ترتيب العلوم للمرعشي

المَرْعَشي، محمد بن أبي بكر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا وبعد، فيقول البائس الفقير محمد المرعشي المدعو بساجقلي زاده، أكرمه الله سبحانه بالفوز والسعادة. أعلموا معاشر الطلبة- أصلح الله أموركم ومد أعماركم وأحيا بكم رسوم الدين وهدى بكم قوما آخرين- أنه كان يوجد في كل قرن من القرون الماضية من هذه الأمة طائفة من العلماء المؤلفين والأعلام المحققين وخلا الآن من أمثالهم الجوانب، وخلف الأسود في غاباتها الأرانب، أترون أن ذا من خواص الأزمنة، وغلبة البلادة على طباع أواخر هذه

الأمة، بل المنقول من سيرهم والمتبادر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المعتبرة وهي مسائلها المشهورة. قال في الكشاف: اعلم أن متن كل علم طبقات العلماء فيه متدانية إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلا بخطي يسيرة، وإنما الذي تباينت فيه الرتب وعظم التفاضل والتفاوت إلى أن عد ألف بواحد، ما في العلوم من غوامض الأسرار ومحاسن النكت، انتهي مختصرا. فسأل إلى تجاويف صدورهم من كل فن جدول، فصار ملتقى الجداول بحرا، وما زالوا يزيدون إلى الفنون فوائد، فأنشئوا شروحا لها وأدرجوا تلك الفوائد، ومتونا طويلة وجعلوا للشروح حواشي دقيقة، حتى صار لبعض المتون حاشية على شرحه، ونظم أصحابهم كثيرا من تلك المتون والشروح والحواشي في سلك المذاكرة، فثقل الحمل وطالت المسافة حين قل الزاد وهزلت الراحلة، فآل أمر الطلبة إلى أن تركوا

بعض الفنون المعتبرة رأسا ومن بعضها ثلثا أو نصفا، والباقي يريدون تناوله أولاً مع الشروح والحواشي، فلا [ت] فرغ أذهانهم من تخيل المباحث المتشعبة والاحتمالات المشتتة والأقوال المضطربة لفهم المسائل المشهورة، وجمعها في الخزانة، وهذا خلاف ما عليه السلف قال في ""تعليم المتعلم": كان المشايخ يحتارون للمبتدئ صغارات المبسوطة لأنه أقرب إلى الفهم والضبط وأبعد من الملالة وأكثر وقوعا بين الناس، انتهى. ولا يفهمون كثيرا من الحواشي فتذهب فطنتهم لما في "تعليم المتعلم": ينبغي أن يجتهد المتعلم في الفهم فإذا تهاون ولم يفهم مرة أو مرتين يعتاد ذلك فلا يفهم الكلام اليسير، وفيه أيضا: لا يكتب المتعلم شيئا لا يفهمه فإنه يفهم الكلام اليسير، وفيه أيضا: لا يكتب المتعلم شيئا لا يفهمه فإنه يورث كلالة الطبع ويذهب الفطنة. أقول: فما ظنك باستماعه لما لا يفهم؟ ! نعم ينبغي الاشتغال بحاشية

بعض الفنون بعد فهم أصول مسائله وإحاطتها، ويغلط بعض الطلبة في ترتيب الفنون والقدر اللائق من السعي لكل فن، فيشرع في بعض الفنون قبل تحصيل ما يتوقف فهمه عليه. وقد لا يهتم لفهم فن [ت] شتد الحاجة إليه، ويطيل البحث فيما لا يكثر الاحتياج إليه، وأمثال هذه التدبيرات الردية مدار تنزلهم وعدم وصولهم إلى مقاصدهم، فأردت أن أنبئكم معاشر الطلبة بخير من ذلك، وأدلكم على تجارة تنجيكم عما يرديكم بإنشاء رسالة تتضمن: مقدمة ومقصدين وتذييلاً وخاتمة. المقدمة: في تعداد الفنون النافعة وتقسيمها إلى شرعي وغير شرعي، وتقسيم أحكام الاشتغال بالفنون. - المقصد الأول في التعريفات الفنون النافعة وبيان التدبيرات الردية. - المقصد الثاني في بيان الترتيب اللائق للمبتدئ في الاشتغال بتلك الفنون وبيان مراتب العلوم.

والتذييل في مدح القرآن. والخاتمة فيما يتعلق بالفلسفة. وسميتها "ترتيب العلوم" إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

المقدمة

"المقدمة" أما المقدمة ففيها [فصول] الفصل "الأول": (في تعداد الفنون النافعة نفعا يعتد به) منها بعض العلوم العربية: وهو علم اللغة والتصريف والاشتقاق والخط العربي والنحو والعروض والقافية والبلاغة والمحاضرات. ومنها بعض العلوم العقلية: وهو علم الميزان والمناظرة ومبادئ علم الكلام والرياضيات- أعني الهندسة والحساب والهيئة- ومنها العلوم المأخوذة من الكتاب والسنة: وهي علم العقائد والأخلاق والموعظة وعلم الفقه وأصوله. ومنها العلم اللدني. ومنها [علوم] القرآن: وهي علم نظمه وتجويده ووقفه وابتدائه ومرسوم مصاحفه وقراءته وتفسيره.

الفصل الثاني: (في فوائد العلوم المذكورة)

ومنها علوم الحديث: وهي علم متنع ومعانيه وأحواله من القوة والضعف بحسب اختلاف نقلته ويسمى علم أحواله: "علم أصول الحديث". ومنها علم التشريح وعلم الطب وعلم الفراسة وعلم تعبير الرؤيا وعلم اللغة الفارسية وكيفية تراكيبها. فتم تعداد الفنون النافعة، إذ ما عدا المذكورات، إما مضر كالفلسفة والسحر وعلم أحكام النجوم، أولا ينفع علمه نفعا يعتد به ولا يضر جهله كما ذكر في الإحياء أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل والناس مجتمعون عليه فقال عليه السلام: "ماهذا؟ " فقالوا: رجل علامة، فقال عليه السلام: "بماذا؟ " قالوا: بالشعر وأنساب العرب، فقال عليه السلام: "علم لا ينفع وجهل لا يضر" الفصل "الثاني": (في فوائد العلوم المذكورة) اعلم أن لكل من المذكورات فائدة ولتلك الفائدة فائدة أخرى إلى أن ينتهي إلى الفوز بسعادة الدارين. كما قال في "شرح المواقف": غاية

الفصل الثالث: (في تقسيم العلم إلى شرعي وغير شرعي)

فوائد [علم] الكلام هي الفوز بسعادة الدارين فهي منتهي الأغراض وغاية الغايات. أقول لكن العلوم الشرعية أقرب إلى ذلك الفوز من العلوم الآلية. واعلم أن كل منفعة تترتب على فعل تسمى فائدة من حيث ترتبها عليه، وغاية من حيث أنها على طرف الفعل ونهايته، وغرضا من حيث أن الفاعل فعل ذلك الفعل لأجل حصوله، وكتبت كلاماً طويلاً متعلقا بالفائدة لكن [ي] تركته عند التبييض خوفا من الإملال. الفصل "الثالث": (في تقسيم العلم إلى شرعي وغير شرعي) ويطلق على العلم الشرعي العلك الديني لاتحاد الدين والشريعة بالذات. اعلم أن العلم الشرعي يجيء على ثلاثة معان: الأول: ما ذكر في "الأحياء" أن العلوم تنقسم إلى شرعية وغير شرعية- أعني بالشرعية ما يستفاد من الأنبياء صلوات الله عليهم- ولا يرشد إليه العقل مثل الحساب ولا التجربة مثل الطب ولا السماع من غير الأنبياء مثل [اللغة]، انتهى.

أفاد أن ما نطق به النبي إن كان شيئا من هذه الثلاثة لا يعد علماً شرعيا وبالجملة إن العلم الشرعي [على ما ذكره] ما لا يعلم إلا من الشارع. - والمعني الثاني: ما يستفاد من الشارع أو يستمد منه المستفاد من الشارع مختصا به، أي لا يستمد منه غير المستفاد من الشارع. وهذا المعنى أشار إليه خسروا في "حاشية تفسير البيضاوي"، وهذا المعنى أعم من الأول لأنه لم يقيد بقوله ولا يرشد [إلى أخره]، وزيد فيه ما يستمد منه إذ يدخل فيه علم أصول الفقه ولا يدخل في المعنى الأول، وأما العربية فلا تدخل في شيء من هذين المعنيين إذ لا يختص مدارها بالعلوم الشرعية. - والمعنى الثالث: [ما] قاله ابن الحجر في "شرح الأربعين": وجب كون المنطق علماً شرعيا، إذ هو ما صدر من الشارع أو توقف عليه الصادر من الشارع توقف وجود كعلم الكلام أو توقف كمال كعلم النحو والمنطق، انتهى. فلم يعتبر الاختصاص المعتبر سابقا في المعنى الثاني، فيدخل في هذا المعنى جميع العلوم الآلية وإنما لا يدخل مثل الطب والتشريح. ومعنى توقف الوجود ما ذكره شارح المواقف: لولا ثبوت الصانع [بصفاته] لم يتصور علم التفسير والحديث ولا علم الفقه وأصوله، انتهى. يشعر كلام ابن الحجر أن علم الكلام غير صادر عن الشارع مع أن

الفصل الرابع: (اشتراك أسماء العلوم بين المعاني الثلاثة)

المسائل الاعتقادية كلها مما صرح به الشارع أو أشار إليه، لكن بعضها يستقل فيه العقل وهو ثبوت الصانع بصفاته بالنظر إلى المصنوعات، وثبوت نبوة النبي بالنظر إلى المعجزة، فمراده من علم الكلام هو هذا الباب فقط، ولما أرشد إليه العقل لا يعد مستفاداً من الشارع وإن نطق به الشارع كما عرفت في المعنى الأول. الفصل "الرابع": (اشتراك أسماء العلوم بين المعاني الثلاثة) اعلم أن أسماء العلوم كالنحو والصرف والمعاني والفقه وغيرها مشتركة بين المعاني الثلاثة، وهي المسائل وإدراكاتها والملكة الحاصلة من تكرر تلك الإدراكات. وتلك الملكة هي القدرة على استحضار كل مسألة كلية من مسائل العلوم متى يرد عليك جزئي من حزئيات موضوع تلك المسألة. وفائدة ذلك الاستحضار استنباط حال ذلك الجزئي من ذلك الكلي، فإن يرد عليه زيد في "ضرب زيد"، فتستحضر كل فاعل مرفوع فتفكر في نفسك أن زيداً هنا فاعل وكل فاعل مرفوع فتعرف أن زيدا مرفوع وتسمى هذه الملكة ملكة الاستحضار، ثم إنه بتكرر تلك الاستنباطات تحصل ملكة الاستنباط، وهي القدرة على استنباط أحكام الجزئيات من المسائل الكلية كما عرفت مثاله. والملكة الثانية هي ملكة المطالعة، فلابد لحصول ملكة المطالعة من معرفة القواعد الكلية ثم من تكرر معرفتها، - أعني تكرر تذكرها-، ثم

الفصل الخامس: (في أحكام العلوم)

من استنباط أحكام بعض جزئيات موضوعاتها منها، ثم من تكرر تلك الاستنباطات. وتختلف مراتب الأشخاص في تلك الملكة. وعلم إن إضافة لفظ العلم إلى النحو والصرف والفقه وغيرها من أسماء العلوم من قبيل شجر الأراك. وأسماء العلوم هي المضافات إليها. الفصل "الخامس": (في أحكام العلوم) وهي على ما ذكره ابن نجيم في "الأشباه": فرض عين وفرض كفاية ومندوب وحرام ومكروه ومباح. أقول: مدار هذا التقسيم انقسام المعلوم كذلك، إذ قيل أن العلم تابع للمعلوم، وهنا نظر لأن من المعلوم ما يكون واجبا فعلمه واجب. قال في "تعليم المتعلم": إن ما يتوسل به إلى إقامة الواجب يكون واجباً، انتهى. أقول فأهم العلوم ما هو فرض عين على المكلف قبل كل شيء. وهو علم التوحيد والصفات، ثم ما فرض عليه عيناً بعد ذلك في كل وقت

الفصل السادس: (حكم العلم كحكم المعلوم)

كمعرفة فرائض الأخلاق ومحرماتها، ثم ما فرض عليه عيناً في بعض الأوقات كعلم الصلاة والصوم وعند بلوغ المرء إلى وقت افتراضها ثم ما فرض عليه على الكفاية عند عدم وجود القائم به، ثم مستحبات العلوم، ومن مستحبات العلوم تحصيل فروض الكفاية عند وجود القائم بها. وستعرف تفصيل ذلك إن شاء الله سبحانه فيفترض هذا الترتيب في تحصيل العلوم، ومن أخطأ الترتيب فقد ظلم إنه لا يفلح الظالمون. الفصل "السادس": (حكم العلم كحكم المعلوم) [اعلم] أن حكم العلم كحكم المعلوم فإن كان المعلوم فرضا أو واجبا أو سنة فعلمه كذلك إذا توقف المعلوم على ذلك العلم، وإنما قيدنا به لأنه إذا لم يتوقف [عليه] لا يكون حكم العلم حكم المعلوم، فإن تجويد القرآن قدر ما يخلص عن اللحن الجلي فرض عين، لكن العلم المدون المسمى بعلم التجويد ليس بفرض كفاية كما صرح به على

الفصل السابع: (إذا كان مظنة الوقوع في الحرام أو المكروه)

القاري، وسبب ذلك أن تجويد القرآن لا يتوقف على معرفة ذلك الفن بل يمكن تحصيله بمشافهة الشيخ المجود. وإن كان المعلوم حراما قطعيا أو مكروها تحريميا أو تنزيهياً، فعلمه كذلك إن لم يكن المرء ولا غيره مظنة وقوعه في ذلك المعلوم، ولذا قال في "المدارك" عند قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} في الآية دليل على أن تعلم السحر واجب الاجتناب كتعلم الفلسفة التي تجر إلى الغواية، انتهى. الفصل "السابع": (إذا كان مظنة الوقوع في الحرام أو المكروه) وإن كان المرء مظنة الوقوع في الحرام القطعي أو المكروه التحريمي أو التنزيهي، فيفرض عليه معرفة طريق التجنب عن الأول، ويجب عليه معرفة طريق التجنب عن الثاني، ويستحب معرفة طريق التجنب عن الثالث، لأن التجنب عن الأول فرض وعن الثاني واجب وعن الثالث مستحب، ولما وقف معرفة طريق التجنب عن شيء على معرفة ذات ذلك الشيء، لما قال في "تعليم المتعلم"- في بيان محرمات الأخلاق- ولا يمكن التحرز عنها إلا بعلمها وعلم ما يضادها، فيفترض على كل إنسان علمها، انتهى. يفترض عليه معرفة الأول أي الحرام القطعي، ويجب معرفة الثاني،

الفصل الثامن: (حكم علم الحرام والمكروه إذا فشا بين الناس)

ويستحب معرفة الثالث. كأن وقع المرء بين السحرة والفلاسفة وخاف أن يفعل السحر أو يعتقد الفلسفة، فإنه يفترض عليه (ح) معرفة السحر والفلسفة لتجنب عنهما. وهكذا إذا باشر التجارة فإنه مظنة الوقوع في الربا فيفترض عليه معرفة طريقة التجنب عن الربا وهي تتوقف على معرفة نفس الربا. وكذا كل من باشرا أمراً يخاف أن يقع في محرماته أو مكروهاته. وكذا من له عضو سليم يفترض عليه ويجب معرفة محرمات ومكروهات [يخاف] أن يفعلها به فاعرف. الفصل" الثامن": (حكم علم الحرام والمكروه إذا فشا بين الناس) وإن كان مظنة الوقوع في الحرام أو المكروه كثير من الناس، فعلم ذلك الحرام أو المكروه تحريما أو تنزيها فرض كفاية أو واجب كفاية أو مستحب كفاية على من لم يكن مظنة الوقوع فيها. وفرض عين أو واجب عين أو مستحب عين على من كان مظنة الوقوع فيها. فإن علمه البعض في بدة فيها مظنة الوقوع سواء كان ذلك العالم مظنة الوقوع [أولا] يسقط عن

الباقين الذين ليسوا بمظنة الوقوع، لا عن الباقين الذين هم مظنة الوقوع، فإن جهله أهل تلك البلدة جميعاً أثموا في ترك الأولين وأساءوا في ترك الثالث، مثال ذلك أنه إذا باشر التجارة كثير من أهل بلدة فمعرفة محرمات التجارة ومعرفة طريق التجنب عنها فرض عين على المتجرين وفرض كفاية على غير المتجرين فإن قام بع واحد من المتجرين أو غير المتجرين يسقط عن الباقين الغير المتجرين لا عن الباقين المتجرين، فإنه فرض عين على كل واحد منهم فاعرف. وأما إن كان مظنة الوقوع في الحرام أو المكروه قليل من الناس نادر فعلهم ذلك الحرام أو المكروه ليس بفرض كفاية ولا واجب كفاية على أحد، بل فرض عين أو واجب عين أو مستحب عين على ذلك المظنة لما قاله قول أحمد في "حاشية الخيالي": فرض الكفاية هو القيام بما يحتاج إليه عامة

الفصل التاسع: (حكم من يخشى على نفسه الغواية من تعلم المحرمات)

الخلق من جهة المعاش والمعاد، انتهى. وكلام الغزالي في الإحياء يشعر بذلك. ولعل وجه ذلك أن في التكليف بالقيام بما يحتاج إليه قليل من الناس حرجا عظينا، ومعرفة مقدار الكثرة والقلة هنا موكول إلى عرف الناس والله أعلم. الفصل "التاسع": (حكم من يخشى على نفسه الغواية من تعلم المحرمات) وإن كان [ما] خيف أن يقع كثير من الناس فيه من المحرمات لا يؤمن من أن يجر من يعلمه إلى الغواية مثل السحر وشبهات الفلاسفة والفرق الضالة فلا يحوز أن يقوم به إلا من يأمن من نفسه أن يفعل السحر أو يقع في شبهات الفلاسفة والفرق الضالة، كما صرح به الغزالي في جواز الاشتغال بمجادلات الفرق وسننقله في بيان علم الكلام. وشرطه السبكي في جواز الاشتغال بالفلسفة. وبالجملة أن من لا يأمن من إصابة الضرر له عند مباشرة دفع ضرر الغير لا يجب عليه مباشرة دفعه، ثم إن كان الضرر دينيا فلا تجوز تلك المباشرة.

الفصل العاشر: (في فرض العين من العلوم)

الفصل "العاشر": (في فرض العين من العلوم) وهو علم ما كلفه الله عبده في الحال الذي هو فيه. وما كلفه ثلاثة أنواع: اعتقاد وفعل وترك. كذا في التترخانية. قيل فرض العين من العلوم علم الحال ومعناه علم ما كلفه الله عبده في الحال الذي هو فيه، فعلم الحال معرفة مسائل الإيمان وما فرض من الأخلاق والأفعال، وما حرم منهما، وتفصيل ذلك ما قال في التتارخانية: إذا بلغ الإنسان في ضحوة النهار يجب عليه معرفة الله تعالى بصفاته بالنظر والاستدلال وتعلم كلمتي الشهادة مع فهم معناهما، ثم إن عاش إلى وقت الظهر يجب عليه [أن يعلم] الطهارة قبل تعلم صلاة الظهر، ثم تعلم الصلاة وعلم جراً إلى آخره، ثم إن عاش إلى شهر رمضان يجب عليه [تعلم] كيفية الصوم وما يقوم به وما يفسده، فإن استفاد مالاً يجب عليه تعلم كيفية الزكاة ونصابها، وإن بلغ استطاعة الحج وجب عليه تعلم المسافرة إلى مكة وإحرام الحج ومناسكه في مواطنها، هذا إن عاش إلى أشهر الحج،

وهكذا التدريج إلى علم سائر الأفعال الواجبة التي هي فرض عين. وأما الترك فيجب بحسب ما يتجدد من الحال ويختلف باختلاف الأشخاص، ألا ترى كيف يحرم التكلم بالفواحش والنظر إلى السوءات للصحيح، ولا يجب ذلك على الأبكم والأعمى إلى هنا كلامه. قوله: إذا بلغ يفهم منه أنه لا يجب عليه معرفة الله تعالى قبل البلوغ، وهذا قول كثير من مشايخنا. وقال الشيخ أبو منصور في الصبي العاقل: إنه يجب عليه معرفة الله تعالى، وهو قول كثير من مشايخ العراق، كذا قاله على القاري في ذيل شرح الفقه الأكبر. قوله بالنظر والاستدلال: يريد النظر إلى خلق السماوات والأرض والاستدلال الإجمالي بحيث تطمئن نفسه، ولا يريد أدلة أهل الكلام لأن ذلك فرض كفاية لا فرض عين. قوله: وتعلم كلمتي الشهادة مع فهم معناهما، فيه نظر، إذ لا يجب تعلم الكلمتين بل تعلم معناهما ومضمونهما بأي طريق كان، ويدخل في الاعتقاد برسالة النبي صلى الله عليه وسلم اعتقاد حقيقة جميع ما جاء به.

قوله: ثم إن عاش إلى وقت الظهر يجب إلخ ... ، يفهم منه أنه لا يجب عليه شيء من العلوم غير الإيمان إلا أن عاش إلى وقت الظهر، وفيه نظر، لما في "تعليم المتعلم". وكذلك: أي كما يفترض على المكلف علم ما يقع في حاله، يفترض عليه علم أحوال القلب من التوكل والإنابة والخشية والرضاء فإنه واقع في جميع الأحوال، انتهى. قوله: وهكذا التدريج إلى علم سائر الأفعال الواجبة التي هي فرض عين كما إذا أجنب يجب عليه معرفة كيفية الغسل، وإذا تزوج يجب عليه معرفة حقوق الزوجية. قوله: وأما الترك، أي ترك شيء فيجب بحسب ما يتجدد من الحال، فمن باشر التجارة يجب عليه ترك الربا أو التحرز عنه، فيجب عليه علم التحرز عنه ولا يجب في حال عدم مباشرته لها، قال في "تعليم المتعلم": وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علم التحرز عن الحرام فيه، انتهى. ثم اعلم أن من فروض العين الاستدلال العقلي على وجود الصانع ووحدته وسائر صفاته المتواترة كما أشار إليه المنقول عن التتارخانية. وأما سمعيات أركان الإيمان فظني أنه لا يفترض الاستدلال العقلي عليها. يومي إلى ذلك ما

الفصل الحادي عشر: (العاقل البالغ لا يعذر بالجهل بخالقه)

في "تعليم المتعلم": ويعرف الله بالدليل، فإن إيمان المقلد وإن كان صحيحا عندنا لكن يكون أثما بترك الاستدلال، انتهى. وأما الاستدلال الشرعي، أعني به أن تؤخذ العقائد من الشرع، أما بمطابقة الكتاب والسنة، أو بإخبار علماء الشريعة أنها مما أخبر به الشارع ففرض عين البتة، سواء كان"ـت) العقائد مما يستقل فيه العقل كوجود الصانع بصفاته التي تعرف بالنظر إلى المصنوعات أو مما [لا] يستقل فيه العقل لما قال في شرح المواقف: إن العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع ليعتد بها وإن كانت مما يستقل فيه العقل، انتهى. الفصل "الحادي عشر": (العاقل البالغ لا يعذر بالجهل بخالقه) إن العاقل البالغ لا يعذر بالجهل بخالقه وإن لم يبلغ إليه خبره من جهة الرسول. قال على القاري في ذيل الفقه الأكبر، ذكر الحاكم

الشهيد عن أبي حنيفة أنه قال: لا عذر لأحد في الجعل بخالقه لما يرى في خلق السماوات والأرض وخلقه نفسه، وعليه مشايخنا من أهل السنة والجماعة، يعني أن من مات بدون معرفة خالقه قبل أن يبلغ إليه خبره من جهة الرسول يعذب. وقال الأشعري: لا تجب يعني يعذر بجهله إذا لم يبلغ إليه من جهة الرسول بقول تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وتمام الكلام في شرح علي القاري. وأما سمعيات ما شرط في الإيمان وهي نبوة النبي ووجود الملائكة ونزول الكتب وأحوال الآخرة وفرضية الصلاة وحرمة الزنا وغير ذلك مما علم ضرورة مجيء النبي به من عند الله تعالى، فلا يفترض عليه تصديقها بمجرد العقل قبل أن تبلغ إليه من جهة النبي بطريق التواتر،

الفصل الثاني عشر: (علم ما ليس من ضروريات الدين)

إذ لا يستقل فيه العقل قيعذر بجهلها قبل البلوغ إليه، وأما بعد بلوغها إليه بطريق التواتر فلا يتم إيمانه إلا بتصديقها. ويفترض عيناً على المكلف المسلم طلب علم ضروريات الدين، وهي على ما في "شرح المقاصد": ما تواتر كونه من الدين بحيث يعلمه عوام المسلمين من غير حاجة إلى نظر واستدلال، كسمعيات مسائل الإيمان. ولا يتوقف افتراض طلبها بوقت فيفترض عليها طلبها حين أمكن، كما يفترض عليه طلب [علم] كيفية أداء المفروضات حين افتراضها. وطلب علم التحرز عن الحرام في أمر باشره حين باشره. وعلى كل ذلك يحمل قوله عليه السلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. الفصل "الثاني عشر": (علم ما ليس من ضروريات الدين) وأما علم ما أجمع عليه أهل السنة من العقائد مما لم يكن من ضروريات الدين فلا يفترض طلبه عيناً، بل كفاية فقط، وذلك ككون القرآن غير

مخلوق، وأن الله تعالى مرئي في دار الآخرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملك. قال علي القاري في "شرح الفقه الأكبر"، ذكر السبكي في تأليف له، لو مكث الإنسان مدة عمره ولم يخطر بباله تفضيل النبي على الملك لم يسأله الله تعالى عنه. وقال في التتارخانية: لو لم يخطر بباله أن القرآن مخلوق أو قديم أو أن الله مرئي أو غير مرئي فهو مات على الإسلام، وأما بعد الخطور والسماع فلابد من معرفة ذلك، انتهى. قوله: مات على الإسلام، يعني لا يعذبه بـ[ـه] الله تعالى به ولا يكفر بجهله. قوله: وأما بعد الخطور والسماع، أي بعدهما معاً، أراد بالسماع 0 السماع بطريق التواتر- أن مما أجمع عليه أهل السنة. قوله: فلا بد من معرفة ذلك، يعني يفترض عليه تصديقه وقبوله ويأثم بجحده. نقل الدواني عن الغزالي أن منكر المجمع عليه إذا لم يكن من ضروريات الدين لا يكفر، انتهى.

