تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك

الماوردي

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم مُقَدّمَة الْحَمد لله الَّذِي جعل الْحق معزا لمن اعتقده وتوخاه ومعينا لمن اعْتَمدهُ وابتغاه وَجعل الْبَاطِل مذلا لمن آثره وارتضاه ومذيلا لمن أظهره واقتفاه حمدا يوازن جميل نعمه ويضاهي جزيل قسمه وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّد النَّبِي وَآله وَأَصْحَابه أما بعد فَإِن الله جلّ اسْمه ببليغ حكمته وَعدل قَضَائِهِ جعل النَّاس أصنافا مُخْتَلفين وأطوارا متباينين ليكونوا بالاختلاف مؤتلفين وبالتباين متفقين فيتعاطفوا بالإيثار تَابعا ومتبوعا ويتساعدوا على التعاون آمرا ومأمورا كَمَا قَالَ الشَّاعِر (وبالناس عَاشَ النَّاس قدما وَلم يزل ... من النَّاس مَرْغُوب إِلَيْهِ وراغب) // من الطَّوِيل //

فَوَجَبَ التَّفْوِيض إِلَى إمرة سُلْطَان مسترعى ينقاد النَّاس لطاعته ويتدبرون بسياسته ليَكُون بِالطَّاعَةِ قاهرا وبالسياسة مُدبرا وَكَانَ أولى النَّاس بالعناية مَا سيست بِهِ الممالك ودبرت بِهِ الرعايا والمصالح لِأَنَّهُ زِمَام يَقُود إِلَى الْحق ويستقيم بِهِ أود الْخلق وَقد أوجزت بِهَذَا الْكتاب من سياسة الْملك مَا أحكم المتقدمون قَوَاعِده فَإِن لكل مِلَّة سيرة وَلكُل زمَان سريرة فَلم يغن مَا سلف عَن مؤتلف من الشَّرِيعَة عهودها وَمن السياسة معهودها ليَكُون للدّين مُوَافقا وللدنيا مطابقا وَجعلت مَا تضمنه بَابَيْنِ فالباب الأول فِي أَخْلَاق الْملك وَالْبَاب الثَّانِي فِي سياسة الْملك ليَكُون مُشْتَمِلًا على مُعْتَقد ومفعول ومصلحا لعامل ومعمول وترجمته بتسهيل النّظر وتعجيل الظفر إِذْ كَانَ مَا تضمنه دَاعيا إِلَيْهِ وباعثا 2 آعليه وَأَنا أسأَل الله الْكَرِيم حسن المعونة والتوفيق وأرغب إِلَيْهِ فِي إمدادي بِالرشد والتسديد وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل

الْبَاب الأول فِي أَخْلَاق الْملك تمهيد الْأَخْلَاق غرائز كامنة تظهر بِالِاخْتِيَارِ وتقهر بالاضطرار وللنفس أَخْلَاق تحدث عَنْهَا بالطبع وَلها أَفعَال تصدر عَنْهَا بالإرادة فهما ضَرْبَان لَا تنفك النَّفس مِنْهُمَا أَخْلَاق الذَّات وأفعال الْإِرَادَة

الفصل الأول أخلاق الذات

الْفَصْل الأول أَخْلَاق الذَّات فَأَما أَخْلَاق الذَّات فَهِيَ من نفائج الْفطْرَة وَسميت أَخْلَاقًا لِأَنَّهَا تصير كالخلقة وَالْإِنْسَان مطبوع على أَخْلَاق قل مَا حمد جَمِيعهَا أَو ذمّ سائرها وَإِنَّمَا الْغَالِب أَن بَعْضهَا مَحْمُود وَبَعضهَا مَذْمُوم لاخْتِلَاف مَا امتزج من غرائزه ومضادة مَا تنافر من نحائزه فَتعذر لهَذَا التَّعْلِيل أَن يستكمل فَضَائِل الْأَخْلَاق طبعا وغريزة وَلزِمَ لأَجله أَن تتخللها رذائل الْأَخْلَاق طبعا وغريزة فَصَارَت الْأَخْلَاق غير منفكة فِي جبلة الطَّبْع وغريزة الْفطْرَة من فَضَائِل محمودة ورذائل مذمومة كَمَا قَالَ الشَّاعِر (وَمَا هَذِه الْأَخْلَاق إِلَّا طبائع ... فمنهن مَحْمُود وَمِنْهَا مذمم) // من الطَّوِيل // قَالَ بعض الْحُكَمَاء

من هو الفاضل

لكل خلق من الْفضل رَقِيب من الدناءة لَا يمْتَنع مِنْهُ إِلَّا مُؤثر للفضل على مَا سواهُ من هُوَ الْفَاضِل وَإِذا اسْتَقَرَّتْ هَذِه الْأَخْلَاق على هَذِه الْقَاعِدَة فالفاضل من غلبت فضائله رذائله فَقدر بوفور الْفَضَائِل على قهر الرذائل فَسلم من شين النَّقْص وَسعد بفضيلة التَّخْصِيص وَلذَلِك قَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أول مَا تبتدئون بِهِ من جهادكم جِهَاد أَنفسكُم وَهَذَا وَاضح لِأَن صَلَاح النَّفس يصلح مَا عَداهَا فَكَانَت أَحَق بالتقديم 2 ب وَأولى بالتقويم إِلَى أَي شَيْء تعود الْأَخْلَاق وَاخْتلف فِي الْأَخْلَاق هَل هِيَ عَائِدَة إِلَى الْفَضَائِل والرذائل أَو إِلَى النَّفس الَّتِي تصدر عَنْهَا الْفَضَائِل والرذائل لظُهُور الْأَخْلَاق بهما وَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا عَائِدَة إِلَى الذَّات الَّتِي حُدُوث النَّفس عَنْهَا

لأي شيء تراد فضائل الذات

لأي شَيْء ترَاد فَضَائِل الذَّات وَاخْتلفُوا فِي فَضَائِل الذَّات هَل ترَاد لذواتها أَو للسعادة الْحَادِثَة عَنْهَا فَذهب بعض الْحُكَمَاء إِلَى أَن المُرَاد بالفضائل ذواتها لِأَنَّهَا المكسبة للسعادة وَذهب بَعضهم إِلَى أَن المُرَاد بهَا السَّعَادَة الْحَادِثَة عَنْهَا لِأَنَّهَا الْغَايَة الْمَقْصُودَة بهَا إِلَى أَي شَيْء تتَوَجَّه السَّعَادَة وَاخْتلفُوا فِي السَّعَادَة هَل تتَوَجَّه إِلَى الْفَضَائِل المحمودة أَو إِلَى مَا يحدث عَن الْفَضَائِل من الْحَمد فَذهب بعض الْحُكَمَاء إِلَى توجه السَّعَادَة إِلَى الْفَضَائِل المحمودة لِأَنَّهَا نتيجة أَفعاله وَذهب بَعضهم إِلَى توجه السَّعَادَة إِلَى مَا يحدث عَن الْفَضَائِل من الْحَمد لِأَنَّهَا ثَمَرَة فضائله وجوب اهتمام ذِي الإمرة بمراعاة أخلاقه فَحق على ذِي الأمرة وَالسُّلْطَان أَن يهتم بمراعاة أخلاقه وَإِصْلَاح شيمه لِأَنَّهَا آلَة سُلْطَانه وأس إمرته وَلَيْسَ يُمكن صَلَاح جَمِيعهَا بِالتَّسْلِيمِ إِلَى الطبيعة والتفويض إِلَى النحيزة إِلَّا أَن يرتاض لَهَا بالتقويم والتهذيب رياضة تَهْذِيب وتدريج وتأديب فيستقيم لَهُ الْجَمِيع بَعْضهَا خلق مطبوع وَبَعضهَا خلق مَصْنُوع لِأَن الْخلق طبع وغريزة والتخلق تطبع وتكلف كَمَا قَالَ الشَّاعِر (يَا أَيهَا المتحلي غير شيمته ... وَمن سجيته الْإِكْثَار والملق)

أنواع الأخلاق

(عَلَيْك بِالْقَصْدِ فِيمَا أَنْت فَاعله ... إِن التخلق يَأْتِي دونه الْخلق) قَالَ بعض الْحُكَمَاء لَيْسَ شَيْء عولج إِلَّا نفع وَإِن كَانَ ضارا وَلَا شَيْء أهمل إِلَّا ضرّ وَإِن كَانَ نَافِعًا أَنْوَاع الْأَخْلَاق فَتَصِير الْأَخْلَاق نَوْعَيْنِ

تفاضل الأخلاق

غريزية طبع عَلَيْهَا ومكتسبة تطبع لَهَا والملوك 3 آبالفضائل الغريزية أخص بهَا من الْعَامَّة لِأَنَّهَا فيهم أوفر وَعَلَيْهِم أظهر لما خصوا بِهِ من كرم المنشأ وعلو الهمة والعامة بالفضائل المكتسبة أخص من الْمُلُوك لأَنهم إِلَى التماسها أسْرع ولكلالها أطوع لِكَثْرَة فراغهم لَهَا وتوفرهم عَلَيْهَا إِمَّا لرغبة فِي جدواها وَإِمَّا لرغبة فِي عدواها وَهَذَانِ المعنيان فِي الْمُلُوك معدومان إِلَّا من شرفت نَفسه فَمَال إِلَيْهَا لعلو همته وتوفر عَلَيْهَا لكرم طبعه لِأَنَّهُ لَا يعرى من فضل مكتسب وَلَا يَخْلُو من فعل مستصوب ليتفرد بفضائل النَّفس كَمَا تفرد بعز السُّلْطَان وَالْأَمر فَيصير بتدبير سُلْطَانه أخبر وعَلى سياسة رَعيته أقدر وَالْحَمْد يسْتَحق على الْفَضَائِل المكتسبة لِأَنَّهَا مستفادة بِفِعْلِهِ وَلَا يسْتَحق على الْفَضَائِل المطبوعة فِيهِ وَإِن حمدت لجودها بِغَيْر فعله تفاضل الْأَخْلَاق وَاخْتلف فِي أفضلهما ذاتا ففضل بعض الْحُكَمَاء أَخْلَاق الطَّبْع الغريزي على أَخْلَاق التطبع المكتسب لقُوَّة الغريزي وَضعف المكتسب

وَفضل آخَرُونَ أَخْلَاق التطبع المكتسب على أَخْلَاق الطَّبْع الغريزي لِأَنَّهَا قاهرة لأضدادها بالانتقال إِلَى مَا ضادها وَقَالَ آخَرُونَ كل وَاحِد مِنْهُمَا مُحْتَاج إِلَى الآخر لِأَن الْأَخْلَاق لَا تنفك مِنْهُمَا بِمَنْزِلَة الرّوح والجسد وكما لَا يظْهر أَعمال الرّوح إِلَّا الْجَسَد وَلَا ينْهض الْجَسَد إِلَّا بحركة الرّوح كَذَلِك الغريزة والاكتساب متقابلان فِي الْفِعْل ومتشاركان فِي الْفضل فتساويا فِي الطَّبْع والغريزة كَمَا قَالَ البحتري (وَلست أَعْتَد للفتى حسبا ... حَتَّى يرى فِي فعاله حَسبه) // من المنسرح // وَفرق بعض أهل اللُّغَة بَينهمَا فِي الِاسْم فَقَالَ الطَّبْع هُوَ الْخَتْم والتطبع هُوَ الْخلق 3 - ب

الفصل الثاني أوائل الفضائل وأواخرها

الْفَصْل الثَّانِي أَوَائِل الْفَضَائِل وأواخرها مبادئ الْفَضَائِل وللفضائل مبادئ هِيَ أَوَائِل وأواخر وَأول الْفَضَائِل الْعقل وَآخِرهَا الْعدْل لِأَن الْعقل أصل الْفَضَائِل بحدوثها عَنهُ وتدبيرها بِهِ فَلذَلِك كَانَ أَولهَا وَالْعدْل نتيجة الْفَضَائِل لِأَنَّهَا مقدرَة بِهِ فَلذَلِك صَار آخرهَا وهما قرينان مؤتلفان وَمَا ائتلف أَمْرَانِ إِلَّا كَانَ أَحدهمَا مُحْتَاجا إِلَى الآخر اضطرارا وَمَا سواهُمَا من الْفَضَائِل وَاسِطَة بَين الْعقل وَالْعدْل يخْتَص الْعقل بتدبيرها وَالْعدْل بتقديرها فَيكون الْعقل مُدبرا وَالْعدْل مُقَدرا وَلَيْسَ تنفك الْفَضَائِل بِوَاحِد مِنْهُمَا وَإِنَّمَا تنفك بِالنَّفسِ المطيقة لَهما فَإِن كَانَت النَّفس زكية صَافِيَة تهيأت للفضائل فَعمِلت بهَا وَإِن كَانَت خبيثة تهيأت

أوائل الرذائل وأواخرها

للرذائل فعدلت إِلَيْهَا وَصَارَ مَا وافقها مِنْهُمَا سهلا عَلَيْهَا فِي سرعَة انفعاله بِحكم الْمُنَاسبَة وَمَا خالفها صعبا عَلَيْهَا فِي تَأَخّر انفعاله بِحكم المنافرة لِأَن مُوَافقَة الأشكال مركوزة فِي الطباع كَمَا قيل الْمَوَدَّة مشاكلة طبيعية فِي أَنْوَاع شخصية يماثل بَعْضهَا بَعْضًا من حَيْثُ يعلم وَمن حَيْثُ لَا يعلم قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْمُتَقَدِّمين إِن قَوَاعِد الْأَخْلَاق الفاضلة أَربع يتَفَرَّع عَنْهَا مَا عَداهَا من الْفَضَائِل وَهِي التَّمْيِيز والنجدة والعفة وَالْعدْل وَيتَفَرَّع عَن أضدادها الْكثير من الرذائل أَوَائِل الرذائل وأواخرها وللرذائل مبادئ هِيَ أَوَائِل وغايات هِيَ أَوَاخِر

فَأول الرذائل الْحمق وَآخِرهَا الْجَهْل وَفِي الْفرق بَينهمَا وَجْهَان أَحدهمَا أَن الأحمق هُوَ الَّذِي يتَصَوَّر الْمُمْتَنع بِصُورَة الْمُمكن وَالْجَاهِل هُوَ الَّذِي لَا يعرف الْمُمْتَنع من الْمُمكن وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الأحمق هُوَ الَّذِي يعرف الصَّوَاب وَلَا يعْمل بِهِ وَالْجَاهِل هُوَ الَّذِي 4 آلا يعرف الصَّوَاب وَلَو عرفه لعمل بِهِ وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (الأحمق أبْغض خلق الله إِلَيْهِ إِذْ حرمه أعز الْأَشْيَاء إِلَيْهِ وَهُوَ الْعقل) وَالْعرب تَقول الأحمق مَأْخُوذ من حمقة السُّوق إِذا نقصت وَكَأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى ذهَاب عقله وللجاهل حالتان

الْحَال الأولى أَن يجهل وَيعلم أَنه يجهل وَهَذَا يجوز أَن يسترشد فَيعلم مَا جهل إِن أمد بحمية باعثة وأعين بِنَفس قَابِلَة كَمَا قيل لَوْلَا الْخَطَأ مَا أشرق نور الصَّوَاب قَالَ الشَّاعِر (إِذا صَحَّ حس الْمَرْء صَحَّ قِيَاسه ... وَلَيْسَ يَصح الْعقل من فَاسد الْحس) // من الطَّوِيل // وَالْحَال الثَّانِيَة أَن يجهل ويجهل أَنه يجهل فَهُوَ أسوأهما حَالا وأقبحهما خِصَالًا لِأَنَّهُ إِذا جهل جَهله صَار جهلين متشاكلين فِي الصُّور مُخْتَلفين فِي الْأَثر أَحدهمَا سالب لهدايته وَالْآخر جالب لغوايته فطاح بِالْأولِ فِي سكراته ومرح بِالْآخرِ فِي هفواته فَلم يخْتَر لَهُ فاقه وَلم ترج لَهُ إفاقة وَقد قَالَ جالينوس الْجَهْل بِالْجَهْلِ جهل مركب

لِأَن أَجْهَل وَأعلم أنني أَجْهَل أحب إِلَيّ من أَن أَجْهَل وأجهل أنني أَجْهَل قَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام النائحة على الْمَيِّت سَبْعَة أَيَّام وعَلى الْجَاهِل كل أَيَّام حَيَاته وَالْمَوْت خير من الْحَيَاة الردية وَقيل فِي منثور الحكم الْجَاهِل وَإِن توفرت عَلَيْهِ الْأَيَّام فَكَأَنَّهُ ابْن يَوْمه وتلاد سَاعَته وَقَالَ بعض الْعَرَب لَو صور الْعقل لاظلمت مَعَه الشَّمْس وَلَو صور الْجَهْل لأضاء مَعَه اللَّيْل قَالَ الشَّاعِر (لِلْعَقْلِ مَا خلق الْإِنْسَان فالتمسن ... بِالْعقلِ حظك لَا بِالْجَهْلِ والرتب)

ما هي الفضائل

(4 ب لَا يلبث الْجَهْل أَن يجني لصَاحبه ... ذما وَيذْهب عَنهُ بهجة الْحسب) // من الْبَسِيط // مَا هِيَ الْفَضَائِل والفضائل توَسط مَحْمُود بَين رذيلتين مذمومتين من نُقْصَان يكون تقصيرا أَو زِيَادَة تكون سَرفًا فَيكون فَسَاد كل فَضِيلَة من طرفيها فالعقل وَاسِطَة بَين الدهاء والغباء وَالْحكمَة وَاسِطَة بَين الشَّرّ والجهالة والسخاء وَاسِطَة بَين التقتير والتبذير والشجاعة وَاسِطَة بَين الْجُبْن والتهور

تركيب الفضائل مع غيرها

وَالْحيَاء وَاسِطَة بَين القحة والحصر وَالْوَقار وَاسِطَة بَين الهزء والسخافة والسكينة وَاسِطَة بَين السخط وَضعف الْغَضَب والحلم وَاسِطَة بَين إفراط الْغَضَب ومهانة النَّفس والعفة وَاسِطَة بَين الشره وَضعف الشَّهْوَة والغيرة وَاسِطَة بَين الْحَسَد وَسُوء الْعَادة والظرف وَاسِطَة بَين الخلاعة والفدامة والمودة وَاسِطَة بَين الخلابة وَحسن الْخلق والتواضع وَاسِطَة بَين الْكبر ودناءة النَّفس تركيب الْفَضَائِل مَعَ غَيرهَا وَقد يحدث من تركيب فَضَائِل مَعَ غَيرهَا من الْفَضَائِل فَضَائِل أخر فَيحدث من تركيب الْعقل مَعَ الشجَاعَة الصَّبْر فِي الملمات وَالْوَفَاء بالإيعاد

نتائج كثير من الأخلاق تؤول إلى رذائل

وَعَن تركيب الْعقل مَعَ السخاء إنجاز المواعيد والإسعاد بالجاه وَعَن تركيب الْعقل مَعَ الْعِفَّة النزاهة وَالرَّغْبَة عَن الْمَسْأَلَة وَعَن تركيب الشجَاعَة مَعَ السخاء الإملاق والأخلاق وَعَن تركيب الشجَاعَة مَعَ الْقُوَّة إِنْكَار الْفَوَاحِش والغيرة على الْحرم وَعَن تركيب السخاء مَعَ الْعِفَّة الْإِسْعَاف بالقوت والإيثار على النَّفس نتائج كثير من الْأَخْلَاق تؤول إِلَى رذائل ولكثير من الْأَخْلَاق نتائج تؤول إِلَى رذائل حُكيَ عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ أعجب مَا فِي الْإِنْسَان نَفسه وَمَا فِيهَا من التضاد مَا أذكرهُ إِن سنح لَهَا الرَّجَاء أذلها الطمع وَإِن أهاجها الطمع أهلكها الْحِرْص وَإِن ملكهَا الْيَأْس قَتلهَا الأسف وَإِن عرض لَهَا الْغَضَب اشْتَدَّ بهَا الغيظ

وَإِن أسعدها الرِّضَا أنسيت التحفظ وَإِن نالها خوف شغلها الحذر وَإِن اتَّسع لَهَا الْأَمْن استلبتها الْعِزَّة وَإِن جددت لَهَا نعْمَة أحدثت لَهَا مرحا وَإِن أصابتها مُصِيبَة فضحها الْجزع وَإِن نَالَتْ مَالا أطغاها الغي وَإِن أفرط عَلَيْهَا الشِّبَع كظتها البطنة فَكل تَقْصِير بهَا مُضر وكل إفراط لَهَا مفْسدَة وَقَالَ غَيره

أقسام الخلق الذاتي

الإفراط فِي التَّوَاضُع مذلة والإفراط فِي التكبر يستحر البغضة والإفراط فِي الحذر يَدْعُو إِلَى إِيهَام الْخلق والإفراط فِي الْأنس يكْسب قرناء السوء والإفراط فِي الإنقاص يوحش ذَوي النَّصِيحَة قَالَ ابْن المعتز لَو ميزت الْأَشْيَاء لَكَانَ الْكَذِب مَعَ الْجُبْن والصدق مَعَ الشجَاعَة والراحة مَعَ الْيَأْس والذل مَعَ الطمع والحرمان مَعَ الْحِرْص أَقسَام الْخلق الذاتي وَقد يَنْقَسِم قسمَيْنِ أَحدهمَا مَا أوجب ثَنَاء المخلوقين. .

وَهُوَ مَا عدا نَفعه عَلَيْهِم وَالثَّانِي مَا اقْتضى ثَنَاء الْخَالِق وَهُوَ مَا قصد بِهِ وَجه الله تَعَالَى روى جَعْفَر بن مُحَمَّد قَالَ ناجى الله بعض أنبيائه فَقَالَ يَا رب أَي خلقك أحب إِلَيْك قَالَ أَكْثَرهم لي ذكرا قَالَ يَا رب فَأَي خلقك أَصْبِر قَالَ أكظمهم للغيظ قَالَ يَا رب فَأَي خلقك أعدل قَالَ من أدان نَفسه قَالَ يَا رب فَأَي خلقك أغْنى قَالَ أقنعهم برزقه قَالَ يَا رب فَأَي خلقك أسعد قَالَ من آثر أَمْرِي على هَوَاهُ قَالَ يَا رب فَأَي خلقك أَشْقَى قَالَ من لم تَنْفَعهُ الموعظة 5 ب فَهَذَا مَا تعلق بأخلاق الذَّات

الفصل الثالث أفعال الإرادة

الْفَصْل الثَّالِث أَفعَال الْإِرَادَة أَسبَابهَا وَأما أَفعَال الْإِرَادَة فتصدر عَن أَسبَاب باعثة عَلَيْهَا دَاعِيَة إِلَيْهَا وَهِي الْعقل والرأي والهوى فَأَما الارادة فَلَيْسَتْ حَادِثَة إِلَّا عَن أَحدهَا وَأما الْعقل والرأي فمؤتلفان وهما عِلّة الْفَضَائِل الْفرق بَين الْعقل والرأي وَفِي الْفرق بَينهمَا وَجْهَان أَحدهمَا أَن الْعقل مَا تَيَقّن بِهِ الصَّوَاب من الْخَطَأ والرأي غَلَبَة الظَّن فِي تَرْجِيح الصَّوَاب على الْخَطَأ وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْعقل هُوَ الْمُوجب لأمر لَا يجوز خِلَافه والرأي هُوَ سُكُون النَّفس إِلَى تَرْجِيح أَمر يجوز خِلَافه ثمَّ يتفقان فِي النَّعْت وَالصّفة ويختلفان فِي الْعلَّة والنتيجة فالعقل لَازم لمحله ومستقل بِحكمِهِ والرأي معترض يستمد الْعقل ويستضيء بنوره وَلذَلِك قيل

ظن الْعَاقِل أصدق من يَقِين الْجَاهِل وَقَالَ عُلَمَاء الْعَرَب سمي الْعقل عقلا لِأَنَّهُ يعقل صَاحبه عَن القبائح وَكَانَ الْمَأْمُون ينشد كثيرا قَول الشَّاعِر (يعد عَظِيم النَّاس من كَانَ عَاقِلا ... وَإِن لم يكن فِي قومه بحسيب) (وَإِن حل أَرضًا عَاشَ فِيهَا بعقله ... وَمَا عَاقل فِي بَلْدَة بغريب) // من الطَّوِيل //

وَلَئِن كَانَ الْعقل مُسْتقِلّا ببصيرته فقد يزْدَاد بالتجارب تيقظا وبممارسة الْأُمُور تحفظا فَلَا يلتبس عَلَيْهِ حزم وَلَا ينتقص عَلَيْهِ عزم وَقيل كل شَيْء يحْتَاج إِلَى الْعقل وَالْعقل يحْتَاج إِلَى التجارب وَقد قيل اسْتُرْ عَورَة الحداثة بدراية كتب الْمُتَقَدِّمين واستعن على إِدْرَاك الْأَحْوَط بِحِفْظ آثَار الماضين قَالَ بعض الْحُكَمَاء من لم تلقح رَأْيه التجارب عقمت همته فنظمه بعض الشُّعَرَاء

الهوى

(من لم تلقحه نَوَائِب دهره ... وحوادث الْأَيَّام فَهُوَ عقيم) // من الْكَامِل // الْهوى 6 - آوليجهدن أَن لَا يَجْعَل لنَفسِهِ فِي الْهوى نَصِيبا وَقد قيل من أذلّ هَوَاهُ عز وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء (لنعم أَخُو التَّقْوَى فَتى طَاهِر الحجى ... خميص من الْفَحْشَاء عف المسالك) (فَتى ملك اللَّذَّات أَن يعتبدنه ... وَمَا كل ذِي لب لَهُنَّ بِمَالك) // من الطَّوِيل // وَقَالَ آخر

(وألتذ مَا أهواه وَالْمَوْت دونه ... كشارب سم فِي إِنَاء مفضض) (فتوشك أمراضي تؤوب بمرضة ... تفرق مَا بيني وَبَين ممرضي) // من الطَّوِيل //

الفصل الرابع الكرم والمروءة

الْفَصْل الرَّابِع الْكَرم والمروءة بَين الْكَرم والمروءة فَأَما الْكَرم والمروءة فهما قرينان فِي الْفضل ومتشاكلان فِي الْعقل وَالْفرق بَينهمَا مَعَ التشاكل من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْكَرم مُرَاعَاة الْأَحْوَال أَن يكون على أنفعها وأفضلها والمروءة مُرَاعَاة الْأَحْوَال أَن يكون على أحْسنهَا واجملها وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْكَرم مَا تعدى نَفعه إِلَى غير فَاعله والمروءة قد تقف على فاعلها وَلَا تتعدى إِلَى غَيره فَإِن استعملها فِي غَيره مَا زجت الْكَرم وَلم ينْفَرد بالمروءة وَصَارَ بالاجتماع أفضل وَإِن افْتَرقَا كَانَ الْكَرم أفضل لتعدي نَفعه وتعدي النَّفْع أفضل وَلَيْسَ وَاحِد من الْكَرم والمروءة خلقا مُفردا وَلكنه يشْتَمل على أَخْلَاق يصير مجموعها كرما ومروءة الْمُرُوءَة رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (من عَامل النَّاس فَلم يظلمهم وَحَدَّثَهُمْ فَلم يكذبهم وَوَعدهمْ فَلم يخلفهم فَهُوَ مِمَّن كملت مروءته وَظَهَرت عَدَالَته وَوَجَبَت أخوته) قَالَ بعض البلغاء 6 ب

من شَرَائِط الْمُرُوءَة أَن تعف عَن الْحَرَام وتتصلف عَن الآثام وتنصف فِي الحكم وتكف عَن الظُّلم وَلَا تطمع فِي مَا لَا تسْتَحقّ وَلَا تستطيل على من لَا تسْتَرق وَلَا تعين قَوِيا على ضَعِيف وَلَا تُؤثر دنيا على شرِيف وَلَا تسر مَا يعقب الْوزر وَالْإِثْم وَلَا تفعل مَا يقبح الذّكر وَالِاسْم قَالَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك لأبي حَازِم أَي عباد الله أكْرم قَالَ أولو الْمُرُوءَة وَالنَّهْي الَّذين نهوا النَّفس عَن الْهوى وَلم يَقُولُوا لَعَلَّ وَعَسَى قَالَ أنوشروان لِابْنِهِ

انقسام الفضائل مع الكرم والمروءة

من الْكَامِل الْمُرُوءَة قَالَ من حصن دينه وَوصل رَحمَه وَأكْرم إخوانه وَفِي اشتقاق اسْم الْمُرُوءَة من كَلَام الْعَرَب مَا يدل على فضيلتها عِنْدهم وَعظم خطرها فِي نُفُوسهم فَفِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا مُشْتَقَّة من الْمُرُوءَة وَالْإِنْسَان فَكَأَنَّهَا مَأْخُوذَة من الإنسانية وَالْوَجْه الثَّانِي أَنَّهَا مُشْتَقَّة من المريء وَهُوَ مَا استمرأه الْإِنْسَان من الطَّعَام لما فِيهِ من صَلَاح الْجَسَد فَأخذت مِنْهُ الْمُرُوءَة لما فِيهَا من صَلَاح النَّفس انقسام الْفَضَائِل مَعَ الْكَرم والمروءة فَكل كرم ومروءة فَضِيلَة وَلَيْسَ كل فَضِيلَة كرما ومروءة بل تَنْقَسِم الْفَضَائِل مَعَ الْكَرم والمروءة إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام

الْقسم الأول مَا يدْخل من الْفَضَائِل فِي الْكَرم والمروءة كالعفو والعفة وَالْأَمَانَة وَالْقسم الثَّانِي مَا يدْخل فِي الْكَرم وَلَا يدْخل فِي الْمُرُوءَة كالحمد وَالرَّحْمَة وَالْحمية والبذل والمساعدة وَالْقسم الثَّالِث مَا يدْخل فِي الْمُرُوءَة وَلَا يدْخل فِي الْكَرم كعلو الهمة وَحسن المعاشرة ومراعاة الْمنَازل والملابس 7 آ وَالْقسم الرَّابِع مَا لَا يدْخل فِي الْكَرم وَلَا الْمُرُوءَة كالشجاعة وَالصَّبْر على الشدَّة فَاجْتمع الْكَرم والمروءة فِي بعض الْفَضَائِل وافترقا فِي بَعْضهَا فَصَارَ الْكَرم أَعم من الْمُرُوءَة فِي بعض الْفَضَائِل والمروءة أَعم من الْكَرم فِي بعض الْفَضَائِل فَلم يتَعَيَّن عُمُوم أَحدهمَا وخصوص الآخر وَإِن تناسب مَا ميز بِهِ احدهما

الفصل الخامس السجايا والأخلاق

الْفَصْل الْخَامِس السجايا والأخلاق هَذَا مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ قَوَاعِد الْأَخْلَاق الْفرق بَين السجايا والأخلاق أما السجايا فقد اخْتلف فِي الْفرق بَينهَا وَبَين الْأَخْلَاق على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن السجايا مَا لم يظْهر الطبائع والأخلاق مَا أظهرتها فَكَانَت قبل ظُهُورهَا سجايا وَصَارَت بعد ظُهُورهَا أَخْلَاقًا وَالْوَجْه الثَّانِي أَن السجايا مَا لم يتَغَيَّر لطبع وَلَا تطبع والأخلاق مَا يجوز أَن يتَغَيَّر بطبع وتطبع وَزعم بعض عُلَمَاء الطِّبّ أَن السجايا والأخلاق تَابِعَة لمزاج الْبدن فِي أَحْوَال الطباعة بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها فزعموا أَن الْغَضَب يسْرع بِكَثْرَة الْمرة الصَّفْرَاء ويضعف بقلتها وتكثر الْحَرَارَة والقحة والشجاعة مَعَ وفور الدَّم وتقل لقلته وَيكثر الْخبث والدهاء وَالْمَكْر لغَلَبَة الْمرة ويقل إِن قلت وَيكثر الْحلم والاناة لغَلَبَة البلغم ويقل إِن قل فاذا اعتدلت فِيهِ هَذِه الأمزجة اعتدلت أخلاقه فَكَانَت فَضَائِل وَإِن تجاوزت الِاعْتِدَال إِلَى زِيَادَة أَو نُقْصَان خرجت عَن الْفَضَائِل إِلَى الرذائل فِي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَالَّذِي عَلَيْهِ المتدينون أَن الله تَعَالَى ركبهَا فِي النُّفُوس وطبعها فِي الْفطر 7 ب بِحَسب إِرَادَته على مَا قدره من أَحْوَال عباده وَجعل اخْتِلَاف الْأَخْلَاق كاختلاف الْخلق والصور الَّتِي لَهَا عِلّة غير إرادية

أحوال الإنسان في أخلاقه

وَأما الشيم فكالسجايا فِي قَول الْأَكْثَرين وكالأخلاق فِي قَول الأقلين وَالْفرق بَين الغرائز والنحائز أَن الغرائز مَا امتزج بالطبع والنحائز مَا ظهر بِالْقُوَّةِ أَحْوَال الْإِنْسَان فِي أخلاقه فَإِذا وضح مَا ذَكرْنَاهُ من أَحْوَال الْأَخْلَاق من صَلَاح وَفَسَاد وَحمد وذم فَلَيْسَ يَخْلُو الْإِنْسَان من إِحْدَى سِتّ أَحْوَال إِحْدَاهُنَّ أَن تكون أخلاقه كلهَا صَالِحَة فِي الْأَحْوَال كلهَا فَهِيَ النَّفس الزاكية وصلاحها هُوَ الْخَيْر التَّام وصاحبها هُوَ السَّيِّد بِالِاسْتِحْقَاقِ فيحفظ صَلَاح أخلاقه كَمَا يحفظ صَلَاح جسده وَلَا يغْفل عَن مراعاتها ثِقَة بصلاحها فَإِن الْهوى مراصد والمهمل معرض للْفَسَاد قَالَ بعض الْحُكَمَاء النَّفس عروف عزوف ونفور أُلُوف مَتى ردعتها ارتدعت وَمَتى حملتها حملت وَإِن أهملتها فَسدتْ قَالَ عَليّ بن عُبَيْدَة الريحاني إِن من شَأْن النَّفس أَنَّهَا كلما أَعْطَيْت رخصَة فِي الْغَفْلَة وَالنِّسْيَان ازدادت أَكثر مِمَّا أَعْطَيْت وردهَا قبل الْعَادة أَهْون من ردهَا بعد الْحَاجة

وَلذَلِك قَالَت الْعَرَب فِي أَمْثَالهَا لَو نهيت الأولى لانتهت الْأُخْرَى قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز لمَوْلَاهُ مُزَاحم إِن الْوُلَاة جعلُوا الْعُيُون على الْعَوام وَأَنا أجعلك عينا على نَفسِي فَإِن سَمِعت كلمة وبخني عَلَيْهَا وفعالا لَا تحبه مني فعظني عِنْده والاستظهار بِمثل 8 آهذه الأحتياط قَالَ بعض الْحُكَمَاء إِن للنَّاس أفهاما يحفظون عَلَيْك أفهامك فَرُبمَا ذكروك مَا قد أنسيت وأتاك عَنْهُم مَا قد سقط عَن علمك فعلى حسب ذَلِك فَلْيَكُن حذرك من ذمهم وقهرك لَهُم بصيانة نَفسك عِنْدهم وَالْحَال الثَّانِيَة أَن تكون أخلاقه كلهَا فَاسِدَة فِي الْأَحْوَال كلهَا فَهِيَ النَّفس الخبيثة وفسادها هُوَ الشَّرّ التَّام وصاحبها هُوَ الشقي بِالِاسْتِحْقَاقِ فيعالج فَسَاد نَفسه كعلاج مرض جسده وَهُوَ أصعب أحوالها علاجا وأبطؤها صلاحا لِأَنَّهَا تنْتَقل إِلَى ضد بِغَيْر ضد وَترد عَن طبع بِغَيْر طبع قَالَ بعض الْحُكَمَاء لَا مرض أوجع من قلَّة الْعقل

وَلِأَن يداوي الْمَرْء عقله من الْجَهْل أَحْرَى بِهِ أَن يداوي بدنه من الْمَرَض فتلين بشماسها وتتدرج فِي مراسها لينقلها بالتدريج عَن أَحْوَال مُتَقَارِبَة إِلَى غَايَة متناهية فَرَائض الْفِيل الوحشي يَقُودهُ بالتدريج إِلَى ضد طباعه قَالَ الشَّاعِر (وَالنَّفس راغبة إِذا رغبتها ... وَإِذا ترد إِلَى قَلِيل تقنع) // من الْكَامِل // فَيحكم الْعقل عَلَيْهَا فَكفى بِهِ مُدبرا ناصحا وسفيرا مصلحا كَمَا قيل الْقُلُوب خواطر بالهوى والعقول تزجر وتنهى

وَفِي التجارب علم مُسْتَفَاد وَالِاعْتِبَار يفيدك الرشاد وَكَفاك أدبا مَا تكره من غَيْرك فعظ نَفسك بالعبرة وَقيل لبَعض الْحُكَمَاء مَتى بدأت بِطَلَب الشّرف وَالْفضل فَقَالَ مُنْذُ الْوَقْت الَّذِي بدأت فِيهِ بمعاتبة نَفسِي على مَا أَنا فِيهِ من القبائح وَالْحَال الثَّالِثَة أَن تكون أخلاقه صَالِحَة فِي كل الْأَحْوَال فتنقلب كلهَا إِلَى الْفساد 8 ب فِي كل الْأَحْوَال فَهُوَ المستعاذ بِهِ من الْحور بعد الكور وَلَيْسَ تكون إِلَّا عَن أَسبَاب ناقلة لَا تنفك فِيهَا من أحد ثَلَاثَة أُمُور إِمَّا من سوء منشأ

وَإِمَّا من غَلَبَة شَهْوَة وَإِمَّا من إهمال وَقلة تحفظ فيعالجه بالضد من سَببه فان فِي صَلَاح الطَّبْع عونا على فَسَاد الِاكْتِسَاب وَلنْ يستصعب انقياد طبع طَرَأَ عَلَيْهِ عَارض قَالَ الشَّاعِر (وَمَا النَّفس إِلَّا حَيْثُ يَجْعَلهَا الْفَتى ... فَإِن أَعْطَيْت تاقت وَإِلَّا تسلت) // من الطَّوِيل // وَلَئِن تغير الطَّبْع بالإهمال فَهُوَ إِلَى أَصله أبرع وَإِذا أنقصته الحمية كَانَ إِلَى الاسْتقَامَة أسْرع قَالَ بزرجمهر من طباع النَّفس اسْتِدَامَة المعاذير لصَاحِبهَا فِيمَا مضى والوجالة فِيمَا بقى

فَليعلم الْعَاقِل أَنَّهَا إِن سهلت لَهُ الْعذر فِي قَبِيح أَتَاهُ أَنه قد اكْتسب فِي قبُوله فِيهَا مثله قَالَ الشَّاعِر (وَإِن امْرَءًا لَا يَنْتَهِي عَن غواية ... إِذا مَا اشتهتها نَفسه لجهول) // من الطَّوِيل // وَالْحَال الرَّابِعَة أَن تكون كل أخلاقه فَاسِدَة فِي كل الْأَحْوَال فتنقلب إِلَى الصّلاح فِي كل الْأَحْوَال فَمَا ذَاك إِلَّا لداع غلب على الطَّبْع فاجتذبه وَقَوي عَلَيْهِ حَتَّى قلبه فيراعي حفظ أَسبَابه وتقوية مواده وَلَا يغفله فيجذبه الطَّبْع كَمَا اجتذبه فَإِن نوازع الطباع أجذب وَهِي إِلَى مَا ناسبها أقرب وَقَلِيل لفساد صلح أَن يكون مَحْفُوظ الصّلاح قَالَ بعض الْحُكَمَاء كل متأدب من غَيره مَتى لم يدم عَلَيْهِ الْأَدَب اخْتَلَّ مَا يَسْتَفِيد مِنْهُ وَرجع 9 آإلى طبعه وملاك صَلَاحهَا أَن تكاثر من وَافقه فِي الصّلاح وتجانب من خَالفه فِيهِ فَإِن للصحبة تَأْثِيرا فِي اكْتِسَاب الْأَخْلَاق واجتذاب الْوِفَاق لقُصُور الطّرف عَلَيْهَا وَسُكُون النَّفس إِلَيْهَا وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْمَرْء على دين خَلِيله فَلْينْظر أحدكُم من يخالل)

وَقَالَ عبد الله بن طَاهِر إِن لكل شَيْء حَيَاة وموتا فمما يحيي اللب محادثة الألباء ويحيي الود محادثة الأوداء ويحي الْعِزّ مضافرة الأعزاء ويحي الذل مُظَاهرَة الأذلاء ويحي الشجَاعَة مصاحبة الشجعاء ويحي الْكَرم مُوَاصلَة الكرماء ويحيي الْحيَاء مكاثرة أهل الْحيَاء ويحيي اللؤم معاشرة اللئام قَالَ بعض البلغاء صَلَاح الشيم بمعاشرة الْكِرَام وفسادها بمخالطة اللئام وَالْحَال الْخَامِسَة أَن تكون بعض أخلاقه صَالِحَة فِي كل الْأَحْوَال وَبَعضهَا فَاسِدَة فقد أَعطَتْهُ نَفسه من صَلَاحهَا شطرا ومنحته من فَسَادهَا شطرا وهما فِيهِ متنافران وَفِيمَا أَعْطَتْ عون على مَا منعت إِن روعيت وَفِيمَا منعت فَسَاد لما أَعْطَتْ إِن أهملت وَقد قَالَ عَليّ بن عُبَيْدَة من كَانَت فِيهِ خصْلَة حَسَنَة فليواظب عَلَيْهَا فَإِن لَهَا دولة تعود إِلَيْهَا مَا أدبر عَنْهَا فليستعن بِشَطْر صَلَاحهَا على شطر

