تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال
ابن رجب الحنبلي
كتاب تَسْلِيَةُ نُفُوْسِ النِّسَاءِ والرِّجَالِ عِنْدَ فَقْدِ الأطْفَالِ للحافظ عَبْدِ الرَّحْمَن بنِ رَجَبٍ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ (736 - 795 هـ) بتحقيق «الشَّيخ الوليد بن عبد الرّحمن الفريان ـ أثَابَهُ اللَّهُ ـ.» قام بتنسيقه ونشره: سَلْمان بن عبد القادر أبُو زيدٍ ـ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ بِمَنِّه ـ.
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة: يقول الله تبارك وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ... [سورة التغابن الآية 11] . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه) ، وفي حديث آخر من رواية صهيب رضي الله عنه قال: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) . الصبر في قمة الأعمال الصالحة التي وعد الله عليها بالثواب الوافر {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [سورة الفرقان الآية 75] . {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف الآية 90] . ... {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [سورة الإنسان الآية 12] وأصبر الناس على بلاء الله هم الأنبياء {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [سورة الأحقاف الآية 35] . لأنه في مواقف الضيق والحرج يمتحن الإيمان، وتظهر للناس خبيئته، حيث تتجرع النفس مرارة الألم، وتعبس الدنيا ويكفهر وجهها. هناك تتجلى قيمة الصبر وفضائله، متى استطاع الإنسان بعزيمته الصادقة وتسليمه بقضاء الله، أن يكبح جماح نفسه الشموس، ويأخذ بمجامعها إلى الجادة، فإذا ذاقت حلاوة الصبر وبرد الإيمان، هجعت واطمأنت، وذهب عنها وهج الحزن وكدره، حتى ترجع أصلب ما تكون عودا، وأقوى في مصاولة خطوب الدنيا ونكساتها. وبهذا الدرع الفريد، يتجاوز المسلم أزماته؛ ليحمل مشعل الحياة الكريمة في دروب الأرض وفجاجها الواسعة، ويقوم بالمهمة التي خلق من أجلها، وليكمل مسيرة الخير تحت راية التوحيد الخالدة، فتتحول المنغصات الخانقة، إلى محرك نشط يدفع بالأمة إلى واجهة التاريخ، ويصقل بخشونته النفوس فتعود أكثر تألقا؛ لتعيش هنيئة راغدة في ظل دوحة الإسلام الوارفة، تتفيا ظلالها وتتقلب في خيراتها.
موضوع الكتاب:
موضوع الكتاب: غرس الله في قلوب الآباء محبة الأولاد والشغف بهم، فلا تكاد تجد أبا أو أما إلا وهو متعلق بأولاده، كلف بهم، مهما بلغ جفاء قبله وخشونة أخلاقه، وقد أشار إلى ذلك المولى جل وعلا في كتابه الكريم بقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [سورة آل عمران الآية 14] وقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [سورة الكهف الآية 46] . وقال مذكرا خلقه بهذه النعمة وممتنا عليهم بها: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [سورة الإسراء الآية 6] . وقال: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [سورة الشعراء الآية 133] . وقال: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [سورة نوح الآية 12] . حتى بلغت الشفقة بالآباء أن ذهب يعقوب عليه السلام يوصي أولاده بقوله: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [سورة يوسف الآية 67] . مع أنه {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [سورة يوسف الآية 68] . وذهب نوح عليه السلام يدعو ابنه إلى الركوب معه في السفينة فقال: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [سورة هود الآية 42] . ثم سأل الله تعالى أن يرده إليه: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [سورة هود الآية 45] . وابتلى الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ووحيده إسماعيل عليه السلام {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [سورة الصافات الآية 102] ؛ ليمتحن صبره وجلده على أقدار الله فكان من الصابرين المتحسبين، وقد وصف الله ذلك بأنه بلاء مبين {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [سورة الصافات الآية 106] . من هذا نلمح مدى ما يتمتع به الأولاد من مكانة عالية في نفوس أهليهم، ولذلك فالابتلاء فيهم له وقع شديد على النفوس، وأثر لا تمحوه الأيام، إلا من تذرع بالصبر، وفوض أمره إلى الله كما قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [سورة يوسف الآية 86] .
