه فيه غيره، وقد اختلف في الكاف هل هي زائدة؟ وسبق الكلام عليه في أنواع المجاز. ص: القدر خيره وشره منه. ش: قال الخطابي: يتوهم كثير من الناس أن معنى القدر من الله تعالى والقضاء منه، الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، وليس كذلك وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من أفعال العباد واكتسابها وصدورها

عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها، فالقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر كالهدم والقبض، اسم لما صدر عن فعل الهادم والقابض، ويقال: قدرت الشيء بتخفيف الدال وبتشديدها بمعنى واحد. انتهى. والمعنى: أن كل حادث من خير أو شر ونفع وضر فهو مستند إلى قدرته وإرادته قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}. {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} أي: بقضاء الله وقدره {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} وقال: {ولنبلونكم بالشر والخير فتنة} {وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له} وفي الحديث الصحيح: ((كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس)) وهو من لوازم القول بخلق الأفعال كلها وهي مسألة القضاء والقدر الذي لا يتم الإيمان إلا به، ويعتقد أن كل شيء من الطاعة والعصيان والنفع والضر بخلق الله وإرادته خلافا للمعتزلة، فإنهم يعتقدون أن الأمر مستأنف بمشيئة العبد مستقلا به من غير سبق قضاء وقدر، ولذلك قيل لهم القدرية، لأنهم نفوا القدر

وجاء في الحديث: ((القدرية مجوس هذه الأمة)) يعني أنهم يجعلون أنفسهم مستبدين بالفعل والله تعالى فاعل وهم فاعلون لا يسندون أفعال العباد إلى قدر الله، فكأنهم يثبتون خالقين، في الحقيقة كما أثبت المجوس خالقين، خالق الخير وخالق الشر وقد التزم الأستاذ أبو إسحاق ظاهر الخير، فقال: لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم وفي القتل الواحد منهم دية مجوسي، حكاه عنه الآمدي في (الأبكار). وقد ألجمهم الشافعي رضي الله عنه حيث قال: القدرية إذا سلموا العلم خصموا ومعناه: أنه يقال لهم: هل تقرون بأن الله تعالى أحاط علمه الأزلي بما يكون أو لا؟ فإن أنكروا؛ كفروا، وإن اعترفوا به؛ فيقال لهم: فهل يجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم القديم؟ فإن جوزوا ذلك، لزم منه نسبة الجهل إليه تعالى الله عن ذلك، وتقدس، وإن لم يجوزوه فلا معنى للقضاء والقدر إلا

ذلك، قال أبو عمرو وابن الحاجب: وهذا من أحسن الإرشاد إلى الدليل عليهم، قال: ولم يرد بقوله: (إذا سلموا) أنهم قد يمنعونه لأن معتقد ذلك مقطوع بكفره وإنما هو كقول القائل لخصمه وقد قال قولا يلزم منه رد مذهبه إذا قلت كذا لزمك كذا، وإذا سلموا أن الله تعالى علم أن زيدا يموت وليس بقادر على الكفر إلا بما خلق له من القدرة، فأي صلاح له في خلق ما هو السبب المؤدي إلى كفره، وكذلك خلقه في نفسه لأنه تعالى لو شاء لم يخلقه فأي صلاح له في خلقه. وقال الجنيد: حكمت يوما رجلا من القدرية فلما كان في الليل رأيت في النوم كأن قائلا يقول: ما ينكر هؤلاء القوم أن يكون الله قبل خلقه للخلق علم أن لو خلق الخلق ثم ملكهم أمورهم، ثم رد إليهم الاختيار فلزم كل امرئ منهم بعد أن خلقهم ما علم منهم أنهم له مختارون. ص: علمه شامل لكل معلوم جزئيات وكليات / (83/ك). ش: لقوله تعالى: {أحاط بكل شيء علماً} أي: علمه أحاط بالمعلومات كلها {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} وقوله تعالى: {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} وأطبق المسلمون على أن الله تعالى يعلم دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء في الليلة

الظلماء، وأن معلوماته لا تدخل تحت العد والإحصاء، وعلمه محيط بها جملة وتفصيلا وكيف لا؟ وهو خالقها وقد قال تعالى: {ألا يعلم من خلق} وضلت الفلاسفة حيث زعموا أنه يعلم الجزئيات على الوجه الكلي لا الجزئي، وإنما صاروا إلى ذلك بعد الشقاوة الأزلية لاعتقادهم أن جوازه يؤدي إلى محال على الله تعالى، وهو تغير العلم فإن الجزئيات زمانية تتغير بتغير الأزمان والأحوال، والعلم تابع للمعلومات في الثبات والتغير، فيلزم تغير علمه، والعلم قائم بذاته فيكون محلا للحوادث، وهو محال فإذا علم أن زيدا جالس في مكان كذا فإذا قام منه فكونه جالسا إن بقي كان محالا لأن اعتقاده أنه جالس هنا مع أنه غير جالس هنا جهل وإن لم يبق ذلك كان تغيرا والتغير على الله تعالى محال وقد ارتاعت الكرامية لهذه الشبهة فالتزموا أن الباري تعالى محل للحوادث حتى يتم لهم إثبات العلم مطلقا، وظنوا أنه لا محيص عن هذه الشبهة إلا التزام ذلك فلم يصنعوا شيئا وفروا من ضلالة إلى ضلالة وصاروا مثل الرافضة في تجويزهم البداء على الله تعالى حتى يصح النسخ الذي منعه اليهود لأجل امتناع البدء، وأما أهل

الحق من المتكلمين فتحزبوا فرقتين فمنهم من قال: العلم الأول باق فإن العلم بأنه سيوجد نفس العلم بوجوده من زمن الوجود إذ معناه الوجود المضاف إلى زمن ثبوته فيجب أن يكون عند الحصول هو ذلك المعلوم المضاف إلى ذلك الزمن المتوقع، إذ لو كان غيره لبطل العلم بأنه سيوجد أيضا وكان ما علم أنه سيوجد لا يوجد وهو محال، فإذا علمنا بأن زيدا سيدخل الدار غدا فإذا استمر هذا العلم إلى الغد وإلى دخوله فإن بهذا العلم يعلم أن زيدا دخل الآن الدار، وإنما يحتاج الواحد منا إلى علم آخر لأجل طريان الغفلة على العلم الأول، والباري تعالى لما أقنع دلك عليه علمه ومنهم من التزم التغير وقال التغير إنما يمتنع (164/ز) في الصفات الحقيقة أما الصفات الإضافية فلا، كيف وإذا وجد حادث فإن الله تعالى معه، فإذا أفتى ذلك الحادث بطلب تلك المعية، فدل على وقوع التغير في الإضافيات ولا شك أن التعلقات من باب السبب، والإضافات والتغير في التعلقات والإضافات لا توجب تغيرا في الذات، ومثل بعض المشيخة لهذا مثالا، فقال: وذلك كحال أسطوانة قائمة ببعض الأماكن قام إنسان عن يمينها فيحسن أن يقول الأسطوانة عن يساره ثم يتحول إلى جانبها الآخر فيقول: صارت عن يمينه، ثم يتحول إلى غيرها فيقول: أمامه، وكذلك سائر الجهات فالأسطوانة لم تتغير، وإنما المتغير هو، ولكن صدقت هذه العبارات عليها لموضع الإضافة، فكذلك وإذا قلنا الله تعالى عالما بما نحن عليه وقد كان سبحانه عالما بما كنا أمس عليه، وسيكون تعالى عالما بما نكون غدا عليه، فليس هذا خبرا عن تغيير= علم الله تعالى بالإخبار عنه بالفعل الماضي والمستقبل والحال بل التغير جار على أحوالنا والرب سبحانه وتعالى أمس واليوم وغدا في معنى كونه عالما في جميع الأحوال على حد واحد

فتمسك بتقرير هذا الموضع هكذا لأنك لا تجده في مصنف غيره. تنبيهات: الأول: وقع في كلام إمام الحرمين في (البرهان) ما يوهم موافقة الفلاسفة حتى قال المازري في شرحه: وددت لو محوتها بماء عيني، وليس ذلك مراده كما قال ابن دقيق العيد رحمه الله فيما كان شيخنا عماد الدين الإسنوي رحمه الله يحكيه أن العلم هل يتعلق بما لا يتناهى تعلقا إجماليا أو تفصيليا؟ فهو يقول: كما أن ما لا يتناهى لا يدخل في الوجود، كذلك لا يتعلق به العلم التفصيلي وهما سواء في الاستحالة لأنه لو دخل في العلم لكان إما أن يبقى من المعلومات شيء أو لا، فإن لم يبق شيء، فقد تناهى والغرض خلافه، وإن بقي شيء فما دخلت الإحاطة به، وهذا الذي أراده هو شنع عليه أيضا لكنه دون الأول، فإن منكر العلم

بالجزئيات يقول: لا يعلم منها شيئا أصلا لا ما دخل في الوجود ولا ما لم يدخل، وأما هذا الذي أراده الإمام فهو: أن العلم لا يتعلق بما لم يدخل الوجود لعدم تناهيه أما ما دخل في الوجود فإنه يعلمه، وهو قريب من مذهب جهم وهشام غير أنهما يقولان بعلوم حادثة والإمام يقول بعلم واحد قديم. الثاني: ما سبق من الفلاسفة هو المشهور، وقال الإمام في (المطالب): في هذه الحكايات عنهم نظر، فإن ذاته المخصوصة ذات معينة، وهو عالم بتلك الذات المعينة ولا معنى للجزء إلا ذلك، قال: والظاهر من مذاهبهم أنهم يعرفون بكونه عالما به حيث إنه هو، وإنما ينكرون كونه تعالى عالما بالتغيرات من حيث إنها متغيرة وينكرون كون عالما بالجسمانيات بحسب مقاديرها المعينة المخصوصة.

ص: وقدرته لكل مقدور. ش: أي: قدرته شاملة لكل مقدور جوهراً أو عرضا، والمراد بالمقدور الممكن وأما المستحيلات فلعذر قابليتها للوجود لم يصلح أن تكون محلا لتعلق الإرادة لا لنقص في القدرة، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم، فإنه قال في كتاب: (الملل والنحل): إن الله عز وجل قادر على أن يتخذ ولدا إذ لو لم يقدر عليه لكان عاجزا وهذا غير لازم لأن اتخاذ (84/ك) الولد عليه محال والمحال لا يدخل تحت القدرة، وعدم القدرة على الشيء تارة تكون لقصورها عنه، وتارة لعدم قبول ذلك الشيء لتأثيرها فيه لعدم إمكانه لوجوب أو امتناع، والعجز هو الأول لا الثاني، وذكر الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتابه: (الترتيب) في أصول الفقه أن أول من أخذ منه معنى الحال وتحقيقه إدريس صلوات الله وسلامه عليه حيث جاء إبليس في صورة إنسان وهو كان يخيط، وفي كل دخلة وخرجة يقول: سبحان الله والحمد لله فجاءه بقشرة وقال: الله تعالى أيقدر أن يجعل الدنيا في هذه القشرة؟ فقال: الله تعالى قادر أن يجعل الدنيا في سم هذه الإبرة ونخس الإبرة في إحدى عينيه وجعله أعور قال: وهذا وإن لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد انتشر وظهر ظهور الإيراد، قال: وقد أخذ الأشعري من جواب إدريس أجوبة في مسائل مثيرة من هذا الجنس، وأوضح هذا الجواب فقال: إن أراد السائل بقوله: إن الله يقدر أن يجعل الدنيا في قشرة أن الدنيا على ما هي عليه والقشرة على ما هي فلم يقل ما يعقل، فإن الأجسام الكثيرة يستحيل أن تكون في مكان واحد وإن أراد أنه يصغر الدنيا قدر القشرة ويجعلها فيها أو يكبر القشرة قدر الدنيا، أو أكبر فيجعلها في القشرة فلعمري الله تعالى قادر على

ذلك وعلى أكثر منه قلت: وإنما لم يفصل له إدريس عليه الصلاة والسلام الجواب هكذا لأنه معاند ولهذا عاقبه على هذا السؤال بنخس العين، وهو عقوبة كل سائل مثله وشمل إطلاق المصنف القدرة على القبيح والمخالف فيه النظام، قال: القبيح محال على الله تعالى والمحال غير مقدور عليه قال الإمام وأهل السنة قالوا: إن الله تعالى قادر على كل ممكن ولا قبيح إلا ما قبحه الله تعالى. ص: ما علم أنه يكون أراده وما لا فلا. ش: مذهب أهل السنة أن الإرادة تابعة للعلم، وكل ما علم الله وقوعه وكل ما علم الله تعالى عدم وقوعه لا يريد وقوعه وذهبت المعتزلة إلى أن الإرادة توافق الأمر فكل ما أمر الله تعالى به ويريده وإن لم يقع وابتنى على هذا أن الله تعالى يريد لكائنات خيرها وشرها طاعتها ومعصيتها عندنا وعندهم لا يريد الشر والمعصية سواء وقعت أم لا، ويريد الخير والطاعة وقعت أو لا، وقالوا: إنه لا يقال: إنه يريد أن لا يكون شيء والإرادة عندهم لا تتعلق بالمعدوم وضعفه أصحابنا بقوله تعالى: {يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة} وقالوا: إن الله تعالى يريد الطاعات وإن لم تقع لأن إرادتها كمال، ويكره المعاصي وإن وقعت، لأن إرادتها نقصان، ومن الدليل أن الله تعالى لا يريد إيمان الكفار، قوله تعالى: {ولو شئنا

لآتينا كل نفس هداها} ولكن الخلاف أن الإرادة عندهم توافق الأمر وعندنا توافق العلم، فعلى هذا إيمان أبي جهل مأمور به وغير مراده عندنا وكفره منهى= عنه ومراد= عندهم الأمر بالعكس فلزمهم تخلف إرادته تعالى، عن مراده، قال الأشعري: ولو أراد ما لا يقع لكان نقصا في إرادته لكلالها عن النفوذ فيما تعلقت به وتوسط بعض المتأخرين بما يرفع الخلاف فقال: الإرادة قسمان: إرادة أمر وتشريع (165/ز) وإرادة قضاء وتقدير، فالأول إنما يتعلق بالطاعة دون المعصية سواء وقعت أم لا، لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}. والثانية: شاملة لجميع الكائنات محيطة بجميع الحادثات طاعة ومعصية كما قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} وقوله: {إن كان الله يريد أن يغويكم} وقول من قال: مراد الله من الخلق ما هم عليه صحيح بهذا المعنى، لا بالمعنى الأول، والحكم يجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال بهما كان بصيرا ومن نظر إلى القدر كان دون الشرع أو عكس فهو أعور، كقول مشركي قريش: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} فاعتقدوا أن كل ما شاء الله كونه ووقوعه فقد رضيه وليس كذلك وإنما أراده كونا لا شرعا ولهذا قال بعده: {قل فلله الحجة

البالغة} أي: على خلقه، حتى أرسل إليهم الرسل بشرائعه وهم يعاقبهم على مخالفة أمره وإرادته الشرعية، وإن وافق ذلك إرادته القدرية، فإذا قال العبد: تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب، كان بمنزلة قول المريض: قد تقدمت الإرادة بالمرض فلا أتألم، وهذا مع جهالته فاعتلاله بالقدر ذنب ثان يعاقب، وإنما اعتل بالقدر إبليس حيث قال: {بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض} وتابعه شيعته المشركون فقالوا: {لو شاء الله ما أشركنا} فأما آدم عليه الصلاة والسلام فقال: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وأما قوله لموسى عليهما الصلاة والسلام: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فحج آدم موسى)) فإنما صح الاحتجاج لوقوعه بعد التوبة وارتفاع اللوم عنه، فهو إخبار منه بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الجور وإنما المذموم الاحتجاج بالقدر ومع الإصرار على الذنب على أن

بعضهم قال: لم يلمه على المعصية وإنما لامه على المصيبة التي نالت ذريته بخروجهم من الجنة ونزولهم دار الابتلاء والمحنة، فذكر الخطيئة تنبيها على سبب تلك المصيبة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب. ص: بقاؤه غير مستفتح ولا متناه. ش: الذي عليه الجماهير من أئمتنا أن القدم والبقاء يرجعان في حق الله تعالى إلى استمرار الوجود في الماضي إلى غير غاية، وفي المستقبل إلى غير نهاية، وذهب الغزالي إلى أنهما من أوصاف النفي، وأنهما يرجعان إلى نفي عدم سابق وإلى نفي عدم لاحق وإن هذه الأسماء بحسب إضافة الوجود في الذهن إلى الماضي والمستقبل، ولا يدخل في الزمان إلا المتغير بواسطة التغيير (85/ك) والرب تعالى منزه عن التغيير فلا يلحقه الزمان، لأنه كان قبل خلق الزمان، وذهب عبد الله بن سعيد إلى أن الباري قديم بقدم، وهو صفة زائدة على وجوده، وقدمه قدم لنفسه وللموصوف به، وباق ببقاء وأن بقاءه لنفسه وللموصوف به، والحق أنهما ليستا بصفتين زائدتين على الوجود وإلا لزم قدم القدم وبقاء البقاء.

ص: لم يزل بأسمائه وصفات ذاته ما دل عليها فعله من قدرة وعلم وحياة وإرادة أو التنزيه عن النقص من سمع وبصر وكلام وبقاء. ش: مذاهب الناس في الصفات ثلاثة: ذهب أهل الحق إلى إثبات الصفات وأنها زائدة على مفهوم الذات ويجمعها قول الشاطبي رحمه الله تعالى: حي عليم قدير والكلام له ... باق سميع بصير ما أراد جرى وأرجعها المصنف إلى ما يدل عليها فعله أو يقتضي التنزيه، وأرجعها الشيخ عز الدين في (القواعد) إلى ما يتعلق بغيره تأثيرا كالقدرة وإلى ما يتعلق بغيره من غير كشف وتأثير كالكلام، وأعمها تعلقا الكلام والعلم، وأخصها السمع ويتوسطها البصر. الثاني: قول الفلاسفة وقدماء المعتزلة: نفي الصفات وأنه لا صفة هناك ثبوتية زائدة ويقولون: لو ثبت لزم التركيب في الذات ولا نزاع بينهم في أن لله تعالى أسماء وصفات لكن بعض من جمع بين الحديث والفلسفة كابن حزم

ينكر لفظ الصفات وطعن في الحديث الذي في الصحيحين من صفة الرحمن مطنعا غير مقبول وجوزوا إطلاقها عليه لغة، وقالوا: إنها تسميات تنبئ عن ضروب من الإضافات فلا يقال: عالم ولا قادر، ولكن يقال: ليس بجاهل ولا عاجز، وبالغوا في نفي الكثرة عنه حتى قالوا: إن وجوده وجود محض ولا ماهية ولا حقيقة له يضاف وجوده إليها، ثم اختلفوا فقال بعضهم: معنى كونه عالما قادرا، أنه ليس بعاجز ولا جاهل ولا ميت، وكذلك سائرها ويسمون السلبية وقال آخرون: هو كذلك لمعان ليست موجودة ولا معدومة هي مشتقة من المعاني الثبوتية سموها أحوالا كالعالمية والقادرية والحيية، وهي كونه عالما قادرا حيا. الثالث: قول متأخري المعتزلة كأبي هاشم وغيره: نفي حقائق هذه الصفات وإثبات أحكامها فقالوا: عالم لذاته لا يعلم، وكذا الباقي تعلقا بأن الصفة غير الموصوف، فلو كان له صفات للزم تعدد القديم، وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث

ثلاثة} ويقولون بثبوت العالمية والقادرية له بناء على أنها نسب وإضافات لا وجود لها في الخارج بخلاف العلم والقدرة والحياة فإنها حقيقة، ولنا أن الله تعالى أثبت هذه الصفات لنفسه في كتابه العزيز فوجب القول بها مع أنه يستحيل إثبات موجود بهذه الأوصاف مع نفي هذه الصفات وإذا لزم إثباته بهذه الأوصاف لزم إثبات هذه الأوصاف له، قال تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} وقال: {وسع كل شيء علما} وقوله تعالى: {إن الله هو الرازق ذو القوة المتين} فأثبت القوة لنفسه وهي القدرة وأثبت العلم، فدل على أنه عالم بعلمه وقادر بقدرته، ولأنه لو جاز عالم لا علم له لجاز علم ولا عالم به، كما أنه لو جاز فاعل لا فعل له لجاز فعل لا فاعل قال: {أنزله بعلمه} {وسع ربي كل شيء علما} ولا شك أن العالم من قام به العلم هو وصف ثبوتي وأيضا {فعال لما يريد} (166/ز) مع أن الفعل مشتق من المصدر وهو الإرادة وقد وجد الفعل المشتق، فوجب أن تكون الإرادة المشتق منها موجودة، إذا ثبت هذا في العلم والإرادة وجب مثله في باقي الصفات، إذ لا قائل بالفرق وأما احتجاج الخصم بأنه لو كان عالما بعلم قائما بذاته زائد على مفهومها قديم لزم تعدد القديم، وأنه يلزم منه افتقار الذات إلى غيرها في كمالها وهما محالان فجوابه:

أن المحال إنما هو تعدد الذوات القديمة لا الذات والصفات وكذلك افتقار الذات إلى غيرها في وجودها هو المحال لا في غير وافتقارها إلى غير خارج عنها قائم بها لا ينفك عنها مع أن الحال الذي ادعاه أصحاب الأحوال لا موجودا ولا معدوما غير معقول، قال البيهقي: فإن قالوا فيقولون: إن علمه قديم وهو قديم قيل: من أصحابنا من لا يقول ذلك مع إثباته أزليا، ومنهم من يقول ذلك ولا يجب به الاشتباه لأن القديم هو المتقدم في وجوده والوجود لا يوجب الاشتباه عند أحد فكذلك المتقدم في الوجود لا يوجب الاشتباه. فإن قالوا: لو كان له علم لم يخل إما أن يكون هو أو غيره أو بعضه، قيل: هذه دعوى، بل ما قيل من علم لا يجوز أن يقال هو هو لاستحالة أن يكون العلم عالما ولا أن يقال غيره لاستحالة مفارقته له ولا بعضية لأنه ليس الوجوب متبعضا. انتهى. واعتمد المتأخرون في تعددها على الإجماع فإن الأمة مجمعة على قولين: أحدهما: إثبات صفات متعددة والآخر نفيها والتزام اتحاد الذات فمن ادعى قولا ثالثا حكم فيه بإثبات صفة واحدة ثبوتا مناف للصفات المختلفة فقد خرق الإجماع وعلى هذا عول القاضي في (الهداية) والإمام في (الشامل) وحاصله: أنه إذا قضى العقل بثبوت زائد على الذات وهو مدلول التأثير والأحكام والتخصيص وأوجبت اللغة أن مدلول التأثير يسمى قدرة ومدلول الأحكام يسمى علما، ومدلول التخصيص

يسمى إرادة وأجمعت الأمة على أن الذات ليست علما ولا قدرة ولا إرادة وانعقد الإجماع أن ذلك الزائد يستحيل أن ينوب منوب الصفات المختلفة وجب الحكم بتعدد ذوات هذه المدلولات وأنها صفة زائدة على الذات، ومنهم من سلك طريق إثبات الأحوال واعتبار الغائب بالشاهد وفيها طول. تنبيهات - الأول: اتفقت الأشاعرة على السبع (86/ك) واختلفوا في الثامن وهو البقاء فأثبته الأشعري والجمهور وقالوا: إنه صفة زائدة على الذات قائمة بها فهو باق ببقاء قائم بذاته كباقي الصفات وجرى عليه المصنف وذهب القاضي وإمام الحرمين وجمهور المعتزلة والإمام فخر الدين ووالده والبيضاوي إلى نفي تلك الصفة وقالوا: إن بقاء الله تعالى عين ذاته أي إنه باق لذاته لا لبقاء لأن البقاء لو كان موجودا وللزم أن يكون باقيا فحينئذ يكون ببقاء آخر وبتسلسل وأجيب بأن بقاء الله

تعالى وقدمه باقيان بذاتيهما لا ببقاء قائم بهما، لأن قيام الصفة بالصفة محال، قال الإمام فخر الدين: وهذا يلتفت على أمرين. أحدهما: أن استمرار الذات هل هو مفهوم زائد على الذات أو ليس صفة زائدة عليها؟ والثاني: أن الجوهر في الزمان الثاني هل يحتاج إلى معنى يقتضي وجوده في الزمان الثاني أم لا؟ فمن الناس من أثبته وسماه البقاء والحق أنه محال. الثاني: أنهم اتفقوا على إثبات الصفات الموهمة التي ورد بها الشرع كالعين والوجه واليد للقدرة أو النعمة وقيل: إنها صفات أخرى قائم بذات الله تعالى

وقال البيهقي: لله تعالى صفات خبرية كالوجه واليد طريق إثباتها ورود خبر الصادق بها فنثبتها ولا نكيفها قال ابن القشيري: واختلفوا في جواز صفة أخرى خبرية لتعارض قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((أسألك بكل اسم هو لك= أو استأثرت به في علم الغيب عندك)). الثالث: لك أن تسأل عن الفرق بين المذهب الثاني والثالث أعني مذهب الفلاسفة والمعتزلة، وما الفرق بين من نفى الصفة ونفى حكم الصفة، ووجهه أن الحكم وهو عالم قادر ثبت بالنص وعلم الضرورة دينا، وإثبات صفة العلم والقدرة لا تستند إلى ثبوتها بالنص، وإنما تثبت بالدليل، وليس كذلك، ولهذا عدها بعضهم مما ثبت بالصيغة لأن عالما لم توضع إلا لمن له العلم لا لمن أدرك فقط. فيكون على هذا من الثابت بنص الكتاب وعلى هذا جرى أبو الوليد بن رشد فقال: لا فرق بين من قال ليس لله علم ومن قال: ليس بعالم. الرابع: إنما قال المصنف: لم يزل ولم يقل قديمة، لأن هذه الصفات للرب سبحانه وتعالى عند المتقدمين من أصحابنا لا يقال لها قديمة، لأن القديم عندهم

هو بقدم فلا يجوز أن يقوم بالصفات قدم، بل هي أزلية كذا حكاه ابن القشيري في (المرشد) قال: وعند أبي الحسن صفات ذات الرب قديمة ومنع أن يكون القديم قديما بقدم بل القديم قديم لنفسه. الخامس: تحرز بصفات ذاته عن صفات فعله كالخالق والرازق فإنها حادثة عند الأشعري، وهي فيما لا يزال ولا يصح وصفه بها في الأزل فإن الخالق حقيقة هو الذي صدر الخلق منه فلو كان قديما لزم قدم الخلق وصارت الحنفية وغيرهم إلى القول بقدمها ولا يجوز أن يحدث له صفة لم يستحقها فيما لم يزل، وأنه لم يستحق اسم

الخالق لخلقه الخلق، وإن أريد بالخالق القادر على الخلق لم يبق في قدمه خلاف قال البيهقي: وأبى المحققون من أصحابنا أن يقولوا: إنه لم يزل خالقا ولكن يقولون: خالقنا لم يزل رازقا لم يزل قادرا على الخلق والرزق لأنه لم يخلق في الأزل ثم خلق، وإذا سمي خالقا بعد وجود الخلق لم يوجب ذلك تغيرا في ذاته كما أن الرجل إذا سمي أبا بعد أن لم يسم به لا يوجب ذلك تغيرا في نفسه، ومن أصحابنا من قال بجواز القول بأنه لم يزل خالقا رازقا على معنى أنه يخلق ويرزق انتهى وأشار الغزالي إلى أنه لا خلاف بين المسلمين في وصف الله تعالى بالخالقية (167/ز) والرازقية في الأزل بالقوة لا بالفعل والحقيقة وكذا بقية الصفات المؤثرة، ووصفه بها عند خلق العالم بالفعل والحقيقة، وقولنا: إن الله تعالى خالق في الأزل بمنزلة قولنا السيف قاطع في الغمد وظن بعض الحنفية أنه أراد الإطلاق المجازي فقال لا يصح إطلاق ذلك في أسماء الله تعالى، لأن المجاز يقبل النفي. السادس: اعترض بعضهم على الأشعرية في قولهم في الصفات: ليست هي هو ولا هو غيرها وقال: وقعوا في صريح التناقض وهذا كلام من لم يفهم حقيقة الغيرين وهو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود أو عدم وهذه الصفات الكريمة لا تقبل ذلك فلا يقال: هي غيره ولا هو غيرها وعبر بعض الأصحاب عن ذلك فقال بأن الصفات ليست هي ذاته ولا غير ذاته فإن الغيرين هما ذاتان ليست إحداهما الأخرى والصفات وإن كانت زائدة على الذات فلا تكون مغايرة لها بهذا المعنى.

ص: وما صح الكتاب والسنة من الصفات يعتقد ظاهر المعنى وينزه عند سماع المشكل ثم اختلف أئمتنا أنؤول أم نفوض منزهين مع اتفاقهم على أن جهلنا بتفصيله لا يقدح. ش: ذكر هذا عقيب صفات الذات لينبه على أن الصفات لا تنحصر فيما ذكر، وإنه قد ورد صفات أخرى موهمة كما سبق والقصد أن كل ما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من الصفات اللائقة بجلاله، نعتقد ظاهر المعنى وما ورد فيهما من المشكل مما ظاهره الاتصاف بالحدوث والتغير كقوله تعالى: {وجاء ربك والملك} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا كل ليلة)) فإنا ننزه عند سماعه عما لا يليق به. وللعلماء فيه مذهبان مشهوران فمنهم من يفوض عمله إلى الله تعالى ويسكت عن التأويل بشرط الجزم بالتنزيه والتقديس واعتقاد عدم إرادة الظواهر المفضية للحدوث والتشبيه، وهذا مذهب السلف رحمهم الله

تعالى ولهذا يقفون على قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} ثم يبتدئون {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} وقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف فقولهم: كما جاءت رد على المعطلة، وقولهم بلا كيف رد على المشبهة ومنهم من يقول بالتأويل وهو مذهب الخلف وشرطوا كون التأويل لإيفاء بجلال الله تعالى وكون المؤول متسعا في لغة العرب ولهذا قال (87/ك) بعضهم: مذهب السلف اسلم ومذهب الخلف أعلم، أي أحوج إلى مزيد من العلم واتساع فيه وكان إمام الحرمين يتأول أولا ثم رجع في آخر أمره وحرم التأويل ونقل إجماع السلف عليه، فقال في (الرسالة النظامية): والذي نرتضيه رأيا وندين لله تعالى به عقدا اتباع سلف الأمة فالأولى الاتباع وترك الابتداع والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع

الصحابة رضي الله عنهم فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها مع أنهم كانوا لا يألون جهادا في ضبط قواعد المسألة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر متبوعا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وقال ابن القشيري في تفسيره: تعلق قوم باختيار الجهل في ذلك مع دعوى الأخذ بالظاهر ولا يخفى أن الظاهر التشبيه في كل لفظ يوهم التشبيه، فإن اعترف هؤلاء بأنهم لا يشبهون فقد تركوا الظاهر بالضرورة وعند ترك الظاهر فلا مانع من تكلف تأويل ممكن واحتج ابن عطية للمتأولين بأن الكل أجمعوا على تأويل قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} أن معناه بقدرته وعلمه وإحاطته قال: وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها تخرجه عن معنى لفظها المعهود، قال: وتأولهم هذا حجة عليهم في غيره وقال الشيخ عز الدين في بعض فتاويه: وطريق التأويل بشرطه أقربهما إلى الحق، لأن الله تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه لأنه قال: {ثم إن علينا بيانه} وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لتبين للناس ما نزل إليهم} وهذا عام في جميع آيات القرآن فمن

وقف على الدليل فقد أفهمه الله تعالى مراده من كتابه وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا {يستوي الذين يعملون والذين لا يعلمون} وتوسط صاحبه ابن دقيق العيد في عقيدة له فقال: يقول في الألفاظ المشكلة منزه عما لا يليق بجلاله ويقول: إنها حق وصدق على الوجه الذي أراده قال: ومن أول شيئا منها فإن كان تأويله قريبا على ما يقتضيه لسان العرب ويفهم في مخاطباتها لم ينكر عليه، ولم نبدعه، وإن كان تأويله بعيدا توقفنا عنه واستبعدناه ورجعناه إلى القاعدة في الإيمان بمعناه والتصديق به على الوجه الذي أريد مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً مفهوما من تخاطب العرب قلنا به، وأولناه من غير توقيف كما في قوله تعالى: {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} فنحمله على حق الله وما يجب له أو على قريب من هذا المعنى ولا يتوقف فيه، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن)) فحمله على أن إرادة القلب واعتقاد أنه مصرفه بقدرة الله تعالى وما يوقعه في القلوب وكذا سائر الأمور الظاهرة المعنى المفهوم عند سماعها ممن يعرف كلام العرب انتهى ولا مزيد على حسنه لكن إذا أول على المعهود من كلام العرب فيشترط أن لا يقطع بأنه هو المراد، فالله أعلم بمراده، بل نقول: يجوز أن يكون المراد كذا، وقد يرجح بالقرائن المحتفة باللفظ ونحوه وقول المصنف: مع اتفاقهم على أن جهلنا به لا يقدح، أي لأن الإيمان الإجمالي كاف فيه كما في الإيمان بما أنزل الله من الشرائع وأرسله من الرسل

وكذلك يؤمن بالمتشابهات على الإجمال وإن لم يتعين المراد بها على التفصيل. ص: القرآن كلامه غير مخلوق. ش: القرآن لفظ مشترك يطلق ويراد به المقروء وهو صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى وليست من قبيل الحروف والأصوات، ويدل عليه قول السلف قاطبة القرآن كلام الله تعالى وهو غير مخلوق، قال علي رضي الله عنه: (ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن) وكما يعقل متكلما ولا مخارج (168/ز) له ولا أدوات كذلك يعقل كلاما ليس بحروف ولا أصوات. والدليل عليه: أن كلامه صفة موجودة والحروف إن كانت كتابة فهي أجسام وإن كانت حركات أدوات فهي أعراض ومحال قيام الأجسام والأعراض بالباري تعالى عن ذلك، ويلزم القائل بذلك القول بخلق القرآن. ويطلق ويراد به العبادات الدالة على الصفة القديمة التي هي القراءة ومنه قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه} أي قراءته أو ليس للقرآن قرآن آخر: {فإذا

قرأناه فاتبع قرآنه} أي: قراءته وهو قوله تعالى: {وقرآن الفجر} وقوله: {إن الذي فرض عليك القرآن} أي القراءة ومنه حديث: ((ما أذن لله لنبي كإذنه لنبي حسن الصوت يتغن بالقرآن)) ومعناه بالقراءة ويدل عليه قول السلف القرآن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستحيل أن يكون القديم معجزة إذ لا اختصاص للصفة الأزلية ببعض المتحدين وسمى الرب تعالى الصلاة قرآنا لاشتمالها على القراءة فقال تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهودا} معناه: إن صلاة الفجر، فإن قالوا: {اخلع نعليك} كلام الله وتقدير الاتصاف به قبل خلق موسى عليه الصلاة والسلام خلق من القول. قلنا: الكلام الأزلي يتعلق بمتعلقه تعلق العلم الأزلي ويجري مجراه عند تجدد المتجددات وإذا لم يمتنع ثبوت هذه الصفة والكليم معدوم عن علمنا لم يمتنع ثبوت الكلام الأزلي، ومن ثم أحالت المعتزلة ثبوت الأمر من غير مأمور، بناء على أصلهم أن لا كلام إلا العبارات، وهذه الشبهة بعينها هي شبهة القائل بخلق

القرآن فإنه قال: لو كان كلامه غير مخلوق لكان لم يزل مخبرا بأنا أرسلنا نوحا ولم يزل موسل ولم يقل بعد فلزم أن يكون كذبا وقد عارضهم الأصحاب منهم البيهقي بأنه قد قال: {وقال الشيطان لما قضي الأمر} ولم يقل بعد فيلزم أن يكون كذبا، فإن قالوا: معناه: سيقول، قيل: كذلك قوله: {إنا أرسلنا نوحا} في أزله قبل الرسالة مخبر أنه سيرسله فإذا أرسله صار خبرا عن إرساله أنه وقع من غير أن يحدث خبرا كما أن علمه بأنه سيكون علمه الدنيا بأنه كائن وإذا كان لم يحدث علم إنما حدث المعلوم والمخبر عنه دون العلم والخبر واعلم أن الناس في كلام الله (88/ك) تعالى ثلاثة فرق: أهل السنة

يقولون: إن كلامه تعالى معنى نفساني قائم بذاته تعالى قديم منزه عن الحرف والصوت وما يأتينا من الحروف والأصوات الدالة عليه على لسان الرسل حادث ولكن نتجنب إطلاق هذا الاسم عليه أدبا إلا عند الحاجة إلى البيان لمتعلم، ويطلق أن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق تأسيا بالسلف الصالح حذرا من إيهام نفي الكلام الأزلي، والفرقة الثانية المعتزلة: لا يثبتون كلام النفس. والثالث الحشوية: القائلون بأنه يتكلم بحرف وصوت قائم بذاته، وهم قسمان: قسم يلتزمون حلول الحوادث بذاته تعالى الله عن قولهم، وشرذمة يقولون الحروف والأصوات قديمة، وهؤلاء لا يفهمون ما يقولون، لأنا نعلم ضرورة وحسا بأن الكاف قبل النون ولا يجتمعان في زمن واحد، ثم يلزمهم ما يلزم النصارى في اعتقادهم أن صفة من صفات الله القديمة وجدت المسيح، أما كلامه أو علمه فأثبتوا قدمه وكفرهم جميع المسلمين وتبرؤوا عنهم وبينوا أن الصفة الواحدة يستحيل أن

توجد في موصوفين، كما لا يصح أن يوجد جوهر واحد في مكانين وكيف يستقيم بعد ذلك أن يقال: إن صفة الله أي هي كلامه القديم وجدت في المصاحف والمحدثات بل هو أشر من قول النصارى لقصرهم ذلك على المسيح وحده وهم يقولون: إن كلام الله تعالى وجد في أكثر المخلوقات، ولقد كثر تشنيعهم على الأشاعرة في هذه المسألة ولو تنبهوا لسر مقالتهم لعلموا أنها أشنع: إذا علمت هذا فتضمن كلام المصنف مسألتان: إحداهما: أن القرآن هو الكلام القائم بالذات المقدسة، ولهذا لو حلف بالقرآن انعقدت يمينه حملا له على الكلام القديم، وأبو حنيفة حمله على الألفاظ ولم يحكم بانعقاد يمينه قال الشيخ عز الدين في (القواعد): وهو الظاهر من استعمال اللفظ وهو منازع فيه، فإن القرآن إذا أطلق لم يفهم منه غير كلام الله، ولهذا لو سئلنا عن القرآن مخلوق أم لا؟ أجبنا بأنه غير مخلوق قال الحليمي: وقوله تعالى: {وما هو بقول شاعر} وفي سورة أخرى: {إنه لقول رسول كريم} فإنما معناه: لقول تلقاه عن رسول كريم أو سمعه عنه أو نزل به عليه،

وقد قال في آية أخرى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} فأثبت أن القرآن كلامه ولا يجوز أن يكون كلامه وكلام جبريل معا فدل على أن معناه ما قلنا. الثانية أنه بالمعنى الأول غير مخلوق ولا محدث لأنه كلام الله وكلام الله تعالى صفته ويستحيل اتصاف القديم بالمحدث، وقد قال تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام} الآية، وما يمتنع نفاذه قديم ولأن الله تعالى ذكر الإنسان في ثمانية وعشرين موضعا، وقال: إنه مخلوق، وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا ولم يقل: إنه مخلوق ولما جمع بينهما في الذكر نبه على ذلك حيث قال: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان} وقد روي من وجوه عن ابن عباس في قوله تعالى: {قرآنا عربيا غير ذي عوج} وقال غير مخلوق وقال البويطي عن الشافعي: إنما خلق الله تعالى كل شيء بكن فلو كانت كن مخلوقة فمخلوق خلق مخلوقا قال الأئمة: ولو كان كن الأول

مخلوقا فهو مخلوق بأخرى وأخرى إلى ما لا يتناهى وهو مستحيل وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر}: إن الأمر القرآن ففصل بين المخلوق والأمر، ولو كان الأمر مخلوقا لم يكن لتفصيله معنى، قال ابن عيينة: فرق بين الأمر والخلق فمن جمع بينهما فقد كفر أي من جعل الأمر الذي هو قوله من خلقه فقد كفر وأما أن القرآن هو الآمر فلقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا} وروي هذا الاستنباط عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى الذهلي وأحمد بن سنان وغيرهم من الأئمة، وذكر البيهقي بإسناد صحيح عن عمرو بن دينار قال

سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق قال ومشيخته جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس وابن عمر وجابر وابن الزبير وأكابر التابعين، ثم قال: وروينا هذا القول عن الليث بن سعد وسفيان (169/ز) وابن المبارك وحماد بن زيد وابن مهدي والشافعي رضي الله عنه وأحمد بن

حنبل وأبي عبيدة والبخاري ومشيخة جلة سواهم وإنما أحدث هذه البدعة الجعد بن درهم فذبح= خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى قلت: وكان الإجماع منعقدا عليه حتى جاء الجبائي وزعم أنه مخلوق على معنى أنه مقدر، وتبعه ابنه ومعتزلة البصرة ونقل عن داود الظاهري إنه محدث وليس بمخلوق

وينسب للبخاري، وفهمها ابن بطال من تنويهه في آخر كتابه وقد هجر الإمام أحمد داود لما بلغه ذلك عنه، ومنعه من الدخول عليه، وقال البيهقي في مناقب الإمام أحمد: يحتمل أن يكون داود تكلم في الفرق بين التلاوة والمتلو كما كان محمد بن إسماعيل البخاري يذهب إليه فنسبه محمد بن يحيى الذهلي إلى رأي جهم وكلاهما بريء منه، ثم استدل شعيب بن إبراهيم قال: قرئ على أبي سليمان مسألة الاعتقاد فقال فيها: كلام الله غير مخلوق ولا مجعول ولا

محدث، وحكى عن داود أنه قال: أما الذي في اللوح المحفوظ فغير مخلوق، وأما الذي بين الناس فمخلوق قال الذهبي في (الميزان): وهذا أول شيء على جهله بالكلام فإن جماهيرهم لم يفرقوا بين الكلامين في أن الكل حادث، وإنما يقولون: القائم بالذات المقدسة غير مخلوق، لأنه من علمه تعالى والمنزل إلينا محدث كما قال تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} والقرآن كيف تلي أو كتب أو سمع فهو وحي الله فإن قيل: فقد سبق أن القرآن يطلق بمعنيين فهل يجوز على المعنى الثاني وهو القراءة أن يقال: إنه مخلوق؟ قلنا: لا يجوز لما فيه من الإيهام المؤدي إلى الكفر، وإن كان المعنى صحيحا بهذا الاعتبار، كما أن الجبار في أصل اللغة هي النخلة الطويلة، ويمتنع أن يقال: الجبار مخلوق مريدا بها النخلة لما فيه (89/ك) من الإيهام ولا يمتنع أن يقال: القراءة مخلوقة لزوال الإشكال. (ص) على الحقيقة لا المجاز مكتوب في مصاحفنا محفوظ في صدورنا مقروء بألسنتنا.

ش: الجار والمجرور في قوله: على الحقيقة - متعلق بما بعده من اسم المفعول في مكتوب ومحفوظ ومقروء، فلهذا قطعه عما قبله لئلا يتوهم أنه متعلق بالذي قبله ودليل ما قال قوله تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أتوا العلم} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو)) مخافة أن يناله العدو، والمعنى أن القرآن مكتوب إلى آخره، أي: إنما يقال بهذا التقييد ولا يطلق عليه غير مقيد لما فيه من الإيهام كما لا يقال: إن الله تعالى في المسجد وفي القلوب إلا على التقيد بأن الله تعالى معبود في المسجد معلوم في القلوب مذكور بالألسن لاستحالة وجوده في الجهات فذلك حكم كلامه ووضحه بعضهم فقال: معنى قولنا إن القرآن مكتوب في المصحف محفوظ في الصدور: أن الكتابة التي يكون كلام الله بها مكتوبا في المصحف لا نفس الكلام الموجود بذاته، وكذلك الحفظ له لا نفس واحد من هذه المعاني مع زيادات أضيفت له حتى لا يعرف إذا ذكر إلا ذلك المعنى مع هذه الزيادات، ولا يذهب وهم السامع إلى من كان في أصل اللغة قبل اقتران هذه الزيادات به، وقد كثر التشنيع على

الأشعري رحمه الله في قوله: إن الألفاظ التي في المصحف دالة على كلام الله تعالى لا غير كلام الله تعالى ورد بإجماع السلف على ما بين دفتي المصحف كلام الله تعالى، والأصحاب المحققون يقولون: للقرآن حقيقتان: حقيقة عقلية وحقيقة شرعية فحقيقته الشرعية كلام الله غير مخلوق وهذا هو موضع إجماع السلف ولم يتكلم فيه الأشعري وحقيقته العقلية أن هذه الألفاظ دالة على كلام الله تعالى وليست عين لقيام الدليل العقلي على قدم الكلام ولئلا يلزم كون القرآن مخلوقا وهذا موضع كلام الأشعري مع أنه لا يسوغ إطلاق هذا اللفظ لمنافاته الحقيقة الشرعية، وإنما هو بحث عن الحقيقة العقلية ليعلم كيف هو، وقصد بذلك الجمع بين الأدلة وهي الطريقة المثلى فإنه إن لم يجمع بين العقل والشرع على القطع وقع في مخالفة العقل بالجملة أو الشرع بالجملة، ونظيره تقسيم الإرادة إلى كونية وشرعية فتمسك بهذا التقرير فإنه من أعظم ما يستفاد في هذا المضيق، وحاصله أن القرآن يطلق على القائم بالنفس وهو كلام الله حقيقة لغوية وعقلية، وعلى هذا المكتوب في المصحف والمحفوظ والمقروء كما سبقت أدلته، وهذه إنما أجمعت عليه الأمة ولم يريدوا أن عين الكلام القديم حال في الورق والصدور لاستحالته بل إن في مصاحفنا كتابة دالة عليه وفي صدورنا حفظا له وفي ألسنتنا قراءة له كما قال تعالى: {النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} فالنبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة مكتوب في التوراة ومعناه أن في التوراة كتابة دالة عليه لا أن نفسه مدرجا في التوراة، وكما يقال: الدار مكتوبة في الصك، وكما

أن الله تعالى معلوم بعلومنا مذكور بألسنتنا معبود في مساجدنا غير حال فيها، ولهذا منع بعضهم إطلاق كونه في المصحف حتى يقول: إنه مكتوب فيه دفعا لوهم الحلول ولم يتحاشاه الجمهور تمسكا بقوله تعالى: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} وعلم من ذلك أن القرآن غير المقروء والتلاوة غير المتلو، وخالفت الحشوية فزعموا أن القراءة هي المقروء وهذا من غباوتهم فإن القراءة كسب العبد يثاب عليها إذا كانت مندوبة ويعاقب عليها، إذا كانت حراما والثواب والعقاب إنما يتعلق بفعل المكلف، ولا يعلق كذلك بالكلام الأزلي، قال الآمدي: ولم يخالف في أن القراءة غير المقروء والكتابة غير المكتوبة إلا النجار من المعتزلة

والحشوية مع زيادة القول بالقدم، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: القراءة والمقروءة شيئان متغايران، وهذا معلوم لكل عاقل أنصف ولم يسلك طريق التجاهل والمكابرة لأن المقروء ولم يزل موجودا ولا يزال، والقراءة لم تكن فكانت، لأنه من المحال تقدير وجود قراءة ولا قارئ لها كتقدير فعل ولا فاعل له، وقد نبه الباري على ذلك بقوله تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله} وكان يجري مجرى قوله: {إن الذين قالوا ربنا (170/ز) الله} وقوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} أفترى القول هو الرب والرب هو القول والأكل هو المال والمال هو الأكل؟ فإذا لم يصح ذلك أن تكون التلاوة هي الكتاب والكتاب هو التلاوة، بل يجب أن تكون التلاوة معنى غير الكتاب فالتلاوة فعل العبد والكتاب هو المقروء الذي هو الكلام الأزلي وبيان ذلك أن حال الصفة حال الموصوف فإذا لم يستحيل أن يكون الموصوف معلوما لنا مذكورا معبودا مع كونه قديما لا يوجب ذلك القرب منه ولا الاتصال ولا الحلول، كذلك الصفة التي هي الكلام القديم يستحيل أن يكون مقروءا لنا محفوظا مكتوبا ولا يوجب ذلك الحلول، قال: وكلام الله تعالى فيما لم يزل قديما غير منزل ولا مقروءا ولا مكتوب= ولا محفوظ=، فلما خلق الخلق وبعث النبي صلى الله عليه وسلم وأوحى إليه منزلا محفوظا مسموعا مكتوبا مسموعا وذلك لا يوجب بغير حاله كما أن القديم سبحانه وتعالى لم يكن في الأزل معبودا ولا مسجودا له ولا معلوما للخلق فلما أوجد الخلق وعلموه وعبدوه وذكروه كان معلوما لهم معبودا مذكورا ولم يوجب ذلك بغير حاله كذلك ههنا.

فإن قيل: يلزمكم على هذا أن تقولوا: اللفظ بالقرآن مخلوق، وقد ذكر قوام السنة في كتابه (الحجة): أن أول من قال بالألفاظ وقال: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة حسين الكرابيسي فبدعه الإمام أحمد ووافقه على تبديعه علماء الأمصار وأطال في الاستدلال. قلت: قد ذكر البيهقي في (مناقب أحمد) أن هذا المروي عنه في اللفظ يوهم أنه كان لا يفرق بين التلاوة التي هي كسب وبين المتلو الذي هو كلام الله

قال: وقد حكاه عنه عبد الله ولده مقيدا فقال: سمعت أبي يقول: من قصد إلى القرآن بلفظ أو غير ذلك يريد به مخلوق (90/ك) فهو جهمي قال: فدل على أنه إنما أنكر قوله من زعم أن المتلو المقروء مخلوق وكره الكلام في اللفظ لكيلا يجعل ذلك ذريعة إلى القول بخلق القرآن ثم أسند عن الحاكم عن الأصم عن الصغاني سمعت

محمد فوران أبا محمد صاحب أحمد أنه سأله جماعة من أصحاب أحمد أن يطلب منه خلوة يسأله فيها عن أصحابنا الذين يفرقون بين اللفظ والمحكي، قال: فطلب منه ذلك فقال: القرآن كيف تصرف غير مخلوق فأما أفعالنا فمخلوقة قلت: يا أبا عبد الله فاللفظية تعدهم جهمية إذا تذرعوا باللفظ إلى القول بخلق القرآن قال: لا، الجهمية يقولون: القرآن مخلوق، قال البيهقي: فهذا يدل على أنه إنما جعل اللفظية جهمية إذا تذرعوا باللفظ إلى القول بخلق القرآن، وبان أن أحمد لا يخالف أصحابنا المتكلمين، وإنه لا خلاف في الحقيقة بين أصحاب الحديث في القرآن. انتهى. ولقد نفس كربة في الفائدة النفيسة نفس الله عني وعنه يوم القيامة ثم هنا. تنبيهات: أحدها: أنه قد يستشكل وصف القرآن بهذه الصفات أعني: كونه قديما ومتلوا ومحفوظا ومقروءا لإيهامه قيام الشيء الواحد بعدة أشياء وينحل هذا الإشكال بتحقيق مراتب الوجود وهي أربع: وجود في الأعيان ووجوده في الأذهان ووجود في البنيان ووجود في البيان فكلام الله تعالى باعتبار وجوه العيني وهو الموجود الحقيقي - قائم بالذات المقدسة غير منفصل عنها ولا قائم بغيرها، وباعتبار وجوده الذهني محفوظ في صدورنا، وباعتبار وجوده البنياني متلو بألسنتنا وباعتبار وجوده البياني مكتوب في مصاحفنا، وهو غير حال بحقيقته النفسية لا في صدورنا

ولا في ألسنتنا ولا في مصاحفنا ولا قائم بشيء من ذلك، وإلا لزم قيام صفة الخالق بالمخلوق، فالقائم على الحقيقة. بالتالي للقرآن هو الدال على كلام الله تعالى ويقال له أيضا: كلام الله لدلالته عليه، قال تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} ونهيه صلى الله عليه وسلم عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم وفي هذا جمع بين الأدلة والخصم ألغى بعضهما مع ارتكابه ما يسوغ عقلا. الثاني: إنما قال المصنف: لا لمجاز مع قوله قبله على الحقيقة، لأن الحقيقة تطلق ويراد بها كنه الشيء كقولنا: الجوهر والمتحيز وهذا هو محل نظر المتكلمين إذا قالوا: حقيقة كذا، أرادوا كنهه ويراد مقابل المجاز كما تقول: حقيقة الأسد الحيوان المفترس، وهذا محل نظر الأصوليين ومقصوده أن القرآن بالحقيقة العقلية هو الكلام النفسي وهذه الحقيقة لا يقال لمقابلها مجاز بل قد تكون أيضا حقيقة ولكن باعتبار آخر وهو اعتبار اللغة أو الشرع أو العرف، لأن الحقائق عند الأصوليين ثلاث وهو بالحقيقة اللغوية يقال: على النفس أيضا وعلى الألفاظ الدالة عليه بل الألفاظ أمس به، لأن النفس ليس بلفظ والحقيقة اللغوية لفظ، فلو قال على الحقيقة وسكت لأوهم أن المراد الحقيقة العقلية التي يعنيها المتكلمون وليست كذلك لأن تلك هي الكلام النفسي فاحتاج أن يقول لا المجاز لتبين أن المراد إنما هو الحقيقة اللغوية.

