تسلية أهل المصائب

المنبجي

الباب الأول ـ في المصيبة وحقيقتها وما أعد الله لمسترجعها

الباب الأول ـ في المصيبة وحقيقتها وما أعد الله لمسترجعها قال الله تعالى: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نعم العدلان ونعمت العلاوة. {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} الآية. ذكره البخاري تعليقاً. وقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه} . قال علقمة وجماعة من المفسرين: هي المصائب تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم والآيات في هذا الباب كثيرة. قال أهل اللغة: يقال مصيبة ومصابة ومصوبة. قالوا: وحقيقته الأمر المكروه يحل بالإنسان. وقال القرطبي: المصيبة كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه. يقال: أصابه إصابة ومصابة وصابة. والمصيبة واحدة المصائب. والمصوبة بضم الصاد مثل المصيبة. وأجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو، وكأنهم شبهوا الأصل بالزائد، ويجمع على مصاوب، وهو الأصل، وعلى مصائب. والمصاب: الإصابة. قال الشاعر: أسليم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحيةً ظلم وصاب السهم القرطاس يصيبه صيباً: لغة في أصابه. والمصيبة: النكبة ينكبها

الإنسان وإن صغرت، وتستعمل في الشر. و «روى عكرمة مرسلاً: إن مصباح النبي صلى الله عليه وسلم انطفأ ذات ليلة، فقال: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ، فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال: نعم! كل ما آذى فهو مصيبة» . وفي صحيح مسلم «من حديث أبي سعيد وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه، إلا كفر الله به من سيئاته» . والوصب: المرض ـ والنصب: التعب. وفي الصحيحين «عن عروة، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عز وجل بها عنه حتى الشوكة يشاكها» . وقال الإمام أحمد: «ثنا يونس، ثنا ليث ـ يعني ابن سعد ـ، عن يزيد ابن عبد الله، عن عمرو، بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أم سلمة، قالت: أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً سررت به، قال: لا تصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم اؤجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا فعل ذلك به. قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه فلما توفي أبو سلمة استرجعت في مصيبتي وقلت: اللهم اؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منه ـ وفي لفظ: خيراً منها ـ ثم رجعت إلى نفسي وقلت: من أين خير لي من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدتي، استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أدبغ إهاباً لي، فغسلت يدي من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة من أدم حشوها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله، ما بي أن لا تكون بك الرغبة، ولكني امرأة في غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا ذات عيال، فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عز وجل عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل ما أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي، قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فصل ـ في كلمة " إنا لله وإنا إليه راجعون "

فتزوجها رسول الله» ، فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيراً منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي هذا الحديث بعدة طرق في الصحاح والمسانيد، وسيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى. ك عن فصل ـ في كلمة " إنا لله وإنا إليه راجعون " فصل ـ في كلمة إنا لله وإنا إليه راجعون وقد جعل الله كلمات الإسترجاع ـ وهي قول المصاب: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ملجأً وملاذاً لذوي المصائب، وعظمةً للممتحنين من الشيطان، لئلا يتسلط على المصاب فيوسوس له بالأفكار الرديئة، فيهيج ما سكن، ويظهر ما كمن، فإذا لجأ إلى هذه الكلمات الجامعات لمعاني الخير والبركة، فإن قوله: {إنا لله} توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وقوله {وإنا إليه راجعون} إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا، فهو إيمان بالبعث بعد الموت وهو إيمان أيضاً بأن له الحكم في الأولى وله المرجع في الأخرى، فهو من اليقين، إن الأمر كله لله فلا ملجأ منه إلا إليه. وروى مسلم في صحيحه من «حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ، اللهم اؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها» الحديث. وروى مسلم أيضاً عن «أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حضرتم المريض أو الميت، فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، قالت: فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أبا سلمة قد مات. قال: قولي اللهم اغفر لي وله وأعقبني منه عقبى حسنة» . فقلت، فأعقبني الله من هو خير لي منه: محمداً صلى الله عليه وسلم. هكذا روي بالشك: إذا حضرتم المريض أو الميت هذا لفظ مسلم. وقد تقدم معنى هذا الحديث من طريق أخرى، «عن ابن سفينة مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة

فيقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ، اللهم اؤجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها» ، قالت: فلما توفي أبو سلمة، قلت: من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ثم عزم لي فقلتها، فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى مسلم نحوه من حديث سعد بن سعيد الأنصاري، أخي يحيى ابن سعيد، عن عمر بن كثير عن ابن سفينة، فذكر نحوه. والمقصود: أن هذا تنبيه على قوله تعالى: {وبشر الصابرين} ، إما بالخلف، كما أخلف الله تعالى لأم سلمة، بدل زوجها أبي سلمة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تبعت السنة، وقالت ما أمرت به ممتثلة طائعة، إن البر ـ له ـ والخير فيما قاله الله ورسوله، وإن الضلال والشقاء في مخالفة الله ورسوله، فلما علمت ـ رضي الله عنها ـ أن كل خير في الوجود، إما عام وإما خاص، فهو من جهة الله ورسوله، وأن كل شر في العالم، أو كل شر مختص بالعبد، فسببه مخالفة الله ورسوله، فلما قالت هذه الكلمات، حصل لها مرافقة الرسول في الدنيا والآخرة. وقد يحصل العبد بكلمات الاسترجاع منزلة عالية وثواباً جزيلاً، كما في «حديث أبي موسى، وسيأتي ذكره، وفيه: فيقول الله تعالى لملائكته: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تبارك: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد» . وقد تقدم الاسترجاع في المصيبة وأن قائله، عليه الصلوات من ربه والرحمة، وهو من المهتدين. وقول عمر: نعم العدلان ونعمت العلاوة، وأنه أراد بالعدلين الصلوات، والرحمة، وبالعلاوة الهداية، والله أعلم. وقيل: المراد استحقاق الثواب، وتسهيل المصاب، وتخفيف الحزن، {أولئك عليهم صلوات من ربهم} ، فالصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدمي التضرع والدعاء. وقال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء. وظاهر الآيه ـ والله أعلم ـ أن الصلاة من الله غير الرحمة، فإنه تعالى عطف الرحمة على الصلاة فعلم التغاير.

فصل ـ في تسلية أهل المصائب بالعلاج الإلهي والنبوي

فصل ـ في تسلية أهل المصائب بالعلاج الإلهي والنبوي فالإلهي: قوله تعالى: {وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} وآيات الصبر كثيرة جداً. والنبوي، «قوله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ، اللهم اؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف الله له خيراً منها» ، وقد تقدم. وأمثال ذلك من الأحاديث. وقد تضمنت هذه الكلمة: {إنا لله وإنا إليه راجعون} علاجاً من الله ورسوله لأهل المصائب. فإنها من أبلغ علاج المصائب وأنفعه للعبد في عاجله وآجله، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما وتسلى عن مصيبته. أحد الأصلين: أن يتحقق العبد أن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله عز وجل حقيقةً، وقد جعله الله عند العبد عارية فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير، وأيضاً: فإنه محفوف بعدمين عدم قبله وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضاً: فإنه ليس هو الذي أوجده من عدم، حتى يكون ملكه حقيقةً ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي. وأيضاً فإنه متصرف فيه بالأمر، تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي. والثاني: أن مصير العبد ومرجعه الى الله مولاه الحق، ولابد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويأتي ربه يوم القيامة فرداً، كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن يأتيه بالحسنات والسيئات. فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله، ونهايته وحاله فيه

فصل: في النظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله

فكيف يفرح العبد بولد أو مال أو غير ذلك من متاع الدنيا؟ . أم كيف يأسى على مفقود؟ ففكرة العبد في بدايته ونهايته من أعظم علاج المصائب، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير* لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} ، ومن تأمل هذه الآية الكريمة وجد فيها شفاء أو دواء المصائب. وكل ما ذكرناه في هذا الفصل، فهو في هذه الآية، فتدبر ذلك. فصل: في النظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ومن تسلية أهل المصائب: أن ينظر المصاب في كتاب الله وسنة رسول الله، فيجد أن الله تعالى أعطى ـ لمن صبر ورضي ـ ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي. ومن أنفع الأمور للمصاب: أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل قرية ومدينة بل في كل بيت من أصيب، فمنهم من أصيب مرةً، ومنهم من أصيب مراراً، وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت، حتى نفس المصاب، فيصاب، أسوة بأمثاله ممن تقدمه، فإنه إن نظر يمنةً فلا يرى إلا محنةً، وإن نظر يسرةً فلا يرى إلا حسرةً. وذكر أبو الفرج بن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد، قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب: أن ذا القرنين، لما رجع من مشارق الأرض، ومغاربها، وبلغ أرض بابل، مرض مرضاً شديداً، فلما أشفق أن يموت، كتب إلى أمه: يا أماه، اصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت عليه، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، واعلمي هل وجدت لشيء قراراً باقياً، وخيالاً دائماً؟ ! إني قد علمت يقيناً، أن

فصل ـ في أن مرارة الدنيا هي حلاوة في الآخرة

الذي أذهب إليه خير من مكاني، قال: فلما وصل كتابه، صنعت طعاماً، وجمعت الناس، وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة، فلم يأكلوا، فعلمت ما أراد، فقالت: من يبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت، فعليك السلام حياً وميتاً. فإذا علم المصاب أنه لو فتش العالم، لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، فسرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً ساءت دهراً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً، وما ملأت داراً حبرةً إلا ملأتها عبرةً وما حصلت للشخص في يوم سروراً، إلا خبأت له في يوم شروراً. قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: لكل فرحة ترحة، وما ملىء بيت فرحاً إلا ملىء ترحاً. وقال ابن سيرين: ما كان ضحك قط إلا كان بعده بكاء. فليعلم العبد أن فوت ثواب الصبر والتسليم هو الصلاة والرحمة والهداية في قوله تعالى: {إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} . وقد تقدم ذلك، فما ضمنه الله على الصبر والاسترجاع، أعظم من المصيبة في الحقيقة، والله أعلم. فصل ـ في أن مرارة الدنيا هي حلاوة في الآخرة ومن تسلية أهل المصائب: أن ينظر العبد بعين بصيرته، فيعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة في الآخرة، يقبلها الله تعالى، وحلاوة الدنيا هي بعينها مرارة في الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة، خير من عكس ذلك، فإن خفي عليك ذلك فانظر إلى قول الصادق المصدوق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» ، وكذلك قوله في الصحيح:

فصل ـ في الاستعانة بالله والاتكال عليه والعزاء بعزائه

«يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يارب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول لا والله يا رب» ، الحديث. وهذا المقام تتفاوت فيه عقول الناس، وتظهر حقائق الرجال، فأكثر أهل زماننا يؤثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول، ولم يتحمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعز الأبد ولا محنة ساعة لعافية الأبد، فإن الحاضر عنده شهادة، والمنتظر غيب، والإيمان ضعيف، وسلطان الشهوة حاكم، فتولد من ذلك إيثار العاجلة ورفض الآخرة، وهذا حال النظر، الواقع على ظواهر أكثر أهل زماننا في أوائل أمورهم ومبادئها، وما ذاك إلا لحبهم هذه الحياة الدنيا. قال وهب بن منبه: كان عيسى ابن مريم عليه السلام يقول: بحق أقول لكم، إن أشدكم حباً للدنيا أشدكم جزعاً على المصيبة. وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجل، ومحاورة العواقب والغايات، فله شأن آخر، فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم، والسعادة الأبدية والفوز الأكبر وما أعد الله لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والخسران والعذاب الدائم، ثم اختر أي القسمين أليق بك، وكل يعمل على شاكلته، وكل أحد يذهب إلى ما يناسبه وما هو الأولى به، وهذا نصح أخيك فيما يحسن بك ويسليك. فصل ـ في الاستعانة بالله والاتكال عليه والعزاء بعزائه ومن تسلية أهل المصائب: أن يستعينوا بالله ويتكلوا عليه، ويتعزوا بعزاء الله تعالى، ويمتثلوا أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويعلموا أن الله مع الصابرين، ويطلبوا استنجاز ما وعد الله به عباده على الصبر. و «في حديث أنس بن مالك، قال: ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري؟ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً، فضحك، فقال: تدرون مما ضحكت؟

فصل ـ ومن أعظم المصائب المصيبة في الدين

قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: عجبت للمؤمن، إن الله ـ عز وجل ـ لا يقضي له قضاء إلا كان خيراً له» . وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده، قال: قال إبراهيم بن داود: قال بعض الحكماء: إن لله عباداً يستقبلون المصائب بالبشر، قال: فقال: أولئك الذين صفت من الدنيا قلوبهم، ثم قال: قال وهب بن منبه: وجدت في زبور داود: يقول الله تعالى: يا داود، هل تدري من أسرع الناس ممراً على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم ربطة من ذكري. فالمؤمن الموفق ـ نسأل الله تعالى حسن التوفيق ـ من يتلقى المصيبة بالقبول، ويعلم أنها من عند الله لا من عند أحد من خلقه، ويجتهد في كتمانها ما أمكن. قال عبد العزيز بن أبي داود: ثلاثة من كنوز الجنة: كتمان المصيبة وكتمان المرض وكتمان الصدقة. وقال بعض السلف: ثلاثة يمتحن بها عقول الرجال: كثرة المال، والمصيبة والولاية. وقال عبد الله بن محمد الهروي: من جواهر البر، كتمان المصيبة، حتى يظن أنك لم تصب قط. وقال عون بن عبد الله: الخير الذي لا شر معه: الشكر مع العافية، والصبر مع المصيبة. فصل ـ ومن أعظم المصائب المصيبة في الدين ومن أعظم المصائب: المصيبة في الدين، فهي من أعظم مصائب الدنيا والآخرة، وهي نهاية الخسران الذي لا ربح معه، والحرمان الذي لا طمع معه. وقد حكى ابن أبي الدنيا عن شريح أنه قال: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات وأشكره، إذ لم تكن أعظم مما هي، وإذ رزقني الصبر عليها، وإذ وفقني الاسترجاع لما أرجوه فيه من الثواب، وإذ لم يجعلها في ديني. ومن أعظم المصائب في الدين، موت النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المصيبة به أعظم من

كل مصيبة يصاب بها المسلم، لأن بموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وانقطعة النبوات، وكان موته أول ظهور الشر والفساد، بارتداد العرب عن الدين، فهو أول انقطاع عرى الدين ونقصانه، وفيها غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد، وغير ذلك من الأمور التي لا أحصيها. قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنكرنا قلوبنا. رواه ابن ماجه. وإذا أردت أن تعلم أن المصيبة به صلى الله عليه وسلم أعظم من كل مصيبة حدثت في الدين، فانظر إلى ما روي «عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزى بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي» . وهذا من رواية موسى بن عبيده، وقد أضعفه غير واحد من الأئمة. لكن روى أبو عمر بن عبد البر بإسناده، «من حديث عطاء بن أبي رباح مرسلاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي، فإنها من أعظم المصائب» ، رواه الحافظ أبو نعيم من هذه الطريق أيضاً، ومن طريق أخرى، عن مكحول مرسلاً، نحوه. ولقد أحسن أبو العتاهيه في نظمه موافقاً لهذا الحديث، حيث يقول: اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد أو ما ترى أن المصائب جمة ... وترى المنية للعباد بمرصد من لم يصب ممن ترى بمصيبة ... هذا سبيل لست عنه بأوحد فإذا ذكرت محمداً ومصابه ... فاجعل مصابك بالنبي محمد وفي رواية: وإذا ذكرت مصيبة تسلو بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد وإذا أردت أن تعلم تغير الأحوال بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فاذكر قوله تعالى: {وما

فصل ـ في البشارة لمن تذكر المصيبة فاسترجع

محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} الآية، {أفإن مات} شرط {أو قتل} عطف عليه، والجواب: {انقلبتم} ودخل ألف الاستفهام على حرف الجر، لأن الشرط قد انعقد به، وصار جملة واحدة، وخبراً واحداً، والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ يقال لمن عاد إلى ما كان عليه، انقلب على عقبيه، وقيل: المعنى فعلتم فعل المرتدين، ومنه انقلب على عقبيه، وقول أنس وقد تقدم. وروى ابن ماجه، من حديث أم سلمة ـ زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت: كان الناس، علىعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قام المصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر ـرضي الله عنه ـ فكان الناس، فإذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فتوفي أبو بكر وكان ـ عمر ـ رضي الله عنه ـ فكان الناس، إذا قام أحدهم يصلي، لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فكان عثمان ـ رضي الله عنه ـ فكانت الفتنة، فتلفت الناس في الصلاة يميناً وشمالاً. وإسناده مقارب. والمقصود أن المصائب تتفاوت، فأعظمها المصيبة في الدين ـ نعوذ بالله من ذلك ـ هي أعظم من كل مصيبة يصاب بها الإنسان، يؤيد ذلك أنه قد جاء في بعض الآثار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلوب من سلب دينه، والمحروم من حرم الأجر» . ثم بعد مصيبة الدين المصيبة في النفس، ثم في المال، أما المال فيخلفه الله تعالى وهو فداء الأنفس، والنفس فداء الدين، والدين لا فداء له. قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} . فصل ـ في البشارة لمن تذكر المصيبة فاسترجع ومن أعظم البشارات لمن أصيب بمصيبة، فذكرها بعد مدة طويلة، فجدد لها

فصل ـ في الفرق بين تمتع الدنيا الفاني والآخرة الباقي

استرجاعاً وصبراً، ماله عند الله من الأجر كلما ذكرها واسترجع. قال الإمام أحمد في مسنده: «ثنا يزيد وعباد بن عباد، قالا: حدثنا هشام ابن أبي هشام، ثنا عباد ابن زياد، عن أمه، عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين ابن علي ـ رضي الله عنهما ـ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم ولا مسلمة، يصاب بمصيبة، فيذكرها وإن طال عهدها ـ قال عباد: قدم عهدها ـ فيحدث لذلك استرجاعاً، إلا جدد الله له عنه ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها» ، ورواه ابن ماجة من حديث «فاطمة بنت الحسين أيضاً ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أصيب بمصيبة، فذكر مصيبته، فليحدث استرجاعاً وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب» لكن في اسناده مقال. قال سعيد بن جبير: ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطي هذه الأمة ـ يعني {إنا لله وإنا إليه راجعون} ـ ولو أعطي أحد لأعطي نبي الله يعقوب عليه السلام، ألم تسمع إلى قوله في فقد يوسف: {يا أسفى على يوسف} ، أولئك ـ أصحاب هذه الصفة ـ {عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} . فصل ـ في الفرق بين تمتع الدنيا الفاني والآخرة الباقي ومن تسلية أهل المصائب: أن ينظر المصاب ويفرق بين أعظم اللذتين والتمتعين: تمتع الحياة الدنيا الفانية، وتمتع الدار الآخرة الباقية، وأدومهما لذة وتمتعاً بما أصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله له على قوله وفعله من استرجاع وصبر ونحوه، فإن ظهر له الرجحان، فآثر الراجح، فليحمد الله على توفيقه له، وإن آثر المرجوح من كل وجه، فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه، أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه. وأي نسبة بين تمتعه بمحبوبه في هذه الدار التي قال الله تعالى في حقها من أولها إلى آخرها: {قل متاع الدنيا قليل} ، وأي شيء حصل له من القليل؟ فمن آثر جزءاً قليلاً من قليل ينفد، على جزء كثير من

فصل ـ في أن يوطن الإنسان نفسه على توقع المصائب وأنها بقضاء الله وقدره

كثير لا ينفد، فقد اغتيل عقله. قال بعض الحكماء: يحسب الجاهل الشيء الذي هو لا شيء شيئاً، والشيء الذي هو الشيء لا شيء، ومن لا يترك الشيء الذي هو لا شيء، لا ينال الشيء الذي هو الشيء، ومن لا يعرف الشيء الذي هو الشيء، لا يترك الشيء الذي هو لا شيء، يريد الدنيا والآخرة، ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا. فصل ـ في أن يوطن الإنسان نفسه على توقع المصائب وأنها بقضاء الله وقدره ومما يسلي المصاب: أن يوطن نفسه على أن كل مصيبة تأتيه هي من عند الله وأنها بقضائه وقدره، وأنه سبحانه وتعالى لم يقدرها عليه ليهلكه بها، ولا ليعذبه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه، وشكواه إ ليه وابتهاله ودعاءه، فإن وفق لذلك كان أمر الله قدراً مقدوراً، وإن حرم ذلك كان ذلك خسراناً مبيناً. قال أبوالفرج بن الجوزي: علاج المصائب بسبعة أشياء: الأول ـ أن يعلم بأن الدنيا دار ابتلاء، والكرب لا يرجى منه راحة. قال الشاعر: وما استغربت عيني فراقا ًرأيته ... ... ولا علمتني غيرما القلب عالمه الثاني ـ أن يعلم أن المصيبة ثابتة. الثالث ـ أن يقدر وجود ما هو أكثر من تلك المصيبة. الرابع ـ النظر في حال من ابتلي بمثل هذا البلاء، فإن التأسي راحة عظيمة. قالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي وهذا المعنى قد حرمه الله عز وجل أهل النار، فإن المخلدين فيها كل واحد

فصل ـ في أن لا ننكر وقوع المصائب في الدنيا بجميع أنواعها

محبوس وحده، فهو يظن أنه لم يبق في النار سواه. الخامس ـ النظر في حال من ابتلي أكثر من هذا البلاء فيهون عليه هذا. السادس ـ رجاء الخلف، إن كان من مضى يصح عنه الخلف كالولد والزوجة. قيل للقمان عليه السلام: ماتت زوجتك؟ قال: تجدد فراشي. قال الشاعر: هل وصل عزة إلا وصل غانية ... ... في وصل غانية من وصلها خلف السابع ـ طلب الأجر بالصبر في فضائله وثواب الصابرين وسرورهم في صبرهم، فإن ترقى إلى مقام الرضى فهو الغاية. انتهى كلامه، وقد تقدم معنى ذلك. وما يلحق بعلاج هذه السبعة أشياء وأمور أخر: الثامن ـ أن يعلم العبد كيف جرى القضاء فهو خير له. التاسع ـ أن تعلم أن تشديد البلاء يخص الأخيار. العاشر ـ أن يعلم أنه مملوك وليس للمملوك في نفسه شيء. الحادي عشر ـ أن هذا الواقع وقع برضى المالك، فيجب على العبد أن يرضى بما رضي به السيد. الثاني عشر ـ معاتبة النفس عند الجزع مما لابد منه، فما وجه الجزع مما لابد منه؟ ! الثالث عشر ـ إنما هي ساعة فكأن لم تكن. وهذه المعاني وقد تقدم ما يشبهها ويناسبها، ويأتي ما هو أتم من ذلك، وبالله التوفيق. فصل ـ في أن لا ننكر وقوع المصائب في الدنيا بجميع أنواعها ينبغي للعبد، أن لا ينكر في هذه الدنيا وقوع هذه المصائب على اختلاف أنواعها، ومن استخبر العقل والنقل أخبراه بأن الدنيا مارستان المصائب، وليس

فصل ـ في المصائب المختصة بذات الإنسان

فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بالكدر، فكل ما يظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها وإن أحسنت صورتها خراب، وجمعها فهو للذهاب، ومن خاض الماء الغمر لم يخل من بلل، ومن دخل بين الصفين، لم يخل من وجل. فالعجب كل العجب، ممن يده في سلة الأفاعي، كيف ينكر اللسع؟ ! وأعجب منه، من يطلب من المطبوع على الضر النفع. قال بعض الأدباء: طبعت على كدر وأنت تريدها ... ... صفواً من الأقذاء والأكدار قال أبو الفرج بن الجوزي: ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقي من قومه المحن، وعيسى بن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة وهو من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره ولو خلقت الدنيا للذة لم يكن حظ المؤمن منها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر» ، فإذا بان بأنها دار ابتلاء وسجن ومحن، فلا ينبغي إنكار وقوع المصائب فيها. فصل ـ في المصائب المختصة بذات الإنسان ذكر أبو الفرج بن الجوزي: في المصائب المختصة بذات الإنسان. قال: رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض أو غيره من المصائب اشتغلوا تارةً بالجزع والشكوى، وتارةً بالتداوي، إلى أن يشتد عليهم، فيشغلهم اشتداده عن الالتفات إلىالمصالح من وصية، أو فعل خير، أو تأهب للموت، فكم ممن له ذنوب لا يتوب منها، أو عنده ودائع لا يردها، أو عليه دين أو زكاة، أو في

ذمته ظلامة لا يخطر له تداركها، وإنما حزنه على فراق الدنيا، إذ لا هم له سواه، وربما أفاق وأوصى بجور. انتهى كلامه. وسبب ذلك ضعف الإيمان كما قال تعالى: {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم} ، وأحدهم لا هم له إلا الدنيا، ولا يتأسف إلا عليها، والعين المتطلعة إلى الآخرة ضعيفة جداً، وقد عم هذا أكثر الخلق في زماننا، نعوذ بالله من الخذلان. فينبغي للمتيقظ أن لا يتأسف على ما فات، وأن يتأهب في حال صحته قبل هجوم المرض، فربما ضاق الوقت عن عمل، واستدراك فارط، أو وصية، فإن لم تكن له وصية في صحته فليبادر في مرضه، وليحذر الجور في وصيته، فإنه من المحرمات، فإنه يمنع المستحق ويعطي من لا يستحق، فيحتاج أن يحارب نفسه وشيطانه، فقد «روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت» ويعلم أنه مملوك لله وليس له في نفسه شيء. قال الشاعر: صرت لهم عبداً وما ... للعبد أن يتعرضا ويعلم أيضاً أن هذا الواقع من المصائب في نفسه وماله وولده، وقع برضى مالكه وخالقه، فيجب على العبد أن يرضى بما يرضي به السيد، ويعاقب نفسه إذا جزعت، ويقول لها: أما علمت أن هذا لابد منه؟ ! فما وجه الجزع؟ ! وإنما هي ساعة كأن لم يكن ما كان، ومن تلمح العواقب هان عليه مرارة الدواء، والله تعالى الموفق. قال بعض السلف: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجاً يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود سوى العدم؟! قال الشاعر: على ذا مضى الناس: اجتماع، وفرقة ... وميت، ومولود، وبشر وأحزان

فصل ـ في أن المصائب والمحن دواء للكبر والعجب

ثم قال: ولعمري إن أصل الانزعاج لا ينكر، إذ الطبع مجبول على الأمن من حلول المنايا، وإنما ينكر الإفراط فيه والتكليف كمن يخرق ثيابه ويلطم وجهه ويعترض على القدر، فإن هذا لا يرد فائتاً، لكنه يدل على خور الجازع، ويوجب العقوبة والسلام. فصل ـ في أن المصائب والمحن دواء للكبر والعجب وليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها، لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين، أن يتفقده في الأحيان، بأنواع من أدوية المصائب، تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظاً لصحة عبوديته، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه. كما قيل: قد ينعم الله بالبلوى، وإن عظمت ... ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم فلولا أنه سبحانه وتعالى يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا في الأرض، وعاثوا فيها بالفساد، فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمر ونهي، وصحة وفراغ، وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها، تمردت وسعت في الأرض فساداً مع علمهم بما فعل بمن قبلهم، فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال؟ ! ولكن الله سبحانه وتعالى، إذا أراد بعبده خيراً، سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، ويستفرغ منه الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه، أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته، ورقاه أرفع ثواب الآخرة وهي رؤيته. فصل ـ في اعتراض المصاب على الأقدار ودلالته بعبادته قد يحصل للعابد الجاهل، مصيبة، من الجزع ما يسوء الناظر إليه، والسامع عنه، من الاعتراض على الأقدار، وما ذاك إلا لإدلاله بعبادته، فإنه قد شوهد أن خلقاً كثيراً من أهل الدين والخير، عند موت أحبابهم، جرى منهم أمور ينكرها العقال من الناس، فمنهم من خرق ثيابه، ومنهم من لطم خده، ومنهم من

اعترض على القضاء والقدر! قال ابن الجوزي: رأيت رجلاً كبيراً أعرفه قد قارب الثمانين، وهو من أهل الدين المحافظين على الجماعة، فمات ولد لابنته، فقال: ما ينبغي لأحد أن يدعو فإنه ما يستجيب، ثم قال: إن عاندنا فما يترك لنا ولداً، فعلمت أن صلاته وفعله للخيرعادة، لا أنه ينشأ عن معرفة إيمان، وهؤلاء الذين يعبدون الله علىحرف. ثم قال ابن الجوزي: حدثني خالي لعمي محمد بن عثمان قال: كنت مشداً بقرية التل، فسمعت عن شيخ قد جاوز الثمانين ولا يصلي، وقد كان قبل ذلك كثير الصلاة مع الجماعة وفعل الخير، ثم ترك ذلك، فدعوته وقلت: يا شيخ، لم لا تصلي؟ فقال: وكيف أصلي، وكان لي أولاد فماتوا، وكان لي غنم ففنيت؟ فأنا ما بقيت أصلي له ولا ركعة، فضربته، وطفت به البلد، فكان بعد ذلك يواظب على الجامع. انتهى ما ذكره. فلا شيء أنفع من العلم، لأن العالم، لو حصل له هلع شديد في مصيبته، يعلم أنها زلة منه، فيدري كيف يتنفس، والعابد الجاهل، كلما غاص إلى أسفل، يظن أنه صاعد إلى فوق. فإذا امتحن الشخص، ينبغي له أن يتداوى بالأدوية الشرعية، فإنه يقال: عند الامتحان يكرم الشخص أو يهان، أما علم لابد من الفرقة؟ وقد روى داود، «عن الحسن بن جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال جبريل: يا محمد عش ما عشت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» ، فنعوذ بالله من عدم الصبر عند المحنة، ونسأله الثبات في الأمر، فإنه والعياذ بالله يخاف على الشخص من سوء الخاتمة إذا سخط الأقدار. ونازع القضاء والقدر أهله، فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة.

فصل ـ في أن الأفضل إبدال الشكوى والأنين بذكر الله تعالى

فصل ـ في أن الأفضل إبدال الشكوى والأنين بذكر الله تعالى ينبغي للمصاب بنفسه، أو بولده، أو بغيرهما، أن يجعل في المرض مكان الأنين ذكره الله تعالى، والاستغفار والتعبد، فإن السلف رحمهم الله تعالى كانوا يكرهون الشكوى إلى الخلق، وهي وإن كان فيها راحة، إلا أنها تدل على ضعف وخور، والصبر عنها دليل قوة وعز، وهي إشاعة سر الله تعالى عند العبد، وهي تأثر شماتة الأعداء ورحمة الأصدقاء. قال الشاعر: لا تشكون إلا صديق حالة ... تأتيك في السراء والضراء فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده إلى إسماعيل بن عمرو، قال: دخلنا على ورقاء بن عمر وهو في الموت، فجعل يهلل ويكبر ويذكر الله عز وجل، وجعل الناس يدخلون عليه ويسلمون عليه، فيرد عليهم السلام، فلما كثروا عليه، أقبل على ابنه فقال: يا بني، اكفني رد السلام على هؤلاء، لا يشغلوني عن ذكر ربي عز وجل. وعن أبي محمد الحريري، قال: حضرت عند الجنيد، قبل وفاته بساعتين، فلم يزل تالياً وساجداً، فقلت له: يا أبا القاسم، قد بلغ ما أرى من الجهد، فقال: يا أبا محمد، أحوج ما كنت إليه هذه الساعة، فلم يزل كذلك حتى فارق الدنيا. وقد روي في حديث، أن إبليس لا يكون في حال أشد منه على ابن آدم عند الموت، يقول لأعوانه: دونكموه، فإنه إن فاتكم اليوم، لم تلحقوه. واعلم ـ رحمك الله ـ أن الأعمال بخواتيمها، فإنه ربما أضله في اعتقاده، وربما حيل بينه وبين التوبة، وغير ذلك مما هو محتاج إليه، وربما وقع منه الاعتراض على القضاء والقدر، فينبغي للمصاب بنفسه أو بغيره، أن يعلم أو يعلم بغيره، أنها صبر ساعة، فيتجلد ويحارب العدو جهد طاقته، فبصدقه تحصل له عليه الإعانة من الله، ويعلم أيضاً، أن التشديد عليه أو على غيره في النزع، هو في الغالب من كرامة العبد على الله عز وجل، فإن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل

والأمثل، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أشد مرارة الموت» ، وقول أبي عبيدة: اخنق خنقك، فوعزتك إنك تعلم أن قلبي يحبك. وقد روى الإمام أحمد، عن الوليد بن مسلم الأوزاعي، عن عمر بن عبد العزيز، أنه قال: ما أحب أن يهون علي سكرات الموت إنه آخر ما يكفر عن المرء المسلم. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني معمر، حدثني شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يستحبون للمريض أن يجهد عند الموت. وبإسناده، عن ابن عباس، قال: آخر شدة يلقاها المؤمن عند الموت. كانت عائشة رضي الله عنها تقول: مات فلان ولم يعالج. قال الحافظ بن ناصر: يعني أنه لم يعالج: أنه لم يحصل له في مرضه وعند موته ما يكون كفارة لذنوبه. و «عن ثابت، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنهم ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في النزع، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرضى أو أمنه مما يخاف» . فمن خاف الله وحفظه في صحته، حفظه في مرضه، ومن راقب الله في خطر، حرسه الله في حركاته وسكناته. وفي «حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف الى الله في الرخاء يعرفك في الشده» . وفي قصة يونس عليه السلام لما تقدم له عمل صالح. قال: {فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} ، ولما لم يكن لفرعون عمل خير قط، لم يجد وقت الشدة متعلقاً، فقيل له: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} ، فمن ضيع الله في صحته فإنه يضيع في مرضه، والله أعلم.

فصل ـ في أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها

فصل ـ في أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها وليعلم المصاب أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها، وهوفي الحقيقة يزيد في مصيبته، بل يعلم المصاب أن الجذع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه. وإذا صبر واحتسب أخزى شيطانه، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات في الأمر الديني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر» . فهذا هو الكمال الأعظم، لا لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بالويل والثبور، والتسخط على المقدور. قال بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم، يريد بذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» . وقال الأشعث بن قيس: إنك إن صبرت إيماناً واحتساباً، وإلا سلوت كما تسلو البهائم. بل يعلم المصاب أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه، بل يكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه على مصيبته، فلينظر أي المصيبتين أعظم، مصيبته العاجلة بفوات محبوبه، أو مصيبته بفات بيت الحمد في جنة الخلد؟ و «في الترمذي مرفوعاً: يود ناس لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء» . وليعلم المصاب الجازع، وإن بلغ به الجزع غايته ونهايته، فآخر أمره علىصبر الاضطرار، وهو غير محمود، ولا مثاب عليه، فإنه استسلم للصبر وانقاد إليه على

فصل ـ في أن من سلم أمره في مصيبته واحتسب لله عوضه خيرا منها

رغم أنفه. قال يحيى بن معاذ ابن آدم، مالك تأسف على مفقود لايرده عليك الفوت؟ مالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟ فإذا علم الجازع على المصيبة أن الجزع لا يرد ما فات، وأنه يسر الشامت، فأي عقل لمن لم يتفكر في العاقبة، ويذكر مآله إلى مصيبة أصابت غيره أنها تصيبه في نفسه، وأنه أمر لابد منه فليستعد له. وكانت امرأة من العابدات بالبصرة، تصاب بالمصائب فلا تجزع، فذكروا لها ذلك، فقالت: ما أصاب بمصيبة فأذكر معها النار، إلا صارت في عيني أصغر من الذباب. ومما يسلي العبد قول بعض الحكماء: قد مات كل نبي، ومات كل نبيه وفقيه وعالم، فلا تجزع، ولا يوحشنك طريق الخلائف فيها. وقال بعض السلف، وقد سأله رجل، فقال: عظني، فقال: انظر منك إلى آدم. هل ترى عيناً تطرف؟ فقال: حسبك. ، فصل ـ في أن من سلم أمره في مصيبته واحتسب لله عوضه خيراً منها ومما يسلي أهل المصائب: أن المصاب إذا صبر واحتسب، وركن إلى كريم، رجاء أن يخلف الله تعالى عليه، ويعوضه عن مصابه، فإن الله تعالى لا يخيبه بل يعوضه، فإنه من كل شيء عوض إلا الله تعالى فما عوض، كما قيل: من كل شيء إذا ضيعته عوض ... ... وما من الله إن ضيعته عوض بل يعلم أن حظه من المصيبة ما يحدث له، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط. فاختر لنفسك خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً كنت في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جذعاً وتفريطاً في ترك واجب أو فعل محرم كنت في ديوان المفرطين، وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر

فصل ـ فيمن طلب المصائب وفرح بها رجاء ثوابها

ورضى كنت في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضاً عليه وقدحاً في حكمته ومجادلةً في الأقدار، فقد قرعت باب الزندقة، وفتح لك وولجته فاحذر عذاب الله يحل بك، فإنه لمن خالفه بالمرصاد. وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله كنت في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له رضى بالله ورضى عن الله وفرحاً بقضائه كنت في ديوان الراضين، وإن أحدثت له حمداً وشكراً كنت في ديوان الشاكرين الحامدين، وإن أحدثت له حمداً واشتياقاً إلى لقائه كنت في ديوان المحبين المخلصين. وفي مسند الإمام أحمد والترمذي، من حديث «محمود بن لبيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي الله فله الرضى، ومن سخط فله السخط» زاد الإمام أحمد: ومن جزع فله الجزع. فأنفع الأدوية للمصاب موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له، وإن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب، ثم سخط ما يحبه، وأحب ما يسخطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وأسخط عليه محبوبه. قال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: إن الله إذا قضى قضاءً أحب أن يرضى به. وكان عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ يقول في مرضه: أحبه إلي أحبه إليه. وقال بعده أبو العالية: وهذا دواء المحبين وعلاجهم لأنفسهم. ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به، فانظر هذه الطرائق واختر وفقنا الله وإياك لما يحب. فصل ـ فيمن طلب المصائب وفرح بها رجاء ثوابها روى ابن أبي حاتم بإسناده في تفسيره عن خالد بن يزيد، عن عياض، عن عقبة أنه مات له ابن يقال له: يحيى، فلما نزل في قبره قال له رجل: والله إن كان لسيد الجيش، فاحتسبه، فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وكان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات؟! فهذا رجل صابر راض محتسب، ما أحسن فهمه وحسن تعزيته لنفسه، وثقته بما أعطاه الله من ثواب الصابرين.

وعن ثابت قال: مات عبد الله بن مطرف، فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن، فغضبوا، فقالوا: يموت عبد الله وتخرج في مثل هذه مدهناً؟ قال: أفأستكين لها وقد وعدني ربي تبارك وتعالى عليها خصالاً، كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا كلها؟ ! قال تعالى: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} ، أفأستكين لها بعد ذلك؟ ! ثم قال ثابت قال مطرف: ما شيء أعطي به في الآخرة قدر كوز من ماء إلا وددت أنه أخذ مني في الدنيا. رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد. وعن محمد بن خلف، قال: كان لإبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة، حفظ القرآن، ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، قال: فمات، فجئت أعزيه، فقال: كنت أشتهي موت ابني هذا، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا، تقول مثل هذا، في صبي قد أنجب، ولقنته الحديث والفقه؟ ! قال: نعم رأيت في منامي، كأن القيامة قد قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء، يستقبلون الناس فيسقونهم، وكان اليوم يوماً حاراً، شديداً حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، قال: فنظر إلي، وقال: ليس أنت أبي، قلت: فأي شيء أنتم؟ قال: فقال لي: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلفنا آباؤنا، فنستقبلهم فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته. وروى البيهيقي بإسناده، عن ابن شوذب: أن رجلاً كان له ابن لم يبلغ الحلم، قال: فأرسل إلى قومه: إن لي حاجة! قالوا: نعم، وما هي؟ قال: إني أريد أن أدعوا على ابني هذا أن يقبضه الله تعالى وتؤمنون على دعائي، فسألوه عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى في منامه كأن الناس جمعوا ليوم القيامة، فأصاب الناس عطش شديد، فإذا الولدان قد خرجوا من الجنة، معهم الأباريق، فأبصرت ابن أخ لي، فقلت: يا فلان، اسقني، قال: يا عم، إنا لا نسقي إلا الآباء، قال: فأحببت

أن يجعل الله ولدي هذا فرطاً لي، فدعا، فأمنوا على دعائه، فلم يلبس الغلام إلا يسيراً حتى مات. وقد روى ابن عساكر بإسناده، عن سهيل بن الحنظلية الأنصاري ـ وكان لا يولد له ـ فقال: لأن يولد لي ولو سقط، فأحتسبه أحب إلي من أن يكون لي الدنيا بأجمعها. وكان ابن الحنظلية ممن بايع تحت الشجرة. وذكر ابن عساكر أيضاً، عن الليث بن سعد، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن أبناً لعياض بن عقبة، حضرته الوفاة، وكان عياض غائباً، فقالت أم الغلام: لو كان أبو وهب حاضراً لقرت عينه، فلما حضرت وفاة عياض ابن عقبة قال لأخيه أبي عبيد: يهنأك الظفر، قد كنت أرجو أن تكون قبلي فأحتسبك. وقال أبو مسلم الخولاني ـ رحمه الله ـ: لأن يولد لي مولود يحسن الله نباته، حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إلي، قبضه الله تعالى مني، أحب إلي من أن تكون الدنيا وما فيها لي. وروي عن الإمام القفال، قال: كان في جواري رجل يأبى التزويج، فلما كان في بعض الليالي، استيقظ من نومه في الليل ونادى: زوجوني زوجوني، فسئل عن ذلك، فقال: لعل الله يرزقني ولداً يقبضه قبل البلوغ وقبل موتي، قيل وكيف ذلك؟ قال: رأيت في المنام، كأن القيامة قد قامت، والخلق في الموقف، وأنا معهم، وقد كظني العطش، وإذا قد ظهر أطفال بأيديهم أباريق من فضة، مغطاة بمناديل من نور، يتخللون الجمع ويسقون واحداً بعد واحد، فمددت يدي إليهم، وقلت لبعضهم: اسقني، فقد أجهدني العطش، فنظر إلي شزراً وقال ليس لك فينا ولد، وإنما نسقي أباءنا وأمهاتنا، فقلت من أنتم؟ قالوا: أطفال المسلمين. وقال أبو الحسن المدائني: دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه، فقال يابني، كيف تجدك؟ قال: تجدني في الحق، قال: يا بني، لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك، فقال: يا أبه، لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن أكون ما أحبه.

وروى ابن أبي شيبة، باسناده عن ثابت البناني: أن صلة بن أشيم، كان في غزاة له ومعه ابن له، فقال له أي بني، تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أبوه فقتل، فاجتمعت النساء، فقامت امرأته معاذة العذرية، فقالت للنساء: مرحباً، إن كنتن جئتن لتهنئنني مرحباً بكن، إن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن. و «عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً قال الأنبياء، قلت: ثم من؟ قال الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة يحتويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء» . رواه ابن ماجه من حديث طويل. وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد وابن ماجه في سننه عن «أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولابإضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا، أن تكون بما في يد الله، أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة، إذا أصبت بها، أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك» . وقال ابن الجوزي: ثنا ابن ناصر، أنبأ جعفر بن أحمد، ثنا أبي، ثنا هاشم، عن ابن المبارك، عن الحسن، ثنا أبو الأحوص، قال: دخلنا على ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وعنده بنون له ثلاثة، غلمان كأنهم الدنانير فجعلنا نتعجب من حسنهم، فقال: كأنهم يغبطونني؟ قلنا: إي والله، لبمثل هؤلاء يغبط المسلم، فرفع رأسه إلى سقف البيت، وقد عشش فيه خطاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده، لأن أكون قد نفضت يدي من تراب قبورهم، أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف وينكسر بيضه، ثم قال: ما أصبحت على حال، فتمنيت أني على سواها. وروى هناد بن السري في الزهد، عن كثير بن تميم الداري، قال: كنت جالساً مع سعيد بن جبير فطلع عليه ابنه عبد الله بن سعيد، وكان به من الفقه، فقال: إني لأعلم خير حالاته، فقالوا: وما هو؟ قال: أن يموت فأحتسبه.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن سفيان، قال: سمعت سفيان يقول: ما في الأرض أحب إلي من سعيد، وما في الأرض أحد يموت أحب إلي منه، فمات، فرأيته يبكي، قلت: قد كنت تمنى موته! قال: أذكر قوله: آه جنبي. وفي تاريخ الرقة للحراني: ثنا أحمد بن بديع، ثنا أبي، قال: سمعت عمر بن ميمون بن مهران يقول: كنت مع أبي ونحن نطوف بالكعبة، فلقي أبي شيخاً فعانقه أبي، ومع الشيخ فتى قريباً مني، فقال له أبي: من هذا؟ قال: ابني فقال: كيف رضاك عنه؟ قال ما بقيت خصلة يا أبا أيوب من خصال الخير إلا وقد رأيتها فيه إلا واحدة، قال: وما هي؟ قال: كنت أحب أن يموت وأوجر فيه! قال: ثم فارقه أبي، قال: فقلت لأبي: من هذا الشيخ؟ قال: هذا مكحول. والمقصود أن هذا المقام مقام عظيم شريف لمن يطلب المصيبة ويفرح بها نظراً إلى ثوابها، وما يفعل ذلك أحد حتى يعلم من نفسه القوة والصبر والجلد والركون إلى دعوى النفس، وما أكثر ما تخلف الوعد وتنقد العهد فإن الغالب متى ما أظهرت الدعوى وكلت إليها، وطولبت بتصحيح دعواها فتقصر عند الحقيقة وتميل عن تقويم الطريقة. وكان سحنون ـ رحمه الله ـ يقول: قد رضيت ما تقضيه، فابتلني بما شئت، فابتلاه الله بحصار البول، فما صبر، فكان يدور على الصبيان، ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب. فالطريقة الكاملة، قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية» . واعلم أن النية في طلب الولد وفقده وقصد بقائه، إذا صحت النية حصل الثواب الجزيل على النيتين جميعاً، لأن الأعمال بالنيات، فإنه ثبت عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: ما من أهل ولا مال ولا ولد إلا وأنا أحب أن أقول عليه: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ، إلا عبد الله بن عمر فإني أحب أن يبقى في الناس. يأيد ذلك ما ثبت «في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . وفي حديث أنس مرفوعاً: سيع يجري أجرها للعبد بعد موته،

فذكر منها: أو ترك ولد يستغفر له بعد موته. وهذا عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الصالح أو العبد الصالح، ولا شك أن العبد، إذا حصل له أجر مستمر بعد موته، هو أولى من حصول أجر في حياته ثم ينقطع بالموت، فإن العبد من أحوج الناس بعد موته إلى الحسنات وبموته قد انقطع عمله إلا ما أخبر به الصادق المصدوق في هذا الحديث المتقدم، فطلب الولد وبقاؤه أنفع للعبد فيما فهمت، ولكن أولئك لما خالط قلوبهم قوة الإيمان والتصديق بالقضاء والقدر، والرضى به، برزوا بالقول، وقل من يصبر على تحمل البلوى عند الحقيقة، والله أعلم.