المؤلف:
وإفراد هذا الموضوع الإنساني بالبحث لفتة بارعة من أبي الفرج تفيض بالحس الرفيع والروح الشفافة (¬1) . المؤلف: هو العلامة الحافظ المفسر الفقيه الأصولي الواعظ أبو الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسين السلامي البغدادي ثم الدمشقي، المعروف بابن رجب الحنبلي ولد ببغداد سنة 736 هـ وتوفي سنة 795 هـ. والحديث عن أخلاقه ومناقبه وخلاله الجمة، لا تكاد تفي به الصفحات الطوال، وأظن أن أصدق وصف له ما قاله العليمي: اجتمعت الفرق عليه ومالت القلوب بالمحبة إليه (¬2) . أما عبادته وزهده وورعه فحدث ولا حرج، يقول الحافظ ابن حجر: كان رحمه الله عبادة وتهجد منجمعا عن الناس لا يخالطهم، ولا يتودد إلى أحد من ذوي الولايات (¬3) . ولو ذهبنا نستنطق التاريخ ونسأل صفحاته، لظفرنا بما ننوء بحمله ونعجز عن تسطيره. وحسبنا القول الذي ألقي على تراثه، والمحبة التي أشربت بها القلوب. وهذه المنزلة المرموقة الشامخة لم يكن وصوله إليها ضربا من العبث ولم تأت عفوا، فدونها خرط القتاد، وإنما جاءت تتويجا لأعماله وجهوده ووعيه النادر؛ لأن التاريخ مرآة صادقة يعكس الواقع بتجرد، ويعطي كل ذي حق حقه من غير ادعاء أو تزييف. فالتأريخ حكم فصل تسقط دونه جميع الأقنعة، وتنكشف أمامه مواطن الضعف ومسارب القصور. وبالطبع فإننا نقصد به التأريخ الحقيقي - سواء كان منشورا أم لا - البعيد عن المؤثرات البيئية التي ربما كانت سببا في إخفائه أو تشويهه. ¬
الأصل المخطوط:
ابن رجب: أيها الرجل المعطاء لقد أنصفك التأريخ، وبوأك مكان الصدارة في عالم الفكر ودنيا الثقافة، فلله درك من عالم وهب نفسه لله وأتحف الناس بروائعه، التي لا زالت نبعا صافيا يردونه في كل حين. الأصل المخطوط: وصلتنا صورته ضمن مجموعة خطية، عن أصل محفوظ في مكتبة فاتح تحت رقم 5318، ويقع في ست ورقات، نسخت سنة ثلاث وتسعين وثمان مائة كتبها عيسى بن علي الحوراني (¬1) ، بقلم نسخي جيد ومسطرتها 19 سطرا (ينظر الأنموذج) وسجل في أوله ما نصه: (يتلوه كتاب تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال. تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الإمام شهاب الدين أبي العباس الحنبلي الشهير بابن رجب رحمهما الله تعالى) (¬2) . وقد حاولت الحصول على نسخ أخرى لأستفيد منها في التحقيق فلم أجد، ولعلي أن أعثر على ذلك في مستقبل الأيام. التوثيق: سلفت الإشارة إلى أن المجموع الذي يضم هذا الكتاب على درجة لا بأس بها من الصحة والإتقان. وتداول العلماء له بالتملك والوقف، مع اشتماله على رسائل أخرى للمؤلف دليل آخر على صحة نسبة الكتاب إليه، وإذا ما أضفنا إلى ذلك التشابه في الأسلوب بينه وبين مؤلفاته المعروفة، فإننا نصل إلى القناعة بصدق هذه النسبة. ولا يضر بعد ذلك إهمال المترجمين له في ثبت المؤلفات؛ لأنهم دأبوا على الاكتفاء بالمشتهر دون غيره. منهج التحقيق: حرصت على أن يخرج الكتاب كما وضعه مؤلفه. فلم أتصرف في النص إلا بقدر ما تقضي به الضرورة؛ من إضافة أو تعديل، فقمت به ونبهت عليه في موضعه، وعزوت الآيات الكريمة وخرجت الأحاديث الواردة - مع نقل ما قاله أهل العلم في شأن ثبوتها - والآثار التي ¬
أسعفتني المصادر بها، وترجمت لمن رأيت أنه بحاجة إلى التعريف به، وفسرت ما حسبته غامضا. وبعد: أرجو الله مخلصا أن أوفق إلى متابعة هذا الجهد المتواضع فيما يعود بالخير والنفع المتصل، فمنه نستمد العون ونستلهمه الرشد والسداد. كتبه: الوليد بن عبد الرحمن الفريان 19 / 6 / 1407 هـ
نص الكتاب