الفصل الثالث عشر: (في فرض الكفاية من المعلوم)

يعني المجمع عليه ما أجمع عليه أهل السنة بعد الصحابة، إذ ما أجمع عليه الصحابة يكفر منكره عند البعض إذا بلغ إليه بطريق التواتر إجماعهم على ذلكن كما عرف ذلك في أصول الفقه وتمييز ضروريات الدين عن المسائل الإجماعية، وتتميز الإجماعية عن الإختلافية، وهو ما اختلف فيه أهل السنة ليس بهيم. ومن أطلع على شرح الفقه الأكبر لعلي القرى مع ذيل شرحه، اطلع على عامة المذكورات، وذلك كنز عظيم جزاه الله تعالى به الزلفي والنعيم المقيم. الفصل "الثالث عشر": (في فرض الكفاية من المعلوم) وفرض الكفاية مطلقا هو القيام بما يحتاج إليه عامة الخلق من جهة المعاش أو المعاد كما عرفت، وفرض الكفاية من العلوم المدونة على ما ذكر في "الإحياء": علم القراءات الصحيحة وعلم تفسيرها وعلم تجويدها وعلم الأحاديث أي الصحيحة قياسا على القراءات، ولأن في إحاطة كلها حجا عظيماً، وعلم معانيها، وعلم أصول الحديث، وعلم الأخلاق، يعني ما عدا علم التصوف، وعلما الفقه والأصول، وعلم الكلام 0 والمراد بالكلام هنا مقاصده، وهي العقائد مع أدلتها المختصرة التي صنعها المتكلمون-

ويدخل فيه ما أجمع عليه أهل السنة مما ليس من ضروريات الدين، وأما ما اختلفوا فيه، وهو ما اختلف فيه الأشاعرة والماتريدية، فيحتسب معرفته وترجيح رأي الماتريدية والله أعلم. ولا يدخل في الكلام هنا مجادلة الفرق الضالة والفلاسفة إذ هي ليست بفرض كفاية مطلقا، بل في أقطار خيف أن يقع كثير من الناس في عقائدهم كما سننقله عن الغزالي، وأما مبادئ الكلام: وهي بحث الإدراكات وغيرها من مباحث الجوهر والعرض فداخلة في استقصاء الكلام كما سنفعله عن الغزالي في بيان مراتب العلوم. وفرض الكفاية من العلوم هو مرتبة الاقتصاد -بالدال- كما سيجيء في الفصل الآتي. وإنما قيد [نا] الأدلة بالمختصرة لما سننقل عن الغزالي في بيان مراتب العلوم: أن من الخارج عن مرتبة الاقتصاد- بالدال- في العقائد زيادة أسئلة وأجوبة وذلك استقصاء لا يزيد إلا ضلالا وجهلا في حق من لا يقنعه قدر الاقتصاد- بالدال-، انتهى. أراد بقدر الاقتصاد الأدلة المختصرة من غير تعمق، كما صرح به الغزالي في الإحياء، وسننقله أيضا في بيان مراتب العلوم. ومن فروض الكفايات المذكورة في الإحياء: علم الحساب، وعلم متن اللغة وعلم النحو، ويريد بالنحو معنى يشتمل الصرف كما ستعرف ذلك في الإحياء، لأنهما أي اللغة وعلم النحو، ويريد بالنحو معنى يشتمل الصرف كما ستعرف ذلك في الإحياء، لأنهما أي اللغة والنحو آلتان لعلم كتاب الله وسنة رسوله. أقول: وهذا التعليل يدل على كونه علم البلاغة فرض كفاية أيضا، وعلم الطب فرض كفاية عند الغزالي ومستحب عند الجمهور. أقول: والحق أن كل بلد غلب فيه الأمراض يكون علم الطب فيه

الفصل الرابع عشر: (مراتب العلوم)

فرض كفاية، ثم أقول: وينبغي أن تكون مباحث الأدلة من المنطق فرض كفاية، لأنه من مبادئ أصول الفقه، ولذا جعلت جزءا من بعض كتبه كـ"مختصر المنتهي" وأما علم المناظرة فلا شك في استحبابه، وإنما الشك في كونه فرض كفاية، والظن الغالب كونه فرض كفاية، إذ كثرت الحاجة إليه في العلوم الآلية. وينبغي أن يكون من فروض الكفاية علم مرسوم المصاحف، يقول السيوطي في "الإتقان": قال الإمام أحمد: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان رضي الله عنه، وقال في المقنع: سئل مالك هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى، ولا مخالف له من علماء الأمة، انتهى. الفصل "الرابع عشر": (مراتب العلوم) إن قلت لكل علم مدون ثلاث مراتب: اقتصار- بالراء- واقتصاد- بالدال- واستقصاء، كما سيأتي بيانها. ويقال للمرتبة الأخيرة التبحر، فأية هذه المراتب من العلوم المذكورة في الفصل السابق فرض كفاية؟

قلت لعل تلك مرتبة الاقتصاد- بالدال- لأن مرتبة الاقتصار- بالراء- لا تفي باندفاع الحاجة العامة. قال الاستروشني: في الكراهية والاستحسان، بلوغ المرء درجة الفتوى، وبيان الحلال والحرام بين الناس فرض كفاية، انتهى. وبلوغ درجة الفتوى لا تحصل بمرتبة الاقتصار- بالراء- في الفقه. وقال الغزالي في الإحياء: الاقتصار- يعني - بالراء- في علم الكلام معرفة عقائد أهل السنة بلا اشتغال بالدليل، وأما الاقتصاد فمعرفتها بأدلة نقلية أو عقلية بحيث يتمكن من مناظرة المبتدع، مع عدم الاشتغال بأقوال المبتدعة ورد أدلتهم إلا نادراً، انتهى. ولا يخفى أن من لم يشتغل بأدلة العقائد لا يقدر على دفع شبهات الناس في العقائد فلا تندفع الحاجة العامة بمرتبة الاقتصار- بالراء- من الكلام. أقول: وقس على الفقه والكلام باقي العلوم. وأما الاستقصاء: ففي كونه فرض كفاية حرج عظيم. قال الغزالي في "الإحياء" بعد بيان فرضية علم الحساب على الكفاية: وأما التعمق في دقائق علم الحساب فهي فضيلة لا فريضة.

وقال ابن نجيم في "الأشباه": إن التبحر في الفقه وعلم القلب مندوب إليه. أقول: فقس على هذه الثلاثة ما عداها. فتعين أن فرض الكفاية مرتبة الاقتصاد بالدال. الفص "الخامس عشر" (كيفية تحصيل مرتبة الاقتصاد) إن قلت ما كيفية تحصيل مرتبة الاقتصاد- بالدال- بحيث يتم بها فرض الكفاية؟ قلت: قال الغزالي في الإحياء: وأما الحديث بتصحيح نسخته على رجل خبير يعلم متن الحديث، بحيث يقدر على طلب ما يحتاج إليه وقت الحاجة، ولا يلزم حفظ متون الحديث، كما لا يلزم حفظ أسامي الرجال. وأما الاقتصاد فيه كأن تضيف إلى الصحيحين الأحاديث المذكورة في المسندات الصحيحة، انتهى. فلم يشترط في مرتبة الاقتصاد- بالدال- الحفظ/، كما [لم] يشترط "هـ" في مرحلة الاقتصار، وإنما شرط أمرين: -

الفصل السادس عشر: (حكم حفظ القرآن)

الأول: العلم لفظاً ومعنى مع تصحيح النسخة على رجل عالم بمتن الأحاديث. - والثاني: القدرة على طلب ما يحتاج إليه من الأحاديث وقت الحاجة. أقول: والثاني قلما يكون بدون كتب الفهرس. وقس على الحديث ما عداه من الفنون، وإنما لم يشترط الحفظ لأن فيه حرجاً عظيماً. الفصل "السادس عشر": (حكم حفظ القرآن) قال السيوطي في "الإتقان": إن من فروض الكفايات على الأمة حفظ قوم منهم، يبلغ عددهم حد التواتر، كل القرآن. وتعليمه أيضا فرض كفاية وهو من أفضل القرب، انتهى. وبلوغ العدد إلى حد التواتر فيه اختلافات، والصحيح أن العدد ليس بشرط في حد التواتر، بل حده عدم تجويز العقل تواطؤهم على الكذب. قوله: على الأمة، يشعر أن ذلك ليس بفرض الكفاية على أهل كل بلد، بل على جميع الأمة، فيسقط الفرض عن جميعهم بحفظ قوم منهم، وفيه نظر: لأن معنى كون ذلك فرض كفاية صيانة القرآن عن التحريف والشك فيه، وإمكان أن يراجع إليهم من يشك في شيء من كلمات القرآن أو حروفه

الفصل السابع عشر: (واجب العين وواجب الكفاية)

وأعني بإمكان المراجعة إليهم- القدرة الميسرة-، إذ معنى كون الشيء فوض كفاية، دفع الحرج عن الناس بحسب المعاش أو المعاد، وفي مراجعة من في أقصى بلاد المشرق إلى من في أقصى بلاد المغرب حرج عظيم. فالظاهر أن يفترض كفاية وجود حفاظ يبلغ عددهم حد التواتر في أقطار بحيث يتيسر المراجعة إليهم من كل بلد من بلاد الإسلام. قوله: كل القرآن، معناه جميع القراءات الصحيحة، ولا يكفي حفظ رواية راو واحد أو قراءة شيخ واحد، كما يشير إليه قول الجعبري: نقل القراءات السبع فرض كفاية لأنها أبعاض القرآن، انتهى. ثم إن في اشتراط الحفظ هنا نظر، يكفي تصحيح قوم منهم يبلغ عددهم حد التواتر مصاحفهم على حفاظ لا يشكون في صحة حفظهم، أو على مصاحف لا يشكون في استقامتها، وكونهم بحيث يقدرون على طلب ما يحتاج إليه من الآيات قياسا على ما قلها الغزالي في اقتصاد الحديث، كما نقلناه. قوله: وتعليمها فرض كفاية، لا يختص بالقرآن، بل جميع فروض الكفايات من العلوم تعليمها فرض كفاية، وذلك ظاهر. وأما ما كان علمه فرض عين، فتعليمه فرض كفاية بالطريق الأولى. الفصل "السابع عشر": (واجب العين وواجب الكفاية) وكما يكون بعض العلوم واجب عين، وهو "علم" ما يقع في حال المرء من الواجبات والمكروهات التحريمية، كذلك يكون بعضها واجب كفاية،

الفصل الثامن عشر: (في المندوب عينا)

وهو علم ما يقع في حال عامة الناس من الواجبات والمكروهات التحريمية. الفصل "الثامن عشر": (في المندوب عينا) وهو علم التصوف والاستقصاء في العلوم التي هي فروض كفايات، سوى الاستقصاء في علم الكلام، لما قال الطيبي في شرح المشكاة، قال محيي السنة: اتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدل والخصومات في الصفات والزجر عن الخوض في علم الكلام، انتهى. وقال في الخلاصة: تعلم علم الكلام والنظر فيه والمناظرة وراء قدر الحاجة منهي عنه، انتهى. وقدر الحاجة: ما يتقد ربه على إثبات المذهب ودفع الخصم، كما في البزازية وهو مرتبة الاقتصاد- بالدال- كما سبق. ومن المندوب تعلم ما هو فرض كفاية من العلوم عند وجود القائم بع. ومن المندوب تعلم المرء السنن والمكروهات التنزيهية الواقعة في حاله. وعلم الطب مستحب عند الجمهور، وفرض كفاية عند الغزالي كما سبق.

أقول: ولا يبعد أن يكون من المندوبات تعلم الفارسية لمساس الحاجة إليها في بعض كتب الفتاوي. ومن المستحبات: معرفة القراءات الشاذة، إذ لا معنى لكونها فرض كفاية والله أعلم. وكذا معرفة ما عدا الصحيح من الأحاديث إذا لم يكن مقطوع الوضع. واعلم أن علم السنة على الكفاية سنة على الكفاية، كالإعتكاف في العشر الأخير من رمضان. وكذا علم السنن والمكروهات التنزيهية الواقعة في حال عامة الخلق. ثم اعلم أنه ينبغي أن يكون علم تعبير الرؤيا مستحباً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عبر رؤيا أصحابه. وقال في "المدارك" في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] أي تعبير الرؤيا، وتعبيرها تفسيرها وكان يوسف النبي عليه السلام أعبر الناس للرؤيا، انتهى. فيستحب الإطلاع على مؤلف فيه معتمد "ككتاب التعبير" لابن سيرين.

الفصل التاسع عشر: (في المحرم من العلوم)

الفصل "التاسع عشر": (في المحرم من العلوم) وهو علم الحرام الذي لا يقع في حال أحد فلا يخاف وقوع أكثر الناس فيه وهو تعلم السحر والفلسفة في قطر لم يفشيا فيه، ولا يخاف على أكثر الناس وقوعهم فيها. منه الاستقصاء في أدلة علم الكلام. ومنه مجادلة الفرق الضالة الإسلامية والفلاسفة في قطر لم تفتش عقائدهم فيه. ومنه الاشتغال بعلم أحكام النجوم، وهو على ما في بعض الرسائل علم يعرف به الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية. قال في الكتاب المسمى "بالنوازل": الاستدلال بسير النجوم وحركات الأفلاك على الحوادث بقضاء الله وقدره جائز، كاستدلال الطبيب بالنبض على الصحة والمرض، ولو لم يعتقد بقضاء الله أو ادعى علم الغيب بنفسه يكفر، انتهى. يعني يكفر إذا اعتقد تأثير النجوم بالذات لا [بواسطة] ما جرى عادته تعالى على خلق الأثر عند سيرها، وكذا يكفر إذا ادعى أنه يعلم الغيب من عنده لا بالعلامة.

ومنه علم الموسيقى، وعلم الشعبذة، وعلم الحرف كما ذكره ابن نجيم في الأشباه والنظائر. أما الموسيقى: فهو علم يبحث فيه عن النغمات وقد وضعته الفلاسفة. وأنا الشعبذة: فهي اراءة الشيء في رأي العين بغير ما عليه حقيقته بسبب خفة يد المباشر لذلك الشيء كما في القاموس، فيحرم علمه لأنه لعب، [ويرادفه الشعوذة- بالواو بدل الباء]. وأما علم الحرف فهو علم الجفر، وهو علم يعرف به رقم حروف الهجاء على كيفية ذكرت في كتاب الجفر، وغايته الإطلاع على المغيبات الآتية وتسخير الناس وقهرهم. وقال ابن العربي: واضع هذا العلم على رضي الله عنه، وموضوعه: حروف الهجاء، وجعفر الصادق هو الذي غاص في

أعماق هذا العلم وصنف فيه الخافية، وهذا العلم لا يطلع عليه إلا صاحب كشف عظيم وذوق سليم، انتهى. أقول: فظهر أن الاشتغال به يجوز لصاحب الكشف العظيم والذوق السليم وقليل ما هم، ويحرم لغيره لأنه يتخبط ويكذب بسببه. وقال في "الإحياء": ويذم علم السحر والطلسمات يعني يحرمان. وقال الطيبي في "شرح الكشاف": وتتفاوت درجات تحريم العلوم المحرمة. أقول والظاهر من كلمات العلماء أن أشدها تحريما الفلسفة الطبيعية

الفصل العشرون): (حكم تعلق المنطق)

والإلهية خصوصًا، لأنه أكثر أغاليط الفلاسفة كما ذكر في رسالة "المنقذ للغزالي) الفصل العشرون): (حكم تعلق المنطق) قال في الأشباه: بعد التصريح بتحريم الفلسفة، [ودخل في الفلسفة المنطق، يعني أنه من مباديها. وهذا يشعر بتحريمه كالفلسفة] وفيه نظرا لأن الحساب من الفلسفة مع أنه فرض كفاية. وبالجملة إن ما يتوقف عليه الحرام لا يكون حراماً بل ما يؤدي إلى الحرام يكون حراماً وبينهما فرق فاعرف. قال ابن الحجر في "شرح الأربعين": المنطق الذي يكون حراما هو المنطق المخلوط بعقائد الفلاسفة، وأما المجرد منها كما هو المتداول اليوم فلا وجه لتحريمه، انتهى. أقول: من فوائد الاشتغال به تشحيذ الخاطر. قال الغزالي في "رسالة المنقذ": الخاطر آلة الدين كالسيف آلة الجهاد، وتشحيذ الخاطر كتحديد السيف، ولا يجوز تشحيذ الخاطر بالعلوم المحرمة، لأن فيها مضرة ولأن الخاطر يشحذ بالعلوم الشرعية ولا يخاف منها مضرة، انتهى. أقول: أشعر أن تشحيذ الخاطر مستحب. أقول بل فرض كفاية والله أعلم، [لـ] أن الخاطر آلة الدين كما صرح به، ولأن الأحمق يفسد الدين،

الفصل الحادي والعشرون: (في حكم علم الرمل)

فيستحب أو يفرض كفاية قراءة بعض النسخ الدقيقة [من العلوم الشرعية] أو الآلية على وجه يحصل به تشحيذ الخاطر على عالم مدقق يخوض في الدقائق، وهو أعز من الكبريت الأحمر. وأول النسخ للاشتغال به لتشحيذ الخاطر "شرح الكافية" المقصور على الأسئلة والأجوبة الموجزة وقد يوجد في وجه ورقة واحدة منه عشرون سؤالا وعشرون جواباً، لكن ينبغي أن يكون الاشتغال به بعد تعلم المنطق والمناظرة. الفصل "الحادي والعشرون": (في حكم علم الرمل) قال في المصابيح: روى عن معاوية بن الحكم قلت للنبي

صلى الله عليه وسلم: منا رجال يخطون قال عليه السلام: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك. قال الطيبي: قيل ذلك النبي إدريس عليه السلام- والمشهور أن- خطه- بالنصب ليكون الفاعل مضمراً، أي وافق خطه، وروي بالرفع ليكون المفعول محذوفا. ومعنى قوله فذاك: أن ذاك الذي وافق خطه مصيبا وقيل: معنى فمن وافق خطه لا يوافق خط أحد خط النبي، لأن خط ذلك النبي معجزة، فهذا زجر ونهي. وقيل: معناه، يوافق خط بعض، خطه. وهو أي ذلك البعض صاحب قوة الفراسة والكامل في العلم، وخط بعض يوافق خطه. فالمعنى على هذا زجر من ليس له قوة الفراسة والكمال في العلم عنه

الفصل الثاني والعشرون: (فيما يكون تعلمه مكرها كراهة تحريم)

قال صاحب النهاية: هو علم معروف للناس فيه تصانيف كثيرة، وهو معمول به إلى الآن. وكيفية خط العرب: أن الرجل منهم إذا قصد شغلا يأخذ خشباً ويخط على الرمل على العجلة خطوطاً كثيرة بلا حساب، ثم يمحو خطين خطين، فإن بقى زوج فهو علامة الخير، وإن بقي فرد فهو علامة النحوسة، انتهى. قاله الطيبي رحمه اللهز أقول: لعل وجه تسميته ما في الصحاح: " الرمل خطوط تكون في قوائم البقرة الوحشية تخالف سائر لونها. انتهى. وفائدة علم الرمل التخمين بالمغيبات، كذا قاله طاش كبري زاده في مفتاح السعادة، يعني لغير النبي هو معجزته فإنه يفيد اليقين [له] الفصل "الثاني والعشرون": (فيما يكون تعلمه مكرها كراهة تحريم) هو - على ما في الأشباه- الأشعار المتعلقة بعشق النساء وأمثاله ما ينبيئ عن سخافة العقل. وقال قاضي خان: وأما قراءة أشعار العرب مما فيه ذكر الفسق والخمر والغلام فمكروه، لأنه ذكر للفواحش، انتهى. يقول الفقير: هذا إذا ذكر شيء منها على طريق الحقيقة، وأما إذا ذكر على طريق تمثيل أحوال السالكين إلى الله تعالى بها، فلا يكره ذلك

الفصل الثالث والعشرون: (فيما يكون تعلمه مباحا)

للسالكين لا تحريما ولا تنزيها لوقوعه في بعض أشعار المشايخ، كما نقل القشيري عن بعضهم: (فأسكر القوم دور كأس ... وكان سكري من المدير) قول قاضيخام: فمكروه، يجب أن يقيد بما إذا لم يكن قراءتها بلا تغن، إذ قراءتها بالتغني حرام، كما ذكر في الإحياء لأنها (ح) تحرك شهوة الجرام فتقضي إليه، وما يفضي إلى الحرام حرام. وقد فصلنا ذلك في "رسالتنا" في بيان التغني. الفصل "الثالث والعشرون": (فيما يكون تعلمه مباحا) مثل الأشعار التي ليس فيها ذكر الفسق، بل ذكر الأشياء المباحة مثل الجبال والوطن والفراق وكذا تعلم الهندسة وتواريخ الأخبار وما يجري مجراها، كذا في الإحياء.

المقصد الأول

أما: المقصد الأول ففيه (فصلان) الفصل "الأول": في الكلام المتعلق بكل فن أما علم اللغة: فهو علم الأوضاع الشخصية للمفردات. كذا في بعض الرسائل. وهذا العلم هو الذي أظهر الله تعالى به فضل آدم عليه السلام على الملائكة وأحقيته للخلافة في الأرض. والوضع الشخصي أن تلاحظ اللفظ بشخصه وتضعه لمعنى، ويقابله الوضع النوعي: وهو أن تلاحظ اللفظ بشخصه وتضعه لمعنى، ويقابله الوضع النوعي: وهو أن تلاحظ ألفاظا بأمر كلي وتضعها لمعنى. كوضع المشتقات والمركبات والمجازات. والوضع النوعي يعرف في فن النحو والبلاغة. كأن تقول: اسم الفاعل معناه ذات قام بها مأخذ الاشتقاق وذلك كضارب فإنه اجتمع فيه وضعات: وضع بحسب مادته وهو الضرب وهو الوضع الشخصي فيقال الضرب معناه شيء على شيء، وذلك يعلم في علم [اللغة]. ووضع بحسب هيئته وهو الوضع النوعي.

فيقال الضارب معناه ذات قام بها الضرب لأنه صيغة اسم الفاعل فيعلم ذلك بعلم النجو، وكأن تقول المركب الإسنادي معناه/ إثبات أمر لآخر وذلك كزيد قائن، فإن معناه إثبات القيام لزيد. وكأن تقول: المجاز ما يراد به ما يناسب معناه الحقيقي مع قرينة مانعة عن إرادة معناه كالغيث، في رعينا الغيث فإنه يراد به لازمه الذي هو النبت، فإن الغيث موضوع أولا بالوضع الحقيقي الشخصي للمطر، وثانياً بالوضع النوعي المجازي للنبت، فالوضع في قول أهل البلاغة- المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له- هو الوضع الحقيقي. اعلم أن اللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، كذا في القاموس أقول: هذا يعم الاصطلاح، وأم اللغة التي (تقابل) الاصطلاح: فهي اللفظ الموضوع بالوضع الأول. وفي تعريف "اصطلاحات الفنون"- مؤلف ينسب إلى السيد الشريف قدس سره- ينبغي أن يستصحبه الطالب. ثم اعلم أن علم [اللغة] قد يطلق على جميع العلوم العربية.

والإسم المخصوص بمعرفة أوضاع المفردات هو علم متن اللغة: كذا في "المطول". ولهذا الفن مبادئ ومقاصد، أم المبادئ فهي معرفة أحوال الوضع. كما صرح به على القوشجي في كتابة المسمى "بعنقود الزواهر"، رتبه على ثلاثة عقود: الأول في الوضع، والثاني في الاشتقاق، - والثالث في التصريف. وينبغي للطالب أن يستصحب نسخة منه، إذ لم نر له نظيراً في الفنون الثلاثة. ومن المؤلفات فيها، الرسالة الوضعية لعضد الدين. ومن المؤلفات فيها العقد الأول في عنقود الزواهر. وأما المقاصد فهي معرفة معاني المفردات، ومن المؤلفات فيها منظومة ابن فرشتى وصحاح الجوهري. ومن أجمع المؤلفات فيها القاموس. ومن

المؤلفات فيها الأساس والفائق، كلاهما للزمخشري. أما الأساس، فميز فيه حقائق اللغة عن مجازاتها، وبين فيه صلات الأفعال. وأما الفائق، فمختص ببيان غرائب ألفاظ الحديث. وحق علم اللغة أن يقدم تعلمه على تعلم الكتب المؤلفة بتلك اللغة، فينبغي للمبتدئ أن يحفظ لغة ابن فرشتة قبل الشروع في التصريف والنحو. وأما استعمال لغة الأختري فهو يناسب المبتدئين، و [لا] ينبغي أن يعول عليها الفحول. وأما علم الصرف، يسمى علم التصريف أيضا: فهو علم باحث عن هيئات الكلم التي ليست بإعراب. قوله: ليست بإعراب، يخرج علم النحو، وقوله: عن هيئات الكلم يخرج علم الاشتقاق لأنه ليس باحثا عن هيئاتها، بل عن انتساب يعضها إلى بعض بالأصالة والفرعية. وأما التصريف المعرف بتحويل الأصل الواحد إلى أمثلة مختلفة فليس إسما للعلم كما صرح به التفتازاني في شرح كتاب عز الدين. وبالجملة إن التصريف معنيين اصطلاحيين، ويضاف لفظ العلم إلى الأول دون الثاني.

