تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي

الحرالي، أبو الحسن

تراث أبي الحسن الْحَرَالِّي المراكشي في التفسير 1 - مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل. 2 - عروة المفتاح. 3 - التوشية والتوفية. 4 - نصوص من تفسيره المفقود لسورتي البقرة وآل عمران. مستخرجة من تفسير البقاعي: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور.

مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل

مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل لأبي الحسن علي بن أحمد الْحَرَالِّي التجيبي المراكشي مقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم الحمد لله أهل الحمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي العبد، وعلى آله القائمين لله بالله بوفاء العهد، والرضا عن أصحابه المجدين في سبيل الله أتم الجد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الوعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا رسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. أما بعد، فإن لله مواهب جعلها أصولا للمكاسب، فمن وهبه الله عقلا يسر عليه السبيل، ومن ركب فيه خرقا نقص حظه من التحصيل، ومن أيده بتقوى الاستناد إليه في جميع أموره علمه وفهمه، ومن أتاه فصل خطاب أبان به حقيقة ما علمه. وإن الله تعالى إذا أقام داعيا له اختار له من يلقي عنه ويتبين منها؛ أولي أحلام ونهى، يحملهم الله ببداية إفضاله بها عليهم إلى المنتهى، وإنه إذا خوطب قوم ببيان،

وحوروا بتبيان، فلم يلقنون ولا فهموا، علم أن أساس مواهبهم يحتاج إلى تزكية تهيئهم إلى ما يقصد بهم من التفهم بقوانين وتنبيهات عل أمور جامعات. فاتخذ للمقصرين في اللسن قوانين النحو، حين اعوجت الألسنة، وكان أول من اتخذ ذلك أبو الأسود الدؤلي، رحمه الله، في زمن علي، عليه السلام. واتخذ للناقصي التعقل والتصور علم المعقولات، وذلك في زمن حكماء اليونانيين. واتخذ للناقصى الإبانة والبلاعة علم الأدب، وكان أول من صنف في ذلك وجمع شتاته أبو عمرو، الجاحظ، رحمه الله. واتخذ للناقصي التفهم في علم الأحكام من كتاب الله، وسنة رسول الله، علم أصول الفقه، وكان أول من وضع في ذلك الإمام المطلبي أبو عبد الله، محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه. وإن الله سبحانه يقيم من أمره ما شاء، ويزيد في الخلق ما يشاء. وإن أتم الزيادات وأكملها، من وهبه الله فهما في كلامه، ووعيا عن كتابه، وتبصرة في الفرقان، وإحاطة بما شاء من إحاطة علم القرآن. ففيه تمام شهود ما كتب الله بمخلوقاته من ذكره

الحكيم، بما يزيل عنايته من غطاء الأعين، ونبأ ما نزل من الذكر المبين، بما يسمع من يشاء بتأييده روح منه، فيندرج في علمه كل علم، من أصناف علم الخلق وعلم الأمر، طبعا وعقلا وإيمانا ويقيا، إذ فيه تفصيل كل شيء، وتنزيل كل وحي، ولذلك كان ختما لكل كتاب، ونبوة المنزل عليه ختما لكل نبوة ورسالة، كمل محمد، - صلى الله عليه وسلم - في دار الدنيا قلبا، وفي ليلة الإسراء ذاتا: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وذاته هي آية ربه الكبرى، "من عرف نفسه عرف ربه" {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}. وكمل آله قلبا ووجدا بوجد ذاته ليلة إسرائه، ومن دونه وآله يتكاملون بهم نشئا نشئا، وتماما تماما في الداربن "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". إلى ما شاء الله من سر قوله: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}. وذلك من وراء آباد، والله واسع عليم. وقد علم الأولون والآخرون أن فهم كتاب الله منحصر إلى علم على، عليه السلام، ومن جهل ذلك فقد ضل عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب، حتى يتحقق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء. وإن كثيراً من العلماء والأدباء والعقلاء خاضوا في علم القرآن تفسيراً مما بدا منه في يوم الدنيا، وتأويلا لما يبدو منه في يوم الآخرة، وفهما لما هو عليه دائما، حيث لا ليل، ولا نهار. فأما قوانين تفسيره ففي علم النحو والأدب، وأما قوانين تأويله ففي علم

الإيمان، وتحقيق أن الخبر ليس كالعيان، وأما قوانين التطرق إلى فهمه، ففي قلوب عباد اختصهم الله بالفهم، وآثرهم بإحاطة من العلم، تأمن بهم القرون، وتنجلي بهم ظلم الفتون، لاتخلو الأرض من قائم لله بحجة: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. حتى يأتي أمر الله". وإن مما أقامه الله لتتبع علم التفسير والتأويل، تم فتح عليه حظا من التطرق للفهم، بما زكاه الله من الزهد، والقيام على باب الله عشرين سنة - الشيخ الإمام عالم المدينة في وقته؛ أبا عبد الله محمد بن عمر القرطبي، قدس الله روحه. وإنما توقف الفهم على مثل حاله، لأن الله، سبحانه، أباح علم الآيات بغير شرط، وجعل من دون تعلم الكتاب، والحكمة، التزكة بالزهد، والوجهة إلى الله، {يتلوا عليهم آياته يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. فكان مما يسره الله رؤيته والقراءة عليه، تفهمنا عليه الفاتحة في أربعة

أشهر، وكان يفيد قوانين في التطرق إلى الفهم، تنزل في فهم القرآن منزلة أصول الفقه، في تفهم الأحكام. ثم من الله سبحانه، ببركات ومواهب لا تحصى، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاستخرنا الله سبحانه، في إفادة قوانين تختص بالتطرق إلى تفهم القرآن، ويتنبه بها، بأيد من الله وروح منه، إلى على البيان، يكون "مفتاحا لغلق الباب المقفل، على تدبر القرآن المنزل" {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}. قوم منعهم من فهمه تفسيره وشغلهم بما حضر من دنياهم، وقوم منعهم من فهمه تأويله وشغلهم بما سمعوا من أمر أخراهم، وقوم منعهم من فهمه سابق آراء عقلية انتحلوها، ومذاهب أحكامية عقلية تمذهبوا بها، فإذا سمعوه تأولوه لما عندهم، فيحاولون أن يتبعهم القرآن، لا أن يكونوا هم يتبعونه، وإنما يفهمه من تفرغ من كل ما سواه. "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين". فإن للقرآن علوا من الخطاب يعلو على قوانين العلوم علو كلام الله على كلام خلقه، فنورد، بعون الله، والتأييد بروح منه، أبوابا تشتمل على ما يجريه الله من: "مفتاح الباب إلى فهم الكتاب" والله الولي الحميد.

الباب الأول في علو بيان القرآن على بيان الإنسان

الباب الأول في علو بيان القرآن على بيان الإنسان اعلم أن بلاغة البيان تعلو إلى علو قدر المبين، فعلو بيان الله على بيان خلقه، بقدر علو الله على خلقه. فبيان كل مبين على قدر إحاطة علمه، فإذا أبان الإنسان عن الكائن أبان بقدر ما يدرك منه، وهو لا يحيط به علمه، فلا يصل إلى غاية البلاغة فيه بيانه، وإذا أنبأ عن الماضي. فبقدر ما بقي من ناقص علمه به كائنا في ذكره، لما لزم الإنسان من نسيانه، وإذا أراد أن ينبئ عن الآتي، أعوزه البيان كله، إلا ما يقدره أو يزوره، فبيانه في الكائن ناقص، وبيانه في الماضي أنقص، وبيانه في الآتي ساقط: {يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}. وبيان الله، سبحانه، عن الكائن بالغ إلى غاية ما أحاط به علمه: {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ}، وعن المنقطع، كونه بحسب إحاطته بالكائن، وسبحانه من النسيان {لا لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} وعن الآتي بما هو الحق الواقع {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} والمبين الحق لا يوهن بيانه إيهام نسبة

النقص إلى بيانه، والإنسان يتهم نفسه في البيان، ويخاف أن ينسب إلى العي، فيقصد استغراق البيان، ويضعف مفهوم بيانه ضعفا من منته. ومفهوم بيان القرآن أضعاف أضعاف إفصاحه، وقل ما ينقص عن نظيره، فنذكر قانونه في الباب الثاني، يحول الله.

الباب الثاني في جمع القرآن لنبأي الإفصاح والإنهام

الباب الثاني في جمع القرآن لنبأي الإفصاح والإنهام اعلم أن الله، سبحانه، أنزل القرآن مثاني، بين إجمال وتفصيل، وبين إفصاح وإفهاء. يفهم نبؤه عنه، تعالى، إفصاحا نبأه عن عبده إفهاما، لمقابلة ما بين العبد والرب، يفهم نبؤه عن عبده إفصاحا نبأه عنه تعالى، إفهاما، وكذلك فيما بين دنيا العبد العاجلة، والأخرى الآجلة، وكذلك فيما بين هداه وإضلاله، وفتنته ورحمته، وبين كل متقابلين من خلقه وأمره، وكذلك فيما بين آيات الإعتبار من أمر الخلق، ومعتبراتها من أمر الحق، ولايكاد هذا النحو من البيان يقع شيء منه في بيان الخلق ولا بلاغتهم، إلا نادرا؛ لمقصد اللحن به، والإلغاز بإفهامه، فمتى أنبأ عنه، تعالى، أخذ القاهم مقابل ما يتلو إفصاحا في قلبه عن العبد مفهوما، فيملأ القرآن قلبه بإفهامه، ويملأ سمعه بإفصاحه، فإفهامه إسراره للقلوب الفهمة، وإفصاحه إعلانه للأسماع الواعية، فيسمعه من ربه سرا وعلانية، وهذا من أجل قوانين فهمه وإحصاء علمه. وأما ما يقع فيه الإفهام في متقابلات ظاهرة يقع البيان عن أحدها إفصاحا، ويلازمه الآخر إفهاما، فربما وقع لآحاد من بلغاء العرب نظيره، وهو في القرآن كثير، وفي بلاغات العرب قليل، وأمثلة ذلك بالمشافهة بها أولى، لما يعلمه الله.

ولما كان لجمع أصل الخلق تفريج، وجعل ما يجريه على ألسنة الخلق من نطقهم عنه نبأ تفريق، ظهر التقصير في بيانهم، وبلغ إلى غاية البلاغة بيان القرآن عن كل ناطقة بأيما لسان، فنذكر قانونه في الباب الثالث، بحول الله.

الباب الثالث في إبانة القرآن عن ألسنة ذوات الخلق، وعن تنزلات أسماء الحق

الباب الثالث في إبانة القرآن عن ألسنة ذوات الخلق، وعن تنزلات أسماء الحق اعلم أن الله، سبحانه، امتن على عباده بالقرآن نطقا عن ذواتهم، وعن ذات كل خلق، وإقامة كل أمر، بما لا يصل بيانهم إلى النطق به عن ذواتهم، فسكتهم وأبان عنهم، كما سكتهم بالتوحيد، وتوكل لهم، فمن اكتفى ببيان الله عن بيانه، وبوكالة الله عن تكلفه، استوى حاله في الدنيا والآخرة، وذلك هو إقامته، كما أنه إذا رحم قول، واكتفى منهم بالقول، فيما لم يستطيعوا، وإذا امتحن كلف أمراً ونهيا، لتبدو في الإبانة إقامته، وفي التقويل رحمته، وفي الامتحان حلمه ونقمته، وأعظم أمره إقامته وإبانته، ولكل بيان يخصه. وكذلك لكل اسم من أسمائه بيان تخص إقامته طورا من أطوار خلقه تفصيلا وإجمالا، فمن تفطن إلى رتب الخطاب في القرآن بحسب أسماء الله وأطوار الخلق، وتنزلات الأمر، ورتب تنامى القلوب في الرجوع إلى الله، وأطوار الخلق، والأعمال، وما يقابل ذلك من دركات البعد والبغض والطرد واللعن - فتح الله له بابا إلى الفهم يجد به يقين تجربة إبانته، ووضوح صدق إنبائه عن كنه الذوات ورتب التنزلات، حتى إن خطاب الإقبال ينتظم بخطاب الإعراض، والغيبة بالحضور، والاختصاص بالتعميم، فنذكر في ذلك ترتيبا في الباب الرابع، بحول الله.

الباب الرابع في رتب البيان عن تطور الإنسان بترقيه في درج الإيمان وترديه في درك الكفران

الباب الرابع في رتب البيان عن تطور الإنسان بترقيه في درج الإيمان وترديه في درك الكفران اعلم أن الله، سبحانه، محيط بكل شيء خلقا وأمراً، أولاً وآخرا، ظاهرا وباطنا، وهو حمده، وله ظهور في علو أمره وكبير خلقه، واحتجاب في مقابل ذلك من خلقه وأمره، بما أبداه من حكمته، وأسباب هداه وفتنته، وذلك العلو هو إلهيته، والاحتجاب هو ملكه، وبينهما إقامة كل خلق لما خلق له، وتأييده كل أمر من الأمرين لما أقيم له، وذلك هو ربانيته، ولكل فئق من خلقه وأمره رتق سابق، ولكل تفاوت سواء، وذلك هو رحمانيته، ولكل أقرب من مدد الحجاب اختصاص، وذلك هو رحيميته، ولكل أبعد في مدد الحجاب بطش منه شديد، في رده إلى القرب، وتلك هي نقمته، ولكل من تنزلاته العلية، ظاهراً وباطنا، أمر خاص، ولكل أمر خلق، يرد بيان القرآن لكل خلق بحسب كنه ذاته. واختصاص رتبة قربه ومحل بعده. وإن الله، سبحانه، جعل آدم وذرءه خليفة له في جمع أمره وتفصيله، وأنزل القرآن نبأ عن جملة ذلك، فأردى الأحوال لهذا المستخلف المحل الذي يسمى فيه

بالإنسان، وهو حيث أنس بنفسه وغيره، ونسي عهد ربه، فيرد لذلك نبؤه بالذم في القرآن، {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} ثم المحل الذي تداركه فيه تنبه لسماع الزجر من ربه، وهو له بمنزلة سن الميز لابن سبع، ولايقع إلا عن اجتماع وثراء، وذلك هو السن المسمون فيه بالناس، لنوسهم أي ترددهم بين سماع الزجر من ربهم، وغلبة أهوائهم عليهم، فيرد لذلك نبؤهم بذم أكثرهم في القرآن؛ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} و {لَا يَشْكُرُونَ}. ثم المحل الذي يتحقق لهم قبول وسماع وإيمان لغائب الأمر والخلق، ولكنهم ينزلون عنه كثيرا، عند كل عارضة نبل وخادعة رفعة، وهو لهم بمنزلة سن المحتلم الذي ذاق طعم بدو النطفة من باطنه الناجم العقل للنظر في حقائق المحسوسات، وذلك هو السن الذي يسمون فيه {الَّذِينَ آمَنُوا} وهو أول سن التلقي، فلذلك جميع آداب القرآن وتعليمه إنما مورده أهل هذا السن، كان ابن مسعود، رضي الله عنه، يقول: إذا سمعت الله عز وجل يقول: "يا أيها الذين آمنوا فارعها سمعك، فإنه خبر يأمر به، أو شر ينهى عنه". وكما أن ما يخص البالغ العاقل من الخطاب لايدخل فيه الصبي المميز، وما يخص المميز لايدخل فيه البالغ، كذلك خطاب الذين آمنوا لم يصل إليه الناس بعد، وخطاب الناس قد جاوزه الذين آمنوا، لأنهم قد انزجروا، بما قبلت قلوبهم، عما يزجر عنه الناس، وقد ائتمروا بما يؤمر به الناس. وهذه الأسنان الحالية عند أولي البصائر، وخاص خطابها، أشد ظهورا من أسنان الأبدان، عند أصحاب الأبصار، وعدم التبصرة بهده المراتب في الأحوال والبيان، هي أقفال القلوب المانعة من تدبر القرآن.

وكذلك ما فوق سن الذين آمنوا من سن الذين يؤمنون، وهم، في أول حد القرب، بمنزلة بلوغ الأشد، وسن الذين آمنوا والناس في مدد حد البعد، ولذلك يخاطبون بحرف "يا" المرسلة إلى محل البعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}. وفوق ذلك سن المومنين، وأدنى قربا، ولذلك لم يرد في القرآن في خطابهم، ياء البعد، وهذه السن بمنزلة الاكتهال، وسن الشيب، وتمام سنهم المومنون حقا، وكذلك إلى سن المحسنين إلى غيب سن الموقنين، إلى ما وراء ذلك، فإن أسنان الجسم أرابع، وأسنان القلب أسابيع، يعرفها من تطور فيها، ويجهلها من ثبت سن قلبه على الجهل، وتطور سن جمسه إلى الهرم، "يهرم ابن آدم وتشب منه إثنتان: الحرص والأمل" فالحرص فقره، ولو ملك الدنيا، والأمل همه وتعبه، فمن لم يتحقق أسنان القلب، وتفاوت خطابها، لم ينفتح له الباب إلى فهم القرآن، ومن لم تتضح له تنزلات الخطاب لم يبق له خطاب الله من خطاب الرحمن، من خطاب الملك الديان. فنذكر لذلك تطرقا في الباب الخامس، بحول الله، والتأييد بروح منه.

الباب الخامس في تنزلات خطاب القرآن بحسب أسماء الله

الباب الخامس في تنزلات خطاب القرآن بحسب أسماء الله اعلم أن خطاب الله يرد بيانه بحسب أسمائه، ويجمعها جوامع، أظهرها ما ترى آياته، وهو اسمه {الْمَلِكُ} وما يتفصل إليه من الأسماء المقيمة لأمر الحكم والقضاء والجزاء، نحو: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الذي تختم به آيات الأحكام: {نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. ثم ما تسمع آيته، وهو اسمه الرحمن الرحيم، وما يتفصل من الأسماء، من معنى الرحمة المنبئة عن الصفح والمغفرة، الذي تختم به آيات الرحمة: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. فلكل تفصيل، في مورد وجهي العدل والفضل، أسماء يختص بها نبؤها،

ولذلك قال عليه السلام: [أول الحديث: أنزل القرآن عل سبعة أحرف، كلها شاف كاف] مالم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة. ثم ما توجد آيته وجدانا في النفس، وهي الربوبية، وما ينتهي إليه معنى سواء أمرها من {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وما يتفصل إليه من الأسماء الواردة في ختم الإحاطات، نحو " الواسع العليم". فمن تفطن لذلك استوضح من التفصيل الختم، واستشرح من الختم التفصيل، وقد كان ذلك واضحا عند العرب، فاستعجم عند المتعربين، إلا ما كان ظاهر الوضوح منه. ولتكرار الأسماء بالإظهار والإضمار بيان متين الإفهام في القرآن، فنذكره في الباب السنادس بحول الله.

الباب السادس في وجه بيان القرآن في تكرار الإظهار والإضمار

الباب السادس في وجه بيان القرآن في تكرار الإظهار والإضمار اعلم أن لموقع الإظهار والإضمار في بيان القرآن وجهين: أحدهما يتقدم فيه الإظهار، وهو خطاب المومنين يآيات الآفاق، وعلى نحوه هو خطاب الخلق بعضهم لبعض، لا يضمرون إلا بعد أن يظهروا. والثاني يتقدم فيه الإضمار، وهو خطاب الموقنين بآية الأنفس، ولم يصل إليه تخاطب الخلق، فإذا كان البيان عن إحاطة، تقدم الإضمار: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وإذا كان عن اختصاص تقدم الإظهار: {اللَّهُ الصَّمَدُ}، وإذا رد عليه بيان على حده، أضمر: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، وإذا أحاط البيان بعد اختصاص، استؤنف له إحاطة باستئناف إظهار محيط أو بإضمار، أو بجمع المضمر والمظهر: {ياتقا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} {هُوَ اللَّهُ الَّذِي

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} والتفطن لما اختص به بيان القرآن عن بيان الإنسان، من هذا نحو، من مفاتيح أبواب الفهم، ومن نحوه: {أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} استأنف لخصوص المستطعمين إظهارا غير إظهار عموم المأتيين. ولمجاري الإضافات فيما يضاف من الأسماء، وفيما ينعت، وجه بيان في القرآن، نذكره في الباب السابع بحول الله.

الباب السابع في رتب البيان في إضافة الربوبية ونعت الإلهية في القرآن

الباب السابع في رتب البيان في إضافة الربوبية ونعت الإلهية في القرآن اعلم أن الربوبية إقامة المربوب بما خلق له، وأريد له، فرب كل شيء مقيمه بحسب ما أبداه وجوده، فرب المومن ربه ورباه للإيمان، ورب الكافر ربه ورباه للكفران، ورب محمد ربه ورباه للحمد "أدبني ربي فأحسن تأديبي" ورب العالمين ربي كل عالم لما خلقه له: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. فللربوبية بيان في كل رتبة بحسب ما أظهرته آية مربوبه "من عرف نفسه عرف ربه". {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ

رَبِّهِمْ}. وكما يتضح لأولي التعرف رتب البيان بحسب إضافة اسم الرب، فكذلك يتحقق لأولي الفهم وجوه إحاطات البيان بحسب النعوت والتبيان؛ في اسم الله غيبا في مستجلي الآيات للمومن، وعينا لكامل التقوى الموقن، وجمعا وإحاطة عن بادي الدوام للمتحقق الواجد {اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. والتفطن لرتب البيان في موارد هذا النحو من الخطاب في القرآن من مفاتيح الفهم، وبوادي مزيد العلم. وكذلك لوجوه الإقبال، على رتب أسنان قلب الإنسان، والإعراض والالتفات أنحاء من البيان، فنذكر ذلك في الباب الثامن، بحول الله.

الباب الثامن في وجوه بيان الإقبال والإعراض في القرآن

الباب الثامن في وجوه بيان الإقبال والإعراض في القرآن اعلم أن كل مربوب يخاطب بحسب ما في وسعه لقنه، وينفي عنه ماليس في وسعه لقنه، فلكل سن من أسنان القلوب خطاب إقبال بحسب لقنه، وربما كان له إنباء عن بعض ذلك، فيقع عنه الإعراض بحسب بادي ذلك الإباء، وربما تلافته الرحمة فعاد الإقبال إليه بوجه ما، دون صفاء الإقبال الأول، وربما تناسقت الإقبالات مترتبة، فيعلو البيان والإفهام، بحسب رتبة من توجه إليه الإقبال، ويشتد الإدبار بحسب بادي الإدبار، وربما تراجع لفف البيان فيها بعضها على بعض، فخطاب الإقبال على النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم إفهام في القرآن. {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} الآية {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا}. تفاوت الخطابين بحسب تفاوت المخاطبين: {أو أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} أعرض عنهم الخطاب، ونفى عنهم ما ليس في حالهم رؤيته. {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} خاطبهم وأمرهم، فلما

عصوا أعرض وجه الخطاب عنهم، ثم تلافاهم بخطاب لسان نبي الرحمة لهم، واستمر إعراضه هو تعالى عنهم في متمادي الخطاب. "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} تنزل الخطاب في الرتبتين، ليتبين الأعلى ما يبينه للأدنى {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ}. وهذا الباب عظيم النفع في الفهم، لمن استوضح بيانه والتفاف موارده في القرآن. ولرتب الآيات المضافة لأسنان القلوب في القرآن مراتب في العلم والإفهام، فنذكره في الباب التاسع، بحول الله.

الباب التاسع في وجوه إضافات الآيات واتساق الأحوال لأسنان القلوب في القرآن

الباب التاسع في وجوه إضافات الآيات واتساق الأحوال لأسنان القلوب في القرآن اعلم أن الآيات والأحوال تضاف وتتسق لمن اتصف بما به إدراك معناها، ويؤنب عليها من تقاصر عنها، وينفى منالها عن من لم يصل إليها، وهي أطوار، أظهرها آيات الاعتبار البادية لأولي الأبصار، لأن الخلق كله إنما هو علم للاعتبار منه، لا أنه موجود للاقتناع به {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. اتخذوا ما خلق للعبرة به إلى ربه كسبا لأنفسهم، حتى صار عندهم وعند أتباعهم آيتهم لا آية خالقه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ثم يلي آيات الاعتبار ما ينال إدراك آينه العقل الأدنى ببداهة نظره {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. جمع الآيات لتعدد وجوهها في مقصد البيان. ثم يلي ما يدرك ببداهة العقل، ما يحتاج إلى فكر يثيره العقل الأدنى، لشغل

الحواس بمنفعته عن التفكر في وجه آيته: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أفرد الآية لاستناد كثرته إلى وحدة الماء ابتداء، ووحدة الانتفاع انتهاء. ثم يلي مايدرك بفكر العقل الأدنى ما يقبل بالايمان، ويكون آية أمر قائم على خلق، وهو مما يدرك سمعا، لأن الخلق مرئي، والأمر مسموع: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}. هذه آية حياة القلوب بنور العلم والحكمة الذي أخذ سمعا عند تقرر الإيمان. وعند هذا الحد يتنامى العقل إلى فطرة الأشد، وتعلو بداهته، ويترقى فكره إلى نظر ما يكون آية في نفس الناظر، لأن مجاز غيب الكون يرد إلى وجدان نفس الناظر، وكما كان الماء آية حياة القلوب، صار الشرابان: اللبن والحجر آيتين على أحوال تخص القلوب، بما يغذوها من أمر الله غذاء اللبن وينشيها نشوة السكر منبعثا من بين فرث ودم نزول الخلق المقام عن الأمر القائم عليه: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ} الآيتين إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. هذا هو الحقل الأول (17)، فأفرد (هـ أي الآية لانفرإد! وردها في وجد القلب.

وكما للعقل الأدنى فكرة تنبني على بداهته، فكذلك للعقل الأعلى فكر ينبني على علي فطرته: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} إلى قوله: {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وهذا العقل الأعلى هو اللب الذي يكون عنه التذكر بالأدنى من الخلق للأعلى من الأمر. {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} وفي مقابلة كل من هذه الأوصاف أضداد يرد البيان فيها بحسب مقابلتها، وكذلك حكم وصف المتقين، فيما يظهر أن لاغناء للعبد بنفسه، ووصف المسلمين فيما يظهر أن لاأنجى للعبد من إسلامه نفسه لربه، ووصف المحسنين فيما يظهر قيام ظاهر العبد بربه، ووصف الموقنين فيما وجد يقينه العبد من نفسه، أو عاين ابتداءه بظاهر حسه، {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} من استغنى بما عنده من وجد لم يتفرغ لقبول غيب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا}.

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}. {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به". {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}. ولجملة هذه الأوصاف أيضا أضداد يرد بيان القرآن فيها بحسب تقابلها، ويجري معها إفهامه، وما أوصله خفاء المسمع والمرأى إلى القلب هو فقهه، ومن فقد ذلك وصف سمعه بالصمم، وعينه بالعمى، ونفى الفقه عن قلبه، ونسب إلى البهيمية، ومن لم تنل فكرته أعلام ما غاب عنه عيانه نفى عنه العلم: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}. {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} الآية. إلى قوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. {يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} نفى العلم فيما ظهرت

أعلامه، والفقه فيما خفي أمره. وموارد البيان أضداد هذه الأوصاف بحسب تقابلها. وهذا الباب لمن يستفتحه، من أنفع فواتح الفهم في القرآن. ولننه هذه الأبواب بذكر القرآن ومحتواه على الكتب، وجمعه وقرآنه وبيانه وتنزيله وإنزاله، وحكيمه ومبينه ومجيده وكريمه وعظيمه، ومرجعه إلى السبع المثاني والقرآن العظيم، أم القرآن ومحتواها عليه، فنذكر جميع ذلك في الباب العاشر بحول الله.

الباب العاشر في محل أم القرآن من القرآن، ووجه محتوى القرآن على جميع الكتب والصحف المتضمنة لجميع الأديان وما حواه من وجوه البيان

الباب العاشر في محل أم القرآن من القرآن، ووجه محتوى القرآن على جميع الكتب والصحف المتضمنة لجميع الأديان وما حواه من وجوه البيان اعلم أن الله سبحانه جمع نبأه العظيم كله عن شأنه العظيم جمعا في السبع المثاني، أم القرآن، وأم الكتاب، وكنزها تحت عرشه، ليظهرها في الختم عند تمام أمر الخلق، وظهور بادي الحمد؛ لمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، لأنه تعالى يختم بما به بدأ، ولم يظهرها قبل ذلك، لأن ظهورها يذهب وهل الخلق، ويمحو كفرهم، ولايتم نبأ القول إلا مع قائم بمشهود بيان الفعل، ليتم الأمر مسمعا ومرأى وذلك بمن يكون من خلقه كل خلق، ليبين به ما من أمره كل أمر، ثم فيما بين بدء الأمر المكنون، وخاتم الخلق الكامل، تدرج تنشئ الخلق، وبدو الأمر، على حساب ذلك الخلق، صحفا فصحفا، وكتابا فكتابا فالصحف لما يتبدل سريعا، والكتاب لما يثبت ويدوم أمداً، والألواح لما يقيم وقتا، ففي التوراة أحكام الله على عباده في الدنيا بالحدود والمصائب والضراء والبأساء؛ وفي القرآن منها ما شاء الله، وما يظهره الفقه من الحدود، ومعارف

الصوفية من مؤاخذة المصائب، وفي الإنجيل أصول تلك الأحكام، والإعلام بأن المقصود بها ليست هي، بل ما وراءها من أمر الملكوت. وفي القرآن منها ما شاء الله مما يظهره العلم والحكمة الملكوتية. وفي الزبور تطريب الخلق وحداهم عن أنفسهم إلى ربهم. وفي القرآن منه ما شاء الله مما تظهره الموعظة الحسنة. ثم أنهى الأمر والخلق من جميع وجوهه فصار قرآنا جامعا للكل، متمما للنعمة، مكملا للدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}. ووجه فوت أم القرآن للقرآن أن القرآن مقصود تنزيله التفصيل، والجوامع فيه نجوم مبثوثة غير منتظمة واحدة إثر واحدة، والجوامع في أم القرآن منتظمة، واحدة بعد واحدة، إلى تمام السبع، على وفاء لامزيد عليه، ولانقص عنه، أظهر تعالى بما له سورة صورة تجليه، من بدء الملك إلى ختم الحمد، وبما لعبده سورة صورة باديه من براءته من الضلال، إلى هدي الصراط المستقيم. {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [وبما بينه وبينه قيام ذات

الأمر والخلق] فكان ذلك هو القرآن العظيم، الجامع لتفاصيل ما حواه القرآن المطلق الذكر، بما فيه من ذلك تفصيلا من مبينه، وهو ما عاينت آية مسموعه، ومن مجيده، وهو ما جربت أحكامه من بين عاجل ما شهد، وأجل ما علم بعلم ما شهد، فكان معلوما بالتجربة المتيقنة، بما تواتر من القصص الماضي، وما شهد له من الأثر الحاضر، وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه، ومن كريمه، وهو ما ظهرت فيه أفانين إنعامه، فيما دق وجل، وخفي وبدل، ومن حكيمه، وهو ما ظهر في الحكمة المشهودة تقاضيه، وانتظام مكتوب خلقه، على حسب تنزيل أمره، وما كان منه بتدريج وتقريب للأفهام، وتأت من حال إلى حال، وحكم إلى حكم، كان تنزيلا، وما أهوى به إهواء من علو إلى سفل كان إنزالا، وهو إنزال حيث لا وسائط، وتنزيل حيث الوسائط. وبيانه حيث الإمام العامل به مظهره في أفعاله وأخلاقه: "كان خلقه القرآن" وقرآنه تلفيق تلاوته على حسب ما تتقاضاه النوازل. آخر آية أنزلت {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}. قال - صلى الله عليه وسلم -، بما في مضمون قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}. "اجعلوها بين آية الدين، والآية التي قبلها" لأنه ربما تقدم كيان الآية وتأخر في النظم

قرآنها على ما تقدم عليها. آية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية متأخرة الكيان، مقدمة القرآن على آية: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}. وقد يتطابق قرآن الأمر وتطوير الخلق، وقد لا يتطابق، والله يتولى إقامتهما. وأما الجمع ففي قلبه نسبة جوامعه السبع في أم القرآن إلى القرآن، بمنزلة نسبة جمعه في قلبه، لمحا واحداً، [إلى أم القرآن] {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} فهو جمع في قلبه، وقرآن على لسانه، وبيان في أخلاقه وأفعاله، وجملة في صدره، وترتيل في تلاوته: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} قال الله {كَذَلِكَ} أي كذلك نزلناه إلى ماهو منك بمنزلة سماء الدنيا من الكون. {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} أي إلى سماء الدنيا، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} على لسانه في أمد أيام النبوة. هذا منتهى القول في الباب العاشر. وهو إن شاء الله حسب لمن استشعر التقوى، وتفرغ مما سوى القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.

ولأنه بعون الله "مفتاح للباب المقفل لفهم القرآن المنزل". سمي بهذا الاسم، وإن ربك هو الفتاح العليم. * * * * آخر نسخة باريس "ب" (المكتبة الوطنية): "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، والحمد لله رب العالمين". * * * * آخر نسخة الرباط "ط" (المكتبة العامة) "بتر في آخرها". * * * * آخر نسخة الإسكندرية "س" (مكتبة بلدية الإسكندرية) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين. تم الكتاب بعون الله الملك (كلمة غير مقروءة) في التاريخ العاشر من جمادى الأول - كذا - سنة ز. ع. ح مائة [847]، في يوم الأربعاء وقت الظهر في المكة - كذا - المشرفة حرسها الله تعالى عن الآفات والعاهات، على يد عبد الضعيف فقير حقير كمال تاج غريب مسكين، عفا الله من نظر إلى هذا الكتاب ولجميع المؤمنين. آمين رب العالمين. قامه على شيخ على ثلاثة درهم - كذا - شامي.

كتاب العروة للمفتاح الفاتح للباب المقفل المفهم للقرآن المنزل

كتاب العروة للمفتاح الفاتح للباب المقفل المفهم للقرآن المنزل لأبي الحسن علي بن أحمد الْحَرَالِّي التجيبي المراكشي تقديم وتحقيق: محمادي بن عبد السلام الخياطي أستاذ بكلية أصول الدين تطوان

مقدمة

مقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم الحمد لله الذي أنزل القرآن على أحرفه السبعة إحاطة وكمالا، وتولى جمعه فهما وقرآنه مقالا، وبيانه فعالا، وأقام به حكم الدين وخلق الدنيا وخلق النفس وأدب الرب وحمد الله تفصيلا وإجمالا، وجعل لصلاة علمه وفهمه وهداه طهور التقوى منالا، وفك عن من رضى قلبه أن يسعه بتبارك تدبره أقفالا، وعلمه، بعد التزكية، كتابه وحكمته، ومالم يكن يعلم إتماما لنعمته وإفضالا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، في شيء من ملك الدنيا وملكها وتدبيرها، ولا في أمر من أمر العقبى وفصلها، وإيساعها وتقديرها، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بين، - صلى الله عليه وسلم -، بخاص سنته من تلك الحروف أجمعها وأعلاها، وبعام أحكام شرعته أنزلها وأدناها، وبسعة حنيفيتها البيضاء النقية ما بين ذينك الحرفين فأوضحها وجلاها، فعدل بالأكثر عن خصوصا تعريفه بها وتبيينه لها فقل أو فقد عندهم جدواها، وأوجد برد اليقين وطيب التبين والتبيين لمن بصره إياها، وذلك ببركة إيثار المأثور عنه، - صلى الله عليه وسلم -، للمتحقق من حيطة علمه ومضاء حكمه حين سماها، وإعراض عن أقوال واختلافات يسوقها الحدس ويقودها الظن، ولا يثلج القلب بمعناها، صلاة تعود على الخاص والعام بركتها وزلفاها. وإنه لما تقدم إملاء كتاب: "مفتاح الباب المقفل، لفهم القرآن المنزل" أعلق به القول في الحروف السبعة، وفي شرط منال علمها وحالها وبيانها، في بابين وفصول، عروة توثق إمساكه، وتشرب القلب، بتأييد الله، ملاكه، وتكمل؛ بحول الله، فائدته، وتيسر، على قرب تيسير الله، عائدته، ولتعلق العروة بمفتاحها، ولتنتهي الأفهام في القرآن بما أسرج، بتوفيق الله، من مصباحها إلى ضحى صباحها، والله ولي التأييد، وهو الولي الحميد.

الباب الأول في بيان الأحرف السبعة

الباب الأول في بيان الأحرف السبعة ويشتمل على تمهيد، وسبعة فصول، بحول الله تعالى. القول في التمهيد: اعلم أن القرآن منزل عند انتهاء الخلق وكمال الأمر بدءاً، فكان المتخلق به جامعا لانتهاء كل خلق وكمال كل أمر، فلذلك هو، - صلى الله عليه وسلم -، قثم الكون، وهو الجامع الكامل، ولذلك كان خاتما، وكان كتابه ختما، وبدأ المعاد من حد ظهوره {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} فاستوى صلاح هذه الجوامع الثلاث، التي قد خلت في الأولين بداياتها، وتمت عنده غاياتها، "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وهي صلاح الدين والدنيا، والمعاد الذي جمعها في قوله، - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أصلح لي ديني، الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي". وفي كل صلاح إقدام وإحجام، فتصير الثلاثة الجوامع ستة مفصلات هي حروف القرآن الستة التي لم يبرح يستزيدها من ربه حرفا حرفا، فلما استوفى الستة وهبه ربه حرفا جامعا سابعا فرداً لا زوج له، فتم إنزاله على سبعة أحرف، هي ما فسرها، - صلى الله عليه وسلم -، في الحديث الوارد الغني عن تطلبها بالحدس، وفي بيانه، - صلى الله عليه وسلم -، شفاء العي وثلج اليقين، ونور التبصرة، فأدنى تلك الحروف هو حرفا صلاح الدنيا، فلها حرفان:

أحدهما: حرف الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهر منه لبعده عن تقويمها. والثاني حرف الحلال: الذي تصلح النفس والبدن عليه، لموافقته لتقويمها. وأصل هذين الحرفين في التوراة، وتمامها في القرآن. ثم يلي هذين حرفا صلاح المعاد: أحدهما: حرف الزجر والنهي الذي لاتصلح الآخرة إلا بالتطهر منه، لبعده عن حسناها. والثاني: حرف الأمر الذي تصلح الآخرة عليه، لتقاضيه لحسناها. وقد تتضرر على ذلك حال الدنيا، لأنه يأتي على كثير من حلالها، لوجوب إيثار الآخرة لبقائها وكليتها على الدنيا لفنائها وجزئيتها، لكون خير الدنيا جزءا من مائة، وشر الدنيا جزء من سبعين، ولا يؤثر هذا الجزء الأدنى لحضوره على ذلك الكل الأنهى لغايته إلا أن من سفه وضعف إيمانه، فتخلص المرء من حرف الحرام طهره، وتخلصه من النهي طيبه. وأصل هذين الحرفين في الإنجيل، وتمامها في القرآن. ثم يلي هذين حرفا صلاح الدين: أحدهما حرف المحكم، الذي بان للعبد فيه خطاب ربه من جهة أحوال قلبه، وأخلاق نفسه، وأعمال بدنه، فيما بينه وبين ربه، من غير التفات لغرض النفس في عاجل الدنيا ولا لأملها. والثاني حرف المتشابه: الذي لايتبين للعبد فيه خطاب من جهة قصور عقله

عن إدراكه، ووجوب تسبيح ربه عن تمثل عبده إلى أن يؤيده الله بتأييده. فالحروف الخمسة للاستعمال، وهذا الحرف السادس للوقوف، ليكون العبد قد وقف لله بقلبه عن حرف، كما قد كان أقدم لله على تلك الحروف، ولينسخ بعجزه وإيمانه، عند هذا الحرف السادس، انتهاء ما تقدم من طوقه وعلمه في تلك الحروف ابتداء. وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلها، وتمامها في القرآن. فهده الحروف الستة يشترك فيها القرآن مع سائر الكتب، ويزيد عليها تمامها وبركة جمعها، ويختص القرآن بالحرف السابع الجامع مبين المثل الأعلى، ومظهر الممثول الأعظم. حرف الحمد الخاص بمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، وبكتاب محمد، وهو حرف المثل، وعن جمعه وكمالة جمعه لمحمد في قلبه، وقرآنه على لسانه، وبيانه في ذاته، ظهرت عليه خواص خلقه الكريم، وخلقه العظيم، ولا ينال إلا موهبة من الله لعبده بلا واسطة، والستة تتنزل بتوسطات من استواء الطبع، وصفاء العقل، ومتانة وحي النبي، وإلهام الولي. ولما كان حرف الحمد هو سابعها الجامع، افتتح الله، سبحانه، به الفاتحة أم القرآن وأم الكتاب، وجمع فيها جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن، كما جمع في القرآن ما بث في جميع الكتب المتقدمة، كما ضرب الله، سبحانه، مثلها لنبيه، حيث أعلمه أن مثل الكتب المتقدمة كفضة كثيرة ثقلت على مريد السفر بها، فابتاع بها ذهبا، فذلك مثل القرآن، ثم ثقل عليه الذهب، فابتاع به جوهراً، فذلك مثل أم القرآن، فإذن كمال الحروف الذي أنزل عليها القرآن موجود في جوامع أم القرآن: فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد السابع، والثانية تشتمل على حرفي الحلال والحرام التي أقامت الرحمانية بهما الدنيا [والرحيمية الآخرة]، والآية الثالثة

تشتمل على أمر الملك القيم، على حرفي الأمر والنهي، اللذين يبدو أمرهما في يوم الدين، والآية الرابعة تشتمل على حرفي المحكم، في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والمتشابه في قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. ولما كانت نبأ خطاب محاضرة لم تردد مسألتهما في السورة، فانفرد هذان الحرفان عن الدعاء فيهما، وعادت مسألة الآبه الخامسة على حرف الحمد، ومسألة الآية السادسة على آية النعمة من حرفي الحلال والحرام، ومسألة الآية السابعة على آية الملك من حرفي الأمر والنهي، فجمعت الفاتحة جوامع الحروف السبعة، وكما ابتدأت الفاتحة بالسابع الجامع الموهوب، ابتدئ القرآن بالحرف السادس المعجوز عنه، وهو حرف المتشابه، لأن إظهار العجز ومحض الإيمان كانت الهبة والتأييد، وليكون العبد يفتتح القرآن بالإيمان بغيب متشابهه في قوله: {الم} فيكون أتم انقيادا لما دونه، وبريئا من الدعوى في مستطاعه في سائر الحروف. ثم ولى السادس المفتتح به القرآن الخامس المحكم من وجه، في قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} لأن من عمل بها من قلبه شعبة إيمان وعلم، كانت له من المحكم، ومن عمل بها ائتمارا وإلجاء، ولم يدخل الإيمان في قلبه، كانت له حرف أمر. {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}. وهذا إنما وقع ترتيبه هكذا في القرآن المتلو، وأما تنزيله في ترتيب البيان فإن أول ما أنزل على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، هو من حرف المحكم، وهو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} الآيات الخمس. وأول ما أنزل إلى الأمة في ترتيل البيان هو من حرف الزجر والنهي، وهو قوله

تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ}. {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}. أعلمهم بما يخاف عاقبته في الآخرة، وإن كان قد اتخذوا في الدنيا مودة بأوثانهم، وقال: (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} الآية، فابتدأ، تعالى ترتيل الأمة بإصلاح المعاد الأهم، لأن عليه يصلح أمر الدنيا: "من اشتغل بآخرته كفاه الله أمر دنياه" وبدأ منها بحرف الزجر والنهي، وهو المبدوء به في الحديث، وهو ما رواه ابن وهب من طريق ابن مسعود، عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كان الكتاب الأول نزل من باب واحد، على وجه واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتهم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به، كل من عند ربنا" وفي حديث آخر، من طريق ابن عمر: "أن الكتب كانت تنزل من باب واحد، وأن هذا القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف" وردد النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لفظ الزجر بلفظ النهي، لأن المقصود منهما واحد، وهو الردع عما يضر في المعاد، إلا أن الردع على وجهين: خطاب لمعرض، ويسمى زجرا، كما يسمى في حق البهائم، وخطاب لمقبل على التفهم، ويمسي نهيا، فكأن الزجر يريع الطبع، والنهي يريع العقل. فنفرد لكل واحد من هذه الحروف والوجوه فصلا على ترتيب إيراد الحديث، بحول الله والتأييد بروح منه.

الفصل الأول في حرف الزجر والنهي

الفصل الأول في حرف الزجر والنهي وجه إنزال هذا الحرف كف الخلق عما يهلكهم في أخراهم، وعما يخرجهم عن السلامة في موتهم وبعثهم، مما رضوا به واطمأنوا عليه، أو أثروه من دنياهم. فمتوجهه للمطمئن بدنياه، المعرض عن داعيه إلى اجتناب ما هو عليه، يسمى زجراً، ومتوجهه للمتلفت المستشعر ببعض الخلل، فيما هو عليه، يسمى نهيا، وهما يجتمعان في معنى واحد، ومقصود واحد، إلا أنه متفاوت، ولذلك رددها النبي، - صلى الله عليه وسلم -، على المعنى الجامع في هذا الحديث. وأولاهما بالبدء به في الإنزال الزجل، لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنما بعثه الله حين انتهى الضلال المبين في الخلق، ونظر الله، سبحانه، إلى جميع أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، كما ورد في الحديث الصحيح إسنادا ومتنا ولذلك كان أول منزل الرسالة سورة {يا يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}. وهي أول قوارع الأمر، كما أن فجأة الساعة أول قوارع الخلق، ولذلك انتظم ذكرهما في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}.

وللمزجور حالان: إما أن ينفر عند الزجرة توحشا، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وإما أن يدبر بعد فكرة تكبراً، كما قال تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} وربما شارف أن يبصر فصرف، كما قال عمر، رضي الله عنه: "لكنها عقول كادها باريها". {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} صرفوا عن آيات الحق السماوية على ظهورها عقوبة على ذنب تكبرهم على الخلق، مع الإحساس بظهور آية انضمام الأرحام في الأرض ووضوحها. وكل قادعة لنوعي الكافرين: النافرين والمدبرين، من هذا الحرف، وتمام هذا المعنى بنهي المتأنس المحاضر عن الفواحش الظاهرة والباطنة الضارة في العقبى، وإن تضرروا بتركها في الدنيا، نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا} في أكل مال اليتيم، والزنا وإيتاء الحائض، إلى ما دون ذلك من النهي عما يعدونه في دنياهم كيسا، نحو قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} و {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} وما لحق بهذا النمط، إلى ما دون ذلك على اتصال التفاوت من النهي عن سوء التأويل

لطية غرض النفس، نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إلى ما دون ذلك من النهي عما يقدح في الفضل، وإن كان من حكم العدل، نحو قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى تمام مالا تحصل السلامة إلا به، من النهي عما زاد على الكفاف والبلغة في الدنيا الذي به يصح العمل بالحكمة، نحو قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} إلى قوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} ونحو قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لأن كل زائد على الكفاف فتنة. وهذا هو أساس ما تتفاوت به درجات العلم في الدنيا، ودرجات الجنة في الآخرة، ولا تصح الوجوه والحروف التي بعده علما وعملا وثباتا وقبولا عند التمحيص إلا بحسب الإحكام في قراءة هذا الحرف وجمعه وبيانه، لأنه طهور لا بعده من صلاة حرف الأمر، وما قصر بعشرات فرق الأمة إلا التقصير في حرف النهي، لأن الملة الحنيفية مبنية على الإكتفاء باليسير من المأمورات والمبالغة في الحمية من عموم ما لايتناهى من المنهيات، لكثرة مداخل الآفات منها على الخلق، فيما بعد الموت. ويصعب هذا الحرف على الخلق ما استقر في أوهامهم أن دنياهم لا تصلح إلا بالمثابرة على صفوف المنهيات لنظرهم لجدواها في الدنيا، وعماهم عن وبالها في الأخرى، وما حوفظ على الرياضات والتأديبات والتهذيبات إلا لوفاء الحمية منها. والحمية أصل

الدواء، فمن لم يحتم عن المنهيات، لم ينفعه تداويه بالمأمورات، كالذي يتداوى ولا يحتمي يخسر الدواء ويتضاعف الداء، {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} جاءوا بحسنات كأمثال الجبال، وكانوا يصومون ويصلون، وياخذون وهنا من الليل، لكن ذلك تداو بغير حمية، لما لم يحتموا من الدنيا التي نهوا عن زهرتها، فكانوا إذا لاحت لهم وثبوا عليها فيصيبون منا الشهوات، ويعملون المعصيات، فلم تنفعهم المداواة. فمن احتمى فقد قرأ هذا الحرف، وهو حسبه، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أحب العبادات إلى الله ترك الدنيا، وحمية النفس من هوى جاهها ومالها. "بل نبيا عبدا، أجوع يوما وأشبع يوما". "من رغب عن سنتي فليس مني". والقرآن حجة لمن عمل به فصار أمامه يقوده إلى الجنة، وحجة على من لم يعمل به يصير خلفه، فيسوقه إلى نار الحية التي في جب وادي جهنم، التي تستعيذ منها جهنم والوادي والجب في كل يوم سبع مرات {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}. {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}. {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}. "أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" والحمد لله رب العالمين.

الفصل الثاني في حرف الأمر

الفصل الثاني في حرف الأمر وجه إنزال هذا الحرف حمل الخلق على صدق التذلل لله، إثر التطهر من زجرهم، ليعود بذلك وصل ما انقطع وكشف ما انحجب، وهو حرف العبادة المتلقاة بالإيمان، المثابر عليها بسابق الخوف، المبادر لها تشوقا بصدق المحبة، فالعابد ما ساقه الخوف إليها، والمعارف من قاده الحب لها، وهو بناء ذو عمود وأركان، وله حظيرة تحوطه، فأما عموده فإفراد التذلل لله توحيداً، وطليعة آيه ما كان نحو قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. طهرهم حرف الزجر من رجز عبادة إله آخر، فأثبت لهم حرف الأمر التفريد حين لايشركون معه في التذلل شيئا، أي شيء كان آخر، وهو أول ما أقام الله من بناء الدين، ولم يفرض غيره نحو العشر من السنين، في إنزال ما أنزل بمكة من القرآن وسن مع فرضه. الركن الأول وهو الصلاة: وبدئت بالوضوء عملا من حذو [تطهر القلب والنفس بحرف النهي، وأعقب بالصلاة عملا من حذو] حضور القلب بالتوحيد بين يدي الرب، فالوضوء وجه عمل حرف الزجر، والصلاة وجه عمل حرف الأمر، وسن على تأسيس بدار الحب، لتبدو قوة الإيمان في مشهود ملازمة خدمة الأبدان، فكان أقواهم إيمانا أكثرهم وأطولهم صلاة وقنوتا، من أحب ملكا خدمه ولازمه، ولا تخدم الملوك بالكسل والتهاون، وإنما تخدم بالجهد والتذلل، فكانت الصلاة علم الإيمان، تكثر

بقوته وتقل بضعفه، لأنها لو فرصت لم يظهر فيها تفاوت قوة الإيمان وصدق الحب، كما لا يظهر بعد فرضها إلا في النوافل، ولإجهاد النبي، - صلى الله عليه وسلم -، نفسه وبدنه في ذلك، أنزل عليه: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. إلى قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}. هذا التوحيد وإظهاره هو كان يومئذ المقصود الأول، وذلك قبل إسلام عمر، رضي الله عنه، وعمر موفي أربعين من عدد المؤمنين، فلما دخل الإسلام من لا يبعثه الحب والاستراحة على الصلاة بعد عشر أو نحوها، فرضت الصلاة، فاستوى في فرضها المحب والخائف، وسن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، التطوع على ما كان أصلها. وذلك صبيحة ليلة الإسراء. وأول منزل هذا الحرف، والله أعلم، في فرض هذا الركن، أو من أول منزله، قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} اختص لهم بها أوقات الرحمة، وجنبهم بها أوقات الفتنة، ومنه جميع آي إقامة الصلاة وإتمامها. الركن الآخر الصوم: وهو إذلال النفس لله بإمساكها عن كل ما تشوف إليه من خاص أمرها، نهارا للمقتصر، ودواما للمعتكف، وهو صلة بين العبد وبين نفسه، ووصل لشتاته في ذاته. [وأول إنزال هذا الركن من هذا الحرف بالمدينة، بعد مدة من الهجرة] وأول منزله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. وإنما فرض، والله أعلم، بالمدينة، لأنهم لما أمنوا من عداوة الأمثال والأغيار، وعام

الفتنة بالمدينة، عادت الفتنة خاصة في الأنفس، بالتبسط في الشهوات، وذلك لا يليق بالمؤمنين المؤثرين للدين على الدنيا، ثم أنزل إتمامه بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إلى ما يختص من الآي بأحكام الصيام. الركن الآخر الزكاة: وهو كسر أنفة الغني بما يؤخذ بأخذه منه من حق أصنافها أطهارا، لأن المشتغلين بالدين آثر عند الله من القيمين على الأموال، وليميز بها الذين آمنوا من المنافقين، لتمكنهم من الرياء في العمود والركنين، ولم يشهد الله بالنفاق جهراً أعظم من شهادته على مانع الزكاة، ومن منع زكاة المال عن الخلق كان كمن أمتنع عن زكاة قواه بالصلاة من الحق، فلذلك لا صلاة لمن لا زكاة له، وكما كانت الصلاة حبا قبل فرضها، كذلك كان الإنفاق لما زاد على الفضل عزما مشهوراً عندهم لا يعرفون غيره، ولا يشعرون في الإسلام بسواه، فلما شمل الإسلام أخلاط الناس، وشحت النفوس، فرضت الزكاة، وعين أصنافها، وذلك بالمدينة حين اتسعت أموالهم، وكثر خير الله عندهم، وحين نجم نفاق قوم بها أنفة

من حظ رئاستهم بتذلل الإسلام لله والنصرة لخلق الله، وتثنى فيها الخطاب؛ مرة لأرباب الأموال بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} ليكون لهم قربة، إذا أتوها سماحا، ومرة للقائم بالأمر بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} حين يؤنس من نفوسهم شح، وشدد الله، سبحانه، فيها الوعيد في القرآن جبرا لضعف أصنافها. ويتسق بذلك جميع ما أنزل في شأن النفقات والصدقات؛ بدارا عن حب، أو ائتمارا عن خوف. الركن الآخر الحج: وهو حشر الخلق من أقطار الأرض للوقوف بين يدي ربهم في خاتمة سنيهم ومشارفة وفاتهم، ليكون لهم أمنة من حشر ما بعد مماتهم، فكمل به بناء الدين، وذلك في أواخر سنين الهجرة، ومن آخر المنزل بالمدينة. وأول خطابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} تثنية على أذان إبراهيم، عليه السلام، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} إلى ما أنزل في أمر الحج وأحكامه. الحظيرة الحائطة: وهي الجهاد، ولم تزل مصاحبة للأركان كلها، إما مع ضعف، كما بمكة، أو مع قوة، كما بالمدينة.

ومن أول تصريح منزله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إلى قوله، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}. {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} إلى قوله تعالي: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} إلى انتهاء قتال أهل الكتاب، في قوله نعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى تمام المنزل في شأنه في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وهو تمام حرف الأمر. ولكل من ذلك الظاهر في الإسلام موقع حذوه في الإيمان، وموقع في الإحسان، الذي ثلاثتها هو كمال الدين، كل ذلك من منزل القرآن من بين إفصاح وإفهام في هذا الحرف، وهو وفاء الدين، والتعبد لرب العالمين، والحمد لله رب العالمين.

الفصل الثالث في حرف الحلال

الفصل الثالث في حرف الحلال وجه إنزال هذا الحرف توسيع الاستمتاع للخلق، بما خلق الله في الأرض من خيره ونعمه الموافقة لطباعهم وأمزجتهم، وقبول نفوسهم في جميع جهات الاستمتاع، من طعام وشراب ولباس ومركب ومأوى، وسائر ما ينتفع به مما أخرجه الله، ومما بثه في الأرض،، ومما عملته أيديهم في ذلك، من صنعة وتركيب ومزج ونحو ذلك، ليشهد دوام لبس الخلق الجديد في كل خلق على حسب ما منه فطر خلقه. ولما كان الإنسان مخلوقا من صفاوة كل شيء، توسع له جهات الانتفاع بكل شيء، إلا ما استثنى منه لحرف الحرام، ووجهه، كما استثنى لآدم أكل الشجرة من متسع رغد الجنة، فكان له المتاع بجميعه إلا ما أضر ببدنه، أو خبث نفسه، أو أران على قلبه، وذلك بأن يسوغ له طبعا، وتحسن مغبته في أخلاق نفسه، ويسنده قلبه لمنعمه الذي يشهد منه بداياته وتكملاته تجربة، ثم كمل القرآن ذلك بإلزام إخلاصه للمنعم به من غير أثر لما سواه فيه.

وجامع منزله بحسب ترتيب القرآن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. ومن أوائله بحسب ترتيب البيان - والله أعلم - {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} الآية، وسائر الآيات الواردة في سورة النحل، وفي سورة "يس" إذ هي القلب الذي منه مداد القرآن كله، في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} الآيات، إلى سائر ما في القرآن من نحوه. وفي متسع حلال هذا الحرف وقعت الفتنة على الخلق بمازين لهم منه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الآية. ووجه فتنته أن على قدر التبسط فيه يحرم من طيب الآخرة. {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}. "إنما يلبس هذه من خلاق له" {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} ومن رؤية سوء هذا المخسر نشأ زهد الزاهدين، ومن رؤية حسن المتجر وربحه وتضاعفه إلى مالا يدرك مداه ونعيمه في بيع خلاق الدنيا بخلاق الآخرة، نشأ ورع المورعين، فاستراحت قلوبهم بالزهد، وانكفوا بالورع عن الكد، وتفرغت قلوبهم وأعمالهم لبذل الجد، وتميز الشقي من السعيد بالرغبة فيه أو عنه، فمن رغب في الحلال شقي، ومن رغب عنه سعد. وهو الحرف الذي قبض بسطه حرف النهي، حتى لم يبق لابن آدم حظ فيما زاد

على حلف الطعام، وهي كسرة، وثوب يستره وبيت يكنه، وما زاد عليه متجر، إن أنفقه ربحه، وقدم عليه، وإن ادخره خسره وندم ولذلك لم يأذن الله لأحد في أكله حتى يتصف بالطيب للناس الذين هم أدنى المخاطبين، بانسلاخ أكثرهم من العقل والشكر والإيمان. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} ومحا اسمه من الذين آمنوا، وهم الذين لايثبتون ولا يدومون على خير أحوالهم، بل يخلطون، وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وهو ما طيبه حرف النهي - علما، وبريء من حوار القلوب طصأنينة، وتمم وأنهى صفوه للمرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، وورد جوايا لسؤالهم في قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فمن آثر حرف النهي حرف الحلال، فقد تزكى واتبع الأحسن، ووضح هداه، وصفا لبه، ومن آثر حرف الحلال على حرف النهي، فقد تدسى وحرم هدي الكتاب وعلم الحكمة ومزيد التأييد، بما فاته من التزكية، وتورط فيه من التدسية. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

الفصل الرابع في حرف الحرام

الفصل الرابع في حرف الحرام وجه إنزال هذا الحرف طهرة الخلق من مضار أبدانهم، ورجاسة نفوسهم، ومجهلة قلوبهم، فما اجتمعن فيه كان أشده تحريما، وما وجد فيه شيء منها كان تحريمه بحسب تأكد الضرورة إلى طهرته. وكما اختلفت أحوال بني آدم، بحسب اختلاف طينتهم، من بين خبيث وطيب، وما بين ذلك، اختلفت أحوالهم فيما به تجدد خلقهم من رزقهم. فمن اغتذى بدنه من شيء ظهرت أخلاق نفس ذلك المغتذي به وأوصافه في نفسه، ورين على القلب أوصفا، لتقوته بما يسمى عليه من ذكر الله، أو كفر به بذكر غيره. وجامع منزله على حده من استثناء قليله من متع الحلال، قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} هذا لمضرته بالبدن، "أو لحم خنزير" وهذا لتخبيثه للنفس وترجيسه لها، كما قال تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. فهذا لريته على القلب.

وهذه الآية مدنية، وأثبتها الله في سورة مكية إشعارا بأن التحريم كان مستحقا في أول الدين، ولكن أخر إلى حين اجتماع جمة الإسلام بالمدينة؛ تأليفا لقلوب المشركين، وتيسيرا على ضعفاء الذين آمنوا، واكتفاء للمؤمنين بتنزههم عن ذلك وعما يشبهه؛ استبصارا منهم، حتى إن الصديق، رضي الله عنه، كان قد حرم الخمر على نفسه في زمن الجاهلية، لما رأى فيها من نزف العقل، فكيف بأحوالهم بعد الإسلام، وألحق بها في سورة {الَّذِينَ آمَنُوا} ما كان قتله سطوة من غير ذكر الله عليه، من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، إلا ما تدورك بالتذكية المنهرة للدم المؤصل في التحريم، لفساد مسفوحه بما هو خارج عن حدي الطعام في الابتداء والأعضاء في الانتهاء، المستدركة ببركة التسمية إثر ما أصابها من مفاجأة السطوة، وألحق بها أيضا في هذه السورة تحريم الخمر لرجسها، كالخنزير، كما ألحقت المقتولة بالميتة. وكما حرم الله ما كان فيه جماع الرجس من الخنزير، وجماع الإثم من الخمر، حرم رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ما كان فيه حظ من ذلك، فألحق بالخنزير السباع، حماية من سورة غضبها، لشدة المضرة في ظهور الغضب من العبيد، لأنه لا يصلح إلا لسيدهم، وحرم الحمر الأهلية حماية من بلادتها وحرانها، الذي هو علم غريزة الخرق في الخلق، وألحق، - صلى الله عليه وسلم -، بتحريم الخمر، الذي سكرها مطبوع، تحريم المسكر الذي سكره مصنوع.

وكما حرم الله مايضر العبد في ظاهره وباطنه، حرم عليه، فيما بينه وبينه، ما يقطعه عنه من أكل الربا. "الربا بضع وسبعون بابا، والشرك مثل ذلك". وجامع منزله في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} إلى قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إلى انتهاء ذكره، إلى ما ينتظم بذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآية. إلى ما يلحق بذلك في قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} الآية. ولما كان تحريم الربا لما بين الرب والعبد، كان فيه الوعيد بالإيذان بحرب من الله ورسوله، ولذلك حمت الأئمة ذرائعه أشد الحماية، وكان أشدهم في ذلك عالم المدينة، حتى إنه حمى من صورته، مع الثقة بسلامة الباطن منه، وعمل بضد ذلك في محرمات ما بين العبد ونفسه. وكما حرم الله الربا، فيما بينه وبين عبده، من هذا الوجه الأعلى، كذلك حرم أكل المال بالباطل، فيما بين العبد وبين غيره من الطرف الأدنى. وجامع منزله في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} إلى ما ينتظم به من قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} إلى ما ينتظم بذلك من قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} الآيات في أموال اليتامى، فحرمه الله تعالى من جهة الأعلى والمثيل والأدنى، وانتظم التحريم في ثلاثة أصول: من جهة ما بين الله وبين عبده، ومن جهة ما بين العبد وبين نفسه، ومن جهة ما بين العبد وبين غيره، مما تستقرى جملة آيه في القرآن، وأحاديثه في السنة، ومسائله في فقه الأيمة.

ولما كان له متسع وقع فيما بين الحلال الصرف والحرام المحض، أمور متشابهات، لا يعلمها كثر من الناس، لأنها تشبه الحلال من وجه، وتشبه الحرام من وجه، فلوقوعها بينهما تختلف فيها الأيمة علما، ويتجنب جميعها الصالحون عملا. "من اتقى الشبهات استبرأ لدينه في العقبى، ولعرضه في الأولى". وعن حماية الله عباده عن وبيل الحرام، تحقق لهم اسمه الطبيب، فلم يتطبب بطب الله من لم يحتم عن محرماته ومتشابهاتها، وهو الورع الذي هو ملاك الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

الفصل الخامس في حرف المحكم

الفصل الخامس في حرف المحكم وجه إنزال هذا الحرف تحقيق اتصاف العبد بما هو اللائق به في صدق وجهته إلى الحق بانقطاعه عن نفسه، وبراءته منها، والتجائه إلى ربه استسلاما، وحفده في خدمته إكبارا، واستناده إليه اتكالا، وسكونه له طمأنينة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}. ويتأكد تحلي العبد بمستحق أوصافه بقراءة هذا الحرف، والعمل به بحسب براءته من التعرض لنظيره المتشابه، [لأن اتباع المتشابه] زيغ، لقصور العقل والفهم عن نيله ووجوب الاقتصار على الإيمان به، من غير موازنة بين ما خاطب الله تعالى به عباده للتعرف، وبين ما خلقه للعبد للاعتبار. "سبحان من لم يجعل سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته". وجامع منزل المحكم ما افتتح به التنزيل في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الآيات. وما قدم في الترتيب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} إلى ما

ينتظم بذلك من ذكر عبادة القلب، التي هي المعرفة. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله. فإذا عرفوا الله، ومن ذكر عبادة النفس، التي هي الإجمال في الصبر، وحسن الجزاء {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ومن ذكر عبادة الجوارح بالخشوع: {قد قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}. "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه". إلى سائر أحوال العبد، التي يتحقق بها في حال الوجهة إلى الرب. وما تقدم من حرفي الحرام والحلال لإصلاح الدنيا، وحرفي الأمر والنهي لإصلاح العقبى معاملة كتابة. والعمل بهذا الحرف اغتباط بالرق، وعياذ من العتق، فلذلك هو أول الاختصاص، ومبدأ الاصطفاء، وإفراد موالاة الله وحده من غير شرك من نفس ولا غير، ولذلك بديء بتنزيله النبي العبد، وهو ثمرة ما قبله، وأساس ما بعده، وهو للعبد أحوال محققة، لا يشركه فيها ذو رياء ولا نفاق، ويشركه في الأربعة المتقدمة، لأنها أعمال ظاهرة، فيتحلى بها المنافق، وليس يمكنه مع نفاقه التحلي بالمعرفة، ولا

بالخشوع، ولا بالخضوع، ولا بالشوق للقاء، ولا بالحزن في الإبطاء، ولا بالرضا بالقضاء، ولا بالحب الجاذب للبقاء في طريق الفناء، ولا بشيء مما شمله آيات المحكم المنزلة في القرآن، وأحاديثه الواردة للبيان. وإنما يتصف بهذا الحرف عباد الرحمان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} الذين ليس للشيطان عليهم سلطان: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. ولما كان حرف المحكم مستحق العبد في حق الرب، في فطرته التي فطر عليها، كان ثابتا في كل ملة وفي كل شرعة، فكانت آياته لذلك هن أم الكتاب، المشتمل على الأحرف الأربعة، لتبدلها وتناسخها وتناسيها في الشرع والملل، واختلافها في مذاهب الأيمة في الملة الجامعة، مع اتفاق الكل في الشرع المحكم، فهو أمها وقيامها الثابت حال تبدلها، وهو حرف الهدى، الذي يهدي الله به من يشاء. وقراؤه العملة له هم المهتدون أهل السنة والجماعة، كما أن المتبعين لحرف المتشابه، هم المفترقون في الملل، وهم أهل البدع والأهواء، المشتغلون بها لا يعنيهم. وبهذا الحرف المتشابه يضل الله من يشاء. فحرف المحكم للاجتماع والهدى، وحرف المتشابه للافتراق والضلال. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

الفصل السادس في حرف المتشابه

الفصل السادس في حرف المتشابه وجه إنزال هذا الحرف تعرف الحق للخلق، بمعتبر ما خلقهم عليه، ليلقنوا عنه وليفهموا خطابه، وليتضح لهم نزول رتبتهم عن علو ما تعرف به لهم ولينختم بعجزهم عن إدراك هذا الحرف علمهم بالأربعة وحسهم بالخامس، [وبوقوفهم عنه والاكتفاء بالإيمان منه ما تقدم من عملهم بالأربعة، واتصافهم بالخامس] لتتم لهم العبادة بالوجهين: من العمل والوقوف، والإدراك والعجز: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}؛ علما وحسا، {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} وقوفا وعجزا، أعلمهم بحظ من علم أنفسهم وغيرهم، بعد أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، ثم أعجزهم عن علم أمره وأيامه الماضية الآتية وغائب الحاضرة، ليسلموا له اختيارا، فيرزقهم اليقين بأمره وغائب أيامه، كما أسلموا له في الصغر اضطرارا، فرزقهم حظا من علم خلقه، فمن لم يوقفه في حد الإيمان اشتباه خطابه تعالى عن نفسه، وما بينه وبين خلقه، وحاول تدركه بدليل أو فكر أو تأويل، حرم اليقين بعلى الأمر والتحقيق في علم الخلق، وأخذ بما أضاع

من محكم ذلك المتشابه، حين اشتغل عما يعنيه من حال نفسه، بما لا يعنيه من أمر ربه، وكان كالمتشاغل بالنظر في زي الملك وتنظيره بزي نفسه، عن مراقبة ما يلزمه من تفهم حدوده، وتذلله لحرمته. وجوامع منزل هذا الحرف في رتبتين: مبهمة، ومفصلة. أما انبهامه فلوقوف العلم به على تعريف الله بغير واسطة من وسائط النفس من فكر ولا استدلال، وليتدرب المخاطب، بتوقفه عن المبهم، على توقفه عن مفصله. ومبهمه هو جوامع الحروف المنزلة في أوائل السور التسعة والعشرين من سوره، وبه افتتح الترتيب في القرآن، ليلقى الخلق بادئ أمر الله بالعجز والوقوف والاستسلام، إلى أن يمن الله بعلمه بفتح من لدنه، ولذلك لم يكن في تنزيله في هذه الرتبة ريب لمن علمه الله كنهه، من حيث لم يكن للنفس مدخل في علمه، وذلك قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} لمن علمه الله إياه {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وقوفا عن محاولة علم ما ليس في وسع الخلق علمه، حتى تلحقه العناية من ربه، فيعلمه مالم يكن يعلم. وأما الرتبة الثانية فمتشابه الخطاب المفصل، المشتمل على إخبار الله عن نفسه وتنزلات أمره، ورتب إقامات خلقه بإبداع كلمته، وتصيير حكمته، وباطن ملكوته، وعزيز جبروته، وأحوال أيامه. وأول ذلك في ترتيب القرآن إخباره عن استوائه في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى

السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} إلى قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} إلى سائر ما أخبر عنه من عظيم شأنه، في جملة آيات متعددات كقوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} {فَإِنِّي قَرِيبٌ} {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ} {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}. {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} {قُلْ مَنْ

بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}. {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ}. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}. {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ}. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}. {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}. {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}. {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}. {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}. {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}. {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}. {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}. {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا

أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} إلى سائر ما أخبر فيه عن تنزلات أمره وتسوية خلقه، وما أخبر عنه حبيبه محمد، - صلى الله عليه وسلم -، من محفوظ الأحاديث التي عرف بها أمته ما يحملهم في عبادتهم على الانكماش والجد والخشية والوجل والاشفاق، وسائر الأحوال المشار إليها في حرف المحكم، من نحو حديث النزول والنعلين والصورة والضحك والكف والأنامل، وحديث التقرب بالنوافل، وغير ذلك من الأحاديث التي ورد بعضها في الصحيحين، واعتنى بجمعها الحافظ المتفنن أبو الحسين الدارقطني رحمه الله، ودون بعض المتكلمين جملة منها لمقصد التأويل. وشدد النكير في ذلك أيمة المحدثين، يؤثر عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، أنه قال: آيات الصفات، وأحاديث الصفات صناديق مقفلة، مفاتيحها بيد الله، تأويلها تلاوتها، وعلى ذلك أيمة الفقهاء وفتياهم لعامة المؤمنين. والذي أجمعت عليه الصحابة ولقنته العرب كلها أن ورود ذلك من الله، ومن رسوله، ومن الأيمة، إنما لمقصد الإفهام، لا لقصد الإعلام، فلذلك لم تستشكل الصحابة منه شيئا قط، بل كلما كان وارده عليهم أكثر، كانوا به أفرح، وللخطاب به أفهم، حتى قال بعضهم، لما ذكر النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "أن الله يضحك من عبده"

لانعدم الخير من رب يضحك. وهم وسائر العلماء بعدهم صنفان: إما متوقف عنه في حد الإيمان، قانع بما أفاد من الإفهام. وإما مفتوح عليه بما هو هو في صفاء الإيقان، وذلك أن الله، سبحانه، تعرف لعباده في الأفعال والآثار في الآفاق، وفي أنفسهم تعليما، وتعرف للخاصة منهم بالأوصاف العليا والأسماء الحسنى، مما يمكنهم اعتباره تعجيزا، فجاوزوا حدود التعلم بالإعلام إلى عجز الإدراك، فعرفوا أن لا معرفة لهم. وذلك هو حد العرفان، وإحكام قراءة هذا الحرف المتشابه في منزل القرآن، وتحققوا أن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فتهدفوا بذلك لما يفتحه الله على من يحبه من صفاء الإيقان، والله يحب المحسنين.

الفصل السابع في حرف المثل

الفصل السابع في حرف المثل هذا الحرف لإحاطته أنزل وترا، وسائر الحروف أشفاع، لاختصاصها. ووجه إنزاله تفهيم ما غمض من المغيبات، بضرب مثل من المشهودات، ولما كان للأمر تنزلات، وللخلق تطورات، كان الأظهر منها مثلا لما هو دونه في الظهور، وكلما ظهر ممثول صار مثلا لما هو أخفى منه، فكان لذلك أمثالا عدداً، منها مثل ليس بممثول لظهوره، وممثولات تصير أمثالا لما هو أخفى منها، إلى أن تنتهي الأمثال إلى غاية محسوس أو معلوم، فتكون تلك الغاية مثلا أعلى، كالسموات والأرض فيما يحس، والعرش والكرسي فيما يعلم، {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}. وذلك المثل الأعلى لإحاطته اسمه الحمد {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وأحمده أنهاه وأدناه إلى الله، بحيث لا يكون بينه وبين الله واسطة، فلذلك ما استحق أكمل الخلق وأجمعه، وأكمل الأمر وأجمعه الاختصاص بالحمد، فكان [أكمل الأمر سورة الحمد، وكان] أكمل الخلق "صورة محمد" "كان خلقه

القرآن" {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}. ودون المثل الأعلى الجامع، الأمثال العلية المفصلة منه. {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ}. ولإحاطة أمر الله وكماله في كل شيء، يصح أن يضربه مثلا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}. {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا}. وللمثل حكم من ممثوله، إن كان حسنا حسن مثله، وإن كان سيئا ساء مثله، ولما كان أعلى الأمثال الحمد، كان أول الفاتحة: الحمد، ولما كان أخفى أمر الخلق النفاق، كان أول مثل في الترتيب مثل المنافق، وهو أدنى مثل لما خفي من أمر الخلق، كما أن الحمد أعلى مثل لما غاب من أمر الخلق. وبين الحدين أمثال حسنة وسيئة، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} الآيتين. {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}. {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} الآيتين. وبقدر علو المثل أو دنوه أو توسطه يتزايد للمؤمن الإيمان، وللعالم العلم، وللفاهم الفهم، وبضد ذلك لمن اصتف بأضداد تلك الأوصاف {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}.

ومعرفة أمثال القرآن المعرفة إحاطة ممثولاتها، وعلم آياته المعلمة اختصاص معلوماتها، هو حظ العقل واللب، وحرفه من القرآن، ولكل حرف اختصاص بحظ من تدرك الإنسان وأعمال القلوب، والأنفس، والأبدان، فمن يسر له القراءة والعمل بحرف منه اكتفى، ومن جمع له قراءة جميع أحرفه علما وعملا، فقد أتم ووفى، وبذلك يكون القارئ من القراء الذين قال فيهم رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - "إنهم أعز من الكبريت الأحمر". يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، هذا وفاء القول في الباب الأول.

الباب الثاني في شرط منال قراءة هذه الحروف وعلمها والعمل بها

الباب الثاني في شرط منال قراءة هذه الحروف وعلمها والعمل بها ويشتمل كالأول على تمهيد وسبعة فصول. القول في التمهيد: اعلم أن الله، سبحانه، خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، ورزقه نورا من نوره، فلأنه خلقه بيده، كان في أحسن تقويم، خلقا، ولأنه نفخ فيه من روحه، كان أكمل حياة قبضا وبسطا، ولأنه رزقه نورا من نوره، كان أصفى عقلا وأخلص لبا، وأفصح نطقا وأعرب بيانا، جمعا وفصلا، وأطلعه على ما كتب من حروف مخلوقاته إدراكا وحسا، وعقله ما أقام من أمره فهما وعلما، ونبهه على ما أودعه في ذاته عرفانا ووجدا، ثم جعل له فيما سخر له من خلقه متاعا، وأنسا، فأناسه وردده ما بين إقبال وإدبار وقبول وإعراض، فمن شغل بالاستمتاع الأدنى عن الاطلاع الأعلى كان [سفيها، ومن شغله الاطلاع الأعلى عن الاستمتاع الأدنى كان] حنيفا. {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا}.

ولما كان متاع الخلق في الأرض إلى حين، وشغل أكثرهم أكلهم وتمنعهم، وأنهاهم أملهم عن حظهم من الحنيفية، بما أوتي العقل من التبليغ عن الله نظرا واعتبارا - اصطفى الله، سبحانه، من الحنفاء الذين قرأوا كتاب الخلق منبهين على النظر الذي اشتغل عنه المعرضون، وأنف منه واستكبر عنه المدبرون، وأكدوا تنبيههم بما اسمعوهم من نبأ ما وراء يوم الدنيا من أمر الله في اليوم الآخر، وما تتمادى إليه أيام الله، وذكروهم بما مضى من أيام الله، وأنزل الله، سبحانه، معهم كتبا يتلونها عليهم، ويبينونها لهم علما، وعملا، وحالا، فقبل ما جاءوا به وصدقه واستبشر به الحنفيون، وأنذر به المدبرون والمعرضون: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} آمن من تنبه للنظر والاعتبار، وألقى السمع وهو شهيد، وكفر من آثر متاعه بالعاجلة التي تراها الأعين على وعد الله ووعيده في الآجله التي إنما يعيها القلب، وتسمعها الأذن، وكما شغل المدعوين إلى الإسلام كفرهم ودنياهم، كذلك شغل المولدين في الإسلام غفلتهم ودنياهم، لعبهم في صباهم، ولهوهم في شبابهم، وتفاخرهم في أشدهم واستوائهم، وتكاثرهم في الأموال في اكتهالهم، وتكاثرهم في الأولاد في شيخهم، فاشترك المدعو إلى الإسلام، والمولد فيه الغافل، في عدم الإقبال والقبول، وفي ترك الاهتمام بالآجلة، واقتصارهما على الاهتمام بالعاجلة، وكلاهما جعل القرآن وراء ظهره، المدعو لفظا وعلما، والمولد الغافل علما وعملا، فلم يسمعه المدعو، ولم يفهمه الغافل، فجعله بالحقيقة وراء ظهره، ومن جعل القرآن خلفه ساقه إلى النار، وإنما جعله أمامه من قرأه علما وحالا وعملا،

ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة. ولما قامت الحجة عليهم بقراءته، إذا لم يجاوز حناجرهم، كانوا أشد من الكفار عذابا في النار "أكثر منافقي أمتي قراؤها". {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}. فإذن لابد في قراءة القرآن من تجديد إقبال، وتهيئ لقبول وتحقيق تقوى، لأنه إنما هو هدى للمتقين، وإجماع على الاهتمام، وكما أن أمور الدنيا لا تحصل لأهلها إلا على قدر عزائمهم واهتمامهم، فأحرى أن لا يحصل أمر الأخرى إلا بأشد عزيمة وأجمع اهتمام. فلا يقرأ القرآن من لم يقبل عليه بكلية ظاهره، ويجمع اهتمامه له بكلية باطنه {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ}. {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}. (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}. فشرط منال قراءته اهتمام القلب بتفهمه، وإقبال الحس على استماعه وتدبره. ولكل حرف شرط يخصه، يفرد لكل شرط فصل، بحول الله، ونبدأ بشرطي أحرف صلاح الدنيا، والله ولي التأييد والتسديد.

الفصل الأول فيما به تحصل قراءة حرف الحلال تماما في العلم والحال والعلم

الفصل الأول فيما به تحصل قراءة حرف الحلال تماما في العلم والحال والعلم اعلم أن الإنسان لما كان خلقا جامعا، كانت فيه بزرتان: بزرة للخير، وبزرة للشر، وبحسب تطهره وتخلصه من مزاحمة نبات بزرة الشر، تنمو فيه وتزكو بزرة الحير، ولكل واحدة من البزرتين منبت في جسمه ونفسه وفؤاده. فأول الحروف في الترتيب العملي والأساس لما بعده، هو قراءة حرف الحرام. ليحصل به طهرة البدن الذي هو السابق في وجود الإنسان، فمن غذي بالحرام في طفولته لم يقدر على اجتناب الآثام في كهولته، إلا أن يطهره الله بما شاء من نار الورود في الدنيا من الأمراض والضراء، فهو الأساس الذي ينبني عليه تطهر النفس من المناهي، وتطهر الفؤاد من العمه والمجاهل. والذي به تحصل قراءة هذا الحرف هو الورع الحاجز عما يضر بالجسم. ويؤذي النفس، وما يكره الخلق وما يغضب الرب. فمن أصاب شيئا من ذلك ولم يبادر الله بالتوبة عذب بكل آية قرأها، وهو مخالف لحكمها، من لم يبال من أي باب دخل عليه رزقه، لم يبال الله من أي باب أدخله النار.

ولما كان الورع كف اليد، ظاهراً، عن الشيء الضار، كانت الجوارح لا تنقاد إلا عن تأثر من النفس، لم يصح الورع ظاهرا إلا أن تقع في النفس روعة باطنة من تناول ذلك الشيء. ولما كانت النفس لا تتأثر إلا عن تبصرة القلب، لم يصح أن تقع روعة النفس إلا عن تبصر القلب في الشيء الضار، كما لا تنكف اليد إلا عند تقذر النفس لما تدرك العين قذره، حتى إن النفس الرضية تأنف من المحرمات كما يأنف المنتظف من المستقذرات، فأكلة الحرام هم دود جيفة الدنيا، تستقذرهم أهل البصائر، كما يستقذرون هم دود جيف المزابل. ولما كان الحرام ما يضر العبد في جسمه، كالميتة، تيسر على المتبصر كف يده عنها، لما يدري من مضرتها بجسمه، وكذلك الدم المسفوح، لأنه ميتة بانفصاله عن الحي، ومفارقته لروح الحياة، التي تخالطه في العروق، وكذلك ما يضر بنفسه كلحم الخنزير، لأنه رجس، والرجس هو خبائث الأخلاق التي هي عند العقلاء أقبح من خبائث الأبدان، وذلك لأن من اغتذى جسمه من لحم حيوان اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الحيوان، وتخلق من أخلاقه، وفي نفس الخنزير مجامع رذائل الأخلاق، من الإباء والحران والمكر، والإقدام على ما يعاين فيه الهلاك، ومتابعة الفساد، والانكباب على ما يقبل عليه من أدنى الأشياء، على ما ظهرت في خلقته آياته، فإنه ليس له استشراف كذوات الأعناق. وكذلك ما يضر بهما وبالعقل، كالخمر في نزفها للعقل وتصديعها للرأس، وإيقاعها العداوة والبغضاء في خلق النفس، ولذلك هي جماع الإثم، فالمتبصر في المحرمات يأنف

منها، لما يدري من مضرتها وأذاها في الوقت الحاضر، وفي مغبتها في يوم الدنيا، إلى ما أخبر به من سوء عقابها في يوم الدين: "من شرب الخمر ومات، ولم يتب منها، كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال". وهي عصارة أهل النار، ولو هدد شاربها في الدنيا من له عليه إمرة، بأن يسقيه من بوله ورجيعه لوجد من الروع ما يحمله على الورع عنها. وإذا استبصر ذو دراية فيما يضره في ذاته، فأنف منه رعاية لنفسه، لحق له بذلك التزام رعايتها عما يتطرق له منه درك من جهة غيره، فيتورع عن أكل أموال الناس بالباطل، لما يدري من المؤاخذة عليها في العاجل، وما أخبر به من المعاقبة عليها في الآجل، ولها في ذاته مضرة في الوقت، يتعرفها من موارد القرآن بنور الإيمان. {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فهو آكل نارا، وإن لم يحس بها، وليس تأويله الوعيد بالنار، لأن ذلك أنبأ عنه قوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وكذلك إذا أنف مما يضره في نفسه، وخاف مما يتطرق إليه ضره من غيره، أعظم أن يقرب حمى ما يتطرق إليه السطوة من ربه لأجله، وذلك فيما حرم عليه حماية لعظيم ملكه، وعدم التفاوت في أثر رحمانيته في محرم الربا، ولما فيه أيضا من مضرة وقته الحاضر التي يقبلها بالإيمان من تعريف ربه، فإنه

تعالى، كما عرف أن [أكل مال الغير بالباطل نار في البطن، عرف أن] أكل الربا جنون في العقل، وخيال في النفس: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}. وأعظم من ذلك ما حرمه الله لعرائه عن اسمه عند إزهاق روحه، لأنه مأخوذ من غير الله، وما أخذ من غير الله كان مأكله فسق وكفر لأنه تناول الروح من يد من لايملكها، [ولذلك فرضت التسمية في التذكية، ونقلت فيها سوى ذلك]. فلا تصح قراءة هذا الحرف إلا بتبصرة القلب فيه، وروعة النفس منه، وورع اليد عنه، وإلا فهو من الذين يقرؤون حروفه، ويضيعون حدوده، الذين قال فيهم رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، "كثر هؤلاء من القراء لا كثرهم الله". ومن لم يصح له قراءة [هذا الحرف لم تصح له قراءة] حرف سواه، ولا تصح له عبادة، وهو الذي "لا تزيده صلاته من الله إلا بعدا" ولا يقبل منه دعاء، والرجل يكون مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، "يقول يارب، يارب، فأنى يستجاب لذلك". فهذا وجه قراءة هذا الحرف وشرطه، والله ولي التوفيق.

الفصل الثاني فيما به تحصل قراءة حرف الحلال

الفصل الثاني فيما به تحصل قراءة حرف الحلال اعلم أن الإنسان لما كان جامعا كان بكل شيء منتفعا؛ إما في حال السعة، فمع استثناء أشياء يسيرة مما يضره من جهة نفسه، أو غيره، أو ربه، على ما ذكر في الفصل الأول {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}. الآية. وإما في حال الضرورة فبغير استثناء البتة: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. والذي به تحصل قراءة هذا الحرف. أما من جهة القلب فمعرفة حكمة الله في المتناول من مخلوقاته، ومعرفة أخص منافعها، مما خلقه، ليكون غذاء في سعة أو ضرورة، أو إداما أو فاكهة، أو دواء كذلك، ومعرفة موازنة ما بين الانتفاع بالشيء ومضرته واستعماله على حكم الأغلب من منفعته، أو اجتنابه على حكم الأغلب من مضرته {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}. وذلك مدرك عن الله، سبحانه، باعتبار العقل،

وإدراك الحس في مخلوقاته، كما أدركه الحنيفيون، كان الصديق، رضي الله عنه، قد حرم الخمر في الجاهلية، وكان إذا أخذ عليه في ذلك يقول: والله لو أصبت شيئا أشتريه بمالي كله، يزيد في عقلي، لفعلت، فكيف أشتري بمالي شيئا ينقص من عقلي. وكان، - صلى الله عليه وسلم -، كثيرا ما ينبه على حكمة الله في الأشياء التي بها تتناول أو تجتنب، عملا بقوله تعالى {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. فقال لطلحة، وقد ناوله سفرجلة: "إنها تذهب بطخاء الفؤاد". وقال لأبي هريرة، وهو رمد، في خبز الشعير والسلق: "كل من هذا، فإنه أوفق لك" وقال في التمر والقثاء: "حر هذا يكسر برد هذا" أو قال: "برد هذا يكسر حر هذا" وقال لرمد: "أتأكل التمر وأنت رمد". وقال لعائشة في الماء المشمس: "لا تفعلي هذا ياحميراء فإنه يولد البرص". وقال: "استاكوا بكل عود، ما خلا الآس والرمان، فإنهما يهيجان عرق الجذام". وقال لامرأة، وقد استطلقت بالشبرم: "حار جار ألا استطلقت بالسنا، فإنه لو كان شيء يذهب الداء لأذهبه السنا" إلى غير

ذلك مما إذا أباحه أو حظره نبه على حكمته. وكانت عائشة، رضي الله عنها، تقول للمريض: اصنعوا له خزيرة فإنها مجمة لفؤاد المريض، وتذهب بعض الحزن، ومثل ذلك كثير من كلام العلماء ومجربات الحكماء، ومعارف الحنفاء. قال الشافعي رضي الله عنه، في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} الطيبات ما استطابته نفوس العرب، والخبائث ما استخبثته نفوس العرب. هذا من جهة القلب، وأما من جهة النفس فسخاؤها بما يقع فيه الاشتراك من المنتفعات المحللات، لأن الشح بالحلال عن مستحقه محظر له على المختص به، الضيافة على أهل الوبر. {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}. {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}. {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}. وكذلك صبرها عما تشتهيه من المضرات من الوجوه المذكورة: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}. {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وكذلك التراضي وطيب النفس فيما يقع فيه الاشتراك {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ

تَرَاضٍ مِنْكُمْ}. {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}. هذه الشروط الثلاثة: من السخاء، والصبر، والتراضي، في النفس. وأما في العمل وتناول اليد، فأول ذلك ذكر الله والتسمية عند كل متناول، لأن كل شيء لله، فما تناول باسمه أحد بإذنه، وما تنوول بغير أخذ تلصصا على غير وجهه، وشارك الشيطان في تناوله، فتبعه المتناول معه في خطواته. {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}. جاء صبي وأعرابي ليأكلا طعاما بين يدي النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بغير تسمية، فأخذ يأيديهما وقال: "إن الشيطان جاء يستحل بهما هذا الطعام، والذي نفسي بيده، إن يده في يدي مع أيديهما"، فسمي النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وأكل، ثم أطلقهما وقال: "كلا باسم الله". وقال لغلام أكل معه: "ياغلام، سم الله". والثاني: التناول باليمين، لأن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، واليمن خادم ما علا من الجسد، والشمال خادم ما سفل منه. والثالث: أن يتناول تناول تقنع وترفع عن تناول التهمة، كان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يأكل بثلاثة أصابع، ويشرب مصا في ثلاث، وقال: "هو أبرأ وأمرأ وأهنأ"

وقال: "الكباد من العب". والرأبع: الاكتفاء بما دون الشبع، لما في ذلك من حسن اعتداء البدن وحفظ الحواس الظاهرة والباطنة. ومن علامات الساعة ظهور السمن عن الأكل في الرجال و"ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه". وما دخلت الحكمة معدة ملئت طعاما. و"المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" لتوكل المؤمن في قوامه، ولاتكال الكافر على الغذاء في قوته. و"حسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه، فإن كان، ولابد فاعلا، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس". والخامس حمد الله في الختام. لأن من لم يحمد الله في الختام. كفر بنعمته، ومن حمد غير الله آمن بطاغوته. فبهذه الأمور؛ معرفة في القلب، وحالا في النفس، وأدبا في العمل، تصح قراءة حرف الحلال، ويحصل خير الدنيا، ويتمهد الأساس لبناء خير الآخرة، والله ولي التوفيق.

الفصل الثالث فيما به تحصل قراءة حرف النهي

الفصل الثالث فيما به تحصل قراءة حرف النهي اعلم أن الموفي بقراءة حرفي الحلال والحرام المنزلين لإصلاح أمر الدنيا وتحسين حالة الجسم والنفس، تحصل له عادة بالخير، تيسر عليه قراءة حرفي صلاح الآخرة، من الأمر والنهي، وكما أقتضت الحكمة والعلم إقامة أمر الدنيا بقراءة حرفي صلاحها تماما افتضى الإيمان بالغيب، وتصديق الوعد والوعيد، تجارة اشتراء الغيب الموعود من عظيم خلاق الأخرى، بما ملك العبد من منفوذ متاع الدنيا، فكل الحلال، ماعدا الكفاف بالسنة، متجر للعبد، إن أنفقه ربحه وأبقاه فقدم عليه، وإن استمتع به أفناه فندم عليه. {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}. {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. "بخ بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح". وكما أن حرف الحلال موسع، ليحصل به الشكر، فحرف النهي مضيق لمتسع حرف الحلال، ليحصل به الصبر، ليكون العبد شاكرا صابرا. فالذي تحصل به قراءة حرف النهي:

أما في جهة القلب، ورؤيا الفؤاد، فمشاهدة البصيرة لوعود الجزاء، حتى كأنه ينظر إليه لترتاح النفس لخيره، وترتاع من شره، كما قال حارثة: "كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون". فأثمر له ذلك ما أخبر به عن نفسه في قوله: "وعزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها وخزفها"، وخصوصا من أيد بالمبشرات من الرويا الصالحة، والكشف الصادق، ليدع الفاني للباقي على يقين ومشاهدة. وأما من جهة حال النفس، فالصبر يحسبها عما تشتهيه طبعا، مما هو محلل شرعا، قال، - صلى الله عليه وسلم -، لعمر، رضي الله عنه، لما رثى لحاله: "ياعمر، ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة". {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} وصبر النفس عن شهواتها، وإن كانت حلالا، هو حقيقة تزكيتها، وقتلها بإضنائها منها هو حياتها، وإطلاقها ترتع في شهواتها هو تدسيسها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}. والنفس مطية يقويها إنضاؤها، ويضعفها استمتاعها وحبسها عن ذلك شائع في جهات وجوه الحلال كلها، إلا في شيئين: في النساء بكلمة الله، لأنهن من ذات نفس الرجل، ولسن غيرا لهم. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}. {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}. والثاني في الطيب لأنه غذاء للروح، وتقوية للحواس، ونسمة من باطن الملكوت، إلى ظاهر الملك، وما عداهما فالاستمتاع به واتباع النفس هواها فيه، علامة تكذيب وعد الرحمن، وتصديق وعد الشيطان: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ

السَّبِيلِ}. {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} هذا من جهة النفس. وأما من جهة العمل وتناول اليد فرفعها عما زاد على الكفاف، وتخليته لذوي الحاجة، ليتخذوه، معاشا، وأن يكون التمول، من غير القوام، تجارة نقل وضرب في الأرض، أو إرصاد لوقت الحاجة، لا حكرة وتضييقا، اتخاذ أكثر من لبستين، للمهنة، والجمعة، علامة ضعف الإيمان، وخلاف السنة، وانقطاع عن آثار النبوة، وعدول عن سنة الخلفاء، وترك لشعار الصالحين، وكذلك تصفية لباب الطعام، وقصد المستحسن في الصورة، دون المستحسن في العلم، وإيثار الطيب في المطعم على الطيب في الورع، وتكثير الأدم وتلوين الأطعمة، وكذلك اتخاذ أكثر من مسكن واحد، وأكثر من مزدرع كاف، ورفع البناء والاستشراف بالمباني، امتنع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، من رد السلام على رجل اتخذ قبة في المدينة، حتى هدمها وسواها مع بيوت أهل المدينة، وإنما الدنيا للمؤمن سجن، إن شعر به وضيق فيه على نفسه طلبت الراح منه إلى الآخرة، فيسعد، ومن لم يشعر بأنها سجن فوسع فيها نفسه، طلبت البقاء فيها، وليست بباقية، فيشقى. والخيل ثلاثة: أجر للمجاهد، ووزر على المتباهي، وعفو للمستكفي بها فيما يعنيه من شأنه. والزيادة على الكفاف من النعم السائدة انقطاع عن آثار النبوة، وتضييق على ذوي الحاجة، وتمول لما وضع لإقامة المعاش، وإن يتخذ منه الكفاف، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لنا غنم مائة، لا نريد أن تزيد، فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة".