نص الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر يا كريم الحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين وبعد: ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك. فواعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها، إلا كان لها حجابا من النار. فقالت امرأة: واثنين؟ قال: واثنين) . هذا يدل على أن مجالس النبي صلى الله عليه وسلم - للفقه في الدين والتذكير ونحو ذلك - لم يكن النساء يحضرنها مع الرجال، وإنما كن يشهدن الصلوات في مؤخر المساجد ليلا، ثم ينصرفن عاجلا، وكن يشهدن العيدين مع المسلمين منفردات عن الرجال من ورائهم، ولهذا لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد رأى أنه لم يسمع النساء، فلما فرغ جاء ومعه بلال إلى النساء، فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة، وأجلس الرجال حتى يفرغ من موعظة النساء. وأصل هذا، أن اختلاط النساء بالرجال في المجالس بدعة كما قال الحسن البصري (¬1) . فلذلك قال له النساء: (يا رسول الله، غلبنا عليك الرجال) . وقد روي من حديث أبي هريرة، (أن النساء قلن: يا رسول الله، إنا لا نقدر على أن نجالسك في مجلسك فقد غلبنا عليها الرجال، فواعدنا موعدا نأتيك. قال: موعدكن بيت فلانة (¬2) فأتاهن فحدثهن) (¬3) . وقد أمره الله تعالى أن يبلغ ما أنزل إليه: للرجال والنساء، وأن يعلمه الجميع، كما قال له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الآية [سورة الأحزاب الآية 59] . ¬
وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} الآية [سورة النور الآية 31] . فامتثل ما أمره الله تعالى، ووعدهن مجلسا خاصا لهن، في بيت امرأة، ولعل تلك المرأة كانت من أزواجه أو محارمه - والله أعلم بحقيقة ذلك - ثم وفى بموعده لهن، فأتاهن في يوم موعدهن، فوعظهن وأمرهن ونهاهن ورغبهن ورهبهن، فكان من جملة ما بشرهن به أن قال لهن: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها لم يبلغوا الحنث إلا كان لها حجابا من النار. فقالت امرأة: واثنين؟ قال: واثنين) . وليس في هذا حد سالم (¬1) . وعمومه يدخل فيه من بلغ الحنث ومن لم يبلغه، والمصيبة بمن بلغ أعظم وأشق على النفوس. والمصيبة بمن لم يبلغ أهون وأخف، وقد جاء تقييده في حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (183 / أ) : (ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) خرجاه في الصحيحين (¬2) . والمراد بالحنث الإثم (¬3) ، والمعنى أنه لم يجر عليه الإثم ببلوغه العمر الذي يكتب عليه الإثم فيه. وهو ببلوغ الحلم وعلل: بفضل رحمة الله إياهم. يعني أن الله يرحم أطفال المسلمين رحمة تامة، حتى تفضل عنهم، فيدخل آباؤهم في فضل تلك الرحمة. وهذا مما يستدل (به) (¬4) على أن أطفال المسلمين في الجنة. وقد قال الإمام أحمد (¬5) : ليس فيهم اختلاف أنهم في الجنة (¬6) - وضعف ما روي مما يخالف ذلك أيضا (¬7) - ¬
و (لا) (¬1) أحد يشك أنهم في الجنة (¬2) : قال: وإنما اختلفوا في أطفال المشركين (¬3) . وقال أيضا: هو يرجى لأبويه فكيف يشك فيه (¬4) !! يعني أنه يرجى لأبويه دخول الجنة بسببه، فكيف يشك فيه! ولذلك نص الشافعي (¬5) على أن أطفال المؤمنين في الجنة (¬6) ، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس وكعب. وخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير، تسرح في الجنة حيث شاءت، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش (¬7) . وخرج البيهقي من رواية ابن عباس عن كعب نحوه (¬8) . وفي صحيح مسلم صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رجلا (¬9) قال له: مات لي ابنان ¬