الثالث: إن مسألة الكلام أعظم مسألة في الكلام وعظمة الكلام على قدر عظمة المتكلم، قال بعضهم: ومثاله من عالم الشهادة الشمس، الذي ينتفع الخلق بشعاعها ووهجها، ولا قدرة لأحد من الخلق أن يقرب من جرمها أن لو وجد إلى ذلك سبيلا، فمن قائل بأن لا حرف ولا صوت لما عظم عليه أن يحضر، ومن قائل حرف وصوت لما عز عليه أن يغيب {ولكل وجهة هو موليها} والطريق الأعدل ترك الخوض في ذلك والاقتداء بأصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يخوضوا في ذلك ولا يخفى أن العبد إذا قال: القرآن كلام الله تعالى واعتقد وجوب الانقياد إليه ولا متعرض إلى قدم وحدوث لا يضر بذلك، فإن تعرضت لذلك ثار عليك خصمك فكفرك وكفرته ثم تناقضتما فتواددتما وتواكلتما وتصاهرتما فلم يحريا في العمل على مقتضى العلم فتؤثمان جميعا بالإثم، وما أشبهكما بما أتاهم كتاب من سلطان فأخذوا يتشاجرون في أن الكتاب كيف خطه وكيف عباراته وأي شيء فيه من الفصاحة، وصرفوا همتهم عن الابتداء لما ندبوا إليه، وأما السلف فمن خاض فيه فإنما فعله للضرورة والابتلاء بأهل الأهواء، وقد أمن من المحذور في هذه الأعصار بحمد الله تعالى. (ص) يثيب على الطاعة ويعاقب إلا أن يغفر غير الشرك على المعصية. ش: تقديره: ويعاقب على المعصية إلا أن يعفو غير الشرك (171/ز) قال الشيخ أبو إسحاق: ومعنى الثواب إيصال النفع إلى المكلف على طريق الجزاء، ومنه قوله تعالى: {فأثابهم الله بما قالوا} أي: جزاهم وقد يعبر به عن العقوبة

لقوله تعالى: {مثوبة عند الله} وعن الجزاء: {هل ثوب الكفار} ومعنى العقاب: إيصال الألم إلى المكلف على طريق الجزاء، والدليل على اتصاف الباري بذلك أنه وعد على صالحهما وأوعد على سيئهما فهو ينجز وعده ويحقق وعيده، لأنه صادق وخبره صدق وحصول العفو في بعض صور الوعيد لا ينافي صدق خبره، لأن ذلك من قبيل تخصيص العموم وهو يدخل في الأخبار، وبهذا يظهر بطلان من جوز الخلف في الوعيد، وعد ذلك من الكرم مستشهدا بقول الشاعر: وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي اللهم إلا أن يريد بالخلف في الوعيد تخصيصه فيصح المعنى، ويبقى النزاع معه في تسمية ذلك خلفا، وجواز إطلاقه في حق الله، إذا علمت ذلك فالإثابة على

الطاعة بالإجماع لكن عندنا فضلا منه وعند المعتزلة وجوبا، ومن لطيف أدلتنا قوله تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} فإن العطية إما أن تكون بعوض أو بغير عوض، والتي بلا عوض الإرث والهبة ونحوهما فلما ذكر الإرث كان تصريحا بنفي العوضية، وقال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا} وقوله: {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} وأما العقاب على المعصية فإن كانت المعصية شركا وهو واقع لا محالة لا يدخله عفو لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} وإن كانت غير شرك فعندنا: يجوز العفو عنه سمعا وعقلا، وصارت المعتزلة إلى جوازه عقلا وامتناعه سمعا، وقالوا: عذاب الفاسق مؤبدا وافترى بعض المبتدعة فنسبه للشافعي رضي الله عنه وقد قال في كتاب السير من (الأم) ممن انهزم عن الصف

(91/ك) بغير عذر: إنه باء بغضب من الله إلا أن يغفر الله له. وقال أبو علي بن أبي هريرة فيما حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه: وهذا دليل على بطلان قول من زعم أن الشافعي رضي الله عنه يرى مذهب الاعتزال ولنا: أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به يعني مع عدم التوبة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، يجب أن يكون مع التوبة أيضا بظاهر التقرير بين الشرك وغيره فأفاد ذلك جواز غفرانه لكل معصية دون الشرك وقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} وقوله: {إن الله يغفر الذنوب جميعا} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة)) قلت: ((وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق)) رواه البخاري ومسلم وإنما ذكر الزنا والسرقة لينبه على ارتكاب حق الله تعالى وحق العباد وأجمعت الأمة على ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو دليل على جواز العفو والغفران، واحتج الخصم بآيات الوعيد كقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} {وأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هو المأوى} {ونذر الظالمين فيها

جثيا} {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} والجواب: أن هذه عامة وأدلتنا خاصة، والخاص مقدم على العام، ولأن آيات العفو أكثر فكانت أغلب على الظن، ولا يلزم من ذلك الخلف في الوعيد لما سبق وتناظر أبو عمرو بن العلاء مع عمرو بن عبيد المعتزلي في هذه المسألة فقال أبو عمرو: الخلف في الوعد قبيح والخلف في الوعيد كرم وهو من مستحسنات العقول واستشهد بالبيت السابق وفيه ما ذكرنا قال الأبياري في (شرح البرهان): اختلفوا هل يصح العفو في الوعيد فمنعه أكثر المتكلمين، وقالوا: إذا كانت الصيغة عامة ولم يعذر يعذب تبينا التخصيص والتخصيص بيان لا رفع فبين أنه لم يكن في جملة ما اندرج في اللفظ، وإن كان خاصا لم يتصور العفو وإلا لانقلب العلم جهلا، وذهب بعضهم إلى الجواز محتجا بالبيت المشهور وهو ضعيف، ولا محل له عندي إلا أن يكون واضع اللغة جعل الوعيد يحتمل الشرط، أي إن شئت عاقبتك ولم يجعل لفظ الوعد

كذلك وهذا أحسن بالإضافة إلى مكارم الأخلاق، فإن لم يكن للأمر كذلك فهو فاسد قطعا، وخلف في الكلام الأول وبدأ صراح وهو على الله تعالى محال. تنيبه: ذكر الإمام في (الرسالة النظامية) أن الإثابة على الطاعة ليست بالعوض بل هي كما لو قال السيد لعبده: إن فعلت كذا فأنت حر، ففعله عتق بقول سيده لا بحكم استحقاق اقتضاه عمله وكذلك الثواب ثابت قطعا بوعد الله والعقاب ثابت بوعيده. ص: وله إثابة العاصي وتعذيب الطائع وإيلام الدواب والأطفال. ش: لأنه متصرف في ملكه إن أثابهم فبفضله، وإن عاقبهم فبعدله قال أصحابنا: وليست المعصية علة العقاب والطاعة علة الثواب، إنما هما أمارتان جعلهما علمين لهما، إن كنت عاصيا عوقبت أو مطيعا أثبت، وأنكر المعتزلة ذلك بناء على أصلهم في التقبيح العقلي كيلا يظلمهم والظلم نقصان وهو على الله محال، وقال أصحابنا: بل مذهبهم يلزم النقص إذ لا يجب على الله حق، إذ لو وجب عليه حق لغيره لكان في قيده والتقييد بالإعباد نقص وهذا يشبه قلب الدليل، فإنه يدل عليهم لا لهم، قال الإمام في (الرسالة النظامية): ومما يقطع

مادة خلافهم أن العبادات التي يقيمها العبد لا تفي بالنعم المتواترة عليه من ربه بإجزاء وهي تقع شكرا لأنعم الله بل لا تفي بأقلها فإذا وقعت شكرا عوضا عما تعجل من النعم فكيف يستمر في حكم العقل استحقاق الثواب على أعمال وقعت عوضا على نعيم يؤتاه العبد؟ قال: ثم قالوا: ليس على أهل الجنان شكر لنعيمها فإنها عوض أعمال العبد وليس للعوض عوض فمن أضل سبيلا ممن يوجب على الله تعالى ثواب أعمال العبد وهي عوض ما تنجز من النعم، ولم يوجب على العبد شكر الثواب غدا لكونه عوضا واحتج الشيخ عز الدين في (القواعد) بما ورد في الحديث الصحيح: ((إن الله عز وجل يخلق في (172/ز) النار أقواما)) قال: وكذلك لاستبعاد في إثابة من لم يطع، ففي الحديث الصحيح: ((إن الله عز وجل ينشئ في الجنة أقواما)) وكذلك في الحور العين وأطفال المسلمين وغيرهم ممن يتفضل عليهم من غير إثابة على عمل سابق، وليس هذا بدعا في إحسانه المبتدأ من غير عمل ومن اعترض زاد شقاؤه ويجاب عن اعتراضه بأن الربوبية ليست مقيدة بمصالح العبودية، وقد شاهدنا ما يبتلى به من لا ذنب له من الأطفال.

فإن قيل: فعل بهم ذلك ليثيبهم قلنا هو قادر على ذلك من غير ابتلاء فإن منعوا القدرة سقطت مكالمتهم، وإن سلموا قلنا: فلماذا أضر بهم؟ فإن قال الشقي: إنما فعله ليدفع عنهم ضرر منته - فجوابه من ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه كان قادرا على أن لا يخلق لمنته ضررا. ثانيهما: أن منته سبحانه وتعالى شرف في الدارين ولا خروج لأحد عنها. ثالثهما: إن قدر في منة الرب ضرر تعالى الله عن ذلك فمفسدة ذلك الضرر أخف من المفاسد المذكورة بما لا يتناهى. تنبيه: ينبغي أن يعلم أن كلام أصحابنا في هذه المسألة إنما هو في الجواز العقلي الذي وقع فيه الكلام مع المعتزلة، فإنهم أجازوه عقلا لكن الشرع قد ورد للطائع بالوعد الكريم الذي لا يتصور خلفه والعاصي بالوعيد المتصور بالكرم خلفه والتعذيب بالنار بلا ذنب غير جائز في الحكمة، إذ الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف حتى يتعلق بالإيلام عاقبة حميدة والجزاء بلا ذنب ظلم والعقل يمنع نسبته إلى الله تعالى والاقتصار وصف مجرد لم يدخل تحت القبح، فجاز، فقولهم: يجوز عقلا، أرادوا به: لو أخبر به الشرع لما أنكره العقل لا أن العقل يجوزه من غير قبح (92/ك) فافهم ذلك من النفائس المغفل عنها (ص) ويستحيل وصفه بالظلم. ش: أي: شرعا وعقلا، أما شرعا فلقوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال

ذرة} وقوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} وقوله تعالى: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} {إن الله لا يظلم الناس شيئا} فيمدح سبحانه وتعالى بنفي الظلم عنه، فلا يجوز زواله عنه كما لا يجوز نفي ما أثبته لنفسه من النعوت والصفات، كذلك ما نفاه عنه من النقائص وفي الحديث الصحيح: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)). وأما عقلا فلأن الظلم إنما صار ظلما لأنه منهي عنه، ولا يتصور في أفعاله تعالى ما ينهى عنه، إذ لا يتصور له ناه، ولأن العالم خلقه وملكه، والمتصرف في ملكه يستحيل وصفه بالظلم، وأيضا فلا يتصور إلا على من يتصور في حقه الجهل، لأنه وضع الشيء في غير موضعه، وأما من أحاط علمه بالأشياء ومواقعها فلا، والمخالف في هذه المسألة القدرية: قالوا: إن القديم يصح منه الظلم لكن لا يظلم لكونه قبيحا قال الشيخ أبو إسحاق: وفي هذا إسقاط لما يشيعونه عن أهل الحق أنهم ينسبون إليه فعل القبائح تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

تنبيه: إنما ذكر المصنف هذه المسألة عقيب ما سبق لأنها كالجواب عما يعرض للخصم هناك من الشبهة ومن عجيب الاتفاق أن أبا الحسن الأشعري كان يقرر مذهب جده أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فإن أبا موسى تناظر هو وعمرو بن العاص في ذلك فقال عمرو: أن أجد أحدا أخاصم إليه ربي، فقال أبو موسى: أنا ذلك المحاكم إليه، فقال عمرو: أيقدر علي شيئا ثم يعاقبني عليه؟ قال: نعم، قال عمرو: ولم؟ قال: لأنه لا يظلمك فسكت عمرو ولم يحر جوابا. (ص) يراه المؤمنون يوم القيامة. ش: ثبت في الأحاديث الصحيحة أنهم يرون ربهم يوم القيامة لا يضامون في رؤيته، وفي لفظ: ((كما يرون القمر ليلة البدر)) قال صاحب (نهاية

الغريب): قد يتخيل إلى بعض السامعين أن كاف التشبيه للمرئي، وإنما هي للرؤية وهي فعل الرائي ومعناه رؤية ينزاح عنها الشك كرؤيتكم القمر لأنه مأمون فيه. انتهى. وقد رواه بضعة عشر من الصحابة وأجمع عليه الكل واعتضد بظواهر القرآن فوجب اعتقاد ذلك، والعقل لا يمنعه، فإن مصححي الرؤية موجود يصح أن يرى ونفاة المعتزلة لاعتقادهم أن شرط المرئي أن يكون في جهة واتصال الشعاع بالمرئي والرب تعالى منزه عن الجهات، وهذا ممنوع وللناس في

حقيقة رؤية المرئيات أربعة أقوال: أحدها: اتصال الشعاع، والثاني: انطباع صورة المرئي في الرطوبة الجليدية كانطباع الوجه في المرآة، والثالث: أنه نار تخرج من البصر فتدرك به المرئي وهذا يشبه الأول. الرابع: أنه علم يخلقه الله تعالى في نفس الرائي مقارنا للرؤية وهو مذهب المتكلمين فيقال لهم أولا: لم قلتم: إن رؤية الباري أو الرؤية مطلقا باتصال الشعاع ولم تنكرون أن يكون بخلق العلم في نفسه؟ وثانيا: أنه قد ثبت لنا رؤية لا باتصال الشعاع وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تختلفوا علي في الصلاة فإني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي)) وما ذاك إلا لخارق إلهي ومعجز نبوي أيد به كما كان يرى الثريا اثني عشر كوكبا وغيره يراها ستة أو سبعة وذلك لقوة حصرها في بصره خرقا للعادة، فجاز إذا كانت الآخرة محل

خرق العادة أن يتجدد للمؤمنين خرق عادة يرون بها ربهم من غير انطباع ولا اتصال شعاع ولا جهة كالدود في وسطه البلورة يراها لا في جهة، وكرة العالم يراها الله عز وجل وقد قام البرهان على أنها ليست في جهة على ما قيل، وقد وافقنا جمهور المعتزلة على أن الرب تعالى يرى نفسه فهذا مرئي ليس في جهة، ووافقونا على أنه يرى عباده فهذا مرئي ليس في جهة. واعلم: أن أهل السنة والمجسمة اتفقوا على أن الله تعالى يرى، والمعتزلة والمجسمة على أن شرط المرئي الجهة، ثم المعتزلة لما نفوا الجهة نفوا الرؤية، والمجسمة لم أثبتوا الجهة أثبتوا الرؤية والأشعريون توسطوا فأثبتوا الرؤية ونفوا أن تكون الجهة شرطا للمرئيات، ومعنى كونه مرئيا بالمعنى الذي أراده والوجه الذي قصده مع التنزيه عما لا يليق بالقديم، وللأشعري في ماهية الرؤية قولان: أحدهما أنه علم مخصوص ويعني بالمخصوص أنه يتعلق بالموجود دون العدم وثانيهما: أنه إدراك وراء العلم يقتضي تأثيرا في المدرك لا تأثيرا عنه وإلى هذا جنح كثير من أصحابنا فقالوا: إنه يحصل لنا علم برؤية العين كما في غيره من المرئيات مع تنزيهه عن الجهات والكيفيات وهو أمر زائد على العلم ووقع في كلام الإمام فخر الدين: أن معنى الرؤية حصول حالة في الانكشاف نسبتها إلى ذاته المخصوصة كنسبة الإبصار إلى المرئيات وهذا مؤول أو محمول على نفي العلم فإن ظاهره مذهب المعتزلة

وقال الشيخ عز الدين في فتاويه: أما رؤية الرب في الآخرة فإنه يرى بالنور الذي خلقه في الأعين زائدا على نور العلم، فإن الرؤية تكشف ما لا يكشفه العلم ولو أراد الرب تعالى أن يخلق في القلب نورا مثل الذي خلقه في الأعين (173/ز) لما أعجزه ذلك بل لو أراد أن يخلق نور الأعين في الأيدي والأرجل لكان ذلك، ويحمل قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنكم لن تروه بنور الأبصار أو بنور مثل الأبصار حتى تموتوا)) وقال بعض الأئمة: العين في الآخرة بمنزلة القلب في الدنيا والقلب يعلم ويرى ولكن لا يدرك إذ الإدراك غير الرؤية والرؤية غيره، فهو سبحانه وتعالى مرئي للقلب معلوم غير مدرك له وهكذا في القيامة مرئي للعين، غير مدرك لها أو جل أمره عن الإدراك إذ يؤذن بالاشتراك وهو سبحانه لا شريك له، ثم اعلم أن الرؤية لو كانت كما فهمه المعتزلة بواسطة الأشعة والحدقة لا تحدت= وما تفاوتت واختلفت وليس الأمر كذلك، بل الخلق متفاوتون في الرؤية على قدر تفاوتهم في رتب العبودية ومنازل القرب (93/ك) فللأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الرؤية رتبة وللأولياء رتبة ولعوام المؤمنين رتبة ولولا تجنب القياس أمكن أن يقال: يراه المؤمنون يوم القيامة كما تراه الأولياء في الدنيا ولكن تكون تلك الرؤية باشتراك البصر والبصيرة ويصيران بطبع واحد وصفة واحدة، ويراه الأولياء كما يراه الأنبياء في الدنيا

ويتفاوتون على هذا في رتبهم في النبوة والرسالة، ويراه خواص الأنبياء كما رآه نبينا صلى الله عليه وعليم وسلم ليلة المعراج، ويزداد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رتبة في الرؤية واحترز المصنف بقوله: (المؤمنون) عن الكفار فإنهم لن يروه، كما قال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} وفيه رد على من زعم أنهم يرونه يوم القيامة زيادة في حسرتهم وعذابهم بفواته، والصحيح اختصاصه بالمؤمنين، لأنها كرامة ولقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} والمراد بالحسنى في قول الجمهور الجنة وبالزيادة الرؤية كما رواه مسلم عن صهيب مرفوعا: ((الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى)) فقد أفادت اللام وتقديم الخبر اختصاص المجزئ بها وهم المؤمنون وقال بعضهم: يرونه بأبصارهم بإرادته تعالى بلا

كيف، فأصل الرؤية من العقائد وأما عملنا بكيفيتها فمن المتشابهات فيتوقف فيه، فيؤنس بأصل الرؤية ولا يشتغل بكيفيتها. تنبيهات الأول: جعل المصنف معرفة ذلك من عقائد الإيمان ذكره الخطابي وتأول عليه ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه وتؤمن بالبعث)) قال: فقوله: ((أن تؤمن بلقائه)) فيه إثبات رؤية الله تعالى في الدار الآخرة واستدرك البيهقي ذلك على الحليمي فقال: وعندي لو وقف الحليمي على هذا الحديث وتأول اللقاء فيه على ما تأوله الخطابي وجماعة، من أصحابنا لجعل الإيمان بلقاء الله تعالى وهو رؤيته، والنظر إليه شعبة من الإيمان. قلت: تأول بعض المحققين اللقاء على لقاء الأرواح لرب العالمين عقب الموت، والبعث الآخر على بعث الأشباح، ورد الأرواح إليها وهذا هو الأشبه لسياق

الحديث. الثاني: زعم الشيخ عز الدين أن الملائكة لا يرون ربهم واحتج على ذلك بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} وقد استثني= منه المؤمنون فبقي على عمومه في الملائكة الأبرار. الثالث: أنه الرؤية يوم القيامة تقع على أنها تارة تكون للامتحان كما سبق في الحديث المذكور عند قول المصنف: (واختلفوا هل يمكن علمها في الآخرة) وتارة تكون للكرامة كالتي في الجنة. (ص) واختلف هل تجوز الرؤية في الدنيا وفي المنام. ش: فيه مسألتان إحداهما: في جواز رؤية الله بالأبصار في الدنيا على جهة الكرامة للأولياء قولان للأشعري، حكاهما القشيري: أحدهما: يجوز، ولهذا اختلف الصحابة في رؤية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة المعراج وهو دليل على الجواز؛ إذ المحال لا يختلف فيه وأصحهما كما قاله القشيري وغيره - المنع لحصول الإجماع عليه، وخلاف الصحابة إنما كان في وقوع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وليس الكلام فيها، وقد روى مسلم في

كتاب الفتن عن عمر بن ثابت أنه أخبره أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال يوم حذر الناس الدجال: ((إنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن)) وقال: ((تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت)) وفي الحديث الصحيح: ((إن لله سبعة وسبعين حجابا من نور لو كشف واحدا منها أحرقت سبحات وجهه من أدركته)) قيل: وهذا الحديث مشترك الدلالة فهو دليل لمن أنكر الرؤية من حيث أخبر أنه لو كشف أحرق، ودليل لمن أثبتها إذ جعل الكشف

معدوما وفاقاً للإحراق والإهلاك، فيكون ذلك إذا وردت الرؤية على محل قابل للفناء والهلاك، وقال القاضي عياض: مذهب أهل السنة الحق أنها غير مستحيلة في الدنيا بل ممكنة ثم اختلفوا في وقوعها ومن منعه تمسك بهذا الحديث مع قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} وسبب المنع عنده أن قوى الآدميين في الدنيا لا يحملها كما لم يحملها موسى عليه الصلاة والسلام وقال الأنصاري في (شرح الإرشاد): نقل جماعة الإجماع على أنها لا تحصل للأولياء في الدنيا وامتناعها بالسمع، وإلا فهي ممكنة بالعقل عند أهل الحق كما أنها حاصلة للمؤمن في الآخرة باتفاقهم، قال واختلاف الصحابة في الرؤية ليلة المعراج من أقوى الأدلة على جواز الرؤية لأن خلافهم كان في الوقوع لا في الجواز، ولو كان وقوعه مستحيلا لما اختلفوا في الجواز، واختاره الشيخان أبو عمرو بن الصلاح وأبو شامة المقدسي

أنه لا يصدق مدعي رؤية الله في الدنيا يقظة فإن شيئا منع منه كليم الله موسى واختلف في حصوله لنبينا صلى الله عليه وسلم كيف يسمح به لمن لا يصل إلى مقامهما؟ هذا مع قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} فإن الجمهور حملوه على الدنيا جمعا بينه وبين أدلة الرؤية، قلت: والقشيري في كتابه (الإشارات) أجاب عن هذه الشبهة فقال: جوزه المحققون وإن لم ينل ذلك موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ولا يؤدي إلى تفضيل غيره عليه إذ كان له فضل النبوة، والرؤية نفسها لا تقتضي (174/ز) راحة ولا عقوبة ولكن الله تعالى أجرى العادة أن يخلف للمؤمن أعظم الدرجات بها. الثانية: هل يجوز أن يرى في المنام؟ اختلف فيه فجوزه معظم المثبتة للرؤية من غير كيفية وجهة مقابلة وخيال، وحكي عن كثير من السلف أنهم رأوه كذلك ولأن ما جاز رؤيته لا تختلف بين النوم واليقظة وصارت طائفة إلى أنه مستحيل لأن ما يرى في النوم خيال ومثال وهما على القديم محال، والخلاف في هذه المسألة عزيز قل من ذكره وقد ظفرت به في كلام الصابوني من الحنفية في عقيدته والقاضي أبي

يعلى من الحنابلة في كتابه (المعتمد الكبير)، ونقل عن أحمد أنه قال: رأيت رب (94/ك) العزة في النوم فقلت: يا رب، ما أفضل ما يتقرب به المتقربون إليك؟ قال: كلامي يا أحمد قلت: يا رب، بفهم أو بغير فهم، قال: بفهم وبغير فهم قال: وهذا يدل من مذهب أحمد على الجواز، قال: ويدل له حديث: ((رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)) وما كان من النبوة لا يكون إلا حقا ولأن من صنف في تعبير الرؤيا ذكر فيه رؤية الله تعالى وتكلم عليه، قال ابن سيرين:

إذا رأى الله عز وجل أو رأى أنه يكلمه فإنه يدخل الجنة وينجو من هم كان فيه إن شاء الله تعالى. واحتج المانع بأنه لو كان رؤيته في المنام جائزة لجازت في اليقظة في دار الدنيا. والجواب: أن الشرع منع من رؤيته في الدنيا ولم يمنعه في المنام، وروى الحافظ شيرويه في كتاب (التجلي في المنامات) عن أبي الحسين بن محمد الضرير القزويني قال: يجوز رؤية الله تعالى في المنام كما تجوز رؤيته في الجنة لأن الروح التي ترى ذلك والروح لطيفة كلطافة أهل الجنة في الجنة، وقد ذكر رؤية الرب جل وعلا أهل الرؤيا في كتبهم وهو أفضل مسألة من مسائلهم محمد بن سيرين وغيره، وإنما لم يجوز الرؤية في المنام من لا يجوزها في الجنة، وهو قول المبتدعة والجهال من المذاهب، ثم ساق الحافظ ذكر من رأى الحق سبحانه وتعالى في المنام من الأئمة فذكر عدداً كثيرا في نحو جزء وسط، وبالغ ابن الصلاح في الإنكار على من يدعي ذلك، وقال النووي في (شرح مسلم): قال القاضي عياض: اتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام، وصحتها، وإن رآه الإنسان على صفة لا تليق

بجلاله من صفات الأجسام لأن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى ولا يجوز عليه التجسيم، ولا اختلاف الحالات بخلاف رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فكانت رؤيته تعالى في النوم كسائر أنواع الرؤيا من التمثيل والتخييل، قال القاضي أبو بكر: رؤية الله تعالى في النوم أوهام وخواطر في القلب بامتثال لا يليق به سبحانه وتعالى عنها، وهي دلالات الرأي على أمور مما كان ويكون كسائر المرئيات وقال غيره من أهل هذا الشأن: وإذا قام الدليل العابر في رؤية الباري أنه هو المرئي لا تأويل له غيره كانت حقا وصدقا لا كذب فيها، لا في قول ولا فعل، وقال الغزالي في بعض مؤلفاته: السمع يجوز إطلاق ذلك في حق الله تعالى ونحن نقول بجواز إطلاق كل لفظ في حق الله تعالى صادق ولا نمنع منه إذا كان لا يوهم الخطأ عند السمع، وهذا لا يوهم رؤية الذات عند الأكثرين لكثرة تداول الألسنة، فإن فرض شخص توهم عنده خلاف الحق فلا ينبغي أن يطلق معه القول بل يفسر له معناه، كما يجوز لنا أن نقول: إنا نحب الله ونشتاق إليه ونريد لقاءه، وقد يسبق إلى فهم قوم من هذه الإطلاقات خيالات فاسدة، فيراعي في هذا حال المخاطب فيطلعه حيث لا إبهام ويجب الكشف عند الإبهام، قال: وعلى الجملة يعود الخلاف إلى إطلاق اللفظ وجوازه بعد حصول الاتفاق على المعنى أن ذات الله تعالى غير مرئية وأن المرئي مثال، فظن من ظن استحالة المثال في حق الله تعالى خطأ، بل يضرب الله الأمثال لصفاته وهو منزه عن المثل. انتهى.

(ص) السعيد من كتبه في الأزل سعيدا، والشقي عكسه ثم لا يتبدلان ومن علم موته مؤمنا فليس بشقي. ش: اختلف في أن السعادة والشقاوة هل يتبدلان فيمكن أن يكون الشخص سعيدا ثم ينقلب والعياذ بالله تعالى شقيا وبالعكس، فذهب قوم إلى أنهما يتبدلان وعزي إلى أبي حنيفة وأكثر أهل الرأي والمعتزلة، فمن أتى بخصال الإيمان في الوقت كان مؤمنا على القطع ولا يراعى في ذلك العاقبة، وذهب آخرون إلى أنهما لا يتبدلان ومن هؤلاء من ضم إليهما الأجل والرزق، وذهب قوم إلى أن لله كتابين سوى أم الكتاب يمحو منهما ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب لا يغير منه شيء وهذا يروى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، ونزلوا على قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} وأم كل شيء أصله فكان الكتاب الذي لا يغير منه شيء هو الأم والكتابان الأخيران يقبلان التغيير، والمختار عند المصنف القول الثاني وقال: إن كلام الشافعي رضي الله عنه في خطبة (الرسالة) يقتضيه حيث قال: وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه قلت: وهذا أخذه الشافعي رضي الله عنه من قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وفروعه في الحج وغيره يدل عليه، قال علماؤنا: السعيد من ختم له بالحسنى والشقي مقابله، ولن ينفع من ساءت خاتمته تقدم قناطير من إيمان ولينتفع من حسنت خاتمته وقدم حبة خردل من إيمان، والكتاب والسنة يدلان على ذلك، قال الله تعالى: {إن في ذلك لآية لمن خاف الله عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس

وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود} إلى قوله: {غير مجذوذ} وإنما أراد بالشقي من مات على كفره وبالسعيد من مات على إيمانه، فحكمه بعد ذلك على التعيين بما تقتضيه الموافاة وذكر الواحدي من رواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت)) فهذا إن صح فهو نص، وصح من حديث عائشة رضي الله عنها لما قالت في الصبي الميت: عصفور من عصافير الجنة (175/ز) لم يدركه ذنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا في أصلاب آبائهم)) فإن قيل: فإذا كان الأمر قديما فما فائدة الإيمان؟ قلنا: هذا قد سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن القدر ففي (صحيح مسلم) عن سراقة أنه قال: يا رسول الله أخبرنا عن ديننا هذا كأنا خلقنا له الساعة في أي شيء نعمل: أفي شيء ثبتت فيه

المقادير وجرت فيه الأقلام أم في أمر (95/ك) مستأنف؟ قال: ((بل فيما ثبت فيه المقادير وجرت فيه الأقلام)) قال سراقة: ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) وفي رواية: أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة، وأما إن كان من أهل الشقاوة فيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ: {فأم من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى} فبين أن ما قدره يكون بالأسباب التي قدرها كما يقدر المريض العافية بالأدوية التي قدرها، قال البيهقي: ويصدق ذلك من القرآن أيضا {فألهمها فجورها وتقواها} فدل على أن العبد إنما يتيسر لما خلق له، وأن التيسير إنما هو للحق الملك فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويشبه أن يكون إنما يعتدوا بهذا النوع لتعلق خوفهم بالباطل المغيب عنهم فلا يتكلوا على ما يظهر من أعمالهم ورجائهم

الظاهر البادي لهم فيرجون به حسن أحوالهم الخوف والرجاء مدرجا العبودية، فإن قلت: فما تقول في حديث ابن مسعود عن الصادق المصدوق صلى الله تعالى عليه وسلم: ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع)) الحديث قلت: هو من أوضح أدلتنا إذ فيه: ((ثم يؤمر بأربع كلمات يكتب اسمه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)) فدل على أن هذه الأمور لا تتبدل ولا اعتبار بالأعمال بعدها، وأن الاعتبار بما يختم عليه، وأنه إنما يختم بما سبق كتابه فإن قلت: كيف سماه عمل أهل الجنة؟ قلت: جاء في رواية في الصحيحين ((فيما يبدو للناس)) وفي (جامع الترمذي) مرفوعا: ((فرغ ربك في العباد فريق في الجنة وفريق في السعير)) وأما قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} فقيل: مخصوصة بما ذكرناه لقوله بعدها: {وعنده أم الكتاب} والظاهر أنها غير

مخصوصة مع قولنا: بعدم تبدل السعادة والشقاوة لأنه سبحانه أخبر بأنه (يمحوا ما يشاء ويثبت) لأنه يمحو كل شيء ويثبته حتى يدعى التخصيص، والكلام في أن السعادة والشقاوة هل يشاء محوهما أو لا؟ فإذا قلنا: دخلا تحت المشيئة صح التخصيص؟ وقيل: المراد به النسخ وإذا ثبت ذلك (فأم الكتاب) أصله وهو الذي في الأزل في علم الله تعالى، وذلك لا يتغير ولا يتبدل، وأما ما في الكتابين الآخرين فيقبلان المحو والإثبات فقوله: من كتبه في الأزل، أشار به إلى أم الكتاب لأنه الذي في الأزل، وأما اللوح المحفوظ فحادث يمحو الله ما يشاء ويثبت، وكذلك الكتاب الآخر الذي أشار إليه ابن عباس وقال والد المصنف: من آمن ثم ختم له بالكفر، والعياذ بالله لم ينفعه ما مضى بالإجماع، لكن هل نقول: إن ذلك الإيمان الذي تقدم منه لم يكن إيمانا أو أنه أحبط بعد أن كان إيمانا؟ والأول قول

الأشعري والأقرب الثاني، وقوله تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا} ولكن مع هذا قد ينزل لعدم النفع منه منزلة المعدوم فيصح نفيه مجازا على أن الأول قريب أيضا، وحديث: ((إن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة)) فيما يبدو للناس قد يشهد له والناس للعموم فيدخل فيه العامل وغيره والله أعلم بالعبد منه بنفسه، فقد يكون الشخص يعتقد اعتقادا جازما عنده، وتلبس عليه بنفسه والله سبحانه وتعالى يطلع على أن ذلك الاعتقاد غير جازم أو جازم غير مطابق أو جازم مطابق ولكن قاربه ما يفسده فنسأل الله العافية فالخواطر القلبية كأمواج البحر لا يعلم دسائسها إلا الله والنفس لا يعلم منها إلا القليل. (ص) وأبو بكر رضي الله عنه ما زال بعين الرضا. ش: هذه عبارة الشيخ الأشعري وهي واضحة لما سبق من عدم التبدل في السعادة والشقاوة وظن بعض الحنفية أن الأشعري يقول: إنه كان مؤمنا قبل البعث وليس كذلك، ومعنى قوله لم يزل بعين الرضا أنه بحالة غير مغضوب فيما عليه لعلم الله سبحانه وتعالى، لأنه سيؤمن ويصير من خلاصة الأبرار، وهذا كما أنه إذا تلبس عبدك بعصيانك وأنت تعلم أنه سيعود إلى طاعتك ويصير من أخصائك فإنه في حال بعده على تعيين الرضا منك ولا تنقم عليه فعله ذلك لعلمك بما يؤول إليه حاله، وهذه العبارة المحفوظة عن الأشعري في حق الصديق رضي الله عنه لم يحفظ

عنه في حق غيره، وكان الشيخ السبكي رحمه الله يقول: إنه لم يثبت عنه حالة كفر بالله تعالى وكان يقول: لعل حاله قبل البعث كحال ز يد بن عمرو بن نفيل وأقرانه، وبهذا يعلم السر في تخصيص الصديق رضي الله عنه بالذكر عن غيره من الصحابة، وجاء عن سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال (ما أحب الله عبدا فأبغضه وما أبغضه فأحبه، وإن الرجل ليعبد الأوثان وهو عند الله سعيد) رواه أبو نعيم في (الحلية) قال المحب الطبري في (أحكامه) يشير إلى ما تختم له السعادة لأن شقاوته عند الله حال عبادته غيره، نعوذ بالله من الخذلان

فكفى بإبليس غيره، فإنه كان في الملائكة بالمكانة الرفيعة في الظاهر قبل خلق آدم صلى الله عليه وسلم ثم بدا له ما لم يكن يحتسب {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} نسأل الله حسن الخاتمة. (ص) والرضى والمحبة غير المشيئة والإرادة فلا يرضى لعباده الكفر ولو شاء ربك ما فعلوه. ش: اختلف أصحابنا في أن الرضى والمحبة هل هي الإرادة؟ فذهب الجمهور - كما قاله الآمدي - إلى أنهما الإرادة، وذهب الباقون إلى المغايرة وهو ما أورده المصنف واحتجوا بأن الله تعالى يريد الكائنات ومن جملتها الكفر والفساد فيكو مريدا له، فلو كانت الإرادة هي المحبة (176/ز) والرضا لكان الباري سبحانه وتعالى محبا للفساد وراضيا للكفر وهو محال لقوله تعالى: {والله لا يحب الفساد} وقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} وأجاب الأولون بأنه لا يرضى الكفر دينا شرعا بل يعاقب عليه أو يحمل العباد على الموفقين للإيمان، ولهذا شرفهم بالإضافة إلى نفسه كقوله: {عينا يشرب بها عباد الله} وهو مخصوص للطائعين، وإنما غاير من غاير بينهما لأجل أن المعتزلة احتجوا بالآيات على أن الأمر والإرادة (96/ك) سيان وعندنا متغايران التزم بعض أصحابنا في الجواب أنه يريد الكفر ولا يرضاه ولا يحبه، ففرقوا بين الرضى والمحبة

والإرادة لذلك قال الشيخ أبو إسحاق في كتاب الحدود: والإرادة والمشيئة والرضى والمحبة بمعنى واحد، وإذا قلنا: إنه راض أو محب أو راحم، فمعناه يريد الإنعام عليهم وإدخالهم الجنة، وهكذا الكراهة والغضب يرجع إلى إرادة الانتقام وإنما يصفه كذلك، اتباعا لقوله تعالى {يريد الله ليبين لكم} {فعال لما يريد} {ولو شاء الله ما فعلوه} {رضي الله عنهم ورضوا عنه} {يحبهم ويحبونه} {ولكن كره الله انبعاثهم} {غضب الله عليهم} وقيل: الرضى والمحبة معنى زائد على الإرادة فكل رضى إرادة ولا ينعكس وعلى هذا فالمعاصي بإرادته لا برضاه ومحبته، ويكون الرضى والمحبة من صفات الفعل لا من صفات الذات ويكون معنى المحبة من الله تعالى بعبده إحسانا مخصوصا من جملة النعم.

(ص) هو الرزاق. ش: الرزاق في الحقيقة من فعل الرزق وهو الله تعالى كما قال {إن الله هو الرزاق} (ص) والرزق ما ينتفع به ولو حراما. ش: أي خلافا للمعتزلة فإنهم قالوا: لا يكون الرزق إلا حلالا، ومنعوا كون الحرام رزقا للعبد من الله تعالى بناء على أصلهم الفاسد في التقبيح العقلي وفسروا الرزق بما يملكه المرزوق وعلى قولهم يحتاج إلى رازق آخر لا سيما في زماننا الذي الغالب فيه الحرام فيلزمهم أن من لم يأكل من عمره إلا الحرام قد مات ولم يرزقه الله تعالى وقد قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} ويلزمهم أن الدواب لا ترزق لأنها لا تملك، فلهذا فسر أصحابنا الرزق بما ينتفع به سواء كان ملكا له أم لا. مباحا أو حراما فإن العرف شائع بأن ما ينتفع به الحيوان فهو رزقه وما لم ينتفع به فليس برزقه وإن كان مملوكا له بل رزق من انتقل إليه وانتفع به فثبت أن اسم الرزق دائرمع النفع به وجودا وعدما فوجب أن يكون هو مدلوله.

تنبيهات: الأول: وقع في بعض المجالس على لسان المعتزلة: الرزق مأمور بالإنفاق منه ولا شيء من المأمور به بحرام ينتج أن الرزق ليس بحرام، والمقدمة الأولى دليلها قوله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم} والثانية: دليلها الإجماع، وحل هذه النكتة: أن الأولى فاسدة من جهة عدم التسوير بكل فلم يصح الإنتاج. الثاني: الرزق في إطلاق لسان الشرع على ما هو أعم من ذلك، ولهذا أطلق على العلوم والمواهب رزق، قال القرطبي: وفي السنة عند المحدثين السماع رزق يعنون به سماع الحديث، قال: وهو صحيح. قلت: ويدخل ذلك في عبارة الأصحاب فكل ما صح الانتفاع به فهو رزق، وهو مراتب أعلاها ما ذكرنا، وجعل القرطبي أعلاها ما يتغذى به، ولهذا اقتصر أبو منصور في عقيدته عليه، فقال: الرزق ما وقع الإغتذاء به ولا شك أن لفظ الرزق يطلق ويراد به ما أباحه الله تعالى للعبد أو ملكه إياه ولقوله تعالى:

{ومما رزقناهم ينفقون} وقوله عليه السلام: ((جعل رزقي تحت ظل رمحي} ويطلق ويراد به ما يتغذى به لقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} والأول هو الحلال والثاني حراما=، وقال الإمام في (الرسالة النظامية): الرزق ينقسم إلى حلال وحرام وإلى ما لا يتصف بشيء منها كرزق البهائم، فأثبت واسطة. (ص) بيده الهداية والإضلال. (ش): أهل الحق على أنه تعالى بيده الهداية والإضلال، كما قال تعالى: {يضل من يشاء ويهدي من يشاء} وهي من فروع خلق الأفعال والمعتزلة على منعهم بناء على أن العبد خالق وأن الهداية لا يصح أن تنسب إلى الحق إلا بمعنى أنه أعان عليها بخلق القدرة، وأن الله تعالى لا يضل أحداً وأنه لو أضله لظلمه، وإنما الضال أضل نفسه، والكتاب والسنة مشحونان بالرد عليهم، وقد قال تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} فسلبها عنه

وأثبتها للباري وقال تعالى: {وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} وقال: {صم بكم عمي} قال الأئمة: سد عليهم أبواب الهدى، فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: بما يسمعه بأذنه ويراه بعينه ويعقله بقلبه، وقال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} والمعتزلة يتأولون ذلك على أنه يهدي ويضل بفعل الألطاف أو منعها ثم إذا قيل لهم منع الألطاف إما أن يوجب الضلال فيلزمكم المحذور كما لو كان هو الخالق له، أو لا يوجبه، فلا يؤثر قالوا: منع اللطف واسطة بين ما ذكرتم وهو أنه مرجح للضلال غير موجب له، وإنما الموجب له اختيار العبد وفعله، وحينئذ يقال لهم: الموجب له فعل المكلف وحده أو مع منع اللطف، الأول باطل، لأنه إنما فعل شيئا يرجح وقوعه فاستحال استقلاله به بعد ذلك، فتعين الثاني وهو أن الموجب فعل العبد مع منع اللطف فيلزمكم إيقاع المقدور بين قادرين، وإن لم ينسب إلى الله عز وجل من الجور الذي يفرون منه تعذر تأثيره في الفعل بمنع اللطف، أو يقال لهم: العبد هو الموجب الكامل للفعل أو يشاركه فيه منع اللطف ويعود ما ذكرنا، وهذا تحقيق مع المعتزلة في البحث وتضييق لخناقهم ومن غريب ما وقع في الآية الأخيرة أن الزمخشري لما رآها قاصمة لأصله قال: قد

قطع الله وهم المجبرة بقوله: {واتبع هواه} يعني: لما عطف بالواو ولم يعطف بالفاء، وهو يعني بالمجبرة أهل السنة، وهو في هذا متابع لابن جني فإنه ذكره في كتابه (المحتسب) وقال بأن المطاوعة لا تكون إلا بالفاء نحو: كسرته فانكسر، قال: ومن هذا تبين في قوله {أغفلنا} أن المراد: صادفنا قلبه خاليا كما يقال أبخلته وأجبنته وليس المعنى جعلناه غافلا، وإلا لقيل (97/ك): فاتبع هواه بالفاء ونحن نقول: قطع الله وهم القدرية بقوله {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا}

وبما تلوناه من الآية (177/ز) والمعنى: ولا تطع شقيا خلقنا من الإغفال واتبع هو هواه بالإغفال فالإضلال من الله تعالى واتباع الهوى من العبد، ونقول لابن جني والزمخشري: ليس اتباع الهوى مطاوعا لـ (أغفلنا) بل المطاوع لـ (أغفلنا) غفل وإن فعل المطاوعة لا يجب عطفه بالفاء بدليل قوله: {فاستجبنا له فنجيناه} وفي موضع آخر: {فاستجبنا له ونجيناه}. (ص) خلق الضلال والاهتداء وهو الإيمان. (ش) كما أنه سبحانه بيده الهداية والإضلال فهو الخالق لهما وهما من فعله وخلقه وإنما ينسبان إليه من هذه الجهة، وقد قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} قال البيهقي: وهذه الآية كما هي حجة في الهداية والإضلال فهي حجة في خلق الهداية والضلال، لأنه قال: يشرح ويجعل، وذلك يوجب الفعل والخلق والهداية عندنا حقيقة في الاهتداء وهو الإيمان، فكل ما صار المكلف به مؤمنا فهو الهداية وما لا يصير فليس بهداية، كما قال تعالى: {ومن يهد الله فهو المهتد} وقد تكون

الهداية بمعنى الدعوة كقوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وبهذه لا يصير مهتديا بدليل قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} وكذا قوله: {وأما ثمود فهديناهم} وعند المعتزلة: أن الهداية حقيقة في هذا الثاني وأن الله تعالى هدى الكافر بأن نصب له ما يصير به مهتديا كما تقول: هديت زيداً الطريق إذا جعلت الاهتداء له بإرشادك وإن لم تكن خالقا، فكذلك الله تعالى يهدي الكافر لكنه ما اهتدى وأضل عنه، وتعلقوا بقوله تعالى {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} ويدل على أنه ليس حقيقة في هذا الثاني نفيه في قوله تعالى: {ليس عليك هداهم} لأن دعاءهم كان واجبا عليه وإنما الذي لا يجب عليه خلق الإيمان في قلوبهم، ورد عليهم أصحابنا بأن الهدى ضربان: هدى دعاء وبيان وهدى إرشاد وعرفان، فالذي حصل لثمود الأول لا الثاني وإلا استحال تخلف أثره عن مؤثره ومخالفة مخبره لخبره وقد قال تعالى: {من يهد الله فهو المهتدي}.

قال: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وقال: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} فدل على أنا الهدى الذي هو الإرشاد خاص بالمؤمنين وعلى هذا قوله تعالى: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء} فخص الهداية وعم الدعوة فدل على أن الهدى بفضله والضلال بقدره كل ذلك مستند إلى سابق علمه، وهذا من القواصم للمعتزلة، وقولهم: إنه لم يضلهم إلا بعد أن أضلوا أنفسهم - مردود، فإن إضلالهم أنفسهم مكسوب لهم، فهو مخلوق لله تعالى على ما عرف، ولأنه إذا قيل في العرف: فلان هداه لم يتبادر الذهن إلى غير خلق الهدى الإرشادي، وكذلك إذا قيل: أضله الله والتبادر إلى الفهم علامة الحقيقة، وذكر الآمدي أن الخلاف هذه المسألة لغوي لا معنوي. (ص) والتوفيق خلق القدرة الداعية إلى الطاعة، وقال إمام الحرمين: خلق الطاعة. (ش) اختلف أئمتنا في معنى التوفيق فقال الأشعري وأكثر الأصحاب: خلق القدرة على الطاعة، أي: يهيئه لموافقة أمر الله وقال إمام الحرمين: خلق

الطاعة فإن بها تصير موافقا للأمر وإنما صار إلى ذلك، لأنه رأى أن القدرة الحادثة لا تؤثر في متعلقها فلم يكن لها أثر في حصول الوفاق والامتثال قال الآمدي: والأول أوفق للوضع اللغوي، إذ الموافقة إنما هي بالطاعة وبخلق القدرة الحادثة يكون التهيؤ للموافقة ضرورة حصول الموافقة عنده وعدم حصولها عند عدمه وإن لم تكن القدرة الحادثة مؤثرة في الاتحاد وإنما خالف الإمام لعدم تأثير القدرة في الطاعة لكنه أبعد عن الوضع اللغوي من حيث إن الطاعة بها الموافقة لا التهيؤ للموافقة والبحث لفظي. (ص) والخذلان ضده. (ش) أي: فيجيء الخلاف في أنه خلق القدرة على المعصية وخلق المعصية والأول أوفق للعرف اللغوي: فإنه لغة: المنع من درك المراشد وخلق القدرة على الكفر إذا قارن الكفر مانعا من درك المراشد فكان ذلك خذلان. (ص) واللطف ما يقع عنده صلاح العبد أخرة.

(ش) اللطف في عرف المتكلمين كما قاله الآمدي ما يقع صلاح المكلف عنده بالطاعة والإيمان دون فساده بالكفر والعصيان، واختلفوا فيا وراء ذلك، فقالت المعتزلة: إنه لا يتخصص بشيء دون شيء، بل كل ما علم الله أن صلاح العبد فيه فهو لطف به، ثم قد يكون ذلك بفعل الله تعالى بخلق القدرة للعبد وقد يكون من فعل المكلف نفسه كنظره لما يجب عليه ويوصله إلى تحصيلة وإليه ميل القاضي أبو بكر بل ذهب الأشعري وأكثر أئمتنا إلى أنه مخصوص بشيء وهو خلق القدرة على فعل الصلاح والإيمان والطاعة، قال: والبحث فيه لفظي. (ص) والختم والطبع والأكنة: خلق الضلال في القلب. (ش) لما سبق في الهداية وخلاف المعتزلة أيضا والتزموا أن يكون تعالى قد هدى من أضله، لأنه دعاه وبين له فعد الجبائي وابنه إلى أنه سمة على القلب يعلم الله تعالى بها الملائكة حال الكفار فيذموهم ويلعنوهم فيكون ذلك سببا للكفر وقال الكعبي: على معنى قطع اللطف عن الكفار فإنه علم عدم إيمانهم وهذا لا

يخرجهم عما التزموه من اجتماع الهدى والضلال على واحد وهو باطل اتفاقا ولنا أن خلق الضلال في القلوب مانع من الإيمان يعني: أنه يتعذر (98/ك) الجمع بينهما والختم والطبع والأكنة في اللغة موانع على الحقيقة فلا وجه للعدول عنها، وقد قيل لطاوس عن رجل من القدرية: إنه فقيه فقال: إبليس أفقه منه، لأنه قال {رب بما أغويتني} والقدرية تقول: لا يغوي الله أحدا، وقد روى أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوادء في قلبه فإذا تاب ونزع واستعتب صقل قلبه وإن زاد زادت حتى يغلق قلبه فذلك الران الذي قال الله: {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} قال الترمذي: حسن صحيح، وقال محمد بن جرير الطبري: أخبر صلى الله عليه وسلم: ((إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص)) فذلك هو الختم والطبع على ما

تدركه الأبصار ليس الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها، (178/ز) ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى القلب إلا بعد فضه الختم. (ص) والماهيات مجعولة وثالثها إن كانت مركبة. ش: أخذ المصنف هذا من الصحائف فإنه حكى مذاهب: أحدها: أها مجعولة وعزاه للمحققين. والثاني: المنع، ونسبه للفلاسفة والمعتزلة. والثالث: التفصيل بين المركبة وغيرها، فالمركبة مجعولة دون البسيطة وقد أغمض على كثير من الناس حقيقة هذه المسألة والمراد منها، وقد يسر الله تعالى بحلها، فأقول: معنى هذه المسألة أن المعدومات الممكنة قبل دخولها الوجود هل تأثير الفاعل في جعلها ذوات أو في جعل تلك الذوات موجودة، وأصل هذا الخلاف يرجع لمسألتين: إحداهما: الخلاف في المعدوم هل هو شيء فإن المعتزلة لما قالوا: إن ماهية المعدوم ثابتة في العدم ولا تأثير للصانع فيه إذا أوجده إلا في إعطاء صنعه الوجود لتلك الماهيات، قالوا: إن الماهيات غير مجعولة بل المجعول جعلها موجودة، وقالوا: لو كانت متجددة لكان تجددها بإحداث محدث لكن وقوعها بالفاعل محال، وبيانه أن ما يتحقق بسبب غيره يلزم من فرض عدم ذلك الغير عدم ذلك الأثر، فلو كان الجوهر جوهرا والسواد سوادا لأجل سبب منفصل، لزم عند عدم ذلك السبب المنفصل أن يخرج الجوهر عن كونه جوهرا والسواد عن كونه سوادا وذلك محال،

فامتنع استناد تقرر الماهية إلى جعل جاعل واتحاد موجود ومذهب أصحابنا أن المعدوم ليس بشيء ولا ذات ولا ثابت فلهذا صاروا إلى أن الماهيات مجعولة بجعل الله وقالوا: إن القادر كما يجعل الماهية موجودة فهو يجعل الماهية ماهية، والحجة التي استند إليها المعتزلة في امتناع وقوع الماهية بالفاعل هي بعينها تقتضي امتناع وقوع الوجود بالفاعل، فإنه لو وقع الوجود بالفاعل لزم عند تقدير عدم الفاعل ذلك أن يخرج الوجود عن كونه موجودا وهو محال، ولأجل ما بيناه من المأخذ استشكل بعضهم مذهب ابن سينا، فإنه وافق الفلاسفة على أنها غير مجعولة مع تصريحه بأن العدم ليس بشيء فقال: وهذا مشكل، لأن الماهية إذا لم تكن ثابتة حال العدم استحال أن تكون غير مجعولة لأنها حينئذ إذا صارت ثابتة مع الوجود في الخارج إن لم يفتقر إلى مؤثر لزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح، وإن افتقرت إلى مؤثر صارت مجعولة والفرض خلافه، ولا مخلص غير هذا إلا بأن يدعى أن المراد من كونه الماهية غير مجعولة: أن جاعل الماهية بعينه الجاعل لها موجودة ووجه المذهب الثالث المفصل بين البسيط كالجوهر والمركب كالسواد الملتئم من اللونية ومن مانعية البصر فالأول غير مجعول نظرا إلى نفي حقيقته، لأن الجوهر جوهر وجد الغير أم لا، والثاني مجعول، لأنه لا يكون سوادا بالاعتبار الأعم لذاته بل لمقدماته إذا قطع النظر عن مقدماته لا يكون السواد سوادا، ولا شك أن الجزء غير الكل فالمركبات إذا مجعولة.