والطعام لايتمول وكذلك ما اتخذ للقوام، لا يحتكر إلا خاطىء ["من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله، وبوئ الله منه" فالأمتعة تجلب وتختزن، ويستنمى فيها الدينار والدراهم، والطعام والقوام يجلب ولا يختزن، فيستنمى فيه الدينار والدرهم، ومن اختزنه يستنمي فيه الدينار والدرهم فقد احتكره]، وما منع فيه من مد العين، فأحرى أن يمنع فيه مد اليد {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} الآيتين. فبهذه الأمور؛ من إيمان القلب، ورؤية الفؤاد، وصبر النفس، وكف اليد عن الانبساط في التمول فيما به القوام، تحصل قراءة حرف النهي، والله ولي التأييد.

الفصل الرابع فيما به تحصل قراءة حرف الأمر

الفصل الرابع فيما به تحصل قراءة حرف الأمر اعلم أن الوفاء بقراءة حرف النهي تماما، يفرغ لقراءة حرف الأمر، لأن المقتنع في معاش الدنيا يتيسر له التوسع في عمل الأخرى، والمتوسع في متاع الدنيا لا يمكنه التوسع في عمل الأخرى، لما بينهما من التضار والتضاد. والذي تحصل به قراءة هذا الحرف: أما من جهة القلب: فالتوحيد والإخلاص، وأعم ذلك البراءة من الشرك العظيم، بأن لا يتخذ مع الله إلها آخر، لأن المشرك في الإلهية لا تصح منه المعاملة بالعبادة. {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ}. وأخص منه الإخلاص بالبراءة من الشرك الجلي، بأن لا يرى لله شريكا في شيء من أسمائه الظاهرة، لأن المشرك، في سائر أسمائه الظاهرة، لايصح له القبول، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه، حتى يؤمن بالقدر.

ولكل عمل من المأمورات خصوص اسم في الإخلاص، كإخلاص المنفق بأن الإنعام من الله، لا من العبد [المنفق، وكإخلاص المجاهد بأن النصرة من الله، لا من العبد] المجاهد: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. وكذلك سائر الأعمال يخصها الإخلاص في اسم من الأسماء، يكون أملك بذلك العمل. وأما من جهة أحوال النفس: فأولها وأساسها طمأنينة النفس بربها في قوامها من غير طمأنينة بشيء سواه، فمتى اطمأنت النفس بما تقدر عليه، وما لها من منة، أو بما تملكه من مملوك، أو بما تستند إليه من غير، ردت جميع عبادتها لما اطمأنت إليه، وكتب اسمها على وجهه، وكانت أمته لا أمة ربها، وكان المرء عبده لا عبد ربه: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة". وهذا هو الذي أحبط أعمال العاملين، من حيث لا يشعرون، وأما من جهة ما يخص كل واحد من الأوامر في أحوال النفس: فما يناسبه من أحوالها وأخلاقها، كاجتماعها في الصلاة بأن لا تصغي لوسواس الشيطان، وأن لا تتحدث في تسويلها، وكسماحها وسخائها في الإنفاق وإيتاء الزكاة، وكصبرها في الصوم. والصوم الصبر كله، ويصحبها كل ذلك في الحج، مع زيادة اليقين، ويصحبها الجميع في الجهاد، مع غريزة الشجاعة. هذا من جهة حال النفس.

وأما من جهة العمل وأحوال الجوارح: فإن أدب الناطق بكلمة الشهادة أن يجمع حواسه إلى قلبه، ويحضر في قلبه كل جارحة فيه، وينطق بلسانه عن جميع ذاته: أحوال نفس، وجوارح بدن، حتى يأخذ كل عضو منه وكل جارحة فيه، وكل حال لنفسه، قسطه منها، كما أشار إليه رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وأعلم بأن بذلك تتحاث عنه الذنوب، كما يتحاث الورق عن الشجر. فلم يقرأ تهليل القرآن من لم يكن ذلك حاله فيه، وكذلك في تشهد الأذان، وبذلك يهدم التهليل سيئاته في الإسلام، كما هدم من المخلص به جرائم الكفران، سمع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، رجلا يؤذن، فلما قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: على الفطرة، فلما قال: لا إله إلا الله، قال: خرجت من النار. وأما أدب الصلاة: فخشوع الجوارح، والهدوء في الأركان، وإتمام كل ركن بأذكاره المخصوصة به، وجمع الحواس إلى القلب، كحاله في الشهادة، حتى لا يحقق مدرك حاسة غفلة. وأما أدب الإنفاق: فحسن المناولة، كان، - صلى الله عليه وسلم - يناول السائل بيده، ولا يكله إلى غيره، والإسرار أتم: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. وينفق من كل شيء بحسب ما رزثه، مياومة أو مشاهرة، أو مسانهة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. وأما أدب الصوم: فالسحور مؤخرا، والفطر معجلا، وصوم الأعضاء كلها عن

العدل، فأحرى عن الجور، وترك العناية بما يفطر عليه إلى ما بعد الزوال، والأخذ فيه بشهوة العيال. وأما أدب الحج: فاستطابة الزاد، والاعتماد على مابيد الله، لا على حاصل ما بيد العبد، وهو تزود التقوى، والرفق مع الرفيق، والرفق بالظهر، وتحسين الأخلاق، والإنفاق في الهدي، وهو الثج، والإعلان بالتلبية، وهو العج، وتتبع أركانه على ما تقتضيه أحكامه، وإقامة شعائره على معلوم السنة لا على معهود العادة. وأما أدب الجهاد: فاستطابة الزاد، وإصلاح العدة ومياسرة الخلطاء، وحسن القيام على الخيل، وتطييب علفها تصفية وورعا، وتناوله بيده، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتناول علف فرسه بيده، ويمسحه بردائه. والتزام ما يجد معه المنة؛ من أن يكون فارسا، أو راجلا، أو رامحا، أو نابلا، ومن تكلف غير ما يجد منته فقد ضيع الحق، وعمل بالتكلف، والصمت عند اللقاء، وغض البصر عند النظر إلى الأعداء. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم". وكف اليد عما للغير فيه حق، وهو الغلول، وأن لا يدعو للبراز، وأن يجيب إذا دعى، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله عز وجل: عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه". ولكل أمر وتلبس بمأمور أدب يخصه، على ما يستقرأ في السنن النبوية، وآثار الخلفاء، وصالحي الأمراء. فبهذه الأمور، من إخلاص القلب، وطيب النفس، وأدب الجوارح، تصح قراءة حرف الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الفصل الخامس فيما به تحصل قراءة حرف المحكم

الفصل الخامس فيما به تحصل قراءة حرف المحكم اعلم أن قراءة الأحرف الماضية الأربعة، هو حظ العامة من الأمة، المعاملين لربهم على الجزاء، المقارضين له على المضاعفة. وقراءة هذا الحرف تماما، هو حظ المتحققين بالعبودية، المتعبدين بالأحوال الصادقة، المشفقين من وهم المعاملة، لشعورهم أن العبد لسيده، مصرف فيما شاء، وكيف شاء، ليس له في نفسه حق ولا حكم، ولا حجة له على سيده، فيما أقامه فيه من صورة سعادة أو شقاوة {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}. {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}. والذي تحصل به قراءة هذا الحرف: أما من جهة القلب: فالمعرفة بعبودية الخلق للحق؛ رق خلق ورزق وتصريف فيما شاء، مما بينه وبين ربه، ومما بينه وبين نفسه، ومما بينه وبين أمثاله، من سائر العباد. "لا يملك لنفسه ضرا ولانفعا، ولا موتا ولا حياة، ولا نشورا" ولا يأخذ إلا ما أعطاه سيده، ولا يتقي إلا ما وقاه سيده، ولا يكشف السوء عنه إلا هو، فيسلم له مقاليد أمره في ظاهره وباطنه، وذلك هو الدين عند الله الذي لا يعمل سواه: {إِنَّ الدِّينَ

عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وهو دين النبي العبد، وما يتحقق للعبد من ذلك عن اعتبار العقل وخصوص اللب، هي الملة الحنيفية؛ ملة النبي الخليل. هذا من جهة القلب. وأما من جهة حال النفس: فجميع أحوال العبد القن، المغرق في الملك: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد". وجماع ذلك وأصله الذل انكسار، والذل عطفا، والبراءة من الترفع والفخر على سائر الخلق، والتحقق بالضعة دونهم، وعلى وصف النفس بذلك ينبني حسن التخلق مع الخلق، وصدق التعبد للحق. وأما من جهة العمل وتصرف الجوارح: فإسلامها، لله قولا وفعلا وبذلا، ومسالمة الخلق لسانا ويدا، وهو تمام الإسلام وثبته، "لايكتب أحدكم في المسلمين حتى يسلم الناس من لسانه ويده" ويخص الهيئة من ذلك ما هو أولى بهيآت العبيد. كالذي بنيت عليه هيئة الصلاة، من الإطراق في القيام، ووضع اليمنى على اليسرى بحذاء الصدر؛ هيئة العبد المتأدب المنتظر لما لا يدري خبره من أمر سيده، وكهيئة الجلوس فيها الذي هو جلوس العبد، وكذلك كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يجلس

لطعامه، لتستوي حال تعبده في أمر دنياه وأخراه، ويقول: "إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد". ويؤثر جميع ما هو هيئة العبد في تعبده ومطعمه ومشربه وملبسه ومركبه وظعنه وإقامته. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}. فبهذه الأمور؛ من تحقيق العبودية في [القلب، وذل]، النفس وانكسار الجوارح، تحصل قراءة حرف المحكم، والله الولي الحميد.

الفصل السادس فيما به تحصل قراءة حرف المتشابه

الفصل السادس فيما به تحصل قراءة حرف المتشابه اعلم أن تحقيق الإسلام بقراءة حرف المحكم، لا يتم إلا بكمال الإيمان بقراءة حرف المتشابه تماما، لأن حرف المحكم حال تتحقق للعبد، ولما كان حرف المتشابه إخبار الحق، عن نفسه، بما يتعرف به لخلقه، من أسماء وأوصاف، كانت قراءته أن يتحقق العبد أن تلك الأسماء والأوصاف ليست مما تدركه حواس الخلق، ولا مما تناله عقولهم، وإن أجرى بعض تلك الأسماء والأوصاف على الخلق، فبوجه لايلحق أسماء الحق، ولا أوصافه منها، تشبيه في وهم، ولا تمثيل في عقل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فالذي تصح به قراءة هذا الحرف. أما من جهة القلب: فالمعرفة بأن جميع أسماء الحق وأوصافه تعجز عن معرفتها إدراكات الخلق، ويقف عن تأويلها إجلالا وإعظاما معلوماتهم، وأن حسبها معرفتها بأنها لا تعرفها. وأما من جهة حال النفس: فالاستكانة لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف من التحقق بما يقابلها، والبراءة من الاتصاف بها، لأن ما صلح للسيد حرم على العبد، كتحقق فقر الخلق من تسمي الحق بالغنى، ولا يتسمى بالغنى، فيقدح في

تقواه، فيهلك باسمه ودعواه، وكتحقق ذنهم من تسمية تعالى بالعزة، وعجزهم عن تسميه بالقدرة، واستحقاق تخليهم من جميع ما تعرف به من أوصاف الملك والسلطان، كالرضا والغضب، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، إلى سائر ما تسمى به في جميع تعرفاته، مما ذكر في المتشابه من الآي، وما أشير إليه من الأحاديث، وما عليه اشتملت واردات الأخبار في جميع الكتب والصحف، ومرأى الصالحين، ومواقف المحدثين، ومواجد المروعين. وأما من جهة العمل: فحفظ اللسان عن إطلاق ألفاظ التمثيل والتشبيه تحقيقا لما في مضمون قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، لأن مقتضاها الرد على المشبهة من هذه الأمة. وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر، سوى ما ذكر من لفظ اللسان، فقراءته كالتوطئة لتخليص العبادة بالقلب، في قراءة مفرد حرف الأمثال، والله العلي الكبير.

الفصل السابع فيما به تحصل قراءة حرف الأمثال

الفصل السابع فيما به تحصل قراءة حرف الأمثال اعلم أن قراءة الأحرف الستة تماما، وفاء بتفصيل العبادة، لأنها أشفاع: ثلاثة للتخلص والتخلي، وثلاثة للعمل والتحلي، لأن ترك الحرام طهرة البدن، وترك النهي طهرة للنفس، وترك التعرض للمتشابه طهرة القلب، ولأن تناول الحلال زكاء البدن، وطاعة الأمر زكاء النفس، وتحقق العبودية، بمقتضى حرف المحكم، نور القلب. وأما قراءة حرف الأمثال فهو وفاء العبادة بالقلب جمعا ودواما، {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا}. {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}. فالذي تحصل به قراءة هذا الحرف، إنما هو خاص بالقلب، لأن أعمال الجوارح وأحوال النفس قد استوفتها الأحرف الستة التفصيلية. والذي يخص القلب لقراءة هذا الحرف هو المعرفة التامة المحيطة بأن كل الخلق، دقيقه وجليله، خلق الله وحده، لا شريك له في شيء منه، وأنه جميعه مثل لكلية أمر الله

القائم بكلية ذلك الخلق، وأن كلية ذلك الأمر الذي هو ممثول لمثل الخلق، هو مثل لله. {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}، وأن تفاصيل ذلك الخلق المحيطات [أمثال لقيامها من تفاصيل ذلك الأمر المحيطات بها، وأن تفاصيل الأمر المحيطات] وأمثال لأسماء الله الحسنى، بما هي محيطة، ولجميع هذا الحرف لم يصح إنزاله إلا على الخلق الجامع الآدمي، الذي هو صفوة الله وفطرته، وعلى سيد الآدميين محمد خاتم النبيئين، وهو خاصته خاصة آله، وعنه كمل الدين بالإحسان، وصفا العلم بالإيقان، وشوهد في الوقت الحاضر ما بين حدي الأزل الماضي، والأبد الغابر، وعن هذا اليقين الإحسان، تحقق الفناء لكل فان، وبقي وجه رب محمد، ذي الجلال والإكرام. وكان هذا الحرف، بما اسمه الحمد، هو لكل شيء بدء وختام. هذا وفاء القول في البابين والفصول، والحمد لله رب العالمين. * * * * آخر نسخة ب: آخر الكتاب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. * * * * آخره نسخة ط:، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. * * * *

آخر نسخة م: تم الجزء المبارك وبتمامه كان تمام الكتاب. * * * * ووافق الفراغ من نسخه اليوم المبارك، وهو يوم الجمعة، وذلك ليلتان بقيت - كذا - من شهر رجب الفرد من شهور سنة سبع وثلاثين وستمائة، كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه في كل شيء، موسى به علي بن شامة، وذلك بالمدرسة الصاحبية عمرها الله ببقاء مدرسها، ورحم واقفها بمنه وكرمه وحفى لطفه، والحمد لله حمد الشاكرين، وصلواته على سيد المرسلين، محمد خاتم النبيئين، وعلى آله وصحبه، وسلامه. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

صفحة فارغة

كتاب التوشية والتوفية لأبي الحسن علي بن أحمد الحرالي التجيبي المراكشي

كتاب التوشية والتوفية لأبي الحسن علي بن أحمد الْحَرَالِّي التجيبي المراكشي تقديم وتحقيق: محمادي بن عبد السلام الخياطي أستاذ بكلية أصول الدين تطوان

مقدمة

مقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم بعد حمد الله، والصلاة على سيدنا محمد عبده، ورسوله، وعلى آله الطيبين، ورضي الله عن أصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فهذه فصول تشتمل بحول الله على: "توفية وتوشية" لما تقدم إثباته من كتاب العروة ومفتاحها، توشية له وتوفير لتحبير نصاحها، تتمم بعون الله مقصد التأيد في فهم الكتاب، وتعرف وجوها من الخطاب، والله ولي التأييد بروح منه. آمين.

فصل توشية تشتمل على تفاوت وجه الخطاب فيما بين ما أنزل على وفق الوصية، أو أنزل على حكم الكتاب

فصل توشية تشتمل على تفاوت وجه الخطاب فيما بين ما أنزل على وفق الوصية، أو أنزل على حكم الكتاب اعلم أن الله سبحانه بعث محمدا، - صلى الله عليه وسلم -، بالرحمة لجميع العالمين، وخلقه بالعفو والمعروف، كما ورد في الكتب السابقة من قوله تعالى: "وأجعل العفو والمعروف خلقه" وبذلك وصاه، كما ورد عنه، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "أوصاني ربي، بغير ترجمان ولا واسطة، بسبع خصال: بخشية الله في السر والعلانية، وأن أصل من قطعني، وأصفح عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة". فكان فيما أوصاه به ربه، تبارك وتعالى، من غير ترجمان ولا واسطة، بأن يصل من قطعه، ويصفح عمن ظلمه، ولا أقطع له ممن كفر به وصد عنه، فكان هو، - صلى الله عليه وسلم -، بحكم ما بعث له وجبل عليه ووصى به، ملتزما للعفو عمن ظلمه، والوصل لمن قطعه، إلا أن يعلن عليه بالإكراه على ترك ذلك والرجوع إلى حق العدل، والاقتصاص والانتصاف المخالف لسعة وصيته، الموافق لما نقل من أحكام سنن الأولين، في مؤاخذتهم وأخذهم بالحق والعدل، إلى جامع شرعته ليوجد فيها نحو مما تقدم من الحق والعدل، وإن قل، ولتفضل شرعته بما اختص هو به، - صلى الله عليه وسلم -، من البعثة بسعة الرحمة والفضل. والله {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}.

فمن القرآن ما أنزل على الوجه الذي بعث له، وجبل عليه ووصى به، نحو قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}. وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}. وقوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}. وقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ}. وأصل معناه في مضمون قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}. فما كان من المنزل على هذا الوجه تعاضدت فيه الوصية والكتاب، وقبله هو، - صلى الله عليه وسلم -، جبلة وحالا وعملا، ولم تكن له عنه وقفة، لتظافر الأمرين، وتوافق الخطابين: خطاب الوصية، وخطاب الكتاب. وهذا الوجه من المنزل خاص بالقرآن العظيم، الذي هو خاص به، - صلى الله عليه وسلم -، لم يوته أحد قبله. {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}. ومن القرآن ما أنزل على حكم العدل والحق المتقدم فضله في سنن الأولين، وكتب المتقدمين، وإمضاء عدل الله، سبحانه، في المؤاخدين، والاكتفاء بوصل الواصل، وإبعاد المستغني، والإقبال على القاصد، والانتقام من الشارد، وذلك خلاف ما جبل الله عليه نبيه، وما وصى به حبيبه، فكان، - صلى الله عليه وسلم -، إذا أنزل عليه أي من الكتاب على مقتضى الحق وإمضاء العدل، ترقب تخفيفه، وترجى تيسيره، حتى يعلن عليه بالإكراه في أخذه، والتزام حكمه، فحينئذ يقوم لله به، ويظهرعذره في إمضائه، فيكون له في خطاب التشديد عليه في أخذه أعظم مدح، وأبلغ ثناء من الله، ضد ما يتوهمه الجاهلون.

فمما أنزل إنباء عن مدحه بتوقفه عن إمضاء حكم العدل والحق، رجاء تدارك الخلق، واستعطاف الحق، ما هو نحو قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}. ونحو قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. ونحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}. ومما أنزل على وجه الإعلان عليه، بما هو عليه من الرحمة، وتوقفه عن الأخذ بسنن الأولين، حتى يكره عليه، ليقوم عذره في الاقتصار على حكم الوصية، وحال الجبلة، ما هو نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}. ونحو قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. ونحو قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. أي لا تتوقف لطلب الرحمة لهم، كما يتوقف الممتري في الشيء أو الشاك فيه، لما قد علم أنه لابد لأمته من حظ من مضاء كلمة العدل فيهم، وحق كلمة العذاب عليهم، وإجراء بعضهم، دون كلهم، على ستة من تقدمهم من أهل الكتب الماضية في المؤاخذة بذنوب، وإنفاذ حكم السطوة فيهم، فأخذهم الله بذنوبهم. {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}. ولم يئفعهم الرجوع عند مشاهدة الآيات: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ

قَبْلُ}. {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ}. وذلك أن كل مطالع بالعذاب راجع ولابد عن باطله، حين لاينفعه. {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}. {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. لما أبطن، تعالى، في قلب نبيهم عليهم عزما على هلاكهم، أظهر تعالى رحمته عليهم، ولما ملأ نبيه عن تألفهم، وأحسبه بمؤمنهم دون كافرهم ومنافقهم، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. وكل ذلك معلوم عنده، - صلى الله عليه وسلم -، قبل وقوعه، بمضمون قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا}. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ}. {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}. {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}. ولذلك قال، - صلى الله عليه وسلم -، حين أنزل عليه: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} "أما أنا فلا أشك ولا أسأل"، لأنه قد علم جملة أمر الله في أن منهم من تتداركه الرحمة، ومن تحق عليه كلمة العذاب، ولكنه لا يزال ملتزما لتألفهم واستجلابهم حتى يكره على ترك ذلك بعلن خطاب نحو قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)

وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}. ونحو قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ}. فهذه الآي ونحوها، يسمعها العالم، بموقعها على إكراه لنبي الرحمة حتى يرجع إلى عدل الملحمة، من جملة أمداح القرآن له، والشهادة له بوفائه بعهد وصيته، حتى تحقق له تسميته بنبي المرحمة، ثباتا على الوصية، وبنبي الملحمة، إمضاء في وقت لحكم الحق، وإظهار العدل، فهو، - صلى الله عليه وسلم -، بكل القرآن ممدوح، وموصوف بالخلق العظيم، جامع لما تضمنته كتب الماضين، وما اختصه الله به من سعة القرآن العظيم. فهذا وجه تفاوت ما بين الوصية والكتاب في محكم الخطاب، والله سميع عليم.

فصل توفية تشتمل على تناول كلية القرآن لكلية الأمة ولكل قارئ يقرؤه من أهل الفهم والإيقان

فصل توفية تشتمل على تناول كلية القرآن لكلية الأمة ولكل قارئ يقرؤه من أهل الفهم والإيقان اعلم أن الله، سبحانه، أنزل القرآن نبأ عن جميع الأكوان، وأن جميع ما أنبأ عنه من أمر آدم إلى زمن محمد، - صلى الله عليه وسلم -، من أمر النبوات والرسالات والخلافات وأصناف الملوك والفراعنة والطغاة، وأصناف الجناة، وجميع ما أصابهم من المثوبات والمثلات في يوم آدم، عليه السلام، إلى زمن محمد، - صلى الله عليه وسلم -، الذي هو ستة آلاف سنة، ونحوها، كل ذلك متكرر بجملته في يوم محمد، - صلى الله عليه وسلم -، الذي هو ألف سنة أو نحوها، أعدادا بأعداد، وأحوالا بأحوال، في خير أو شر، فلكل من الماضين مثل متكرر في هذه الأمة الخاتمة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لكل نبي قبلي، في أمتي نظير" ثم ذكر، - صلى الله عليه وسلم -، نظراء مثل إبراهيم كأبي بكر، ومثل موسى كعمر، ومثل هرون كعثمان، ومثل نوح كعلي، ومثل عيسى كأبي ذر. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعرف النظراء من أمتي بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم، كافرهم ومومنهم، ممن كان وممن سيكون بعد، ولو شئت أن أسميهم لفعلت". فمما صد أكثر هذه الأمة عن تفهم القرآن ظنهم أن الذي فيه من قصص الأولين وأخبار المثابين والمعاقبين، من أهل الأديان أجمعين، أن ذلك إنما مقصوده الأخبار والقصص فقط، كلا، وليس كذلك، إن ذلك إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه

بمشاهدة متكرره في هذه الأمة، من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحول والآثار، حتى يسمع السامع جميع القرآن من أوله إلى خاتمته منطبقا على هذه الأمة وأيمتها، هداتها وضلالها، فحينئذ ينفتح له باب الفهم، ويضيء له نور العلم، وتتجه له حال الخشية، ويرى في أصناف هذه الأمة ما سمع من أحوال القرون الماضية، وإنه كما قيل في المثل السائر: "إياك أعني، واسمعي ياجارة". ثم إذا شهد انطباق القرآن على كلية الأمة، فكان بذلك عالما، ينفتح له باب ترق، فيترقى سمعه إلى أن يجد جميع كلية القرآن المنطبق على كلية الأمة منطبقا على ذاته، في أحوال نفسه وتقلباته، وتصرفات أفعاله وازدحام خواطره، حتى يسمع القرآن منطبقا عليه، فينتفع بسماع جميعه، ويعتبر بأي آية سمعها منه، فيطلب موقعها في نفسه، فيجدها بوجه ما، رغبة كانت أو رهبة، تقريبا كانت أو تبعيدا، إلى أرفع الغايات، أو إلى أنزل الدركات، فيكون بذلك عارفا. هذا مقصود التنبيه في هذا الفصل جملة، ولنتخذ لذلك مثالا يرشد لتفهم ذلك الانطباق على كلية الأمة علما، وعلى خصوص ذات القارىء السامع عرفانا. اعلم أن أصول الأديان المزدوجة التي لم تترق إلى ثبات حقائق المومنين، فمن فوقهم من المحسنين والموقنين، التي جملتها تحت حياطة الملك والجزاء والمداينة، الذين تروعهم رائعة الموت أولا، ثم رائعة القيامة ثانيا، إلى ما يشتمل عليه يوم الدين من أهوال المواقف الخمسين، التي كل موقف منها ألف من السنين. {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}. فعدد هذه الأديان سبعة، ما من دين منها إلا ويوجد في صنف من أصناف

هذه الأمة، ويجده المعتبر في نفسه في وقت ما بقلة أو كثرة، بدوام أو خطرة، بضعف أو شدة، عن أثر رين غالب، أو عن لمح غين زائل. وهذه الأديان السبعة هي: دين الذين آمنوا، من هذه الأمة، ولم يتحققوا بحقيقة الإيمان، فيكونوا من المومنين، الذين صار الإيمان وصفا ثابتا في قلوبهم، الموحدين المتبرئين من الحول والقوة، المتحققين لمضاء أقدار الله عليهم بما شاء، لا بما يشاءون: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}. وأما الذين آمنوا فهم الذين لايثبتون على حال إيمانهم، ولكنهم تارة وتارة، ولذلك هم المنادون والمنهيون والمأمورون في جميع القرآن، الذين يتكرر عيلهم النداء في السورة الواحدة مرات عديدة، من نحو ما بين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}. إلى ما بين ذلك من نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا}. فهؤلاء هم أهل دين غير ثابت، ينتظمون به مع من ليس له ثبات من ماضي الأديان المنتظمين مع من له أصل في الصحة من الأديان الثلاثة، في نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ} المنتظمين أيضا مع المغيرين لأديانهم، والمفترين لدين لم ينزل الله به من سلطان، في نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}.

فهذا هو الدين الأول. وأما الدين الثاني: فهو دين الذين هادوا، الذين منهم: {الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}. والذين: {وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. والذين: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. والذين: {يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. والذين ياكلون الربا: {وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}. والذين: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}. فهؤلاء أهل الدين الثاني. وأما الدين الثالث: فدين {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}، الذين منهم الذين ضلوا عن سواء السبيل الذين غلوا في دينهم، وقالوا: {عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ}، واتخذوا رهبانهم {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}. وأما الدين الرابع: فدين الصابئة الذين منهم متألهو النجوم، عباد الشمس والقمر، والكواكب ومغيروهم، هم بالترتيب أول من عبد محسوسا سماويا. وأما الدين الخامس: فدين المجوس الثنوية، الذين جعلوا إلهين: نوراً وظلمة، وعبدوا محسوسا أفاقيا.

وأما الدين السادس: فدين الذين أشركوا، وهم الذين عبدوا محسوسا أرضيا، غير مصور، وهم الوثنية، أو مصورا وهم الصنمية. فهذه هي الأديان الستة الموفية لعد الست، لما جاء فيه. وأما الدين السابع: فاعلم أن الله، سبحانه، جعل السابع أبدا جامعا لسته، خيرا كانت أو شرا، فالدين السابع هو دين المنافقين، الذين ظاهرهم مع الذين آمنوا، وباطنهم مع أحد سائر الأديان الخمسة المذكورة، إلى أدنى دين شركها الدين {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}. فهذه الأديان السبعة متكررة بكليتها في هذه الأمة، بنحو مما وقع قبل في الأمم الماضية، وهو مضمون الحديث الجامع لذكر ذلك في قوله، - صلى الله عليه وسلم -: "لتاخذن، كما أخذت الأمم من قبلكم، ذراعا بذراع، وشبرا بشبر، وباعا بباع، حتى لو أن أحداً من أولئك دخل في جحر الضب لدخلتموه، قالوا يارسول الله، كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب قال: وهل الناس إلا هم". وما بينه النبي، - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، هو من مضمون قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} وأهل هذه الأديان السبعة هم، أو منهم، هم عمرة دركات جهنم السبع، على ترتيبهم، والناجون بالكلية الفائزون هم المومنون، فمن فوقهم من المحسنين والموقنين. ومزيد تفصيل في ذلك وتثنية قول بما ينبه عليه، بحول الله، من جهات تتبع

طوائف من هذه الأمة صنن من تقدمهم في ذلك. أما وجه تكرار دين الذين أشركوا في هذه الأمة، فباتخاذهم أصناما وآلهة يعبدونها من دون الله، محسوسة جمادية، كما اتخذ المشركون الأصنام والأوثان من الحجارة والخشب، فاتخذت هذه الأمة بوجه ألطف وأخفى، أصناما وأوثانا، فإنها اتخذت الدينار والدرهم أصناما، والسبائك والنقر أوثانا، من حيث أن الصنم هو ماله صورة، والوثن ما ليس له صورة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "صنم أمتي الدينار والدرهم" وقال، - صلى الله عليه وسلم -: "لكل أمة عجل يعبدونه من دون الله، وعجل أمتي الدينار والدرهم" فلا فرق بين ظن المشرك أن الصنم الذي صنعه بيده ينفعه، وظنه المفتونين، من هذه الأمة، أن ما اكتسبوا من الدينار والدرهم ينفعهم، حتى يسير مثلهم: "ما ينفعك إلا درهمك" {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}. فما من آية نزلت في المشركين، في ذكر أحوالهم، وتبيين ضلالهم، وتفاصيل سرهم وإعلانهم، إلا وهي منطبقة على كل مفتون بديناره ودرهمه، فموقع قول المشركين في أصنامهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. مثله موقع نظيره من قول المفتون: ما أحب المال إلا لأعمل الخير، واستعين به على وجوه البر، ولو أراد البر لكان ترك التكسب والتمول له أبر، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أهلك من كان قبلكم الدينار والدرهم، وهما مهلكاكم" فكل من أحبهما وأعجب

بجمعهما، فهو مشرك هذه الأمة، وهما لاتاه وعزاه، اللتان تبطلان عليه قول كلمة لا إله إلا الله، لأنه تأله ماله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا إله إلا الله نجاة لعباد الله من عذاب الله، مالم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم". فمن وجد من هذا سمة فليستمع جميع ما أنزل في المشركين من القرآن منطبقا عليه، ومنزلا إليه، وحاقا به، حتى يخلصه الله من خاص شركه، كما خلص من أخرجه من الظلمات إلى النور من الأولين، فيخلص هذا المشرك بما له من ظلمته، التي غشيت ضعيف إيمانه، إلى صفاء نور الإيمان، بما في مضمون قوله تعالى: {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. فهذا وجه تفصيل يبين نحواً من تكرر دين الشرك في هذه الأمة. وأما وجه وقوع المجوسية ونظيرها في هذه الأمة: فإطباق الناس على رؤية الأفعال من أنفسهم؛ خيرها وشرها، وإسنادهم أفعال الله إلى خلقه، حيث استحكمت عقائدهم على أن فلانا فاعل خير، وفلانا فاعل شر، وفلانا يعطي، وفلانا يمنع، وفلانا حرمني، وفلانا أعطاني، حتى ملأوا الدواوين من الأشعار والخطب والرسائل أمداحا لخلق الله على ما لم يفعلوا، وذما لهم على ما لم يمنعون، يحمدون الخلق على رزق الله، ويذمونهم على ما لم يؤته الله، ويلحدون في أسمائه، حتى يكتب بعضهم لبعض: سيدي وسندي، وأسنى عددي، وعبدك ومملوكك، يبطلون بذلك أخوة الإيمان، ويكفرون تسوية خلق الرحمان، ويدعون لأنفسهم أفعال الله، فيقولون: فعلنا وصنعنا، وأحسنا وعاقبنا، كلمة نمرودية أن أتاهم الله ما لم يشعروا باختصاص الله تعالى فيه بأمره، كالذي "حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك" حين "قال: أنا أحيي وأميت". وهذه هي المجوسية الصرف والقدرية المحضة، التي لايصح دين الإسلام معها، لأن المسلم من أسلم الخلق

والأمر لربه، {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}. وما سوى ذلك قدرية، هي مجوسية هذه الأمة، حيث جعلوا للعبد شركة في فعل الرب، وجعلوا له معه، تعالى، قدرة وقوة، ومشيئة واختيارا وتدبيرا، ولم يعلموا أن المقدور منع التدبير، وأنه هو، تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} قال: - صلى الله عليه وسلم -: "القدرية مجوس هذه الأمة". فكل ما أنزل الله، عز وجل، في القرآن الجامع لذكر جميع الملل والأديان، مما عزاه لمن وزع الأفعال بين الحق والخلق، من كلام ذي فرعنة أو نمرودية، أو ذي سلطان، فلمعتقد المدح والذم للخلق حظ منه، على حسب توغلهم واستغراقهم في الذين زعموا أنهم فيهم شركاء، فخافوهم ورجوهم، فكل خائف من الخلق أو راج منهم، من عداد الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة، فهو من مجوس هذه الأمة. فليسمع السامع ما يقرؤه من ذلك حجة عليه، يسأل الله التخلص منها، وليعلم أن ذلك لم يزل حجة عليه، وإن كان لم يشعر به قبل. فهذا وجه من وقوع المجوسية في هذه الأمة. وأما وجه وقوع الصائبة ونظيرها في هذه الأمة: فيما غلب على أكثرها، وخصوصا ملوكها وسلاطينها، وذوي الرئاسة منها، من النظر في النجوم، والعمل بحسب ما تظهره هيئتها عندهم من سعد ونحس، والاستمطار بالنجوم، والاعتماد على الأنواء، وإقبال القلب على الآثار الفلكية، قضاء بها وحكما، بحسب ما جرى عليه

النحليون الذين {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} من العناية بها. قال، - صلى الله عليه وسلم -: "أربعة في أمتي هن بهم كفر، وليسوا بتاركيهن". فذكر منها الاستمطار بالنجوم، فالمتعلق خوفهم ورجاؤهم بالآثار الفلكية هم صابئة هذه الأمة، [كما أن المتعلق خوفهم ورجاؤهم بأنفسهم وغيرهم من الخلق، هم مجوس هذه الأمة]، وكما أن المتعلق خوفهم ورجاؤهم بدرهمهم ودينارهم هم مشركو هذه الأمة، وما انطوى عليه سر كل طائفة منهم، مما تعلق به خوفهم ورجاؤهم، فهو ربهم ومعبودهم الذي إليه تصرف جميع أعمالهم، واسم كل امرئ مكتوب على وجه ما اطمأن به قلبه، فكل ما أنزل في القرآن من تزييف آراء الصابئة فهو حجة عليه، حين يقرؤه أو يسمعه، من حيث لا يشعر، حتى يقرأ قوم القرآن وهو نذير لهم بين يدي عذاب شديد وهم لا يشعرون، ويحسبون أنهم يرحمون به، وهم به الأخسرون {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}، فمما يختص بهذه الطائفة المتصبئة ما هو نحو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآيات في ذكر الكوكب والقمر والشمس، إلى آيات ذكر التسخير لهن، نحو قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ}. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ}. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ

وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}. كل ذلك ليصرف، تعالى، خوف الخلق ورجاءهم عن الأفلاك والنجوم المسخرة، إلى المسخر القاهر فوق عباده. الذي استوى على جميعها. فهذا وجه من وقوع الصابئة في الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة. وأما وجه وقوع ما غلب على هذه الأمة: وكثر فيها، وفشا في أعمالها وأحوالها، من تمادي طوائف منهم على نظير ما كان عليه اليهود والنصارى في اختلافهم، وغلبة أحوال ملوكهم وسلاطينهم، على أحوال أنبيائهم وعلمائهم وأوليائهم، فهو الذي حذرته هذه الأمة، وأشعر أولو الفهم بوقوعه منهم، بنحو ما في مضمون قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وما أنبأ به، - صلى الله عليه وسلم - في قوله "لتتعبن سنن من كان قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لا تبعتموهم" وفي بعض طرقه: "حتى لو كان فيهم من أتى أمه جهارا لكان فيكم ذلك. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " وإنما قوى وكثر في هذه الأمة حال هاتين الملتين، لما أتاهما الله من الكتاب والعلم والحكمة، فاختلفوا فيها بالأغراض والأهواء، وإيثار عرض الدنيا، وسامحوا الملوك والولاة، وحللوا لهم ما حرم الله، وحرموا لهم ما حلل الله، وتوصلوا بهم إلى أغراضهم في الإعتداء على من حسدوه من أهل الصدق والتقوى، وكثر البغي بينهم، فاستقر حالهم على مثل حالهم، وسلطت عليهم عقوبات مثل عقوبتهم، وتمادى ذلك فيهم، منذ تبدلت الخلافة

ملكا، إلى أن تضع الحرب أوزارها، وتصير الملل كلها ملة واحدة، ويرجع الافتراق إلى ألفة التوحيد. فكل من اقتطع واقتصر من هذه الشريعة المحمدية الجامعة للظاهر والباطن حظا مختصا من ظاهر أو باطن، ولم يجمع بينهما في عمله وحاله وعرفانه، فهو، بما لزم الظاهر الشرعي، دون حقيقة باطنه، من يهود هذه الأمة، كالمقيمين لظاهر الأحوال الظاهرة، التي بها تستمر الدنيا على حسب ما يرضي ملوك الوقت وسلاطينهم، المضيعين لأعمال السرائر، المنكرين لأحوال أهل الحقائق، الشاهد عليهم تعلق خوفهم ورجائهم بأهل الدنيا، المؤثرين لعرض هذا الأدنى. فبهذا ظهرت أحوال اليهود في هذه الأمة، مر الأعراب مع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بسدرة خضراء نضرة، وكان لأهل الجاهلية سدرة يعظمونها، ويجتمعون عندها، وينيطون بها أسلحتهم، ويسمونها: "ذات أنواط" فقالوا يا رسول الله، اجعل لنا هذه السدرة ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال، - صلى الله عليه وسلم -: "قلتموها ورب الكعبة". "اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة". إنها السنن، فبحيث ظهرت أحداث اليهود من البغي والحسد، وتعظيم ما ظهر تعظيمه، من حيث الدنيا واستحقار ضعفاء المؤمنين، فهنالك أعلام اليهودية. وكذلك أيضا من اقتصر، من هذه الشريعة الجامعة المحمدية، على باطن: من إصلاح حال أو قلب، مع تضييع ظاهر الأمر، ومجامع الخير، وتعاضد الإسلام، واكتفى بما استبطن وتهاون بما استظهر، فهو من نصارى هذه الأمة، ليس بصاحب فرقان، فكيف أن يكون صاحب قرآن، وذلك أن هذا الدين الجامع، إنما يقوم بمعالم إسلام ظاهرة، وشعائر إيمان في القلوب، وأحوال نفس باطنة، وحقائق إحسان شهودية، لايشهد المحسن مع الله سواه، ولا يومن المؤمن مع الله بغيره، ولا يخضع المسلم إلى شيء من دونه، فبذلك يتم الدين.

وقد التزم بمعالم الإسلام طوائف يسمون: المتفقهة، والتزم بشعائر الإيمان طوائف يسمون: الأصوليين والمتكلمين، وترامى إلى الإحسان طوائف يسمون: المتصوفة، فمتى كان المتفقه منكرا لصدق أحوال الصوفية، لما لعله يراه من خلل في أحوال المتصوفة، فقد تسنن بسنن اليهودية، ومتى كان المتصوف غير مجل للفقهاء، لما لعله يراه من خلل في أحوال المتفقهة، فقد تسنن بسنن النصارى، وكذلك حال المتكلم بين الفرقتين لأيهما مال، وإنما أيمة الدين الذين جمع لهم الله إقامة معالم الإسلام، وإيمان أهل الإيمان، وشهود أهل الإحسان، تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، فتأتم بهم الصوفية، وتظهر أنوار قلوبهم على ظلم المتشابهات، فيأتم بهم أهل الإيمان، وتبدو في أعمالهم معالم الإسلام تامة، فيأتم بهم أهل الإسلام. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} أفضل الناس مؤمن في خلق حسن، وشر الناس كافر في خلق سيء، فأولو الفرقان جامعون ومستبصرون. فمن اقتصر على ظاهر وأنكر باطنا، لزمه مذام اليهود، فيما أنزل من القرآن فيهم، بحسب توغله أو اقتصاره. ومن اقتصر على باطن دون ظاهر، لزمته مذام النصارى، فيما أنزل من القرآن فيهم. يذكر أن رجلا من صلحاء المسلمين دخل كنيسة، فقال لراهب فيها: دلني على موضع طاهر أصلي فيه، قال الراهب: طهر قلبك، مما سواه، وقم حيث شئت. قال ذلك الصالح المسلم: فخجلت منه. فاعلم أن كل واحد من هذين الحالين ليس صاحب فرقان، ولا حال صاحب قرآن، لأن صاحب القرآن لا يخجل لهذا القول، لأنه حاله، وقلبه مطهر مما سوى الله، وبعد ذلك لابد أن ينظف ظاهره، لأن الله، سبحانه، كما أنه الباطن، فيحب صفاء البواطن، فإنه الظاهر يحب صلاح الظواهر.

فصاحب القرآن إذا دعى إلى صفاء الباطن أجاب ولم يتلعثم، وإذا دعى إلى صلاح ظاهر أجاب ولم يتلكأ، لقيامه بالفرقان، وحق القرآن. يذكر أن مالكا، رحمه الله، دخل المسجد بعد العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر، فجلس ولم يركع، فقال له صبي: يا شيخ، قم فاركع، فقام فركع، ولم يحاجه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك؛ فقال: خشيت أن أكون من الذين إذا {قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}. ووقف النبي، - صلى الله عليه وسلم -، على سقاية زمزم، وقد صنع العباس أحواضا من شراب فضيح، والمسلمون يردون عليه، وقد خاضوا فيه بأيدهم، فأهوى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يشرب من شرابهم، فقال له العباس: يا رسول الله، "ألا نسقيك من شراب لنا في أسقية" فقال، - صلى الله عليه وسلم -: أشرب من هذا ألتمس بركة أيدي المسلمين، فشرب منه - صلى الله عليه وسلم -. فصاحب القرآن يعبد الله بقلبه وجسمه، لا يقتصر على باطن دون ظاهر، ولا على ظاهر دون باطن، ولا على أول دون آخر، ولا على آخر دون أول. قال، - صلى الله عليه وسلم -: "أمتي كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره". فمن حق القارىء أن يعتبر القرآن في نفسه، ويلحظ مواقع مذامه للفرق، ويزن به أحوال نفسه من هذه الأديان، لئلا يكون ممن يسب نفسه بالقرآن، وهو لا يشعر. فهذا وجه من وقوع هذه الأديان الستة في هذه الأمة. وأما وجه وقوع النفاق وأحوال المنافقين: فهي داهية القراء وآفة الخليقة، قال، - صلى الله عليه وسلم -: "أكثر مناففي أمتي قراؤها". وقال بعض كبار التابعين: أدركت سبعين ممن رأى

النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كلهم يخاف النفاق على نفسه، وأصل مداخله على الخلق من إيثار حرمة الخلق على حرمة الحق، جهلا بالله، واعتزارا بالناس، فيلتزم لذلك محاسنة أولي البر والصدق ظاهرا، وتكرمهم بقلبه باطنا، وتتبع ذلك من الذبذبة بين الحالين ما وصفه الله، سبحانه، من أحوالهم، وما نبه النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عليه من علاماتهم، حتى قال: "بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما" كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}. ينظر المنافق إلى ما يستسقط به فضائل أهل الفضل، ويتعامى عن محاسنهم، كما روى أن الله يبغض التارك لحسنة المؤمن الآخر لسيئته. والمؤمن الصادق يتغافل عن مساوئ أهل المساوئ، فكيف بمعايب أهل المحاسن. ومن أظهر علامات المنافق تبرمه بأعمال الصادق، كما ذكر، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله، وعن ذلك المنافق غماز لماز، بخيل جبان، مرتاع مستثقل في مجامع الخير، أجنبي منها، مستخف في مواطن الشر متقدم فيها، طلق اللسان بالغيبة والبهتان، ثقيل اللسان عن مداومة ذكر الله، عم عن الله في كل حال، ناظر إلى الناس بكل وجه، وهو مع ذلك يصانعهم ولا يصادقهم، ياخذ من الدين ما ينفع في الدنيا، ولا ياخذ ما ينفع في العقبى، ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا، ولا يجتنب ما يضر في العقبى مما يضر في الدنيا.

فهذا وجه من وقوع شياع النفاق في هذه الأمة: فلذلك من حق القارئ أن يستشعر مواقع آي القرآن من نفسه في ذات قلبه، وفي أحوال نفسه وأعمال بدنه، وفي سره مع ربه، وفي علانيته مع خلقه، فإنه بذلك يجد القرآن كله منطبقا عليه، خاصا به، حتى كأن جميعه لم ينزل إلا إليه، حتى إذا رغب في أمر رغب هو فيه، من وجه ما، ولا يقول هذا إنما أنزل في كذا، وإذا أرهب القرآن في أمر رهبه من وجه ما. وإذا أعلى فكذلك، وإذا أسفل فكذلك، ولا يقول هذا إنما أنزل في كذا، حتى يجد لكل القرآن موقعا في عمله، أي عمل كان. ومحلا في نفسه أي حال كان، ومشعرا لقلبه، أي ملحظ كان، فيسمع القرآن بلاغا من الله بغير واسطة بينه وبينه، فعند ذلك يوشك أن يكون ممن يقشعر له جلده ابتداء، ثم يلين له جلده وقلبه انتهاء، وربما يجد من الله، سبحانه، نفح رحمة، يفتح له بابا إلى التخلق بالقرآن؛ إسوة بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، سئلت عائشة، - رضي الله عنها -، عن خلق رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "كان خلقه القرآن". وبذلك هو ذو الخلق العظيم، والله واسع عليم، والحمد لله رب العالمين. * * * *

آخر نسخة باريس المكتبة الوطنية: ب: [آخر الكتاب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم] * * * * آخر نسخة المكتبة العامة بالرباط: ط: [كمل القفل والمفتاح والعروة والتوشية، للشيخ الإمام العلامة: أبي الحسن علي بن أحمد بن الحسن الْحَرَالِّي التجيبي. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، آمين، آمين، آمين، آمين].

صفحة فارغة

نصوص تفسير الحرالي المفقود المستخرجة من تفسير البقاعي

نصوص تفسير الْحَرَالِّي المفقود المستخرجة من الجزء الأول من تفسير البقاعي "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"

[تقديم البقاعي]:

[تقديم البقاعي]: وانتفعت في هذا الكتاب - كثيرا - بتفسير على وجه كلي، للإمام الرباني: أبي الحسن علي بن أحمد بن الحسن التجيبي الْحَرَالِّي - بمهملتين مفتوحتين، ومد وتشديد اللام - المغربي، نزيل حماة من بلاد الشام، سماه: "مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل" وكتاب: "العروة" لهذا المفتاح، يذكر فيه وجه إنزال الأحرف السبعة، وما تحصل به قراءتها، وكتاب: "التوشية والتوفية" في فصول تتعلق بذلك. وقد ذكرت أكثر هذا الكتاب في تضاعيف كتابي [هذا] معزوا إليه في مواضيع تليق [به]، ثم بعد وصولي إلى سورة الأنفال ملكت جزءا من تفسيره، فيه من أوله إلى "إن الله اصطفى" في آل عمران، فرأيته عديم النظير. وقد ذكرت فيه المناسبات، وقد ذكرت ما أعجبني فيها، وعزوته إليه، يسر الله الاطلاع على بقيته، بحوله وقوته [انتهى كلام البقاعي]. * * * سورة (الفاتحة) * * * وقال الأستاذ أبو الحسن الْحَرَالِّي في تفسيره في غريب ألفاظ البسملة: الباء معناها أظهره الله، سبحانه، من حكمة التسبيب. الاسم ظهور ما غاب أو غمض للقلوب بواسطة الآذان على صورة الأفراد، {الله} اسم ما تعنو إليه القلوب عند

موقف العقول، فتأله فيه أي تتحير فتتالهه وتلهو به أي تغنى به عن كل شيء. {الرَّحْمَنِ} شامل الرحمة لكافة ما تتناوله الربوبية. {الرَّحِيمِ} خاص الرحمة بما ترضاه الإلهية. وقال في غريب معناها: لما أظهر الله سبحانه حكمة التسبيب، وأرى الخلق استفادة بعض الأشياء من أشياء أخر متقدمة عليها، كأنها أسبابها، وقف بعض الناس عند أول سبب، فلم ير ما قبله، ومنهم من وقف عند سبب السبب إلى ما عساه ينتهي إليه عقله فطوى الحق تعالى تلك الأسباب وأظهر بالبسملة، أي بتقديم الجار، أن كل شيء باسمه لا بسبب سواه. وقال استفتح أم القرآن بالبسملة لما كانت نسبتها من متلو الصحف والكتب الماضية نسبة أم القرآن من القرآن: الكتاب الجامع للصحف والكتب لموضع طيها الأسباب، كما تضمنت أم القرآن سر ظهور الأفعال بالعناية من الحميد المجيد في آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. هذا في ظاهر الخطاب، إلى ما وراء ذلك من باطنه، فإن لكل آية ظهرا وبطنا. وليلزمها الخلق في ابتداء أقوالهم وأفعالهم، هكذا قال.

{مالك يوم الدين}

قال الْحَرَالِّي: و"الحمد" المدح الكامل الذي يحيط بجميع الأفعال والأوصاف، على أن جميعها إنما هو من الله سبحانه وتعالى، وأنه كله مدح لايتطرق إليه ذم، فإذا أضمحل ازدواج المدح بالذم، وعلم سريان المدح في الكل استحق عند ذلك ظهور اسم الحمد مكملا معرفا بكلمة "ال" وهي كلمة دالة فيما اتصلت به، على انتهائه وكماله. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الْحَرَالِّي: واليوم مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر ثم قال: و {يَوْمِ الدِّينِ} في الظاهر هو يوم ظهور انفراد الحق بإمضاء المجازاة، حيث تسقط دعوى المدعين، وهو من أول يوم الحشر إلى الخلود فالأبد، وهو في الحقيقة من أول يوم نفوذ الجزاء عند مقارفة الذنب في باطن العامل إثر العمل إلى أشد انتهائه في ظاهره، لأن الجزاء لايتأخر عن الذنب، وإنما يخفى لوقوعه في الباطن، وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر، ولذلك يؤثر عنه، عليه الصلاة والسلام: "أن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء". وأيضا فكل عقاب يقع في الدنيا على أيدي الخلق فإنما هو جزاء من الله، وإن كان أصحاب الغفلة ينسبونه للعوائد، كما قالوا: {مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} ويضيفونه للمعتدين عليهم بزعمهم، وإنما هو كما قال

تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وكما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: "الحمى من فيح جهنم، وإن شدة الحر والقر من نفسها"، وهي سوط الجزاء الذي أهل الدنيا بأجمعهم مضروبون به، ومنهل التجهم الذي أجمعهم واردوه من حيث لا يشعر به أكثرهم، قال عليه الصلاة والسلام: "المرض سوط الله في الأرض يؤدب الله به عباده"، وكذلك ما يصيبهم من عذاب النفس بنوع الغم والهم والقلق والحرص، وغير ذلك. وهو تعالى ملك ذلك كله ومالكه، سواء ادعى فيه مدع أو لم يدع، فهو تعالى بمقتضى ذلك [كله ملك] يوم الدين ومالكه مطلقا في الدنيا والآخرة، وإلى الملك أنهى الحق تعالى تنزل أمره العلي، لأن به رجع الأمر عوداً على بدء بالجزاء العائد على آثار ما جبلوا عليه من الأوصاف تظهر عليهم من الأفعال،

{إياك نعبد}

كما قال تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} و {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وبه تم انتهاء الشرف العلي، وهو المجد الذي عبر عنه قوله تعالى: {مجدني عبدي} انتهى. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: ومعنى "نعبد" كما قال الْحَرَالِّي، نبلغ الغاية في أنحاء التذلل، وأعقبه بقوله مكررا للضمير، حثا على المبالغة في طلب العون {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته، وإلى أن ملاك الهداية بيده، فانظر كيف ابتدأ سبحانه بالذات، ثم دل عليه بالأفعال، ثم رقى إلى الصفات، ثم رجع إلى الذات "إيماء إلى أنه الأول [و] الآخر المحيط، فلما حصل الوصول إلى شعبة من علم الأفعال والصفات علم الاستحقاق للأفراد بالعبادة فعلم العجز عن الوفاء بالحق فطلبت الإعانة. قال الْحَرَالِّي: وهذه الآيات، أي هذه وما بعدها، مما جاء كلام الله فيه جاريا على لسان خلقه، فإن القرآن كله كلام الله، لكن منه ما هو كلام الله عن نفسه، ومنه ما هو كلام الله عما كان يجب أن ينطق به الخلق على اختلاف ألسنتهم وأحوالهم وترقي

درجاتهم ورتب تفاضلهم، مما لا يمكنهم البلوغ إلى كنهه، لقصورهم وعجزهم، فتولى الله الوكيل على كل شيء الإنباء عنهم بما كان يجب عليهم، مما لا يبلغ إليه وسع خلقه، وجعل تلاوتهم لما أنبأ به على ألسنتهم نازلا لهم منزلة أن لو كان ذلك النطق ظاهراً منهم؛ لطفا بهم، وإتماما للنعمة عليهم، لأنه، تعالى، لو وكلهم في ذلك إلى أنفسهم لم يأتوا بشيء تصلح به أحوالهم في دينهم ودنياهم، ولذلك لا يستطيعون شكر هذه النعمة إلا أن يتولى هو تعالى بما يلقنهم من كلامه، مما يكون أداء لحق فضله عليهم بذلك، وإذا كانوا لا يستطيعون الإنباء عن أنفسهم بما يجب عليهم من حق ربهم، فكيف بما يكون نبأ عن تحميد الله وتمجيده، فإذا ليس لهم وصلة إلا تلاوة كلامه العلي بفهم كان ذلك أو بغير فهم، وتلك هي صلاتهم المقسمة التي [عبر] عنها فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"، ثم تلا هذه السورة. فجاءت الآيات الأولى الثلاث الأول بحمد الله تعالى نفسه، فإذا تلاها العبد قبل الله

{غير المغضوب عليهم ولا الضالين}

منه تلاوة عبده كلامه، وجعلها منه حمدا وثناء وتمجيدا، وجاءت هذه الآيات على لسان خلقه، فكان ظاهرها التزام عهد العبادة، وهو ما يرجع إلى العبد، وعمادها طلب المعونة من الله سبحانه، وهو ما يرجع إلى الحق، فكانت بينه وبين عبده وتقدمت بينيته تعالى لأن المعونة متقدمة على العبادة وواقعة بها، وهو مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شيء فاستعان الله فيها على مقتضى هذه الآية جاءته المعونة على قدر مؤنته، فلا يقع لمن اعتمد مقتضى هذه الآية عجز عن مرام أبدا، وإنما يقع العجز ببخس الحظ من الله تعالى، والجهل بمقتضى ما أحكمته هذه الآية، والغفلة عن النعمة بها، وفي قوله: "نعبد" بنون الاستتباع إشعار بأن الصلاة بنيت على الاجتماع. انتهى. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال الْحَرَالِّي: مرجع الضال إلى ما ضل عنه، والصراط الطريق الخطر السلوك. والآية من كلام الله تعالى، على لسان العلية من خلقه، وجاء مكملا بكلمة "ال" لأنه الصراط الذي لا يضل بمهتديه لإحاطته ولشمول سريانه وفقا لشمول معنى الحمد في الوجود كله، وهو الذي تشتت الآراء وتفرقت الفرق بالميل إلى واحد من جانبيه، وهو الذي ينصب

مثاله - وعلى حذو معناه - بين ظهراني جهنم يوم الجزاء للعيان، وتحفه مثل تلك الآراء خطاطيف وكلاليب، تجري أحوال الناس معها في المعاد على حسب مجراهم مع حقائقها، التي ابتداء في يوم العمل، وهذا الصراط الأكمل، وهو المحيط المترتب على الضلال الذي يعبر به عن حال من لا وجهة له، وهو ضلال ممدوح، لأنه يكون عن سلامة الفطرة، لأن من لا علم له بوجهة، فحقه الوقوف عن كل وجهة، وهو ضلال يلتزم هدى محيطا، منه {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وأما من هدى وجهة ما فضل عن مرجعها فهو ضلال مذموم، لأنه ضلال بعد هدي، وهو يكون عن اعوجاج في الجبلة - انتهى. قال الْحَرَالِّي: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} الذين ظهر منهم المراغمة، وتعمد المخالفة، فيوجب ذلك الغضب من الأعلى، والبغض من الأدنى، و (الضَّالِّينَ} الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها من غير تعمد لذلك {آمين} كلمة عزم من الأمن، مدلولها أن المدعو مأمون منه أن يرد من دعاه، لأنه لا يعجزه

شيء ولا يمنعه، وهي لا تصلح إلا لله، لأن مادونه لا ينفك عن عجز أو منع [انتهى] وهو صوت سمى به الفعل الذي هو استجب. وقد انعطف المنتهى على المبتدأ بمراقبة القسم الأول اسم الله، فحازوا ثمرة الرحمة، وخالف هذان القسمان، فكانوا من حزب الشيطان، فأخذتهم النقمة. وعلم أن نظم القرآن، على ما هو عليه، معجز، ومن ثم اشترط في الفاتحة في الصلاة، لكونها واجبة فيها، الترتيب، فلو قدم فيها أو أخر لم تصح الصلاة [وكذا لو أدرج فيها ما ليس منها للإخلال بالنظم] هـ. وقال في تفسيره: القرآن باطن، وظاهره، محمد - صلى الله عليه وسلم -، قالت عائشة رضي الله عنها "كان خلقه القرآن" فمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، صورة باطن صورة القرآن، فالقرآن باطنه وهو ظاهره، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ}. وقال في تفسير الفاتحة: وكانت سورة الفاتحة أما للقرآن، لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى، والصفات العلى، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصل من جوامعها، والآيات الثلاث الأخر من قوله {اهْدِنَا} شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الأصول إلى الله، والتحيز

سورة (البقرة)

إلى رحمة الله، والانقطاع دون ذلك، فكل ما في القرآن منه فمن تفصيل جوامع هذه، وكل ما يكون وصلة بين ذلك، مما ظاهرهن وهذه من الخلق ومبدأه وقيامه من الحق، فمفصل من آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتهى. * * * سورة (البقرة) * * * "الم" وقال الْحَرَالِّي في تفسيره "ألف" اسم للقائم الأعلى المحيط، ثم لكل مستحلف في القيام، كآدم والكعبة، "ميم" اسم للظاهر الأعلى الذي من أظهره ملك يوم الدين، واسم للظاهر الكامل الموتى جوامع الكلم، محمد، - صلى الله عليه وسلم -، ثم لكل ظاهر دون ذلك، كالسماء والفلك والأرض، "لام" اسم لما بين باطن الإلهية التي هي محار العقول، وظاهر الملك الذي هو متجلي يوم الجزاء، من مقتضى الأسماء الحسنى، والصفات العلى، التي هي وصل تنزل ما بينهما كاللطيف ونحوه، ثم للوصل الذي كالملائكة وما تتولاه من أمر الملكوت. وهذه الألفاظ عند انعجام معناها تسمى حروفا، والحرف طرف الشيء الذي لا يؤخد منفردا، وطرف القول الذي لا يفهم وحده، وأحق ما تسمى حروفا إذا نظر إلى صورها، ووقوعها أجزاء من الكلم ولم تفهم لها دلالة فتضاف إلى مثلها جزء من كلمة مفهومة تسمى عند ذلك حروفا، وعند النطق بها هكذا: ألف، لام، ميم، [فينبغي أن يقال فيها أسماء،

وإن كانت غير معلومة الدلالة كحروف ألف باء تام] فإنها كلها أسماء على ما فهمه الخليل، وإنها تسمى حروفا عندما تكون أجزاء كلمة محركة للابتداء أو مسكنة للوقف والانتهاء. وأما حقيقتها فهي جوامع أصلها في ذكر أول من كلام الله تعالى فنزلت إلى الكلم العربية، وترجمت بها، ونظم منها هذا القرآن العربي المبين، فهي في الكتب العلوية الملكوتيه المترتبة في الجمع والتفصيل آية وكلم وذات كتاب، فلما نزلت إلى غاية مفصل القرآن أبقيت في افتتاحه لتكون علما على نقله للتفصيل من ذلك الكتاب، ولأنها أتم وأوجز في الدلالة على الجمع من المفصل منها، ودلالتها جامعة للوجود كله من أبطن قيمه إلى أظهره، وأظهر مقامه، ومابينهما من الوصلة [و] الواصلة، وهي جامعة الدلالة على الكون المرئي للعين بالعين والوحي المسموع، ولأجل ما اقتضته من الجمع لم تنزل في كتاب متقدم، لأن كتاب كل وقت مطابق بحال الكون فيه، والكون كان بعد لم يكمل، فكانت كتبه وصحفه بحسبه، ولما كمل الكون في وقت سيدنا محمد، - صلى الله عليه وسلم -، كان كتابه كاملا جامعا، فوجب ظهور هذه الجوامع فيه ليطابق الختم البدء، لأنهما طرفا كمال، وما بينهما تدرج إليه، وقد كان وعد

{ذلك الكتاب لا ريب}:

بإنزالهما في بعض تلك الكتب، فكان نزولها نجازا لذلك، انتهى. {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ}: قال الْحَرَالِّي: "ذا" اسم مدلوله المشار إليه، واللام مدلوله معها بعد ما "الكتاب": من الكتب، وهو وصل الشيء المنفصل بوصلة خفية من أصله، كالخرز في الجلد بقد منه، والخياطة في الثوب بشيء من جنسه، ليكون أقرب لصورة اتصاله الأول، فسمي به ما ألزمه الناس من الأحكام، وما أثبت بالرقوم من الكلام، "لا": لنفي ما هو ممتنع مطلقا، أو في وقت. "الريب" التردد بين موقعي تهمة، بحيث يمتنع من الطمأنينة على كل واحد منهما. انتهى. {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} قال الْحَرَالِّي: جمع المتقي، وهو المتوقف عن الإقدام على كل أمر لشعوره بتقصيره عن الاستبداد، وعلمه بأنه غير مستغن بنفسه، فهو متق لوصفه وحسن فطرته، والمتقي كذا متوقف لأجل ذلك، والتقوى أصل يتقدم الهدى وكل عبادة، لأنها فطرة توقف، تستحق الهدى وكل خير، وهي وصية الله [لأهل الكتاب]. انتهى. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. وقال الْحَرَالِّي: "يؤمنون" من الإيمان، وهو مصدر آمنه يؤمنه إيمانا، وإذا آمن من ينبهه على أمر ليس عنده أن يكذبه أو يرتاب فيه. و"الغيب" ما غاب عن الحس، ولم يكن عليه علم يهتدي به العقل، فيحصل به العلم، وصيغة "يؤمنون" و

"يقيمون" تقتضي الدوام إلى الختم، وإدامة العمل إلى الختم تقتضي ظهوره عن فطرة أو جبلة، وأنه ليس عن ئعمل ومراءاة، وعند ذلك يكون علما على الجزاء، و"الصلاة" الإقبال بالكلية على أمر، فتكون من الأعلى عطفا شاملا، ومن الأدنى وفاء بأنحاء التذلل، والإقبال بالكلية على التلقي، وإيمانهم بالغيب قبولهم من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ما تلقاه بالوحي من أمر غائب الدنيا الذي هو الآخرة وما فيها، وأمر غائب الملكوت وما فيه، إلى غيب الجبروت وما به، بحيث يكون عملهم على الغائب الذي تلقته قلوبهم على سبيل آذانهم، كعملهم على ما تلقته أنفسهم على سبيل أعينهم، وسائر حواسهم، وداموا على عملهم ذلك على حكم إيمانهم إلى الخاتمة. ولما كانت الصلاة التزام عهد العبادة مبنيا على تقدم الشهادة متممة بجماع الذكر وأنواع التحيات لله، من القيام له، تعالى، والركوع له والسجود الذي هو أعلاها، والسلام بالقول الذي هو أدنى التحيات، كانت لذلك تعهدا للإيمان وتكرارا، ولذلك من لم يدم الصلاة ضعف إيمانه، وران عليه كفر، فلا إيمان لمن لا صلاة له، [والتقوى وحده أصل] والإيمان فالصلاة ثمرته، والإنفاق خلافة، ولذلك البخل عزل عن خلافة الله، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} وهذا الأمر بتمامه هو الذي جعلت الخلافة لآدم به إلى ما وراء ذلك من كمال أمر الله الذي أكمله بمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، فالتقوى قلب باطن، والإنفاق وجه ظاهر. والإيمان فالصلاة وصلة بينهما.

{وأولئك هم المفلحون}

ووجه ترتب الإيمان بالغيب على التقوى أن المتقي لما كان متوقفا غير متمسك بأمر، كان أذا أرشد إلى غيب لايعلمه، لم يدفعه بمقتضى ما تقدم له علمه؛ ووجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب أن المدد غيب، لأن الإنسان لما كاد لا يطلع على جميع رزقه، كان رزقه غيبا. فإذا أيقن بالخلف جاد بالعطية، فمتى أمد بالأرزاق تمت خلافته، وعظم فيها سلطانه، وانفتح له باب إمداد برزق أعلى وأكمل من الأول، فإذا أحسن الخلافة فيه بالإنفاق منه أيضا، انفتح له باب إلى أعلى إلى أن ينتهي إلى حيث ليس وراءه مرأى. وذلك هو الكمال المحمدي. وإن بخل فلم ينفق، واستغنى بما عنده، فلم يتق فكذب، تضاءل أمر خلافته، وانقطع عنه المدد من الأعلى، فبحق سمي الإنفاق زكاة، وفي أول الشورى كلام في الإيمان عن علي، رضي الله عنه، نفيس. انتهى. {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} قال الْحَرَالِّي: الآخرة معاد الأمر بعد تمامه على أوليته. انتهى. والإيقان، كما قال الْحَرَالِّي: صفاء العلم وسلامته من شوائب الريب ونحوه، من يقن الماء، وهو ما نزل من السماء فانحدر إلى كهف جبل فلم يتغير من قرار ولا وارد انتهى. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قال الْحَرَالِّي: وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج المخاطبة للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، ومخرج إحضار المؤمنين بموضع الإشارة، وهي مكانة حضرة دون مكانة حضرة المخاطب. انتهى. قال الْحَرَالِّي: فحصل بمجموع قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} إلى آخره، وبقوله:

{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}

{لَا يُؤْمِنُونَ} خبر تام عن سابقة أمرهم، ولاحقة كونهم، فتم بالكلامين الخبر عنهم خبراً واحدا ملتئما، كتبا سابقا، وكونا لاحقا. انتهى. {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} قال الْحَرَالِّي: وشركه في الختم مع القلب، لأن أحداً لايسمع إلا ما عقل. انتهى. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: وفي قوله: "ولهم" إعلام بقوة تداعي حالهم لذلك العذاب، واستحقاقهم له، وتنشؤ ذواتهم إليه، حتى يشهد عيان المعرفة به - أي العذاب - وبهم أنه لهم، وكان عذابهم عظيما آخذا في عموم ذواتهم، لكونهم لم تلتبس أبدانهم ولانفوسهم ولا أرواحهم بما يصد عنهم شيئا من عذابها، كما يكون للمعاقبين من مذنبي مؤمني الأمم، حيث يتنكب العذاب عن وجوههم ومواضع وضوئهم ونحو ذلك. انتهى. قال الْحَرَالِّي: "الكفر" تغطية ما حقه الإظهار، و "الإنذار" الإعلام بما يحذر، و"الختم" إخفاء خبر الشيء بجمع أطرافه عليه على وجه يتحفظ به، والقلب" مبدأ كيان الشيء من غيب قوامه، فيكون تغير كونه بحسب تقلب قلبه في الانتهاء، ويكون تطوره وتكامله بحسب مدده في الابتداء والنماء، والقلب من الإنسان، بمنزلة السكان من السفينة، بحسب تقلبه يتصرف سائره، وبوضعه للتقلب والتقليب سمى قلبا. وللطيف معناه في ذلك كان أكثر قسمه، - صلى الله عليه وسلم -، بمقلب القلوب و"الغشاوة" غطاء مجلل

{يخادعون الله}

لا يبدو معه من المغطى شيء، و"العذاب" إيلام لا إجهاز فيه. و"العظيم" الآخذ في الجهات كلها. انتهى. لما ذكر طرفي الإيمان والكفر وأحوال المؤمنين، وأحوال الذين كفروا، ذكر المنافقين المترددين بين الاتصاف بالطرفين بلفظ الناس، لظهور معنى النوس فيهم، لاضطرابهم بين الحالين، لأن النوس هو حركة الشيء اللطيف المعلق في الهواء، كالخيط المعلق الذي ليس في طرفه الأسفل ما يثقله، فلا يزال مضطربا بين جهتين، ولم يظهر هذا المعنى في الفريقين لتحيزهم إلى جهة واحدة. قاله الْحَرَالِّي. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} قال الْحَرَالِّي: وجاء بصيغة المفاعلة لمكان إحاطة علم الله بخداعهم، ولم يقرأ غيره ولا ينبغي، والخداع إظهار خير يتوسل به إلى إبطان شر، يؤول إليه أمر ذلك الخير المظهر. انتهى. و"النفس" قال الْحَرَالِّي: ما به ينفس المرء على غيره، استبدادا منه واكتفاء بموجود نفاسته على من سواه. انتهى. {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} وعبر هنا بصيغة المفاعلة لشعورهم، كما قال الْحَرَالِّي، بفساد أحوالهم في بعض الأوقات ومن بعض الأشخاص، وبصيغة المجرد لعمههم عن فساد أحوالهم في أكثر أوقاتهم وعمه عامتهم، ولا يكون من الله

{لا تفسدوا في الأرض}

سبحانه إلا بلفظ الخدع، لأنهم لا يعلمون ما يخفى عنهم من أمره، ولذلك جاء في آية النساء: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} انتهى. و"الشعور" كما قال الْحَرَالِّي: أول الإحساس بالعلم، كأنه مبدأ إنباته قبل أن تكمل صورته تتميز وانتهى. {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} لأن المرض كما قال الْحَرَالِّي: ضعف في القوى يترتب عليه خلل في الأفعال. {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} والزيادة قال الْحَرَالِّي: استحداث أمر لم يكن في موجود الشيء هـ انتهى. {عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة، أي شديد الألم، وهو الوجع اللازم. قاله الْحَرَالِّي. {بِمَا كَانُوا} قال الْحَرَالِّي: [من كان الشيء، وكان الشيء كذا، إذ ظهر وجوده، وتمت صورته، أو ظهر ذلك الكذا من ذات نفسه. انتهى]. {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} والفساد انتقاض صورة الشيء. قاله الْحَرَالِّي. {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} والإصلاح تلافي خلل الشيء، قاله الْحَرَالِّي. {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان حال الطمأنينة بالإيمان إصلاحا، وجب أن يكون اضطرابهم فيه إفسادا، لاسيما مع ظنهم أن كونهم مع هؤلاء تارة، ومع هؤلاء تارة، من الحكمة والإصلاح، وهو عين الإفساد، لأنه بالحقيقة مخالفة هؤلاء وهؤلاء، فقد أفسدوا طرفي الإيمان والكفر، وكذلك قيل: ما يصلح المنافق؛ لأنه

{وإذا لقوا الذين آمنوا}

لا حبيب مصاف، ولا عدو مبائن، فلا يعتقد منه على شيء. انتهى. {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} والإيمان المضاف إلى الناس أدنى مراتب الإيمان. قاله الْحَرَالِّي. {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} والعلم قال الْحَرَالِّي: ما أخذ بعلامة وأمارة نصبت آية عليه. انتهى. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} ولكن إيمانهم كما قال الْحَرَالِّي: فعل من أفعالهم، لم ينته إلى أن يصير صفة لهم، وأما المؤمنون الذين صار إيمانهم صفة لهم، فلا يكادون يلقونهم بمقتضاه، لأنهم لا يجدون معهم مدخلا في قول ولا مؤانسة، لأن اللقاء لابد فيه من إقبال ما من الملتقيين. {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} والشيطان: هو الشديد البعد عن محل الخير، قاله الْحَرَالِّي. {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} والهزء: إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه. قاله الْحَرَالِّي. {وَيَمُدُّهُمْ} وقال الْحَرَالِّي: من المدد، وهو مزيد متصل في الشيء من جنسه. {فِي طُغْيَانِهِمْ} وقال الْحَرَالِّي: إفراط اعتدائهم حدود الأشياء ومقاديرها. انتهى. {يَعْمَهُونَ} قال الْحَرَالِّي: من العمه، وهو اتبهام الأمور التي فيها دلالات ينتفع بها عند فقد الحس، فلا يبقى له سبب يرجعه عن طغيانه، فلا يتعدون حدا إلا عمهوا، فلم يرجعوا عنه، فهم أبدا متزايدو الطغيان. انتهى.

{أو كصيب}

{أَوْ كَصَيِّبٍ} وقال الْحَرَالِّي: سحاب ممطر دار. {مِنَ السَّمَاءِ} وهو كما قال الْحَرَالِّي: ما علا فوق الرأس. {وَبَرْقٌ} أي نور مبهت للمعانه وسرعته، قاله الْحَرَالِّي. {مِنَ الصَّوَاعِقِ} وقال الْحَرَالِّي: جمع صاعقة، وهو الصوت الذي يميت سامعه أو يكاد. {قَدِيرٌ} قال الْحَرَالِّي: القدرة إظهار الشيء من غير سبب ظاهر. انتهى. {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} وجعل الْحَرَالِّي: المثلين للمنافقين فقال: ضرب لهم مثلين لما كان لهم حالان، وللقرآن عليهم تنزلان: منه ما يرغبون فيه لما فيه من مصلحة دنياهم، فضرب لهم المثل الأول، وقدمه لأنه سبب دخولهم مع الذين آمنور، لما رأرا من معالجة عقاب الذين كفروا في الدنيا؛ ومنه ما يرهبونه ولا يستطيعون سماعه، لما يتضمنه من أمور شاقة عليهم، لا يحملها إلا مؤمن حقا، ولا يتحملها إلا من أمن، ولما يلزم منه من فضيحة خداعهم، فضرب لهم المثل الثاني؛ فلن يخرج حالهم عند نزول نجوم القرآن عن مقتضى هذين المثلين. انتهى. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قال الْحَرَالِّي في تفسيره: "يا" تنبيه من يكون بمسمع من المنبه ليقبل على الخطاب. وهو تنبيه في ذات نفس المخاطب، ويفهم توسط البعد بين "آيا" الممدودة، وأي المقصورة. "أي" اسم مبهم، مدلوله اختصاص ما وقع عليه من مقتضى اسم شامل. "ها" كلمة مدلولها تنبيه على أمر يستفيده المنبه - انتهى.

وقال الْحَرَالِّي: اعلم أنه كما اشتمل على القرآن كله فاتحة الكتاب، فكذلك أيضا جعل لكل سورة ترجمة جامعة تحتوي على جميع مثاني أيها، وخاتمة تلتئم وتنتظم بترجمتها، ولذلك تترجم السورة عدة سور، وسيقع التنبيه على ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. واعلم مع ذلك أن كل نبي منبأ - يقرأ بالهمز - من النبأ، وهو الخبر، فإنه شرع في دعوته وهو غير عالم بطية أمره وخبر قومه، وأن الله عز وجل جعل نبيه محمدا، - صلى الله عليه وسلم -، نبيا منبيا من النبوة - يقرأ بغير همز - ومعناه رفعة القدر والعلو، فيما أعلاه الله به أن قدم له بين يدي دعوته علم طية أمره، ومكنون علمه، تعالى، في سر التقديم الذي لم يزل خبأ في كل كتاب، فأعلمه بأنه، تعالى، جبل المدعوين الذين هم بصفة النوس مترددين بين الاستغراق في أحوال أنفسهم، وبين مرجع إلى ذكر ربهم، على ثلاثة أضرب: منهم من فطر على الإيمان، ولم يطبع عليه أي على قبله، فهو مجيب ولابد. ومنهم من طبع على الكفر، فهو آب ولابد. ومنهم من ردد بين طرفي الإيمان ظاهرا، والكفر باطنا، وأن كلا ميسر لما خلق له؛ فكان بذلك انشراح صدره في حال دعوته، وزال به ضيق صدره الذي شارك به الأنبياء - بالهمز، ثم علا بعد ذلك إلى مستحق رتبته العلية، فكان أول ما افتتح له كتابه أن عرفه معنى ما تضمنته "الم" ثم فصل من ذلك ثلاثة أحوال المدعوين بهذا

الكتاب، وحينئذ شرع في تلقينه الدعوة العامة للناس، فافتتح بعد ذلك الدعوة والنداء والدعوة إلى العبادة، يعني بهذه الآية، وتولى الله، سبحانه، دعوة الخلق في هذه الدعوة العامة التي هي جامعة لكل دعوة في القرآن. ولما ضمن صدرها من الوعيد في حق رسوله فلم يجر خطاب ذلك على لسانه، ولما فيها من السطوة وخطاب الملك والجزاء، ومحمد، - صلى الله عليه وسلم -، رحمة للعالمين، فلم ينبغ إجراؤها على لسانه لذلك، وغيره من الرسل فعامة دعوة من خص الله، سبحانه، خبر في دعوته فهي مجراة على ألسنتهم، ولذلك كثرت مقاواة قومهم ومدعويهم لهم، ولما أجرى الحق، تعالى، هذه الدعوة من قبله، كان فيها بشري بالغلبة وإظهار دينه، لأن الله، سبحانه وتعالى، لا يقاويه، خلقه. ولما انتهى إلى البشري التي هي رحمة أجرى الكلام على مخاطبته، عليه السلام، بقوله: {وَبَشِّرِ} ومع إجراء دعوة المرسلين على ألسنتهم علقت باسم الله بلفظ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ونحوه، فعز على أكثر النفوس الإجابة لفوات اسم الله عن إدراك

العقول، ومع تولي الله، سبحانه، لهذه الدعوة بسلطانه العلي أجراها باسم الربوبية وهو أسم أقرب مثالا على النفوس، لأنها تشاهد آياته بمعنى التربية والربابة، ومع ذلك أيضا فذكر اسم الله في دعوة المرسلين غير متبع ولا موصوف بآيات الإلهية، ولو ذكر لما قرب مثال علمها، فهي كالشمس والقمر، ونحو ذلك، وذكر تعالى الربوبية في هذه الدعوة متبعة بآياتها الظاهرة التي لا تفوت العقل والحس، ولا يمكن إنكارها، ووجه بعد النفوس عن الانقياد عند الدعوة باسم الله أن آيات الربوبية التي يسهل عليها الانقياد من جهتها التي بيسير منها تنقاد للملوك وأولي الإحسان، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها، تبقى عند الدعوة باسم الله بمعزل عن الشعور بإضافتها لاسم الله، ويحار العقل في المتوجه له بالعبادة، وتضيف النفوس الغافلة آيات الربوبية إلى ما تشاهده من أقرب الأسباب في العوائد، كالفصول التي نيطت الموالد والأقوات بها في مقتضى حكمة الله سبحانه، أو إلى أسباب هذه الأسباب كالنجوم ونحو ذلك، فلا يلتئم للمدعو حال قوامه بعبادته فيكثر التوقف والإباء. واقتضى اليسر الذي أراد الله بهذه الأمة ذكر الربوبية منوطا بآياتها - انتهى. {الَّذِي خَلَقَكُمْ} قال الْحَرَالِّي: {الَّذِي} اسم مبهم، مدلوله ذات موصوف

{الذي جعل}

بوصف يعقبه، وهي الصلة اللازمة له، والخلق تقدير أمشاج ما يريد إظهاره، بعد الامتزاج والتركيب، صورة {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} القبل ما إذا عاد المتوجه إلى مبدأ وجهته أقبل عليه. انتهى. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال الْحَرَالِّي: لعل كلمة ترج لما تقدم سببه، وبدأ من آيات الربوبيه بذكر الخلق لأنه في ذواتهم، ووصل ذلك بخلق من قبلهم [حتى لا يستندوا بخلقهم إلى من قبلهم]، وترجى لهم التقوى لعبادتهم ربهم، من حيث نظرهم إلى خلقهم وتقدير أمشاجهم، لأنهم إذا أسندوا خلقهم لربهم كان أحق أن يسندوا إليه ثمرة ذلك من صفاتهم وأفعالهم، فيتوقفون عن الاستغناء بأنفسهم، فينشأ لهم بذلك تقوى. انتهى. {الَّذِي جَعَلَ} قال الْحَرَالِّي: من الجعل، وهو إظهار أمر عن سبب وتصيير. {لَكُمُ الْأَرْضَ} أي المحل الجامع لنبات كل نابت: ظاهر أو باطن، فالظاهر كالموالد وكل ما الماء أصله، والباطن كالأعمال والأخلاق، وكل ما أصله ماء الماء آيته، كالهدى والعلم، ونحو ذلك، ولتحقق دلالة اسمها على هذا المعنى جاء وصفها بذلك من لفظ اسمها، فقيل أرض أريضة، للكريمة المنبتة، وأصل معناها: ما سفل في مقابلة معنى السماء الذي هو ما علا على سفل الأرض، كأنها لوح قلمه الذي يظهر فيها

كتابه. انتهى. {فِرَاشًا} وأصله قال الْحَرَالِّي: بساط يضطجع عليه للراحة ونحو ذلك. {وَأَنْزَلَ} قال الْحَرَالِّي: من الإنزال وهو الإهواء بالأمر من علو إلى سفل - انتهى. {مَاءً} قال الْحَرَالِّي: وهو أول ظاهر للعين من أشباح الخلق {فَأَخْرَجَ} من الإخراج وهو إظهار من حجاب، وفي سوقه بالفاء تحقيق للتسبيب في الماء. انتهى. {مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} والثمر: كما قال الْحَرَالِّي مطعومات النجم والشجر، وهي عليها، وعبر بمن لأن ليس كل الثمرات رزقا، [لما يكون عليه، وفيه من العصف والقشر والنوى، وليس أيضا من كل الثمرات رزقا] فمنه ماهو للمداواة، ومنه سموم، وغير ذلك. وفي قوله {لَكُمْ} إشعار بأن في الرزق تكملة لذواتهم، ومصيراً إلى أن يعود بالجزاء منهم. وقد وصف الرب في هذه الآية بموصولين، ذكر صلة الثاني بلفظ الجعل، لأن حال القوام مرتب على حال الخلق ومصير منه، فلا يشك ذو عقل في استحقاق الانقياد لمن تولى خلقه وأقام تركيبه، ولايشك ذو حس إذا تيقظ من نوم أو غفلة فوجد

بساطا قد فرش له وخيمة قد ضربت عليه، وعولج له طعام وشراب قدم له، أن نفسه تنبعث بذاتها لتعظيم من فعل ذلك بها، ولتقلد نعمته وإكباره، فلتنزيل هذه الدعوة إلى هذا البيان الذي يضطر النفس إلى الإذعان، ويدخل العلم بمقتضاها في رتبة الضرورة والوجدان، كانت هذه الدعوة دعوة عربية جارية على مقتضى أحوال العرب، لأن العرب لاتعدو بأنفسها العلم الضروري، وليس من شأنها تكلف الأفكار والتسبب إلى تواني العلوم النظرية المأخوذة من مقتضى الأمارات والأدلة، فعوملت بما جبلت عليه، فتنزل لها لتكون نقلتها من فطرة إلى فطرة، ومن علم وجداني إلى علم وجداني علي، لتحفظ عليها رتبة الإعراب والبيان بأن لا يتسبب لها إلى دخول ريب في علومها، لأن كل علم مكتسب يتكلف التسبب له بآيات وعلامات ودلائل تبعد من الحس، وأوائل هجوم العقل تتعارض عليه الأدلة، ويعتاده الريب، فحفظت هذه الدعوة العربية عن التكلف، وأجريت على ما أحكمه صدر السورة في قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ}. واعلم أن حال المخلوق في رزقه محاذي به حاله في كونه، فيعلم بالاعتبار والتناسب، الذي شأنه أن تتعلم من جهته المجهولات، أن الماء بزر كون الإنسان، كما أن الماء أصل رزقه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، لمن سأله: ممن هو؟ فلم يرد أن يعين له نفسه: نحن من ماء. ويعلم كذلك أيضا أن للأرض والسماء مدخلا في أمشاج الإنسان رتب عليه مدخلها في كون رزقه، وفي ذكر الأرض

{أندادا}

معرفة أخذ للأرض إلى نهايتها وكمالها، ولذلك قال عليه السلام: "من أغتصب شبرا من أرض طوقه من سبع أرضين" وكذلك ذكر السماء أخذ لها إلى نهايتها وكمالها، وقدم الأرض لأن نظر النفوس إلى ما تحتها أسبق لها من نظرها إلا ما علا عليها. ثم قال: ولوضوح آية الربوبية تقلدها الأكثر، وإنما توقفوا في الرسالة، ولذلك وصل ذكر الرسالة بالتهديد. انتهى. {أَنْدَادًا} قال الْحَرَالِّي: جمع ند، وهو المقاوم في صفة القيام والدوام، وعبر بالجعل لأن بالجعل والمصير، من حال إلى حال أدنى منها، ترين الغفلة على القلوب، حتى لا تشهد في النعم والنقم إلا الخلق من ملك أو ذي إمرة، أو من أي ذي يد عليا كان، ولما شهدوا ذلك منهم تعلق بهم رجاؤهم وخوفهم، وعاقبهم ربهم على ذلك بأيديهم، فاشتد داعي رجائهم لهم، وسائق خوفهم منهم، فتذللوا لهم وخضعوا، فصاروا بذلك عبدة الطاغوت، وجعلوهم لله أنداداً. انتهى. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وفيه كما قال الْحَرَالِّي: إعلام بظهور آيات ما يمنع جعل الند لما يشاهد أن جميع الخلق أدناهم وأعلاهم مقامون من السماء وفي الأرض ومن الماء، فمن جعل لله ندا، مما حوته السماء والأرض، واستمد من الماء، فقد خالف العلم الضروري الذي به تقلد التذلل للربوبية في نفسه، فإن يحكم بذلك على غيره مما حاله كحاله أحق في العلم. انتهى. {مِمَّا نَزَّلْنَا} قال الْحَرَالِّي: من التنزيل، وهو التقريب للفهم بتفصيل وترجمة، ونحو ذلك. انتهى.

{فَأْتُوا بِسُورَةٍ} قال الْحَرَالِّي: الآتي بالأمر يكون عن مكنة وقوة. {بِسُورَةٍ} قال الْحَرَالِّي: السورة تمام جملة من المسموع يحيط بمعنى تام، بمنزلة إحاطة السور بالمدينة. انتهى. {والشهيد} كما قال الْحَرَالِّي: من يكثر الحضور لديه، واستبصاره فيمن حضره. انتهى. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: والدون: منزلة القريب، فالقريب من جهة سفل، وقد عقلت العرب أن "اسم الله" لا يطلق على ما ناله إدراك العقل فكيف بالحس، فقد تحققوا أن كل ما أدركته حواسهم، ونالته عقولهم، فإنه من دون الله. انتهي. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قال الْحَرَالِّي: والصادق الذي يكون قول لسانه وعمل جوارحه مطابقا لما احتوى عليه قلبه، مما له حقيقة ثابتة بحسبه. وقال: واتسقت آية تنزيل الوحي بآية إنزال الرزق [لما كان نزول ما نزل على الرسول المخصص بذلك ينبغي اعتباره بمقابلة نزول الرزق] لأنهما رزقان: أحدهما ظاهر، يعم الكافر في نزوله، والآخر وهو الوحي، رزق باطن، يخص الخاصة بنزوله ويتعين له أيهم أتمهم فطرة وأكملهم ذاتا؟ ولم يصلح أن يعم بنزول هذا الرزق الباطن كعموم الظاهر، فتبطل حكمة الاختصاص في الرزقين، فإن نازعهم ريب في الاختصاص فيفرضون أنه عام فيحاولون معارضته، وكما أنهم يشهدون بتمكنهم من الحس عند محاولتهم عمومه، فكذلك يجب أن يشهدوا بعجزهم عن سورة من

مثله. تحقق اختصاص من نزل عليه به، وأجرى ذكره باسم العبودية إعلاما بوفائه بأنحاء التذلل، وإظهار المزية انفراده بذلك دونهم، ليظهر به سبب الاختصاص. وانتظم النون في {نَزَّلْنَا} من يتنزل بالوحي من روح القدس والروح الأمين ونحو ذلك، لأنها تقتضي الاستتباع، واقتضت النون في لفظ {عَبْدِنَا} ما يظهره النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لهم من الانقياد والاتباع. وما اقتضاه خلقه العظيم عن خفض الجناح، حتى إنه يوافق من وقع على وجه من الصواب من أمته، - صلى الله عليه وسلم -، وحتى إنه يتصف بأوصاف العبد في أكله، كما قال: "آكل كما يأكل العبد". انتهى. {وَلَنْ تَفْعَلُوا} والفعل: قال الْحَرَالِّي: ما ظهر عن داعية من الموقع، كان عن علم أو في علم، لتدين كان أو لغيره كما تقدم مرارا. انتهى. {فَاتَّقُوا النَّارَ} قال الْحَرَالِّي: وهي جوهر لطيف يفرط لشدة لطافته في تفريط المتجمد بالحر المفرط، وفي تجميد المتمتع بالبرد المفرط. انتهى. {النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وقال الْحَرَالِّي: الحجارة ما تحجر أي اشتد تصام أجزائه من الماء والتراب، {واتقوا} أي توقفوا عن هذه التفرقة بين الله ورسوله، حيث تذعنون لربوبيته وترتابون في رسوله، فالنار معدة للعذاب بأشد التفريق لألطف الأجزاء الذي هو معنى الحرق لمن فرق وقطع ما يجب وصله، أي لما فاتتكم التقوى بداعي العلم،

فلا تفتكم التقوى بسائق الموجع المخصوص المناسب عذابه لفعلكم، فإنها نار غذاؤها واشتعالها بالكون كله، أنهاه تركيبا، وهم الناس الملائمون لمارجها بالنوس، وأطرفه وأجمده، وهي الحجارة، فهي تسع ما بين ذلك من باب الأولى، وفيه إشعار بمنتها وقوتها، وأنها بحكم هذا الوسع للالتصاق بخلق، يعني وليست كنار الدنيا التي غذاؤها من ضعيف الموالد، وهو النبات، ولا تفعل في الطرفين إلا بواسطة، وكان غذاؤها ووقودها النبات إذ كانت متقدحة منه، كما قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} وتقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، وذلك على حكم ما تحقق أن الغذاء للشيء مما منه أصل كونه، وقال: {وَقُودُهَا} لأن النار أشد فعلها في وقودها، لأن بتوسطه تفعل فيما سواه، فإذا كان وقودها محرقها كانت

{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات}

فيه أشد عملا لتقويها به عليه، ويفهم اعتبارها بنار الدنيا انقداحها من أعمال المجزيين بها ومن كونهم، فهم منها مخلوقون، وبها مغتذون، إلا أنها منطفية الظاهر في الدنيا، متأججة في يوم الجزاء ومثال كل مجزي منها بمقدار ما في كونه من جوهرها. قال: وفي ذكر الحجارة إفهام عموم البعث والجزاء لما حوته السماء والأرض، وأن كل شيء، ليس الثقلين فقط، يعمه القسم بين الجنة والنار، كما عمه القسم بين الخبيث والطيب، وإنما اقتصر في مبدأ عقيدة الإيمان على الإيمان ببعث الثقلين وجزائهم تيسيراً واستفتاحا، وما سوى ذلك فمن زيادة الإيمان وتكامله، كما قال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} ومن العلماء من وقف بإيمانه على بعث الثقلين وجزائهما، حتى إن منهم من ينكر جزاء ما سواهما، ويتكلف تأويل مثل قوله عليه السلام: "يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء". انتهى. {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} قال الْحَرَالِّي: وهي عدة الملك الديان لهم بمنزلة سيف الملك من ملوك الدنيا. انتهى. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال الْحَرَالِّي: والبشرى إظهار غيب المسرة بالقول. {وَعَمِلُوا} قال الْحَرَالِّي: من العمل وهو فعل بني على علم أو زعمه. {الصَّالِحَاتِ}: قال الْحَرَالِّي جمع صالحة وهو العمل المتحفظ به من مداخل الخلل فيه، وإذا كانت البشرى لهؤلاء فالمؤمنون أحق بما فوق البشرى، وإنما يبشر من يكون على خطر، والمؤمن مطمئن، فكيف بما فوق ذلك من رتبة الإحسان، إلى مالا عين رأت ولا أذن سمعت، وما لايناله علم نفس، ولا خطر على قلب بشر.

{أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} قال الْحَرَالِّي: لتعدد رتب أفعالهم التي يطابق الجزاء ترتبها وتعددها [كما] قال عليه الصلاة والسلام للتي سألت عن ابنها: "إنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى". وفي التعبير بلهم إشعار بأن ذلك الذي لهم ينبغي لحاقه بذواتهم ليحصل به من كمال أمرهم، وصلاح حالهم نحو مما يحصل بكمال خلقهم وتسويتهم. والجنات مبهجات للنفوس، تجمع ملاذ جميع حواسها، تجن المتصرف فيها، أي تخفيه، وتجن وراء نعيمها مزيدا دائما. انتهى. {تَجْرِي} قال الْحَرَالِّي: من الجري وهو إسراع حركة الشيء ودوامها. {مِنْ تَحْتِهَا} أي من تحت غرفها، والتحت ما دون المستوى. {الْأَنْهَارُ} جمع نهر، وهو المجرى الواسع للماء. انتهى. قال الْحَرَالِّي: وإذا تعرف حال العامل من وصف جزائه علم أن أعمالهم كانت مبنية على الإخلاص الذي هو حظ العاملين من التوليد الذي الماء أيته - انتهى. {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} وجعل الْحَرَالِّي هذا خاصا بثمار الجنة فقال: من قبل إعلام بأن أشخاص ثمر الجنة وآحادها لا تتمايز، لأنها على أعلى صورتها لا تتفاوت بأعلى وأدنى، ولا يتراخى زمان عودها، فهي تتخلف لأن قطفها، ولا تتمايز صور المقطوف من الخالف، حتى يظن القاطف أن المتخلف عين الأول؛ فحال ثمر الجنة كحال الماء الذي هو أصله، وبسرعة الخلف من ثمر الجنة وأنه متصل جرية الوجود، قال

عليه السلام في عنقود من ثمرها: "لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا" ويشعر ذلك عند اعتبار العمل به بأن نياتهم في الأعمال صالحة ثابتة مرابطة حتى جروا بها هذا الاتصال وكمال الصورة في الرزق، ومنه [حديث مرفوع أخرجه الطبراني عن سهل بن سعد]: "نية المؤمن خير من عمله". {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} أظهر عذرهم في توهم اتحاد الثمر، وعرف بأمنتهم من العناء، لأنه لو تفاوت تبعه الكراهة للأدنى، وتكلف للانتقاء للأعلى، وذلك إنما هو لائق بكيد الدنيا لا بنعيم الجنة. وقد ذكر بعض العلماء اطراد هذا التشابه في ثمر الجنة، وإن اختلفت أصنافه، ويضعفه ما يلزم منه كمال الدلالة في المعنى والصورة في نحو قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وما يجري مجراه. انتهى. {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قال الْحَرَالِّي: والزوج مالا يكمل المقصود من الشيء إلا معه على نحو من الاشتراك والتعاون، والتطهير تكرار إذهاب مجتنب بعد مجتنب عن الشىء، ولما ذكر تعالى الرزق المستثمر من أعمال الدين آمنوا وصل به ذكر الأزواج المستثمرة من حال نفوسهم من حسن أخلاقها وجمال صورتها الباطنة في

{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}

الدنيا، وكانت المرأة زوج الرجل لما كان لا يستقل أمره في النسل والسكن إلا بها - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وقال الْحَرَالِّي: لما كانت الدعوة تحوج مع المتوقف فيها والآبي لها إلى تقريب للفهم بضرب الأمثال، وكانت هذه الدعوة جامعة الدعوات، وصل بها هذه الآية الجامعة لإقامة الحجة في ضرب الأمثال، وأن ذلك من الحق، سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} وليختم ذكر ما تضمنه صدر السورة من الحروف التي أنزل عليها القرآن بسابعها الذي هو حرف المثل، وبين تعالى أن مقدار الحكمة الشاهد للممثل في البعوضة، وفيما هو أظهر للحس وآخذ في العلم. وإنما يجب الالتفات للقدر لا للمقدار، ولوقع المثل على ممثله قل أو جل، دنا أو علا، فتنزه، تعالى، عما يجده الخلق عندما ينشأ من بواطنهم وهمهم أن يظهروا أمرا فيتوهمون فيه نقصا فيرجعهم ذلك عن إظهاره قولا أو فعلا - انتهى. والحياء قال الْحَرَالِّي: انقباض النفس عن عادة انبساطها في ظاهر البدن،

لمواجهة ما تراه نقصا، حيث يتعذر عليها الفرار بالبدن. "أن" كلمة مدلولها ممن أجريت عليه حقيقة باطن من ذاته وعلمه يفصل بها ما يظهرها، وسيبويه، رحمه الله، يراها اسما، وعامة النحاة، لا نعجام معناها عليهم، يرونها حرفا. "يضرب" من ضرب المثل، وهو وقع المثل على الممثل لأن أصل الضرب وقع شيء على شيء، والمعنى أن يوجد الضرب متجددا مستمرا، وهذا لا يساويه أن يقال من ضربه مثلا، فإنه يصدق لمثل واحد سابق أو لاحق. ... وإلى هذا القيد الأخير ينظر قول الْحَرَالِّي: إن الحياء من أن يضرب المثل استحياء من وقعه في الباطن، والحياء من ضربه المثل استحياء من إظهاره بالقول، ففي الأصل الأبلغ الذي بنفيه يكون نفي الضرب أحق، فيراجع هذا المعنى مع تكرار "أن" فإنها كثيرة الدور في القرآن، جليلة قدر المعنى في مواقعها، وإنما يجري على ترك الالتفات إلى موقع معناها ما يقوله النحاة في معنى التقريب [إن أن والفعل في] معنى المصدر، والواجب في الإعراب والبيان الإفصاح عن ترتب معانيهما، وعند هذا يجب أن تكون أن اسما والفعل صلتها، نحو "من" و "ما". {مَثَلًا مَا} مثل أمر ظاهر للحس ونحوه، يعتبر به أمر خفي يطابقه فينفهم معناه باعتباره، و"ما" في هذا الموقع لمعنى الاستغراق، فهي هنا لشمول الأدنى والأعلى من الأمثال - انتهى.

وقال الْحَرَالِّي: ولما كان ضرب المثل متعلقا بمثل وممثل كان الضرب واقعا عليهما، فكان لذلك متعديا إلى مفعولين: مثلا ما، وبعوضة، والبعوض جنس معروف، من أدنى الحيوان الطائر مقدارا، وفيه استقلال وتمام خلقة، يشعر به معنى البعض الذي منه لفظه، لأن البعض يوجد فيه جميع أجزاء الكل، فهو بذلك كل. {فَمَا فَوْقَهَا} أي من معنى يكون أظهر منها. والفاء تدل على ارتباط ما، إما تعقيب واتصال، أو تسبيب، ففيه هنا إعلام بأقرب ما يليه على الاتصال والتدرج إلى أنهى ما يكون. انتهى. {فَأَمَّا} قال الْحَرَالِّي: كأنها مركبة من "أن" دالة على باطن ذات، و"ما" دالة على ظاهر مبهم، يؤتى به للتقسيم - انتهى. قال الْحَرَالِّي: لما كان الذين آمنوا ممن بادر فأجاب، وكان ضرب المثل تأكيد دعوة وموعظة لمن حصل منه توقف، حصل للذين آمنوا استبصار بنور الإيمان في ضربة المثل، فصاروا عالمين بموقع الحق فيه، وكما استبصر فيه الذين آمنوا استغلق معناه على الذين كفروا وجهلوه، فاستفهموا عنه استفهام إنكار لموقعه - انتهى. {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} وقال الْحَرَالِّي: وكان إضلالا لهم، لأن في ضرب المثل بما يسبق لهم استزراؤه بنحو الذباب والعنكبوت الذي استزروا ضرب المثل وبه تطبيق لهم إلى الجهالة، فكان ذلك إضلالا، وقدم الجواب لأنه مستحق

{الذين ينقضون}

المستفهم، والإضلال التطريق للخروج عن الطريق الجادة المنجية. انتهى. {إِلَّا} قال الْحَرَالِّي: كأنها مركبة من "إن" و"لا" مدلولها: نفي حقيقة ذات عن حكم ما قبلها. انتهى. {الْفَاسِقِينَ} وقال الْحَرَالِّي: الذين خرجوا عن إحاطة الاستبصار، وجهات تلقي الفطرة والعهد الموثق وحسن الرعاية، لأن الفسق خروج عن محيط، كالكمام للثمرة، والجحر للفأرة - انتهى. {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ} من النقض وهو حل أجزاء الشيء بعضها عن بعض، {عَهْدَ اللَّهِ} أي الذي أخذه عليهم على ماله من العظمة بما ركز فيهم من العقول، ونصب لهم من الدلائل، والعهد التقدم في الأمر - قاله الْحَرَالِّي. {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} والوثاق شدة الربط، وقوة ما به يربط - قاله الْحَرَالِّي. {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قال الْحَرَالِّي: والقطع الإبانة في الشيء الواحد، والوصل مصير التكملة مع المكمل شيئا واحدا، كالذي يشاهد في إيصال الماء ونحوه، وهو إعلام بأنهم يقطعون متصل الفطرة ونحوها، فيسقطون عن مستواها، وقد أمر الله أن يوصل بمزيد علم يتصل بها، حتى يصل نشؤها إلى أتم ما تنتهي إليه، وكذلك حالهم في كل أمر يجب أن يوصل، فيأتون فيما يطلب فيه الأمر الأكمل بضده الأنقص - انتهى. {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} قال الْحَرَالِّي، ولما كانت الأرض موضوعة للنشيء

{كيف تكفرون بالله}

منها وفيها وموضع ظهور عامة الصور الرابية اللازمة الجسمية، ومحل تنشؤ صورة النفس بالأعمال والأخلاق، وكان الإفساد نقض الصور، كما قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} كان فعلهم فيها من نحو فعلهم في وضع الضد السيء موضع ضده الأكمل، والتقصير بما شأنه التكملة، فكان إفسادا لذلك - انتهى. {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} والخسارة: النقص فيما شأنه النماء. قاله الْحَرَالِّي. قال الْحَرَالِّي: ولما كان الخاسر من كان عنده رأس مال مهيأ للنماء والزيادة فنقصه عن سوء تدبير، وكان أمرهم في الأحوال الثلاث المنسوقة حال من نقص ما شأنه النماء، كانوا بذلك خاسرين، فلذلك انختمت الآية بهذا، وأشير إليهم بأداة البعد لوضعهم في أبعد المواضع عن محل الخير - انتهى. {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} وقال الْحَرَالِّي: لما تقدمت الدعوة للناس فأجاب مبادر وتوقف متوقف، فضربت الأمثال فاستدرك وآمن وتمادى متماد على كفره، صرف وجه الخطاب عن المواجهة من الحق تعالى، وأجرى على لسان لؤم وإنكار، فجاء هذا الاستفهام لإيضاح انقطاع العذر في التمادي على الكفر، وجاء بلفظ "كيف" لقصور نظرهم على الكيفيات المحسوسة، فإن "كيف" كلمة مدلولها استفهام عن عموم الأحوال التي شأنها أن تدرك بالحواس، فكأنه يقال لهم بمدرك: أي حاسة تماديتم على الكفر بالله؟ على ما تقتضيه صيغة الفعل الدائم في تكفرون - انتهى.

{بِاللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: وأعلى هذا الخطاب فأبعدوا عن تيسيره بذكر اسم "الله"، لما لم يكونوا من أهل قبول التنزل بدعوى اسم الربوبية، حيث لم يكونوا ممن أجاب مبادراً ولا تاليا، حسبما تشعر به آية تحقيق ضرب الأمثال. ولما جرى هذا الخطاب بذكر اسم الله أعقب بذكر الأفعال الإلهية التي هي غابات، من الموت والإحياء المعروف اللذين لا ينكر الكفار أمرهما - انتهى. {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} قال الْحَرَالِّي: من الموت، وهو حال خفاء وغيب، يضاف إلى ظاهر عالم يتأخر عنه أو يتقدمه، تفقد فيه خواص ذلك الظهور الظاهرة - انتهى. {فَأَحْيَاكُمْ} قال الْحَرَالِّي: رجاء بالفاء المشعرة بالتعقيب، لما لم يكن لهم معرفة بمهل الموت الذي قبل حياة الولادة. والحياء تكامل في ذات ما، أدناه حياة النبات بالنمو والاهتزاز مع انغراسه، إلى حياة ما يدب بحركته وحسه، إلى غاية حياة الإنسان في تصرفه وتصريفه، إلى ما وراء ذلك من التكامل - انتهى. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} قال الْحَرَالِّي وهذه الأحوال الثلاثة: أي الموت المعبر به عن العدم، ثم الحياة، ثم الموت، معروفة لهم، لا يمكنهم انكارها، وإذا صح منهم الإقرار بحياة موت لزمهم الإقرار بحياة موت آخر، لوجوب الحكم بصحة وجود ما قد سبق مثله، كما قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} ولدن ذلك من العلم أن الموت والحياة مزدوجان متضايقان، وإذا استوفى الموت الأول إحياءه، فلا بد من استيفاء الموت الثاني إحياءه أيضا، لأنه لولا

استقبال الحياة لما كان موتا، بل بطلا وفقدا واضمحلالا، لأن حقيقة الموت حال غيب بين يديه ظهور، والحياة نهاية ثابتة، والموت مبدأ غيب زائل، فجنس الموت كله متقض ونهاية، والحياة ثابتة دائمة، ولذلك ورد ما صح عنه، عليه الصلاة والسلام، في أن الموت يذبح، إعلام بانقضاء جنسه، وثبات الحياة، ولذلك قدم في الذكر، وأعقب بالحياة، حيث استغرقتهما كلمة "ال" في قوله: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وثبت الخطاب على إقرار الحياة والكمال، كما ورد عنه، - صلى الله عليه وسلم -، في قوله: "نعيم الجنة لا آخر له" فوجب بظاهر ما أحسه الكفار وباطن ما أقتضاه هذا النحو من العلم دونه انتشار حياة ثانية بعد ميتة الدنيا - انتهى. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وفي هذا، كما قال الْحَرَالِّي: إعلام بأنهم إن لم يرجعوا إلى الله، سبحانه، بداعي العلم في الدنيا، فبعد مهل من الإحياء الثاني يرجعون إليه قهرا، حيث يشاهدون انقطاع أسبابهم ممن تعلقوا به، ويتبرأ منهم ما عبدوه من دون الله. وإنما جاء هذا المهل بعد البعث لما يبقى لهم من الطمع في شركائهم، حيث يدعونهم فلم يستجيبوا لهم، فحينئذ يضطرهم انقطاع أسبابهم إلى الرجوع إلى الله، فيرجعون قسرا وسوقا، فحينئذ يجزيهم بما كسبوا في دنياهم. كما قال تعالى في خطاب يعم كافة أهل الجزاء: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} وهذا آخر خطاب الإقبال عليهم من دعوة الله لهم، ولسان النكير عليهم، ولذلك كانت آية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} أخر آية أنزلت في

{ما في الأرض جميعا}

القرآن، لأنها نهاية ليس وراءه قول يعم أهل الجزاء، والرجع عود الشيء عند انتهاء غايته إلى مبدئها. انتهى. {هُوَ} قال الْحَرَالِّي: وهي كلمة مدلولها العلي غيب الإلهية القائم بكل شيء الذي لا يظهر لشيء، فذاته أبدا غيب، وظاهره الأسماء المظهرة من علو إحاطة اسم "الله" إلى تنزل اسم الملك، فما بينهما من الأسماء المظهرة. ثم قال: لما انتهى الخطاب بذكر إرجاعهم إلى الله، وكان هذا خطابا خاصا مع المتمادي على كفره، اتبع عند إعراضه وإدباره بهذا الحتم، تهديداً رمى به بين أكتافهم وتسبيبا نيط بهم ومد لهم، كالمرخى له في السبب الذي يراد أن يجذب به، إما بأن يتداركه لطف فيرجع عليه طوعا، أو يراد به قسراً عند انتهاء مدى إدباره. وانتظم به ختم آية الدعوة بنحو من ابتدائها، إلا أن هذه على نهاية الاقتطاع بين طرفيها، وتلك على أظهر الاتساق؛ فأبعدوا في هذه كل البعد بإسناد الأمر إلى اسم "هو" الذي هو غيب اسم الله، وأسند إليه خلق ما خلق لهم في الأرض الذي هو أظهر شيء للحس - انتهى. {مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} قال الْحَرَالِّي: وقوله: {جَمِيعًا} إعلام بأن حاجة الإنسان لاتقوم بشيء دون شيء، وإنما تقوم بكلية ما في الأرض، حتى لو بطل منها شيء تداعى سائرها - انتهى. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} وقال الْحَرَالِّي: أعلى الخطاب بذكر الاستواء إلى

السماء الذي هو موضع التخوف لهم، لنزول المخوفات منه عليهم، فقيل لهم: هذا المحل الذي تخافون منه هو استوى إليه، ومجرى لفظ الاستواء في الرتبة والمكانة أحق بمعناه من موقعه في المكان والشهادة؛ وبالجملة، فالأحق بمجرى الكلم وقوعها نبأ عن الأول الحق، ثم وقوعها نبأ عما في أمره وملكوته، ثم وقوعها نبأ عما في ملكه وإشهاده، فلذلك حقيقة اللفظ لا تصلح أن تختص بالمحسوسات البادية في الملك دون الحقائق التي من ورائها من عالم الملكوت، وما به ظهر الملك والملكلوت من نبأ الله عن نفسه من الاستواء ونحوه، في نباء الله عن نفسه أحق حقيقة، ثم النبأ به عن الروح مثلا، واستوائها على الجسم، ثم على الرأس مثلا، واستوائه على الجثة، فليس تستحق الظواهر حقائق الألفاظ على بواطنها، بل كانت البواطن أحق باستحقاق الألفاظ، وبذلك يندفع كثير من لبس الخطاب على المقتصرين بحقائق الألفاظ على محسوساتهم. {فَسَوَّاهُنَّ} التسوية إعطاء أجزاء الشيء حظه لكمال صورة ذلك الشيء. {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أعطى لكل واحدة منهن حظها: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}. انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما جعل الله، تعالى، نور العقل هاديا لآيات ما ظهر في الكون، وكان

من الخلق مهتد به، ومعرض عنه، بعث الله النبيئين مبشرين لمن اهتدى بنور العقل بمقتضى الآيات المحسوسه، وتلك هي الحنيفية والملة الإبراهيمية، ومنذرين لمن أعرض عن ذلك، وشغلته شهوات دنياه فترتب لذلك خطاب الكتاب؛ بين ما يخاطب به الأعلين المهتدين، وبين ما يخاطب به الأدنين المعرضين، وكذلك تفاوت الخطاب بين ما يخاطب به الأيمة المهتدين والمؤتمون بهم، فكان أعلى الخطاب ما يقبل على إمام الأيمة وسيد السادات، وأحظى خلق الله عند الله، محمد، - صلى الله عليه وسلم -، فكان أول الخطاب بـ {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} إقبالا عليه وإيتاء له من الذكر الأول، كما قال عليه السلام: "أوتيت البقرة وآل عمران من الذكر الأول" وهو أول مكتوب حين كان الله ولا شيء معه، وكتب في الذكر الأول كل شيء، فخاطبه الله، عز وجل، بما في الذكر الأول، وأنزله قرآنا، ليكون آخر المنزل الخاتم هو أول الذكر السابق، ليكون الآخر الأول في كتابه كما هو في ذاته، فمن حيث كان الخطاب الأول من أعلى خطاب الله لمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، انتظم به ما هو أدنى خطاب من آيات الدعوة، تنبها لمن أعرض عن الاستفادة بنور العقل، لما بين الطرفين من تناسب التقابل. ثم عاد وجه الخطاب إليه، - صلى الله عليه وسلم -، بما هو إعلام بغائب الماضي عن كائن الوقت من أمر ابتداء مفاوضة الحق ملائكته في خلق آدم، ليكون ذلك ترغيبا للمبشرين في علو الرتب إلى التكامل، كما كانت آية الدعوة تنبيها للمعرضين ليعودوا إلى الإقبال، وخصوص الإنزال إنما هو في الإنباء بغيب الكون من ملكوته، وغائب أيام الله الماضية، ومنتظر أيام الله الآتية، فذلك

الذي يخص المهتدين بنور العقل ليترقوا من حد الايمان إلى رتبة اليقين، وإنما يرد التنبيه والتنزيل بما في نور العقل هدايته من أجل المعرضين؛ فكان ما شمله التنزيل بذلك أربعة أمور: أحدها: التنبيه على الآيات بمقتضى أسماء من اسمه الملك، إلى اسمه الرحمن الرحيم، إلى اسمه رب العالمين، إلى اسمه العظيم الذي هو الله. والثاني: التنبيه على غائب المنتظر الذي الخلق صائرون إليه ترغيبا وترهيبا. والثالث: الإعلام بماضي أمر الله، جمعا للهمم للجد والانكماش في عبادة الله. والرابع: التبصير ببواطن كائن الوقت الذي في ظاهره إعلامه، فكان أول النزيل في هذه السورة أمر أول يوم من ذكر الله، وهو كتب مقتضى العلم والقدر في قسمه تعالى عباده بين: مؤمن، وكافر، ومنافق، ثم أنزل الخطاب إلى آية الدعوة من وراء حجاب الستر بسابق التقدير، فعم به الناس ونبههم على آيات ربوبيته وحيا أوحاه الله منه إليه، ثم عطف على ذلك إعلاما لابتداء المفاوضة في خلق آدم عطفا على ذلك الذي يعطيه إفهام هذا الإفصاح، فلذلك قال تعالى: "وإذ" فإن الواو حرف يجمع ما بعده مع شيء قبله؛ إفصاحا في اللفظ أو إفهاما في المعنى، وإنما يقع ذلك لن يعلو خطابه ولا يرتاب في إبلاغه، "وإذ" اسم مبهم لما مضى من الأمر والوقت، "قال" من القول، وهو إبداء صور الكلم نظما، بمنزلة ائتلاف الصور المحسوسة

جمعا، فالقول مشهود القلب بواسطة الأذن، كما أن المحسوس مشهود القلب بواسطة العين وغيره. ثم قال: لما أنبأ الله، عز وجل، نبيه، - صلى الله عليه وسلم -، بما في الذكر من التقدير الذي هو خبء الشرعة، ونظم به ما أنزل من دعوة الخلق إلى حكمه، فانتظم ذلك رتبتي أمر، نظم، تعالى، بذلك إنزال ذكر خلق معطوفا على ذكر خلق أعلى رتبة منه، نسبته منه كنسبة الدعوة من خبئها، فذكر خلق آدم ظاهر خبء ما عطف عليه، وهو، والله أعلم، ذكر خلق محمد، - صلى الله عليه وسلم -، الذي هو خبء خلق آدم، فكأنه، تعالى، أعلم نبيه، - صلى الله عليه وسلم -، بأمر خلقه له بدء وحي سر، ثم أعلن بما عطف عليه من ذكر خلق آدم وحي علن، ليكون أمر خلق محمد، - صلى الله عليه وسلم -، عند الخاصة، فهما، كما كان خلق آدم عند العامة إفصاحا، وكان المفهوم: اذكر يا محمد، إذ كان في خلقك كذا، وإذ قال {رَبُّكَ} أي المحسن إليك برحمة العباد بك الذي خبأك في إظهار خلق آدم، {لِلْمَلَائِكَةِ} ما أنزل. وتأويل الملائكة عند أهل العربية أنه جمع ملأك، مقلوب من مألك، من الألك، وهي الرسالة فتكون الميم زائدة، ويكون وزنه معافلة، ويكون الملك من الملك وهو إحكام ما منه التصوير، من ملكت العجين، وجمعه أملاك، تكون فيه الميم أصلية، فليكن اسم ملائكة جامعا للمعنيين، منحوتا من الأصلين، فكثيرا ما يوجد ذلك في أسماء الذوات الجامعة، كلفظ إنسان، بما ظهر فيه من أنه من الأنس والنسيان معا، وهو وضع للكلم على مقصد أفصح وأعلى مما يخص به اللفظ معنى واحدا. فللكلام رتبتان: رتبة عامة، ورتبة خاصة، أفصح وأعلى كلما وكلاما. قال فيه أي هذا الخطاب مع ذلك استخلاص لبواطن أهل الفطانة من أن تعلق

{إني}

بواطنهم بأحد من دونه، حين أبدى لهم انفراده بإظهارهم خلقا دون ملائكته الأكرمين، حتى لا تعلق قلوبهم بغيره من أهل الاصطفاء، فكيف بمن يكون في محل البعد والإقصاء؟ توطئة لقبيح ما يقع من بعضهم من أتباع خطوات الشيطان، وذلك لأن في كل آية معنى تنتظم به بما قبلها، ومعنى تتهيأ به للانتظام بما بعدها، وبذلك كان انتظام الآي داخلا معنى الإعجاز الذي لا يأتي الخلق يمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. {إِنِّي} إن حرف يفهم توكيداً من ذات نفس المؤكد وعلمه، والياء اسم على يخص المضيف إلى نفسه الذي يضيف الأشياء إليه. {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ} ولما كانت خلافة آدم، عليه السلام، كاملة في جميع الأرض بنفسه وبذريته وحد لذلك، مع أنه يصح أن يراد به الجنس، فقال: {خَلِيفَةً} الخليفة ذات قائم بما يقوم به المستخلف على حسب رتبة ذلك الخليفة منه، فهو خليقة الله في كونه، ملكه وملكوته، وهم أيضا بعضهم خلفاء بعض، فهو خليفة بالمعنيين. انتهى. {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} قال الْحَرَالِّي: (السفك) وهو سكب بسطوة. "الدِّمَاءَ" أي بغير حقها بالقوة الغضبية، لعدم عصمتهم وخلقهم جوفا، يتمالكون، وأصحاب شهوات عليها يتهالكون.

{وعلم آدم الأسماء كلها}

{وَالدَّمَ} قال الْحَرَالِّي: رزق البدن الأقرب إليه المحوط فيه. {وَنَحْنُ} وهذا الضمير كما قال الْحَرَالِّي: اسم القائل المستتبع لمن هو في طوع أمره لا يخالفه. {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} وقال الْحَرَالِّي: التسبيح تنزيه الحق، تعالى، عن بادية نقص في خلق أو رتبة، وحمد الله استواء أمره علواً وسفلا، ومحو الذم عنه والنقص منه، وذلك تسبيح أيضا في علو أمر الله، فما سبح بالحمد إلا أهل الحمد من آدم ومحمد، - صلى الله عليه وسلم -، فغاية المسبح الحمد، والحمد تسبيح لمن غايته وراء ذلك الاستواء - انتهى. {وَنُقَدِّسُ لَكَ} قال الْحَرَالِّي: القدس طهارة دائمة لا يلحقها نجس ظاهر، ولا رجس باطن، واللام تعلن للشيء، لأجله كان ما أضيف به. انتهى. {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وقال الْحَرَالِّي: وأعلم، تعالى، بما أجرى عليه خلقه من القضاء بما ظهر، والحكم على الآتي بما مضى، حيث أنبأ عن ملائكته بأنهم قضوا على الخليفة في الأرض بحال من تقدمهم في الأرض من الجبلة الأولين من الجن الذين أبقى منهم عزازيل وغيرهم، ليتحقق أن أمر الله جديد، وأنه كل يوم هو في شأن، لا يقضى على آتي وقت بحكم ما فيه، ولا بما مضى قبله - انتهى. {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} "الْأَسْمَاءَ" أي التي للأشياء "كُلَّهَا"، وهو جمع اسم، وهو ما يجمع اشتقاقين من السمة والسمو، فهو بالنظر إلى اللفظ وسم، وبالنظر إلى الحظ من ذات الشيء سمو، وذلك السمو هو مدلول الاسم [الذي هو الوسم] الذي ترادفه التسمية، قاله الْحَرَالِّي. وقال في كتاب له في "أصول الفقه " الاسم يقال على لفظ التسمية، ويقال على حظ

ونصيب من ذوات الأشياء، وتلك هي المعروضة على الملائكة، واسم التسمية يحاذي به المسمى معلومه من الشيء المسمى الذي هو الاسم المعروض، وهو عند آدم علم، وعند الملائكة ومن لايعلم حقيقة الاسم المعروض توقيف ونبأ - انتهى. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} قال الْحَرَالِّي: أظهرهم عن جانب، وهو العرض والناحية، وقال الْحَرَالِّي: لما ذكر، تعالى، مراجعة الملائكية في خلق هذا الخليفة ذكر إبداءه لهم وجه حكمة علية بما أعلى هذا الخليفة من تعليمه إياه حقائق جميع الذوات المشهودة لهم على إحاطتهم بملكوت الله وملكه شهودا، فأراهم إحاطة علم آدم بما شهدوا صوره، ولم يشهدوا حقيقة مدلول تسميتها، وعلمه حكمة ما بين تلك الأسماء التي هي حظ من الذوات، وبين تسمياتها من النطق، ليجتمع في علمه خلق كل شيء صورة وأمره كلمة، فيكمل علمه في قبله على سبيل سمعه وبصره، واستخلفه في علم ماله من الخلق والأمر، وذلك في بدء كونه، وكيف يحكم حكمة الله فيما يتناهى إليه كمال خلقه إلى خاتمة أمره فيما انتهى إليه أمر محمد، - صلى الله عليه وسلم -، مما هو مبهم في قوله تعالى {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} فأبدى الله، عز وجل، لهم بذلك وجه خلافة علمية وعملية في التسمية إعلاء له عندهم، وقد جعلهم الله، عز وجل، مذعنين مطيعين، فانقادوا للوقت

{سبحانك}

بفضل آدم على جميع الخلق، وبدا لهم علم أن الله يعلي من يشاء بما يشاء من خلافة أمره وخلقه، وتلك الأسماء التي هي حظوظ من صور الموجودات هي المعروضة التي شملها اسم الضمير في قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} وأشار إليه: {هَؤُلَاءِ} عند كمال عرضهم، وأجرى على الجميع ضمير {هُمْ} لاشتمال تلك الكائنات على العاقلين وغيرهم، وبالتحقيق فكل خلق ناطق، حين يستنطقه الحق، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} وإنما العجمة والجمادية بالإضافة إلى ما بين بعض الخلق وبعضهم - انتهى. قال الْحَرَالِّي: هذه الأسماء المواطئة للتسمية من السمة، والأسماء الأول هي الحظوظ من الذوات التي المتسم بها هو المسمى، ومع ذلك فبين التسمية والاسم مناسبة مجعول الحكمة بينهما بمقتضى أمر العليم الحكيم - انتهى. {سُبْحَانَكَ} قال الْحَرَالِّي: وفي هذا المعنى إظهار لفضلهم وانقيادهم وإذعانهم توطئة لما يتصل به من إباء إبليس - انتهى. {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} قال الْحَرَالِّي رداً لبدء الأمر لمن له البدء، ولذلك ورد في أثارة من علم: "من لم يختم 566 علمه بالجهل لم يعلم" وذلك الجهل هو البراءة من العلم إلا ما علم الله.

{يا آدم أنبئهم بأسمائهم}

{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} قال الْحَرَالِّي: توكيد وتخليص وإخلاص للعلم والحكمة لله وحده، وذلك من أرفع الإسلام، لأنه إسلام القلوب ما حلاها الحق، سبحانه، به فإن العلم والحكمة نور القلوب الذي تحيا به، كما أن الماء رزق الأبدان الذي تحيا به، والحكمة جعل تسبيب بين أمرين يبدو بينهما تقاض من السابق، واستناد من اللاحق - انتهى. {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} قال الْحَرَالِّي: ولم يقل: علمهم، فكان آدم عليما بالأسماء، وكانوا هم مخبرين بها لا معلميها، لأنه لا يتعلمها من آدم إلا من خلقه محيط كخلق آدم، ليكون من كل شيء، ومنه كل شيء، فإذا عرض عليه شيء مما منه آنس علمه عنده؛ فلذلك اختصوا بالإنباء دون التعليم، فلكل شيء عند آدم، عليه السلام، - بما علمه الله وأظهر له علاماته في استبصاره الشيء - اسمان جامعان: اسم يبصره من موجود الشيء، واسم يذكره لإبداء معنى ذلك الشيء إلى غاية حقيقته، ولكل اسم جامع عنده وجوه متعددة، يحاذي كل وجه منها بتسمية تخصه، وبحسب تلك الوجوه تكثرت عنده الألسنة، وتكثرت الألسن الأعجمية، فأفصحها وأعربها الاسم الجامع، وذلك الاسم هو العربي، الذي به أنزل خاتم الكتب، على خاتم المرسلين، وأبقى دائما في مخاطبة أهل الجنة لمطابقة الخاتمة إحاطة البادئة: {حم حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} وطابق الختم البدء إحاطة لإحاطة - انتهى.

{فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ} و"لما" كلمة تفهم وجوب أمر لأمر في حين، فتجمع معنى الشرط والظرف - قاله الْحَرَالِّي. قال الْحَرَالِّي في التفسير، وكتاب له في أصول الفقه: هذه التسميات ليس الأسماء التي هي موجودة من الذوات، لأن تلك لا ينالها إلا العلم وشهود البصيرة، وقد جرى ذلك في وراثة في ولد آدم، حتى كان رؤبة وأبوه العجاج يرتجلان اللغة ارتجالا، ويتعلمها منهم من سواهم من العرب، لأن التسمية التي ينالها الإنباء للاسم الذي يناله العلم كالمثل له المبدي لصورة معناه للأذن لمناسبة ومواصلة بين خصوص التسمية واسمها من الذات، فيعلم ما يحاذي الشيء المفرد من منتظم الحروف، كما يعلم الواصف ما يحاذي الشيء ويحاكيه من منتظم الكلم، فيحاذيه ويحاكيه الواصف بكلام، ويحاذيه ويسميه المسمى له بكلمة واحدة، وكما أنه ليس لكل أحد منة أن يصف، فكذلك ليس لكل أحد منة أن يسمى، ومنه ما يجري من ألسنة العامة من النبز والألقاب، وقد كان يجب الاكتفاء بما في هذه الآية من العلم ببدء أمر المسميات عما وقع فيها من الاختلاف بين التوقيف والاصطلاح، فقد تبين أنها عن علم علمه الله آدم، لا عن توقيف، كما هو عند الملائكة من آدم، ولا عن اصطلاح كما قيل - انتهى.

{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا}

{إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال الْحَرَالِّي: قررهم حتى لا يكون لهم ثانية، وأعلم بذلك عباده من ولد آدم حتى يستنوا بحكم التسليم لله فيما يبديه من غير تعرض ولا اعتراض {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}. انتهى. قال الْحَرَالِّي: وفي صيغة تكتمون من الدلالة على تمادي ذلك في كيانهم، ما في صيغة تبدون من تمادي بادي ذلك منهم - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما أنبأ تعالى بأمر مفاوضة الملائكة وما كان من ادعائهم وتسليمهم الأمر لله ولمن علمه الله وهو آدم، عليه السلام، نظم بذلك نبأ انقيادهم لآدم فعلا، كما انقادوا له علما، تماما لكمال حالهم في التسليم علما وعملا، فقال تعالى: انتهى. {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} قال الْحَرَالِّي: فجعله بابا إليه وكعبة يجلونه بجلاله تعالى، ومحرابا وقبلة، يكون سجودهم له سجودا لله تجاه آدم، كسجود آدم تجاه الكعبة، وظهر بذلك سوء إباء إبليس عن السجود، حين خالفهم في طينة الكيان، لأن الملائكة خلقت من نور، والنور طوع لا يحوزه أين، ولا يختصه جهة، ولأن الجان خلقت من نار وهي مما يحوزه أين وتختصه جهة لا يرجع عنها إلا بقهر وقسر، فلم ينزل عن رتبة قيامه في جبلته لمخلوق الطين، حيث لم يشعر بإحاطة خلق آدم كما تلقته الملائكة - انتهى.

{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} قال الْحَرَالِّي: من الإبلاس، وهو انقطاع سبب الرجاء الذي يكون به اليأس، من حيث قطع ذلك السبب - انتهى. {أَبَى} من الإباء وهو امتناع عمل حقه الإجابة فيه. قاله الْحَرَالِّي. {وَاسْتَكْبَرَ} من الاستكبار، وهو استجلاب الكبر، والكبر بطر الحق، وغمض الناس وغمطهم، وموجب ذلك استحقار الغير من وجه، واستكمال النفس من ذلك الوجه. قاله الْحَرَالِّي. {مِنَ} وهي كلمة تفهم اقتباس الشيء مما جعل منه. قاله الْحَرَالِّي. وقال الْحَرَالِّي: لما أظهر الله، سبحانه، فضيلة آدم فيما أشاد به عند الملائكة من علمه وخلافته والإسجاد له، وإباء إبليس عنه، أظهر، تعالى، أثر ذلك ما يقابل، من أحوال آدم حال ما ظهر للملائكة بما فيه من حظ مخالفة، ليشارك بها إفراط ما في الشيطان من الإباء، لإحاطة خلق آدم بالكون كله علوا وسفلا، وليظهر فضل آدم في حال مخالفته على إبليس في حال إبائه بما يبدو على آدم من الرجوع بالتوبة، كحال رجوع الملائكة بالتسليم، فيظهر في الجمع بين الطرفين، والفضل في الحالين: حال علمه، وحال توبته في مخالفته، فجعل، تعالى، إسكان الجنة توطئة لإظهار ذلك من أمره، فقال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ} من السكن وهو الهدو في الشيء الذي في طيه إقلاق "أن" في قوله: "أنت" اسم باطن الذات علما، وهي المشتركة في أنا وأنت وأنت، وأن تفعل كذا، والألف في أنا إشارة ذات المتكلم، وفي مقابلتها التاء إشارة لذات المخاطب ذكرا أو أنثى.

{وزوجك الجنة}

{وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} فأجنت لآدم ما فيها من خبء استخراج أمر معصيته، ليكون ذلك توطئة لكمال باطنه باطلاعه على سر من أسرار ربه في علم التقدير إيمانا، ولكمال ظاهره يكون ذلك توطئة لفضيلة توبته إسلاما، ليس لبنيه التوبة أثر المعصية مخالفة لإصرار إبليس بعد إبائه، وشهادة عليه بجهله في ادعائه، وجعل له ذلك فيما هو متنزل عن رتبة علمه، فلم تلحقه فيه فتنة حفيظة على خلافته، وأنزلت معصيته إلى محل مطعمه الذي هو خصوص حال المرء من جهة أجوفية خلقه، ليبدو نقص الأجوف، ويبدي ذلك إكبار الصمد الذي يطعم ولا يطعم، فكان ذلك من فعله تسبيحا بحمد ربه، لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له - انتهى. {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} قال الْحَرَالِّي: وأطلق له الرغد إطلاقا، وجعل النهي عطفا، ولم يجعله استثناء ليكون آدم أعذر في النسيان، لأن الاستثناء أهم في الخطاب من التخصيص، وقال: {وَلَا تَقْرَبَا} ولم يقل: ولا تأكلا؛ نهيا عن حماها، ليكون ذلك أشد في النهي - انتهى. {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} قال الْحَرَالِّي: من الزلل، وهو تزلق الشيء الذي لا يستمسك على الشيء الذي لا مستمسك فيه، كتزلل الزلال عن الورق وهو ما يجتمع من الطل فيصير ما على الأوراق والأزهار، وأزالهما من الزوال، وهو التنحية عن المكان أو المكانة، وهو المصير بناحية منه {الشَّيْطَانُ} هو مما أخذ من أصلين: من الشطن وهو البعد، الذي منه سمي الحبل الطويل، ومن الشيط الذي هو الإسراع في الاحتراق والسمن، فهو من المعنيين مشتق، كلفظ الإنسان وملائكة، {عَنْهَا}

أي عن مواقعة الشجرة، و"عَنْ " كلمة تقتضي المجاوزة عن سبب ثابت، كقولهم: رميت عن القوس - انتهى. {مِمَّا كَانَا فِيهِ} قال الْحَرَالِّي: "في" كلمة تقتضي وعاء مكان أو مكانة، ثم قال: أنبأ الله عز وجل بما في خبء أمره مما هو من وراء علم الملائكة، بما أظهر من أمر آدم، عليه السلام، وبما وراء علم آدم بما أبدى من حال الشيطان باستنزلاله لآدم حسن ظن من آدم بعباد الله مطلقا، حين قاسمهما على النصيحة. وفيه انتظام بوجه ما بتوقف الملائكة في أمر خلق آدم، فحذرت الملائكة إلى الغاية، فجاء من وراء حذرها حمد أظهرت الله من آدم، وجاء من وراء حسن ظن آدم ذنب أظهره الله من الشيطان، على سبيل سكن الجنة، فرمى بهما عن سكنها، وبما أظهر له بما فيها من حب الشجرة التي أطلع عليها. ثم قال: وحكمة ذلك، أي نسبة هذا الذنب إلى الشيطان بتسببه، أن الله، عز وجل، يعطي عباده الخير بواسطة وبلا واسطة، ولا ينالهم شر إلا بواسطة نفس، كما وقع من الإباء للشيطان، فكانت خطيئته في ذات نفسه، أو بواسطة شيطان، كما كانت مخالفة آدم، فكانت خطيئته ليست من ذات نفسه، وعارضة عليه من قبل عدو تسبب له بأدنى ما منه من زوجه التي هي من أدنى خلقه، فمحت التوبة الذنب العارض لآدم، وأثبت الإصرار الإباء النفساني للشيطان، وذكر الحق، تعالى، الإزلال منه باسمه الشيطان، لا باسمه إبليس، لما في معنى الشيطنة من البعد والسرعة

{وقلنا اهبطوا}

التي تقبلا التلافي، ولما في معنى الإبلاس من قطع الرجاء، فكان في ذلك بشري استدراك آدم بالتوبة - انتهى. {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} والهبوط، قال الْحَرَالِّي: سعى في درك، والدرك ما يكون نازلا عن مستوى، فكأنه أمسك حقيقته - أي آدم - في حياطته، تعالى، وحفظه وتوفيقه لضراعته وبكائه وسر ما أودعه من أمر توبته؛ وأهبط صورته، ليظهر في ذلك فوق ما بين هبوط آدم وهبوط إبليس، على ما أظهر من ذلك سرعة عود آدم توبة وموتا إلى محله من أنسه المعهود وقربه المألوف له من ربه، وإنظار إبليس في الأرض مصراً منقطعا عن مثل معاد آدم، لما نال إبليس من اللعنة التي هي مقابل التوبة، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} البعض ما اقتطع من جملة، وفيه ما في تلك الجملة. {عَدُوٌّ} من العداء أي المجاوزة عن حكم المسالمة التي هي أدنى ما بين المستقلين من حق المعاونة - انتهى. قال الْحَرَالِّي: وفيه إشعار بما تمادى من عدوان الشيطان على ذرء من ولد آدم حتى صاروا من حزبه، وفيه أيضا بشرى لصالحي ولد آدم بما يسبونه من ذرء إبليس فيلحقون بهم بالإيمان والإسلام والتوبة، فيهتدون بهداه من حيث عم بالعداوة، فاعتدى ذو الخير فصارت عدواه على أهل الشر خيراً، واعتدى ذو الشيطنة فصارت عدواه على أهل الخير شراً. {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} تكونون فيه، وهو من القرار، وهو كون الشيء فيما له فيه تنام وظهور وعيش موافق، {وَمَتَاعٌ}

{فتلقى آدم}

تتمتعون به، والمتاع هو الانتفاع بالمنتفع به وقتا منقطعا، يعرف نقصه بما هو أفضل منه، يعني ففيه إشعار بانقطاع الإمتاع بما في هذه الدنيا، ونقص ما به الانتفاع عن محل ما كانا به، من حيث إن لفظ المتاع أطلق في لسان العرب على الجيفة التي هي متاع المضطر، وأرزاق سباع الحيوان وكلابها، فكذلك الدنيا هي جيفة متع بها، أهل الاضطرار بالهبوط من الجنة، وجعلها حظا من لا خلاق له في الآخرة. {إِلَى حِينٍ} أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي إبهام الحين إشعار باختلاف الآجال في ذرء الفريقين، فمنهم الذي يناله الأجل صغيرا، ومنهم الذي يناله كبيرا - انتهى. {فَتَلَقَّى آدَمُ} والتلقي ما يتقبله القلب باطنا وحيا، أو كالوحي، أبطن من التلقن الذي يتلقنه لفظا وعلما، ظاهراً أو كالظاهر. قاله الْحَرَالِّي. {مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} وتطلق الكلمة أيضا على إمضاء أمر الله من غير تسبيب حكمة ولا ترتيب حكم. قاله الْحَرَالِّي. ثم قال: في عطف الفاء في هذه الآية إشعار بما استند إليه التلقي من تنبيه قلب آدم وتوفيقه مما أثبته له إمساك حقيقته عند ربه، ويعاضد معناه رفع الكلمات وتلقيها آدم في إحدى القراءتين، فكأنه تلقى الكلمات بما في باطنه، فتلقته الكلمات بما أقبل بها عليه، فكان مستحقا لها، فكانت متلقية له بما جمعت القراءتان من المعنى.

{قلنا اهبطوا منها جميعا}

{فَتَابَ} من التوب وهو الرجوع بظاهر باطنه الإنابة، وهو رجوع بعلم باطنه الأوبه، وهو رجوع بتقوى قلب - انتهى. {التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} قال الْحَرَالِّي: وكان إقراره بلفظه أدبا وإذعانا لقيام حجة الله على عباده، بما أنبأ عنه من قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية، وهذه توبة قلب وعمل، لا ينقض مخصوص حال القلب منها ناقض وهي التوبة النصوح، التي تبرئ من الذنب بتحقيق توحيد القلب، وتوجب تكفير الخطايا الظاهرة، التي لا أصل لها في القلب؛ من حجاب دعوى في الأفعال وشرك في أمر الله، فبمقتضى ما في باطنه ظهر فيه اسمه الرحيم، الذي هو من الرحمة، وهو اختصاص فضله بالمؤمن، وبمقتضى ما ظهر عليه من الضراعة والإقرار ظهر فيه مقتضى اسمه التواب، فجمعت توبته الأمرين - انتهى. {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} وقال الْحَرَالِّي: مورد هذه الآية بغير عطف إشعار بأن ظاهرها افتتاح لم يتقدمه إيحاء بباطن، كما تقدم في السابقة، وتكرر الإهباطان، من حيث إن الأول إهباط لمعنى القرار في الدنيا والاغتذاء فيها، وذرء الذرية وأعمال أمر العداوة التي استحكمت بين الخلقين من آدم وإبليس، وهذا الإهباط الثاني إهباط عن مكانة الرتبة الآمرية الدينية، التي كانت خفية في

{والذين كفروا}

أمر آدم ظاهرة في أمر إبليس، وفي قوله {جَمِيعًا} إشعار بكثرة ذرء الخلقين وكثرة الأحداث في أمر الديانة من النقلين - انتهى. {فَمَنِ اتَّبَعَ} والتبع السعي أثر علم الهدى. قاله الْحَرَالِّي. {هُدَايَ} قال: وجاء "هُدَايَ" شائعا ليعم. رفع الخوف والحزن من تمسك بحق ما من الحق الجامع، وأدناه من آمن بالله واليوم الآخر، وعمل صالحا فيما بينه وبين الحق، وفيما بينه وبين الخلق - انتهى. {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فإن الخوف اضطراب النفس من توقع فعل ضار. قاله الْحَرَالِّي. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} والحزن، كما قال الْحَرَالِّي: توجع القلب لأجل نازح قد كان في الوصلة به روح، والقرب منه راحة، وجاء في الحزن بلفظ "هُمْ " لاستبطانه، وبالفعل لأنه باد من باطن تفكرهم في فائتهم، وجاء نفي الخوف منعزلا عن فعلهم، لأنه من خوف باد عليهم من غيرهم - انتهى. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} قال الْحَرَالِّي: هذا من أسوأ الكفر لأنه كفر بالآيات التي جعلها الله، عز وجل، علما على غيب عهده، وهي ما تدركه جميع الحواس من السماء والأرض، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} لأن الحق، تعالى، أظهر الكون كتابة دالة على أمره، وجعل في العقل نورا يقرأ به كتابه، فمن لا نور له فهو من أصحاب النار، فهو إما تابع هدى بنور العقل وتنبيه الإيمان، وإما صاحب نار، فقال: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} لأنه لما كان من الذين كفروا بكتاب الخلق من تقبل الإيمان بتنزيل الأمر، اختصت كلمة العذاب بالذين تأكد كفرهم بالآيات المرئية بتكذيبهم بالآيات المنزلة، فكفروا بما رأوا فكانوا عميا، وكذبوا بما سمعوا فكانوا صما - انتهى. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قال الْحَرَالِّي: وقوله "هُمْ" فيه إشعار بإشراب العذاب بواطنهم، وبلاغه إلى أنفسهم بعذاب الغم والحزن واليأس، وغير ذلك من إحراق النار بواطنهم، وفيه إشعار بكونهم فيها في الوقت الحاضر من حيث لا يشعرون. "الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله، فهم فيها خالدون، وإن لم يحسوا في الدنيا بحقيقتها، كما أن المهتدين في جنة في الدنيا، وإن لم يشاهدوا عيانها، فكل خالد فيما هو فيه في الدنيا غيبا، وفي الآخرة عيانا، وفي القبر عرضا. {لترون لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}. {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}. وهنا انتهى خطاب الفرقان

{يا بني إسرائيل}

المخصوص بدعوة العرب، الذين هم رأس أهل الدعوة المحمدية، قال، عليه الصلاة والسلام: "الناس كلهم تبع لقريش، مؤمنهم لمؤمنهم، وكافرهم لكافرهم" - انتهى. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} وقال الْحَرَالِّي: ثم أقبل الخطاب عام بني إسرائيل منتظما بابتداء خطاب العرب من قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وكذلك انتظام القرآن إنما ينتظم رأس الخطاب فيه برأس خطاب آخر يناسبه في جملة معناه، وينتظم تفصيله بتفصيله، فكان أول وأولى من خوطب بعد العرب الذين هم ختام بني إسرائيل الذين هم ابتداء بما هم أول من أنزل عليهم الكتاب الأول من التوراة، التي افتتح الله بها كتبه تلو صحفه وألواحه. ثم قال: لما انتظم إقبال الخطاب على العرب التي لم يتقدم لها هدى بما تقدمه من الخطاب للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، انتظم بخطاب العرب خطاب بني إسرائيل بما تقدم لها من هدي في وقتها. {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} وبما عهد إليها من تضاعف الهدي بما تقدم لها في ارتقائه من كمال الهدي بمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا القرآن، فكان لذلك الأولى مبادرتهم إليه حتى يهتدي بهم العرب، ليكونوا أول مؤمن، بما عندهم من علمه السابق - انتهى. {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} وقال الْحَرَالِّي: من الذكر، وهو استحضار ما سبقه النسيان

{مصدقا لما معكم}

{نِعْمَتِيَ} وهي إنالة الشخص ما يوافق نفسه وبدنه، وعند المتفطن، ما يوافق باطنه وظاهره، مما بين قلبه وشعوبه من أهله وحشمه. {الَّتِي} "تِي" منها إشارة لباطن نازل متخيل مبهم، تفسره صلته بمنزلة "ذي"، و"ال" منها إشارة لذلك المعنى بالإشارة المتخيلة - انتهى. {وَأَوْفُوا} من الوفاء وهو عمل لاحق بمقتضى تقدم علم سابق. قاله الْحَرَالِّي. {بِعَهْدِي} والعهد التقدم في الشيء خفية اختصاصا لمن يتقدم له فيه. قاله الْحَرَالِّي. {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} والرهب حذر النفس مما شأنها منه الهرب لأذى تتوقعه، وخوطبوا بالرهبة لاستبطانها فيما يختص لمخالفة العلم. قال الْحَرَالِّي. {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} وأمروا، كما قال الْحَرَالِّي تجديد الإيمان بالقرآن، لما فيه من إنباء بأمور من المغيبات التي لم تكن في كتابهم كتفاصيل أمور الآخرة التي استوفاها القرآن، لأنه خاتم، ليس وراءه كتاب ينتظر فيه بيان، وقد أبقى لكل كتاب قبله بقية أحيل فيها على ما بعده، ليتناءى البيان إلى غاية ما أنزل به القرآن، حين لم يعهد إليهم إلا في أصله على الجملة - انتهى. {ثَمَنًا قَلِيلًا} والقلة ما قصر عن الكفاية. قاله الْحَرَالِّي. {وَلَا تَلْبِسُوا} واللبس إبداء الشيء في غير صورته، ومنه اللباس لإخفائه

{وآتوا الزكاة}

الأعضاء حتى لا تبين هيئتها - قاله الْحَرَالِّي. {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} والحق قال الْحَرَالِّي: ما يقر ويثبت حتى يضمحل مقابله، فكل زوجين فأثبتهما حق، وأذهبهما باطل وذلك الحق، فالباطل هو ما أمد إدارته قصير، بالإضافة إلى طول أمد زوجه القار - انتهى. {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وجعله الْحَرَالِّي على ظاهره فقال: لما طلبهم، تعالى، بالوفاء بالعهد نهاهم عن سوء العمل وما لبسوا به الأمر عند أتباعهم من ملتهم، وعند من استرشدهم من العرب، فلبسوا بأتباعهم حق الإيمان بموسى عليه، الصلاة والسلام، والتوراة بباطل ما اختذلوه من كتابهم من إثبات الإيمان لمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، وبالقرآن، فكتموا الحق التام الجامع، ولبسوا الحق الماضي المعهود بالباطل الأعرق الأفرط، لأن باطل الحق الكامل باطل مفرط معرق بحسب مقابله، وعرفهم بأن ذلك منهم كتمان شهادة عليهم بعلمهم ذلك إفهاما، ثم أعقبه بالشهادة عليهم بالعلم نصريحا - انتهى. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} والزكاة: قال الْحَرَالِّي: نماء في ظاهر حس، وفي باطن ذات نفس، {وَارْكَعُوا} من الركوع، وهو توسط بين قيام وسجود، يقع في ظاهر من القامة، وفي حال من القلب، تخص به الأمة المتوسطة الجامعة للطرفين. {مَعَ} معناه الصحبة من الأعلى بالحياطة ومن الأدنى بحسن التبع، ومن المماثل بحسن النصفة - انتهى.

{أتأمرون}

وقال الْحَرَالِّي: والمتسق بذلك أي بما مضى خطاب إفهام يفهمه عطف إقامة الصلاة التي هي تلو الإيمان، فكأن خطابه الإفهام فارجعوا واستدركوا وأعلنوا بما كتمتم، وبينوا ما لبستم، وانصحوا من استنصحكم، وأقيموا وجهتكم لله بالصلاة، وتعطفوا على الأتباع بعد تعليمهم بالزكاة، وكملوا صلاتهم بما به كمال الصلاة؛ من الركوع العدل في الفعل بين حال قيام الصلاة وسجودها المظهر آية عظمة الله مع الراكعين، الذين هم العرب الذين وضعت أولى صلاتهم على كمال - انتهى. {أَتَأْمُرُونَ} من الأمر، وهو الإلزام بالحكم. قاله الْحَرَالِّي. وقال الْحَرَالِّي: ولما كان فيهم من أشار على من استهداه بالهداية لاتباع محمد، - صلى الله عليه وسلم -، ولم يهدوا أنفسهم لما أرشدوا إليه غيرهم، أعلن، تعالى، عليهم بذلك نظما لما، تقدم من نقض عهدهم ولبسهم وكتمهم بما ظهر من نقص عقولهم الذي هو أدنى أحوال المخاطبين. {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} من التلاوة، وهو تتبع قول قائل أول من جهة أوليته. قاله الْحَرَالِّي. قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بأن أمر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في منطوق تلاوته ليس في خفي إفهامه، فكان في ذلك خروج عن حكم نور العقل - انتهى.

{واستعينوا بالصبر والصلاة}

{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} والعقل إدراك حقائق ما نال الحس ظاهره. قاله الْحَرَالِّي. وقال الْحَرَالِّي: فكأنهم إنما حملهم على مخالفة حكم العقل ما تعودت به أنفسهم من الرياسة والتقدم، فلما في ذلك عليهم من المشقة أن يصيروا أتباعا للعرب بعد ما كانوا يرون أن جميع الأرض تبع لهم، نسق بخطابهم في ذلك الأمر بالاستعانة بالصبر الذي يكره أنفسهم على أن تصير تابعة بعد أن كانت متبوعة، فقال تعالى - انتهى. {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} والصبر: حبس النفس عن حاجتها وعادتها، وعلى إصلاحها وتزكيتها، وهو ضياء للقلوب، تبصر به ما يخفيه عنها الجزع من الخروج عن العادة فيما تنزع إليه الأنفس - قاله الْحَرَالِّي. وثنى بالصلاة لأنها استرزاق يغنيهم عن اشتراء ثمن كانوا يأخذونه من أتباعهم في اللبس والكتمان. {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ}. قاله الْحَرَالِّي. {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} والكبير ما جل قدره أو مقداره في حس ظاهر أو في معنى باطن. قاله الْحَرَالِّي. {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} قال الْحَرَالِّي: وهو، أي الخشوع، هدو الجوارح والخواطر فيما هو الأهم في الوقت، وأنبأ تعالى بكبر قدر الصلاة عن أن يتناول عملها إلا خاشع خرج عن حظ نفسه، وألزم نفسه ذل العبودية التي ختمت بها النبوة، وفي إشارة كمال الصلاة إشعار بصلاة العصر التي هي صلاة النبي الخاتم الذي زمنه وقت

{يظنون}

العصر، وحالة العبودية، وذلك مما يكبر على من قرن بنبوته وبملته الملك، إلا أن يخشع لما يكبر على النفس، وخصت الصلاة بالكبر دون الصبر، لأن الصبر صغار للنفس، والصلاة وجهة للحق، والله هو العلي الكبير - انتهى. {يَظُنُّونَ} من الظن، وهو رجحان في اعتقاد مع بقاء منازع من مقابله، قاله الْحَرَالِّي. {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} والرجوع معاد الذاهب على مدارج مذهبه، وترقيه على معارج مهبطه. قاله الْحَرَالِّي. وقال الْحَرَالِّي: ولما كان في الصلاة مناجاة لله على الغيب، كانت إنما تتيسر على من يظن القبول الذي يشعر به اللقاء لربه بعد موته، وذلك حال من رجحت الآخرة على الدنيا في عمله وحاله، فكان حاله وعمله حال الظان إبقاء على أحوال من دون رتبة اليقين، ومقصود اللقاء ليس البعث، لأنهم هم من المؤمنين بالبعث، ولكنه من معنى القبول بعد البعث، وفيه إشارة إلى حال الموت ويوم البرزخ، وهو الجزاء الأول، فعطف على المرجع الآخر بعد البعث - انتهى. {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} والتفضيل الزيادة من خطوة جانب القرب والرفعة فيما يقبل الزيادة والنقصان منه - قاله الْحَرَالِّي.

{عَلَى الْعَالَمِينَ} وقال الْحَرَالِّي: لما دعاهم إلى الوفاء بالعهد تنبيها لهمة من له فضل باطن يرجع إلى فضائل النفس، فأجاب من وفق، وتمادى على حاله من خذل، ثني الخطاب لهم بالتنبيه على النعمة الظاهرة، ليتنبه لذلك من يخاف تغيير النعمة الظاهرة، حين لم يخف السقوط عن رتبة الفضيلة في الخطاب، فذكرهم بالنعمة والتفضيل الذي فضلهم به على العالمين، وهم من ظهرت أعلام وجودهم في زمانهم، وكذلك كل تفضيل يقع في القرآن والسنة، إنما العالم من شمله الوجود، لا ما أحاط به العلم بعد، لأن ذلك لم يرفع في الشهود علم وجوده؛ وفيه إشعار بأنهم كما فضلوهم على عالمى زمانهم، فليس ذلك بمقصور عليهم، بل كذلك يفضل الله العرب في زمان نبوتها على بني إسرائيل، وعلى جميع الموجودين في زمانهم. وحيث انتهى الخطاب إلى تذكر ظاهر النعمة بعد التذكير بباطن الفضيلة، لم يبق وراء ذلك إلا التهديد بوعيد الآخرة؛ عطفا على تهديد تقتضيه الأفهام بتغيير ما بقي عليهم من النعمة في الدنيا، فكان مفهوم الخطاب: فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصاب المؤاخذين في الدنيا - انتهى. قال الْحَرَالِّي: والنفس لكل امرئ لزمته نفاسة على غيره، فهؤلاء الذين، لا يغني بعضهم عن بعض، بخلاف من آثر غيره وذهبت نفاسة نفسه، فإنه يغني عمن دونه بالشفاعة والإحسان في الدنيا والآخرة؛ وفيه إعلام بأن ضعة النفس مبدأ التوفيق،

{شفاعة}

ونفاستها مبدأ الخذلان: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فذل العبد - بالضم - لله، وذله - بالكسر - لعباد الله بشرى فوزه، وإعراضه عن ذكر الله، وصعر خده للناس نذارة هلاكه - انتهى. {شَفَاعَةٌ} وهي من الشفع، وهو إرفاد الطالب بتثنية الرغبة له فيما رغب فيه، ليصير كالإمام له في وجهة حاجته - قاله الْحَرَالِّي. {عَدْلٌ} وهو ما يعدل الشيء، ويكون معه كالعدلين المتكافئ القدر على الحمولة، فكأن العدل - بالكسر - في الشيء المحسوس، والعدل - بالفتح - في الشيء المعقول، وكذلك عادة العرب، تفرق بين ما في الحس وما في المعنى بعلامة إعراب في ذات نفس الكلمة، لا في آخرها - قاله الْحَرَالِّي. {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} والنصر تأييد المقاوم في الأمر بما هو أقوي من مقاومة، وهما طرفان ليصير كالمتقدم له بحكم استقلاله فيما يتوقع عجز المنصور فيه - قاله الْحَرَالِّي. قال الْحَرَالِّي: ولما كانت أسباب النجاة للمرء بأحد ثلاث: إما شفاعة من فوقه في العلم والفضل، وإما نصرة من فوقه في الأيد والقوة، وإما فكاك من يده لنفسه؛ إذ من هو مثله لايغني، وأحرى من هو دونه - استوفى الخطاب جميع

{وإذ}

الوجوه الثلاثة ليسد على ذي النفس المستمسك بنفاسته جميع الوجوه الثلاثة من الشفاعة والفدية والنصرة - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما استوفى خطاب النداء لهم وجهي التذكير بأصل فضيلة النفس الباطنة بالوفاء، وغرض النفس الظاهر في النعمة والرئاسة، جاء ما بعد ذلك من تفاصيل النعم عطفا من غير تجديد نداء إلى منتهى خاتمة الخطاب معهم، حيث ثنى لهم الخطاب الأدنى بالتذكير بالنعمة ختما لمتسق خطابه بما تضمنه تذكيرهم بتكرار قوله: "وإذا، وإذ" واحدة بعد أخرى، إلى جملة منها، ولما ذكرهم بالنعمة الظاهرة، فانتبه من تداركته الهداية، وتمادى من استحق العقوبة، ذكر أهل الاستحقاق بما عوقبوا به بما يستلزمه معنى النجاة، وبما فسره مما أخذوا به على ذنوب تشاكل ما هم عليه في معاندتهم القرآن، فحين لم ينفع فيهم التذكيران: بالعهد والنعمة، هددوا بتقريرهم على مواقع ما أصيبوا به من البلاء من عدوهم لما اقترفوه من ذنوبهم. {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}. فكان في تكذيبهم بالرسالة الأولى، وشكهم ما أصابهم من العقوبة من آل فرعون، حتى أنقذهم الله بموسى، عليه السلام، فقال تعالى: {وَإِذْ} أي واذكروا إذ {نَجَّيْنَاكُمْ} وهو من التنجية، وهي تكرار النجاة، والنجاة معناه رفع على النجوة، وهو المرتفع من الأرض، الذي هو مخلص مما ينال من في الوهاد وخبت الأرض من هلاك بسيل ماء ونحوه، {مِنْ آلِ} آل الرجل من تبدو فيهم أحواله

{وإذ فرقنا}

وأعماله وأفعاله، حتى كأنهم هو في غيبته، من معنى آل الذي هو السراب الذي يظهر فيه ما بعد، ويتراءى مالم يكن يرى لولاه، {فِرْعَوْنَ} اسم ملك مصر في الجاهلية، علم جنس لملوكها، بمنزلة أسماء الأجناس في الحيوان وغيره - انتهى. {يُذَبِّحُونَ} من التذبيح، وهو تكرار الذبح، والذبح قطع بالغ في العنق. قاله الْحَرَالِّي. {وَيَسْتَحْيُونَ} قال الْحَرَالِّي: من الاستحياء، وهو استبقاء الحياة. {نِسَاءَكُمْ} من معنى الاتخاذ للتأهل الملابس في معنى ما جرى منه اشتقاق الإنس والإنسان والنسوة، باشتراكها في أحد الحروف الثلاثة؛ من الهمزة، أو الواو، أو الياء، مع اجتماعها في النون والسين - انتهى. {بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: البلاء: الاختبار، وهو إبداء خبرة الشيء بشدة ومحنة، وفيه إشعار باستحقاقهم ذلك واستصلاحهم بشدته، دون ما هو أيسر منه، وذكره بالعظم لشياعه في الأجسام والأنفس والأرواح، وذكر معنى النجاة، ثم فصله تفصيلا لكيفيته بعد ذلك؛ تعدادا لنعمة النجاة التي هي تلو رحمة الإنعام، التي هي تلو رفعة التقدم بالعهد، فانتهى الخطاب نهايته في المعنى، يعني فلما قررهم، تعالى، على ما اقترفوه، قبل موسى، عليه السلام، حين أصابهم من آل فرعون ما أصابهم، استجد لهم تذكيرا بنعمة نجاة من عقوبة مقدم أعمالهم - انتهى. {وَإِذْ فَرَقْنَا} من الفرق، وهو إفراج الواحد لحكمة إظهار التقابل - قاله الْحَرَالِّي. {بِكُمُ الْبَحْرَ} قال الْحَرَالِّي: هو المتسع الرحب البراح مما هو ظاهر كالماء،

{وإذ واعدنا}

ومما هو باطن كالعلم الذي منه الحبر، تشاركا بحروف الاشتقاق في المعنى. {فَأَنْجَيْنَاكُمْ} من الإنجاء، وهو الإسراع في الرفعة عن الهلاك إلى نجوة الفوز - انتهى. قال الْحَرَالِّي: وجعل البحر مفروقا بهم كأنهم سبب فرقه، فكأن نجاتهم هي السبب، وضرب موسى، عليه السلام، بالعصاة هي الأمارة والعلامة التي انفلق البحر عندها بسببهم، وجعل النجاة من بلاد فرعون تنجية لما كان على تدريج، وجعل النجاة من البحر إنجاء لما كان وحيا في سرعة وقت - انتهى. قال الْحَرَالِّي: {وَأَغْرَقْنَا} من الغرق، وهو البلاغ في الشيء إلى غايته بحسبه، فإن كان في الهلاك فهو غاية، وظهر معناه في الماء والبحر لبعد قعره، وهو في الماء بمنزلة الخسف في الأرض؛ والنظر: التحديق للصورة من غير تحقق ولا بصر - انتهى. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} قال الْحَرَالِّي: وقررهم على نظرهم إليهم، وفيه إشعار بفقد بصرهم لضعف بصائرهم، من حيث لم يقل: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ولذلك عادوا بعدها إلى أمثال ما كانوا فيه من الشك والإباء على أنبيائهم بعد ذلك - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما ذكرهم، تعالى، بأمر الوفاء بالعهد الذي هو خاتمة أمرهم، وبالتفضيل الذي كان بادية أمرهم، نظم ذلك بالأمر المتوسط بين الطرفين، الذي أعلاه مواعدة موسى، عليه السلام، ربه الذي النعمة عليه نعمة عليهم، فقال: {وَإِذْ وَاعَدْنَا} من الوعد، وهو الترجية بالخير. {وَوَاعَدْنَا} من المواعدة، وهي التقديم في اللقاء والاجتماع والمفاوضة ونحوه. {مُوسَى} كلمة معربة من لفظ العبراني بما تفسيره - فيما يقال - ماء وشجر، سمي به لما أودع فيه من التابوت المقذوف

في اليم. {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} هي كمال وقت الليل، والليل وقت انطماس المدركات الظاهرة - انتهى. قال الْحَرَالِّي: وفيه إشعار بأن المناجاة إنما يتهيأ لها لميقات حبس النفس عما به قوامها، وكمال ذلك إنما هو الصوم، وكمال العدد الذي هو طور مصير من حال إلى حال، وهو الأربعون، وذكر الميقات بالليالي يشعر أن مناجاته صباح من ظلمة الكون، في حال خصوص الخلقة، من حيث إن الظلمة آية على فوت مرام نور الحق، والنهار آية على ظهور نور الحق، وأول باد بدأ من الحق للخلق كلامه لمصطفى من خلقه بغير واسطة، وهو بعد في دنياه، وفي أرضه التي كانت سجنا، فلما جاءها الحق لعبد من عبيده مناجيا له، كما ياتيها يوم الجزاء بعد البعث، صارت موطن رحمة وهدى ونرر، وهو مجيئ الله، سبحانه، من سيناء المذكور في الكتاب الأول - انتهى. {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ} قال الْحَرَالِّي: من الاتخاذ، وهو افتعال مما منه المواخذة، كأنه الوخذ، وهو تصيير في المعنى نحو الأخذ في الحس، وفيه تكلف. {الْعِجْلَ} وذكر في هذا التقرير أصل المواعدة، وذكر الميقات، وتجاوز الخطاب ما بعد ذلك من مهل، حسبما تفهمه كلمة "ثم". فاقتضى إفهام ذلك ما نالوه من الخير، ثم تعقبوا ذلك بالتزام عادتهم في معاودة ما اعتادوه من أعمالهم إلى أدنى عمل من لا عقل له، ولا بقية نظر له، من اتخاذ جسد عجل إلها، بعد معرفة آثار الإلهية على الغيب، ففيه تعجيب من أن موسى، عليه السلام، إنما واعده الله بالمناجاة بعد ميقات أربعين صوما ونسكا وتحنتا

{ثم عفونا}

وانقطاعا إلى ربه، ثم يرونهم أنهم شهدوا الإله مصورا محسوسا، على أن موسى الذي ناجاه ربه منع الرؤية، فكيف بهم؟! وذلك هو ظلمهم، فوضعوا الإله محل الشيء المحسوس، وهو، تعالى، قد تعالى عن أن يراه صفيه الذي ناجاه في دنياه، وإنما ناجاه بعد ميقاته، وهم يهمون في تأله مرئي من غير مواعدة ولا اختصاص! وفي قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد إتيانه لميعادنا إضمار لذكر موسى، عليه السلام، تقريرا لما كان ينبغي أن يكونوا عليه من الارتقاب لما يأتيهم به موسى من فوائد المناجاة، كما يكون من تعلق قلبه بمن هو قدوته، والبعد بعد عن حد يتخذ مبدأ، ليكون سابقه قبل، ولا حقه بعد - انتهى. {ثُمَّ عَفَوْنَا} وقال الْحَرَالِّي: ثم تجاوز الخطاب ما أصابهم من العقوبة على اتخاذهم إلى ذكر العفو تقريرا على تكرر تلافيهم حالا بعد حال، وقتا بعد وقت، كلما أحدثوا خطيئة تداركهم منه عفو، وخصه باسم العفو لما ذكر ذنوبهم، لأن المغفور له لا يذكر ذنبه، فإن العفو رفع العقوبة دون رفع ذكرها، والغفر إماتة ذكر الذنب مع رفع العقوبة. - انتهى. وفي قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي الذنب العظيم، إشعار بما أصابهم من العقوبة،

{وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان}

وخطاب لبقية المعفو عنهم، لينتهي الأمر فيهم إلى غاية يترجى معها لبقيتهم الشكر. قاله الْحَرَالِّي. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال الْحَرَالِّي: وهو ظهور بركة الباطن على الظاهر، يقال: دابة شكور، إذا أنجح مأكلها بظهور سمنها، وفيه إشعار بأن منهم من يشكر، وفيهم من يتمادى، بما في ترجي كلمة {لَعَلَّ} من الإبهام المشعر بالقسمين، والمهيئ لإمكان ظهور الفريقين، حتى يظهر ذلك لميقاته، لأن كل ما كان في حق الخلق تردداً، فهو من الله، سبحانه، إبهام لمعلومه فيهم، على ذلك تجري كلمة لعل وعسى ونحوها - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما ذكر، تعالى، أمر موسى، عليه السلام، وهو خاص أمرهم، فصل لهم أمر ما جاء به موسى وما كان منهم فيما جاء به - انتهى. {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} قال الْحَرَالِّي: فقررهم على أمرين: من الكتاب الذي فيه أحكام الأعمال، والفرقان الذي فيه أمر العلم، وهما ملاك حال إقامة الدين بالعلم والعمل. "وَالْفُرْقَانَ": فعلان لفظ مبالغة، يفهم استغراقا وامتلاء وعظما فيما استعمل فيه، وهو في هذا اللفظ من الفرق، وهو إظهار ما ألبسته الحكمة الظاهرة للأعين بالتبيان لفرقان لبسه بما تسمعه الأذن، وجاء فيه بكلمة "لعل" إشعارا بالإبهام في أمرهم، وتفرقتهم بين مثبت لحكم الكتاب

{وإذ قال موسى}

عامل به، عالم بطية الفرقان خبير به، وبين تارك لحكم الكتاب، غافل عن علم الفرقان - انتهى. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} قال الْحَرَالِّي: لما تكمل إقبال الخطاب عليهم مرات؛ بما تقدم من ندائهم والعطف على ما في صلته، صرف الحق وجه الخطاب عنهم إلى ذكر خطاب نبيه، - صلى الله عليه وسلم -، لهم، فإن الله يخاطب العباد بإسقاط الواسطة بينه وبينهم، ترفيعا لأقدارهم لديه، فيرفع من شاء فيجيبه بما شاء، ويوقف من شاء، فيجعل بينه وبينه في الخطاب واسطة من نبيه، فلما قررهم بما مضى من التذكير على ما واجههم به الحق، تعالى، ذكر في هذه الآية تقريرهم على ما خاطبهم به نبيهم، حين أعرض الحق عن خطابهم بما أصابوه من قبيح خطيئتهم - انتهى. {لِقَوْمِهِ} والقوم، قال الْحَرَالِّي: اسم من لهم منة في القيام بما هم مذكورون به، ولذلك يقابل بلفظ النساء، لضعفهن فيما يحاولنه، وفيه تخويف لهذه الأمة أن يصيبهم مثل ما أصابهم في خطاب ربهم، فيعرض عنهم - انتهى. {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} هذا هو أسوأ الظلم، فإن المرء لا يصلح أن يتذلل ويتعبد لمثله، فكيف لمن دونه من حيوان، فكيف بما يشبه الحيوان من جماد الذهب، الذي هو من المعادن، وهو أخفض المواليد رتبة، حين لم تبلغها حياتها أن تبدو فوق الأرض، كالنبات من النجم والشجر، ولما فيه من الانتفاع بما يكون

من الحب والثمر الذي ينتفع به غذاء ودواء، والمعادن لا ينتفع بها إلا آلات ونقودا، منفعتها إخراجها لا إثباتها - قاله الْحَرَالِّي. {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} وقال الْحَرَالِّي: البارئ: اسم قائم بمعنى البرء، وهو إصلاح المواد للتصوير، كالذي يقطع الجلد والثوب ليجعله خفا وقميصا، وكالذي يطحن القمح، ويعجن الطين ليجعله خبزاً وفخارا ونحو ذلك، ومعناه التدقيق للشيء بحسب التهيؤ لصورته انتهى. {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قال الْحَرَالِّي: والقتل قصل الحيوان قبل انتهاء قوته، بمنزله قصل الزرع قبل استحصاده - انتهى. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} والخير. قال الْحَرَالِّي: ما يصلح في الاختيار من محسوس الأشياء، وما هو الأصلح وما هو الأخير، وربما استعملت منه خير محذوفة، فيقال: هو خير في نفسه، أي مما يختار، ويقال: هذا خير من هذا، أي أخير منه، أي أصلح في الاختيار، وكذلك لفظ شر في مقابله، وهما مشعران بمتوسط من الأشياء، لا يختار لأجل زيادة صلاح، ولا يطرح لأجل أذى ولا مضرة: "عند" كلمة تفهم اختصاص ما أضيفت إليه بوجه ما عام، وأخص منه لدن، فلدن خاصتها، وعند عامتها، كالذي يملك الشيء، فهو عنده، وإن لم يكن في حضرته - انتهى. {هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} قال الْحَرَالِّي: وفي إظهار هو مفصولة من ضمير

{لن نؤمن لك}

وصلها إثبات معنى الرحمة لله ثبتا لا يتبدل ولا يتغير، إلا أنه من وراء غيب ما شاء الله من أدب وامتحان وعقاب، فلذلك ختمه باسمه الرحيم، لأن الختم أبدى إظهار للمعنى الأخفى من مضمون ما فيه الختم - انتهى. {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} لن: وهي كلمة تفهم نفي معنى باطن، كأنها "لا أن" يسر بالتخفيف لفظها. قاله الْحَرَالِّي. قال الْحَرَالِّي: وجاء باللام لأنهم قد كانوا آمنوا به، فتوقفوا عن الإيمان له الذي يتعلق بأمور من تفاصيل ما يأتيهم به، فمن آمن لأحد فقد آمن بأمور لأجله، ومن آمن يه فقد قبل أصل رسالته. {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}. {حَتَّى} كلمة تفهم غاية محوطة يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها، مقابل معنى لكن. {نَرَى} من الرؤية، وهي اطلاع على باطن الشيء الذي أظهر منه مبصره، الذي أظهره منه منظره، ومنه يقال في مطلع المنام: رؤيا، لأن ذوات المرئي في المنام هي أمثال باطنه في صورة المنظور إليه في اليقظة - انتهى. {اللَّهَ جَهْرَةً} قال الْحَرَالِّي: من الجهر، وهو الإعلان بالشيء إلى حد الشهرة وبلاغه لمن لا يقصده، قي مقابلة السر المختص بمن يقصد به، وهذا المطلوب مما لا يليق بالجهر، لتحقق اختصاصه بمن يكشف له الحجاب من خاصة من يجوزه القرب، من خاصة من يقبل عليه النداء، من خاصة من يقع عنه الإعراض، فكيف أن يطلب ذلك جهرا، حتى يصله من هو في محل البعد والطرد! وفيه شهادة بتبلدهم عن

موقع الرؤية، فإن موسى، عليه السلام، قال: {رَبِّ أَرِنِي} وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وقال، عليه الصلاة والسلام: "إنكم ترون ربكم" فالاسم المذكور لمعنى الرؤية إنما هو الرب، لما في اسم {الله}، تعالى، من الغيب الذي لا يذكر لأجله إلا مع ما هو فوت، لا مع ما هو في المعنى نيل. وذلك لسر من أسرار العلم بمواقع معاني الأسماء الحسنى، فيما يناسبها من ضروب الخطاب والأحوال والأعمال، وهو من أشرف العلم الذي يفهم به خطاب القرآن، حتى يضاف لكل اسم ما هو أعلق في معناه وأولى به، وإن كانت الأسماء كلها ترجع معاني بعضها لبعض. {فَأَخَذَتْكُمُ} من الأخذ، وهو تناول الشيء بجملته بنوع بطش وقوة - انتهى. {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} قال الْحَرَالِّي: من البعث، وهو الاستثارة من غيب وخفاء؛ أشده البعث من القبور، ودونه البعث من النوم. قال: وتجاوز الخطاب ما كان من سبب بعثهم، وكذلك كل موضع يقع فيه "ثم"، ففيه خطاب متجاوز مديد الأمد، كثير رتب العدد، مفهوم لمن استوفى

مقاصد ما وقعت كلمة "ثم" بينه في الكلامين المتعاطفين؛ ففي معنى التجاوز من الخطاب سؤال موسى، عليه السلام، ربه في بعثهم، حتى لا يكون ذلك فتنة على سائرهم - انتهى. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال الْحَرَالِّي: وفي "لعل" إبهام معلومه فيهم بأن منهم من يشكر، ومنهم من لا يشكر - انتهى. قال الْحَرَالِّي: وفيه، أي هذا الخطاب، آية على البعث الآخر الذي وعد به جنس بني آدم كلهم؛ فجأة صعق وسرعة بعث، فإن ما صح لأحدهم ولطائفة منهم أمكن عمومه في كافتهم - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: وعطف، تعالى، على ذكر البعث ذكر حال من مثل أحوال أهل الجنة الذي ينالونه بعد البعث، فكأن عامتهم الذين لم يموتوا إنما شركوا هؤلاء المبعوثين، لكونهم كأنهم ماتوا بموتهم، وبعثوا ببعثهم، فذكر ظل الغمام، وهر من أمر مابعد البعث، والإرزاق بغير كلفة، وهو من حال ما بعد البعث، وأفهم ذلك أموراً أخر في أحوالهم، كما يقال إن ملابسهم كانت تطول معهم كلما طالوا، فكأنهم أخرجوا من أحوال أهل الدنيا بالجملة، إلى شبه أحوال أهل الجنة، في محل تيههم ومستحق منال العقوبة لهم، كل ذلك إنعاما عليهم، ثم لم يزيدوا مع ذلك إلا بعداً عن التبصرة في كل ما أبدى لهم من العجائب: "حدث عن بني إسرائيل ولا حرج فقال: {وَظَلَّلْنَا} من الظلمة وهي وقاية مما ينزل من سماء

{وأنزلنا عليكم المن}

الموفي. {عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} من الغم، وهو ما يغم النور أي يغطيه - انتهى. {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} قال الْحَرَالِّي: هو ما جاء بغير كلفة؛ الكمأة من المن. {وَالسَّلْوَى} قال الْحَرَالِّي: والسلوى اسم صنف من الطير، يقال هو السماني أو غيره - انتهى. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} قال الْحَرَالِّي: والطيب ما خلص من منازع يشارك فيه وطيبه من سوى الأكل له، أي لم ينازعه وليس فيه حق لغيره، ومنه الطيب في المذاق، وهو الذي لا ينازعه تكره في طعمه؛ وهذا زاد على ذلك بكونه لم يكن عن عمل حرث ولا معاملة مع خلق - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ثم أعرض بالخطاب عنهم، وأقبل به على محمد، - صلى الله عليه وسلم -، ومن معه - انتهى. {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. قال الْحَرَالِّي: وفيه إشعار بتحذير هؤلاء أن يروا نحواً مما رأوا، فينالهم نحو مما نالوه، لأن قصص القرآن ليس مقصوده مقصوراً على ذكر الأولين فقط، بل كل قصة منه إنما ذكرت لما يلحق هذه الأمة في أمد يومها من شبه أحوال من قص عليهم قصصه انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما ذكر، تعالى، عظيم فضله عليهم في حال استحقاق عقوبتهم في تظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وهو مبتدأ أمر تيههم، حين أبوا أن يقاتلوا الجبارين - نظم به آخر أمر تيههم بعد وفاة موسى وهارون، عليهما السلام، حين دخولهم مع يوشع، عليه السلام، وما أمروا به من دخول البلد المقدس، متذللين بالسجود الذي هو أخص رتب العبادة، وكمال عمل العامل، ودنو من الحق - انتهى.

{وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية}

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} قال الْحَرَالِّي: الدخول الولوج في الشيء بالكلية حسا بالجسم، ومعنى بالنظر والرأي، والقرية من القرى، وهو الجمع للمصالح التي بها يحصل قوام الدنيا لقرى أهل الدنيا، والتي تجمع مصالح أهل الآخرة، لقرى أهل الآخرة، قال، عليه السلام: "أمرت بقرية تأكل القرى" باستيطانها، كأنها تستقري القرى تجمعها إليها، وقد تناوبت الياء والهمزة، والواو مع القاف والراء على عام هذا المعنى - انتهى. {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} قال الْحَرَالِّي: وفيه أي هذا الخطاب تثنية في ذكر الأرض، لما تقدم من نحوه لآدم في السماء، فكان تبديلهم لذلك عن فسق لا عن نسيان، كما كان أمر آدم، عليه السلام، فكأنهم اقتطعوا عن سنته إلى حال الشيطان الذي {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فتحقق ظلمهم حين لم يشبهوا آباءهم وأشبهوا عدو أبيهم وعدوهم - انتهى. {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} وهو كما قال الْحَرَالِّي: أول مستفتح الأشياء والأمور المستغلقة حسا أو معنى. {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال الْحَرَالِّي: من الحط، وهو وضع الحمل الثقيل بمنة وجمام قوة يكون في الجسم، والمعنى: أمروا بقول ما يحط عنهم ذنوبهم التي عوقتهم من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، مع من معه من المهاجرين والأنصار بشعب من الشعاب، متردداً بين الحرمين الشريفين - يعني في عمرة الحديبية - فقال: قولوا: لا إله إلا الله - وعند ذلك دخول الشعب الذي هو باب المدخل من نجد الأرض إلى سهلها - فقالوها،

فقال: والذي نفسي بيده، إنها للحظة التي عرضت على بني إسرائيل أن يقولوها فبدلوها - انتهى. {يَغْفِرُ} والغفر، قال الْحَرَالِّي: ستر الذنب أن يظهر منه أثر على المذنب، لا عقوبة ولا ذكر، ثم قال: ففي قراءة {نَغْفِرْ} قول من الحق ومن هو من حزبه من الملائكة والرسل، وفي قراءة: {تَغْفِرْ} إبلاغ أمر خطابهم بما يفهمه التأنيث من نزول القدر، وفي قراءة الياء توسط بين طرفي ما يفهمه علو قراءة النون، ونزول قراءة التاء، ففي ذلك بجملته إشعار بأن خطاياهم كانت في كل رتبة مما يرجع إلى عبادة ربهم وأحوال أنفسهم ومعاملتهم مع غيرهم من أنبيائهم وأمثالهم، حتى جمعت خطاياهم جميع جهات الخطايا الثلاث، فكأنهم ثلاثة أصناف: صنف بدلوا، وصنف اقتصدوا، وصنف أحسنوا، فيزيدهم الله مالا يسعه القول: و {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}. انتهى. {خَطَايَاكُمْ} والخطايا جمع خطيئة، من الخطأ، وهو الزلل عن الحد عن غير تعمد، بل مع عزم الإصابة، أو ود أن لا يخطىء - هكذا قال الْحَرَالِّي. {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} قال الْحَرَالِّي: جمع محسن، من الإحسان وهو البلوغ إلى الغاية في حسن العمل، فيكون مع الخلق رؤية المرء نفسه في غيره، فيوصل له من البر ما يجب أن يفعل معه، ورؤية العبد ربه في عبادته، فالإحسان فيما بين العبد وربه أن يغيب عن نفسه، ويرى ربه، والإحسان فيما بين العبد وغيره أن يغيب عن

{فبدل}

غيره ويري نفسه، فمن رأى نفسه في حاجة الغير، ولم ير نفسه في عبادة الرب فهو محسن، وذلك بلوغ في الطرفين إلى غاية الحسن في العمل بمنزلة الحسن في الصورة - انتهى. قال الْحَرَالِّي: أمروا بالإخلاص لله نظرا إلى حياة قلوبهم، فطلبوا الحنطة، نظرا إلى حياة جسومهم، فقال تعالى: {فَبَدَّلَ} من التبديل، وهو تعويض شيء مكان شيء - انتهى. {غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فإن غيرا، كما قال الْحَرَالِّي، كلمة تفهم انتفاء وإثبات ضد ما انتفى. وقال: ذكر، تعالى، عدولهم عن كل ذلك، واشتغالهم ببطونهم وعاجل دنياهم، فطلبوا طعام بطونهم التي قد فرغ منها التقدير، وأظهر لهم الغناء عنها في حال التيه بإنزال المن والسلوى؛ إظهارا لبلادة طباعهم، وغلبة حب العائلة عليهم، فبدلوا كلمة التوحيد، وهي: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وهي الحطة بطلب الحنطة، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما" أعطي السائلين" - انتهى.

{وإذ استسقى}

{رِجْزًا} قال الْحَرَالِّي: هو أشد العذاب، وما جره أيضا يسمى رجزا مما يجب أن يزجر عنه، والزجر كف البهائم عن عدواها - انتهى. {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} قال الْحَرَالِّي: فبحق يجب على من دخل من باب جبل أو قرية أن يقول في وصيدها: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ليحط عنه ماضي ذنوبه، فكأن ذكر الله في باب المدينة والشعب ذكاة لذلك المدخل، فمن لم يدخله مذكيا دخله فاسقا. {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فلذلك ما انختم ذكرهم في الآية بالفسق انتهى. {وَإِذِ اسْتَسْقَى} قال الْحَرَالِّي: والسقيا فعلى صيغة مبالغة، فيما يحصل به الري من السقي، والسقي إحياء موات شأنه أن يطلب الإحياء حالا أو مقالا، قال، - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اسق عبادك"! ثم قال: "وأحي بلدك الميت" - انتهى. {فَقُلْنَا اضْرِبْ} قال الْحَرَالِّي: من الضرب، وهو وضع الشيء على الشيء بقوة، {بِعَصَاكَ} والعصا كأنها ما يكف به العاصي، وهو من ذوات الواو، والواو فيه إشعار بعلو، كأنها آلة تعلو من قارف ما تشعر فيه الياء بنزول عمله بالمعصية، كأن العصو أدب العاصي، يقال عصا يعصو أي ضرب بالعصا؛ اشتقاق ثان، وعصى يعصي إذا خالف الأمر - انتهى.

{فَانْفَجَرَتْ} قال الْحَرَالِّي: الانفجار انبعاث وحي من شيء موعي، أو كأنه موعى انشق وانفلق عنه وعاؤه، ومنه الفجر وانشقاق الليل عنه - انتهى. {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} والعين، قال الْحَرَالِّي: هو باد نام قيم يبدو فيه غيره فما أجزأ من الماء في ري أو زرع فهو عين، وما مطر من السماء فأغنى فهو عين، يقال إن العين مطر أيام لايقلع، وإنما هو مطر يغني وينجع، وما تبدو به الموزونات عين، وما تبدو به المرئيات من الشمس عين، وما تنال به الأعيان من الحواس عين، والركية، وهي بئر السقيا، عين، وهي التي يصحفها بعضهم فيقول "الركبة" بالباء يعني الموحدة - وإنما هي الركية - بالياء المشددة - كذا قال. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} قال الْحَرَالِّي: وهو اسم جمع من الأنس - بالضم - كالناس اسم جمع من النوس، قال: فلم يسمهم باسم من أسماء الدين، لأن الأسماء تجري على حسب الغالب على المسمين بها، من أحوال تدين أو حال طبع أو تطبع، {مَشْرَبَهُمْ} مكتفاهم من الشرب المردد مع الأيام ومع الحاجات في كل وقت بما يفهمه المفعل، اسم مصدر ثان مشتق من مطلق الشرب، أو اسم محل يلزمه التكرار عليه والتردد، فجعل، سبحانه، سقياهم آية من آياته في عصاه، كما كانت آيته في عصاه على عدوه الكافر، فكان فيها نقمة ورحمة، وظهر بذلك كمال تمليكه تعالى لمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، حين كان ينبع من بين أصابعه الماء غنيا في نبوعه عن آلة ضرب أو حجر، وتمليك الماء من أعظم التمكين، لأنه تمكين فيما هو بزر كل شيء، ومنه كل حي، وفيه كل مجعول ومصور - انتهى. {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: لما لم يكن في مأكلهم ومشربهم جري العادة حكمته في الأرض، فكان من غيب، فأضيف ذكره لاسم الله الذي

{لن نصبر على طعام واحد}

هو غيب. {وَلَا تَعْثَوْا} من العثو، وهو أشد الفساد، وكذلك العثي، إلا أنه يشعر هذا التقابل بين الواو والياء، أن العثو إفساد أهل القوة بالسطوة، والعثى إفساد أهل المكر بالحيلة - انتهى. قال الْحَرَالِّي: وفيه إشعار بوقوع ذلك منهم، لأن في كل نهى إشعارا بمخالفته، إلا ما شاء الله، وفي كل أمر إشعارا بموافقته إلا ما شاء الله، لأن ما جبل عليه المرء لا يؤمر به؛ لاكتفاء إجباره فيه طبعا عن أمره، وما منع منه لاينهى عنه، لاكتفاء إجباره عن أمره، وإنما مجرى الأمر والنهي توطئة لإظهار الكيان في التفرقة بين مطيع وعاص، فكان منهم لذلك من العثي ما أوجب ما أخبر به الحق عنهم من الهوان، وأشد الإفساد إفساد بنيان الحق الذي خلقه بيده، وهي مباني أجساد بني آدم، فكيف بالمؤمنين منهم؟! فكيف بالأنبياء منهم؟! انتهى. {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} قال الْحَرَالِّي: الطعام ما يقوت المتطعم، ويصير جزاء منه {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} الآية - انتهى. {فَادْعُ لَنَا} قال الْحَرَالِّي: من الدعاء، وهو نداء لاقتضاء غلبة لما تدعو الحاجة إليه من القائم على الداعي بتذلل وافتقار، وهو في مقابلة الأمر من الأعلى، لأنه اقتضاء لما لا تدعو إليه الحاجة من الآمر، لأن الآمر بالحقيقة إنما هو الغني لا المفتقر لما يقتضيه - انتهى. {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} من الإنبات، وهو التغذية والتنمية. قاله الْحَرَالِّي. {مِنْ بَقْلِهَا} قال الْحَرَالِّي: البقل ما يكثر به الأدم، والأدم الأشياء الدسمة، فما يصلح معها من نجم الأرض فهو بقل - انتهى.

{وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا} وقال الْحَرَالِّي: يقال هو الحب الذي يخبر - انتهى. {اهْبِطُوا مِصْرًا} قال الْحَرَالِّي: المصر هو البلد الجامع لما يتعاون عليه من أمور الدنيا، الذي يجمع هذه المطالب التى طلبوها، لأن ما دون الأمصار لا يكون فيها إلا بعضها، ومنه سميت مصر، لجماع أمر ما في الدنيا فيها، وغرابة سقياها، وإن وافق ذلك ما يقال: إنها سميت مصر باسم رجل، فالوفاق في حكمة الله، لأن كل دقيق وجليل فيها جار بعلم الله وحكمته، حيث كانت من وراء حجاب يخفيها، أو ظاهرة بادية لأهل النظر والاستبصار - انتهى. {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} والسؤال قال الْحَرَالِّي: طلب ما تدعو إليه الحاجة، وتقع به الكفاية، قال: وذكر تعالى: أن مطلبهم إنما يجدونه في الأمصار التي أقر فيها حكمته، لا في المفاوز التى تظهر فيها كلمته، ولذلك كثيرا ما تنخرق العادة لأولياء هذه الأمة في المفاوز، وقل ما تنخرق في الأمصار، والقرى، لما في هذه الآية مضمونه، ولذلك حرص السالكون على السياحة والانقطاع عن العمائر، لما يجدون في ذلك من روح رزق الله عن كلمته، دون كلفة حكمته. ولما نظم سبحانه بنبأ موسى، عليه السلام، ما كان من نبأهم مع يوشع، عليه السلام، بعده نظم في هذه الآية بخطاب موسى، عليه السلام، ما كان منهم بعد يوشع، عليه السلام، إلى آخر اختلال أمرهم، وانقلاب أحوالهم، من حسن المظاهرة لنبيهم، إلى حال الاعتداء والقتل لأنبيائهم، عليهم السلام، وفي جملته إشعار بأن ذلك لم يكن منهم إلا لأجل إيثار الدنيا، [و] رئاستها ومالها، على الآخرة؛ إيثارا للعاجلة على الآجلة، وفي طيه أشد التحذير لهذه الأمة في اتباعهم لسنن أهل الكتاب

في مثل أحوالهم، ولذلك انتظم بها الآية الجامعة، وابتدأ بذكر الذين آمنوا من هذه الأمة، ثم استوفى الملل التي لها صحة على ما يذكر آنفا إن شاء الله تعالى - انتهى. {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} قال الْحَرَالِّي: وفي عطفه إفهام لمجاوزة أنباء عديدة، غايتها في الظهور ما عطف عليها، كأن الخطاب يفهم: فأنزلناهم حيث أنزلوا أنفسهم، ومنعناهم ما لا يليق عن حاله مثل حالهم، فظهر منهم وجوه من الفساد، فسلط عليهم العدو فاستأصل منهم ما شاء الله، ومن بقي منهم أخذوا بأنواع من الهوان - انتهى. {وَالْمَسْكَنَةُ} قال الْحَرَالِّي: وهي ظهور معنى الذل أو التذلل على ظاهر الهيئة والصورة؛ سكونا وانكعاف حراك - انتهى. {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ} قال الْحَرَالِّي: معناه إجماع القاهر على الانتقام في حق مراغمة - انتهى. {مِنَ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: وفيه تهديد لهذه الأمة بما غلب على أهل الدنيا منهم، من مثل أحوالهم باستبدال الأدنى في المعنى من الحرام، والمتشابه بالأعلى من الطيب والأطيب المأخوذ عفوا واقتناعا - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما كان الغضب إنما يكون على من راغم الجليل في معصيته، ووقعت منه المراغمة في معصيتهم واعتدائهم - ذكر فعلهم - انتهى. {يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: والكفر بالآيات أبعد الرتب من الإيمان، لأنه أدنى من الكفر بالله، لأن الكفر بالله كفر بغيب، والكفر بآيات الله كفر بشهادة، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} - انتهى.

