تسهيل المناسك

عبد الكريم بن صنيتان العمري

مقدمة

مقدمة ... تسهيل المناسك تأليف: عبد الكريم بن صنيتان العمري بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شرع الحجَّ إلى بيته الحرام، وجعله أحد أركان الإسلام، ونهى الحاج عن ارتكاب المعاصي والمخالفات والآثام، والصلاة والسلام على سيد الأنام، أفضل من صلّى وصام، وأدى مناسك الحج على الكمال والتمام، وعلى آله وأصحابه الأخيار الكرام، ومن تبعهم بإحسانٍ ما تعاقبت الليالي والأيام. أما بعد: فإنَّ الحج عبادة عظيمة الأجر والثواب، تجمع بين جهد البدن وإنفاق المال، ولذلك كان جزاؤها مغفرة الذنوب والسيئات، والتجاوز- من الله تعالى- عمّا سلف من التقصير والهفوات. روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه.

وقد اعتنى العلماء الأخيار من سلف هذه الأمة في توضيح أحكامه، وجمعها وتدوينها في أمهات كتب الفقه، أو في مؤلفات مستقلة، عرفت بـ (كتب المناسك) . وتوالت المؤلفات في سائر العصور، تبيّن مسائل هذا الركن العظيم، وتشرحها وتدعمها بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، ليكون المسلم على بصيرة وبيّنة من دينه، وهو يؤدي مناسك حجه. وهذه رسالة مختصرة، أحببتُ أن أسهم فيها بإيراد أحكام الحج على سبيل الاختصار، وصياغتها بأسلوب سهلٍ ومبسّط، انتقيتها من كتب مناسك العلماء المتقدمين، وفضلائهم المعاصرين، وأسميتها: "تسهيل المناسك ".

ورتبت هذه الرسالة، على تمهيدٍ، وعشرة مباحث، وخاتمة. التمهيد: في فضائل عشر ذي الحجة. المبحث الأول: فرض الحج وخطر التهاون عن أدائه. المبحث الثاني: فضله وعظيم ثوابه. المبحث الثالث: تنبيهات وآداب. المبحث الرابع: المواقيت الزمانية والمكانية. المبحث الخامس: الإحرام ومحظوراته وأعمال العمرة. المبحث السادس: أعمال الحج. المبحث السابع: يوم عرفة. المبحث الثامن: أعمال يوم النحر. المبحث التاسع: أيام التشريق. المبحث العاشر: ختام أعمال الحج. خاتمة: زيارة المدينة النبوية.

والله أسأل أن يجعل فيه النفع والفائدة، ويكتب لي فيه الأجر، ويرزقنا- جميعاً- الإخلاص ني الأقوال والأعمال، ويوفقنا لكريم السجايا والخصال، ويهدينا طريق الفلاح والسعادة، وينير لنا سبيل الطاعة والعبادة، ويختم للجميع بالخاتمة الحسنة، إنه قريب سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً. وكتبه أفقر العباد، إلى الملك الجواد أبو وائل، عبد الكريم بن صنيتان العمري غرة شهر ذي القعدة 1421 هـ المدينة النبوية

تمهيد

تمهيد فضائل عشر ذي الحجة يقول الله تعالى في كتابه الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1- 3] أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات في مستهل هذه السورة،- ليؤكد المعنى، ويُثَبته في أفئدة السامعين، ونفوس المخاطبين، وذلك من أقوى الأساليب المستعملة عند العرب قي كلامهم. فأقسم بالفجر، وهو الصُّبح، لأنه الوقتُ الذي ينفجر فيه النور، وينشق الضوء، إيذاناً بانتهاء الليل وانقضائه، وانتشار الناس وخروجهم لطلب الرزق، والسعي في كسب معايشهم، وتحصيل منافعهم. ثم أقسم بالليالي العشر، وهي عشر ذي الحجة، والشّفع، وهو يوم النحر، والوتر: وهو يوم عرفة.

قائمين يذكرون الله تعالى، ينطرحون بين يديه، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 19] كان سعيد بن جبير- رحمه الله- إذا دخلت ليالي العشر، ضاعف من عبادته، واجتهد فيها اجتهاداً لا يكاد أحد أن يبلغه أو يأتي بمثله، وكان يقول: لا تطفئوا سُرُجَكم ليالي العشر؛ من شدة حرصه على العمل الصالح، وحثه لإخوانه على المسابقة إلى الطاعة. ليالي العشر أوقات الإجابه ... فبادر رغبة، تلحق ثوابه ألا لا وقتَ للعمال فيه ... ثواب الخير أقرب للإصابه من أوقات الليالي العشر حقاً ... فشمر واطلبَنْ فيها الإنابة إن عبادَ الله المخبتين، دائمو الصلة بربهم، لا يفترون من القيام، ولا يملون من الصلاة والصيام، لا يُقَوِّتون لحظة من الليالي والأيام، إلاَّ زرعوا فيها عملاً صالحاً، وأودعوا فيها خَصلةً نافعة، قد قويت

صلتهم بربهم، وتوثقت رابطُتهم بإلههم وسيّدهم، فهم لا يأنسون إلا بعبادته، ولا يتلذذون إلا بدعائه ومناجاته. إن العمل الصالح في هذه العشر، عمل عظيم، ثوابه مضاعفٌ وجسيم؛ لأنه يشمل جميع العبادات، ففيها الحج والصيام والصدقات، بالإضافة إلى الصلوات المفروضة والنافلة والقيام. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ورد في الحديث أن هذه العشر، أفضل أيام السنة، وفضّله كثير من العلماء على عشر رمضان، لأن هذا يُشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيرها، وتمتاز عشر ذي الحجة بأداء فرض الحج، وقيل: إن أيام عشر رمضان أفضل لاختصاصها بوجود ليلة القدر فيها. وتوسَّط آخرون فقالوا: أيام عشر ذي الحجة أفضل، وليالي عشر رمضان أفضل، ولعل هذا هو

الأقرب، والله تعالى أعلم. ويقول الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: وإنما كانت أيام هذه العشر أفضل، وامتازت على غيرها لاجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا تجتمع هذه العبادات مع بعضها إلا في هذه الأيام. انتهى كلامه رحمه الله. ومما ينبغي التنبيه له، أن كل من أراد أن يضحي، فعليه أن لا يقص شيئاً من شعره، ولا يقلم أظفاره عند دخول شهر ذي الحجة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضخوا، فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي" رواه مسلم. فاغتنم- أيها الأخ الفاضل- هذه الأوقات الفاضلة، واجتهد فيها، وضاعف من أعمالك الصالحة، فإلى متى وأنت في سهو وغفلة، وحتى متى ومواسم الخير تمر عليك، وأنت تلهو وتجري وراء ملذات هذه الحياة، وتلهث وتُرهق جسمك في جمع

روى جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قال: إنَّ العشرَ عشر الأضحى، والوتر يومُ عرفة، والشفعَ يومُ النحر" رواه أحمد، والحاكم وصححه. وروى الإمام الطبري بإسناده، عن أبن عباس رضي الله عنهما قال: " إنّ الليالي العشرَ التي أقسمَ اللهُ بها، هي ليالي العشرِ الأول من ذي الحجة". وقال الضحاك: أقسم اللهُ بهن لما يعلم من فضلهن على سائر الأيام. وقد بين لنبي صلى الله عليه وسلم ما يناله المؤمنُ من الأجر العظيم، والثواب الجزيل من الله تعالى، حين يضاعف أعماله في هذه العشر، ويتقرب إلى ربه بالصالحات، وفعل الخيرات، ولبعد عن المعاصي والمخالفات، احتساباً للأجر عند الله تعالى، وطلباً لمغفرته ورضوانه وعفوه، ففي صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام

العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله تعالى من هذه العشر،- أي عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله، قال عليه الصلاة والسلام: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء". فقد دل هذا الحديث على أن الأعمال الصالحات، وفِعْلَ الطاعات، وطلب َالأجر وزيادة الحسنات، والاجتهاد في هذه الأيام أحبُّ إلى الله تعالى من العمل في جميع أيام السنة دون استثناء، وإذا كان أحبَّ إلى الله تعالى، فهر أفضلُ عنده. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وإذا كان العمل في أيام العشر، أفضل وأحب إلى الله تعالى من العمل في غيره من أيام السنة كلها، صار العمل في هذه العشر- وإن كان مفضولاً- أفضل من العمل في غيرها وإن كان فاضلاً، ولهذا، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل

الله، ثم استثنى جهاداً واحداً، هو أفضل الجهاد، فإنه صلى الله عليه وسلم، سئل أيُّ الجهاد أفضل؟، قال: "من عُقر جوادُه، وأُهريق دمه، وصاحبُه أفضل الناس درجةً عند الله ... ". رواه أحمد. وسمع عليه الصلاة والسلام رجلاً يقول: اللهم أعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقال: "إذن يعقر جوادك وتستشهد". رواه أحمد. فهذا الجهاد بخصوصه، يفْضُلُ على العمل في عشر ذي الحجة. قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: بلغني أنَّ العمل في اليوم من أيام العشر، كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارُها، ويُحرس ليلُها، إلا أن يحُتَّص امرؤ بشهادة. لقد كالن السلف الصالح- رحمهم الله- يخصون ليالي العشر بمزيد من العبادة، فيضاعفون من قيامهم لربهم تلك الليالي، يهجرون مضاجعهم، وينتصبون

حطامها، وتغفُلُ عن اغتنام فرصِ الأعمالِ الصالحات، التي تَسنح لك بين الحين والآخر، تنبّه لذلك، وقدّم صالحاً؛ تنجُ وتفُرْ به عند خالقك يوم العرض عليه.