فَسَادهَا فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا مجذوب وَالْقُوَّة لما اُحْدُ وأعين فامدد صرحها بإرشادك وأعنه باجتهادك فَلَنْ يبْقى لفسادها مَعَ التظاهر عَلَيْهِ لبس وَهُوَ بالضد إِن انعكس حُكيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ إِذا رَأَيْتُمْ فِي الْإِنْسَان خلة من الشَّرّ رَابِعَة فَاجْتَنبُوهُ وَإِن 9 ب كَانَت عِنْد النَّاس خيرا فلهَا أَخَوَات ونظائر وَإِذا رَأَيْتُمْ فِي الْإِنْسَان خلة من الْخَيْر رَابِعَة فَلَا تجتنبوه وَإِن كَانَ عِنْد النَّاس رجل سوء فلهَا عِنْده نَظَائِر وأخوات وَالْحَال السَّادِسَة أَن تكون كل أخلاقه صَالِحَة فِي بعض الْأَوْقَات وَبَعضهَا فَاسِدَة فِي بعض الْأَوْقَات فقد ترددت النَّفس بَينهمَا وتوطأت لَهما وَالْفساد دَاخل عَلَيْهَا وَلَيْسَ مِنْهَا وَالْعقل مساعد والهوى مُعْتَد وكل وَاحِد مِنْهُمَا جاذب للنَّفس وَهِي تنقاد إِلَى مَا وافقها فَإِن توفرت فضائلها انقادت لِلْعَقْلِ فِي صَلَاح الْأَخْلَاق وَإِن توافرت رذائلها مايلت الْهوى فِي فَسَاد الْأَخْلَاق لِأَن الْعقل علم روحاني يَقُود إِلَى الْخَيْر والشهوة خلق بهيمي يَقُود إِلَى الشَّرّ فَأطلق عنان النَّفس إِذا انقادت لِلْعَقْلِ واقبضه إِذا مَا يلت الْهوى تجدها على الصّلاح مساعدة وللفساد معاندة فحسبك بهَا لِلْعَقْلِ عونا وظهيرا قَالَ الرشيد قبح الله الْمَرْء لَا واعظ لَهُ من عقله وَلَا مُطِيع لَهُ من نَفسه

مر أَبُو نواس بِأبي الْعَتَاهِيَة فوعظه فَقَالَ أَبُو نواس (لن تقلع الْأَنْفس عَن غيها ... مَا لم يكن مِنْهَا لَهَا واعظ) // من السَّرِيع // فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة وددت أَنِّي قلتهَا بِجَمِيعِ شعري وَقيل بل النَّفس خلية الذَّات من الْفَضَائِل والرذائل وَإِنَّمَا هِيَ آلَة لَهما يتجاذبها الْعقل والهوى فَإِن غلبها الْعقل استعملها فِي الْفَضَائِل وَإِن غلبها الْهوى استعملها فِي الرذائل

وَقَالَ عَليّ بن عُبَيْدَة الْعقل والهوى ضدان فمؤيد الْعقل التَّوْفِيق وقرين الْهوى الخذلان وَالنَّفس بَينهمَا فَأَيّهمَا ظفر كَانَت فِي حيزه وَقَالَ وهب بن مُنَبّه إِن الْعقل والهوى يصطرعان فِي الْقلب فَأَيّهمَا صرع صَاحبه 10 آكانت الْغَلَبَة لَهُ وَقد نظم ابْن الرُّومِي فِي النَّفس شعرًا خَالف فِيهِ الْوَجْهَيْنِ فَقَالَ (كن مثل نَفسك فِي السمو إِلَى العلى ... لَا مثل طِينَة جسمك الغدار)

(فَالنَّفْس تسمو نَحْو علو مليكها ... والجسم نَحْو السّفل هاو هار) (فأعن أحقهما بعونك واقتسر ... طبع السفال بطبعك السوار) (وَالنَّفس خيرك إِنَّهَا علوِيَّة ... والجسم شرك لَيْسَ فِيهِ تمار) (فانفذ لخيرك لَا لشرك وَاتبع ... أولاهما بالقادر الْغفار) (فالأرض فِي أفعالها مضطرة ... والحي فِيهِ فَضِيلَة الْمُخْتَار) (فَإِذا جريت على طباعك مثلهَا ... فَكَأَن طبعك بعد من فخار) // من الْكَامِل //

الفصل السادس الأفعال الشريقة بالأخلاق الشريفة

الْفَصْل السَّادِس الْأَفْعَال الشريقة بالأخلاق الشَّرِيفَة شرِيف الْأَفْعَال وشريف الْأَخْلَاق فَإِذا وضح مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ قَوَاعِد الْأَخْلَاق من مَحْمُود الْفَضَائِل ومذموم الرذائل فشريف الْأَفْعَال لَا يتَصَرَّف فِيهِ إِلَّا بشريف الْأَخْلَاق سَوَاء كَانَ طبعا أَو تطبعا لِأَن الْأَفْعَال نفائج الْأَخْلَاق ونوازع الهمم وَقد نبه الله تَعَالَى على ذَلِك فِي كِتَابه الْعَزِيز بقوله لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} لِأَن النُّبُوَّة لما كَانَت أشرف منَازِل الْخلق لاشتمالها على مصَالح الدّين وَالدُّنْيَا ندب الله تَعَالَى لَهَا من قد أكمل فَضَائِل الْأَخْلَاق وَحَازَ أشرف الأعراق وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بعثت بمكارم الْأَخْلَاق) كَذَلِك الْإِمَارَة والإمامة لما كَانَت تالية لحالها وَجب أَن تكون

مشاكلة لخصالها فَلَزِمَ أَن ينتدب لَهَا من قد أنهضته الْفَضَائِل حَتَّى تهذب واستقل بحقوقها حَتَّى تدرب ليسوس الرعايا بآلته ويباشر التَّدْبِير بصناعته فَلذَلِك كَانَ الْخُلَفَاء الراشدون رضوَان الله عَلَيْهِم أَحَق من تكاملت فيهم فَضَائِل 10 ب الْأَخْلَاق طبعا وتطبعا وَأولى من صدرت عَنْهُم محَاسِن الْأَفْعَال سجية وتصنعا لأَنهم رُعَاة مطاعون ودعاة إِلَى الْحق مجابون ليَكُون الْأَفْضَل سائسا للمفضول والأعدل مُقَومًا للجهول فيجتذبهم بِكَمَال فضائله إِلَى الِاقْتِدَاء بأخلاقه وطرائقه فَأكْثر الرعايا أَتبَاع لأمرائهم وملوكهم فِي الْخَيْر وَالشَّر وَالْجهل وَالْجد والهزل قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إثنان من النَّاس إِذا صلحا صلح النَّاس وَإِذا فسدا فسد النَّاس الْعلمَاء والأمراء) قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْملك كالبحر تستمد مِنْهُ الْأَنْهَار فَإِذا كَانَ عذبا عذبت وَإِذا كَانَ مالحا ملحت

أول ما يبدأ به الملك سياسة نفسه وتقويمها

أول مَا يبْدَأ بِهِ الْملك سياسة نَفسه وتقويمها فَلَزِمَ ذَا الإمرة وَالسُّلْطَان أَن يبْدَأ بسياسة نَفسه ليحوز من الْأَخْلَاق أفضلهَا وَيَأْتِي من الْأَفْعَال أجملها فيسوس الرّعية بعد رياضته ويقومهم بعد استقامته قَالَ بعض الْعلمَاء يَنْبَغِي للْملك أَن يبتديء بتقويم نَفسه قبل أَن يبتديء بتقويم

رعاياه وَإِلَّا كَانَ بِمَنْزِلَة من أَرَادَ تَقْوِيم ظلّ معوج قبل تَقْوِيم عوده الَّذِي هُوَ ظلّ لَهُ فَإِذا بَدَأَ بسياسة نَفسه كَانَ على سياسة غَيره أقدر وَإِذا أهمل مُرَاعَاة نَفسه كَانَ باهمال غَيره أَجْدَر فبعيد أَن يحدث الصّلاح عَمَّن لَيْسَ فِيهِ صَلَاح لِأَن ضَرُورَة نَفسه أمس وَهُوَ بتهذيبها أخص فَإِذا غلب عَلَيْهِ عنادها واستصعب عَلَيْهِ قيادها كَانَ عناد المباين لَهُ أغلب وقياده عَلَيْهِ أصعب قَالَ بعض الْحُكَمَاء 11 آ من بَدَأَ بسياسة نَفسه أدْرك سياسة النَّاس قَالَ بعض البلغاء لَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يطْلب طَاعَة غَيره وَطَاعَة نَفسه ممتنعة عَلَيْهِ وَقيل إِذا عجزت عَن أدب نَفسك فَلَا تلم من لَا يطيعك

إساءة الظن بالنفس

قَالَ الشَّاعِر (أتطمع أَن يطيعك قلب سعدى ... وتزعم أَن قَلْبك قد عصاكا) // من الوافر // إساءة الظَّن بِالنَّفسِ وَرُبمَا حسن ظن الْإِنْسَان بِنَفسِهِ فأغفل مُرَاعَاة أخلاقه فَدَعَاهُ حسن الظَّن بهَا إِلَى الرِّضَا عَنْهَا فَكَانَ الرِّضَا عَنْهَا دَاعيا إِلَى الانقياد لَهَا ففسد مِنْهَا مَا كَانَ صَالحا وَلم يصلح مِنْهَا مَا كَانَ فَاسِدا لِأَن الْهوى أغلب من الرَّأْي وَالنَّفس أجور من الاعداء لِأَنَّهَا بالسوء آمرة وَإِلَى الشَّهَوَات مائلة كَمَا قَالَ الله عز وَجل {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الشَّديد من ملك نَفسه)

أسباب حسن الظن بالنفس

قَالَ بعض الألباء من رَضِي عَن نَفسه أَسخط عَلَيْهِ النَّاس أَسبَاب حسن الظَّن بِالنَّفسِ ولحسن الظَّن بهَا أَسبَاب فَمن أقوى أَسبَابه الْكبر والإعجاب وَهُوَ بِكُل أحد قَبِيح وبالملوك أقبح لِأَنَّهُ من دواعي صغر الهمة وشواهد الاستكثار لعلو الْمنزلَة وَهَذَا من ضعف الْمِنَّة الَّذِي يجل الْمُلُوك عَنهُ لِأَن قدرتهم تظهر بِالْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَان لَا بِالْكبرِ والإعجاب وَكفى بِالْمَرْءِ ذما أَن تكون همته دون رتبته ومنته أَضْعَف من قدرته قَالَ بعض الْحُكَمَاء لَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يرى شَيْئا من الدُّنْيَا لنَفسِهِ خطرا فَيكون بِهِ تائها وَقَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان

الكبر والإعجاب

أفضل النَّاس من تواضع عَن رفْعَة وزهد عَن قدرَة 11 ب وأنصف عَن قُوَّة وَقيل التَّوَاضُع فِي الشّرف أشرف من الشّرف الْكبر والإعجاب والملوك أَعلَى النَّاس همما وأبسطهم أملا فَلذَلِك كَانَ الْكبر والإعجاب بهم أقبح ونقصه عَلَيْهِم أفضح قَالَ عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا

سَمِعت أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ يَقُول (إِذا أردْت شرِيف النَّاس كلهم ... فَانْظُر إِلَى ملك فِي زِيّ مِسْكين) (ذَاك الَّذِي حسنت فِي النَّاس رأفته ... وَذَاكَ يصلح للدنيا وللدين) // من الْبَسِيط // لَكِن السكينَة وَالْوَقار أولى بِهِ من الْكبر والإعجاب وَمن النَّاس من لَا يفرق بَين الْكبر وَالْوَقار وَهَذَا جهل بمعناهما لِأَن الْوَقار اقْتِصَار وَالْكبر استطالة فَأَما الْكبر والإعجاب فقد يَجْتَمِعَانِ فِي الذَّم ويفترقان فِي الْمَعْنى فالإعجاب يكون فِي النَّفس وَمَا يَعْتَقِدهُ من فضائلها وَالْكبر يكون بالمنزلة وَمَا يتصوره من علوها فَكَانَت عِلّة الْإِعْجَاب من ذَاته فَصَارَت ألزم وَعلة الْكبر طارئة ألأم وهما رذيلتا ذِي الْفضل والمنزلة وَقيل

من أسباب الكبر والإعجاب

عَظمَة الْإِنْسَان تواضعه من أَسبَاب الْكبر والإعجاب وللكبر أَسبَاب فَمن أقوى أَسبَابه كَثْرَة المتقربين وإطراء المتملقين الَّذين قد استبضعوا الْكَذِب والنفاق وَاسْتَحَبُّوا الْمَكْر وَالْخداع لدناءة أنفسهم وضعة أقدارهم فَإِذا وجدوا لنفاقهم سوقا ولكذبهم تَصْدِيقًا جَعَلُوهُ فِي ذمم النوكى سلما تسلقوه ومغنما أحرزوه فاعتاضوا بِهِ دينا وعوضوا مِنْهُ شَيْئا وَحكم الممدوح بكذب قَوْلهم على صدق علمه بِنَفسِهِ وَجعل لَهُم طَرِيقا إِلَى الِاسْتِهْزَاء بِهِ لأَنهم صدعوه فانصدع وخدعوه فانخدع وَمن 12 آأجل ذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (احثوا فِي وُجُوه المداحين التُّرَاب)

وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إيَّاكُمْ والمدح فَإِنَّهُ الذّبْح) وَقيل لأنوشروان لم تتهاونون بالمدح إِذا مدحتم فَقَالَ لأننا رُبمَا رَأينَا ممدوحا هُوَ بالذم أَحَق وَقيل حب الْمَدْح وَاسِطَة بَين الْفَضَائِل والرذائل فَهِيَ آخر الرذائل وَأول الْفَضَائِل

وَحمل هَذَا على إِطْلَاقه ذَلِك وَالصَّوَاب أَن يعْتَبر فَإِن أحب الْمَدْح ليلتذ بِسَمَاع مَا لَيْسَ فِيهِ كَانَ رذيلة ونقصا وَإِن أحبه ليفعل مَا يمدح بِهِ كَانَ فَضِيلَة لِأَنَّهُ يبْعَث على فعل الْفَضَائِل وَمَا بعث عَلَيْهَا كَانَ مِنْهَا وَهَذَا أَمر يَنْبَغِي لكل عَاقل أَن يراعيه من نَفسه وَيفرق بَين متملقه احتيالا لما لَدَيْهِ وَبَين من يخلص لَهُ النَّصِيحَة من أهل الصدْق وَالْوَفَاء الَّذين هم مرايا محاسنه وعيونه وأمناء مشهده ومغيبه قَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام شفتا الصّديق رحمتان وشفتا الْعَدو تنطق بالعداوة وَقيل لبَعض الْحُكَمَاء من أولى بك مِنْك وأصدق فِي نصيحتك من نَفسك لَك قَالَ من صدقني إِن نزعت ونبهني إِن غفلت فَإِن أغفل هَذَا الْفرق والتمييز واستسهل الاغترار والتجويز داهن نَفسه ونافق عقله واستفسد أهل الْوَفَاء والصدق وَصَارَ مأكلة النِّفَاق والملق فأعقبه أَذَى ومضرة وتورط بِهِ فِي شُبْهَة وحيرة واكتسب بِهِ هجنة ومعرة وَقد قيل الْمُنَافِق نصف حسده بِلَا عقل وَالسُّلْطَان أولى من حذر ذَلِك وتوقاه لِأَن حَضرته لِكَثْرَة الراغبين فِيهَا كالسوق الَّتِي يجلب إِلَيْهَا مَا ينْفق فِيهَا وكل دَاخل عَلَيْهِ إِنَّمَا يُرِيد التَّقَرُّب إِلَيْهِ بقوله وَفعله إِمَّا طَالبا للمنزلة وَإِمَّا 12 ب اجتذابا للمنفعة وَإِمَّا حذرا من الْمُخَالفَة فَإِذا لم يزجرهم عقل وَلم يَكفهمْ

دين مرحوا فِي نفاقهم فخانوا وشانوا وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (لَا يمنعن أحدكُم رهبة السُّلْطَان أَن يَقُول بِحَق إِذا رَآهُ فَإِنَّهُ لَا يقرب من أجل وَلَا يباعد من رزق) فَإِذا اتسق لَهُم النِّفَاق ورأوه من أرْفق الأرزاق عدلوا عَن زواجر الْعقل والمناصحة إِلَى مساعدة الْملك على رَأْيه لأَنهم قد علمُوا مِنْهُ إِيثَار الْمُوَافقَة على الْهوى وَحب الْمَدْح والإطراء فَجعلُوا ذَلِك أربح بضائعهم لَدَيْهِ وألطف وسائلهم إِلَيْهِ وَهُوَ سهل التَّكَلُّف لَا يجد المتوسل المتقرب بِهِ مسا فيتصور ذمه حمدا وَقد اكْتسب بِهِ ذما ويتوهم قبيحه حسنا وَقد أورثه قباحة وشينا ثمَّ لَا يجد ناصحا سليما وَلَا مراقبا رحِيما لِأَن النصح عِنْده بائر مرذول وَالْخداع إِلَيْهِ نَافق مَقْبُول فَإِن روقبت هفواته بالإغضا وسوعد عَلَيْهَا بِالرِّضَا طاح فِي إغوائه ومرح فِي غلوائه فطمس بهجة محاسنه وأوهى جلالة قدره وَقد قَالَ العتابي الشَّاعِر

(لوم يعيذك من سوء تقارفه ... أبقى لعرضك من قَول يداجيكا) (لقد رمى بك فِي تيهاء مهلكة ... من كَانَ يكتمك الْعَيْب الَّذِي فيكا) // من الْبَسِيط // وَهَذَا مِمَّا يجب أَن يتوقاه الْملك ويحذره ليكفى مخادعة الْهوى ويميزه عَن مداهنة النَّفس قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا جعل لَهُ واعظا من نَفسه)

قَالَ بعض الْحُكَمَاء من لم يكن لَهُ من نَفسه واعظ لم تَنْفَعهُ المواعظ

الفصل السابع شواهد الفضل

الْفَصْل السَّابِع شَوَاهِد الْفضل الْوَقار وَإِذا كَانَ الْوَقار مَحْمُودًا وَكَانَ ذُو الْقدر بِهِ مَأْمُورا فَهُوَ أول شَوَاهِد الْفضل وأس 13 أقواعده فَوَجَبَ أَن نوضح مِنْهُ فصولا تدل على نظائرها يتبع بَعْضهَا بَعْضًا التثبت والصمت فَمن ذَلِك قلَّة السرع إِلَى الشَّهَوَات والتثبت عِنْد الشُّبُهَات والإعراض عَن الهفوات وَضبط النَّفس عَن سرعَة الحركات ثمَّ إطراق الطّرف وَلُزُوم الصمت إِلَّا من ضَرُورَة لَا يجد فِيهَا من الْكَلَام بدا ليسلم من هذر الاسترسال ويأمن من معرة الطيش فَإِن الْملك مرموق الألحاظ مَحْفُوظ الْأَلْفَاظ تشيع زلاته وتنشر هفواته وبحسب ذَلِك تكون محاسنه أنشر وفضائله أشهر فَهُوَ بِالسُّكُوتِ ممدوح وَمن الْكَلَام على خطر وَقد قيل الْحصْر خير من الهذر لِأَن الْحصْر يضعف الْحجَّة والهذر يتْلف المهجة

قَالَ بعض البلغاء إلزم الصمت فَإِنَّهُ يكسبك صفو الْمحبَّة ويؤمنك سوء المغبة ويلبسك ثوب الْوَقار وَيَكْفِيك مؤونة الِاعْتِذَار وَتكلم أَرْبَعَة من حكماء الْمُلُوك بِأَرْبَع كَلِمَات كَأَنَّهَا رمية عَن قَوس فَقَالَ ملك الرّوم أفضل علم الْعلمَاء السُّكُوت وَقَالَ ملك الْفرس إِذا تَكَلَّمت بِالْكَلِمَةِ ملكتني وَلم أملكهَا وَقَالَ ملك الْهِنْد أَنا على رد مَا لم أقل أقدر مني على رد مَا قلت وَقَالَ ملك الصين نَدِمت على الْكَلَام وَلم أندم على السُّكُوت

وليعلم أَن الْحَاجة إِلَى الصمت أَكثر من الْحَاجة إِلَى الْكَلَام لِأَن الْحَاجة إِلَى الصمت عَامَّة وَالْحَاجة إِلَى الْكَلَام عارضة فَلذَلِك مَا وَجب أَن يكون صمت الْعَاقِل فِي الْأَحْوَال أَكثر من الْكَلَام فِي كل حَال حُكيَ عَن بعض الْحُكَمَاء أَنه قَالَ وَقد رأى رجلا يكثر من الْكَلَام ويقل السُّكُوت فَقَالَ إِن الله تَعَالَى إِنَّمَا جعل لَك 13 ب أذنين وَلِسَانًا وَاحِدًا ليَكُون مَا تسمعه ضعف مَا تَتَكَلَّم بِهِ

فَإِذا دَعَتْهُ الْحَاجة إِلَى الْكَلَام سبره قبل إِطْلَاقه وروى فِيهِ قبل إرْسَاله ليَكُون وفْق غَرَضه وَفِي إبان حَاجته فَإِن كَلَامه ترجمان عقله وبرهان فَضله وَقد قيل كَلَام الْمَرْء وَافد أدبه وَقيل اللِّسَان وَزِير الْإِنْسَان فَلَا يهتك بالاسترسال فِيهِ فضائله وَلَا يمحو بالتجويز فِيهِ محاسنه فظهور نقص الْكَلَام يغلب على الخافي من فَضله لِأَن الظَّاهِر سَابق منتشر والخفي مَسْبُوق مستتر وَقد قيل الصمت مَنَام وَالْكَلَام يقظة فَإِذا تكلم لوح بِالْمَعْنَى وَجَاوَزَ الْإِكْثَار فَقل من كثر كَلَامه إِلَّا ظهر خلله وَبَان زلله

وَقد قيل الْجَاهِل الصَّامِت يعد حكيما والممسك عَمَّا لَا يَنْبَغِي يعد فهيما قَالَ الشَّاعِر (قد يكْشف القَوْل عي اللِّسَان ... فيبدو ويستره مَا سكت) (فَإِن كنت تبغي ليان المعاش ... فَلَنْ للأمور إِذا مَا التوت) // من المتقارب // وَلَا يَنْبَغِي أَن يعجب بجيد كَلَامه وَلَا بصواب مَنْطِقه فَإِنَّهُ بِالصَّوَابِ أَحَق وَالْعجب إِنَّمَا يكون ببادر مستظرف وعَلى أَن سَبَب الاكثار مِنْهُ وَفِي الْإِكْثَار عثار

قَالَ بعض الْحُكَمَاء من أعجب بِكَلَامِهِ أُصِيب بعقله وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ من لم يكن كَلَامه حكما فَهُوَ لَغْو وَمن لم يكن سُكُوته تفكرا فَهُوَ سَهْو وَمن لم يكن فكره اعْتِبَارا فَهُوَ لَهو وكما أَن الْملك مَنْدُوب إِلَى قلَّة الْكَلَام فَهَكَذَا من أَرَادَ خطاب الْملك يجب أَن يحبس لِسَانه عَن كَلَامه فَإِن دَعَتْهُ الْحَاجة إِلَيْهِ اختصر فَفِي الْإِكْثَار مَعَ الإعثار إضجار

وَقيل إِن كَانَ قوم تقتلهم الْحَرْب كثيرا فَإِن الَّذِي يقتلهُمْ اللِّسَان أَكثر وَالْمَوْت 14 أوالحياة بِاللِّسَانِ هُوَ مِمَّا يتجافاه الْملك وَلَا يرخص فِيهِ الْيَمين وَالْحلف مُصَرحًا أَو معرضًا فَإِن الْحلف قَبِيح وَهُوَ بالملوك أقبح وَمن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْيَمين حنث أَو مندمة) قَالَ بعض الْعلمَاء

كَثْرَة الْأَيْمَان من قلَّة الْإِيمَان وَلِأَن الْيَمين يقْصد بهَا أحد ثَلَاثَة أوجه يجل الْملك عَنْهَا إِمَّا ليصدق خَبره وَالْملك يجل قدره عَن الإكذاب وَإِمَّا ليتَحَقَّق وعده أَو وعيده وَقدرته تمنع من الارتياب وَإِمَّا لاستراحة فِي كَلَامه فَهِيَ عي قَبِيح وَلَكِن فاضح وَإِن دَعَتْهُ الضَّرُورَة إِلَيْهَا لشرط فِي عقد وتوثقة فِي عهد إلتزم حكمهَا فِي السياسة وَإِن لم يلْزم حكمهَا فِي الدّيانَة لفساد عقدهَا واختلال شَرطهَا وَلَا يتطلب لفسخها مَعَ الصِّحَّة تَأْوِيلا وَإِن كَانَ لَهُ فِي الْفَسْخ تَأْوِيل وَلَا يَجْعَل لمخرجه مِنْهَا تعليلا وَإِن كَانَ لَهُ فِي الشَّرْع تَعْلِيل لتَكون عقوده محروسة من فسخ وعهوده مَحْفُوظَة من نسخ فَلَا يختلج فِيهِ ظن وَلَا يقْدَح فِيهِ طعن فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ لَهُ فِي الدّين مخرج مِنْهَا فَمَا يقف عَلَيْهِ كل من سمع بالتزامها وَلَا يعرفهُ إِلَّا الْعلمَاء بأحكامها وَلِأَن يراقب فِي دُنْيَاهُ بعد مراقبة الله تَعَالَى فِي دينه فَيجمع بَين رضَا الله تَعَالَى وثناء خلقه أولى من تفرده بِأَحَدِهِمَا واطراح الآخر وَقيل دع مَا يسْبق إِلَى الْقُلُوب إِنْكَاره وَإِن كَانَ عنْدك اعتذاره فَمَا كل من حكى عَنْك نكرا يُطيق أَن يوسعه مِنْك عذرا

فَإِن لم يجد إِلَى اسْتِدَامَة التزامها سَبِيلا أوضح من أَسبَاب عذره وأشاع من وُجُوه مخرجه قبل شُرُوعه فِي خلقه ونقضه مَا يحفظ عَلَيْهِ سَلامَة دينه وَعرضه فَلَا ينْسب فِي 14 ب يَمِينه إِلَى حنث وَفِي عَهده إِلَى نكث قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْكَذِب والغدر يشبهان أَسْنَان الْأسد ويفسدان قُلُوب النَّاس

الفصل الثامن الصدق

الْفَصْل الثَّامِن الصدْق اعْتِمَاد الصدْق وَمِمَّا هُوَ ألزم فِي أَخْلَاق الْملك وأليق اعْتِمَاد الصدْق وَاجْتنَاب الْكَذِب فَإِنَّهُ سهل البادرة خَبِيث الْعَاقِبَة لِأَنَّهُ يعكس الْأُمُور إِلَى أضدادها ويستبدل الْحَقَائِق بأغيارها فَيَضَع الْبَاطِل مَوضِع الْحق ويتخيل أَن الْكَذِب يتشبه بِالصّدقِ كلا فَإِن الزَّمَان يكْشف عَن خباياه وينم على خفاياه وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (رحم الله امْرَءًا أصلح من لِسَانه وأقصر من عنانه وألزم طَرِيق الْحق مقوله وَلم يعود الخطل مفصله) الحذر من الْكَذِب فيحذر الْكَذِب جادا وهازلا وَلَا يرخص لنَفسِهِ محقا وَلَا مُبْطلًا إِلَّا على وَجه التورية فِي خداع الحروب انتهازا للفرصة فِيهَا واختداعا لمكيدتها فَمَا للحرب مهلة وَلَا للظفر عِلّة فأبيح فِي التَّوَصُّل إِلَيْهَا رخص

الْكَلَام كَمَا اسْتعْمل فِيهَا رخص الْأَفْعَال وَلذَلِك جَاءَت السّنة بإرخاص الْكَذِب فِيهَا على وَجه التورية دون التَّصْرِيح قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْحَرْب خدعة) وَإِذا أمكن أَن يكون ذَلِك بمواضعة غَيره كَانَ أولى من أَن يكون ذَلِك بمباشرته بِنَفسِهِ فَإِن لم يجد من الْمُبَاشرَة بدا ورى وَعرض ليَكُون التَّأْوِيل لكَلَامه مُحْتملا وَالتَّصْرِيح بِالْكَذِبِ عَنهُ مشفيا فيعذر إِذا ظهر وَلَا يتَصَوَّر بِالْكَذِبِ إِذا اشْتهر وليقلل مِنْهُ إِلَّا عِنْد ضيق الخناق فَإِن أَكثر مِنْهُ افتضحت معاريضه فَصَارَ صَرِيحًا ورد عَلَيْهِ فَاسِدا وصحيحا وَإِن رخص لنَفسِهِ فِي التَّصْرِيح بِالْكَذِبِ على غير مَا قُلْنَاهُ فِي الْحَرْب

من التَّعْرِيض الْمُحْتَمل صَار بِهِ موسوما 15 آوإليه مَنْسُوبا لِأَن الْإِنْسَان بِمَا يسْبق إِلَيْهِ يعرف وَبِمَا يظْهر من شيمه يُوصف وَبِذَلِك جرت عَادَة الْخلق أَنهم يعدلُونَ الْعَادِل بالغالب من أَفعاله وَرُبمَا أَسَاءَ ويفسقون الْفَاسِق بالغالب من أَفعاله وَرُبمَا أحسن وَقل مَا يمحض أَحدهمَا فِي الْإِنْسَان وَإِن تمحض ندر قَالَ الشَّاعِر (من لَك بالمحض وَلَيْسَ مَحْض ... يخْبث بعض ويطيب بعض) // من الرجز // وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر رَضِي الله عَنهُ

الترغيب والترهيب

لِأَن يضرني الصدْق وَقل مَا يفعل أحب إِلَيّ من أَن يَنْفَعنِي الْكَذِب وَقل مَا يفعل وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أعظم الْخَطَايَا اللِّسَان الكذوب) قَالَ بعض الْحُكَمَاء كذب الْملك وغدره من دَلَائِل حَادث يحدث فِي ملكه لِأَنَّهُ يشبه تَخْلِيط العليل فِي الْعلَّة يزِيدهُ مَرضا وَفِي بدنه زهكا التَّرْغِيب والترهيب وَإِذا وسم بِالصّدقِ وَقصر كَلَامه على المهم وَكَانَ تبشيره وتحذيره على حسب خطر الْأُمُور الَّتِي يجْرِي فِيهَا وعده أَو وعيده كَانَت الفاظه ألقابا وذمه عقَابا فاستغنى عَن كثير من الإرغاب والإرهاب وَقد اختير للملوك فِي التَّرْغِيب عذوبة الْكَلَام ولين الصَّوْت لِأَنَّهُ أَرغب وَفِي الجهارة بالترغيب تنجح وبالنعمة وَهِي عِنْده أحفز

وَفِي التَّرْهِيب غلظة الْكَلَام وجهارة الصَّوْت لِأَنَّهُ أرهب وَفِي لين الصَّوْت بالترهيب ضعف لمنه وَقدرته وَيجب أَن يكون وعده ووعيده بِقدر الِاسْتِحْقَاق من غير سرف وَلَا تَقْصِير فِي ثَوَاب أَو عِقَاب لتَكون أَقْوَاله وفْق أَفعاله الَّتِي تقدرت بشرع أَو سياسة وَلَا تتجاوز محدودها وَلَا تفارق معهودها حُكيَ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كتب إِلَى 15 ب عِكْرِمَة بن أبي جهل وَهُوَ عَامله على عمان إياك أَن توعد على مَعْصِيّة بِأَكْثَرَ من عقوبتها فَإنَّك إِن فعلت أثمت وَإِن تركت كذبت

الفصل التاسع توقي الغضب

الْفَصْل التَّاسِع توقي الْغَضَب الحذر من الْغَضَب ويحذر الْغَضَب ويتوقاه فَإِن نفور فورته واشتطاط حِدته يسلبان صَوَاب ذَوي الْأَلْبَاب وَلَا يتهذب لَهُم خطاب وَلَا يتَحَصَّل لَهُم جَوَاب وَلَا يتَقَدَّر لَهُم عِقَاب وَقل مَا يسلم مَعَ الْغَضَب رَأْي من زلل وَكَلَام من خطل وَفعل من عسف وَحقّ من حرف وَدين من جرح وَعرض من قدح وجد من طيش وَعدد من هيش فَهُوَ شَرّ باهر متسلط وأضر معاند مورط لَا تعصى بوادره إِن غلب وَلَا تحصى فواقره إِن وثب وَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ هَذِه الأخطار وتقابلت فِيهِ هَذِه المضار كَانَ التَّحَرُّز من خطره حزما والسلامة من ضَرَره غنما وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا من كَانَ الْعقل قائده والتوفيق رائده فَملك زِمَام نَفسه حَتَّى أَطَاعَته وراض شماسها حَتَّى أَجَابَتْهُ فَإِن مني بِهِ الْملك قبض نَفسه عَن الانقياد لَهُ حَتَّى يَزُول عَنهُ اخْتِلَاط نفرته واشتطاط قدرته ثمَّ يتصفح الذَّنب الَّذِي أغضبهُ بعد سُكُون جأشه ويقابل عَلَيْهِ بِقدر اسْتِحْقَاقه إِن لم ير لَهُ فِي الْعَفو مدخلًا وَلَا فِي الصفح والتجاوز وَجها ليقف على الصَّوَاب فِي قَضيته

وعَلى الْعدْل فِي مؤاخذته فَلَا شَيْء أضرّ بِالْملكِ من أَن تخفى عَلَيْهِ حقائق الذُّنُوب وَلَا يقف مِنْهَا على مقادير الْحُدُود قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا استشاط السُّلْطَان تسلط الشَّيْطَان) وَقَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام غضب الْملك كالأسد الَّذِي يزأر وَحكي أَن بعض مُلُوك الْفرس كتب كتابا وَدفعه إِلَى وزيره وَقَالَ إِذا أَنا غضِبت فناولني هَذَا وَكَانَ فِيهِ مَكْتُوبًا 16 آمالك وَالْغَضَب إِنَّمَا أَنْت بشر ارْحَمْ من فِي الأَرْض يَرْحَمك من فِي السَّمَاء وَكَانَ يفعل هَذَا ليزول عَنهُ الْغَضَب فيستبين لَهُ الصَّوَاب حذرا من قبح آثاره وَشدَّة إضراره فَإِذا استطفأ ثَائِر الْغَضَب واستكف بادرة الاشتطاط ثمَّ استعطفه الْمُغْضب واسترضاه فَمن كرم الشيمة وَحسن العاطفة أَن يلين لَهُ ويرضى عَنهُ

قيل من أعجب شَيْء أَن يكون الرجل يلْتَمس رِضَاهُ فَلَا يرضى وأعجب مِنْهُ أَن يلْتَمس رِضَاهُ فيغضب قَالَ بعض الْحُكَمَاء من لم يقبل التَّوْبَة عظمت خطيئته وَمن لم يحسن إِلَى التائب قبحت إساءته فَإِن أحب أَن يتدرج إِلَى الرِّضَا لِئَلَّا يصل بَين ضدين قدم مباديه وَسَهل دواعيه وَكَانَ فِي السِّرّ رَاضِيا وَفِي الظَّاهِر مغاضيا ليظْهر الرِّضَا عَن أَحْوَال مُتَقَارِبَة وتنتقل إِلَيْهِ بعد أُمُور متناسبة فَلَيْسَ بمستبعد إِذا كَانَ بطيء الرِّضَا غير أَن من أَخْلَاق الْمُلُوك سرعَة الْغَضَب وَلَيْسَ من أَخْلَاقهم سرعَة الرِّضَا وَالْعلَّة فِي ذَلِك لما قد اسْتَقر فِي الْقُلُوب من هيبتهم وأذعنت بِهِ النُّفُوس من طاعتهم لَا يلاقون مَا يكْرهُونَ وَلَا يرَوْنَ إِلَّا مَا يؤثرون فَإِذا بدر مَا يغضبهم خرج عَن عرفهم فتعجل بِهِ غضبهم وَمَا يرضيهم دَاخل فِي عرفهم فَلم يتعجل فِيهِ رضاهم وَمن عداهم فِي الْأَمريْنِ بخلافهم فَلذَلِك وَقع الْفرق بَين الْمُلُوك

الحذر من المحل واللجاج

وَغَيرهم فِي الرِّضَا وَالْغَضَب فَإِن لم يظْهر غضبهم فَهُوَ لسياسة وحزم هم فِيهِ مَعَ كَونه فيهم بَين أَمريْن إِمَّا أَن يوطئوا أنفسهم للصفح عَنهُ وَإِمَّا أَن يؤخروا 16 ب الْأَمر إِلَى وَقت الانتقام وَالْأول كرم ورأفة وَالثَّانِي حمية وتقويم الحذر من الْمحل واللجاج ثمَّ كَذَلِك الْمحل واللجاج يجب أَن يحذرهُ فَهُوَ أليف الْغَضَب وحليف العطب لِأَنَّهُ يركب من الْأُمُور أصعبها وَيُفَارق من الآراء أصوبها وَقل مَا أجدى اللجاج إِلَّا شرا وَأَقل الْأَمريْنِ خيرا وَكفى بلجاجه مضرَّة ومعرة أَنه إِن أكذبه الظَّن تورك وَإِن ساعده الْقَضَاء شُورِكَ فَيصير بالمتاركة مَعْذُورًا وَفِي الْمُشَاركَة ممكورا قَالَ الشَّاعِر (وَإِذا رَأَيْت أَخَاك لج فَلَنْ لَهُ ... حَتَّى يعود إِلَى الطَّرِيق الأقصد) (إِن اللجوج يلج إِن لاججته ... مثل الشهَاب يلج للمستوقد) // من الْكَامِل // فَإِذا انْقَادَ إِلَى الْأَمر الأرفق وساعده الرَّأْي الأوفق لم يعْدم دركا إِن أنجح وعاذرا إِن أكدح قَالَ الشَّاعِر (ليبلغ عذرا أَو يُصِيب رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح) // من الطَّوِيل //

وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (إِن الرِّفْق لم يكن قطّ فِي شَيْء إِلَّا زانه وَلَا نزع من شَيْء إِلَّا شانه) وَليكن مساهلا للزمان فِي طلبته مباشرا للقدر فِي إِرَادَته

وَلَا يطْلب من الْأُمُور متعورا وَلَا متعذرا وَلَا يطْلب مِنْهَا مُدبرا وَلَا موليا فَإِن خاشنه الدَّهْر لَان وَإِن عَارضه الدَّهْر استكان فمطاول الدَّهْر مغلول ومعاند الْقدر مخذول قَالَ بعض الْحُكَمَاء من اسْتَعَانَ بِالرَّأْيِ ملك وَمن كَابر الْأُمُور هلك

قَالَ الشَّاعِر (ومكلف الْأَيَّام ضد طباعها ... متطلب فِي المَاء جذوة نَار) 17 آ (وَإِذا رَجَوْت المستحيل فَإِنَّمَا ... تبني الرَّجَاء على شَفير هار) // من الْكَامِل //

وليعلم أَن الْأُمُور الَّتِي تدبرها مِمَّا لَا تمْضِي إِلَّا بفرط الصرامة وَشدَّة الهيبة الَّتِي هِيَ قَاعِدَة الْملك وأس السلطنة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا لمن خيف غَضَبه وخشيت سطوته وليجعل بدل الْغَضَب تغاضبا لَا غَضبا لِأَن التغاضب فعله يقدر أَن يقف مِنْهُ على الْحَد الْمَطْلُوب وَيعرف مِنْهُ حقائق الذُّنُوب وَالْغَضَب انفعال فِيهِ اضْطر إِلَيْهِ لَا يقدر أَن يقف مِنْهُ على قدر حَاجته وَلَا يقْتَصر مِنْهُ على قدر كِفَايَته حَتَّى يتَجَاوَز إِلَى الْحَد المضر والطيش المعر وَلَقَد أصَاب من كَانَت عُقُوبَته للأدب وَأَخْطَأ من كَانَت عُقُوبَته للغضب وَهَذَا مِمَّا ذكرنَا فِي معنى الطَّبْع والتطبع قَالَ الشَّاعِر (فَلم أر للسيادة كالعوالي ... وَلَا للثأر كالقوم الغضاب) // من الوافر // وعَلى هَذَا الْقيَاس لَا يَنْبَغِي أَن يستفزه السرُور فتملأ البشائر قلبه وتخلب الأفراح لبه فَيصير بهَا طائشا مرحا لَا يلين إِن صال وَلَا يَسْتَقِيم إِن مَال فينسبه الْعَدو إِلَى ضعف الْعَزِيمَة ولين الهمة وَإنَّهُ لحقيق بمناسبه إِلَيْهِ ووسمه بِهِ وَإِذا ضبط نَفسه عَن هَذِه الْحَال وتنزه عَن رذل الْمقَال وتصور أَن جَمِيع البشائر وَإِن جلت محتقرة إِذا قيست بعلو مَنْزِلَته وأضيفت إِلَى عَظِيم همته كفي استفزاز الْفَرح واهتزاز المرح فَكَانَ أشبه بِكَمَالِهِ وأليق باعتداله

قَالَ الشَّاعِر (وَلست بمفراح إِذا الْأَمر سرني ... وَلَا جازع من صرفه المتقلب) // من الطَّوِيل //

الفصل العاشر الصبر

الْفَصْل الْعَاشِر الصَّبْر الصَّبْر والامتثال وَكَذَلِكَ الْحَوَادِث إِذا طرقت والنوازل إِذا ألمت كَانَت سهلة الْوَطْأَة 17 ب فِي جنب صبره وشهامته قَليلَة الْأَثر لسعة صَدره وَبعد همته فَإِن طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْهَا طاريء بَان فَضله على من سواهُ بِالصبرِ والمسكة عِنْد جزعهم والأناة وَالْوَقار عِنْد خذلهم فَيكون بصبره ممتثلا أَمر الله تَعَالَى فِيمَا أَرَادَ راجيا للظفر فِيمَا يَقْصِدهُ ويتوخاه فَإِن تقلب الدُّنْيَا مألوف وأمنها مخوف ولقل مَا تساعد أحدا إِلَّا بعد شموس وَلَا تحسن إِلَيْهِ إِلَّا بعد بوس وَلِأَن يَرْجُو السَّعَادَة أولى من أَن يخَاف فَوَاتهَا وَيخْتم بهَا أولى من الخاتمة بضدها قَالَ بعض الأدباء بِالصبرِ على مواقع الكره تدْرك الحظوظ قَالَ الشَّاعِر (إِذا الْمَرْء لم يَأْخُذ من الصَّبْر حَظه ... تقطع من أَسبَابه كل مبرم) // من الطَّوِيل //