الثانية: أن الماهيات هل هي مقررة بذواتها أم لا؟ فالجمهور قالوا: إنها ليست متقررة بذواتها فيلزم أن يكون تقريرها بغيرها والمعتزلة قالوا: إنها متقررة بذواتها فامتنع تأثير الفاعل في ذلك فاشدد بهذا يديك فلا تجد أحدا وضحه هكذا، وظهر به على المصنف مناقضة، فإنه ذكر هذه المسألة فيما يجب اعتقاده، وذكر مسألة المعدود ليس بشيء فيما لا يضر جهله والصواب الأول، ولهذا أشار الإمام الرازي إلى أن القول بأنها غير مجعولة يلزم منه إنكار الصانع فقال في مسألة إثبات الصانع: زعم جمهور المعتزلة والفلاسفة أن تأثير المؤثر يكون في وجود الأمر لا في ماهيته وهو باطل، لأن الوجود لا ماهية له فلو امتنع أن يكون للقادر تأثير في الماهية لامتنع أن يكون له تأثير في الوجود. (ص) أرسل الرب تعالى رسله بالمعجزات الباهرات. ش: مما يجب اعتقاده بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما علم بالتواتر من وقوع المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولو لم يرسل الرسل لم تقم حجته على خلقه كما قال تعالى {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}. وتحقيق هذا: أن حجة الله تعالى على ضربين: خفية يستقل بعلمها وظاهرة يشاركه في العلم بها خلقه، فالأولى قائمة على الخلق بدون الرسل، لأنه

سبحانه حكم عدل، والثانية لا تقوم بدون الرسل وهي أقوى الحجتين وأظهرهما لينقطع عذر الكافر، ثم يترتب على هذا أن العقل لا حكم له، إذ لو كان له حكم لما توقف قيام حجة الله تعالى على البعث، والمنكرون للنبوة طوائف من الفلاسفة وغيرهم، لإنكارهم جميع ما يتوقف عليه البعثة ككون الإله مختارا عالما بالجزئيات (99/ك) ونزول الملك والوحي، وإنكارها بقول الأنبياء من الحشر والجنة والعقاب. ومنهم البراهمة محتجين بأن ما جاء به النبي إن كان حسنا فلا حاجة إلى النبي وإن كان قبيحا فلا يقبله سواء جاء به النبي أم لا والجواب أنه قد يوجد في الحوادث ما لا يحكم العقل فيها بشيء فتحتاج إلى دفع النزاع، وهذا إنما ذكرناه تنزيلا مع عقولهم وإلا فهم أهون على الله من مكالمتهم. (ص) وخص محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم النبيين.

ش: لقوله تعالى: {وخاتم النبيين} وفي الصحيحين: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا نبي بعدي)) والإجماع على ذلك، ولم يخالف منه إلا فرقة من الفلاسفة زعموا أن النبوة مكتسبة، وفي هذا القول من الشناعة والخروج من الملة ما يكفر قائله، وفي (ذم الكلام) للهروي: أنكروا على ابن حبان قوله:

النبوة العلم والعمل، وحكموا عليه بالزندقة وهجر وكتب فيه إلى الخليفة فأخرج إلى سمرقند وأما ما رواه ابن جرير الطبري في (تهذيب الآثار): ((غير أنه لا نبي بعدي إن شاء الله)): فهذه الزيادة موضوعة قال الحاكم في (الإكليل): وضعها محمد بن سعيد المصلوب ولو صحت فهي محمولة على عيسى صلى الله عليه وسلم وتأولها ابن عبد البر في (التمهيد) على الرؤيا، لأنه لم يبق بعده من أجزاء النبوة غيرها.

(ص) المبعوث إلى الخلق أجمعين. ش: لقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت إلى كل أحمر وأسود)) والمكلف من الخلق ثلاثة: الجن والإنس والملائكة، فأما (179/ز) بعثه للجن فلأنهم قصدوه وسمعوا منه القرآن وأخذوا عنه الشرائع، وقال: ((لكم كل عظم وما لم يذكر اسم الله عليه ونهى عن الاستنجاء بالعظم)) لذلك ذكر الإمام فخر الدين الرازي في تفسير سورة البقرة الإجماع على شمول رسالته للجن وأما دخول الملائكة في دعوته صلى الله عليه وسلم فذكر البيهقي في الباب الرابع من (شعب الإيمان) أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن والإنس دون الملائكة، ونقله عن الحليمي ولم ينكره وهي مسألة وقع النزاع فيها بين فقهاء مصر مع فاضل درس عندهم، وقال: لا هم الملائكة ما دخلت في دعوته فقاموا عليه وقد ذكر فخر الدين في تفسير سورة

الفرقان الدخول محتجا بقوله تعالى: {ليكون للعالمين نذيرا} والملائكة داخلون في هذا العموم. (ص) المفضل على جميع العالمين. ش: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) ونقل الإمام في تفسيره الإجماع عليه واستثنوه من الخلاف في التفضيل بين الملك والبشر. (ص) وبعده الأنبياء. ش: يتضمن أمرين: أحدهما: أفضلية نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء واحتج بعضهم على أفضلية الأنبياء بقوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} فهو

مأمور بالاقتداء بجميعهم وفعل ما فعلوه ولا بد أنه امتثل والواحد إذا فعل مثل ما فعل الجماعة كان أفضل منهم، قال الطوفي: ويحكى أن هذه المسألة وقعت في زمن ابن عبد السلام فقال: إنه عليه السلام كان أفضل من كل واحد منهم، لأنه أفضل من جميعهم فتمايل جماعة من علماء عصره على تكفيره فعصمه الله منهم وأما حديث النهي عن التفضيل بين الأنبياء فقال البيهقي في (دلائل النبوة): إنما هي في مجادلة أهل الكتاب في تفضيل نبينا عليه السلام على أنبيائهم، لأن المفاضلة إذا وقعت بين أهل دينين مختلفين لم يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الازدراء بالآخر فيكفر بذلك فأما تطلب ذلك ليعرف الشيء بما هو عليه فالمنع منه، قال: وهذا قول الحليمي وغيره. الثاني: أن الأنبياء عليهم السلام أفضل البشر بعده صلى الله عليه وسلم وهذا مما لا خلاف فيه، وما يعزى إلى بعض الصوفية من تفضيل الولي، فقد تأوله هو وغيره بأن كل نبي ولي قطعا وهو من حيث إنه ولي أفضل من حيث إنه نبي لأن ولايته وجهته إلى الخلق. وفي هذا من النزاع والشناعة ما لا يخفى وقال والد

المصنف في بعض تعاليقه: غلط بعض من ينسب إلى الصوفية في هذه الأعصار فزعم أن الولاية أعلى، لأنها نسبة العبد من الله تعالى، وهذا جهل من قائله خفي عليه أن النسبة في النبي صلى الله عليه وسلم أكمل، وفي الرسول أكمل وإنما يصح ما قال هذا الجاهل لو لم يكن في الرسول والنبي بعد حصة الولاية كمال آخر، وهيهات قد عمي بصر هذا القائل عن ذلك، فلو نظر إلى خصائص الأنبياء والكمالات الحاصلة لهم فوق الأولياء لأبصر الأولياء في الحضيض الأسفل وإن كانوا على خير، وأخذ بحجز الكمال الذي للأنبياء. (ص) ثم الملائكة عليهم السلام. ش: أما تفضيل الأنبياء على الملائكة فهو عقيدة الأشعري وجمهور أصحابه وهو أحد أقوال أبي حنفية فيما ذكره شمس الأئمة، لاجتماع العصمة مع التركيب المعرب للنوائب التي يجب الصبر عليها، والشهوات التي يجب الصبر عنها ومن أحسن الأدلة قوله تعالى بعد ذكر جماعة من الأنبياء: {وكلا فضلنا

على العالمين} والملائكة من العالمين فدل على أنهم أفضل منهم، وقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن} وأراد بني آدم، لأن الملائكة لا يجازون بل هم خدم أهل الجنة وقال الشيخ عز الدين: خير البرية أي خير الخليقة، والملائكة من جملة الخليقة لا يقال: الملائكة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لأن هذا اللفظ مخصوص في عرف الشرع بمن آمن من البشر فلا يندرج فيه الملائكة بعرف الاستعمال. انتهى. وما ذكرنا أحسن ولأن بهم قامت حجة الله على خلقه بخلاف الملائكة حتى قال تعالى: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} ولأن آدم صلى الله عليه وسلم أبا البشر سجد له الملائكة والمسجود له أفضل من الساجد ثم من الأنبياء من هو أفضل من آدم صلى الله عليه وسلم ولأن الناس في الموقف إنما يستشفعون بالأنبياء لا بالملائكة، وذهب المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واختاره القاضي أبو بكر (100/ك) والأستاذ أبو إسحاق والحافظ أبو عبد الله الحاكم، والحليمي والإمام الرازي في (المعالم) وأبو شامة المقدسي من المتأخرين وقال البيهقي في (شعب الإيمان) وقد روى أحاديث المفاضلة بين الملك والبشر، وقال: ولكل دليل ووجه، ثم قال:

والأمر فيه سهل وليس فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو به واستفدنا منه أنه لا يجب ذلك في العقيدة خلاف ما يقتضيه صنيع المصنف، وأن في المسألة قولا ثالثا بالوقف وإليه صار إلكيا في تعليقه وحكى صاحب (التعرف) قولا رابعا: أن مذهبهم السكوت عن التفاضل بينهم وقالوا: الفضل لمن فضله الله تعالى وليس ذلك بالجوهر ولا بالعمل، ولم يروا أحد الأمرين أوجب من الآخر بخبر ولا عقل وليست المسألة مما كلفنا الله تعالى بمعرفة الحكم فيها، فليفوض إلى الله تعالى ويعتقد أن الفضل لمن فضله الله تعالى، ونقل بعضهم قولا خامسا: أن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر وعزاه للمحققين والظاهر أنه تنقيح مناط الخلاف وإليه يشير كلام المصنف، فإنه جعل المسألة بين الأنبياء والملائكة، لا بين البشر والملائكة وقال الإمام أبو المظفر الإسفراييني في كتابه (التوجيه): اتفقوا على أن العصاة من المؤمنين دون الأنبياء والملائكة، فأما المطيعون فاختلفوا في المفاضلة بينهم وبين الملائكة على قولين وقال ابن يونس في (مختصر الأصول) بعد ذكر القولين وقال (180/ز) الأكثرون

منا: المؤمن الطائع أفضل من الملائكة، وقيد الإمام في الأربعين الملائكة بالسماوية وقال ابن منير: مذهب أهل السنة أن الرسول أفضل من الملك باعتبار الرسالة لا باعتبار عموم الأوصاف البشرية، ولو كانت البشرية بمجردها أفضل من الملائكة لكان كل بشر أفضل من الملائكة معاذ الله، وقال الشيخ عز الدين في (القواعد): إن فاضل بينهم مفضل من جهة تفاوت الأجساد التي هي مساكن الأرواح فلا شك أن أجساد الملائكة أفضل، فإن أجسادهم من نور، وأجساد البشر من لحم ودم، وإن فاضل بينهم أراوح البشر وأرواح الملائكة مع قطع النظر عن الأجساد فأرواح الأنبياء أفضل وقال في موضع آخر: وأما أرواحهم وإن كانت أعرف بالله وأكمل أحوالا من أحوال البشر فهم أفضل من البشر وإن استوت الأرواح في ذلك فقد فضلوا على البشر بالأجساد وفضل البشر من نعيم الجنان والنظر إلى الديان، قال: ولا شك أن للبشر طاعات لم تثبت مثلها للملائكة كالجهاد والغزو، ومخالفة الهوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على البلايا والمحن والرزايا وقد ثبت أنهم يرون ربهم ويبشرهم بإحلال رضوانه عليهم ولم يثبت مثل هذا للملائكة وقال في موضع آخر: لا يفضل الملائكة إلا هجام

بنى التفضيل على حالات توهمها، ولا شك أن القليل من أعمال الأعرف خير من الكثير من أعمال العارف ثم قال: وليس لأحد أن يفضل أحدا على أحد ولا أن يسوي أحدا بأحد حتى يقف على أوصاف التفضيل والتساوي، وذكر الإمام فخر الدين أن الخلاف في التفضيل بمعنى أنهما أكثر ثوابا على الطاعات ورد بذلك احتجاج الفلاسفة على أفضلية الملائكة فإنها نورانية علوية، والجسمانية ظلمانية سفلية، وقال: هذا لم يلق محل النزاع وهذا يزيل الإشكال في المسألة. (ص): والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدث مع عدم المعارضة والتحدي: الدعوى. ش: لما قدم الإرسال بالمعجزات احتاج إلى تعريفها ولأن ظهورها طريق إلى معرفة صدق النبي وسميت بذلك لما فيها من تعجيز الذين معهم التحدي عن المقابلة بمثلها قال الإمام في الرسالة النظامية: تسميتها بذلك تجوز، فإن المعجز في الحقيقة خارق، ولكن سميت بذلك، لأنه تبين بها أن من ليس نبيا يعجز عن الإتيان بما يظهره الله تعالى على النبي فقوله: (أمر) جنس يشمل الخارق وغيره، وإنما عبر به لشموله القول والفعل والإعدام، لأن المعجز قد يكون إيجادا وإعداما

كما لو تحدى بأن يعدم جبلا فينعدم وكمنع إحراق النار ولهذا قال بعضهم: فعل أو ما يقوم مقامه، لأن العدم ليس بفعل وقوله: (خارق للعادة) فصل، لأنه نزل من الله تعالى منزله التصديق بالقول، وأما ما لا يكون خارقا للعادة كطلوع الشمس كل يوم، فلا يكون دالا على الصدق وإلا لادعى كل كاذب أنه نبي، وألبس علينا النبي والمتنبي وعلم من إطلاقه أنه لا يشترط في الخارق أن يكون معينا، ونقل الآمدي فيه الاتفاق وقوله: (مقرون بالتحدي) أي دعوى النبوة أي يشترط أن لا تتقدم المعجزة على دعواه ولا تتأخر، لتخرج الكرامات لأنها لا تكون مع التحدي، ويرج الإرهاص وهو العلامة الدالة على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كالنور الذي ظهر من جبين عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: مع عدم المعارض أي يشترط العجز الآتيان= بمثلها من الخلق ليخرج السحر والشعبذة وليس المراد عدم مطلق المعارضة فإنه قد يدعي المعارضة بما لا تصح المعارضة به بل المراد اشتراط نفي ما يصح أن يكون معارضا.

قال الآمدي ووجه اشتراط كون المبعوث إليه متعذرا عليه المعارضة: أنه لو لم يكن كذلك لكان مساويا لمن ليس بنبي في ذلك، ويخرج المعجز عن كونه نازلا من الله منزلة التصديق، قال: وهل يشترط أن يكون المعارض مماثلا لما أتي به الرسول؟ ينظر: فإن كان تحديه بخارق معين وأن أحدا لا يقدر على الإتيان بالخارق فأكثر أصحابنا اشترطوا المماثلة والذي اختاره القاضي: أنها غير مشروطة، قال الآمدي: وهو الحق لتبيين المخالفة فيما ادعاه، وهذا القيد وارد على تعريف المصنف ويرد عيه أيضا الخارق المكذب كما لو أنطق جمادا أو أحيا ميتا فأخبر أنه كاذب فاجتنبوه فإنه لا يدل على صدقه على الصحيح، كما قاله أبو إسحاق الشيرازي وجزم به إمام الحرمين في (الرسالة النظامية)، فلو كان تصديقا للهزل يخرج هذا ولعله إنما لم يذكره لأنه يختار قول من قال: إن ذلك لا يقدح لأنه خارق ظهر على وفق دعواه وكذلك التكذيب من (102/ك) الأمور المعتادة، والحق كما قاله صاحب (الصحائف): إنه قادح لأن خلق المعجز لتصديق النبي وهذا ينافيه وجعل الأبياري في (شرح البرهان) للخارق المكذب صورتين: أحدهما: أن يدعي أن آيته أن ينطق فينطق بكذبه. والثانية: أن يتحدى بإحياء ميت فيحيى ويكذبه. وأما الأولى فمتفق على أنها لا تكون معجزة لأنه بمثابة ما لو قال الذي أنه رسول: آية صدقه أن يكلم الملك رعيته على خلاف عادته ثم يستدعي ذلك من الملك فيقول هو كاذب فيما قال، فلا يشك الحاضرون في كونه لم يصدقه في نطقه إن كان خارقا لعادته، وأما الثانية ففيها نظر، إذ يمكن أن يحتج المدعي بأن

الخارق قد وجد ولما حيي هذا صار من جملة المعاندين، والمختار أنه لا يكون مصدقا في ذلك، وزاد بعضهم قيدا آخر وهو زمن التكليف، لأن ما يقع في القيامة من الخوارق ليس بمعجز، لأن الآخرة ليست دار تكليف قاله الأستاذ أبو إسحاق وقال الأستاذ في كتاب الحدود: والمعجز كل أمر دل على صدق مدعي النبوة، وقيل: أمر خارق للعادة يظهر على وفق مدعي النبوة زمان التكليف مقترنا بالتحدي في دعوى النبوة على جهة الابتداء متضمنا لتصديقه ولهذا قلنا: إن المعجز لا يكون ظهوره على أيدي الكذابين لأن المعجز ما دل على الصدق فيستحيل وجوده على يد الكذاب. فيخرج بقولنا: يظهر على مدعي (181/ز) النبوة ما يظهر من جنس المعجزات لا على مدعي النبوة فليس بمعجزة كالكرامات وخرج بزمن التكليف خرق العادة في القيامة، قال: ومعنى أن يتحدى بها أن يقول: لا يقدر على ذلك أحد وإن كان في قدرة أحد ما يظهر على يدي فهاتوا ألا ترى إلى قوله تعالى: {قل فأتوا بسورة مثله} {قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} وقوله على جهة الابتداء يخرج من مضى في وقتنا هذا إلى بلد بعيد عن الإسلام وقرأ عليهم وتحداهم به، وادعى النبوة فلا يدل على صدقه مع وجود الشرائط كلها، لأنه ما أتى به (لا على) وجه الابتداء. وقوله متضمنا لصدقه، يخرج ما لو قال: آية صدقي أن هذه الأسطوانة تتكلم فتكلمت غير أنها قالت: إنه كاذب فلا يدل على صدقه على الصحيح وقول المصنف: والتحدي الدعوى، أي دعوى النبوة مخالف ما سبق عن الشيخ أبي إسحاق في تفسير التحدي. وقيل: التحدي لغة: المماراة

والمنازعة فحصل من كلامه أن شروط المعجزة أربع: كونها خارقة للعادة, والعجز عن الإتيان بمثلها من الخلق، واقترانها بدعوى الرسول، وأن لا تتقدم على دعواه ولا تتأخر، ويعلم مما سبق ما يزيد على ذلك وزاد بعضهم كونها مطابقة لدعواه وأن يحد لها وقتا قريبا فتقع في الوقت الذي حد. ص: والإيمان تصديق القلب ولا يعتبر إلا مع التلفظ بالشهادتين من القادر، وهل التلفظ شرط أو شطر؟ فيه تردد. ش: الإيمان في اللغة التصديق، وفي الشرع قال الأشعري: التصديق بكل ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، لأن منكر الاجتهاديات لا يكفر إجماعا، وتابعه أكثر المتكلمين كالقاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق، وعلم من هذا أن الإيمان الشرعي من قبيل العلوم، والمخالف فيه المعتزلة فإنهم جعلوه من قبيل الأعمال حيث فسروه بالعبادات قال الأشاعرة: ولا يكفي مجرد التصديق بالقلب مع القدرة على الإقرار باللسان ولا ينتفي الكفر إلا بهما، لأن القول مأمور به كالعقد قال تعالى: {قولوا آمنا بالله} الآية. وقال عليه الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل

الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)) فلا بد من العقد والقول جميعا، وعلى هذا فالتلفظ شرط لا ركن، فمن صدق بقلبه ولم يتلفظ بالشهادتين إن عجز عن التلفظ لخرس أو اقتران منية قبل التمكن منه فهو من الناجين وإن قدرعليه بأن عرض عليه التلفظ وأبى لم ينفعه التصديق القلبي بالاتفاق كأبي طالب وإن لم يعرض عليه أو لم يتفق له التلفظ ومات مصدقا بقلبه فالجمهور على أن مجرد التصديق لا ينجيه والحالة هذه ومال الغزالي إلى أنه ينجيه وقال: كيف يعذب من قلبه مملوء بالإيمان وهو المقصود الأصلي؟ غير أنه لخفائه ينط الحكم بالإقرار الظاهر، وعلى هذا فهو مؤمن عند الله تعالى غير مؤمن في أحكام الدنيا، وهذا كما في المنافق لما وجد منه الإقرار باللسان دون التصديق كان مؤمنا في أحكام الدنيا كافرا عند الله، وهذا هو ظاهر كلام شيخه في (الإرشاد) أيضا، ومن حجته أن حقيقة الإيمان التصديق وأنه عمل القلب ومنهم من فصل فقال: من صدق بقلبه ثم اخترم قبل اتساع وقته للتلفظ بالشهادتين فهو محكوم بإيمانه، وأما من صدق بقلبه وطالت مهلته ولم يتلفظ

فلا لتفريطه وينبغي تنزيل كلام الإمام الغزالي على هذا، ويشهد له عبارته في (الاقتصاد) حيث قال: من عرف الله بالدليل ومات عقب معرفته حكم له بالإيمان انتهى. وذهب أكثر السلف إلى أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان ونقل عن الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة رحمه الله وعلى هذا فالتلفظ ركن له وماهية الإيمان مركبة من الثلاثة، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: شرط أو شطر فعلى قول المتكلمين شرط وعلى قول السلف شطر ويدل على أن الإقرار جزء الإيمان ظواهر النصوص الدالة على كون كلمة الشهادة من الإيمان وبأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبره إلا بها، ويجيء من كلام الغزالي السابق مذهب ثالث: وهو أن اللفظ واجب من الواجبات الإيمانية لا جزء له ولا شرط، وحديث جبريل يدل له حيث جعل الإسلام: شهادة وأعمالا والإيمان تصديقا واعتقادا ولم يذكر اللفظ إلا في الشرائع الإسلامية، واحتج الأولون على أن

الأعمال ليست جزءا من حقيقة الإيمان وإلا لكان تقييد الإيمان بالطاعة متكررا، وهو باطل لقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} ولما صح جعل القلب محلا (103/ك) للإيمان إذ الطاعات ليست جميعها من أفعال القلوب لكنه باطل بقوله تعالى: {كتب في قلوبهم الإيمان} ولأن من صدق ومات قبل أن يشتغل بطاعة مؤمن بالإجماع، ولأن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجابه بالتصديق المجرد، وهو قوله: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله)) أي أن تصدق بذلك والمذكور في جواب ما هو، يكون كمال الحقيقة المسؤول عنها. وصارت المعتزلة إلى أن الإيمان هو الطاعات أعني امتثال الواجبات واجتناب المنهيات واحتجوا بنحو ما سبق من إطلاق الإيمان على الأعمال ونحن لا ننكر ذلك، إنما النزاع في أنه لا يطلق الإيمان إلا ويراد به الأعمال ولا دليل عليه، وقال الآمدي الحق في هذه المسألة غير خارج عن مذهب الشيخ، وهو أن الإيمان التصديق وأن التصديق من أقوال النفس أو من ضرورته المعرفة وكأنه يشير إلى أن الخلاف لفظي، وفيه نظر، وفروع هذا الأصل كثيرة.

منها أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقص أم لا، فإن قلنا: حقيقته التصديق المجرد لم يقبلهما، وإن: قلنا التصديق مع العمل قولا وفعلا قبلهما، لأن القول والفعل جزء الإيمان وهما يقبلان الزيادة والنقص وقد يقال على الأول: الإيمان هو التصديق الاعتقادي لا العلمي. والاعتقاد يقبل التفاوت قوة وضعفا أو بحسب قوله للتشكيك وعدمه. ومنها تكفير تارك الصلاة والزكاة والحج ونحوهم من العبادات مع الاعتراف بوجوبها إن قلنا: إن هذه الأعمال ركن من الإيمان انتفى بتركها لأن الجملة تنتفي بانتفاء جزأيها، وإن قلنا: ليست (182/ز) ركنا فيه فهو باق بعدها كما كان قبلها في حقيقته وإن فات بتركها كماله الوصفي. تنبيه: وقع بين جمع من المتأخرين نزاع في تفسير التصديق المعتبر في الإيمان هل هو التصديق الذي قسم العلم إليه وإلى التصوير في علم المنطق وغيره والظاهر أنه هو حاصله إذعان وقبول لوقوع النسبة أو لا وقوعها، ولهذا يسميه ابن سينا

تسليما وهو يوضح المقصود وأن من جعله مغايراً للتصديق المنطقي قد وهم وحصوله للكفار ممنوع، فإن قيل: فعلى هذا يكون من المتكسبات دون الأفعال الاختيارية فكيف يصح الأمر بالإيمان؟ قلت: باعتبار اشتماله على الإقرار وعلى صرف القوة وترتيب المقدمات ودفع الموانع، واستعمال الفكر في تحصيل تلك الكيفية ونحوه من الأفعال الاختيارية كما يصح الأمر بالعلم والتيقن ونحوه، وذكر بعضهم أن التصديق أمر اختياري وهو نسبة الصدق إلى المخبر اختياراً حتى لو وقع في القلب صدق المخبر ضرورة من غير أن ينسبه إليه اختيارا لم يكن تصديقا ونحن إذا قطعنا النظر عن فعل اللسان لا يفهم من نسبة الصدق إلى المتكلم إلا قبول حكم الإذعان إليه. ص: الإسلام أعمال الجوارح ولا تعتبر إلا مع الإيمان. ش: الإسلام لغة بمعنى الاستسلام وشرعا أعمال الجوارح كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام، وهو أدل دليل على التغاير بينهما ولا يعتبر إلا مع الإيمان، أي بأن يوجد معه تصديق بالقلب وهذا كقوله فيما سبق في الإيمان لا يعتبر إلا مع النطق بالشهادتين والحاصل أن وجود كل منهما

شرط في صحة الاعتداد بالآخر، فمن تحقق منه الإيمان القلبي، ولم ينطق بالشهادتين لم يعتد بإيمانه إلا على ما سبق عن الإمام الغزالي، وكذلك من تحقق إسلامه، ولم يتصف بالتصديق المعتبر فلا اعتداد بإسلامه بالإجماع، لكنه يجرى عليه حكم الإسلام عند فرض خفاء العلم بعدم إيمانه، بخلاف الأول ومن هنا نشأ الخلاف في أن لفظ الإيمان هل يطلق على الإسلام بالوضع الشرعي وبالعكس حتى يكون اللفظان حقيقة في كل واحد منهما بالاشتراك أولا، والصحيح التغاير، فالإيمان: التصديق وهو عمل القلب وأعمال الجوارح شرط فيه، والإسلام: التزام العمل بالأركان الخمسة وذلك عمل بالجوارح ويشهد لذلك حديث جبريل فإنه لما سأل عن الإيمان وعن الإسلام أجابه عليه الصلاة والسلام عن كل واحد منهما بحقيقته، وكذلك حديث سعد (قوله يا رسول) الله صلى الله عليه وسلم ما لك لم تعط فلانا، فوالله إني لأراه مؤمنا فقال صلى الله عليه وسلم: ((أو مسلم)) وأجابوا عن حديث وفد

عبد القيس حيث فسر فيه الإيمان بما فسر به الإسلام في حديث جبريل غير الحج وزاد عطاء والحسن بأنه إطلاق مجازي لارتباط أداء أحدهما بالآخر، وفي ذلك جمع بين الأحاديث ولهذا قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} فتبين أنه ليس في قلوبهم تصديق الرسول ولكنهم أظهروا القبول مخافة ولم يحكوا خلافا في أن الإيمان شرط في الإسلام أو شطر.

ص: والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ش: قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، وقصد المصنف الجمع بين الحقائق الثلاثة المذكورة فيه لقوله في آخره: ((هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)) فالإيمان مبدأ والإسلام وسط، والإحسان كمال، والدين الخالص شامل للثلاثة، ومن يحقق مقام الإحسان لم يقع منه عصيان ولا خلل في الطاعة، فإنه إذا هم بمعصية وعلم أن الله يراه كف ورجع لحصول البرهان الآجلي عنده، وإنما العبد يزهل عن نظر الله تعالى أو يكون جاهلا فيظن أن الله تعالى بعيد منه فيقع في المعصية، وإذا علم العبد أن سره موضع نظر الله تعالى منه وجب عليه تصفية سره لمولاه ونفسه مما يكره الله أن يراه حتى يكون كالمرآة المجلوة لتجلي النظر من الله فيه، وهناك يشرف على مقام القرب فيصير سمعه وبصره وجاءته السعادة من كل جانب. واعلم أن بعضهم فسر الإحسان بالإخلاص قال: وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام وفيما قاله نظر، فإن الحديث تضمن تفسير الإحسان بما هو فوق الإخلاص وهو مشاهدة لعزة المعبود حال (104/ك) التعبد وذلك يوجب تحسين العبادة بالإخلاص وغيره. ص: والفسق لا يزيل الإيمان. ش: اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج من الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وخالف في ذلك طائفتان، الخوارج فقالوا: يكفر بذلك والمعتزلة فقالوا: لا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر والصحيح أنه مؤمن

مطيع بإيمانه عاص بفسقه وليس بين الإيمان والكفر وساطة، لأنا فسرنا الإيمان بالتصديق وإنما قالت المعتزلة ليس بمؤمن ولا كافر بناء على تفسيرهم له بالطاعات فتتحقق الواسطة، لأن من صدق الرسول وترك شيئا من العبادات لا يكون مؤمنا ولهذا سموه منزلة بين المنزلتين قال الراغب في (الذريعة) وردت الشريعة بإطلاق اسم الإيمان على من أظهره من غير فحص عن قائله بخلاف ما ادعاه المعتزلة فإنه لا يصح إطلاق اسم المؤمن عليه ما لم يختبر في الأصول الخمسة انتهى وفي هذا فائدة وهو أن الرجل ليس بمعتزلي العقيدة خلافا لما يتوهمه كثير من الناس ولنا قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى} الآية. فسماهم مؤمنين مع إثبات البغي من إحداهما وحكى ابن عقيل عن أحمد

رواية أنه يخرج بالفسق من الإيمان إلى الإسلام وروي عن ابن عباس لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) واستشكل مذهب السلف فإنهم جعلوا الإيمان عبارة عن الثلاثة السابقة ثم إذا فات العمل مع بقاء التصديق لا يسمونه كافرا بل هو مؤمن والحقيقة تنتفي بانتفاء جزئها كذا قاله الإمام في المعالم ولم يجب عنه، وقال: إن المعتزلة طردوا أصلهم ويمكن أن يجاب (183/ز) بحمل كلامهم على الإيمان الكامل عبارة عن المجموع المذكور فإن لفظ الإيمان يطلق على أصله الذي هو التصديق مع الإقرار، وعلى المجموع المركب من أصله وفرعه كما تسمى الشجرة المتناولة لأصلها وحده، وله مع أغصانها وقد يتوسع فيطلق لفظ الإيمان على الفروع كما في قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم إلى بيت المقدس.

ص: والميت مؤمنا فاسقا تحت المشيئة إما أن يعاقب ثم يدخل الجنة وإما أن يسامح بمجرد فضل الله أو مع الشفاعة. ش: المعتزلة كما جعلوه منزلة بين منزلتين قالوا: إذا مات على فسقه فهو مخلد في النار وقال أهل السنة: إنه تحت المشيئة لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لما يشاء} ولا يجوز أن يفرض في خبر الله خلف وفي الصحيح: ((من أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له وإن ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) ثم التعذيب لا يكون مؤبدا بدليل أخبار الشفاعة، قال البيهقي: والأحاديث تواترت في أن المؤمن لا يخلد في النار بذنوبه غير أن القدر الذي يبقى فيها غير معلوم، والذي تلحقه الشفاعة ابتداء حتى لا يعذب أصلا غير معلوم، والذنب خطره عظيم وشأنه جسيم وربنا غفور رحيم وعقابه شديد أليم، وأنكرت المعتزلة الشافعة بناء على أصلهم الفاسد أن

العبد يستوجب العقوبة بالمعصية وأنه لا يجوز العفو عنه وقد روى الدارقطني مرفوعا وموقوفا على أنس: (من كذب بالشفاعة لم يكن له فيها نصيب) وهذه الشفاعة بعد قطع الصراط وهي إجازة الصراط، ويلزم منها النجاة من النار، وكلام القاضي عياض مصرح بأن هذه الشفاعة لا تختص بنبينا صلى الله عليه وسلم وجوز الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله اختصاصها به، ولم يرد تصريح بالاختصاص، وعليك أن تتأمل هذه المسألة مع قول المصنف فيما سبق إلا أن يغفر. ص: وأول شافع وأولاه حبيب الله سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم. ش: لما في الصحيحين من طرق: ((أنا أول شافع وأول مشفع)) وهذه

الشفاعة لأهل الجمع في تعجيل الحساب والإراحة من طول الوقوف والغم، وهي الشفاعة العظمى وهي المراد بالمقام المحمود قال البيهقي: ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مختصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها أحد، وفي (صحيح مسلم): ((اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وتأخير الدعوة الثالثة إلى يوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام)) وله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شفاعات: أحدها: في قوم يدخلون الجنة بغير حساب جعلني الله منهم بجاهه صلى الله عليه وسلم قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: وهي مختصة به قال ابن دقيق العيد: لا أعلم الاختصاص فيها أو عدمه. ثانيها: في أقوام استوجبوا النار كما سبق وفي صحيح مسلم: ((وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)). ثالثها: فيمن يدخل النار من الموحدين وفي الصحيحين: ((إن الله يخرج

قوما من النار بالشفاعة)) وصحح الحاكم حديث: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) وقال: هذه شفاعة فيها قمع للمبتدعة المفرقة بين الشفاعة لأهل الصغائر والكبائر قال البيهقي: وهذه يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة والصديقين، وقد قيل: إنه مخصوص بها من بينهم. ورابعها: في زيادة الدرجات في أهل الجنة. خامسها: التخفيف عن بعض الكفار وهي من خصائصه كما في أبي طالب وأبي لهب. وسادسها: التخفيف من عذاب القبر ففي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرزفه عنهما ما دام هذان

الغصنان رطبين)). ص: ولا يموت أحد إلا بأجله. ش: أما غير المقتول فبالإجماع وأما المقتول فكذلك عند أهل الحق وصادف قتله الأجل المضروب له ولم يتضمن القتل قطع أجله، فلو قدر عدم قتله لمات، ولا فرق بين قتله وموته حتف أنفه إلا أن السبب في القتل اختياري وفي الموت اضطراري ووافقنا من المعتزلة الجبائي وابنه، وذهب الباقون من المعتزلة إلى (105/ك) أن القاتل قطع أجله المضروب له، وأنه مات بغير أجله، ثم اختلفوا في أنه لولا القتل لكان يعيش أو يموت بفعل الله تعالى على قولين، ولنا قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن مثل قول المعتزلة ونسبه إلى الكفر بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يبسط له في

رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) وينسأ أي يؤخر، والأثر الأجل لأنه تابع الحياة، فقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى: فيه أجوبة: أصحها: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وصيانة أوقاته عن الضياع، وقيل: بالنسبة لما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ فيظهر لهم أن عمره ستون إلا أن يصل رحمه فيزداد أربعين، وأما بالنسبة إلى علم الله تعالى وما علم أنه سيقع فالزيادة مستحيلة، وقيل: المراد بقاء ذكره الجميل بعده فكأنه لم يمت وأما حديث: ((أن المقتول يتعلق بقاتله يوم القيامة ويقول ربي ظلمني وقتلني وقطع أجلي)) فرواه الطبراني وقد تكلم في سنده، ولو صح حمل على مقتول سبق في علم الله أنه لو لم يقتل لكان يقسم له أجلا زائدا. تنبيه: قيل: الخلاف في هذه المسألة لفظي لأنه لا خلاف بيننا وبينهم أنه لا يجوز وجود شيء بخلاف ما قد علم الله تعالى، ولا خلاف أيضا أن كل وقت يموت المكلف فيه فإن الله تعالى قادر على أن يبقيه (184/ز) ولا يميته، ذكره

القاضي أبو يعلى في (المعتمد). ص: والنفس باقية بعد موت البدن. ش: هذا مبني على أن النفس غير البدن وهو المعروف وأشار الإمام في (المطالب) إلى شذوذ فيه لا اعتداد به، وقال: إن الكتاب والسنة مملو بالتغاير إذا علمت هذا فبقاء النفس بعد فناء الأبدان إما في السعادة أو الشقاوة وهو قول أهل الحق لقوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} الآية وقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} والذائق لا بد أن يبقى بعد المذوق، وقوله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق} الآية وهو نص في بقاء الأرواح وسوقها إلى الله تعالى يومئذ وقوله: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} الآية فإنه لا يقال برجوعها إلا لما هو موجود، وظاهر الآية أن هذه أحوالهم بعد الموت على الاتصال وقوله تعالى: {أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} وقوله تعالى: {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي} والقول لا يصح إلا من حي، وقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم} وفي الصحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور القبور ويسلم عليهم) والأحاديث فيه كثيرة، فوجب القول به ومن جهة العقل: أن النفس

بمثابة الساكن في الدار فإذا هدمت الدار لم يلزم موت الساكن فيها وبطلانه في هذا معلوم بالضرورة، وإنما جاءت الشبهة من اعتقاد أنها سارية في البدن فسبق حينئذ الوهم إلى موته بموت البدن، ونحن نقول: إنما هي جوهر مجرد ليس بينه وبين البدن مناسبة إلا من جهة الحيز وذلك لا يقتضي عدم الجوهر ولا يغير حاله، ولأنها لو ماتت بموت البدن لضعفت بضعفه واختلت اختلاله واللازم منتف فالملزوم مثله، ولم تخالف فهي إلا الفلاسفة بناء على إنكارهم الميعاد الجسماني ومن اعترف بالميعاد لزمه القول ببقاء النفس قال الإمام في (المعالم): وطريقنا في إطباق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عليه ونحن نجري معهم بالإقناعات العقلية، فإن عندهم الرياضة الشديدة تلوح للنفس الأنوار ويكشف لها العيان مع أنه يضعف البدن جدا وكل ما كان يضعف البدن آكد كانت قوة النفس أكمل فوجب عقلا بقاؤها بعد فناء البدء=، وقال بعض المحققين: اتفق العقلاء كلهم على إثبات حياة بعد الموت وأما كون الإنسان مطلقا بعد الموت له وجود وبقاء وإدراك وشعور وعلوم لذات هي جوهر روحاني فالمتشرعون على إثباته وأن نوع الإنسان بذاته الحقيقية ثابت باق بعد اضمحلال جسده، وأما مخالفة الفلاسفة فالظاهر أنهم إنما تكلموا فيما هو موضوع علمهم وهو ذات الإنسان الظاهرة وقالبه الطين المركب من العناصر الأربعة ويكون الروح الحيواني الحامل للغذاء الكائن لتنمية الأعضاء ومبدأ علمهم فيما دون فلك القمر من الفيض الناري وغايته النظر في الروح الحيواني، وذلك كله من عوالم الأجساد الكثيفة فليس لهم علم فيما وراء ذلك لا نفيا ولا إثباتا، إلا أن يجهل جاهل منهم فينفي ما بعد ذلك وليس هو من دأبه، إنما حكمه أن ينفي العلم بما وراء ذلك لا أن يعلم النفي

به، وبينهما فرق إذ الأولى سالبة والثانية معدولة، ويجهل من ينقل عنهم إذا لم يثبتوا شيئا وراء ذلك أنهم يقولون بنفيه وذلك غفلة من ناقله وعلى مثل هذه الجهالة ينقلون عنهم عدم الحشر الجسماني وحقيقة مذهبهم ما قلناه، إنهم لا يتعرضون لشيء من ذلك لا نفيا ولا إثباتا ومن اطلع على حقيقة علمهم علم ذلك علما ظاهرا ولهذا كان المنقول عن رئيسهم جالينوس أنه من الموافقين في المعاد الجسماني وهذا من وفائه لقانون علمه وتبحره فيه، قال: وهذه نكتة ينبغي أن يتنبه لها، والمقصد الإعلام بقيام الإجماع من سائر الملل على إثبات ذلك شرعا ولم يتكلم فيه الفلاسفة. ص: وفي فنائها عند القيامة تردد قال الشيخ الإمام: والأظهر لا تفنى أبدا. ش: هذا التردد لوالد المصنف ذكره في تفسيره فقال: إذا قلنا: إن الأرواح تبقى وهو الحق فهل يحصل لها عند القيامة فناء ثم تعاد فتوفي بظاهر قوله تعالى: {كل من عليها فان} (105/ك) أو لا بل يكون من المستثنين في قوله تعالى: {إلا من شاء} والأقرب أنها لا تفنى من المستثني كما قيل في الحور العين

واعلم أن الحليمي وغيره نصروا القول بأن الاستثناء للشهداء لحديث رواه زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام فقال: ((من الذي لم يشأ الله أن يصعقوا قال: هم شهداء الله)) وقال ابن العربي إنه صحيح، وقال القرطبي: إنه أولى ما في المسألة

لأنه نص وضعف الحليمي قول من زعم أن الاستثناء لأجل بعض الملائكة لأنهم ليسوا من سكان السماوات والأرض، لأن العرش فوق السماوات فلم يدخلوا في الآية، وهذا لا يدخل فيه الولدان والحور العين، في الجنة لأن الجنة فوق السماوات والآية في سكان السماوات وقال غيره: الصحيح أنه لم يرو في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل. ص: وفي عجب الذنب قولان وقال المزني الصحيح يبلى وتأول الحديث. ش: حجة من قال لا يبلى بل يبقى إلى يوم يبعث فيركب منه وهو المشهور ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب)) وهو بفتح العين وإسكان الجيم وآخره باء وقد تبدل الباء ميما وحكى اللحياني تثليث العين

فيهما حكى ذلك أبو الطيب اللغوي عنه فتحصل ست لغات وفسروه: بأنه عظم كالخردلة في أصل الصلب عند العجب وهو رأس العصعص وفي صحيح ابن حبان قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: ((مثل حبة خردل منه ينشأ)) وحجة من قال يبلى: ظاهر قوله تعالى: {كل من عليها فان} وهو قول المزني وتأول الحديث فقال: خلق الله الخلائق لا غيره فمنه ما خلق بعضه ببعض ومنه ما أفنى بعضه ببعض، ومنه ما أنشأه لا ببعض وأفناه لا ببعض، وقد حكم الله تعالى بالموت على جميع خلقه فقال: {يتوفاكم ملك الموت} فإذا (185/ز) لم يبق إلا ملك الموت توفاه الله تعالى بلا ملك موت، فغير مستنكر أن يكون كذلك يفني الله تعالى الإنسان بالتراب فإذا لم يبقى إلا عجم الذنب أفناه الله تعالى بلا تراب كما أمات ملك الموت بلا ملك الموت. انتهى. ولا يشكل عليه رواية مسلم الأخرى: ((إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا منه يركب يوم القيامة)) قالوا: أي عظم يا

رسول الله؟ قال: ((عجم الذنب)) لأنه ليس في الحديث تعرض إلا لعدم فنائه بالأرض، والمزني يقول به وليس فيه تعرض لفنائه بغير الأرض، والكلام فيه وقد وافقه ابن قتيبة وقال: إنه آخر ما يبلى من الميت ولم يتعرضوا لوقت فناء العجب هل هو عند فناء العالم أو قبل ذلك وكلاهما محتمل، والأقوى في النظر أنه لا يبلى عملا بظاهر الحديث، ويشهد له ما صح في الحديث ((إنه ينزل من السماء ماء فتنبتون منه كما ينبت البقل)) وقال تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} وقد قال بعض العلماء: إن عجب الذنب بالنسبة إلى الإنسان كالبذر بالنسبة إلى جسم النبات، ولهذا قال تعالى: {كذلك الخروج} فإن قيل: فما فائدة إبقاء هذا العظم دون سائر الجسد؟ أجاب ابن عقيل فقال: لله سبحانه وتعالى في هذا سر لا نعلمه، لأن من ينحت الوجود من العدم لا يحتاج إلى أن يكون لفعله شيء يبنى عليه ولا خميرة، فإن علل هذا فيجوز أن يكون الباري سبحانه جعل ذلك للملائكة علامة على أنه يحيي كل إنسان بحواهره بأعيانها ولا يحصل العلم للملائكة بذلك إلا بإبقاء عظم من كل شيء ليعلم أنه إنما أراد بذلك إعادة الأرواح إلى تلك الأعيان التي هذا جزء منها، كما أنه لما أمات عزيرا وحماره أبقى عظام الحمر وكساها ليعلم أن هذا المنشأ ذلك الحمار لا غير ولولا إبقاء شيء

لجوزت الملائكة أن تكون الإعادة للأرواح إلى أمثال الأجساد لا إلى أعيانها. ص: وحقيقة الروح لم يتكلم عليها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فتمسك عنها. ش: هذه طريقة المحتاطين كالجنيد رضي الله عنه فإنه قال: الروح شيء استأثر الله تعالى بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود لقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} وعلى ذلك جرى خلق من أئمة التفسير كالثعالبي وابن عطية قال الشيخ شهاب الدين السهروردي بعد ذكره كلام الناس في الروح: وكان الأولى الإمساك عن ذلك والتأديب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ما قاله الجنيد، قلت: وعليه حملوا قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} ولم يأمره أن يبينه لهم، وأما المتكلمون على الروح فأجابوا عن هذه الشبهة بوجوه: أحدها: أن اليهود قد قالوا إن أجاب عنها فليس بنبي وإن لم يجب فهو صادق

فلم يجب لأن الله تعالى لم يأذن فيه ولا أنزل عليه بيانه في وقته تأكيدا لمعجزته وتصديقا لما تقدم من وصفه في كتبهم لا لأنهم لا يمكن الكلام فيه. وثانيهما: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤال تعجيز وتغليظ إذ كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل وملك آخر يقال له الروح وصف من الملائكة والقرآن وعيسى ابن مريم، فقصد اليهود أن يسألوه فبأي شيء أجابهم، قالوا: ليس هذا فجاء الجواب مجملا كما سألوه مجملا، فإن أمر ربي تصديق على كل واحد من مسميات الروح وقال عبد الجليل القصري في (شعب الإيمان) - وكان من ذوي المعارف والأحوال - اختلف الناس في معرفة الروح فقيل: لا تعلم أصلا، لقوله تعالى: {من أمر ربي} قال: وقائل هذا أراد أنه (106/ك) لا يعرف ولا يحاط بمقداره وأما إنكار معرفته أصلا من جميع الوجوه فذلك جهل عظيم ممن قاله، فإنه معروف بالوجود بالضرورة قال: والآية التي احتج بها حجة عليه فإن الجواب بقوله: {من أمر ربي} على حسب السؤال عن الروح بقول اليهود: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فأجابهم بمن ولم يسألوه عن وجوده

فيقول: نعم أو لا، ولا كيف هو كالأجسام أم على صفة كذا، ولو كان لأجابهم بصفته كما أجاب ربه حين سألوه عنه فنزل {قل هو الله أحد} قال: والروح أمر من أمر الله والأمر هو الصادر عن الإرادة: فالروح إرادة منه أن تكون على هذه الصورة فهو كلمة الله وذكر الشيخ شهاب الدين السهروردي إمساك الصوفية وخوض غيرهم في الروح ثم قال: ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمثابة التأويل لكلام الله تعالى حيث حرم تفسيره وجوز تأويله، إذ لا يسوغ القول في التفسير إلا نقلا، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل وهو ذكر ما تحتمل الآية من غير القطع بذلك قال: وإذا كان كذلك فللقول فيه وجه وعمل، ونوزع في ذلك: بأن هذا ظاهر إذا لم يكن في الآية ما يمنع القول فيها لكن ظاهرها المنع من السؤال عن الروح والخوض في طلب العلم بها بدليل قوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} أي فاجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه ولا تسألوا عنه، فإنه سر من أسراري ومنهم من حمل قوله تعالى: {من أمر ربي} على أن المراد به كون الروح من عالم الأمر وهو عالم الغيب، وعالم الملكوت، ومقابله عالم الخلق الذي هو عالم الشهادة وعالم الملك وحمل قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} على العالمين المذكورين وأراد بعالم الأمر عالم المجردات لأنها وجدت بمجرد الأمر الذي هو قول (كن) ومقابله الجسمانيات وإذا كان الروح من باب الأمر فقد انفتح باب الكلام فيها فذهب كثير من الصوفية إلى أنها ليست بجسم ولا عرض بل هو جوهر مجرد قائم بنفسه، غير متحيز، وله تعلق خاص بالبدن للتدبير والتحريك، غير داخل في البدن ولا خارج عنه وهذا هو رأي الفلاسفة وذهب جمهور المتكلمين إلى أنه جسم لطيف قال إمام الحرمين: مشتبك

بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود (186/ز) الأخضر قال النووي في (شرح مسلم): إنه الأصح عند أصحابنا وذهب كثير منهم إلى أنه عرض وإنه هو الحياة التي صار البدن بوجودها حيا، قال السهروردي: ويرد على هذا الأخبار الدالة على أنه جسم لما ورد فيه من الهبوط والعروج والتردد في البرزخ والعرض لا يوصف بهذه الأوصاف ونقلهم عن الصوفية الإمساك مرادهم الأقدمون وإلا فقد تكلم عليها المتأخرون فقال الشيخ العارف أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: من ظن أن علم الروح وغيره مما ذكر ومما لم يذكر لم تحط به الخاصة من

