تزكية النفوس

أحمد فريد

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف نسأل الله تعالى حسن الخاتمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فمن أكثر من خمسة عشر عاماً، ومع تباشير الصحوة الإسلامية وفقنى الله عز وجل لجمع كتاب مختصر فى الرقائق وأسميته " دقائق الأخبار فى رقائق الأخبار ". وطبع هذا الكتاب أكثر من طبعة غير محققة ثم استأذننى الأخ شرف حجازى فى طبع الكتاب بعد أن حققه بعض الإخوة الأفاضل فأذنت له ومضى على ذلك مدة، ثم نزل الكتاب باسم " تزكية النفوس " وبتحقيق الأخ: " ماجد أبو الليل " وانتشر الكتاب بفضل الله عز وجل وفوجئت بطبعات بيروتية باسم دار القلم ليس لها خطام ولا زمام، فلا أدرى هل كان هذا باتفاق مع المحقق أو على الطريقة البيروتية فى الطباعة وعلى كل حال ليس ذلك بإذن

المؤلف، ولما كان الكتاب من أول ما كتبته مع قلة المراجع وقلة العلم والخبرة اشتمل الكتاب على بعض الأحاديث الضعيفة فأردت أن أبرىء ساحتى من هذه الأحاديث وأن أتعامل معها كما تعاملت مع " البحر الرائق" و " مختصر بغية الإنسان" وغيرهما من حذف الضعيف وإعادة تحقيق الكتاب وتجهيزه لطبعة اقتصادية، وتسهيل الحصول عليه لإخواننا من المبتدئين فى طلب العلم. وزدت فى هذه الطبعة بعض الزيادات واستبدلت بعض الأحاديث الضعيفة بأحاديث صحيحة وربما استبدلت بعض الصحيح الذى ليس فى الصحيحين بما يغنى عنه من أحاديث الصحيحين ولا شك أن مؤلف الكتاب أولى بتحقيقه والناظر فى الجهد المبذول سوف يجد بإذن الله تعالى فائدة جديدة، وكم من كتاب حققه أكثر من محقق واستفاد الناس من مجهود كل محقق، وقد حافظت على اسم الكتاب دفعاً للتدليس وحتى لايشتريه أحد وهو يملكه ظناً منه أنه مصنف جديد. أما عن موضوع الكتاب فهو كتاب مختصر عن تزكية النفوس، ويقصد بتزكية النفوس تطهيرها وتطييبها، حتى تستجيب لربها وتفلح فى دنياها وآخرتها كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9 - 10). وهى دعوة النبى - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم آت نفسى تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها) (¬1). فيبدأ الكتاب بمعرفة ما يقبل به العلم من شرطى الإخلاص والمتابعة ثم فضل العلم والعلماء، ثم بيان أحوال القلوب وأقسامها وعلامات مرضها وسقمها، وأسباب صحتها وأسباب سقمها فإن الناس لا يحتاجون إلى الوصية ¬

_ (¬1) رواه مسلم (17/ 41) الذكر بزيادة فى أوله وآخره، وأحمد (4/ 371) و (6/ 209).

بأجسادهم لحفظ حياتها ودفع هلاكها، فكلهم يأكل ما يفيده ويترك ما يتحقق مضرته، ولكنهم يتناولون السموم الضارة المهلكة لقلوبهم، ويزهدون فى الأغذية النافعة لها، حتى صارت الأجسام لها قبورٌ إلا من رحم ربك وقليل ما هم. ثم ذكرت باباً فى محاسبة النفس، وباباً فى الزهد وأضرار حب الدنيا، وللأسف قسم هذا الموضوع فى جميع الطبعات السابقة مع أنه موضوع واحد فالتأم شمله بفضل الله عزّ وجلّ فى هذه الطبعة. ثم ذكرت عدة عبادات من أحب العبادات إلى الله عزّ وجلّ لا تصلح القلوب إلا بها كالصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والتوكل والرضا، وختمت هذه الجولة الطيبة فى الرقائق وما تزكو به النفس بالتوبة التى هى وظيفة العمر والسبب الموصل إلى محبة الله عزّ وجلّ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: من الآية222). فنسأل الله أن يوفقنا لتوبة نصوح وأن يتقبل منا صالح الأعمال وأن يتجاوز عما فيها من نقص وزلل، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاه، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين. المؤلف

1 - الإخلاص والمتابعة

1 - الإخلاص والمتابعة شرطان لقبول العمل لا يقبل الله عز وجل عملاً من الأعمال حتى يتوفر فيه شرطان فالأول: هو الإخلاص وهو شرط الباطن، والثانى: هو متابعة سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو شرط الظاهر، ودل على هذا المعنى كتاب الله المنزل وسنة النبى المرسل - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} (الملك: من الآية2). قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل. وقال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف من الآية: 110). فالعمل الصالح هو الموافق للسنة وعدم الشرك هو الإخلاص. وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (النساء: من الآية 125). فإسلام الوجه هو الإخلاص، والإحسان هو متابعة سنة النبى - صلى الله عليه وسلم -.

أ - الإخلاص

أ - الإخلاص الإخلاص: هو تجريد قصد التقرب إلى الله عز وجل عن جميع الشوائب. وقيل: هو إفراد الله عز وجل بالقصد فى الطاعات. وقيل: هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق. والإخلاص شرط لقبول العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمرنا الله عز وجل به فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (البينة: من الآية 5). وعن أبى أمامة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجل غزا يلتمس الأجرَ والذكْر ماله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا شىء له)، بأعادها ثلاث مرات ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لاشىء له)، ثم قال: (إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغى به وجهه) (¬1). وعن أبى سعيد الخدرى - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى حجة الوداع: (نضر الله امرءاً سمع مقالتى فوعاها، فرب حامل لفقه ليس بفقيه، ثلاث لايغل عليهن قلب امرىء مؤمن: إخلاص العمل لله، ¬

_ (¬1) رواه النسائى (6/ 25) الجهاد، وحسنه العراقى فى تخريج الإحياء (4/ 28)، وقال المنذرى فى الترغيب (1/ 24): إسناده جيد، وحسنه الألبانى فى الصحيحة رقم (52).

والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم) (¬1). والمعنى: أن هذه الثلاثة تستصلح بها القلوب، فمن تخلق بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر. ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله عز وجل: {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: الآية 83). وروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه: " يانفس أخلصى تتخلصى ". وكل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قلّ أم كثر، إذا تطرق إلى العمل، تكدر به صفوه، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط فى حظوظه، منغمس فى شهواته، قلما ينفك فعلٌ من أفعاله، وعبادةٌ من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس، فلذلك قيل: " من سلم له من عمره لحظةٌ واحدةٌ خالصةٌ لوجه الله نجا "، وذلك لعزة الإخلاص، وعُسْرِ تنقية القلب عن الشوائب، فالإخلاص: تنقية القلب من الشوائب كلها، قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصدُ التقرب فلا يكون فيه باعثُ سواه، وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبق لحب الدنيا من قلبه قرارٌ، فمثل هذا لو أكل، أو شرب، أو قضى حاجته، كان خالص العمل، صحيح النية، ومن ليس كذلك فبابُ الإخلاص مسدودٌ عليه إلا على الندور. وكما أن مَنْ غلب عليه حب الله، وحب الآخرة، فاكتسبت حركاتهُ الاعتيادية صفة همه، وصارت إخلاصاً، فالذى يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة، وبالجملة غير الله، اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (10/ 126) العلم، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (1/ 84) المقدمة، والدارمى (1/ 76)،والبغوى فى شرح السنة (1/ 236)، وأحمد (4/ 80،82)، وصححه الألبانى.

فلا تسلم له عبادةٌ من صومٍ، وصلاة وغير ذلك إلا نادراً. فعلاج الإخلاص كسرُ حظوظ النفس، وقطعُ الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر به الإخلاص، وكم من أعمل يتعب الإنسان فيها، ويظن أنها خالصةٌ لوجه الله، ويكون فيها من المغرورين، لأنه لم يَرَ وجهَ الآفة ِ. كما حُكى عن بعضهم: أنه كان يصلى دائماً فى الصف الأول، فتأخر يوماً عن الصلاة فصلى فى الصف الثانى، فاعترتْه خجلةٌ من الناس حيث رأوْه فى الصف الثانى، فَعَلم أن مسرته وراحة قلبه منِ الصلاة فى الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامضٌ قَلّما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ من ينتبه له إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون عنه يَرَوْنَ حسناتهم يوم القيامة سيئات، وهم المقصودون بقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} (الزمر: من الآيتين 47،48). وبقوله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: الآية 103 - 104).

بعض الآثار عن الإخلاص

بعض الآثار عن الإخلاص قال يعقوب: " المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ". قال السوسى: " الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص، فإن مَنْ شاهد فى إخلاصه الإخلاص فَقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص ". وما ذكر إشارة إلى تصفية العمل من العُجْب بالفعل، فإن الإلتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه عٌجْب، وهو من جملة الآفات، والخالص ما صفا عن جميع الآفات. قال أيوب: " تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال ". وقال بعضهم: " إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكنّ الإخلاص عزيزٌ". وقيل لسهل: أى شىء أشد على النفس؟ قال: " الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب ". وقال الفُضَيْل: " ترك العمل من أجل الناس رياء، والعملُ من أجل الناس شرك، والإخلاص: أن يعافيك الله منهما ".

فضل النية

فضل النيّة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: " أفضل الأعمال أداءُ ما افترض الله تعالى، والورعُ عما حرّم الله، وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى ". وقال بعض السلف: " رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، وربّ عمل كبير تصغيره النية ". وعن يحيى بن أبى كثير: " تعلّموا النية، فإنها أبلغ من العمل ". وصحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلاً عند إحرامه يقول: اللهم إنى أريد الحج والعمرة فقال له: " أتُعْلم الناس، أوَ ليس الله يعلم ما فى نفسك": وذلك لأن النية هى: قصد القلب، ولا يجب التلفظ بها فى شىء من العبادات وإنما يشرع فى الحج والعمرة أن يقول: لبيك اللهم بحجة أو بعمرة أو بعمرة وحجة إن كان قارناً، وهو الذى يسمى بالإهلال.

ب - متابعة السنة

ب - متابعة السنّة والشرط الثانى لقبول العمل أن يكون العمل مطابقاً لسنة النبى - صلى الله عليه وسلم - لحديث عاشئة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفى رواية لمسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). فهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، فكما أن حديث: " الأعمال بالنيات " ميزان للأعمال فى باطنها فهو ميزان للأعمال فى ظاهرها فكما أن كل عمل لايراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو ردعلى عامله فقوله: "ليس عليه أمرنا" إشارة إلى أن أعمال العاملين كلها ينبغى أن تكون تحت أحكام الشريعة فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جارياً تحت أحكام الشريعة موافقاً لها فهو مقبول، ومن كان خارجاً عن ذلك فهو مردود. أوجب الله عز وجل علينا طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: من الآية 7) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالاً مُّبِينًا} (الأحزاب: الآية 36) ¬

_ (¬1) رواه البخارى (5/ 301) الصلح، ومسلم (12/ 16) الأقضية، والرد هنا بمعنى المردود أى فهو باطل غير معتد به.

وجعل الله عز وجل اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علامة على محبته فقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آل عمران: من الآية 31) قال الحسن البصرى: ادعى ناس محبة الله عز وجل فابتلاهم بهذه الآية: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي} ... الآية. كما أوصى النبى - صلى الله عليه وسلم - بالتمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين فقال - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " (¬1). قال الزهرى: الاعتصام بالسنة نجاة لأن السنة كما قال مالك: مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وقال سفيان: لايقبل قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بمتابعة السنة. وعن ابن شوذب قال: إن من نعمة الله على الشاب إذا نَسُكَ أن يوفقه الله إلى صاحب سنة يحمله عليها. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 126، 127)، وأبو داود (12/ 359، 360) السنة، والترمذى (10/ 144) العلم، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه (43) المقدمة، والدارمى (1/ 44، 45) اتباع السنة، والبغوى فى شرح السنة (1/ 205) وقال: هذا حديث حسن.

2 - فضل العلم والعلماء

2 - فضل العلم والعلماء والعلم هو ما قام عليه الدليل ويقصد به علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضى الله عنهم. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بلتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فضائله فى القرآن كثيرة، منها قوله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة من الآية: 11). وقوله عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر من الآية: 9). وأما الأخبار، فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " (¬2). وسلوك الطريق لالتماس العلم يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقى وهو المشي ¬

_ (¬1) رواه البخارى (1/ 164) العلم، ومسلم (13/ 67) الإمارة، ورواه الترمذى (10/ 114) عن ابن عباس وقال: حديث حسن صحيح. قال ابن الأثير: الفقه: الفهم والدراية والعلم فى الأصل وقد جعله العرف خاصاً بعلم الشريعة. (¬2) رواه مسلم (17/ 21، 22) الذكر والدعاء، والترمذى (10/ 115) وأبواب العلم، وقال: هذا حديث حسن، وأبو داود (10/ 73) العلم، وابن ماجه (225) المقدمة.

بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويدخل فيه سلوك الطريق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم مثلُ حفظهِ ومدارسته. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " قد يراد بذلك أن الله يسهل له العلم الذى طلبه وسلك طريقه، وييسره عليه، فإن العلم طريقٌ يوصل إلى الجنة، كما قال بعض السلف: " هل من طالب علمٍ فيعان عليه"، وقد يراد به طريق الجنة يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده. والعلم أيضاً يدل على الله تعالى من أقرب طريق، فمن سلك طريقه وصل إلى الله تعالى وإلى الجنة من أقرب طريق، والعلم أيضا يهتدى به فى ظلمات الجهل والشبه والشكوك، ولهذا سمى الله كتابه نوراً، وعن عبد الله بن عمرو عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " (¬1). وسُئل عبادة بنُ الصامت عن هذا الحديث فقال: " لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع ". وإنما قال عبادة - رضي الله عنه - هذا لأن العلم قسمان: أحدهما ما كان ثمرته فى قلب الإنسان، هو العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله المقتضى لخشيته، ومهابته، وإجلاله، ومحبته، ورجائه، والتوكل عليه، فهذا هو العلم النافع كما قال ابن مسعود: " إن أقواماً يقرؤون القرآن لا ¬

_ (¬1) رواه البخارى (1/ 234) العلم، ومسلم (16/ 223، 224) العلم. وقال الحافظ: " لايقبض العلم انتزاعاً: أى محواً من الصدور، وكان تحديث النبى - صلى الله عليه وسلم - بذلك فى حجة الوداع. وقال ابن المنيّر: محو العلم من الصدور جائز فى القدرة: إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه.

يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع فى القلب فرسَخ فيه نفع"، وقال الحسن: " العلم علمان: علم اللسان فذاك حجة على ابن آدم، كما فى الحديث " القرآن حجة لك أو عليك" (¬1)، وعلم فى القلب فذاك العلم النافع، فأول ما يرفع من العلم العلمُ النافع، وهو العلم الباطن الذى يخالط القلوب ويصلحها، ويبقى علم اللسان فيتهاون الناس به ولا يعملون بمقتضاه، لا حملته ولا غيرهم، ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته وتقوم الساعة على شرار الخلق ". ومن الأدلة على فضل العلم وأهله كذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا حسد إلا فى اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته فى الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها " (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلماً فهو يتقى فى ماله ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأحسن المنازل عند الله، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لى مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما فى الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط فى ماله لا يتقى فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأسوأ المنازل عند الله، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علما فهو يقول: لو أن لى مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما فى الوزر سواء" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (3/ 99، 100) الطهارة، وقال النووى: فمعناه ظاهر أى تنتفع به إن تلوته وعملت به وإلا فهو حجة عليك. (¬2) رواه البخارى (1/ 165) العلم، ومسلم (6/ 97، 98) صلاة المسافرين، وقال الحافظ: قوله: " لا حسد ": أى لا رخصة فى الحسد إلا فى خصلتين: أو لا يحسن الحسد إن حسن، أو أطلق الحسد مبالغة فى الحث على تحصيل الخصلتين. (¬3) رواه الترمذى (9/ 199، 200) أبواب الزهد، وقال: حسن صحيح، ورواه أحمد (4/ 230،231)، وابن ماجه (4228) الزهد، وصححه الألبانى.

فعادت السعادة بحملتها على العلم وموجبه والشقاوة بجملتها على الجهل وثمرته. قال الإمام أحمد: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه فى اليوم مرة أو مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس. وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء. ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لم استهدى أدلاء وقدر كل أمرىء ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلمٍ تعش حياً به أبدا ً ... الناس موتى وأهل العلم أحياء

3 - أنواع القلوب وأقسامها

3 - أنواع القلوب وأقسامها قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء من الآية: 36). ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف فى الجنود، الذى تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم، أو يحله قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: " ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب " (¬1). فهو ملكُها، وهى المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديه، ولا يستقيم لها شىء من أعمالها حتى تصدر عن قصده نيته، وهو المسئول عنها كلها، لأن كل راعٍ مسئول عن رعيته: كان الاهتمام بتصحيحه، وتسديده، أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظر فى أمراضه وعلاجها أهم ¬

_ (¬1) جزء من حديث رواه البخارى (1/ 126) الإيمان، ومسلم (11/ 27، 28) المساقاة والمزارعة وأول الحديث: " إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن ". قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح قلبه فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلا محبة الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها واتقاء الشبهات حذراً من الوقوع فى المحرمات، وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع الهوى وطلب ما يحبه ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها وانبعث إلى كل المعاصى والشبهات بحسب اتباع هوى القلب (1/ 284، 285) جامع العلوم والحكم بتحقيق الأحمدى أبو النور.