أقسام الصبر

أَقسَام الصَّبْر وليعلم الْملك أَن الصَّبْر يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام وَهُوَ فِي كل قسم مَحْمُود فَأول أقسامه الصَّبْر على مَا فَاتَ إِدْرَاكه من نيل رغائب أَو تقضت أوقاته من حُلُول مصائب وبالصبر فِي هَذَا يُسْتَفَاد رَاحَة الْقلب وهدوء الْجَسَد وفقد الصَّبْر فِيهِ مَنْسُوب إِلَى شدَّة الأسى وإفراط الْحزن فَإِن صَبر طَائِعا مُسلما وَرَضي بِقَضَاء الله مستسلما أعين على خطبه وَنَفس عَن كربه وَإِن ساعد جزعه احْتمل هما لَازِما وصبر كَارِهًا آثِما

وَحكم الصَّبْر فِيهِ أَن لَا يرى أسفا على رَغْبَة ولاجزعا من ذنكبة فَإِن الزَّمَان نحول والهموم نزُول قَالَ الشَّاعِر (وَفِي الصَّبْر عِنْد الضّيق للمرء مخرج ... وَفِي طول تحكيم الْأُمُور تجارب) // من الطَّوِيل // وَثَانِي أقسامه الصَّبْر على مَا نزل من مَكْرُوه أَو حل من أَمر مخوف 18 آوبالصبر فِي هَذَا تتفتح وُجُوه الآراء وتستدفع مكايد الْأَعْدَاء وَفِي مثله قَالَ الله تَعَالَى {واصبر على مَا أَصَابَك إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور}

قَالَ بعض الْحُكَمَاء بمفتاح عَزِيمَة الصَّبْر تعالج مغاليق الْأُمُور وفقد الصَّبْر فِيهِ مَنْسُوب إِلَى الْخرق والخور وَحكم الصَّبْر فِيهِ أَن لَا يدهشه مَا هجم وَلَا يذهله مَا ألم فللنوائب قدر معترض وَأجل مفترض قَالَ الشَّاعِر (أرى كل ريح سَوف تسكن مرّة ... وكل سَحَاب عَن قَلِيل تقشع) // من الطَّوِيل //

وثالث أقسامه الصَّبْر فِيمَا ينْتَظر وُرُوده من رَغْبَة يرجوها أَو يخَاف حُدُوثه من رهبة يخشاها وبالصبر والتلطف يدْفع عَادِية مَا يخافه من الشَّرّ وينال نفع مَا يرجوه من الْخَيْر قَالَ بعض الْحُكَمَاء من اسْتَعَانَ بِالصبرِ نَالَ جسيمات الْأُمُور وفقد الصَّبْر فِيهِ مَنْسُوب إِلَى الطيش والهلع وَحكم الصَّبْر فِيهِ مَنْسُوب إِلَى سُكُون الجأش فِي أمله وَقلة الاستيحاش من وجله فقضاء الله مَقْدُور وأجله مسطور قَالَ الشَّاعِر (اصْبِرِي أيتها النَّفس ... فَإِن الصَّبْر أحجى)

(رُبمَا خَابَ رَجَاء ... وأتى مَا لَيْسَ يُرْجَى) // من الرمل // فَإِذا اشْتَدَّ الْجزع والأذى تذكر بقايا النِّعْمَة عَلَيْهِ وَاعْتبر بِمن سلب مَا هُوَ فِيهِ فسيرى مِنْهَا عزاء يُخَفف أشجانه ويقلل أحزانه فصفو الدُّنْيَا مشوب بالكدر قَالَ بعض الْعلمَاء من الدُّنْيَا على الدُّنْيَا دَلِيل قَالَ الشَّاعِر

(وَمن عَادَة الْأَيَّام أَن خطوبها ... إِذا سر مِنْهَا جَانب سَاءَ جَانب) // من الطَّوِيل // وَأنْشد المعري لِلْمَأْمُونِ

(كذبتك نَفسك أَيهَا الدَّهْر ... لَك أَن تجور وَعِنْدِي الصَّبْر) (آلَيْت لَا أَنهَاك عَن خطل ... حَتَّى يردك من لَهُ الْأَمر) // الطَّوِيل //

الفصل الحادي عشر كتمان السر

الْفَصْل الْحَادِي عشر كتمان السِّرّ الكتمان والإفشاء وَلَيْسَ يَصح الصَّبْر فِي الْأُمُور بترك التسرع إِلَيْهَا دون كتمان السِّرّ فِيهَا فَهُوَ أقوى أَسبَاب الظفر بالمطالب وأبلغ فِي كيد الْعَدو الموارب قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اسْتَعِينُوا على الْحَاجَات بِالْكِتْمَانِ فَإِن كل ذِي نعْمَة مَحْسُود)

وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ كرم الله وَجهه سرك أسيرك فَإِذا تَكَلَّمت بِهِ صرت أسيره قَالَ أنوشروان من حصن سره فَلهُ بتحصينه خصلتان الظفر بحاجته والسلامة من السطوات وكتمان السِّرّ مَا صينت بِهِ الْأَقْوَال من الإذاعة وسترت بِهِ الْأَفْعَال من الإشاعة فَلم تَرَ آثاره وَلم تنم أخباره فَإِن لم تعم لم تنم ولقل مَا أنجح من أفشى السِّرّ فرام أَو خلا مِنْهُ مرام فَإِن لَهَا عَن قبض

عنانه وسها عَن حفظ لِسَانه بدر سره فاستضر وَألف إرْسَاله فاستمر وَلم يبْق مصون إِلَّا انهتك وَلَا مَسْتُور إِلَّا افتضح فبودر قبل بداره وعوجل قبل حذاره وَصَارَ إفشاء سره أنكى فِيهِ من مكر عدوه لانه إِن اخْتصَّ بإفشاء سره اخْتصَّ بِمَا قدمْنَاهُ من ضره وَإِن كَانَ مستودعا عِنْده لغيره صَار مستودعه بعد الْمَوَدَّة عدوا يطْلب ثَأْره وَيسْتَقْبل نفاره قَالَ الشَّاعِر (فَلَا تأمنن الدَّهْر حرا ظلمته ... فَمَا ليل مظلوم كريم بنائم) // من الطَّوِيل // وَلِهَذَا الحذر توَاصى بِهِ النَّاس حزما وعزما وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ قولا وَعَملا 19 - آحكي أَنه تَذَاكر نَاس من أهل الْفضل كتمان السِّرّ فِي مجْلِس عبد الله بن طَاهِر فَقَالَ عبد الله بن طَاهِر (ومستودعي سرا تَضَمَّنت سره ... فأودعته فِي مُسْتَقر الحشا قبرا)

فَقَالَ ابْنه عبيد الله (وَمَا السِّرّ فِي قلبِي كثاو بقبره ... لِأَنِّي أرى المقبور ينْتَظر النشرا) (ولكنني أخفيه حَتَّى كأنني ... من الدَّهْر يَوْمًا مَا أحطت بِهِ خَبرا)

من يستودع السر

من يستودع السِّرّ وَاعْلَم أَن من الْأَسْرَار مَا لَا يسْتَغْنى فِيهَا عَن مطالعة خليط مساهم واستشارة نَاصح مسالم فليخترلها أَمينا فَإِن الركون إِلَى حسن الظَّن ذَرِيعَة إِلَى إفشاء السِّرّ وَأكْثر مَا يُؤْتى الْعَاقِل فِي أسراره من حسن ظَنّه واغتراره فَلَيْسَ كل من كَانَ على الْأَمْوَال أَمينا يجب أَن يكون على الْأَسْرَار مؤتمنا والعفة عَن الْأَمْوَال أيسر من الْعِفَّة عَن إذاعة الْأَسْرَار لِأَن الْإِنْسَان قد يذيع سر نَفسه بمبادرة لِسَانه وَسقط كَلَامه ويشح باليسير من مَاله ضنا بِهِ وحفظا لَهُ وَلَا يرى مَا أضاع من سره كَبِيرا فِي جنب مَا حفظه من يسير مَاله مَعَ عظم الضَّرَر الدَّاخِل عَلَيْهِ فَمن أجل ذَلِك كَأَن أُمَنَاء الْأَسْرَار أَشد تعذرا وَأَقل وجودا من أُمَنَاء الْأَمْوَال وَلذَلِك عِلَّتَانِ أَحدهمَا أَن الضَّرَر فِي إِضَاعَة الْأَمْوَال عَاجل وَالضَّرَر فِي إذاعة الْأَسْرَار آجل وَنَفس الْإِنْسَان موكلة بالأذى وَإِن حل مَا مضى وَالثَّانيَِة أَن السِّرّ سهل الْخُرُوج مَعَ البروز لَا يُوجد لإذاعته مس فَهُوَ ينْطَلق إِن لم يحفظه حزم وَلَا يَقْهَرهُ عزم وَالْمَال صَعب المنطلق وثيق الْمجمع لَا يَبْدُو إِلَّا بسماحة نفس يتقابل فِيهَا الشُّح والسخاء ويترجح فِيهَا الْمَنْع وَالعطَاء وَفرق بَين مَا هُوَ مبذول إِلَّا بمانع وَبَين مَا هُوَ مَمْنُوع إِلَّا بباذل

التحفظ في إيداع السر

وَإِذا كَانَ أُمَنَاء الْأَسْرَار بِهَذَا العوز تلوم قبل الِاخْتِيَار 19 ب حَتَّى يظفر بِمن تصفو ضمائره وتسلم سرائره ليقل حذره وَإِن لم يسلم من الحذر لِأَنَّهُ مستسلم والاستسلام غرر وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (احذر مِمَّن تثق بِهِ كَأَنَّك تحذر مِمَّن لَا تثق بِهِ) التحفظ فِي إِيدَاع السِّرّ فَإِذا ظفر بِهَذَا الْأمين المعوز أودعهُ سره إِيدَاع منتحرز متحفظ فَإِن وجده متطلعا إِلَيْهِ ومؤثرا للوقوف عَلَيْهِ حذره وتوقاه فَإِن طَالب الْوَدِيعَة خائن ومستدعي الْأَمَانَة ظنين قَالَ الشَّاعِر (لَا تذع سرا إِلَى طَالبه ... إِنَّمَا الطَّالِب للسر مذيع) // من الرمل //

ثمَّ لَا فسحة فِي إبداء الْأَسْرَار مَعَ الِاضْطِرَار إِلَّا لمستشير ليأمن عثارها ويتوقى أخطارها ويسرها إِلَى المستشار بِالْكِنَايَةِ دون الصَّرِيح وَيُشِير إِلَيْهَا بالتعريض دون الفصيح إِذا كَانَت أَحْوَال التَّعْرِيض مُمكنَة وشواهد الْكِنَايَة فِيهَا مُحْتَملَة ليأمن عواقب الإذاعة من ذَوي الظنة والاستطالة بالإدلال من ذَوي الْعِفَّة فَإِن للزمان تغيرا وللإخوان تنكرا قَالَ بعض الْحُكَمَاء من أفشى سره كثر عَلَيْهِ المتآمرون وَفِي منثور الحكم من ضَاقَ صَدره اتَّسع لِسَانه

قَالَ الشَّاعِر (إِذا ضَاقَ صدر الْمَرْء عَن سر نَفسه ... فصدر الَّذِي يستودع السِّرّ أضيق) // من الطَّوِيل // وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء (ألم تَرَ أَن وشَاة الرِّجَال ... لَا يتركون أديما صَحِيحا)

(فَلَا تفش سرك إِلَّا إِلَيْك ... فَإِن لكل نصيح نصيحا) // من المتقارب // قَالَ بعض البلغاء إِذا وقفت الرّعية على اسرار الْمُلُوك هان عَلَيْهَا أمرهَا وَلَا عذر لمن ظفر بسر لم يُؤمن عَلَيْهِ أَن يذيعه كَمَا لَا عذر لمن ظفر بِمَال لم يؤتمن عَلَيْهِ أَن يستبيحه وَليكن فِي حفظهما على حكم المؤتمن يقْضِي على نَفسه 20 آفي الْأَمَانَة بِالْوَفَاءِ وَفِي اللقط والضوال الشاردة بِالْأَدَاءِ وَمِمَّا يجب على الْملك أَن يحفظه على نَفسه من أسرارها أَن يروضها بِفضل حزمه ويأخذها بِقُوَّة عزمه حَتَّى لَا يظْهر فِي وَجهه إِمَارَة سخط وَلَا رضَا وَلَا يعرف مِنْهُ آثَار حزن وَلَا سرُور فَيظْهر مَا فِي نَفسه وهوكامن وينم عَلَيْهِ وَهُوَ آمن فيظن أَنه قد كتم سره وَقد ذاع وطوى مَا فِي نَفسه وَقد شاع وَليكن متشاكل الْأَحْوَال متماثل الْأَوْصَاف ليَكُون كتوم النَّفس كَمَا كَانَ كتوم اللِّسَان وَلَا يَبْدُو من نَفسه مَا يكره أَن يظْهر على لِسَانه ليكمل كتمان أسراره فِي الْحَالين وَإِن أَسْوَأ الْعُيُوب حَالا وأظهرها وبالا أَن يعرف مَا فِي نَفسه من غير اختباره فيعلمه الثِّقَة والظنين ويشترك فِيهِ الخائن والأمين وَهُوَ لَو أسره إِلَى أحد فأذاعه لاستكبره مِنْهُ ولرأى فِي مُوجب السياسة

وَمُقْتَضى الحزم أَن يؤاخذه بِهِ ويعاقبه عَلَيْهِ فَكيف يرضى من نَفسه مَا يستكره من غَيره ويتسامح فِي مَا يُعَاقب عَلَيْهِ كلا وَلَئِن كَانَ مرامه صعبا فَهُوَ سهل على من ساعده الطَّبْع ثمَّ على من تطبع بِهِ عِنْد نفور الطَّبْع فَيصير طبعا وتطبعا يسهل على ذِي الحزم إِذا صَادف عزما فَإِن الكره يسهل بالمرون عَلَيْهِ فَإِذا ضبط من نَفسه مَا يُنكر آثاره وينم أسراره كَانَ أفضل حزما وَأقوى عزما مِمَّن كتم سره بِلِسَانِهِ فَإِذا ساعده الْأَمْرَانِ لم ينم لَهُ سر وَلم يعرف لَهُ غور

الفصل الثاني عشر المشورة

الْفَصْل الثَّانِي عشر المشورة فَوَائِد المشورة وَيَنْبَغِي للْملك أَن لَا يمْضِي الْأُمُور المستبهمة بهاجس رَأْيه وَلَا ينفذ عَزَائِمه المحتملة ببداهة فكره تَحَرُّزًا من إفشاء سره وأنفة من الِاسْتِعَانَة بِغَيْرِهِ حَتَّى يشاور ذَوي الأحلام والنهى ويستطلع بِرَأْي ذَوي الْأَمَانَة والتقى 20 ب مِمَّن حنكتهم التجارب فارتاضوا بهَا وَعرفُوا موارد الْأُمُور وحقائق مصادرها فَإِنَّهُ رُبمَا كَانَ استبداده بِرَأْيهِ أضرّ عَلَيْهِ من إذاعة سره وَلَيْسَ كل الْأُمُور أسرار مكتومة وَلَا الْأَسْرَار المكتومة بمشاورة النصحاء فَاشِية مَعْلُومَة قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا سعد أحد بِرَأْيهِ وَلَا شقى عَن مشورة) وَقَالَ لِمعَاذ بن جبل (استشر فَإِن المستشير معَان والمستشار مؤتمن وَاحْذَرْ الْهوى فَإِنَّهُ قَائِد الأشقياء)

وَقد قيل الاستشارة عين الْهِدَايَة وَقد خاطر من اسْتغنى بِرَأْيهِ قَالَ بعض الْحُكَمَاء حق على الْعَاقِل أَن يضيف إِلَى رَأْيه آراء الْعلمَاء وَيجمع إِلَى عقله عقول الْحُكَمَاء فَالرَّأْي الْفَذ رُبمَا زل وَالْعقل الْفَرد رُبمَا ضل ويعتمد على استشارة من صَلَاحه يكون مَوْصُولا بصلاحه إِذا كَانَ عريا من الْهوى فالهوى مخدعة الْأَلْبَاب ومضلة الصَّوَاب

والعداوة تصد عَن النصح والإنصاف وتبعث على الْغِشّ والإجحاف وَلَا يَصح مَعَ أحد هذَيْن رَأْي لمشير وَلَا يخلص فيهمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (حبك الشَّيْء يعمي ويصم) أَي يعمي عَن الرشد ويصم عَن الموعظة وَكَذَلِكَ حَال البغض الَّذِي هُوَ ضِدّه لِأَنَّهَا خُرُوج من الْعدْل إِلَى تَقْصِير أَو سرف

وَإِذا ظفر بِالرَّأْيِ مِمَّن لَا يرَاهُ للمشورة أَهلا أخفاه حَتَّى لَا يتخطى عَلَيْهِ غير أَهله وَلم يستنكف من الْعَمَل بِهِ فَإِن القرائح لَيست على قدر الأخطار والرتب وَإِنَّمَا هِيَ ذخائر مستودعة فِيمَن منحها من نبيه وخامل كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (النَّاس معادن كمعادن الذَّهَب وَالْفِضَّة) فَلَا يتَصَوَّر قبح الْحَاجة إِلَى رَأْي من قل فَلَيْسَ يُرَاد للمباهاة والافتخار فتلتمس فِيهِ أَعْيَان ذَوي الأخطار وَإِنَّمَا يُرَاد للصَّوَاب وَالِانْتِفَاع كالضالة 21 آلا يمنعهُ من أَخذهَا مهانة ملتقطها وكاللؤلؤة لَا يمنعهُ من لبسهَا ذلة غائصها وَكفى بالإنسان سَعَادَة أَن تسهل عَلَيْهِ المطالب فيدرك مُرَاده بِأَهْوَن سعي وَأَقل عناء وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذا عمل بِالرَّأْيِ أَن يعزيه إِلَى قَائِله وينسبه إِلَى صَاحبه فيوتهن بمهانته ويعاب بذلته وَإِنَّمَا يتَنَبَّه بِهِ على صَوَاب مَا يَأْتِي وسداد مَا يُرِيد

وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (كلمة الْحِكْمَة ضَالَّة الْحَكِيم حَيْثُ مَا وجدهَا فَهُوَ أَحَق بهَا) قَالَ بعض البلغاء من كَمَال عقلك استظهارك على عقلك وَقَالَ بعض البلغاء إِذا أشكلت عَلَيْك الْأُمُور وَتغَير لَك الْجُمْهُور فَارْجِع إِلَى رَأْي

الْعُقَلَاء وافزع إِلَى استشارة الْعلمَاء وَلَا تأنف من الاسترشاد وَلَا تستنكف من الاستمداد فَلِأَن تسْأَل وتسلم خير من أَن تستبد وتندم قَالَ بعض الْعلمَاء من اسْتغنى بِرَأْيهِ ضل وَمن اكْتفى بعقله زل وَإِذا لم يَأْته الرَّأْي عفوا وَلَا وصل إِلَيْهِ من غَيره تَبَرعا أَكثر من استشارة ذَوي الْأَلْبَاب وَلَا سِيمَا فِي الْأَمر الْجَلِيل والخطب المستبهم فَإِن لكل عقل ذخيرة من الصَّوَاب وحظا من التَّدْبِير ولقل مَا فضل عَن الْجَمَاعَة رَأْي لَا يعرف صَوَابه وَيشكل عَلَيْهِم أَمر لَا يفهم جَوَابه وَليكن أهل المشورة متصافين فِي الْمحبَّة برَاء من عَدَاوَة أَو بغضة ليعرف كل وَاحِد مِنْهُم لصَاحبه بِالصَّوَابِ إِذا ظفر بِهِ وَلَا يَبْعَثهُ الْحَسَد والعناد على رده فَإِن تعاندوا شغلهمْ العناد عَن الِاجْتِهَاد فَلَنْ يحظوا بِرَأْي وَلم يظفروا بصواب لالتباس الرَّأْي بنفور العناد وَيَنْبَغِي أَن يجمعهُمْ على المشورة فِي 21 ب بديهة الرَّأْي ليجتهد

مباحثة ذوي الرأي

كل وَاحِد مِنْهُم رَأْيه ويستكمل خاطره ليتخصص برتبة الْمُجيب وَيجمع فِي حظوة الْمُصِيب فَإِن اجْتَمعُوا فِي ابْتِدَاء الرَّأْي كَانُوا فِيهِ بَين أَمريْن إِمَّا أَن يقودهم أول رَأْي مِنْهُم إِلَى مُتَابَعَته فيصيروا مفوضين لرأي وَاحِد قلدوه وهم أكفاء وتابعوه وهم نظراء وَإِمَّا أَن يَخْتَلِفُوا فيتنابذوا ويتشاغل كل وَاحِد مِنْهُم بنصرة رَأْيه حَقًا كَانَ أَو بَاطِلا فَيخرج بالمناظرة عَن حكم الْمُجْتَهد والمنابذة عَن حكم المتأيد وكما أَن الأصوب إفرادهم فِي ابْتِدَاء الرَّأْي فَكَذَلِك الأصوب أَن لَا يطلع بَعضهم على استشارة بعض ليجتهد كل وَاحِد مِنْهُم فكره ويستنفد وَسعه حَتَّى إِن حظي بدرك الصَّوَاب تخصص برتبة التعويل وتميز بنباهة الْقبُول وَليكن مَعَ ذَلِك غير وان فِي الْفِكر وَلَا مقصر فِي الارتئاء تعويلا على رَأْي من شاوره لِئَلَّا يصير فِي الرَّأْي مفوضا وَفِي الْأَمر مُقَلدًا مباحثة ذَوي الرَّأْي قَالَ بعض الْحُكَمَاء الاستسلام إِلَى رَأْي المشير هُوَ الْعدْل الْخَفي وَإِذا أظهرُوا كوامل آرائهم عرضهَا على عقله وسبرها بفكره وتصفح مباديها وعواقبها وسألهم عَن أَسبَابهَا ونتائجها وباحثهم عَن أُصُولهَا وفروعها سُؤال منصف لَا متعنت وطالب للصَّوَاب لَا للرَّدّ ليستوضح الْحق من الْبَاطِل وَيعلم الصَّحِيح من الْفَاسِد وَلَا يُبْدِي لَهُم رَأْيه إِن خالفهم وَلَا أَنه يَأْخُذ بِهِ وَيعْمل عَلَيْهِ إِن وافقهم ليجري الْأَمر على

استبهامه حَتَّى يعْمل بِهِ ليظْهر بِالْفِعْلِ دون الْعَزْم ليستفيد بذلك أَربع خِصَال إِحْدَاهُنَّ صَوَاب رَأْيه وَصِحَّة رويته وَالثَّانيَِة معرفَة عقل المشير وصواب رَأْيه وَالثَّالِثَة وضوح مَا استعجم 22 آمن الرَّأْي وانفتاح مَا استغلق من الصَّوَاب وَالرَّابِعَة طي عزمه عَن الإشاعة والتحرز فِيهِ من خطر الإشاعة فَإِذا تقرر لَهُ الرَّأْي الَّذِي لَا يخالطه فِيهِ ارتياب وَلَا تعارضه فِيهِ شُبْهَة أَمْضَاهُ وَلم يؤاخذهم بعواقب الإكداء ودرك الزلل فَإِنَّمَا على الناصح الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَان النجح لِأَن أقضية الله خافية وأقداره غالبة لَا يَدْفَعهَا رَأْي مُجْتَهد وَلَا يصد عَنْهَا روية مناصح فَلم يتَوَجَّه إِلَيْهِ لوم إِن أكدى وَلم يقْدَح فِيهِ ذمّ إِن أَخطَأ قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْحَوَائِج تطلب بالعناء وتدرك بِالْقضَاءِ قَالَ الشَّاعِر

(ألم تَرَ أَن الدَّهْر يلْعَب بالفتى ... وَلَا يملك الْإِنْسَان دفع الْمَقَادِير) // من الطَّوِيل // وَمَتى عرف مِنْهُ تعقب المشير بلوم أَو ذمّ أسلم إِلَى رَأْيه وَهُوَ ملوم ووكل إِلَى تَدْبيره وَهُوَ مَذْمُوم فَبَقيَ بالمتاركة فَردا لَا يعاضد ومهملا لَا يساعد وَبِه من الْحَاجة إِلَى مشورة ذَوي الرَّأْي مَا لَا يجد مِنْهُ بدا قَالَ الشَّاعِر (من كَانَ ذَا عضد يدْرك ظلامته ... إِن الذَّلِيل الَّذِي لَيست لَهُ عضد) // من الْبَسِيط //

فضعفت منته بالمتاركة وَقلت مساعدته بالإهمال فتموجت بِهِ الخطوب وتنكرت عَلَيْهِ الْقُلُوب قَالَ بعض الْحُكَمَاء لَو كَانَت الْمُلُوك تعرف مِقْدَار حَاجتهم إِلَى ذَوي الرَّأْي من النَّاس مثل الَّذِي يعرف أهل الرَّأْي من حَاجتهم إِلَى الْمُلُوك لم أر عجبا أَن ترى مواكب الْمُلُوك على أَبْوَاب الْعلمَاء كَمَا ترى مواكب الْعلمَاء على أَبْوَاب الْمُلُوك 22 - ب

الفصل الثالث عشر الأخلاق المتقابلة في الملوك

الْفَصْل الثَّالِث عشر الْأَخْلَاق المتقابلة فِي الْمُلُوك وليعلم الْملك أَن أَرْبَعَة أَخْلَاق متقابلة لَيْسَ يعرى مِنْهَا أَو من أبدالها ملك فَإِن اسْتعْملت فِي موَاضعهَا ووقف مِنْهَا على حُدُودهَا خمدت وَإِن اسْتعْملت فِي غير موَاضعهَا أَو خرجت عَن حُدُودهَا إِلَى زِيَادَة أَو تَقْصِير ذمت 1 - الرقة وَالرَّحْمَة فأحدها الرقة وَالرَّحْمَة تحمد عِنْد اعتدالها وَفِي موضعهَا وتذم عِنْد غلبتها وميلها لِأَنَّهَا إِذا غلبت أفضت إِلَى ترك الْحُدُود وإضاعة الْحُقُوق وَذَلِكَ دَاع إِلَى هياج طباع المفسدين وتحريك مطامع المتقلبين فينحل من عرى السياسة مَا كَانَ بالرهبة ملتئما وتخوف الْعقُوبَة منتظما وَمن نسب إِلَى رَحْمَة تبطل حدا أَو تضيع حَقًا أَو تحدث فَسَادًا كَانَ الْفساد عَلَيْهِ أَعُود وَهُوَ لنظره وسياسته أفسد وَصَارَ كَمَا قَالَه المتقدمون كالطبيب الَّذِي يرحم العليل من مرَارَة الدَّوَاء وألم الْحَدِيد فتوديه رَحمته إِلَى هَلَكته وتسوقه الشَّفَقَة إِلَى منيته فَتَصِير رَحمته لَهُ أبلى من قسوته ورفقه بِهِ اضر من غلظته وَالرَّحْمَة خلق مركب من الود والجزع 2 - الْقَسْوَة والغلظة ثمَّ الْخلق الثَّانِي الْمُقَابل لهَذَا الْخلق وَهُوَ الْقَسْوَة والغلظة فَإِنَّهَا إِذا غلبت أفضت إِلَى مُجَاوزَة الْحُدُود فِي الْحَيَاة وعقوبة الأخيار المبراة والمواخذة بالتهم والظنون والتسوية بَين الشَّك وَالْيَقِين فَلَا يَأْمَن سليم

السماحة والعطاء

وَلَا يتَمَيَّز سقيم وَفِي ذَلِك من فَسَاد السياسة بإيحاش المؤانسين وخبث سرائر المناصحين مَا يَجْعَل كل ولي خصما وكل معِين ألتا وَرُبمَا ظن بعض الْوُلَاة أَن القساوة صرامة فَعدل عَن الاقتصاد والسداد إِلَى ضدهما وَتجَاوز حكم الدّين والسياسة إِلَى غَيرهمَا وَلَا خير 23 آفي الْعُدُول عَن وَاحِد مِنْهُمَا وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة أَشَّدهم عذَابا للنَّاس فِي الدُّنْيَا) وَإِنَّمَا الصرامة قلَّة الْغَفْلَة عَن الجرائر وَمَعْرِفَة الْأُمُور على الْحَقَائِق حَتَّى لَا يتدلس عَلَيْهِ السقيم بالسليم والخائن بالأمين وَلَا يتَصَوَّر الخالع بِصُورَة الطائع والقساوة تهون فِي الْحُدُود وتعد فِي الْحُقُوق يَبْعَثهُ عَلَيْهِ اتِّبَاع شَهْوَته وتحكيم سطوته وَإِذا اعتدل فِيهِ هَذَانِ الخلقان فرق لأهل الْحق وعنف لأهل الْبَاطِل اعتدلت سيرته وَصحت سياسته وَالْقَسْوَة خلق مركب من البغض والجرأة 3 - السماحة وَالعطَاء ثمَّ الْخلق الثَّالِث وَهُوَ السماحة وَالعطَاء فَإِن وقف على حَده

وَهُوَ بذل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد الْحَاجة وإيصاله إِلَى مُسْتَحقّه بِحَسب الطَّاقَة كَانَ مَحْمُود الْبَذْل مشكور الْعَطاء وَإِن تجَاوز هَذَا الْحَد فَأعْطى فِي غير حق وبذل من غير تَقْدِير صَار مَنْسُوبا إِلَى التبذير والإضاعة وَصَارَ بِإِزَاءِ تبذيره حُقُوق مضاعة قيل كل شرف فبإزائه حق مضيع وَإِذا انْتَشَر أَن أَمْوَاله تنَال بِغَيْر اسْتِحْقَاق وتدرك بِغَيْر سعي ثارت بِهِ مطامع المحتذين وتكاثرت عَلَيْهِ وُفُود السَّائِلين الَّذين ألفوا كلف الاحتراف واستبدلوا بِهِ دني الاقتراف فَإِن رام رضى جَمِيعهم لم يطق لاتساع آمالهم وَقُوَّة أطماعهم وَلَو أطَاق لأفسد سعي اتِّبَاعه وتخبثت نيات أشياعه إِذْ سوى فِي الْعَطاء بَينهم وَبَين من لم يسع 23 ب سَعْيهمْ وَلَا سد فِي الموازرة والمظاهرة مسدهم قَالَ بعض الْحُكَمَاء لَا خير فِي السَّرف وَلَا سرف فِي الْخَيْر

البخل والإمساك

وَإِن خص بالعطاء قوما وَحرم قوما لم يكن بَين من أعطَاهُ وَهُوَ غير مُسْتَحقّ وَبَين من حرمه فرق ولحقه من ذمّ من حرمه أَضْعَاف مَا لحقه من حمد من وَصله وَلَيْسَ يمْنَع هَذَا من التَّبَرُّع بالصلة وَمن مُرَاعَاة من أمت بجرمة إِذا ظَهرت أَسبَابهَا وتلوح صوابها لِأَن الْمُلُوك مطَالب ذَوي الْحَاجَات وذخائر ذَوي الحرمات وَهَذَا فِي حُقُوق الساسة من الْوَاجِبَات والسخاء خلق مركب من الْحيَاء والإيثار 4 - الْبُخْل والإمساك ثمَّ الْخلق الرَّابِع الْمُقَابل لهَذَا الْخلق وَهُوَ الْبُخْل والإمساك الْمُؤَدِّي إِلَى تَفْرِيق النصحاء وتنكر الألباء واستطالة الْأَعْدَاء فَإِن الْأَمْوَال تصير إِلَى الْمُلُوك لتوضع فِي حَقّهَا وتفرق على مستحقها لَا ليعدل بهَا عَن الْعَطاء إِلَى الْمَنْع وَعَن التَّفْرِقَة إِلَى الْجمع وَقد قيل من جمع المَال لنفع غَيره أطاعوه وَمن جمعه لنفع نَفسه أضاعوه

وَإِذا شح وَمنع اعْتقد كل مَمْنُوع أَنه غَرِيم مماطل مُسْتَحقّ مَدْفُوع لَا يعْذر إِن منع وَلَا يشْكر إِن أعطي يرى أَن أَيَّام السَّلامَة مغرم وَأَن أَيَّام الِاخْتِلَاط مغنم فَهُوَ على رصد من تقلب الزَّمَان وتوقع الْغَيْر والحدثان ثمَّ تَدعُوهُ الضَّرُورَة إِن تطاولت بِهِ الْمدَّة إِلَى الْخِيَانَة فِي أَمَانَته والغش فِي نصيحته وَقبُول الرشا فِي مضرته فيعكس عَلَيْهِ قَوَاعِد دولته وَيفْسد لَهُ نظام مَمْلَكَته قَالَ بعض الْحُكَمَاء إِذا بخل 24 آالملك كثرت أراجيف النَّاس عَلَيْهِ وفسدت مَوَدَّتهمْ لَهُ وَإِذا اعتدل فِيهِ هَذَانِ الخلقان فِي الْعَطاء وَالْمَنْع فَلم ينقبض فِي حق وَلم ينبسط فِي بَاطِل وسرف صلح واستصلح وَقَالَ هِشَام بن عبد الْملك إِنَّا لَا نعطي تبذيرا وَلَا نمْنَع تقتيرا إِنَّمَا نَحن خزان الله عز وَجل فَإِذا أحب أعطينا وَإِذا كره أَبينَا وَلَو كَانَ كل قَائِل يصدق وكل سَائل يسْتَحق مَا جبهنا قَائِلا وَلَا رددنا سَائِلًا وَالْبخل خلق مركب من القحة والأسف

فَهَذِهِ أَخْلَاق إِذا أَخذ الْملك نَفسه بتعديلها فِيهِ اتسقت لَهُ السياسة العادلة وانتظمت لَهُ السِّيرَة الفاضلة فَإِن خرج الْملك عَن الْقَصْد والاعتدال الْمَحْمُود فِي الْعَطاء وَالْمَنْع إِلَى أحد الطَّرفَيْنِ المذمومين من زِيَادَة فِي الْعَطاء بسخائه أَو زِيَادَة فِي الْمَنْع ببخله فقد تَنْقَسِم أَحْوَال الْمُلُوك فِيهَا أَرْبَعَة أَقسَام أَحدهمَا ملك سخي على نَفسه سخي على رَعيته وَالثَّانِي ملك بخيل على نَفسه بخيل على رَعيته وَالثَّالِث ملك سخي على نَفسه بخيل على رَعيته وَالرَّابِع ملك بخيل على نَفسه سخي على رَعيته وَقد اخْتلفت طوائف الْأُمَم أَي الْأَرْبَعَة أقرب إِلَى الصَّوَاب وَأبْعد من الْعَيْب وَإِن لم يخل بِالْخرُوجِ عَن الِاعْتِدَال من خطأ وعيب على أَرْبَعَة آراء فرأي الرّوم أَن أقربهم إِلَى الصَّوَاب وأبعدهم من الْعَيْب هُوَ الْبَخِيل على نَفسه وعَلى رَعيته لِأَنَّهُ مستبق وَغير مستهلك ورأي الْهِنْد أَن أقربهم إِلَى الصَّوَاب وأبعدهم من الْعَيْب هُوَ السخي على نَفسه السخي على رَعيته لِأَنَّهُ منتفع وَنَافِع ورأي الْفرس أَن أقربهم إِلَى الصَّوَاب وأبعدهم من الْعَيْب هُوَ السخي على نَفسه الْبَخِيل 24 ب على رَعيته لأَنهم يرَوْنَ تنعيم النُّفُوس من الْوَاجِبَات فَكَانَ حق نَفسه أَحَق بِهِ من حق غَيره ورأي الْعَرَب أَن أقربهم إِلَى الصَّوَاب وأبعدهم من الْعَيْب هُوَ الْبَخِيل على نَفسه السخي على رَعيته لِأَنَّهُ إِيثَار غَيره على نَفسه

وَقد جَاءَ الْقُرْآن بِمَا يظْهر هَذَا فِي قَول الله عز وَجل {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} وَقد ظهر ذَلِك فِي أشعار الْعَرَب حَتَّى قَالَ بَعضهم (وَإنَّك إِن أَعْطَيْت بَطْنك همه ... وفرجك نالا مُنْتَهى الذَّم أجمعا) // من الطَّوِيل //

الفصل الرابع عشر الوفاء بالعهد

الْفَصْل الرَّابِع عشر الْوَفَاء بالعهد مزايا الْوَفَاء بالعهد وليعلم الْملك أَن من قَوَاعِد دولته الْوَفَاء بعهوده فَإِن الْغدر قَبِيح وَهُوَ بالملوك أقبح وَمُضر وَهُوَ بالملوك اضر لِأَن من لم يوثق مِنْهُ بِالْوَفَاءِ على بذله وَلم يتَحَقَّق مِنْهُ تَصْدِيق قَوْله بِفِعْلِهِ ووسم بِنَقْض الْعُقُود ونكث العهود قل الركون إِلَيْهِ وَكثر النفور مِنْهُ وَعنهُ وانعقاد الْملك إِنَّمَا يكون بالركون الْمُوجب للاستسلام وَالطَّاعَة الباعثة على النُّصْرَة ليصير النَّاس مَعَ الْملك من بَين مستسلم إِلَيْهِ وناصر لَهُ وبهذين يكون الْملك منعقدا فَإِذا نفرهم الْغدر انتقضت قَوَاعِده لزوَال الاستسلام وَقلة التناصر وَإِذا عرف الْأَعْدَاء الْوَفَاء مِنْهُ لانوا وَطَالَ عَلَيْهِم بالنصرة فهانوا وقوبل على غدره بِمثلِهِ فدان لَهُ النَّاس بِمثل مَا دَان وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَمَا تدين تدان)

مساوئ الغدر

قَالَ الشَّاعِر (وَعِنْدِي قروض الْخَيْر وَالشَّر كلهَا ... فبؤسى لَدَى بؤسي ونعمى بأنعم) // من الطَّوِيل // فَإِذا لَا شَيْء أضرّ بِالْملكِ من الْغدر وَلَا أَنْفَع لَهُ من الْوَفَاء مساوئ الْغدر وَرُبمَا استسهل غدره ينتهزها فرْصَة فسامح نَفسه بهَا وَجعلهَا من الذُّنُوب المكفرة بِالتَّوْبَةِ وَلَا يعلم أَنَّهَا أنكى فِي مَمْلَكَته من عَدو 25 آقاهر ومتغلب جَائِر لأَنهم قد وسموه بهَا وَإِن ندرت واكتفوا بهَا وَإِن

شذت وَلَا يقبلُونَ تَوْبَته ويجعلون مَا يعقبها من الْوَفَاء اضطرارا وَمن الْعذر اخْتِيَارا فَلَا يكون فِي وفائه مشكورا وَلَا فِي عذره مَعْذُورًا وَقد قيل مَا لغادر عاذر وَرُبمَا تَأَول الْملك فِي غدره تَأْوِيلا بجعله عذرا لنَفسِهِ فَلَا يجد من النَّاس عاذرا وَلَا يكون عِنْدهم إِلَّا غادرا لأَنهم يحملون الْأُمُور على ظواهرها وَلَا يكشفون عَن غوامضها فيقضون بسقم الظَّاهِر على سَلامَة الْبَاطِن وبفساد العيان على صَلَاح الكامن تَغْلِيبًا على السرائر وَمَا يَنْفَعهُ أَن يعْذر نَفسه وَهُوَ عِنْد النَّاس غير مَعْذُور ويشكرها وَهُوَ عِنْدهم غير مشكور قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْوَفَاء من الْمُلُوك يجلب إِلَيْهِم نفوس الرعايا وأموالها وَقلة الْوَفَاء يقبض نفوس الرعايا وأموالها

الفصل الخامس عشر الحسد

الْفَصْل الْخَامِس عشر الْحَسَد تجنب الْحَسَد وَمِمَّا يجب على الْملك أَن يحفظ نَفسه من الْحَسَد فَإِنَّهُ خلق دني وطبع ردي فَهُوَ فِي عُمُوم النَّاس مَذْمُوم وَفِي أَخْلَاق الْمُلُوك أَذمّ لِأَن قدر الْملك يجل عَن دناءته ومنزلة الْمَحْسُود مستصغرة فِي عظم همته قَالَ بعض الْحُكَمَاء حسد الْمُلُوك يخفي بهجة الْملك وَلَو لم يكن فِي الْحَسَد من الذَّم إِلَّا مَا يُفْضِي إِلَيْهِ من تَفْضِيل الْمَحْسُود لكفى ذَا الْقدر خمولا وَذَا الْفَضِيلَة نقصا فَكيف بأثره إِذا وصم وبضرره إِذا قَصم قَالَ ابْن المقفع الْحَسَد والحرص يكثر الذُّنُوب وأصل المهالك أما الْحَسَد فَأهْلك إِبْلِيس وَأما الْحِرْص فَأخْرج آدم من الْجنَّة وَفِي الْحَسَد نوعا ذمّ يخْتَص أَحدهمَا بِظَاهِرِهِ وَالْآخر بباطنه فَأَما الْأَخَص بِالظَّاهِرِ فهجنه إِذا عرف وقبحه إِذا وصف لِأَنَّهُ فِي

الظَّاهِر شدَّة الأسى على 25 ب الْخَيْر أَن يكون للنَّاس الأفاضل وَظَاهر هَذَا قَبِيح إِذا ذكر وشائع إِذا ستر وخاصة الْمُلُوك الَّذين هم أس الْفَضَائِل ومعدن الْخيرَات وَأما الْأَخَص بالباطن فكد الْقلب بغمه وهد الْجَسَد بسقمه لَا يجد لِقَلْبِهِ سلوا وَلَا لجسده هُدُوا وَهَذَا عَذَاب جنته يَدَاهُ والمحسود قرير الْعين وادع الْجَسَد قد ضرّ وَلم يستضر وَقيل لَيْسَ فِي خِصَال الشَّرّ شَيْء أعدل من الْحَسَد لِأَنَّهُ يبْدَأ بإضرار الْحَاسِد قبل الْمَحْسُود المنافسة وَأما المنافسة فَهِيَ غير الْحَسَد فَلَا بَأْس أَن ينافس الْأَكفاء فِي فضائلهم ويتشبه بالأخيار فِي محاسنهم ويجتهد إِن لم يزدْ عَلَيْهِم أَن لَا يقصر عَنْهُم فَمَا تَكَامل فضل الأخيار إِلَّا بالاقتداء بالأخيار لِأَن لكل نفس فِي الْخَيْر حظا مطبوعا وحظا مكتسبا فَإِذا اجْتمعَا تَكَامل الْخَيْر بهما

