تذكره الآباء وتسليه الأبناء = الدراري في ذكر الزراري

ابن العديم

الدراري في ذكر الذراري

الدراري في ذكر الذراري الباب الأول في اكتساب الأولاد والحث عليه قال النبي (: "تناسلوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة" وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ألا وإن ولده من كسبه" وقال عمر رضي الله عنه: (إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله نسمة تسبحه وتذكره) . وقال: (تكثروا من العيال فإنكم لا تدرون ممن ترزقون) . وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أن الاشتغال بالنكاح أفضل

من التخلي لنفل العبادة من حيث أنه يفضي إلى الولد الذي به بقاء العالم إلى الأمد الموعود، وعود مصلحة الولد إلى الوالد حياً وميتاً بنصره لوالده في حال حياته، والنفقة عليه على تقدير الحاجة إليه وإمداده إياه بأنواع الثواب بعد وفاته من الدعاء والصدقة والترحم عليه بسببه. ولعمري إن التسبب في إيجاد مثل مولانا السلطان الذي نشر العلوم في أيامه، وأحيا الفقراء والمساكين بجوده وإنعامه، وحبب العلماء إلى الناس بما ظهر لهم من لطفه بهم وإكرامه، أفضل عند الله تعالى من صلاة الدهر نفلاً وصيامه. ولو شاهد أبو حنيفة رضي الله عنه عصره وزمانه، ورأى بره للرعية وإحسانه، لجعله دليله في المسألة وبرهانه، ولسلم له الخصم ما نازعه فيه، فمثل هذا الدليل في إبانة الحجة يكفيه. دخل عثمان بن عفان رضي الله عنه على ابنته وهي عند عبد الله ابن خالد بن أسيد فرآها مهزولة فقال: لعل بعلك يغيرك، قالت: لا. فقال لزوجها: لعلك تغيرها، قال: لا. قال: فافعل فلغلام

يزيده الله في بني أمية أحب إلي منها. قال أرسطاطاليس: لما كان البقاء مما استأثر به القديم جل ذكره لجلالته وعلو قدره وكان محبوباً إلى النفوس كلها ناطقها وصامتها، ولما لم يمكن الحيوان البقاء بشخصه أحب البقاء بنوعه فأوجد المثل. قال الله عز وجل في كتابه الكريم فيما يحكي عن زكريا عليه السلام ودعائه في الولد: (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين (يعني: لا تذرني وحيداً لا ولد لي. وقالت أعرابية تتمنى ولداً: يا حسرتا على ولد ... أشبه شيء بالأسد إذا الرجال في كبد ... تغالبوا على نكد كان له حظ الأشد

الباب الثاني في المنع من اكتسابهم والتحذير منهم

الباب الثاني في المنع من اكتسابهم والتحذير منهم قال الله عز وجل: (إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم (وقال النبي (: "لا يكن أكثر شغلك بأهلك وولدك، فإن يكن أهلك وولدك أولياء الله لا يضيع أولياءه، وإن يكونوا أعداء الله فاهمك وشغلك بأعداء الله". وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (: "ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه حتى يفر به من شاهق إلى شاهق ومن جحر إلى جحر كالثعلب الذي يروغ" قالوا: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: "إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي الله عز وجل فعند ذلك حلت العزوبة" قالوا: يا رسول الله أليس أمرتنا بالتزويج! قال: "بلى، ولكن إذا كان في ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يد أبويه، فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته

وولده، فإن لم يكن له زوجة ولا ولد فعلى يدي قرابته وجيرانه" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فيوردونه موارد الهلكة". قيل لعيسى عليه السلام: هل لك في الولد؟ فقال: (ما حاجتي إلى من إن عاش كدني وإن مات هدني) . وسئل فيلسوف: لم لا تطلب الولد؟ فقال: من محبتي للولد. وقيل لآخر: لو تزوجت فكان لك ولد تذكر به، فقال: والله ما رضيت الدنيا لنفسي فأرضاها لغيري. وقيل لبعض الأعراب: لم لا تتزوج؟ فقال: مكابدة العزوبية أصلح من الاحتيال لمصلحة العيال. وقيل لأعرابي: لم أخرت التزويج إلى الكبر؟ فقال: لأبادر ولدي باليتم قبل أن يسبقني بالعقوق.

قال المتنبي: وما الولد المحبوب إلا تعلة ... ولا الزوجة الحسناء إلا أذى البعل وما الدهر أهلاً أن تؤمل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل

الباب الثالث في مدح الأولاد وذكر النعمة بهم

الباب الثالث في مدح الأولاد وذكر النعمة بهم قال الله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا (وقال (: "الولد ثمرة القلوب" وقال عليه الصلاة والسلام: "الولد ريحان من الجنة" وقال عليه الصلاة والسلام: "البنات حسنات والبنون نعم والنعم مسؤول عنها". وقال الفضيل: ريح الولد من الجنة. وكان يقال: ابنك

ريحانتك سبعاً ثم عدو أو صديق. قال الحجاج لابن القربة: أي الثمار أشهى؟ فال: الولد، وهو من نخل الجنة. غضب معاوية على يزيد ابنه فهجره، فقال له الأحنف: يا

أمير المؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، وبهم نصول على كل جليلة، إن غضبوا فأرضهم وإن سألوك فأعطهم، وإن لم يسألوك فابتدئهم، ولا تنظر إليهم شزراً فيملوا حياتك ويتمنوا وفاتك، فقال معاوية: يا غلام ائت يزيد فأقرئه السلام واحمل إليه بمائتي ألف ومائتي ثوب، فقال يزيد: من عند أمير المؤمنين؟ قال: الأحنف، قال: علي به، فقال: يا أبا بحر، كيف كانت القصة، فحكاها، فقال: أما أنا فسأعلي سمكها، وشاطره الصلة. وقالت أعرابية ترقص ابنها: يا حبذا ريح الولد ... ريح الخزامى في البلد أهكذا كل ولد ... أم لم يلد قبلي أحد أنشد أبو تمام حبيب بن أوس الطائي:

وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم ... لامتنعت عيني من الغمض وقال الشاعر: من كان ذا عضدٍ يدرك ظلامته ... إن الذليل الذي ليست له عضد تنبو يداه إذا ما قل ناصره ... وتأنف الضيم إن أثرى له ولد

