تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

مقدمة

مقدمة ... تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي تأليف: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين: نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . أمَّا بعد؛ فهذا شرح مبسَّط، وبيان ميسَّر لكتاب الحافظ أبي محمد تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجمَّاعيلي الصالحي رحمه الله الذي ألَّفه في بيان المعتقد الحق: معتقد أهل السنة والجماعة . وهو مؤلف قيم فذ، عرض فيه مؤلفه رحمه الله مسائل العقيدة بأسلوب شيق، وتحقيق متين. وهو معدود في أهم المختصرات المؤلفة في بيان عقيدة السلف الصالح رحمهم الله. وشرحي لهذا الكتاب هو في الأصل دروس ألقيتها في دورة علمية أقيمت في المدينة النبوية، وقد أشار عليَّ عدد من الأخوة بأن تفرغ من الأشرطة وتجعل في كتاب ليكون نفعها أعم وفائدتها أكبر، وشجعني على ذلك أنه لا يوجد للكتاب شرح مطبوع، مع اعترافي بقلة العلم وقصور الفهم وعدم الأهلية، وقد قام أحد الأخوة الأفاضل جزاه الله خيراً بتفريغ الشرح من الأشرطة، وجرى تصحيح المتن، وحذف المكررات، وتوثيق النقول ونقل ألفاظها من مصادرها، وعزو الآيات والأحاديث، مع إضافة جملة من الفوائد واللطائف، وسميته: " تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي " 1 وأسأل الله عز وجل أن يتقبل هذا الجهد بقبول حسن، وأن ينفع

_ 1 للسيوطي رحمه الله جزء مطبوع بعنوان: " تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي ".

به، وأن يكتب له القبول، وأن يجزي كلَّ من ساعد في إخراجه بأيِّ نوع من المساعدة ـ سواء في تسجيله، أو تفريغه من الأشرطة، أو مراجعته وتصحيحه، أو طباعته ونشره ـ خير الجزاء، إنه سبحانه خير مسؤول، وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكتبه عبد الرزاق البدر عفا الله عنه وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين

ترجمة مختصرة لمؤلف الكتاب اسمه ونسبه وكنيته: هو الإمام الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني"ابن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسين بن جعفر المقدسي الجمَّاعيلي الدمشقي الصالحي. مولده: ولد بجماعيل من أرض نابلس، سنة أربع وأربعين وخمسمائة. بعض شيوخه: قال الذهبي: " سمع الكثير، بدمشق، والإسكندرية وبيت المقدس، ومصر، وبغداد، وحران، والموصل، وأصبهان، وهمذان، وكتب الكثير " 1. سمع أبا الفتح ابن البطي، وعلي بن رباح الفراء، وعبد القادر الجيلي، وأبا بكر بن النقور، والحافظ أبا طاهر السلفي، والحافظ أبا موسى المديني وطائفة غيرهم. بعض تلاميذه: حدَّث عنه ابن خالته الشيخ موفق الدين ابن قدامة، وأولاده الحافظ عز الدين محمد، والحافظ أبو موسى عبد الله، والفقيه أبو سليمان، والحافظ الضياء المقدسي. مكانته العلمية وثناء العلماء عليه: الشيخ عبد الغني المقدسي إمام من الأئمة، وعلم من الأعلام، ومن أوعية السنة، قال الضياء المقدسي: " كان شيخنا الحافظ لا يكاد يسأل عن حديث إلا ذكره وبيَّنه، وذكر صحته أو سقمه، ولا يسأل عن رجل إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني ويذكر نسبه، فكان أمير المؤمنين في الحديث " 2

_ 1 السير 21/444 2 السير 21/448

وقال الحافظ أبو موسى المديني ـ متحدثاً عن كتاب"تبيين الإصابة لأوهام حصلت في معرفة الصحابة"للحافظ عبد الغني ـ: " قلَّ من قدم علينا من الأصحاب يفهم هذا الشأن كفهم الشيخ الإمام ضياء الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي ـ زاده الله توفيقاً ـ وقد وُفِّق لتبيين هذه الغلطات، ولو كان الدارقطني وأمثاله في الأحياء لصوبوا فعله، وقل من يفهم في زماننا لما فهم " 1. وقال الموفق ابن قدامة: " كان جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا، وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم إياه وقيامهم عليه، ورُزِق العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمر حتى يبلغ غرضه في روايتها ونشرها " 2. شمائله: من يطلع على ترجمة هذا الرجل يجد حياة حافلة بالجد والنشاط، والاجتهاد والعطاء، وبذل الوقت في طلب العلم وتحصيله، والرحلة إلى العلماء والأخذ عنهم. حياةً حافلة بالعبادة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فالرجل كان من العباد الذين يعرفون بحسن العبادة والبكاء والخشوع والإقبال على الله، والمحافظة على السنن والصيام، ويذكرون له في حياته أموراً عجيبة في هذا المجال.

_ 1 ذيل طبقات الحنابلة 4/8 ـ 9 2 ذيل طبقات الحنابلة 4/11

حياةً جادة في النصح للمسلمين، والدعوة لدين الله، ونصرة العقيدة ونصرة السنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت لا تأخذه في الله لومة لائم. وفي ترجمته نماذج رائعة ومؤثرة جداً في هذا الجانب. وفاته: يقول الحافظ أبو موسى ابنه ـ واصفاً اللحظات الأخيرة من حياته ـ: " مرض أبي في ربيع الأول مرضاً شديداً، منعه من الكلام والقيام، واشتد ستة عشر يوماً، وكنت أسأله كثيراً: ما تشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة، أشتهي رحمة الله. لا يزيد على ذلك. فجئته بماء حار فمد يده فوضأته وقت الفجر، فقال: يا عبد الله قم فصل بنا وخفف، فصليت بالجماعة، وصلى جالساً، ثم جلست عند رأسه، فقال: اقرأ يس، فقرأتها، وجعل يدعو وأنا أؤمن، فقلت: هنا دواء قد عملناه تشربه؟ فقال: يا بني ما بقي إلا الموت. فقلت: ما تشتهي شيئاً؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه الله تعالى. فقلت: ما أنت عني راض؟ قال: بلى والله، أنا عنك راض وعن إخوتك. فقلت: ما توصي بشيء؟ قال: ما لي على أحد شيء، ولا لأحد عليَّ شيء. قلت: توصيني؟ قال: أوصيك بتقوى الله، والمحافظة على طاعته. فجاء جماعة يعودونه فسلموا، فرد عليهم، وجعلوا يتحدثون، فقال: ما هذا؟ اذكروا الله، قولوا: لا إله إلا الله، فلما قاموا جعل يذكر الله بشفتيه، ويشير بعينيه، فقمت لأناول رجلاً كتاباً من جانب المسجد، فرجعت وقد خرجت روحه ـ رحمه الله ـ، وذلك يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة ست مائة " 1.

_ 1 سير أعلام النبلاء 21/467 ـ 468، وذيل طبقات الحنابلة 4/28 ـ 29

بخلاف أهل الأهواء والمبتدعة فإنهم يتكلفون إنشاء معتقدات من قبل أنفسهم، وبآرائهم وأهوائهم وتصوراتهم وظنونهم الفاسدة، وينشرونها بين الناس على أنها دين الله عز وجل الذي ينبغي أن يدان به. فشتان بين هؤلاء وهؤلاء: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.فأهل السنة اعتقادهم مأخوذ من الكتاب والسنة، وأهل الأهواء اعتقاداتهم مأخوذة من تصورات فاسدة، وآراء منْحلَّة. ومن أراد معرفة الفرق بين الطريقتين فلينظر إلى كتب هؤلاء وكتب هؤلاء، فكتب أهل السنة في الاعتقاد: من أولها إلى آخرها قائمة على الدليل، تجد الإمام منهم يذكر العقيدة ويتبعها بدليلها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. بينما أهل الأهواء لا يذكرون في ذلك أي دليل، ولا يعتمدون على حجة. وبما أننا مع كتاب للحافظ عبد الغني المقدسي ـ رحمه الله ـ، فإني أذكر حول هذا الأمر قصتين لطيفتين في حياته هو رحمه الله. الأولى: أنه وشى به بعض المبتدعة عند الملك الكامل، وقالوا: إنه فاسد المعتقد، وتكلموا فيه. فطلبه الملك العادل، وأُحضِرَ إليه، وأُمِر أن يكتب اعتقاده. فكتب: أقول كذا لقول الله: كذا، وأقول: كذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا. حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها، فلمَّا وقف عليها الملك الكامل قال: إيش في هذا؟ يقول بقول الله عز وجل، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. فخلى سبيله 2. وعرف أن هذه وشاية حاسدين؛ لأنه وجد أنَّ كل كلمة يقولها في معتقده مقرونة بدليلها من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الآية 22 من سورة الملك. 2 انظر: ذيل طبقات الحنابلة 4/26

الثانية: ذكر ابن رجب ـ رحمه الله ـ في أثناء ترجمته للحافظ عبد الغني كلاماً حول حال أهل الأهواء، وأنهم لا يقيمون معتقدهم على الكتاب والسنة، وفي أثناء هذا الحديث قال: " ولقد عُقد مرة مجلس لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية، فتكلم فيه بعض أكابر المخالفين، وكان خطيب الجامع، فقال الشيخ شرف الدين عبد الله أخو الشيخ: " كلامنا مع أهل السنة، وأما أنت: فأنا أكتب لك أحاديث من الصحيحين، وأحاديث من الموضوعات ـ وأظنه قال: وكلاماً من سيرة عنتر ـ فلا تميز بينهما، ـ أو كما قال ـ فسكت الرجل " 1. فلا يميز الواحد منهم بين الحديث الصحيح، والحديث الموضوع، والقصة التي هي من قصص عنترة بن شداد. فأهل الأهواء بعيدون كلَّ البعد عن الأدلة، وعن النصوص، وعن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في وصفهم: " نجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية فقال: لا نسلم صحة الحديث، وربما قال: لقوله عليه السلام كذا. وتكون آية من كتاب الله. وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر " 2. فأين هؤلاء من أئمة السلف ودعاة السنة رحمهم الله، الذين يذكرون المعتقد في كلِّ جانب من جوانبه مقروناً بدليله: قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. إن أهل السنة رحمهم الله اعتنوا بهذه العقيدة عناية فائقة: بتقريرها وبيانها وبسط أدلتها، والرد على المخالف لهم فيها، وبذلوا في ذلك جهوداً كبيرة.

_ 1 ذيل طبقات الحنابلة 4/23 2 نقض المنطق ص82

ومن هذه الجهود: هذا الكتاب الذي بين أيدينا للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي ـ رحمه الله ـ. فعلى طالب العلم أن يعتني بهذه العقيدة، وأن يهتم بها. وأقل القليل أن يعتني بمتن من هذه المتون المختصرة، يضبطه ويفهمه، ويعتني بشروحه، ويقرأه على أهل العلم؛ فإن الشبه تتزايد وتكثر، وإذا لم يكن لدى طالب العلم أصل ثابت، وأساس راسخ، مبني على الدليل فإن الشبهات تجرفه، وتأخذه إلى أبعد ما يكون. وأهل العلم ـ مثل المقدسي رحمه الله ـ إنما ألَّفوا هذه المختصرات لهذا الغرض. وأنا أجد شبهاً كبيراً بين كتاب"العقيدة الواسطية"لشيخ الإسلام، وكتاب"عقيدة عبد الغني المقدسي رحمه الله"فبين هذين الكتابين تشابه ظاهر، وعبد الغني متقدم على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الأمر الثاني: كلمة"عقيدة": كثير من مؤلفات السلف ـ رحمهم الله ـ موصوفة بهذا الوصف: عقيدة، عقيدة فلان، العقيدة الواسطية، الاعتقاد لفلان. وهذه الكلمة: كلمة عربية، واضحة المعنى، ظاهرة الدلالة، دالة على المقصود في هذا الموضع على أتم ما يكون؛ لأن العقيدة أو الاعتقاد مأخوذة في اللغة من العقد، وهو الربط والحزم والشد والتوثيق. وأهل العلم من السلف ـ رحمهم الله ـ أطلقوا هذا الوصف على أصول الإيمان لأنه مطلوب من المسلم أن يربط عليها قلبه، ويوثق عليها جنانه، وأن يكون إيمانه بها إيماناً جازماً لا شك فيه ولا ريب ولا تردد، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 1 أي أيقنوا ولم يشكوا.

_ 1 الآية 15 من سورة الحجرات.

بين يدي الشرح قبل الشروع في هذا الشرح، أود أن أتحدث عن بعض الأمور: الأول: عن أهمية عناية طالب العلم بعقيدة السلف: عقيدة أهل السنة والجماعة، المبنية على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فالعقيدة للعلوم والأعمال كلها بمثابة الأساس للبنيان، والأصول للأشجار. فكما أن البناء لا يقوم إلا على أساسه، والشجر لا يقوم إلا على أصوله، فإن أعمال المرء وعلومه لا تنفع إلا إذا قامت على اعتقاد صحيح فالعناية بالعقيدة مقدمة على العناية بسائر الأمور من طعام وشراب ولباس؛ لأن العقيدة هي التي يحيى بها المؤمن الحياة الحقيقية، وتزكو بها نفسه، وتستقيم بها أعماله، وتُتَقبَّل بها طاعاته، وترتفع بها درجاته عند الله عز وجل. وإذا اختلت العقيدة، أو فسدت، أو ذهبت انعكس ذلك على شؤونه كلها، وأعماله جميعها. ولهذا فإن للعقيدة الفاسدة شؤماً على صاحبها في أعماله وأخلاقه، وهي مردية ومهلكة له. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " وأيضاً المخالفون لأهل الحديث هم مظنة فساد الأعمال؛ إما عن سوء عقيدة ونفاق، وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان، ففيهم من ترك الواجبات واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب ما هو ظاهر لكل أحد، وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم " 1. بينما إذا صلحت العقيدة واستقام أمرها، وبنيت على كتاب الله وسنة نبيه

_ 1 نقض المنطق ص45

صلى الله عليه وسلم فإنَّ الإنسان يصلح؛ لأنَّ أساس الصلاح والاستقامة موجود فيه، كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} 1، فجعل سبحانه أصول الإيمان وأسسه ـ التي هي الاعتقاد ـ بمثابة الأصل الذي تقوم عليه الشجرة، وإذا كان الأصل راسخاً ثابتاً كان ذلك أكمل في الشجرة: في نمائها، وزكائها، وطيب ثمرها، بحسب صلاح هذا الأصل. قال شيخ الإسلام: " ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع" 2. ولهذا لزم أن تكون العناية بالعقيدة مقدمة على العناية بكل أمر، لاسيما والفساد في الاعتقاد قد كثر في الناس، وتعددت الانحرافات فيه في جوانب مختلفة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً " 3. وقال صلى الله عليه وسلم: " وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة " 4. وهذا الافتراق والانقسام هو بسبب الأهواء الباطلة المحدثة التي تجر الناس إلى اعتقادات منحرفة، وأعمال باطلة ليست من دين الله تبارك وتعالى. فيتعين على المسلم أن يقف على المعتقد الحق الصحيح، الذي أُخِذ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ذلك المعتقد المبارك الذي سمعه الصحابة من

_ 1 الآية 24 من سورة إبراهيم. 2 نقض المنطق ص45 3 أخرجه أبو داود رقم 4607، والترمذي رقم 2676 وقال: حسن صحيح، وابن ماجه رقم 43، وأحمد 4/126، وابن أبي عاصم في السنة رقم 54 وقال الألباني: إسناده صحيح، وابن حبان في صحيحه رقم 5، والحاكم في المستدرك 1/174ـ176 وقال: هذا حديث صحيح وليس له علة. 4 أخرجه أبو داود رقم 4597، وابن ماجه رقم 3992، وأحمد 4/102، وابن أبي عاصم في السنة رقم 2، 3 وصححه الألباني في الصحيحة رقم 203

النبي صلى الله عليه وسلم، وبلَّغوه للتابعين، وبلَّغه التابعون لمن بعدهم، ولا يزال محفوظاً بحفظ الله تبارك وتعالى، له أنصاره وأعوانه ومؤيدوه، إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها. وفي الحديث: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " 1. فالعقيدة باقية محفوظة بحفظ الله تبارك وتعالى. ومن الوسائل التي هيأها الله عز وجل لعباده لحفظ هذا المعتقد: هذه الرسائل التي كتبها أهل العلم ـ رحمهم الله ـ في بيان العقيدة، والدفاع عنها، والرد على أهل الباطل فيها. فلهم مؤلفات كثيرة في الاعتقاد تقريراً وتأصيلاً، وردّاً على الباطل وإزهاقاً للشبهات التي يثيرها أهل الباطل، ولكثير منهم متون مختصرة، وكتابات مطولة في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة. جهود متضافرة، وأعمال مباركة، ومساعٍ مشكورة قام بها هؤلاء العلماء، وكان هذا من الأسباب التي قيَّضها الله عز وجل لعباده لحفظ هذه العقيدة. وعندما يؤلف الواحد منهم مختصراً في الاعتقاد أعني ـ من كان على سَنن أهل السنة وطريقتهم ـ يؤلفه مبنياً على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن أمر العقيدة عند السلف ليس للناس، وإنما هو لله تبارك وتعالى. لم يكن أحد من أهل السنة والجماعة ينشئ للناس اعتقاداً من قِبَل نفسه، بل هم يتبعون ولا يبتدعون: يتبعون ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، كما وصفهم بذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال: " إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر " 2،

_ 1 أخرجه البخاري رقم 3641، ومسلم رقم 4932 2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد رقم 106

فكلمة عقيدة أو اعتقاد تصدق على هذا المعنى، وتدل عليه بأبلغ ما يكون، والألفاظ قوالب المعاني، وإذا دل اللفظ على المعنى المراد فما ثمة إشكال. ولهذا درج كثير من السلف رحمهم الله ـ منهم من كان متقدماً في القرون الثلاثة المفضلة ـ على تسمية أصول الإيمان بالعقيدة أو الاعتقاد. وإذا شئت مثالاً على ذلك فانظر مقدمة اللالكائي لكتابه شرح الاعتقاد، فقد ذكر رسائل مختصرة عديدة للسلف في الاعتقاد، كثير منها بهذا الاسم، وبعضهم في القرون الثلاثة المفضلة. فهذه الكلمة: كلمة واضحة، ومن يثير حولها جدلاً يثيره بلا مبرر ولا مسوغ. وعندما تضاف هذه الكلمة إلى إمام من أئمة السلف، كأن يقال مثلاً: عقيدة ابن تيمية، عقيدة أحمد بن حنبل، عقيدة عبد الغني المقدسي وهكذا، فهذه الإضافة أيضاً صحيحة؛ لأنها إضافة نسبية، حيث أضيفت إليه إما باعتبار جمعه لها، وجمع أدلتها، وعنايته بترتيبها وتبويبها وتصنيفها. أو باعتبار أنه مؤمن بها، ويدين الله عز وجل بمدلولها ومضمونها، فهي عقيدته التي يدين الله بها. ومن هنا نعلم أنه لا وجه لمنع مثل هذا الإطلاق:"عقيدة عبد الغني"بحجة أنها عقيدة المسلمين أو عقيدة الإسلام، وليست خاصة بأحد. فنقول: نعم هي عقيدة الإسلام، لكن الإضافة هنا إضافة نسبية بالاعتبارين المذكورين. والشأن في هذه الكلمة ـ أعني عقيدة فلان ـ مثل كلمة دين، فيقال: دين

الله: باعتبار أنه هو تبارك وتعالى أمر به وشرعه. ويقال: دين الرسول صلى الله عليه وسلم: باعتبار أنه صلى الله عليه وسلم آمن به وبلغه ودعا إليه. ويقال: دين المسلمين: باعتبار أنهم آمنوا به واعتقدوه. فالإضافة في كل موضع بحسب من أضيف إليه. ومن الشواهد اللطيفة على هذا المعنى: أن ابن أبي داود ـ رحمه الله ـ لمَّا ختم منظومته في العقيدة"الحائية"، وهي منظومة رائعة وجميلة، بدأها بقوله: تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تكُ بدعياً لعلك تفلحُ في ثلاث وثلاثين بيتاً، وهي من أحسن المنظومات المختصرة في عقيدة أهل السنة والجماعة، لما ختمها قال: هذه عقيدتي، وما أدين الله به. ثم صار رواة هذه القصيدة ـ بعده ـ كل واحد منهم يقول: وأنا أقول: هذه عقيدتي، وما أدين الله به. فقول ابن أبي داود: هذه عقيدتي. أي باعتبار أنه يدين الله عز وجل بمضمونها، وإلا فإن العقيدة المأخوذة من الكتاب والسنة هي عقيدة جميع المسلمين. إذاً فدور الحافظ عبد الغني المقدسي ـ رحمه الله ـ في هذه العقيدة إنما هو في جمعها، وترتيبها، وتنظيمها. وليس له فيها شيء أنشأه من قبل نفسه، وشاهد هذا أنك لا تجد فيها شيئاً إلا وهو مستند إلى دليل من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل إنه ذكر في بدايتها ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ أن العقيدة إنما تبنى ويقام أمرها على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن كذلك أخذت بصاحبها إلى سبيل الردى والهلاك. وهذا بخلاف قول صاحب الهوى: هذه عقيدتي. فإن صاحب الهوى إذا أطلق هذه

المقالة فمقصوده: أنَّ هذا هو التصور الذي عندي، وخلصت إليه بعقلي، ووصلت إليه بفكري. فيقال عقيدة فلان؛ لأن عقائدهم خلاصات للآراء والتجارب والتصورات. بينما عقيدة أهل السنة مأخوذة من الكتاب والسنة، ودورهم فيها إنما هو الجمع والترتيب. ولهذا ذكروا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مرة المعتقد وطلبوا منه تصنيف مختصر فيه، فقال لهم كلمة تدل على هذا المعنى، فقال: " أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم " 1. فلمَّا ألحوا عليه ألَّف كتابه العقيدة الواسطية، ولم يذكر فيه شيئاً إلا وعليه دليل من الكتاب والسنة. فهذا سَنن أهل السنة، ليس فيهم من ينشئ معتقداً من قبل نفسه، وإنما معتقدهم هو الإيمان بما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. هذا التأصيل المبارك الذي نشأ عليه هؤلاء الكرام ترتب عليه ثبات هذه العقيدة على مر الأيام، فلو نظرت في كتب أهل السنة في العقيدة: قديمها وحديثها، على اختلاف بلدانهم، وتباين ألسنتهم، وتباعد أزمانهم، تجدها عقيدة واحدة، وذلك لاتحاد وصفاء المنبع وسلامة المصدر الذي أخذت منه. فالعقيدة التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وآمنوا بها، هي العقيدة التي يعتقدها أهل السنة في هذا الزمان، الذين يأخذون عقيدتهم من كتاب الله وسنة نبيه

_ 1 مجموع الفتاوى 3/161، والعقود الدرية ص223، وانظر: مجموع الفتاوى 3/203

صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مأخوذة من منبع واحد. قال أبو المظفر السمعاني: " ومما يدل على أن أهل الحديث على الحق: أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة، أولها وآخرها، قديمها وحديثها، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار، في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون عنها، قلوبهم في ذلك على قلب واحد، ونقلهم لا ترى فيه اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا " 1. ولا يُعلَم أحدٌ منهم تنقَّل من دين إلى دين، أو من معتقد إلى آخر، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن " 2. بينما أهل الأهواء، الذين جعلوا المنبع: الهوى، أو الرأي، أو الوجد، أو الذوق، أو العقل، أو المنطق، أو الفلسفة، أو غير ذلك، فتجد عقيدة التلميذ مخالفة لعقيدة الشيخ؛ لأن الكل عنده تصورات وقناعات. بل تجد الشيخ نفسه له عقيدة، وبعدها بأيام تتغير إلى عقيدة أخرى.

_ 1 مختصر الصواعق 2/425 وانظر: رسالة لي بعنوان: ثبات عقيدة السلف وسلامتها من التغيرات. 2 نقض المنطق ص42

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول، وجزماً بالقول في موضع، وجزماً بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر. وهذا دليل عدم اليقين " 1. ولهذا قال السلف في التحذير من أهل الأهواء: " إياكم والتلون في دين الله، فإن دين الله واحد " 2؛ لأن التقلب صفة لأهل الأهواء، يتقلبون من معتقد إلى آخر. وقال معن بن عيسى: " انصرف مالك يوماً من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الجويرية ـ كان يتهم بالإرجاء ـ فقال: يا أبا عبد الله اسمع مني شيئاً أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي. قال: فإن غلبتني؟ قال: فإن غلبتك اتبعتني. قال فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال نتبعه. قال مالك: يا عبد الله، بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بدين واحد، وأراك تتنقل من دين إلى دين " 3. الأمر الثالث: وُجِد لهذه العقيدة ـ فيما أعلم ـ خمس نسخ خطية، اثنتان منها على ضوئهما حقق الكتاب بهذه الطبعة التي بعنوان:"الاقتصاد في الاعتقاد"، فقد اعتمد محققها الشيخ أحمد عطية الغامدي حفظه الله على نسختين خطيتين للكتاب. وهناك طبعة ثانية، طبعت في الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بتحقيق الشيخ عبد الله البصيري حفظه الله، حققها على ثلاث نسخ خطية، والنسخ الثلاث التي اعتمد عليها غير النسختين الخطيتين

_ 1 الفتاوى 4/50 2 انظر: الإبانة 2/505 3 الإبانة 2/508

اللتين اعتمد عليهما الشيخ أحمد، فتحصَّل من مجموع التحقيقين خمس نسخ خطية لهذا الكتاب. وقد طبع الكتاب لأول مرة ـ فيما أعلم ـ عام 1391هـ، بعناية وتحقيق الشيخ العلامة عبد الله بن حميد ـ رحمه الله ـ ضمن مجموع بعنوان"المجموعة العلمية السعودية"، جُمِع فيها بعض متون العقيدة المهمة، من بينها: عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي. الأمر الرابع: أن هذه الطبعة التي بين أيدينا طبعت بعنوان"الاقتصاد في الاعتقاد"، وجميع النسخ الخطية الخمس المتوفرة أُثبِت اسم الكتاب عليها بعنوان"عقيدة عبد الغني المقدسي"أو"عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي"أو"عقيدة الشيخ عبد الغني المقدسي"، وليس في نسخة منها ـ بما في ذلك النسختان الخطيتان اللتان اعتمد عليهما محقق هذه الطبعة ـ، لكنه ـ وفقه الله ـ اعتمد في ذلك على ترجمة الحافظ عبد الغني المقدسي، فقد ذكروا في ترجمته أن له جزءً في الاعتقاد اسمه"الاقتصاد في الاعتقاد"، فغلب على ظنه أنه هذا الكتاب. لكن الذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن الاقتصاد في الاعتقاد كتاب آخر للمؤلف وليس هذا لأسباب، منها: أولاً: أن"الاقتصاد في الاعتقاد"وُصِفَ ـ كما في ترجمة عبد الغني المقدسي ـ بأنه جزء كبير 1، وهذا فيما يظهر لي ـ والله أعلم ـ لا ينطبق على هذا الجزء الذي بين أيدينا، فهو يعتبر من الأجزاء الصغيرة. ثانياً: أن النسخ الخطية الخمس للكتاب كلها عُنونت باسم"عقيدة

_ 1 انظر: ذيل طبقات الحنابلة 4/19

عبد الغني المقدسي"، ولا يوجد في أي نسخة منها تسمية الكتاب:"الاقتصاد في الاعتقاد". ثالثاً: أن بعض من ترجم لعبد الغني المقدسي ذكر له كتاباً باسم العقيدة، وهو مطابق لما وُجد في نسخ هذا الجزء الصغير. ولهذا فالذي يترجح لي ـ حسب فهمي القاصر والله تعالى أعلم ـ أن اسم هذا الكتاب"عقيدة عبد الغني المقدسي". ثم لعله من المناسب هنا أن أوضح دلالة هذا العنوان:"الاقتصاد في الاعتقاد"سواء كان هو اسم كتابنا أو اسم كتاب آخر للحافظ عبد الغني رحمه الله. الاقتصاد في اللغة: هو التوسط والاعتدال، قال الله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} 1، وفي الحديث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " القصد القصد تبلغوا " 2 أي عليكم بالقصد. ويقول ابن مسعود"رضي الله عنه": " اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة " 3. والمراد بالاقتصاد في الاعتقاد: التوسط فيه. ومن المعلوم أن عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة وسط بين أهل الغلو وأهل الجفاء، أهل الإفراط وأهل التفريط. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم

_ 1 الآية 19 من سورة لقمان. 2 أخرجه البخاري رقم 6463 3 رواه المروزي في السنة رقم 89، والطبراني في الكبير 10/208، واللالكائي في شرح الاعتقاد رقم 115 كما رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد رقم 116 عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهي الخيار العدل؛ لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل: هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها " 1. الأمر الخامس: أود التنبيه على شيء قد نغفل عنه عند دراسة العقيدة. يقول ابن القيم رحمه الله: " كل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول " 2، يعني دخله شيء، إما رياء، أو إرادة الدنيا، أو نحو ذلك. فلا يُنتفع به، ولا يبارك فيه. ولهذا فإن حسن النية في دراسة العقيدة، ودراسة أمور الدين عموماً أمر لا بد منه. فعندما يتعلم العبد العقيدة لا يدرسها من أجل زيادة الاطلاع وكثرة المعرفة، وإنما عليه أن يتعلمها لأنها دين الله الذي أمر به عباده، ودعاهم إليه، وخلقهم لأجله، وأوجدهم لتحقيقه. فيجتهد في فهم أدلتها، ويتقرب إلى الله عز وجل باعتقادها والإيمان بها، ويرسخها في قلبه، ويُمكِّن لها في فؤاده.فإذا درس العقيدة بهذه النية أثمرت فيه ثمرات عظيمة، وأثرت في سلوكه وأعماله وأخلاقه، وفي حياته كلها. أما إذا كانت دراسته للعقيدة مجرد جدل ونقاش، ولم يعتن بجانب تزكية القلب بالإيمان والثقة والاطمئنان بهذا الاعتقاد الذي أمر الله عز وجل به عباده لم تكن مؤثرة. ومن الأمثلة على ذلك ـ فيما يتعلق بالإيمان برؤية الله ـ: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر، لا تُضامُون ـ وفي رواية:"لا

_ 1 إغاثة اللهفان 1/201 2 الفوائد ص 86

تُضارُّون"، وفي رواية:"لا تَضَّامون"ـ في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} 1 " 2. يعني صلاة الفجر وصلاة العصر. لاحظ الارتباط بين العقيدة والعمل، ذكر لهم العقيدة التي هي الإيمان برؤية الله، ثم ذكر لهم العمل الذي هو ثمرة هذا الاعتقاد الصحيح، فقال لهم:""فإن استطعتم ألا تغلبوا ... " فلو أن شخصاً درس أحاديث الرؤية، وتتبع طرقها وأسانيدها، وناقش المتكلمين في شبهاتهم حولها، ثم إنه مع ذلك أخذ يفضل السهر في الليل، ويضيع صلاة الفجر، بل قد لا يكون لهذه الصلاة وزن عنده، ينادي المؤذن الصلاة خير من النوم وهو بلسان حاله وفعله النوم عنده خير من الصلاة، فأي أثر لهذا الاعتقاد عليه. نسأل الله العافية. إن مثل هذا يحتاج إلى تصحيح نيته ومقصده في دراسة العقيدة حتى تثمر الثمرة المرجوة، وتحقق الآثار المباركة على صاحبها. فالمسلم يتعلم العقيدة لأنها عقيدته، ودينه الذي أمره الله عز وجل به، ويجتهد في أن تكون لها أثر عليه، وعلى عبادته وتقربه إلى الله عز وجل. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " والأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكل صفة عبودية خاصة هي من

_ 1 الآية 130 من سورة طه. 2 متفق عليه، أخرجه البخاري رقم 554، ومسلم رقم 1432 قال الحافظ ابن حجر في الفتح 1/41: " تضامون بضم أوله مخففاً أي لا يحصل لكم ضيم حينئذ، وروي بفتح أوله والتشديد من الضم، والمراد: نفي الازدحام ".

موجباتها ومقتضياتها أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على العلم والجوارح. فعلم العبد بتفرد الرب بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً. وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح. ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء وتثمر له من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية هي موجباتها. وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلا يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ارتباط الخلق بها " 1. فهذه بعض المقدمات رأيت من المناسب أن أقف عندها بين يدي قراءة هذا الكتاب. وأسال الله عز وجل أن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل وأن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل.

_ 1 مفتاح دار السعادة ص90

مقدمة المؤلف " بسم الله الرحمن الرحيم، ربِّ يسر وأعن، والحمد لله وحده، حسبنا الله ونعم الوكيل. قال الشيخ الإمام العالم الزاهد الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور الحنبلي المقدسي رحمه الله تعالى: الحمد لله المتفرد بالكمال والبقاء، والعز والكبرياء، الموصوف بالصفات والأسماء، المنزه عن الأشباه والنظراء، الذي سبق علمه في بريته بمحكم القضاء من السعادة والشقاء، واستوى على عرشه فوق السماء " بدأ المصنف ـ رحمه الله ـ هذا الكتاب بالبسملة:"بسم الله الرحمن الرحيم"، وحمدِ الله والثناء عليه. حَمِدَ الله عز وجل حمداً أرشد به إلى مضمون كتابه، ومقصوده في مؤلفه. وبعض أهل العلم يسمي هذا الصنيع: براعة الاستهلال، أي أنك من أول ما تقرأ الحمد أو الاستهلال الذي بدأ به المؤلف تعرف مضمون الكتاب ومقصوده. الحمد لله"الحمد: هو الثناء على الله مع حبه سبحانه؛ فإن الحمد لا يكون حمداً إلا عن ثناء وحب، فإذا كان ثناءً عرياً عن الحب فهو مدح. والله عز وجل يثنى عليه ويحب؛ لكماله وعزه وجلاله، وعظمته وكمال صفاته ونعوته سبحانه وتعالى، يُحمدُ على أسمائه وصفاته، ويُحمدُ على آلائه ونعمائه وأفضاله سبحانه. المتفرد بالكمال"المتفرد أي المتوحد الذي له الوحدانية، وله التفرد بالكمال في أسمائه وصفاته ونعوته وعظمته سبحانه وتعالى، فهو السيد الكامل في سؤدده، العظيم الكامل في عظمته، الرحيم الكامل في رحمته،

الملك الكامل في ملكه، فله عز وجل الكمال المطلق في أسمائه وصفاته. "والبقاء"أي والمتفرد بالبقاء، فهو الحي الذي لا يموت، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} 1، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} 2، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} 3 فكل شيء إلى الهلاك إلا الله عز وجل. والعز"فهو تبارك وتعالى العزيز. وللعز معان، منها: القهر، والغلبة، والقوة، والعظمة في أسمائه ونعوته وصفاته تبارك وتعالى. والكبرياء"أي العلو والعظمة والتعالي والرفعة، فهي كلها من معاني الكبرياء، كما في قولنا:"الله أكبر"، فلا شيء أكبر من الله، كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: " إنما تفر أن تقول: الله أكبر. وتعلم أن شيئاً أكبر من الله؟ " 4. فالله عز وجل له الكبرياء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: " سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة " 5، يسبح الله عز وجل بهذه الأمور الدالة على كماله وعظمته سبحانه وتعالى. الموصوف بالصفات والأسماء، المنزه عن الأشباه والنظراء"وهذا الاستهلال من المصنف ـ رحمه الله ـ من أروع ما يكون، ففيه تقرير إجمالي لمعتقد أهل السنة في باب الأسماء والصفات، وأنه قائم على أصلين،

_ 1 الآية 58 من سورة الفرقان. 2 الآية 88 من سورة القصص. 3 الآية 27 من سورة الرحمن. 4 أخرجه الترمذي رقم 2953 وقال حسن غريب، وأحمد 4/378، وابن حبان رقم 7206 وانظر: كتاب فقه الأدعية والأذكار " القسم الأول " ص280 ـ 289 5 أخرجه أبو داود رقم 873، والنسائي رقم 1049، 1132، وأحمد 6/24 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.

ضمَّنهما المصنف قوله هذا، هما: الإثبات بلا تمثيل، وإليه الإشارة بقوله:"الموصوف بالصفات والأسماء". والأصل الثاني: التنزيه بلا تعطيل، وإليه الإشارة بقوله:"المنزه عن الأشباه والنظراء"أي أنه عز وجل منزه عن الشبيه والنظير،: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. "الذي سبق علمه في بريته بمحكم القضاء" بريته: أي المخلوقات التي برأها وأوجدها، فعلمه تبارك وتعالى في البرية أزلي، سابق لوجود المخلوقات، يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال جل وعلا: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 2، وقال سبحانه: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} 3. أي أن ما يقع من قضائه محكم ـ وكل قضائه سبحانه وتعالى محكم ـ في بريته فعلمه فيه سابق. وفي هذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله: ما شئتَ كان وإن لم أشأْ ... وما شئتُ إن لم تشأْ لم يكن خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن4 الشاهد: قوله: خلقت العباد على ما علمت. هذا نظير قول المؤلف:"الذي سبق علمه في بريته بمحكم القضاء"أي أن علمه سابق ومحيط. من السعادة والشقاء"يعني علم عز وجل في الأزل مَن السعيد ومَن الشقي، مثل ما قال الشافعي رحمه الله:"

_ 1 الآية 11 من سورة الشورى. 2 الآية 12 من سورة الطلاق. 3 الآية 28 من سورة الجن. 4 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد رقم 1304

فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن كل هذا علمه الله عز وجل في الأزل، ثم كتبه في اللوح المحفوظ، ثم شاءه، ثم أوجده تبارك وتعالى كما شاء. فسبق علمه في بريته بمحكم القضاء يعني بما قضى عليهم وقدَّر من شقاوة أو سعادة. ومن"هنا تفسيرية بيانية، لقوله محكم القضاء. فمحكم القضاء للبرية أن منهم شقياً وسعيداً. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 1 وقال سبحانه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2 فسبق علمه تبارك وتعالى في بريته ـ يعني مخلوقاته ـ بمحكم القضاء من السعادة والشقاء. " واستوى على عرشه فوق السماء " فيه:إثبات استواء الله تبارك وتعالى على العرش على ما يليق بكماله وجلاله. فهنا ضمَّن المؤلف الحمد أصولاً ونتفاً من المعتقد، يأتي بسطها في هذه الرسالة. ففي هذا الحمد الذي افتتح به المصنف أمران: أولاً: إرشاد لمن يقرأ هذا الكتاب من أوله إلى مضمونه. ثانياً: حمد لله تبارك وتعالى في أوله على نعمة التوفيق لهذا المعتقد، الذي هذه بعض أصوله وأسسه التي يقوم عليها. "وصلى الله على الهادي إلى المحجة البيضاء، والشريعة الغراء، محمد سيد المرسلين والأنبياء، وعلى آله وصحبه الطاهرين الأتقياء، صلاة دائمة إلى

_ 1 الآية 36 من سورة النحل. 2 الآية 8 من سورة فاطر.

يوم اللقاء " ختم المصنف هذا الحمد والثناء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، واكتفى بالصلاة دون السلام، والجمع بينهما هو الأكمل لقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 1 لكن لعله ند عنه قلمه. الهادي": الهداية هنا المراد بها هداية الدلالة والإرشاد. إلى المحجة البيضاء" يعني الطريقة الواضحة البينة الظاهرة. والشريعة الغراء " أي الدين القويم الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:"اعلم ـ وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل ـ أن صالح السلف، وخيار الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة، اتفقت أقوالهم، وتطابقت آراؤهم على: الإيمان بالله عز وجل، وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم، سميع بصير، لا شريك له ولا وزير، ولا شبيه له ولا نظير، ولا عدل ولا مثل". اعلم"هذه الكلمة فعل أمر من العلم، ويؤتى بها في الأمور العظيمة المهمة، التي ينبغي أن يعتني بها المخاطَب، ففيها تحفيز للهمم، وحض للسامع على الاهتمام بالأمر الملقى عليه، وحسن الاستماع إليه، وإعطائه حقه من الرعاية والعناية والاهتمام. وفي القرآن الكريم قرابة الثلاثين آية يأمر الله عز وجل فيها بالعلم بقوله جل وعلا:"اعلم"أو"اعلموا"ثم يذكر أموراً عظيمة، جلُّها يتعلق بتوحيد الله والإيمان به وبأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، إما علمه الشامل المحيط، أو قدرته، أو عظمته، أو غناه، أو كماله. ومن ذلك قوله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} 2، وقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3،

_ 1 الآية 56 من سورة الأحزاب. 2 الآية 19 من سورة محمد. 3 الآية 231 من سورة البقرة.

وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} 1. وهذا يشعر ـ كما أسلفت ـ بأهمية الأمر الذي يذكر عقب هذه الكلمة. ولا شك ولا ريب أن ما سيذكره المصنف ـ رحمه الله"ـ في كتابه أمر في غاية الأهمية، بل هو أهم الأمور وأعظمها، ألا وهو توحيد الله عز وجل، والإيمان به وبأسمائه وصفاته ونعوته الدالة على عظمته وكماله وجلاله. لأجل هذا صدر المؤلف رحمه الله كتابه بهذه الكلمة:"اعلم"أي: أيها القارئ لهذا الكتاب والمطلع عليه ثم ذكر مسائل الكتاب. ومن نصح المصنف ـ رحمه الله وجزاه خير الجزاء ـ: أن دعا لقارئ الكتاب، ولمن يطلع عليه بدعوة مباركة، لها تعلق أيضاً بموضوع الكتاب ومضمونه فقال: وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل". لما يرضيه"وهذا فيه إشارة إلى أن أهم ما ينبغي أن يهتم به المسلم في حياته كلها نيل رضى الله عز وجل، فنيل رضى الله هو غاية الغايات، وأعظم المقاصد. فأهم غاية عند المسلم وأعظم مقصدٍ لديه أن ينال رضى ربه تبارك وتعالى. والله عز وجل يرضى عن عبده بأقوال وأعمال واعتقادات، جاء بها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يُنال رضى الله عز وجل وولايته للعبد إلا بذلك، منها ما هو متعلق باللسان، ومنها ما هو متعلق بالقلب، ومنها ما هو متعلق بالجوارح، كما قال الحسن البصري رحمه الله: " ليس الإيمان بالتمني ولا

_ 1 الآية 267 من سورة البقرة.

بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال " 1، والله عز وجل يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه} 2. فلهذا دعا لك قارئ الكتاب بالتوفيق إلى هذه الأمور الثلاثة التي يُنال بها رضا الله: الأقوال والنيات والأعمال. ثم في دعوته هذه: تنبيه على أمر في غاية الأهمية، ألا وهو أن صلاح العبد في أقواله وأعماله واعتقاداته إنما يكون بتوفيق الله سبحانه وتعالى. ولهذا فإن حاجة العبد إلى إصلاح الله له وتوفيقه هي أعظم الحاجات، وأكبر الأمور التي ينبغي للعبد أن يسعى في طلبها ونيلها. وإذا لم يوفق الله عبده لذلك ضل، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرتجزون يوم الخندق: " والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا " 3. وفي القرآن يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} 4، ويقول سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5 والآيات في هذا المعنى كثيرة. ولهذا يجب على العبد أن يقبل على الله عز وجل إقبالاً صادقاً، ويسأله سبحانه"أن يصلح له عقيدته وإيمانه وعمله ونيته.

_ 1 رواه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل رقم 56 2 الآية 123 من سورة النساء. 3 أخرجه البخاري رقم 4140 وفي لفظ عند البخاري رقم 6620: " ولا صمنا ولا صلينا ". قال الحافظ في الفتح 11/524 عن اللفظ الأول: " به يحصل الوزن، وهو المحفوظ ". 4 الآية 7 من سورة الحجرات. 5 الآية 17 من سورة الحجرات.