علم الاشتقاق

وفي هذا الفن مؤلفات مشهورة منها الشافية. والعقد الثالث من عنقود الزواهر، وهو أنفع ما رأينا من المؤلفات فيه. وأما علم الاشتقاق: فهو علم يبحث فيه عن كيفية أخذ الألفاظ المتناسبة تركيبا ومعنى بعضها عن بعض ورد بعضها إلى بعض، كذا في عنقود الزواهر. قوله: (ورد) عطف على (أخذ). وهذا التعريف للاشتقاق الذي هو اسم الفن. وقد يطلق الاشتقاق على معنيين اصطلاحيين غير الفن، وهما ما ذكر في "التلويح": أن الاشتقاق يفسر تارة باعتبار العلم، فيقال: هو أن تجد بين اللفظين تناسباً في أصل المعنى والتركيب، فترد أحدهما إلى الآخر، فالمردود مشتق والمردود إليه مشتق منه، وتارة باعتبار العمل فيقال: هو أن تأخذ من اللفظ ما يناسب في حروفه الأصل وترتيبها فتجعله دالا على معنى يناسب معناه. فالمأخوذ مشتق، والمأخوذ منه مشتق منه، انتهى.

قوله: باعتبار العم، معناه أن من وجد بين اللفظين التناسب المذكور، يعلم أن أحدهما مشتق من الآخر، أعني يعلم أن الواضع، وضع أحدهما أولا ثم أخذ منه الآخر، ووضعه لمعنى آخر يناسب معنى اللفظ الأول ويعايره بوجه ما. واللفظ الأول في الأغلب المصدر، وقد يكون اسم عين كالمسيح وعيسى، اسمي ابن مريم، فإن الأول مشتق من المسح، سمي به لأنه مسح الأرض بالمشي ولم يقم في موضع، أو مسحه جبرائيل. والقاني: من العيس، وهو بياض تعلوه حمرة، سمي به لأنه لونه كذلك. وهذان المعنيان للاشتقاق أشير إليهما في تعريف الاشتقاق الذي هو: اسم الفن، فالأخذ إشارة إلى المعنى الثاني، والرد إلى المعنى الأول، والمراد من البحث في تعريف هذا الفن هو البحث على الوجه الكلي، ولذا قال في بعض الرسائل: الاشتقاق علم يبحث فيه عن المفردات على الوجه الكلي من حيث انتساب بعضها إلى بعض بالأصالة والفرعية، انتهى. أقول: فلا يذكر في علم الاشتقاق، [اشتقاق] لفظ بعينه إلا على طريق المثال، قال في عنقود الزواهر: أورد الأوائل كل واحد من علمي الاشتقاق والصرف بالتدوين لاختلاف مباحثهما وميزوهما في التعريف، والمتأخرون لما رأوا شدة الارتباط بين مسائلهما- لأن كلا منهما يبحث عن الكلمة، وإن اختلفت جهة البحث في كل منهما- خلطوهما في التدوين وأدرجوهما في تعريف واحد كما فعله ابن الحاجب في أول "الشافية" حيث قال: التصريف علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم التي ليست

بإعراب. أقول: فدخل فيه الاشتقاق، انتهى. ولم أر مفرداً بالتدوين في الاشتقاق سوى العقد الثاني من عنقود الزواهر، ونعم المؤلف ذلك، والسيد الشريف [قسم علم العربية وبني تقسيمه على تمييز الاشتقاق عن الصرف حيث قال] في شرح المفتاح: اعلم ان علم العربية المسمى بعلم الأدب علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا أو كتابة. ويقسم على ما صرحوا به إلى إثنى عشر قسما ... إلى آخر ما قال، فعد اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والعروض والقافية والخط وقرض الشعر وإنشاء النثر والمحاضرات، وقال: ومن المحاضرات التواريخ. قال: وأما البديع فقد جعلوه ذيلاً لعلم المعاني لا قسما برأسه، انتهى. وقال في الصحاح: قرضت الشعر إذا قلته. قال بعض الفضلاء: بعض هذه [الفنون] الأدبية لا يستمد منه التفسير، وهو العروض والقافية وقرض الشعر والخط والإنشاء، انتهى.

أقول: ولعل المحاضرات لا يستمد التفسير منها أيضا إلا باعتبار اشتمالها على التواريخ. واعلم أن الأدب في اللغة ما حسن تناوله كما في القاموس. وأما علم الخط العربي: فهو علم يبحث فيه عن كيفية كتابة اللفظ العربي وهو أحد العلوم العربية، وتشتد إليه الحاجة، إذ من جهله يخطيء في كتابة اللفظ العربي وقراءته، إذ في الخط العربي زيادة على اللفظ ونقصان عنه، وإبدال [ملفوظ] بما ليس بملفوظ خصوصا بالهمزات، ومن المؤلفات فيه: آخر الشافية. وهذا الفن غير خط المصاحف وسيأتي ذلك. وأما علم النحو: ويسمى علم الإعراب أيضا فهو علم يبحث فيه عن أحوال الكلم إعرابا وبناء، كذا في التلويح، وهذا تعريف [باعتبار] موضوعه، وقد يعرف بأنه قوانين يعصم مراعاتها اللسان عن الخطأ في التكلم، وهذا التعريف باعتبار الغاية، وشامل لفن التصريف. فللنحو معنيان: أخص وأعم. قال الزمخشري في الكشاف: ولا يضبط هذا الفن إلا أهل النحو.

وقال عصام الدين، أراد بالنحو ما يشمل الصرف، أقول: لكن علم الأعراب لا يرادف إلا المعنى الأخص. وبالجملة إن النحو والتصريف يتحدان في الموضوع، وهو اللفظ المفرد، ويختلفان في محمولات المسائل. ومن المؤلفات في النحو "الكافية" وقد فاتها نصف النحو، والنصف الآخر اشتمل عليه "مغني اللبيب"، من فاته فقد فاته نصف النحو. وسمعنا أنه داخل في سلك المذاكرة في مصر المحروسة. قال السيد الشريف في شرح المفتاح: إن تمام علم النحو بعلم المعاني والبيان، لأنهما يجريان منه مجرى اللب من القشر، انتهى. واعلم أن شرح الجامي للكافية لا يقدر على تعلمها إلا أذكياء الطلبة بعد تحصيلهم بضاعة من الميزان والمناظرة. وكثير ممن لا يقدر على فهمه يشتغل بدرسه سنتين أو أكثر لتضييع أوقاته وتسمين بلادته. والشرح المسمى

علم العروض

بالمتوسط يقرب من فهم المبتدئين، وقد كان أوائل الطلبة يهتمون بقراءة المفصل للزمخشري، كما يظهر من النظر في نسخها العتيقة، وذا حقيق بذلك. ومنذ ما ترك طلبة الزمان مسالك أوائلهم لم يصلوا إلى درجاتهم، لكن الاشتغال به لا يغني أيضا عن الاشتغال بمغني اللبيب. وأما علم العروض: فهو علم يعرف به أوزان المركبات الموزونة. وهذا الفن مع صغره وسهولة تحصيله له اصطلاحات كثيرة يشين جهلها [العالم] المدرس. ومن أشهر المؤلفات فيه: مختصر الأندلسي لكن فاته بعض المباحث، ومن المؤلفات فيه الكافي وهو كاسمه، ومشتمل مسائل القافية أيضا. وأما علم القافية: فهو علم يعرف به أحوال تناسب أواخر المركبات الموزونة. وأما علم التجويد: ويسمى علم الأداء أيضا، فهو علم يبحث فيه عن مخارج الحروف وصفاتها، وقد يعرف بأنه ملكة يقتدر بها على إعطاء الحروف حقوقها، وذلك

لأن أسماء العلوم قد تطلق على الملكات الحاصلة من إدراكات مسائلها، كما أنها تطلق على نفس المسائل وعلى إدراكاتها. وأما التجويد المعرف: بأنه إعطاء الحروف حقوقها من المخارج والصفات فليس الذي هو اسم الفن، بل هو صفة للقارئ المجود، فللتجويد معنيان اصطلاحيان. قيل موضوعه الكلمات القرآنية، وفيه نظر، إذ البحث فيه عن مطلق الحروف، فلعله بعض علم التصريف، ولذا اشتمل عليه بعض كتبه كالشافية. ولما كان غرض من أفرده عن التصريف معرفة أحوال الكلمات القرآنية اعتبر موضوعه الكلمات القرآنية. قال علي القاري لا خلاف في أن علم التجويد فرض كفاية والعمل به فرض عين. أقول: فيه نظر لأن العلم تابع للمعلوم، كما صرح به، فلزم أن علمه فرض عين أيضا، والجواب: أن كون العلم تابعاً للمعلوم فيما إذا توقف تحصيل المعلوم عله، والعمل بالتجويد قد يحصل بالأخذ من أفواه مشايخ الأداء، بل ذلك هو العمدة، لكن بمعرفة قواعد ذلك الفن يسهل الأخذ عن أفواه المشايخ، وبها يعرف غلط الأساتذة، ويصان المأخوذ عن التحريف والشك، ويزيد بها المهارة. قال مكي في الرعاية: من لم يعرف قواعد التجويد واقتصر على السماع من أفواه الأساتذة، فذلك وهن ضعيف لا يلبث أن يشكك ويحرف، انتهى. وفي هذا الفن مؤلفات لا تحصى، فهو فن اهتم به أسلاف العلماء.

وقال ابن الجزري في التمهيد/ إن أولى ما قدم من علوم القرآن معرفة تجويده. أقول: وقد ترك الاشتغال بهذا الفن في زماننا، ولذا شاع غلط كثير في ألسنة القارئين، مثل قراءة الضاد المعجمة كالطاء المهملة، مع أن حقها أن تقرأ كالظاء المعجمة، كما هو المصرح به في المفصلان كتب هذا الفن، ومن اكتفى بمثل مقدمة ابن الجزري رحمة الله عليه، لا يطلع على حقائق صفات الحروف، إلا أنه يشتغل ببعض شروحه المطنبة مثل شرح على القاري. والبائس الفقير رتب رسالة حاوية على عامة مسائل هذا الفن وسماها "جهد المقل" وشرحها وسمي الشرح "البيان" ومن اطلع على ما فيهما يستغني عن أكثر المؤلفات فيه، ويصير رحلة في هذا الفن. وفي قول على القاري: والعمل به فرض عين- مسامحة، إذ ما هو فرض عين هو تجويد الحروف عن اللحن الجلي، وتفصيل هذا في رسالتنا المذكورة. وأما علم الوقف والابتداء/ فالظاهر من كلام السيوطي في

الإتقان: أنهما [علم] واحد حيث قال: النوع الثامن والعشرون في الوقف والابتداء أفرده بالتصنيف خلائق منهم ابن الأنباري والداني والسجاوندي وهو فن جليل يعرف به كيفية أداء القرآن، قال ابن الأنباري: من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء. انتهى كلام السيوطي. أقول: هو علم يعرف به مواضع الوقف والابتداء من القرآن. وقول السيوطي: يعرف به كيفية أداء القرآن، يصرح بأن هذا الفن داخل في التجويد، وقوله: أفرده بالتصنيف يشعر بذلك لأن الظاهر أن معناه أفراده عن علم التجويد، سئل علي رضي اله عنه عن معنى قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [الزمل: 4] فقال: الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف. انتهى. وقال على القاري: قال ابن الجزري: إن في كلام علي رضي الله عنه دليلا على وجوب تعلمه، انتهى. يعني تعلم الوقف. وقال ابن الجزري في

علم مرسوم المصاحف

التمهيد: قد صنف العلماء في أقسام الوقف كتباً مدونة وذكروا فيها أصولا مجملة وفروعا في الآي مفصلة، انتهى. أقول أما أصولها المجملة فاشتمل عليها أكثر كتب التجويد. والبائس الفقير أدرجها في "جهد المقل"، بحيث لا مزيد عليها. وأما فروعها في الآي مفصلة، ففيها مؤلف أبي عمرو الداني ومؤلف ابن الأنباري. والتزم الكواشي الإشارة إلى مواضع الوقف في جميع القرآن. وأما علم مرسوم المصاحف فهو علم يعرف فيه كيفية رسم المصاحف الأئمة، أي خطها. أقول: الأئمة صفة المصاحف، والمراد منها المصاحف التي كتبها الصحابة بأمر عثمان رضي الله عنه في زمن خلافته. قال الداني في المقنع: أرسل عثمان رضي الله عنه إلى زيد بن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث، وأمرهم أن ينسخوا مصاحف ففعلوا، فبعث عثمان رضي الله عنه إلى كل أفق مصحف من تلك المصاحف التي كتبوها. وأكثر العلماء على أن عثمان رضي الله عنه لما كتب المصحف جعله أربع نسخ، وبعث إحداهن إلى

الكوفة وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة. وقيل أنه جعل سبع نسخ ووجه منها نسخة إلى مكة ونسخة إلى اليمن ونسخة إلى البحرين والأول أصح وعليه الأئمة، انتهى. قوله: لما كتب المصحف، معناه لما أمر بكتب المصحف كما هو ظاهر من سابق كلامه، وإنما أضيفت المصاحف ورسومها إلى عثمان رضي الله عنه لوقوعها بأمره، فهو كقولهم: بني الأمير المدينة، وإنما وصف تلك المصاحف بالأئمة لأن كل واحد منها استنسخت منه مصاحف لا تحصى، فصارت أئمة اقتدى برسمها المصاحف. فإذا قيل رسم الإمام، يمكن أن يراد بالإمام المصحف الإمام، وأن يراد عثمان رضي الله عنه. وإذا قيل (كذا في الإمام) يراد به المصحف البتة. قال الزمخشري في "الكشاف": قد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة [عن] القياسات التي بني عليها [الخط العربي] قال السيوطي في الإتقان، قال أحمد: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان رضي الله عنه في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك، انتهى. فعلم أن هذا الفن فرض على الكفاية قال في بعض شروح الرائية إن خطوط مصاحف الصحابة كانت بلا نقط ولا شكل محتملة لجميع القراءات التي يعول عليها. وهذا النقط والشكل الموجود في المصاحف

اليوم محدث، وقالوا لا بأس به، انتهى. وقال السيوطي عن النووري/ إن نقط المصحف وشكله مستحب، لأنه صيانة له من اللحن والتحريف، انتهى. والمراد من الشكل: هو رسم الحركات والسكون والتشديد والمد. أقول وعلى النقط والشكل يختص المصحف ببعض القراءات. ومصاحف ديارنا منقوطة ومشكلة على قراءة عاصم، ورواية حفص عنه. ومن المؤلفات في بيان رسم المصاحف المقنع للداني والرائية للشاطبي وجامع الكلام. وأعلم أن بعض مسائل القراءات، يتوقف على معرفة بعض المسائل هذا الفن، كالوقف على مرسوم الخط. ومن [جهل] هذا الفن يتحير عند مقابلة المصاحف. وبعض من جهله يغير خط المصحف القديم إلى ما

علم القراءات

أحدثه الناس اليوم، ظنا منه أن خط المصحف القديم غلط/، وبعضهم يقرأ {أُولَاتُ الْأَحْمَال} [الطلاق: 4]- بالواو- وما قرئ في الأعراف بواو واحدة، إلى غير ذلك من الأغلاط. وأما علم القراءات: فهو علم مذاهب الأئمة في قراءات نظم القرآن، والقراءات أبعاض القرآن، لكن تنقسم إلى مشهورة وشاذة، والمشهورة: هي الصحيحة المعتبرة. والشاذة: هي الضعيفة. والمراد من المشهورة هي المتواتر نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن الجزري في النشر: كل قراءة وافقت العربية [وأحد] المصاحف العثمانية وصح نقلها عن النبي عليه السلام فهي صحيحة لا يحل ردها، ويجب على الناس قبولها، سواء كانت من قراءات الأئمة السبعة أو من قراءات غيرهم، ومتى اختل أحد هذه الأركان فهي ضعيفة شاذة وإن كانت من قراءات الأئمة السبعة، انتهى. قوله، صح نقلها: لعل معناه تواتر نقلها فالتي ثبتت بخبر الآحاد شاذة. قال أبو شامة: أكثر العلماء اقتصروا في تصانيفهم على ذكر قراءات الأئمة السبعة لكثرة [الصحيح] المجمع عليه في قراءاتهم، وبعض ما نسب [إليهم] غير مجمع عليه، انتهى.

أقول والمجمع عليه هي المشهورة وغير شاذة، وفي الإجماع هنا إشكال، لأن الظاهر أن معناه ما أجمع عليه أئمة القراءات، وقراءة بعضهم تخالف قراءة البعض الآخر منهم، فليزم أن لا تكون مجمعا عليها، كقراءة "ملك" قرأ بعضهم بالألف وبعضهم بلا ألف، مع أن كلتا القراءتين مجمع عليها. والجواب أن اختلاف أئمة القراءات ليس في الصحة والثبوت بل في الترجيح، فكل من الأئمة يسلم ثبوت قراءة الآخرين، وهذا بخلاف اختلاف المجتهدين، فإن اختلافهم على طريق التدافع والرد، قال الجعبري/ إن الخلاف في وجوه القراءات ليس كالخلاف في الأحكام، لأن كلا من وجوه القراءات الصحيحة حق في نفس الأمر، وأما كل من وجوه الحكم المختلف فيه: فهو حق اعتبار الاجتهاد والحق في نفس الأمر واحد منها، انتهى. والمراد من الأئمة السبعة: نافع المدني، وابن كثير المكي، وأبو عمرو البصري، وابن عامر الشامي، وعاصم وحمزة والكسائي

الثلاثة كوفيون، وأغلب قراءات (هؤلاء) الأئمة مشهورة صحيحة مجمع عليها. واقتصر الشاطبي على ذكر قراءاتهم- وزاد بعض المصنفين قراءة يعقوب البصري- وأبي جعفر المدني، وخلف لكون أغلب قراءاتهم مشهورة صحيحة أيضا. إن قلت خلف راوي حمزة، فما معنى زيادة قراءته؟ قلت له قراءتان: أحدهما رواية عن حمزة والأخرى ما رجحها بنفسه، وصار بما رجحه بنفسه شيخاً وله باعتباره [رواية] كسائر الأئمة. اعلم أن رد شيء من القراءات المتواترة كفر، بخلاف غير المتواترة، فمن لم يعلم القراءات المتواترة، قد يرد ما لم يسمعه منها. قال السيوطي أوعى ما صنف في القراءات المشهورة، النشر في القراءات العشر وتقريب النشر، كلاهما لابن الجزري، انتهى.

ثم اعلم أن علم القراءات يخالف علم التجويد، لأن المقصود من الأول، معرفة اختلاف الأئمة في نفس الحروف أو في صفاتها. [المقصود] من الثاني معرفة حقائق صفات الحروف مع قطع النظر عن الخلاف فيها، مثلا يعرف في التجويد أن حقيقة التفخيم كذا، وحقيقة الترقيق كذا، ويعرف في القراءات أن هذه الحروف فخمها فلان ورققها فلان. بهذا يندفع ما عسى يقال: علم القراءات يتضمن مباحث صفات الحروف كالإدغام والإظهار والمد والقصر والتفخيم والترقيق هي من مباحث علم التجويد، قال جعبري نقل القراءات السبع فرض كفاية لأنها أبعاض القرآن، انتهى. أقول لا تنحصر القراءات الصحيحة في السبع كما عرفت، فالظاهر أن يقال نقل جميع القراءات الصحيحة فرض كفاية. ومن العجب أن العلوم المتعلقة بنظم القرآن المجيد من القراءات والتجويد، قد وجدناها مهجورة في أمثال ديارنا، تجد أكثر من يحمل فوق رأسه العمامة الكبرى لا يدرون أشهر مسائل القراءات والأداء، ويقرؤون [القرآن] كالنساء وأهل القرى، غفلوا عنها وأن تحصيلهم، ثم منعتهم رياستهم وهيئاتهم عن تعلم علومه والجلوس بين أيدي شيوخه لتصحيح حروفه، ومعرفة وجوه قراءته، ثم يفتخر بعض أولئك بما يتفوه به من اصطلاحات الفلاسفة، ولعل تلك العادة وثبت إلينا من بلاد الشيعة إخوان الفلاسفة المعرضين عن طريق أهل السنة.

المنطق

وأما المنطق: ويسمى الميزان أيضا فهو قوانين يعرف بها صحيح الفكر وفاسدة، فهو يعصم الذهن عن الخطأ في الفكر، كما أن النحو والصرف يعصمان اللسان عن الخطأ في التكلم، قال ابن حجر في شرح الحديث الأربعين للنووي: ومن آلات الشرع من تفسير وحديث وفقه، المنطق الذي بأيدي الناس اليوم، فإنه علم مفيد لا محذور فيه، وإنما المحذور في المنطق المخلوط بالفلسفة المنابذة للشريعة، ولذا قال الغزالي: لا وثوق بفقه من لا يتمنطق، يعني ابن الصلاح وغيره بتحريمه، محمول على المنطق المخلوط بالفلسفة المنابذة للشريعة، انتهى كلام ابن حجر. وأما المنطق المتداول اليوم فهو قوانين عقلية خالصة عن ذكر عقائد الفلاسفة. أقول: المنطق داخل في الكلام والفلسفة لأنه مبادئ لهما. أما دخوله في الفلسفة. فلا يوجب كونه حراماً إذ الفلسفة ليست بجميع أجزائها حراماً، إنما المحرم منها الإلهيات والطبيعيات، ألا ترى أن الحساب داخل في الفلسفة كما ستعرف إن شاء الله تعالى، مع أن الغزالي صرح بأن الحساب فرض كفاية، وأما دخوله في الكلام فيقتضي كونه فرض كفاية عند من يقول بأن الكلام فرض كفاية، وفيه بحث سيأتي وقد سبق أن الظاهر، أن بحث

الأدلة من المنطق فرض كفاية لكونه مبادئ أصول الفقه، وإنما يضع عن المنطق البليد الذي لا حصة له منه، وكذا الذكي، من طول الاشتغال بحيث يتلهى به عما هو أهم منه، فلا تغرنك عادات المسرفين المستغنين بأمثال هذا الفن "عن" علوم الأنبياء المرسلين، مع أن بعض مباحثه قليل الجدوى جدا وهو تفاصيل الكليات الخمس والموجهات، فالأولى أن يصرف عنان الفكر عن الخوض فيها، فإن العلم كثير والعمر قصير لا يفي زمان التحصيل منه بالقدر الأهم من العلوم قيل: (ما حوى العلم جميعاً أحد ... لا ولو مارسه ألف سنه) (إنما العلم منيع غوره ... فخذوا من كل علم أحسنه) ومن سوء تدبير طلبة هذا الفن اشتغالهم بشرح الفناري مع حاشية قول أحمد بعد إتمام شرح الحسام الكاتي. والمبتدئ لا يفهمهما قبل إتمام شرح الشمسية ومن سوء تدبيرهم بدء شرح الشمسية مع حاشية السيد، بل مع حاشية قرة داود، فإن الاشتغال بغرائب الفن قبل فهم

علم المناظرة

مسائله الواضحة يمنع فهم ذلك الفن، فالأولى أن يبدأ المنطق بشرح حسام كاتي، ثم بشرح الشمسية، إلى تمام تصديقاته مجردا عن الحاشية، ثم الطالب مخير، إن شاء اكتفى من ذلك الفن بهذا القدر، إن شاء اشتغل ببعض الحواشي مثل حاشية قول أحمد، على طريق المباحثة ودرك الدقائق، وذلك إنما يكون بعد معرفة طرق المناظرة. وأما علم المناظرة: ويسمى أيضا علم آداب البحث وصناعة التوجيه، فهو قوانين يميز بها الموجه من الأبحاث عن غير الموجه، وموضوعه الأبحاث، لأنه يبحث فيه عن أعراضها، وهي كونها موجهة، ومن ليس له بضاعة من هذا الفن لا يكاد يفهم أبحاث العلوم، وهذا الفن يقارب ما ذكره الأصوليون في باب القياس، لكنه ليس بعينه، إذ هذا الفن ينطبق (على الدليل المنطقي وما ذكره الأصوليون منطبق) على القياس الفقهي مع أن بينهما تخالفا في بعض الاصطلاحات ولفظ العلم ليس جزء من اسم الفن، فاسم الفن: المناظرة وآداب البحث، وقد يطلق المناظرة في الاصطلاح على صفة المناظرين أيضا، وهي بهذا المعنى تعرف بالنظر من الجانيين. وعامة طلبة زماننا يشتغلون بالشروح والحواشي، من نسخ هذا الفن مدة مديدة ولا يحصلون من بضاعة، وذلك لعدم إفرادهم المتن بالدرس، ولم أصادف في هذا الفن متنا جامعاً يقرب إلى الفهم، والبائس الفقير جمع عامة مسائله في رسالة سماها "تقرير قوانين المناظرة" ثم اختصرها واقتصر على الأهم منها في رسالة سماها "ولدية".