فما أنت محدثي عن رسول الله (183 \ ب) صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا. فقال: نعم، صغارهم دعاميص (¬1) الجنة، يتلقى أحدهم أباه - أو قال: أبويه - فيأخذ بثوبه - أو قال: بيده - كما آخذ أنا بصنفة ثوبك، فلا يتناهى - أو قال: ينتهي - حتى يدخله الله وإياه (¬2) الجنة. وخرج النسائي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله بفضل رحمته إياهم الجنة. قال: يقال (¬3) لهم: ادخلوا الجنة. فيقولون: حتى يدخل أبوانا في المجتبى آباؤنا. . فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم) . وخرج الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة، إذا احتسبته) . وخرج الإمام أحمد وابن ماجه أيضا من حديث عتبة بن عبد السلمي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل) . وفي رواية للإمام أحمد، (أن الله تعالى يقول للوالدان يوم القيامة: ادخلوا الجنة. فيقولون: يا رب حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا. قال: فيأبون. فيقول الله عز وجل: مالي أراهم محبنطيين؟ . ادخلوا الجنة. فيقولون: يارب آباؤنا. فيقول: ادخلوا ¬
الجنة أنتم وآباؤكم) . وروى الطبراني من حديث أنس نحوه وزاد (184 \ أ) فيه: (أن يقال لهم في المرة الرابعة: ادخلوا ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة. فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم) . وخرج الإمام أحمد والنسائي من رواية قرة (¬1) (أن رجلا كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه ابن له. فقال له: أتحبه؟ قال: أحبك الله كما أحبه. فمات ففقده فسأل عنه، فقال: أما يسرك أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته عندها (¬2) . يسعى ليفتح لك - زاد الإمام أحمد - فقال رجل: له خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم) . وخرج الطبراني من حديث ابن عمر نحوه، ولكن قال فيه: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أو ما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش؟ قال: بلى يا رسول الله) . وفي المعنى أحاديث كثيرة جدا. وقد كان الصحابة يرجون ذلك عند موتهم، كما روي عن أبي ذر أنه لما حضرته الوفاة بكت أم ذر فقال لها: أبشري ولا تبكي؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة، فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبدا) . وقد مات لنا ثلاثة من الولد (¬3) . ¬
والحديث الذي قبله يدل على أن أطفال المسلمين الموتى يلعبون تحت ظل (184 / ب) العرش، وفي حديث أبي هريرة أنهم دعاميص الجنة. والدعموص: دويبة صغيرة تكون في الماء. والمعنى أنهم يتربون في أنهار الجنة، ويغتمسون فيها، وفي رواية: ينغمسون في أنهار الجنة (¬1) . يعني يلعبون فيها. وقد روي أنه يكفلهم إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة عليها السلام. وخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذراري المؤمنين يكفلهم إبراهيم في الجنة) . وخرجه الإمام أحمد مع نوع شك في رفعه، ووقفه على أبي هريرة (¬2) . وروي من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا: (أولاد المسلمين في جبل في الجنة، يكفلهم إبراهيم وسارة عليهما السلام، فإذا كان يوم القيامة دفعوا إلى آبائهم) . خرجه البيهقي وغيره مرفوعا (¬3) ، ويشهد لذلك ما في صحيح البخاري، عن سمرة بن جندب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتيان، - فذكر حديثا طويلا وفيه، إن الملكين فسراه له، وأنهما جبريل وميكائيل، وأنه من ¬