1 - القلب الصحيح:

ما تنسك به الناسكون. لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها، انقسم بحسب ذلك إلى ثلاثة أقسام: القلب الصحيح أو السليم، والقلب الميت، والقلب المريض. 1 - القلب الصحيح: هو القلب السليم الذى لاينجو يوم القيامة إلا مَنْ أتى الله تعالى به، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: الآية: 88 - 89). وقيل فى تعريفه: إنه القلب الذى سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عيودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فخلصت عبوديته لله تعالى، إرادة ومحبة، وتوكيلاً، وإنابة، وإخباتاً وخشية، ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحب أحب فى الله، وإن أبغض أبغض فى الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الإنقياد والتحكيم لكل مَنْ عدا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيعقد قلبه معه عقداً محكماً على الإتمام والإقتداء به وحده، دون كل أحد فى الأقوال والأعمال، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول، ولا عمل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات: 1). 2 - القلب الميت: وهو ضد القلب السليم، فهو لايعرف ربه، ولا يعبده بأمره، وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته، ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لايبالى إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط، فهو متعبد لغير الله، إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى

3 - القلب المريض:

أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهواه آثر عنده، وأحب إليه من رضى مولاه، فالهوى إمامه والشهوة قائده، والجهل ُ سائقه، والغفلةُ مركبهُ، فهو بالفكر فى تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، ينادى إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد فلا يستجيب للناصح، ويتبع كل شيطان مريد، الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سمّ، ومجالسته هلاك. 3 - القلب المريض: قلب له حياة وبه علة تمده هذه مرة وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى، والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه، ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات، وإيثارها، والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر، والعجب، ما هو مادة هلاكه وعطبه، فهو ممتحن من داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه باباً، وأدناهما إليه جواراً. فالقلب الأول: حىّ، مخبت، لين واع. والثانى: يابس، ميت. والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى، إما إلى العطب أدنى. * * *

علامات مرض القلب وصحته

علامات مرض القلب وصحته علامات مرض القلب قد يمرض قلب العبد، ويشتد المرض، ولا يعرف به صاحبه، بل قد يموت وصاحبه لايعرف بموته، وعلامة مرضه أو موته، أن صاحبه لا تؤلمه جراحات المعاصى، ولا يوجعه جهله بالحق، وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان حياً تألم بورود القبائح عليه، وتألم بجهله بالحق - بحسب حياته - وقد يشعر بالمرض، ويشتد عليه مرارة الدواء، فهو يؤثر بقاء الألم على مشقة الدواء. ومن علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة إلى الضارة، وعدولها عن الدواء النافع إلى دائها الضار، فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافى على الضار المؤذى، والقلب المريض بضدّ ذلك، وأنفع الأغذية: غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية: دواء القرآن. علامات صحة القلب: أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها، أو أبنائها، جاء إلى هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر: " كن فى الدنيا كأنك غريب أو

عابر سبيل " (¬1). وكلما مرض القلب آثر الدنيا، واستوطنها، حتى يصير من أهلها. - ومن علامات صحة القلب: أنه لايزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، فيستغنى بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبخدمته عن خدمة ما سواه. - ومن علامات صحة القلب: أنه إذا فاته وِرْدهُ أو طاعة من الطاعات، وجَدَ لذلك ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده. - ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب. - قال يحيى بن معاذ: " من سر بخدمة الله سُرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه ". - ومن علامات صحته: أن يكون همه واحداً، وأن يكون فى الله يعنى فى طاعة الله -. - ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعاً كأشد الناس شحاً بماله. - ومن علامات صحته: أن يكون إذا دخل فى الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا ووجد فيها راحته، ونعيمه وقرةَ عينه، وسرور قلبه. - ومن علامات صحته: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من ¬

_ (¬1) رواه البخارى (11/ 233) الرقاق، وأحمد (2/ 24، 41)، والترمذى (9/ 203) الزهد، وأبو نعيم فى الحلية (3/ 301).

أسباب مرض القلب

خدمته، ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه ويذكره به. - ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه، والنصيحة، والمتابعة، والإحسان، ويشهد مع ذلك منةَ الله عليه فيه، وتقصيره فى حق الله. * * * أسباب مرضُ القلبِ والفتن التى تُعرض على القلوب هى أسباب مرضها، وهى فتن الشهوات والشبهات، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والإعتقاد. عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير، عوداً عوداً، بأى قلب أشربه نكتت فيه نكتة سوداء، وأى قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلب على قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لايعرف معروفاً، لا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لاتضره فتنة ما دامت السماوات والأرض " (¬1). فقسّم - صلى الله عليه وسلم - القلوب عند عرض الفتن عليها إلى قسمين: قلب إذا عُرضت عليه فتنة أشربها كما يشرب السفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسودّ وينتكس، وهو معنى قوله: " كالكوز مجخياً " أى مكبوباً منكوساً، فإذا اسودّ وانتكس عرض له من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2/ 270، 272) الإيمان. وقوله: " مُرباداً" المربد الذى لونه رُبدة وهى بين السواد والغبرة، و " المجخى " هو المائل عن الاستقامة والاعتدال.

4 - سموم القلب الأربعة

هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك. أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكراً والمنكر معروفاً والسنة بدعة، والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقاً الثانى: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانقياده للهوى واتباعه له. وقلب أبيض: قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه. 4 - سموم القلب الأربعة أعلم أن المعاصى كلها سموم للقلب وأسباب لمرضه وهلاكه، وهى منتجة لمرض القلب وإرادته غير إرادة الله عز وجل، وسبب لزيادة مرضه. قال ابن المبارك: رأيت الذنوب تُميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانُها وترك الذنوب حياة القلوب ... وخيرُ لنفسك عصيانُها فمن أراد سلامة قلبه وحياته فعليه بتخليص قلبه من آثار تلك السموم، ثم بالمحافظة عليه بعدم تعاطى سموم جديدة، وإذا تناول شيئاً من ذلك خطأ سارع إلى محو أثرها بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية. ونقصد بالسموم الأربعة: فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول الطعام، وفضول المخالطة، وهى أشهر هذه السموم انتشاراً، وأشدها تأثيراً فى حياة القلب.

1 - فضول الكلام

1 - فضول الكلام الحمد لله الذى أحسن خلق الإنسان وعدّله، وألهمه نور الإيمان فزينه به وجملهُ وعلمه البيان فقدمه به وفضله، وأمده بلسان يترجم به عما حواه القلب وعقله، فاللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جرمُهُ عظيم طاعته وجُرمه، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان، ومن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان فى كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هارٍ إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، عن معاذ - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " وهل يكب الناس فى النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟ " (¬1). والمراد بحصائد الألسنة: جزاء الكلام المحرم وعقوباته فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيراً من قولٍ أو عملٍ حصد الرامة، من زرع عشراً من قول أو عمل حصد الندامة. وقد وردت الأخبار الكثيرة فى لتحذير من آفات اللسان وبيان خطره. ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (10/ 87، 88) الإيمان وقال: حسن صحيح وابن ماجه (3973) الفتن، والحاكم (2/ 413) التفسير، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبى وصححه الألبانى.

فمن ذلك قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: الآية: 18). وعن سفيان بن عبد الله الثقفى قال: قلت يارسول الله ما أخوف ما تخاف علىّ؟ قال: " هذا وأخذ بلسانه " (¬1). وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت يارسول الله ما النجاة؟ قال: " أمسك عليك لسانك ... " (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" (¬3). وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فالكلام إما أن يكون خيراً فيكون العبد مأمورا بقوله، وإما أن يكون غير ذلك فيكون مأموراً بالصمت عنه. وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها فى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب " (¬4). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: " والله الذى لا إله ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (9/ 249) الزهد وقال حسن صحيح، وابن ماجة (3972) الفتن، والدارمى (2/ 298) الرقاق، والحاكم (2/ 313) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبى والألبانى. (¬2) رواه الترمذى (9/ 247) الزهد، وأحمد (5/ 259)، وابن المبارك (134) الزهد، وصححه الألبانى لطرقه فى الصحيحة رقم (890). (¬3) رواه البخارى (10/ 445) الأدب، ومسلم (2/ 18) الإيمان، وأبو داود (5032) الأدب، وابن ماجة (3971) الفتن. (¬4) رواه البخارى (11/ 266) الرقاق، ومسلم (18/ 117) الزهد، والترمذى (9/ 195) الزهد بلفظ: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة لايرى بها بأساً يهوى بها سبعين خريفاً فى النار " وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

إلا هو ليس شىء أحوج إلى طول سجن من لسانى ". وكان يقول: "يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم ". وعن أبى الدرداء - رضي الله عنه - قال: " أنصف أذنيك من فيك وإنما جعل لك أذنان وفم واحدٌ لتسمع أكثر مما تتكلم ". وعن الحسن البصرى: قال: كانوا يقولون: إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد ا، يتكلم بشىء تدبره بقلبه ثم أمضاه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا هم بشىء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه. فإذا قلت: فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه؟ فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض فى الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات فهذه آفات كثيرة وهى سياقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة فى القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، فلذلك عظمت فضيلة الصمت، مع ما فيه من جمع الهم، ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة، والسلامة من تبعات القول فى الدنيا، ومن حسابه فى الآخرة فقد قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: الآية: 18).

2 - فضول النظر

2 - فضول النظر فضول النظر: هو إطلاقه بالنظر إلى الشىء بملء العين، والنظر إلى ما لا يحل النظر إليه وهو على العكس من غض البصر. والغض: هو النقص وقد أمر الله عز وجل به فقال: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور: الآية: 30 - وجزء من 31). وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِجْل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " (¬1). وعن جرير - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن النظر الفجأة فقال: " اصرف بصرك " (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخارى (10/ 26) الاستئذان، وسملم (16/ 205، 206) القدر، وأبو داود (2139)، النكاح، وأحمد (2/ 276). (¬2) رواه مسلم (14/ 139) الأدب، والترمذى (10/ 229) الادب، والدارمى (2/ 228) الاستئذان، وأحمد (4/ 358، 361) ومعنى نظر الفجأة أن يقع بصره علىالاجنبية من= =غير قصد فلا إثم عليه فى أول ذلك ويجب عليه أن يصرف بصره فى الحال، فإن صرف فى الحال فلا إثم عليه وإن استدام النظر أثم لهذا الحديث فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بصرف بصره مع قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} شرح النووى على صحيح مسلم هامش (14/ 139).

وفضول النظر يدعو إلى الاستحسان، ووقوع صور المنظور فى قلب الناظر، فيحدث أنواعاً من الفساد فى قلب العبد منها: أن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره لله أورثه حلاوة يجدها فى قلبه إلى يوم يلقاه. ومنها: دخول الشيطان مع النظرة، فإنه ينفذ معها أسرع من نفوذ الهواء فى المكان الخالى، ليزين صورة المنظور، ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب ُ، ثم يعده ويمنيه، ويوقد على القلب نار الشهوات ويلقى حطب المعاصى التى لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة. ومنها: أنه يشغل القلب، وينسيه مصالحه، ويحول بينه وبينها، فينفرط عليه أمره، ويقع فى اتباع الهوى والغفلة. قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: من الآية: 28) وإطلاق البصر يوجب هذه الأمور الثلاثة: وقال أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التى هى محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه، والأنس به، والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك. وإطلاق البصر معصية لله عز وجل لقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (النور: الآية: 30) وما سعد من سعد فى الدنيا إلا بامتثال أمر الله، ولا نجاة للعبد فى الآخرة إلا بامتثال أوامر الله عز وجلَ. وإطلاق البصر كذلك يُلبس القلب ظلمة، كما أن غضّ البصر لله عزّ

وجلَ يُلبسه نوراً. وقد ذكر الله عزّ وجل آية النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فيهَا مِصبَاحٌ} (النور: من الآية: 35)، بعد قوله عز وجل: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ..... } (النور: من الآية: 30) وإذا استنار القلب، أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم، أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان. وإطلاق البصر كذلك يعمى القلب عن التمييز بين الحق والباطل، والسنة والبدعة، وغضهُ لله عزّ وجل يورثه فراسة صادقة يميز بها. قال أحد الصالحين: " من عمّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكفّ نفسه عن الشبهات، واغتذى بالحلال لم تخطىء له فراسة ". والجزاء من جنس العمل، فمن غضّ بصره عن محارم الله أطلق الله نور بصيرته.

3 - فضول الطعام

3 - فضول الطعام قلة الطعام توجب رقة القلب، وقوة الفهم، وإنكسار النفس، وضعف الهوى والغضب، وكثرة الطعام توجد ضد ذلك. عن المقدام بن مَعْد يكرِب قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما ملأ ابن آدم وعاءْاً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه " (¬1). وفضول الطعام داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصى، ويثقلها عن الطاعات والعبادات، وحسبك بهذين شراً، فكم من معصية جلبها الشبعُ وفضولُ الطعام، وكم من طاعة حال دونها، فمن وقى شرّ بطنه فقد وقى شراً عظيماً، والشيطان أعظم ما يتحكم فى الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام، ولهذا جاء فى بعض الآثار: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. وقال بعض السلف: كان شباب يتعبدون من بنى إسرائيل، فإذا كان فطرهم قام عليهم قائم فقال: " لا تأكلوا كثيراً، فتشربوا كثيراً، فتناموا كثيراً فتخسروا كثيراً ". وقد كان النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيراً- وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام - إلا ان الله لايختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها، ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (9/ 244) الزهد وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه (3349) الأطعمة، والحاكم (4/ 121) وصححه ووافقه الذهبى الألبانى.

ولهذا كان ابن عمر يتشبه به فى ذلك مع قدرته على الطعام، وكذلك كان أبوه من قبله. عن عائشة (رضى الله عنها) قالت: " ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من خبز بُرٍ ثلاث ليال تباعاً حتى قبض " (¬1). قال إبراهيم بن أدهم: " من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان ". ¬

_ (¬1) رواه البخارى (11/ 282) الرقاق، ومسلم (18/ 105، 106) الزهد.

4 - فضول المخالطة

4 - فضول المخالطة هى الداء العضال الجالب لكل شر، وكم سَلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست فى القلب من حزازات تزول الجبال الراسياتُ وهى فى القلوب لا تزول، ففى فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغى للعبد أن يأخذ من المخالطة بقدر الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينها دخل عليه الشر: أحدهما: مَن مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه فى اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه، هكذا على الدوام، هُم العلماء بالله وأمره ومكايد عدوه، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولخلقه فهذا الضرب فى مخالطتهم الربح كلّ الربح. القسم الثانى: مَن مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض، فما دُمتَ صحيحاً فلا حاجة لك فى خلطته، وهم من لايستغنى عن مخالطتهم فى مصلحة المعاش وما أنت تحتاج إليه من أنواع المعاملات والاستشارة ونحوها، فإذا قضت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من: القسم الثالث: وهم مَنْ مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه، فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن، وهو من لاتربح عليه دين ولا دنيا، ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت منك مخالطته واتصلت فهى مرضُ الموت المخوف، ومنهم الذى لايحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت

القسم الرابع

فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعفها فى منزلتها، بل إذا تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به، فهو يُحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإذا سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التى لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض. وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته، فليعاشره بالمعروف ويعطيه ظاهره ويبخل عليه بباطنه حتى يجعل الله له من أمره فرَجاً، ومخرجاً. القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله، فهى بمنزلة أكل السم، فإذا اتفق لآكله ترياق وإلا فأحسن الله العزاء، وما أكثر هذا الضرب فى الناس - لأكثرهم الله - وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الداعون إلى خلافها، فيجعلون السنة بدعة والبدعة سنة، وهذا الضرب لاينبغى للعاقل أن يجالسهم أو يخالطهم، وإن فعل فإما الموت لقلبه أو المرض. نسأل الله لنا ولهم العافية والرحمة.

5 - أسباب حياة القلب وأغذيته النافعة

5 - أسباب حياة القلب وأغذيته النافعة اعلم أن الطاعات لازمة لحياة قلب العبد لزوم الطعام والشراب لحياة الجسد، وجميع المعاصى بمثابة الأطعمة المسمومة التى تفسد القلب ولابد، والعبد محتاج إلى عبادة ربه عزّ وجلّ فقير إليه فقراً ذاتياً، وكما يأخذ العبد بالأسباب لحياة جسده من المداومة على تناول الأغذية النافعة فى أوقات متتقاربة، وإذا تبين له أنه تناول طعاماً مسموماً عن طريق الخطأ أسرع فى تخليص جسده من الأخلاط الرديئة، فحياة قلب العبد أوْلى بالاهتمام من جسده، فإن كانت حياة الجسد تؤهله لمعيشة غير منغضة بالمرض فى الدنيا، فحياة القلب تؤهله لحياة طيبة فى الدنيا وسعادة غير محدودة فى الآخرة، وكذلك موت الجسد يقطعه عن الدنيا، وموت القلب تبقى آلامه أبد الآباد. وقال أحد الصالحين: " يا عجباً من الناس يبكون على من مات جسدهُ ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد "، فإذن الطاعات كلها لازمة لحياة القلب وتخص هذه بالذكر - لضرورتها لقلب العبد وشدة الحاجة إليها - ذكر الله عز وجل، وتلاوة القرآن، والإستغفار، والدعاء، والصلاة على النبى - صلى الله عليه وسلم -، وقيام الليل.

1 - ذكر الله وتلاوة القرآن

1 - ذكر الله وتلاوة القرآن وضرورة الذكر للقلب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه -: " الذكر للقلب كالماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا أخرج من الماء"، وقد ذكر الإمام شمس الدين ابن القيّم ما يقرب من ثمانين فائدة فى كتابه: " الوابل الصيب "، فننقل بعضها بإذن الله تعالى، وننصح بالعودة إلى الكتاب المذكور لعظيم نفعه، ومن هذه الفوائد: أن الذكر قوت القلب والروح، فإذا فقه العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، ومنها أنه يطرد الشيطان، ويقمعه، ويكسره، ويرضى الرحمن عزّ وجلّ ويزيل الهمّ والغمّ عن القلب، ويجلب له الفرح والسرور والبسط، وينور القلب والوجه، ويكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة، ويورثه محبة الله عزّ وجل، وتقواه، والإنابة إليه، وكذلك يورث العبدّ ذكر الله عزّ وجل، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة: من الآية 152). ولو لم يكن فى الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً ويورث جلاء القلب من الغفلة، ويحط الخطايا. ورغم أنه من أيسر العبادات، العطاء والفضل الذى رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال. عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قديرٌ، فى اليوم مائة مرة كانت له عدل عشرة رقاب، وكتبت له مائة

حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه " (¬1). وعن جابر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة فى الجنة " (¬2). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " لأن أسبح الله تعالى تسبيحات أحب إلىّ من أن أنفق عددهم دنانير فى سبيل الله عزّ وجلّ ". والذكر دواء لقسوة القلوب، كما قال رجل للحسن: يا أبا سعيد: أشكو إليك قسوة قلبى، قال: " أذبه بالذكر "، وقال مكحول: " ذكر الله شفاءٌ وذكر الناس داءٌ "، قال رجل لسلمان: أى الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت من الآية: 45). وعن أبى موسى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " مثل الذى يذكر ربه والذى لايذكر ربه مثل الحىّ والميت " (¬3). ودوام الذكر تكثير لشهود العبد يوم القيامة، وسبب لاشتغال العبد عن الكلام الباطل من الغيبة والنميمة وغير ذلك، فإما لسان ذاكر وإما لسان لاغِ، فمن فُتح له بابُ الذكر فقد فُتح له بابُ الدخول على الله عز وجل، ¬

_ (¬1) رواه البخارى؛ (6/ 338، 339) بدء الخلق، ومسلم (17/ 17) الذكر، والترمذى (13/ 16،17). الدعاء. (¬2) رواه الترمذى (3531 تحفة) الدعوات، وابن حبان (2335) موارد، والحاكم (1/ 501، 502) وقال الترمذى: حسن صحيح وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبى وصححه الألبانى فى الصحيحة. (¬3) رواه البخارى (11/ 208) الدعوات، ومسلم (6/ 68) صلاة المسافرين بلفظ: " مثل البيت الذى لا يذكر الله فيه، والبيت الذى يذكر الله فيه مثل الحىّ والميت ".