العلماء أهل البدء الأعلى فقد وقع في عظمتين: تجهيل أولياء الله إذ وصفهم بالقصور عن ذلك وظن بربه أنه منعهم وكيف يجوز أن يطلق على مخصوص؟ ويسري به التكذيب إلى القدرة والشرع بقوله عن اليهود أو عن العرب كما تضمن الخلاف {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} فما الدليل لك منها على جهل الصديقين وأهل خاصة الله العليا؟ والكشف عن هذا أن السؤال يقع بأربعة أحرف: بهل، وكيف، ولم، ومن، فـ (هل) يقع السؤال بها عن الشيء أموجود هو أو معدوم و (كيف) يقع السؤال بها عن الشيء و (لم) عن علته، وليس في الآية شيء من ذلك، فإنك إن قلت: فيها معنى (هل) فهل يقتضي: هذا الروح موجود أو معدوم؟ وقد عرفنا وجوده من قبل ولولا ذلك ما قال: يسألونك عن الروح، فثبت أنهم عرفوا وجوده فبطل هذا، وليس فيها سؤال عن الحال، كيف هو؟ ولا سؤال عن العلة لم كذا وكذا؟ ولو كان سؤالهم عن هذين لما قنعوا بقوله: {قل الروح من أمر ربي} فثبت أن السؤال إنما هو عن الشيء من أين هو؟ بدليل الجواب والبيان الظاهر الشافي بقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} إذ الرسول عليه السلام عالم بما سألوا عنه فأجاب عن الله سبحانه بذلك كما تقول آدم نسألك عنه وفهم المسؤول السؤال فقال: آدم من تراب فإذا رضي الجواب قنع، وليس يرجع العدو إلا بفهم عظيم من الحق العظيم الذي لا مرد له، فكيف يزعم الزاعم أنه لا يعرف ولا يجوز أن يعرف؟ فقد أوجب الله سبحانه وتعالى علينا معرفته ولا مثل له ولو ضيعناها كنا كفارا أو عصاة، فكيف بموجود ومخلوق أمثاله كثيرة؟ هذا عين الجهل أن يقال: لا يجوز أن يعرف من له المثل والنظير وهو روح، ويوجب معرفة من لا شبيه له ولا نظير، والذي نقول به: إن لله تعالى أسرارا لا يسع فيها الوهم ولا يليق بها الكتم لوضوحها وشدة

ظهورها انتهى. وحاصله أن المقدار الذي ينبغي أن يطلب من يعرف الروح إنما هو عالمه ومن أين هو، فأوجب الشيخ معرفة مثل هذا من الروح وهو كون الحياة والحركة والعقل مثلا تابعا لها لا معرفة حقيقتها، وإنما عرف الآية فيها عالما فقط أعني من أين هي؟ ولم يقع الجواب بتعريف الحقيقة، وفرق الغزالي بين عالم الخلق وعالم الأمر فإن ما يقع عليه مساحة وتقدير وهي الأجسام وعوارضها من عالم الأمر، والخلق هنا بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد وما لا كيفية له ولا تقدير له يقال له: أمر رباني، وأرواح البشر والملائكة من عالم الأمر فعالم الأمر عبارة عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهات والمكان (107/ك) والتحيز قال: ولا يتوهم من هذا أن الروح قديم بل هو مخلوق بمعنى أنه محدث، وقد نسب القاضي ابن العربي هذا إلى الصوفية واستنكر قولهم العالم عالمان: عالم الخلق وعالم الأمر، وأن الروح من عالم الأمر وقال: إنهم تلقوه من الفلاسفة ومقصود الفلاسفة منه: أن الخلق ما كان كماً مقدرا والأمر ما لم يكن مقدرا، والروح عندهم لا يكون محدثا، قال: وقد أوضحنا أن العالم وكل ما سوى الله مخلوق داخل في الكمية،

وقال: ويقال: هذا القول تحليقا على مذهب الحلولية واعتصاما بمذهب النصارى في عيسى، وعجب من حكاية الغزالي له، قال: وتسور القاضي عليها وأبان أنها مخلوقة بالدليل وأشار إلى أنها عرض ومال الجويني إلى أنها جسم تعويلا على ظواهر الشرع فيما أضاف إليها من الأفعال والانتقال والأكل من الجنان، ومال جماعة إلى أنها تفارق البدن، وهي عرض متقوم بجزء من الجسم يضاف إليه هذه الأوصاف كلها التي تسحيل على الأعراض، لعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما أشار إلى هذا بقوله في الصحيح: ((كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب)) قال ولما تعارضت هذه الأعراض المشار إليها توقف قوم عنها والمتحصل من ذلك كله أمران: أحدهما: أنها بالدليل القاطع العقلي مخلوق ويكفر جاحد ذلك. والثاني: أنها بالدليل القاطع السمعي باقية لا فناء لها، ثم النظر بعد في أنها جوهر أو عرض فمحل اجتهاد، والأقوى أنها عرض فإن التحامل على الألفاظ وتأويلها، وصرفها إلى المجاز أقرب في النظر من الاضطراب في الأدلة العقلية التي

توجب أنها لا تقوم بنفسها. قلت: وصنف الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق ابن منده كتابا في الروح والنفس ذكر فيه عن الإمام محمد بن نصر المروزي إجماع المسلمين على أن الروح التي في ابن آدم مخلوقة وإنما يذكر القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة والمتصوفة وقال إمام الحرمين في (الرسالة النظامية): إنه جمع فيه كتابا سماه كتاب (النفس)، وأنه يشتمل على قريب من ألف ورقة. (ص) وكرامات الأولياء حق، قال القشيري: ولا ينتهون إلى نحو ولد دون والد. (ش) كون الكرامات حقا هو قول أهل الحق، وقال أبو تراب النخشبي: من لا يؤمن بها فقد كفر، ولعله يرى تكفير المبتدعة، والدليل على الجواز أنه لا يلزم

من فرضه محال، والدليل على الوقوع قصة أصحاب الكهف ولم يكونوا أنبياء بالإجماع وكذلك كرامات مريم عليها السلام متواترة ولم تكن نبية عند الجمهور لقوله تعالى: {وأمه صديقة} ولو كانت نبية لما عدل عن ذكرها بالوصف الأعلى إلى ما لم يبلغ ذلك لأن درجة النبوة (187/ز) أعلى من درجة الصديقية إجماعا وادعى الشيخ محيي الدين النووي الإجماع على عدم ثبوتها وليس كما قال، فقد نقل القرطبي في تفسيره كونها نبية عن الجمهور، ويشهد له أن الملائكة خاطبتها بالوحي قال تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك} ولأن الله تعالى ذكرها مع الأنبياء في سورة الأنبياء والذي أوقع الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في ذلك إمام الحرمين في (الإرشاد) فإنه ادعى الإجماع على عدم نبوة أهل الكهف ثم قال: وكذلك مريم فظن الشيخ الإجماع فيها أيضا وليس كذلك، وينبغي أن يكون مراده أنها ليست نبية لا دعوى الإجماع ونقل ابن حزم عن ابن فورك والأشعري أنه كان يقول في النساء أربع نبيات وتوقف بعض

المحققين في صحة هذا النقل عنه قال: فإن صح فلعله مع حديث: ((ولم يكمل من النساء إلا أربع)) ولم يسمع تفصيل الحديث فإنه ذكر فيهن خديجة وفاطمة ولا يمكن القول بأنهن نبيات، والقول بنبوة مريم إنما يقوى إذا فسرنا النبي بمن يوحى إليه، وأطلقنا فأما إذا قيدنا بأمر خاص وهو الوحي بالشريعة كما فسره الحليمي فلا وإنما أطلت في هذا الموضع لأني رأيت من نسب إلى الأشعرية القول بنبوتها من غير تحقيق إذا علمت هذا فقد استفاض في العالم وقوع الخوارق من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ولم يزل شأن الأنبياء والصديقين التصديق بها، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذا التفت فقالت: إني لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث)) فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم فقال

النبي صلى الله عليه وسلم: ((آمنت بهذا وأبو بكر وعمر وما هما)) ثم (وحلية الأنبياء) لأبي نعيم (والصفوة) لأبي الفرج وغيرهما مجموع لذلك. وكذلك الآجري في كتابه (براهين الصالحين) والمنكرون لها كلها المعتزلة ومنهم من نقل عنهم إنما أنكروا خرق العادات وتأولوا ما جرى لمريم عليها السلام ونحوه بأنه كان إرهاصا لنبوة عيسى، يعني تأسيسا وهو بالصاد المهملة مأخوذ من الرهص وهو السياق الأول من الحائط فيكون من مقدمات النبوة ومعجزاتها وما جرى في زمن نبي كإحضار الذي عنده علم من الكتاب لعرش بلقيس جعلوه

معجزة لذلك النبي مستندين في ذلك إلى أن تجويزه لغير الأنبياء يؤدي إلى التباس النبي بغيره. وأجيب بالفرق بين المعجزة والكرامة بأن الأنبياء مأمورون بإظهارها والتحدي بها بخلاف الكرامة ويتميز النبي عنه بدعوى النبوة، وقيل: باختيار الخارق وقيل غير ذلك، ثم القائلون بالكرامات اختلفوا هل تعم سائر الخوارق أم يختص ذلك بما لم يظهر معجزة لنبي؟ فالجمهور على التعميم وذهب بعض أصحابنا إلى أن كل ما وقع معجزة لنبي لا يصح أن يقع كرامة لولي كإحياء الموتى وقلب العصا حية وفلق البحر ونحوه وهذا هو مذهب الأستاذ أبي إسحاق، وبه يظهر غلط الإمام فخر الدين (108/ك) وغيره ممن نقل عنه إنكاره على الإطلاق كالمعتزلة والذي رأيته في كتبه التصريح بإثباتها إلا أنها لا تبلغ مبلغ المعجزات الخارقة للفرق بينها وبين

المعجزة، قال: وكل ما كان تقديره معجزة لنبي لا يجوز ظهور مثله كرامة لولي، قال: وإنما مبالغ الكرامات: إجابة دعوة أو موافاة ماء في بادية في غير موضع المياه، ونحو ذلك مما لا ينحط عن خرق العادات، وهذا حكاه عنه إمام الحرمين والآمدي في أبكار الأفكار، وهذا هو عين ما نقله المصنف عن القشيري فقال في (الرسالة): إن كثيرا من المقدورات يعلم اليوم قطعا أنه لا يجوز أن تظهر كرامة لولي لضرورة أو لشبه ضرورة يعلم ذلك منها حصول إنسان لا من أبوين وقلب جماد بهيمة، وأمثال هذا يكثر. انتهى وإلى قلب الجماد أشار المصنف بقوله: نحو يتعجب منه في أمرين: أحدهما: مغايرته بين هذا القول وقول الأستاذ كما فعله في (منع الموانع) ولهذا لم ينقله هنا عن الأستاذ مع أنه أقدم منه وأحق بالذكر. وثانيهما: اعتقاد أن هذا قيد في الجواز لمن أطلقه فقال في (منع الموانع الكبير): وبهذا يصح أن قولهم ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي ليس على عمومه، وأن قول من قال: لا تفارق المعجزة الكرامة إلا بالتحدي ليس على وجهه. قلت: وليس كما ظن، بل الذي قاله القشيري مذهب ضعيف والجمهور على خلافه وقد أنكروا على القشيري حتى ولده أبو نصر في كتابه (المرشد) فقال:

قال بعض الأئمة ما وقع معجزة لنبي لا يجوز تقدير وقوعه كرامة لولي كقلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى والصحيح تجويز جملة خوارق العادات كرامة للأولياء هذا لفظه، وذكر إمام الحرمين في (الإرشاد) مثله وتابعه شراحه، وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في (شرح المسلم) في باب البر والصلة: إن الكرامات تجوز بخوارق العادات على جميع أنواعها ومنعه بعضهم وادعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه وهذا غلط من قائله وإنكار للحس، بل الصواب جريانها بقلب الأعيان ونحوه. انتهى وقال المقترح بعد حكاية مذهب الأستاذ وغيره، وهؤلاء زعموا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يأتي أحد بمثل ما أتيت به)) يمنع وقوع شيء من معجزات الأنبياء على أيدي الأولياء لئلا يؤدي إلى تكذيب من ثبت صدقه، وهذا يندفع فإن تحدي النبي مقيد بأنه لا يظهر ما أتي به على يد من يبغي معارضته ومناقضته ولا على مفتر كذاب، والدليل عليه أن ظهور جنس واحد من المعجزات على يد شخص لا يقدح في ثبوت معجزة من ظهر على يده من ذلك الجنس قبله، وفي المسألة مذهب ثالث صار إليه ابن بطال في (شرح البخاري): وهو التفصيل بين زمان الأنبياء وما بعدهم فقال في حديث خبيب لما

أسر رئي يأكل من قطف عنب وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة) قال ابن بطال: فهذا يمكن أن يكون آية لله تعالى على الكفار وبرهانا (188/ز) لنبيه صلى الله عليه وسلم من أجل ما كانوا عليه من تكذيبه، فأما من يدعي اليوم مثل هذا بين ظهراني المسلمين فليس لذلك وجه، إذ المسلمون قد دخلوا في دين الله أفواجا فأي معنى لإظهار الآية عندهم؟ لا سيما وقد يشكك به المرتاب القائل: إذا جاء ظهور هذه الخوارق على يد غير النبي فكيف نصدقها من نبي؟ فلو لم يكن في هذا القول إلا رفع الارتياب عن قلوب أهل النقص، والجهل لكان قطع الذريعة واجبا ولا معنى لها في الإسلام بعد تأصله إلا أن يكون مما لا يخرق عادة ولا يقلب عينا مثل إكرام الله عبده بإجابة دعوة في أمر عسير ودفع بأس نازل ونحوه قال أخبرني أبو عمران الفقيه الحافظ بالقيروان أنه أوقف أبا بكر بن الطيب الباقلاني

على تجويزه لهذه المعجزات وقال: أرأيت إن قالت لنا المعتزلة: إن برهاننا على تصحيح مذهبنا وما ندعيه من المسائل المخالفة لكم هو ظهور هذه الآية على يدي رجل صالح منا، قال أبو عمران: فأطرق عني ومطلني بالجواب ثم أقبضته في مجلس آخر فقال لي: كل ما اعترض من هذه الأشياء من أمر الدين أو السنن أو ما عليه صحيح العلم فلا يقبل أصلا على أي طريق جاء، وهذا آخر ما رجع إليه ابن الطيب. قلت: وقد وقفت للقاضي أبي بكر على تصنيف في مجلد سماه (البيان في الفرق بين المعجزات والكرامات والسحر والشعوذة) قال في خطبته كان بعض أصحابنا المغاربة ذكر لنا من إنكار شيخنا أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله للكرامات فلم يثبت عليه عندنا ولعله إن قال ذلك فإنما أنكر منه ما يجب إنكار مثله، فإنا لا نجيز الكرامات للصالحين لجميع الأجناس وبمثل سائر آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام أو لعله أنكر ذلك لمثل من لا يجوز ظهوره على مثله لأن في فضل علمه وما نعرفه من دينه واطلاعه ما يبعد عندنا خلافه في هذا الباب. انتهى، وما صار إليه ابن بطال قد حكاه القاضي أبو الفرج النهرواني في كتابه (الجليس

الصالح) فقال: وكان أبو بكر بن الأخشاذ من جملة المعتزلة يجيز الكرامات إذا أبديت على وجه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والشهادة بصحة رسالته قال: ورأيت من شاهدته من نظار المعتزلة يجيز إظهاره للصالحين وعلى أيدي الأبرار المخلصين، قال ومن المتكلمين من أجاز ظهورها على يد من يدعي الربوبية على وجه الفتنة وتغليظ المحنة كالمروي في أمر الدجال ولا يجيز ذلك على مدعي النبوة لما فيه من فساد الأدلة. انتهى. فروع: تقع الكرامة باختيار الولي وطلبه على الصحيح عند أصحابنا المتكلمين، وقيل: لا تقع باختيارهم وطلبهم، قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: وقال أصحاب القاضي: الكرامة لا تشهد بالولاية على القطع لئلا (109/ك) يأمن العواقب وقال: هيبته كخوفه وقد بشر صلى الله عليه وسلم العشرة بالجنة، قال الشيخ شهاب الدين السهروردي: ومن ظهر على يده شيء من الخوارق وهو على غير الالتزام ليزداد يقينه في مطاوي الانكسار والحياء. وذلك الانكسار والانفعال هو غاية الاتصال فيقول بعضهم الاستسلام عند التلاقي جرأة والانبساط في محل الأنس عزة، واللياذ بالهرب من علم الدنو وصلة.

تنبيه: إنما لم يعرف المصنف الكرامة، لأن تعريفها يعلم من تعريف المعجزة فيما سبق. ص: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة. ش: أي بشيء من الذنوب، كذا جعله القصري من شعب الإيمان وأورد فيه حديث: ((ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله، ولا يكفر بذنب ولا يخرج من الإيمان بعمل)) قال: فجعل الكف عن أهل التوحيد أصلا من أصول الإيمان، ومن لا يري ذلك فهو من أهل الزيغ والضلال الذين يكفرون بالذنب غلوا في تعظيم الذنب حتى خرجوا عن الحد لكن في كتاب (التوبيخ والتنبيه): للحافظ أبي محمد بن حبان: سئل الإمام أحمد بن حنبل عن حديث ((لا نكفر أحدا من أهل التوحيد بذنب)) فقال: موضوع لا أصل له، كيف بحديث

النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ترك صلاة فقد كفر))؟ وفي صحة هذا عن أحمد نظر، فإن معناه ثابت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في بيعة النساء: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) وروى البيهقي بسند صحيح إلى جابر (189/ز) بن عبد الله أنه سئل: هل كنتم تسمون من الذنوب كفرا أو شركا أو نفاقا؟ قال: معاذ الله! ولكنا نقول: مؤمنين مذنبين وأما حديث ((من ترك الصلاة فقد كفر)) فلم يكن إجراؤه على ظاهره لمعارضة ما ذكرنا، فلا بد من تأويله إما على أنه يعامل معاملة المرتد في وجوب القتل ولهذا خص الصلاة بالذكر كما قاله البيهقي وإما

على أن تركها أول بداية الكفر، لأن اعتبار ذلك يؤدي إلى جحدها، فأطلق عليه اسم النهاية، كما قال ابن حبان في صحيحه قالوا: لو كان ترك الصلاة كفرا لما أمر الشارع بقضائها وجعله كفارة دون تجديد إيمان. إذا علمت هذا فههنا أمران: أحدهما: في بيان المراد بهذه العبارة وقد قال والد المصنف رحمهما الله تعالى: يعني هذه العبارة إنا لا نكفر بالذنوب التي هي المعاصي كالزنا والسرقة وشرب الخمر خلافا للخوارج حيث كفروهم أما تكفير بعض المبتدعة بعقيدة تقتضي كفره حيث يقتضي الحال القطع بذلك أو ترجيحه، فلا يدخل في ذلك وهو خارج بقولنا: بذنب، غير أني أقول شيئا وهو أنه ما دام الإنسان يعتقد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فتكفره صعب، وما يعرض في قلبه بدعة إن لم تكن مضادة لذلك لا يكفر، وإن كانت مضادة فإذا فرضت غفلته عنها واعتقاده للشهادتين، مستمر، فأرجو أن ذلك يكفيه في الإسلام وأكثر أهل الملة كذلك ويكون كمسلم ارتد ثم أسلم، إلا أن يقال: ما كفر به لا بد في إسلامه من توبته عنه فهذا محل نظر، وجميع هذه العقائد التي يكفر به أهل القبلة قد لا يعتقد بها صاحبها إلا عن بحثه فيها لشبهة تعرض له أو مجادلة أو غير ذلك، وفي أكثر الأوقات يغفل عنها وهو ذاكر للشهادتين، لا سيما عند الموت انتهى. وفيما قاله نظر لأن الحكم منسحب عليه وإن لم يستحضره كما تجرى أحكام الإسلام على المسلم وإن لم يكن مستحضر الأركان، وأما ذكره أولا فينازع فيه كلام لابن القشيري حيث

جعل ذلك في العقائد فقال في (المرشد): فمن كان من أهل القبلة وانتحل شيئا من البدع كالمجسمة والقدرية وغيرهم هل يكفر؟ للأصحاب فيه طريقان وكلام الأشعري يشعر بهما وأظهر مذهبيه ترك التكفير وهو اختيار القاضي، ومن قال قولا أجمع المسلمون على تكفير قائله أو فعل فعلا أجمعوا على تكفير فاعله كفرناه وإلا فلا. والطريقة الثانية: تكفير المتأولين، ومثال المسألة من قال: إن الله ليس بعالم كفر بإجماع الأمة على تكفيره، ومن قال: هو عالم وليس له علم فهذا موضع الخلاف إذ لا إجماع هنا بخلافه ثم من قال بتكفير المتأولين يلزمه أن يكفر أصحابه في نفي البقاء أيضا كما يكفر في نفي العلم وغيره من المسائل المختلف فيها، قال: وإذا لم يكفر فلا أقل من التفسيق والتضليل، ومن أصحابنا من لا يرى التفسيق أيضا، قال: وهذه الطريقة التي هي نفي التكفير مبنية على أن الشيء الواحد يجوز أن يكون معلوما (110/ك) من جهة مجهولا من وجه آخر. انتهى. الثاني: أن معنى هذه العبارة نقلوها عن الإمام الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة رحمه الله والأشعري: فأما أبو حنفية فصح عنه التصريح به وكذلك الأشعري قال في كتاب (المقالات): إن المسلمين اختلفوا بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم عن بعض، فصاروا فرقا شتى إلا أن الإسلام يعم جميعهم انتهى، وقال الشيخ عز الدين في (القواعد): رجع الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة، لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات، وقال: اختلفنا

في عبارة، والمشار إليه واحد وقال القاضي ابن العربي: اختلف العلماء في إكفار المتأولين على قولين، فذهب شيخ السنة وإليه صنعو= القاضي في أشهر قوليهما أن الكفر يختص بالجاحد والمتأول ليس بكافر، وأما الشافعي رضي الله عنه فأخذ ذلك من قوله: لا أرد شهادة أهل البدع والأهواء إلا الخطابية فإنهم

يعتقدون جواز الشهادة لأوليائهم على أعدائهم زورا، وقال بعضهم: هذا لا يدل على إطلاق عدم التكفير، إذ لا يلزم من عدم تكفير أهل البدع والأهواء عدم التكفير مطلقا فإن مخالفة الحق في الديانات تارة توجب البدعة والضلال، وتارة توجب الكفر، والمخالف في الأول هو المسمى بأهل البدع والأهواء دون الثاني. قلت: وقد صح عن الشافعي رضي الله عنه إطلاق القول بتكفير القائل بخلق القرآن لكن جمهور أصحابه أولوه على كفران النعمة كما قاله النووي وغيره وحكى ابن المنذر عن الشافعي رضي الله عنه أن القدري لا يستتاب ذكره القاضي عياض في (الشفاء) وأما مالك وأحمد فقد نقل عنهما ما يوهم الخلاف في ذلك، وقال ابن العربي: من أعظم أصول الإيمان القدر فمن أنكره فقد كفر نص عليه مالك رحمه الله فإنه سئل عن نكاح القدرية فقال: قد قال الله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك} وقال القاضي عياض: أكثر قول مالك وأصحابه ترك القول بتكفيرهم لكن يؤدبون ويستتابون وأما أحمد فنقل عنه القاضي عياض تكفيرهم وقال: إن عليه أكثر السلف ونقل عنه تكفير تارك الصلاة وإن اعتقد وجوبها، واحتج بعضهم على عدم التكفير بقوله صلى الله عليه

وسلم: ((إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما)) ولأنا لو كفرناه كفرنا بعض أصحابنا في نفي البقاء ونحوه، ولأن الكفر عبارة عن إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم وليس المراد بالضرورة: ضرورة العقل بل إنه لشهرته والاتفاق عليه كالضروري كالصلاة والزكاة، وعلى هذا فلا نكفر أحدا من أهل القبلة، لأن كونهم جاحدين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم غير معلوم بالضرورة بل بالنظر أي لم يشتهر اشتهارا يصير به كالضروري. ولم يتفق عليه وهذا تحقيق جيد بين على تفسير المتكلمين الإيمان بما علم أنه من دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالضرورة فسبق تقريره وقد قال القاضي في كتابه المسمى (بإكفار المتأولين) أما مسائل الوعد والوعيد والرؤية وخلق الأفعال وبقاء الأعراض والتولد وشبهها (109/ك) من الدقائق فالمنع، من إكفار المتأولين فيها أوضح، إذ ليس في الجهل بشيء من ذلك جهل بالله تعالى ولا أجمع المسلمون على إكفار من جهل منها شيئا، وقد نقله عنه القاضي عياض وغيره.

قلت: ولعل هذا مأخذ الشيخ عز الدين في فتياه أنه لا يكفر مثبت الجهة قال: ولا مبالاة بمن كفرهم لمزاحمته لما عليه الناس، وحمل بعضهم كلام القاضي السابق فيمن جهل شيئا منها، أما من قال بجملته وكان علمه به على خلاف ما هو عليه أهل السنة فجهله هذا جهل مركب فهو أشد من جهله بسيطا، وأطلق الآمدي في التكفير حكاية قولين ثم قال: والحق التفصيل وهو إن كان من البدع المضللة والأقوال الممكنة يرجع إلى اعتقاد وجود غير الله تعالى وحلوله في بعض الأشخاص كالنسبة لبعض غلاة الشيعة، أو إلى إنكار الرسالة أو إلى استباحة المحرمات فلا نعرف خلافا بين المسلمين في التكفير به وأما ما عدا ذلك من المقالات المختلفة فلا يمتنع أن يكون معتقدها مبتدعا غير كافر وذلك لأنه لو توقف الإيمان على أمر غير التصديق بالله تعالى ورسوله وما جاء به من معرفة المسائل المختلف فيها في أصول الديانات كما عددناه لكان الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطالب الخلق بمعرفته كالشهادتين، ولم ينقل ذلك وجرى عليه الصحابة والتابعون فالجهل به لا يكون كفرا انتهى. والأول يخرج بقول المصنف: عن أهل القبلة فإن صاحب هذه المقالات ليس منها، لكن حصره التكفير فيما ذكره ممنوع، بل من أنكر ما يعلم مجيء الرسول به ضرورة في الحشر والعلم بالجزئيات وحدوث العالم ونحوه، لا شك في تكفيره واعلم أنه وقع في كلام الطحاوي زيادة مذهب في هذه العقيدة واستغنى المصنف عنه بأنه إن لم يكن بذنب لم يقع كلام في التكفير.

فرع: من لم نكفره من أهل الأهواء والبدع لا نقطع بخلوده في النار وهل نقطع بدخوله إياها فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين في باب إمامة المرأة من تعليقه. وقال المتولي: هناك: ظاهر المذهب أنه لا يقطع به، وعليه يدل كلام الشافعي رضي الله عنه. ص: ولا يجوز الخروج على السلطان. ش: هذا الإطلاق يشمل ما إذا كان عادلا ولا خلاف فيه، وأما إذا كان جائرا وهو المشهور في الأصول ونقلوا عن المعتزلة تجويزه بناء على أن الإمام ينعزل بالظلم والفسق، ونقل صاحب (البيان) من أصحابنا في باب قتال أهل البغي أن لا ينعزل بالجور، وسواء كان الخارج عليه عادلا أو خارجا لأن الخروج عليه جور وهو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه في البويطي، لكن كلام الرافعي يقتضي

تخصيص المنع بالعادل ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم لكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا)) رواه مسلم في كتاب الحج (111/ك) عن أم الحصين وهو مقيد للمطلقات وقال أبو القاسم الأنصاري في باب الأمر بالمعروف في شرحه للإرشاد: إذا جار والي الوقت وظهر ظلمه وغصبه للمال فهل يجوز منعه من ذلك؟ فإن كان ممن ثبتت ولايته وانعقدت إمامته ففي خلفه وانخلاعه كلام يأتي في باب الإمامة، وإن كان متغلبا فقد صار بعض الفقهاء والمحدثين إلى أنه لا يجوز للرعية منابذته، قال الإمام: وعندي أن المتغلب وإن كثرت عدته فسبيله فيما يفعله من الجور والظلم سبيل البغاة في الأرض بالفساد وقطاع الطريق يجوز منابذته ودفعه بأقصى المجهود كما يجوز في كل متلصص ونحوه، قال القاضي: والذي عليه أكثر أصحاب الحديث: الانقياد والطاعة لكل إمام عادل أو جائر وإن فعل المنكر وعطل الحدود، قال: وتمسكوا في ذلك بأخبار وآيات قال القاضي: والظاهر أنها في منع الخروج على من تثبت إمامته، فأما المتغلب فيجب الإنكار عليه. ص: ونعتقد أن عذاب القبر وسؤال الملكين والحشر والصراط والميزان حق. ش: أما عذاب القبر فأجمع سلف الأمة أن الميت يحيا فيعذب في قبره وهو من لوازم القول ببقاء النفس بعد البدن وقد قال تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا

وعشيا} أي في البرزخ بدليل قوله بعده: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وقال تعالى في المنافقين: {سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وفي (صحيح مسلم) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا} نزلت في عذاب القبر وفيه: ((قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال)) وتواترت الأحاديث واستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، والمسألة سمعية فوجب الإيمان به، وأنكره أكثر المعتزلة، بناء على أن شرط الحياة البنية ولما انقضت البنية لم يكن حيا، والميت لا يعذب.

وعارضهم أصحابنا بأن: هذا استبعاد ومنعوا كون البنية شرطا في الحياة لجواز أن يخلق الله الحياة في جزء منفرد كما يجوز أن يجعلها في بنية، على أن عبد الجبار في الطبقات أنكر هذا عن المعتزلة وقال إنما أنكره ضرار بن عمرو ولما كان من أصحاب واصل نسب للمعتزلة وإنما ينكرون تعذيبهم وهم موتى وقال بعضهم: لا خلاف في أن الإيمان به ركن من أركان العقد الديني الذي لا يصح إلا به، والمعتزلة وإن خالفوا فيه فليس خلافهم فيما قررناه، وإنما المفهوم من مذهبهم استبعاد تعجيل جزاء قبل يوم القيامة، ولم يبلغ السمع عندهم مبلغ العلم وقام عند غيرهم ذلك، ولعذاب القبر ببعض المعاصي خصوصية، وهي: البول ولهذا ورد فيه: ((تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)) وكذلك (النميمة

والغيبة) حتى قيل: إن عذاب القبر في هذه الثلاثة، وأما الكيفية فقال الحليمي: إن عذاب القبر يكون بعد إحياء الميت بجملته لقوله تعالى: {أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين} فإن (191/ز) مراده بإحدى الإماتتين ما في الدنيا وبالثانية ما في القبر بعد الإحياء فيه، وهو أحد الإحياءين، والثاني يوم القيامة، وقيل: بالإحياء في القبر لأقل جزء يحتمل الحياة فيه والعقل لا إلى جميعه، ونقل عن ابن جرير الطبري قال الحليمي: فإن صح فلا جزء أولى به من القلب الذي كان ينبوع الحياة ومحل العقل. قلت: وهو اختيار إمام الحرمين فقال: الظاهر سؤال آخر يعلمه الله تعالى من القلب أو غيره وقيل: الروح تعذب لا غير، وقيل: تتألم كما يتألم النائم والحق

أن الميت يحيا في القبر للأحاديث الصحيحة في عود روحه إلى جسده، وأن الملكين يأتيانه فيقعدانه. وقول الملحد: إنا نراقب الميت أياما لا نشاهد فيه شيئا يدل على الحياة ولا التعذيب فالجواب: أن عدم الشهود لا يدل على عدم الوجود كما حجبنا على الملائكة والجن وليس بأعجب من استخراج الله تعالى الذر مع خطابهم وجوابهم وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وينزل عليه بالوحي بمحضر من الصحابة وهو صلى الله عليه وسلم عليه وسلم يراه ويخاطبه وهم لا يشاهدونه إلى غير ذلك من الأحوال الخارقة، ومن أنكر خارقا ورد عليه سائر الخوارق، على أن الواجب في هذه المسألة أن يقتصر على الإيمان بما صح من عذاب القبر ووقوعه، وأما الكيفية فلم يصح فيها شيء غير عود روحه في جسده، رواه أبو داود من حديث البراء بن

عازب وصححه أبو عوانة وابن مندة والبيهقي والحاكم وغيرهم وأما سؤال الملكين فهو حق وورد الخبر به في الصحيحين عن أنس قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا، قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله. قال: فيقال له: انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة)) قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((فيراهما جميعا، وأما المنافق والكافر فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس عنه - فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين)) وفي رواية الترمذي ((يقال لأحدهما: المنكر والآخر النكير)) وقال: حسن غريب وقال إمام تاج

الدين بن يونس: منكر ونكير للمذنب لإنكارهما، وأما المطيع فملكاه مبشر وبشير، وأنكر بعض المعتزلة وجودهما وقالوا: لا يجوز تسمية الملائكة بمنكر ونكير، وأنكروا دخولهما القبر للعادة، فإنه مسدود، قال أصحابنا: لا ينكر دخولهما من تحت الأرض ويكون الله قد وسع لهما وقد علمنا أن الملائكة ليسوا (112/ك) على كثافة بني آدم وأنهم لسلطانهم متمكنون من دخولهم الأماكن على غير الوجه الذي نقدر نحن عليه، وقد ورد: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) قال الحليمي: والذي يشبه أن يكون ملائكة السؤال جماعة كثيرين يسمى بعضهم منكرا وبعضهم نكيرا فيبعث إلى كل ميت اثنان منهم كما كان الموكل عليه لكتابة عمله ملكين، ويشهد له رواية النسائي: ((منكر ونكير وأنكر وناكور وسيدهم دومان)).

واعلم أن المساءلة لم ترد إلا للمدفون، والظاهر أن الخطاب وقع بحسب الغالب وإنما المسألة تقع للحريق والغريق ومن أكله السباع، وكيف مات على اختلاف الأحوال ابتلاء من الله تعالى لعباده، وهو من جملة منازل الآخرة ومرافقها ولا يستثنى من ذلك إلا الشهيد وقد ثبت في (صحيح مسلم) أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: ((كفى ببارقة السيوف شاهدا)) وأما الحشر فذكر أبو الخير الطالقاني في العروة الوثقى أنه عبارة عن معنيين: أحدهما: إحياء الله تعالى الخلق بعد الإماتة والجمع بعد التفريق وذلك واقع لا

محالة، قال تعالى: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} والثاني: إيجاد وإعادة بعد العدم والفناء وكلا المعنيين للحشر جائزان من الله والعقل يجوزهما جميعا، والسمع لم يرد قطعا بأحدهما، ولعل الغالب على ما دل عليه السمع ظاهرا: أن الحشر الواقع هو الإحياء بعد الإماتة والجمع بعد التفريق. قلت: يريد بالثاني ابتداء من غير جمع ما قد تفرق ويشهد لما قال من ورود السمع حديث المسرف على نفسه لما أوصى بأن يحرق ويذر نصفه في البحر ونصفه في البر، فأمر الله تعالى البحر فجمع ما فيه وفي رواية ((فقال للأرض: أدي ما أخذت)) وفي رواية ((قال الله لكل من أخذ منه شيئا: رد ما أخذت منه، وقال: كن فإذا رجل قائم)) رواه الشيخان واللفظ الأول لمسلم قال: وأما النشر فهو عبارة عن بعث الله الخلق من القبور وجمعهم جميعا في عرصة القيامة، والحشر والنشر لهذه الأجساد حق خلافا للفلاسفة حيث أحالوا حشر الأجساد وردوها إلى حشر الأرواح، والنصوص في القرآن والسنة متواترة على حشر الأجساد. انتهى. وأما الصراط فوردت فيه الأخبار الصحيحة واستفاضت وهو محمول على

ظاهره بغير تأويل والله أعلم بحقيقته، وفي الصحيحين ((أنه جسر يضرب على ظهراني جهنم تمر عليه جميع الخلائق وهم في جوازه متفاوتون)) قالوا: ومن الحكمة فيه أن يظهر للمؤمن من عظم فضل الله النجاة من النار وتصير الجنة بعد أسر لقلوبهم، ولتحسر الكفار بفوز المؤمنين بعد اشتراكهم في الورود، ولم يحكوا فيه الخلاف فيه النار هل هو مخلوق الآن أم فيما بعد، وجوز القاضي عياض أن الله يحدثه حينئذ، وأن يكون مخلوقا الآن كجهنم، وقال الحليمي: لم يثبت أنه يبقى إلى خروج الموحدين من النار ليجوزوا عليه إلى الجنة أو يزال ثم يعاد لهم أو لا يعاد، أو تصعد به الملائكة إلى السور الذي في الأعراف، وفي بعض الروايات ((إنه أدق من الشعر وأحد من السيف)) فإن ثبت فهي محمولة على ظاهرها لمنافاته الحديث الآخر من قيام الملائكة على سلمه وكون الكلاليب والحسك فيه وإعطاء المار إليه من النور قدر موضع قدميه للدلالة على أن المار من مواطئ الأقدام ومعلوم أن دقة

الشعر لا يحتمل ذلك فيجوز أن تؤول أدق من الشعر، فإن يسر الجواز عليه وعسره على قدر الطاعات والمعاصي، ولا يعلم حدود ذلك إلا الله وقد جرت العادة بضرب دقة الشعر مثلا للغامض الخفي، وضرب حد السيف لإسراع الملائكة إلى المضي لامتثال أمر الله في إجازة الناس عليه، وقال البيهقي: هذا اللفظ لم أجده في الروايات الصحيحة وإنما يروى عن بعض الصحابة. قلت: في (صحيح مسلم) عن أبي سعيد الخدري: ((بلغني أنه أدق من الشعر وأحد من السيف)) قال الحليمي: وزعم بعض العلماء أن الكفار لا يمرون على الصراط لأنهم للنار وهي في الأرض وهم فيها. وأما الميزان فهو حق والمراد به نصب الميزان ذا كفتين ولسان ويوزن فيه الأعمال والكتاب والسنة واردان به، والأعمال وإن كانت أعراضا لا تقبل الوزن، فالوزن للصحف التي للأعمال مكتوبة فيها، أو الأعراض نفسها توزن على ما

سبق ومقصود الموازنة: تعريف العباد مقادير أعمالهم إذ لو أدخلهم الدارين قبل الموازنة ربما ظن المطيع أن نيله لدرجات الجنة عن الاستحقاق، وتوهم المعذب أن عذابه فوق دينه، فتوزن أعمالهم ليتفقوا على مقادير أجزائها فيعلم الصالح أن ما ناله من الدرجات بفضل الله لا بمجرد عمله، وليتيقن المجرم أن ما ناله من العذاب دون ما ارتكب من الحرام، وأن الله لا يظلمه والمعتزلة أنكرت ذلك. ص: والجنة والنار مخلوقتان اليوم. ش: لقوله تعالى: {وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} وفيه دلالتان: إحداهما: قوله عرض، لأن المعدوم لا عرض له. والثاني: أعدت بلفظ الماضي وكذا قوله في النار: {أعدت للكافرين} والمعدوم لا يقال فيه أعد، وفي الصحيحين ((اشتكت النار إلى ربها وقالت: أكل بعضي بعضا، فأذن لها في نفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف)) وقوله صلى الله عليه وسلم إنه رأى في الجنة قصرا ذكره لعمر ورأى عمر بن

لحي: ((يجر قصبه في النار)) وإسكان آدم الجنة وخروجه منها دليل على أنها وجدت وهي ذات الثواب بإجماع أهل السنة فيما حكاه ابن بطال عن بعضهم، وشذ من زعم أنها غيرها، وفي الصحيح من محاجة آدم موسى عليهما السلام أن موسى قال لآدم: أنت أشقيت بنيك وأخرجتهم من الجنة ولم ينازعه آدم) بل احتج بالقضاء والمنكر لها طائفة من المعتزلة كعبد الجبار وأبي (113/ك) هاشم لأن إيجادها قبل الحاجة إليها عبث.

وأجيب بالمنع بل في ذلك ترغيب وترهيب، وقد ثبت بقواطع الشرع أن الله عجل بعض بني آدم إلى الجنة كالشهداء، وببعض عصاتهم إلى النار كآل فرعون، وأجمع المسلمون على ذلك قبل ظهور هؤلاء المبتدعة، قال ابن القشيري: وأما أين محلها؟ فذلك ما يعلمه الله ويحتمل أنهما فوق السماوات إذ الجنة في عالم علوي والنار في عالم سفلي. قلت: روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان، من طريق عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن جهنم محيطة بالدنيا وإن الجنة من ورائهما)) فلذلك كان الصراط على جهنم طريقا إلى الجنة لكن حديث الإسراء يدل على أن الجنة في السماء السابعة ومما يجب اعتقاده أن كل ما ورد من نعيم أهل الجنة من الحور العين والقصور والولدان والغلمان

والأنهار والأشجار، وقص جميع ذلك على ما ورد (أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام) فاعلم أن ذلك حق وهناك أعظم مما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإنما أخبرت بيسير من كثير على قدر فهمك وخيالك وضيق وعائك، لأنك ما دمت في هذا العالم مقيدا بعقال العقل الذي لا يقبل الشيء إلا بالبرهان، ومن اعتمد ذلك هلك فالعقل تابع والشرع متبوع. ص: ويجب على الناس نصب إمام ولو مفضولا. ش: أما وجوب نصبه فهو قول أهل الحق وإلا لفسد نظام الناس، وقد أجمع الصحابة عليه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وعندنا يجب شرعا، وقالت المعتزلة: عقلا، وذهبت الخوارج إلى أنه لا يجب ومنهم من فصل فقال: يجب عند ظهور الفتن دون وقت الأمن، وعكس آخرون وأشار المصنف بقوله:

(على الناس) إلى وجوبه على الخلق خلافا للإمامية حيث قالوا: واجب على الله وأشار بقوله: (ولو مفضولا) إلى انعاقد إمامة المفضول وهو الصحيح عند جمهور الأصحاب، ومنهم ابن خزيمة وذهب الأشعري في جماعة من قدماء أصحابه إلى المنع وإن اجتمعت فيه الشرائط إذا وجد أفضل منه فيها، وأنه إن عقدوا له الإمامة لم تنعقد نعم يكون ملكا لا إماما فتمضي أحكامه، وهذا يدل على أن المسألة عندهم اجتهادية، لأنها لو كانت قطعية لوجب القول بتعصية العاقدين وبه

صرح الإمام في (الإرشاد). ص: ولا يجب على الرب سبحانه شيء. ش: لأنه لوجب= عليه لكان لموجب ولا حاكم غير الله، ولا يجوز أن يكون بإيجابه على نفسه لأنه في حقه غير معقول، وأما نحو قوله تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} {حقا علينا نصر المؤمنين} ونحو ((ما حق العباد على الله)) فليس مما نحن فيه، لأنه مما يقتضي رحمته إحسانا وتفضلا لا إيجابا والتزاما والمعتزلة أوجبوا على الله أمورا: منها: اللطف، وهو فعل ما يقرب العبد إلى الطاعة، ومنها: الثواب على الطاعة جزاء للعمل، ومنها: العقاب على الكبائر قبل التوبة، ومنها: فعل الأصلح لعباده في الدنيا، قال أصحابنا: ومن زعم ذلك بطل قوله بنفسين أمات أحدهما مؤمنا وأمات الآخر بالغا كافرا مع علمه أنه إن بلغ كان كافرا، أو نفسين أمات أحدهما مؤمنا وأبقى الآخر سنة أخرى حتى كفر مع علمه بأنه يكفر.

ص: المعاد الجسماني بعد الإعدام حق. ش: وقد أخبر به جميع الرسل، وزعم بعض الفلاسفة أنه لم يخبر به إلا محمد وعيسى، ويرد عليهم قوله تعالى حكاية عن نوح: {والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا} وإخبار الله به عن مؤمن آل فرعون بقوله: {إني أخاف عليكم يوم التناد} وقال تعالى: {قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} والقرآن مملوء منه، ولقد أحسن الرازي في الأربعين إذ قال الجمع بين إنكار الجسماني وبأن القرآن حق: متعذر، فإن نصوص الكتاب والسنة تواترت به تواترا لا يقبل التشكيك. انتهى، وقد قدر الله براهين المعاد بضروب: أحدها: قياس الإعادة على الابتداء {كما بدأكم تعودون} {كما بدأنا أول خلق نعيده} {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} {أفعيينا بالخلق الأول}. ثانيها: قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق أولى نحو: {أو ليس

الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} {على أن يحيي الموتى} {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها} ثالثها: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات وهو في كل موضع ذكر فيه إنزال المطر غالبا نحو: {ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} رابعها: قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر وقد ورد أن أبي بن خلف جاء بعظام بالية ففتها وذرها في الهواء وقال: يا محمد، من يحيي العظام وهي رميم؟، فأنزل الله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} فعلم سبحانه كيفية الاستدلال بدليل النشأة الأخرى إلى الأولى، والجمع بينهما بعلة الحدوث، ثم زاد في الحجاج بقوله: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا} وهذا في غاية البيان في رد الشيء إلى نظيره والجمع بينهما من حيث تبديل الأعراض عليهما، وهذا تنبيه على الاستدلال بالعقل المحض، والقول

بالمعاد من لوازم القول ببقاء النفس بعد الموت حتى ترد إلى بدنها في الوقت المؤقت لها عند الله تعالى، وعود النفس إليه يسمى معاداً حقيقياً كالذي يسافر عن وطنه ثم يعود إليه إذ الإعادة عود على بدء، ولو قدر عدم النفس لكان ذلك إعادة للمثل لا لعين الشيء إذ العدم نفي محض. واعلم أن الناس في المعاد على أقوال: منهم: من أثبت المعاد الجسماني والروحاني (114/ك) وهم المسلمون: ومنهم: من أثبت الروحاني دون الجسماني وهم الفلاسفة وطائفة من النصارى، ومنهم: من أنكرهما جميعا وهم الدهرية والملحدة قالوا: {ما يهلكنا إلا الدهر} فهو باق بعدنا ولا رجعة لنا وتوقف جالينوس في هذه المذاهب. أما المعاد الجسماني دون الروحاني فلا نعلم قائلا به لاستحالته وإن وقع في كلام الرازي في الأربعين أن طائفة ذهبوا إليه لكن لم أتعقله لا يقال ينبغي للمصنف أن يقول: لا جسماني والروحاني، لأنا نقول قوله بعد الإعدام صريح في إرادته، والمثبتون له اختلفوا في معناه، فالصحيح وعليه الأكثر أن الله تعالى يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها، وقيل: يفرق أجزاءه= الأصلية ثم يركبها مرة أخرى، وقال

الآمدي: الحق إمكان كل من الأمرين والسمع لم يوجب أحدهما بالتعيين. قلت: قد سبق حديث الذي أوصى بإحراقه فاستحضره هنا، واختلفوا في إعادة الأعراض فمنهم من منع منها، لئلا يلزم قيام العرض بالعرض، والأكثرون وإليه ميل الأشعري في جواز إعادتها مطلقا، والقول به ينفع أهل السنة في إثبات وزن الأعمال، ويغنيهم عن حمله على وزن الصحائف أو الأعمال ثم اختلفوا هل يجوز إعادتها في غير محالها؟ والكثيرون نعم، وذهب الفلاسفة إلى امتناع إعادة ما عدم عقلا، وأما الوقوع فمنعته الفلاسفة، وذهب المسلمون إلى وجوبه، ثم منهم من قال يجب عقلا وهم المعتزلة بناء على وجوب الإثابة والعقاب، والأشاعرة سمعا وكفروا الفلاسفة في إنكاره، قال بعضهم: من العجب أن الكفار الذين جاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلهم وقتلهم ولم يقرهم بالجزية، لم يكن سبب كفرهم إلا جحودهم ما علم به مجيئه من إنكار حشر الأجساد، وهذه الفرقة الخبيثة المتفلسفة قالوا بذلك، وزادوا عليه بقدم العالم وعدم علمه بالجزئيات، وكذبوا جميع الأنبياء ثم تستروا بالإسلام، والناس غافلون عن ثلبهم وقدحهم في الدين، وهنا مسألتان: إحداهما: جوز جماعة في الأجساد المبعوثة أن تكون على غير هذه، وقال آخرون: إنه خلاف ظاهر القرآن، ولو كانت غيرها فكيف تشهد الأيدي والأرجل على الكفار إلى غير ذلك مما يقتضي أن أجساد الدنيا هي التي تعود. الثانية: قال العلماء يحشر العبد وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قطع منه عضو يعود إليه في القيامة عليه حتى الختان، قال الحليمي: وسأل سائل عن

مسلم قطعت يده ثم ارتد ومات على ذلك أيبعث بيده أم بلا يد؟ فإن قلتم يبعث بيده فكيف تلج النار يد لم يذنب بها صاحبها؟ وإن قلتم: بلا يد فقد أجزتم أن لا يبعث بعضه والجواب: أنه يبعث تام الخلق كامل البدن، لأن اليد تابعة للبدن لا حكم لها على الانفراد في طاعة ولا معصية. ص: ونعتقد أن خير الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر خليفته، فعمر فعثمان أمراء المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين. ش: تضمن أمورا: أحدها: أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم وقد نقل الإمام أبو منصور السمعاني وغيره الإجماع عليه، وإنما خالف فيه الروافض بتقديمهم عليا حتى قالوا: إنه أفضل الخلق بعد محمد صلى الله عليه وسلم وحكى عن قوم تفضيل العباس ولعلهم قاسوه على الميراث، وقد قال ثور بن يزيد

عن مكحول عن سعيد بن المسيب أنه قال: (العباس خير هذه الأمة وارث النبي صلى الله عليه وسلم وعمه). قال الذهبي: إسناده صحيح. قلت: وتأويله يتعين لا سيما قوله وارث النبي، ولا يظن بسعيد أنه يقدم العباس على الشيخين، ومن الدليل عليهم قوله تعالى: {من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} فذكر مراتب أوليائه وبدأ بالأعلى منهم وهم النبيون ثم ثنى بالصديق، ولم يجعل بينهما واسطة، وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر صديقا كما أجمعوا على تسمية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفي البخاري عن محمد بن الحنفية، قال قلت لأبي (أي الناس خير بعد رسول الله

صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر وأحسن الحافظ في قوله: يكفي في تفضيل الصديق أنه قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نقص عنه، وما قام أحد مقام أبي بكر إلا ونقص عنه. والثاني: أنه الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم وفي القرآن إشارات إلى ذلك في مواضع منها: {قل للمخلفين من الأعراب} الآية، فإن أبا بكر هو الذي دعا الأعراب إلى جهاد بني حنيفة، وكانوا أولي بأس شديد ولم يقاتلوا للجزية وإنما قوتلوا ليسلموا، وكان قتالهم بأمر أبي بكر وسلطانه ثم قال: {فإن تطيعوا

يؤتكم الله أجرا حسنا} فأوجب عليهم الطاعة لأبي بكر رضي الله عنه، قال السهيلي: وهي كالنص على خلافته انتهى. ولا خلاف فيه وإنما اختلفوا هل كانت خلافته بالنص أو بإجماع الصحابة؟ فقيل بالنص، فإنه عليه السلام استخلفه في الصلاة أيام مرضه، وما عزله فوجب أن يبقى على خلافته وإذا ثبتت خلافته في الصلاة فكذا في سائر الأمور إذ لا قائل بالفرق وهذا ما تمسك به عمر رضي الله عنه في إثبات إمامته فقال: (قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نقدمكم= لدنيانا) ولأن الصحابة كانوا يخاطبونه يا خليفة رسول الله وممن قال ذلك الحسن البصري كما حكاه عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتاب (السياسة والإمامة) فقال ثنا: المبارك بن فضالة.