جملة ما رأى - رجلا طويلا في روضة وحوله ولدان وقالا له: الرجل الطويل في الروضة إبراهيم، والولدان حوله كل مولود مات على الفطرة. فقال رجل. يا رسول الله (185 / أ) وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين) (¬1) . وقد روي أنهم يرضعون من شجرة طوبى. وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن معدان (¬2) قال: إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى. ضروع كلها. ترضع صبيان أهل الجنة، وإن سقط المرأة يكون في (نهر من) (¬3) أنهار (الجنة) يتقلب فيه حتى يوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة. كذا قال. وفي حديث المقدام بن معدي كرب المرفوع: إن ما بين السقط والهرم، يبعثون أبناء ثلاثين سنة. وفي رواية: أبناء ثلاث وثلاثين. وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن خالد بن معدان قال: إن في الجنة شجرة يقال: لها طوبى كلها ضروع، فمن مات من الصبيان الذين يرضعون يرضع من طوبى. وحاضنهم إبراهيم عليه السلام. وروى الخلال بإسناده عن عبيد بن عمير (¬4) : إن في الجنة شجرة لها ضروع كضروع البقر، يغذى به ولدان أهل الجنة، حتى إنهم يستنون كاستنان البكارة. وبعض الأطفال له مرضع في الجنة، مثل إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما مات قبل أن يفطم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعا في ¬
الجنة تكمل رضاعه فيها. وفي رواية: " ظئرا" (¬1) . وفي رواية: إن له مرضعين يكملان رضاعه في الجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم (185 \ ب) قد حضره وهو يكيد (¬2) بنفسه، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون. وفي رواية: ولولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأنها سبيل مأتية، وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب العزاء، من حديث زرارة بن أوفى، أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلا على ابنه فقال الرجل: يا رسول (¬3) ، أنا شيخ كبير وكان ابني قد أجزا عنا. فقال: أيسرك، قد نشر لك، أو يتلقاك من أبواب الجنة بالكأس؟ قال: من لي بذاك يا رسول الله؟ قال: الله لك بهن ولكل مسلم مات له ولد في الإسلام. وبإسناده عن عبيد بن عمير قال: إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين من الجنة بأيديهم الشراب، فيقول الناس: اسقونا اسقونا. فيقولون: أبوينا أبوينا. حتى السقط محبنطيا بباب الجنة يقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي. وفي المعنى حديث مرفوع من رواية ابن عمر لكن إسناده لا يصح وهو باطل، قاله أبو حاتم الرازي (¬4) . وفي المعنى رؤيا إبراهيم الحربي (¬5) . المشهورة حتى (86 \ أ) صار يتمنى موت ابنه. ¬
ومات قبل البلوغ (¬1) ، وروى البيهقي بإسناده عن ابن شوذب (¬2) ، أن رجلا كان له ابن لم يبلغ الحلم، فأرسل إلى قومه: إن لي إليكم حاجة: إني أريد أن أدعو على ابني هذا أن يقبضه الله، وتؤمنون (¬3) فسألوه عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى في نومه كأن الناس جمعوا إلى القيامة، فأصاب الناس عطش شديد، فإذا الوالدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق، فأبصرت ابن أخ لي فقلت: يا فلان اسقني. فقال: يا عم إنا لا نسقي إلا آباءنا. قال فأحببت أن يجعل الله ولدي هذا فرطا لي (¬4) فدعا فأمنوا. فلم يلبث الغلام إلا يسيرا حتى مات (¬5) . وفي أكثر الأحاديث ذكر الثلاثة والاثنين. وفي بعضها وأظن لو قلنا وواحدا لقال: وواحدا. خرجه أحمد من حديث جابر (¬6) . وقد جاء ذكر الواحد في حديث، خرج الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعا: من قدم ثلاثة لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا. فقال أبو ذر: قدمت اثنين. فقال: واثنين. فقال أبي بن كعب: قدمت واحدا. قال: وواحدا، ولكن إنما ذاك عند الصدمة الأولى. وفي الترمذي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما (¬7) الجنة. فقالت ¬