وَالْعرب تَقول لَوْلَا الوئام لهلك الْأَنَام أَي لَوْلَا النَّاس يرى بَعضهم بَعْضًا فيقتدي بِهِ فِي الْخَيْر وَيَنْتَهِي بِهِ عَن الشَّرّ لهلكوا قيل لعيسى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام من أدبك قَالَ مَا أدبني أحد وَلَكِنِّي رَأَيْت جهل الْجَاهِل فاجتنبته وَرُبمَا غلط قوم فظنوا أَن المنافسة فِي الْخَيْر هِيَ الْحَسَد وَلَيْسَ كَمَا ظنُّوا لِأَن المنافسة طلب الشبيه بالأفاضل من غير إِدْخَال ضَرَر عَلَيْهِم

الامتنان

والحسد مَصْرُوف إِلَى الضَّرَر لِأَن غَايَته أَن يعْدم الْفَاضِل فَضله وَإِن لم يصر للحاسد مثله فَهَذَا هُوَ الْفرق بَين المنافسة والحسد فَصَارَت المنافسة خيرا والحسد شرا الامتنان وَمِمَّا هُوَ جدير بِالْملكِ أَن يجْتَنب الامتنان بإنعامه والبذخ بإحسانه لِأَنَّهُ من ضيق النَّفس وَضعف الْمِنَّة وَهُوَ تَابع لفساد الْأَخْلَاق وملحق بمساوئ الشيم وَفِيه تكدير للصنيع وإحباط للشكر وإغراء بالذم فينعكس عَلَيْهِ مَا صنع فَيصير مسيئا 16 آبإحسانه ومذموما بامتنانه فيعتاض بِالْإِحْسَانِ كفرا وبالامتنان عصيانا إِلَّا قوما قد أظهرُوا كفر إحسانه واستبطان عصيانه فَيخرج الامتنان عَلَيْهِم مخرج الْوَعيد والتهديد مُقَابلَة على مَا أضاعوه من شكر إحسانه فَيكون ذَلِك مِنْهُ اسْتِئْنَاف إِحْسَان إِلَيْهِم لِأَنَّهُ تَقْوِيم على ميل وتأديب على ذَلِك وحسبك بذم الامتنان أَن يصير عصيانا قَالَ الشَّاعِر

(أفسدت بالمن مَا أسديت من حسن ... لَيْسَ الْكَرِيم إِذا أسدى بمنان) // من الْبَسِيط //

الفصل السادس عشر تصفح الأعمال

الْفَصْل السَّادِس عشر تصفح الْأَعْمَال اعتياد تصفح الْأَعْمَال ليكن من دأبه التصفح فِي ليله أَعمال نَهَاره فَإِن اللَّيْل أحضر للخاطر وَأجْمع للذّكر ليَكُون مَا فعله مَوْقُوفا على استيضاح الرَّأْي فِيهِ فَإِن كَانَ صَوَابا أبرمه وأمضاه واقتفى أَثَره فِيمَا جانسه وضاهاه وَإِن كَانَ قد مَال فِيهِ عَن سنَن الصَّوَاب وَزَل عَن نهج الاقتصاد بَادر إِلَى استدراكه فِيمَا أمكن وانْتهى عَن مثله فِي الْمُسْتَقْبل ليَكُون بالماضي مُعْتَبرا وبالمستأنف خَبرا وليعلم أَن مَا صدر من أَفعاله لَا يَخْلُو من ثَلَاثَة احوال إِمَّا أَن يكون قد اقتصد فِيهَا ووقف مِنْهَا على حَدهَا وَهُوَ الْعدْل الْمَقْصُود وَالْغَرَض الْمَطْلُوب أَو يكون قد أفرط فِيهَا فزادت أَو قصر فِيهَا فنقصت وَكِلَاهُمَا خُرُوج عَن الْعدْل وميل عَن الْقَصْد فليعرف ذَلِك بسبره وتصفحه وليمضه بعد الْعلم بصوابه قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(إِذا تثبت أصبت أَو كدت تصيب وَإِذا استعجلت أَخْطَأت أَو كدت تخطئ) وَليكن مَعَ ذَلِك متصفحا لأفعال غَيره فَمَا أعجبه من جميلها وَاسْتَحْسنهُ من فضائلها بَادر إِلَى فعله وزين نَفسه بِالْعَمَلِ بِهِ فَإِن السعيد من تصفح أَفعَال غَيره فَانْتهى 26 ب عَن سيئها واقتدى بحسنها فنال هنيء الْمَنَافِع وَأمن خطر التجارب وَوصل إِلَى الصَّوَاب بِغَيْر تكلّف وَعمل بالحزم من غير تعنف قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ) وَوجد على حجر بِالْهِنْدِ مَكْتُوب

من اعْتبر بِغَيْرِهِ لم تصبه محنة قَالَ الشَّاعِر (إِن السعيد لَهُ فِي غَيره عظة ... وَفِي التجارب تحكيم ومعتبر) // من الْبَسِيط //

الحذر والاحتراس

الحذر والاحتراس يَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن لَا يغْفل عَن الحذر والاحتراس ليجعل التَّوَكُّل على الْأَعْذَار وَمَا تجْرِي بِهِ الأقدار طَرِيقا إِلَى إِضَاعَة الحزم فيستسلم لنوائب الدَّهْر فَإِن الله تَعَالَى أمرنَا بالتوكل بعد الْإِنْذَار وَندب إِلَيْهِ بعد الْإِعْذَار بذلك أنزل كِتَابه وأمضى سنته فَقَالَ عز وَجل {خُذُوا حذركُمْ} وَقَالَ {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اعقلها وتوكل) وَسُئِلَ مَا الحزم قَالَ (الحذر) وَقيل لبَعض الْحُكَمَاء مَا الحزم

قَالَ أَن تحذر مَا يُمكن كَونه قيل فَمَا الْعَجز قَالَ أَن تأمن مَا يُمكن كَونه وليعلم الْملك أَن شدَّة الاتقاء والحذر تَدْعُو إِلَى وُقُوع مَا يَتَّقِي ويحذر فَإِنَّهُ رُبمَا عَاد عَلَيْهِ من استظهاره فشل وداخله من شدَّة حذره وَجل فَصَارَ بهما عرضة للنوائب وهدفا للمصائب فتدخله شدَّة اتقائه فِيمَا كَانَ مِنْهُ بَدْء إشفاقه وَقيل من التوقي ترك الإفراط فِي التوقي وَإِذا أَخذ بالحذر والاحتراس فِي مَوَاضِع الشدَّة وَعمل على الجرأة والإقدام عِنْد انتهاز الفرصة فقد أَخذ بالحزم فِي شدته وَعمل بالعزم عِنْد فرصته قَالَ طَاهِر بن الْحُسَيْن

الوعد والوعيد

(ركوبك الْأَمر مَا لم تبد فرصته ... جهل ورأيك فِي الإقحام تغرير) (فاعمل صَوَابا وَخذ بالحزم مأثرة ... فَلَنْ يذم لأهل الحزم تَدْبِير) // من الْبَسِيط // الْوَعْد والوعيد وعَلى هَذَا قِيَاس مَا قدمنَا مَعَ الْمَنْع وَالعطَاء لِأَن لكل فَضِيلَة حدا وَتجَاوز الْحَد نقص فِي الْمَحْدُود ليكن من عَادَة الْملك إِذا اراد الْمُقَابلَة على الْإِحْسَان والإساءة أَن لَا يعد محسنا بالثواب وَلَا يتوعد مسيئا بعقاب لِأَنَّهُ على الْأَمريْنِ قَادر وَفِي الْوَعْد بالثواب تكدير وَفِي الْوَعيد بالعقاب تنفير فاستغنى بِالْفِعْلِ عَن القَوْل إِلَّا أَن يَجْعَل حَمده ثَوابًا وذمه عقَابا فَيقْتَصر على الْجَزَاء بالْقَوْل بِحَسب الْإِحْسَان والإساءة وَلَا يغريه توعد وَلَا وَعِيد على زِيَادَة وليعتمد

على الْجَزَاء بالْقَوْل فِيمَن كَانَ بِالْحَقِّ عروفا وَعَن المَال عزوفا فَإِن تَأْثِير الْكَلَام فِي الْكِرَام ابلغ من تَأْثِير الْفِعْل باللئام وَقد قَالَ أنوشروان النَّاس ثَلَاث طَبَقَات تسوسهم ثَلَاث سياسات طبقَة من خَاصَّة الْأَحْرَار تسوسهم باللين واللطف وطبقة من خَاصَّة الأشرار تسوسهم بالشدة والعنف وطبقة هم الْعَامَّة تسوسهم باللين والشدة لِئَلَّا تحرجهم الشدَّة وَلَا يبطرهم اللين

الفصل السابع عشر الطيرة والفأل

الْفَصْل السَّابِع عشر الطَّيرَة والفأل اعْتِقَاد الطَّيرَة وليعلم الْملك أَن من أقوى الْأُمُور فِي نقض العزائم اعْتِقَاد الطَّيرَة فَإِنَّهُ لَا شَيْء اضر بِالرَّأْيِ وَلَا أفسد للتدبير مِنْهَا مَعَ وُرُود السّنة باجتنابها وَالنَّهْي عَنْهَا فَمَا الأقدار إِلَّا بِقَضَاء محتوم وَأجل مَعْلُوم قَالَ الشَّاعِر (مَا للرِّجَال مَعَ الْقَضَاء تحيل ... ذهب الْقَضَاء بحيلة الْمُحْتَال) // من الْكَامِل // 27 - آ وَمن ظن أَن الطَّيرَة ترد قَضَاء أَو تدفع مَقْدُورًا فقد جهل إِن أقضية الله نَافِذَة بأَمْره وَجَارِيَة على قدره فليحذر الطَّيرَة وَلَا يَجْعَل لنقض عَزَائِمه أسبابا وَلَا لفساد الرَّأْي عللا وليمض الْأُمُور على مُقْتَضى أحوالها قيل

التفاؤل

الْخيرَة فِي ترك الطَّيرَة ولينسب مَا جَرّه الْقَضَاء وَسَاقه الْقدر إِلَى مُدبر الْأُمُور ومقلب الدهور فَمَا لمتطير عَيْش يصفو من وَجل وَلَا عزم يَخْلُو من فشل فيحسم وساوس الشَّيْطَان عَن نَفسه فَمَا جعل الله لما اسْتَأْثر لعلمه من الغيوب بشيرا وَلَا نذيرا وَإِنَّمَا وَكله إِلَى عقول يتدبرون بهَا ويعملون بموجبها وَلم يَجْعَل للطيرة فِيهَا حظا وَقد قَالَ الشَّاعِر (وَمَا عاجلات الطير تدني من الْفَتى ... رشادا وَلَا عَن ريثهن يخيب) (وَرب أُمُور لَا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن وجيب) // من الطَّوِيل // التفاؤل فَأَما الفأل فمحمود الْأَثر مؤنس الْخِبْرَة لِأَن فِيهِ تَنْفِيذ الآراء وتقوية العزائم فَصَارَ فِي مُوَافقَة الرَّأْي على ضد الطَّيرَة فِي مُخَالفَة الرَّأْي فَلذَلِك ندب إِلَى الفأل وَمنع من الطَّيرَة

تفاءل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزَوَاته وحروبه وَلم يتطير فَافْتَرقَا فِي النَّص وَالتَّعْلِيل وَاخْتلفَا فِي الْمَدْلُول وَالدَّلِيل قيل لَا تحرّك من الْأُمُور مَا كَانَ سَاكِنا وَلَا نظهر مِنْهَا مَا كَانَ كامنا فتعجل تَحْقِيق الحذر وَتقدم بادرة الْخطر وليترك الْأُمُور على مطاوي الدعة ومجاري السَّلامَة مَا لم يبلغهُ اضطرار وَلَا تسقه إِلَيْهِ أقدار فقد قيل فِي منثور الحكم لَا تفتح بَابا يعييك سَده وَلَا ترم سَهْما يعجزك رده وَلَا تفْسد أمرا يعييك 28 آإصلاحه وَلَا تغلق بَابا يعجزك افتتاحه قَالَ الشَّاعِر (فإياك وَالْأَمر الَّذِي إِن توسعت ... موارده ضَاقَتْ عَلَيْك المصادر)

(فَمَا حسن أَن يعْذر الْمَرْء نَفسه ... وَلَيْسَ لَهُ من سَائِر النَّاس عاذر) // من الطَّوِيل //

الفصل الثامن عشر الملوك قدوة للناس

الْفَصْل الثَّامِن عشر الْمُلُوك قدوة للنَّاس البدء بِالنَّفسِ لَا يحسن بِالْملكِ أَن يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا بَدَأَ بِفِعْلِهِ وَلَا ينْهَى عَن مُنكر إِلَّا بَدَأَ بِتَرْكِهِ وَلَا يلم أحدا فِيمَا لَا يلوم عَلَيْهِ نَفسه وَلَا يستقبح مِنْهُ مَا لَا يستقبحه من نَفسه وَلَا يَأْمُرهُم بِالْبرِّ بِمَا لَا يَأْمر بِهِ نَفسه فَإِن النَّاس على شاكلة مُلُوكهمْ يجرونَ وبأخلاقهم يستنون لأَنهم أَعْلَام متبوعة ومناهج مَشْرُوعَة قَالَ بعض الْحُكَمَاء أصلح نَفسك لنَفسك يكن النَّاس تبعا لَك

وَقَالَ الْمَأْمُون أسوس الْمُلُوك من سَاس نَفسه لرعيته فأسقط عَنهُ مواقع حجتها وَقطع مواقع حجَّته عَنْهَا قَالَ بعض الْحُكَمَاء أفضل الْمُلُوك من أبقى بِالْعَدْلِ ذكره وَاسْتَعْملهُ النَّاس بعده وَالْملك الْفَاضِل هُوَ الَّذِي يحوش الْفَضَائِل ويجود بهَا على من دونه حَتَّى تكْثر فِي أَيَّامه ويتجمل بهَا من لم تكن فِيهِ وجدير بِمن أَمر بصلاح أَن يكون احق بِفِعْلِهِ وبمن نهى عَن فَسَاد أَن يكون أَحَق بِتَرْكِهِ وَلِأَن كَانَ علو الْقدر لَا يزِيدهُ تحفظا لم ينقص قَالَ الشَّاعِر

الرجوع إلى الحق

(لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله ... عر عَلَيْك إِذا فعلت عَظِيم) // من الْكَامِل // وَقَالَ الشَّاعِر (لَك الْخَيْر لم نفسا عَلَيْك ذنوبها ... ودع لوم نفس مَا عَلَيْك مليم) (وَكَيف ترى فِي عين صَاحبك القذى ... وَيخْفى قذى عَيْنَيْك وَهُوَ عَظِيم) // من الطَّوِيل // الرُّجُوع إِلَى الْحق لَا يأنف من حق إِن لزم أَو حجَّة إِن قَامَت فَإِن الرُّجُوع إِلَى الْحق أولى من 28 ب الْعُدُول إِلَى بَاطِل قد كَانَ ناهيا عَنهُ وَرُبمَا منعته الْقُدْرَة من الِاعْتِرَاف بِمَا لَا يهواه وأخذته الْعِزَّة أَن يلين بِمن سواهُ فعاند الْحق

ونبذه واستقل المحق ورفضه وَلم ير للمحق حَقًا فمرح وَلَئِن طَال لِسَان الْملك فلسان الْحق أطول وَلَئِن وَجَبت طَاعَته فطاعة الْحق أوجب قَالَ بعض الألباء من خَادع الْحق خدع وَمن صارعه صرع قَالَ الشَّاعِر (مَتى مَا تقد بِالْبَاطِلِ الْحق يأبه ... وَإِن قدت بِالْحَقِّ الرواسِي تنقد) وَلَئِن يحْتَج لنَفسِهِ لمن علم وضوح حجَّته وَظهر عَجزه عَن إبانته أليق بسلطانه وَأحمد لزمانه فَإِن كل امْرِئ إِنَّمَا يخاطبه بأصفر لِسَانه وَيقبض

الاعتدال

نَفسه عَن إِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِ يُرَاعِي حق نَفسه فِي ضبط شهواته فَإِنَّهَا من نتائج الْهوى المذموم المذهل عَن زواجر الْعُقُول فَيَأْتِي مِنْهَا مَا لم يكن فِي الْعقل قبيحا وَلَا فِي الشَّرْع مَحْظُورًا قَالَ بعض الْعُقَلَاء إِذا تفرغ الْملك للهوه تفرغت الرّعية لإفساد ملكه قَالَ بعض البلغاء من آثر اللَّهْو ضَاعَت رَعيته وَمن دوَام السكر فَسدتْ رويته الِاعْتِدَال وليقف فِي مُبَاح الشَّهَوَات على حد معتدل بَين منزلتين متقابلتين منع وتمكين ليصل بالتمكين إِلَى لذته وَيقف بِالْمَنْعِ على مصْلحَته وَلِأَن يمِيل إِلَى الْمَنْع فيتوفر على سياسته خير من أَن يمِيل إِلَى التَّمْكِين فينهمك فِي لذته لِأَن زمَان السياسة جد وزمان اللَّهْو هزل وَالْجد حق والهزل بَاطِل وَالْقِيَام بِالْحَقِّ أولى من الانهماك فِي الْبَاطِل 29 - آ قَالَ بعض الْحُكَمَاء من قوي على نَفسه تناهى فِي الْقُوَّة وَمن صَبر على شَهْوَته بَالغ فِي الْمَرْوَة

السواسية

وَقيل فِي منثور الحكم أَيدي الْعُقُول تمسك اعنة الْأَنْفس السواسية وَرُبمَا اخْتصَّ بعض الْمُلُوك فِي اللَّذَّات بِمَا يحظره على من سواهُ لينفرد باللذة كَمَا تفرد بِالْقُدْرَةِ ويأسى أَن يُشَارِكهُ فِيهَا من لَا يُسَاوِيه فِي الرُّتْبَة فيخالف عدل السياسة وصواب التَّدْبِير لِأَنَّهُ يوغر الصُّدُور وينشيء النفور لما جبلت عَلَيْهِ الْقُلُوب من بغض من استبد واستأثر وتوقع الْغَيْر بِمن استباح مَا حظر وَرُبمَا عوجل بالغوائل فان نوازع الشَّهَوَات تبْعَث على التَّوَصُّل إِلَيْهَا بِكُل حق وباطل فَيصير الْخطر فِي حظرها يكدر اللَّذَّة فِي استباحتها وَلَو أَبَاحَ مَا استباح لَكَانَ أصفى للذمة وَأسلم فِي عاقبته فَلْيَكُن مَا استباحه من اللَّذَّات مُبَاحا للْعُمُوم وَلَو أَطَاعَته نَفسه على أَن يمْنَعهَا من اللَّذَّات الَّتِي لَا يقدر من دونه عَلَيْهَا كَانَ أبلغ فِي استعطاف الْقُلُوب وطمس الْعُيُوب كتب الْإِسْكَنْدَر إِلَى معلمه يسترشده فِي تَدْبِير ملكه فَكتب إِلَيْهِ فِي جملَة رسَالَته

محاسبة النفس

لَا تتَنَاوَل من لذيذ الْعَيْش مَا لَا يُمكن أوساط أَصْحَابك تنَاول مثله فَلَيْسَ مَعَ الاستبداد محبَّة وَلَا مَعَ الْمُوَاسَاة بغضة محاسبة النَّفس ليكن من دأب الْملك تَهْذِيب نَفسه بسبر أخلاقه وتصفح أَحْوَاله وأفعاله فَإِنَّهُ لَا يحبذ عَلَيْهَا بإنكار وَإِن استنكرت وَلَا يواجه عَلَيْهَا بإكبار وَإِن أكبرت وَلَا يسمع لَهَا بذم وَإِن ذمت وَلَا يلقى فِيهَا إِلَّا بِمَا يرضيه من سداد مختلها 29 ب وَصَلَاح معتلها فَإِن ترك نَفسه وَهُوَ مَتْرُوك محتشم وأهملها وَهُوَ مُطَاع مُعظم قَادَهُ الْهوى فِي الْقُدْرَة إِلَى مساوئ الْأَخْلَاق وَسَاقه الإهمال والمتاركة إِلَى قبائح الْأَفْعَال قَالَ بعض الألباء من عمل عملا فِي السِّرّ يستحيي مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَة فَلَيْسَ لنَفسِهِ عِنْده قدرَة

فيهذب الْملك نَفسه بِنَفسِهِ ويستعين فِي صَلَاحهَا بحزمه ويراقب وليه كَمَا يراقب عدوه وَلَا تحدث لَهُ الثِّقَة والأنسة والانبساط ترك التحفظ عِنْد ولي أَو نسيب فَمن عرف مِنْهُم زلته اسْتَقل هيبته وَقد يصير الموَالِي المؤنس عدوا وموحشا فينم بِمَا علم قَالَ بعض الْعلمَاء ليكن استحياؤك من نَفسك أَكثر من استحيائك من غَيْرك وَقيل مَا أَحْبَبْت أَن تسمعه أذناك فأته وَمَا كرهت أَن تسمعه أذناك فاجتنبه فَهَذِهِ جملَة كَافِيَة فِي أَخْلَاق الْملك الرشيد وَالله ولي التَّوْفِيق والتسديد

الْبَاب الثَّانِي فِي سياسة الْملك تمهيد قَالَ أقضى الْقُضَاة رَحمَه الله حق على من مكنه الله تَعَالَى من أرضه وبلاده وائتمنه على خلقه وعباده أَن يُقَابل جزيل نعْمَته بِحسن السريرة وَيجْرِي من الرّعية بجميل السِّيرَة قَالَ الله تَعَالَى 30 آ {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى} وَقَالَ عز وَجل {وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا وَأحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك}

وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (من سَار فِيمَن بَين ظهريه بسيرة حَسَنَة كَانَ لَهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أُجُورهم شَيْء وَمن سَار فِيمَن بَين ظهريه بسيرة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر العاملين بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أوزارهم شَيْء) وَرُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لَو ضَاعَت سخلة على شاطئ فرات لَخَشِيت أَن يسألني الله عَلَيْهَا وَحكي أَن عُثْمَان بن عبد الله وقف على مُحَمَّد بن سَمَّاعَة القَاضِي وَهُوَ فِي مجْلِس قَضَائِهِ يحكم بَين النَّاس فَقَالَ

إسمع لَا سَمِعت يَا ابْن سَمَّاعَة وَأنْشد يَقُول (لقد كلفت يَا مِسْكين أمرا ... تضيق لَهُ قُلُوب الخائفينا) (أتعلم أَن رب الْعَرْش قَاض ... وتقضي أَنْت بَين العالمينا) // من الوافر // فَقَامَ ابْن سَمَّاعَة من مَجْلِسه ودموعه تجْرِي على خديه فَلَيْسَ أحد أَجْدَر بالحذر والإشفاق وَأولى بِالنّصب وَالِاجْتِهَاد مِمَّن تقلد امور الرّعية لِأَنَّهَا أَمَانَة الله الَّتِي أَمنه عَلَيْهَا ورعيته الَّتِي استرعاه فِيهَا واستخلفه على أمورها وَهُوَ تَعَالَى ولي السُّؤَال عَنْهَا وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حسم مواد الِاعْتِرَاض مِنْهَا على أَفعاله وكف ألسنتها عَن رد مَا رَآهُ فِي اجْتِهَاده وَأوجب عَلَيْهَا طَاعَته وألزمها الانقياد لحكمه وَأمرهمْ أَن يتصرفوا بَين أمره وَنَهْيه فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم}

وَجعل صَلَاح جَمَاعَتهمْ بصلاحه وَفَسَاد أُمُورهم بفساده لِأَنَّهُ قلب وهم أَطْرَاف وقطب وهم أكناف 30 - ب قَالَ بعض الْعُقَلَاء رشاد الْوَالِي خير من خصب الزَّمَان وأرشد الْوُلَاة من حرس بولايته الدّين وانتظم بنظره صَلَاح الْمُسلمين لِأَن الدّين يصلح سرائر الْقُلُوب وَيمْنَع من ارْتِكَاب الذُّنُوب وَيبْعَث على التأله والتناصف وَيَدْعُو إِلَى الألفة والتعاطف وَهَذِه قَوَاعِد لَا تصلح الدُّنْيَا إِلَّا بهَا وَلَا يَسْتَقِيم الْخلق إِلَّا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا السلطنة زِمَام لحفظها وباعث على الْعَمَل بهَا وَلَو أهملوا ونوازع الْأَهْوَاء جاذبة وَاخْتِلَاف الآراء مُتَقَارِبَة لتمارحوا وتغالبوا وَلما عرف حق من بَاطِل وَلَا تميز صَحِيح من فَاسد وَلَيْسَ فِي الْعقل مَا يجمعهُمْ على حكم يتساوى فِيهِ قويهم وضعيفهم ويتكافأ فِيهِ شريفهم ومشروفهم فَلذَلِك وقفت مصالحهم على دين يقودهم إِلَى جمع الشمل واتفاق الْكَلِمَة وَيَنْقَطِع بِهِ تنازعهم وتنحسم بِهِ مواد أطماعهم وَاخْتِلَافهمْ وَتصْلح بِهِ سرائرهم وتنحفظ بِهِ أمانتهم

وَرُبمَا أهمل بعض الْمُلُوك الدّين وعول فِي أُمُوره على قوته وَكَثْرَة أجناده وَلَيْسَ يعلم أَن أجناده إِذا لم يعتقدوا وجوب طَاعَته فِي الدّين كَانُوا أضرّ عَلَيْهِ من كل ضد مباين لاقتراحهم عَلَيْهِ مَا لَا ينْهض بِهِ وتحكمهم عَلَيْهِ بِمَا لَا يثبت لَهُ فَإِن سمعُوا بنابغ نبغ عَلَيْهِ قوي طمعهم فِي اجتياح أَمْوَاله وَلم يقنعهم اسْتِيعَاب حَاله وَكَانَ مِنْهُم على شفا جرف هار لَا يَأْمَن سطوتهم بِهِ وَقد قيل من جعل ملكه خَادِمًا لدينِهِ انْقَادَ لَهُ كل سُلْطَان وَمن جعل دينه خَادِمًا لملكه طمع فِيهِ كل إِنْسَان

الفصل التاسع عشر أن يكون الملك أفضل الناس دينا

الْفَصْل التَّاسِع عشر أَن يكون الْملك أفضل النَّاس دينا الدّين وَالْملك يَنْبَغِي للْملك أَن يأنف من أَن يكون 31 آفي رَعيته من هُوَ أفضل دينا مِنْهُ كَمَا يأنف أَن يكون فِي رَعيته من هُوَ أنفذ أمرا مِنْهُ وَقَالَ أردشير بن بابك فِي عَهده إِلَى مُلُوك فَارس

إِن الدّين وَالْملك توأمان لَا قوام لأَحَدهمَا إِلَّا بِصَاحِبِهِ لِأَن الدّين أس وَالْملك حارس وَلَا بُد للْملك من أسه وَلَا بُد للأس من حارسه لِأَن مَا لَا حارس لَهُ ضائع وَمَا لَا اس لَهُ منهدم

الفصل العشرون قواعد الملك

الدّفع عَن الدّين بِالْملكِ وَكتب حَكِيم الرّوم إِلَى الْإِسْكَنْدَر إدفع عَن دينك بملكك وَلَا تدفع بِدينِك عَن ملكك وصير دنياك وقاية لآخرتك وَلَا تصير آخرتك وقاية لدنياك وَكَيف يَرْجُو من تظاهر بإهمال الدّين استقامة ملك وَصَلَاح حَال وَقد صَار أعوان دولته أضدادها وَسَائِر رَعيته أعداءها مَعَ قبح أَثَره وَشدَّة ضَرَره وَبِذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِنَّكُم ستحرصون على الْإِمَارَة ثمَّ تكون حسرة وندامة يَوْم الْقِيَامَة فنعمت الْمُرضعَة وبئست الفاطمة) 151 وَقد قيل الْملك خَليفَة الله فِي بِلَاده وَلنْ يَسْتَقِيم أَمر خِلَافَته مَعَ مُخَالفَته فالسعيد من وقى الدّين بِملكه وَلم يُوقَ الْملك بِدِينِهِ وأحيى السّنة بعدله وَلم يمتها بجوره وحرس الرّعية بتدبيره وَلم يَضَعهَا بتدميره ليَكُون لقواعد ملكه موطدا ولأساس دولته مشيدا ولأمر الله فِي بِلَاده ممتثلا فَلَنْ يعجز الله استقامة الدّين عَن سياسة الْملك وتدبير الرعايا 152 الْفَصْل الْعشْرُونَ قَوَاعِد الْملك ثمَّ أَقُول إِن قَوَاعِد الْملك مُسْتَقِرَّة على أَمريْن تأسيس وسياسة

الفصل العشرون قواعد الملك

وَقد قيل الْملك خَليفَة الله فِي بِلَاده وَلنْ يَسْتَقِيم أَمر خِلَافَته مَعَ مُخَالفَته فالسعيد من وقى الدّين بِملكه وَلم يُوقَ الْملك بِدِينِهِ وأحيى السّنة بعدله وَلم يمتها بجوره وحرس الرّعية بتدبيره وَلم يَضَعهَا بتدميره ليَكُون لقواعد ملكه موطدا ولأساس دولته مشيدا ولأمر الله فِي بِلَاده ممتثلا فَلَنْ يعجز الله استقامة الدّين عَن سياسة الْملك وتدبير الرعايا 152 الْفَصْل الْعشْرُونَ قَوَاعِد الْملك ثمَّ أَقُول إِن قَوَاعِد الْملك مُسْتَقِرَّة على أَمريْن تأسيس وسياسة

الفصل العشرون قواعد الملك

الْفَصْل الْعشْرُونَ قَوَاعِد الْملك ثمَّ أَقُول إِن قَوَاعِد الْملك مُسْتَقِرَّة على أَمريْن تأسيس وسياسة

تأسيس الملك وأقسامه

تأسيس الْملك وأقسامه فَأَما تأسيس الْملك فَيكون فِي تثبيت أَوَائِله ومباديه وإرساء قَوَاعِده ومبانيه وتنقسم ثَلَاثَة أَقسَام تأسيس دين وتأسيس قُوَّة 31 ب وتأسيس مَال وثروة تأسيس الْملك على الدّين فَأَما الْقسم الأول وَهُوَ تأسيس الدّين فَهُوَ أثبتها قَاعِدَة وأدومها مُدَّة وأخلصها طَاعَة وَلَيْسَ يَخْلُو انْتِقَال الْملك بِهِ من ثَلَاثَة أَسبَاب أَحدهَا أَن يخرج الْملك من منصيب الدّين حَتَّى يتَوَلَّى عَلَيْهِ غير أَهله وَيظْهر مِنْهُ خلاف عقده فتنفر مِنْهُ النُّفُوس إِن لَان وتعانده إِن خشن تعصيه

الْقُلُوب وَإِن أَطَاعَته الأجساد فيتطلب النَّاس للخلاص مِنْهُ أسبابا ويفتحون للوثوب عَلَيْهِ أبوابا يستهلون فِيهَا بذل النُّفُوس وَالْأَمْوَال حفظا لدينهم فَيصير ملكه عرضة للطَّالِب وحريمه غنيمَة للسالب وَقد قَالَ حَكِيم الرّوم لَا يزَال الجائر من الْمُلُوك ممهلا حَتَّى يتخطى إِلَى أَرْكَان الْعِمَارَة ومباني الشَّرِيعَة فَإِذا قَصدهَا اقْتَرَبت مدَّته وَالسَّبَب الثَّانِي أَن يكون الْملك مِمَّن قد استهان بِالدّينِ وهون أَهله فأهمل أَحْكَامه وطمس أَعْلَامه حَتَّى لَا تُؤَدّى فروضه وَتوفى حُقُوقه إِمَّا لضعف عزمه فِي الدّين وَإِمَّا لانهماكه فِي اللَّذَّات فَيرى النَّاس أَن الدّين أقوم ولحقوقه وفروضه ألزم فَيصير دينه مذحولا وَملكه محلولا قَالَ بعض الْحُكَمَاء إِذا أَقبلت الدولة خدمت الشَّهَوَات للعقول وَإِذا أَدْبَرت خمدت الْعُقُول للشهوات وَالسَّبَب الثَّالِث أَن يكون الْملك مِمَّن قد احدث بِدعَة فِي الدّين شنعة وَاخْتَارَ فِيهِ أقوالا بشعة يُفْضِي استمرارها إِلَى تبديله ويؤول إِلَى تَغْيِيره وتعطيله فتأبى نفوس النَّاس بِغَيْر دين قد صَحَّ لَهُم معتقده واستقرت فِي الْقُلُوب أُصُوله وقواعده فَيصير دينه مرفوضا وَملكه منقوضا فَإِذا طَرَأَ على الدّين هَذِه الْأَسْبَاب الثَّلَاثَة ونهض إِلَى طلب الْملك

تأسيس الملك على القوة

من يقوم بنصرة الدّين وَيدْفَع 32 آتبديل المبتدعين وَيجْرِي فيهم على السّنَن الْمُسْتَقيم أذعنت النُّفُوس لطاعته واشتدت فِي مؤازرته ونصرته وَرَأَوا أَن بذل النُّفُوس لَهُ من حُقُوق الله المفترضة وَأَن النُّصْرَة لَهُ من أوامره الملتزمة فَملك الْقُلُوب والأجساد واستخلص الأعوان والأجناد فَإِن نالوا مَعَه من الدُّنْيَا حظا وجمعوا بِهِ بَين صلاحي الدّين وَالدُّنْيَا صَار مجتذبا إِلَى الْملك لَا جاذبا ومرغوبا إِلَيْهِ لَا رَاغِبًا ولان لَهُ كل صَعب وَهَان عَلَيْهِ كل خطب وتوطد لَهُ من اس الْملك مَا لَا يُقَاوم سُلْطَانه وَلَا تغل أعوانه لفرق مَا بَين ملك الطَّالِب وَالْمَطْلُوب وتباين مَا بَين طَاعَة الْخَاطِب والمخطوب تأسيس الْملك على الْقُوَّة وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ تأسيس الْقُوَّة فَهُوَ أَن يحل نظام الْملك إِمَّا بالإهمال وَالْعجز وَإِمَّا بالظلم والجور فينتدب لطلب الْملك أولو الْقُوَّة ويتوثب عَلَيْهِ ذُو الْقُدْرَة إِمَّا طَمَعا فِي الْملك حِين يضعف وَإِمَّا دفعا للظلم حِين اسْتمرّ وَهَذَا إِنَّمَا يتم لجيش قد اجْتمعت فيهم ثَلَاث خلال كَثْرَة الْعدَد وَظُهُور الشجَاعَة وتفويض الْأَمر الى مقدم عَلَيْهِم إِمَّا لنسب وأبوة وَإِمَّا لفضل رَأْي وشجاعة فَإِذا توثبوا على الْملك بِالْكَثْرَةِ واستولوا عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ كَانَ ملك قهر فَإِن عدلوا مَعَ الرّعية وَسَارُوا فيهم بالسيرة الجميلة صَار ملك تَفْوِيض وَطَاعَة فرسا وَثَبت

تأسيس الملك على المال والثروة

وَإِن جاروا وعسفوا فَهِيَ حولة توثب ودولة تغلب يبيدها الظُّلم ويزيلها الْبَغي بعد أَن تهْلك بهم الرعايا وتخرب بهم الْبِلَاد تأسيس الْملك على المَال والثروة وَأما الْقسم الثَّالِث فَهُوَ تأسيس المَال والثروة فَهُوَ أَن يكثر المَال فِي 32 ب قومه فَيحدث لَهُم بعلو الهمة طَمَعا فِي الْملك وَقل أَن يكون هَذَا الْأَمر إِلَّا فِيمَن لَهُ بالسلطنة اخْتِلَاط وبأعوان الْملك امتزاج فيبعث مطامع الراغبين فِيهِ على طَاعَته وَتَسْلِيم الْأَمر إِلَى زعامته وبعيد أَن يتم ذَلِك إِلَّا عِنْد ضعف الْملك ووهائه وَفَسَاد أعوانه وزعمائه وَقيل فِي منثور الحكم المَال رُبمَا سود غير السَّيِّد وقوى غير الأيد فَإِذا انْتقل بِهِ الْملك كَانَ أَوْهَى الْأَسْبَاب قَاعِدَة وأقصرها مُدَّة لِأَن المَال ينفذ مطامع طالبيه وَيذْهب باقتراح الراغبين فِيهِ وَقد قيل من ودك لأمر ولى مَعَ انقضائه قَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام

الَّذِي يتوكل على غنائه سُقُوطه سريع فَإِن اقْترن بِسَبَب يَقْتَضِي ثُبُوت الْملك ثَبت وَإِلَّا فَهُوَ وشيك الزَّوَال سريع الِانْتِقَال وَاعْلَم أَن الدولة تبتدئ بخشونة الطباع وَشدَّة الْبَطْش لتسرع النُّفُوس إِلَى بذل الطَّاعَة ثمَّ تتوسط باللين والاستقامة لاستقرار الْملك وَحُصُول الدعة ثمَّ تختم بانتشار الْجور وَشدَّة الضعْف لانتقاض الْأَمر وَقلة الحزم وبحسب هَذِه الْأَحْوَال الثَّلَاثَة يكون مُلُوكهَا فِي الآراء والطباع وَقد شبه المتقدمون الدولة بالثمرة فَإِنَّهَا تبدو حَسَنَة الملمس مرّة الطّعْم ثمَّ تدْرك فتلين وتستطاب ثمَّ تنضج فَتكون أقرب للْفَسَاد والاستحالة وكما تبتدأ الدولة بِالْقُوَّةِ وتختم بالضعف كَذَلِك تبتدأ بِالْوَفَاءِ وتختم بالغدر لِأَن الْوَفَاء مشيد والغدر مشرد

الفصل الحادي والعشرون سياسة الملك

الْفَصْل الْحَادِي وَالْعشْرُونَ سياسة الْملك قَوَاعِد سياسة الْملك وَأما سياسة الْملك بعد تأسيسه واستقراره 33 آفتشتمل على أَربع قَوَاعِد وَهِي عمَارَة الْبلدَانِ وحراسة الرّعية وتدبير الْجند وَتَقْدِير الْأَمْوَال 1 - عمَارَة الْبلدَانِ فَأَما الْقَاعِدَة الأولى وَهِي عمَارَة الْبلدَانِ فالبلاد نَوْعَانِ مزارع وأمصار

آعمارة المزارع

آعمارة الْمزَارِع فَأَما الْمزَارِع فَهِيَ أصُول الْموَاد الَّتِي يقوم بهَا أود الْملك وتنتظم بهَا أَحْوَال الرعايا فصلاحها خصب وثراء وفسادها جَدب وخلاء وَهِي الْكُنُوز المدخورة وَالْأَمْوَال المستمدة وَأي بلد كثرت ثماره ومزارعه اسْتَقل بخيره وفاض على غَيره فَصَارَت الْأَمْوَال إِلَيْهِ تجلب والأقوات مِنْهُ تطلب وَهُوَ بالضد إِن قلت أَو اختلت فَلَزِمَ مُدبر الْملك فِيهَا ثَلَاثَة حُقُوق أَحدهمَا الْقيام بمصالح الْمِيَاه الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا أقدر وَلها أقهر حَتَّى تدر فَلَا تَنْقَطِع وتعم فَلَا تمْتَنع ويشترك فِيهَا الْقَرِيب والبعيد وَيَسْتَوِي فِي الِانْتِفَاع بهَا الْقوي والضعيف فَإِن أهملت حَتَّى قلت وتغالب النَّاس عَلَيْهَا بسطوة وَقُوَّة اخْتَلَّ نظامها وَفَسَد التئامها واستبد فِيهَا من استطال وتحكم فِي الْأَمْوَال والأقوات فضيق على النَّاس لسعته وهزهم لمنفعته وَصَارَ خصبه جدبا وخطبه صعبا وَالْحق الثَّانِي عَلَيْهِ أَن يحميهم من تخطف الْأَيْدِي لَهُم ويكف الْأَذَى عَنْهُم فَإِنَّهُم مطامع أولي السلاطة ومأكلة ذَوي الْقُوَّة ليأمنوا فِي مَزَارِعهمْ وَلَا يتشاغلوا بالذب عَن أنفسهم وَلَا يكون لَهُم غير الزِّرَاعَة عملا لِأَن لكل صَنْعَة أَهلا فيستكثروا من الْعِمَارَة ويتسعوا فِي الزِّرَاعَة فَيَكُونُوا عونا وعوانا لمن عداهم وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(التمسوا الرزق فِي خبايا الأَرْض الزَّرْع) وَالْحق الثَّالِث عَلَيْهِ تَقْدِير مَا يُؤْخَذ مِنْهُم بِحكم الشَّرْع وَقَضِيَّة الْعدْل 33 ب حَتَّى لَا ينالهم فِي قدرهَا حيف وَلَا يلحقهم فِي أَخذهَا عسف فَإِنَّهُم لَا يصلونَ إِلَى إنصافه إِلَّا بعدله لتذعن نُفُوسهم ببذل الْحق مِنْهَا طَوْعًا وَيكون لَهُم فِي تَخْفيف الكلف عَنْهُم فضل فَإِن الزَّمَان باتساعهم خصب وَالْملك باستقامة أُمُورهم ملتئم فَإِن حيف عَلَيْهِم فِي الْقدر أَو عسف بهم فِي الْأَخْذ انعكس الصّلاح إِلَى ضِدّه فدانوا وأدانوا وَصَارَت ولَايَة فهر تخرج من سيرة الْعدْل والإنصاف ثمَّ هم لإخلالهم واختلالهم من وَرَاء نفور وجلاء قَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام اشرب المَاء من ينبوعك وليفض ماؤك فِي أسواقك ليَكُون ينبوعك مُبَارَكًا

ب عمارة الأمصار

قَالَ بزرجمهر من عمر بَيت المَال من ظلم رَعيته كمن طين سطحه من قَوَاعِد بَيته وَكتب زِيَاد إِلَى عماله على السوَاد أَحْسنُوا إِلَى المزارعين فَإِنَّكُم لَا تزالون سمانا مَا سمنوا ب عمَارَة الْأَمْصَار وَأما الْأَمْصَار فَهِيَ الأوطان الجامعة وَالْمَقْصُود بهَا خَمْسَة أُمُور أَحدهَا أَن يستوطنها أَهلهَا طلبا للسكون والدعة