الفصل الثاني: (بين الجدل والمناظرة)

الفصل "الثاني": (بين الجدل والمناظرة) وهذا الفن يخالف فن الجدل، لأن علم المناظرة علم يقتدر به علي معرفة الصواب، فغرض المناظرة إظهار الصواب، وعلم الجدل على ما عرفه الشارح المسعود: علم يقتدر به على حفظ أي وضع كان وهدم أي وضع كان، انتهى. أقول: يريد من (أي) التعميم للحق والباطل. وقال في التلويح: الجدلي إما مجيب يحفظ وضعا أو معترض يهدم وضعا. أقول: ولعل المعنى أن الجدلي إما معلل يجيب بجدله عن اعتراض السائل فيحفظ مدعاه، أو سائل يعترض بجدله على دعوى المعلل أو دليله، فيهدم دعوى المعلل أو دليله. فقواعد الجدل حيل ومغالطات لا ينبغي أن يقابل بها إلا الخصم المتعنت. ولا يختص فن الجدل بحفظ مسألة فن معين، إلا أن الفقهاء تصرفوا في الجدل، فأوردوا المجالات العامة على المسائل الفقهية، حتى توهم أن علم الجدل اختصاص بالفقه، كذا يفهم من

علم الكلام

التلويح، وذكر في آخر آداب محمد السمرقندي مسأةل من فن الجدل، وعل هذا الفن هو المراد بما في تعليم المتعلم: وإياك أن تشتغل بالجدل الذي ظهر بعد انقراض الأكابر فإنه يبعد من الفقه ويضيع العمر، انتهى. فالمراد [منه] المجادلات الواردة على المسائل الفقهية وهي المراد من الخلافيات. في قول بعض الفقهاء في ذم طلبة زمانه: يشتغلون بخلافيات ركيكة. أي ضعيفة ووجه ضعفها أنها مغالطات كاذبة يمكن إيرادها على وجود الشيء وعلى انتفائه، كقولهم: إن الشيء الذي يلزم من وجوده وعدمه المطلوب، إما موجود أو معدوم، وأياً ما كان، يلزم ثبوت المطلوب. ويسمى علم الجدل- الذي تصرف فيه الفقهاء- علم الخلاف وعرف المسعود في بعض منهواته علم الخلاف: بعلم الاختلاف الواقع بين المجتهدين. أقول: وكان بعض من العلماء الحنفية أثبتوا مجتهدات أبي حنيفة بمغالطات علم الجدل، وأبطل بها أقوال من خالفه فيها. وأما علم الكلام: ويسمى أيضا علم أصول الدين، فهو علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ورفع الشبه عنها، وقد يعرف بأنه علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، وقوله: على قانون الإسلام، ويخرج الفلسفة الإلهية والطبيعية، فإن الأولى يبحث فيها عن ذات الله تعالى وصفاته. الثانية يبحث فيها عن

الممكنات، لكن [كلا] البحثين على قانون عقول الفلاسفة، وافق الحق أو خالفه، كذا في شرح المواقف وغيره. وبعض مسائل الكلام عقلي: يستقل بمعرفته العقل بالنظر في المصنوعات- وإن نطق بها الكتاب والسنة- وهو وجود الخالق بصفات يعرفها العقل، وبعضها سمعي، كبحث النبوة والمعاد، لكن قال في شرح المواقف: إن العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع- يعني من الكتاب والسنة ليعتد بها- وإن كانت مما يستقل فيها العقل، انتهى. أقول: ولم أتيقن معنى (ليعتد بها) ولعله بمعنى لثياب عليها فمن لم يصادف شريعة من شرائع الأنبياء وبلغ إلى دليل عقلي إلى الباري ووحدته وسائر صفاته المعلومة بنظر العقل كما هو الحق فهو مؤمن عند الله، يثاب على إيمانه. ومن صادف شريعة من شرائع الأنبياء. ولم يدخل فيها، فلا يعتبر إيمانه الحق الذي يلغ إليه بدليل عقلي، فلا يثاب عليه. واعلم أن لهذا العلم مبادئ ومقاصد. وأما المبادئ فهي المسائل العقلية، كمباحث الأدلة ومباحث الجواهر والأعراض. وأما المقاصد: فهي المسائل الإعتقادية. اعلم أن المسائل الاعتقادية دونت على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: الاقتصار على ذكر المسائل مجردة عن الأدلة ومجادلة المخالفين، ومن المؤلفات في هذه المرتبة الفقه الأكبر لأبي حنيفة رحمه الله،

ونظم الأمالي، والعقائد النسفية، ومن أوعى المؤلفات في هذه المرتبة: شرح علي القاري للفقه الأكبر مع ما ذيل به ذلك الشرح، لابد لكل عالم أن يستصحبه. ويسمى المدون في هذه المرتبة علم التوحيد والصفات، لما أن ذلك أشرف مباحثه، كما في شرح العقايد للتفتازاني، فلا يسمى المدون في هذه المرتبة، كلاما إلا مجازا. المرتبة الثانية: ذكرها مع الأدلة بلا استقصاء فيها، وبدون ذكر مجادلات الفرق إلا نادراً. ومن المؤلف فيها، الرسالة المقدسي للغزالي. قال التفتازاني في شرح العقايد: سموا ما يفيد معرفة العقائد من الأدلة بالكلام- وهذا الفن مبتن على الأدلة القطعية، يعني العقلية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية، انتهى. أقول: وهذه مرتبة الاقتصاد

والمرتبة الثالثة: الاستقصاء في الأدلة مع زيادة مجادلة الفرق المخالفة، وهذه مرتبة الاستقصاء وانقسم الكلام في هذه المرتبة كما صرح به في شرح العقائد. إلى كلام القدماء: وهو الذي معظم خلافياته مع الفرق الإسلامية، خصوصا المعتزلة، ومن المؤلفات فيه كتاب الأستاذ أبي إسحاق، وكتاب أبي بكر الباقلاني، كما ذكره السبكي. وإلى كلام المتأخرين: وهو الذي زيد على ذلك خلط الفلسفة والرد على الفلاسفة. أقول: ومن المؤلفات فيه: المواقف والمقاصد قول التفتازاني (مبتن على الأدلة القطعية) فيه نظر، لما قال على القاري في أوائل شرح الفقه الأكبر: إن أدلة المتكلمين لا تشفى عليلا ولا تروي غليلا فمآلها

إلى الحيرة. نقل عن الإمام الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا (أو) تروي غليلا ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. انتهى. وقوله: وإلى كلام المتأخرين، هو ما قاله السبكي في كتاب "معيد النعم" ولقد حصل ضرر عظيم على المسلمين بمزج كلام الفلاسفة بكلام المسلمين، وما كان ذلك إلا في زماننا هذا وقبله بيسير، منذ نشأ نثير الطوسي ومن تابعه، ولا حياهم الله. ولم أجد أضر على أهل عصرنا وأفسد لعقائدهم من نظرهم في الكتب الكلامية التي أنشأها المتأخرون بعد نصير الطوسي. انتهى. أقول: والطوسي هذا من رؤساء الشيعة استوزره الملك الكافر، فجاء بذلك الملك إلى بغداد وأمره بقتل الخليفة وقتل علماء أهل السنة وفقهائهم واستبقى الفلاسفة والمنجمين، فلا رحم الله عظامه ولا عظم الله

من عظمه. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لأن يلقي الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام، ولا شك أن ما قاله الشافعي هو كلام القدماء. وقال خسرو، بعد نقل كلام الشافعي: فإذا كان علم الكلام المتداول في زمانهم هكذا فما ظنك بالكلام المخلوط بهذيانات الفلاسفة المغمورة بين أباطيلهم المزخرفة؟ انتهى. أقول: فما ظنك بالفلسفة الخالصة؟ قال السنوسي فليحذر المبتدئ جهده أن يأخذ أصول دينه من الكتب التي حشيت بكلام الفلاسفة، وأولع مؤلفوها بنقل ما هو كفر صريح من عقائدهم التي ستروا نجاساتها باصطلاحات وعبارات مبهمة على كثير من الناس، ككتب الرازي في فن الكلام، وطوالع

البيضاوي، ومن حذا حذوهما في ذلك، وقل أن يفلح من أولع بصحبه كلام الفلاسفة، أو يكون له نور إيمان في قلبه أو لسانه، إلى آخر ما قال: أقول: وأما (المواقف) و (المقاصد) فلم يحذو [ا] حذوهما، إذ هما وإن نقلا عقائد الفلاسفة لكنهما لم يستراها ولم يدساها بين عقائد الإيلام بل صرحا بالنقل عنهم، وعقباها بالرد عليهم. ثم اعلم بأن تمام استقصاء علم الكلام قسمان: - قسم مبادى: وهي مباحث النظر ومباحث الأمور العامة، من الجواهر والأعراض والإدراكات والعناصر والأفلاكات. - وقسم مقاسد: وهي مباحث الإلهيات والنبوات والمهاد، مع إيراد الأدلة العقلية والنقلية ومجادلة الفرق المخالفة، (والكل يشملها) مثل المواقف والمقاصد، لابد للعالم المدرس أن يستصحب شرح المواقف. وقد اقتصر في بعض الرسائل على بعض عقائد الكلام كعقائد الإمام النسفي والعقائد العضدية، واكتفى بشرحها طلبة الزمان عن الاشتغال بمبادئ علم الكلام، فغفلوا عن القواعد العقلية الكلامية وظنوا أن تلك القواعد إنما تطلب من كتب الفلسفة، فألقوا بأيديهم إلى التهلكة، وصرفوا شطرا من أعمارهم إلى ما يؤدي بهم إلى الخيبة.

الفصل الثالث: (ذم التبحر في علم الكلام)

الفصل "الثالث": (ذم التبحر في علم الكلام) ومن المؤلفات في بعض مسائل الكلام: رسالة إثبات الواجب للدواني، ولها شرح وحاشية على الشرح يشتغل بمدارستها بعض الطلبة مقدار سنة، ومضمونها مسألة واحدة، هي أن للعالم إلها واجب الوجود مع أدلة طويلة واهية، ومجادلات كثير لا ينتج [عن] الاشتغال بها إلا توهين العقيدة وإيراد الوساوس المهلكة، ومن شك في الله سبحانه {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] فهيهات له اليقين من تلك الرسالة، بل الاشتغال بها يورث شكا لأرباب اليقين ويزيد شكا للشاكين. واعلم أن الاستثناء من النفي ليس بإثبات عند الخليفة بل نفي الحكم عما عدا المستثنى. والمستثنى في حكم المسكوت عنه، واعترض عليهم بأنه يلزم (ح) أن لا تكون كلمة التوحيد توحيدا تاماً، إذ لا دلالة فيها (ح) على وجود الله تعالى، فأجابوا عنه بأن معظم الكفار أشركوا وفي عقولهم وجود الإله ثابت، فسبقت كلمة التوحيد لنفي الغير، كذا في الأصول، وذلك كما

قال تعالى في وصف مشركي زمان الفترة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] وقال في الأحياء ما مختصره: من (أدار) نظره في عجائب خلق الله لا يخفي عليه أنه لا يستغن عن صانع يدبره بل تكاد فطرة النفوس تشهد بذلك، ولذلك قال تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] ولذا بعث الأنبياء كلهم لدعوة الخلق إلى التوحيد ليقولوا: لا إله إلا الله. لا ليقولوا لنا إله أو للعالم إله، فإن ذلك كان مجبولا في فطرة عقولهم، انتهى. أقول: رأيت بحث إثبات الواجب في المواقف مع شرحه في مقدار ورقتين من قطعة مصف الطبقة، وهو أطول كتب الكلام. فالعجب من طلبة الزمان، يشتغلون بدراسة رسالة إثبات الواجب مع الشرح والحاشية، قريبا إلى تمام سنة يخوضون في المجادلات الطويلة إلى حيث لا يدرون في بعض المباحث إلى ما انجر الكلام إلى إثبات الواجب مع الشرح والحاشية، قريبا إلى تمام سنة يخوضون في المجادلات الطويلة إلى حيث لا يدرون في بعض المباحث إلى ما انجر الكلام إلى إثبات الواجب، أو إلى منع ثبوته، وأكثر من يشتغل بها من لا يحسن فهمها. ثم إنهم بكثرة ما يتخيلون رب العزة جل جلاله بعلة العلل وأول سلسة الأسباب يزول من صدورهم تعظيم (رب الأرض ورب السماوات) فيا خسرانهم ويا أسفا عليهم ولم يكن لطلبة

الفصل الرابع: (في حكم الاشتغال بالكلام)

العلم من خير [الأمم] يقين كيقين مشركي زمان الفترة في الخالق الإله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61]. ثم أقول لأولئك [الطلبة] إن كنتم من أولي الألباب، فلكم في خلق السماوات والأرض آيات، فإن لم تكونوا منهم فكيف [تفيدكم] المجادلات الواهيات، ثم لا شك في حرمة الاشتغال بتلك الرسالة، لأنها استقصاء في مسألة كلامية لم [تشع] مخالفة من خالفها وهو منهي عنه، كما سبق في فصب مندوبات [العلوم]. وسيأتي. الفصل "الرابع": (في حكم الاشتغال بالكلام) قال في الإحياء ما مختصره: اختلفت الأقوال في حكم الاشتغال بالكلام، يعني مع مجادلة الفرق الإسلامية، فقال بعض: إنه فرض على الكفاية، وقال بعض/ إنه بدعه وحرام، وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث ومن السلف. والصواب أن كل بلد لم تشع فيه عقائد أهل البدع لا حاجة فيه إلى الكلام، فلو اتفق أن أحداً اعتقد البدعة يدعي إلى الحق بأدلة مأخوذة من القرآن والحديث، فإنه أنفع له من أدلة المتكلمين، وكل بلد شاع فيه عقائدهم يصير القيام بهذا

علم البلاغة

العلم فرض كفاية فيه، لكن ينبغي أن يخصص بتعلمه من له ثلاث خصال: الأولى: الحرص على التعلم، كي لا يفتر عن إزالة الشك إذا عرض. والثانية: الذكاء، فإن البليد قد لا يفهم سبيل الخلاص عن شبه (المبتدعة). والثالثة: " أن يكون في طبعه الصلاح والديانة، ولا يكون مغلوب الشهوة، فإن الفاسق ينخلع عن الدين بأدنى شبهة ولا يحرص على إزالتها، بل يغتنمها ليتخلص عن أعباء التكليف، انتهى. أقول: ولا شك في حرمة الاشتغال بالكلام المخلوط بمجادلات الفلاسفة، إذ لا يكاد يوجد بلد شاع فيه عقائدهم. قولهم: لا حاجة فيه إلى الكلام، معناه يحرم الاشتغال به في ذلك البلد تأمل. قوله: وإلى التحريم ذهب ... إلى آخرهن هو ما قاله الطيبي في شرح المشكاة نقلا عن محيي السنة: اتفق العلماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدل والخصومات في الصفات والخوض في علم الكلام، انتهى. وأما علم البلاغة: فهو علم يعرف به مطابقة الكلام الفصيح بمقتضى الحال، ففصاحة

علم البديع

الكلام شرط لبلاغته، والفصاحة تعلم بالإطلاع على علم اللغة والصرف والنحو وعلم البيان. وتعلم المطابقة المذكورة بعلم المعاني، فعلم البلاغة ليس فناً مستقلا، بل ينقسم إلى فنون خمسة: وهي اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان. والأخيران يتضمنها التلخيص والإيضاح لكن وقع الاصطلاح بإطلاق علم البلاغة على علمي المعاني والبيان فقط، والتفصيل في المطول وحواشيه. وأما علم البديع: فهو خارج عن علم البلاغة وتابع له، بمعنى أنه يبحث عن أشياء تزيد حسنا للكلام البليغ، وقد جرت عادة العلماء بجمع المعاني والبيان والبديع في مؤلف. ذكر في ديباجة الكشاف: ومن لم يكن بارعا في فن المعاني والبيان لا يستأهل لدرك حقائق علم التفسير، وإن برع في سائر الفنون. وقال السكاكي في المفتاح: الويل كل الويل لمن تعاطى التفسير وهو فيهما راجل، انتهى. ولابد لطالب هذين الفنين أن يقدم عليهما الاشتغال بالقسم الأول من

[علم] أصول الفقه

فن الكلام، لأن بعض مباحثهما يتوقف على معرفته كبحث الوصل والفصل. ومن المؤلفات في الفنون الثلاثة المذكورة: تلخيص المفتاح للخطيب ثم علم الخطيب متنا آخر وسماه: إيضاح التلخيص، وقال في ديباجته: جعلته كالشرح للتلخيص، فأوضحت معانيه المجملة وزدت عليه ما تضمنته المطولات، فاستخرجت زبدتها كلها وهذبتها ورتبتها حتى استقر كل شيء منها في محله، وأضفت إليها ما أدى إليه فكري، انتهى. وقد شرح الإيضاح القطب العلامة. فليت شعري ما الداعي للناس إلى ترك المهذب؟ ! ! وأما [علم] أصول الفقه: فهو العلم بالقواعد الكلية التي يتوصل بها من أدلة الفقه إليه، أي إلى الفقه، وأدلة الفقه أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. ويقال لتلك الأدلة (الأربعة): أصول الفقه بالمعنى اللغوي، لأن الفقه ينبني على هذه الأربعة، لكن أصول الفقه في الاصطلاح، هو العلم بالقواعد المذكورة، ويطلق على نفسه تلك القواعد قولهم: كل أمر بشيء يفيد وجوب ذلك

الشيء. فبهذه القاعدة يتوصل من قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاة} إلى أن إقامة الصلاة واجبة، بأن يقال: إن قوله تعالى قوله هذا، أمر بإقامة الصلاة وكل أمر بشيء فهو يفيد وجوب ذلك الشيء. فقوله تعالى هذا، يفيد وجوب إقامة الصلاة، وإذا كان الأمر كذلك فإن إقامة الصلاة واجبة. قال في بعض الرسائل: الغرض من هذا الفن حصول ملكة استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وانتهى. فإن قلت التوصل من أدلة الفقه إلى الفقه هو عمل المجتهد، وقد انقطع الاجتهاد واقتدى كل طائفة بمجتهد، فما فائدة الاشتغال بهذا الفن؟ قلت: يستمد من هذا الفن علم التفسير وشرح الحديث، ويتوقف عليه معرفة مسائل الفقه بالأدلة، كما تضمنته "الهداية" وأمثالها. ثم إن الحوادث غير منحصرة فيما ذكر في المدونات [من كتب الفقه] فقد تحدث مسألة لم تمسها [يد] واحد من المجتهدين، فيقدر على الحكم في تلك المسألة صاحب هذا الفن، إلى غير ذلك من الفوائد. ويستمد هذا الفن من النحو والمعاني أسد استمداد، ومن مباحث الأدلة أيضا، ولذا جعلت جزءا من مختصر المنتهى ومن معرفة نفس

الفصل الخامس: (تحصيل علم الأصول)

الأحكام الشرعية [الفرعية] العملية يستمد منها للتمثيل والتوضيح. وأما معرفة تلك الأحكام الشرعية العملية بالأدلة فهي تتوقف على تحصيل هذا الفن، فمن أراد الاشتغال بمثل الهداية- وفي شرح صدر الشريعة للوقاية- فلا ينبغي له أن يشتغل به إلا بعد تحصيل هذا الفن. وبالجملة ينبغي أن يشرع طالب هذا الفن في مختصر القدوري وفي سائر ما يستمد منه قبل تحصيل هذا الفن، ثم بعد تحصيل هذا الفن ثم بعد تحصيل هذا الفن يشرع في الهداية، وفي شرح صدر الشريعة، وهذا صراط مستقيم. الفصل "الخامس": (تحصيل علم الأصول) واعلم أن هذا الفن طويل عميق، لا تحصل البضاعة منه إلا في مدة متطاولة باشتغال مثال التنقيح وشرحه وحاشيته، لكن أكثر المشتغلين

علم الفقه

بهذه الثلاث لا تحصل لهم البضاعة من هذا الفن، لاضطراب سوق المتن والشرح، وقد أصلحهما ابن الكمال، لكن لا يؤول إصلاحه إلى منافع كثيرة، وما رأينا في هذا الفن متنا أحسن وأجمع من الوجيز ليوسف الكرماستي لكن لم تر له شرحاً. وأما علم الفقه: فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، فلا يسمى في الاصطلاح علم نفس الأحكام، لا عن أدلتها فقها. والدليل التفصيلي للحكم هو الدليل الخاص به كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فإنه دليل خاص بوجوب الصلاة، والعملية يراد بها عمل الجوارح، فهي احتراز عن

الاعتقادية والأخلاقية، ويسمى هذا الفن "الفقه المصطلح" لأن الفقه في اللغة مطلق الفهم، كما في قوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98] ثم خص بعلم الشرائع مطلقا، عمليا أو اعتقاديًا أو أخلاقيًا، وبهذا المعنى قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها. وبهذا المعنى سمي أبو حنيفة رحمه الله تعالى ما صنفه في العقائد بالفقه الأكبر، ثم اصطلح المتأخرون على تخصيص الفقه بمعرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، فسمي هذا بالفقه المصطلح احترازا من الفقه بالمعنى الأعم. ويسمى معرفة الأحكام الشرعية العملية بدون الأدلة، علم الأحكام كما يفهم من كلام التفتازاني في شرح العقائد، فلا يسمى تلك المعرفة فقها إلا مجازا، تأمل. ومن المؤلفات في علم الأحكام مختصر القدوري مناسب لطبايع المبتدئين، معروف باليمن والبركة، لكن يستخفه بعض من تزيا بزي الطلبة وغلبت عليه الشقوة ومن المؤلفات في الفقه "الهداية" ونعمت هي ذات عبارات منورة، فخر لمذهب أبي حنيفة. ولا ينبغي للطلبة أن يستغنوا عنها بغيرها. ورحم الله تعالى بع السلاطين، بنى مدرسة وشرطها لمن يدرس فيها الهداية مع

شرحها الأكملي، لكن لا يستأهل للإطلاع عليها إلا من برع في أصول الفقه. وفن الفقه أصعب الفنون وأطولها. وهو علم الأئمة المجتهدين وأغلب ما يحتاج إليه العاملون، بحر لجي، لا يغوص فيه إلا ذكر أوحدي ماهر في أصوله، ولا تحصل البضاعة فيه إلا بسعي بليغ في مدة مديدة بهمة عالية، بدراسة مثل كتاب الهداية مع شرحها الأكملي. وأما التبحر فيه، فهو يكاد أن يستغرق العمر، وكاشف المشكلات فيه، فهو أعز من الكبريت الأحمر. ولا تحصى مسائله التي تحير فيها العلماء. نقل أن مالكا رحمه الله تعالى، سئل عن أربعين مسألة في الفقه، فقال في ست وثلاثين لا أدري. والعجب من بعض الطلبة أنه يهمل الاشتغال به زعما منه أنه هيم يتحصل بأدنى سعي، فإن كان زعمه هذا حين لم يطلع عليه أصلا فاعذروه، وإن بعد اطلاع ما فاعلموا أن العلوم كلها هين على أمثاله. ثم إن ما تضمنه مثل الهداية، فهو المسائل المعروفة التي يغلب وقوعها.

الفصل السادس: (أسس الرسوخ في الفقه وأصوله)

وأما نوادر الفقه فهي التي تضمنها مثل فتاوى قاضي خان والخلاصة: والمؤلف الذي تضمن نوادره يسمى في عرف الناس كتاب الفتوى. وأحسن ما تضمن النوادر وأدقه، كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم، وهو قمن أن يكتب] بالتبر [الأحمر على صفحات الشمس والقمر، لا بد أن يستصحبه ويطلع عليه كل من انتصب للجواب عن استفتاء العامة الفصل "السادس": (أسس الرسوخ في الفقه وأصوله) اعلم أن الرسوخ في الفقه وأصوله والعلم بدقائقها لا يكون إلا بعد معرفة النحو والمعاني، والراسخ فيها] يحكم [في علمي التفسير والحديث، فإذا ذكر العالم فليذكر ذلك، وإذا افتخر أحد يعلم فذا أحرى بأن

علم الفرائض

يفتخر لأنه هو العالم الحكيم والطود العظيم، لكن كلما يوجد ذلك الراسخ في مشارق الأرض ومغاربها. وبعض من لا يقدر على الخوض فيهما يخوض في مثل الجنس والفصل والهيولي والصورة والدور والتسلسل، تطمئن إليها نفسه ويتم بها عمره، وإذا ذكر في مجلس علو شأن العلماء ورفعة درجاتهم يهتز وتحمر بشرته من السرور، لما أن نفسه تحدثه بأنه منهم، مع أنه ليس بشئ يذكر في جهنم. وأما علم الفرائض: فهو باب من الفقه، أفرزه العلماء منه ليعظم الاهتمام به لكثرة الاحتياج إليه، كما أفرزوا كتاب الصلاة. وهو علم يبحث فيه عن أحوال قسمة التركة بين الورثة، وهو أصعب أبواب الفقه، وصعوبته أحد وجوه تسميته نصف العلم. ومن أتم المؤلفات] فيه [السراجية، ومن أحسن شروحها: شرح السيد الشريف. والبائس الفقير رتب في هذا الباب رسالة سماها "تسهيل الفرائض" وشرحًا لها سماه "الأسهل" يقرب تناولهما للمبتدئين. والماهر في هذا الفن يعظمه الناس ويرغبون فيه، وإن خلا عن معرفة سائر الفنون.