ثنا: محمد بن الزبير قال: أرسلني عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري أسأله: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر؟ قال: فسألته، فاستوى جالسا فقال: أي والذي لا إله إلا هو استخلفه، ولهو كان أعلم بالله وأتقى له من أن يتوثب عليها لو لم يأمره، واختاره ابن حزم وابن حبان في صحيحه، واحتج بما في الصحيح عن جبير (115/ك) ابن مطعم قال: (أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه فقالت: إن جئت ولم أجدك - تعني الموت - قال: ((إن لم تجديني فأتي أبا بكر)) قال الشافعي: في هذا الدليل على أنه الخليفة بعد

رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه فقلت وارأساه قال: ((لوددت أن ذلك كان وأنا حي فأصلي عليك وأدفنك)) قالت غيرى: كأني بك ذلك اليوم معرسا ببعض نسائك فقال: ((أنا وارأساه ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) قال البيهقي: أخرجه البخاري عن القاسم عنها ومسلم عن عروة عنها، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينما أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن)) قال البيهقي: قال الشافعي: ورؤيا الأنبياء وحي

وقوله: (في نزعه ضعف) أي لقصر مدته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته، وقوله: (ذنوبا أو ذنوبين) إخبار عن مدته، فإنها كان سنتين وأشهرا وهو شك من الراوي والمراد ذنوبان كما جاء في الرواية الأخرى من غير شك، وذهب آخرون إلى أنها لم تكن بنص بل بإجماعهم واحتجوا بما في مسلم عن عمر لما طلب منه الاستخلاف قال: (إن أستخلف فقد فعله من هو خير مني (يعني أبا بكر) وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينص على خليفة وهو إجماع أهل السنة وغيرهم، قال القاضي: وخالف في ذلك بكر ابن أخت عبد الواحد فزعم أنه نص على أبي بكر قال:

وابن الراوندي: نص على العباس، وقالت الشيعة والرافضة نص على علي، قال: وهذه دعاوى باطلة وجسارة على الافتراء ومكابرة للحس، فإن الصحابة أجمعوا على اختيار أبي بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر وعلى تنفيذ عمر الشورى، ولم يخالف في شيء من هذا أحد، ولم يدع أبو بكر ولا علي ولا العباس وصية في وقت من الأوقات، فمن ادعى خلافه فقد نسب الأمة إلى إجماعها على الخطأ، ولو كان شيء لنقل، انتهى، وما قاله فيما عدا أبا بكر فمسلم، وأما في أبي بكر فمردود وليس هذا قول جميع أهل السنة لما سبق، والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا بالنص عليه، وإنما أشار إلى ذلك ونبه عليه إشارة تقرب في دعوى القطع من النص، وإلى ذلك أشار البيهقي في سننه. الثالث: أنه يلي أبا بكر في الفضيلة عمر ثم عثمان ثم علي، وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: (كنا نخير الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان) وهذا في حكم المرفوع عند الأكثرين لإضافته إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم،

وروى البخاري أيضا عن محمد بن الحنفية قال: (قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال عمر. قال: وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين) وروى أبو داود والترمذي عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: ((من رأى منكم رؤيا؟)) فقال رجل أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت أبا بكر، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال: حسن صحيح وظهور الكراهة منه يحتمل لما يظهر من حال هذه الرؤيا من التفضيل بينهم المؤدي إلى البغض، من أحدهم كما كره التفاضل بين الأنبياء، ويحتمل أنه لرفع الميزان قبل أن يعلم الراجح منهم فيكون كقوله في قصة موسى والخضر: (وددنا لو صبر حتى قص علينا من أمرهما) ويحتمل أنه لكونه لم يذكر عليا في هذا الأمر، قال بعضهم: وليس فيه دليل على فضيلة الثلاثة على علي، بل هو مسكوت عنه، ونقل ابن عبد البر

إجماع أهل السنة على أن أفضل الناس بعد النبوة أبو بكر ثم عمر، ووقف أوائلهم= في عثمان وعلي، قال: فأما اليوم فلا يختلفون أن الترتيب ثم علي، قال: وعليه عامة أهل الحديث من زمن أحمد بن حنبل، وهلم جرا، واختلف في أن التفضيل المذكور قطعي أم لا؟ وهل هو في الظاهر والباطن أم في الظاهر فقط؟ وممن قال بالقطع الأشعري، قال: وهم في الفضل على ترتيبهم في الإمامة، وممن قال بالظن ابن الباقلاني، وقيل: هذا الخلاف إن قلنا: لا يصح إمامة المفضول مع وجود الفاضل، فأما إن صححناها فلا سبيل إلى القطع بتفضيل البعض على البعض. فرع من سب الشيخين أو الختنين هل يكفر أو يفسق؟ فيه وجهان في باب إمامة المرأة من تعليق القاضي الحسين والختنين بخاء معجمة.

ص: وبراءة عائشة من كل ما قذفت به. ش: لأن الله عز وجل أنزل براءتها في كتابه وشهد بأنها من الطيبات، ولهذا قال صاحب (الكافي) من أصحابنا: لو قذف عائشة كان كافرا بخلاف غيرها من الزوجات، لأن القرآن نزل ببراءتها وعند مالك من سبها قتل، قال القاضي: ولهذا إن الله لما ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح لنفسه فقال: {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} ولما ذكر عائشة فقال: {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك} فسبح نفسه في تنزيه عائشة كما سبح نفسه لتنزيهه. ص: ونمسك عما جرى بين الصحابة ونرى الكل مأجورين. ش: هذا قول المحتاطين من أهل السنة، لأن النبي صلى الله عليه (116/ك) وسلم مدحهم وشهد لهم، ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم مقطوع بسلامته في عاقبته، وفي الحديث: ((إياكم وما شجر بين الصحابة فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) وفي الصحيحين في قصة حاطب بن

أبي بلتعة لما أخبر قريشا ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذاره قال: (لم أفعل ذلك رغبة عن الإسلام، ولكن كنت امرأ ملصقا في قريش فاتخذت عندهم يداً لأحمي قرابتي. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه شهد بدرا، وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على هل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) قال بعض الأئمة: كفى بهذا الحديث معظما شأن الصحابة، وكافا كل لسان عن القول، ومانعا كل قلب عن التهمة، وباعثا على ذكر محاسنهم، وأن الحامل لهم على تلك الوقائع إنما هو أمر الدين، وقد قال الشافعي: لولا علي ما عرف حكم الله في الخوارج، وبالغ قوم في التنزيه حتى أنكروا وقوع الفتن بينهم أصلا حتى أنكروا واقعة الجمل

وصفين هذا مع القطع بتخطئة مقاتلي علي، وكل من خرج على من اتفق على إمامته، لكن التخطئة لا تبلغ إلى حد التفسيق عند القاضي أبي بكر، وقالت الشيعة بالتفسيق، ونسبه الآمدي لأكثر أصحابنا، وقال ابن دقيق العيد في عقيدته: وما نقل فيما شجر بينهم واختلفوا فيه فمنه ما هو باطل وكذب فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحا أولناه على أحسن التأويلات، وطلبنا له أجود المخارج لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما نقل محتمل للتأويل، والمشكوك لا يبطل المعلوم، وقال غيره وقد ذكر الفتن بينهم: وهي بالنسبة إلى فضائلهم كقطرة كدرة في بحر صاف، ونقل عن أحمد ما يقتضي الوقف قال الحليمي:

ولم يرد الوقف وإنما أراد الإمساك عن النظر فيه، وإذا كانت العترة على الإطلاق لا يذكرون إلا بخير، فالصحابة الذين أمرنا بالاستغفار لهم ونسأله أن لا يجعل في قلوبنا غلا لهم أولى، واعلم أن الإمساك عن ذلك من القائل إما لعدم ظهور دليل التخطئة والتصويب، أو لقصد كف اللسان عن ذكر مساوئ المخطئ فيها مع عدم إيجابه، وهذا هو الظاهر، فإن السكوت عما لا يلزم الكلام فيه أولى من الخوض فيه وأبعد من الزلل، وقال أحمد وقد سئل عن أمر علي وعائشة فقال: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} ولهذا قال بعض المعتبرين: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا. فإن قيل: قد بنى الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة مسائلهما في قتال البغي على سيرة علي رضي الله عنه وذلك تصويب له وتخطئة لمعاوية وخصومه، قلنا: لاضطرارهم إلى معرفة الأحكام خاضوا فيه، ولهذا لما أنكر ابن معين ذلك على

الشافعي قال أحمد: ويحك فماذا عسى أن يقال في هذا المقام إلا هذا؟ يريد أنا لما أردنا أن نتكلم في نوع ذلك العمل لأجل عملنا عينا المصيب والمخطئ، وأما الكلام في تعيينهما لا لأجل علمنا فلا حاجة لنا إليه، ونحن وإن علمنا أن أحدهما مخطئ فليس علينا أن نعلمه بالشخص، فإنا لم نكلف به، وأكثر ما في علمه غل القلب ليكون إثمه أكثر من نفعه وقال صاحب (تاريخ إربل): أردت أن أسمع كاتب (مقتل عثمان) لابن أبي الدنيا على أبي المظفر الخزاعي أحد الأئمة الزهاد فأبى علي وقال: لو رأيناه ما رويناه. ص: وأن الشافعي ومالكا وأبا حنيفة والسفيانين وأحمد والأوزاعي وإسحاق وداود وسائر المسلمين على هدى من ربهم. ش: أي خلافا لبعض المبتدعة في قدحهم في أئمة الدين واختلافهم عليهم ما يزري بالمسلمين، وكلهم رضي الله عنهم بريؤون= من العقائد الفاسدة، وجلالتهم في الإسلام وعظمهم في النفوس أقوى دليل على ذلك، بل انتدبوا للرد على أهل البدع والضلال، وقد صنف الشافعي (كتاب القياس) رد فيه على من قال بقدم العالم من الملحدين وكتاب (الرد على البراهمة) وغير ذلك، وأبو حنيفة كتاب (الفقه الأكبر) وكتاب (العالم والمتعلم) رد فيه على المخالفين، وكذلك مالك سئل عن

مسائل من هذا العلم فأجاب فيها بالطريق القويم، وكذلك الإمام أحمد رضي الله عنه، وكان قد امتحن بالداهية الصماء فنجاه الله سبحانه وتعالى وثبته وكان كلامه في هذا العلم كأكل الميتة على قدر الضرورة حسما لمادة الفساد، وقد عظم أبو زرعة الرازي كتب الشافعي، وقال: لم أر فيها شيئا من هذا الفضول الذي قد أحدثوه، ولا أراه امتنع من ذلك إلا ديانة وعاب على داود خوضه في ذلك، وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق داود من الأئمة المتبوعين وعظم شأنه، ولا عبرة بقول أصحابنا: إنه لا يعتد بخلافه في الفروع على الإطلاق. واعلم أن كثيرا من أتباع الأئمة الأربعة يذكرون حديثا في تقديم إمامهم، والحق أن حديث الحنفية والحنابلة باطلان، لا أصل لهما وأما المالكية والشافعية

فجيدان فحديث الشافعية ((تعلموا من قريش ولا تعلموها)) وفي لفظ ((لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما)) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث ابن مسعود والبيهقي في (المعرفة) من طرق ثم قال: وقد حمله جمع من أئمتنا على أن هذا العالم هو الشافعي، روي ذلك عن أحمد بن حنبل وقاله أبو نعيم عبد الملك بن محمد الفقيه الاستراباذي

وغيرهما قال: ولا يجوز أن يكون المراد بقوله: ((فإن عالمها يملأ الأرض علما)) كل من كان عالما من قريش فقد وجدنا جماعة منهم كانوا علماء ولم ينتشر علمهم في الأرض، وإنما أراد بعضهم دون بعض، فإن كان المراد به كل من ظهر علمه وانتشر في الأرض ذكره من قريش، فالشافعي من جملة الداخلين في الخبر، وإن كان المراد به زيادة ظهور وانتشار (117/ك) فلا نعلم أحدا من قريش أحق بهذه الصفة من الشافعي فهو الذي صنف من جملة قريش في الأصول والفروع ودونت كتبه وحفظت أقاويله، وظهر أمره حتى انتفع بعلمه وأفتى بمذهبه عالمون وحكم بحكمه حاكمون، وقام بنصرة قوله ناصرون حين وجدوه فيما قال واجدون مصيبا، وبكتاب الله متمسكا ولنبيه صلى الله عليه وسلم متبعا، وبآثار الصحابة مقتديا، وبما دلوه عليه من المعاني مهتديا فهو الذي ملأ الأرض من قريش علما ويزداد على ممر الأيام تبعا، فهو إذن أولاهم بتأويل هذا الخبر مع دخوله في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الأئمة من قريش)) وقوله: ((الفقه يمان والحكمة يمانية ومولده بغزة)) وإن كانت من الأرض المقدسة فعدادها في اليمن لنزول بطن من اليمن بها، ومنشؤه بمكة والمدينة وهما يمانيتان. انتهى.

وفي (ذم الكلام) للهروي عن حميد بن زنجويه سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث ((إن الله يمن على أهل دينه رأس كل مائة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم)) وإني نظرت في مائة سنة فإذا هو عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائة الثانية فإذا هو الشافعي. وأما حديث المالكية: ((يضربون أكباد الإبل ويطلبون العلم فلا يجدونه عالما أعلم من عالم المدينة)) رواه النسائي والحاكم وصححه وقال: كان سفيان بن عيينة يقول: نرى هذا العالم مالك بن أنس. انتهى، وبالغ ابن حزم في إنكار ذلك، وقال: كان بالمدينة من هو أجل منه كابن المسيب فهذا الحديث أولى به، وقد ضربت آباط الإبل أيام عمر، ولم يكن على وجه الأرض أحد أعلم منه، وحكى غير الحاكم أن سفيان بن عيينة أقام على ذلك زمانا ثم رجع بعد فقال: أراه عبد الله بن عبد العزيز العمري قال ابن عبد البر: ليس العمري هذا ممن يلحق في العلم

والفقه مالك بن أنس، وإن كان عابدا شريفا. ص: وأن أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إمام في السنة مقدم. ش: أي ولا التفات لما نسبه إليه الكرامية والحشوية، فالقوم أعداء له وخصوم وهو إما مفتعل أو لم يفهموا عنه حقيقة مراده، وقد بين ذلك ابن عساكر في كتابه (تبيين كذب المفتري فيما نسب للأشعري) ولقد عجبت من الهروي في كتابه (ذم الكلام) حيث قدح فيه بكلام أعدائه، وقد أثنى عليه أئمة الإسلام قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي: أعاد الله هذا الدين بعد ما ذهب يعني أكثره بأحمد بن حنبل وأبي الحسن الأشعري وأبي نعيم الاستراباذي وقال أبو إسحاق

المروزي: سمعت المحاملي يقول في أبي الحسن الأشعري: لو أتى الله تعالى بتراب الأرض ذنوبا رجوت أن يغفر الله له، لدفعه عن دينه، وقال ابن العربي: كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم في أقماع السماسم وقال القاضي أبو بكر: أفضل أحوالي أن أفهم كلام أبي الحسن وقال السهيلي سمعت أبا الحسن السدوي يقول: قام الأشعري عشرين سنة يصلي الصبح بوضوء العتمة، وقال الحافظ البيهقي: أما بعد، فإن بعض أئمة الأشعري رضي الله عنه ذاكرني بمتن الحديث وذكر إسناده عن شعبة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري قال: (لما نزلت {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم

ويحبونه} أومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى رضي الله عنه فقال: ((هم قوم هذا)) قال البيهقي: وفي ذلك من الفضيلة الجليلة والمزية الشريفة لأبي الحسن فإنه من قوم أبي موسى وأولاده الذين أتوا العلم والفهم. ومما يدل على شرف أصله والإشارة على ما ظهر من علمه ما خرجه البخاري في الصحيح عن عمران بن حصين، قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعقلت ناقتي بالباب ثم دخلت فأتاه نفر من بني تميم، فقال: ((اقبلوا البشرى)) قالوا بشرتنا فأعطنا، فجاء نفر من أهل اليمن، فقال: ((اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها إخوانكم من بني تميم)) قالوا: قبلنا يا رسول الله أتيناك نتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: ((كان الله ولا شيء معه ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض)) قال: ثم أتاني رجل فقال: أدرك ناقتك فقد ذهبت، فخرجت فوجدتها تنقطع دونها السراب وايم الله، إني لوددت أني كنت تركتها قال البيهقي: في سؤالهم دليل على أن الكلام في علم الأصول

وحدوث العالم ميراث لأولادهم عن أجدادهم وقوله: ((وكان الله ولم يكن شيء غيره)) يدل على أنه لم يكن شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما، وقوله: {وكان عرشه على الماء} يعني ثم خلق الماء وخلق العرش على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء. انتهى وذكر عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعري وقد وضع يده الكريمة على كتفه،: ((قل لا حول ولا قوة إلا بالله)) فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أوتيت كنزا من كنوز الجنة)) قال أهل العلم: الكنز ما يبقى بعد صاحبه ففهم من هذا الحديث الإشارة إلى ما خرج من ظهر أبي موسى، وهو الإمام أبو الحسن يذب الفرق الضالة عن القدح في هذه الكلمة، لأن القدري يقول: تحولي عن المعصية إلى الطاعة، والجبري يقول: قولكم: إلا بالله استثنيتم القوة بعد النفي، فيه إثبات قوة للعبد، وأنا لا أؤمن بذلك، فما آمن بالكلية على تحقيقيها وعضدها بالبرهان إلا أبو الحسن ومن قال بقوله لا جبري ولا قدري، وقد أفرد البيهقي فصلا في (رسالة العميد) بالثناء على الأشعري وبيان عقيدته وأنه اعتقاد أهل السنة من بين سائر الطوائف وذكر غيره أنه إنما كان يقرر مذاهب السلف من أهل السنة قال أبو الوليد الباجي: قد ناظر ابن عمر منكر القدر، واحتج عليهم بالحديث، وناظر ابن عباس الخوارج

وناظر عمر بن عبد العزيز وربيعة الرأي: غيلان القدري في القدر والشافعي حفص الفرد وسائر الأئمة، وألف فيه مالك قبل أن يخلق الأشعري وإنما بين الأشعري ومن بعده من أصحابهم: منهاجهم ووسع أطناب الأصول التي أصلوها فنسب المذهب بذلك إليه كما نسب مذهب الفقه على رأي أهل المدينة إلى مالك، ورأي الكوفيين (118/ك) إلى أبي حنيفة لما كان هو الذي صحح من أقوالهم ما رضي به الناس، فمن الأكاذيب عليه ما حكاه ابن حزم في (الملل): أنه كان

يرى النبوة عرضا من الأعراض لا يبقى زمانين، وأن النبي إذا مات زالت نبوته وانقطعت دعوته قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وإمام الحرمين وغيرهما من الأئمة، وهذا كذب على الرجل، ثم استدل الإمام على أن النبوة ليست بعرض وإنما هي حكم الله برسالته وإخباره عن سفارته وذكر ابن حزم أن ابن فورك قتل على هذه المقالة، وأن أبا الوليد الباجي أخبره بذلك، قال الأستاذ أبو جعفر اللبلي وهذه الحكاية لعمري من الكذب البائر، وإيراد مثلها يدل على العقل الفاسد، ومعاذ الله أن يقول الباجي هذه المقالة وابن فورك أجل قدرا من هذا، ولم يمت مقتولا كما تخرص وقد ذكر ابن عساكر عن الشيخ أبي الحسن عبد الغفار بن إسماعيل

أنه دعي إلى غزنة وحدث له بها مناظرات وكان شديد الرد على الحنابلة ولما عاد من غزنة سم في الطريق ودفن في الحيرة ثم نقل إلى نيسابور، ومشهده اليوم بها يزار ويستجاب الدعوة عنده (¬1) قال: وابن حزم كثيرا ما يتقول على الأشعرية وغيرهم ويحكي عنهم ما لا يقولونه، على ما ذكره الإمام أبو عبد الله بن طلحة أنه كان يأخذ العلم من الصحائف لا من الشيوخ، وقد قال عن الترمذي صاحب الجامع: إنه رجل مجهول، وقد صحف أحاديث وبنى عليها أحكاما بينها الحافظ أبو بكر بن مفوز ومن مصائب كتابه (الملل والنحل) قوله إن الله قادر على أن يتخذ لنفسه ولدا، ويقول إن القدرة القديمة تتعلق بالمحال فيجوز عنده اجتماع الضدين في محل واحد وزمن واحد، وظن في مقالته هذه إذا لم يقل بتعلق القدرة بالمستحيل لزم العجز، والذي يتعقله كل عاقل أن متعلق القدرة الجائز وعدم تعلقها بالمستحيل لا يؤدي إلى العجز، لأنه لا يتصور وقوعه كما أن القدرة لا تتعلق بالواجب لوجوده وثبوته. ¬

(¬1) (*) هذا الكلام مخالف للعقيدة ويعد من الشرك.

ص: وإن طريق الشيخ الجنيد وصحبه طريق مقوم. ش: فإن طريقهم دائرة على التسليم والتفويض والتبرئ من النفس والتوحيد بالحق، قال بعض المطلعين: لم يكن لأحد من المبتدعة في علوم التصوف والإشارات حظ، بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة، وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي من مشايخ الصوفية قريبا من ألف، ولم يوجد في جملتهم قط من نسب إلى شيء من بدع القدرية والروافض والخوارج وذلك من عناية الله بالقوم، وقد جمع الأستاذ أبو القاسم القشيري في الرسالة والكلاباذي في كتاب (التعرف بمذاهب أهل التصوف) جملا عظيمة من عقائدهم، وإنما خص المصنف الجنيد رضي الله عنه بالذكر، لأنه سيد الطائفة ويحكى أن أبا العباس بن سريج اجتاز بمجلسه فسمع كلامه فقيل له: ما تقول في هذا؟ فقال: لا أدري ما أقول، ولكن أرى لهذا الكلام صولة ليست بصولة مبطل، ثم صحبه ولازمه وكان إذا تكلم في الأصول والفروع أذهل العقول، ويقول: هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد وقيل لعبد الله بن سعيد بن كلاب: إنك تتكلم على كلام كل أحد وههنا رجل يقال له: الجنيد فانظر هل يعترض هل= عليه أم لا؟ فحضر حلقته فسأل الجنيد عن التوحيد، فأجابه فتحير عبد الله وقال: أعد علي ما قلت، فأعاد ولكن لا بتلك العبارة فقاله= عبد الله: هذا شيء آخر لم أحفظه أعده علي مرة أخرى فأعاده بعبارة

أخرى، فقال: عبد الله ليس يمكنني حفظ ما تقول، أمله علي، فقال: إن كنت أجزته فأنا أمليه فقام عبد الله وقال بفضله واعترف بعلو شأنه ومن كلام الجنيد الطريق إلى الله عز وجل مسدود على خلقه إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من لم يحفظ القرآن ويكتب الأحاديث لم يقتد به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة، وقال: إني لتخطر لي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة.

(ص) ومما لا يضر جهله وتنفع معرفته: الأصح أن وجود الشيء عينه، وقال كثير منا: غيره. ش: ترجم القاضي أبو يعلى في (المعتمد) هذه المسألة في الحدوث ودوامه ليس بقدر زائد على وجوده خلافا لبعض الأشعرية في قولهم: إنه أمر زائد على وجوده وأنه معلل بوجوده، وقد اختلفوا في وجود كل شيء هل هو عين ماهيته أو زائد عليها؟ على مذاهب: أحدها: أنه عينه مطلقا يعني في الواجب والممكن وهو قول الأشعري وغيره من أئمة السنة إلا أنهم يتسعون في عد الوجود من الصفات. والثاني: أنه زائد على الماهية مطلقا ونسب المعتزلة واختاره فخر الدين ونسبه صاحب (الصحائف) للمحققين. والثالث: أنه عين الماهية في القديم وزائد عليها في الحادث وهو رأي الفلاسفة وإنما لم يحكه المصنف لأن خلافهم غير معتبر، والصحيح الأول لأنه لو كان زائدا لكان موجودا مشاركا للموجودات في الوجود مخالفا لهذه الماهية وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيكون للوجود وجود ويتسلسل وكان الشيخ تاج الدين التبريزي رحمه الله يستشكل تحقيق محل الخلاف، لأنه لا يخلو إما أن يراد بالوجود العرض العام، أو الوجود المختص بكل فرد، والثاني باطل لما تحقق عند

الجمهور أن الوجود أمر واحد مشترك بين الماهيات، وامتناع أن يكون الوجود والشخص مشترك فيه، والأول باطل أيضا لامتناع أن يكون العرض الخارج عن ماهية شيء هو نفس ذلك الشيء، أو يكون العرض العام للشيئين نفس أحدهما عرضا للآخر، ومن فروع هذا الخلاف في أن الوجود مفهوم واحد مشترك بين الموجودات أم لا، فالفلاسفة يقولون: إنه على سبيل التشكيك لاعتقادهم أن وجود الواجب قائم بنفسه دون سائر الموجودات والأشاعرة يقولون: على الاشتراك اللفظي، والمحققون على المعنوي، وهو التواطؤ واعلم (119/ك) أن المرجح عندهم أن الوجود وصف مشترك بين الواجب والممكن، واتفق الكل على أن وجوده تعالى وتقدس علة لوجود الممكنات، والقول بالاشتراك مع العلية لا يعقل، لأن العلة لا تخلو من أن تكون بمطلق الوجود أو بوجود خاص، والأول باطل وإلا يلزم أن يكون الوجود مقدما على نفسه لوجوب تقدم العلة على المعلول وهو محال أيضا، والثاني باطل لأن الوجود الخاص هو مطلق الوجود مع القيد الموجب للتخصيص، والوجود الخاص لازم التقدم لكونه علة، فيلزم أن يكون مطلق الوجود لازم التقدم لكونه جزءا لما يجب تقديمه، وجزء المتقدم على الشيء مقدم على ذلك الشيء، فلو كان الوجود الخاص علة لزم تقدم الشيء على نفسه على ما قلنا وهو محال، فيلزم إما أن لا يكون الوجود علة أو لا يكون أمرا مشتركا فيه على تقدير كونه مشتركا فيه وكلاهما محال. (ص) فعلى الأصح المعدوم ليس بشيء ولا ذات ولا ثابت وكذا على الآخر عند أكثرهم. ش: فرع المصنف على هذا الخلاف مسألة فلنشرحها ثم نبين وجه التفريع فنقول: المعدوم إن كان ممتنع الوجود لذاته، كاجتماع الضدين وقلب الحقائق فلا خلاف أنه عدم محض ونفى صرف، ولا يطلق عليه الشيء لفظا وإن كان ممكن الوجود كسائر الممكنات المعدومة فهو محل الخلاف فذهب الأشاعرة إلى أنه ليس شيء في نفسه دلالة حقيقية في حال عدمه، كما في المعدوم الممتنع الوجود، ولا حقيقة له وراء وجوده، بل وجوده ذاته وذاته وجوده، وإذا أوجده الله تعالى فهو

موجد الذوات والصفات، وبه قال أبو الحسين البصري، وذهب أكثر المعتزلة إلى أنه حالة العدم شيء وذات وحقيقة حالة الوجود والعدم حتى قالوا: إن الجوهر قبل وجوده جوهر، والعرض عرض، ويقولون: إن هذه الصفات كلها مستحيلة قبل الوجود، وإذا وجدت لم تزد في صفاتها بل هي في حالة العدم كالوجود وهذا يجر بها إلى القول بقدم العالم، والخلاف راجع إلى معنى الوجود، فعندنا لا فرق بين الوجود والثبوت، فلا يكون المعدوم شيئا، لأن كل ما ليس بموجود لا يكون ثابتا فهو معدوم، وعندهم الثابت أعم من الموجود والمعدوم، وفسروه بكون الماهية متقدرة في كونها تلك الماهية مثلا وقالوا: المعنى بكون السواد المعدوم ثابتا كونه حالة العدم سوادا، وسلموا أن المعدوم الممتنع نفي محض، وسموه منفيا، فقسموا الثابت إلى الموجود والمعدوم، وجعلوا الموجود مقابل المعدوم، والثابت في مقابلة المنفي واحتجوا بأن المعدوم معلوم، وكل معلوم ثابت. وجوابه: إن أريد في الخارج فلا نسلم، وفي العقل لا نزاع فيه، ولنا قوله تعالى: {خلقتك من قبل ولم تك شيئا} فدل على أن الممكن قبل أن لا يوجد لا يسمى شيئا، إذ لو كان يقع على المعدوم لصار معنى الكلام: ولم تكن معدوما وهو محال وعلى هذا فشيء مساو لقولنا موجود لا أعم منه وما وقع في القرآن من إطلاق شيء على المعدوم كقوله: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} وقوله

تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه} ونحوه فباعتبار ما يؤول إليه، ولما تحقق الوجود نزل منزلة الموجود، لقوله تعالى: {أتى أمر الله} وإنما قال: ولا ذات، لأن بعض المعتزلة قال يسمى شيئا وليس بذات، ورده ابن القشيري في (المرشد) بأن العقل لا يدل على الأسامي، وليس هنا نقل حقيقة من أهل اللغة وإن أراد الخصم أنه يسمى شيئا تجوزا عاد الخلاف إلى اللفظ. إذا علمت هذا فوجه التفريع: أن إن قلنا: وجود الشيء عينه فالمعدوم ليس بشيء، لأنه متى زال الوجود لزم القطع بزوال الماهية فلا يكون المعدوم شيئا ولا يمكن معه القول بأنه شيء في الخارج، وإلا لزم اجتماع النقيضين، وهو اجتماع الوجود والعدم، وإن قلنا: زائد على الماهية، فقيل: إنه شيء لانفكاك الماهيتين عن الوجود وقال الأكثرون: ليس بشيء وإن قلنا بالزائد لتلازمهما. ص: وأن الاسم عين المسمى. ش: أي عين المسمى وذاته، والعبارة التي عبر بها عن الاسم بالمسمى هذا قول الأشعري ومن الحجة له إجماع المسلمين على أن الحالف باسم من أسماء الله تنعقد يمينه كالحالف بالله، ولو كان اسم الله غير الله لكان الحالف به حالفا بغير الله

فلا ينعقد يمينه وبقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} فهو سبحانه مدعو بها، باعتبار أن المدعو هو المسمى، وإنما يدعى باسمه، وجعل الاسم مدعوا باعتبار أن المقصود به المسمى، وقال تعالى: {اسمه يحيى} ثم نادى الاسم فقال: {يا يحيى} وقال: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} وأراد الأشخاص المعبودة، لأنهم كانوا يعبدون المسميات، وقال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى}، {تبارك اسم ربك} وهو كثير وعند المعتزلة أنه غيره، ومنهم من فصل بين الأسماء الوصفية فلا يقال هو المسمى ولا غيره، وبين الأسماء النفسية يقال هو لا غيره ونسب للأشاعرة وقال الأستاذ أبو إسحاق في قوله تعالى: {إني أنا الله} إن المسمى يقول أنا الله ذات الله، وقول الله لا يقال فيه هو الله ولا غيره، وقال ابن عطية في تفسيره: مر بي أن مالكا سئل عن

الاسم أهو المسمى فقال: ليس به ولا غيره، يريد دائما في كل موضع، وفي المسألة مذهب آخر وهو الوقف حكاه الواحدي في (البسيط) عن ثعلب قال: سئل أحمد بن يحيى عن الاسم أهو المسمى أم غيره؟ فقال: قال أبو عبيدة: الاسم هو المسمى، وقال سيبويه: الاسم غير المسمى، قيل له: فما قولك؟ قال: ليس لي فيه قول، واعلم أنه كثر نقل الناس هذا الخلاف من غير بحث عن تحقيقه، والمراد منه حتى شنعوا على من قال: إنه عينه، أن يحترق فم من تلفظ بالنار إلى غير ذلك من الهذيان، وذكر صاحب (الصحائف): أن النزاع لفظي لأنهم إن أرادوا بالاسم اللفظ الدال على شيء مجرداً عن الأزمنه فلا شك أنه غيره، وإن أرادوا به غير ذلك فلا يصح أن يكون غير المسمى فلا نزاع فيه، وذكر الإمام في (نهاية العقول) نحوه، وقال في تفسيره: إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات، وبالمسمى تلك الذوات في أنفسها (120/ك) فهو غير المسمى، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى وبالمسمى أيضا تلك الذات كان قولنا: الاسم هو المسمى، معناه أن ذات الشيء عين ذلك الشيء، وهذا وإن كان حقا إلا أنه من الواضحات فثبت أن الخوض في هذه

المسألة على جميع التقديرات يجري مجرى العبث، انتهى. وكذا قال ابن الحاجب في (شرح المفصل): لا خلاف أنه يطلق الاسم على المسمى وهو التسمية، وإنما الخلاف هل هو في التسمية مجازا وفي المسمى حقيقة أو العكس؟ والأول مذهب الأشعري والثاني مذهب المعتزلة، وهذا خلاف لفظي لا يتعلق باعتقاد ولا بحقيقة وفي القرآن ظواهر في المذهبين قال تعالى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء}، {سبح اسم ربك الأعلى}، وهذا على مذهب الأشعري وقال تعالى: {أنبئوني بأسماء هؤلاء}، {اسمه المسيح عيسى ابن مريم} وهذا على مذهب المعتزلة انتهى. وليس كما قال بل مطلع الخلاف في هذه المسألة: أن المعتزلة لما أحدثوا القول بخلق القرآن وأسماء الله قالوا: إن الاسم غير المسمى تعريضا بأن أسماء الله غيره، وكل ما سواه مخلوق، كما فعلوا في الصفات حيث لم يثبتوا حقائقها، بل أحكامها تعلقا بأن الصفة غير الموصوف، فلو كان له صفات لزم تعدد القديم، وموهوا على الضعفة بأن: الاسم من جنس الألفاظ والمسمى ليس بلفظ، وقالوا: الاسم اللفظ، فليس لله في الأزل اسم ولا صفة فلزمهم نفي الصفة الإلهية تعالى الله عن ذلك ولما رأى أهل الحق ما في هذه المقالة من الدسيسة أنكروها

ونفروا عنها، حتى قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول إذا رأيت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة، وعارضهم من قال الاسم هو المسمى، ولم يقصدوا به أن نفس اللفظ هو حقيقة الذات، فإن فساد ذلك معلوم بالبديهة وإنما قصدوا به تمويههم، وأن الاسم حيث ذكر بوصف أو أخبر عنه فإنما يراد به نفس المسمى ولولا هو لم يذكر أصلا واستشهدوا بقوله {سبح اسم ربك الأعلى} وإنما سبح الرب سبحانه وتعالى وقوله: {نبشرك بغلام اسمه يحيى} ثم قال: {يا يحيى} فنادى الاسم، وإنما المقصود المسمى، وبقوله {هو الرحمن الرحيم} فأخبر عن هذه الصفات بهذه الألفاظ، وفرق من فصل بين النفسية والوصفية، فإن الأسماء والصفات تفيد الإشارة إلى الذات وإلى معاني قائمة بالذات، وتلك المعاني هي المقصودة بتلك الأسماء بخلاف ما يقصد به نفس الذات، قال بعض المتأخرين: وفصل الخطاب في هذه المسألة أن لفظ غير لا يطلق غالبا إلا على المباين المنفصل فإذا قيل: هذا غير هذا، أي مباين له، ويطلق أيضا فيما سوى الهوية، وعلى الأول فبين الغيرية والهوية مرتبة فمنع أهل السنة أن الاسم غير المسمى أو الصفة غير الموصوف، لما فيه من إيهام المعنى الأول الذي قد دعت به المعتزلة إلى مذهبها، وصدق قولهم لا هو هو ولا هو غيره إذ

قد ظهر بين الهوية والغيرية مرتبة، فإذا نظر الناظر في هذه المسألة تبادر ذهنه إلى الحال الأصلية، فحكم بالتغاير وغفل عن كون الاستعمال أفاد التلازم والاتحاد، فلا يقال زيد إلا ويراد به نفس الذات، ولما رأى المحققون ما في الغيرية من الدخل وفي الهوية من فتح الظاهر المفتقر للتأويل تأدبوا بأدب الله ورسوله، فقالوا الاسم للمسمى، كقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسما)) انتهى. وذكر البيهقي في (الشعب) عن الأستاذ أبي إسحاق أن أسماء الله على ثلاثة أقسام: قسم منها: للذات، وقسم: لصفات الذات، وقسم: لصفات الفعل، فالأول الاسم والمسمى واحد كإله وملك وقديم، ومعنى قولنا: هو المسمى أنه لا يثبت بالاسم زيادة صفة للمسمى، بل هو إثبات للمسمى، والثاني: الاسم صفة قائمة بالمسمى كالعالم والقادر، فلا يقال هو المسمى ولا غير المسمى، لأن الاسم هو العلم والقدرة، والثالث: صفات الفعل كالخالق والرازق فالاسم فيه غير المسمى لأن الخلق والرزق غيره فأما التسمية إذا كانت من المخلوق فهي فيها غير الاسم، والمسمى وإذا كانت التسمية من الله فإنها صفة قائمة بذاته، وهو كلامه، ولا يقال: إنها المسمى ولا غيره، وذهب بعض أصحابنا من أهل الحق في جميع أسماء الله إلى أن الاسم والمسمى واحد، قال: والاسم في قولنا عالم وخالق لذات الباري التي لها

صفات الذات من العلم والقدرة وصفات الفعل كالخلق والرزق، ولا نقول لهذه الصفات: إنها أسماء بل الاسم ذات هو الله الذي له هذه الصفات قال البيهقي: وإلى هذا ذهب الحارث المحاسبي فيما حكاه ابن فورك، قال: ويصح ذلك عندي بما شهد له اللسان ألا ترى لقوله تعالى: {بغلام اسمه يحيى} يخاطب اسمه فعلم أن اسمه هو وكذلك قوله تعالى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} وأراد المسميات، ولأنه لو كان المسمى أو غيره لكان القائل إذا قال عبدت الله، والله اسمه أن يكون عبد اسمه إما غيره، وإما أن لا يقال إنه هو، وذلك محال، وقوله: ((إن لله تسعة وتسعين اسما)) معناه تسميات العباد لله لأنه في نفسه واحد، ومن أصحابنا من أجرى الأسماء مجرى الصفات، قال البيهقي: والمختار من هذه الأقاويل ما اختاره الشيخ ابن فورك. ص: وأن أسماء الله توقيفية. ش: في هذه المسألة مذاهب: أحدها: وهو قول الأشعري أنه لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء والصفات

على الله تعالى إلا بإذن من الكتاب والسنة أو الإجماع وعليه حمل ابن فورك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة)) قال: معنى أحصاها على الاختصاص، ولم يخص معها غيرها ولم يزد فيها ولم ينقص منها، ووقف حيث وقف تنبيها بذلك على أنه لا مدخل للقياس على أسمائه، وأنه لا يتعدى ما ورد به الشرع ولهذا قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه} والملحد فيها هو الجائر بأحد الطريقين: إما بأن يزيد فيها ما لم يأذن فيه كقول المجسم: إنه كائن في جهة، وإما (121/ك) بأن ينقص منها ما قد أذن فيه كقول الجهمي: لا يقال له شيء ولا موجود ولا سميع ولا بصير انتهى. وعلى هذا فاشترط بعضهم القطع، والصحيح كما ابن القشيري في (المرشد) والآمدي وغيرهما: الاكتفاء بالظواهر وأخبار الآحاد كما في سائر الأحكام، وهو أن يكون ظاهراً في دلالته وفي صحته ليكون التجويز والمنع من الأحكام الشرعية فيكتفى به كسائر الأحكام العملية قال ابن القشيري: نعم لا يجوز إطلاق اسم ووصف في حق الرب بالأقيسة الشرعية وإن كانت من

مقتضيات العمل قال: ثم هل يكتفى في كون الكلمة اسما من أسماء الله تعالى لوجودها في كلام الشارع من غير تكرار ولا كثرة أو لا بد منه؟ فيه رأيان. الثاني: كل ما دل على ما يليق بجلاله صح بلا توقيف، وقال القاضي أبو بكر كل لفظ أوهم نقصا ممتنع وكل ما صح من الألفاظ فإن ورد الشرع بالمنع منه منعناه، وإن لم يرد إذن ولا منع توقفنا وغيره جزم بأنه إذا دل على صفة كمال جاز الإطلاق وهم لا يحملون الألف واللام في قوله: {ولله الأسماء الحسنى} على الجنس بل للعهد. والثالث: واختاره الغزالي أنه لا يجوز في الاسم إلا بالتوفيق= والصفات لا تتوقف، ففرق بين الاسم والصفة، لأن وضع الاسم في حق الواحد منا غير لائق ففي حق الله أولى، وأما الصفات والألفاظ مختلفة فهو جائز في حقنا من غير منع، وكذا في حق الباري وقال بعض المحققين: لو تركنا ومقتضيات العقول لم نسم الباري سبحانه وتعالى باسم، ولا وصفناه بوصف، فإن عباراتنا واقعة على معان قاصرة، وأنى لهذا النقصان أن يعبر عن ذلك الجلال أو الكمال وقد ضل في هذه الملة طائفتان: طائفة: حكموا مبادئ العقول ولم يعولوا على الشرع المنقول فقالوا: لا

نسمي الله باسم ولا نصفه بصفة، وهم الفلاسفة فعطلوا. وطائفة: أطلقوا عليه كل اسم ونسبوا إليه كل فعل، والحق الطريقة الوسطى فنصفه بما وصف به نفسه، ولهذا قال إمام الحرمين: ورأيي المخالف والموافق لا سبيل إلى إطلاق لفظ حقيقة في أسماء الباري وصفاته، وإنما ذلك كله مجاز، فإن المعاني الإلهية تقصر عنها الأسماء الحادثة، فكل لفظ يعبر به عن موجود محدث لا يجوز إطلاقه على القديم الذي يعبر به عن المحدث، فالعقل لا حكم له إلا في المعاني لا العبارات، ولا يجري ذلك إلا فيما طريقه النفي إذ لا يحصره ضبط وربما ضبط بأن يقول: أنفي عنه ما يؤدي إلى حدوثه أو حدوث معناه فيه أو التشبيه بخلقه، أو تكذيبه في خبره أو تجويزه في فعله، فكل ذلك لا يتوقف على السمع وكذلك كل صفة تعلم بالعقل ككونه حيا عالما وغيرها من الصفات الذاتية، أو لم يخل العقل عن توقف ووحي، وإذا كان آدم صلى الله عليه وسلم قد نبي= بالأسماء فالعقول قاصرة لا تستقل بذواتها في إدراك صانعها على التفصيل حتى يمدها الله بنوره على ألسنة الرسل. ص: وأن المرء يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، خوفا من سوء الخاتمة والعياذ بالله لا شكا في الحال. ش: في الاستثناء في الإيمان مذاهب:

أحدها: عدم الجواز وهو رأي أبي حنيفة جماعة لأنه شك، والشك في الإيمان كفر. والثاني: الوجوب نظرا إلى الموافاة وهي مجهولة. والثالث: الجواز وهو قول أكثر السلف وحكي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وعليه الشافعية والمالكية والحنابلة والأشعري وأصحاب الحديث كسفيان الثوري وأحمد واحتج له بقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله)) وقال في الميت: ((وعليه يبعث إن شاء الله)). وفي المسألة: مذهب آخر: وهو التفصيل بين الإيمان والإسلام يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، ولا يقول أنا مسلم ويستثني، حكاه محمد بن نصر المروزي في كتاب (تعظيم قدر الصلاة) عن أحمد بن حنبل وهو غريب، وعجب من أبي

حنيفة في إنكارها فإنها صحت عن ابن مسعود وهو شيخ شيخه، وقال بها الماتريدي من الحنفية، والكل متفقون على أن ذلك ليس معنى الشك والتردد في الماضي ولا فيما هو راجع إلى الآن، ولا في المستقبل بالنسبة إلى العقد والتصميم وذكروا له محامل. أحدها: تزكية النفس والإيمان على صفات المدح، والاستثناء مضعف لها. الثاني: التبرك بذكر الله تعالى وإن لم يكن مشكوكا فيه، كقوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)). الثالث: أن المشيئة راجعة إلى كمال الإيمان فإنه يكون قد أخل ببعضه فيستثني لذلك. الرابع: أنها راجعة إلى ما يقع من الأعمال إذا جعلنا الأعمال من الإيمان، وهو قريب مما قبله فالإيمان مجزوم به والترديد في الأعمال، وتوقف والد المصنف في هذا فقال: ولك أن تقول دخول الأعمال عندهم في كماله لا في أصله وليس من شرط اسم الفاعل كماله إلا أن يقال حشو إكمال إيهام الإيمان أو أن اسم الفاعل

يقتضي زيادة ثبوت ودوام على أصل الفعل. الخامس: أنها ترجع إلى حسن الخاتمة والموافاة، لأنها الأصل الذي عليه التعويل كما أن الصائم لا يصح عليه الحكم بالصوم إلا إلى آخر النهار، فلو طرأ المفطر في أثنائه لم يكن صائما، وهو معنى ما روي عن ابن مسعود لما قيل له: إن فلانا يقول: أنا مؤمن ولا يستثني فقال: (قولوا له: أهو في الجنة؟ فقال: الله أعلم، فقال: هلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية) وكان أخو المصنف الشيخ بهاء الدين رحمهما الله يقول: إن حقيقة أنا مؤمن، هو جواب الشرط أو دليل الجواب، وكل منهما لا بد أن يكون مستقبلا، فمعناه أنا مؤمن في المستقبل إن شاء الله، وحينئذ فلا حاجة إلى تأويل ذلك بل تعليقه واضح مأمور به بقوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} وهذا قد يعكر عليه أنه مأمور به في المستقبل بالعقد والتصميم والتعليق ينافيه (122/ك) ويحصل من هذا كله أن النزاع في هذه المسألة لفظي لاتفاقهم على أن أمر الخاتمة مجهول وأن الاعتقاد الحاضر يضره أدنى تردد، وأن الانتفاع به مشروط بالموافاة عليه، فلم يبق إلا أنه هل يسمى إيمانا وذلك أمر لفظي، وجعل أبو الليث السمرقندي في كتاب (البستان)

المنع منه أمرا صناعيا، وهو أن الاستثناء يستعمل للاستقبال ولا يستعمل للماضي ولا للحال، فلا يصح أن يقال: هذا ثواب إن شاء الله تعالى، فلا يصلح: أنا مؤمن إن شاء الله وعزى جماعة هذا إلى غيره من الطاعات فكانوا يقولون: صليت إن شاء الله بمعنى القبول، بل صاروا يستثنون في كل شيء. واعلم أن المصنف اقتصر من المحامل على الخامس، وقد يعكر عليه قول الحليمي: إن المؤمن لا ينبغي أن يمتنع من تسمية نفسه مؤمنا في الحال لما يخشاه من سوء العاقبة نعوذ بالله منه، لأن ذلك لا يقلب الموجود من الإيمان معدوما، وإنما يحبط أجره فالردة الطارئة والعياذ بالله لا ترفع الإيمان السابق، بل تقطعه من حين وجودها وتحبط أجر ما مضى لا عينه، يعني بدليل أنه لو عاد إلى الإسلام لا يلزمه قضاء ما فعله قبل الردة، وإنما حسن الاستثناء إذا قال: أنا مؤمن وأعيش مؤمنا وأموت مؤمنا وعليه يحمل قول ابن مسعود: قل: إني في الجنة، فإنه الذي يعلم كونه في الجنة لا من كان مؤمنا ساعة أو يوما أو سنة في عمره. فائدة: عن سفيان الثوري لا يجوز لأحد أن يقول: أنا مؤمن في علم الله لأن علم الله لا يتغير وقد يتبدل حال الإنسان فيصبح مؤمنا ويمسي كافرا وبالعكس، قال المحب الطبري: وفي إطلاق هذا نظر، فإن من قال: أنا في علم الله الآن مؤمن وهو يعلم من نفسه الإيمان، فهو محق وعلم الله متعلق بالمعلوم على ما هو به في كل وقت بحسبه ولا يتغير ولا يتبدل، ولا يقال: علمه في الوقت الثاني بعدم إيمانه فيه محدث، لأن علمه الثاني غير الأول، لأنا نقول: علمه قديم بالمكان في الوقتين على اختلاف صفته وإنما تعلقه بالمعلوم فيها محدث، فالتعلق قديم والمتعلق والمتعلق حادثان ومثله قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} أي

تنزيله محدث والذكر قديم ولا يجوز أن يقطع في حق أحد بجنة إلا في حق الأنبياء ومن شهد له الرسول بها، لأن خبره حق. ص: وأن ملاذ الكافر استدراج. ش: هل لله تعالى على الكافر نعمة؟ اختلف فيه على مذاهب: أحدها: نعم لقوله حكاية عن قوم هود: {فاذكروا آلاء الله}، {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها}. والثاني: لا وإنما أعطوه من متاع الدنيا استدراجا لا نعمة، فهو كالعسل المسموم ونسب للأشعري. والثالث: إثبات الدنيوية دون الدينية. قال القاضي أبو يعلى في (المعتمد): إنه ظاهر كلام أصحابهم وقال الآمدي في (الأبكار): لا نعلم خلافا بين أصحابنا أن الله تعالى ليس له على من علم إصراره على الكفر نعمة دينية، وأما النعمة الدنيوية فاختلفوا فيها وللأشعري قولان، وميل القاضي أبو بكر إلى الإثبات، وأجمعت المعتزلة على أن لله على الكافر النعمة الدينية والدنيوية، ثم أشار إلى أن الخلاف لفظي، فإن من نفى النعم مطلقا لا ينكر الملاذ في الدنيا وتحقيق أسباب الهداية، غير أنه لا يسميها نعما لما يعقبها من الهلاك، ومن أثبت كونها نعما لا ينازع في تعقيب الهلاك لها، غير أنه سماها نعما للصورة. قلت: وهو كما قال، ويرجع إلى تفسير النعمة بماذا هل هي مجرد الملاذ والتنعم؟. فعلى الكافر نعم عظيمة أو التنعم مع سلامة العاقبة فيه فلا نعم عليهم، بل

هي نقمة، والأول أقوى في النظر، لأن الله تعالى سماها نعمة وآلاء بقوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} ثم قال: {إن الإنسان لظلوم كفار} دل على أن نعمه على القبيلين، وإن كان إحداهما في الحقيقة استدراج كما قال تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع له في الخيرات بل لا يشعرون} {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} والاستدراج ضرب من ضروب القدر بل بحر من بحاره غرق فيها الخلق إلا من تداركه الله فأنقذه منه أو حفظه ابتداء عنه، ولقد أحسن أبو العباس السياري فيما حكاه القشيرى في (الرسالة): قال عطاؤه على نوعين: كرامة واستدراج، فما أبقاه عليك فهو كرامة، وما زاله عنك فهو استدراج، فقل: أنا مؤمن إن شاء الله، ومنه يظهر مناسبة ذكر المصنف هذه المسألة عقب ما قبلها. ص: وأن المشار إليه بأنا الهيكل المخصوص. ش: في حقيقة النفس الإنسانية، والمراد به ما يشير إليه كل أحد بقوله (أنا) اختلفوا فيه فذهب كثير من المتكلمين إلى أنه الهيكل المخصوص وقال صاحب (المطالب) إنه قول جمهور الخلق والمختار عند أكثر المتكلمين، لأن كل عاقل إذا قيل له: ما الإنسان وما حقيقته فإنه يشير إلى هذه البنية المخصوصة، ولأن الخطاب متوجه إليها، والثواب والعقاب والمدح والذم متوجهان إليها ولو أن أحدا قال: إنما المأمور

والمنهي والمنهي غيرهما لأنكره العقل، وضعفه صاحب (الصحائف) بأن الإنسان باق من أول عمره إلى آخره، والهيكل دائما في التبدل والتحلل خارجا داخلا، وقال صاحب (التحرير): إذا تأملت حق التأمل وجدت إشارتك إلى ذاتك بقولك: أنا مفهوم غير مفهوم قولك: هو، وأنت عند قولك أنا تشير إلى ذاتك فإذا أشرت إلى كل واحد من أعضائك وأجزاء بدنك فإنما تقول هو هذه الأشياء منفصلة خارجة عما هو أنا، فليست أنا ولا جزء أنا، إذ ليس أنا عبارة عن مجموع الهويات لجواز أن تكون حقيقة الأجزاء غير حقيقة الجملة، فإذا إشارتك بأنا تقتضي أن تكون شيئا غير جسدك وغير كل واحد من أجزائه وتوابعه وذلك الغير يسمى نفسا وقال أبو المظفر الإسفراييني في كتاب (التوجيه): اعلم أن الإنسان هو هذه الجملة المصورة والأعضاء المركبة أعلى الهيئة المخصوصة، والاسم راجع إلى هذه الجملة يطلق عليها سواء فيه القليل والكثير والذكر والأنثى، فإن كان ناقصا بعضو أو أكثر انطلقت (123/ك) عليه التسمية كتعريف الجنس مع التقييد بما يدل على النقص، والتكليف يتوجه إلى الجملة، لا يدخل فيه العقل والروح الحياة، وكذلك الثواب والعقاب يرجع إلى هذه الجملة لا إلى شيء مما قام به من الأعراض كالعلم والعقل والحياة ولو قطعت يد الكافر ثم أسلم ومات على إيمانه وصل إليه يده وأثاب الجملة على طاعاته، وكذا في الردة وقال غيره: اختلف الناس في الإنسان هل هو اسم لمجموع النفس والبدن كما أن الكلام اسم لمجموع اللفظ والمعنى، أو لمخصوص اللفظية المودعة فيه وهي الروح أو

النفس؟ على قولين، والثاني حكاه الأشعري في المقالات عن بعض المعتزلة والمشهور في عرف القرآن واللغة الأول، قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} والمخلوق من الطين إنما هو البدن، وقال الآمدي في (الأبكار): اختلفوا في معنى النفس الإنسانية هل هي عرض أو جوهر والقائلون بالأول اختلفوا فمنهم من قال لأنها عرض خاص من الأعراض ولم يعينه، وهو مذهب جمع من المتكلمين ونصره إلكيا الهراسي، ومن قدماء الفلاسفة من قال: إنها المزاج الخاص بأبدان نوع الإنسان، ولهذا يقولون: باختلاف ذلك المزاج، وقيل: من جملة القوى الفعالة في الأجسام وقيل هي: صفة الحياة، ومنهم من قال: عبارة عن الشكل الخاص والتخطيط والقائلون بأنها جوهر اختلفوا فقيل: مركب فيكون جسما، وقيل: بسيط لا تركيب فيه والقائلون بالجسم اختلفوا فقيل: إنها جسم في داخل هذه الجثة، ثم اختلفوا فقيل: مركب من العناصر وقيل: إنها الدم لأنها أشرف أخلاط البدن، وقال الأطباء: النفس هي الروح وهو جسم لطيف بخاري ناشئ عن تجويف الأيسر من القلب

فيثب في جميع القلب وهو منبع الحياة والنفس والبصره= ومال القاضي أبو بكر إليه، والقائلون بالجوهر البسيط اختلفوا فقيل: جوهر معقول غير متحيز مجرد عن المادة دون علائقها وهو مذهب فحول الفلاسفة وقيل: جوهر فرد متحيز واختاره الغزالي. قلت: الذي حكاه الإمام في (المطالب العالية) عن الغزالي أن الإنسان عبارة عن جوهر مجرد ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز، وقال: إنه قول أكثر المحققين من الصوفية وحكاه في موضع آخر عن الحليمي والراغب واختاره البيضاوي في (الطوالع) وقال ابن القشيري: قال الأستاذ أبو إسحاق: الروح عرض وهي الحياة وظاهر كلام الأشعري أنه جسم لطيف وهو الأظهر عند الأئمة وجاءت به الأحاديث وفي الصحيح: ((أرواح الشهداء في حواصل طير خضر)) وقد سبق عند قوله: يجب الإمساك عنها أقوال أخر، وأعجب من المصنف في شيئين: أحدهما: اقتصاره على إيراد قول الهيكل مع أن بعضهم قال: إنه مسمى على إنكار النفوس بعد المفارقة وهو قول ضعيف سبق من المصنف الجزم بخلافه وقد سئل المصنف عن الجمع بين المسألتين فقال: لا ارتباط بينهما حتى يسأل عن الجمع بينهما، وفيه نظر فإن القائل: بأن النفس المشار إليه إنما هو الهيكل إذا كان حيا

وبزوال الحياة يزول التركيب كما سبق عن الآمدي في حكاية هذا المذهب، وكذا حكاه غيره. والثاني: أنه سبق منه اختيار الإمساك عن الكلام وفي الروح فكيف تكلم عليها هنا؟ وانفصل المصنف عن هذا بأنهما مسألتان: إحداهما: في حقيقة الروح هل هي عرض أو جوهر أو غير ذلك؟ من الأقوال وهو موضع ما سكت عنه. والثانية: أن المشار إليه بأنا هل هو هذه الجثة أو الروح؟ فمن قال الروح الجثة فلا إشكال عنده، وأما من لم يقل بأنها الجثة بل المشار إليه بأنا الجسد إذا كانت النفس قائمة بها لتخرج جثة الميت، ولا يخفى ما فيه من التعسف مع خروجه عن طريقة الناس في حكاية هذا المذهب، وقد أورد الإمام في (المطالب) سؤالا هو أن أعرف المعارف العلم المشار إليه بقوله: أنا، وهو نفسه المعينة وذواته المخصوصة فكيف وقع فيه هذا الخلاف الكبير؟ قال: وقد رأيت في الرسالة المسماة (بالتفاحة الجارية) من أرسطاطاليس عند موته فقيل له: كيف يعقل أن يسأل الإنسان غيره عن حال نفسه فأجاب الحكيم بأنه مثل سؤال المريض الطبيب عن دائه والأعمى عن لونه ثم أجاب الإمام: بأن العلم بوجود النفس من حيث إنها شيء غير العلم بأنها ما هي على التفصيل والأول غني عن التعريف بخلاف الثاني.