فضل الحج وعظيم ثوابه

فضل الحج وعظيم ثوابه كلُّ مسلمٍ يتوق إلى الحج، ويشتاق إلى مكة ومشاعرها، والباعثُ له على الشوق إليها، هو الفهم والتحقق بأن البيت الذي يقصدُه هو الذي جَعَله الله تعالى مثابةً للعالمين، وأمناً للخائفين، ومأوى للمذنبين والمقصّرين، يطلبون عنده العفو والمغفرة من رب العالمين، فهو يجذبُ قلوب المسلمين، يتعاقبون عليه من جميع البلدان، ويفدون إليه من كل مكان، أمر سبحانه وتعالى خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بتطهيره للعابدين، وشرفه بإضافته إلى نفسه فقال وهو أصدق القائلين: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26] ، وكفاه ذلك شرفاً وفخراً. فقاصدُ البيتِ العتيق قاصدٌ إلى الله تعالى، والوصولِ إليه تعالى بالعمل بالطاعات، والإقبال عليه في شتى الحالات، والتجردِ عن سائر المخلوقات،

والتوبة من كل الذنوب والسيئات، وهجر جميع المخالفات. والمسلمُ كلّما ذكر ذنبه، جدد توبته، فهو دائم الأسف على ذنوبه، كثير الندم على تفريطه. وحجُّ بيت الله الحرام من أعظم الأعمال التي تمحو الذنوب والسيئات، وتغسل الآثام الناتجة عن التقصير وكثرة الهفوات. لكن ذلك لن يحصل ولن يتم إلا بأداء الحج على الوجه الصحيح، والنهج السليم الذي رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، باقتفاء أثره، والاقتداء به في سائر أعماله، ومنها حجّه لبيت الله العتيق. وقد قال عليه الصلاة والسلام وهو يؤدي مناسك حجه، وينتقل من عمل إلى آخر: " لتأخذوا عني مناسككم "رواه مسلم. فهو إن تابع رسوله عليه الصلاة والسلام في كل أعماله، وتجنّب ما يسخط الله جل جلاله، والتزم

بآداب الحج، فلم يؤذِ أحداٌ ولم يضيق عليه، وكفّ جوارحه عن العبث، وحفظها من أن تمتد إلى محرم، أو تكون سبباً في إيذاء أخيه الحاج، فَيرْجَى أن يكون من المقبولين، وأن يُكْتَبَ له الأجر العظيم. وقد تضافرت النصوص الشرعية، التي بيّنت فضل الحج، وأظهرت مكانة هذه الشعيرة، وما يناله الحاج من الأجر الجزيل، والثواب الكبير عند الله تعالى. قال جل وعز: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27-28] . قال الطبري في تفسيره، قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أي: منافع من العمل الذي يرضي الله تعالى، ومن التجارة، وذلك أن الله تعالى عمّ لهم

منافع جميع ما يشهد له الموسم، ولم يخصص من ذلك شيئاً من منافعهم. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهادُ في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حجٌ مبرور". وقال عليه الصلاة والسلام: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " متفق عليه. ومعنى قوله: " ليس له جزاءٌ إلا الجنة ": أي: لا يقتصر فيه على تكفير بعض الذنوب، بل يبلغ به إلى الجنة. والحج المبرور: هو الذي لا يخالطه إثم، وقيل: المتَقَبَّل، وقيل: الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا رفث ولا فسوق. وقال بعضهم: هو الذي لا معصية بعده.

قال الحسن البصري رحمه الله: الحج المبرور: أن ترجع زاهداً ني الدنيا، راغباً في الآخرة. وقال أبو الشعثاء: نظرت في أعمال البر، فإذا الصلاة تَجْهَدُ البدنَ، والصوم كذلك، والصدقة تجهدُ المال، والحج يَجهدُهما، فرأيته أفضلَ العبادات. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: " من حج لله فلم يرفُث ولم يفسُق رَجَعَ كيوم ولدته أمه" متفق عديه. ومغفرة الذنوب بالحج، ودخولُ الجنة به، مُرَتَّبٌ على كون الحج مبروراً. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وإنما يكون مبروراً باجتماع أمرين فيه: الأول: الإتيانُ بأعمال البر، وذلك يشمل الإحسان إلى الناس، وقد روُي عنه عليه الصلاة والسلام أنه سئل: ما برُّ الحج يا رسول الله؟ قال: "إطعامُ الطعام وإفشاءُ السلام ". رواه أحمد. كما يشملُ فعل الطاعاتِ كلها، من ذكر الله

تعالى، والتلبية، والدعاء، وإراقة دماء الهدي، ونحو ذلك. الثاني: ما يكملُ به برُّ الحج: اجتنابُ فعل الآثام من الرفث والفسوق والجدال والمعاصي، قال اللة تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . والرفث: هو الجماع. كما قاله ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم. وقال بعضهم: هو اسم لكل لهو، وخَنىً وفجورٍ، وزور ومُجون. والفسوقُ: هو المعاصي. وأما الجدال: فهو المِرَاءُ والملاحاةُ حتى تُغضبَ صاحبَك وأخاك. قاله ابن عباس، وقال ابن عمر: هو السباب والمنازعة القبيحة. ومما وَرَدَ في فضل الحج وعظيم أجره، ما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: "لما جعل الله

الإسلام في قلبي، أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبسُط يدَك لأبايعَك، قال: فبسط يمينه فقبضتُ يدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا عمرو؟ قال: فقلت: أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أن يُغفر لي، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عمرو: أما علمتَ أن الإسلام يهدم ما قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحجّ يهدم ما قبله "رواه مسلم. وروى ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة " رواه أحمد والترمذي. والأحاديث الواردة في فضل الحج وثوابه كثيرة، وهي تبشّر كل من حج، والتزم بآداب الحج، وأتى به على الوجه الأكمل، تبشّره بالخير العظيم، والأجر الكريم، والثواب العميم، فالحاج عند قصد مكة

للحج، هَجَرَ الدنيا وشواغلها،- وتركها وراء ظهره ونسيها، واتجه إلى ربه يطلب عفوه ومغفرته، ووقفَ في- المشاعر متضرعاً إلى الله تعالى أن يتجاوز عنه، ويعتقه من النار، فاستجاب له. وهو عند خروجه للحج، إنما يؤدي شكرَ نعمة الله تعالى عليه، حيث أفاضَ عليه من المال، ومتّعه بنعمة الصحة والعافية، وهما من أعظم آلاء الله تعالى، التي يتمتع بها الإنسان في هذه الدنيا، ففي الحج شكر لهاتين النعمتين العظيمتين، فهو يجهدُ نفسه، وينفق أمواله في سبيل الله تعالى، ويتقربُ إليه، فعندما عرف الله تعالى منه حسن النية، وسلامة المقصد، وصدق اللهجة، وصحة العبادة، كافأه على ذلك بالمغفرة والتجاوز عن الذنوب، واستجاب دعاءه، وأعانه حتى أدى مناسك حجه.

فرض الحج وخطر التهاون عن أدائه

فرض الحج وخطر التهاون عن أدائه خلق الله تعالى النفوس لعبادته، فإذا عرفت ذلك اجتهدت في أداء ما خُلقت له، وواظبت عليه، واستزادت منه. وارتاحت لعمله، ولكن من طبيعة هذه النفوس الفتور والملل، والخمول والكسل، والشيطان يعمل جاهداً لتثبيطها، ويحرص على غوايتها وتضليلها، فتضعف عن أداء الواجبات، وتسأم من القيام بأعمال الطاعات. والله تعالى لطيف بعباده، ورحيم بهم، يشرع لهم من العبادات ما يقوي عزائمهم، ومن المواسم ما يُنشّطُ نفوسهم، ويشحذُ عزائمهم وهممهم، فجعل لهم مواسمَ للعبادة وفضّلها، وخصّ بعض البلاد والأمكنة بفضائل ومزايا، فاختار من بقاع الأرض مكة، والمدينة، وجعل لهما خصائص امتازتا بها عن غيرهما من الأماكن. ومن أعظم الخصائص التي انفردت بها مكةُ عما

سواها، أن جعل الله تعالى فيها الكعبة مهوى أفئدةِ المسلمين، وقبلة المصلين، وفرضَ على عباده إحياء البيت الحرام بالحج، يجتمعون كل عام في مكة والمشاعر، لأداء هذه الفريضة. وليس الحج من الشعائر الخاصة بهذه الأمة، بل يرجع تاريخ الحج إلى عهد نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام، فهو أول من بنى البيت على التحقيق، وأول من طاف به مع ولده إسماعيل عليهما السلام، وهما اللذان سألا ربهما أن يريهما أعمال الحج ومناسكه، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127- 128] . فالله تعالى قد تعبّد ذرية إسماعيل بهذه المناسك، وبقيت في العرب إلى ظهور الإسلام.

وحجُّ بيت الله الحرام هو الركن الخامسُ من أركان الإسلام، وهو فرضُ عين على كل مكلّف مستطيع. قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] . فهذه الآية نصٌّ في إثبات الفرضية، حيث جاء التعبير القرآني بصيغة الإيجاب والإلزام {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} ، ومن تأمّل في الآية، وجد أنها أكدت تلك الفرضية، حيث قال جل شأنه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . فقد جعل مقابل الفرض الكفر، فدل هذا على أنَّ المسلمَ لا يترك هذا الواجب وهو قادرٌ عليه، وقد تظافرت النصوص الدالةُ على فرضية الحج، وكثرت حتى بلغت مبلغَ التواتر الذي يفيد اليقين، والعلم القطعيّ الجازم بثبوت هذه الفريضة. فمنها الآية السابقة، وكذا قوله جل وعزّ:

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . [البقرة: 196] . وقوله تعالى مخاطباً خليله إبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ... } [الحج: 27-28] . روى الطبري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما فَرَغَ إبراهيم من بناء البيت العتيق، قيل له: أَذِّنْ في الناس بالحج، قال: ربّ وما يبلغُ صوتي؟ قال: أَذِّنْ وعليَّ البلاغ، فقامَ إبراهيم خليل الله على الحجر، فنادى: يا أيها الناس، كُتِبَ عليكم الحج، فحجوا، فأسْمَعَ مَن في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، فأجابَه من آمن، ممن سَبَقَ في علمِ اللهِ أن يحجَّ إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُنيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن

محمداً رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصيامِ رمان، وحجِّ بيت الله الحرام". وإنما يجب الحج مرةً واحدةً في عمر المسلم، إذا كان مستطيعاً قادراً عليه، وهذا من رحمة الله وتيسيره على عباده. وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه يوماً فقال: "يا أيها الناس قد فُرِضَ عليكم الحج فحجوا، فقام رجل فقال: أكُلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلتُ: نعم لوجبت ولا ما استطعتم، الحج مرة فمن زاد فهو تطوّع، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هَلَك من كان قبلكم بكثرة سؤالهِم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" رواه مسلم. ويجبُ على المستطيع أن يبادر إلى أداء الحج، قبل أن يعرضَ له شيءٌ يحول بينه وبين القيامِ بهذه الفريضة، فقد

روى أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا إلى الحج- يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". وفي هذا حثٌّ على الإسراع في الذهاب إلى الحج خشية أن يطرأ له طارئ، أو يموت قبل أدائه. فإذا أخّر الشخص الحجَّ بعد توفر كافة الشروط فيه، وكان مستطيعاً قادراً يملك من المالى والنفقة ما يوصله إلى مكة وسائر المشاعر ويعيدُه إلى بلده، ففرّط في الذهاب أو سوَّف وتكاسل فإنه على خطر عظيم، وهو عاصي لله تعالى؛ إذ لم يلبّ نداء ربه، ولم يمتثل أمر رسوله عليه الصلاة والسلام. وقد حذّر عليه الصلاة والسلام من ذلك أشدّ التحذير، وبيّن عقوبة المتهاون في أداء الحج بعد استطاعته، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يمنعه من الحج حاجة، أو مرضٌ حابس، أو سلطان جائر، فليمت إن شاء

يهودياً وإن شاء نصرانياً ". رواه الدارمي والدارقطني. وعن عمر رضي الله عنه قال: "لقد هممتُ أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كلَّ من كانت له جِدَةٌ ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين ". رواه البيهقى. وقال علي رضي الله عنه: "من ملك زاداً وراحلة تبلّغه إلى بيت الله، ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وذلك أن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} رواه الترمذي. فأوضح هنا أن فعل المتخلّف عن الحج بلا عذر أشبه بفعل اليهود والنصارى، فإن نص الآية: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، فأفادت أن ترك الحج ليس من شأن المسلم. فدل ذلك كلّه على عِظَمِ ذنبِ المتهاون، المعرض عن أداء هذا الركن الواجب عليه، وأنه بتأجيله له،