{والذين هادوا}

{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} قال الْحَرَالِّي: وهذا جمع نبىء، وهو من النبأ، وهو الإخبار عن غيب عجز عنه المخبر به، من حيث أخبر - انتهى. {بِمَا عَصَوْا} قال الْحَرَالِّي: وهو مخالفة الأمر - انتهى. {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} قال الْحَرَالِّي: وهو أي الاعتداء تكلف العداء، والعداء مجاوزة الحد فيما يفسح فيه إلى حد لاعذر لمجاوره، من حيث فسح له سعة ما فسح، وحد له ما حد - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما أنهى الحق، تعالى، نبأ أحوال بني إسرائيل نهايته؛ مما بين أعلى تكرمتهم بالخطاب الأول، إلى أدنى الغضب عليهم بهذا النبأ الآخر عنهم إعراضا، في مقابلة ذلك الإقبال الأول، وكانوا هم أول أهل كتاب - أشعر، تعالى، بهذا الختم أن جميع من بعدهم يكون لهم تبعا، لنحو مما أصابهم من جميع أهل الملل الأربعة - انتهى. {وَالَّذِينَ هَادُوا} قال الْحَرَالِّي: وهو من الهود، وهو رجوع بالباطن وثبات فيه - انتهى. {وَالنَّصَارَى} قال الْحَرَالِّي: جمع نصران، فإن كان من النصرة فهو فعلان - انتهى. {وَالصَّابِئِينَ} قال الْحَرَالِّي: بالهمز من: صبأ يصبأ صبأ، وبغير همز من: صبا يصبو صبوا، تعاقبت الهمزة والياء مع الصاد والباء لعام معنى، هو عود إلى حال صغر بعد كبر - انتهى. {وَعَمِلَ صَالِحًا} قال الْحَرَالِّي: وهو العمل المراعى من الخلل، وأصله الإخلاص

{وإذ أخذنا ميثاقكم}

في النية، وبلوغ الوسع في المحاولة بحسب علم العامل وإحكامه، وقال: والعمل ما دبر بالعلم - انتهى. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} من الوثيقة، وهي تثنية العهد تأكيدا كإثباته بالكتاب - قاله الْحَرَالِّي. {بِقُوَّةٍ} والقوة باطن القدرة من القوى، وهي طاقات الحبل التي يمتن بها ويؤمن انقطاعه. قاله الْحَرَالِّي. {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} وهو هنا الإعراض المتكلف، بما يفهمه التفعل - قاله الْحَرَالِّي. {وَمَا خَلْفَهَا} والخلف ما يخلفه المتوجه في توجهه، فينطمس عن حواس إقباله شهوده - قاله الْحَرَالِّي. {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} والعوذ اللجاء من متخوف لكاف يكفيه، والجهل التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم. قاله الْحَرَالِّي. {يُبَيِّنْ} من التبيين، وهو اقتطاع الشيء والمعنى مما يلابسه ويداخله. قاله الْحَرَالِّي. {مَا لَوْنُهَا} واللون تكيف ظاهر الأشياء في العين. قاله الْحَرَالِّي. {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قال الْحَرَالِّي: نعت تخليص للون الأصفر بمنزلة قانيء في الأحمر. {لَا ذَلُولٌ} من الذل، وهو حسن الانقياد. قاله الْحَرَالِّي.

{تثير الأرض}

{تُثِيرُ الْأَرْضَ} قال الْحَرَالِّي: وهي إظهار الشيء من الثري، كأنها تخرج الثرى من محتوى اليبس، ولما كان الذل وصفا لازما عبر في وصفها بانتفائه بالاسم المبالغ فيه. {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}، وقال الإمام أبو الحسن الْحَرَالِّي: وفي ذلك تشام بين أحوالهم في اتخاذهم العجل، وفي طلبهم ذلك، وفي كل ذلك مناسبة بين طباعهم وطباع البقرة المخلوقة للكد وعمل الأرض التي معها التعب والذل، والتصرف فيما هو من الدنيا توغلا فيها، وفيه نسمة مطلبهم ما تنبت الأرض الذي هو أثر الحرث، يعني الذي أبدلوا الحطة به، وهو حبة في شعرة، فكأنهم بذلك أرضيون ترابيون، لا تسمو طباع أكثرهم إلى الأمور الروحانية العلوية، فإن جبلة كل نفس تناسب ما تنزع إليه وتلهج به من أنواع الحيوان. {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: قدم نبأ قول موسى، عليه السلام، على ذكر تدارؤهم في القتيل، ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع، الذي هو القائم على أفعال الاعتداء، وأقوال الخصومة - انتهى. {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} "أو" قال الْحَرَالِّي: هي كلمة تدل على بهم الأمر وخفيته، فيقع الإبهام والإيهام - انتهى. {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} والتفعل من التشقق، وهو تفعل صيغة التكلف من الشق، وهو مصير الشيء في الشقين، أي ناحيتين متقابلتين. قاله الْحَرَالِّي.

{فريق منهم}

{مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: والحشية: وجل نفس العالم مما يستعظمه. {فَرِيقٌ مِنْهُمْ} قال الْحَرَالِّي: من الفرق وهو اختصاص برأي وجهة عمن حقه أن يتصل به ويكون معه - انتهى. {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} والكلام: قال الْحَرَالِّي: هو إظهار ما في الباطن على الظاهر، لمن يشهد ذلك الظاهر بكل نحو من أنحاء الإظهار - انتهى. {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ} والفتح: قال الْحَرَالِّي: توسعة الضيق حسا ومعنى. {إِلَّا أَمَانِيَّ} وهي تقدير الوقوع فيما يترامى إليه الأمل، ويقال: إن معناه يجري في التلاوة للفظ كأنها تقدير بالإضافة لمن يتحقق له المعنى. قاله الْحَرَالِّي. {فَوَيْلٌ} والويل جماع الشر كله. قاله الْحَرَالِّي. {مِمَّا يَكْسِبُونَ} قال الْحَرَالِّي: والكسب ما يجري من الفعل والقول والعمل والآثار، على إحساس بمنة فيه وقوة عليه - انتهى. {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} قال الْحَرَالِّي: والعد اعتبار الكثرة بعضها ببعض، واقتصر على الوصف بالمفرد لكفايته في هذا المعنى، بخلاف ما في آل عمران. {بَلَى} فإن بلى كلمة تدل على تقرير يفهم من إضراب عن نفي، كأنها بل، وصلت بها الألف إثباتا لما أضرب عن نفيه - قاله الْحَرَالِّي. [انتهت نصوص تفسير الْحَرَالِّي المستخرجة من الجزء الأول من تفسير البقاعي] "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" من مطبوعات دائرة المعارف العثمانية بالهند، 1 4 3 ط 1 - 1391 هـ - 1971 م

نصوص تفسير الْحَرَالِّي المفقود المستخرجة من الجزء الثاني من تفسير البقاعي "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"

{وبالوالدين إحسانا}

بداية نصوص تفسير الْحَرَالِّي المستخرجة من الجزء الأول من تفسير البقاعي 6"نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" * * * {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال الْحَرَالِّي: تثنية والد، من الولادة، لاستبقاء ما يتوقع ذهابه بظهور صورة منه تخلف صورة نوعه - انتهى. {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} قال الْحَرَالِّي: واليتم فقد الأب حين الحاجة، ولذلك أثبته مثبت في الذكر إلى البلوغ، وفي البنت إلى الثيوبة، لبقاء حاجتها بعد البلوغ، {الْقُرْبَى} فعلى من القرابة، وهو قرب في النسب الظاهر أو الباطن - انتهى. {مِنْ دِيَارِكُمْ} قال الْحَرَالِّي: وأصلها ما أدارته العرب من البيوت كالحلقة، استحفاظا لما تحويه من أموالها - انتهى. {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} والإقرار إظهار الالتزام بما خفي أمره - قاله الْحَرَالِّي. {تَظَاهَرُونَ} من التظاهر وهو تكلف المظاهرة، وهي تساند القوة، كأنه استناد ظهر إلى ظهر - قاله الْحَرَالِّي.

{عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ} والإثم الخمر، لما يقع بها من العداوة والعدوى. قاله الْحَرَالِّي. {تُفَادُوهُمْ} من المفاداة وهي الاستواء في العوضين. قاله الْحَرَالِّي. {وَهُوَ مُحَرَّمٌ} من التحريم، وهو تكرار الحرمة بالكسر، وهي المنع من الشيء لدنايته، والحرمة بالضم: المنع من الشيء لعلوه. قاله الْحَرَالِّي. {إِلَّا خِزْيٌ} والخزي: إظهار القبائح التي يستحي من إظهارها عقوبة - قاله الْحَرَالِّي. {يُرَدُّونَ} والرد: هو الرجوع إلى ما كان منه بدء المذهب. قاله الْحَرَالِّي. {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} والدنيا: فعلى من الدنو، وهو الأنزل رتبة، في مقابلة عليا، ولأنه لزمتها العاجلة، صارت في مقابلة الأخرى اللازمة للعلو، ففي الدنيا نزول قدر وتعجل، وفي الأخرى علو قدر وتأخر، فتقابلتا على ما يفهم تقابلين من معنى كل منها. قاله الْحَرَالِّي. {فَلَا يُخَفَّفُ} من التخفيف وهو مصير الثقيل والمستفل إلى حال الطافي المستعلي، كحال ما بين الحجر والهواء. قاله الْحَرَالِّي. {وَلَقَدْ} هي لوقوع مرتقب مما كان خبرا، أو مما سيكون علما. قاله الْحَرَالِّي.

{وقفينا}

{وَقَفَّيْنَا} من التقفية، وهي متابعة شيء شيئا، كأنه يتلو قفاه، وقفاء الصورة منها خلفها المقابل للوجه. قاله الْحَرَالِّي. {الْبَيِّنَاتِ} والبينة من القول والكون مالا ينازعه منازع لوضوحه. قاله الْحَرَالِّي. {وَأَيَّدْنَاهُ} من التأييد، وهو من الأيد، وهو القوة، كأنه يأخذ معه بيده في الشيء الذي يقويه فيه، كأخذ قوة المظاهر من الظهر، لأن الظهر موضع قوة الشيء في ذاته، واليد موضع قوة تناوله لغيره. قاله الْحَرَالِّي. {بِرُوحِ الْقُدُسِ} قال الْحَرَالِّي: والروح لمحة من لمحات أمر الله قيوميته في كلية خلقه ملكا وملكوتا، فما هو قوام الخلق كله ملكا وملكوتا هو الأمر. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وما هو قوام صورة من جملة الخلق هو الروح الذي هو لمحة من ذلك الأمر، ولقيام عالم الملكوت، وخصوصا جملة العرش بعالم الملك، وخصوصا أمر الدين الباقي، سماهم الله روحا، ومن أخصهم روح القدس، والقدس الطهارة العلية التي لا يلحقها تنجس على ما تقدم، ومن أخص الروح به جبريل، عليه السلام، بما له من روح الأمر الديني، وإسرافيل، عليه السلام، بما له من روح النفخ الصوري - انتهى. {بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} من الهوى، وهو نزوع النفس لسفل شهوتها، في مقابلة معتلي الروح لمنبعث انبساطه، كأن النفس ثقيل الباطن بمنزلة الماء والتراب، والروح خفيف الباطن بمنزلة الهواء والنار، وكأن العقل متسع الباطن، بمنزلة اتساع النور في كلية الكون علوا وسفلا. قاله الْحَرَالِّي. {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع أغلف، وهو المغشى الذكر بالقلفة التي هي جلدته كأن

الغلفة في طرفي المرء: ذكره وقلبه، حتى يتم الله كلمته في طرفين بالختان والإيمان. قاله الْحَرَالِّي. {لَعَنَهُمُ اللَّهُ} لأن اللعن إبعاد في المعنى والمكانة والمكان، إلى أن يصير الملعون بمنزلة النعل في أسفل القامة، يلاقي به ضرر الموطي. قاله الْحَرَالِّي. {بِكُفْرِهِمْ} قال الْحَرَالِّي: أعظم الذنوب ما تكون عقوبة الله، تعالى، عليها الإلزام بذنوب أشد منها، فأعقب استكبارهم اللعن، كما كان في حق إبليس مع آدم، عليه السلام، فانتظم صدر هذه السورة إظهار الشيطنتين من الجن والإنس الذي انختم به القرآن في قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} ليتصل طرفاه، فيكون ختما لا أول له ولا آخر، والفاتحة محيطة به، لا يقال هي أوله ولا آخره. ولذلك ختم بعض القراء بوصله حتى لا يتبين له طرف، كما قالت العربية، لما سئلت عن بنيها، [هم]: كالحلقة المفرغة، لأبدرى أين طرفاها. {بَغْيًا} قال الْحَرَالِّي: هو اشتداد في طلب شيء ما - انتهى. {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} وقال الْحَرَالِّي: وراء مالا يناله الحس ولا العلم، حيث ما كان من المكان، فربما اجتمع أن يكون الشيء وراء، من حيث إنه لايعلم، ويكون أماما في المكان - انتهى. {وَهُوَ الْحَقُّ} قال الْحَرَالِّي: فأنهاه لغاية الحق بكلمة "ال" لأن ما ثبت

{فتمنوا الموت}

ولا زوال له لانتهائه هو "الحق"، وما ثبت وقتا ما ثم يتعقبه تكملة أو يقبل زيادة، فإنما هو "حق" منكر اللفظ، فإن بين المعرف بكلمة "ال" وبين المنكر أشد التفاوت في المعنى - انتهى. {خَالِصَةً} من الخلول، وهو تصفية الشيء مما يمازجه في خلقته مما هو دونه. قاله الْحَرَالِّي. {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} قال الْحَرَالِّي: فعلى قدر نقرة النفس من الموت يكون ضعف منال النفس من المعرفة التي بها تأنس بربها، فتتمنى لقاءه وتحبه، "ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءها"، يقع ذلك لعامة المؤمنين عند الكشف حال الغرغرة، ولخاصة المؤمنين في مهل الحياة، لأنهم لو كشف لهم الغطاء لم يزدادوا يقينا، فما هو للمؤمن بعد الكشف من محبة لقاء الله، فهو للموقن في حياته ويقظته، لكمال الكشف له مع وجود حجاب الملك الظاهر، ولذلك ما مات نبي حتى يخير فيختار لقاء الله، لتكون وفادته على الله وفادة محب مبادر، ولتقاصر المؤمن عن يقين النبي يتولى الله الخيرة في لقائه لأنه وليه، ومنه ما ورد: "ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت،

وأنا أكره مساءته، ولابد له منه" ففي ضمن ذلك اختيار الله للمؤمن لقاءه، لأنه وليه، يختار له فيما لا يصل إليه إدراكه - انتهى. {بِمَا قَدَّمَتْ} وهو من التقدمة وهي وضع الشيء قداما، وهو جهة القدم الذي هو الأمام والتجاه أي قبالة الوجه. قاله الْحَرَالِّي. {أَحْرَصَ} صيغة مبالغة من الحرص وهو طلب الاستغراق فيما يختص فيه الحظ. قاله الْحَرَالِّي. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} والشرك قال الْحَرَالِّي: إسناد الأمر المختص بواحد إلى ما ليس له معه أمر - انتهى. {يَوَدُّ} من الود، وهو صحة نزوع النفس للشيء المستحق نزوعها له. قاله الْحَرَالِّي. قال الْحَرَالِّي: وهو نحو من خطاب القرآن، لا يصل إليه إبلاغ الخلق. {لَوْ يُعَمَّرُ} من التعمير، وهو تمادي العمر، كأنه تكرار، والعمر أمد ما بين بدو الشيء وانقطاعه. قاله الْحَرَالِّي. {أَلْفَ سَنَةٍ} والألف: كمال العدد بكمال ثالثة رتبة، والسنة أمد تمام دورة الشمس، وتمام ثنتي عشرة دورة القمر. قاله الْحَرَالِّي.

{وما هو بمزحزحه من العذاب}

{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ} والزحزحة: إبعاد الشيء المستثقل المترامي لما يبعده عنه. قاله الْحَرَالِّي. {مَنْ} وهي اسم مبهم، يشمل الذوات العاقلة؛ آحاداً وجموعا واستغراقا. قاله الْحَرَالِّي. {وَجِبْرِيلَ} قال الْحَرَالِّي: يقال هو اسم عبودية، لأن "إيل" اسم من أسماء الله عز وجل، في الملأ الأعلى، وهو يد بسط لروح الله في القلوب، بما يحييها الله به من روح أمره؛ إرجاعا إليه في هذه الدار، قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض، من عزرائيل، عليه السلام - انتهى. {بِإِذْنِ اللَّهِ} والإذن: رفع المنع وإيتاء المكنة كونا وخلقا، ما لم يمنعه حكم تصريف. قاله الْحَرَالِّي. {بَيْنَ يَدَيْهِ} والبين: حد فاصل في حس أو معنى - قاله الْحَرَالِّي. {وَمِيكَالَ} يقال هو اسم عبودية أيضا، وهو يد بسط للأرزاق، المقيمة للأجسام، كما أن إسرافيل يد بسط للأرواح، التي بها الحياة. قاله الْحَرَالِّي. {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} والسحر: قال الْحَرَالِّي: من حيث أن حقيقته أمر يبطل بذكر اسم الله، ويظهر أثره فيما قصر عليه من التخييل والتمريض ونحوه، بالاقتصار به من دون اسم الله الذي هو كفر - انتهى. {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} قال الْحَرَالِّي: يقال هو من السلامة، فإنه من سلامة

{يعلمون الناس السحر}،

صدره من تعلقه بما خوله الله، تعالى، من ملكه {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وهو واحد كمال في ملك العالم المشهود من الأركان الأربعة، وما منها من المخلوقات. انتهى. {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}، والسحر، قال الْحَرَالِّي: هو قلب الحواس في مدركاتها عن الوجه المعتاد لها في صحتها، عن سبب باطل، لا يثبت مع ذكر الله عليه. {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} قال الْحَرَالِّي: فيه إنباء بأن هذا التخييل ضربان: مودع في الكون، هو أمر الشياطين، ومنزل من غيب، هو المتعلم من الملكين. وعبارة الْحَرَالِّي: ملكان جعلا ملكين في الأرض، والآية من إظهار الله للملائكة فضل الخليقة. {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} قال الْحَرَالِّي: وأصل معناها من فتن الذهب، وهو تسخيره ليظهر جوهره، ويتخلص طيبه من خبيثه - انتهى. {بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} والمرء اسم من أسنان الطبع، يشارك الرجل به المرأة، ويكون له فيه فضل ما، ويسمى معناه المروة. قاله الْحَرَالِّي. {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ} وهو من الضر - بالفتح بالضم - وهو ما يؤلم الظاهر من الجسم، وما يتصل بمحسوسه، في مقابلة الأذى، وهو إيلام النفس وما يتصل بأحوالها، وتشعر الضمة في الضر بأنه عن علو وقهر، والفتحة بأنه ما يكون عن مماثل

ونحوه، وقل ما يكون عن الأدنى إلا أذى، ومنه: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} قاله الْحَرَالِّي. {مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} والنفع وصول موافق للجسم الظاهر وما يتصل به، في مقابلة الضر، ولذلك يخاطب به الكفار كثيرا؛ لوقوع معنيهما في الظاهر الذي هو مقصدهم من ظاهر الحياة الدنيا. قاله الْحَرَالِّي. {مِنْ خَلَاقٍ} والخلاق، الحظ اللائق لمن يقسم له النصيب من الشيء، كأنه موازن به خلق نفسه وخلق جسمه. قاله الْحَرَالِّي. {لَمَثُوبَةٌ} وفي الصيغة إشعار بعلو وثبات، قاله الْحَرَالِّي. {خَيْرٌ} قال الْحَرَالِّي: وسوى بين هذه المثوبة ومضمون الرسالة في كونهما من عند الله؛ تشريفا لهذه المثوبة، وإلحاقا لها بالنمط العلي من علمه وحكمته ومضاء كلمته - انتهى. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقال الْحَرَالِّي: فيه إشعار برتبة من العلم أعلى وأشرف من الرتبة التي كانت تصرفهم عن أخذ السحر، لأن تلك الرتبة تزهد في علم ما هو شر، وهذه ترغب في منال ما هو خير؛ وفيه بشرى لهذه الأمة بما في كيانها من قبول هذا العلم الذي هو أعلم الأسماء، ومنافع القرآن يكون لهم عوضا من علم السيمياء، الذي هو باب من السحر، وعساه أن يكون من نحو المنزل على الملكين، قال

- صلى الله عليه وسلم -: "من أقتبس علما من النجوم اقتبس بابا من السحر، زاد ما زاد". وحقيقة السيماء أمر من أمر الله، أظهر آثاره في العالم الأرضي على سبيل أسماء وأرواح خبيثة، من واطن الفتن في العلويات من النيرات والكواكب والصور، وما أبداه منه في علوم وأعمال لا يثبت شيء منه مع اسمه تعالى، بل يشترط في صحته إخلاؤه عن اسم الله وذكره، والقيام بحقه، وصرف التحنثات والوجهة إلى ما دونه، فهو لذلك كفر موضوع فتنة من الله، تعالى، لمن شاء أن يفتنه به، حتى كانت فتنة اسم السيمياء من هدي الاسم بمنزلة اسم اللات والعزى من هداية اسم الله العزيز، ولله كلية الخلق والأمر هدى وإضلالا، إظهاراً لكلمته الجامعة الشاملة لمقابلات الأزواج التي منتهاها قسمة إلى دارين: دار نور رحماني، من اسمه العزيز الرحيم، ودار نار انتقامي، من اسمه الجبار المنتقم، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} ولما جعل، سبحانه، من المضرة في السحر ونحوه، كان من المثوبة لمن آمن واتقى من هذه الأمة سورة الفلق والناس - المعوذتان - حرزا وإبطالا وتلقفا لما يأفك سحر الساحرات؛ عوضا دائما باقيا لهذه الأمة من عصا موسى، فهما عصا هذه الأمة التي تلقف ما يأفك سحر الساحرات عوضا دائما بما

{وقولوا انظرنا}

فيهما من التعويذ الجامع للعوذة من شر الفلق الذي من لمحة منه كان السحر مفرقا، فهما عوذتان من وراء ما وراء السحر ونحوه، وذلك من مثوبة الدفع، مع ما أوتوا من مثوبه النفع، ويكاد أن لايقف من جاءه هذه الآية عند غاية من منال الخيرات ووجوه الكرامات - انتهى. ولما كان من الحق، كما قال الْحَرَالِّي، إجراء الأمور على حكم ما أثبتها الحق. {وَقُولُوا انْظُرْنَا} قال الْحَرَالِّي: فيه إلزام بتصحيح الصور لتطابق تصحيح المقاصد، وليقع الفرق بين الصورتين، كما وقع الفرق بين المعنيين، فهي آية فرقان، خاصة بالعرب. {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} والاختصاص: عناية تعين المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره، والرحمة: نحلة ما يوافي المرحوم في ظاهره وباطنه، أدناه كشف الضر، وكف الأذى، وأعلاه الاختصاص برفع الحجاب. قاله الْحَرَالِّي. {مَا نَنْسَخْ} والنسخ قال الْحَرَالِّي: نقل باد من أثر أو كتاب ونحوه من محله بمعاقب يذهبه، أو باقتباس يغني عن غيبته، وهو وارد الظهور في المعنيين في موارد الخطاب، والمعاقبة في هذا أظهر. انتهى. وفي صيغة نفعل إشعار بأن من تقدم ربما نسخ عنهم مالم يعوضون به مثلا ولا خيراً،

{أو ننسها}

ففي طيه ترغيب للذين آمنوا في كتابهم الخاص بهم، وأن يكون لهم عند النسخ حسن قبول، فرحا بجديد أو اغتباطا بما هو خير من المنسوخ، ليكون حالهم عند تناسخ الآيات مقابل حال الآبين من قبوله المستمسكين بالسابق المتقاصرين عن خير لاحق وجدته. قاله الْحَرَالِّي. {أَوْ نُنْسِهَا} وقال الْحَرَالِّي: - وهو الحق إن شاء الله، تعالى - والنسء تأخير عن وقت إلى وقت، ففيه مدار بين السابق واللاحق، بخلاف النسخ، لأن النسخ معقب للسابق، والنسء مداول للمؤخر، وهو نمط عن الخطاب على خفي المنحى، لم يكد يتضح معناه لأكثر العلماء، إلا للأئمة من آل محمد، - صلى الله عليه وسلم -، لخفاء الفرقان بين ما شأنه المعاقبة، وما شأنه المداولة. ومن أمثاله ما وقع في النسء من نهي النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عن لحوم الأضاحي، فتقبله الذين آمنوا نسخا، وإنما كان إنساء وتأخيره لحكم الاستمتاع بها بعد ثلاث إلى وقت زوال الدافة، التي كانت دفت عليهم من البوادي، فلم يلقن ذلك عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حتى فسره فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة" ففي متسع

فقهه أن أحكاما تؤخر، فتشابه النسخ من وجه، ثم تعاد فتخالفه من هذا الوجه، من حيث أن حكمة المنسوخ منقطعة، وحكمة المنسئ متراجعة، ومنه المقاتلة للعدو عند وجدان المنة والقوة، والمهادنة عند الضعف عن المقاومة، هو من أحكم المنسئ، وكل ما شأنه أن يمتنع في وقت لمعنى ما، ثم يعود في وقت لزوال ذلك المعنى، فهو من المنسئ الذي أهمل علمه أكثر الناظرين، وربما أضافوا أكثره إلى نمط النسخ لخفاء الفرقان بينهما. فبحق أن هذه الآية من جوامع آي الفرقان، فهذا حكم النسء والإنساء، وهو في العلم بمنزلة تعاقب الفصول، بما اشتملت عليه من الأشياء المتعاقبة في وجه المتداولة في الجملة. قال: وأما النسيان والتنسية فمعناه أخفى من النسىء، وهو ما يظهره الله من البيانات على سبيل إدخال النسيان على من ليس شأنه أن ينسى، كالسنن التي أبداها النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عن تنسيته، كما ورد من قوله: "إني لأنسى

لأسن " وقال عليه الصلاة والسلام، في إفصاح القول فيه: "بئس لأحدكم أن يقول: "نسيت، بل هو نسي" ومنه قيامه من اثنتين، وسلامه من اثنتين، حتى أظهر الله سنة ذلك لأمته، وكانت تلك الصلاة بسهوها ليست بدونها من غير سهو، بل هي مثلها أو خير، ومن نحوه منامه عن الصلاة، حتى أظهر الله توقيت الصلاة بالذكر، كما كان قد أظهرها بالوقت الزماني، فصار لها وقتان: وقت نور عياني من مداره الشمس، ووقت نور وجداني من مدارها مع الذكر، ولصحة وقوعها للوقتين كانت المؤقتة بالذكر أداء بحسبه، قضاء بحسب فوت الوقت الزماني. فلله، تعالى، على [هذه] الأمة فضل عظيم، فيما يكمل لها على طريق النسخ، وعلى سبيل النسء، وعلى جهة النسيان الذي ليس عن تراخ ولا إهمال، وإنما يوقعه إجبارا مع إجماع العزم. وفي كل ذلك إنباء بأن ما وقع من الأمر بعد هذا النسيان خير من موقع ذلك الأمر الذي كان يقع على إجماع ورعاية، لتستوي أحوال هذه الأمة في جميع تقلبات أنفسها، كل ذلك من إختصاص رحمته وفضله العظيم - انتهى. {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال الْحَرَالِّي: فهو بما هو على كل شيء قدير، يفصل الآيات، وهو بماله ملك السموات والأرض يدبر الأمر. انتهى.

{مِنْ وَلِيٍّ} قال الْحَرَالِّي: وهي القيام بالأمر عن وصلة واصلة. {وَلَا نَصِيرٍ} وفي ذلك تعريض بالتحذير للذين آمنوا، ولم يبلغوا درجة المؤمنين، من مخالفة أمره، إذا حكم عليهم بما أراد، كائنا ما كان، لئلا تلقن بواطنهم عن اليهود نحواً مما لقنت ظواهر ألسنتهم، بأن تستمسك بسابق فرقانها، فتتثاقل عن قبول لاحقه ومكمله، فيكون ذلك تبعا لكثرة أهل الكتاب في إبائها نسخ ما لحقه التغيير من أحكام كتابها - أفاده الْحَرَالِّي. وقال: وهو في الحقيقة خطاب جامع لتفصيل ما يرد من النسخ في تفاصيل الأحكام والأموال، بمنزلة الخطاب المتقدم في صدر السورة، المشتمل على جامع ضرب الأمثال في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} الآية، وذلك لأن هذه السورة هي فسطاط القرآن الجامعة لجميع ما تفصل فيه؛ وهي سنام القرآن، وسنام الشيء أعلاه، وهي سيدة سور القرآن، ففيها لذلك جوامع ينتظم بعضها ببعض إثر تفاصيله خلالها في سنامية معانيها، وسيادة خطابها، نحوا

{أم تريدون}

من انتظام آي سورة الفاتحة المنتظمة من غير تفصيل وقع أثناءها ليكون بين المحيط الجامع والابتداء الجامع مشاكلة ما - انتهى. {أَمْ تُرِيدُونَ} والإرادة في الخلق، نزوع النفس لباد تستقبله. قاله الْحَرَالِّي. {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} وفيه إشعار بأن الخطاب للذين آمنوا، لأن المؤمنين المعرفين بالوصف لا يتبدل أحوالهم من إيمان لكفر، لأن أحداً لا يرتد عن دينه بعد أن خالط الإيمان بشاشه قلبه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا بعد أن أعطا كموه" فبذلك يتضح مواقع خطاب القرآن مع المترتبين في أسنان القلوب، بحسب الحظ من الإيمان والإسلام والإحسان. قاله الْحَرَالِّي. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وأظهر الاسم في موضع الإضمار، إشعاراً بالاستئناف للخير، ليكون ختما جامعا، لأنه لو عاد على خصوص هذا الخطاب لكان "إنه"

{قل هاتوا برهانكم}

وذلك لأن تجديد الإظهار يقع بمعنى رد ختم الخطاب على إحاطة جملته. قاله الْحَرَالِّي. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} بلفظ البرهان قال الْحَرَالِّي: وهو علم قاطع الدلالة، غالب القوة، بما تشعر به صيغة الفعلان، ضم أولها وزيادتا آخرها. {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ} وفي ذلك إعلام بأنه تعالى ما غيب شيئا إلا وأبدى عليه علما، ليكون في العالم المشهود شفاف عن العالم الغائب. قاله الْحَرَالِّي. {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} والإسلام: قال الْحَرَالِّي: الإلقاء بما يكون من منة في باطن أو ظاهر، "والوجه" مجتمع حواس الحيوان، وأحسن ما في الموتان - وهو ماعدا الحيوان -، وموقع الفتنة من الشيء الفتان، وهو أول ما يحاول إبداؤه من الأشياء لذلك. {لِلَّهِ} من أجل أنه الله الجامع للكمال. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ} أنث فعلهم لضعف قولهم وجمع أمرهم {النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} أي يعتد به لكونه صحيحا، وليس مخففة من وزن فرح، ومعناها مطلق النفي لمتقدم إثبات أو مقدرة. قاله الْحَرَالِّي.

{ممن منع مساجد الله}

{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} والحكم: قصر المصرف على بعض ما يتصرف فيه، وعن بعض ما تشوف إليه. قاله الْحَرَالِّي. {فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} والاختلاف: افتعال من الخلاف، وهو تقابل بين رأيين فيما ينبغي إنفراد الرأي فيه. قاله الْحَرَالِّي. {مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} والمنع: الكف عما يترامى إليه، والمسجد مفعل لموضع السجود، وهو أخفض محط القائم، والسعي الإسراع في الأمر حسا أو معنى، "والخراب" ذهاب العمارة، والعمارة إحياء المكان وإشغاله بما وضع له. قاله الْحَرَالِّي. {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: وفيه إنباء بإحباط ما يصرف عنهم وجها من وجوه العذاب. فنالهم من العذاب العظيم ما نال الكافرين، حتى كان ما كان لهم من ملة وكتاب لم يكن، وذلك أسوأ الخسار. قال: ومن الموعود أن من أعلام قيام الساعة تضييع المساجد، لذلك كل أمة وكل طائفة وكل شخص معين تطرق بجرم في مسجد يكون فعله سببا لخلائه، فإن الله، عز وجل، يعاقبه بروعة ومخافة تناله في الدنيا، حتى ينتظم بذلك من خرب مدينة من مدن الإسلام، أو كانت أعماله سبب خرابها، وفي ضمن ذلك ما كان

من أحداث المسلطين على البيت المقدس، بما جرت إليه أعمال يهود فيها. وقال: كذلك أجرى الله سنته أن من لم يقم حرمة مساجده شرده منها، وأحوجه لدخولها تحت رقبة وذمة من أعدائه، كما قد شهدت مشاهدة بصائر أهل التبصرة، وخصوصا في الأرض المقدسة المتناوب فيها دول الغلب بين هذه الأمة، وأهل الكتاب {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} فكل طائفة في بضعها إذا ساء عملها في مسجدها شردت منه، ودخلته في بضع الأخرى خائفة، كذلك حتى تكون العاقبة للمتقين، حين يفرح المؤمنون بنصر الله. قال: وفي إشعاره تحذير من غلق المساجد وإيصادها وحجرها على القاصدين للتحنت فيها والخلوة بذكر الله، وليس رفع المساجد منعها، بل رفعها أن لا يذكر فيها غير اسم اللة، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}

{ولله المشرق والمغرب}

قال عمر، رضي الله عنه، لما بنى الرحبة: من أراد أن يلغط أو يتحدث أو ينشد شعرا فليخرج إلى هذه الرحبة. وقال، - صلى الله عليه وسلم -: "جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وسل سيوفكم، وبيعكم وشراءكم، وابنوا على أبوابها المطاهر" ففي كل ذلك إنباء بأن من عمل في مساجد الله بغير ما وضعت له من ذكر الله كان ساعيا في خرابها، وناله الخوف في محل الأمن انتهى. {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} فأنبأ تعالى، كما قال الْحَرَالِّي: بإضافة جوامع الآفاق إليه إعلاما بأن الوجهة لوجهه لا للجهة، من حيث إن الجهة له. انتهى. {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقال الْحَرَالِّي: وأبهم المولى ليقع تولي القلب لوجه الله، حين تقع محاذاة وجه الموجه الظاهر للجهة المضافة لله - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: في "شرح الأسماء" والسعة: المزيد على الكفاية من نحوها، إلى أن ينبسط إلى ما وراء؛ امتداد [و] رحمة وعلما، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}. ولا تقع السعة إلا مع إحاطة العلم والقدرة وكمال الحلم، وإفاضة الخير والنعمة، لمقتضى كمال الرحمة، ولمسرى النعمة في وجوه

الكفايات ظاهرا وباطنا، خصوصا وعموما، لم يكد يصل الخلق إلى حظ من السعة، أما ظاهرا فلا تقع منهم ولا تكاد: "إنكم لن تسعوا الناس بمعروفكم" وأما باطنا بخصوص حسن الخلق فعساه بكاد. وقال في تفسيره: قدم تعالى المشرق لأنه موطن بدو الأنوار التي منها رؤية الأبصار، وأعقبه بالمغرب الذي هو مغرب الأنوار الظاهرة، وهو مشرق الأنوار الباطنة، [فيعود التعادل إلى أن مشرق الأنوار الظاهرة هو مغرب الأنوار الباطنة] "والفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان"، وأشار بيده نحو المشرق. "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق" - انتهى. {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قال الْحَرَالِّي: فجاء بالجمع المشعر، كما يقال، بالعقل والعلم، لما تقدم من أنه لاعجمة ولا جمادية بين الكون والمكون، إنما يقع جمادية وعجمية بين آحاد من المقصرين في الكون عن الإدراك التام، والقنوت: ثبات القائم بالأمر على قيامه تحققا بتمكنه فيه - انتهى. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وما أبدع كلية أمر كان أحرى أن يكون ما في طيه وإحاطته وإقامته من الأشياء المقامة به من مبدعه، فكيف يجعل له شبيه منه؟ لأن الوالد مستخرج شبيه بما استخرج من عينه - ذكره الْحَرَالِّي.

{إذا قضى أمرا}

{إِذَا قَضَى أَمْرًا} والقضاء: إنفاذ المقدر، والمقدر ما حد من مطلق المعلوم - قاله الْحَرَالِّي. {كُنْ فَيَكُونُ} قال الْحَرَالِّي: وصيغته تمادي الكائن في أطوار وأوقات وأسنان، يمتد تواليها في المكون إلى غاية كمال - انتهى. {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} قال الْحَرَالِّي: وفيه إشارة لما حصل للعرب من اليقين، كما قال سيد العرب، علي، رضي الله عنه: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا" استظهارا لما بطن من عالم الملكوت، على ظاهر عالم الملك، إكمالا للفهم عن واضح هذا البيان الذي تولاه الله ومن اصطفاه، الذي اشتمل عليه استتباع ضمير "بينا"، وفي استواء العالم وغيره في الجهل بعد البيان، دليل على مضمون التي قبلها في أن ما أراد كان. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} قال الْحَرَالِّي: [والحق] التام المكمل بكلمة "ال" هو استنطاق الخلق عن أمر الله فيهم على وجه أعلى لرسالته العلية الخاصة به عن عموم ما وقعت به رسالة المرسلين من دون هذا الخصوص، وذلك {حَقَّ} منكر، كما تقدم أي عند قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} لأن ما أحق غيبا مما أنزله الله فهو "حق" حتى السحر، وما أظهر غيب القضاء والتقدير وأعلن بإبداء حكمة الله على ما أبداها من نفوذ مشيئته في متقابل ما أبداه من خلقه، فهو {الْحَقُّ} الذي خلقت به السموات والأرض ابتداء، وبه ختمت الرسالة انتهاء، ليتطابق الأول والآخر كمالا؛ حال كونك {بَشِيرًا وَنَذِيرًا}. وقال الْحَرَالِّي: لما أجرى الله سبحانه من الخطاب عن أهل الكتاب والعرب

{ولن ترضى}

نبأ ردهم لما أنزل أولا وآخراً،، ونبأ ما افتروه مما لا شبهة في دعواه، أعرض بالخطاب عن الجميع، وأقبل به على النبي - صلى الله عليه وسلم -، تسلية له، وتأكيدا لما أعلمه به في أول السورة من أن الأمر مجرى على تقديره وقسمته الخلق: بين مؤمن: وكافر، ومنافق، فأنبأه، تعالى، أنه ليس مضمون رسالته أن يدعو الخلق إلى غير ما جبلوا عليه، وأن مضمون رسالته أن يستظهر خبايا الأفئدة والقلوب على الألسنة والأعمال، فيبشر المهتدي والثابت على هدي سابق، وينذر الآبي والمنكر لما سبق إقراره به قبل، فعم بذلك الأولين والآخرين من المبشرين والمنذرين - انتهى. {أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} والجسم، قال الْحَرَالِّي: انضمام الشيء وعظم فيه، ومن معنى حروفه الحجم، وهو التضام وظهور المقدار، إلا أن الحجم فيما ظهر كالأجسام، والجحم - بتقديم الجيم - فيما يلطف كالصوت والنار. {وَلَنْ تَرْضَى} من الرضى، وهو إقرار ما ظهر عن إرادة - قاله الْحَرَالِّي. {مِلَّتَهُمْ} والملة، قال الْحَرَالِّي: الأخذ والعمل بما في العقل هدايته من أعلام المحسوسات. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} قال الْحَرَالِّي: فأظهر إفصاحا ما أفهمته إضافة الملة إليهم، من حيث كانت وضعا بالهوى، لا هداية نور عقل، كما هي في حق الحنيفيين - انتهى. {بَعْدَ الَّذِي} قال الْحَرَالِّي: أشارت كلمة "الذي" إلى معنى قريب من الظاهر

المحسوس، كأنه علم ظاهر، ففيه إنباء بأن أدنى ما جاءه من العلم مظهر لإبطال ما هم عليه في وجوه تلبيسهم وأهوائهم. {حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قال الْحَرَالِّي: وحقية الأمر هي وفاؤه إلى غايته، والإحاطة به إلى جماع حدوده حتى لا يسقط منه شيء، ولا يقصر فيه غاية، إشعارا باشتمال الكتاب على أمر محمد، - صلى الله عليه وسلم -. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قال الْحَرَالِّي: فلبعده بالتقدم كرره تعالى؛ إظهارا لمقصد التئام آخر الخطاب بأوله، وليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلا لما يمكن أن يرد من نحوه في سائر القرآن، حتى كأن الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمة، يجب أن يلحظ القلب بداية تلك الغاية فيتلوها، ليكون في تلاوته جامعا لطرفي البناء، وفي تفهمه جامعا لمعاني طرفي المعنى - انتهى. {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} قال الْحَرَالِّي: أجراها، تعالى، في هذا التكرار على حدها في الأول، إلا ما خالف بين الإيرادين في قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} إلى آخره، ليجمع النبأ في كل واحد من الشفاعة والعدل بين مجموع الردين من الأخذ والقبول، فيكون شفاعتها لا مقبولة ولا نافعة، ويكون عدلها لا مأخوذا ولا مقبولا، وذلك لأن

المعروض للقبول أول ما يؤخذ أخذا بحسبه من أخذ سمع أو عين، ثم ينظر إليه نظر تحقيق في المسموع، وتبصر في المنظور، فإذا صححه التحقيق والتبصير قبل، وإذا لم يصححه رد، وإنما يكون ذلك لمن في حاله حظ صحة ظاهرة لا يثبت مع الخبرة، فأنبأ، تعالى، بمضمون الآيتين - الفاتحة والخاتمة - أن هؤلاء ليس في حالهم حظ صحة البتة، لا في شفاعة ولا في عدل، فلا يقبل ولا يؤخذ إنباء بغرائه عن لبسه ظاهر صحة يقتضي أخذه بوجه ما، ففيه تبرئة ممن حاله حال ما نبئ به عنهم، على ما تقدم معناه في مضمون الآية. وبهذه الغاية انصرف الخطاب عنهم على خصوص ما أوتوا من الكتاب الذي كان يوجب لهم أن يتدينوا بقبول ما جاء مصدقا لما معهم، فاتخذوا لهم بأهوائهم ملة افتعلتها أهواؤهم، فنظم، تعالى، بذلك ذكر صاحب الملة التي يرضاها، وافتتح بابتداء أمره في ابتلائه، ليجتمع عليهم الحجتان: السابقة بحسب الملة الحنيفية

الإبراهيمية، واللاحقة بحسب الدين المحمدي، كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في الصباح: "أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد، - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ملة أبينا إبراهيم، - صلى الله عليه وسلم - " فخص المحمدية بالدين، والإبراهيمية بالملة، لينتظم ابتداء الأبوة الإبراهيمية بطرائف أهل الكتاب، سابقهم ولاحقهم، بنبأ ابتداء الأبوة الآدمية في متقدم قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} الآيات. لينتظم رؤس الخطابات بعضها بببعض، وتفاصيلها بتفاصيلها، وليكون إظهار ذلك في سورة سنام القرآن أصلا لما في سائره من ذلك، وذكر قبل ذلك أن الملة ما يدعو إليه هدى العقل المبلغ عن الله توحيده من ذوات الحنيفيين، وأن الدين الإسلام، والإسلام إلقاء ما باليد ظاهراً وباطنا، وذلك إنما يكون عن بادي غيب التوحيد. انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما وصل الحق، تعالى، بالدعوة العامة الأولى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ذكر أمر آدم، وافتتاح استخلافه، ليقع بذلك جمع الناس كافة في طرفين، في اجتماعهم في أب واحد ولدين واحد - نظم تعالى بذلك وصل خطاب أهل الكتاب بذكر إبراهيم، ليقع بذلك اجتماعهم أيضا في أب واحد، وملة واحدة، اختصاصا بتبعية [الإمامة] الإبراهيمية من عموم تبعية الخلافة الآدمية، تنزيلا للكتاب، وترفيعا للخلق إلى علو اختصاص الحق، فكما ذكر، تعالى، في

{بكلمات فأتمهن}

الابتداء تذكيرا معطوفا على أمور تجاوزها الإفصاح [في أمر آدم، عطف أيضا التذكير بابتداء أمر إبراهيم، عليه السلام، على أمور تجاوزها الإفصاح] هي أخص من متجاور الأول، كما أن إفصاحها أخص من إفصاحها، وأعلى رتبة، من حيث إن الخلق والأمر مبدوء من حد، لم يزل ولا يزال، يتكامل إلى غاية ليس وراءها مرمى، فقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} - انتهى. {بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} والإتمام: التوفية لما له صورة تلتئم من أجزاء وآحاد. قاله الْحَرَالِّي. {إِمَامًا} والإمام: ما يتبع هداية إلى سداد. قاله الْحَرَالِّي. {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} والذرية: مما يجمع معنى الذر والذرء، والذري مختلف وزنه على وجوه اشتقاقه، فيكون فعلولة كأنه ذرورة، ثم خفف بقلب الراء ياء استثقالا للتضعيف، ثم كسر ما قبل الياءين تحقيقا لهما، لأنه اجتمع بعد القلب واو وياء سبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، أو تكون

{مثابة للناس}

فعلية من الذر منسوبا، ومن الذرء مخفف فعولة، بقلب الهمزة ياء، ثم الواو ياء، لاجتماعها معها سابقة إحداهما بالسكون ثم الإدغام، أو فعلية، إن يكن في الكلام، لما فيه من ثقل اجتماع الضم والكسر. قاله الْحَرَالِّي وفيه تصرف. {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} قال الْحَرَالِّي: وهو مفعلة من الثوب، وهو الرجوع، تراميا إليه بالكلية، وفي صيغة المفعلة دوام المعاودة مثابرة. {وَأَمْنًا} والأمن: براءة عيب من تطرق أذى إليه. قاله الْحَرَالِّي. {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} والبيت موضع المبيت المخصوص من الدار المخصوصة من المنزل، المختص من البلد. قاله الْحَرَالِّي. {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} والعكوف: الإقبال على الشيء وملازمته والاقتصار عليه. والطواف التحليق بالشيء في غيب، أو لمعنى غيب. قاله الْحَرَالِّي. {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} قال الْحَرَالِّي: وفي ذكر الركوع تخصيص للعرب الذين إنما شرع الركوع في دينهم، وفي ذلك تبكيت لمن أخرج المؤمنين ومنعهم من البيت، وفي تكرير تفصيل هذه الآيات "بإذ" تنبيه على توبيخهم بترك دينه، وهو الخليل، واتباع من لا يعلم، وهو العدو. {الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} قال الْحَرَالِّي: عدد، تعالى، وجوه عنايته بسابقة العرب في هذه الآيات، كما عدد وجوه نعمته على بني إسرائيل في سابقة الخطاب، فكانت هذه في إقامة دين الله، وكانت تلك في محاولة مدافعته، ليظهر بذلك تفاوت ما بين الاصطفاء والعنابة. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} قال الْحَرَالِّي: لما تحقق مرجو الإيمان في ذريته في قوله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} طلب التكملة بإسلام الوجه، والمسألة له ولابنه، ولمن

{إلا من سفه نفسه}

رزق الإيمان من ذريته وذرية ابنه، فإن الإسلام لما كان ظاهر الدين، كان سريع الانثلام لأجل مضايقة أمر الدنيا، وإنما يتم الإسلام بسلامة الخلق من يد العبد ولسانه، والإلقاء بكل ما بيده لربه، مما ينازع فيه وجود النفس ومتضايق الدنيا، ولذلك هو مطلب لأهل الصفوة في خاتمة العمر، ليكون الخروج من الدنيا عن إلقاء للحق، وسلامة للخلق. {وَأَرِنَا مَنَاسِكَ} والمنسك مفعل من النسك، وهو مايفعل قربة وتدينا، تشارك حروفه حروف السكون. قاله الْحَرَالِّي. {وَيُزَكِّيهِمْ} والتزكية: إكساب الزكاة، وهي نماء النفس بما هو لها بمنزلة الغذاء للجسم. قاله الْحَرَالِّي. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لأن العزة، كما قال الْحَرَالِّي: الغلبة الآتية على كلية الظاهر والباطن. {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال الْحَرَالِّي: والسفاهة: خفة الرأي في مقابلة ما يراد منه من المتانة والقوة، وفي نصب النفس إنباء بلحاق السفاهة بكلية ذي النفس، لأن من سفهت نفسه اختص السفه بها، ومن سفه نفسه - بالنصب - استغرقت السفاهة ذاته وكليته، وكان بدء ذلك وعاديته من جهة نفسه، يفهم ذلك نصبها، وذلك لأن الله، عز وجل، جعل النفس مبدأ كل شر أبداه في ذات ذي النفس، فإنه، تعالى، يعطي الخير بواسطة وبغير واسطة، ولا يحذى الشر إلا بواسطة نفس، ليكون في ذلك حجة الله على خلقه، وإنما استحق السفاهة من يرغب عن ملة إبراهيم لظهور

شاهدها في العقل وعظيم بركتها في التجربة، لأن من ألقى بيده لم يؤاخذ في كل مرتبة من رتب الدنيا والآخرة، فلا عذر لمن رغب عن ذلك، لظهوره في شاهدي العقل والحس، اللذين هما أظهر حجج الله على خلقه. {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} - انتهى. {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال الْحَرَالِّي: لأنهما متناوبان في الأديان، تناوب المتقابلات في الأجسام. {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} قال الْحَرَالِّي: ففيه كمال لسنن محمد، - صلى الله عليه وسلم -، في ملته بملة إبراهيم، عليه السلام، الذي هو الأول لمناسبة ما بين الأول والآخر، وقد ذكر أن الله ما أظهره نور العقل من الهدي في ظلم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا، فكان أتم ما أبداه نور العقل ملة إبراهيم. {حَنِيفًا} وقال الْحَرَالِّي: الحنيف: المائل عن متغير ما عليه الناس عادة، إلى ما تقتضيه الفطرة، حنان قلب إلى صدق حسه الباطن. {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال الْحَرَالِّي: فيه إنباء بتبرئة كيانه من أمر الشرك في ثبت الأمور والأفعال والأحوال، وفي إفهامه أنه من أمر محمد، - صلى الله عليه وسلم -، في الكمال الخاتم، كما أن محمدا، - صلى الله عليه وسلم -، منه في الابتداء الفاتح، قال، تعالى، لمحمد، - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي} إلى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} فهذه أولية رتبة الكمال التي هي خاصة به، ومن سواه فهو منه فيها، لأن نفي الشيء يفهم البراءة واللحاق بالمتأصل في مقابله، فمن لم يكن مثلا من الكافرين، فهو من المؤمنين،

{وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق}

لأنه لو كان هو المؤمن لذكر بالصفة المقابلة لما نفى عنه، لما في ذلك من مغني إثبات الوصف ونفي مقابله، ومثل هذا كثير الدور في خطاب القرآن، وبين من له الوصف ومن هو منه تفاوت ما بين السابق واللاحق في جميع ما يرد من نحوه، يعني ومثل هذا التفاوت ظاهر للفهم، خفي عن مشاهد هذا العلم، لأن العلم من العقل بمنزلة النفس، والفهم من العقل بمنزلة الروح، فللفهم مدرك لايناله العلم، كما أن للروح معتلي لاتصل إليه النفس، لتوجه النفس إلى ظاهر الشهود، ووجهة الروح إلى على الوجود - انتهى. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} قال الْحَرَالِّي: فلقن العرب الاميين المحسودين على ما آتاهم الله من فضله، نسق ما أجرى من لفظ بني إسرائيل في عهده لهم، فكان فيه وصل العرب الذين هم أبناء إسماعيل بإبراهيم وبنيه، وقطع بني إسرائيل عنهم، وفيه إظهار لمزية فضل الله على العرب، حين يلقنهم ولا يستنطقهم، فيقصروا في مقالهم، فأغناهم بما لقنهم، فتلوه عما كانوا يقولونه لو وكلوا إلى أنفسهم فسكنهم ربهم، فأقرأهم ما يصلح من القول لهم، وقال: {وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} تكملة لما تقدم في العهد السابق - انتهى. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} قال الْحَرَالِّي: فأجرى على ألسنة الذين آمنوا من هذه الأمة تلقينا لهم ما أجراه على ألسنة الأسباط قولا منهم، فكانت العرب أحق بهم من أبناء إسرائيل بما استووا في الدين، وإن افترقوا في نسب الإسرائيلية - انتهى.

{فسيكفيكهم الله}

{وَإِنْ تَوَلَّوْا} قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بإيمان مؤمن منهم، وتولي متول منهم، لأن الله، تعالى، إذا صنف الخطاب كان نبأ عن تصنيف الكيان، فهو، تعالى، لا يخرج نبأه على غير كائن، فيكون نبأ لا كون له، إنما ذلك من أدنى أوصاف بعض الخلق. {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} والكفاية: إغناء المقاوم عن مقاومة عدوه بما لا يحوجه إلى دفع له. قاله الْحَرَالِّي. {صِبْغَةَ اللَّهِ} وجعل الْحَرَالِّي: صبغة الله أي هيئة صبغ الملك الأعلى التي هي حلية المسلم وفطرته، كما أن الصبغة حلية المصبوغ، حالا تقاضاها معنى الكلام، وعاب على النحاة كونهم لا يعرفون الحال إلا من الكلم المفردة، ولا يكادون يتفهمون الأحوال من جملة الكلام. وقال: الصبغة تطوير معاجل بسرعة وحيه. وقال: فلما كان هذا التلقين تلقينا وحيا سريع التصيير من حال الضلال المبين، الذي كانت فيه العرب في جاهليتها، إلى حال الهدي المبين، الذي كانت فيه الأنبياء في هدايتها، من غير مدة، جعله، تعالى، صبعة كما يصبغ الثوب في الوقت، فيستحيل من لون إلى لون، في مقابلة ما يصبغه أهل الكتاب بأتباعهم المتبعين لهم في أهوائهم، في نحو الذي يسمونه "الغطاس". {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ} أي الذي له الكمال كله {صِبْغَةً} لأنها صبغة قلب لا تزول لثباتها، بما تولاها الحفيظ العليم، وتلك صبغة جسم لا تنفع، وفيه إفهام بما

{جعلناكم أمة}

يختص به الذين آمنوا من انقلاب جوهرهم نوراً، كما قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم اجعلني نورا" فكان ما انقلب إليه جوهر الأيمة انصبغت به قلوب الأمة {وَنَحْنُ لَهُ} [أي خاصة] {عَابِدُونَ} تكملة لرد الخطاب على خطاب عهد إسرائيل حين قال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} إلا أن العبادة في عهد إسرائيل سابقة، والإسلام ختم. والإسلام في هذا التلقين بدء، لتقع العبادة شكراً - يختص برحمته من يشاء - وجاء به بالوصف الثابت الدائم، ففيه إشعار بأن أحداً منهم لا يرتد عن دينه سخطة له، بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه، وهو حظ عام من العصمة الثابت خاصها للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، في على أمره - انتهى. {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} قال الْحَرَالِّي: القبلة: ما تجعل قبالة الوجه، والقبل ما أقبل من الجسد في مقابلة الدبر لما أدبر منه. {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً} قال الْحَرَالِّي: من الأم، وهو تتبع الجملة والعدد بعضها لبعض إلى أن ينتهي لإمام أول، فالإمام والأمة كالمتقابلين، الإمام قاصد أمما، والأمة قاصدة إمامها الذي هو أممها، والأمام ما بين اليدين بمشهد الحس وسبيل القصد - انتهى. {الْقِبْلَةَ} قال الْحَرَالِّي: في جملته إنباء بأن القبلة مجعولة أي مصيرة عن حقيقة وراءها ابتلاء بتقليب الأحكام ليكون تعلق القلب بالله الحكيم، لا بالعمل المحكم، فالوجهة الظاهرة، ليكون ذلك علما على المتبع عن صدق، فيثبت عند

{قد نرى تقلب وجهك}

تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله، والتوجه له أيان ما وجهه، وعلى المجيب عن غرض ظاهر ليس يسنده صدق باطن فيتعلق من الظاهر بما لا يثبت عند تغيره - انتهى. {إِلَّا لِنَعْلَمَ} وقال الْحَرَالِّي: لنجعل علما ظاهرا على الصادق وغيره، يشمل العلم به من علم الغيب إلا عن علم، بما ينبىء عنه نون الاستتباع، فهذا وجهه ووجه ما يرد من نحوه في القرآن والسنة - انتهى. {لِيُضِيعَ} قال الْحَرَالِّي: مما منه الضياع والضيعة، وهو التقريط فيما له غناء وثمرة، إلى أن لايكون له غناء ولا ثمرة. {لَرَءُوفٌ} فإن الرأفة، كما قال الْحَرَالِّي في التفسير: عطف العاطف على من [لم] يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم. قال: والرحمة: تعم من لا صلة له بالراحم. وقال في "شرح الأسماء": إن المرؤوف به تقيمه عناية الرأفة حتى تحفظ بسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو لأجله على علنه - انتهى. {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} قال الْحَرَالِّي: فيه نبأ إسماع لمن يرتقب أمرا أو خبرا يفيد مع المستقبل ندرة الوقوع، ففيه إعلام بأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لما انطوى ضميره

وفي قوله: {ترضاها}

على إرادة التوجه للكعبة التي هي قيام للناس، حين كان هو رسولا لكافة الناس، وكان، - صلى الله عليه وسلم -، على ملة أبيه إبراهيم، عليه السلام، يكتفي بعلم الله عن مسألته، لأن الدعاء للطالبين قضاء حاجة، وللمكتفين بعلم الله عبادة - أجاب الله تقلب وجهه على قلة وقوع ذلك منه، على ما تشعر به "قد" بالتقليل للتقلب والرؤية. {فِي السَّمَاءِ} فيه إعلام بما جعله من اختصاص السماء بوجه الداعي، كما اختص غيب القلوب بوجهة المصلي، فالمصلي يرجع إلى غيب قلبه، ولا يرفع طرفه إلى السماء "لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم" والداعي يتوجه إلى السماء ويمد يديه، كما قال: "حتى رأينا عفرة إبطيه" انتهى ملخصا. {قِبْلَةً} قال الْحَرَالِّي: نكرها لما كان من ورائها قبلة التوجه العام في تنقله، فتلك هي القبلة التي هي توجه لوجه الله، لا توجه لمنظر باد من خلق الله، فكان متسع القبلة ما بين اختصاص القبلة الشامية إلى قيام القبلة الحجازية، إلى إحاطة القبلة العامة الآفاقية. وفي قوله: {تَرْضَاهَا} إنباء بإقراره للتوجه لهذه القبلة، لأن الرضى وصف المقر

{من بعد ما جاءك من العلم}

لما يريد، فكل واقع بإرادة لايكون رضى إلى أن يستدركه الإقرار، فإن تعقبه الرفع والتغيير، فهو مراد غير مرضى - انتهى. {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال الْحَرَالِّي: سماه الله حراما لحرمته، حيث لم يوطأ قط إلا بإذنه، ولم يدخل إلا دخول تعبد وذلة، فكان حراما على من يدخله دخول متكبر أو متحير - انتهى. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قال الْحَرَالِّي: بالياء أي التحتانية إعراضا عنهم، وبالتاء إقبالا عليهم، ففيه إنباء بتماديهم على سوء أحوالهم في رتبتين: في متماد على سوء هدد فيه لما أقبل عليه، وفي متماد على أسوأ منه أوجب في تهديده الإعراض عنه، والإقبال على غيره، ممن لم يصل في السوء والمكائدة إلى ما وصل إليه المعرض عنه. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} قال الْحَرَالِّي: فأبهمه ولم يكن نحو الأول الذي قال فيه: {بَعْدَ الَّذِي} لظهور ما ذكر في الأول، وخفاء ما وقعت إليه الإشارة في هذا، وجاءت فيه "من" التي هي لابتداء من أولية، لخفاء مبدأ أمر ما جاء من العلم هنا، وظهور ذلك الأول، لأن ذلك كان في أمر الملة التي مأخذها العقل، وهذه في أمر التوجيه الذي مأخذه الدين والغيب. قال الْحَرَالِّي: قال تعالى: {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} على حد ما ذكر من أنه من لمح لمحا ما وصف كان من الموصوف به بألطف لطف، ووصف كل رتبة بحسبها، فما يرفع عنه النبي، - صلى الله عليه وسلم -، من باب إظهار رغبته وحرصه على هداية الخلق الذي جبل على الرحمة فيه، وطلب المسامحة في التقاصر عنه، نظرا منه إلى حق الله، تعالى، ومضمون وصية الله، تعالى، حين أوصاه بغير ترجمان ولا واسطة، أن يصفح عمن

ظلمه، ويصل من قطعه، فكان، - صلى الله عليه وسلم -، يطلب وصل المنقطع عنه، حتى يعلن عليه بالإكراه في ترك ذلك، وودعه فيجيبه حكما، وإن كان معه علما، ومنه قوله: "اللهم [اغفر] لقومي فإنهم لا يعلمون" ففي طي كل خطاب له يظهر الله، عز وجل، فيه إكراهه على أخذ حكم الحق وإمضاء العدل، أعظم مدحة له، والتزام لوصيته إياه، فهو ممدوح بما هو مخاطب بخطاب الإكراه على إمضاء العدل، أعظم مدحة له، والاختصار في أمر رحمته للعالمين، فرفعه الله أن يكون ممن يضع رحمة في موضع استحقاق وضع النقمة، فذلك الذى يجمع معناه بين متقابل الظالمين فيمن يضع النقمة موضع الرحمة، فيكون أدنى الظلم، أو من يضع الرحمة في موضع النقمة فيكون منه بتغيير الوضع، بوضع الفضل موضع العدل، وعلى ذلك جميع ما ورد في القرآن من نحو قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي في إمضاء العدل - {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} في طلب الفضل لأهل العدل، فإن الله يمضي عدله كما يفيض فضله، وكذلك قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} فيه إظهار لمدحته بحرصه على تألف الأبعدين، ووصل القاطعين، حتى ينصرف عنهم بالحكم وإشادة الإكراه عليه في ذلك، فلا ينصرف عن حكم الوصية إلى حكم

{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}

الكتاب بالحق إلا عن إشادة بإكراهه عليه، فهو محمود بما هو منهى عنه، لأن خطابه أبدا في ذلك في القرآن فيما بين الفضل والعدل، وخطاب سائر الخلق جار فيما بين العدل والجور، فبين الخطابين ما بين درج العلو ودرك السفل في مقتضى الخطابين المتشابهين في القول، المتباينين في العلم - انتهى. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ولذلك قال الْحَرَالِّي في إنبائه تحققهم بعيان ما ذكر لهم من أمره، لأن العارف بالشيء هو الذي كان له به أدراك ظاهر بأدلة، تم أنكره لاشتباهه عليه، ثم عرفه لتحقق ذكره، لما تقدم من ظهوره في إدراكه، فلذلك معنى المعرفة لتعلقها بالحس، وعيان القلب أتم من العلم المأخوذ عن علم بالفكر، وإنما لم تجز في أوصاف الحق لما في معناها من شرط النكرة، ولذلك يقال: المعرفة حد بين علمين: علم علي تشهد الأشياء ببواديها، وعلم دون يستدل على الأشياء بأعلامها. وفيه أي التشبيه بالأبناء إنباء باتصال معرفتهم به كيانا كيانا إلى ظهوره، ولو لم يكن شاهده عليهم إلا ارتحالهم من بلادهم من الشام إلى محل الشدائد من أرض الحجار لارتقابه وانتظاره {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} وأجرى المثل بذكر الأبناء لاشتداد عناية الوالد بابنه لاعتلاقه بفؤاده، ففيه إنباء بشدة اعتلاقهم به قبل كونه {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ} أي أهل الكتاب {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي يخفونه ولا يعلنونه. ولما كان لا يلزم من ذلك علمهم به، ولا يلزم من علمهم به استحضاره عند الكتمان قال: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي أنه حق، وأنهم آثمون بكتمانه، فجعلهم أصنافا: صنفا عرفوه فاتبعوه، وصنفا عرفوه فأنكروه، كما في إفهامه، وفريقا عرفوه فكتموه، وفي تخصيص

{ولكل وجهة هو موليها}

هذا الفريق بالعلم إشعار بفرقان ما بين حال من يعرف، وحال من يعلم، فلذلك كانوا ثلاثة أصناف: عارف ثابت، وعارف منكر هو أرداهم، وعالم كاتم لاحق به. وفي مثال يكتمون ويعلمون إشعار بتماديهم في العلم، وتماديهم في الكتمان، ولأن هذا المجموع يفيد قهر الحق للخلق بما شاء منهم من هدي وفتنة، لتظهر فيها رحمته ونقمته، وهو الحق الذي هو ماضي الحكم، الذي جبلة محمد، - صلى الله عليه وسلم -، تتقاضى التوقف فيه، لما هو عليه من طلب الرحمة ولزوم حكم الوصية، خاطبه الحق بقوله: {الْحَقُّ} أي هذا التفريق والتصنيف، الموجب لعمارات درجات الجنة، وعمارات دركات النار، هو الحق، أو يكون المعنى: الحق الذي أخبرت به في هذه السورة، أو الآيات، أو جنس الحق، كائن {مِنْ رَبِّكَ} المحسن إليك بطرد ما يضر أتباعه، كما هو محسن إليك بالإقبال بمن ينفع أتباعه {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} فيما فسر نحوه من اشتباه المرتبتين: الواقعة منه فيما بين الفضل والعدل، والواقعة من غيره فيما بين الجور والعدل - انتهى. وفيه زيادة وتغيير. قال الْحَرَالِّي: والممتري: من الامتراء، وهو تكلف المرية، وهي مجادلة تستخرج السوء من خبيئة المجادل، من امتراء ما في الضرع، وهو استئصاله حلبا، ولأنه حال الشاك ربما أطلق عليه. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} قال الْحَرَالِّي: في قراءة موليها - بالكسر - إشعار باختلاف جبلات أهل الملل، وإقامة كل طائفة منهم بما جبلت عليه، وفي قراءة

مولاها إظهار حقيقة ذلك، وأنه ليس ذلك منهم، بل بما أقامهم فيه المولى لهم حيث شاء، وأبهم فيه المولى لما كان في طوائف منهم حظ هوى، وهو من التولية، وهو ما يجعل مما يلي الجسد، أو القصد أي يكون ميالا بين يديه، ملاصقا له - انتهى. قال الْحَرَالِّي: من حيث يرد الخلق في البعث إلى موطن القبلة السابقة من أرض الشام، فيكون موطن الحق والعدل أولى القبلتين بذلك، لأن أعلى القبلتين موطن أمنة، من حيث إن من دخله كان آمنا، فكان المحشر إلى قبلتهم الأولى التي هي بداية الأمر، ليطابق الآخر من القبلتين الأولى، من حيث كان الآخر في الدنيا للفضل، والأول في الآخرة للعدل، ومن الدعوتين، من حيث كانت الدعوة الأولى في الأول حكما وعلما، والإتيان الآخر في العقبى قهراً وملكا. قال الْحَرَالِّي: ومن التفت بقلبه [في صلاته إلى غير ربه لم تنفعه وجهة وجه بدنه إلى الكعبة، لأن ذلك حكم حق، حقيقته توجه القلب، ومن التفت بقلبه -] إلى شيء من الخلق في صلاته فهو مثل الذي استدبر بوجهه عن شطر قبلته، فكما يتداعى الإجزاء الفقهي باستدبار الكعبة حسا، فكذلك يتداعى القبول باستدبار وجه القلب عن الرب غيبا، فلذلك أقبل هذا الخطاب على الذين آمنوا والذين أسلموا، لأنه هو، - صلى الله عليه وسلم -، مبرأ عن مثله - انتهى. {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} قال الْحَرَالِّي: وذكر في أمته بالكون، لا بالخروج، إشعارا

{فولوا وجوهكم}

بتقاصر الأمة عن علو أحوال الأيمة، وأن حال الأمة في خلوتهم كحالهم في جلوتهم - انتهى. {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} قال الْحَرَالِّي: وفيه إشعار يلحظ صحة صلواتكم فرادى وفي بيوتكم، كما قال: "إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت في أهلك" بخلاف هو، - صلى الله عليه وسلم -، فإن صلاته لاتقع إلا جمعا، من حيث إنه يصلي لهم، وإنه إمام لاتقع صلاته فذا - انتهى. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قال الْحَرَالِّي: في طيه بشرى بفتح مكة واستيلائه على جزيرة العرب كلها، وتمكنه بذلك من سائر أهل الأرض، لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين فتح الله بهم له مشارق الأرض ومغاربها، التي انتهى إليها ملك أمته - انتهى. {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} قال الْحَرَالِّي: وفي كلمة "لعل"، على ما تقدم، إيهام يشعر بتصنيفهم صنفين: مهتد للثبات على السنة، ومتغير فيه بوجه من وجوه البدعة، لما ذكر من أن ماهو للخلق نردد فهو من الحق تقسيم وإبهام في تعيين ذلك التقسيم والتصنيف، ففيه إعلام لقوم بالاهتداء الدائم، بما تفهمه صيغة الدوام، وإشعار

{ويزكيكم}

بانقطاع قوم عن ذلك التمادي، بما يفهمه ماهو للخلق بموضع الترجي، وفي طيه إشعار باستبدادهم بالأمر بعد وفاة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وانقسامهم فيه بين ثابت عليه، دائم الاهتداء فيه، ومتغير عنه، كما ظهر فيما كان من ثبات من ثبت بعده، وردة من أرتد - انتهى. {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} قال الْحَرَالِّي: وفيه أخذهم بما هو في طباعهم من إيثار أمر السمع على أمر العين الذي عليه جبلت العرب، لأنها أمة تؤثر مسموع المدح والثناء من الخلق على ما تناله من الراحة، فتجهد في طلب الثناء من الخلق ما لم تجهد أمة غيرها، فكيف بها إذا كان ما دعيت إليه ثناء الحق عليها، وتخليد ذلك لها في كلام ربها، فتنال بذلك ماهو فوق مقصودها، مما جبلت عليه من إيثار السماع على العين، بخلاف ما عليه سائر الأمم. ثم قال: وفيه إغناء العرب عن أعمال أفكارها في تكسب العلم والحكمة، لتستخرج منه أحكاما، فكان في تلاوة الآيات عليهم إغناؤهم عن الاستدلال بالدلائل، وأخذ الأمور بالشواهد، وتولى الله ورسوله تعليمهم ليكون شرف المتعلم بحسب علاء من علمه، ففضل علماء العرب على سائر العلماء كفضل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، على معلمهم ممن سواه، - صلى الله عليه وسلم - انتهى. {وَيُزَكِّيكُمْ} قال الْحَرَالِّي: أنبأهم بأن هذا التنزيل لأنفسهم بمنزلة الغذاء للأبدان، فكما تتنامى أجسادهم بماء المزن، ومامنه، فكذلك تتنامى أنفسهم بأحكام الكتاب وتلاوة

{ويعلمكم الكتاب}

الآيات، وذلك زكاؤها ونماؤها، لتتأكد فيهم رغبتهم، لأن للمغتذي رغبة في الغذاء إذا تحققه، فمن علم أن التزام الأحكام غذاء لنفسه حرص عليها، ومتى نمت النفس وزكت قويت على ما شأنها أن تناله قواها، كما أن البدن إذا قوى بالغذاء تمكن مما شأنه عمله - انتهى. {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} قال الْحَرَالِّي: أي الفقه فيه. {وَالْحِكْمَةَ} قال الْحَرَالِّي: فخص تعليم الحكمة من عموم تعليم الكتاب، لأن التوسل بالأحكام جهد عمل، والتوسل بعلم الحكمة يسر منال عقل، لأن الحكمة منال الأمر الذي فيه [عسر، بسبب فيه] يسر، فينال الحكيم بحكمته، لاطلاعه على إفضاء مجعول الأسباب بعضها لبعض، مما بين أسباب عاجل الدنيا ومسببات آجل الآخرة - ما لا يصل إليه جهد العامل الكادح، وفي تكملة الكتاب والحكمة بكلمة "ال" إنهاء إلى الغاية الجامعة لكل كتاب وحكمة، بما يعلمه الأولون والآخرون. ثم قال: وبذلك كان، - صلى الله عليه وسلم -، يتكلم في علوم الأولين بكلمات يعجز عنها إدراك

الخلق، نحو قوله، - صلى الله عليه وسلم -: "استاكوا بكل عود، ما خلا الآس والرمان، فإنهما يهيجان عرق الجذام" لأن الخلق لا يستطيعون حصر كليات المحسوسات، غاية إدراكهم حصر كليات المعقولات، ومن استجلى أحواله، - صلى الله عليه وسلم -، علم اطلاع حسه على إحاطة المحسوسات، وإحاطة حكمها وألسنتها؛ ناطقها وأعجمها حيها وجمادها جمعا، لما في العادة حكمة ولما في خلق العادة آية. ثم قال: فعلى قدر ما وهب الله، سبحانه وتعالى، العبد من العقل يعلمه من الكتاب والحكمة، يؤثر عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: "كان رسول الله، يكلم أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، فكأنما يتكلمان بلسان أعجمي، لا أفهم مما يقولان شيئا". ولما كان انتهاء ما في الكتاب عند هذه الغاية أنبأ تعالى أن رسوله، - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم مالم يكن في كتابهم مثال علمه، ففيه إشعار بفتح وتجديد فطرة يترقون لها إلى مالم يكن في كتابهم علمه - انتهى.

{إن الله مع الصابرين}

ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم، ولوقائعهم ولأيامهم، جعل، سبحانه وتعالى، ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون، كما جعل كتابه عوضا من أشعارهم، وهز عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} قال الْحَرَالِّي: وأيسر الصبر صبر النفس عن كسلها، بأخذها بالنشاط فيما كلفت به، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فمتى يسر الله، سبحانه وتعالى، عليها الجد والعزيمة جعل لها فيما كانت تصبر عليه في الابتداء الاستحلاء فيه، وخفت عنها وظيفة الصبر، ومتى لم تصبر في كسلها، وعلى جدها تدنست فنالها عقوبات يكون الصبر عليها أشد من الصبر الأول، كما أن [من] صبر عن حلو الطعام لم يحتج أن يصبر على مر الدواء، فإن تحملت الصبر على عقوبات ضياع الصبر الأول، تداركها نجاة من اشتداد العقوبة عليها، وإن لم تتصبر على تلك العقوبات وقعت في مهالك شدائد العذاب، فقيل لأهلها: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ}. ثم قال: فبداية الدين صبر، وخاتمته يسر، فإن من كان من الله، سبحانه

{أموات بل أحياء}

وتعالى، معه رفع عنه مرارة الصبر، بوضع حلاوة الصحبة التي تشعر بها كلمة [مع]- انتهى. قال الْحَرَالِّي: ولما كان الصبر لله إنما هو حمل النفس على ما تعهد فيه كرهها، أنبأهم الحق، تعالى، أن الصبر له ليس على المعهود، وأنه يوجد فيه عند تجشمه حلاوة لذة الحياة، وإن كان ذلك مما لا يناله شعور الذين آمنوا، لخفائه عن إدراك العقول، فأنبأهم بما يحملهم على تجشم الصبر في الجهاد في سبيل الله فقال: {وَلَا تَقُولُوا} عطفا على متجاوز أمور تقتضيها بركة الجهاد - انتهى. {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} قال الْحَرَالِّي: فكأنه، تعالى، ينفي عن المجاهد مثال المكروه من كل وجه، حتى في أن يقال عنه إنه ميت، فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر. ثم قال: وأبهم أمرهم في هذه السورة، ونفى عنهم القول، لأن هذه سورة الكتاب المدعو به الخلق، وصرح بتفضيله في آل عمران، لأنها سورة قيام الله الذي به تجلى الحق، فأظهر غيب أمره في سورة إظهار أمره، وأخفاه في سورة ظاهر دعوتهم - انتهى. {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} قال الْحَرَالِّي: قال ذلك نفيا بكلمة "لا " ومثال الدوام، ففيه

{ولنبلونكم}

إعلام بأن الذين آمنوا ليس في رتبتهم الشعور به أصلا، إلا أن يرقيهم الله بنماء سن القلوب، وصفاء الأنفس، إلى ما فوق ذلك من سن المؤمنين إلى سن المحسنين، الذين يشهدون من الغيب مالا يشهده من في رتبة الذين آمنوا - انتهى. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} قال الْحَرَالِّي: فالصبر الأول أي في: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} عن الكسل وعلى العمل، والصبر الثاني أي في: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} على مصائب الدنيا، فلذلك انتظم بهذه الآية؛ آية: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} عطفا وتجاوزا لأمور يؤخذ بها من لم يجاهد في سبيل الله ضعفا عن صبر النفس عن كره القتال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} فمن لم يحمل الصبر الأول على الجهاد أخذ بأمور هي بلايا في باطنه، تجاوزها الخطاب فانعطف عليها {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} وهو حذر النفس من أمور ظاهرة تضرها {وَالْجُوعِ} وهو غلبة الحاجة إلى الغذاء على النفس، حتى تترامى لأجله فيما لا تتأمل عاقبته، فإذا كان على غير غلبة مع حاجة فهو الغرث، فلذلك في الجوع بلاء ما، والغرث عادة جارية. وقال أيضا: الجوع: فراغ الجسم عما به قوامه، كفراغ النفس عن الأمنة التي لها قوام ما، فأفقدها القوامين: في ذات نفسها بالخوف، وفي بدنها بالجوع، لما لم تصبر على كره الجهاد، وقد كان ذلك لأهل الصبر عليه أهون من الصبر على الخوف

والجوع. وإنما كان أول نائلهم من هذا الابتلاء الخوف، حيث خافوا الأعداء على أنفسهم، فجاءهم إلى مواطنهم، من لم يمش إلى طبيبه ليستريح، جاء الطبيب لهلاكه، وشتان بين خوف الغازي للعدو في عقره، وبين خوف المحصر في أهله، وكذلك شتان بين أرزاق المجاهد وتزويده، و {خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} في سبيله لجهاده، وبين جوع المتخلف في عيلته - انتهى. {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ} قال الْحَرَالِّي: لأن ذلك عرف استعمالهم في لفظ المال. وقال أيضا: [والمال] ماهو للمتمول بمنزلة الجزء منه عنده لماله لذلك منه، تضاعف، تعالى، مثال البلاء في ذوات أنفسهم وأبدانهم، ليقطع عنهم راحة تطلع الكفاية من الأموال، في مقابلة ما ينال المجاهد من الغناء والرزق، فالمجاهد آمن في جيشه، متزود في رحله، غانم من عدوه، والمتخلف خائف في أهله، جائع في عيلته، ناقص المال من ذات يده - انتهى. {وَالْأَنْفُسِ} قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بأن من جاهد كثر عدده ونما ولده، وأن من تكاسل قل عدده، ودرج خلفه، وفي ضمنه إشعار بمنال

المتكاسل حواصد من جوارف الآجال من الوباء والطاعون وغيره - انتهى. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان هذا البلاء في تكاسل من الصبر الأول، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وكان مما يتداركه صبر عليه، تدارك، تعالى، هذه الرتبة ببشرى الصابرين من هلكة ما ينال من لم يصبر على هذه المصيبة وضجر منها وتسخط فيها، فكان للصابر الأول الصحبة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. ولما كان للصابر الثاني البشرى بالسلامة من عقوبة الآخرة ومنالهم لما نولهم، وشتان بين من كان الله معه، وبين من قيل لنبيه: بشره بصبره على بلاء التخلف. ولما كان للأنفس مدخل في تحمل الصبر شرفا وحفيظة على الأحساب والرتب الدنيوية - خلص، تعالى، الصابرين له من الصابرين تطبعا وتحاملا فقال: {الَّذِينَ إِذَا

أَصَابَتْهُمْ} من الإصابة وهو وقوع المسدد على حد ما سدد له من موافق لغرض النفس أو مخالف لها. "مصيبة" خصيصة، عرف الاستعمال بما لا يوافق تكرها لخصوص ذكره - انتهى. {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} قال الْحَرَالِّي: لتكون ذلك غاية في إسلام ثمراتهم وأموالهم وما نقصوا من أنفسهم، فحين لم يجاهدوا في سبيل الله فأصابتهم المصائب كان تلافهم أن يسلموا أمرهم لله ويذكروا مرجعهم إليه، ويشعروا أن ما أخذ من أنفسهم وما معها ذخيرة عنده، فيكون ذلك شاهد إيمانهم ورجائهم للقائهم، فتقع مجاهدتهم لأنفسهم في ذلك بموقع جهادهم في سبيل الله الذي فاتهم، وجعلها جامعة مطلقة لكل من أصابته مصيبة فاسترجع بها ثبت أجره بما أصيب، وتلاقاه الله بالاهتداء إلى ما تقاصر عنه قبل ذلك، قال: {أُولَئِكَ} خطابا لنبيه، واستحضارا لهم بمحل بعد عن قربه وغيبة عن إقباله عليهم، قال: {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} صلاة الله على عباده هي إقباله عليهم بعطفه؛ إخراجا لهم من حال ظلمة إلى رفعة نور، قال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فبصلاتهم عليهم إخراجهم من جهات ما أوقعهم في وجوه تلك

{إن الصفا والمروة من شعائر الله}

الابتلاءات، فلذلك كان ذلك صلوات بالجمع، ولم يكن صلاة، ليعدد ما أصابهم منه عدد تلك الابتلاءات. وفي قوله تعالى: {مِنْ رَبِّهِمْ} إشعار بتدريجهم في ذلك بحكم تربية وتدارك الأحوال ما أصابهم، قال تعالى: {وَرَحْمَةٌ} إفرادا لمنالها لهم بعد متقدم الصلوات عليهم، فنالتهم الرحمة جمعا، حين أخرجتهم الصلوات أفرادا. قال تعالى: {وَأُولَئِكَ} إشارة إلى الذين نالتهم الصلوات والرحمة، فأبقاهم مع ذلك في محل بعد في الحضرة، وغيبة في الخطاب، {هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فجاء بلفظ "هم " إشعار بصلاح بواطنهم عما جره الابتلاء من أنفسهم - انتهى. {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} اسم "الصفا" من الصفوة، وهو ما يخلص من الكدر، واسم "المروة" من المرو، وهو ما تحدد من الحجارة. قاله الْحَرَالِّي. وقال الْحَرَالِّي: لما تقدم ذكر جامعة من أمر الحج في قوله، سبحانه وتعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} من حيث إن النعمة المضافة إليه أحق بنعمة الدين، وفي ضمنها نعمة الدنيا التي لم يتهيأ الحج إلا بها من الفتح والنصر والاستيلاء على كافة

العرب، كما قال، تعالى، فيما أنزل يوم تمام الحج الذي هو يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وذلك بما أتم الله سبحانه وتعالى، عليهم من نعمة تمام معالم الدين، وتأسيس الفتح بفتح أم القرى، التي في فتحها فتح جميع الأرض، لأنها قيام الناس. نظم، تعالى، بما تلاه من الخطاب تفصيلا من تفاصيل أمر الحج، انتظم بأمر الذين آمنوا، من حيث ما في سبب إنزاله من التحرج للذين أعلموا برفع الجناح عنهم، وهم طائفة من الأنصار، كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، فتحرجوا من التطوف بين الصفا والمروة، وطائفة أيضا خافوا أن يلحقهم في الإسلام بعملهم، نحو ما كانوا يعملونه في الجاهلية، نقص في عمل الإسلام، فأعلمهم الله، سبحانه وتعالى أن ذلك موضوع عنهم، لمختلف نياتهم، فإن الأعمال بالنيات، فما نوى لله كان لله، ولم يبل فيه بموافقه ما كان من عادتهم في الجاهلية. وفي فقهه صحة السجود لله، سبحانه وتعالى، لمن أكره على السجود للصنم، وفي طي ذلك صحة التعبد لله بكلمة الكفر لمن أكره عليه، أذن،

- صلى الله عليه وسلم -، غير مرة في أن يقول فيه قائل ما يوافق الكفار بحسن نية للقائل في ذلك، ولقضاء حاجة له من حوائج دنياه عند الكفار، فظهر بذلك كونه، - صلى الله عليه وسلم -، رحمة للعالمين، يقبل الضمائر، ولم يبال بالظواهر في أحوال الضرائر، فرفع الله، سبحانه وتعالى، عنهم الجناح بحسن نياتهم وإخلاصهم لله، سبحانه وتعالى، عملهم، فبهذا النحو من التقاصر في هذه الرتبة، انتظم افتتاح هذا الخطاب بما قبله من أحوال الذين آمنوا من المبتلين بما ذكر - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: وهي "أي الشعائر" ما أحست به القلوب من حقه. وقال: والشعيرة: ما شعرت به القلوب من أمور باطنة. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} وإنما ذكرها، تعالى، بالشعائر وعملها معلم [من] معالم الإسلام وحرمة من حرم الله، لما كان حكم في أمر القلوب التي كان في ضمائرها تحرجهم، فمن حيث ذكرها بالشعيرة صححها الإخلاص والنية. {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} ذكر البيت في الحج، والمسجد الحرام في التوجه لانتهاء الطواف إلى البيت، واتساع المصلى من حد المقام إلى ما وراءه، لكون الطائف منتهيا إلى البيت، وكون المصلي قائما بمحل أدب يؤخره عن منتهى الطائف مداناة المبيت،

وذكره، تعالى، بكلمة "من" المطلقة المستغرقة لأولي العقل، تنكبا بالخطاب عن خصوص المتحرجين، ففي إطلاقه أشعار بأن الحج لا يمنعه شيء مما يعرض في مواطنه من مكروه الدين، لاشتغال الحاج بما هو فيه عما سواه، ففي خفي فقهه إعراض الحاج عن مناكر تلك المواطن التي تعرض فيها بحسب الأزمان والأعصار، ويؤكد ذلك أن الحج آية الحشر، وأهل الحشر: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} فكذلك حكم ماهو آيته، وحج البيت إتيانه في خاتمة السنة من الشهور، الذي هو شهر ذي الحجة أنه ختم العمر، كما كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حيث ختم الله، سبحانه وتعالى، عمره بعمل الحج؛ قال سبحانه وتعالى: {أَوِ اعْتَمَرَ} فذكر العمرة مع الحج لما كان الطواف بين الصفا والمروة من شعائر العملين {فَلَا جُنَاحَ} وهو المؤاخذة على الجنوح، والجنوح الميل عن جادة القصد - انتهى. {عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قال الْحَرَالِّي رفع الجناح عن الفعل حكم يشترك فيه الجائز والواجب والفرض والمباح، حتى يصح أن يقال: لا جناح عليك أن تصلي الظهر، كما يقال: لا جناح عليك أن تطعم إذا جعت، وإنما يشعر بالجواز والتخيير

نفي الجناح عن الترك لا عن الفعل، كما قال، عليه الصلاة والسلام، للذين سألوه عن العزل: "لا جناح عليكم ان تفعلو" أي أن لا تنزلوا، لأن الفعل كناية عن الثبوت لا عن الترك الذي هو معنى العزل، وهو الذي قررته عائشة، رضي الله تعالى عنها، لما قال عروة: ما أرى على أحد شيئا أن لايطوف بهما، فقالت: لو كان كما تقول كان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما - الحديث. قال الْحَرَالِّي: وما روى من قراءة من قرأ: "أن لا يطوف بهما" فليست "لا" نافية، على حد ما نفت معناه عائشة، رضي الله عنها، وإنما هي مؤكدة للإثبات، بمنزلة: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} و {ليلا لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} لأن من تمام المبهم استعماله في المتقابلين من النفي والإثبات، وكذلك جاءت "لا" في لسان العرب بمنزلتها في الاستعمال، وإن كان دون ذلك في الشهرة، فوارد القرآن معتبر بأعلى رتبة لغة العرب وأفصحها، لا يصل إلى تصحيح عربيته من اقتصر من النحو والأدب على ما دون الغاية، لعلوه في رتبته العربية: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} - انتهى. قال الْحَرَالِّي: وذكره، تعالى، بالتطرف الذي هو تفعل أي تشبه بالطواف، ومع البيت بالطواف في قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} لما كان السعي ترددا

في طول، والمراد الإحاطة بهما، فكان في المعنى كالطواف لا في الصورة، فجعله لذلك تطوفا أي تشبها بالطواف - انتهى. {وَمَنْ تَطَوَّعَ} قال الْحَرَالِّي أي كلف نفسه معاهدة البر والخير من غير استدعاء له، {خَيْرًا} فيه إعلام بفضيلة النفقة في الحج والعمرة بالهدي ووجوه المرافق للرفقاء، بما يفهمه لفظ الخير، لأن عرف استعماله في خير الرزق والنفقة، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}. و {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}. ولما كان رفع الجناح تركا عادلها في الخطاب بإثبات عمل خير، ليقع في الخطاب إثبات يفيد عملا حين لم يفد الأول إلا تركا، فمن تحقق بالإيمان أجزل نفقاته في الوفادة على ربه واختصر في أغراض نفسه، ومن حرم النصف من دنياه اقتصر في نفقاته في وفادته على ربه، وأجزل نفقاته في أغراض نفسه وشهوات عياله، فذلك علم من أعلام المؤمنين، وأعلام الجاهلين، من وفد على الملك أجزل ما يقدم بين يديه، وإنما قدمه بالحقيقة لنفسه لا لربه، فمن شكر نعمة الله بإظهارها حين الوفادة عليه، في آية بعثه إليه ولقائه له، شكر الله له ذلك يوم

{إن الذين يكتمون ما أنزلنا}

يلقاه، فكانت هدايا الله له يوم القيامة أعظم من هديه إليه يوم الوفادة عليه في حجه وعمرته. {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: وقوله {عَلِيمٌ} فيه تحذير من مداخل الرياء والسمعة في إجزال النفقات، لما يغلب على النفس من التباهي في إظهار الخير - انتهى. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} قال الْحَرَالِّي: فانتظمت هذه الآية أي في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوله من قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فكانت البداية خاصة، وكان الختم عاما، ليكون ما في كتاب الله أمرا على نحو ما كان أمر محمد، - صلى الله عليه وسلم -، ومن تقدمه من الرسل خلقا، لينطبق الأمر على الخلق بدءاً وختما، انطباقا واحدا، فعم كل كاتم من الأولين والآخرين - انتهى. {مِنَ الْبَيِّنَاتِ} قال الْحَرَالِّي: ففي إفهامه إذن في كتم ما يخفى من العلم عن عقول لم تصل إليه - انتهى. {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} قال الْحَرَالِّي: لأن المسمين بالناس من أصاغر سن القلوب، لما ذكر من نوسهم، وأكثر ما يخص به، كما تقدم، الملوك ورؤساء

{وماتوا وهم كفار}

القبائل وأتباعهم الذين زين لهم حب الشهوات - انتهى. {فِي الْكِتَابِ} قال الْحَرَالِّي: فما بينه الله، سبحانه وتعالى، في الكتاب لايحل كتمه، لما ذكر من أن الكتاب هو ما احتوى على الأحكام والحدود، بخلاف ما يختص بالفرقان، أو يعلو إلى رتبة القرآن - انتهى. {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} واللعن: إسقاط الشيء إلى أردى محاله، حتى يكون في الرتبة الفعل من العامة. قاله الْحَرَالِّي. {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وفي الربط بالفاء إشارة إلى إسراع استنفاذ توبة الله عليهم، من نار الخوف والندم، رحمة منه لهم برفعهم إلى موطن الإنس، لأن نار الخوف في الدنيا للمقترف رحمة من عذاب النار؛ تفدية من نار السطوة في الآخرة، من لم يحترق بنار المجاهدة أحرقته نار الخوف، فمن لم يحترق بنار الخوف أحرقته نار السطوة. أفاده الْحَرَالِّي. {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} قال الْحَرَالِّي: ففي إشعاره يسر توبة الكافرين وعسر توبة المنافقين، من حيث صرح بذكر توبة الكاتم، وتجاوز في الذكر توبة الكافر، فكان الذين كفروا يتوبون إلا الأقل، والذين يكتمون يتمادون إلا الأقل، فلذلك

{وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}

[وقع] الاستثناء في الكاتم، والتخصيص من الكافر - انتهى. {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} وقال الْحَرَالِّي: ذكر وصف العذاب بذكر ما لزمهم من اللعنة، ليجمع لهم بين العقابين: عقابا من الوصف، وعقابا من الفعل، كما يكون لمن يقابله نعيم ورضى - انتهى. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} قال الْحَرَالِّي: من النظرة، وهو التأخير المرتقب نجازه. قال الْحَرَالِّي: ففيه إشعار بطائفة، أي من عصاة المؤمنين، يؤخر عذابهم، وفي مقابلة علم الجزاء بأحوال [أهل] الدنيا تصنيفهم بأصناف في اقتراف السوء، فمن داومه داومه العذاب، ومن أخره وقتا ما في دنياه أخر عنه العذاب، ومن تزايد فيه تزايد عذابه، وذلك لكون الدنيا مرزعة الآخرة، وأن الجزاء بحسب الوصف: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} - انتهى. {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان مضمون الكتاب دعوة الخلق إلى الحق، والتعريف بحق الحق على الخلق، وإظهار مزايا من اصطفاه الله، تعالى، ممن شملهم أصل الإيمان، من ملائكته وأنبيائه ورسله، ومن يلحق بهم من أهل ولايتهم، وإظهار شواهد ذلك منهم، وإقامة الحجة بذلك على من دونهم في إلزامهم أتباعهم، وكان الضار للخلق إنما هو الشتات، كان النافع لهم إنما هو الوحدة، فلما أظهر لهم، تعالى، مرجعهم إلى وحدة أبوة آدم، عليه السلاة والسلامة، في

جمع الذرية ووحدة أبوة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، في جمع الإسلام، ووحدة أحمدية محمد، - صلى الله عليه وسلم -، في جمع الدين، فاتضج لهم عيب الشتات والتفرق، وتحقق لهم شاهد النفع في الجمع إلى وحدات - كان ذلك آية على أعظم الانتفاع بالرجوع إلى وحدة الإلهية في أمر الحق. وفي إفهام ذلك وحدات مايظن في ظاهر الوحدات الظاهرة؛ من وحدة الروح ووحدة النفس والعقل، فقال، تعالى، عطفا على ما ظهر بناؤه من الوحدات الظاهرة، وما أفاده إفهامها من الوحدات الباطنة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإذا قبح الشتات مع وحدة الأب الوالد، فكيف به مع وحدة الأب المدين! فكيف به مع وحدة النبي المكمل! فكيف به مع وحدة الإله الذي هو: {الرَّحْمَنِ} الذي شمل خلقه رحمانية! {الرَّحِيمِ} الذي اختص أولياءه وأصفياءه عناية، فجمعهم بوحدته التي هي قائم كل وحدة دونه! فجميع أسمائه لها وحدة تنتهي