ولو تأملت أدعية النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت الكثير منها يدور حول هذا المعنى، فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر " 1. من القول والنية والعمل"في ذكره لهذه الأمور الثلاثة ـ القول والعمل والنية ـ: إشارة إلى أن الإيمان الذي يُنال به رضا الله عز وجل مكون من هذه الأمور الثلاث. قال تعالى: {لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 2 فليس الإيمان اعتقاداً فقط، ولا قولاً فقط، ولا عملاً فقط. بل الإيمان مكون من هذه الأمور الثلاثة: القول والنية والعمل. قال صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من"الإيمان " 3. ففي قول المصنف هذا: إشارة إلى أن الإيمان منه ما يتعلق بالقلب وهو النية أو الاعتقاد الصحيح، ومنه ما يتعلق باللسان وهو النطق بالشهادتين ثم الأقوال التي هي ذكر الله وتلاوة كتابه وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وغير ذلك من الأقوال التي هي من الإيمان، ومنه ما يتعلق بالجوارح كالأعمال الصالحة المقربة إلى الله تبارك وتعالى. وسيأتي بيان هذا الموضوع لاحقاً إن شاء الله. والنية: النية في كلام أهل العلم تقع بمعنين 4:

_ 1 أخرجه مسلم رقم 7841 2 الآية 3 من سورة المائدة. 3 أخرجه البخاري رقم 7، ومسلم رقم 152 واللفظ له. 4 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص8

المعنى الأول: النية التي تميز بها العبادات بعضها عن بعض، ومحلها القلب. وهذا الاستعمال هو الذي يكثر عند الفقهاء في كتب الفقه والأحكام، فمثلاً: الأعمال والحركات والأقوال التي يؤتى بها في صلاتي الظهر والعصر واحدة، وإنما يحصل التمييز بينهما بالنية. وكذلك العمل المؤدى في صيام الفرض والنفل واحد، ولا يفصل بينهما إلا بالنية. والمعنى الثاني: تمييز المقصودِ بالعمل ـ يعني مَن قُصِدَ بالعمل ـ، ما نية الإنسان في عمله؟ هل نيته وجه الله والدار الآخرة؟ هل النية لله أم لغير الله؟ أم النية لله ولغيره؟ ولهذا هناك نية صالحة وهي التي توصف بالإخلاص، ونية فاسدة وهي التي فيها تسوية لغير الله تبارك وتعالى به. ومقصود المؤلف ـ رحمه الله ـ بالنية هنا: الإطلاق الثاني، الذي هو بمعنى الإخلاص وصحة الاعتقاد وسلامة الإيمان وسلامة القصد بأن لا يبتغي العامل بعمله إلا وجه الله تبارك وتعالى 1. والكلام على النية بهذا الإطلاق يكثر في كتب الاعتقاد: كتب التوحيد، فهي مؤلفة لتصحيح النية: نية العمل، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " 2 " وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل""أعاذنا أي وقانا، والعوذ: الالتجاء إلى

_ 1 وفي هذا الموضوع كتب كثيرة، منها: كتاب الحافظ ابن أبي الدنيا الإخلاص والنية، وهو كتاب جميل ومفيد لطالب العلم. والنية في إطلاقه بمعنى الإخلاص. 2 أخرجه البخاري رقم 1، ومسلم رقم 4904

الله عز وجل والاحتماء والاعتصام به سبحانه وتعالى. وهو عبادة من أجل العبادات، ولا تكون الاستعاذة إلا بالله، فهو الذي يعيذ عباده، لا معيذ لهم سواه، ولا حافظ لهم ولا واقي ولا كافي لهم إلا هو، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1، وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 2 فالذي يستعيذ بالله تبارك وتعالى ويلتجئ إليه يوفَّق لكل خير وحفظ ووقاية وكفاية. الزيغ": هو الميل والانحراف عن الجادة السوية والصراط المستقيم. فالمؤلف ـ رحمه الله ـ دعا لك بصلاح القول والعمل والنية، بمعنى أن تكون في قولك وعملك ونيتك مستقيماً على الجادة. ثم أتبع ذلك بسؤال الله أن يعصمك ويسلمك ويعيذك من الزيغ أي: من أن تميل عن هذه الأمور وتنحرف عنها. والزلل الهويُّ والسقوط، يقال: زلت قدم فلان أي:سقط. فدعا لك بأن يجنبك الله الميل عن الصراط، وأن يجنبك أمراً أشد منه وهو السقوط. فهذه دعوة مباركة وعظيمة، وجامعة لأبواب الخير، جمعت طلب الخير وتحصيله، وطلب الوقاية من الشر ومن الوقوع فيه. "أنَّ صالح السلف، وخيار الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة اتفقت أقوالهم وتطابقت آراؤهم على " هنا ينبه المصنف ـ رحمه الله ـ على أن أمور الاعتقاد مجمع عليها بين السلف، وفيها اتفاق في كلمتهم، ولا خلاف بينهم في شيء منها. فليس بين صالح السلف وخيار الخلف خلاف في المعتقد، بل

_ 1 الآية 101 من سورة آل عمران. 2 الآية 36 من سورة الزمر.

معتقدهم واحد، وأصول الإيمان عندهم واحدة. نعم هناك خلاف شاسع وبون واسع بين صالح السلف وسيئ الخلف، فهم لهم مخالفون، وعن طريقتهم منحرفون، وعن سبيلهم ضالون. وسيئ الخلف: هو الذي انحرف عن الكتاب والسنة وطريقة السلف رحمهم الله، ومن كان كذلك فلا شك أنه مفارق ومخالف لأهل السنة والجماعة في المعتقد. صالح السلف"الصلاح صفة للمعتصم بكتاب الله والمتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقتفي لآثار الصحابة رضوان الله عليهم، فمن كان هذا شأنه فهو الصالح، ومن كان بخلاف ذلك فهو الطالح. وخيار الخلف"هم الذين يسيرون على طريقة صالح السلف، والشرار من كانوا على خلاف ذلك. وحظ الإنسان من الخير بحسب حظه من طريق صالح السلف، ومن كان بصالح السلف أشبه فهو إلى الحق والخير أقرب. وسادة الأئمة"السيد هو المقدم، فقوله: سادة الأئمة أي: مقدموهم، أي: المتقدمون من أئمة أهل العلم، الذين لهم قدم صادقة وعلم راسخ وثبات على الحق والإيمان. وعلماء الأمة": الذين تضلعوا بالعلم، وتمكنوا فيه. كل هؤلاء:"اتفقت أقوالهم، وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله، وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم، سميع بصير، لا شريك له ولا وزير، ولا شبيه له ولا نظير، ولا عدل ولا مثل"هذه خلاصة لمعتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات، فتوحيد الأسماء والصفات ـ عند أهل السنة والجماعة ـ قائم على الإثبات والنفي: إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له

رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال والأسماء الحسنى. ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، ومن أن يشبهه أحد من خلقه في شيء من خصائصه وصفاته سبحانه. ثم ذكر أمثلة للإثبات ولا يقصد بها الحصر، بل تدل على غيرها، وترشد إلى ما سواها. أحد فرد": أي متفرد بنعوت الكمال وصفات الجلال والعظمة والكبرياء، فهو سبحانه وتعالى أحد فرد في أسمائه وصفاته وجميل نعوته. وأهل العلم يقولون إن الأحد الفرد اسمان من أسماء الله الحسنى يدلان على أمرين: أولهما: نفي النظير والمثيل والمساوي والمشابه لله تبارك وتعالى، فالله أحد فرد أي: لا مثيل له في شيء من أسمائه وصفاته ونعوته سبحانه، فهو أحد ليس له مثيل. وثانيهما: ثبوت صفات الكمال ونعوت الجلال له سبحانه وتعالى، فهو أحد أي: متفرد بالصفات الكاملة والنعوت العظيمة والصفات الجليلة"والأسماء الحسنى الكاملة. فهذان الأمران يدل عليهما الأحد الفرد الواحد. الصمد": أي الذي تصمد إليه الخلائق، وتقصده في حاجاتها كلها، فهو صمد أي الخلائق تصمد إليه في حاجاتها كلها، وترجع إليه في كل مطالبها ومقاصدها. ومن معاني الصمد: الكامل، كما جاء عن ابن عباس: " الصمد: السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه،

والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي إلا له " 1. فالصمد الذي له نعوت الكمال وصفات الجلال سبحانه وتعالى. حي قيوم": هذان الاسمان ترجع إليهما كما يقول أهل العلم جميع الصفات، فالحي: ترجع إليه الصفات الذاتية، مثل: السمع والبصر واليد والقدم وغير ذلك. والقيوم ترجع إليه صفات الأفعال، مثل: الاستواء والنزول والإحياء والإماتة والإنعام والإكرام وغير ذلك. والقيوم: أي القائم بنفسه المقيم لغيره من خلقه. ومن الأقوال التي قيلت في الاسم الأعظم أنه الحي القيوم. وقيل: إنه اسمه الله. وهذان القولان من أقوى ما قيل في الاسم الأعظم، والخلاف فيه طويل عند أهل العلم، والأقوال التي قيلت فيه كثيرة، لكن من أقوى ما قيل في ذلك إنه اسمه الله، أو إنه اسمه الحي القيوم. ومن الأسباب المرجِّحة لكون"الحي القيوم"هو اسم الله الأعظم: أن جميع الصفات ترجع إلى هذين الاسمين. فالحي ترجع إليه الصفات الذاتية، والقيوم ترجع إليه صفات الأفعال. سميع"أي أن الله عز وجل متصف بالسمع، فهو سبحانه يسمع جميع الأصوات، على تفنن الحاجات واختلاف اللغات. فلو أن الناس كلهم من أولهم إلى آخرهم قاموا في صعيد واحد، كلهم من زمن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وسألوا الله وتكلموا جميعاً في لحظة واحدة، كل واحد

_ 1 رواه ابن جرير الطبري في تفسيره رقم 38329

بلغته، لسمعهم جميعاً دون أن يختلط عليه صوت بصوت، أو لغة بلغة، أو حاجة بحاجة. وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر " 1 فيسمع سبحانه الجميع، مع أن لغاتهم مختلفة، وحاجاتهم متباينة، وأصواتهم متغايرة. بينما الإنسان لو تكلم عنده اثنان، وبلغة واحدة، لاختلط عليه كلامهما، ولاحتاج أن يُسكِت أحدهما ليسمع كلام الآخر، كما قال"تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} 2. بصير" أي متصف بالبصر، يرى سبحانه كل شيء من فوق سبع سماوات، يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء. لو كان ليل دامس، ونملة سوداء، على صخرة صماء، ودنوت منها واقتربت وحلَّقت بعينيك فإنك لا تراها، لكنَّ الله عز وجل يراها من فوق سبع سماوات، بل يرى جريان الدم في عروقها، ويرى سبحانه كلَّ جزء من أجزائها. فهو سميع بصير، يسمع كلَّ الأصوات، ويرى جميع المرئيات. ولإيمان المسلم بهذه الصفة وغيرها من صفات الله تعالى أثر على سلوكه وعمله. رأى أحد السلف رجلاً وامرأة في ريبة، فاكتفى بقوله لهما: إنَّ الله يراكما، سترنا الله وإياكم. ذكَّرهما بهذه العقيدة التي تؤثر عليهما غاية التأثير في استقامة العمل إن كان لهما قلب. فهذه أمثلة للصفات الثبوتية: الأحد الفرد الصمد الحي القيوم السميع البصير، وهي مرشدة إلى غيرها، ودالة على ما سواها.

_ 1 أخرجه مسلم رقم 6517 2 الآية 4 من سورة الأحزاب.

ثم بدأ بذكر ما يتعلق بصفات النفي، فقال:"لا شريك له ولا وزير، ولا شبيه له ولا نظير، ولا عَِدل ولا مثل": وهذه كلها صفات منفية، ينزه الله تبارك وتعالى عنها، فكما أن المسلم مطالب بإثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، فهو كذلك مطالب بأن ينزه الله تعالى عما نزه عنه نفسه. فقد نزَّه الله عز وجل نفسه عن هذه الأمور كلها: الشريك والوزير والشبيه والنظير والعدل والمثل. والشريك: هو المساوي، والشرك هو التسوية، وسُمِّي الشرك شركاً لأن فيه تسوية لغير الله به. قال تعالى عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. هذا هو الشرك: أي جعلوا غير الله مساوياً له، سواء في ربوبيته، أو ألوهيته، أو أسمائه وصفاته. ولهذا فإن الشرك أنواع ثلاثة: شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية، وشرك في الأسماء والصفات. كما أن التوحيد ثلاثة أقسام، فالشرك ثلاثة أقسام، كل نوع من أنواع التوحيد يقابله نوع من أنواع الشرك. ولا وزير"الوزير: هو المعين والمساعد، وفي دعوة موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} 2 أي معيناً ومساعداً، يعاونني ويساعدني في أمري. فالله عز وجل منزه عن الوزير، فليس له سبحانه معين ولا مساعد. قال الله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 3، ظهير: أي معين ووزير ومساعد. ولا شبيه"وفي أكثر النسخ:"ولا شبه"وهما بمعنى واحد. والشبه أو الشبيه: هو المماثل والنظير. فالله عز وجل لا شبيه له في شيء من خصائصه وصفاته.

_ 1 الآيتان 97، 98 من سورة الشعراء. 2 الآيتان 29، 30 من سورة طه. 3 الآية 22 من سورة سبأ.

ولا نظير له"النظير ـ أيضاً ـ المماثل، فالله عز وجل ليس له نظير، أي: ليس له مماثل أو مساوي في شيء من صفاته سبحانه وتعالى. ولا عَِدل"ـ بفتح العين وبكسرها ـ، كلاهما صحيح، يقول الزجَّاج: " العَدل والعِدل واحد في معنى المثل " 1. فالعَدل والعِدل هما سواء في المعنى وهو المساوي والمماثل. مثل الشيء، يقال: عِدله وعَدله. فالله عز وجل لا عَدل له، ولا عِدل له أي: لا مماثل ولا مساوي له تبارك وتعالى. ولا مثل"أي: ليس له مثيل في شيء من صفاته، كما قال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا} 3، وقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 4، فالله عز وجل لا مثل له هذه الأمور التي نفاها: الشريك والوزير والشبيه والنظير والعَِدل والمثل، كثير منها متقارب في المعنى والدلالة، وبعضها يدل على بعض، لكن المؤلف أتى بهذه الألفاظ المتقاربة في النفي ليؤكد على أهمية تنزيه الله تبارك وتعالى عن ذلك. " وأنه عز وجل موصوف بصفاته القديمة " أي: من الأمور التي تطابقت عليها كلمة السلف، واتفق فيها قولهم أنه عز وجل موصوف بصفاته القديمة، أي الموصوف بها في الأزل، فالله عز وجل الأول الذي ليس قبله شيء بصفاته تبارك وتعالى، فصفاته سبحانه وتعالى أزلية. ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه عند دخول المسجد: " أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه

_ 1 تهذيب اللغة 2/209 2 الآية 11 من سورة الشورى. 3 الآية 65 من سورة مريم. 4 الأية 4 من سورة الإخلاص.

القديم، من الشيطان الرجيم " 1، ففي هذا الحديث وصفٌ لسلطان الله بالقدم، وهو من أوصافه سبحانه؛ لأن السلطان مصدر، والمصدر إذا أضيف إلى الله عز وجل يراد به تارة الصفة، وتارة يقصد به أثر الصفة، وهنا السلطان الموصوف بالقدم ليس أثر الصفة وإنما هو صفة الله سبحانه وتعالى. فسلطانه موصوف بالقدم، والمراد بالقدم: الأولية التي ليس قبلها شيء، كما قال الله عز وجل: {هُوَ الأَوَّلُ} 2 وقد فسره النبي"صلى الله عليه وسلم"في دعائه فقال: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء " 3، فهذا هو مراد المصنف ـ رحمه الله ـ بقوله:"بصفاته القديمة".

_ 1 أخرجه أبو داود رقم 466 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم441 2 الآية 3 من سورة الحديد. 3 أخرجه مسلم رقم 6827

مصدر التلقي

[مصدر التلقي] التي نطق بها كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وصح بها النقل عن نبيه وخيرته من خلقه محمد سيد البشر" هنا يتكلم المصنف ـ رحمه الله ـ عن مصدر الاستدلال لهذه العقيدة، وهذا الأمر في غاية الأهمية، ولو طالعت عامة كتب السلف المؤلفة في الاعتقاد سواء المطول منها أو المختصر لوجدت أنها تبدأ بهذه البداية: بذكر مصدر الاستدلال، الذي هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وفي هذا إرشاد إلى أن المعتقد الذي ضُمِّن هذا الكتاب هذا مصدره، وهذا منبعه: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وإذا سلِم للإنسان مصدره سلِم له ـ تبعاً لذلك ـ إيمانه ومعتقده، فمن كان مصدره في الاعتقاد: الكتاب والسنة سلم له اعتقاده. ومن اتخذ لنفسه مصدراً سواهما ضل وانحرف. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " كثيراً ما كان شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يقول: من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم " 1. ولابن أبي العز الحنفي كلمة جميلة، يقول فيها: " كيف يرام الوصول إلى علم الأصول بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم " 2، أي أن هذا محال، فلا يمكن للعبد أن يصل إلى الأصول التي هي العقيدة الصحيحة السليمة إلا من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بأن يأخذ عقيدته من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ولهذا اعتنى السلف ـ رحمهم الله ـ بافتتاح مؤلفاتهم في المعتقد بالإرشاد

_ 1 مفتاح دار السعادة ص 90 2 شرح العقيدة الطحاوية ص 18

إلى هذا المصدر؛ تنبيهاً للمسلم وطالب العلم إلى أهمية إقامة المعتقد على هذا المصدر؛ ليسلم له معتقده. فليس المعتقد للرجال، ولا لآرائهم وأقوالهم"، ولا لأذواقهم ومواجيدهم وأهوائهم، وإنما المعتقد يؤخذ عن الله عز وجل. يقول الوالد ـ حفظه الله ـ: " إنَّ عقيدة أهل السنة والجماعة نزلت من السماء، ولم تخرج من الأرض " نزلت من السماء لأنها وحي من الله، فليس ثمة مجال لأن يخترع إنسان، أو ينشئ، أو يبتدع، أو يتصور، أو يتكلف؛ لأن العقيدة وحي من الله عز وجل. ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد البلاغ، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} 1، فهو مبلغ عن الله تبارك وتعالى، فالرسول مهمته إبلاغ كلام مرسله، ومهمة أتباعه والواجب عليهم سلوك نهجه، وترسم خطاه، فهذا شأن عقيدة أهل السنة، أما عقائد أهل الأهواء فقد خرجت من الأرض ونبتت فيها؛ لأنها من نتاج عقولهم ونسج أفكارهم وحصاد أوهامهم. بدأ المؤلف هذه العقيدة بهذه البداية المهمة، لينبه طالب العلم على أهمية إصلاح مصدر التلقي وتصحيحه؛ بأن يقيم دينه على الكتاب والسنة. كما قال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ: " ندور مع السنة حيث دارت " 2 أي نفياً وإثباتاً، ما ثبت في الكتاب والسنة أثبتناه، وما نفي في الكتاب والسنة نفيناه. ويقول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: " لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نتجاوز القرآن والحديث " 3، وأقوالهم في هذا

_ 1 الآية 48 من سورة الشورى. 2 رواه اللالكائي 1/64 3 انظر: أقاويل الثقات ص234

المعنى كثيرة جداً. فالسلف هذه طريقتهم: يبنون المعتقد، ويؤسسون الديانة على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن أظهر الأمثلة على حرص السلف على تأصيل هذا المبدأ، والتأكيد عليه: أنهم يذكرونه حتى في كتبهم الصغيرة. فهذا مثلاً ابن أبي داود ـ رحمه الله ـ بدأ قصيدته"الحائية"بقوله: تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعياً لعلك تفلح ... ودن بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح هذه البداية لتصحيح مصدر الاستدلال، فإذا صُحِحَ المصدر أُعطِي الطالب أمثلة من أمور الاعتقاد التي جاءت في الكتاب والسنة، وبهذا يسير المؤمن مطمئناً، سوياً على صراط مستقيم. بينما أصحاب الأهواء يتأرجحون في مصادر الاستدلال، تارة العقل، وتارة الوجد، وتارة المنطق، وتارة الرأي، وتارة الهوى، فأنى لهم أن يستقيم لهم اعتقاد، أو يصح لهم إيمان، أو يسلم لهم طريق؟! ولهذا كان من أهم ما ينبغي أن يهتم به المسلم وطالب العلم في الإيمان والاعتقاد أن يصحح المصدر الذي يقيم عليه دينه واعتقاده. ولأجل هذا قال المصنف:"التي نطق بها كتابه العزيز". لاحظ مقارنة بين هذه الطريقة وطريقة المتكلمين، فصفات الله الثبوتية عند المتكلمين لا مجال لمعرفتها إلا بالعقل. فمثلاً الصفات السبعة التي يثبتها الأشاعرة، إنما يثبتونها لدلالة العقل عليها، أما الصفات الأخرى التي جاءت

في القرآن يقولون: لم يدل عليها العقل فلا نثبتها. إذاً مصدر التلقي اختلف، فصاحب السنة يقول: التي نطق بها الكتاب. بينما يقول الأشعري والمتكلم عموماً: التي نطق بها عقلي وتوصل إليها فكري، أما ما سوى ذلك فلا أثبته. فشتان بين الطريقتين، وفرقٌ بين المسلكين. لما ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ مصدر التلقي عند أهل السنة، وصف هذا المصدر فقال:"كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد"وأراد بذلك أن ينبه طالب العلم إلى أن هذا المصدر هو كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كل ما فيه حق، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} 1، وقال {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} " 2، وقال سبحانه {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} 3، وقال: {و َتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 4 أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فكلماته سبحانه وتعالى حق وصدق، ولا يأتيه الباطل. فلو كان هذا من كلام الناس لأخذت منه وأنت خائف، فربما يكون خطأً، أو يكون فيه انحراف، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 5. أما وهو كلام رب العالمين، فخذ وأنت مطمئن؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. إذا مرت عليك آيات الصفات في القرآن الكريم، هل يجوز لك أن تقلق أو تتردد في قبولها؟ عندما يمر عليك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 6، أو قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 7 أو قوله: {غَضِبَ اللَّهُ

_ 1 الآية 122 من سورة النساء. 2 الآية 87 من سورة النساء. 3 الآية 95 من سورة آل عمران. 4 الآية 115 من سورة الأنعام. 5 الآية 82 من سورة النساء. 6 الآية 5 من سورة طه. 7 الآية 64 من سورة المائدة.

عَلَيْهِمْ} 1 أو نحوها، عندما تمر عليك مثل هذه الآيات، هل لك أن تقلق؟! أو تستوحش منها؟! أم أنك تأخذها بغاية الاطمئنان؟! "لا شك أنك تأخذها بغاية الاطمئنان؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد. أمَّا المبتدع فطريقته في التعامل مع هذه الصفات التي في القرآن طريقة أخرى، بل وضع المبتدعة لطلابهم قواعد يحذرونهم بها من نصوص القرآن الكريم، فيقرأ المبتدع القرآن الكريم وهو خائف أن يفسد عليه عقيدته؛ لأنَّ ظواهر القرآن ـ عندهم ـ فيها تشبيه وتجسيم، وفيها أمور لا تليق بالله ـ بزعمهم ـ. ولهذا يقولون لطلابهم: اقرأوا القرآن مجرد قراءة، إياكم أن تحاولوا أن تفهموا شيئاً من القرآن. ووضعوا قواعد كثيرة في هذا الصدد، ولهم كلام في غاية السوء والخبث في هذا المجال. ومن ضمن هذه القواعد التي وضعوها في الصد عن تدبر القرآن: أن القرآن لا يتدبره إلا مجتهد. وأنه لا يوجد مجتهدون في زماننا. والنتيجة: أن القرآن لا يؤخذ منه ولا يُتدبر، وإنما يقرأ قراءة عابرة لمجرد التعبد. وعندما يمرون بنصوص الصفات يقرأونها مجرد قراءة، بدون أي فهْم، فهم يستوحشون من كلام الله ومن المعتقد الذي ذكره الله في كتابه وتعبَّد عبادَه بتفهمه وتدبره غاية الاستيحاش، وينفرون منه أشد النفور. وصح بها النقل عن نبيه": هذا تنبيه للعناية بالصحيح الثابت، وأن المسلم لا يأخذ كلَّ ما يقال فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لابد أن يصح به السند إليه صلى الله عليه وسلم. أما الأحاديث الضعيفة، والأحاديث الواهية والموضوعة فلا تقام عليها عقيدة، ولا يؤسس عليها إيمان. إنما تؤسس العقيدة والإيمان على الأحاديث الثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وخيرته من خلقه"، في بعض النسخ"من جميع خلقه"والمؤدى واحد. محمد سيد البشر، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وجاهد في الله حق جهاده، وأقام الملة، وأوضح المحجة، وأكمل الدين، وقمع الكافرين، ولم يدع لملحد مجالاً، ولا لقائل مقالاً تحت هذه الكلمة كلام قد يطول، لكن المصنف ـ رحمه الله ـ لمَّا وصف كتاب الله بتلك الصفات التي توجب على المسلم الإقبال عليه وتدبره والأخذ عنه، ثنَّى بذكر هذه الصفات للنبي المختارصلى الله عليه وسلم؛ ليقبل المسلم وطالب العلم على الأحاديث التي صحت عنه، ويأخذ منها عقيدته بغاية الاطمئنان؛ لأنَّه رسول مبلغ عن الله، بلَّغ البلاغ المبين، ونصح لعباد الله، وأرشدهم لدينه، وبيَّن المحجة، وأقام الملة، ولم يدع لقائل مقالاً ولا لمتكلم مجالاً. وإذا كان الأمر بهذه المثابة وبهذه المكانة، فلماذا يُترك قولُه ويصار إلى قول غيره في المعتقد؟! لماذا لا يسع الناس ما جاء عنه. الذي بلغ رسالة ربه"بلغ"صلى الله عليه وسلم رسالة الله وافية كاملة، بلا نقص ولا زيادة. ونصح لأمته"فكان"صلى الله عليه وسلم في غاية النصح، إذ هو أنصح للإنسان من نفسه، وهذا من المعاني التي قيلت في قوله تبارك وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 1 أي أنه أنصح لك من نفسك، فينصح لنفسك أكثر من نصحك لنفسك، وأحرص على نفسك منك صلى الله عليه وسلم. وجاهد في الله حق جهاده وأقام الملة الملة هي دين الله عز وجل: الإسلام، فأقامه صلى الله عليه وسلم بالبيان والإيضاح والدلالة والإرشاد والمجاهدة في الله حق جهاده.

_ 1 الآية 6 من سورة الأحزاب.

وأوضح المحجة: المحجة: هي الطريق السوية المستقيمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوضح المحجة، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} 1. وأكمل الدين"أي أن الله عز وجل أكمل به الدين، فلم يبق منه شيء إلا بينه صلى الله عليه وسلم، ولم يمتةصلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله عز وجل في ذلك ـ تنصيصاً وتبييناً ـ قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 2. وقمع الكافرين"القمع: هو الضرب على الرأس والدفع، فقمعهم أي دفعهم ورد باطلهم، وأزهق شبهاتهم. ولم يدع لملحد مجالاً، ولا لقائل مقالاً"من تمام بيانه أنَّه لا مجال فيه لملحد، ولا لقائل أو متكلم. وهذا فيه أن الكتاب والسنة فيهما الوفاء والغنية والكفاية، وهذا كلُّه ـ كما أشرت ـ تأكيد على أهمية الاطمئنان والوثوق بالمعتقد الذي يؤخذ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنَّه ينبغي على طالب العلم أن يقبل على الكتاب والسنة تمام الإقبال، وأن يتلقى دينه عنهما، ويأخذه منهما، ويعتصم بحبل الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. فروى طارق بن شهاب قال: " جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب"رضي الله عنه "فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها، لو علينا معشر يهود نزلت، نعلم اليوم الذي نزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ

_ 1 الآيتان 52، 53 من سورة الشورى. 2 الآية 3 من سورة المائدة. 3 الآية 101 من سورة آل عمران.

دِيناً} . فقال: إني لأعلم اليوم الذي نزلت والمكان، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بعرفة عشية جمعة "". بعد أن ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ مصدر الاستدلال والتلقي عند أهل السنة والجماعة، وبين أنهم يعتمدون في دينهم وإيمانهم بربهم وأسمائه وصفاته على ما نطق به الكتاب وصحت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى أن الله أكمل بنبيه صلى الله عليه وسلم دينه، وأتم به نعمته، وأقام به حجته، وقمع به الكافرين، وأنه لم يدع لقائل مقالاً ولا لمتكلم مجالاً، لما ذكر ذلك أورد دليلاً على ذلك، وهو قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} وقد نزلت في حجة الوداع، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام فالآية دالة على أن دين الله عز وجل الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كامل، وأنه صلى الله عليه وسلم بينه غاية البيان، وأوضحه غاية الإيضاح، فلم يبق شيء من الدين لم يبين، لا في الأصول ولا في الفروع، فلا مجال لإنشاء العقائد من خلال أفكار الناس وآرائهم، ولا لإحداث العبادات وأنواع التقربات إلى الله عز وجل من خلال مواجيد الناس وأذواقهم. وقول الله تعالى:"دينكم" شامل للأصول والفروع، الدين كله أُكْمل وبُين في الأصول والفروع: بُين فيه ما يتعلق بالاعتقاد والإيمان، وما يتعلق بالأعمال والتقربات إلى الله عز وجل، وما يتعلق بالآداب والأخلاق، كلها بينت بالكتاب والسنة غاية البيان. فإن جئت إلى العقائد التي جاءت في الكتاب والسنة فهي أصح العقائد وأقومها وأسلمها، وإن جئت إلى العبادات التي بينت في الكتاب والسنة فهي أكمل العبادات وأتمها، وإن جئت

إلى الأخلاق التي بينت في الكتاب والسنة فهي أزكى الأخلاق وأطيبها. فدين هذا شأنه ـ وصفه الباري سبحانه بأنَّه كامل ـ لم يبق على أهله إلا أن يُقبلوا عليه ويتعلموه ويفهموه ويقوموا به على التمام والكمال، فما عليهم إلا أن يتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فيأخذوا عنهما دينهم، ويتلقوا منهما إيمانهم، ويعبدوا من خلالهما ربهم تبارك وتعالى. كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقدم بين يديه، فأيُّ تقدم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به. قال غيرُ واحد من السلف:"لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر". ومعلوم قطعاً أنَّ من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى الناس لهذا النبي، وأشدهم تقدماً بين يديه " 2. فقول السلف:"لا تقولوا حتى يقول"هذا يتعلق بالاعتقاد. وقولهم:"لا تفعلوا حتى يأمر"هذا يتعلق بالعبادة والعمل. بينما حال المبتدع على خلاف ذلك، فتجده مفرطاً في جوانب كثيرة من الدين، مخلاً بواجباته التي دل عليها الكتاب والسنة، متشبثاً ببدع اخترعها هو، أو اخترعها له بعض شيوخه. فأين عقول المبتدعة؟! أين تذهب أفهامهم عن مثل هذه الآية الكريمة الدالة على كمال هذا الدين وتمامه؟! ولهذا من أتى بعقيدة أو عبادة ليست في القرآن والسنة فهو في حقيقة الأمر كالمستدرك على الشارع، بل إنَّ فعله هذا يتضمن اتهاماً للنبي صلى الله عليه وسلم أنَّه ترك جوانب من دين الله تبارك وتعالى دون بيان. ولأجل هذا قال الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ كلمته العظيمة، واستشهد لها بهذه

_ 1 الآية 1 من سورة الحجرات. 2 الصواعق المرسلة 3/996 وقال في إعلام الموقعين 1/51: " والقول الجامع في معنى الآية: لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل ".

الآية الكريمة قال: " من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ ديناً فلن يكون اليوم ديناً، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " 1. ولما كانت هذه الآية بهذه المكانة،كان على المسلم أن يعرف لها شأنها، ويقدر لها حقها. ولهذا لم يكتف المصنف ـ رحمه الله ـ بإيرادها فقط، وإنما أوردها وأورد معها ما يبين عظم شأنها وجلالة قدرها في قلوب أهل الإيمان. فأورد حديث طارق بن شهاب المتفق عليه: " قال جاء يهودي إلى عمر ابن الخطاب"رضي الله عنه"فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها " أدرك هذا اليهودي قيمة هذه الآية ومكانتها، وعرف أنَّ شأنها عظيم، ومكانتها عالية، فأتى عمر"رضي الله عنه"، وقال:"لو علينا معشر اليهود نزلت، نعلم اليوم الذي نزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيداً"يعني لعظمنا اليوم الذي نزلت فيه، ولكان له عندنا شأن من أجلها، ولأجل مكانتها وعظم شأنها. فقال عمر"رضي الله عنه":"أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} فذكر عمر" رضي الله عنه"كلاماً مفاده أنَّ هذه الآية لها مكانتها في نفوس المؤمنين، وأنَّ لها قدرها ومنزلتها عندهم، وأنهم يعرفون لها شأنها، فقال"رضي الله عنه":"إني لأعلم اليوم الذي نزلت ـ وفي بعض النسخ: فيه ـ والمكان"فيعلم اليوم أي الوقت الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم المكان الذي نزلت فيه هذه الآية. ثم بين ذلك فقال:

_ 1 الاعتصام للشاطبي 1/111

نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بعرفة، عشية جمعةنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، في ذلك اليوم العظيم، الذي هو سيد أيام السنة وأفضلها، على خلاف بين أهل العلم في أيهما أفضل: يوم عرفة أو يوم النحر الذي بعده. والأقوى أنه يوم عرفة لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله " 1. فكان صلى الله عليه وسلم يكثر من أفضل الذكر في أفضل الأيام؛ لأن سيد الأيام يوم عرفة، وسيد الأذكار هو لا إله إلا الله. فالإكثار من سيد الأذكار في سيد الأيام هو في غاية المناسبة والتوافق فنزلت في يوم عظيم، أعظم أيام السنة: يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة ـ وهو أفضل أيام الأسبوع ـ، وفي هذه الموافقة مزيد فضل لاجتماع فضل الوقتين 2، ولا سيما عشية يوم الجمعة وعشية يوم عرفة، فكل منهما جاءت فيه نصوص خاصة. والشاهد من هذا الحديث أنَّ لهذه الآية مكانتها في قلوب أهل الإيمان، فينبغي لكلِّ مسلم أن يقدر لها قدرها، وأن يرعى لها حقها، وأن يحمد الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة. لما ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ هذه الآية الكريمة، بنى عليها بيان طريقة السلف ـ رحمهم الله ـ في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة، ولا سيما في هذا الباب الذي ألف هذا المصنف لأجله، ألا وهو باب الإيمان والاعتقاد 1 أخرجه مالك في الموطأ 1/422 ـ 423، والترمذي رقم 3585، وصححه الألباني في الصحيحة رقم 1503.

_ 2 انظر: زاد المعاد لابن القيم 1/60 ـ 65

فقال : فآمنوا": أي أهل الحق والسنة والاستقامة على هدي خير الأمة محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم. بما قال الله سبحانه في كتابه، وصح عن نبيه"يعني كل ما جاء في الكتاب والسنة من أمور الإيمان تلقوه بالقبول والتسليم والإيمان والتصديق، وعدم الاعتراض أو التردد، كما قال الإمام الزهري ـ رحمه الله ـ: " من الله عز وجل الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم " 1 . وأمرُّوه كما ورد"يعني أمرُّوا هذه الأخبار ـ وفي مقدمتها الأخبار المتعلقة بالأسماء والصفات ـ كما جاءت. وقول المصنف هذا هو نظير المقولة المشهورة عن السلف، والمنقولة عن غير واحد، منهم: الإمام مالك والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، أنهم يقولون في نصوص الصفات: " أمروها كما جاءت بلا كيف " 2. ومما ينبغي التنبه له: أن السلف في مقالتهم هذه لم يطلقوا إمرار النصوص، بل قيدوا ذلك بأن يكون كما جاءت أو كما وردَت. ونصوص الصفات لم تأت ألفاظاً جوفاء لا معنى لها ولا مدلول، وإنما جاءت محملة بمعاني، فمثلاً قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} " 3 جاء محملاً بمعنى، وهو إثبات استواء الله على العرش. وقوله سبحانه: {بَلْ

_ 1 رواه البخاري في صحيحه 13/512 تعليقاً، ووصله الحميدي في النوادر، وابن أبي عاصم في الأدب كما في الفتح 13/513 2 انظر: شرح الاعتقاد لللالكائي رقم 875، 930، والصفات للدارقطني ص70، والاعتقاد للبيهقي ص118 3 الآية 5 من سورة طه.

يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 1 جاء محملاً بمعنى، وهو إثبات اليدين لله عز وجل ووصفهما بالبسط، إلى غير ذلك من نصوص الصفات. فلا يستقيم لأحد إمرارها كما جاءت إلا بإثبات المعنى الذي دلت عليه، فإن عطَّل المعنى، أو فوضه، أو لم يؤمن به لم يكن ممن أمرها كما جاءت. وبهذا يُعلم فساد قول من يقول من الخلف، ولا سيما مَنْ هم على مسلك التفويض، عندما يقولون: إن تفويض المعنى هو طريقة السلف؛ بدليل قولهم:"أمروها كما جاءت"، أي اقرءوها قراءة مجردة بدون أن تفهموا منها أي معنى. وهذا فهم بعيد ومنحرف. ومما يؤكد هذا الانحراف في الفهم: أن السلف يعقبون قولهم: أمروها كما جاءت بقولهم:"بلا كيف": أي بلا علم منا بالكيفية. وقولهم هذا دال على إثباتهم للمعنى؛ فإنَّ الذي لا يثبت المعنى أصلاً لا يحتاج أن ينفي الكيفية. ولهذا لو كان مراد السلف بقولهم:"أمروها كما جاءت": مجرد التلاوة بدون فهم لما احتاجوا أن يقولوا: بلا كيف، فإنَّ الذي يحتاج أن يقول: بلا كيف هو من يثبت المعنى. قال الذهبي: " المتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة، ما علمت أحداً سبقهم بها. قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت ولا تؤول، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، فتفرع من هذا أن الظاهر يُعنى به أمران: أحدهما: أنه لا تأويل لها غير دلالة الخطاب، كما قال السلف: الاستواء معلوم. وكما قال سفيان وغيره: قراءتها تفسيرها. يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يبتغى لها مضايق التأويل والتحريف. وهذا هو مذهب السلف، مع

_ 1 الآية 64 من سورة المائدة.

اتفاقهم أيضاً أنها لا تشبه صفات البشر بوجه، إذ الباري لا مثل له، لا في ذاته ولا في صفاته. الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر، فهذا غير مراد؛ فإنَّ الله تعالى فرد صمد، ليس له نظير، وإن تعددت صفاته فإنها حق، ولكن ما لها مثل ولا نظير، فمن ذا الذي عاينه ونعته لنا؟! ومن ذا الذي يستطيع أن ينعت لنا كيف سمع كلامه؟ والله إنا لعاجزون كالُّون حائرون باهتون في حد الروح التي فينا، وكيف تعرج كلَّ ليلة إذا توفاها بارئها وكيف يرسلها، وكيف تستقل بعد الموت؟ وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله؟ وكيف حياة النبيين الآن؟ وكيف شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أخاه موسى يصلي في قبره قائماً؟ ثم رآه في السماء السادسة وحاوره، وأشار عليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه على أمته؟ وكيف ناظر موسى أباه آدم، وحجه آدم بالقدر السابق، وبأنَّ اللوم بعد التوبة وقبولها لا فائدة فيه؟ وكذلك نعجز عن وصف هيئاتنا في الجنة، ووصف الحور العين، فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها، وأنَّ بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة مع رونقهم وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني، فالله أعلم وأعظم، وله المثل الأعلى والكمال المطلق، ولا مثل له أصلاً: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 1 " 2. من غير تعرض لكيفية"هنا يأتي التفويض عند السلف ـ رحمهم الله ـ وهو تفويض علم الكيفية إلى الله سبحانه وتعالى، فالمعنى لا يفوض بل يثبت. لكن الكيف لا يجوز لأحد ـ كائناً من كان ـ أن يخوض فيه، أو أن

_ 1 الآية 52 من سورة آل عمران. 2 مختصر العلو ص270 ـ 271

يتعرض له، أو أن يقحم فهمه القاصر في معرفته، فإنَّ هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل. ومما يقطع طمع العبد عن إدراك كيفية صفة الرب تبارك وتعالى: علمه بعجزه وقصوره عن إدراك كيفية صفة كثير من المخلوقات، فإنَّه إن عجز عن إدراك كيفية صفة المخلوق، فهو عن معرفة كيفية صفة الخالق تبارك وتعالى أعجز. وفي هذا الباب قصة لطيفة حصلت لعبد الرحمن بن مهدي رحمه الله مع غلام كان يحاول معرفة كيفية صفة الرب جل وعلا، فقال له ابن مهدي: " بلغني أنك تتكلم في الرب وتصفه وتشبهه. قال: نعم، نظرنا فلم نر من خلق الله شيئاً أحسن من الإنسان. فأخذ يتكلم في الصفة والقامة، فقال له: رويدك يا بني، حتى نتكلم أول شيء في المخلوق، فإن عجزنا عنه فنحن عن الخالق أعجز. أخبرني عمَّا حدثني شعبة عن سعيد بن جبير عن عبد الله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 1 قال: رأى جبريل له ستمائة جناح. فبقي الغلام ينظر. فقال: أنا أهون عليك، صف لي خلقاً له ثلاثة أجنحة، ورَكِّب الجناح الثالث منه موضعاً حتى أعلم. قال: يا أبا سعيد عجزنا عن صفة المخلوق، فأشهدك أني قد عجزت ورجعت " 2 . ومما يقطع الطمع في إدراك كيفية صفات الله: قول المسلمين: الله أكبر أي: أكبر من كلِّ شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم عندما دعاه إلى الإسلام، قال: " ما يفرك أن تقول لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى

_ 1 الآية 18 من سورة النجم. 2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد 3/530، والذهبي في سير أعلام النبلاء 9/196 ـ 197 واللفظ له.

الله؟ قال: قلت: لا. قال ثم تكلم ساعة، ثم قال: إنما تفر أن تقول: الله أكبر، وتعلم أن شيئاً أكبر من الله؟ " 1. فالله عز وجل أكبر من كلِّ كبير، ومهما يخطر في بال الإنسان، ويدور في خياله من كبر في الوصف والجمال والجلال والحسن والكمال فالله أكبر من ذلك، لا يبلغ كنه صفاته الواصفون، ولا يدرك كيفية ذاته الناعتون، الله أكبر وأعظم وأجل من أن تدرك كماله وجلاله وجماله وعظمة صفاته عقول الناس القاصرة. والسلف رحمهم الله يعدون الخائض في هذا الباب، وهو معرفة كيفية صفة الله من المبتدعة أهل الأهواء، ويعدون مسلكه مسلكاً محدثاً مبتدعاً، كما فعل الإمام مالك ـ رحمه الله ـ عندما سأله السائل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فغضب حتى علاه الرحضاء، أي: العرق وقال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء، أخرجوه عني " 2. فأمر بإخراجه من مجلسه، لأنَّ طريقته طريقة محدثة وباطلة، إذ سأل عن الكيفية، والسؤال عنها أمر باطل، لا يجوز لأحد أن يتعرض له أو يخوض فيه. إذاً من المحاذير التي ينبغي للمسلم أن يحترز منها عندما يثبت لله تبارك وتعالى صفاته الواردة في الكتاب والسنة: التكييف. ولهذا درج أهل السنة في العقائد التي يكتبونها على التنصيص على التحذير من الوقوع في هذا

_ 1 سبق تخريجه. 2 انظر طرق هذه القصة والكلام عنها في كتابي: الأثر المشهور عن الإمام مالك في صفة الاستواء دراسة تحليلية وهو مطبوع ضمن العددين 111، 112 من مجلة الجامعة الإسلامية.

المحذور، فيقولون: نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تحريف، ومن غير تكييف ولا تمثيل. فلما ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ الإثبات ذكر المحذور الأول، وهو عدم التعرض للكيفية، ثم ذكر المحذور الثاني فقال: أو اعتقاد شُبهَةٍ أو مِثليةٍ"، وفي بعض النسخ:"اعتقاد شِبْهِه أو مِثليةٍ"، وفي بعضها:"شِبْهِه أو مَثِيلِه"والمقصود هنا عدم اعتقاد التشبيه أو التمثيل، يعني أن يحترز المؤمن من الخوض في صفات الله تبارك وتعالى بالتشبيه أو التمثيل، ومعناهما متقارب، وبينهما فروق. والفرق بين التكييف والتمثيل: أن التكييف: أن يتصور الإنسان للصفة كيفية في ذهنه يقدرها، سواء كان هذا على سبيل القياس على صفة المخلوق ـ وهذا هو التمثيل ـ أو على سبيل تقدير أمر في الذهن يتوصل إليه بتصوره وفهمه. فالتكييف قد يكون تمثيلاً، وقد لا يكون كذلك والتمثيل: إثبات الصفة لله تبارك وتعالى على وجه يماثل صفة المخلوق، فيقيس صفة الخالق تبارك وتعالى على صفة المخلوق. ولهذا يقول الإمام إسحاق بن راهويه ـ رحمه الله ـ: " إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يدي، أو سمع كسمعي. فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يد وسمع وبصر، فلا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع. فهذا لا يكون تشبيهاً عنده، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 " 2. وعلى هذا فكلُّ ممثل مكيف؛ لأنه جعل لصفة الله تبارك وتعالى كيفية،

_ 1 الآية 11 من سورة الشورى. 2 اجتماع الجيوش ص152 ـ 153

وهي ككيفية صفة المخلوق. وليس كلُّ مكيف ممثلاً؛ لأنَّه في بعض أحواله لا يقيس صفة الخالق تبارك وتعالى على صفة المخلوق؛ وذلك إذا قدَّر لصفة الله صفة في ذهنه يخترعها، وليست على ضوء ما يراه ويشاهده من المخلوقات. ومما يدل على بطلان التكييف، والتحذير منه قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 1، وقول الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 2. وأما الأدلة على بطلان التشبيه، فالنصوص في إبطاله كثيرة، منها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 4، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، أي: لا سمي له. وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 5، وقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 6. فالسلف ـ رحمهم الله ـ يقولون في الله عز وجل: " لا يقاس بخلقه "، ومرادهم بذلك إبطال التمثيل؛ لأنَّ التمثيل قياس للربِّ الكامل العظيم بالمخلوق الناقص الضعيف. " أو تأويل يؤدي إلى التعطيل"وهذا هو المحذور الثالث من المحاذير التي ينبغي أن يجتنبها المسلم عند إثباته الصفات لله تبارك وتعالى: التأويل. والتأويل منه ما هو ممدوح، ومنه ما هو مذموم، ولهذا قيد المصنف ـ رحمه الله ـ التأويل بقوله:"الذي يؤدي إلى التعطيل". فالتأويل الممدوح هو: تفسير النص، وفهم معناه ومدلوله على ضوء مراد الله تبارك وتعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا حق ومطلوب، وهو الذي

_ 1 الآية 36 من سورة الإسراء. 2 الآية 110 من سورة طه. 3 الآية 11 من سورة الشورى. 4 الآية 65 من سورة مريم. 5 الآية 4 من سورة الإخلاص. 6 الآية 22 من سورة البقرة.