الباب الثاني ـ في البكاء على المصيبة وما ذكر العلماء في ذلك

الباب الثاني ـ في البكاء على المصيبة وما ذكر العلماء في ذلك البكاء أصله بكي على فعول، قال الجوهري: البكاء يمد ويقصر، فإذا مددت أردت الصوت الذي يكون مع البكاء، وإن قصرت أردت الدموع وخروجها، وبكيت الرجل وبكيته إذا بكيت عليه. قال الشاعر: بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل هذا من جهة اللغة، وهو رقة ورحمة في قلوب عباد الله، فالبكاء على الميت في مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة: جوازه قبل الميت وبعده، واختاره أبو اسحق الشيرازي، وكرهه الشافعي وكثير من أصحابه بعد الموت، ورخصوا فيه قبل خروج الروح. واحتجوا بحديث «جابر عن عتيك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت، فوجده قد غلب، فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجبه، فاسترجع، وقال: غلبنا عليك يا أبا الربيع، فصاح النسوة وبكين، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن، فإذا وجب، فلا تبكين باكية، قالوا: وما الواجب يا رسول الله؟ قال: الموت» . رواه الإمام أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجة. قالوا: وفي الصحيحين «من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» وهذا إنما هو بعد الموت، وأما قبله فلا يسمى ميتاً. «وعن ابن عمر أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم من أحد، سمع نساءً من بني عبد الأشهل، على هلكاهن يبكين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن حمزة لا بواكي له، فجئن نساء الأنصار، فبكين على حمزة عنده، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

ويحهن إنهن ههنا يبكين؟ ما أثقلهن! مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم» رواه الإمام أحمد وابن ماجة. وهذا صريح في نسخ الإباحة المتقدمة، والفرق بين ما قبل الموت وبعده، أنه قبل الموت يرجى فيكون البكاء عليه حذراً، فإذا مات انقطع الرجاء وأبرم القضاء، فلا ينفع البكاء. احتج أصحابنا ومن قال بقولهم، ممن جوز البكاء قبل الموت وبعده، قال «جابر بن عبد الله: أصيب أبي يوم أحد، فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، فجعلوا ينهوني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه» ، متفق عليه. «وعن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عباده شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه، فوجده في غاشية، فقال: قد قضى؟ قالوا لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء رسول الله بكوا، فقال: ألا تسمعون، أن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا ـ وأشار إلى لسانه ـ أو يرحم» رواه البخاري، وهذا لفظه، «ومسلم وعنده: وجده في غشية فقال: أقد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله.. » الحديث، وهو من رواية يونس بن عبد الأعلى. «وعن أسامة بن زيد، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبياً أو ابناً لها في الموت، فقال الرسول: ارجع إليها فأخبرها أن لله عز وجل ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها لتصبر ولتحتسب، فعاد الرسول فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها. قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت،

وانطلقت معهم، فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع، كأنها في شنة، ففاضت عيناه، فقال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» رواه البخاري ومسلم. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: شهدنا بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، قال: فرأيت عيناه تدمعان، قال: فقال: هل منكم من رجل لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا، قال: فانزل في قبرها» رواه البخاري. «وعن أنس أيضاً قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولد لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم فذكر الحديث، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، وفي لفظ: فأخذه فوضعه في حجره، وقال: يا بني، لا أملك لك من الله شيئاً، فقال عبد الله بن عوف وأنس: يا رسول الله أتبكي وتنهى عن البكاء؟ فقال: يا بن عوف، إنها رحمة ومن لا يرحم لا يرحم، ثم أتبعها بأخرى فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون» رواه البخاري ومسلم بدون زيادة الألفاظ، وفيه دليل على البكاء قبل الموت. «وعن أنس أيضاً ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له» رواه البخاري. و «عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: مهلاً يا عمر، ثم إياكن ونعيق الشيطان. ثم قال: إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن

الشيطان» رواه الإمام أحمد. وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن سعد بن معاذ، لما مات، حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: فو الذي نفسي بيده، إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وأنا في حجرتي. رواه الإمام أحمد. و «عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، فرأى عمر امرأة فصاح بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب» رواه ابن ماجه. و «عن أسماء بنت يزيد، قالت: لما توفي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم بكي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ـ إما أبو بكر وإما عمر ـ: أنت أحق من عظم لله حقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، لولا أنه وعد صادق، وموعد جامع، وأن الآخر تابع للأول، لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل ما وجدنا، وإنا بك لمحزنون» رواه ابن ماجه. وفي لفظ: «أتبكي، أو ما نهيتنا عن البكاء؟ قال: ليس عن البكاء نهيت ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب ورنة شيطان، وصوت عند مصيبة، لطم وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، وهذه رحمة، ومن لايرحم، يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صادق، وسبيل لابد نأتيه، وأن آخرنا سوف يلحق بأولنا، لحزنا عليك حزناً هو أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون» . وقال الإمام أحمد: «حدثنا يزيد، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، رضي الله عنهما ـ قال: ماتت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال: مهلاً يا عمر ثم قال: ابكين، وإياكن ونعيق الشيطان، ثم إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل» ، وذكر تمام الحديث وقد تقدم. وروى الإمام أحمد أيضاً بسنده، «عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحقي سلفنا الخير عثمان بن مظعون وبكت

النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: دعهن يبكين، وإياكن ونعيق الشيطان، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهما يكن من القلب والعين، فمن الله والرحمة، ومهما كان من اليد واللسان، فمن الشيطان وقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها» . فقد ثبت في حديث موت زينب ورقية بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم البكاء بعد الموت. وقد جاء في آثار جمة «أنه صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله» . وصح «عنه صلى الله عليه وسلم أنه قبل عثمان بن مظعون حتى سالت دموعه على وجهه» . وتقدم قصة جعفر وعبد الله بن رواحة وأصحابهما. وكذلك صح عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت، وبكى وأبكى. وكذلك بكى علي على النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه الأحاديث كلها دالة على جواز البكاء قبل الموت وبعده من غير كراهة، وما ذكره أصحاب الشافعي ومن قال بقولهم من الكراهة بعد الموت مستدلين بما تقدم من أحاديث النهي، فكلها محمولة على البكاء الذي معه ندب ونياحة. ويؤيد ذلك ما يأتي ذكره: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» ، وفي لفظه: «يعذب بما نيح عليه» . وأما من ادعى النسخ في حديث حمزة فلا يصح، لأن معناه لا تبكين على هالك بعد اليوم من قتلى أحد. ويدل على ذلك أن نصوص الإباحة أكثرها متأخرة عن غزوة أحد، منها حديث أبي هريرة، لأن إسلامه وصحبته كانا في السنة السابعة، ومنها البكاء على جعفر وأصحابه، وكان استشهادهم في السنة الثامنة، وكذلك البكاء على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في الثامنة أيضاً، والبكاء على قبر أمه صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح. وأما قولهم: إنما جاز قبل الموت حذراً بخلاف ما بعد الموت. جوابه: أن كان الباكي، قبل الموت، يبكي حزناً، وحزنه بعد الموت أشد، لأنه قبل الموت ربما يرتجى، وبعده فقد فقدت الرجوى، فبكى لفراق لا عودة بعده في

فصل ـ فيما روي على النبي صلى الله عليه وسلم في البكاء على الميت

الدنيا، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يسخط الرب» ومنها: قال البخاري: قال عمر: دعهن يبكين على أبي سلمان ما لم يكن نقع أو لقلقة. والنقع: التراب على الرأس. واللقلقة: الصوت. «حدثنا إسحاق بن منصور، عن أبي رجاء عبد الله بن واقد، عن محمد بن مالك، عن البراء بن عازب، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما انتهينا إلى القبر، فاستدرت، فاستقبلته، فإذا هو يبكي حتى بل الثرى، ثم قال: إخواني، لمثل هذا اليوم فأعدوا» رواه الإمام أحمد. فصل ـ فيما روي على النبي صلى الله عليه وسلم في البكاء على الميت وقد ذكر بعض العلماء أن البكاء الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله وأباحه، أو أمر به للاستحباب، هو البكاء الذي هو دمع العين ورقة القلب ورحمته، والذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وهو البكاء ـ بالمد ـ الذي يستلزم الصراخ والندب والعويل. ويشهد لهذا قوله: «ما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، ونهى عن رنة الشيطان» وهو رفع الصوت عند المصيبة. قلت: هذا وإن كان حسناً، يعكر عليه وما حكيناه عن الجوهري: إن البكاء يمد ويقصر، فهو لغتان، فلا فرق فيه بين المد والقصر، والله أعلم. فصل ـ في التحذير مما يتفوه به المصاب من ألفاظ التظلم والشكوى وليحذر العبد كل الحذر، أن يتكلم في حال مصيبته وبكائه، بشيء يحبط به أجره، ويسخط به ربه، مما يشبه التظلم، فإن الله تعالى عدل لا يجور وعالم ل يضل ولا يجهل، وحكيم أفعاله كلها حكم ومصالح، ما يفعل شيئاً إلا لحكمة، فإنه سبحانه له ما أعطى، وله ما أخذ، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، وهو الفعال لما يريد، والقادر على ما يشاء، له الخلق والأمر. بل إنما يتكلم بكلام يرضي به ربه ويكثر به أجره، ويرفع الله به قدره. وقد روى ابن أبي الدنيا بإسناده قال: حدثني يونس بن محمد المكي، قال: زرع رجل من أهل الطائف زرعاً، فلما بلغ، أصابته آفة فاحترق، فدخلنا عليه لنسليه

عنه، فبكى وقال: والله ما عليه أبكي ولكن سمعت الله تعالى يقول: {كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته} . فأخاف أن أكون من أهل هذه الصفة، فذلك الذي أبكاني. قال أبو العرب: لما أمر عبد الله بن زياد بالبلجاء أن يمثل بها، جاؤوا ومعهم الحديد والحبال، فقالت: إليكم أتكلم بكلام يحفظه عني من سمعه قال: فحمدت الله وأثنت عليه، ثم قالت: هذا آخر يومي من الدنيا، وهو غير مأسوف عليه، وأرجو أن يكون أول أيامي من الآخرة، وهو اليوم المرغوب فيه، ثم قالت: والله، إن علمي بفنائها هو الذي زهدني في البقاء فيها، وسهل علي بلواءها، فما أحب تعجيل ما أخر الله، ولا تأخير ما عجل الله، والحمد لله على السراء والضراء، وعلى العافية وعلى البلاء، ثم قالت: كنت أؤمل في الله ما هو أكثر من هذا قال: ثم إنهم قطعوا يديها ورجليها، فجعل الدم لا يرقأ، فقالت: حياة كريمة، وميتة طيبة، لأني نلت ما أملت ـ يا نفس ـ من جزيل ثواب الله، فقد نلت سروراً دائماً لا يضرك معه كدر. وهي حين قطعوا يديها ورجليها، فلم تتكلم، فقيل لها ذلك، فقالت: شغلني هول المطلع عن ألم حديدكم هذا. ثم أتوا بالنار، لتكوى بها، فلما رأتها صرخت، فقيل لها: لقطع اليدين والرجلين لم تنطقي، فلما رأيت النار صرخت؟ فقالت والله ليس من ناركم صرخت، ولا على دنياكم أسفت، ولكنني ذكرت بها النار الكبرى، فكان الذي رأيتم من ذلك. قال: فأمر بها، فسملت عيناها، فقالت اللهم قد طال في الدنيا حزني، فأقر في الآخرة عيني ثم قالت: لئن كنت على بصيرة من أمري إن هذا لقليل في جنب ما أطلب من ثواب الله. قال: فما تكلمت بغيرها حتى ماتت رحمها الله تعالى. وكانت البلجاء من شيعة علي ـ رضي الله عنه ـ وكان قد بلغ الحسن بن علي أن ابن زياد يتتبع شيعة علي فيقتلهم، فقال: اللهم اقتله وأمته حتف أنفه. والإسناد: قال أبو العرب: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن جابر بن خداش بن

فصل ـ في البكاء والتأسف على من فرط في جانب الله تعالى

عجلان، ثنا سالم بن عمير، عن سالم الهلالي، فذكره. وليحذر العبد أيضاً أن يدعو على نفسه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما مات أبو سلمة: «لاتدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» . وليعلم أيضاً أن البكاء يضر الحي والميت، فإن الحي يخاف على عينيه، كما قال الله تعالى في قصة يعقوب ـ عليه السلام ـ: {وابيضت عيناه من الحزن} ، والميت لا يستريح به، فقد ذكر الحافظ أبو شجاع شيرويه الديلمي بإسناده، عن علي بن الحسين، قال بينا داود الطائي جالساً مع أصحابه يوماً، إذ غفا وهو معهم، ثم انتبه، فقال: أتدرون ما رأيت في نومتي هذه؟ دخلت الجنة، فرأيت فيها صبياناً يلهون بالتفاح، يناول بعضهم بعضاً، وصبي ناحية عنهم جالس حزين يرى الانكسار عليه بيناً، فقلت: ما بال ذلك الصبي لا يلهو معكم كما تلهون؟ قالوا: ذاك حديث عهد بالدنيا، وأمه تكثر البكاء عليه، فانكساره لكثرة بكاء أمه عليه، قال: فقلت: أين منزلهم؟ قالوا في قبيلة آل فلان، قال: فقلت من أبواه؟ قالوا: فلان وفلانة، قلت: فما اسمه؟ قالوا: فلان. فقال داود لأصحابه: فانطلقوا، قال: فانطلقوا فأتوا القبيلة، فسألوا عن أبويه، فلقيهما أو لقي أحدهما، فقال لهما ما رأى في منامه، فجعلت الأم على نفسها أن لا تبكي عليه أبداً. فصل ـ في البكاء والتأسف على من فرط في جانب الله تعالى والبكاء والأسف على من فرط في جنب الله، أو من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهو داخل تحت المشيئة، وعنده من الندامة كامثال الجبال، ومن الحسرات كعدد الرمال، فإن الصحة لا يعرف مقدارها على الحقيقة إلا المرضى، كما أن العافية لا يعرف مقدارها إلا المبتلى، فكذلك الحياة لا يعرف مقدارها إلا الموتى لأنهم قد ظهرت لهم الأمور، وانكشفت لهم الحقائق، وعلموا مقدار الأعمال الصالحة، إذ ليس ينفق هنالك إلا عمل زكي، ولا يرتفع هناك إلا

فصل ـ في أن الحزن لم يأمر به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم

عبد تقي، فالمقسر يود لو أنه رد فاستدرك ما فات، ونظر فيما فيه فرط، والمهمل العمل بالجملة، يكون تمنية الرجوع أكثر، وحرصه على العودة أشد، فالواجب اغتنام الصحة والفراغ، المغبون فيهما كثير الناس. وإنما يحصل للشخص الحزن والبكاء على ما أصيب به، لذهوله عما بين يديه من سكرات الموت وغصصه، والانفراد في القبر وحيداً ذليلاً مستوحشاً ثم مسائلة منكر ونكير عليهما السلام، وطول مكثه تحت الثرى، إما منعماً وإما معذباً، ثم من بعد ذلك خروجه من قبره وقيامه لرب العالمين، ثم وقوفه الطويل في المحشر وما يرى من أهوال يوم القيامة، ثم حسابه بين يدي الله تعالى ووزن أعماله وتطاير الصحف والمحاسبة على مثاقيل الذر، وأنه وجد ما عمل محصياً عليه، محرراً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنه بين رجاء وخوف، إما لذات اليمين أو لذات الشمال. فلو استشعر المصاب هذه المصائب العظيمة التي بين يديه، وهو غافل عنها، غير مستعد لها، لشغلته عن مصابه بأحبابه، ولرجع إلى الصبر والرضا بما قدره وأمضاه، فإن قدر على نفع، نفع ميته به، وإلا فلا يؤذيه بما نهى الشرع عنه من الندب والنياحة ولطم الخدود وشق الجيوب، وغير ذلك من الأفعال والأقوال المكروهة، التي ذمها السلف والخلف، كما سنبينه بعد إن شاء الله، نسأل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة. فصل ـ في أن الحزن لم يأمر به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم والحزن لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله، لا في المصيبة ولا في غيرها، بل قد نهى الله عنه في كتابه وإن تعلق بأمر الدين. لكن منه محمود ومذموم كقوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون} . وقوله: {ولا تحزن عليهم} . وقوله تعالى في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} . وقوله تعالى: {فلا يحزنك قولهم} . ونحو ذلك من

الآيات كثير في القرآن. وما ذاك إلا لأن الحزن لا يجلب منفعة، ولا يدفع مضرة، فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به، لكن لا يأثم به صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم ـ كما تقدم ذكره ـ من قول أو فعل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يؤاخذ بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يؤاخذ بهذا ـ وأشار بيده إلى لسانه ـ أو يرحم» فدل على أنه لا يأثم إلا إذا اقترن به ما يجلب الإثم. ويؤيده أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب» . قال مالك بن دينار: القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب، كما أن البيت إذا لم يسكن خرب. وقال عبد الله بن أحمد: حدثني علي بن مسلم، ثنا بشار، ثنا جعفر، ثنا إبراهيم بن عيسى، قال: ما رأيت أطول حزناً من الحسن، ولما رأيته، حسبته حديث عهد بمصيبة. ثم ذكر بسنده عن مالك، قال: بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك. ومنه قوله تعالى: {وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن} . فكل هذه الأدلة تدل على أنه لا ياثم به صاحبه، فالبكاء والحزن على الميت على وجه الرحمة والرقة حسن، ولا ينافي الرضا والصبر بخلاف البكاء عليه لفوت حظ الحي منه، فإذا اقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه فيكون محموداً من تلك الجهة لا من جهة الحزن، فالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموماً. فهذا يثاب على ما في قلبه من الخير وبغض الشر، وتوابع ذلك. ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهي عنه، وكان حسب صاحبه الإثم عنه من جهة الحزن، وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الله به ورسوله كان مذموماً عليه من تلك الجهة، إن كان محموداً من جهة أخرى، فإنه إن كان المحزون عليه لا يمكن استدراكه لم ينفع الحزن. فالعاقل يدفعه عن نفسه، ولا يضم إلى مصيبته أخرى، وليعلم أنه سيسلو بعد حين، والله أعلم.

الباب الثالث ـ في تحريم الندب والنياحة وشق الثياب

الباب الثالث ـ في تحريم الندب والنياحة وشق الثياب الندب: اسم للبكاء على الميت وتعداد محاسنه، قاله الجوهري، والاسم الندبة بالضم، وقيل تعداد شمائل الميت، فيقال: واكريماه واجبلاه والهفاه. والنوح: قال القاضي عياض: هو اجتماع النساء للبكاء على الميت متقابلات، وذكر في المغني أنه تعداد محاسن الميت بلفظ النداء، إلا أنه يكون بلفظ الواو، وربما زيد فيه الألف والهاء مثل قولهم: وا رجلاه وا جبلاه وا انقطاع ظهراه، ونحوه. وقال غيره: قال أهل اللغة: النياحة: اسم لاجتماع النساء للبكاء على الميت متقابلات، كما ذكر القاضي عياض، والتناوح: التقابل. ثم استعمل في صفة بكائهن بصوت ورنة وندبة. واعلم ـ رحمك الله ـ أن المطلوب في المصيبة السكون والصبر، والرضا بقضاء الله تعالى، والحمد والاسترجاع، والصدقة عن المصاب به والدعاء له، وأما الندب والنياحة، وشق الجيوب، ولطم الخدود، وقول المنكر، كل هذا ينافي ما ذكر. وقد نص الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ على تحريم الندب والنياحة، قال في رواية حنبل: النياحة معصية. وقال أصحاب الشافعي وغيرهم: النوح حرام. وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على أن النياحة لاتجوز للرجال ولا للنساء. وقال أبو الخطاب ـ رحمه الله ـ في الهداية: ويكره الندب والنياحة، وخمش الوجوه، وشق الجيوب، والتحفي. وهذا قول ضعيف مصادم لما ورد من السنة.

وذكر الشيخ في المغني قال: حرب عن أحمد كلاماً فيه احتمال إباحة النوح والندب، قال: واختاره الخلال وصاحبه، لأن واثلة بن الأسقع، وأبا وائل كانا يسمعان النوح ويبكيان، ثم قال: وظاهر الأخبار تدل على التحريم. انتهى كلامه. واستنادهم في ذلك لآثار مروية عن بعض الصحابة والسلف، لا ترد ما ورد في الصحيح والمسانيد. فإنهم قالوا: قد روى حرب عن واثلة بن الأسقع وأبي وائل: إنما كانا يسمعان النوح ويبكيان. قالوا: وقد ورد في الصحيح من «حديث أم عطية، قالت: لما أنزلت هذه الآية: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين} إلى قوله: {ولا يعصينك في معروف} كان منه النياحة، فنهانا عن النياحة فقبضت امراة منا يدها فقالت: فلانة أسعدتني فإنما أريد أن أجزيها، قال: فما قال لها شيئاً فذهبت فانطلقت، ثم رجعت فبايعها» . وفي لفظ الصحيح «قالت أم عطية: يا رسول الله إلا آل فلان، فإنهم أسعدوني في الجاهلية، فلا بد لي أن أسعدهم فقال: إلا آل فلان» . والجواب عن ذلك: أن المرأة التي سكت عنها ذلك خاص بها لوجهين: أحدهما: أنها حديثة عهد بالإسلام، فربما كان فيه تنفير لها عنه. الثاني: أنه قال لغيرها لما سألته ذلك، قال: «لا إسعاد في الإسلام» . فإطلاقه لها، وحجره على غيرها، يدل على الخصوص. وعلى الرواية الأولى: أن امرأة قبضت يدها، ولم تبايع إلا بعد الإسعاد، فلا إشكال، وقد حكى بعض المبايعات القصة ولم تستثن أحداً، فما ورد في سنن أبي داود من حديث أسيد بن أبي أسيد عن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه: أن لا نخمش وجهاً، ولا ندعو ويلاً ولا نشق جيباً، ولا ننبش شعراً.

فصل ـ فيما ورد من تحريم ذلك، وما ورد من الوعيد عليه

فصل ـ فيما ورد من تحريم ذلك، وما ورد من الوعيد عليه عن «عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» . رواه البخاري ومسلم. وعن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: «وجع أبو موسى وجعاً، فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فأقبلت تصيح برنة، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً، فلما أفاق قال: إني بريء ممن برئ منه محمد صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة» . رواه البخاري ومسلم عن الحكم بن موسى، إلا أن البخاري لم يذكر أنه حدثه به، بل قال: قال الحكم بن موسى فهو عنده معلق. قوله: الصالقة يعني التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها، والشاقة التي تشق ثوبها. «وعن أم عطية، قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة، أن لا ننوح» ، فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة، أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، وامرأتان، أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ وامرأة أخرى. رواه البخاري، وهذا لفظه، ومسلم. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على النساء حين بايعهن، أن لا ينحن، فقلن: يا رسول الله إن نساء أسعدننا في الجاهلية أفنسعدهن في الإسلام؟ فقال: لا إسعاد في الإسلام» رواه الإمام أحمد. «وعن أبي مالك الإشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» انفرد باخراجه مسلم.

«وفي حديث جابر في قصةابراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم، وفيه: ألم تنه عن البكاء؟ قال: لا ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة خمش وجه وشق جيوب ورنة شيطان» .. الحديث رواه الترمذي. وكذلك تقدمت قصة قتل زيد بن حارثة وأصحابه، «من حديث عائشة، قالت: لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الحزن، قالت عائشة: وأنا أنظر من صائر الباب [شق الباب] فأتى رجل فقال: يا رسول الله، إن نساء جعفر، وذكر بكاءهن، فأمره أن يذهب فينهاهن، فذهب، فأتاه فذكر أنهن لم يطغنه، فأمره الثانية أن ينهاهن، فذهب، ثم أتاه، فقال: والله لقد غلبننا يا رسول الله، قالت: فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اذهب فاحث في أفواههن التراب قالت عائشة: فقلت: أرغم أنفك، والله ما تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء» . رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظه. «وعن عبيد بن عمير، عن أم سلمة، قالت: لما مات أبو سلمة قلت: غريب وفي أرض غريبة، لأبكينه بكاءً يتحدث عنه، فكنت قد تهيات للبكاء عليه إذا أقبلت امرأة من الصعيد تريد أن تسعدني، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن يدخل الشيطان بيتاً أخرجه الله منه مرتين؟» فكففت عن البكاء فلم أبك. انفرد بإخراجه مسلم. «وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النياحة على الميت من أمر الجاهلية، فإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سربال من قطران، ثم يعلى عليها بدرع من لهب النار» رواه ابن ماجة من رواية عمر بن راشد اليمامي، وقد ضعفه غير واحد. وقد روي في صحيح مسلم بأتم من هذا وأبين. «وعن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها، والشاقة ثوبها، والداعية

فصل ـ فيما ورد من عذاب الميت بالنياحة

بالويل والثبور» . رواه ابن ماجة. والثبور: الهلاك، ومنه قوله تعالى: {دعوا هنالك ثبوراً} ، أي صاحوا: وا هلاكاه. «وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة» . رواه أبو داود من رواية عطية العوفي وقد تكلم فيه. فصل ـ فيما ورد من عذاب الميت بالنياحة «عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: الميت يعذب في قبره بما نيح عليه» ، وفي رواية: «يعذب بما نيح عليه» . ولم يذكر في قبره رواه البخاري ومسلم. «وعن المغيرة بن شعبة، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنه من ينح عليه يعذب بما نيح عليه» رواه البخاري ومسلم. «وعن أسيد بن أبي أسيد عن موسى بن أبي موسى عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: وا عضداه! وا ناصراه! وا كاسباه! جبذ الميت، وقيل له: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسبها؟» فقلت: سبحان الله! يقول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ، فقال: أحدثك عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول هذا فأينا كذب؟ فو الله ما كذبت على أبي موسى، ولا كذب أبو موسى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الإمام أحمد. «وعن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعدة من النار» سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ينح عليه يعذب بما نيح عليه» رواه البخاري، وهذا لفظه، ومسلم.

فصل ـ في أن البكاء لا ينفع الميت بل ينفعه العمل الصالح

وعن النعمان بن بشير، قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي وتقول: وا جبلاه، وا كذا وا كذا، تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئاً إلا وقد قيل لي: أنت كذلك؟ ! فلما مات لم تبك عليه. رواه البخاري. وروى الترمزي في جامعه «عن أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من ميت يموت، فيقوم باكيهم فيقول وا جبلاه، وا سيداه، أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهزانه: أهكذا كنت؟» قال الترمذي: حديث حسن غريب. قوله: «يلهزانه» ، اللهز: الدفع بجميع اليد في الصدر. فصل ـ في أن البكاء لا ينفع الميت بل ينفعه العمل الصالح وليعلم أن البكاء المجرد، ليس فيه منفعة للميت البتة وإنما ينفعه عمله، كما في صحيح البخاري ومسلم، من حديث «أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يتبع الميت ثلاث، أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان، ويبقى واحد: يرجع أهله وماله، ويبقى عمله» . وفي الصحيح: «إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له» . فلا منفعة للميت بالبكاء والانزعاج. قال أبو الفرج بن الجوزي: أما بعد، فإني رأيت عموم الناس، ينزعجون لنزول البلاء، انزعاجاً يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت! وهل ينتظر الصحيح إلا السقم؟ والكبير إلا الهرم؟ والموجود سوى العدم؟! كما قيل: على ذا مضى الناس، اجتماع وفرقة ... ... وميت ومولود وبشر وأحزان وما أحسن ما روي عن بعض السلف، أن رجلاً جاءه وهو يأكل طعاماً، فقال له: لقد مات أخوك، أعظم الله أجرك فيه، فقال: اقعد وكل، فقد علمت

فصل ـ في بيان أن الله سبحانه هو الفعال لما يريد

ذلك، فقال: من أعلمك وما سبقني إليك أحد؟ قال: قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} . ثم قال: ولعمري، إن أصل الانزعاج لا ينكر، إذ الطبع مجبول على الجزع من حلول المنايا، وإنما ينكر الإفراط فيه والتكليف، كمن يخرق ثيابه ويلبس الثياب المرذولة عند موت قريبه، ويلطم وجهه، ويعترض على القدر، وهذا، ومثله، وأكثر منه، لا يرد فائتاً، لكنه يدل على خور الجازع ويوجب العقوبة، مع ما يفوته من الأجر والثواب. قال بعض الحكماء: إذا كان الصبر محموداً عند المصائب، ومرغوباً فيه عند حلول النوائب، فالجزع مذموم بكل مقال، وصاحبه ملوم في كل حال، فتعجل المحمود عند العقلاء أحسن، وتجنب المذموم من الخصال أزين. فصل ـ في بيان أن الله سبحانه هو الفعال لما يريد وفي بعض ما تقدم من أحاديث النهي هذه، كفاية لمن تدبرها، وكيف لا تكون هذه الخصال القبيحة منهياً عنها، وهي مشتملة على التسخط على الرب عز وجل، الفعال لما يشاء، الحكم بما يريد، المتصرف في عبيده بما يختار من موت وغرق وحرق، وغير ذلك مما قضاه وقدره وأمضاه، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون؟! بل فعل النوح، وشق الثياب، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، ونبش الشعر ونتفه، والتحفي، وتسويد الوجه والبدن، والدعاء بالويل والثبور، وغير ذلك من الأقوال والأفعال المنكرة التي ورد الشرع بالنهي عنها، وذم فاعلها، وأن فاعلها شرع في الدين ما لم يأذن به الله ولا رسوله، هو مناف للرضا والصبر، ويضر بالنفس والبدن، ولا يرد من قضاء الله وقدره شيئاً. وقد بلغني عن أناس أعرفهم، أصيبوا بمصيبة، أزعجوا أنفسهم لأجل مصابهم ببعض ما ذكر، فأورثهم ذلك مرض وحمى، فإذا استسلم المصاب وانقاد، ووكل الأمر لمن بيده الخلق والأمر، وعلم أن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسل، فتبع الرسول

فصل ـ فيما يفعله الإنسان إذا أحس بدنو أجله

صلى الله عليه وسلم فيما أمره به، وفيما نهاه عنه، وكان مما جاء به تحريم هذه الأفعال والأقوال المنكرة التي تقدم ذكرها: بل «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول ما يسخط ربنا» . فإذا سمع المصاب ذلك، فأطاع وانقاد، حصلت له السعادة الأبدية باتباعه الرسول في أقواله وأفعاله، لقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. } الآية. فصل ـ فيما يفعله الإنسان إذا أحس بدنو أجله والذي ينبغي أولاً، لمن غاب على الظن أنه يصاب بالموت في مرضه، أن يعامل بأحسن المعاملات، بما ينفعه في قبره ويوم معاده، فيذكره الآخرة، ويأمره بالوصية والتوبة، ويلقنه شهادة أن لا إله إلا الله، لتكون آخر كلامه. ويكون قبل ذلك قد نهى من لطم الخدود وشق الثياب وتمزيقها، ونتف الشعر، ورفع الصوت بالندب والنياحة، وغير ذلك من قول وفعل منكر، ويكون مع ذلك، في هذه الحالة، رجاؤه بالله أكثر من خوفه، وهو كثير الحمد والاسترجاع والرضا عن الله عز وجل. وقد روى ابن أبي الدنيا بإسناده، «عن محمد بن مسلمة، قال: بلغني أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أوصني ولا تكثر علي، قال: لا تتهم الله عز وجل في شيء قضاه لك» . وروى أيضاً بإسناده، «قال لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: ما كان أكثر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته إذا خلا؟ قالت: كان أكثر كلامه إذا خلا في بيته: ما يقضى من أمر يكن» . فهذا رسول رب العالمين يقول هذه المقالة، وهو أعرف الخلق، وأعلمهم بالله، فإذا وطن العبد نفسه على أن ما يقضي من أمر يكن لا محالة، فإتعاب النفس والبدن في ما لا يجدي شيئاً ليس من حصافة العقل، ويعلم أن الدنيا موضوعة على الكدر، فالبناء إلى نقض، والجميع إلى تفريق، ومن رام بقاء ما لا يبقى كان

فصل ـ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه "

كمن رام وجود ما لا يوجد، فلا ينبغي أن يطلب من الدنيا ما لم توضع له. فصل ـ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " فصل ـ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» و «إن الميت يعذب بالنياحة عليه» وقد تقدمت هذه الأحاديث، فاختلف السلف والخلف في ذلك. فقالت طائفة: الله يتصرف في خلقه بما يشاء، وأفعال الله لا تعلل، ولا فرق بين التعذيب بالنوح عليه، والتعذيب بما هو منسوب إليه، لأن الله تعالى خالق الجميع، والله تعالى يؤلم الأطفال والبهائم والمجانين بغير عمل عملوه. وقالت طائفة اخرى: هذه الأحاديث لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنكرتها عائشة ـ رضي الله عنها ـ واحتجت بقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ثم أحاديث لم نذكرها بعد، وهي مما استدلت بها عائشة رضي الله عنها. ومنها «عن عروة، قال: ذكر عند عائشة، أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله. فقالت: ذهل إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن» ، وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم «قام على القليب يوم بدر، وفيه قتلى بعض المشركين، فقال ما قال: إنهم ليسمعون ما أقول، وقد ذهل، إنما قال: إنهم ليعلمون أن ما كنت أقوله لهم حق. ثم قرأ: {إنك لا تسمع الموتى} {وما أنت بمسمع من في القبور} يقول: تبوؤوا مقاعدهم من النار» . رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظه. هكذا ساقه بطوله الحافظ الضياء. «وعن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، قال: توفيت بنت لعثمان بمكة، وجئنا لنشهدها، وحضر ابن عمر وابن عباس، إني لجالس بينهما، أو قال: جلست إلى أحدهما، ثم جاء الأخير فجلس إلى جنبي، فقال عبد الله بن عمر لابن عباس: ألا تنهى عن البكاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت ليعذب ببكاء

أهله عليه! فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك. ثم حدث قال: صدرت مع عمر من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب، حتى إذا ظل سمرة، قال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ فنظرت، فإذا صهيب، فأخبرته، فقال: ادعه لي، فرجعت إلى صهيب، فقلت له: ارتحل فالحق أمير المؤمنين، فلما أصيب عمر، دخل صهيب يبكي، يقول: وا أخاه، وا صاحباه، فقال عمر: يا صهيب، أتبكي علي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه؟ ! قال ابن عباس: فلما مات عمر، ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: يرحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه. وقالت: حسبكم القرآن: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عند ذلك: {وأنه هو أضحك وأبكى} ، قال ابن ملكية: والله ما قال ابن عمر شيئاً» . رواه البخاري، وهذا لفظه، ومسلم. وفي صحيح البخاري ومسلم، «أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ذكر لها أن عمر وابنه عبد الله يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي. قالت إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين، ولا متهمين، ولكن السمع يخطىء، وفي لفظ قالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي وأخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها، فقال: إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها» . وقالت طائفة أخرى: قوله: إن الميت ليعذب بنوح أهله، محمول على من أوصى به، أو كانت من عادتهم ذلك ولم ينههم، يعني يوصي قبل موته أن لا يحدثوا قولاً ولا فعلاً منكراً. وهذا كان مشهوراً عند العرب، وهو كثير في أشعارهم كقول طرفة: إذا مت فانعني بما أنا أهله ... ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد

فصل ـ في أن ما أورده من الأحاديث لا يخالف قواعد الشرع

وقال لبيد: فقوما فقولابالذي قد علمتما ... ... ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر وقولا: هو المرء الذي لا حليفه ... ... أضاع، ولا خان الصديق، ولا غدر وقالت طائفة أخرى: وهو محمول على سنته وسنة قومه البكاء والنوح، وقد اشتهر أن هذا معروف منهم، فإذا لم ينههم دخل في الوعيد، لأن ترك نهيه عن البكاء دليل على رضائه به منهم. وهذا قول عبد الله بن المبارك، وهذا القول والذي قبله هو قول واحد، وقد حكى بعض أهل العلم: أن هذين القولين متباينان ولم يظهر لي ذلك، والله أعلم. وقال أبو البركات ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: هذا القول هو أصح الأقوال كلها وأرجحها، لأنه إذا غلب على ظنه فعلهم له، ولم يوصهم بتركه، فقد رضي به، وصار كمن ترك النهي عن المنكر مع القدرة عليه، فأما إذا أوصاهم بتركه، فخالفوه، فالله أكرم من أن يعذبه بذلك. وقال العلام ابن المقيم ـ رحمه الله ـ: وقد حصل بهذا القول إجراء الخبر على عمومه في أكثر الموارد، وإنكار عائشة ـ رضي الله عنها ـ لذلك بعد رواية الثقات لا يعول عليه، فإنهم قد يحضرون ما لا تحضره، ويشهدون ما تغيب عنه، واحتمال السهو والغلط بعيد جداً، خصوصاً بحق خمسة من أكابر الصحابة، وقد تقدم ذكره عن أكثر من خمسة من الصحابة. وقوله في اليهود لا يمنع أن يكون قد قال مارواه عن هؤلاء الصحابة في أوقات أخر، ثم هي محجوجة بروايتها عنه أنه قال: «إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه» ، فإذا لم يمتنع زيادة الكافر عذاباً بفعل غيره، مع كونه مخالفاً لظاهر الآية، لم يمتنع ذلك في حق المسلم، إن الله سبحانه، كما لا يظلم عبده المسلم، لا يظلم الكافر، والله تعالى أعلم. فصل ـ في أن ما أورده من الأحاديث لا يخالف قواعد الشرع واعلم ـ رحمك الله ـ أن هذه الحاديث، لا تحتاج إلى شيء من هذه التعسفات، وليس فيها بحمد الله إشكال، ولا مخالفة لظاهر القرآن، ولا لقاعدة من قواعد

فصل ـ في وسوسة الشيطان للمريض ولأقاربه وأهله

الشرع، ولا تتضمن عقوبة الإنسان بذنب غيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إن الميت ليعاقب ببكاء أهله عليه أو بنوح أهله عليه، وإنما قال: إنه ليعذب بذلك. ولا ريب أن ذلك يؤلمه ويعذبه، والعذاب هو الألم الذي يحصل له، وهو أعم من العقاب، والأعم لا يستلزم الأخص. وقد «قال النبي صلى الله عليه وسلم: السفر قطعة من العذاب» . وهذا العذاب يحصل للمؤمن والكافر، ويحصل للميت الألم في قبره بمجاورة أهل البدع والفسق والعصيان، ويتأذى بذلك كما يتأذى الإنسان في الدنيا بما يشاهده من عقوبة جاره. ونص الإمام أحمد، على أن الموتى يتأذون بفعل المصيبة عندهم، فإذا بكى أهل الميت عليه البكاء المحرم، من لطم الخدود، وتمزق الثياب، وخمش الوجوه وتسويدها، وقطع الشعر ونتفه، ودعا بدعوى الجاهلية، وكل هذا موجود في غالب جهال أهل زماننا، فإذا وجدت هذه الأفعال والأقوال على هذا الوجه، حصل للميت الألم في قبره بذلك، فهذا التألم هو عذابه بالبكاء عليه، وهذا معنى ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية. فصل ـ في وسوسة الشيطان للمريض ولأقاربه وأهله قد يستحوذ الشيطان على المريض، فيوسوس له بأنك ستفارق المحبوبات، وتخرج من الدنيا إلى مكان فظيع موحش، وتلقى بين أطباق الثرى، وكيف يؤلمك؟ ! فربما أسخطه على ربه، وكرهه لقاء الله عز وجل. وربما أنطقه بكلام يتضمن نوع إعراض وتسخط. ثم يوسوس لأقاربه، بأنه لا بد أن يفوتكم من بره وإحسانه ما يزيد عن الوصف، أو أنه كان قد نشأ منشأحسناً، وقد بدأ يترقى إلى المناصب العالية، فيهيج هؤلاء على البكاء المحرم، وفعل ما لا يجوز فعله، ويهيج المريض على الحزن على فراق الدنيا. فينبغي لكلا الطائفتين، أن يتداووا بالأدوية الشرعية، وقد تقدم في الباب الأول ما فيه كفاية من الأدوية الإلهية فلا حاجة إلى تكرارها، ولكن يجاب عن هذا بجوابين: أحدهما: أن الأغلب فيمن يفارقه أنه يؤثر فراقه خصوصاً إن كان شيخاً

فصل ـ فيما ذكر في النعي والمناداة على الميت

كبيراً أو أنه شاب أو كهل يحجر على من ذكرته من قرابة أو ولد ونحوه، أو له خلق شديد، وأخص منه إن كان ذا مال وقد رأيت في زماننا من كان من أصحاب الأموال وهو محسن لأهله وأقاربه، فمرض فأوصى بوصايا لأقاربه لمن ليس بوارث في الحال، فلما مات خلف مالاً جزيلاً، فاشتغل الوارث وغيره بالمال عن الحزن عليه، فأخذوا في الخصام عليه وتفرقته. فهذا، وهو محسن إليهم بماله، وما أخذوه فهو سريع الذهاب، وأما بره إليهم لو بقي حصل لهم أضعاف ذلك. فلا ينبغي للعبد أن يحزن لفراق من لا يحزن لفراقه. وذكر أبو القاسم بن عساكر، قال: أنشدني محمد بن الأشعث لنفسه، في ذم الحزن من حيث هو: قلم القضاء جرى بكل مكون ... ... يا صاحب الأحزان ماذا تحزن! إن كان سخطك ليس يجلب راحة ... ... فرضاك بالبلوى أحق وأحسن والثاني الرجاء لملاقاة من هو أحب إليه منه، وما من مؤمن يموت فيؤثر الرجوع إلى الدنيا ولو أنها جميعها له إلا الشهيد. فإنه يحب الرجوع ليقاتل مرة أخرى، لما يرى من عظم أجر الشهادة، كما سيأتي ذكره بعد. «وقد روى الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من نفس مؤمنة مسلمة يقبضها ربها عز وجل تحب أن تعود إليكم وأن لها الدنيا وما فيها» . فصل ـ فيما ذكر في النعي والمناداة على الميت وهو إعلام الناس بموت الشخص، على ما يفعله أهل زماننا بالكبير أو بالمشهور، ويرسلون منادياً يعلم الناس به. قال العلامة ابن القيم في الهدي: «وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ترك نعي الميت، بل كان ينهىعنه ويقول: وهو من عمل الجاهلية» . انتهى كلامه. وقال الحافظ ضياء الدين رحمه الله في أحكامه: باب كراهة النعي، وساق في الباب ثلاثة أحاديث، منها: «عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: إياكم والنعي، فإن النعي من عمل الجاهلية قال عبد الله: أذان بالميت» . رواه الترمذي، وقال حديث حسن غريب. «وعن حذيفة، قال: إذا مت فلا تؤذنوا بي أحداً، إني أخاف أن يكون نعياً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي» . رواه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي، وهذا لفظه، وحسنه. «وعند ابن ماجة: كان حذيفة إذا مات له الميت، قال: لا تؤذنوا به أحداً إني أخاف أن يكون نعياً، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين ينهي عن النعي» . وروى أحمد أيضاً هذه الزيادة كما رواها ابن ماجة، ولكن لم يقل بأذني هاتين. وقال سعيد بن منصور: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا ابن عون، قال: قلت لإبراهيم: أكان النعي يكره؟ قال: نعم: قال إبراهيم: إذا توفي الرجل، يركب رجل دابته، ثم صاح في الناس: أنعى فلاناً. وبإسناده إلى ابن عون قال: سمعت بالكوفة، أن شريحاً كان لا يؤذن بجنازة أحد، فذكرت ذلك لمحمد بن سرين، فقال: إن شريحاً كان مكياً، ما أعلم به بأساً أن يؤذن الرجل صديقه، ويؤذن الرجل جمعه. وذكر بإسناده، حدثنا حماد عن إبراهيم، أنه قال: لا بأس إذا مات الرجل، أن يؤذن صديقه وأصحابه، إنما يكره أن يكون في المجلس، فيقال: أنعي فلاناً، فعل الجاهلية. وقد روى الترمذي، «عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من ميت يموت، فيقوم باكيها فيقول: وا جبلاه، وا سنداه، أو نحو ذلك، إلا وكل الله به ملكان يلهزانه، أهكذا كنت؟» قال الترمذي: حديث حسن. والمقصود أن هذه الأحاديث دالة على النهي، وأنه من فعل الجاهلية، لكن الأحاديث التي ذكرناها، منها ما يدل على أن النعي إعلام الناس بأن فلاناً قد

مات، ومنها ما يدل على أن النعي هو تعداد صفات الميت، فالظاهر أن كلاهما نعي، والله أعلم. وما يفعله الناس اليوم في زماننا، من إعلام الناس بالميت، والمناداة له، فهو من البدع المنهي عنها، كما وردفي الحديث، فإنه مفض إلى تأخير الميت، لأجل اجتماع الناس له، تأخيراً زائداً عن الحد، ويتركون السنة التي من شأنها الإسراع بالجنازة. كما «ثبت في سنن أبو داود: أن أبا طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: إني أرى طلحة قد حدث فيه الموت، فآذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم، أن تحبس بين ظهراني أهله» . وإن كان المراد النعي الذي هو تعداد صفات الميت، فيقال: الذي ينبغي أن يقال: لا بأس بالكلمات اليسيرة إذا كانت صدقاً، لا على وجه النوح والتسخط، فلا يحرم، ولا ينافي الصبر، ولا يكون من المنهي عنه، بل قد نص الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أن الكلمات اليسيرة من الصدق لا تنافي الصبر الواجب. يؤيد ذلك ما ثبت في صحيح البخاري «من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة: وا كرب أبتاه، فقال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم. فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه، فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة: أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» «وعن أنس أيضاً أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فوضع فمه بين عينيه، ووضع يده على صدغيه، وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفياه» رواه الإمام أحمد. «وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات» . رواه البخاري ومسلم. وفي لفظ لهما قال: «استغفروا لأخيكم» . وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» . وهذا ونحوه من الأقاويل التي تقدمت، ليس تسخط على الرب تبارك وتعالى بما قضاه وقدره، ولا ينافي الصبر الواجب، ولا يأثم به قائله، والله أعلم.

الباب الرابع ـ فيمن أصيب بفقد ثلاثة من الولد فأكثر والبشارة له بذلك

الباب الرابع ـ فيمن أصيب بفقد ثلاثة من الولد فأكثر والبشارة له بذلك قال البخاري: باب فضل من مات له ولد فاحتسب، وقوله تعالى: {وبشر الصابرين} . «حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، ثنا عبد العزيز، عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم من الناس يتوفى له ثلاثة لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم» ورواه مسلم من وجه آخر عن أنس. قوله: «لم يبلغوا الحنث» أي لم يبلغوا سن التكليف الذي يكتب فيه الحنث. وروى البخاري من حديث «سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار، إلا تحلة القسم» ورواه مسلم من هذه الطريق أيضاً. قال العلماء: تحلة القسم ما ينحل به القسم وهو اليمين. وجاء مفسراً في الحديث أن المراد به قوله تعالى {وإن منكم إلا واردها} . وبهذا قال أبو عبيد وجمهور من العلماء. والقسم مقدر أي: والله إن منكم إلا واردها. وقيل: المراد قوله تعالى: {فوربك لنحشرنهم والشياطين} . وقال ابن قتيبة: معناه تقليل مدة ورودها، قال: وتحلة القسم في هذا في كلام العرب، وقيل تقديره: ولا تحلة القسم، أي لا تحلة أصلاً، ولا قدراً

يسيراً تحلة القسم. والمراد بقوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} : المرور على الصراط، وهوعلى جهنم. وقيل الوقوف عندها، أعاذنا الله وإياكم منها. وروى مسلم أيضاً هذا الحديث، معنى تحلة القسم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد وزهير بن حرب، ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة به. ورواه أيضاً من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري به. ورواه أيضاً «حدثنا يحيى بن يحيى، قرأت على مالك، عن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار، إلا تحلة القسم» . ورواه الترمذي من حديث مالك به، وقال: حسن صحيح. قال الترمذي: وفي الباب: عن معاذ وعمر وكعب بن مالك وعتبة بن عبيد وأم سليم وعائشة وأنس وأبي ذر وابن مسعود وأبي ثعلبة الأشجعي وابن عباس وعتبة بن عامر وأبي سعد وقرة بن إياس. وقال الإمام أحمد: «حدثنا إسحاق، أخبرنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلهم الله الجنة وآباءهم، بفضل رحمته. قال: يقال لهم ادخلوا الجنة. قال: يقولون حتى يجيء أبوانا. قال: ثلاث مرات، فيقولون مثل ذلك. قال: فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم» . وروى البخاري من «حديث ذكوان، عن أبي سعيد، أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا منك يوماً، فوعظهن، وقال: أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كن لها حجاباً من النار، قالت امرأة: واثنان. قال: واثنان» . وقال شريك «عن ابن الأصبهاني: ثنا أبو صالح، عن أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة: لم يبلغوا الحنث» . وقد روى الحديث محمد بن سيرين وأبو رزين وأبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وأخرج مسلم «حديث أبي سعيد من حديث شعبة به، وعنده: فقالت امرأة:

واثنين واثنين واثنين يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واثنين واثنين واثنين» ، وهذا الذي علقه البخاري، عن شريك، عن ابن الأصبهاني، قد رواه هو ومسلم من «حديث غندر، عن شعبة، عن ابن الأصبهاني، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وقال فيه: لم يبلغوا الحنث» . وقال عثمان بن إبراهيم المؤذن: «حدثنا عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلمين، يموت لهما ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلهم الله وأبويهم الجنة، قال: يكونون على باب من أبواب الجنة، فيقال: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم» ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق عن عوف الأعرابي. وروى مسلم في صحيحه «عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار: لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسبه، إلا دخلت الجنة، فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: أو اثنين» . وروى الإمام أحمد في مسنده «عن أبي وائل، عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب النساء فقال: ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة إلا أدخلها الله الجنة فقالت أجلهن امراة: يا رسول الله وصاحبة الاثنين؟ فقال: وصاحبة الاثنين في الجنة» . وروى أحمد أيضاً، «من حديث أم سليم بنت ملحان، وهي أم أنس بن مالك، قالت: قال رسول الله: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد، لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلهم الله الجنة، بفضل رحمته، قالها ثلاثاً: قلت: يا رسول الله واثنان؟ قال: واثنان» . وروى المثنى «عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن أم مبشر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من هلك له ثلاثة من الولد، فصبر واحتسب، أدخل الجنة، فقلت: يا رسول الله، واثنان؟ ! قال: واثنان» . وروى مسلم في صحيحه، «من حديث طلق بن معاوية، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: أتت امرأة بصبي لها، فقالت: يا نبي الله، ادع الله، فلقد دفنت ثلاثة، فقال دفنت ثلاثة؟ قالت نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد

من النار» . وقال البخاري في تاريخه قال علي بن هاشم: «حدثني نصر بن عمر ابن يزيد بن قبيصة، قال: حدثني أبي عن قبيصة بن برمة، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، إذ أتته امراة، فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي، فإنه ليس يعيش لي ولد. قال: وكم مات لك؟ قالت ثلاثة. قال: لقد احتظرت من النار بحظار شديد» . وقال سعيد بن منصور: «حدثنا عبيد بن زياد، ثنا أبي، عن زهير ابن أبي علقمة، قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن لها مات، وكان القوم عنفوها، فقالت: يا رسول الله، قد مات لي ابنان، منذ دخلت في الإسلام، سوى هذا. قال: لقد احتظرت من النار حظاراً شديداً» . قال جماعة من الحفاظ: إسناد صحيح، لكن لا صحبة لزهير هذا، فيكون مرسلاً. «أما قوله صلى الله عليه وسلم: لقد احتظرت بحظار شديد من النار» ، أي امتنعت بمانع وثيق، وأصل الحظر: المنع، وأصل الحظار، بكسر الحاء وفتحها: ما يجعل حول البستان وغيره من القبضان وغيرها كالحائط. وفي هذه الأحاديث دليل على كون أطفال المسلمين في الجنة. وقد نقل جماعة من العلماء إجماع المسلمين على ذلك. قال الماوردي: أما أولاد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فالإجماع محقق في الأطفال على أنهم بالجنة. وأما أطفال من سواهم من المسلمين فجماهير العلماء على القطع لهم بالجنة. قالوا: ويدل عليه قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} وتوقف بعض المتكلمين منهم وأشار أنه لا يقطع لهم كالمكلفين، وهو خطأ. ولكنهم مستندون إلى «حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في الصحيح: توفي صبي من الأنصار، فقالت عائشة: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» . وفي

الحديث الآخر: «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم القيامة كافراً» أجاب العلماء عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم: إنما نهى عائشة عن المسارعة إلى القطع، من غير أن يكون عندها دليل قاطع، كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله: أعطه إني لأراه مؤمناً، قال: أو مسلماً. قال النووي: رحمه الله في شرح مسلم: فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، فلما علم قال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «مامن مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم» وغير ذلك. انتهى كلامه. وقد تقدم عدة من الأحاديث تدل على ذلك كما سيأتي ما هو أتم من ذلك وأبين. وما ورد من الأحاديث في الثلاثة من الولد ثم سئل عن الاثنين فقال: واثنين، فمحمول على أنه أوحي إليه عند سؤال الاثنين، وكذلك عند سؤال الواحد في بعض الألفاظ، والله تعالى أعلم. وروى الإمام أحمد بإسناده، «عن شرحبيل بن شفعة، قال: سمعت عتبة بن عبد السلمي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية، من أيها شاء دخل» رواه ابن ماجة، من حديث جرير بن عثمان الحمصي به. وروى أحمد، «من حديث المغيرة، ثنا جرير، ثنا شرحبيل بن شفعة، عن بعض الصحابة، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يقال للولدان يوم القيامة ادخلوا الجنة، فيقولون: ربنا حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيقول الله تعالى: ما لي أراغكم محبنطين ادخلوا الجنة أنتم وآبائكم» . وروى الإمام أحمد أيضاً، «عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن ابن سيرين: بينا امرأة كانت تأتينا، يقال لها مارية، كانت ترزأ في ولدها، فلقيت عبد الله بن معمر القرشي، ومعه رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فحدث ذلك الرجل أن امراة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله أن يبقيه لي، فقد مات لي قبله ثلاثة فقال: مذ أسلمت؟ قالت: نعم، فقال: جنة حصينة» . وروى أيضاً، منفرداً به، لكنه من

فصل ـ فيمن أصيب بأربعة من الأولاد

«حديث ابن لهيعة، عن أبي عشانة، أنه سمع عقبة بن عامر، يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: من أثكل ثلاثة من صلبه، فاحتسبهم على الله وجبت له الجنة» . وروى أيضاً في مسنده، «من حديث صعصعة بن معاوية، قال: أتينا أبا ذر، قلت: مالك؟ قال لي عملي، قلت: حدثني، قال: نعم! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة من أولادهما، لم يبلغوا الحنث إلا غفر لهما» . ورواه النسائي، عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر ابن المفضل، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن صعصعة. وثم طريق أخرى «عن أبي ذر حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا قرة، عن الحسن، عن صعصعة بن معاوية، قال: لقيت أبا ذر بالربذة، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله، ابتدره حجبة الجنة، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد، لم يبلغوا حنثاً، إلا أدخلهم الله الجنة، بفضل رحمته إياهم» . فصل ـ فيمن أصيب بأربعة من الأولاد قال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: «حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثني بشر بن المفضل، عن داود بن أبي هند، عن عبد الله بن قيس، عن الحارث بن أقيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلمين يموت بينهما أربعة أولاد، إلا أدخلهم الله الجنة. قالوا: يا رسول الله وثلاثة؟ قال: وثلاثة، قالوا: يا رسول الله واثنان؟ قال واثنان، وإن من أمتي لمن يعظم للنار حتى يكون أحد زواياها، وإن من أمتي لمن يدخل بشفاعته الجنة أكثر من بمصر» . وروى ابن ماجة منه، «وإن أمتي....إلخ» ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحيم بن سلمان، عن داود بن أبي هند به.