وحدتها إلى وحدة الإله الذي انتهى إليه الإله، وهو تعبد الظاهر، لإلجاء المتعبد إليه في كل حاجاته، وإقامات الظاهرة والباطنة، ولا أتم من وحدة ما لا يتصوره العقل، ولا يدركه الحس في علو وحدة الغيب، الذي لا يبدو فيه ذات، فيكون لها أو فيها كميات ولا كيفيات. ثم قال: وقد صح بالتجربة أن الراحة في صحبة الواحد، وأن التعب في اتباع العدد، لاختصاص كل واحد بقصد في التابع. يتشاكس عليه لذلك حال أتباعهم، فكان أعظم دعوة إلى جمع الخلق دعوتهم إلى جمع توحيد الإلهية؛ انتظاما بما دعوا إليه من الاجتماع في اسم الربوبية في قوله، تعالى، متقدما: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فإعلام الخطاب من رتبة الربوبية إلى رتبة هذه الدعوة بالإلهية لتعلو من هذا الحد إلى الدعوة إلى الله الأحد، الذي أحديته مركوزة في كافة فطر الخلق وجبلاتهم، حين لم يقع الشرك فيه بوجه، وإنما وقع في رتبة الإلهية، فكان هذا أوسط الدعوة بالاجتماع في وحدة الإلهية، وفي إضافة اسم الإله إليهم أتم تنزل بمقدار معقولهم من تعبدهم الذي هو تألههم. ولما كان في الإلهية دعوى كثرة توهم الضلال المبين اتبع ذلك بكلمة التوحيد، بناء على اسمه المضمر في باطن ظاهر الإلهية، فقال

تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ردا على إضمار ما في الأول، ولم يذكر اسمه المظهر ليكون للدعوة إليه رتبة عالية، تكون هذه منقولا إليها. ولما كان هذا التوحيد الإلهي أمر غيب من الإله أظهره، سبحانه وتعالى، بمظهر الرحمانية المحيطة الشاملة، والرحيمية، الاختصاصية لما عند الخلق من شاهد ذلك فيما يجدونه من أثر الرحمانية في دنياهم وأثارهم، وما يجدون من آثار الرحيمية [في اختصاصهم المزية في تضاعف رحمته، فكان في مجموع هذه الآية أعظمية من غيب الإلهية إلى تمام الاختصاص الرحيمية -]، فلذلك كانت هذه الآية مع آية الإحاطة في [أول] آل عمران الجامعة لمقابلة ما في هذه الآية من خصوص الرحيمية، مع خصوص مقابلها من وصف الانتقام الظاهر عن وصف العزة الذي أبداه قوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} فكانت هذه الآية لذلك مع: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} اسم الله الأعظم المحيط بالغيب والشهادة جمعا للرحمة والنقمة في الظاهر، وإحاطة عظمة في الباطن، فكان هذا الحد من علو الخطاب ابتداء رفع الخلق إلى التعلق باسم الله

الأعظم، الذي يرفعهم عن سفل تقيدهم بأنفسهم المحقرة؛ إظهارا لمبدإ العناية بهذه الأمة الخاتمة - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما كان من سنة الله أن من دعاه إليه وإلى رسله بشاهد خرق عادة في خلق أو أمر، عاجله بالعقوبة في الدنيا، وجدد بعده أمة أخرى، كما قال، سبحانه وتعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} وكانت هذه الأمة خاتمة ليس بعدها أمة غيرها، أعفاها ربها من احتياجها إلى خرق العوائد، قال عليه الصلاة والسلام: "ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله أمن عليه البشر، وإنما كان الذي أتاني الله وحيا أوحاه الله سبحانه وتعالى إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا" فكان أمر الاعتبار أعم إجابة، وأسمح مخالفة، وكفاها بما قد أظهره [لها] في خلقه بالإبداء والتخير من الشواهد، ليكونوا علماء منقادين لروح العلم، لا لسلطان القهر، فيكون ذلك من مزاياهم على غيرهم، ولم ينجبها إلى ما سألته من ذلك. فلما وضل، تعالى، بدعوة الربوبية ذكر الخلق والرزق، وذكر الأرض بأنها

فراش، والسماء بأنها بناء، على عادة العرب في رتبة حس ظاهر - أعلاهم في هذا الخطاب بإيراد آياته وشواهده على علو رتبة معنى معقول فوق رتبة الأمر المحسوس [السابق فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خطابا مع من له نظر عقلي، يزيد على نظر الحس] باعتبار السموات أفلاكها، وعددها بشواهد نجومها، حتى يتعرف أنها سموات معدودة، وذلك مما يظهر موقعه عند من له اعتبار في مخلوق السموات، ولما لم يكن للأرضين شواهد محسوسة بعددها، كما في السموات، لم يجر ذكرها في القرآن إلا مفردة، وجاء ذكر السموات معددة لأهل النظر العقلي، ومفردة لأهل النظر الحسي، وأيسر معتبر مابين السموات والأرض في مقابلة حظيهما في كون السموات في حد من العلو والصفاء والنورانية والحركة، والأرض في مقابل ذلك من السفل والكثافة والظلمانية والسكون، فيقع الاعتبار بحصول مشهود التعاون من مشهود التقابل، وذلك مما يعجز الخلق، فيعلمون أنه من أمر الحق، لأن الخلق إنما يقع لهم التعاون بالمتناسب لا بالمتقابل، فمن آلته الماء مثلا تفسد عليه النار، ومن آلته النار يفسد عليه الماء والحق، سبحانه وتعالى، أقام للخلق

والموجودات والموالد آحادا مجتمعة، قد قهر فيها متنافرات موجودات الأركان، وموجود خلق السماء والأرض المشهود تقابلهما، فما وقع اجتماع النار بالماء على تقابل مابين الحار والبارد، واجتماع الهواء بالأرض على تقابل مابين الكثيف واللطيف، واجتماع الكل في شيء واحد من جسم واحد، وعضو واحد، حتى في جزء واحد من أدق أجزائه، إلا بأمر يعجز عنه الخلق، ولا يقدر عليه إلا الحق، الذي يحار فيه الخلق، فهو إذن إلههم الذي هو إله واحد، آثاره موجودة في أنفسهم، وشواهده مبصرة بأعينهم، وحقائق تلك الشواهد بادية لعقولهم، فكأنه، سبحانه وتعالى، أقرأهم ذكره الحكيم المرئي لأعينهم كشفا لغطاء أعينهم، ليتميزوا عن الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكره. ولما ذكر، سبحانه وتعالى، خلق متقابل العلو والسفل، في ذكر السموات والأرض، نظم بها اختلاف الأفقين اللذين فيهما ظهور مختلفي الليل والنهار، ليتربع اعتبارهم بين اعتبار الأعلى والأسفل، والمشرق والمغرب، فيقع شواهد الإحاطة بهم عليهم في توحيد ربهم، وإرجاع ذلك إليه، دون أن يعزى ذلك إلى شيء من دونه، مما هو داخل في حصر موجود هذه الإحاطة من المحيط الأعلى، والمحيط

{والفلك}

الأسفل، والمحيط بالجوانب كلها من ملبس الآفاق من الليل والنهار: خطاب إجمال يناسب مورد السورة التي في موضوعها إجمالات ما يتفسر فيها، وفي سائر القرآن، من حيث إنها فسطاطه وسنامه - انتهى. {وَالْفُلْكِ} قال الْحَرَالِّي: استوى واحده وجمعه، حركات الواحد أول في الضمير، وحركات الجمع ثوان في الضمير، من حيث إن الواحد أول، والجمع ثان مكسر - انتهى. {الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} وقال الْحَرَالِّي: ولما ذكر، سبحانه وتعالى، جملة الخلق وجملة الاختلاف في الوجهين، وصل يذلك إحاطة البحر بالأرض، وتخلل التجار فيها، لتوصل المنافع المحمولة في الفلك، مما يوصل من منافع المشرق للمغرب، ومنافع المغرب للمشرق، ومنافع الشمال للجنوب وبالعكس، فما حملت جارية شيئا ينتفع به إلا وقد تضمن ذكره مبهم كلمة {مَا} في قوله تعالى: {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} وذكرهم باسم الناس الذي هو أول سن يقع فيه الاجتماع والتعاون والتبصر بوجه ما، أدنى ذلك في منافع الدنيا الذي هو شاهد هذا القول - انتهى. قال الْحَرَالِّي: أبهم تعالى أمر الخلق والاختلاف والإجراء، فلم يسنده إلى اسم من

أسمائه يظهره، وأسند إنزال الماء من السماء إلى اسمه العظيم الذي هو: {الله} لموقع ظهور القهر على الخلق في استدرار أرزاق الماء واستجداده وقتا بعد وقت، بخلاف مستمر ما أبهم من خلق السموات والأرض الدائم على حالة، واختلاف الليل والنهار المستمر على وجهة، واحتيال إجراء الفلك الماضي على حكم عادته، فأظهر اسمه فيما يشهد به عليهم ضرورتهم في كل حول، ليتوجهوا في العبادة إلى علو المحل الذي منه ينزل الماء، فينقلهم بذلك من عبادة ما في الأرض إلى عبادة من في السماء {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} وقال، عليه الصلاة والسلام للأمة: "أين الله؟ قالت في السماء. قال: أعتقها؟ فإنها مؤمنة" فإذن أدنى الإيمان التوجه إلى عبادة من في السماء، ترقيا إلى علو المستوى على العرش، إلى غيب الموجود في أسرار القلوب، فكان في هذه التوطئة توجيه الخلق إلى الإله الذي ينزل الماء من السماء، وهو الله الذي لم يشرك به أحد سواه، ليكون ذلك توطئة لتوحيد الإله، ولذلك ذكر، تعالى، آية الإلهية التي هي الإحياء، والحياة كل خروج عن الجمادية، من حيث إن معنى الحياة في الحقيقة إنما هي تكامل في الناقص، فالمهتز حي بالإضافة إلى الجماد، ترقيا إلى مافوق ذلك من رتب الحياة، من نحو حياة الحيوان ودواب الأرض، فلذلك ذكر، تعالى، الإحياءين بالمعنى، وأظهر الاسم مع الأرض لظهوره في الحيوان، فأظهر حيث خفى عن الخلق، ولم يذكره

حيث هو ظاهر بخلق، فنبههم على الاعتبارين إنزال الماء الذي لهم منه تراب، ومنه شجر، وبه حياة الحيوان، ومنه مرعاهم. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ} وقال الْحَرَالِّي: لما ذكر، تعالى، الأعلى والأسفل، ومطلع الليل والنهار من الجانبين، وإنزال الماء إهواء، ذكر ما يملأ ما بين ذلك من الريح والسحاب الذي هو ما بين حركة هوائية إلى استنارة مائية، إلى ما يلزم ذلك من بوادي نيراته؛ من نحو صواعقه وجملة أحداثه. فكان في هذا الخطاب اكتفاء بأصول من مبادئ الاعتبار، فذكر السماء والأرض والآفاق وما بينهما من الرياح والسحب والماء المنزل الذي جملته قوام الخلق في عاجل دنياهم، ليجعل لهم ذلك آية على علو أمر وراءه، ويكون كل وجه منه آية على أمر من [أمر] الله، فيكون آيات، لتكون في السماء آية على علو أمر الله، فيكون أعلى من الأعلى، وتكون الأرض آية على باطن أمر الله، فيكون أبطن من الأبطن، ويكون اختلاف الليل والنهار آية على نور بدوه وظلمة غيبته، مما وراء أمر الليل والنهار، ويكون ما أنزل من الماء لإحياء الأرض وخلق الحيوان، آية ما ينزل من نور علمه على القلوب، فتحيا بها حياة تكون حياة الظاهر

{والذين آمنوا أشد حبا لله}

آية عليه، ويكون تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض آيات على تصريف ما بين أرض العبد الذي هو ظاهره، وسمائه الذي هو باطنه، وتسخير بعضه لبعض ليكون ذلك آية على علو الله على سمائه العلي في الحس، وعلى سماء القلوب العلية في الوجدان. فلجملة ذلك جعل، تعالى، صنوف هذه الاعتبارات {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ} وهم الذين يقومون في الأمر حق القيام، ففيه إشعار بأن ذلك لا يناله من هو في سن الناس، حتى يتنامى طبعه وفضيلة عقله، إلى أن يكون من قوم يقومون في الاعتبار قيام المنتهضين في أمور الدنيا، لأن العرب عرف استعمالها في القوم إنما هو لأجل النجدة والقوة، حتى يقولون: قوم أو نساء، تقابلا بين المعنيين، وذكر، تعالى، العقل الذي هو نور من نوره هدى لمن أقامه من حد تردد حال الناس إلى الاستضاءة بنوره في قراءة حروف كتابه الحكيم، التي كتبها بيده، وأغنى الأميين، بقراءة ما كتب لهم، عن قراءة كتاب ما كتبه الخلق - انتهى. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وقال الْحَرَالِّي: ولما استحق القوم القائمون في أمر الله، سبحانه وتعالى، هذا الاعتبار بما آتاهم الله من العقل، لم يكن من اتخذ من دون الله أندادا مما يقال فيهم: قوم، بل يقصرون إلى اسم النوس الذي هو تردد وتلدد، فكأنه، سبحانه وتعالى، عجب ممن لم يلحق بهؤلاء القوم في هذا الاعتبار الظاهرة شواهده، البينة آثاره، فأنبأ أن طائفة من الناس، على المقابلة من ذلك الاعتبار الظاهر لنور العقل في أخذهم لمقابل العقل، من الحرق الذي يقدم

في موضع الإحجام، ويحجم في موضع الإقدام، ثم غلب ذلك عليهم حتى وصل إلى بواطنهم [فصار حبا كأنه وصلة بين بواطنهم] وقلوبهم وما اتخذوه من دون الله أندادا. ففيه إشعار بنحو مما أفصح به لبني إسرائيل في كون قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، ففي كرم هذا الخطاب في حق العرب ستر عليهم، رعاية لنبيهم في أن يصرح عليهم بما صرح على بني إسرائيل، ففي لحنه إشعار بأن من اتخذ [ندا] من دون الله فتلك لوصلة بين حال قلبه وحال ما اتخذ من دون الله، فمن عبد حجرا فقلبه في القلوب حجر، ومن عبد نباتا فقلبه في القلوب نبات، وكذا من عبد دابة، {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} كذلك إلى ما يقع معبودا من دون الله مما بين أعلى النيرين، الذي هو الشمس، إلى أدنى الأوثان، إلى ما يقع في الخلق من عبادة بعضهم بعضا، من نحو عبادة الفراعنة والنماردة، إلى ما يلحق بذلك من نحو رتبة العبادة باتباع الهوى الشائع موقعه في الأهم، وفي هذه الأمة، لأن من غلب عليه هوى شيء فقد عبده، فكأن عابد الشمس قلبه سعير، وعابد النار قلبه نار، وعابد القمر قلبه زمهرير، ومن عبد مثله من الخلق فقد عبد هواه.

{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} فمن عبد الله فهو الذي علا عن سواه من المخلوقات، فعادل، سبحانه وتعالى، خطاب الأولين المعتبرين العقلاء بهذا الصنف الذي انتهى أمرهم في الكفر إلى الحب، من حيث اعتلقت بواطنهم بهم فيما شأنه أن يختص بالله من الخوف والرجاء والنصرة على الأعداء، والإعانة للأولياء، فلما توهموا فيهم مرجى الإلهية ومخافتها أحبوهم لذلك كحب الله، لأن المتعبد مؤتمر، ومبادر: فالمبادر قبل الأمر محب، والمجيب للأمر مطيع، فالمحب أعلى في الطرفين. انتهى. وقال الْحَرَالِّي: قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى} عطفا على متجاوز أمور من أمور جزائهم، مما نالهم من عقوبات إثر كفرهم في الدنيا، قال، عليه الصلاة والسلام: "إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء" إلى متمادي غاية رؤيتهم العذاب، وفي قوله "تَرَى" بالتاء، إقبالا على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، تعجيب له بما ينالهم مما أصابوه، وفيه إشعار بأن ذلك من أمر يعلو أمره إلي محل رؤيته التي هي أتم الرؤية، وفي قوله: {يَرَى} بالياء تحسر عليهم، يشعر بأن منالهم من رؤية العذاب، مما كان يزجرهم عما هم عليه، لو رأوه - انتهى. {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} وقال الْحَرَالِّي: موضع الرؤية في الحقيقة هو أن القوة لله جميعا، سلبا عن جميع أندادهم الذين أحبوهم، وعن أنفسهم، كما قال

{إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا}

قائلهم: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} لكن لما كان رؤيتهم لذلك عن رؤية مشهود العذاب الذي هو أتم العذاب، ذكر العذاب الذي هو ظاهر مرأى أن القوة لله جميعا، وفي {أَنَّ الْقُوَّةَ} إعلام باطلاعهم يوم هذه الرؤية على بواطن أندادهم، وسلبها ما شأن البواطن أن تتحلى به من القوة، من حيث وصفهم لهم بالحب الباطن، أطلعهم على سلب قواهم الباطنة بالرؤية التي هي باطن البصر الذي هو باطن النظر. ولما ذكر أمر القوة عطف عليه ما هو أمر القدرة فقال: {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} إكمالا للخطاب بظاهره، واستأنف معه الاسم العظيم لإظهار ما بين غايتي الباطن والظاهر في أمر القدرة والقوة، ليكون مع المنظر الظاهر بالقدرة اسم أظهره واستأنفه وقدم ذكره، كما كان مع المرأى الباطن بالقوة اسم أضاف إليه وأنهى له، ليقع ما ولى أول الخطاب مقابل ما ختم به الخطاب، فينعطف أوله على آخره، وآخره على أوله، باطنا لظاهر، وظاهراً لباطن، في المتعاطفين جميعا في قوله: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} - انتهى. {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} وقال الْحَرَالِّي: قال ذلك إظهاراً لإفصاح ما أفهمه مضمون الخطاب الأول، لتتسق الآيات بعضها ببعض، فتظهر الآية ما في ضمن سابقتها، وتجمع الآية ما في تفصيل لاحقتها، وإعلاء للخطاب

بما هو المعقول علمه، المتقدم إلى ما في الإيمان نبؤه، ليتم نور العقل الذي وقع به الاعتبار بنور الإيمان، الذي يقع به القبول لما في الآخرة عيانه، فمن عقل عبرة الكون الظاهر استحق إسماع نبأ الغيب الآتي. ثم قال: بذا يتبرأ المتبرع في الذكر، لأنه الآخر في الكون، فكأنه في المعنى: إنما تعلق التابع بالمتبوع ليعيذه في الآخرة، كما كان عهد منه [أن يعيذه في الدنيا فيتبرأ منه] لما ذكر، تعالى، من {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ولذلك اتصل ذكر التبرؤ بذكر قبض القوة والقدرة عنهم - انتهى. {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} وقال الْحَرَالِّي: قاله ردا للإضمار على الجميع، وفيه إشعار بأن ذلك قبل غلبة العذاب عليهم، وفي حال الرؤية، ففيه إنباء بأن بين رؤيتهم العذاب وبين أخذهم به مهل يقع في خصومتهم وتبرؤهم وإدراكهم للحق الذي كان متغيبا عنهم في الدنيا، بما فتن بعضهم ببعض - انتهى. {وَتَقَطَّعَتْ} أي تكلفت وتعمدت القطع، وهو بين المتصل. أشار إليه الْحَرَالِّي. {بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال الْحَرَالِّي: وفيه إشعار بخلو بواطنهم من التقوى، ومن

{لو أن لنا كرة}

استنادهم إلى الله، سبحانه وتعالى، في دنياهم، وأنهم لم يكونوا عقلوا إلا تسبب بعضهم ببعض، فتقطعت بهم الأسباب، ولم يكن "لهم"، لأن ذلك واقع بهم في أنفسهم، لا واقع لهم في غيرهم، فكأنهم كانوا نظام أسباب تقطعت بهم فانتثروا منها، وأسبابهم وصل ما بينهم في الدنيا التي لم تثبت في الآخرة، لأنها من الوصل الفانية، لا من الوصل الباقية، لأن متقاضي ما في الدنيا، ما كان منه بحق، فهو من الباقيات الصالحات، وما كان منه عن هوى، فهو من الفاني الفاسد - انتهى. {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} وقال الْحَرَالِّي: هي رجع وعودة إلى عند غاية فرة - انتهى. {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} وقال الْحَرَالِّي: فيه إنباء عن تأسفهم على اتباع من دون ربهم، ممن اتبعوا، وإجراء لتأسفهم على وجه متوهم غير محقق، على حد ما كان تمسكهم بهم متوهم انتفاع غير محقق، ففيه إثبات لحالهم في الآخرة على ما كان ينالهم في الدنيا من الأخذ بالموهرم والغيبة عن المعلوم - انتهى. {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} وقال الْحَرَالِّي: لما كانت عقائدهم فيهم حسرات، أراهم أعمالهم التي عملوها لابتغاء الخير في الدنيا

حسرات: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} كما كان عمل من قلبه محب ومتأله لما دون الله، وفي إشعار بأن عمل كل عامل مردود إلى ما اطمأن به قلبه، وسكنت إليه نفسه، ويتعلق به خوفه ورجاؤه، فمن غلب على سره شيء فهو ربه الذي يصرف عمله إليه، فلا يجد عنده جزاء لتبرئه منه، فيصير حسرة عليه، فأنبأ، سبحانه وتعالى، بأنهم لا ينصرونهم في الآخرة، ولا يجزونهم على أعمالهم، فلم ينفعهم تألههم إياهم، والمتبوع منهم متأله لنفسه، فلم يجد عندها جزاء عمله، فتحسر كل منهم على ما عمل من عمل الخير لإحباطه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} والحسرة أشد الأسف على الفائت الذي يحسر المتلهف، أي يقطعه عما تحسر عليه - انتهى. {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} قال الْحَرَالِّي: وفيه إشعار بقصدهم الفرار منها والخروج، كما قال، سبحانه وتعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} فأنبأ، تعالى، أن وجهتهم للخروج لا تنفعهم، فلم تبق لهم

{يا أيها الناس}

منه تنهضهم منها حتى ينتظم قطع رجائهم من منة أنفسهم بقطع رجائهم ممن اعتلقوا به من شركائهم، ولم يكن: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} كما قال في أهل الجنة، للإشعار بأن اليأس والانقطاع واقع منهم على أنفسهم، فكما كان بوادي أعمالهم في الدنيا من أنفسهم عندهم، جرى نبأ جزائها على حد ذلك في المعنى، كما قال: أعمال أهل الجنة عندهم من توفيق ربهم - جرى ذكر جزائهم على حد ذلك من المعنى بحسب ما يقتضيه اختلاف الصيغتين - انتهى. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وقال الْحَرَالِّي: لما استوفى، سبحانه وتعالى، ذكر أمر الدين إلى أنهاه من رتبة دين الإسلام الذي رضيه، وكان الدين هو غذاء القلوب، وزكاة الأنفس، نظم به ذكر غذاء الأبدان من الأقوات، ليتم بذكر النماءين نماء الذوات: ظاهرها البدني، وباطنها الديني، لما بين تغذي الأبدان وقوام الأديان من التعاون على جمع أمري صلاح العمل ظاهرا وقبوله باطنا، قال، عليه الصلاة

والسلام "لا يقبل الله عملا إلا بالورع الشافي" وكما قيل: ملاك الدين الورع، وهلاكه الترف، ونقصه السرف، فكما انتظم الكتاب قصر الخلق على أفضل متضرفاتهم في التدين، اتصل به قصرهم على أفضل مأكلهم في التقوت. ولما ذكر الدين في رتبتي صنفين: من الناس، والذين آمنوا، انتظم به ذكر المأكل في صنفيهما، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فانتظم بخطاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} لما بين العبادة والمأكل من الالتزام - انتهى. {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا} قال الْحَرَالِّي: وهو ما انتفى عنه حكم التحريم، فينتظم بذلك ما يكره ومالا يكره، والتحريم المنع مما يلحق الأكل منه ضرر في جسمه كالميتة، أو في نفسه كلحم الخنزير، أو رين على قلبه كما أهل لغير الله به. {طَيِّبًا} قال الْحَرَالِّي: الحلال مطلوب ليكتسب، لا ليؤكل حتى يطيب، والطيب مالا منازع فيه - انتهى. {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فهو يبعدهم - كما قال الْحَرَالِّي - عن وطن ما هم عليه من الائتمار في مأكلهم إلى التناول بشهواتهم، ليستدرجهم لذلك من خطوة الأكل بالشهوة إلى الأكل بالهوى، فيتداعى منها إلى المحرمات - انتهى. وفي قوله: {يَأْمُرُكُمْ} كما قال الْحَرَالِّي: إنباء بما مكنه الله، سبحانه وتعالى حتى صار أمرا {بِالسُّوءِ} وهو خبائث الأنفس الباطنة التي يورث فعلها مساءة. {وَالْفَحْشَاءِ} قال الْحَرَالِّي: وهو ما يكرهه الطبع من رذائل الأعمال

{ومثل الذين كفروا}

الظاهرة، كما ينكره العقل ويستخبثه الشرع، فيتفق في حكمه آيات الله الثلاث: من الشرع، والعقل، والطبع، بذلك يفحش الفعل. {نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا} قال الْحَرَالِّي: من الإلفاء، وهو وجدان الأمر على ما ألفه المتبصر فيه أو الناظر إليه. {عَلَيْهِ آبَاءَنَا} قال: ففيه إشعار بأن عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوة الدين، ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم - انتهى. {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال الْحَرَالِّي: المثل ما يتحصل في باطن الإدراك من حقائق الأشياء المحسوسة، فيكون ألطف من الشيء المحسوس، فيقع لذلك جاليا لمعنى مثل المعنى المعقول، ويكون الأظهر منهما مثلا للأخفى، فلذلك يأتي استجلاء المثل بالمثل، ليكون فيه تلطيف للظاهر المحسوس، وتنزيل للغائب المعلوم. ففي هذه الآية يقع الاستجلاء بين المثلين لا بين الممثولين، لتقارب المثلين؛ يعني وهو وجه الشبه، وتباعد الممثولين، وفي ذكر هذين المثلين تقابل يفهم مثلين آخرين، فاقتضى ذلك تمثيلين في مثل واحد، كأن وفاء اللفظ، الذي أفهمه [هذا الإيجار: مثل الذين كفروا ومثل راعيهم، كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم، وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب، ومن لا يصل فهمه] إلى جمع المثلين يقتصر على

{يا أيها الذين آمنوا}

تأويله بمثل واحد، فيقدر في الكلام: ومثل داعي الذين كفروا {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} أي يصيح، وذلك لأن التأويل يحمل على الإضمار والتقدير، والفهم يمنع منه، ويوجب فهم إيراد القرآن على حده ووجهه. وقال: {بِمَا} أي بسبب شيء البهائم إلى "لا" عقل لها، فهو {لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً} أي من الناطق فيما يدعى إليه من قوام غذائه ونسله {وَنِدَاءً} فيما ساق إليه بمحل دعائه، من حيث إن النداء [يشعر بالبعد، والدعاء يشعر]- بالشروع في القصد - انتهى. {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} لأنهم لا ينتفعون بعقولهم، كما أن هذا الأصم كذلك، ونفاه بلا النافية للممتنع، وصيغة المضارع المنبئة عن الدوام - قاله الْحَرَالِّي. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال الْحَرَالِّي: لما كان تقدم الخطاب في أمر الدين في رتبتين: أولاهما: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وثانيتهما: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} فأمر الناس بالعبادة، وأمر الذين آمنوا بحسن الرعاية مع النبي،

- صلى الله عليه وسلم -، كذلك هنا، أمر الناس بالأكل مما في الأرض، ونهى عن اتباع خطوات الشيطان، وأشعر الخطاب بأنهم ممن يتوجه الشيطان نحوهم للأمر بالسوء والفحشاء والقول بالهوى، وأمر الذين آمنوا بالأكل {مِنْ طَيِّبَاتِ} فأعرض في خطابهم عن ذكر الأرض لتناولهم الرزق من السماء، فإن أدنى الإيمان عبادة من في السماء، واسترزاق من في السماء، كما قال للسوداء: "أين الله؟ قالت في السماء. قال: أعتقها، فإنها مؤمنة" قال، سبحانه وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} فأطعم الأرضيين، وهم الناس، مما في الأرض، وأطعم السماويين، وهم الذين آمنوا من رزق السماء كذلك، وخص هذا الخطاب بلفظ الحلال لما كان آخذا رزقه من السماء متناولا طيبة لبراءته من حال مما في الأرض مما شأنه ضر في ظاهر، أو أذى في باطن، ولذلك "لو كانت الدنيا دما عبيطا لكان قوت المؤمن منها حلالا" فالمسترزق من السماء يصير المحرم له حلالا، لأخذه منه عند الضرورة تقوتا لا تشهيا، ويصير الحلال له طيبا، لاقتناعه منه بالكفاف دون التشهي {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وفي مورد

{واشكروا لله}

هذين الخطابين بيان أن كلمة {النَّاسِ} واقعة على سن من أسنان القلوب، وكلمة {الَّذِينَ آمَنُوا} واقعة على سن فوقه، وليس يقع على عموم يشمل جميع الأسنان القلبية، فتوهم ذلك من أقفال القلوب التي تمنع تدبر القرآن، لأن خطاب القرآن يتوجه لكل أولي سن [على حسب سن] قلوبهم، لا يصلح خطاب كل سن إلا له، يتقاصر عنه من دونه، ولا يحتاج إليه من فوقه، وهي أسنان متعددة: سن الإنسان، ثم سن الناس، ثم سن الذين آمنوا، ثم سن الذين يؤمنون، ثم سن المؤمنين، [ثم سن المؤمنين] حقا، ثم سن المحسنين، هذه أسنان سبعة، خطاباتها مترتبة بعضها فوق بعض، ومن وراء ذلك أسنان فوقها، من سن الموقنين، وما وراء ذلك إلى أحوال أثناء هذه الأسنان، من حال الذين أسلموا والمسلمين، ومن يوصف بالعقل والذكر والفكر والسماع، وغيرذلك من الأوصاف التي تلازم تلك الأسنان في رتب متراقية لايشمل أدناها أعلاها، ولاينهض أدناها لرتبة خطاب أعلاها، إلى ما وراء ذلك من خصوص خطاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيه، بما لا يليق إلا به، وبمن هو منه من إله. وفي انتظام تفصيل هذه الرتب جامعة لما يقع من معناه في سائر القرآن - انتهى. {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان هذا الخطاب منتظما لتناول الطبيب والشكر، وحقيقته البذل من الطيب، فشكر كل نعمة إظهارها على حدها

{إنما حرم عليكم}

من مال أو جاه أو علم أو طعام أو شراب أو غيره، وإنفاق فضلها، والاقتناع منها بالأدنى، والتجارة [بفضلها] لمبتغى الأجر، وإبلاغها إلى أهلها لمؤدي الأمانة، لأن أيدي العباد خزائن الملك الجواد "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" فلما كان ذلك لا يتم إلا بمعرفة الله [سبحانه وتعالى] المخلف على من أنفق، كما قال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} نبهوا على عهدهم الذي لقنوه في سورة الفاتحة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقيل لهم: كلوا واشكروا إن كنتم إياه تعبدون، فمن عرف الله بالكرم هان عليه أن يتكرم، ومن عرف الله بالإنعام والإحسان هان عليه أن يحسن، وهو شكره لله، من أيقن بالخلف جاد بالعطية - انتهى. {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان إدراك المؤمنين لمقتضى الخطاب فوق إدراك الناس، خاطبهم، تعالى، بذكر ما حرم عليهم، فناظر ذلك ما نهى عنه الناس من اتباع خطوات الشيطان فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ} وأجرى إضماره على الاسم

العظيم الأول إعلاما بأن الذي أذن لهم، إنما حرم عليهم ما لا يصلح لهم بكل وجه، لشدة مضرته عليهم في إحاطة ذواتهم ظاهرها وباطنها، لما ذكر أن المحرم إما لحرمته علوا كالبلد الحرام، وتحريم الأمر أو لحرمته دناءة، كتحريم هذه المحرمات، ففي كلمة {إِنَّمَا} نفي لمتوهمات ما يلحقه التحريم بما دون المذكور هنا. كأن قائلا يقول: حرم كذا، وحرم كذا، من نحو ما حرمته الكتب الماضية، أو حرمته الأهواء المختلفة، أو حرمه نظر علمي، كالذي حرمه إسرائيل على نفسه، فكان الإفهام لرد تلك المحرمات كلها - انتهى. {الْمَيْتَةَ} قال الْحَرَالِّي: وهي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة، وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلذذ أجزائها وعتقها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها، {وَالدَّمَ} أي الجاري، لأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء، فهو ميتة من [خاص حياته] مرتكس في جوهره إلا من طيب الله كليته، كما في محمد، - صلى الله عليه وسلم -، وفيمن نزع عنه خبث الظاهر والباطن طبعا ونفسا.

{وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} لأداه للنفس، كما حرم ما قبله لمضرتهما في الجسم، لأن من حكمة الله في خلقه أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الشيء: "الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم" فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق، واللحم ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلد، وعرف غلبة استعماله على رطبة الأحمر، وهو هنا على أصله في اللفة، يجمع اللحم الأحمر والشحم والأعصاب والعروق إلى حد الجلد، وما اشتمل عليه ما بين الطرفين من أجزاء الرطوبات، وإذا حرم لحمه الذي هو المقصود بالأكل، وهو أطيب ما فيه، كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم. {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي لأن ما لم يذكر عليه اسم

الله أخذ من يد من ذكر عليه اسمه، وليس ذلك خالقه ومالكه، إنما خالقه ومالكه الله الذي جعل ذكر اسمه عليه إذنا في الانتفاع به، وذكر على إزهاقا الروح من هي من نفخته، لا من لا يجد للدعوى فيها سبيلا من الخلق، وذكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر: "قالوا يا رسول الله إن ناسا ياتوم بلحام، لا ندري أسموا الله عليها أم لا؟ فقال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: سموا الله أنتم وكلوا" فكان المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه، بل الذي علم أن غير اسم الله قد أعلن به عليه، وفي تقدم إضمار المحرم في قوله: "به" تأكيد لمعناه، لأنهم يقدمون ما هم به أهم، وهم ببيانه أعنى. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ابدأوا بما بدأ الله به". ولما كان هذا الدين يسراً لا عسر فيه ولا حرج ولا جناح، [رفع حكم

هذا التحريم عن المضطر، ولما كان شأن الاضطرار أن يشمل جمعا من الخلق أنبأهم، تعالى، بأن هذا الذي رفع عنهم من التحريم، لا يبرأ من كلية الأحكام، بل يبقى مع هذه الرخصة موقع الأحكام في البغي والعدوان -] فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي [أحوجه محوج، وألجأه ملجئ، بأي ضرورة كانت -] إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف، فأكل من شيء منه، حال كونه {غَيْرَ بَاغٍ} أي قاصد فساداً بمكيدة يكيد بها لضعفه، آخدا من تلك الميتة هو أقوى منه، كأن يحيله على غيرها خداعا منه، ليستأثر عليه بالأحسن منها، {وَلَا عَادٍ} على غيره، بأن يكون أقوى منه فيدفعه عنها، ولا مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة، ويدخل في الآية أن من بغى على إمام أو قصد بضربه في الأرض فساداً، أو عدا على أحد ظلما

فحصل له، بسبب ذلك، مخمصة لا يحل له ما كان حراما، لأن في ذلك إعانة له على معصيته، فإن تاب استباح. {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} لا من التحريم الأول، ولا من الحكم الآخر، ولو كان رفع الإثم دون هذين الاشتراطين لوقع بين المضطرين من البغي والتسلط ما مثله لا يحل لغير المضطرين، فانتفى الإثم على صحة من الأمرين وارتفاع الحكمين، ففي السعة يجتنب ما يضر، وفي الضرورة يؤثر ضرورة الجسم لقوامه على حكم الكتاب في إقامته، وفي إفهامه أن من اضطر للشيء مما حرم عليه فأكله لم تنله مضرة، لأن الله سبحانه وتعالى، إذا أباح شيئا أذهب ضره: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" ففيه تنبيه لتغيير هذه الأعيان للمضطر عما كانت عليه، حتى تكون رخصة في الظاهر، وتطيبا في الباطن، فكما رفع عنه حكمها الكتابي، يتم فضله فيرفع عنه ضرها الطبيعي. ثم علل هذا الحكم مرهبا مرغبا بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} فأتى بهذا الاسم المحيط إشارة

إلى عموم هذا الحكم للمضطر والموسع، وفي قوله {غَفُورٌ} إشعار بأنه لا يصل إلى حال الاضطرار، إلى ما حرم عليه، أحد إلا عن ذنب أصابه، فلولا المغفرة لتممت عليه عقوبته، لأن المؤمن أو الموقن لا تلحقه ضرورة، لأن الله، سبحانه وتعالى، لا يعجزه شيء، وعبد الله لا يعجزه ما لا يعجز ربه، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} فاليأس الذي يحوج إلى ضرورة، إنما يقع لمن هو دون رتبة اليقين، ودون رتبة الإيمان، "جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [جيشا] ففنيت أزوادهم، فأقاموا أياما يتقوتون بيسير حتى تقوتوا بتمرة تمرة، فأخرج الله لهم العنبر دابة من البحر" فلم يحوجهم في ضرورتهم إلى ما حرم عليهم، بل جاءهم في ضرورتهم بما هو أطيب مأكلهم في حال السعة من صيد البحر، الذي (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) وفي قوله. {رَحِيمٌ} إنباء بأن من اضطر فأصاب مما اضطر إليه شيئا لم يبغ فيه ولم يعد، تناله من الله رحمة توسعه من أن يضطر بعدها إلى مثله، فيغفر له الذنب السابق الذي

{ويشترون به ثمنا}

أوجب الضرورة، ويناله بالرحمة الموسعة التي ينال بها من لم يقع منه ما وقع ممن اضطر إلى مثله - انتهى وتصرفت فيه. {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا} قال الْحَرَالِّي: والثمن مالا ينتفع بعينه حتى يصرف إلى غيره من الأعواض، فالإيعاد على ما يتضمن جهل الكاتم وحرصه باستكسابه بالعلم وإجرائه في غير ما أجراه الله تعالى على ألسنة أنبيائه، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ولما كان كل ما لم يثبت من خير الدنيا في الآخرة، وإن جل، حقيرا قال: {قَلِيلًا} هذا المراد، لا تقييده بالقليل. ولما كانوا قد بعدوا عن مواطن الرحمة ببخلهم بما لا ينقصه الإنفاق، أشار إليهم بأداة البعد فقال: {أُولَئِكَ} وفي خطاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، به إشعار بوقوع ذلك من طائفة من أمته حرصا على الدنيا، {مَا يَأْكُلُونَ} أي في هذه الحال، على مادلت عليه {مَا}. ولما كان الأكل يطلق على مجرد الإفساد حقق معناه بقوله: {فِي بُطُونِهِمْ} جمع بطن، وهو فضاء جوف الشيء الأجوف لغيبته عن ظاهره الذي هو ظهر ذلك البطن {إِلَّا النَّارَ} كما أحاط

علمه، سبحانه وتعالى، بالغيب أن ذلك على الحقيقة، وبصره لعيون أهل الكشف، الذين يرون العواقب في الأوائل، والغيب في الشهادة، وفي ذكره بصيغة الحصر نفي لتأويل المتأول بكونه سببا، وصرف له إلى وجه التحقيق الذي يناله الكشف، ويقصر عنه الحس، فكانوا في ذلك كالحذر الذي يجعل يده في الماء الحار، ولا يحس به، فيشعر ذلك بموت حواس هؤلاء عن حال ما تناولوه. ولما قدم الوعيد في الثمن لكونه الحامل على الكتم، أتبعه وعيد نفس الكتم فقال: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} أي الملك الأعظم الذي من كلمه أقبل كل شيء عليه، كلاما يدل على مرضى لكونهم لم يكلموا الناس بما كتب عليهم، وقال: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تأكيدا لما أشارت إليه "ما" من أن المراد بالذي قبله الحال، {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من دنس الذنوب، أو يثني عليهم، أو ينمي أعمالهم بما يحصل لهم من الميثاق في يوم التلاق، كما يزكي بذلك من يشاء من عباده، لأنهم كتموا عن العباد ما يزكيهم، وفي هذا تعظيم لذنب كتموا العلم {وَلَهُمْ} مع هذا العذاب {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما أوقعوا فيه الناس من التعب بكتمهم عنهم ما يقيمهم على المحجة السهلة.

ولما ذكر جزاءهم أتبعه ترجمة حالهم، مؤكدا لبعدهم فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} أي لجاجا وتماديا في الغي {الضَّلَالَةَ} عن طريق الخير، {بِالْهُدَى} ولما ذكر حالهم في الدنيا أتبعه أمر الآخرة فقال: {وَالْعَذَابَ} بارتكابهم هذه الموبقة {بِالْمَغْفِرَةِ} التي كانت تنجيهم إذا محت صغائرهم، لو سلموا من هذه العضلة التي كانت سببا لضلال خلق وكثير، فكان عليهم وزرهم. ولما جعل سبحانه وتعالى، أول مأكلهم نارا، وآخر أمرهم عذابا، وترجمة حالهم عدم المغفرة، فكان بذلك أيضا أوسط حالهم ناراً، سبب عنه التعجيب من أمرهم، بحبسهم أنفسهم في ذلك الذي هو معنى الصبر؛ لالتباسهم بالنار حقيقة، أو بموجباتها من غير مبالاة، فقال: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ} أي ما أشد حبسهم أنفسهم أو ما أجرأهم {عَلَى النَّارِ} التي أكلوها في الدنيا فأحسوا بها في الأخرى. ذكر كثيرا من ذلك الْحَرَالِّي، غير أني تصرفت فيه. انتهت نصوص تفسير الْحَرَالِّي المستخرجة من الجزء الثاني من تفسير البقاعي: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" من مطبوعات دائرة المعارف العثمانية 1 4 3 بالهند ط 1 - 1391 هـ - 1971 م

{ولكن البر من آمن}

نصوص تفسير الْحَرَالِّي المفقود المستخرجة من الجزء الثالث من تفسير البقاعي "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} قال الْحَرَالِّي: ففيه أي الإيمان بهم وبما قبلهم، قهر النفس للإذعان لمن هو من جنسها، والإيمان بغيب من ليس من جنسها، ليكون في ذلك ما يزع النفس عن هواها - انتهى. قال الْحَرَالِّي: فمن ظن أن حاجته يسدها المال، فليس برا، إنما البر الذي أيقن أن حاجته إنما يسدها ربه ببره الخفي - انتهى. {وَفِي الرِّقَابِ} قال الْحَرَالِّي: جمع رقبة، وهو ما ناله الرق من بني آدم، فالمراد الرقاب المسترقة التي يرام فكها بالكتابة، وفك الأسرى منه، وقدم عليهم أولئك لأن حاجتهم لإقامة البينة. {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} قال الْحَرَالِّي: من الإيفاء وهو الأخذ بالوفاء، والوفاء نجاز الموعود في أمر المعهود - انتهى. {وَالصَّابِرِينَ} قال الْحَرَالِّي: وفيه إشعار بأن من تحقق بالصبر على الإيثار، فكان

{والأنثى بالأنثى}

شاكرا، تحقق منه الصبر في الابتلاء والجهاد تاييداً من الله، سبحانه وتعالى، لمن شكره ابتداء، بإعانته على الصبر والمصابرة انتهاء، كأنه لما جاد بخير الدنيا على حبه، أصابه الله ببلائها تكرمة له، ليوفيه حظه من مقدوره في دنياه، فيكون ممن يستريح عند موته، وبأنه إن جاهد ثبت بما يحصل في نفس الشاكر الصابر من الشوق إلى لقاء الله، سبحانه وتعالى، تبرؤا من الدنيا، وتحققا وبمنال الخير من الله - انتهى. {فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} وقال الْحَرَالِّي البأساء فعلاء من البؤس، وهو سوء الحال والفاقة وفقد المنة عن إصلاحه، والضراء مرض البدن وآفاته، فكان البأساء في الحال، والضراء في البدن - انتهى. {وَحِينَ الْبَأْسِ} وقال الْحَرَالِّي: البأس الشدة في الحرب. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} قال الْحَرَالِّي: كأنه يتبع بالجاني إثر ما جنى، فيتبع إثر عقوبته إثر جنايته - انتهى. {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قال الْحَرَالِّي: لأن غير الجاني ليس قصاصا، بل اعتداء ثانيا، ولا ترفع العدوى بالعدوى، إنما ترفع العدوى بالقصاص، على نحوه وحده

- انتهى. قال الْحَرَالِّي: نقلا من عقاب الآخرة إلى ابتلاء الدنيا، ونقلا من ابتلاء الدنيا في الدم إلى الكفارة بأخذ حظ من المال، كما كان في الغداء الأول لذبح إبراهيم عليه الصلاة والسلام، من ولده. فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} عن جنايته، من العفو وهو جاء بغير تكلف ولا كره - انتهى. {مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وفي التعبير بلفظ الأخ، كما قال الْحَرَالِّي: تأليف بين الجاني والمجني عليه وأوليائه، من حيث {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} وإن لم يكن خطأ الطبع، فهو خطأ القصد، من حيث لم يقصد أن يقتل مؤمنا، إنما قصد أن يقتل عدواً وشاتما، أو عاديا على أهله وماله أو ولده، فإذا انكشف حجاب الطبع عاد إلى أخوه الإيمان، {فَاتِّبَاعٌ} أي فالأمر في ذلك اتباع من ولي الدم {بِالْمَعْرُوفِ} فيه توطين النفس على كسرها عن حدة ما تجره

{ولكم في القصاص حياة}

إليها أحقاد الجنايات، والمعروف ما شهد عيانه لموافقته وبقبول موقعه بين الأنفس؛ فلا يلحقها منه تنكر. ولما أمر المتبع أمر المؤدي فقال: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} لئلا يجمع بين جنايته، أو جناية وليه، وسوء قضائه، وفي إعلامه إلزام لأولياء الجاني بالتذلل والخضوع والإنصاف لأولياء المقتول، بما لهم من السلطان: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} فيراقبون فيهم رحمة الله التى رحمهم بها، فلم يأخذ الجاني بجنايته - انتهى. {مِنْ رَبِّكُمْ} وجمع الضمير مراعاة، كما قال الْحَرَالِّي، للجانبين، لأن كل طائفة معرضة لأن تصيب منها الأخرى - انتهى. {فَمَنِ اعْتَدَى} قال الْحَرَالِّي: وفي الآية دليل على أن القاتل عمدا لا يصير بذلك كافرا. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقال الْحَرَالِّي: فالحياة لمن سوى الجاني من عشيرته ممن كان يعتدى عليه بجناية في الدنيا، والحياة للجاني، بما اقتص منه، في

الأخرى، لأن من يكفر ذنبه حتى في الآخرة، ومن بقي عليه جناية فأخذ بها فهو في حال ذلك ممن لا يموت فيها ولا يحيى، لأن المعاقب في حال عقوبته لا يجد طعم الحياة لغلبة ألمه، ولا هو في الموت لإحساسه بعقوبته - انتهى. {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} قال الْحَرَالِّي: وهو باطن العقل الذي شأنه أن يلحظ أمر الله في المشهودات، كما شأن ظاهر العقل [أن] يلحظ الحقائق من المخلوقات، فهم الناظرون إلى ربهم في آياته - انتهى. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال الْحَرَالِّي: وفي إبهام {لَعَلَّ} التي هي من الخلق، كما تقدم، تردد، إعلام بتصنيفهم صنفين: [بين من -] يثمر ذلك له تقوى. وبين من يحمله ذلك ويزيده في الاعتداء - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما أظهر، سبحانه وتعالى وجوه التزكية في هذه الخطابات. وما ألزمه من الكتاب، وعلمه من الحكمة، وأظهر استناد ذلك كله إلى تقوى تكون وصفا ثابتا، أو استجداد معالجا، حسبما ختم به آية: {لَيْسَ الْبِرَّ}

من قوله: {هُمُ الْمُتَّقُونَ} وما ختم به آية القصاص في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} رفع رتبة الخطاب إلى ما هو حق على المتقين، حين كان الأول مكتوبا على المترجين لأن يتقوا [تربية وتزكية بخطاب يتسول به إلى خطاب أعلى في التزكية، لينتهي في الخطاب من رتبة -] إلى رتبة [إلى -] أن يستوفي نهايات رتب أسنان القلوب وأحوالها، كما تقدمت الإشارة إليه، ولما كان في الخطاب السابق ذكر القتل والقصاص الذي هو حال حضرة الموت، انتظم به ذكر الوصفين، لأنه حال من حضرة الموت. انتهى. ... {وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} قال الْحَرَالِّي: وكل ذلك في المحتضر، والمعروف ما تقبله الأنفس ولا تجد منه تكرها - انتهى. ... {فَمَنْ بَدَّلَهُ} وقال الْحَرَالِّي: لما ولى المتقين إيصال متروكهم إلى والديهم وقراباتهم فأمضوه بالمعروف، تولى عنهم التهديد لمن بدل عليهم، وفي إفهامه أن الفرائض إنما أنزلت عن تقصير وقع في حق الوصية، فكأنه لو بقي على ذلك لكان كل

{فمن خاف من موص جنفا}

المال حظا للمتوفى، فلما فرضت الفرائض اختزل من يديه الثلثان، وبقي الثلث على الحكم الأول، وبين أن الفرض عين الوصية، فلا وصية لوارث، لأن الفرض بدلها. انتهى. {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} قال الْحَرَالِّي: وكأن حقيقة معنى الجنف إخفاء حيف في صورة بر - انتهى. {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} وقال الْحَرَالِّي: وفي إشعاره بذكر الخوف من الموصي ما يشعر أن [ذلك -] في حال حياة الموصي، ليس بعد قرار الوصية على جنف بعد الموت، فإن ذلك لا يعرض له مضمون هذا الخطاب. وفي إيقاع الإصلاح على لفظة {بَيْنَ} إشعار بأن الإصلاح نأئل البين، الذي هو وصل ما بينهم، فيكون من معنى ما يقوله النحاة: مفعول على السعة، حيث لم يكن فأصلح بينه وبينهم - انتهى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فخاطب بما يتوجه بادىء بدئ إلى أدنى الطبقات التي التزمت [أمر الدين -]، لأنه لم يكن لم باعث حب وشوق

يبعثهم على فعله، من غير فرض، بخلاف ما فوقهم من رتبة المؤمنين والمحسنين، فإنهم كانوا يفعلون معالم الإسلام من غير إلزام. فكانوا يصومون على قدر ما يجدون من الروح فيه - قاله الْحَرَالِّي. وقال: فلذلك لم ينادوا في القرآن نداء بعد، ولا ذكروا إلا ممدوحين، والذين ينادون في القرآن هم الناس، الذين انتبهوا لما أشار به بعضهم على بعض، والذين آمنوا بما هم في محل الائتمار، متقاصرين عن البدار، فلذلك كل نداء في القرآن متوجه إلى هذين الصنفين، إلا ما توجه للإنسان بوصف ذم في قليل من الآي - انتهى. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وقال الْحَرَالِّي: فرض لما فيه من التهيئ لعلم الحكمة، وعلم ما لم تكونوا تعلمون، وهو الثبات على تماسك عما من شأن الشيء أن يتصرف فيه، ويكون شأنه كالشمس في وسط السماء، يقال: صامت - إذا لم يظهر لها حركة لصعود ولا لنزول التي [هي] من شأنها، وصامت الخيل

- إذا لم تكن [مركوضة ولا -] مركوبة، فتماسك المرء عما شأنه فعله من حفظ بدنه بالتغذي، وحفظ نسله بالنكاح، وخوضه في زور القول وسوء الفعل هو صومه. وفي الصوم خلاء من الطعام، وانصراف عن حال الإنعام، وانقطاع شهوات الفرج، وتمامه الإعراض عن أشغال الدنيا والتوجه إلى الله والعكوف في بيته، ليحصل بذلك نبوع الحكمة من القلب، وجعل كتبا حتى لا يتقاصر عنه من كتب عليه إلا انشرم دينه، كما ينشرم خرم القربة المكتوب فيها - انتهى. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال الْحَرَالِّي: وفي إشعاره تصنيف المأخوذين بذلك صنفين: من يثمر له صومه، على وجه الشدة، تقوى، ومن لا يثمر ذلك. ولما كان لهذه الأمة جمع لما في الكتب والصحف كانت مبادئ أحكامها على حكم

{أياما معدودة}

الأحكام المتقدمة، فكما وجهوا وجهة أهل الكتاب ابتداء، ثم ختم لهم بالوجهة إلى الكعبة انتهاء، كذلك صوموا صوم أهل الكتاب {أَيَّامًا مَعْدُودَةً} أي قلائل مقدرة بعدد معلوم ابتداء، ثم رقوا إلى صوم دائرة الشهر وحدة قدرا انتهاء، وذلك أنه لما كان من قبلهم أهل حساب، لما فيه حصول أمر الدنيا فكانت أعوامهم شمسية، كان صومهم عدد أيام لا وحدة شهر، وفي إعلامه إلزام بتجديد النية لكل يوم، حيث هي أيام معدودة، [و -] في إفهامه منع من تمادي الصوم في زمن الليل، الذي هو معنى الوصال، الذي يشعر صحته رفع رتبة الصوم إلى صوم الشهر الذي هو دورة القمر، يقنع الفطر في ليلة رخصة للضعيف، لا عزما على الصائم، وكان فيه من الكلفة ما في صوم أهل الكتاب، من حيث لم يكن فيه أكل ولا نكاح بعد نوم، فكان فيه كلفة ما في الكتب، لينال رأس هذه الأمة وأوائلها حظا من منال أوائل الأمم، ثم يرقيها الله إلى حكم ما يخصها، فتكون مرباة تجد طعم اليسر بعد العسر. انتهى. وفيه تصرف.

قال الْحَرَالِّي: قأنبأ بتمادي الصوم إلى السحر، لتنتقل وجبة الفطر التي توافق حال أهل الكتاب إلى وجبة السحر التي هي خصوص أهل الفرقان - انتهى. قال الْحَرَالِّي: وفي تأسيسه على العدد ملجأ يرجع إليه عند إغماء الشهر الذي هو الهلال، كما سيأتي التصريح به، فصار لهم العدد في الصوم بمنزلة التيمم في الطهور، يرجعون إليه عند ضرورة فقد إهلال الرؤية، كما يرجعون إلى الصعيد عند فقد الماء. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} قال الْحَرَالِّي: فبقى على حكم التحمل بيقين مما يغذو المؤمن، ويسقيه من غيب بركة الله، سبحانه وتعالى، كما قال، عليه الصلاة والسلام: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" فللمؤمن غذاء في صومه من بركة ربه، بحكم يقينه فيما لا يصل إليه من لم يصل إلى محله، فعلى قدر ما تستمد بواطن الناس من ظواهرهم، يستمد ظاهر الموقن من باطنه، حتى

يقوي في أعضائه بمدد نور باطنه، كما ظهر ذلك في أهل الولاية والديانة، فكان فطر المريض رخصة لموضع تداويه واغتذائه. {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال الْحَرَالِّي: ففيه إشعار بأن الصائم يناله من الخير في جسمه وصحته ورزقه حظ وافر مع عظم الأجر في الآخرة، كما أشار إليه الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي" وذلك لأنه لما كانت الأعمال: أفعالا، وإنفاقا، ويسيرا، وأحوالا، مما شأن العبد أن يعمله لنفسه ولأهله في دنياه، وكان من شأنه، [كانت له. ولما كان الصوم ليس من شأنه لم يكن له، فالصلاة مثلا أفعال وأقوال، وذلك من شأن المرء، والزكاة إنفاق، وذلك من شأنه، والحج ضرب في الأرض، وذلك من شأنه، وليس من شأنه] أن لا يأكل ولا يشرب ولا ينكح، ولا ينتصف ممن يعتدي عليه، "فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم" فليس جملة مقاصد الصوم من شأنه، وحقيقته إذبال جسمه، وإضعاف نفسه، وإماتته، [ولذلك كان الصوم كفارة للقتل خطأ، لينال بالصوم - من قتل نفسه] بوجه ما -[ما -] جرى على يده

{شهر رمضان}

خطأ من القتل، فكان في الصوم تنقص ذات الصائم، فلذلك قال تعالى: "فإنه لي" حين لم يكن من جنس عمل الآدمي، قال، سبحانه وتعالى: "وأنا أجزي به" ففي إشارته أن جزاءه من غيب الله، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كل ذلك في مضمون [قوله]: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} - انتهى. قال الْحَرَالِّي: كان خيرا حيث لم يكن بين جمع الصوم والإطعام تعاند، بل تعاضد، لما يشعر به لفظ الخير - انتهى. {شَهْرُ رَمَضَانَ} قال الحرالى: والشهر هو الهلال الذي شأنه [أن -] يدور دورة من حين أن يهل إلى أن يهل ثانيا، سواء كانت عده أيامه تسعا وعشرين أو ثلاثين، كلا العددين في صحة التسمية بالشهر واحد، فهو شائع في فردين متزايدي العدد بكامل العدة، كما يأتي أحد الفردين لمسماه رمضان. يقال هو اسم من أسماء الله [سبحانه وتعالى] واشتقاقه من الرمضاء، وهو اشتداد حر الحجارة من الهاجرة، كأن هذا الشهر سمي بوقوعه زمن اشتداد الحر، بترتيب أن يحسب المحرم من أول فصل الشتاء، أي ليكون ابتداء العام الأول ابتداء خلق بإحياء الأرض بعد موتها.

قال: وبذلك يقع الربيعان في الربيع الأرضي السابق، حين تنزل الشمس الحوت، والسماوي اللاحق، حين تنزل الشمس الحمل. وقال: إنه لما وقع لسابقة هذه الأمة صوم كصوم أهل الكتاب، كما وجهوا إلى القبلة أولا بوجه أهل الكتاب، تداركه الإرفاع إلى حكم الفرقان المختص [بهم -] فجعل صومهم القار لهم بالشهر، لأنهم أهل شهور ناظرون إلى الأهلة، ليسوا بالمستغرقين في حساب الشمس، فجعل صومهم لرؤية الشهر، وجعل لهم الشهر [يوما واحداً، كأنهم نقلوا من صوم أيام معدودات إلى صوم -] يوم واحد غير معدود لوحدته، لأنهم أمة أمية، {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} هي ميقات أمه محمد، - صلى الله عليه وسلم -، {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} هي ميقات موسى، عليه الصلاة والسلام، وأمته ومن بعده من الأمم إلى هذه الأمة. انتهى. قال الْحَرَالِّي: وأظهر فيه وجه القصد في الصوم وحكمته الغيبية التي لم تجر في الكتب الأول الكتابي فقال: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فأشعر أن في الصوم حسن تلق لمعناه، ويسرا لتلاوته، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار، وتهجد الليل، وهو صيغة مبالغة من القرء، وهو ما جمع الكتب والصحف والألواح - انتهى.

{هُدًى لِلنَّاسِ} قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بأن طائفة الناس يعليهم الصوم، أي بالتهيئة للتدبر والفهم وانكسار النفس إلى رتبة الذين آمنوا والمؤمنين، [ويرقيهم -] إلى رتبة المحسنين، فهو هدى يغذو فيه فقد الغذاء القلب، كما يغذو وجوده الجسم، ولذلك أجمع مجربة أعمال الديانة، من {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أن مفتاح الهدى إنما هو الجوع، وأن المعدة والأعضاء متى أوهنت لله، نور الله، سبحانه وتعالى، القلب، وصفي النفس، وقوي الجسم، ليظهر من أمر الإيمان بقلب العادة جديد عادة، هي لأوليائه أجل في القوة والمنة من عادته في الدنيا لعامة خلقه. وفي إشارته لمح لما يعان به الصائم من سد أبواب النار وفتح أبواب الجنة، وتصفيد الشياطين كل ذلك بما يضيق من مجاري الشياطين من الدم الذي ينقصه الصوم، فكان فيه مفتاح الخير كله، وإذا هدى الناس كان للذين آمنوا أهدى، وكان نورا لهم وللمؤمنين أنور، كذلك إلى أعلى رتب الصائمين

العاكفين الذاكرين الله كثيرا، الذين تماسكوا بالصوم عن كل ما سوى مجالسة الحق بذكره. وفي قوله: {وَبَيِّنَاتٍ} إعلام بذكر ما يجده الصائم من نور قلبه، وانكسار نفسه وتهيئة فكره لفهمه، ليشهد تلك البينات في نفسه، وكونها {مِنَ الْهُدَى} الأعم الأتم الأكمل الشامل لكافة الخلق {وَالْفُرْقَانِ} الأكمل، وفي حصول الفرقان عن بركة الصوم والذي هو بيان رتب ما أظهر الحق رتبه على وجهه إشعار بما يؤتاه الصائم من الجمع الذي هو من اسمه الجامع الذي لا يحصل ألا بعد تحقق الفرقان، [فإن -] المبني على التقوى المنولة للصائم في قوله في الكتب الأول {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهو صوم ينبني عليه تقوى ينبني عليها فرقان، كما قال تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} ينتهي إلى جمع يشعر به نقل الصوم من عدد الأيام إلى وحدة الشهر - انتهى. فعلى ما قلته المراد بالهدى الحقيقة، وعلى ما قاله الْحَرَالِّي هو مجاز علاقته السببية، لأن الصوم مهيئ للفهم، وموجب للنور. {وَالْهُدَى}

المعرف الوحي، أعم من الكتاب والسنة، أو أم الكتاب، أو غير ذلك، وعلى ما قال الْحَرَالِّي يصح أن يراد به القرآن الجامع للكتب كلها، فيعم الكتب الأول للأيام، والفرقان هو الخاص بالعرب الذي أعرب عن وحدة الشهر. {فَمَنْ شَهِدَ} قال الْحَرَالِّي: وفي شياعه إلزام لمن رأى الهلال وحده بالصوم، وقوله: {مِنْكُمُ} خطاب الناس ومن فوقهم، حين كان الصيام معليا لهم، {الشَّهْرَ} هو المشهود على حد ما تقول النحاة مفعول على السعة، لما فيه من حسن الإنباء وإبلاغ المعنى، ويظهر معناه قوله تعالى: {فَلْيَصُمْهُ} فجعله واقعا على الشهر، لا واقعا على معنى فيه، حيث لم [يكن: فليصم فيه -] وفي إعلامه صحة صوم ليلة، ليصير ما كان في الصوم الأول من السعة بين الصوم والفطر للمطيق واقعا هنا بين صوم الليل وفطره لمن رزق القوة بروح من الله تعالى - انتهى. {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} قال الْحَرَالِّي: فمرد هذا الخطاب من مضمون أوله فمعناه: فصومه عدة، من حيث لم يذكر في هذا

الخطاب الكتب، ليجري مرد كل خطاب على حد مبدئه، وفي قوله: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إعلام بأن القضاء لم يجر على وحدة شهر، لاختصاص الوحدة بشهر رمضان، ونزول قضائه منزلة الصوم الأول، [و -] في عدده، وفي إطلاقه أشعار بصحة وقوعه متتابعا وغير متتابع - انتهى. {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال الْحَرَالِّي: اليسر عمل لا يجهد النفس، ولا يثقل الجسم، والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم. وقال: فيه إعلام برفق الله بالأجسام التي يسر عليها بالفطر، وفي باطن هذا الظاهر إشعار لأهل القوة بأن اليسر في صومهم، وأن العسر في فطر المفطر، ليجري الظاهر على حكمته في الظهور، ويجري الباطن على حكمته في البطون، إذ لكل آية منه ظهر وبطن، فلذلك، والله، سبحانه وتعالى، أعلم، كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يصوم في رمضان في السفر، ويأمر بالفطر، وكان أهل القوة من العلماء يصومون ولا ينكرون الفطر - انتهى. {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} قال الْحَرَالِّي: التقدير: لتوفوا الصوم بالرؤية، ولتكملوا إن أغمى عليكم، ففي هذا الخطاب تعادل ذكر الصحو في الإبتداء بقوله: {شَهِدَ} وذكر الغيم في الانتهاء بالإكمال - انتهى.

{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} والتكبير إشراف القدر، أو المقدار، حسا أو معنى - قاله الْحَرَالِّي. قال الْحَرَالِّي: وفيه إشارة إلى ما يحصل للصائم بصفاء باطنه من شهود ما يليح له أثر صومه من هلال نوره العلي، فكما كبر في ابتداء الشهر لرؤية الهلال يكبر في انتهائه لرؤية باطنه مرأى من هلال نور ربه، فكان عمل ذلك هو صلاة ضحوة يوم العيد، وأعلن فيها بالتكبير، وكرر لذلك، وجعل في براح من متسع الأرض لمقصد التكبير، لأن تكبير الله سبحانه وتعالى إنما هو بما جل من مخلوقاته، فكان في لفظه إشعار لما أظهرته السنة من صلاة العيد على اختصاصها بتكبير الركعتين والجهر، لمقصد موافقة معنى التكبير الذي إنما يكون علنا - انتهى. {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وقال الْحَرَالِّي: إن الهداية إشارة إلى تلك الموجدة التي يجدها الصائم، وما يشهده الله من بركاته من رؤية ليلة القدر بكشف خاص لأهل الخلوة،

أو آيات بينة لأهل التبصرة، أو بآية بادية لأهل المراقبة، كلا على حكم وجده؛ من استغراق تماسكه وخلوته، واستغراق ذكره في صومه، فأعظم الهدى هدى المرء لأن يذبل جسمه ونفسه، وتفنى ذاته في حق ربه، كما يقول: "يدع طعامه وشرابه من أجلي" فكل عمل فعل وثبت إلا الصوم، فإنه محو وفقد، فناسب تحقيق ما هو الإسلام والتقوى من إلقاء منة الظاهر وقوة الباطن - انتهى. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال الْحَرَالِّي: فيه تصنيف في الشكر نهاية، كما كان فيه تصنيف للتقوى بداية، كما قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فمن صح له التقوى ابتداء، صح منه الشكر انتهاء، وفي إشعاره إعلام بإظهار نعمة الله وشكر الإحساس الذي هو مضمون [فرض -] زكاة الفطر عن كل صائم، وعمن يطعمه الصائم، فكان في الشكر إخراجه فطره بختم صومه، واستقبال فطره بأمر ربه، وإظهار شكره بما خوله بما إطعام عيلته، فلذلك جرت فيمن يصوم، وفيمن يعوله الصائم - انتهى.

{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وقال الْحَرَالِّي: لما أثبت الحق، سبحانه وتعالى، كتاب الصيام لعباده، لما أرادهم [له -] من إعلائهم إلى خبء جزائه، وأطلعهم على ما شاء في صومهم من ملكوته بحضور ليلة القدر، فأنهاهم إلى التكبير على عظيم ما هداهم إليه، واستخلفهم في فضله وشكر نعمته، بما خولهم من عظيم فضله، وأظهر عليهم من رواء بركاته ما يدعو الناظرين لهم إلى سؤالهم عما نالوه من ربهم، فيليحون لمن دونهم ما به يليق بهم [رتبة -] رتبة، يؤثر عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يكلم أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، فكأنما يتكلمان بلسان أعجم، لا أفهم مما يقولان شيئا" إلى أن ينتهي الأمر إلى أدنى

السائلين الذين هم في رتبة حضرة [بعد -]، فيثرون بمطالعة القرب، فقال: {وَإِذَا} عطفا على أمور متجاورة، كأنه يقول: إذا خرجت من معتكفك فصليت وظهرت زينة الله التي باهى بها ملائكته، ليست زينة الدنيا التي يتمقتها أهل حضرته من ملائكته، فإذا سألك من حاله كذا فأنبئه بكذا. وإذا سألك من حاله كذا فأنبئه بكذا، وإذا سألك من حاله كذا فأئبئه بكذا، [وإذا -] {سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} أي هل أنا على حال المتكبرين من ملوك الدنيا في البعد عمن دونهم، فأخبرهم أني لست كذلك. {فَإِنِّي قَرِيبٌ} قال الْحَرَالِّي: بشر أهل صفوة البعد بالقرب، لما رقى أهل القرب إلى الوصول بالقرب، فكان المبشر وأصلا، وكان المتقاصر عن القرب مبشرا به، ومعلوم أن قرب الله وبعد المخلوق منه ليس بعد مسافة، ولا قرب مسافة، فالذي يمكن إلا حته من معنى القرب أن من سمع، فيما يخاطب به، خطاب ربه، فهو قريب ممن كان ذلك الخطاب منه، ومن كان إنما يسمع الخطاب ممن واجهه بالخطاب في حسه ومحسوسه فسمعه من دون ربه، كان بعيداً بحسب تلك الواسطة، من بعد دون بعد إلى أبعد البعد، ولذلك يعلن للنبي، - صلى الله عليه وسلم -: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ

الْبَلَاغُ} وكان أن ما يتلوه لأمته إنما هو كلام ربهم، يتلو لهم كلام ربه، يسمعوه من ربهم، لأمته، حتى لا يكون، - صلى الله عليه وسلم -، واسطة بين العبد وربه، بل يكون يوصل العبد إلى ربه، وللإشارة بهذا المعنى يتلى كلمة {قُلْ} في القرآن، ليكون إفصاحا لسماع كلام الله، سبحانه وتعالى، ممن سمع، كائنا من كان. وفي إشعاره إهزار القلوب والأسماع إلى نداء الحج إثر الصوم، لأنه جعل، تعالى، أول يوم من شهور الحج إثر يوم من أيام الصوم، فكأن منادي الله ينادي يوم الفطر بالحج، ففي خفي إشارته إعلاء نداء إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، الذي تقدم أساس أمر الإسلام، على حنيفيته وملته، وليكون في هذه الآية الجامعة توطئة لذكر الحج، لما تقدم من أن هذه السورة تنتظم جوامعها خلال تفاصيلها انتظاما عجيبا، يليح المعنى لأهل الفهم، ويفصله لأهل العلم، ثم يحكم به على أهل الحكم. قال: {أُجِيبُ} من الإجابة، وهي اللقاء بالقول ابتداء شروع

لتمام اللقاء بالمواجهة، {دَعْوَةَ الدَّاعِ} ففيه إشعار بإجابة الداعي [أي الحج -] عند خاتمة الصوم، يعني لما بين العبادتين من تمام المناسبة، فإن حال الصوم التابع لآية الموت في كونه محوا لحال البرزخ، وحال الحج في كونه سفرا إلى مكان مخصوص على حال التجرد كحال الحشر. قال: وجاء الفطر، يعني بعد إكمال الصوم، بما يعين على إجابة دعوة الوفادة على الله، سبحانه وتعالى، إثر الخلوة في بيت الله، ليكون انتقالهم من بيت خلوته بالعكوف إلى موقف تجليه في الحج، وفيه تحقيق للداعي من حاله ليس الداعي من أغراضه وشهواته، فإن الله، سبحانه وتعالى، يجيب دعوة العبد إذا كان فيه رشد، وإلا ادخرها له أو كفر بها عنه، كما بينه، - صلى الله عليه وسلم -. ولما كان كل خلق داعيا لحاجته، وإن لم ينطق بها، أشار، تعالى، إلى مقصد إظهار الدعاء مقالا وابتهالا، فقال: {إِذَا دَعَانِ} ليكون حاله صدقا بمطابقة حاله [مقالا -].

وفي قراءة الاكتفاء بكسرة {الدَّاعِ} و {دَعَانِ} عن ياءيهما، وقراءة تمكينهما توسعة القراءة بما تيسر على قبائل العرب، بحسب ما في ألسنة بعضها من التمكين، وما في ألسنة بعضها من الحذف. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}. وفي إجابته حجة عليهم بأن السيد إذا التزم إجابة عبده كان إجابة العبد لسيده أوجب التزاما، لاستغناء السيد، وحاجة العبد، فحين كان الغني مجيبا، كان أولى بأن يكون المحتاج مستجيبا، يعني فلذلك سبب عنه قوله، إشارة إلى شرط الإجابة: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} إنباء عما قد دعاهم إليه من قربه وقصد بيته، بما جبلهم عليه من حاجتهم إليه، جاء بصيغة الاستفعال المشعر باستخراج الإجابة مما شأنه الإباء، لما في الأنفس من كره فيما تحمل عليه من الوصول إلى بيت لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس - انتهى وفيه تصرف. {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} قال الْحَرَالِّي: والرشد: حسن التصرف في الأمر حسا أو معنى، في دين أو دنيا، ومن [مقتضى -] هذه الآية تتفضل جميع أحوال السالكين إلى الله، سبحانه وتعالى، من توبة التائب من حد بعده إلى سلوك

{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم}

سبيل قربه [إلى -] ما يؤتيه الله من وصول العبد إلى ربه - انتهى. {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} قال الْحَرَالِّي: ففيه يسر، من حيث لم يؤاخذوا بذنب حكم خالف شرعة جبلاتهم، فعذرهم بعلمه فيهم، ولم يؤاخذهم بكتابه عليهم، وفي التوب رجوع إلى مثل الحال قبل الذنب، "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". وكانت هذه الواقعة لرجل من المهاجرين، ورجل من الأنصار، ليجتمع اليمن في الطائفتين، فإن أيمن الناس على الناس من وقع في مخالفة فيسر الله حكمها بوسيلة مخالفته، كما في هذه الآية التي أظهر الله، سبحانه وتعالى، الرفق فيها بهذه الأمة، من حيث شرع لها ما يوافق كيانها، وصرف عنها ما علم أنها تختان فيه لما جبلت عليه من خلافه، وكذلك حال الآمر، إذا شاء أن يطيعه مأموره يأمره بالأمور التي لو ترك ودواعيه لفعلها، وينهاه عن الأشياء التي لو ترك ودواعيه لاجتنبها، فبذلك يكون حظ حفظ المأمور من المخالفة، وإذا شاء

الله، تعالى، أن يشدد على أمة أمرها بما جبلها على تركه، ونهاها عما جبلها على فعله، فتفشو فيهم المخالفة لذلك، وهر من أشد الآصار التي كانت على الأمم، فخففت عن هذه الأمة بإجراء شرعتها على ما يوافق خلقتها، فسارع، سبحانه وتعالى، لهم إلى حظ من هواهم، كما قالت عائشة، رضي الله تعالى عنها، للنبي: "إن ربك يسارع إلى هواك" ليكون لهم حظ مما لنبيهم كليته، وقال، عليه الصلاة والسلام، لعلي رضي الله تعالى، عنه: "اللهم أدر الحق معه حيث دار" كان، - صلى الله عليه وسلم -، يأمر الشجاع بالحرب، ويكف الجبان عنه، حتى لا تظهر فيمن معه مخالفة إلا عن سوء طبع، لا يزعه وازع الرفق، وذلك قصد العلماء الربانيين الذين يجرون المجرب والمدرب على ما هو أليق بحاله وجبلة نفسه، وأوفق لخلقه، وخلقه، ففيه أعظم اللطف لهذه الأمة من ربها ومن نبيها ومن أئمة زمانها، ومنه قوله، عليه الصلاة والسلام: "لقد هممت أن أنهي عن الغيلة، حتى سمعت [أن] فارس [و] الروم يصنعون ذلك، فلا يضر ذلك

أولادهم شيئا" لتجري الأحكام على ما يوافق الجبلات، وطباع الأمم، لكونه رسولا إلى الناس كافة على اختلاف طبائعهم، وما في السنة والفقه من ذلك فمن مقتبسات هذا الأصل العلي الذي أجرى الله، سبحانه وتعالى، الحكم فيه لأمة محمد، - صلى الله عليه وسلم -، على وفق ما تستقر فيه أمانتهم، وتندفع عنهم خيانتهم. وفي [قوله -] {وَعَفَا عَنْكُمْ} أي [بمحو -] أثر الذنب [إشعار لما كان يستحق ذلك من تطهر منه من نحو كفارة وشبهها، ولما كان ما أعلى إليه -] خطاب الصوم صوم الشهر على حكم وحدته الآتية على ليلة ونهاره إعلاء عن رتبة الكتب الأول التي هي أيام معدودات مفصول ما بين أيامها بلياليها، ليجري النهار على حكم العبادة، والليل على حكم الطبع والحاجة، فكان في هذا الإعلاء إطعام الضعيف مما يطعمه الله ويسقيه، لا لأنه منه أخذ

يطبع، بل بأنه حكم عليه بشرع، حين جعل الشرعة على حكم طباعهم، كما قال في الساهي: "إنما أطعمه الله وسقاه". وفيه إغناء القوي عن الطعام والشراب، كما قال، عليه الصلاة والسلام: "إني لست كهيئتكم" فكان يواصل، وأذن في الوصال إلى السحر، فكما أطعموا وسقوا شرعة مع تمادي حكم الصوم، فكذلك أنكحوا شرعة مع تمادي حكمه، فكان نكاحهم ائتمارا بحكم الله، لا إجابة طبع ولا غرض نفس، فقال: {فَالْآنَ} أي حين [أظهر -] لكم إظهار الشرعة على العلم فيكم، وما جبلت عليه طباعكم فسدت عنكم أبواب المخالفة التي فتحت على غيركم، "باشروهن" حكما، حتى استحب طائفة من العلماء النكاح للصائم ليلا، حيث صار طاعة، وهو من المباشرة، وهي التقاء البشرتين عمداً {وَابْتَغُوا} أي اطلبوا بجد ورغبة {مَا كَتَبَ اللَّهُ} أي الذي له القدرة الكاملة، فلا يخرج شيء عن أمره {لَكُمْ} أي من الولد أو المحل الحل، وفيه إشعار بأن ما قضى من الولد في ليالي رمضان نائل بركة ذرئه على نكاح أمر

به، حتى كان بعض علماء [الصحابة] يفطر على النكاح {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} كان - صلى الله عليه وسلم -، يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء، وقال: "إن الماء طهور" وفي تقديم الأكل إجراء لحكم هذا الشرع على وفق الطبع - انتهى. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} قال الْحَرَالِّي: بصيغة يتفعل، وهو حيث يتكلف الناظر نظره، وكأن الطالع يتكلف الطلوع، ولم يقل: بين، لأن ذلك يكون بعد الوضوح - انتهى. {لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} وقال الْحَرَالِّي: فمد إلى غاية انتهاء الليل وتبين حد النهار بأرق ما يكون من مثل الخيط. {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} وقال الْحَرَالِّي: ففيه إنهاض لحس الاستبصار في ملتقى الليل والنهار، حتى يؤتى العبد نور حسن بتبين ذلك على دقته [ورقته]، وقد كان أنزل هذا المثل دون بيان ممثوله، حتى [أخذ -] أعرابي

ينظر إلى خيطين محسوسين، فأنزل {مِنَ الْفَجْرِ} يعني فبين الأبيض، فأخرجه بذكر المشبه من الاستعارة إلى التشبيه، لأن من شرائطها أن يدل عليها الحالة أو الكلام، وهذه الاستعارة، وإن كانت متعارفة عندهم، فقد نطقت بها شعراؤهم، وتفاوضت [بها -] فصحاؤهم وكبراؤهم، لم يقتصر عليها، وزيد في البيان، لأنها خفيت على بعض الناس، منهم عدي بن حاتم، رضي الله تعالى عنه، فلم تكن الآية مجملة، ولا تأخر البيان عن وقت الحاجة، ولو كان الأمر كذلك ما عاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، على عدي، رضي الله تعالى عنه، عدم فهمها. وقال الْحَرَالِّي في كتاب له في "أصول الفقه"، بناء على أنها مجملة، والخطاب بالإجمال ممكن الوقوع، وليس يلزم العمل به، فالإلزام تكليف ما لا يطاق، وإلزام العمل يستلزم البيان، وإلا عاد ذلك الممتنع، وتأخير بيان المجمل إلى وقت الإلزام ممكن، لأن في ذلك تناسب حكمة الوحي المنزل بحكمة العالم المكون، فإن الإجمال في القرآن بمنزلة نطق الأكوان، والبيان بمنزلة تخطيط

الصور، وذلك ظاهر عند من زاوله، وحينئذ فلا يقال خطاب الإجمال عديم الفائدة، لأنه يفيد تدريج حكمة التنزيل وتحصيل بركة التلاوة، وفي الاقتصار على بيانه [نمط -] من فصاحة الخطاب العربي، حيث لم يكن فيه ذكر الممثولين، اكتفاء بأحدهما عن الآخر، ففيه تأصيل لأصل البيان من الإفهام، حيث لم يقل: {مِنَ اللَّيْلِ} كما قال: {مِنَ الْفَجْرِ} [اكتفاء بما -] في الفهم من الذكر، وفي وقوع المبين إثر غير مثله [نمط -] آخر من فصاحة الخطاب العربي، [لأن العرب] يردون الثالث إلى الأول، لا إلى الثاني، ليتعلق بالأول في المعنى، وينتظم بالثاني في اللفظ، فيكون محرز المحل المفهوم راجعا إلى الأول بالمعنى - انتهى. {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وقال الْحَرَالِّي: فكان صوم إتماما لبدء ما صوم ليلة، فكأنه في الليل صوم ليس بتام، لانثلامه للحس، وإن كان في المعنى صوما، ومن معناه رأي بعض العلماء الشروع في الاعتكاف قبل الغروب، لوجه مدخل الليل في الصوم التام بالعكوف، وإضافة الليل للنهار في حكم صوم ما، وهو في النهار تمام بالمعنى والحس، وإنما ألزم بإتمام الصوم نهارا واعتد به ليلا وجرى فيه الأكل والنكاح بالأمر، لأن النهار معاش، فكان الأكل فيه أكلا في وقت انتشار الخلق،

وتعاطي بعضهم من بعض، فيأنف عنه المرتقب، ولأن الليل سبات، ووقت توف وانطماس، فبدأ فيه من أمر الله ما انحجب ظهوره في النهار، كأن المطعم بالليل طاعم من ربه الذي هو وقت تجليه: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا" فكأن الطاعم في الليل إنما أطعمه الله وسقاه، فلم يقدح ذلك في معنى صومه وإن ظهر صورة وقوعه في حسه كالناسي، بل المأذون له أشرف رتبة من الناسي - انتهى. {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. قال الْحَرَالِّي. وإنما كان العاكف في المساجد مكملا لصومه، لأن حقيقة الصوم التماسك عن كل ما شأن المرء أن يتصرف فيه من بيعه وشرائه وجميع أغراضه، فإذاً المعتكف المتماسك عن التصرف [كله -] إلا ما لابد له من ضرورته، والصائم المكمل صيامه والمتصرف الحافظ للسانه الذي لا ينتصف بالحق ممن اعتدى عليه هو

{وتدلوا بها إلى الحكام}

المتمم [للصيام، ومن نقص عن ذلك فانتصف بالحق ممن اعتدى عليه - فليس بمتمم للصيام، فمن أطلق لسانه وأفعاله [فليس لله حاجة يدع طعامه وشرابه]، فإذاً حقيقة الصوم هو الصوم لا صورته، حتى ثبت معناه للأكل ليلا ونهارا، قال، - صلى الله عليه وسلم -، "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنهما صام الدهر كله" وقال، - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة أيام من كل شهر، فذلك صوم الدهر" وكان بعض أهل الوجهة من الصحابة يقول قائلهم: أنا صائم، ثم يرى يأكل من وقته، فيقال له في ذلك، فيقول: قد صمت ثلاثة أيام من هذا الشهر، فأنا صائم في فضل الله، مفطر في ضيافة الله؛ كل ذلك اعتداد من أهل الأحلام والنهي بحقيقة الصوم أكثر من الاعتداد بصورة ظاهرة - انتهى بمعناه. {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [قال الْحَرَالِّي]: وهو من معنى إنزال الدلو خفية في البئر ليستخرج منه ماء، فكأن الراشي يدلي [دلو -] رشوته للحاكم خفية ليستخرج جوره ليأكل به مالاً - انتهى. {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال الْحَرَالِّي: في

مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما كان منزل القرآن لإقامة الأمور الثلاثة التي بها قيام المخاطبين به: وهو صلاح دينهم، وهو ما بين العبد وربه، من عمل أو إلقاء بالسلم إليه، وإصلاح دنياهم، وهو ما فيه معاش المرء، وإصلاح آخرتهم، وهو ما إليه معاده، كان لذلك منزل القرآن مفصلا بأحكام تلك الأمور الثلاثة، فكان شذرة للدين، وشذرة للدنيا، وشذرة للآخرة، فلما كان في صدر هذا الخطاب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} وهو خطاب للملوك، ومن تبعهم من رؤساء القبائل، ومن تبعهم، انتظم به بعد ذلك حكم من أحكام أهل العلم ومن تبعهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} الآية، ثم انتظم به ذكر الوصية من أهل الجدة، ثم انتظم به ذكر أحوال الرشي من الراشي والمرتشي، ليقع نظم التنزيل ما بين أمر في الدين، ونهي في الدنيا، ليكون ذلك أجمع للقلب في قبول حكم الدنيا عقب حكم الدين، ويفهم حال المعاد من [عبرة -] أمر الدنيا، فلذلك تعتور الآيات هذه المعانى، ويعتقب بعضها لبعض، ويتفصل بعضها ببعض، كما هو حال المرء في يومه وفي مدة عمره، حيث تعتور عليه أحوال

{يسألونك عن الأهلة}

دينه ودنياه ومعاده، يطابق الأمر الخلق في التنزيل والتطوير - انتهى. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} قال الْحَرَالِّي: وهي جمع هلال، وهو ما يرفع الصوت عند رؤيته، فغلب على رؤية الشهر الذي هو الهلال. انتهى. {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} قال الْحَرَالِّي: وهو حشر العباد إلى الموقف في شهور آخر السنة، فهو أمر ديني، مشعر بختم الزمان وذهابه، لما فيه من آية المعاد - انتهى. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} قال الْحَرَالِّي: بالرفع والتخفيف؛ استدراكا لما هو البر، وإعراضا عن الأول، وبالنصب والتشديد مع الالتفات إلى الأول لمقصد طرحه - انتهى. {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} والباب المدخل للشيء المحاط بحائط يحجزه ويحوطه. قاله الْحَرَالِّي. وتقدم تعريفه له بغير هذا. {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وذكر الْحَرَالِّي: إن أكثر ما يقع [فيه -] سؤال يكون مما ألبس فتنة أو أشرب محنة، أو أعقب بعقوبة، ولذلك قال تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} وكره رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، المسائل وعابها، وقال: "دعوني ما تركتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة

{وقاتلوا في سبيل الله}

سؤالهم" الحديث. ومنه كره وتكلف توليد المسائل، لأنه شغل عن علم التأصيل وتعرض لوقوعه، كالذي سأل عن الرجل يبتلي في أهله فابتلى به. ويقال: كثرة توليد مسائل السهو أوقع فيه. وقال: وهذه الآية كالجامعة الوطئة لما ذكر بعدها من أمر توقيت القتال الذي كانوا عليه، كما كان من أمر الجاهلية حكم التخرج من القتال في الأشهر الحرم، والتساهل فيه في أشهر الحل، مع كونه عدوى بغير حكم حق، فكان فيه عمل بالفساد وسفك الدماء - انتهى وفيه تصرف - {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: من حيث إنه حظيرة على دين الإسلام المقيد بالمواقيت، من حيث إن الإسلام عمل يقيده الوقت، والدفع عنه أمر لا يقيده وقت، بل أيان طرق الضر لبناء الإسلام دفع عنه، كما هو حكم الدفع في الأمور الدينية، فكانت الصلاة لمواقيت اليوم والليلة، والصوم والحج لمواقيت الأهلة، والزكاة لميقات الشمس، والجهاد لمطلق الميقات، حيثما وقع من مكان وزمان، ناظرا بوجه ما لما يقابله من عمود الإسلام الذي هو ذكر كلمة

{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}

الإخلاص، وهي: "لا إله إلا الله" على الدوام. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}. {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} انتهى. {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} قال الْحَرَالِّي: ففي طبه إشعار بما وقع، وهو واقع، وسيقع، من قتال طائفة الحق لطائفة البغي سائر اليوم المحمدي، بما تخلص من الفتنة ويخلص الدين لله توحيدا ورضى وثباتا، على حال السلف الصالح وزمان الخلافة والنبوة - انتهى. {فَإِنِ انْتَهَوْا} والنهي: قال الْحَرَالِّي: الحكم المانع من الفعل المترامي إليه بمنزلة أثر العقل المسمى نهى، لمنعه عما تهوى إليه النفس مما يستبصر فيه النهي، قال، عليه الصلاة والسلام: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهي" فمن لم يكن من أهل النهي كان نهاه النهي، وهو الحكم المذكور - انتهى. {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} قال الْحَرَالِّي: فذكر الظلم الشامل لوجوه إيقاع الأمر في غير موضعه من أعلى الدين إلى أدناه - انتهى.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} قال الْحَرَالِّي: ففي ضمنه إشعار وتطريق لمقصد السماح الذي هو خير الفضائل؛ من وصل القاطع، والعفو عن الظالم. ولما كان في هذه التقوى خروج عن حظ النفس، أعلمهم أنه، تعالى، يكون عوضا لهم من أنفسهم، بما اتقوا وداوموا على التقوى، حتى كانت وصفا لهم، فأعلمهم بصحبته لهم - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولمكان ما لزم العفو من العز الذي جاء على خلاف غرض النفس، نظم به، تعالى، ما يجيء على خلاف مدرك الحس في الإنفاق، الذي يحصل به الزكاء والنماء، وأيضا لما أسس، تعالى حكم الجهاد، الذي هو أشق الأعمال على النفس، نظم به أمر الجود والإنفاق، الذي هو أشق منه على الأنفس. ومن حيث [إن -] القتال مدافعة يشتمل على عدة وزاد، لم يكن أمره يتم

{وأنفقوا في سبيل الله}

إلا بإعمال الغريزتين: الشجاعة والجود. ولذلك كان أشد الآفات في الدين البخل والجبن - انتهى. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: فالنظر للأموال بإنفاقها بإصلاحها وإثباتها، فانتظم الخطابان: ما في العفو من العز، وما في الإنفاق من النماء. وأكد ذلك بالإعلام بما لا تصل إليه مدارك الأنفس من أن إصلاح الأموال وإمساكها تهلكة - انتهى. {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال الْحَرَالِّي: إحاطة الخطاب تقتضي أن التهلكة تضييع القتال والإنفاق اللذين بتركهما تقع الاستطالة على مبنى الإسلام [فيتطرق -] إلى هدمه، ولما كان أمر الإنفاق أخص بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال، لتجرد المهاجرين عنها، كان في ضمنه أن أكثر فصل الخطاب فيه للأنصار - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال الْحَرَالِّي: فانتظم ختم الخطابين بأن لا يقع الاعتداء في القتل، وأن يقع الإحسان في المال، وفي إشعاره حض الأنصار على إنفاق أموالهم، يتلون به حال الهاجرين في التجرد عنها، فكما كان أمر المهاجرين

{فإن أحصرتم}

أن لا ينقضوا الهجرة كان أمر الأنصار أن لا يلتفتوا إلى الدنيا، فما خرج المهاجرون عن أصله، خرج الأنصار عند التمسك به عن وصفه، فكان إعراضهم تابعا لترك المهاجرين [أموالهم -]. {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} من الإحصار، وهو منع العدو والمحصر عن متصرفه كالمرض يحصره عن التصرف في شأنه - قاله الْحَرَالِّي. {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} قال الْحَرَالِّي: وهو إزالة ما يتأتى للزوال بالقطع من الآلة الماضية في عمله، والرأس مجتمع الخلقة، ومجتمع كل شيء رأسه - انتهى. {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} قال الْحَرَالِّي: والهدي ما تقرب به الأدنى للأعلى، وهو اسم ما يتخذ فداء من الأنعام، بتقديمه إلى الله، سبحانه وتعالى، وتوجيهه إلى البيت العتيق. وفي تعقيب الحلق بالهدي إشعار باشتراكهما في معنى واحد، وهو الفداء. والهدي في الأصل فداء لذبح الناسك نفسه لله، سنة إبراهيم في ولده،

عليهما الصلاة والسلام، ولإزالة الشعر فداء من جزاء لرأس لله، ولذلك لما سئل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عن تقديم أحدهما على الآخر قال: "افعل ولا حرج"، لأن الجميع غاية بالمعنى الشامل للفداء - انتهى. {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} لأن الصدقة، كما قال الْحَرَالِّي، عدل الصيام عند فقده، كما تقدم. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} قال الْحَرَالِّي: فيكون الصوم عدلا للهدي الذي يطعمه المهدي. كما كان الإطعام عدلا للصوم في أية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} - انتهى. {تِلْكَ عَشَرَةٌ} قال الْحَرَالِّي: معاد عد الآحاد [إلى -] أوله. {كَامِلَةٌ} والكمال: قال الْحَرَالِّي: الإنتهاء إلى الغاية التي ليس وراءها مزيد من كل وجه. وقال: فكما استوى حال الهدي في بنائه إلى الحرم أو الحل، كذلك استوى حال الصوم في البلد الحرام والبلد الحلال، ليكون في إشارته إشعار بأن الأرض لله مسجد، كما أن البلد الحرام لله مسجد، فأظهر معنى استوائهما في الكمال في حكم الأجر لأهل الأجور، والقبول لأهل القبول، والرضا، لأهل الرضا

{فمن فرض فيهن الحج}

والوصول لأهل الوجهة كل عامل على رتبة عمله - انتهى. {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ} وقال الْحَرَالِّي: والأهل سكن المرء من زوج ومستوطن. {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال الْحَرَالِّي: إفصاحا بما أفهمه معنى المتعة: وذلك لأن الله، عز وجل، إذا تولى إبانة عمل أنهاه إلى الغاية في الإفصاح - انتهى. قال الْحَرَالِّي: لما تجره النفوس من مداخل نقص في النيات والأعمال والتنقلات من الأحكام إلى أبدالها، فما انبنى على التقوى خلص، ولو قصر - انتهى. {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} قال الْحَرَالِّي: لأن الفرائض من لم يقمها تساقط عضواً عضواً قائم دينه، كما أن النوافل من لم يأت بها عري من زينتها، فكانت الفروض صحة، والنوافل زينة، وفي قوله: {فِيهِنَّ} إشعار بصحة وقوع الحج في بعضهن، وأن الحج ليس كالصوم، طبق زمانه، فكان من العبادات ما هو طبق زمانه كالصوم، وما يتسع فيه كالصلاة، وما لابد أن ينتهي إلى خاتمته كالحج، وتقع التوسعة في الشروع - انتهى. {وَلَا فُسُوقَ} قال الْحَرَالِّي: هو الخروج عن إحاطة العلم والعقل والطبع - انتهى. {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال الْحَرَالِّي: فمنع في الحج من الإقبال على الخلق، بما

فيه كره من رفث ومسابة وجدال، حتى لا يقبل الخلق على الخلق في الحج إلا بما الإقبال فيه إقبال على الحق بالحقيقة، فما ينزه الحق، تعالى، عن مواجهته بما [يتحامى -] مع الخلق في زمن الحج، كما تحومى ما يختص بالنفس من الأحداث في عمل الصلاة. وفي وروده نفيا لا نهيا إعلام بأنه مناقض لحال الحج، حين نفى، لأن شأن ما يناقض أن ينفي، وشأن ما لا يناقض ويخالف أن ينهي عنه، كما قال فيما هو قابل للجدال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وبين خطاب النهي والنفي فوت في الأحكام الشرعية، ينبني الفقه في الأحكام على تحقيقه في تأصيلها، والتفريع عليها - انتهى. {وَمَا تَفْعَلُوا}. وقال الْحَرَالِّي: ولما حمى من سوء معاملة الخلق مع الخلق عرض بأن يوضع موضع ذلك الإحسان، فيقع في محل إخراج الأنفس أن يتودد إليها بإسداء الخير، وهو الإحسان من خير الدنيا.