فليتطهر وليدخل على ربه عز وجل، يجد عنده ما يريد، فإن وجد ربه عز وجل وجد كل شىء، وإن فاته ربه عز وجل فاته كل شىء. وللذكر أنواع: منها: ذكر أسماء الله عز وجل، وصفاته، ومدحه، والثناء عليه بها، نحو: " سبحان الله "، و " الحمد الله "، و " لا إله إلا الله "، ومنها: الخبر عن الله عز وجل بأحكام أسمائه وصفاته، نحو: الله عز وجلّ يسمع أصوات عباده ويرى حركاتهم، ومنها: ذكر الأمر والنهى كأن تقول: إن الله عز وجل أمر بكذا، ونهى عن كذا. ومن ذكره سبحانه وتعالى ذكرُ آلائه وإحسانه، وأفضل الذكر: تلاوة القرآن، وذلك لتضمنه لأدوية القلب وعلاجه من جميع الأمراض، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ} (يونس من الآية: 57). وقال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء من الآية: 82) وأمراض القلب تجمعها أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل فتزول أمراض الشبه المفيدة للعلم، والتصور، والادراك بحيث يرى الأشياء على ما هى. فمن درس القرآن وخالط قلبه، أبصر الحق والباطل وميزّ بينهما، كما يميز بعينيه بين الليل والنهار، وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة، بالتزهيد فى الدنيا، والترغيب فى الآخرة. وبالجملة فأنفع شىء للعبد هو ذكر الله عزّ وجلّ: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28). وأفضل الذكر تلاوة كتاب الله عزّ وجل ّ.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر:29 - 30). وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " (¬1). وعن عائشة (رضى الله عنها) قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" الذى يقرأ القرآن وهو ماهر فيه مع السفرة الكرام البررة، الذى يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران " (¬2). وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " (¬3). وقال خباب - رضي الله عنه -: " تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشىء أحب إليه من كلامه ". وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: " لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم ". وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرأن، فإن أحب القرآن فهو يحب الله فإنما القرآن كلام الله ". ¬

_ (¬1) رواه البخارى (9/ 66/67) فضائل القرآن، والترمذى (11/ 32) ثواب القرآن، وأبو داود (1439) الصلاة. (¬2) رواه البخارى (8/ 691) التفسير، ومسلم (6/ 84) صلاة المسافرين، وأبو داود (1441) الصلاة، والترمذى (12/ 29) فضائل القرآن. (¬3) رواه الترمذى (11/ 34) فضائل القرآن، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

2 - الإستغفار

2 - الإستغفار وهو طلب المغفرة، والمغفرة: هى وقاية شر الذنوب مع سترها وقد كثر ذكر الاستغفار فى القرآن، فتارة يؤمر به كقوله سبحانه وتعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل من الآية: 20). وتارة يمدح أهله كقوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (آل عمران من الآية: 17). وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره كقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (النساء من الآية: 110). وكثيراً ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان. والتوبة عبارة عن: الإقلاع عن الذنوب بالقلب والجوارح، وحكم الاستغفار كحكم الداء، فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، لاسيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنوب أو صدف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وإدبار الصلوات. ويروى عن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى عوّد لسانك: " اللهم اغفر لى " فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً، وقال الحسن: " أكثروا من الاستغفار فى بيوتكم، وعلى موائدكم، وفى طرقكم، وفى أسواقكم، وفى مجالسكم، وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة ".

وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: " إن كنا لنعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى المجلس الواحد مائة مرة يقول: "رب اغفر لى وتب علىّ إنك أنت التواب الغفور" (¬1). وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " والله إنى لأستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة " (¬2). وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنه ليغان على قلبى وإنى لأسغفر الله فى اليوم مائة مرة ". (¬3) وبيّن الله عز وجل فى الحديث القدسى ثلاثة أسباب من أعظم أسباب المغفرة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: " ياابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك ما كان منك ولا أبالى، يابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك، ياابن آدم لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ". وبالجملة فدواء الذنوب الاستغفار، قال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودواءكم فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم بالاستغفار، وقال علىّ - رضي الله عنه -: ما ألهم الله سبحانه عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4726) ,أبو داود (1500) الصلاة, وبن ماجة (3815) الأدب وصححه الألباني (¬2) رواه رواه البخاري (11/ 101) الدعوات , ومسلم عن ابن عمر (17/ 24) الذكر بلفظ "فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" (¬3) رواه مسلم (17/ 23) الذكر , وأبو داود (1501) الصلاة وقوله "ليغان" أي ليغطي ويغشى , والمراد به السهو.

3 - الدعاء

3 - الدعاء قال الله تعالى: {{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: من الآية: 60). فأمرنا الله عز وحل بالدعاء ووعدنا بالإجابة، ثم عقب بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: من الآية: 60). فسبحان الله العظيم، ذى الكرم الفياض والجود المتتابع، جعل سؤال عبده لحوائجه وقضاء مآربه عبادة له، وطلبه منه وذمه على تركه بأبلغ أنواع الذم فجعله مستكبراً عليه. وعن أبى هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من لم يسأل الله يغضب عليه " (¬1) وما أحسن قول القائل: لا تسألن بنى آدّمَ حاجَةً ... وسَلَ الذى أبوابُهُ لا تحْجَبُ الله يغضبُ إن تركتَ سُؤالَهُ ... وإذا سألت بنى آدم يغضَبُ وقال عز وجل: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (النمل: من الآية: 62). وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: من الآية: 186). ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2/ 442)، والترمذى (12/ 267، 268) التفسير، وابن ماجه (3827) الدعاء، والبخارى فى الأدب المفرد (658)، والحاكم (1/ 491)، صححه ووافقه الألبانى.

وعن النعمان بن بشير قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: " الدعاء هو العبادة " ثم تلا الآية: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: الآية: 60) (¬1). والدعاء يقطع بقوله لعموم الآيات التى قدمنا ذكرها، وكذلك الأحاديث الآتية - إذا استوفى شروط الصحة. وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله حييىّ كريم يستحى إذا رفع الرجل يديه أن يردهما صفراً خائبتين ". (¬2) وعن أبى سعيد الخدرى، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجلله دعوته، وإما أن يدخرها فى الآخرة، وأما أن يصرف عنه من السوء مثلها". (¬3) وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " أنا لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء فمن ألهم الدعاء فإن الإجابة معه ". فالدعاء سبب مقتضِ للإجابة إذا توفرت الشرائط وانتفت الموانع أى إذا راعى العبد آداب الدعاء، فما هى آداب الدعاء؟. ¬

_ (¬1) رواه أبوداود (1446) الصلاة , والترمذي (12/ 267) التفسير وقال حسن صحيح , وأبن ماجة (3828) الدعاء , والحاكم (1/ 491) , وصححه ووافقه الألباني. (¬2) رواه الترمذى (13/ 68) الدعاء، وقال: حسن غريب، وأبو داود (1474) الصلاة، ابن حبان (2399) موارد، والحاكم (1/ 497) وصححه ووافقه الذهبى. (¬3) رواه الحاكم (1/ 493)، وصححه ووافقه الذهبى، له شاهد رواه الترمذى (3621) عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"مامن أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما= =سأل أو كف عنه من سوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ". وحسنه الألبانى فى تحقيق المشكاة وصحيح الترمذى.

آداب الدعاء

آداب الدعاء أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة: كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من الليل. أن يغتنم الأحوال الشريفة: كنزول المطر، وزحف الصفوف فى سبيل الله، وحال السجود، لحديث أبى هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء ". (¬1) وكذلك بين الأذان والإقامة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد " (¬2). أن يجزم بالدعاء، ويوقن بالإجابة، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لى إن شئت اللهم ارحمنى إن شئت، ليعزم المسألة فإنه لا مستكره له " (¬3). أن يكون على طهارة، مستقبل القبلة، ويكرر الدعاء ثلاثاً. عن ابن سمعود - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا، دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً. (¬4) ¬

_ (¬1) رواه مسلم (4/ 200) الصلاة، وأبو داود (3/ 128) الصالة، والنسائى (2/ 226) الصلاة. (¬2) رواه الترمذى (2/ 13) أبواب الصلاة وحسنه، وأبو داود (517) الصلاة، وصححه الألبانى. (¬3) رواه البخارى (11/ 139) الدعوات، ومسلم (17/ 6) الذكر. (¬4) رواه مسلم (12/ 152) الجهاد والسير.

يبدأ بحمد الله عزّ وجلّ، ويثنى عليه بأسمائه، وصفاته، وآلائه، ويثنى بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يسمى حاجته، ويختتم كذلك بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمد الله عز وجل. ويطيب مطعمه، ولا يدعو بإثم، ولا بقطيعة رحم. ولا ينبغى تعجل الإجابة، ولا يقول: دعوت ولم يستجب لى، لحديث أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ": يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لى " (¬1). قال ابن بطال: " المعنى أنه يسأم فيترك الدعاء فيكون كالمانّ بدعائه، أو أنه آتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة، فيصبر كالمبخل للرب الكريم الذى لاتعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء " أ. هـ. وفى هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب ولا ييأس من الإجابة، لما فى ذلك من الاستسلام والانقياد وإظهار الافتقار. ¬

_ (¬1) رواه البخارى (11/ 140) الدعوات، وسملم (17/ 51) الذكر، والترمذى (12/ 276) الدعاء، وأبو داود (1470) الصلاة.

4 - الصلاة على النبى - صلى الله عليه وسلم -

4 - الصلاة على النبى - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب: الآية: 56). قال ابن كثير رحمه الله: المقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده فى الملأ الأعلى بأنه يثنى عليه فى الملأ الأعلى عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلى عليه، ثم أمر تعالى العالم السفلى بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوى والسفلى جميعاً. وقال ابن القيّم: والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله فصلوا أنتم أيضاً عليه لما نالكم ببركة رسالته ويُمن سفارته من خير شرف الدنيا والآخرة، والصلاة من الله عزّ وجل هى الثناء وإظهار الشرف، وإرادة التكريم، وصلاة المخلوقين الدعاء بمزيد من الشرف والتكريم. عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلىّ علىّ واحدة صلّى الله عليه عشراً " (¬1). أى عشر صلوات وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها والصلاة على النبى - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الحسنات. قال ابن العربى: " إن قيل: قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (4/ 128) الصلاة، والترمذى (2/ 270) الصلاة، وأبو داود (1516) الصلاة، والنسائى (3/ 50) السهو.

عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: من الآية: 160). فما فائدة هذا الحديث؟ قلنا: أعظم فائدة وذلك أن القرآن اقتضى أن من جاء بحسنة تضاعف عشرة، والصلاة على النبى - صلى الله عليه وسلم - حسنة بمقتضى القرآن أن يعطى عشر درجات فى الجنة، فأخبر أن الله تعالى يصلّى على من صلى على رسوله عشراً، وذكْرُ الله للعبد أعظم من الحسنة مضاعفة، ويحقق ذلك أن الله تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلا ذكره، وكذلك جعل جزاء ذكر نبيه ذكر من ذكره " أ. هـ. قال العراقى: ولم يقتصر على ذلك حتى زاده كتابة عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفعه عشر درجات، كما ورد فى الأحاديث. وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ علىّ، ورغم أنف رجل أدرك أبويه عنده الكبر فلم يدخلاه الجنة، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له" (¬1). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن لله ملائكة سياحين يبلغونى من أمتى السلام " (¬2). وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من صلى علىّ أو سأل لى الوسيلة حقت عليه شفاعتى يوم القيامة " (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (6413 تحفة) الدعاء، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه والحاكم (1/ 549) الدعاء مقتصراً على الفقرة الأولى، وقال الألبانى: إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه النسائى (3/ 43) السهو، والحاكم (2/ 421) التفسير، وصححه ووافقه الذهبى، وقال الألبانى: إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح. (¬3) رواه مسلم (4/ 85) الصلاة، وأبو داود (519) الصلاة، والترمذى (13/ 102) المناقب، والنسائى (2/ 25، 26) الأذان.

وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله ولم يصلوا على نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إلا كان مجلسهم عليهم ترة يوم القيامة، إن شاء عفا عنهم وإن شاء أخذهم " (¬1). ويستحب كثرة الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة لحديث أوس ابن أوس - رضي الله عنه - قال ك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علىّ من الصلاة ففيه فإن صلاتكم معروضة علىّ، قالوا: يارسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت (¬2) يعنى بليت؟ فقال: " إن الله عز وجل حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " (¬3). أما صيغة الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فعن ابن مسعود الأنصارى قال: " أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن فى مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلى عليك يارسول الله، فكيف نصلى عليك؟ قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قولوا: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم فى العالمين، إنك حميدٌ مجيد، والسلام كما قد علمتم ". ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (3440 تحفة) الدعاء، وحسنه وصححه الألبانى فى الصحيحة، ومعنى ترة: أى حسرة. (¬2) رواه أبوداود (1034) الصلاة، والنسائى (3/ 91، 92) الجمعة، وابن ماجه (1085) الصلاة، والحاكم (1/ 278) الجمعة، وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبى على شرط البخارى، وصححه الألبانى. (¬3) رواه مسلم (4/ 124، 125) الصلاة، ومالك فى الموطأ (1/ 165، 166)، والترمذى (12/ 95) السهو، والنسائى (3/ 45، 46).

5 - قيام الليل

5 - قيام الليل الآيات فى فضيلة قيام الليل: قال الله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِاللأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات: الآية: 17 - 18). وهى فى وصف المحسنين. عن قتادة ومجاهد قالا: كانوا لاينامون ليلة حتى الصباح. وعن ابن عباس: لم تكن تمضى عليهم ليلة إلا يأخذوا منها شيئاً. وقال تعالى فى وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (الفرقان: الآية: 64). وذكر الله تعالى هذه العبادة الجليلة ثم عقبها بالجزاء فقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: الآية: 16). ثم عقب بقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: الآية: 17). ولما أخفوا العمل واستتروا بجنح الظلام أخفى الله عز وجل لهم الأجر. أما الأخبار فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل " (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (8/ 55) الصيام، وأبو داود (2412) الصوم، والترمذى (2/ 227) الصلاة، والنسائى (3/ 207) قيام الليل.

وعن عاشئة رضى الله عنها قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة " (¬1). وفى الخبر إنه ذكر عنده الرجل ينام كل الليل حتى يصبح فيقال - صلى الله عليه وسلم -: " ذاك رجل بال الشيطان فى أذنيه " (¬2). وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ وذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " (¬3). الآثار كان ابن مسعود - رضي الله عنه - إذا هدأت العيون قام فيسمع له دوىّ كدوىّ النحل حتى يصبح. قيل للحسن: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ قال: " لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره ". وقال: " إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل ". وقال رجل لأحد الصالحين: لا أستطيع قيام الليل فصف لى دواءاً، فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه بالليل. ¬

_ (¬1) رواه البخارى (3/ 7) التهجد، ومسلم (6/ 16)، الصلاة. (¬2) رواه البخارى (3/ 34) التهجد، ومسلم (6/ 63، 64) صلاة المسافرين. (¬3) رواه البخارى (3/ 30) التهجد، ومسلم (6/ 65، 66) صلاة المسافرين.

ويروى عن سفيان الثورى أنه قال: " حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أصبته ". وقال ابن المبارك: إذا ما الليل أظلم كابدونه ... فيسفر عنهم وهم هجوع أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن فى الدنيا هجوع وقال أبو سليمان: " أهل الليل فى ليلهم ألذ من أهل اللهو فى لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء فى الدنيا ". قال ابن المنكدر: " ما بقى من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة ".