يسميه السلف تأويلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: " اللهم علمه التأويل " 1. ومنه قول ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ:"تأويل هذه"الآية كذا"أي: تفسيرها. وكذا قوله:"قال أهل التأويل"أي: أهل التفسير. والتأويل الذي يُحذر ويجتنب ويذم هو: الذي يؤدي إلى التعطيل، ويفضي إلى الإنكار، وهو صرف اللفظ عن ظاهره بغير قرينة تدل عليه. والمبتدعة معطلة الصفات عندهم قرينة واحدة مبنية على التوهم الفاسد اتكأوا عليها في تأويل النصوص وصرفها عن ظواهرها، ألا وهي دفع التشبيه، فزعموا أنَّ ظواهر نصوص الأسماء والصفات في الكتاب والسنة موهمة للتشبيه، ولهذا خاضوا فيها بالتأويل تنزيهاً لله تبارك وتعالى ـ بزعمهم ـ، فنزهوا الله بتعطيل صفاته، وصرفها عن ظواهرها إلى معان ليست مرادة له تبارك وتعالى، ولا لرسوله"صلى الله عليه وسلم." كما قال صاحب الجوهرة: وكلُّ نص أوهم التشبيه ... أوِّلْه أو فوض ورُمْ تنزيهاً فقوله:"أوِّله"مبني على توهم التشبيه، فهؤلاء الذين تأولوا النصوص عن ظواهرها وصرفوها عن مرادها سبب ذلك فيهم أنهم تلوثوا بالتشبيه أولاً، فأرادوا أن ينزهوا الله عن هذا الذي وقع في نفوسهم، فأولوا النص وصرفوه

_ 1 أخرجه أحمد 1/266، وابن حبان رقم 7055، والحاكم 3/617 وقال: صحيح الإسناد. وأصل الحديث بدون لفظ التأويل في البخاري رقم 75، ومسلم رقم 6318

عن مراده، فعطَّلوا بذلك الرب تبارك وتعالى عن صفة كماله. وكما قيل: البدع يولد بعضها بعضاً. فكلُّ تأويلات المبتدعة لنصوص الصفات مبنية على هذا التوهم . وفي مثل هذا يقول أبو حيان التوحيدي: " أناس مضوا تحت التوهم، وظنوا أنَّ الحق معهم، ولكنَّ الحق وراءهم " فهم سائرون تحت التوهم، يتوهمون شيئاً فيبنون عليه أشياء، يظنون أنَّ الحق معهم، ولكنَّ الحق وراءهم. قال الذهبي ـ معلقاً على هذه الكلمة ـ: " قلت: أنت حامل لوائهم " 1؛ لأنَّه متكلم وفيلسوف. فهؤلاء ماضون تحت توهم التشبيه، يظنون في النص أنَّه موهم للتشبيه. ولهذا قال قائلهم: وكلُّ نص أوهم التشبيه. والنص لا يوهم التشبيه إلا عند المريض الذي فيه لوثة. يقولون: لا نعقل من هذه النصوص إلا ما نراه في الشاهد. أي ما ثمة إلا المشابهة، ثم إنهم أرادوا الفرار من التشبيه الذي تلوثوا به فصاروا إلى التأويل والتعطيل، ظلمات بعضها فوق بعض. أما صاحب السنة فلا يتوهم في كلام الله تشبيهاً، وحاشاه سبحانه"أن يوهم كلامه أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيهاً. ولهذا لما سمع الصحابة رضوان الله عليهم آيات الصفات وأحاديثها لم يدر في خواطرهم الصفات التي يرونها في المخلوقين، بل عرفوا أنَّ هذا وصف يليق بالرب العظيم وجلاله وكماله. وقول المصنف:"يؤدي إلى التعطيل"هذا فيه إشارة إلى المحذور الرابع الذي يجب على المسلم اجتنابه عند إثباته لله الصفات، وهو التعطيل.

_ 1 سير أعلام النبلاء 17/121 ـ 122

والتعطيل: هو النفي وعدم الإثبات، ومنه قول الله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} 1 أي: متروكة ومهجورة. فتعطيل الصفات: نفيها وعدم إثباتها لله تبارك وتعالى، والمؤول الذي هو في الحقيقة محرف للنص معطل لصفة الله تبارك وتعالى؛ لأنَّه لا يستقيم التحريف إلا بتعطيل الصفة الثابتة بالنص، ولهذا يقول العلماء:"كلُّ محرف معطل، وليس كلُّ معطل محرفاً. فكلُّ محرف معطل؛ لأنَّ من يحرف الصفة، مثل من يقول: رحمة الله هي إرادة الإنعام. هذا محرف، وفي الوقت نفسه معطل؛ لأنَّه عطل صفة الرحمة لله تبارك وتعالى ولم يثبتها. وكذلك من يقول عن الغضب إنَّه إرادة الانتقام فهو محرف، وفي الوقت نفسه معطل. وليس كلُّ معطل محرفاً؛ لأنَّ المعطل قد يكتفي بالتعطيل دون أن يخوض في ذكر معنى آخر للنص، كأن يقول في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لم يستو على العرش. أو يقول في قول الله تعالى: {قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ليست لله يدان. فهذا تعطيل، لكن ليس فيه تحريف للنص، إذ لم"يذكر له معنى آخر. وعلى كلٍّ فهذا تلخيص جميل بدأ به المصنف ـ رحمه الله ـ بيَّن من خلاله منهج أهل السنة والجماعة في الصفات، وأنَّ منهجهم قائم على الإثبات، وهو واضح في قوله:"وأمروه كما ورد". مع الاحتراز من المحاذير الأربعة التي ذكرها: التكييف، والتمثيل، والتحريف الذي هو التأويل، والتعطيل. فهذه هي طريقة أهل السنة الجماعة: يثبتون ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف،

_ 1 الآية 45 من سورة الحج.

ولا تمثيل. ولو قارنت بين هذا وبين ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية 1، وما يذكره أئمة السلف في كتب العقيدة، تجده كله على نسق واحد؛ لأنَّه كلَّه مأخوذ من مشكاة واحدة. " ووسعتهم السنة المحمدية" وسعتهم: أي كفتهم السنة، يعني وجدوا فيها الكفاية والغنية والشفاء، فلم يحتاجوا إلى غيرها، ولم يتجاوزوها إلى ما سواها. كان أحد السلف في مناظرة مع أحد المتكلمين، في شيء يتعلق بالصفات، فقال: هذا الذي تقوله، هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل علمه الصحابة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ أم هو شيء علمته أنت ولم يعلمه هؤلاء وادُّخِرَ لك دونهم؟ إنْ قال: علمه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمه الصحابة فيطالب بالبيان، أين ما يدل على ذلك في الأحاديث، وأين ما يدل على ذلك في كلام الصحابة. وإن قال: لم يعلموه، فيكون ادعى لنفسه شيئاً ادُّخِر له لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه. وفي أثناء المناظرة قال له: ألا يسعك ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم، وما وسع أصحابه. فالصحابة رضوان الله عليهم وسعهم القرآن، ووسعتهم السنة، ووجدوا فيهما الكفاية والغنية. ومما يدل على هذا المعنى في القرآن: قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) 2، فالقرآن فيه الكفاية والغنية.

_ 1 قال رحمه الله ص 65: " ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه العزيز، وبما وصفه به رسوله محمد ? من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل ". 2 الآية 51 من سورة العنكبوت.

"المحمدية"أي: سنة النبي الكريم محمدصلى الله عليه وسلم. والطريقة المرضية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه"رضوان الله عليهم". والمرضية: أي التي رضيها الله كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1، وقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} 2، فهذا طريق رضيه الله لعباده، وطريقة مرضية كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان. ولم يتعدوها إلى البدعة أي لم يتجاوزوا السنة المحمدية والطريقة المرضية إلى البدعة، وإنما اكتفوا بالسنة، واقتصروا عليها، ولم يتجاوزوها . ثم وصف البدعة بصفتين فقال: "المردية"أي: المهلكة لصاحبها، ومنه قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3، أرداكم: أي أهلككم، فالبدعة مهلكة لصاحبها. " الردية"أي: الفاسدة في نفسها. فهاتان صفتان للبدع عموماً، فهي كلها فاسدة في نفسها ومهلكة لصاحبها. والمصنف ـ رحمه الله ـ وصف أهل الحق بصفتين، الأولى: تمسكهم بالسنة. والثانية: بعدهم عن البدعة. وهذان الأمران هما اللذان تكون بهما النجاة والسلامة عند حدوث الافتراق والاختلاف، كما قال"صلى الله عليه وسلم: " إنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار " "4. وقد عبَّر

_ 1 الآية 3 من سورة المائدة. 2 الآية 153 من سورة الأنعام. 3 الآية من سورة فصلت. 4 سبق تخريجه.

عنهما بقوله:"وسعتهم السنة المحمدية والطريقة المرضية، ولم يتعدوها إلى البدعة المردية الردية". " فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية"يعني بتمسكهم بالسنة ومجانبتهم"للبدعة حازوا أي: نالوا وحصَّلوا بذلك الرتبة السنية ."والرتبة السنية": الدرجة الرفيعة، من السناء وهو العلو والرفعة. و"المنزلة العلية": أي العالية الرفيعة. وبهذا يُعلم أن نيل المراتب العالية والمنازل الرفيعة في الدنيا والآخرة لا يكون إلا بهذين الأمرين: التمسك بالسنة، ومجانبة البدعة، وبالله وحده التوفيق.

صفة العلو

[صفة العلو] "فمن صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ونطق بها كتابه، وأخبر بها نبيه: أنَّه مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه" بعد أن ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ تأصيلاً عاماً لمنهج أهل السنة والجماعة، وبيَّن طريقتهم في الصفات، وأنهم يثبتون لله تعالى صفات كماله ونعوت جلاله على الوجه الذي يليق به، بلا تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تمثيل، بدأ يسوق بشيء من التفصيل بعض صفات الله الثابتة في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبعض أدلتها على سبيل المثال لا الحصر، شأنه في ذلك شأن أهل العلم في مثل هذه المختصرات. وهو بما يذكره يرشد إلى ما لم يذكره من صفات الله تبارك وتعالى العظيمة ونعوته الكريمة التي دل عليها كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وبدأ ـ رحمه الله ـ بهذه الصفة العظيمة: علو الله تبارك وتعالى على خلقه، وذلك فيما يظهر لي ـ والله تعالى أعلم ـ لسببين: الأول: كثرة الأدلة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الدالة على هذه الصفة. ومن أهل العلم من عد أدلة علو الله في الكتاب والسنة بالآلاف، كما قال ابن القيم في كافيته الشافية: يا قومنا والله إنَّ لقولنا ... ألفاً تدل عليه بل ألفان فيقسم رحمه الله بالله أنَّ أدلة علو الله تبارك وتعالى ألف أو ألفان. وهي كما بين أهل العلم تدخل تحت أنواع، عدَّ ابن القيم منها عشرين نوعاً، سأذكر بعضها؛ لأنَّ المصنف ـ رحمه الله ـ أشار إلى جملة منها. فمنها: تصريحه سبحانه باستوائه على العرش.

ومنها: إخباره سبحانه بأنَّه في السماء. ومنها: إخباره سبحانه بصعود بعض المخلوقات وعروجها إليه ومنها: إخباره سبحانه بنزول كلامه منه، والنزول لا يكون إلا من علو. ومنها: تصريحه سبحانه بعلوه. ومنها: تصريحه سبحانه بالفوقية: فوقيته على خلقه. وتحت كلِّ نوع من هذه الأنواع عشرات الأدلة. أما السبب الثاني فهو: أنَّ علو الله عز وجل على كثرة أدلته ووضوح براهينه ودلائله فإنَّ غلط أهل الأهواء والباطل وضلالهم فيه كثير، وكلامهم في إنكار العلو وعدم إثباته كثير جداً، فشككوا الناس في عقائدهم وأديانهم وإيمانهم، وترتب على قولهم الباطل هذا؛ إنكار العلو: الخلوص إلى أحد مذهبين فاسدين: الأول: أنَّ الله لا فوق ولا تحت، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله، ولا داخله ولا خارجه. وهذا وصف لله تبارك وتعالى بالعدم كما قال بعض السلف في وصف هؤلاء المعطلة: " المعطل يعبد عدماً " 1. وقال آخر: " تأملت قول الجهمية، فوجدت مؤداه أنه ليس فوق العرش إله يُعبد، ولا رب يُصلى له ويُسجد " 2؛ لأنهم إذا قيل لهم: صفوا لنا ربكم الذي تعبدون يقولون: لا فوق ولا تحت، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله، ولا داخله ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه. وهذا هو العدم، بل لو طُلِب من أحد أن يصف العدم بصفة بليغة لما وجد أكمل ولا أحسن من هذه

_ 1 انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية 4/406، والصواعق المرسلة 1/148 2 انظر: الصواعق المرسلة 1/235

الصفة التي يصف بها الجهمية ربهم 1. الثاني:"أنَّ الله ـ تعالى عما يقول الظالمون ـ في كلِّ مكان، لا يخلو منه مكان، فهو في السماء وفي الأرض وفي الهواء، وفي كلِّ مكان. وترتب على هذا القول ظهور العقائد التي كثرت في أهل الباطل، مثل: الاتحاد، والحلول، ووحدة الوجود، وغير ذلك من العقائد المنحرفة الفاسدة. فليس أمام من ينكر علو الله إلا إحدى هاتين العقيدتين، وكتب أهل الباطل والأهواء ـ الذين حادوا عن طريقة الكتاب والسنة وكثر كلامهم وضلالهم ـ مليئة بهذا الباطل بنوعيه، مشحونة بالشبه في تقريره. فلأجل هذين السببين ـ والله تعالى أعلم ـ بدأ المصنف بذكر صفة العلو. ولما شرع ـ رحمه الله ـ في بيان هذه الصفة، سلك مسلك غير واحد من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين في ذكر أنواع أدلة العلو مكتفياً بذكر أمثلة من أفراد أدلتها؛ ليرشد بها إلى نوع الدليل، لأنَّه ـ كما ذكرت ـ ليس الاتجاه في مثل هذه المختصرات إلى الاستقصاء، وإنما ذكر شيء يدل"على غيره. فبدأ بالاستواء، واستواء الله سبحانه على عرشه أحد أدلة علوه تبارك وتعالى على خلقه؛ لأنَّ الاستواء في لغة العرب هو: العلو والارتفاع، فمعنى:" استوى على العرش"أي ـ بإجماع السلف ـ: علا وارتفع عليه؛ لأننا خوطبنا بلغة العرب، ومدلول هذه الكلمة في لغة العرب هو هذا، ليس لها مدلول إلا العلو والارتفاع. فالاستواء إذاً علو وارتفاع، لكن بين صفتي العلو والاستواء بعض

_ 1 ولهؤلاء الجهمية ورثة إلى عصرنا هذا، وأحد المعاصرين كتب كتاباً بعنوان: حسن المحاججة في بيان أن الله لا داخل العالم ولا خارجه قرر فيه هذه العقيدة الباطلة.

الفروق، منها: أنَّ العلو صفة ذاتية لله تعالى. أما الاستواء فهو صفة فعلية اختيارية تتعلق بالمشيئة. ومنها: أنَّ الاستواء صفة خبرية: دل عليها الخبر، ولولا الخبر والأدلة التي جاءت في الكتاب والسنة لما عرف الناس هذه الصفة. أما العلو فهو صفة دل عليها العقل مع دلالة الخبر، فالعقل يدل على علو الله، ومن الأدلة التي ذكرها أهل العلم على علو الله: العقل والفطرة بالإضافة إلى النقل. ولهذا فإنَّ الله خاطب المشركين ـ مخوفاً لهم بهذا الذي يؤمنون به ـ فقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أ} 1 أي أأمنتم مَنْ تعلمون أنَّه في السماء. وكذلك يأتي في أشعار الجاهليين الإقرار بأنَّ الله في السماء، مما يؤكد استقرار ذلك في فطرهم، كما قال أحدهم: يا عبل أين من المنية مهربُ ... إن كان ربي في السماء قضاها وعن عمران بن حصين"رضي الله عنه"قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: "يا حصين، كم تعبد إلهاً؟ قال أبي: سبعة، ستاً في الأرض وواحداً في السماء. قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك " 2 فعرف حصين"رضي الله عنه" أنَّ ربه في السماء وهو مشرك. والاستواء دليل على علو الله تبارك وتعالى على خلقه، فعرش الرحمن هو سقف المخلوقات وأعلاها، والله عز وجل مستو على عرشه. قال رسول

_ 1 الآية 16 من سورة الملك. 2 أخرجه الترمذي رقم 3483 وقال: هذا حديث غريب، وأحمد 4/444، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني رقم 2355، والبزار رقم 3580 وإسناده جيد.

الله صلى الله عليه وسلم: " فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنَّه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة " 1. ومعنى العرش في لغة العرب: سرير الملك، قال الأزهري: " العرش في كلام العرب: سرير الملك، يدلك على ذلك سرير ملكة سبأ، سماه الله عز وجل عرشاً فقال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ2 " 3. وقد ورد للعرش في الكتاب والسنة صفات عديدة. ـ منها: أنَّه سقف المخلوقات وأعلاها وأكبرها وأوسعها، قال رسول الله" صلى الله عليه وسلم: " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة " 4. فإذا كان الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في صحراء، فماذا تساوي السماوات والأرض بالنسبة للعرش؟! أو ماذا تساوي الأرض التي نحن عليها بالنسبة للعرش؟! ـ ومن أوصافه الواردة في السنة: أن له قوائم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا تخيروا بين الأنبياء، فإنَّ الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش " 5.

_ 1 أخرجه البخاري رقم 2790 2 الآية 23 من سورة النمل. 3 تهذيب اللغة 1/413 4 أخرجه ابن أبي شيبة في العرش رقم 58، وأبو نعيم في الحلية 1/166، وأبو الشيخ في العظمة 2/648 ـ 649، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم 861 وللحديث طرق أخرى ذكرها الألباني في الصحيحة رقم 109 وقال: " وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح ". 5 أخرجه البخاري في صحيحه رقم 2412، ومسلم رقم 6103

ـ ومنها: أنَّه أثقل المخلوقات وزناً، كما قال صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته " 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " فهذا يبين أنَّ زنة العرش أثقل الأوزان " 2. ـ ومنها: أنَّه مجيد، كما قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} 3. قال ابن كثير: " المجيد فيه قراءتان: الرفع على أنَّه صفة للرب عز وجل، والجر على أنَّه صفة للعرش. وكلاهما معنى صحيح " 4. والمجد في لغة العرب يعطي معنى السعة، تقول العرب: أمجد الناقة علفاً أي أوسع لها وأكثر لها العلف. ويقولون: استمجد المرخ والعفار ـ وهما نوعان من الشجر ـ أي كثر وجودهما بشكل واسع وكبير.فهذا الوصف: المجيد يدل على السعة، وهو في حق الله تعالى دال على سعة صفاته وعظمتها وكمالها وجلالها. وقد نبه ابن القيم ـ رحمه الله ـ على قاعدة مفيدة فيما يتعلق بأسماء الله، وهي أنَّ منها ما يدل على صفة واحدة، مثل السميع فهو دال على صفة السمع. والبصير دال على صفة البصر. والرحيم دال على صفة الرحمة. ومنها ما يدل على أكثر من صفة، مثل السيد والعظيم والمجيد، فالمجيد هذا يدل على صفات كثيرة 5.

_ 1 أخرجه مسلم رقم 6851 2 الرسالة العرشية ص 8 3 الآية 15 من سورة البروج. 4 التفسير 4/497 5 انظر: بدائع الفوائد 1/168

ـ ومنها: أنَّ له حملةً من الملائكة، قال تبارك وتعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} 1. ـ ومنها: الكرم والعظمة، قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} 2، وقال: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وهذه الصفات كلُّها تدل على أنَّه مخلوق عظيم موجود، والله تبارك وتعالى مستو عليه استواءً يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه، لا يشبه استواء المخلوقين. فالمؤلف بدأ بهذا الدليل، وهو ذكر الآيات الدالة على استواء الله تبارك وتعالى على عرشه، وذكر ـ رحمه الله ـ أنَّ الله سبحانه صرح باستوائه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه الكريم، ثم ساقها فقال : فقال عز من قائل في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقال في سورة يونس عليه السلام {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، وقال في سورة الرعد: {الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} ، وقال في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فهذه سبعة مواضع أخبر الله فيها سبحانه أنه على العرش"

_ 1 الآية 17 من سورة الحاقة. 2 الآية 116 من سورة المؤمنون. 3 الآية 129 من سورة التوبة.

فهذه سبعة مواضع في القرآن ورد فيها التصريح بالاستواء، ولم يرد في أيِّ موطن من القرآن بلفظ آخر كـ"استولى على العرش"، وكأن المصنف ـ رحمه الله ـ يشير بتنصيصه على هذه المواضع السبعة إلى إبطال تأويل من تأول الاستواء على غير معناه، إذ لو كان المراد الاستيلاء عليه لجاء ولو في موضع من هذه المواضع السبعة"ثم استولى على العرش"حتى يمكن القول بحمل هذا على هذا، أمَا وقد اتفق اللفظ في هذه المواضع السبعة فلا يمكن ذلك. وقد نبَّه أهل العلم على فائدة مهمة فيها رد على أهل الأهواء الذين يتأولون الاستواء، ألا وهي أنَّ السياق في جميع هذه المواضع السبعة في بيان عظمة الله وجلاله وكماله بذكر صفاته ونعوته سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يثني على نفسه ويمجدها ويعظمها بذكر صفاته، ومن بين هذه الصفات التي أثنى بها على نفسه: استواؤه على العرش: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} . ومع ذلك يأتي المبتدعة إلى هذه الآيات فيقولون: الاستواء على العرش لا يليق به سبحانه، ونحن ننزهه عن ذلك، فينزهون الله عما مدح به نفسه، وأثنى عليها به. {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 1 كما أنَّ الاستواء على العرش جاء في أكثر هذه المواضع معطوفاً بالحرف" ثم"ـ الذي يفيد الترتيب والمهلة ـ بعد ذكره خلق السماوات والأرض: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وهذا ـ أيضاً ـ فيه إبطال لمن يتأول الاستواء بغير معناه، كمن يقول: الاستواء على العرش هو الاستيلاء عليه، يعني مُلْكَه للعرش وغلبته

_ 1 الآية 140 من سورة البقرة. وللشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه دراسات في منهج أهل السنة في الأسماء والصفات ص 15 ـ 17 كلام جميل حول هذه الآيات السبع، وبيان أنها سيقت في سياق بيان عظمة الله تبارك وتعالى بذكر عظمة صفاته.

عليه، إذ لو كان استواء الله على عرشه ـ الذي هو المُلك كما يزعمون ـ للزم منه أنه لم يحصل ملك الله للعرش إلا بعد خلق السماوات والأرض!! فحاول هؤلاء المعطلة التخلص من هذا اللازم فقالوا:"ثم"ليست على بابها، فهي في هذه المواضع لا تفيد الترتيب والمهلة. إذاً فـ"ثم"محمولة عندهم على غير بابها، واستوى محمولة على غير بابها، والعرش"محمول على غير بابه؛ لأنه ـ بزعمهم ـ كناية عن العظمة، والرحمن"أيضاً محمول على غير بابه؛ لأنه كناية عن إرادة الإنعام. إذاً فليس في الآية شيء على بابه!! فركبوا مجازات بعضها فوق بعض وتحريفات بعضها فوق بعض، وكلُّ ذلك إمعان منهم في إنكار استواء الله تبارك وتعالى على عرشه. ثم إنَّ استواءه تبارك وتعالى على عرشه ليس عن حاجة، بل عن غنى تام، فهو تبارك وتعالى الممسك للعرش والسماوات والأرض بقدرته، وهو الغني عن العرش وما دونه، والعرش وما دونه فقراء محتاجون إلى الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} 1، وقال تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 2 فهو الممسك للسماوات والأرض والعرش وكل المخلوقات بقدرته تبارك وتعالى. أما المخلوق فإذا استوى على شيء، فإنما يستوي عليه عن حاجة، كما في قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} 3 أي الفلك والأنعام. فاستواء المخلوق على الفلك والأنعام هو عن حاجة منه إليها، بحيث لو غرقت الفلك لغرق، ولو سقطت الدابة لسقط.

_ 1 الآية 41 من سورة فاطر. 2 الآية 2 من سورة الرعد. 3 الآية 13 من سورة الزخرف.

وهنا قاعدة يقررها أهل العلم في هذا الباب مهمة للغاية، وهي أنَّ لازم الصفة عند إضافتها إلى الله تبارك وتعالى لا يكون لازماً للصفة عند إضافتها إلى المخلوق، وكذلك العكس. فمثلاً: من لوازم إضافة الاستواء إلى المخلوق: احتياجه لما هو مستو عليه، وهذا اللازم خاص بمن أضيف إليه وهو المخلوق. فإذا أضيف الاستواء إلى الله تبارك وتعالى لا يصح بأيِّ وجه من الوجوه أن نضيف إليه لازم الصفة حال إضافتها إلى المخلوق. وبهذا يُعلم فساد أقوى شبهة عند هؤلاء لإنكار الاستواء، وهي قولهم: لو أثبتنا أن الله تبارك وتعالى مستو على عرشه حقيقة للزم من ذلك أن الله محتاج إلى العرش. وقد جاءتهم هذه الشبهة من جعلهم لازم الصفة حال إضافتها للمخلوق لازماً للصفة حال إضافتها للخالق، وهذا سبب الفساد وأساسه في هذه الصفة، بل وفي كلِّ صفة خاض فيها هؤلاء بالباطل. وأهل العلم يقولون: الصفة لها ثلاثة اعتبارات 1: الاعتبار الأول: من حيث الإطلاق، أي بدون أن تضاف لا إلى خالق ولا إلى مخلوق. فعندما نقول الاستواء، ولا نضيفه لا إلى الله، ولا إلى الخلق. فهو في هذه الحال أمر في الذهن، لا حقيقة له في الخارج. الاعتبار الثاني: اعتبار الصفة من حيث إضافتها إلى الله سبحانه وتعالى، مثل استواء الله على العرش: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فهنا الصفة مضافة إلى الله، والإضافة تقتضي التخصيص، فالصفة المضافة إلى الله تخصه سبحانه وتعالى وتليق بجلاله وكماله، ولازمها: الكمال اللائق

_ 1 انظر: بدائع الفوائد 1/165

بجلاله وعظمته. وهذا اللازم لا يجوز أن يجعل لازماً للصفة عندما تضاف للمخلوق. الاعتبار الثالث: اعتبار الصفة من حيث إضافتها إلى المخلوق، ولازم الصفة في هذه الحال: النقص والضعف، وهي تليق بالمخلوق وبضعفه ونقصه وكونه مخلوقاً. وهذا اللازم الذي يلزم الصفة باعتبار إضافتها إلى المخلوق ليس لازماً للصفة باعتبار إضافتها إلى الخالق. فإذا جعل لازم الصفة باعتبار إضافتها إلى المخلوق لازماً لها باعتبار إضافتها إلى الخالق يكون بذلك تشبيه للخالق بالمخلوق، وإذا جعل لازم الصفة باعتبار إضافتها للخالق لازماً للصفة باعتبار إضافتها للمخلوق يكون بذلك تشبيه للمخلوق بالخالق، والله عز وجل لا يشبه أحداً من خلقه، ولا يشبهه أحد من خلقه، فكلا التشبيهين باطل: تشبيه الخالق بالمخلوق، وتشبيه المخلوق بالخالق. يقول الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ:" لا يشبه شيئاً من الأشياء من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه " 1. والوجوه التي ذكرها أهل العلم في إبطال هذا التحريف لعلو الله واستوائه على عرشه كثيرة جداً، وهي مبسوطة في الصواعق المرسلة لابن القيم رحمه الله 2. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إنَّ رحمتي سبقت غضبي. فهو عنده فوق العرش "

_ 1 الفقه الأكبر ص14، وانظر: شرح الطحاوية ص117 2 مختصر الصواعق 2/126 ـ 158

بعد أن فرغ المصنف ـ رحمه الله ـ من ذكر النوع الأول من الأدلة على علو الله، وهو: التصريح بالاستواء على العرش شرع بذكر النوع الثاني: وهو التصريح بالفوقية. وقد جاء هذا النوع من الأدلة في القرآن والسنة، كما قال الله تبارك وتعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 1، وقال سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 2. وحديث أبي هريرة الذي أورده المصنف فيه التصريح بفوقية الله تبارك وتعالى على عرشه، والشاهد فيه قوله: وهو" عنده فوق العرش " عنده أي عند الله فوق العرش. والحديث مشتمل ـ إضافة إلى دلالته على فوقية الله تبارك وتعالى على خلقه ـ على ذكر صفتين، وهما الرحمة والغضب، في قوله:"إن رحمتي سبقت ـ وفي رواية غلبت ـ غضبي". كما أنه أحد الأدلة التي استدل بها أهل العلم على التفاضل بين صفات الله تبارك وتعالى، فقد بيَّن سبحانه أنَّ رحمته سبقت غضبه وغلبته، وهو دليل على أن الرحمة أفضل. ومن الأدلة ـ أيضاً ـ على التفاضل: قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه في سجوده: " اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " 3 والمستعاذ به أفضل من المستعاذ منه، والكلُّ صفة لله تبارك وتعالى 4. وروى العباس بن عبد المطلب "رضي الله عنه" أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر

_ 1 الآية 50 من سورة النحل. 2 الآية 18 من سورة الأنعام. 3 أخرجه مسلم رقم 1090 4 لأخينا الشيخ محمد بن عبد الرحمن أبو سيف حفظه الله رسالة قيمة جداً بعنوان: مباحث المفاضلة في العقيدة تناول فيها هذا الموضوع وبسط الكلام فيه.

سبع سماوات وما بينها، ثم قال: " وفوق ذلك بحر: بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، ما بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهن العرش، ما بين أعلاه وأسفله ما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه القزويني" هذا الحديث مشهور عند أهل العلم بحديث الأوعال، وهو دال على ما دل عليه الحديث السابق من فوقية الله تبارك وتعالى على خلقه. والشاهد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخره:"والله فوق ذلك"، والمؤلف ـ رحمه الله ـ ساق الحديث لهذا الشاهد، وقد عرفنا أن فوقية الله دلت عليها نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. لكن هذا الحديث الذي ساقه المصنف ـ رحمه الله ـ ضعيف الإسناد، قال الذهبي: " تفرد به سماك عن عبد الله، وعبد الله فيه جهالة " 1، وقال الألباني: " إسناده ضعيف " 2. فالحديث فيه كلام، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عدم ثبوته لا يضر هنا، لأنَّ الصفة التي ساق المصنف لأجلها هذا الحديث ثابتة في الحديث الذي قبله، وفي القرآن الكريم، فلعله ذكره هنا استئناساً لا اعتماداً ـ إن كان غير ثابت عنده 3 ـ فإنَّ من أهل العلم من حسَّن هذا الحديث 4، وهذا ربما للشواهد

_ 1 العلو ص50 2 ظلال الجنة ص 254 3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في نقض المنطق ص23: " وأهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في نقض أصل عظيم من أصول الشريعة، بل إما في تأييده، وإما في فرع من الفروع ". 4 قال الترمذي في سننه رقم 3320: " حسن غريب "، وصححه الحاكم في مستدركه 2/410

العامة فيما يتعلق بالفوقية، أما فيما يتعلق بالأوعال فلا أعرف له شاهداً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الملاحظ أنَّ المصنف ـ رحمه الله ـ أعقب هذا الحديث بذكر من خرَّجه فقال:"رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه القزويني"وقد سبقت أحاديث لم يعزها إلى من أخرجها، وذلك أنَّ له رحمه الله"قاعدة في كتابه هذا، نبَّه عليها في آخره، وهي أنَّ الحديث إذا كان متفقاً عليه عند الشيخين البخاري ومسلم فإنَّه يتركه بدون عزو. أما إذا كان في البخاري وحده أو في مسلم وحده أو في غيرهما من الكتب فإنَّه يذكر من خرجه ويعزوه إليه. وعليه فإذا رأيت في هذا الكتاب حديثاً لم يخرجه المصنف فاعلم أنه متفق عليه رواه البخاري ومسلم. ثم أورد المؤلف ـ رحمه الله ـ هذا الأثر: وقالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ومالك بن أنس في قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر "" أولاً: فيما يتعلق بأم سلمة، لم يصح عنها هذا القول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " رُوِي هذا الجواب عن أم سلمة"رضي الله عنه"موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه " 1. وقال الذهبي: " فأمَّا عن أم سلمة فلا يصح " 2. أما عن الإمام مالك بن أنس، فقد جمعت من روى عنه هذا الأثر في رسالة 3 فبلغوا عشرة"، وهو ثابت عنه بأسانيد صحيحة، وتناقله أهل العلم

_ 1 الفتاوى 5/365 2 العلو ص 65 3 سبق الإشارة إلى هذه الرسالة، وهي بعنوان الأثر المشهور عن الإمام مالك في صفة الاستواء دراسة تحليلية

عنه وتلقوه بالقبول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " قد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة من ينكره " 1. ويعتبر هذا الأثر قاعدة متينة، تغيظ أهل الأهواء كثيراً؛ وذلك لأنَّه يقرر منهجاً متكاملاً لأهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات، وليس مختصاً بالاستواء فحسب. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " وهذا الجواب من مالك"رضي الله عنه"شاف، عام في جميع الصفات " 2. ولهذا دأب المبتدعة قديماً في محاولة تحريف معناه بأنَّ الإمام مالكاً أراد بقوله:"الاستواء معلوم"أنَّه معلوم الورود في القرآن الكريم. هكذا يقولون. وقد تصدى أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المحاولات وبينوا فسادها من وجوه كثيرة. ولم يتجرأ أحد منهم ـ فيما أعلم ـ على نقض إسناده والطعن في ثبوته، حتى جاء أحد المعاصرين فتجرأ على ما لم يتجرأ عليه أسلافه، فجمع بعض طرق هذا الأثر وأخذ ينتقدها بذكر كلام أهل العلم في جرح بعض رواته ـ مع إهمال ذكر من وثقه ـ مع غضه الطرف عن بعض الطرق الصحيحة، الواضحة الثبوت. فانتقى بعض الأسانيد وقال: جميع هذه الأسانيد لا تثبت. ثم قال: فإن قيل ألا يقوي بعضها بعضاً؟ قال: لا؛ لأنَّ ضعفها شديد. ثم قال: وعلى فرض ثبوته ـ هذا على سبيل التنزل ـ يبقى رأياً للإمام مالك، وليس قولاً ملزماً للأمة. وهي محاولة فاشلة للإطاحة بهذا الأثر إسناداً أو متناً، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، والحق أبلج والباطل لجلج.

_ 1 مجموع الفتاوى 13/309، وانظر: 5/520 2 مدارج السالكين 2/86

"الاستواء غير مجهول"يعني: معلوم المعنى عند من يعرف اللغة العربية؛ معناه: العلو والارتفاع، أي لا يجهل معناه أحد يعرف اللغة. "والكيف غير معقول"أي الكيف الذي تسأل عنه مجهول. ولم يقل معدوم. وفي هذا فائدة أن صفة الله لها كيفية لكننا نجهلها. ففرق بين أن يقال: الكيف معدوم، والكيف مجهول. فالكيف مجهول يعني أنه ثابت لله، وأن صفة الله لها كيفية؛ فإن ما لا كيفية له لا وجود له، لكن النفي هنا لعلمنا بالكيفية. "والإقرار به إيمان والجحود به كفر": لفظ الإمام مالك:"والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". الإيمان به يعني الاستواء. والسؤال عنه أي: عن كيفية الاستواء: بدعة. ثم أمر بإخراج الرجل من ذلك المكان. هذا الذي قاله مالك رحمه الله تستطيع أنَّ تقوله في كلِّ صفة. مثلاً لو قال قائل: قال"صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا " 1 كيف ينزل؟ تقول: النزول: معلوم أي معلوم المعنى، وكيفيته: مجهولة، والإيمان به: واجب، والسؤال عنه: بدعة. وكذلك لو قال قائل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} كيف يداه؟ يقال: اليدان: معلومتان، وكيفيتهما: مجهولة، والإيمان بهما: واجب، والسؤال عن كيفيتهما: بدعة. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شاف، عام في جميع مسائل الصفات، فمن سأل عن قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا

_ 1 أخرجه البخاري رقم 1145، ومسلم رقم 1769

أَسْمَعُ وَأَرَى} 1 كيف يسمع ويرى؟ أجيب بهذا الجواب بعينه، فقيل له: السمع والبصر معلوم، والكيف غير معقول. وكذلك من سأل عن العلم والحياة والقدرة والإرادة والنزول والغضب والرضى والرحمة والضحك وغير ذلك، فمعانيها كلُّها مفهومة، وأما كيفيتها فغير معقولة؛ إذ تعقُّل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها، فإذا كان ذلك غير معقول للبشر، فكيف يعقل لهم كيفية الصفات؟! والعصمة النافعة في هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله"صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل تُثْبِتُ له الأسماء والصفات وتَنفي عنه مشابهة المخلوقات. فيكون إثباتك منزَّهاً عن التشبيه، ونفيُك منزَّهاً عن التعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل، ومن شبَّهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثل، ومن قال: استواء ليس كمثله شيء فهو الموحِّد المنزه " 2. " وروى أبو هريرة"رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى " هذا هو النوع الثالث من أنواع أدلة العلو: التصريح بأنَّه سبحانه في السماء. وقد جاء في القرآن، قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 3. و" في السماء" تحتمل أحد معنيين، إما أن يكون المراد بها المبنية كقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} 4، أو مطلق العلو كما في قوله

_ 1 الآية 46 من سورة طه. 2 مدارج السالكين 2/86، وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/25 3 الآية 16 من سورة الملك. 4 الآية 47 من سورة الذاريات.

تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} 1. فإن كان المراد بالسماء المبنية فـ"في"بمعنى على، فيكون معنى:" في السماء"أي على السماء. وإذا كان المراد بالسماء مطلق العلو فـ"في"على بابها. وهو بكلا الاعتبارين يدل على علو الله تبارك وتعالى على خلقه، العلو الذي يليق بجلاله وكماله. "الذي في السماء"أي الله، وهذا موضع الشاهد. وفي الحديث أيضاً إثبات صفة السخط لله جل وعلا، وهي من صفاته الفعلية. ونظير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " 2، وهو مما يوضح المراد بقوله:"في السماء"لأنك لو قابلت بين أول الحديث وآخره اتضح لك المعنى، فمثلاً إذا قال قائل من أهل الأهواء"في"هنا ظرفية، لأنهم يقولون إذا قلتم: إنَّ الله في السماء فمعنى ذلك أنَّ السماء محيطة به لأنَّ"في"تفيد الظرفية. فيقال لهؤلاء: قابلوا بين أول الحديث وآخره،"ارحموا من في الأرض"أي على الأرض. فإذا قيل: لا تستعمل"في"إلا على الظرفية، فيكون معنى الحديث ـ على هذا الفهم ـ: ارحموا الديدان والحشرات الموجودة داخل الأرض، أما الناس الذين يمشون فوق الأرض فلا يشملهم الحديث؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"في الأرض"وهؤلاء فوق الأرض!!

_ 1 الآية 22 من سورة البقرة. 2 أخرجه أبو داود رقم 4941، والترمذي رقم 1924 وقال: حسن صحيح، وأحمد 2/160، والحاكم في المستدرك 4/175، وصححه الألباني في الصحيحة رقم 925

والحق الذي يظهر لكلِّ متأمل: أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم:"ارحموا من في الأرض"أي على الأرض، فـ"في"هنا بمعنى"على". وقوله:"يرحمكم من في السماء"أي من على السماء. فإذا قابلت بين أول الحديث وآخره اتضح لك المعنى 1. وروى أبو سعيد الخدري"رضي الله عنه"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر من في السماء صباحاً ومساءً " لا يزال المصنف ـ رحمه الله ـ يذكر الأحاديث المشتملة على التصريح بأنَّ الله في السماء، وهذا كما تقدم أحد أنواع الأدلة الدالة على علو الله تبارك وتعالى على خلقه. " من في السماء"أي: الله جل وعلا، فقد ائتمنه على أعظم الأمور وأجلها على الإطلاق: ائتمنه على وحيه وتنزيله، فبلَّغ صلى الله عليه وسلم رسالة ربه وافية كاملة. وهو صلى الله عليه وسلم السفير والواسطة بين الله وبين عباده في بلاغ دينه وكلامه لهم، فائتمنه من في السماء، ومع ذلك لم يأتمنه بعض من في الأرض على قليل من المال، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم:"ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء". وللحديث قصة، وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قسم مالاً، فجاءه ذو الخويصرة فقال: إنك لم تقسم بالعدل أو بالسوية، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال كلمته هذه. ثم بيَّن ما هو الذي ائتمنه عليه من في السماء أي: الله عز وجل، فقال: يأتيني خبر من في السماء صباحاً ومساءاً" أي يتنزل عليه الوحي"باستمرار في الصباح والمساء"، فهو مؤتمن على أعظم الأمور: وحي الله وتنزيله، فكيف لا يؤتمن على المال، وهو أمر دنيوي ليس بشيء في مقابل هذا الأمر الجلل العظيم.

_ 1 هذه الفائدة لم أرها مكتوبة، وإنما سمعتها من الشيخ الألباني رحمه الله.

الشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم مرتين في الحديث:"من في السماء "في قوله: وأنا أمين من في السماء"، ثم قال:"يأتيني خبر من في السماء"، فهذا فيه التصريح بأنَّ الله في السماء، والسماء ـ كما قدمت ـ إما أن تكون المبنية، فتكون"في"بمعنى على. أو تكون بمعنى العلو، وتكون"في"على بابها. وروى معاوية بن الحكم السلمي"رضي الله عنه"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: قال لجاريته: " أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة ". رواه مسلم بن الحجاج وأبو داود وأبو عبد الرحمن النسائي ثم أورد المصنف ـ رحمه الله ـ حديث معاوية بن الحكم في قصته مع جاريته التي كانت مكلفة عنده برعاية أغنامه، فعدى يوماً ذئب على شاة منها فأكلها، فغضب معاوية"رضي الله عنه"وأسف على هذا الأمر وصكها صكة أي: ضربها ضربة شديدة، لكنه ندم على ضربها، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعرض عليه عتقها، لعل الله أن يكفِّر عنه تلك الضربة التي ضربها. فطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤتى بها ليَمتحن إيمانَها وليختبرها. فكان الاختبار مكوناً من سؤالين: سؤال عن المرسِل وهو الله جل وعلا: عن توحيد الله، فسألها:"أين الله؟ "أي الذي يُعبد، ويُخضع له ويُسجد، ويُطاع أمره ويمتثل؟ فأشارت إلى السماء وقالت: في السماء. والسؤال الثاني عن المرسَل صلى الله عليه وسلم، يتعلق بتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها صلى الله عليه وسلم: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه شهادة له صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

وهذه الشهادة ليست مجرد قول يقوله العبد، أو دعوى يدعيها فقط، بل هي متضمنة لأمور ثلاثة: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. وعندما تتأمل ما جاء به صلى الله عليه وسلم تجده مكوناً من هذه الأمور الثلاثة: أوامر ونواهي وأخبار، فمن قال: أشهد أنَّ محمداً رسول الله عليه أن يطيع الأوامر، وأن ينتهي عن النواهي، وأن يصدق الأخبار، وبهذا تكون شهادته للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة صادقة. فعندئذ قال صلى الله عليه وسلم:"أعتقها فإنها مؤمنة"فحكم لها بالإيمان بناءً على هذين الجوابين: الإقرار بأنَّ الله في السماء، والشهادة بأنَّ محمداً"صلى الله عليه وسلم رسول الله. ومن أقر بأنَّ الله في السماء، وشهد حقاً أنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مؤمن؛ لأنَّه مقر بربه مؤمن به، ومؤمن بهذا الرسول المرسَلِ من الله جل وعلا، ومن كان هذا حاله فسيقبل على عبادة ربه وطاعته. فجواب هذا السؤال إذا كان جواباً صحيحاً من قلب صادق دليل على الإيمان. قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي ـ رحمه الله ـ: " ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أنَّ الرجل إذا لم يعلم أنَّ الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن، ولو كان عبداً فأُعتِق لم يُجْزِ في رقبة مؤمنة، إذ لا يعلم أن الله في السماء، ألا ترى أنَّ رسول الله جعل أمارة إيمانها معرفتها أنَّ الله في السماء " 2. وفي هذا الحديث فوائد عظيمة: منها:"التأكيد على أهمية هذين

_ 1 الآية 64 من سورة النساء. 2 الرد على الجهمية ص 17

السؤالين، وأنهما أعظم المسائل وأجلها، بل إنَّ الناس ـ يوم القيامة ـ لا يُسألون إلا عنهما: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ وفيه ـ أيضاً ـ دليل على أنَّ الإنسان يُحكم عليه بظاهره، أما الباطن فإلى الله عز وجل، فمن ذَكرَ أمور الإيمان وأقر بها حكم بإيمانه، فليس للناس إلا الظاهر، والله يتولى السرائر. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أين الله": دليل على صحة هذا السؤال ومشروعيته، وجواز إلقائه على الناس للحاجة والفائدة والتعليم. وجواب هذا السؤال هو هذا الجواب الذي أجابت به الجارية، وأقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان جوابها غير صحيح لما أقرها على ذلك كما لا يخفى. قال الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ: " ففي الخبر مسألتان: إحداهما: شرعيةُ قول المسلم: أين الله. وثانيهما: قول المسؤول: في السماء. فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم " 1. والمبتدعة أهل الكلام كثيراً ما يقولون في عقائدهم: لا تجوز في حقه ـ أي الله ـ الأينية، أي: لا يُسأل عنه بـ"أين"، ولا يشار إليه بإصبع، بل قال بعضهم: إنَّ الإصبع التي ترفع إلى السماء مشيرة إلى الله يجب أن تقطع؛ لأنها إشارة باطلة. فعندهم قولك:"أين الله؟ "، ومتى الله؟ في البطلان سواء. يقولون هذا مع ثبوت هذه الإشارة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في أعظم جمع، وأكبر مشهد، وأوسع محفل: في حجة الوداع لما خطب الناس، وكان أمامه أمم لا يحصيهم إلا الله عز وجل، فيهم من هو حديث الإسلام، ومن هو

_ 1 العلو ص 46، وانظر كلام ابن القيم في الصواعق المرسلة 4/ 1238 ـ 1239

متقدم الإسلام، أشار أمام هؤلاء هذه الإشارة، ليس مرة واحدة، بل ثلاث مرات يشير إلى السماء، كما قال جابر بن عبد الله"رضي الله عنه": " فقال صلى الله عليه وسلم بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات " 1. فحديث الجارية فيه التصريح بأن الله في السماء. ثم قال المصنف ـ معلقاً على هذا الحديث ـ: " ومن أجهل جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يقول: إنه لا يجوز أن يقال: أين الله"أي كما هو حال المتكلمين أهل الأهواء، الذين يقولون: لا يسأل عنه بـ"أين". فالمؤلف يقول: من أجهل جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يمنع طرح هذا السؤال بعد طرح النبي صلى الله عليه وسلم له، وهو أعلم الناس بربه، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " 2،: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 3، فيأتي عنه التصريح بهذا السؤال:"أين الله"في حديث صحيح ثابت، تلقته الأمة بالقبول، ثم يقول بعض هؤلاء الضلال أهل الأهواء: هذا سؤال باطل لا يجوز. فهذا ـ كما قال المصنف رحمه الله ـ دليل على جهل قائله وسخف عقله وضلاله في مسلكه وسبيله. " بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله: أين الله"إذا كان صاحب الشريعة المبلغ عن الله قال: أين الله. فلا شك أنَّ هؤلاء المتكلمين ـ الذين يقولون: لا يجوز أن يقال أين الله ـ أصحاب هوى وضلالة.