الباب الرابع في ذمهم وما يلحق الآباء من النصب بسببهم

الباب الرابع في ذمهم وما يلحق الآباء من النصب بسببهم قال الله عز وجل: (إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم (وقال النبي (: "الولد مبخلة مجبنة مجهلة" ويروى "محزنة". وقال عليه السلام لولد فاطمة رضي الله عنها: "إنكم لتجبنون وإنكم لتبخلون وإنكم لمن ريحان الجنة". وقال عليه السلام: "من

علامات الساعة أن يكون الولد غيظاً، والمطر قيظاً، وتفيض الأشرار فيضاً"ويقال: الولد إن عاش كدك وإن مات هدك. وقيل: إذا صلح قميص الوالد لولده تمنى موته. ومن كلام الجاهلية: ابنك يأكلك صغيراً ويرثك كبيراً، وابنتك تأكل من وعائلك وترث في أعدائك، وابن عمك عدوك وعدو عدوك، وزوجتك إذا قلت لها قومي قامت. قيل لإنسان: إن فلاناً تزوج، فقال: ركب البحر، فقيل: وقد جاءه ولد، فقال: وكسر به المركب. قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: خدمك بنوك، فقال: بل أغناني الله عنهم.

لما قبض ابن عيينة صلة الخليفة قال لأصحابه: قد وجدتم مقالاً فقولوا: متى رأيتم أبا عيال أفلح، كانت لنا هرة ليس لها جراء، فكشفت عن القدور وعاثت في الدور. نظر عمر رضي الله عنه إلى رجل يحمل ابناً له على عاتقه فقال: ما هذا منك؟ قال: ابني، قال: أما إنه إن عاش فتنك وإن مات حزنك. قال الحسن: إذا أراد الله بعبدٍ خيراً لم يشغله في دنياه بأهل ولا ولد. رأى ضرار ابن عمرو الضبي من ولده ثلاثة عشر ذكراً فقال: من سره بنوه ساءته نفسه. قال زيد بن علي لابنه: يا بني إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي ورضيني لك فحذرنيك.

ولد للحسن غلام فهنئ به فقال: الحمد لله على كل حسنة، ونسأل الله الزيادة في كل نعمة، ولا مرحبا بمن إن كنت عائلاً أنصبني، وغن كنت غنياً أذهلني، لا أرضى بسعيي له سعياً، ولا بكدي له في الحياة كداً: حتى أشفق له من الفاقة بعد وفاتي وأنا في حال لا يصل إلي من غمه حزن ولا فرحه سرور.

الباب الخامس في ذكر النجياء من الأولاد

الباب الخامس في ذكر النجياء من الأولاد قال رسول الله (: "من سعادة الرجل أن يشبه أباه". وقال بعض الحكماء: الحياء في الصبي خيرٌ من الخوف: لأن الحياء يدل على العقل والخوف يدل على الجبن. قال ابن عباسٍ رحمه الله: عرامة الصبي زيادة في عقله. وقالت ماوية بنت النعمان بن كعب لزوجها لؤي بن غالب: أي أولادك أحب إليك؟ قال: الذي لا يرد بسطة يده بخل ولا يلوي لسانه عي ولا يغير طبعه سفه، يعني

كعب بن لؤي سئل أعرابي من بني عبس عن أولاده فقال: ابن قد كهل وابن قد رفل وابن قد نسل وابن قد مثل وابن قد فضل. سئلت أعرابية عن ابنها فقالت: أنفع من غيث وأشجع من ليث: يحمي العشيرة ويبيح الذخيرة ويحسن السريرة. وقد تبين نجابة الصبي باختياراته لمعالي الأمور، فإن الصبيان قد يجتمعون للعب فيقول عالي الهمة: من يكون معي، ويقول القاصر الهمة: مع من أكون! قال أحمد بن النضر الهلالي: سمعت أبي يقول: كنت في مجلس سفيان ابن عيينة فنظروا إلى صبي دخل المسجد فتهاونوا به لصغر سنه فقال سفيان: كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم، ثم قال: يا نضر لو رأيتني ولي عشر سنين طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار، مثل

الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا أوسعوا للشيخ الصغير، ثم تبسم ابن عيينة وضحك.

وعن الكسائي أنه دخل على الرشيد فأمر بإحضار الأمين

والمأمون، قال: فلم ألبث أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هديهما ووقاهما، قد غضا أبصارهما وقاربا خطوهما حتى وقفا على مجلسه فسلما عليه بالخلافة ودعوا له بأحسن الدعاء، فاستدناهما فأجلس محمداً عن يمينه وعبد الله عن شماله، ثم أمرني أن ألقي عليهما أبواباً من النحو، فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب عنه، فسره سروراً استبنته فيه، وقال لي: كيف تراهما؟ فقلت: أرى قمري أفق وفرعي بشامة ... يزينهما عرق كريم ومحتد سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريث ما أبقى النبي محمد يسدان أنفاق النفاق بشيمة ... يؤيدها حزم وغضبٌ مهند ثم قلت: ما رأيت أعز الله أمير المؤمنين أحداً من أبناء الخلافة ومعدن الرسالة وأغصان هذه الشجرة الزكية أذرب منهما ألسناً ولا

أحسن ألفاظاً ولا أشد اقتداراً على تأدية ما حفظا ورويا منهما، أسأل الله أن يزيد بهما الإسلام تأييداً وعزاً ويدخل بهما على أهل الشرك ذلاً وقمعاً، وأمن الرشيد على دعائي ثم ضمهما إليه وجمع عليهما يديه فلم يبسطهما حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره. أقام المنصور ذات يوم ابنه صالحاً فتكلم بكلام بليغ وفي المجلس المهدي وهو ولي عهده، فأشار المنصور إلى الحاضرين بأن يصف أحد كلامه، فكلهم كره ذلك بسبب المهدي، فابتدر شبيب بن شبة وقال: والله يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم أبين بياناً ولا أجرى لساناً ولا أرطب جناناً ولا أبل ريقاً ولا أحسن طريقاً ولا أغمض عروقاً،

وحق لمن كان أمير المؤمنين أباه والمهدي أخاه أن يكون كذلك كما قال زهير: هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا ومن أحسن ما رصع به تاج النجباء، ووسط به عقد الأبناء، ولد مولانا السلطان الملك العزيز الذي ملأ عينه قرة، وقلبه مسرة، والتهم بمعالي الأمور قبل الفطام، فلعب بالرمح ورمى بالسهام، فمخايل النجابة من أعطافه لائحة، ودلائل السعادة عليه غادية ورائحة، وكيف لا يكون كذلك ومولانا السلطان كافلة ومربية،