وروى داود بن أبي هند «عن عبد الله بن قيس الأسدي، عن الحارث ابن أقيس، قال: كنا عند أبي بردة ليلة، فحدث ليلته عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلمين، يموت لهما أربعة أفراط، إلا أدخلهما الله الجنة، بفضل رحمته، قالوا: يا رسول الله وثلاثة؟ قال: وثلاثة. قالوا واثنان؟ ؟ قال: واثنان» . وذكر تمام الحديث. وقد ذكر بعضهم أنه رواه الإمام أحمد ولكني لم أره. وروى النسائي «من حديث عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، حدثني عمران بن نافع، عن حفص بن عبيد الله عن جده أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة» . وروى الهيثم بن جميل، «عن الأحوص، عن عاصم الأحول، عن أنس، قال توفي للزبير ولد، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله سخ أنفسنا عن أولادنا، فقال: من مات له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، كانوا له حجاباً من النار» . وروى عبد الحكيم بن منصور، «عن يونس، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن الزبير بن العوام، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من مات له ثلاثة من الأولاد، لم يبلغوا الحنث، كانوا له حجاباً من النار» . وروى الإمام أحمد، «من حديث لقمان بن عامر عن أبي أمامة، عن عمرو بن عنبسة، قال: قلت له: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا زيادة، قال: سمعته يقول: من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم، ومن شاب شيبة في الإسلام، كانت له نوراً يوم القيامة، ومن رمى بسهم في سبيل الله، بلغ به العدو، أصاب أو أخطأ، كان له بعدل رقبة، ومن أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار، ومن أنفق زوجين في سبيل الله، فإن للجنة ثمانية أبواب، يدخله الله من أي باب شاء منها» وكذا رواه عبد الحميد بن بهرام، عن شهر، عن أنس، عن أبي طيبة، عن عمرو بن عنبسة السلمي فذكر نحوه. ورواه الوضين عن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن أبي عائد، عن عمرو بن عنبسة به.

وقال عبد الرزاق: «سمعت هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن يزيد ابن أبي بكرة، حدثتني حبيبة ـ يعني بنت سهيل، ويقال بنت أبي سفيان ـ، أنها كانت عند عائشة ـ رضي الله عنها ـ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما من مسلمين يموت لهم ثلاثة من الولد، إلا أدخلهم الله الجنة، بفضل رحمته إياهم» . وكذا روى محمد بن عبد الله الأنصاري، «عن أبان بن صمعة، عن محمد بن سيرين، عن يزيد بن أبي بكرة، عن حبيبة، أنها كانت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فجلس، فقال: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أطفال، لم يبلغوا الحنث، إلا جيء بهم يوم القيامة، حتى يوقفوا على باب الجنة، فيقال: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يدخل آباؤنا، قال ابن سيرين: فلا أدري في الثانية أوالثالثة، فيقال: لهم ادخلوا أنتم وآ باؤكم» . فقالت عائشة: أسمعت؟ قالت: نعم. وقال الترمذي: وروى «الأبار ـ قلت: هو أبو حفص، اسمه عمر بن عبيد الرحمن ـ عن الأعمش، عن زر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبي أبزى، عن أبيه، عن محمد بن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لامرأته: هل لك من فرط؟ قالت ثلاثة. قال: جنة حصينة» وروى عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة، «عن يزيد بن الحكم، عن عثمان بن أبي العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد استجن بجنة ححصينة من النار، رجل سلف بين يديه ثلاثة من صلبه في الإسلام» . وعن أم ذر، قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت، فقال: أبشري ولا تبكي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة، فيصبران ويحتسبان، فيريان النار أبداً» ، وقد مات لنا ثلاثة من الولد، رواه الحافظ أبو موسى المديني. وقال مالك في الموطأ «عن محمد بن ابي بكر، عن أبيه، عن أبي النضر السلمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فيحتسبهم، إلا كانوا له جنة من النار، فقالت امراة منهن: يا رسول الله، أو اثنان، قال: أو

اثنان» . قال أبو عمر بن عبد البر: هكذا رواه القعنبي ويحيى بن يحيى، عن مالك. وقال الآخرون: عن مالك باسناده عن أبي النصر. قال: وهذا مجهول في الصحابة والتابعين. انتهى كلامه. قلت: كذا قال ابن عبد البر، وليس بمجهول كما قال، فإن مسلم رحمه الله قال: في كتاب الكنى والأسامي: أبو النضر عبد الأعلى بن هلال السلمي عن عرباض بن سارية، وروى عنه عامر بن خصيف، فهو تابعي. وروى إسماعيل بن يحيى التيمي، «عن موسى الجهني، عن مجاهد، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قدم ثلاثة من ولده صابراً محتسباً، حجبوه ـ بإذن الله ـ من النار» . وروى البخاري في تاريخه من طريق أبان بن صمغة، «عن ابن سيرين، حدثتنا حبيبة خادمة عائشة، أنها كانت في بيت عائشة قاعدة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما من مسلمين، يموت لهما ثلاثة أطفال، إلا أدخلها الله الجنة» . وفي الأربعين لنصر بن عبد الرزاق: ذكر «عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أمتي، قد احتوشته ملائكة، فجاءه وضوءه فاستنقذه، ورأيت رجلاً من أمتي، خف ميزانه، فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه» وهومقتطع من حديث طويل يأتي. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دفن من صلبه ثلاثة من الولد، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين» رواه بسنده الحافظ ابن عساكر. قلت: وهذه الأحاديث ـ على اختلاف ألفاظها واتفاق معانيها غالباً، وسيأتي بعد ذلك ما هو مثلها، وما هو أتم وأبين إن شاء الله ـ كلها تدل على أنها وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم في مجالس متعددة، ويدل على اهتمامه واعتنائه ورحمته وشفقته بأمته، إذ كل حديث من هذه الأحاديث، فيه تسلية للأمة عن أولادها،

بل تدل بفحوى الخطاب على أن الشارع صلى الله عليه وسلم أراد تسلية الوالدين عن أولادهما بما أعد الله لهما من الثواب الجزيل على المصيبة، والصبر عليها، فإن اتفق مع ذلك الرضى بها، وكتمانها على الخلق، وطلبها وتلقيها بالقبول، كان ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

الباب الخامس: فيمن أصيب بفقد ولدين والاحاديث الواردة فيه

الباب الخامس: فيمن أصيب بفقد ولدين والاحاديث الواردة فيه قال مسلم في صحيحه: «حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه أبي السليل بن نفير، عن أبي حسان ـ وهو خالد بن علان ـ، قال: قلت لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: إنه قد مات لي ابنان، فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث يطيب أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم، قال: صغارهم دعاميص الجنة، فيلقى أحدهم أباه ـ أو قال: أبويه ـ بثوبه ـ أو قال: بيده ـ كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا، فلا يتناهى ـ أو قال ينتهي ـ حتى يدخله وإياه الجنة» ورواه الإمام أحمد. «أما قوله صلى الله عليه وسلم: صغارهم دعاميص الجنة» هو بالدال والعين والصاد المهملات، وأحدهم دعموص، بضم الدال أي صغار أهل الجنة. قال الشاعر: إذا التقى البحران عم الدعمو ... ... ص نفى أن يسبح أو يغوص وأصل الدعموص: دويبة تكون في الماء لا تفارقه، أي هذا الصغير في الجنة لا يفارقها. وأما قوله: صنفة ثوبك هي بفتح الصاد وكسر النون، وهي طرفه، ويقال لها أيضاً: صنيفة. «وأما قوله: فلا يتناهى ـ أو قال ينتهي ـ حتى يدخله الله وإياه الجنة» : يتناهى وينتهي بمعنى واحد، أي لا يتركه والله تعالى أعلم. وقال أبو يعلى الموصلي: «حدثنا أبو هشام الرفاعي، ثنا ابن فضيل، ثنا بشير بن مهاجر، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الأنصار ويعودهم ويسأل عنهم، فبلغه أن امرأة من الإنصار، مات ابن لها فجزعت عليه، فأتاها، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل والصبر. قالت: يا رسول الله، إني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي ولد غيره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرقوب التي يبقى ولدها، ثم قال: ما من امرىء مسلم، ولا امرأة مسلمة، يموت لها ثلاثة من

الولد، إلا أدخلها الله عز وجل الجنة، فقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، واثنان؟ قال: واثنان» . ورواه البزار في مسنده «عن أحمد بن عمر، عن جعفر بن عون، عن بشير بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه به، وعنده: فقالت: يا رسول الله، كيف لا أجزع وأنا رقوب لا يعيش لي ولد؟ ! فقال إنما الرقوب التي يعيش ولدها. وعنده: فقال عمر، وهو على يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: واثنان؟ قال واثنان» . وهو على شرط مسلم. وقال الإمام أحمد: «ثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا عبد الله بن عثمان، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، أن أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ حضره الموت وهو بالربذة، فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت أبكي أنه لا يد لي بنعشك، وليس عندي ثوب يسع لك كفناً، فقال: لا تبكي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وأنا عنده في نفر، يقول: ليموتن رجل منكم مسلم، بفلاة من الأرض، يشهده عصبة من المؤمنين. وكل من كان في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبقى منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت، فراقبي الطريق، فإنك سوف ترين ما أقول، فإني ـ والله ـ ما كذبت ولا كذبت، قالت وأن ذلك وقد انقطع الحاج؟ قال: راقبي الطريق فبينما هي كذلك، إذ هي بقوم، تجذبهم رواحلهم، كأنهم الرخم، فأقبل القوم، حتى وقفوا عليها، فقالوا: مالك؟ قالت: امرؤ من المسلمين، تكفنوه وتؤجرون فيه. قالوا: من هو؟ قالت: أبو ذر، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا أسياطهم في نحورها يبتدرونه. فقال: أبشروا، أنتم النفر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم ما قال، أبشروا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من امرأين مسلمين، هلك بينهما ولدان أو ثلاثة، فاحتسبا وصبرا، فيريان النار أبداً ثم قال: قد أصبحت اليوم وحيث ترون، ولو أن ثوباً من ثيابي يسعني، لم أكفن إلا فيه، فأنشدكم، لا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً، فكل القوم كان قد نال من ذلك شيئاً، إلا فتى من الأنصار، كان من القوم، قال: أنا صاحبك، ثوبان في عيبتي من غزل أمي، واحد ثوبي هذين اللذين علي، قال: أنت صاحبي فكفني» تفرد به أحمد.

وقال أحمد: «ثنا حماد بن مسعدة، ثنا جريح، عن أبي الزبير، عن عمرو بن نبهان، عن أبي ثعلبة الأشجعي، قال: قلت: مات لي ـ يا رسول الله ـ ولدان في الإسلام، فقال: من مات له ولدان في الإسلام، أدخله الله الجنة، بفضل رحمته إياهما» . قال فلما كان بعد ذلك، لقيني أبو هريرة. فقال: أنت الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الولدين ما قال؟ قلت: نعم. قال: لأن يكون ما قاله لي، أحب إلي مما غلقت عليه حمص وفلسطين. وروى الإمام أحمد أيضاً في مسنده «عن ابن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب النساء، فقال لهن: ما منكن امرأة، يموت لها ثلاثة، إلا أدخلها الله عز وجل الجنة، فقالت: أجلهن امرأة يا رسول الله وصاحبة الاثنين في الجنة؟ قال: وصاحبة الاثنين في الجنة» . «وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، قال اجتمعن في يوم كذا وكذا، فاجتمعن، فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهن مما علمه الله، ثم قال: ما منكن من امرأة، تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة، إلا كانوا لها حجاباً من النار فقالت امرأة: واثنين واثنين واثنين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واثنين واثنين واثنين» رواه البخاري ومسلم ولفظه لمسلم. «وعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أوجب الثلاثة، قال معاذ: وذو الاثنين يا رسول الله، قال: وذو الاثنين» رواه الإمام أحمد. «عن ذكوان بن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: أن النساء قلن: غلبنا عليك الرجال ـ يا رسول الله ـ فاجعل لنا يوماً نأتيك فيه، فواعدهن ميعاداً، فأمرهن ووعظهن وقال: ما منكن امرأة، يموت لها ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجاباً من النار. فقالت امرأة: واثنين، فإنه مات لي اثنان، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: واثنين» . هذا لفظ البخاري، وقد تقدم لفظ مسلم ورواه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة وابن مسعود، وقد تقدم.

الباب السادس ـ فيمن أصيب بفقد ولد واحد

الباب السادس ـ فيمن أصيب بفقد ولد واحد قال الإمام أحمد: «حدثنا يحيى بن اسحاق، ثنا حماد بن مسلم، عن أبي سنان، قال: دفنت ابنا لي، فإني لفي القبر، إذ أخذ بيدي أبو طلحة فأخرجني، فقال: ألا أبشرك؟ قال: قلت: بلى، قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن، عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد» . وهكذا رواه الترمذي عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن أبي سنان عيسى بن سنان، عن أبي طلحة الخولاني به. وقال: حسن غريب. «ورواه ابن حبان، ورواه أبو القاسم بن عساكر، ولفظه: إذا مات ولد العبد، قال الله عز وجل لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم، قال: فماذا قال؟ قالوا: استرجع وحمدك. قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد» . ورواه البيهقي، موقوفاً على أبي موسى، ولفظه: قال: «إذا قبض الله ولد الرجل قال: والله أعلم بما قال العبد، قال: فيقال للملائكة: أقبضتم ولد فلان» ؟ فذكر نحوالذي قبله. وقال أحمد: «حدثنا يزيد بن هارون، أنبأ العوام، عن محمد بن أبي محمد مولى لعمر بن الخطاب، عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من أولادهما، لم يبلغوا ـ الحنث ـ إلا كانوا لهما حصناً حصيناً من النار فقال أبو ذر: مضى لي اثنان يا رسول الله، قال: واثنان فقال: أبي بن كعب ـ أبو المنذر وسيد القراء ـ: مضى لي واحد يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وواحد، وذلك في الصدمة الأولى» ، ورواه

الترمذي وقال: غريب، وابن ماجة، جميعاً عن نصر بن علي، عن إسحاق بن يوسف، عن العوام بن حوشب، عن أبي محمد مولى عمر بن الخطاب، عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود مرفوعاً، فذكره. وأبو عبيدة لم يسمع عن أبيه. وقال الإمام أحمد في مسنده: «حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إبراهيم التميمي، عن الحارث بن سويد، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون فيكم الرقوب؟ قلنا: الذي لا ولد له، قال: لا، ولكن الرقوب، الذي يقدم من ولده شيئاً» . ورواه مسلم «من حديث الأعمش. ورواه البيهقي، ولفظه: أن امرأة قالت: أنا رقوب لا يعيش لي ولد، فقال: إنما الرقوب التي يعيش ولدها، أما تحبين أن ترينه على باب الجنة، وهويدعوك إليها؟ قالت: بلى! قال: فإنه كذلك» . وقال الإمام أحمد: «حدثنا وكيع، ثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله، أحبك الله كما أحبه. ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل ابن فلان؟ قالوا: يا رسول الله مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: أما تحب أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟ ، فقال رجل: يا رسول الله أله خاصة أو لكلنا؟ قال: بل لكلكم» ورواه النسائي، من حديث شعبة، بمثله. وفي رواية أخرى، «من حديث هلال بن زيد بن أبي الزرقاء، عن أبيه، عن خالد بن ميسرة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلس إليه نفر من أصحابه، ومنهم رجل له ابن صغير، يأتيه من خلف ظهره، فيقعده بين يديه، فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة بذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي لا أرى فلاناً؟ فقالوا: يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن بنيه، فأخبره أنه هلك، فعزاه عليه، ثم قال: يا فلان، أيما كان أحب إليك، أن تمتع به عمرك، أو لا تأتي غداً إلى باب من

أبواب الجنة، إلا وجدته قد سبقك إليه، يفتحه لك؟ قال: يا رسول الله، بل يسبقني إلى باب الجنة، يفتحها لي أحب إلي. قال: فذلك لك» رواه النسائي، وهذا لفظه. ورواه الإمام أحمد والبيهقي، وهذا لفظه. «ورواه الإمام أحمد والبيهقي، وزادا: فقال رجل: يا رسول الله، أله خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم» . فذكر مثل الذي قبله. «ورواه البيهقي من طرق أخرى، وفيه: فقام رجل من الأنصار، فقال: يا نبي الله، جعلني الله فداك، أهذا لهذا خاصة، أو من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له؟ قال: بل من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له» . وقال الإمام أحمد: «حدثنا يحيى بن إسحاق من كتابه، أنبأنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن حسان بن كريب، أن غلاماً منهم توفي، فوجد عليه أبوه أشد الوجد، فقال: حوشب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في مثل ابنك؟ إن رجلاً من الصحابة، كان له ابن قد دب أو أدرك، وكان يأتي مع أبيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم توفي، فوجد عليه أبوه قريباً من ستة أيام، لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أرى فلاناً! فقالوا: يا رسول الله، إن ابنه توفي، فوجد عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا فلان، أتحب لو أن ابنك عندك الآن، كأنشط الصبيان نشاطاً؟ أتحب أن ابنك عندك أجرى الغلمان جرية؟ أتحب أن ابنك عندك كهلاً كأفضل الكهول، أو يقال لك: ادخل الجنة ثواب ما أخذ منك؟» وقد ورد هذا الحديث بعدة طرق، عن أنس بن مالك، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وغيرهما. وروى الطبراني في معجمه «من حديث إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الزرقي عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلاً من الأنصار، كان له ابن، يروح إذا راح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقال: أتحبه؟ فقال: يا نبي الله، نعم، أحبك الله كما أحبه. فقال: إن الله أشد لي حباً منك له. فلم يلبث أن مات ابنه ذاك، فراح إلى نبي الله، وقد أقبل بثه، فقال له نبي الله: أجزعت؟ قال: نعم!

قال: أو ما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش؟ ، قال: بلى يا رسول الله» . هذا حديث غريب. وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده «من حديث ابن بريدة، عن أبيه ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد الأنصار، ويعودهم، ويسأل عنهم، فبلغه أن امرأة من الأنصار مات ابن لها، فجزعت عليه، فأتاها، فأمرها صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل والصبر، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي ولد غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرقوب التي يبقى ولدها، ثم قال: ما من امرئ مسلم، ولا امرأة مسلمة، يموت لها ثلاثة من الولد، إلا أدخلهما الله عز وجل الجنة، فقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، واثنان؟ قال: واثنان» . «ورواه البزار في مسنده ولفظه: فقالت: يا رسول الله، كيف لا أجزع وأنا رقوب لا يعيش لي ولد. فقال: إنما الرقوب التي يعيش ولدها. فقال: إنما الرقوب التي يعيش ولدها.. » وذكر تمام الحديث. ورواه أحمد، «عن حديث معاذ بن جبل، وفيه قال: واثنان؟ قال: واثنان. قالوا: وواحد؟ قال: وواحد» . وقد تقدم. «وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن جزاء، إذا قبضت صفيه من المال والولد، فصبر، إلا أن أدخله الجنة» رواه ابن عساكر، وإسناده فيه ابن لهيعة، والكلام فيه معروف. وروى أيضاً، «من حديث المنهال بن خليفة، عن ثابت، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً من أهل الأساطين، معروفاً بذلك، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل فلان؟ فقالوا: ابنه شكا وهو يمرضه، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن ابنه، فوجده قد مضى، وجاء الرجل مع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله

فصل ـ في بشارة من مات ولده وصبر

صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حسبك عنا؟ قال: إني كنت أمرضه حتى مضى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ قال: نعم، قال: أجزعت عليه. قال: نعم، شديداً قال: فما يسرك أن يكون باركاً على باب من أبواب الجنة، يقول: يا أبه أنا ذا فأتني؟ ! قال بلى يا نبي الله، فقال المسلمون عند ذلك: يا رسول الله فمن أصابه منا مصيبة كان ذلك له. قال: نعم، إذا صبر واحتسب» . وروى ابن أبي الدنيا، في كتاب الأمراض والكفارات، «عن محمد بن خالد بن السلمي، عن أبيه عن جده ـ وكانت لجده صحبة ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذاسبقت للعبد من الله عز وجل منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ولده أو في ماله، ثم صبره، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل» . وروى أيضاً، بإسناده، «عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في جسده، وماله وولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» . ورواه الترمزي ومالك في الموطأ. «وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: إذا وجهت إلى عبدي مصيبة، في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً، أو أنشر له ديوناً» . رواه ابن عدي في الكامل. فصل ـ في بشارة من مات ولده وصبر قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن الحسين، ثنا داود بن المحبر، ثنا سوادة بن الأسود، قال سمعت أبا خليفة العبدي، قال مات ابن لي صغير، فوجدت عليه وجداً شديداً، وارتفع عني النوم، فو الله، إني لذات ليلة في بيتي على سريري، وليس في البيت أحد غيري، وإني لمفكر في ابني إذ ناداني مناد من ناحية الباب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أبا خليفة، فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله، قال:

ـ ورعبت رعباً شديداً ـ قال: فتعوذ، ثم قرأ آيات من آخر سورة آل عمران، حتى انتهى إلى هذه الآية: {وما عند الله خير للأبرار} ، قال يا أبا خليفة، قلت: لبيك، قال: ماذا تريد؟ تريد أن تخص بالحياة في ولدك دون الناس؟ ! أنت أكرم على الله أم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد مات ابنه إبراهيم؟ و «قال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» ، أم ماذا تريد؟ تريد أن يرتفع الموت عن ولدك، وقد كتب على جميع الخلق؟ أم ماذا تريد؟ تريد أن تسخط على الله في تدبير خلقه؟ والله، لولا الموت، ما وسعتهم الأرض، ولولا التأسي، ما انتفع المخلقون بعيش، ثم قال: ألك حاجة؟ قلت: من أنت، رحمك الله؟ قال: امرؤ من جيرانك من الجن. قال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن عبدوس، ثنا أبو هاشم، ثنا محمد بن كاسة، قال: لما مات ذر بن عمر بن ذر، وكان موته فجاة، أتاه أهل بيته يبكونه، فقال: ما لكم؟ إنا ـ والله ـ ماظلمناه، ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحق، ولا أخطىء بنا، ولا أريد غيرنا، ومالنا على الله متعب، فلما وضعه أبوه في قبره، قال: رحمك الله يا بني، لقد كنت بي باراً، ولقد كنت عليك حدباً وما بي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعز، ولا أبقيت علينا من ذل، وقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر، لولا هول المطلع ومحشره، لتمنيت ما صرت إليه، فليت شعري ـ يا ذر ـ ماذا قيل لك؟ وماذا قلت؟ ثم قال: اللهم وعدتني الثواب بالصبر على ذر، اللهم فعلى ذر صلواتك ورحمتك، اللهم إني قد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر صلة مني فلا تعرنه قبيحاً، وتجاوز عنه، فإنك أرحم به مني، اللهم قد وهبت له إساءته إلي، فأنت أجود مني وأكرم، فلما ذهب لينصرف، قال، انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك. ورواها من وجه: أن ذراً لما مات قال أصحابه: الآن يضيع الشيخ ـ يعني والده ـ فإنه كان باراً به، فسمعها الشيخ، فبقي متعجباً، ثم التفت إليهم وقال:

أضيع والله حي لا يموت؟ ! ثم سكت حتى دفن، فلما واروه في التراب، وقف على قبره ليسمعهم، فقال: رحمك الله يا ذر، ما علينا بعدك من خصاصة، وما بنا إلى أحد مع الله حاجة، وما يسرني أن أكون المقدم قلبك، ولولا هول المطلع لتمنيت أن أكون مكانك، ثم رفع رأسه، وقال اللهم قد وهبت حقي فيما بيني وبينه له، اللهم فهب حقك فيما بينك وبينه له. وساق نحواً من القصة الأولى، فبقي القوم متعجبين مما جاء منهم، ومما جاء منه من الرضا والتسليم. وعن الحسن البصري ـرحمه الله ـ أن رجلاً جزع على ولده، وشكا ذلك إلى الحسن، فقال له: كان ابنك يغيب عنك؟ قال: نعم! كانت غيبته أكثر من حضوره؟ قال: نعم، قال فأنزله غائباً، فإنه لم يغب عنك غيبة خير لك فيها نفعاً أعظم من هذه. قال: يا أبا سعيد، هونت علي وجدي على ابني. وعن سلمة، قال: لما مات ابن عمر بن عبد العزيز، كشف أبوه عن وجهه، وقال: رحمك الله يا بني، فقد سررت بك يوم بشرت بك، ولقد عمرت مسروراً بك، وما أتت علي ساعة، أنا فيها أسر من ساعتي هذه، أما والله إن كنت لتدعو أباك إلى الجنة. وقال أبو الفرج بن الجوزي: قال أبو الوفاء بن عقيل: مات ولدي عقيل وكان قد تفقه وناظر وجمع أدباً حسناً، فتعزيت بقصة عمرو بن عبد ود الذي قتله علي بن أبي طالب. فقالت أمه ترثيه: لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... ... ما زلت أبكي عليه دائم الأبد لكن قاتله من لا يقاد به ... من كان يدعى أبوه بيضة البلد فأسلاها وعزاها جلالة القاتل. فنظرت إلى قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان القتل والمقتول لجلالة القاتل وعظمه.

فصل ـ في الثواب على الولد الصغير والشيخ البالغ

فصل ـ في الثواب على الولد الصغير والشيخ البالغ وفي الأحاديث والآثار أكثر ورودها في الولد الذي لم يبلغ الحنث، ولكن الولد الصالح البالغ، أشد مصيبة من والديه، وأكثر حزناً وجزعاً، منهما على الولد الصغير، خصوصاً إذا كان قد برز في العلم، أو له بر وإحسان إلى والديه وأقاربه وأصحابه، أو له صفات جميلة وأفعال حميدة. وأين يقع الولد الصغير موقع الكبير في النفع لوالديه ولغيرهما، إذا كان متصفاً بما ذكر؟ فهل يستريب عاقل أن الحزن عليه أشد؟ فكذلك أجره أعظم وأكثر. فإن قيل: البالغ قد جرى عليه القلم وهو من المكلفين، فنهايته يخلص نفسه، يعتقها أو يوبقها. قيل: الجزاء على الكبير إنما يحصل على الصبر على المصيبة والاسترجاع والحمدلة، بل هو داخل في «قول النبي صلى الله عليه وسلم: ادخل الجنة ثواب ما أخذ منك» . وروى ابن منده، «من حديث ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة النسائي، عن حسان بن كريب، أن غلاماً منهم توفي بحمص فوجد عليه أبوه، فقال له حوشب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مثل ابنك: إن رجلاً من الصحابة كان له ابن قد أدرك، وكان يأتي مع أبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توفي، فوجد عليه قريبا من ستة أيام ... » الحديث، وهذا الحديث ذكر فيه أنه أدرك، وذكر فيه دخول الجنة ثواب ما أخذ منه، وقد تقدم من رواية الإمام أحمد، لكن لم يذكر في روايته أنه أدرك. وقد روى الحافظ أبو القاسم بن عساكر بإسناده، «عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات له ابن أو ولد، سلم أو لم يسلم، رضي أو لم يرض، لم يكن له ثواب دون الجنة، وفي لفظ آخر: من مات له ابن، صبر أو لم يصبر، احتسب أو لم يحتسب، لم يكن له ثواب إلا الجنة» . وقد روى ابن

عساكر، هذا الحديث، بعدة طرق، وإن كان قد تكلم في بعضها، أو في أكثرها، ففيها بشارة عظيمة لأكثر الناس في زماننا هذا، لأن بموت الولد، في غالب أهل زماننا، يحصل لوالديه جزع وهلع وعدم تصبر، وما ذاك إلا لقلة الزواجر الشرعية، فإن الوعد والوعيد يحصل للعبد به تسلية عظيمة، فنسأل الله تعالى أن لا يمتحنا وإن امتحننا أن يثبتنا. وقال أبو القاسم بن عساكر: «أخبرنا أبو العز أحمد بن عبد الله العكبري ببغداد أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد الوراق، أنبأ أبو حفص عمربن أيوب السقطي، ثنا أبو الوليد بشر ابن الوليد القاضي، ثنا الفرج بن فضالة، ثنا هلال أبو جبلة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، ونحن في صفة بالمدينة، فقام علينا فقال: إني رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أمتي، أتاه ملك الموت لقبض روحه، فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه، ورأيت رجلاً من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوءه فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلاًمن أمتي، قد احتوشته الشياطين، فجاء ذكر الله عز وجل، فطرد الشياطين عنه، ورأيت رجلاً من أمتي، قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته، فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلاً من أمتي، يلتهب عطشاً، كلما دنا من حوض منع منه وطرد، فجاءه صيامه شهر رمضان فأسقاه وأرواه، ورأيت رجلاً من أمتي، ورأيت النبيين حلقاً حلقاً، كلما دنا إلى حلقة طرد، فجاءه غسله من الجنابة، فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي، ورأيت رجلاً من أمتي، من بين يديه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن شماله ظلمة، ومن فوقه ظلمة، وهو متحير، فجاءه حجته وعمرته، فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور، ورأيت رجلاً من أمتي، يتقي بيده وهج النار وشررها، فجاءته صدقته، فصارت سترة بينه وبين النار، وظلاً على رأسه، ورأيت رجلاً من أمتي، يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءته صلته لرحمه، فقالت: يا معشر المؤمنين، إنه كان وصولاً لرحمه، فكلموه، فكلمه المؤمنين وصافحوه، وصار فيهم، ورأيت رجلاً من أمتي، قد احتوشته الزبانية، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر،

فاستنقذه من أيديهم، وأدخله في ملائكة الرحمة ورأيت رجلاً من أمتي، جاثياً على ركبتيه، وبينه وبين الله عز وجل حجاب، فجاءه حسن خلقه، فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل، ورأيت رجلاً من أمتي، قد هوت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من الله عز وجل، فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه، ورأيت رجلاً من أمتي، خف ميزانه، فجاءه أفراطه، فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلاً من أمتي، قائم على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه من الله عز وجل، فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيت رجلا من أمتي، قد هوى في النار، فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عز وجل، فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قائماً على الصراط، يرعد كما ترعد السعفه في ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه بالله عز وجل، فسكن رعدته ومضى، ورأيت رجلاً من أمتي، يزحف على الصراط ويحبو أحياناً، ويتعلق أحيانا، فجاءته صلاته علي، فأنقذته وأقامته على قدميه، ورأيت رجلا من أمتي، انتهى إلى أبواب الجنة، فغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله، ففتحت له أبواب الجنة، وأدخلته الجنة» . هذا الحديث قد ذكر جماعة من الحفاظ، أن لوائح الصحة ظاهرة عليه، وأن القلب يركن الى متنه، وقد أومأت إليه فيما تقدم وبكل حال، في هذا الحديث بشارة عظيمة للأمة عامة، وفيه تطيب خاطر الوالدين على الأطفال خاصة، سواء كان الطفل ولد قبل إسلام والده أو بعده، فإنه صلى الله عليه وسلم، قال: «رأيت رجلاً من أمتي خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه» . ويؤيد ذلك، ما ثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل مولود يولد على الفطرة» . قال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} . فالولدان الذين يتوفون على ما فطرهم الله عليه من التوحيد، هم من السعداء الذين يدخلون الجنة بلا عمل عملوه، ولا خير قدموه، بل برحمة الله لهم ومنته عليهم. بل أعظم من هذا، أنهم يشفعون في آبائهم، ولهذا يكونون في البرزخ في كفالة أبيهم إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ

فصل ـ في التأسي ببعض ما كان يفعله الصحابة والتابعون إذا نزلت بهم المصائب

كما ثبت في الصحيح، في حديث المنام الطويل من حديث «سمرة بن جندب، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل وميكائيل، فانطلقا به فأرياه عجائب، وفيه: والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم، والصبيان حوله أولاد الناس» وفي لفظ البخاري: «والولدان حوله، فكل مولود يولد على الفطرة، فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين» . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم، فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة، يبين ذلك: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها} . ولهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه، فدل على إقامة الوجه للدين حنيفاً هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في نظائره مثل قوله تعالى: {كتاب الله عليكم} و {سنة الله التي قد خلت} ، فهو عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره دل عليه الفعل المتقدم، كأنه قال: كتب الله عليكم ذلك، وسن الله ذلك لكم. انتهى كلامه. وقد تكلمنا عن الأطفال، وأشبعنا الكلام فيهم، في كتاب مفرد، فمن رام كشفه فليطلبه، ولكن لا يليق التطويل بل ليس نحن بصدده بأكثر من هذا، فهذا تنبيه على الأطفال أنهم ولدوا على الفطرة، وقد ذكرنا في الفطرة نحواً من عشرة أقوال في الصنف المشار إليه، والله أعلم. فصل ـ في التأسي ببعض ما كان يفعله الصحابة والتابعون إذا نزلت بهم المصائب فقد ثبت في صحيح البخاري «عن أنس، قال: اشتكى ابن لأبي طلحة، قال: فمات وأبوه أبوطلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات، هيأت شيئاً، وجعلت

ابنها في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة، قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة، قال: فبات، فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج، أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبره بما كان منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل الله أن يبارك لهما في ليلتهما» فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد، كلهم قد قرأ القرآن. «وفي لفظ أنها قالت لأهلها لما مات ولدها: لا يكلم لأبي طلحة أحد قبلي، فلما دخل، سأل عن الصبي، فقالت: إنه قد هدأ مماكان، وقدمت له طعاماً فأكل، ثم تصنعت له حتى واقعها، ثم قالت: يا أبا طلحة، أرأيت قوماً أودعوا قوماً وديعة، ثم طلبوها منهم، أفما يجب أن يؤدوها إليهم؟ قال بلى، قالت: فاحتسب ابنك. فغضب لما صنعت به، فلما كان الصباح، ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشكوها إليه، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بارك الله لكما في غابر ليلتكما فجاءت بغلام حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه عبد الله، وهو الذي كان من سلالته الإخوة القراء، والأول هو أبو عمير الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداعبه ويقول له: يا أبا عمير ما فعل النغير» أي ما فعل عصفورك. فهذه امرأة، قد تصبرت ورضيت، وتثبتت واحتسبت، فأخلف الله لها خيراً من الذي أصيبت به، فإذا نظر من أصيب بمصيبة، إلى امرأة قد فعلت عند المصيبة أمراً لا يكون إلا عند السرور والأفراح، فليتأس الشخص، وليتعلم أوصاف السابقين الأولين، ويعلم الرجال أولى بهذا الصنيع والصبر من النساء. ولم تصب امرأة في الوجود بما أصيبت به فاطمة ـ رضي الله عنها ـ التي هي سيدة نساء أهل الجنة، فإنها أصيبت بموت أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تقل في هذه الحال العظيمة إلا قولاً صدقاً محفوظاً عنها فإنها قالت: يا أبتاه، من ربه ما أدناه! يا أبتاه، إلى جبريل أنعاه! يا أبتاه، أجاب رباً دعاه! يا أبتاه جنة الفردوس مأواه! فالذي ينبغي لنا، التأسي بسادات المسلمين من الرجال والنساء. مات لرجل من السلف ولداً، فعزاه سفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد، وآخرون، وهو في حزن شديد، حتى جاءه الفضيل بن عياض، فقال: يا هذا

أرأيت لو كنت في سجن وابنك، فأفرج عن ابنك قبلك، أما كنت تفرح؟ قال: بلى! قال: فإن ابنك، خرج من سجن الدنيا قبلك، قال فسري عن الرجل، وقال تعزيت. رواه الحافظ ابن عساكر. وقال مالك: إنه بلغه «عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما يزال المؤمن يصاب في ولده وخاصته، حتى يلقى الله وليست عليه خطيئة» . وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد، والترمذي، من حديث أبي موسى الأشعري. والمقصود أن من سمع بهذا الحديث وكان قد أصيب بمصيبة حصل له تسلية. ومن التأسي بمن أصيب في نفسه، فصبر، وعزى نفسه، وتكلم بما حفظ عنه: لما حضرت معاوية الوفاة قال: أقعدوني، فأقعدوه، فجعل يذكر الله ويسبحه، ثم قال: الآن تذكر ربك يا معاوية، بعد الانحطام والانهزام؟ ألا كان ذلك وغصن الشباب ريان؟ ! وبكى حتى علا بكاؤه، ثم قال منشداً: هو الموت لا منجا من الموت، والذي ... أحاذر بعد الموت، أدهى وأفظع ثم قال اللهم يا رب ارحم الشيخ العاصي والقلب القاسي، اللهم أقل العثرة واغفر الزلة وجد بحلمك، على من لا يرجو غيرك، ولا يثق بأحد سواك، ثم قال لابنه: يا بني، إذا وافاني أجلي، فاعمد إلى المنديل الذي في الخزانة، فإن فيها ثوباً من أثواب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراضة من شعره وأظفاره، فاجعل الثوب مما يلي جسدي، واجعل أكفاني فوقه، واجعل القراضة في فمي وأنفي وعيني، فإن نفعني شيء فهذا، فإذا وضعتموني في قبري، فخلوا معاوية وأرحم الراحمين. ولما حضرت أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: يبكيني بعد السفر، وقلة الزاد، وضعف اليقين، والعقبة الكؤود التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما إلى النار. ولما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: اللهم أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت،

فصل ـ في البشارات الهائلة لمن أصيب بمصيبة وإن لم تكن في ولده

فإن غفرت فقد مننت، وإن عاقبت فما ظلمت، لا إله إلا أنت. وقال سليمان التيمي: دخلت على بعض أصحابنا وهو في النزع، فرأيت من جزعه ما ساءني، فقلت له: هذا الجزع كله، لماذا، وقد كنت بحمد الله على حالة صالحة؟ ! فقال: ومالي لا أجزع؟ ومن أحق مني بالجزع؟ والله، لو أتتني المغفرة من الله عز وجل، لأهمني الحياء منه فما أفضيت به إليه. ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة، جعل يقول: والله لوددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنيمات في جبالها، ولم أل. وذكر محمد الطائي الهمذاني في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين، ذكر بإسناده إلى المزني، قال: دخلت على الشافعي ـ رحمه الله ـ في مرضه الذي مات فيه، فقلت: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولسوء فعلي ملاقياً، وبكأس المنية شارباً، وعلى الله عز وجل وارداً، فو الله ما أدري أروحي تسير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ! ثم بكى وأنشد: فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما تعاظمني ذنبي، فلما قرنته ... بعفوك ربي، كان عفوك أعظما فما زلت ذا عفومن الذنب، لم تزل ... ... تجود، وتعفو منة وتكرما فلولاك، لم يقو بإبليس عالم ... ... وكيف، وقد أغوى ضعيفك آدما؟ وقال بعض الصالحين لخادمه، وقد حضرته الوفاة: يا غلام، شد كتافي، وعفر خدي في التراب، ففعل الغلام به ذلك، ثم قال: دنا الرحيل، ثم قال: اللهم لا براءة لي من ذنب، ولا عذر أعتذر به، ولا قوة فأنتصر بها ثم قال: أنت لي، أنت لي، ثم صاح صيحة، فمات فسمعوا صوتاً يقول: اشتكى العبد لمولاه، فقبله. فصل ـ في البشارات الهائلة لمن أصيب بمصيبة وإن لم تكن في ولده ومن المطالب العالية، والبشارات الهائلة، لمن أصيب بمصيبة، وقد تقدم غالبه، ثم نذكر من لم يقدم من ولده شيئاً.

قال الإمام أحمد: «ثنا بهز ثنا حماد بن سلمة، ثنا يعلى بن عطاء، عن شيخ من أهل دمشق، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس بخ بخ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح يموت للرجل فيحتسبه» . وقد روي هذا الحديث بعدة طرق، «عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الحشحاش العنبري وهو صحابي، بنحو من هذا، لكن بلفظ: بخ بخ لخمس، ما أثقلهن في الميزان» ، ورواه ابن سعد في الطبقات من «حديث سلام الاسود، ولفظه كما تقدم، وفيه والولد الصالح، يتوفى للمرء المسلم، فيحتسبه» ورواه ابن أبي عاصم. وقال أبو القاسم بن عساكر: قرأت على أبي محمد عبد الكريم بن حمزة السلمي، «عن أبي بكر أحمد بن علي الحافظ، أنبأ الحسن بن أبي بكر أنبأ أبو الحسين أحمد بن عثمان، ثنا ابن أبي العوام، ثنا أبي، ثنا إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، حدثني أبي عن أبيه كهيل، عن هانئ ابن بنت الحضرمي، ثنا عبد الله بن عباس، قال: توفي ابن لصفية بنة عبد المطلب، فبكت عليه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبكين يا عمة؟ ! من توفي له ولد في الإسلام كان له بيت في الجنة» ، فسكتت. وفي صحيح البخاري «عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء، إذا قبضت صفية من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة» . وقال الترمذي في جامعه: «حدثنا نصر بن علي الجهضمي، وأبو الخطاب زياد بن يحيى البصري، قالا: ثنا عبد ربه بن بارق، قال: سمعت جدي أبا سماك بن الوليد يحدث، أنه سمع عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان له فرطان من أمتي، أدخله الله بهما الجنة. فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: فمن كان له فرط من أمتك. قال: ومن كان له فرط يا موفقة. قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: فأنا فرط أمتي لن يصابوا بمثلي» . قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن بارق.

وقد روى عنه غير واحد من الأئمة. قال الحافظ الضياء: عبد ربه ابن بارق، تكلم فيه يحيى بن معين، وقال الإمام أحمد: ما به بأس. وقد روينا في جزاء ابن عرفة مرفوعاً: الموت كفارة لكل مسلم. والمقصود أن من لم يصب في أولاده، أو لم يكن له أولاد، فالنبي صلى الله عليه وسلم فرطه، لكن أهل المصائب أيضاً يشاركونهم في النبي صلى الله عليه وسلم، فيحصل لهم أجر من جهتين، وقد يحصل للشخص أجر من جهات عديدة من موت وحريق ونهب وغير ذلك، مما يكفر الله به السيئات ويرفع به الدرجات.

الباب السابع: في ذكر السقط وثوابه، وزيارة القبور

الباب السابع: في ذكر السقط وثوابه، وزيارة القبور قال الإمام أحمد: «حدثنا عفان، ثنا خالد الطحان، ثنا يحيى التميمي، عن عبد الله بن مسلم، عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة، إذا احتسبته» . ورواه ابن ماجه أيضاً، والدرامي من حديث يحيى بن عبد الله التميمي به. «وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله: إن السقط، ليراغم ربه عز وجل، إذا أدخل أبويه النار، فيقال: أيها السقط المراغم ربه، ادخل أبويك الجنة» . رواه ابن ماجة. وروى ابن ماجة أيضاً، «من حديث يزيد بن رومان، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه خلفي» . ورواه عبد الله بن الإمام أحمد. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة، نودي في أطفال المسلمين، أن اخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم. ثم ينادي، أن امضوا إلى الجنة زمراً، فيقولون: يا ربنا، ووالدنا معنا، فينادي فيهم الثانية، أن امضوا إلى الجنة زمراً، فيقولون: يا ربنا، ووالدنا معنا. قال: فيتبسم الرب جل وعلا في الرابعة، فيقول: ووالداكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه، فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة، لهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم» . رواه ابن شاهين، والحافظ ابن عساكر في ذكر ثواب السقط.

فصل ـ في زيارة القبور وحكمها

وروي عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، ثنا محمد بن أبي الوزير، ثنا خلاد بن منصور الواسطي، ثنا داود بن أبي هند، قال: رأيت في المنام، كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس يدعون إلى الحساب، قال: فقربت إلى الميزان، فوضعت حسناتي في كفة وسيئاتي في كفة، فرجحت السيئات على الحسنات، فينا أنا كذلك مغموم، إذ أتيت بشيء كالمنديل، أو كالخرقة البيضاء، فوضعت مع حسناتي، فرجحت على السيئات، فقيل: تدري ما هذه؟ قلت: لا، قال: سقط كان لك، قلت: فإنه قد مات لي صبية ابنة لي: تيك ليست لك، لأنك كنت تتمنى موتها. وروى يزيد بن أبي مريم، عن أبيه عن سهل الحنظلية الأنصاري ـ وكان ممن بايع تحت الشجرة ـ وكان لا يولد له، أنه قال: لأن يولد لي ولو سقط، فأحتسبه، أحب إلي من الدنيا جميعاً. فصل ـ في زيارة القبور وحكمها زيارتها مستحبة، وهي تذكر الآخرة، وتفرح الموتى، بما يحصل لهم من الأحياء، من قراءة واستغفار ودعاء وصدقة ونحو ذلك، فزيارة القبور فيها نفع للأحياء والأموات، فالحي يذكر الآخرة، والموت الذي ما ذكر في قليل من متاع الآخرة إلا كثره، ولا في كثير من متاع الدنيا إلا قلله، ويقرأ على نفسه آيات الصبر وقصر الأمل مثل قوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ... } . وقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} . وفي صحيح البخاري «من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» . وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.