شروط إنشاء الأمصار

وَالثَّانِي حفظ الْأَمْوَال فِيهَا من اسْتِهْلَاك وإضاعة وَالثَّالِث صِيَانة الْحَرِيم وَالْحرم من انتهاك ومذلة وَالرَّابِع إلتماس مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة من مَتَاع وصناعة وَالْخَامِس التَّعَرُّض للكسب وَطلب الْمَادَّة فَإِن عدم فِيهَا أحد هَذِه الْأُمُور الْخَمْسَة فَلَيْسَتْ من مَوَاطِن الِاسْتِقْرَار وَهِي منزل قيعة ودمار قَالَ الزبير بن الْعَوام رَضِي الله عَنهُ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِن الْبِلَاد بِلَاد الله فَحَيْثُ مَا وجدت خيرا فاحمد الله وأقم) وحظ السُّلْطَان فِي عمَارَة 34 آالبلدان والأوطان أوفى من حَظّ رَعيته لِأَنَّهُ أصل هم فروعه ومتبوع هم أَتْبَاعه شُرُوط إنْشَاء الْأَمْصَار وَالَّذِي يعْتَبر فِي إنشائها سِتَّة شُرُوط أَحدهمَا سَعَة الْمِيَاه المستعذبة وَالثَّانِي إِمْكَان الْميرَة المستمدة وَالثَّالِث اعْتِدَال الْمَكَان الْمُوَافق لصِحَّة الْهوى والتربة

ما على منشيء المصر في حقوق ساكنيه

وَالرَّابِع قربَة مِمَّا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ من المراعي والأحطاب وَالْخَامِس تحصين مَنَازِله من الْأَعْدَاء والزعار وَالسَّادِس أَن يُحِيط بِهِ سَواد يعين أَهله بمواده فَإِذا تكاملت هَذِه الشُّرُوط السِّتَّة فِي إنْشَاء مصر استحكمت قَوَاعِد تأبيده وَلم يزل إِلَّا بِقَضَاء محتوم وَأجل مَعْلُوم مَا على منشيء الْمصر فِي حُقُوق ساكنيه ثمَّ على منشيء الْمصر فِي حُقُوق ساكنيه ثَمَانِيَة شُرُوط أَحدهَا أَن يَسُوق إِلَيْهِ مَاء السارية إِن بَعدت أَطْرَافه إِمَّا فِي أَنهَار جَارِيَة أَو حِيَاض سَائِلَة ليسهل الْوُقُوف إِلَيْهِ من غير تعسف وَالثَّانِي تَقْدِير طرقه وشوارعه حَتَّى تتناسب وَلَا تضيق بِأَهْلِهَا فيستضر الْمَار بهَا وَالثَّالِث أَن يَبْنِي جَامعا للصلوات فِي وَسطه ليقرب على جَمِيع أَهله ويعم شوارعه بمساجده وَالرَّابِع أَن يقدر أسواقه بِحَسب كِفَايَته وَفِي مَوَاضِع حَاجته وَالْخَامِس أَن يُمَيّز خطط أَهله وقبائل ساكنيه وَلَا يجمع بَين أضداد متنافرين وَلَا بَين أَجنَاس مُخْتَلفين وَالسَّادِس إِن أَرَادَ الْملك أَن يستوطنه سكن مِنْهُ فِي أفسح أَطْرَافه وأطاف بِهِ جَمِيع خواصه وَمن يَكْفِيهِ من أَمر أجناده وَفرق باقيهم فِي بَقِيَّة أَطْرَافه ليكفوه من جَمِيع جهاته وَخص أَهله بِالْعَدْلِ وَجعل وَسطه بعوام أَهله 34 ب ليكونوا مكنوفين بهم وَليقل ركُوبه فيهم حَتَّى لَا يلين فِي أَعينهم

أنواع الأمصار

وَالسَّابِع أَن يحوطهم بسور إِن تاخموا عدوا أَو خَافُوا اغتيالا حَتَّى لَا يدْخل عَلَيْهِم إِلَّا من أرادوه وَلَا يخرج عَنْهُم إِلَّا من عرفوه لِأَنَّهُ دَار لساكنيه وحرز لمستوطنيه وَالثَّامِن أَن ينْقل إِلَيْهِ من أَعمال أهل الْعُلُوم والصنائع مَا يحْتَاج أَهله إِلَيْهِ حَتَّى يكتفوا بهم ويستغنوا عَن غَيرهم فَإِذا قَامَ منشئه بِهَذِهِ الشُّرُوط الثَّمَانِية فِيهِ فقد أدّى حق مستوطنيه وَلم يبْق لَهُم عَلَيْهِ إِلَّا أَن يسير فيهم بالسيرة الْحسنى ويأخذهم بالطريقة المثلى وَقد صَار من أكمل الْأَمْصَار وطنا وأعدلها مسكنا أَنْوَاع الْأَمْصَار والأمصار نَوْعَانِ مصر مزارع وَسَوَاد ومصر فرْصَة وتجارة مصر الْمزَارِع والسواد فَأَما مصر الْمزَارِع والسواد فَهُوَ أثبت المصرين أَهلا وأحسنهما حَالا وأولاهما استيطانا لوُجُود مواده فِيهِ واقتناء أصولهما مِنْهُ من شُرُوط مصر الْمزَارِع والسواد وَمن شَرطه أَن يكون فِي وسط سوَاده وَبَين جَمِيع أَطْرَافه حَتَّى تعتدل مواده مِنْهَا وتتساوى طرقه إِلَيْهَا وَهُوَ موفور الْعِمَارَة مَا كَانَ سوَاده عَامِرًا فَإِن نَالَ أَهله فِيهِ حيف فرقهم الحيف فِي سوَاده فَأَصَابُوا عَيْشًا ودافعوا من زمَان الحيف وقتا وَإِن جَار السوَاد على أَهله كَانَ لَهُم فِي الْمصر أَمن وملاذ وَيكون كل وَاحِد مِنْهُمَا للْآخر معَاذًا

مصر الفرصة والتجارة

مصر الفرصة وَالتِّجَارَة وَأما مصر الفرصة وَالتِّجَارَة فَهُوَ من كَمَال الإقليم وزينة الْملك لِأَنَّهُ مَقْصُود بتحف الْبِلَاد وطرف 35 آالأقاليم فَلَا يعوذ فِيهِ مَطْلُوب وَلَا يَنْقَطِع عَنهُ مجلوب شُرُوط هَذَا النَّوْع من الْأَمْصَار وَالْمُعْتَبر فِيهِ ثَلَاثَة شُرُوط أَحدهَا أَن يتوسط أَمْصَار الرِّيف وَيقرب من بِلَاد المتاجر فَلَا يبعد على طَالبه وَلَا يسْبق على قاصده وَالثَّانِي أَن يكون على جادة تسهل مسالكها وَيُمكن نقل الأثقال فِيهَا إِمَّا فِي نهر أَو على ظهر فَإِن توعرت مسالكه وأجدبت مفاوزه عدل النَّاس عَنهُ إِلَّا من ضَرُورَة وَالثَّالِث أَن يكون مَأْمُون السبل لأهل الطرقات خَفِيف الكلف قَلِيل الأثقال فانه لَيْسَ يَأْتِيهِ إِلَّا جالب مجتاز يطْلب من الْبِلَاد أجداها فَإِن توعر هجر وَهَذَا أَكثر البلدين طَالبا وأنشرهما فِي الأقاليم ذكرا وَهُوَ معد لمطالب الْمُلُوك لَا لموادهم فَإِن استمدوه وتحيفوه بالمكوس والأعشار نفروا عَنهُ وَإِن وجدوا سواهُ صَار لأهل الضرورات دون الِاخْتِيَار وَلَا دوَام لأوطان الْإِضْرَار وَلَا يبعد أَن يندرس فَيلْحق الْمُضْطَر بالمختار وَإِن لم يَسْتَدْرِكهُ سُلْطَانه بتَخْفِيف وإنصاف لِأَن أَمْوَاله أَمْوَال تِجَارَة منتقلة

لَا يشق عَلَيْهِم تحويلها فهم يستوطنون من الْبِلَاد أعدلها ويقصدون من المتاجر والمعاملات أسهلها فَإِن نبا بهم وَطن فَكل الْبِلَاد لَهُم وَطن قَالَ الشَّاعِر (واترك مَحل السوء لَا تحلل بِهِ ... وَإِذا نبا بك منزل فتحول) // من الْكَامِل //

حراسة الرعية

2 - حراسة الرّعية وَأما الْقَاعِدَة الثَّانِيَة وَهِي حراسة الرّعية فلأنهم لأمانات الله الَّتِي استودعه حفظهَا واسترعاه الْقيام بهَا لَا يقدرُونَ على الدّفع عَن أنفسهم إِلَّا بسلطانه وَلَا يصلونَ إِلَى الْعدْل والتناصف إِلَّا بإحسانه وَهُوَ مِنْهُم بِمَنْزِلَة ولي الْيَتِيم الْمَنْدُوب لكفالته والقيم بمصالحه يلْزمه بِحكم الاسترعاء وَالْأَمَانَة أَن يقوم زلله وَيصْلح خلله ويحفظ أَمْوَاله ويثمر مواده كَذَلِك مَكَانَهُ من رَعيته فِي الذب عَنْهُم وَالنَّظَر لَهُم وَالْقِيَام 35 ب بمصالحهم فَإِن النَّفْع بصلاح أَحْوَالهم عَائِد عَلَيْهِ وَالضَّرَر بفسادها مُتَعَدٍّ إِلَيْهِ فَلَنْ تُوجد استقامة ملك فَسدتْ فِيهِ أَحْوَال الرعايا

ما يلزم الملوك في حق الاسترعاء

مَا يلْزم الْمُلُوك فِي حق الاسترعاء وَالَّذِي يلْزم الْملك فِي حُقُوق الاسترعاء عَلَيْهِم عشرَة أَشْيَاء أَحدهَا تَمْكِين الرّعية من استيطان مساكنهم وادعين وَالثَّانِي التَّخْلِيَة بَينهم وَبَين مساكنهم آمِنين وَالثَّالِث كف الْأَذَى وَالْأَيْدِي الْغَالِبَة عَنْهُم وَالرَّابِع اسْتِعْمَال الْعدْل والنصفة مَعَهم وَالْخَامِس فصل الْخِصَام بَين المتنازعين مِنْهُم وَالسَّادِس حملهمْ على مُوجب الشَّرْع فِي عباداتهم ومعاملاتهم وَالسَّابِع إِقَامَة حُدُود الله تَعَالَى وحقوقه فيهم وَالثَّامِن أَمن سبلهم ومسالكهم وَالتَّاسِع الْقيام بمصالحهم فِي حفظ مِيَاههمْ وقناطرهم والعاشر تقديرهم وترتيبهم على أقدارهم ومنازلهم فِيمَا يتميزون بِهِ من دين وَعمل وَكسب وصيانة فَإِذا قَامَ فيهم بِهَذِهِ الْحُقُوق فَهِيَ السياسة العادلة والسيرة الفاضلة الَّتِي تستخلص بهَا طَاعَة الرّعية وينتظم بهَا صَلَاح المملكة وَإِن أخل بهَا كَانَ وإياهم على ضدها قَالَ أردشير بن بابك

سَعَادَة الرّعية فِي طَاعَة الْملك وسعادة الْملك فِي طَاعَة الْمَالِك قَالَ بعض الألباء إِذا لم يكن فِي سُلْطَان الْملك سرُور لرعيته كَانَ ملكه ظلما حُكيَ أَن أنوشروان أنفذ رَسُولا إِلَى ملك قد أزمع على محاربته وَأمره أَن يتعرف سيرته فِي نَفسه ورعيته فَرجع إِلَيْهِ وَقَالَ وجدت عِنْده الْهزْل أقوى من الْجد وَالْكذب أَكثر من الصدْق والجور أرفع من الْعدْل فَقَالَ أنوشروان رزقت الظفر عَلَيْهِ سر إِلَيْهِ وَليكن عَمَلك فِي

تدبير الجند

محاربته بِمَا هُوَ أَضْعَف عِنْده وَأَقل وأوضع فَإنَّك مَنْصُور عَلَيْهِ وَهُوَ مخذول فَسَار إِلَيْهِ فظفر بِهِ وَاسْتولى على ملكه 3 - تَدْبِير الْجند وَأما الْقَاعِدَة الثَّالِثَة وَهِي تَدْبِير الْجند فَلِأَن بهم ملك 36 آحتى قهر وَاسْتولى على قدر فَإِن صلحوا كَانَت قوتهم لَهُ وَإِن فسدوا صَارَت قوتهم عَلَيْهِ وبعيد مِمَّن كَانَ مَعَه فَصَارَ عَلَيْهِ أَن يرى مَعَه رشدا شُرُوط تَدْبِير الْجند وتدبيرهم الَّذِي يحقط عَلَيْهِم طاعتهم ويستخلص بِهِ نصرتهم يكون بأَرْبعَة شُرُوط إِن استكملها صلحوا بِهِ واستقاموا لَهُ وَإِن أخل بهَا فسدوا عَلَيْهِ وأفسدوا ملكه أَحدهَا تقويمهم بالأدب الَّذِي يحفظ عَلَيْهِ وفور نجدتهم وَكَمَال تجنيدهم ليصلحهم بذلك لأَنْفُسِهِمْ ثمَّ لنَفسِهِ ثمَّ لرعيته

فَأَما صَلَاحهمْ لأَنْفُسِهِمْ فَيكون بِثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا معطاة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ أجناد الْمُلُوك من الارتياض بالركوب والخبرة بالحروب لِأَنَّهَا صناعَة تجمع بَين علم وَعمل وَالثَّانِي اختصاصهم بالجندية واقتصارهم عَلَيْهَا حَتَّى لَا ينقطعوا عَنْهَا بكسب سواهَا فيصيروا مقصرين فِيهَا وَالثَّالِث أَن يقفوا فِي اللَّذَّات على اعْتِدَال مُبَاح لَا يقطعون إِلَيْهَا فتلهيهم وَلَا يمْنَعُونَ مِنْهَا فتغريهم وَأما صَلَاحهمْ لنَفسِهِ فَيكون بِثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا أَن تَسْتَقِر محبته فِي نُفُوسهم حَتَّى ينصحوه وَالثَّانِي أَن تعظم هيبته فِي قُلُوبهم حَتَّى يطيعوه وَالثَّالِث أَن يعتقدوا أَن صَلَاح ملكه عَائِد عَلَيْهِم وفساده مُتَعَدٍّ إِلَيْهِم وَأما صَلَاحهمْ لرعيته فَيكون بِثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا أَن يكف نَفسه عَن أذاهم وَالثَّانِي أَن يذب عَنْهُم من أَرَادَهُم وَالثَّالِث أَن يكون عونا لَهُم على منافعهم فَإِذا صَحَّ لَهُ حملهمْ على هَذَا التَّأْدِيب واستقاموا على هَذَا التَّهْذِيب كَانُوا أصلح جند لأسعد ملك

كتب الْإِسْكَنْدَر إِلَى معلمه يسترشده فِي جنده فَكتب إِلَيْهِ تفقد جندك فَإِنَّهُم أَعدَاء ينْتَقم بهم من أَعدَاء وَمَعْنَاهُ أَنهم اعداء إِذا فسدوا ينْتَقم بهم من أَعدَاء إِذا صلحوا وَالشّرط الثَّانِي أَن يرتبوا على حسب عنائهم فِي الحروب وذبهم عَن الْملك ومسارعتهم إِلَى الطَّاعَة حَتَّى يعلمُوا أَن سَعْيهمْ مشكور ونصحهم مذخور 36 ب يتقدمون بِهِ ويتجازون عَلَيْهِ فَإِن ذَلِك مفض بهم إِلَى ثَلَاث خِصَال تصلح بهَا أُمُورهم وينتظم بهَا تدبيرهم إِحْدَاهُنَّ أَن يزْدَاد محسنهم طَاعَة وَنصحا طلبا للزِّيَادَة فِي التَّقْدِيم ورغبة مضاعفة الْجَزَاء وَالثَّانيَِة أَن يرغب من قصر مِنْهُم أَو أَسَاءَ فِي مثل مَا ناله المحسن من منزلَة وَجَزَاء فيتأسى بِهِ فِي الطَّاعَة ويساويه فِي المناصحة وَالثَّالِثَة أَن يكف المقصر عَن طلب مَا لَا يسْتَحقّهُ ويتأخر عَن مقَام لَا يستوجبه ويرضى بالخمول إِن صغرت همته ويقنع بالتقصير إِن ضعفت منته فَإِن حركته حمية لم يتَرَدَّد إِن لم يزدْ

وَالشّرط الثَّالِث أَن يقوم بكفاياتهم حَتَّى لَا يحتاجوا فَإِن الْحَاجة تدعوهم إِلَى خصْلَة من ثَلَاث لَا خير فِي وَاحِدَة مِنْهُنَّ إِمَّا أَن يتسلطوا على أَمْوَال الرّعية وَإِمَّا أَن يعدلُوا إِلَى من يقوم لَهُم بالإكفاء وَإِمَّا أَن يشتغلوا بمكسب فيوهنوا وَإِذا احْتِيجَ إِلَيْهِم لم يغنوا مَا بذلوا انفسهم إِلَّا لقِيَامه بكفايتهم وَقد قيل من وثق بإحسانك أشْفق على سلطانك وَمَتى اقتطعهم طلب الْكسْب ضعف فِي أنفسهم رجاؤه وَقل فِي أَعينهم عطاؤه ثمَّ إِن بدر عَلَيْهِم الْعَطاء فَلَا يحوجون إِلَى الْمُطَالبَة فَإِن المطالب جرئ وَفِي جرأتهم خرق للحشمة ووهن للهيبة وَقل مَا يخْتل الْملك إِلَّا بِمثلِهِ لِأَن بهم تدفع الخطوب الملمة فَإِذا كَانُوا هم الْخطب الملم فبمن يدْفَعُونَ إِلَّا بالتلطف والإنصاف فهم كالمثل السائر فِي قَول الشَّاعِر (بالملح يصلح مَا يخْشَى تغيره ... فَكيف بالملح إِن حلت بِهِ الْغَيْر) // من الْبَسِيط // وَقد كَانُوا يرَوْنَ الْقَصْد فِي إعطائهم قدر الْكِفَايَة أولى من التَّوسعَة عَلَيْهِم بِالزِّيَادَةِ لِأَن الزِّيَادَة تؤول بهم إِلَى إِحْدَى خَصْلَتَيْنِ مذمومتين

إِمَّا إِلَى صرفهَا فِي الْفساد ليفسدوا وَإِمَّا إِلَى الِاسْتِغْنَاء بهَا فيتقاعدوا حكى ابْن ابْن قُتَيْبَة أَن أبرويز 37 آقال لِابْنِهِ شيرويه وَهُوَ فِي حَبسه لَا توسعن على جندك فيستغنوا عَنْك وَلَا تضيقن عَلَيْهِم فيضجوا مِنْك وأعطهم عَطاء قصدا وامنعهم منعا جميلا ووسع لَهُم فِي الرَّجَاء وَلَا توسع عَلَيْهِم فِي الْعَطاء

وَالشّرط الرَّابِع أَن لَا تنطوي عَنهُ أخبارهم وَلَا تخفى عَلَيْهِ آثَارهم وهم رُعَاة دولته وحماة رَعيته فَإِن تدلس سقيمهم وَستر جميلهم للقبيح سرى فيهم أَخبث الْأَمريْنِ لِأَن الشَّرّ أنفر بَين الْخَيْر فمالوا وأمالوا وتلحقهم ثَلَاث آفَات خطرة تقدح فِي صَلَاحهمْ وتمنع فِي فلاحهم إِحْدَاهُنَّ أَن يكرهوا زمن السَّلامَة والمسالمة ويستقلوا مُدَّة الدعة لبوار نفاقهم وفتور أسواقهم فيجعلوا لفتق الرتوق أسبابا ويفتحوا لمخارجة الْعَدو أبوابا يتوصلون بهَا إِلَى مطامع حسمها السَّلَام والدعة فَإِن استدركت غوائلهم وَإِلَّا فهم الْخطب الأطم والفدح الْأَعَمّ وَالثَّانيَِة أَن يتَوَصَّل الْعَدو إِلَى استمالتهم لفرصة الْغَفْلَة عَنْهُم فَإِذا لم يمنعهُ التيقظ وَلم يكفه التحفظ وسهام الرغائب صائبة ظفر بكيده فاصطلم وَمَال بِهِ فاحتكم وَالثَّالِثَة أَن يَبْعَثهُم الإغفال على التسلط ويدعوهم الإهمال إِلَى التبسط

وأما القاعدة الرابعة وهي تقدير الأموال فلأنها المواد التي يستقيم الملك بوفورها ويختل بقصورها

تطاولا للسلطنة فَلَا يقبضوا يدا عَن إِرَادَة يستهلكون بهَا الْأَمْوَال ويستأصلون بهَا الْأَحْوَال فتكثر بهم الرزايا وتهلك بهم الرعايا ويكونوا أضرّ بِالْملكِ من كل متغلب وأذكى فِيهِ من كل متوثب وَهَذَا لَا ينحسم إِذا اسْتمرّ إِلَّا بالزواجر الْقَاهِرَة وهم يَده الباطشة فيستعين بمستقيمهم إِن ظفر بِتَسْلِيم مُسْتَقِيم وَإِلَّا فَإلَى عطب يؤول إِلَى الْفساد فبعيد أَن يعم فسادهم وَفِي الْملك ثبات فَإِن 37 ب أسعده الْفضل بصلاحهم استدرك مَا يستأنفه بالبحث عَن أَحْوَالهم المستقلة وَلم يغْفل عَن صَغِير لكبير فَإِن كبار الْأُمُور تبدو صغَارًا كالنار يصير إغفال قليلها ضرا مَا لم يسْتَدرك وأصعب مَا يعانيه الْمُدبر للدولة سياسة الْجند لِأَن بهم يقهر حَتَّى يسوس وَإِذا عجز بفسادهم صَار مقهورا وَإِن ساسهم بحزمه حَتَّى انقادوا كَانَ لَهُم بِالْقُوَّةِ سُلْطَانا وَكَانُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ أعوانا وَقد قيل من عَلَامَات الدولة قلَّة الْغَفْلَة 4 - تَقْدِير الْأَمْوَال وَأما الْقَاعِدَة الرَّابِعَة وَهِي تَقْدِير الْأَمْوَال فَلِأَنَّهَا الْموَاد الَّتِي يَسْتَقِيم الْملك بوفورها ويختل بقصورها

وتقديرها على الْمُلُوك مستصعب لأَنهم يرَوْنَ بِفضل الْقُدْرَة بُلُوغ كل غَرَض ودرك كل مطلب فَإِن وصلوا إِلَيْهِ بالأسهل الألطف وَإِلَّا توصلوا بالأصعب الأعنف وَإِن استباحوه شرعا وَإِلَّا ارتكبوا محذوره وكابدوا معسوره فَإِن أَقَامُوا بِفضل الحزم على السياسة العادلة حَتَّى وقفت بهم الْقُدْرَة على تَقْدِير الْأَمْوَال أَن يعْتَبر بِمَا استدام حُصُوله ويسهل وُصُوله وَلم يحْتَج مَعَه إِلَى التمَاس معذر وارتياد مُتَعَذر اعتدلت ممالكهم وتعدلت مطالبهم فَلم يعْجزُوا عَن حق وَلم يتعدوا إِلَى بَاطِل وَكَانَ الظافر بِهَذِهِ الْحَال مِنْهُم هُوَ الْملك السعيد ورعيته بِهِ أسعد الرعايا وَكَانَ المقصر فِيهَا على ضدها قَالَ لي بعض الْمُلُوك وَقد توفر على لذته وَلَام غَيره من الْمُلُوك عَلَيْهَا وَكنت سفيرا بَينهمَا إِنِّي قدرت خرجي بدخلي وَجعلت لكل خرج دخلا كَافِيا واستنبت فِيهِ أُمَنَاء 38 آكفاة وأذنت لمن قصر دخله عَن خرجه أَن يقترض من غَيره مَا يَقْضِيه عِنْد وفور دخله ثمَّ صرفت زمَان التشاغل بِهِ إِلَى اللَّذَّة بعد إحكامه وَنَفْسِي سَاكِنة إِلَى انتظامه فَإِن الْملك يُرَاد للالتذاذ بِهِ وَلَو لم أفعل هَذَا لَكُنْت فِي التشاغل باللذة ملوما فَإِن كَانَ هَذَا الْملك قبل توفره على لذته قد أحكم مَا أحكمته لم يلم وَإِن كَانَ قد أهمله فَهُوَ الملوم دوني

وجه تقدير الأموال

فَقلت لَهُ قد لمت غَيْرك بذنب خلصت مِنْهُ نَفسك فَجَعَلته لنَفسك عذرا ولغيرك جرما ولعمري إِن المستظهر أعذر من المسترسل وأحجمت عَن اسْتِيفَاء مناظرته التزاما لحشمته وَإِن كَانَ حجاجه مُعْتَلًّا وعذره مختلا لِأَن قَلِيل الذل لَا يعري من قَلِيل العذل وَجه تَقْدِير الْأَمْوَال وَإِن كَانَ تَقْدِير الْأَمْوَال قَاعِدَة فتقديرها مُعْتَبر من وَجْهَيْن أَحدهمَا تَقْدِير دَخلهَا وَذَلِكَ مُقَدّر من أحد وَجْهَيْن إِمَّا بشرع ورد النَّص فِيهِ بتقديره فَلَا يجوز أَن يُخَالف وَإِمَّا بِاجْتِهَاد ولاه العَبْد فِيمَا أداهم الِاجْتِهَاد إِلَى وَضعه وَتَقْدِيره وَلَا يسوغ أَن ينْقض وَإِذا ردَّتْ إِلَى القوانين المستقرة ثمرت بِالْعَدْلِ وَكَانَ إضعافها بالجور ممحوقا وَالثَّانِي تَقْدِير خرجها وَذَلِكَ مُقَدّر من وَجْهَيْن أَحدهمَا بِالْحَاجةِ فِيمَا كَانَت أَسبَابه لَازِمَة أَو مُبَاحَة وَالثَّانِي بالمكنة حَتَّى لَا يعجز مِنْهَا دخل وَلَا يتَكَلَّف مَعهَا عسف

مقابلة الدخل بالخرج

مُقَابلَة الدخل بالخرج ثمَّ لَا يَخْلُو حَال الدخل إِذا قوبل بالخرج من ثَلَاثَة أَحْوَال أَحدهَا أَن يفضل الدخل عَن الخرج فَهُوَ الْملك السَّلِيم وَالتَّقْدِير الْمُسْتَقيم ليَكُون فَاضل الدخل معدا لوجوه النوائب 38 ب ومستحدثات الْعَوَارِض فَيَأْمَن الرّعية عواقب حَاجته ويثق الْجند بِظُهُور مكنته وَيكون الْملك قَادِرًا على دفع مَا طَرَأَ من خطب أَو حدث من خرق فَإِن للْملك فنونا لَا ترتقب وللزمان حوادث لَا تحتسب وَالْحَال الثَّانِيَة أَن يقصر الدخل عَن الخرج فَهُوَ الْملك المعتل وَالتَّدْبِير المختل لِأَن السُّلْطَان بِفضل الْقُدْرَة يتَوَصَّل إِلَى كِفَايَته كَيفَ قدر فتأول مَا وَجب وَيُطَالب بِمَا لَا يجب وَتَدْعُو الْحَاجة إِلَى الْعُدُول عَن لَوَازِم الشَّرْع وقوانين السياسة إِلَى حرف يصل بِهِ إِلَى حَاجته ويظفر بإرادته فَيهْلك مَعَه الرعايا وينبسط عَلَيْهِ الأجناد وَتَدْعُوهُمْ الْحَاجة إِلَى مثل مَا دَعَتْهُ فَلَا يُمكن قبضهم عَن التسلط وَقد تسلط وَلَا مَنعهم من الْفساد وَقد أفسد فَإِن استدرك أمره بالتقنع وساعده أجناده على الاقتصاد وَإِلَّا فَإلَى عطب مَا يؤول الْفساد وَالْحَال الثَّالِثَة أَن يتكافأ الدخل والخرج حَتَّى يعتدل وَلَا يفضل وَلَا يقصر فَيكون الْملك فِي زمَان السّلم مُسْتقِلّا وَفِي زمَان الفتوق والحوادث مختلا فَيكون لكل وَاحِد من الزمانين حكمه فَإِن ساعده الْقَضَاء بدوام السّلم كَانَ على

دَعَتْهُ واستقامته وَإِن تحركت بِهِ النوائب كده الِاجْتِهَاد وثلمه الأعوان فَيجْعَل الْملك ذخيرة نوائبه فِي مثل هَذِه الْأَحْوَال الْإِحْسَان إِلَى رَعيته وتحكيم الْعدْل فِي سياسته ليَكُون بالرعية مستكثرا وبالعدل مستثمرا

الفصل الثاني والعشرون أصل ما تبنى عليه السياسة العادلة

الْفَصْل الثَّانِي وَالْعشْرُونَ أصل مَا تبنى عَلَيْهِ السياسة العادلة وأصل مَا تبنى عَلَيْهِ السياسة العادلة فِي سيرة الرّعية بعد حراسته الدّين وتخير الأعوان أَرْبَعَة الرَّغْبَة والرهبة 39 - آ والإنصاف والانتصاف فَأَما الرَّغْبَة فتدعو إِلَى التآلف وَحسن الطَّاعَة وتبعث على الإشفاق وبذل النَّصِيحَة وَذَلِكَ من أقوى الْأَسْبَاب فِي حراسة المملكة فَإِن قبضهَا عَنْهُم زَالَ حكمهَا مَعَهم وتصنعوا بِالطَّاعَةِ تربصا للدوائر وسارعوا إِلَى الْمعْصِيَة عِنْد هجوم النوائب فَهُوَ مِنْهُم بَين نفاق وَإِن ساتروه وَبَين شقَاق وَإِن جاهروه وَلَا خير فِي مَا تردد بَين نفاق وشقاق وَقَالَ أبرويز أَجْهَل النَّاس من يعْتَمد فِي أُمُوره على من لَا يأمل خَيره وَلَا يَأْمَن شَره وَأما الرهبة فتمنع خلاف ذَوي العناد وتحسم سعي أهل الْفساد حذرا من

السطوة وإشفاقا من الْمُؤَاخَذَة وَذَلِكَ أقوى الْأَسْبَاب فِي تَهْذِيب المملكة فَإِن زَالَت عَنْهُم زَالَ حكمهَا مَعَهم فلَان واشتدوا وَهَان واعتزوا فاستسهلوا مَعْصِيَته واستقلوا طَاعَته وَصَارَت أوامره فيهم لَغوا وزواجره لهوا وَقد قيل من إمارات الْجد حسن الْجد وَإِذا جمع بَين الرَّغْبَة والرهبة قادهم الرَّجَاء إِلَى طَاعَته وصدهم الْخَوْف عَن مَعْصِيَته وانبسط فيهم الأمل وَكثر مِنْهُم الوجل فعز سُلْطَانه واستقام اعوانه قَالَ بعض الْحُكَمَاء من أعرض عَن الحذر والاحتراس وَبنى أمره على غير أساس زَالَ عَنهُ الْعِزّ وَاسْتولى عَلَيْهِ الْعَجز وَأما الْإِنْصَاف فَهُوَ عَادل يفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل ويستقيم بِهِ حَال الرّعية وتنتظم بِهِ أُمُور المملكة فَلَا ثبات لدولة لَا يتناصف أَهلهَا ويغلب جورها على عدلها فَإِن الندرة من الْجور تُؤثر فَكيف بِهِ إِذا كثر

وَلَو لم يتناصف أهل الْفساد لما تمّ لَهُم فعل الْفساد فَكيف بِملك قد استرعاه الله صَلَاح عباده ووكل إِلَيْهِ عمَارَة بِلَاده إِذا لم يحمل على التناصف والتعاطف ومزجت 39 ب فِيهِ الْأَهْوَاء بالخرف وتحكمت الْقُوَّة فِي منع الْحق أَن لَا يُوفى وَفِي إِحْدَاث مَا لَا يسْتَحق أَن يسْتَوْفى وتهارج النَّاس فِيهَا بالتغالب وتمازجوا فِيهَا بالتطاول والتغاضب هَل يقترب بِهَذَا الْملك وَقد تعطلت هَذِه الْأُصُول بِهِ صَلَاح كلا لن يكون الْبَاطِل حَقًا وَالْفساد صلاحا وَقد قَالَ أردشير بن بابك إِذا رغب الْملك عَن الْعدْل رغبت الرّعية عَن الطَّاعَة قَالَ الْإِسْكَنْدَر لحكماء الْهِنْد أَيّمَا أفضل الْعدْل أم الشجَاعَة قَالُوا إِذا اسْتعْمل الْعدْل استغني عَن الشجَاعَة

قَالَ بعض الْعلمَاء الْملك يبْقى على الْكفْر وَلَا يبْقى على الظُّلم فَأَخذه بعض الشُّعَرَاء فَقَالَ فِي ذَلِك (عَلَيْك بِالْعَدْلِ إِن وليت مملكة ... وَاحْذَرْ من الْجور فِيهَا غَايَة الحذر) (فالملك يبْقى على الْكفْر البهيم وَلَا ... يبْقى مَعَ الْجور فِي بَدو وَفِي حضر) وَلَا ينْقض هَذَا القَوْل مَا قدمْنَاهُ من اعْتِبَار الدّين فِي قَوَاعِد الْملك لِأَن الْكفْر تدين بباطل وَالْإِيمَان تدين بِحَق وَكِلَاهُمَا دين مُعْتَقد وَإِن صَحَّ أَحدهمَا وَبَطل الآخر وَرُبمَا ظن من تسلط بالسطوة من الْوُلَاة أَنه بالجور أقدر وأقهر وَأَن أَمْوَاله بالحيف أَكثر وأوفر وَيخْفى عَنهُ أَن الْجور مستأصل يقطع قَلِيل باطله كثير الْحق فِي الْأَجَل ثمَّ إِلَى زَوَال يكون الْمَآل فقد قيل فِي حكم الْفرس سِتَّة أَشْيَاء لَا ثبات لَهَا

ظلّ الْغَمَام وخلة الأشرار وَعشرَة النِّسَاء وَالثنَاء الْكَاذِب وَالسُّلْطَان الجائر وَالْمَال الْكثير وَقَالُوا إِن الْجور يرفع نَفسه وَعلة هَذَا صَحِيحَة لِأَن الْجور مدرسة ولايبقى مَعَ الدارس مَا يتَوَجَّه الْجور إِلَيْهِ وَالْعدْل ثَابت الْأُصُول نامي الْفُرُوع مكين القوانين فَهُوَ كالغرس فِي الأَرْض يَعْلُو شَجَره ويتوالى ثمره والجور 40 آمستأصل لما أنشأه الْعدْل فَلَا يدع لَهُ أصلا ثَابتا وَلَا فرعا نابتا

ثمَّ الْإِنْصَاف استثمار وَالْعدْل استكثار فَيصير الْإِنْسَان بالإنصاف مستثمرا وبالعدل مستكثرا وَمَا نقص ملك من إنصاف وَلَا جاه من إسعاف وهما بالمزيد أَجْدَر وَفرق مَا بَين الْعدْل والإنصاف فِي الْحُقُوق الْخَاصَّة وَلَيْسَ يخرجَانِ بِهَذَا الْفرق من الِاشْتِرَاك فِي الْحق كَمَا أَن بِمثلِهِ يكون فرق مَا بَين الْجور والحيف وَلَا يمْنَع من الِاشْتِرَاك فِي الْبَاطِل وَقد قيل من عدل فِي سُلْطَانه اسْتغنى عَن أعوانه وَقَالَ جَعْفَر بن يحيى الْخراج عَمُود الْملك وَمَا استغزر المَال بِمثل الْعدْل وَمَا استنزر بِمثل الْجور

وَأما الانتصاف فَهُوَ اسْتِيفَاء الْحُقُوق الْوَاجِبَة واستخراجها بِالْأَيْدِي العادلة فَإِن فِيهِ قوام الْملك وتوفير أَمْوَاله وَظُهُور عزه وتشييد قَوَاعِده وَلَيْسَ فِي الْعدْل ترك مَال من وجهة وَلَا أَخذه من غير وجهة بل كلا الْأَمريْنِ عدل لَا استقامة للْملك إِلَّا بهما وكما أَن الانتصاف عدل فِي حُقُوق الْملك وَلما كَانَ الحيف فِي حُقُوق الرّعية قبيحا كَانَ الحيف فِي حُقُوق الْملك أقبح لِأَن يَده أَعلَى ونفع مَاله أَعم وَإِن لم ينتصف لعجز كَانَ ذَلِك من وهاء ملكه وَإِن لم ينتصف لإهمال كَانَ ذَلِك من ضعف سياسته وَإِن لم ينتصف لترك كَانَ ذَلِك من تبذيره وسرفه إِلَّا أَن يكون عفوا لموجب ينْدب إِلَى مثله لَا يخرج عَن قانون السياسة وَهُوَ مِنْهَا وَلَيْسَ بعام فيلام فَإِذا ذهبت الْأَمْوَال أَمْوَال الْملك بِأحد هَذِه الْأَسْبَاب القاطعة لمواده زَالَ عَنهُ الرَّجَاء وَاشْتَدَّ فِيهِ الطمع وَصَارَ على شفا جرف إِن صدعه خطب أَو قارعه 40 ب ضد فتلجئه الْحَوَادِث إِذا ترك مَا يسْتَحق إِلَى أَن يَأْخُذ مَا لَا يسْتَحق فَيصير فِي التّرْك جائرا على ملكه

وَفِي الْأَخْذ جائرا على رَعيته فَلَا يَنْفَكّ فِي الْحَالين من أَن يكون خاطئا ملوما وجائرا مذموما قَالَ بعض البلغاء لَا يَسْتَغْنِي الْملك عَن الكفاة وَلَا الكفاة عَن الإفضال والإفضال عَن الْمَادَّة وَلَا الْمَادَّة عَن الْعدْل فالملك بِغَيْر الكفاة مختل والكفاة بِغَيْر الإفضال مسلطون والإفضال بِغَيْر الْمَادَّة مُنْقَطع وَإِنَّمَا يُقيم الْموَاد تسليط الْعدْل وَفِي تسليط الْعدْل حَيَاة الدُّنْيَا وبهاء الْملك وَفِي هَذَا التَّنْزِيل تَعْلِيل للعدل فَإِنَّهُ من قَوَاعِد الْملك

شروط استقامة الملك بهذه القواعد الأربع

فَإنَّك لن تَجِد صلاحا كَانَ الْجور عِلّة وجوده وَلَا فَسَادًا كَانَ الْعدْل عِلّة ظُهُوره وَإِنَّمَا تجتذب الْعِلَل إِلَى الْأُصُول نظائرها شُرُوط استقامة الْملك بِهَذِهِ الْقَوَاعِد الْأَرْبَع ولاستقامة الْملك بِهَذِهِ الْقَوَاعِد الْأَرْبَع ثَلَاثَة شُرُوط أَحدهَا أَن يقف مِنْهَا على الْحَد الْمَقْصُود وَيَنْتَهِي فِيهَا إِلَى الْعرف الْمَعْهُود فَإِن تجَاوز فِيهَا مُسْرِفًا أَو مقصرا كَانَ باللوم جَدِيرًا فَإِن الزِّيَادَة فِي الرَّغْبَة صرع وَالزِّيَادَة فِي الرهبة سلاطة وَكَذَلِكَ النُّقْصَان مِنْهُمَا يكون على ضدهما وَالثَّانِي أَن يستعملها فِي موَاضعهَا وَلَا يعدل بالرغبة إِلَى مَوضِع الرهبة وَلَا يسْتَعْمل الرهبة فِي مَوضِع الرَّغْبَة فَيصير تَارِكًا للرغبة والرهبة وَقد تكلّف عناء ضَاعَت مغارمه وَبَطلَت مغانمه فَهُوَ كآكل الطَّعَام من الظمأ وشارب المَاء من المجاعة لَا يرتوي بِمَا أكل وَلَا يشْبع بِمَا شرب شرب

ثمَّ هُوَ على وَجل من ضَرَره وحذر من خطره وَقد أحسن المتنبي فِي قَوْله (وَوضع الندى فِي مَوضِع السَّيْف بالعلى ... 41 آمضر كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندى) // من الطَّوِيل // قَالَ بعض الْحُكَمَاء من سَكَرَات السُّلْطَان الرِّضَا عَن بعض من يسْتَوْجب السخط والسخط على بعض من يسْتَحق الرِّضَا

وَالثَّالِث أَن يترجى لَهَا زمانها ويتوقع إبانها حَتَّى لَا تضيع الرَّغْبَة والرهبة إِن قدمهما وَلَا يقر بِأَن آن آخرهما فَإِن فعل الشَّيْء فِي غير زَمَانه كصلاح الْمَرَض فِي غير أَوَانه لَا يَقع من الِانْتِفَاع موقعا وَلَا يكون الْعَمَل فِيهِ إِلَّا ضائعا وَقد قيل من أخر الْعَمَل عَن وقته فَلْيَكُن على ثِقَة من فَوته وليسير ذَلِك فِي وقته أَنْفَع من كَثِيره فِي غير وقته وَرُبمَا ضرّ كَمَا يستضر بالدواء فِي الصِّحَّة وَإِن كَانَ نَافِعًا فِي الْمَرَض وَإِذا صَادف بالرغبة زمانها وَوَافَقَ بالرهبة أوانها سعد بحزمه وحظي بعزمه وطبق مفاضل أغراضه وَبلغ كنه مُرَاده