_ 1 أخرجه مسلم رقم 2941 2 أخرجه البخاري رقم 20 3 الآيتان 3، 4 من سورة النجم.

فصاحب الشريعة، ومن تبع سبيله وسلك نهجه وترسم خطاه ولزم غرزه يقولون: أين الله. وأما هؤلاء فأهل أهواء، ليسوا على طريقة صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 1. ولهذا فأهل الأهواء مغتاظون من هذا الحديث أشد الغيظ، فما أن تقرأه على أحدهم إلا وتراه اشمأز وانكمش وانقبض. ولأجل هذا اجتهد بعضهم في تضعيفه، واجتهد بعضهم في تحريفه، وسلكوا فيه مسالك شتى، وحالهم مع هذا الحديث هو حال أسلافهم مع كلِّ حديث لا يوافق أهواءهم، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أنَّه دارت بينه وبين بعض المتكلمين مناظرة في صفة الكلام، فقال هذا المتكلم:"نحن وسائر الأمة نقول: القرآن كلام الله لا ينازع في هذه الإضافة أحد، ولكن لا يلزم منها أن يكون الله بنفسه متكلماً ولا أنَّه يتكلم، فمن أين لكم ذلك؟ قال ابن القيم: فقال له بعض من كان معي من أصحابنا: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا تكلم الله بالوحي " 2، وقالت عائشة رضي الله عنها: " ولشأني كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى " 3. قال: فرأيت الجهمي قد عبس وبسر وكلح وزوى وجهه عنه كالذي شم رائحة كريهة أعرض عنها بوجهه، أو ذاق طعاماً كريهاً مراً مذاقه"4. فهذا شأن أهل الأهواء مع النصوص المخالفة لأهوائهم.

_ 1 الآية 50 من سورة القصص. 2 أخرجه أبو داود رقم 4738، وابن خزيمة في التوحيد رقم 207 عن ابن مسعود مرفوعاً. وعلقه البخاري في صحيحه 13/461 مع الفتح عن ابن مسعود موقوفاً جازماً به. قال الألباني في الصحيحة رقم 1293: " والموقوف وإن كان أصح من المرفوع ـ ولذلك علقه البخاري في صحيحه ـ فإنه لا يعل المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي كما هو ظاهر ". 3 أخرجه البخاري رقم 4750، ومسلم رقم 6951 4 الصواعق المرسلة 3/1037 ـ 1038

أما صاحب السنة وصاحب الشريعة إذا سمع هذا الحديث أو غيره من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يستبشر ويتهلل وجهه ويفرح ويتلقاه بالقبول. كيف لا، وهو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم. ثم أورد المصنف أثراً عن أنس بن مالك"رضي الله عنه"فقال: وروى أنس بن مالك"رضي الله عنه"قال: " كانت زينب بنت جحش تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات " رواه البخاري وفيه التصريح بالفوقية، وهو ـ كما سبق ـ أحد أنواع الأدلة الدالة على علو الله تبارك وتعالى. وزينب بنت جحش رضي الله عنها زوَّجها الله من فوق سبع سماوات، كما قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} 1، فكانت تفخر بذلك على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: زوجكن أهاليكنَّ، أي: كلُّ واحدة منكنَّ زوجها أهلها، إما أبوها أو وليها. أما أنا فزوجني الله من فوق سبع سماوات. الشاهد من ذلك قولها:"من فوق سبع سماوات". وفي حديث أبي هريرة"رضي الله عنه"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر المؤمن عند موته، وأنه يعرج بروحه حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله عز وجل. رواه الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما" ثم أورد هذا الحديث: حديث أبي هريرة"رضي الله عنه"وهو في ذكر قبض روح المؤمن عند موته والعروج بها إلى السماء، وأنها تمر بالسماء الأولى فيرحب بها من في تلك السماء من الملائكة، ويقولون: أيتها الروح الطيبة. ثم يصعد بها إلى السماء التي تليها، إلى أن قال: حتى ينتهي إلى السماء التي

_ 1 الآية 37 من سورة الأحزاب.

فيها الله" أي التي عليها الله، والمراد بالسماء هنا المبنية على حسب التسلسل الذي جاء في الحديث: السماء الأولى، السماء الثانية، إلى أن قال: حتى يأتي إلى السماء التي فيها الله، يعني السماء السابعة التي عليها الله؛ لأنَّ العرش فوق السماوات، والله فوق العرش سبحانه وتعالى. فالشاهد منه: التصريح بأنَّ الله في السماء، فيضم إلى الأدلة السابقة المصرحة بذلك. وروى أبو الدرداء"رضي الله عنه"قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من اشتكى منكم، أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة وشفاءً من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ". رواه أبو القاسم الطبري في سننه" هذه رقية تقال للمريض، سواء اشتكى هو، أو اشتكى أخ له، لو صح الحديث، لكنَّ الحديث لم يصح، إذ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعمل به، وإنما يعمل بالصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الباب رقى كثيرة ثابتة، منها ما هو في الصحيحين وفي غيرهما، فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: ""أذهب الباس، رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً " 1. الشاهد:"ربنا الله الذي في السماء"، وهذه اللفظة التي هي موضع الشاهد من هذا الحديث، سبق ما يدل عليها في أحاديث كثيرة جداً، بل في القرآن الكريم، كما قال تبارك وتعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 2،

_ 1 أخرجه البخاري رقم 5675، ومسلم رقم 5671 2 الآية 16 من سورة الملك.

والأحاديث المصرحة بأنَّ الله جل وعلا في السماء كثيرة، ولعل المؤلف ـ إن لم يثبت عنده سند هذا الحديث ـ"إنما أورده على سبيل الاستئناس، إذ الاعتماد إنما يكون على الأحاديث الصحيحة الثابتة لا على الضعيف والواهي منها كما سبق تقريره. " رواه أبو القاسم الطبري"هو صاحب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، مشهور باللالكائي 1. ثم لما انتهى المصنف من ذكر أمثلة من أنواع الأدلة على العلو قال: " وفي هذه المسألة أدلة من الكتاب والسنة يطول بذكرها الكتاب، ومنكر أن يكون الله في جهة العلو بعد هذه الآيات والأحاديث مخالف لكتاب الله، منكر لسنة رسول الله" أي أيها القارئ إنما سقت لك نماذج وأمثلة يسيرة على أدلة هذه الصفة: صفة العلو، وإلا فإنَّ أدلتها يطول بها الكتاب. ومن أهل العلم من بسطها بسطاً موسعاً في مجلد كبير، مثل الذهبي في كتابه"العلو"، وابن قدامة ابن خالة المؤلف في كتابه"العلو"، وابن القيم في كتابه"اجتماع الجيوش"، وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه"الحموية"2. فالمؤلف ـ رحمه الله ـ ذكر طرفاً يسيراً من هذه الأدلة، وأشار إلى أنها كثيرة جداً يطول الكتاب بذكرها، وأنَّ المخالف في هذه المسألة مخالف للآيات والأحاديث الصريحة فيها.

_ 1 وهو مطبوع في خمس مجلدات بتحقيق د. أحمد سعد حمدان. وهو فيه رقم 648 وفي سنده: زيادة بن محمد الأنصاري. قال في التقريب: منكر الحديث. وقد تصحف اسمه في مطبوعة اللالكائي إلى زياد بن محمد في المتن والحاشية. 2 وانظر ما قاله السفاريني في لوامع الأنوار عن مصنفات أهل العلم حول هذه الصفة 1/195 ـ 196

" وقال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كلِّ مكان، لا يخلو من علمه مكان" لما أنهى المصنف ـ رحمه الله ـ ذكْرَ الآيات والأحاديث في هذا الباب، وأكد على خطورة عدم الإيمان بمدلولها، أورد بعض الآثار عن سلف الأمة في الباب نفسه، فأورد أثر الإمام مالك هذا، وفيه تصريحه بعلو الله تبارك على خلقه، وأنَّه في السماء أي: في العلو، مستو على عرشه، بائن من خلقه. ومع كونه سبحانه وتعالى في السماء فعلمه محيط بالخلق، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وكثيراً ما يأتي الجمع بين هاتين الصفتين: الاستواء والعلم في القرآن، نحو قوله تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} ، وقال تبارك وتعالى في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} فذكر الاستواء ثم ذكر العلم. وفي سورة السجدة، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ثم بعدها بآية قال: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . وفي سورة الرعد، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ثم بعدها بخمس آيات قال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} ،

فمع كونه سبحانه مستوياً على عرشه بائناً من خلقه، فإنَّ علمه محيط بخلقه، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، الغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية. وقال الشافعي: خلافة أبي بكر حق قضاها الله في سمائه، وجمع عليها قلوب أصحاب نبيه"صلى الله عليه وسلم"والشاهد من هذا الأثر هو قول الشافعي:"في سمائه"وهذا فيه التصريح بأن الله عز وجل في السماء. "وقال عبد الله بن المبارك: نعرف ربنا فوق سبع سماوات بائناً من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض"هذا هو الذي يعتقده أهل السنة، ويعتقده المسلمون المتمسكون بكتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ممن لم تخالط قلوبهم الأهواء، ولم تتلقفهم الشبهات، يعرفون ربهم بأنَّه فوق سبع سماواته بائن من خلقه. ومعنى "بائن": أي: ليس في خلقه شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، ومن لا يثبت البينونية أو المباينة لم يثبت علو الله، ولم يؤمن بعلوه سبحانه. وفي قوله:"بائناً": إبطال لقول أهل الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، وغيرهم من أهل الضلال، فإنَّ الله عز وجل بائن من خلقه. وهذه الكلمة مشهورة عن السلف، متناقلة عنهم كثيراً 1؛ إذ هي التي تمحص المحق من المبطل في هذا الباب، فقد وجد من بعض المتكلمين من

_ 1 انظر: مقدمة تحقيق رسالة ابن أبي زيد القيرواني للشيخ بكر أبو زيد ـ حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية ـ فقد جمع نقولات كثيرة من مصادر كثيرة جداً عن السلف فيها تصريحهم بهذه الكلمة بائن من خلقه.

يقول: أن أؤمن بأنَّ الله مستو على العرش، لكن للاستواء ـ عنده ـ معنى غير الذي يدل عليه النص، فاحتيج إلى هذه الكلمة"بائن من خلقه"حتى يتبين المحق من المبطل. فمن أثبت أنَّ الله مستو على عرشه بائن من خلقه أثبت العلو الحقيقي الذي دل عليه لفظ الاستواء. وكان أحد القضاة من أهل السنة 1 أمر بسجن أحد الجهمية؛ لأنَّه لا يثبت استواء الله على عرشه. فقيل: إنه تاب. فقال: ائتوني به أمتحنه. فجاءوا بالرجل، فقال له: أتؤمن بأنَّ الله مستو على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أنا أؤمن بأن الله مستو على عرشه، ولا أدري ما بائن. فقال: ردوه إلى السجن فإنه لم يتب. "ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض" الجهمية يقولون: إنَّ الله في كلِّ مكان، وهذا القول عند متصوفة الجهمية؛ لأنَّ الجهمية ـ كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ على قسمين: قسم متكلمون، وقسم متصوفة. فمتكلمو الجهمية يقولون: إنَّ الله لا فوق ولا تحت، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله، ولا داخله ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه. أما متصوفتهم فإنهم يقولون: إنَّ الله في كلِّ مكان. فالمتكلم صاحب كلام وجدل، ليس للعبادة عنده مجال. أما المتصوف فعنده تعبد، والمتعبد يريد شيئاً يتجه إليه، فلو قال: إنَّ الله لا فوق ولا تحت، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله فهذا يعني أنَّ معبوده عدم، وما ثمة شيء يتجه إليه.

_ 1 هو هشام بن عبيد الله الرازي، عالم الري من أئمة الفقه على مذهب أبي حنيفة. وانظر القصة في اجتماع الجيوش الإسلامية ص140

لذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أنَّ بعض الجهمية نقل عنه أنَّه مرة يقول: إنَّ الله لا فوق ولا تحت، ولا عن يمين العالم ولا عن شماله. ومرة يقول: إنَّ الله في كلِّ مكان. فقيل له تناقضتَ. فقال: هذا مقتضى عقلي، وذاك مقتضى ذوقي ومعرفتي ‍‍‍‍‍‍‍!! 1 يعني لما أشتغلُ بالنظر والجدل والكلام أقول: لا فوق ولا تحت. ولما أشتغل بالوجد والتعبد أقول: في كل مكان. لأنَّه إذا قال: الله لا فوق"ولا تحت ويريد أن يتعبد، فما هناك شيء يعبده. ولهذا قال بعض السلف عن الجهمية: قد ضيعوا معبودهم.

_ 1 مجموع الفتاوى 2/298 ـ299

صفة الوجه

[صفة الوجه] لما أنهى المصنف ـ رحمه الله ـ الكلام على صفة العلو، وذكر بعض أدلتها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وذكر بعض الآثار المروية عن السلف في ذلك، انتقل إلى الكلام عن صفة أخرى من صفات الرب سبحانه وتعالى، وهي: صفة الوجه. والوجه صفة ذاتية لله جل وعلا، ثابتة في الكتاب والسنة، وأدلتها في القرآن والسنة كثيرة جداً، وقد ذُكر الوجه في القرآن وفي السنة وأضيفت إليه صفات كثيرة، مثل النور، والسبحات، والبصر، إلى غير ذلك. وأهل السنة ـ رحمهم الله ـ منهجهم في هذه الصفة هو منهجهم في جميع الصفات: يقولون: إن لله وجهاً يليق بجلاله وكماله، كما نطق بذلك كتابه، وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم يثبتونه لله على المعنى اللائق به، بلا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، على حد قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. أما أهل الأهواء فلا يثبتونه لله تبارك وتعالى، بل يتأولونه تأويلات مختلفة ومتنوعة، فمنهم من يقول: الوجه الذات، ومنهم من يقول: الوجه الثواب، إلى غير ذلك من تأويلاتهم الباطلة 2. والوجه في لغة العرب هو: مستقبل الشيء، ويضاف إلى الزمان وإلى المكان، وإلى الحيوان، وهو في كلِّ موطن بحسب ما أضيف إليه، على القاعدة المعروفة: الإضافة تقتضي التخصيص.

_ 1 الآية 11 من سورة الشورى. 2 أشار ابن القيم إلى طرف منها في مختصر الصواعق " ص174 " ثم قال: " وهذه أقوال نعوذ بوجه الله العظيم من أن يجعلنا من أهلها ".

فإذا أضيف إلى المسألة مثلاً، فقيل: ما وجه هذه المسألة؟ يعني الذي يبدو منها، ووجه المسألة مسألة. وعندما يقال: وجه النهار يُعنَى أوله، ووجه النهار نهار. وعندما يقال: وجه الإنسان ووجه الحيوان، فهو في كل موطن بحسبه. فإذا أضيف الوجه إلى من ليس كمثله شيء، كان الوجه ليس كمثله وجه، فلله عز وجل وجه حقيقي، يليق بجلاله وكماله، والشأن فيه كالشأن في ذات الله، فكما أنَّ لله ذاتاً لا تشبه الذوات، فله ـ كما أخبر عن نفسه، وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ـ"وجه لا يشبه الوجوه. فبدأ المصنف الكلام عن هذه الصفة بقوله: " ومن الصفات التي نطق بها القرآن، وصحت بها الأخبار: الوجه " وهذا على قاعدة أهل السنة السابق ذكرها: إثبات ما ثبت في الكتاب والسنة. ثم أورد بعض الأدلة من القرآن ومن السنة، فيها إثبات الوجه لله تبارك وتعالى، فقال: " قال الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} " فأضاف سبحانه الوجه إلى نفسه، وأسند هذه الصفة إلى نفسه، فقال: " وجهه ". فالآية دالة على ثبوت الوجه صفة لله تبارك وتعالى على المعنى اللائق به وبجلاله وكماله. كما تدل على بقائه سبحانه، إذ في ذكر بقاء الوجه وعدم هلاكه دلالة على بقاء ذاته سبحانه، فهو الباقي الآخر الذي ليس بعده شيء، وكل المخلوقات تهلك ويبقى الحي الذي لا يموت، كما قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} 1.

_ ثم أعقبها بدليل آخر من القرآن فقال: " وقال الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ 1 الآية 58 من سورة الفرقان.

رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} " وهي بمعنى الآية السابقة، أي: الكل هالك، والباقي وجه الله. وقد شوَّش بعض المبتدعة على الناس، فقالوا: لو أثبتنا من هذه الآية الوجه، للزم من ذلك هلاك الذات ـ تعالى الله عما يقولون ـ؛ لأنه لم يُسْتَثنَ. وهذا من أسوء الفهم وأقبحه، وليس فيه توقير لله تبارك وتعالى ولا تعظيم لكلامه سبحانه، فإنَّ الآية دالة على ثبوت الوجه صفة له، وعلى بقائه سبحانه؛ لأن الإخبار عن بقاء المذوي بالجلال والإكرام دال على بقاء ذاته. وبعضهم يقول في الوجه هنا وفي الآية التي قبله: إنه صلة أي: زائد، فيكون المعنى: كل شيء هالك إلا هو. وقولهم هذا باطل؛ لأنك لو تأملت لوجدت أنَّ البقاء أضيف إلى الوجه، والوجه أضيف إلى الذات، ثم نعت بـ: {ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} ، فهو صفة للوجه، إذ لو كان صفة للرب لقال تبارك وتعالى: " ذي الجلال والإكرام ". فكيف يقال في شيء وصف في الآية بصفتين: الجلال والإكرام بأنه شيء زائد. فالوصف هنا: {ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} وصفٌ لوجه الرب تبارك وتعالى، وقد وصف الله نفسه سبحانه في آيات أخرى بالجلال والإكرام. وفي الجلال معنى الكمال والعظمة، وفي الإكرام معنى الحسن والجمال والبهاء. وقد اقتصر المصنف ـ رحمه الله ـ على ذكر هاتين الآيتين في إثبات هذه الصفة، وإلا فالآيات الدالة على ثبوتها في القرآن كثيرة. ثم أورد المصنف ـ رحمه الله ـ دليلاً على إثبات صفة الوجه من السنة، فقال: " وروى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"جنات الفردوس

أربع، ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه هذا ذكر جنات الفردوس، وأنَّ درجات أهل الجنة في الجنة متفاوتة، وأنَّ منازلهم متباينة، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1 فالجنة فيها جنات، وهي متفاوتة متباينة المنازل، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:"إنَّ أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم" 2. فأهل الغرف لهم منازل رفيعة في الجنة، حتى إنَّ أهل الجنة لينظرون إليهم مثل ما ننظر إلى النجم الذي في أعلى السماء؛ بحيث يحتاج الإنسان لأنَّ يرفع رأسه رفعاً شديداً حتى ينظر إلى ذاك النجم العالي. وفي سورة الرحمن وسورة الواقعة إشارة إلى هذه الجنات التي يتحدث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ففي سورة الرحمن قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 3 ثم ذكر أوصافهما، ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} 4 ثم ذكر أوصافهما. وفي سورة الواقعة ذكر جنة المقربين، ثم ذكر جنة أصحاب اليمين مع ذكر أوصاف عديدة لهاتين الجنتين. وهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف جنات الفردوس الأربع: " ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما ": هاتان الجنتان أرفع من الجنتين الآتيتين، ولعلهما ـ والله تعالى أعلم ـ للمقربين، ثم ذكر بعدهما جنتين من فضة،

_ 1 الآية 19 من سورة الأحقاف. 2 أخرجه البخاري " رقم 3256 "، ومسلم " رقم 7073 " واللفظ له. 3 الآية 46 من سورة الرحمن. 4 الآية 62 من سورة الرحمن.

ولعلهما ـ والله تعالى أعلم ـ لأصحاب اليمين، كما في التقسيم الوارد في سورتي الرحمن والواقعة. وفي الحديث إثبات الرؤية، وأنَّ الله عز وجل يُرى يوم القيامة، يراه المؤمنون عياناً بأبصارهم حقيقة، وهي أكمل وأعظم نعيم يحظون به في الجنة. وفيه ـ أيضاً ـ: إثبات صفة الكبرياء لله عز وجل، كما في الحديث الآخر:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري"1. والشاهد منه هو قوله: " على وجهه " ففيه إثبات الوجه صفة لله عز وجل. ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم:"وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة"2. " وروى أبو موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع، فقال: إنَّ الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخفِض القسطَ ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النار، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره. ثم قرأ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} رواه مسلم " " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع " أي بذكر أربع كلمات. بدأها بقوله: " إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام " فذكر صفة من الصفات التي ينزه الله تبارك وتعالى عنها، وهي النوم، وقد سبق بيان أن

_ 1 أخرجه أبو داود " رقم 4090 "، وابن ماجه " رقم 4174 "، وأحمد " 2/248 "، وابن حبان " رقم 328 "، والحاكم " 1/129 وقال: صحيح على شرط مسلم ". 2 أخرجه النسائي " رقم 1305 "، والبزار " رقم 1393 "، وابن حبان " رقم 1971 " وصححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 1301 " وانظر شرحاً لطيفاً لهذا الدعاء في كتاب: " شرح حديث لبيك اللهم لبيك " لابن رجب " ص95 "

منهج أهل السنة: إثبات ما ثبت في الكتاب والسنة، ونفي ما نُفِي فيهما. فقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث النوم عن ربه، فقال: " لا ينام "، وهو نظير قوله جل وعلا: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 1، فهو سبحانه منزه عن النوم لكمال حياته وقيوميته. ولأهل السنة قاعدة معروفة في الصفات المنفية، مثل النوم والسِنة والولد واللغوب والظلم ونحو ذلك"، وهي: أنَّ النفي الوارد في صفات الله ليس نفياً صِِرفاً، وإنما هو نفي متضمن إثبات كمال ضد المنفي لله جل وعلا 2، فالنفي الصِرف ـ الذي لا يتضمن معنى ثبوتياً ـ ليس مدحاً، فقد يُنفى الشيء عن الإنسان لعجزه عنه، أو لعدم قابليته له. فقد ينفى الظلم والاعتداء ـ مثلاً ـ عن شخص لا لعدله، وإنما لعجزه وضعفه، كما قال رجل يذم قبيلته: قُبَيِّلةٌ لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل فنفى عن قبيلته الظلم، لكن لمَّا كان هذا النفي نفياً صرفاً غير متضمن لمعنى ثبوتي كان ذماً لها، فهو أراد أن يعبر عن ضعف قبيلته، وأنها ليس عندها قدرة ولا قوة على حمل السلاح ومقاومة الناس، فقال: قُبيلة تصغيراً لهم، ونفى عنهم الظلم لعجزهم عنه، لا لكمال عدلهم. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينام " ليس نفياً صِرفاً، بل هو متضمن لإثبات كمال الضد، وهو كمال الحياة والقيومية كما قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، كما أنَّ في نفي الظلم إثبات كمال العدل، وفي نفي اللغوب ـ وهو التعب ـ إثبات كمال القوة والقدرة، وفي نفي العجز إثبات كمال القوة

_ 1 الآية 255 من سورة البقرة. 2 انظر: بدائع الفوائد " 1/161 "

والقدرة وهكذا، فكلُّ نفي في القرآن والسنة يتعلق بصفات الله جل وعلا ليس نفياً صِرفاً، وإنما هو متضمن إثبات كمال الضد. والكلمة الثانية: " يخفض القسط ويرفعه " والقسط: الميزان الذي توزن به الأعمال والأقوال والصحائف، وسمي الميزان قسطاً لأنَّه به يكون القسط ـ الذي هو العدل ـ، ووزن الأمور بدقة وسوية وإنصاف. " يخفض القسط ويرفعه " أي بيده تبارك وتعالى الميزان، وبيده تبارك وتعالى العدل. وفي الحديث الآخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنَّه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض" 1. وفي هذا الحديث: إبطال لكلِّ تأويل قيل في يد الله تبارك وتعالى؛ لأنه ذكر اليمين وأنها ملأى لا يغيضها نفقة، ثم ذكر اليد الأخرى. فهل يقال: قدرته الأخرى أو قوته الأخرى!! الكلمة الثالثة قال: " يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل " وهذا بمعنى الحديث الآخر المتفق عليه 2، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ـ وهو أعلم بهم ـ: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 7419 "، ومسلم " رقم 2306 "، وفي لفظ عند البخاري " رقم 7411 ": " وبيده الأخرى: الميزان يخفض ويرفع ". 2 أخرجه البخاري " رقم 555 "، ومسلم " رقم 1430 "

وهذان الحديثان: من أنواع أدلة العلو، فقوله عزوجل: " يعرجون إليه "، و"يرفع إليه " دالان على علو الله سبحانه؛ لأن الرفع والعروج والصعود إنما يكون إلى أعلى. ونظير هذا قول الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 1، وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 2. " يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل " عمل الليل قبل النهار أي: في صلاة الفجر. وعمل النهار قبل الليل أي: في صلاة العصر. والله جل وعلا وكَّل بهذه المهمة ملائكة يتعاقبون في الناس، تنزل جماعة وتصعد أخرى، يتعاقبون ويتناوبون، ويأخذ كلُّ واحد العقبى من الآخر في هذه المهمة. ولا شك أنَّ الإيمان بهذا يحرك في الإنسان حب العمل، والإقبال على الله تبارك وتعالى. ولو تأمل العبد في هذا التعاقب واستحضره ما نام عن صلاة الفجر، بل يقبل على الطاعات ويجتهد فيها حتى ترفع أعماله إلى الله عز وجل وقد كُتب فيها عنه خير، فكيف يليق بمسلم يعلم أن الملائكة يعرجون إلى الله ويخبرونه بحاله ـ وهو أعلم به ولكن اقتضت حكمته ذلك ـ أن ينام عن صلاة الفجر، ثم تصعد الملائكة وتخبر عنه بهذه الحال: تفريط وتضييع لما أمر الله تبارك وتعالى به وأوجبه عليه. فعلى طالب العلم أن يراعي هذا الجانب عند دراسة العقيدة، وعليه أن يجتهد في أن تحرك قلبه ويعالج بها تقصيره، فإنَّه إذا أحسن تأملها واستحضارها كان لها ـ بإذن الله تعالى ـ أثر عليه وعلى سلوكه وعمله وإقباله على طاعة ربه تبارك وتعالى.

_ 1 الآية 10 من سورة فاطر. 2 الآية 158 من سورة النساء.

الكلمة الرابعة: " حجابه النار "، وفي بعض ألفاظ الحديث: " حجابه النور "، ولعله تردد من بعض الرواة. قال ابن القيم رحمه الله:" النور الذي احتجب به سمي نوراً وناراً، كما وقع التردد في لفظه في الحديث الصحيح: حديث أبي موسى الأشعري وهو قوله: " حجابه النور أو النار "، فإنَّ هذه النار هي نور، وهي التي كلَّم الله كليمه موسى فيها، وهي نار صافية لها إشراق بلا إحراق. فالأقسام ثلاثة: إشراق بلا إحراق، كنور القمر. وإحراق بلا إشراق، وهي نار جهنم فهي سوداء محرقة لا تضيء. وإشراق بإحراق، وهي هذه النار المضيئة، وكذلك نور الشمس له الإشراق والإحراق، فهذا في الأنوار المشهودة المخلوقة. وحجاب الرب تبارك وتعالى نور وهو نار" 1. فحجابه النور أو النار كلاهما يؤدي إلى معنى واحد. " لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كلَّ شيء أدركه بصره " سبحات جمع سبحة، وهي البهاء والحسن والجمال، أي: جمال وجهه وحسنه وبهاؤه تبارك وتعالى. فوصف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الله عز وجل بأنَّ له سبحات، وأيضاً أضاف إليه البصر فقال: " أدركه بصره "، ومعلوم أنَّ بصر الله تعالى ينتهي إلى رؤية كلِّ المبصرات وجميع المرئيات، فهو تبارك وتعالى يرى كلَّ شيء، ولا يغيب عن بصره شيء، دقيق الأمور وجليلها، صغيرها وكبيرها، يرى تبارك وتعالى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في ظلمة الليل، ويرى جريان الدم في عروقها، ويرى كلَّ جزء من أجزائها.

_ 1 مختصر الصواعق " 2/194 ـ 195 "، وانظر: مجموع الفتاوى " 6/387 "

فهل يمكن أن يخطر بقلب مؤمن يقرأ هذا الحديث ويفهمه ويتأمله أن هذا الوجه العظيم كوجه الإنسان؟! هل هناك عاقل عنده شيء من العقل، يقرأ هذا الحديث ثم يقول بكلِّ حماقة ووقاحة وتفاهة لو أثبتنا لله وجهاً حقيقياً للزم من ذلك أن يكون كوجه الإنسان؟! سبحان الله عما يصفون. فهذا يبين تفاهة عقول المعطلة ومرض صدورهم، فالذي يصل إلى هذا المستوى فما أجهله، ولا أضل عقلاً منه، ولا أضل عن سواء السبيل. نظير ذلك في اليد، يقولون: لو أثبتنا لله يداً حقيقة للزم أن تكون مثل أيدينا، فمن يقرأ قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 1، كيف يخطر بباله هذه اليد؟ أعني يد المخلوق إلا إذا كان أجهل الناس، وأذهبهم عقلاً، وأقلهم بصيرة، وأضلهم عن سواء السبيل. وسبب التأويل هو هذا الفهم، فالمعطلة والمؤولة عندما يقرءون هذه الأحاديث لا يفهمون منها إلا هذا الذي في الشاهد، فمثلاً هنا " سبحات وجهه " يقولون: نحن لا نعقل وجهاً إلا ما نراه في الشاهد، فيقيسون وجه الله العظيم بوجه الإنسان، ثم يبنون عليه تعطيل صفة الوجه أو تأويلها أو تفويض معناها لله. وامتن الله عز وجل على أهل السنة وأكرمهم بأن سلِموا من هذا التشبيه فسلِم لهم معتقدهم. وكلُّ من خالف أهل السنة فهو واقع في التشبيه لا محالة، بل إنَّ التشبيه هو سبب البلاء المنتشر والضلال الواقع في الأسماء والصفات، فإنَّه لما قام في نفوسهم، وظنوا أنَّه هو مدلول النص، انتقلوا إما إلى التفويض أو التعطيل أو التأويل، كلٌّ بحسب معتقده، كما قال صاحب الجوهرة:

_ 1 الآية 67 من سورة الزمر.

وكلُّ نص أوهم التشبيه ... أوله أو فوض ورم تنزيهاً فكلُّ من خالف أهل السنة في الصفات فهو مريض، وأمراضهم متنوعة، لكنَّ جرثومة المرض عند الجميع واحدة، وهي التشبيه، فولَّدت عند بعضهم تفويضاً، وعند البعض تعطيلاً، وعند البعض تأويلاً. ولهذا فإنَّ المؤول والمعطل والمفوض كلهم مشبهة، وسبب ما وقعوا فيه من تفويض أو تأويل أو تعطيل هو التشبيه الذي وقعوا فيه أولاً. والشاهد من الحديث: قوله: " سبحات وجهه "، ففيه إثبات الوجه صفة لله تبارك وتعالى على ما يليق بجلاله وكماله وعظمته. " ثم قرأ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} رواه مسلم " الآية في سورة النمل: {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي نودي موسى عليه السلام، والذي ناداه هو الله تبارك وتعالى. " ثم قرأ ": مَنْ يقرأ هذا السياق الذي ذكره المصنف لا يخطر بباله إلا أنَّ الذي قرأ هذه الآية هو الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنْ في هذا السياق خطئان:" الأول: نسبة هذه الزيادة لمسلم، وهي ليست موجودة فيه، فقد أخرج مسلم الحديث في صحيحه من ثلاثة طرق، وانتهى الحديث عنده عند الكلمات الأربعة بدون " ثم قرأ " 1، وإنما وقعت في بعض مصادر التخريج الأخرى 2. الثاني: أن قارئ الآية ـ كما في مصادر التخريج ـ ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود راوي الحديث عن أبي موسى الأشعري، فأبو عبيدة لما روى الحديث قرأ هذه الآية كاملة؛ لما فيها من شاهد عليه. وهذا يكثر

_ 1 الصحيح " رقم 444 ـ 446 " 2 انظر: سنن ابن ماجه " رقم 196 "، ومسند أحمد " 4/400 "، ومسند الطيالسي " رقم 941 "، ومسند أبي يعلى " رقم 7262 "، ومسند الروياني " رقم 584 " وقد نسبت الزيادة في جميعها لأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود.

عند الصحابة والتابعين عقب الحديث، يقولون: واقرءوا إن شئتم، فيذكرون آية فيها شاهد لمعنى من المعاني الواردة في الحديث. ولعل هذا الخطأ من النساخ والله أعلم. ثم ختم المصنف ـ رحمه الله ـ الكلام عن هذه الصفة بقوله: " فهذه صفة ثابتة بنص الكتاب وخبر الصادق الأمين، فيجب الإقرار بها والتسليم، كسائر الصفات الثابتة بواضح الدلالات " " فهذه صفة " الإشارة إلى صفة الوجه التي مر بعض أدلتها. " ثابتة بنص الكتاب " كما سبق بعض الأدلة من الكتاب على ذلك. " وخبر الصادق الأمين " كما مرت بعض الأحاديث الدالة على ذلك. " فيجب الإقرار بها والتسليم " أي يجب على كلِّ مسلم أن يقر بمدلول هذه الآيات والأحاديث، وهو أنَّ لله تعالى وجهاً يليق بجلاله وكماله. " كسائر الصفات الثابتة " هذا الكلام فيه إشارة واضحة إلى قاعدة معروفة عند أهل السنة في باب الصفات، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية 1 وغير واحد من أهل العلم قبله، منهم الإمام الحافظ عبد الغني في سياقه هذا، وهي: أنَّ باب الصفات واحد، والقول فيها واحد، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فالقول في الوجه كالقول في سائر الصفات. " بواضح الدلالات " إذا ثبتت الصفة بدليل واضح، فليس أمام المسلم إلا التسليم والإقرار، هذا هو منهج أهل السنة في هذه الصفة، وفي جميع صفات الله تبارك وتعالى.

_ 1 انظر: التدمرية " ص 31 ـ 43 "

صفة النزول

[صفة النزول] " وتواترت الأخبار، وصحت الآثار بأن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا " شرع المؤلف ـ رحمه الله ـ هنا في الكلام على صفة النزول، وهي صفة فعلية من صفات الله جل وعلا متعلقة بمشيئته سبحانه، دل عليها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نص غير واحد من أهل العلم، منهم ابن عبد البر 1، وشيخ الإسلام ابن تيمية 2، وابن القيم 3، والذهبي"4 على أنَّ هذا الحديث متواتر. وممن نصَّ على تواتره أيضاً الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي، حيث صدَّر كلامه على هذه الصفة بقوله: " وتواترت الأخبار " فهو ممن قرر أن حديث النزول حديث متواتر، وأكده في نهاية كلامه على هذه الصفة، حيث أورد جمعاً من الصحابة ممن رووا هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والنزول عند أهل السنة والجماعة حق، والقول فيه كالقول في سائر الصفات، فهم يقولون: إنَّ الرب سبحانه وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يخوضون في نزوله بتكييف أو تمثيل أو تعطيل، بل يثبتون لله نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه، لا يشبه نزول المخلوقين. وما يلزم في نزول المخلوق من النقص والحاجة والافتقار ليس بلازم

_ 1 انظر: التمهيد " 7/128 " 2 كتاب النزول " ص 108 " 3 مختصر الصواعق " 2/230 ـ 248 " 4 مختصر العلو " ص116 "

للنزول عندما يضاف إلى الرب سبحانه، فإنَّ ما يضاف إلى الرب تبارك وتعالى يخصه ويليق بجلاله وكماله، وما يضاف إلى المخلوق يخصه ويليق بضعفه ونقصه كما سبق تقريره. وإثبات أهل السنة للنزول ـ وسائر الصفات ـ إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف؛ فإنَّه لم يأت في النصوص ذكر كيفية صفات الله تبارك وتعالى، وإنما جاء فيها الإخبار عنه سبحانه بذكر صفاته ونعوت كماله؛ فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تبارك وتعالى ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل. فلا سبيل إلى الخوض في معرفة كيفية صفاته، بل الواجب قطع الطمع عن إدراكها، ومن خاض في طلب معرفتها فقد خاض في أمر لا سبيل إلى نيله وتحصيله. ولما ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ أنَّ الأحاديث في هذه الصفة صحيحة متواترة، بيَّن موقف المسلم صاحب السنة من هذه النصوص، فقال: " فيجب الإيمان به والتسليم له " هذا هو الموقف، يجب على المسلم أن يؤمن بنزول الله إلى السماء الدنيا؛ لثبوته في الأحاديث الصحيحة المتواترة، وأن يتلقاه بالقبول والتسليم. " وترك الاعتراض عليه " أي: وأن لا يقابل ذلك بالانتقاد والاعتراض، إذ كيف يليق بمسلم أن ينتقد أو يعترض على ما ثبت عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. " وإمراره من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول " هذه هي المحترزات التي سبقت الإشارة إليها، والتي يجب على المسلم أن يحترز منها عند إثباته الصفات لله تبارك وتعالى، وأن يحذر تمام الحذر من

الوقوع فيها، وهي: التكييف والتمثيل والتأويل والتعطيل. " ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول " التنزيه في صفات الله تبارك وتعالى مطلوب، فواجب على المسلم أن ينزه الله تبارك وتعالى عمَّا لا يليق به، فينَزَّه سبحانه عن النقائص والعيوب، وعن أن يقال في شيء من صفاته إنها تشبه صفات المخلوقين. أما تنزيه المبتدعة فهو باطل؛ لأنه تعطيل للصفات وعدم إثبات لها، ولهذا كان من تسبيحات بعضهم قوله: سبحان المنزه عن الصفات. فهم ينزهون الله تعالى عما يليق به؛ فينزهونه عن النزول، وهو صفة ثابتة لله تليق به، أضافها إليه رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وهكذا القول في الاستواء واليد وجميع الصفات، فلا يجوز أن ننزهه تنزيهاً يفضي إلى نفي اليد، ولا يجوز أن ننزهه تنزيهاً يترتب عليه نفي الاستواء. ولهذا فإن التسبيح الذي ينفي عن الله عز وجل صفاته ليس هو في الحقيقة تسبيحاً، وإنما هو تعطيل للصفات، قال ابن هشام ـ رحمه الله ـ:"ألا ترى أن تسبيح المعتزلة اقتضى تعطيل كثير من الصفات"1. وقال ابن رجب ـ في تفسير قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} 2 ـ:"سبِّحه بما حمد به نفسه، إذ ليس كلُّ تسبيح بمحمود، كما أنَّ تسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات"3 هذا هو التنزيه الذي يذمه المصنف، والسلف عموماً. فهذه الكلمة " ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول "كلمة دقيقة ومتينة جداً، وخصوم المصنف ـ رحمه الله ـ في زمانه لما شنَّعوا عليه عند ولاة الأمر، شنعوا

_ 1 مغني اللبيب " 1/140 " مع أنه وقع في بعض ذلك غفر الله له. 2 الآية 3 من سورة النصر. 3 تفسير سورة النصر " ص73 "

عليه بكلمات في كتابه، منها هذه الكلمة 1 التي تبين أساس الخلل الذي وقعوا فيه؛ فقد أتى على الشيء الذي يتشبثون به لتعطيل الصفات فنبه عليه، ورد على المعطلة الذين يوهمون الناس أنهم منزهة لله تبارك وتعالى، فكشف حقيقة أمرهم، وجلَّى واقع حالهم. قال الحافظ ابن رجب:"أما قوله: " ولا أنزهه تنزيهاً ينفي حقيقة النزول " فإن صح هذا عنه 2 فهو حق، وهو كقول القائل: لا أنزهه تنزيهاً ينفي حقيقة وجوده، أو حقيقة كلامه، أو حقيقة علمه، أو سمعه، أو بصره، ونحو ذلك"3. لما قرر المصنف ـ رحمه الله ـ هذه الخلاصة بدأ يورد الأدلة الدالة على نزول الرب تبارك وتعالى فقال: " فروى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل ربنا عز وجل كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر"وفي لفظ:"ينزل الله عز وجل"" عندما تتأمل هذا الحديث تجد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أسند فيه النزول إلى الرب، فقال: " ينزل ربنا "، وفي بعض ألفاظ الحديث كما نبه المصنف " ينزل الله عز وجل "، والحديث كما تقدم حديث متواتر، ومعنى هذا أنَّ عدداً كبيراً من الصحابة سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وكلُّ واحد منهم سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بهذا

_ 1 انظر ذيل طبقات الحنابلة " 4/22 " 2 وهو صحيح عنه كما في كتابه الذي بين أيدينا. 3 ذيل طبقات الحنابلة " 4/23 "

اللفظ: " ينزل ربنا " فلو كان الذي ينزل غير الله: إما الملَك، أو الرحمة، أو الأمر، أو غير ذلك مما يدعيه معطلة هذه الصفة، لكان اللائق بنصح النبي صلى الله عليه وسلم وبيانه وفصاحته أن يقول ـ في كلِّ مرة ـ: ينزل ملَك ربنا، أو يقول: تنزل رحمة ربنا، أو يقول ذلك على أقل تقدير في بعض المرات حتى يحمل هذا على هذا. أما أن يسمع الجميع منه هذا الحديث بلفظ: " ينزل ربنا "، وهو يقصد أن الذي ينزل غير الله، إما ملَك الله أو رحمته أو أمره، فلا يمكن ذلك؛ فإنَّ الخطاب بهذه الطريقة وهذا الأسلوب فيه تعمية على الناس، وهو أشبه بالألغاز والأحاجي منه بالنصح والبيان. فهل يُعقَل أن يقول مدرس لطلابه: جاء الأستاذ. وهو يقصد: جاء أخوه؟ أو يقول: جاء الطالب. وهو يقصد: جاء والد الطالب. ولا يكون في كلامه أيُّ قرينة يفهم منها السامع أن الذي جاء والد الطالب، ويريد أن يفهم المخاطبون أن الذي جاء هو والد الطالب. هل هذا يكون بياناً وإيضاحاً؟! عددٌ كبير من الصحابة يصلون إلى ثمانية وعشرين صحابياً ـ كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله 1 ـ يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا " " ينزل الله عز وجل "، كلُّهم يسمعونه بهذا اللفظ، وهو عند هؤلاء المتكلمين يقصد أن الذي ينزل هو الملَك. أيليق بنصح النبي صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان الذي ينزل الملك أو الرحمة، وليس الرب ـ أن يقول لهذا العدد الكبير من الصحابة، وفي أوقات مختلفة: ينزل ربنا. والذي ينزل غير الله؟! هذا يتنافى مع كمال نصح النبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه طعن في نصحه صلى الله عليه وسلم.