6 - الزهد فى الدنيا وبيان حقارتها

6 - الزهد فى الدنيا وبيان حقارتها الزهد: هوانصراف الرغبة عن الشىء إلى ماهو خير منه، وأما العلم المثمر لهذه الحال فهو العلم بكون المتروك حقيراً بالإضافة إلى المأخوذ فما عرف أن ما عند الله باقٍ، وأن الآخرة خير وأبقى كما أن الجوهر خير وأبقى من الثلج، فالدنيا كالثلج الموضوع فى الشمس لايزال فى الذوبان إلى الانقراض، والآخرة كالجوهر الذى لافناء له، وبقدر اليقين بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة فى البيع، وقد مدح القرآن الزهد فى الدنيا وذم الرغبة فيها. فقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى: الآية: 16 - 17). وقال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} (الأنفال: من الآية: 67). وقال تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} (الرعد: من الآية: 26). والأحاديث فى ذم الدنيا وزبيان حقارتها عند الله كثيرة جداً. عن جابر - رضي الله عنه - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - مرّ بالسوق والناس كنفتيه، فمر بجدى أسك ميت فتناوله فاخذ بأذنه، فقال: " أيكم يحب أن هذا له بدرهم " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشىء وما نصنع به؟ قال: " أتحبون أنه لكم " قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسكّ فكيف وهو ميت؟

فقال: " والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم " (¬1). وعن المستورد بن شداد الفهرى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما الدنيا فى الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع" (¬2). وعن سهل بن سعد عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " (¬3). فالزهد: هو الإعراض عن الشىء لاستقلاله، واحتقاره، وارتفاع الهمة عنه، يقال: شىء زهيد أى قليل حقير. قال يونس بن ميسرة: " ليس الزهادة فى الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة فى الدنيا أن تكون بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك، وأن تكون حالك فى المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء وأن يكون مادحكم وذامّكم فى الحق سواء ". ففسر الزهد فى الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب لامن أعمال الجوارح، ولهذا كان أبو سليمان يقول: لاتشهد لأحد بالزهد. أحدها: أن يكون العبد بما فى يد الله أوثق منه بما فى يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، قيل لأبى حازم الزاهد: ما مالك؟ قال: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (18/ 93) الزهد، وأبو داود (184) الطهارة، وقوله: " والناس كنفتيه " أى حوله وفيه أدب سير طلاب العلم مع العالم، وقوله: " أسك " أى صغير الأذنين. (¬2) رواه مسلم (18/ 93) الجنة وصفة نعيمها، والترمذى (9/ 199) الزهد، ابن ماجه (4108). (¬3) رواه الترمذى (9/ 198) الزهد، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبى: زكريا ضعفوه، وقال الألبانى: والصواب أن الحديث صحيح لغيره فإن له شواهد تقويه وانظر شواهده فى الصحيحة رقم 943.

" مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما فى أيدى الناس ". وقيل له: أما تخاف الفقر؟ فقل: " أنا أخاف الفقر ومولاى له ما فى السموات، وما فى الأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى؟ ". قال الفضيل: أصل الزهد: الرضى عن الله عزّ وجلّ. وقال: القنوع هو الزاهد، وهو الغنى، فمن حقق اليقين، وثق بالله فى أموره كلها، ورضى بتدبيره له، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاءاً وخوفاً، ووضعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك كان زاهداً حقاً، وكان من أغنى الناس، وإن لم يكن له شىء من الدنيا، كما قال عمار - رضي الله عنه -: كفى بالموت واعظاً، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً ". وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " اليقين أن لا تُرضى الناس بسخط الله، ولا تحسد أحداً على رزق الله، ولا تلم أحداً على مالم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، فإن الله يقسطه، وعلمه، وحكمته، جعل الروح والفرح فى اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن فى السخط والشك ". الثانى: أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة فى دنياه: من ذهاب مال، أو ولد، أو غير ذلك، أرغب فى ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له، وهذا أيضاً ينشأ من كمال اليقين. قال علىّ كرم الله وجهه: " من زهد فى الدنيا هانت عليه المصيبات ". وقال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس. الثالث: أن يستوى عند العبد مادحه وذامه فى الحق، وإذا عظمت الدنيا

فى قلب العبد اختار المدح وكره الذم، وربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم، على فعل كثير من الباطل رجاء المدح. فمن استوى عنده حامده وذامه فى الحق دلّ على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه وامتلاه من محبة الحق، وما فيه رضى مولاه، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " اليقين أن لا ترضى الناس بسخط الله ". وقد مدح الله عزّ وجلّ الذين يجاهدون فى سبيله، ولا يخافون لومة لائم، وقد ورد عن السلف روايات أخرى فى تفسير الزهد. قال الحسن: " الزاهد الذى إذا رأى أحداً قال: هو أزهد منى ". وسئل بعضهم - أظنه الإمام أحمد - عمن معه مال هل يكون زاهداً؟ قال: " إن كان لايفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه فهو زاهد ". وقال إبراهيم بن أدهم: " الزهد ثلاثة أقسام: فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة ". فأما الزهد الفرض: فالزهد فى الحرام، والزهد الفضل: فالزهد فى الحلال، الزهد السلامة: فالزهد فى الشبهات. وكل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد فى الدنيا، وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو زاهد أيضاً، ولكن فى الآخرة. قال رجل لإحد الصالحين: ما رأيت أزهد منك، قال: أنت أزهد منى لقد زهدت فى دنيا لا بقاء لها، ولا وفاء، وأنت زهدت فى الآخرة، فمن أزهد منك؟. ولكن العادة جارية على تخصيص اسم الزهدعلى الزهد فى الدنيا، الزهد يكون فيما هو مقدور عليه ولذا قيل لابن المبارك: يازاهد، قال: " الزاهد هو عمر بن عبد العزيز إذ جائته الدنيا راغمة فتركها وأما أنا ففى ماذا

درجات الزهد

زهدت ". قال الحسن البصرى: " أدركت أقواماً وصحبت طوائف، ما كانوا يفرحون بشىء من الدنيا أقبل، ولا يأسفون على شىء منها أدبر، ولهى كانت فى أعينهم أهون من التراب، كان أحدهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يُطوَ له ثوبٌ، ولم يُنصب له قدرٌ، ولم يجعل بينه وبين الارض شيئاً، ولا أمَرَ مَنْ فى بيته بصنعة طعام قط، فإذا كان الليل، فقيام على أقدامهم يفترشون وجوههم، تجرى دموعهم على خدودهم يناجون ربهم فى فكاك رقابهم، كانوا إذا عملوا الحسنة دأبوا فى شكرها، وسألوا الله أن يقبلها، وإذا عملوا السيئة أحزنتهم، وسألوا الله أن يغفرها، فلم يزالوا على ذلك، ووالله: ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة، فرحمة الله عليهم ورضوانه ". درجات الزهد الدرجة الأولى أن يزهده فى الدنيا وهو لها مُشتَهٍ، وقلبه إليها مائل، ونفسه إليها ملتفتة، ولكن يجاهدها ويكفيها، وهذا يسمى: متزهد. الدرجة الثانية: الذى يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها، بالاضافة غلى ما طمع فيه، ولكنه يرى زهده، ويلتفت إليه، كالذى يترك درهماً لأجل درهمين. الدرحة الثالثة: أن يزهد فى الدنيا طوعاً، ويزهد فى زهده، فلا يرى أنه ترك شيئا فيكون كمن ترك خَزَفَةَ وأخذ جوهرةٌ.

ويمثل صاحب هذه الدرجة بمن منعه من الدخول على الملك كلبُ على بابه، فألقى إليه لقمة من خبز فشغله بها، ودخل على الملك، ونال القرب منه فالشيطان كلبٌ على باب الله عز وجل، يمنع الناس من الدخول، مع أن الباب مفتوح والحجاب مرفوعٌ، والدنيا كلقمة فمن تركها لينال عز الملك فكيف يلتفت إليها.

ذم الدنيا اعلم أن الذم الوارد فى الكتاب والسنّة ليس راجعا إلى زمانها الذى هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله عز وجل جعلهما خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شُكوراً. وورد فى الأثر: " إن هذا الليل والنهار خزانتان فانتظروا ماتصنعون فيهما ". وقال مجاهد: " ما من يوم إلا يقول: ابن آدم: قد دخلت، عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم فانظر ماذا تعمل فى، فإذا انقضى طوى، ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذى يقضيه يوم القيامة ". وأنشد بعضهم: إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريقٌ ... والليالى متجرُ الإنسان والأيام سوقٌ فالوقت هو رأس مال العبد، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة فى الجنة " (¬1). فانظر إلى مُضَيع الساعات كم يفوته من النخيل. وكان أحد الصالحين إذا أثقل الناس فى الجلوس عنده يقول: "أما تريدون أن تقوموا، إن ملك الشمس يجرها لا يفتر ". وقال رجل لأحد العلماء: " قف أكلمك " قال: " أوقف الشمس ". ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (39).

وكذلك ليس ذم الدنيا راجعاً إلى مكان الدنيا وهو الأرض، وما أودع فيها من جبال وبحار وأنهار ومعادن، فإن ذلك كله من نعم الله على عباده، لما لهم فيها من المنافع، والاعتبار، والاستدلال على وحدانية الصانع سبحانه، وقدرته وعظمته، وإنما الذم راجع إلى أفعال بنى آدم الواقعة فى الدنيا، لأن غالبها واقع على غير الوجه الذى تحمد عاقبته، كما قال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ والأولاد َ} (الحديد: من الآية: 20). وانقسم بنو آدم فى الدنيا إلى قسمين: أحدهما: من أنكر أن للعباد داراً بعد الدنيا للثواب، والعقاب، هؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (يونس: الآية: 7 - 8). وهؤلاء همهم التمتع فى الدنيا واغتنام لذاتها قبل الموت كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (محمد: من الآية: 12). والقسم الثانى: من يقر بدار بعد الموت للثواب والعقاب، وهم المنتسبون إلى المرسلين، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله. والظالم لنفسه: هم الأكثرون، وأكثرهم واقف مع زهرة الدنيا وزينتها، فأخذها من غير وجهها، واستعملها فى غير وجهها، وصارت الدنيا أكبر همّه، بها يرضى، وبها يغضب، ولها يوالى، وعليها يعادى، وهؤلاء أهل اللعب واللهو والزينة، وإن كانوا يؤمنون بالآخرة إيماناً مجملاً فهم لم يعرفوا المقصود من الدنيا، ولا أنها منزلة يتزود فيها لما بعدها. والمقصتد: من أخذ الدنيا من وجوهها المباحة، وأدى واجبها، وأمسك

لنفسه الزائد على الواجب يتوسع به فى التمتع بشهوات الدنيا، وهؤلاء لا عقاب عليهم فى ذلك إلا أنه ينقص درحاتهم كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لولا أن تنقص من حسناتى لخالفتكم فى لين عيشكم ولكن سمعت الله عيّر قوماً فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} (الأحقاف: من الآية: 20). وأما السابق بالخيرات بإذن الله: فهم الذين فهموا المراد من الدنيا وعملوا بمقتضى ذلك، فعلموا أن الله إنما أسكن عبادة فى الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف: الآية: 7). يعنى: أزهد فى الدنيا وأرغب فى الآخرة، ثم قال تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} (الكهف: الآية: 8). فاكتفى السابقون منها بما يكفى المسافر من الزاد، كما قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: " مالى وللدنيا، ما أنا فى الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها " (¬1). ووصى ابن عمر - رضي الله عنه -، - صلى الله عليه وسلم -: " كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " (¬2). ومتى نوى من تناول شهواته المباحة التقوى على طاعة الله كانت شهواته له طاعة يثاب عليها، كما قال معاذ - رضي الله عنه -: " إنى لأحتسب نومتى كما أحتسب قومتى ". ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (9/ 223) الزهد وقال: حسن صحيح، والحاكم (4/ 301) الرقاق، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبى، ورواه أحمد (1/ 391) وصححه الألبانى فى الصحيحة بشاهده رقم (439). (¬2) تقدم تخريجه ص (23).

قال سعيد بن جبير: " متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور ولكن متاع بلاغ إلى ما هو خير منه ". وقال يحيى بن معاذ: " كيف لا أحب دنيا قُدر لى فيها قوت أكتسب به حياة، أدرك به طاعة، أنال بها الجنة ". وسُئل أبو صفوان الرعينى: ما هى الدنيا التى ذمها الله فى القرآن والتى ينبغى للعاقل أن يتجنبها؟، فقال: " كل ما أصبت فى الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ماأصبت منا تريد به الآخرة فليس منها ". وقال الحسن: " نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن، وذلك أنه عمل قليلاً وأخذ زاده منها للجنة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنه ضيع لياليه وكان زاده منها إلى النار ". قال عون بن عبد الله: " الدنيا والآخرة فى القلب ككفتى الميزان ما ترجح إحداهما تخف الأخرى ". وقال وهب: " إنما الدنيا والآخرة كرجل له امرأتان إذا أرضى إحداهما أسخط الأخرى ". وقال أبو الدرداء: " لئن حلفتم لى على رجل أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم ". وقال رجل للتابعين: " لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم كانوا خيراً منكم، كانوا أزهد فى الدنيا ".

أضرار حب الدنيا

أضرار حب الدنيا حب الدنيا هو الذى عمّر النار بأهلها، الزهد فى الدنيا هو الذى عمّر الجنة بأهلها، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بالخمر، فصاحبه لا ييق إلا فى ظلمة اللحد. قال يحيى بن معاذ: " الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها فلا يفيق إلا فى عسكر الموتى نادماً بين الخاسرين "، وأقل ما فيها أنه يلهى عن حب الله وذكره، ومن ألهاه ماله فهو من الخاسرين، وإذا لهى القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان، وصرفه حيث أراد ... ومن فقهه فى الشر أن يرضيه ببعض أعمال الخير ليريه أنه يفعل الخير. ويقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: " ماأصبح أحد فى الدنيا إلا ضيف وماله عارية، فالضيف مرتحل والعارية مؤداة ". قالوا: وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا، ومفسداً للدين من وجوه: أحدها: أن حبها يقتضى تعظيمها وهى حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقّر الله. ثانيها: أن الله لعنها، ومقتها، وأبغضها، إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة، ومقته وغضبه. وثالثها: أنه إذا أحبها صيّرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التى جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة، فعكس الأمر وقلب الحكمة، فها هنا أمران: أحدهما: جعل الوسيلة غاية، والثانى: التوسل بأعمال الآخرة إلى الدنيا، وهذا شر معكوس من كل وجه، وقلب منكوس غاية

الانتكاس، وهذا هو الذى انطبق عليه: حذْوَ القُذة بالقُذّة، قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (هود: الآية: 15 - 16). والأحاديث كثيرة، منها حديث أبى هريرة فى الثلاثة الذين هم أول من تسعّر بهم النار: الغازى، والمتصدق، والقارىء، الذين أرادوا بذلك الدنيا، والنصيب. وهو فى مسلم (¬1). فانظر محبة الدنيا كيف حَرَمتْ هؤلاء من الأجر، وأفسدت عليهم عملهم، وجعلتهم أول الداخلين إلى النار. رابعاً: أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه فى الآخرة باشتغاله عنه بمحبوه، والناس ها هنا مراتب: فمنهم من يشغله محبوبه عن الإيمان وشرائعه، ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات، ومنهم من يشغله عن واجب يعارض تحصيلها - وإن قام بغيره - ومنهم من يشغله عن القيام بالواجب فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى، فيفرط فى وقته وفى حقوقه، ومنهم من يشغله عن عبودية قلبه فى الواجب، وتفريغه لله عند أدائه، فيؤديه ظاهراً لا باطناً، وأين هذا من عشاق الدنيا ومحبيها، هذا من أندرهم وأقل درجات حبها أن يشغل عن سعادة العبد، وهو تفريغ القلب لحب الله، ولسانه لذكره، وجمع قلبه على لسانه، وجمع لسانه وقلبه على ربه، فعشقها ومحبتها تضر بالآخرة ولا بد، كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا. خامساً: أن محبتها تجعلها أكبر همّ العبد، وقد روى الترمذى من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (13/ 50، 51) الجهاد والسير.

حديث أنس بين مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه فى قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهى راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " (¬1). سادسها: أن محبها أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب فى دوره الثلاث: يعذب فى الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها، وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه، فهذا أشد الناس عذاباً فى قبره، يعمل الهمّ والحزنُ والغم والحسرة فى روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض فى جسمه. والمقصود: أن محب الدنيا يعذب فى قبره، ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: الآية: 55). قال بعض السلف: " يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها ". وسابعها: أن عاشقها ومحبها الذى يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً، إذ آثر الخيال على الحقيقة، والمنام على اليقظة، والظل الزائل على النعيم الدائم، والدار الفانية على الدار الباقية، وباع حياة الأبد فى أرغد عيش بحياة إنما هى أحلام نوم، أو كظل زائل، إن اللبيب بمثلها لا يخدع. ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (2583 تحفة) صفة القيامة وسكت عنه وقال الألبانى: وهو إسناد ضعيف لكنه حسن فى المتابعات وله شاهد عند ابن ماجه وابن حبان: وهو فى الصحيحة رقم 949.

وكان بعض السلف يتمثل هذا البيت: يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها ... إن اغتراراً بظل زائل حمق قال يونس بن عبد الأعلى: " ما شبهت الدنيا إلا كرجل نام فرأى فى منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه ". وأشبه الأشياء بالدنيا: الظل تحسب له حقيقة ثابتة وهو فى تقلص وانقباض فتتبعه لتدركه فلا تلحقه، وأشبه الأشياء بها السراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب، وأشبه الأشياء بها: عجوز شوهاء قبيحة المنظر والمخبر، غدارة بالأزواج، تزينت للخطاب بكل زينة، وسترت كل قبح، فاغتر بهامن لم يجاوز بصره ظاهرها، فطلب النكاح، فقالت: لا مهر إلا فقد الآخرة، فإننا ضرتان، واجتماعنا غير مأذون فيه ولا مستباح، فآثر الخطاب العاجلة، وقالوا: ما على مَن واصل حبيبته من جناح، فلما كشف قناعها، وحل إزارها، إذا كل آفة وبلية، فمنهم من طلق واسترح، ومنهم من اختار المقام، فما استتمت ليلة عرسه إلا بالعويل والصياح. تالله لقد أذن مؤذنها على رؤوس الخلائق، بحىّ على غير الفلاح، فقام المجتهدون والمصلون لها فواصلوا فى طلبها الغدو بالرواح، وسروا ليلهم، فلم يحمد القوم السرى عند الصباح، طاروا فى صيدها، فما رجع أحد منهم إلا وهو مكسور الجناح، فوقعوا فى شبكتها، فأسلمتهم للذبّاح.