(ص) وأن الجوهر الفرد وهو الجزء الذي لا يتجزأ ثابت. (ش) ذهب أهل الحق إلى أن الجسم مركب من أجزاء لا تتجزأ بالفعل ولا بالوهم، وتسمى تلك الأجزاء جواهر مفردة، والجسم مؤلف من تلك الجواهر، ولا يقبل الانقسام إلى غير نهاية لا تقطعا لصغره ولا كسرا لصلابته، ولا وهما للعجز عن تمييز طرف منه، ولا فرض لاستلزام خلاف المقدور وخالف ذلك معظم الفلاسفة والنظام والكندي من المعتزلة: وقالوا: الجوهر المتحيز وإن انتهى إلى حد لا يقبل القمة بالفعل فلا بد أن يكون قابلا لها في الوهم والتعقل وهو مذهب فاسد، لأنه يؤدي إلى وجود اتصالات لا نهاية لها ويؤدي إلى أن يكون أجزاء الخردلة مساوية لأجزاء الجبل، لأن كل واحد منهما لا يتناهى ويؤدي إلى أن ما نهاية له أعظم مما لا نهاية له، وذلك محال، وقولهم: إن المدرك له الوهم لا يعقل فإن الوهم لا يدرك الأشياء التي لا تدرك بالحواس على ما هي عليه، والجوهر يدرك بدليل العقل دون الحس لأنه بلغ من صغره إلى أن فات الحس، فلهذا لا يحكم عليه الوهم إلا بحكم ما شاهده من المحسوسات وذلك كحكمه على الواحد الحق الذي لا جهة (124/ك) له في قضية العقل بأنه لا بد أن يكون له لون ومقدار ومكان وقرب وبعد ووضع إلى ما سوى ذلك من سائر عوارض الأجسام التي ألفها وأنس بها فيحكم على ما لم يشاهده بحكم ما شاهده فيها، والتخلص من غلط الوهم عزيز يختص به الآحاد، فهذا وجه الغلط في هذه المسألة وهو أن الوهم يحكم على الجوهر الفرد بحكم الجسم

في قبول القسمة ويفضي بأنه قابل للانقسام إلى غير نهاية، والعقل يحكم بإحالته لقيام الدليل على ذلك، وقال المقترح: اختلف العقلاء في إثبات موجود في نفسه متميز لا يقبل القسمة فالذي ذهب إليه أكثر المسلمين من أهل السنة والاعتزال إلى إثباته، وذهب النظام إلى أن الجسم ينقسم إلى أجزاء لا نهاية لها وذهب الفلاسفة إلى أن الجسم لا أجزاء فيه بالعقل وإنما الأجزاء فيه بالقوة، بمعنى أنه يستبعد لأن ينقسم لا أن فيه تجزئة في الحال وفي المسألة مذهب آخر وهو الوقف قال فخر الدين الرازي وهو قضية كلام إمام الحرمين قال المقترح: وهو المختار، فإن الوجود المعروف لم يفهم حقيقته فيحكم عليه باعتبارها وليس فيما علمنا متوقفا عليه، فتعذر العلم به بخلاف ما يقول في الصانع فإنه وإن لم تعلم حقيقته إلا أن ما علمناه متوقفا وجوده عليه يستند العلم بوجوده إليه. فإن قيل: وأي فائدة في إثبات الفرد وما القصد بهذه المسألة؟ فالجواب: أنه من مقدمات حدوث العالم فإن الجسم إذا ثبت أنه مركب من أجزاء مفردة استحال خلوه عن الألوان التي هي عبارة عن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وهي معان حادثة فيرتب عليه أن ما لا يخلو من الألوان الحادثة لا يسبقها، وما لا يسبق الحادث فهو حادث أو يؤدي إلى ما لا أول له من الحوادث وهو محال، وهي طريقة أئمتنا في إثبات حدوث العالم إذا بسطت وحققت والقصد بهذه المسألة حصر العالم في الجواهر والأعراض وزعمت الفلاسفة: أن

الموجودات الممكنة لا تنحصر في الأجرام والقائم بها لكن الجوهر عندهم عبارة عن موجود لا في موضوع، والموضوع هو المتقدم بنفسه ولا يتقدم بما حل فيه، وقال الإمام في (المطالب): وأما الثالث من أقسام الموجودات وهو الموجود الذي لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز فقد ثبت بالدلائل النقلية أن الله تعالى كذلك، وهل حصل في الممكنات موجود هذا شأنه أم لا؟ فالحكماء أثبتوه والمتكلمون أنكروه وليس من المتكلمين ما يدل على فساد هذا القسم ودليلهم، على حدوث العالم إنما يتناول المتحيزات والأعراض القائمة بها ولا يتناول هذا الثالث، فعلى هذا دعواهم أن كل ما سوى الله تعالى محدث إنما يتم بإبطال هذا الثالث، أو بذكر دليل يدل على حدوث هذا الثالث بتقدير ثبوته وإن لم يذكروا شيئا في هذين المقامين فيبقى كلامه ناقصا، وقال في موضع آخر القائلون بإثبات الجسم الذي لا يتجزأ يتفرع عليه فروع: الأول: اختلفوا في أنه هل يعقل وقوع الجزء الواحد على الجزأين فأباه الجبائي والأشعري وجوزه أبو هاشم والقاضي عبد الجبار. الثاني: أن الجوهر الفرد هل له شكل أم لا؟ فأباه الأشعري. وأما أكثر المعتزلة فأثبتوا له شكلا، ثم اختلفوا فقيل: إنه أشبه بالمثلث والأكثرون أنه أشبه بالمربع، والحق أنهم شبهوه بالمكعب، لأنهم أثبتوا له جوانب ستة، وزعموا أنه يمكن أن يتصل به جواهر ستة من جوانب ستة وهذا يوجب أن يكون شكله المكعب. الثالث: أن الجوهر الواحد له حظ من الطول العرض؟ فأنكره الكل إلا أبو الحسين الصالحي من قدماء المعتزلة فإنه زعم أنه لا بد من أن يحصل له قدر من الطول والعرض والعمق.

الرابع: أن الجوهر الفرد هل يقبل الحياة وسائر الأعراض المشروطة بالحياة كالعلم والقدرة والإرداة فالأشعري وجماعة من المعتزلة قالوا به، والمتأخرون من المعتزلة أنكروه وهذه هي المسألة المشهورة فى علم الكلام بأن البنية هل هي شرط للحياة وللأعراض المشروطة بالحياة أم لا؟ الخامس: أن الخط المؤلف من الأجزاء التي لا تتجزأ، هل يمكن جعله دائرة أم لا؟ أما الأشعري فقد أنكره في كتاب (النوادر) وجوزه إمام الحرمين في (الشامل). السادس: كل من أثبت الجوهر الفرد زعم أن حجر الرحى يتفكك عند الاستدارة ثم ذكر الإمام أنه صنف رسالة مفردة في مسألة الجوهر الفرد. فائدة: قال بعضهم جرت العادة بأن الجوهر الفرد لا نراه، ولا نرى لونه إلا مع انضمامه إلى غيره ولا ينضبط أقل عدد المرئي فيها حتى لو نقص من ذلك العدد شيء لم ير ولكن يجوز رؤية الجوهر الفرد من غير ائتلاف إذا انخرقت العادة. (ص) وإنه لا حال أي لا واسطة بين الموجود والمعدوم خلافا للقاضي وإمام الحرمين. (ش) الجمهور على أنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، وأثبت المعتزلة واسطة وسموها بالحال، وقسموا الغائب إلى الموجود والمعدوم، والحال عرفوها بأنها: صفة لموجود لا يوصف بوجود ولا عدم، ووافقهم القاضي أبو بكر وإمام الحرمين في أحد قوليهما، وقالا: كل

صفة قامت بالذات فإنها توجب لها حالا، سواء إن كانت مشروطة بالحياة أو لا، فالمكانية معللة بالكون، وكذلك الأسودية والعالمية، وقد حكى الآمدي عن القاضي القولين، وأما أمام الحرمين فرجع عن ذلك فقال في كتابه المسمى (بالمدارك): اخترنا في (الشامل) المشي على أساليب الكلام في القطع بإثبات الأحوال ونحن نقطع بنفيها فإطلاق المصنف النقل عنهما ليس بجيد، وذهب الأستاذ أبو إسحاق وابن دهان متكلم الأندلس إلى نفي المعنوية منها والوقف في النسبية، وجمع بعض الأئمة بين قولي النافي والمثبت بأنها ليست موجودة في الأعيان، ولا معدومة في الأذهان (125/ك) أي لا بد من تعلق العلم بها، وهي عند مثبتها تنقسم إلى نسبية ومعنوية، والذي يظهر من كلام الأستاذ أن قوله بالنفي يختص بالمعنوية دون صفات النفس الموجودات، لأن أكثر دلائله مبني عليها، وسماها وجوها واعتبارات ولا مشاحة في التسمية، ومثلها إمام الحرمين في (الإرشاد) بكون الوجود عرضا لونا سوادا وهذا بين إثباتها لأن معقولية كون هذا الوجود عرضا ليست معقولية كونه لونا، وإلا لكان كل عرض لونا، وليس كذلك، ومنهم من قال: ليست معقولية ولا مجهولية ومنهم من قال: ليست بمطلوبة فقط، قال الأستاذ: وجرى هذا الفصل مع مقدم لهم يعنى يقولوا: إنها لا تعلم، فقلت: إذ لم تكن الأحوال معلومة

فقد تخصص ما أوجب العالم بها أوجب القادر، وما أوجب القادر بما أوجب العاجز، وغير ذلك يداخل المختلفات والمتضادات، وهذا من كلامه يدل على إثبات الأحوال النفسية منها، وقال القاضي أبو يعلى في (المعتمد): الأحوال ليست بأشياء موجودة بل هي حكم الأشياء، قال: ويصح العلم أو يتعلق بالأحوال مفردة وبالذوات مفرده، ويصح أن يجعل الأحوال من عرف الذوات خلافا لابن الجبائي في قوله: إن الأحوال ليست بمعلولة ولا مجهولة بل تعلم الذوات عليها، ولنا أن الواحد منا يعلم ذات الشيء أو لا ولا يعلم مع ذلك ما هي عليه من الأحوال التي تختص بها إلا بنظر آخر انتهى. والقصد بهذه المسألة أن أصحابنا لما تكلموا مع المعتزلة في صفات الله تعالى، احتجوا عليهم في إثباتها باعتبار الغائب بالمشاهد، وقدروا ذلك بطرق منها إثبات الأحوال، ولا شك أن الأعراض القائمة بالذات توجب لمحالها أحوالا بأن العلم يقتضي لجملة البدن حالا، وهو العالمية، والقدرة حالا وهي القادرية، وكذا باقي الصفات، ومعنى قولهم إن الأحوال لا توصف بالوجود ولا بالعدم أنها غير موجودة في الأعيان، ولولا معدومة في الأذهان، واحتج مثبتها بالأدلة القائمة على ثبوت الأعراض عند نفاة الأحوال والعجب منهم كيف صرحوا بأنها غير موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، ثم استدلوا عليها، وغاية الاستدلال إثبات العلم بوجود شيء أو عدمه، فما لا وجود له ولا عدم كيف يستدل عليها؟ إذ لا يمكن تعلق العلم به. واحتج فخر الدين على نفيها بأن تلك الواسطة إن كان لها ثبوت بوجه ما، كانت موجودة وإن لم تكن فمعدومة وأشار في (الطوالع) إلى أن البحث لفظي يرجع إلى تفسير الحال، فعلى تفسيرهم تثبت الواسطة، فقال: لنا: أن التصور إما أن يتحقق بوجوب وهو الوجود أو لا وهو العدم، فإن غيروا التفسير فالبحث لفظي، وقال

الغزالي في أوائل (المستصفى): هذه المعاني المطلقات المجردات الشاملة لأمور مختلفة كالفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت وغيرها هي التي يعبر عنه المتكلمون بالأحوال والوجوه والأحكام، ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان، وتارة يعبرون عنها بأنها غير موجودة من خارج بل من داخل، يعنون خارج الذهن وداخله، ويقول أرباب الأحوال إنها أمور ثابتة ثم تارة يقولون إنها موجودة معلومة وتارة يقولون: لا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة، وقد دارت فيه رؤوسهم وحارت فيه عقولهم، والعجب أنه أول منزل ينفصل فيه المعقول عن المحسوس إذ من ههنا يأخذ العقل الإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك التخيل البهيمي فيه التخيل الإنساني، ومن تحير في أول منزل من منازل العقول كيف يرجئ= فلا حاجة في تصرفاته. (ص) وأن النسب والإضافات أمور اعتبارية لا وجودية. (ش) الأمور النسبية وهي المفهومات التي تعلقها بالنسبة إلى المعنى، وهي سبع في المشهور: الإضافة والأين ومتى والوضع والملك والأفعال والانفعال واختلفوا فيها فقالت الفلاسفة: إنها وجودية، وذهب أكثر المتكلمين إلى أنها عدمية لا وجود لها في الخارج واستثنوا الأين كما قاله في (الطوالع) وغيره وهو حصول الجسم في

المكان فإنهم يسمونه الكون، ويقولون بوجوده في الخارج فكان حق المصنف أن يستثنيه. واحتج المتكلمون: أنها لو كانت موجودة لوجدت في محلها وذلك إضافة أخرى عارضة لها فيحتاج هو أيضا إلى محل آخر، ويتسلسل. واحتج الحكماء بأن كون السماء فوق أمر حاصل في نفس الأمر، سواء وجدت الأرض والأغيار أم لا، وليس عدميا لصدق نقيضه على المعدومات وعارضهم المتكلمون بأنها لو كانت وجودية لما وجدت وإلا لزم تقديمها على نفسها، وقال صاحب (الصحائف): الحق أن بعضها عدمي كالمنافي فإنه لا يجتمع مع الآخر وبعضها وجودي كالمنع فإنه عبارة عن شيء موجود عند كون الآخر موجودا. (ص) وأن العرض لا يقوم بالعرض. (ش) العرض: هو ما لا يقوم بنفسه بل يفتقر في وجوده إلى محل يقوم به كالحركة والسكون والبياض والسواد. واختلف هل يقوم بالعرض؟ وأهل الحق على استحالته لأن العرض لا يقوم بنفسه بل يحتاج إلى محل يقوم به كالجسم، فلو قام العرض بعرض لكان المحل جواهر فيلزم أن يكون عرضا لا عرضا ولا جسما لا جسما وهو محال، ولأنه لو قام به للزم حصوله على حيز العرض الذي هو محله تبعا لحصوله، وحيزه هو الجوهر فهما حاصلان في حيز الجوهر تبعا لحصوله فيه، فهما قائمان وإن كان قيام أحدهما به مشروطا بقيام الآخر كما في الأعراض المشروطة بالحياة وصارت الفلاسفة إلى جوازه

واختاره الإمام في (المحصل) وصاحب (الصحائف) لأن السرعة والبطء عرضان قائمان بالحركة وليسا قائمين بالجسم، إذ يقال: جسم بطيء في حركته، ولا يقال: جسم بطيء في جسميته، وكذلك لون كثيف ورقيق، فالكثافة والرقة أعراض قامت باللون. وأجاب المانعون بأن السرعة والبطء قائمان بالمتحرك بواسطة الحركة لا نفس الحركة، والحاصل أن هذه الأعراض (126/ك) إنما قامت بالجواهر بواسطة الأعراض فحاصل الأمر أن الأعراض لا تقوم بالجواهر، نعم تارة بلا وساطة كالحركة وتارة بواسطة كالسرعة قامت بالجواهر بواسطة الحركة، ويمنع كون البطء صفة للحركة، وإنما هو عبارة عن تحلل السكنات، وكذلك السرعة عبارة عن عدم التحلل، فرجع حاصله إلى أن الجسم يسكن في بعض الأحيان ويتحرك في بعضها، فيكون ذلك صفة للجسم لا للحركة، ويقولون: أيضا إن ما ذكره الخصوم لا يتأتى على مذهبهم أيضا لجواز أن تكون طبقات الحركات أنواعا مختلفة وليس ثم إلا الحركة المخصوصة، وأما السرعة والبطء فمن الأمور النسبية، ولذلك تكون بطيئة بالنسبة إلى حركة الإنسان مثلا سريعة بالنسبة إلى أخرى كالفرس. واعلم أن الفلاسفة إنما قالوا بقيام الأعراض بأنفسها وانتقالها عن محل إلى آخر، لأن المتكلمين استدلوا على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو عن الحركة والسكون، وأنهما عارضان حادثان وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث، فقالوا لهم: لا نسلم حدوث الحركة والسكون ولم لا يجوز أن يكونا قبل هذه الأقسام قديمين،

إما قائمان بأنفسهما أو كانا قائمين بمحل آخر، ثم بعد ذلك انفصل إلى هذه الأجسام المنفية، لم قلتم: إنه ليس كذلك لا بد له من دليل. (ص) ولا يبقى زمانين. (ش) هذه المسألة مبنية على التي قبلها فلهذا عقبها بها، واتفقت الأشاعرة على أن الأعراض غير باقية بل هي على النقض والتجدد وأن الله تعالى قادر على خلق كل واحدة من آحادها أي وقت شاء من غير تخصيص بوقت قال الغزالي في (تهافت الفلاسفة): ذهبت الأشعرية إلى أن الأعراض تفنى بأنفسها ولا يتصور بقاؤها وأما الجواهر فليست باقية بأنفسها ولكنها باقية ببقاء زائد على وجودها، فإذا لم يخلق الله سبحانه البقاء انعدم العدم المبقي، ومنهم من قال: باقية بأن لا يخلق الله فيها حركة ولا سكونا فيعدم لاستحالة ذلك، وذهبت الفلاسفة: إلى بقاء جميع الأعراض دون الأزمنة والحركات، وذهب الجبائي وابنه إلى بقاء الألون والطعوم والروائح دون العلوم والإرادات والأصوات، والقائلون ببقائه قالوا: لا يكون له بقاء كبقاء الجواهر، واحتج أصحابنا بأن البقاء عرض فلو بقي العرض لزم قيام العرض بالعرض، ولأنه لو صح بقاء العرض لامتنع فناؤه وزيفه الغزالي وقال: إنه فاسد

لما فيه من مناكرة المحسوس، فإن السواد لا يبقى والبياض كذلك، وأنه متجدد الوجود والعقل ينبئ عن هذا كما ينبئ عن قول القائل: إن الجسم متجدد الوجود في كل حالة، والعقل القاضي بأن الشعر الذي على رأس الإنسان في يومه هو الشعر الذي كان بالأمس لا مثله، يقضي أيضا في سواد الشعر، قال: وكأنهم توافقوا على أن الإعدام ليس بفعل، وإنما هو كف عن الفعل لما لم يعقلوا كون العدم فعلا ولهذا اختار الإمام والبيضاوي إمكان بقائه، لأنها كانت جائزة الوجود في الزمن الأول فكذا في جميع الأزمنة. وأجاب الجمهور بأنه لا نزاع في إمكان وجودها في جميع الأزمنة، بل في بقائها وهو استمرارها على أنها موجودة في الزمن الثاني متصلة بالوجود الأول، ثم هو منقوض بالأصوات والحركات فإنه يمتنع بقاؤها بالاتفاق، وما المانع من أن الله يخلق الأعراض متوالية على توالي الأزمان بلا فترة بينهما فتتابع حتى يظنها الناظر لها باقية وهي بالحقيقة متجددة، وقد صنف الإمام أبو الحجاج يوسف الأزدي جزءا أسماه (بيان الغرض في إحالة بقاء العرض). تنبيه: الغرض من هذه المسألة نفي قدم العالم، والفلاسفة جعلوها إحدى مقدماتهم على عدم حدوثه، ولما رأى أصحابنا ذلك لازما نفوه، لأنه إذا ثبت أنه لا يبقى زمانين تبين أن العالم لا يستقل بنفسه زمانا واحدا، بل يفتقر إلى الله سبحانه وتعالى على مرور الأزمان، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} فالجوهر مفتقر إلى الفاعل في إيجاده ثم يفتقر إليه في إبقائه وإمداده بأعراضه، بأن يوالي عليه صفاته التي يحتاج إليها في استمرار وجوده، فلو كان

العرض باقيا لما افتقر الجوهر إلى الفاعل، إذ هو موجود ولا حاجة به إلى فاعل يفعله وصفاته، فلو ثبتت وبقيت فلا حاجة بها إلى فاعل، واللازم باطل وليس بقاء الجوهر في ثان زمان حدوثه بأولى من عدمه، لولا الفعل المخصص فانظر إلى هذه الدسيسة التي أسست عليها هذه المسألة، واستغفر لمن استخرجها بحقائق المسألة. (ص) ولا يحل محلين. (ش) العرض الواحد لا يحل بمحلين خلافا لأبي هاشم فإنه زعم: أن التأليف عرض واحد حال في محلين، ووافقنا على أنه يستحيل بقاؤه بأكثر من محلين. واحتج الأصحاب بأنه: لو جاز قيام العرض الواحد بمحلين لأمكن حلول الجسم الواحد في مكانين في حالة واحدة وإنه محال. (ص) وأن المثلين لا يجتمعان كالضدين بخلاف الخلافين، وأما النقيضان فلا يجتمعان ولا يرتفعان. (ش) المعلومات تنحصر في أربعة أقسام: الأول: مثلان وهما اللذان لا يجتمعان ويمكن ارتفاعهما مع التساوي في الحقيقة كالبياض والبياض، واحتج أصحابنا على أن المثلين لا يجتمعان: بأن المحل

لو قبل المثلين لزم أن يقبل الضدين، بيانه أن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن مثله أو ضده، فلو قبل المثلين لجاز وجود أحدهما في المحل وانتفاء الآخر، فيخلفه ضده فيجتمع الضدان، وهو محال. الثاني: الضدان وهما اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان وإليه أشار بقوله: (كالضدين) وهذا التعريف مدخول بالجوهرين فإنهما لا يجتمعان أي لا يكون أحدهما لجنب الآخر، قد يرتفعان وقيل: هما الشيئان اللذان لا يجتمعان على موضوع واحد وبينهما غاية الخلاف فإن قيل: الحركة والسكون والموت والحياة ضدان ولا يمكن ارتفاعهما عن الحيوان قلنا: إمكان الارتفاع أعم من إمكان الارتفاع مع بقاء المحل فنحن نقول يمكن ارتفاعهما من حيث الجملة وهما ممكنا الرفع مع ارتفاع المحل فقيل العالم (127/ك) لا متحرك ولا ساكن ولا حي ولا ميت. الثالث: الخلافان وهما اللذان يجتمعان ويرتفعان كالحركة والسكون وقد يتعذر ارتفاعهما لخصوص حقيقة كونهما خلافين، فالعشرة مع الزوجية والخمسة مع الفردية خلافان، ويستحيل ارتفاعها ولا تنافي بين إمكان الارتفاع بالنسبة إلى الذات وتعذره بالنسبة لأمر خارج عنها. الرابع: النقيضان وهما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان كوجود زيد وعدمه, ودليل الحصر أن المعلومين إما أن يمكن اجتماعهما أو لا، فإن أمكن فهما الخلافان وإن لم يمكن فإما أن يمكن ارتفاعها أو لا، والثاني النقيضان والأول لا يخلو إما أن يختلفا في الحقيقة أو لا، والأول الضدان، والثاني المثلان. قال القرافي: وفائدة حصر المعلومات في هذه الأربع حتى لا يخرج منها شيء

إلا ما توحد الله تعالى به وتفرد به فإنه ليس ضد الشيء ولا نقيضا ولا مثلا ولا خلافا لتعذر الرفع، وهذا حكم عام في ذاته وصفاته المقدسة. واعلم أن هذا التقسيم حاصر على رأي أئمتنا جار على إنكار الأحوال ولا يرد عليه المتساويان والمتضايفان والعدم والملكة وغيرها، لأن ذاك تقسيم الحكماء وفيه طول، وهذا تقسيم مشايخ السنة. (ص) وأن أحد طرفي الممكن ليس أولى به. (ش) اختلف في أن أحد طرفي الممكن من الوجود والعدم، هل يكون أولى به من الطرف الآخر؟ فأنكره أكثر المحققين، وقال الباقون: نعم. ثم اختلفوا فقيل: العدم أولى به لذاته، وقيل: إن العدم أولى بالموجودات السيالة لذاتها، وهو الزمان والحركة والصوت وعوارضها، ومنهم من قال: إن الواقع من الطرفين أولى به، وقيل: الوجود أولى عند وجود العلم دون الشرط، والصحيح أن الوجود والعدم بالنسبة إلى ماهية الممكن على السوية والدليل عليه: أنه لو كان أحد الطرفين أولى به فإذا تحقق سبب الطرف الآخر فإن لم تبق تلك الأولوية لا تكون تلك من ذاته، وإن بقيت فإن لم يصر الطرف الآخر أولى به لم يكن السبب سببا، وإن صار فيكون كلا الطرفين أولى لكن الأولى بالذات والثانية بالغير، وما بالذات أقوى، فلو تحقق الطرف الآخر كان ما بالغير أقوى وحينئذ لا يكون السبب سببا، هذا خلف، وقد قيل على هذا: إن الأولوية الطرف الآخر ينتهي إلى الوجوب لكونه مع السبب دون أولوية الأول فيكون

أقوى والغرض من هذه المسألة: إثبات العلم بالصانع وأنه يكفي في وجوده عدم أمر وجودي يقتضي عدمه. (ص) وأن الباقي محتاج إلى السبب وينبني على أن علة احتياج الأثر إلى المؤثر الإمكان أو الحدوث أو هما جزآ علة أو الإمكان بشرط الحدوث وهي أقوال. (ش) اختلف في الممكن حالة بقائه هل يحتاج إلى مؤثر كما يحتاج إليه في ابتداء وجوده؟ لا بمعنى أن المبقي يعطيه حالة البقاء وجودا آخر بل بمعنى أنه يدوم ذلك الوجود لدوام ذلك المؤثر الأول، فالأكثرون على الاحتياج خلافا للفلاسفة والدليل عليه: أن علة الحاجة إلى المؤثر الإمكان كما سنذكره والإمكان من لوازم الممكن وإلا لجاز انفكاكه عن الماهية الممكنة، وجاز أن يصير الموصوف بالإمكان في الجملة واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته، وأنه محال وإذا كان الإمكان للممكن ضروريا لا ينفك، لزم بالضرورة تحقق علة الحاجة إلى المؤثر حال البقاء فيلزم الحاجة إليه في تلك الحالة عملا بالعلة. احتجوا بأنه إن احتاج إليه في وجوده لزم تحصيل الحاصل أو لأمر جديد فمحال وأجيب بأن تأثير المؤثر في بقاء الوجود واستمرار الزمن الثاني، البقاء المحوج إليه، ولا يلزم تحصيل الحاصل، قال بعضهم: ولقائل أن يقول ببقاء الوجود، ولا شك أنه لم يكن حالة الاتحاد حاصلا فالتأثير فيه تأثير في أمر لم يتجدد وهو إبقاء الأثر، فيكون المراد بالتأثير تحصيلا لهذا المعنى، ولو قيل: إن التأثير في وجود متجدد متصل بالوجود الأول، وهكذا لكان متجها إذ هو موجب الاستمرار واتحاد المعلول

وأما إذا فرضنا أن تأثير المؤثر في البقاء يلزم أن يكون الإمكان علة الاحتياج إلى البقاء وهو علة الاحتياج إلى التأثير هذا خلف. قلت: وهذا هو المراد بمذهب الأصحاب كما سبق تحريره من كلام الإمام وغيره، وقوله وينبني أي أن هذا الخلاف مبني على خلاف آخر وهو علة الحاجة إلى المؤثر وفيه أربعة مذاهب: أحدها: أن علة الحاجة إلى المؤثر الإمكان ولا مدخل للحدوث فيها وهو اختيار الإمام، ونقله عن أكثر الأصوليين، ونسبه صاحب (الصحائف) لجمهور المحققين، ووجهه: أنا إذا رفعنا الإمكان عن الوهم نفي الوجوب بالذات أو الامتناع بالذات، وكل منهما يحيل الحاجة إلى المؤثر فدل على أن علة الحاجة ليس غير الإمكان. والثاني: إنها الحدوث، وهو الخروج من العدم إلى الوجود وهو قول باطل لما يلزم عنه مما سنذكره. والثالث: مجموع الإمكان والحدوث فالعلة مركبة منهما. والرابع: أن العلة الإمكان فقط والحدوث شرط والفرق بين الإمكان والحدوث: أن الإمكان عبارة عن كون الشيء في نفسه بحيث لا يمتنع وجوده ولا عدمه امتناعا واجبا ذاتيا، والحدوث عبارة عن كون الوجود مسبوقا بالعدم، وممن ذكر البناء صاحب (الصحائف).

تنبيهات - الأول: الغرض من هذه المسألة أنه وقع للفلاسفة خلاف في تعلق المفعول بالفاعل، وفي علة احتياج الفعل إلى الفاعل، فالمبطلون منهم وقع أوهامهم: أن تعلق المفعول بالفاعل هي من الجهة التي يستمر بها المفعول مفعولا والفاعل فاعلا، وهو كونه أوجد فعلا بعد ما لم يكن موجودا له، ولهذا قالوا: إذا وجد الفعل من الفاعل لم يبق إلى الفاعل حاجة، ومثلوا ذلك ببقاء البناء بعد البناء وربما ارتكبوا أمرا شنيعا في فرضهم المحال، وقالوا: لو جاز عدم الصانع تعالى الله عما يقول الظالمون لما ضر ذلك وجود العالم فإنه قد أخرجه من العدم إلى الوجود وهذا كان احتياجه إليه، وهؤلاء هم القائلون: بأن علة احتياج الفعل إلى الفاعل هي مجرد الحدوث وأما المحققون منهم ومن غيرهم (128/ك) فإنهم ذهبوا إلى تعلق المفعول بالفاعل من حيث كون الفاعل لذاته فاعلا والمفعول لذاته مفعولا، وإذا كان التعلق بمقتضى ذات كل واحد منهما كان على الاتصال ببقاء ذاتيهما، ولذلك ذهبوا إلى علة احتياج الفعل إلى الفاعل هي الإمكان، فإن الفاعل إذا كان فعله لذاته لم يكن احتياج فعله في تحققه إلا إلى كون الشيء ممكنا في ذاته، ولا خلاف بين المتكلمين أن الحوادث اقتضت تعلقا بالمحدث، وإنما الخلاف بينهم في أن علة ذلك الاقتضاء ما هي. الثاني: أن كثيرا من المتكلمين قالوا: إن العلم بوجود الصانع يحصل بطريقين، وهما طريق الجواز وطريق الحدوث، فأوهم هذا الكلام أن ذنيك الطريقين معتبران عند جميع المتكلمين، وليس الأمر كذلك، بل الأمر فيه مبني على الخلاف السابق، فمن يرى أن علة الحاجة إلى المؤثر هي الإمكان يقول بأن الطريق المؤدي إلى العلم بثبوت الصانع هي الحدوث فظهر أنه لا يتأتى لجميع المتكلمين التمسك بكل واحد من هذين الطريقين، كما أوهمه كلام أكثر المصنفين في هذا الشأن، وإنما ذلك على الخلاف السابق، وقد نبه على ذلك شيخنا جمال الدين الإسنوي رحمه الله.

الثالث: أنه ينبني على هذا الأصل أيضا استصحاب الأصل، وهو بقاء ما كان على ما كان، فإن قلنا: الباقي لا يحتاج إلى مؤثر كان الاستصحاب حجة وإن قلنا: يحتاج لم يكن حجة لجواز التغير لعدم المؤثر، ويشكل على المرجح هنا. (ص) والمكان قيل: السطح الباطن للحاوي المماس للسطح الظاهر المحوى، وقيل: بعد موجود ينفذ فيه الجسم، وقيل: بعد مفروض وهو الخلاء. (ش) ذكر المصنف هنا من علم الحكمة البحث عن ثلاثة أشياء: المكان والخلاء والزمان أما المكان: فهو الشيء الذي يكون فيه الشيء ويفارقه بالحركة ولا يسعه معه غيره، وتتوارد المحركات عليه على سبيل البدل، فهذا القدر هو المعلوم بالضرورة ثم اختلفوا في هذا الشيء هل يكون أمرا ينفذ فيه ذات الجسم ويسري فيه أو لا يكون كذلك؟ بل يكون هذا السطح الباطن بين الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، والأول هو القول بأن المكان هو البعد والفضاء وهو مذهب أفلاطون وأكثر العقلاء والثاني هو القول بأنه السطح الحاوي، هذا ما حكاه الإمام في (المطالب) وقال: ليس فيه إلا هذان القولان، إما الفضاء وإما السطح الحاوي فقط وأما الآمدي وغيره وتابعهما المصنف فحكوا فيه أقوالا:

أحدها: أنه السطح الباطن للجسم الحاوي للماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي عليه كالسطح الباطن من الكون المماس للسطح الظاهر من الماء الذي فيه، وهذا القائل يقول: إنه عرض، لأن السطح عرض، قال الراغب: المكان عند أهل اللغة: الموضع الحاوي للشيء، وعند بعض المتكلمين أنه عرض، وهو اجتماع جسمين حاوي ومحوي وذلك أن يكون سطح الجسم الحاوي محيطا بالمحوي، فالمكان عندهم هو المماسة بين هذين الجسمين، قال تعالى: {مكاناً سوى} وهذا القول هو الذي جنح الغزالي في كتاب (مقاصد الفلاسفة) إلى تصويبه، وقال: إنه الذي استقر عليه رأى أرسطاطاليس، قال: وهو الذي رجع إليه الكل، وقال الإمام: قال به أرسطاطاليس وجمهور أتباعه كالفارابي وابن سينا، وقال الآمدي في (الأبكار) إنه الأشبه على أصول الفلاسفة، قال: وأما على اللائق بأصول أصحابنا بأن يكون الجواهر المجتمعة المختصة بالجواهر أو الجسم المحاط به، قال: وإن كنت لم أجد عنهم في ذلك نصا. والقول الثاني: أنه الأبعاد التي بين غايات الجسم وإليه أشار بقوله: وقيل: بعد موجود. والثالث: أنه بعد مفروض مقدر، وهو قول من أنكر وجود المكان من قدماء الفلاسفة وقد نسب منكر وجود المكان إلى حجة الضرورة. الرابع: أن المكان هو الخلاء قال الإمام: القائلون بأن المكان هو الفضاء هم فريقان:

أحدهما: المتكلمون وهم يقولون: هذا الفضاء، وهذا الخلاء عدم محض ونفي صرف ليس له وجود البتة. والثانية: الفلاسفة وهم يقولون: هذا الخلاء أبعاد موجودة قائمة بنفسها، وهي أمكنة الأجسام، وهو اختيار أفلاطون وغيره، ثم اختلفوا فقيل: لا امتناع في بقاء هذا الفضاء خاليا عن الأجسام، وقيل: إنه ممتنع انتهى، وهذا الخلاف فائدته: معرفته، ولا يتحصل منه طائل والاشتغال بغيره أنفع، وقد رد على من أنكر المكان بأن العقل والحس متطابقان على أن الأجسام زائلة عن ناحية إلى ناحية غيرها والانفصال لا يكون عن لا شيء ولا إلى لا شيء، بل لا بد وأن يكون مستدعيا لما عنه الانتقال وإليه، وذلك هو المعني بالمكان، فهو موجود ضروري الوجود، ولما كان ما ينتقل منه وإليه، منه ما يكون فيه الجسم ويكون محيطا به، ومنه ما يعتمد الجسم عليه ويستقر، لكن المعنى الأول هو المراد للطباعيين وهو ما كان حاويا للمتمكن مساويا له، وعند حركته يفارقه، ولذلك يرسمونه بأنه السطح الباطن على ما سبق في التعريف الأول، هذا بالنسبة للعلم الطبيعي وأما بالنسبة إلى اللغة فقال ابن جني: المكان ما استقر فيه أو تصرف عليه، لأن التصرف هو الأخذ في جهات مختلفة كتصريف الرياح فكأنه قال: المكان ما وجد فيه سكون أو حركة، وقالوا: السكون هو الحصول في حيز أكثر من زمان واحد، والحركة انتقال من حيز إلى حيز فأفضى إلى الدور، وهو فعال من التمكن فالميم فيه أصلية بإزاء السين في سحاب، ولا يجوز أن يكون مفعلا من الكون كالمقال من القول كما صار إليه الجوهري، لأنهم قالوا في جمعه أمكن وأمكنة وأماكن وأفعل وأفاعل وأفعلة، إنما هي لجمع ما الفاء أوله،

ولأنهم قالوا: تمكن ولو كان من الكون لقالوا: تكون كتقول من القول فأما تمسكن وتدرع فقليل. (ص) والخلاء جائز والمراد منه: كون الجسمين لا يتماسان ولا بينهما ما يماسهما. ش: إنما وسط المصنف بذكره بين المكان والزمان (129/ك) لذهاب قوم إلى أن المكان هو الخلاء كما سبق وعرفه: بحصول جسمين لا يتلاقيان ولا يتوسط بينهما ما يلاقيهما وقد سبق خلاف في أنه عدم محض أو أبعاد أو امتدادات، والأصح الثاني والتفريع عليه وقد اختلف فيه أنه هل يجوز في داخل العالم وخارجه خلاء وهل للعالم مكان؟ فجوزه أكثر أهل الحق وكثير من قدماء الفلاسفة وأثبتوه وراء سطح العالم وداخله أيضا، وقال متأخروهم: ليس داخل العالم خلاء، وأما خارجه فلا خلاء ولا ملاء. واحتج النافون فقالوا الدليل على أنه ليس في داخله خلاء: أنه إذا كانت له منافس يخرج الهواء منها عند اعتماد الماء عليه، فإن لم يكن لها منافس منع ما فيها من الهواء بكثرته لبعد مسافته في جريان الماء، ولأن الماء إذا صب في إناء مشبك الأعلى فإن الهواء يخرج إذ ذاك من الإناء ويزاحم الماء حتى تسمع لها صوتا عند تزاحمهما، وهو أمر معلوم بالمشاهدة والدليل على أنه ليس في خارجه خلاء: أن الخلاء تابع للملاء فإذا كان الملاء متناهيا كان الخلاء متناهيا.

والصحيح إثباته لأنه لا يمتنع في العقل فرض عوالم يوجدها الله خارج هذا العالم، ومعلوم أنه لا يوجدها إلا في مكان وهو الخلاء، إذا كان الخلاء عبارة عن: بعد يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة قائمة، لا في ملاء من شأنه أن يملك جسم ويخلو عنه، وموضع الخلاف في أنه هل يسمى مكانا؟ إنما هو في هذا النوع إذا تمكن فيه جسم، ولا خلاف أن سطح الجسم الأسفل الذي يستقر عليه الشيء الثقيل يسمى مكانا، وكذلك السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، فعلى هذين الوجهين ليس للعالم مكان، وله مكان على الوجه الأول، وهو الخلاء الذي يشغله وجود العالم. فروع على القول بالخلاء ذكرها الإمام في (المطالب). الأول: اتفق جمهور القدماء على أن الخلاء لا يقبل العدم البتة، وخالفهم المحققون لأن هذه الابعاد ممكن الوجود، وكل ممكن قابل للعدم. الثاني: اتفقوا على أن حصوله خارج العالم غير متناه، وزعم أرسطاطاليس وأصحابه: أنه محال فإن القول بوجود أبعاد متناهية غير محال. الثالث: القائلون بحدوث العالم لا بد أن يقروا بأن هذا الفضاء قبل حدوث العالم كان فضاء متشابها، أعني أنه كان جانب منه فوقاً وجانباً= منه تحتا، لأن الفوقية والتحتية لا يعقل حصولها إلا عند حصول جسم آخر، فإذا لم يوجد شيء من الأجسام البتة امتنع اختلاف آخر هذا الخلاء بالفوقية والتحتية بكل كان خلاء متشابه الأحوال بالكلية. الرابع: أن القصد من هذه المباحث: أن إله العالم يمتنع أن يكون مختصا بشيء من الأمكنة.