وتهاونه به، مد وضَعَ نفسَه على شفا الهاويه، فإنه لا يأمن أن يوسوس له الشيطان، فينقلبُ ذلك التهاون إلى استباحة ترك فريضةٍ من فرائض الله، وركنٍ من أركان الإسلام، أو عدم المبالاة بها. فعلى كل مسلمٍ بالغ مستطيع للحج أن يبادرَ إلى أداء الفريضة الواجبة عليه، قبل أن يعرض له أمر يمنعه من الحج: من مرض أو حاجة أو نحوهما، لاسيما وأن الحجَّ في هذا الزمان أصبح سهلاً ميسراً، فالطرق مُسهّلة، والمشاعرُ مهيئة لأداء هذه الشعيرة العظيمة، فقد وفرت حكومة هذه البلاد- جزاها الله خيراً- كلّ ما يحتاجه الحاج، وقدّمت وتقدّم سائر الخدمات والتسهيلات لضيوف الرحمن. تقبل الله من الجميع حجهم، وغفر لنا ولهم

تنبيهات وآداب

تنبيهات وآداب إذا عزم المسلم على الذهاب إلى الحج فإن هناك أموراً مهمة ينبغي عليه معرفتها والإلمام بها، فمنها: الإخلاص: على الحاج أن يقصد بحجه وعمرته الأجر والثوابَ من الله تعالى، والتقربَ إليه بما يرضيه من الأقوال والأفعال، ولْيحذر من الرياء والسمعة والمفاخرة، فإن ذلك من أقبح المقاصد، ومن أعظم ما يحبط العمل، ويؤدي إلى رَدِّه. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . [هود:15-16] . فالإخلاص شرطٌ في جميع العبادات، فمن أتى بعبادةٍ، والباعث عليها غرضٌ دنيوي بحيث لو فُقِدَ

لتركها فليست بعبادة، وإنما هي معصية موبقة لصاحبها. الاستخارة: وهي أن يستخير الله تعالى في ذهابه للحج هذا العام، وصفةُ صلاة الاستخارة أن يصلي ركعتين من غير الفريضة بنية الاستخارة، ثم يذكر الأمر ويدعو بعدها، لحديث جابر رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول: "إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ

أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ " والاستخارة إنما تكون في الأمور التي لا يدري العبد وجه الصواب فيها، أما ما هو معروف خيره كالعبادات، أو معروف شره كالمعاصي والمنكرات، فلا يستخار فيه، وفي الحج يستخير لمناسبة الوقت والرفقة. التوبة: إذا عزم على الحج واستقر على الذهاب، وجب عليه المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب والمعاصي التي اقترفها وارتكبها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] . وقال جل شأنه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [ٍالنور: 31] .

فالتوبة هي: الرجوع عن معصية الله، والإقلاع عن السيئات، والاستمرار على الطاعات. والتوبة النصوح لابد أن تكونَ خالصةً لله عز وجل، وأن يكون الباعثُ لها حبَّ الله وتعظيمه، والخوفَ هن عقابه، وأن يندم على ما اقترف، ويأسفَ ويحزنَ على تفريطه فيما مضى، وينكسر بين يدي ربه طالباً منه العفو والغفران. وأن يقلع عن جميع المعاصي، فإن كان تاركاً للأوامر فعلها، وإن كان فاعلاً للمحرمات هجرها ونأى بنفسه عنها، فإن التوبة لا تصح مع الإصرار على المعصية، وأن يعقد العزم على أن لا يفارق المنكرات والمعاصي في قادم الأيام، فإن ذلك دليلٌ على صدقه في توبته، وأن يردَّ المظالمَ والحقوقَ إلى أهلها ويتحلل منهم، ويطلب العفو والسماح. كتابة الوصية: أن يكتب وصيّته، والحقوقَ التي له على الناس،

والتي للناس عليه، ويوضح ذلك ويبينّه، وكذا حقوق الله تعالى من الزكاة والكفارات ونحو ذلك مما فرّط فيه وأجّله، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيتُ ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" رواه البحاري ومسلم. وينبغي أن يُشهد على الوصية، وأن يوكلَ من يقضي عنه ما لم يتمكن من قضائه، فلا ينبغي التساهل في الحقوق والتسويف في أدائها وإيفائها إلى أهلها، فإنَّ فِعْلَ العبادات والاجتهاد فيها لا يُعفى المسلم من ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "يُغفرُ للشهيد كل شيء إلا الدَّين" رواه مسلم. الاجتهاد في إرضاء والديه: فعليه أن يجتهد في إرضاء من يتوجّه عليه برُّه، فمن له أبوان مسلمان أو أحدهما، يستحب أن لا يحج إلا بإذنهما، وهذا في حج التطوع، وأمَّا في حجة

الفريضة فإن مَنَعَاهُ لم يلتفت إلى منعهما. كما ينبغي أن تسترضي الزوجة زوجها وأقاربها، ويستحبُّ للزوج أن يحج بها، وإلا حجت مع أحد محارمها. تَعَلُّمُ أحكامِ الحج: ينبغي لمن أراد الحج أن يتعلّم أحكامه وكيفيته، وأن يعرف كل ما يتعلق بأفعال الحج وشروطه وواجباته وأركانه، وأن يسأل أهل العلم الموثوقين عن ذلك، قال الإمام النووي- رحمه الله تعالى-: (وهذا فرض عين، إذ لا تصح العبادة ممن لا يعرفها) انتهى كلامه. ومن المستحسن أن يختار كتاباً من كتب المناسك، الموضحة لجميع أحكامها، والتي كتبها العلماء، ودوّنوا فيها أحكام الحج العامة والخاصة، مقرونة بأدلتها الشرعية، ومن الكتب التي يُوصَى باختيارها، كتاب: "التحقيق والإيضاح لكثير من

مسائل الحج والعمرة والزيارة"، لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله-، وكتاب: "المنهج لمريد العمرة والحج" لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين- رحمه الله- وغيرهما من الرسائل المفيدة، لتكون قريبة عنده، حين يحتاج إليها إذا أشكل عليه حكم من الأحكام- وهو يؤدّي مناسك الحج، أو في طريقه إلى مكة والمشاعر. كما ينبغي له أن يتعلم ما يحتاج إليه في سفره من أحكام الصلاة وقصرها ومعرفة القبلة، وأحكام التيمم، والمسح على الخفين وغير ذلك مما تمس الحاجة إلى معرفته والإحاطة به. فإن من جهل أحكام العبادات، ولم يعرف أحكام المناسك يخشى عليه أن لا يصح حجُّه، فقد يقع في محظورٍ، أو يخلُّ بركن أو واجب وهو لا يدري. فإن لم يتعلم أو جهل شيئاً من الأحكام، فليسأل ممن يثق به من أهل العلم، وليتحرَّ أن يكون المسؤول

من العلماء المشهورين بصحة العقيدة، وسلامة المنهج، والفقه في الدين، والدقة في معرفة الأحكام، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 7] . وأن يكون المسؤول معروفاً بعلمه، محيطاً بالأحكام، عارفاً بها، لأن الإفتاءُ بغير علم حرام، فهو يتضمن الكذب على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتضّمن إضلال الناس، وهو من الكبائر. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . فقرن القول على الله بلا علم بالفواحش والشرك والظلم. انتقاء النفقة الحلال: على الحاج أن يختار لحجه وعمرته نفقة حلالاً،

لا شبهة فيها، لأن الله تعالى لا يقبل ما كان محرماً، والمال المحرم سببٌ في عدم قبول العبادة، وقد رُوِي عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا خرج الرجل حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء، لبيك وسعديك، زادُك حلال، وراحلتُك حلال، وحجك مبرور غير مأزور. وإذا خرج الرجل حاجاً بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادُك حرام، ونفقتُك حرام، وحجك مأزور غير مبرور" رواه الطبراني. فإذا اكتسب المرء مالاً من طريق غير مشروع فأكل منه، أو أنفق أو تصدق، فإنه لا يقبل منه، ويكون ذلك سبباً في رد دعائه وعدم الاستجابة له، وقد أمر الله تعالى بأن يكون عيش الإنسان من كسبه

الحلال. وروى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" رواه مسلم. ومن أعظم طرق المكاسب المحرمة، أكل الأموال الربوية، فإن ذلك من أكبر الكبائر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] . وقد شدد الله الوعيد على آكل الربا، وجعل آكله من أفحش الخبائث، وبَيَّن عقوبة المرابي في الدنيا

والآخرة، وأخبر أنه مُحارِبٌ لله ولرسوله، فعقوبة الربا في الدنيا أنه يمحق البركة في المال والجسم، وأما في الآخرة فقد بينها الله تعالى بقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] . وذلك أن الناس إذا بُعثوا من قبورهم، خرجوا مسرعين إلى المحشر، إلا آكل الربا، فإنه يقوم ويسقط كحال المصروع، الذي ينهض ثم يرتمي على الأرض بسبب الصرع. ومن الأموال المحرمة، الاكتساب عن طريق الرشوة، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش، وهو الواسطة بينهما، والرشوة حرام بإجماع المسلمين، فالإسلام يحرمها لأنها من أكل أموال الناس بالباطل، وقد نهى الله تعالى عن ذلك، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .

وإنما حرمت الرشوة لشدة ضررها، وشناعتها، وسوء أثرها على المجتمع، فإن ضررها يعم. ولهذا يرى بعض العلماء أن المال المكتسب عن طريق الرشوة أشد تحريماً من المال المدفوع للبَغِيِّ مقابل الزنا بها، مما يدلّ على شناعة الرشوة وعظيم ضررها. كما أن من الأموال المحرمة، اكتسابها عن طريق الغش في المعاملات، كالبيع والشراء، والإجارة ونحو ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من غشنا فليس منا" رواه مسلم. ومنها منع الأجير أجره، فعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمتُه، رجلٌ أعطى بي ثم غدر، ورجلٌ باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره" رواه البخاري. ومن الكسب المحرم اغتصاب الأموال، وسرقتها،

وانتزاعها من مالكيها بالقوة. فعلى الحاج أن يحرص على تجنب ذلك، وأن ينتخب المال الحلال الذي حصل عليه من الكسب المشروع، حتى لا يكون حجُّه مردوداً، فإنه لو خالف وحج بمالٍ فيه شُبهة لم يكن حجه مبروراً، ويَبْعُدُ قبولُه. قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يجزئ حجُّه إن حج بمال حرام. وعلى الحاج أن يأخذ معه من المال والنفقة ما يكفيه في طريقه إلى المشاعر المقدسة، وما يسد حاجته من المال الذي يصرفه على نفسه مدة إقامته، وفي طريق عودته إلى بلده بعد الحج. روى أهل التفسير، بأسانيد مختلفة، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كانت طائفة من العرب يحجون ولا يتزودون، وكان بعضُهم إذا أحرم ومعه زاد رمى به، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ

الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] . فأمر الله تعالى من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يحتفظ بزاده فلا يرمي به. وذكر بعضهم أن الآية نزلت في قومٍ كانوا يحجون بلا زاد، ويقولون: نحن المتوكلون، ويقول بعضهم: كيف نحجُّ بيت الله تعالى ولا يطعمنا؟، فكانوا يبْقَونَ عالةً على الناس، فَنُهُوا عن ذلك وأُمِرُوا بالتزود. فمن حج بلا زاد ولا نفقة، وتكلف السفر والوصول إلى المشاعر، يرمى بنفسه على الآخرين، ويعتمد على غيره في أكله وشربه، ويتكفَّف الناس ويسألهم، فقد أساء إلى نفسه؛ حيث ذمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التسول ونهى عنه، وبين عاقبته، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَة لحم ". متفق عليه.