علم القرآن

وأما علم القرآن: فقد سبق تجويده ورسم مصاحفه ووجوه قراءاته، وبقي علم تفسيره، فعلم] الـ[تفسير، في عرب العلماء: بيان معاني القرآن كما في الكشاف للزمخشري. وموضوعه: نظم القرآن. والغرض منه: الاطلاع بقدر الطاقة على ما أراد الله بكلامه، لكن ينبغي أن يكون علم التفسير علمًا متضمنًا بقواعد كلية يستخرج بها معاني القرآن، وما ذلك إلا بالعلوم العربية كاللغة والتصريف والنحو والمعاني، بل أصول الفقه أيضًا لكن الاصطلاح وقع على أنه]ـه [التصريح بمعاني القرآن، كما في كتاب الكشاف، قال البيضاوي: علم التفسير- يريد بيان معاني القرآن- رئيس العلوم الدينية، لا يليق للتكلم فيه إلا من برع في العلوم الدينية كلها، أصولها وفروعها، وفاق في الصناعات العربية بأنواعها، انتهى. أقول: علم العقائد والفقه، وإن لم يتوقف عليهما علم التفسير، بل هما يستنبطان منه، لكن ينبغي أن يقدما عليه، ليكمل تحصيله، فعلم

الفصل السابع: (أهم كتب التفسير)

التفسير يستمد من العلوم] الدينية [كلها، ومن بعض العلوم العربية، وهو ما عدا علم العروض والقافية وقرض الشعر وإنشاء] النثر [والمحاضرات والتواريخ، وزماننا هذا زمان يمد يده إلى علم التفسير- تعليمًا أو تعلمًا- من ليس له أهليته، من غير نكير من أحد. ومن أعظم ما يتوقف عليه هذا العلم الذكاء والفهم الثاقب، ترى من لم يستأهل للاطلاع على جليات الفنون يدرس مثل تفسير البيضاوي ويتعلمه من لا يحسن فهم أنموذج الزمخشري، ولعل من أشراط الساعة: ارتفاع شرائط التعليم والتعلم ليرتفع العلم. الفصل "السابع": (أهم كتب التفسير) والتعويل في بعض كتب التفاسير في بيان معاني القرآن، على المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين كابن عباس وقتادة،

كتفسير زاد المسير للإمام الجوزي، وفي بعضها على ما يساعده] كـ[العلوم العربية، وإن خالف المنقولات، لما أن تلك المنقولات خبر أحاد لا يفيد اليقين كتفسير الزمخشري والبيضاوي. ثم إن تفسير محمود الزمخشري المعتزلي هو كما قيل: إن التفاسير في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثل كشافـ[ـي] إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافي وهو تفسير مشتمل على الفوائد والدقايق، تداولته أيدي العلماء، وعملوا عليه حواشي، لكن قال بعض العلماء: إن صاحب الكشاف فسر معظم آي القرآن برأيه الفاسد، بعضه ظاهر وبعضه أخفى من دبيب النمل، وشتم عصابة أهل السنة وسفههم وجهلهم ورماهم] بوعوعة [الكلب، وقال: إنهم حمر مؤلفة، إلى غير ذلك، فلا يجوز استعماله لمن يعرف ما دسه

من الاعتزال، ويقدر على التخلص منه. ثم أقول: وتفسير عمر البيضاوي مختصر الكشاف مع ما فيه من الزيادات، ولذا اختاره المتأخرون، لكن] لما [غلب على طبعه الفلسفة، دس في تفسيره كثيرًا من عقائد الفلاسفة مما ينابذ الشريعة، فلا يجوز استعماله إلا لمن يعرف ما دسه من الفلسفة ويقدر على التخلص منه. ثم إن ما دسه من الفلسفة أضر مما دسه الزمخشري من الاعتزال، كما يظهر لمن عرف ما دس هذا من الفلسفة وما دس ذلك من الاعتزال ترى بعض من لا يميز عقائد الفلاسفة ويظن أنه من عقائد الإسلام، فويل له. ثم إن علم التفسير هو البحر الكبير والشمس المنير، معترك خيول العلماء المدققين ومنهى سلوك الطالبين، يجتهدون مدة مديدة وسنين كثيرة في تحصيل فنون آية ويقتحمون الغربة ويقاسون الكربة في أسفار بعيدة بهمة عالية لتحصيل بضاعة الاطلاع على دقائق علم التفسير، فإذا انتهى سلوكهم إليه فمنهم من لا يتم منه كتابًا، بل لا يشتغل به سنة. وقد أفرد بعض العلماء بيان إعراب القرآن ووجوه تراكيبه، كالكتاب المسمى بـ "الفريد في إعراب القرآن المجيد" في أربع مجلدات لابن العرين الشافعي، طوبى لمن ظفر بنسخة منه.

علم الحديث

وقد جمع السيوطي علوم القرآن في كتابه المسمى بالإتقان، ينبغي لكل عالم أن يستصحبه، ذكر أنه جعله مقدمة لتفسيره المسمى "مجمع البحرين ومطلع البدرين" قال في الإتقان: ذكر أن التفسير المعول عليه هو تفسير الإمام أبي جعفر الطبري المدني، أجمع العلماء المؤلفون على أنه لم يؤلف مثله" وأما علم الحديث: فينقسم إلى علمه رواية: وهو معرفة ألفاظ الحديث، ونظيره معرفة نظم القرآن، وموضوع هذا العلم ذات النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يبحث فيه عن أقواله وأحواله. وإلى علمه دراية: وهو ينقسم إلى معرفة معانية، ونظيره علم التفسير، وموضوع هذا العلم: حديث النبي عليه السلام من حيث الدلالة. وإلى معرفة أحواله من القوة والضعف، بحسب اختلاف أحوال نقلته، والأخير هو العلم المسمى بأصول الحديث. وموضوعه أيضًا نفس الحديث لكن من حيث الثبوت.

ومن أوعى المؤلفات فيه "ألفية العراقي"، ومن أخصرها "نخبة العسقلاني" وأشهر المؤلفات في متن الحديث "صحيح البخاري" ثم "صحيح مسلم" ومن أوعاها "مشكاة المصابيح"، وله شرح واف للطيبي ينبغي لكل عالم أن يستصحبه. وقد اشتهر (ت) الإجازة من الشيخ المحدث لمن آنس من أهلية لإفادة الحديث. قال السيوطي في الإتقان: شرط جواز إفادة الحديث الأهلية لا الإجازة، وإنما اصطلح الناس على الإجازة لأنها كالشهادة من الشيخ بالأهلية، ويحرم على الشيخ الإجازة لمن علم عدم أهليته لإفادة الحديث، انتهى مختصرًا. أقوال: فمن ليس له أهلية لإفادة الحديث، لا يجوز أخذ الحديث عنه ولو أجاز له شيوخ الدنيا جميعًا، ومن له أهلية لتلك يجوز أخذه عنه وإن لم يجز له أحد، نعم قد يكون شخص] أهلًا [للإفادة الحديث رواية فقط، بقوة حفظه ألفاظ الحديث، ولا يكون له اطلاع على معانيه، فيجوز للشيوخ الإجازة له برواية ما حفظه منه بدون التعرض إلى معناه، والعجب ممن ليس له أهلية لإفادة الحديث لا رواية ولا دراية يصادف شيخًا من شيوخ الحديث، فيقترح عليه الإجازة له بالإفادة الحديث، فيكتب له رسالة يشهد له فيها بالأهلية ويرتكب الشهادة الكاذبة والإجازة المحرمة، فيشرع ذلك المجاز له بإفادة الحديث ظنًا منه أن تلك الإجازة صيرته أهلًا للإفادة،

علم الأخلاق

مع أن الإجازة لم تؤثر فيه شيئًا، وإلا لارتفع من الدنيا مؤنة التحصيل. نعم من كان له أهلية لإفادة الحديث ينبغي أن يتبرك بإجازة الشيخ المحدث المجاز له ولشيوخه إلى أن تنتهي إلى مخرج الأحاديث كالبخاري] أ [ومسلم وأما علم الأخلاق: ويسمى علم أحوال القلب: فهو علم يبين فيه الأخلاق الفاضلة وكيفيات اكتسابها والأخلاق الرذيلة وكيفيات اجتنابها. وموضوعه: الملكات النفسانية. والغرض منه التخلي عن الأخلاق الرذيلة والتحلي بالأخلاق الفاضلة. وأما علم التصرف: فالظاهر من كلمات العلماء أنه بعض علم الأخلاق. وهو علم يبين فيه أكمل مراتب الأخلاق الفاضلة، كأكمل مراتب التوحيد والتوكل والرضا بالقضاء وغيرهما وإن أشعر كلام صاحب التوضيح اتحادهما: قال السيوطي في "النقابة"التصوف: تجريد القلب إلى الله تعالى. أقول: فعلم التصوف: علم ذلك التجريد. وقال القشيري: انفرد خواص أهل السنة الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف. وقال السبكي، في كتاب "معبد النعم": وللصوفيين أوصاف وأخبار اشتملت عليها كتبهم، انتهى.

الفصل الثامن: (في حكم علم الأخلاق)

أقوال: ومن كتبهم رسالة القشيري، وعوارف المعارف. ثم أقول: ولأن اكتساب أكمل مراتب الفضائل، لا يكون إلا بعد الاتصاف بما دونها. قال بعض المشايخ: التصوف، الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دني. الفصل "الثامن": (في حكم علم الأخلاق) اعلم أن بعض علم الأخلاق فرض عين، وكلها فرض كفاية، ما عدا علم التصوف، فليس بفرض عين، وهو ظاهر، ولا فرض كفاية، إذ لا يجب شيء من أحوال المتصوفين على أحد في حال ما، بل هي مستحبة، وفائدة الاطلاع على أحوال المتصوفين، لمن لم يرد الاقتداء بهم، معرفة تقصيره في السلوك. قال القشيري: قال حمدون: من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال. ولذلك الفن اصطلاحات يشين العالم المدرس

جهلها، كالجمع والفرق والفناء والبقاء والسير والتجلي والشرب والري والسكر والصحو إلى غير ذلك. قال القشيري: هذه الطائفة يستعملون ألفاظًا فيما بينهم قصدوا بها ستر معانيهم عمن باينهم غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، انتهى أقول: فوجب أن تعتقد أن ما يفهم من ظاهر كلماتهم مما يخالف المعلوم من الشرع له تأويل لا يخالف به ذلك المعلوم] إلا بسبب ذلك التأويل [ وأما العلم اللدني: - وهو غير علم التصوف كما ستعرف- ويسمى أيضًا علم الباطن وعلم المكاشفة وعلم الموهبة وعلم الأسرار والعلم المكنون وعلم الوراثة وعلم الحقيقة، فهو ما قاله الرازي في التفسير الكبير: الصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية، انتهى. يعني أخذ من قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} قال الكواشي في تفسير هذه الآية: هو علم الباطن وهو العلم اللدني. وفي المدارك: إنه الإخبار بالغيوب، انتهى. أقول] يعني [ما علمه الله الخضر لا مطلق علم الباطن كما ستعرف، قال في التتارخانية: علم المكاشفة لا

يحصل بالتعليم والتعلم وإنما يحصل بالمجاهدة التي جعلها الله تعالى مقدمة للهداية، حيث قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. وفي الحديث: "من عمل بما علم ما لم يعلم" انتهى. ويقابله علم الشريعة والعلم الظاهر وعلم المعاملة، والثلاثة عبارة عما يتلقى من الأنبياء، وهو علم الكتاب والسنة، وعلم ما يستنبط منهما. قال في "الإحياء": الشريعة عبارة عن الظاهر والحقيقة عبارة عن الباطن. وقال فيه: علم الآخرة قسمان: علم المكاشفة وعلم المعاملة، انتهى. ولعل وجه تسمينهم علم الشريعة العلم الظاهر، كونه متلقى من القول المسموع. وأما علم الباطن فهو قسمان: قسم منه ما ألقاه الله تعالى في القلب من علم الغيوب، وإلقاؤه إلا بما واسطة الاطلاع على أماراتها، كعلم الخضر عليه السلام سبب حل خرق السفينة وقتل الغلام، وعلمه الكنز الذي تحت الجدار، وعلمه فائدة إقامة الجدار. وإما بواسطة الاطلاع على أماراتها

التي خفيت دلالاتها عليها، كعلم تأويل الرؤيا وعلم بعض الأشياء بالفراسة، وكالانتقال من النصوص إلى أشياء لمناسبة ما بالمكاشفة لا بقواعد العربية، كما ذكره البيضاوي عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} وقسم منه: علم الإنسان الأحوال التي وهبها الله تعالى له بعد الطاعة، كالأحوال الحاصلة لأرباب مجاهدة النفس والشيطان، وهي ما سماها الصوفية بالذوق والشرب والري والسكر والصحو والفناء والبقاء والتجلي، إلى غير ذلك. وهذه الأحوال لا يمكن التعبير عن حقائقها، وإنما يعرفها من ذاقها كلذه الجماع. فما قاله الطيبي] في شرح الكشاف [نقلًا عن البعض: العلم اللدني أمر وجداني لا يفي بنطقه المقال، انتهى. محمول على بعض أقسام العلم اللدني، بخلاف ما قاله] في [التتارخانية: فإن ما يحصل بالمجاهدة أعم من أن يفي بنطقه المقال بعد حصوله، كما علم الخضر موسى عليهما السلام. إن قلت أليس قد بين تلك الأحوال في كتب التصوف كرسالة القشيري؟ قلت: ذلك البيان تقريب إلى الأفهام بدون الإفهام التام، فإن السكر

مثلًا لا يعرف حقيقته إلا من سكر، كما لا يعرف لذة الجماع بكل بيان من لم يجامع. وبالجملة إن علم التصوف ليس عين العلم اللدني ولا بعض أقسامه، بل تعبير عن بعض أقسامه، كما تعبر عن لذه الجماع حلاوة العسل، ثم إن معظم علم الباطن في الأنبياء ثم في الأمثل فالأمثل والله أعلم. [بـ] " فصل "التاسع" (هل علم الباطن يخالف علم الظاهر؟ ) قال في الإحياء: من قال إن الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه للإيمان، انتهى. يريد من الباطن ما ينكشف لعلماء الباطن من حل بعض الأشياء لهم، مع أن الشارع حرمه على عباده مطلقًا فيجب أن يقال: إنما انكشف حله لهم لما انكشف لهم من سبب خفي يحلله لهم. وتحريم الشارع ذلك على عباده مقيد بانتفاء انكشاف السبب المحلل لهم، لكن الشارع حرمه على عباده على الإطلاق وترك ذلك القيد لندارة وقوعه، مثاله: انكشاف محلل خرق السفينة وقتل الغلام للخضر عليه السلام، فحل له بذلك الانكشاف (الخرق) والقتل. وحلهما له مخالف لإطلاق نهي النبي عليه السلام أمته عن الضرر وعن قتل الصبي، لكنهما

الفصل العاشر: (دفاع عن الصوفية)

مقيدان عند الشارع، فالأول: مقيد ومخصوص بمن لم يعرف أن ذلك الضرر يتسبب إلى دفع ضرر أعظم منه في المضرور. والثاني: مقيد ومخصوص بمن لم يعرف أن الصبي سيصير كافرًا طاغيًا يحل قتله، لكن الشارع ترك ذينك القيدين لندورة وقوعهما اعتمادًا على فهم الراسخين في العلم إياهما وقد عرف الخضر عليه السلام بالمكاشفة أن خرق السفينة يؤدي إلى عدم غصبها، وأن الغلام سيصير كافرًا طاغيًا. وأما من قال: ليس لما انكشف لأهل الباطن حله لهم من المحرمات على العباد على الإطلاق سبب فيهم يحلله لهم ويوافق حله لهم بذلك السبب القيد المتروك في تحريم الشارع إياه على الإطلاق، فيكفر، لأنه ادعى بعض الأحكام في حق بعض العباد بعد النبي عليه السلام، وهذا هو القول بمخالفة الباطن الظاهر. الفصل "العاشر": (دفاع عن الصوفية) قال الإمام اليافعي في روض الرياحين: إن ما جاء من الصوفية مما يخالف العلم الظاهر، إما أنهم فعلوه في حال السكر والغيبة عن إحساسهم

فهم غير مكلفين في (ذلك) الحال، أو له تأويل في الباطن يعرفه علماء الباطن كما في قصة موسى والخضر عليهما السلام، انتهى قوله: مما يخالف العلم الظاهر، أي مخالفة حقيقية كما فعلوه في حال السكر، أو في مخالفة ظاهرة كما فعلوه بتأويل. قوله: إما أنهم فعلوه في حال السكر وذلك كما لو كسر أحدهم إناء الغير بمصادفة قدمه في حال السكر والحركة، فذلك خطأ لا يأثم به بل يلزمه الضمان قوله: أو له تأويل في الباطن، أي: سبب خفي يحلله، ويوافق بذلك السبب القيد المتروك في العلم الظاهر. قوله: يعرفه علماء الباطن، أقول: فتلك المعرفة تحلله لهم والشارع إنما حرمه على من لم يعرف السبب المحلل. ومن هذا الباب ما حكي أن الشبلي رحمة الله عليه لما استشعر من نفسه البخل، ألقى في البحر خمسين دينارًا له، لما عرف أن إلقاءه في البحر يزيل عن نفسه مرض البخل، ونهى النبي عليه السلام عن إضاعة المال، مخصوص بمن لم يعرف أن إضاعته تزيل عن نفسه مرض البخل، فإنك لو صرفت خمسين دينارًا لمدواة مرض الجسم لا يلام عليك، ومرض القلب أحق بالمدواة فليحترز صاحب الذهن القاصر عن إطالة اللسان إلى الأكابر. وأما قول النسفي: النصوص تحمل على ظواهرها إن أمكن

والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن، إلحاد، انتهى فالمراد من المعاني: التأويلات التي تخالف الظاهر المعلوم للمسلمين مخالفة حقيقية ولا يمكن تطبيقها به. ومراده من أهل الباطن ليس أرباب السلوك والمجاهدة، بل قوم من الملاحدة يسمون القرامطة الباطنية، لا دعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم، يريدون بالمعلم شيخهم المضل. قال تقي الدين أبو العباس في مؤلف له: إن الباطنية يزعمون أن هذه النصوص لها تأويل باطن يخالف الظاهر المعلوم للمسلمين، فالصلاة عندهم معرفة أسرارهم، والصوم كتمان أسرارهم، والحج زيارة شيوخهم، وأمثال ذلك، انتهى وقول النسفي: إن أمكن، معناه، إن لم تصرف القرينة عن ظواهرها وقوله: يدعيها أهل الباطن يُفهم منه أن ليس كل العدول عن ظواهرها عند إمكان الحمل على ظواهرها إلحادًا، بل الإلحاد هو المعاني التي تخالف شيئًا من ضروريات الدين كالتي يدعيها الباطنية، ولذا قال التفتازاني في تعليل كونه إلحادًا: لكونه تكذيبًا للنبي عليه السلام فيما علم مجيئه به بالضرورة لا كل ما يخالف ظاهر اللغة أو عرف الشريعة، وقد سمعنا من بعض من لم يتنبه لهذا

[فصل] (في غاية المعاملة)

يقول: إن تأويل البيت والكلب في قوله عليه السلام: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب" بالقلب والخلق الذميم، كفر، بناء على المنقول عن النسفي أقول: فويل للجاهل كل الويل، لأن ذلك التأويل لا يخالف شيئًا من ضروريات الدين. على أن مراد ذلك المؤول يحتمل تجويز ذلك التأويل والمجاز بعد تسليم حمله على ظاهره أو يريد أن فيه إشارة إلى ذا، وتفسير الكتاب وشرح السنة مشحونان بتجويز المعاني المجازية المناسبة للمعاني الحقيقية الظاهرة، بعد الحمل على الظاهر بدون قرينة صارفة عن الحمل على الظاهر إذا لم يكن الظاهر من ضروريات الدين، واشتراط أهل المعاني لإرادة المعنى المجازي، القرينة المانعة عن الحقيقية، ] إنما هو لهجر الحقيقة [والقطع بالمجاز، لا يشك في ذلك من تتبع التفاسير وشروح السنن. [فصل] (في غاية المعاملة) قال في الإحياء: غاية المعاملة المكاشفة، وغاية المكاشفة معرفة الله، وليست تعني تلك المعرفة الاعتقاد التقليدي ولا ما يحصل بمجادلات المتكلمين، بل نوع تعيين يقذفه الله في قلب العبد، انتهى أقول: ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ثم إنه يريد بالمعاملة الشريعة الظاهرة لما قال في الإحياء: علم الآخرة قسمان: علم المكاشفة وعلم

الرياضيات

المعاملة، فمعنى كلامه غاية المجاهدة على وفق علم المعاملة هي] المكاشفة [وهي حصول الأحوال الذوقية مثل الأنس والهيبة والسكر والصحو والفناء والاطلاع على الأمور الغيبية، مثل الاطلاع على أحوال الموتى وغير ذلك. وغاية تلك المكاشفة هي المعرفة اليقينية به تعالى. وهنا عبارة أخرى وهي: غاية الشريعة الحقيقية وغاية الحقيقة المعرفة.] فصل [قال الطيبي، نقلًا عن أبي طالب المكي: علم الظاهر وعلم الباطن لا يستغني أحدهما عن الآخر كالجسم والقلب، انتهى. فيه نشر مرتب، لكن عدم استغناء علم الباطن عن علم الظاهر ظاهر، إذ لا يحصل علم الباطن إلا بعد المجاهدة على وفق علم الظاهر، وأما عكسه ففيه خفاء، إذ كم من عالم بالشريعة الظاهرة لا يعرف الباطن، فلعل المراد بالعكس توقف الكمال، كما أن القلب لا يكون كما أن القلب لا يكون إلا بالجسم، والجسم يكون بدونه لكن لا يكمل إلا به، وإنما أطنبت في الكلام لأني لم أعثر على مؤلف يفي لكشف القناع عن هذا الباب والحمد لله ملهم الصواب وأما الرياضيات: فهي كما قاله طاش كبري زاده في مفتاح السعادة: العلوم الباحثة عن أمور يصح تجردها عن المادة في الذهن فقط، وينحصر في أربعة أقسام: الهندسة والحساب والهيئة والموسيقى، انتهى ] الرياضيات [جمع الرياضي نسبة إلى الرياضة سميت بها لارتياض

الهندسة

الذهن أي انقياده بسبب الأشغال بها إلى درك المعقولات، كذا في شرح أشكال التأسيس، والمتعارف منها الهندسة والحساب والهيئة. أما الهندسة: فهو علم يبحث فيه عن أحوال المقادير، أي الكم المتصل، وهو الخط والسطح والجسم التعليمي، وماهيات هذه الثلاث تعرف في كتب الكلام كالمواقف والمقاصد قال السيد الشريف في حاشية شرح المطالع: يتوصل بمسائل الهندسة إلى مباحث الهيئة. وصرح الغزالي في الإحياء بإباحة الاشتغال بها. وقيل: إن معرفة بعض مسائل الفقه تحتاج إلى معرفة مسائل الهندسة، كما قيل إن رجلًا استأجر إلى آخر بأن يحفر له حوضًا عشرة أذرع في عشرة، بعشرة دراهم فحفر خمسة في خمسة، فرفع الأمر إلى فقيه لا يعلم الهندسة فأفتى بأن الأجير يستحق خمسة دراهم، وإلى فقيه يعلم الهندسة، فأفتى بأنه يستحق درهمين ونصفًا، وهي الحق لأن عشرة في عشرة مائة ذراع، وخمسة، خمسة وعشرين ذراعًا، وهو ربع المائة، فيستحق ربع الأجر.