والمولى الملك الصالح أخوه ابن أبيه، وهو كما قيل: من يكن أنجب في الناس بنوه ... فسليل المجد من أنت أبوه بالبنين ابن تجلى وجهه ... عن سرور ضحكت فيه الوجوه نطقت عن فضله آلاؤه ... قبل أن ينطق بالحكمة فوه نير طالعه مطلعه ... في سماء الملك والبدر أخوه إنما أملا كنا أفلا كنا ... ومصابيح الدجى من ولدوه قال المفضل بن زيد: نزلت على بنو تغلب في بعض السنين وكنت مشغوفاً بأخبار العرب أحب أن أسمعها وأجمعها، فإني لفي بعض أحياء العرب غذ أنا بامرأة واقفة في فناء خبائها وهي آخذة بيد غلام قلما رأيت شبيهه في حسنه وجماله، له ذؤابتان مضفورتان كالسبح المنظوم وهي تعاتبه بلسان رطب وكلام عذب يقبله السمع ويترشقه القلب وأكثر ما أسمع من كلامها يا بني وأي بني، وهو يتبسم في وجهها قد غلب عليه الحياء والخجل كأنه جارية بكر لا يحير جواباً، فاستحسنت ما رأيت وأستحليت ما سمعت، فدنوت فسلمت

فرد علي السلام، ووقفت أنظر إليهما، فقالت: يا حضري ما حاجتك؟ قلت: الاستكثار مما أسمع منك والاستمتاع من حسن هذا الغلام، فتبسمت المرأة وقالت: يا حضري إن شئت أن أسوق إليك من خبره ما هو أحسن من منظره، قلت: هات، قالت: حملته تسعة أشهر حملاً خفيفاً خفياً والعيش كدر والرزق عسر، حتى إذا شاء الله أن أضعه وضعته خلقاً سوياً، فوربك ما هو إلا أن صار ثالث أبويه حتى رزق الله فأفضل، وأعطى فأجزل، ثم أرضعته حولين كاملين حتى إذا استتم الرضاعة نقلته من خرق المهد إلى فراش أبويه فربي بينهما كأنه شبل أبواه يقيانه برد الشتاء وحر الهجير، حتى إذا تمت له خمس سنين أسلمته إلى المؤدب فحفظ القرآن فتلاه، وعلمه الشعر فرواه، ورغب في مفاخر قومه وطلب مآثر آبائه وأجداده، فلما بلغ الحلم حملته على عتاق الخيل فتمرس وتفرس ولبس السلاح ومشى بين بيوت الحي وأصغى إلى صوت الصارخ وأنا عليه وجلة، أحرسه من العيون أن تصيبه، ومن الألسن أن تعيبه، إلى أن نزلنا منهلاً من المناهل وشاء الله أن أصابته وعكة شغلته، فركب فتيان الحي لطلب ثأر لهم حتى لم يبق في الحي أحد غيره ونحن آمنون، فوربك ما هو إلا أن أدبر الليل وأسفر الصبح حتى طلعت علينا غرر الجياد ثوارا غير زوار، فما كان إلا هنيهة حتى حازوا الأموال من دون أهلها وهو

يسألني عن الصوت وأنا أستر عليه الخبر إشفاقاً وحذراً عليه، إلى أن علت الأصوات وبرزت المخبآت، فثار كما يثور الأسد المغضب، فأمر بإسراج فرسه وصب عليه سلاحه وأخذ رمحه وركب حتى لحق حماة القوم ونحن ننظر إليه، فطعن فارساً فرماه وانحاز متميزاً، وانصرفت إليه وجوه الفرسان فرأوا غلاماً صغيراً فحملوا عليه، وأقبل يؤم البيوت ونحن ندعوا له، حتى إذا ما دهموه عطف عليهم فطعن أدناهم منه فقطره ومرق كما يمرق السهم من الرمية، وقال: خلوا عن المال، فوالله لا رجعت إلا به أو لأهلكن دونه، فتداعت إليه الفرسان، وتمايل إليه الأقران، فرجعوا وقد نصبوا له الأسنة، وقلصوا له الأعنة، وجعلنا من وراء ظهره، وجعل يهدر كما يهدر الفحل، ولا يحمل على ناحية إلا طحنها ولا يقصد فارساً إلا قتله، وكل ذات رحم منا باسطة يدها إلى الله تعالى بالدعاء له إشفاقاً عليه ووجداً به، إلى أن كشفهم عن المال وقد أشرفت أوائل خيل الحي، فكبر الناس وولى القوم منهزمين، فوالله ما رأينا يوماً كان أقبح صباحاً ولا أحسن رواحاً من ذلك اليوم، ولقد سمعته ينشد أبياتاً بعد منصرفه من الحرب وهي: تأملن فعلي هل رأيتن مثله ... إذا حشرجت نفس الكمي بعد الكرب

وضاقت عليه الأرض حتى كأنه ... من الخوف مسلوب العزيمة والقلب ألم أعط كلاً حقه ونصيبه ... من السمهلاي اللدن والصارم العضب أنا ابن أبي هند بن قيس بن خالد ... سليل المعالي والمكارم والحرب أبي لي أن أعطى الظلامة مرهف ... رقيق وطرف مجفر الجوف والجنب وعزم صحيح لو ضربت بحده ... شماريخ رضوى لانحططن إلى الترب فإن لم أقاتل دونكن وأحتمي ... لكن وأحميكن بالطعن والضرب وأبذل نفساً دونكن عزيزة ... علي لأطراف القنا وظبا القضب فما صدق اللاتي سعين إلى أبي ... يهنينه بالفارس البطل الندب

الباب السادس في ذكر الحمقى منهم

الباب السادس في ذكر الحمقى منهم قيل: إن الحمق يتولد غريزة ولا يتغير، وأما الرعونة فإنها تحدث من مخالطة النساء وتزول، وأنشد بعضهم: وعلاج الأبدان أيسر خطبا ... حين تعتل من علاج العقول قال رجل لابنه وهو يختلف إلى المكتب: في أي سورة أنت؟ قال: في لا أقسم بهذا البلد ووالدي بلا ولد، فقال: لعمري من كنت أنت ولده فهو بلا ولد! وجه رجل ابنه ليشتري له حبلا طوله عشرون ذراعاً، فعاد من بعض الطريق وقال: يا أبي في عرض كم؟ فقال: في عرض مصيبتي بك. قيل لأعرابي: كيف ابنك؟ قال: عذاب رعف به علي الدهر، وبلاء لا يقوم معه الصبر، ونظر أعرابي إلى ابن له قبيح فقال: يا بني إنك لست من زينة الحياة الدنيا، وقال أحمق لابنه وكان أحمق أيضاً: أي يوم صلينا الجمعة في مسجد الرصافة؟ فقال: لقد أنسيت، ولكني أظنه يوم الثلاثاء قال: صدقت كذا كان. قال أبو زيد الحارثي