7 - أحوال النفس ومحاسبتها

7 - أحوال النفس ومحاسبتها اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سولكهم على أن النفس قاطعة بين القب وبين الصول إلى الربّ، وأنه لايدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها، وتركها بمخالفتها، والظفر بها. فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته، وصار طوعاً لها تحت أوامرها، وقسمٌ ظفروا بنفوسهم فقهروها فصارت طوعاً لهم، منقادة لأوامرهم. لا بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر أنفسهم، فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: الآية: 37 - 41). والنفس تدع إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا والربّ يدعو عبده إلى خوفه ونهى النفس عن الهوى، والقلبُ بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعى مرة , وإلى هذا مرة، وهذا موضع المحنة والإبتلاء، وقد وصف الله سبحانه النفس فى القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، واللوامة، والأمارة بالسوء فاختلف الناس: هل النفس واحدة وهذه أوصاف لها، أم للعبد ثلاثة أنفس؟. فالأول قول الفقهاء والمفسرين، والثانى قول كثير من أهل التصوف،

النفس المطمئنة:

والتحقيق: أنه لانزاع بين الفريقين، فإنها واحدة باعتبار ذاتها وثلاثة باعتبار صفاتها. النفس المطمئنة: إذا سكنت النفس إلى الله عزّ وجلّ واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهى مطمئنة، وهى التى يقال لها عند الوفاة. {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة} (الفجر: 27 - 28). قال ابن عباس - رضي الله عنه -: المطمئنة المصدقة، وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله، وصاحبها يطمئن فى باب معرفة أسمائه وصفاته إلى خبره الذى أخبر عن نفسه وأخبر به عند رسوله ص ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعده من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عياناً، ثم يطمئن إلى قدر الله عزّ وجلّ فيسلم له ويرضى ن فلا يسخط، ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه، فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه، لأن المصيبة فيهمقدرة قبل أن تصل إليه، وقبل أن يخلق، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: من الآية 11). قال غير واحد من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنا من عند الله فيرضى ويسلم. وأما طمأنينة الإحسان فهى الطمأنينة إلى أمره امتثالاً وإخلاصاً ونصحاً، فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى، ولا تقليداً، ولا يساكن شبهة تعارض خبره، ولا شهوة تعارض أمره، بل إذا مرّت به أنزلها منزلة الوساوس التى

لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يجدها، فهذا كما قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: " صريح الإيمان (¬1)، وكذلك يطمئن من قلق المعصية، وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها. فإذا اطمأن من الشكّ إلى اليقين، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الخيانة إلى التوبة ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن العجز إلى الكيس، ومن صولة العجب إلى ذلة الإخبات، ومن التيه إلى التواضع، فعند ذلك تكون نفسه مطمئنة. وأصل ذلك كله هى اليقظة، التى كشفت عن قلبه سِنة الغفلة وأضاءت له قصور الجنة، فصاح قائلاً: ألا يا نفس ويحك ساعدينى ... بسعى منك فى ظلم الليالى لعلك فى القيامة أن تفوزى ... بطيب العيش فى تلك العلالى فرأى فى ضوء هذه اليقظة ما خلق له، وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار، ورأى سرعة انقضاء الدنيا، وقلة وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها، وفعلها بهم أنواع المثلات، فنهض فى ذلك الضوء على ساق عزمه قائلاً: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية 56). فاستقبل بقية عمره مستدركاً ما فات، محيياً ما مات، مستقبلاً ما تقدم ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2/ 153) الإيمان ولفظه عن أبى هريرة قال: جاء ناس من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - فسألوه، إنا نجد فى أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: " وقد وجدموه؟ قالوا: نعم، قال: " ذاك صريح الإيمان". وروى مسلم كذلك عن ابن مسعود قال: سئل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن الوسوسة قال: " تلك محض الإيمان " قال النووى: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققاً وانتفت عنه الريبة والشك - شرح النووى على صحيح مسلم (2/ 154).

النفس اللوامة

له من العثرات، منتهزاً فرصة الإمكان التى إن فاتت فاته جميع الخيرات، ثم يلحظ فى نور تلك اليقظة وفور نعمة ربه عليه، ويرى أنه آيسٌ من حصرها وإحصائها، عاجزٌ عن آداء حقها، ويرى فى تلك اليقظة عيوب نفسه، وآفات عمله، وما تقدم له من الجنايات والإساءات والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات، فتنكسر نفسه وتخشع جوارجه، ويسير إلى الله ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه، ومطالعة جناياته، وعيوب نفسه، ويرى أيضاً فى ضوء تلك اليقظة عزة وقته، وخطره، وأنه رأس مال سعادته فيبخل به فيما لا يقربه إلى ربه، فإن فى إضاعته الخسران والحسرة، وفى حفظه الربح والسعادة. فهذه آثار اليقظة وموجباتها، وهى أول منازل النفس المطمئنة التى ينشأ منها سفرها إلى الله والدار الآخرة. النفس اللوامة قالت طائفة: هى التى لاتثبت على حال واحدة، فهى كثيرة التقلب والتلون، فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتتقى. وقالت أخرى: هى نفس المؤمن، قال الحسن البصرى: إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائماً يقول: ما أردت هذا؟ لم فعلت هذا؟ كان هذا أولى من هذا؟ أو نحو هذا الكلام. وقالت أخرى: اللوم يوم القيامة، فإن كلّ أحد يلوم نفسه إن كان مسيئاً على إساءته، وإن كان محسناً على تقصيره. يقول الإمام ابن القيّم: وهذا كله حق. واللوامة نوعان: لوامة ملومة، ولوامة غير ملومة.

النفس الأمارة بالسوء

اللوامة الملومة: هى النفس الجاهلة الظالمة، التى يلومها الله وملائكته. اللوامة غير الملومة: وهى التى لاتزال تلوم صاحبها على تقصيره فى طاعة الله - مع بذله جهده - فهذه غير ملومة وأشرف النفوس من لامت نفسها فى طاعة الله، واحتملت ملام اللوام فى مرضاته، فلا تأخذها فى الله لومة لائم، فهذه قد تخلصت من لوم الله، وأما من رضيت بأعمالها ولم تلم نفسها، ولم تحتمل فى الله ملام اللوام، فهى التى يلومها الله عز وجلّ. النفس الأمارة بالسوء: وهذه النفس المذمومة، فإنها تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها، فما تخلص أحد من شرها إلا بتوفيق الله، كما قال تعالى حاكياً عن أمرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: الآية 53). وقال عز وجل: {ولولاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} (النور: من الآية 21). وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم خطبة الحاجة: " إن الحمد الله نحمده، ونستعينه، ونسنغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا " (¬1). فالشر كامنٌ فى النفس، وهو يوجب سيئات الأعمال، فإذا خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها، ـ وما تقتضيه من سيئات الاعمال وإن وفقه الله وأعانه نجا من ذلك كله. فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. وخلاصة القول: إن النفس واحدة تكون: أمارة، ثم لوامة، ثم مطمئنة ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2118) النكاح، وقال الألبانى: صحيح، وانظر رسالته: خطبة الحاجة للألبانى.

وهى غاية كمالها وصلاحها. والنفس المطمئنة قرينها الملك، يليها، ويسددها، ويقذف فيها الحق، ويرغبها فيه، ويريها حسن صورته ويزجرها عن الباطل ويزهدها فيه، ويريها قبح صورته، وبالجملة فما كان لله وبالله فهو من عند النفس المطمئنة، وأما النفس الأمارة فجعل الشيطان قرينها، وصاحبها الذى يليها، فهو يعدها، ويمنيها، ويقذف فيها الباطل، ويأمرها السوء، ويزينهلها، ويطيل فى الأمل، ويريها الباطل فى صورة تقبلها وتستحسنها. فالنفس المنطمئنة والملك يقتضيان من النفس المطمئنة: التوحيد، والإحسان والبر والتقوى، والتوكل والتوبة، والإنابة والإقبال على الله، وقصر الأمل، والإستعداد للموت وما بعده. والشيطان وجنده من الكفرة يقتضيان من النفس الأمارة ضد ذلك وأصعب شىء على النغس المطمئنة تخليص الأعمال من الشيطان ومن الأمارة فلو وصل منها عمل واحد لنجا به العبد، ولكن أبت الأمارة والشيطان أن يدعا له عملاً واحداً يصل إلى الله، كما قال بعض العارفين بالله وبنفسه " والله لو أعلم أن لى عملاً واحداً وصل إلى الله لكنت أفرح بالموت من الغائب يقدم على أهله"، وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: " لو أعلم أن الله قبل منى سجدة واحدة لم يكن غائب أحب إلى من الموت ". وقد انتصبت الأمارة فى مقابلة المطمئنة، فكلما جاءت به تلك من خير ضاهتها هذه وجاءت من الشر بما يقابله حتى تفسده عليها، وتريه حقيقة الجهاد فى صور تقتيل النفس، وتنكح الزوجة، ويصير الأولاد يتامى ويقسم المال وتريه حقيقة الزكاة والصدقة فى صورة مفارقة المال ونقصه، وخلو اليد منه، واحتياجه إلى الناس، ومساواته للفقير.

محاسبة النفس

محاسبة النفس علامة استيلاء النفس الأمارة بالسوء على قلب المؤمن محاسبتها والتضييق عليها وسؤالها عن كل قول وعمل. قال الحسن: " المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة لى قوم حاسبوا أنفسهم فى الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة ". إن المؤمن يفاجئه الشىء ويعجبه فيقول: والله إنى لأشتهيك، وإنك لمن حاجتى، ولكن والله ما من حيلة إليك، هيهات حيل بينى وبينك ويفرط منه الشىء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا؟! ما لى ولهذا؟ ّ والله لا أعود إلى هذا أبداً. إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بين هلكتهم، إن المؤمن أسير فى الدنيا يسعى فى فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه فى سمعه، وفى بصره، وفى لسانه، وفى جوارحه، مأخوذ عليه فى ذلك كله. قال مالك بن دينار: " رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً ". فحق على الحازم المؤمن بالله وباليوم الآخر أن لايغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها فى حركاتها وسكناتها، وخطراتها، فكل نفس من انفاس العمر جوهرة نفيسة، يمكن أن يشترى بها كنزاً من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد، فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها مما يجلب هلاكه

خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (آل عمران: من الآية 30). ومحاسبة النفس نوعان: نوع من قبل العلم ونوع بعده: أما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانهُ على تركه. قال الحسن رحمه الله: " رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره تأخر " وشرح بعضهم هذا فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال، وهمّ به العبد، وقف أولاً ونظر: هل ذلك العلم مقدور عليه، أو غير مقدور، ولا مستطاع، فإن لم يكن مقدور لم يقدم عليه، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة أخرى، ونظر: هل فعلهُ خير له من تركه، أم تركه خير له من فعله، فإن كان الثانى تركه ولم يقدم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة: هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل وثوابه، أم إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق، فإن كان الثانى لم يقدم، وإن أفضى به إلى مطلوبه، لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخف عليها العمل لغير الله، فبقرد ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى يصير أثقل شىء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى: ونظر هل هو معان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاج إلى ذلك أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبى - صلى الله عليه وسلم - عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معاناً عليه فليقدم عليه فإنه منصور بإذن الله، ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها

لا يفوته النجاح، فهذه أربعة مقامات يحتاج العبد إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل. والنوع الثانى: محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع: أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى، فلم توقعها على الوجه الذى ينبغى وحق الله فى الطاعة ستةأمور هى:: الإخلاص فى العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وشهود مشهد الإحسان، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله، فيحاسب نفسه هل وفى هذه المقامات حقها؟ وهل اتى بها فى هذه الطاعة؟. الثانى: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً له من فعله. الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح لم فعله، وهل أراد به الله تعالى والدار الآخرة فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها، فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به. وآخر ما عليه الإهمال، وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمض الواحد عينيه عن العواقب ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر فى العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها وعسر عليه فطامها. وجماعُ ذلك أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض فإن تذكر فيها نقصاً تداركه إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على المناهى فإن عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خُلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى، ثم يحاسبها بما تكلم به، أو مشت به رجلاه، أو بطشت يداه،

فوائد محاسبة النفس

أو سمعته أذناه، ماذا أردت بهذا، ولم فعلتُه؟ ولمن فعلته، وعلى أى وجه فعلته، ويعلم أنه لابد أن ينشر لكل حركة وكلمة ديوانان: لمن فعلته؟ وكيف فعلتَه؟ فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثانى: سؤال عن المتابعة، قال الله تعالى: {ليسأل الصادقين عن صدقهم} (الأحزاب: من الآية 8). فإذا سئُل الصادقون عن صدقهم، وحوسبوا على صدقهم، فما الظن بالكاذبين. فوائد محاسبة النفس 1 - الاطلاع على عيوب نفسه: ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها، قال يونس بن عبيد: " إنى لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن فى نفسى منها واحدة ". وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ. وعن أبى الدرداء قال: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس فى جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً ". 3 - أن يعرف حق الله تعالى عليه، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والإنكسار بين يدى ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفر.

8 - الصبر والشكر

8 - الصبر والشكر فلما كان الإيمان نصفين فنصف صبر ونصف شكر، كان حقيقاً على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتنها أن لايهمل هذين الأصلين العظيمين، وأن يجعل سيره إلى الله عز وجل فى هذين الطريقين القاصدين، ليجعله الله يوم القيامة مع خير الفريقين. أ - الصبر فضائله: أن الله سبحانه جعل الصبر جواداً لايكبو، وصارماً لاينبو، وجنداً غالباً لايهزم، وحصناً حصيناً لايهدم، فهو والنصر أخوان شقيقان، وقد مدح الله عز وجل فى كتابه الصابرين، وأخبر أنه يؤتيهم أجرهم بغير حساب، وأخبر أنه معهم بهدايته ونصره العزيز، وفتحه المبين، فقال تعالى: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: من الآية 46) فظفر الصابرون بهذه المعية بخير الدنيا والآخرة، ففازوا بها ينعمه الباطنة والظاهرة، وجعل سبحانه الإمامة فى الدين منوطة بالصبر واليقين فقال تعالى - وبقوله اهتدى المهتدون:: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: الآية 24) وأخبر تعالى أن الصبر خيرٌ لأهله مؤكداً باليمين، فقال تعالى: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (النحل: من الآية 126) وأخبر أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيدٌ العدو ولو كان ذا تسليط،

فقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: من الآية 120) وعلق الفلاح بالصبر والتقوى، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: الآية 200) وأخبر عن محبته لأهله، وفى ذلك أعظم ترغيب للراغبين، فقال تعالى: {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: من الآية 146) وبشّر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون: فقال تعالى:: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: من الآية 155 والآية 156، 157) وجعل الفوز بالجنة، والنجاة من النار، لايحظى به إلا الصابرون، فقال عز وجلّ:: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (المؤمنون: الآية 111) وخص فى الانتفاع بآياته أهل الصبر، وأهل الشكر، تمييزاً لهم بهذا الحظ الموفور، فقال فى أربع آيات من كتابه جل وعلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (من الآيات: إبراهيم: 5، لقمان 31، سبأ 19، الشورى 33) والصبر آخية المؤمن التى يجول ثم يرجع إليها، وساقُ إيمانه التى لا اعتماد له إلا عليها، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان قليل فى غاية الضعف، وصاحبه ممن يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ولم يحظ منها إلا بالصفقة

الخاسرة، فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم، وترقوا إلى أعلى المنازل بشكرهم فساروا بين جناحى الصبر والشكر إلى جنات النعيم، لقوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد: من الآية 21)

معنى الصبر وحقيقتة

معنى الصبر وحقيقتة الصبر لغة: هو المنع والحبس، وشرعاً فهو حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكى، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب، ونحوهما. وقيل: هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التى بها صلاح شأنها وقوام أمرها. سئل عنه الجنيد فقال: " تجرع المرارة من غير تعبس ". وقال ذو النون المصرى: " هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غُصص البلية، وإظهار الغنى مع الحلول الفقر بساحات المعيشة ". وقيل: " الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب ". وقيل: " هو الغنى فى البلوى بلا ظهور شكوى ". ورأى أحد الصالحين رجلاً يشتكى إلى أخيه فقال له: ياهذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك. وقيل فى ذلك: وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكى الرحيم إلى الذى لايرحمُ والشكوى نوعان: شكوى إلى الله عز وجل وهذه لا تنافى الصبر، كقول يعقوب - عليه السلام -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} (يوسف: من الآية 86)

مع قوله: {فَصَبْرٌجَمِيلٌ} (يوسف: من الآية 83) والنوع الثانى: شكوى المبتلى بلسان الحال أوالمقال، فهذه لاتجامع الصبر بل تضاده وتبطله. وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر، ولا يناقض هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: وما أعطا أحد عطاءاً خيراً وأوسع من الصبر "، فإن هذا بعد نزول البلاء فساحة الصبر أوسع الساحات، أما قبل نزوله فساحة العافية أوسع. والنفس مطية العبد التى يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت فى كل مذهب، وحفظ من خطب الحجاج: " إقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء، فرحم الله امرءاً جعل لنفسه خطاماً وزماماً فقادها بخاطمها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصى الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه. والنفس لها قوتان: قوة الإقدام وقوة الإحجام، .. فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكا عما يضره، ومن الناس من يصبر على قيام الليل ومشقة الصيام، ولا يصبر على نظرة محرمة، ومنهم من يصبر على النظر والإلتفات إلى الصور، ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد. وقيل: الصبر شجاعة النفس، ومن ها هنا أخذ القائل قوله: " الشجاعة صبر ساعة "، والصبر والجزع ضدان، كما أخبر سبحانه وتعالى عن أهل النار: {سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم: من الآية 21)

أقسام الصبر باعتبار متعلقه

أقسام الصبر باعتبار متعلقه والصبر باعتبار متعلقة ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهى والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبرعلى الأقضية حتى لايتسخطها، وهذه الأقسام هى التى قيل فيها: " لابد للعبد من أمر يفعله، ونهى يجتنبه، وقدر يصبر عليه ". والصبر أيضاً نوعان: اختيارى واضطرارى، والاختيارى أكمل من الاضطرارى، فإن الاضطرارى يشترك فيه الناس ويتأنى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختيارى ولذلك كان صبر يوسف - عليه السلام - عن مطاوعة امرأة العزيز أعظم من صبره على ما ناله من إخوته لما ألقوه فى الجب. فالإنسان لا يستغنى عن الصبر فى حال من الأحوال لأنه يتقلب بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهى يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجرى عليه اتفاقا، ونعمة يجب شكر المنعم بها عليه وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازم له إلى الممات. وكل ما يلقى العبد فى هذه الدار لايخلو من نوعين: أحدهما: يوافق هواه ومراده. والآخر: يخالفه، وهو محتاج إلى الصبر فى كل منهما، أما النوع الموافق لغرضه كالصحة، والجاه، والمال، فهو أحوج شىء إلى الصبر فيها من وجوه: أحدهما: أن لايركن إليها، ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر، والفرح