[علم] الحساب

قال طاش كبري زاده في مفتاح السعادة: اتفقوا على أن أقوى العلوم برهاناً هو علم الهندسة. وأما [علم] الحساب: فهو علم بقوانين يستخرج بها المجهولات العددية من معلوماتها. فموضوعه: الكم المنفصل، وهو العدد. وهذا الفن مقدمة لبعض أبواب الفقه كالفرائض والوصية، فقيل: إنه ربع العلم لأنه نصف الفرائض، وهو نصف العلم. ومن أحسن المؤلفات فيه "النزهة" وشرحها. وأما الهيئة: -أعني الهيئة التي دونتها الفلاسفة- فهي علم يبحث فيه عن هيئة الأجرام العلوية والسفلية على ما دلت عليه أرصادهم وتخميناتهم، قال في شرح المواقف: علم تنكشف بها أحكام الأفلاك والأرض وما فيهما من دقائق الفطرة وعجائب الحكمة بحيث يتحير الواقف عليها في عظمة مبدعها قائلاً: } رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً {[آل عمران: 191] وهذه فائدة جليلة ينبغي أن يعتني بشأنها، انتهى. ومن فوائدها معرفة القبلة ومواقيت الصلاة. قال في خلاصة

الفتاوى: تعلم علم النجوم قدر ما يعرف به مواقيت الصلاة والقبلة لا بأس به والزيادة حرام، انتهى. والهيئة من علم النجوم، لما قال بعض الفضلاء: علم النجوم قسمان: أصول، وهو العلم المسمى بالهيئة. وفروع، وهي علم أحكام النجوم، وهي حرام. أقول: فالمراد من قدرها يعرف به المواقيت والقبلة، علم الهيئة، والمراد من الزيادة: علم أحكام النجوم، وقد سبق الكلام على حرمته في بيان أحكام العلوم. وفي بعض الرسائل علم أحكام النجوم: علم يعرف به الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية. قال في الإحياء: أحكام النجوم تخمين محض لا يدرك يقيناً ولا ظناً، وهو يشبه استدلال الطبيب بالنبض على ما سيحدث من المرض، فالحكم بعلم النجوم حكم بجهل، وقد كان ذلك معجزة لإدريس عليه السلام. ولقد اندرس ذلك العلم، وما أصابه المنجم على ندور، فهو اتفاق، لأنه قد يطلع على بعض الأسباب ولا يحصل المسبب عقبها إلا بعد

شروط كثيرة، ليس في قدرة البشر الإطلاع عليها، فإن اتفق أن قدر الله تعالى بقية الأسباب، وقعت الإصابة، وإلا أخطأ، انتهى. وإنما قلنا التي دونتها الفلاسفة، احترازاً عما دونته علماء أهل الإسلام من هيئة السماء والأرض وما فيهما وما بينهما على ما دلت عليه الأخبار. وهذا يسمى الهيئة الإسلامية، ككتاب "الهيئة على طريقة أهل السنة" للسيوطي. وليس الغرض من تدوين هذا معرفة القبلة والأوقات، إذ لا يعرفان بها، بل الغرض منه الإطلاع على عجائب الخلق وانكشاف بعض ما أجملته الآيات والأحاديث. وبعض ما ذكر في الهيئة الإسلامية يخالف ما ذكر في هيئة الفلاسفة، كالسماء فإنها كرية محيطة بالأرض على ما ذكره الفلاسفة. وخيمية مُقَبَّةٌ على جبل قاف على ما ذكره السيوطي نه. فإن نقلاً عن ابن عباس رضي الله. فإن كان ما ذكره الفلاسفة هو الواقع، فمراد ابن عباس -والله أعلم- أنها في حس البصر كذلك، كما قيل في قوله تعالى: } حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ {[الكهف: 86] قال في بعض كتب الكلام: إن النقل إذا خالف الدليل العقلي اليقيني يؤول إلي معنى لا يخالفه، وأما إن لم يكن ما قاله الفلاسفة مدلول الحس ولا مدلول الدليل اليقيني، بل تخميناً محضاً، فالاعتماد على ظاهر المنقول ولا يؤول، كقولهم

علم الطب

بتماس سطوح الأفلاك، فإنه مخالف للحديث القاطع بانفصال بعضها عن بعض. ودليل الفلاسفة مبني على نفي القادر المختار: } وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا {[المائدة: 64] وأعلم أن في بيان أقاليم الأرض وهيئة بلدانها وسكانها وبحارها وجزائرها وجبالها وأنهارها مؤلفاً مسمى في ألسنة الناس ب "خريدة العجايب". قال طاش كبري زاده في مفتاح السعادة: علم جغرافيا علم يتعرف منه أحوال الأقاليم السبعة وعدد مدتها وجبالها وبراريها وبحارها وأنهارها، إلي غير ذلك من أحوال الربع المعمور. وأما علم الطب: فهو علم يبحث فيه عن أحوال بدن الإنسان من الصحة والمرض. وأما البحث عن الأدوية والأغذية فراجع إلي البحث عن البدن، إذ مرجعه أن هذا ينفع البدن وهذا يضره. وفي تعليم المتعلم: حكي عن الشافعي رحمة الله عليه أنه قال: العلم علمان -علم الفقه للأديان، وعلم الطب للأبدان، وما عدا ذلك بلغة مجلس، انتهى. أراد من الفقه المعنى الأعم، وهو معرفة ما للنفس ما لها وما عليها اعتقاداً وعملاً. والبلغة بضم الباء وسكون اللام بمعنى الكفاية. واعلم أن يستمد منه الفقه فهو ملحق به. والاشتغال بهذا العلم فرض كفاية عند الغزالي، ومستحب عند الجمهور.

علم التشريج

أقول: ولعل الحق التفضيل: ففي كل بلد يكثر في أهله الأمراض يكون الاشتغال به فرض كفاية وينبغي للمسلم أن يستصحب كتاباً معتبراً منه ككتاب ابن الشريف وتذكرة داود، يستغنى عن تسليم نفسه إلي الطبيب الكافر والجاهل. وأما علم التشريج -بالجيم: قال في القاموس: تشرج اللحم بالدم تداخل، انتهى. فهو علم يبحث فيه عن أعضاء الإنسان وكيفية تركيبها، وهو من مبادئ علم الطب، ولذا صدر مختصر القانون به. ومن فوائده: معرفة حكمة الخالق الإله وحسن تدبيره. قال الله تعالى: } وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) {[الذريات: 20 - 21] قال في شرح المواقف: قد بلغ المدونات من الحكم والمصالح في أعضاء الحيوان خمسة آلاف وما لا يعلم منها أكثر مما علم. قال في مفتاح السعادة: وكتب التشريج أكثر من أن تحصى، ولا أنفع من تصنيف ابن سينا والإمام الرازي.

علم الموعظة

وأما علم الموعظة: فهو علم جمع فيه ما هو سبب الانزجار عن المنهيات، والانزجاج إلي المأمورات، من الأمور الخطابية المناسبة لطباع عامة الناس، كذا في بعض الرسائل. أقول: الموعظة مصدر أريد بها هنا القول المرهب والمرغب. قال في القاموس: وعظة يعظه وعظاً وموعظة، ذكره ما يلين قلبه من الثواب والعقاب، انتهى. قال في الصحاح: اتعظ: أي قبل الموعظة، يقال: السعيد من وعظ بغيره والشقي من اتعظ به غيره، انتهى. ولا يبعد أن يقال: إن موضوع هذا العلم المأمور به والمنهي عنه، كأن يبحث فيه أن عاقبة المأمور به كذا وعاقبة المنهي عنه كذا. ولا يبعد أن يكون الاشتغال بهذا العلم فرض كفاية، ومن

علم المحاضرات

المؤلفات فيها "التذكرة" للقرطبي، والتنبيه لأبي الليث. وأغلب ما ألف في الموعظة مشحون بالحكايات الكاذبة والأحاديث الموضوعة ينقلها جهلة الواعظين فيوقعون أمثالهم الجهلة في ضلال مبين. وأما علم المحاضرات: فهو علم يحصل منه ملكة إيراد كلام مناسب للمقام من جهة معناه الأصلي، أو من جهة تركيبه الخاص، والغرض منه تحصيل تلك الملكة. كذا قال طاش كبري زاده في مفتاح السعادة. وأقول: توضيحه أن هذا العلم على ما يفهم من النظر في كتبه: علم جمع فيه من الغرابة من جهة تركيبه كقول البعض: (ما لكم) تكأكأتم على كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا. أو من جهة معناه، كقول بعض الأكابر: العجز عن درك الإدراك إدراك. أو بسبب كونه حكاية أمر غريب. ويكون بعض ما جمع فيه في العقايد وبعضها في الأحكام العملية وبعضها من المواعظ وبعضها مزاجاً يضحك منه. والمحاضرات، جمع محاضرة: هو الحضور والمكالمة، ومن المؤلفات فيه (ربيع

الأبرار) للزمخشري، و"محاضرات الراغب للأصفهاني"، ومحاضرات القره باغي. قال في مفتاح السعادة: ومن كتب المحاضرات "حياة الحيوان" لكمال الدين الدميري، ولها كبرى وصغرى. أقول: لا يبعد أن يكون من كتب هذا الفن كتاب "كليلة ودمنة"، وقد نقل عن ذلك الكتاب الرازي في التفسير الكبير، فظهر أنه كتاب معتبر في الشرع لأن ما ذكر فيه ضروب أمثال. وكذا كتاب "همايون نامة".

علم التواريخ

وأما علم التواريخ: فهو تعيين أوقات الحوادث الماضية، وهذا الفن بعض من المحاضرات كما صرح به السيد الشريف في شرح المفتاح، قال على القاري في حاشية شرح النخبة: التاريخ الإعلام بوقت الوقايع، انتهى. أقول: هو مصدر أرخ. قال في الصحاح: أرخ الكتاب بيوم كذا، أنتهي. يعني عين وقته بيوم كذا، ويطلق الكتاب المشتمل على القصص بكتاب التواريخ لما فيه من تعيين أوقات القصص، كما يقال: ذكر ما وقع في زمن نبي كذا أو ملك كذا. والزمان عند أهل السنة متجدد معلوم للمخاطب، يقدر به (متجدد) غير معلوم له. وكما تقول: قدم زيد حين قدم عمرو، إذا كان قدوم عمرو معلوماً للمخاطب، بخلاف قدوم زيد، وكما تقول عكس ذلك، إذا كان علم المخاطب على العكس. وتواريخ الرواة يحتاج إليها مخرج الحديث. وبعض القصص يفيد العبر كقصص الأنبياء والأتقياء، وبعضها يفيد تحريضاً على الغزو وكحكايات الغزوات، وبعضها من قبيل لهو الحديث ككتاب "شاه نامه" قال في مفتاح السعادة: موضوع هذا العلم أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والصلحاء والملوك وغيرهم. والغرض منه: الوقوف على الأحوال الماضية، وفائدته العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها، انتهى.

علم الفراسة

قوله: وفائدته، أي فائدة الوقوف المذكور. وقال فيه: ومن كتب التواريخ تاريخ الطبري وتاريخ ابن خلكان وتاريخ جلال الدين الأسيوطي. وأما علم الفراسة: فهو على ما في كتاب الإرشاد ومفتاح السعادة: علم يتعرف منه الأخلاق الإنسانية بسبب الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن -الخلق الأول بفتح الخاء الثاني بضمها- قال الرازي في التفسير الكبير (بدله): هي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة. أقول: وذلك كأن يستدل بسعة الصدر على سعة الخلق، وبضيقه على ضيقه، وبخمود نور العيني -بالخاء المعجمة- على بلادة صاحبها، وببرق نورهما على كياسته. قال في الإرشاد: وكتاب الإمام

فخر الدين الرازي في هذا الفن خلاصة كتاب أرستطاليس مع زيادات مهمة، وفائدة معرفة هذا الفن تقديم الاطلاع على أخلاق من يضطر الإنسان إلي مخالطته من صديق أو زوج أو مملوك وهذا علم يعتبر في الشرع، قال تعالى: } تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ {[البقرة: 273] وقال عليه السلام: «اتقوا فراسة المؤمن ينظر بنور الله»، انتهى. قال على القاري في شرح الفقه الأكبر: الفراسة ثلاثة أنواع: - إيمانية: وهي نور يقذفه الله في قلب عبده، وحقيقتها: خاطر يهجم على القلب. وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فراسة. - قال أبو سليمان الداراني: الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب، وهي من مقامات الإيمان. - وفراسة رياضية: وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي، وهي مشتركة بين المؤمن والكافر. - وفراسة خلقية -بفتح الخاء المعجمة-: وهي الاستدلال بالخلق

الظاهر على الخلق الباطن لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله تعالى، انتهي. أقول: علم الفراسة اسم للنوع الأخير لأنه هو المدون المكتوب، ومدار هذا النوع التجربة، كما صرح به في مفتاح السعادة. أقول: المراد من التجربة هنا الاستقرار الناقص فلا يفيد إلا الظن، والنوعان الأولان غير مدونين لأنهما لا يدخلان تحت ضابطه، وإنما مدارهما المكائفة، ولا يختصان بالاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن كما يعلم من النظر في باب الفراسة من رسالة القشيري. وبالجملة أن معرفة الشيء بالفراسة قسمان: - أحدهما بالمكاشفة- والآخر بالاجتهاد، وكلا القسمين انتقال من المحسوس إلي غير المحسوس. وأما ما ألقاه الله تعالى في قلب العبد من المعرفة بدون واسطة حس شيء، فليس من قبيل الفراسة. وبالجملة، الفراسة: اسم لانتقال الذهن من محسوس إلي غير محسوس. [29 ب] قال البيضاوي في قوله تعالي: } إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ {[الحجر: 75] المتفكرين المتفرسين. وقال القشيري في تفسير هذه الآية: أي العارفين بالعلامات التي يبديها على الفريقين من أولوياته وأعدائه. فتعريف أبي سليمان الداراني، تعريف بالأعم. فتأمل قول علي القاري: خاطر يهجم على القلب. قال الرازي في التفسير الكبير: وهذا لا

يعرف له سبب، وهو ضرب من الإلهام. قوله: لا يعرف له سبب، يعني لا يعرف للانتقال من المحسوس إلي غير المحسوس مناسبة بينهما. وأما علم التعبير الرؤيا: -أي علم تفسيرها وبيان مدلولها- فقد يكون بالمكاشفة وقد يكون بالاجتهاد، ودلالتها عقلية، والدال إما نفس المرئي أو لفظة بمناسبة بين أحدهما وبين المعبر به. والأول كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إلي مهيعة، وهي الجحفة». والثاني كقوله عليه السلام: «رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع، فأوتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت أن الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة وأن ديننا قد طاب». ثم إن معرفة مدلولها إما بالوحي وهو ليس إلا للنبي وهو يفيد اليقين البتة، أو بالإلهام أو بالاجتهاد، وهما يكونان للنبي وغيره، والأخير هو المدون، ولا يفيد إلا الظن. قال في

المدارك عند قوله تعالى: } وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا {[يوسف: 42] الظان يوسف عليه السلام، إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، وإن كان بطريق الوحي فالظان هو الشرابي، أو يكون الظن بمعنى اليقين، انتهي. من المؤلفات في هذا الفن: كتاب التعبير لابن سيرين رحمة الله عليه، ينبغي للعالم أن يستصحبه. وتعبي الرؤيا سنة. ثم أن التعبير بالاجتهاد يحتاج إلي حدس كامل وذوق سليم، وقد يخطئ الرؤيا إلي التعبير، بأن يكون المرئي عين الواقع لا دليله، كقوله عليه السلام: «رأيت في المنام أن أهاجر من مكة إلي أرض بها نخل، فذهب وهلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب». قال التوربشتي: الوهل -بتكسين الهاء- الوهم. وقد لا تصلح الرؤاي للتعبير بأن تكون أضغاث أحلام، وهذا ليس محل التفصيل.

تعلم اللغة الفارسية

وأما تعلم اللغة الفارسية: فلابد منه، إذ لا يخلو أكثر كتب الفتاوى عن التعبير عن بعض المسائل باللغة الفارسية، خصوصاً في باب ألفاظ الردة والطلاق. وقد ألف بها كثير من الكتب النافعة، فلا شك في استحباب تعلمها، لكن ليحذر الطالب عن الخوض فيها، إذ يجر ذلك إلي نظم الأشعار السخيفة والتلهي عن العلوم النافعة، وغاية ذلك موالاة السفهاء والظلمة ورقة الديانة.

الفصل الثاني من فصلي المقصد الأول في بيان التدبيرات الردية

الفصل الثاني من فصلي المقصد الأول في بيان التدبيرات الردية -منها سلوك من لم يرزقه الله تعالى حدة الذهن، مسالك الأذكياء، فكم من طالب لا يقدر إلا على تحصيل جليات العقائد والفقه، يشتغل بالنسخ المغلقة والفنون الدقيقة، فيدع السعي فيما يمكن له تحصيله ويصرف أيامه في الوثوب إلي ما لا تصل إليه يده، فيحرم عن جميع المطالب العلمية، ويكون في النهاية كأنه بدأ أول مرة. وهذا الضلال ناشئ من استنكاف البليد عن ترك السلوك إلي مسالك الأذكياء، أو من جهلة بمرتبة نفسه. قال في الإحياء: يظن كل أحد أنه أهل كل علم دقيق، فما من أحد إلا وهو راضٍ عن الله تعالى في كمال عقله، انتهى. أقول: فيجب على العالم المدرس أن يمتحن استعداد الطالب، فيرشده إلي ما يساعده استعداده، ويمنعه عما لا تصل إليه يده، لكن لما كان غرض أكثر المدرسين في زماننا الرياء والافتخار بكثرة أهل مجلس درسهم أهملوا تلك النصيحة خشية أن لا يحضر الطالب القاصر مجلس درسهم، فلو أن ذلك القاصر اشتغل في أيام تحصيله بما تيسر له من العلوم النافعة لحصل له سعادة الدنيا والآخرة.

- ومنها أن من شرع في فن بالنسخة المتضمنة لدقائق ذلك الفن، كالحواشي والشروح، لا يتضح له مقاصد ذلك الفن. وقال في الإحياء: من وظيفة المعلم أن يمنع المتعلم من التشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي. وقال فيه: ينبغي أن يحترز الخائض في علم، في مبدأ الأمر، عن الإصغاء إلي الوجوه والاختلافات، فان ذلك يدحش عقله ويحير ذهنه. وفي تعليم المتعلم: ينبغي أن يبتدئ من العلوم يكون أقرب إلي الفهم، انتهي. أقول: وتمثل ذلك بمن أراد بناء بيت فيضع حجراً فيصبغه وينقشه ثم آخر كذلك، فيقال له: أتم بناء البيت جراداً ثم أقول: المبتدئ يقتدي بعادات أسلافه، وعادة أهل الزمان كذلك، لكنها ليست بعادة العلماء المعتبرين. ومنذ ما حدثت تلك العادة قصرت الطلبة عن إدراك الفنون ولم يأت منهم مثل الأولين. - ومنها أن بعض المدرسين يقرر على الطالب المبتدئ الأسئلة والأجوبة الدقيقة ويذكر قواعد الفنون بشيء من المناسبة، والطالب المبتدئ لا يفهم أكثرها ويمر أكثر الكلمات على أذنيه كأصوات الرحى، ويأخذه النعاس ويذهب نشاطه ويكل ذهنه، والقدر الذي يفهمه ويحفظه ينسى أغلبه قبل أن يقوم من مجلس الدرس. ثم إن بعض المبتلين من الحمقاء بمدرس كذا يعجبه تدريسه، فيمدحه

ويعشق إليه من لم يره، ولا يدري أن ذلك المدرس ضيع أوقاته وسمن بلادته، قال في الإحياء: من وظيفة المعلم أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه مالاً يبلغه عقله فينفره ويتخبط عقله. وقد سبق النقل عنه أن المبتدئ في علم ينبغي له الاحتراز عن الإصغاء إلي الوجوه والاختلافات. وقال العلامة السبكي في كتاب معيد النعم: حق المدرس أن يحسن إلقاء الدرس وتفهيمه للحاضرين، فإن كانوا مبتدئين، فلا يلقي عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات، بل يدربهم ويأخذهم بالأهون فالأهون إلي أن ينتهوا إلي درجة التحقيق، وإن كانوا منتهين فلا يلقي عليهم الواضحات، بل يدخل بهم في المشكلات، انتهى. أقول: وبعض الناس يظن أن الأولى أن يلقي على المبتدئين الدقائق والمشكلات ليحد ذهنه ويقوي ذكاه. أقول: كلا ثم كلا، وهل يحمل الطفل الصغير ما يحمله الأقوياء؟ ! ثم أقول: فوجب أن لا يشارك المبتدئ والمنتهي في درس، وكذا الذكي والبليد. وفي تعليم المتعلم: عدوى البليد إلي الجليد سريعة ... كالجمر يوضع في الرماد فيخمد - ومنها تزيين الطالب أطراف نسخة درسه بترقيم هوامش لم يدر المراد بها ومساس الحاجة إليها، ولم يميز صحيحها عن سقيمها، وبعض

الطلبة يحرص على ذلك حتى لا يبقى في أطراف نسخة درسه موضعاً فارغاً مقدار ما يسع أنمله، ويظن أن ذلك علامة فطنته ودقته، لكنه علامة بلادته. قال في تعليم المتعلم: لا يكتب شيئاً لا يفهمه، فإنه يورث كلال الطبع ويذهب الفطنة ويضيع أوقاته، وقال فيه: ويترك الحاشية إلا عند الضرورة، انتهى. فينبغي للطالب أن لا يكتب الحاشية في أطراف نسخة درسه إلا بعد معرفة معناها ومقصدها ومساس الحاجة إليها، وتلك المعرفة تتوقف على تحقيق الدرس. - ومنها إطالة الاشتغال بفن بحيث يعوق عن تحصيل فن يساويه في الحاجة أو هو أهم منه. قال في الإحياء: لا تستغرق عمرك في فن واحد طالباً للاستقصاء فيه، فإن العلم كثير والعمر قصير. وقال فيه أيضاً: من وظيفة طالب (العلوم) أن لا يدع شيئاً من العلوم المحمودة إلا ينظر فيه نظراً يطلع به على مقصده، فإن العلوم متعاونة، وبعضها مرتبط بالبعض، ثم يشرع في طلب التبحر في الأهم فالأهم، انتهى. قيل: (ما حوى العلم جميعاً أحد ... لا ولو مارسه ألف سنة) (إنما العلم منيع غوره ... فخذوا من كل علم أحسنه) أقول ثم أقول: الأحرى لمتبحر الفقه وأصوله، والمتبحر فيهما أعز من الكبريت الأحمر لطول مباحثهما ودقة مسالكهما، لكن جرت عادة الله تعالى

على جعل همم الناس مختلفة في التبحر في الفنون، لأن انتظام أمر العلم إما يكون بأن يوجد في كل فن متبحر، فيكون هم واحد في الفقه، وهم آخر في العربية وهكذا، فيوجد في الدنيا مرجع استكشاف دقائق كل فن، فلو كان هم الجميع في فن واحد اختل نظام العلم. ونظير ذلك اختلاف همم أصحاب الحرف. وأما الاستقصاء في جميع الفنون لواحد فهو متعذر أو متعسر، كذا في أوائل شرح المواقف. وينبغي للطالب أن يقصد التبحر فيما يليق بطبعه (من العلوم المهمة، وقلما ينبه الطالب على ما يليق بطبعه) فينبغي للأستاذ أن ينبهه على ذلك، كما روى أن محمد بن إسماعيل البخاري رحمة الله تعالى بدأ بكتاب الصلاة على محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليهما، فقال له محمد بن الحسن: اذهب وتعلم علم الحديث، لما رأى أن ذلك العلم ألبق بطبعه، فطلبه فصار مقدماً على جميع أئمة الحديث، كذا في تعليم المتعلم. - ومنها عجلة بعض الطلبة إلي الفراغ عن مشقة التحصيل، فتحمله تلك العجلة على تطويل قدر الدرس على قراءة نسخ متعددة معاً فوق طاقته وعلى ترك بعض الفنون المهمة قبل إتقانه، بل قبل إتمام نسخة منه.

وأمثال هؤلاء لا ينالون الكمال في العلم، إذ الكمال فيه لا يتأتى إلا بالفهم والإتمام، وذلك ظاهر. قال في تعليم المتعلم: ينبغي للطالب أن يثبت على أستاذ وعلى كتاب حتى لا يتركه أبتر، وعلى فن حتى لا يشتغل بفن آخر قبل أن يتقن الأول .... إلى آخر ما قال. وقال فيه: فهم حرفين من حفظ وقرين. - ومنها عدم صبر بعض الطلبة على السكوت إلي أن يتم تقرير الأستاذ فيتكلم في أثناء تقريره، وفي ذلك أذية للأستاذ وإخلال لإفادة الأستاذ. قال في الوصايا القدسية، ويترك الطالب ما طالعه وفهمه قبل مجلس الأستاذ ويصغى بإلقاء السمع وحضور العقل إلي ما يقرره الأستاذ، فربما طالع وفهم ما ليس بمراد المصنف أو الشارح، ولا يمكن الأستاذ من التقرير والتحقيق، فمثل هذا المتعلم لا ينتهي بل ربما يتراجع، انتهى. أقول: والحمقاء من الطلبة تنقسم إلي سكيت وهو أهون على الأستاذ. وإلي مكثار يتكلم مع الأستاذ ويجاوب الشركاء ويعترض على كلامهم قبل فهم مرادهم، ويتكلم بالظاهر البين، وقد يتكلم بكلام إذ استفسرته عن مراده به يتحير ولا يدري ماذا يقول، فمثل ذلك الطالب يغضب المعلم الحليم ويهلك المعلم الغضوب ويطفئ حدة أذهان شركائه، فعلى الأستاذ أن يسكته فإن لم يسكت يطرده عن مجلس الدرس. وإنما يريد الحمقاء بذلك إظهار الذكاء، والطالب الذكي تكون سيرته في الغالب الإصغاء إلى كلام.