الفصل الثالث والعشرون تهذيب الأعوان والحاشية

الْفَصْل الثَّالِث وَالْعشْرُونَ تَهْذِيب الأعوان والحاشية سياسة الْملك بالأعوان والحاشية وليعلم الْملك أَنه لَا استقامة لَهُ ولرعيته إِلَّا بتهذيب أعوانه وحاشيته لِأَنَّهُ لَا يقدر على مُبَاشرَة الْأُمُور بِنَفسِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَنِيب فِيهَا الكفاة من أَصْحَابه لِأَن سياسات الْمُلُوك مَقْصُورَة فِي مباشرتهم لَهَا على أَمريْن أَحدهمَا تَدْبِير أُمُور الْجُمْهُور بآرائهم وَالثَّانِي استنابة الكفاة فِي تنفيذها على أوامره وَمَا سوى ذَلِك فالأعوان هم كفلاء مباشرتها وزعماء الْقيام بأعوامها وَقد شبه المتقدمون السايس الْمُدبر للمملكة فِي السّلم وَالْحَرب بالطبيب الْمُدبر للجسد فِي حفظ الصِّحَّة وعلاج الْأَمْرَاض الْيَدَيْنِ فِي بطشهما بالجند والأعوان وَالرّجلَيْنِ بِالْكُرَاعِ 41 ب وَالظّهْر والعينين بالحجاب والحرس والأذنين بأصحاب الْبَرِيد وَالْأَخْبَار وَاللِّسَان فِي نطقه بالوزراء وَالْكتاب والأعضاء الْمُجَاورَة فِي الْقلب بحاشية الْملك على طبقاتهم فِي الْقرب والبعد وحاجة الْخَاصَّة للعامة فِي الِاسْتِخْدَام كحاجة الْأَعْضَاء الشَّرِيفَة إِلَى الَّتِي لَيست بشريفة لِأَن بعض الْأُمُور لبَعض سَبَب وعوام النَّاس لخواصهم عدَّة وَبِكُل صنف مِنْهُم إِلَى الآخر حَاجَة

وَإِذا كَانَ أعوانه مِنْهُ بِمَنْزِلَة أَعْضَائِهِ الَّتِي لَا قوام للجسد إِلَّا بهَا وَلَا يقدر على التَّصَرُّف إِلَّا بِصِحَّتِهَا واستقامتها وَجب عَلَيْهِ تَقْوِيم عوجهم وَإِصْلَاح فاسدهم ليستقيموا فيستقيم الْملك بهم كَمَا لَا تستقيم أَفعاله إِلَّا باستقامة أَعْضَائِهِ من جسده قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (العينان دليلان والأذنان قمعان وَاللِّسَان ترجمان وَالْيَدَانِ جَنَاحَانِ والكبد رَحْمَة وَالطحَال ضحك والرئة نفس والكليتان مكر وَالْقلب ملك فَإِذا صلح الْملك صلحت رَعيته وَإِذا فسد الْملك فَسدتْ رَعيته) فتشابهت أعضاؤه فِي حق نَفسه بحواشيه فِي حق ملكه وَمن لم يستقم مِنْهُم من عوجه بعد التَّقْوِيم وَلَا كف عَن زيغة بعد التَّهْذِيب كَانَ إبعاده مِنْهُم أسلم لبَقيَّة أعوانه كالسلع الَّتِي تقطع من الْجَسَد قَالَ أبرويز من اعْتمد على كفاة السوء لم يخل من رَأْي فَاسد وَظن كَاذِب وعدو غَالب

أصل ما يبنى عليه قاعدة أمره في اختيارهم

أصل مَا يبْنى عَلَيْهِ قَاعِدَة أمره فِي اختيارهم وأصل مَا يبْنى عَلَيْهِ قَاعِدَة أمره فِي اخْتِيَار أعوانه وكفاته أَن يختبر أهل مَمْلَكَته ويسبر جَمِيع حَاشِيَته بتصفح عُقُولهمْ وآرائهم وَمَعْرِفَة هممهم وأخلاقهم حَتَّى يعرف بِهِ 42 آباطن سرائرهم وَمَا يلائم كامن شيمهم فَإِنَّهُ سيجد طباعهم مُخْتَلفَة وهممهم متباينة ومننهم متفاضلة وَقد قيل الهمة رائد الْجد فَيصْرف كل وَاحِد مِنْهُم فَمَا طبع عَلَيْهِ من خلق وتكاملت فيهم الْآلَة وتخصصت بِهِ من همة فَهِيَ أَحْوَال ثَلَاث يجب اعْتِبَارهَا فِي كل مستكف وَهِي الْخلق والكفاية والهمة فَلَا يُعْطي أحدهم منزلَة لَا يَسْتَحِقهَا لنَقص أَو خلل وَلَا يستكفيه أَمر ولايتة وَلَا ينْهض بهَا لعجز أَو فشل فَإِنَّهُم آلَات الْملك فَإِذا اختلت كَانَ تأثيرها مختلا وفعلها مُعْتَلًّا

قيل لبزرجمهر كَيفَ اضْطَرَبَتْ أُمُور آل ساسان وَفِيهِمْ مثلك قَالَ لأَنهم استعانوا بأصاغر الْعمَّال على أكَابِر الْأَعْمَال فآل أَمرهم إِلَى مَا آل وَقيل فِي منثور الحكم من اسْتَعَانَ بأصاغر رِجَاله على أكَابِر أَعماله فقد ضيع الْعَمَل وأوقع الْخلَل وَقيل من استوزر غير كَاف خاطر بِملكه وَمن اسْتَشَارَ غير أَمِين أعَان على هلكه وَمن أسر إِلَى غير ثِقَة ضيع سره وَمن اسْتَعَانَ بِغَيْر مُسْتَقل أفسد أمره وَمن ضيع عَاقِلا دلّ على ضعف عقله وَمن اصْطنع جَاهِلا أعرب عَن فرط جَهله

قَالَ عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر (لَا بُد للشاة من رَاع يدبرها ... فَكيف بِالنَّاسِ إِن كَانُوا بِلَا وَال) (وَإِن أضيف إِلَى الأذناب أَمرهم ... دون الرؤوس فهم فِي حَال إهمال) // من الْبَسِيط // وكما أَنه لَا يزِيد أحدهم على قدر اسْتِحْقَاقه فَكَذَلِك لَا ينقصهُ عَن الْمنزلَة الَّتِي يَسْتَحِقهَا بكفايته ويستوجبها بِكَمَال آلَته ويترقى إِلَيْهَا بعلو همته فتضاع كِفَايَته وَتبطل 42 ب آلَته فَيصير لأنفه من عمله متهاونا وباستقلاله واحتقاره متوانيا فيختل الْعَمَل بِكَمَالِهِ كَمَا اخْتَلَّ عمل الْعَاجِز بنقصه فَيصير الْكَمَال فِيهِ نقصا فِي عمله والكفاية فِيهِ عَجزا فِي نظره وَإِذا وَافق بهم قدر استحقاقهم فصرف أكَابِر الْعمَّال فِي أكَابِر الْأَعْمَال وأصاغرهم فِي أصاغرها اسْتَقَلت أَعماله واستقام عمله وَإِن خَالف فالخلل بالأمرين وَاقع وَكِلَاهُمَا بِالْعَمَلِ مُضر وبالسياسة معر وتدبير هَذَا على امتيازه حَتَّى يُوَافق قدر اسْتِحْقَاقه صَعب إِلَّا على من كَانَ صائب الفكرة حسن الفطنة صَادِق الفراسة ثمَّ ساعده الْقَضَاء فِي تَقْدِيره وأعانه التَّوْفِيق فِي تَدْبيره وَإِن كَانَ تَقْدِير الحظوظ بِحَسب الْفَضَائِل متعذرا وَإِنَّمَا هِيَ أَقسَام جرها قدر محتوم وساقها حَظّ مقسوم قَالَ بزرجمهر يجب للعاقل أَن لَا يجزع من جفَاء الْوُلَاة وتقديمهم الْجُهَّال عَلَيْهِ

إِذا كَانَت الْأَقْسَام لم تُوضَع على قدر الأخطار وَإِن حكم الدُّنْيَا أَن لَا تُعْطى أحدا مَا يسْتَحقّهُ لَكِن تزيده أَو تنقصه وليحذر الْملك تَوْلِيَة أحد بشفاعة شَفِيع أَو لرعاية حُرْمَة إِذا لم يكن مضطلعا بثقل مَا ولي وَلَا ناهضا بعبء مَا استكفي فيختل الْعَمَل لعجز عَامله ويفتضح الْعَامِل بانتشار عمله فَيصير الحزم بهما مضاعا والهوى فيهمَا مُطَاعًا وليقض حُقُوق الْحُرْمَة بأمواله فِي معونتهم وتقريبهم ومنزلتهم ففيهما حفاظ وأجزاء وَقد سلمت أَعماله من خلل الْعَجز وضياع التَّقْصِير قَالَ بعض الْحُكَمَاء من قلد لذِي الرِّعَايَة نَدم وَمن قلد لذِي الْكِفَايَة سلم قيل فِي 43 آحكم الْفرس

لَا تستكفين مخدوعا عَن عقله والمخدوع من بلغ بِهِ قدرا لَا يسْتَحقّهُ أَو أثيب ثَوابًا لَا يستوجبه وعَلى هَذَا الِاعْتِبَار لَا يُورث الْأَبْنَاء منَازِل الْآبَاء إِذا لم يتناسبوا فِي الطباع كَمَا لَا يَرث الأشرار مَرَاتِب الأخيار وَلَا يسْتَعْمل فِي الكتبة من كَانَ أَبوهُ كَاتبا إِذْ كَانَ هُوَ غير كَاتب فَإِن أحب مُكَافَأَة وَاحِد من هَؤُلَاءِ لحقوق آبَائِهِم كافأه بِمَا قدمْنَاهُ من المَال والتقريب دون الْولَايَة والتقليد ليَكُون قَاضِيا لحقوقهم بِمَالِه وَلَا يكون قَاضِيا لحقوقهم بِملكه حُكيَ أَنه كَانَ على بَاب كسْرَى ساجة عَلَيْهَا مَكْتُوب الْعَمَل للكفاة وَقَضَاء الْحُقُوق على بيُوت الْأَمْوَال وَمن رَآهُ قد تصدى للمعالي وَلَيْسَ من أَهلهَا وَقد تطاول للرتب وَلم يؤهل لَهَا فَلَا بَأْس باستكفائه إِذْ كَانَ على مَا تصدى لَهُ مطبوعا وَلما

تطاول لَهُ مُسْتَحقّا إِذا نهزته الهمة وساعدته الْآلَة فَلَا سَبِيل إِلَى نجباء الْأَوْلَاد نجباء على الْأَبَد وَقد قيل من فَاتَهُ حسب نَفسه لم يَنْفَعهُ حسب أَبِيه وعير رجل سقراط بنسبه فَقَالَ سقراط نسبك إِلَيْك انْتهى ونسبي مني ابتدا قَالَ أَبُو تَمام الطَّائِي (إِذا مَا شِئْت حسن الْعلم ... مِنْك بِصَالح الْأَدَب) (فَمِمَّنْ شِئْت كن فَلَقَد ... فلحت بأكرم النّسَب) (فنفسك قطّ أصلحها ... وَدعنِي من قديم أَب) // من الوافر // وَحكي فِي سيرة الأكاسرة أَن بعض مُلُوكهمْ مر بِغُلَام يَسُوق حمارا غير منبعث وَهُوَ يعنف عَلَيْهِ بِالسوقِ فَقَالَ ياغلام أرْفق بِهِ فَقَالَ أَيهَا الْملك فِي الرِّفْق بِهِ مضرَّة عَلَيْهِ وَفِي العنف بِهِ إِحْسَان إِلَيْهِ

قَالَ 43 ب وَمَا فِي الرِّفْق بِهِ من الْمضرَّة قَالَ يطول طَرِيقه ويشتد جوعه قَالَ وَمَا فِي العنف من الْإِحْسَان قَالَ يخف حمله وَيطول أكله فأعجب الْملك بِكَلَامِهِ قَالَ قد أمرت لَك بِأَلف دِرْهَم قَالَ رزق مَقْدُور وواهب مأجور قَالَ وَقد أمرت بِإِثْبَات اسْمك فِي حشمي قَالَ كفيت مؤونة وَرزقت مَعُونَة قَالَ وَلَوْلَا أَنَّك حدث السن لاستوزرتك قَالَ لن يعْدم الْفضل من رزق الْعدْل قَالَ فَهَل تصلح ذَلِك قَالَ إِنَّمَا يكون الْحَمد والذم بعد التجربة وَلَا يعرف الْإِنْسَان نَفسه حَتَّى يبلوها فاستوزره فَوَجَدَهُ ذَا رَأْي صَلِيب وَفهم رحيب ومشورة تقع مواقع التَّوْفِيق ولقل مَا يتكامل للْملك الظفر بكفاة أَعماله لِكَثْرَة الْأَعْمَال وَقلة الكفاة

فَإِذا ظفر بِذِي الْكِفَايَة لمنصب اغتنمها وَلم يعطلها وَأَن اسْتغنى فِي الْحَال عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا يدْرِي مَتى يحْتَاج إِلَيْهَا ليَكُون ذخْرا لِحَاجَتِهِ ومعدا لطوارقه كَمَا لَا يضيع أَمْوَاله إِذا اسْتغنى عَنْهَا ويعدها ذخْرا للْحَاجة والكفاة أعوز من الْأَمْوَال وَالْأَمْوَال أوجد من الكفاة وبهم تجتذب الْأَمْوَال وتستجر الْأَعْمَال وَإِن ترَاد الْأَعْمَال للكفاة دون النّسَب وَإِن كَانَت الْكِفَايَة هِيَ النّسَب وَحسب صَاحبهَا مَا يبلغ بهَا إِذا ساعده الْجد وَإِن كَانَت الْكِفَايَة من الْجد قيل فِي منثور الحكم من عَلامَة الإقبال اصطناع الرِّجَال وَإِن نفرت النُّفُوس من هجوم رتبته وَلم تذعن بالانقياد لطاعته وطنت لَهُ النُّفُوس بتدريجه فِيهَا إِلَى رُتْبَة بعد رُتْبَة حَتَّى تصل إِلَى الْكِفَايَة من أقرب مراقيها فَلَا تنفر مِنْهُ النُّفُوس إِذا 44 آرقاها وَلَا تقف عَن الطَّاعَة لَهُ إِذا علاها ليَكُون على عمله معانا وَالْعَمَل بتدريجه فِيهِ مصانا فَمَا أحد يحم إِلَّا عَن غمض وَلَا ارْتَفع إِلَّا عَن خفض وَلَا يقدم إِلَّا من تَأْخِير وَلَا كمل إِلَّا عَن تَقْصِير وَمن خبر الزَّمَان لم يستجهل أخباره وَلم يستهول آثاره وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (النَّاس بأزمنتهم أشبه)

من يتفقدهم الملك من أعوانه

من يتفقدهم الْملك من أعوانه وبالملك أَشد الْحَاجة إِلَى أَن يتفقد أَربع طَبَقَات لَا يَسْتَغْنِي عَن تفقد أَحْوَالهم بِنَفسِهِ لأَنهم عماد مَمْلَكَته وقواعد دولته ليستكفيهم وَهُوَ على ثِقَة من سدادهم وأمانتهم ويستعملهم بعد علمه بكفايتهم وشهامتهم فالطبقة الأولى الوزراء لأَنهم خلفاؤه فِي سُلْطَانه وسفراؤه فِي أعوانه وشركاؤه فِي تَدْبيره وأمناؤه على أسراره ثمَّ لَهُم مزية الِاسْتِيلَاء والتفويض لِأَن على ألسنتهم تظهر أَقْوَاله وعَلى أَيْديهم تصدر أَفعاله فَإِذا باشروا عَنهُ الْأُمُور عَاد عَلَيْهِ خَيرهَا وشرها وَكَانَ لَهُ نَفعهَا وضرها وَبَقِي عَلَيْهِ صفوها وكدرها فَإِن أَحْسنُوا نسب إِلَيْهِ إحسانهم وَإِن أساءوا أضيفت إِلَيْهِ مساوئهم فَيصير بإحسانهم مَحْمُودًا وبإساءتهم مذموما وبسدادهم مشكورا وبالتوائهم موتورا يخفي صَلَاحه بفسادهم وَيبْطل عدله بجورهم ويقل خَيره بشرهم مَعَ عظم الضَّرَر الدَّاخِل على مَمْلَكَته

والقدح الموهن لدولته والخلل الْعَائِد على رَعيته فَهُوَ وَملكه مَعَهم على استقامة مَا استقاموا وعَلى اختلال إِذا فسدوا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا أَرَادَ الله بِالْملكِ خيرا جعل لَهُ وَزِير صدق إِن نسي ذكره وَإِن ذكر أَعَانَهُ وَإِذا أَرَادَ بِهِ 44 ب غير ذَلِك جعل لَهُ وَزِير سوء إِن نسي لم يذكرهُ وَإِن ذكر لم يعنه) ووصى سَابُور بن أردشير ابْنه فِي عَهده فَقَالَ ليكن وزيرك مَقْبُول القَوْل عنْدك مكين الْمحل من نَفسك يمنعهُ مَكَانَهُ مِنْك من الضراعة إِلَى غَيْرك حَتَّى تبعثه بك إِلَى مَحْض النَّصِيحَة لَك والتجريد فِي منابذة عَن عنتك أَو نقض عهد حَقك وَذكر حكماء الْملك من صِفَات اختباره أَن يكون وافر الْعقل سليم الطَّبْع أديب النَّفس معتدل الْأَخْلَاق مُنَاسِب الْأَفْعَال عالي الهمة قوي الْمِنَّة سريع البديهة مَقْبُول الصُّورَة جزل الرَّأْي صائب الفكرة كثير التجربة شَدِيد النزاهة قَلِيل الشرة حسن التَّدْبِير تَامّ الصِّنَاعَة

وَهَذِه أَوْصَاف كَمَال يوفق الله تَعَالَى لَهَا من شَاءَ ويسعد بهَا من الْمُلُوك من أحب والطبقة الثَّانِيَة الْقُضَاة والحكام الَّذين هم مَوَازِين الْعدْل وتفويض الحكم إِلَيْهِم وحراس السّنة باتباعها فِي أحكامهم وبهم ينتصف الْمَظْلُوم من الظَّالِم فِي رد ظلامته والضعيف من الْقوي فِي اسْتِيفَاء حَقه فَإِن قل ورعهم وَكثر طمعهم فأماتوا السّنة بِأَحْكَام مبتدعة وأضاعوا الْحُقُوق بأهواء متبعة فَكَانَ قدحهم فِي الدّين أعظم من قدحهم فِي المملكة وإضرارهم بالمملكة فِي إبِْطَال الْعدْل أعظم من إضرارهم بالمتحاكمين إِلَيْهِم فِي إبِْطَال الْحق وَقد قيل من أقبح الْأَشْيَاء سخف الْقُضَاة وظلم الْوُلَاة وَقَالَ أنوشروان مَا عدل من جارت قُضَاته وَلَا صلح من فَسدتْ كفاته وَالَّذِي تَقْتَضِيه السياسة فِي اختيارهم بعد الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة فيهم بِالشَّرْعِ أَن يكون القَاضِي حسن الْعَلَانِيَة مَأْمُون السريرة كثير الْجد

قَلِيل الْهزْل شَدِيد الْوَرع قَلِيل الطمع قد صرفته القناعة عَن الضراعة ومنعته النزاهة من الشرة 45 آوكفه الصَّبْر عَن الضجر وصده الْعدْل عَن الْميل يَسْتَعِين بدرسه على علمه وبمذاكرته على فهمه لطيف الفطنة جيد التَّصَوُّر مجانبا للشبه بَعيدا من الريب يشاور فِيمَا أشكل ويتأنى فِيمَا أعضل فَلَا معدل عَمَّن تكاملها وَلَا رَغْبَة فِيمَن أخل بهَا والطبقة الثَّالِثَة أُمَرَاء الأجناد الَّذين هم أَرْكَان دولته وحماة مَمْلَكَته والذابون عَن حَرِيم رَعيته والمالكون أَعِنَّة أجناده والعاطفون بهم على صدق نصرته وموالاته فَإِن استقامت لَهُ هَذِه الطَّبَقَة استقام لَهُ جَمِيع أعوانه وَإِن اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ فسد نظام تَدْبيره مَعَ سَائِر أجناده لأَنهم إِلَى طَاعَة أمرائهم أسْرع وَلقَوْل زعمائهم أطوع فَإِن خَافَ سطوة من بِهِ يَسْطُو وَلم يَأْمَن جَانب من بِهِ ينجو كَانَ بِملكه مغررا وبنفسه مخاطرا وَقيل إِن الْوَفَاء لَك بِقدر الْجَزَاء مِنْك وَالْمُعْتَبر فيهم النجدة وَالْحمية وَالْوَفَاء والمودة وَظُهُور الطَّاعَة مِنْهُم وَلَهُم ليكونوا بطاعتهم منقادين وبالطاعة لَهُم قائدين

والطبقة الرَّابِعَة عُمَّال الْخراج الَّذين هم جباة الْأَمْوَال وعمار الْأَعْمَال والوسائط بَينه وَبَين رَعيته فَإِن نصحوه فِي أَمْوَاله وَعدلُوا فِي أَعماله توفرت خزائنه بسعة الدخل وعمرت بِلَاده ببسط الْعدْل وَقد قيل فَضِيلَة السُّلْطَان عمَارَة الْبلدَانِ وَإِن خانوه فِي مَا اجتنبوه من أَمْوَاله وجاروا فِي مَا تقلدوه من أَعماله نقصت مواده وَخَربَتْ بِلَاده وَتغَير عَلَيْهِ لقلَّة دخله أعوانه وأجناده وتولد مِنْهُ مَا يكون مَحل فَسَاد قَالَ بعض الْعلمَاء 45 ب ظلم الْعمَّال ظلمَة الْأَعْمَال وَحكي أَن الْمَأْمُون جلس ذَات يَوْم وأحضر الْعمَّال فقبلهم أَعمال السوَاد واحتاط فِي الْعُقُود فَلَمَّا فرغ قَامَ إِلَيْهِ بعض قُضَاته فَقَالَ

والطبقة الخامسة من يستخدمهم في شؤونه الخاصة

يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله قد دَفعهَا إِلَيْك أَمَانَة فَلَا تخرجها من يدك قبالة فَقَالَ صدقت وَفسخ ذَلِك وَإِنَّمَا أَرَادَ القَاضِي أَن تَقْبِيل الْأَعْمَال ذَرِيعَة إِلَى تحكم الْعمَّال وتحكمهم سَبَب لخراب الْأَعْمَال فَتنبه الْمَأْمُون على مُرَاده وَعمل بِرَأْيهِ وَالْمُعْتَبر فِي أخيارهم أَن يكون فيهم إنصاف وانتصاف وَعمارَة وخبرة ونزاهة لتدر أَمْوَال الرّعية وتتوفر أَمْوَال السلطنة والطبقة الْخَامِسَة من يستخدمهم فِي شؤونه الْخَاصَّة وَهَا هُنَا طبقَة أُخْرَى يجب أَن يتفقد أَحْوَالهم بِنَفسِهِ غير أَنهم يختصون بحراسة نَفسه لَا بسياسة ملكه وهم الَّذين يستخدمهم فِي مطعمه

تفقده لمن سوى هؤلاء

ومشربه وملبسه وَمن يقرب مِنْهُ فِي خلوته فَإِنَّهُم حصنه من الْأَعْدَاء وجنته من الأسواء وَقد اخْتَار حكماء الْمُلُوك أَن لَا يستخدموا فِي مثل هَذِه الْحَال إِلَّا أحد ثَلَاثَة إِمَّا من تربى مَعَ الْملك وألفه وَإِمَّا من رباه الْملك على أخلاقه وَإِمَّا من ربى الْملك فِي حجره فَإِن هَؤُلَاءِ أهل صدق فِي موالاته ونصح فِي خدمته وعلو فِي حفاظه وحياطته وَمن أجل ذَلِك وَجب أَن يكون إحسانه إِلَيْهِم أفضل وتفضله عَلَيْهِم أظهر ويتولى فعل ذَلِك بِنَفسِهِ وَلَا يكل مُرَاعَاتهمْ إِلَى غَيره كَمَا لم يكل مراعاته إِلَى غَيرهم حَتَّى لَا يلجئهم إِلَى من يجتذب قُلُوبهم بِنَفَقَتِهِ فِيمَا يلوه وَيكون من تقلبهم على عرض وَمن تنكرهم على خطر فقد قيل فِي سالف الحكم 46 آ لَيْسَ من استكره نَفسه فِي حظك كمن كَانَ حَظه فِي طَاعَتك تفقده لمن سوى هَؤُلَاءِ ثمَّ يتفقد فِي من سوى هَذِه الطَّبَقَات بِحَسب مَنَازِلهمْ من خدمته فقد قيل

من قضيت واجبه أمنت جَانِبه وَليكن اعتناؤه بمراعاته من استبطنه مِنْهُم أَكثر ليكونوا أخيارا مهذبين وأصفياء مأمونيين فَيسلم من مَكْرهمْ ويأمن من شرهم فقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (مَا بعث الله من نَبِي وَلَا اسْتخْلف من خَليفَة إِلَّا كَانَت لَهُ بطانتان بطانة تَأمره بِالْخَيرِ وتحضه عَلَيْهِ وبطانة تَأمره بِالشَّرِّ وتحضه عَلَيْهِ والمعصوم من عصمه الله تَعَالَى) وَيمْنَع كل أحد من أعوانه أَن يتَجَاوَز قدر رتبته أَو يتَعَدَّى إِلَى غير عمله فَيكون بِعَمَلِهِ مُنْفَردا وعَلى رتبته مُقْتَصرا وَرُبمَا دلّ بَعضهم بحظوة نالها فتخطى بهَا إِلَى غير عمله وَتجَاوز بهَا قدر رتبته ثِقَة بِحسن رَأْي الْملك فِيهِ وتعويلا على مَكَانَهُ مِنْهُ وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (مَا هلك امْرُؤ عرف قدره فانتشر بجناح مهيض وزاحم بجسد مَرِيض)

من يحذر الملك أن يجعلهم في بطانته

فَلَا يلبث أَن يهْبط سَرِيعا أَو يخط صَرِيعًا بعد مضرَّة إفراطه وهجنة انبساطه وَكَذَا عَاقِبَة من عدل طوره وَجَهل قدره ثمَّ قد اخْتلفت بِهِ الرتب حَتَّى هَانَتْ واعتلت بِهِ المملكة حَتَّى لانت فَصَارَ عزها مسكونا وملكها متهونا من يحذر الْملك أَن يجعلهم فِي بطانته وليحذر الْملك أَن يستبطن أَو يسترسل إِلَى أحد من عدد معاينهم مفترقة وأحكامهم متفقة بالأعداء المباينين أشبه مِنْهُم بالأعوان المساعدين فَإِن صرعة الاسترسال لَا تقال

أحدهم 46 ب شرير مظَاهر بِالْخَيرِ لِأَنَّهُ ذُو نفاق ومكر وَالثَّانِي مطرح للدّين والمراقبة لِأَنَّهُ قَلِيل الْوَفَاء سريع الْغدر وَالثَّالِث حرص شَره لِأَنَّهُ ينبى باليسير ويطمع فِي التافه الحقير وَالرَّابِع مضرور ذُو فاقة فَإِنَّهُ لَا يصفو لمن لَا يجر فاقته ويسد خلته وَالْخَامِس محطوط عَن رُتْبَة بلغَهَا أَو مَمْنُوع من حُقُوق استوجبها وَهُوَ ساخط متنكر وَالسَّادِس مهَاجر بذنب لم يعف عَنهُ وَلم ينْتَقم مِنْهُ فَهُوَ خَائِف حذر وَالسَّابِع مذنب مَعَ جمَاعَة عُفيَ عَنْهُم وعوقب فَصَارَ موتورا وَالثَّامِن محسن مَعَ جمَاعَة جوزوا وَمنع فَصَارَ محروما وَالتَّاسِع ذُو كفاءة من حسدة وأعداء قدمُوا عَلَيْهِ وَأخر فَصَارَ حنقا والعاشر مستضر بِمَا ينفعك أَو منتفع بِمَا يَضرك فَلَا يكون إِلَّا مباينا وَالْحَادِي عشر من كَانَ لعدوك أَرْجَى مِنْهُ لَك فَيكون لعدوك ممايلا وَالثَّانِي عشر من بغى عَلَيْهِ أعداؤه فسوعدوا عَلَيْهِ فتنتقل عداوته إِلَى من صَار لَهُ مساعدا فَلَا حَظّ للْملك فِي استكفاء أحدهم وَلَا أَقَاربه إِن هزته الرتب ولزته النوائب كَانَ بَين مراقبة مختلس أَو مواثبة مفترس

وليحذر الْملك من استدنائهم فَإِنَّهُ مَعَهم على خطر من اغتيال أَو احتيال قَالَ حَكِيم الرّوم يَنْبَغِي للْملك أَن يصرف حذره إِلَى الأشرار واستنامته إِلَى الأخيار فَإِن زَالَت أَسبَاب الحذر وعادوا إِلَى أَحْوَال السَّلامَة صَارُوا كأهلها فِي جَوَاز الاستكفاء والاصطناع فَلَيْسَ الْمَأْمُون أَن يصلح الْفَاسِد كَمَا لَيْسَ بمأمون أَن يفْسد الصَّالح وللعلل نتائج يرْتَفع معلولها 47 آبزوال تعليلها ونتائج الأضداد متباينة وَقد قيل فِي منثور الحكم من حسن صفاؤه وَجب اصطفاؤه قَالَ الشَّاعِر (وَقد تقلب الْأَيَّام حالات أَهلهَا ... وتعدو على أَسد الرِّجَال الثعالب) // من الطَّوِيل //

وَإِذا اكْتفى من استكفاه اقْتصر وَلم يستكثر فحسبه فِي الْعَمَل من كَفاهُ فَمَا فِي الاستكثار بعد الِاكْتِفَاء إِلَّا مَال مضاع وسر مذاع وكلا الْأَمريْنِ خلل وزلل قَالَ بعض البلغاء لَيْسَ الْعَمَل بِكَثْرَة الإخوان وَلَكِن بِصَالح الأعوان وَإِن وجد كَافِيا وَلم يجد عملا لاستيلاء الكفاة على الْأَعْمَال تمسك بِهِ وَلم يهمله وراعاه بِقدر كِفَايَته وادخره لوقت حَاجته فَلَا غنى بِالْملكِ عَن ادخار أعوان يعدهم لما يطغى ويستظهر بهم على من استكفى حَتَّى لَا تفجأه الْحَاجة وأعوانها متعذرون وَيَكْفِي أَن يسترسل أَو يدل عَلَيْهِ الناظرون فَإِذا ادخر الْأَمْوَال لنوائب الْملك كَانَ ادخار الأعوان أَحَق لتماثل الْأَمْوَال وتفاضل الأعوان

الفصل الرابع والعشرون أشد ما يمنى به الملك في سياسة ملكه

الْفَصْل الرَّابِع وَالْعشْرُونَ أَشد مَا يمنى بِهِ الْملك فِي سياسة ملكه وَأَشد مَا يمنى بِهِ الْملك فِي سياسة ملكه شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن يفْسد عَلَيْهِ الزَّمَان وَالثَّانِي أَن يتَغَيَّر عَلَيْهِ الأعوان فَسَاد الزَّمَان فَأَما فَسَاد الزَّمَان فنوعان نوع حدث عَن أَسبَاب إلهية وَنَوع حدث عَن عوارض بشرية مَا حدث عَن أَسبَاب إلهية فَأَما الْحَادِث عَن الْأَسْبَاب الإلهية فَيجب أَن يقابلها الْملك بأمرين أَحدهمَا إصْلَاح سَرِيرَته وسرائر رَعيته فقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (إِذا جارت الْوُلَاة قحطت السَّمَاء)

وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ من حاول أمرا بِمَعْصِيَة الله كَانَ أبعد لما رجا وَأقرب لمجيء مَا اتَّقى وَالثَّانِي 47 ب أَن يتطامن لَهَا إِذا طرقت ويتلطف فِي تلاقيها إِذا هجمت حَتَّى تنجلي عَنهُ وَهُوَ سليم من لفحتها معَان فِي شدتها فَمَا عَن أقضية الله صَاد وَلَا عَن أوامره راد فالسلم فِيهَا أسلم ودفاع الله عَنْهَا أقوم وجد فِي عضد الْإِسْكَنْدَر صحيفَة فِيهَا مَكْتُوب قلَّة الاسترسال إِلَى الدُّنْيَا أسلم والاتكال على الْقدر أروح وَعند حسن الظَّن تقر الْعين

ما حدث عن العوارض البشرية

وَقد قيل فِي منثور الحكم لَا تجهدن فِي مَا لَا دَرك فِيهِ تربح التَّعَب وادحض الْبُخْل وَإِلَّا كنت خَازِن غَيْرك وَلَا تدخرن المَال لبعل عرسك وَلَا تظهرن إِنْكَار مَا لَا عدَّة مَعَك لدفعه وَلَا يلهينك قدره عَن كيد وحيلة قَالَ الشَّاعِر (مَا للرِّجَال مَعَ الْقَضَاء تحيل ... ذهب الْقَضَاء بحيلة الْمُحْتَال) // من الْكَامِل // مَا حدث عَن الْعَوَارِض البشرية وَأما الحادثات عَن الْعَوَارِض البشرية من أَفعَال الْعباد فَهِيَ الَّتِي يساس فَسَادهَا بالحزم حَتَّى تنحسم وبالاجتهاد حَتَّى تنتظم فَلَيْسَ ينشأ الْفساد إِلَّا عَن أَسبَاب خَارِجَة عَن الْعدْل والاقتصاد وَلَا تنحسم إِلَّا بحسم أَسبَابهَا

قَالَ الشَّاعِر (وقلما يفجأ الْمَكْرُوه صَاحبه ... إِذا رأى لوجوه الشَّرّ أسبابا) // منالبسيط // فيراعي الْملك سَبَب الْفساد فَإِن كَانَ حَادِثا عَن شدَّة وعسف وعنف حسمه باللين واللطف وَإِن حدث عَن لين وَضعف حسمه بالشدة والعنف وَكَذَلِكَ مَا عداهما من الْأَسْبَاب تنحسم بأضدادها فَإِن حسم الدَّاء بضده من الدَّوَاء فقد قَالَ الشَّاعِر (فَالنَّار بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ ضدها ... تُعْطِي النضاج وطبعها الإحراق) // من الْكَامِل // وَرُبمَا اخْتلفت الْأَسْبَاب لامتزاج أَنْوَاع الْفساد فتحسم الْأَسْبَاب المتنوعة بأضداد متنوعة كَمَا تعالج الْأَمْرَاض المضادة بأدوية متضادة فيستخرج حسم كل فَسَاد من سَببه وَمَا يصعب من هَذِه السياسة إِلَّا معرفَة الْأَسْبَاب فَإِذا عرفهَا وقف على الصَّوَاب وَإِن أشكلت عَلَيْهِ الْتبس عَلَيْهِ الصَّوَاب فتاه عَن قَصده وَذهل عَن رشده قَالَ الشَّاعِر 48 آ // من الطَّوِيل //

تغير الأعوان

(إِذا مَا أتيت الْأَمر من غير بَابه ... ضللت وَإِن تقصد إِلَى الْبَاب تهتد) // من الطَّوِيل // وتقلب الزَّمَان بأحوال أَهله يعود عَلَيْهِم بخيره وشره رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (إِذا كَانَ أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وَكَانَ أَمركُم بَيْنكُم فَظهر الأَرْض خير لكم من بَطنهَا وَإِذا كَانَ أمراؤكم شِرَاركُمْ وَكَانَ اغنياؤكم بخلاءكم وَكَانَ أَمركُم إِلَى نِسَائِكُم فبطن الأَرْض خير لكم من ظهرهَا) تغير الأعوان وَأما تغير الأعوان فنوعان أَحدهمَا أَن يكون لفساد تعدى إِلَيْهِم وَالثَّانِي أَن يكون لفساد حدث مِنْهُم تغير الأعوان لفساد تعدى إِلَيْهِم فَإِذا كَانَ تغيرهم لفساد تعدى إِلَيْهِم عوجلوا بحسم أَسبَابه قبل تفاقمها فسيجدهم بعد حسمها على السداد

فَإِن أهملوا فَلِكُل بُرْهَة تمْضِي من زمانهم تَأْثِير فِي استحكام فسادهم حَتَّى يُفْضِي إِلَى غَايَة لَا تستدرك لِأَن حسم مَا استحكم مُتَعَذر مستبعد وَسبب هَذَا الْفساد وَاحِد من ثَلَاثَة أَسبَاب إِمَّا أَن يكون لتقصير بهم فيستدرك بالتوفر عَلَيْهِم وَإِمَّا أَن يكون لعدوان عَلَيْهِم فيستدرك بالكف عَنْهُم وَإِمَّا أَن يكون لمفسد أطمعهم فَهُوَ أخبثها لِأَن الطمع مصائل للعقول ومفسدة للقلوب فَإِن لم يصده حزم أَو حذر خبثت بِهِ السرائر فهيج من النُّفُوس سواكنها وأبرز من الْقُلُوب كوامنها وَصَارَ كأجيج النَّار فِي يَابِس الْحَطب وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (استعيذوا بِاللَّه من طمع يُؤَدِّي إِلَى طبع)

وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ إِن الطمع فقر وَإِن الْيَأْس غنى وَإِن الْمَرْء إِذا يئس من شَيْء اسْتغنى عَنهُ وحسم هَذَا الطمع يكون بمعالجة إرغاب من اشْتَدَّ حَتَّى ينسى وإرهاب من لَان حَتَّى يَنْتَهِي لتمتزج 48 ب الرَّغْبَة بالرهبة فَفِي انْفِرَاد أَحدهمَا فَسَاد

تغير الأعوان لفساد حدث منهم

قَالَ الشَّاعِر (وَالنَّفس راغبة إِذا رغبتها ... وَإِذا ترد إِلَى قَلِيل تقنع) // من الْكَامِل // تغير الأعوان لفساد حدث مِنْهُم وَأما تغير الأعوان لفساد حدث مِنْهُم عدلوا بِهِ عَن الإستقامة وزالوا عَن أَحْوَال السَّلامَة فَهُوَ الدغل والقرح النغل والخطب العضل وَالْفرق مَا بَين الْفساد الطَّارِئ عَلَيْهِم وَالْفساد النَّاشِئ مِنْهُم من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الطَّارِئ مُنْفَصِل والناشئ مُتَّصِل ونكاية الْمُتَّصِل أبلغ من نكاية الْمُنْفَصِل وَالثَّانِي أَن الطَّارِئ ظهر قبل حُلُوله فيهم فَأمكن تَعْجِيل استدراكه والناشئ ظهر بعد استحكامه فيهم فَتعذر تَعْجِيل استدراكه فَلَزِمَ لدغل دائه وعضل دوائه أَن تقرر فِي تلافيه وحسم دواعيه قَوَاعِد كل حَالَة على قاعدتها وَيُدبر بموجبها

الفصل الخامس والعشرون سياسة الملك وأحواله

الْفَصْل الْخَامِس وَالْعشْرُونَ سياسة الْملك وأحواله بِمَ يساس الْملك وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالملك يساس بِثَلَاثَة أُمُور أَحدهمَا بِالْقُوَّةِ فِي حراسته وحفاظه وَالثَّانِي بِالرَّأْيِ فِي تَدْبيره وانتظامه وَالثَّالِث بالمكيدة فِي فل أعدائه فَتكون الْقُوَّة مُخْتَصَّة بِالْعقلِ والرأي مُخْتَصًّا بِالتَّدْبِيرِ وهما على الْعُمُوم فِي جَمِيع الْأَحْوَال والأعمال فَأَما المكيدة فمختصة بفل الْأَعْدَاء فَإِن من ضعف كَيده قوي عدوه وَهَذَا أصل يعْتَمد عَلَيْهِ مدَار السياسة وَيحمل عَلَيْهِ تَدْبِير الْملك أَحْوَال الْملك وللملك ثَلَاث أَحْوَال فالحال الأول تثبيت قَوَاعِده وَالْحَال الثَّانِيَة تَدْبِير رَعيته وَالْحَال الثَّالِثَة استقامة أعوانه 1 - تثبيت قَوَاعِد الْملك فَأَما الْحَال الأولى فِي تثبيت قَوَاعِده وحراسته من الْأَعْدَاء المنازعين فِيهِ فضربان أَحدهمَا 49 آحاله قبل استقراره عِنْد الْمُنَازعَة فِيهِ والمحاربة عَلَيْهِ فيساس بالأمور الثَّلَاثَة

تدبير الرعية

أَحدهَا بِالْقُوَّةِ فِي حراسته والذب عَنهُ حَتَّى تَسْتَقِر قَوَاعِده وَالثَّانِي بِالرَّأْيِ فِي تَدْبيره حَتَّى يَنْتَظِم على اعتداله وَالثَّالِث بالمكيدة فِي انتهاز فرصته وَدفع غوائله وَالثَّانِي حَاله بعد استقراره فِي السّلم والدعة فيساس بأمرين أَحدهمَا بِالْقُوَّةِ الحافظة لقواعده المستقرة وَالثَّانِي بِالرَّأْيِ الْجَامِع للسياسة العادلة وَلَا حَاجَة إِلَى اسْتِعْمَال المكيدة فِيهِ عِنْد السّلم وَالْمُوَادَعَة 2 - تَدْبِير الرّعية وَأما الْحَال الثَّانِيَة فِي تَدْبِير الرّعية فضربان أَحدهمَا حَالهم فِي السَّلامَة والسكون فيساس بِالرَّأْيِ وحدة الْمُحَافظَة لتدبيرهم على السِّيرَة العادلة وَالضَّرْب الثَّانِي حَالهم فِي الِاضْطِرَاب وَالْفساد فيساسون بأمرين أَحدهمَا بِالْقُوَّةِ فِي كف مفسدهم وكف الْفساد عَنْهُم وَالثَّانِي بِالرَّأْيِ فِي تَدْبِير أُمُورهم على السِّيرَة العادلة وَلَا وَجه لاستعمال المكيدة فيهم لِأَن حُقُوق الْأَمْوَال مستمدة مِنْهُم فَإِن كيدوا صَار الْملك بهم مكيدا فَكَانَ الضَّرَر عَلَيْهِ أَعُود وَالْفساد فِيهِ أَزِيد أَحْوَال الْمُلُوك مَعَ رعيتهم وَقد تَنْقَسِم أَحْوَال الْمُلُوك مَعَ رعيتهم أَرْبَعَة أَقسَام يعلم بتفصيلها أَسبَاب الصّلاح ومواد الْفساد فالقسم الأول ملك صلحت سَرِيرَته واستقامت رَعيته فأعين على صَلَاح السِّيرَة باستقامة رَعيته وأعينت الرّعية على الاسْتقَامَة بصلاح سيرته فَهَذَا هُوَ الْعدْل مِنْهُمَا فَصَارَت السَّعَادَة شَامِلَة لَهما وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (خير أمرائكم الَّذين تحبونهم ويحبونكم وَشر أمرائكم 49 ب الَّذين تبغضونهم ويبغضونكم)