{فاذكروا الله عند المشعر الحرام}

ففي إعلامه تحريض على إحسان الحاج بعضهم لبعض، لما يجمع وفده من الضعيف. والمنقطع، فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا} انتهى. {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وفي التجرد مداخل خلل في بعض نيات الملتبسين بالمتوكلين من الاتكال على الخلق، فأمر الكل بالتزود ستراً للصنفين، إذ كل جمع لابد فيه من كلا الطرفين - قاله الْحَرَالِّي. وقال: وفي ضمنه تصنيفهم ثلاثة أصناف: متكل لا زاد معه، فمعه خير الزادين، ومتمتع لم يتحقق تقواه، فلا زاد له في الحقيقة، وجامع بين التقوى والمتعة، فذلك على كمال السنة، كما قال، عليه الصلاة والسلام: "قيدها وتوكل" لأن ذلك أستر للطرفين، وحقيقة التقوى في أمر التزود النظر إلى الله، تعالى، في إقامة خلقه وأمره. قال بعض أهل المعرفة: من عوده الله، سبحانه وتعالى، دوام النظر إليه بالغيبة عما سواه، فقد ملك الزاد، فليذهب حيث شاء، فقد استطاع سبيلا - انتهى. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} قال الْحَرَالِّي: وذلك حظ من الوقوف هنيهة وقت في البلد الحرام، عند إقبال النهار، معادلة للوقوف بعرفة من الحل إلى إقبال الليل،

ليتثنى الوقوف في الحل والحرم، فكان فيه موقف نهار ينتهي إلى الليل في عرفة، وموقف ليل ينتهي إلى النهار في المشعر، فوقف فيه، - صلى الله عليه وسلم -، بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس، وهو ذكره عنده، لأن الذكر بحسب الذاكر، فذكر اللسان القول، وذكر البدن العمل، وذكر النفس الحال والانفعال، وذكر القلب المعرفة والعلم واليقين، ونحو ذلك، ولكل شيء ذكر بحسبه، وفي جمع الموقفين في الحل والحرم، في معلم الحج الذي هو آية الحشر، إيذان وبشرى بأن أهل الموقف صنفان: [صنف -] يقفون في موطن روع ومخافة وقوفا طويلا؛ اعتبارا بوقوف الواقفين بعرفة، من حين زوال الشمس إلى غروبها، ست ساعات. وصنف حظهم من الوقوف قرار في أمنة ظل العرش الذي هو حرم يوم القيامة وكعبته، فتشعر خفة الوقوف بالمشعر الحرام أن أمد طول ذلك اليوم يمر على المستظلين بظل العرش فيه كأيسر مدة، كما قال، عليه الصلاة والسلام، بمقدار صلاة مكتوبة، فكان في ذلك فضل ما بين موقف الحرم على موقف الحل - انتهى. {ثُمَّ أَفِيضُوا} وقال الْحَرَالِّي: لما كان للخطاب ترتيب للأهم فالأهم، كما كان للكيان ترتيب للأسبق فالأسبق، كان حرف المهلة الذي هو "ثم" يقع تارة

{فاذكروا الله كذكركم آباءكم}

لترتيب الكيان، وتارة لترتيب الأخبار، فيقول القائل مثلا: امش إلى حاجة كذا - تقديما في الخبر للأهم - ثم ليكن خروجك من موضوع كذا، فيكون السابق في الكيان متأخرا بالمهلة في الإخبار، فمن معنى ذلك قوله - انتهى. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} قال الْحَرَالِّي: والعادات أشد ما على المتعبدين، والطريق إلى الله، تعالى، بخلعها، وقد كان جدالهم، أي في وقوفهم في الحرم، بغير علم، لأن العلم يقتضي أن الواقف خائف، والخائف لا يخاف في الحرم، لأن الله، سبحانه وتعالى، جعل الحرم أمنا، فمن حق الوقوف أن يكون في الحل، فإذا أمن دخل الحرم، وإذا دخل الحرم أمن - انتهى. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} قال الْحَرَالِّي: فانتظم ذكر إخراجهم عن قولهم المعهود بإخراجهم عن موقفهم المعهود إخراجا لهم عن معتادهم في أعمالهم وأحوالهم. وفي إعلامه أخذ للخلق بأن يعاملوا الحق معاملة من يجعلونه من الخلق، وذلك عن بلية ما غلب عليهم من التقيد بما يرون، وضعف الإيمان بما سمعوا أو علموا.

ولما كان في هذه التربية بخس جرى عليه هذا الخطاب، كما ورد: "استحى من الله كما تستحي رجلا جليلا من قومك" قال تعالي: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} - انتهى. قال الْحَرَالِّي: فرفع الخطاب إلى ما هو أليق [بالحق -] من إيثار ما برجع إليه على ما يرجع إلى الخلق [انتهى -]. {مِنْ خَلَاقٍ} قال الْحَرَالِّي: والخلاق: الحظ اللائق بالخلق والخلق. {فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال الْحَرَالِّي: وهي الكفاف من المطعم والمشرب والملبس والمأوى والزوجة على ما كانت لا شرف فيها - انتهى. {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} قال الْحَرَالِّي: وكلية الحج ومناسكه مطابق في الاعتبار لأمر يوم الحشر ومواقفه، من خروج الحاج من موطنه متزودا، كخروج الميت من الدنيا متزودا بزاد العمل، ووصوله إلى الميقات، وإهلاله متجردا، كانبعاثه من القبر متعريا - وتلبيته في حجه كتلبيته في حشره

{يعجبك}

{مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} كذلك اعتباره موطنا إلى غاية الإفاضة والحلول بحرم الله في الآخرة التي هي الجنة، والشرب من ماء زمزم التي هي آية نزول الله لأهل الجنة على وجوه عن الاعتبارات، يطالعها أهل الفهم واليقين، فلأجل ذلك كان أتم ختم لأحكام الحج ذكر الحشر - انتهى. {يُعْجِبُكَ} ويعجب من الإعجاب، وهو كون الشيء خارجا عن نظائره من جنسه، حتى يكون ندرة في صنعه - قاله الْحَرَالِّي. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} واللدد: شدة الخصومة، والخصام القول الذي يسمع المصيح، ويولج في صماخه ما يكفه عن مزعمه ودعواه، قاله الْحَرَالِّي. {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ} قال الْحَرَالِّي: سماه حرثا لأنه الذي نسبه إلى الخلق، ولم يسمه زرعا، لأن ذلك منسوبا إلى الحق - انتهى. {وَالنَّسْلَ} قال الْحَرَالِّي: وهو استخراج لطيف الشيء من جملته - انتهى.

{ولا تتبعوا خطوات الشيطان}

{فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} قال الْحَرَالِّي: فلمعنى ما يختص بالحكم يسمي، تعالى، النار باسم من أسمائها - انتهى. {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} والمهاد موطن الهدوء والمستطاب مما يستفرش ويوطأ - قاله الْحَرَالِّي. وقال: فيه إشعار بإمهال الله، عز وجل، لهذه الأمة رعاية لنبيها [فأحسب -] فاجرها وكافرها بعذاب الآخرة، ولو عاجل مؤمنها بعقوبة الدنيا، فخلص لكافرها الدنيا، ولمؤمنها الآخرة، وأنبأ بطول المقام والخلود فيها. {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قال الْحَرَالِّي: ففي إفهامه أن التسليط في هذا اليوم له، وفيه إشعار وإنذار بما وقع في هذه الأمة، وهو واقع، وسيقع، من خروجهم من السلم إلى الاحتراب بوقوع الفتنة في الألسنة والأسنة على أمر الدنيا، وعودهم إلى أمور جاهليتهم، لأن الدنيا أقطاع الشيطان، كما أن الآخرة خلاصة الرحمن. فكان ابتداء الفتنة منذ كسر الباب الموصد على السلم، وهو عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فلم يزل الهرج، ولا يزال، إلى أن تضع الحرب أوزارها.

{فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات}

{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} قال الْحَرَالِّي: بينات التجربة شهودا ونبأ عما مضى، وتحققا بما وقع. وقال: [إن] التعبير بـ"إن" يشعر بأنهم يستزلون، والتعبير بالماضي إشعار بالرجوع عنه، رحمة من الله لهم، كرحمته قبل لأبويهم، حين أزلهما الشيطان، فكما أزل أبويهم في الجنة عن محرم الشجرة، أزلهم في الدنيا عن شجرة المحرمات من الدماء والأموال والأعراض - انتهى. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قال الْحَرَالِّي: وإتيان الله في محل الايمان أمر مبهم لا يناله علم العالمين، ويقف دونه إيمان المؤمنين، لا يأخذونه بكيف، ولا يتوهمونه بوهم، وإتيان الله في أوائل فهمالفاهمين، بدو أمره، وخطابه ف محل ما من السماء رالأ! ض أو العرش أو الكرسي، أو ما شاء من خلقه، فهو، تعالى، يجل أن يحجبه كون، فحيث ما بدأ خطابه كفاحا بواسطة، فهناك هو: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} إلي {إِنِّي أَنَا

{زين}

اللَّهُ} وفي الكتاب الأول: "جاء الله من سيناء" - انتهى. {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان هذا الذي أندروز به أمراً مجملا، أحيلوا في تفاصيل الوقائع تخصيص الملاحم، ووقوع الأشباه وللنظائر، على ما تقدم ووقع مثاله في بني إسرائيل لتكرار ما وقع فيهم في هذه الأمة، حذو النعل بالنعل،، والقذة [بالقذة -] فقال: {سَلْ} " استنطاقا لحالهم، لا لإنبائهم وإخبارهم، فالتفات النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يشهده الله من أحوال بني إسرائيل وأحوال ملوكهم وأحبارهم وأيامهم وتفرقهم واختلافهم وصنوف بلاياهم، هو سؤاله وأستبصاره، لا أن يسأل واحدا فيخبره - انتهى. {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: وأصل هذا التبديل رد علم العالم عليه، ورد صلاح الصالح إليه، وعدم الاقتداء بعلم العالم، والاهتداء بصلاح الصالح، وذلك المشاركة التي تقع بين العامة والعلماء والصلحاء، وهو كفر نعمة الله وتبديلها - انتهى. {زُيِّنَ} قال الْحَرَالِّي: من التزيين بما منه الزينة وهي بهجة العين التي لا تخلص إلى باطن المزين - انتهى.

{ويسخرون}

{لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قال الْحَرَالِّي: ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما، من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصر طيتها، ويشهد جيفتها، فلا يغتر بزينتها، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق، وأبهم، تعالى، المزين في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان، وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله، كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} - انتهى. {وَيَسْخَرُونَ} وقال الْحَرَالِّي: هو استزراء العقل معنى، بمنزلة الاستسخار في العقل حسا، {مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}: لما هم فيه من الضعف والحاجة لإعراضهم عن الدنيا، رغبة فيما عند الله، لما وهبهم الله، سبحانه تعالى، من العلم الخارق لتلك الحجب، الكاشف لأستار المغيب، ولأن الله يزوي عنهم الدنيا، ويحميهم منها، رغبة بهم عنها لكرامتهم عليه، كما يحمي الإنسان حبيبه الطعام والشراب إن كان مريضا لكرامتهم عليه، فصار الكفار بهذا التزيين مع ما بواناهم من الهوان بأنواع التهديد التي لا مرية في قدرتنا عليها، مشغولين يلعاعة من العيش، فهم راضون بأحوالهم، مسرورون بها، بحيث إنهم لا ينظرون في عاقبة، بل مع الحالة الراهنة فيهزؤون بأهل الحق، متعامين عن البينات، معرضين عن التهديد، تاركين الاستبصار بأحوال بني إسرائيل.

{فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين}

{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} قال الْحَرَالِّي: فيه إعلام بأنه ليس للأنبياء من الهدايه شيء، وإنما هم مستجلون لأمر جبلات الخلق وفطرهم، فيبشرون من فطر على خير، وينذرون من جبل على شر، لا يستأنفون أمرا لم يكن، بل يظهرون أمرا كان مغيبا، وكذلك حال كل إمام عالم في زمانه، يميز الله الخبيث من الطيب - انتهى. {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} قال الْحَرَالِّي: إبراما لثني الأمر المضاعف، ليكون الأمر بشاهدين أقوى منه بشاهد واحد، فقد كان في الرسول كفاية، وفي الكتاب وحده كفاية، لكن الله، تعالى، ثنى الأمر وجمع الكتاب والرسول لتكون له الحجة البالغة - انتهى. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} قال الْحَرَالِّي: الجامعة لآيات ما في المحسوس وآيات ما في المسموع، فلذلك كانت البينات مكملة لاجتماع شاهديها - انتهى. {بَغْيًا بَيْنَهُمْ}: والبغي إعمال الحسد بالقول والفعل، قال، عليه الصلاة والسلام: "ثلاث لا يسلم منهن أحد" ومنهن متحلى الحسد والطيرة والظن، فإذا حسدت فلا تبغ، لأن الحسد واقع في النفس كأنها مجبولة عليه،

{أم حسبتم}

فلذلك عذرت فيه، فإذا استعملت بحسبه مقالها وفعالها كانت باغيه - انتهى. {فَهَدَى اللَّهُ} في إسناده إلى الاسم الأعظم، كما قال الْحَرَالِّي: إعلام بأنه ليس من طوق الخلق إلا بعون وتوفيق من الحق - انتهى. {مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بما فطرهم عليه من التمكين لقبوله، لأن الإذن أدناه التمكين وإزالة المنع - انتهى. {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال الْحَرَالِّي: هذا هدي أعلى من الأول، كأن الأول هدي إلى إحاطة علم الله وقدرته، وهذا هدي إليه. وفي صيغة المضارع بشرى لهذه الأمة بدوام هداهم إلى ختم اليوم المحمدي: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهريا على الحق، حتى يأتي أمر الله". {أَمْ حَسِبْتُمْ} قال الْحَرَالِّي: هو مما منه الحسبان، وهو ما تقع غلبته، فيما هو من نوع المفطور عليه، المستقر عادته، والظن الغلبة فيما هو من المعلوم المأخوذ بالدليل والعلم، فكأن ضعف علم العالم ظل، وضعف عقل العاقل حسبان - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: و "أم" عطف على أمور يفهمها مبدأ الخطاب، كأنه يقول: أحسبتم أن تفارق أحوالكم أحوال الأمم الماضية في حكمة الله وسنته؟ ولن تجد لسنة الله تبديلا، إلى ما يستجره معنى الخطاب إجمالا وتفصيلا في واقع الدنيا؛ من

شدائدها وحرها وبردها، وضيق عيشها، وأنواع أذاها، وحال البرزخ، وحال النشر والحشر، إلى ما وراء ذلك، إلى غاية دخول الجنة، فكان عند انتهاء ذلك بادئة خطاب {أَمْ حَسِبْتُمْ} تجاوزا لما بين [أول -] البعث، وغاية دخول الجنة - انتهى. {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} أي جزاء لهم، كما قال الْحَرَالِّي: على ما غيروا مما يجلب كلا منها، ولكل عمل جزاء. {وَزُلْزِلُوا} لأمور باطنة من خفايا القلوب - انتهى. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} وقال الْحَرَالِّي: فذكر قول الرسول الواقع في رتبة الذين آمنوا معه، لا قوله فيما يخصه في ذاته وحده، ومن هو منه أو متبعه، لأن للنبي ترتبا فيما يظهر من قول وفعل مع رتب أمته، فكان قول الرسول المنبئ عن حالهم: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} فكأنهم في مثل ترقب المتلدد الحائر الذي كأنه، وإن وعد بما هو الحق، يوقع له التأخير صورة الذي انبهم عليه الأمر، لما يرى من اجتثاث أسباب الفرج. ففي إشعاره إعلام بأن الله، سبحانه وتعالى، إنما يفرج عن أنبيائه ومن معهم،

بعد انقطاع أسبابهم في سواه، ليمتحن قلوبهم للتقوى، فتتقدس سرائرهم من الركون لشيء من الخلق، وتتعلق ضمائرهم بالله، تعالى، وحده، حتى يقول، - صلى الله عليه وسلم -: "لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". إعلاما بأن الله، سبحانه وتعالى، ناصره دون حجاب، ولا وسيلة شيء من خلقه، كذلك سنته مع رسله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وعلى ذلك جرت خوارق العادات للأولياء وأهل الكرامات، لا يكاد يقع لهم إلا عن ضرورة قطع الأسباب. وفي قراءة النصب إعراب بأن غاية الزلزال القول، وفي الرفع إعراب عن غاية الزلزال وأنه أمر مبهم، له وقع في البواطن والظواهر: أحد تلك الظواهر وقوع هذا القول. ففي الرفع إنباء باشتداد الأمر بتأثيره في ظاهر القول وما وراءه - انتهى. {أَلَا} قال الْحَرَالِّي: استفتاحا وتنبيها وجمعا للقلوب للسماع. {إِنَّ} تأكيدا وتثبيتا، {نَصْرَ اللَّهِ} الذي لا سبب له إلا العناية، من ملك الملوك، بعد قطع كل سبب من دونه، {قَرِيبٌ} لاستغنائه عن عدة ومدة. ففي جملته بشرى بإسقاط كلفة النصر بالأسباب والعدد والآلات المتعبة، والاستغناء بتعلق القلوب بالله، ولذلك إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها، لأن نصرتها بتقوى القلوب لا بمدافعة الأجسام، فلذلك تفتح خاتمة هذه الأمة

{يسألونك ماذا ينفقون}

قسطنطينية الروم بالتسبيح والتكبير، قال، - صلى الله عليه وسلم -: "إنا إذاً نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" فانعطف ذلك على ما أراده الله، تبارك وتعالى، بأنبائه وأصفياء من اليسر الذي كماله لهذه الأمة، فأراد بهم اليسر في كل حال - انتهى. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} وقال الْحَرَالِّي: لما كان منزل القرآن على نحو متصرف المرء في الأزمان، كان انتظام خطابه متراجعا بين خطاب دين يتلقى عن الله، وبين إقامة بحكم يكون العبد فيه خليفة الله في نفاذ أمره، وبين إنفاق يكون فيه خليفة في إيصال فضله، لأن الشجاعة والجود خلافة، والجبن والبخل عزل عنها. فكان في طي ما نقدم من الخطاب الإحسان والإنفاق، وكان حق ذلك أن لا يسأل عماذا ينفق، لأن المنفق هو الفضل كله، قال، - صلى الله عليه وسلم -: "يا ابن آدم، إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك". ففي هذا السؤال، ممن سأله له، نوع تلدد، من نحو ما تقدم لبني إسرائيل في أمر البقرة من مرادة المسألة، لم يستأذن الصديق، رضي الله تعالى عنه، حين أتى بماله كله، ولا استأذن عمر، رضي الله عنه، حين أتى بشطر ماله، ولا

استأذن سعد بن الربيع حين خرج لعبد الرحمن بن عوف، رضي الله تعالى عنهما، عن شطر ماله وإحدى زوجتيه، فكان في هذا السؤال إظهار {مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} ولولا أن الله رحيم لكان جوابهم: تنفقون الفضل، فكان يضع واجبا، ولكن الله لطف بالضعيف لضعفه، وأثبت الإنفاق، [وأبهم قدره] [وتعرض لترتيب المنفق فيهم، لأن آفة المرء البخل، فإن أنفق كان أشد آفاته] في نكس الإنفاق، بأن يتصدق على الأجانب مع حاجة من الأقارب، فقال تعالى خطابا للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، وإعراضا منه عن السائلين، لما في السؤال من التبلد الإسرائيلي - انتهى. {وَالْيَتَامَى} وقال الْحَرَالِّي: لأنهم أقارب بعد الأقارب باليتم الذي أوجب خلافة الغير عليهم - انتهى. {وَالْمَسَاكِينِ} قال الْحَرَالِّي: وهو المتعرضون لغة، والمستترون الذين لا يفطن لهم، ولا يجدون ما يغنيهم شرعا، ولغة نبوية - انتهى. {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} وقال الْحَرَالِّي: ختم بالعلم لأجل دخول الخلل على النيات في الإنفاق، لأنه من أشد شيء تتباهى به النفس، فيكاد لا يسلم

{كتب}

لها منه إلا ما لا تعلمه شمالها، التي هي التفاتها وتباهيها، ويختص بيمينها التي هي صدقها وإخلاصها - انتهى. {كُتِبَ} وقال الْحَرَالِّي: لما التف حكم الحج بالحرب تداخلت آيات اشتراكهما، وكما تقدم تأسيس فرض الحج في آية: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} انتظم به كتب القتال، والفرض من الشيء ما ينزل بمنزلة الجزء منه، والكتب ما خرز بالشيء فصار كالوصلة فيه، كما جعل الصوم، لأن في الصوم جهاد النفس، كما أن في القتال جهاد العدو، فجرى ما شأنه المدافعة بمعنى الكتب، وما شأنه العمل والإقبال بمعنى الفرض، وهما معنيان مقصودان في الكتاب والسنة، تحق العناية بتفهمهما، لينزل كل من القلب في محله، ويختص النية في كل واحد على وجهه. وقد كان من أول منزلة آي القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} فكان الأول إذنا لمن شأنه المدافعة عن الدين بداعية من نفسه، من نحو ما كانت الصلاة قبل الفرض واقعة من الأولين بداعية من حبهم لربهم، ورغبتهم إليه [في الخلوة به، والأنس بمناجاته، فالذين كانت صلاتهم حبا، كان الخطاب لهم بالقتال إذنا لتلفتهم

إليه -] في بذل أنفسهم لله، الذين كان ذلك حبا لهم يطلبوا الوفاء به، حبا للقاء ربهم [بالموت، كما أحبوا لقاء ربهم] بالصلاة، حين عقلوا وأيقنوا أنه لا راحة لمؤمن إلا في لقاء ربه، فكان من عملهم لقاء ربهم بالصلاة في السلم، وطلب لقائه بالشهادة في الحرب. فلما اتسع أمر الدين، ودخلت الأعراب والأتباع الذين لا يحملهم صدق المحبة للقاء الله على البدار للجهاد، نزل كتبه، كما نزل فرض الصلاة استدراكا فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} أي أيتها الأمة! وكان في المعنى راجعا لهذا الصنف الذين يسألون عن النفقة، وبمعنى ذلك انتظمت الآية بما قبلها، فكأنهم يتبلدون في الإنفاق تبلدا إسرائيليا، ويتقاعدون عن الجهاد تقاعد أهل التيه منهم، الذين قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} - انتهى. {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} وهو، كما قال الْحَرَالِّي: عند المحبين للقاء الله، من أحلى ما تناله أنفسهم، حتى كان ينازع الرجل منهم في أن يقف، فيقسم على الذي يمسكه أن يدعه والشهادة، قال بعض التابعين: لقد أدركنا قوما كان الموت لهم أشهى من الحياة

عندكم اليوم، وإنما كان ذلك لما خربوه من دنياهم، وعمروه من أخراهم، فكانوا يحبون النقلة من الخراب إلى العمارة - انتهى. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} قال الْحَرَالِّي: فشهد لهم لما لم يشهدوا مشهد الموقنين الذين يشاهدون غيب الإيمان، كما يشهدون عن الحس، كما قال ثعلبة: "كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون، وأنظر إلى أهل النار في النار يعذبون". ولم يبرم لهم الشهادة، ولكن ناطها بكلمة {عَسَى} لما علمه من ضعف قبول من خاطبه بذلك. وفي إعلامه إلزام بتنزل العلي الأدنى رتبة لما أظهر هذا الخطاب من تنزل الحق في مخاطبة الخلق إلى حد مجاوزة المترفق في الخطاب - انتهى. قال الْحَرَالِّي: فأشعر أن المتقاعد له في تقاعده آفات وشر في الدنيا والآخرة، ليس أن لا ينال خير الجهاد فقط، بل وينال شر التقاعد والتخلف - انتهى. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} وقال الْحَرَالِّي: شهادة بحق العلم، يرجع إلى ما عند الأغبياء في تنزل الخطاب - انتهى. {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وقال الْحَرَالِّي: فنفي العلم عنهم بكلمة "لا" أي التي هي

{وصد عن سبيل الله}

للاستقبال، حتى تفيد دوام الاستصحاب {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. قال: من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم، وأما المؤمنون أي الراسخون، فقد علمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم، وأن التخلف شر لهم - انتهى. {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: والصد: صرف إلى ناحية بإعراض وتكره، والسبيل: طريق الجادة الجادة عليه الظاهر لكل سالك منهجه. {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} قال الْحَرَالِّي: الاستطاعة: مطاوعة النفس في العمل، وإعطاؤها الانقياد فيه. ثم قال: فيه إشعار بأن طائفة ترتد عن دينها، وطائفة تثبت، لأن كلام الله لا يخرج في بته واشتراطه إلا لمعنى واقع لنحو ما، ويوضحه تصريح الخطاب في قوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ} إلى آخره، وهو من الرد، ومنه الردة، وهو كف بكره لما شأنه الإقبال بوفق - انتهى. {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} وقال الْحَرَالِّي: من الحبط، وهو فساد في الشيء الصالح، يأتي عليه من وجه يظن به صلاحه، وهو في الأعمال بمنزلة البطح في الشيء

{إن الذين آمنوا}

القائم الذي يقعده عن قيامه، كذلك الحبط في الشيء الصالح يفسده عن وهم صلاحه. {فِي الدُّنْيَا} بزوال ما فيها من روح الأنس بالله سبحانه، وتعالى، ولطيف الوصلة به، وسقوط إضافتها إليهم، إلا مقرونة ببيان حبوطها، فقد بطل ما كان لها من الإقبال من الحق والتعظيم من الخلق. {وَالْآخِرَةِ} بإبطال ما كان يستحق عليها من الثواب بصادق الوعد. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} قال الْحَرَالِّي: لما ذكر أمر المتزلزلين ذكر أمر الثابتين - انتهى. {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} قال الْحَرَالِّي: من المهاجرة، وهو مفاعلة، من الهجرة، وهو التخلي عما شأنه الاغتباط به، لمكان ضرر منه {وَجَاهَدُوا} أي أوقعوا المجاهدة، مفاعلة من الجهد - فتحا وضما - وهو الإبلاغ في الطاقة والمشقة في العمل. {يَرْجُونَ} من الرجاء، وهو ترقب الانتفاع، بما تقدم له سبب ما. قاله الْحَرَالِّي. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: وفي الختم بالرحمة أبدا في خواتم الآي إشعارا بأن فضل الله في الدنيا والآخرة ابتداء فضل، ليس في الحقيقة جزاء العمل، فكما يرحم العبد طفلا ابتداء، يرحمه كهلا انتهاء، ويبتدئه برحمته في

{يسألونك عن الخمر والميسر}

معاده، كما ابتدأه برحمته في ابتدائه - انتهى بالمعنى. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} قال الْحَرَالِّي: وهو مما منه الخمر - بفتح الميم - وهو ما وارى من شجر ونحوه، فالخمر - بالسكون - فيما يستبطن، بمنزلة الخمر - بالفتح - فيما يستظهر، كأن الخمر يواري ما بين العقل المستبصر من الإنسان وبهيميته العجماء. {وَالْمَيْسِرِ} قال الْحَرَالِّي: اسم مقامرة، كانت الجاهلية تعمل بها لقصد انتفاع الضعفاء وتحصيل ظفر المغالبة - انتهى. {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قال الْحَرَالِّي: في قراءتي الباء، الموحدة، والمثلثة، إنباء عن مجموع الأمرين؛ من كبار المقدار وكثرة العدد، وواحد من هذين مما يصد ذا الطبع الكريم والعقل الرصين عن الإقدام عليه، بل يتوقف عن الإثم الصغير القليل، فكيف عن الكبير الكثير - انتهى. {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} وفي هذا، كما قال الْحَرَالِّي، تنبيه على النظر في تفاوت الخيرين، وتفاوت الشرين - انتهى. {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} وقال الْحَرَالِّي: في العطف إنباء بتأكد التلدد مرتين، كما في قصة بني إسرائيل، لكن ربما تخوفت هذه الأمة من ثالثتها، فوقع ضمهم

عن السؤال في الثالثة، لتقاصر ما يقع في هذه الأمة عما وقع في بني إسرائيل بوجه ما، وقال، سبحانه وتعالى، في الجواب: {قُلِ الْعَفْوَ} وهو ما سمحت به النفس من غير كلفة. قال: فكأنه ألزم النفس نفقة العفو، وحرضها على نفقة ما تنازع فيه، ولم يلزمها ذلك لئلا يشق عليها، لما يريده بهذه الأمة من اليسر. فصار المنفق على ثلاث رتب: رتبة حق مفروض، لابد منه، وهي الصدقة المفروضة، التي إمساكها هلكة في الدنيا والآخرة. وفي مقابلته عفو لا ينبغي الاستمساك به، لسماح النفس بفساده، فمن أمسكه تكلف إمساكه. وفيما بينهما ما تنازع النفس إمساكه، فيقع لها المجاهدة في إنفاقه، وهو متجرها الذي تشتري به الآخرة من دنياها. قالت امرأة للنبي، - صلى الله عليه وسلم -: "ما يحل لنا من أموال أزواجنا" - نسأل عن

{وإن تخالطوهم}

الإنفاق منها - قال: الرطب - بضم الراء وسكون الطاء - تاكلينه وتهدينه، لأنه من العفو الذي يضر إمساكه بفساده، لأن الرطب هو ما إذا أبقى من يوم إلى يوم تغير، كالعنب والبطيخ، وفي معناه الطبائخ وسائر الأشياء التي تتغير بمبيتها - انتهى. {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} قال الْحَرَالِّي: فجمعها لأنها آيات من جهات مختلفات، لما يرجع لأمر القلب وللنفس وللجسم، ولحال المرء مع غيره - انتهى. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أي لتكونوا على حالة يرجى لكم معها التفكر. وهو طلب الفكر، وهو يد النفس التي تنال بها المعلومات، كما تنال يد الجسم المحسوسات - قاله الْحَرَالِّي. {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} قال الْحَرَالِّي: وهي رتبة دون الأولى، والمخالطة مفاعلة من الخلطة، وهي إرسال الأشياء التي شأنها الانكفاف بعضها في بعض، كأنه رفع التحاجز بين ما شأنه ذلك {فَإِخْوَانُكُمْ} جمع أخ، وهو الناشئ مع أخيه من منشأ واحد، على السواء بوجه ما - انتهى. {لَأَعْنَتَكُمْ} من الإعنات، وهو إيقاع العنت، وهو أسوأ الهلاك الذي

{ويسألونك عن المحيض}

يفحش نعته - قاله الْحَرَالِّي. {وَلَا تَنْكِحُوا} قال الْحَرَالِّي: مما منه النكاح، وهو إيلاج نهد في فرج، ليصير بذلك كالشيء الواحد - انتهى. {خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} قال الْحَرَالِّي: فانتظمت هذه الآيات في تبيين خير الخيرين، وترجيح [أمر الغيب في] أمر الدين والعقبى، في أدنى الإماء من المؤمنات خلقا وكونا وظاهر صورة، [على حال العين في أمر العاجلة من الدنيا في أعلى الحرائر من المشركات خلقا وظاهر صورة -] وشرف بيت - انتهى. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} قال الْحَرَالِّي: وهو مفعل من المحيض، وهو معاهدة اندفاع الدم العفن الذي هو في الدم، بمنزلة البول والعذرة في فضلتي الطعام والشراب، من الفرج. {قُلْ هُوَ أَذًى} أي مؤذ للجسم والنفس، لأن فيه اختلاط النطفة بركس الدم الفاسد العفن - قاله الْحَرَالِّي. وقال: حتى إنه يقال إن التي توطأ، وهي حائض، يقع في ولدها من الآفات أنواع - انتهى. {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} من الاعتزال، وهو طلب العزل، وهو الإنفراد عما شأنه الاشتراك - قاله الْحَرَالِّي. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} قال الْحَرَالِّي: تأنيسا لقلوب المتحرجين من معاودة الذنب بعد توبة منه، أي ومن معاودة التوبة بعد الوقوع في ذنب ثان، لما يخشى العاصي من أن يكتب عليه كذبه كلما أحدث توبة وزل بعدها، فيعد مستهزئا،

{نساؤكم حرث لكم}

فيسقط من عين الله، ثم لا يبالي به، فيوقفه ذلك عن التوبة. {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} قال الْحَرَالِّي: ليقع الخطاب بالإشارة أي في الآية الأولى لأولي الفهم، وبالتصريح، أي في هذه، لأولي العلم، لأن الحرث، كما قال بعض العلماء، إنما يكون في موضع الزرع - انتهى. {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} قال الْحَرَالِّي: وفيه إشعار بما يجري في أثناء ذلك من الأحكام التي لا يصل إليها أحكام حكام الدنيا، مما لا يقع الفصل فيه إلا في الآخرة، من حيث إن أمر ما بين الزوجين سر لا يفشى، قال، عليه الصلاة والسلام: "لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته" وقال: "لا أحب للمرأة أن تشكو زوجها" فأنبأ، تعالى، أن أمر ما بين الزوجين مؤخر حكمه إلى لقاء الله، عز وجل، حفيظة على ما بين الزوجين، ليبقى سرا لا يظهر أمره إلا الله تعالى. وفي إشعاره إبقاء للمروءة في أن لا يحتكم الزوجان عند حاكم في الدنيا، وأن يرجع كل واحد منهما إلى تقوى الله وعلمه بلقاء الله - انتهى. {عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} قال الْحَرَالِّي: والعرضة ذكر الشيء وأخذه على عير قصد له ولا صمد نحوه، بل له صمد غيره.

{للذين يؤلون من نسائهم}

{بِاللَّغْوِ} وهو ما تسبق إليه الألسنة من القول على غير عزم قصد إليه - قاله الْحَرَالِّي. {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}: قال الْحَرَالِّي: فيكون ذلك عزما باطنا وقولا ظاهرا، فيؤاخذ باجتماعهما، ففي جملته ترفيع لمن لا يحلف بالله في عزم ولا لغو، وذلك هو الذي حفظ حرمة الحلف بالله، وفي مقابلته من يحلف على الخير أن لا يفعله - انتهى. {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} والحلم: احتمال الأعلى للأذى من الأدنى، وهو أيضا رفع المؤاخذة عن مستحقها بجناية في حق مستعظم - قاله الْحَرَالِّي. {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} قال الْحَرَالِّي: والإيلاء: تأكيد الحلف وتشديده، [سواء كانوا أحرارا أو عبيداً، أو بعضا وبعضا، في حال الرضى أو الغضب، محبوبا كان أو لا، لأن المضارة حاصلة بيمينه] {تَرَبُّصُ} أي إمهال وتمكث يتحمل فيه الصبر الذي هو مقلوب لفظه - انتهى. {أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} قال الْحَرَالِّي: ولما كان لتخلص المرأة من الزوج أجل عدة كان أجلها مع أمد هذا التربص. كأنه - والله سبحانه وتعالى أعلم - هو القدر

{وإن عزموا الطلاق}

الذي تصبر المرأة عن زوجها، يذكر أن عمر، رضي الله تعالى عنه، سأل النساء عن قدر ما تصبر المرأة عن الزوج فأخبرنه أنها تصبر ستة أشهر، فجعل ذلك أمد البعوث، فكان التربص والعدة قدر ما تصبره المرأة عن زوجها، وقطع، سبحانه وتعالى، بذلك ضرار الجاهلية في الإيلاء إلى غير حد. انتهى وفيه تصرف. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: وفي مورد هذا الخطاب بإسناده للأزواج ما يظافر معنى إجراء أمور النكاح على سترة، وإعراض عن حكم الحكام، من حيث جعل التربص له والفيء منه، فكأن الحكم من الحاكم إنما يقع على من هتك حرمة ستر أحكام الأروأج التي يجب أن تجري بين الزوجين من وراء ستر، كما هو سر النكاح الذي هو سبب جمعهما، ليكون حكم السر سرا، وحكم الجهر جهراً - انتهى. {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} والعزم الإجماع على إنفاذ الفعل، والطلاق هو في المعنى بمنزلة إطلاق الشيء من اليد الذي يمكن أخذه بعد إطلاقه - قاله الْحَرَالِّي. {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} قال الْحَرَالِّي: في إشارته إعلام بأن الطلاق لابد له من ظاهر لفظ يقع مسموعا - انتهى. {عَلِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: وفيه تهديد بما يقع في الأنفس والبواطن من

{ثلاثة قروء}

المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام، ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام، فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر، ولذلك رأي العلماء أن الطلاق أمانة في أيدي الرجال، كما أن العدد والاستبراء أمانة في أيدي النساء، فلذلك انتظمت آية تربص المرأة في عدتها بآية تربص الزوج في إيلائه - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: [لما ذكر تربص الزوج -] سبحانه وتعالى في أمر الطلاق، الذي هو أمانته، ذكر تربص المرأة في أمر العدة، التي هي أمانتها - انتهى. {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وقال الْحَرَالِّي: قروء جمع قرء، وهو الحد الفاصل بين الطهر والحيض، الذي يقبل الإضافة إلى كل واحد منهما، ولذلك ما تعارضت في تفسير لغته تفاسير اللغويين، واختلف في معناه أقوال العلماء، لخفاء معناه بما هو حد بين الحالين، كالحد الفاصل بين الظل والشمس، فالقروء الحدود، وذلك حين تطلق المرأة لقبل عدتها في طهر لم تمس فيه، ليطلقها على ظهور براءة من علقتهما، ليلا يطلق ما لم تنطلق عليه، فإذا انتهى الطهر وابتدأ الحيض كان ما بينهما قرءا، لأن القرء استكمال جمع الحيض حين يتعفن، فما لم ينته إلى الخروج لم يتم

قرءا، فإذا طهرت الطهر الثاني وانتهى إلى الحيض كانا قرءين، فإذا طهرت الطهر الثالث، وانتهى إلى الحيض، شاهد كمال القرء، كان ثلاثة أقراء، فلذلك يعرب معناه عن حل المرأة عند رؤيتها الدم من الحيضة الثالثة لتمام عدة الأقراء الثلاثة، فيوافق معنى من يفسر القرء بالطهر، ويكون أقرب من تفسيره بالحيض، فأمد الطهر ظاهراً هو أمد الاستقراء للدم باطنا، فيبعد تفسيره بالحيض، عما هو تحقيقه من معنى الحد بعداً ما - انتهى. {فِي أَرْحَامِهِنَّ} قال الْحَرَالِّي: وهو ما يشتمل على الولد من أعضاء التناسل، يكون فيه تخلقه من كونه نطفة إلى كونه خلقا آخر - انتهى. {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ} وقال الْحَرَالِّي: ففي إشعاره إثبات نوع نفاق على الكاتمة ما في رحمها - انتهى وفيه تصرف. {وَبُعُولَتُهُنَّ} قال الْحَرَالِّي: وهو الرجل المتهيء لنكاح الأنثى المتأتي له ذلك، يقال على الزوج والسيد - انتهى. {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} قال الْحَرَالِّي: الإصلاح لخلل ما بينهما أحق في علم الله وحكمته من افتتاح وصلة ثانية، لأن تذكر الماضي يخل بالحاضر، مما حذر النبى، - صلى الله عليه وسلم -، عنه نكاح اللفوت، وهي التي لها ولد من زوج سابق، فلذلك كان الأحق

{الطلاق}

إصلاح الأول دون استفتاح وصلة لثان - انتهى. {بِالْمَعْرُوفِ} قال الْحَرَالِّي: والمعروف ما أقره الشرع، وقبله العقل، ووافقه كرم الطبع - انتهى. {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} وقال الْحَرَالِّي: لما أوثروا به من رصانة العقل، وتمام الدين - انتهى. {الطَّلَاقُ} قال الْحَرَالِّي: لما كان الطلاق لما يتهيأ رده قصره الحق، تعالى، على المرتين اللتين يمكن فيهما تلافي النكاح بالرجعة - انتهى. {فَإِمْسَاكٌ} قال الْحَرَالِّي: هو من المسك، وهو إحاطة تحبس الشيء، ومنه المسك بالفتح للجلد. {بِمَعْرُوفٍ} [قال الْحَرَالِّي]: فصرفهم بذلك عن ضرار الجاهلية الذين كانوا عليه بتكرير الطلاق إلى غير حد، فجعل له حدا يقطع قصد الضرار - انتهى. {أَوْ تَسْرِيحٌ} قال الْحَرَالِّي: سمى الثالث تسريحا لأنه إرسال لغير معنى الأخذ، كتسريح الشيء الذي لا يراد إرجاعه. وقال أيضا: هو إطلاق الشيء على وجه لا يتهيأ للعود، فمن أرسل البازي مثلا ليسترده فهو مطلق، ومن أرسله لا ليسترجعه فهو مسرح - انتهى.

{بِإِحْسَانٍ} تعريضا بالجبر بالمال، ليلا يجتمع منعان: منع النفس -] وذات اليد. أفاده الْحَرَالِّي. وقال: ففيه بوجه ما تعريض بما صرحت به آية المتعة الآتية - انتهى. {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} قال الْحَرَالِّي: لأن إيتاء الرجل للمرأة إيتاء نحلة لإظهار مزية الدرجة، لا في مقابل الانتفاع، فلذلك أمضاه، ولم يرجع منه شيئا، ولذلك لزم في النكاح الصداق، لتظهر مزية الرجل بذات اليد، كما ظهرت في ذات النفس - انتهى. {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: وفي إشعاره أن الفداء في حكم الكتاب مما أخذت الزوجة من زوجها، لا من غير ذلك من مالها، والحدود جمع حد، وهو النهاية في المتصرف المانع من الزيادة عليه - انتهى. {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: ففيه ترجية فيما يقع من تعدي الحدود من دون ذلك من حدود أهل العلم ووجوه السنن، [وفي إعلامه -] إيذان بأن وقوع الحساب يوم الجزاء على حدود القرآن، التي لا مندوحة لأحد بوجه من وجوه السعة في مخالفتها، ولذلك تتحقق التقوى والولاية [مع -] الأخذ بمختلفات السنن، ومختلفات أقوال العلماء - انتهى. {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قال الْحَرَالِّي: وفي إشعاره تصنيف الحدود ثلاثة أصناف: حد الله، سبحانه وتعالى، وحد النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وحد العالم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما جاء من الله فهو الحق، وما جاء مني فهو السنة، وما جاء من أصحابي فهو السعة".

{فإن طلقها}

فأبرأ العباد من الظلم من حافظ على أن لا يخرج عن حدود العلماء، ليكون أبعد أن يخرج من حدود السنة، ليكون أبعد أن يخرج من حدود الكتاب. فالظالم المنتهي ظلمه الخارج [عن الحدود الثلاثة: حد العالم، وحد السنة، وحد الله - انتهى. {فَإِنْ طَلَّقَهَا} قال الْحَرَالِّي: فردد معنى التسريح الذي بينه في موضوعه بلفظ الطلاق، لما هيأها بوجه إلى المعاد، وذلك فيما يقال من خصوص هذه الأمة، وأن حكم الكتاب الأول أن المطلقة ثلاثا لا تعود أبدا، فلهذا العود بعد زوج صار السراح طلاقا - انتهى. {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} لأن النكاح، كما قال الْحَرَالِّي: عقد حرمة مؤبدة، لا حد متعة مؤقتة، فلذلك لم يكن الاستمتاع إلى أمد محللا في السنة وعند الأئمة، لما يفرق بين النكاح والمتعة من التأبيد والتحديد - انتهى. قال الْحَرَالِّي: [لما جعل الطلاق سراحا جعل تجديد النكاح مراجعة] كل ذلك إيذانا بأن الرجعة للزوج أولى من تجديد الغير - انتهى. {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان للحد المحدود الفاصل بين أمرين متقابلين بلوغ وهو الانتهاء إلى أول حده، وقرار وهو الثبات عليه ومجاوزة لحده، ذكر، سبحانه وتعالى، البلوغ الذي هو الانتهاء إلى أول الحد، دون المجاوزة والمحل، والأجل مشارفة انقضاء أمد الأمر، حيث يكون منه ملجأ الذي هو مقلوبه، كأنه مشارفة فراغ المدة - انتهى.

{فلا تعضلوهن}

{أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وقال الْحَرَالِّي: وهذا معروف الإمتاع والإحسان، وهو غير معروف الإمساك، ولذلك فرقه الخطاب، ولم يكن: فأمسكوهن أو سرحوهن بمعروف - انتهى. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: والتهديد بالعلم منتهى التحديد - انتهى. {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} والعضل: قال الْحَرَالِّي: هو أسوأ المنع، من عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضتها فيها حتى تهلك - انتهى. {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} وعرفه، كما قال الْحَرَالِّي: لاجتماع معروفين منهما، فكان مجموعهما المعروف التام، وأما المنكر فوصف أحدهما - انتهى. {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} والوعظ، قال الْحَرَالِّي: إهزاز النفس بموعود الجزاء ووعيده - انتهى. قال الْحَرَالِّي: لأن من فعل شيء فعل به نحوه، كأنه من عضل عن زوج عضل ولي آخر عنه، حين يكون هو زوجا، "من زني زنى به" {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} - انتهى.

{والوالدات}

{وَالْوَالِدَاتُ} وقال الْحَرَالِّي: لما ذكر، سبحانه وتعالى، أحكام الأشتجار بين الأزواج التي عظم متنزل الكتاب لأجلها، وكان من حكم تواشج الأزواج وقوع الولد، وأحكام الرضاع، نظم به عطفا أيضا على معاني ما يتجاوزه الإفصاح، ويتضمنه الإفهام، لما قد علم من أن إفهام القرآن أضعاف إفصاحه، بما لا يكاد ينتهي عده، فلذلك يكثر فيه الخطاب عطفا، أي على غير مذكور، ليكون الإفصاح أبدا مشعرا بإفهام يناله من وهب روح العقل من الفهم، كما ينال فقه الإفصاح من وهبه الله نفس العقل الذي هو العلم - انتهى. {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} قال الْحَرَالِّي: جعل، تعالى، الأم أرض النسل الذى يغتذي من غذائها في البطن دما، كما يغتذي أعضاؤها من دمها، فكان لذلك لبنها أولى بولدها من غيرها، ليكون مغذاه وليدا من مغذاه جنينا، فكان الأحق أن يرضعن أولادهن. وذكره بالأولاد ليعم الذكور والإناث. وقال: الرضاعة: التغذية، بما يذهب الضراعة، وهو الضعف والنحول، بالرزق الجامع الذي هو طعام وشراب، وهو اللبن الذي مكانه الثدي من المرأة والضرع من ذات الظلف - انتهى.

{حَوْلَيْنِ} [و] الحول: تمام القوة في الشيء الذي ينتهي لدورة الشمس، وهو العام الذي يجمع كمال النبات الذي يتم فيه قواه - قاله الْحَرَالِّي. {كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وقال الْحَرَالِّي: وهو أي الذي يكتفي به دون التمام، هو ما جمعه قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فإذا كان الحمل تسعا، كان الرضاع أحدا وعشرين شهراً، وإذا كان حولين كان المجموع ثلاثا وثلاثين شهراً، فيكون ثلاثة آحاد وثلاثة عقود، فيكون ذلك تمام الحمل والرضاع، ليجتمع في الثلاثين تمام الرضاع وكفاية الحمل - انتهى. {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} قال الْحَرَالِّي: الكسوة رياش الآدمي الذي يستر ما ينبغي ستره من الذكر والأنثى. وقال: فأشعرت إضافة الرزق والكسوة إليهن باعتبار حال المرأة فيه وعادتها بالسنة لا بالبدعة - انتهى. {بِالْمَعْرُوفِ} قال الْحَرَالِّي: فأكد ما أفهمته الإضافة، وصرح الخطاب بإجماله - انتهى. {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ} قال الْحَرَالِّي: من التكليف، وهو أن يحمل المرء على أن يكلف به بالأمر كلفة بالأشياء التي يدعون إليها طبعه - انتهى.

{إِلَّا وُسْعَهَا} [والوسع: قال الْحَرَالِّي: ما يتأتى بمنة وكمال قوة -]. {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} قال الْحَرَالِّي: ففيه إيذان بأن لا يمنع الوالد الأم أن ترضع ولدها فيضرها في فقدها له، ولا يسيء معاملتها في رزقها وكسوتها بسبب ولدها، فكما لم يصلح أن يمسكها زوجة إلا بمعروف، لم يصلح أن يسترضعها إلا بالمعروف، ولا يتم المعروف إلا بالبراءة من المضارة. وفي إشعاره تحذير الوالدات من ترك أولادهن لقصد الإضرار مع ميل الطبع إلى القيام بهم، وكذلك في إشعاره أن لا تضره في سرف رزق ولا كسوة - انتهى. {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}: والوارث قال الْحَرَالِّي: المتلقي من الأحياء عن الموتى ما كان لهم من حق أو مال - انتهى. {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} قال الْحَرَالِّي: وهو من الفصل، وهو عود المتواصلين إلى بين سابق - انتهى. {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} قال الْحَرَالِّي: فأفصح بإشعار ما في قوله: {أَنْ يُتِمَّ} وأن الكفاية قد تقع بدون الحولين، فجعل ذلك لا يكون بريا من المضارة إلا باجتماع إرادتهما وتراضيهما وتشاورهما لمن له تبصرة، ليلا تجتمعا على

{والذين يتوفون منكم}

نقص الرأي، قال، عليه الصلاة والسلام: "ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار" والمشورة أن تستخلص حلاوة الرأي وخالصه من خلايا الصدور، كما يشور العسل جانيه - انتهى. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بأنها ثلاث رتب: رتبة تمام فيها الخير والبركة، ورتبة كفاية، فيها رفع الجناح، وحالة مضارة فيها الجناح - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقال الْحَرَالِّي: لما ذكر عدة الطلاق، الذي هو فرقة الحياة، انتظم برأس آيته ذكر عدة الوفاة، الذي هو فراق الموت، واتصل بالآية السابقة لما انجر في ذكر الرضاع من موت الوالد وأمر الوارث، وكذلك كل آية، تكون رأسا، لها متصلان: متصل بالرأس النظير لها المنتظمة به، ومتصل بالآية السابقة قبلها بوجه ما - انتهى. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} قال الْحَرَالِّي: من الوفاة، وهو استخلاص الحق من حيث وضع، إن الله، عز وجل، نفخ الروح وأودع النفس ليستوفيها بعد أجل من حيث أودعها، فكان ذلك توفيا، تفعلا من الوفاء، وهو أداء الحق، {وَيَذَرُونَ} من الوذر، وهو أن يؤخذ المرء عما شأنه إمساكه، {أَزْوَاجًا} بعدهم.

ولما أريد تأكيد التربص مراعاة لحق الأزواج، وحفظا لقلوب الأقارب، واحتياطا للنكاح، أتى به في صيغة الخبر، الذي من شأنه أن يكون قد وجد وتم، فقال: "يتربصن" أي ينتظرن أزواجهن لانقضاء العدة. {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} قال الْحَرَالِّي: من التعريض، وهو تفعيل من العرض، والعرض إلقاء القول عرضا أي ناحية على غير قصد إليه، وصمد نحوه - انتهى. {مِنْ خِطْبَةِ} وهي الخطاب وقال الْحَرَالِّي: هي هيئة الحال فيما بين الخاطب والمخطوبة التي النطق عنها هو الخطبة بالضم. {النِّسَاءِ} المتوفى عنهن أزواجهن، ومن أشبههن في طلاق بائن بالثلاث أو غيرها. {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} قال الْحَرَالِّي: من الكن - بالفتح - وهو الذي من معناه الكن - بالكسر - وهو ما وارى، بحيث لا يوصل به إلى شيء. {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} قال الْحَرَالِّي: ففيه إجراء الشرعة على الحيلة الخاص بهذه الأمة [انتهى]. {عُقْدَةَ النِّكَاحِ} قال الْحَرَالِّي: والعقدة توثيق جمع الطرفين المفترقين، بحيث يشق حلها وهو معنى دون الكتب الذي هو وصلة وخرز. {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} من المس، ومن المماسة، في القراءة الأخرى، وهو ملاقاة الجرمين بغير حائل بينهما - قاله الْحَرَالِّي.

{أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} قال الْحَرَالِّي: ففي إنبائه صحة عقد النكاح مع إهمال ذكر الصداق لا مع إبطاله، ففيه صحة نكاح التفويض، ونكاح التأخير لذكر الصداق، فبان به أن الصداق ليس ركنا فيه، وأن إبطاله مانع من بنائه، فيكون له ثلاثة أحوال؛ من رفع الجناح فيه عن المهمل الذي لم يمس فيه، كأنه كان يستحق فرضا ما [فرفع عنه جناحه، من حيث إن على الماس كلية النحلة، وعلى الفارض شطر النحلة -] فرفع عنه جناح الفرض، [وجبر موضع الفرض -] بالإمتاع، ولذلك ألزمت المتعة طائفة من العلماء - انتهى. {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ} وقال الْحَرَالِّي: [هو -] من الإيساع، وهو المكنة في السعة التي هي أكثر من الكفاية {قَدَرُهُ} من القدر، وهو الحد المحدود في الشيء حسا أو معنى. {وَعَلَى الْمُقْتِرِ} قال الْحَرَالِّي: هو من الإقتار، وهو النقص من القدر الكافي - انتهى. {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} والإحساس غاية رتب الدين كأنه، كما قال الْحَرَالِّي: إسلام ظاهر، يقيمه إيمان باطن، يكمله إحسان شهودي - انتهى.

{أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}

لأن ملاك القصد فيها، كما قال الْحَرَالِّي، ما تطيب به نفس المرأة، ويبقى باطنها وباطن أهلها سلما أو ذا مودة {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} انتهى. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} قال الْحَرَالِّي: إذا قرن هذا الإيراد بقوله: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} خطابا للأزواج، [قوى -] فسر من جعل الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، معادلة للزوجات، ومن خص عفوهن بالمالكات، أي الراشدات، خص هذا بالأولياء، فكان هذا النمط من التهديف للاختلاف، ليس عن سعة إيهام، وكأنه عن تبقية بوجه ما من نهاية الإفصاح، فمنشأ الخلاف فيه دون منشأ الخلاف من خطابات السعة بالإيهام - انتهى. {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} وخصه الْحَرَالِّي بالرجال فقال: فمن حق الزوج، الذي له فضل الرجولة، أن يكون هو العافي، وأن لا يؤاخذ النساء بالعفو، ولذلك لم يأت في الخطاب أمر لهن ولا تحريض، فمن أقبح ما يكون حمل

{حافظوا}

الرجل على المرأة في استرجاع ما آتاها، بما يصرح به قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فينبغي أن لا تنسوا ذلك الفضل فتجرون عليه حيث لم تلزموا به - انتهى. {حَافِظُوا} وقال الْحَرَالِّي: لما كان ما أنزل له الكتاب إقامة ثلاثة أمور: إقامة أمر الدين، الذي هو ما بين العبد وربه، وتمشية حال الدنيا التي هي دار محنة العبد، وإصلاح حال الآخرة والمعاد الذي [هو -] موضع قرار العبد. صار ما يجري ذكره من أحكام تمشية الدنيا غلسا، نجوم إنارته أحكام أمر الدين، فلذلك مطلع نجوم خطابات الدين أثناء خطابات أمر الدنيا، فيكون [خطاب] الأمر نجما خلال خطابات الحرام والحلال في أمر الدنيا، وإنما كان نجم هذا الخطاب للمحافظة على الصلاة، لأن هذا الاشتجار المذكور بين الأزواج فيما يقع من تكره في الأنفس، وتشاح في الأحوال، إنما وقع من تضييع المحافظة على الصلوات، لأن الصلاة بركة في الرزق، وسلاح على الأعداء وكراهة الشيطان، فهي دافعة للأمور التي منها تتضايق الأنفس وتقبل الوسواس ويطرقها

الشح، فكان في إفهام نجم هذا الخطاب، أثناء هذه الأحكام، الأمر بالمحافظة على الصلوات، لتجري أمورهم على سداد يغنيهم عن الارتباك في جملة هذه الأحكام - انتهى. {حَافِظُوا} قال الْحَرَالِّي: من المحافظة، مفاعلة من الحفظ، وهو رعاية العمل؛ علما وهيئة ووقتا وإقامة، بجميع ما يحصل به أصله، ويتم به عمله، وينتهي إليه كماله، وأشار إلى كمال الاستعداد لذلك بأداة الاستعلاء فقال: {عَلَى الصَّلَوَاتِ} فجمع وعرف حتى يعم جميع أنواعها، أي افعلوا في حفظها فعل من يناظر آخر فيه، فإنه لا مندوحة عنها في حال من الأحوال، حتى ولا في حال خوف التلف، فإن في المحافظة عليها كمال صلاح أمور الدنيا والآخرة، لا سيما إدرار الأرزاق، وإذلال الأعداء: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} الآية. {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}. كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وقال الْحَرَالِّي: إن الله، سبحانه وتعالى، يعطي الدنيا على نية الآخرة، وأبي أن يعطي الآخرة على نية الدنيا، خلل حال المرء في دنياه ومعاده إنما هو عن خلل حال دينه، وملاك دينه وأساسه إيمانه وصلاته، فمن حافظ على الصلوات

أصلح الله حال دنياه وأخراه، وفي المحافظة عليها تجري مقتضيات عملها عملا إسلاميا، وخشوعا وإخباتا إيمانيا، ورؤية وشهودا إحسانيا. فبذلك تتم المحافظة عليها، وأول ذلك الطهارة لها باستعمال الطهور على حكم السنة، وتتبع معاني الحكمة، كما في مسح الأذنين مع الرأس، لأن من فرق بينهما لم يكد يتم له طهور نفسه بما أبدته الحكمة وأقامته السنة، وعمل العلماء، فصد عنه عامة الخلق الغفلة، ثم التزام التوبة عندها، لأن طهور القلب التوبة، كما أن طهور البدن والنفس الماء والتراب، فمن صلى على غير تجديد توبة صلى محدثا بغير طهارة، ثم حضور القلب في التوحيد عند الأذان والإقامة، فإن من غفل قلبه عند الأذان والإقامة عن التوحيد نقص من صلاته روحها، فلم يكن لها عمود قيام، من حضر قلبه عند الأذان والإقامة حضر قلبه في صلاته، ومن غفل قلبه عندهما غفل قلبه في صلاته. ثم هيئتها في تمام ركوعها وسجودها، وانطاق كل ركن عملي بذكر الله يختص به، أدنى ما يكون ثلاثا، فليس في الصلاة عمل لا نطق له، ولا يقبل الله صلاة من لم يقم صلبه في ركوعه وسجوده وقيامه وجلوسه، فبالنقص من تمامها تنقص المحافظة عليها، [وبتضييع المحافظة عليها يتملك الأعداء النفس ويلحقها الشح، فتنتقل عليها الأحكام وتتضاعف عليها -] مشاق الدنيا، وما من عامل يعمل عملا في وقت صلاة أو حال أذان إلا كان وبالا عليه، وعلى من ينتفع به من عمله، وكان ما يأخذه من أجر فيه شقى خبث لا يثمر له عمل بر، ولا راحة

نفس في عاجلته ولا آجلته، وخصوصا بعد أن أمهل الله الخلق من طلوع شمس يومهم إلى زوالها ست ساعات، فلم يكن لدنياهم حق في الست الباقية، فكيف إذا طولبوا منها بأويقات الأذان والصلاة، وما نقص عمل من صلاة، فبذلك كانت المحافظة على الصلوات ملاكا لصالح أحوال الخلق مع أزواجهم في جميع أحوالهم - انتهى. {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وقال الْحَرَالِّي: وما من جملة إلا ولها زهرة، فكان في الصلوات ما هو منها بمنزلة الخيار من الجملة، وخيارها وسطاها، فلذلك خصص، تعالى، خيار الصلوات بالذكر، وذكرها بالوصف إبهاما، ليشمل الوسطى الخاصة بهذه الأمة، وهي العصر، التي لم تصح لغيرها من الأمم، ولينتظم الوسطى العامة لجميع الأمم ولهذه الأمة، التي هي الصبح، ولذلك اتسع لموضع أخذها بالوصف مجال العلماء فيها، ثم تعدت أنظارهم إلى جميعها لموقع الإبهام في ذكرها، حتى تتأكد المحافظة في الجميع بوجه ما. وفي قراءة عائشة، رضي الله تعالى عنها. "وصلاة العصر" - عطفا ما يشعر بظاهر العطف باختصاص الوسطى بالصبح على ما رآه بعض العلماء، وفيه

مساغ لمرجعه على {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} بنفسها ليكون عطف أوصاف، وتكون تسميتها بالعصر مدحة ووصفا، من حيث إن العصر خلاصة الزمان، كما أن عصارات الأشياء خلاصاتها: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} فعصر اليوم هو خلاصة لسلامته من وهج الهاجرة وغسق الليل، ولتوسط الأحوال والأبدان والأنفس بين حاجتي الغذاء والعشاء، التي هي مشغلتهم بحاجة الغذاء. ومن إفصاح العرب عطف الأوصاف المتكاملة، فيقال: فلان كريم وشجاع، إذا تم فيه الوصفان، فإذا نقصا عن التمام قيل: كريم شجاع - بالإتباع - فبذلك يقبل معنى هذه القراءة أن تكون الوسطى هي العصر، عطفا لوصفين ثابتين لأمر واحد - انتهى. {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وقال الْحَرَالِّي: القنوت الثبات على أمر الخير وفعله، وذلك أن فعل الخير والبر يسير على الأكثر، ولكن الثبات والدوام عسير عليهم، وكان من القنوت مداومة الحق فيما جاد به في الصلاة، حتى لا يقع التفات للخلق، فلذلك لزم الصمت عن الخلق معناه، لأن كلام الناس قطع لدوام المناجاة. ففي إشعاره أن من قام لله، سبحانه وتعالى، قانتا في صلاته، أقام الله، سبحانه وتعالى، في دنياه حاله، في إقامته ومع أهله، كما يشير إليه معنى آية: {وَأْمُرْ

{فإذا أمنتم فاذكروا الله}

أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} ففيه إيذان بأن الصلاة تصلح الحال مع الأهل، وتستدر البركة في الرزق - انتهى. {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} وقال الْحَرَالِّي: ما من حكم شرعه الله في السعة إلا وأثبته في الضيق والضرورة، بحيث لا يفوت في ضيقه بركة من حال سعته، ليعلم أن فضل الله لا ينقصه وقت، ولا يفقده حال. وفيه إشعار بأن المحافظة على الصلاة في التحقيق ليس [إلا -] في إقبال القلب بالكلية على الرب، فما اتسع له الحال ما وراء ذلك فعل، وإلا اكتفى بحقيقتها، ولذلك انتهت الصلاة عند العلماء في شدة الخوف إلى تكبيرة واحدة، يجتمع إليها وحدها بركة أربع الركعات التي تقع في السعة، وفيها على حالها من البركة، في اتساع الرزق وصلاح الأهل، ما في الواقعة في السعة، مع معالجة النصرة لعزيمة إقامتها على الإمكان في المخافة، وقد وضح باختلاف أحوال صلاة الخوف أن حقيقتها أنها لا صورة لها، فقد صح فيها عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أربع عشرة صورة، وزيادة صور، في الأحاديث الحسان - انتهى. {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} وقال الْحَرَالِّي: أظهر المقصد في عمل الصلاة وأنه إنما هو الذكر، الذي هو قيام الأمن والخوف - انتهى.

{إلى الحول}

{كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} وقال الْحَرَالِّي: من أحكام هيئة الصلاة في الأعضاء والبدن، وحالها في النفس من الخشوع والاخبات، والتخلي من الوسواس، وحالها في القلب من التعظيم والحرمة، وفي إشارته ما وراء ظاهر العلم من أسرار القلوب التي اختصت بها أئمة هذه الأمة - انتهى. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} وقال الْحَرَالِّي: لما ذكر، سبحانه وتعالى، أحكام الأزواج في الطلاق والوفاة وحكم الفرض والمتعة في المطلقات، قبل الدخول، ختم هذه الأحكام المؤكدة بالفرض والأمر، بما هو من نحوها، فنظم بالمتعة من النفقة والكسوة والإخدام، وما في معناه، المتعة بالسكنى للمتوفى عنها زوجها، إلى حد ما كانت العدة في الجاهلية، ليكون للخير والمعروف بقاء في الإسلام بوجه ما، أيما عقد وعهد كان في الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة - انتهى. {إِلَى الْحَوْلِ} قال الْحَرَالِّي: وهو غاية العمر، وجامع لجملة الفصول التي بوفائها تظهر أحوال الصبر عن الشيء والحرص عليه، وإنما الحول الثاني استدراك - انتهى. {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قال الْحَرَالِّي: لتكون الأربعة الأشهر والعشر فرضا، وباقي الحول متاعا، لتلحق أنواع المتعة بأنواع اللازم في الزوجية، من نفقة وكسوة وإخدام وسكنى، ولما كان هذا المتاع الزائد إنما هو تقرير للزوجة في حال ما كانت عليه مع زوجها، إشعارا ببقاء العصمة، وإلاحة من الله، تعالى، بحسن صبر المرأة، المتوفى عنها زوجها، على زوجها، لا تتزوج عليه غيره

حتى تلقاه، فتكون معه على النكاح السابق، ليكون للأمة في أزواجهم لمحة حظ من تحريم أزواج نبيهم بعده، اللاتي يقمن بعده إلى أن يلقينه أزواجا بحالهن، فيكون ذلك لمن يستشرف، من خواص أمته، إلى اتباعه في أحكامه وأحكام أزواجه، لأن الرجال مما يستحسنون ذلك لأزواجهم، فمن أشد ما يلحق الرجل بعد وفاته تزوج زوجه من بعده، لأنها بذلك كأنها هي المطلقة له، ولذلك ورد أن المرأة إنما تكون لآخر زوج، لأنها تركت الزوج، ولم يتركها هو، قال، - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وسفعاء الخدين، حبست [نفسها على] يتاماها حتى ماتوا، أو بانوا، كهاتين في الجنة" كأنه، - صلى الله عليه وسلم -، أكد ذلك المعنى على من ترك لها المتوفى ذرية، لأنه أثبت عهد معه - امنهى. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وفي ضمنه، كما قال الْحَرَالِّي، تهديد شديد للأولياء، إن لم ينفذوا ويمضوا هذه الوصية بما ألزم الله. ففي إلاحته أن من أضاع ذلك ناله من عزة الله عقوبات في ذات نفسه وزوجه ومخلفيه من بعده، ويجري مأخذ ما تقتضيه العزة على وزن الحكمة جزاء وفاقا، وحكما قصاصا. وهذه الآية مما ذكر فيها بعض الناس النسخ، وإنما هي مما لحقها

{وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين}

نسيان أوقعه الله، تعالى، على الخلق، حتى لا يكاد أن يكون عمل بها أحد إلا أحدا لم يذكر به، ولم يشتهر منه، فهو مما أنسي، فران عليه النسيان لأمر شاءه الله، سبحانه وتعالى، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وقد ورد أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنفذ لامرأة من [تركة -] زوجها نفقة سنة، وذلك، والله سبحانه وتعالى، أعلم، قبل نزول آية الفرائض، حين كانت الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف - انتهى. {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} قال الْحَرَالِّي: حيث كان الذي قبل الدخول: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} كان المحسن يمتع بأيسر وصلة في القول دون الإفضاء، والمتقي يحق عليه الإمتاع بمقدار ما وقع له من حرمة الإفضاء، ولما وقع بينهم من الإرهاق والضجر، فيكون في المتعة إزالة لبعض ذلك، وإبقاء بسلام أو مودة - انتهى. {أَلَمْ تَرَ} وقال الْحَرَالِّي: لما كان أمر الدين مقاما بمعالمه الخمس التي إقامة ظاهرها تمام في الأمة، وإنما تتم إقامتها بتقوى القلوب وإخلاص النيات،

كان القليل من المواعظ والقصص في شأنه كافيا، ولما كان حظيرة الدين إنما هو الجهاد، الذي فيه بذل الأنفس، وإنفاق الأموال، كثرت فيه مواعظ القرآن وترددت، وعرض لهذه الأمة بإعلام بما يقع فيه، فذكر ما وقع من الأقاصيص في الأمم السالفة، وخصوصا أهل الكتابين: بني إسرائيل، ومن لحق بهم من أبناء العيص، فكانت وقائعهم مثلا لوقائع هذه الأمة، فلذلك أحيل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، على استنطاق أحوالهم، بما يكشفه الله سبحانه وتعالى، لهم من أمرهم عيانا، وبما ينزله من خبرهم بيانا، وكان من جامعة معنى ذلك ما تقدم من قوله، سبحانه وتعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}. وكان من جملة الآيات التي يحق الإقبال بها على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، [لعلو معناها، فأشرف المعاني ما قيل فيه {أَلَمْ تَرَ} إقبالا على النبي، - صلى الله عليه وسلم -] وعموم المعاني ما قيل فيه: {أَلَمْ تَرَوْا} إقبالا على الأمة، ليخاطب كل على قدر ما قدم لهم من تمهيد موهبة العقل، لتترتب المكسبة من العلم، على مقدار الموهبة من العقل.

فكان من القصص العلى العلم، اللطيف الاعتبار، ما تضمنته هذه الآيات من قوله: {أَلَمْ تَرَ} ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة، حتى لا يفروا من الموت فرار من قبلهم، قال، عليه الصلاة والسلام: "إذا نزل الوباء بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه" وذلك لتظهر مزيتهم على من قبلهم [بما يكون من عزمهم، كما أظهر الله، تعالى، مزيتهم على من قبلهم -] بما آتاهم من فضله ورحمته التي لم ينولها لمن قبلهم - انتهى. {وَهُمْ أُلُوفٌ} قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بأن تخوفهم لم يكن من نقص عدد، وإنما كان من جزع أنفس، فأعلم، سبحانه وتعالى، أن الحذر لا ينجي من القدر، وإنما ينجي منه، كما قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، الدعاء: "إن الدعاء ليلقى القدر، فيتعالجان إلى يوم القيامة" - انتهى. {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} قال الْحَرَالِّي: في إشعاره إنباء بأن هذه الإماتة إماتة تكون بالقول، حيث لم يقل: فأماتهم الله، فتكون إماتة حاقة لا مرجع منها. ففيه إبداء لمعنى تدريج ذات الموت في أسنان متراقية، من حد ضعف الأعضاء والقوى بالكسل، إلى حد السنة، إلى حد النوم، إلى حد الغشي، إلى حد الصعق، إلى حد هذه الإماتة [بالقول، إلى حد الإماتة الآتية على جملة الحياة التي لا ترجع

إلا بعد البعث، وكذلك الإماتة -] التي يكون عنها تبدد الجسم، مع بقائه على صورة أشلائه، أشد إتيانا على الميت من التي لا تأتي على أعضائه: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين". فكما للحياة أسنان من حد ربو الأرض إلى حد حياة المؤمن، إلى ما فوق ذلك من الحياة، كذلك للموت أسنان بعدد أسنان الحياة، مع كل سن حياة موته، إلى أن ينتهي الأمر إلى الحي الذي لا يموت: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} فبذلك يعلم ذو الفهم أن ذلك توطئة لقوله: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}. وفي كلمة "ثم" إمهال إلى ما شاء الله - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قال الْحَرَالِّي: بما ينسبهم تارة إلى أحوال مهوية، ثم ينجيهم منها إلى أحوال منجية، بحيث لو أبقى هؤلاء على هذه الإماتة ومن لحق بسنتهم من بعدهم لهلكت آخرتهم، كما هلكت دنياهم، ولكن الله، سبحانه وتعالى، أحياهم لتجدد فضله عليهم - انتهى. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} والشكر ظهور باطن الأمر على ظاهر الخلق،

بما هو باطن، فمن حيث إن الأمر كله لله قسراً، فالشكر أن يبدو الخلق كله بالله شكرا، لأن أصل الشكور الدابة التي يظهر عليها ما تاكلها سمنا وصلاحا، فمن أودع خلق أمر لم يبد على خلقه فهو كفور. فلما أودعه، سبحانه وتعالى، في ذوات الأشياء من معرفته وعلمه وتكبيره كان من لم يبد ذلك على ظاهر خلقه كفورا، ومن بدأ ما استسر فيه من ذلك شكورا، وليس من وصف الناس ذلك لترددهم بين أن يكون البادي عليهم تارة من الله، سبحانه وتعالى، وتارة من أنفسهم، وممن دون الله ممن اتخذوه أولياء على حد كفر أو هوى أو بدعة أو خطيئة، وعلى حد رين كسبهم على قلوبهم، ففي اعتبار هذه الآية تحذير لهذه الأمة من أن يحذروا الموت. قال بعض التابعين: [رضي الله تعالى عنهم]: لقد رأينا أقواما، يعنون من أصحاب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، الموت إلى أحدهم أشهى من الحياة عندكم اليوم، وإنما ذلك لما تحققوا من موعود الآخرة حتى كأنهم يشاهدونه، فهان عليهم الخروج من خراب الدنيا إلى عمارة آخرتهم - انتهى.

{من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وقال الْحَرَالِّي: القرض الجز من الشيء والقطع منه، كأنه يقطع له من ماله قطعة ليقطع له من ثوابه أقطاعا مضاعفة، والقرض بين الناس قرضا بقرض، مثلا بمثل، فمن ازداد، فقد أربى، ومن زاد من غير عقد، ولا عهد فقد وفى، فالقرض مساواة، والربا ازدياد. ووصف، سبحانه وتعالى، القرض الذي حرض عليه بالحسن لتكون المعاملة بذلة على وجه الإحساس الذي هو روح الدين، وهو أن يعامل الله به كأنه يراه - انتهى. {فَيُضَاعِفَهُ} قال الْحَرَالِّي: من المضاعفة مفاعلة من الضعف - بالكسر - وهو ثني الشيء بمثله مرة أو مرات. قال الْحَرَالِّي: هذه المضاعفة أول إنبائها أن الزائد ضعف ليس كسرا من واحد مقرض، ليخرج ذلك عن معنى وفاء القضاء، فإن المقترض تارة يوفي على الواحد كسرا من وزنه، كان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، لا يقترض قرضا إلا وفى عليه الزيادة، وقال: "خير الناس أحسنهم قضاء" فأنبأ، تعالى، أن اقتراضه ليس بهذه المثابة، بل بما هو فوق ذلك، لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله، إلى ما يقال فيه الكثرة، وفي قوله: "أضعافا" ما يفيد [أن -] الحسنة بعشر، وفي قوله: {كَثِيرَةً} ما يفيد

{ألم تر}

البلاغ إلى فوق العشر وإلى المائة، كأنه المفسر في قوله بعد هذا: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. فأوصل تخصيص هذه الكثرة إلى المئين، ثم فتح باب التضعيف إلى ما لا يناله علم العالمين، في قوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} - انتهى. {وَاللَّهُ يَقْبِضُ} قال الْحَرَالِّي: والقبض إكمال الأخذ، أصله القبض باليد كله، والقبض - بالمهملة - أخذ بأطراف الأصابع، وهو جمع عن بسط، فلذلك قوبل به {وَيَبْسُطُ} أي لمن يشاء، وإن ضاقت حاله، والبسط توسعة المجتمع إلى حد غاية. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} حسا بالبعث، ومعنى في جميع أموركم، فهو يجازيكم في الدارين على حسب ما يعلم من نياتكم. {أَلَمْ تَرَ} قال الْحَرَالِّي، أراه في الأولى حال أهل الحذر من الموت، بما في الأنفس من الهلع الذي حذرت منه هذه الأمة، ثم أراه في هذه مقابل ذلك من الترامي إلى طلب الحرب، وهما طرفا انحراف في الأنفس، قال، - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". ففيه إشعار لهذه الأمة بأن لا تطلب الحرب ابتداء، وإنما تدافع عن منعها من إقامة دينها، كما قال، سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} وقال، عليه الصلاة والسلام:

والمشركون قد بغوا علينا .... إذا أرادوا فتنة أبينا فحق المؤمن أن يأبى الحرب ولا يطلبه، فإنه إن طلبه فأوتيه عجز [كما عجز -] هؤلاء حين تولوا إلا قليلا، فهذه الأقاصيص ليس المراد منها حديثا عن الماضين، وإنما هو إعلام بما يستقبله الآتون، "إياك أعني واسمعي يا جارة". فلذلك لا يسمع القرآن من لم يأخذه بجملته خطابا لهذه الأمة بكل ما قص له من أقاصيص الأولين - انتهى. {إِلَى الْمَلَإِ} قال الْحَرَالِّي: الذين يملؤون العيون بهجة، والقلوب هيبة - انتهى. {مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} قال الْحَرَالِّي: وفيه إيذان بأن الأمة تختل بعد نبيها، بما يصحبها من نوره زمن وجوده معهم، قالوا: "ما نفضنا أيدينا من تراب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، حتى أنكرنا قلوبنا) - انتهى. {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} قال الْحَرَالِّي: لأن نبيهم المعهود الآمر لهم [إنما -] هو موسى، عليه الصلاة والسلام، ومن بعده إلى عيسى، عليهم الصلاة والسلام، إنما هم أنبياء بمنزلة الساسة والقادة لهم، كالعلماء في

هذه الأمة، منفذون وعالمون، بما أنزل على موسى، عليه الصلاة والسلام، كذلك كانوا إلى حين تنزيل الإنجيل، فكما قص في صدر السورة حالهم مع موسى، عليه الصلاة والسلام، قص في خواتيمها حالهم من بعد موسى، لتعتبر هذه الأمة من ذلك حالها مع نبيها، - صلى الله عليه وسلم -، وبعده - انتهى. {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: في إعلامه أخذهم الأمر، بمنة الأنفس، حيث لم يظهر في قولهم إسناد إلى الله، سبحانه وتعالى، الذي لا تصح الأعمال إلا بإسنادها إليه، فما كان بناء على تقوى تم، وما كان على دعوى نفس انهد. {قَالَ} أي ذلك النبي: {هَلْ} كلمة تنبىء عن تحقيق الاستفهام، اكتفى بمعناها عن الهمزة - انتهى. {عَسَيْتُمْ} قال الْحَرَالِّي: بكسر سين عسى وفتحها، لغتان، عادة النحاة [أن -] لا يلتمسوا اختلاف المعاني من أواسط الصيغ وأوائلها، وفي فهم اللغة وتحقيقها إعراب في الأوساط والأوائل، كما اشتهر إعراب الأواخر عند عامة النحاة، فالكسر، حيث كان، مبني عن باد عن ضعف وانكسار، والفتح معرب عن باد عن قوة واستواء - انتهى.

{إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا}

قال الْحَرَالِّي: فأنبأهم بما آل إليه أمرهم، فلم يلفتوا عنه؛ وحاجوه وردوا عليه بمثل سابقة قولهم، ففي إشعاره إنباء [بما -] كانوا عليه من غلظ الطباع وعدم سرعة التنبه - انتهى. {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} قال الْحَرَالِّي: فأنبأ، سبحانه وتعالى، أنهم أسندوا ذلك إلى غضب الأنفس على الإخراج، وإنما يقاتل في سبيل الله من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} قال الْحَرَالِّي: فكان أول ما ابتلوا به أن ملك عليهم من لم يكن من أهل بيت الملك عندهم، فكان أول فتنتهم، بما طلبوا ملكا، فأجيبوا فلم يرضوا بما بعث لهم - انتهى. {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} قال الْحَرَالِّي: فثنوا اعتراضهم بما هو أشد وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم، فكان فيه حظ من فخر إبليس، حيث قال، حين أمر بالسجود لآدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} - انتهى. {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} قال الْحَرَالِّي: فكان في هذه الثالثة فتنة استصنام المال، وأنه مما يقام [به -] ملك، وإنما الملك بإيتاء الله، فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم - انتهى. {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ} قال الْحَرَالِّي: والاصطفاء أخذ الصفوة - انتهى.

{إن آية ملكه}

{إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} قال الْحَرَالِّي: وقل ما احتاج أحد في إيمانه إلى آية خارقة إلا كان إيمانه، إن آمن، غلبة يخرج عنه بأيسر فتنة، ومن كان إيمانه باستبصار ثبت عليه ولم يحتج إلى آية، فإن كانت الآية [كانت] له نعمة، ولم تكن عليه فتنة، {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}. فإن الآيات طليعة المؤاخذة، والاقتناع بالاعتبار طليعة القبول والثبات - انتهى. {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} قال الْحَرَالِّي: [و -] يعز قدره - انتهى. {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} وقال الْحَرَالِّي: معناه ثبات في القلوب يكون له في عالم الملكوت صورة بحسب حال المثبت، ويقال: كانت سكينة بني إسرائيل صورة [هر من -] ياقوت ولؤلؤ وزبرجد، ملفق به أعضاء تلك الصورة، تخرج منه ريح هفافة تكون علم النصر لهم - انتهى. وقال الْحَرَالِّي وغيره: إنه كان في التابوت صورة يأتي منها عند النصر ريح تسمع. قال الْحَرَالِّي: كما كانت الصبا تهب لهذه الأمة بالنصر، قال، - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت

{وبقية}

بالصبا" فكانت سكينتها كلية آفاقها، وتابوتها كلية سمائها، حتى لا تحتاج إلى محمل يحملها، ولا عدة تعدها، لأنها أمة أمية تولى الله لها إقامة علمها وأعمالها - انتهى. {وَبَقِيَّةٌ} قال الْحَرَالِّي: فضلة جملة ذهب جلها {مِمَّا تَرَكَ} من الترك، وهو أن لا يعرض للأمر حسا أو معى. {آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} قال الْحَرَالِّي: وفي إشعاره تثنية ذكر الآل ما يعلم باختصاص موسى، عليه الصلاة والسلام، [بوصف دون هرون عليه السلام -] بما كان فيه من الشدة في أمر الله، وباختصاص هرون، عليه الصلاة والسلام، بما كان فيه من اللين والاحتمال، حيث لم يكن آل موسى وهرون، لأن الآل حقيقة من يبدو فيه وصف من هو آله.

{فلما فصل طالوت بالجنود}

وقال: الآل: أصل معناه السراب الذي تبدو فيه الأشياء البعيدة كأنه مرآة تجلو الأشياء، فآل الرجل من إذا حضروا فكأنه لم يغب - انتهى. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قال الْحَرَالِّي: ولما ضعف قبولهم عن النظر والاستبصار، صار حالهم في صورة الضعف الذي يقال فيه: إن كان كذا. فكان في إشعاره خللهم وفتنهم إلا قليلا - انتهى. {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} قال الْحَرَالِّي: وهر جمع جند، وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع. {قَالَ} أي ملكهم {إِنَّ اللَّهَ} أي الذي لا أعظم منه، وأنتم خارجون في مرضاته {مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} من الماء الذي جعله، سبحانه وتعالى، حياة لكل شيء، فضربه مثلا للدنيا التي من ركن إليها ذل، ومن صدف عنها عز. قال الْحَرَالِّي: فأظهر الله على لسانه ما أنبأ به نبيهم في قوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ}. انتهى. {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} ففي قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها

أخذة ما أخذت، من قليل أو كثير. وفي الضم إعلام بملئها، والغرف بالفتح الأخذ بكلية اليد، والغرفة الفعلة الواحدة منه، وبالضم اسم ما حوته الغرفة. فكان في المغترفين من استوفى الغرفة، ومنهم من لم يستوف. قاله الْحَرَالِّي. وقال: فكان فيه إيذان بتصنيفهم ثلاثة أصناف: من لم يطعمه البتة، وأولئك الذين ثبتوا وظنوا أنهم ملاقو الله. ومن شرب منهم، وأولئك الذين افتتنوا وانقطعوا عن الجهاد في صبيل الله. ومن اغترف غرفته، وهم الذين ثبتوا وتزلزلوا حتى ثبتهم الذين لم يطعموا. ولما كان قصص بني إسرائيل مثالا. لهذه الأمة، كان مبتلى هذه الأمة بالنهر ابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها، فكانت جيوشهم يحكم هذا الإيحاء الاعتباري إذا مروا بنهر أموال الناس وبلادهم وزروعهم وأقطارهم في سبيلهم إلى غزوهم، فمن أصاب من أموال الناس ما لم ينله الإذن من الله، انقطع عن ذلك الجيش، ولو حضره، فما كان في بني إسرائيل عيانا يكون وقوعه في هذه الأمة استبصارا؛ سترة لها وفضيحة لأولئك، ومن لم يصب منها شيئا بتا، كان [أهل -] ثبت ذلك الجيشا الثابت المثبت.

قيل لعلي، رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين، ما بال فرسك لم يكب بك قط؟ قال: ما وطئت به زرع مسلم قط. ومن أصاب ما له فيه ضرورة من منزل ينزله، أو غلبة عادة تقع منه، ويوده أن لا يقع، فهؤلاء يقبلون التثبيت من الذين تورعوا كل الورع. فملاك هذا الدين الزهد في القلب، والورع في التناول باليد، قال، - صلى الله عليه وسلم -: "إنما تنصرون بضعفائكم". وفي إلاحة هذا التمثيل والاعتبار أن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد الثابتين من أصحاب طالوت، الذين بعددهم كان أصحابه رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يوم بدر، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، عدد المرسلين من كثرة عدد النبيئين. قال: وفي إفراد اليد إيذان بأنها غرفة اليد اليمنى، لأنها اليد الخاصة للتعريف، ففي اعتباره أن الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين، لاشتمال اليدين على جانبي الخير والشر - انتهى. {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} قال الْحَرَالِّي: وفيما يذكر أنه قرئ بالرفع، وهو إخراج لهم من الشاربين بالإتباع، كأن الكلام مبني عليه، حيث

صار تابعا، وإعرابه مما أهمله النحاة، فلم يحكموه، وحكمه أن ما بني على إخراجه [اتبع، وما لم يبن على إخراجه -]، وكأنه إنما انثنى إليه بعد مضاء الكلام الأول، قطع ونصب - انتهى. {قَالُوا} قال الْحَرَالِّي: رد الضمير مردا عاما؛ إيذانا بكثرة الذين اغترفوا، وقلة الذين لم يطعموا، كما آذن ضمير شربوا بكثرة الذين شربوا منه - انتهى. {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} قال الْحَرَالِّي: ففيه من نحو قولهم: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} اعتمادا على أن النصر بعدة مال أو قوة، وليس إلا بنصر الله، ثم قال: فإذا نوظر هذا الإنباء منهم، والطلب، أي كما يأتي في: {رَبَّنَا أَفْرِغْ} بما تولى الله [من -] أمر هذه الأمة في جيشهم الممثول لهذا الجيش في سورة الأنفال، من نحو قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} الآيات، علم عظيم فضل الله على هذه الأمة، واستشعر بما يكون لها في خاتمتها مما هو أعظم نبأ، وأكمل عيانا، فلله الحمد على ما أعظم من فضله ولطفه - انتهى.

{فهزموهم}

{فَهَزَمُوهُمْ} مما منه الهزيمة، وهو فرار من شأنه الثبات - قاله الْحَرَالِّي. وقال: ولم يكن، فهزمهم الله، كما لهذه الأمة في: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} - انتهى. {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} قال الْحَرَالِّي: مناظرة قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} - انتهى. {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} قال الْحَرَالِّي: كان داوود، عليه الصلاة والسلام، عندهم من سبط الملك، فاجتمعت له المزيتان: من استحقاق البيت، وظهور الآية على يديه بقتل جالوت. قال تعالى: {وَالْحِكْمَةَ} تخليصا للملك مما يلحقه بفقد الحكمة من اعتداء الحدود - انتهى. {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} قال الْحَرَالِّي: فعال من اثنين، وما يقع من أحدهما دفع، وهو رد الشيء بغلبة وقهر عن وجهته التي هو منبعث إليها بأشد منته. * * * * انتهت نصوص تفسير الْحَرَالِّي المستخرجة من الجزء الثالث من تفسير البقاعي: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" من مطبوعات دائرة المعارف العثمانية 1 4 3 بالهند ط 1 - 1391 هـ - 1971 م

صفحة فارغة

نصوص تفسير الْحَرَالِّي المستخرجة من الجزء الرابع من تفسير البقاعي "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"

{تلك الرسل}

{تِلْكَ الرُّسُلُ} وجعل الْحَرَالِّي: التعبير بتلك التي هي أداة التأنيث دون أولئك التي هي إشارة المذكر، توطئة وإشارة لما يذكر بعد من اختلاف الأمم بعد أنبيائها. وقال: يقول فيه النحاة إشارة لجماعة المؤنث، إنما هو في العربية لجماعة ثانية في الرتبة، لأن التأنيث أخذ الثواني عن أولية تناسبه في المعنى وتقابله في التطرق. قال: ومن لسن العرب وإشارة تأسيس كلمها أن المعنى متى أريد إرفاعه أطلق عن علامة الثاني في الرتبة وإشارته، ومتى أريد إنزاله قيد بعلامة الثاني وإشارته. ثم قال: ففي ضمن هذه الإشارة لأولي التنبه إشعار بما تتضمنه الآية من الإخبار النازل عن رتبة الثبات والدوام إلى رتبة الاختلاف والانقطاع، كما أنه لما كان الذكر واقعا في محل إعلاء في آية الأنعام، قيل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}.