المذموم الذى لايحب الله أهله. والثانى: أن لا ينهمك فى نيلها. والثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها. والرابع: أن يصبر عن صرفها من الحرام، قال بعض السلف: " البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون ". وقال عبد الرحمن بن عوف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر!!، ولذلك يحذر الله عباده من فتنة المال، والأزواج والأولاد. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (المنافقون: من الآية 9) أما النوع الثانى المخالف للهوى: فلا يخلو إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصى، أو لا يرتبط أوله باختياره كالمصائب، أو يرتبط أوله باختياره ولكن لا اختيار له فى إزالته بعد الدخول فيه. فها هنا ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يرتبط باختياره، وهو جميع أفعاله التى توصف بكونها طاعة أو معصية فأما الطاعة فالعبد محتاج إلى الصبر عليها لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية، أما فى الصلاة فلما فيها من الكسل وإيثار لراحة لا سيما إذ اتفق مع ذلك قسوة القلب، ورين الذنب والميل إلى الشهوات، ومخالطة أهل الغفلة. وأما الزكاة فلما فى طبع النفس من الشح والبخل، وكذلك الحج، والجهاد للأمرين جميعاً، ويحتاج العبد إلى الصبر فى ثلاثة أحوال:

قبل الشروع فى الطاعة، وذلك بتصحيح النية، والإخلاص فى الطاعة، وحين الشروع فى الطاعة، وذلك بالصبر على دواعى التقصير والتفريط، واستصحاب النية ولا يعطله قيام الجوارح بالعبودية عن حضور قلبه بين يديه سبحانه. والثالثة بعد الفراغ من الطاعة، وذلك بالصبر على ما يبطلها، فليس الشأن فى الإتيان بالطاعة، وإنما الشأن فى حفظها مما يبطلها، فيصبر عن رؤيتها والعجب بها والتكبر، وكذلك يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فإن العبد يعمل العمل سراً بينه وبين الله سبحانه، فيكتب فى ديوان السر، فإن تحدث به نقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فلا يظن أن بساط الصبر انطوى بالفراغ من العمل. أما الصبر عن المعاصى فأمره ظاهر، وأعظم ما يعين عليه قطع المألوفات، ومفارقة الأعوان عليه فى المجالسة والمحادثة. القسم الثانى: مالا يدخل تحت الإختيار، وليس للعبد حيلة فى دفعه كالمصائب، وهى إما أن تكون مما لا صنع لآدمى فيه كالموت والمرض والثانى: ما أصابه من جهة آدمى كالسب والضرب. فالنوع الأول: للعبد فيه أربعة مقامات: مقام العجز، وهو الجزع والشكوى , والثانى: مقام الصبر، والثالث: مقام الرضى، والرابع: مقام الشكر وهو بأن يشهد البلية نعمة فيشكر المبتلى عليها. وما أصابه من جهة الناس فله فيه هذه المقامات مضافاً إليها أربعة أخر: الأول: مقام العفو، والثانى: مقام سلامة الصدر من إرادة التشفى، الثالث: مقام القدر، والرابع: مقام الإحسان إلى المسىء.

القسم الثالث مما يكون وروده باختياره، فإذا تمكن منه لم يكن له اختيار، ولا حيلة فى دفعه.

الأخبار الواردة فى فضيلة الصبر

الأخبار الواردة فى فضيلة الصبر عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله (إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيراً منها)، إلا أخلف الله له خيراً منها، قالت: فلما مات أبوسلمة قلت: أى المسلمين خيرٌ من أبى سلمة، أول بيت هاجر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إنى قلتها فأخلف الله لى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ". الحديث (¬1). وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من يرد الله به خيراً يصب منه " (¬2). وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كفّر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها " (¬3). وعن أبى موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذ مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً " (¬4). عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد ببردة له فى ظل الكعبة - فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، فقال: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (6/ 220، 221) الجنائز، ومالك فى الموطأ (1/ 236) الجنائز، وأبو داود (3309) الجنائر بمعناه، وابن ماجه (1598) الجنائر. (¬2) رواه البخارى (10/ 103) المرضى، ومالك فى الموطأ (2/ 941) العين. (¬3) رواه البخارى (10/ 103) المرضى، ومسلم (16/ 129) البر والصلة. (¬4) رواه البخارى (6/ 136) الجهاد، وأبو داود (3075) الجنائز.

" قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له فى الأرض، فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه، وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون " (¬1). الآثار: قال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس ". قال سفيان بن عيينة فى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: من الآية 24) لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤوساً، ولما أرادوا قطع رجل عروة ابن الزبير قالوا له: لو سقيناك شيئاً كيلا تشعر بالوجع، قال: إنما ابتلانى ليرى صبرى أفأعارض أمره؟! قال عمر بن عبد العزيز: " ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه. ومرض أبو بكر الصديق فعادوه فقالوا: ألا ندعو لك الطبيب، فقال " قد رآنى الطبيب، قالوا: فأى شىء قال لك؟ فقال: قال: " إنى فعال ما أريد ". وروُى أن سعيد بن جبير قال: " الصبر: اعتراف العبد لله بما أصابه منه واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه، وقد يجزع العبد وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر ". فقوله: اعتراف العبد لله بما أصابه كأنه تفسير لقوله: {إِنَّا لِلّهِ} (البقرة: من الآية 156). ¬

_ (¬1) رواه البخارى (7/ 202) مناقب الأنصار.

فيعترف أنه ملك لله يتصرف فيه مالكه بما يريد، وراحياً بهما عند الله كأنه تفسير لقوله: {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (البقرة: من الآية 156). أى نرد إليه فيجزينا على صبرنا، ولا يضيع أجر المصيبة.

ب - الشكر

ب - الشكر الشكر: هو الثناء على المنعم بما أولاكه من معروف. وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان - لايكون شكراً إلا بمجموعهما - وهى: الاعتراف بالنعمة باطناً، والتحدث بها ظاهراً والاستعانة بها على طاعة الله، فالشكر يتعلق بالقلب واللسان، والجوارح، لاستعمالها فى طاعة المشكور وكفها عن معاصيه. وقد قرن الله سبحانه وتعالى الشكر بالإيمان، وأخبر أنه لا غرض له فى عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا بهه، فقال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ} (النساء: من الآية 147) وأخبر سبحانه عن أهل الشكر هم المخصوصون بمنته عليهم من بين عبادة فقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام: الآية 53) وقسم الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله، وأحب الأشياء إليه الشكر وأهله، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: الآية 3) وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: الآية 7) فعلق سبحانه المزيد بالشكر، والمزيد منه لا نهاية له كما لا نهاية لشكره،

وقد وقف الله سبحانه كثيراً من الجزاء على المشيئة. كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} (التوبة: من الآية 28) وقال فى المغفرة: {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} (المائدة: من الآية 40) وقال فى التوبة: {وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاء} (التوبة: من الآية 15) وأطلق جزاء الشكر إطلاقاً حيث ذكره كقوله تبارك وتعـ، الى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ِ} (آل عمران: من الآية 145) ولما عرف عدو الله إبليس قدر مقام الشكر، وأنه من أجل المقامات وأعلاها، يجعل غايته أن يسعى فى قطع الناس عنه، فقال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: من الآية 17) ووصف سبحانه الشاكرين بأنهم قليل من عباده فقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: من الآية 13) وثبت فى الصحيحين عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: أنه قام حتى تفطرت قدماه فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً " (¬1). وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ان الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها " (¬2). فكان هذا الجزاء العظيم الذى هو أكبر أنواع الجزاء كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ} (التوبة: من الآية 72). ¬

_ (¬1) رواه البخارى (3/ 41) التهجد. ومسلم (17/ 162) صفات المنافقين، والترمذى (2/ 204، 205)، والنسائى (3/ 219) قيام الليل. (¬2) رواه مسلم (17/ 51) الذكر والدعاء، والترمذى (8/ 9) الأطعمة.

فى مقابلة شكره بالحمد والشكر قيد النعم وسبب المزيد، قال عمر ابن عبد العزيز: " قيدوا نعم الله بشكر الله" وذكر ابن أبى الدنيا عن علىّ بن أبى طالب - رضي الله عنه - أنه قال لرجل من همذان: " أن النعمة موصولة بالشكر والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان فى قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد ". وقال الحسن: أكثروا من ذكر هذه النعم، فإن ذكرها شكر، وقد أمر الله نبيه أن يحدث بنمعمة ربه فقال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى: الآية 11). والله تعالى يحب أن يرى أثرُ نعمته على عبده، فإن ذلك شكرها بلسان الحال. وكان أبو المغيرة إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: " أصبحنا مغرقين فى النعم، عاجزين عن الشكر، يتحبب إلينا ربنا وهو غنىٌ عنا، ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون ". وقال شريح: " ما أصيب عبدٌ بمصيبة إلا كان لله عليه فيها ثلاث نعم: ألا تكون كانت فى دينه، وألا تكون أعظم مما كانت، وأنها لابد كائنة فقد كانت ". وقال يونس بن عبيد: قال رجل لأبى تميمة، كيف أصبحت؟ قال: " أصبحت بين نعمتين لا أدرى أيتها أفضل: ذنوب سترها الله علىّ فلا يستطيع أن يعيرنى بها أحد، ومودة قذفها الله فى قلوب العباد لا يبلغه، اعملى ". وعن سفيان فى قوله تبارك وتعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (القلم: من الآية 44).

قال: يسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر، وقال غير واحد،: " كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة ". قال رجل لآبى حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟ فقال: إنى رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بها شراً سترته. قال فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراً دفعته. قال: فما شكر اليدين؟ قال لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله هو فيهما. قال: فما شكر البطن؟ أن يكون أسفله طعاما وأعلاه علماً. قال: فما شكر الفرج: قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُون} (المؤمنون: الآية 5 - 7). قال: فما شكر الرجلين؟ قال: إن علمت ميتاً تغبطه استعملت بهما عمله، وإن مقته رغبت عن عمله وأنت شاكرالله. وأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فما ينفعه ذلك من الحر، والبرد، والثلج، والمطر. وكتب بعض العلماء إلى أخ له: أما بعد فقد أصبح بنا من نعم الله مالا نحصيه من كثرة ما نعصيه، فما ندرى أيهما نشكر، أجميل ما يَسّر، أم قبيح ما ستر؟!.

9 - التوكل

9 - التوكل التوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل فى استجلاب المصالح ودفع المضار فى أمور الدنيا والآخرة. قال الله عز وجل: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: من الآية 2، 3). فمن حقق التقوى والتوكل، اكتفى بذلك فى مصالح دينه ودنياه. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " (¬1). - حسن صحيح -. قال أبو حاتم الرازى: هذا الحديث أصل فى التوكل وأنه من أعظم الأسباب التى يستجلب بها الرزق. وقال سعيد ابن جبير: " التوكل جماع الإيمان"، وتحقيق التوكل لا ينافى الأخذ بالأسباب التى قدر الله سبحانه وتعالى المقدرات بها، وجرت سنته فى خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطى الأسباب، مع أمره بالتوكل، فالسعى فى الأسباب بالجوارح طاعة لله، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} (النساء: من الآية 71). ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (10/ 208) الزهد، وقال صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن ماجه (64، 41)، والحاكم (4/ 318) الرقاق، وقال صحيح ولم يخرجاه، وصححه الألبانى.

قال سهل: " من طعن فى الحركة يعنى فى السعى والكسب فقد طعن فى السنة، من طعن فى التوكل فقد طعن فى الإيمان"، فالتوكل حال النبى - صلى الله عليه وسلم - والكسبُ سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سننه. وقيل: " عدم الأخذ بالأسباب طعن فى التشريع، والاعتقاد فى الأسباب طعن فى التوحيد ". والأعمال التى يعملها العبد ثلاثة أقسام: القسم الأول: الطاعات التى أمر الله بها عباده، وجعلها سبباً للنجاة من النار ودخول الجنة، فهذا لابد من فعله، مع التوكل على الله عز وجل فيه، والاستعانة به عليه، فإنه لاحول ولا قوة إلا به، وما شاء سبحانه كان ومالم يشأ لم يكن، فمن قصّر فى شىء مما وجب عليه من ذلك استحق العقوبة فى الدنيا والآخرة شرعاً وقدراً. قال يوسف بن أسباط: " قال اعملْ عملَ رجل لاينجيه إلا عَمَلُه، وتوكل توكل رجل لايصيبه إلا ما كُتب له ". القسم الثانى: ما أجرى الله العادة به فى الدنيا وأمر عباده بتعاطيه كالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش، والإستظلال من الحر، والتدفؤ من البرد، ونحو ذلك، فهذا أيضاً واجب على المرء تعاطى أسبابه ومن قصّر فيه حتى تضرر بتركه - مع القدرة على استعماله - فهو مفرط يستحق العقوبة. القسم الثالث: ما أجرى الله العادة به فى الدنيا فى الأعم الأغلب، وقد يخرق العادة فى ذلك لمن شاء من عباده وهى أنواع: كالأدوية مثلاً وقا اختلف العلماء: هل الأفضل لمن أصابه المرض التداوى أم تركه لمن حقق التوكل على الله؟

فيه قولان مشهوران، وظاهر كلام الإمام أحمد أن التوكل لمن قوى عليه أفضل لما صح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفاً بغير حساب ثم قال: هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون " (¬1). ومن رجح التداوى قال: إنه حال النبى - صلى الله عليه وسلم - الذى كان يداوم عليه - وهو لايفعل إلا الأفضل - وحمل الحديث على الرقى المكروهة، التى يخشى منها الشرك، بدليل أنه قرنها بالكى والطيرة وكلاهما مكروه. قال مجاهد، وعكرمة، والنَخعى، وغير واحد من السلف: لا يرخص فى تلك السبب بالكلية إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية. وسئل إسحق بن راهويه: هل للرجل أن يدخل المفازة بغير زاد؟ فقال: " إن كان الرجل مثل عبد الله بن جبير فله أن يدخل المفازة بغير زاد، وإلا لم يكن له ". ¬

_ (¬1) رواه البخارى (10/ 155) الطب، (3/ 88) الإيمان، الترمذى (9/ 267) صفة القيامة وفيه زيادة: " مع كل ألف سبعون ألفاً وثلاث حثيات من حثياته"، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وحسن الألبانى هذه الزيادة.

10 - محبة الله عز وجل

10 - محبة الله عز وجلّ المحبة لله هى الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها كالشوق، والإنس والرضى، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة، والصبر، والزهد، وغيرها. وأنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها، وأعلاها، وأجلها، محبة من جبلت القلوب على محبته، وفطرت الخليقة على تأليهه، فإن الإله هى التى تألهه القلوب بالمحبة، والإجلال، والتعظيم، والذل له، والخضوع، والتعبد، والعبادة لا تصلح إلا له وحده، والعبادة: هى كمال الحب مع كمال الخضوع والذل. والله تعالى يُحَبّ لذاته من جميع الوجوه، وما سواه فإنما يحب تبعاً لمحبته، وقد دل على وجوب محبته سبحانه جميع كتبه المنزلة، ودعوة جميع الرسل، وفطرته التى فطر عباده عليها، وما ركّب فيهم من العقول، وما أسبغ عليهم من النعم، فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها، وأحسن إليها، فكيف بمن كل الإحسان منه، وةما يخلقه جميعهم من نعمة فمنه وحده لاشريك له، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (النحل: الآية 53). وما تعرف به إلى عباده من أسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كمالاته ونهاية جلاله وعظمته.

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} (البقرة: من الآية 165). وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} (المائدة: من الآيتين 53، 54). وقد أقسم النبى - صلى الله عليه وسلم - إنه: " لايؤمن عبد حتى يكون هو أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين " (¬1). وقال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " لا حتى أكون أحب إليك من نفسك " (¬2). أى لا تؤمن حتى تصل محبتك إلى هذه الغاية. وإذا كان النبى - صلى الله عليه وسلم - أولى بنا من أنفسنا فى المحبة ولوازمها، أفليس الربّ جل جلاله أولى بمحبته وعبادته من أنفسنا؟. وكل ما منه إلى عبده يدعوه إلى محبته مما يحب العبد ويكره، فعطاؤه ومنعه، ومعافاته، وابتلاؤه، وقبضه وبسطه، وعدله، وفضله، وإماتته وإحياؤه، وبره ورحمته وإحسانه وستره، وعفوه وحلمه، وصبره على ¬

_ (¬1) رواه البخارى (1/ 58) الإيمان، وسملم (2/ 15) الإيمان، وقال الحافظ: قوله:"لايؤمن " أى إيمانا كاملاً. وقال القاضى عياض وابن بطال وغيرهما: المحبة= =ثلاثة أقسام: محبة إحلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة وإحسان كمحبة سائر الناس، فجمع - صلى الله عليه وسلم - أصناف المحبة فى محبته. وقال ابن بطال: ومعنى الحديث: أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبى - صلى الله عليه وسلم - آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين لأن به - صلى الله عليه وسلم - استنقذنا من النار وهدينا من الضلال. (¬2) رواه البخارى (11/ 523) الإيمان والنذور.