وَالْقسم الثَّانِي ملك صلحت سيرته وفسدت رَعيته فقد أضاعت الرّعية بفسادها صَلَاح ملكهَا وَخَرجُوا من سُكُون الدعة إِلَى زواجر السياسة فَاحْتَاجَ إِلَى تقويمهم بالشدة بعد لينه وبالسطوة بعد سكونه ليقلعوا عَن الْفساد إِلَى السداد فيكف عَنْهُم وَالْعدْل فِي الْحَالين مُسْتَعْمل مَعَهم لِأَن الزّجر تَأْدِيب والرهبة تَهْذِيب قَالَ بعض الألباء لَا تعادوا الدول الْمُقبلَة فَإِنَّكُم تدبرون بإقبالها وَالْقسم الثَّالِث ملك فَسدتْ سيرته واستقامت رَعيته فَإِن استدرك صَلَاح ملكه بِعدْل سيرته وَصِحَّة سياسته وَإِلَّا تطاولت عَلَيْهِ الرّعية بِقُوَّة الاسْتقَامَة وَكَانَ مَعَهم على أَمريْن أَحدهمَا أَن يصلحوه حَتَّى يَسْتَقِيم فَيصير مَأْمُورا بعد أَن كَانَ آمرا ومقهورا بعد أَن كَانَ قاهرا وتزول هيبته وَتبطل حشمته وَلَا يبْقى لَهُ من الْملك إِلَّا اسْم مستعار قد استبقوه عَلَيْهِ تفضلا قيل من كثر تعديه كثر أعاديه

استقامة الأعوان

وَالثَّانِي أَن يعدلُوا إِلَى غَيره فيملكوه عَلَيْهِم فَيَكُونُوا لَهُ أعوانا إِن نوزع وأنصارا إِن قورع فَيصير بِفساد سيرته مزيلا لملكه ومعينا على هلكه وَالْقسم الرَّابِع ملك فَسدتْ سيرته وفسدت رَعيته فَاجْتمع الْفساد فِي السايس والمسوس فَظهر الْعدوان من الرئيس والمرؤوس فَلم يتقاصد عَن فَسَاد وَلَا دَاع إِلَى صَلَاح فَخرجت الْأُمُور عَن سَبِيل السَّلامَة وزالت عَن قوانين الاسْتقَامَة وَلَا ثبات لملك زَالَت عَنهُ السَّلامَة 50 آوعدمت فِيهِ الاسْتقَامَة وَهُوَ بِمَرْصَد من ثَائِر يصطلم وقاهر ينْتَقم وَقد قَالَ أردشير بن بابك بِمثل هَذَا الْملك وَهَذِه الرّعية تختم الدول وتستقبل الْفِتْنَة وتذال الدهور 3 - استقامة الأعوان وَأما الْحَال الثَّالِثَة فِي استقامة الأعوان فضربان أَحدهمَا حَالهم فِي السّكُون والدعة فيساسون بِالرَّأْيِ وَحده فِي تدبيرهم بالرغبة والرهبة حَتَّى تَسْتَقِر أُمُورهم على السِّيرَة العادلة قَالَ سَابُور فِي عَهده إِلَى ابْنه هُرْمُز

اعْلَم أَن جندك لم يغنوا عَنْك وَإِن كَثُرُوا وكملت عدتهمْ حَتَّى تكمل فيهم ثَلَاث خِصَال لَيْسَ عَنْهُن عوض مَحْض الْمَوَدَّة وَصدق النَّاس وسلس الطَّاعَة فَإِنَّهُم يؤدون بِهن حَقك ويدفعون بِهن عَدوك وَالضَّرْب الثَّانِي حَالهم فِي تغيرهم وفسادهم وفسادهم على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون الْفساد خَاصّا فِي بَعضهم فيساس من فسد مِنْهُم بأمرين بِالْقُوَّةِ فِي إصلاحهم بِمن سلم وبالرأي فِي تَدْبِير أُمُورهم كالمسالم ليسيروا جَمِيعًا على السِّيرَة العادلة فَإِن انتشار فسادهم من كَثْرَة رُؤَسَائِهِمْ المتنافسين فِي الرتب فيجتذب كل رَئِيس حزبا يَدعُوهُم إِلَى طَاعَته ويبعثهم على نصرته فيصيرون أحزابا مُخْتَلفين وأضدادا متنافرين فَهَذِهِ حَالهم إِن كَثُرُوا وهم بالضد مِنْهَا إِن قلوا وَالضَّرْب الثَّانِي أَن يكون الْفساد عَاما فِي جَمِيعهم فَلَا يَخْلُو حَالهم فِي الْفساد الْعَام من أَن يتظاهروا بِهِ أَو يستروه فَإِن ستروه فقد استبقوا بالمساترة شطرا فيساسون بِالرَّأْيِ وَحده لإعواز الْقُوَّة بفسادهم وَلَا يساسون بالمكيدة لمساترتهم فَإِن جاهروا بِالْفَسَادِ 50 ب فَهُوَ الوهن الواصم والخطب القاصم

ويتنوع ثَلَاثَة أَنْوَاع أَحدهَا أَن يكون فسادهم مُخْتَصًّا بانتهاك الرعايا واستباحة الْأَمْوَال فقد سلبوه الْقُوَّة بمتاركته ومنعوه الطَّاعَة بمخالفته وجعلوه كالصنم الَّذِي لَا يُزَاد على التَّعْظِيم فاستبقوا يسير حشمته واستولوا على جَمِيع مَمْلَكَته فيسوسهم بِالرَّأْيِ واللين واجتذاب فريق فعساه يقوى فَيمْنَع ويشتد فَيدْفَع وَإِلَّا فالملك واه وَالْفساد متناه وَهُوَ كالمثل الْمَضْرُوب بقول الشَّاعِر (كم ترى يلبث الرصاص على النَّار ... وَمِنْهَا يكون ذوب الرصاص) // من الْخَفِيف // قَالَ بعض البلغاء أَضْعَف الْحِيلَة خير من أقوى الشدَّة وَأَقل التأني أجدى من أَكثر العجلة والدولة رَسُول الْقَضَاء المبرم وَإِذا استبد الْملك بِرَأْيهِ عميت عَلَيْهِ المراشد وَالنَّوْع الثَّانِي أَن يكون فسادهم مُخْتَصًّا بالإسراف فِي مُطَالبَته بِمَا لَا يستحقونه والإقتراح عَلَيْهِ فِي التمَاس مَا لَا يستوجبونه فَلَا يَخْلُو فِيهِ من أحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون قَادِرًا عَلَيْهِ أَو عَاجِزا عَنهُ فَإِن كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ كَانَ هَذَا مِنْهُم طَمَعا فِيهِ قد اطرحوا فِيهِ مراقبته واستبدلوا فِيهِ الاستطالة بحشمته وأوهنوا بالاستطالة ملكه فَصَارَ مسلوب الْقُوَّة باستطالتهم

منهوب المَال بمطالبتهم قد جَعَلُوهُ مأكلة مطامعهم فَهُوَ مَعَهم كذي المَال المستضعف مَعَ الْبُغَاة الأقوياء محروب ومسلوب لَا يملك لنَفسِهِ نفعا وَلَا ضرا فيساسون بِالرَّأْيِ وَالْخداع فَمَا استبقوا من حشمته إِلَّا حشاشته فَلَا يعرضهَا لنفور مهلك ويتوصل إِلَى رضاهم سرا وجهرا بِمَا يَخْتَلِفُونَ 51 آفي أَسبَابه وهم لَا يَشْعُرُونَ لتمتزج أَسبَاب الرِّضَا من وُجُوه مُتَغَايِرَة فَيكون بِهِ أرْفق وَلَهُم أوفق كَمَا قَالَ الشَّاعِر (وَإِذا عجزت عَن الْعَدو فداره ... وامزح لَهُ إِن المزاح وفَاق) (فَالنَّار بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ ضدها ... تُعْطِي النضاج وطبعها الإحراق) // من الْكَامِل // فَإِذا سكنوا من فورة الاشتطاط توصل إِلَى حسم مطامعهم وَإِن حسمت سلم ملكه بعد السقم وَإِن لم تحسم فَهُوَ ذَاهِب الْملك وشيك الهلك إِن لم يعضده نصر من الله وَفتح قريب وَإِن كَانَ عَاجِزا عَمَّا اقترحوه وطمعوا فِيهِ فَهُوَ عنت مُسْتَحِيل قد جعلُوا الْعَنَت فِيهِ سَببا لغيره فيساسون بأمرين بِالرَّأْيِ والمكيدة فَإِنَّهُم لَا يقفون على حَالهم المستحيلة وسينقلون عَنْهَا إِلَى خصْلَة من ثَلَاث إِمَّا أَن يكفوا عَن عنتهمْ فَيَكْفِي أَمرهم ويدبرهم بعد كفهم وَإِمَّا أَن يَخْتَلِفُوا فيقوى بِمن وَافقه مِنْهُم على باقيهم وَإِمَّا أَن يَنْتَقِلُوا إِن لم يعنه الْقدر عَلَيْهِم إِلَى مَا يَقع فِيهِ التَّسْلِيم والاستسلام وَالله يقْضِي فِيهِ بِمَا يَشَاء وَهُوَ الْقوي الْعَزِيز

وَالنَّوْع الثَّالِث أَن يكون فسادهم مُخْتَصًّا بالتعريض لنَفسِهِ وَهُوَ الشَّرّ المغتلم وَالْبَلَاء المصطلم وَقل أَن يكون إِلَّا لسَبَب من أحد ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَن يكون لسوء سيرته فيهم فَهُوَ الملوم دونهم وَلَيْسَ يُرْجَى زَوَاله مَعَ بَقَائِهِ على سوء السِّيرَة فَإِن أقلع عَنْهَا فَرَجَعُوا عَنهُ وَإِلَّا ساسهم بِمَا اقْتَضَاهُ الرَّأْي من لين ولطف ثمَّ لله الْأَمر من قبل وَمن بعد وَالسَّبَب الثَّانِي أَن يكون تغيرهم عَلَيْهِ لملل مِنْهُم لَهُ حدث بطول مكثه فيهم فَلَيْسَ الْملَل من لَوَازِم الْعِلَل وَلَئِن لم 51 ب يزده الْمكْث حَقًا لم ينقصهُ وَقل أَن يكون ذَلِك إِلَّا عِنْد حُدُوث ناشئة لم ينالوا من دولته حظا فهم يأملون بتقلب الْأُمُور أَن يستحدثوا نقما ويرجون بانتقالها توجيها وتقدما فَإِن لم يفْسد بهم غَيرهم كَانَ الْخطب بهم أيسر للظفر بِبَقِيَّة مِنْهُم ليستعان بهَا عَلَيْهِم وَإِن عَم بهم الْفساد فَهُوَ أصعب الخطبين فيسوسهم باللطف والتأمين واستصلاح فريق بعد فريق فَإِن ظفر مِنْهُم بِظُهُور الأمل وَإِلَّا فَهُوَ بمرصاد من بغي قد استولى وَملك قد تولى إِلَّا أَن يمده الله تَعَالَى بلطف غير مرتقب وَعون غير محتسب وَالسَّبَب الثَّالِث أَن يكون تغيرهم عَلَيْهِ لانحرافهم إِلَى عَدو قد مايلوه وإغرائهم إِلَى ضد قد استبدلوه فَهُوَ أَسْوَأ الخطوب حَالا

وَأَعْظَمهَا وبالا لِأَنَّهُ قد بلي بانحراف أعوانه واستطالة أعدائه لِأَن لكل وَاحِد مِنْهُمَا نكاية لَا تطاق فَكيف إِذا اجْتمعَا قَالَ الشَّاعِر (إِن الْبلَاء يُطَاق غير مضاعف ... فَإِذا تضَاعف صَار غير مطاق) // من الْكَامِل // وَلم يبْق مَا يستدفع بِهِ خطبه إِلَّا المكيدة فَإِنَّهَا علاج مَا أعضل من دائهم فيعالجهم بهَا قبل أَن يستأصلوه وَيظْهر مَعهَا إِن تراخت لَهُ الْمدَّة بإجمال سيرته واحتماله رَعيته فَفِي كل وَاحِد مِنْهُمَا عون فَإِن سرت المكيدة فِي عدوه لَان أعوانه وَإِن سرت فِي أعوانه لَان عدوه لِأَن أعوانه يسر فِي وَاحِد مِنْهُم فَهُوَ موكول متوقع لما تجْرِي بِهِ الأقدار ويتقلب بِهِ اللَّيْل وَالنَّهَار وَلَئِن كَانَ فِي غَايَة متناهية فَلَيْسَ بمأيوس أَن يظفر رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم 52 آأنه قَالَ (الدُّنْيَا دوَل فَمَا كَانَ مِنْهَا لَك أَتَاك على ضعفك وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْك لم تَدْفَعهُ بقوتك وَمن انْقَطع رجاؤه مِمَّا فَاتَ استراح بدنه وَمن رَضِي بِمَا رزقه الله قرت عينه)

وَقيل رُبمَا كَانَ الْيَأْس إدراكا والحرص هَلَاكًا وَقيل رب مستسلم سلم ومتحرز نَدم قَالَ الشَّاعِر (وحذرت من أَمر فَمر بجانبي ... لم يبكني وَلَقِيت مَا لم أحذر) // من الْكَامِل // وَلَيْسَ يطْرَأ أَمْثَال هَذِه الْحَوَادِث على الممالك إِلَّا من استرسال الْمُلُوك فِي حالتين إِحْدَاهمَا أَن يغفلوا عَن الحزم حَتَّى ينتشر من الإهمال مَا يطغى وَالثَّانيَِة أَن يسترسلوا فِي الْعدْل حَتَّى يظْهر من الْجور مَا يوحش قَالَ أردشير بن بابك

إِذا رغب الْملك عَن الْعدْل رغبت الرّعية عَن الطَّاعَة وهما أسان للْملك فَإِذا خلا مِنْهُمَا فَاجْتمع فِيهِ طغيان الإهمال واستيحاش الْجور تقوضت قَوَاعِد صَلَاحه وتهدمت أَرْكَان سداده فَلم تبعد عَلَيْهِ نتائج فَسَاده بحوادث لَا تحتسب لِأَن عواقب الْفساد أدهى وَأمر ونتائج الشَّرّ أعدى وأضر كَمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ يَا بني اعتزل الشَّرّ يعتزلك فَإِن الشَّرّ للشر خلق قَالَ بعض الألباء من فعل الْخَيْر فبنفسه بدا وَمن فعل الشَّرّ فعلى نَفسه جنى

استعمال الحزم وبسط العدل

قَالَ الشَّاعِر (الْخَيْر لَا يَأْتِيك مجتمعا ... وَالشَّر يسْبق سيله مطره) اسْتِعْمَال الحزم وَبسط الْعدْل وَإِذا أحكم الْملك قَوَاعِد ملكه بِاسْتِعْمَال الحزم وَبسط الْعدْل وَلم يغْفل عَن الحزم فِي صَغِير وَلَا كَبِير وَلم يترخص فِي الْجور من قَلِيل وَلَا كثير أحاطت السَّلامَة بِملكه وحفت السَّعَادَة بدولته فأمن غوائل الْفساد وَسلم 52 ب من ظُهُور الْفساد وَكَانَ النَّاس مَعَه من بَين حَامِد لعدله وإحسانه وحذر من بأسه وسلطانه فشكره الأخيار واتقاه الأشرار وَلم يتَطَرَّق إِلَى ملكه خلل وَلَا على نَفسه وَجل فصح أَن الحزم وَالْعدْل أدفَع لشوائب الْملك ومخاوف الْمُلُوك من كل عدَّة وأبلغ فِي صَلَاحهمْ من كل نجدة فيستنجد للْملك حزمه ويستعد عدله فَإِنَّهُ يسْتَغْنى بهما عَن كل عدَّة ويستعان بهما فِي حراسته من الْخطر وَحفظ ملكه من الْغَيْر

تصفح أحوال الحاشية في زمان السلم

قَالَ بعض الْعلمَاء بِالْعَدْلِ والإنصاف تكون مُدَّة الائتلاف قيل لأنوشروان أَي الْخَيْر أوفى قَالَ الدّين قيل وَأي الْعدَد أقوى قَالَ الْعدْل تصفح أَحْوَال الْحَاشِيَة فِي زمَان السّلم وليعلم الْملك أَن من الحزم أَن يتصفح أَحْوَال حَاشِيَته وأعوانه فِي زمَان السّلم وأوقات السّكُون لِأَن الْقُدْرَة أَشد والمكيدة أمد فَإِن لكل صنف من الْحَوَاشِي والأعوان آفَة مفْسدَة وبلية قادحة تجْعَل الصّلاح بهم فَسَادًا والميل مِنْهُم عنادا فيقف عَلَيْهَا يتصفح أَحْوَالهم ليسلموا فَيصير مِنْهُم سليما ويستقيموا فَيصير بهم مُسْتَقِيمًا فقد قيل فِي منثور الحكم آفَة الْمُلُوك سوء السِّيرَة وَآفَة الوزراء خبث السريرة وَآفَة الْأُمَرَاء مُفَارقَة الطَّاعَة

وَآفَة الْجند مُخَالفَة القادة وَآفَة الرّعية ضعف السياسة وَآفَة الْعلمَاء حب الرياسة وَآفَة الْقُضَاة حب الطمع وَآفَة الْعُدُول قلَّة الْوَرع وَآفَة الْملك تضَاد الحماة وَآفَة الْعدْل ميل الْوُلَاة وَآفَة الجرئ إِضَاعَة الحزم وَآفَة الْقوي استضعاف الْخصم وَآفَة الْمجد عوائق الْقُضَاة وَآفَة الْمُشَاورَة انْتِقَاض الارآء وَآفَة الْمُنعم قبح الْمَنّ وَآفَة المذنب سوء الظَّن

حسم مواد الفساد

وَآفَة الزعماء قلَّة السياسة 53 آ وَلَيْسَ أَسبَاب الْفساد فِي هَؤُلَاءِ الْأَصْنَاف مَقْصُورَة على هَذِه الْأَوْصَاف حَتَّى لَا يتعداها إِلَى مَا سواهَا وَإِنَّمَا ذكر الْأَغْلَب من فَسَاد كل صنف وَإِن جَازَ أَن يفْسد بِغَيْرِهِ فيتوصل إِلَيْهِ بتصفحه وسبره حسم مواد الْفساد فَإِذا وقف الْملك على مواد فسادهم وَأَسْبَاب آفاتهم قطع أَسبَابهَا وحسم موادها لتسلم لَهُ مصَادر الْأُمُور فتستقيم مواردها ويأمن نتائج التَّقْصِير فتحمد عواقبها فَإِن مبادئ الْأُمُور أس إِن رسا تشيد وَإِن وَهِي تقوض

الفصل السادس والعشرون دوام تفقد الملك الأحوال العامة

الْفَصْل السَّادِس وَالْعشْرُونَ دوَام تفقد الْملك الْأَحْوَال الْعَامَّة 1 - تفقد الْملك سيرة حماة الْبِلَاد وولاة الْأَطْرَاف وَليكن كثير الاعتناء بسير حماة الْبِلَاد وولاة الْأَطْرَاف الَّذين فوض إِلَيْهِم أمانات ربه واستخلفهم على رِعَايَة خلقه فَينْدب لذَلِك من أمنائه من حَاز خِصَال التَّفْوِيض وَاسْتحق بحزمه وشهامته الْولَايَة والتقليد قَالَ أردشير بن بابك من بعض حكمه لَا يصلح لسد الثغور وقود الجيوش وتدبير الْجنُود وحراسة الأقاليم إِلَّا من تكاملت فِيهِ خمس خِصَال حزم يتَيَقَّن بِهِ عِنْد موارد الْأُمُور حقائق مصادرها وَعلم يحجزه عَن التهور فِي المشكلات إِلَّا عِنْد تجلي فرصتها وشجاعة لَا تنقصها الملمات بتواتر حوائجها وَعظم هولها وَصدق فِي الْوَعْد والوعيد يوثق مِنْهُ بِالْوَفَاءِ عَلَيْهِمَا

وجود يهون عِنْده تبذير الْأَمْوَال عِنْد ازدحام السُّؤَال عَلَيْهِ وَأَقُول إِن كمالها فِيهِ مُقَيّد بِاعْتِبَار خَصْلَتَيْنِ مَعهَا إِحْدَاهمَا أَن يقدم مصَالح مَا تقلده على مصَالح نَفسه لعود صَلَاحه إِلَيْهِ وَرُجُوع فَسَاده عَلَيْهِ وَالثَّانيَِة أَن يرى أَن اكْتِسَاب الْأجر وَالْحَمْد أفضل مكاسبه فَإِن لم يجذبه الْميل إِلَى نَفسه فَهُوَ موثوق بخيره مَأْمُون على غَيره وَإِلَّا فَلَا خير فِيهِ

فَهَذِهِ خِصَال إِن لم يحزها 53 ب سائس الْملك ومدبر الرعايا كَانَ اختلال عمله بِحَسب اختلال كَمَاله لِأَن لكل ثلم مسدا وَلكُل وَهِي مردا وَقد يقْتَرن بِهَذِهِ الْخِصَال مَا يخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان فَرُبمَا حمد فِي بعض الأحيان اللين واللطف وَفِي بَعْضهَا الخشونة والعنف فَإِن لكل وَقت حكما وَلكُل قوم تدبيرا وَقد وصف عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَخْلَاق الْوُلَاة فَقَالَ لَا يصلح لمن يَلِي أَمر الْأمة إِلَّا أَن يكون حصيف الْعقْدَة قَلِيل الْعِزَّة بعيد الهمة شَدِيدا من غير عنف لينًا من غير ضعف جوادا من غير سرف لَا يخْشَى فِي الله لومة لائم وَهَذِه الْأَخْلَاق الَّتِي وصفهَا يجب أَن تكون لَازِمَة فِي كل وَال مطبوعة فِي كل مُدبر وَقد ذكر الْإِيَادِي مَعَ إعرابيته أَوْصَاف الْوُلَاة فِي شعره فَقَالَ

(وقلدوا أَمركُم لله دركم ... رحب الذِّرَاع بِأَمْر الْحَرْب مضطلعا) (لَا مترفا إِن رخاء الْعَيْش ساعده ... وَلَا إِذا عض مَكْرُوه بِهِ خشعا) (مَا زَالَ يحلب در الْعَيْش أشطره ... يكون مُتبعا يَوْمًا ومتبعا) (حَتَّى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم الرَّأْي لَا قحما وَلَا ضرعا) // من الْبَسِيط //

ثمَّ عَلَيْهِ أَن يحفظ مَرَاتِب جَمَاعَتهمْ وَينزل كل وَاحِد مِنْهُم الْمنزلَة الَّتِي يَسْتَحِقهَا بكفايته وَحسن أَثَره وَإِن حفظ الْمَرَاتِب فِي المملكة كحفظ السّمع وَالْبَصَر لعظم المنافسة فِيهَا وانتشار الْعَدَاوَة مِنْهَا وَقد تدلس عَلَيْهَا كتدليس البهرج ويترشج لَهَا من لَيْسَ لَهَا كفوا وَلَا من أَهلهَا غَاصبا أَو مغالطا فتصفر مِنْهَا أَيدي أَرْبَابهَا وَينفذ فِيهَا حكم غصابها وَلَيْسَ كل من تعظم بعظيم وَلَا كل من تنسك بناسك وَلَا كل من تسود بِسَيِّد والناسك غير المتناسك 54 آوالشريف غير المشرف وَلَا خير فِي مملكة صَار الرؤوس فِيهَا أذنابا والأذناب فِيهَا رؤوسا عهد بعض مُلُوك الْفرس إِلَى ابْنه فَقَالَ لَا تكونن فِي شَيْء من الْأَشْيَاء أَشد خشيَة مِنْك من رَأس صَار ذَنبا أَو ذَنْب صَار رَأْسا أَو يَد مَشْغُولَة أحدثت فراغا أَو كريم حَال إِلَى ضرّ أَو لئيم صَار إِلَى فَرح فَإِنَّهُ يتَوَلَّد من تنقل النَّاس عَن حالاتهم فَسَاد مُضر

وَحفظ الْمَرَاتِب مُعْتَبر من وَجْهَيْن أَحدهمَا فِي الْولَايَة والتقليد وَالثَّانِي فِي الْإِكْرَام والتقريب فَلَا يتَجَاوَز بأحدهم قدر الِاسْتِحْقَاق فِي أَحدهمَا فَإِنَّهُ يطغى بِالزِّيَادَةِ ويستوحش من النُّقْصَان وَهَذَا أَمر يجب صرف الاهتمام إِلَيْهِ لما فِي نظامه من نضارة وغضارة وَحفظ مراتبه وحشمته إِذْ لَا شَيْء أعظم إيحاشا وَلَا أَكثر تنكرا أَو فَسَادًا من حط مَرَاتِب الكفاة وَرفع السفلة والدناة حُكيَ أَن أنوشروان وَقع إِلَى وُلَاة الْحِسْبَة من أَعماله أَن لَا يدعوا أَوْلَاد السفلة أَن يقعدوا فِي الْمكَاتب وَأَن يطردوا عَن مجَالِس الْقُضَاة

لأَنهم مَتى مَا تعلمُوا الْجِدَال قَدَحُوا فِي الدّين وَمَتى مَا تمكنوا من أَعمال السُّلْطَان عمِلُوا فِي بوار أهل البيوتات فَقَالَ فِيهِ (لله در أنوشروان من ملك ... مَا كَانَ أعرفهُ بالدون والسفل) (نَهَاهُم أَن يمسوا بعده قَلما ... وَأَن يروموا ركُوب الْخَيل وَالْإِبِل) // من الْبَسِيط // وَإِذا حمد سعي صَاحب فِي ولَايَته أقره على عمله فَإِنَّهُ وَإِن حسن أَن ينْقل الْحَمد من مَدِينَة إِلَى أُخْرَى وَهُوَ الأولى حَتَّى لَا يسْتَقرّ بهم وَطن يأسون إِلَى فِرَاقه وَلَا يفتتنون فِيهِ مَا يطيبون نفسا بِتَرْكِهِ فَلَيْسَ بصواب أَن ينْقل وَالِي الْمَدِينَة وَلَا صَاحب الْخراج بل يكون على ولَايَته مَا بَقِي على حميد سيرته 54 - ب فَإِن أَتَى بِمَعْصِيَة أَو خِيَانَة صرف صرفا لَا وُلَاة بعده إِلَّا عَن تَوْبَة وإقلاع وَكَذَلِكَ فِي الْحَوَاشِي والحكام وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَنه مَتى عرف من السُّلْطَان أَنه يرى الصّرْف والاستبدال اعْتقد كل وَال أَن أَيَّامه قَصِيرَة فَعمل لسوق يَوْمه وَلم يلْتَفت إِلَى صَلَاح غده واحتجن الْأَمْوَال فِي صدر ولَايَته وتأهب عَلَيْهَا لزمان عطلته فَإِذا صرف عَنْهَا خلف الْبِلَاد على من بعده مختلة وزاده الثَّانِي اختلالا على مثل حَاله وَلَا يلبث الإهمال حَتَّى تخرب بمناهبة الْعمَّال وَإِذا سكنت نفس النَّاظر إِلَى أَن أَعماله مقرة عَلَيْهِ مَا أَقَامَ على

نصيحته وَجرى على جميل سيرته نظر فِيهَا كنظر القنى فِي عمَارَة ضياعهم وتميز خلاتهم وفكره فِي صَلَاح غده قبل فكره فِي صَلَاح يَوْمه لعلمه بِبَقَاء الْعَمَل عَلَيْهِ وَأَن خير الْعَاقِبَة وشرها عَائِد عَلَيْهِ ومنسوب إِلَيْهِ فتوفر نصحه واجتهاده وَعم صَلَاحه وعفافه وَليكن نزها عَن أَمْوَالهم وَإِن توفرت غير طامع فِيهَا وَإِن كثرت مَا لم تظهر مِنْهُم خِيَانَة واحتجان لأَنهم قد يَكْسِبُونَ بجاه أَعْمَالهم من مباحات الْوُجُوه مَا لَا تبعة فِيهَا عَلَيْهِم وَلَئِن يَكُونُوا ذَوي أَحْوَال وأموال يستعينون بهَا على الْعِفَّة وَالْأَمَانَة أولى من أَن يَكُونُوا ذَوي فاقة تضطرهم إِلَى الْخِيَانَة فقد قيل لَا أَمَانَة لمحتاج وليعلم أَنه مَتى طمع مِنْهُم فِي الْيَسِير أطمعهم فِي الْكثير وَإِن أَخذ أَمْوَالهم جَهرا بِتَأْوِيل أخذُوا مِنْهُ أضعافها سرا بِغَيْر تَأْوِيل فيظن أَنه قد ارتفق بِمَال غَيره وَهُوَ قد أَخذ بعض حَقه وَيصير معدودا من الظَّالِمين وَهُوَ مظلوم ويصيروا معدودين فِي المظلومين وَمَا مِنْهُم إِلَّا ظلوم وَإِذا كف عَنْهُم استكفهم فناصف ونوصف قَالَ بعض الْعلمَاء من طمع فِي أَمْوَال عماله ألجأهم إِلَى اقتطاع أَمْوَاله وَقَالَ أنوشروان 55 آ من خَافَ شرك أفسد أَمرك

وَقَالَ أردشير لَا ترجو خير من لَا يَرْجُو خيرك وَلَا تأمن جَانب من لَا يَأْمَن جَانِبك فَإِن ظهر مِنْهُم على مَال قد احتجنوه وَحقّ قد خانوه طالبهم بِهِ مُطَالبَة الْمَدِين الْمنصف واستوفاه مِنْهُم اسْتِيفَاء المحق المسعف بعد إِقَامَة حججه وَإِظْهَار شواهده وَلَا يسْتَغْنى بِالْقدرِ عَن إِظْهَار الْحجَّة ليَكُون مَعْذُورًا وهم مذمومين ومنصفا وهم خائنين فَإِذا استوفى حَقه واسترجع مَاله كَانَ من وَرَاء تأديبهم تقويما لَهُم واستصلاحا لغَيرهم وعَلى حسب أقدارهم يكون التَّقْوِيم وَإِذا وجد من بعض خدمه هفوة أَو تقصيرا لم يَأْته عمدا لم يَأْخُذهُ بذنب الدَّهْر وعوائق الزَّمَان مَعَ حسن الثِّقَة وَجَمِيل الظَّن فِيهِ فَلَيْسَ من الزلل أَمَان وَلَا إِلَى الْعِصْمَة سَبِيل وَقد قيل أَي عَالم لَا يهفو وصارم لَا ينبو وجواد لَا يكبو

قَالَ بعض الْعُقَلَاء من كثر صَوَابه لم يطْرَح لقَلِيل الْخَطَأ قَالَ الشَّاعِر (وَلست بمستبق أَخا لَا تلمه ... على شعث أَي الرِّجَال الْمُهَذّب) // من الطَّوِيل // قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا حَلِيم إِلَّا ذُو عَثْرَة وَلَا حَكِيم إِلَّا ذُو تجربة)

وَفِي تَأْوِيله وَجْهَان أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ أَنه لَا يَخْلُو حَلِيم من عَثْرَة وَلَا حَكِيم أَن يحْتَاج إِلَى تجربة وَالثَّانِي أَن لَا يكون حَلِيمًا وَلَا حكيما حَتَّى تكْثر عثراته وتجربته فَيصير بعد كَثْرَة التجارب والعثرات حَلِيمًا حكيما وَإِذا قطعت بَعضهم عَن الْخدمَة قواطع قطع وَظَهَرت بأعدارها ووضح برهانها لم يكلفه فعل مَا لَيْسَ فِي وَسعه وطاقته فقد رفع الله الْحَرج عَن الْمَعْذُور فِي حَقه وَقد تقطع الْمُلُوك القواطع عَن حُقُوق أنفسهم وهم أقدر فَكيف بأوليائهم وخدمهم وهم أعجز وَقد قَالَ الشَّاعِر (مَا كلف الله نفسا فَوق طاقتها ... وَلَا تجود يَد إِلَّا بِمَا تَجِد) // من الْبَسِيط //

استخبار الملك عن رعيته وحاشيته والنائبين عنه

2 - استخبار الْملك عَن رَعيته وحاشيته والنائبين عَنهُ وَإِن الْملك لجدير أَن لَا يذهب عَلَيْهِ صَغِير وَلَا كَبِير من أَخْبَار رَعيته وَأُمُور حَاشِيَته وسير خلفائه والنائبين عَنهُ فِي أَعماله بمداومة الاستخبارعنهم وَبث أَصْحَاب الْأَخْبَار فيهم سرا وجهرا وَينْدب لذَلِك أَمينا ويوثق بِخَبَرِهِ وَينْصَح الْملك فِي مغيبه ومشهده غير شَره فيرتشي وَلَا ذِي هوى فيروي أَو يعتدي لتَكون النَّفس إِلَى خَبره سَاكِنة وَإِلَى كشفه عَن حقائق الْأُمُور راكنة فَإِنَّهُ لَا يقدر على رِعَايَة قوم تخفى عَلَيْهِ أخبارهم وتنطوي عَنهُ آثَارهم فَرُبمَا ظن استقامة الْأُمُور بتمويه الخونة فأفضى بِهِ حسن الظَّن إِلَى فَسَاد مَمْلَكَته وهلاك رَعيته وَأَن ينتهز الْعَدو فرْصَة غفلته فيستثير عَن غوائل ضَرَره مَا عساه يصعب بعد أَن كَانَ سهل المرام ويقوى بعد أَن كَانَ ضَعِيف القوام فَإِن كبار الْأُمُور تبدأ صغَارًا قَالَ بهْرَام جور لَا شَيْء أضرّ على الْملك من استكفاء من لَا ينصح إِذا دبر واستخبار من لَا يصدق إِذا خبر

وَلم يكن فِي طلب الأجناد أَشد بحثا عَنْهَا من أردشير بن بابك فِي آل ساسان وَمن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي خلفاء الْإِسْلَام فَإِنَّهُ كَانَ علمهما بأحوال الْعَامَّة كعلمهما بأحوال الْخَاصَّة وعلمهما بِمن بعد عَنْهُمَا كعلمهما بِمن قرب مِنْهُمَا وَبِه استقامت سيرتهما وَظَهَرت حرمتهما وَإِذا كَانَ باحثا على الْأَخْبَار مطلعا على غوامض الْأَسْرَار جمع فِي الاستخبار بَين مَعْرُوف مجاهر يكون بِهِ فِي النَّاس محذورا وَبَين مَجْهُول مساتر يصير بِهِ واثقا خَبِيرا لَا يتعارفان فيتواطآن انْكَشَفَ لَهُ غطاء الْغَفْلَة وانجلت شبه الْحيرَة فساس الْأُمُور 56 آبثقته وبصيرته وحرس الرّعية بيقظته وَصدق عزيمته وتهيب أعوانه فعل الْخَيْر فاستقاموا وتجنبوا قبح المكاسب فأنصفوا ووثقت الرّعية بكف العوادي عَنْهُم فَأمنُوا وَإِذا أنس بمطالعة الْأَخْبَار استلذ غرائبها واستمد فوائدها وَقد قَالَ الْمَنْصُور رَضِي الله عَنهُ عجبت للسُّلْطَان الَّذِي لَا يتَّخذ بِقِرَاءَة الْأَخْبَار لهوا بِمَاذَا يلهو وللمدبر الَّذِي لَا يعلم مَا حدث فِي عمله كَيفَ يمْضِي تَدْبيره قَالَ بعض الْعلمَاء إِذا لَهَا السُّلْطَان عَن الْأَخْبَار وَلم يَله بهَا وَانْصَرف عَنْهَا وَلم ينْصَرف إِلَيْهَا فاسم الْعَجز أولى بِهِ من اسْم الحزم وَالتَّقْصِير عَلَيْهِ أغلب من الِاسْتِيفَاء وَجَهل الْوَاجِب أبين فِيهِ من علم الصَّوَاب وَيجب أَن تكون عنايته بأخبار من بعد عَن حَضرته كعنايته بأخبار من قرب مِنْهَا بل رُبمَا كَانَ أهم لِأَن بعد الدَّار يبسط أَيدي الظلمَة فَإِذا وَافق بعد دَارهم قلَّة الاستخبار عَن أَحْوَالهم أمنُوا فِي اتِّبَاع أهوائهم وَسَكنُوا إِلَى

الْغَفْلَة عَن مَذْمُوم أفعالهم فَكَانَت أَيْديهم مبسوطة فِي الرعايا وأهواؤهم مخلة فِي القضايا وَرُبمَا أفْضى ذَلِك إِلَى فسادهم فِي الطَّاعَة لقبح آثَارهم ومذموم أفعالهم فَإِن الْمُسِيء مستوحش والمهمل مسترسل فكم من عصيان كَانَ هَذَا بدأه وانقراض ملك كَانَ هَذَا بدره وَقد قيل لَيْسَ بَين الْملك وَبَين أَن يملك رَعيته أَو تملكه إِلَّا الحزم والتواني وَلَا يغترر بِمن سداده فِي حسن الثِّقَة بِهِ وَيتْرك الاستخبار عَن حَاله تعويلا على من يقدر من سداده فَرُبمَا يصنع فِي الأول ويغتر فِي الآخر فَإِن تقلب الزَّمَان يُغير أَهله فَرُبمَا أفسد الصَّالح وَأصْلح الطالح فَمَا تبقى الدُّنْيَا على حَالَة وَلَا تمنع من اسْتِحَالَة وَإِذا أخبر بمنكر لم يستعجل الْمُؤَاخَذَة وَالْإِنْكَار وَيثبت لكشفه حَتَّى يقف على حَقه من باطله فَمَا كل مخبر يصدق فِي 56 ب خَبره وَإِذا عرف بالأناة للكشف لم يخبر إِلَّا بِالصّدقِ وَلم يُعَاقب إِلَّا الْمُسْتَحق قَالَ الشَّاعِر

مراعاة أخبار البلاد المتاخمة وملوكها

(تأن وَلَا تعجل بلومك صاحبا ... لَعَلَّ لَهُ عذرا وَأَنت تلوم) // من الطَّوِيل // 3 - مُرَاعَاة أَخْبَار الْبِلَاد المتاخمة وملوكها وَلَئِن كَانَ من حُقُوق مَا استرعى من بِلَاده أَن يتعرف أَخْبَار أَعماله وعماله فَمن حُقُوق السياسة أَن يُرَاعى أَخْبَار مَا تاخمها من بِلَاد وملوك يتَّصل بِهِ خَيرهمْ وشرهم وَيعود عَلَيْهِ نَفعه وضرهم لِأَن الصّلاح وَالْفساد يسريان فِيمَا جاوراه وَرُبمَا روصد فاعتقل بالاهمال وعوجل بالاسترسال فيحم عَلَيْهِ الْأَعْدَاء ويحجم عَنهُ الْأَوْلِيَاء لِأَن للغفلات فرصا ينتهزها المستيقظ من اللاهي ويدركها المتحفظ من الساهي لِأَن الفرصة لمن واثبها بحزمه وسابقها بعزمه فليستدفع بَوَادِر الْغَفْلَة بالاستخبار ويتحذر مِنْهَا بالاستظهار وَلَا يغْفل فيستغفل ويهمل فيستعذر ليحرس ملكه ويحوط رَعيته فَإِنَّهُ لم تطل مُدَّة الْملك إِلَّا لمن يتيقظ ويتحفظ

حذر الملك قبول السعاية في أصحابه

وَقد ذكر الْأَوَائِل فِي مواعظ الْمُلُوك أَن الْملك تطول مدَّته إِذا كَانَ فِيهِ أَربع خِصَال إِحْدَاهَا أَن لَا يرضى لرعيته مَا يرضاه لنَفسِهِ وَالثَّانيَِة أَن لَا يسوف عملا يخَاف عاقبته وَالثَّالِثَة أَن يَجْعَل ولي عَهده من ترضاه رعاياه لَا من تهواه نَفسه وَالرَّابِعَة أَن يفحص عَن أَحْوَال رَعيته فحص الْمُرضعَة عَن مَنَام رضيعها 4 - حذر الْملك قبُول السّعَايَة فِي أَصْحَابه وَمِمَّا يَنْبَغِي للْملك أَن يحذرهُ قبُول السّعَايَة فِي أَصْحَابه فَذَلِك يوحش الناصح ويؤمن الخائن وَيفتح للسعادة أَبْوَاب الرشا وليعلم أَن السَّاعِي لم يحملهُ على سَعْيه إفراط نصحه لسلطانه وَإِنَّمَا يَفْعَله إِمَّا حسدا لمن سعى بِهِ وطلبا للتشفي بِهِ وَإِمَّا تعرضا للكسب بِهِ وَإِمَّا 57 آالتماسا للحظوة عِنْد السُّلْطَان فَإِذا شرع فِي السّعَايَة أعْطى الْملك الرِّشْوَة فَأدْخل عَلَيْهِ الشُّبْهَة حَتَّى يتَصَوَّر الْأمين بِصُورَة الخائن والمحسن بِصُورَة المسيئ فتقل ثقته بِأَصْحَابِهِ وَإِذا قلت ثقته بهم أوحشهم وَإِذا أوحشهم خافهم فَيكون إضراره بِمن سعى إِلَيْهِ أَكثر من إضراره بِمن سعى بِهِ وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (إياك ومهلك الثَّلَاثَة) قيل وَمَا مهلك الثَّلَاثَة

قَالَ (الَّذِي يسْعَى بأَخيه إِلَى سُلْطَانه فَيهْلك نَفسه وسلطانه وأخاه) وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (شَرّ النَّاس المثلث) يَعْنِي السَّاعِي قَالَ بعض البلغاء السَّاعِي كَاذِب لمن سعى إِلَيْهِ وخائن لمن سعى عَلَيْهِ وَوَقع الْمَنْصُور فِي رقْعَة منتصح تقربت إِلَيْنَا بِمَا باعدك من الله عز وَجل وَلَا ثَوَاب عندنَا لمن آثرنا عَلَيْهِ وَإِذا حسم قبُول السّعَايَة فِي أَصْحَابه أكذب السعاة وأخلص نيات الْوُلَاة وتصفح أَحْوَالهم بَدَلا من قبُول السّعَايَة فيهم وليوقظ عزمه فِي قلَّة الْغَفْلَة فيهم فَإِذا علمُوا أَنه لَيْسَ يخفي عَلَيْهِ من أفعالهم خافية أقلع الخائن عَن خيانته وازداد الناصح نعما فِي ولَايَته وَعدل عَن التكسب بهَا إِلَى مَا تستطاب جدواه وتحمد عقباه وَصلح بِهِ الْفَرِيقَانِ مَعَ استقامة الْملك وإخماد السّعَايَة