ولما كان شأن الإختلاف والانقطاع غير مستغرب في محل النقص والإشكال، وطئ لهذا الواقع بعد الرسل بأنه ليس من ذلك، وأنه من الواقع بعد إظهار التفضيل، وإبلاغ البينات، لما يشاؤه من أمره - انتهى. {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} قال الْحَرَالِّي: والبينة ما ظهر برهانه في الطبع والعلم والعقل، بحيث لا مندوحة عن شهود وجوده، وذلك فيما أظهر الله، سبحانه وتعالى، على يديه من الإحياء والإماتة الذي هو من أعلى آيات الله، فإن كل باد في الخلق، ومتنزل في الأمر، فهو من آيات الله، فما كان أقرب إلى ما اختص الله، تعالى، به كان أعلى وأبهر، وما كان مما يجري نحوه على أيدي خلقه كان أخفى وألبس، إلا على من نبه الله قلبه لاستبصاره فيه. {وَأَيَّدْنَاهُ} أي بعظمتنا البالغة {بِرُوحِ الْقُدُسِ} في إعلامه ذكر ما جعل، تعالى، بينه وبين عيسى، عليه الصلاة والسلام، في كيانه فجرى نحوه في عمله من واسطة الروح، كما قال، سبحانه وتعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} كذلك كان فعله مع تأييده، وفي ذلك بينه وبين موسى عليهما الصلاة والسلام، موازنة ابتدائية، حيث كان أمر موسى من ابتداء أمر التكليم، الذي هو غاية سقوط الواسطة، وكان أمر عيسى، عليه

الصلاة والسلام، من ابتداء أمر الإحياء، الذي هو غاية تصرف المتصرفين - انتهى. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ}، قال الْحَرَالِّي: وهي كلمة جامعة قرآنية محمدية، تشهد الله وحده، وتمحو عن الإقامة ما سواه - انتهى. {مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} قال الْحَرَالِّي: فذكر الاقتتال الذي إنما يقع بعد فتنة المقال، بعد فتنة الأحوال بالضغائن والأحقاد، بعد فقد السلامة، بعد فقد الوداد، بعد فقد المحبة [الجامعة] للأمة مع نبيها - انتهى. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} قال الْحَرَالِّي: فيه إيذان بأن الوسائل والأسباب لا تقتضي آثارها إلا بعد إمضاء كلمة الله فيها - انتهى. {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} قال الْحَرَالِّي: هي مما منه المخاللة، وهي المداخلة فيما يقبل التداخل، حتى يكون كل واحد خلال الآخر، وموقع معناها الموافقة في وصف الرضي والسخط، فالخليل من رضاه رضي خليله، وفعاله من فعاله - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: فانتظم هذا الانتهاء في الخطاب بما في ابتداء السورة من {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} إلى قوله: {الْمُفْلِحُونَ} فلذلك وقع بعد هذا الانتهاء افتتاح آية هي سيدة أي هذه السورة المنتظمة بأولها انتظاما معنويا برأس: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} فكان في إشارة هذا الانتظام توطئة لما أفصح به الخطاب في فاتحة سورة آل عمران، لما ذكر من أن القرآن مثاني إفهام وحمد، فكان أوله حمداً، وآخره

{الله لا إله إلا هو}

حمدا، ينثني ما بين الحمدين على أوله، كما قال: "حمدني عبدي، أثنى علي عبدي" فجعلته حمد، وتفاصيله ثناء - انتهى. {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وقال الْحَرَالِّي: لما أتى بالخطاب على بيان جوامع من معالم الدين، وجهات الاعتبار، وبيان أحكام الجهاد والانفاق فيه، فتم الدين بحظيرته معالم إسلام، وشعائر إيمان، ولمحة إحسان، أعلى تعالى، الخطاب إلى بيان أمر الإحسان، كما استوفى البيان في أمر الإيمان والإسلام، فاستفتح هذا الخطاب العلي، الذي يسود كل خطاب، ليعلى به الذين آمنوا، فيخرجهم به من ظلمة الإيمان بالغيب، الذي نوره يذهب ظلمة الشك والكفر، إلى صفاء ضياء الإيقان، الذي يصير نور الإيمان، بالإضافة إليه، ظلمة، كما يصير نور القمر عند ضياء الشمس ظلمة، فكانت نسبة هذه الآية من آية الإلهية في قوله، سبحانه وتعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وما بعدها من الاعتبار في خلق السموات والأرض نسبة ما بين علو اسمه {الله} الذي لم يقع فيه شرك بحق ولا بباطل، إلى اسمه الذي وقع فيه الشرك بالباطل، فينقل، تعالى، المؤمنين الذين استقر لهم إيمان الاعتبار بآية

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وما بعدها من الاعتبار في خلق السموات والأرض إلى يقين العيان باسمه "الله" وما يلتئم بمعناه من أوصافه العظيمة - انتهى. {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال الْحَرَالِّي: فيعول، زيدت في أصوله الياء، ليجتمع فيه لفظ ما هو من معناه، الذي هو القيام بالأمر، مع واوه التي هي من قام يقوم، فأفادت صيغته من المبالغة ما في القيام والقوام، على حد ما تفهمه معاني الحروف عند المخاطبة بها من أيمة العلماء الوالجين في مدينة العلم المحمدي من بابه العلوي - انتهى. {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قال الْحَرَالِّي: هي مجال النعاس في العينين قبل أن يستغرق الحواس، ويخامر القلب، {وَلَا نَوْمٌ} وهو ما وصل من النعاس إلى القلب فغشيه في حق من ينام قلبه، وما استغرق حواسه في حق من لاينام قلبه - انتهى. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} قال الْحَرَالِّي: وسلب بالجملة الأولى أمر الملكوت من أيدي الملائكة إلى قهر جبروته، والآثار من نجوم الأفلاك إلى جبره، وسلب بالجملة الثانية الآثار والصنائع من أيدي خليفته وخليقته إلى قضائه وقدره وظهور قدرته، فكان هذا الخطاب، بما أبدى للفهم، إقامة قيامه على مجعول الحكمة الأرضية والسمائية التي هي حجاب قيوميته، سلبا لقيام ما سواه - انتهى. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} قال الْحَرَالِّي: وحقيقة الشفاعة وصلة بين الشفيع والمشفوع له، لمزية وصلة بين الشفيع والمشفوع عنده، فكان الإذن في باطن الشفاعة حظا في سلب ما للشفعاء، ليصير بالحقيقة إنما الشفاعة لله، سبحانه وتعالى، عند الله، سبحانه وتعالى، فهو، سبحانه وتعالى، بالحقيقة الذي شفع

عند نفسه بنفسه، فبإخفائه، تعالى، شفاعته في شفاعة الشفعاء، كان هو الشفيع في الإبتداء من وراء حجاب، لأن ابداءه كله في حجاب، وإعادته ما في حجاب، فلذلك هو سبحانه وتعالى، خاتم الشفعاء، حيث يقول، كما ورد في الخبرة: "شفع الأنبياء والمرسلون، ولم يبق إلا الحي القيوم". انتهى. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قال الْحَرَالِّي: أي ما آتاهم علمه من أمر أنفسهم وغيرهم، لأن ما بين يدي المرء يحيط به حسه، وما علمه أيضا، فكأنه بين يدي قلبه يحيط به علمه. {وَمَا خَلْفَهُمْ} وهو مالم ينله علمهم، لأن الخلف هو مالا يناله الحس، فأنبأ أن علمه من وراء علمهم، محيط بعلمهم فيما علموا وما لم يعلموا - انتهى. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} وقال الْحَرَالِّي: معنى الكرسي هو الجمع، فكل ما كان أتم جمعا فهو أحق بمعناه، ويقال على المرقى للسرير، الذي يسمى العرش، الذي يضع الصاعد عليه قدمه إذا صعد وإذا نزل، وحين يستوي إن شاء - كرسي. ثم قال: والكرسي فيه صور الأشياء كلها كما بدت آيته في الأرض التي فيها موجودات الأشياء كلها، فما في الأرض صورة إلا ولها في الكرسي مثل، فما في العرش إقامته ففي الكرسي أمثلته، وما في السموات إقامته ففي الأرض صورته، فكان الوجود مثنيا، لما كان القرآن مثاني: إجمالا وتفصيلا في القرآن، ومدادا صورا في الكون، فجمعت هذه الآية العلية تفصيل المفصلات، وانبهام صورة المداديات،

بنسبة ما بين السماء وما منه. وجعل وسع الكرسي، وسعا واحداً، حيث قال: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ولم يكن وسعان، لأن الأرض في السموات والسموات في الكرسي، والكرسي في العرش، والعرش في الهواء - انتهى. {وَلَا يَئُودُهُ} قال الْحَرَالِّي: من الأود أي بلوغ المجهود ذودا، ويقابله ياء من لفظ الأحد، أي وهو القوة، وأصل معناه، والله، سبحانه وتعالى، [أعلم]، أنه لا يعجزه علو أيده، ولذلك يفسره اللغويون بلفظة يثقله. {حِفْظُهُمَا} والحفظ، قال الْحَرَالِّي: الرعاية لما هو متداع في نفسه، فيكون تماسكه بالرعاية له عما يوهنه أو يبطله - انتهى. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} وقد ختمت الآية بما بدئت به، غير أن بدءها بالعظمة، كما قال الْحَرَالِّي، كان باسم "الله" إلاحة وختمها كان بذلك إفصاحا، لما ذكر من أن الإبداء من وراء حجاب، والإعادة بغير حجاب، كذلك تنزل القرآن: مبدأ الخطاب إلاحة، وخاتمته إفصاح، ليتطابق الوحي والكون تطابق قائم ومقام. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} ولما في العلو من الظهور، وفي العظمة من الخفاء، لموضع الإحاطة،

{لا إكراه في الدين}

لأن العظيم هو ما يستغرق، كما يستغرق الجسم العظيم جميع الأقطار {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وذلك حين كان ظاهر العلو هو كبرياؤه الذي شهد به كبير خلقه، قال، سبحانه وتعالى، فيما أنبأ عنه نبيه، - صلى الله عليه وسلم -: "الكبرياء ردائي" لأن الردأء هو ما على الظاهر، "والعظمة إزاري" والإزار ما ستر الباطن والأسفل، فإذا في السماء كبرياؤه، وفي الأرض عظمته، وفي العرش علوه، [وفي الكرسي عظمته، فعظمه أخفى ما يكون حيث التفصيل، وكبرياؤه وعلوه] أجلى ما يكون، حيث الإبهام والانبهام. فتبين بهذا المعنى علو رتبة هذه الآية بما علت على الإيمان علو الإيمان على الكفران، ولما ألاحته للأفهام من قيوميته، تعالى، وعلوه وعظمته، وإبادة ما سواه في أن بنسب إليهم شيء، لأنه، سبحانه وتعالى، إذا بدا باد ما سواه، كان في إلاحة هذه الآية العلية العظيمة تقرير دين الإسلام الذي هو دين الإلقاء، كما كان فيما تقدم هو إيراد السورة تقرير دين القيمة الذي ما أمروا إلا ليعبدون به مخلصين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة، ولذلك كان ذكر دين الإسلام في سورة الإفصاح بمعاني هذه السورة آل عمران، إثر قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال الْحَرَالِّي: لما نقل، سبحانه وتعالى، رتبة الخطاب من حد خطاب الأمر والنهي والحدود، وما ينبني عليه المقام به دين القيمة الذي أخفى

لهم أمر العظمة والجبروت الجابر لأهل الملكوت والملك فيها هم مصرفون إلى علو رتبة دين الله المرضى، الذي لالبس فيه ولا حجاب عليه ولا عوج فيه، وهو اطلاعه، سبحانه وتعالى، عبده على قيوميته الظاهرة بكل باد، وفي كل باد، وعلى كل باد، وأظهر من كل باد، وعظمته الخفية التي لا يشير إليها اسم، ولا يجوزها رسم، وهي مداد كل مداد، بين، سبحانه وتعالى، وأعلن بوضع الإكراه الخفي موقعه في دين القيمة، من حيث ما فيه من حمل الأنفس على كرهها فيما كتب عليها، مما هو علم عقابها وآية عذابها، فذهب بالاطلاع على أمر الله في قيوميته وعظمته كره النفس بشهودها جميع ماتجري فيه لها ما عليها {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} بما استشعرته قلوبهم من ماء التوحيد الجاري تحت مختلفات أثمار أعمالهم، فعاد حلوه ومره بذلك التوحيد حلوا، كما يقال في الكبريت الأحمر الذي يقلب أعيان الأشياء الدنية إلى حال أرفعها - انتهى. {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ} قال الْحَرَالِّي: وهو حسن التصرف في الأمر والإقامة عليه، بحسب ما يثبت ويدوم، {مِنَ الْغَيِّ} وهو سوء التصرف في الشيء وإجراؤه على ما تسوء عاقبته - انتهى.

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} وقال الْحَرَالِّي: وهو ما أفحش في الإخراج عن الحد الموقف عن الهلكة، صيغة مبالغة وزيادة انتهاء مما منه الطغيان - انتهى. {لَا انْفِصَامَ لَهَا} وقال الْحَرَالِّي: من الفصم، وهو خروج العري بعضها من بعض، أي فهذه العروة لا انحلال لها أصلا، وهو تمثيل للمعلوم بالنظر، والاحتجاج بالمشاهد المحسوس، ليتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده فيه، ويجل اغتباطه به. {مِنَ الظُّلُمَاتِ} [أي المعنوية] جمع ظلمة، وهر ما يطمس الباديات حسا أو معنى، {إِلَى النُّورِ} أي المعنوي، وهو ما يظهر الباديات حسا أو معنى. قاله الْحَرَالِّي. {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} قال الْحَرَالِّي: وفيه بيان استواء جميع الخلق في حقيقة النور الأول إلى الروح المجندة، إلى الفطرة المستوية "كل مولود يولد على الفطرة" - انتهى. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} قال الْحَرَالِّي: الذين تبعوها من حيث لم يشعروا، من حيث إن الصاحب من اتبع مصحوبة - انتهى. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قال الْحَرَالِّي: وجعل الخلود وصفا لهم إشعار بأنهم فيها، وهم في دنياهم - انتهى.

{أن آتاه الله الملك}

قال الْحَرَالِّي: ولما كان ما أظهره الحق في آية عظمته، وما اتصل بها في خاصة عباده اختص هذا الخطاب بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، لعلو مفهور مغزاه عمن دونه - انتهى. {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} قال الْحَرَالِّي: وفي إشعاره أن الملك فتنة وبلاء على من أوتيه - انتهى. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان من حسن الاحتجاج ترك المراء بمتابعة الحجة الملبسة، كما قال تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} نقل المحاج من الحجة الواقعة في الأنفس إلى الحجة الواقعة في الآفاق بأعظم كواكبها الشمس {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} ففي ظاهر الاحتجاج انتقال، وفي [طيه تقرير الأول، لأن الروح شمس البدن، فكأنه ضرب مثل، من حيث إن الإحياء إنما هو أن يوتى بشمس الروح من حيث غربت، فكان في ظاهر واستقبال حجة قاطعة] باطنه تتميم للحجة الأولى، قال تعالى: {فَإِنْ} بالفاء الرابطة بين الكلامين، إشعارا لتتمة الحجة الأولى بالحجة الثانية - انتهى. {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} قال الْحَرَالِّي: إظهارا لمرجع العالم بكليته إلى واحد، وأن قيوم الإنسان في الإحياء والإماتة هو قيوم الآفاق

في طلوع الشمس وغروبها، وفي لحنه إشعار بأن الله، سبحانه وتعالى، لابد وأن ياتي بالشمس من المغرب، ليكون في ذلك إظهار تصريفه لها حيث شاء، حتى يطلعها من حيث غربت، كما يطلع الروح من حيث قبضت، ليكون طلوع الشمس من مغربها آية مقاربة قيام الساعة وطلوع الأرواح من أبدانها - انتهى. {فَبُهِتَ} قال الْحَرَالِّي: من البهت، وهو بقاء الشيء على حاله وصورته، لا يتغير عنها لأمر يبهره وقعه. {الَّذِي كَفَرَ} وقال الْحَرَالِّي: فعرفه أي في قوله {كَفَرَ} بوصفه، من حيث دخل عليه البهت منه - انتهى. {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} قال الْحَرَالِّي: [من المرور -] وهو جعل الشيء على مسلك إلى غيره مع التفات إليه [في] سبيله. {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} قال الْحَرَالِّي: من الخوا، وهو خلو الشيء عما شأنه أن يعينه حسا أو معنى، والعروش جمع عرش، من نحو العريش، وهو ما أقيم من البناء على حاله عجالة، يدفع سورة الحر والبرد، ولايدفع جملتها كالكن المشيد، فكان المشيد في الحقيقة عريشا لوهاء الدنيا بجملتها في عين الاستبصار - انتهى.

{قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} قال الْحَرَالِّي: وفي لفظة {أَنَّى} لشمول معناها لمعنى كيف وحيث ومتى، استبعاده الإحياء في الكيف والمكان والزمان، ومنشأ هذا الاستبعاد إنما يطوق النفس من طلبها لمعرفة تكييف مالا يصل إليه علمها - انتهى. {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} قال الْحَرَالِّي: وخص المائة لكمالها في العد المثلث من الآحاد [و] العشرات، وعشرها وتر الشفع، لأن ماتم في الثالث كان ما زاد عليه تكرارا يجزئ عنه الثلاث. {ثُمَّ بَعَثَهُ} في بيانه إشعار بأن بدنه لم يتغير، ولا فنى فناء حماره، حيث لم يكن {ثُمَّ نشره} والله، سبحانه وتعالى أعلم، كما قال: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} - انتهى. {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} فكان أمره إبقاء وتثبيتا آية في موجود الدنيا على ما سيكون في أمر الآخرة: قيام ساعة، وبعثا، ونشورا. قاله الْحَرَالِّي. {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} قال الْحَرَالِّي: بالراء من النشر، وهو عود الفاني إلى صورته الأولى، وبالضم جعل وتصيير إليه، وبالزاي من النشز، وهو إظهار الشيء وإعلاؤه، من نشز الأرض، وهو ما ارتفع منها وظهر - انتهى. {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} قال الْحَرَالِّي: جعل حياته بعثا، وحياة حماره نشورا، وأراه [النشر] واللحم الذي لحم بين العظام حتى صار صورة واحدة، ليتبين أمر الساعة عيانا، فيكون حجة على الكافر والمستبعد.

{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} قال الْحَرَالِّي: وفي صيغة تفعل إشعار بتردده في النظر بين الآيتين، حتى استقر عنده أمر ما أعلم به، واضمحل عنده ما قدره. {قَالَ أَعْلَمُ} بصيغة الفعل بناء على نفسه، وبصيغة الأمر إفادة لغيره ما علم، لتدل القراءتان على أنه علم وعلم، لأن العلم إنما يتم حين يصل إلى غير العالم، فيجمع فضل العلم والتعليم - انتهى. {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال الْحَرَالِّي: في إشعاره إلزام البصائر شهود قدرة الله، سبحانه وتعالى، في تعينها في الأسباب الحكمية التي تتقيد بها الأبصار؛ إلحاقا لما دون آية الإحياء والإماتة بأمرها، ليستوي في العلم أن محييك هو مصرفك، فكما أن حياتك بقدرته، [فكذلك عملك بقدرته]، فلاءم تفصيل إفراد القدرة لله بما تقدم من إبداء من الحفظ بالله، والعظمة لله، فكأنها جوامع وتفاصيل، كلها تقتضي إحاطة أمر الله، سبحانه وتعالى، بكلية ما أجمل، وبدقائق تفاصيل ما فصل - انتهى. {وَإِذْ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان أمر منزل القرآن إقامة الذين بمكتوبه وحدوده فأنهاه، تعالى، منتهى منه، ثم نظم به ما نظم من علنه في آية الكرسي، ورتب على ذلك دين الإسلام الذي هو إلقاء كإلقاء اليد عن الموت - انتظم به أمر المعاد الذي لا مدخل للعباد في أمره، فرتب، سبحانه وتعالى، ذكر المعاد في ثلاثة أحوال: حال الجاحد الذي انتهت غايته إلى [بهت.

{قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى}

ثم حال المستبعد الذي انتهت غايته إلى -] علم وإيمان. وأنهى الخطاب إلى حال المؤمن الذي انتهى حاله إلى يقين وطمأنينة ورؤية ملكوت في ملكوت الأرض. انتهى. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} قال الْحَرَالِّي: طلب ما هو أهله بما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فمن ملكوت الأرض الإحياء فقرره، سبحانه وتعالى، على تحقيق ابتداء حاله من تقرر الإيمان، فقال مستأنفا: {قَالَ} ولما كان التقدير: ألم تعلم أني قادر على الإحياء، لأني قادر على كل شيء؟ عطف عليه قوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}؟ فإن الإيمان يجمع ذلك كله {قَالَ بَلَى} فتحقق أن طلبه كيفية الإحياء ليس عن بقية تثبيت في الإيمان، فكان في إشعاره أن أكثر طالبي الكيف في الأمور إنما يطلبونه عن وهن في إيمانهم، ومن طلب لتثبت الإيمان، مع أن فيما دون الكيف من الآيات كفايته، لم ينتفع بالآية في إيمانه، لأن كفايتها فيما دونه، ولم يعل لليقين لنقص إيمانه عن تمام حده، فإذا تم الإيمان بحكم آياته التي في موجود حكمة الله في الدنيا بيناته، ترتب عليه برؤية ملكوت شهود الدنيا رتبة اليقين، كما وجد تجربته أهل الكشف من الصادقين في أمر الله، حيث أورث لهم اليقين، ومتى شاركهم في أمر من رؤية الكشف أو الكرامات ضعيف الإيمان طلب فيه تأويلا، وربما كان عليه فتنة تنقصه مما كان عنده من حظ من إيمانه، حتى ربما داخله نفاق لا ينفك منه إلا أن يستنقذه الله، فلذلك أبدى

تعالى خطاب تقريره لخليله، - صلى الله عليه وسلم -، على تحقيق الإيمان، ليصح الترقي منه إلى رتبة الإيقان، وهو مثل نحو ما تقدم في مطلق قوله، سبحانه وتعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وذكر عن الخليل، عليه الصلاة والسلام، أنه نظر إلى بدن دابة توزعها دواب البحر ودواب البر، وطير الهواء، فتعجب منها وقال: يارب، قد علمت لتجمعنها، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك، فإنما ينبني يقين العيان على تحقيق الإيمان. {وَلَكِنْ} أريد المعاينة {لِيَطْمَئِنَّ} من الطمأنينة، وهي الهدوء والسكون على سواء الخلقة واعتدال الخلق {قَلْبِي} من فطر على نيل شيء جبل على الشوق له، فلما كان إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، متهيئا لقبول الطمأنينة قذف في قلبه طلبها، فأجابه الله بما قد هيأه له، فضرب، سبحانه وتعالى، له مثلا أراه إياه، جعله جرى العيان جلي الإيقان، وذلك أن الله،

تعالى سبحانه، هو الأحد الذي لا يعد ولا يحد، وكان من تنزل تجليه لعباده أنه الإله الواحد، والواحد بريء من العد، فكان أول ظهور الخلق هو أول ظهور العد، فأول العدد الاثنان {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} فالاثنان عد هو خلق كل [واحد] منهما واحد، فجعل تعالى اثنين كل واحد منهما اثنان، لتكون الاثنينية فيه كلا وجزء، فيكون زوجا من زوج، فكان ذلك العد هو الأربع، فجعله الله، سبحانه وتعالى، أصلا لمخلوقاته، فكان جملتها وتره، فجعل الأقوات من أربع: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} وجعل الأركان التي خلق منها صور المخلوقات أربعا، وجعل الأقطار أربعا، وجعل الأعمار أربعا، وقال، عليه الصلاة والسلام: "خير الرفقاء أربعة، وخير البعوث أربعون، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف" والمربعات في أصول الخلق وكثيرة، تتبعها العلماء، واطلع عليها الحكماء {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} الآية. ولما كان خلق آدم وسائر المخلوقات من مداد الأركان التي هي: الماء والتراب، والهواء

{أربعة من الطير}

والنار، فأظهر منها الصور {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} ثم أظهر، سبحانه وتعالى، قهره بإماتته وإفناء صوره، "كل ابن آدم ياكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق، وفيه يركب" فكان بددها في أربعة أقطار: شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، أدى خليله، عليه الصلاة والسلام، كيف يدعو خلقه من أقطار آفاقه الأربعة بعد بددها واختلاطها والتئام أجزائها على غير حدها. يقال إن عليا، رضي الله تعالى عنه، ضرب بيده على قدح من فخار فقال: كم فيه من خد أسيل، وعين كحيل! {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ}. فأرى خليله، عليه الصلاة والسلام، مثلا من جملة ذلك {قَالَ فَخُذْ} بالفاء تحقيقا لمقاله، وتصديقا فيما تحقق من إيمانه، وإبداء لاستحقاقه اليقين والطمأنينة بتقرر إيمائه. {أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} هو اسم جمع من معنى ما منه الطيران، وهو الخفة من ثقل ماليس من شأنه أن يعلو في الهواء، جعل، تعالى، المثل من الطير، لأن الأركان المجتمعة في الأبدان طوائر تطير إلى أوكارها ومراكزها التي حددها الله، تعالى، لها، جعلا فيها، لا طبعا واجبا منها، فإن الله، عز وجل، هو الحكيم الذي جعل الحكمة، فمن أشهده الحكمة وأشهده أنه جاعلها فهو حكيمها، ومن أشهده الحكمة الدنياويه، ولم يشهده أنه جاعلها فهو جاهلها. فالحكمة شهود الحكمة مجعولة

من الله كل ماهية ممهاة، وكل معنوية ممعناة، وكل حقيقة محققة، فالطبع وما فيه جعل من الله، من جهله ألحد، (332) ومن تحققه وحد. كذلك المعقول وما فيه أقباس من الله وإرادة من أمر الله، من تقيد به وأعتقده لاينفك نسبة الحد في الطبع، وأحتاج إلى ملجإ فتن التأويل في غيب الشعر، وكل ماسوى الحق موضوع معطى حظا وحداً ينال ما أعطى، ويعجز عما فوقه، للعقول حد تقف عنده لاتتعداه، فلذلك جعلها تعالى طوائر يقهرها قفص الصورة وتمام التسوية، ويظهر تماسكها نفح الروح - انتهى. {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قال الحرالى: من الصور وهو استمالة القلوب بالإحسان حتى يشتد إلى المستميل صغوها وميلها. وإشعاره ينبىء، والله سبحانه وتعالى أعلم، أن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، رباهن وغذاهن حتى عرفنه ليكون ذلك مثل لما لله، سبحانه وتعالى، في خلقه من تربيتهم بخلقهم ورزقهم، حتى عرفوه بما أحتاجوا إليه، فوجدوه معرفة عجز عنه، لا معرفة نيل له، فمتى دعاهم من أقطار الآفاق أجابوه إجابة

هذه الطوائر لحلوله لخليله، يسير من تربيته لهن، إذا كانت هده الأربعة مجيبة [للخليل عليه السلام] بهذا الحظ اليسير من الصور والصغو فكيف. تكون إجابته الجملة للجليل العزيز الحكيم! قال تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ} عطفا بكلمة المهلة تجاوزا بعد تربيتهن عن ذبحهن ودرسهن وخلطهن حتى صرن لحمة واحدة لايبين في جملتها شيء من الصور الذابهة كما تصير المواليد ترابا عند موتها وتبددها صورة واحدة ترابية، ليتطابق المثل والممثول مطابقة تامة، إلى ماورإء ذلك من مجاوزة عبرة وروية {عَلَى كُلِّ جَبَلٍ} من الجبال القريبة إليك {مِنْهُنَّ جُزْءًا} والجزء بعض من كل يشابهه، كالقطعة س الذهب ونحوه، فجعل الجبال مثل الأقطار،، هو لارتفاعها أمكن في الرؤية وأبعد من الاشتباه {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} فما كان بالصيحة والزجرة من الممثول كان بالدعاء في المثل، كما أن ما كان بالخلق والرزق في الممثول كان بالصور في المثل، وجعله جزء حيث كان

يشبه بعضه بعضا. {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} والسعي هو العدو والقصد المسرع يكون في الحس والمعنى، في إتيان الطائر طائراً حظ من منته، وفي إتيانه سعيا حظ من ذلته، فلذلك جلبهن عليه سعيا بحال المتذلل الطالب للرزق والأمنة من اليد التي عهد منها الرزق، والجنبة التي ألف منها الأمن، فبدأ المثل مطابقا للممثول، وغايته مرأى عين، فصار موقنا مطمئنا، وليس ذلك بأعجب من مشي الأحجار تارة والأشجار كرة وأغصانها أخرى، إلى خدمة ولده المصطفى، - صلى الله عليه وسلم -، وكذا إلحام يد معوذ بن عفراء، بعدما قطعت، وجاء يحملها، كما ذكر في السير في غزوة بدر، فصارت مثل أختها، في أشياء من أمثال ذلك. على أنه قد كان له من إحياء الموتى ما أذكره في آل عمران، وكان لآحاد أمته من ذلك ما ذكره البيهقي في الدلائل منه عددا كثيرا. وإنما لم يكثر ذلك على يده، - صلى الله عليه وسلم -، لأنه مرسل إلى قوم لا يقرون بالبعث، ومحط الإيمان التصديق بالغيب فلو كثر وقوع ذلك له، - صلى الله عليه وسلم -، لكشف الغطاء، وإذا انكشف الغطاء عوجل من تخلف عن الإيمان بالعذاب، وهو نبي الرحمة، - صلى الله عليه وسلم -.

وأما عيسى، عليه الصلاة والسلام، فكان في قوم يؤمنون بالآخرة، ففعله ذلك لإظهار المعجزة بنوع أعلى مما كانوا يصلون إليه بالطب، على أنه لا فرق في إظهار الخارق بين واحد وأكثر، والله، سبحانه وتعالى، الموفق. ولما أراه، سبحانه وتعالى، ملكوت الأرض، صارت تلك الرؤية علما على عزة الله من وراء الملكوت في محل الجبروت، فقال: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ} أي المحيط علما وقدرة {عَزِيزٌ}. ولما كان للعزة صولة لا تقوى لها فطر المخترعين، نزل، تعالى، الخطاب إلى محل حكمته، فقال: {حَكِيمٌ} فكان فيه إشعار بأنه، سبحانه وتعالى، جعل الأشياء بعضها من بعض كائنة، وبعضها إلى بعض عامدة، [وبعضها من ذلك البعض معادة {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} وهذه] الحكمة التي أشار إليها اسمه الحكيم حكمة ملكوتية جامعة لوصلة ما بين حكمة الدنيا وحكمة الآخرة، لأن الحكيم بالحقيقة ليس من علمه الله حكمة الدنيا، وألبس عليه وجعله لها، بل ذلك جاهلها كما تقدم،

إنما الحكيم الذي أشهده حكمة الدنيا أرضا وأفلاكا ونجوما وآفاقا وموالد وتوالدا، وأشهده أنه حكيمها، ومزج له علم حكمة موجود الدنيا بعلم حكمة موجود الآخرة، وأراه كيفية توالج الحكمتين بعضها في بعض ومآل بعضها إلى بعض، حتى يشهد دوران الأشياء في حكمة أمر الآخرة التي هي غيب الدنيا إلى مشهود حكمة الدنيا، ثم إلى مشهود حكمة الآخرة، كذلك عوداً على بدء، وبدءا على عود، في ظهور غيب الإبداء إلى مشهوده، وفي عود مشهودة إلى غيبه: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} كذلك إلى المعاد الأعظم الإنساني {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} فهذا هو الحكيم المتوسط الحكمة. ثم وراء ذلك أمر آخر من على أمر الله في متعالي تجلياته بأسماء وأوصاف يتعالى ويتعاظم للمؤمنين، ويتبارك ويستعلن للموقنين الموحدين، فله، سبحانه وتعالى، العزة في خلقه وأمره، وله الحكمة في خلقه وأمره، ومن ورائها كلمته التي لا ينفد تفصيل حكمتها {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية. وكلماته لاتحد

{كمثل حبة}

ولا تعد {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} الآية، فهو العزيز الحكيم العلي العظيم - انتهى. {كَمَثَلِ حَبَّةٍ} قال الْحَرَالِّي: من الحب، وهو تمام النبات المنتهي إلى صلاحية كونه طعاما للآدمي الذي هو أتم الخلق، فالحب أكمل من الثمرة طعامية، والثمرة إدامية. {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} قال الْحَرَالِّي: وهو مجتمع الحب في أكمامه، كأنه آية استحقاق اجتماع أهل ذلك الرزق في تعاونهم في أمرهم، وتعريف بأن الحب يجمعه لا بوحدته. {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} قال الْحَرَالِّي: فضرب المثل للإنفاق في سيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام بالحرث، الذي هو كيميا عباده، يشهدون من تثميره حيث تصير الحبة أصلا، ويثمر الأصل سنابل، ويكود في كل سنبلة أعداد من الحب، فكان ما ذكر، تعالى، هو أول الإنفاق في سبيل الله، وذكر السبع لما فيه من التمام، وما يقبله من التكثير، فإن ما أنبت أكثر من سبع، إذا قصد بالتكثير، أنبأ عنه بالسبع، لأن العرب تكثر به ما هو أقل منه أو أكثر، فجعل أدنى النفقة في سيل الله سبعمائة ضعف، ثم فتح، تعالى، باب التضعيف إلى ما لا يصل إليه عد - انتهى. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وقال الْحَرَالِّي: [و -] لما كان للخلافة، وخصوصا

{قول معروف}

بالإنفاق، موقع من النفس بوجوه، مما ينقص التضعيف أو يبطله، كالذي يطرأ على الحرث الذي ضرب به المثل، مما ينقص نباته أو يستأصله، نبه، تعالى، على ما يبطل - انتهى. {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا} قال الْحَرَالِّي: وهو ذكره لمن أنفق عليه، فيكون قطعا لوصله بالإغضاء عنه، لأن أصل معنى المن القطع {وَلَا أَذًى} وهو ذكره لغيره فيؤذيه بذلك، لما يتعالى عليه بإنفاقه - انتهى. {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} قال الْحَرَالِّي: وهو ما لا يوجع قلب المتعرض بحسب حاله وحال القائل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا} قال الْحَرَالِّي: فبين أن ما اشترطه في الأحر المطلق مبطل للإنفاق - انتهى. {صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} قال الْحَرَالِّي: فألحق عمل الإخلاص بآفة ما تعقبه بما بنى على أصل الرياء - انتهى. {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} قال الْحَرَالِّي: هو الفعل المقصود به رؤية الخلق غفلة عن رؤية الحق وعماية عنه. قال الْحَرَالِّي: ولما ضرب مثلا لنماء النفقة بالحرث ضرب مثلا لإبطالها بخطأ الحارث في الحرث فقال: {فَمَثَلُهُ} في إنفاقه مقارنا لما يفسده، ومثل نفقته {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وما زرع عليه، وهو صيغة مبالغة من الصفا، وهي الحجارة الملس الصلبة التي [لا] تقبل انصداعها بالنبات - انتهى.

{ومثل الذين ينفقون أموالهم}

{عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} فجعل قلب المؤذي المنان بمنزلة الصفوان الذي أصابه وابل المطر، فأذهب عائد نفقته، كما أذهب بذر الحارث على الصفوان وابل المطر الذي شأنه أن يصلح البذر. قاله الْحَرَالِّي، وفيه تصرف. {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ} قال الْحَرَالِّي: عطفا على {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} عطف مقابلة وعلى {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} عطف مناسبة - انتهى. {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: والمرضاة مفعلة لتكرر الرضى ودوامه - انتهى. {كَمَثَلِ جَنَّةٍ} قال الْحَرَالِّي: ولما كان حرث الدين حبا وثمراً جعل نفقات الأخرى كذلك حبا وثمرا، فمن أنفق في السبيل جعل مثله كالحب، ومن أنفق ابتغاء لمرضاة الله جعل مثله كالجنة التي لها أصل ثابت تدور عليها الثمرات [وهي ثابتة -] وتستغني من الماء بما لا يستغني به الحرث، لأن الحرث مستجد

في كل وقت، كما أن الجهاد واقع عند الحاجة إليه، والمنفق ابتغاء مرضاة الله ينفق في كل وجه دائم الإنفاق، فكان مثله مثل الجنة الدائمة، ليتطابق المثلان بالممثولين، فعمت هذه النفقة جهات الإنفاق كلها في جميع سبل الخير - انتهى. {بِرَبْوَةٍ} قال الْحَرَالِّي: في إعلامه أن خير الجنات ما كان في الربوة لتنالها الشمس وتخترقها الرياح اللواقح، فأما ما كان من الجنان في الوهاد تجاوزتها الرياح اللواقح من فوقها فضعفت حياتها لأن الرياح هي حياة النبات "الريح من نفس الرحمان" - انتهى. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} قال الْحَرَالِّي: الطل [سن] من أسنان المطر، خفي لا يدركه الحس حتى يجتمع، فإن المطر ينزل خفيا عن الحس، وهو الطل، ثم يبدو بلطافة وهو الطش، ثم يقول وهو الرش، ثم يتزايد ويتصل وهو الهطل، ثم يكثر ويتقارب وهو الوابل، ثم يعظم سكبه وهو الجود، فله أسنان مما لا يناله الحس للطافته، إلى ما لا يحمله الحس كثرة - انتهى. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقال الْحَرَالِّي: ولما ئراجع خبر الإنفاقين ومقابلهما تراجعت أمثالها، فضرب لمن ينفق مقابلا لمن يبتغي مرضاة الله، تعالى،

{أيود أحدكم أن تكون له جنة}

مثلا بالجنة المخلفة - انتهى. {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} أي حديقة تستر داخلها، وعين هنا ما أبهمه في المثل الأول فقال: {مِنْ نَخِيلٍ} جمع نخلة وهي الشجرة القائمة على ساق الحية من أعلاها أشبه بالآدمي، ثابت ورقها، مغذ مؤدم ثمرها، في كليتها نفعها حتى في خشبها طعام للآدمى، بخلاف سائر الشجر، مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله. {وَأَعْنَابٍ} جمع عنب، وهو شجر متكرم، لا يختص ذهابة بجهة العلو اختصاص النخلة، بل يتفرع علوا وسفلا، ويمنة ويسرة مثله مثل المؤمن المتقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة - قاله الْحَرَالِّي. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وقال الْحَرَالِّي: وفي إشعاره تكلف ذلك فيها بخلاف الأولى التي هي بعل، فإن الجائحة في السقي أشد على الهالك منها في البعل، لقلة الكلفة في البعل، ولشدة الكلف في السقي - انتهى. {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} قال الْحَرَالِّي: صيغة اشتداد بزيادة الهمزة والألف فيه، من

{أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض}

العصر، وهو [الشدة المخرجة لخبء الأشياء، والإعصار ريح شديدة في غيم يكون فيها حدة من برد الزمهرير، وهو] أحد قسمي النار، نظيره من السعير السموم. {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} قال الْحَرَالِّي: من الاحتراق، وهو ذهاب روح الشيء وصورته ذهابا وحيا بإصابة قاصف لطيف يشيع في كليته فيذهبه ويفنيه، فجعل المثل الأول في الحب أي الذي على الصفوان بآفة من تحته، وجعل المثل في الجنة بجائحة من فوقه، كأنهما جهتا طرو العلل والآفات من جهة أصل أو فرع - انتهى. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} وقال الْحَرَالِّي: فتبنون الأمور على تثبيت، لأخير في عبادة إلا بتفكر، كما أن الباني لابد أن يفكر في بنائه. كما قال الحكيم: "أول الفكرة آخر العمل، وأول العمل آخر الفكرة" كذلك من حق أعمال الدين أن لاتقع إلا بفكرة في إصلاح أوائلها السابقة، وأواخرها اللاحقة، فكانوا في ذلك صنفين، بما يشعر به {لَعَلَّكُمْ} مطابقين للمثل: متفكر مضاعف حرثه وجنته، وعامل [بغير فكرة] تستهويه أهواء نفسه، فتلحقه الآفة في عمله في حرثه وجنته من سابقه أو لاحقه - انتهى. {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} قال الْحَرَالِّي: قدم خطاب المكتسبين بأعمالهم، كأنهم المهاجرون، وعطف عليهم المنفقين من الحرث والزرع، كأنهم الأنصار - انتهى.

{الشيطان يعدكم الفقر}

{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال الْحَرَالِّي: الخبيث صيغة مبالغة بزيادة الياء، من الخبث، وهو ما ينافر حس النفس: ظاهره وباطنه، في مقابله ما يرتاح إليه من الطيب، الذي ينبسط إليه ظاهراً وباطنا. وقال ففي إلاحته معنى حصر، كأنهم لا ينفقون إلا منه، ليتجاوز النهي من ينفق من طيبه وخبيثه على غير قصد اختصاص النفقة من الخبيث - انتهى. {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال الْحَرَالِّي: من الإغماض، وهو الإغضاء عن العيب فيما يستعمل، أصله من الغمض، وهي نومة تغشي الحس، ثم تنقشع. وقال: ولما كان الآخذ هو الله، سبحانه وتعالى، ختم بقوله: {وَاعْلَمُوا} - انتهى. {أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} قال الْحَرَالِّي وهي صيغة مبالغة، بزيادة ياء، من الحمد الذي هو سواء أمر الله الذي لا تفاوت فيه من جهة إبدائه، وافق الأنفس أو خالفها. {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} قال الْحَرَالِّي: الذي لخوفه تقاطع أهل الدنيا، وتدابروا وحرصوا وادخروا، وكل ذلك لا يزيل الفقر، كل حريص فقير، ولو ملكوا الدنيا، وكل مقتنع غني، ومن حق من كان عبدا لغني أن يتحقق أنه غني يغني سيده، ففي

خوف الفقر إباق العبد عن ربه، والفقر فقد ما إليه الحاجة في وقت من قيام المرء في ظاهره وباطنه - انتهى. {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} وقال الْحَرَالِّي: وكل ما اجتمعت عليه استقباحات العقل والشرع والطبع فهو فحشاء، وأعظم مراد بها هنا البخل، الذي [هو -] أدوأ داء، لمناسبة ذكر الفقر، وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة، ويلازمه الحرص، ويتابعه الحسد، ويتلاحق به الشر كله. [انتهى] وفيه تصرف. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: وفي إشعاره توهين لكيد الشيطان، ووعد كريم للمفتون بخوف الفقر، وعمل الفحشاء، لما علمه من ضعف الأنفس، وسرعة قبولها من الوسواس - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما أبدى، سبحانه وتعالى، أمر الآخرة وأظهر ما فيها، وبين أمر الدنيا من الترتيب والتسبيب، ورجع بعضها على بعض عودا على بدء، أنبأ تعالى أن ذلك من حكمته، وأنهى الحكمة لما فيها من استيفاء حكمة الدارين، فليس الحكيم من علم أمر الدنيا، بل من علم أمر ما بين الدنيا والآخرة، فداوى أدواء الدنيا بدواء الآخرة، وداوى النفس بدواء الدارين، وضم

{فقد أوتي خيرا كثيرا}

جوامعها في تيسير الكلم كما ضمها لمن اصطفاه: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} فقال، سبحانه وتعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} - انتهى. {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} قال الْحَرَالِّي مامعناه: أنه نكره لما في الحكمة من التسبب الذي هو كلفة، ولو يسرت، فكان الخير الكثير المعرف في الكلمة، بما فيها من اليسر والحياطة والإنالة [الذي -] لا ينال منه منال بسبب، وإنما هو فضله يؤتيه من يشاء، فيصير، سبحانه وتعالى، سمعه وبصره - إلى آخره. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} وقال الْحَرَالِّي: الذين لهم لب العقل الذي ينال لب الحس، كأن الدنيا قشر ينال بظاهر العقل، والآخرة لب تنال بلب العقل؛ ظاهرا لظاهر، وباطنا لباطن، من تذكر ابتداء من الابتداءات السابقة ورد عليه فضل الله منه. من رجع من حسه إلى نفسه، تنشأت له أوصاف الفضائل النفسانية وترقى عما في محسوسه عن المهاوي الشهوانية، ومن تخلص من نفسه إلى روحه تحسس بالوصلة الرحمانية والمحبة الربانية. كذلك من ترقي من روحه إلى أمره تحقق بالإحاطة الوحدانية، ومن استبطن من أمره إلى سره اجتمع إلى الأولية الفردانية.

{إن تبدوا الصدقات}

فهذا الترتيب من كمالات هذه الحكمة المؤتاة المنزلة بالوحي في هذا الكتاب الجامع لنبأ ما سبق، وخبر ما لحق، وباطن ما ظهر. انهى، تعالى، إلى ذكرها أعمال الخلق، وخصوصا في الجود بالموجود، كما أنهى إقامة مبنى الدين بظهور وجوده، فأنهى تنزيل أمره بظهور وجوده، وأنهى استخلاف عباده بالانتهاء إلى مدد جوده، فكان أعلى الحكمة الجود [بالموجود -]، فبذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم، اتصل ذكر آية الحكمة بالإنفاق نظما، وبآية الكرسي مناظرة - انتهى. {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} قال الْحَرَالِّي: والنذر إبرام العدة بخير يستقبل فعله، أو يرتقب له ما يلتزم به، وهو أدنى الإنفاق، لاسيما إذا كان على وجه الاشتراط، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يستخرج به من البخيل " - انتهى. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} قال الْحَرَالِّي: ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخي، وبيد الكريم، كلما عثر، فيجد له نصيراً، ولا يجد الظالم بوضع القهر موضع البر ناصرا، وفيه استغراق نفي بما تعرب عنه كلمة "من" - انتهى. {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} قال الْحَرَالِّي: وهي من أدنى النفقة، ولذلك

{ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}

لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، لأنها طهرة وغسول، يعافها أهل الرتبة [العلية -] والاصطفاء. وقال: والهدية أجل حق المال، لأنها لمن فوق رتبة المهدي، والهبة لأنها للمثل، {فَنِعِمَّا هِيَ} فجمع لها الأمداح المبهمة، لأن {نَعَمْ} كلمة مبالغة، تجمع المدح كله و {مَا}. كلمة مبهمة، تجمع الممدوح، فتطابقتا في الإبهام. {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قال الْحَرَالِّي ما معناه: إن الأنصار، رضي الله تعالى عنهم، من أول مراد بهذه الجملة، لأنه، سبحانه وتعالى، جعل فيهم نصرة دينه. ولما كان المقصود الأعظم في هذه الحكمة وهذا الهدي، إنما هو الهدى للتوسل إلى الجواد بالجود بالنفس والمال النائل عموما القريب والبعيد، والمؤمن والكافر، بمنزلة المطر الجود الذي يأخذ السهل والجبل، حتى كان هذا الخطاب صارفا لقوم

{من التعفف}

تحرجوا من الصدقة على فقراء الكفار، وصلة قراباتهم منهم فحملوا على عموم الإنفاق - انتهى. {مِنَ التَّعَفُّفِ} والتعفف تكلف العفة، وهو كف ما ينبسط للشهوة من الآدمي إلا بحقه ووجهه. قاله الْحَرَالِّي. {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} قال الْحَرَالِّي: وهي صيغة مبالغة من السمة والوسم، وهي العلامة الخفية التي تتراءى للمستبصر. انتهى. {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} وقال الْحَرَالِّي: هو لزوم ومداومة في الشيء، من حروف الحلف، الذي هو إنهاء الخبر إلى الغاية، كذلك [اللحف] إنهاء السؤال إلى الغاية. انتهى. {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أشار إلى ذلك الأستاذ أبو الحسن الْحَرَالِّي فقال فأفضلهم المنفق ليلا سرا، وأنزلهم المنفق نهارا علانية، فهم بذلك أربعة أصناف. انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما كان حال المنفق، لاسيما المبتغي وجه الله، سبحانه وتعالى، أفضل الأحوال، وهو الحال الذي دعوا إليه، نظم به أدنى الأحوال، وهو الذي يتوسل به إلى الأموال بالربا، فأفضل الناس المنفق، وشر الناس المربى، فنظم به

{وأحل الله البيع وحرم الربا}

خطاب الربا، فقال: {الَّذِينَ} ولما كان من الصحابة من أكل الربا، عبر بالمضارع، إشارة إلى [أن] هذا الجزاء يخص المصر، فقال: {يَأْكُلُونَ الرِّبَا} وهو الزيادة من جنس المزيد عليه، المحدود بوجه ما - انتهى. {لَا يَقُومُونَ} وقال الْحَرَالِّي: في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة، ففي إعلامه إيذان بأن آكله يسلب عقله، ويكون بقاؤه في الدنيا بخرق لا بعقل، يقبل في محل الإدبار، ويدبر في محل الإقبال. [انتهى]. {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} وقال الْحَرَالِّي: هو رغبة المالك عما في يده إلى ما في يد غيره، والشراء رغبة المستهلك فيما في يد غيره بمعاوضة بما في يده مما رغب عنه، ولذلك [كل -] شار بائع. {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} قال الْحَرَالِّي: فيقع الإيثار قهراً، وذلك الجور الذي يقابله العدل الذي غايته الفضل، فأجور الجور في الأموال الربا، وأجور الجور في الربا الربا، كالذي [يقتل -] بقتيل قتيلين، وكل من طفف في ميزان

فتطفيفه ربا بوجه ما، ولذلك تعددت أبواب الربا وتكثرت. قال: - صلى الله عليه وسلم -: "الربا بضع وسبعون بابا والشرك مثل ذلك" وهذا رأسه، وهو ما كانت تتعامل به أهل الجاهلية من قولهم: إما أن تربي، وإما أن تقضي، ثم لحق به سائر أبوابه، فهو انتفاع للمربي، وتضرر للذي يعطي الربا، وهذا أشد الجور بين العبيد الذين حظهم التساوي في أمر بلغة الدنيا، فكما أعلمهم، سبحانه وتعالى، أثر حكمة الخير [في الإنفاق]، أعلمهم أثر حكمه الشر [في الربا في دار الآخرة، وفي غيب أمر الدنيا]، وكما أنه يعجل للمنفق خلفا في الدنيا، كذلك يعجل للمربي محقا في الدنيا، حسبما صرح به الخطاب بعد هذا الإشعار - انتهى. ولما كان الوعظ، كما قال الْحَرَالِّي: دعوة الأشياء بما فيها من العبرة للانقياد للإله الحق بما يخوفها ويقبضها في مقابلة التذكير بما يرجيها ويبسطها ... سبب عن ذلك قوله:

{فَمَنْ جَاءَهُ} قال الْحَرَالِّي: أطلق الكلمة من علامة التأنيث النازل الرتبة ترفيعا لقدر هذه الموعظة الخفية المدرك، العظيمة الموقع {مَوْعِظَةٌ}: بناء مبالغة وإعلاء لما أشعرت المفعلة الزائدة الحروف على أصل لفظ الوعظ، بما يشعر به الميم من التمام، والهاء من الانتهاء، فوضع الأحكام حكمة، والإعلام بثمراتها في الآخرة موعظة تشوق النفس إلى رغبتها ورهبتها - انتهى. {مِنْ رَبِّهِ} قال الْحَرَالِّي: في إشعاره [أن -] من أصل التربية الحمية من هذا الربا - انتهى. {فَانْتَهَى} قال الْحَرَالِّي: أتى بالفاء المعقبة، فلم يجعل [فيه] فسحة ولا قرارا عليه، لما فيه من خبل العقل الذي [هو أصل -] مزية الإنسانية، وإن لم يشعر به حكماء الدنيا ولا أطبائها - انتهى. {فَلَهُ مَا سَلَفَ} قال الْحَرَالِّي: والسلف هو الأمر الماضي بكليته، الباقي بخلفه.

{يمحق الله الربا}

وقال: في إعلامه إيذان بتحليل ما استقر في أيديهم من ربا الجاهلية ببركة ئوبتهم من استئناف العمل به في الإسلام، لما كان الإسلام يجب ما قبله، وفي طي إشعاره تعريض برده لمن يأخذ لنفسه بالأفضل، ويقوي إشعاره [قوله -] {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} - انتهى. {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} قال الْحَرَالِّي: والمحق الإذهاب بالكلية بقوة وسطوة. {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قال الْحَرَالِّي: فبين أن الربا والإيمان، لا يجتمعان. {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} قال الْحَرَالِّي: في إشعاره أن طائفة منهم لا يذرونه بعد تحريمه، بما أنهم ليسوا من الذين كانوا مؤمنين - انتهى. {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} قال الْحَرَالِّي: والحرب مدافعة بشدة عن اتساع المدافع بما يطلب منه الخروج عنه، فلا يسمح به، ويدافع عنه بأشد مستطاع، ثم عظم أمرها بإيراد الاسم الأعظم فقال: {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقال الْحَرَالِّي: الذي هيأه للرحمة، فكان نبي الرحمة محاربا له، فانقطعت وصلته من الرحيم والشفيع - انتهى. {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ} قال الْحَرَالِّي: وهو التأخير المرتقب نجازه.

{إِلَى مَيْسَرَةٍ} قال الْحَرَالِّي: إنباء عن استيلاء اليسر، هي أوسع النظرتين، والباقون بالفتح، إنباء عن توسطها ليكون اليسر في مرتبتين، فمن انتظر إلى أوسع اليسرين كان أفضل توبة - انتهى. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال الْحَرَالِّي: فأعلم، سبحانه وتعالى، أن من وضع كيانه للعلم، فكان ممن يدوم علمه، تنبه، لأن خير الترك خير من خير الأخذ، فأحسن بترك جميعه - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما أنهى الخطاب بأمر الدين [و -] علنه، وأمر الآخرة على وجوهها وإظهار حكمتها المرتبطة بأمر الدنيا، وبين أمر الإنفاق والربا الذي هو غاية أمر الدين والدنيا في صلاحهما، وأنهى ذلك إلى الموعظة بوعود جزائه في الدنيا والآخرة، أجمل الموعظة بتقوى يوم الرجعة إلى إحاطة أمره، ليقع الختم بأجمل موعظة وأشملها، ليكون إنتهاء الخطاب على ترهيب الأنفس،

لتجتمع عزائمها على ما هو ملاك أمرها من قبول صلاح دينها ودنياها ومعادها، من خطاب الله، سبحانه وتعالى، لها، فختم ذلك بكمال معناه بهذه الآية، كما أنها هي الآية التي ختم بها التنزيل، أنزلت على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، هو في الشكاية، وهي آخر آية أنزلت على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في مقابلة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الذي هو أول منزل النبوة [و -] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} الذي هو أول منزل الرسالة، فكان أول الأمر نذارة، وآخره موعظة تبعث النفس على الخوف، وتبعث القلب على الشوق [من -] معنى ما انختم به أمر خطاب الله، سبحانه وتعالى، في آية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} - انتهى. {ثُمَّ} قال الْحَرَالِّي: وقيل يا رسول الله، أين يكون الناس {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} قال في الظلمة دون الجسر. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يقيمون في الظلمة ألف سنة." وورد عن علي، رضي الله تعالى عنه، في

{ثم توفى كل نفس ما كسبت}

تفصيل مواقف يوم الجزاء، أن الخلق يوقفون على قبورهم ألف سنة، ويساقون إلى المحشر ألف سنة، ويوقفون في الظلمة ألف سنة، ثم يكون انشقاق [السموات] السبع، وتبديل الأرض، وما شاء الله، سبحانه وتعالى، من أمره انتظارا لمجيئه. ففي عبرة مقاله، والله سبحانه وتعالى أعلم، أن ذلك يكون ستة آلاف سنة، وأنها كما بنيت في ستة أيام تهدم في ستة أيام، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} فيكون ذلك تسعة أيام، ويكون مجيئه في اليوم العاشر الذي يوم عاشوراء، ذلك اليوم الذي تكرر مجيئ أمره فيه في يوم الدنيا، ثم وصف، - صلى الله عليه وسلم - المواقف إلى منتهاها - انتهى. {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} قال الْحَرَالِّي: جاء بصيغة فعل المشعر

{إذا تداينتم}

بجري العمل على غير تكلف وتحمل، ففي إشعاره أنها توفى ما كسبت من الخير، وما كونت له من الشر، وأن ما تكلفته من الشر، وفي دخلتها كراهية، ربما غفر لها، حيث لم تكن توفى ما كسبت وما أكتسبت، كما قال في الآية التي بعدها {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فكان مكتسبها عليها، وربما غفر لها، فإنها وفيت ما كسبته من الشر واشتمل عليه ظاهرها وباطنها حتى يسرت له - انتهى. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} قال الْحَرَالِّي: وهذه الآية ختم للتنزيل، وختم لتمام المعنى في هذه السورة، التي هي سنام القرآن وفسطاطه، وختم لكل موعظة وكل ختم، فهو من خواص المحمدية الجامعة المفصلة من سورة الحمد، المشيرة إلى تفاصيل عظيم أمر الله: في حقه، وفي خلقه، وفيما بينه وبين خلقه - انتهى. {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} من التداين تفاعل بين اثنين، من الدين، والدين في الأمر الظاهر معاملة على تأخير، كما أن الدين بالكسر فيما بين العبد وبين الله، سبحانه وتعالى، معاملة على تأخير - قاله الْحَرَالِّي.

{بِدَيْنٍ} قال الْحَرَالِّي: فكان في إعلامه أي بالإتيان بصيغة {إِذَا} أنهم لابد أن يتداينوا، لأنها حين منتظر في أغلب معناها. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال الْحَرَالِّي: من التسمية وهي إبداء الشيء باسمه للسمع في معنى المصور، وهو إبداء الشيء بصورته في العين. {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} من الإملال، وهو إلقاء ما تشتمل عليه الضمائر على اللسان قولا، وعلى الكتاب رسما. قاله الْحَرَالِّي. {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} قال الْحَرَالِّي: فجعل لسان الولي لسان المولى عليه، فكان فيه مثل لما نزل به الكتاب من إجراء كلام الله، سبحانه وتعالى، على ألسنة خلقه في نحو ما تقدم من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وما تفصل منها. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} أمل ما عليهم من الحقوق له، فجعل كلاما من كلامه يتلونه، فكان الإملال منه لهم لتقاصرهم عن واجب حقه، تقاصر السفيه ومن معه، عن إملال وليه عنه لرشده وقوته وتمكن استطاعته - انتهى. {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} قال الْحَرَالِّي: فجعل شهادة الدين باثنين، كما جعل

الشاهد في الدين اثنين: شاهد التفكر في الآيات المرئية، وشاهد التدبر للآيات المسموعة، [و -] في صيغة [فعيل -] مبالغة في المعنى في تحقيق الوصف بالاستبصار والخبرة - انتهى. {مِنْ رِجَالِكُمْ} قال الْحَرَالِّي: ولكثرة المداينة وعمومها وسع فيها الشهادة فقال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} [أي الشاهدان -] {رَجُلَيْنِ} أي على صفة الرجولية، كلاهما. {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وفي عموم معنى الكون إشعار بتطرق شهادة المرأتين مع إمكان طلب الرجل بوجه ما، من حيث لم يكن، فإن لم تجدوا، ففيه تهدف للخلاف بوجه ما، من حيث إن شمول الكتاب توسعة في العلم، سواء كان على تساو أو على ترتيب. ولما كن ناقصات عقل ودين جعل ثنتان منهن مكان رجل - انتهى. {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قال الْحَرَالِّي: وفي مفهوم الشهادة استبصار نظر الشاهد، لما في الشهود من إدراك معنى خفي في صورة ظاهر، يهدي إليها النظر النافذ - انتهى. {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} قال الْحَرَالِّي: بما هي أعرف بمداخل الضلال عليها،

لأن المتقاربين أقرب في التعاون، وفي قراءتي التخفيف والتثقيل إشعار بتصنيف النساء صنفين في رتبة هذه الشهادة: من يلحقها الضلال عن بعض ما شهدت فيه حتى تذكر بالتخفيف ولا يتكرر عليها ذلك، ومن شأنها أن يتكرر عليها ذلك، وفي إبهامه بلفظ إحدى، أي من غير اقتصار على الضمير الذي يعين ما يرجع إليه، إشعار أن ذلك يقع بينهما متناوبا، حتى ربما ضلت هذه عن وجه، وضلت تلك عن وجه آخر، فأذكرت كل واحدة منهما صاحبتها، فلذلك يقوم بهما معا شاهد واحد حافظ - انتهى. {وَلَا تَسْأَمُوا} قال الْحَرَالِّي: بناء مبالغة، وهو أشد الملالة، {أَنْ تَكْتُبُوهُ} أي لا تفعلوا فعل السئيم، فتتركوا كتابته. {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} قال الْحَرَالِّي: ولم يكن قليلا أو كثيرا، لأن الكثرة والقلة واقعة بالنسبة للشيء المعدود في ذاته، والصغير والكبير يقع بالنسبة إلى المداين، فربما كان الكثير في العدد صغير القدر عند الرجل الجليل المقدار، وربما كان القليل العدد الكثير بالنسبة للرجل المشاحح فيه، فكان الصغر والكبر أشمل وأرجع إلى حال المداين الذي هو المخاطب بأن يكتب - انتهى. {ذَلِكُمْ} قال الْحَرَالِّي: ولبيانه ووضوحه عندهم لم يكن إقبالا على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، الذي يقبل عليه في الأمور الخفية - انتهى. {أَقْسَطُ} وقال الْحَرَالِّي: {أَقْسَطُ} من الإقساط، وهو وضع القسط، وهو حفظ الموازنة حتى لا تخرج إلى تطفيف. {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} قال الْحَرَالِّي: ففي إشعاره أنه ربما داخل الرجل والرجلين نحو ما داخل المرأتين، فيكون الكتاب مقيما لشهادتهما، فنفى عن الرجال

{فرهان مقبوضة}

الريبة بالكتاب، كما نفى عن النساء الضلال بالذكر - انتهى. {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} قال الْحَرَالِّي: من أصل الدور، وهو رجوع الشيء عوداً على بدئه. {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} قال الْحَرَالِّي: ففي إلاحته تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده، ويعين على الائتمار لأمر ربه، بما يدفع عنه من ضرر عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه، ففي تعريضه إجازة لما ياخذه الكاتب، ومن يدعى لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه - انتهى. {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} قال الْحَرَالِّي: وفي صيغة فعول تأكيد فيه وتشديد في النذارة - انتهى. {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} قال الْحَرَالِّي: وفي قوله: {يَعْلَمُ} بصيغة الدوام، إيذان بما يستمر به التعليم من دون هذا المنال. [انتهى]. {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وقرئ فرهن، وكلاهما جمع رهن، بالفتح والإسكان، وهو التوثقة بالشيء مما يعاد له بوجه ما. {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} من الائتمان، وهو طلب الأمانة، وهو إيداع الشيء

{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه}

لحفيظته، حتى يعاد إلى المؤمن. قاله الْحَرَالِّي. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} قال الْحَرَالِّي: فأنهى أمر ما بين الحق والخلق ممثولا وأمر ما بين الخلق والخلق مثلا - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما كان أول السورة إظهار كتاب التقدير في التذكير الأول، كان ختمها إبداء أثر ذلك الكتاب [الأول -] في الأعمال والجزاء، التي هي الغاية في ابتداء أمر التقدير، فوقع الختم بأنه سلب الخلق [ما -] في أيديهم، مما أبدوه وما أخفوا من أهل السموات والأرض - انتهى. {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} قال الْحَرَالِّي: من الإخفاء، وهو تغييب الشيء، وأن لا يجعل عليه علم يهتدي إليه من جهته. {يُحَاسِبْكُمْ} من المحاسبة، مفاعلة من الحساب والحسب، وهو استيفاء الأعداد فيما للمرء وعليه من الأعمال الظاهرة والباطنة. {بِهِ اللَّهُ} قال الْحَرَالِّي: وفي ضمن هذا الخطاب، لأولي الفهم، إنباء بأن الله، سبحانه وتعالى، إذا عاجل العبد بالحساب بحكم ما يفهمه ترتيب الحساب على وقوع العمل، حيث لم يكن فيحاسبكم مثلا، فقد أعظم اللطف به، لأن من حوسب بعمله عاجلا في الدنيا، خف جزاؤه عليه، حيث يكفر عنه بالشوكة

{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه}

يشاكها، حتى بالقلم يسقط من يد الكاتب، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه، حتى يموت على طهارة من ذنوبه [وفراغ من حسابه -]، كالذي يتعاهد بدنه وثوبه بالتنظيف، فلا يتسخ ولا يدرن، ولا يزال نظيفا - انتهى فيه تصرف. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال الْحَرَالِّي: فسلب بهذه الآية القدرة عن جميع الخلق - انتهى. {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} قال الْحَرَالِّي: فقبل الرسول هذا الحساب الأول العاجل الميسر ليستوفي أمره منه وحظه في دنياه، قال، - صلى الله عليه وسلم -، لما قالت [له -] فاطمة، رضي الله تعالى عنها عند موته: واكرباه! "لا كرب على أبيك بعد اليوم" وقال - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه أبو نعيم في الحلية، عن أنس، رضي الله تعالى عنه: "ما أوذي أحد في الله ما أوذيت" فنال حظه من حكمة ربه في دنياه، حتى كان يوعك كما يوعك عشرة رجال، وما شبع من

خبز ثلاثا تباعا عاجلا حتى لقي الله، وكذلك المؤمن لا راحة له دون لقاء ربه، ولا سجن عليه بعد خروجه من دنياه. الحمى حظ كل مؤمن من النار - انتهى. {كُلَّ} قال الْحَرَالِّي: فجمعهم في كلية، كأن قلوبهم قلب واحد لم يختلفوا، لأن القبول واحد، والرد يقع مختلفا - انتهى. {آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} قال الْحَرَالِّي: انقياد لامتثال من البشر. {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} قال الْحَرَالِّي: فشاركوا أهل الكتاب في طليعة الإباء، وخالفوهم في معالجة التوبة والإقرار بالسمع والطاعة، فكان لهؤلاء ما للتائب، وعلى أولئك ما على المصر - انتهى. {غُفْرَانَكَ} قال الْحَرَالِّي: فهذا القول من الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، كشف عيان، ومن المؤمنين نشء إيمان، ومن القائلين للسمع والطاعة قول إذعان، فهو شامل للجميع، كل على رتبته - انتهى. {رَبَّنَا} قال الْحَرَالِّي: وهو خطاب قرب، من حيث لم يظهر [فيه] أداة نداء، ولم يجر الله، سبحانه وتعالى، على ألسنة المؤمنين في كتابه العزيز

{لها ما كسبت}

نداء بعد قط، والغفران فعلان صيغة مبالغة تعطى الملء، ليكون غفرا للظاهر والباطن، وهو مصدر محيط المعنى نازل منزلة الاستغفار، الجامع لما أحاط به الظاهر والباطن، مما أودعته الأنفس التي هي مظهر حكمة الله، سبحانه وتعالى، التي وقع فيها مجموع الغفران والعذاب. {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} ففي ضمنه بشرى بتعيين القائلين المذعنين، ومن تبعهم بالقول لحال المغفرة، لأن هذه الحواتيم مقبولة من العبد بمنزلة الفاتحة، لاجتماعهما في كونهما من الكنز الذي تحت العرش، وعلى ما ورد من قوله: "حمدني عبدي" إلى أن قال: "لعبدي ما سأل" وعلى ما ورد في دعاء هذا الختم في قوله: "قد فعلت قد فعلت" وبما ابتدأ تعالى به آية هذا الحساب، وختمها به من سلب الأمر أولا، وسلب القدرة عما سواه آخراً، وكان في الابتداء والختم إقامة عذر القائلين، فوجب لهم تحقق الغفران، كما كان لأبيهم آدم، حيث تلقى الكلمات من ربه. انتهى. {لَهَا مَا كَسَبَتْ} قال الْحَرَالِّي: وصيغة فعل مجردة تعرب عن أدنى الكسب، فلذلك من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة - انتهى. {إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الْحَرَالِّي: والخطأ هو الزلل عن الحد عن غير تعمد، بل مع عزم الإصابة، أو ود أن لا يخطئ، وفي إجرائه من كلام الله، سبحانه

وتعالى، على لسان عباده قبوله - انتهى. {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} قال الْحَرَالِّي: هو العهد الثقيل [أي -] الذي في تحمله أشد المشقة - انتهى. {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان قد يلحق من يعفي عن ويغفر له قصور في الرتبة عن منال الحظ من الرحمة، ألحق، تعالى، المعفو عنه المغفور له بالمرحوم ابتداء بقوله: {وَارْحَمْنَا} أي حتى يستوي المذنب التائب والذي لم يذنب قط في منال الرحمة. ولما ضاعف لهم، تعالى، عفوه ومغفرته ورحمته أنهاهم بذلك إلى محل الخلافة العاصمة: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} فلما صاروا خلفاء تحقق منهم الجهاد لأعداء الله، والقيام بأمر الله، ومنابذة من تولى غير الله، فتحقق أنه لابد أن يشاققهم أعداء وينابذوهم، فعلمهم الذي رحمهم، سبحانه، إسناد أمرهم بالولاية إليه قائلا: {أَنْتَ مَوْلَانَا} والمولى هو الولي اللازم الولاية الدائم بها، الدائم عليها، لمن تولاه بإسناد أمره إليه فيما ليس هو بمستطيع له - انتهى بالمعنى. {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ولما كان الختم بذلك مشيرا إلى أنه، تعالى، لما ضاعف لهم عفوه عن الذنب، فلا يعاقب عليه، ومغفرته له بحيث يجعله كأن لم يكن، فلا يذكره أصلا، ولا يعاقب عليه، ورحمته في إيصال المذنب المعفو عنه المغفور له إلى المنازل العالية - أنهاهم إلى رتبة الخلافة في القيام بأمره والجهاد لأعدائه، وإن جل أمرهم، وأعيى حصرهم، كان منبها على أن بداية هذه السورة هداية، وخاتمتها خلافة، فاستوفت تبيين أمر النبوة إلى حد ظهور الخلافة، فكانت سناما للقرآن،

{الم (1) تلك آيات الكتاب الحكيم}

وكان جماع ما في القرآن منضما إلى معانيها، إما لما صرحت به، أو لما ألاحته وأفهمه إفصاح من إفصاحها، كما تنضم هي مع سائر القرآن إلى سورة الفاتحة، فتكون أما للجميع. أفاد ذلك الأستاذ أبو الحسن الْحَرَالِّي. ومن الجوامع العظيمة في أمرها، وشمول معناها المبين لعلو قدرها، ما قال الْحَرَالِّي: إنه لما كان منزل هذا القرآن المختص بخاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، منزلا حروفا مقطعة المعاني، مخاطبا بها النبي والأئمة، وتفصيل [آيات -] مخاطبا بها عامة الأمة، انتظمت هذه السورة صنفي الخطابين: فافتتحت بـ {الم} حروفا منبئة عن إحاطة بما تضمنته معانيها من إحاطة القائم من معنى الألف، وإحاطة المقام من معنى الميم، وإحاطة الوصلة من معنى اللام، ولما كانت الإحاطة في ثلاث رتب: إحاطة إلهية قيومية، وإحاطة كتابية، وإحاطة تفصيلية، كانت الإحاطة الخاصة بهذه الأحرف [التي -] افتتحت بها هذه السورة إحاطة كتابية متوسطة، فوقع الافتتاح فيما وقع عليه [أمر -] القرآن في تلاوته في الأرض بالرتبة المتوسطة، من حيث هي أقرب للطرفين، وأيسر للاطلاع على الأعلى والقيام بالأدنى، فكان ما كان في القرآن من {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}

ونحوه تفصيل إحاطة من إحاطة [الكتاب -] التي أنزلت فيها سورة البقرة، فكانت مشتملة على إحاطات الكتب الأربعة: كتاب التقدير الذي كتبه الله، سبحانه وتعالي، قبل أن يخلق الخلائق بما شاء الله من أمد [و] عدد. ورد أن الله كتب الكتاب وقضى القضية وعرشه على الماء، وأن الله، سبحانه وتعالى، قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف عام، وأنه قدر الأرزاق قبل أن يخلق الصور بألفي عام. وكثير من ذلك مما ورد في الأخبار، وفي مقابلة هذا الكتاب، السابق بالتقدير، الكتاب اللاحق بالجزاء الذي كتبه الله، سبحانه وتعالى، ويكتبه أثر تمام الإبداء، باستبقاء الأعمال البادية على أيدي الخلق، الذين ينالهم النعيم والجحيم والأمن والروع والكشف والحجاب. وهذا الكتاب الآخر مطابق للكيان الأول، ويبين بتطرقهما كتاب

الأحكام المتضمن لأمر الدين والدعوة الذي وقعت فيه الهداية والفتنة. ثم كتاب الأعمال الذي كتبه الله، سبحانه وتعالى، في ذوات المكلفين من أفعال وأحوال أنفسهم وما كتب في قلوبهم من إيمان، أو طبع عليها أو ختم عليها بفجور أو طغيان، فتطابقت الأوائل والأواخر، واختلف كتاب الأحكام وكتاب الأعمال بما أبداه الله، سبحانه وتعالى، من وراء حجاب من معنى الهدى والفتنة والإقدام والإحجام. فتضمنت سورة البقرة إحاطات جميع هذه الكتب، واستوفت كتاب الأقدار، بما في صدرها من تبيين أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين، وكتاب الأفعال، كما ذكر، سبحانه وتعالى، أمر الختم على الكافرين، والمرض في قلوب المنافقين، وما يفصل في جميع السورة من أحكام الدين، وما يذكر معها مما يناسبها من الجزاء من ابتداء الإيمان إلى غاية الإيقان، الذي انتهى إليه معنى السورة فيما بين الحق والخلق من أمر الدين، وفيما بين الخلق والخلق من المعاملات والمقاومات، وفيما بين المرء ونفسه من الإيمان والعهود، إلى حد ختمها بما يكون من الحق للخلق في استخلاف الخلفاء الذين ختم بذكرهم هذه السورة الذين قالوا: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} إلى انتهائها. ولما كان مقصود هذه السورة الإحاطة الكتابية كان ذلك إفصاحها ومعظم آياتها،

وكانت الإحاطة الإلهية القيومية إلاحتها ونور آياتها، فكان ذلك في آية الكرسي تصريحا، وفي سائر آيها إلاحة بحسب قرب الإحاطة الكتابية من الإحاطة الإلهية، وفي بدء سابق أو ختم لاحق أو حكمة جامعة، فلذلك انتظم بالسورة التي ذكرت فيها البقرة السورة التي يذكر فيها آل عمران، لما نزل في سورة آل عمران من الإحاطة الإلهية، حتى كان في مفتتحها اسم الله الأعظم، فكان ما في البقرة إفصاحا في سورة آل عمران إلاحة. وكان ما في البقرة إلاحة في سورة آل عمران إفصاحا، إلا ما اطلع في كل واحدة منهما ما تصريح الأخرى، فلذلك هما سورتان مرتبطتان وغايتان وغمامتان، تظلان صاحبهما يوم القيامة، وبما هما من الذكر الأول، وبينهما من ظاهر التفاوت ما بين الإحاطة الكتابية، وبين الإحاطة الإلهية، فلذلك كانت سورة البقرة سناما له، والسنام أعلى ما في الحيوان المنكب وأجمله جملة، وهو البعير، وكانت سورة آل عمران تاج القرآن، والتاج هو أعلى ما في المخلوقات من الخلق القائم المستخلف في الأرض ظاهره، وفي جميع المكون إحاطته، فوقع انتظام هاتين السورتين على نحو من انتظام الآي، يتصل الإفصاح في الآية بإلاحة سابقتها، كما تقدم التنبيه عليه في مواضيع - انتهى. * * *

(سورة آل عمران)

(سورة آل عمران) وقال الْحَرَالِّي: مشيراً إلى القول الصحيح في ترتيب السور من أنه باجتهاد الصحابة، رضوان الله تعالى عنهم، إقرارا لله، سبحانه وتعالى، لهذا الانتظام والترتيب السوري في مقرر هذا الكتاب، هو ما رضيه الله، سبحانه وتعالى، فأقره. فلما كانت سورة الفاتحة جامعة لكلية أمر الله، سبحانه وتعالى، فيما يرجع إليه، وفيما يرجع إلى عبده، وفيما بينه وبين عبده، فكانت أم القرآن وأم الكتاب، جعل مثنى تفصيل ما يرجع منها إلى الكتاب المنبأ عن موقعه في الفاتحة مضمنا سورة البقرة، إلى ما أعلن به لألأ نور آية الكرسي فيها، وكان منزل هذه السورة من مثنى تفصيل ما يرجع علن الله، سبحانه وتعالى، في الفاتحة، فكان منزلة

{الحي القيوم}

سورة آل عمران منزلة تاج الراكب، وكان منزلة سورة البقرة منزلة سنام المطية، قال - صلى الله عليه وسلم - "لكل شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة لكل شيء تاج، وتاج القرآن سورة آل عمران". [وإنما بدئ هذا الترتيب لسورة الكتاب، لأن علم الكتاب أقرب إلى المخاطبين من تلقي علن أمر الله، فكان في تعلم سورة البقرة والعمل بها تهيؤ لتلقي ما تضمنته سورة آل عمران -]، ليقع التدرج والتدرب بتلقي الكتاب حفظا، وبتلقيه على اللقن، منزل بما أبداه علنه في هذه السورة. وبذلك يتضح أن إحاطة {الم} المنزلة في أول سورة البقرة إحاطة كتابية، بما هو قيامه وتمامه، ووصلة ما بين قيامه وتمامه، وأن إحاطة {الم} المنزلة في أول هذه السورة إحاطة إلاهية حيايية قيومية، مما بين غيبة عظمة اسمه "الله" إلى تمام قيوميته البادية في تبارك ما أنبأ عنه اسمه {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وما أوصله لطفه من مضمون توحيده المنبئ عنه كلمة الإخلاص في قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فلذلك كان هذا المجموع في منزله قرآنا حرفيا، وقرآنا كلميا اسمائيا،

وقرآنا كلاميا تفصيليا، مما هو اسمه الأعظم، كما تقدم من قوله، - صلى الله عليه وسلم - اسم [الله -] الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. وكما وقعت إلاحة في سورة البقرة لما وقع به الإفصاح في سورة آل عمران، كذلك وقع في آل عمران من نحو ما وقع تفصيله في سورة البقرة، ليصير منزلا واحدا بما أفصح مضمون كل سورة بإلاحة الأخرى، فلذلك هنا غمامتان وغيايتان على قارئهما يوم القيامة - كما تقدم - لا تفترقان. فأعظم "الم" هو مضمون "الم" الذي افتتحت به هذه السورة، ويليه في الرتبة ما افتتحت به [سورة البقرة، ويليه في الرتبة ما افتتحت به -] سور الآيات، نحو قوله، سبحانه وتعالى: {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} فللكتاب الحكيم إحاطة قواما وتماما ووصلة، ولمطلق الكتاب إحاطة كذلك، وإحاطة الإحاطات، وأعظم العظمة إحاطة افتتاح هذه السورة، كذلك أيضا اللواميم محيطة بإحاطة

الطواسيم، لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف اللواميم، وإحاطة الحواميم من دون إحاطة الطواسيم، لما يتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف الطواسيم، على ما يتضح تراتبه وعلمه لمن آتاه الله فهما بمنزلة قرآن الحروف المخصوص بإنزاله هذه الأمة دون سائر الأمم الذي [هو] من العلم الأزلي العلوي. ثم قال: ولما كانت أعظم الإحاطات إحاطة عظمة اسمه: {الله} الذي هو مسمى التسعة والتسعين أسماء، التي أولها "إله" كان ما أفهمه أولي الفهم هنا اسم ألف بناء في معنى إحاطات الحروف عن نحو إحاطة اسمه {الله} في الأسماء، فكانت هذه الألف مسمى كل ألف، كما كان

اسمه {الله} سبحانه وتعالى، مسمى كل اسم سواه، حتى إنه مسمى سائر الأسماء الأعجمية التي هي أسماؤه، سبحانه وتعالى، في جميع الألسن كلها، مع أسماء العربية، أسماء لمسمى هو هذا الاسم العظيم الذي هو {الله} الأحد الذي لم يتطرق إليه شرك، كما تطرق إلى أسمائه، من اسمه {إِلَهَ} إلى غاية اسمه {الصبَّورُ}. وكما كان إحاطة هذه الألف أعظم إحاطة حرفية، وسائر الألفات أسماء لعظيم إحاطته، كذلك هذه الميم أعظم إحاطة ميم تفصلت فيه، وكانت له أسماء بمنزلة ما هي سائر الالفات أسماء لمسمى هذه الألف، كذلك سائر الميمات اسم لمسمى هذا الميم، كما أن اسمه {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أعظم تمام كل عظيم من أسماء عظمته، وكذلك هذه اللام، بمنزلة ألفه وميمه، وهي لام الإلهية، الذي أسراره لطيف التنزل إلى تمام ميم قيوميته، فمن لم ينته إلى فهم معاني الحروف في هذه

الفاتحة نزل له الخطاب إلى ما هو إفصاح إحاطتها في الكلم والكلام المنتظم في قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فهو قرآن حرفي، يفصله قرآن كلمي، يفصله قرآن كلامي - انتهى. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} قال الْحَرَالِّي: فما أعلن به هذا الاسم العظيم [أي -] الله في هذه الفاتحة، هو ما استعلن به في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ولما كان إحاطة العظمة أمرا خاصا، لأن العظمة إزاء الله الذي لا يطلع عليه إلا صاحب سر، كان البادي لمن دون أهل الفهم، من رتبة أهل العلم، اسمه {اللَّهُ الصَّمَدُ} الذي يعني الله بالحاجات والرغبات المختص بالفوقية والعلو الذي يقال للمؤمن عنه: أين الله؟ فيقول في السماء إلى حد علو أن يقول: فوق العرش، فذلك الصمد الذي أنبأ عنه اسمه {إِلَهَ} الذي أنزل فيه إلزام الإخلاص والتوحيد منذ عبدت في الأرض الأصنام، فلذلك نظم توحيد اسمه الإله بأحدية مسمى هو من اسمه العظيم {الله}، ورجع عليه باسم المضمر الذي هو في جبلات الأنفس، وغرائز القلوب الذي تجده غيبا في بواطنها، فتقول فيه: {هُوَ} فكان هذا الخطاب

مبدوء بالاسم العظيم المظهر منتهيا إلى الاسم المضمر، كما كان خطاب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [مبدوء بالاسم المضمر منتهيا إلى الاسم العظيم المظهر، وكذلك أيضا اسم {الله الأعظم} في سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كما هو في [هذه -] الفاتحة. ولما كان لبادي الخلق افتقار إلى [قوام -] لا يثبت طرفة عين دون قوامه، كان القوام البادي آيته هي الحياة، فما حي ثبت، وما مات فنى وهلك - انتهى. {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال الْحَرَالِّي: فكما أن الحياة بنفخة من روح أمره، فكل متماسك على صورته، حي بقيوميته - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: [و -] لما كانت إحاطة الكتاب، أي في البقرة، ابتداء، وأعقبها، أي في أول هذه السورة، إحاطة الإلهية، جاء [هذا -] الخطاب ردا عليه، فتنزل من الإحاطة الإلهية إلى الإحاطة الكتابية بالتنزيل، الذي [هو -] تدرج من رتبة إلى رتبة دونها - انتهى.

{نزل عليك الكتاب}

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} قال الْحَرَالِّي: وهذا الكتاب هو الكتاب المحيط الجامع الأول، الذي لا يتنزل إلا على الخاتم الآخر المعقب، لما أقام به حكمته من أن صور الأواخر مقامة بحقائق الأوائل، فأول الأنوار الذي هو نور محمد - صلى الله عليه وسلم - هو قثم خاتم الصور التي هي صورة محمد - انتهى. {بِالْحَقِّ} قال الْحَرَالِّي: وكما أن هذا الكتاب هو الكتاب الجامع الأول المحيط بكل كتاب، كذلك هذا الحق المنزل به هذا الكتاب هو الحق الجامع المحيط الذي كل حق منه، وهو الحق الذي أقام به حكمته فيما رفع ووضع - انتهى. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قال الْحَرَالِّي: لما كان هذا الكتاب أولا وجامعا ومحيطا كان كل كتاب بين يديه، ولم يكن من ورائه كتاب - انتهى. {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} قال الْحَرَالِّي: فهي توراة بما هي نور أعقبت ظلام ما وردت عليه من [كفر -] دعى إليها من الفراعنة، فكان فيها هدى ونور. {وَالْإِنْجِيلَ} من النجل، ووضع على زيادة إفعيل لمزيد معنى ما وضعت له هذه الصيغة وزياداتها مبالغة في المعنى، وأصل النجل استخراج خلاصة الشيء، ومنه يقال للولد: نجل أبيه، كأن الإنجيل استخلص خلاصة نور التوراة، فأظهر باطن ما شرع في التوراة ظاهرة، فإن التوراة كتاب إحاطة لأمر الظاهر الذي يحيط بالأعمال وإصلاح

أمر الدنيا وحصول الفوز من عاقبة [يوم الأخرى، فهو جامع إحاطة الظواهر، وكل آية ظاهرة فمن كتاب التوراة، والإنجيل كتاب إحاطة -] لأمر البواطن، يحيط بالأمور النفسانية، التي بها يقع لمح موجود الآخرة، مع الإعراض عن إصلاة الدنيا، بل مع هدمها، فكان الإنجيل مقيما لأمر الآخرة، هادما لأمر الدنيا، مع حصول أدنى [بلغة -]، وكانت التوراة مقيمة لإصلاح الدنيا، مع تحصيل الفوز في الآخرة. فجمع هذان الكتابان إحاطتي الظاهر والباطن، فكان منزل التوراة من مقتضى اسمه الظاهر، وكان منزل الإنجيل من مقتضى اسمه الباطن، كما كان منزل الكتاب الجامع من مقتضى ما في أول هذه السورة من أسمائه العظيمة، مع لحظ التوحيد، ليعتبر الكتاب والسورة بما نبه بتنزيله من اسمه {الله} وسائر أسمائه على وجوه إحاطة - انتهى. {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} قال الْحَرَالِّي: فكان الفرقان جامعا لمنزل ظاهر التوراة، ومنزل باطن الإنجيل، جمعا يبدي ما وراء منزلهما، بحكم استناده للتقوى التي هي تهيؤ لتزل الكتاب. {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} فكان الفرقان أقرب الكتب للكتاب الجامع، فصار التنزيل في ثلاث رتب:

رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع. ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع بين الظاهر والباطن. ثم منزل التوراة والانجيل؛ [المختفي فيه مرضع التقاء ظاهر التوراة بباطن الإنجيل]- انتهى. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} وهذا الكفر - كما قال الْحَرَالِّي - دون الكفر بأسماء الله الذي هو دون الكفر بالله. قال: [فكما] بدأ خطاب التنزيل من أعلاه، نظم به ابتداء الكفر من أدناه - انتهى. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} قال الْحَرَالِّي: ففي إشعاره أن لمن داخله كفر ما حظ بحسب خفاء ذلك الكفر، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف - انتهى. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} قال الْحَرَالِّي: فأظهر وصف العزة موصولا بما أدام من انتقامه، بما يعرب عنه كلمة {ذُو} المفصحة بمعنى صحبة ودوام. فكأن في إشعاره دواما لهذا الانتقام بدوام أمر الكتاب الجامع، المقابل علوه لدنو هذا الكفر، وكان في طي إشعار الانتقام أحد قسمي إقامة القيومية في طرفي النقمة والرحمة.

{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}

فتقابل هذان الخطابان إفصاحا وإفهاما، من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحا، فأفهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة، فإنه كما أنزل الكتب هدى، أنزل متشابهها فتنة، فتعادل الإفصاحان والإلاحتان، وتم بذلك أمر الدين في هذه السورة - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان تفصيل يتقدمه بالرتبة عجل جامع، وكانت تراجم السورة موضع الإجمال، ليكون تفصيلها موضع التفاصيل، وكان من المذكور في سورة الكتاب ما وقع من اللبس، كذلك كان في هذه السورة التي ترجمها جوامع إلاهية ما وقع من اللبس في أمر الإلهية في أمر عيسى، عليه الصلاة والسلام، فكان في هذه الآية [الجامعة توطئه لبيان الأمر في شأنه، عليه السلام، من حيث أنه مما صور في الرحم -]، وحملته الأنثى ووضعته، وأن جميع ما حوته السماء والأرض لا ينبغي أن يقع فيه لبس في أمر الإلهية - انتهى.

{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} من التصوير، وهو إقامة الصورة، وهي تمام البادي التي يقع عليها حس الناظر لظهورها، فصورة كل شيء تمام بدوه قاله الْحَرَالِّي. {فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} وقال الْحَرَالِّي: فكان في إلاحة هذه الآية توزيع أمر الإظهار على ثلاثة وجوه، تناظر وجوه التقدير الثلاثة التي في [فاتحة -] سورة البقرة، فينتج هدى وإضلالا وإلباسا أكمل الله به وحيه، كما أقام بتقدير الإيمان والكفر والنفاق خلقه، فطابق الأمر الخلق، فأقام الله، سبحانه، وتعالى، بذلك قائم خلقه وأمره، فكان في انتظام هذه الإفهامات أن بادي الأحوال الظاهرة عند انتهاء الخلق، إنما ظهرت لأنها مودعة في أصل التصوير؛ فصورة نورانية يهتدي بها، وصورة ظلمانية يكفر لأجلها، وصورة ملتبسة عيشية، علميه يفتتن ويقع الإلباس والالتباس من جهتها، مما لا يفي بيانها إلا الفرقان المنزل على هذه الأمة، ولا تتم إحاطة جميعها إلا في القرآن

المخصوصة به أيمة هذه الأمة - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما تضمنت إلاحة هذه الآية ما تضمنته من الإلباس والتكفير، أظهر، سبحانه وتعالى، كلمة الإخلاص، ليظهر نورها أرجاس تلك الإلباسات وتلك التكفيرات فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إيذانا بما هي له [الإلباس -] والتكفير من وقوع الإشراك بالإلهية، والكفر فيها والتلبس والالتباس في أمرها، فكان في هذا التهليل بشرى بنصرة أهل الفرقان، وأهل القرآن على أهل الالتباس والكفران، وخصوصا على أهل الإنجيل والتوراة الذين ذكرت كتبهم صريحا في هذا التنزيل، [بل -] يؤيد إلاحته في التهليل إظهار الختم في هذه الآية بصفتي العزة المقتضية للانتقام من أهل عداوته، والحكمة المقتضية لإكرام أهل ولايته - انتهى. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} والحكمة العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم من قوام أمر العاجلة، وحسن العقبى في الآجلة، ففي ظاهر ذلك الجهد، وفي باطنه الرفق، وفي عاجله الكره، وفي آجله الرضا والروح، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم، فبذلك يكون أمر العزة على وزن الحكمة - قاله الْحَرَالِّي

{هو الذي أنزل عليك الكتاب}

بالمعنى. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} قال الْحَرَالِّي: ولما كانت هذه السورة فيما اختصت به من علن أمر الله، سبحانه وتعالى، مناظرة بسورة البقرة، فيما أنزلت من إظهار كتاب الله، سبحانه وتعالى، كان المنتظم بمنزل فاتحتها ما يناظر المنتظم بفاتحة سورة البقرة، فلما كانت سورة البقرة منزل كتاب [هو -] الوحي، انتظم بترجمتها الإعلام بأمر كتاب الخلق الذي هو القدر، فكما بين في أول سورة البقرة كتاب تقدير الذي قدره وكتبه في ذوات من مؤمن [وكافر -] ومردد بينهما، هو المنافق، فتنزلت سورة الكتاب للوحي إلى بيان قدر الكتاب الخلقي، لذلك كان متنزل هذا الافتتاح الإلهي إلى أصل منزل الكتاب الوحي. ولما بين في أمر الخلق أن منهم من فطره على الإيمان، ومنهم من جبله على الكفر ومنهم من أناسه بين الخلقين، بين في الكتاب أن منه ما أنزله على

الأحكام، ومنه ما أنزله على الاشتباه، وفي إفهامه ما أنزله على الافتتان والإضلال بمنزلة ختم الكفار - انتهى. {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قال الْحَرَالِّي: وهي التي أبرم حكمها فلم ينبتر، كما يبرم الحبل الذي يتخذ حكمة أي زماما يزم به الشيء الذي يخاف خروجه عن الانضباط، كأن الآية المحكمة تحكم النفس عن جولانها، وتمنعها عن جماحها، وتضبطها إلى محال مصالحها. ثم قال: فهي آي التعبد من الخلق للخلق، اللائي لم يتغير حكمهن في كتاب من هذه الكتب الثلاث المذكورة، فهن لذلك أم - انتهى. {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} وقال الْحَرَالِّي: هي الأصل المقتبس منه الشيء في الروحانيات، والنابت منه أو فيه في الجسمانيات. {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قال الْحَرَالِّي: والتشابه تراد التشبه في ظاهر أمرين،

لشبه كل منهما [بالآخر، بحيث يخفى خصوص كل واحد منهما -]. ثم قال: وهن الآي التي أخبر الحق، سبحانه وتعالى، فيهن عن نفسه وتنزلات تجلياته ووجوه إعانته لخلقه، وتوفيقه وإجرائه ما أجرى من اقتداره وقدرته في بادي ما أجراه عليهم، فهن لذلك متشابهات، من حيث إن نبأ الحق عن نفسه، لا تناله عقول الخلق، ولا تدركه أبصارهم، وتعرف لهم فيما تعرف بمثل من أنفسهم، فكأن المحكم للعمل، والمتشابه لظهور العجز، فكان لذلك حرف المحكم أثبت الحروف عملا، وحرف المتشابه أثبت الحروف إيمانا، واجتمعت على إقامته الكتب الثلاث، واختلفت في الأربع اختلافا كثيرا، فاختلف حلالها وحرامها، وأمرها ونهيها، واتفق على محكمها ومتشابهها - انتهى. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} وقال الْحَرَالِّي: هو ميل المائل إلى مايزين لنفسه الميل إليه، والمراد هنا أشد الميل الذي هو ميل القلب عن

جادة الاستواء، [و -] في إشعاره ما يلحق بزيغ القلوب من سيء الأحوال في الأنفس، وزلل الأفعال في الأعمال، فأنبأ، تعالى، عما هو الأشد، وأبهم ماهو الأضعف، {فَيَتَّبِعُونَ} في إشعار هذه الصيغة بما تنبئ عنه من تكلف المتابعة، بأن من وقع له الميل فلفته لم تلحقه مذمة هذا الخطاب، فإذا وقع الزلل، ولم يتتابع حتى يكون اتباعا، سلم من حد الفتنة بمعالجة التوبة. {مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} فأفهمه إبهاما يشعر بما جرت به الكليات، فيما يقع نبأ عن الحق وعن الخلق، [من نحو أوصاف النفس، كالعليم والحكيم وسائر أزواج الأوصاف، كالغضب والرضى، بناء على الخلق -] في بادي الصورة؛ من نحو العين واليد والرجل والوجه، وسائر بوادي الصورة، كل ذلك مما أنه متشابهات أنزلها الله، تعالى، ليتعرف للخلق بما

جبلهم عليه، مما لو لم يتعرف لهم به لم يعرفوه. ففائدة إنزالها التعرف بما يقع به الامتحان بإحجام الفكر عنه، والإقدام على التعبد له. ففائدة إنزاله عملا في المحكم، وفائدة إنزاله فيه توقفا عنه، ليقع الابتلاء بالوجهين: عملا بالمحكم، ووقفا عن المتشابه، قال، عليه الصلاة والسلام: "لا تتفكروا في الله" وقال علي، رضي الله تعالى عنه: "من تفكر في ذات الله تزندق". ووافق العلماء إنكار الخلق عن التصرف في تكييف شيء منه، كما ذكر عن مالك، رحمه الله تعالى، في قوله: "الكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة" فالخوض في المتشابه بدعة، والوقوف عنه سنة، وأفهم عنه الإمام أحمد، يعني فيما تقدم في آيات الصفات من أن تأويلها تلاوتها. هذا هو حد الإيمان وموقفه، وإليه أذعن الراسخون في العلم، وهم الذين تحققوا في أعلام المعلم، ولم يصغوا إلى وهم التخييل والتمثل به في شيء مما أنبأ الله، سبحانه وتعالى، به عن نفسه، ولا في شيء مما بينه وبين خلقه.

و [كان في -] توقفهم عن الخوض في المتشابه تفرغهم للعمل في المحكم، لأن المحكم واضح وجداني، متفقة عليه مدارك الفطن وإذعان الجبلات ومنزلات الكتب، لم يقع فيه اختلاف بوجه، حتى كان لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، للزوم الواجب من العمل بالمحكم في إذعان النفس، فكما لا يصلح العراء عن الاتصاف بالمحكم، لا يصلح الترامي إلى شيء من الخوض في المتشابه لأحد من أهل العلم والإيمان أهل الدرجات، لأن الله، سبحانه وتعالى، جبل الخلق وفطرهم على إدراك حظ من أنفسهم ومن أحوالهم، وأوقفهم عن إدراك ما هو راجع إليه، فأمر الله وتجلياته لا تنال إلا بعناية منه، يزج العبد زجه يقطع به الحجب الظلمانية والنورانية التي فيها مواقف العلماء، فليس في هذا الحرف المتشابه إلا أخذ لسانين:

لسان وقفة عن حد الإيمان للراسخين في العلم، المشتغلين بالاتصاف بالتذلل والتواضع والتقوى، والبر الذي أمر، - صلى الله عليه وسلم -، أن يتبع فيه حتى ينتهي العبد إلى أن يحبه الله، فيرفع عنه عجز الوقفة عن المتشابه، وينقذه من حجاب النورانية، فلا يشكل عليه دقيق، ولا يعييه خفي بما أحبه الله. وما بين ذلك من خوض دون إنفاذ هذه العناية، فنقص عن حد رتبة الإيمان والرسوخ في العلم، فكل فائض فيه ناقص، من حيث يحب أن يزيد، فهو إما عجز إيماني من حيث الفطر الخلقي، وإما تحقق إيقاني توجبه العناية والمحبة - انتهى. {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} قال الْحَرَالِّي: والابتغاء افتعال تكلف

البغي، وهو شدة الطلب، وجعله، تعالى، ابتغاءين، لاختلاف وجهيه، فجعل الأول فتنة لتعلقه بالغير، وجعل الثاني تأويلا، أي طلبا للمال عنده، لاقصاره على نفسه، فكان أهون الزيغين - انتهى. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} قال الْحَرَالِّي: هو ما يؤول إليه أمر الشيء في مآله إلى معاده {إِلَّا اللَّهُ}. قال: ولكل باد من الخلق مال، كما أن الآخرة مآل الدنيا: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ولذلك كل يوم من أيام الآخرة مال للذي قبله، فيوم الخلود مال يوم الجزاء، ومآل الأباد مال يوم الخلود، وأبد الأبد مآل الأبد، وكذلك كل الخلق له بآل من الأمر، فأمر الله مآل خلقه، وكذلك الأمر، كل تنزيل أعلى منه مآل للتنزيل الأدنى إلى كمال الأمر، وكل أمر الله مال من أسمائه وتجلياته، وكل تجل أجلى مآل لما دونه من تجل أخفى، قال، عليه الصلاة والسلام:

"فياتيهم [ربهم -] في غير الصورة التي يعرفونها" الحديث. إلى قوله: "أنت ربنا" فكان تجليه الأظهر لهم مآل تجليه الأخفى عنهم، فكان كل أقرب للخلق من غيب خلق وقائم أمر، وعلى تجل إبلاغا إلى ما وراء - فكان تأويله، فلم تكن الإحاطة بالتأويل المحيط، إلا لله، سبحانه وتعالى. {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قال الْحَرَالِّي: وهم المتحققون في أعلام العلم، من حيث إن الرسوخ، النزول بالثقل في الشيء الرخو، ليس الظهور على الشيء، فلرسوخهم كانوا أهل إيمان، ولو أنهم كانوا ظاهرين على العلم كانوا أهل إيقان، لكنهم راسخون في العلم، لم يظهروا ما بصفاء الإيقان على نور العلم، فثبتهم الله، سبحانه وتعالى، عند حد التوقف، فكانوا دائمين على الإيمان بقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} بصيغة الدوام - انتهى. {كُلٌّ} قال الْحَرَالِّي: وهذه الكلمة معرفة بتعريف الإحاطة التي أهل

{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}

النحاة ذكرها في وجوه التعريف، إلا من ألاح معناها منهم فلم يلقن ولم ينقل جماعتهم ذلك، وهو من أكمل وجوه التعريف، لأن حقيقة التعين بعيان أو عقل، وهي إشارة إلى إحاطة ما أنزله على إبهامه، فكان مرجع المتشابه والمحكم عندهم معروجا واحداً؛ آمنوا بمحل اجتماعه الذي منه نشأ فرقانه، لأن كل مفترق بالحقيقة إنما هو معروج من حد اجتماع، فما رجع إليه الإيمان في قلوبهم: {آمَنَّا بِهِ} هو محل اجتماع المحكم والمتشابه في إحاطة الكتاب، قبل تفصيله - انتهى. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قال الْحَرَالِّي: الذين لهم لب العقل الذي للراسخين في العلم ظاهره، فكان بين أهل الزيغ وأهل التذكر مقابلة بعيدة، فمنهم متذكر ينتهي إلى إيقان، وراسخ في العلم يقف عند حد إيقان، ومتأول يركن إلى لبس بدعة، وفاتن يتبع هوى، فأنبأ جملة هذا البيان عن أحوال الخلق بالنظر إلى تلقي الكتاب، كما أنبأ بيان سورة البقرة عن جهات تلقيهم للأحكام - انتهى. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وقال الْحَرَالِّي: ففي إلاحة معناه أن هذا الابتهال واقع من أولي الألباب، ليترقوا من محلهم من التذكر إلى ماهو أعلى وأبطن - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما كان الأمر اللدني ليس مما في فطر الخلق وجبلاتهم

وإقامة حكمتهم، وإنما هو موهبة من الله، سبحانه وتعالى، بحسب العناية، ختم بقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وهي صيغة مبالغة من الوهب والهبة، وهي العطية سماحا من غير قصد من بالموهوب - انتهى. {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ} قال الْحَرَالِّي: من الجمع، وهو ضم ما شأنه الافتراق والتنافر لطفا أو قهرا - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وقال الْحَرَالِّي: هو مفعال من الوعد، وصيغ لمعنى تكرره ودوامه، والوعد العهد في الخير - انتهى. قال الْحَرَالِّي: ولما كان من مضمون ترجمة سورة البقرة، إطلاع النبى، - صلى الله عليه وسلم -، على سر التقدير الذي صرف عن الجواب فيه، وإظهار سره موسى كليم الله، وعيسى كلمة الله، عليهما الصلاة والسلام، كان مما أظهره الله، سبحانه وتعالى، لعامة أمه محمد، - صلى الله عليه وسلم -، إعلاء لها على كل أمة، واختصاصا لها بما علا اختصاص نبيها، - صلى الله عليه وسلم -، حتى قال قائلهم: أخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، لقوم لم يظهروا على سر القدر. وقال: والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر.