_ 1 انظر: مختصر الصواعق " 230 ـ 248 "

وهذا أحد الأوجه التي ذكرها أهل العلم في الرد على من يتأول النزول أو ينفي حقيقته عن الله تبارك وتعالى. " حين يبقى ثلث الليل الآخر " أي: في الثلث الأخير من الليل، هذا هو وقت النزول الإلهي، وقد جاء في بعض ألفاظ الحديث الأخرى ذكرُ أوقات أخرى للنزول، مثل: "حين يمضي ثلث الليل الأول "، أو: " حين يمضي نصف الليل ". فإن كانت تلك الروايات ثابتة فهي محمولة ـ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ على تعدد النزول، وإلا فالأصح هو ما في هذه الرواية: " حين يبقى ثلث الليل الآخر " 1. " يقول " أي الذي ينزل، وهو الله سبحانه وتعالى. " من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له " إذا كان الذي ينزل ـ على زعم هؤلاء ـ هو الملَك، أيصح أن يقول"ـ مخاطباً الناس ـ: من يدعوني، من يسألني، من يستغفرني؟! فهذا من الوجوه التي تبين فساد تأويل هؤلاء وتعطيلهم لهذه الصفة، فالملَك لا يقول ذلك؛ لأنه يجعل بذلك نداً مع الله عز وجل، يُدعى ويُسأل، ويُستغاث به ويُطلب منه. ولو كان الذي ينزل الملَك لكانت الصيغة مختلفة، كأن يقول: " ينزل ملَك ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: إن ربكم يقول: من يسألني ومن يدعوني ومن يستغفرني " كما في الحديث الآخر:"إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إنَّ الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه

_ 1 انظر: شرح حديث النزول " ص 107 ـ 108 "

جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إنَّ الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول في الأرض"1. " ولا يصح حمله على نزول القدرة، ولا الرحمة، ولا نزول الملك " لما أثبت المصنف ـ رحمه الله ـ النزول، وذكر حديث أبي هريرة دليلاً عليه، أشار إلى التأويل الذي حصل من المبتدعة أهل الأهواء لهذه الصفة، حيث أولوا النزول بنزول القدرة أو الرحمة أو الملَك. وقد نبه أهل العلم على أمر يتعلق بالرد على من يحرف النزول ويصرفه عن بابه الذي دلت عليه السنة، فقالوا: ينظر أولاً في حال هذا المتأول، هل هو ممن يثبت علو الله أم لا. فإن كان لا يثبت العلو ولا يؤمن به فيقال له: ممن ينزل الأمر، وممن تنزل الرحمة، وممن ينزل الملَك، وما عندك فوق إله؛ إذ إنك لا تثبت علو الله. وإن كان يثبت العلو، ويقول: إنَّ الذي ينزل هو الرحمة أو الملَك أو الأمر فيناقش بالطريقة الأخرى التي منها: بعض الوجوه التي أشرت إليها سابقاً، ومنها ما ذكره المصنف ـ رحمه الله ـ حيث أورد روايات أخرى للحديث تقصم ظهور هؤلاء المعطلة، فقال: " لِمَا روى مسلم بإسناده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل فيقول: أنا الملِك، أنا الملِك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، حتى يضيء الفجر"" ومقصود المصنف ـ رحمه الله ـ من إيراد هذه الرواية هو لفظة: " أنا الملِك

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 3209 "، ومسلم " رقم 6647 "

أنا الملِك " فهي قاصمة لظهور هؤلاء المتأولين، فيقول لهم المصنف: إذا كان الذي ينزل هو ملَك من الملائكة، أيقول هذا الملَك: أنا الملِك أنا الملِك؟! لا يمكن أن يقول ذلك، وإلا كان مدَّعياً لنفسه الألوهية والربوبية، وأنه شريك لله في الملك، أو متفرد به من دون الله. ثم أورد حديث رفاعة بن عَرابة ـ بفتح العين ـ الجهني أيضاً للفظة فيه تقصم ظهور أهل التأويل، فقال: " وروى رفاعة بن عَرابة الجهني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا مضى نصف الليل أو ثلث الليل، ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا فيقول: لا أسأل عن عبادي أحداً غيري، من ذا الذي يستغفرني أغفر له، من ذا الذي يدعوني أستجيب له، من ذا الذي يسألني أعطيه. حتى ينفجر الصبح" رواه الإمام أحمد " ساق المؤلف هذا الحديث لأجل هذه اللفظة: " لا أسأل عن عبادي أحداً غيري " ففيها أبلغ الرد على هؤلاء المعطلة، إذ لو كان الذي ينزل هو الملَك: جبريل أو غيره، لم يصح أن يقول: " لا أسأل عن عبادي أحداً غيري "؛ فإنَّ هذا لا يقوله إلا الله سبحانه وتعالى. ولما أورد المصنف ـ رحمه الله ـ هذين الحديثين لأجل اللفظتين السابقتين قال: " وهذان الحديثان يقطعان تأويل كلِّ متأول، ويدحضان حجة كلِّ مبطل " أي يكفي أن تقول لهم: هل الذي تزعمون أنه ينزل هو الذي يقول: " أنا الملِك، أنا الملِك "؟! ، وهل الذي تزعمون أنه ينزل هو الذي يقول: " لا أسأل عن عبادي أحداً غيري "؟! وكما ذكر المصنف، هذان اللفظان يقطعان

تأويل كلِّ متأول، ويدحضان حجة كلِّ مبطل. ثم لما ذكر الأحاديث السابقة: حديث أبي هريرة من طريقين وحديث رفاعة، أشار إلى ما يؤكد المعنى الذي سبق أن أشار إليه في صدر كلامه عن هذه الصفة، وهو أنَّ الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأورد أسماء جماعة من الصحابة ممن رووا هذا الحديث، فقال: " وروى حديث النزول: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وجبير بن مطعم، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وعمرو بن عبسة، وأبو الدرداء، وعثمان بن أبي العاص، ومعاذ بن جبل، وأم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلق سواهم " وممن جمع أحاديث النزول: الدارقطني في كتاب " النزول "، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أورد جملة من هذه الأحاديث في كتابه: " شرح حديث النزول ". وقال الإمام اللالكائي:"رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرون نفساً"1، وذكر جملة منهم. وقال ابن القيم:"رواه ـ أي حديث النزول ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثمانية وعشرين نفساً"، ثم ساق أحاديثهم 2. ثم لما أورد المصنف ـ رحمه الله ـ النصوص قرر العقيدة التي يعتقدها أهل السنة بناء على هذه الأحاديث، فقال: " ونحن مؤمنون بذلك مصدقون، من غير أن نصف له كيفية، أو نشبهه بنزول المخلوقين " " نحن ": أي أهل السنة، المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. " مؤمنون بذلك مصدقون " أي: مقرون بأنَّ الله ينزل إلى سماء الدنيا،

_ 1 شرح الاعتقاد " 3/434 " 2 انظر مختصر الصواعق " 2/230 ـ 248 "

كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم. " من غير أن نصف له " أي: نزول الله. " كيفية " أي: لا نكيف النزول، وليس من أهل السنة أحد يحاول أن يقدر في ذهنه كيفية لنزول الله تبارك وتعالى فضلاً عن أن يتكلم بلسانه بشيء من ذلك، فنؤمن بأنَّه سبحانه وتعالى ينزل حقيقة إلى السماء الدنيا، لكننا نجهل كيفية نزوله. " أو نشبهه بنزول المخلوقين " أي: لا يقاس نزول الله تبارك وتعالى بنزول المخلوقين، فلنزول المخلوقين لوازم مختصة بهم، وهي النقص والاحتياج والافتقار. أما نزول الله فهو نزول يليق بجلاله وكماله. جاء عن أحد السلف وهو أبو جعفر الترمذي ـ رحمه الله ـ نظير قول الإمام مالك عندما سُئل عن الاستواء، فقد سأله رجل عن النزول، فقال له: النزول كيف يكون، يبقى فوقه علو؟ فقال:"النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"1. وهذا مما يؤكد لنا أنَّ قول الإمام مالك ـ رحمه الله ـ هو بمثابة القاعدة، تطبق في جميع الصفات، وليس مختصاً بالاستواء. قال الذهبي ـ تعليقاً على هذا الأثر ـ:"صدق فقيه بغداد وعالمها في زمانه؛ إذ السؤال عن النزول ما هو: عيٌّ؛ لأنَّه إنما يكون السؤال عن كلمة غريبة في اللغة، وإلا فالنزول والكلام والسمع والبصر والعلم والاستواء عبارات جليلة واضحة للسامع، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء، فالصفة تابعة

_ 1 رواه الخطيب في تاريخ بغداد " 1/365 " وقال الألباني في مختصر العلو " ص232 ": " هذا إسناده رجاله كلهم ثقات ".

للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر"1. ثم شرع المصنف ـ رحمه الله ـ في ذكر بعض الآثار عن السلف في ذلك، فقال: " وقد قال بعض العلماء: سئل أبو حنيفة عنه ـ يعني عن النزول ـ فقال: ينزل بلا كيف " هذا ذكره البيهقي في كتابه " الأسماء والصفات " 2. " ينزل بلا كيف " هذه طريقة أهل السنة، " ينزل ": أي نثبت النزول لله جل وعلا على الوجه اللائق بجلاله وكماله. " بلا كيف ": أي بدون أن نحدد لهذا النزول كيفية. " وقال محمد بن الحسن الشيباني ـ صاحبه ـ:"الأحاديث التي جاءت أنَّ الله يهبط إلى سماء الدنيا ونحو هذا من الأحاديث إن هذه الأحاديث قد روتها الثقات، فنحن نرويها، ونؤمن بها، ولا نفسرها"" " الأحاديث التي جاءت أنَّ الله يهبط إلى سماء الدنيا " يهبط أي: ينزل، وقد جاء الحديث في بعض رواياته بلفظ: " يهبط "، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان ثلث الليل الباقي، يهبط الله عز وجل إلى السماء الدنيا"3. " ونحو هذا من الأحاديث " أي التي جاء فيها التصريح بنزول الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا.

_ 1 مختصر العلو " ص231 " 2 " 2/380 " 3 أخرجه أحمد " 1/388 "، وأبو يعلى " رقم 5319 " وقال الهيثمي في مجمع الزوائد " 10 / 153 ": " رجاله رجال الصحيح ".

" إنَّ هذه الأحاديث قد روتها الثقات، فنحن نرويها " لاحظ المنهج، هذه الأحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها. أهل البدع لا يروونها ولا يعتدون بها، وإنما يخوضون في ردها وتأويلها. " ونؤمن بها " يعني نصدق ونقر بمدلولها، وبما جاء فيها من أخبار. " ولا نفسرها " أي: تفسيرات الجهمية، التي هي تحريف وصرف للفظ عن ظاهره ومدلوله، فهذا التفسير باطل 1. والسلف رحمهم الله عندما يقولون: " لا نفسرها " أو " لا تفسر " أي أحاديث الصفات، يقصدون: لا تفسر تفسيرات الجهمية. أما تفسيرها الذي هو فهم معناها، ومعرفة مدلولها على ضوء مقتضى اللغة التي خوطبنا بها فمطلوب ومتعين. " وروينا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كنت أنا وأبي عابرين في المسجد، فسمع قاصاً يقص بحديث النزول، فقال: إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا، بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال. فارتعد أبي ـ رحمه الله ـ، واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخوض، فلما حاذاه قال: يا هذا، رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير على ربه عز وجل منك، قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانصرف " ثم أورد ـ رحمه الله ـ هذا الأثر عن الإمام أحمد في قصة سماعه لهذا القاص، وإنكاره عليه. وهذا الخبر ذكره أيضاً مرعي الكرمي الحنبلي في كتابه " أقاويل الثقات في أحاديث الصفات " 2. وهو غاية في الجمال والحسن،

_ 1 انظر: الحموية لابن تيمية " ص30 " 2 " ص 62 ـ 63 "

وفيه الرد على باطل هؤلاء المبطلين، وتكلفات المتخرصين في الكلام حول صفات الله تعالى. فالإمام أحمد مر على هذا القاص وهو يقص بحديث النزول، وعادة كثير منهم التزيد في الكلام، وعدم الاقتصار؛ لأنَّ للقاص مهمة معينة، وهدفاً محدداً، وهو أن يؤثر على الناس. فتراه يزيد في الكلام، ويتوسع في الأخبار، ويضيف إليها إضافات. ولهذا يقول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ:"أكذب الناس السؤَّال والقصاص"1، السؤَّال: الذين يسألون الناس حاجتهم ويشكون إليهم فقرهم، فمثل هؤلاء يكثر فيهم الكذب؛ لأنهم يريدون التأثير على من أمامهم. وكذلك الشأن في القصاص، فانظر إلى هذه الزيادات من هذا القاص: " بلا زوال، ولا انتقال، ولا تغير حال " أشياء من عنده أضافها للحديث، وهي ألفاظ مجملة أطلقها المتكلمون وجعلوها متكأً لهم في تعطيل الصفات. فلما سمع الإمام أحمد هذا الكلام " ارتعد، واصفر لونه، ولزم يدي " أي: أمسك بيده. وهذا الوصف يكثر في السلف، فتراهم يتأثرون تأثراً بالغاً مثل تأثرنا لأمور الدنيا. نحن في أمور الدنيا يرتعد الواحد منا، ويصفر لونه، وتحمر بشرته. بينما السلف ـ رحمهم الله ـ ما كان يظهر عليهم هذا التأثر في أمور الدنيا، لكن إذا انتهكت حرمات الله، واعتُدِي على صفات الله تبارك وتعالى ظهر عليهم ذلك.

_ 1 ذكره ابن مفلح في المقصد الأرشد " 2/313 "

ولهذا يستغرب بعض الناس عندما يسمع خبر مالك ـ رحمه الله ـ لما جاءه المبتدع وسأله عن الاستواء، كيف استوى؟ وأنه غضب وعلاه الرحضاء، أي: صار يتصبب عرقاً من شدة الغضب والتأثر. " ثم قال: قف بنا على هذا المتخوض " في بعض النسخ " المتخرص " وكلاهما منطبق عليه. " فلما حاذاه " أي: صار محاذياً له قريباً منه. " قال: يا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير على ربه عز وجل منك " وهذه الكلمة يُرد بها على كلِّ متخرص، وكلِّ متكلم، وكلِّ مبتدع فيما يتعلق بالصفات، فإنهم يضعون أشياء وتكلفات وأموراً لا تدل عليها النصوص، ولم تبن على الأدلة، بزعم منهم أنهم ينزهون الله تبارك وتعالى بها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم أغير على ربه عز وجل منهم. " قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا هو منهج أهل السنة في الصفات: أن يقول المسلم مثل ما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لا كما يقول المتخرصون،: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. " قال حنبل: قلت لأبي عبد الله ـ يعني الإمام أحمد ـ: ينزل الله إلى سماء الدنيا، قلت: نزوله بعلمه أو بماذا؟ فقال لي: اسكت عن هذا، مالك ولهذا، أمض الحديث على ما رُوي بلا كيف ولا حد، على ما جاءت به الآثار، وبما جاء به الكتاب " " نزوله بعلمه أو بماذا؟ " يعني بأيِّ شيء؟ " فقال لي: اسكت عن هذا " لأن هذه الأسئلة لا ترد إلا عند المتكلمين والمتكلفين.

_ 1 الآيات 180 ـ 182 من سورة الصافات.

" اسكت عن هذا، مالك ولهذا، أمضِ الحديث على ما رُوي " يعني أمِرَّه كما جاء، الحديث جاء مثبتاً لنزول الرب تبارك وتعالى، والنزول فيه أسند إليه تبارك وتعالى، فأمضه كما ورد. " بلا كيف ولا حد " وهذا على طريقة أهل السنة في الصفات: يثبتونها إثبات وجود لا إثبات تكييف وتحديد، فالنزول لا يحد بوصف معين أو بهيئة معينة، وإنما هو نزول يليق بالله تبارك وتعالى لا نعرف كيفيته. ولم ينقل عن أحد من السلف ـ رحمهم الله ـ أنه تأول النزول أو غيره من الصفات، وقد تحدى شيخ الإسلام ابن تيمية بعض المتكلمين في زمانه، وأمهلهم ثلاث سنوات أن يأتوا عن واحد من السلف أنَّه تأول شيئاً من صفات الله تبارك وتعالى، فلم يقدروا على ذلك 1. وهنا أنبه على أنَّه نقل عن الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ أنَّه قال:"ينزل ربنا: أي أمره" 2، وهذه الرواية لا تثبت عن الإمام مالك؛ لأنها جاءت عنه من طريقين: الطريق الأولى من طريق كاتبه حبيب بن أبي حبيب، يقول ابن القيم:"وحبيب هذا غير حبيب، بل كذاب وضاع باتفاق أهل الجرح والتعديل، ولم يعتمد أحد من العلماء على نقله"3. والطريق الأخرى جاءت من طريق رجل لا يعرف، فالسند إلى الإمام مالك ـ رحمه الله ـ لا يثبت. إضافة إلى أنَّ هذا مخالف لما رواه زهير بن عباد قال:"من أدركت من

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى " 3/169 " 2 انظر: التمهيد لابن عبد البر " 7/143 " 3 مختصر الصواعق " 2/261 "، وانظر: شرح حديث النزول " ص210 "

المشايخ: مالك وسفيان وفضيل بن عياض وعيسى بن المبارك ووكيع: كانوا يقولون: إن النزول حق"1، كما أنَّه مخالف لطريقة مالك وطريقة السلف في الصفات عموماً ـ ومنها النزول ـ من إمرارها كما جاءت وإثباتها لله على الوجه اللائق بجلاله وكماله. " وقال الإمام إسحاق بن راهويه: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف ينزل؟ قال: قلت: أعز الله الأمير، لا يقال لأمر الرب عز وجل كيف. إنما ينزل بلا كيف " " يا أبا يعقوب " يخاطب الإمام إسحاق بن راهويه. " هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف ينزل؟ " يسأل عن كيفية النزول. " قال: قلت: أعز الله الأمير " لاحظ التلطف معه، ومخاطبته مخاطبة تناسب مقامه، فهو أحد الولاة، فخاطبه بهذه المخاطبة حتى يتقبل الحق ولا يتمسك بالباطل. " لا يقال لأمر الرب عز وجل كيف " يعني أنَّ " كيف " لا تصلح في هذا المقام، فكما أنه تبارك وتعالى لا يقال في أفعاله: " لم "، فلا يقال في صفاته: " كيف ". فالتكييف في الصفات باطل، والسؤال عن الأفعال بـ " لم " باطل أيضاً. قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 2. وأهل السنة يسمون من يسأل عن أفعال الله بـ " لم ": لِمَ فَعَلَ كذا، ولِمَ لَمْ يفعل كذا باللمية، والذين يسألون عن الصفات بـ " كيف ": المكيفة. وكلٌّ

_ 1 ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى " 5/56 " 2 الآية 23 من سورة الأنبياء.

من الأمرين باطل. قال الإمام البربهاري ـ رحمه الله ـ:"واعلم أنَّه إنما جاء هلاك الجهمية من أنهم فكروا في الرب عز وجل، فأدخلوا: " لم " و" كيف "، وتركوا الأثر، ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم"1. " وإنما ينزل بلا كيف " أي بلا كيف نعلمه، وإلا فلنزول الله كيفية، لكننا لا نعلمها. فالمنفي: علمنا بالكيف، لا وجوده. ثم قال الحافظ عبد الغني"ـ رحمه الله ـ: " ومن قال يخلو العرش عند النزول أو لا يخلو، فقد أتى بقول مبتدع ورأي مخترع " يشير المصنف ـ رحمه الله ـ إلى مسألة تتعلق بنزول الله عز وجل إلى سماء الدنيا، وهي: حينما ينزل هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟ " والأقوال التي ذكرت في هذه المسألة ثلاثة، لخصها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:"منهم من ينكر أن يقال: يخلو أو لا يخلو، كما يقول ذلك الحافظ عبد الغني 2 وغيره. ومنهم من يقول: بل يخلو منه العرش، وقد صنف عبد الرحمن بن منده مصنفاً في الإنكار على من قال: لا يخلو منه العرش ... والقول الثالث، وهو الصواب، وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها: أنه لا يزال فوق العرش، ولا يخلو العرش منه، مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه"3.

_ 1 شرح السنة " ص43 " 2 يشير شيخ الإسلام إلى كلام الحافظ عبد الغني الموجود في هذه العقيدة، فالظاهر أنه وقف عليها، أو وقف على كلامه في كتاب آخر له. 3 شرح حديث النزول " ص232 " وقال " ص201 ": " وفي الجملة: فالقائلون بأنه يخلو منه العرش طائفة قليلة من أهل الحديث، وجمهورهم على أنه لا يخلو منه العرش، وهو المأثور عن الأئمة المعروفين بالسنة، ولم ينقل عن أحد منهم بإسناد صحيح ولا ضعيف أنَّ العرش يخلو منه ".

وإنما صوَّب شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ القول الثالث لما فيه من الجمع بين النصوص التي تثبت الاستواء لله تبارك وتعالى على الوجه اللائق به وأنه سبحانه مستو على عرشه بائن من خلقه، مع الحديث المثبت للنزول. فالله عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه، وينزل كيف شاء، ولا يشبه نزوله سبحانه نزول المخلوقين، واللوازم التي تلزم في نزول المخلوقين: من شغر مكان وحلول في مكان، ليست لوازم لصفة الرب، وإنما هي لوازم لصفة المخلوق. واختار ابن القيم ـ رحمه الله ـ قول الحافظ عبد الغني، فقال:"أما الذين أمسكوا عن الأمرين، وقالوا: لا نقول: يتحرك وينتقل ولا ننفي ذلك عنه. فهم أسعد بالصواب والاتباع، فإنهم نطقوا بما نطق به الكتاب، وسكتوا عما سكت عنه"1.

_ 1 مختصر الصواعق " 2/257 "

صفة اليدين

[صفة اليدين] طريقة أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات واحدة، ومنهجهم واحد، وهو الاعتماد على الكتاب والسنة، والتعويل الكامل عليهما، والإيمان بما جاء فيهما، وإثبات ما ثبت فيهما، فلا يثبتون صفة من قبل أنفسهم، بل يقتصرون على ما نطق به الكتاب والسنة. ولما كان هذا أصل الأصول وأساس العلم والإيمان، اقتضى المقام في مثل هذا المختصر ـ وكذلك في المطولات التي تكتب في الاعتقاد ـ أن يؤكد على هذا الأمر في أكثر من مناسبة، ولهذا يلاحظ القارئ الكريم أنَّ المصنف ـ رحمه الله ـ لما ذكر صفة اليدين قال: " ومن صفاته سبحانه الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله المصطفى الأمين: اليدان " وهذا المعنى سبق أن قرره المصنف وأكد عليه، وكان يكفي ما قرره في صدر هذه الرسالة، لكن لما كان هذا المقام مقاماً عظيماً وأصلاً متيناً وأساساً لابد منه في جميع الصفات، اقتضى ذلك أن يؤكد عليه، حتى يستقر في النفوس ويتمكن في القلوب. ولما كان أهل البدع يخوضون في مثل هذه الصفات إجمالاً وتفصيلاً بعقولهم القاصرة وأفهامهم الرديئة، كان من المناسب عند أهل السنة والجماعة أن يؤكدوا على أنَّ إثبات الصفات على وجه التفصيل مبني على الأصل العام الكلي في جميع الصفات، وهو الاعتماد اعتماداً كلياً على ما جاء في الكتاب والسنة. واليدان: من صفات الله تعالى الذاتية الثابتة في الكتاب والسنة، كالوجه

والقدم والساق والعين والعلو وغيرها، وهي صفات لا تنفك عن الذات، ولا تعلق لها بالمشيئة ـ بخلاف الصفات الفعلية ـ التي لها تعلق بالمشيئة. وأهل السنة منهجهم في صفات الله الذاتية والفعلية واحد، ويقولون: باب الصفات واحد، فيثبتون ما ثبت في الكتاب والسنة كما جاء، ويؤمنون به كما ورد، بلا تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل. واليدان ثابتتان لله عز وجل، وهما اثنتان، كما دلت على ذلك نصوص كثيرة في الكتاب والسنة كما في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 1، وقوله سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في بعض النصوص ذكر هذه الصفة بالإفراد، كما في قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} 3، وكما في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 4، وكما في حديث محاجة آدم موسى الآتي ذكره. وجاءت في بعض النصوص بالجمع، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} 5. وهذا لا يشكل على أنَّ الله عز وجل موصوف بأنَّ له يدين تليقان بجلاله وكماله وعظمته؛ لأنَّ لغة العرب تتسع للإخبار عن المثنى بالمفرد والجمع لأغراض معلومة في اللغة. فتقول العرب: رأيت بعينِي، وسمعت بأذنِي وذهبت إلى فلان بقدمِي، والمقصود: رأيته بعينَيَّ، وسمعته بأذنَيَّ، وذهبت إليه بقدمَيَّ. ومن هذه الأغراض: المشاكلة بين المضاف والمضاف إليه، فلمَّا يكون المضاف إليه مفرداً يناسبه أن يكون المضاف مفرداً أيضاً، كما في قوله تبارك

_ 1 الآية 64 من سورة المائدة. 2 الآية 75 من سورة ص. 3 الآية 1 من سورة الملك. 4 الآية 10 من سورة الفتح. 5 الآية 71 من سورة يس.

وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، يده أي: يد الله عز وجل، يد: مضاف مفرد، والهاء الضمير: مضاف إليه، وهو مفرد أيضاً. ولمَّا يكون المضاف إليه جمعاً فمن المناسب أن يكون المضاف جمعاً كذلك، كما في قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} . ومن أغراض التعبير بالجمع عن المفرد: التعظيم. وبهذا يزول تلبيس الجهمية ومشاكستهم في هذا المقام، حيث يقول بعضهم: يلزم من ذلك إثبات أيد كثيرة، أو أعين كثيرة، أو نحو ذلك مما يقوله هؤلاء. فلله عز وجل يدان، ثبتتا في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إحداهما: يمين، والثانية: أخرى، كما في الحديث الصحيح:"إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض" 1، وجاء في رواية في صحيح مسلم 2 تكلم في إسنادها بعض أهل العلم فيها ذكر الشمال: " شماله "، فإن صحت هذه الرواية وثبتت يقال عن اليد الأخرى: إنها شمال، وإلا فيقال: " الأخرى ". وكونه سبحانه له يمين وأخرى، لا يتنافى مع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث

_ 1 سبق تخريجه. 2 " رقم 4698 " عن عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون ".

الصحيح أنه قال:"كلتا يدي ربي يمين مباركة"1؛ لأنَّ مقصوده صلى الله عليه وسلم دفع توهم النقص؛ فإنه إذا قيل: يمين وأخرى أو شمال، قد يتوهم البعض أنَّ الأخرى أنقص في البذل والعطاء والقوة. فلدفع هذا التوهم قال صلى الله عليه وسلم: " وكلتا يدي ربي يمين ". فلله عز وجل يدان حقيقيتان تليقان بجلاله وكماله وعظمته، لا تشبهان أيدي المخلوقين، موصوفتان بالقبض، والبسط، والأخذ، والعطاء، والطي، وغير ذلك من الصفات التي هي صفات اليد الحقيقية. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:"ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مائة موضع وروداً متنوعاً متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقية"ثم ذكر هذه الأوجه 2. وليس تشبيهاً أن يثبت لله عز وجل يدٌ تليق به، وإنما التشبيه أن يقاس عز وجل بالمخلوقين، فيقال: يد كأيدينا، ولهذا لما سئل إمام أهل السنة أحمد ابن حنبل عن المشبه من هو؟ قال:"من قال: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي فقد شبه الله سبحانه بخلقه"3. هذا هو التشبيه، أما من يقول: يد تليق بجلاله وعظمته وكماله سبحانه فهذا ليس تشبيهاً لا من قريب ولا من بعيد.

_ 1 أخرجه الترمذي " رقم 3368 وقال: حسن غريب "، وابن خزيمة في التوحيد " رقم 89 "، وابن حبان " رقم 6167 "، والحاكم " 1/132 وقال: صحيح على شرط مسلم ". وأخرج مسلم " رقم 4698 " عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين ". 2 مختصر الصواعق " 2/171 " 3 بيان تلبيس الجهمية " 2/165 "، واجتماع الجيوش " ص132 "

ومن يجترئ أن يقول: إنها تشبه أيدي المخلوقين إلا من ابتلي بالزيغ والضلال وعدم تعظيم الرب عز وجل وعدم قدره سبحانه وتعالى حق قدره، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 1، فقد وصف الله عز وجل يده بهذه العظمة: أنَّ الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه فكيف يقال يد كأيدينا!! وبهذا يزول تشنيع المبتدعة على أهل السنة بأنهم مشبهة، إذ المشبه من يقيس الله عز وجل بخلقه فيقع صراحة في التشبيه، أو يعطل صفات الله فراراً من التشبيه. ولهذا قال أئمة السلف ـ رحمهم الله ـ: كل معطل مشبه، وكل مشبه معطل 2. لأنَّ من يعطل صفة الله إنما عطلها فراراً من التشبيه الذي قام في نفسه، توهَّمَ أن إثبات هذه اليد لله حقيقة يقتضي التشبيه فأراد أن يفر منه فعطل الصفة، ولما عطَّل الصفة وقع في تشبيه آخر، وهو تشبيه الله عز وجل إما بالجمادات أو المعدومات أو الممتنعات حسب نوع تعطيله. ولهذا فإنَّ كلَّ تعطيل محفوف بتشبيهين: تشبيه قبل التعطيل وآخر بعده. وكلُّ مشبه معطل، فمن ادعى أنَّ اليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يد كيد المخلوق فهو معطل، ولم يعطل مرة واحدة، بل وقع في ثلاثة أنواع من التعطيلات: الأول: تعطيله للرب العظيم عن صفة كماله اللائقة بجلاله، فإنَّه لم يثبت يداً تليق به، بل عطَّلها بتشبيهه.

_ 1 الآية 67 من سورة الزمر. 2 انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم "1/244 "

والثاني: تعطيله للنص المثبت لهذه الصفة عن مدلوله، فهو لم يؤمن بمدلول قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وهذا نوع آخر من التعطيل وقع فيه. والثالث: تعطيله للآيات الكثيرة النافية للتشبيه، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2، ونظائرها من الأدلة. فهذه أنواع من التعطيل وقع فيها المشبه. ولا يسلم من التشبيه والتعطيل إلا صاحب السنة، الذي يثبت لله عز وجل صفة كماله، على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته سبحانه. وفي هذا السياق الذي نحن بصدده أذكر قصة دارت بيني وبين شخص لا تخلو من فائدة مهمة في هذا الباب. مرة في المسجد النبوي صلى بجواري رجل من إحدى الدول، وجرى بيني وبينه بحث في موضوعات مختلفة، من بينها صفات الله جل وعلا، فقال لي: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 3 ـ وأشار إلى يده ـ وقال: هذه جارحة، يده: قدرته. فلما تحدث وفعل ما فعل اتَّضح لي بالمعاينة ما قرره أهل العلم من أنَّ مرتكز التعطيل وأساسه: التشبيه الذي قام في نفوس هؤلاء، فإنه لما قرأ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} كان يقرأ الآية وهو يشير إلى يد نفسه، وقال: يده قدرته. إذاً قوله: " يده قدرته " جاء من تلاوته للنص وفهمه منه يداً كيد المخلوق. فلما لم يفهم من النص إلا التشبيه، فلابد أن ينزه الله عن هذا التشبيه. فقلت ـ بمجرد فراغه من كلامه ـ: لماذا تشبه الله؟ قال لي: أنا لا أشبه الله. قلت: بل أنت تشبه الله، أنت تقرأ الآية وتشير إلى يد نفسك، وهذا عين التشبيه، وهذا التشبيه الذي وقع منك هو الذي جرك إلى التعطيل. أما أهل السنة عندما يقرءون هذه الآية وغيرها من الآيات المثبتة لصفات الرب لا يخطر ببالهم ـ فضلاً عن أن يتكلموا به بألسنتهم

_ 1 الآية 11 من سورة الشورى. 2 الآية 65 من سورة مريم. 3 الآية 10 من سورة الفتح.

أو يشيروا إليه بجوارحهم ـ أن الصفات المضافة إلى الله عز وجل مثل الصفات المضافة إلى المخلوقين، فأهل السنة في سلامة تامة وبعد كامل عن التشبيه والتعطيل، أما من يشبه فإنَّه سيعطل ولابد، ومن يعطل فإنَّه سيشبه ولابد، ولا سلامة من الأمرين إلا بإثبات الصفات لله جل وعلا على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته وكماله. لما قرر المصنف ثبوت هذه الصفة ذكر بعض الأدلة من القرآن والسنة على إثباتها، فقال: " قال الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} " وهذا جزء من آية في سياق الرد على إفك اليهود وافترائهم على الله سبحانه وتعالى، إذ زعموا أن يد الله مغلولة ـ غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ـ ومرادهم بذلك: أنَّ الله بخيل ـ تعالى الله عز وجل عما يقول هؤلاء الظالمون المعتدون علواً كبيراً ـ، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} فاليهود يثبتون لله يداً، ولكنهم يصفونها بأنها مغلولة ـ مع أنهم أبخل الناس، فلا يعرف بالبخل مثلهم ـ، فجعلوا الوصف الذي لا ينفك عنهم في كلِّ وقت وصفاً للرب العظيم الذي يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار. وهذا من جملة مخازٍ وقبائح وشنائع كثيرة ذكرها الله عن هذه الأمة الغضبية الملعونة، وبيَّن بها حالهم وشدة قبحهم، وعظم افترائهم عليه. فرد الله عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} فموجب اللعن الذي حلَّ عليهم ونزل بهم: قولهم في الله عز وجل هذا القول العظيم. وفي هذا فائدة، وهي أنَّ الافتراء على الله والقول عليه في أسمائه وصفاته، وانتقاص عظمته سبحانه يوجب اللعن ـ الذي هو الطرد والإبعاد من

رحمة الله ـ، وهكذا من يقول في الله وعلى الله بغير علم، وينتقص الرب وعظمته أو يتهكم بشيء من صفاته. والجهمية الذين لا يثبتون لله عز وجل يداً ـ إمعاناً منهم في الضلال ـ ادَّعوا أنَّ الرد هنا على اليهود لإثباتهم اليد لله، ويريدون أن يتوصلوا بذلك إلى نفي اليد عن الله عز وجل، وأنه جل وعلا لا يوصف بها. وكيف يستقيم استدلالهم، ولم ينكر الله عز وجل على اليهود إثبات اليد، بل أكد ثبوتها له سبحانه وتعالى، وذكر أن له يدين؟! أيمكن أن يرد على من يصف الله بصفة ليست ثابتة له بتأكيدها؟! ، فقال سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} فأثبت جل وعلا لنفسه اليدين، ووصفهما بأنهما مبسوطتان خلافاً لما يدعيه هؤلاء. ومن دلالات هذه الآية أن لله عز وجل يدين كما أخبر، فالمقام هنا مقام إثبات وثناء وتمجيد وتعظيم وتنزيه لله عز وجل عن افتراء اليهود. وفي الآية وصف اليدين بالبسط، والبسط هو كثرة الإنفاق والعطاء والجود، ولهذا جاء في الحديث الصحيح:"إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" 1، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنَّه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض" 2.

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 6921 " 2 سبق تخريجه.

وفي هذه الآية رد واضح على من يتأول اليد بالقدرة أو النعمة، كما يفعله معطلة هذه الصفة؛ لأنَّه سبحانه ذكر اليد بالتثنية وأنهم يدان، فهل يقول من يجعل اليد بمعنى القدرة في هذا المقام: قدرتاه مبسوطتان!! فيجعل لله قدرتين، مع اتفاق المسلمين على أنَّ لله عز وجل قدرة شاملة على كلِّ شيء، ومشيئة نافذة في كلِّ شيء، ولم يقل أحد منهم إنَّ لله قدرتين. وهل يقولون: نعمتان، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1، أي نعم الله لا تعد ولا تحصى. فمع التثنية لليدين في هذا النص ونظائره يَبطلُ قول من تأول اليد بالقدرة أو النعمة. وقد بين أهل العلم بطلان هذا القول من وجوه كثيرة، وقد أنهى ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذه الوجوه إلى عشرين وجهاً، كلها قوية واضحة في إبطاله 2. " وقال عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} " والسياق في هذه الآية الكريمة في الرد على إبليس الذي امتنع عن السجود لأبينا آدم تجبراً وتكبراً عما أمره الله عز وجل به، فقد أمره الله والملائكةَ أن يسجدوا لآدم فسجدوا كلُّهم إلا إبليس أبى واستكبر، فقال الله جل وعلا مخاطباً إبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أي ما المانع الذي جعلك تمتنع عن السجود لهذا الذي خلقته بيدي. والسياق سياق تشريف لآدم عليه السلام، وتمييز له، وتعلية لقدره، حيث جعله في هذا المقام العظيم أن أسجد له ملائكته، فسجدوا كلُّهم إلا إبليس امتنع تكبراً وعلواً. ومن تشريف آدم: ما ذكره الله عز وجل في هذا السياق من أنَّه خلقه بيديه، أي باشر خلقه بيده تبارك وتعالى، كما قال عبد الله بن عمر رضي الله

_ 1 الآية 34 من سورة إبراهيم. 2 انظر: مختصر الصواعق " 2/153 ـ 168 "

عنهما:"خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وعدن، وآدم. ثم قال لسائر الخلق: كن فكان"1. قال الدارمي ـ رحمه الله ـ:"أفلا ترى أيها المريسي كيف ميز ابن عمر وفرق بين آدم وسائر الخلق في خلقه باليد؟ ‍‍! أفأنت أعلم من ابن عمر بتأويل القرآن وقد شهد التنزيل وعاين التأويل، وكان بلغات العرب غير جهول"2. وقال ابن القيم رحمه الله:"وفي قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " إن الله لم يباشر بيده أو لم يخلق بيده إلا ثلاثاً: خلق آدم، وغرس جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده " أفيصح في عقل أو نقل أو فطرة أن يقال: لم يخلق بقدرته أو بنعمته إلا ثلاثاً"3. وهذا مما يبطل تأويل هذه الصفة، فمن يقول: يد الله قدرته ماذا يصنع بهذا، هل يقول: لم يخلق الله بقدرته إلا ثلاثة؟ إذاً سائر المخلوقات بأي شيء خلقت؟! وفي هذا فائدة جليلة في غاية الأهمية نبه عليها أهل العلم، وهي: أنك إذا أردت أن تعرف بطلان أي تأويل من التأويلات فضعه في موارد هذه الصفة في النصوص. فعندما يقول لك قائل: اليد القدرة. قل: سأقرأ عليك الآيات والأحاديث التي فيها ذكر اليد، وضع لي هذا الذي جعلته معنى لليد

_ 1 أخرجه الدارمي في الرد على المريسي " 1/261 "، وابن جرير في تفسيره " رقم 30029 "، والآجري في الشريعة " ص303 "، واللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 729، 730 "، والبيهقي في الأسماء والصفات " رقم 693 " وقال الذهبي في العلو " ص48 " " إسناده جيد "، وقال الألباني في مختصره " ص105 ": " صحيح على شرط مسلم ". 2 الرد على المريسي " 1/262 " 3 مختصر الصواعق " 2/155 "

مكانها، وننظر هل يستقيم المعنى أم لا. اقرأ عليه هذا الحديث، ثم اقرأ الحديث الآخر:"إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض"1، وانظر ماذا يصنع، إذا قال: " قدرة الله ملأى، لا يغيضها نفقة ... وبقدرته الأخرى القبض " لا يستقيم الكلام. وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم من أهل العلم ممن توسع في مناقشة أهل البدع يستعملون هذه الطريقة بكثرة جداً في إبطال التأويلات. وهو رد مسكت من خلال الأدلة، وفيه قطع للجدل، بدل أن يخوض السني مع المبتدع في جدل عريض، يريح نفسه من ذلك، ويمضي معه في تلاوة الآيات وقراءة الأحاديث، وتنتهي الجلسة بانقطاعه ولابد. : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} قال أهل العلم: إن قيل إنَّ اليد هنا بمعنى القدرة لم تكن لآدم أيُّ ميزة أو خصيصة على غيره، بل قالوا: إنَّ هذا التأويل عقوق من هؤلاء لأبيهم آدم، شرفه الله وخصه وميزه بأن خلقه بيده، فنفوا هذه الميزة وسلبوه إياها. ولو تأملت السياق: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أضاف الخلق إلى نفسه، فقال سبحانه: " خلقتُ ". وثنى اليدين فقال: " بيديَّ "، وعدى ذلك بالباء. وكلُّ هذا يؤكد أنَّ اليدين ثابتتان لله سبحانه. عندما تقول: كتبت ذلك بيدي. لا يمكن أن تنصرف أذهان المخاطبين إلى أنك كلفت غيرك بالكتابة؛ لأنك أسندت الكتابة إلى نفسك، ثم عديتها بالباء

_ 1 سبق تخريجه.

التي تؤكد مباشرتك للفعل بنفسك. والمعنى في هذه الآية يختلف عما في قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ؛ لأن الأمور الثلاثة منتفية هنا، فأضاف العمل إلى الأيدي " عملت أيدينا "، وذكر الأيدي بالجمع، ولم يذكر الباء. فمن يجعل قول الله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} كقوله جل وعلا: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فقد جعل خلق آدم وخلق الأنعام سواء، وليس هناك تشريف ولا تفضيل لآدم. " وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"التقى آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم: أنت موسى، كلمك الله تكليماً، وخط لك التوراة بيده، واصطفاك برسالته، فبكم وجدت في كتاب الله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ؟ قال: بأربعين سنة. قال: فتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى"" ثم ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة المخرج في الصحيحين 1، وهو مشهور عند أهل العلم بحديث المحاجة بين آدم وموسى، وفيه فوائد عظيمة، منها: الإيمان بالقدر، وأنَّ الأمور كلَّها بتقدير الله عز وجل، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. " التقى آدم وموسى " في بعض الروايات احتج آدم وموسى. " خلقك الله بيده ": قل في هذه مثل قولك في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فقد أسند الخلق إلى الله، وذكر الباء، لكن لم يثن اليد، وإنما عبر بالمفرد عن المثنى، وهو سائغ كما سبق، بل إنَّ في

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 6614 "، ومسلم " رقم 6684 ـ 6686 "

الجمع بين الآية والحديث دليلاً لما قرره أهل العلم من أنَّه يصح التعبير عن المثنى بالمفرد. " خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته " أي خصك بهذه الأمور وميزك وشرفك بها. " خيبتنا وأخرجتنا من الجنة " هذا فيه لوم من موسى لآدم عليهما السلام: يلومه على الإخراج من الجنة ـ وهو مصيبة ـ لا على الذنب، فقال: " خيبتنا وأخرجتنا " ولم يقل: خيبتنا وأذنبت وعصيت، لأن آدم وقع في الذنب وتاب منه، وأخبرنا الله عز وجل أنه قبل توبته، قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 1 ولا يلام أحد على ذنب تاب منه ولو كان شركاً. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 2 أي لمن تاب. والشرك داخل في قوله سبحانه: {الذُّنُوبَ جَمِيعاً} ، أما قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 3 فهذا في حق من مات على ذلك. " أنت موسى، كلمك الله تكليماً، وخط لك التوراة بيده، واصطفاك برسالته " أي ميزك الله بهذه الأمور. " فبكم وجدت في كتاب الله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} " أي: هذا الذي ترتب على هذه المعصية متى كُتِب عليَّ ومتى قُدِّر. " قال: بأربعين سنة " أي أنه كتب عليك قبل خلقك بأربعين سنة. وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في صحيح مسلم 4 أنَّ

_ 1 الآية 37 من سورة البقرة. 2 الآية 53 من سورة الزمر. 3 الآية 116 من سورة النساء. 4 الصحيح " رقم 6690 "

النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة". قال أهل العلم: هذا تقدير من بعد تقدير، فهناك تقدير عام قبل خلق السماوات دل عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقوله: " بأربعين سنة " في هذا الحديث تقدير خاص داخل في التقدير العام 1. يشبه هذا تماماً ما يتعلق بتقدير كلِّ إنسان عندما يكون في بطن أمه، كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ـ المشهور بحديث الصادق المصدوق ـ:"إنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد" 2 فهذا تقدير وكتابة داخلة في التقدير العام الذي هو قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. " قال: فتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! " الأمر الذي لامه عليه هو الإخراج، وهو مصيبة قدرها الله عليه قبل أن يخلق. " قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى حجَّه بالقدر، وحجته مقبولة؛ لأنَّه احتج بالقدر على المصيبة لا على الذنب، إذ لا يصح أن يحتج أحد على ذنبه بالقدر: فلا يصلي ولا يصوم ويقول: قضاء وقدر، ويترك الطاعات ويرتكب المحرمات ويقول: قضاء وقدر. فلا يصح الاحتجاج بالقدر على المعائب، وإنما يصح الاحتجاج به على المصائب. قال تعالى ـ مبيناً ضلال من احتج بالقدر على المعائب ـ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا

_ 1 انظر: شفاء العليل لابن القيم "ص13 " 2 أخرجه البخاري " رقم 3332 "، ومسلم " رقم 6665 "

َرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} 1، فبين سبحانه أنَّ احتجاج هؤلاء المشركين بالمشيئة والقدر باطل، إذ لو كان كذلك لما أذاقهم بأسه. وهكذا كل من يحتج بالقدر على ذنوبه ومعاصيه احتجاجه باطل. وأضرب هنا مثالاً ذكره أهل العلم: لو أن شخصاً قتل آخر خطأً، فلاموه في ذلك فقال: هذا قضاء وقدر. قبل منه. لكن لو أن آخر أمسك بسلاحه واتجه إلى شخص وقتله متعمداً، ولاموه في ذلك فقال: قضاء وقدر لا يقبل منه. وكله قتل، لكن هذا عمد وذاك خطأ. الشاهد من الحديث: قوله: " خلقك الله بيده "، وهذا فيه إثبات اليد لله عز وجل، وأن الله باشر خلق آدم بيده تشريفاً وتكريماً، وكذلك قوله: " وخط لك التوراة بيده ". ثم لما ذكر ـ رحمه الله ـ منهج أهل السنة في هذه الصفة ـ وهو الإثبات ـ، وذكر شيئاً من أدلتهم عليها حذر من الأباطيل التي وقع فيها أهل الضلال مثل التشبيه والتكييف والتأويل والتعطيل، فقال: " فلا نقول: يد كيد، ولا نكيف، ولا نشبه، ولا نتأول اليدين على القدرتين كما يقول أهل التعطيل والتأويل، بل نؤمن بذلك ونثبت له الصفة، من غير تحديد ولا تشبيه " فهذه هي المحاذير التي يجب على كلِّ من أثبت صفات الله تبارك وتعالى إجمالاً وتفصيلاً أن يحترز منها. وقد سبق للمصنف أن أشار إليها، لكن لما كان الوقوع فيها خطيراً، وضررها على من وقع فيها كبيراً ناسب أن يؤكد عليها. " فلا نقول يد كيد " لأنَّ هذا القول تشبيه، والتشبيه كفر، والمشبه كافر،

_ 1 الآية 148 من سورة الأنعام.