عبده، وإجابته لدعائه، وكشف كربه وإغاثته لهفته وتفريج كربته، من غير حاجة منه إليه، بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه، كل ذلك داعٍ للقلوب إلى تأليهه ومحبته، فلو أن مخلوقاً فعل بمخلوق أدنى شىء من ذلك لم يملك قلبه عن محبته، فكيف لايحب العبد بكل قبلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس مع إساءته؟. فخيره إليه نازل، وشره إليه صاعد، يتحبب إليه بنعمه وهو غنى عنه، والعبد يتبغض إليه بالمعاصى، وهو فقير إليه- فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته، ولامعصية العبد ولؤمه يقطع إحسان ربه عنه. وأيضاً: فكل من تحبه من الخلق ويحبك إنما يريدك لنفسك، وغرضه منك، والله سبحانه وتعالى يريدك لك. وأيضاً: فكل من تعامله من الخلق إن لم يربح عليك لم يعاملك، ولا بد له من نوع من أنواع الربح، والله تعالى يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه، فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة وهى أسرع شىء محواً. وأيضاً: فهو سبحانه خلقك لنفسه، وخلق كل شىء لك فى الدنيا والآخرة، فمن أولى منه باستفراغ الوسع فى محبته، وبذلك الجهد فى مرضاته. وأيضاً: فَمطالبك - بل مطالب الخلق كلهم جميعاً - لديه، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، أعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله، يشكر القليل من العمل وينميه، ويغفر الكثير من الذلل ويمحوه، يسأله مَنْ فى السموات والأرض كل يوم هو فى شأن، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين فى الدعاء، ويحب أن يُسأل ويغضب إذا لم يُسأل، ويستحى من عبده حيث لا يستحى

العبد منه، ويستره حيث لا يستر نفسه، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه، ودعاه بنعمه وإحسانه وأياديه إلى كرامته ورضوانه فأبى، فأرسل رسله فى طلبه، وبعث إليه معهم عهده، ثم نزل إليه سبحانه بنفسه، وقال: " من يسألنى فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له " (¬1). وكيف لاتحب القلوب من يأتى بالحسنات إلا هو، ولايجيب الدعوات ويقيل العثرات، ويغفر الخطيئات، ويستر العورات، ويكشف الكربات، ويغيث اللهفات، وينيل الطلبات سواه؟ فهو أحق من ذكر، وأحق من شكر، وأحق من عُبد، وأحق من حمد، وأنصر من ابتغى، وأرأف من ملك، أجود من سئل، وأوسع من أعطى، وأرحم من استرحم، وأكرم من قُصد، وأعز من التجىء إليه، وأكفى من توكل عليه، وأرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأشد فرحاً بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التى عليها طعامه وشرابه فى الأرض المهلكة إذا يئس من الحياة ثم وجدها، وهو الملك لاشريك له، والفرد لاند له، كل شىء هالكٌ إلى وجهه، لن يطاع إلا بإذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يُطاع فيشكر، وبتوفيقه ونعمته أطيعَ، ويعصى فيعفو ويغفر وحقه أضيع، فهو أقرب شهيد، وأجل حفيظ، وأوفى بالعهد، وأعدل قائم بالقسط، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصى، وكتب الآثار، ونسخ الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب لديه مكشوف، وكل أحد إليه ملهوف، وعنت الوجوه لنور وجهه، وعجزت العقول عن إدراك كنهه، ودلت الفطر والأدلة كلها على امتناع مثله وشبهه، وأشرقت لنور وجهه الظلمات واستنارت له الأرض والسماوات، وصلحت عليه جميع المخلوقات، لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه ¬

_ (¬1) رواه البخارى (13/ 464) التوحيد، ومسلم (6/ 38، 39) صلاة المسافرين، والترمذى (13/ 30) الدعوات، وأبو داود (1301) الصلاة.

عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور ولو كشفه لأحرقت سبحاتُ وجهه ما إنتهى إليه بصره من خلقه. ومحبة الله عز وجل هى حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذة ولا نعيم ولافلاح ولا حياة إلا بها، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، بل فساد القلب- إذا خلا من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحق - أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح، وهذا الأمر لا يصدق به إلا من فيه حياة، وما لجرح بميت إيلام. الآثار: قال فتح الموصلى: " المحب لايجد للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين ". وقال بعضهم: " المحب طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل دأباً وشوقاً ". وأنشد بعضهم: وكن لربك ذا حب لتخدمه ... إن المحبين للأحباب خُدّامُ وأوصت امرأة من السلف أولادها فقالت لهم: " تعودوا حب الله وطاعته، فإن المتقين ألفوا بالطاعة فاستوحشت جوارحهم من غيرها، فإن عرض لهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة فهم لها منكرون". وأنشد ابن المبارك: تعصى الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمرى فى القياس شنيع لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع

11 - الرضا بقضاء الله عز وجل

11 - الرضا بقضاء الله عز وجل للعبد فيما يكره درجتان: درجة الرضى، ودرجة الصبر، فالرضا فضل مندوب إليه، والصبر واجب على المؤمن حتم. وأهل الرضا تارة يلاحظون حكمة المبتلى وخيرته لعبده فى البلاء وأنه غيرمتهم فى قضائه، وتارة يلاحظون عظمة المبتلى وجلاله وكماله فيستغرقون فى مشاهدة ذلك حتى لا يشعرون بالألم، وهذا يصل إليه خواص أهل المعرفة والمحبة، حتى ربما تلذذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره من حبيبهم. والفرق بين الرضى والصبر: أن الصبر حبس النفس وكفها عن السخط -مع وجود الألم - وتمنى زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا: انشراح الصدر، وسعته بالقضاء، وترك زوال الألم - وإن وجد الإحساس بالألم - لكن الرضى يخففه بما يباشر القلب من روح اليقين وزالمعرفة، وإذا قوى الرضى فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " إن الله تعالى بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح فى اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحزن فى الشك والسخط ". وقال علقمة فى قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: من الآية 11). هى المصيب تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى. وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: " ذاق حلاوة الإيمان من رضى بالله رباً وبالإسلام

ديناً ومحمد رسولاً " (¬1). وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: " من قال حين يسمع النداء رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد رسولاً غفرت ذنوبه " (¬2). ونظر علىّ بن أبى طالب - رضي الله عنه - إلى عدىّ بن حاتم كئيباً، فقال: مالى أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: وما يمنعنى وقد قتل ابناى وفقئت عينى فقال: ياعدىّ من رضى بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله. دخل أبو الدرداء - رضي الله عنه - على رجل يموت وهو يحمد الله فقال أبو الدرداء: أصبت إن الله عز وجل إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به. وقال أبو معاوية فى قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: من الآية 97). الرضا والقناعة. قال الحسن: ": من رضى بما قسم له وسعه وبارك الله فيه، ومن لم يرض لم يسعه، ولم يبارك له فيه ". وقال عمر بن عبد العزيز: " ما بقى لى سرور إلا فى مواقع القدر"، وقيل له ما تشتهى؟ فقال: " ما يقضى الله ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2/ 2) الإيمان، والترمذى (10/ 91) الإيمان، قال صاحب التجويد: معنى رضيت بالشىء: قنعت به واكتفيت به ولم أطلب معه غيره، فمعنى الحديث: لم يطلب غير الله تعالى ولم يسع فى غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه وذاق طعمه. وقال القاضى عياض: معنى الحديث صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطة بشاشته قلبه لأن من رضى أمراً سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذات له والله أعلم. (¬2) رواه مسلم (4/ 86) الصلاة، وأبو داود (521) الصلاة، والترمذى (2/ 11، 12).

عز وجل ". وقال عبد الواحد بن زيد: " الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين ". وقال بعضهم: " لن يُرى فى الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله تعالى فى كل حال، فمن وهب له الرضا فقد تبلغ أفضل الدرجات" وأصبح أعرابى وقد ماتت له أباعر (جمع بعير) كثيرة فقال: لا والذى أنا عبدٌ فى عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوى إحن ما سرنى أن إبلى فى مباركها ... وأن شيئاً قضاه الله لم يكن

12 - الخوف والرجاء

12 - الخوف والرجاء الخوف والرجاء جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محدود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود، فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان مع كونه بعيد الأرجاء ثقيل الأعباء محفوفاً بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء إلا أزمة الرجاء، ولا يقصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات وعجائب اللذات إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف فلا بد إذاً من بيان حقيقتهما وفضيلتهما وسبل التوصل إلى الجمع بينهما والله الموفق للخيرات الهادى لأعلى الدرجات. أ - الرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده. وإذا كانت الأسباب غير موجودة فاسم الغرور والحمق عليه أصدق، وإذا كان الأمر مقطوعاً فلا يسمى رجاء إذ لا يقال: أرجو طلوع الشمس، ولن يمكن أن يقال: أرجو نزول المطر. وقد علم علماء القلوب: أن الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض والإيمان كالبذور فيها، والطاعة جارية مجرى تقليب الارض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها. والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التى لاينمو فيها البذر، ويوم القيامة هو الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو بذر إلا من بذر الإيمان، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب، وسوء أخلاقه، وكما لاينمو بذر فى أرض سبخة فينبغى أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء

صاحب الزرع، فكل من طلب أرضاً طيبة، وألقى فيها بذراً طيباً غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه فى أوقاته، ثم نقى الشوك والحشيش وكل ما يمنع نبات البذرة أو يفسده، ثم جلس منتظرا من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة، إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، سُمى انتظاره رجاءاً، وإن بث البذر فى ارض صلبة سبخة مرتفعة لا تصل إليها الماء، ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً ثم انتظر الحصاد منه، سُمى انتظاره حمقاً وغرواً لا رجاءاً. فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختيار العبد، وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات، فالعبد إذا بذر الإيمان، وسقاه بماء الطاعات، وطهّر قلبه من شوك الأخلاق الرديئة، وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، كان انتظاره رجاءاً حقيقياً. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: الآية 218). يعنى أولئك يستحقون أن يرجوا رحمة الله، وما أراد به تخصيص وجود الرجاء لأن غيرهم أيضاً قد يرجو ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء. ومن كان رجاؤه هادياً له إلى الطاعة، زاجراً له عن المعصية، فهو رجاء صحيح، ومن كان رجاؤه داعياً له إلى البطالة والانهماك فى المعاصى فهو غرور. ومما ينبغى أن يُعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور: الأول: محبة ما يرجوه. الثانى: خوفه من فواته. الثالث: سعيه فى تحصيله. أما رجاء لا يقارنه شىء من ذلك فهو من باب الأمانى، والرجاء

شىء والأمنى شىء آخر. وكل راجِ خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات. عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة " (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (10/ 227) صفة القيامة، وقال: حديث حسن غريب، والحاكم (4/ 308) الرقاق، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى والألبانى. ومعنى أدلج: أى صار من أول الليل، والمعنى: أن من خاف ألزمه الخوف السلوك إلى الآخرة والمبادرة بالأعمال الصالحة خوفاً من القواطع والعوائق.

أخبار الرجاء

أخبار الرجاء الآيات: قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: الآية 53). وقوله عز وجل: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} (الرعد: من الآية 6). الأحاديث: ما ورد فى صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لايموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه فى النار يهودياً أو نصرانياً " (¬1). وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبىٌ، فإذا امرأة من السبى تسعى إذ وجدت صبياً فى السبى أخذته فألزقته ببطنها فأرجعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أترون هذه المرأة طارحة ولدها فى النار؟ " قلنا: لا والله، فقال: الله أرحم بعبده المؤمن من هذه على ولدها " (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (17/ 85) التوبة، قال النووى رحمه الله معناه ما جاءه فى حديث أبى هريرة - رضي الله عنه -: لكل أحد منزل فى الجنة ومنزل فى النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر فى النار لأنه استحق ذلك بكفره ومعنى فكاكك أنك كنت معرضاً لدخول النار وهذا فكاكك لأن الله تعالى قدر للنار عدداً يملؤها فإذا دخلها الكافر بذنوبهم وكفرهم صاروا فى معنى الفكاك للمسلمين، والله أعلم. (¬2) رواه البخارى (10/ 426) الأدب، ومسلم (17/ 70) التوبة.

وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله كتب على نفسه بنفسه قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتى تغلب غضبى " (¬1). وفى رواية: " غلبت غضبى"، وفى رواية: " سبقت غضبى ". وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:: " قال الله تعالى: يا ابن آدم: إنك مادعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، ياابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ياابن آدم، لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لاتشرك بى شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة (¬2) ". قال يحيى بن معاذ: " من أعظم الاغترار عند التمادى فى الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصى، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمنى على الله عز وجل مع الإفراط ". ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجرى على اليبس ¬

_ (¬1) رواه البخارى (13/ 384) التوحيد، ومسلم (17/ 68) التوبة، والترمذى (3611تحفة) الدعوات. (¬2) تقدم تخريجه ص (44).

ب - الخوف

ب - الخوف الخوف: سوط الله يسوق به عباده إلى العلم والعمل لينالوا بهما القرب من الله تعالى، وهو عبارة عن: تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه فى الاستقبال، والخوف هو الذى يكف الجوارح عن المعاصى ويقيدها بالطاعات. والخوف القاصر يدعو إلى الغفلة والجرأة على الذنب والإفراط فى الخوف يدعو إلى اليأس والقنوط. والخوف من الله تعالى تارة يكون لمعرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته، وأنه لو أهلك العالمين لم يبال، ولم يمنعه مانع، وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصى، وتارة يكون بهما جميعاً، أو بحسب معرفته بعيوب نفسه، ومعرفته بجلال الله تعالى واستغنائه، وأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، تكون قوة خوفه. فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " والله إنى لأعلمهم بالله وأشدهعم له خشية " (¬1). وقيل للإمام الشعبى: يا عالم: قال إنما العالم من يخشى الله وذلك لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر: من الآية 28). ¬

_ (¬1) رواه البخارى (10/ 513) الأدب، ومسلم (15/ 106) الفضائل، وأحمد (6/ 45،181).

وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " كفى بخشية الله علماً وكفى بالاغترار جهلاً". ولذلك قيل: ليس الخائف من يبكى ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه، وقيل لذى النون المصرى: متى يكون العبد خائفاً؟ قال: " إذا نزل نفسه منزلة السقيم الذى يحتمى مخافة طول السقام ". وقال أيو القاسم الحكيم: " من خاف شيئاً هرب منه، ومن خاف الله هرب إليه ". وقال الفضيل بن عياض: " إذا قيل لك: هل تخاف الله فاسكت فإنك إن قلت: نعم، كذبت، وإن قلت: لا، كفرت ". والخوف يحرق الشهوات المحرمة فتصير المعاصى المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل مكروهاً، عند من يشتهيه إذا عرف أن فيه سماً، فتحرق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويحصل فى القلب الخضوع والذلة والاستكانة ويفارقه الكبر والحقد والحسد، بل بصير مستوعب الهم بخوفه، والنظر فى خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والضنة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس بالخطرات، والخطوات والكلمات، ويكون حاله حال من وقع فى مخلب سبع ضار، لايدرى أنه يغفل عنه فيفلت، أو يهجم عليه فيهلك، فيكون بظاهره وباطنه مشغولاً بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره، فهذا حال من غلبه الخوف.

فضيلة الخوف

فضيلة الخوف جمع الله عز وجلّ لأهل الخوف والهدى والرحمة، والعلم، والرضوان، فقال تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف: من الآية 154). وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر: من الآية 28). وقال عز وجل: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: من الآية 8). وقد أمر الله عز وجل بالخوف، وجعله شرطاً فى الإيمان، فقال عز وجل: {ْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: من الآية 175). فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف، ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن رجلا حضره الموت فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت فاجمعوا لى حطباً كثيراً وأوقدوا فيه ناراً، حتى إذ أكلت لحمى، خلصت إلى عظمى فامتحشت، فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يوماً راحاً فأذروه فى اليم ففعلوا فجمعه الله فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك: فغفر الله له " (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخارى (6/ 494) أحاديث الأنبياء، وسملم (17/ 70)، والنسائى (4/ 113) الجنائر، وابن ماجه (3432) الزهد، وأحمد (2/ 269).

قال - صلى الله عليه وسلم -:" لايلج النار أحد يبكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن فى الضرع " (¬1). قال الفضيل بن عياض: " من خاف الله دله الخوف على كل خير". وقال يحيى بن معاذ:" ما من مؤمن يعمل سيثئة إلا ويلحقها جنتان: خوف العقاب، ورجاء العفو ". وقال الحسن البصرى: " إن المؤمنين قوم ذلت منهم - والله- الأسماع والأبصار وزالجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى وإنهم والله الأصحاء، ولكن دخلهم من الخوف مالم يدخل غيرهم ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة فقالوا: الحمد الله الذى أذهب عنا الخوف، أما - والله - ما أحزنهم ما أحزن الناس ولا تعاظم فى قلوبهم شىء طلبوا به الجنة إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ومن لم ير لله عليه نعمة فى غير مطعم أو شرب فقد قل علمه وحضر عذابه ". ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (7/ 130) فضائل الجهاد، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألبانى.

الأخبار فى الخوف

الأخبار فى الخوف قال الله تعالى: {ْ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ماَ آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (آل عمران: الآية 57 - 61). وقد روى الترمذى فى جامعه عن عائشة رضى الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: " لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم، أولئك يسارعون فى الخيرات " (¬1). عن أنس - رضي الله عنه - قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها فقط، فقال: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " فغط أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم ولهم خنين، وفى رواية: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصحابه شىء فخطب، فقال: " عرضت على الجنة والنار فلم أر كاليوم من الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " فما أتى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أشد منه ¬

_ (¬1) رواه الترمذى (12/ 4) التفسير وابن ماجه (4198)، والحاكم (2/ 394) التفسير، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى، وفى سنده انقطاع وله شاهد عند ابن جرير، وانظر جامع الأصول (2/ 254) وصححه الألبانى.

غطوا رؤوسهم ولهم خنين " (¬1). ومعنى الحديث: لو أنكم علمتم ما أعلمه من عظمة الله عز وجل، وانتقامه ممن يعصيه، لطال بكاؤكم وحزنكم وخوفكم مما ينتظركم، ولما ضحكتم أصلاً، فالقليل هنا بمعنى المعدوم، وهو مفهوم من السياق. وروت السيدة عائشة رضى الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تغيّر الهواء وهبت ريح عاصفة يتغير ويتردد فى الحجرة ويدخل ويخرج، كل ذلك خوفاً من عذاب الله (¬2). وروى عبد الله بن الشخير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل فى الصلاة يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل (¬3). ومن تأمل أحوال الصحابة رضى الله عنهم ومن بعدهم من الصالحين من سلف هذه الأمة، وجدهم فى غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير بل التفريط والأمن. فهذا الصديق - رضي الله عنه - يقول: وددت أنى شعرة فى جنب عبد ¬

_ (¬1) رواه البخارى (11/ 319) الرقاق، والترمذى (9/ 124) الزهد. والخنين: هوالبكاء مع غنة بانتشار الصوت من الأنف. (¬2) رواه البخارى (6/ 347) بدء الخلق بمعناه ومسلم (6/ 196) الاستسقاء. (¬3) رواه أبو داود (890) الصلاة بلفظ الرحى، والنسائى (3/ 13) والسهو، وأحمد (4/ 25،26) وصححه الألبانى، وقال السيوطى: " أزيز": أى خنين من الجوف وهو صوت البكاء وهو أن يجيش جوفه ويغلى بالبكاء: كأزيز المرجل " وهو بالكسر: الإناء الذى يغلى فيه الماء سواء كان من حديد أو صفيح، أو حجارة أو خزف - هامش (3/ 13) النسائى. وقال فى المرقاة: وفى الحديث دليل على أن البكاء لا يبطل الصلاة سواء ظهر منه حرفان أم لا واستدل على جواز البكاء فى الصلاة بقوله تعالى: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سُجّدا وبُكياً} (مريم 58). عون المعبود (3/ 173).