عائشة: ومن كان له فرط من أمتك. قال (¬1) : ومن (186 \ ب) كان له فرط من أمتي يا موفقة. قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: فأنا فرط أمتي، لن يصابوا بمثلي ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم في آخر خطبة خطبها: (إني فرطكم على الحوض) ، يشير إلى أنه يتقدمهم ويسبقهم إلى الحوض، وينتظرهم عنده. وفي حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا: من مات ولم يقدم فرطا لم يدخل الجنة إلا تصريدا (¬2) . فقيل: يا رسول الله، وما الفرط؟ قال: الولد (أ) (¬3) وولد الولد. والأخ يؤاخيه في الله عز وجل. فمن لم يكن له فرط، فأنا له فرط. وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة، في ذكر المنام الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم: ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه، فجاءته أفراطه الصغار فثقلوا ميزانه. وعن داود بن أبي هند (¬4) قال: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس يدعون للحساب فقدمت إلى الميزان، فوضعت حسناتي في كفة وسيئاتي في كفة، فرجحت السيئات على الحسنات، فبينا أنا كذلك مغموم، إذ أتيت بشيء كالمنديل أو كالخرقة البيضاء، فوضعت في حسناتي (فرجحت على السيئات) (¬5) فقيل لي: تدري ما هذا؟ قلت: لا. قال: سقط كان لك. قلت: إنه قد كانت لي صبية ابنة لي. فقيل لي: تيك ليست لك؛ لأنك كنت تتمنى موتها (¬6) . ¬
وفي (187 \ أ) هذا إشارة إلى أن الميزان إنما يثقل بما يثقل على النفوس: من المصائب ويشق، فأما ما لا يثقل عليها ولا يشق لمن يتمنى موته من أولاده فلا يثقل به الميزان. قال ابن أسلم (¬1) : مات ابن لداود عليه السلام فحزن عليه حزنا شديدا. فأوحى الله (إليه) (¬2) : ماذا كنت مفتديه؟ قال: بطلاع (¬3) الأرض ذهبا. قال: فأوحى الله إليه: إن لك عندي من الأجر بحساب ذلك. وفي رواية قال: يا داود ما كان يعدل هذا الولد عندك؟ قال: كان يعدل عندي ملء الأرض ذهبا. قال: فلك يوم القيامة عندي ملء الأرض ثوابا (¬4) . سبحان من لا يحصي العباد نعمه. وربما كانت نعمه فيما يسوء أكثر من نعمه فيما يسر كما قيل: إذا مس بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر وما فيهما إلا له فيه نعمة ... تضيق بها الأوهام والبر والبحر لما كان للمؤمن داران: دار يرتحل منها، ودار ينتقل إليها ويقيم بها أمره أن ينقل من دار ارتحاله إلى دار إقامته؛ ليعمرها من بعض ما أعطاه في دار ترحاله. وربما أخذ منه كرها ما يعمر به دار إقامته، ويكمل له به عمارتها وإصلاحها، ويقدم له إليها ما يحب من أهل ومال وولد، يسبقونه إليها؛ ليقدم على ما يحب من مال وأهل وولد، وإن كان المؤمن (187 \ ب) لا يشعر بذلك. ¬
فما فرق إلا ليجمع، ولا أخذ إلا ليرد، ولا سلب (إلا) زيادة يقتضيها السياق. ليهب، ولا استرد العواري إلا ليردها تمليكا ثابتا لا استرجاع فيه بعد ذلك!! وفي مراسيل الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لأن أموت قبل أخي أحب إلى. فقال: لأن يكون لك أحب إليك من أن تكون له. قال الحسن: علموا أن ما لهم من أهاليهم (إلا) (¬1) ما قدموا أمامهم (¬2) . وكذا قال عمر بن عبد العزيز (¬3) وغيره. ويشهد له حديث: الرقوب (¬4) من لم يقدم ولدا. سبحان من أنعم على عباده بما خولهم من المال والولد، ثم استرجع بعض ذلك منهم كرها، وعوضهم الصلاة والرحمة والهدى (¬5) وذلك أفضل مما أخذ كما قيل: عطيته إذا أعطى سرورا ... وإن أخذ الذي أعطى أثابا فأي النعمتين أجل قدرا ... وأحمد في عواقبها مآبا (¬6) أرحمته التي جاءت بكره ... أم الأخرى التي جلبت ثوابا بل الأخرى وإن نزلت بضر ... أجل لفقد من صبر احتسابا آخره، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا (¬7) . ¬