لابنه: والله لا أفلحت أبداً، فقال: لست أحنثك والله يا أبة. طار لابن ليزيد بن معاوية باز فأمر بغلق أبواب دمشق لئلا يخرج منها. حكي أن رجلاً أرسل ابنه ليشتري رأساً مشوياً، فاشتراه وجلس في الطريق فأكل عينيه وأذنيه ولسانه ودماغه وحمل باقيه إلى أبيه، فقال: ويحك ما هذا؟ فقال: هو الرأس الذي طلبته، فقال: فأين عيناه، قال: كان أعمى، قال: فأين أذناه، قال: كان أصم، قال: فلسانه، قال: كان أخرس، قال: فدماغه، قال: كان معلماً، قال: ويحك رده وخذ بدله، قال: باعه بالبراءة من كل عيب. مرض صديق لحامد بن العباس فأراد أن ينفذ إليه ابنه يعوده فأوصاه وقال: إذا دخلت فاجلس في أرفع المواضع وقل للمريض ما تشكو، فإذا قال كذا وكذا فقل: سليم إن شاء الله، وقل له: من يجيئك من الأطباء، فإذا قال: فلان فقل: مبارك ميمون، وقل له: ما غذاؤك، فإذا قال: كذا وكذا، فقل: طعام محمود، فذهب الابن

فدخل على العليل وكانت بين يديه منارة فجلس عليها لارتفاعها فسقطت على صدر العليل فأوجعته، ثم جلس فقال للعليل: ما تشكو؟ فقال: بضجرة أشكو علة الموت، فقال: سليم إن شاء الله، ثم قال: فمن يجيئك من الأطباء؟ قال: ملك الموت، قال: طعام طيب محمود. قال أبو المخش الأعرابي: كانت لي بنت تجلس على المائدة فتبرز كفاً كأنها طلعة في ذراع كأنها جمارة، فلا تقع عينها على أكلة نفيسة إلا خصتني بها، وصرت أجلس معي على المائدة ابناً لي فيبرز كفاً كأنها كرنافة في ذراع كأنها كربة، فوالله إن تسبق عيني إلى لقمة طيبة إلا سبقت يده إليها.

الباب السابع في محبة الآباء للأبناء

الباب السابع في محبة الآباء للأبناء رأى الإمام علي -كرم الله وجهه- الحسن يتسرع إلى الحرب فقال: املكوا عني هذا الغلام لا يهدني فإني أنفس بهذين على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله (. جاءت فاطمة رضي الله عنها بابنيها إلى رسول الله (فقالت: يا رسول الله انحلهما، فأخذ الحسن فقبله وأجلسه على فخذه اليمنى

وقال: أما ابني هذا فنحلته خلقي وهيبتي، وأخذ الحسين فقبله ووضعه على فخذه اليسرى وقال: نحلته شجاعتي وجودي. مر أعرابي بقوم وهو ينشد ابناً له، فقالوا: صفه، فقال: دنينير، قالوا: لم نره، فلم ينشب أن جاء على عنقه بشبيه الجعل، فقالوا: لو سألتنا عن هذا لأخبرناك به. ولا حرج على هذا الأعرابي فإن الإنسان قد تبلغ به محبة ولده أو أخيه أو غيرهما إلى أنه لا يرى له في العالمين نظيراً، وقد قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عين كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا وفي المثل قالت الخنفساء لأمها: ما أمر بأحد إلا بزق علي، فقالت: من حسنك تعوذين. والعامة تقول: قالوا: من يصف العروس؟ قيل: أمها وتحلف. وقيل لأبي المخش: أما كان لك ابن؟

قال: بلى المخش، كان أشدق خرطمانياً، إذا تكلم سال لعابه كأنما ينظر من فلسين كأن ترقوته بوان أو خالفه وكأن مشاشة منكبيه كركرة جمل، فقأ الله عيني إن كنت رأيت بهما أحسن منه قبله ولا بعده. وقال الزبير بن العوام في ترقيص ابنه عبد الله:

أزهر من آل أبي عتيق ... مبارك من ولد الصديق ألذه كما ألذ ريقي وقال رجل: دخلت على ابن السراج وفي حجره ولد له وهو يقول: أحبه حب الشحيح ماله ... قد كان ذاق الفقر ثم ناله وقال الحسن البصري رضي الله عنه لابنه: يا حبذا أرواحه ونفسه ... وحبذا نسيمه وملمسه

والله يبقيه لنا ويحرسه ... حتى يجر ثوبه ويلبسه وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذهب بولده سالم كل مذهب حتى لامه الناس فيه فقال: يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم

الباب الثامن فيما يجب لهم على الآباء

الباب الثامن فيما يجب لهم على الآباء ينبغي للوالد أن لا يسهو عن تأديب ولده ويحسن عنده الحسن ويقبح عنده القبيح ويحثه على المكارم وعلى تعلم العلم والأدب ويضربه على ذلك. قال النبي (: "حق الولد على والده أن يحسن اسمه ويحسن موضعه ويحسن أدبه". عن عمرو بن دينار أن ابن عمر وابن عباس كانا يضربان أولادها على اللحن.

قال النبي (: "تخيروا لنطفكم". وقال عليه الصلاة والسلام: "انظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس". وقال عليه الصلاة والسلام: "أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم".

وقال عليه الصلاة والسلام: "ما نحل والد ولده أفضل من عمل صالح". وقال أبو حيان التوحيدي رحمه الله: يجب على الرجل أن يستقبل عمره بولده ليستمتع كل منهما بصاحبه، وأن يمهد له المعيشة، وأن يختار أمه واسمه ويختنه ويؤدبه ولا يستأثر دونه، وأن يختار له زوجة صالحة ومعيشة جميلة كافية، وأن يكفيه العار وسوء الحديث. وفي الحديث: "من كان له صبي فليستصب له".

قرأت في ربيع الأبرار للزمخشري قال: من حق الولد على والده أن يوسع عليه ماله كيلا يفسق. وقرأت في العقد لابن عبد ربه قال: خير الآباء للأبناء من لم يدعه التقصير إلى العقوق. وإذا راهق الصبي فينبغي لأبيه أن يزوجه فقد ورد في الحديث: "من بلغ له ولد وأمكنه أن يزوجه فلم يفعل وأحدث الولد كان الإثم بينهما".