وفي الحديث الآخر، قال عليه الصلاة والسلام: "المسألة كُلُوح في وجه صاحبها يوم القيامة". رواه أحمد. أي أنها دناءةٌ وخسة، وتدل على رداءة الحال، وانقلاب جمال الوجه. فامتهان التسول، وانتشاره دليل على ضعف الثقة بالله، والتخلي عن سؤاله ودعائه، وما أذلّ المرء حين يعرضُ حاجته على العباد، ويترك التوكل على رب العباد، ويتذلل للمخلوقين، ويتركُ دعاء الخالق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". رواه أحمد. فما أجمل أن يكتفي المسلمُ بما عنده، وينفق على نفسه من كسب يده، ويكرم أصحابه ومن هم بحاجته، وحريّ بالمسلم أن يُؤَمِّن لنفسه ما يغنيه عن الآخرين. قال العلماء: ينبغي للحاج أن يستكثر من الزاد

والنفقة عند إمكانه، ليُؤثر منه المحتاجين والرُّفقة، وأن يُطيّبَ زَادَه، فعن مجاهد قال: "من كرم الرجل طيب زاده في سفره"، وأن تكون نفسُه طيّبةً بجميع ما ينفقُه، فإنّه أقربُ إلى القبول، وينبغي أن لا يسرف في التنعم والترفّه، وطلب الراحة في كل شيء. إن الحجَ بمالٍ حلال، وكسبٍ طيب، ونفقةٍ جاءت من طرق مشروعة، وإنفاق الحاج على نفسه منها، وبعدَه عن المال المشبوه والكسب المحرم، كلُّ ذلك أدعى إلى قبول حجه، وأقرب إلى مغفرة ذنوبه، وعودته سليماً نقياً من الأوزار والآثام، بخلاف ما إذا كانت النفقة محرمة أو مشبوهة، فإن ذلك يؤدي إلى عدم قبول العمل ورده، كما قيل: يا من حججتَ بمالٍ كلّه سحتُ ... فما حججتَ ولكن حجت العِيْرُ لا يقبل اللهُ إلا كلَّ طيبةٍ ... ما كل من حجَّ بيت الله مبرورُ

اختيار الرفقة الطيبة ومعرفة آداب السفر: ينبغي للحاج أن يختار رفقة صالحة، حسنة الأخلاق، فيرافق من هو موافق راغب في الخير، محباً له، معيناً عليه، بعيداً عن الشر، كارهاً له، مبغضاً إياه، إن نسي ذكَّره، وإن ذَكَرَ أعانه، وإن ضاق صبّره، وإن احتاج إلى عون ساعده، وأن يكون حسن المداراة، قليل الخوض والمجادلة والمجاراة. قيل في الحث على الرفيق الصالح: لا تصحبن رفيقاً لست تأمنهُ ... بئس الرفيقُ رفيقٌ غيرُ مأمون وأوصى سفيان الثوري رجلاً يريد الحج، فقال له: لا تصحب من هو أكثر منك مالاً، فإنك إن ساويته في النفقة أضرّ بك، وإن تفضّل عليك استذَلّك. والأفضل أن يحج مع عالم يثق بعلمه يعلّمه ما

يحتاجه وما يجهله من أمور دينه. فإذا تأهب للسفر استُحب أن يودِّعَ أهله وجيرانه وأصدقاءه وأقاربه، ويطلب السماح منهم، ويسألهم الدعاء، ويتوصل إلى تطييب قلوبهم بما يقدر عليه. ويقول كلُّ واحدٍ منهم: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، زوّدك الله التقوى، وغفر لك ذنبك، ويسَّر لك الخير حيثما كنت) . وقد روي عن الشعبي- رحمه الله- أنه قال: حقٌ على الرجل إذا أراد أن يسافر أن يأتي إخوانه، فيسلم عليهم، وحقٌّ على إخوانه إذا قدِمَ أن يأتوا إليه، فيسلموا عليه، وإنما كان ذلك كذلك، لأنه إذا أراد سفراً فهو المفارق، فيكون التوديع منه، وإذا قدم يُؤْتَى إليه، ليُهنّا بالسلامة من خطر السفر. فإذا خرج من بيته قال دعاءَ الخروج، وهو ما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا خرج من بيته قال:

" بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ، أو أُضَلَّ، أو أَزِل َّأو أُزَلَّ، أو أَظلم أو أُظلم، أو أَجهل أو يُجهل عليَّ" رواه أبو داود والترمذى. فإذا ركب سيارته أو دابته أو وسيلة النقل المسافر عليها، فيستحب ان يدعو بدعاء السفر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر، كبرّ ثلاثاً، ثم قال:" {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ " رواه مسلم. ويُكره له أن يسافر وحده، بل يرافق جماعة،

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو أن الناس يعلمون ما أعلم من الوحدة، ما سرى راكبٌ بليلٍ" يعني: وحده. رواه البخاري. ويستحب أن يُؤَمِّرَ الرفقةُ على أنفسهم واحداً منهم، يختارون أفضلهم وأفطنهم وأجودهم رأياً، ويطيعونه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم. " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" رواه أبو داود. ويستحب للمسافر أن يكبّر إذا صعد مرتفعاً، ويسبّح إذا هبط وادياً أو مُنْخَفَضَاً؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبّحنا. ويستحب إذا أقبل على بلدٍ أو مدينةٍ أو قريةٍ، أن يقول: "اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها" رواه ابن حبان. وإذا نزل في مكان يدعو بما ثبت من دعائه عليه

الصلاة والسلام، فإنه كان يقول: "من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك" رواه مسلم. ويستحب للمسافر أن يكثر من الدعاء لي سائر الأوقات؛ لأن دعوته مجابة، كما قال عليه الصلاة والسلام: " ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده "رواه أحمد وأبو داود. ولا يجوز للمرأة أن تسافر للحج أو غيره إلا ومعها محرم، سواء كان سفراً طويلاً أو قصيراً، على أي حال كانت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" رواه مسلم. ومما يجب على المسافر أن يتعلمه ويعرفه أحكام السفر، من جواز التيمم له إذا لم يجد الماء، أو كان معه ماء لا يكفيه، وكذلك فإن المشروع له قصر الصلاة الرباعية فيجعلها ركعتين من حين يخرج من بلده إلى أن

يعود، فلو صلّى المسافر خلف إمام يصلي أربعاً فإنه يتم تبعاً لإمامه. كما يشرع له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء إذا احتاج إلى الجمع، كأن يكرن مستمراً ثب سفره. وينبغي له أن يعرف أحكام المسح على الخفين، فهو مشروع له ثلاثة أيام بلياليهن، تبدأ من أول مسح بعد الحدث، ويبطلُ المسح بانتهاء المدة، أو نزع الخفين، أو أحدهما، أو إذا كان عليه حدث كبر فينزعهما للغسل. والسنة للمسافر إذا قضى حاجته، وأنهى مناسك حجه، أن يعجل العودة والرجوع إلى أهله، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدَكم نومَه وطعامَه وشرابه، فإذا قضى أحدُكم نهمته فليعجل إلى أهله ". رواه البخاري ومسلم.

المواقيت الزمانية والمكانية

المواقيت الزمانية والمكانية اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون للعبادات أوقات محددة، لا يصح فعل العبادة إلا في وقتها المحدد لها، فلو أتى بها قبل الوقت أو بعده لم تصح منه، إلا أن يكون معذوراً، أو في حالات لا يتسع المجالُ لذكرها هنا. والحج أحد العبادات التي حدد وقتها، ومكانُ فعلها. فأما الوقت فهو المعروف عند الفقهاء بالمواقيت الزمانية للحج، وقد ذكر الله تعالى وقت الحج، وحدّده بقوله جل شأنه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . فبينت الآية، أن وقت عمل الحج أشهر، قال جمهور العلماء: هي شوال، وذو القَعْدة، وعشرة أيام من شهر ذي الحجة، فلو أتى بشيء من أعمال الحج

في غير الوقت المحدد لم يجزئه ذلك. وأما المواقيت المكانية، فهي الأماكن والمواضع التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم، وحدد تلك الأماكن، وألزم المكلف القاصد البيت الحرام لأداء أحد النسكين أن لا يتجاوزها إلا وهو محرم، وذلك لأن الله تعالى ميّز البيت الحرام، وجعل للحرم منزلة خاصة به، فيما لهذا البيت من قدسية وعظمة وحرمة {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] حُرّم دخوله لمن أراد نسكاً إلأ بإذن خاص. وألزم قاصده بِسيِماً معيّنة، وصفة مُمَيَّزة، ينفرد بها عن غيرة، وهى ملابس الإحرام، فكل من رأى هذا المرتدي لتلك الملابس عَرَفَ أنه متلبس بعبادةٍ لله تعالى، متجّه إلى بيته الحرام، ويُعبّر المحرم- إضافة إلى لبسه الخاص به- بتوحيده لخالقه؛ عندما يردّد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) .

وفد حددت الشريعة لكل جهة وناحية ميقاتاً معروفاً، لا يصح لأحد من أهل تلك الجهة أن يتجاوزه إلا وهو محرم، إن أراد أداء الحج أو العمرة. وهذه المواقيت تكتنف مكة وتحيط بها من جميع جهاتها، وهي: الميقات الأول: ذو الحُليفة: وهو ميقات أهل المدينة، ويعرف اليوم بآبار علي، وهو أبعد المواقيت عن مكة، حيث تقدر المسافة بينه وبينها بأربعمائة وثلاثين كيلو متراً تقريياً. وذكر بعض العلماء الحكمة من كونه أبعد ميقات عن مكة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: إن أهل البلدان الأخرى- غير المدينة- عوضوا عن ذلك، بأن جعلت المسافة التي يقطعونها وهم محرمون قصيرة. وأما أهل المدينة: فلأنهم لا يقطعون إلا مسافة

فريبة حتى يصلوا إلى الميقات، جعل عليه الصلاة والسلام كل مسافتهم إلى مكة إحراماً. وقال بعض العلماء: إن ذلك كان من أجل تقريب خصائص الحرمين، فالمدينة حرم، ومكة حرم، ولكن الإحرام بالنسك من خصائص مكة، فكان من الحكمة أن لا يخرج من حدود حرم المدينة حتى يدخل في خصائص حرم مكة. وميقات أهل المدينة هو أفضل المواقيت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منه، وصلى وبات فيه. وثاني المواقيت: الجُحْفَة: وهي قرية قديمة، سميت بذلك، لأن السيل أجحف بأهلها وحرف منازلهم إلى جبل هنالك، وتسمى قديماً (مَهْيَعَة) ولما زالت (الجحفة) واندثرت، صار الناس يحرمون من (رابغ) على ساحل البحر الأحمر، بينها وبين مكة مائتا كيلو متر تقريباً. وهي ميقات لأهل الشام ومصر والمغرب، فإن