(ص) والزمان قيل: جوهر ليس بجسم ولا جسماني، وقيل: فلك معدل النهار، وقيل: عرض، فقيل حركة معدل النهار، وقيل مقدار الحركة والمختار أنه مقارنة متجدد موهوم لمتجدد معلوم إزالة للإيهام. (ش) اختلف أيضا في الزمان هل هو معدوم أو موجود بتقدير وجوده هل وجوده في الأعيان أو الأذهان، فقيل جوهر قائم بنفسه مستقل بذاته غني عن وجود الحركة ولواحقها، ثم إنه ليس بجسم لأنه كل ما كان جسما فإنه يكون قريبا من جسم وبعيدا عن آخر، وبديهة العقل شاهدة بأن نسبة جميع الزمان إلى جميع الأشياء على السوية، وعند هذا ينعقد قياس من الشكل الثاني وهو أن كل ما كان زمانا فإن نسبته إلى جميع الأجسام بالقرب والبعد على السواء، ولا شيء مما يكون جسما كذلك ينتج فلا شيء من الزمان بجسم، فثبت أنه جوهر مغاير للجسم وهذا القول

اختاره الإمام في (المطالب العالية) ونصره وقول المصنف ولا جسماني أي ليس بجسم، ولا حال في الجسم، وقال آخرون عرض، ثم اختلفوا فمنهم من قال: نسبة الموجود لم يزل ولا يزال إلى ما ليس بأزلي ويزول، وقيل: مفارقة موجود لموجود وقيل حركة الفلك وقيل مقدار الحركة الفلكية من جهة التقدم والتأخر، قال الإمام في (المطالب): وهو قول أرسطاطاليس وارتضاه المعتبرون من أتباعه كالفارابي وابن سينا. قال: وقيل: عبارة عن نفس حركة الفلك الأعظم وقال أبو البركات البغدادي: مقدار امتداد الوجود، انتهى. والمختار عند المنصف= هنا: أنه مقارنة متجدد موهوم لمتجدد معلوم إزالة للإيهام، وإليه مال الآمدي في (الأبكار) قال: ولا بعد في قول القائل كل الزمان هو مما يقدره المقدر ويفرضه الفارض من مقارنة موجود لموجود ثم قال: وهو ما يعبر عنه بقولهم: كان كذا وقت طلوع الشمس، أنه قارن وجوده لطلوعها، ثم مال المصنف آخرا في غير هذا الكتاب إلى أنه عرض، وأنه مقدر فإن لم يكن حركة لم يكن زمان في الوجود، وإن لم تحس النفس بالحركة لم تحس بالزمان كما كان في حق أصحاب الكهف، وإليه يرشده كلام الغزالي في (المقاصد) قال: وكل من نام صحوة وانتبه صحوة فلا يحس بانقضاء زمان إلا أن يحس في نفسه بتغيير علم بالعادة، وأن ذلك لا يكون إلا في زمان، وهذا بالنسبة

لاصطلاح الحكماء، وأما اللغة فقال أبو علي الفارسي: الزمان المدة التي هي الليل والنهار، لا يجوز أن يكون عدد حركات فيكون مختلفا لأنه قد تكون حركة أسرع من حركة أخرى، ولا زمان أسرع من زمان ولا أبطأ قال: وليس بين الزمان والدهر فرق إلا أن الدهر أزمنة كثيرة، وقال ابن جني: الزمان مرور الليل والنهار ورد بأن الليل والنهار زمن مخصوص فقد عرف الشيء بما لا يعرف إلا بعد معرفته، ويلزم أن لا يكون أزمانا لأن مرورها صفة قائمة بها، والصفة غير الموصوف، وقيل بل هو: عبارة عن الليالي والأيام، قال أبو ذؤيب: هل الدهر إلا ليلة أو نهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها وقيل الزمان مقدار حركة الفلك الأعظم، وقال المعري في (رسالة الغفران): قولهم الزمان حركة الفلك لفظ لا حقيقة له، وفي كلام سيبويه ما يدل على أنه مضي الليل والنهار، وقد حددته بأنه أقل جزء منه (130/ك) يشتمل على

جميع الموجودات وهو في ذلك ضد المكان لأن أقل جزء منه لا يشتمل على شيء. (ص) ويمتنع تداخل الأجسام. ش: اتفق جميع العقلاء على امتناع تدخل الجواهر ووجود جوهر تحت جوهر آخر، خلافا للنظام فإنه ذهب إلى اللون والطعم والرائحة، كل منها جسم لطيف فإذا تداخلت هذه الأجسام اللطيفة حصل من مجموعها جسم كثيف وقال ابن أبي جمرة في حديث: (إرسال الله الملك إلى الرحم لينفخ فيه الروح)

وهذا يرد على من قال: إن الجوهر لا يدخل في جوهر، لأن الملك جوهر ويدخل في الرحم ليصور، والرحم جوهر ولا يشعر صاحبه به. (ص) وخلو الجوهر عن جميع الأعراض. (ش) ذهب أهل الحق إلى أن الجواهر يستحيل خلوها عن كل جنس من الأعراض، وعن جميع أضداده، وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين، فإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه، وذهب بعض الفلاسفة إلى خلو الجوهر عن جميع الأعراض والصور، وقالوا بقدمها وحدوث الصور والأعراض ابتداء، ومنع معتزلة البصرة خلوها عن الألوان، وجوزوه فيما عداها، وقال الكعبي وشيعته من البغداديين يجوز الخلو عن الألوان ويمتنع غير الألوان قال ابن القشيري وغيره وسلم الكل استحالة خلو الجواهر عن الأعراض بعد تنزل الجواهر لها وقيامها بها وهذه المسألة من مقدمات حدوث العالم. (ص) والجوهر غير مركب من الأعراض. (ش) أي خلافا للنظام والنجار حيث قالا: الجواهر أعراض مجتمعة

وبنوا قولهم هذا على أن الجواهر ليست مشتركة في تمام الماهية ولا متماثلة في حقيقة الجوهرية بل هي أجناس مختلفة لأن الجواهر أعراض مجتمعة، والأعراض مختلفة والجواهر أعراض لا تكون حينئذ متماثلة. وحجة الجمهور: أن الجوهر لو تركب من الأعراض لما قام بها، لكن الأعراض قائمة بالجواهر، أما الأولى فلأنه لو قامت الأعراض بالجوهر لكانت قائمة بالعرض وهو محال، وأما الثانية فللاتفاق على أن الجوهر يصح اتصافه بالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك من الأعراض. (ص) والأبعاد متناهية. (ش) أبعاد الأجسام المتناهية يعني بالنهاية حد الشيء وهو الطرف الذي إذا تحرك إليه متحرك وقف عنده، بحيث لا يجد بعده شيئا آخر مما له ذلك الطرف، مثل النقطة للخط، وإذا علم تفسير النهاية بهذا كان أن لا نهاية عبارة عما لا يفرض فيه حد إلا وبعده حد آخر، وكذلك أبدا لا يقف عند شيء وهو حد، والذي عليه أهل الحق أن كل بعد فهو متناه، خلافا لبعض الأوائل في إثباتهم أبعادا لا نهاية لها، ومنهم من أثبت أقساما لا نهاية، وهم الهند قال صاحب (الصحائف): والحق أن القول بأبعاد غير متناهية باطل سواء كانت مادية أو مجردة وذلك لأنه لو وجدت أبعاد

غير متناهية لاستحال وجود الحركة للمستديرة والثاني باطل فكذا المتقدم. (ص) والمعلول قال الأكثر يقارن علته زمانا، والمختار وفاقا للشيخ الإمام يعقبها مطلقا وثالثها إن كانت وضعية لا عقلية، أما الترتيب رتبة فوفاق. (ش) اتفقوا على أن العلة تتقدم المعلول بالرتبة، واختلفوا هل تسبقه في الزمان أو تقارنه على مذاهب: أحدها: أنها تقارنه وإن كان بينهما ترتب عقلي فهو في التسمية بل هو كحركة الخاتم فإنه مع حركة اليد وإن كان معلولا وقال الرافعي في كتاب الطلاق إنه الذي ارتضاه إمام الحرمين ونسبه للمحققين وعبر عنه في (الروضة) بالصحيح وأجاب إمام الحرمين والرافعي عن قول القائل: إن جئتني أكرمتك بأن الإكرام فعل منشأ ولا يتصور إنشاؤه إلا متأخرا عن المجيء فلزم الترتيب ضرورة، وأما وقوع الطلاق فإنه حكم شرعي لا يفتقر إلى زمان محسوس، فسبيله سبيل العلة مع المعلول. والثاني: أنها تسبقه واختاره الشيخ السبكي وللرافعي إليه ميل ظاهر، قال إمام الحرمين في (النهاية): وسواء هذا الحكم في المذهب يدل له، فإنه لو قال لغير المدخول بها إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال: أنت طالق، طلقت هذه فقط ولم تطلق

الطلقة المعلقة، لأنها بانت بالطلقة الموقعة فلم يلحقها ما بعدها، ولو كانت معه لوقع طلقتان لقوله أنت طالق طلقتين، وأيضا لو قال لغانم: مهما أعتقتك فسالم حر، ثم أعتق غانما في المرض والثلث لا يفي بهما لم يعتق سالم شيء، بخلاف ما لو أعتقهما جميعا فإنه يقرع بينها، وأجاب الغزالي عن هذا فقال وإنما لم يقع قبل الدخول طلقتان، لأن مقتضاه وقع مع أول حال البينونة، وكذلك لو قال: أنت طالق طلقة لم يقع إلا واحدة على أدق الوجهين، بخلاف أنت طالق طلقتين، لأن البينونة معلول لمجموع الطلقتينن وقوله طلقتين كالتفسير لقوله طالق، وكذا لا يعتق سالم لأن عتقه معلول عتق غانم، وربما خرجت القرعة على سالم فيعتق دون غانم، فثبت المعلول دون العلة: قال وهذا كلام دقيق عقلي ربما يقصر نظر الفقيه عنه انتهى. والثالث: أن العلة العقلية تقارن معلولها لكونها مؤثرة بذاتها، والوضعية تسبق المعلول والشرعية من الوضعية وهو ظاهر نص الشافعي في (الأم) في كتاب الطلاق، وللخلاف فوائد كثيرة مذكورة في الفروع في الطلاق والكفارة وغيرها، وقال الشيخ عز الدين في (القواعد): الأسباب القولية التي يستقل بها المتكلم كالطلاق والعتاق، الأصح أن أحكامها تقترن بآخر جزء منها فتقترن الحرية بالراء من قوله: أنت حر، والطلاق بالقاف من قوله: أنت طالق، وهذا اختيار الأشعري والحذاق من أصحاب الشافعي، وهو مطرد في جميع الألفاظ كالأمر والنهي، فإذا

قال: اقعد كان أمرا مع الدال من قوله اقعد، وإذا قال لا تقعد كان ناهيا مع الدال من قوله لا تقعد، وكذا الأقارير والشهادات وأحكام الحكام، وقال بعض الشافعية: لا تقترن هذه الأحكام بشيء من هذه الألفاظ، بل تقع عقبها من غير تخلل زمان قال: ويدل على الاقتران إن سمع حرفا من آخر حروف الكلمة فإنه يحكم على مطلقها بموجبها عند آخر حرف من حروفها. (ص) واللذة حصرها الإمام والشيخ الإمام في (المعارف). (ش) ذهب الإمام (131/ك) فخر الدين الرازي إلى أن اللذة منحصرة في العلوم والمعارف العقلية، فإنها خالصة شريفة غير متناهية باقية على الآباد، وأما اللذات الحسية منحصرة منقضية مشوبة بأكدار مظلمة طبيعية، والحاصل منها دفع الآلام، فلذة الأكل والشرب لدفع ألم الجوع والعطش، ولذلك قال الحسن: الإنسان صريع جوع وقتيل عطش، وهكذا الجماع واللبس وغيرهما من اللذات الجسمانية والخيالية، وصنف في ذلك رسالة سماها (تحقير اللذات الجسمانية) وقال: إن اللذات المطلوبة في هذه الحياة العاجلة محصورة في ثلاثة: فأدونها اللذات الحسية، وهي قضاء الشهوتين ويشارك فيها الآدمي غيره من الحيوانات، وأوسطها اللذات الخيالية وهي الحاصلة من الاستعلاء والرياسة لدفع ألم القهر والغلبة، وهي أشدهما التصاقا بالعقلاء إذ لم ينالوا رتبة الأولياء، ولذلك قال بعضهم: آخر ما يخرج من

رؤوس الصديقين حب الرياسة، وأعلاها اللذات العقلية وهي الحاصلة بسبب معرفة الأشياء والوقوف على حقائقها وهي اللذة على الحقيقة وهذا أخذه من كلام الغزالي قال الغزالي: والعقلية هي أقلها وجودا وأشرفها، أما قلتها فلأن الحكمة لا يستلذ بها إلا الحكيم وقصور الرضيع عن إدراك لذة العسل والطيور السمان والحلاوة لا يدل على أنها ليست بلذيذة واستطابته للبن لا يدل على أنه أطيب الأشياء والناس كلهم إلا النادر مقيدون في صبأ الجهل غير بالغين في رتبة العلوم، فلذلك لا يستلذون: ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا. وأما شروطها: فلأنها لازمة لا تزول ودائمة لا تمل وثمرتها في الدار الآخرة، والقادر على الشريف إذا رضي بالخسيس الفاني كان مصابا في عقله مجزوما بشقاوته أقل أمر فيه أن الفضائل لا سيما العلم والعمل لا يحتاجان إلى أعوان وحفظة بخلاف المال فإن العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص به والعلم نافع في كل حال والمال تارة يجذب إلى الرذيلة، ولذلك ذمه الله في القرآن في مواضع وإن سمي خيرا في مواضع وذكر الشيخ عز الدين في (القواعد) قريبا منه فقال: هذا مختص بدار المحنة وأما دار الكرامة وهي الجنة فإن اللذة تحصل

فيها من غير ألم يتقدمها أو يقترن بها لأن الأمل واللذة عرضان متلازمان في هذه الدار بحكم العادة المطردة وتلك الدار قد خرقت فيها العادة كما خرقت في المخاط والبصاق والبول والغائط والتفاخر والتحاسد ومساوئ الأخلاق، وكذلك تخرق العادة في وجدان لذاتها من غير ألم سابق أو مقارن فيجد أهلها لذة الشرب من غير عطش ولا ظمأن=، ولذة الطعام من غير جوع ولا نصب قال: وكذلك خرقت العادة في العقوبات فإن أقل عقوبات الآخرة لا يبقى معه في هذه الدار حياة، وأما في تلك الدار فإن أحدهم لتأتيه أسباب الموت من كل مكان وما هو بميت. (ص) وقال ابن زكريا هي: الخلاص من الألم وقيل: إدراك الملائم، والحق أن الإدراك من ملزومها. (ش) ذهب محمد بن زكريا إلى أن اللذة أمر عدمي، وهو الخلاص من الألم، وزيفه الإمام بما إذا وقع البصر على صورة حسنة فإنه يلتذ بإبصارها مع أنه لم يكن له شعور بتلك الصورة قبل ذلك حتى يجعل تلك اللذة خلاصا عن ألم الشوق إليها، ولذلك قد يحصل للإنسان لذة عظيمة بالعثور على كنز مال فجاءة وأجيب عنه: بأنا لا نسلم أنها ما كان يحصل ألم الاشتياق إلى النظر،

ولذلك يقل الالتذاذ بها مع كثرة الصحبة وقال ابن سينا في بعض كتبه: اللذة إدراك الملائم والألم إدراك المنافي، قال الصفي الهندي: وهو لا يخلو عن شائبة الدور لأن إدراك أحدها يتوقف معرفته على إدراك الآخر، وهذا فيه نظر: إذ قد يدرك المنافي من لم يدرك أحدها ويعرفه وكذا بالعكس، وقال ابن سينا في (الشفاء) إدراك الملائم من حيث هو ملائم، والملائم هو الكمال الخاص للشيء ورد بأنا نجد من أنفسنا حالة مخصوصة، ونعلم أنا ندرك ملائما ولا نعلم أن تلك الحالة هي نفس الإدراك أو غيره والمختار أن اللذة والألم لا يحدان لكونهما من الأمور الوجدانية فلا يحتاج في حصولهما إلى نظر وفكر، وقال في (المحصول) في باب القياس عند الكلام في المناسب: إنه الصواب وجرى عليه البيضاوي في (الطوالع) وعلى التحديد فمرادهم الإدراك بحادث فإن الكيفيات المستقرة لا يلتذ بها لاستقرارها وعدم تحددها، إذ لا يبقى للنفس بها شعور، بل تذهل عنها في أكثر الأوقات، واللذة إنما هي بحصول وشعور، فالحصول بعد ما لم يكن كالمريض إذا حصل الصحة دفعة وجد بذلك أعظم اللذة لتجددها بعد الزوال، وما قال المصنف: إنه الحق أخذه من (الصحائف) للسمرقندي فقال: بل الحق أن الإدراك ليس هو نفس اللذة بل ملزومها. (ص) ويقابلها الألم.

(ش): أي فيكون على القول الأول أمر وجودي وهو الوقوع في الألم، وعلى الثاني إدراك غير الملائم، وفيه ما سبق، وقال الإمام في (المطالب): اختلف في أن الألم هل هو نفس إدراك المنافي أو حالة زائدة وكذلك النفرة والشهوة هل هما نفس الإرادة والكراهة أو جنسان مغايران لهما؟ (ص): وما تصوره العقل إما واجب أو ممتنع أو ممكن، لأن ذاته إما أن تقتضي وجوده في الخارج أو عدمه أو لا تقتضي شيئا. (ش): هذا التقسيم قدمه صاحب (المصباح) والصحائف وغيرهما والمصنف أخره لأهمية السابق، وحاصله أن ما تصوره العقل فهو بالنسبة إلى الخارج إما واجب أو ممتنع أو ممكن، لأن ذاته إن اقتضت وجوده في الخارج فهو الواجب، وإلا فإن اقتضت عدمه فهو الممتنع، وإن لم تقتضي شيئا فهو الممكن، وكل واحد من هذه الثلاثة لا ينقلب إلى الآخر لأن مقتضى (132/ك) الذات لازم لها، وفي رفعها للذات، فلا يصير الواجب لذاته ممكنا ولا الممكن واجبا، ولا كل واحد منها ممتنعا، ولا الممتنع شيء منها، وبعضهم جعل القسمة ثنائية وأن الإمكان في المشهور يطلق على مقابلة الامتناع فكل ما ليس بممتنع يسمونه ممكنا، وكل شيء إما ممتنع

أو ممكن وعلى هذا الاصطلاح فالواجب مندرج في الممكن لأنه ليس بممتنع، لكن المحققين لما أطلقوا اسم الممكن على ما ليس بممتنع ولا واجب جعلوا القسمة ثلاثية وهذا الممكن أخص من الممكن في المشهور لاستلزامه إياه من غير عكس، وأورد بعض الناس عليه شكا وهو: أن الواجب لذاته إن كان ممكنا وكل ممكن هو ممكن أن لا يكون، فالواجب لذاته يمكن أن لا يكون هذا خلف، وإن لم يكن ممكنا وكل ما ليس بممكن فهو ممتنع، فالواجب لذاته ممتنع هذا خلف. والجواب: أن الواجب لذاته ممكن بالمعنى الأعم، ولا يلزم من صدق كونه ممتنعا بالمعنى الأعم أن لا يكون، وإنما يلزم ذلك أن لو كان ممكنا بالمعنى الأخص، وليس الواجب لذاته ممكنا بالمعنى الأخص ولا يلزم من نفى كونه ممكنا بالمعنى الأخص كونه ممتنعا، وإنما يلزم ذلك أن لو كان غير ممكن بالمعنى الأعم، أورد عليه أيضا أن الممكن إن كان موجودا امتنع عدمه لاستحالة اجتماع الوجود والعدم، وإن كان معدوما امتنع وجوده لما ذكرنا، فلا إمكان، وأيضا إن خص سبب وجوده وجب وجوده، وإلا امتنع وجوده. وأجيب: بأن الممكن هو الذي بالنظر إلى ماهيته من حيث هي هي لا يجب وجوده ولا عدمه. (ص) خاتمة: (ش) هذه الخاتمة في علم التصوف، وختم به ليكون الدعاء إلى تطهير القلب

خاتمة أمره، وتابع في ذلك (صاحب الشامل الصغير) فإنه جعل ذلك في آخره، ومنه استمد المصنف وزاد عليه. (ص): أول الواجبات المعرفة وقال الأستاذ: النظر المؤدى= إليها والقاضي: أول النظر، وابن فورك وإمام الحرمين: القصد إلى النظر. (ش) اختلف في أول ما يجب على المكلف على بضعة عشر قولا: أحدها قول الأشعري: العلم بالله ورسوله ودينه لقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، {وليعلموا أنما هو إله واحد} قال ابن السمعان: وهو قول عامة أهل الحديث وسلكوا طريق السلف، ونهوا عن ملابسة الكلام، وزعموا أنه محدث ومخترع بعد انصرام زمن الصحابة والتابعين وأنكروا قول أهل الكلام: أول واجب النظر ولو قال الكافر: أمهلوني لأنظر وأبحث فإنه لا يمهل ولا ينظر، ولكن يقال له: أسلم في الحال وإلا أنت معروض على السيف قال: ولا أعلم في هذا خلافا بين الفقهاء وقد نص عليه ابن سريج

والثاني قول الأستاذ: النظر المؤدي إلى العلم به، إذ لا يتوصل إليه إلا بالنظر وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وفي القرآن غير آية، في وجوب النظر والتنبيه على الآيات والعلامات. والثالث: قول القاضي: إنه معرفة الأوائل والمقدمات التي لا يتم النظر إلا بها. والرابع: قول ابن فورك وإمام الحرمين: القصد إلى النظر، إذ لا يحصل النظر من العالم إلا بالقصد إليه. الخامس: قول أبي هاشم: الشك، ونقل عن ابن فورك لامتناع النظر من العالم فإن الحاصل لا يتعلق به طلب، ولا يمتنع من الشاك والظان فإنه متردد بين معتقدين فيجب النظر لتحصيل اليقين، ورده القاضي أبو بكر بأنه لا يمتنع في العقل الهجوم على النظر من غير سبق تردد.

والسادس: الإقرار بالله ورسوله. والسابع: النطق بالشهادتين. والثامن: قبول الإسلام والعزم على العمل ثم النظر بعد القبول ليعلم به صحة المقبول. والتاسع: اعتقاد وجوب التعليل والعاشر: التقليد. والحادي عشر: أن النظر لا يجب إلا عند الشك فيما يجب اعتقاده فيلزم البحث عنه والنظر فيه إلى أن يعتقده، قال الشيخ عز الدين في (القواعد): وهو الأصح وذكر الإمام في (المحصل) وغيره أن الخلاف لفظي يرجع إلى أنه هل المراد الواجب لعينه أو لغيره؟ فمن أراد الأول قال: إنه المعرفة، ومن أراد الواجب بالقصد الثاني قال: إنه النظر أو القصد إلى النظر قلت: بل هو معنوي تظهر فائدته في التعصية= بترك النظر على من أوجبه دون من لم يوجبه هذا إذا فسرنا المعرفة بموافقة المعتقد، وإن لم يكن عن دليل، وقال الآمدي: المعرفة الواجبة تنقسم إلى ما حصولها عن معرفة الدليل جملة لا من حيث القدرة على تقريره ونفي المعارض عنه، وإلى معرفة الدليل مع التقرير، فقيل: هي بالأول واجبة على الأعيان، وبالثاني على الكفاية، وقيل: على الأعيان في الثاني أيضا لكن لو ترك النظر فصاحبه مؤمن عاص،

وسهل الغزالي في بعض مؤلفاته النظر فقال هو طويل عند من لا يعرف وجيز عند العارف به، فإنك إذا عرفت أنك محدث فالمحدث لا يستغني عن المحدث، فقد حصل لك البرهان على الإيمان بالله فما أقرب هاتين المعرفتين، أعني أنك محدث وأن المحدث لا يحدث. تنبيهات - الأول: ما نقلنا أولا عن الشيخ هو المشهور وفي (المقنع) للأستاذ أبي منصور حكاية الثاني عن أكثر الأصحاب، قال: وهو ظاهر مذهب شيخنا واستدل عليه بأن قال: العبادات متعلقة بالنية، والنية لا بد فيها من قصد المعبود، والقصد لا يصح إلا بالمعرفة، والمعرفة لا تصح إلا بالنظر فثبت أنه أول واجب، قال: وذهب بعض القدماء من أصحابنا إلى أنه المعرفة المقصودة والنظر يقع تبعا والتابع لا يعد في نفسه، قال: ومن قال: إنه القصد للنظر فهو قياس ما تعلق به شيخنا، فإن القصد يقع أولا فإذا أعد النظر أولا لوقوعه قبل المعرفة لزم أن يعد القصد أولا لوقوعه قبل النظر، قال: وحكى شيخنا عن بعض أصحابنا أنه أول واجب: الإقرار بالله ورسوله، فقيل: أراد بعض المتكلمين لأمر يختص به من أصحابه، ويحتمل أنه أراد بعض أصحابنا وأنه يجب عليه ذلك على الفور، فإن أصحابنا يوجبون الفور، ويخالفون المعتزلة في القول بمهلة النظر، ولهذا سأل شيخنا نفسه عمن وراء الصين ورأى الاختلاف ماذا يلزمه قال: فيه جوابان: أحدهما: يلزمه النظر وليعلم الحق (133/ك) فيتبعه. والثاني: يلزمه إتباع الحق وقبول الإسلام. الثاني: علم منه أن لا طريق إلى المعرفة إلا بالنظر والاستدلال وهو باتفاق

وحكى الإمام في (المطالب) عن الصوفية أن طريق معرفته الرياضة وتصفية الباطن وهو المراد بالإلهام، الذي ذكره المصنف في باب الاستدلال. الثالث: قيل: إن هذه المسألة أصل للمسألة السابقة أول العقيدة في التقليد في أصول الدين، فإنا إذا أوجبنا المعرفة امتنع التقليد. قلت: إن أريد بالمعرفة الجملة فلا شك أنها في فطرة كل أحد فإن معرفة الله الظاهرة مذكورة في النفوس، فإن كل عاقل يعلم أنه مفعول لفاعل، ومعرفته المكتسبة هي التي دعت الأنبياء إليها وهي معرفة ما يجب له وما يستحيل عليه فدعوا كلهم إلى قول لا إله إلا الله وهي على ثلاثة أضرب لا يدركه إلا نبي أو صديق وذلك معرفته بالنور الإلهي من حيث لا يعتريه شك بوجه، كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} وضرب يدرك بغلبة الظن الذي يفسره أهل اللغة باليقين كما قال تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم} وضرب يدرك بالتقليد المحض كما قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فالأول يجري مجرى إدراك الشيء من قرب ولهذا قال في وصفهم: {لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} والثاني يجري مجرى إدراكه من بعد، وقد تعرض فيه شبهة لكنها تزول بأدنى تأمل كما قال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} والثالث: يجري مجرى رؤية الشيء من وراء ستر كثيف فلا ينفك من شبهات كما أخبر سبحانه وتعالى عمن هذه

حاله بقوله: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وسبق عند قول المصنف: ليست حقيقة معلومة كما ينبغي استحضارها هنا. (ص): وذو النفس الأبية يربأ بها عن سفساف الأمور ويجنح إلى معاليها. (ش): لأن الأول يكرهه الله والثاني يحبه فروى البيهقي في (شعب الإيمان) من طرق عن سهل بن سعد: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها)) قال ابن الأثير: السفساف: الأمر الحقير الردئ من كل شيء، وهو ضد المعالي وأصله ما يطير من غبار الدقيق إذا نخل، والتراب إذا انتثر وقوله: يربأ هو بالهمزة آخره أي يرفعها قال الجوهري: وقولهم إني لأربأ بك عن هذا الأمر أي أرفعك عنه قلت: ومنه قول

بعضهم: قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فأربا بنفسك أن ترعى مع الهمل والمعالي والسفساف كلمتان جامعتان لمدرجي السعادة والشقاوة، والغرض أن من نظر إلى الدنيا بعين الحقيقة وأنها لو كانت كلها مباحة لألهته عما خلق له، وهي لأجله، وهو العبادة انكف عن دني الطريق، وتخلق بالحقائق فإن أبي النفس لا يرضى أن يكون أدنى، وهو يقدر على أن يكون أعلى ولا يميل إلى العوج، وقد هدى إلى الطريق المعلى، فإن سبب المرض المانع من معرفة الله تعالى الإقبال على الشهوات، والحرص على الدنيا، ولهذا قال الشافعي: لو أوصى لأعقل الناس صرف إلى الزهاد وقال يحيى بن معاذ: لو كانت الدنيا تبرا تفنى والآخرة خزفا تبقى لكان ينبغي للمعامل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني فكيف والدنيا خزف فإن الآخرة تبر باق ومما يرغب في الزهد فيها خسة شركائها وقلة وفائها، وكثرة بلائها، وتحقق فنائها ومن أعظمها الغفلة عن الله، وما أحسن قول بعضهم لولده: يا بني لا تغبطن أهل الدنيا على دنياهم، فوالله ما نالوها رخصة والله ما نالوها حتى فقدوا الله،

وكان شيخنا العارف ولي الدين قدس الله روحه يقول: وجود الدنيا يضر بالقلب بالخاصية حتى في الفهم والذكاء، وحسن الاعتداد لإدراك الحقائق من الهدى ودين الحق ولقد وجدت من ذلك آثارا عجيبة في إقبال القلب وإدباره ورأيت أكابر أهل علم قلوبهم متعلقة بالدنيا تصير عقولهم من البلادة كعقول النساء والصبيان، فالحذر الحذر من فضول الدنيا، والقناعة باليسير ففيه راحة القلب وسلامة الدين والدنيا. تنبيه: قد يستخرج من تصدير المصنف بإيجاب المعرفة وخلائق النفس إلى ما قاله بعض المحققين: إن علم التصوف يلتفت إلى أصلين النظر في التوحيد والاعتبار في الموجودات ومن ذلك النفس والحكم عليها، وعلى جسدها ظاهرا وباطنا وعلى ما يقوم به وبهما، والعلم بالتخيير من صفاتها وما هي في ذاتها، فمن ثم علم قدره وعلم فخره، وهو مستمد من نور البصيرة التي هي مبدأ السعادة عند أهل الإرادة، التي أخبر الله عنها بقوله: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} والمراد بالظاهر علم الشريعة أصلا وفرعا وأحكامها، ثم معرفة النفس وآفاتها وعللها وتهذيبها وتعذيب جماحها برياضتها وتصفية سرائرها. (ص) ومن عرف ربه تصور تبعيده وتقريبه فخاف ورجى فأصغى إلى الأمر والنهي فارتكب واجتنب، فأحبه مولاه، فكان سمعه وبصره ويده التي

يبطش بها، واتخذه وليا إن سأله أعطاه، وإن استعاذ به أعاذه. (ش) العارف عندهم من عرف الحق بأسمائه وصفاته ثم صدق الله في جميع معاملاته ثم تنقى عن أخلاقه المذمومة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب عكوفه، فحظي من الله بجميع آماله، وصدق الله في جميع أحواله وانقطع عنه هو حسن نفسه ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره، فعند ذلك يسمى عارفا ويسمى حاله تفريدا، قال الشيخ عز الدين في (القواعد): الطريق في إصلاح القلوب التي تصلح الأجساد بصلاحها وتفسد بفسادها، تطهيرها من كل ما يباعد عن الله وتحليها بكل ما يقرب إلى الله (134/ك) ويزلف لديه من الأحوال والأقوال والأعمال وحسن الآمال ولزوم الإقبال عليه والإصغاء إليه، والمثول بين يديه في وقت من الأوقات وحال من الأحوال على حسب الإمكان من غير أداء إلى السآمة والملل قال: ومعرفة ذلك هي الملقبة - بعلم الحقيقة وليست خارجة عن الشريعة بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال والعزوم والنيات وغير ذلك وقال ابن عبد المعطي في (شرح منازل السائرين)، وكان من أصحاب الأحوال

والمعارف الحقيقة عن القوم غلبة الأحوال والجد في الطلب كما قال حارثة (وكأني) الحديث فسأله عليه السلام عن حقيقة الأمر فأجابه بغلبة الأحوال فرضي بذلك منه وبه قطع لحارثة ومن حذى حذوه رؤية فعل نفسه وإرشاد إلى فضل الله ومنته عليه، وإذا كانت الدنيا حجاجا= على الآخرة فمن انخرق له حجاب الدنيا بالعزوف عنها اطلع على الآخرة، والوقوف على الكون حجاب يحجب العبد عن الله فمن أراد المشاهدة فعليه بالعزوف عن الوقوف معها وقال صاحب (منازل السائرين) اتفق علماء هذه الطريقة على أن النهايات لا تصح إلا بتصحيح البدايات ومن إقامة الأمر على مشاهدة الإخلاص ومتابعة السنة وتعظيم النهي على مشاهدة الخوف، ورعاية الحرمة والشفقة على العالم ببذل النصيحة، وكف المؤنة ومجانبة كل صاحب يفسد وكل سبب يفتن القلب. انتهى. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: لا شيء أعظم على العبد من الذكر، وهو أن يعتاد مناجاة الحق اعتياد أهل العباد مخاطبة بعضهم لبعض، ثم يرتقي من ذلك فيخاطبه الرب وإلى هذا أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد كان في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي منهم فعمر)) إذا علمت هذا اطلعت على تقريب الله وتبعيده، والمراد بالقرب هنا: المعنوي، وهو معاملته معاملة

القرب إليه بالطاعة والتعظيم، وإليه ذهب ابن عبد السلام في كتاب (مقاصد الصلاة) وقد يراد تقرب العبد من ربه قربه منه بالصفة فيتصف بما يمكنه الاتصاف به من صفات الرب سبحانه وتعالى فقد روي: ((تخلقوا بأخلاق الله)) وفي الصحيح: ((إن لله تسعا وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة)) وقال أهل المعرفة: أسماء الله تعالى كلها لأن يتخلق بها العبد إلا واحد، فإنه للتعلق لا للتخلق، وهو الله سبحانه وتعالى، قال الغزالي في (المقصد الأسنى) وبهذا التخلق والاتصاف يكون العبد ربانيا أي قريبا من الرب ولقرب العبد من ربه معنيان آخران: أحدهما: قربه بالعلم والقدرة، ومنه قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم}. والثاني: قربه بالوجود والإحسان والفضل والامتنان كما قال تعالى: {ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون} جعلنا الله منهم، وقول المصنف: فخاف ورجى هما ثمرة المراقبة، وهي ثمرة التقريب والتبعيد فإن الله تعالى جعل لكل معرفة حالا تنشأ عنها، فمن عرف نعم الله كان حاله الخوف ومن عرف سعة رحمته كان حاله الرجاء، وفي كلامه إشارة إلى الجمع بين المقابلين فلا يقنط ولا

يتكل كما قال تعالى: {يرجون رحمته ويخافون عذابه} ولهذا لما ذكر مسلم في صحيحه أحاديث، في سعة رحمة الله أتبعها لحديث: ((دخول المرأة في هرة)) وقال: قال الزهري: ذكرنا لئلا يتكل رجل ولا ييأس رجل قالوا: وليكن الخوف أغلب، لأن النفس إليه أحوج فإن الرجاء يبعث على الراحة والاتكال وإهمال بعض الأعمال، إلا عند الاحتضار، فليكن رجاؤه أغلب، وإنما كان هذان المقامان من الأركان لأنهما مدرجا العبودية، وأشار صاحب المنازل: إلى توقف في عد الرجا من جملة المقامات، وقال: إنه أضعف منازل المريد، لأنه معارضة من وجه وإعراض من وجه.

وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة إلا ما فيه من فائدة واحدة ولهذا نطق باسمه التنزيل والسنة ودخل في مسالك المحققين تغشاه حرارة الخوف حتى لا يغدو إلى الإياس قال الشيخ عبد القادر: ما من حال ومقام إلا وله خوف ورجا كجناحي طائر لا يتم الإيمان إلا بهما، غير أن خوف كل ذي حالة ورجاءها بما يليق بهما، وأما ما يحكى عن بعضهم: لست أعبد الله رجاء في جنته ولا خوفا من ناره فإطلاقه إسراف، كيف وقد مدح الله أصفياءه بقوله: {يرجون رحمته ويخافون عذابه} وقال تعالى عن خليله: {واجعلني من ورثة جنة النعيم} والحق أن هذا القول إن صدر إظهارا للاستغناء عن فضل الله وعدم المبالاة بعقوبته، فهو خطأ كفر، وإن صدر لاعتقاده تمحيص العبادة لله تعالى، حتى لو لم يكن هناك جنة ولا نار لعبد، فهو محق وعليه ينزل كلام هذا القائل، فإن للرب سبحانه صفتي جلال وكمال، فلو انتفى الخوف من جهة صفة جلاله، وجبت عبادته من جهة كماله، وقوله: فأصغى إلى الأمر والنهي جعل هذا مرتبا على الخوف والرجاء ومسببا عنه، فإنه إذا تحقق المقامين أصغى لأوامر الله ونواهيه، فامتثل أوامره واجتنب نواهيه، وعبر بالإصغاء للإرشاد إلى أنه لا يكفي مجرد الامتثال بل لا بد من الميل إليه والانقياد والانشراح والتلذذ به، وقوله: فأحبه أي أنه يوصل بذلك

إلى مقام المحبة فكأن الخوف والرجاء بداية، والمحبة نهاية، ولهذا قال الشيخ عز الدين: المهابة والإجلال أفضل من الخوف والرجاء، فإذا أردت أن تعرف فضائل الأولياء فانظر إلى ما يظهر عليه من آثار المعارف والأحوال، فأيهم غلب عليه أفضلها كالتعظيم والإجلال، فهو أفضل الرجاء، وأيهم غلب عليه أدناها كالخوف والرجاء فهو أدنى الرجاء انتهى. وحكى الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} عن المتكلمين (125/ك) أن من عبد الله لأجل الخوف والعقاب والطمع والثواب لم تصح عبادته ولا دعاؤه وحكى ابن الجويني في تفسير سورة الإخلاص قولين في ابتداء المحبة من الله أو من العبد، واحتج الأول بقوله تعالى: {يحبهم ويحبونه}، {ولقد كرمنا بني آدم}، {أني عاجل في الأرض} فهو الذي أحبه أولا وأسجد له ملائكته. واحتج للثاني بقوله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقوله: {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} قال: والأول هو الأصح، والتحقيق أن يقال: إن المحبة أولا من الله تعالى ثم إن العبد إن قابل المحبة بالمحبة وأحب ربه زاد الله في محبته، وإن قابل بغيرها قطع محبته، وبيانه أن الموجود من الله تعالى تعلق الإرادة بخلقه، فإذا أراده أحسن إليه وهو علامة المحبة، فإن شكر الله زاده، وإن كفر به أباده

قال المحققون: علامة محبة الله أن المرء يبغض نفسه لأنها مانع من المحبوب، ثم إذا وافقته النفس في المحبة أحبها لا لأنها نفسه بل لأنها محب محبوبه، إذا علمت هذا فما قاله المصنف اقتبسه من الحديث الصحيح: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها)) وفي رواية: ((فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا، فبي ينطق وبي يسمع وبي يبصر)) وذلك لأن من أحبه تجرد عن صفات نفسه وتبرأ عن أفعاله وعن حوله وقوته في جميع أحواله، وفوض أمره إلى الله تعالى فصارت حركته وسكناته كلها بالله، كما قال تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} فأما تأويل الحديث فهو أن الله يتولى من أحبه في جميع

أحواله كما يتولى الوالدن جميع أحوال الطفل، فلا يمشي إلا برجل أحدهما ولا يأكل إلا بيده، ففنيت صفاته وقامت صفات الوالدين مقامهما، لشدة اعتنائهما بحفظه، وتسخير الله إياهما، فكذلك حال العبد الطائع مع الرب وفي الحديث: ((اللهم كلاءة ككلاءة الوليد)) فمعنى ((كنت سمعه)) أحاطت عنايتي ولطفي به بحيث يصير فعله وإدراكه كأنه فعلي وإدراكي، قيل: وأصل الكلام كأن سمعه سمعي أي صار، ثم حذف أداة التشبيه وقلب التشبيه بعد ذلك فصار التقدير: كأن سمعي سمعه ثم حذف المضاف من سمعي وأقيم المضاف إليه، وهو ضمير المتكلم مقامه فانقلب الضمير المجرور مرفوعا واتصل بالفعل فصار اللفظ كنت سمعه وهكذا تأويل بقية الحديث وفيه حذف كثير، وأما ما يشير إليه أصحاب الاتحاد من ادعائهم أن الحديث على ظاهره، وأن الحق ما زال سمعا وبصرا ويدا للعبد حقيقة بدليل قوله: ((كنت)) وإنما ظهرت له حقيقة الحال حينئذ فلا يخفى فساده لاستحالة كون القديم صفة للحادث، وقوله: واتخذه وليا، وجعل حقيقة الولاية: التجرد عن الصور والجهات والوقوف معه بالذات، قالوا: وسمي الولي وليا لأنه تولى الله بطاعته، وقيل: لأن الله تولاه بلطفه، فهو فعيل، إما بمعنى فاعل أو مفعول وحينئذ يصير مجاب الدعاء مكاشفا بغيب الأرض والسماء، مخاطبا بسائر الأسماع فلا يدع إلا إياه إليه، ولا يستدل بغيره عليه، قال أبو سعيد الخراز: إذا أراد الله أن يوالي

عبده فتح عليه باب ذكره فإذا استلذ الذكر، فتح عليه باب القرب ثم رفعه إلى مجالس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار القرب وكشف له الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة خرج من حسه ودعاوى نفسه، ويحصل حينئذ في مقام العلم بالله، فلا يتعلم من الخلق بل تعليم الله وتجلية لقلبه حينئذ، فيسمع ما لم يسمع ويفهم ما لم يفهم قال بعض محققي الصوفية: لو أنصفنا أصحابنا الأصوليون لما استبعدوا ذلك أعني حصول العلم من العمل، لأن الصوفية يقولون: العلم يستفاد بأعمال القلوب، وهي كيفية يظهر صدقها بالعمل بالجوارح فعمل الجوارح حق حقيقة على القلب ولهذا لا يصح عمل النية إلا بعمل القلب، أعني عملا مقبولا ولو نظروا رضي الله عنهم حق النظر لعلموا أن المعارف العقلية لا تحصل إلا بصحة النظر، وصحة النظر لا تحصل إلا بصحة البصيرة، وصحة البصيرة لا تحصل إلا بزوال حاسة النفس وانقشاع غمام الجهل، وحصول طهارة النفس كما قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وقوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} وقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} ولهذا قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، {والذين اهتدوا زادهم هدى} وقال

في العبد الصالح: {آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} فدل سبحانه باختلاف العبارتين على اختلاف المعنيين فسمى ما خولهم على ألسنة أنبيائه هداية، وسمى ما أفاض عليهم من باطنهم بلا وساطة هدى، وقد حصل هذا المدد لسادات الصحابة فقال علي رضي الله عنه: (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) وحصل لحارثة حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟)) الحديث فمن وفقه الله معرفة وحدانيته ببدائعه وحقائقه، كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} فعند ذلك يرى حسن الشريعة ونظامها فيعبده عند ذلك حق عبادته فيوليه تقريبه ونجيبه، فيعرف حينئذ حقائق الموجودات، بموجدها ودقائق المخلوقات بخالقها فيصير كما قيل لبعضهم: بم عرفت الله؟ قال: عرفت الأشياء بالله، وقال بعضهم: ما نظرت منذ عرفت الله إلى شيء إلا رأيت الله قبله. (ص) ودنيء الهمة لا يبالي فيجهل فوق جهل الجاهلين، ويدخل تحت ربقة المارقين. (ش) دنيء الهمة: من جنح إلى سفساف الأمور وعدل عن معاليها، قد قيدته الشهوة وأسرته المحظورات (136/ك) لا يبالي بارتكاب الحرام ولا بالتدنس بالآثام، ولهذا قال العلماء: الخسيس من باع دينه بدنياه وأخس منه من باع دينه بدنيا غيره والمواقع له في هذا الجهل فإنه أول داء النفس، ثم حب الأشياء، ثم قلة المبالاة ثم الجرأة، ثم قلة الحياء، ثم تصديق النفس، ثم المنى لفوز الآخرة وهذا حال من ركبته النفس الأمارة بالسوء، ولا يبالي الله أن يهلكه وأول منزل من منازل السالك هو الفراغ من ذبح النفس بسكين الرياضات فمن بادر إلى ذبح نفسه الغرة التي لم تحتنك

بعد السر فله حياة لا يموت بعدها ومن سوف في ذلك وقد صارت نفسه قوية عوانا مختالة مكارة خداعة يظهر بزي الصلحاء ويتسم بسمة الأتقياء وتعجب الناظرين بزخارفها فلا بذل للحق ولا يدأب في العمل الصالح دأبا، ولا تكدح إلى ربها كدحا فتخرج من الأمر خليعة العذار مرتدة مسلمة عن تكليف الدين ليس فيها أثر سجود ولا سمة شهود، وهذه هي الأمارة بالسوء الباغية الطاغية التي هي أعدى عدوك. (ص) فدونك صلاحا أو فسادا ورضا أو سخطا وقربا أو بعدا وسعادة أو شقاوة ونعيما أو جحيما. (ش) هذا خطاب عام لما علم الفرق بين الحالين، وتباين هذين الضدين وتضمن قوله: دونك تحذيرا وإغراء فالإغراء للصلاح والرضى والقرب والسعادة والنعيم، والتحذير لمقابلها كما قيل: أنت القتيل بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي (ص) وإذا خطر لك أمر فزنه بالشرع، فإن كان مأمورا فبادر، فإنه من الرحمن، فإن خشيت وقوعه لا إيقاعه على صفة منهية فلا عليك. (ش) إذا عرض للسالك إلى الله في الطريق أمر فطريقه أن يزنه بميزان

الشرع ويقصد باب العلم إذ لا عمل إلا بعلم، ولا تخرج عن ثلاثة أقسام: إما أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه أو مشكوكا فيه، والمصنف ذكر الثلاثة فإن وجده مأمورا به أعم من الواجب والمندوب فليبادر إلى فعله فإنه من الرحمن، فإن خشيت وقوعه على صفة منهية من عجب أو رياء، فلا عليك ولا تجعل هذا الخاطر مانعا من العمل فإنه شيطاني، نعم إن أوقعته على تلك الصفة المنهية كان ذلك محبطا له وهنا أمور: أحدها: أن المصنف أجمل الخاطر من الرحمن وهم يقسمونه إلى ملكي وإلهامي وروحي مع اشتراك الكل في الحق، فالخواطر الملكية هي ما تعلق بالترغيب في العبادات على تفريق أوامر الشرع والنهي عن المخالفات واللوم على ارتكاب المحظورات والفرق بينه وبين الإلهام، أن الخواطر الملكية قد تزعمها النفس والشيطان، فعلها إبداع بالهواجس والوساوس بخلاف الخواطر الإلهامية فإنه لا يردها شيء تثتنارها النفس والشيطان طوعا وكرها.

الثاني: علم من قوله: فبادر بفاء التعقيب إلى السرعة، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: فإنك إن توقفت برد الأمر وهبت ريح التكاس=، وقد حكى البوشنجي أنه كان في حالة التفرغ فدعا من نزع قميصه عنه، وقال ادفعه إلى فلان، فقيل له لو صبرت حتى يخرج، فقال: خفت أن يزول ذلك الخاطر عن القلب. الثالث: أشار المصنف بذلك إلى أن المدار على الأمر والنهي، وقد قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في كتاب (الإشارات): وقد سئل ما أول طريق الحق وآخره؟ فعلل أوله وآخره معانقة ما أمرت به ومفارقة ما زجرت عنه، وما عداها فعبارات آيلة فمبادرة الأمر ومحاذرة الزواجر والتوقي من المخالفات والترقي إلى الطاعات. ص: واحتياج استغفارنا إلى استغفار لا يوجب ترك الاستغفار ومن ثم قال السهروردي: اعمل وإن خفت العجب مستغفرا منه. (ش) هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أنه نقل عن رابعة العدوية رضي الله عنها: استغفارنا يحتاج إلى استغفار وإذا كان كذلك فلم نستغفر؟

والجواب: أن التلفظ المحض خير من الصمت، فاحتياجه إليه لا يوجب الصمت عنه. قال الغزالي في (الإحياء) في باب التوبة: لا يظن أن رابعة تذم حركة اللسان بالاستغفار من حيث إنه ذكر الله تعالى بل تذم غفلة القلب فهو محتاج إلى الاستغفار من غفلة قلبه لا من حركة لسانه فإن سكت عن الاستغفار باللسان أيضا يحتاج إلى استغفارين لا إلى استغفار واحد، قال: وهذا معنى قول القائل الصادق (حسنات الأبرار سيئات المقربين) فإن هذه الأمور ثبتت بالإضافة ينبغي أن يوجد من غير إضافة ولذلك اختيارات جريان الاستغفار على اللسان مع الغفلة حسنة، لأنها خير من حركة اللسان بغيبة مسلم أو فضول كلام، بل هو خير

من السكوت وإن كان ناقصا بالنسبة إلى عمل القلب، ولذلك قال بعضهم لشيخه: إن لساني في بعض الأحيان يجري بالذكر والقرآن، وقلبي غافل، فقال: اشكر الله إذا استعمل جارحة من جوارحك في خير، وعوده الذكر، ولم يستعمله في الشر والفضول. وما قاله حق، فإن تعود الجوارح للخيرات حتى يصير لها طبعا يدفع جملة من المعاصي فمتى تعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذبا سبق لسانه إليه، ومن تعود الاستعاذة إذا حدث لظهور مبادئ شر قال بحكم اللسان: أعوذ بالله حتى يدفع بذلك شر لعنته أو غيبته، فإياك أن تلمح في الطاعات مجرد الآفات فتقل رغبتك في العبادات، فإن هذه مكيدة من الشيطان على المغرورين وحكى الأستاذ أبو القاسم والقشيري في (الإشارات) عن بعضهم: لا ينفع ذكر اللسان مع غيبة القلب ثم قال: بعض الموفقين: إن الله أكرم أن لا يحفظ على العبد قلبه إذا حضر هو بلسانه قال الأستاذ: وهذا هو التحقيق، وقال في موضع آخر: عند المعظم يلقن العبد ذكرا في الابتداء حتى يتمرن عليه اللسان، ثم يرد الذكر إلى القلب وقال (137/ك) ينبغي أن يمتلئ القلب أولاً بذكر ثم تفيض منه على اللسان والكل حق، وقوله: ومن ثم قال مشيرا إلى ما سأل بعض أئمة خراسان للشيخ شهاب الدين السهروردي فقال: القلب مع الأعمال يداخله العجب ومن ترك الأعمال يخلد إلى البطالة، فأجابه الشيخ لا تترك الأعمال، وداوي العجب بأن تعلم أن ظهوره من النفس، وكلم ألم بباطنه خاطر العجب يستغفر الله فإنه يصير ذلك كفارة خاطر العجب، لا يدع العمل رأسا وكذا قال الإمام في (المطالب): من مكائد الشيطان أن يترك العمل خوفا من أن يقول الناس مرائي، وهذا باطل فإن تطهير العمل من نزغات الشيطان بالكلية متعذر، فلو وقفنا العبادة على الكمال لتعذر الاشتغال بشيء من العبادات، وذلك يوجب البطالة، وهي أقصى غاية غرض الشيطان، بل الصواب

أنك ما دمت تجد باعثا دينيا على العمل فلا تترك العمل فإن ورد في إتيانه خاطر بالرياء فجاهد نفسك، واحتمل في إزالة ذلك الخاطر بقدر القدرة وقال الشيخ أبو زكريا النووي: لو فتح الإنسان عليه ملاحظة الناس والاحتراز من طرق ظنونهم الباطلة، لانسدل عليه أكثر أبواب الخير وضيع على نفسه شيئا عظيما من مهمات الدين، وليس هذا طريقة العارفين، ولقد أحسن من قال: سيروا إلى الله عرجانا ومكاسير، ولا تنتظروا الصحة، فإن انتظار الصحة بطالة، والعلم في هذا المعنى قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: إذا خفت على عملك العجب فاذكر رضى من تطلب، وفي أي نعيم ترغب ومن أي عقاب ترهب، وأي عاقبة تشكر وأي بلاء تذكر، فإنك إذا فكرت في واحدة من هذه الخصال صغر في عينيك عملك، وههنا دسيسة قد تخفى، وهي: أن الشارع رتب على الطاعات ثوابا ومدحا وثناء على فاعلها ورتب على المعاصي عقابا وذما وقدحا في فاعلها، ثم طلب من الفاعل الإخلاص وهو أن يفعل للامتثال لا لغرض أصلا فيقال: إن ذلك من جملة حظوظ النفوس، فما الذي يحقق له الإخلاص ولو قالت له النفس: إنما فعلت للامتثال كيف يصدقها وهي رواعة والجواب: طريقة السير بأن تعرض عليها شوائب حظوظها في الفعل، فيعرض عليها المنع فلا يجدها عنده، والثواب فكذلك ثم يعرض عليها الإقبال المجرد فيجدها منبعثة ومنشرحة به، ويكتفي من النفس بهذا المقدار للضرورة وقد اختلف الناس في حديث الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار، حيث يقول: ((إنما قصدتك فيقول الله: كذبت، إنما أردت ليقال)) هل كان هذا القائل روغ وكذب متواطئا مع نفسه أو كان صادقا باعتبار ما عنده؟ لكن النفس ليست عليه في معتقدها غير ذلك، وكان من حقه أن يتفقدها وغرضها منه حتى يقع على الإخلاص، فكذب بهذا الاعتبار لتقصيره، وهذا أولى

ما يحمل عليه الحديث، لأن ذلك المقام لا ينطق فيه إلا بالصدق، والذي ينبغي للعاقل أن لا يثق بنفسه أبدا، بل يتهمها قال يحيى بن معاذ: لا تسكن إلى النفس وإن دعتك إلى الرغائب. ص: وإن كان منهيا فإياك فإنه من الشيطان فإن ملت فاستغفر. ش: القسم الثاني: أن تجده في الشرع منهيا عنه فلا تقربه فإنه الشيطان فإن غلبك الأمر وفعلت فاستغفر، لأنها معصية كفارتها الاستغفار وجعل المصنف كلا من الشيطان خلاف ما عليه أكثر أئمة هذا الشأن من تقسيم الخواطر الباطلة إلى نفس وشيطان، وفرقوا بينهما مع اشتراك الكل في الباطل بأن النفساني علامته إذا طلب شيئا لا يرجع عنه، والشيطان قد ينقله إلى مثله إذا عجز عن الأول، لأن قصده شغل القلب بغير الله ووقوعه في الفتنة فلا يزال يزين الأشياء في نظره ويدعوه إليها، فإن لم يلتفت إلى شيء زين آخر، وهكذا لأن جميع المخالفات عنده سواء بخلاف خاطر النفس فإنها تصمم ولا تسكن إلا عند استيفاء حظها أو يسكنها

إخلاص الطالب بصمصام التصديق كما قال بعضهم، اشتهت نفسي أربعين سنة أن أغمس جزرة في الدبس وهذا الفرق منقول معناه عن أستاذ الطائفة الجنيد رضي الله عنه ونبه الشيخ شهاب الدين السهروردي على أن هذه الإشارات إلى علامات الخواطر لا يرخص للمريد في الاشتغال بتمييزها فإن ذلك يشوش الفكر ويزيل الجمعية، ويبطل فائدة الذكر، لا ليس طريقه على نفي الخواطر بأسرها لئلا يصير الشيطان من جملة خواطره بل حقه ردعها وردها بالمراقبة وبهذا يعتذر عن المصنف في إجماله هذا المقام، وقد نقل القشيري الإجماع على أن من يأكل الحرام لا يفرق بين الخاطر الملكي والشيطاني ولما كان الميل تارة يكون مع التصميم وتارة لا معه بين الحكم. ص: وحديث النفس، ما لم يتكلم أو يعمل، والهم مغفوران: ش: الواقع في النفوس من متعلقات المعاصي خمس مراتب. الأولى: الهاجس وهو ما يلقى فيها، ولا يؤاخذ به بالإجماع لأنه ليس من فعل العبد وإنما هو وارد لا يستطيع رفعه.

الثانية: جريانه فيها وهو الخاطر وسمى الراغب الأول سانحا، وقال الشيخ وهو خاطر يعبر عنهما بالهاجس وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة؛ فأما لمة الملك فوعد بالخير وتصديق بالحق، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق)). الثالث: حديث نفسه وهو ما يقع من التردد، هل يفعل أو لا؟ وهذان مرفوعان بقوله صلى (138/ك) الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به)) فإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق أولى، قال المحققون: وهذه المراتب الثلاث أيضا لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجرا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني والثالث فلعدم القصد.