قال الجاحظ: من كان فقيراً وأولد فهو أحمق. وقال العتبي: لا تأت بالولد إلا بعد معيشة كافية وكفاية باقية وضيعة نامية. وقيل من أتى بالولد قبل المال فقد ظلم نفسه وولده. قالت الحكماء: من أدب ولده صغيراً سره كبيراً. وقالوا: أطبع الطين ما كان رطبا وأغمز العود ما كان لدنا. وقال: من أدب ولده غم حاسده. وقالوا: ما أشد فطام الكبير وأعسر منه رياضة الهرم.

وقال عبد الملك بن مروان: أضر بنا في الوليد حبنا له، وكان الوليد لحانا وهو الذي صلى بالناس فقرأ يا ليتها كانت القاضية (بالرفع) وخلفه سليمان بن عبد الملك فقال: عليك.

وقال الرشيد لابنه المعتصم: ما فعل وصيفك؟ قال: مات واستراح من الكتاب، قال: وبلغ الكتاب منك هذا المبلغ، والله لا حضرت أبداً، ووجهه إلى البادية فتعلم الفصاحة وكان أمياً. وقال صالح بن عبد القدوس: وأن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه حتى تراه مورقاً ناضراً ... بعد الذي أبصرت من يبسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه

وقال آخر: لا تسه عن أدب الصغير ... وإن شكا ألم التعب ودع الكبير لشأنه ... كبر الكبير عن الأدب

الباب التاسع في توصية الآباء معلمي أولادهم بهم

الباب التاسع في توصية الآباء معلمي أولادهم بهم قال عمرو بن عتبة يوصي مؤدب ولده: يا أبا عبد الصمد ليكن أول إصلاحك بني إصلاحك نفسك فإن عيوبهم معقودة بعيبك، فالحسن عندهم ما فعلت، والقبح ما تركت، علمهم كتاب الله ولا تملهم منه فيكرهوه، ولا تدعهم منه فيهجروه، روهم من الشعر أعفه، ومن الكلام أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فأن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، تهددهم بي، وأدبهم دوني، وكن كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء قبل معرفة الداء، وجنبهم محادثة النساء، وروهم سير الحكماء، ولا تتكل على عذر مني، فقد اتكلت على كفاية منك، واستزدني بزيادة منهم أزدك. وقال العباس بن محمد لمؤدب ولده: إنك قد كفيت أعراضهم فاكفني آدابهم والتمسني عند آثارك فيهم تجدني.

قال عبد الملك للشعبي حين أخذه بتعليم ولده: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السفلة فإنهم أسوأ الناس رعة وأقلهم أدباً وعلماً، وجنبهم الحشم فإنهم لهم مفسدة، وأحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم تصح عقولهم، وتشتد قلوبهم، وصقل رؤوسهم وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا غرضاً ويمصوا الماء مصاً ولا يعبوا عباً، فإذا احتجت إلى أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في ستر لا يعلم به أحد من الغاشية فيهونوا عليهم.

وكتب شؤريح القاضي إلى معلم بني له: ترك الصلاة لا كلب يسعى بها ... طلب الهراش مع الغواة الرجس فإذا أتاك فعضه بملامة ... أو عظه موعظة اللبيب الأكيس وإذا هممت بضربه فبدرة ... وإذا ضربت بها ثلاثاً فاحبس واعلم بأنك ما فعلت فنفسه ... مع ما تجرعني أعز الأنفس وكتب جد جدي القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن يحي بن زهير ابن أبي جرادة إلى الفقيه أبي علي بن المعلم وكان مدرس ابنه أبي غانم محمد بن هبة الله جد أبي قصيدة يستنهضه فيه منها:

أبا علي هو الدهر الخؤون وما ... يحظى بجدواه إلا الجاهل الغمر إني لأشكر ما أوليت من حسن ... حتى أرى به أسمو وأفتخر ولو أردت مكافأة على منن ... أسديتها لتقضى دونها العمر عهدت فضلك لا يحتاج تذكرة ... وحسن رأيك ما في نفعه ضرر فكيف بحرك عذب طاب منهله ... للواردين وفيما خصني صبر وكيف ترعى حقوق غير واجبة ... وفي أبي غانم تلغي وتحتقر راجع سدادك فيه فهو أن سمحت ... به الليالي على أحداثها وزر واحفظ له حق آباء ومعرفة ... مضت بتأكيدها الأيام والعصر ووله منك قسطاً من ملاحظة ... فما يرى لك في إهماله عذر

فإنه نبعة طابت منابته ... صلب على العجم ما في عوده خور مغري بما زاد في قدر ومنزلة ... وما تبدى له في خده شعر دلائل مخبرات عن نجابته ... كالنار تخبر عن ضوضائها الشرر من معشر حلت العلياء بينهم ... يعد شكرهم فخرا إذا شكروا

الباب العاشر في ذكر كلام الصبيبات وجوابهم

الباب العاشر في ذكر كلام الصبيبات وجوابهم مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على صبيان يلعبون فتفرقوا من هيبته ولم يبرح ابن الزبير، فقال له: مالك لم تبرح؟ فقال: ما الطريق ضيقة فأوسعها لك ولا لي ذنب فأخاف. لما ولد للرشيد العباس من واسطة اشمأزت منه نفسه لغلبة السواد عليها، فتنبأ رجل في زمان الرشيد فدعا به، فجعل يذكره بالله وينهاه عن قوله وهو مقيم على دعواه، وأولاد الرشيد مصطفون بين يديه والعباس إذ ذالك لم يجاوز العشر، فلما رأى الرشيد لزوم الرجل ادعاء النبوة، أمر بتجريده وضربه، فلما أخذته السياط جعل يضطرب اضطراباً شديداً، فالتفت إليه العباس فقال: اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، فاستطار الرشيد لها فرحاً وقال: ابني والله حقاً، يقول الله تعالى: (بل هم قومٌ خصمون (. أدخل الركاض وهو ابن أربع سنين إلى الرشيد ليتعجب من فطنته فقال له: ما تحب أن أهب لك؟ قال: جميل رأيك فإني أفوز به في الدنيا والآخرة، فأمر بدنانير ودراهم فصبت بين يديه، فقال له: الأحب إلي أمير المؤمنين وهذا من هذين، وضرب يده إلى الدنانير، فضحك الرشيد وأمر بضمه إلى ولده والإجراء عليه.