أهل مصر والمغرب، كانوا يأتون عبر المكان الذي حفرت فيه قناة السويس، ثم يتجهون إلى مكة ويمرون بالجحفة، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم ميقاتاً لهم. والميقات الثالث: قَرْنُ المَنَازِل: وهو الجبل المشرف على الموضع، وقرن المنازل حبل سمي الوادي الذي يطل عليه الجبل بهذا الاسم، ويسمى الآن بالسيل الكبير، وعلى موازنته من طريق كرا وادي محرم، ويبعد عن مكة ما يقرب من تسعين كيلو متراً. وهذا ميقات أهل نجد والطائف وتلك الجهات. ورابع المواقيت: يَلَمْلَم: وهو جبل من جبال تهامة ويسمى الآن بالسَّعْدِية، بينه وبين مكة مائة كيلو متر تقريياً. وهو ميقات أهل اليمن ومن بناحيتهم. والميقات الخامس: ذات عِرْق: سمي بهذا لِعرْق فيه، أي جبل صغير، وذات

عِرْق تسمى اليوم (الضَّرِيبة) ويقال لها (الخريبات) بينها وبين مكة ثمانون كيلو متراً. وهي ميقات أهل المشرق والعراق وخراسان وتلك الجهات. وهذه المواقيت وقتها النبي صلى الله عليه وسلم لأهلها الذين مر ذكرهم، ولمن مر عليها من غيرهم، ممن أراد العمرة أو الحج، فالواجب على من مر عليها أن يحرم منها، ويَحْرُم عليه أن يتجاوزها دون إحرام. وأما من كان دون المواقيت، أي بين الميقات وبين مكة، فإنه يحرم من مكانه الذي هو فيه كأهل جدة، والشرائع، وبدر وغيرها. وأهل مكة يحرمون بالحج من منازلهم في مكة لقوله صلى الله عليه وسلم: " ومن كان مسكنه دون ذلك فَمَهَلُّه من أهله، حتى أهل مكة يهلون من مكة" متفق عليه. أما في العمرة، فيخرجون إلى الحِلّ ويحرمون منه. هذه هي المواقيت التي يَحْرُم على الحاج أن

يتجاوزها دون إحرام، فلو تجاوزها ولم يُحْرِم، وجب عليه الرجوع ليُخْرِم من الميقات الذي تجاوزه، سواء كان عامداً أو ناسياً أو جاهلاً، فإن عاد فلا شيء عليه، وإن لم يعد، فإن كان عامداً فهو آثم وعليه الفدية، وإن كان جاهلاً عليه الفدية ولا إثم عليه.

الإحرام ومحظوراته وأعمال العمرة

الإحرام ومحظوراته وأعمال العمرة إذا وصل الحاج أو المعتمر إلى ميقاته يستحب له أن يغتسل، ويتطيب بما معه من جيد الطيب، وذلك كلُّه سنة، ثم يلبس ملابس الإحرام. فإن كان لبسُه قرب صلاة الفريضة، صلاّها، وإلا صلى ركعتين ينوي بهما سنة الوضوء، ثم بعد الصلاة، ينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريده من حج أو عمرة، ويشرع له التلفظ بما نواه، فيقول: لبيك عمرةً، أو لبيك حجاً، أو لبيك حجاً وعمرةً، فإن كان خائفاً اشترط في إحرامه. وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية، ويرفع الرجل بها صوته، والأفضل فيها ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". فإن كان حاجاً أو معتمراً عن غيره قال: لبيك حجاً أو عمرةً

عن فلان. والأفضل أن خرم متمتعاً، لاسيَّما من قدم مكة مبكراً حيث يتمتع بالحل بين العمرة والحج، والتمتع هو: أن يحرم بالعمرة، ثم يفرغ منها، ثم يحرم بالحج من عامه. ومما يدل على أفضلية التمتع، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه رضي الله عنهم لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل. ولا يجوز للمحرم بعد نية الإحرام سواء كان ذكراً أو أنثى أن يفعل شيئاً من محظورات الإحرام، وهي الممنوعات بسبب الإحرام، وهي: حلق الشعر من الرأس وإزالته بأي طريقة كانت، لقوله تعالى: {ولاَ تحلقوا رؤوسكم} [البقرة: 196] ، وكذا إزالته من أي موضع كان من الجسد، ويجوز له أن يحك رأسه بيده برفق، فإن سقط منه شعر بلا تعمّد فلا شيء عليه، ولو نزل بعينه شعر فتأذى منه فله إزالته ولا شيء عليه.

ولا يجوز له قص الأظفار من اليدين أو الرجلين، ويجوز للمحرم عقد الإزار وربطه بخيط ونحوه؛ لعدم الدليل المقتضى للمنع، ويحرم عليه استعمال الطيب في بدنه وثيابه، أو في مأكوله أو مشروبه، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً "لا تلبسوا ثوباً مسَّه الزعفران ولا الوَرْس" رواه البخارى. كما لا يجوز للمحرم ذكراً كان أو أنثى لبس القفازين، المعروفين بشرابي اليدين؛ لأنهما مصنوعان على هيئة أحد الأعضاء، كما يحرم عليه المباشرة بشهوه، كاللمس بشهوة، أو التقبيل، أو النظر بشهوه، أو المباشرة فيما دون الفرج، أو الاستنماء، ويحرم عليه الجماع، وهو أشد المحظورات إثماً، وأعظمها تأثيراً في النسك، قال تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرفث الجماع.

وللجماع حالان، فإن كان فبل التحلل الأول، ترتب عليه خمسة أمور، الإثم، وفساد النسك، ووجوب المضي فيه، ووجوب قضائه من العام القادم، والفدية، وهى بدنة، ينحرها ويوزعها على مساكين الحرم، أو في المكان الذي وقع فيه الجماع. وإن كان الجماع بعد التحلل الأول، أي بعد الرمي والحلق، أثم وعليه الفدية، ويفسد إحرامه، وعليه الخروج إلى الحل، ليحرم بعد أن لبس ثيابه، ويطوف طواف الإفاضة محرماً. ولا يجوز للمحرم عقد النكاح ولياً كان أو زوجاً، أو زوجة، فالحكم يتعلق بهؤلاء الثلاثة وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ ولا يخْطِبُ ولا يُنْكَحُ" رواه مسلم. كما يحرم عليه قتل صيد البر المتوحش، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ، وقوله جل شأنه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] .

ويحرم عليه لبس المخيط، وهو كلّ ما خيط على قدر البدن، أو على جزء منه، أو عضو من أعضائه، كالقميص، والسروال، والعمامة، والجبة، والجور بين ونحو ذلك، ويجوز له أن يلبس الخاتم والنظارة والساعة ووعاء النفقة ونحو ذلك. والمحرم ممنوع من تغطية رأسه بملاصق، كالطاقية والعمامة وما أشبههما، أما غير المتصل وغير الملاصق، كالخيمة، والشمسية، وسقف السيارة، فلا بأس به، كما يجوز له أن يغطي رأسه. مما لا يقصد به التغطية والستر، كحمل العفش والمتاع على رأسه، إذا لم يقصد بذلك تغطية رأسه. ويحرم على المرأة أن تغطي وجهها على أي صفة كانت، فلا يجوز لها لبس البرقع أو النقاب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين" رواه البخاري. لكن إن مرّ بها رجال أجانب، وجب عليها ستر وجهها وتغطيته، ويباح لها سدل خمارها على وجهها،

وإن مسّ وجهها فلا شيء عليها. ومن ارتكب شيئاً من هذه المحظورات بلا عذر ولا حاجة فهو آثم وعليه الفدية، وإن فعله لحاجة فعليه الفدية ولا إثم عليه، وإن كان معذوراً لجهل أو نسيان أو إكراه، أو كان نائماً فلا إثم عليه ولا فدية، لكن متى زال عذره فعلم بالمحظور أو ذكره، أو زال إكراهه، أو استيقظ من نومه، وجب عليه التخلي عنه. فإذا وصل الحاج إلى مكة فالغسل مستحب له قبل الدخول، ثم يقصد المسجد الحرام، ويقدم رجله اليمنى، ويقول الذكر الوارد عند دخول المسجد، ثم يبدأ بالطواف، جاعلاً البيت عن يساره، ويقطع التلبية قبل شروعه في الطواف. ويطوف سبعة أشواط، وإن شك في العدد بنى على اليقين، ويسن له أن يضطبع في طوافه هذا وهو طوافُ القدوم من أول الطواف إلى آخره؛ بأن يجعل

وسطَ ردائه داخل إبطه الأيمن، وطرفيه على كتفه الأيسر، فإذا فرغ من الطواف أعاد الرداء إلى حالته قبل الطواف. كما يستحبُ أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، وهو أن يسرع في المشي ويقارب خطاه، فإذا أتم سبعة أشواط، صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، ثم يسعى مبتدئاً بالصفا ومنتهياً بالمروة، يفعل ذلك سبع مرات، ويركض ركضاً شديداً بين العلمين، حتى إذا أكمل سبعة أشراط ذهابه من الصفا شوط، ورجوعه من المروة شوط تَمَّ سَعيهُ، ثم يحلق رأسه، وهو أفضل من التقصير، وإن قصر وترك الحلق للحج فحسن، وتُقَصِّرُ المرأة من شعرها بأن تأخذ من كل ضفيرة قدر أنملة فأقل، ولا تزيد على ذلك. فإذا فعل المحرم ذلك من: الطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، فقد تمت عمرته، وحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، إلا أن يكون ساق الهدي

فإنه يبقى محرماً. وأما من أحرم مفرداً أو قارناً، فيسن له أن يفسخ إحرامه إلى العمرة، ويفعل ما يفعله المتمتع، إلا أن يكون قد ساق الهدي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك وقال: "لولا أني سقت الهدي لأحللت معكم"متفق عليه.

أعمال الحج

أعمالُ الحجِّ اليوم الثامن من ذي الحجة هو يوم التروية، وسمي بذلك لأن الناس كانوا يتزودون فيه بالماء ويتروّون منه، وفيه يُحْرِمُ المتمتعُ بالحج،، من أراد الحج من أهل مكة يحرم من مكانه الذي هو فيه؟ فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أقاموا بالأبطح، ثم أحرموا بالحج منه يوم التروية بأمره عليه الصلاة والسلام. ويستحب أن يغتسل عند إحرامه ويتنظف ويتطيب، كما فعل عند إحرامه بالعمرة من ميقاته. ثم ينوي الدخول في نسك الحج، قائلاً: لبيك حجاً، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وإن كان نائباً عن غيره، قال: لبيك حجاً عن فلان، ويسميه، ويستحب له أن يداوم على التلبية وأن

يكثر منها، من إحرامه بالحج، ولا يقطعها حتى يرمي جمرة العقبة. ثم يتجه بعد إحرامه بالحج إلى منى إن أحرم من غيرها، ويصلى بها الصلوات الخمس ويقصر الرباعية منها، ويصلي كل صلاة في وقتها بلا جمع. وهذا الحكم عام حتى لأهل مكة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس من أهل مكة وغيرهم، بمنى وعرفة ومزدلفة قصراً، ولم يأمر أحداً بالإتمام، ولو كان القصر خاصاً بغير أهل مكة لنبه إليه، فإذا طلعت الشمس يوم التاسع من ذي الحجة سار إلى عرفة ملبياً مكبراً، لما رواه محمد بن أبى بكر الثقفى أنه سأل أنس بن مالك- رضي الله عنه- وهما غاديان من منى إلى عرفة، كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "كان يُهِلُّ منَّا المُهِلُّ فلا ينكِرُ عليه، ويكبّر منا المُكَبِّرُ فلا يُنْكِرُ عليه " رواه البخاري ومسلم. والسنة للحاج أن ينزل بنمرة إلى الزوال، إذا

تيسر له ذلك، لفعله عليه الصلاة والسلام، ويخطب الإمام- بعد الزوال- خطبة يبين فيها للناس أحكام الحج وغيره، يصلي الحاج الظهر والعصر قصراً وجمعاً في وقت الأولى منهما، يؤذن لهما أذاناً واحداً، ويقيم لكل منهما إقامة منفردة، يسر فيهما بالقراءة، قال جابر- رضى الله عنه-: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحّلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس. إلى أن قال جابر: ثم أذّن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر " رواه مسلم. فإذا صلى الناس، وقفوا بعرفة، ويجزئ الوقوف في أي مكان منها إلا بطن وادي عرنة، ويجب على الحاج أن يتأكد من أن وقوفه داخل عرفات، وحُدُودُها واضحةٌ؛ حيث وضِعَتْ علامات وأمارات تبين للناس حدّها من كل جهة من جهاتها.