فإذا تذكر ذلك، حصل له الخشوع والإقلاع، وتذكر من سلف من الأهل والأقارب، هذا في الزيارة النافعة، لا كما يفعل في زماننا هذا، من البدع في الزيارة يوم الخميس والسبت، فتتزين النساء، ويتبهرجن ويجلسن على القبور. وقد نهى في سنن أبو داود «من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص على جلده، خير له من أن يجلس على قبر. وقال: لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» . لكن اختلف العلماء في الجلوس ما هو؟ فأكثر العلماء على أنه الجلوس المعروف. وقال مالك: هو التغوط عليها. وروي في الموطأ: أن علياً كان يتوسد القبور ويضطجع عليها، وأن ابن عمر كان يجلس على القبور، وأن عثمان بن حكيم قال: أخذ خارجة ابن زيد بيدي فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمه يزيد بن ثابت، أنه قال: إنما كره ذلك لمن أحدث عليها. والمقصود أن النساء يخرجن إلى المقابر، وتحضر الشباب الفسقة، فيجلسون على سكك المقابر، ويختلطون بهم في الغالب، وربما تصعد السوقة بملاذ المأكل وغيرها للبيع والشراء، وربما تحدثوا بما لا يليق. فهؤلاء، قبحهم الله تعالى، وأبعدهم عن بابه، وختم على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، لأنهم يشاهدون منازل الآخرة ـ يعني المقابر ـ وهم معرضون عما يراد بهم. وقد نص الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ على أن الموتى يتأذون بفعل المعصية عندهم. وفي زماننا هذا تفعل المعاصي في الترب، فيحصل للموتى الأذى بذلك، كما نص أحمد علىذلك لأنهم ـ رحمهم الله تعالى ـ قد تيقنوا شؤم عاقبة الذنب، وعاينوا عين اليقين، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. ونص الإمام أحمد: على أن الزيارة للقبور يوم الجمعة قبل طلوع الشمس، فإن الاموات يرون زائرهم. وقال الغزالي في إحياء علوم الدين: الزيارة تكون يوم الجمعة، ويوم السبت قبل طلوع الشمس.

ويستحب الإكثار من ذكر الموت، كما ثبت في الترمذي وحسنه «من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا ذكر هاذم اللذات» . ـ يعني الموت ـ. ويستحب للشخص، إذا دخل المقابر، أن يسلم على أهل المقابر، كما ثبت في صحيح مسلم «عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» . وفي صحيح مسلم «من حديث سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا من المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون» نسأل الله لنا ولكم العافية. وفي صحيح مسلم أيضاً، «من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين» الحديث. وروى الإمام أحمد، «عن أبن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال: السلام عليكم أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر» . ورواه الترمذي، وهذا لفظه، وقال: حديث حسن غريب. ورواه ابن ماجة، «من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ ولفظه: السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط، وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» . «وعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي، فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً» رواه مسلم.

وللإمام أحمد والنسائي: نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد فليزر، ولا يقول هجراً. «وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنت ربي، أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي» . رواه مسلم. وفي لفظ له: «زار قبرها، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي، أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» . «وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة» . رواه الإمام أحمد. ورواه ابن ماجة، «من حديث ابن مسعود، وفيه: فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة» . ورواه أحمد أيضاً، «من حديث أبي سعد مرفوعاً، وفيه: فزوروها، فإن فيها عبرةً» . وفيه دليل لمن جوز زيارة القبور للنساء. وللعلماء فيها ثلاثة أقوال: أحدها: تحريمها عليهن، لحديث لعن الله زوارات القبور. الثاني: يكره. والثالث: يباح، لما تقدم، فالنساء يدخلن في خطاب الرجال على الصحيح عند الأصوليين. «وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ألا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعني؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها عندي، وضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويداً، وانتعل رويداً، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويداً، وجعلت درعي في رأسي، واختمرت، وتقنعت إزاري،

ثم انطلقت على أثره، حتى أتى البقيع، فقام، فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف، فانحرفت، فأسرع، فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر، فأحضرت، فسبقته، فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: مالك يا عائش حشياء رابيةً؟ قلت: لا شيء، قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فأخبرته، قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ ! قلت: نعم! فلهزني في صدري لهزة أوجعتني، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم! قال: فإن جبريل أتاني حين رأيت، فناداني، فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك، وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال قولي: السلام على أهل الديار، من المسلمين والمؤمنين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله للاحقون» رواه مسلم.

الباب الثامن: في تطييب خاطر الوالدين على الأولاد

الباب الثامن: في تطييب خاطر الوالدين على الأولاد قال الله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} وقد ذكر البغوي في تفسيره بإسناده، «عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل، لتقر بهم عينه، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} » . ففي هذه الآية والحديث، دليل على تطييب خاطر الوالدين على أطفالهم، وهذا الذي ينبغي، أن يطيبوا أنفسهم، ويقروا أعينهم، فإنهم، وإن كانوا كباراً، فهم من أهل التوحيد والإسلام، وإن كانوا صغاراً، فهم ممن: {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ، لأنهم ماتوا على الفطرة السليمة، وهم من السعداء الذين يدخلون الجنة بلا عمل عملوه، ولا خير قدموه، بل رحمة الله ومنته عليهم، ولهذا يكونون في برزخهم في كفالة أبيهم إبراهيم الخليل ـ عليه السلام، إمام الحنفاء ـ كما في دعاء الميت إذا كان صغيراً: واجعله في كفالة إبراهيم. وكما ثبت في صحيح البخاري «من حديث سمرة بن جندب ـ وقد تقدم ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المنام قال فيه: فأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله، فكل مولود يولد على الفطرة، فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال وأولاد المشركين» ، و «في رواية للبخاري أيضاً والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم ـ عليه السلام ـ والصبيان حوله أولاد الناس» . «وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جزع؟ !، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} » الحديث: رواه البخاري ومسلم، ولفظه للبخاري. وقال أبو بكر القطيعي: «حدثنا بشر بن موسى، ثنا ابن خليفة، ثنا عون عن خنساء، قالت حدثتني عمتي، قالت: قلت: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة» . وكذلك رواه بندار، عن غندر، عن عوف، فذكر مثله وقال الفراء في كتاب معاني القرآن: عند قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين} ، قال علي رضي الله عنه: هم الولدان. قال الفراء: وهو شبيه بالصواب، لأن الولدان لم يكتسبوا ما يرتهنون به. وفي قوله تعالى: {يتساءلون * عن المجرمين} ما يقوي أنهم الولدان، لأنهم لم يعرفوا الذنوب، فلهذا يقولون: {ما سلككم في سقر} ولكن روى العقيلي بإسناده عن علي ـ رضي الله عنه ـ في قوله تعالى {إلا أصحاب اليمين} قال هم أطفال المسلمين، فظاهر هذه الرواية التخصيص بهذه الأمة، والرواية الأولى عامة في كل مولود. وقال البغوي في تفسيره {إلا أصحاب اليمين} : اختلفوا فيهم، فعن علي أنهم أطفال المسلمين، وهذا يوافق ما رواه العقيلي عنه، ولم يحك عنه خلافه، ثم قال: وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنهم الملائكة. وقال مقاتل: هم الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق. وعنه أيضاً: هم الذين

فصل ـ في معنى الفطرة التي نشأعليها كل مولود من بني آدم من ذكر وأنثى

أعطوا كتبهم بأيمانهم. وعنه أيضاً: هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم. وقال الحسن: هم المسلمون المخلصون. وحكى القرطبي في تفسيره في هذه الآية الكريمة، أقوالاً كثيرة، ولم يذكر أنهم لا أطفال المسلمين ولا المشركين، إلا أنه ذكر في آخر كلامه عن الفراء أنه قال: هم الولدان، لأنهم لا يعرفون الذنوب. وقد حكيت قول الفراء قريباً، وأنه أسنده إلى علي ـ رضي الله عنه ـ لكن حكى القرطبي في غير هذا الموضع: أن الأطفال إن ماتوا صغاراً فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربوبية، وهو قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} . ثم أعادهم في صلب آدم، بعد أن أقروا له بالربوبية، ثم يكتب العبد في بطن أمه، شقياً أو سعيداً، على الكتاب الأول. فصل ـ في معنى الفطرة التي نشأعليها كل مولود من بني آدم من ذكر وأنثى قال الله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» . وقد قدمنا في ذلك كلاماً مختصراً، ولكن نبين معنى الفطرة لغة وإعراباً. قال أبو البقاء في إعرابه: فطرة الله، أي: الزموا واتبعوا دين الله التي خلق الناس عليها. انتهى كلامه. وقال الطبري: فطرة الله مصدر، المعنى: فأقم وجهك، لأن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك. وقال النحاس: سميت الفطرة ديناً، لأن الناس يخلقون له. وفطر الناس عليها أي لها.

فصل ـ في اختلاف العلماء في معنى الفطرة

وكذلك معنى قول الزجاج. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فطرة الله، أضافها إليه على الوجه الممدوح، ولهذا نصبت على المصدر الذي دل عليه الفعل عند سيبويه، وقد تقدم كلامه ـ رحمه الله ـ قريباً. وقال أبو عمر بن عبد البرفي التمهيد: الفطرة في كلام العرب البداءة. انتهى فصل ـ في اختلاف العلماء في معنى الفطرة وقد اختلف بعض العلماء والمفسرون، في المعنى المراد بالفطرة، على أقوال: أحدهما: أن المراد بالفطرة: الإسلام، قاله أبو هريرة، وابن شهاب، وغيرهما، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد، ولما ذكر ابن عبد البر النزاع في هذه المسألة في التمهيد قال: وقال آخرون: الفطرة ها هنا الإسلام، قال: وهو المعروف عند عامة الناس وأهل التأويل، ثم قال: وأما قوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} فقد أجمعوا على أن قالوا: دين الإسلام. وليس كما قال: فإن القرطبي وغيره من المفسرين ذكروا في الآية أقوالا كثيرة: قال القرطبي: وفي معنى الفطرة أقوال متعددة منها دين الإسلام، وهو المعروف عند عامة السلف، ثم قال: ومعنى هذا أن الطفل خلق سليماً من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه. وأنهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا فهم في الجنة، أولاد مسلمين كانوا، أو أولاد كفار. وقال النقاش في تفسيره: وقد اختلف أهل التأويل والأخبار في الفطرة فقيل: على ملة إبراهيم ثم ذكر قريباً مما ذكره القرطبي وقد احتج من نصر هذا القول «بحديث أبي هريرة مرفوعاً ما من مولود يولد إلا على الفطرة» . واستدلال أبي

هريرة بالآية في تمام الحديث، و «بحديث عياض بن حمار بن المجاشعي مرفوعاً يقول: خلقت عبادي حنفاء» وفي بعض ألفاظه «حنفاء المسلمين» . ويؤيد هذا «مافي الصحيحين: خمس من الفطرة» . و «في صحيح مسلم: عشر من الفطرة» . ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، «من حديث عمار بن ياسر: خمس من سنن الإسلام» . و «في لفظ عشر من سنن الإسلام» . الثاني: أن المراد بالفطرة: البداءة التي بدأهم الله عليها، من أنهم ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة. وتقدم حكاية هذا القول، وأنه حكاه أبو عمر بن عبد البر. الثالث ـ ليس المراد بالفطرة عموم الناس، وإنما المراد بقوله: فطر الناس: المؤمنون، إذ لو فطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد، وقد ثبت أنه خلق أقواماً للنار، كقوله تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس} . الرابع ـ أن المراد بالفطرة الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم. واحتج من قال بهذا القول بقوله تعالى: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} وتقدم في بسط هذا الكلام له موضع آخر، وأنه في كتاب مفرد على الكلام في أطفال المشركين. والمقصود أن الولدان يتوفون على ما فطرهم الله عليه من التوحيد والإسلام، فهم من سعداءالآخرة، الذين استحقوا دخول الجنة بلا عمل عملوه، ولا خير قدموه، بل برحمة الله عليهم، ولطفه بهم: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} .

الباب التاسع: فيمن مات له طفل رضيع أنه يكمل رضاعه في الجنة

الباب التاسع: فيمن مات له طفل رضيع أنه يكمل رضاعه في الجنة قال الإمام أحمد: «ثنا أسود بن عامر، ثنا إسرائيل عن جابر الجعفي، عن عامر، عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن ستة عشر شهراً، وقال: إن له في الجنة من يتم رضاعه، وهو صديق» . ورواه أبو يعلى الموصلي. وجابر الجعفي: ضعيف. وقال البخاري: «حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، حدثنا عدي بن ثابت، أنه سمع البراء أنه قال: لما توفي إبراهيم ـ يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعاً في الجنة» انفرد به البخاري. وإنما كان كذلك لأنه مات وهو مرضع ابن سبعة عشر شهراً، أو ستة عشر، وقيل: أكثر من ذلك، وقيل: أقل، فالله تعالى أعلم بالصواب. وفي بعض الروايات: «إن ابني مات في الثدي، وإن له مرضعاً في الجنة» . فإذا كان هذا خاصاً به عليه السلام فلا كلام، والأصل عدم الاختصاص، إلا أن يقوم دليل عليه، ولم نجده، وإن كان عاماً في حق أولاد المؤمنين ـ كما ذكر في بعض الآثار، ولا يحضرني الآن، ولكن متنه: «إن في الجنة شجرة تحمل الثدي يرتضع منها الولدان» ـ فهي بشارة عظيمة للمؤمنين في ولدانهم، وفيه تطييب خاطر الوالدين، والله تعالى أعلم. فصل ـ في شفاعة الأطفال الرضع لوالديهم «وقد روى المعافى بن الحسين، في كتاب أنس المنقطعين له في الأطفال الرضع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجيء أطفال المسلمين يوم القيامة، عند عرض

الخلائق للحساب، فيقول الله عز وجل لجبريل: اذهب بهؤلاء إلى الجنة، فيقفون على أبواب الجنة، ويسألون عن آبائهم وأمهاتهم، فيقال إن آباؤكم وأمهاتكم ليسوا بأمثالكم، لهم ذنوب وسيئات يطالبون بها، فيصيحون صيحة واحدة عظيمة باكين، فيقول الله سبحانه وتعالى، وهو أعلم: يا جبريل، ما هذه الصيحة؟ فيقول: إلهي، أنت أعلم بهم، هؤلاء أطفال المسلمين يقولون: لا ندخل الجنة حتى يدخل آباؤنا، فيقول الله عز وجل: يا جبريل، تخلل الجمع، وخذ آباءهم وأمهاتهم، واجعلهم معهم في الجنة» .

الباب العاشر: في أنه يصلى على كل مولود مسلم ويدعى لوالديه

الباب العاشر: في أنه يصلى على كل مولود مسلم ويدعى لوالديه وهذا الباب عظيم، لأن فيه بشارة عظيمة لكل من أصيب في أولاده، أو في واحد منهم، لأنه أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نصلي عليهم، وأن ندعو لوالديهم، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وجمهور العلماء، على أنه يصلى على الطفل الصغير، وإن سقطاً قد نفخ فيه الروح، وذهب بعض السلف إلى أنه لا يصلى على الصغير ما لم يحتلم. وسنذكر ما يدفع هذا القول ويضعفه: قال البخاري: «حدثنا أبو اليمان، ثنا شعبة، قال ابن شهاب: يصلى على كل مولود يتوفى وإن لغية، من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام، يدعي أبواه الإسلام، أو أبوه خاصة، وإن كانت أمه على غير دين الإسلام، إذا استهل صارخاً صلي عليه، ولا يصلى على من لم يستهل، من أجل أنه سقط. وأبو هريرة كان يحدث عن رسول الله، قال: ما من مولود إلا يولد على الفطرة ... » الحديث. وروى أبو داود، «عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قال: مات إيراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو ابن ثمانية عشر شهراً ـ فلم يصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم» . في إسناده محمد بن إسحاق، والكلام فيه معروف، وهويعضد من قال من السلف بعدم الصلاة على الأطفال، لكن الحديث فيه كلام. وقد رورى أبو داود أيضاً ضد هذه الرواية «من حديث البهي، قال: لما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقاعد» . هذا مرسل. ـ والبهي ـ هذا اسمه عبد الله بن يسار، مولى مصعب بن الزبير، تابعي يعد من الكوفيين. وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد، «من

حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى على إبنه إبراهيم..» الحديث. وقال الإمام أحمد أيضا: «حدثنا هاشم بن القاسم ثنا المبارك، أخبرني زياد بن خير، عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها قريباً منها عن يمينها أو عن يسارها، والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» ورواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حسن صحيح. «ورواه ابن ماجة مرفوعاً، ولفظه: قال: الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها وعن يسارها، والطفل يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» فذكر ابن ماجة بدل السقط: الطفل. وروى ابن ماجة، «من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم» . «وعن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطفل لا يصلى عليه، ولا يورث ولا يرث حتى يستهل» رواه الترمذي من رواية إسماعيل بن مسلم المكي. قال الترمذي هذا حديث قد اضطرب الناس فيه، فروي مرفوعاً، وروي موقوفاً، وهو أصح من المرفوع. قال الحافظ الضياء: إسماعيل بن مسلم المكي قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وروى ابن ماجة «عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استهل الصبي صلي عليه وورث» . الاستهلال: هو رفع الصوت حين خروجه من الأحشاء، والله أعلم. وهو من رواية الربيع بن يزيد، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة قال الحافظ الضياء: وقيل: يصلى على الطفل إذا نفخ فيه الروح، استهل أو لم يستهل. قلت: وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، أنه يصلى عليه إذا نفخ فيه الروح، وهوأن يستكمل أربعة أشهر. قال الشيخ مجد الدين: وإن أسقط لدون أربعة أشهر، فلا يصلى عليه، لأنه ليس بميت، إذ لم ينفخ فيه الروح. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصلاة على السقط مالم ينفخ فيه الروح، مبنية على بعثه، وللعلماء فيه قولان، فإن

قلنا: إنه يبعث، صلي عليه، وإلا لم يصلى عليه، والله أعلم. انتهى كلامه. قال أحمد بن عبدة: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل: متى يصلى على السقط؟ قال: إذا أتى عليه أربعة أشهر، لأنه قد نفخ فيه الروح. ولكن «حديث المغيرة بن شعبة المتقدم، الذي رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه: والسقط يصلى عليه» و «في رواية ابن ماجة والطفل يصلى عليه» ، ولم يفرق بين أن يكون له أربعة أشهر أو أقل أو أكثر، لكن لم أعلم أن أحداً ذهب إلى الصلاة على السقط مطلقاً إلاسعيد بن المسيب، وهو ظاهر الحديث. لكن قيل: إن السقط ليس بميت، لأنه لم ينفخ فيه الروح. يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين «من حديث ابن مسعود، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ... » الحديث، فإذا نفخ فيه الروح وجبت الصلاة عليه، وبعث يوم القيامة. وقد اختلف الناس في هذه الآثار، فمنهم من أثبت الصلاة عليه، ومنع صحة حديث عائشة وغيره من الأحاديث، كما قال الإمام أحمد وغيره، وهذه المراسيل من حديث البراء يشد بعضها بعضاً. ومنهم من ضعف حديث البراء لأجل جابر الجعفي وضعف هذه المراسيل، قال: حديث ابن اسحاق أصح منها. قال أبو يعلى الموصلي: «حدثنا عقبة بن مكرم، ثنا بشر بن أبي بكر، ثنا محمد بن عبيد الله الفزاري، عن عطاء، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم، فكبر عليه أربعاً» . وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي: «حدثنا محمد بن عمر ـ يعني الواقدي ـ، قال: حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن المنذر بن عبيد، عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، عن أمه سيرين، قالت: حضرت موت إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صحت أنا وأختي ما نهانا، فلما مات نهانا عن الصياح، وغسله الفضل بن عباس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كإنسان، ثم حمل، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفة القبر،

والعباس إلى جنبه، وترك في حفرته الفضل وأسامة بن زيد، وأنا أبكي عند قبره، ما ينهاني أحد، وخسفت الشمس ذلك اليوم، فقال الناس: لموت إبراهيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها لاتخسف لموت أحد ولا لحياته. ورأى رسول الله فرجة في اللبن، فأمر بها أن تسد، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إنها لاتضر ولا تنفع، ولكن تقر عين الحي، وإن العبد إذا عمل عملاً أحب الله أن يتقنه» ومات يوم الثلاثاء، لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول، سنة عشر. وهكذا رواه الحافظ بن عساكر في ترجمة عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، عن أبيه، ثم قال: هذا حديث غريب. ثم ساقه من طرق أخرى، من حديث الزبير بن بكار حدثني محمد بن طلحة عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة، عن عبد الرحمن بن حسان، فذكر نحوه. وفيه مدرج يوم وفاته وشهره وسنته، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه من كلام الواقدي. ولكن قيل: إن في بعض طرق هذا الحديث أنه صلى عليه، ولكن لم أره في هذين الطريقين، فالله تعالى أعلم بذلك. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: «حدثنا إبراهيم الشامي، ثنا حماد، عن ثمامة بن عبد الله، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على صبي أو صبية، وقال: لو نجا أحد من ضمة القبر، لنجا هذا الصبي» . وقد روى أبو داود مرسلاً «عن عطاء بن أبي رباح، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم، وهو ابن سبعين ليلة» . قال البيهقي ـ بعد أن ذكر مرسل البهي وقد تقدم ذكره، ومرسل عطاء هذا، وغيرهما من أحاديث الصلاة على الأطفال قال: فهذه الآثار، وإن كانت مراسيل، فبعضها يشد بعضاً، وقد أثبتوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وذلك أولى من رواية من روى أنه لم يصل ـ يعني حديث عائشة المتقدم المتصل وقد روي متصلاً أنه صلى عليه، من حديث البراء بن عازب ـ وقد تقدم ـ لكنه حديث لا يثبت، لأنه من رواية الجعد ولا يحتج بحديثه. وقال الخطابي وغيره: اختلف في السبب الذي لأجله لم يصل. قال بعضهم: إنما ترك الصلاة على ابنه، لأنه استغنى ببنوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه التي هي شفاعة له كما استغنى الشهيد بشهادته عن الصلاة عليه

وقال غيره: إنما لم يصل عليه، لأنه يوم مات إبراهيم ـ عليه السلام ـ كسفت الشمس، فاشتغل بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه، والله أعلم. رجعنا إلى كلام الخطابي: ثم إنه ذكر مرسل عطاء، وقال هذا أولى الأمرين وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالاً، وقد اعتل من لم ير الصلاة على الطفال بترك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة على ابنه، واشتغاله بنفل صلاة الكسوف، والجواب ـ والله أعلم ـ عن ذلك: أن صلاة الكسوف كانت واجبة في حقه، لأنه لو لم يصلها لم نعلمها نحن، وأيضاً ولو لم يقع ذلك لم نعلم كيفية صلاة الكسوف، فصلاته كصلاة الكسوف على هذه الصفة، دليل على أن الله أوحى إليه أن يشرعها لنا على هذه الصفة، ويجب أن يبين كل ما أنزل إليه من ربه، لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} .

الباب الحادي عشر: في استحباب اصطناع الطعام لأهل المصيبة

الباب الحادي عشر: في استحباب اصطناع الطعام لأهل المصيبة وهذا الفعل من محاسن الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم: إن أهل الميت لا يتكلفون طبخ طعام لأحد من الناس، «بل أمره صلى الله عليه وسلم للناس، أن يصنعوا طعاماً لأهل الميت، ويرسلونه إليهم» ، هذا من أعظم مكارم الأخلاق والشيم، والحمل عن أهل الميت إعانة لهم، وجبراً لقلوبهم، لأنهم في شغل بمصابهم عن إصلاح طعام لأنفسهم، فكيف للناس والاهتمام بأمرهم؟ فإذا صنع الناس لهم الطعام المعروف، وحملوه إليهم، حصلت الراحة لأهل الميت من وجهين: أحدهما: ـ شغلهم بمصابهم، ثم بتجهيزه وغسله وتكفينه والصلاة عليه، وحمله ومواراته في حفرته، ثم بعد ذلك إذا تفرغوا من هذه الأمور، وحصل لهم سكون ودعة، فإن هذه كفاية لهم عن شغلهم بالناس. الثاني: ـ عدم الخسارة، فإن عدمها فيها تسلية لأهل الميت فإن في زماننا هذا، ما يتوارى الميت في حفرته، حتى يخسر عليه دراهم كثيرة، فلأن لا يجتمع عليه خسارتان أولى. وقد وردت السنة بصنع الطعام لأهل الميت، سواء فقد ميتهم في السفر أو في الحضر، وسواء حصلت عليه خسارة أم لم تحصل، فقد حصلت البشارة لمن صنع لهم طعاماً، وحمله إليهم، أنه اتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثل أمره، فقد روى الإمام أحمد في مسنده «عن عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ قال جاء نعي جعفر ـ رضي الله عنه ـ حين قتل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم» . ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة.

«وعن أسماء بنت عميس، قالت: لما أصيب جعفر ـ رضي الله عنه ـ رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: إن آل جعفر قد شغلوا بشأن ميتهم، فاصنعوا لهم طعاماً» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وهذا لفظه. ويروى عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: ما زالت السنة فينا حتى تركها من تركها.

الباب الثاني عشر: في الذبح عند القبور وكراهة صنع الطعام من أهل المصيبة

الباب الثاني عشر: في الذبح عند القبور وكراهة صنع الطعام من أهل المصيبة «عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عقر في الإسلام» رواه الإمام أحمد في حديث طويل هذا منه. وأبو داود، وروى الترمذي نحوه. وقال حديث حسن صحيح غريب ورواه ابن حبان البستي، وفي رواية عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شيئاً. أما العقر عند القبور: هو الذبح عندها. وهذا الفعل عندها فإنه من فعل الجاهلية، وهو فعل محرم على هذه الأمة. «وقوله عليه الصلاة والسلام: لا عقر في الإسلام» . قال الخطابي: هو ما كان عليه أهل الجاهلية، من عقر الإبل على قبور الموتى، كانوا إذا مات الشريف الجواد، عقروا عند قبره، وكانوا يقولون: إن صاحب القبر كان يعقرها للأضياف، يقريهم أيام حياته، فيكافأ عليه بمثل صنيعه. انتهى كلامه. وقال قوم: كانوا يعقرون الإبل عند القبور، لتطعمها السباع والطير عند قبر الميت، فيدعى مطعماً حياً وميتاً. وقيل بل كان مذهبهم أن صدى الميت يصيب من ذلك الطعام، فجاء الإسلام فمحا ذلك كله. وأما هذه البدعة الخبيثة، فهي موجود قريب منها في غالب قرى البر، وهو أن الشخص الذي توفي في بلده، فإن أهل القرى التي حوله يأتون لأجل العزاء، فيذبحون لهم من مال الميت المنتقل إلى ورثته، من أيتام وصغار وغيرهما، بل قد يذبحون البقرة أو نحوها من بهيمة الأنعام، لا يكون للأيتام غيرها، على ماشاهدته وبلغني، فنسأل الله أن يقيض لهذه البدعة من ولاة أمور المسلمين من يبطلها. «حدثنا ابن هاشم، ثنا الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس

ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا إسعاد ولا عقر في الإسلام» ، قد تقدم الكلام على العقر في الإسلام وقوله: لا إسعاد: فهو من إسعاد النساء في المناحات، وهوأن تقوم المرأة في المأتم وتقوم معها أخرى، فيقال قد أسعدتها وهو مسعد. و «يروى في حديث آخر أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن فلانة أسعدتني أفأسعدها؟ فقال: لا ونهى عن النياحة بالإسعاد» . وقال: إنها مأخوذة من وضع الرجل يده على ساعد صاحبه إذا تماشيا في حاجة. وأما صنع أهل الميت طعاماً للناس فمكروه، لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلاً لهم إلى شغلهم، وتشبيهاً بصنع أهل الجاهلية، فإنهم يتكلفون طبخ الطعام، كما يفعله أهل البر في زماننا وقد تقدم. فهذا من النياحة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ثبت في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه، من النياحة. رواه ابن ماجة، ورواه سعيد بن منصور في سننه ولفظه: أن جريراً وفد على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال: هل يناح على ميتكم؟ قال: لا، قال: فهل تتجمعون عند أهل الميت وتجعلون الطعام؟ قال: نعم. قال: ذاك النوح. وقال الشيخ موفق الدين ـ رحمه الله ـ في المغني: وإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز، فإنهم ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة ويبيت عندهم، فلا يمكنهم إلا أن يضيفوه. انتهى كلامه. قلت: وإذا دعت الحاجة إلى صنع الطعام من أهل الميت، لمن يفد من القرى ونحوها، إنما ذاك بشرط أن لا يكون من مال الأيتام، خصوصاً إذا لم يكن لليتيم سوى ذاك الحيوان. فأما وفود أهل البادية على أهل الميت في قريتهم، فالضيافة على أهل القرية، إما واجبة أو مستحبة، وليست على أيتام الميت، والله تعالى أعلم.

الباب الثالث عشر: في الثناء الحسن على الميت، وذكر محاسنه والسكوت عن مساويه

الباب الثالث عشر: في الثناء الحسن على الميت، وذكر محاسنه والسكوت عن مساويه واعلم أن من أطلق الله ألسنة الناس فيه بالخير، والثناء الحسن، والذكر الصالح، وغير ذلك من الأقوال الصالحة، غلب على الظن أنه من أهل الخير. وغير مستنكر إذا أحب عبداً أن يلقي على ألسنة المسلمين الثناء الحسن عليه، وفي قلوبهم المحبة له. قال الله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً} . «وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله، إذا أحب عبداً، دعا جبريل فقال: إن الله يحب فلاناً فأحبه. قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» وذكر في البغضاء مثل ذلك. رواه البخاري ومسلم. وقد شاهدنا في عصرنا هذا، وبلغنا عن عصر غيرنا، أن أقواماً من العلماء وأهل الحديث والتجار والسوقة، كثر الثناء عليهم، وصرفت قلوب الناس إليهم، وحصلت الحفلة العظيمة في جنائزهم من كثرة المشيعين لها، وحضرها الألوف من الناس، وربما كثر الخلق في تشييع هؤلاء من الجن والملائكة، وربما سمع ضجة عظيمة من جهة السماء في حال حضور الناس في الجنازة، ولقد أخبرني شيخنا العلامة شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد الخطيب المقدسي، بالجامع المظفري. تغمده الله تعالى برحمته، قال لي: سمعت هذه الضجة من السماء مراراً لبعض الأموات كهيئة البشائر، ثم قال: وحدثني بها جماعة من أصحابنا، أنهم سمعوا ذلك في بعض جنائز المتهمين بالصلاح، والله تعالى أعلم بذلك. وذكر قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، ثنا محمد بن يزيد الرفاعي،

فصل: بشارة للمؤمن بعمله الصالح

قال: مات عمرو بن قيس الملائي، في ناحية فارس، فاجتمع لجنازته من الخلق ما لا يحصى كثرة، فلما دفن نظروا فلم يروا أحداً. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: مر بجنازة، فأثنوا عليها خيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت. ومر بجنازة، فأثنوا عليها شراً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وجبت. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: فداك أبي وأمي يا رسول الله، مر بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقلت: وجبت، ومر بجنازة أثنوا عليها شراً فقلت: وجبت؟ ‍‍! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيراً، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض ... ثلاثاً» وفي لفظ وجبت وجبت ثلاثاً: رواه البخاري ومسلم. «وفي رواية للبخاري، فقيل: يا رسول الله، قلت لهذا: وجبت، ولهذا وجبت؟ قال: شهادة القوم المؤمنين شهداء الله في الأرض» . ولما مات الإمام أحمد بن حنبل، قال الهيثم بن خلف: دفنا أحمد بن حنبل، يوم الجمعة، بعد العصر، سنة إحدى وأربعين ومائتين، وما رأيت جمعاً قط أكثر من ذلك. وقال ابن أبي صالح القنطري: شهدت أربعين عالماً، ما رأيت جمعاً قط مثل هذا، ثم قال عبد الوهاب الوراق: ما بلغنا أن جمعاً في جاهلية ولا إسلام مثل الجمع في جنازة أحمد، حتى بلغنا أن الموضع مسح وحزر على الصحيح، فإذا هو نحو من ألف ألف، وأما النساء فهو من ستين ألف امرأة، وكلهم يشهدون له بالصلاح والولاية، ويرجون بالصلاة عليه البركة، ويثنون عليه بأنواع الخير، رحمة الله عليه. فصل: بشارة للمؤمن بعمله الصالح وفي الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيت الرجل، يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن» وفي رواية ويحبه الناس عليه. قال العلماء: معناه: هذه البشرى المعجلة له بالخير هي دليل للبشرى المؤخرة إلى الآخرة، لقوله تعالى: {بشراكم اليوم جنات} ، وهذه البشرى

فصل: في الكف عن ذكر مساوي الأموات

المعجلة، دليل على رضى الله تعالى عنه، ومحبته له، ومحبته إلى الخلق. «وعن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان» . وفي لفظ: فاشهدوا له بالخير. قال الله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك} الآية. رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وشهادة الناس له بعد الموت بالخير، هي الشهادة التي كانوا يشهدون له بها في حال الحياة، والله تعالى أعلم. فصل: في الكف عن ذكر مساوي الأموات «عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» . رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي. «وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا موتانا، فتؤذوا أحياءنا» . رواه أحمد. «وعن أبي رافع ـ أسلم، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال: من غسل ميتاً، فكتم عليه، غفر الله له أربعين مرة» . رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. قال ابن السماك: إنما سيفك بين لحييك، تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور، حتى تعاطيت أهل القبور، أما أهل القبور، فما ترى لهم وقد جرى البلاء على وجوههم، وأنت هاهنا تنبشهم، ويحك! ما عندك من نبشهم إلا أخذ الخرق عنهم، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم. إنه لينبغي لك أن تترك القول في أخيك، لخلال ثلاث: أما الأولى: فلعلك تذكره لأمر هو فيك، والثانية

لعلك تذكره لأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك! أما تسمع إذ يقال: ارحم أخاك، واحمد الذي عافاك؟ ‍! . وفي أبي داود، في الأدب، والترمذي في الجنائز، «من حديث معاوية ابن هشام، عن عمران بن أنس المكي، عن عطاء، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعاً: اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم» . وقد «روى أبو داود مرفوعاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من عير أخاه بذنب قد تاب منه، لم يمت حتى يفعله» . وأما من جهة الأموات، فقد «روى ابن أبي الدنيا بإسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تذكروا موتاكم إلا بخير، إن يكونوا من أهل الجنة تأثموا، وإن يكونوا من أهل النار، فحسبهم ما هم فيه» . ‍‍ ‍ ‍‍‍‍‍‍ ‍ ‍ ‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍

الباب الرابع عشر: في فرح العبد وتسليته بكونه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم

الباب الرابع عشر: في فرح العبد وتسليته بكونه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن لله علينا من النعم ما لا يحصيها إلا الله تعالى الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام، فإن كل نبي من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ فضل بشيء، فنبينا فضل به وزاد عليه، وهو أول من تنشق عنده الأرض، وأول شافع، وأول مشفع، وأول من يقرع باب الجنة. وقد ثبت في صحيح مسلم «عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً» . «وعن أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يأتي معي من أمتي يوم القيامة مثل السيل والليل، فيحطم الناس، فتقول الملائكة: لما جاء مع محمد أكثر مما جاء مع سائر الأنبياء» رواه البزار. «وعن بريدة بن الحصيب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم» . رواه الترمذي. «وعن الطفيل بن أبي، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم غير فخر» . ورواه الترمذي. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعين ألفاً» . رواه مسلم. «وعن الحذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قال: غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فلم يخرج، حتى ظننا أنه لن يخرج، فلما خرج، سجد سجدة ظننا أن نفسه قد قبضت، فلما رفع قال: إن ربي عز وجل، استشارني في أمتي، ماذا أفعل بهم؟ قلت: ما شئت يا رب، هم خلقك وعبادك، فاستشارني الثانية، فقلت له: كذلك، ثم استشار في

الثالثة، فقلت له: كذلك، فقال: إني لم أخزك في أمتك، وبشرني أن أول من يدخل الجنة زمراً من أمتي سبعون ألفاً، مع كل ألف في سبعون ألفاً، ليس عليهم حساب، ثم أرسل إلي ربي عز وجل: ادع تجب، وسل تعطه، فقلت لرسوله: أو‍ معطني ربي عز وجل سؤلي؟ قال: ما أرسل إليك إلا ليعطيك، وقد أعطاني ربي، غير فخر، أنه غفر لي من ذنبي ما تقدم وتأخر، وشرح صدري، وأعطاني أن لا تجوع أمتي، ولا تغلب، وأنه أعطاني الكوثر، ونهر في الجنة، يسيل من حوضي، وأنه أعطاني العزة والنصرة والرعب، وأنه أعطاني بأني أول الأنبياء دخولاً إلى الجنة، وطيب لي ولأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، فلم أجد شكراً إلا هذه السجدة» رواه أبو بكر الشافعي. وقوله: «ولا تجوع أمتي» أي لا تجوع كلها، فإن جاعت في أرض، شبعت في أخرى وكذلك: «لا تغلب» أي كلها، فإن غلبت في موضع، غلبت في موضع آخر، والله أعلم.

الباب الخامس عشر: في استحباب التعزية لأهل المصيبة والدعاء لميتهم

الباب الخامس عشر: في استحباب التعزية لأهل المصيبة والدعاء لميتهم يقال: عزى الرجل عزاء: إذا صبره على ما نابه، والتعزية: التصبر، وعزيته: أمرته بالصبر، والعزاء ـ بالمد ـ اسم أقيم مقام التعزية، ذكره النووي. وقال الأزهري: أصل التعزية: التصبر لمن أصيب بمن يعزى عليه. وقال غيره: التعزية التسلية، وهو أن يقال له: تعزى بعزاء الله، وعزاء الله قوله تعالى: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} . ومعنى قوله: تعزى بعزاء الله، أي: تصبر بالتعزية التي عزاك الله تعالى بها، كما في كتابه. أو يقال: لك أسوة في فلان، فقد مضى حميمه وأليفه، فحسن صبره. وأصل العزاء: الصبر، والله أعلم. «عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة» . رواه ابن ماجة، وصححه الشيخ، وقال: رواته كلهم ثقات. «وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من عزى مصاباً فله مثل أجره» . ورواه ابن ماجة، والترمذي، وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث علي بن عاصم، وذكر أنه روي موقوفاً، وعلي بن عاصم ضعف. «وعن أبي برزة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عزى ثكلى كسي برداً في الجنة» . قال الترمذي: إسناد هذا الحديث ليس بالقوي.

فصل ـ في استحباب تعزية أهل الميت ووقتها

والمقصود من التعزية: تسلية أهل المصيبة، وقضاء حقوقهم، والتقرب إليهم بقضائها، قبيل الدفن وبعده، لشغلهم بمصابهم. فصل ـ في استحباب تعزية أهل الميت ووقتها ويستحب تعزية أهل الميت، وهي مسألة متفق عليها، ولم أعلم أن أحداً خالف فيها إلا سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ قال: لا تستحب التعزية بعد الدفن، لأنها خاتمة أمره، والمعروف المستقر عند أهل العلم استحباب التعزية، قبل الدفن وبعده، لما تقدم من الأحاديث قريباً، مثل «عموم قوله عليه السلام: من عزى مصاباً فله مثل أجره، من عزى ثكلى كسي برداً في الجنة» . فكل هذه عمومات تدل على الاستحباب مطلقاً. فصل: فيمن يكره تعزيتهم من أهل الميت وخاصة من النساء ويستحب تعزية جميع أهل المصيبة، كبارهم وصغارهم، ويخص خيارهم والمنظور إليه من بينهم، ليستن به غيره، وذا الضعف منهم عن تحمل المصيبة، لحاجته إليها، ولا يعزي الرجل الأجنبي شواب النساء، مخافة الفتنة، ويجوز للمرأة البرزة ونحوها. وثبت أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ نهت على الضحك في المصيبة، لأن فيه إشماتاً بالمسلم، وكسراً لقلبه. ولهذا رأى الإمام أحمد رجلاً يضحك في جنازة، فهجره وقال: أي موعظة اتعظ هذا؟ ! أو نحوه.. فصل: فيما يفعله بعض الناس من الجلوس عند القبر يوم الدفن وبعده وما يفعله غالب أهل زماننا من الجلوس عند القبر يوم الدفن للتعزية وكذلك في اليوم الثاني والثالث. قال أبو الخطاب: يكره الجلوس للتعزية. وقال: ابن عقيل: يكره الإجتماع بعد خروج الروح، لأن فيها تهييجاً للحزن. وقال الإمام أحمد: ـ رحمه الله ـ: يكره التعزية عند القبر، إلا لمن لم يعز، فيعزي إذا دفن الميت، أو قبل أن يدفن. وقال أحمد: إن شئت أخذت بيد الرجل في التعزية، وإن شئت لم تأخذ. وإذا رأى الرجل قد شق ثوبه على المصيبة، عزاه، ولم يترك حقاً لباطل، وإن نهاه فحسن. قلت: إن كان الإجتماع، فيه موعظة للمعزى بالصبر والرضى، وحصل له من الهيئة الإجتماعية

فصل: فيما يجوز أن يلبسه المصاب وزيه

تسلية، بتذاكرهم آيات الصبر وأحاديث الصبر والرضى، فلا بأس بالاجتماع على هذه الصفة، فإن التعزية سنة، سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن على غير الصفة التي تفعل في زماننا، من الجلوس على الهيئة المعروفة اليوم، لقراءة القرآن، تارةً عند القبر في الغالب، وتارةً في بيت الميت، وتارة في المجامع الكبار، فهذا بدعة محدثة، كرهه السلف كما تقدم، لكن فيه تسلية لهم، وإشغال لهم عن الحزن، والله أعلم. فصل: فيما يجوز أن يلبسه المصاب وزيه وأما قول أصحابنا، وغيرهم من الفقهاء، ففي غالب كتبهم يذكرون أنه لا بأس أن يجعل المصاب على رأسه ثوباً يعرف به، وبعض أصحابنا المقادسة يرخي عذبة من غير عادة. قالوا: لأن التعزية سنة، وفي ذلك تيسير لمعرفته حال التعزية. وأنكر هذا الفعل شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: لا ريب أن السلف لم يكونوا يفعلون شيء من ذلك، ولا نقل في هذا عن أحد من الصحابة والتابعين. وثم آثار صريحة، تأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى، تقوي هذا القول. وقد كره إسحاق بي راهوية أن يترك لبس ما عادته لبسه، والله أعلم. فصل: في أن التعزية قبل الدفن أو بعده وقد ذكر الشيخ، موفق الدين وغيره من أصحابنا في غالب الكتب: أن التعزية تجوز قبل الدفن وبعده، وأنه يقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، ورحم ميتك، وفي تعزيته بكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك. وتوقف أحمد ـ رحمه الله ـ عن تعزية أهل الذمة، وهي تخرج على عيادتهم في أمراضهم، وفيها روايتان: إحداهما ـ يعودهم، لأنه «روي أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه، وهو عند رأسه، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار» . رواه البخاري، ولكن

فصل: في الألفاظ التي وردت في التعزية عن النبي

الحكمة في العيادة منتفية في التعزية وهو رجاء إسلامه، والله تعالى أعلم. والرواية الثانية ـ لا يجوز «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لاتبدؤوهم بالسلام» . قال بجواز تعزيتهم عن مسلم، يقال له: أحسن الله عزاءك وغفر لميتك، وعن كافر: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك، ويقصد زيارة عددهم لتكثر جزيتهم. وقال أبو عبد الله بن بطة: لا بأس أن يقول في تعزية الكافر: أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطي أحد من أهل ملتك. وقد روى أبو عبد الله المرزباني بإسناده، عن الحسن نحواً مما قال ابن بطة، ولكن لفظه: أجزاك الله على مصيبتك بأعظم مما جازى به أحد من أهل ملتك. وروى أبو موسى المديني بإسناده، «عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دعوتهم لأحد من اليهود أو النصارى، فقولوا: أكثر الله مالك وولدك» . فصل: في الألفاظ التي وردت في التعزية عن النبي ولم يرد في التعزية شيء محدود، إلا أنه يروى «أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلاً فقال: رحمك الله وآجرك» رواه الإمام أحمد، وعزى أحمد أبا طالب، فتوقف على باب المسجد، فقال: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك. «وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت التعزية سمعوا قائلاً يقول: إن في الله عزاءمن كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً، من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجعوا، فإن المصاب من حرم الثواب» . ورواه الشافعي في مسنده. وروى الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد، «من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدق به أصحابه، فبكوا حوله فاجتمعوا، فدخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح، فتخطى رقابهم فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة،

فصل: فيما يقال عند العلم بوفاة أحد المؤمنين

وعوضاً من كل فائت، وخلفاً من كل هالك، فإلى الله فأنيبوا، وإليه فارغبوا، ونظره إليكم في البلاء فانظروا، فإنما المصاب من لم يجبر وانصرف. فقال بعضهم لبعض: تعرفون الرجل؟ قال: أبو بكر وعلي: نعم، هذا أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضر عليه السلام» . وروى الحاكم، «من حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءتهم الملائكة، يسمعون الحس، ولا يرون الشخص، قالت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل فائت، فبالله فثقوا. وإياه فارجوا، فإن المحروم من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ، وحسنه الحاكم. وسيأتي كلام السلف ـ رحمهم الله، في التعازي، بألفاظ مختلفة، فتارة مطولة، وتارة وجيزة بليغة، كما سأذكره قريباً إن شاء الله. فصل: فيما يقال عند العلم بوفاة أحد المؤمنين ومن بلغه وفاة أحد من المؤمنين، فليحسن الاسترجاع والتثبت، فقد روى الطبراني بإسناده «عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن للموت فزعاً، فإذا أتى أحدكم وفاة أخيه، فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم اكتبه في المحسنين، واجعل كتابه في عليين، واخلف عقبه في الآخرين، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده» . «وفي حديث أبي سلمة: لما مات شق بصره فأغمضه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فصاح ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون. ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه» رواه مسلم. وروي عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لما بلغه وفاة أبي بكر ـ رضي الله

فصل ـ فيما نقل إلينا من ألفاظ التعزية عن السلف والخلف

عنه ـ قال: رضينا من الله قضاه، وسلمنا له أمره، إنا لله وإنا إليه راجعون. قال سعيد بن منصور في سننه: «حدثنا يوسف بن عطية الصفار، قال جلست إلى عطاء بن ميمونة وهو يعزي رجلاً، فقال: حدثنا أنس بن مالك، أن رجلاً كان يجيء بصبي له معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الغلام مات، فاحتبس أبوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مات صبيه الذي رأيت معه، فقال: أفلا أذنتموني؟ ! فقوموا إلى أخينا نعزيه، فلما دخل عليه، إذا الرجل حزين، وبه كآبة، فعزاه، فقال: يا رسول الله، كنت أرجوه لكبر سني وضعفي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما يسرك أن يكون يوم القيامة بإزائك؟ ، يقال له: ادخل الجنة، فيقول رب، وأبواي؟ ولا يزال يشفع، حتى يشفعه الله عز وجل فيكم، ويدخلكم جميعاً الجنة؟ !» . فصل ـ فيما نقل إلينا من ألفاظ التعزية عن السلف والخلف فقد روى الطبراني في كتاب الدعاءبإسناده، «عن محمود بن لبيد، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ـ أنه مات ابن له، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه بابنه، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى معاذ بن جبل، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لاإله إلا هو، أمابعد، فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، فإن أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله الهنية، وعواريه المستودعة، متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير، الصلاة والرحمة والهدى، إن احتسبته بالصبر، ولا يحبط جزعك أجرك، فتندم على مافاتك من ثواب مصيبتك، فإنك لو اطلعت على ثواب مصيبتك، لعرفت أن المصيبة قد قصرت عن الثواب ـ وهذه الزيادة في بعض طرقه ـ ثم قال: وما هو نازل بك فكأن قد، والسلام» . ورواه الحاكم في المستدرك وقال: غريب حسن. ورواه الحافظ أبو بكر بن مردوية في كتاب الأدعية «وعنده: فليذهب أسفك ما هو نازل بك» . و «لفظ الحاكم: فإن أنفسنا وأموالنا وأهلينا

وأولادنا من مواهب الله الهنية، وعواريه المستودعة، نتمتع به إلى أجل معدود، ويقبضها لوقت معلوم، ثم افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى،.. » وباقي الحديث كما ساقه الطبراني، والله أعلم. ورأيت في جزء لا أعرف مؤلفه وليس له أول: قال زيد بن أسلم: مات ابن لداود عليه السلام، فجزع عليه، فعزوه فيه، فقيل له: ما كان يعدل عندك؟ قال: كان أحب إلي من ملء الأرض ذهباً، فقيل له: فإن لك من الأجر على قدر ذلك. وفي اسرائيليات: أن سليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ مات له ولد، فجزع عليه حتى عرف ذلك في مصابه، فتحاكم إليه ملكان في صورة رجلين فقال أحدهما: إن هذا بذر بذراً في طريق الناس، فمررت فأفسدته، فقال سليمان للآخر: لم بذرت في الطريق؟ أما علمت أنه لا بد من ممر؟ فقال: ولم تحزن أنت على ابنك وهذا طريق الناس إلى الآخرة؟ ! «وعن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه، أن ابناً لي قد قبض فأتنا، فأرسل يقرأ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة. «وقال وهب بن منبه: قرأت في بعض كتب الله تعالى يقول: لولا أني جعلت الميت ينتن على أهله، ما دفن ميت، ولولا أني جعلت الطعام يفسد، لاحتجبه الملوك، ولولا أني آتي بالعزاء بعد المصيبة، ما عمرت الدنيا» . وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: ما من جزعتين أحب إلى الله، من جزعة مصيبة موجعة محرقة، ردها صاحبها بحسن عزاء وصبر، وجزعة غيظ، ردها صاحبها بحلم. وقد روي عن شمر، أنه كان إذا عزى مصاباً قال: اصبر لما حكم ربك. وقال ابن أبي الدنيا: حدثني عبد الله بن محمد بن إسماعيل التيمي، أن رجلاً عزى رجلاً على ابنه، فقال: إنما يستوجب على الله وعده من صبر لله بحقه، فلا تجمع إلى ما أصبت به من المصيبة الفجيعة بالأجر، فإنها أعظم مصيبتين عليك، والسلام.