قال علي بن محمد: مر فارس بغلام فقال: يا غلام أين العمران؟ قال: اصعد الرابية تشرف عليهم، فصعد فأشرف على مقبرة، فقال: إن الغلام لجاهل أو حكيم، فرجع فقال: سألتك عن العمران فدللتني على مقبرة، فقال: إني رأيت أهل الدنيا ينتقلون إلى تلك ولم أر أحداً انتقل إلى هذه، ولو سألتني عما يواريك ودابتك لدللتك عليه. قال الإسكندر لابنه يا ابن الحجامة، فقال: أما هي فقد أحسنت التخير وأما أنت فلم تحسن. وقال أعرابي لابنه: اسكت يا ابن الأمة، فقال: هي والله أعذر منك لأنها لم ترضى إلا حراً. لما ولي يحي بن أكثم القضاء بالبصرة وكان صبياً فاستصغروه

فقال بعضهم: كم سن القاضي أيده الله؟ فقال: سن عتاب بن أسيد لما ولاه رسول الله (. عاتب أعرابي ابنه وذكره حقه، فقال: يا أبتِ إن عظيم حقك علي لا يبطل صغير حقي عليك. دخل الرشيد دار وزيره فقال لولد له صغير أيما أحسن دارنا أو داركم؟ قال: دارنا، قال: لم؟ قال: لأنك فيها. قال المعتصم للفتح بن خاقان وهو صبي: أرأيت يا فتح أحسن من هذا الفص -لفص كان في يده-، قال: نعم يا أمير المؤمنين اليد التي هو فيها أحسن منه.

دخل قوم على عمر بن عبد العزيز فجعل فتى منهم يتكلم. فقال عمر: ليتكلم أكبركم، فقال الفتى: إن قريشاً لتجد فيها من هو أسن منك، قال: تكلم. دخل الحسين بن الفضل على بعض الخلفاء وعنده كثير من أهل العلم، فأحب أن يتكلم فزبره، وقال: أصبي يتكلم في هذا المقام، فقال: إن كنت صبياً فلست أصغر من هدهد سليمان ولا أنت أكبر من سليمان حين قال له: أحطت بما لم تحط به، ثم قال: ألا ترى أن الله فهم الحكم سليمان ولو كان الأمر بالكبر لكان داود أولى. عربد صبي هاشمي على قوم فأراد عمه أن يسوءه، فقال: يا عم قد أسأت بهم وليس معي عقلي فلا تسيء بي ومعك عقلك. قال رجل لابنه: يا ابن الزانية، فقال: الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك.

ضرط ابن لعبد الملك بن مروان في حجره، فقال له: قم إلى الكنيف، قال: هو ذا أنا فيه يا أبي. قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت لأبيه وهو طفل: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة (يعني الزنبور) فقال حسان: قد قال ابني شعراً ورب الكعبة. كان سليمان بن وهب يكتب فدخل عليه أبوه، فقال: يا بني

إن علي بن يحي وعدني بالأمس أن يحضر عندي اليوم فاكتب وذكره، فكتب بديهة: يا من فدت أنفسنا نفسه ... موعدنا بالأمس لا تنسه قال الفراء أنشدني صبي من الأعراب أرجوزة، فقلت: لمن هي؟ فقال: لي، فزبرته، فأدخل رأسه في فروته ثم قال: إني وإن كنت صغير السن ... وكان في العين نبوعني فإن شيطاني أمير الجن ... يذهب بي في الشعر كل فن

عن علي بن الجهم قال: وجد علي أبي فأمر المعلم أن يحصرني، فكتبت إلى أمي: أمي جعلت فداك من أم ... أشكو إليك فظاظة الجهم قد سرح الصبيان كلهم ... وبقيت محصوراً بلا جرم كان لمحمد بن بشير الشاعر ابن حسيمٌ بعثه في حاجة فأبطأ وعاد ولم يقضها، فنظر اليه ثم قال: عقله عقل طائر ... وهو في خلقة الجمل فأجابه شبهٌ منك نالني ... ليس لي عنه منتقل وفد سعيد بن عبد الرحمن بن ثابت وهو صبي وضيء الوجه على

هشام، فسلمه إلى معلم الوليد بن يزيد وهو عبد الصمد بن عبد الأعلى، فطمع فيه، فدخل على هشام وهو يقول: إنه والله لولا أنت لم ... ينج مني سالماً عبد الصمد قال: ولم؟ قال: إنه قد رام مني خطة ... لم يرمها قبله مني أحد قال: وما ذاك؟ قال: رام جهلاً بي وجهلاً بأبي ... يولج العصفور في خيس الأسد

فصرفه هشام عن التعليم، فقال فيه الوليد: لقد قرفوا أبا وهب بأمر ... كبير بل يزيد على الكبير وأشهد أنهم كذبوا عليه ... شهادة عالم بهم خبير كان لعبد الله بن سالم ابنان فأدبهما بفنون الآداب، يسمي أحدهما ربيعة والآخر سفيان، وكانا مع حداثة سنهما آداب أهل زمانهما، فتفاخرا عنده ذات يوم في غرائب الكلام، فأحب أبوهما أن يظهر ذلك لقومه، فقال لهما: إن شئتما بلوتكما في كلمات أسألكما عنها، قالا: فإنا قد شئنا، فجلس لهما في ملأ من قومه، ثم دعا ربيعة وأخرج سفيان، فقال: أخبرني يا ربيعة عما أسألك عنه، قال: سلني عما بدا لك، قال: أخبرني عن المجد، قال: ابتناء المكارم وحمل المغارم، فقال: فأخبرني عن الشرف، قال: كف الأذى وبذل الندى، قال: فأخبرني عن الدعة، قال: إيتاء اليسير والمن بالحقير، قال: فما المروءة؟ قال: شرف النفس مع تعاهد الصنيعة، قال: فما الكلفة؟ قال: التماس ما لا يعينك