وبطن عرنة ليس موقفاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "وقفت هنا وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنة" رواه أحمد وابن حبان. وعلى الحاج الإكثار من الذكر والدعاء في هذا اليوم العظيم، والخضوع والتذلل لله تعالى، ويستحب حال وقوفه استقبال القبلة وجبل الرحمة إن تيسر له ذلك، وإلا استقبل القبلة، ولا يزال مشتغلاً بالذكر والدعاء وسؤال الله تعالى إلى أن تغرب الشمس، ولا يجوز له أن ينصرف منها قبل ذلك. وقد وصف جابر رضي الله عنه حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ... واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيبُ مَورِك رَحْلِه، ويقولُ بيده اليمنى: أيها الناس، السكينةَ السكينةَ ... " رواه مسلم.

وهكذا ينبغي للحاج أن يجمع في وقوفه بعرفة بين النهار والليل، ثم يدفعُ إلى مزدلفة بهدوء وسكينة، فلا يزاحم إخوانه الحجاج، ولا يؤذيهم بقول ولا فعل. فإذا وصل الحاج إلى مزدلفة، أذن ثم أقام فصلى المغرب حين وصوله، ثم أقام فصلى العشاء ركعتين، ولم يصل بين المغرب والعشاء شيئاً، فيجمع بين الصلاتين سواء كان وصوله إلى مزدلفة في وقت المغرب أو بعد أن دخل وقت العشاء، قال جابر رضي الله عنه: " حتى أتى المزدلفة - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فصلى بها المغرب بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً" رواه مسلم. وفي هذه الليلة يبيت الحاج في مزدلفة، وليكن نومه مبكراً حتى يستيقظ نشيطاً يؤدي أعمال يوم النحر دون مشقة، ولا يحيى ليلة المزدلفة بصلاة ولا غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع حتى طلع الفجر. قال ابن القيم رحمه الله: ثم نام رسول الله صلى الله عليه وسلم

حتى أصبح، ولم يحيي تلك الليلة، ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء. ويجوز للضَعَفَة من النساء والصبيان أن يدفعوا من مزدلفة إلى منى آخر الليل؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَذن في تلك الليلة لضَعَفَة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر، وكان ذلك عند غيبوبة القمر، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس. فإذا طلع الفجر صلى الحاج صلاة الفجر أول وقتها، ثم يستقبل القبلة ويذكر الله تعالى ويدعو، ويبقى كذلك حتى يسفر جداً، ومزدلفة كلها موقف، ففي أي موضع منها وقف الحاج أجزأه، ولا يجب عليه القرب من المشعر الحرام ولا صعوده، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وقفت هاهنا"- يعني على المشعر - وجمع- أي مزدلفة - كلها موقف "رواه مسلم. ثم ينصرف الحاج من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس، ويكثر من التلبية في سره، فإذا وصل وادي

مُحَسِّر أسرع قليلاً، ويستمر في تلبيته حتى يصل جمرة العقبة فيقطع التلبية تم يرميها بسبع حصيات متعاقبات، واحدة بعد الأخرى، كل جمرة أكبر من الحمّصة قليلاً، يرفع يده عند رمي كل حصاة ويكبّر، ويستحبُّ أن يرميها من بطن الوادي، ويجعلُ الكعبة عن يساره، ومنى عن يمينه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتيسر أجزأه رميها من أي جهة من جهاتها إذا وقع الحصى في الحوض المستدير حولها، ثم بعد الرمى ينحر هديه، ثم يحلق رأسه، ثم يتحلل ويتجه بعد ذلك إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، تم يسعى إن كان متمتعاً، وهذا السعي لحجِّه والسعي الأول لعمرته، ثم يعود إلى منى ويبقى فيها. هذه أعمال الحج إجمالاً، وسنبدأ بذكرها مفصلة.

يوم عرفة

يوم عرفة اليوم التاسع من ذي الحجة هو يوم عرفة، وهو يوم مغفرة الذنوب، يوم يجتمع فيه حجاج بيت الله الحرام من كافة أرجاء الدنيا، على صعيد واحد، يلبون دعاء ربهم، ويؤدون ما فرضه عليهم، يرجون رحمة الله ومغفرته، ويدعونه أن يعتقهم من النار. إنه يوم إكمال الدين وإتمامه، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين، آية في كتاب الله تقرؤونها، لو علينا نزلت- معشر اليهود- لانخذنا ذلك اليوم عيداً. قال عمر: وأي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} ، فقال عمر رضي الله عنه: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة يوم جمعة. رواه البخاري.

ومسلم. يوم عرفة يوم مغفرة الذنوب، والتجاوز عنها، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف. عن عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار، من يوم عرفة، وأنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء" رواه مسلم. يوم عرفة هو معظم الحج ومقصوده، والمعول عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفات" رواه أحمد وأبو داود. في هذا اليوم يستحب الإكثار من الدعاء والذكر، والاجتهاد في ذلك، وينبغي للإنسان أن يستفرغ وسعه بذكر الله، روي عنه عليه الصلاة والسلام: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" رواه الترمذي.

وينبغي الإكثار من الذكر وتكراره بخشوع وحضور قلب، ويدعو الله تعالى. مما أراد من خيري الدنيا والآخرة، فيدعو لنفسه، ووالديه، وأقاربه، وذريته،- وأصحابه، وأصدقائه، وسائر من أحسن إليه، وجميع المسلمين، والسنة أن يخفض صوته بالدعاء، ويتضرع إلى الله تعالى، ويدعو وهر موقن بالإجابة. فمن الأدعية المستحبة في هذا اليوم: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم اغفر لي مغفرة تصلح بها شأني في الدارين، وارحمني رحمة أسعد بها في الدارين، وتب علي توبة نصوحاً، وألزمني سبيل الاستقامة، وانقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة، وأغنني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عن سواك، ونوّر قلبي وقبري، وأعذني من الشر كله، راجع لي الخير كله.

اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى. اللهم يسر لي اليسرى، وجنبني العسرى، وارزقني طاعتك ما أبقيتني. اللهم متعني بسمعى وبصري أبدا ما أبقيتني، واجعلها الوارث مني، واجعل ثأري على من ظلمني، وانصرني على من بغى عليَّ. يا أرحم الراحمين، أستودعك ديني، وأمانتي، وقلبي، وبدني، وخواتيم عملي، وجميع ما أنعمت به عليّ، وعلى جميع المسلمين. ومن الأدعية المختارة، ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان فيما دعا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقر، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المغرور المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير،

من خضعت لك رقبتُه، وفاضت لك عبرتُه، وذلّ لك خدُّه، ورغم لك أنفُه. اللهم لا تجعلني بدعائك شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين" رواه الطبراني. وفي هذا اليوم العظيم، يدنو الله تعالى، ويباهي بأهل الموقف الملائكة، فيقول: " انظروا إلى عبادي، أتوني شُعْثًا غُبْراً من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم" رواه ابن خزيمة. فعلى المسلم أن يحرص على الدعاء في هذا اليوم، وليكثر الاستغفار، والتلفظ بالتوبة، والبكاء من خشية الله تعالى. فعلى صعيد عرفات، تسكب العبرات، وتقال العثرات، وترتجى الطلبات، وتضاعف الحسنات، وتمحى الذنوب والسيئات، وترفع الدرجات. حقاً إنه لمشهد عظيم يعجز القلم عن وصفه، وموقف كريم طوبى لمن وقفه، وخرج منه وقد غُفِر ذنبه، وكان مقبولاً عند ربه، حاجات العباد في هذا الموقف

مننوعة، فمِنْ نادمٍ على حقوقٍ لله رفضها، ومِنْ باكٍ على توبة عقدها ثم نقضها، ومِنْ خائفٍ سطوة الملِك الديان، ومِنْ راجٍ بسطة الكرم من المنان، أولئك يباهي الله بهم ملائكة السماء، ويشملهم برحمته الواسعة، وهو أرحم الرحماء. اللهم يا من يلجأ إليه المذنبون، ويستغيث به المفرطون، ويسجد لعظمته الخائفون، ويخضع لجلاله المخبتون، اللهم يا من خلق الإنسان وبناه، واللسان وأجراه، يا من لا يخيب مَنْ دعاه، ولا يطرد من لاذ في حماه، اللهم هاهم عبادك رفعوا أيديهم ولاذوا بجنابك، اللهم أعطهم سؤالهم، واغفر ذنوبهم، وتجاوز عن سيئاتهم، ونقهم من الذنوب والخطايا، واحفظهم من المحن والبلايا، اللهم وأعتقهم من نيرانك، واجعلهم من أهل جنانك، اللهم لا تردهم خائبين، برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.