الأستاذ بالتدبر والتغافل عن أقوال الشركاء، فلا يتكلم إلا عند الحاجة، وإذا تكلم يوجز، وإذا تمت الحاجة يسكت، فأيده الله تعالى وأظفره بمقصوده. قال في تعليم المتعلم: (إذا تم عقل المرء قل كلامه ... وأيقن بحمق المرء إن كان [مكثراً]) وقال على رضي الله عنه: إذا تم العقل نقص الكلام. وقال بزرجمهر: إذا رأيت الرجل يكثر في الكلام فاستيقن بجنونه، انتهى ما في تعليم المتعلم. ثم إن تجاوب الشركاء قد يؤدي إلي التغاضب بين يدي الأستاذ وفي ذلك أذية عظيمة له، يعرفه من يبتلي به فأتى يفلحون؟ ! - ومنها أن بغض الطلبة يكون معظم همه إظهار الفضل والمراءة لا تحصيل العلم، فيطلب حاشيته على نسخة درسه فيحفظ منها اعتراضاً وجواباً عنه، فيورد الاعتراض على الأستاذ على أنه من مخترعات فكره، فقد يعجز الأستاذ عن جوابه فيجيب عنه أو يبقيه. أو يحفظ منها نكتة فيقررها على الأستاذ على أنها من مخترعات فكره، كل ذلك لإظهار ذكائه وقوة حدسه، وقد لا يفهم ما في الحاشية فيضطرب كلامه ولا ينفهم مراده فيقع الأستاذ في مشقة. وأمثال هؤلاء يفتضحون كثيراً فلا يعتقدهم الأستاذ والشركاء كما يتمنونه، ثم إنهم لا يفلحون. - ومنها استنكاف المعلم أن يقول لا أدري، فيفوه بما لا يدري

ويتكلف الجواب عن كل ما يسأل عنه فيتعمد الكذب أو القول الذي ليس بجواب موهماً أنه جواب. وإذا أخطأ في التقرير ونبهه عليه بعض تلامذته يخجل ويستنكف عن قبوله، فيتكلف لتصحيح غلطه بمغالطات وكلمات مجهولة الحاصل، وذا ناشيء من الكبر والرياء، ومن علاج تركه معرفة أحوال السلف، قال في الإحياء، قال الشافعي: إني شهدت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين لا أدري. ومن يريد غير وجه الله بعلمه فلا تسمح نفسه [بأن يقر على نفسه] بأنه لا يدري. وسأل رجل علياً رضي الله عنه عن شيء فأجاب، فقال السائل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، وقال الشعبي: لا أدري، نصف العلم، انتهى. ولعل وجه كونه نصف العلم أن من جهل شيئاً وجهل جهله به كان مجهوله من أمرين، وهذا هو الجهل المركب، ومن قال لا أدري علم جهله به وبقي علمه بذلك الأمر. وفي بعض الكتب: سئل علي رضي الله تعالى عنه عن شيء على المنبر فقال: لا أدري. فقيل ليس هذا مكان الجهال. فقال: هذا مكان الذي يعلم شيئاً ويجهل شيئاً، وأما الذي يعلم ولا يجهل شيئاً فلا مكان له. وسئل أبو يوسف عن شيء، فقال: لا أدري، فقيل: تأكل من بيت المال كل يوم

كذا درهماً فتقول لا أدري، فقال: آكل بقدر علمي ولو أكلت بقدر جهلي ما كفاني ما في الدنيا جميعاً. - ومنها طول نظر الطالب فيما لا سبيل له إلي فهمه، نظر السُّلَحفاه إلي بيضها، وذلك إما بأن يكون متعلق نظره من اصطلاحات فن لم يعثر عليه، أو لغة لم يعرف معناها، فطول النظر فيه ونصب المرفق عليه لا ينتج شيئاً، بل طريق فهمه ليس إلا أن يستفسره عمن يعرفه، أو يراجع إلي كتاب يفسره ككتاب "تعريفات إصطلاحات الفنون" للسيد الشريف، وكتاب "الصحاح" للجوهري. وإما أن يكون متعلق نظره مجملاً يفسره ما بعده أو فسره ما قبله، وقد فاه درسه أو نسيه فلا يكاد ينكشف قبل العثور على مفسره، فينبغي للطالب إذا شرع في مقاله أن يلاحظها إلي منتهاها ملاحظة خفيفة، فيطلب معرفة معاني كلماتها وكيفية تركيبها، والإطلاع على تمام حاصل تلك المقالة إطلاعاً في الجملة، ثم يشرع في المطالعة العميقة والاستطلاع على الوجوه الدقيقة وإثارة الأسئلة والأجوبة. وإما أن يكون في متعلق نظره ساقط أو زائد أو محرف فطريق الانكشاف في مقابلة النسخة بنسخة مصححة، فيجب على الطالب أن لا يطالع الدرس إلا بعد المقابلة والتصحيح. وإذا علمت هذا فأعلم أنه إنما يفيد التأمل في كلام استقر المراد به لضيق العبارة أو خفاء مرجع الإشارة أو بعد المتعلق أو تقديم ما حقه التأخير

أو العكس، أو على بعض مقدمات الدليل وما يشبه ذلك مما شأنه أن يعرف بالتأمل (فح) يرجى الانكشاف بالنظر، ومراتب الناس فيه متفاوتة تفاوتاً عظيماً. وقد يطالع الطالب ما يرجي انكشافه لكن لا ينكشف فعليه (ح) أن يتبتل إلي ذكر الله تعالى والصلاة على نبيه ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل على الله توكلت. متجهاً بقلبه إليه مستمداً منه تعالى ويقول: رب زدني علماً سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. ويدعو بما استطاع، فإن لم ينكشف بعد ذلك يراجع إلي الشرح، وإياه أن ينظر إلي الشرح قبل اليأس من معرفة المتن، إذ من فعل قلما تحصل له ملكة المطالعة. قال في الوصايا القدسية: يطالع متن الكتاب قبل الشرح مراراً فإن فهم كلمتين من المتن خير من فهم سطرين من الشرح، انتهى. ثم اعلم أن الطالب لا يستعد للمطالعة بعد تحصيل اللغة والتصريف والنحو إلا بعد تحصيل المنطق والمناظرة والكلام والمعاني وأصول الفقه. فينبغي للطالب أن لا يشرع في قراءة المؤلفات الدقيقة لتحصيل ملكة المطالعة إلا بعد تحصيل ما ذكرته من الفنون، ولا أريد بالكلام المسائل

الاعتقادية فقط، بل مباحث الجواهر والأعراض أيضاً كما تضمنتها مثل المقاصد والمواقف. وطلبة الزمان لما هجروا تعلم تمام علم الكلام واكتفوا عنه ببعض رسائل العقائد. طلبوا مباحث الجواهر والأعراض من كتب الفلسفة وغفلوا عن تحقيقات المتكلمين في المسائل العقلية، ينبغي للطالب الذكي بعد تحصيل ما ذكرناه هنا من الفنون أن يقرأ درس المطالعة على أهلها، على شريطة المباحثة وإيراد الأسئلة والأجوبة، فلو توقف ذلك على جعل سطر واحد درس يوم واحد أو يومين أو أيام، يفعله كذلك ولا يتعجل، لإتمام االنسخة، إذ ليس المقصود من قراءة كتاب المطالعة الإطلاع على القواعد بل تشحيذ الذهن. وقد صادفت شرحاً موجزاً للكافية مشحوناً بالأسئلة والأجوبة الموجزة الدقيقة أظنه للتفتازاني، وقد يوجد في أحد وجهي ورقة واحدة عشرون سؤالاً وعشرون جواباً، وأري أنه أولى المؤلفات للمدارسة على شريطة المطالعة والمناظرة. ثم أقول: طلب تشحيذ الخاطر وتحصيل ملكة المطالعة يكاد أن يكون فرض كفاية، فإن الأحمق يفسد الدين، لكن لا يجوز طلب ذلك بالاشتغال بالفنون المحرمة كالفلسفة، والتعمق في أدلة الكلام، لأن الخاطر يشحذ بالاشتعال ببعض نسخ الفنون الآلية والشرعية. - ومنها أن بعض من يقرأ الكتب الدقيقة لتحصيل ملكة المطالعة يطيل قدر الدرس ويطلب إتمام النسخة، ولا يهتم بتدقيق النظر فيها، ومثل ذلك الطالب يرجع كما بدأ. وبالجملة: إن غرض الطالب أمران: - أحدهما معرفة قواعد الفنون. والآخر تشحيذ الذهن. وبعض الكتب

يقرأ لمعرفة القواعد، فينبغي للطالب أن لا يطلب عند قراءته الوجوه الدقيقة لئلا يعوقه عن إتمامه وعن فهم أصول مسائله. وبعض الكتب يقرأ لتشحيذ الذهن فينبغي للطالب أن لا يطلب إتمامه بالدرس بل يطلب الغوص إلي أعماقه، وإعمال قوته الناظرة بدرك الوجوه الخفية، فإن قراءة كراس (موجز) منه إلي تمام سنة خير من قراءة جميعه إلي تمام السنة. - ومنها أن بعض الطلبة يقصر درسه في أوائل زمان تحصيله على العلوم الآلية، أملاً تحصيل العلوم الشرعية في أواخر أوقات تحصيله، أو ناوياً تدريسه بدون التعلم، اعتماداً على قوة فهمه، لكن هذا من سوء التدبير ووساوس الغرور، لأن ما أخره إن كان من فروض العين، فذلك الطالب ذو رأي مهين وآثم في كل حين. ترى بعض من وصل درسه إلي المنطق أو المناظرة لم يصحح أداء القرآن قدر ما تجوز به صلاته، ولم يعلم فرائض العقائد والأخلاق والطهارة والصلاة، فهذا مرتكب للكبيرة ومعدود من الفسقة فكيف يظفر بالبغية؟ وإن كان ما أخره من فروض الكفايات، فلا يأثم بتأخيره عند وجود القائم به، لكن لا يأمن أن يحدث غائق عن تحصيلها بعد تحصيل العلوم الآلية (فح).

إن تركها رأساً فهو يصير كأحد العوام الجهلة. وشاهدنا بعض من كان كذلك. وإن شرع في تعليمها بدون سبق تعلمها فلا يتيسر له ذلك، ولا يخلص درسه عن تعمد الكذب، والطالب البصير يكون له درسان في كل حين: درس من العلوم الشرعية. ودرس من العلوم الآلية. ويعظم الأول ويهتم به فوق تعظيمه الثاني والاهتمام به. ولقد صادفنا من الطلبة من عكس هذا، فلو سألته عن درسه، لا يذكر إلا درسه الآلي، وقد يذكر درسه الشرعي بعد ذكر الشيء الحقير، وما ذلك إلا لجهلهم بحقيقة مقاصدهم. ثم إن ذلك أمارة عدم فلاحهم.

المقصد الثاني

وأما: المقصد الثاني ففيه فصلان الفصل "الأول": (في بيان ترتيب العلوم لمن أراد تحصيلها) فالمبتدئ يلقن: الإيمان على قدر فهمه، فإن كان صبياً يؤمر بعده بتعلم القرآن من معلم صحيح الأداء إلي أن يختمه، ثم يؤمر بتعلم تفاصيل الإيمان وعقائد أهل السنة، والقدر المفروض من علم الأخلاق وعلم الصلاة. والمتكفل ببيان هذا الجميع الرسالة التركية لمحمد البركوي، ونعمت هي لكل مبتديء عجمي. ثم يؤمر إن كان عجمياً بتعلم لغة ابن فرشتة وحفظها. وإن كان بالغاً يؤمر بعد تلقين الإيمان على قدر فهمه بتعلم الفاتحة

وسور قصار، ثم يؤمر بتعلم تلك الرسالة أو ما يفيد مفادها، ثم يؤمر بتعلم جميع القرآن، ثم يؤمر بتعلم لغة ابن فرشتة وحفظها. وبعد تعلم لغة ابن فرشتة صبياً أو بالغاً يؤمر بتعلم الصرف ثم النحو ثم النحو ثم علم الأحكام ثم المنطق ثم المناظرة ثم الكلام ثم المعاني ثم أصول الفقه، ثم الفقه. ولا أريد بالفقه مجرد علم الأحكام العملية بدون الأدلة كما تضمنه مختصر القدوري، بل معرفتها بالأدلة كما تضمنه الهداية. وأما مختصر القدوري أو ما يقوم مقامه من علم الأحكام فيتعلمه بعد تحصيل الصرف والنحو. إذ لا يتوقف فهمه على معرفة قواعد أصول الفقه بخلاف فهم مثل الهداية، ولا أريد بالكلام مجرد المسائل الاعتقادية، بل ما تضمنه مثل المقاصد من مباحث الجواهر والأعراض والمسائل الاعتقادية مع أدلتها والرد على المخالفين، ثم بعد ذلك يؤمر بتعلم أصول الحديث ثم الحديث رواية ودراية، ثم التفسير، وأما تعلم علم التجويد والقراءات ومرسوم المصاحف فيتعلمها الطالب متى قدر قبل تعلم التفسير. وأما الحساب والهندسة والهيئة والعروض فيحصلها متى قدر، لكن ينبغي تقديم تعلم الحساب على تعلم علم الأحكام، خصوصاً الفرائض.

الفصل الثاني: (في بيان مراتب العلوم)

الفصل الثاني: (في بيان مراتب العلوم) قال الغزالي: ما من علم إلاّ وله اقتصار-بالراء- واقتصاد- بالدال واستقصاء, ونحن نشير إليها في التفسير والحديث والفقه والكلام ولنقيس بها غيرها. فالاقتصار في التفسير ما يبلغ ضعف القرآن أي مثله في المقدار, كالوجيز للواحدي. والاقتصاد ثلاثة أضعاف القرآن كالوسيط للواحدي أيضًا. وما وراء ذلك استقصاء. وأما الحديث: فالاقتصار فيه تحصيل ما في الصحيحين من الأحاديث بتصحيح نسخته عل رجل خبير بعلم متن الحديث, بحيث يقدر على طلب ما يحتاج إليه وقت الحاجة, ولا يلزم حفظ متون الحديث كما لا يلزم حفظ أسامي الرجال. وأما الاقتصاد فيه (فأن) تضيف إلى ما في الصحيحين الأحاديث المذكورة في المسندات الصحيحة. وأما الاستقصاء فما وراء ذلك إلى استيعاب كل ما نقل من الضعيف والقوي, ومعرفة أحوال الرجال وأساميهم.

وأما الفقه: فالاقتصار فيه ما يحويه مختصر المزني. والاقتصاد ما يبلغ ثلاثة أمثال ذلك المختصر, وما عدا ذلك استقصاء. وأما الكلام: فالاقتصار فيه معرفة عقائد أهل السنة المنقولة عن السلف لا غير بلا اشتغال بالدليل وهو القدر الذي أوردناه في الفصل لأول من كتاب قواعد العقائد من الإحياء. وأما الاقتصاد فيه فمعرفة معتقدات أهل السنة مع أدلة نقلية أو عقلية بحيث يتمكن من مناظرة المبتدع ونزع شبهته من قلب العامي, وهو القدر الذي أودعناه في الفصل الثالث من كتاب قواعد العقائد من الإحياء واقتصرنا فيه على ما حررناه لأهل القدر وسمينّاه الرسالة القدسية. وأما الخلافيات التي أحدثت في هذه الأعصار المتأخرة وأبدع فيها من المجادلات مما لم يعهد مثله في السلف فإياك أن تحوم حوله, واجتنبه اجتناب السم القاتل, فإنه الداء العضال, واقبل بهذه النصيحة ممن ضيع العمر فيه زماناً وزاد فيه على الأولين تحقيقاً وتصنيفاً وجدلاً, ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه فهجره, انتهى. وكلامه هنا يحتاج إلى شرح, فأقول: قوله ضعف القرآن بمعنى مثله قال في الصحاح: ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه, وأضعافه أمثاله. ثم

أقول ظهر من كلامه أن الضعف ابتداء مرتبة الاقتصار في التفسير ونهايتها القدر الذي إن زيدت عليه كلمة يصير المجموع ثلاثة أضعاف القرآن. ويقاس على هذا أن يكون لمرتبة الاقتصاد فيه ابتداء ونهاية. فقوله: وما وراء ذلك استقصاء, فيه نظر. ثم أقول سكت عن تلك المراتب الثلاث في شرح الأحاديث, لكنها تقاس على تلك المراتب في التفسير والله أعلم. وسكت أيضاً عن تلك المراتب في معرفة نظم القرآن, فلعل الاقتصار فيه معرفته برواية واحدة متواترة عن الأئمة المشهورين كرواية حفص عن عاصم. والاقتصاد فيه أن يعرفه بجميع الروايات المتواترة عن الأئمة المشهورين. والاستقصاء فيه أن يضم إلى ذلك معرفة القراءات الشاذة, ولا يلزم الحفظ في هذه المراتب بل يكفي تصحيح المصحف على رجل حافظ خبير, وتعلم كتاب يتضمن القراءات, وتصحيحه على رجل خبير قياساً على ما قاله في مراتب الحديث. ثم إن ما سمّاه في مراتب الفقه هو المؤلف في مذهب الشافعي. وأما الاقتصار في المؤلف في مذهب أبي حنيفة فهو مثل مختصر القدوري. والاقتصار مثل الهداية وما وراء ذلك استقصاء مثل فتاوى قاضي خان والخلاصة. وقوله في بيان مراتب الحديث: بحيث, متعلق بقوله: تحصيل ما في الصحيحين. ومراده من الأدلة العقلية في اقتصاد الكلام: هو الأدلة المختصرة من غير تعمق, صرح بذلك في الإحياء قبيل شروعه في رسالته القدسية التي جعلها جزءاً من الإحياء.

والاشتغال في هذه المرتبة بذكر أقوال المبتدعة وردها إلاّ نادراً, كما يظهر من النظر في رسالته المذكورة. قوله: وأما الخلافيات, بيان الاستقصاء, ومن المؤلفات في هذه المرتبة: المواقف والمقاصد. وقوله: من المجادلات, المراد به مجادلات المخالفين من الفرق الإسلامية فقط, إذ خلط الفلسفة مع ردها بالكلام, لم ينشأ إلاّ منذ ما نشأ نصير الطوسي وأتباعه, كما صرح به السبكي في كتابه معيد النعم, وزمان الغزالي قبل زمان الطوسي بكثير. وأقول كما هجر الغزالي الكلام, كذلك هجرته وتبرأت وتبت منه إلى الله تعالى الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات, وأسأل الله أن لا يحشرني يوم القيامة مع المتكلمين, وهذا القول مني بعد اشتغال بالكلام وتأليفي فيه نشر الطوالع, والآن أتمنى أن أجمع نسخة المنتشرة وأحرقها بالنار ولئلا يبقى مني أثر في الكلام, لكني لا أقدر على ذلك. قال الغزالي: في كتاب قواعد العقائد ما مختصره/ إن الخارج عن مرتبة الاقتصاد-بالدال- في العقائد قسمان: أحدهما بحث من غير العقائد كبحث الاعتمادات والإدراكات إلى غير ذلك, يعني مباحث الجواهر والأعراض. والأخر زيادة تقرير لأدلة العقائد, وزيادة أسئلة وأجوبة, وذلك

استقصاء لا يزيد إلاّ ضلالاً وجلاً في حق من لا ينفعه قدر الاقتصاد- بالدال- انتهى. قوله: والآخر زيادة تقرير, ونهي السلف عن الاستقصاء في علم الكلام ينبغي أن يخصص بهذا القسم, أو يقال: النهي عن القسم الأول تنزيهي وعن القسم الآخر تحريمي. ومن القسم الأول مباحث الأدلة ولا وجه للنهي عنه أصلاً. قال صلاح الدين في حاشية شرح العقائد: الاشتغال بتفاصيل علم الكلام يقاسي القلب ولذا نرى أكثر طلبته تاركي الصلاة ومرتكبي الكبائر ومضيعي العمر فيما لا يعنيهم, انتهى. يقول الغفير: أما قسوة القلب فقد وجدناها بلا شك عند الاشتغال بها, فنسأل الله أن يقيلنا عثراتنا. ولعل الاقتصار في علم البلاغة مثل التلخيص, والاقتصاد مثل الإيضاح وما زاد على ذلك استقصاء, كما تضمنته الشروح, والاقتصار في المنطق مثل إيساغوجي مع شرحه للحسام كاتي.

والاقتصاد فيه "الشمسية" مع شرحه للقطب, وما زاد على ذلك استقصاء. والاقتصار في النحو مثل الأنموذج. والاقتصاد فيه الكافية, بل أقول لابد لبلوغ مرتبة الاقتصاد فيه تحصيل ما تضمنه مغني اللبيب أيضًا. ومن فاته فقد فاته نصف النحو, وما زاد على ذلك استقصاء. وبالجملة الاقتصار في كل فن ما تضمنه المتون المختصرة. والاقتصاد ما تضمنه المتون المتوسطة. وما زاد على ذلك استقصاء, ولا تحد تلك المراتب إلاّ بالتقريب. أقول ولي إجمال في تحديد هذه المراتب: وهو أن إحاطة أشهر مسائل الفن اقتصار, والزيادة عليه بإحاطة مشهوراته أيضًا اقتصاد. والزيادة عليه بإحاطة نوادره أيضًا استقصاء والله أعلم. ثم اعلم أنه ليس المراد من تحصيل تلك المراتب حفظ ما تضمنها من الكتب, بل تصحيح نسخها والاطلاع على ما فيها إما بالتعلُّم وإما بمجرد النظر والمطالعة بحيث يقدر على طلب ما يحتاج إليه من تلك الفنون. وهذا

فصل: (تسمية الكمال من طلبة العلم)

قد صرح به الغزالي في مراتب الحديث كما سبق نقله, فنقيس على ذلك غيره. فصل: (تسمية الكمال من طلبة العلم) اعلم أن من حصل مراتب الاستقصاء من كل فن من الفنون الشرعية والآلية يسّمى "كاملاً" في العلوم أو "تكميلاً", وقليل ما هم, ويجوز إطلاقه على من حصل مراتب الاقتصاد - بالدال- من كل فن منها باعتبار أنه متهيء للكمال تهيؤاً قريباً, وذلك مجاز بعلاقة الأول, كما يسّمى الخمر قبل الشرب مسكراً. وأما إطلاقه على من لم يحسن بعض الفنون المعتبرة وحصل من بعضها مرتبة الاقتصار - بالراء- ومن بعضها مرتبة الاقتصاد فلا يصح ذلك لا حقيقة ولا مجازاً, إلاّ أن يراد كماله في فن معين بلغ منه مرتبة الاستقصاء أو الاقتصاد - بالدال - وقد يسمى في زماننا بعض الطلبة "تكميل المواد" ومعناه أنه كامل في تحصيل العلوم الآلية من العقلية والنقلية. أقول: ومن العلوم الآلية, أصول الفقه وأصول الحديث وعلم التجويد ومبادئ الكلام مثل مباحث الجواهر والأعراض, وما تضمنه مغني اللبيب في النحو وما تضمنته الشافية في التصريف. نرى أكثر من يسمون "تكميل المواد" في زماننا لم يحصل أكثر العلوم الآلية, وإنما يسمون كذلك لأن المادة عند الجهلة اسم لبعض نسخ المنطق والفلسفة, وأولئك الطلبة درسوا نسخها المتداولة, وترى بعض "التكميل" في زماننا لا يقدر على قراءة القرآن نظراً, وما قرأه لا تصح به الصلاة لما فيه من الألحان الجلية, ولا يعرف اصطلاحات الفقه, ولم يحصل بضاعة من أصول الفقه, وهكذا ... بل لا يفهم أكثر ما اشتغل به من الفنون, فلا

(تذبيل بمدح القرآن)

يقدر على إفادتها, وإنما مدار كونه "تكميلاً" تسمية أستاذه إياه "تكميلاً" وإذنه له بتدريس ما شاء, وإلباسه إياه رداء العلماء, ووضعه على رأسه العمامة الكبرى, فيدع التعلُّم ويتصدى لتعليم ما لا يفهمه, وإذا صادف ماهراً في فن لا يعرفه لا يتعلم منه لظنه أنه جاوز مرتبة (العلم) إلى مرتبة التعليم أو لأنه يلحقه المعرة, ونقصان الدرجة حتى لو لقي القطب العلامة لا يتعلم منه, لظنه أنه صار علامة مثله, أو لئلا يظن الناس أنه في العلم دونه. وأنا أمثل ذلك التكميل بفقير ذي عيال أعياه تعب الكسب, فقصد غنياً ليطعمه قدر ما يغنيه عن المكسب, فلما أتاه أعطاه شيئًا قليلاً لا يغنيه عن الكسب, لكنه سماه غنياً وألبسه شيئاً من لباس الأغنياء, وأذن له بالاستراحة وأكل الأطعمة الطيبة والتوسيع على العيال والأحبة, فرجع ذلك الفقير مسروراً بما يأمله من الاستراحة والحياة الطيبة, وأهله ينتظرونه بالسرور, فإذا جاء أهله لا يكون إلا ضحكة للناس, فاعتبروا يا أولي الألباب. (تذبيل بمدح القرآن) لتهييج نشاط الطالبين ليرغبوا فيه وفي العلوم المتعلقة به. فنقول: القرآن كلام من تصاغر كل شيء لكبريائه وتذلل كل شيء لعزته واستسلم كل شيء لقدرته, عطاياه من الأزل إلى الأبد. بلة إبرة من بحار رحمته وملكوته كلها حبة من خزائن قدرته, ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات شرح عظمته, ثم إنه تعالى مدحه بقوله: } وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) {[الشعراء: 192 - 194] ,} وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ

مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ {[النمل: 6] , {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) {[فصلت: 41 - 42] , {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4 (} [الزخرف: 4] , {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1] , {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم (76)} [الواقعة: 75 - 76] , {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين (80)} [الواقعة: 77 - 80] , {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: 1] , {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (6)} [الفرقان: 6] , {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا} [طه: 4] , {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88] , {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22 (} [البروج: 21 - 22]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي مدح الله تعالى فيها القرآن. فصل (في أسمائه التي سمّاه الله تعالى بها) وهي: علي حكيم, كتاب حكيم, كتاب عزيز, كتاب مبارك, كتاب مبين, كتاب منير, بشير نذير, روح, نور, موعظة من ربكم وشفاء لما في

الصدور, نبأ عظيم, هدى ورحمة وبشرة للمسلمين, كتاب الله, كلام الله, حبل الله, ذكر حكيم, ذكر للعالمين, ذكر مبارك, قرآن عجب, قرآن عربي غير ذي عوج, قرآن حكيم, قرآن مبين, قرآن عظيم, قرآن كريم, قرآن مجيد, فرقان, تبيان لكل شيء, تفصيل لكل شيء, أحسن الحديث تنزيل العزيز الرحيم, تنزيل رب العالمين, تنزيل من حكيم حميد. فصل (في مدائحه الواقعة في الحديث) ومن شاء فلينظر إلى كتاب فضائل القرآن من مشكاة المصابيح. قال في الرعاية: عن عثمان رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه». وكان أبو عبد الرحمن يجلس لإقراء القرآن ويقول: هذا الذ أجلسني هذا المجلس-يريد الحديث الذي ذكرناه-. وعنه عليه السلام أنه قال: «من جمع القرآن فظن أن أحداً أغنى منه فقد حقر عظيماً وعظم حقيراً» , انتهى. قال الإمام الجعبري في شرح الشاطبية, قال حمزة -يعني أحد أئمة

القراءات - رأيت في منامي كأني عرضت على الله فقال: يا حمزة اقرأ ما علمتك فوثبت قائماً, فقال لي: اجلس فإني أحب أهل القرآن, فقرأت حتى بلغت سورة} يس {فدعا بسوار من ذهب فسورني به فقال: هذا بقراءتك القرآن, ثم دعا بمنطقة فمنطقني بها, فقال: هذا بصومك, ثم توّجني بتاج, ثم قال: هذب بإقرائك الناس القرآن, يا حمزة لا تدع تنزيلي فإنه أنزلته إنزالاً, انتهى. يقول البائس الفقير: فقد رأينا بعض ما يسمى "بالتكميل" لا يقدر على قراءة القرآن قد ما تجوز به صلابته, وهو قد يتصدى (للتقوى) , وقد هدم التقوى من أساسها, ويتورع عن الشبهات ويفسد الصلوات كل يوم خمس مرات, ويتخذ من القرآن ورداً, يريد أن يعبد الله بالسيئات, ثم إنه يستحي من الناس أن يقعد مع العمامة الكبرى وراء العلماء بين يدي معلم من أهل الآداء, إذ ذلك من وظائف المبتدئين, وهو قد صار من المدرسين الفضلاء. {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)} [القيامة: 34 - 35]. قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146]. وبعض من لا يقدر على تلاوة القرآن على شريطة التجويد من الطلبة المشتغلين بمثل الصرف أو النحو أو المنطق أو الفلسفة, إذا حرضته على تعلم

القرآن من الشيخ المجود يتعلل بأن وقتي لا يفضل عن درسي, فهذا اعتذار ينبغي أن يتأمل [فيه].