وعزى ابن السماك رجلاً فقال: عليك بالصبر، فيه يعمل من احتسب، وإليه يصير من جزع. وقال عمروبن دينار: قال عبيد بن عمير: ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع: القول السيئ والظن السيئ. وقال خالد بن أبي عثمان القرشي: كان سعيد بن جبير يعزيني على أبي، فرآني أطوف بالبيت متقنعاً، فكشف القناع عن رأسي، وقال: الاستتارمن الجزع. وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي ـ رحمه الله ـ: أن عبد الرحمن بن مهدي، مات له ابن، فجزع عليه جزعاً شديداً، فبعث إليه الشافعي يقول له: يا أخي، عز نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أمض المصائب فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ فتناول حظك ـ يا أخي ـ إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد تناءى عنك، ألهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرز لنا بالصبر أجراً، ثم أنشده: إني معزيك لا أني على ثقة من الخلود، ولكن سنة الدين فلا المعزى بباق بعد ميته ... ولا المعزي، ولو عاشا إلى حين ومات ابن للشافعي ـ رحمه الله ـ فجاؤوا يعزونه، فأنشد: وما الدهر إلا هكذا، فاصطبر له ... ... رزية مال، أو فراق حبيب دخل بعض الأعراب على بعض ملوك بني العباس، وقد توفي له ولد اسمه العباس، فعزاه فيه فقال: اصبر نكن بك صابرين، فإنما صبر الرعية عند صبر الراس وخير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس وذكر أبو علي الحسن بن أحمد بن البنا بإسباده، أن شخصاً من الحكماء أنشده: إذا دام ذا الدهر، لم يحزن على أحد ... ... ممن يموت، ولم يفرح بمولود

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا الحسين، حدثنا عبد الله، حدثنا محمد بن مسلمة القاسمي ـ وكان قد قارب المائة ـ قال: وعظ عابد جباراً، فأمر به، فقطعت يداه ورجلاه، وحمل إلى متعبده، فجاءه إخوانه يعزونه، فقال: لا تعزوني، ولكن هنئوني بما ساق الله إلي، ثم قال: إلهي، أصبحت في منزلة الرغائب، أنظر إلى العجائب، إلهي، أنت تتودد بنعمتك إلي من يؤذيك، فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك؟! وذكر عن سليمان بن حبيب، قال: لما مات عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، دخل عليه هشام فعزاه عنه، فقال عمر: وأنا أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله عز وجل، فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي، وإحسانه إلي. وفي رواية أخرى، قال: لما مات ابنه عبد الملك، وأخوه سهل، ومزاحم مولى عمر بن عبد العزيز، في أيام متتابعة، دخل عليه الربيع بن سبرة، فقال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين، فما رأيت أحداً أصيب بأعظم من مصيبتك في أيام متتابعة، والله ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى قط، فطأطأ رأسه، فقال لي رجل معه على الوساد: لقد هيجت عليه، قال: ثم رفع رأسه فقال: كيف قلت؟ ! فأعدت عليه ما قلت، فقال: لا، والذي قضى عليهم بالموت، ما أحب أن شيئاً من ذلك لم يكن. وعن بشر بن عبد الله، قال: قام عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه عبد الملك، فقال: رحمك الله يا بني، فقد كنت ساراً مولوداً، وباراً ناشئاً، وما أحب أني دعوتك فأجبتني! ولما توفيت الياقوتة بنت المهدي، جزع عليها جزعاً لم يسمع بمثله، فجلس للناس يعزونه، وأمر أن لا يحجب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة، فأجمعوا أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية شبيب بن شبة، فإنه قال: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجراً، وأعقبك خيراً ولا أجهد بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى رده. وفي رواية قال: يا أمير

المؤمنين، الله خير لك منها، وأنا أسأل الله أن لا يحزنك ولا يفتنك. وقد روى مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، قال: هلكت امرأة لي، فأتاني محمد بن كعب القرظي يعزيني بها، فقال: إنه كان في بني إسرائيل رجل فقيه عالم عابد مجتهد، وكانت له امرأة، وكان بها معجباً، وكان لها محباً، فماتت، فوجد عليها وجداً شديداً، وتأسف عليها تأسفاً شديداً، حتى خلا في بيت، وأغلق على نفسه واحتجب، وإن امرأة سمعت به، فجاءته، فقالت: إن لي إليه حاجة أستفتيه فيها، ليس يجزيني إلا مشافهته، فذهب الناس ولزمت بابه. وقالت: ما لي منه بد، فقال له قائل: إن ها هنا امراة أرادت أن تستفتيك. قال: ائذنوا لها، فدخلت، فقالت: إني استعرت من جارة لي حلياً، وكنت ألبسه وأعيره، فلبث عندي زماناً، ثم إنهم أرسلوا إلي فيه، أفأرده إليهم؟ قال: نعم، والإله، قالت: إنه مكث عندي زماناً؟ ! قال: فذاك أحق لردك إياه إليهم، قالت: أفتتأسف على ما أعارك الله ثم أخذه منك، وهو أحق به منك؟ فأبصر ما هو فيه، ونفعه الله تعالى بقولها. وعزى عمرو بن عبيد يونس بن عبيد، على ولد له مات، فقال: إن أباك كان أصلك، وإن ابنك كان فرعك، وإن امرءاً ذهب أصله وفرعه لحري أن يقل بقاؤه. وعزى صالح المري رجلاً قد مات ولده، فقال: إن كانت مصيبتك أحدثت لك عظة في نفسك، فنعم المصيبة مصيبتك، وإن كانت لم تحدث لك عظة في نفسك، فمصيبتك بنفسك أعظم من مصيبتك بابنك. وعزى رجل رجلاً، فقال: يا أخي، العاقل يصنع في أول يوم ما يفعله الجاهل بعد عام. وعزى رجل رجلاً فقال: عليك بتقوى الله، والصبر فيه، فإنه يأخذ المحتسب وإليه يرجع الجازع. وعزى رجل رجلاً فقال: إن من كان لك في الآخرة أجراً، خير ممن كان

لك في الدنيا سروراً. وعن ابن جريج، قال: من لم يتعز عند مصيبته بالأجر والاحتساب، سلا كما تسلو البهائم. قال بعض السلف، وقد عزى مصاباً: إن صبرت فهي مصيبة واحدة، وإن لم تصبر فهما مصيبتان. وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده، عن ميمون بن مهران، قال عزى رجل عمر بن عبد العزيز ـ رحمة الله عليه ـ على ابنه عبد الملك، فقال عمر: الأمر الذي نزل بعبد الملك أمر كنا نعرفه، فلما وقع لم ننكره. وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، قال: مات ابن رجل، فحضره عمر بن عبد العزيز، فكان رجل حسن العزاء، فقال رجل من القوم: هذا والله الرضا، فقال عمر بن عبد العزيز: أو الصبر، قال سليمان: الصبر دون الرضا، الرضا: أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راضياً بأي ذلك كان، والصبر: أن يكون بعد نزول المصيبة فيصبر. وذكر الحافظ بن عساكر: قال إبراهيم بن خالد: كتب محمدبن إدريس الشافعي إلى رجل من إخوانه من قريش، يعزيه بابن أصيب به: اعلم يا أخي، أن كل مصيبة لا يجبر صاحبها ثوابها فهي المصيبة العظمى، فكيف رضيت يا أخي بابنك فتنة، ولم ترض به نعمة؟ وكيف رضيت به مفارقاً، ولم ترضى به خالداً؟ وكيف رضيته على التعريض من الفساد، ولم ترضى به على اليقين من الصلاح؟ بل كيف لك بمقت منعم ولم تعرف له نعمة؟ يريك ماتحب، ويرى منك ما يكره؟ ارجع إلى الله عز وجل، وتعز برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمسك بدينك، والسلام. وذكر أيضاً بإسناده قال: كتب رجل إلى أخ له يعزيه بابنه: أما بعد، فإن الله تعالى وهب لك موهبة، جعل عليك رزقه ومؤنته، وأن تخشى فتنته، فاشتد لذلك فرحك، فلما قبض موهبته وكفاك مؤنته، اشتد لذلك حزنك، أقسم بالله إن كنت تقياً لهنئت على ما عزيت عليه، ولعزيت على ما هنئت عليه، فإذا أتاك

كتابي هذا فاصبر نفسك عن الأمر الذي لا صبر لك على عقباه، واصبر نفسك عن الأمر الذي لا غنى بك عن ثوابه، واعلم أن كل مصيبة لم يذهب فرح ثوابها حزنها، فذلك الحزن الدائم، والسلام. عن عبد الله بن صالح العجلي، قال: كتب ابن السماك إلى رجل يعزيه عن مولود له مات: أما بعد، فإن استطعت أن يكون شكرك حين قبضه الله عز وجل منك، أكثر منه حين وهبه لك، فافعل، فقد أحرز لك هبته حيث قبضه، ولو بقي لم تسلم من فتنته، أرأيت حزنك على فراقه، وتلهفك على ذهابه! أرضيت الدار لنفسك فترضاها لابنك، أما هو فقد خلص من الكدر وبقيت أنت معلقاً بالخطر، والمصيبة إن جزعت، فهي واحدة إن صبرت، ومصيبتان إن لم تصبر، فلا تجمع الأمرين على نفسك، والسلام. وكتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه: أما بعد، فإن الولد على والده ما عاش حزن وفتنة، فإذا قدمه فصلاة ورحمة، فلا تجزع على ما فاتك من حزنه وفتنه، ولا تضيع ما عوضك الله من صلاته ورحمته. وقال موسى بن المهدي لإبراهيم بن مسلم، وعزاه بابنه: أسرك وهو بلية وفتنة؟ وأحزنك وهو صلوات ورحمة؟ ! وقد روي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه دفن ابناً له فضحك عند قبره، فقيل له: أتضحك عند قبر؟ ! قال: أردت أن أرغم الشيطان. ومات للحافظ بن عساكر ولد لم يحتلم ـ وكان ولداً حسناً ـ قال الحافظ: فحمدت الله، ولم أظهر لموته جزعاً ولا قلقاً، ولم أحالف لذهابه هلعاً ولا أرقاً، ولم أترك لحزنه مجلس التحديث، ولم أمتنع لأجله من الانبساط والحديث، وما كان ذلك إلا بتوفيق الله وإعانته، وحسن عصمته من الجزع وصيانته، فله الحمد إذ لم يحبط أجري فيه بجزعي، ولم يذهب صبري عنه بهلعي، لأن المحروم من حرم عظيم الثواب، والملوم من جزع لأليم المصاب. وأعجب من تصبري: لما عزاني بعض إخواني، حضني على الصبر، وقال لي: مررت بك يوم ثانية، وأنت

تحدث الجماعة، فتعجبت من انشراح صدرك للتحديث تلك الساعة، فقلت له: إن الجزع لا يرد فائتاً ولا ذاهباً، والحزن لا يرجع هالكاً ولا عاطباً، والبكاء لا يجدي صرفاً لمسلم ولا نفعاً، والقلق لا يفيد دركاً لخطب ولا دفعاً، والاحتيال لايوجب لهالك ضراً ولا نفعاً وإذا كان الأمر بهذه الصفة، والحال هكذا عند أهل المعرفة، فالصبر أحرى بذوي الحجى، وأليق بأولي الدين والنهى.

الباب السادس عشر: في وجوب الصبر على المصيبة

الباب السادس عشر: في وجوب الصبر على المصيبة قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} وقال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} والآيات التي فيها الأمر بالصبر كثيرة جداً معروفة. قال الإمام أحمد: ذكر الله سبحانه وتعالى الصبر في القرآن في تسعين موضعاً. اعلم أن حقيقة الصبر، عند أرباب التصوف: خلق فاضل من أخلاق النفس، يمنع به من فعل مالا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها. قال سعيد بن جبير: الصبر اعتراف العبد لله بما أصابه منه، واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل، وهو متجلد، لا يرى منه إلا الصبر. وقد تقدم «حديث أبي زيد، أسامة بن زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإرسال بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابني قد احتضر فاشهد، فأرسل يقرأ السلام، ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر وتحتسب» الحديث. أمرها بالصبر. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي ـ ولم

تعرفه ـ فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى» . رواه البخاري ومسلم. و «في رواية: تبكي على صبي لها. فقال: إنما الصبر عند أول صدمة» ، وهذا يشبه «قوله عليه الصلاة والسلام: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» فإن مفاجئة المصيبة بغته، لها روعة تزعزع القلب، وتزعجه بصدمها، فإن صبر للصدمة الأولى انكسرت حدتها، وضعفت قوتها، فهان عليه استدامه الصبر، كذلك الغضب. «وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة» . رواه البخاري. «وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها: أنه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد، يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد» رواه البخاري، ورواه الإمام أحمد من حديث عائشة أيضاً بلفظه. قال شيخ الإسلام ابن تميمة: الصبر على المصائب واجب باتفاق أئمة الدين، وإنما اختلفوا في وجوب الرضا. انتهى كلامه. فالصبر واجب من حيث الجملة، ولكنه يتأكد بحسب الأوقات فهو في زمن الطاعون آكد منه في غيره، فإنه إذا صبر على الإقامة في البلد الذي وقع فيه الطاعون، وصبر عند موت أولاده أو أقاربه أو أصحابه، وصبر أيضاً عند مصيبته بنفسه، وعلم يقيناً أن الآجال لا تقديم فيها ولا تأخير، وأن الله تعالى كتب الآجال في بطون الأمهات، كما ثبت في الصحاح: كتب رزقه وأجله، وشقي هو أم

سعيد، فلا زيادة ولا نقص إلا في صلة الأرحام، ففيها خلاف معروف بين أهل العلم، فإذا صبر واحتسب لم يكن له ثواب دون الجنة، وإذا جزع ولم يصبرأثم وأتعب نفسه ولم يرد من قضاء الله شيئاً. ولقد ضمن الوافي الصادق الناطق في محكم كتابه حيث قال عن الصابرين: أنهم يوفون أجرهم بغير حساب. وأخبر أنه معهم بهدايته ونصرة العزيز وفتحه المبين، فقال تعالى: {إن الله مع الصابرين} فذهب الصابرون بهذه المعية التي هي خير الدنيا والآخرة، وشارك بعض الأنبياء في قوله: {إنني معكما أسمع وأرى} وأخبر تعالى أن الصبر خير لأهله خبراً مؤكداً. فقال تعالى: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وأخبر أن الصبر مع التقوى لا يضر معه كيد الأعداء أبداً. فقال: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط} .

الباب السابع: فيما ورد بالصبر على المصيبة

الباب السابع: فيما ورد بالصبر على المصيبة قال الله تعالى: {وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} . وقال تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} . وقال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} . وهذا باب متسع جداً في الآيات والأحاديث، وإنما نذكر منه، ما يوقظ الساهي، وينبه الغافل. وقد تقدم حديث أم سلمة من غير وجه، من رواية الإمام أحمد، ومسلم وغيرهما. «وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك» الحديث. رواه مسلم. ورواه أبو داود، من طريق أخرى، بلفظ غريب: «أن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أصابت أحدكم مصيبة، فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك احتسبت مصيبتي، فأجرني بها، وأبدلني خيراً منها، فلما احتضر أبو سلمة قال: اللهم أخلفني في أهلي خيراً مني، فلما قبض، قالت أم سلمة: إنا لله

وإنا إليه راجعون، عند الله احتسبت مصيبتي فأجرني فيها» . فانظر رحمك الله إلى ما آلت إليه، حين احتسبت وصبرت، ورضيت وركنت، واتبعت السنة، وقد تقدم نحو ذلك. «وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفذ ما عنده، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر» . رواه البخاري ومسلم. «وعن صهيب بن سنان ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيراً له» . رواه مسلم. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل، قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر، عوضته منهما الجنة» ـ يريد عينيه ـ رواه البخاري. «وعن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي فقال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. فقالت أصبر، ثم قالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها» . رواه البخاري ومسلم. «وعن أبي سعيد وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» . رواه البخاري ومسلم. الهم: على المستقبل، والحزن: على الماضي، والنصب: التعب، والوصب: المرض.

«وروي في حديث أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يصيب العبد نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر قال: وقرأ {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} » . وروي «من حديث عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» . «وعن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيراً يصب منه» رواه البخاري. قوله يصب بفتح الصاد وكسرها. وفي الصحيح «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم مالاً، فقال بعض الناس: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . وقال عبد الرزاق: حدثنا الثوري، عن سفيان العصفري، عن سعيد بن جبير، أنه قال: في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} . قال: لم يعط أحد غير هذه الأمة الصبر، ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه السلام: {يا أسفى على يوسف} . وروى سعيد بن منصور في سننه: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق فأناخ، ثم صلى ركعتين، فأطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} .

وقال هشيم: حدثنا خالد بن صفوان، قال: حدثني زيد بن علي، أن ابن عباس كان في مسير له، فنعي إليه ابن له، فنزل فصلى ركعتين، ثم استرجع، وقال: فعلنا كما أمرنا الله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} . وقال أبو الفرج بن الجوزي: روي عن أم كلثوم ـ وكانت من المهاجرات أنه لما غشي على زوجها عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ خرجت إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة. وحكى سعيد بن منصور، عن الحجاج، عن ابن جريج {واستعينوا بالصبر والصلاة} قال: إنهما معونتان على رحمة الله. «وعن ـ ابن مسعود ـ رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت يا رسول الله، إنك توعك وعكاً شديداً، قال: أجل إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم، قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: أجل، ذلك كذلك، مامن مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقه، إلا كفر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» . رواه البخاري ومسلم. والوعك: مغث الحمى، وقيل: الحمى. «وعن خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له، في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» . رواه البخاري. «وفي الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمنرضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط» قال الترمذي: حديث حسن. «وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان ابن لأبي طلحة ـ رضي الله عنه ـ يشتكي،

فخرج أبو طلحة فقبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني؟ قالت أم سليم ـ وهي أم الصبي ـ: هو أسكن ما كان، فقدمت له العشاء فتعشى، ثم أصاب منها، فلما فرغ منها قالت: واروا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أعرستم الليلة؟ قال: نعم! قال: اللهم بارك لهما، فولدت غلاماً، فقال لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وبعث معه تمرات، فقال: أمعه شيء؟ قال: نعم، تمرات، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم، فمضغها ثم أخذها من فيه، فجعلها في في الصبي، وحنكه، وسماه عبد الله» . رواه البخاري ومسلم. وفي رواية البخاري: قال ابن عيينة: فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن ـ يعني من أولاد عبد الله ـ. «وفي رواية لمسلم: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، فجاء فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب، ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا فقالت احتسب ابنك، فغضب ثم قال: تركتيني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتيني؟ ! فانطلق، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله في ليلتكما قال: فحملت.. » وذكر تمام الحديث وقد تقدم. «وعن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مايزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله تعالى، وما عليه خطيئة» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنصب الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة، فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصيام، فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة، فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الحج، فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صباً بغير حساب، ثم قرأ

فصل ـ في كلام السلف في الصبر

{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} . حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا، أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» . رواه ابن منجويه في تفسيره. وروى مالك بن أنس، في الموطأ، «من حديث عطاء بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا مرض العبد، بعث الله إليه ملكين، فقال: انظرا ماذا يقول لعواده؟ فإن هو، إذا جاؤوه، حمد الله، وأثنى عليه، رفعا ذلك إلى الله ـ والله أعلم ـ فيقول: لعبدي علي إن توفيته، أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته، أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته» . فصل ـ في كلام السلف في الصبر قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: الصبر ثلاثة: صبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة، حتى يردها بحسن عزائها، كتب له ثلثمائة درجة، ومن صبر على الطاعة، كتب له ستمائة درجة، ومن صبر عن المعصية، كتب له تسعمائة درجة. وقال ميمون بن مهران: الصبر صبران: فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المعصية. وقال الجنيد، وقد سئل عن الصبر، فقال: هو تجرع المرارة من غير تعبس. وقال الفضيل بن عياض: في قوله تعالى: {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} ثم قال: صبروا على ما أمروا به، وصبروا عما نهوا عنه. انتهى كلامه، فكأنه ـ رحمه الله ـ جعل الصبر عن المعصية داخلاً في قسم المأمور به. قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن أبي السفر، قال: مرض أبو بكر فعادوه، فقالوا: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: قد رآني الطبيب،

قالوا: فأي شيء قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد. قال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مجاهد، قال: قال عمر بن الخطاب: وجدنا خير عيشنا بالصبر. وفي رواية: أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً. وقال علي بن أبي طالب: ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له. وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده. وقال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبد نعمة، فانتزعها منه، فعاضها مكانها الصبر، إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه منه. وقال بعض العارفين في رقعة، يخرجها كل وقت، فينظر فيها، وفيها مكتوب {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} . وقال مجاهد في قوله تعالى: {فصبر جميل} : في غير جزع. وقال عمروبن قيس {فصبر جميل} قال: الرضا بالمصيبة والتسليم. وقال حسان: {فصبر جميل} : لا شكوى فيه. وقال همام عن قتادة في قول الله تعالى: {وابيضت عيناه من الحزن، فهو كظيم} . قال: كظيم على الحزن، فلم يقل إلا خيراً. وقال الحسن: الكظيم: الصبور. وقال الضحاك: كظيم الحزن. وقال عبد الله بن المبارك: أخبرنا عبد الله بن لهيعة، عن عطاء ابن دينار، أن سعيد بن جبير، قال: الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منهو احتسابه عند الله.

قال يونس بن زيد: سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن: ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه. وقال قيس بن الحجاج في قوله تعالى: {فاصبر صبراً جميلاً} . قال: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يعرف من هو. وذكر أبو الفرج بن الجوزي في عيون الحكايات: قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدناها، فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم ضالون عن الطريق، أتيناكم فأنسنا بكم، فقالت: يا هؤلاء ولو وجوهكم عني. حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مسحاً، فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها، إلى أن رفعتها، فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس بابني، فوقف الراكب عليها، فقال: يا أم عقيل، أعظم الله أجرك في عقيل، قالت: ويحك! مات ابني؟ قال: نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل، فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم، ودفعت إليه كبشاً، فذبحه وأصلحه، وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا، خرجت إلينا وقد تكورت، فقالت: يا هؤلاء، هل فيكم من أحد يحسن من كتاب الله شيئاً؟ قلت: نعم، قالت: اقرأ من كتاب الله آيات أتعزى بها، قلت: يقول الله عز وجل في كتابه: {وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} قالت: آلله، إنها لفي كتاب الله هكذا؟ قلت: آلله، إنها لفي كتاب الله هكذا! قالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها، وصلت ركعات، ثم قالت: {إنا لله وإنا إليه راجعون} عند الله أحتسب عقيلاً، تقول ذلك ثلاثاً، اللهم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني.

الباب الثامن عشر: في أن الشخص لا يستغني عن الصبر لا في المصيبة ولا في غيرها

الباب الثامن عشر: في أن الشخص لا يستغني عن الصبر لا في المصيبة ولا في غيرها اعلم ـ رحمك الله ـ أن الشخص البالغ العاقل المسلم، ما دام في دار التكليف، والأقلام جارية عليه، لا يستغني عن الصبر في حالة من الأحوال، فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله، والصبر لا بد منه قولاً وفعلاً، وبين نهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وبين قضاء وقدر يجب عليه الصبر فيهما، وبين نعمة يجب عليه شكر المنعم عليها والصبر عليه، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لا زم له إلى الممات. فإن قيل: النعم يجب الصبر عليه؟ قيل: نعم، لأنها من الابتلاء، كما قال تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن} وقال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} ، وفي الآية الأخرى: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا} أي ليس الأمر كذلك، وإنما الله تعالى يبتلي عباده بالغنى والفقر، فينظر من هو المجاهد الشاكر الصابر على ما ابتلاه به، كما يبتلي عباده بالمصائب والأسقام تطهيراً لهم من الذنوب والآثام. فصل: في الحالات التي يحتاج فيها العبد إلى الصبر ويحتاج العبد إلى الصبر في ثلاثة أحوال:

أحدهما: قبل الشروع في العبادات، بتصحيح النية والإخلاص، وعقد العزم على توفية المأمور به وتجنب دواعي الرياء والسمعة. والحالة الثانية: الصبر حال العمل، فيلازم الصبر، عند دواعي التقصير فيه والتفريط، ويلازم على استصحاب ذكر النية وحضور القلب بين يدي المعبود، وهو محتاج إلى الصبر توفية أركانها وشروطها وواجباتها وسننها. والحالة الثالثة: الصبر بعد الفراغ من العمل، فيحذر من الإتيان بما يبطله، كما قال قال تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} ، فالصبر على محافظتها بعد الفراغ أنفع ما للعبد. هذا معنى ما ذكره الشيخ الإسلام ابن تيمية. وقال العلامة ابن اليقيم: وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين: أحدهما ـ موافق هواه ومراده. والثاني ـ يخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما. أما النوع الموافق لغرضه فكالصحة والسلامة والجاه والمال وأنواع الملاذ المباحة. وهو أحوج شيء إلى الصبر فيهامن وجوه: أحدهما ـ أن لا يركن إليها، ولا يغتر بها، ولا يحمله عليه البطر والأشر والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله. الثاني ـ أن لا ينهمك في نيلها، ولا يبالغ في استقصائها، فإنها تنقلب إلى أضدادها، فمن يبالغ في الأكل والشرب والجماع، انقلب ذلك ضده، وحرم الأكل والشرب والجماع. الثالث ـأن يصبر على أداء حق الله فيها، ولا يضيعه، فيسلبها. الرابع ـ أن يصبر عن صرفها في الحرام، فلا يمكن نفسه من كل ما تريده منها، فإنها توقعه في الحرام، فإذا احترز أوقعته في المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون.

فصل: في مشقة الصبر على السراء أيضا

قال بعض السلف: البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا صديق. وأما النوع الثاني: فأما الطاعة، فالعبد يحتاج إلى الصبر عليها، لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبادات إلا من وفقه الله، وتبين ذلك بالصلاة، طبع النفس فيها الكسل وإيثار الراحة، والزكاة فطبع النفس فيها الشح والبخل، وأما الصوم فطبع النفس بمحبة الفطر وعدم الجوع، وعلى هذا فقس، فهو محتاج إلى الصبر في جميع ذلك، والله أعلم. ومن هذا الباب قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر. فصل: في مشقة الصبر على السراء أيضاً وإنما كان الصبر على السراء شديداً مشقاً على النفس، لأنه مقرون بالقدرة على ما تشتهيه النفس وتميل إليه، لأن الجائع، عند عدم الطعام، أقدر منه على الصبر عند حضوره، وكذلك الشبق، عند غير المرأة، أصبر منه عندحضورها وكذلك العطشان الشديد، العطش عند عدم الماء، أصبر منه عند وجوده. فصل ـ في التحذير من فتنة المال والأزواج والأولاد وقد حذر الله سبحانه وتعالى، عباده المؤمنين، في كتابه العزيز، من فتنة المال، ومن فتنة الأزواج، ومن فتنة الأولاد، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} . وقال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} . وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} وليس المراد من هذه العداوة، ما يفهمه كثير من الناس، أنها

عداوة البغضاء والمجادلة، بل عداوة المحبة الصادة للآباء، عن الهجرة والجهاد وتعليم العلم، وغير ذلك من أعمال البر، هذا معنى ما ذكره العلامة ابن القيم. فالمقصود: أنه من صبر في السراء عن المعصية، فقد أمن فتنة المال، فإنه قادر على فعل المعصية وبذل المال، فلهذا كان له الثواب الجزيل، والفضل العظيم، وكذلك من صبر على تربية الأولاد، وأذى بعض الزوجات، كان له الدرجات العاليات، فإنه ليس كل زوجة وولد منهم أذى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} فإن: من، هنا للتبعيض باتفاق الناس، والمعنى: إن من الأزواج والأولاد عدواً، ليس المراد أن كل زوج وولد عدو، فإن هذا ليس هو مدلول اللفظ، وهو باطل في نفسه، فإنه سبحانه وتعالى قد قال عن عباد الرحمن: إنهم يقولون: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} ، فسألوا الله أن يهب لهم من أزواجهم وأولادهم قرة أعين، فلو كان كل زوج وولد عدواً، لم يكن فيهم قرة أعين، فإن العدو لا يكون قرة عين، بل سخنة عين. وأيضاً فإنه من المعلوم أن إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم، ويحيى بن زكريا وأمثالهم ليسوا أعداء. وقول من قال: إنها زائدة غلط لوجوه: أحدهما ـ أن مذهب سيبويه وجمهور أئمة النحاة: أنها لا تزاد في الإثبات، وإنما تزاد في النفي تحقيقاً لعموم النفي، لقوله تعالى: {وما من إله إلا الله} ، {وما من إله إلا إله واحد} ، {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} ونحو ذلك، فإنه لولا: من، لكان الكلام ظاهراً في العموم، فإنه يجوز أن يقول، ما رأيت رجلاً بل رأيت رجلين: فإذا أدخلت من، فقلت: ما رأيت من رجل، كان نعتاً في العموم، فلا يجوز أن يقال: ما رأيت من رجل بل رجلين، مع أن النكرة في سياق النفي العموم مطلقاً، لكن قد يكون نصاً. وقد

يكون ظاهراً، فإذا كانت ظاهراً، احتملت نفي الواحد من الجنس، بخلاف النص، وهذا الموضع إثبات لا نفي، فلا تزاد فيه. الثاني ـ أن من جوز زيادتها في الإثبات ـ كالأخفش ـ لا يجوزه إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه، وإلا فلو قال قائل: إن من هؤلاء القوم مسلمين، وأراد أن جميعهم مسلمون لم يجز ذلك بالاتفاق. الثالث إذا قيل بزيادتها كان المعنى باطلاً. الرابع ـ الزيادة على خلاف الأصل، فلا يجوز ادعاؤها بغير دليل. انتهى كلامه. وهذه فائدة عارضة، ذكرتها على سبيل التنبيه، لوقوع ناس كثر فيها. والمقصود: أن العبد لا يستغني عن الصبر في حالة من الأحوال، ويكفي من فضل الصبر، أن الله تعالى وصف نفسه به، كما في «حديث أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس أحد ـ أو ليس شيء ـ أصبر على أذى سمعه، من الله تعالى، إنهم يدعون له ولداً، وإنه ليعافيهم ويرزقهم» . رواه البخاري. قال القرطبي في تفسيره: وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم، ومعنى وصفه تعالى بالحلم، هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها، ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل، وإنما ورد في الحديث، وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم. قاله: ابن فورك. انتهى كلامه. وذكر عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} ، قلت: وقد جاء في أسمائه الحسنى الصبور، وجاء في أسمائه الحليم، فلو كان الصبور بمعنى الحليم كان الاسمان الشريفان مترادفين، والأصل في الأسماء التغابر، والله أعلم.

الباب التاسع: في أن الصبر من أشق الأشياء على النفوس

الباب التاسع: في أن الصبر من أشق الأشياء على النفوس وهذا الباب ينقسم فيه الصبر إلى قسمين: أحدهما ـ بحسب قوة الداعي إلى الفعل. الثاني ـ بسهولته على العبد. فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق، وإن فقدا ـ معاً ـ يعني قوة الداعي وسهولته ـ سهل الصبر عنه، وإن وجد أحدهما وفقد الآخر سهل الصبر من وجه دون آخر، فمن لا داعي له إلى قتل النفس والسرقة وشرب الخمر وأكل الحشيشة وأنواع الفواحش، ولا هو سهل عليه، فصبره عنه من أيسر شيء وأسهله، ومن اشتد داعيه إلى ذلك، وسهل عليه فعله، فصبره عنه أشق شيء عليه، ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم، وصبر الشباب عن الفاحشة، وصبر الغني عن تناول اللذات والشهوات، منزلتهم عند الله منزلة عظيمة عالية منيعة، لا يصل إليها إلا من صبر مثل صبرهم، وكذلك من صبر على موت أولاده وأبويه وأقاربه وأصحابه ونحوهم، وهو مع ذلك صابر محتسب، يأمر أهله بالصبر، وينهاهم عن لطم الخدود وشق الجيوب، وعن كلام ما لا يجوز لهم شرعاً، هذا له من الثواب الجزيل، والأجر العظيم، ما لا يعلمه إلا الله، فالعبد، إذا ذاق لذة المعصية، ثم تاب وصبر عنها، كانت توبته توبة صادقة. ولقد بلغني عمن أعرفه، أنه تاب عن الخمر، وحلف بالطلاق لا يشربه، ثم إنه خالع، وشرب. ولقد رأيت جماعة منهم، ممن حلف بالطلاق الثلاث، لا يلعب بالشنطرنج وتاب منه، ومع ذلك يعلم أن أكثر العلماء قالوا بتحريمه، وإنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وأنه يحصل عليه من الحلف الكاذبه والفحش ما هو معروف مشهور،

فصل: في عقوبة من لم يصبر مع تمكنه من الصبر

ومع ذلك منهم من خالع ولعب، ومنهم من لعب ووقع عليه الطلاق الثلاث بعد التوبة والحلف. فالصبر المستمر مع القدرة من غير خوف على جاهه أو ماله أو عرضه، صبر على المعاصي، ومواظيته على ما أمره الله تعالى به، صبر على الطاعات، فإذا فعل ذلك، ابتغاء وجه الله تعالى، ثوابه أن يوفى أجره بغير حساب. «ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: عجب ربك من شاب ليست له صبوة» . وفي الصحيح «من أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: سبعة يظلهم الله في ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاه حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه» . ولذلك استحق هؤلاء السبعة أن يظلهم في ظله، لكمال صبرهم، ومشقته على نفوسهم، فصبر الملك على العدل مع قدرته على الظلم والانتقام من رعيته، وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه، وصبر الرجل على ملازمة المسجد، وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حتى عن شماله مع قدرته على الرياء، وصبر المدعو إلى الفاحشة مع جمال الداعي، وصبرالمتحابين في الله في اجتماعهما وانفرادهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذلك عن الناس، فهذه الأمور فيها مشقة على النفوس، فالصبر عليها، بتوفيق الله وفضله وإحسانه إلى عبده، صبر عظيم جميل. فصل: في عقوبة من لم يصبر مع تمكنه من الصبر ولما كان الداعي، في حق بعض الناس، ضعيفاً، ولم يصبروا مع تمكنهم من الصبر، كان عقوبتهم عند الله تعالى أشد من عقوبة غيرهم، كالشيخ الزاني، والملك الكذاب، والفقير المختال، وإنما كانوا أشد عقوبة من غيرهم، لسهولة التصبر عن هذه المحرمات عليهم، ولضعف دواعيها في حقهم، فكان تركهم الصبر عنها دليلاً على تمردهم على الله تعالى، وعتوهم عليه، ولهذا كان الصبر على معاصي اللسان

والفرج، من أشق أنواع الصبر، لشدة الداعي إليهما وسهولتهما، فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان، لسرعة حركته وسهولة إطلاقه. وثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو على مناخرهم ـ إلا حصائد ألستنهم؟ !» . فيجب لجامه بلجام الشرع، «لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» . فإن اللسان رحب الميدان في الخير والشر، فمن أطلقه ولم يضبطه بالشرع، سلك به الشيطان في المهالك، وكبه في النار عند مالك، فالكمال إمساكه مطلقاً عن فضول الكلام، إلا في خير، وما لا بد منه، فإن اللسان لا تؤمن غائلته، وخطره عظيم. ولسهولة حركته، وسرعة إطلاقه، قد بلي أكثر الناس في زماننا بآفاته، التي هي فاكهة وسرور مجالسهم: كالغيبة والنميمة والكذب، والمراء والجدال والخوض في الباطل، والخصومات وفضول الكلام، والتحريف والزيادة والنقصان، وتزكية النفس تفريحاً وتعرضاً، وحكاية كلام الناس، والطعن على ما يبغضه وتزكية من يحبه، وهتك المستورات، ونحو ذلك. فيتفق قوة الداعي وسرعة حركة اللسان، فيضعف الصبر، و «لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: أمسك عليك لسانك» ، وقد تقدم الحديث. فإذا صارت هذه الآفات التي ذكرناها للسان عادة وسجية، فإنه يشق على العبد الصبر عنها إلا من عصمه الله، فآفات اللسان مهلكة ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع، نسأل الله السلامة منها. لهذا نجد كثيراً من المتفقهة وغيرهم، ممن ينتسب إلى الورع، يتورع من استناده إلى مخدة من الحرير، أو من قعوده على بساط حرير، أو من شربه من قدح زجاج مموه بالذهب، أو الجلوس لحظة واحدة في فرح وغيره، مع ما فيه من الخلاف، ولا يتورع من إطلاق لسانه في الكبائر من الذنوب، كالغيبة والنميمة، والتفكه في أعراض الخلق. وكذا إذا وقع الكلام في تفسير كلام الله، أو في مسند رسول الله، أطلق لسانه فيهما بغير علم، مع علمه بقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} . ثم أيضاً ممن يتورع عن الحبة من الحرام، بل عن الفلس المحرم، وعن القطرة من

فصل: في علامات الصبر ورضا النفس عن قضاء الله تعالى

الخمر، ويتحرز عن مثل رأس الإبرة من النجاسة، ولا يبالي بارتكاب الفرج المحرم، سواء كان صبياً أو امرأة. كما يحكى: أن رجلاً خلا بامرأة أجنبية، فلما أراد جماعها، قال: يا هذه غطي وجهك، فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام. والمقصود: أن الصبر على الأشياء الذي اعتادها الإنسان، وورد الشرع بذمها، من أشق الأشياء على النفوس، إلا من وفقه الله لذلك. فصل: في علامات الصبر ورضا النفس عن قضاء الله تعالى ومن علامات الصبر، عدم مشقته على النفس عند ورود المصائب، وكف الكف عن تمزيق الثياب ولطم الخدود، وحبس اللسان عن الاعتراض على المقادير والتسخط، والامتناع من كل شيء يوجب إظهاره، حتى إن السلف كرهوا الأنين. قال الحكماء: العاقل يفعل أول يوم، ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام. وقد قال عليه الصلاة والسلام للأشعث بن قيس: إنك إن صبرت إيماناً واحتساباً. وإلا سلوت كما تسلو البهائم.

االباب العشرون: في الرضا بالمصيبة

االباب العشرون: في الرضا بالمصيبة اعلم ـ رحمك الله ـ أن الرضا بالمصائب، أشق على النفوس من الصبر، وقد تقدم أن الصبر من أشق الأشياء على النفوس، وفي جامع الترمذي «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط، فله السخط» . وقد تنازع العلماء والمشايخ، من أصحاب الإمام أحمد، وغيرهم، في الرضا بالقضاء، هل هو واجب؟ أو مستحب؟ على قولين، فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، فالعبد قد يصبر على المصيبة ولا يرضى بها، فالرضا أعلى من مقام الصبر، لكن الصبر اتفقوا على وجوبه، والرضا اختلفوا على وجوبه، والشكر أعلى من مقام الرضا، فإنه يشهد المصيبة نعمة، فيشكر المبلي عليها. قال عمر بن عبد العزيز: أما الرضا، فمنزلة عزيزة أو منيعة، ولكن قد جعل الله في الصبر معولاً حسناً. وقال محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا زهير بن عباد، عن السري ابن حيان، قال: قال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، وسراج العابدين. وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، «عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الصبر رضا» ، فهذا الحديث، فيه بشارة عظيمة لأهل المصائب، إذ سمى الصبر رضا. وبإسناده أيضاً إلى أبي مسلم، قال أبو مسلم: دخلت على أبي الدرداء في اليوم

الذي قبض فيه، وكان عندهم في العز كأنفسهم، فجعل أبو مسلم يكبر، فقال أبو الدرداء: أجل، فهكذا فقولوا، فإن الله إذا قضى بقضاء، أحب أن يرضى به. وذكر ابن أبي الدنيا، في قوله تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} ، قال علقمة بن أبي وقاص: هي المصيبة، تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، ويسلم لها ويرضى. وقال: حدثنا الحسين، حدثنا عبد الله، حدثنا علي بن الحسن العامري، حدثنا أبوه بدر، حدثنا عمر بن ذر، قال: بلغنا أن أم الدرداء كانت تقول: إن الراضين بقضاء الله، الذين ما قضى الله لهم رضوا به، لهم في الجنة منازل يغبطهم بها الشهداء يوم القيامة. وبهذا الإسناد، عن سليمان بن المغيرة، قال: كان فيما أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام، إنك لن تلقاني بعمل، هو أرضى لي عنك، ولا أحط لوزرك، من الرضا بقضائي، ولن تلقاني بعمل، هو أعظم لوزرك، ولا أشد لسخطي عليك، من البطر، فإياك يا داود والبطر. وقال الشافعي: سمعت ابن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: أرجو أن أكون رزقت من الرضا طرفاً، لو أدخلني النار لكنت بذلك راضياً. وقال ابن زيد: نظر علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إلى عدي بن حاتم كئيباً، فقال: يا عدي مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: وما يمنعني، وقد قتل أبنائي، وفقئت عيني؟! فقال يا عدي، من رضي بقضاء الله كان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله حبط عمله. ذكره ابن أبي الدنيا. وقال أبو عبد الله البراثي: من وهب له الرضا فقد بلغ أقصى الدرجات. فإن قيل: غالب الناس يصبرون ولا يرضون، فكيف يتصور الرضى بالمكروه؟ يقال: إن نفور الطبع عن المصائب، لا ينافي رضا القلب بالمقدور، فإنا نرضى القضاء، وإن كرهنا المقتضى! قيل لبعض الصالحين: قتل ولدك في سبيل الله! فبكى، فقيل له: أتبكي وقد

فصل: في أقوال السلف والخلف في الرضا

استشهد؟ ! فقال: إنما أبكي، كيف كان رضاه عن الله عز وجل، حين أخذته السيوف. وذكر أبو الفرج بن الجوزي، بسنده، عن عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: اللهم لو أعلم أنه أرضى لك، أن أوقد ناراً عظيمة، فأقع فيها، لفعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك عني، أن ألقي نفسي في الماء، فأغرق، لفعلت. وعن مصعب بن ماهان، عن سفيان الثوري، قال: في قوله تعالى: {وبشر المخبتين} . قال: المطمئنين الراضين بقضائه المستسلمين له.. فصل: في أقوال السلف والخلف في الرضا وقد أطنب الناس ـ من السلف والخلف ـ في الرضا، وبسطوا القول فيه، واعتنوا به وهذا يدل على علو منزلته. قال عمرو بن أسلم العابد: سمعت أبا معاوية الأسود يقول: في قوله تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة} قال: الرضا والقناعة. وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده، «رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: جلساء الرحمن، تبارك وتعالى، يوم القيامة: الخائفون الراضون، المتواضعون الشاكرون الذاكرون» . وبإسناده، إلى محمد بن كعب، رفعه، أنه قال: أي رب، أي خلقك أعظم ذنباً؟ قال: الذي يتهمني، قال: رب وهل يتهمك أحد؟ ! قال: نعم، الذي يستجيرني، ولا يرضى بقضائي. قال مالك بن أنس: بلغني أن أبا الدراء، دخل على رجل وهو يموت، وهو يحمد الله تعالى، فقال أبو الدراء: أصبت، إن الله تعالى إذا قضى أحب أن يرضى به. وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن ابن عون، أنه قال: أرض بقضاء الله على ما كان من عسر ويسر، فإن ذلك أقل لغمك، وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك،

واعلم، أن العبد لن يصيب حقيقة الرضا، حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء، كرضاه عند الغنى والرخاء، كيف تستقضي الله في أمرك، ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفاً لهواك؟ ! ولعل ما هويت من ذلك، لو وفق لك، لكان فيه هلكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك، وذلك لقلة علمك بالغيب، وكيف تستقضيه؟ إن كنت كذلك ما أنصفت من نفسك، ولا أصبت باب الرضا! ! وروى أبو بكر بن أبي الدنيا أيضاً، قال: حدثنا الحسين، ثنا عبد الله، حدثني المروزي، قال: قال حفص بن حميد: كنت عند عبد الله بن المبارك بالكوفة حين ماتت امرأته، فسألته ما الرضا؟ قال: الرضا أن لا يتمنى خلاف حاله، فجاء أبو بكر بن عياش فعزى ابن المبارك ـ قال حفص: ولم أعرفه ـ فقال عبد الله: سله عما كنا فيه، فسألته، فقال: من لم يتكلم بغير الرضا فهو راض. قال حفص: وسألت الفضيل بن عياض، فقال: ذاك للخواص. ثم قال قادم الديلمي العابد. قال: قلت للفضيل بن عياش: من الراضي عن الله؟ قال: الذي لا يحب أن يكون على غير منزلته التي جعل فيها. وقال أبو عبد الله البراثي: لم يرد الآخرة، أرفع درجات من الراضين عن الله عز وجل على كل حال. وقال سيار: دخلت على أبي العالية في مرضه الذي مات فيه، فقال: إن أحبه إلي، أحبه إلى الله عز وجل. وقال عمرو بن أسلم العابد: سمعت أبا معاوية الأسود يقول: في قوله تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة} . قال: الرضا والقناعة. ذكرهن ابن أبي الدنيا في كتاب الرضا، ثم ذكر عن مصعب بن ماهان، عن سفيان الثوري، قال في قوله تعالى: {وبشر المخبتين} قال: المطمئنين الراضين بقضائه المستسلمين له. وعن وهب بن منبه، قال: وجدت في زبور داود عليه السلام: يا داود، هل تدري أي الفقراء أفضل؟ الذين يرضون بحلمي وبقسمي، ويحمدوني على ما أنعمت عليهم، هل تدري يا داود أي المؤمنين أعظم عندي منزلة؟ الذي هو بما أعطي

فصل ـ فيما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المصيبة وما نهى عنه

أشد فرحاً بما حبس. وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد، عن زياد ابن أبي حسان، أنه شهد عمر بن عبد العزيز ـ رحمة الله عليه ـ حين دفن ابنه عبد الملك، استوى قائماً، وأحاط به الناس، فقال: والله يا بني، لقد كنت باراً بأبيك، والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسروراً بك، ولا والله ما كنت قط أشد سروراً، ولا أرجى لحظي من الله فيك، منذ وضعك الله في المنزل الذي صيرك إليه، فرحمك الله، وغفر لك ذنبك، وجزاك بأحسن عملك، ورحم كل شافع يشفع لك بخير شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله، وسلمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين. ثم انصرف. وقال سفيان الثوري: قال عمر بن عبد العزيز لابنه: كيف تجدك؟ قال: في الموت، قال: لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك، فقال والله يا أبه، لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب. وروى الإمام أحمد في الزهد بإسناده، عن الحسن، قال: حدثني الأحوص، قال: دخلنا على ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وعنده بنون له ثلاثة، كأنهم الدنانير حسناً، فجعلنا نتعجب من حسنهم، فقال لنا كأنكم يغبطونني بهم؟ قلنا: أي والله، لمثل هؤلاء يغبط المسلم، فرفع رأسه إلى سقف بيت له صغير، قد عشش فيه خطاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده، لأن أكون نفضت يدي عن تراب قبورهم، أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف وينكسر بيضه. وبإسناده عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال يوم مات أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ: رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، إنا لله وإنا إليه راجعون. فصل ـ فيما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المصيبة وما نهى عنه قد تقدم ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المصيبة، وما نهى عنه، ومما سنه الخشوع، والبكاء الذي لا صوت معه، وحزن القلب، «وكان يفعل ذلك ويقول:

تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب» ، وكذلك الحمد والاسترجاع. وقد تقدم. ومن سنته: الرضا عن الله في المصيبة وغيرها، ولم يكن ذلك منافياً لدمع العين وحزن القلب. وأشد الناس حرصاً على رضى مولاهم الأنبياء، فقد روى ابن أبي الدنيا بإسناده، «عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنا معشر الأنبياء يضاعف علينا البلاء تضعيفاً، قال: فقلنا سبحان الله! قال: أفعجبتم؟ إن أشد الناس بلاءً الأنبياء والصالحون، الأمثل فالأمثل. قلنا سبحان الله! قال: أفعجبتم؟ إن كان النبي من الأنبياء، ليتدرع العباءة من الحاجة، لا يجد غيرها، قلنا: سبحان الله! قال: أفعجبتم؟ إن كانوا ليفرحون بالبلاء، كما تفرحون بالرخاء» . ولهذا كان أرضاهم، وأرضى الخلق عن الله، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قضائه وقدره، وأعظمهم له حمداً، ولم يمكنني حصر ما وقع له في ذلك لكثرته وشهرته، ومع ذلك بكى يوم مات ابنه إبراهيم ـ عليه السلام ـ رأفةً ورحمةً منه للولد، ورقةً عليه، وقلبه صلى الله عليه وسلم ممتلئ بالرضا عن الله تعالى وشكره له، واللسان مشتغل بحمده وذكره. ولما ضاق هذا المشهد والجمع بين الأمرين ـ يعني رحمة الولد والرقة عليه والرضا عن الله تعالى ـ على أن بعض العارفين من السلف، يوم مات ولده، جعل يضحك، فقيل له: تضحك في مثل هذه الحال؟ فقال: إن الله تعالى قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه. فأشكل هذا على جماعة من العلماء وأرباب الأحوال والتصوف، وقالوا: كيف يبكي رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم يوم مات ولده، وهو أرضى الخلق عن الله، ويبلغ الرضا بهذا العارف إلى أن ضحك يوم مات ولده؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هدي نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل من هدي هذا العارف، فإنه أعطى صلى الله عليه وسلم العبودية حقها، فاتسع قلبه للرضا عن الله ورحمة الولد والرقة عليه، فحمد الله ورضي عنه في قضائه، وبكى رحمةً ورقةً، فحملته الرحمة على البكاء، وعبوديته لله ومحبته له على الرضا والحمد، وهذا العارف ضاق قلبه عن

فصل ـ في تحقيق الرضا وأنه من عمل القلب

اجتماع الأمرين، ولم يتسع باطنه لشهودهما والقيام بهما، فشغلته عبودية الرضا عن عبودية الرحمة والرقة، والله تعالى أعلم. انتهى. قلت وما يؤيد ما ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ قصة نبي الله يعقوب إسرائيل عليه السلام، إذ حكى الله تعالى عنه أنه ابيضت عيناه من الحزن، وقال: {فصبر جميل} و {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} فمشهده أوسع من مشهد هذا العارف، بل نبي الله يعقوب أبلغ من هذا العارف، فإن يعقوب كان له عدة من الولد، ومع هذا فهذه الرقة والرحمة التي عنده، مع الرضا الكامل، واستعمل الرضا والتفويض في قوله: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} واستعمل الرقة والرحمة عند {وابيضت عيناه من الحزن} فطريقة يعقوب عليه السلام أفضل من طريقة هذا العارف، مع كثرة أولاد يعقوب، وهذه رحمته ورقته، وأما هذا العارف ـ على ما قيل ـ لم يكن له ولد سواه. وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده، عن ثابت البناني: أن صلة بن أشيم، كان في مغزى له، ومعه ابنه، فقال له: أي بني، تقدم فقاتل، حتى أحتسبك، فجاء فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أبوه فقتل، فاجتمعت النساء عند أمه معاذة العدوية، فقالت: مرحباً، إن كنتن جئتن لتهنئنني مرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن. وذكر أبو الفرج بن الجوزي: قال أبو جحيفة: إنا لمتوجهون إلى همذان، ومعنا رجل من الأزد، فجعل يبكي، فقلت: أجزع هذا؟ قال: لا، ولكن تركت ابني في الرحل، فلوددت أنه كان معي، فدخلنا الجنة جميعاً. فصل ـ في تحقيق الرضا وأنه من عمل القلب الرضا من أعمال القلوب، لكن وإن كان من أعمال القلوب، فكماله هو الحمد، حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا، ولهذا جاء في الكتاب والسنة: حمد لله على كل حال، وذلك يتضمن الرضا بقضائه. «وفي الحديث: أول من يدعى إلى الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله في السراء والضراء» . «وفي الحديث مرفوعاً، أن النبي

صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره، قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه أمر يسوؤه قال: الحمد لله على كل حال» . وقد تقدم في مسند الإمام أحمد «من حديث أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قبض الله ولد العبد، يقول الله لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال؟ فيقولون حمدك واسترجع، فيقول الله عز وجل: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد» . ومحمد نبينا صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد، وأمته هم الحمادون، الذين يحمدون الله في السراء والضراء، والرضا. والحمد على الرضا له مشهدان: أحدهما ـ علم العبد، بأن الله سبحانه مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه، أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وهو العليم الحكيم. الثاني ـ أن يعلم أن اختيار الله لعبده المؤمن خير من اختياره لنفسه، كما روى مسلم في صحيحه، «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاءً، إلا كان خيراً، وليس ذلك إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له» ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على الرخاء فهو خير له، كما قال تعالى: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} . فمن لا يصبر على البلاء، ولا يشكر على الرخاء، فلا يلزم أن يكون القضاء خيراً له، ولهذا أجيب من أورد على هذا، بما يقضى على المؤمن من المعاصي، بجوابين: أحدهما: أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما يفعله، كما في قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وكقوله تعالى أيضاً: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} أي السراء والضراء. الثاني ـ أن هذا في حق المؤمن الصابر

الشاكر، والذنوب تنقص الإيمان، فإذا تاب العبد أحبه الله، وقد ترتفع درجته بالتوبة. قال بعض السلف: كان داود عليه السلام، بعد التوبة، خيراً منه قبل الخطيئة، فمن قضي له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة، فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة، فيدخل بها الجنة، وذلك أنه يعمل الحسنة، فتكون نصب عينيه ويعجب بها، ويعمل السيئة، فتكون نصب عينيه، فيستغفر الله ويتوب إليه منها. وثبت في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأعمال بالخواتيم» . والمؤمن، إذا فعل سيئة، فإن عقوبتها تندفع بعشرة أسباب: أحدهما: أن يتوب توبة نصوحاً ليتوب الله عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. الثاني: أن يستغفر الله فيغفر الله تعالى له. الثالث: أن يعمل حسنات يمحوها لقوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات} . الرابع: أن يدعو له إخوانه المؤمنون ويشفعون له حياً وميتاً. الخامس: أن يهدي له إخوانه المؤمنون من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به. السادس: أن يشفع فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. السابع: أن يبتليه الله في الدنيا بمصائب، في نفسه وماله، وأولاده وأقاربه، ومن يحب، ونحو ذلك. الثامن: أن يبتليه في البرزخ بالفتنة والضغطة، وهي عصر القبر، فيكفر بها عنه. التاسع: أن يبتليه الله في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه.