أعمال يوم النحر

أعمال يوم النحر اليوم العاشر من ذي الحجة يوم عطيم مبارك، هو يوم الحج الأكبر، وفيه يَكْثُر التقرب إلى الله تعالى بإراقة دماء الهدى والأضاحي، ويرمي الحجاج جمرة العقبة، ويحلقون رؤوسهم، ويطوفون طواف الإفاضة لحجهم. والحج الأكبر هو الحج المعروف، الذي يقابل العمرة، ووصف بالأكبر لتمييزه عن العمرة، التي تسمى بالحج الأصغر. إن هذا اليوم يوم عظيم، فيه خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته الشهيرة، والتي بين فيها تحريم الدماء والأموال والأعراض، ففي الصحيحين، من حديث أبى بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: "الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ

وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. ثم قال عليه الصلاة والسلام:"أيها الناس: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَسَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". وفي هذا اليوم ينهي حجاج بيت الله الحرام معظم أعمال الحج، وذلك أنهم إذا صلوا فجر هذا اليوم بمزدلفة، ووقفوا عند المشعر الحرام، وذكروا الله

تعالى حتى يسفروا جداً، انصرفوا- بعد ذلك- إلى منى قبل طلوع الشمس امتثالاً لقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198- 199] . فإذا وصل الحاج إلى منى رمى جمرة العقبة، ووقت الرمي من طلوع الشمس إلى زوالها يوم النحر. ثم بعد الرمي ينحر أو يذبح هديه، ثم يحلق رأسه، وهو أفضل من التقصير، لأن الله تعالى بدأ به في قوله جل شأنه: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] . ولأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين واحدة، فإذا رمى جمرة العقبة وحلق رأسه أبيح له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء،

ويسمى هذا بالتحلل الأول، ويسن له بعد هذا التحلل أن يتطيب، ويتوجه إلى البيت ليطوف طواف الإفاضة، وهو ركن الحج، ويسمى طواف الزيارة، ولا يتم الحج إلا به، وهو المراد بقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . ويسعى لحجه أيضاً إن كان متمتعاً، وهذا السعي لحجه، والسعي الأول لعمرته، وأما القارن أو المفرِد، فإن كان قد سعى بعد طواف القدوم أول دخوله مكة كفاه ذلك عن السعي بعد طواف الإفاضة. ثم اعلم أيها الحاج الكريم: أن الأفضل في أعمال الحج يوم النحر أن ترتبها كما يلي: ترمى جمرة العقبة أولا، ثم تذبح أو تنحر هديك، ثم تحلق أو تقصر رأسك، ثم تطوف طواف الإفاضة بالبيت. وهذا هو السنة، فإن قَدَّم الحاج بعض هذه الأعمال على بعض، أجزأه ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل

في هذا اليوم عن شيء قدم ولا أُخِّرَ إلا قال: " افعل ولا حرج" متفق عليه. وذلك تيسير وتسهيل منه عليه الصلاة والسلام على أمته. وفي الحج تحللان: التحلل الأول، والتحلل الثاني، فإذا رمى الحاج جمرة العقبة يوم العيد، وحلق رأسه أو قصره حل التحلل الأول، وحل له كل شيء كان محرماً عليه بالإحرام إلا الجماع فإنه لا يحل له بذلك، ويبقى محرماً عليه حتى يطوف طواف الإفاضة، ويسعى بين الصفا والمروة، فإذا فعل ذلك حل التحلل الثاني، وأبيح له كل شيء حتى النساء. فإذا طاف الحاج وسعى، عاد بعد ذلك إلى منى، ليبيت بها ثلاثة أيام بلياليها، يرمي فيها الجمار الثلاث، فالمبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر من واجبات الحج، وكذا ليلة الثالث عشر للمتأخر، وهو أفضل من التعجل وأعظم أجراً؛ فإن الله تعالى قال: {وَاذْكُرُوا

اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى..} [البقرة: 203] ولأن ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يتعجل، وبقى ومنى، ورمى اليوم الثالث عشر، ولا يفعل إلا ما هو الأفضل. ومن لم يذبح هديه في اليوم الأول ذبحه في أي يوم من أيام التشريق، فكلها محل للذبح، لقوله عليه الصلاة والسلام:"وفي كل أيام التشريق ذبح "، وإذا لم يجد المتمتع ولا القارن هدياً، وجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا عاد إلى بلده، وذلك لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] . وهو مخيّر في صيام الأيام الثلاثة، إن شاء صامها قبل يوم العيد، وإن شاء صامها أيام التشريق الثلاثة،

وهذه الأيام الثلاثة يحرم صيامها إلا لمن كان هذا حاله، لما ورد عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْنُ إلا لمن لم يجد الهدي " رواه البخاري. ثم إذا عاد إلى أهله صام الأيام السبعة الباقية، وهو بالخيار إن شاء صامها متتابعة، وإن شاء فرّقها.

أيام التشريق

أيام التشريق يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] . قال المفسرون: الأيام المعدودات هي أيام التشريق، قال الإمام القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى، وهي أيام التشريق، وأن هذه الأسماء الثلاثة واقعة عليها. وأيام التشريق أيام أكل وشرب، وإظهار للفرح والسرور، يذكر المسلم فيها ربه عقب الصلوات المكتوبات، وفي كل أحواله، ويشمل الأمر بذكر الله الحاج وغيره. وهذه الأيام الثلاثة يبيت فيها الحجاج بمنى، ويرمون فيها الجمار، فإذا كان اليوم الحادي عشر وهو أول أيام التشريق، وزالت الشمس من ذلك

اليوم، ابتدأ وقت الرمي، ولا يجوز رمي قبل الزوال، ويبتدئ برمي الجمرة الأولى وهي الصغرى التي تلي مسجد الخيف، يرميها بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل رمية، فإذا رماها يسن له أن يتأخر عنها، ويجعلها عن يساره، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه ويدعو، ويكثر من دعائه وتضرعه لله تعالى. ثم يتجه إلى الجمرة الوسطى فيرميها، ثم يدعو عندها كما فعل في الأولى. ثم يرمي الجمرة الثالثة، وهى جمرة العقبة، ولا يقف للدعاء عندها لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أيها الحاج الكريم أن لرمي الجمار أحكاماً ينبغي معرفتها، نبّه إليها العلماء وذكروها في كتبهم. فمن تلك الأحكام ما يتعلق بالرمي وصفته، فالحصى الذي يُرمَى به يكون بحجم الحمّصة تقريباً، ويلقط الحصى من منى أو مزدلفة أو غيرهما، كلُّ يوم

بيومه، ولا يجب في الرمي أن تضرب الحصاة العمود الشاخص، بل الواجب أن تستقر في الحوض المستدير حوله، فلو ضربت العمود ولم تسقط في الحوض وجب عليه أن يرمي بدلها، ولو سقطت في الحوض واستقرت له أجزأت، وإن لم تضرب الشاخص. ولو نسى الرامي حصاة من إحدى الجمار فلم يرمها ولم يذكر إلا فيما بعد، عاد ورمى الحصاة التي نسيها. ويجب على كل حاج أن يرمي بنفسه إن كان قادراً على الرمي، ولا يجوز أن يوكل غيره، سواء كان حجه فريضة أو تطوعاً، إلا أن يضق عليه الرمي كالرجل المسن، والمريض، والمرأة الحامل، أو الضعيفة، ونحوهم، فهؤلاء يجوز لهم التوكيل. ويبدأ الوكيل بالرمي عن نفسه أولاً، ثم يرمي عن موكله، ويجوز أن يرمي في موقف واحد، فيرمي عن نفسه ثم عن موكله، ولا يلزمه أن يرمي، الجمرات

الثلاث عن نفسه أولاً، ثم يعود مرة أخرى فيرمي عن موكله، كما يفيد ذلك ظاهر حديث جابر رضي الله عنه، قال: (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم) رواه ابن ماجه، فظاهره أنهم كانوا يفعلون ذلك في موقف واحد، إذ لو كانوا يكملون الثلاث عن أنفسهم، ثم يرجعون من أوال عن الصبيان، لبينوا ذلك ولنقل عنهم. وأما رمي الجمرات ليلاً، فجمهور العلماء على جوازه، لما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسْأَل يوم النحر بمنى، فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج، وقال: رميت بعد ما أمسيت؟، قال: ارم ولا حرج ". وهذا الحديث يدل على جواز الرمي في الليل؟ لأن اسم المساء يصدق على الليل، فيجوز الرمي ليلاً لمن كان له عذر، مثل الرعاة، والسقاة، وكبار السن،

وضعاف البنية؛ والنساء عموماً لمنع اختلاطهن بالرجال، وخوف التكشف. ولاشك أن الأفضل هو الرمي نهاراً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن شدة الزحام في هذا الزمن، وكثرة الحجاج، وما يجد كثير من الناس من المشقة في الرمي نهاراً، كل ذلك يرجح القول بجواز الرمي ليلا، وهذا الذي يوافق يسر الإسلام وسماحته وسهولته، فإن بعض الناس قد يموت أثناء الرمي، لكثرة التدافع حول الجمرات، والوقت من زوال الشمس إلى غروبها لا يستوعب جموع الحجيج كلها، ولا يكفى لرمي الأعداد الهائلة من الحجاج. قال الشيخ محمد بن عثيمين- رحمه الله-: الأفضل للإنسان أن يرمى الجمرات في النهار، فإن كان يخشى من الزحام، فلا بأس أن يرميها ليلاً، وذلك لأن الببي صلى الله عليه وسلم، وقَّت ابتداء الرمي، ولم يوقّت انتهاءه، فدل هذا على أن الأمر في ذلك واسع.

أيها الحاج: في هذه الأيام المباركة، أيام التشريق، ينبغي للمسلم أن يكثر من ذكر الله تعالى، والتكبير، والاستغفار، وقراءة القران، روى مسلم في صحيحه عن نبيشة الهذلي- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل". وذكر الله عز وجل المأمور به في أيام التشريق، أنواع متعددة، كما يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله-، منها ذكره تعالى عقب الصلوات المكتوبات بالتكبر في أدبارها، وهو مشروعٌ إلى آخر يوم من أيام التشريق، ومنها ذكره تعالى على الأكل والشرب، فإن المشروع في الأكل والشرب، أن يسمي الله عز وجل في أوله، ويحمده في آخره، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " إن الله عز وجل يرضى عن العبد، أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها" رواه مسلم. ومنها ذكر الله تعالى بالتكبير عند رمي الجمار

في أيام التشريق، ومنها ذكر الله تعالى المطلق، فيستحب الإكثار منه في أيام التشريق، وقد كان عمر يكبر بمنى في قبته، فيسمعه الناس فيكبرون، فترتج منى تكبيرا. واستحب كثير من السلف الإكثار من هذا الدعاء في أيام التشريق، قال عكرمة: كان يستحب أن يقال في أيام التشريق: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". وهذا الدعاء من أجمع الأدعية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر منه، وروي أنه كان أكثر دعائه، وكان إذا دعا بدعاء جعله معه، فإنه يجمع خيري الدنيا والآخرة. قال الحسن البصري: الحسنة في الدنيا: العلم والعبادة، وفي الآخرة: الجنة. اللهم اجعل في قلوبنا نوراً نهتدي به إليك، وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك، وارزقنا

حلاوة ذكرك والتذلل بين يديك،. واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ختام أعمال الحج

ختام أعمال الحج في اليوم الثاني من أيام التشريق، وهو اليوم الثاني عشر، يبقى الحاج في منى، فإذا كان الزوال رمى الجمرات الثلاث كما رماها بالأمس، مبتدئاً بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، فالوسطى، فجمرة العقبة. فإذا انتهى من الرمي فهو بالخيار: إن شاء تأخّر ويبقى في منى يومه هذا،- وبات فيها ليلة الثالث عشر، ورمى الجمرات من الغد على نحو ما رماها في هذا اليوم. وإن شاء تعجل، قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] . قال كثير من السلف: يريد أن المتعجل والمتأخر يغفر له، ويذهب عنه الإثم الذي كان عليه قبل حجه