وتعجيل ما لا يؤتيك؟ قال: فما الحلم؟ قال: كظم الغيظ وملك الغضب، قال: فما الجهل؟ قال: سرعة الوثوب على الجواب، قال: فما العقل؟ قال: حفظ القلب ما استرعى وفهمه ما أوعى، قال: فما الحزم؟ قال: انتظار الفرصة وتعجل ما أمكن، قال: فما العجز؟ قال: التعجل قبل الاستمكان والتأني بعد الفرصة، قال: فما الشجاعة؟ قال: صدق النفس ومتاركة الدخاس، قال: فما الجبن؟ قال: طيرة الروع وضيق البوع وسرعة الفشل، قال: فما السماحة؟ قال: حب السائل وبذل النائل، قال: فما الشح؟ قال: من يرى القليل إسرافاً والكثير إتلافاً، قال: فما الظرف؟ قال: حسن المحاورة وسرعة المجاوبة، قال: فما الصلف؟ قال: عظم النفس مع قلة المقدرة، قال: صدقت لا عدمتك، ثم دعا سفيان فقال: أخبرني ما الفهم؟ قال: لسان سؤول وقلب عقول، قال: فما الغنى؟ قال: قلة التمني والرضا بما يكفي، قال: فما

الكيس؟ قال: تدبير المعيشة مع طلب الآخرة، قال: فما السؤدد؟ قال: اصطناع العشيرة وحمل المؤونة، قال: فما السناء؟ قال: حسن الأدب ورعاية الحسب، قال: فما اللؤم؟ قال: إحراز النفس وإسلام العرس، قال: فما الخرق؟ قال: مماراة الأمراء ومعاداة الوزراء، قال: فما الدناءة؟ قال: الجلوس على الخسف والرضا بالهون، قال: فما المجد؟ قال: عز السلف وقدوم الشرف، قال: فما الأروم؟ قال: الأصل الصميم والبيت القديم، قال: فما الفقر؟ قال: شره النفس وشدة القنوط، فقال: أبوهما أحسنتما جميعاً وقلتما الصواب.

لما ردت حليمة السعدية النبي (إلى مكة، فنظر إليه عبد المطلب وقد نما نمو الهلال وهو يتكلم بفصاحة، فقال: جمال قريش وفصاحة سعد وحلاوة يثرب. سأل حكيم غلاماً معه سراج، من أين تجيء النار بعدما تنطفئ؟ فقال: إن أخبرتني إلى أين تذهب أخبرتك من أين تجيء. قحطت البادية في أيام هشام، فقدمت عليه العرب، فهابوا أن يتكلموا وفيهم درواس بن حبيب وهو إذ ذاك صبي له ذؤابة وعليه شملتان، فوقعت عليه عين هشام فقال لحاجبه: ما يشاء أحد يدخل علي إلا دخل حتى الصبيان، فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطراً أي مدلاً، فقال: يا أمير المؤمنين إن للكلام نشراً وطياً وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره فإن أذنت لي أن أنشره نشرته،

قال: انشر لا أبا لك -وقد أعجبه كلامه مع حداثة سنه- فقال: إنه أصابتنا سنون ثلاث، سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين، فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذراً، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار وله بمائة ألف درهم، فقال: ارددها يا أمير المؤمنين إلى جائزة العرب فإني أخاف أن تعجز عن بلوغ كفايتهم، فقال: أمالك حاجة؟ فقال: ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين، فخرج وهو من أنبل القوم. قال رجل: مررت بغلمة من الأعراب يتماقلون في غدير، فقلت: أيكم يصف لي الغيث وأعطيه درهماً، فخرجوا إلي، وقالوا: كلنا نصف -وهم ثلاثة- فقلت صفوا فأيكم ارتضيت صفته أعطيته الدرهم، فقال أحدهم: عن لنا عارض قصراً تسوقه

الصبا وتحدوه الجنوب يحبو حبو المعتنك، حتى إذا ازلأمت صدوره، وانثلجت خصوره، ورجع هديره، وأصعق زئيره، واستقل نشاصه، وتلائم خصاصه، وارتعج ارتعاصه، وأوفدت سقابه، وامتدت أطنابه، تدارك ودقه، وتألق برقه، وحفزت تواليه، واسفحت عزاليه، فغادر الثرى عمداً، والعزاز ثئداً، والحث عقداً،

والضحاضح متواصية، والشعاب متداعية. وقال الآخر تراءت المخايل من الأقطار، تحن حنين العشار، وتترامى بشهب النار، قواعدها متلاحكة، وبواسقها متضاحكة، وأرجاؤها متقاذفة، وأعجازها مترادفة، وأرجاؤها متراصفة، فواصلت الغرب بالشرق، والوبل بالودق، سحا دراكاً، متتابعاً لكاكاً، فضحضحت الجفاجف، وانهرت الصفاصف، وحوضت الأصالف، ثم أقلعت محسبة محمودة الآثار، موموقة الحبار.

وقال الثالث -والله ما خلته بلغ خمساً- فقال: هلم الدرهم أصف لك، فقلت: لا أو تقول كما قالا، فقال: والله لأبذنهما وصفاً، ولأفوقنهما رصفاً، قلت: هات لله أبوك، فقال: الحاضر بين الياس والإيلاس، قد غمرهم الإشفاق رهبة الإملاق، وقد حقبت الأنواء، ورفرف البلاء، واستولى القنوط على القلوب، وكثر الاستغفار من الذنوب، ارتاح ربك لعباده فأنشأ سحابا مسجهراً كنهوراً معنونكاً محلولكاً، ثم استقل واحزأل، فصار كالسماء دون السماء، كالأرض المدحوة في لوح الهواء، فأحسب السهول، وأتاق الهجول، وأحيا الرجاء وأمات

الضراء، وذلك من قضاء رب العالمين، قال: فملأ -والله- اليفع الثلاثة صدري فأعطيت كل واحد منهم درهماً وكتبت كلامهم. قال الهيثم بن صالح لابنه: يا بني إذا أقللت من الكلام أكثرت من الصواب، وإذا أكثرت من الكلام أقللت من الصواب، قال: يا أبتِ فإن أنا أكثرت وأكثرت -يعني كلاماً وصواباً- قال: يا بني ما رأيت موعوظاً أحق بأن يكون واعظاً منك. قال الرشيد يوماً لأبي عيسى ولده وهو صبي، وكان من أجمل أهل زمانه: ليت جمالك لعبد الله -يعني المأمون- قال: على أن حظه منك لي، فعجب من جوابه وضمه إليه. قرع قوم على الجاحظ الباب، فخرج صبي له فسألوه ما يصنع؟ فقال هو ذا يكذب على الله، قيل كيف؟ قال: نظر في المرآة فقال الحمد لله الذي خلقني فأحسن صورتي.