العاشر: أن يرحمه أرحم الراحمين. فمن أخطأته هذه العشرة، فلا يلومن إلا نفسه، «كما قال تعالى في الأحاديث الإلهيات: إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم ـ ثم أوفيكم إياها ـ، فمن وجد خيراً، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه» ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية. والمقصود أن المؤمن إذا كان يعلم أن القضاء خير له، فيرضى عن الله بما قسم له، كان قد رضي بما هو خير له. «وفي الحديث: عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: إن الله يقضي بالقضاء، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» .

الباب الحادي والعشرون: فيما يقدح في الصبر والرضا وينافيهما

الباب الحادي والعشرون: فيما يقدح في الصبر والرضا وينافيهما قد تقدم أن الصبر اعتراف العبد بالله بما أصابه منه، واحتسابه عند الله، وأنه حبس النفس عما لا يحسن فعله ولا يجمل، وحبس اللسان عما لا يحسن قوله، فإذا كان معنى هذه المقالة أن الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله، والقلب عن التسخيط، والجوارح عن لطم الخدود، وخمش الوجوه، وشق الثياب، ونحو ذلك، وأن العبد يرضى عن الله فيما يفعله به مما يحب وقوعه، ومما يكره وقوعه، فإذا وقع من العبد عكس ما ذكرته كان متلبساً بالنقائص والرذائل، فمن شكا ما به إلى مخلوق مثله، كان قد شكا ربه إلى بعض مخلوقاته، فمثله كمثل من شكا من يرحمه ويلطف به ويعافيه وبيده ضره ونفعه، إلى من لا يرحمه وليس بيده نفعاً ولا ضراً. فهذا من عدم المعرفة وضعف الإيمان شكاية الضار النافع الذي بيده أزمة الأمور، إلى من لا يضر ولا ينفع. قال شقيق البلخي: من شكا مصيبة نزلت به إلى غير الله، لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوة أبداً. وأما إخبار المخلوق بحاله لا على وجه الشكوى، فإن كان للاستعانة بأن يرشده أو يعاونه أو يوصله إلى زوال ضره بما ينفعه مما هو أخبر منه به، كالحجام يحجبه ويقلع ضرسه، أو رجل صالح يدعو له، فهذه الأمور على هذا الوجه لم تقدح في صبره، لأن هذا كإخبار المريض الطبيب بحاله، وإخبار المبتلي في جسده ببلائه لمن يرجو أن يكون فرجه على يديه، وكذلك إخبار المظلوم لمن ينتصر به، وإخبار المبتلى في دينه لمن هو مسترشد الهداية، ليبين له طريق الهداية إن وفق لها. «وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل على المريض، سأله عن حاله، ويقول:

فصل: في أن شق الثياب ولطم الخدود ينافي الصبر والرضا

كيف تجدك؟» وهو استخبار منه واستعلام بحاله. وأما الأنين فهل يقدح في الصبر؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد، قال القاضي أبو الحسين: أصح الروايتين الكراهة، لما روي عن طاووس، أنه كان يكره الأنين في المريض. وقال مجاهد: يكتب على ابن آدم مما سطر به، حتى أنينه في مرضه. انتهى. وقال جماعة من العلماء: الأنين شكوى بلسان الحال، فينافي الصبر. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: قال لي أبي في مرضه الذي توفي فيه: أخرج إلي كتاب عبد الله بن إدريس، فأخرجت الكتاب، فقال: أخرج أحاديث ليث بن أبي سليم، فأخرجت أحاديث ليث بن أبي سليم، فقال: اقرأ علي أحاديث الليث، قال: قلت لطلحة: إن طاووساً كان يكره الأنين في المرض، فما سمع له أنين حتى مات، فما سمعت أبي أن في مرضه ذلك إلى أن توفي. والرواية الثانية أنه لا يكره ولا يقدح في الصبر، بل قد يقدح في الرضا. قال بكر بن محمد عن أبيه: «سئل الإمام أحمد عن المريض، يشكو ما يجد من الوجع! فقال: يعرف فيه شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، حديث عائشة: وا رأساه! وجعل يستحسنه» . وقال المروزي: دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وهو مريض، فسألته، فتغرغرت عينيه، وجعل يخبرني ما مر به في ليلته من العلة. قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ: اعلم أن الأنين على قسمين: أنين شكوى، فيكره، وأنين استراحة وتفريج، فلا يكره، والله أعلم. فصل: في أن شق الثياب ولطم الخدود ينافي الصبر والرضا ومما ينافي الصبر والرضا، ما يفعله أكثر الناس في زماننا عند المصيبة، من شق

ثيابهم، ولطم خدودهم، وخمش وجوههم، ونتف شعورهم، والتصفيق بإحدى اليدين على الأخرى، ورفع أصواتهم عند المصيبة. ولقد حضرت عند شخص، حين فارق الدنيا، وهو من الجند، فحين خرجت روحه، أتوا بجعبة نشاب، فكسروها بمجموعها، واحدة بعد واحدة عليه، وأتوا أيضاً بعدة الحرب فرموها عليه، وأنا مع ذلك أعظم وأقول لهم: هذا حرام، نهى الله ورسوله عن ذلك، وهذا فيه إضاعة مال، فقال بعضهم لي: لم يصبك ما أصابنا، فخرجت عنهم، ثم إنهم بعد ذلك ندموا على ما فعلوا من إتلاف ما أتلفوه. «ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى» لأن في تلك الحالة هيجان الحزن، واستغراق الذهن، وذهول العقل بما دهمه، وتمكن الشيطان منه، فإن الشيطان ـ لعنه الله دائماً ـ يتمكن من بني آدم عند ذهول عقلهم: إما بسكر كما وقع في قصة هاروت وماروت، وهي مشهورة حين دعتهما المرأة إل ىقتل الولد، أو السجود للصنم، أو شرب القدح من الخمر مراراً، وأنهما شربا القدح من المسكر، فلما شربا سكرا، فأتيا كل ما أمرتهما به. وكذلك ذهول العقل عند العشق، وعند الولاية، وعند كثرة المال، وعند المصيبة، فكل هذه الأمور العارضة للعبد في الغالب يحصل له بها ذهول العقل، فيتمكن الشيطان بها منه. نسأل الله العافية، ودوام العافية، والثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، «فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله في دعائه: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر» الدعاء المشهور. «وكان يقول: اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك» . فالثبات في الأمور مطلوب شرعاً، كما أن العبد نهي عن الأمور المذمومة من اللجاج والطيش، والعجلة والحدة، وافتقاد الحزن، وغير ذلك من الأمور المذمومة التي لا أحصيها عدداً. ويحاً لمن يقدم على الله تعالى مع هذه الأمور المذمومة التي نهى الشرع عنها، غير تائب منها، معتمداً على صومه وصلاته وحجه وعبادته، وهومع ذلك فرح مستبشر، كأنه قد جاز الصراط، وأعطي البراءة، وجاءه البشير من الله تعالى بالفوز والخلاص! ويحاً لمن بعتز بأعماله الظاهرة، وباطنه مثل المزابل! نسأل الله تعالى حسن التوفيق.

فصل: في البكاء والحزن الصامت لا ينافي الرضا والصبر

فصل: في البكاء والحزن الصامت لا ينافي الرضا والصبر وأما البكاء والحزن من غير صوت ولا كلام محرم، فهو لا ينافي الصبر والرضا، وقد تقدم لنا قريباً من ذلك. قال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} قال قتادة: كظيم على الحزن، فلم يقل إلا خيراً. مع قوله تعالى: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} وقوله تعالى عنه في أول السورة: {فصبر جميل} وقد «جاء في أثر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: من بث لم يصبر» لكن يعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من البكاء، ولم يناف حزنه وبكاءه صبره، فإنه عليه السلام ما شكا بثه وحزنه إلى مخلوق، وإنما شكاه إلى الله. وروى حماد بن سلمة، «عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ما كان من العين ومن القلب فمن الله والرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان» . قال خالد بن أبي عثمان: مات ابن لي، فرآني سعيد بن جبير مقنعاً، فقال لي: إياك والتقنع، فإنه من الاستكانة. وقال بكر بن عبد الله المزني: كان يقال: من الاستكانة الجلوس في البيت بعد المصيبة. وقال عبيد بن عمير: ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيئ، والظن السيئ. ومات ابن لبعض قضاة البصرة، فاجتمع إليه العلماء والفقهاء، فتذاكروا ما تبين به جزع الرجل من صبره، فأجمعوا أنه إذا ترك شيئاً مما كان يصنعه فقد جزع. وقال ابن عبد العزيز: مات ابن لي نفيس، فقلت لأمه: اتق الله واحتسبيه عند الله واصبري، فقالت مصيبتي به أعظم من أفسدها بالجزع.

فصل ـ في أن من يبتلي بالمصائب هو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين

وقال عبد الله بن مبارك ـ رحمه الله ـ: أتى رجل يزيد بن يزيد، وهو يصلي، وابنه في الموت، فقال: ابنك يقضي وأنت تصلي؟ فقال: إن الرجل، إذا كان له عمل يعمله، فتركه يوماً واحداً، كان ذلك خللاً في عمله. وقال ثابت: أصيب عبد الله بن مطرف بمصيبة، فرأيته أحسن شيء شارة وأطيبه. فصل ـ في أن من يبتلي بالمصائب هو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ولا بد أن يعلم المصاب، أن الذي ابتلاه بمصيبته، أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه، لم يرسل البلاء ليهلكه به، ولا ليعذبه، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به، ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحاً على بابه، لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعاً قصص الشكوى إليه. قال الشيخ الإمام العالم العارف المكاشف عبد القادر الكيلاني ـ رحمة الله عليه ـ لابنه، يا بني، إن المصيبة ما جاءت لتهلكك، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك، يا بني، القدر سبع، والسبع لا يأكل الميتة. انتهى كلامه. والمقصود: أن المصيبة كير العبد الذي يسبك بها حاصله، فإما أن يخرج ذهباً أحمر وإما أن يخرج خبثاً كله، كما قيل: سبكناه، وتحسبه لجيناً ... فأبدى الكير عن خبث الحديد فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا فبين يديه الكير الأعظم، فإذا علم العبد، أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها، خير له من ذلك الكير والمسبك، وأنه لا بد من أحد الكيرين، فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل، فالعبد، إذا امتحنه الله بمصيبة، فصبر عند الصدمة الأولى، كما ورد «في حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة عند قبر، وهي تبكي، فقال لها: اتق الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي ـ ولم تعرفه ـ فقيل لها:

فصل ـ في أن الشكوى والتحدث بالمصيبة ينافي الصبر والرضا

إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك يا رسول الله! قال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى» رواه البخاري. و «لفظ مسلم: أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: اتق الله واصبري، فقالت: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله! فأخذها مثل الموت، فأتت بابه، فلم تجد على بابه بوابين ... » وذكر تمام الحديث. فصل ـ في أن الشكوى والتحدث بالمصيبة ينافي الصبر والرضا ومما يقدح في الصبر والرضا، وينافيهما: إظهار المصيبة والتحدث بها وإشاعتها، سواء كان كلام بها بين الأصحاب أو غيرهم، اللهم إلا أن يقول لأصحابه أو لأقاربه: مات فلان، يعني والده أو ولده، ونحو ذلك، وما يريد به إظهار المصيبة، وإنما يريد إعلامهم لأجل الصلاة عليه وتشييعه ونحو ذلك، مما هو من فروض الكفايات ويحصل لهم بذلك القراريط من الأجر، وقد تقدم أن الإعلام بالميت، هل هو نعي أم لا؟ والمقصود أن كتمان المصيبة رأس الصبر. قال الحسن بن الصباح في مسنده: «حدثنا خلف بن تميم، حدثنا زفر بن سليمان، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة» وذكر أنه من بث لم يصبر. وروي من وجه آخر، «من حديث أنس ـ رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من كنوز البر كتمان المصائب، وما صبر من بث» . ولما نزل في إحدى عيني عطاء الماء، مكث عشرين سنة، لا يعلم به أهله، حتى جاء ابنه يوماً من قبل عينه التي أصيب فيها، فلم يشعر به، فعلم أن الشيخ قد أصيب. ودخل رجل على داود الطائي في فراشه، فرآه يزحف، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال: مه، لا تعلم بهذا أحداً. وقد أقعد قبل ذلك بأربعة أشهر لم يعلم بذلك أحد.

وشكا الأحنف إلى عمه وجع ضرسه، فكرر ذلك عليه، فقال: ما تكرر علي؟ لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة، فما شكوتها إلى أحد! ومن المنافاة للصبر والرضا: الهلع عند ورود المصيبة، وهو الجزع، قال الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا} قال الجوهري: الهلع: أفحش الجزع، وقد هلع بالكسر فهو هالع وهلوع. «وفي الحديث: شر ما في العبد شح هالع وجبن خالع» . قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ: هنا في هذا الحديث أمران: أمر لفظي وأمر معنوي. فأما اللفظي، فإنه وصف الشح بكونه هالعاً، والهالع صاحبه، وأكثر ما يسمى هلوعاً، ولا يقال: هالع له، فإنه لا يتعدى، وفيه وجهان: أحدهما ـ أنه على النسب، كقولهم: ليل نائم، وشر قائم، ونهار صائم ويوم عاصف، كله عند سيبويه على النسب، أي ذو كذا. والثاني ـ أن اللفظة غيرت عن بابها للازدواج مع خالع، وله نظائر. وأما المعنوي فإن الشح والجبن أردى صفتين في العبد، ولا سيما إذا كان شحه هالعاً، أي ملولة في الهلع، وجبنه خالعاً، أي قد خلع قلبه من مكانه، فلا سماحة ولا شجاعة، كما يقال: لا يطرد ولا يثرد، انتهى كلامه. وروى سعيد بن منصور في سننه: «حدثنا إسماعيل بن عياش، عن سليمان بن سليم، عن يحيى بن جابر، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يحبط الأجر في المصيبة؟ قال: تصفيق الرجل بيمينه على شماله والصبر عند الصدمة الأولى فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط» . «وذكر بإسناده أيضاً، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن القوم ليصابون بالمصيبة فيجزعون ويهلعون، فما يكون لهم من أجرها شيء فيمر بهم الرجل من المسلمين، فيسترجع، فيكتب الله عز وجل له

فصل ـ في أن الله تبارك وتعالى يختبر عباده بالمصائب

أجر ما أعطاه من تلك المصيبة» . وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أحمد بن عبد الأعلى، حدثني شيخ من آل ميمون بن مهران، أن الحجاج أصيب بابن له، فاشتد جزعه عليه، فدخل فغير ثيابه، ومس شيئاً من طيب، وجلس، وأذن للناس، فلم يتكلموا، فقال: حسبي ثواب الله من كل نكبة، وحسبي بقاء الله من كل هالك، تحدثوا. فصل ـ في أن الله تبارك وتعالى يختبر عباده بالمصائب والله تبارك وتعالى يبتلي عبده، ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وصبره ورضاه بما قضاه عليه، فهو سبحانه وتعالى يرى عباده إذا نزل بهم ما يختبرهم به من المصائب وغيرها، ويعلم خائنة أعينهم وما تخفي صدورهم، فيثيب كل عبد على قصده ونيته، وقد ذم الله تعالى من لم يتضرع إليه ولم يستكن له وقت البلاء، كما قال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} . والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه ولا يشكو إليه حاله، فإنه إذا كان سادات الخلائق، وهم الأنبياء المعصومون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قد أثنى الله تعالى عليهم حيث شكوا ما بهم إلى الله تعالى، فقال تعالى عن بعضهم: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} وأثنى على أيوب بقوله: {أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} ، وعلى يعقوب: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} وعلى موسى بقوله: {إني لما أنزلت إلي من خير فقير} . «وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله بقوله: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين» الحديث المشهور في دعاء الطائف، وهو دعاء عظيم، فالشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الصبر ولا الرضا، بل إعراض العبد بالشكوى إلى غيره من جهله بخالقه وعدم

رضاه وصبره بما ابتلاه الله تعالى به، والله تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه ويحب من يشكو ما به إليه. قيل لبعضهم: كيف تشتكي إلى من لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؟ فقال: قالوا: أتشكو إليه ... ما ليس يخفى عليه فقلت: ربي يرضى ... ذل العبيد لديه وذكر ابن أبي الدنيا، عن علي بن الحسن، قال: قال رجل: لأمتحنن أهل البلاء، قال: فدخلت على رجل بطرسوس، وقد أكلت الأكلة أطرافه، فقلت له كيف أصبحت؟ قال: أصبحت والله وكل عرق، وكل عضو، يألم على حدته من الوجع، وإن ذلك لبعين الله، أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل، وددت أن ربي قطع مني الأعضاء التي اكتسبت بها الإثم، وأنه لم يبق مني إلا لساني تكون له ذاكراً، قال: فقال له رجل: متى بدأت هذه العلة؟ قال: أما كفاك؟ الخلق كلهم عبيد الله وعياله، فإذا نزلت بالعباد علة، فالشاكي إلى الله ليس يشكي الله إلى العباد.

الباب الثاني والعشرون: هل المصائب مكفرات أم مثيبات

الباب الثاني والعشرون: هل المصائب مكفرات أم مثيبات وقد اختلف العلماء في هذا الباب اختلافاً كثيراً، وتباينوا فيه تبايناً شديداً، فذهب بعض العلماء إلى أنه يثاب على كل مصيبة، وذهب طائفة أخرى من العلماء إلى أنه لا يثاب على المصائب مطلقاً، وإنما يثاب على الصبر عليها، حتى قطع به ابن عبد السلام في قواعده، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من العلماء إلى أن إطلاق القول بالثواب، كلاهما يرد عليه ما يدفعه، وأن ثم فرقاً مؤثراً نذكره فيما بعد، إن شاء الله. وقد احتجت كل طائفة بظواهر مرجحة لما ذهبت إليه كما سنذكره بعد. احتجت طائفة من العلماء إلى أنه يثاب على كل مصيبة بقوله تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح.. } الآية. وفي الصحيحين، «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» ، الوصب: الوجع اللازم، ومنه قوله تعالى: {ولهم عذاب واصب} أي لازم ثابت، والنصب: التعب. وروى الحاكم في المستدرك «أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: المصاب من حرم الثواب» . وروى ابن ماجة «من حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الزهادة في الدنيا، بتحريم الحلال ولا بإضاعته، ولكن الزهادة في الدنيا، أن

تكون بما في يد الله، أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة، إذا أصبت بها، أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك» رواه الإمام أحمد، موقوفاً عن أبي مسلم الخولاني. وفي صحيح البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مامن مسلم، يموت له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة، بفضل رحمته إياهم» . و «رواه أحمد والنسائي: ما من مسلمين، يموت لهما ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، إلا غفر لهما» . وغير ذلك من الأحاديث مما اختصرته. قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرح مسلم عند قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يشاك بشوكة، فما فوقها، إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة» وفي رواية: «إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة» . وفي بعض النسخ «وحط عنه بها خطيئة» بغير ألف، وفي رواية «إلا كتب له بها حسنة أو حطت عنه بها خطيئة» . قال: وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين، فإنه قل أن ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور، وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقتها، وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات، وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء. وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء: أنها تكفر الخطايا فقط. ولم يبلغهم هذه الأحاديث الصحيصة الصربحة برفع الدرجات، وكتب الحسنات، انتهى كلامه. «ويؤيد ذلك قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ما رأيت رجلاً أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: إني لأوعك مثل رجلين منكم، وإنك لتوعك وعكاً شديداً، وقوله صلى الله عليه وسلم: أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل» . قال جماعة من العلماء: والحكمة في كون الأنبياء أشد بلاءً ثم الأمثل بالأمثل: أنهم مخصصون بكمال الصبر وصحة الاحتساب، والأنبياء معصومون من الخطايا فتعين الثواب، والله أعلم. وفي حديث المرأة التي كانت تصرع: دليل على أن الصرع يثاب عليه أكمل ثواب. وفي صحيح مسلم «قالت امرأة يا رسول الله، دفنت ثلاثة من الولد قال:

فصل ـ في سياق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

احتظرت بحظار من النار» . قال بعض السلف: فقد الثواب على المصيبة أعظم من المصيبة، فإنه قد «ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: المصاب من حرم الثواب» وقد تقدم. وتقدم في أثناء الكتاب أحاديث تشهد لهذا القول، والله أعلم. احتجت الطائفة الأخرى من العلماء ممن أطلق القول بأن المصائب لا يثاب عليها، وإنما يثاب على الصبر عليها. بقوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} قال ابن عبد السلام في قواعده: الثواب إنما يكون على فعل العبد لا على فعل الله فيه، قال تعالى: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} . فما حصل لهم من صلاة الله عليهم ورحمته لهم وهدايته إياهم بقولهم: {إنا لله وإنا إليه راجعون} فالاسترجاع هو سبب في حصول ما ذكر، وكذلك «حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل لملك الموت: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينيه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد» فحمده واسترجاعه هو سبب بناء البيت له في الجنة، وتسمية البيت كافية. قال القاضي عياض: وقد روي عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: الوجع لا يكتب به أجر إنما يكفر الخطايا فقط. فصل ـ في سياق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أما ما يحدثه الله من مصائب، فتارة بغير فعل الخلائق كالأمراض ونحوها، وتارة بفعلهم. وفصل الخطاب: أن المصائب إن تولدت عن عمل صالح، كما تتولد عن

الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه، فهذا يثاب عليه، فإن الإنسان يثيبه الله على عمله وعلى ما يتولد من عمله إذا أقدم على احتماله، فإن المجاهد قد أقدم على الجهاد وهو يعلم أنه يؤذى في الله عز وجل، وقد يناله ضرر في جهاده فتموت فرسه، أو يأخذ ماله، أو يضرب أو يشتم ونحو ذلك، كما قال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} ، فأخبر تعالى، أنه يكتب لهم عمل صالح، بما يصيبهم من التعب والجوع والعطش، ونحو ذلك الذي حصل لهم بسبب الجهاد في سبيل الله عز وجل، فهذه الأمور يغفر الله بها خطاياه، ويؤجر على هذه المصائب، لأنها حصلت بسبب جهاده فهي مما تولد من عمله، وما تولد عن عمله الصالح من المصائب يثاب عليها. وأما الجوع والعطش والتعب الذي يحصل من دون ذلك فلا يثاب إلا على الصبر عليه، فإنه ليس من عمله ولا متولداً من عمل صالح، لكن هو من المصائب التي يكفر الله بها خطاياه. وأما المصيبة بالولد، فالولد تولد عن جماعه الذي صان نفسه به عن الزنا، وقصد به النسل، وتكثير الأمة، وغض البصر عن المحارم، فإذا حصل له ذلك، ثم مات الولد، فقد أثيب عليه من جهة، وكفر الله به خطاياه من جهة، لأنه تولد عن عمله. وأما الأمراض والأسقام فهي تكفر الخطايا. وقد روي أن أبا عبيدة بن الجراح لما عادوه وقالوا: له أجر. فقال: ليس لي من الأجر مثل هذه، ولكن المرض حطة يحيط الله بها الخطايا. فهذا الذي ذكرته هو الفرق بين المصائب التي يثاب عليها، والمصائب التي لا يثاب عليها، فإن بعض الناس يظن أنه يثاب على كل مصيبة، ومن العلماء من يطلق القول بأن المصائب لا يثاب عليها، وإنما يصاب على الصبر عليها. ثم قال بعد ذلك بكلام كثير: فمن فعل فعلاً صالحاً باختياره، فأوذي، واحتسب ذلك الأذى، كان ذلك الأذى من

فصل ـ في قوله أيضا رحمه الله في أن المصائب نعمة من نعم الله تعالى

عمله الصالح الذي يثاب عليه، كالصائم إذا احتسب جوعه وعطشه. «وقد قال صلى الله عليه وسلم: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» والخلوف تولد عن صومه بغير اختياره، ولكن تولد عن عمل صالح، وكذلك القائم بالليل، إذا احتسب تعبه وسهره، فإن الأذى الذي يحصل باختيارك في طاعة الله، أنت جلبته على نفسك باختيارك طاعة الله، فليس هو كمن أوذي بغير اختياره، فإن ذلك أذاه مصيبة محضة، لكن هي حق له على الظالم. وقال الشيخ ـ رحمه الله ـ «في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له» . وهي نفسها تكفر خطاياه ويؤجر على الصبر عليها، ففيها له مغفرة من جهة ما يكفره من الخطايا. وله فيها رحمة من جهة ما يؤجر على الصبر عليها، لا سيما إذا اقترن بها توبة وإنابة إلى الله، وتوكل عليه وتوحيد له وإخلاص الدين له، فإنها تكون من أعظم النعم، ومصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله. وقال بعض السلف: يا ابن آدم، لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها قرع باب سيدك. «وفي الحديث إذا قالوا للمرض: اللهم ارحمه، يقول الله عز وجل: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟» . وفي الأثر: يا ابن آدم، البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك. انتهى. والمقصود من كلام الشيخ ـ رحمه الله ـ أن كل ما تولد عن عمله الصالح من المصائب أثيب عليه، بخلاف المصائب التي لم تتولد عن عمله، فإنها مكفرات لا مثيبات. ت فصل ـ في قوله أيضاً رحمه الله في أن المصائب نعمة من نعم الله تعالى قال الشيخ رحمه الله: وكثير من الناس لا يعرف النعمة إلا ما يلتذ به في دنياه، كما قال بعض السلف: من لم يعرف نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه، فقد قل علمه، وحضر عذابه. فمن الناس من يرى النعمة في بدنه فقط، بالأكل

والشرب والنكاح، ومنهم من يرى النعمة بالرئاسة والجاه ونفاذ الأمر والنهي وقهر الأعداء، ومنهم من يرى النعمة في جميع الأموال والقناطير المقنطرة، وهؤلاء من جنس الكفار، يرون هذه نعماً، وأعلى من هؤلاء: من يرى النعمةفي الإيمان والعمل الصالح، لكن لا يرى الأمر بذلك والجهاد عليه نعمة، بل يرى فيه من المضار ما يوجب تركه والذين يرون هذه النعمة: منهم من لا يراه نعمة إلا مع السلامة والغنيمة، فإن جرح أو قتل بعض أولاده، أو أخذ ماله، عد ذلك مصيبة لا نعمة. وحجة هؤلاء كلهم أن النعمة ما يتنعم به العبد، وهذه الأمور تؤلم النفس، فلا تكون من النعم، بل من المصائب، ولا ريب أنها من المصائب، باعتبار ما يحصل فيها من الألم، ولهذا أمر بالصبر عليها، لكن لا منافاة بين كون الشيء مصيبة باعتبار، ونعمة باعتبار، فباعتبار ما يحصل له من الأذى هو مصيبة، وباعتبار ما حصل به من الرحمة نعمة، وهذا لأنه إذا قيل: هذا يكفر به الخطايا ويؤجر عليها ويؤجر على الصبر عليها كانت نعمة، وهذا بمنزلة شرب المريض الدواء الكريه، هو مصيبة باعتبار مرارته، وهو نعمة باعتبار إزالته للمريض الذي هو أشد ضرراً فيه، وأدنى الشرين إذا زال أعظمهما كان نعمة، ومن استعمل نعمة الله في المعاصي، كانت شراً في حقه، لأنها جرته إلى العذاب الذي هو أعظم من تلك اللذة كمن أكل عسلاً فيه سم، فإن ضرر السم أعظم من حلوة العسل، والله أعلم. انتهى كلامه.

الباب الثالث والعشرون: في الصدقة عن المصاب به وأفعال البر عنه

الباب الثالث والعشرون: في الصدقة عن المصاب به وأفعال البر عنه وهذا الباب مما يطيب قلوب أهل المصائب على مصابهم، فإنهم إذا بدلوا بدل الحزن والبكاء ولطم الخدود وشق الثياب والنياحة، الصدقة والدعاء والاستغفار وقراءة القرآن والصلاة والصيام، ونحو ذلك من أفعال القرب، وعلموا وصولهم إلى موتاهم، وإنه يحصل لهم بذلك: إما تكفير سيئات، أو رفع درجات، أو كلاهما ـ حصل لهم السرور بذلك والفرح الزائد. وهذا الباب منعقد على إهداء القرب إلى الموتى والأحياء، فنذكر اختلاف العلماء في وصول ثواب ذلك إليهم، فمن أنواع القرب: قرب لم يختلف في وصول ثوابها إلى الموتى، وثم قرب اختلف العلماء في وصول ثوابها اختلافاً كثيراً، فنذكر ما يسره الله تعالى في ذلك، فإن ذكر الاختلاف والبسط، سبيل ذلك الكتب المطولة. فصل: في ذكر اختلاف الناس في وصول ثواب إهداء القرب إلى الموتى أما الدعاء والاستغفار والصدقة وقضاء الدين وأداء الواجبات، فلا أعلم خلافاً في وصولها، حكاها غير واحد من العلماء، ومن العلماء من يشرط في الوصول إذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة. قال الله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا} ، وقال تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} «ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين مات أبو سلمة،

فصل: في الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب

ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم للميت الذي صلى عليه، وشرع الله ذلك له، وشرعه لكل من صلى على ميت بقوله: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وكذلك: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه» الدعاء المشهور المعروف. وأما وصول العبادات المالية المحضة، كالعتق والصدقة ونحوهما: فجمهور العلماء من أهل السنة والجماعة على وصول ثوابها إلى الموتى، كما يصل إليهم الدعاء والاستغفار، وأما وصول ثواب الأعمال البدنية كالصوم والصلاة والقراءة ونحو ذلك، فالصحيح الوصول، وهو مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي، لما يأتي من الأحاديث بعد إن شاء الله. فصل: في الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب قد تقدم قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} . وقال تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} ، وقال تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} فلو لم ينفعهم ذلك، لم يخبر الله تعالى به ترغيباً. وأما الأحاديث، فمنها: ما روى الإمام أحمد «من حديث الحسن بن سعد بن عباده، أن أمه ماتت، فقال: يا رسول الله، ماتت أمي، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء» ، قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة. ورواه النسائي أيضاً. ومنها: «عن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا يس على موتاكم» . رواه أبو داود وابن ماجة، ورواه الإمام أحمد، و «لفظه: يس قلب

القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله تبارك وتعالى والدار الآخرة إلا غفر الله له، واقرؤوها على موتاكم» . وفيه دليل على وصول القراءة إلى الميت فإنه صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقرأها على موتانا، وأمره في هذا المكان أمر إرشاد لا يجوز أن يعرى عن فائدة، ولا فائدة للعبد بعد موته أعظم من الثواب، فإنا نعلم يقيناً، أن الميت من أحوج الناس الى ما يقربه من رحمة الله، ويباعده من عذاب الله، وقد امتنع عليه ذلك بعد موته بفعل نفسه، فما بقي يحصل له ذلك إلا بفعل غيره، والحصول هو الثواب المترتب على القراءة، والله أعلم. فإن قيل: قد فسر جماعة من العلماء أن المراد بقراءة يس عند الاحتضار للمسلم الذي سيموت. وقد ذهب الى هذا جماعة من العلماء حتى الشيخ مجد الدين ابن تيمية الحراني بوب عليه في كتابه المنتقى. قيل: هذا خلاف الحقيقة، فإنه إذا حمل على من سيموت يكون حمل اللفظ على مجازه، ومعلوم أن حمل اللفظ على حقيقته أولى من حمله على مجازه، فإن سلم أنه أريد به المحتضر، فهو حجة على المخالف المانع من وصول ثواب القراءة إلى الميت، فإن قول المخالف في أن الحي لا ينتفع بعمل الغير، أشد من قوله في الميت. فإن قيل: إنما يحصل له به راحة وسرور كالتذاذة به في الدنيا. قلنا: هذه دعوى تفتقر إلى دليل، والأصل عدمه، بل نقول: أي راحة وسرور أعظم من ثواب يحصل للميت يرفع درجاته أو يحط عنه سيئاته؟ وقد أفردت لهذا الكلام جزءاً وسميته الدر المنتخب في إهداء القرب فمن رام كشف ذلك فليطلبه من محله، وما نذكره هنا على سبيل التنبيه. ومنها ما روي عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن العاص بن وائل، نذر أن ينحر في الجاهلية مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين، «وأن عمراً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: أما أبوك، فلو أقر بالتوحيد، فصمت عنه وتصدقت عنه نفعه ذلك» رواه الإمام أحمد، وهو دليل على وصول أفعال الخير إلى الميت.

ومنها: «عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات ولم يوص، أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم» . رواه مسلم والإمام أحمد والنسائي وابن ماجة. ومنها: «عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رجلاً، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم» . رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد. و «عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما على أحدكم، إذا أراد أن يتصدق بصدقة تطوعاً، أن يجعلها عن والديه، إذا كانا مسلمين، فيكون لوالديه أجرها، وله مثل أجورهما، من غير أن ينقص من أجورهما شيء» . رواه حرب في مسائله بسنده. وروى ابن المنذر بإسناده، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها أعتقت عن أخيها عبد الرحمن عبداً بعد موته. وروى الدارقطني، وغيره، «عن عطاء بن أبي رباح، مرسلاً، أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أبي مات، أفأعتق عنه؟ قال: نعم» . وروى الدارقطني أيضاً، عن الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـأنهما كانا يعتقان عن أبيهما علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بعد موته. «عن ابن أسيد، مالك بن ربيعة الساعدي، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وافتقاد عهدهما بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقيهما» . رواه أبو داود، وهذا لفظه، وابن ماجة.

فصل ـ من الأدلة المستحسنة قوله صلى الله عليه وسلم في الأضحية: بسم الله والله أكبر

فصل ـ من الأدلة المستحسنة قوله صلى الله عليه وسلم في الأضحية: بسم الله والله أكبر ومن الأدلة المستحسنة، «قوله صلى الله عليه وسلم في الأضحية لما ضحى بكبشين، فلما ذبح أحدهما، قال: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عن محمد وآل محمد، ولما ذبح الثاني، قال: اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي» . وفي رواية ابن ماجة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موسومين، فذبح أحدهما عن محمد وآل محمد، وذبح الآخر عن أمته وعمن شهد له بالبلاغ، ففيه دليل على أن النفع قد نال الأحياء والأموات من أمته بأضحيته صلى الله عليه وسلم، وإلا لم يكن في ذلك فائدة، فإنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى. «وقال للذي قضى الدين عن الميت: الآن بردت عليه جلدته» . «وحديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما، فكان لا يستتر من البول ـ وفي قول لا يستنزه من البول ـ أما الآخر، فكان يمشي بالنميمة، ثم دعا بجريدة رطبة، فشقها نصفين، ثم غرس على كل قبر واحدة. وقال: إنه ليخفف عنهما ما لم ييبسا» . قال الخطابي: هذا عند أهل العلم، محمول على أن الأشياء، ما دامت على أصل خلقتها أو خضرتها وطراوتها، فإنها تسبح الله عز وجل، حتى تجف رطوبتها، أو تحول خضرتها، أو تقطع من أصلها، فإذا خفف عن الميت بوضعه صلى الله عليه وسلم الجريدة على قبره، لكونها تسبح الله، فبطريق الأولى والأحرى أن تخفف القرب على اختلاف أسبابها، وإن أعظم القرب كلام رب العالمين، الذي نزل به الروح الأمين، على قلب أشرف المرسلين، وقد أوصى بريدة ـ رضي الله عنه ـ أن يجعل جريدة على قبره، ذكره البخاري. وقد استحب ذلك جماعة من العلماء من أصحابنا وغيرهم، وأنكره آخرون. وقال الشيخ محي الدين النووي في شرح مسلم: ذكر أن العلماء استحبوا القراءة، لخبر الجريدة، لأنه إذا أرجي التخفيف لتنسبيحها، فالقراءة أولى. انتهى كلامه.

فصل ـ في قوله تعالى " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى "

فصل ـ في قوله تعالى " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " فصل ـ في قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأما احتجاج بعض من خالف، من أصحاب الشافعي ومالك، بهذه الآية على أن الميت لا ينتفع بثواب من سعي غيره، «لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له» . قالوا: ولأن نفع العبادة لا يتعدى فاعلها. فيقال لهم: قد ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأمة، أن الميت يصلى عليه ويدعى له ويستغفر له، وهذا من سعي غيره، وكذلك ما وافقوا عليه وسلموه من أن ينتفع بالصدقة والعتق وهو من سعي غيره، فما كان جوابهم على مورد الإجماع، فهو جواب الباقين عن محل النزاع، وللناس في ذلك أجوبة متعددة سبيلها الكتب المطولة، ولكن تحقيق ذلك أن يقال: إن الله تعالى لم يقل: إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه، وإنما قال: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وهو لا يملك إلا سعيه، ولا يستحق غير ذلك، وإنما سعي غيره فهو له، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه، ويملك نفع نفسه بمال غيره. وقد روي عن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} ، فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء، ولا يصح هذا، لأن لفظ الآيتين لفظ خبر، والأخبار لا تنسخ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: اللفظ المنقول عن ابن عباس هو من تفسير علي بن طلحة الوالبي عنه، وقد قيل: إنه لم يسمعه من ابن عباس، وقال عكرمة: هي خاصة بقوم إبراهيم وموسى دون هذه الأمة، وشرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وسعي لهم. قال الشيخ: وهذا ضعيف، لأن الله إنما ذكر هذا ليخبر به هذه الأمة، وليعلموا أن هذا حكم شامل، ولو كان هذا

مخصوصاً بأمة موسى وإبراهيم لم يقم به حجة، على أن من أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم وجميع المسلمين بما في هذا القوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وأيضاً، فمن أين لهم أن تلك الأمة، لم تكن تنفعهم الصدقة عنهم بعد الموت والدعاء لهم؟ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنا إذا قلنا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أصابت كل عبد لله في السماء والأرض، ونحن إذا ذكرنا الصالحين من الأمم وترحمنا عليهم، وصل ذلك إليهم، وليس هو من سعيهم، وإبراهيم قد دعا لأولاده بنص القرآن، وليس ذلك من سعيهم. وقال الربيع بن أنس: المراد بالإنسان والكافر، وهذا ليس بشيء، لأن سياق الآية يناقضه بقوله: {ثم يجزاه الجزاء الأوفى} ، وهذا يتناول المؤمن قطعاً، فلو عكس كان أولى، مع أن حكم العدل، لا فرق فيه بين مؤمن وكافر. قال الحسن بن الفضل: ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، فأما من طريق الفضل فجائز أن يزيده الله ما شاء. قال شيخ الإسلام ابن تميمة: وهذا القول أمثل من غيره، ومعناه صحيح، لكنه لم يفسر لفظه الآية، فإن قوله: ليس للإنسان: نفي عام فليس له إلا ذلك، وهذا هو العدل، ثم إن الله قد ينفعه ويرحمه بغير سعيه من جهة فضله وإحسانه، وإن كان ذلك ليس له، ثم قال الشيخ: وقال ابن الزاغوني، إنه ليس له إلا سعيه، غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل الشيء نفسه، وتارة يكون في تحصيل سببه، مثل سعيه في تحصيل قرابة أو نكاح ليحصل له ولد صالح يدعو له، أو صديق صالح، وتارة يسعى في خدمة أهل الدين والعبادة، فيكتسب محبتهم بسب سعيه في ذلك. قال الشيخ رحمه الله: وهذا أمثل من غيره، وقد استحسنه ورجحه أبو البركات وهو ضعيف، فإنه قد ينتفع بعمل غيره من لم يحصل سبباً، وبسط القول على هذا وعلله بأمور، وذكر ابن أبي الزغواني قولاً آخر، قال: وأن ليس

فصل ـ في أن الدفن بجوار الصالحين يجلب نوال بركتهم

للإنسان، بمعنى: وأن ليس عليه إلا ما سعى. قال الشيخ: وهذا من أرذل الأقول فإنه قلب لمعنى الآية، فإنه ليس للإنسان إلا ما سعى، وتمامها {وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى} أفترى السعي الصالح لم يدخل في هذه؟ ! وبسط القول على هذا وبين فساده، وقد ذكرنا هذه الأقوال ورتبناها مبسوطة في إهداء القرب. فصل ـ في أن الدفن بجوار الصالحين يجلب نوال بركتهم ومما يستأنس به في وصول الثواب، أنه يستحب الدفن عند الصالحين، ليناله بركتهم، ونص الإمام أحمد، على أن الميت يتأذى بالمنكر عنده. وقد روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: جنبوا الميت جار السوء. وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته. لكن: هذان الأثران، وإن كان فيهما ضعف، ففيهما دلالة على المسألة، فإن الميت إذا تأذى بالمنكر انتفع بالخير بطريق الأولى. وقد ثبت في الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» فالله تعالى أحكم وأعدل من أن يوصل عقوبة المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة. والله تعالى أعلم. فصل: في استحباب القراءة عند القبر وما ورد فيها تستحب القراءة عند القبر، لأنه قد صح، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه أوصى إذا دفن، أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها. والمشهور عن الإمام أحمد، أن القراءة في المقبرة وعند القبر لا تكره، اختاره أبو

فصل ـ فيما نص عليه الإمام أحمد بن حنبل في استحباب الدعاء للميت عقب دفنه

بكر عبد العزيز، والقاضي، وجماعة من أصحابنا، ذكره بعض أصحابنا، وعليه عمل الناس في زمننا هذا. قال في المستوعب: ولا تكره القراءة على القبر. وكان أحمد رحمه الله يكرهما، ثم رجع رجوعاً أبان به عن نفسه، وقال: يقرأ، بعد أن نهى عن ذلك. ومن أصحابنا من يتمسك بكراهته أولاً، ويجعل المسألة على روايتين. ثم قال بعد ذلك: فإن أهدي إليه الثواب نفعه، انتهى كلامه. وهذا مذهب الحنفية، لكن اختلف أصحابهم هل تستحب القراءة أم تباح؟ وجهان لهم. وروي عن الإمام أحمد أن القراءة لا تكره حال الدفن دون غيره. وروي عنه الكراهة مطلقاً، اختارها الإمام عبد الوراق وأبو حفص العكبري. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الكراهة نقلها الجماعة عن الإمام أحمد وهي قول جمهور السلف، وعليها قدماء أصحابه كالمروزي وغيره. وقال ابن عقيل وابن المنجا ـ تعليلاً لرواية الكراهة ـ بأنها مدفن النجاسة كالحش ونحوه. انتهى كلامهما. وذكر بعض أصحابنا، عن الخلال، أنه قال: المذهب رواية واحدة، أن القراءة عند القبر لا تكره. انتهى. لكن القراءة على القبر، ليست من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، والله أعلم. فصل ـ فيما نص عليه الإمام أحمد بن حنبل في استحباب الدعاء للميت عقب دفنه نص الإمام أحمد، على أنه يستحب الدعاء للميت عقب دفنه. ثم قال أحمد: قد فعله علي بن أبي طالب، والأحنف بن قيس، ويروى «عن عثمان بن عفان، أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» . رواه أبو داود.