إذا حجَّ فلم يرفث ولم يفسق، ويرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ولهذا قال تعالى: {لِمَنِ اتَّقَى} . وقال الطبري: قال بعض العلماء: معناه: فمن تعجل في يومين من أيام التشريق، فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه في نفره وتعجله في النفر، ومن تأخر عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخره. والأفضل للحاج أن يؤخر النفر إلى اليوم الثالث، فيبيت في منى ليلة الثالث عشر فإذا كان وقت الزوال من ذلك اليوم رمى الجمرات الثلاث، وذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يتعجل بل بقى. بمنى في اليوم الثالث عشر ورمى الجمرات بعد الزوال، ثم ارتحل قبل أن يصلى الظهر عليه الصلاة والسلام. وقد رخص عليه الصلاة والسلام للناس في التعجل، فمن رمى الجمرات في اليوم الثاني عشر بعد

الزوال، وأراد النفر جاز له ذلك، لكن يجب عليه أن يخرج من منى قبل غروب شمس ذلك اليوم، فمان غربت عليه الشمس وهو بمنى لزمه المبيت، ورمي الجمار من الغد. لكن لو أراد الحاج أن يتعجل، وغربت عليه الشمس دون اختياره، كأن يتأخر بسبب زحمة السيارات أو نقل الأثاث أو نحوهما، فإنه لا يلزمه التأخر؛ لأن تأخره إلى الغروب بغير اختياره، وقد شرع في التعجل. أيها الحاج الكريم: إذا خرج الحاج من منى وأتم أعمالَ حجه، وأراد أن يعود إلى بلده، وجب عليه واحد من واجبات الحج، وهو طواف الوداع، ولا يسقط هذا الطواف إلا عن المرأة الحائض أو النفساء، فإنه لا وداع عليهما. ويدل لذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين: "أُمِرَ الناسُ أن يكون آخرُ عهدهم

بالبيت، إلا أنه رخص للمرأة الحائض ". ويطوف طواف الوداع سبعة أشواط خول البيت. وإن كان الحاج لم يطف طواف الإفاضة للحج وأخره إلى حين خروجه، جاز له أن يطوف طوافاً واحداً يجزئه عن طواف الإفاضة وطواف الوداع، لكن يشترط أن ينوي ذلك قبل ابتداء الطواف، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" متفق عليه. وطواف الإفاضة ركن، وطواف الوداع واجب، فيدخل الأصغر في الاكبر. فإن طاف طوافاً واحداً للوداع ولم ينو طواف الإفاضة لم يجزئه. كما لا يجوز للحاج أن يقدم طوافَ الوداع على رمي الجمار، كما يفعل بعض الناس من الطواف ضحى ذلك اليوم، ثم يرمون الجمار بعد الزوال، ثم يعودون إلى بلدانهم، فإن هذا مخالف لقوله عليه

الصلاة والسلام:"لا ينفرنّ أحد من الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت" رواه مسلم. ولأن ذلك كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن آخر أعمال الحج التي فعلها قبل أن يعود إلى المدينة أنه طاف طواف الوداع. والخير كل الخير في اتباع سنته عليه الصلاة والسلام، والحرص على التأسي به في أقواله وأفعاله، حتى ينال الأجر من الله تعالى، وحتى يحج الحجة الصحيحة، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالإقتداء به، وكان كلما أدى عملا من أعمال الحج، قال: "لتأخذوا عني مناسككم ". رواه مسلم. فإذا طاف طواف الوداع، لا يجوز له أن يبقى في مكة، ولا أن يتشاغل بشيء، إلا ما يتعلق بأمر سفره من شراء بعض ما يحتاجه في الطريق، أو كان ينتظر بقية رفقته المسافرين معه. ومما ينبغي التنبيه عليه هنا، أنه إذا طاف طواف

الوداع، فلا يفعل ما يفعله المبتدعة من الرجوع إلى الخلف من داخل المسجد الحرام حتى يصل إلى الباب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإذا وَلَّى لا يقف، ولا يلتفت، ولا يمشي القهقهرى. كما لا يقف عند الباب كثيراً، أو يتلفظ بأذكار يودع فيها البيت، فإن هذا كله من البدع ". ثم ليجتهد المسلم بعد أن مَنَّ الله عليه بختام أعمال الحج، ويَسَّر له ذلك أن يجتهد ويكثر الدعاء لله تعالى بالقبول، فإن من تقبّل الله منه حجه عاد إلى أهله سليماً من الذنوب والسيئات، وهذا بغية كل مسلم. وقد كان السلف رحمهم الله يجتهدون في إتمام العمل، وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده. وقد روي عن على رضي الله عنه أنه قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا

قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] . وقال فضالة بن عبيد رضي الله عنه: لأن أكون أعلم أن الله قد تقتل مني مثقال حبة من خردل، أحب إليّ من الدنيا وما فيها. اللهم إنا نستغفرك لذنوبنا، ونستهديك لمراشد أمورنا، ونستجيرك من شرور أنفسنا، ونتوب إليك فتب علينا، يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا عظيم العفو، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا كريم الصفح، تقبل منا أعمالنا، وتقبل من حجاج بيتك الحرام، واجعل حجهم مبروراً، وذنبهم مغفوراً، وسعيهم مشكوراً.

زيارة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم

خاتمة: زيارة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" متفق عليه. بيَّن عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أنه لا يجوز للمسلم أن ينشئ سفراً، ويعزم عليه، ويقصد أيّ مكان على هذه الأرض بقصد العبادة والقربة، إلا لواحد من هذه المساجد، التي ذكرها المصطفى عليه الصلاة والسلام في حديثه، وهي المسجد الحرام بمكة، والمسجد النبوي بالمدينة، والمسجد الأقصى. فزيارة المسجد النبوي سنة، يبتغي بها المسلم الأجر والثواب من الله، وزيادة الحسنات، ورفعة الدرجات، من المتفضل الوهاب، جل في علاه. وليصلي في مسجد المصطفى عليه الصلاة

والسلام، فينال ثواب المضاعفة، قال صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام" متفق عليه. وليس قصد المدينة لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم بعد الحج، أو في أي وقت من الأوقات، فإن ذلك من البدع المحدثة في الدين، وليس في كلام أهل العلم الذين يعتد بكلامهم، ويستأنس بأقوالهم، سلفاً وخلفاً ما يدل على شرعية الزيارة لا غير، وحَسْب المسلم أن تكون أفعاله وعباداته مستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأفعال الصحابة رضي الله عنهم، والسلف الصالح، إذ لو كان ذلك من الأفعال المحمودة شرعاً، والمقبولة عند الله تعالى، لكانوا أول الناس امتثالا، وأسرعهم استجابة لذلك. لكن ليعلم أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا ارتباط لها بالحج، فليست شرطاً من شروطه، ولا واجباً من واجباته، ولا علاقة لها به، كما يتصور ذلك بعض

العوام، الذين يعتمدون في ذلك على أخبار نسبها الوضاعون إلى سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، ونشروها وروّجوا لها، ولم يثبت شيء منها. منها: (مَن حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) ، ومنها: (مَن زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد دخل الجنة) ، و (مَنْ زار قبري وجبت له شفاعتي) ، وغير ذلك من الأخبار المكذوبة المختلقة التي لم تثبت عنه صلى الله عليه وسلم، والتي عدها العلماء المحققون ذوو الاختصاص أنها أحاديث منكرة لا تصح، وقد قال أشرف الورى، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم: " من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". متفق عليه. فإذا توقفت زيارة قبره صلى الله عليه وسلم على إنشاء السفر، لم تُجز؛ فإنه عليه الصلاة والسلام لم يدْعُ أمته إلى ذلك، ولم يُرغّب فيه، بل إنه قال: "لا تجعلوا قبري عيداً" رواه أبو داود، وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور

أنبيائهم مساجد" رواه مالك. فعلى المسلم أن يتحرّى في عباداته لربه، وأن يتوقف عند النصوص الشرعية الثابتة، ويهتدي بما دلت عليه، وأن لا يتجاوزها إلى ما يُخشى منه، إذ قد يكون ذلك سبباً في إيقاعه في الجهالة والضلالة، والخير كل الخير في الإقتداء بنهج المصطفى عليه الصلاة والسلام وما كان عليه سلف الأمة. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] . فزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، تكون تبعاً لزيارة مسجده صلى الله عليه وسلم، فإذا وصل الزائر لمسجده صلى الله عليه وسلم، استحب له أن يقدم رجله اليمنى عند دخوله، ويدعو بدعاء الدخول، ثم يصلي ركعتين أو ما استطاع، والأولى أن تكون في الروضة الشريفة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" متفق عليه.

وبعد الصلاة يستحب له زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، فيأتي إلى مواجهته ويستقبل القبر،! ويستدبر القبلة، ويقف قبالة النافذة الدائرية اليسرى، مبتعداً عنها، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، أشهد أنك رسول الله، وانك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده، فجزاك الله عن أمتك أفضل ما جزى نبياً عن أمته. ثم يأخذ ذات اليمين قليلاً، فيسلم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويترضّى عنه، ثم يأخذ ذات اليمين قليلاً- أيضاً- فيسلّم على عمر رضي الله عنه، ويترضّى عنه، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم صيغة معيَّنة في

الصلاة والسلام عليه عند قبره، ويُسن له الإكثار من الصلوات المفروضة والنافلة في المسجد حتى ينال أجر وثواب ذلك. ولتعلم- أيها المسلم- أن هناك من الناس من يتعمّد الإقامة في المدينة ثمانية أيام حتى يصلى أربعين صلاة، ويعتمد في ذلك على حديث ضعيف روي في هذا، وهو: " من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة، كتبت له براءة من النار، ونجاة من العذاب، وبرئ من النفاق ". وهذا لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد عنه صلى الله عليه وسلم الحثّ والترغيب على التبكير لحضور جميع الصلوات مع جماعة المسلمين في سائر المساجد، ولم يخص مسجده صلى الله عليه وسلم دون غيره، فقد صحح بعض العلماء أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق" رواه الترمذي.

وليحذر المسلم في زيارته من الوقوع في المخالفات والمحذورات، كالتمسّح بالسياج والحواجز والشبابيك المحيطة بالحجرة النبوية، أو تقبيلها والتزامها، أو الطواف حولها، فإن ذلك من وسائل الشرك، وطريق مفض إلى الوقوع فيه، وكذلك لا يجوز استقبال قبر النبي صلى الله عليه وسلم حال الدعاء، أو رفع اليدين عنده، أو استقباله والتوجه إليه من بُعْدٍ، وتحريك الشفتين بالسلام عليه، ووضع اليدين على الصدر كهيئة الوقوف في الصلاة، فإن ذلك من الأمور المنكرة. كما لا يجوز رفع الصوت عند القبر، وطول القيام؛ لأن ذلك يُسببُ كثرة الزحام؛ وحصول الأذى، والضرر بالآخرين. فما أجمل الالتزام بالسنة في كل الأمور، واتباع منهج السلف الصالح، فما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وجب الأخذ به، والتمسك بأصوله وفروعه، وما نهى عنه وجب

اجتنابه، والبعد عنه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21] .

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... أهم المصادر صلة الناسك، لابن الصلاح [تحت التحقق للمؤلف] . إيضاح المناسك، للنووي. القرى لقاصد أم القرى، للطبري. هداية السالك، لابن جماعة. التحقيق والإيضاح، للشيخ عبد العزيز بن باز. المنهج لمريد العمرة والحج، للشيخ محمد بن عثيمين. الحج المبرور، للشيخ أبو بكر الجزائري.

§1/1