الرابعة: الهم وهو ترجيح قصد الفعل: يقال: هممت بالأمر أي قصدته بهمتي وهو مرفوع لقوله تعالى: {إذ همت طائفتان} الآية ولو كانت مؤاخذة لم يكن الله وليهما، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه)) وفي هذه الحالة تفترق الحسنة مع السيئة، فإنه إن هم بالحسنة ولم يعملها كتب له حسنة كاملة كما ثبت في الصحيحين، وحمل ابن حبان في صحيحه الهم على العزم، لأن العزم نهاية الهم، قال: ويحتمل أن الله تعالى يكتب لمن هم بالحسنة حسنة، وإن لم يعزم عليه، ولا عمله لفضل الإسلام. الخامسة: العزم وهو قوة القصد والجزم به، فإن العزم لغة الجد وعقد القلب وهو مؤاخذ به عند المحققين، وذهب بعضهم إلى أنه مرفوع كالهم، والصحيح الأول لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصا على قتل صاحبه)) فعلل بالحرص والإجماع على المؤاخذة بأعمال القلوب كالحسد

بخلاف الهم وقال العبادي في فتاويه: لا خلاف أن الآدمي مؤاخذ بعمل اللسان والسمع والبصر، أما الفؤاد فقال الله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} فمن الناس من يقول: يؤاخذ بما يسعى به الباطن إلى أول خاطره وهو الهاجس والأصح أنه لا يؤاخذ بمساعي الباطن لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عفى لأمتي عما حدثت به أنفسها)) وقيل: إن اتصل بما تعمل تؤاخذ بالكل. انتهى، وما أطلقه متعقب بما ذكرنا، وقال القاضي الحسين في كتابه الصوم من تعليقه: كما يحرم النظر إلى الحرام يحرم الفكر فيه لقوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} فمنع أعنى= التمني فيما لا يحل كما منع من النظر إلى ما لا يحل لقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} وأشار المصنف بقوله: ما لم يتكلم إلى أن عدم المؤاخذة بالهم، وحديث النفس ليس مطلقا، بل بشرط عدم التكلم والعمل، حتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين: همه وعمله، ولا يكون همه مغفورا وحديث نفسه إلا إذا لم يعقبه العمل، هذا هو ظاهر الحديث، وقوله: والهم أي: ما لم يتكلم أو يعمل أيضا، ولم يحتج

إلى تقييده لأنه إذا قيد حديث النفس وهو دون الهم كان الهم مقيدا بطريق أولى، هل يؤخذ= بهما إذا عمل عملا غير المعصية التي هم أو حدث نفسه بها، أما إن كان ذلك العمل أجنبيا لا ارتباط له بهما بالكلية كمن هم بالزنا ثم أكل فلا ريب في عدم المؤاخذة وإن كان من مقدمات المعصية كمن هم بالزنا بامرأة تقابله فمشى إليها ثم رجع من الطريق، فهذا موضع نظر، قال الشيخ السبكي: يظهر المؤاخذة من إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم العمل، وكونه لم يقله أو يعمله، قال: فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية، وإن كان المشي في نفسه مباحا لكن لانضمام قصد الحرام، وكل واحد من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده أما إذا اجتمعا فإن مع الهم عملا لما هو من أسباب المهموم به فاقتضى إطلاق (أو يعمل) المؤاخذة به، قال: فاشدد بهذه الفائدة يديك واتخذها أصلا يعود نفعه عليك وهذا الذي قاله من المؤاخذة بالمقدمة إذا انضمت إلى حديث النفس لإطلاق (أو يعمل) حسن لو لم يقيد في حديث آخر، لكن جاء في رواية في الصحيحين (أو يعمل به) ويحتمل أنه لما رجع عن فعل السيئة بعد فعل مقدمتها لله لم يؤاخذ بالفعل، لقوله في الحديث: ((إن تركها فاكتبوها له حسنة وإنما تركها من جراي=)) أي: من أجلي، رواه مسلم، وفي لفظ لابن حبان ((وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة)) وذكر في موضع آخر أن قوله: (أو يعمل) ليس له مفهوم حتى يقال: إذا تكلمت أو عملت يكتب عليها حديث النفس لأنه إذا كان الهم لا يكتب فحديث النفس أولى، وهذا خلاف ظاهر الحديث وخلاف ما قاله المصنف هنا، وقد نازعه ابنه وقال: يلزم منه

أن لا يؤاخذ عند انضمام عمل من مقدمات المهموم به بطريق أولى قال فقوله: وإذا كان الهم لا يكتب فحديث النفس أولى ممنوع، فلا نسلم أن الهم لا يكتب مطلقا بل عند انضمام عدم العمل إليه. (ص) فإن لم تطعك الأمارة فجاهدها. (ش) أي كما تجاهد من يقصد اغتيالك بل أعظم، لأنها قصدت بك الهلاك الأبدي قال بعضهم: معالجة المعصية إذا خطرت حتى تذهب أهون من مرارة التوبة حتى تقبل لأن مجاهدتها في البداية بكف الخواطر وفي النهاية بالندم والتأسف والبكاء، ثم لا يدرى أقبلت أم لا؟ وإذا وقع العبد في المعصية لاهيا عن الوعيد لم يحضر ذكره فهو من الذين {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} لأنه لا يحبب إليه أن يستحضر عظمة الرب في هذه الحالة، فإذا لم يخلق الله له الذكر فقد أراد هلكته، وعليه إثم الذاكر، لأن نسيانه لسبب انهماكه في المعصية وتعلق شهوته، وإذا حضرت المعصية واستحضر عظمة من يعصيه والتحريم، فإن كف عن الإقدام فذاك وإن أقدم تجريما فهالك أو تسويفا وقال: أتوب بعد ذلك فمعذور

فإنه يجب عليه ملازمة الطاعة ومعالجة الشهوة، وإنما خص المصنف هذا بالأمارة لأن النفوس ثلاث: أمارة بالسوء وهي التي لا يلوح لها طمع إلا تعرضت له (139/ك) ولا تبدو لها شهوة إلا تبعتها، لم تحكمها الرياضة ولم تسلك سبيل الرشاد. والثانية: اللوامة وهي التي تلوم صاحبها على التقصير في الطاعة ولهذا أقسم الله تعالى بها: {ولا أقسم بالنفس اللوامة}. والثالثة: المطمئنة التي استقامت على الطاعة ولم تفترسها غوايل الشهوات، واعلم أن النفس بطبعها تحب الراحة، والشهوة فمتى أطلقت لجامها أهلكتك فتحتاج أن تكون ركابا فارسا بطلا وإلا اغتالتك قال بعضهم: وقفت يوما بالطاحون وإذا ببعير يدور على رحا فلما فقد صوت الطحان أبطأ في السير، فجاء الطحان وصاح به كالزاجر له على البطء فرأيت البعير هاج لصوته وتحرك كل عضو منه على حدته لانبعاثه ففهمت منه أن كل روحاني فنفسه تبطئ به لميلها إلى الراحة فيحتاج إلى مؤاثرة تزجره وتصوب به وتحثه على العمل، كذلك نفس ابن آدم محتاجة إلى الموعظة والزجر. (ص) فإن فعلت فتب. (ش) أي على الفور وهو مفهوم من إتيانه بالفاء حتى لا يبقى للمعصية في النفس أثر، لأن التوبة تجب ما قبلها وهي رحمة من الله للمذنبين، قال العلماء:

والتوبة واجبة لا يجوز لمن عمل سيئة أن يؤخر التوبة بل يلزمه إذا وقعت منه الندم والاستغفار وقل أن يخلو المكلف من أمر يتوب منه حتى إن قوما من العلماء يوجبون التوبة من الغفلة قال ابن الصباغ في كتاب (الطريق السالم): وذلك ظاهر الحجة فإن من شأن المنعم عليه أن لا يغفل عن المنعم، لأنه لا يخليه عن نعمة. واعلم أن الإسلام يجب ما قبله قطعا، وأما التوبة فهل تكفيرها الذنب قطعي أو ظني؟ فيه خلاف لأهل السنة واختار إمام الحرمين أنه مظنون قال النووي في (شرح مسلم) وهو الأصح وقال الأبياري في (شرح البرهان): الصحيح عندنا القطع بالمحو، وسندنا الإجماع عليه وإن اختلفوا في القطع والظن، فمن قال: إنها غير ماحية فقد خرق الإجماع، فإن قيل: فبعض الأمة جازم بالظن فكيف ينتج القطع؟ قلنا: يلزم من هذا أن الأمة إذا اجتمعت على قبول مظنون أن لا يكون حجة، ونحن نختار أن الإجماع حجة على كل حال، وظن بعضهم يزيد على ظن جميعهم قال الحليمي: ولا يجب على الله قبولها ولكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده ولم يجز أن يخلف وعده، علمنا أنه لا يرد التوبة الصحيحة على صاحبها

فضلا منه وقال والد المصنف في تفسير قبول التوبة عن الكفر مقطوع به أعني أن الله يقبلها تفضلا قطعا وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة، وقد نجد في كلام الخلاف في وجوبها وليس مرادهم ما قالته المعتزلة وإنما مرادهم القطع بوقوعها تفضلا كما ذكرناه وأن ذلك ثابت بأدلة سمعية مقطوع بها بخلاف أحد القولين، ومظنونة وعلى الثاني والأصح أنها ظنية، وعبارة ابن عطية في وجوبها قولان لأهل السنة وهو محمول على ما قلناه. انتهى. وقد أورد الشيخ عز الدين تشكيكا على تحقيق التوبة وتصويرها مع ملاحظة توحيد الله بالأفعال خيرها وشرها مع أن التوبة ندم على فعل، والندم على فعل الخير لا يتصور وأجابني بأن من رأى للآدمي كسبا خص الندم بكسبه دون صنع ربه، ومن لا يرى بالكسب خص الندم بحال الغفلة عن التوحيد قال: وهذا مشكل جدا من جهة أنه يتوب عما يظنه فعلا له وليس بفعل له في نفس الأمر. (ص) فإن لم تقلع لاستلذاذ أو كسل فتذكر هازم اللذات وفجاءة الفوات أو القنوط، فخف مقت ربك واذكر سعة رحمته وأعرض التوبة ومحاسنها. (ش) ذكر أن لعدم إقلاع النفس عن الذنب شيئين: أحدهما: استلذاذ المعصية أو الكسل عن الإنابة فعلاجها الإقماع بذكر هازم اللذات ومفرق الجماعات، إذ لا محيص عنه ولا مهلة، فإنه يكدر العيش ويقصر الأمل ويبعث على العمل كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هازم اللذات، فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله ولا في قليل إلا كثره)) وكان بعضهم

يقول: شغل الموت قلوب المتقين عن الدنيا، فوالله ما رجعوا فيها إلى سرور بعد معرفتهم بتكديره وغصته، وقال بعض المسلكين: إذا اشتبه عليك أمر فلم تعلم هو مما يجب أن يرغب فيه أو عنه فاحضر ببالك حضور باعث الموت فإن بقي معك الأمر فابق معه وإن فارقك ففارقه وقيل لمحتضر: كيف حالك؟ فقال: كيف حال من يريد سفرا بعيدا بلا زاد، وينزل منزلا موشحا بلا مؤنس ويقدم على ملك جبار وقد أذنب إليه بلا حجة. الثاني: القنوط واليأس من رحمة الله لشدة الذنب أو استحضار عظمة الرب وشدة بأسه فهذا مقت من الله وذنب آخر مضاف إلى ذنب المعصية، وقد قال تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} وعلاج هذا الداء بما يضاده وهو استحضار سعة رحمة الله كما قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} وفي الصحيح: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)) ومنه ((لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل معه راحلته عليها طعامه وشرابه بأرض فلاة فقام ...)) الحديث.

(ص) وهي الندم وتتحقق بالإقلاع وعزم أن لا يعود وتدارك ممكن التدارك. (ش) تفسير التوبة بالندم لأنه روحها وركنها الأعظم كقوله: ((الحج عرفة)) وروى ابن ماجه بإسناده ((الندم توبة)) وكانت التوبة في بني إسرائيل بقتل النفس كما قال تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} قال الواسطي توبتهم إفناء نفوسهم، وتوبة هذه الأمة أشد وهي إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم (140/ك) الهياكل ومثل من أراد هذا الإفناء الذي أشار إليه الواسطي كمثل من أراد كسر لوزة في قارورة وذلك مع أنه صعب يسير على من يسره الله قال حملة الشريعة: والمراد الندم لأجل ما وجب عليه، فلو تضرر بشرب الخمر وندم فليس بتوبة لأنه ندم لأمر يعود إلى طبعه، ولهذا قال ابن القشيري في (المرشد): التوبة في اصطلاح المتكلمين الندم على الزلة لأجل باعث الندم له وهذا القيد لأنه ربما يندم على الزلة لإضرارها به فهو نادم غير تائب، قال: وهذا الحد ذكره القاضي

والأستاذ: وأما الفقهاء فذكروا له ثلاثة أركان: الإقلاع في الحال، والعزم على أن لا يعود في الاستقبال والندم انتهى وكأن المصنف أراد أنه لا يخالف بين الطريقين فسالك طريق المتكلمين في تفسيرها بالندم، وجعل كلام الفقهاء لا يخرج عنه لأن ذلك يتضمن الندم، إذ يستحيل حصول الندم الحقيقي على شيء مع ملازمته في الحال والعزم على معاودته، فلهذا قال: يتحقق أي إنما يتحقق بالإقلاع في الحال والعزم في الاستقبال وإن تعلق بحق آدمي فلا بد من الخروج عنه وإليه أشار بقوله: وتدارك ممكن التدارك، وهذا قاله الفقهاء، وقال الإمام في (الشامل) إن لم يرد المظلمة وندم فقد صحت توبته فإنها: الندم على ما سلف، وما تعلق برد المظلمة حق آخر وجب عليه، فإذا لم يفعله لم يبطل ما أتي به من حقيقة التوبة، وحكى ابن القشيري في (المرشد) عن والده زيادة شرط آخر وهو تعين الذنب فلو أسلف ذنبا ونسيه فإن عين ذنوبه في الجملة وعزم أن لا يعود إلى ذنب، لم تصح توبته بما نسبه وما دام ناسيا لا يكون مطالبا بالتوبة، ولكن يلقى الله وهو مطالب بتلك الزلة، وهذا كما لو كان عليه دين لآدمي ونسي المديون ولم يقدر على الأداء فهو في الحال غير مطالب مع النسيان ولكن يلقى الله وهو مطالب قال: وهذا مأخذ ظاهر، لأن التوبة ندم والندم إنما يتحقق مع الذكر بما فعله حتى يتصور الندم وقال القاضي: إن لم يتذكر التفصيل يقول: إن كان لي ذنب لم أعلمه فإني تائب إلى الله منه، ولعله قال هذا إذا علم أن له ذنوبا، ولكنه لا يتذكرها، فأما إذا لم يعلم لنفسه ذنبا فالندم على ما لم يكن محال، وذكر المحاسبي أنه يعين كل ذنب على انفراده ولا يخفى إشكاله وقال الشيخ عز الدين: يتذكر من الذنوب السالفة ما يمكن تذكره وما تعذر لا يجب عليه ما لم يقدر عليه. ص: وتصح ولو بعد نقضها عن ذنب ولو صغيرا مع الإصرار على آخر ولو كبيرا عند الجمهور.

ش: فيه مسائل أحدها: من تاب ثم نقض لم يقدح في صحة الماضية ما طرأ من المنافي، وعليه المبادرة إلى تجديد التوبة من المعاودة كقوله تعالى: {إن الله يحب التوابين} والتواب بوزن فعال وهو للمبالغة ولا يطلق إلا على من أكثر التوبة، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أصر امرؤ ولو عاد في اليوم سبعين مرة)) هذا هو المشهور وحكى الإمام عن القاضي أن توبته الأولى انقضت حتى يلقى الله مؤاخذا بحكم الزلة الأولى التي تاب منها والصحيح الأول، فإنه كمن ترك الصلاة فقضاها ثم ترك أخرى فالأولى التي قضاها لا يطالب بحكمها ثانيا وأجرى الواحدي في تفسير سورة النساء هذا الخلاف في الكافر يؤمن ثم يكفر أنه يكون مطالبا بجميع كفره على قول بعض الأصوليين، قال: وهو غلط لأنه صار بالإيمان كمن لم يكفر فلا يؤاخذ به بعد أن ارتفع حكمه. الثانية: تجب التوبة من الصغائر كما تجب من الكبائر خلافا لأبي هاشم فإنه قال: لا تجب التوبة منها على من عرف أنه لا عقاب فيها، وإن كانت الصغيرة محرمة لأن التوبة إنما تجب من العقاب وهو محجوج بإجماع المسلمين على التوبة من الصغائر والكبائر ولم يحفظ الإمام في (الإرشاد) خلاف أبي هاشم في هذه المسألة، وتبعه تلميذه الأنصاري في شرحه فحكى الإجماع على وجوب التوبة من الصغائر

وكان الشيخ السبكي يتردد في وجوب التوبة عيناً في الصغائر ويقول: لعل وقوعها تكفره الصلاة واجتناب الكبائر، يقتضي أن الواجب فيها أحد الأمرين من التوبة أو فعل ما يكفرها وبتقدير الوجوب فيحتمل أن لا يجب على الفور، بل حتى يمضي ما يكفرها، ويجتمع له في هذه المسألة احتمالات وجوب التوبة فيها عيناً على الفور كالكبيرة، وهو مذهب الأشعري، ووجوبها عيناً لكن لا على الفور بخلاف الكبيرة ووجوب أحد الأمرين التوبة أو فعل المكفر لها، وكان يرد الخلاف بين الأشعري وبين أبي هاشم إلى هذا، ويقول: ليس مراد الأشعري تعين التوبة بل محو الذنب إما التوبة النصوح أو فعل المكفرات لها، وقد خالفه ولده المصنف وقال: الذي أراه وجوب التوبة عيناً على الفور من كل ذنب، نعم إن فرض عدم التوبة عن الصغيرة، ثم جاءت المكفرات كفرت الصغيرتين وهما تلك الصغيرة وعدم التوبة. الثالث: تصح التوبة عن ذنب مع الإصرار على ذنب آخر خلافاً للمعتزلة بناء على أصلهم التقبيح العقلي لأن الكل في القبح على حد سواء ورد بأن الإسلام توبة حقيقية ثم من أسلم وهو مقارف الكبائر لا يقال: لا يصح إسلامه، وأما قوله تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئاً} وقوله: {فمن يعمل

مثال ذرة خيراً يره} وقوله: {والوزن يومئذ الحق} ولو صح قول المعتزلة للزم أن لا يوجد وزن الأعمال نعم التصفية عن سائر المعاصي من أوصاف كمال التوبة لا من شروطها وعند (141/ك) الصوفية التوبة من السالك لا تصير مفتاحا للمقامات حتى يتوب عن جميع الذنوب، لأن كدورة بعض القلب واسوداده بالذنب يمنع من السير إلى الله تعالى. واعلم أن لأصحابنا في هذه المسألة خلافا وتفصيلا، قال الحليمي: تصح التوبة من كبيرة دون أخرى من غير جنسها لم يتب عنها، كما يصح إقامة الحد عليه لأجلها وإن كان عليه حد آخر من غير جنسه وحكاه عنه البيهقي وسكت عليه وقضيته أنها إذا كانت من جنسها لا تصح، وقال ابن القشيري: وأباه الأصحاب وقال الإمام: إن كان معتقداً أن العقوبة على أحدهما أعظم صحت التوبة من أحدهما دون الآخر، وإن استوت الدواعي وهما مختلفا الجنس كالقتل والشرب فهما مثلان لا تصح التوبة على أحدهما مع الإصرار على الآخر، وقال الأستاذ أبو بكر: تصح التوبة من جنس مع الإصرار على جنس آخر، فتصح التوبة من الزنا مع الإصرار على الشرب، وكذا العكس ولا يصح من بعض أنواع الجنس مع الإصرار على البعض فلا تصح التوبة عن الزنا بزينب مع الإصرار على الزنا بهند إذ لا يتصور الندم في هذا ويتصور الندم في جنس مع المقام على جنس آخر، وقال الأستاذ أبو إسحاق: التوبة من قبيح مع الإصرار على مثله صحيحة حتى يصح أن يتوب عن الزنا بامرأة مع المقام على الزنا بمثلها، وإذا زنا بامرأة مرتين صح أن يتوب عن مرة دون أخرى، قال ابن القشيري: والأصحاب يأبون هذا فإن شرط صحة التوبة الندم على أن لا يعود إلى

مثله، وذلك محال مع الإصرار على مثله. فائدة: سئل بعضهم: ما علامة قبول التوبة؟ قال: أن يفتح عليك بابا من الطاعة لم يكن لك قبل ذلك، ومثاله من الشاهد: أن يأتي رجل إلى ملك فيقول: أنا أريد أن أكون طوع يدك وأدخل تحت عبوديتك فمن علامة قبول الملك إياه أن يستعمله على أدنى عمل من أعماله، فإذا علم أمانته ونصحه نقله إلى ما هو أعلى منه إلى أن يصير جليسا له. (ص) وإن شككت أمأمور أم منهي، فأمسك ومن ثم قال الجويني في المتوضئ يشك أيغسل ثالثة أم رابعة لا يغسل. (ش) القسم الثالث أن يشك في كونه مأمورا أو منهيا، فالواجب الإمساك عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)). وإنما اقتصر المصنف على هذه الأحوال الثلاثة لأنها قطب العلم وعليها يدور رحى العمل وقد بلغني عن بعض الأئمة أنه رأى في ابتداء أمره في المنام أنه حضر الجامع فوجد متصدرا فجلس ليقرأ عليه فقال: أنت تقرأ علي وقد علمك الله المسائل الثلاثة، فانتبه وأتى معبرا. فقال: اذهب فستصير أعلم أهل زمانك، فإن المسائل الثالث التي أشار إليها أمهات العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات))

الحديث. وما حكاه عن الجويني مدركه فيه أن ترك السنة أهون من ارتكاب البدعة، لكن الجمهور خالفوه، وقالوا: إنما ذلك عند التحقيق ولهذا لو شك أصلى ثلاثا أم أربعا فإنه يأتي برابعة مع احتمال الوقوع في منهي بالزيادة، وحكى ابن السمعاني في تاريخه أن رجلا رأى الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يتوضأ على دجلة فغسل وجهه أكثر من ثلاث فأنكر عليه، فقال الشيخ: لو صحت لي الثلاث لم أزد، وقسم الشيخ أبو حامد الاسفراييني الشك إلى ثلاثة أضرب: شك طرأ على أصل حرام فلا يحل، مثل أن يجد شاة مذبوحة ببلد فيه مسلمون والمجوس كثير فإن الأصل في الحيوان التحريم حتى يتحقق الزكاة المبيحة، وشك طرأ على أصل مباح مثل أن يجد إناء متغيرا ويحتمل أن يكون بطول مكث وأن يكون بنجاسة، فالأصل الطهارة إلى أن يتبين خلافها، ثم إن استند إلى سبب ظاهر قدم على الأصل كمسألة بول الظبية في الماء إذا وجده متغيراً، وإن لم يستند إلى سبب ظاهر، فإن كان بعيدا جدا لم يكن له أثر في التحريم، بل يعمل بأصل الحل ولكن يندب الورع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأجد التمرة ساقطة على فراشي فلولا أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها)). فإن دخول الصدقة الواجبة إلى بيته صلى الله عليه وسلم

كان نادرا جدا، وهي محرمة عليه وعلى آله، ولكن يحتمل أن يكون بعض الأطفال، دخل إلى بيته وفي يده شيء من ذلك فوقعت منه التمرة وهو احتمال بعيد، وبين هذين المرتبتين مراتب كطين الشارع وثياب ملامس النجاسة ويقوى الورع عند قوة الشبهة. والثالث: شك لا يعلم أصله كمعاملة من أكثر ماله حرام. (ص) وكل واقع بقدرة الله وإرادته. (ش) أي الخير والشر، وقد روي عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية: {إن المجرمين في ضلال وسعر} ... إلى ... {إنا كل شيء خلقناه بقدر} ورواه ابن حبان، وقال: يخالفونه في القدر ولقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} فصرح بأنه يريد الطاعة والمعصية، والإيمان والكفر كونا، وأن ذلك من تقديره وقضائه، وصار من لم يتشرع من الفلاسفة إلى نفي القدر جملة، حكاه المازري وغيره وصارت المعتزلة إلى نفيه في الشر والمعاصي دون الطاعات، واختلفوا في المباحات، ولنا إجماع المسلمين على

قولنا: ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن، وقد سبقت المسألة، وأحسن متعلق عليهم إثبات العلم بها له سبحانه وتعالى، ولهذا قال الشافعي: القدرية إذا سلموا العلم خصموا. وقد احتج عليهم مالك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)). فإن قيل: أتطلقون أن الله يريد المعصية؟ قيل اختلف فيه؛ فقال كثير من السلف: إنه يريد كل ما يجري في سلطانه، ويدخل في ذلك المعصية على الجملة فأما ذكرها على التفصيل فلا يجوز، وقال الأشعري أراد المعصية أن (142/ك) يكون معصية، وأن يكون المتلبس بها عاصيا معذبا كذا حكى الخلاف الأستاذ أبو منصور ثم قال: وأجمع أصحابنا على أنه لا يجوز أن يطلق القول بأن الله يريد المعصية، وسكت؛ لأن هذا القدر يوهم الخطأ، وإنما الخلاف في أنه هل يجوز أن يقال: يريد المعصية بالمعنى المذكور على الجملة لا على التفصيل؟ قال: وقد يطلق العامة ومن لا تحصيل له ذلك وهو خطأ، والغرض تحقيق المعنى وتصحيح العبارة

ومراعاتها واجبة. (ص) وهو خالق كسب العبد قدر له قدرة هي استطاعته تصلح للكسب لا للإبداع، فالله خالق غير مكتسب والعبد مكتسب غير خالق. (ش) الفرق في هذه المسألة ثلاثة: أحدها الجبرية قالوا: لا قدرة للعبد أصلا وهو باطل لما نجده من أنفسنا من الاقتدار، ثم يلزمهم وقوع التكاليف على ما لا يقدر عليه. والثانية القدرية وهم جمهور المعتزلة قالوا: إن العبد مستقل بإجاد فعله بقدرته وإرادته ودواعيه، ولولا ذلك لم يحسن التكليف والثواب والعقاب، لكنهم قالوا: إن تلك القدرة والداعية مخلوقتان لله، وقال كثير منهم: إن عند وجود تلك الأشياء يجب الفعل وعند عدمها يمتنع، وإذا كان الفعل إما واجبا وإما ممتنعا كان غير مقدور فوقعوا فيما فروا منه وهو عدم حسن التكليف على قاعدتهم.

الثالثة: القائلون بأن العبد غير مستقل وهم جميع أهل السنة وقالوا: الله خالق لأفعال العباد كما هو خالق لأعيانهم كما قال تعالى: {قل الله خالق كل شيء} وقالوا: لا خالق إلا الله كما قالوا: لا إله إلا الله. {والله خلقكم وما تعملون}. وكلمة ما مع الفعل للمصدر بإجماع أهل اللغة، وما يعمل ابن آدم ليس هو الصمم وإنما هو حركاته، وأكسابه وقد حكم بأنه خلقنا وخلق ما نعمله، وفي

الحديث: ((إن الله خالق كل صانع وصنعته)). ولأن المحدث لا يصح أن يحدث كما أن الحركة لا يصح أن تتحرك، فالله تعالى خلق القادر وقدرته، فقدرة القادر كتأثير الشمس بالحرارة فالشمس خلق الله وتأثيرها في الأشياء خلق الله، لأن المؤثر إذا كان خلقا يكون الأثر خلقا، وإذا كان الفاعل خلقا يكون الفعل خلقا، وإن قلت: إذا كان الله تعالى خلق الفعل فكيف يعاقبه على شيء خلقه؟ فنقول: كما يعاقب خلقا خلقه فليس عقوبته على ما خلق بأبعد من عقوبته من خلق، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وعلى هذا أدرج السلف الصحابة والتابعون، وصنف فيه البخاري كتاب (خلق أفعال العباد) إلى أن أحدث القدرية القول بخلافه، والأولون نظروا إلى السبب الأول وهو القدرة والإرادة القديمتان، والآخرون نظروا إلى السبب الآخر وهو القدرة والإرادة الحادثتان، وتوسط أهل السنة فمذهبهم بين الجبر والقدر، وقالوا: الأمر مزج لا بد من اعتبار الأمرين جميعا فالفعل من الله خلقا ومنك كسبا فهو اختيار ممزوج بجبر، وعبروا عن ذلك

بالكسب لقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} فأثبت له الرمي ونفاه عنه، فإذا نسب الفعل إلى القدرة القيمة سمي خلقا والقادر خالقا، وإذا نسب على القدرة الحادثة سمي كسبا، والفاعل كاسبا، ولا بد من القول بالكسب تصحيحا للتكليف والثواب والعقاب لامتناع الجمع بين اعتقاد الجبر المحض والتكليف وحاصله أن الأفعال تثبت للخلق شرعا لإقامة الحجة عليهم، ولا فاعل في الحقيقة إلا الله تعالى فمراعاة الظاهر شريعة ومراعاة الباطن حقيقة وفي هذا المذهب جمع بينهما وفي الكسب عبارات. أحدها: الفعل القائم بحل القدرة عليه، احترازا من الخلق وهو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه. الثانية: أنه الفعل المقدور بالقدرة الحادثة والخلق الفعل المقدور بالقدرة القديمة. الثالثة: الكسب المقدور الذي يروم القادر عليه به جلب نفع أو دفع ضر وهؤلاء لا يسمون فعل النائم كسباً.

الرابع: أنه المقدور الحاصل بالقدرة القديمة في محل القدرة الحادثة وهذا أحسنها، وقيل: ما تعلقت به القدرة الحادثة، وقال الأشعري: ما وقع بقدرة حادثة وتجنب المحققون لفظ الوقوع لإيهامه، وإن كان الشيخ لم يرد بالوقوع الحدوث، بل أراد تعلق القدرة به، قال الأستاذ أبو منصور: والعبارة الأولى أصح لأن وصف الكسب ينطوي على الحادث لأجل القدرة الحادثة المتعلقة به فتحديده به أولى، ونازع بعضهم في العبارة الثانية، وقال: إنما يستقيم على مذهب المعتزلة، وتأولها أن الباء بمعنى (مع) فيكون المعنى الواقع مع القدرة الحادثة، وفسر الإمام فخر الدين الرازي في تفسير سورة غافر الكسب: بكون الأعضاء سليمة صالحة للفعل والترك، وهذا إنما قالوه في تفسير القدرة لا الكسب، وأنكر أبو العباس ابن تيمية الكسب وقال: لا حقيقة له، وأكثر الناس لا يعقل فرقا بين الفعل الذي نفاه عن العبد، والكسب الذي أثبته، بل حقيقة هذا القول هو قول الجبرية أن العبد لا قدرة له ولا فعل ولا كسب وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري وأنشدوا مما يقال: ولا حقيقة عند معقولة ... تدنوا إلى الأفهام لكسب عند الأشعري والحال عنـ ... ـد البهشمي وطفرة النظام انتهى. ولك أن تقول أما أولا فقد قال بأن للعبد كسبا الإمام أحمد فيما نقله

القاضي أبو يعلى في كتاب (المعتمد الكبير) ونصره وأطال في الاستدلال عليه لقوله تعالى: {جزاء بما كانوا يكسبون} وقوله: {فبما كسبت أيديكم} وغير ذلك مما أضافه إليهم، وأما ثانيا: فما قاله غير لازم لأن تعلق الكسب ليس تعلق إبراز من العدم إلى الوجود بل نسبة يعلمها (143/ك) العبد بين قدرته ومقدوره في محله ضرورة، ويفارق بها حال المجبر، فيحصل التمييز من غير تأثير بخلاف الفعل، والأشعري يقول ما يقوم العبد من الصفات نوعان: نوع يوجد الله فيه دون قدرته واختياره كحركة المرتعش، ونوع يوجد الله فيه مع قدرته وإرادته كحركاته الاختيارية وهذه التفرقة معلومة بالضرورة فيسمي الثاني كسبا لا يعبر عنه إلا بلفظ الكسب، وإن كان اسم الفعل يشملهما لغة، كما أن التفرقة بين اللذة والألم معلومة قطعا ولا يعبر عنهما إلا بهاتين اللفظتين. على أن الأصحاب اختلفوا في أن الكسب هل يسمى فعلا للعبد على وجهين حكاهما الأستاذ أبو منصور، قال: فأطلقه عبد الله بن سعيد وطائفة، وقالوا: إن أحدنا فاعل على الحقيقة لكن على سبيل الاكتساب، والباري تعالى فاعل على سبيل الاختراع، وجوزوا وجود فعل من فاعلين باعتبارين، وأما الأشعري فأبى ذلك وقال: عن أحدنا لا يفعل على الحقيقة والفعل عنده هو الخلق والاختراع، وعلى هذا فأحدنا مكتسب حقيقة وفاعل مجازا، وعلى هذا قسم بعضهم الأفعال قسمين: حقيقي وحكمي أي محكوم على من صدر عنه بالثواب والعقاب، وإنما قال الأشعري: بالكسب وباين بينه وبين الفعل لاعتقاده أمرين: أحدهما: أن العبد غير خالق لأفعاله. والثانية: أن الله تعالى لا يعاقب إلا على ما فعله العبد والثواب والعقاب واقعان

على الجوارح فأثبت حالة يتعلق بها التكليف وسماه الكسب محافظة على هذا الأصل أي الثواب والعقاب، واستمد ذلك من قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} وساعده عليها المشاهدة في الخارج وهي التفرقة الضرورية بين حركة المرتعش والمريد، وهي في الحقيقة جمع بين الموجد، وهو أنه لا خالق إلا الله والأدب في الشريعة وهو أن العبد مكتسب مأمور منهي فله قدرة حادثة متعلقة بالمقدور على وجه الكسب، لا على وجه الاختراع وهو أن الذي يعبر عنه الأكابر: بالجمع بين الحقيقة والشريعة، وظن كثير من الناس أنه مخترع لهذه المقالة وليس كذلك، بل قد قالها قبله علي بن موسى الرضي بن جعفر الصادق رضي الله عنهم، وقد سئل أيكلف الله العباد ما لا يطيقون؟ قال: هو أعدل من ذلك. قيل: أفيستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال: هم أعجز من ذلك. وهو متقدم على الأشعري بما يزيد على مائة وعشرين سنة، وقال بعض المحققين: القول بالكسب: هو قول جميع الفرق المثبتين للقدرة لتظافر الآيات الكريمة عليه، مثل: {بما كانوا يعملون}. {بما

كانوا يكسبون} {بما كسبت أيديهم} {فمن يعمل} {من أعطى واتقى}، لكن اختص الأشعري بالكسب لغرابة رأيه فيه، فإنه خالف المعتزلة في قولهم العبد مستقل بإيجاد فعله الذي هو مقتضى الكسب عندهم، وقال الأشعري: لا يفعل شيئا ولا أثر لقدرته في فعله البتة، قيل: له فما معنى الكسب المذكور في القرآن؟ قال: وجود القدرة في المحل وتعلقها بالفعل من غير تأثير كتعلق العلم بمعلومه، ففسر الكسب بما يتبادر منه لغة، وهو التأثير في الفعل لما دل الدليل عنده على خلافه فجاء تفسيره غريبا عن اللغة فاختص اصطلاحه باسمه. واعلم أن أهل السنة اتفقوا على ثبوت قدرة للعبد لكنهم اختلفوا فالأشعري يقول: لا تأثير لقدرة العبد أصلا، غير اعتقاد العبد تيسير الفعل عند سلامة الآلات وحدوث الاستطاعة والقدرة، والكل من خلق الله تعالى، وألزموه أن ذلك يؤول في المعنى إلى الجبر، وقال القاضي أبو بكر: أصل المعنى بقدرة الله وكونه طاعة أو معصية بقدرة العبد، ومعنى هذا أن الفعل له اعتبارات عقلية عامة وخاصة كالوجود والحدوث وكونه حركة أو سكونا، وكون الحركة كتابة أو قولا أو صلاة أو وزنا، وليس الفعل بذاته شيئا غير الإمكان والباقي بالفاعل، فما كان منها عاما فنسبته إلى فاعله وهو الله تعالى ولا يتجدد له به اسم، وما كان منها أخص كالكتابة مثلا فنسبه

إلى العبد ويتجدد له به اسم كاتب، فهذا الوجه الأخص هو الواقع بالقدرة الحادثة وهو المسمى بالكسب وهذا لا يخرج عن قول الأشعري، إذ لم يثبت لقدرة العبد أثرا في الاتحاد، وإن كان خارجا عنه في بعض الاعتبارات وهما متفقان على تسمية الفعل من الجهة الخاصة لكن تلك النسبة عند الأشعري لكونها قائمة، وعند القاضي لكونها صادرة منه قائمة، ولا ينسب إلى الله تعالى لفظا بالاتفاق وإن كان فاعلا لهما عند الأشعري، وقال الأستاذ قدرة العبد مؤثرة فقيل: راجع إلى قول القاضي, وقيل: معناه أنه يقع بالقدرتين وقال إمام الحرمين في (النظامية) إن الفعل واقع بقدرة العبد المخلوق وإن خلقه منسوب إلى الله تعالى لا إلى العبد, ومعناه جعل قدرة العبد كالآلة والوسائط, فالله خالق لها, وقال الشهرستاني أخذ ذلك من الفلاسفة, وقصد به الفرار من الجبر, والجبر ألزم عليه, هذا تلخيص أقوال الناس والذي ينبغي اعتقاده: أن الله خالق أفعال العباد وأنها مكتسبة لهم, وأن حجة الله قائمة عليهم وأنه لا يسأل عما يفعل, ولا يطلب الوصول إلى غاية في ذلك, فلسنا مكلفين بها مع صعوبة مرامها. فائدة: مما يقصم المعتزلة قوله تعالى: {ثم شققنا الأرض شقا} ولما رآها الزمخشري قال: أسند الشق إلى نفسه مجازا إسناد الفعل إلى السبب قال صاحب (الإنصاف) ما رأيت كاليوم هذا ينازع ربه قوله: {ثم شققنا} حقيقة

فجعله مجازا, ويضيفيها إلى الحراث حقيقة أخرى, حكى أن سنيا ناظر معتزليا في (144/ك) مسألة القدر فقطع المعتزلي تفاحة من شجرة فقال: أليس أنا فعلت هذا؟ فقال: إن كنت فعلت قطعها فردها إلى ما كانت عليه فأفحم المعتزلي وانقطع, قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: وإنما ألزمه ذلك لأن القدرة التي يحصل بها الإيجاد لابد أن تكون صالحة للضدين, فلو كان تفريق الأجزاء من جهته لكان قادرا على وصلها. (ص) ومن ثم الصحيح أن القدرة لا تصلح للضدين وأن العجز صفة وجودية تقابل القدرة= تقابل الضدين لا العدم والملكة. (ش) فيه مسألتان إحداهما: القدرة على الفعل لا تصلح للضدين عند الأشعري وأكثر أصحابه؛ لأن الضدين يستحيل اجتماعهما معا في محل واحد, وقالت المعتزلة: تصلح لهما قال ابن القشيري وعند معظمهم تتعلق بالمختلفات التي

لا تتضاد, وقال القلانسي من أصحابنا: إنها تصلح لهما على البدل ونقله الأستاذ أبو منصور عن أبي حنيفة وابن سريج وتحقيق مذهبهم أن الاستطاعة إذا اقترنت بالايمان صلحت له ولا تصلح للكفر، إذا اقترنت بالإيمان، ولكنها لو اقترنت بالكفر بدلا من اقترانها بالإيمان لصلحت له بدلا من صلاحها بالإيمان, ولهذا منعوا تكليف ما لا يطاق لأن قدرة الكافر على كفره لو اقترنت بالإيمان بدلا من اقترانها بالكفر لصلحت للإيمان بدلا من صلاحها للكفر, فهي تصلح للإيمان على وجه فلم يكلف الكافر ما لا يطقيه إذا كلف الإيمان, والمعتزلة لا يقولون بهذا, ومن هنا فارقهم من قال من أصحابنا بصلاحيتها على البدل, وأما الأشعري رحمه الله وجمهور الأصحاب فيأبون ذلك ويقولون: استطاعة الإيمان توفيق واستطاعة الكفر خذلان, ولا تصلح إحداهما لما تصلح له الأخرى لاستحالة اجتماع الضدين, واحتجوا بقوله تعالى: {فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} فدل على أن استطاعة الهدى لا تصلح للضلال, وقوله صلى الله عليه وسلم: ((على عهدك ووعدك ما استطعت)) فلا يستغني عن ربه في كل تنفسه وكل طرفة يطرفها لافتقاره في ذلك إلى استطاعة

يخلقها الله عنده, ومقتضى مذهب القائل بصلاحيتها لذلك الفعل ولغيره من الأفعال الاستغناء عن تجدد الإمداد وهو محال, وقال الإمام في (المعالم): عندنا أنه إن كان المراد من القدرة سلامة الأعضاء فهي صالحة للفعل والترك, وإن كان المراد أن القدرة ما لم ينضم إليها الداعية الجازمة المرجحة فإنها لا تصير ضدا لذلك إلا مجردا, وعند حصول ذلك المجموع لا يصلح للضدين فهذا أحق. واعلم أن الخلاف في هذه المسألة مبني على الاستطاعة مع الفعل أو قبله, والصحيح عند الأشعري أنها معه؛ فلهذا منع صلاحية القدرة للضدين, والدليل على أنها معه لا قبله ولا بعده, أن الفعل إنما يكون كسبا لهما على طريق التأثير فوجب كون الاستطاعة موجودة حال كونه كسبا فوجب أن يكون مع الكسب, إذ هي عرض لا يبقى وقد قال تعالى: {لن تستطيع معي صبرا} فنفى استطاعة الصبر عنه, فدل على أن وجود الاستطاعة بوجود الصبر, وذلك يوجب أن تكون القدرة بالفعل. الثانية: اختلف الأصوليون في العجز فذهب المتكلمون إلى أنه صفة وجودية قائمة بالعاجز تضاد القدرة, والتقابل بينهما تقابل الضدين, وذهب الفلاسفة إلى أنها عبارة عن عدم القدرة مما من شأنه أن يكون قادرا والتقابل بينهما تقابل العدم والملكة, وتوقف الإمام في (المحصل) = لعدم الظفر بدليل يدل على شيء من ذلك, واختار في

(المعالم) الثاني محتجا بأنا متى تصورنا هذا العدم حكمنا بكونه عاجزا وإن لم نعقل فيه أمرا آخر فدل على أنه لا يعقل من العجز إلا هذا العدم. ووجه بناء هاتين المسألتين على مسألة خلق الأفعال كما أشار إليه المصنف بقوله: ومن ثم أي إنه لما كان ليس للعبد تأثير بقدرته وأن القدر. في الحقيقة هي قدرة الله تعالى لزم منه امتناع وقوع الفعل من قادرين, وأن العجز ضد القدرة, ولما انتفى عن العبد تأثير القدرة ثبت له العجز, وبعضهم جعل هذا المأخذ مبني على أن دخول مقدور تحت قدرتين محال، ومراده بالاختراع وأما دخول مقدور تحت قدرتين إحداهما قدرة الاختراع والثانية قدرة الاكتساب, فجائز, وثبت بهذا أيضا أن المتولدات بخلق الله تعالى كالألم في المضروب والانكسار في الزجاج ونحوه, وعند المعتزلة بخلق العبد ومن ثم قالوا: إن المقتول لم يمت بأجله وعندنا القتل فعل بخلق الله تعالى عقبة للحيوان الموت.

تنبيه: وجه إدخال المصنف هذه المسألة في مسائل التصوف وهي من مسائل الكلام: شدة تعلقها بالحقيقة الباعثة على العمل, فإنه إذا علم أن الله خلق العبد وأفعاله, وأرسل الرسل وأنزل الكتب وأخفى على العباد ما علمه من أحوالهم, فما كان في عمله وسابق مشيئته سعيدا يسر له بالطاعة وما كان عكسه منعه منها, ثم الاعتبار بالخاتمة ومبناها على السابقة فالشريعة خطابه لعباده بالحجة, وقيام المحجة, والحقيقة تصريفه في خلقه بما شاء وكيف شاء وقد اجتمعا في قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} فهذه حقيقة فالحقيقة باطن الشريعة ولا يغني باطن عن ظاهر, ولا ظاهر عن باطن, وقال الإمام في (المطالب): هذه ليست مستقلة بنفسها بل هي بعينها مسألة إثبات الصانع, وذلك لأن العمدة في إثبات الصانع: هو أن الإمكان محوج إلى المؤثر والمرجح فوجب الحكم بافتقار كل الممكنات إلى المؤثر والمرجح. (ص) ورجح قوم التوكل وآخرون الاكتساب, وثالث الاختلاف باختلاف الناس وهو المختار, ومن ثم قيل إرادة التجريد/ (145/ك) مع داعية الأسباب شهوة خفية وسلوك الأسباب مع داعية التجريد انحطاط عن الذروة العلية, وقد يأتي الشيطان باطراح جانب الله تعالى في صورة الأسباب أو بالكسل والتماهن في صورة التوكل, والموفق يبحث عن هذين, ويعلم أنه لا يكون إلا ما يريد ولا ينفعنا علمنا بذلك إلا أن يريد الله سبحانه وتعالى. (ش) في تفضيل التوكل على الاكتساب مذاهب. أحدها: التوكل لأنه ينشأ عن مجاهدات, والأجر على قدر النصب, ولأنه حاله صلى الله عليه وسلم, وحال أهل الصفة في الحديث الصحيح في صفة

الداخلين إلى الجنة بغير حساب: {وعلى ربهم يتوكلون}. وثانيها: الاكتساب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحد طعاما قط أطيب مما كسبت يده)) رواه البخاري ولأنه الجاري من فعل الأكابر من الصحابة وغيرهم من السلف. وثالثها: وهو المختار أنه يختلف باختلاف حال الشخص, فإن كان ممن يؤثر طاعة الله على كسبه ولا يسخط عند تعذر الرزق ولا يستشرف نفسه إلى أحد من الخلق, فالتوكل في حقه أفضل, والله تعالى يقوم له بالكفاية إذا رآه على الطاعة كما

قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وفي الحديث ((لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا)) أي: تغدوا جياعا من المخمصة وتروح ممتلئة البطون, فمن غلبه الطير فهو المغلوب, وفيه إشارة خفية إلى طلب ما يسد وقته خاصة, ولا يحمل هم غده على يومه, فالمقتصر على ذلك هو المراد من الحديث ولله در القائل: ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر وإن كان ممن عساه أن يتسخط أو يضطرب قلبه, ويستشرف الناس فالكسب أولى, لأن الاستشراف سؤال بالقلب وتركه أهم من ترك الكسب, والسعي في طلب الرزق لا يقدح في التوكل؛ لأن السبب من رزقه أيضا فإنه المقوي على الأعمال, وإنما المذموم التكاسل الذي يسميه كثير من البطالين التوكل, وفي هذا القول جمع بين أدلة الفريقين, وهو نظير جواز الصدقة بجميع المال لمن قوي ووثق من نفسه, والمنع لمن لم يصل إلى هذه الرتبة وحمل اختلاف الأحاديث على هاتين الحالتين, وهذا ما نقله الحليمي في (المنهاج) وجعل الاستكثار من نوافل الصيام والصلاة إذا لم يتبرم بها ولم يستثقلها نظير ذلك قال البيهقي في (شعب الإيمان) وعليه أكثر

أهل المعرفة, وقد سئل ابن سالم بالبصرة: أنحن متعبدون بالكسب أو بالتوكل؟ فقال: التوكل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم والكسب سنته وإنما استنزلهم الكسب لضعفهم حين أسقطوا عن درجة التوكل ولم يسقطوا عن درجة طلب المعاش بالمكاسب التي سنه, ولولا ذلك لهلكوا, وحكى الشيخ عبد الله بن أبي جمرة إن فقيرا كتب فتوى: ما تقول الفقهاء في الفقير المتوجه, هل يجب عليه الكسب؟ , فأجاب من نور الله بصريته إن كان توجهه دائما لا فترة فيه فالكسب عليه حرام, وإن كانت له في بعض الأوقات فترة فالتكسب عليه واجب, قال الشيخ فتأمل هذا ما أبدعه! وكيف يعضده حديث ((إن الله تكفل برزق طالب العلم)) أي: أنه لما استغرق بالطلب أوقاته ولم يمكنه مع كسب يسر الله له الرزق بلا واسطة السبب, فهذا وجه خصوصية العلم, وإن كان الله تكفل برزق جميع العباد, وذكر البيهقي

قبل ذلك ما يخرج منه قول رابع, وعول عليه: وهو تعاطي الأسباب مع اعتقاد أن المسبب هو الله تعالى, فإنه إن شاء حرمه ثمرة السبب مع تعاطيه له فيكون ثقته بالله واعتماده عليه في إيصال تلك المنفعة إليه مع وجود السبب, ويكون فائدة السبب أنه غير مانع من التعدد، لا كما يزعم كثير من الناس، وهذه طريقة الأنبياء والأصفياء وفي (صحيح البخاري): ((كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده)) وقال رجل: يا رسول الله, أرسل ناقتي وأتوكل, قال: ((اعقلها وتوكل)) رواه البيهقي بطرق وهذا لأن التوكل عمل يختص بالقلب, والتعرض بالأسباب أفعال البدن, فلا تنافي بينهما, وروى معاوية بن قرة أن عمر بن الخطاب أتى على قوم فقال: ما أنتم؟ فقالوا: نحن المتوكلون, فقال: بل أنتم المتكلون, ألا أخبركم بالمتوكلين, رجل ألقى حبة في بطن الأرض ثم توكل على ربه قال البيهقي: يعني المتكلين عل أموال الناس, وقال الجنيد: ليس التوكل الكسب ولا ترك الكسب, التوكل سكون القلب إلى موعود الله تعالى, قال البيهقي: فعلى هذا ينبغي أن لا يكون تجدد هذا السكون عن الكسب شرطا في صحة التوكل, بل يثبت بظاهر العلم معتمدا بقلبه على الله تعالى, كما قال بعضهم: اكتسب ظاهرا وتوكل باطنا, فهو مع

كسبه لا يكون معتمدا في كفاية أجره على الله تعالى, وقال أبو عثمان: اليقين لا يمنع الموقن من الطلب للحظ الكافي من الدنيا, وإنما يدل على ترك الفضول رضى بالقليل وزهد في الكثير اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فإنهم أئمة المتوكلين والزاهدين مع ما وصفا من الأمن بما لك والإياس مما ليس لك, ومن زعم أن اليقين يمنع طلب القوت والكفاف فقد جهل اليقين, وخالف سنن السلف الصالحين, فقد يقدم في ذلك مع صدق التوكل الأنبياء وأتباعهم وخلافهم (146/ك) خلاف الحق وموافقتهم موافقته, وذكر القشيري في الإشارات: قيل هل يزداد الرزق بالتوكل؟ قيل: لا, قيل: فهل ينقص عنه؟ قيل: لا, قيل: فما فائدته؟ فقيل: راحة القلب في الحال, وكذلك الدعاء لا يغير القضاء وفي الحال يتشرف بالمناجاة والتضرع بالافتقار, وقول المصنف: ومن ثم قيل يشير إلى ما ذكره صاحب (التنوير) قي إسقاط التدبير قال: طلبك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية, وطلبك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية, وافهم _ رحمك الله أن من شأن العدوان أن يأتيك فيما أنت فيه, فما أقامك الله فيه فيحقره عندك لتطلب غير ما أقامك الله فيه, فيشوش قلبك ويكدر وقتك, وذلك أنه يأتي للمتسببين فيقول: لو تركتم الأسباب وتجردتم لأشرقت لكم الأنوار ولصفت منكم القلوب والأسرار, وكذلك صنع فلان وفلان وفلان ويكون هذا

العبد ليس مقصودا بالتجريد ولا طاقة له به, إنما صلاحه في الأسباب فيتركها فيتزلزل إيمانه ويذهب إيقانه ويتوجه إلى الطلب (من الخلق وإلى) الاهتمام بالرزق, وكذلك يأتي للمتجردين ويقول: إلى متى تتركون الأسباب؟ ألم تعلموا أن تركها يطمع القلوب لما في أيدي الناس ولا يمكنك الإيثار ولا القيام بالحقوق وعوض ما يكون منتظر ما يفتح به عليك من الخلق, فلو دخلت في الأسباب بقي غيرك منتظرا ما يفتح عليه منك, ويكون هذا العبد قد طاب وقته وانبسط نوره, ووجد الراحة بالانقطاع عن الخلق ولا يزال به حتى يعود إلى الأسباب فيصيبه كدرتها وتغشاه ظلمتها, ويعود القائم في سببه أحسن حالا منه, وإنما قصد الشيطان بذلك أن يمنع العباد الرضى عن الله تعالى فيما هم فيه, وأن يخرجهم عما اختار لهم إلى مختارهم لأنفسهم وما أدخلك الله فيه تولى إعانتك عليه, وما دخلت فيه بنفسك أوكلك إليه, {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا}. هذا كلامه وفيه التنبيه على مكيدة من مكائد الشيطان وتلبيسه مقام التوكل بالاتكال, فتارة يحث على السبب ويوهم أنه السنة, وقد دس فيه الركون إليه, واطراح جانب الرب, وتارة يعكس هذه فيحثه على الترك ويوهمه أنه في مقام التوكل وإنما هو عجز ومهانة, والسعيد من وفق للفرق بينهما, وحذر من اغتياله. وأنا استغفر الله الكريم العظيم من الكلام في هذا المقام, لولا ضرورة البيان لأحجمت العنان, فقد قال بعض الأكابر: من تكلم بكلام لم يبلغه حاله كان فتنة عليه, وعلى سامعه ومن لم يكن علمه من حاله فهو ناقل. يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ... تعيب فيهم أمورا أنت تأتيها

يا كاسي الناس من عري وعورته ... للناس بادية ما إن يواريها وأنا أسأل الله تعالى المنة بكل ما يقربني إليه ويجمعني عليه مقرونا بالعوافي في الدارين برحمتك يا أرحم الراحمين, ووافق الفراغ بحمد الله تعالى لتعليقه في اليوم المبارك يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر جمادى الأولى من شهور سنة تسع وأربعين وثمانمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم والبركات والتكريم وعلى آله وصحبه أجمعين وذلك بالمدرسة الصلاحية بالقدس الشريف على يد العبد الفقير المعترف بالتقصير الراجي عفو ربه الكريم أحمد بن عثمان بن داود السعدي لطف الله به وعفى عنه وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. تم فلك الحمد اللهم.

§1/1