وروى الطبراني «من حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على القبر، بعد ما يسوى عليه التراب، فيقول: اللهم نزل بك صاحبنا، وخلف الدنيا خلف ظهره، اللهم ثبت عندالمسألة منطقة. ولا تبتله في قبره بما لا طاقة له به» ويروى أن علياً ـ رضي الله عنه ـ كان يقول ـ إذا سوي على الميت التراب، عند شفير القبر، بعد ما يدفن ـ: اللهم عبدك وولد عبدك، نزل بك، وأنت خير منزول به، اللهم أوسع له مدخله، واغفر له ذنبه، فإنا لا نعلم إلا خيراً، وأنت أعلم به. رواه حرب الكرماني في مسائله. وكان أنس ـ رضي الله عنه ـ إذا سوى على الميت قبره، قام عليه، فقال: اللهم، عبدك نزل بك، فارأف به وارحمه، اللهم، جاف الأرض عن جنبيه، وافتح أبواب السماء لروحه، وتقبل منه بقبول حسن، اللهم، إن كان محسناً فضاعف له الحسنات، أو قال: ـ فزد له في إحسانه ـ وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه. رواه الإمام أحمد، والطبراني، وغيرهما. وذهب الشافعي أيضاً إلى استحباب الدعاء عقب الدفن. وقال أكثر المفسرين، في قوله عز وجل، في حق المنافقين: {ولا تقم على قبره} : معناه بالدعاء والاستغفار بعد الفراغ من دفنه، وكذلك ذكر جماعة من المفسرين: لما هم النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لعمه أبي طالب لما مات، وهم بعض الصحابة بالاستغفار لأبويه، أنزل الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} الآية، فلولا أن ذلك نافع للمؤمنين كما تقدم، لم يكن لذلك معنى، بل لما نهى عنه المشركين، دل على وقوعه للمؤمنين ونفعه لهم. وقال محمد بن حبيب التمار: كنت مع أحمد بن حنبل في جنازة فأخذ بيدي،

فصل ـ هل يصح إهداء ثواب نوافل العبادات للمسلم الحي؟

وقمنا ناحية، فلما فرغ الناس من دفنه جئنا إلى القبر، فجلس ووضع يده على القبر وقال: اللهم، إنك قلت في كتابك: {فأما إن كان من المقربين} فقرأ إلى آخر السورة، اللهم، وإنا نشهد أن هذا فلان بن فلان ما كذب بك، ولقد كان يؤمن بك وبرسولك، اللهم، فاقبل شهادتنا له، ودعا له، ثم انصرف. فصل ـ هل يصح إهداء ثواب نوافل العبادات للمسلم الحي؟ وهذه مسألة لا تكاد تظفر بها في كتاب مشهور، لغرابتها، فذكر ابن تميم في كتابه، فذكر وصول الثواب إلى الميت، قال: وفي الحي وجهان. وذكر لي بعض فضلاء الحنفية، أن وصول القرب إلى الحي مذهبهم، والدليل على الوصول قوله تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم} ، «وأيضاً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون، مازال يدعو بعضهم لبعض عموماً وخصوصاً، لأحيائهم وأمواتهم، من غير نكير، ولأنه مشروع في دعاء الميت إلى يوم القيامة في قوله: اللهم اغفر لحينا وميتنا» . قال القاضي أبو يعلى: وليس يعرف عن الإمام أحمد رواية في الفرق بين الحي والميت، بل ظاهر قوله يعمهما، وقد دل عليه الكتاب والسنة في الدعاء والاستغفار للتساوي فلا فرق. وقال الشيخ شمس الدين بن عبد القوي في مجمع البحرين: هذا ليس له نكير، فهو إجماع، ولا شبهة لمن قال بعدم الجواز. انتهى كلامه. وقال ابن عقيل في المفردات: إن القراءة ونحوها لا تصل إلى الحي، فإنه يفتح مفسدة عظيمة، فإن الأغنياء يتكلمون عن الأعمال ببذل الأموال التي تسهل لمن ينوب عنهم، فيفوتهم أسباب الثواب بالاتكال على الثواب، وتخرج أعمال

الطاعات عن بابها إلى المعاوضات. انتهى كلامه. فلو قال قائل: نحن نلتزم ذلك، لوروده في الكتاب والسنة؟ ونقول: ذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

الباب الرابع والعشرون: في ذكر عمارة القبور

الباب الرابع والعشرون: في ذكر عمارة القبور وقد اشتغل بعض أهل زماننا، ممن أصيب بموت أقاربه، ببناء قبورهم وتبليطها وتجصيصها، وبناء التربة المحتوية على القبور وتحسينها وتزويقها ويزرعونها أنواع الرياحين، ويصعدون إليها في الغالب كل خميس بالأهل والأقارب وملاذ الأطعمة وأنواعها، ويظنون أن ذلك قربة وطاعة إلى الله عزو جل، وربما يقولون: في هذه الأمور تسلية لنا عن الموتى. وما علموا أن هذه الأمور من البدع المكروهة المنهي عنها، وأن من البدع تعظيم القبور وتبليطها وتجصيصها، وبناء القباب عليها، كل هذا من البدع الذي كرهه السلف والعلماء، وهو مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى أبو داود والترمذي «من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه» زاد الترمذي: وأن يكتب عليه وأن يوطأ. وحسنه وصححه. ولفظ أبو داود وأن يقعد عليه. وقد بعث النبي علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن لا يدع تمثالاً إلا طمسه، ولا قبراً مشرفاً إلا سواه. وعن الهياج الأسدي، قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ اذهب، فلا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. رواه أبو داود والترمذي. فالسنة تسوية هذه القبور المشرفة المحجرة المطينة المجصصة. وكذلك، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب عليه، ونهى عن اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، واشتد نهيه صلى الله عليه وسلم حتى لعن فاعل ذلك، ونهى عن الصلاة إلى القبور، حتى نهى أمته أن يتخذوا قبره مسجداً أو عيداً.

فصل ـ في أن العمارة ليست من الظاهر بل عمارة الأحياء والأموات في الباطن

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ الناس عند القبور، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري ومسلم «من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وجلسنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس، وجعل ينكت بمخصرته، وقال: ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا وسددوا وقاربوا، وكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ الآية: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى} » . «وفي الصحيح أيضاً: أنه كان يقف عند الدفن ويقول: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» . فصل ـ في أن العمارة ليست من الظاهر بل عمارة الأحياء والأموات في الباطن وليعلم، أن عمارة الأحياء والأموات ليست من خارج، «فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» فعمارة القلب هي العمارة النافعة، والميت في قبره كذلك، ليست بزخرفة القبر ولا التربة ولا تزويقها، وإنما العمارة بالصدقة عن ساكنها وأفعال القرب عنه، وقد تقدم هذا في الباب الذي قبله. أما علم، أن القبر الذي يزخرف ظاهره، فإن باطنه مظلم ضيق، وقد طرح فيه، من هو أحب أقاربه إليه فريداً وحيداً، مستوحشاً من غير وسادة ولا تمهيد، وقد باشر الثرى وواجه البلى، وترك دنياه بالورى، ونبذ منها ما كان بيده بالعرا، مع حبيب تركه، وقرين أسلمه، فكل ما ذكرته لك يا أخي يفطم النفوس عن الشهوات، وتعلم أن عمارة البواطن أولى من عمارة الظواهر، وهي العمارة النافعة في يوم القارعة. فإذا بحثت عن الحقيقة، ونظرت

فصل ـ في بكاء عثمان رضي الله عنه على القبور

بعين البصيرة، علمت أنك عن قريب صائر إلى ما صار إليه، وقادم على ما قدم عليه، فإن العبد بينما هو يمرح في أمنيته، غافلاً عن يوم مصرعه، إذ هجمت عليه المنية، فهتكت أستاره، وكسفت أنواره، وطمست أعلامه وآثاره، فأخرجته من قصر مشيد وبيت حميد، مزخرف نضيد، إلى حفرة من الأرض، كحفرة أخيه أو ولده أو غيرهما، مظلمة ضيقة الجوانب، مملوءة من الرعب والفزع، فإما هي روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، أعاذنا الله منها. قيل لبعض الزهاد: ما أبلغ الموعظة؟ قال: النظر في محلة الأموات. فإذا كانت القبور النظر إليها موعظة، وهي أول منازل الآخرة، وعبرة لأهل الدنيا، فلا ينبغي التزين ولا التزخرف، ولا ما يفعله غالب الأغنياء من الأمراء والتجار، وغيرهم، من ضرب الخام والخيام وغيرهما في الترب، ووضع البسط والفرش تحت ذلك وينامون عليها، وإخوانهم تحت ذلك، على التراب في حفرة ضيقة مظلمة، فأي موعظة تعظ هؤلاء بموتاهم؟ ! بل هذه غفلة، نسأل الله تعالى السلامة منها. فصل ـ في بكاء عثمان رضي الله عنه على القبور «وكان عثمان رضي الله عنه ـ إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟ ! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه» . «وروى الترمذي في جامعه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه» وروى الترمذي أيضاً، «من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاه، فرأى ناساً كأنهم يكتشرون، فقال: أما إنكم لو

أكثرتم ذكر هاذم اللذات ـ يعني الموت ـ لشغلكم عما أرى، فأكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت، فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه، فيقول: أنا بيت الغربة، وأنا بيت الوحدة، وأنا بيت التراب، وأنا بيت الدود، فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلاً، أما إن كنت لأحب من مشى على ظهري إلي، فإذا وليتك اليوم وصرت إلي، فسترى صنيعي بك، فيتسع له مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر، قال له القبر: لا مرحباً ولا أهلاً، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي، فإذا وليتك اليوم، فسترى صنيعي بك، فيلتئم عليه حتى يلتقي عليه وتختلف أضلاعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه فأدخل بعضها في بعض، قال: ويقيض له سبعون تنيناً، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض، ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فينهشنه ويخدشنه، حتى يفضى به إلى الحساب» . «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار» . وروى الحاكم في كتاب الكنى، والقاسم بن أصبغ، «من حديث أبي الحجاج الثمالي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول القبر للميت إذا وضع فيه: ويحك يا ابن آدم! ما غرك بي؟ ألم تعلم أني بيت الفتنة، وبيت الظلمة، وبيت الوحدة، وبيت الدود؟ ما غرك بي يا ابن آدم؟ ! فإن كان مصلحاً، أجاب عنه مجيب القبر: فيقول: أرأيت إن كان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؟ فيقول القبر: إني أعود عليه خضراً ويعود جسمه نوراً، وتصعد روحه إلى رب العالمين» . وقال مجاهد: أول ما يكلم ابن آدم حفرته، تقول أنا بيت الدود، وبيت الوحدة، وبيت الوحشة، وبيت الظلمة، وبيت الغربة! هذا ما أعددت لك يا ابن آدم فما أعددت لي؟ ! وقال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أدخل قبري! وكان جعفر الصادق ـ رضي الله عنه ـ يأتي القبور ليلاً، ويقول: يا أهل القبور، ما لي إذا دعوتكم لا تجيبون؟ ثم يقول: حيل والله بينهم وبين الجواب، وكأني

فصل ـ في عدم استطاعة التمييز بين السعيد والشقي في القبر

أكون مثلهم، وأدخل في جملتهم. ثم يستقبل القبلة حتى طلوع الفجر. وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمة الله عليه ـ لبعض جلسائه: يا فلان، لقد أرقت البارحة تفكيراً بالقبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث ليال في قبره، لاستوحشت منه بعد طول الأنس به، ولرأيت بيتاً تجول الهوام فيه، ويجري فيه الصديد، وتخرقه الديدان، مع تغير الريح وتقطع الأكفان، وكان ذلك بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب. ثم شهق شهقة خر مغشياً عليه. وقال بعض الحكماء: أربعة أبحر لأربع: الموت بحر الحياة، والنفس بحر الشهوات، والقبر بحر الندامات، وعفو الله بحر الخطيئات، فنسأل الله العظيم أن يجعل الله القبر خير بيت نعمره ونسكنه! فصل ـ في عدم استطاعة التمييز بين السعيد والشقي في القبر واعلم، أنه لو دخل شخص إلى المقابر المزخرفة، ليميز السعيد من الشقي، ما علم هذا من هذا، وما يعلمه إلا علام الغيوب، بل قد يكون قبراً من القبور قد درست أعلامه، وقد بقي ممشى للدولاب، وصاحبه في أعلى الجنان، وقد يكون قبراً مزخرفاً، وقد عليت عليه القباب والبشخانات الحرير، وصاحبه في نار جهنم، بل نقول: لو دخل الشيخ المقابر، لم يميز قبر الذكر من الأنثى، ولا الشيخ من الشاب، ولا الحر من العبد، فإذا كان هذا التمييز الذي يمكن الشخص العاقل أن يميز بين هؤلاء في الحياة الدنيا، قد أبهم علينا بعد الموت، فكيف نميز السعيد من الشقي؟ ويشبه هذا ما روي، أن الإسكندر مر بمدينة قد ملكها عدة ملوك، وبادوا، فقال الإسكندر: هل بقي من نسل أولئك الملوك، أحد؟ فقيل: ما بقي منهم إلا رجل واحد يأوي المقابر، فدعا به، فلما أحضره قال له: ما حملك على لزوم المقابر؟ قال: أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم، فوجدت الكل سواء. قال له الإسكندر: هل لك أن تتبعني، فأجيز لك بشرف آبائك، إن كانت

لك همة عظيمة؟ فقال: إن لي همة عظيمة بشرط: إن كانت بغيتي عندك تبعتك. قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت فيها، وشباب ليس معه هرم، وغنى ليس معه فقر، وسرور ليس معه حزن. قال الإسكندر: ليس ذلك عندي ولا بيدي، فقال: أي خير أرجوه عندك، إن لم يكن عندك هذه الأشياء؟ فامض لشأنك، ودعني أطلب ذلك ممن يملكه، وهو عنده. ثم عاد إلى مكانه، ولم يلتف إلى الإسكندر. كان عطاء السليمي ـ رحمه الله ـ إذا جن الليل خرج إلى المقابر، فيقول: يا أهل القبور، متم، فوا موتاه، وعانيتم أعمالكم، فوا عملاه، ثم يقول: غداً يكون عطاء في القبور، فلا يزال ذلك دأبه حتى يصبح. وقال سفيان الثوري: من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار. ومر علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بالمقابر، فوقف عليها قليلاً، فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع، وبكم عما قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنا وعنهم، طوبى لمن ذكر المعاد، للحساب، وقنع بالكفاف، ورضي في جميع أحواله عن الله تعالى. ثم قال: يا أهل القبور، أما الزوجات فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندك، فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى. ويروى، أن رجلاً دخل على عمر بن عبد العزيز ـ رحهم الله ـ فرآه قد تغير من كثرة العبادة، فجعل يتعجب من تغير لونه واستحالة صفته، فقال: له عمر: يا ابن أخي، وما تعجبك مني؟ ! فكيف لو رأيتني بعد دخول قبري بثلاث؟ وقد خرجت الحدقتان فسالتا على الخدين، وتقطعت الشفتان، وتقلصت عن الأسنان، وخرج الصديد والدود من المنخرين والفم، وانتفخ البطن فعلا على الصدر، لو رأيت ذاك مني فهو أعجب مما رأيته الآن.

واعلم ـ رحمك الله ـ أنه من علم مصيره إلى هذه الحفرة المظلمة الموحشة، لم يبالغ في تحسين ظاهرها، مع علمه بما يؤول صاحبها، إليه، مع ترافةجسمه وحسن منظره، ولين بدنه، فإنه عن قريب سيطرح في حفرة تتقطع فيها أوصاله، وتتغير فيها أحواله، ثم ينتن بعد ذلك، ويفر من رائحته من كان عنده من أحب الناس إليه إذا اطلع عليها. فإذا نظر العبد بعين بصره وبصيرته، إلى قبور المترفين من أهل الدنيا، رأى كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا أبداً في لذاتهم وطيب عيشهم، هم والله صرعى، قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام، في أجسادهم، فأطيبهم وأنعهم من قد أمن من عذاب الله عز وجل. قال ثابت البناني: دخلت المقابر، فلما أردت الخروج منها، إذا أنا بصوت يقول: يا ثابت، لا يغرنك صموت أهلها، فكم من نفس معذبة فيها! !

الباب الخامس والعشرون: في أن الله يثبت الذين آمنوا عند المسألة

الباب الخامس والعشرون: في أن الله يثبت الذين آمنوا عند المسألة قال الله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} . قال أكثر المفسرين: هي كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله في الحياة الدنيا ـ يعني قبل الموت ـ وفي الآخرة يعني في القبر ـ. وذهب بعض المفسرين إلى أن قال: في الحياة الدنيا في القبر عند السؤال، وفي الآخرة: عند البعث، والأول أصح. «عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المسلم إذا سأل في قبره، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} وفي لفظ: نزلت في عذاب القبر. يقال له: من ربك؟ فيقول ربي الله ونبيي محمد، وذلك قول الله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} الآية» . رواه البخاري ومسلم، ورواه أحمد مطولاً، وأهل السنن والمسانيد. وراه الإمام أبو داود في سننه بأتم من هذا، «من حديث البراء أيضاً، ولفظه: قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه وقال: استعيذوا بالله القبر، مرتين أو ثلاثاً. وذكر صفة قبض الروح وعروجها إلى السماء، ثم عودها إليه، إلى أن قال: وإنه ليسمع خفق نعالهم ـ إذا ولو مدبرين ـ حين يقال له: يا هذا، من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وفي لفظ فيأتيه ملكان، فيجلسانه ويقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ قال: فيقول: هو رسول الله، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب صلى الله عليه وسلم وآمنت به وصدقت؟ فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} قال: فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها. قال: ويفسح له مد بصره. قال: وإن الكافر، فذكر موته، قال: وتعاد روحه إلى جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان له:

ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها. قال: ويضيق عليه قبره، حتى تختلف عليه أضلاعه، قال: ثم يقيض له أعمى أبكم، معه مرزبة من حديد، لو ضرب بها جبل لصار تراباً، قال: فيضربه بها ضربة يسمعها بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير تراباً، ثم تعاد فيه الروح» . ورواه الطبراني بأتم من هذا. فقد اشتمل هذا الحديث على فوائد، منها: التثبيت لأهل الإسلام والإيمان الذين آمنوا بالله، وما جاء من عند الله، وصدقوا به، وآمنوا برسوله واتبعوه، ومنها الإيمان بعذاب القبر، وإعادة الروح إلى الجسد، وغير ذلك من الأمور التي لا تحضرني كما سأذكره مفصلاً بعد إن شاء الله. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عند أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا، قال: يأتيه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة. قال: نبي الله صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً، وذكر لنا، أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، يملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون. وأما المنافق أو الكافر، فيقول: لا أدري، كنت أقول ما تقول الناس فيه! فقال: لا

دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة، يسمعها من يليه إلا الثقلين» . رواه البخاري ومسلم. وقد روي من حديث البراء وحديث أنس، في قبض الروح والمسألة، ونعيم صاحب القبر وعذابه، عن أبي هريرة، وحذيفة ابن اليمان، وغيرهما. فرواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه «من حديث أبي هريرة، ولفظه: أن لنبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن الميت إذا وضع في قبره، إنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً، كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات والصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه، فيأتيان من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل شماله، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان: ما قبلي مدخل، فيقال اجلس، فيجلس، قد مثلت له الشمس قد أضاءت الغروب، فيقال له: هذا الرجل الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول دعوني حتى أصلي: فيقال: إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه، أرايت هذا الرجل الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟ وما تشهد به عليه؟ قال: فيقول: محمد، أشهد أنه رسول الله، جاء بالحق من عند الله، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك تموت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال له هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسرور اً، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدأ منه، فيجعل نسمة في النسيم الطيب، وهو طير يعلق من شجر الجنة، قال: فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} . وذكر في الكافر ضد ذلك، إلى أن قال: يضيق عليه قبره، إلى أن تختلف أضلاعه، فتلك المعيشة الضنك التي قال الله تعالى: {فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} » وهذا مختصر من الحديث.

ورواه مسلم في صحيحه، «من حديث أبي هريرة أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إذا خرجت روح المؤمن، تلقاها ملكان يصعدانها ـ فذكر من ريح طيبها، وذكر المسك ـ قال: فيقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، قال: وإن الكافر، إذا خرجت روحه، وذكر من نتنها وذكر اللعن، فيقول أهل السماء: روح جاءت من قبل الأرض، فيقال انطلقوا به إلى آخر الأجل، قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا» . و «في رواية أخرى: فيقول عبدك فلان ـ يعني المؤمن ـ فيقول أرجعوه، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه، فيأتيه آت، وفي لفظ فيأتيه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، وللآخر: النكير، ففي الترمذي: فيقولان، وفي غيره: فيقول من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيقول: ربي الله. وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينتهره، فيقول: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} الآية، فيقول كما قال، فيقول له: صدقت، ثم يأتيه آت حسن الوجه، طيب الريح، حسن الثياب، فيقول: أبشر بكرامة من الله ونعيم مقيم، فيقول: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح، كنت والله سريعاً في طاعة الله، بطيئاً عن معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة وباب من النار، فيقول: هذا منزلك، لو عصيت الله، أبدلك به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقول له: اسكن، وفي لفظ: فيقال له: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه. وإن الكافر، إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزلت عليه ملائكة غلاظ شداد، فانتزعوا روحه، كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل، وينزع نفسه مع العروق، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل

ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن لا يعرج بروحه من قبلهم، فإذا عرج بروحه قالوا: رب، فلان عبدك، قال: أرجعوه، فإني عهدت إليهم، أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فإنه ليسمع خق نعال أصحابه، إذا ولوا عنه، قال: فيأتيه آت، فيقول: ما دينك؟ فيقول: لا أدري! فيقال: لا دريت ولا تليت، فيأتيه آت قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بهوان من الله وعذاب مقيم، فيقول: وأنت بشرك الله بالشر، من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً في معصية الله، فجزاك الله شراً، ثم يقيض له أعمى أصم أبكم، في يده مرزبة، لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه ضربة فيصير تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة، يسمعه كل شيء إلا الثقلين، قال البراء: ثم يفتح له باب من النار، ويمهد له له من فرش النار» . ورواه الإمام أحمد. وروى أحمد، والحافظ ابن منده، بإسناد حسن، «من حديث البراء أيضاً، بأتم ما تقدم من حديث أبي هريرة والبراء، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فانتهينا إلى القبر، فجلس فجلسنا، كأن على أكتافنا فلق الصخر، وعلى رؤوسنا الطير، فأرم قليلاً ـ والإرمام السكوت ـ فلما رفع رأسه قال: إن المؤمن، إذا كان في قبل من الآخرة، ودبر من الدنيا، وحضره ملك الموت، فجلس عند رأسه، ونزلت عليه ملائكة معهم كفن من الجنة، وحنوط من الجنة، فجلسوا منه مد الصبر، ثم يقول ـ يعني ملك الموت ـ: اخرجي أيتها النفس الطيبة ـ وفي رواية أيتها النفس المطمئنة ـ إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج نفسه، كما تسيل القطرة من في السقاء، فإذا خرجت نفسه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض إلا الثقلين، فيأخذها وفي رواية، فإذا أخذها ـ يعني ملك الموت ـ لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها إلى السماء، فيفتح له السماء، ويشيعه مقربوها إلى السماء الثانية، وفي لفظ: فلا يمرون منها على ملأ من

الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي يسمونه بها في الدنيا، فيشيعه من كل سماء مقروبها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، إلى العرش، فإذا انتهى إلى العرش، قال الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، وفي لفظ ـ إلى مضجعه ـ فإني وعدتهم، أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه إلى جسده، فيأتيه منكر ونكير، يثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرض بأشفارهما، فيجلسانه ثم يقال له: يا هذا، من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: صدقت، ثم يقال: من نبيك؟ فيقول: محمد رسول الله: فيقولان: صدقت، ثم يفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، طيب الريح، حسن الثياب، فيقول: جزاك الله خيراً، وفي لفظ فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فينظر إلى مقعده ومنزله منها، حتى تقوم الساعة، وإن العبد الكافر، إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة، وحضره الموت، نزلت عليه من السماء ملائكة، ومعهم كفن من نار، وفي لفظ ملائكة سود الوجوه معهم المسوح، قال: فيجلسون منه مد بصره، وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه، فيقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى غضب الله وسخطه، فتتفرق روحه في جسده كراهية أن تخرج، لما ترى وتعاين، فذكر خروجها كما تقدم، ونتن ريحها، ووضعها في تلك المسوح، ولعن الملائكة لها، وغلق أبواب السماء دونها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} ، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في سجين: في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} فيأتيه منكر ونكير، يثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان

فصل ـ في أن النار والخضرة في القبر ليست كمثلها في الدنيا

الأرض بأشفارهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرد الخاطف، فيجلسانه، ثم يقولان: يا هذا، من ربك؟ فيقول: لا أدري، فينادى من جانب القبر: لا دريت، فيضربانه بمزربة من حديد، لو اجتمع عليها من بين الخافقين لم تقل، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ... » وذكر تمام الحديث كما تقدم. ورواه أبو داود أيضاً بطوله، بنحو هذه الرواية، وأبو حاتم، وابن حبان في صحيحه، وروى النسائي، وابن ماجة أوله، ورواه أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني في صحيحه، وأما ابن منده، فرواه في كتاب الإيمان بطوله، وقال: هذا إسناد متصل مشهور، ولم أذكر سنده للاختلاف فيه. قال أبو عوانة: قال زاذان الكندي: سمعت البراء، وقال غيره: لم يسمعه من البراء، والله أعلم. وفي صحيح البخاري ومسلم، «عن مالك عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم، إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» . ورواه الإمام أحمد أيضاً في مسنده. فصل ـ في أن النار والخضرة في القبر ليست كمثلها في الدنيا وليعلم أن النار والخضرة التي ورد ذكرهما في القبر: كما تقدم، ليست من نار الدنيا، ولا الخضرة زرع الدنيا، وإنما هي من نار الآخرة، ومن خضرها، وهما أبلغ وأشد من نار الدنيا وخضرها، فإن من قضى الله بعذابه، فإنه يحمى عليه ذلك التراب، وتلك الحجارة التي فوقه وتحته، أو اللبن، حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيالم يحسوا بذلك، ولم يروا إلا تراباً وحجارة ولبناً، بل قد يدفن شخصان: أحدهما إلى جانب صاحبه، هذا في حفرة من حفر النار، وهذا في روضة من رياض الجنة، لا حر هذا يصل إلى هذا، ولا نعيم هذا يصل إلى هذا، وقدرة الرب عز وجل أوسع وأبلغ وأعجب من ذلك، وكل

ذلك حتى يحصل للمؤمنين اجتهاد وخوف من الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية، فينتج من ذلك مضاعفة الأجر العظيم، والثواب الجزيل، لأن ما ذكرناه هو من الإيمان بالغيب، ويعلم المؤمن أن أمامه أهوال وعقبات ـ نسأل الله السلامة ـ وما ذكرته، وإن كان من المغيبات، قد يطلع الله بعض خلقه على ما يشاء من عجائب قدرته، كما في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع» . وفي الصحيح أيضاً: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين وقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ... » الحديث المشهور. قال العلامة ابن القيم رحمه الله ـ في كتاب الروح ـ: حدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الوزير الحراني، أنه خرج من داره بعد العصر بآمد من بستان، قال: فلما كان قبل غروب الشمس، توسطت القبور، فإذا بقبر منها وهو جمرة من نار مثل كور الزجاج، والميت في وسطه فجعلت أمسح عيني وأقول: أنا نائم أم يقظان؟ ! ثم التفت، فإذا سور المدينة، قلت: والله ما أنا نائم! ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد، فسألت عن صاحب ذلك القبر، فقالوا رجل مكاس توفي، فإذا به توفي ذلك اليوم، انتهى ما ذكره. وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب القبور وكتاب المنامات من هذا النوع شيئاً كثيراً عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، في الخير والشر، فمن رام المطالعة فليطلب ذلك من موضعه. ومما ذكر مرفوعاً، «أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: مررت ببدر، فرأيت رجلاً يخرج من الأرض، فيضربه رجل بمقمع حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج، فيفعل به ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة» .

فصل ـ في البرزح والبحث في ماهيته

فصل ـ في البرزح والبحث في ماهيته قال الله تعالى: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} فالبرزخ: اسم لما بين الدنيا والآخرة، وهذه الآية دالة عليه، وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة، وعذاب القبر ونعيمه: اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، فجعل الله سبحانه وتعالى الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها، ولهذا جعل الله تعالى الأحكام الشرعية على ما يظهر من حركات الإنسان والجوارح، وإن كان في النفس خلاف ما ظهر منها. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا في نعيمها وعذابها، تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، فالأرواح في البرزخ هي المباشرة للنعيم والعذاب، ثم يسري إلى أبدانها، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري على أرواحها، فالأبدان في الدنيا ظاهرة، والأبدان خفية. وإذا أردت أن تعلم ذلك فخذ في نوم الشخص في الدنيا، فإنه ينعم في حال نومه أو يعذب، فهو يجري على روحه أصلاً، والبدن تبع لها، وقد يقوى التأثير في البدن حال النوم حتى يشاهد، وهذا ـ والله أعلم ـ غالب الناس يشاهد هذا في منامه. ولقد أخبرني الشيخ نصير المقدسي ـ وكان من صلحاء أهل مدرسة شيخ الإسلام أبي عمر ـ قال لي: ثلاث ليال، أرى في النوم، كأن أناساً يستعملونني بالفاعل، وأخلف منهم خوفاً شديداً، فأعمل، ثم أصبح في هذه الأيام وأنا تعبان في غاية التعب، ثم قال لي: انظر إلى يدي، فنظرت، وإذا بكفيه شلافيط كبار، فكان ينزل الفجر يقرئ الناس، فامتنع في النزول في تلك الأيام، ثم أني أرشدته إلى ذكر يقوله عند النوم، لعله أن يصرف عنه ما يجد، وربما قص علي منامات لبعض الناس، يرى أنه

فصل: في عرض أعمال الأحياء على أقاربهم الأموات

يأكل أو يشرب، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه، وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في حال نومه، ويبطش ويضرب في الهواء، أو يدافع عن نفسه، وربما صرخ بأعلى صوته، كأنه يقظان، وهو لا شعور له بشيء من ذلك، لأن الروح استعانت بالبدن، ولو دخلت فيه لاستيقظ، وإنما مثلت لك ذلك حتى تعلم صحة ما ذكرته لك في أول هذا الفصل، والله أعلم. فصل: في عرض أعمال الأحياء على أقاربهم الأموات وينبغي للعبد، إذا تفكر بعين بصيرته، وعلم ماله إلى هذه الحفرة، وما أعد له فيها، في العبادة، ويكثر من الأعمال الصالحة، ويعلم أن عمله يعرض على أقاربه من الأموات، كما ورد في الخبر، «من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا، وإن كان غير ذلك، قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا» . رواه الإمام أحمد في مسنده. وروى ابن أبي شيبة بإسناده «عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفضحوا موتاكم بسيئات أعمالكم، فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور» . فكان أبو الدرداء يقول: اللهم أعوذ بك أن أعمل عملاً أخزى به عند عبد الله بن رواحة، فنعوذ بالله من الافتضاح بين الأقارب الصلحاء أهل طاعة الله تعالى، ثم نعوذ بالله من الافتضاح غداً، بين يدي أحكم الحاكمين، على رؤوس الخلائق، بل نسأل الله تعالى التوفيق لما يحبه ويرضاه. قال مجاهد: إنه ليبشر المؤمن بصلاح ولده من بعده، لتقر بذلك عينه. فصل ـ في تلقين الصغار وما قيل في التلقين عموماً وأما تلقين الصغار، فقد قال الإمام أبو عمر وبن الصلاح: أما تلقين الطفل الرضيع، فما له مستند يعتمد عليه، ولا نراه، والله أعلم. وقال النووي رحمه الله: الصواب أنه لا يلقن الصغير، سواء كان رضيعاً أو أكبر منه، ما لم يبلغ، إذ يصير مكلفاً، والله أعلم.

فصل ـ في حياة الميت في قبره والخلاف في ذلك

وقال العلامة موفق الدين في المغنى: التلقين بعد الدفن لم أجد فيه عن أحمد شيئاً، ولا أعلم فيه للأئمة قولاً سوى ما رواه الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله، فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة ... الحديث المعروف. قال: ما رأيت أحداً يفعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة جاء إنسان فقال ذلك، ثم قال بعد كلام: وقال القاضي أبو الحطاب: يستحب ذلك. ورويا فيه، «عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات أحدكم، فسويتم عليه التراب، فليقم أحدكم عند رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة الثانية، فيستوي قاعداً، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تسمعون، فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً، يتأخر كل واحد منهما فيقول: انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته؟ ويكون الله حجيجه دونهما، فقال رجل يا رسول الله، فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال: فلينسب إلى حواء» رواه ابن ماجة أيضاً في كتاب ذكر الموت. فصل ـ في حياة الميت في قبره والخلاف في ذلك ومن غرائب ما ذكره أبو محمد بن حزم في كتابه في الملل والنحل. قال: وأما من ظن أن الميت يحيا في قبره يوم القيامة فخطأ، لأن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك، وكان قد ذكر قبل ذلك قوله تعالى: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} وقوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} ثم قال: ولو كان الميت يحيا في قبره، لكان تعالى أماتنا ثلاثاً، وهذا باطل وخلاف القرآن، إلا من أحياه الله آية لنبي من الأنبياء، فصح بنص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى أجسادها إلا إلى أجل

مسمى ـ وهو يوم القيامة ـ وأخبر يوم بدر، إذ خاطب الموتى، أنهم قد سمعوا قوله قبل أن يكون لهم قبور، ولم ينكر على الصحابة قولهم قد جيفوا. واعلم أنهم سامعون قوله مع ذلك، فصح أن الخطاب والسماع لأرواحهم بلا شك، وأما الجسد فلا حس له. وقد قال تعالى {وما أنت بمسمع من في القبور} فنفى السمع عمن في القبور وهي أجساد، ولم يات قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر صحيح، أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المسألة، ولو صح ذلك عنه لقلنا به، وإنما هذه رواية شاذة عن المنهال بن عمرو وحده، وليس بالقوي، تركه شعبة وغيره. وقال جماعة من الحفاظ: ما جازت للمنهال شهادة في الإسلام قط. انتهى كلامه. فهذا مضمون ما ذكره. ومن اطلع على ما قدمته من أحاديث، وآمن بها وصدقها، فليحمد الله تعالى على التوفيق لذلك، فإنه لو لم تكن هذه الأحاديث، كان إجماع الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على إعادة الروح في الجسد لأجل المسألة، فكيف وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ ! بل قد كفانا الرسول صلى الله عليه وسلم أمر هذه المسالة وأغنانا عن أقوال الناس، حيث صرح بإعادة الروح إليه، وما كان يليق بأبي محمد بن حزم أن يجازف هذه المجازفة، وأن يقول القول بهذا الخطأ: فجوابه مردود بالنصوص الصريحة المتقدم ذكرها، وهو «قوله صلى الله عليه وسلم: فتعاد روحه في جسده» ، بل لقد قيل: إن هذا إجماع الأمة على هذا، وأنهم تلقوه بالقبول، وأنهم مجمعون على: من رد ذلك وأنكره، إنه مخطىء، وأن تصديق ذلك من الإيمان بالبعث. ولكن إن أراد ابن حزم أن الميت لا يحيا في قبره الحياة المعهودة في الدنيا، التي يقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه، ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس، فهذا صحيح، يشهد العقل بصحة ذلك، وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة، بل تعاد الروح إليه غير الإعادة المألوفة في الدنيا، لأجل المسألة والامتحان، كما وردت بذلك النصوص الصحيحة، فهذا حق، ونفيه خطأ بين، بل نفيه باطل قادح فيمن نفاه، بل قد ورد في سنن أبي داود مرفوعاً «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما

من رجل يمر بقبر أخيه، كان يعرفه في الدنيا، فسلم إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام» فهذه إعادة الروح إلى الجسد أيضاً غير الإعادة المألوفة في الدنيا لأجل رد السلام، بل لو سلم على الميت في الليل والنهار مراراً عديدة، عادت روحه لرد السلام ولا يلزم من ذلك أن يحيا الحياة المعروفة. وقوله: الحديث لا يصح، لتفرد المنهال بن عمرو به، فهذه مجازفة، فإن ما قيل فيه، قال أحمد تركه شعبة. هذا مضمون ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الكلام على الرجال، ولم يذكر أن أحداً رد شهادته، والحديث صحيح لا شك فيه، وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير المنهال، منهم عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، ومجاهد، وغيرهم. قال العلامة بن القيم ـ رحمه الله ـ: الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق، متغايرة الأحكام: أحدهما: تعلقها به في بطن الأم. الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض. الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه. الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها التفات إليه، بل تعاد إليه وقت المسألة، وترد إليه أيضاً وقت سلام المسلم، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب إعادة البدن قبل القيامة. الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد. وهو أكمل تعلقها به، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق البتة، إذ هو تعلق لا يقبل البدن موتاً ولا نوماً ولا فساداً، والله أعلم. انتهى كلامه. فهذا العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ قد كفانا مؤنة الرد بلا تكلف.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عود الروح إلى البدن وقت السؤال، وسؤال البدن بلا روح قول طائفة من الناس، وأنكره الجمهور، وقابلهم آخرون فقالوا: السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مسرة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده، والله أعلم. انتهى كلامه.

الباب السادس والعشرون ـ في اجتماع الأرواح وهيئاتها، وأين محلها، والخلاف في ذلك

الباب السادس والعشرون ـ في اجتماع الأرواح وهيئاتها، وأين محلها، والخلاف في ذلك قال الله تعالى: {ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي} وقال الله تعالى: {ونفخت فيه من روحي} وقوله: {فنفخنا فيه من روحنا} و «قوله صلى الله عليه وسلم: ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح» . وأما قوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا} و {يقوم الروح والملائكة صفا} فهل هو جبريل، أو ملك آخر؟ فيه خلاف للمفسرين. وأما كلام العلماء في هذا الباب، فقد ألف الناس فيه شيئاً كثيراً، لكن على غير هذا الترتيب، فنذكر نبذة يسيرة، جامعة لكلام غالب العلماء، في مستقر الأرواح بعد الموت إلى أن تقوم الساعة، هل هي في السماء أم في الأرض؟ وهل هي في الجنة أم في النار؟ وهل تنعم في أجسادها وتعذب، أم تودع في أجساد غير أجسادها؟ أم تكون مجردة، أو تعدم بالكلية، فلا يبقى لها وجود أصلاً؟ فقد نقلوا عن العلماء في ذلك اختلافاً كثيراً متبايناً، ذهب كل طائفة إلى قول نصرته ورجحته على غيره، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، وهذه المسألة إنما تعرف من جهة الشرع بالسمع. فمن العلماء من ذهب إلى أن أرواح المؤمنين والشهداء في الجنة، بشرط أن لا يحسهم عنها ذنب عظيم، كمظالم العباد ونحوها، فإذا كانوا خالين من ذلك تلقاهم ربهم بالعفو والرحمة. قال الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} ، وممن ذهب إلى هذا القول: أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وجماعات من السلف. قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: إن أرواح المؤمنين

في الجنة، وأرواح الكفار في النار. وذهبت طائفة إلى أن أرواح المسلمين على أبواب الجنة، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها. وقال أبو عبد الله بن منده: وقالت طائفة من العلماء من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين عند الله عز وجل، ولم يزيدوا على ذلك. ثم قال: وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار في بئر برهوت ـ بئر حضرموت ـ. وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم. وحكى ابن المبارك، عن ابن جريج، فيما قرئ عليه، عن مجاهد قال: أرواح المؤمنين في الجنة، يأكلون من ثمارها، ويجدون ريحها. وقال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت. وقال صفوان بن عمر: سألت عامر بن عبد الله، هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ قال: إن الأرض التي يقول الله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} قال: هي الأرض التي تجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث. وقال هي الأرض التي يورثها الله المؤمنين في الدنيا. وقال كعب الأحبار: أرواح المؤمنين في عليين، في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين، في الأرض السابعة. وروي، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: أرواح الأبرار في عليين، وأرواح الفجار في سجين، وعن عبد الله بن عمر نحوه. وذهب طائفة من العلماء، إلى أن أرواح المؤمنين في بئر زمزم. ولم أطلع على دليل يدل على هذا القول. ثم قال أرباب هذا القول: وأرواح الكفار في بئر برهوت.

وقال سليمان الفارسي: أرواح المؤمنين تذهب حيث شاءت، كما قال مالك ـ وقد تقدم ـ وأرواح الكفار في سجين. وقال ابن قتيبة: ذهب جماعة من العلماء، إلى أن أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم. ومنهم من ذهب من أهل السنة والجماعة، إلى أن أرواح المؤمنين والكفار في القبور، وأن الروح تنعم وتعذب في القبر إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، وأن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، ولهذا نهى عن الجلوس على القبر، وأمر بالسلام عليهم، وقال: إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك، حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة. وذهب جماعة من العلماء إلى أن محل الأرواح ومستقرها في سماء الدنيا، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، أنه رأى ليلة أسري به في السماء الدنيا آدم عليه السلام، وعن يمينه أرواح أهل السعادة، وعن شماله أرواح أهل الشقاوة. ومن هذا الباب ما ثبت في صحيح البخاري «من حديث سمرة بن جندب ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا، إلى أن قال فيه، فأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة، فقيل يا رسول الله: وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين» . «وفي رواية له: والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس» ، فهذا الحديث ليس هو عام في جميع الأرواح، وإنما هو خاص بأرواح الصغار، وما رأيت أحداً ذهب إلى التفرقة بين أرواح الصغار والكبار لهذا الحديث، ولا أعلم أحداً قال به، والله أعلم.

فصل: فيما جاء في أرواح الشهداء وغيرهم وأمكنتها

فصل: فيما جاء في أرواح الشهداء وغيرهم وأمكنتها وقد أشرنا إلى بعضه فيما تقدم، ولو ذكرنا كل قول، وحجج من نصره وذهب إليه، لطال الكتاب وخرج عن موضوعه، ولكن نذكر ما يسره الله تعالى من الأحاديث، فمنها ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود ـ كذا وقع في نسخ معتمد عليها، ووقع في بعض النسخ عبد الله فقط، فمن الحفاظ من يقول عبد الله بن عمرو، ومنهم من يقول ابن مسعود، والله أعلم بالصواب ـ «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشهداء: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى تلك القناديل» . «وفي حديث قتادة لفظ غريب. قال: أرواح المؤمنين في صورة طير بيض» . قال القاضي عياض: في هذا الحديث ذكر أرواح الشهداء، وفي حديث مالك: إنما نسمة المؤمن، لم يذكر الشهداء، والنسمة تطلق على ذات الإنسان جسماً وروحاً، وتطلق على الروح مفردة، وهو المراد بها في هذا الحديث، والله أعلم. وفي الحديث دلالة على أن المراد بها الروح قطعاً، فإنه قال: حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة، ولكن تارةً في هذا الحديث ذكر نسمة المؤمن، وفي اللفظ الآخر أرواح الشهداء. وقد ورد في حديث ابن عمر، أن غير الشهداء إنما يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، كما رود في النظر، في قوله تعالى في حق آل فرعون: {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً} . قال القاضي عياض أيضاً، في موضع آخر: وقيل: المراد جميع أرواح المؤمنين الذين يدخلون الجنة بغير عذاب، فيدخلونها الآن بدليل عموم الحديث. كذا ذكره النووي في شرح مسلم. وقد «ورد بلفظ آخر في صحيح مسلم، أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها» . ليس فيه ذكر أجواف الطيور. وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن الشهداء المؤمنين. وذكر ابن منده بإسناده، «عن اسماعيل بن طلحة بن عبد الله، عن أبيه، قال:

أردت مالي بالغابة، فأدركني الليل، فآويت إلى قبر عبد بن عمرو بن حزم، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ذاك عبد الله، ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم، فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت، وعلقها وسط الجنة؟ فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك، حتى إذا طلع الفجر، ردت أرواحهم إلى مكانهم التي كانت» . وأخبر سبحانه وتعالى عن أرواح قوم فرعون، أنها تعرض على النار غدواً وعشياً قبل يوم القيامة، وليس للعقول في هذا مجال، فإنه سبحانه وتعالى يتصرف فيها كيف شاء، وغير مستحيل أن يصور هذا الجزء طائراً، أو يجعل في جوف طائر، أو في حواصل طير، أو في قناديل معلقة بالعرش. قال العلامة ابن القيم: وهذه حياة أرواح ورزقها، والأبدان قد تمزقت. وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحياة، بأن أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ يفعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا. قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا، حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. وصح عنه صلى الله عليه وسلم الحديث من غير وجه، وفي بعض الألفاظ تعلق من ثمر الجنة وتعلق ـ بضم اللام ـ: تأكل العلقة. «وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله على رسوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} » رواه الإمام أحمد.