فأفهم الله، سبحانه وتعالى، علماء هذه الأمة أن أعمالها لا تقبل إلا على معرفة سر التقدير، لتكون قلوبها بريئة من أعمال ظواهرها، كما قيل في أثارة من العلم: من لم يختم عمله بالعلم لم يعمل، ومن لم يختم علمه بالجهل لم يعلم، فختم العامل [عمله -] بالعلم أن يعلم أنه لا عمل له، وأن المجري على يديه أمر مقدر قدره الله، تعالى، عليه، وأقامه فيه لما خلقه له من حكمته من وصفه من خير أو شر، ومن تمام كلمته في رحمته أو عقوبته ليظهر بذلك حكمة الحكيم، ولا حجة للعبد على ربه، ولا حجة للصنعة على صانعها، ولله، سبحانه وتعالى، الحجة البالغة، وكذلك العالم، متى لم ينطو سره على أنه لا يعلم، وإنما العلم عند الله، سبحانه وتعالى، لم يثبت له علم، فذلك ختم العمل بالعلم، وختم العمل بالجهل. فكما أطلعه، سبحانه وتعالى، في فاتحة سورة البقرة على سر تقديره في خلقه،

أظهره في فاتحة سورة آل عمران على علن قيوميته، الذي هو شاهده في وحي ربه، كما هو بصير بسر القدر في تفرق أعمال خلقه، فكان منزل سورة البقرة قوام الأفعال، ومنزل سورة آل عمران قوام التنزيل [والإنزال، فكان علن القيومية قوام التنزيل -] للكتاب الجامع الأول، والتنزيل قوام إنزال الكتب، وإنزال الكتاب الجامع لتفسير الكتب، قوام تفصيل الآيات المحكمات والمتشابهات، والإحكام والتشابه إقامة الهدى والفتنة، والهدى والفتنة إقامة متصرف الحواس الظاهرة والباطنة، والأحوال الحواس وما دونها من الأفعال، على وجه جمع يكون قواما لما تفصل من مجمله، وتكثر من وحدته، وتفرق من اجتماعه، ولعلو مضمون هذه السورة لم يقع فيها توجه الخطاب بها لصنف الناس، واختص خطابها بالذين آمنوا في علو من معاني الإيمان، لما ذكر من شرف الإيمان على سن الناس في تنامي [أسنان -] القلوب. وكان خطاب سورة البقرة بمقتضى رتبة العقل الذي به يقع أول الإصغاء والاستماع، كما ظهر في آيات الاعتبار فيها، في قوله، سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فكان خطاب سورة

آل عمران إقبالا على أولي الألباب الذين [لهم -] لب العقل، بما ظهر في أولها وخاتمتها في قول: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} وفي خاتمتها في آيات اعتبارها في قوله، سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}. فبالعقل يقع الاعتبار لمنزل الكتاب، وباللب يكون التذكر، إيلاء إلى الذي نزل الكتاب. وبالجملة، فمثاني هذه السورة من تفاصيل آياتها وجمل جوامعها مما هو أعلق بطيب الإيمان واعتبار اللب، كما أن منزل سورة البقرة أعلق بما هو من أمر الأعمال، وإقامة معالم الإسلام، بما ظهر في هذه السورة من علن أمر الله، وبما افتتحت به [من -] اسم الله الأعظم الذي جميع الأسماء أسماء له، لإحاطته واختصاصها بوجه ما، فكان فيها علن التوحيد [و -] كماله، وقوام تنزيل الأمر وتطور الخلق في جميع متنزلها ومثانيها، وظهر فيها تفصيل وجوه الحكم العلية التي تضمن جملة ذكرها الآية الجامعة في سورة البقرة في قوله، سبحانه وتعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} فكان من جملة

{كدأب آل فرعون}

بناء الحكمة ما هو السبب في ظهور الكفر من الذين كفروا، بما غلب عليهم من الفتنة بأموالهم وأولادهم، حتى ألهتهم عن ذكر الله، فانتهوا فيه إلى حد الكفر الذي نبه عليه الذين آمنوا في قوله، سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}. انتهى. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال الْحَرَالِّي: الدأب العادة الدائمة التي تتأبد بالتزامها، وآل الرجل من إذ أحصر ترائ فيهم كأنه لم يغب، وفرعون اسم ملك مصر في الكفر، ومصر أرض جامعة كليتها وجملة إقليمها نازل منزلة الأرض كلها، فلها إحاطة بوجه ما، فلذلك أعظم شأنها في القرآن، وشأن العالي فيها من الفراعنة، وكان الرسول المبعوث إليه أول المؤمنين بما وراء أول الخلق، من طليعة ظهور الحق لسماع كلامه بلا واسطة ملك، فكان أولى من طوى في رتبة بنوته رتبة البنوة ذات الواسطة، فلذلك بدئ [به -] في هذا الخطاب لعلو رتبة بنوته، بما هو كليم الله ومصطفاه على الناس،

{قل للذين كفروا ستغلبون}

ولحق به من تقدمهم بما وقعت في بنوته من واسطة زوج أو ملك، وخص آله لأنه هو كان عارفا بأمر الله، سبحانه وتعالى، فكان جاحدا لا مكذبا - انتهى. {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بأن صريح المؤاخذة مناط بالذنوب، وأن المؤاخذة الدنيوية لا تصل إلى حد الانتقام على التكذيب، فكان ما ظهر من [أمر -] الدنيا يقع عقابا على ما ظهر من الأعمال، وما بطن من أمر الآخرة يستوفي العقاب على ما أصرت عليه الضمائر من التكذيب، ولذلك يكون عقاب الدنيا طهرة للمؤمن لصفاء باطنه من التكذيب، ويكون واقع يوم الدنيا كفاف ما جرى على ظاهره [من المخالفة -]، فكأن الذنب من المؤمن يقع في دنياه خاصة، والذنب من الكافر يقع في دنياه وأخراه، من استغراقه لظاهره وباطنه. {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} وقد أفهم الإخبار بمجرد الغلبة دون ذكر العذاب، كما كان يذكر في تهديد من قبلهم، أن أخذهم بيد المغالبة والمدافعة

{يرونهم مثليهم رأي العين}

والنصرة تشريفا لنبيهم، - صلى الله عليه وسلم -، لأنه عرض عليه عذابهم فأبى إلا المدافعة على سنة المصابرة، فكان أول ذلك غلبته، - صلى الله عليه وسلم -، على مكة المشرفة، وكان فتحها فتحا لجميع الأرض، لأنها أم القرى - نبه على ذلك الْحَرَالِّي. {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} قال الْحَرَالِّي: وهي من الجهامة، وهي كراهة المنظر - انتهى. {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} قال الْحَرَالِّي: لتقع الإرادة على صدقهم [في موجود الإسلام الظاهر والإيمان الباطن، فكان كل واحد منهم -]: بما هو مسلم، ذاتا، وبما هو مؤمن ذاتا، فالمؤمن المسلم ضعفان أبدا {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} وذلك بما أن الكافر ظاهر لا باطن له، فكان ذات عين، لا ذات قلب له، فكان المؤمن ضعفه، فوقعت الإرادة للفئة المؤمنة على ما هي عليه، شهادة من الله، سبحانه وتعالى، بثبات إسلامهم وإيمانهم، وكان ذلك أدنى الإرادة لمزيد موجود الفئة

المقاتلة في سبيل الله بمقدار الضعف الذي هو أقل الزيادة الصحيحة، وأما بالحقيقة فإن التام الدين، بما هو مسلم مؤمن صاحب يقين، إنما هو بالحقيقة عشر تام، نظير موجود الوجود الكامل، فهو عشر ذوات بما هو صاحب يقين ودين: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [انتهى -]. {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} قال الْحَرَالِّي: والنصر لا يكون إلا لمحق، وإنما يكون لغير المحق الظفر والانتقام - انتهى. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} وفي أداة البعد - كما قال الْحَرَالِّي - إشارة بعد إلى محل [علو -] الآية. {لَعِبْرَةً} قال: هي المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى، ومن علم أدنى إلى علم أعلى، ففي لفظها بشرى بما ينالون من ورائها، مما هو أعظم منها إلى غاية العبرة العظمى من الغلبة الخاتمة التي عندها تضع الحرب أوزارها، حيث يكون من أهل الكمال بعدد أهل بدر: ثلاثمائة وثلاثة عشر، فهو غاية العبرة لمن له بصر نافذ ونظر جامع، بين البداية والخاتمة

{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} - انتهى. {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} قال الْحَرَالِّي: أول موقع العين على الصورة نظر، ومعرفة خبرتها الحسية بصر، ونفوذه إلى حقيقتها رؤية، فالبصرة متوسط بين النظر والرؤية، كما قال، سبحانه وتعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} فالعبرة هي المرتبة الأولى لأولي الأبصار الذين يبصرون الأواخر بالأوائل، فأعظم غلبة بطشه في الابتداء غلبة بدر، وأعظمها في الانتهاء الغلبة الخاتمة التي لا حرب وراءها، التي تكون بالشام في آخر الزمان - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما أظهر، سبحانه وتعالي، في هذه السورة ما أظهره

بقاء لعلن قيوميته من تنزيل الكتاب الجامع الأول، وإنزال الكتب الثلاثة: إنزال التوراة بما أنشأ عليه قومها من وضع رغبتهم ورهبتهم في أمر الدنيا، فكان وعيدهم فيها ووعدهم على إقامة ما فيها إنما هو برغبة في الدنيا ورهبتها، لأن كل أمة تدعى لنحو ما جبلت عليه من رغبة ورهبة، فمن مجبول على رغبة ورهبة في أمر الدنيا، [و -] من مجبول على ما هو من نحو ذلك في أمر الآخرة، ومن مفطور على ما هو من غير ذلك من أمر الله، فيرد خطاب كل أمة وينزل عليها كتابها من نحو ما جبلت عليه، فكان كتاب التوراة كتاب رجاء ورغبة وخوف، ورهبة في موجود الدنيا. وكان كتاب الإنجيل [كتاب -] دعوة إلى ملكوت الآخرة، وكانا متقابلين، بينهما ملابسة لم يفصل أمرهما فرقان واضح، فكثر فيهما الاشتباه. فأنزل الله، تعالى، الفرقان لرفع لبس ما فيهما، فأبان فيه المحكم والمتشابه من منزل الوحي، وكما أبان فيه فرقان الوحي أبان فيه أيضا فرقان [الخلق وما اشتبه من أمر الدنيا والآخرة، وما التبس على أهل الدنيا من

أمر -] الخلق بلوائح آيات الحق عليهم، فتبين في الفرقان محكم الوحي من متشابهه، و [محكم الخلق من متشابهه -]. وكان متشابه الخلق هو المزين من متاع الدنيا، ومحكم الخلق هو المحقق من دوام خلق الآخرة، فاطلع نجم هذه الآية لإنارة غلس ما بنى عليه أمر التوراة من إثبات أمر الدنيا لهم وعداً ووعيداً، لتكون هذه الآية توطئة لتحقيق صرف النهي عن مد اليد والبصر إلى ما متع به أهلها. فأنبأ، تعالى، أن متاع الدنيا أمر مزين، لا حقيقة لزينته ولا حسن لما وراء زخرفه، فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} فأبهم المزين لترجع إليه ألسنة التزيين مما كانت في رتبة علو أو دنو، وفي إناطة التزيين بالناس، دون الذين آمنوا، ومن فوقهم، إيضاح لنزول سنهم في أسنان القلوب، وأنهم ملوك الدنيا وأتباعهم، ورؤساء القبائل وأتباعهم، الذين هم أهل الدنيا. {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} جمع شهوة، وهي نزوع النفس إلى محسوس لا تتمالك عنه - انتهى.

{من النساء والبنين}

{مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} قال الْحَرَالِّي: وأخفى فتنة النساء بالرجال سترا لهن، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم [حيث -] قال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} فأخفاهن لما في ستر الحرم من الكرم، والله، سبحانه وتعالى، حي كريم _ انتهى. {وَالْقَنَاطِيرِ} قال الْحَرَالِّي: [جمع -] قنطار، يقال: هو مائة رطل، ويقال: إن الرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أربعون درهما، والدرهم خمسون حبة [وخمسا -] من حب الشعير، وأحقه أن يكون من شعير المدينة. {الْمُقَنْطَرَةِ} أي المضاعفة مرات - انتهى. {وَالْخَيْلِ} قال الْحَرَالِّي: اسم جمع لهذا الجنس المجبول على هذه الاختيال، لما خلق له من الاعتزاز به، وقوة المنة في الافتراس عليه، الذي منه سمي واحده فرسا {الْمُسَوَّمَةِ} أي المعلمة بأعلام هي سمتها وسيماها التي

تشتهر بها جودتها، من السومة، بضم السين، وهي العلامة التي تجعل على الشاة لتعرف بها، وأصل السوم، بالفتح، الإرسال للرعي مكتفي في المرسل بعلامات تعرف بها نسبتها، لمن تتوفر الدواعي للحفيظة عليها من أجله من الواقع عليها من الخاص والعام، فهي مسومة بسيمة تعرف بها جودتها ونسبتها {وَالْأَنْعَامِ} وهي جمع نعم وهي الماشية فيها إبل، والإبل واحدها، فإذا خلت منها الإبل لم يجر على الماشية اسم نعم - انتهى. {ذَلِكَ} وقال الْحَرَالِّي: الإشارة إلى بعده عن حد التقريب إلى حفرة الجنة - انتهى. {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال الْحَرَالِّي: جعل، سبحانه وتعالى، ما أحاط به حس النظر العاجل من موجود العاجل أدنى، فأفهم أن ما أنبأ به على سبيل السمع أعلى، فجعل، تعالى، من أمر اشتباه كتاب الكون المرئي به وذكره المشهود أن عجل محسوس العين، وحمل على تركه وقبض اليد بالورع والقلب بالحب

عنه، وأخر مشهود مسموع الأذن من الآخرة وأنبأ بالصدق عنه، ونبه بالآيات عليه ليؤثر المؤمن مسمعه على منظره، كما آثر الناس منظرهم على مسمعهم. حرض لسان الشرع على ترك الدنيا والرغبة في الأخرى، فأبت الأنفس وقبلت قلوب، وهيم لسان الشعر في زينة الدنيا، فقبلته الأنفس، ولم تسلم القلوب منه إلا بالعصمة، فلسان الحق يصرف إلى حق الآخرة، ولسان الخلق يصرفه إلى زينة الدنيا، فأنبأ، سبحانه وتعالى، أن ما في الدنيا متاع، والمتاع ما ليس له بقاء، وهو في نفسه خسيس خساسة الجيقة - انتهى. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} قال الْحَرَالِّي: مفعل من الأوب، وهو الرجوع إلى ما منه كان الذهاب - انتهى.

{خالدين فيها}

{خَالِدِينَ فِيهَا} قال الْحَرَالِّي: وفي معنى لفظ الخلود إعلام بسكون الأنفس إليها لما فيها من موافقتها - انتهى. {وَرِضْوَانٌ} قال الْحَرَالِّي: بكسر الراء وضمها [اسم -] مبالغة في معنى الرضى، وهو على عبرة امتلاء، بما تعرب عنه الألف والنون، وتشعر ضمة رائه بظاهر إشباعه، وكسرتها بباطن إحاطته - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما وصف، تعالى، قلوبهم بالتقوى، وبرأهم من الاستغناء بشيء من دونه، وصف أدبهم في المقال فقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}. قال الْحَرَالِّي: وبين المغفرة على مجرد الإيمان إشارة إلى أنه لا تغيرها الأفعال، من ترتب إيمانه على تقوى غفرت ذنوبه. فكانت مغفرة الذنوب لأهل هذا الأدب في مقابلة الذين أخذهم الله بذنوبهم من الذين كذبوا، ففي شمول ذكر الذنوب في الصنفين إعلام بإجراء قدر الذنوب على الجميع، فما كان منها مع التكذيب أخذ به، وما كان منها مع التقوى والإيمان غفر له - انتهى. {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} قال الْحَرَالِّي: ولما وصف تقوى قلوبهم باطنا، وأدب مقالهم ظاهرا، وصف لهم أحوال أنفسهم، ليتطابق ظاهر أمرهم بمتوسطه وباطنه فقال: {الصَّابِرِينَ} فوصفهم بالصبر إشعارا بما ينالهم من سجن الدنيا

وشدائدها، والصبر أمدح أوصاف النفس، به تنحبس عن هواها، وعما زين من الشهوات المذكورة، بما تحقق من الإيمان بالغيب، الموجب لترك الدنيا للآخرة، فصبروا عن الشهوات، أما النساء فبالاقتصار على ما ملكوه، وأما البنون فبمراعاة أن ما تقدم خير مما تأخر، قال، - صلى الله عليه وسلم -، يعني [فيما -] رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: "لسقط أقدمه بين يدي، أحب إلى من فارس أخلفه خلفي". وأما الذهب والفضة فبالنظر إليها، أصناما يضر موجودها وبالحري أن ينال منها السلامة بنفقة لا يكاد يصل إنفاقها إلى أن يكون كفارة كسبها وجمعها، فكان الصبر عنها أهون من التخلص منها، وأما الخيل فلما يصحبها من التعزز الممد لخيلاء النفس، الذي هو أشد ما على النفس أن تخرج عن زهوها وخيلائها إلى احتمال الضيم والسكون بحب الذل، يقال إنه آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة.

وأما الأنعام فبالاقتصار منها على قدر الكفاف، لأن كل مستزيد تمولا من الدنيا، زائدا على كفاف منه؛ من مسكن أو ملبس أو مركب أو مال، فهو محجر، على من سواه من عباد الله، ذلك الفضل الذي هم أحق به منه، قال، - صلى الله عليه وسلم -: "لنا غنم مائة، لا نريد أن تزيد" الحديث {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}. وأما الحرث، فبالاقتصار منه على قدر الكفاية، لما يكون راتبا للإلزام، ومرصدا للنوائب، ومخرجا للبذر، فإن أعطاه الله فضلا أخرجه بوجه من وجوه الإخراج، ولو بالبيع، ولا يمسكه متمولا لقلبه إلى غيره من الأعيان، فيكون محتكراً، قال، عليه الصلاة والسلام، كما أخرجه أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: "من احتكر أربعين يوما، فقد بريء من الله، وبريء الله منه". فبذلك يتحقق الصبر بحبس النفس عما زين للناس من التمولات من الدنيا الزائدة على الكفاف، التي هي حظ من لا خلاف له في الآخرة، ولذلك يحق أن تكون هذه الكلمات معرفة بالنصب مدحا، لأن الصفات المتبعة للمدح حليتها النصب في لسان العرب، وإنما يتبع في الإعراب ما كان لرفع لبس أو تخصيص - انتهى.

{والصادقين}

{وَالصَّادِقِينَ} قال الْحَرَالِّي: في عطف الصفات ما يؤذن بكمال الوصف، لأن العرب تعطفها إذا كملت، وتتبع بعضها بعضا إذا تركبت والتأمت. يعني مثل: الرمان حلو حامض - إذا كان غير صادق الحلاوة ولا الحموضة - ففي العطف إشعار بكمال صبرهم عن العاجلة، على ما عينه حكم النظم في الآية السابقة، ومن شأن الصابر عن الدنيا الصدق، لأن أكثر المداهنة والمراءاة إنما ألجأ إليها التسبب إلى كسب الدنيا، فإذا رغب عنها لم يحمله على ترك الصدق حامل، فيتحقق به فيصدق في جميع أموره، والصدق مطابقة أقواله وأفعاله لباطن حاله في نفسه، وعرفان قلبه - انتهى. {وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ} قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بأن من صبر نول، ومن صدق أعلى، ومن قنت جل وعظم قدره، فنوله الله ما يكون له منفقا، والمنفق أعلى حالا من المزكي، لأن المزكي يخرج ما وجب عليه فرضا، والمنفق يجود بما في يده فضلا - انتهى. {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} قال الْحَرَالِّي: وهو جمع سحر، وأصل معناه التعلل عن

الشيء بما يقاربه ويدانيه، ويكون منه بوجه ما. فالوقت من الليل الذي يتعلل فيه بدنو الصباح هو السحر، ومنه السحور، تعلل عن الغداء. ثم قال: وفي إفهامه تهجدهم في الليل، كما قال، سبحانه وتعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فهم يستغفرون من حسناتهم، كما يستغفر أهل السيئات من سيئاتهم، تبرؤاً من دعوى الأفعال ورؤية الأعمال؛ التئاما بصدق قولهم في الابتداء: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا}، وكمال الإيمان بالقدر خيره وشره. فباجتماع هذه الأوصاف السبعة من التقوى والإيمان والصبر [والصدق -] والقنوت [والإنفاق والاستغفار، كانت الآخرة خيرا لهم من الدنيا وما فيها، وقد بأن بهذا محكم آيات الخلق -] من متشابهها بعد

{شهد الله أنه}

الإعلام بمحكم آيات الأمر ومتشابهها، فتم بذلك منزل الفرقان في آيات [الوحي -] المسموع، والكون المشهود - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما أنهى، تعالى، الفرقان نهايته ببيان المحكمين والمتشابهين في الوحي والكون، انتظمت هذه الشهادة، التي هي أعظم شهادة في كتاب الله، بآية القيومية التي هي أعظم آية الوجود، لينتظم آية الشهود بآية الوجود - انتهى. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ} قال الْحَرَالِّي: فأعاد بالإضمار ليكون الشاهد والمشهود له {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فأعاد بالهوية لمعنى الوحدانية في الشهادة، ولم يقل: {إِلَّا اللَّهَ} بما يشعر به تكرار الاسم في محل الإضمار من التنزل العلي - انتهى. قال الْحَرَالِّي: وهذه الشهادة التي هي من الله الله، هي الشهادة التي إليها قصد القاصدون وسلك السالكون، وإليه انتهت الإشارة، وعندها وقفت العبارة، وهي أنهى المقامات وأعظم الشهادات، فمن شهد بها فقد شهد شهادة ليس وراءها مرمى، ومن شهد بما دونها كانت شهادته مشهودا عليها لا شهادة، يؤثر أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لم يزل يوم الجمعة، وهو قائم بعرفة، منذ كان وقت العصر إلى أن غربت الشمس، في حجته التي كمل بها الدين، وتمت بها النعمة، يقول هذه الآية لا يزيد عليها.

فأي عبد شهد لله بهذه الشهادة التي هي شهادة الله لله، سبحانه وتعالي، بالوحدانية فقد كملت شهادته، وأتم الله، سبحانه وتعالى، النعمة عليه، وهي سر كل شهادة من دونها، وهي آية علن التوحيد الذي هو منتهى المقامات، وغاية الدرجات في الوصول إلى محل الشهود، الذي منه النفوذ إلى الموجودة بمقتضى الأعظمية التي في الآية الفاتحة - انتهى. {وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا} وقال الْحَرَالِّي: أفرد القيام، فاندرج من ذكر من الملائكة وأولي العلم في هذا القيام إفهاما، كما اندرجوا في الشهادة إفصاحا، فكان في إشعاره أن الملائكة وأولي العلم لا يقاد منهم فيما تجريه الله، سبحانه وتعالى، على أيديهم، لأن أمرهم قائم بالقسط من الله. يذكر أن عظيم عاد لما كشف له عن الملائكة في يوم النقمة قال لهود، عليه الصلاة والسلام: ياهود، ما هذا الذي أراهم في السحاب كأنهم البخاتي؟ فقال: ملائكة ربي. فقال له: أرايت إن آمنت بإلهك أيقيدني منهم بمن قتلوا من قومي؟ قال: ويحك! وهل رأيت ملكا يقيد من جنده؟ - انتهى. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وقال الْحَرَالِّي: كرر هذا التهليل لأنه في مرتبة القسط الفعلي، لأن التهليل الأول في مرتبة الشهادة العلمية، فاستوفى التهليلان جميع البادي؛ علما

وفعلا - انتهى. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال الْحَرَالِّي: وقسط الله هو إخفاء عدله في دار الدنيا، من حيث إنه خفض ورفع، يعادل خفضه رفعه، ورفعه خفضه، فيؤول إلى عدل، ويراه بذلك في حال تفاوته كل ذي لب، بما أنه عزيز يظهر عزته فيما يرفع، حكيم يخفي معنى حكمه فيما يخفض، فكل ما هو باد من الخلق جود فهو من الله، سبحانه وتعالى، قسط، طيته عدل سره سواء، فيظهر عزته فيما حكم انتقاما، وحكمته في الموازنة بين الأعمال والجزاء عدلا - انتهى. {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} قال الْحَرَالِّي: والبغي السعي بالقول والفعل في إزالة نعم أنعم الله، تعالى، بها على خلقه، بما اشتملت عليه ضمائر الباغي من الحسد له - انتهى. {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قال الْحَرَالِّي: من السرعة، وهي وجاء التجاز فيما شأنه الإبطاء - انتهى. قال الْحَرَالِّي: كان آية من الله، سبحانه وتعالى، للهداية، فوقع عندهم بحال من كفروا به، فكان سبب كفرهم ما كان مستحقا أن يكون سبب هداية المهتدي، وكان ذلك فيه لمحل اشتباهه، لأنه اشتبه عليهم خلقه بما ظهر على يديه من آيات

{فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله}

الله، سبحانه وتعالى، وفي التعريض به إلاحة لما يقع لهذه الأمة في نحوه، ممن هو مقام الهداية، فوقع في طائفة موقع آية كفروا بها، كما قال عليه، الصلاة والسلام، في علي رضي الله تعالى عنه: "مثلك ياعلي، كمثل عيسى بن مريم، أبغضه يهود فبهتوا أمه، وأحبه النصارى فأنزلوه بالمحل الذي ليس به" كذلك تفرقت فرق في علي، رضي الله تعالى عنه، من بين خارجيهم ورافضيهم -[انتهى -]. {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} قال الْحَرَالِّي: ولما أدرج، تعالى، شهادة الملائكة وأولي العلم في شهادته، لقن نبيه، - صلى الله عليه وسلم -، أن يدرج من اتبعه في إسلامه وجهه لله، ليكون إسلامهم بإسلام نبيهم، - صلى الله عليه وسلم -، لا بإسلام أنفسهم، لتلحق التابعة من الأمة بالأيمة، وذلك حال الفرقة الناجية، مؤثرة الفرق الإثنين والسبعين، التي قال [النبي]، - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنا عليه" فيما أوتي من اليقين، "وأصحابي" فيما أوتوه من الانقياد، وبراءتهم من الرجوع إلى أنفسهم في أمر،

{إن الذين يكفرون بآيات الله}

كما كانوا يقولون عند كل ناشئة علم أو أمر: "الله ورسوله أعلم" فمن دخل برأيه في أمر نقص حظه من الاتباع، بحسب استبداده - انتهى. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كانت هذه السورة منزلة لتبيين ما اشتبه على أهل الإنجيل، جرى ذكر أهل التوراة فيها مجملا بجوامع من ذكرهم، لأن تفاصيل أمرهم قد استقرأته سورة البقرة، فكان أمر أهل التوراة في سورة البقرة بيانا، وأهل الإنجيل إجمالا، وكان أمر أهل الإنجيل في سورة آل عمران بيانا، وذكر أهل التوراة إجمالا، لما كان لبس أهل التوراة في الكتاب، فوقع تفصيل ذكرهم في سورة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} ولما كان اشتباه أمر أهل الإنجيل في شأن الإلهية، كان بيان ما تشابه عليهم في سورة: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فجاء هذا الذكر لأهل التوراة معادلة بينهم وبين أهل الإنجيل، بما كفروا بالآيات من المعنى الذي اشتركوا فيه في أمر الإلهية، في عزيز، واختصوا بقتل الأنبياء، وقتل أهل الخير، الآمرين بالقسط - انتهى. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} قال الْحَرَالِّي: وفي ذكره بصيغة

[الدوام -] ما يقع منهم من الكفر بآيات الله في ختم اليوم المحمدي مع الدجال، فإنهم أتباعه {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ}، في إشعاره ما تمادوا عليه من البغي على الأنبياء، حتى كان لهم مدخل في شهادة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، التي رزقه الله فيما كان يدعو به حيث كان يقول، - صلى الله عليه وسلم -، "اللهم ارزقني شهادة في يسر منك وعافية". {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} قال الْحَرَالِّي: فيه إعلام بتمادي تسلطهم على أهل الخير من الملوك والرؤساء، فكان في طيه إلاحة لما استعملوا فيه من علم التطبب ومخالطتهم رؤساء الناس بالطب، الذي توسل كثير منهم إلى قتلهم به عمدا وخطأ، ليجري ذلك على أيديهم خفية في هذه الأمة، نظير ما جرى على أيدي أسلافهم في قتل الأنبياء جهرة - انتهى. {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} وأنبأ، تعالى، بقوله: {فِي الدُّنْيَا} كما قال الْحَرَالِّي: أنهم يتعقبون أعمال خيرهم ببغي يمحوها، فلا يطمعون بجزائها في عاجل ولا آجل، وبذلك تمادى عليهم الذل، وقل منهم المهتدي انتهى.

{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب}

{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} قال الْحَرَالِّي: فيه إعلام بوقوع الغلبة عليهم غلبة لا نصرة لهم فيها، في يوم النصر الموعود في سورة الروم، التي هي تفصيل من معنى هذه السورة، في قوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} فهم غير داخلين فيمن ينصر بما قد ورد أنهم يقتلون في آخر الزمان، حتى يقول الحجر: يا مسلم، خلفي يهودي فاقتله، حتى لا يبقى منهم إلا من يستره شجر الفرقد، كما قال، - صلى الله عليه وسلم -: "إنه من شجرهم". وفي إفهامه أن طائفة من أهل الإنجيل يقومون بحقه، فيكونون ممن تشملهم نصرة الله، سبحانه وتعالى، مع المسلمين، فتنتسق الملة واحدة، مما يقع من الاجتماع، حين تضع الحرب أوزارها - انتهى. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} وقال الْحَرَالِّي: كتابهم الخاص بهم نصيب من الكتاب الجامع، وما أخذوا من كتابهم نصيب من اختصاصه، فإنهم لو استوفوا حظهم منه لما عدلوا في الحكم عنه، ولرضوا به، وكان في هذا التعجيب أن يكون غيرهم يرضى بحكم كتابهم، ثم لا يرضون هم به - انتهى.

{يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} أظهر الاسم الشريف، ولم يقل: إلى كتابهم، احترازا عما غيروا وبدلوا، ولأنهم إنما دعوا إلى كتاب الله الذي أنزل على موسى، عليه الصلاة والسلام، لا إلى ما عساه أن يكون بأيديهم، مما غيروا - نبه عليهم الْحَرَالِّي. {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} قال الْحَرَالِّي: في إشعاره أن طائفة منهم على حق منه، أي وهم المذعنون لذلك الحكم الذي دعا إليه انتهى. {ثُمَّ} وقال الْحَرَالِّي: في إمهاله ما يدل على تلددهم وتبلدهم في ذلك، بما يوقعه الله من المقت والتحير على من دعى إلى حق فأباه، وفي صيغة يتفعل في قوله {يَتَوَلَّى} ما يناسب معنى ذلك في تكلف التولي على انجذاب من بواطنهم لما عرفوه وكتموه، وصرح قوله: {فَرِيقٌ مِنْهُمْ} بما أفهمه ما تقدم من قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} فأفهم أن طائفة منهم ثابتون قائلون لحكم كتاب الله تعالى، وأنبأ قوله المشير إلى كثرة أفراد هذا الفريق {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} بما سلبوه من ذلك التردد والتكلف، فصار وصفا لهم، بعد

{فكيف إذا جمعناهم ليوم}

أن كان تعملا، ما أنكر منكر حقا، وهو يعلمه، إلا سلبه الله، تعالى، علمه حتى يصير إنكاره له بصورة وبوصف من لم يكن قط علمه - انتهى. وفي هذا تحذير لهذه الأمة من الوقوع في مثل ذلك، ولو بأن يدعى أحدهم من حسن إلى أحسن منه، نبه عليه الْحَرَالِّي: وقال: إذ ليس المقصور حكاية ما مضى فقط، ولا ما هو كائن فحسب، بل خطاب القرآن قائم دائم ماض كلية خطابه في غابر اليوم المحمدي، مع من يناسب أحوال من تقدم منهم، وفي حق المرء مع نفسه في أوقات مختلفة - انتهى. {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} قال الْحَرَالِّي: من الغرور، وهو إخفاء الخدعة في صورة النصيحة - انتهى. {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} قال الْحَرَالِّي: فتقابل التعجيبان في ردهم حق الله، سبحانه وتعالى، وسكونهم إلى باطلهم - انتهى. {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ} ووصفه بقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} مشعر - كما قال الْحَرَالِّي: بأنهم ليسوا على طمأنينة في باطلهم، بمنزلة الذي لم يكن له أصل كتاب، فهم في ريبهم يترددون، إلى أن يأتي ذلك اليوم. {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} قال الْحَرَالِّي: الفصل الموقع للجزاء مخصوص بوجود

النفس، التي دأبها أن تنفس فتريد وتختار وتحب وتكره، فهي التي توفي، فمن سلب الاختيار وإلا إرادة والكراهة بتحقق الإسلام الذي تقدم، ارتفع عنه التوفية، إذ لا وجود نفس له بما أسلم وجهه لله، فلذلك اختص وعيد القرآن كله بالنفس في نفاستها بإرادتها، وما تنشأ لها عليه من أحوالها وأفعالها ودعواها في ملكها وملكها، فمتى [نفست فتملكت -] ملكا أو تشرفت ملكا خرجت عن إسلامها، حتى ينالها سلب القهر منه، وإلزام الذل عنه، وبلمح من هذا المعنى اتصلت الآية التي بعدها بختم هذه الآية، وناظرت [رأس -] آية ذكر الإسلام، فإنما هو مسلم لله، وذو نفس متملك على الله، حتى يسلبه الله في العقبى أو يذله في الدنيا، فشمل هذا الوفاء لكل نفس أهل الكتاب وغيرهم، وعم الوفاء لكل من يعمه الجمع، كذلك خطاب القرآن، يبدأ بخصوص فيختم بعموم، ويبدأ بعموم فيثنيه تفصيل - انتهى. قال الْحَرَالِّي: ولما كان هذا الأمر نبوة ثم خلافة، ثم ملكا، فانتظم

بما تقدم من أول السورة أمر النبوة في التنزيل والإنزال، وأمر الخلافة في ذكر الراسخين في العلم، الذين يقولون: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وكانت من هجيري أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، يقنت بها في وتر صلاة النهار في آخر ركعة من المغرب - انتظم برؤوس تلك المعاني ذكر الملك الذي آتى الله هذه الأمة، وخص به من لاق به الملك، كما خص بالخلافة من صلحت له الخلافة، كما تعين للنبوة الخاتمة من لا يحملها سواه - انتهى. {قُلِ} قال الْحَرَالِّي: لعلو منزل هذه السورة كثر الإقبال فيها بالخطاب على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وجعل هو القائل لما كانت المجاورة معه، لأن منزلا القرآن ما كان منه لإصلاح ما بين الخلق وربهم يجيء الخطاب فيه من الله، سبحانه وتعالى، إليهم مواجهة، حتى ينتهي إلى الإعراض عند إياء من يابى منهم، وماكان لإصلاح ما بين الأمة ونبيها يجري الله الخطاب فيه على لسانه، من حيث توجههم بالمجاورة إليه، فإذا قالوا قولا يقصدونه به، قال الله

{اللهم مالك الملك}

عز وجل: قل لهم. ولكون القرآن متلوا ثبتت فيه كلمة: "قُلِ " انتهى. {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} قال الْحَرَالِّي: فأقنعه، - صلى الله عليه وسلم -، ملك ربه، فمن كان منه ومن آله وخلفائه وصحابته، يكون من إسلامه وجهه لربه إسلام الملك كله الذي منه شرف الدنيا لله، فلذلك لم يكن، - صلى الله عليه وسلم -، يتظاهر بالملك، ولا يأخذ مآخذه، لأنه كان نبيا عبدا، لا نبيا ملكا، فأسلم الملك لله، كذلك خلفائه، أسلموا الملك [لله -]، فلبسوا الخلقان والمرقعات، واقتصروا على شظف العيش، ولانوا في الحق، وحملوا جفاء الغريب، واتبعوا أثره في العبودية، فأسلموا الملك لله، سبحانه وتعالى، ولم ينازعوه شيئا منه، حمل عمر، رضي الله تعالى عنه، قربه على ظهره، في زمن خلافته، حتى سكبها في دار امرأة من الأنصار في أقصى المدينة. فلما جاء الله بزمن الملك، واستوفيت أيام الخلافة، عقب وفاء زمان النبوة، أظهر الله، سبحانه وتعالى، الملك في أمة محمد، - صلى الله عليه وسلم -، وكما خصص بالنبوة والإمامة بيت محمد وآل محمد، - صلى الله عليه وسلم -، وخصص بالخلافة فقراء المهاجرين،

خصص بالملك الطلقاء الذين كانوا عتقاء الله ورسوله، لينال كل من رحمة [الله -] وفضله، التي ولى جميعها نبيه، - صلى الله عليه وسلم -، كل طائفة على قدر قربهم منه، حتى اختص بالتقدم قريشا ما كانت، ثم العرب ماكانت، إلى ماصار له الأمر بعد الملك من سلطنة وتجبر، إلى ما يصير إليه من دجل، كل ذلك مخول لمن يخوله بحسب القرب والبعد منه. {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} في الايتاء إشعار بأنه تنويل من الله من غير قوة وغلبة، ولا مطاولة فيه. وفي التعبير بمن العامة للعقلاء، إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله، وأخص الناس بالبعد منه العرب، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب كما وقع منه ما وقع، وينتهي منه ما بقي إلى من نال الملك بسببها، وعن الاستناد إليها من سائر الأمم، الذين دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم وصنوف أهل الأقطار، حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض، فيعيده إلى إمام العرب الخاتم للهداية من ذريته ختمه، - صلى الله عليه وسلم -، للنبوة من ذرية آدم،

ويؤتيهم من المكنة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو شاء أحدهم أن يسير من المشرق إلى المغرب في خطوة لفعل" ومع ذلك فليسوا من الدنيا، وليست الدنيا منهم، فيوتيهم الله ملكا من ملكه، ظاهر هداية من هداه، شأفة عن سره الذي يستعلن به في خاتمة يوم الدنيا، ليتصل بظهوره ملك يوم الدين، ولذلك التلبس بشرف الدنيا والاستئثار بخيرها، قال أبو بكر لعمر، رضي الله تعالى عنهما، في وصيته: إذا جنيت فلتهجر يدك فاك حتى يشبع من جنيت له، فإن نازعتك نفسك في مشاركتهم، فشاركهم غير مستأثر عليهم، وإياك والذخيرة! فإن الذخيرة تهلك دين الإمام، وتسفك دمه، فالملك التباس بشرف الدنيا واسئثار بخيرها، واتخاذ ذخيرة منها. لما أرادوا أن يغيروا على عمر، رضي الله تعالى عنه، زيه عند إقباله على بيت المقدس، نبذ زيهم وقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام! فلن نلتمس العزة

بغيره، فمن التمس الشرف بجاه الدنيا فهو ملك بقدر ما يلتمس من شرفها، قل ذلك الحظ أوجل، وهو به من أتباع ملوك الدنيا، وكذلك من التمس الاستئثار بخيرها، واتخذ الذخيرة منها، كل ينال من الملك، ويكون من شيعة الملوك بحسب ما ينال ويحب من ذلك، حتى ينتهي إلى حشره مع الصنف الذي يميل إليه، فمن تذلل وتقلل وتوكل بعث مع الأنبياء والمرسلين والخلفاء، كما أن من تشرف بالدنيا واستأثر وادخر منها حشر مع الملوك والسلاطين. جلس عمر، رضي الله تعالى عنه، يوما وسلمان وكعب وجماعة، رضي الله تعالى عنهم، فقال: أخبروني أخليفة أنا أم ملك؟ فقال له سلمان، رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين، إن جبيت درهما من هذا المال فوضعته في غير حقه فأنت ملك، وإن لم تضعه إلا في حقه فأنت خليفة، فقال كعب: رحم الله تعالى، ما ظننت أن أحدا يعرف الفرق بين الخليفة والملك غيري،

فالتزام مرارة العدل وإيثار الغير خلافة، وتشبع في سبيلها، ومنال حلاوة الاستئثار بالعاجلة، شرفها وما لها، ملك وتحيز اتباعه - انتهى. {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} قال الْحَرَالِّي: من النزع، وهو الأخذ بشدة وبطش - انتهى. {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} قال الْحَرَالِّي: وفي كلمة النزع، بما ينبئ عنه من البطش والقوة، ما يناسب معنى الإيتاء، فهو إيتاء للعرب، ونزع من العجم، كما ورد أن كسرى رأى في منامه أنه يقال له: سلم ما بيدك لصاحب الهراوة، فنزع ملك الملوك من الأكاسرة والقياصرة، وخوله قريش ومن قام بأمرها، وانتحل الملك باسمها، من صنوف الأمم غربا وشرقا وجنوبا وشمالا، إلى ما يتم به الأمر في الختم، والعز - والله سبحانه وتعالى أعلم - عزة الله، سبحانه وتعالى، لأهله ولآل نبيه، - صلى الله عليه وسلم -، والأنصار والصلحاء من صحابته وعشيرته وأبنائهم وذرياتهم، الذين سلبهم الله ملك الدنيا

فحلاهم بعز الآخرة وبعزة الدين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ليكون في الخطاب إنباء بشرى لهم أنه أتاهم من العز بالدين ما هو خير من الشرف بملك الدنيا {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}. فالملوك، وإن تشرفوا بملك الدنيا -]، فليس لهم من عزة الدين شيء، أعزهم الله، سبحانه وتعالى، بالدين، تخدمهم الأحرار، وتتوطد لهم الأمصار، لا يجدون وحشة، ولا يحصرون في محل، ولا تسقط لهم حرمة حيثما حلوا وحيثما كانوا، استتروا أو أشتهروا، والمتلبسون بالملك لا يخدمهم إلا من استرقوه قهرا، يملكون تصنع الخلق، ولا يملكون محاب قلوبهم، محصورون في أقطار ممالكهم، لا يخرجون عنها، ولا ينتقلون منها، حتى يمنعهم من كمال الدين، فلا ينصرفون في الأرض ولا يضربون فيها، حتى يمتنع ملوك من الحج مخافة نيل الذل في غير موطن الملك، والله عز وجل يقول: {إن عبدا أصححت له جسمه، وأوسعت

عليه في رزقه، يقيم خمسة أعوام لا يفد على المحروم} فالملوك مملوكون بما ملكوا، وأعزاء الله ممكنون فيما إليه وجهوا، لا يصدهم عن تكملة أمر الدين وإصلاح أمر الآخرة صاد، ولا يردهم عنه راد لخروجهم من سجن الملك إلى سعة العز بعزة الله، سبحانه وتعالى، فقارض الله أهل بيت نبيه، - صلى الله عليه وسلم -، ورضي عنهم، ومن لم يرضه للملك بعز الإمامة ورفعة الولاية والاستيلاء على محاب القلوب، فاسترعاهم الله قلوب العالمين بما استرعى الملوك بعض حواس المستخدمين والمستتبعين، والذل مقابل ذلك العزة فإذا كان ذلك العز عزاً دينيا ربانيا عوضا عن سلب الملك، كان هذا الذل - والله تعالى أعلم - ذل أهل الدنيا في دنياهم الذي ألزمهم الله، سبحانه وتعالى إياه بما أذلتهم أنفسهم فاستعملتهم في شهواتها، وأذلهم أتباعهم فتوسلوا بهم إلى قضاء أعراضهم في أهوائهم، ويستذلهم من يظلمونه بما ينتصفون منهم، وينالهم من ذل

تضييع الدين، ويبدو على وجوههم من ظلمة الظلم ما يشهد ذلهم فيه أبصار العارفين - انتهى. {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كانت هذه الآية متضمنة تقلبات نفسانية في العالم القائم الآدمي، اتصل بها ذكر تقلبات في العالم الدائر، ليؤخذ لكل منها اعتبار من الآخر. ولما ظهر في هذه الآية افتراق في النزع، والإيتاء والإعزاز والأذلال، أبدى في الآية التالية توالج بعضها في بعض، ليؤذن بولوج العز في الذل، والذل في العز، والإيتاء في النزع، والنزع في الإيتاء، وتوالج المفترقات والمتقابلات بعضها في بعض. ولما كانت هذه السورة متضمنه لبيان الإحكام والتشابه في منزل الكتاب بحكم الفرقان، أظهر، تعالى، في آياتها ما أحكم وبين في خلقه وأمره، [وما التبس وأولج في خلقه وأمره -]، فكان من محكم آية في الكائن القائم الآدمي ما تضمنه إيتاء الملك ونزعه من الإعزاز والإذلال، وكان من الاشتباه إيلاج العز في الذل، وإيلاج الذل في العز، فلما صرح بالإحكام ببيان الطرفين في الكائن القائم الآدمي، وضمن الخطاب اشتباهه في ذكر العز والذل، صرح به في آية الكون الدائر، فذكر آية الآفاق، وهو الليل والنهار، بما يعاين فيها من التوالج، حيث ظهر ذلك فيها،

{وتولج النهار في الليل}

وخفي في توالج أحوال الكائن القائم، لأن الإحكام والاشتباه متراد بين الآيتين: آية الكائن القائم الآدمي، وآية الكون الدائر العرشي، فما وقع اشتباهه في أحدهما ظهر إحكامه في الآخر، فقال سبحانه وتعالى: {تُولِجُ} من الولوج، وهو الدخول في الشيء الساتر لجملة الداخل. {اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} فيه تفصيل من مضاء قدرته، فهو، سبحانه وتعالى، يجعل كل واحد من المتقابلين بطانة للآخر، والجأ فيه على وجه لا يصل [إليه -] منال العقول، لما في المعقول من افتراق المتقابلات، فكان في القدرة إيلاج المتقابلات بعضها في بعض، وإيداع بعضها في بعض، على وجه [لا - يتكيف بمعقول ولا ينال بفكر - انتهى. {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} قال الْحَرَالِّي: ولما جعل المتعاقبين من الليل والنهار متوالجين، جعل المتباطنين من الحي والميت مخرجين، فما ظهر فيه الموت بطنت فيه الحياة، وما ظهرت فيه الحياة بطن فيه الموت - انتهى. {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قال الْحَرَالِّي: فهذه سنة الله، سبحانه وتعالى، وحكمته في الكائن القائم، وفي الكون الدائر.

فأما في الكون الدائر فبإخراج حي الشجر والنجم من موات البذر والعجم، وبظهوره في العيان كان أحكم في البيان مما يقع في الكائن القائم. كذلك الكائن القائم يخرج الحي المؤمن الموقن من الميت الكافر الجاهل. {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} ويخرج الكافر الآبي من المؤمن الراحم {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أظهر، سبحانه وتعالى، بذلك وجوه الإحكام والاشتباه في آيتي خلقه، ليكون ذلك آية على ما في أمره، وليشف ذلك عما يظهر من أمر علمه وقدرته على من شاء من عباده، كما أظهر في ملائكته وأنبيائه، وكما خصص بما شاء من إظهار عظيم أمره في المثلين الأعظمين: مثل آدم وعيسى، عليهما الصلاة والسلام، فأنزلت هذه السورة لبيان الأمر فيما اشتبه على من التبس عليه أمر عيسى، عليه الصلاة والسلام، فهو، تعالى، أظهر من

موات الإنسانية ما شاء من الإحياء بإذنه، وأظهر في آدم، عليه الصلاة والسلام، ما شاء من علمه، حين علم آدم الأسماء كلها، كذلك أظهر في عيسى، عليه الصلاة والسلام، ما شاء من قدرته، كما أظهر في الخلق ما شاء من ملكه، فملك من شاء، ونزع الملك ممن شاء، وأعز من شاء، وأذل من شاء، وأظهر بالنهار ما شاء، وطمس بالليل ما شاء، وأولج المتقابلين بعضهما في بعض، وأخرج المتباطنين بعضهما من بعض - انتهى. {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقال الْحَرَالِّي: ولما ذكر، سبحانه وتعالى، هذا الإحكام والاشتباه في أمر العلية من الخلق، أهل شرف الملك، وأهل عزة الدين، ختم الخطاب بأمر الرزق الذي هو تتمة الخلق، وفيه من الإحكام والاشتباه نحو ما في الإيتاء والنزع، ولما فيه من الوزن والإيتاء بقدر، ختم بأعزيه. وهو الإرزاق الذي لا يقع على وزن، ولا يكون بحساب، وفيه إشعار بالإرزاق الختمي الذي يكون في آخر اليوم المحمدي للذين يوتيهم الله، سبحانه

وتعالى، ما شاء من ملكه وعزه وسعة رزقه بغير حساب. فكما ختم الملك لبني إسرائيل بملك سليمان، عليه الصلاة والسلام، في قوله سبحانه وتعالى: [{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} كذلك يختم لهذه الأمة بأن يرزقهم بغير حساب، حين تلقي الأرض بركاتها، وتتطهر من فتنتها، فتقع المكنة في ختم اليوم المحمدي بالهداية والهدنة، كما انقضت لبني إسرائيل بالملك والقوة - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما كان مضمون هاتين الآيتين بشرى بخصوص هذه الأمة وعمومها بالعز والملك وختم الرزق الذي لا حساب فيه، كان من الحق أن تظهر على المبشرين عزة البشرى، فلا يتولوا غيره، ولما قبض ما بأيدي الخلق إليه في إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، وأظهر إحاطة قدرته على كل شيء، وإقامة امتحانه بما أولج وأخرج، وأنبأ عن إطلاق حد العد عن أرزاقه، فسد على النفس الأبواب التي منها تتوهم الحاجة إلى الخلق، ونهى المؤمنين الذين كانت لهم عادة

{لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}

بمباطنة بعض كفرة أهل الكتاب وغيرهم من المشركين، ومن شملهم وصف الكفر أن يجروا على عادتهم في موالاتهم ومصافاتهم والحديث معهم، لأن المؤمنين يفاوضونهم بصفاء، والكافرون يتسمعون ويأخذون منهم بدغل ونفاق عليهم، كما قال تعالى: {هائئغ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} فنهاهم الله، سبحانه وتعالى، عما غاب عنهم خبرته وطيته. {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لأن في ذلك - كما قال الْحَرَالِّي: تبعيد القريب وتقريب البعيد، والمؤمن أولى بالمؤمن، كما قال، عليه الصلاة والسلام: "المؤمن [للمؤمن -] كالبيان، يشد بعضه بعضا" فأقواهم له ركن، وضعيفهم مستند لذلك الركن القوي، فإذا والاه قوي به مما يباطنه ويصافيه، وإذا اتخذ الكافر وليا من دون مؤمنه القوي، ربما تداعى ضعفه في إيمانه إلى ما ينازعه فيه من ملابسة أحوال الكافرين، كما أنهم لما أصاخوا إليهم إضاخة أوقعوا بينهم سباب الجاهلية [كما] في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ

تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} وكما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}. ولم يمنع، سبحانه وتعالى، من صلة أرحام من لهم من الكافرين، ولا من خلطتهم في أمر الدنيا، فيما يجري مجرى المعاملة من البيع والشراء والأخذ والعطاء، وغير ذلك ليوالوا في الدين أهل الدين، ولا يضرهم أن يباروا من لم يحاربهم من الكافرين - انتهى. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} قال الْحَرَالِّي: ففي إفهامه أن من تمسك بولاية المؤمنين فهو من الله في شيء، بما هو متمسك بعنان من هو له وسيلة إلى الله، سبحانه وتعالى، من الذين إذا رأوا ذكر الله - انتهى. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وهذا المحذور منه وهو، سبحانه وتعالى، كما قال الْحَرَالِّي: مجموع أسماء تعاليه المقابلة بأسماء أوصافهم التي مجموعها أنفسهم، وموجود النفس ما تنفس، وإذا كانت أنفس الخلق تنفس على ما دونها إلى حد مستطاعها، فكان ما حذره الله من نفسه أولى وأحق بالنفاسة في تعالى أوصافه وأسمائه أن تنفس على من

يغنيه فلا يستغني، ويكفيه فلا يكتفي، ويريه مصارف سد خلاته وحاجاته فلا ينصرف إليها ولا يتوجه نحوها، فهو، سبحانه وتعالى، يعذب من تعرف له بنفسه فلم يعرفه، أشد من عذاب من تعرف له بآياته فلا يعتبر بها، بما أن كل ما أبداه من نفسه بلا واسطة فهو أعظم مما أبداه بالواسطة من نعيم وعذاب، فلا أعظم من نعيم من تعرف له بنفسه فعرفه، ولا أشد من عذاب من تعرف له بنفسه فأنكره - انتهى. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} وقال الْحَرَالِّي: ولما كان الزائل أبدا مؤذنا بترك الاعتماد [عليه -]، أقام، تعالى، على المتمسك بما دونه حجة بزواله، فلا يستطيع الثبات عليه، عندما تناله [الإزالة] والإذهاب، ويصير الأمر كله لله، فأعلم أن المصير المطلق إلى الله، سبحانه وتعالى، فمن تعرف إليه فعرفه نال أعظم النعيم، ومن تعرف إليه فأنكره نال أشد الجحيم - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما كان حقيقة ما نهى عنه في الولاية والتقاة أمرا باطنا

{لو أن بينها وبينه أمدا}

يترتب عليه فعل ظاهر، فوقع التحذير فيه على الفعل، كرر فيه التحذير على ما وراء الفعل مما في الصدور، [و -] نبيه فيه على منال العلم خفية، فإنه قد يترك الشيء فعلا ولا تترك النفس الغية صغوا ونزوعا إليه في أوقات، وكرر في ختمه التحذير، ليتثنى التحذيران ترقيا من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم، كما تثنى الأمران في الظاهر والباطن، وكان في إجراء هذا الخطاب على لسان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حجة عليهم بما أنه بشر مثلهم، يلزمهم الاقتداء به فيما لم يبادروا إلى أخذه من الله في خطابه الذي عرض به نحوهم - انتهى. {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا} قال الْحَرَالِّي: وأصله مقدار ما يستوفي جهد الفرس من الجري، فهو مقدار ما يستوفي ظهور ما في التقدير إلى وفاء كيانه، {بَعِيدًا} من البعد، وهو منقطع الوصلة في حس أو معنى - انتهى. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} قال الْحَرَالِّي: أن تكون لكم أنفس فتجد ما عملت، ويلزمها وطأة هذه المؤاخذة، بل الذي ينبغي أن يبرأ العبد من نفسه تربئته من أن يكون له إرادة، وأن يلاحظ علم الله وقدرته في كلية ظاهره وباطنه، وظاهر الكون وباطنه - انتهى.

{وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} قال الْحَرَالِّي: فكان هذا التحذير الخاتم ابتدائيا، والتحذير السابق انتهائيا، فكان هذا رأفة سابقة، وكان الأول الذي ترتب على الفعل تحذيراً لاحقا متصلا بالمصير إلى الله، وهذا الخاتم مبتدئا بالرأفة من الله. والرأفة - يقول أهل المعاني - هي أرق الرحمة، والذي يفصح عن المعنى - والله سبحانه وتعالى أعلم - أنها عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، فمن تحقق أن الأمر لله، سبحانه وتعالى، وجد رفقه وفضله ورحمته عليه، لما بريء من دعوى شيء من نسبة الخير إلى نفسه، فأحبه لذلك. "قيل لأعرابي: إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله، فقال: أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه! فلذلك إذا تحقق العبد ذلك من ربه أحبه بما وحده، وبما وحده في العاجلة، فحماه أن يجد عمل نفسه في الآجلة - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما كان أعظم ما يترامى إليه مقامات السالكين إلى الله، سبحانه وتعالى، القاصدين إليه من مبدأ حال الذكر، الذي هو منتهي المقامات العشر المترتبة في قوله، سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ} محبة الله سبحانه

وتعالى، بما أن المحبة وصلة خفية يعرف الحاس بها كنهها، أقام، سبحانه وتعالى، الحجة على المترامين لدعوى القرب من الله، والادعاء في أصل ما يصل إليه القول من محبته، بما أنبأهم أن من انتهى إلى أن يحب الله، سبحانه وتعالى، فليتبع هذا النبي الذي أحبه، سبحانه وتعالى، [فمن اتبعه أحبه الله -]، فقامت بذلك الحجة على كل قاصد وسالك ومتقرب، فإن نهاية الخلق أن يحبوا الله، وعناية الحق أن يحب العبد، فرد، سبحانه وتعالى، جميع من أحاط به الاصطفاء والاجتباء والاختصاص، ووجههم إلى وجهة الاتباع لحبيبه الذي أحبه، كما قال، - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن موسى بين أظهركم ما وسعه إلا اتباعي" وإذا كان ذلك في موسى، عليه الصلاة والسلام، كان في المنتحلين لملته ألزم، بما هم متبعون لملته عندهم، وأصل ذلك أنه، - صلى الله عليه وسلم -، لما كان المبدأ في الأبد وجب أن يكون النهاية في المعاد، فألزم الله،

سبحانه وتعالى، على الخليقة ممن أحب الله، سبحانه وتعالى، أن يتبعوه، وأجرى ذلك على لسانه إشعارا بما فيه من الخير والوصول إلى الله، سبحانه وتعالى، من حيث إنه نبي البشرى، وليكون ذلك أكظم لمن أبى اتباعه - انتهى. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} قال الْحَرَالِّي: قد فسر - صلى الله عليه وسلم -، ظاهر اتباعه فقال: {فِي الْبَرِّ} وأصل حقيقته الإيمان بالله والإيثار لعباده والتقوى، وهي ملاك الأمر وأصل الخير، وهي اطراح استغناء العبد بشيء من شأنه، لا من ملك ولا من ملك، ولا من فعل ولا من وصف، ولا من ذات، حتى يكون عنده، كما هو عند ربه في أزله، قبل أن يكون موجردا لنفسه، ليكون أمره كله بربه في وجوده، كما كان أمره بربه قبل وجوده لنفسه، وقد فسر حق التقاة التي هي غاية التقوى، بأن يكون العبد يشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ويطيع فلا يعصي - انتهى. {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} قال الْحَرَالِّي: فإن من رد الأمانة إلى الله، سبحانه وتعالى، أحبه الله، فكان سمعه وبصره ويده ورجله، وإذا أحب الله عبداً أراحه وأنقذه من

مناله في أن يكون هو يحب الله، فمن أحب الله وله، ومن أحبه الله سكن في ابتداء عنايته، وثبته الله، سبحانه وتعالى - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: ولما كان من آية حب الله له، - صلى الله عليه وسلم -، ما أنزل عليه من قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أجرى لمن أحبه الله باتباعه حظ منه في قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي مطلقا، وذنب كل عبد بحسبه لأن أصل معنى الذنب أدنى مقام العبد، فكل ذي مقام أعلاه حسنته، وأدناه ذنبه، ولذلك في كل مقام توبة، حتى تقع التوبة [من التوبة]، فيكمل الوجود والشهود. ولما كان هذا الأمر من أخص ما يقع، وكان مما دونه مقامات خواص الخلق، فيما بين إسلامهم إلى محبتهم لله، سبحانه وتعالى، ختم، تعالى، بما يفهم أحوال ما يرجع إلى من دون هذا الكمال فقال: {وَاللَّهُ} أي الذي له الكمال كله {غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لمن [لم -] ينته لرتبة حب الله، بما يقع في أثناء أحواله من موجب المغفرة واستدعاء الرحمة، حيث لم يصل إلى المحبة، فمرحوم بعد مغفرة، وهو القاصد، ومغفور بعد محبة، وهو الواصل - انتهى.

{قل أطيعوا الله والرسول}

وقال الْحَرَالِّي: ولما ذكر، تعالى، ما تقدم من التحذيرين في رتبتين: أولاهما في الذكر نجاتين من موجب التحذيرين، فكان الاتباع موجب النجاة من التحذير الثاني الباطن، الذي مبدؤه الرأفة. وكان الطاعة موجب النجاة من التحذير الأول السابق، فمن أطاع الله ورسوله فيما نهى عنه من اتخاذ ولاية الكافرين من دون ولاية المؤمنين، سلم من التحذير الظاهر، ومن اتبع الرسول، فأحبه الله، سلم من التحذير الباطن، فختم الخطاب بما به بدأ، أو لما كانت رتبة الاتباع عليا وليتها رتبة الائتمار، فهو إما متبع على حب، وإما مؤتمر على طاعة، فمن لم يكن من أهل الاتباع، فليكن من أهل الطاعة، فكأن الخطاب يفهم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} فإن لم تستطيعوا أن تتبعوني فأطيعوني - انتهى. {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} قال الْحَرَالِّي: فكان إشارة ذلك إلى ما نهوا عنه من التولي، إلى ما ينتظم في معنى ذلك، وفيه إشعار بأن الأمر يكون فيه محوطا

بالرحمة، من حيث ذكر الرسول فيه، بما هو رحمة للعالمين {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي عن طاعة خطاب الله والرسول المحفوف باللطف من الله، سبحانه وتعالى، [والرحمة -] من رسول الله - انتهى. {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} قال الْحَرَالِّي: أفرد الأمر لله، لما كان وعيدا، إبقاء لرسوله، - صلى الله عليه وسلم -، في حيز الرحمة. ولما نفى عمن تولى أن يحبه، كان في إشعاره أن هذا الكفر عموم كفر، يداخل رتبا من الإيمان، من حيث نفى عنه الحب، فنفى عنه ما يناله العفو أو المغفرة والرحمة، ونحو ذلك، بحسب رتب تناقص الكفر، لأنه كفر دون كفر، [ومن فيه كفر -] فهو غير مستوف اتباع الرسول، بما أنه الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وإنما يحب الله من اتبع رسوله، فعاد الختم في الخطاب إلى إشعار من معنى أوله، وفي إلاحته أن حب الله للعبد بحسب توحيده، فكلما كان أكمل توحيدا كان أحب، وما سقط عن رتبة أدنى التوحيد، الذي هو محل الأمر بطاعة الله، سبحانه وتعالى، ورسوله، - صلى الله عليه وسلم -، كان كفرا بحسب ما يغطي على تلك الرتبة من التوحيد، لأن هذه السورة سورة إلهية إيمانية حبية توحيدية، فخطابها مخصوص بما يجري في حكم ذلك من الإيمان والكفر والمحكم والمتشابه، وكشف

غطاء الأعين، ورفع حجب القلوب. انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما كان منزل هذه السورة لإظهار المحكم والمتشابه، في الخلق والأمر، قدم، سبحانه وتعالى، بين يدي إبانة متشابه خلق عيسى، عليه الصلاة والسلام، وجه الاصطفاء المتقدم للآدمية ومن منها من الذرية، لتظهر معادلة خلق عيسى، عليه الصلاة والسلام، آخرا، لمتقدم خلق آدم، عليه الصلاة والسلام، أولا، حتى يكونا مثلين محيطين بطرفي الكون في علو روحه ودنو أديم تربته، وأنه، سبحانه وتعالى، نزل الروح إلى الخلق الآدمي، كما قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} وظهر أثر ذلك اللبس بما وقع لأهل الزيغ في عيسى، كما أنه رقى الخلق الطيني رتبة رتبة إلى كمال التسوية، إلى أن نفخ فيه من روحه، فكان ترقي الآدمي إلى النفحة لتنزل الروح إلى الطينة الإنسانية، التي تم بها وجود عيسى،

{إن الله اصطفى آدم}

عليه الصلاة والسلام، كما كمل وجود آدم، عليه الصلاة والسلام، بالنفخة. ولما كان أصل الإبداء نوراً عليا نزله الحق، سبحانه وتعالى، في رتب التطوير والتصيير والجعل، إلى أن بدأ عالما دنيويا محتويا على الأركان الأربعة. والمواليد الثلاثة، وخفيت نورانيته في موجود أصنافه، صفى الله، سبحانه وتعالى من وجود كلية ذلك هذا الخلق الآدمي، فكان صفي الله، فأنبأ الخطاب عن تصييره إلى الصفاء بالافتعال - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} قال الْحَرَالِّي: فاصطفاه من كلية مخلوقه الذي أبداه فسماه وملكوتا، خلقا وأمراً، وأجرى اسمه من أظهر ظاهره الأرضي، وأدنى أدناه، فسماه آدم، من أديم الأرض، على صيغة أفعل، التي هي نهاية كمال الآدمية والأديمية، فكان مما أظهر، تعالى، في اصطفاء آدم، ما ذكر جوامعه علي، رضي الله عنه، في قوله: لما خلق الله، سبحانه وتعالى، آدم أبان فضله للملائكة، وأراهم ما اختصه به من سابق العلم، من حيث علمه، عند استنبائه إياه، أسماء الأشياء

فجعل الله، سبحانه وتعالى، آدم محرابا وكعبة وباباً وقبلة، أسجد له الأبرار والروحانيين الأنوار، ثم نبه آدم على مستودعه، وكشف له خطر ما ائتمنه عليه، بعد أن سماه عند الملائكة إماما، فكان تنبيهه على خطر أمانته ثمرة اصطفائه - انتهى. {وَنُوحًا} وقال الْحَرَالِّي: أنبأ، تعالى، أنه عطف لنوح، عليه الصلاة والسلام، اصطفاء على اصطفاء آدم، ترقيا إلى كمال الوجود الآدمي، وتعاليا إلى الوجود الروحي العيسوي، فاصطفى نوحا، عليه الصلاة والسلام، بما جعله أول رسول بتوحيده، من حيث دحض الشرك، وأقام كلمة الإيمان بقول: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} لما تقدم بين آدم ونوح من عبادة الأصنام والأوثان، فكان هذا الاصطفاء اصطفاء باطنا لذلك الاصطفاء الظاهر، فتأكد الاصطفاء، وجرى من أهلكته طامة الطرفان مع نوح، عليه الصلاة والسلام، من الذر الآدمي، مجرى تخليص الصفاوات من خثارتها، [و -] كما صفى آدم من الكون كله، صفي نوحا، عليه الصلاة والسلام، وولده الناجين معه، من مطرح

الخلق [الآدمي -] الكافرين، الذين لا يلدون إلا فاجرا كفارا، فلم يكن فيهم، ولا في مستودع ذراريهم، صفاوة تصلح لمزية الإخلاص الذي اختص بصفوته نوح، عليه الصلاة والسلام، [{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} فكان ميثاق نوح، عليه السلام -] ما قام به من كلمه التوحيد ورفض الأصنام والطاغوت، التي اتخذها الظلمانيون من ذر آدم، فتصفى بكلمة التوحيد النورانيون منه، فكان نوح، عليه الصلاة والسلام، ومن نجا معه صفوة زمانه، كما كان آدم صفوة حنيه - انتهى. {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} وقال الْحَرَالِّي: فإثبات هذه الجملة بتشابه وتماثل تتعالى عن نحوه الإلهية، فأبان هذا الخطاب في عيسى، عليه الصلاة والسلام، اصطفاء من

جملة هذا الاصطفاء، فكما لم يقع فيمن سواه لبس من أمر الإلهية، فكذلك ينبغي أن لا يقع فيه هو أيضا لبس لمن يتلقن بيان الإحكام والتشابه من الذي أنزل الكتاب محكما ومتشابها، وأظهر الخلق باديا وملتبسا انتهى. وقال الْحَرَالِّي: في التعبير عن اصطفاء إبراهيم ومن بعده، عليهم الصلاة والسلام، في إشعار الخطاب، اختصاص إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، بما هو أخص من هذا الاصطفاء، من حيث انتظم في سلكه آله، لاختصاصه هو بالخلة، التي لم يشركه فيها أهل هذا الاصطفاء، فاختص نمط هذا الاصطفاء بآله، وهم - والله، سبحانه وتعالى، أعلم - إسحاق ويعقوب والعيص، عليهم الصلاة والسلام، ومن هو [منهم -] من ذريتهم، لأن إسماعيل، عليه السلام، اختص بالوصلة، بين إبراهيم الخليل، ومحمد الحبيب، صلوات الله وسلامه عليهم، فكان مترقي ما هو لهم من وراء هذا الاصطفاء، ولأن إنزال هذا الخطاب لخلق عيسى، عليه الصلاة والسلام، وهو من ولد داوود، عليه

الصلاة والسلام، فيما يذكر، وداوود من سبط لاوي بن إسرائيل، عليهم الصلاة والسلام، فيما ينسب، فلذلك - والله، سبحانه وتعالى، أعلم - جرى هذا الاصطفاء على آله، فظهر من مزية هذا الاصطفاء لآله ما كان من اصطفاء موسى، عليه السلام، بالتكلم، وإنزال الكتاب السابق {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} فكان هذا الاصطفاء استخلاص صفاوة من صفاوة نوح، عليه الصلاة والسلام، المستخلصين من صفاوة آدم، عليه الصلاة والسلام، وآل عمران - والله، سبحانه وتعالى، أعلم - مريم وعيسى، عليهما الصلاة والسلام ليقع الاصطفاء في نمط يتصل من آدم إلى عيسى، عليهما الصلاة والسلام، ليحوزوا طرفي الكون روحا وسلالة، والعالمون علم الله الذي له الملك، فكما أن الملك لابد له من علم يعلم به بدوه وظهوره، جعل الله ما أبداه من خلقه علما على ظهور ملكه بين

يدي ظهور خلقه في غاية يوم الدين عاما، وفي يوم الدنيا لمن شاء من أهل اليقين والعيان خاصا، وأعلى معناه بما ظهر في لفظه من الألف الزائدة على لفظ العلم، فاصطفى، سبحانه وتعالى، آدم، عليه الصلاة والسلام، على الموجودين في وقته، وكذلك نوحا وآل إبراهيم، وآل عمران، كلا على عالم زمانه، ومن هو بعد في غيب لم تبد صورته في العالم العياني، لم يلحقه بعد عند أهل النظر اسم العالم، وأشار، سبحانه وتعالى، بذكر الذرية من معنى الذرء، الذي هو مخصوص بالخلق، ليظهر انتظام عيسى، عليه الصلاة والسلام، في سلك الجميع ذرءا. وأنه لا يكون مع الذرء لبس الإلهه، لأن الله، سبحانه وتعالى، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فكان نصب لفظ الذرية تكييفا لهذا الاصطفاء المستخلص على وجه الذر، وهو الذي يسميه النحاة حالا - انتهى. وقال الْحَرَالِّي: لما كان من ذكر في الاصطفاء إنما ذكر توطئة لأمر عيسى، عليه الصلاة والسلام، اختص التفصيل بأمر عيسى، عليه الصلاة

والسلام، دون سائر من ذكر معه، وكان في هذه المناظرة بين السورتين حظ من التكافؤ، من حيث ذكر [أمر -] خلق آدم، عليه الصلاة والسلام، في سورة البقرة، فذكر خلق المثل المناظر له في السورة المناظرة لسورة البقرة، وهي هذه السورة، فعاد توقيت هذا القول إلى غاية هذا الاصطفاء. فأنبأ عن ابتداء ما اختص منه بعيسى، عليه الصلاة والسلام، من قول أم مريم امرأة عمران، حين أجرى على لسانها، وأخطر بقلبها أن تجعل ما في بطنها نذرا، ففصل ما به ختم من اصطفاء ال عمران. ولذلك عرفت أم مريم في هذا الخطاب بأنها امرأة عمران، ليلتئم التفصيل بجملته السابقة {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي} وكان نذر الولد شائعا في بني إسرائيل، إلا أنه كان عندهم معهوداً في الذكور، لصلاحهم لسدانة بيت الله والقيام به، فأكمل الله، سبحانه وتعالى، مريم لما كمل له الرجال، كما قال، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع" فذكر مريم بنت

{محررا}

عمران، عليها السلام، فكان من كمالها خروج والدتها عنها، وكان أصله من الأم التي لها الإشفاق، فكان خروجها أكمل من خروج الولد، لأنها لها في زمن الحمل والرضاع والتربية إلى أن يعقل الولد أباه، فحينئذ يترقى إلى حزب أبيه، ولذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - أرى إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، ذبح ولده عند تمييزه، وخرجت امرأة عمران عن حملها، وهو في بطنها، حينما هو أعلق بها - انتهى. {مُحَرَّرًا} قال الْحَرَالِّي: والتحرير طلب الحرية، والحرية رفع اليد عن الشيء من كل وجه، وفي الإيتان بصيغة التكثير والتكرير إشعار بمضي العزيمة في قطع الولاية عنه بالكلية، لتسلم ولايته لله تعالى - انتهى. {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا} قال الْحَرَالِّي: من الوضع، وهو إلقاء الشيء المستثقل {أُنْثَى} هي أدنى زوجي الحيوان المتناكح - انتهى. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} وفي قراءة إسكان التاء الذي [هو -] إخبار من الله، سبحانه وتعالى، عنها - كما قال الْحَرَالِّي - إلاحة معنى أن مريم عليها، الصلاة والسلام، وإن كان ظاهرها الأنوثة، ففيها حقيقة المعنى الذي ألحقها

بالرجال في الكمال، حتى كانت ممن كمل من النساء، لما لا يصل إليه كثير من رجال عالمها، فكان في إشعاره أن الموضوع كان ظاهره ذكرا وحقيقته انثى. {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} قال الْحَرَالِّي: وفي إشعار هذا القول تفصل مما تتخوفه أن لا يكون ما وضعته كفافا لنذرها، لما شهدت من ظاهر أنوثة ما وضعت، فجعلها الله، سبحانه وتعالى، لها أكمل مما اشتملت عليه عزيمتها من رتبة الذكورة التي كانت تعهدها، فكانت مريم، عليها السلام، أتم من معهود نذرها مزيد فضل من ربها عليها، بعد وفاء حقيقة مقصودها في نذرها - انتهى. {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بأن من جاء بشيء أو قربه فحقه أن يجعل له اسما، ورد أن السقط إذا لم يسم يطالب من حقه أن يسميه فيقول يارب، أضاعوني، فكان من تمام أن وضعتها أن تسميها، فيكون إبداؤها [لها -] وضع عين وإظهار اسم، لما في وجود الاسم من كمال الوجود في السمع، كما هو في العين، ليقع التقرب والنذر بما هو كامل الوجود عينا واسما. ولما كانت محررة لله، سبحانه وتعالى، كان حقا أن يجري الله، سبحانه وتعالى، إعاذتها قولا، كما هو جاعلها معاذة كونا، من حيث هي له وما كان في حمى الملك لا يتطرق إليه طريدة، فقالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ}

وفي قول: {وَذُرِّيَّتَهَا} إشعار بما أوتيته من علم بأنها ذات ذرية، فكأنها نطقت عن غيب أمر الله، سبحانه وتعالى، مما لا يعلمه إلا الله، فهو معلمه لمن شاء. ولما كان من في حصن الملك وحرزه بجواره بعيدا ممن أحرقه بنار البعد، وأهانه بالرجم، حققت الإعاذة بقولها: {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وفي هذا التخليص لمريم، عليها السلام، بالإعاذة ولذريتها حظ من التخليص المحمدي لما شق صدره ونبذ حظ الشيطان منه، وغسل قلبه بالماء والثلج في البداية الكونية، وبماء زمزم في البداية النبوية عند الانتهاء الكوني، فلذلك كان لمريم ولذريتها بمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، اتصال واصل، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أن أولى الناس بعيسى ابن مريم، من أجل أنه ليس بيني وبينه نبي" وبما هو حكم أمامه في خاتمة يومه وقائم من قومة دينه. ولما أخبر بدعائها أخبر بإجابتها فيه فقال: {فَتَقَبَّلَهَا} فجاء بصيغة التفعل متطابقة لقولها: {فَتَقَبَّلْ} ففيه إشعار بتدرج وتطور وتكثر، كأنه يشعر

قوله: {نباتا حسنا}

بأنها مزيد لها في كل طور تتطور إليه، من حيث لم يكن: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي} فلم تكن إجابتها: {فَتَقَبَّلَهَا} فيكون إعطاء واحدا منقطعا عن التواصل والتتابع، فلا تزال بركة تحريرها متجددا لها في نفسها وعائدا بركتة على أمها، حتى تترقى إلى العلو المحمدي فتكون في أزواجه ومن يتصل به - انتهى. {رَبُّهَا} قال الْحَرَالِّي: وظهر سر الإجابة في قوله، سبحانه وتعالى: {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} حيث لم يكن: {بتقبل} - جريا على الأول. ولما أنبأ القبول عن معنى ما أوليته باطنا، أنبأ الإنبات عما أوليته ظاهراً في جسمانيتها، وفي ذكر الفعل من أفعل في قوله {وَأَنْبَتَهَا} والاسم من "فعل" في قوله: {نَبَاتًا حَسَنًا} إعلام بكمال الأمرين: من إمدادها في النمو، الذي هو غيب عن العيون، وكمالها في ذاتية النبات الذي هو ظاهر للعين، فكمل في الإنباء والوقوع حسن التأثر، وحسن الأثر، فأعرب عن إنباتها ونباتها معنى حسنا - انتهى.

{كلما دخل عليها زكريا المحراب}

وقال الْحَرَالِّي: وقد أنبأ سبحانه وتعالى، في هذه السورة الخاصة بقصة مريم، عليها الصلاة والسلام، من تقبلها وإنباتها وحسن سيرتها، بما نفى اللبس في أمرها وأمر ولدها، لأن المخصوص بمنزل هذه السورة ما هو في بيان رفع اللبس الذي ضل به النصارى، فيذكر في كل سورة ماهو الأليق والأولى بمخصوص منزلها، فلذلك ينقص الخطاب في القصة الواحدة في سورة ما يستوفيه في سورة أخرى، لاختلاف مخصوص منزلها، كذلك الحال في القصص المتكررة في القرآن، من قصص الأنبياء، وما ذكر فيه لمقصد الترغيب والتثبيت والتحذير، وغير ذلك من وجوه التنبيه - انتهى وفيه تصرف. {وَكَفَّلَهَا} قال الْحَرَالِّي: من الكفل، وهو حيازة الشيء من جميع جهاته، حتى يصير عليه كالفلك الدائر {زَكَرِيَّا} وفي قراءة التشديد إنباء بأن الله سبحانه وتعالى، هو في الحقيقة كفيلها، بما هو تقبلها، وفيه استخلاص لزكرياء من حيث جعله يد وكالة له فيها. انتهى. {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} وقال الْحَرَالِّي: هو صدر البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة وجهد حرب، {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} وذلك

كما وجد عند خبيث بن عدي الأنصاري، رضي الله تعالى عنه، قطف العنب - كما سيأتي في آخر المائدة - ومثل ذلك كثير في هذه الأمة. وفي هذا العبارة، أي من أولها، إلاحة لمعنى حسن كفالته وأنه كان يتفقدها عند تقدير حاجتها إلى الطعام، بما تفيده كلمة {كُلَّمَا} من التكرار، فيجد الكفيل الحق قد عاجلها برزق من غيب بما هو، سبحانه وتعالى، المتولي لإنباتها، ليكون إنباتها من غيب رزقه، فتصلح لنفخ روحه ومستودع كلمته، ولا يلحقها بعد الإعاذة ما فيه مس من الشيطان الرجيم، الذي أعاذها الله، سبحانه وتعالى، منه بكثرة الاختلاط في موجودات الأرزاق، فكان من حظها أن تولى الله، سبحانه وتعالى، إرزاقها من غيب، إلا ما يطيبه من باد، وليكون حسن نباتها من أحسن رزق الله، سبحانه وتعالى، كما يقال: من غدى بطعام قوم غذى بقلوبهم، ومن غذى بقلوبهم آل إلى منقلبهم.

وكانت هي مثل ما كفلها كافلها ظاهراً كلفته باطنا، حين أبدى الله سبحانه وتعالى له من أمره مالم يكن قبل بداله، فكان لمريم، عليها الصلاة والسلام، توطئة في رزقها، لما يكون كماله في حملها، فيكون رزقها بالكلمة ابتداء ليكون حملها بالكلمة، فعند ذلك طلب زكريا، عليه السلام، نحو ما عاين لها، من أن يرزقه الولد في غير إبانه، كما رزق مريم الرزق في غير أوانه، وفي تعيين محلها بالمحراب ما يليح معنى ماذكر من رجوليتها باطنا، من حيث إن محل النساء أن يتأخرن، فأبدى الله، سبحانه وتعالى، في محلها ذكر المحراب إشارة بكمالها. والمحراب صدر البيت المتخذ للعبادة، وفي لزومها لمحرابها في وقت تناول الرزق إعلام بأن الحبيس والمعتكف بيته محرابه، ومحرابه بيته، بخلاف من له متسع في الأرض، ومحل من غير بيت الله، إنما المساجد بيوت أهل الله المنقطعين إليه، فهو محلهم في صلاتهم، ومحلهم في تناول أرزاقهم، ففيه إشعار بحضورها، وحضور أهل العكوف حضور سواء في صلاتهم وطعامهم، ولذلك أنمى حال العبد عند ربه، بما هو عليه في حال تناول طعامه وشرابه، فأهل

{قال يا مريم أنى لك هذا}

الله سواء محياهم ومماتهم، وأكلهم وصلاتهم، من غفل عند طعامه قلبه، لم يستطع أن يحضر في صلاته قلبه، ومن حضر عند طعامه قلبه، لم يغب في صلاته قلبه، وفي ذكر الرزق شائعا إشعار بأنها أنواع من أرزاق، من حيث إنه لو اختص يخص به ماهو أخص من هذا الاسم - انتهى. {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} قال الْحَرَالِّي: كلمة {أَنَّى} تشعر باستغرابه وجود ذلك الرزق من وجوه مختلفة: من جهة الزمن؛ أنه ليس زمانه، ومن جهة المكان؛ أنه ليس مكانه، ومن جهة الكيف ووصوله إليها؛ أنه ليس حاله. وفي ذكر الضمير في قوله: {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إيذاد بنظرها إلى مجموع حقيقة ذلك الرزق، لا إلى أعيانه، فهو إنباء عن رؤية قلب، لا عن نظر عين، لأن {هُوَ} كلمة إضمار جامعة لكل ما تفصلت صورة مما اتحد مضمره، ولما لم يكن [من معهود ما أظهرته حكمته، سبحانه، مما يجريه على معالجات أيدي الخلق، قالت: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ذي الجلال والإكرام، لأن ما خرج -] من معهود معالجة الحكمة فهو من عنده، وما كان مستغربا فيما هو من عنده فهو من لدنه، فهي ثلاث رتب: رتبة لدنيه، ورتبة عندية، ورتبة

حكمية عادية، فكان هذا من وسط الثلاث، كما قال تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} حيث كان مستغربا عند أهل الخصوص، كما قال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} والإمر العجب، ولعلو رتبته عن الرتبة العادية، جرى النبأ عنه مضافا إلى الاسم العظيم، الذي هو مسمى الأسماء كلها، من حيث لم يكن: {مِنْ عِنْدِ ربي} لما في ذكر اسم الربوبية من إشعار بمادة أو قريب منها، أو ما كان من نحوها، كما قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} لما كان من عادته المكنة على الملوك، وكان ممكنا فيما أحاط به موجود الأركان الأربعة - انتهى. {إِنَّ اللَّهَ} قال الْحَرَالِّي: في تجديد الاسم العظيم في النبأ إشعار باتساع النبأ وإيذان وإلاحة بأن ذلك يكون لك، ولمن شاء الله، كما هو لي بما شاء الله، من حيث لم يكن: "إنه" فيكون مليحا لاختصاص ما بها، ويؤيده عموم قولها: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} وقولها: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} يشعر بأنه عطاء متصل، فلا يتحدد ولا يتعدد، فهو رزق لا متعقب عليه، لأن كل محسوب في

{هنالك دعا زكريا ربه}

الإبداء محاسب عليه في الإعادة، فكان في الرزق بغير حساب من علاج الحكمة بشرى برفع الحساب عنهم في المعاد وكفالة بالشكر عنه، لأن أعظم الشكر لرزق الله، سبحانه وتعالى، معرفة العبد بأنه من الله تعالى، إنما يشكر رزق الله من أخذه من الله، سبحانه وتعالى - انتهى. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} قال الْحَرَالِّي: لما أشهده الله، سبحانه وتعالى، أنه يخرق عادته لما شاء بكلمته في حق كفيلته في الظاهر، الكافلة له في هذا المعنى، دعا ربه الذي عوده بالإحسان [أن -] يرزقه ولداً في غير إبانه، كما رزق مريم رزقا في غير زمانه فوجب دعاؤه - انتهى. قال: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} قال الْحَرَالِّي: طلب عليه من باطن الأمر، كما قال، سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} وكما قال فيه {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} لأن كل ما كان من {لَدُنَّ} فهو

{فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب}

أبطن من {عِنْدَ}. {ذُرِّيَّةٌ} فيه إشعار بكثرة ونسل باق، فأجيب بولد فرد. لما كان زمان انتهاء في ظهور كلمة الروح، وبأنه لا ينسل، فكان يحيى حصورا لغلبة الروحانيه على إنسانية - انتهى. {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} قال الْحَرَالِّي: أعلم الداعي بما لله، سبحانه وتعالى، من الإجابة والقرب وسيلة في قبول دعائه - انتهى. {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} قال الْحَرَالِّي: فيه إشعار بسرعة إجابته ولزومه معتكفه وقنوته في قيامه، وأن الغالب على صلاته القيام، لأن الصلاة قيام، وسجود يقابله، وركوع متوسط، فذكرت صلاته بالقيام إشعارا بأن حكم القيام غالب عليها - انتهى. {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} قال الْحَرَالِّي: فذكر الاسم الأعظم المحيط معناه بجميع [معاني -] الأسماء، ولم يقل: {إِنَّ رَبَّكَ} لما كان أمر إجابته من وراء الحكمة العادية. وفي قوله: {بِيَحْيَى} مسمى بصيغة الدوام - مع أنه كما قيل: قتل - إشعار بوفاء حقيقة الروحانية الحياتية فيه دائما، لا يطرقه طارق موت الظاهر، حيث قتل شهيداً - انتهى.

{مصدقا بكلمة}

{مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ} قال الْحَرَالِّي: فكان عيسى، عليه الصلاة والسلام، كلمة الله، سبحانه وتعالى، ويحيى مصدقه بما هو منه كمال كلمته حتى إنهما في حماس واحدة، ففي قوله: {مِنَ اللَّهِ} إشعار بإحاطته في ذات الكلمة - انتهى. {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} وقال الْحَرَالِّي: وهو من الحصر وهو المنع عما شأن الشيء أن يكون مستعملا فيه - انتهى. {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} قال الْحَرَالِّي: من العقر، وهو البلوغ إلى حد انقطاع النسل هرما - انتهى. {إِلَّا رَمْزًا} قال الْحَرَالِّي: والرمز تلطف في الإفهام بإشارة تحرك طرف، كاليد واللحظ والشفتين ونحوها، والغمز أشد منه، [باليد -] ونحوها - انتهى. {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ} وقال الْحَرَالِّي: من العشو، وأصل معناه إيقاد نار على علم لمقصد هدي أو قرى ومأوى على حال وهن، فسمى به عشي النهار، لأنه وقت فعل ذلك، ويتأكد معناه في العشاء، ومنه سمي الطعام العشاء. {وَالْإِبْكَارِ} وأصله المبادرة لأول الشيء، ومنه التبكير، وهو السرعة، والباكورة، وهو أول ما يبدو من الثمر، فالإبكار اقتطاف زهرة النهار، وهو أوله - انتهى. {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} فمن هذا الاصطفاء - والله سبحانه

{يا مريم اقنتي لربك واسجدي}

وتعالى أعلم - كما قال الْحَرَالِّي: أن خلصت من الاصطفاء الأول العبراني، إلى اصطفاء على عربي، حتى أنكحت من محمد، - صلى الله عليه وسلم -، النبي العربي، قال - صلى الله عليه وسلم - لخديجة، رضي الله تعالى عنها: "أما شعرت أن الله، سبحانه وتعالى، زوجني معك مريم بنت عمران" - انتهى. {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} قال الْحَرَالِّي: وكان من اختصاص هذا الاصطفاء العلي - أي الثاني - ما اختصها من الخطاب بالركوع الذي لحقت به بهذه الأمة الراكعة التي أطلعها الله، سبحانه وتعالى، من سر عظمته، التي هي إزاره، على مالم يطلع عليه أحداً ممن سواها في قوله: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} كما قال لبني إسرائيل عند الأمر بالملة المحمدية: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} إلى ما يقع من كمال مابشرت به، حيث يكلم الناس كهلا في خاتمة اليوم المحمدي، ويكمل له الوجود الإنساني، حيث يتزوج ويولد له - كما ذكر - وذلك كله فيما يشعر به [ميم التمام في ابتداء الاسم وانتهائه، وفيما بين

{ويكلم الناس في المهد}

التمامين من كريم التربية لها، ما يشعر به الراء من تولي الحق لها في تربيتها ورزقها، وما تشعر به الياء من كمالها الذي اختصت به على عالمها - انتهى. {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} قال الْحَرَالِّي: لدى هي "عند" حاضرة لرفعة ذلك الشيء الذي ينبأ به عنه - انتهى. {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [قال الْحَرَالِّي: جمع قلم، وهو مظهر الآثار المنبئة عما وراءها من الاعتبار - انتهى]. {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا} قال الْحَرَالِّي: صيغة مبالغة مما منه الوجاهة، وأصل معناه الوجه، وهو الملاحظ المحترم بعلو ظاهر فيه - انتهى. {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} قال الْحَرَالِّي: هو موطن الهدو والسكون للمتحسس اللطيف، الذي يكون بذلك السكون والهدو قوامه - انتهى. {وَكَهْلًا} قال الْحَرَالِّي: والكهولة سن من أسنان أرابيع الإنسان، وتحقيق حده

{ولم يمسسني بشر}

أنه الربع الثالث الموتر لشفع متقدم سنيه من الصبا والشباب، فهو خير عمره، يكون فيمن عمره ألف شهر - بضع وثمانون سنة - من حد نيف وأربعين إلى بضع وستين، إذا قسم الأرباع لكل ربع إحدى وعشرون سنة صبا، وإحدى وعشرون شبابا، وإحدى وعشرون كهولة، وإحدى وعشرون شيوخة، فذلك بضع وثمانون سنة - انتهى. {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} قال الْحَرَالِّي: والبشر هم اسم المشهود من الآدمي في جملته بمنزلة الوجه في أعلى قامته من معنى البشرة، وهو ظاهر الجلد. [انتهى]. {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} قال الْحَرَالِّي: هو متخمر الماء والتراب، حيث يصير متهيئا لقبول وقوع الصورة فيه. {كَهَيْئَةِ} وهي كيفية وضع أعضاء الصورة، بعضها من بعض، التي يدركها ظاهر الحق - انتهى. {فَأَنْفُخُ} قال الْحَرَالِّي: من النفخ، وهو إرسال الهواء من منبعثه بقوة. [انتهى]. {وَأُبْرِئُ} قال الْحَرَالِّي: من الإبراء وهو تمام التخلص من الداء، والداء ما يوهن القوى ويغير الأفعال العامة للطبع والاختيار - انتهى.

{فلما أحس عيسى}

{الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} والكمه قال الْحَرَالِّي: ذهاب البصر في أصل الخلقة، كالذي يولد أعمى، أو يعمى قبل أن يميز الأشياء أو يدركها. وقال الْحَرَالِّي: البرص عبارة عن سوء مزاج يحصل بسببه تكرج، أي فساد بلغم يضعف القوة المغيرة عن إحالته إلى لون الجسد - انتهى. {وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} قال الْحَرَالِّي: من الادخار، افتعال من الدخرة، قلب حريفاه الدال لتوسط الدال بين تطرفهما في متقابلي حالهما، والدخرة ما اعتنى بالتمسك به عدة لما شأنه أن يحتاج إليه فيه، فما كان لصلاح خاصة الماسك فهو ادخار، وما كان لتكسب فيما يكون من القوام فهو احتكار - انتهى. {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى} قال الْحَرَالِّي: من الإحساس، وهر منال الأمر بادرا إلى العلم والشعور الوجداني - انتهى.

{ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}

{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} قال الْحَرَالِّي: جمع حواري، وهو المستخلص نفسه في نصرة من تحقق نصرته، بما كان من إيثاره على نفسه بصفاء وإخلاص، لا كدر فيه ولا شوب - انتهى. {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} قال الْحَرَالِّي: والمكر إعمال الخديعة والاحتيال في هدم بناء ظاهر كالدنيا، والكيد إعمال الخدعة والاحتيال ففي هدم بناء باطن كالتدين والتخلق، وغير ذلك، فكان المكر خديعة حس، والكيد خديعة معنى - انتهى. {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} قال الْحَرَالِّي: جعل، سبحانه وتعالى، آدم، عليه الصلاة والسلام، مثلا مبدؤه السلالة الطينية، وغايته النفخة الأمرية، وكان عيسى، عليه الصلاة والسلام، مثلا مبدؤه الروحية والكلمة، وغايته التكمل بملابسة السلالة الطينية، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: إنه عند نزوله في خاتمة اليوم المحمدي يتزوج امرأة من بني أسد، ويولد له غلام، لتكمل [به -] الآدمية في العيسوية، كما كملت العيسوية في الآدمية،

{ثم نبتهل}

وليكونا مثلا واحدا أعلى جامعا، {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} - انتهى. {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} وقال الْحَرَالِّي: الابتهال طلب البهل، والبهل أصل معناه التخلي والضراعة في مهم مقصود - انتهى. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} والقصص كما قال الْحَرَالِّي: تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئا بعد شيء، على ترتيبها، في معنى قص الأثر، وهو اتباعه حتى ينتهي إلي محل ذي الأثر - انتهى. * * * * انتهت نصوص تفسير الْحَرَالِّي المستخرجة من الجزء الرابع من تفسر البقاعي: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" من مطبوعات دائرة المعارف العثمانية 1 4 3 بالهند ط 1 - 1391هـ 1971 م

§1/1