والله عز وجل ليس كمثله شيء، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2، وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 3، وقال {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} :4 فإنَّ الله عز وجل لا مثيل له، ولا نظير له لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته. " ولا نكيف " أي: لا نبحث في عقولنا وأفهامنا عن كيفية لهذه اليد، ولا نسأل عن كيفيتها؛ لأنَّ السؤال عن كيفية يد الله أو غيرها من صفاته بدعة، كما قال الإمام مالك عندما سئل عن الاستواء. وكيف السبيل إلى إدراك كيفية صفات الله تبارك وتعالى، والمخلوق عاجز عن إدراك كيفية كثير من صفات المخلوقين، والله أكبر من كلِّ شيء، وكلُّ وصفِ كمالٍ يدور في خاطر الإنسان يظنه كبيراً وعظيماً ولائقاً بالله فالله أعظم من ذلك، فهو سبحانه فوق ما يصفه الواصفون. وأهل العلم يقولون: لا يمكن معرفة كيفية الشيء إلا بإحدى طرق ثلاث: 1ـ إما برؤيته. 2ـ أو برؤية مثيله. 3ـ أو بالخبر الصادق المبين لكيفيته. والله تبارك وتعالى لم يره المؤمنون، فهذا نفي للطريق الأولى. وليس لله مثيل فانتفت الطريق الثانية. والخبر الصادق فيه إثبات الصفات وليس فيه تعرض للكيفية، فانتفت الطريق الثالثة. ولهذا فإنَّ إثبات أهل السنة والجماعة للصفات إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. " ولا نُشبِّه " أي: لا نشبه صفة الله عز وجل بصفات المخلوقين، وهو

_ 1 الآية 11 من سورة الشورى. 2 الآية 65 من سورة مريم. 3 الآية 22 من سورة البقرة. 4 الآية 4 من سورة الإخلاص.

بمعنى قوله: " لا نقول يد كيد ". " ولا نتأول اليدين على القدرتين كما يقول أهل التعطيل والتأويل " وسبق الكلام على إبطال هذا التأويل. والتعطيل: هو النفي، نفي صفات الله. والتأويل: صرفها عن ظاهرها. والمصنف ـ رحمه الله ـ لما قال هنا أهل التعطيل والتأويل أراد أن يؤكد على شيء، وهو أنَّ كلَّ مؤول معطل؛ لأنَّ السياق في مناقشة أهل التأويل الذين يقولون إنَّ اليد القدرة. فلا انفكاك للمؤول من التعطيل؛ لأنَّ تأويله انبنى على تعطيله للصفة الثابتة لله عز وجل، فمن قال: اليد القدرة، فقد عطل اليد الحقيقية الثابتة لله عز وجل، وزاد على تعطيله تأويل اليد بصرفها عن ظاهرها. " بل نؤمن بذلك ونثبت له الصفة " أي نثبت له هذه الصفة على الوجه اللائق بجلاله وكماله. " من غير تحديد " أي بشيء نحده للصفة بأفهامنا وأوهامنا، فلا نحد الصفة بحد، وعليه فمعنى قوله: " من غير تحديد " أي من غير تكييف. " ولا تشبيه " أي نثبتها لله عز وجل إثباتاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله من غير تشبيه. " ولا يصح حمل اليدين على القدرتين؛ فإنَّ قدرة الله عز وجل واحدة، ولا على النعمتين؛ فإنَّ نعم الله عز وجل لا تحصى، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} " ذكر في إبطال تأويل اليد بالقدرة وجهاً واحداً، وفي إبطال تأويلها بالنعمة

وجهاً واحداً أيضاً، وإلا فالوجوه في إبطال هذين التأويلين كثيرة جداً. " وكل ما قال الله عز وجل في كتابه، وصح عن رسوله بنقل العدل عن العدل " هذا تأكيد لما سبق تقريره في هذه الرسالة غير مرة من أهمية لزوم الكتاب والسنة، والتعويل عليهما، والاعتماد على ما جاء فيهما، وأن أهل السنة رحمهم الله في إثباتهم لصفات الله جل وعلا لا يتجاوزون الكتاب والسنة. " بنقل العدل عن العدل " هذا ضابط لابد منه في الاحتجاج بالسنة، وهو أن تكون صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقول المصنف: " بنقل العدل عن العدل " يخرج الضعيف وما لم يثبت، وما كان في إسناده علة، وما لم يتصل، ونحو ذلك من العلل المعروفة عند أئمة هذا الشأن، فلا يحتجون في باب الصفات بأيِّ حديث يجدونه دون دراسة لإسناده، ومعرفة لصحته من سقمه. وفي هذا دلالة على أنَّ إثبات أهل السنة والجماعة للصفات مبني على ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل، وأنهم لا يحتجون بكلِّ حديث يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. بخلاف ما يدعيه عليهم أهل البدع، الذين يلمزون أهل السنة بأنهم حشوية، لا يميزون بين الغث والسمين، والصحيح والسقيم، وإنما يجمعون كلَّ شيء ويحتجون بكلِّ حديث. وحاشا أهل السنة أن يكونوا كذلك. فقول المصنف هذا، كما أنَّه يقرر منهج أهل السنة في هذا الباب، فهو يرد على طائفتين من أهل البدع: الأولى: طائفة تلمز أهل السنة وترميهم بالاحتجاج بكلِّ حديث ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا وصفوهم بالحشوية.

والثانية: المعتزلة الذين لا يحتجون بخبر الآحاد في العقيدة، ففي قول المصنف: " العدل عن العدل " الاكتفاء برواية واحد عن واحد، وعدم اشتراط التواتر.

صفة المحبة

[صفة المحبة] ثم شرع المصنف في ذكر أمثلة من صفات الله تبارك وتعالى، منها ما دلَّ عليه الكتاب العزيز، ومنها ما دلت عليه السنة الصحيحة بنقل العدل عن العدل. فقال: " مثل المحبة " وهذه من صفات الله عز وجل العظيمة الثابتة له في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الله عز وجل يُحب عباده المؤمنين، ويُحب المتقين، ويُحب المتطهرين، ويُحب التوابين، ويُحب الأنبياء، ويحُب الصالحين، ويُحب الصلاح ويُحب أهله، ويُحب الخير ويُحب أهله. وأهل السنة يثبتون هذه الصفة لله على الوجه اللائق بجلاله، ويثبتون آثارها ولوازمها. فمن لوازم محبة الله عز وجل لعبده: أن يثيبه، وأن يوفقه ويسدده ويعينه، وأن ينعم عليه. بينما أهل البدع يعطلون الصفة ويكتفون بإثبات لازمها فيجعلونه معناها. فيقولون: محبة الله لعبده أي إنعامه عليه. فيجعلون الإنعام هو المحبة، هذا شأن من كان منهم لا يثبت الإرادة. أما من يثبت الإرادة فيجعل المحبة إرادة الإنعام. ومثل هذا يقولونه في الرضا والرحمة ونحوها من الصفات. وهذا باطل؛ لأنَّ فيه تعطيلاً لصفة الرب التي أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في سنته. والله عز وجل يُحِبُّ ويُحَبُّ، كما قال سبحانه في القرآن: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1 أي: يحب عباده المؤمنين، وعباده المؤمنون يحبونه. وإذا آمن العبد بمحبة الله للمؤمنين، فينبغي عليه أن يسعى في نيلها، وأن

_ 1 الآية 54 من سورة المائدة.

يبذل وسعه في تحصيلها، فإنه من السهل على كل لسان، ومن اليسير على كلِّ إنسان أن يقول: إني أحب الله. فاليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. لكن ليست العبرة بالدعاوى، بل لابد أن تظهر علامة المحبة على المحب. ولمحبة الله علامة بيَّنها في كتابه، فقال جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 1، ولهذا يسمي بعض أهل العلم هذه الآية: آية المحنة أي التي يمتحن الإنسان نفسه على ضوئها ليعلم مدى محبته لله، ولهذا قال بعض الحكماء:"ليس الشأن أن تُحِب، ولكن الشأن تُحَب"2. يعني أنَّ الشأن أن يحبك الله عز وجل. ولن ينال عبد محبة الله بمجرد الدعوى، بل لا يمكن أن ينالها إلا بالجد والعمل والسعي. فعلى من آمن بأن الله يحب أن ينظر في الأعمال التي يحبها الله فيحبها، ويسعى في تطبيقها، وينظر في الأسباب التي تُنال بها محبة الله فيحبها، ويسعى في تحصيلها.

_ 1 الآية 30 من سورة آل عمران. 2 انظر: تفسير ابن كثير " 1/338 "

صفة المشيئة والإرادة

[صفة المشيئة والإرادة] " والمشيئة والإرادة " وهاتان صفتان ثابتتان لله عز وجل. فالمشيئة: صفة لله تبارك وتعالى، فهو سبحانه يفعل ما يشاء، والأمور كلها بمشيئته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ومشيئة الله جل وعلا نافذة في كل شيء، لا تتخلف ولا تُرد، ولا معقب لها، ما شاء الله لابد أن ينفذ ويقع وفقاً وطبقاً لما شاءه. لا يمكن أن يكون في الكون ذرة أو حركة أو سكون أو قيام أو قعود أو مرض أو صحة أو ضعف أو قوة أو إيمان أو كفر إلا بمشيئة الرب سبحانه وتعالى. كما قال ابن عباس رضي الله عنه:"كلُّ شيء بقدر، حتى وضعك يدك على خدك"1. وقال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: ما شئتَ كان وإن لم أشأ ... وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن2 " ما شئتَ ": أي أنت يا الله كان، لا راد له ولا معقب له. " وإن لم أشأ ": أي وإن لم أشأ ذلك الأمر أنا أيها العبد، " وما شئتُ " أي أنا العبد إن لم تشأ لم يكن. وهذا هو معنى قوله تبارك وتعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3. فمشيئته نافذة في كلِّ شيء، وقدرته سبحانه وتعالى شاملة لكلِّ شيء، فهو على كلِّ شيء قدير.

_ 1 رواه البخاري في خلق أفعال العباد " ص47 " عن ابن عباس معلقاً. ونقله ابن القيم في شفاء العليل " ص189 " عن البخاري عن ابن عمر موصولاً والله أعلم. 2 تقدم تخريجه. 3 الآيتان 28، 29 من سورة التكوير.

وحتى ندرك الفرق بين المشيئة النافذة والقدرة الشاملة فعلينا أن نعلم أنهما تجتمعان فيما كان وما سيكون، وتفترقان فيما لم يكن ولا يكون. فما كان وما سيكون كلُّه بقدرة الله التي شملت كلَّ شيء، وأيضاً نفذت مشيئة الله فيما كان فوقع، وستنفذ مشيئته فيما سيكون فيقع. وأما الأمور التي ما كانت ولا تكون فهذه تشملها القدرة الشاملة، فمثلاً: أهل النار عندما يدخلون النار يسألون الله عز وجل أن يعيدهم إلى الحياة الدنيا ليعلموا صالحاً غير الذي عملوا، فقدرة الله شاملة لذلك، فهو سبحانه قادر على أن يعيدهم إلى الحياة الدنيا مرة أخرى، لكن لم يشأ ذلك؛ لأنه لو شاءه لأعادهم. وبهذا يتضح الفرق بين المشيئة النافذة والقدرة الشاملة. والمشيئة كونية قدرية. ومن الآيات المثبتة للمشيئة: الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} 1 ونظائرها في القرآن كثير. " والإرادة ": وهي صفة من صفات الله تعالى، ومن يتتبع أدلة الكتاب والسنة يجد أن النصوص دلت على أن الإرادة نوعان: 1ـ إرادة كونية قدرية، وهي كما قال أهل العلم مرادفة للمشيئة، مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} 3، فالإرادة هنا كونية قدرية، وهي ترادف المشيئة. 2ـ وإرادة شرعية دينية، ومن لوازمها محبته تبارك وتعالى لهذا الشيء الذي أراده، فهي تتضمن المحبة بخلاف الإرادة الكونية القدرية فقد يريد الله

_ 1 الآية 35 من سورة الأنعام. 2 الآية 82 من سورة يس. 3 الآية 16 من سورة الإسراء.

عز وجل قدراً وكوناً ما لا يحبه، مثل كفر الكافر وعصيان العاصي وظلم الظالم، فهذه كلها أمور تقع بإرادة الله الكونية القدرية. فكل ما أراده الله شرعاً وديناً فهو يحبه،: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 1، وكل الأوامر التي في الكتاب العزيز والنواهي أرادها الله من عباده شرعاً، فأراد الله منهم الصلاة والصيام والإيمان وترك المعاصي والفسوق. يقول العلماء: تجتمع هاتان الإرادتان في إيمان المؤمن؛ لأنَّ الله عز وجل أراد منه كوناً وقدراً أن يكون مطيعاً، وأراد منه ذلك شرعاً وديناً، فاجتمعت في حقه الإرادتان. وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في كفر الكافر؛ لأنَّ الله عز وجل أراد منه الكفر كوناً وقدراً، ولم يرده منه شرعاً وديناً، قال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 2. وتنفرد الإرادة الشرعية الدينية في مثل إيمان الكافر الذي قضى الله أن يموت على الكفر؛ لأنَّ الله عز وجل أراد منه شرعاً وديناً أن يكون مؤمناً، لكنه لم يرده منه قدراً وكوناً؛ لأنَّه لو أراده منه قدراً وكوناً لكان. وترتفع الإرادتان في كفر المؤمن الذي قضى الله أن يبقى على الإيمان ويموت عليه، فلم يرد الله منه الكفر لا شرعاً وديناً، ولا كوناً وقدراً. وفي قول المصنف: " والمشيئة والإرادة " إشارة إلى أنه ثمة فرق بين الأمرين، فالمشيئة دائماً وأبداً كونية، والإرادة منقسمة إلى كونية قدرية، وشرعية دينية.

_ 1 الآية 185 من سورة البقرة. 2 الآية 7 من سورة الزمر.

صفة الضحك

[صفة الضحك"] " والضحك " أي: ومن صفات الله سبحانه الثابتة له في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الضحك. وقد جاء في أحاديث كثيرة: وصف الرب العظيم بأنه يضحك، منها: ما في ثبت في الصحيحين 1 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر فيدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيُستشهد". والضحك صفة من صفات الله الفعلية، دلت عليها السنة الصحيحة، وثمة قاعدة سبق أن أشرت إليها، ألا وهي أن ما يلزم من الصفة حال إضافتها للمخلوق ليس بلازم للصفة حال إضافتها للخالق تبارك وتعالى. فلضحك المخلوق لوازم، فقد يكون عن خفة، وقد يكون عن طيش وسفه، وهذا نقص وعيب، وقد لا يكون عن ذلك، ولهذا لا ينبغي أن يتبادر إلى الأذهان والأوهام عندما يضاف الضحك إلى الله عز وجل ضحك المخلوق. فالضحك المضاف إلى الله تبارك وتعالى هو وصف خاص به يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه، لا يماثل ضحك المخلوقين. والضحك يجب أن يفهم على معناه؛ لأننا ندرك في لغة العرب الفرق بين الضحك والرضا والغضب والسخط، فمعنى الضحك في وصف الرب هو معناه الذي نعرفه من خلال اللغة، لكن حقيقة ضحك الرب وكيفيته أمر مختص به تبارك وتعالى يليق بكماله وجلاله سبحانه. وأيضاً نقول ما قلناه فيما سبق: إنَّ من آمن بأنَّ الله يضحك عليه أن يؤمن

_ 1 البخاري " رقم 2826 "، ومسلم " رقم 4869 ـ 4871 "

بلوازم ذلك وآثاره، ومما يوضح لنا هذا الجانب: ما جاء في حديث أبي رزين ـ وهو حديث ثابت ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه 1، قال: قلت: يا رسول الله أوَ يضحك الرب؟ قال: نعم. قلت: لن نعدم من رب يضحك خيراً" 2. وفي هذا الحديث فائدة مهمة، ألا وهي أنَّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفهمون معاني نصوص الصفات، خلافاً لما يدعيه فيهم مفوضة المعاني من أنهم كانوا يقرءون آيات الصفات وأحاديثها قراءة مجردة دون أن يفهموا منها أيَّ معنى؛ فإن أبا رزين رضي الله عنه لما قال: " لن نعدم من رب يضحك خيراً " لا شك أنَّه فهم المعنى.

_ 1 أي تغييره سبحانه للأحوال. 2 أخرجه ابن ماجه " رقم 181 "، وأحمد "4/11"، والطيالسي " رقم 1092 "، والطبراني في الكبير " 19/207 "، والحاكم في المستدرك " 4/605 "، واللالكائي " رقم 722 "، وابن أبي عاصم في السنة " رقم 554 " قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: " حديث حسن "، وحسَّنه الألباني في الصحيحة " رقم 2810 "

صفة الفرح

[صفة الفرح] " والفرح " أي: ومن الصفات الثابتة لله تبارك وتعالى الفرح، ومن أدلة ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال ـ من شدة الفرح ـ: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح" 1. هذا غاية ما يوصف من فرح العباد، فيقول صلى الله عليه وسلم: لله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته. ففي هذا الحديث وصف الله عز وجل بالفرح، وأنَّه يفرح بتوبة التائبين وطاعة الطائعين وإقبال المقبلين، يفرح بهم مع غناه عنهم ـ وهذا من كمال فضله وتمام إنعامه سبحانه وتعالى ـ فرحاً ليس عن حاجة ولا افتقار؛ فلا تزيد توبة التائبين وإنابة المنيبين في ملكه شيئاً، كما قال سبحانه في الحديث القدسي:"يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً"2. وهذا بخلاف المخلوق فإنَّ فرحه غالباً يكون بشيء يحتاج إليه. وإذا علم العبد أنَّ ربه يفرح وآمن بهذه الصفة، فينبغي له أن يحقق آثارها وموجباتها في نفسه، فإذا كان الله يفرح بتوبة التائب فلماذا لا يتوب؟! فما أكثر الذنوب عندنا، وما أكثر التقصير والمخالفات والأخطاء.

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 6309 "، ومسلم " رقم 6895 " واللفظ له. 2 أخرجه مسلم " رقم 6517 "

فمن تمام إيماننا بهذه الصفة أن نتوب إلى الله، وأن نقبل على طاعته، وأن نعمل بالأمر الذي يفرح به سبحانه وتعالى، فلا يكون إيماننا بالصفات عرياً عن آثارها، بل ينبغي أن يكون إيماناً مثمراً كإيمان السلف. ولهذا فإنَّ الإيمان بصفات الله تعالى درجات ومراتب، فهناك إيمان راسخ ومؤثر، إيمان بالصفات مع فقه فيها وفي دلالاتها ومعانيها وآثارها. وهناك إيمان يتحقق به أصل الإيمان وشتان بين هذا وذاك.

صفة العجب

[صفة العَجَب] " والعَجَب " أي ومن صفاته سبحانه وتعالى: العَجَب، وهي صفة ثابتة لله عز وجل، دل عليها القرآن وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. قال الله تبارك وتعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} 1، في قراءة من قرأ بضم التاء أي: عجبَ الرب تبارك وتعالى منهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" 2. يعني يقادون إلى الجنة قوداً، ويلزمون إلزاماً بالحديد والسيوف والضرب، فيبقون على الإيمان والطاعة حتى يكونوا يوم القيامة من أهل الجنة. وعَجَبُ الله عز وجل ليس كعجب المخلوق، فقد يعجب المخلوق لوقوع شيء لا علم له مسبقاً به، ولا يمكن أن يقع من الله هذا؛ لأن علمه أزلي محيط بكلِّ شيء ولا تخفى عليه تبارك وتعالى خافية.

_ 1 الآية 12 من سورة الصافات. والضم قراءة حمزة والكسائي انظر: فتح القدير " 4/445 " 2 أخرجه البخاري " رقم 3010 "

صفة البغض

[صفة البغض] " والبغض " أي: ومن أوصافه الثابتة له سبحانه: البغض، فهو سبحانه يبغض الكفر والكافرين، والعصيان والعصاة. ومن أدلة ثبوت هذه الصفة قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً فأَحِبَّه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إنَّ الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إنَّ الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض"1. وهذا الحديث العظيم، هو في بيان شأن ومقام الذين يحبهم الله من عباده ـ وأسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم منهم بمنه وكرمه ـ فهو سبحانه ينادي في السماء: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل لحب الله تعالى له، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء إنَّ الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يطرح له القبول في الأرض. وهذا هو معنى قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} 2. وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه. فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إنَّ الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم تطرح له البغضاء في الأرض. فهناك أهل محبة وأهل بغضاء، وإذا آمن العبد بذلك فعليه أن يعرف

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 6647 " 2 الآية 96 من سورة مريم.

الأوصاف والأشخاص الذين يحبهم الله، وقد جاء في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله"1. فهذا الحديث من تحقيق الإيمان بصفة الحب وصفة البغض لله سبحانه وتعالى؛ لأن العبد مأمور أن يحب ما يحبه الله، وأن يبغض ما يبغضه الله. إذا علمنا هذا، عرفنا الانقطاع الشاسع الكبير الذي وقع فيه الجهمية ومن تأثر بهم، الذين يقولون: إنَّ الله لا يُحب ولا يبغض ولا يرضى ولا يسخط. فما أضرَّ تعطيل صفات الله تبارك وتعالى أو تعطيل شيء منها على عبادة الإنسان وسلوكه، فكم أوجد فيهم هذا المعتقد من الانحرافات التعبدية والسلوكية فعقيدة الجهمية كما أنها انحراف في المعتقد هي كذلك انحراف في العبادة والسلوك، وبحسب ما يقع فيه العبد من التعطيل لصفات الله تعالى يكون الخلل في عبادته وسلوكه، إذ كلامهم الباطل في صفات الله تعالى قطع عليهم الطريق لتحصيل الآثار التي تقع من العبد إثر إيمانه بهذه الصفات العظيمة. ولهذا يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:"تجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم الذي ذمه السلف؛ لجهلهم بالنصوص ومعانيها وتمكن الشبه الباطلة من قلوبهم، وإذا تأملت حال العامة الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم رأيتهم أتم بصيرة وأقوى إيماناً وأعظم تسليماً للوحي وانقياداً للحق" 2 لأنهم على السنة والفطرة.

_ 1 أخرجه أحمد " 4/286 "، والطيالسي " رقم 747 "، وابن أبي شيبة " رقم 34338 "، وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 1728 " 2 مدارج السالكين " 1/125 "

وهذا يجعلنا نتنبه، فكما أكرمنا الله عز وجل بالإيمان بهذه الصفة: صفة المحبة وصفة البغض، فعلينا أن ننهض بأنفسنا، وأن نسعى جادين ـ مستعينين بالله ـ في معرفة الأمور التي يحبها الله لنفعلها فننال محبته، ولنعرف الأمور التي يبغضها فنجتنبها لنسلم من بغضه تبارك وتعالى لنا.

صفة السخط

[صفة السخط] " والسُّخْطُ " أي: ومن صفاته تبارك وتعالى أنه يسخط، قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 1، وهناك أمور تسخطه سبحانه: مثل الكفر والمعاصي والذنوب، ومن اتبع ما أسخط الله سخط الله عليه. فإذا آمن العبد بأنَّ الله يسخط، فعليه أن يجتنب كلَّ سبيل يسخط الله عز وجل، وأسأله سبحانه أن يجنبنا وإياكم ما يسخطه سبحانه.

صفة الكره

[صفة الكره] " والكره " أي: ومن صفاته تبارك وتعالى: الكره، ومن أدلة هذه الصفة: قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} 2. فهو سبحانه يبغض ويكره، يكره أشخاصاً ويكره أعمالاً، فنحن نؤمن بذلك كما وصف نفسه بذلك في كتابه العزيز.

صفة الرضا

[صفة الرضا] " والرضا " أي: ومن صفاته سبحانه: الرضا، قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 3، فهو يحب أهل الإيمان ويرضى عنهم.

وإذا آمن العبد بذلك فعليه أن يطلب رضا الله عز وجل بفعل الأمور التي ترضيه سبحانه. هذه نماذج من صفات الله التي ثبتت في القرآن وصحت في سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. ولما ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ هذه الأمثلة قال: " وسائر ما صح عن الله ورسوله " وهذا تأكيد منه ـ رحمه الله ـ على أنَّ ما ذكره مجرد أمثلة، وإلا فصفات الله عز وجل كثيرة جداً في الكتاب والسنة. " وإن نبت عنها أسماع بعض الجاهلين واستوحشت منها نفوس المعطلين " هذه فائدة مهمة جداً، وتنبيه من المصنف مفيد للغاية. معنى نبت: تجافت وابتعدت عنها أي: وجدوا تجاهها شيئاً من الوحشة. وفي مصنف عبد الرزاق 1 أنَّ رجلاً انتفض عندما سمع حديثاً من أحاديث الصفات، فقال ابن عباس رضي الله عنه:"ما فرق من هؤلاء ـ وفي رواية ما فرَّق هؤلاء ـ يجدُّون عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه". فبعض الناس عندما يسمع صفة لأول مرة ينبو عنها سمعه ويجد وحشة تجاهها، لكن قيام هذا الأمر في نفسه لا يكون مسوغاً لجحد شيء أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن خلال هذه المقولة يدرك المؤمن سبب تعطيل المعطلة لكثير من صفات الله تبارك وتعالى، فرغم أنَّ الله أثبتها لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، عندما نبت عنها أسماعهم واستوحشت منها نفوسهم عطلوها ونفوها

_ 1 " رقم 20895 "، وانظر السنة لابن أبي عاصم " رقم 485 " وقال الألباني: إسناده صحيح.

عن الله سبحانه وتعالى، وقالوا: لا يوصف الله بكذا ولا بكذا، وعدَّدوا صفات كثيرة ثابتة في القرآن وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. وأهل السنة ليسوا في شيء من ذلك لا قليل ولا كثير، فإذا نبت أسماعهم أو استوحشت قلوبهم طردوا ذلك من نفوسهم، وآمنوا بما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته. قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ:"ومثل أحاديث الرؤية كلها وإن نبت عن الأسماع، واستوحش منها المستمع فإنما عليه الإيمان بها، وأن لا يرد منها جزءاً واحداً، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات"1. وقال أفلح بن محمد:"قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن إني أكره الصفة ـ عنى صفة الرب جل وعز ـ فقال له عبد الله بن المبارك: أنا أشد الناس كراهة لذلك، ولكن إذا نطق الكتاب بشيء، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه"2 أي: أكره أن أتكلم في صفة الله ابتداء من قبل نفسي، لكن لما نطقت بذلك النصوص تجاسر وتكلم به. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:"أراد ابن المبارك: أنَّا نكره أن نبتدئ بوصف الله من ذات أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار"3. فعندما تقول ـ بكلِّ اطمئنان ـ: الله يغضب ويسخط ويرضى ويحب ويبغض، ما الذي جعلك تجسر وتقول هذا الكلام؟ وما الذي جعل أئمة السلف وعلماءهم يجسرون ويؤلفون كتباً يقولون فيها: من صفاته أنَّه يرضى

_ 1 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 317 " ضمن اعتقاد الإمام أحمد من رواية عبدوس ابن مالك العطار. 2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 737 " 3 الحموية " ص30 "

ويسخط ويحب ويبغض؟ الجواب بلا إشكال: لما نطقت بذلك النصوص جسرنا على ذلك. وإلا فمن الذي يجرؤ أن يتكلم في شأن الرب العظيم بلا مستند من الكتاب أو السنة.

النفس

[النَّفْس] " ومما نطق بها القرآن، وصح بها النقل من الصفات: النفْس، قال الله عز وجل ـ إخباراً عن نبيه عيسى عليه السلام أنه قال ـ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ، وقال عز وجل: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ، وقال عز وجل لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} " هنا يتكلم المصنف عن النفس في مثل قول الله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 1، وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 2 ونظائرها من الآيات. والمراد بالنفس ـ كما نبه عليه أهل العلم ـ: ذاته سبحانه الموصوفة بالصفات الثابتة له، وليس المراد بالنفس ذاتاً مجردة عن الصفات، ولا أنها صفة مستقلة قائمة بالذات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:" فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء: الله نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته، ليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات. وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات وكلا القولين خطأ"3.

_ 1 الآية 116 من سورة المائدة. 2 الآية 28 من سورة آل عمران. 3 مجموع الفتاوى " 9/292 ـ 293 "

وعليه فمعنى قول الله تعالى: {لا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي: لا أعلم ما في ذاتك. وهكذا بقية النصوص التي ورد فيها هذا الإطلاق. وكلام المصنف ـ رحمه الله ـ هنا يحتمل أمرين: الأول: أنَّه يعد النفس صفة مستقلة، مثل الرضا والغضب والمحبة والسخط. وهذا ـ كما قرر شيخ الإسلام ـ خطأ. الثاني: ونأخذه من منهجه الذي هو بصدد الكلام عليه، وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكون مراده إطلاق ما أطلقه عز وجل في كتابه العزيز من أوصاف أو أخبار. وعلى هذا المعنى يكون كلامه مستقيماً. ووقع لابن خزيمة ـ رحمه الله ـ نظير ما وقع للمصنف فقال:"فأول ما نبدأ به من ذكر صفات خالقنا جل وعلا في كتابنا هذا: ذكر نفسه جل ربنا أن تكون نفسه كنفس خلقه، وعز أن يكون عدماً لا نفس له"1. لكن كما قرر شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم فليست النفس صفة مستقلة، والنصوص لا تدل على ذلك. " النفْس " بإسكان الفاء، ويأتي في بعض الأحاديث النفَس بتحريكها مضافة إلى الله كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"إني أجد نفَس الرحمن من هاهنا"2. والمراد بالنفَس هنا تنفيسه تبارك وتعالى على عباده، وما يترتب على ذلك من إعانة وتوفيق وسداد.

_ 1 كتاب التوحيد " 1/11" 2 أخرجه البخاري في التاريخ الكبير " 4/70 "، والبزار " رقم 3702 "، والطبراني في الكبير " 7/52 "

" قال الله عز وجل ـ إخباراً عن نبيه عيسى عليه السلام أنَّه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} " أي: لا أعلم ما في ذاتك المقدسة، فأنت تعلم ما في نفسي، فلو أخفيتُ شيئاً في نفسي ولم يطَّلع عليه أحد من الخلق لعلمتَه، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} 1، فهو سبحانه وتعالى عليم بكلِّ شيء، الغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، لا تخفى عليه خافية، فهو يعلم ما في نفوس العباد. وفي هذه الآية أدب رفيع من نبي الله عيسى عليه السلام، وهذا يتبين بالنظر في سياق الآية، قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} ، ومعنى سبحانك: أنزهك يا الله عن ذلك: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي: ما ليس لي بحق أن أقوله: لا أقوله، ومن الأمور التي ليست حقاً الافتراء على الله وادعاء أنَّ مع الله إلهاً آخر. {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لم يقل: لم أقل ذلك. وإنما أتى بهذه العبارة التي تدل على كمال الأدب ورفيعه، فقال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي: لو أنَّ شيئاً عندي أخفيته في نفسي فعلمك محيط به. {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي: الشيء الذي لم تُعلِمْني إياه واستأثرت بعلمه فلا علم لي به؛ لأنَّه لا علم لي إلا ما علمتني إياه، فعلم الله محيط بكلِّ شيء، وأما علم العبد مهما بلغ فهو كما قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} 2. " وقال عز وجل: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} " الكتابة في الآية كتابة كونية قدرية؛ لأنَّ الكتابة المضافة إلى الله عز وجل نوعان:كتابة كونية قدرية.

_ 1 الآية 19 من سورة غافر. 2 الآية 85 من سورة الإسراء.

وكتابة شرعية دينية. والقول في الكتابة كالقول في الإرادة، ومثله يقال ـ أيضاً ـ في الإذن والقضاء والتحريم. والمراد بالنفس في الآية ذاته المقدسة الموصوفة بالصفات. " وقال عز وجل لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} " الاصطناع في الآية يتضمن معاني كثيرة، منها: الرعاية والعناية والتربية والتوفيق والاصطفاء للنبوة والرسالة، ففي الآية تشريف لنبي الله موسى عليه السلام وتمييز له. والشاهد من الآية: قوله تعالى: نفسي. والمراد: هو سبحانه وتعالى بذاته الموصوفة بالصفات. " وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"" " أنا عند ظن عبدي بي " هذا فيه إحسان الظن بالله تبارك وتعالى، وأن يكون العبد حسن الظن بربه، وحسن الظن لا يكون إلا مع إحسان العمل وإلا كان غروراً. يقول ابن القيم ـ"مبيناً تلازم حسن الظن مع صلاح العمل تمام الملازمة ـ:"حسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإنَّ المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ويقبل توبته. وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإنَّ وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه"1.

_ 1 الجواب الكافي " ص13 ـ 14 "

وهذا المعنى الذي نبه عليه ابن القيم ـ رحمه الله ـ مستفاد من قول الله عز وجل في هذا الحديث: " أنا عند ظن عبدي بي " فالإضافة إلى الله: عبدي. تقتضي عبودية من العبد وصلاحاً فيه، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} 1. فقوله: " عبدي " دال على صلاح في العمل، فمع هذا الصلاح يستقيم حسن الظن بالله تبارك وتعالى. " أنا عند ظن عبدي بي " أي: إن ظن بي خيراً حصَّل خيراً، وإن ظن بي شراً حصَّل شراً. ولهذا على العبد المؤمن أن يقبل على طاعة الله وأن لا يظن بربه إلا خيراً، ويتأكد هذا الأمر عند الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن" 2. فيظن بربه أنَّه سيرحمه ويغفر له، ويدخله الجنة وينجيه من النار. " وأنا معه " المعية نوعان: 1ـ معية عامة: وهي علم الله بالعباد واطلاعه عليهم ورؤيته لهم، وأنَّه لا تخفى عليه منهم خافية. 2ـ ومعية خاصة: كما في هذا الحديث، وهي تقتضي الرعاية والتأييد والحفظ والتسديد والتثبيت والتوفيق. فمعنى: " أنا معه " أي: أسدده وأعينه وأوفقه وأحفظه. " حين يذكرني " في هذا فضل ذكر الله عز وجل، فالعبد إذا حافظ على ذكر الله نال بذلك معية الله الخاصة له. " فإن ذكرني في نفسه " أي: ذكرَ الله سراً بينه وبين نفسه.

_ 1 الآية 63 من سورة الفرقان. 2 أخرجه مسلم " رقم 7158 "

" ذكرته في نفسي " أي: ذكرَه الله عز وجل مقابل ذلك في نفسه، وهذا موضع الشاهد من الحديث، والمراد بنفسه ذاته المقدسة الموصوفة بالصفات. " وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " أي: الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وفي هذا الحديث شاهد للقاعدة المشهورة: الجزاء من جنس العمل، قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلا الأِحْسَانُ} 1،هذا في الإحسان. وفي الإساءة يقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} 2. " في ملأ خير منهم " هذا من أقوى ما استدل به من قال بتفضيل الملائكة على البشر، والأقوال في هذه المسألة ثلاثة: القول الأول: أنَّ الملائكة أفضل مطلقاً. والقول الثاني: أنَّ البشر أفضل مطلقاً. والقول الثالث: وهو الحق والصواب، وهو أنَّ الأنبياء وصالحي البشر أفضلُ من الملائكة 3. " وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً " وهذا فيه إثبات صفة القرب لله سبحانه وتعالى، وأنَّه يقرب متى شاء وكيف شاء على الوجه الذي يشاء. ونحن نؤمن بأنه سبحانه يقرب من عباده كما دل عليه كتابه العزيز وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الآية 60 من سورة الرحمن. 2 الآية 10 من سورة الروم. 3 انظر بسط هذه المسألة في كتاب " مباحث المفاضلة في العقيدة " لفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن أبو سيف.

" وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " فيه إثبات هذه الصفة لله تعالى 1، والقاعدة: أنَّ كلَّ ما يضاف إلى الله عز وجل من الصفات فهو على الوجه الذي يليق بكماله وجلاله وعظمته سبحانه وتعالى. " وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فكتبه على نفسه، فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي"" هذا فيه تفسير للآية السابقة، وهي قوله جل وعلا: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 2، ولهذا يورده المفسرون بالمأثور عند هذه الآية. ولكتابته تبارك وتعالى لهذا الكتاب حِكَمٌ، قد يظهر لنا منها شيء وقد لا يظهر، ومما ذكره أهل العلم من الحكم في ذلك: تعظيم هذا الأمر ومزيد العناية به؛ ففي إعلام العباد بهذا الكتاب من الآثار المباركة الشيء الكثير، فإذا علم العبد أنَّ الرب العظيم كتب ـ عندما قدر إيجاد الخلائق ـ كتاباً، كتب فيه: إنَّ رحمتي غلبت غضبي ووضعه عنده فوق العرش، فلا شك أنَّه سيعظم رجاؤه في الله، ويعظم أمله في نيل رحمة الله، ويقبل في طلبها. ونحن نؤمن بهذا الكتاب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم سواء علمنا الحكمة من هذه الكتابة أو لم نعلمها. وفي الحديث فوائد أخرى، منها: إثبات علو الله عز وجل على عرشه. وفيه: إثبات العرش. وفيه: إثبات هذا الكتاب، وأنه موضوع عنده تعالى فوق العرش. " إنَّ رحمتي تغلب غضبي " أي أنَّ الرحمة أشمل وأوسع من الغضب،

_ 1 انظر: فتاوى اللجنة الدائمة " 3/196 " 2 الآية 12 من سورة الأنعام.

وفي دعاء الملائكة وحملة العرش: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} 1. فرحمة الله عز وجل وسعت كلَّ شيء، وآثار رحمته في عباده لا تعد ولا تحصى. وغضبه خص به من عصاه وخالف أمره. كما أنَّ في هذا الحديث دليلاً على التفاضل بين صفات الله تبارك وتعالى، ومن الأدلة على هذا أيضاً: أنَّ كلام الله عز وجل من صفاته، وكلامه متفاضل، فآية الكرسي أفضل آية في القرآن، وسورة الفاتحة أفضل سورة في القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وكلُّه كلام الله عز وجل. ومن الأدلة ـ أيضاً ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"2.

_ 1 الآية 7 من سورة غافر. 2 أخرجه مسلم " رقم 1090 "

رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة

[رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة] " وأجمع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق أنَّ الله تعالى يُرى في الآخرة، كما جاء في كتابه، وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم " شرع المصنف في الحديث عن رؤية الله جل وعلا يوم القيامة، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم عياناً. والرؤية عند أهل السنة حق، وجرت عادة كثير من أهل العلم أن يذكروا الكلام على رؤية الله جل وعلا في مباحث الصفات؛ باعتبار أنَّ الله عز وجل يُرى: يراه المؤمنون بأبصارهم حقيقة من فوقهم، ويتجلى لهم سبحانه ويمكنهم من رؤيته. ومن أهل العلم من يذكر ما يتعلق بالرؤية في مباحث الإيمان باليوم الآخر، عند ذكرهم نعيم أهل الجنة؛ لأنَّ هذا يتحقق لأهل الإيمان في الجنة، بل هو أعلى وأعظم وألذ نعيم يناله أهل الجنة في الجنة. ورؤية الله جل وعلا مطمع من مطامع أهل الإيمان، وهدف يسعون لتحصيله، ويسألون الله عز وجل أن يمنَّ عليهم به، ويدعون الله جل وعلا أن يكرمهم برؤيته يوم القيامة. وأيُّ نعيم أعظم من أن يرى المخلوق ربَّ العالمين وخالق الخلق أجمعين ذا الجلال والكمال والعظمة والكبرياء، فهي أكمل وألذ وأعظم نعيم يناله أهل الجنة في الجنة. وقد جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في سنن النسائي وغيره 1 من حديث عمار بن ياسر ":"وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة".

_ 1 أخرجه النسائي " رقم 1305 "، والبزار " رقم 1393 "، وابن حبان " رقم 1971 " وصححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 1301 "

يقول أهل العلم: من يتمنى الموت قد يتمناه لشدة وبلاء نزل به فيتمنى الموت ليسلم منه، وقد يتمناه لفتنة مضلة تنزل بالناس يخشى على نفسه منها. وليس الغرض من تمني النبي صلى الله عليه وسلم لقاء الله في هذا الحديث السلامة من مصيبة حلت، ولا الوقاية من فتنة نزلت، وإنما غرضه صلى الله عليه وسلم الشوق إلى الله عز وجل والطمع في رؤيته سبحانه وتعالى. وإيمان المؤمنين بالرؤية يزيد الطاعة فيهم؛ لأنهم يعلمون أنَّ الطاعة والعبادة سبب للرؤية، وسبق أن أشرت إلى أن للإيمان بصفات الله أثراً بالغاً على العبد في عبادته وطاعته وإقباله على الله تعالى. وأدلة الرؤية في الكتاب والسنة متضافرة، جاء في القرآن في مواضع عديدة نصوص واضحة الدلالة على أنَّ الله عز وجل يُرى يوم القيامة، وجاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر 1 تدل على أنَّ الله يرى يوم القيامة، وللإمام الدارقطني كتاب " الرؤية " جمع فيه الأحاديث الواردة في الرؤية، وممن جمع أحاديث الرؤية جمعاً جيداً ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه " حادي الأرواح "، والشيخ حافظ الحكمي ـ رحمه الله ـ في كتابه"" معارج القبول " 2. وأنبه على فائدة في هذا الباب، وهي أنَّه لا يشترط في الاستدلال بالحديث في أبواب الاعتقاد أن يكون متواتراً، بل لو كان خبر أحاد يرويه العدل عن مثله متصلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلا شذوذ ولا علة فهو حجة في العقيدة والأحكام، وأول

_ 1 وممن نص على تواتر أحاديث الرؤية: شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى " 13 / 35 "، وابن كثير في تفسيره " 4/450 "، وابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية " ص193 " 2 " 1/306 ـ 335 "

من قال: إنَّ العقيدة لا يحتج فيها بخبر الآحاد المعتزلة، وإنما أتوا بهذا التقرير الفاسد ليجعلوه متكأً لهم في رد ما لا يوافق عقولهم وأهواءهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف هذا القول عن أحد من أهل السنة؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث معاذاً وحده إلى اليمن 1 ليعلم الناس العقيدة والعبادة وكلَّ شيء، وهو رجل واحد. وهذا دليل من جملة أدلة كثيرة استدل بها أهل العلم على صحة الاحتجاج بخبر الواحد في الاعتقاد، وقد سبق أن نبه المصنف ـ رحمه الله ـ على هذا الأمر بقوله: " وصح عن رسوله بنقل العدل عن العدل ". وأحاديث الرؤية متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سمعها الصحابة رضوان الله عليهم أمروها كما جاءت، وآمنوا بها كما وردت، ولا يعرف عن صحابي واحد أنَّه انتقد أو اعترض أو حرَّف أو أوَّل شيئاً منها ـ وحاشاهم من ذلك ـ، وإنما وُجِدت هذه المناهج في أهل الأهواء والبدع فيما بعد. " وأجمع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق " وهذا محل إجماع، ولم يخالف فيه إلا أهل البدع من المعتزلة ومن تأثر بهم، ولا عبرة بمخالفتهم. " أنَّ الله تعالى يُرى في الآخرة " وهذا فيه أنَّ الرؤية إنما تكون في الآخرة، وأمَّا الدنيا فمهما بلغ العبد من الإيمان فلن يرى الله، لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا"2. وهذا محل إجماع عند أهل السنة، وليس في هذه المسألة خلاف، إلا فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة هل رأى ربه أو لم يره.

_ 1 انظر: صحيح البخاري " رقم 1458 "، ومسلم " رقم 121 " 2 أخرجه النسائي في الكبرى " رقم 7764 "، وأحمد " 5/324 "، وابن أبي عاصم في السنة " رقم 428 "، والضياء في المختارة " 8/264 " وقال الألباني في " ظلال الجنة ": " إسناده جيد رجاله ثقات ".

والصحيح كما قرره المحققون من أهل العلم: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وأن رؤية الله للجميع إنما تكون في الآخرة، فهي من نعيم الآخرة فتكون في الآخرة. ففي قول المصنف ـ رحمه الله ـ: " يُرى " رد على المعتزلة ومن تأثر بهم ممن ينكر الرؤية. وقوله: " في الآخرة " رد على أرباب التصوف ومن على شاكلتهم ممن يدعي أنه يرى الله في الدنيا. " كما جاء في كتابه، وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم " يشير المصنف إلى أنَّ الرؤية دلَّ عليها أدلة من القرآن والسنة، ثم بدأ يذكر بعض هذه الأدلة فقال: " قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} " هذا دليل من القرآن، ناضرة من النضرة، يقال: وجه نضر أو ذو نضرة أي: ذو حسن وبهاء ونور وضياء. ويقال: نضَّر الله وجهك أي: جعله ذا نضرة وحسن وبهاء وجمال. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره" 1. وهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لمن اعتنى بالسنة حفظاً وتبليغاً أن ينضر الله وجهه أي يجعل وجهه ذا نضرة. وفي هذا الحديث دليل على أنَّ المحافظة على السنة تعطي نضرة للوجه في الدنيا والآخرة، وإضاعة السنة والانغماس في البدعة يكسب صاحبه سواداً في الوجه وظلمة فيه، فالسنة ضياء والبدعة ظلام، ولهذا يقول عبد الله بن

_ 1 أخرجه أبو داود " رقم 3660 "، والترمذي " رقم 2656 وقال حديث حسن "، وابن ماجه " رقم 230 " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 404 "

المبارك ـ رحمه الله ـ:"صاحب البدعة على وجهه الظلمة وإن ادهن كلَّ يوم ثلاثين مرة"1. والمعصية أيضاً تكسب صاحبها شيئاً من الظلمة والذل، كما قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ:"إنهم ـ يعني أهل المعاصي والذنوب ـ وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال، إنَّ ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه"2. " يومئذ " أي: يوم القيامة، فمحل هذا الثواب يوم القيامة. " ناضرة " أي: حسنة بهية. وعندما تطالع أقاويل السلف في معنى ناضرة تجد عباراتهم متنوعة، فمنهم من يقول: مشرقة. ومنهم من يقول: بهية. ومنهم من يقول: حسنة. ومنهم من يقول: جميلة. ومنهم من يقول: مضيئة. ومنهم من يقول: منيرة. أقاويل كثيرة وكلُّها حق يشملها معنى النضرة المذكورة في الآية. أسأل الله عز وجل أن يمن عليَّ وعليكم بذلك. " ناظرة " بالظاء أخت الطاء، وهي من النظر، أي ناظرة إلى الله عز وجل بالأبصار، وهذا فيه دلالة على ثبوت الرؤية، وأنَّ أهل الإيمان أهل النضرة يرون ربهم عز وجل. وهنا لفتة للإمام الحسن البصري ـ رحمه الله ـ عند هذه الآية، يقول:"تنظر إلى الخالق، وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق"3. يعني كيف لا تزدان وجوههم وتحسن وهم ينظرون إلى الله عز وجل. إنَّ صاحب الإيمان والسنة لما يقرأ هذه الآية ونظائرها يتحرك قلبه شوقاً إلى الله، وطمعاً في أن يكون من هؤلاء الذين تنضر وجوههم بالنظر إليه تبارك

_ 1 رواه اللالكائي " رقم 284 " 2 إغاثة اللهفان " 2/188 "، ومجموع الفتاوى " 15/426 " 3 رواه ابن جرير في تفسيره " رقم 35654 "

وتعالى بأبصارهم، أما أهل البدع ففي حرمان ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ لما يقرءون مثل هذه الآيات ينشغلون بصرفها عن ظاهرها لأوهام فاسدة قامت في نفوسهم. وقد حاول بعض أهل الأهواء صرف هذه الآية عن معناها، فقالوا: ليس المراد أنها تنظر إليه، فرؤية الله غير ممكنة ـ عندهم ـ، بل النظر في الآية من الانتظار أي: منتظرة لثواب الله ونعيمه، فأفسدوا معنى الآية، وجعلوها مثل قوله تبارك وتعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} 1، وقوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 2،مع أن قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} دال على أنهم قد نالوا اللذة والنعيم، إلا أنَّ هؤلاء المبتدعة جعلوهم في انتظار للنعيم لا أنهم قد نالوه، فزادوا على ذلك إضعاف قدر النعيم الذي يناله أهل النعيم في الجنة. وأهل العلم يقولون: إنَّ للنظر أحوالاً من حيث التعدي واللزوم، ويختلف معناه بحسب ذلك: ـ فإذا تعدى بنفسه بدون حرف فهو بمعنى الانتظار، كقول الله تبارك وتعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أي: انتظرونا، وقوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أي: منتظرة بأيِّ شيء يرجع المرسلون ـ وإذا تعدى بحرف " في " فهو بمعنى التفكر والاعتبار، كقول الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} 3 أي: يتفكروا ويعتبروا في هذه المخلوقات العظيمة العجيبة. ـ وإذا تعدى بحرف " إلى " كما في الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا

_ 1 الآية 13 من سورة الحديد. 2 الآية 35 من سورة النمل. 3 الآية 185 من سورة الأعراف.