مراقبة أحوال النقود وأمر جبايتها

وَقيل انْظُر إِلَى المنتصح إِلَيْك فَإِن دخل من جِهَته مضار النَّاس فَلَا تقبل نصيحته وتحرز مِنْهُ وَإِن دخل من جِهَته الْعدْل وَالصَّلَاح فاقبلها واستشره 5 - مراقبة أَحْوَال النُّقُود وَأمر جبايتها وليعلم الْملك أَن الْأُمُور الَّتِي يعم نَفعهَا إِذا صلحت ويعم ضررها إِذا فَسدتْ أَمر النُّقُود من الدِّرْهَم وَالدِّينَار فَإِن مَا يعود على الْملك من نفع صَلَاحهَا لسعة دخله وَقلة خرجه أَضْعَاف 57 ب مَا يعود من نَفعهَا على رَعيته قيل فِي منثور الحكم من فرطات الْعَجز ترك الْأَفْضَل وَهُوَ مُبَاح فَإِن سامح فِي غشها وأرخص فِي مزج الْفضة بغَيْرهَا لم يَفِ نفع صَلَاحهَا بِضَرَر فَسَادهَا لِأَنَّهُ إِذا خلط الْفضة بِمِثْلِهَا وَجعل فِي كل عشرَة خَمْسَة خرقا وَخَمْسَة غشا وَأمر أَن تُؤْخَذ بِقِيمَة الْفضة كَانَ محالا كَمَا لَو رام أَخذ النّحاس بِالذَّهَب وَإِن رام أَن تُؤْخَذ بِقِيمَتِهَا لم يجد فِي ذَلِك نفعا وَكَأَنَّهُ غير مكيالا ووزنا مَعَ فَسَاد الْفضة وخسران الْعَمَل ثمَّ إِذا طَال مكثها وَكثر لمسها قبحت عِنْد النَّاس وتجنبوا قبض قبيحها وَرَغبُوا فِي طريها ومليحها وبهرج أَصْحَاب اللّبْس عَلَيْهَا بِضَرْب كثير الرش رُبمَا كَانَ أحسن من عَتيق تِلْكَ فتفسد النُّقُود ويتجنب النَّاس قبض الدَّرَاهِم وَيمْنَعُونَ من بيع الْأَمْتِعَة إِلَّا بِالْعينِ وَإِن كَانَ سليما وَإِن كَانَ كالورق فِي الْغِشّ عدل النَّاس عَن مطبوعها إِلَى الْفضة الْخرق وَالذَّهَب الْخَلَاص وَصَارَ أدخال النَّاس أصُول أَمْوَالهم واستحدثوا

لمعاملات المهن نوعا من غير النُّقُود المألوفة يدْفَعُونَ بِهِ الأقوات وينالون بِهِ الْحَاجَات وَبَطلَت معاملات النَّاس فانتهك المستور المرق وَلم تصل الْأَمْتِعَة والأقوات إِلَى أهل الْقُدْرَة وأرباب الْأَمْوَال الجمة فَعِنْدَ ذَلِك تَدعُوهُ الْحَاجة إِلَى تَغْيِير الضَّرْب فَإِن غير بِمثلِهِ كَانَت حَالهمَا وَاحِدَة وَكَانَ حكمه فِي الْمُسْتَقْبل حكمه فِي الأول وَإِذا عرف من السُّلْطَان تغير ضربه فِي كل عَام عدل النَّاس عَن ضربه إِلَى ضرب غَيره حذرا من الوضيعة والخسران وَكَانَ عدولهم إِلَى ضرب غَيره موهنا لسلطانه وَإِن كَانَ النَّقْد سليما من غش ومأمونا 58 أَمن تَغْيِير صَار هُوَ المَال المدخور فدارت بِهِ الْمُعَامَلَات نَقْدا وَنسَاء فَعم النَّفْع وَتمّ الصّلاح وَقد كَانَ المتقدمون يجْعَلُونَ ذَلِك دعامة من دعائم الْملك ولعمري إِن ذَلِك كَذَلِك لِأَنَّهُ القانون الَّذِي يَدُور عَلَيْهِ الْأَخْذ وَالعطَاء وَلست تَجِد فَسَاده فِي الْعرف إِلَّا مقترنا بِفساد الْملك فَلذَلِك صَار من دعائم الْملك وليعلم الْملك أَن من أَمْوَال السلطنة شَرْعِيَّة قد قدر الشَّرْع مقاديرها وَبَين وُجُوه مصرفها وَجعلهَا وفْق الْكِفَايَة وأغنى عَمَّا دَعَا إِلَى استزادة قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نزلت المعونة على قدر المؤونة)

فَلْيَكُن الْملك عَلَيْهَا مُقْتَصرا ولأمر الله تَعَالَى فِيهَا ممتثلا فَإِنَّهُ نَائِب عَن الْكِفَايَة فِيهَا زعيم بتولي مصالحهم بهَا فَإِن اتبع أمره فِي أَخذهَا وعطائها أجابت النُّفُوس إِلَى بذلها طَوْعًا وَلم يلتمسها إِلَّا مُسْتَحقّ وَكفى أَن لَا يُطَالب بالمحال كَمَا لم يَطْلُبهُ فَسلم دينه واستقام ملكه وَرَضي جنده وصلحت رَعيته وَإِن تجَاوز حكم الشَّرْع فِي طلب مَا لَا يسْتَحق نفرت مِنْهُ النُّفُوس فَلم يجب إِلَى بذله إِلَّا بالعنف الْخَارِج عَن قوانين السياسة وَعَاد بِالنَّقْصِ بالحقوق الْوَاجِبَة وانفتحت عَلَيْهِ المطامع فِي الْمُطَالبَة بِمَا لَا يجب كَمَا طَالب بِهِ لِأَن من جازف فِي الْأَخْذ جوزف فِي الطّلب وَمن ناصف نوصف فَلَا يَفِي بِزِيَادَة أَخذه بِزِيَادَة جزفه ثمَّ هُوَ بَين نفور رَعيته واشتطاط أعوانه وَلَيْسَ مَعَ هذَيْن ملك يسْتَقرّ فليحذر الْملك مِمَّا حذره الله من تحيف عباده وليمتثل أمره فِي مصَالح بِلَاده وليقم رَعيته مقَام عباده وحشمه اللائذين بِهِ وبكنفه والداخلين فِي كفَالَته فِي ارتياد موادهم وانتظام اكتسابهم وكف الْأَذَى عَنْهُم فهم من أمانات الله 58 ب الَّتِي استودعه حفظهَا وكفله الْقيام بهَا فَلَا يهمل مُرَاعَاة أَمَانَته وَلَا يغْفل عَن الْقيام بِحقِّهِ فيصيروا رعية قهر وفرية دهر يستنفد أَحْوَالهم تحيف السُّلْطَان وجوائح الزَّمَان فسيؤاخذ بهم مَعَ فَسَاد ملكه

قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته) وَكتب أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله إِن أسعد الرُّعَاة من سعدت بِهِ رَعيته وأشقاهم من شَقوا بِهِ وَإنَّك إِن ترتع يرتع عمالك فَيكون مثلك مثل الْبَهِيمَة رَأَتْ أَرضًا خضرَة ونباتا حسنا فرتعت تلتمس وَإِنَّمَا حتفها فِي سمنها

الاهتمام بأمن السبل والمسالك

وَكتب الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك بن مَرْوَان أَن يحملهُ على أَخذ أَمْوَال السوَاد فَكتب إِلَيْهِ لَا تكن على درهمك الْمَأْخُوذ أحرص مِنْك على درهمك الْمَتْرُوك وأبق لَهُم لحوما يعقدوا بهَا شحوما قَالَ وهب بن مُنَبّه أحسن النَّاس عَيْشًا من حسن عَيْش النَّاس فِي عيشه 6 - الاهتمام بأمن السبل والمسالك وليهتم الْملك كل الاهنمام بأمن السبل والمسالك وتهذيب الطّرق والمفاوز لينتشر النَّاس فِي مسالكهم آمِنين ويكونوا على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ مُطْمَئِنين وَلَا يقْتَصر على حماية مَا يستمده من بِلَاد وسواده فَلم يستقم أَمر بِلَاده كَانَت المسالك إِلَيْهَا مخوفة لِأَنَّهَا تفْتَقر إِلَى مجلوب إِلَيْهَا ومجتلب مِنْهَا ليكْثر جلبهم فِيمَا لَيْسَ لَهُم وتخصب بِلَادهمْ بِمَا لَيْسَ عِنْدهم فَيكون نفعهم عَاما

مداهنة الأعداء

وخصبهم دَارا وَيصير رفق السُّلْطَان بِهِ أعظم من رفق رَعيته وعقباه أَنْفَع من مَمْلَكَته لِأَنَّهُ لَيْسَ يعم صَلَاح إِلَّا ونصيبه مِنْهُ أَكثر لِأَن عوام الْأَمْوَال صادرة إِلَيْهِ وَصَلَاح الْجُمْهُور عَائِد عَلَيْهِ 59 أ 7 - مداهنة الْأَعْدَاء ليستعمل الْملك مداهنة الْأَعْدَاء قبل مكاشفتهم وليجعل محاربتهم آخر مكايدهم فَإِنَّهُ ينْفق فِي المكايد من الْأَمْوَال وَينْفق فِي الْمُحَاربَة من النُّفُوس وَلذَلِك قيل أوهن الْأَعْدَاء كيدا أظهرهم لعداوته قَالَ الشَّاعِر (وَالسّلم تَأْخُذ مِنْهَا مَا رضيت بِهِ ... وَالْحَرب يَكْفِيك من أنفاسها جرع) // من الْبَسِيط //

وليعلم أَنهم مِنْهُ على ثَلَاث مَرَاتِب لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ حكم فَلْيَكُن مَعَ من علا مِنْهُم وَتقدم على الملاطفة والملاينة وَمَعَ من دنا مِنْهُم وَتَأَخر على التطاول والمباشرة وَمَعَ من كافأ مِنْهُم ومايل على الْمُقَابلَة والمسالمة ليدوم السّكُون والدعة وتتم لَهُ السَّلامَة والاستقامة فقد قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء من عرف فضل من فَوْقه عرف فضل من دونه فَإِن جحد جحد

وَلَا يبتدي بالمنافرة مَا وجد مِنْهَا بدا وَإِذا ظفر بفرصة انتهزها مَا لم ينْقض بَينه وَبينهمْ عهدا فقد قيل فِي منثور الحكم غافص الفرص عِنْد إمكانها وكل الْأُمُور إِلَى أوليائها وَلَا تحمل نَفسك هم مَا لم يأتك وَلَا تحزن على مَا فاتك وَلَا تعدن وَعدا لَيْسَ فِي يدك وفاؤه وَلَا تَجِد فِي الْحِرْص تعش ذَا سرُور وَإِذا كاشفه الْعَدو بعد المساترة ونافره بعد المسالمة وتكافأت قوتاهما كَانَ الْحَال مُعْتَبرا بسيرتهما وهما فِيهِ على ثَلَاث أَحْوَال

أحداها أَن يكون الْملك أعدل من عدوه وَأحسن سيرة فِي رَعيته فليثق الْملك بعدله أَنه عونه ورعيته أَنهم أنصاره وليستعن على عدوه بجوره فَإِنَّهُ موهنه وبرعيته فَإِنَّهُم خاذلوه وَيَكُونُونَ أعوان الْملك عَلَيْهِ وَيقدم على مقارعته فَإِن الرَّجَاء فِي ظفره أقوى مَا لم يغلب قدر فقد قيل فِي منثور الحكم الْعدْل أقوى جَيش 59 ب والأمن أهنأ عَيْش وَالْحَال الثَّانِيَة أَن يكون الْعَدو أعدل من الْملك وَأحسن سيرة فِي رَعيته فليخش على نَفسه من عدل عدوه أَنه عونه وَمن رَعيته أَنهم أنصاره وليحذر جور نَفسه فَإِنَّهُ موهنه وَمن تنكر رَعيته فَإِنَّهُم خاذلوه ويحجم عَن مقارعته فالرجاء فِي ظفر عدوه أقوى مَا لم يغلب قدر ويدفعه بالمقاربة والحذر وَقد قيل

من أعرض عَن الحذر والاحتراس وَبنى أمره على غير أساس زَالَ عَنهُ الْعِزّ وَاسْتولى عَلَيْهِ الْعَجز فَصَارَ من يَوْمه فِي نحس وَمن غده فِي لبس وَالْحَال الثَّالِثَة أَن يكون الْملك وعدوه متكافئين فِي الْعدْل والسيرة فَيعْتَبر أَمرهمَا بِحَال الزَّمَان والأعوان فَإِن كَانَ الزَّمَان صَالحا فأصلحهما أعوانا أقوى رَجَاء للظفر لِأَن صَلَاح زمانهم مُنَاسِب لصلاحهم فَكَانَ عونا مَا لم يغلب قدر وَإِن كَانَ الزَّمَان فَاسِدا فأفسدهما أعوانا أقوى رَجَاء للظفر لِأَن فَسَاد زمانهم مُنَاسِب لفسادهم فَكَانَ عونا لَهُم مَا لم يغلب قدر فَيكون الْإِقْدَام من الراجي والحذر من الْخَائِف فَإِن اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي الصّلاح وَالْفساد اعْتبر بالجد والهزل فِي الزَّمَان والأعوان فَإِن كَانَ زمَان جد فالرجاء لأهل الْجد أقوى وَإِن كَانَ زمَان هزل فالرجاء لأهل الْهزْل أقوى اعْتِبَارا بمناسبة الزَّمَان لأَهله مَا لم يغلب قدر فَإِن اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي الْجد والهزل فالبادي بالمنافرة بارع والباغي مصروع مَا لم يغلب قدر قيل فِي منثور الحكم من سل سيف الْبَغي اغمده فِي رَأسه وَمن أسس أساس السوء أسسه على 60 أنفسه

قَالَ الشَّاعِر (وَالْبَغي يصرع أَهله ... وَالظُّلم مرتعه وخيم) // من الْكَامِل //

مساواة الملك نفسه مع الرعية

8 - مُسَاوَاة الْملك نَفسه مَعَ الرّعية وَيَنْبَغِي للْملك وَإِن كَانَ بِالْملكِ مفضلا مُعظما وبالسلطان مُطَاعًا مقدما أَن يُسَاوِي بَين نَفسه ورعيته فِي الْحق لَهُم وَعَلَيْهِم وَلَا يقدم شريفا على مشروف وَلَا يمايل فِيهِ قَوِيا على ضَعِيف ويعدل بَين جمعهم فِي الْقَضَاء وَيجْرِي الحكم على الْخَاصَّة والعامة بالسواء فَإِن الله تَعَالَى قد سوى بَين عباده من غير تَفْضِيل وماثل فِيهِ بَين الْعَزِيز والذليل فَإِذا اقْتدى فِيهِ بأَمْره وَقَامَ فِيهِ بِحقِّهِ وأنصف فِيهِ من نَفسه وحسم مواد الظُّلم وكف عوادي الْغَلَبَة وتناصف النَّاس إِذا أنصفوا رغبا ورهبا وَقد قيل فِي منثور الحكم من جارت قَضيته ضَاعَت رَعيته وَسَأَلَ ملك ناسكا عَن الْإِخْلَاص فَقَالَ الناسك ثَلَاث أعدل فِي الْقَضِيَّة واقسم بِالسَّوِيَّةِ واعدد نَفسك وَاحِدًا من الرّعية

وَقَالَ الْوَلِيد بن عبد الْملك لِأَبِيهِ يَا أبه مَا السياسة قَالَ هَيْبَة الْخَاصَّة مَعَ صدق محبتها واستمالة قُلُوب الْعَامَّة بالإنصاف لَهَا وَاحْتِمَال هفوات الصَّنَائِع فَإِن شكرها لأَقْرَب الْأَيْدِي لَهَا ويتعهد حَال الْفَقِير مِنْهُم بِالْبرِّ وَالصَّدَََقَة ويراعي خلة الْكَرِيم مِنْهُم بالرفد والصلة فَإِن إحسانه إِلَى الْفَقِير يشكره عَلَيْهِ الْأَغْنِيَاء فلقل شكر وقف على الشاكر إِلَّا تعداه ولقل بر اخْتصَّ بالمبرور إِلَّا تخطاه كَانَ الموبذان إِذا دخل على أنو شرْوَان يَقُول يَا ملك استدم النعم بالْعَطْف على الرّعية وأهن طَعَامك بإشباع

وقيل في منثور الحكم

60 - ب الجائع وَرَاء بابك وأنصف النَّاس من نَفسك وَأعْطِ الْحق مِنْك يتعاطاه النَّاس وَرَاء بابك وَاحْذَرْ النِّسَاء وَلَا تفتح للسعاة طَرِيقا وَقيل فِي منثور الحكم بالراعي تصلح الرّعية وبالعدل تملك الْبَريَّة وَيَنْبَغِي للْملك أَن يُمَيّز أَخْبَار رَعيته فيخصهم بالإكرام والتقريب ويقمع أشرارهم بالإبعاد والتأديب لِيَرْغَبُوا فِي منَازِل الأخيار ويقلعوا عَن أَخْلَاق الغاغة الأشرار فَإِن لم يَكُونُوا على الْخَيْر مطبوعين صَارُوا بِهِ متطبعين فقد يضعف الطَّبْع بالتطبع وَإِن لم يزل وتتغير الْأَخْلَاق بالتصنع وَإِن لم تحد فقد قيل لَيْسَ فِي الطَّبْع أَن يكون مَا لَيْسَ فِي التطبع وَفرق مَا بَينهمَا إِن الطَّبْع جاذب متفاعل والتطبع مجذوب مفتعل تتفق نتائجها مَعَ التَّكَلُّف ويفترق تأثيرها مَعَ الاسترسال فَيظْهر الطَّبْع وَيَزُول التطبع

وتعليل هَذَا الْفرق يَقْتَضِي أَن يَأْمَن أهل الْوَرع والسلامة خوف عُقُوبَته اكْتِفَاء بزواجر طباعه فِي الْخَيْر وَيخَاف أهل الْبذاء والزعارة بادرة سطوته ليَكُون الْخَوْف زاجرا لطباعهم عَن الشَّرّ فيشاكل الْفَرِيقَيْنِ فِي طلب الْخَيْر وتوقى الشَّرّ طبعا وتطبعا فَإِنَّهُ مَنْدُوب إِلَى صَلَاح المهج وتقويم العوج قَالَ بعض الْحُكَمَاء انقياد الأخيار بِحسن الرَّغْبَة وانقياد الأشرار بطول الرهبة

وَوَقع أنوشروان إِلَى عماله تفقدوا أُمُور الرّعية فسدوا فاقة أحرارها وامنعوا بطر أشرارها فَإِنَّمَا يصول الْكَرِيم إِذا جَاع واللئيم إِذا شبع وَقيل من أبطرته النِّعْمَة وقره زَوَالهَا قَالَ الشَّاعِر 61 آ (إِذا كُنْتُم للنَّاس فِي الأَرْض سادة ... فسوسوا كرام النَّاس بالحلم والبذل) (وسوسوا لئام النَّاس بالذل وَحده ... جَمِيعًا فَإِن الذل يصلح للنذل) // من الطَّوِيل //

ويراعي أهل النّسك وَالصَّلَاح يُؤَدِّي حق الله تَعَالَى فيهم وَحقّ نَفسه فِي موافقتهم يجل أقدارهم ويعظم أخطارهم لأَنهم أهل الْآخِرَة الَّتِي هِيَ أشرف من الدُّنْيَا دَارا وأعز مِنْهَا جوارا ليعترف لله بِحُقُوق أوليائه وللدين بِحُقُوق زعمائه فَإِن من الدّيانَة إعظام أهل الدّين وَأَن يرجع إِلَيْهِم فِي مَا أمروا بِهِ ونهوا عَنهُ وليصلح من دينه مَا اخْتَلَّ وَمن دُنْيَاهُ مَا اعتل فَإِنَّهُم لَا يأمرون إِلَّا بِطَاعَة وَلَا ينهون إِلَّا عَن مَعْصِيّة رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (استرشدوا الْعَاقِل ترشدوا وَلَا تعصوه فتندموا)

وَأَن يتَقرَّب إِلَيْهِم بِطَاعَة الله فِي خلقه وَالْقِيَام فيهم بِحقِّهِ ليكونوا لَهُ حزبا وعَلى أعدائه إلبا يملك بهم الْقُلُوب ويستدفع بهم الخطوب فقد قيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الرجل يعْمل الْعَمَل لله تَعَالَى وَيُحِبهُ للنَّاس فَقَالَ (تِلْكَ عَاجل الْبُشْرَى إِذا أردتم أَن تعلمُوا مَا للْعَبد عِنْد الله تَعَالَى فانظروا مَا يتبعهُ من ثَنَاء النَّاس) وَلَا يَنْبَغِي أَن يتَصَوَّر فِي قوم مِنْهُم رِيَاء أَو سمعة فيسقطه بهَا فيسري ذَلِك إِلَى جَمِيعهم فَإِن التظاهر بالصلاح أجل من التظاهر بالطلاح وَقد أعْطى من الأحماد بمظاهرته شطرا واستبقى مِنْهُ فِي الْبَاطِن شطرا وهما يتنافران كتنافر الطَّبْع والتطبع حَتَّى يغلب أَحدهمَا على الآخر فَتَصِح سَرِيرَته فَيسلم أَو تفتضح عَلَانِيَته فيسقم فَإِن تَدْلِيس الرِّيَاء لَا يسْتَمر حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى غَايَة من صَلَاح أَو افتضاح كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُفْضِي مَرضه إِلَى سَلامَة أَو عطب فقد قيل قيل من طمع أَن يذهب على 61 ب النَّاس عَيبه فقد جهل

قَالَ الشَّاعِر (وَمن يبتدع مَا لَيْسَ من خيم نَفسه ... يَدعه ويغلبه على النَّفس خيمها) // من الطَّوِيل // فليعمل على الظَّاهِر لمن تظاهر بالصلاح فَلَيْسَ للنَّاس من النَّاس إِلَّا ظواهرهم ويتولى الله سرائرهم

وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (النَّاس كأسنان الْمشْط وَإِنَّمَا يتفاضلون بالعلانية) فليعظم حق علانيتهم وليكل ضمائرهم إِلَى عواقبها فيستجلي عَن أحد الْأَمريْنِ فقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (المتشبع بِمَا لَا يملك كلابس ثوبي زور) يَعْنِي بالمتشبع بِمَا لَا يملك المتظاهر بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَقَوله (كلابس ثوبي زور) هُوَ الَّذِي يلبس ثِيَاب الصلحاء وَيفْعل أَفعَال الطلحاء روى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ

رعاية العلم ومراعاة العلماء

مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاس وهم جُلُوس فَقَالَ (أَلا أخْبركُم بِخَيْرِكُمْ من شركم) فَسَكَتُوا فَقَالَ ذَلِك ثَلَاث مَرَّات فَقَالَ لَهُ رجل بلَى يَا رَسُول الله فَقَالَ (خَيركُمْ من يُرْجَى خَيره ويؤمن شَره وشركم من لَا يُرْجَى خَيره وَلَا يُؤمن شَره) 9 - رِعَايَة الْعلم ومراعاة الْعلمَاء وَأما الْعلم فَيَنْبَغِي للْملك أَن يعرف فَضله ويستبطن أَهله لأَنهم للدّين أَرْكَان وللشرع أعوان وَالدّين أس الْملك ونظامه وَقد قَامُوا فِيهِ بِحقِّهِ ونابوا عَن الْملك فِي حفظه ولولاهم لما عرف حق أَمر من باطله وَلَا صِحَة حكم من فاسده فَلْيحْفَظ الْملك نظام ملكه بمراعاتهم وليستظهر لدينِهِ وَملكه باستبطانهم ليَكُون بِالْعلمِ موسوما وَإِلَيْهِ مَنْسُوبا فَإِن الْإِنْسَان مَوْسُوم بسيما من قَارب ومنسوب إِلَيْهِ أفاعيل من صَاحب وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْمَرْء على دين خَلِيله فَلْينْظر أحدكُم من يخالل) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْمَرْء مَعَ من أحب)

وَقَالَت الْحُكَمَاء يظنّ بِالْمَرْءِ مَا ظن بقرينه وَقد يخص الْمُلُوك من هَذَا بِمَا يباينون 62 آبه من سواهُم لخفاء أَحْوَالهم عَن الرّعية فيقضون عَلَيْهِم بِمَا علموه من أَحْوَال بطائنهم فَإِن استبطنوا الْعلمَاء قضوا عَلَيْهِم بِالْعلمِ وَإِن جهلوا وَإِن استبطنوا الْجُهَّال قضوا عَلَيْهِم بِالْجَهْلِ وَإِن علمُوا وليصر بمكانرتهم مستظهرا وبمذاكرتهم مستبصرا وهم أَنْفَع لَهُ فِي دينه ودنياه لأَنهم فِي الدّين دعاة وَفِي الدُّنْيَا هداة مَعَ مَا ينشر من الْفساد بإهمال الْعلمَاء وَترك مُرَاعَاتهمْ وَذَلِكَ أَنهم رُبمَا بعث بَعضهم قلَّة الْمَادَّة وَضعف الْحَال على مُسَامَحَة النَّفس والتبذل وارتكاب الشُّبْهَة فَإِذا وَافق ذَلِك إِعْرَاض السُّلْطَان عَنْهُم فتحت آثَارهم عِنْد الْعَامَّة وتقاصرت رتبهم عِنْد الْخَاصَّة فهجروا هجر الْأَعْدَاء وزجروا زجر السُّفَهَاء ثمَّ سرى ذَلِك فِي خواصهم ومتصونيهم وَعم فِي خيارهم ومتدينيهم لِأَن نقص الْجِنْس يسري فِيهِ فَذَهَبت بهجة الْعلم وبهاؤه وَقل طلابه وعلماؤه وَصَارَ ذَرِيعَة إِلَى انقراضه ودراسته ثمَّ لَا يبعد أَن يظْهر أهل نحل مبتدعة ومذاهب مخترعة يزوقون كَلَامهم مموها ويزخرفون مذهبا مشوها لِأَن مَا صَحَّ من الْمذَاهب قد اعْتقد وَمَا سلم مِنْهَا قد اسْتَقر وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خير الْأُمُور عوازمها وَشر الْأُمُور محدثاتها) فهم لَا يستحدثون إِلَّا مَا ابتدعوه وَلَا ينصرونه إِلَّا بِمَا اخترعوه

يعدلُونَ بِهِ عَن ظَاهر جلي إِلَى بَاطِن خَفِي يجلبون بِهِ قُلُوب الأعوام ويعتضدون على نصرته بالغاغة الأشرار فيشعرهم أَنهم أظهرُوا لَهُم الْحق بعد كمونه وأوصلوهم إِلَى مَا اسْتَأْثر الله بِهِ دينه فيصيبوا إِلَيْهِم الغر المختدع ويميل مَعَهم الْجَاهِل المتبع إِلَى أَن يتكاثر جمعهم بخلابة كَلَامهم ولطف بيانهم 62 ب مَعَ أَن لكل جَدِيد لَذَّة وَلكُل مستحدث صبوة وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن من الْبَيَان لسحرا) وَقَالَ (إِن أخوف مَا أَخَاف على أمتِي مُنَافِق عليم اللِّسَان) فَتَصِير الْبدع حِينَئِذٍ فَاشِية ومذاهب الْحق واهية ثمَّ يُفْضِي بهم الْأَمر إِلَى التحزب ويؤول إِلَى التعصب لِأَن لكل مَذْهَب شعارا وَلكُل شعار أنصارا وَلكُل أنصار صولة وَلكُل صولة دولة فَإِذا رَأَوْا ظُهُور شعارهم وَكَثْرَة أنصارهم داخلهم عزة الْقُوَّة ونخوة الْكَثْرَة فتضافر جهال نساكهم وفسقة عُلَمَائهمْ بالميل إِلَى مخالفتهم فَإِذا استتب ذَلِك لَهُم رابحوا السُّلْطَان فِي رياسته وقبحوا عِنْد الْعَامَّة جميل سيرته فَرُبمَا انفتق مِنْهُ مَا لَا يرتتق فَإِن كبار الْأُمُور تبدو صغَارًا وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (أهلك أمتِي رجلَانِ عَالم متهتك وجاهل متنسك)

وَسُئِلَ عَن شرار الأشرار فَقَالَ (شرار الْعلمَاء) وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَصم ظَهْري رجلَانِ ناسك جَاهِل يَدْعُو إِلَى الْجَهْل بنسكه وعالم فَاسق يَدْعُو إِلَى الْفسق بِعِلْمِهِ وَقد قَالَ الْمَنْصُور فِي عَهده إِلَى ابْنه وكل همومك بأمورك وتفقد الصَّغِير بعد الْكَبِير وَخذ أهبة الْأَمر قبل حُلُوله فَإِن ثَمَرَة التواني الإضاعة وَكن عِنْد رَأس أَمرك لَا عِنْد ذَنبه فَإِن الْمُسْتَقْبل لأَمره سَابق والمستدبر لَهُ مَسْبُوق

قَالَ الشَّاعِر (إِن للدهر صولة فاحذرنها ... لَا تبيتن قد أمنت الدهورا) (شط وصل الَّذِي تريدين مني ... وصغير الْأُمُور يجني الكبيرا) // من الْخَفِيف // وَهَذَا أَمر يجب على الْملك مراعاته لما فِيهِ من حراسة الدّين وَحفظ المملكة وحسم ذَلِك أَن يُرَاعِي الْعلم وَأَهله وَيصرف إِلَيْهِم حظا من عنايته 63 آويعتمد أهل الْكِفَايَة مِنْهُم بالتقريب والصيانة وَأهل الْخلَّة مِنْهُم بِالْبرِّ والمعونة ليَكُون الْعلم بِهِ أنشر والتوفر عَلَيْهِ أَكثر وَالنَّاس لَهُ أشكر فَفِي ذَلِك بهاء الْملك وإعزاز الدّين وخلود الذّكر

وَقد قيل إِن من إجلال الشَّرِيعَة أَن يجل أهل الشَّرِيعَة ليَكُون الْمَعْرُوف من شيمه والمألوف من أخلاقه أَنه يكافيء المحسن بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ ليألف النَّاس الْإِحْسَان رَغْبَة فِي الْجَزَاء من غير أَن يَجْعَل لجائزته حدا ولصلته قدرا فَإِن ذَلِك أبسط للأمل فِيهِ وَلَا يعرف مِنْهُ فِي الْمُسِيء شِيمَة مألوفة فِي عَفْو وَلَا عُقُوبَة لِأَن الْمُسِيء إِن عرف مِنْهُ الْعَفو اجترأ وَإِن عرف مِنْهُ الْعقُوبَة قنط وَإِن لم يعرف مِنْهُ وَاحِدًا مِنْهُمَا كَانَ على رَجَاء من عَفوه وَخَوف من عُقُوبَته فَإِن ذَلِك أبلغ فِي تأديبه ومصلحته فَإِن رَآهُ للعفو أَهلا عَفا عَنهُ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عَفْو الْملك بَقَاء الْملك) وَإِن رَآهُ للعقوبة أَهلا مُسْتَحقّا عاقبه أدبا لَهُ لَا غَضبا عَلَيْهِ قَالَ أنوشروان إِنِّي بلغت هَذِه الرُّتْبَة بثماني خِصَال وَذَلِكَ

أَنِّي لم أهزل فِي أَمر وَلَا نهي قطّ وَلم أخلف فِي وعد وَلَا وَعِيد قطّ وَوليت للكفاية وَأثبت للعناء لَا للهوى وعاقبت للأدب لَا للغضب وأودعت فِي قُلُوب الرّعية شدَّة الْمحبَّة من غير جرْأَة وَقُوَّة الهيبة من غير ضغينة وعممت بالفوت وحذفت الفضول وَهَذَا أصح سيرة سَار بهَا ملك فِي سياسة ملكه وتهذيب دولته

قَالَ النُّعْمَان بن الْمُنْذر وَهُوَ ملك الْعَرَب (تَعْفُو الْمُلُوك عَن الْعَظِيم ... من الذُّنُوب لفضلها) (وَلَقَد تعاقب فِي الْيَسِير ... وَلَيْسَ ذَاك لجهلها) (إِلَّا ليعرف فَضلهَا ... وَيخَاف شدَّة نكلها) // الْكَامِل // 63 ب وَلَا يعلن عُقُوبَة من لم يعلن بِذَنبِهِ وَيجْعَل لذنب السِّرّ عُقُوبَة السِّرّ ولذنب الْعَلَانِيَة عُقُوبَة الْعَلَانِيَة لِأَن عُقُوبَة الذَّنب بحسبها والمقابلة فِي الْجَزَاء مُعْتَبرَة لتَكون أشباها لَهَا وَلَا يُعَاقب بِالظَّنِّ حَتَّى يستيقن الذَّنب فَإِن أَكثر الظنون كَاذِبَة فَإِن عَاجل بالعقوبة وَضعهَا فِي غير حق وجنى على غير مُسْتَحقّ فَصَارَ الذَّنب مُتَوَجها الله واللوم عَائِدًا عَلَيْهِ

قَالَ الشَّاعِر (إِذا أَنْت لم تَبْرَح تظن وتقتضي ... على الظَّن أردتك الظنون الكواذب) // من الطَّوِيل // وليعلم الْملك أَن الذَّم فِي الظُّلم بِقدر الْحَمد فِي الْعدْل والزهد فِي ولَايَة الظَّالِم بِقدر الرَّغْبَة فِي ولَايَة الْعَادِل وكل مَذْمُوم ممقوت وكل مَحْمُود مَحْبُوب والممقوت مباعد والمحمود مساعد وناهيك بطرفيهما خيرا أَو شرا وبعقباهما نفعا وضرا وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ

الإحسان إلى الرعية

(إِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا جعل لَهُ واعظا من نَفسه) فَيَنْبَغِي للْملك أَن يخْتَار لنَفسِهِ الرَّغْبَة فِي أَيَّامه وَالْحَمْد لسيرته بتسليط الْعدْل على ملكه وتحكيم الدّين على سُلْطَانه قَالَ الشَّاعِر (وَمَا الْمَرْء إِلَّا حَيْثُ يَجْعَل نَفسه ... فَفِي صَالح الْأَخْلَاق نَفسك فَاجْعَلْ) // من الطَّوِيل // 10 - الْإِحْسَان إِلَى الرّعية وليحسن إِلَى رَعيته إِحْسَان من يُؤَدِّي حق الله فيهم وَيملك بِهِ خَالِصَة قُلُوبهم فَإِنَّهُ إِن قدر على ملكة أَجْسَادهم بسلطانه فَلَيْسَ يقدر على ملكة قُلُوبهم إِلَّا بإحسانه

وَقيل قُلُوب الرّعية خَزَائِن ملكهَا فَإِن أودعها من شَيْء فَليعلم أَنه فِيهَا 64 آ وَقيل من خَافَ إساءتك اعْتقد مساءتك فَإِن استقامت لَهُ ظواهر رَعيته وَأَقَامُوا على أَحْكَام طَاعَته لم يفتش سرائرهم وَلم يؤاخذهم بِمَا يخفونه فِي ضمائرهم فَإِن ضمائر الْقُلُوب لَا يُؤَاخذ بهَا إِلَّا علام الغيوب وَمَتى تكلّف ذَلِك كثر ارتيابه وَقلت ثقته وَلم يقف على صَحِيحه من فاسده وَالْتمس من العناء المضاع مَا هُوَ غنى عَنهُ واستفسد من قُلُوب الأعوان مَا هُوَ حذر مِنْهُ وَعدل عَمَّا يستصلح بِهِ السرائر من الْإِحْسَان إِلَى مَا يستفسد الظَّوَاهِر من المكاشفة

وَحكى اليزيدي أَن كسْرَى قباذ رفع إِلَيْهِ رجل من أَصْحَابه أَن فِي بطانة الْملك جمَاعَة قد فَسدتْ نياتهم وخبثت ضمائرهم وَقد هموا بِمَا لم يَفْعَلُوا وهم غير مأمونين على الْملك فَوَقع أَنا ملك الأجساد لَا النيات وَأحكم بِالْعَدْلِ لَا بالرضى وأفحص عَن الْأَعْمَال لَا عَن السرائر قَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا أَن الْوُجُوه لَا تشبه بَعْضهَا بَعْضًا كَذَلِك الْقُلُوب لَا يشبه بَعْضهَا بَعْضًا ليكن الْملك بالظلم عسوفا وبالمظلوم رؤوفا لَا يغلق عَن المتظلمين بَابا وَلَا يضيق عَلَيْهِم حِجَابا فَإِن فِي عوادي النُّفُوس سرا لَا

يكفه إِلَّا الحذر وَلَا خير فِي ملك لَا يتناصف أَهله فَإِن أهملوا ارتبعوا وَإِن خَافُوا ارتدعوا فليوقظ عزمه فِي تصفح الْمَظَالِم وإنصاف الْمَظْلُوم من الظَّالِم ليَكُون آمرا بِالْعَدْلِ كَمَا كَانَ بِهِ مَأْمُورا وزاجرا عَن الظُّلم كَمَا كَانَ عَنهُ مزجورا فَإِن مُرَاعَاة الْمَظَالِم من قَوَاعِد السياسة 64 ب فِي انتظام الْملك ومصالح الرعايا حكى أَن بعض الْمُلُوك ذهب سَمعه فَبكى وَقَالَ لم أبك من ذَهَابه إِلَّا لِأَنِّي كنت أسمع ظلامة المتظلم فأنصفه وَقد صرت لَا أسمعها وَأَنا أعتاض عَن ذَلِك ببصري وَقد حرمت لِبَاس الْحمرَة إِلَّا على متظلم لأعْلم بِحَالهِ إِذا رَأَيْت لِبَاسه فأنصفه فَلَا خير فِي ملك لَا ينصف الرّعية وَلَا تنتصف بِهِ الرّعية وَسن أردشير بن بابك فِي ملكه وَعمل بِهِ أَكثر وَلَده من بعده أَن يجلس فِي يَوْم النيروز جُلُوسًا عَاما للخاصة والعامة لِيَتَقَدَّم الْخَاصَّة للتهنئة ويعقبهم الْعَامَّة للمظالم فَإِذا وصلت إِلَيْهِ رقاعهم جمعهَا وميزها فَإِن كَانَ التظلم فِيهَا من غَيره نظر فِيهِ بِنَفسِهِ وأوصل المتظلم إِلَى حَقه وَإِن كَانَ التظلم مِنْهُ قَامَ مَعَ خَصمه وَجَثَا بَين يَدي الموبذ وَقَالَ أَيهَا الموبذ مَا من ذَنْب أعظم عِنْد الله من ذَنْب الْمُلُوك وَإِنَّمَا خولكها الله تَعَالَى برعاياها لتدفع عَنْهَا الظُّلم وتذب عَن بَيْضَة الْملك جور

الجائرين وظلم الظَّالِمين فَإِذا كَانَت هِيَ الظالمة الجائرة فَحق لمن دونهَا أَن يجور وَيظْلم ومجلسي هَذَا مِنْك وَأَنا عبد ذليل يشبه مجلسك من الله تَعَالَى غَدا فَإِن آثرت الله تَعَالَى آثرك وَإِن آثرت الْملك عذبك فَيَقُول لَهُ الموبذ إِن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ سَعَادَة عباده اخْتَار لَهُم خير أهل أرضه وأجرى على لِسَانه مَا أجْرى على لسَانك ثمَّ ينظر فِي أمره مَعَ خصومه بِالْحَقِّ وَالْعدْل فَإِن صَحَّ على الْملك شَيْء أَخذه بِأَدَائِهِ وَإِلَّا وكل بِمن ادّعى عَلَيْهِ بَاطِلا ونادى عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من أَرَادَ شين 65 آالملك والمملكة والقدح فيهمَا بِالْبَاطِلِ ثمَّ يقوم أردشير فيحمد الله تَعَالَى وَيَضَع التَّاج على رَأسه وَيَقُول لأهل بَيته وخاصته

إِنِّي لم أبدأ بنفسي فأنصفت مِنْهَا إِلَّا لِئَلَّا يطْمع أحد فِي حيف فَمن كَانَ قبله حق فَليخْرجْ إِلَى خَصمه مِنْهُ فَهَذِهِ السِّيرَة أبقى فِيهَا لِلْعَقْلِ وَتفرد فِيهَا بالسياسة من كَانَ الله تَعَالَى أمره والوعيد زاجره

فعله للخير دائما

11 - فعله للخير دَائِما وَليكن من دأبه فعل الْخَيْر إِمَّا ابْتِدَاء من نَفسه أَو اقْتِدَاء بالأخيار ليَكُون فِي الْخَيْر تَابعا ومتبوعا وَفِي الْعَمَل بِهِ حامدا ومحمودا فقد قيل النَّاس فِي الْخَيْر على أَرْبَعَة أَقسَام مِنْهُم من يَفْعَله ابْتِدَاء وَمِنْهُم من يَفْعَله اقْتِدَاء وَمِنْهُم من يتْركهُ حرمانا وَمِنْهُم من يتْركهُ اسْتِحْسَانًا فَمن يَفْعَله ابْتِدَاء فَهُوَ كريم وَمن يَفْعَله اقْتِدَاء فَهُوَ حَكِيم وَمن يتْركهُ حرمانا فَهُوَ شقي وَمن يتْركهُ اسْتِحْسَانًا فَهُوَ ردي ليكن مَا يخلفه الْملك من جميل الذّكر وَحسن السِّيرَة إِمَامًا يَقْتَدِي بِهِ

الأخيار ومثالا يزدجر بِهِ الأشرار فَيكون بِالْحَمْد مَذْكُورا وعَلى الْخَيْر مشكورا قد أرشد بعد رشاده وسدد بعد سداده فسعد بِعَمَلِهِ حَيا ومفقودا وَصَارَ بِعَمَل غَيره مأجورا ومحمودا فَإِن ذَلِك أنفس ذخائره يَوْم معاده وأنفع مَا يخلفه لمن اقْتدى بِهِ فَخير النَّاس أنفعهم للنَّاس أمده الله عز وَجل بتوفيقه وتسديده وتكفل بمعونته وتأييده وَكَانَ لَهُ على الْخَيْر ظهيرا مرشدا وعَلى الْعدْل معينا مسعدا 65 ب وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم

§1/1