مؤمن، وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل. وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ سورة الطور حتى بلغ: {إنّ عَذابَ ربِكَ لَواقِعٌ} (الطور: الآية 7). بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه، وقال لابنه وهو يموت: ويحك ضع خدى على الأض عساه يرحمنى ثم قال: ويل أمى لم يغفر لى -ثلاثاً -ثم قضى، وكان يمر بالآية فى ورده بالله تخيفه فيبقى فى البيت أياماً يعاد يحسبونه مريضاً، وكان فى وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء. وقال له ابن عباس: " مصّر لله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح وفعل " فقال: " وددت أن أنجو لا أجر ولا وزر ". وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان إذا وقف على القبر يبكى حتى يبل لحيته، قال: " لو أننى بين االجنة والنار ولا أدرى إلى أيتهما أصير لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير ". وهذا أبو الدرداء - رضي الله عنه - كان يقول: " لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت، ماأكلتم طعاماً على شهوة، ولا شربتم شراباً على شهوة أبداً، ولا دخلتم بيتاً تستظلون به، ولخرجتم إلى الصعيد تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم، ولوددت أنى شجرة تعضد ثم تؤكل ". وكان ابن عباس - رضي الله عنه - أسفل عينيه مثل الشراك البالى من كثرة الدموع. وقال علىّ -كرم الله وجهه- قد سلّم من صلاة الفجر، وقد علاه كآبة وهو يقلب يده: " لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أر اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا سجداً وقياما يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم

وأقدامهم، فإذا أصبحوا ذكروا الله تمادوا كما يميد الشجر فى يوم الربح، وهملت أعينهم بالدموع حتى يتبل ثيابهم، والله فكأتى بالقوم باتوا غافلين". ثم قام فما رؤى بعد ذلك ضاحكاً حتى ضربه ابن ملجم. وقال موسى بن مسعود: " كنا إذا جلسنا إلى سفيان كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه ". ووصف أحدهم الحسن فقال: " كان إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بقطع رقبته، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له ". ورُوى أن زرارة بن أبى أوفى صلّى بالناس الفجر بسورة المدثر، فلما قرأ قوله تبارك وتعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} (المدثر: الآية 8 - 9). أخذته شهقة فمات. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن قال: " ابكوا فإن لم تبكو فتباكوا، فوالذى نفسى بيده: لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته، وصلى حتى ينكسر صلبه ".

13 - التوبة

13 - التوبة التوبة من الذنوب بالرجوع إلى ستّار العيوب، وعلاّم الغيوب، مبدأ طريق السالكين، ورأس مال الفائزين، وأول إقدام المريدين، ومفتاح استقامة المائلين، ومطلع الأصطفاء، والاجتباء للمقربين. ومنزل التوبة أول المنازل، وأوسطها، وآخرها، فلا يفارقها العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه، ونزل به، فالتوبة هى بداية العبد ونهايته، وقد قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: من الآية 31) وهذه الآية فى سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم، وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة وأتى بكلمة " لعل" إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: من الآية 11) فقسم العباد إلى: " تائب " و " ظالم " وليس ثم قسم ثالث، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله، وفى الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فوالله إنى أتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة " (¬1). والتوبة هى: رجوعُ العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (44).

والضالين. وشرائط التوبة ثلاثة: إذا كان الذنب فى حق الله عز وجل. وهى: " الندم " و " الاقلاع"، و " العزم على عدم العودة ". فأما الندم فإنه لا تتحقق التوبة إلا به إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضائه به وإصراره عليه، وفى المسند: "الندم توبة ". واما " الإقلاع" فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب. والشرط الثالث: هو: " العزم على عدم العودة " ويعتمد أساساً على اخلاص هذا العزم والصدق فيه، وشرط بعض العلماء عدم معاودة الذنب وقال: متى عاد إليه تبينّا أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة والأكثرون على أن ذلك ليس شرطاً، أما إذا كان الشرط متضمناً لحق آدمى فعلى التائب أن يصلح ما أفسد، أو يسترضى من أخطأ فى حقه، لما ثبت (¬1) عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من كان لأخيه عنده مظلمة من مال، وعرض فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات". (¬2) فهذا الذنب يتضمن حقين: حق الله وحق الآدمى، فالتوبة منه بتحلل الآدمى لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه. وهناك بعض التوبات الخاصة نذكر منها بعون الله تعالى ما يلى: إذا كانت المظلمة بقدح فى الآدمى بغيبة، أو بقذف، فهل يُشترط إعلامه؟ مذهب أبى حنيفة، ومالك اشترطوا الإعلام، واحتجوا بالحديث السابق، والقول الآخر: أنه لايشترط الإعلام، بل يكفى توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب أو المقذوف فى مواضع غيبته، أو قذفه بضد ما ذكره به، ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 376)، والحاكم (4/ 243) وصححه، ووافقه الذهبى. (¬2) رواه البخارى (5/ 101) المظالم، والترمذى (9/ 254) صفة القيامة.

ويستغفر له، وهذا اختيارشيخ الإسلام ابن تيمية، احتج لذلك بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلا عن أن يوحبه أو يأمر به. أما توبة من اغتصب مالا فعليه رد هذا المال لأصحابه، فإن تعذر عليه رده لجهله بأصحابه، أو لانقراضهم، أو لغير ذلك فعليه أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها، فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان له الخيار بين أن يجيزوا مافعل، وتكون أجورها لهم، وبين ألا يجيزوا ويأخذوا من حساناته بقدر أحوالهم ويكون ثواب تلك الصدقة له إذا لا يبطل الله سبحانه ثوابها. فقد روى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - اشترى من رجل جارية ودخل يزن له الثمن فذهب رب الجارية، فإن رضى فالأجر له وإن أبى فالأجرلى وله من حسناتى بقدره. وأما توبة من عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العِوض كبائع الخمر والمغنى وشاهد الزور ثم تاب والعوض بيده: فقالت طائفة يرده إلى مالكه إذ هو عينُ ماله، ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه فى مقابلته نفعٌ مباح، وقالت طائفة - بل وهو أصوب القولين -:بل توبته بالتصدق به وكيف يرد إلى دافعه مالاً استعان به على معاصى الله؟ وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدرالحرام ويطيب باقى ماله والله أعلم. مسألة: إذا تاب العبد من الذنب هل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التى حطه عنها الذنب أو لا يرجع إليها؟ قالت طائفة: يرجع إلى درجته لأن التوبة تجب الذنب بالكلية وتصيره

كأن لم يكن. وقالت أخرى: لايعود إلى درجته وحاله لأنه لم يكن فى وقوف، وإنما كان فى صعود، فبالذنب صار فى هبوط، فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذى كان مستعداً به للترقى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح: أن من التائبين من لايعود إلى درجته، ومنهم من يعود إلى أعلى منها فيصير خيراً مما كان قبل الذنب، وكان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، وهنا مثلٌ مضروب: رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمْن فهو يعدو مرة ويمشى أخرى، ويستريح تارة وينام أخرى فبينما هو كذلك إذ عرض له فى سيره ظل ظليل، وماء بارد ومقيل، وروضة مزهرة، فدعته نفسه إلى النزول على تلك الأماكن فنزل عليها، فوثب عليه منها عدو فأخذه وقيده ومنعه عن السير، فعاين الهلاك وظن أنه منقطع به، وأنه رزق الوحوش والسباع، وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذى يؤمه، فبينما هو على ذلك تتقاذفه الظنون، إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر فحل كتافه وقيوده، وقال له: اركب الطريق واحذر هذا العدو فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد، واعلم أنك ما دمت حاذراً منه متيقظاً له لايقدرعليك فإذا غفلت وثبت عليك، وأنا متقدمك إلى المنزل وفرط لك فاتبعنى على الأثر، فإذا كان هذا السائر كيساً فطناً لبيباً حاضر الذهن والعقل استقبل سيره استقبالا آخر أقوى من الأول، وأتم وأشتد حذره وتأهب لهذا العدو، وأعد له عدته، فكان سيره الثانى أقوى من الأول وخيراً منه ووصوله إلى المنزل أسرع وأن غفل عن عدوه، وعاد إلى مثل حاله الأول من غير زيادة ولا نقصان ولا قوة حذر ولا استعداد، عاد كما كان، وهو معرض لما عرض له أولاً، وإن أورثه ذلك توانياً فى سيره وفتوراً، وتذكراً لطيب مقيله وحسن ذلك الروض أو عذوبتة مائه لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان.

التوبة النصوح

التوبة النصوح قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} (التحريم: من الآية 8) والنصحُ فى التوبة: هو تخليصها من كل غش ونقص وفساد، قال الحسن البصرى: " هى أن يكون العبد نادماً على مامضى مجمعاً على أن لايعود فيه " وقال الكلبى: " أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن " وقال سعيد بن المسيب: " توبة نصوحاً تنصحون بها أنفسكم " قال ابنُ القيّم: " النصح فى التوبة يتضمن ثلاثة أشياء ": الأول: تعميم الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته. الثانى: اجماع العزم والصدق بكلتيه عليها بحيث لايبقى عنده تردد لا تلّوم ولا انتظار بل يجمع عليها كل إرادته عزيمته مبادراً بها. الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة فى أخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده لا كمن يتوب لحفظ حاجته وحرمته ومنصبه ورياسته أو لحفظ وقته وماله أو استدعاء حمد الناس أوالهرب من ذمهم أولئلا يتسلط عليه السفهاء أو لقضاء نهمته من الدنيا أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التى تقدح فى صحتها وخلوصها لله عز وجل.

فالأول: يتعلق بما يتوب منه، والأوسط: يتعلق بذات التائب، والثالث: يتعلق بمن يتوب إليه، فنصح التوبة: الصدقُ فيها والإخلاص وتعميم الذنوب بها، ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب وهى أكمل ما يكون من التوبة. وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها فتوبته بين توبتين من ربه سابقة ولاحقة فإنه تاب عليهه: أولاً: إذناً وتوفيقاً وإلهاماً، فتاب العبد، بتاب الله عليه. ثانياً: قبولاً وإثابة لقوله عز وجلّ: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة: الآية 118) فأخبر سبحانه: أو توبته عليهم سبقت توبتهم ,انها هى التى جعلتهم تائبين فكانت سببا مقتضيا لتوبتهم وهذا القدر من سر أسميه " الأول والآخرُ" فهو المعد والممد ومنه السبب والمسبب، والعبد تواب والله تواب، فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الأباق، وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق، وقبول وإمداد. والتوبة لها مبدأ ومنتهى، فمبدؤها: الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيمم الذى أمرهم بسلوكه بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام: من الآية 153) ونهايتها: الرجوع إليه فى المعاد وسلوك صراطه الذى نصبه موصلاً إلى جنته، فمن رجع إلى الله فى هذه الدار بالتوبة رجع إليه فى المعاد بالثواب، قال الله عز وجل: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (الفرقان: الآية 71)

أسرار التوبة ولطائفها

أسرار التوبة ولطائفها اعلم أن العبد العقال إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى أمور: أحدها: أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب. الثانى: أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفاً وخشية تحمله على التوبة. الثالث: أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها وتقديرها عليه وأنه لو شاء لعصمه منها فيحدث لك ذلك أنواعاً من المعرفة بالله واسمائه وصفاته وحكته ورحمته وحلمه وكرمه، وتوجب له عيودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها البتة، ويعلم ارتباط الخلق والأمر الوعيد بأسمائه وصفاته وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها فى الوجود، وهذا المشهد يطلعه على رياض موفقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم. منها: أن يعرف العبد عزته فى قضائه، وهو أنه سبحانه العزيز الذى يقضى بما يشاء وأنه لكمال عزته حكم على العبد وقضى عليه بأن قلب قلبه وصرف إرادته عل مايشاء وحال بين العبد وقلبه. ومن معرفة عزته فى قضائه أن يعرف أنه مدبر مقهور ناصيته بيد غيره، لا عصمة له إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته فهو ذليل حقير فى قبضة عزيز حميد، ومن شهود عزته فى قضائه أن يشهد أن الكمال والحمد والعزة

كلها لله وأن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة، ـ وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوداً لعزة الله وكماله -وحده -غناه. ومنها: أن يعلم بره - سبحانه -فى ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له ولو شاء لفضحه بين خلقه، ومنها مشاهد حلم الله عز وجل فى إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة فيحدث له معرفة ربه - سبحانه -باسمه " الحليم ". ومنها: معرفة فضل الله فى مغفرته فإن المغفرة فضل من الله وإلا فلو أخذك بمحض حقه كان عادلا محموداً وإنماعفوه بفضله لا باستحقاقك فيوجب له ذلك شكراً ومحبة وإنابة ومعرفة باسمه " الغفار ". ومنها: أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار والافتقار وهى أربعة مراتب: المرتبة الأولى: ذل الحاجة والفقر، وهذه عامة فى جميعالخلق. المرتبة الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو خاص لأهل طاعته. المرتبة الثالثة: ذل المحبة فالمحب ذليل بالذات وعلى قدرمحبته يكون ذله. المرتبة الرابعة: ذل المعصية والجناية وحقيقة ذلك هو الفقر. فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم. ومنها: أن اسم " الرزّاق " يقتضى مرزوقاً، و " السميع البصير" يقتضى مسموعاً ومبصرا، كذلك أسماء " الغفور، العفو، التواب" يقتضى من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات. وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله - صلى الله عليه وسلم - حيث

يقول: " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم " (¬1) ومن أسرارها: ما ورد فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته أرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع فى ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ يخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدى، وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح " (¬2). فما الظن بمحبوب لك تحبه حباً شديداً وأسره عدوك وحال بينك وبينه وأن تتعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ويعرضه لأنواع الهلاك وأنت أولى به منه وهو غرسك وتربيتك ثم إنه انفلت من عدوه ووافاك على غير ميعاد فلم يفاجئك إلا وهوعلى بابك يتملقك ويترضاك ويمرغ خديه على تراب أعتابك فكيف يكون فرحك به وقد اختصصته لنفسك ورضيته لقربك وآثرته على ما سواه، هذا ولست الذى أوجدته وخلقته وأسبغت عليه نعمك والله عز وجل هوالذى أوجد عبده وخلقه وأسبغ عليه نعمته وهو يحب أن يتمها عليه. وإلى هننا انتهى ما تيسر لنا جمعه وترتيبه، والله نسأل أن يكون القبول نصيبه وأن يرزقنا يوم القيامة بره وذخره إنه على ما يشاء قدير وبالإبجابة جدير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (17/ 46) التوبة، والترمذى (9/ 523) الدعوات وهذالفظ مسلم وانظر طرق الحديث فى الصحيحة رقم 970. (¬2) رواه مسلم (17/ 63) التوبة واللفظ له، والبخارى مختصرا (11/ 102) الدعوات. ورواه مطولاً من حديث عبد الله بن مسعود (11/ 102) الدعوات.

14 - فهرس المراجع

14 - فهرس المراجع 1 - إحياء علوم الدين، للغزالى بتحقيق العراقى ط. الشعب. 2 - إغاثة اللهفان من مصايد اتلشيطان، لابن القيم ط. الحلبى. 3 - تحفة الأشراف، للمزى. عبد الصمد شرف الدين ط. الدار القيمة بالهند. 4 - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ط. دار المعرفة ببيروت. 5 - تفسير المعوذتين، لابن القيم ط. المطبعة السلفية. 6 - الترغيب والترهيب، للمنذرى. 7 - جامع الأصول، لابن الأثير بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط، ط. دار الفكر. 8 - جامع العلوم الحكم، لابن رجب، ط. الحلبى. 9 - جلاء الأفهام، لابن القيم ط. دار عمر بن الخطاب. 10 - الجواب الكافى، لابن القيم. 11 - رياض الصالحين، للنووى بتحقيق الأبلنى ط. المكتب الإسلامى. 12 - الروح، لابن القيم، ط. محمد على صبيح. 13 - سنن ابن ماجه، ط. المكتبة العلمية. 14 - سنن الدارمى، ط. دار الكتب العلمية. 15 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألبانى. 16 - سنن النسائى بشرح السيوطى وحاشية السندى، ط. دار الكتب العلمية.

17 - شرح السنة، للبغوى بتحقيق شعيب الأرناؤوط. 18 - صحيح ابن داود، للألبانى، ط. مكتب التربية العربى. 19 - صحيح الترمذى، للأبانى، ط. مكتب التربية العربى. 20 - صحيح ابن ماجه، للألبانى، ط. مكتب التربية العربى. 21 - صحيح مسلم، بشرح النووى، المكتبة المصرية. 22 - صحيح النسائى، للألبانى، ط. مكتب التربية العربى.\ 23 - عارضة الأحوذى بشرح جامع الترمذى، لابن العربى، ط. دار الوعى. 24 - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم، زكريا على يوسف. 25 - عون المعبود بشرح سنن أبى داود، لشمس الحق أبادى، ط. المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 26 - فتح البارى بشرح صحيح البخارى، لابن حجر، ط. السلفية. 27 - مجمع الزوائد زمنبع الفوائد، لنور الدين الهاشمى، ط. دار الكتاب العربى. 28 - مدارج السالكين، لابن القيم، ط. دار الفكر العربى. 29 - مستدرك الحاكم ومعه تلخيص الذهبى، ط. دار المعرفة. 30 - مسند أحمد بفهرس الألبانى، ط. المكتب الإسلامى. 31 - مشكاة المصابيح، للتبريزى بتحقيق الألبانى، ط. المكتب الإسلامى. 32 - مفتاح دار السعادة، لابن القيم، ط. مكتبة السعادة. 33 - موطأ مالك، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقى، ط. الحلبى. 34 - موارد الظمآن فى زوائد ابن حيان، ط. دار الكتب العلمية. 35 - موعظة المؤمنين، للقاسمى، ط. المكتبة التجارية. 36 - المعجم المفهرس للألفاظ الحديث، لجماعة من المستشرقين، ط. دار الدعوة. 37 - الوابل الصيب، لابن القيم، ط. المطبعة السلفية.

§1/1