نَاظِرَةٌ} فلا يكون إلا الرؤية بالباصرة.كيف وقد انضم إلى ذلك إسناد النظر إلى الوجه الذي فيه البصر فقال: " وجوه يومئذ ناضرة ". فهذا كله محقق للرؤية ومؤكد لمعناها، ومع ذلك فإنَّ أهل الأهواء يأبون إلا رد ذلك. ثم إن في القرآن الكريم آيات عديدة تدل على أنَّ الله عز وجل يُرى يوم القيامة ويراه المؤمنون بأبصارهم، منها: قول الله تعالى عن الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1، فإذا حُجِب الكفار تعذيباً لهم ونكالاً بهم، عُلم من ذلك أنَّ المؤمنين يرونه سبحانه؛ لأنَّه إذا قيل: إنَّ المؤمنين لا يرون ربهم فهذا يعني أنهم والكفار سواء. فيسوون بين من قال الله عز وجل فيهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ومن قال فيهم: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} . قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ:"فلما حجبهم في السخط كان في هذا دليل على أنهم يرونه في الرضا"2. فحقيق بمن ينكر رؤية الله يوم القيامة ألا ينالها؛ فإنه لا يعتقدها ولا يؤمن بها، ولا سأل الله يوماً أن ينعم عليه بها. إنما الحقيق بالرؤية من آمن بها وعمل بأسباب نيلها، وسأل ربه أن يعطيه إياها. " وروى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال:" إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} "وفي رواية: سترون ربكم عياناً " هذا حديث من الأحاديث الدالة على أنَّ المؤمنين سيرون ربهم تبارك وتعالى يوم القيامة.

_ 1 الآيتان 14، 15 من سورة المطففين. 2 تهذيب السنن لابن القيم " 13/38 "، وشرح الطحاوية " ص191 "

"كنا جلوساً " وهذا يفيد أنَّ الحديث ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لجمع من الصحابة. وفي هذه الصيغة أدب الصحابة في الإخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يقولون كان معنا أو كان عندنا، بل يقولون: كنا معه، أو كنا عنده. " فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة " أي في منتصف الشهر، وفي هذه الليلة يكون القمر قد تم، ويسمى بدر التمام، وإذا كان الجو صحواً فكلُّ الناس يرونه في هذه الليلة، يرونه حقيقة بأبصارهم رؤية عيانية بدون مزاحمة، أما في أول الشهر فقلة الذين يرونه، وأحياناً يحتاجون إلى التضام ليتمكنوا من رؤيته؛ لأنَّه شيء رفيع ودقيق، فيتقارب الناس حتى يستطيع بعضهم دلالة بعض عليه. فالنبي صلى الله عليه وسلم اختار للبيان ليلة الرابع عشرة، وهي التي يكون فيها القمر في تمام الوضوح وتمام البيان، وهذا من كمال نصحه صلى الله عليه وسلم وتمام بيانه لهذا الأمر العظيم. " إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر " الخطاب هنا لأهل الإيمان، ولا يدخل فيه الكفار وقد بدأهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر فقال: " إنكم سترون ربكم "، وجاء في حديث آخر في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أنَّّ ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: فإنكم ترونه كذلك"1.

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 7437 "، ومسلم " رقم 450 "

وأهل العلم يقولون: هاتان حادثتان، مرة كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع الصحابة كما في حديث جرير فبدأهم بالبيان، ومرة سأله بعض الصحابة"فأجابهم صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة. وقوله صلى الله عليه وسلم: " سترون " يفيد أنَّ هذه الرؤية ليست في الدنيا، وإنَّما هي في المستقبل. وقد جاء التصريح في بعض روايات هذا الحديث بأن هذه الرؤية إنما تكون يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة " 1. يقول العلماء: أكد النبي صلى الله عليه وسلم رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة بمؤكدات كثيرة، فأكدها أولاً بـ " إنَّ " وهي حرف توكيد، ثم بالسين التي تدخل على الفعل المضارع، وهي أيضاً يؤتى بها للتأكيد، ثم أكدها بالإشارة في قوله: " كما ترون هذا القمر "، فرؤيتهم للقمر بالأبصار حقيقة، بأعينهم ينظرون إليه ويشاهدونه. فهذه كلها مؤكدات على أنَّ رؤية الله يوم القيامة رؤية حقيقية. " كما ترون هذا القمر " الكاف للتشبيه: لتشبيه الرؤية بالرؤية، وليست للمرئي بالمرئي. أي: كما أنكم ترون القمر حقيقة بأعينكم عياناً جهاراً بأبصاركم بدون حجاب، فكذلك يوم القيامة سترون ربكم عياناً بياناً بأبصاركم بدون حجاب. " لا تُضَامون في رؤيته " وفي رواية " لا تَضَامُّون " وفي رواية " لا تُضارُّون في رؤيته " وكلُّ هذه الروايات تدل على معنى وضوح الرؤية، فلا يتضامون؛ لأنَّ التضام إنما يحصل عندما يكون الشيء الذي يراد رؤيته ضعيفاً لا يُرى إلا بمشقة وتضام. ولا يتضارون في رؤيته فلا يحصل لبعضهم ضرر بأن لا يراه، بل الكلُّ يرونه. ولا يُضامون في رؤيته، فلا يحصل لهم ضيم فيها. ومع كثرة هذه الأحاديث وصحتها، ووضوح دلالتها بكلِّ هذه المؤكدات،

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 7436 "

فإنَّ أهل البدع يأبون ذلك، لا لشيء إلا لأنَّ قلوبهم المُمْرَضَةَ استوحشت من ذلك. حتى بلغت الوقاحة بأحد المبتدعة في عصرنا أن قال: أنا مستعد أن أناظر وأباهل على أنَّ الله لا يُرى يوم القيامة. فانظروا إلى هذا البلاء واحمدوا الله على العافية. وإلا فالأحاديث المثبتة للرؤية من أوضح ما يكون، والصحابة لما سمعوا هذه الأحاديث لم ينكروها ولا اعترضوا عليها، بل أخذوا يروونها للناس، ولا يزال أهل الحق يتناقلونها بينهم، ويسألون الله عز وجل أن يمنَّ عليهم برؤيته. " فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " في هذاجواب لسؤال يطرح نفسه ـ كما يقولون ـ، فإنَّ الصحابة لما سمعوا هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته " لاشك أنَّهم دار في نفوسهم شوق عظيم وحب كبير لنيل هذه الرؤية، وأخذوا يرجونها ويتمنونها، نفوس صافية، وقلوب مؤمنة ومقبلة على الله وجاءها هذا الخبر لابد أنهم تساءلوا ما العمل؟ كيف ننال هذه الرؤية؟ ما السبيل إلى تحصيلها؟ وما الأمور المعينة على نيلها؟ ومن تمام نصح النبي صلى الله عليه وسلم وكمال بيانه أنَّه يجيب عن مثل هذه التساؤلات دون أن يُسأل 1، فقال: " فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " وفي هذا إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى أنَّ رؤية الله عز وجل يوم القيامة لا تنال بمجرد الأماني: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} 2، بل لابد من عمل وجد واجتهاد وبذل وإقبال على الله

_ 1 نظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً " إذا سمعت هذا الكلام تبادر إلى ذهنك سؤال، ألا وهو ما المخرج؟ فيأتيك الجواب بدون سؤال: " فعليكم بسنتي ... ". 2 الآية 123 من سورة النساء.

تبارك وتعالى، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسباب التي ينال بها العبد رؤية الله عز وجل، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى صلاتين عظيمتين ـ وهما صلاة الفجر وصلاة العصر ـ وقد ورد في شأنهما نصوص كثيرة جداً تدل على فضلهما، منها: ما ثبت في الصحيحين 1 أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من صلى البردين دخل الجنة"، وثبت في الصحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ـ وهو أعلم بهم ـ: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون" 2. وإنَّما خص"هاتين الصلاتين لما فيهما من الفضل، ولما فيهما من الثقل على كثير من الناس، فمن سمت همته وأعانه الله عز وجل ووفقه للمحافظة على هاتين الصلاتين فهو لما سواهما من الصلوات أكثر محافظة، بل إن صلاة الفجر خاصة مفتاح اليوم، ومن أكرمه الله عز وجل بالنهوض لهذه الصلاة والاهتمام بها أعين على الصلوات بقية اليوم، وما يكون من العبد في الفجر ينسحب على بقية اليوم، كما قال بعض السلف:"يومك مثل جملك إذا أمسكت أوله تبعك آخره". ومن ضيع صلاة الفجر أصبح خبيث النفس كسلان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان" 3. ومن استمر في

_ 1 البخاري " رقم 574 "، ومسلم " رقم 1436 " 2 البخاري " رقم 555 "، ومسلم " رقم 1430 " 3 أخرجه البخاري " رقم 1142 "، ومسلم " رقم 1816 "

نومه وتمادى في كسله إلى أن يُفوِّت على نفسه صلاة الصبح فإنَّ الشيطان يبول في أذنه، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: ذُكِر رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم نام حتى أصبح فقال:"ذاك رجل بال الشيطان في أُذُنَيْه أو قال: في أُذنه"، فيصبح والعُقَد كلُّها كهيئتها، وإضافة إلى ذلك يبول الشيطان في أذنه، وحسب من كان كذلك خيبة وخسارة وشراً. وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال:"حسب الرجل من الخيبة والشر أن ينام حتى يصبح وقد بال الشيطان في أذنه" 1 نسأل الله العافية والسلامة. وعلى كلٍّ فمن حافظ على هاتين الصلاتين حافظ على بقية الصلوات، ومن حافظ على الصلوات حافظ على بقية الطاعات واجتنب المنهيات، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 2. وفي الحديث إشارة إلى الصلة بين الصلاة والرؤية، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يسأل ربه في الصلاة أن يكرمه بالرؤية كما في حديث عمار بن ياسر السابق ذكره. " فإن استطعتم " وهذا يفيد أنَّ التكليف بالاستطاعة، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 3، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" 4، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"5. واستطاعة الإنسان يعلمها من نفسه، فالصحابة رضوان الله عليهم لعلو مقام هذه الصلاة بينهم كان الرجل

_ 1 أخرجه محمد بن نصر في قيام الليل " ص103 "، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح " 3/29 ": " وهو موقوف صحيح الإسناد ". 2 الآية 45 من سورة العنكبوت. 3 الآية 286 من سورة البقرة. 4 أخرجه البخاري " رقم 1117 " 5 أخرجه البخاري " رقم 7288 "، ومسلم " رقم 6066 "

يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف 1، والمتهاون لأدنى تعب أو أقل انشغال يترك الصلاة ويتعلل بعدم الاستطاعة. " ألا تغلبوا " في هذا إشارة إلى أنَّ في الدنيا أموراً ستغالبكم على المحافظة على هاتين الصلاتين، فإن استطعتم ألا تهزموا أمام هذه الشواغل والصوارف فافعلوا، حتى تنالوا هذا الثواب العظيم وغيره مما أعده الله عز وجل لعباده المؤمنين. وما أكثر الصوارف في أيامنا هذه، فبعض الناس يغلبه على الصلاة التي هي زينة الحياة الدنيا شرب الشاي، وبعضهم يغلبه حديث تافه وسمر ماجن ولهو باطل ومشاهدات رديئة، ومن الناس من يغلبه النوم، ولهذا خصت صلاة الفجر بأن يقال في النداء إليها: " الصلاة خير من النوم " أي أنَّ الصلاة خير من هذا النوم الذي يغالبك وتتلذذ به. ومن عظيم عناية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة ما جاء في حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فعرس بليل: اضطجع على يمينه، وإذا عرس قبيل الصبح: نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفه"2، يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم حتى لا يستغرق في النوم ويغلب على الصلاة. وهناك أمر يقع أحياناً عند بعض طلبة العلم، تجدهم في الليل يسهرون في مسائل علمية ومناصحات وتداول أبحاث وتحقيق مسائل، ويطول بهم البحث إلى وقت متأخر من الليل، حتى تثقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة. فسهرهم

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 1486 " عن ابن مسعود ?. 2 أخرجه مسلم " رقم 1563 "

هذا ـ ولو كان على قراءة القرآن وذكر الله ـ فإنَّه محرم؛ لأنَّه على حساب إضاعة صلاة الفجر. فعلى طالب العلم أن يعتني بهذه الصلاة وأن يحافظ عليها وعلى جميع الصلوات المكتوبة، فقد ذُكِرَت عند النبي صلى الله عليه وسلم مرة فقال:"من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي ابن خلف"1 أي أنَّه يحشر مع صناديد الكفر وأعمدته. وفي الحديث فوائد مهمة، منها: أنَّ الصلاة أفضل العبادات، وأنَّ لها شأناً عظيماً في الدين، والنصوص في ذلك لا تعد ولا تحصى. ومنها: أنَّ الاعتقاد الصحيح السليم يؤثر على عمل العبد وسلوكه، فكلما ازداد إيمانه وقوي يقينه ازداد استقامة وجِداً وعملاً وبذلاً ومحافظة على طاعة الله. " ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} "" المراد بالتسبيح: صلاة الفجر وصلاة العصر. والصلاة تسمى صلاة، وتسمى ببعض أجزائها، فيقال لها: ركوع، وسجود، وتسبيح. يقال: سجد سجدتين أي: صلى ركعتين. " وفي رواية: سترون ربكم عياناً " وفي هذا مؤكد آخر لكون رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة تكون عياناً بالأبصار.

_ 1 أخرجه أحمد " 2/169 "، وعبد بن حميد " رقم 353 "، والدارمي " رقم 2721 "، وابن حبان " رقم 1467 "، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد " 1/292 ": " رجال أحمد ثقات ". وحسَّن إسناده الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ في مجموع فتاويه "10/278 "

" وروى صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا: يا أهل الجنة، إنَّ لكم عند الله موعداً لم تروه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويزحزحنا عن النار، ويدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ثم تلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} " رواه مسلم " " صهيب ": هو ابن سنان الرومي رضي الله عنه. " إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا " أي: عندما يدخل أهل الجنة الجنة ويرون نعيمها، ويحصل لهم الزحزحة عن النار، كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} 1 ينادون: " يا أهل الجنة، إنَّ لكم عند الله موعداً لم تروه " هذا الموعد هو رؤية الله، والوعد به جاء في القرآن في قوله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"إنكم سترون ربكم". " فيكشف الحجاب فينظرون إليه " أي: يكشف حجابه وهو النور، فينظرون إلى الله عز وجل حقيقة بأبصارهم. " قال: فو الله ما أعطاهم الله شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إليه " وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم على أنَّ رؤية المؤمنين ربهم هي أفضل نعيم في الجنة. ثم إنَّ المصنف ـ رحمه الله ـ لما ذكر دليلاً من القرآن ودليلين من السنة ذكر بعض الآثار عن السلف في إثبات الرؤية فقال: " وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: الناس ينظرون إلى الله تعالى

_ 1 الآية 185 من سورة آل عمران.

بأعينهم يوم القيامة " وهذا فيه أنَّ منهج السلف في الرؤية: إثباتها وإمرارها كما جاءت، والإيمان بها كما وردت، واعتقادهم أنها حق، وأنَّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة حقيقة بأبصارهم. " وقال أحمد بن حنبل: من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر " هذا حكم المنكر من حيث الإطلاق؛ لأنَّه أنكر أمراً تضافرت عليه الأدلة، وتكاثرت فيه النصوص، وأجمع عليه سلف الأمة. لكن إن أُتِي بمعيَّنٍ ينكر الرؤية ابتداءً لا يُكفَّرُ، بل تزال عنه الشبهة، خاصة وأن رؤوس أهل البدع شبَّهوا على الناس وكتبوا كتباً وأتوا بتلبيسات كثيرة.

صفة الكلام

[صفة الكلام] ثم شرع المصنف ـ رحمه الله ـ في بيان ما يتعلق بإثبات صفة الكلام لله جل وعلا، وأنَّه يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء. والكلام في هذه الصفة طويل جداً ومتشعب، وله جوانب كثيرة، وكلام أهل الباطل فيه كثير، وشبههم فيه متعددة، وكثير من كتب الاعتقاد سواء المؤلف منها على عقيدة أهل السنة والجماعة أو على طريقة المتكلمين يبسط فيها القول بسطاً واسعاً فيما يتعلق بهذه الصفة، حتى إنَّه قيل: إنَّ علم الكلام إنما سمي بهذا الاسم لكثرة الكلام في صفة الكلام، لكن هذا القول غير صحيح، بل سمي علم الكلام بهذا الاسم لأنَّ فيه خوضاً في الدين بغير طريقة المرسلين، بل بآراء محضة وعقول صرفة ومنطقيات وفلسفات. ولهذا فإنَّ من التعدي البين أن يسمى علم التوحيد علم الكلام؛ لأنَّ علم التوحيد مبني على الوحي: كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أما علم الكلام فمبني على آراء الرجال وتخرصاتهم وظنونهم. وأهل السنة يؤمنون بهذه الصفة إيمانهم بسائر صفاته جل وعلا، ويمرونها كما جاءت، ويثبتونها كما وردت، وما يلزم في كلام المخلوق من لوازم فإنَّه ليس بلازم في كلام الخالق؛ لأنَّ من عقيدة أهل السنة والجماعة في صفة الكلام ما يعتقدونه في جميع الصفات، ألا وهو أنَّ كلامه سبحانه ليس ككلام خلقه، بل كلامه يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه. والفرق بين كلامه سبحانه وبين كلام خلقه كالفرق بينه تعالى وبين خلقه، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي:"فضل كلام الله على كلام سائر خلقه، كفضل الله عز

وجل على خلقه"1، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح 2. وقد جاءت في نصوص الكتاب والسنة أوصاف لكلام الله تبين عظمته، فقد ثبت في بعض الأحاديث أنَّ كلامه يسمعه مَنْ بَعُدَ كما يسمعه مَنْ قَرُبَ، وهذا لا يكون إلا في كلامه. وكلام الله عز وجل الذي تكلم به سبحانه يضاف إليه، ويقال: إنه كلام الله وإن نقله غيره أداء؛ فإنَّ الكلام ينسب إلى من تكلم به ابتداء لا إلى من نقله أداء. أما قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} في موضعين من القرآن 3 فإضافة القول هنا إلى الرسول إضافة بلاغ لأنَّه ذكرهما بوصف الرسالة الدال على مهمة البلاغ. ففي موضع قصد بالرسول جبريل، وفي الآخر قصد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ولو كابر مكابر فقال: بل هو كلام الرسول تكلم به ابتداءً من عند نفسه قيل له: أيُّ الرسولين الذي تكلم به؛ لأن أحدهما جبريل والآخر محمد صلى الله عليه وسلم، أم أنَّ كلَّ واحد منهما تكلم به ابتداءً من قبل نفسه؟! وإذا نظرنا إلى الكلام من حيث هو فإنَّه صفة قائمة بالذات ملازمة لله جل وعلا في الأزل وفيما لم يزل، فهو صفة ذاتية بهذا الاعتبار. وإذا نظرنا إلى هذه الصفة العظيمة من حيث إنها متعلقة بالمشيئة، وأنَّ

_ 1 أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن " رقم 138 "، والفريابي في فضائل القرآن " رقم 14، 15 " والخطيب في الفصل للوصل المدرج " 1/255 ـ 256 "، واللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 556 "، والبيهقي في الاعتقاد " ص101 " 2 أخرجه الخطيب في الفصل للوصل " 1/254 ـ 255 " قال الخطيب: " المرفوع من الحديث: " خيركم من تعلم القرآن "، وأما ما بعده فهو كلام أبي عبد الرحمن السلمي ". وقال الدارقطني في العلل " 3/57 ": " وإنما هو من كلام أبي عبد الرحمن السلمي ". 3 الآية 40 من سورة الحاقة، والآية 19 من سورة التكوير.

الرب العظيم يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء، فإنها بهذا الاعتبار صفة فعلية. ولهذا فإن الصفات أقسام: 1ـ صفات ذاتية، مثل العلو والوجه ونحوها. 2ـ وصفات فعلية، مثل الاستواء. 3ـ وصفات ذاتية باعتبار وفعلية باعتبار آخر، ومن أمثلة ذلك صفة الكلام. لقد جاء في إثبات هذه الصفة أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن يتأمل مجموع هذه الأدلة يرى فيها دلالة على أمور عديدة تتعلق بالكلام، منها: ـ أنَّ الله يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء. ـ وأنَّ كلامه سبحانه وتعالى بحرف وصوت يسمع. ـ وأنَّ كلامه سبحانه أينما توجه فهو كلامه، سواء حُفِظ في الصدور، أو كُتِب في السطور، أو سُمِع بالآذان، أو تُلِي بالألسن. ـ كما يُعلم من خلال الأدلة أنَّ كلام الله نوعان: كلام كوني: كقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} 1. وكلام شرعي: وهو الكلام الذي في القرآن من أمر ونهي وإخبار، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2. ـ وأنَّ كلامه تبارك وتعالى يتفاضل، فبعضه أفضل من بعض. ـ وأنَّه يتعاقب، فمثلاً: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، الرحمن ثم الرحيم وهكذا. فمن الإيمان بكلام الله: الإيمان بكلِّ ما يتعلق بهذه الصفة مما ثبت في كتاب

_ 1 الآية 171 من سورة الصافات. 2 الآية 6 من سورة التوبة.

الله وصح في سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وسيأتي معنا ضمن النصوص التي أوردها المصنف ما يدل على جوانب عديدة تتعلق بهذا. " ومن مذهب أهل الحق أنَّ الله عز وجل لم يزل متكلماً بكلام مسموع، مفهوم، مكتوب. قال الله عز وجل {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} " " لم يزل متكلماً " أي: لم يزل موصوفاً بهذه الصفة، وأنَّه عز وجل يتكلم متى شاء في أيِّ وقت شاء بأيِّ كلام شاء. " بكلام مسموع " وهذا فيه رد على من يقول إنَّ كلام الله عز وجل كلام نفسي فقط، وهي البدعة التي أنشأتها الكلابية وأخذها عنهم الأشاعرة ومن شاكلهم. وسبب هذه البدعة محاولة غير موفقة في الرد على المعتزلة؛ لأنها بنيت على أسس غير صحيحة. فالمعتزلة ينكرون وصف الله عز وجل بالكلام، ويقولون: إنَّ كلام الله عز وجل مخلوق، وإضافته إلى الله إضافة خلق وإيجاد، وألزموا الكلابية بأنَّ الكلام يلزم منه كيت وكيت من لوازم المخلوق. ولما أراد الكلابية رد بدعتهم هذه، والتوفيق بين شبهتهم والأدلة التي تثبت وصف الله عز وجل بالكلام، جاءوا بهذا التفصيل فقالوا: إنَّ الكلام نوعان: كلام نفسي وهو معنى واحد لا يتجزأ ولا يتبعض، وهذا الذي يوصف به الرب عندهم. أما الكلام اللفظي الذي يكتب ويسمع ويتلى ويقرأ فهذا ليس كلام الله، وإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله. ولهذا فإنَّ أئمة السلف ـ رحمهم الله ـ في الرد على هذه البدعة يقولون: إنَّ الله يتكلم بكلام مسموع. فكلام الله عز وجل عندما يبلغ الخلق قد يبلغهم مباشرة وقد يبلغهم بواسطة، فجبريل سمع كلام الله من الله، وموسى عليه السلام سمع كلام

الله من الله، قال الله جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1 ولهذا يسمى كليم الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما عُرج به إلى السماء سمع كلام الله من الله بدون واسطة. ولما يكلم الرب سبحانه الخلائق يوم القيامة فإن كلامه ينفذ جميع الآذان، ويسمعه القريب والبعيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان"2 وهذا شاهد لقول المصنف: " بكلام مسموع ". وكلامه تبارك وتعالى بحرف، فـ: {الم} تتكون من ثلاثة أحرف: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، كما جاء في الحديث:"لا أقول " الم " حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"3. وعندما نقول: إنَّ كلام الله بحرف وصوت يسمع فإنَّه لا يلزم منه تشبيه الله عز وجل بالمخلوقين، بل هذا كلام يخصه ويليق به سبحانه. ودلائل هذا في الكتاب والسنة كثيرة جداً، بل دل العقل من وجوه كثيرة على وصف الله عز وجل بالكلام، وأنه يتكلم متى شاء كيف شاء. ومن بين هذه الوجوه: أنَّ عدم الكلام نقص وعيب، والله عز وجل وهب الخلق هذا الكلام، وواهب

_ 1 الآية 164 من سورة النساء. 2 علقه البخاري في صحيحه " 13/461 مع الفتح " ووصله في الأدب المفرد " رقم 970 "، وأحمد " 3/495 "، وابن أبي عاصم في السنة " رقم 514 " والحاكم في المستدرك " 2/475 وقال: صحيح الإسناد "، والضياء في المختارة " 9/26 " وصححه الألباني في ظلال الجنة. 3 أخرجه الترمذي " رقم 2910 "، والدارمي " رقم 3308 "، وسعيد بن منصور " رقم 4"، والحاكم " 1/ 741، 755 وقال: صحيح الإسناد " قال الترمذي: " رفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود. هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ".

الكمال أولى بالكمال ولله المثل الأعلى. ولهذا نعى تبارك وتعالى على أهل الجاهلية وذم المشركين في عبادتهم للأصنام بأنَّهم يعبدون ما لا يرجع إليهم قولاً أي: لا يتكلم، فقال سبحانه: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} 1، فمن لا يتكلم لا يصلح أن يُعبد. والمبتدعة يدَّعون في معبودهم الرب العظيم أنَّه لا يتكلم وأنَّ الكلام لا يليق به، وفي كلامهم إخلال بالرسالة والرسل؛ لأنَّ مهام المرسلين إبلاغ كلام مرسِلهم، فإذا قيل: إنَّ المرسِل لا يتكلم فما شأن المرسلَين وما مهمتهم؟! " مفهوم " أي أنَّ كلام الله عز وجل ألفاظ لها معان، وليست ألفاظاً مجهولة، بل له دلالة تفهم، كما دلت عليه الآيات الكثيرة التي فيها الحث على تدبر كلام الله، كقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 2، وقوله سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 3، وقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} 4. ولو لم يكن مفهوماً لما أمر الناس بتدبره، إذ الأمر بتدبره ـ على هذا ـ أمر بما لا يطاق. وفي هذا رد على المفوضة: مفوضة المعاني، الذين يدعون في نصوص الصفات أنَّها غير مفهومة المعنى، فكيف يقال عن أشرف ما في القرآن وهو وصف الرب جل وعلا أنه غير مفهوم المعنى. " مكتوب " أي:كلام يُكتب، وجاء في الحديث الذي سبق:"لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فكتبه على نفسه، فهو موضوع عنده على العرش: إنَّ رحمتي تغلب غضبي"فكلامه تبارك وتعالى يكتب، منه ما كتبه هو سبحانه بيده كالتوراة، ومنه ما سمعه منه جبريل وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذه منه

_ 1 الآية 89 من سورة طه. 2 الآية 24 من سورة محمد. 3 الآية 82 من سورة النساء. 4 الآية 29 من سورة ص.

المؤمنون يكتبونه في الصحف والأوراق، ويحفظونه في الصدور، ويتلونه بألسنتهم. وقرءاتهم له وكتابتهم وتلاوتهم لا تخرجه عن كونه كلام الله؛ لأنَّ الكلام ينسب إلى من قاله ابتداءً. ثم شرع المصنف ـ رحمه الله ـ في ذكر الأدلة على هذا المعتقد، فقال: " قال الله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} " الآية صريحة في معناها، واضحة في دلالتها على ثبوت وصف الله عز وجل بالكلام، وأنَّه كلَّم موسى كلاماً سمعه موسى من الله، وأكَّد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: " تكليماً ". ومع هذا التأكيد يأبى أهل البدع إثبات صفة الكلام لله تبارك وتعالى، فأتوا إلى هذه الآيات، فبذلوا جهدهم في صرفها وتكلفوا في ردها، وذهبوا إلى وحشي اللغات ومستكره التأويلات، وحاولوا شتى المحاولات حتى يبعدوا كلام الله عن دلالته الظاهرة. فقال بعضهم: الكلْم في اللغة الجرح ومعنى الآية: أي: كلَمه بأظافير الحكمة!! ولا شك أنَّ الفرق بين كلَّم وكلَم ظاهر، لكنهم يحاولون رد النص بأيِّ طريقة. وحاول بعضهم تغيير حركة الإعراب في الآية فقرأها: وكلم اللهَ موسى بنصب اسم الجلالة حتى يكون المتكلم هو موسى وليس الله سبحانه، حتى إنَّ أحدهم ذهب إلى أبي عمرو بن العلاء ـ وهو أحد القراء السبعة ـ، وطلب منه قراءة هذه الآية محرفة بنصب اسم الجلالة. فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 1 فبهت المعتزلي 2.

_ 1 الآية 143 من سورة الأعراف. 2 انظر: الصواعق المرسلة " 3/1037 "، وشرح الطحاوية " ص170 "

" وروى عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، ثم ينظر أيمن منه فلا ينظر إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل"" " ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان " أي: كلاماً من الله، يسمعه المكلَّم مباشرة بدون واسطة. والمراد: الكلام الواقع في عرصات يوم القيامة لتقرير الإنسان ومحاسبته على أعماله في الحياة الدنيا. " ثم ينظر " أي: الإنسان. " أيمن منه فلا ينظر إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئاً قدمه " أي: لا يجد إلا أعماله التي قدمها في الحياة الدنيا، ولعل الذي على اليمين أعماله الصالحة، والذي على اليسار أعماله غير الصالحة. وفي الحديث فائدة، وهي أنَّ كلَّ عمل يقوم به الإنسان في هذه الحياة هو شيء يقدمه للآخرة، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} 1، وقد يكون الإنسان نسي بعضها ولكن: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} 2. وإذا نظرنا في أحوالنا فيما نقدم نجد أننا فرطنا كثيراً وضيعنا كثيراً نسأل الله العافية والتوفيق للخير وحسن الختام. " ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار " وفي هذا أنَّ النار أمام الناس كلِّهم، ولا سبيل إلى الجنة إلا بالمرور من فوقها، وعلى النار صراط أحدُّ من السيف وأدق من الشعرة، وكلاليب تخطف الناس بأعمالهم كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} 3. ثم يتفاوت الناس في مرورهم على الصراط بحسب أعمالهم التي قدموها في هذه الحياة، فمنهم من

_ 1 الآية 110 من سورة البقرة. 2 الآية 6 من سورة المجادلة. 3 الآية 71 من سورة مريم.

يمر كالبرق، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم كركاب الإبل، ومنهم من يجري جرياً، ومنهم من يمشي مشياً. وإيمان العبد بأنَّه سيكلمه ربه ليس بينه وبينه واسطة، وأنَّه سينظر عن يمينه وعن شماله فلا يجد إلا ما قدم، هذه عقيدة ينبني عليها جد وعمل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل " وهذا ربط للعمل بالاعتقاد، وكما أنَّ ذلك في النصوص فإنه ينبغي أن يكون كذلك في العمل، فكلُّ عقيدة تؤمن بها ينبغي أن تورث فيك عملاً وعبادة وطاعة وإقبالاً، فلا تتهاون في العمل الذي تتقرب به إلى الله تعالى ولو كان قليلاً، فيسير العمل ينفع، وموازين الأعمال يوم القيامة موازين الذر، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 1. ولأهل العلم كلمات لطيفة في توضيح الذرة ما هي، فقال بعضهم: إذا ضربت يدك في الأرض تساقطت الأحجار الصلبة من يدك ويبقى فيها رذاذ هذا هو الذر. وقال بعضهم: هي التي تراها مع شعاع الشمس عندما تدخل مع النافذة. ويُذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت مرة بعنبة واحدة، فقالت لها امرأة: يا أم المؤمنين عنبة؟! قالت: أو تعلمين كم فيها من ذرة. وهذا لا أدري عن ثبوته عنها لكن معناه جميل للغاية، والدليل على جمال معناه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار ولو بشق تمرة ". وقوله صلى الله عليه وسلم:"بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق، فأخرَّه، فشكر الله له فغفر الله له" 2. فإماطة الأذى عن الطريق والتصدق بشق تمرة ناشئ عن شيء في القلب

_ 1 الآيتان 7، 8 من سورة الزلزلة. 2 أخرجه البخاري " رقم 2472 "، ومسلم " رقم 4917 " واللفظ له.

يأجر الله عليه، وهو محبة الخير للناس ورحمتهم والسعي في مساعدتهم، ولو لم يكن في يده شيء يقدم الدعاء. وبعد أن عرفنا هذه الإيمانيات المكتسبة من هذا الحديث والآثار المباركة التي حصَّلها المؤمنون بإيمانهم بذلك والتي لا نحسن ـ لقصورنا ـ التعبير عنها، لننظر في حال أهل البدع في هذا المقام، فإنَّ صاحب البدعة عندما يأتي إلى هذه النصوص ينشغل ببدعته الباطلة وضلالته السوأى على طريقته في إنكار كلام الله سبحانه عن ثمرة الحديث وآثارِه المباركة. فأي بلاء جروا على أنفسهم بهذا الإنكار، وأي شؤم قادتهم إليه عقيدتهم؟! أعاقتهم عن سديد الأقوال وصالح الأعمال، وعن طاعة ذي الجلال والإكرام. ولهذا من تتبع تراجم رؤوس البدع يجد أنَّ كثيراً منهم من أسوأ الناس عملاً وأضعفهم عبادة. قال الشيخ محمد بن مانع ـ رحمه الله ـ:"كنت أقرأ في كتب المقالات واختلاف الناس في المعتقدات، فأقف على غلو المعتزلة في عقائدهم، فأرجع إلى كتب التراجم وأبحث عن تراجم أكابر شيوخهم، فأجد فيها الأمر المنكر العجيب من التلاعب في الدين وانتهاك حرماته، فصح عندي أنَّ ذلك من شؤم عقائدهم وفساد نحلتهم. ومن قرأ ترجمة النظام وأبي الهذيل العلاف والماجن الجاحظ عرف ذلك نسأل الله السلامة"1. " وروى جابر بن عبد الله قال: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى. قال: وما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحاً، قال: يا عبد الله تمن عليَّ أعطيك، قال: يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنَّه سبق مني

_ 1 تعليقاته على العقيدة الطحاوية " ص16 "

أنَّهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي. فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} " رواه ابن ماجه " " لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى " قُتِل والد جابر رضي الله عنه شهيداً في معركة أحد فلحقه بعض الحزن، فسلاَّه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بهذا الأمر العظيم الذي خُص به والده، وهو أمر غيبي أطلعه الله عليه. وللمسلم أن يسلي أهلَ المصاب بالأمور التي يعلمها عن الميت من خصاله الكريمة وشمائله الحميدة التي يؤمل أن ينال بها خيراً عظيماً ليسلوا بها أهله. " وما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب " المراد بأحد عموم الناس، وإلا فقد كلم الله عز وجل بعض أنبيائه، وسمعوا كلامه منه جل وعلا، كما سمعه نبينا محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم. " وكلم أباك كفاحاً " أي: مواجهة، ومعنى ذلك أنَّ عبد الله بن حرام سمع كلام الله من الله، وهذا يفيد أنَّ الله يتكلم حقيقة بصوت يسمع. " قال: يا عبد الله تمن عليَّ أعطيك " أي ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الكلام الذي قاله الله لأبيه: " يا عبد الله تمن عليَّ أعطيك " أي: اطلب شيئاً تتمناه. " قال: يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية " هذا الطلب من عبد الله رضي الله عنه يدل على عظم مكانة من يقتل في سبيل الله؛ لأنَّه إنما تمنى العودة إلى الحياة الدنيا ليقتل ثانية لما رآه من المكانة الرفيعة لمن يقتل في سبيل الله. " قال: إنَّه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون " أي: قال الله تعالى له: إنَّ من مات لا يرجع إلى الحياة الدنيا. فلما لم يعطه الله عز وجل ذلك.

" قال: فأبلغ من ورائي " لما رأى هذه المكانة الرفيعة والدرجة السامية أحبها للناس، فطلب من الله عز وجل أن يخبرهم بهذا المقام الكريم الذي حصَّله، فلله ما أعظم مكانتهم في النصح أمواتاً وأحياءً رضوان الله عليهم. " فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} " فأنزل الله في ذلك وحياً يتلى إلى يوم القيامة يبين المقام الرفيع الذي خُص به من استشهد في سبيله. الشاهد من الحديث: ثبوت الكلام لله عز وجل، وأنَّه سبحانه يتكلم بما شاء متى شاء، وأنَّه كلَّم عبد الله بن حرام رضي الله عنه كفاحاً كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

القرآن كلام الله

[القرآن كلام الله] " والقرآن كلام الله عز وجل ووحيه وتنزيله، والمسموع من القاري كلام الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ، وإنما سمعه من التالي. وقال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} . وهو محفوظ في الصدور، كما قال عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} " ثم بدأ المصنف رحمه الله في الكلام على القرآن على وجه الخصوص، وأنَّه كلام الله عز وجل ووحيه وتنزيله، تكلم به الرب العظيم حقيقة، وسمعه منه جبريل، ونزل به جبريل إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم بلغه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، ثم سمعه الناس بعضهم من بعض، فاتصل إسنادهم في سماعه إلى الصحابة إلى النبي الكريم إلى جبريل إلى الله، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1، وقال سبحانه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2، و" مِنْ " في هذه الآية للابتداء أي: هو سبحانه الذي تكلم به: تكلم بسورة الفاتحة والبقرة وآل عمران وجميع سور القرآن، هو الذي تكلم به، ومنه بدأ وأما من تأثروا ببدع المتكلمين وأهل الباطل ممن يعطون إجازات في القرآن فيوقفون الإسناد إلى اللوح المحفوظ، حتى يسلموا من إضافة الكلام إلى الله

_ 1 الآيات 192 ـ 195 من سورة الشعراء. 2 الآية 2 من سورة السجدة.

عز وجل، فالقرآن عندهم إنما هو عبارة عن كلام الله، يقول بعضهم: خلقه الله في اللوح المحفوظ، وأخذه جبريل من اللوح المحفوظ مباشرة. " والقرآن كلام الله عز وجل " المضافات إلى الله تعالى على نوعين: 1ـ أوصاف لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بموصوف، مثل سمع الله وبصر الله وعلم الله وكلام الله ومشيئة الله، فإضافتها إلى الله إضافة وصف. 2ـ أعيان قائمة بنفسها، مثل بيت الله وعبد الله وأمة الله وناقة الله، فإضافتها إلى الله إضافة خلق. ولأهل البدع تلبيس في هذا الموضع فيقول بعضهم: يصح أن يضاف الكلام إلى الله، لكن إضافته إليه إضافة خلق، فيقولون في نحو قول الله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 1 القول من الله خلقاً وإيجاداً، فيجعلونه كقول الله تبارك وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 2. وهذا تلبيس منهم؛ لأنهم جعلوا الأوصاف المضافة إلى الله كالأعيان المضافة إليه وليس الباب واحداً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:"كلُّ ما يضاف إلى الله إن كان عيناً قائمة بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله"3. فقول المصنف هنا: " القرآن كلام الله " الإضافة إضافة وصف. " ووحيه وتنزيله " أي: أنزله على النبي صلى الله عليه وسلم وحياً، وفي إيماننا بأنَّ القرآن نزل من الله دلالة على علوه سبحانه؛ لأنَّ النزول إنما يكون من علو، ولهذا تذكر هذه الآيات التي فيها نزول القرآن من الله ضمن أدلة العلو. " والمسموع من القاري كلام الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} " فالمشرك الذي أجير حتى يسمع كلام الله إنما سمعه من

_ 1 الآية 13 من سورة السجدة. 2 الآية 13 من سورة الجاثية. 3 مجموع الفتاوى " 9/290 "

التالي، ومع ذلك لم يخرج عن كونه كلام الله. فالآية شاهد واضح على أنَّ كلام الله أينما توجه يبقى كلامه سبحانه وتعالى. قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان:"أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً، فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته"1. أي: سواء تلي بالألسن، أو حفظ في الصدور، أو كتب في السطور، أو سمع بالآذان؛ لأنَّ الكلام ينسب لمن قاله ابتداء لا لمن نقله أداء. ولهذا يقول السلف في مثل هذا المقام: الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري. ولهذا قال المصنف مؤكداً على هذا المعنى: " وإنما سمعه من التالي " أي مع سماعه من التالي لا يخرج عن كونه كلام الله. " وقال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} " فكلام الله الذي يريدون تبديله كلام مكتوب، فحال كتابته سمي كلام الله. " وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} " ففي الآية دلالة على أنَّه كلام منزل، تكلم الله به فوق عرشه في علوه، وسمعه منه جبريل ونزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. " وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} " وإنَّه أي: القرآن، والروح الأمين: هو جبريل، وإنما سمي بالروح لأنَّه ينزل بالوحي الذي به حياة القلوب. ولهذا فإنَّ الوحي كذلك يسمى روحاً، كما قال تعالى: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} 2، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} 3.

_ 1 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد " 1/76 " 2 الآية 2 من سورة النحل. 3 الآية 52 من سورة الشورى.

فجبريل الروح الأمين نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم وسمعه منه، ومحمد صلى الله عليه وسلم بلَّغه للأمة. " وهو محفوظ في الصدور، كما قال عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} " أي: وهو في هذه الحالة ـ حال حفظه في الصدور ـ أيضاً هو كلام الله. " وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"استذكروا القرآن فلهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقله"" وفي هذا أيضاً تأكيد للمعنى السابق، وهو أن القرآن أينما توجه فهو كلام الله. " استذكروا القرآن " أي: تعاهدوه وراجعوه. " تفصياً " أي: تفلتاً. " من عقله " العقل جمع عقال، وأهل الإبل يستعملون العقل لوضعها في ركب البعير إذا بُرِّك وأريد أن يبقى في مكانه، فإذا أراد أن يقوم منعه العقال من ذلك. لكن في كلِّ مرة يحاول البعير أن يقوم ينسحب العقال إلى الأمام شيئاً فشيئاً حتى يسقط فيقوم البعير. فعلى صاحب الإبل أن يتعاهد هذه العقل فما أوشك على السقوط منها أدخله مرة أخرى. فانظر إلى جمال هذا المثال الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لتعاهد القرآن، ولما خاطب الصحابة خاطبهم بشيء يعقلونه، فهم يعرفون حاجة راعي الإبل إلى مثل هذا التعاهد. وفي هذا الحديث أهمية ضرب الأمثال في التعليم، فكثيراً ما تضرب الأمثال في القرآن والسنة، وفي القرآن كما يقول ابن القيم أكثر من أربعين مثلاً 1،

_ 1 انظر: مقدمة النونية.