فصل ـ في بيان مستقر الأرواح واختلاف مساكنها

ولا أعلم أحداً ذهب إلى أن هذا النعيم المذكور، مختص بالذين قتلوا في أحد، والله أعلم. فصل ـ في بيان مستقر الأرواح واختلاف مساكنها وذهب ابن حزم وجماعات، إلى أن مستقر الأرواح، حيث كانت قبل خلق أجسادها، قال ابن حزم: وهذا الذي أخبر الله تعالى به ونبيه صلى الله عليه وسلم لا يتعداه، وهو البرهان الواضح، قال الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} وقال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} فصح أن الأرواح خلقها الله تعالى جملة، و «كذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أن: الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» ، وأخذ الله وشهادتها له بالربوبية، وهي مخلوقة مصورة عاقلة، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يدخلها في الأجساد، والأجساد يومئذ تراب وماء، ثم أخرها حيث شاء وهو البرزخ، ثم لا يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة، فينفخها في الأجساد المتولدة من المني. إلى أن قال ابن حزم: فصح أن الأرواح أجساد حاملة لأعراضها من التعارف والتناكر، وأنها عارفة مميزة، فإذا توفاها الله تعالى، رجعت إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، عند سماء الدنيا، أرواح أهل السعادة عن يمين آدم، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره، وذلك عند منقطع العناصر، وتعجل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة. ثم قال: وقد ذكر محمد بن نصر المروزي، عن اسحاق بن راهوية هذا الذي ذكرنا بعينه. ثم قال: على هذا أجمع أهل العلم، انتهى كلامه. وذكر الأدلة على ذلك، ولم يذكر خلافاً، وقد تقدم ذكر الخلاف على ذلك، وما ذكره أبو محمد بن حزم، فهو يبنى على الأصل، وهو أن الأرواح هل خلقت قبل الأجساد، أو الأجساد

فصل ـ " في قوله صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة " وكيفية ذلك

خلقت قبل الأرواح؟. فهذه المسالة للناس فيها قولان، حكاهما شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: أحدهما: ما حكاه واختاره ابن حزم، ومحمد بن نصر المروزي، وقد تقدم، وذكرنا ما استدل به. والقول الثاني: وعليه عامة السلف والخلف، أن الأجساد خلقها متقدم على الأرواح، والأدلة متظاهرة من وجوه عديدة، ليس هذا محل ذكرها، فخلق أبي البشر الذي هو أصل الناس هكذا، فإنه سبحانه وتعالى أرسل جبريل، فقبض قبضة من الأرض، ثم خمرها حتى صارت طيناً، ثم صوره، ثم نفخ فيه الروح بعد تصويره، وهذه قصة مشورة، قد وردت من عدة طرق، تدل على أن الله سبحانه نفخ فيه من روحه بعد أن خلق جسده. وفي الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح» الحديث المشهور. فنفخ الملك فيه الروح هو سبب حدوث الروح فيه، ولو كان للروح وجود قبل البدن، وهي حية عالمة ناطقة، لكانت ذاكرة في هذا العالم، شاعرة به ولو بوجه ما، ومن الممتنع أن تكون حية عالمة ناطقة عارفة بربها، وهي بين ملأ من الأرواح، تنتقل إلى هذا البدن ولا تشعر بحالها الأول، وإذا كانت بعد المفارقة، تشعر بحالها وهي في البدن على التفصيل، وتعلم ما كانت عليه ههنا، مع أنها التبست بالبدن أموراً عاقها عن كثير من حالها، فلأن تشعر بحالها الأول، وهي غير معوقة هناك، بطريق الأولى. والله أعلم. فصل ـ " في قوله صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة " وكيفية ذلك فصل ـ في قوله صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة وكيفية ذلك «في قوله صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» . فمن العلماء كابن حزم، وابن نصر المروزي وغيرهما، يقول الأرواح مجموعة أو مجتمعة، وأنواع مختلفة، فهي خلقت مجتمعة، ثم فرقت في أجسادها، فمن وافقه نسميه إلفه، ومن باعده نافره وخالفه، وقال الخطابي وغيره: هو ما

فصل ـ هل الأرواح محدثة عند خلق البدان أم قديمة

خلقها الله عليه من السعادة والشقاوة في المبتدأ، فالأرواح قسمين متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت، بحسب ما خلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار. انتهى كلامه. ومن هذا الباب احتج آدم وموسى، قال الحسن: معناه التقت أرواحهما في السماء، فوقع الحجاج بينهما. قال القاضي عياض: ويحتمل أنه على ظاهره، وأنهما اجتمعا بأشخاصهما. وقد ثبت في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في السموات، وفي بيت المقدس، وصلى بهم، قال: فلا يبعد أن الله أحياهم. قال: ويحتمل أن قصة موسى جرت في حياة موسى وأنه سأل أن يريه آدم فحاجه، والله أعلم. فصل ـ هل الأرواح محدثة عند خلق البدان أم قديمة وهل الأرواح مخلوقة محدثة، كائنة بعد أن لم تكن، أم قديمة؟ وهي من أمر الله، ولا يكون أمر الله مخلوقاً ولا محدثاً، وقد أخبر أنه نفخ في آدم من روحه، فهذه الإضافة إليه، هل تدل على أنها قديمة أم لا؟ وما حقيقة هذه الإضافة؟ قال العلامة ابن القيم: وهذه مسألة زل فيها عالم، وضل فيها طوائف من بني آدم، وهدى الله أتباع رسوله فيها للحق المبين. فأجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين على أن الروح محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن العالم حادث، وأن معاد الأبدان واقع، وأن الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق له ـ حتى نبعت نابعة ـ فمن قصر فهمه في الكتاب والسنة زعم أنها قديمة غير مخلوقة، واحتج بأنها من أمر الله وأمره غير مخلوق، وبأنها أضافها إليه كما أضاف إليه علمه وحياته وقدرته، وتوقف في ذلك آخرون فقالوا: لا نقول مخلوقة ولا غير مخلوقة. انتهى كلامه. وقال الحافظ بن مندة، لما سئل عن الأرواح، هل هي مخلوقة أم لا؟ فقال: أن الناس اختلفوا في معرفة الأرواح ومحلها من النفس، فقال بعضهم: الأرواح كلها مخلوقة، وهذا مذهب أهل الجماعة والأثر، واحتجت «بقوله صلى الله عليه وسلم: الأرواح

فصل ـ في دليل إضافة الروح إلى الله وتفسير تلك الإضافة

جنود مجندة فمن تعارف منها ائتلف» الحديث. والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة، وقال بعضهم: الأرواح من أمر الله، أخفى الله حقيقتها وعلمها عن الخلق، واحتجت بقوله: {قل الروح من أمر ربي} ، وقال بعضهم: الأرواح نور من نور الله تعالى، وحياة من حياته. واحتجت «بقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نور» . انتهى كلامه. وقال محمد بن نصر المروزي: تأول صنف من الزنادقة ومن الروافض في روح آدم، ما تأولته النصارى في روح عيسى، وما تأوله قوم من أن الروح انفصل من ذات الله فصار في المؤمن، فقال صنف من الزنادقة، وصنف من الروافض: إن روح آدم غير مخلوق، وتأولوا قوله تعالى: {ونفخت فيه من روحي} وقوله: {ثم سواه ونفخ فيه من روحه} ثم قال بعد كلام طويل: ولا خلاف بين المسلمين، أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بني آدم كلها مخلوقة لله، خلقها وأنشأها وكونها واخترعها. انتهى كلامه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: روح الآدمي مخلوقة مبدعة، باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة. وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة، غير واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي، وأبو محمد بن قتيبة وغيرهما، وذكر كلاماً طويلاً وبحثاً كثيراً يطول ذكره، والله أعلم. فصل ـ في دليل إضافة الروح إلى الله وتفسير تلك الإضافة من استدل بإضافة الروح إلى الله تعالى بقوله: {ونفخت فيه من روحي} ، فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله سبحانه وتعالى نوعان: أحدهما: صفات لا تقوم بأنفسها، كالعلو والقدرة والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى موصوفها، صفات له غير مخلوقة، وكذلك وجهه ويده سبحانه وتعالى.

فصل ـ عن موت الأرواح والأبدان

والثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كبيت الله وناقة الله، ورسول الله، وروح الله، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، ومصنوع إلى صانعه، لكنها إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً يتميز به المضاف إليه عن غيره، كبيت الله، وإن كانت البيوت كلها ملكاً لله، وكذلك ناقة الله، والنوق كلها ملكه وخلقه، ولكن هذه إضافة إلى إلاهيته تقتضي محبته لها وتشريفه، بخلاف الإضافة العامةإلى ربوبيته حيث تقتضي خلقه وإيجاده، هذا خلق الله، فالعامة تقتضي الخلق والإيجاد، والخاصة تقتضي الاختيار، والله يخلق ما يشاء ويختار، وإضافة الروح إليه من هذه الإضافة الخاصة لا من العامة، ولا من باب إضافة الصفات. فتأمل هذا الموضع فإنه ينفعك من التخلص من البدع، فقد ضل فيه خلق كثير، نسأل الله العصمة. فصل ـ عن موت الأرواح والأبدان فقد اضطربت مقالات الناس في هذا الباب، فقالت طائفة: تموت وتذوق الموت، لأنها نفس، وكل نفس ذائقة الموت. قالوا: وقد دل القرآن عليه بقوله: {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} و {كل نفس ذائقة الموت} . قالوا: وإن كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت. وقال في حق أهل النار: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} فالموتة الأولى هذه المشهودة، فهي للبدن، والأخرى للروح. وقال آخرون، لا تموت الأرواح، فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان. قالوا: وقد دل على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها، ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب، وقال

فصل ـ في عذاب القبر على الروح والبدن

تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين} الآية هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وذاقت الموت. قال العلامة ابن القيم: والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها، وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً، فهي لا تموت، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو عذاب، كما صرح به في النصوص، حتى يردها الله في أجسادها، ثم ساق بعد ذلك النصوص الواردة في هذا المحل، انتهى كلامه. فصل ـ في عذاب القبر على الروح والبدن وهل عذاب القبر على الروح والبدن؟ أو على الروح دون البدن؟ أو على البدن دون الروح وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب، أم لا؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ بعد أن سئل عن هذه المسألة فأجاب ـ: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما تكون الروح منفردة عن البدن، منعمة أو معذبة. وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام، وفي المسالة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث. قول من يقول إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، وهذا يقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان، ولكن يقولون: لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من

القبور، لكن هؤلاء ينكرون عذاب الأبدان في البرزخ فقط، ويقولون إن الأرواح هي المنعمة أو المعذبة في البرزخ، فإن كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معاً. وهذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام وأهل الحديث وغيرهم، وهو اختيار ابن حزم، وابن مسرة، فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة، بل هو مضاف إلى قول من يقر بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح. لكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه على الروح فقط. والثاني: أنه عليها، وعلى البدن بواسطتها. الثالث: أنه على البدن فقط. وقد يضم إلى ذلك قول من يثبت عذاب القبر، ويجعل الروح هي الحياة، ويجعل الفساد قول منكر عذاب الأبدان مطلقاً، وقول من ينكر عذاب البرزخ مطلقاً، والفلاسفة الإلهيون يقرون بذلك ينكرون معاد الأبدان. فهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان، وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قول الفلاسفة أبعد من أقوال أهل الإسلام، وإن كان قد يوافقهم عليه من هو متمسك بدين الإسلام، بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف. والقول الثالث الشاذ: قول من يقول أن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم، ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه، فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ، لكنهم خير من الفلاسفة فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى، وأما الأحاديث الدالة على نعيم القبر وعذابه فهي كثيرة جداً، بل لو قيل أنها بلغت التواتر في المغالبة لم يبعد ذلك، فمنها ما تقدو من أحاديث مسألة منكر ونكير، وفيها كفاية، ومنها ما لم أحط به ولم أطلع عليه، ومنها ما اطلعت عليه واختصرته للتطويل، ومنها ما أذكره للتنبيه، فقد ثبت في الصحيحين «من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان

في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي في النميمة، ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، فقال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا» . «رواه أبو داود الطيالسي، لكن قال فيه: أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس» وباقيه كما ذكرته. «وثبت في صحيح مسلم في حديث طويل، قال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن» الحديث. وفي صحيح مسلم أيضاً، وجميع السنن، «عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير، فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» . وفي الصحيحين: «عن أبي أيوب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وجبت الشمس، فسمع صوتاً، فقال: يهود تعذب في قبورها» . وفي صحيح البخاري ومسلم: «عن عائشة، قالت: دخلت على عجوز من يهود المدينة، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت فكذبتها ولم أنعم أن أصدقها، فخرجت، ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله إن عجوز من عجائز يهود أهل المدينة، دخلت فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم! فقال: صدقت، إنهم يعذبون عذاباً يسمعه البهائم كلها قالت: فما رأيته بعد في صلاته إلا أن يتعوذ من عذاب القبر» . قال بعض أهل العلم: ولهذا السبب، يذهب الناس بالخيل إذا مغلت إلى قبور اليهود والنصارى، فإذا سمعت الخيل عذاب القبر، أحدث لها ذلك فزعاً وحرارة تذهب بالمغل.

فصل: في عذاب القبر حق

والأحاديث كثيرة جداً في هذا الباب، وقد تقدم في أحاديث المسألة، ما هو أبلغ من ذلك، «في قوله: فلا يزال معذباً، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» ، وهذا صريح في أن البدن يعذب في القبر. وروى النسائي، «من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهد له سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه» قال النسائي: ـ يعني سعد بن معاذ ـ. «وفي حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للقبر ضغطة، لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ» . قال نافع: بلغني أنه شهد جنازته سبعون ألف ملك، لم ينزلوا إلى الأرض قط. «وفي لفظ: منديل من مناديل سعد، خير من الدنيا وما فيها» . فصل: في عذاب القبر حق قال المروزي: قال الإمام أحمد: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل. وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر! فقال: هذه أحاديث صحاح، نؤمن بها ونقر بها، كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به، إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه، رددنا على الله أمره، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} قلت له: وعذاب القبر حق؟ ! قال: حق، يعذبون في القبور، قل: وسمعت أبا عبد الله يقول: نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير، وأن العبد يسأل في قبره، {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} في القبر. وقال أحمد بن القاسم: قلت يا أبا عبد الله: نقر بمنكر ونكير، وربما يروى من عذاب القبر؟ ! فقال: سبحان الله! نعم، نقر بذلك ونقول به. قال العلامة ابن القيم: ومما ينبغي أن يعلم، أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ،

فصل ـ في أن البلي يختص البدن

فكل من مات وهو مستحق العذاب، ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، فلو أكلته السباع، أو أحرق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب، أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور. انتهىكلامه. فصل ـ في أن البلي يختص البدن ومما ينبغي أن يعلم أن البلي يختص هذا البدن المشاهد المركب، فإن هذا البدن ليس بشيء إنما هو آلة، والنظر إلى ما يؤذي الروح وينفعها. وقد روى أبو الفرج بن الجوزي ـ رحمه الله ـ بإسناده، قال: دخل عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ المسجد، وقد قتل عبد الله بن الزبير، فمال إلى أسماء أم ابن الزبير، فقال لها: اصبري، فإن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله تعالى، ثم قال: وروينا عن ابن الزبير، أنه قال لأمه أسماء قبل قتله: يا أماه، إن قتلت فإنما [أنا] لحم لا يضر ما صنع بي. وروى خالد بن معدان، قال: لما قتل هشام بن العاص يوم أجنادين، وقع على ثلمة فسدها، ولم يكن ثم طريق غيره، فلما انتهى المسلمون إليه، هابوا أن يوطئوه الخيل، فقال عمرو بن العاص: أيها الناس، إن الله قد استشهده ورفع روحه، وإنما هو جثة، فأوطئوه الخيل، ثم أوطأه هو، وتبعه الناس حتى قطعوه. وإذا ثبت هذا، فإن الله تعالى إذا أتلف هذا البدن الترابي وأبلاه، المعرض للآفات، فإنه سيعيده بدناً لا يبلى، في حياة لا تنفد أبداً، وتبدل صعوبات التكليف بحسن الجزاء، ويعطيهم أجوراً باقية عن أعمال منقطعة، كما لا يبقى لمرارات الشعث والتكليف في أيام الإحرام، طعم عند أيام التشريق، والله تعالى الموفق.

الباب السابع والعشرون: في عد الشهداء وفضلهم وأنهم أرفع درجات من الصالحين

الباب السابع والعشرون: في عد الشهداء وفضلهم وأنهم أرفع درجات من الصالحين قال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} . قال قتادة: قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يكون الحال في الجنة، وأنت في الدرجات العلى، ونحن أسفل منك؟ فكيف نراك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ومن يطع الله} في أداء الفرائض {والرسول} في السنن: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين} ، أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالسهم. فأعلى درجات بني آدم الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون، وهذا ترتيب لا شك فيه، لأن الله تعالى رتبهم في الذكر، قدم الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل في المراتب والمنازل. «وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أنها ترجع إلى الدنيا، ولا أن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد» الحديث. هذا من صرائح الأدلة في عظم فضل الشهادة. «وعن سهل بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه» . رواه مسلم في صحيحه. وفي صحيح مسلم أيضاً، «من حديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من طلب الشهادة صادقاً أعطيها، ولو لم تصبه» .

ورواه الترمذي وصححه، «من حديث معاذ مرفوعاً، ولفظه: من سأل القتل في سبيله صادقاً في قلبه، أعطاه الله أجر الشهيد» . ورواه الإمام أحمد بهذا اللفظ. «وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد ـ وفي رواية ـ وصاحب الهدم شهيد» . «وعن جابر بن عتيك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي قال: الشهداء سبع، سوى القتل في سبيل الله عز وجل: المطعون شهيد، والغريق شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، وصاحب الحريق شهيد والمرأة تموت بجمع شهيد» . رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وروى ابن ماجة بعضه. قوله بجمع بضم الجيم وإسكان الميم ـ: وهي التي تموت حاملاً أو نفساء، كذا ذكره غير واحد من أهل العلم، والله أعلم. وروى الإمام أحمد، والنسائي، «من حديث صفوان ين أمية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: الطاعون شهادة، والغرق شهادة، والبطن شهادة» . وروى النسائي أيضاً، «من حديث عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خمس، من قبض على شيء منهن فهو شهيد: المقتول في سبيل الله شهيد، والغريق في سبيل الله شهيد، والمطعون في سبيل الله شهيد والفناء في سبيل الله شهيد» . وروى مالك في الموطأ، «عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ في قصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما تعدون الشهادة فيكم؟ قالوا: القتل في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله» . ثم ذكر نحو ما تقدم في السنن من حديث جابر بن عتيك.

وروى البخاري ومسلم «من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشهداء خمس: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله» . قال العلامة اسماعيل التيمي الأصبهاني ـ مفسراً الحديث ـ قال: المطعون: الذي أصابه الطاعون، والمبطون الذي أصابه علة البطن. انتهى. وقال غيره من العلماء: للناس في تفسير علة البطن ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه الذي يموت بالاستسقاء. والثاني: الذي يموت بالمغص الشديد ـ وهو الذي يسمونه القولنج ـ وهو مرض معروف. والثالث: الذي يموت بالاسهال. انتهى كلامه. قلت: والقول الثالث هو الراجح عند أكثر أهل العلم، وبعضهم لم يحك غيره، ويحتمل ـ والله أعلم ـ أن الشهادة تعم الثلاثة أصناف المذكورة، وهو أبلغ في الكرم وسعة الفضل، والله أعلم. ومما يؤيد هذا الاحتمال ما روى ابن حبان في صحيحه. «من حديث سليمان بن مراد وخالد بن عرفطة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قتله بطنه لم يعذب في قبره» . «وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد» . رواه البخاري وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي واللفظ له، «من حديث سعيد ابن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قيل دون أهله فهو شهيد» . وروى النسائي مفرداً، «من حديث سويد بن مقرن ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون مظلمته فهو شهيد» . وروى الإمام أحمد، «من حديث ابن لهيعة، عن خالد بن أبي زيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن إبراهيم بن عبد الله بن رفاعة، أن أبا محمد أخبره ـ وكان من أصحاب ابن مسعود ـ حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر عنده الشهداء، قال: إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته» . «وروينا في خبر ابن عرفة مرفوعاً: أن الموت كفارة لكل مسلم» .

فصل: في تسلية المصاب

فصل: في تسلية المصاب ومما ينبغي أن يعلم أن العبد، إذا نظر أو سمع ما تقدم في هذا الباب من تنوع الشهادة، وذكر تعدادها، حصل له تسلية بموت محبوبه، فإنه في الغالب لا بد أن يكون ناله نصيب منها، مع أني لم أحط بكل ما «ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية الشهداء، وقد روي مرفوعاً: موت الغريب شهادة» . وقد استقصينا في عد الشهداء في كتاب أحكام الطاعون. ويكفي في البشارة ما تقدم قريباً، «من رواية الإمام أحمد مرفوعاً: إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش» ، وتقدم ما أعد الله للشهداء من حين الموت، وما لهم عند الله، وأن أرواحهم في حواصل طير خضر تأكل وتشرب في الجنة، وتسرح حيث شاءت، وكل هذا في دار البرزخ، فإذا دخلوا الجنة يوم القيامة بأجسادهم انتقلوا إلى نعيم أعلى من ذلك وأكثر منه. قال أبو بكر القطيعي: «حدثنا بشر بن موسى، حدثنا ابن خليفة، حدثنا عوف، عن خنساء، قالت: حدثتني عمتي، قالت: قلت يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموؤودة في الجنة» وكذلك رواه بندار، عن غندر، عن عوف، فذكر مثله. فانتقال العبد إلى الله وما عند الله، هو خير لعباده من هذه الدنيا التي خلقهم فيها، فينظر كيف يعملون، ويبتليهم بالمحن والمصائب، والشهادات، حتى يعلم الصابر منهم والجازع، ليجازي كل شخص بحسبه، فمنهم من يجازيه بالحنان، ومنهم من يجازيه بالنيران، وكل ذلك عدل منه سبحانه وتعالى، لا يظلم مثقال ذرة، بل إن أدخل العبد الجنة فبرحمته وفضله، وإن أدخله النار، فبعدله وسلطانه: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} . فله الحمد دائماً على كل حال. فصل: في الشهادة المطلوبة: شهادة المعركة والشهادة المطلوبة، شهادة المعركة على ما تقدم وكذلك شهادة الطاعون، فإنه قد رود في أحاديث وآثار في تمني الطاعون، ما وقع في قصة المغيرة ين شعبة أنه قال: اللهم ارفع عنا الرجز ـ يعني الطاعون ـ، فقال أبو موسى الأشعري ـ رضي

الله عنه ـ: أما أنا، فلا أقول هذا، ولكن أقول كما قال العبد الصالح أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ اللهم طعناً وطاعوناً في مرضاتك. وقام أبو عبيدة خطيباً فقال: يا أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم: ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله العظيم أن يقسم له من حظه. قال: فطعن، فمات. وثبت في مسند الإمام أحمد، «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون» . وغير ذلك من الأحاديث والآثار، التي لا تحضرني، وقد قررت ذلك في كتابنا المعروف ب أحكام الطاعون. ولكنه لم يكن عندي حين ألفت هذا الكتاب، فإن قيل: الشهادة المطلوبة شهادة المعركة، وكذلك شهادة الطاعون، كما تقدم. وقد ورد في بعض الأحاديث، «أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من بعض ما عده شهادة، ففي مسند الإمام أحمد مرفوعاً: استعاذ من سبع موتات: من موت الفجأة، ومن لدغ الحية ومن السبع، ومن الغرق، ومن الحرق، ومن أن يخر على شيء، أو يخر عليه شيء، ومن الفرار من الزحف» . «وفي المسند أيضاً مرفوعاً: اللهم إني أعوذ بك أن أموت هماً أو غماً، وأن أموت غرقاً، وأن يتخبطني الشيطان عند الموت» . و «رواه النسائي، ولفظه: اللهم إني أعوذ بك من الهدم والتردي، والهم، والغم، والغرق، والحرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت بك لديغاً» . وغير ذلك من الأحاديث. يقال: لم يقل أحد من العلماء: إن كل شهادة مطلوبة، بل من وقع له أو لمحبوبه أو لغيره شيء، مما عده النبي صلى الله عليه وسلم شهادة،، والشهيد ثلاثة أقسام: أحدها: شهيد في الدنيا والآخرة، وهو المنقول في المعركة مخلصاً. والثاني: شهيد في الدنيا والآخرة فقط، وهو المقتول في المعركة مرائياً. والثالث: الشهيد في الآخرة فقط، وهو من أثبت له الشارع الشهادة، ولم يجر عليها أحكامها في الدنيا، كالغريق والحريق ومن به ذات الجنب، ونحوه، كما تقدم. فإن قيل: لم سمي الشهيد شهيداً؟ قيل: قد اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

أحدها: لأنه حي كما فصل تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} . الثاني: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة. الثالث: لأن الملائكة تشهده. الرابع: لقيامه بشهادة الحق حتى قتل. الخامس: لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل. السادس: لأنه شهد لله بالوجود والإلهية بالفعل لما شهد غيره بالقول. السابع: لسقوطه بالأرض وهي الشاهد له. الثامن: لأنه شهد له بوجوب الجنة. التاسع: من أجل شاهده وهو دمه. العاشر: لأنه شهد له بالإيمان وحسن الخاتمة. فهذه عشر أقوال، من أماكن متفرقة، جمعت إليك رخيصة الأثمان، فهذه الأقوال في المخلص الذي قصد بجهاده وجه الله تعالى، والدار الآخرة، فإنه سبحانه وتعالى، إذا علم قصد العبد وإخلاصه، أعانه وأغاثه، قال تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي، في جزء الثبات عند الممات، في هذا المعنى، عن علي بن الموفق، قال: سمعت حاتم الأصم يقول: لقينا الترك وكان بيننا جولة، فرماني تركي بسهم فقلبني عن فرسي، فنزل عن دابته، فقعدعلى صدري، وأخذ بلحيتي، وأخرج من خفه سكيناً ليذبحني، فوحق سيدي، ما كان قلبي عنده، ولا عند سكينه، وإنما كان قلبي عند سيدي، أنظر ماذا ينزل القضاء منه، فقلت: سيدي، قضيت علي أن يذبحني هذا؟ فعلى الرأس والعين، إنما أنا لك وملكك، فبينما أنا كذلك، وهو قاعد على صدري، إذا رماه بعض المسلمين بسهم،

فما أخطأ حلقه، فسقط عني، فقمت إليه، وأخذت السكين من يده، فذبحته بها. فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند مليككم، حتى تروا عجائب لطفه. ما لا ترون من الآباء والأمهات.

الباب الثامن والعشرون: في ذكر الصراط ودرجات الناس في المرورعليه

الباب الثامن والعشرون: في ذكر الصراط ودرجات الناس في المرورعليه أما الصراط فهو جسر منصوب على متن جهنم، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، ثبتنا الله وإياكم على المرور عليه. وقد روى مسلم في صحيحه، «من حديث أبي هريرة وحذيفة ـ رضي الله عنهما ـ قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون، تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذلك: اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، قال: فيأتون إبراهيم، فيقول إبراهيم عليه السلام: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى، كلمه الله تكليماً، فيأتون موسى، فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى، كلمة الله وروحه، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى محمد، قال: فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم ويؤذن له، ويرسل الأمانة والرحم، فيقومان جنبي الصراط، يميناً وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق، يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرحال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط، يقول: رب سلم، رب سلم: حتى تعجز أعمال العباد، وحتى يجيء الرجال فلا يستطع السير إلا زحفاً، قال: وفي حافة الصراط كلاليب معلقة، مأمورة، تأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعون خريفاً» . «وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الصراط ومرور الناس عليه، قال: فيمر المؤمنين، كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم» .

فصل ـ في المرور على الصراط

رواه مسلم. «وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر حديث الشفاعة: ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم، اللهم سلم، وفي جهنم كلاليب، مثل شوك السعدان ـ هل رأيتم شوك السعدان؟ ـ ثم قال: وإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى، تخطف الناس بأعمالهم» الحديث. فصل ـ في المرور على الصراط قد سمعت ـ رحمك الله ـ فانظر إلى هذه الطريق الحرج، والمسلك الشاق، والقنطرة المضطربة، والعقبة الكؤود، التي لا تثبت عليها الأقدام، ولا تجوزها الأوهام، ولا يثبت عليه إلا من ثبته الله بالقول الثابت، وثبت قدماه يوم تزل الأقدام، ولعل من عنده تساهل وعدم توفيق، يسمع بالصراط، فيظن أن طريقه يشبه طريق الدنيا التي هي صعبة المسلك، وعرة ذات صعود ونزول، هيهات وما علم، والله إنه أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وعلى يمينه وشماله كلاليب وخطاطيف، فإذا كلفت المرور عليه وهو بهذه المثابة ـ وأعظم من ذلك أن جهنم تحتك، وقد أرعب قلبك من هول منظرها، وملأت أذنيك زفيرها ـ فهل تستطيع المرورأو النهوص أو الزحف؟ ! فإنه إذا اضطرب بك الصراط، والتهب السعير من تحتك التهاباً، ولم تجد إلى النجاة سبيلاً، ولا إلى الخلاص مقيلاً، فلا ينفعك في تلك الحال إلا سعي صالح مشكور، أو توبة نصوح من ذنب مغفور، فتخير الآن أي الأعمال أنجى لك؟ وأي الطرق معينة لك على سعيك لما ينفعك؟ وقالد روى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن وهب بن منبه، قال: وجدت في زبور داود ـ عليه السلام ـ: يا داود، هل تدري من أسرع الناس ممرا على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي، وألسنتهم رطبة من ذكري.

الباب التاسع والعشرون: في ذكر سعة رحمة الله ومن مات على التوحيد

الباب التاسع والعشرون: في ذكر سعة رحمة الله ومن مات على التوحيد قال الله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} وفي الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجيءيوم القيامة ناس من المسلمين، بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى» . وقد تقدم «في حديث أبي هريرة: لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة، خلفه الكافر في النار، لاستحقاقه ذلك بكفره» ، كما «ورد في الصحيح: هذا فكاكك من النار» . وهذه بشارة عظيمة للمسلمين أجمعين، حتى قال الشافعي وعمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنهما ـ هذا الحديث أرجى حديث المسلمين، لما فيه من التصريح بفداء كل مسلم. وفي الصحيحين «من حديث أبي سعيد مرفوعاً، إلى أن قال فيه: فيقال أخرجوا من عرفتم. يعني من النار ـ فتحرم صورهم عن النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، وقد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، فيقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً إلى أن قال: ثم يقال ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً» وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث، فاقرؤوا إن شئتم: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها} الآية. «فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، قال: فيخرجون كاللؤلؤ

فصل ـ في رحمته وسعت كل شيء

في رقابهم الخواتم، يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله؟ الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، ثم يقال: ادخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا، أعطيتنا ما لم تعط لأحد من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: ربنا، وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول رضائي، فلا أسخط عليكم بعده أبداً» . «وفي حديث أنس بن مالك وذكر فيه الشفاعة، مرة بعد مرة، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: في الآخرة، فأقول: رب، أي رب، أئذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: الله: وعزتي وجلالي، وعظمتي وكبريائي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله» . و «في رواية مسلم: ليس ذلك لك أو إليك» الحديث. فصل ـ في رحمته وسعت كل شيء «وقد أخبر الله تعالى: أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه كتب على نفسه الرحمة، وقال: سبقت رحمتي غضبي، وغلبت رحمتي غضبي» ، فالجنة دار رحمته، والنار دار غضبه، فثبت أن الجنة ينشأ لها خلقاً في الآخرة، ويدخلها أيضاً من دخل النار أولاً، ويدخلها الأولاد بعمل الآباء، فثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيراً قط، وثبت أن النار لا يعذب أحد فيها بغير ذنب، فرحمته واسعة. حتى إن جماعة من المفسرين، ذكروا قصة فرعون: قال جبريل: يا محمد، لو رأيتني، وأنا أدس الطين في في فرعون، مخافة أن يقول فرعون كلمة يرحمه الله بها، فهذا جبريل من أعظم رسل الملائكة، قد علم سعة رحمة الله، ففعل ذلك مخافة إدراك الرحمة له، مع أنه قال: {أنا ربكم الأعلى} . فصل ـ في أن من مات موحداً داخل الجنة ومما ينبغي أن يعلم، أن مذهب أهل السنة والجماعة من السلف والخلف، أن من مات موحداً أدخل الجنة قطعاً على كل حال، فإن كان سالماً من المعاصي، كالصغير، والمجنون الذي اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة نصوحاً صحيحة

من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته، ومن نشأ في عبادة الله ولم يقارف معصية أصلاً، كل هؤلاء يدخلون الجنة ولا يدخلون النار لكنهم يردونها على الخلاف المعروف في الورود. والصحيح إن شاء الله تعالى على ما ذكره جماعة من العلماء، أن المراد بالورود، المرور على الصراط وهو منصوب على ظهر جهنم، أجارنا الله من حرها وبردها. وأما من مات من أهل المعاصي، أو له معصية كبيرة ولم يتب منها، فهو داخل تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه بمقدار ذنبه، أو القدر الذي يريده ثم يدخله الجنة، وإن شاء عفا عنه مطلقاً، فلا يخلد أحد في النار مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، وهذا من أحسن ما يتسلى به من مات له قريب أو صاحب من أهل المعاصي، ومات وما يعلم هل تاب من المعاصي أم لا؟ قال أبو ذكريا النووي ـ رحمه الله ـ: وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به، على هذه القاعدة، وتواترت بهذه نصوص تحصل العلم القطعي بذلك. انتهى كلامه. ويؤكد ذلك ما ثبت في الصحيح، «من حديث عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» . قال القاضي عياض: اختلف الناس فيمن عصى الله تعالى من أهل الشهادتين، فقالت المرجئة: لا تضره المعصية مع الإيمان. وقالت الخوارج: تضره ويكفر بها. وقالت المعتزلة: يخلد في النار إذا كانت كبيرة، ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر، لكنه فاسق. وقالت جماعة من العلماء: بل هو مؤمن، وإن لم يغفر له، وإن عذب، فلا بد من إخراجه من النار، وإدخاله الجنة. قال: وهذا الحديث حجة على الخوارج والمعتزلة، وأما المرجئة، فإن احتجت بظاهره، قلنا: نحمله على أنه غفر له وخرج من النار بالشفاعة، ثم أدخل الجنة ويكون معنى قوله عليه السلام: دخل الجنة: أي دخلها بعد مجازاته بالعذاب. وهذا لا بد من تأويله، لما جاء في ظواهر كثيرة، من عذاب بعض العصاة. انتهى كلامه. ومن هذا الباب، ما ثبت في الصحيح، أن أبا الأسود الديلي، «حدثه أبو ذر،

قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نائم على قميص أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فجلست إليه، فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. ثلاث مرات. ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر. قال: فخرج أبو ذر، وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر» . وفيه رد على الخوارج. وعلى المعتزلة بتخليد أهل الكبائر في النار. «وفي رواية ل البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل، فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق قال: وإن زنى وإن سرق» . وهو حديث أبي ذر. وفي الصحيح «من حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار» و «في لفظ: من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة» . و «في رواية: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» و «في لفظ: من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله دخل الجنة» . «وفي حديث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» . «وعنه أيضاً مرفوعاً: من لقي الله، لا يشرك به شيئاً دخل الجنة» . و «في رواية: ما من عبد، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إلا حرمه الله على النار» . وزاد في صحيح البخاري ومسلم، «من حديث عبادة بن الصامت: على ما كان من عمل» . وفي صحيح البخاري ومسلم، «من حديث أنس، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل، قال: يا معاذ، قال: لبيك وسعديك يا رسول الله، قال: يا معاذ قال: لبيك وسعديك يا رسول الله، قال: يا معاذ قال: لبيك وسعديك يا رسول الله، قال: ما من عبد، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا حرمه الله على النار. قال: أو لا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا» ، فأخبر بها عند موته تأثماً ـ يعني مخافة الإثم ـ. وفي لفظ مسلم «من حديث

عبادة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شهد أن لا إله إلا الله، وان محمداً رسول الله، حرم الله عليه النار» . «وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ فذكره، قال: أسعد الناس بشفاعتي، من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه» . رواه البخاري. «وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً» . رواه مسلم. «وفي لفظ له: حرم الله على النار من قال لا إله إلا الله» . وقد ورد في ذلك عدة أحاديث، وغالب هذه الأحاديث سردها مسلم في صحيحه في باب واحد، في باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت. لكن قال سعيد بن المسيب، عند سماعه هذه الأحاديث: إن هذا قبل نزول الفرائض والأمر والنهي. وهذا القول عن سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ ليس بشيء. وقال بعض العلماء: هو خطأ، لأن راوي أحد هذه الألفاظ أبو هريرة، وهو متأخر الإسلام، اسلم عام خيبر، سنة سبع بالاتفاق، وكانت أحكام الشريعة مستقرة، كالصلاة والزكاة والصيام ونحوها، فعلم ضعف هذا القول، والله تعالى أعلم. وقال بعض العلماء: هي مجملة تحتاج إلى شرح، ومعناه: من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها. وهذا قول الحسن البصري. وقيل: إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك، وهذا قول البخاري. وقد تقدم في أول الباب حملها على ظاهرها، وأن مذهب السلف والخلف من الفقهاء وأهل الحديث، على أن من مات موحداً دخل الجنة، وإن كان من أهل المعاصي، وأنه داخل تحت المشيئة. والله تعالى أعلم. وعن أبي جعفر، قال: لما حضر أبا زرعة الموت، وعنده أبو حاتم، ومحمد بن مسلم، والمنذر بن شاذان، وجماعة من العلماء، هابوا أن يلقنوه الشهادة، فقال بعضهم

لبعض: تعالوا نذكر الحديث، فقال محمد بن مسلم: حدثنا الضحاك، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، ولم يجاوز، وقال أبو حاتم: حدثنا بندار، عن أبي عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، ولم يجاوز. والباقون سكوت، فقال أبو زرعة: «ثنا بندار، عن أبي عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» . ثم توفي في ساعته رحمة الله عليه. وعن عبيد بن عياش، قال: لما مات النوار امراة الفرزدق، شهدها الحسن البصري، فلما سوي عليها التراب: وثب الفرزدق لينصرف، فقال للحسن: يا أبا سعيد، أما تسمع ما يقول الناس؟ قال: وما يقول الناس؟ قال: يقولون: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، يعنونك ويعنونني، فقال الحسن: ما أنا بخيرهم، وما أنت بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟ فقال: يا أبا سعيد، شهادة أن لا إله إلا الله، فبكى الحسن، ثم التزم الفرزدق فقال: لقد كنت من أبغض الناس إلي، وإنك اليوم من أحب الناس إلي.

الباب الثلاثون: في فضل الزهد في الدنيا والتسلية عنها والرغبة في الآخرة

الباب الثلاثون: في فضل الزهد في الدنيا والتسلية عنها والرغبة في الآخرة قال الله تعالى: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً} فالاستمتاع بالدنيا قليل، ومتعتك بها قليل من قليل، وثواب الآخرة خير وأفضل لمن اتقى المعاصي وأقبل على الطاعات. ومما ينبغي أن يعلم: أن هذا الباب من أنفع الأبواب لمن تدبره، فإن الدنيا دار قلعة وزوال، ومنزل نقلةو ارتحال، ومحل نائبه وامتحان، ومتاع غرور وافتتان، فلا ييأس على ما فات منها، ولا يفرح على ما وجد منها، ولا يجزع على ولد أو نفس تموت، ولا يحزن على أمر يفوت. «عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» . وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنظر السماء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري. قال جماعة من العلماء في تفسير هذا الحديث: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تغتر بها، فإنها غرارة خداعة، ولا تتعلق إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها إلا بما يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وبالله فاستعن. «وعن سهل بن سعد الساعدي، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل، إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا،

يحبك الله، وازهد فيما عند الناس، يحبك الناس» . رواه ابن ماجة وغيره بإسناد جيد. ولوائح الصحة ظاهرة عليه. «وعنه أيضاً، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافر منها شربة ماء» . رواه الترمذي، وقال حديث صحيح. «وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلماً» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وروى الترمذي أيضاً، «عن كعب بن عياض، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروى الترمذي، وحسنه وصححه، «عن عثمان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء» ـ قال ابن فارس في مجمله: وعاء الشيء جلفه ـ قال الترمذي: سمعت أبا داود يقول: سمعت النضر بن شميل يقول: الجلفة: الخبز ليس معه إدام. وقال غيره: هو غليظ الخبز، وقال الهروي: والمراد به هنا وعاء الخبز، كالجوالق والخرج ونحوه، والله أعلم. وفي صحيح مسلم، «عن عبد الله بن الشخير، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {ألهاكم التكاثر} قال: يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأ فنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟» . وفي صحيح البخاري ومسلم، من حديث أبي سعيد، قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: «إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها» . وفي صحيح مسلم، «عنه أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الدنيا حلوة خضرة،

وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعلمون؟ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» . وفي مسلم أيضاً، «عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط» . وفي مسلم أيضاً، «من حديث جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، والناس كنفتية، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، فقال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: تحبون أنه لكم؟ قالوا: والله، لو كان حياً كان عيباً أنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» . قوله: كنفتيه أي من جانبيه. والأسك الصغير الأذن. «وعن شهر بن حوشب، عن عبادة بن الصامت، قال: أراه رفعه النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا ما كان منها لله عز وجل، وألقوا سائرها في النار» . رواه ابن أبي الدنيا. وروي أيضاً، «عن عبادة بن العوام، عن هشام أو عوف، عن الحسن مرسلاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حب الدنيا رأس كل خطيئة» . واعلم، أنه من أحب دنياه، أضر بآخرته، ومن أحب آخرته، أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى. «وعن الحسن مرسلاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله، من خيرنا؟ قال: أزهدكم في الدنيا، وأرغبكم في الآخرة» و «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من زهد في الدنيا، أسكن الله الحكمة قلبه، وأطلق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه منها سالماً مسلماً إلى دار السلام» . رواه ابن أبي الدنيا.

فصل ـ في العجب ممن يسعى لدار الغرور

فصل ـ في العجب ممن يسعى لدار الغرور ومن العجب كل العجب، يصدق بدار الخلود، وهو يسعى لدار الغرور، فمن أحبه الله حماه عن الدنيا، كما يحمي أحدكم مريضه عن الماء. «وقد ورد في الحديث مرفوعاً: إن الله لم يخلق خلقاً أبغض إليه من الدنيا، وإنه منذ خلقها، لم ينظر إليها» . وروى ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا: قال مالك بن دينار: قالوا لعلي ـ رضي الله عنه ـ: يا أبا الحسن، صف لنا الدنيا؟ قال: أطيل أم اقصر؟ قالوا: بل أقصر، قال: حلالها حساب، وحرامها النار. وعنه أيضاً: قالوا: يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا؟ قال: وما أصف لكم من دار؟ من صح فيها أمن، ومن سقم فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها النار. وروي عن يونس بن عبيد، قال: ما شبهت الدنيا إلا كرجل نائم، فرأى في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك إذ انتبه. وقال الحسن بن علي: الدنيا ظل زائل. وقال أبو سليمان الداراني: إذا كانت الآخرة في القلب: جاءت الدنيا تزحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب، لم تزحمها الآخرة، لأن الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة. وقال الأوزاعي: سمعت بلالاً بن سعيد يقول: والله لكفى به ذنباً، أن الله عز وجل يزهد في الدنيا ونحن نرغب فيها، فزاهدكم راغب، ومجتهدكم مقصر، وعالمكم جاهل. فصل ـ في أن شرور الدنيا كأحلام نوم واعلم أن شرور الدنيا كأحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سررت يوماً أو أياماً ساءت أشهراً وأعواماً، وإن متعت

قليلاً منعت طويلاً، وما حصلت للعبد فيها سروراً إلا خبأت له أضعاف ذلك شروراً. قال ابن مسعود: لكل فرحة ترحة وما ملىء بيت فر حاً إلا ملىء ترحاً. قال ابن سيرين: ما من ضحك إلا يكون بعده بكاء. وقالت هند بنت النعمان: لقد رأيتنا، ونحن من أعز الناس، وأشدهم ملكاً، ثم لم تغب الشمس، حتى رأيتنا ونحن أذل الناس، وإنه حق على الله عز وجل، أن لا يملأ داراً حبرة، إلا ملأه عبرة. وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها، فقالت أصبحنا ذات صباح، وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا، وما في العرب أحد إلا يرحمنا. وبكت أختها حرقة بنت النعمان يوماً وهي في عزها، فقيل لها: ما يبكيك؟ فذكر أنها قالت: رأيت كثرة أهلي وسرورهم، وقلما املأت دار سروراً إلا املأت حزناً. قال إسحاق بن طلحة: دخلت عليها يوماً فقلت لها: كيف رأيت عبرات الملوك؟ فقالت: ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس، إنا نجد في الكتب: أنه ليس من أهل بيت يعيشون في حبرة إلا سيعقبون بعدها عبرة، وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه، ثم قالت: فبينا نسوس الناس، والمر أمرنا ... ... إذ نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا، لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا أو تصرف «وفي الحديث مرفوعاً: ما مثلي ومثل الدنيا، إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها» . رواه ابن أبي الدنيا وروى أيضاً: قال عيسى عليه السلام: ويل لصاحب الدنيا، كيف يموت ويتركها؟ يأمنها وتغره، ويثق بها وتخذله، ويل للمغترين، كيف أرقهم ما يكرهون، وفارقهم ما يحبون، وجاءهم ما يوعدون، ويل لمن الدنيا همته، والخطايه عمله، كيف يفتضح غدا بذنبه؟ ! وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن وهب بن منبه، قال عيسى عليه السلام: بحق أقول لكم، كما ينظر المريض إلى طيب الطعام ولا يلتذ من شدة الوجع، كذلك

فصل ـ في اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا

صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة، ولا يجد حلاوتها، مع ما يجد من حب الدنيا، إن الدابة إذا لم تركب وتمتهن تصعبت وتغير خلقها، كذلك القلوب، إذا لم ترق بذكر الموت، ودأب العبادة، تقسو وتغلظ. فصل ـ في اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً «وثبت في الصحيح مرفوعاً: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً» . قال أهل اللغة: القوت: ما يسد الرمق، وفيه دلالة على فضيلة التقليل من الدنيا، والاقتصار على القوت منها، والدعاء بذلك، والله أعلم، فإن الدخول في الدنيا، والميل إليها على خطر عظيم، «كما تقدم في الصحيح مرفوعاً: إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا» قال العلماء: في التحذير من الاغترار بالدنيا، والنظر إليها، والمفاخرة بها، فالدنيا، وإن أقبلت على الشخص من وجه حل، يخاف عليه الفتنة، والاشتغال بها عن كمال الإقبال على الآخرة، فإن وفق لإعطاء المسكين واليتيم وابن السبيل، وصرفه في وجوه البر، كان من الفائزين، وإلا كان من الهالكين. وقد ثبت في صحيح مسلم «عن المستورد بن شداد الفهري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما الدنيا في الآخرة، إلا مثل مايجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بما ترجع إليه» . «وقال معاوية: سمعت ـ على هذا المنبر ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة، وإنما مثل عمل أحدكم، كمثل الوعاء، إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خبث أعلاه خبث أسفله» . وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: من زهد في الدنيا، هانت عليه المصائب، ومن ارتقب الموت، سارع في الخيرات. وقال الحسن البصري: والذي نفسي بيده، لقد أدركت أقواماً، كانت الدنيا عليهم أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه. ثم علامة الشقاء قسوة القلب، وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على

فصل ـ في أن الدنيا دار ممر

الدنيا. وقال الفضيل بن عياش: علامة السعادة اليقين في القلب، والورع في الدنيا، والزهد في الدنيا، والحياء والعلم. وقال الفضيل أيضاً: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالاً لا أحاسب بها في الآخرة، لكنت أتجنبها كما يتجنب أحدكم الجيفة ـ إذا مر بها ـ أن تصيب ثوبه. وقال أبو الهاشم الزاهد: خلق الله الداء والدواء، فالداء الدنيا، والدواء تركها. فصل ـ في أن الدنيا دار ممر حضر بعض الرؤساء صلاة الجمعة، وبه مرض لا يحتمل معه تطويل الخطبة، فصعد الخطيب المنبر، فقال: الحمد لله رب العالمين، وصلواته على أشرف النبياء والمرسلين، أما بعد: فإن الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر، فخذوا لمقركم من ممركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، وأخرجوا الدنيا من قلوبكم، قبل أن تخرج منها أبدانكم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. فما أبلغ هذه الخطبة وأفصحها، وأوجزها! فعمر الدنيا والله قصير، وأغنى غني فيها فقير، وكأني بك في عرصة الموت وقد استنشقت ريح الغربة قبل الرحيل، ورأيت أثر اليتم في الولد قبل الفراق، فتيقظ إذن من رقدة الغفلة، وانتبه من السكرة، واقلع حب الدنيا من قلبك، فإن العبد إذا أغمض عينه وتولى، تمنى الإقالة فقيل كلا. قال أبو عمران الجوني: مر سليمان بن داود عليهما السلام في موكبه، والطير تظله، والجن والإنس عن يمينه وشماله، قال: فمر عابد من عباد بني إسرائيل، فقال: والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكاً عظيماً! ! قال: فسمع سليمان كلمته فقال: تسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داود، وما أعطي ابن داود يذهب، والتسبيحة تبقى.

فصل ـ في أن هذه الدار رحلة

فصل ـ في أن هذه الدار رحلة من بذل وسعه في التفكير التام، علم أن هذه الدار رحلة، فجمع للسفر رحلة ويعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطن الأمهات، ثم إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الحشر، ثم إلى دار الإقامة الأبدية، فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات، وهي دار الخلود، والعدو سبانا إلى دار الدنيا، فنجتهد في فكاك أسرنا، ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى، وفي مثل هذا قيل: فحي على جنات عدن فإنها ... ... منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم وليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس، ويسير بالإنسان سير السفينة لا يحس بسيرها وهو جالس فيها، كما قيل: إنما هذه الحياة متاع ... فالغوي الشقي من يصطفيها مامضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها ولا بد له في سفره من زاد، ولا زاد إلى الآخرة إلا التقوى، فلا بد من تعب الشخص والتصبر على مرارة التقوى، لئلا يقول وقت السير: ارجعون، فيقال: كلا. فليتنبه الغافل من كسل مسيره، فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفره آيات يرسلها تخويفاً لعباده، لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم، ونهجهم القويم، فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة، فرأى ما يخاف منه، فليرغب إلى الله بالرجوع إليه عما ارتكبه من السبل فيتوب من معصيته، ويبكي من قسوته، فإذا انتبه من رقدة كسله، علم أن الدنيا دار غرور طبعت على كدر. كما روى ابن أبي الدنيا قال: أنشدني الحسن بن السكن: حياتك بالهم مقرونة ... فما تقطع العيش إلا بهم

لذاذات دنياك مسمومة ... فما تأكل الشهد إلا بسم إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زلولاً إذا قيل تم وكما قيل في المعنى: حكم المنية في البرية جار ... ما هذه الدنيا بدار قرار بينا يرى الإنسان فيها مخبراً ... حتى يرى خبراً من الأخبار طبعت على كدر وأنت تريدها ... ... صفواً من الأقذاء والأكدار وقال بعض السلف: احذروا دار الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت، فإنهما يفرقان بين المرء وزوجه، والدنيا تفرق بين العبد وربه. وذكر ابن أبي الدنيا هذا الأثر مرفوعاً، قال جعفر بن سليمان: سمعت مالكاً يقول: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء ـ يعني الدنيا ـ. وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده إلى الحسن البصري أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى منها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فكن كالمداوي جراحته، يحتمي قليلاً، مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء، مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الحيالة الخداعة، التي ازينت بخدعها وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشرفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلية، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر على الأول مزدجر، ولا العارف بالله عز وجل حين أخبر عنها مدكر، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد، فشغل فيها لبه حتى زالت عنها قدمه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور، أشخصه إلى مكروه، قد وصل

الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن، لا يرجع منها ما ولى فأدبر، ولا يدرى ما هو آت فينتظر أما نيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر، ولقد عرضت على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها، فأبى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً. جاءت الرواية أنه تبارك وتعالى قال لموسى عليه السلام: إذا رأيت الغني مقبلاً فقل: ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحباً بشعار الصالحين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وفي آخر المخطوط التي تمت الطباعة وفقاً له ما يأتي بخط المؤلف: علقها مؤلفاً محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحنبلي كان الله له وسامحه بمنه وكرمه من نسخة أصله في رجب الفرد سنة سبع وسبعين وسبعمائة أحسن الله عاقبتها. [تم]

§1/1