الباب الحادي عشر في ذكر الخوف عليهم والشفقة والرأفة

الباب الحادي عشر في ذكر الخوف عليهم والشفقة والرأفة يقال: إذا ترعرع الولد تزعزع الوالد. أخذ عبد الملك بن مروان أحد لصوص العرب فأمر بقطع يده، فجاءت أمه فقالت: يا أمير المؤمنين ولدي وكاسبي، قال: بئس الولد ولدك وبئس الكاسب كاسبك، هذا حد من حدود الله تعالى لا أعطله، قالت: أجعله من الذنوب التي تستغفر الله منها، فعفا عنه. قال يموت بن المزرع يخاطب ابنه مهلهلاً: مهلهل أحشائي عليك تقطع ... وأقرح أجفاني أخوك مزرع إلى الله أشكو ما تجن جوارحي ... وما فيكما من غصةٌ أتجرع

فإن ذرفت عيناي وجداً عليكما ... ففي دون ما ألقاه مبكى ومجزع أخاف حماماً يا مهلهل باغتاً ... وطير المنايا حائمات ووقع كان للصنوبري ابن مسترضع ففطم، فدخل الصنوبري يوماً داره والصبي يبكي، فقال: ما لابني؟ فقالوا: فطم، فتقدم إلى مهده وكتب عليه: منعوه أحب شيء إليه ... من جميع الورى ومن والديه منعوه غذاءه ولقد كا ... ن مباحاً له وبين يديه عجباً منه ذا على صغر السن ... هوى فاهتدى الفراق إليه وقال آخر في إشفاقه على ولده: كلفني الهم لإغناء الولد ... وخوف أن يفترقوا إلى أحد وأن يعيشوا عيشة فيها ضمد ... ويشربوا من بعد عد بثمد

منتقلاً من بلد إلى بلد ... يوماً بصنعاء ويوماً بالجند وقال آخر: لا تعجبي يا مي من سوادي ... ومن قميص هم بانقداد كلفني تعسف البلاد ... وقلة النوم على وسادي مخالفة الفقر على أولادي وما قيل في القعود عن السفر إشفاقاً على الولد: أراني إذا رمت الرحيل يصدني ... قصير الخطا طفل علي كريم أخو خمسة مثل الفراخ تضمهم ... مواتية فيما تفيد رؤوم أراد أعرابي سفراً فقال لامرأته: عدي السنين لغيبتي وتصبري ... وذري الشهور إنهن قصار

فأجابته: واذكر صبابتنا إليك وشوقنا ... وارحم بناتك إنهن صغار فأقام وترك سفره.

الباب الثاني عشر في إيثار الآباء بعضهم على بعض

الباب الثاني عشر في إيثار الآباء بعضهم على بعض عن النعمان بن بشير قال: نحلني أبي نحلاً فقالت أمي: أشهد رسول الله، فأتى النبي (فقال: "أكل ولدك أعطيت مثل هذا" قال: لا، قال: "اعدلوا بين أولادكم". قيل لمحمد بن الحنفية: كيف كان علي رضي الله عنه يقحمك في المأزق، ويولجك في المضايق، دون الحسن والحسين، فقال: لأنهما

كانا عينيه وكنت يديه فكان يقي بيديه عينيه. قيل لأعرابي أي أولادك أحب إليك؟ فقال: صغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يصح، وغائبهم حتى يقدم. كان الرشيد يؤثر المأمون على الأمين فعاتبته أم جعفر على ذلك فوجه إليهما خادمين حصيفين يقولان لكل واحد في الخلوة ما تفعل بي إذا استخلفت، فقال محمد أقطعك وأغنيك، ورمى المأمون الخادم بدواة وقال: يا ابن اللخناء أتسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين؟ إني لأرجو أن نكون جميعاً فداءً له، فقال الرشيد: كيف ترين ما أقدم ابنك إلا متابعة لرأيك وتركاً للحزم. وكان الرشيد يقول للمأمون: يا عبد الله أحب المحاسن كلها لك حتى لو أمكنني أن أجعل وجه أبي عيسى لك لفعلت.

أوصى علي بن عبد الله بن العباس -رضوان الله عليهم- إلى ابنه سليمان وترك محمداً -وكان أسن منه- فقال له: يا بني أنفس بك أن أدنسك بالوصية.

الباب الثالث عشر في ذكر من تمنى الحياة وكره الموت لأجل الولد

الباب الثالث عشر في ذكر من تمنى الحياة وكره الموت لأجل الولد في بعض الكتب أن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام كان من أغير الناس، فلما حضرته الوفاة دخل عليه ملك الموت في صورة رجل أنكره فقال له: من أدخلك داري؟ قال: الذي أسكنك فيها منذ كذا كذا سنة، قال: ومن أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئت لقبض روحك، قال: أتاركي أنت حتى أودع ابني إسماعيل، قال: نعم، فأرسل إلى إسماعيل فلما أتاه أخبره فتعلق إسماعيل بأبيه إبراهيم وجعل يتقطع عليه بكاء، فخرج عنهما ملك الموت وقال: يا رب ذبيحك تعلق بخليلك، فقال له: "قل له إني قد أمهلتك" ففعل، وانحل إسماعيل عن إبراهيم، ودخل إبراهيم بيتاً ينام فيه فقبض ملك الموت روحه وهو نائم (. قال مالك بن أحمد بن سوار الطائي: وإني لأخشى أن أموت وجعفر ... صغير فيجفى جعفر ويضيع

وإني لأرجو جعفرا إن جعفرا ... لصالح أخلاق الكرام تبوع وللطرماح: أحاذر يا صمصام إن مت أن يلي ... تراثي وإياك امرؤ غير مصلح إذا صك وسط القوم رأسك صكة ... يقول له الناهي ملك فأسجح وقال آخر: أخشى عليه أبا بعدي وجفوته ... وضعف أم وعماً ضيق البلد إن يضجعوه يراخوه بمضجعه ... وكان مضجعه مني على كبدي

وقال آخر: يقر بعيني وهو يغتال مدتي ... مرور الليالي أن يشب حكيم مخافة أن يغتالني الموت قبله ... فيغشى بيوت الحي وهو يتيم وشيب رأسي إنني كل شارق ... أودع منهم ظاعنا وأقيم وقال أباق بن بديل الدبيري لابنه الركاض: إنك يا ركاض واري الزند ... أعددته للظالم الألد ذي النخوة المولع بالتعدي ... أخشى عليك الوارثين بعدي

إذا رأوني جدفاً في اللحد ... أن يعضهوك بالدواهي الربد ويقلب المجن من يفدي تم كتاب الدراري في ذكر الذراري وفرغ من جمعه وكتابته الفقير إلى رحمة الله تعالى كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن العديم الحلبي صنفه للملك الظاهر الغازي حين ولد ولده الملك العزيز والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1