خاتمة

خاتمة ما يتعلق بالفلسفة وفيه فصول الفصل "الأول": (في بيانها) قال [صاحب] إغاثة اللهفان: الفلسفة معناها محبة الحكمة, والفيلسوف أصله فيلاسوفا أي محب الحكمة, ففيلا هو المحب وسوفا هي الحكمة. والحكمة نوعان: قولية وفعلية. فالقولية: قول الحق. والفعلية: فعل الصواب. والفلاسفة اسم جنس لمن يحب الحكمة, انتهى. أقول: يعني الفلاسفة جمع فلسفي, معناه منسوب إلى محبة الحكمة, تجمع على فلاسفة كأشاعرة, وبيان هذا الجمع في شروح الشافية, ثم قال: وقد صار اسم الفلاسفة في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء ولم يذهب إلاّ إلى ما يقتضيه العقل في زعمه, وأنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو وهم المشّاؤون خاصة. وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم- يعني في كتابه الشفا وغيره-.

ثم قال: أول من عرف عنه القول بقدم العالم أرسطو, وكان مشركاً يعبد الأصنام, وله في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره, وقد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين, انتهى. أقول: ثم صارت الفلسفة إسماً للفن. قال في الإحياء: وأما الفلسفة فهي ليست عِلماً برأسها, بل هي أربعة أجزاء, أحدهما: الهندسة والحساب وهما مباحان. الثاني: المنطق وهو داخل في الكلام. والثالث: الإلهيات وهي بحث عن ذات الله تعالى وصفاته وهي داخلة في الكلام, والفلاسفة انفردوا فيها بمذاهب بعضها كفر وبعضها بدعة. والرابع: الطبيعيات وهي بحث عن الأجسام الطبيعية, - بسيطة: وهي الأفلاك والعناصر.- أو مركبة: وهي المعادن والنبات والحيوان. وبعض مباحث الطبيعيات مخالف للدين الحق, انتهى. أقول: والطبيعيات أيضاً داخلة في الكلام, ومعنى دخولها فيه, أن الكلام باحث عن الأجسام الطبيعية البسيطة والمركبة على وفق العقل والشرع, وكذا باحث عن الإلهيات على وفقهما, وتقييد الجسم بالطبيعي.

احتراز عن الجسم التعليمي, وهو عبارة عن مقدار له ثلاثة أبعاد, طول وعرض وعمق, لأن ذا يبحث عنه في الهندسة والجسم الطبيعي: عبارة عما قام به ذلك المقدار. وجعل الغزالي الفلسفة في كتابه المسمى بـ "المنقذ من الضلال" ستة أقسام, وجعل الخامس السياسة, وهي بحث عن المصالح المتعلقة بالأمور الدنيوية والإيالة السلطانية. والسادس خُلقية - بضم الخاء المعجمة- وهي البحث عن الأخلاق. قال: وجمع كلامهم فيها يرجع إلى حصر أخلاق النفس وذكر جناسها وأنواعها وكيفية اكتساب فضائلها واجتناب رذائلها, وإنما أخذوها من كلام الصوفية المتألهين المثابرين على ذكر الله تعالى, ومخالفة النفس والهوى, ومزجوها بكلامهم توسلاً بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم, ولقد كان في عصرهم جماعة من المتألهين أتباع الأنبياء, انتهى. وذكر في المنقذ-الرياضيات- بدل الهندسة والحساب وهي أشمل لشمولها الهيئة. وقال في المنقذ: إن كلام الفلاسفة في الرياضيات برهاني, وفي الإلهيات تخميني, وقال فيه: وأما الإلهيات ففيها أكثر أغاليطهم. ومجموع ما غلطوا فيها يرجع إلى عشرين أصلاً يجب إكفارهم في ثلاثة منها, وتبديعهم في سبعة عشر, وقد أبطلنا جميعها في كتابنا المسمى: بـ "تهافت الفلاسفة". وأما الثلاثة: فقولهم بأن الأجسام لا تحشر, وأن الله تعالى لا يعلم الجزئيات بل الكليات فقط, وأن العالم قديم, إلى آخر ما قال ....

يقول العبد الفقير, وأشدّ ما يجب إكفارهم فيه قولهم بالعقول العشرة, وإسناد جميع المخلوقات إلى العقول العشرة, قالوا: إن الله تعالى لم يخلق إلا العقل الأول- لعنوا بما قالوا- فهم في قولهم بالعقول المذكورة أشد شركاً من عبدة الأوثان, إذ عبدة الأوثان لا يعتقدون للأوثان خلقاً وإيجاداً, وإنما يعتقدونها شفعاء عند الله فيعبدونها طمعاً في شفاعتهم. وقال في المنقذ: لما كان كلام الفلاسفة في الرياضيات أموراً برهانية لا سبيل إلى جحدها, ربما يظن الناظر فيها أن كلامهم في الإلهيات كذلك فيعتقد بها ويكفر بالتقليد المحض. ولهذا ينبغي زجر كل من يشرع في الرياضيات عن الخوض فيها, وكل من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين وينخلع من رأسه لجام التقوى. وقال فيها: وأما المنطقيات فليس فيها ما ينبغي أن ينكر, بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون في مباحث النظر, وإنما يفارقونهم ببعض الاصطلاحات وبزيادة استقصاء الفلاسفة فيها, انتهى. قوله: كلام الفلاسفة في الرياضيات برهاني, فيه نظر, لأن بعض

الفصل الثاني: (في نقل ما ذكره العلماء في ذم الفلسفة والفلاسفة)

كلامهم في الهيئة تخميني, كما قال البيضاوي عند قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] إن قيل: [أليس] أن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك, قلت: فيما ذكروه شكوك ... إلى آخر ما قال. واعترض صاحب المواقف على كثير من أدلة الفلاسفة على مسائل الهيئة, ودفع هذا النظر: أن هيئة الفلاسفة كانت في الأول بحثاً عن الدوائر الموهومة, وهي الهيئة المخلية وأدلتها برهانية البتة, وهذا مراد الغزالي, ثم جعل متأخرو الفلاسفة الهيئة بحثاً عن الأجسام العلوية والسفلية, وهي الهيئة المجسمة وبعض مسائلها تخميني. الفصل "الثاني": (في نقل ما ذكره العلماء في ذم الفلسفة والفلاسفة) والمراد من الفلسفة هنا هي الطبيعة والإلهية, خصوصاً الإلهية, لأن أكثر أغاليطهم فيها سبق نقلاً عن الغزالي. فنقول: أول من ذم الفلاسفة هو الله تعالى, قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83] وأحد وجوه تفسير هذه الآية أن يراد من العلم علوم الفلاسفة والدهريين من بني يونان, وكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغّروا علوم الأنبياء إلى علمهم. وعن

سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام, وقيل له لو هاجر [ت] إليه, فقال: نحن ثوم مهذبون فلا حاجة إلى من يهذبنا, كذا في الكشاف والمدارك. قال التفتازاني في رد الفصوص: إن الفلاسفة هم السفهاء والكفرة والأشقياء المنكرون للشرائع والنحل والجاحدون لتفاصيل الأديان والملل, القائلون: إنها نواميس مرلفة لانتظام أمور الورى وحيل مزخرفة لا حقيقة لها. عليهم لعنة الله والملائكة والناس تترى انتهى. وقال الطيبي في حاشية الكشاف: قال الشيخ شهاب الدين التوربشتي في وصية لبعض أصحابه: أوصيه أن يسد سمعه عن أباطيل الفلاسفة فضلاً عن الإصغاء إليها, ثم إنها لا تثمر إلا الهوان في الدنيا والخزي في الآخرة نعوذ الله من ذلك, انتهى. وقال صاحب المواقف بعد نقله اختلافات الفلاسفة في النجرة: الغرض من نقل هذه الاختلافات إبداء ما ذكروه من الخلافات ليتحقق ويتبين للعاقل الفطن أنه لا يثبت لهم فيما يقولونه ويعتقدون ولا محول على ما ينقلونه عن أوائلهم, وإنما هي خيالات فاسدة وتمويهات باردة يظهر ضعفها بأوائل النظر ثم البعض بالبعض يعتبر, انتهى.

قال الغزالي في المنقذ: وجب الحكم بكفر أرستطاليس ومن قبله من الفلاسفة كأفلاطون وسقراط وغيرهم, وكفر متبعيهم من متفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهم. إن قلت: منون أمثالهم؟ قلت: الذين يحبون الفلسفة ويخوضون فيها ويسمونها حكمة على طريق التعظيم, مثلما يعظمون علوم الشريعة ويعظمون الفلاسفة ويسمونهم الحكماء تعظيماً لهم كتعظيم مشايخ الدين أو كتعظيم النيين. ويفتخرون بما حصلوه من الفلسفة ويستجهلون من عري منها في علوم الشريعة. فورب السماء والأرض إن هؤلاء هم المتفلسفون الكفرة, وقد وجدت من أمثالهم في عصر أخي جلبي فقال فيهم في ديباجة حاشية كتاب صدر الشريعة: إن الفقه قلت الرغبة إليه عند المتفلسفين الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار, جهنم يصلونها وبئس القرار, انتهى. يقول البائس الفقير, جامع هذه الرسالة: ولعل المتفلسفين في عصرنا أكثر منهم في عصره. إن قلت: من أين له علم بأن ليس للمتفلسفين في الآخرة إلا النار؟ قلت: من قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] [المراد مما يضرهم السحر] قال في

المدارك: وفي الآية دليل على أن السحر واجب الاجتناب كتعلم الفلسفة التي تجر إلى الغواية, انتهى. والآية نزلت في أهل التوراة اشتغلوا بكتب السحر وقل التفاتهم إلى التوراة ومعنى اشتراه: استبدلوه بكتاب الله تعالى, والخلاق بمعنى النصيب كذا في التفاسير. إن قلت: أليس قد قال السيد الشريف في شرح المواقف: إن الفلاسفة هم الأذكياء؟ قلت: نعم. لكن قال الإمام الجوزي في كشف الناموس: كان للفلاسفة فطنة فاستخرجوا بفطنتهم علوماً هندسية ومنطقية ولما تكلموا في الإلهيات خبطوا, إذ لا سبيل للعقل إليها, ولذلك اختلفوا فيها ولم يختلفوا في مثل الهندسيات, انتهى. أقول: وكذا خبطوا في بعض مواضع الطبيعيات كما سبق عن الغزالي قوله: إذ لا سبيل للعقل إليها أي جميعها, إذ بعضها يستقل فيه العقل كوجود الصانع القديم ووحدته وسائر صفاته المعلومة بدليل العقل, لكن الفلاسفة خبطوا في صفاته تعالى. وقال البيضاوي في قوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} [الطور: 32] فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر, انتهى. أقول: والكاهن مشهود عليه بالكذب والخبط, فظهر أن الكافر قد يكون ذا فطنة, ألا ترى أن الإفرنج يستخرجون يفطنتهم ودقة نظرهم صنائع تتحير فيها العقول, لكنهم يقولون: إن الله تعالى هو المسيح ابن مريم, أو يقولون: إن المسيح ابن الله.

الفصل الثالث: (في ذم المتفلسفين)

الفصل "الثالث": (في ذم المتفلسفين) وقد عرفت من هم. قال التفتازاني في رسالته المسماة "برد الفصوص": ولا يصدّنك عن آيات الله ودين الإسلام ولا يصرفنك عن اتباع هؤلاء الأنبياء خوض بعض المتفلسفين في زي الفقهاء في هذه الزندقة الهادمة لدين الإسلام وملة الأنبياء, فإنه انسلخ من الدين فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين, وصار من أئمة الكفرة في صورة علماء المسلمين, فأضل فئة من الجاهلين وطائفة من طلبة العلم المذبذبين, انتهى. وقال السبكي في كتابه معيد النعم: ومن الناس طائفة تبعت طريقة أبي نصر الفارابي وأبي علي ابن سينا وغيرهما من الفلاسفة الذين نشأوا في هذه الأمة, واشتغلوا بأباطيلهم وجهالتهم وسموها الحكمة الإسلامية ولقبوا أنفسهم حكماء الإسلام وهم أحق بأن يسموا سفهاء جهلاء من أن يسموا حكماء, إذ هم أعداء أنبياء الله ورسله عليهم السلام والمحرفون لكلمة

الشريعة عن مواضعها, عكفوا على دراسة ترهات هؤلاء الأقوام وسموها الحكمة, واستجهلوا من عري عنها, ولا تكاد تلقي أحداً منهم يحفظ قرآناً ولا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولعمر الله إن هؤلاء أضر على عوام المسلمين من اليهود والنصارى, لأنهم يلبسون لباس المسلمين ويزعمون أنهم من علمائهم, فيقتدي العامي بهم, شعر: (وما انتسبوا إلى الإسلام إلا ... لصون دمائهم أن لا تسالا) (فيأتون المناكر في نشاط ... ويأتون الصلاة وهم كسالى) فالحذر الحذر منهم, وقد أفتى جماعة من أئمتنا بتحريم الاشتغال بالفلسفة, انتهى. قال أبو حفص السهرودي في كتابه المسمى: ب"رشف النصايح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية": الطامة الكبرى والفتنة العظمى قوم أبطنو الكفر واستغشوا بجلابيب الملة, وأظهروا أنهم من الأمة, وامتزجوا بأهل الإسلام ودرسوا علوم الفلاسفة والدهرية, وادعوا الحذق فيها, واستزلوا بواطن بعض طلاب العلم بإدعاء أن ما يشيرون هو باب العلم والحكمة فأفسدوا قلوباً ساكنة مستقرة في دعة الفطرة, أزعجوها عن استقرارها, وأوردوها غمران أوزارها, فهم حبايل الشيطان, وقبيله

المشاركون له في الإغواء والإختفاء كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] إلى آخر ما قال ... وقال الشيخ السنوسي في شرح عقيدته: وقل أن يفلح من أولع بصحبة كلام الفلاسفة, أو يكون له نور إيمان في قلبه أو لسانه, وكيف يفلح من والى من حادّ الله ورسوله, ثم قال: ولقد خذل بعض الناس, فتجده يشرف كلام الفلاسفة الملعونين ويشرف الكتب التي تعرضت لنقل كثير من حماقاتهم, لما تمكن في نفسه الأمارة بالسوء من حب الرياسة, إلى آخر ما قال ... وقال السيوطي في الإتقان: قوم غلب عليهم الجهل وطمعهم وأعماهم حب الرياسة وأصمهم, قد نكبوا عن علوم الشريعة ونسوها. وأكبوا على علوم الفلاسفة وتدارسوها, يريد الإنسان منهم أن يتقدم, ويأبى الله إلا أن يزيده تأخيراً, ويبغى العز ولا علم عنده, فلا يجد ولياً ولا نصيراً, انتهى. قوله: نكبوا أي عدلوا. يقول الفقير: وكأنهم يدخلون في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] الآية. [فصل] قال في إغاثة اللهفان: لما أقبل بنو إسرائيل على علوم المعطلة أعداء موسى عليه السلام وقدموها على نصوص التوراة, سلط الله

عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم وسبى ذراريهم, كما هي عادته سبحانه وتعالى وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي, وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة المعطلة من الفلاسفة وغيرهم, كما سلط على بلاد العرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق, واشتغلوا بها فاستولت النصارى على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم, وكذلك لما ظهر ذلك في بلاد المشرق سلط الله عليهم عساكر التتار فأبادوا أكثر البلاد الشرقية واستولوا عليها, وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة, لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد, سلط الله عليهم القرامطة الباطنية فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات واستولوا على الحجاج واستعرضوهم قتلاً وأسراً واشتدت شوكهم, انتهى. أقول, أما قوله: بنو إسرائيل هو ما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ

الفصل الرابع: (في حكم الاشتغال بالفلسفة)

رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 101 - 102] هـ الآية ... وقوله: والمنطق, يريد به المنطق المخلوط بالفلسفة كما هو كذلك في الأوائل. وأما المنطق المتداول اليوم فإنه علم مفيد لا محذور فيه, لخلوه عن خلط الفلسفة كما صرح به ابن الحجر في شرح الأربعين. الفصل "الرابع": (في حكم الاشتغال بالفلسفة) وقد سمعت من السبكي القول بإفتاء جماعة من أئمتنا بحرمة الاشتغال بالفلسفة. ثم إن قول العلماء بأن العلم تابع للمعلوم يقتضي حرمة الاشتغال به, وقد سمعت عن صاحب المدارك في الآية المذكورة. أنها واجبة الاجتناب, والمراد من الواجب الافتراض القطعي. وقال صاحب الكشاف: وفي الآية دليل على أن اجتناب تعلم السحر أصلح من تعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية, انتهى.

وقال خسرو في حاشية تفسير البيضاوي, وأما صاحب الكشاف فقال: إن في قول صاحب الكشاف كتعلم الفلسفة ما يرشدك إلى أن هذا الاجتناب عن تعلم السحر واجب احتياطاً, وإلى أنه كما لا يحرم تعلم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين يرد الشبه, وإن كان أغلب أحواله التحريم, كذلك السحر, إن فرض فشوه في ناحية, وأريد تبين فساده لهم ورجوعهم إلى الحق, وهذا لا ينافي إطلاقهم القول بتحريم تعلم السحر, انتهى. قوله: إن فرض, يدل على أن عدم حرمة تعلم الفلسفة للمنصوب للذب إنما هو أن فرض فشو عقايد الفلاسفة [في ناحية وأريد تبين فسادها هم, ورجوعهم إلى الحق, لكن الفلاسفة] انقرضوا, والفلسفة اندرست ولا يغشيها إلا مدارسوها المتفلسفون, فلو فرض أنهم يظهرون, فإنما يظهرون ما ينجسونه, ثم إن السبكي قال في كتب معيد النعم: إنما يجوز النظر في علوم الفلاسفة للمتبحر في العلوم الدينية القادر على دفع شبهاتهم الداحضة, الواثق من نفسه على أنها لا يزحزحها رياح الأباطيل.

أقول: فلا يصلح أن يكون منصوباً للذب إلا قليل من العلماء, فينظر ذلك العالم المتبحر إلى الفلسفة نظره إلى وجه العدو, ويمس كتبها مس الجيفة القذرة. قال الغزالي في رسالة المنقذ من الضلال: ولعمري لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم كمال الفضل والحذاقة والبراعة في تمييز الحق عن الضلالة, وجب حسم الباب في زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضلالة ما أمكن, انتهى. ثم اعلم أن علة حرمة الاشتعال بالسحر الاحتياط كما صرح به صاحب الكشاف, فكذا علة حرمة تعلم الفلسفة وتعلم كل حرام. ولذا قال صاحب الكشاف: كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية, وفي المثل: من يستمع يخل. قال في شرح المواقف: إن الجاحظ الذي هو من رؤساء المعتزلة كان من البلغاء, قد طالع كتب الفلاسفة, ولخص منها عقائد زائفة, لأن الإسماعيلية المسماة بالقرامطة الذين هم أخبث الفرق الضالة خلطوا كلامهم بكلام الفلاسفة قصداً إلى إبطال الشريعة بالتأويلات الباطلة وتفلسفوا ولم يزالوا مستهزئين بالنواميس الدينية والأمور الشرعية, انتهى. أقول: ولقد رأيت وسمعت من العلماء المعاصرين المنتسبين إلى الدين من يتأذى بذم الفلسفة والفلاسفة, وهذا أقوى دليل على تفلسفهم

واستحسانهم الفلسفة, ومن نظر في باب ألفاظ الكفر وإمارات الارتداد في كتب الفتاوي, لا (بـ) شك في ارتداد هؤلاء. {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 27] اللهم يا مقلب القلوب ثبن قلوبنا على دينك. آمين. ولنختم الرسالة بما قلنا في المتفلسفين نظماً ونثراً. أما النظم فهو: (قل لمن يهوى وجيف الفلسفة ... ما لكم في ذي المقالات السفه) (قل لكم من دون دين المصطفى ... نفس ارتابت وكانت في وله) (تلك نفس ألقيت في قذره ... مرتجاً تطهيرها في مغسله) (يا لئام القوم أنتم قوم سوء ... ويل أفلاطونكم ما أكفره) (من أضل الله يظلم شرعه ... يهلك [الأعمار] فيما ليس له) (في الشفا داء لقوم يبتغيه ... والإشارات انتهت في الحاميه) (ما لهم إلا زفير أو شهيق ... إذ تراهم كبكبوا في الهاويه)

(ساقهم ما حصلوا في هذه ... ضل عنهم سعيهم في المدرسة) (كلما قيل انتهوا خيراً لكم ... تسمع الآذان منهم سفسطة) (كلما قيل ارجعوا عن ذلكم ... ادبرونا مثل حمر القسورة) (أعين عمي قلوب غافلة ... قد أقاموا في سواء المهلكة) (قل لكم ميعاد يوم شره ... ليس مصروفاً عن المثاقلة) وأما النثر [فهو]: ومن الناس من يفرحون بالفلسفة ويوالون الفلاسفة ويرتطمون في أنفسهم في الكفر والضلال, ويصدون عن سبيل الهدى طائفة من الطلبة, لكنا برآء منهم ومما يهذون به, بدا بينا وبينهم العداوة, فحسبنا ما أنزل الله وما بلغنا من رسول الله. إنا نحن المحمدية, نسعى في تحصيل العلوم الإلهية والحكم النبوية. وهي مع أصولها وفروعها ومباديها ومتمماتها بحار منيعة أغوارها. والقواعد العقلية قد احتوت عليها كتب المتكلمين, فنحن في شغل وغنى عن مدارسة عقايد المشركين, والاقتحام في تخليطات الكافرين, {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5].

تمت الرسالة بعون الله تعالى وحسن توفيقه. اللهم بك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182 (} [الصافات: 180 - 182] [استراح القلم من تبييض الرسالة فيس نة ثامنة وعشرين بعد مائة وألف].

الخاتمة وبعد, فإن رحلتي مع هذا الكتاب أفدت منها الشيء الكثير, إذ أن العمل في خدمة التراث يفتح آفاقاً واسعة للاطلاع على ما خلفه أسلافنا العظماء من أعمال تعد بناء حضارياً عتيداً في تاريخ الأمم. وكتاب ترتيب العلوم هذا فيه خلاصة تومئ من قريب إلى ذلك السفر الإسلامي المجيد, إذ أن مؤلفه أظهر فيه لمحات من خطة تصنيف خاصة لطالب العلم, كيف ومن أين يبدأ إلى أن يرقى عالياً في سلم المعرفة. وفي أثناء ذلك يبقى مستديم الملاحظة لسلوك طالب العلم موجهاً ومعلماً ومربياً كأحسن ما يكون المربي الناصح الأمين, ومحذراً من زيوف المظاهر التي إن داخلت حياة طالب العلم أفسدته وانحرفت به عن جادة الصواب. ولم ينس رأي الشرع في تعلم العلوم كافة, فتتبعها علماً علماً مبيناً أحكام تعلمها من وجوب وندب وإباحة وحرمة وغير ذلك. والكتب كهذا الكتاب كثيرة في مخازن التراث الإسلامي, اندرجت تحت المعارف العامة أو الفلسفة الإسلامية, وتحتاج إلى أيدٍ نشطة تواقة إلى المجد لتخرج هذا التراث من ظلام المستودعات إلى نور الحياة العلمية لينتفع بها الناس ولتأخذ مكانها اللائق بها بين مقومات الحضارات الأخرى, ككتاب النقاية وإتمام الدراية للسيوطي وغيره الكثير. وحبذا لو توجه عناية بعض طلبة الدراسات العليا في الكليات النظرية- وحتى العلمية- إلى دراسة وتحقيق أمثال هذه الكتب التي حفل بها تراثنا العلمي الإسلامي. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1