ولبعض المتقدمين كتب خاصة في أحاديث الأمثال، منها: كتاب الأمثال للرامهرمزي. فالشاهد من الحديث: أنَّ القرآن حال حفظه في الصدور يبقى كلام الله. " وهو مكتوب في المصاحف منظور بالأعين " المؤلف ـ رحمه الله ـ يؤكد على المعنى الذي أشرت إليه، ألا وهو أنَّ القرآن أينما توجه فهو كلام الله. فمر معنا: إن تلي بالألسن فهو كلام الله، وإن سمع بالآذان فهو كلام الله، وإن كتب فهو كلام الله، وإن حفظ في الصدور فهو أيضاً كلام الله. وهنا يبين أنه إن رئي بالأعين أو كتب في المصاحف والأوراق فهو كلام الله. كما جاء عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أنَّه قال:"يتوجه العبد لله تعالى بالقرآن بخمسة أوجه، وهو فيها غير مخلوق: حفظ بقلب، وتلاوة بلسان، وسمع بآذان، ونظر ببصر، وخط بيد. فالقلب مخلوق والمحفوظ غير مخلوق، والتلاوة مخلوقة والمتلو غير مخلوق، والسمع مخلوق والمسموع غير مخلوق، والنظر مخلوق والمنظور إليه غير مخلوق، والكتابة مخلوقة والمكتوب غير مخلوق"1. ثم أورد المصنف ـ رحمه الله ـ بعض الأدلة على أنَّ القرآن وإن كُتب في المصاحف أو نُظر إليه بالأعين فهو كلام الله، فقال: " قال الله عز وجل: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} أي: وهو في هذه الحالة ـ مكتوباً في كتاب ـ أيضاً لا يخرج عن كونه كلام الله عز وجل.

_ 1 معارج القبول " 1/290 "

" وقال عز وجل: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} " وأيضاً كونه كتب في الكتاب المكنون لا يخرجه عن كونه كلام الله. " وروى عبد الله بن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو " وفي هذا تعظيم كلام الله وإبعاده عن أن يمتهن أو أن يسيء إليه أحد، ولهذا نهي عن أن يسافر به إلى أرض العدو. " وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه:"ما أحب أن يأتي علي يوم وليلة حتى أنظر في كلام الله عز وجل"يعني القراءة في المصحف " وفي هذا عناية السلف ـ رحمهم الله ـ بالقرآن، واهتمامهم بقراءته، وحرصهم على ألا يمر عليهم يوم إلا وقد شغلوه بتلاوة كلام الله سبحانه. وفيه أنَّ النظر إلى المصحف بالأعين لا يخرجه عن كونه كلام الله، نظرنا إليه بالأعين أو تلوناه أو كتبناه أو حفظناه، فأينما توجه فهو كلام الله تعالى. وفيه أهمية قراءة القرآن من المصحف حتى للحافظ؛ لأنه يقرأ ويتدبر وينظر إلى كلام الله جل وعلا، فيجمع في تلاوته بين القراءة باللسان والنظر إلى كلام الله جل وعلا بالعين. " وقال عبد الله بن أبي مليكة: كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يأخذ المصحف فيضعه على وجهه، فيقول: كتاب ربي عز وجل وكلام ربي عز وجل " الشاهد في هذا قول عكرمة رضي الله عنه عن هذا المكتوب: كتاب ربي، وكلام ربي. وهذا فيه أنَّ القرآن وإن كتب فهو كلام الله. فإذا آمن العبد بأنَّ هذا القرآن الموجود في المصاحف المتلو بالألسن هو كلام

الرب العظيم، وأنَّه هو سبحانه الذي تكلم به، لا شك أنَّه سيزداد"رعاية للقرآن واهتماماً به ومعرفة لحرمته ومكانته، والمصنف ـ رحمه الله ـ لما أورد حديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو قصد هذا المعنى، فلكلام الله الذي تكلم به حرمة خاصة، فلا يُذهب به إلى أرض العدو كي لا يمتهن. وعلى العكس من ذلك، إذا اعتقد الشخص أنه ليس كلام الله وإنما هو مخلوق من مخلوقات الله شأنه كشأن بقية المخلوقات، فلا ريب أنَّ هذا الاعتقاد سيوجد في قلب صاحبه إضعافاً لمكانة القرآن ولابد، ولهذا يؤثر عن بعض أئمة هذه البدعة كالجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأضرابهم الشيء الكثير من الامتهان للمصحف والاستخفاف به ورميه 1. " وأجمع أئمة السلف والمقتدى بهم من الخلف على أنَّه غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر " مضت كلمة الصحابة رضوان الله عليهم على الإيمان بأنَّ القرآن كلام الله، وأنَّه سبحانه هو الذي تكلم به. وليس عند أحد منهم إلا هذه العقيدة. فكان يكفي في الاعتقاد أن يقول القائل: القرآن كلام الله. ثم ظهرت بدعة الجهمية، وجحد الجعد بن درهم أن يكون الله كلَّم موسى تكليماً، أو أن يكون اتخذ إبراهيم خليلاً، ونشر بدعته هذه بين الناس. ثم نشأت المعتزلة فلبَّسوا على الناس وقالوا: يصح أن يضاف الكلام إلى الله، لكن إضافته إضافة خلق، فيقال كلام الله مثل ما يقال ناقة الله أو بيت الله أو عبد الله. فأصبح ـ مع وجود هذه البدع ـ لا يكفي في المعتقد أن يقول القائل: أنا أؤمن بأنَّ القرآن كلام الله. بل لا بد من التنصيص على كلمة: " غير

_ 1 انظر: خلق أفعال العباد للبخاري " رقم 70 "، والسنة لعبد الله بن أحمد " رقم 190 "، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام " 8/425 "

مخلوق " لتحرير المعتقد الحق وتمييزه عن بدعة المعتزلة ومن ماثلهم. ولهذا أجمع أئمة السلف ـ كما حكاه الحافظ عبد الغني هنا، وحكاه غيره كذلك ـ على أنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق،"ومن قال مخلوق فهو كافر. ومن أكثر من توسع في نقل كلام السلف في هذا الباب اللالكائي في شرح الاعتقاد، حيث ذكر خمسمائة نفس من أئمة السلف يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق، ثم قال:"فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين على اختلاف الأمصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل أقوال المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفاً كثيرة، لكنني اختصرت وحذفت الأسانيد للاختصار ونقلت عن هؤلاء عصراً بعد عصر، لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه"1. وإليه يشير ابن القيم في النونية بقوله: ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنهم ... بل حكاه قبله الطبراني فاللالكائي لم يستقص، ومع ذلك جاء بهذا العدد الكبير، وهذا يفيدنا أن كلمة غير مخلوق باتت جزءً من المعتقد لابد منها لقطع الطريق على شبهة أولئك أو بدعتهم. " وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القرآن: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود "

_ 1 شرح الاعتقاد " 2/ 312 "

هذا الأثر عن علي رضي الله عنه، وكذلك عدة آثار عن الصحابة ـ روى جملة منها اللالكائي في شرح الاعتقاد ـ فيها التنصيص على أن القرآن غير مخلوق، لكن لم يثبت منها شيء، ولم يكن في زمانهم حاجة إلى التنصيص على هذه الكلمة، لكن لما ظهرت بدعة الجهمية ونشأت مقالتهم احتاج الناس إلى هذه الكلمة، وباتت جزءً من المعتقد كما أسلفت. ولهذه الكلمة نظائر في باب المعتقد، فمنها كلمة: " بائن من خلقه " فقد أصبحت جزءً من المعتقد، والسبب في ذلك أنه وُجِد من يقول أنا مؤمن بأنَّ الله مستو على عرشه ولكن الاستواء هو الاستيلاء، فاحتاج السلف ـ رحمهم الله ـ إلى هذه الكلمة لرد بدعة هؤلاء، فمن لم يؤمن بأن الله بائن من خلقه لم يؤمن بأنَّ الله على عرشه، ومعنى بائن من خلقه: أي ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته. " وقال عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود " وهذه الكلمة تنقل عن السلف ـ رحمهم الله ـ بكثرة، بل إنها محل إجماع بينهم، ودلائلها في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة. " منه بدأ " أي أنه هو سبحانه الذي تكلم به ابتداءً، ومن سواه ـ كجبريل والرسول صلى الله عليه وسلم وحملة القرآن من الأمة ـ إنما هم نقلة له، وسمعه منه جبريل عليه السلام وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة. والسلف ـ رحمهم الله ـ لما قالوا: " منه بدأ " أرادوا إبطال قول المعتزلة وغيرهم ممن ينكرون أنَّ القرآن كلام الله عز وجل، ويزعمون أنَّ الله عز وجل خلق الكلام في اللوح المحفوظ أو خلقه في جسم من الأجسام، وأخذه جبريل منه. وهذا معناه أنَّ القرآن بدأ من اللوح أو من ذلك الجسم، وهو ضلال

وباطل، ردَّه السلف بقولهم: " منه بدأ " أي: من الله. " وإليه يعود " أي: القرآن يعود إلى الله، وقد ذكر أهل العلم في المراد بهذا معنيين: أحدهما: ما دلت عليه بعض النصوص من أنَّ القرآن في آخر الزمان يرفع من المصاحف ومن الصدور، عندما يضيعه الناس ولا يهتمون به ولا يعطونه حقه وقدره، فيرفع إلى الله عز وجل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله":"وأما " إليه يعود " فإنه يُسْرى به في آخر الزمان من المصاحف والصدور، فلا يبقى منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف"1. والثاني: أن المراد بـ " إليه يعود " أي: وصفاً، فـ " منه بدأ " يعني هو الذي تكلم به ابتداءً، و" إليه يعود " أي: وصفاً فهو الموصوف به، وهو كلامه. " ورُوي عن سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون:"القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود". رواه محمد بن جرير بن يزيد الفقيه وهبة الله بن الحسن ابن منصور الحافظ الطبريان في كتاب السنة لهما. وقد أدرك عمرو بن دينار أبا هريرة وابن عباس وابن عمر " " أدركت مشايخنا " عمرو بن دينار أدرك بعض الصحابة وكبار التابعين، فلما يقول أدركت مشايخنا، فهذا بمثابة حكاية إجماع ذلك العصر، أي: إن من أدركهم ورآهم يقولون هذه المقالة، ولهذا علق إسحاق بن راهويه عقب هذا الأثر بقوله:"قد أدرك عمرو بن دينار أجلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البدريين والمهاجرين والأنصار، مثل: جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وأجلة التابعين

_ 1 مجموع الفتاوى " 3/ 174 ـ 175 "

وعلى هذا مضى صدر هذه الأمة"1. ويكفينا في هذا أنَّ هذه الكلمة مشهورة ومتداولة تداولاً واسعاً بين السلف، يتناقلونها ويقررونها في مجالسهم وكتبهم، شائعة ذائعة عنهم. " منذ سبعين سنة " هذا يفيد الامتداد الزمني للسماع، ففي هذه المدة الطويلة الكل ماضون على هذه الكلمة، وهذا يؤكد أنها كلمة مضى عليها السلف. " رواه محمد بن جرير بن يزيد الفقيه " هذا الطبري إمام المفسرين صاحب جامع البيان في تأويل القرآن. " وهبة الله بن الحسن بن منصور الحافظ " المشهور في زماننا باللالكائي، صاحب كتاب " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ". " في كتاب السنة لهما " السنة لابن جرير مطبوع باسم " صريح السنة " وفيه هذا الأثر، ويقال عنه: السنة. والسنة لللالكائي مطبوع واسمه " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين من بعدهم " وعادة أهل العلم في الكتب التي تكون عناوينها طويلة أنهم يختصرونها بما يدل على مضمونها. " وقد أدرك عمرو بن دينار أبا هريرة وابن عباس وابن عمر " أي أن عمرو بن دينار تابعي جليل أدرك جمعاً من الصحابة، وهذا فيه تنويه بقوله: " أدركت مشايخنا " وأنَّ فيهم جمعاً من الصحابة. " واحتج أحمد على ذلك بأنَّ الله كلَّم موسى، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى. وبقوله عز وجل: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} "

_ 1 رواه البيهقي في السنن الكبرى " 10/205 "، وفي الأسماء والصفات " 1/598 "

" واحتج أحمد " أي: إمام أهل السنة الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ، وله في هذه المسألة بلاء حسن، وجهد مبارك في تقرير الحق وإبطال الباطل، وامتحن في ذلك وابتلي ابتلاء عظيماً، والله عز وجل أيد به الحق ونصره. " على ذلك " أي: على ما قرره أهل العلم من أنَّ كلام الله غير مخلوق، وأنه منه بدأ. احتج على هذا بأدلة، منها: " بأنَّ الله كلم موسى، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى " يشير ـ رحمه الله ـ إلى قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وأنها تدل على أنَّ الله موصوف بالكلام، وأنَّ موسى سمع كلام الله من الله. والجهمية الضُّلاَّل يقولون: إنَّ موسى سمع الكلام من الشجرة، وأنَّ الله خلق الكلام في الشجرة. إذاً ما معنى موسى كليم الله، بل أصبح ـ بزعمهم ـ كليم الشجرة!! ، وأي منقبة خُصَّ بها إذا كان إنما سمع الكلام من الشجرة؟! وهل يمكن أن تقول الشجرة لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 1، هل يمكن أن يصدر هذا الكلام من غير الله؟! ولهذا قال السلف: من قال: إن قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} قالته الشجرة أو جبريل فهو كافر. " وبقوله عز وجل: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} " مني أي: منه بدأ، تكلم به هو سبحانه وتعالى. والقول وصف لا يقوم بنفسه، بل لا يقوم إلا بموصوف. وما يقال فيه: " من الله " هو على نوعين: 1ـ أعيان قائمة بنفسها، مثل قوله تعالى: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 2، فما في السماوات وما في الأرض أعيان

_ 1 الآية 14 من سورة طه. 2 الآية 13 من سورة الجاثية.

قائمة بنفسها، فهي من الله خلقاً. 2ـ أوصاف لا تقوم بنفسها، كقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} ، القول ليس عيناً قائمة بنفسها، وإنما هو وصف لا يقوم إلا بموصوف، فهو منه تبارك وتعالى وصفاً. وبهذا يظهر وجه استشهاد السلف بهذه الآية على أنَّ القول من الله عز وجل وصف له، وأنه منه بدأ. وقد ضل في هذا الباب طائفتان: 1 ـ طائفة تجعل الجميع من الله وصفاً، وهم ضلال المتصوفة وغلاتهم، فكل ما في الكون من الله أي: جزء منه سبحانه، فالكون كلُّه هو الله، وما ثم إلا هو. وهذا قول من يقول بوحدة الوجود. 2ـ وطائفة أخرى تجعل الجميع من الله خلقاً، وهم المعنزلة ومن لف لفهم. " وروى الترمذي من رواية خباب بن الأرت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنكم لن تتقربوا إلى الله بأفضل مما خرج منه"يعني القرآن " هذا الحديث ليس موجوداً عند الترمذي، بل هو موجود عند البخاري في خلق أفعال العباد 1 والآجري في الشريعة 2 وغيرهما عن خباب بن الأرت موقوفاً عليه، وجاء في سنن الترمذي 3 من رواية أبي أمامة وجبير ابن مطعم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. " مما خرج منه " هذا شاهد لمقالة السلف ـ رحمهم الله ـ: " منه بدأ "، فهو سبحانه الذي تكلم به ابتداءً وليس غيره جل وعلا.

_ 1 " ص13 " 2 " ص77 " 3 " رقم 2911، 2912 " وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي " رقم 3090، 3091 "

ثم بنى ـ رحمه الله ـ على ما سبق قوله: " ونعتقد أنَّ الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة عينُ كلام الله عز وجل، لا حكاية ولا عبارة " قول المصنف ـ رحمه الله ـ: إنَّ الحروف المكتوبة عين كلام الله كلام واضح، فالقرآن الذي هو كلام الله مكون من سور، والسور مكونة من كلمات، وهذه الكلمات مكونة من أحرف. وعندما يقال: القرآن كلام الله أي بحروفه وكلماته وسوره وآياته، فالحروف المكتوبة في القرآن هي عين كلام الله، وأمَّا الحبر والمداد الذي كتبت به فإنَّه مخلوق، وقد دلت السنة وآثار السلف ـ رحمهم الله ـ على أنَّ القرآن مكون من أحرف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"1. وهذا الذي لأجله أتى المصنف ـ رحمه الله ـ بالحروف المقطعة ـ كما تسمى بذلك عند عامة المفسرين ـ ليبين أنَّ الحروف المكتوبة في المصحف هي عين كلام الله عز وجل؛ لأنه هو الذي تكلم بها لا غيره، ولا تخرج بكتابتها بالحبر والمداد عن كونها من كلام الله، فالقرآن أينما توجَّه فهو كلام الله، سواء كُتب في السطور، أو حُفظ في الصدور، أو تُلي بالألسن، وقد مضت الأدلة على ذلك. أما قوله: " والأصوات المسموعة عين كلام الله عز وجل " فهذا محل نظر؛ لأنَّه إن أريد بالأصوات صوت القارئ فهو مخلوق باتفاق السلف، ولهذا يقولون: الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري فالمقرؤ المتلو كلام الله غير مخلوق، لكن الصوت وحركة لسان العبد

_ 1 سبق تخريجه.

ومخارج صوته كلها مخلوقة، وأفعال العباد مخلوقة. وهذا يقال أيضاً في الرق والحبر والمداد فهذه كلها مخلوقة، لكن المكتوب فيها وبها غير مخلوق. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"زينوا القرآن بأصواتكم"1 فنسب صلى الله عليه وسلم الصوت للقارئ، أما المسموع"فكلام الله. فإن قيل الأصوات المسموعة ـ بهذا الاعتبار ـ عين كلام الله يكون في هذا الكلام نظر. لكن لو قال: " والكلمات المسموعة عين كلام الله " لم يبق إشكال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"فإنَّ أصوات العباد محدثة بلا شك، وإن كان بعض من نصر السنة ينفي الخلق عن الصوت المسموع من العبد بالقرآن، وهو مقدار ما يكون من القرآن المبلغ. فإنَّ جمهور أهل السنة أنكروا ذلك وعابوه ... وأما التلاوة في نفسها التي هي حروف القرآن وألفاظه فهي غير مخلوقة، والعبد إنَّما يقرأ كلام الله بصوته"2. على أنَّ هذه العبارة " والأصوات المسموعة " ليست موجودة في بعض نسخ الكتاب، فلعلها من اجتهاد بعض النساخ، والأمر يحتاج إلى تحقيق والله أعلم. والذي دفع كاتب هذه الكلمة إلى كتابتها ـ سواء كان المصنف أو الناسخ ـ أنَّ المتكلمين يقولون في عقائدهم: كلام الله ليس بحرف ولا صوت. ويبنون ذلك على لوازم سيأتي نقضها عند المصنف رحمه الله؛ لأنهم يقولون:

_ 1 أخرجه أبو داود " رقم 1468 "، والنسائي " رقم 1015 "، وابن ماجه " رقم 1342 "، وأحمد " 4/283 "، والدارمي " 2/556 "، وابن خزيمة " رقم 1551، 1556 "، وابن حبان " رقم 749 "، والحاكم " 1/761 " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 771 " 2 مجموع الفتاوى " 12/573 ـ 574 "، وانظر: درء التعارض " 2/38 ـ 40 "

الحروف والأصوات يلزم منها وجود الحنجرة والمخارج واللهاة والأضراس، وإذا أثبتنا الحرف والصوت في كلام الله لزم التشبيه. فأراد المصنف ـ أو الناسخ ـ الرد على هذا الباطل، فقال: " الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة عين كلام الله " أي: ليس كما يدعيه هؤلاء من أنَّ كلام الله ليس بحرف ولا صوت. لكن كما سبق فإنَّ الحروف المكتوبة هي عين كلام الله، أما الأصوات المسموعة ففيها تفصيل، فجبريل سمعه من الله بصوت الله سبحانه وتعالى، ومحمد صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل بصوت جبريل. فالصوت المسموع الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم هو صوت جبريل، والكلام المتلو المقرؤ هو كلام الله. وأيضاً الصحابة لما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم سمعوه بصوته صلى الله عليه وسلم. ونحن عندما نسمعه من القراء نسمعه بأصواتهم ولهذا نقول: صوت فلان جميل بالقرآن. ويعجبني صوت فلان، ولا يعجبني صوت فلان. ولا أحد يقول: لا يعجبني القرآن؛ فهذا كفر باتفاق العلماء. وكذلك قول الله جل وعلا: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 1 أي: إذا قرأه عليك جبريل، فالكلام الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل هو كلام الله لكن الصوت صوت جبريل. فنحن نرد هذا الباطل بأن نقول: الحروف والأصوات التي سمعها جبريل من الله هي كلام الله وصوت الله، وهذا فيه إثبات أنَّ الله تكلم بالقرآن بصوت سمعه منه جبريل. " لا حكاية ولا عبارة " يردُّ المصنف ـ رحمه الله ـ هنا على الكلابية ومن تأثر بهم من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، ممن يجعلون القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله. وكلا القولين باطل وضلال، بل القرآن عين كلامه، وهو الذي تكلم به سبحانه وتعالى.

_ 1 الآية 18 من سورة القيامة.

أما الحكاية، فمحاكة الشيء: أن يؤتى له بمثيل، يقال: حاكى فلان فلاناً أي أتى بشيء يماثل فعله. ولا يمكن لأحد أن يحاكي القرآن أو أن يأتي بمثيل له، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 1. والقول بأنَّه عبارة عن كلام الله أيضاً باطل؛ إذ العبارة هي التعبير عما في نفس الغير، فمثلاً: رجل لا يستطيع أن يفصح عما في نفسه من كلام لخرس أو غيره، يشير إشارات يفهمها بعض من يراه، فيتكلم بكلام يبين به مقصود هذا الأخرس بإشارته، فيسمى هذا الكلام عبارة عن كلام فلان. فالقرآن على مذهب هؤلاء ليس كلام الله بل هو عبارة عنه، بعضهم يقول عبَّر به جبريل، وبعضهم يقول عبر به النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من أباطيلهم. ففي كلام المصنف ـ رحمه الله ـ هنا: إشارة إلى بدعة الكلابية ومن تأثر بهم من الأشاعرة والماتريدية في تقسيمهم الكلام إلى قسمين: كلام نفسي وكلام لفظي. وقد خالفوا بهذا التقسيم الناس جميعاً؛ فقد تناظر ابن كلاب مع بعض المعتزلة فقالوا له: القرآن ليس كلام الله؛ لأن الكلام مكون من حروف وأصوات، فإذا وصفنا الله بالكلام لزمنا إثبات الحنجرة واللهاة واللسان وغير ذلك، وهذا يلزم منه التشبيه بزعمهم. فأراد ابن كلاب أن يوفق بين الآيات المثبتة للكلام لله وبين الشبهة التي أوردها عليه هؤلاء من إلزامه بالمخارج واللهاة، فأتى ببدعة لم يسبق إليها لا من العقلاء ولا من المجانين: وهي بدعة الكلام النفسي، وهو معنى واحد قائم بنفس الموصوف ليس بحرف ولا صوت، وهو الأمر والنهي والخبر والاستفهام، فجعل ما قام بالنفس ولم يتكلم به صاحبه كلاماً. وقال: إن الله عز وجل موصوف بالكلام النفسي دون اللفظي 2.

_ 1 الآية 88 من سورة الإسراء. 2 انظر: مختصر الصواعق " 2/290 ـ 291 "

بالإيمان هذه العمارة جدَّت الجوارح واجتهدت عملاً وطاعة وتقرباً إلى الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه ألا وهي القلب " 1. أما المحسن فأعلى من هؤلاء، إذ الإحسان: الإتقان والإجادة، فالمحسن هو الذي أتقن في تحقيق الدين وأجاد في تتميم العبادة والطاعة لرب العالمين حتى بلغ به الحال أنْ يعبد الله كأنَّه يراه. وهذه رتبة عالية رفيعة لا يصل إليها كلُّ أحد كما قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} 2. فهذه مراتب الدين، وقد جاء نظيرها في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 3. ومن لا يفرق بين الإسلام والإيمان يحتج بقول الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4 فإنَّ المعنيين في الآية أهلُ بيت واحد وقد ذكروا مرة بالإيمان ومرة بالإسلام. والجواب على هذا أن التنويع في الوصف في الآية قد جاء للفرق بين حالين: حال الإخراج وحال الوجود، فلما ذُكر الموجودون ذكروا بصفة الإسلام على اعتبار العمل الظاهر، ولما ذُكر المخرجون ذكروا بصفة الإيمان؛ لأنَّ الموجودين فيهم من عمله الظاهر عمل أهل الإسلام لكنه ليس منهم، كامرأة لوط، ولهذا لم تكن من المخرجين، مع أنها من الموجودين.

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 52 "، ومسلم " رقم 4070 " 2 الآيتان 13، 14 من سورة الواقعة. 3 الآية 32 من سورة فاطر. 4 الآيتان 35، 36 من سورة الذاريات.

وقال للرسول: أخبرهم أنني لا آتي، ولكن أبلغهم أنَّ كلامهم باطل من وجوه: أولاً ثانياً وأخذ يعدد أوجه الرد عليهم، فقال الرسول: لا أحسن نقل ذلك، ولكن اكتب هذا الكلام، فكتب لهم وهو في السجن تسعين وجهاً وسلمها إليه. يقول شيخ الإسلام: وبلغني أنهم كتبوا إلي ورقة ثم مزقوها وكتبوا بدلها أخرى وأرسلوها إليَّ، ولما أرسلوها إليه نقدها من وجوه كثيرة 1. ثم شرع المصنف ـ رحمه الله ـ في ذكر بعض الأدلة على أنَّ الحروف المكتوبة هي كلام الله عز وجل، فقال: " قال الله عز وجل: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً} . وقال: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} . وقال: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} وقال: {المر} . وقال {كهيعص} . {حم عسق} " هذه كلها كلام الله، وهي حروف مقطعة: ألف، لام، ميم، كاف، هاء، ياء، عين، صاد. فهذا صريح الدلالة على"بطلان قول من أنكر أن يكون كلام الله بحرف. ثم قال ـ بعد ذكره هذه الأدلة ـ: " فمن لم يقل إنَّ هذه الأحرف عين كلام الله عز وجل فقد مرق من الدين، وخرج عن جملة المسلمين، ومن أنكر أن يكون حروفاً فقد كابر العيان وأتى بالبهتان " يشير المصنف ـ رحمه الله ـ إلى أن الذين يرد عليهم بين أمرين: إما أن يقولوا: إن هذه ـ ألف، لام، ميم، كاف، هاء، ياء، عين، صاد ـ ليست حروفاً ويكونوا بذلك قد كابروا العيان وأتوا بالبهتان؛ لأنَّ كلَّ

_ 1 انظر حكاية شيخ الإسلام لقصته معهم في الفتاوى الكبرى " 5/3 وما بعدها "

أحد يدرك أنَّها حروف، فلو سألت صغار الأطفال لقالوا: هذه حروف. أو يقولوا: إنها ليست كلام الله، ويخرجوا بهذا من الدين؛ لأنهم جحدوا شيئاً من كلام الله وهو هذه الحروف المقطعة. " وروى الترمذي من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"من قرأ حرفاً من كتاب الله عز وجل فله عشر حسنات" قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ورواه غيره من الأئمة وفيه:"أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"" هذا الحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد فيها ضعف، لكن بعض أهل العلم قواه بمجموع طرقه 1. وفيه دلالة واضحة على ما سبق من أنَّ القرآن مكون من أحرف، وأنَّ هذه الأحرف من كلام الله. " وروى يعلى بن مَمْلَك عن أم سلمة "أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً" رواه أبو داود وأبو عبد الرحمن النسائي وأبو عيسى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب " " يعلى بن مَمْلَك " على وزن جعفر. " نعتت " أي: وصفت، وهذا فيه أنَّ النعت يطلق ويقصد به الوصف، خلافاً لمن قال بالتفريق بينهما، وأنَّ النعت ما كان خاصاً بعضو، والصفة للعموم. " قراءة مفسرة " فأم سلمة رضي الله عنها وصفت قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها مفسرة، أي: قراءة مرتلة فيها ترسل وتتبع للمعاني والدلالات. فمن يقرأ ويقف عند أماكن الوقوف المناسبة كأنه فسَّر لك الآية ووضح معناها.

_ 1 وقد صححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 6469 "

الشاهد من الحديث: أنَّ القرآن مكون من أحرف، وهو كلام الله عز وجل، فكلام الله بأحرف، لا كما يقول أهل الضلال: إنَّه بلا حرف ولا صوت. " وروى سهل بن سعد الساعدي قال: بينا نحن نقترئ إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأخيار، وفيكم الأحمر والأسود، اقرءوا القرآن قبل أن يأتي أقوام يقرءونه يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يتجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه"رواه أبو بكر الآجري وأئمة غيره " هذا الحديث إسناده ضعيف، لكن له شاهد عند أبي داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه يتقوى به، ولهذا أورده الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في سلسلته الصحيحة 1. " نقترئ " أي: يقرئ بعضنا بعضاً القرآن الكريم. " الحمد لله " يحمد الله على كلامه العظيم سبحانه، ويحمده سبحانه على اجتماع الصحابة رضوان الله عليهم على تلاوة القرآن والعناية بمراجعته واستذكاره وتدبر معانيه ودلالاته. " كتاب الله واحد " المقصود بكتاب الله: القرآن المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كان الكتاب واحداً فما هناك موجب للاختلاف؛ لأنَّ الكلَّ يرجعون إلى هذا الكتاب الواحد ويجتمعون عليه. فلا يمكن أن تجتمع أمة الإسلام إلا على القرآن والسنة، وهذا معنى قوله تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 2.

_ 1 " رقم 259 " 2 الآية 103 من سورة آل عمران.

" وفيكم الأحمر والأسود " هذا يوضحه ما جاء في رواية أخرى للحديث: " فيكم العربي والعجمي "، فالناس أصناف والكتاب واحد، والمطلوب من الجميع أن يرجعوا إلى هذا الكتاب الواحد. " اقرءوا القرآن " أي: قراءة بتدبر وتفهم وعمل بما يدل عليه. وعلى هذا مضى الصحابة ومن تبعهم بإحسان. وهذا معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} 1؛ لأن تلاوة القرآن حق التلاوة تتضمن هذه الأمور الثلاثة: القراءة، والفهم، والعمل. ومعنى تلا فلان فلاناً أي: تبعه. " قبل أن يأتي أقوام يقرءونه يقيمون حروفه " أي: يجودون ألفاظه ويحسنون في ترتيله وتجويده وضبط مخارجه. " كما يقام السهم " أي: في دقة متناهية وضبط متقن. " لا يتجاوز تراقيهم " أي: حناجرهم، فحظهم من القرآن تزيين الحنجرة به، وضبط الأحرف والمخارج. أما التعقل والتفهم والعمل فلا يقيمون لها وزناً، كما سيأتي قول الحسن:"إنَّ أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفاً. وقد أسقطه ـ والله ـ كلَّه، لا يرى عليه القرآن لا في خلق ولا عمل". ولهذا قد يوجد في بعض من يوصف بأنَّه من القراء ممن يعتنون بالترتيل والتجويد من لا يقيم للعمل به وزناً، وترى بعضهم متهاوناً في الصلاة. حتى إنَّ أحد هؤلاء افتتح مرة أغنية لإحدى المغنيات بآيات من القرآن الكريم والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وللحسن البصري كلمة أخرى جميلة في هذا المعنى، قال:"أُنزِل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً"2. وليس هذا تهويناً من الترتيل

_ 1 الآية 121من سورة البقرة. 2 مجموع الفتاوى " 25/170 "، ومفتاح دار السعادة " 1/187 "

والتجويد، فهو مطلوب بحدود ما دلت عليه السنة وعمل السلف ـ رحمهم الله ـ، لكن المقصود عدم الانشغال به عن إقامة حدود القرآن وتدبر معانيه والعمل بما يقتضيه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في بيانه لحال صاحب القرآن الذي ينال بالقرآن رفيع الدرجات وعالي المنازل:"فهو دائم التفكر في معانيه، والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئاً من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية قبله وإلا ردَّه، وإن لم يشهد له بقبول ولا ردٍّ وقفه، وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه. ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل، والقصير، والمتوسط، وغير ذلك؛ فإنَّ هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه ... 1. " يتعجلون أجره " أي: يريدون أجره في الدنيا. " ولا يتأجلونه " أي: لا يتأجلون أجره ثواباً عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وإنما يريدون أجرهم على التلاوة في الدنيا، ولهذا بعضهم يمتهن نفسه، فيأتي في المآتم ونحوها يرتزق بالقرآن ويتساوم معهم في ذلك. قال أبو داود:"سمعت أحمد سئل عن إمام قال لقوم: أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهماً. قال: أسأل الله العافية، ومن يصلي خلف هذا"2. أمَّا أن يصلي الرجل بالناس ويُعطى الجعل الذي خصصه الوالي أو إمام المسلمين فهذا لا حرج فيه.

_ 1 مجموع الفتاوى " 16/50 " 2 مسائل الإمام أحمد لأبي داود " ص63 "

" رواه أبو بكر الآجري " في كتاب: " أخلاق حملة القرآن "، وهو مطبوع، أنصح بقراءته والعناية به، فهو فريد في بابه. الشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: " يقيمون حروفه "، وفي هذا إثبات الأحرف لكلام الله عز وجل. " ورُويَ عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا:"إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه"" " وروي " هذه صيغة تمريض، وإسناد هذا الأثر ضعيف، لم يثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. " إعراب القرآن " الإعراب في اللغة هو الإفصاح عن الشيء والإبانة، تقول: أعرب عن الشيء أبان عنه وأفصح، ومعنى إعراب القرآن: فهمه وتدبره، وتعقل معانيه، ومعرفة دلالاته، والعمل بمقتضاه. " أحب إلينا من حفظ بعض حروفه " لأنَّ حفظ الحروف بدون تعقل لا يحقق مقصد القرآن؛ لأنَّه إنما أنزل ليعمل به، فإذا حفظ الحروف ولم يفهم ولم يعمل به لم يحقق المقصود. والأكمل: أن تُحفظ الأحرفُ، وتفهم المعاني، ويعمل بالدلالات، وهي تلاوة القرآن حق تلاوته كما أشرنا إليه سابقاً. " وروى أبو عبيد في فضائل القرآن بإسناده قال:"سئل علي رضي الله عنه عن الجنب يقرأ القرآن؟ فقال: لا، ولا حرفاً"" هنا فائدة لطيفة، وهي تنوع مصادر المصنف ـ رحمه الله ـ في هذا الكتاب، فينقل من أخلاق حملة القرآن، ومن فضائل القرآن، ومن السنن، ومن صريح السنة، إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة التي أخذ منها رحمه الله. الشاهد هو قوله: " ولا حرفاً " أي: ولا حرفاً من القرآن، وفي هذا دلالة

على أنَّ القرآن مكون من أحرف، خلافاً لمن يقول: إن كلام الله ليس بحرف. " وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كفر بحرف منه ـ يعني القرآن ـ فقد كفر به أجمع " القرآن كلُّه كلام الله، والإيمان ببعضه يقتضي الإيمان بباقيه، والكفر ببعضه كفر بباقيه؛ لأنَّه كلَّه كلام الله عز وجل، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} 1. أما إن كان عن اشتباه أو التباس أو نحو ذلك فتزال الشبهة وتبين، لكن من حيث الحكم: من كفر بحرف من كلام الله فهو كافر بالقرآن. " وقال ـ أيضاً ـ: من حلف بسورة البقرة فعليه بكلِّ حرف يمين " الشاهد: قوله " بكلِّ حرف " أي أنَّ سورة البقرة التي هي سورة من سور القرآن مكونة من أحرف، فمن حلف بسورة البقرة فعليه بكلِّ حرف يمين. لكن هذه المسألة تحتاج إلى نظر: من حلف بالقرآن هل عليه بكل حرف كفارة، أم أنها كفارة واحدة. " وقال طلحة بن مصرف: قرأ رجل على معاذ بن جبل فترك واواً فقال: لقد تركت حرفاً أعظم من جبل أحد " الشاهد: قوله: " لقد تركت حرفاً " ألا وهو الواو، ففيه أنَّ القرآن مكون من أحرف. " أعظم من جبل أحد " وفي هذا مكانة أحرف القرآن، وعظم شأنها عند السلف رحمهم الله. " وقال الحسن البصري في كلام له: قال الله عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ، وما تدبرُ آياته إلا اتباعه، أما والله ما هو بحفظ

_ 1 الآية 85 من سورة البقرة.

حروفه وإضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كلَّه فما أسقطت منه حرفاً وقد أسقطه والله كلَّه " " في كلام له " أي أنَّه لم يذكر كلامه كاملاً، وإنما اجتزأ منه ما ذكر. ": {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} " الآية الكريمة فيها توضيح للغاية من إنزال القرآن، وهي أن تُتَدبَّر آياته وتفهم وتعقل ويعمل بمقتضاها، ويوضح الحسن البصري ـ رحمه الله ـ هذا المعنى فيقول: " وما تدبرُ آياته إلا اتباعه " أي: أن يُفهم المعنى ويُعمل به. " أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده " أي: ليس تدبر آيات القرآن بحفظ حروفه وإضاعة حدوده. وشاهد هذا حديث سهل بن سعد الذي أورده المصنف سابقاً. " حتى إنَّ أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كلَّه فما أسقطت منه حرفاً وقد أسقطه والله كلَّه " بقية كلامه:"فلا يرى فيه القرآن لا في خلق ولا عمل". أي: ليست أخلاقه أخلاق القرآن ولا أعماله أعمال القرآن. هذا قاله الحسن ـ رحمه الله ـ وهو يتحدث عن نوع من القراء سمع بهم أو رآهم في عصره: عصر"التابعين، فما عسى أن يقال في أهل زماننا. والشاهد من هذا الأثر: قوله: " ما هو بحفظ حروفه " ففيه إثبات الحرف لكلام الله تعالى. " وقال عبد الله بن المبارك: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن، ومن قال: لا أومن بهذه اللام فقد كفر " " من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن " هذا نظير ما سبق في أثر ابن مسعود رضي الله عنه. " ومن قال: لا أومن بهذه اللام فقد كفر " في بعض المصادر: " بهذا

الكلام " يعني إن جحد حرفاً أو جحد كلاماً من القرآن فإنَّه يكفر بذلك. والشاهد: قوله: " بحرف من القرآن ". " وروى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يحشر الناس يوم القيامة ـ وأشار بيده إلى الشام ـ عراة غرلاً بُهماً. قال: قلت: ما بُهْماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى أقُصُّه منه. قالوا: وكيف، وإنما نأتي الله عراة غرلاً بُهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات" رواه أحمد وجماعة من الأئمة " لمَّا فرغ المصنف ـ رحمه الله ـ من ذكر جملة من الأدلة الدالة على أنَّ كلام الله بحرف، شرع في إيراد الأدلة على أنَّ كلام الله بصوت، وبدأها بحديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه. وهو صريح في أنَّ كلام الله بصوت؛ لأنَّه قال: " فيناديهم بصوت "، وقوله: " يناديهم " وحده دال على ثبوت الصوت في كلام الله عز وجل؛ لأنَّ النداء لا يكون إلا بصوت. وفي القرآن الكريم أدلة كثيرة على أنَّ كلام الله بصوت، وذلك من خلال الآيات التي فيها إثبات النداء، وهي كما قال أهل العلم تزيد على عشر آيات، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} 1، ونظائرها من الآيات. فذكر الصوت في هذا الحديث إنما هو للتأكيد، وإلا فقوله صلى الله عليه وسلم: " فيناديهم " دالٌّ على ثبوت الصوت في كلام الله تعالى. " يحشر الناس يوم القيامة " الحشر هو الجمع والإخراج، فيجمعون في مكان واحد على الصفة: المذكورة في هذا الحديث: عراة غرلاً بهماً. واستدل

_ 1 الآية 65 من سورة القصص.

بعض أهل العلم على هذا المعنى بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} 1 فأول ما يخرج الإنسان يخرج وليس عليه لباس، وليس مختتناً، وليس عليه نعال، فتكون حالة الناس في أرض المحشر كما هي حالتهم عند خروجهم للحياة أول مرة. " قال: قلت: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء " أي من أموال الدنيا وما يمتلكونه فيها، فلا يبقى مع الإنسان إلا عمله الذي قدمه في هذه الحياة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله"2. " يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب " وهذا خاص بكلام الله عز وجل، وفيه دلالة على أنَّ كلام الله عز وجل لا يشبه كلام المخلوقين؛ فإنَّ كلام المخلوق يسمعه القريب، ثم يضعف الصوت حتى ينقطع عن البعيدين عنه، بحسب قوة أصوات الناس وضعفها. وفي الحديث دليل على أنَّ الناس يتفاوتون في قربهم من الله في أرض المحشر، وأنهم ليسوا في القرب منه سواء، بل منهم القريب ومنهم البعيد، ومع ذلك فإنهم جميعاً يسمعون صوته سبحانه الذي يناديهم به. " أنا الملك " الذي له ملكوت كلِّ شيء، فله ملك السماوات والأرض والإنس والجن وجميع المخلوقات. " أنا الديان " الذي يجازي العباد ويحاسبهم على أعمالهم التي قدموها. ومنه قوله تعالى: {مالك يوم الدين} أي: يوم الجزاء والحساب. " لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه

_ 1 الآية 104 من سورة الأنبياء. 2 أخرجه البخاري " رقم 6514 "، ومسلم " رقم 7350 " وللحافظ ابن رجب رحمه الله جزء لطيف في شرح هذا الحديث.

بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى أقُصُّه منه " قائل هذا هو الرب العظيم. فيقتص لأهل الجنة من أهل النار، ولأهل النار من أهل الجنة، يقتص سبحانه للمظلوم من ظالمه. " قالوا: وكيف، وإنما نأتي الله عراة غرلاً بُهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات " قد جاء بيان هذا القصاص في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إنَّ المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثم طرح في النار"1، فالمظالم التي تكون من العبد في الدنيا لا تذهب ولا تضيع ـ وإن نسيها ـ، فإذا قدم على الله عز وجل وجدها كلَّها محضرة، فيقتص للمظلوم من الظالم، فيؤخذ من حسنات الظالم، حتى إذا فنيت حسناته بسبب كثرة مظالمه، يؤخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الظلم ثلاثة: فظلم لا يتركه الله، وظلم يُغفر، وظلم لا يُغفر، فأما الظلم الذي لا يغفر: فالشرك، لا يغفره الله. وأما الظلم الذي يُغفر فظلم العبد فيما بينه وبين ربه. وأما الذي لا يُترك فقَصُّ الله بعضَهم من بعض"2." بل من كمال عدل الرب عز وجل أنَّه يقتص للبهائم بعضها من بعض،

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 6522 " 2 أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده " رقم 2223 " وسنده ضعيف، لكن حسَّنه الألباني رحمه الله في الصحيحة " رقم 1972 " لوجود شاهد له من حديث عائشة رضي الله عنها.

فعلى العاقل أن يتقي الله ويحاسب نفسه ويحذر من الظلم كثيره وقليله، وألا يتيح لنفسه استمراء الظلم وإن قل؛ فإنَّ النفس إذا عُوِّدت على الشيء تنامى فيها وازداد. كما ينبغي للعبد أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لأنَّ الشيطان يأتي إلى الإنسان ويُلبِّس عليه فيجعله يظلم ويعتدي ويوهمه أن فعله هذا نوع من العدل والحق. فأسأل الله عز وجل أن يعيذني وإياكم من الظلم، وأن يسلمنا منه، وأن يوفقنا للتوبة النصوح إنَّه سميع مجيب. " رواه أحمد وجماعة من الأئمة " هذا الحديث له قصة، وفيه ذكر رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه لسماع هذا الحديث منه، وقد أورده الإمام البخاري معلقاً في صحيحه في موضعين، فجزم به في موضع بقوله: " ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد " 1، وذكره في موضع آخر بصيغة التمريض، فقال:"" ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان " 2، وهذه الصيغة يستعملها أهل العلم ـ في الغالب ـ إشارة إلى التضعيف، لكن الإمام البخاري قد يستعمل هذه الصيغة في بعض الأحاديث الصحيحة عندما يختصرها. قال الحافظ ابن حجر:"صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لكن فيه ما هو صحيح، وفيه ما ليس بصحيح على ما سنبينه، فأمَّا ما هو صحيح فلم نجد فيه ما هو على

_ 1 الصحيح " 1/208 مع الفتح " 2 الصحيح " 13/461 مع الفتح "

شرطه إلا مواضع يسيرة جداً، ووجدناه لا يستعمل ذلك إلا حيث يورد ذلك الحديث المعلق بالمعنى"1. ثم رجع الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فقال:"نظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا، فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأنَّ الإسناد حسن وقد اعتضد. وحيث ذكر طرفاً من المتن لم يجزم به؛ لأنَّ لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت"2. فأبى ابن حجر الاحتجاج بهذه اللفظة مع تصريحه بحسن إسنادها ووجود ما يعضدها، وهذا ـ بلا شك ـ ليس مبنياً على طريقة المحدثين في النقد، وإنما هو مبني على مناهج المتكلمين الذين لا يثبتون الصوت لكلام الله سبحانه لحاجته بزعمهم إلى التأويل. وهذه اللفظة " بصوت " لم ينفرد بها هذا الحديث، بل في صحيح البخاري وغيره أحاديث كثيرة فيها إثبات الصوت، بل في القرآن آيات كثيرة فيها إثبات النداء لله، والنداء لا يكون إلا بصوت كما سبق بيانه. والحديث ثابت، إسناده حسن كما قال ابن حجر، وله ما يعضده، وقد حسنه أهل العلم 3، بل منهم من صححه بمجموع طرقه 4.

_ 1 هدي الساري " ص20 "، وانظر أيضاً: الفتح " 1/111 "، " 2/46، 205 "، " 13/460 "، والتقييد والإيضاح للعراقي " ص39 "، والفوائد المنتقاة من كتاب فتح الباري وكتب أخرى للوالد " ص 64 " 2 فتح الباري " 1/209 " 3 ممن حسنه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب " 4/202 " 4 قال الشيخ الألباني رحمه الله في ظلال الجنة " رقم 514 ": " ومن هذا التخريج يتبين للبصير أن الحديث صحيح بمجموع طرقه الثلاثة ".

" وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء كجر السلسلة على الصفوان، فيخرون سجداً "وذكر الحديث " الشاهد من الحديث: قوله: " سمع صوته " وفيه إثبات الصوت في كلام الرب العظيم سبحانه وتعالى. " كجر السلسلة على الصفوان " الصفوان: الحجر، فأهل السماء وهم الملائكة يسمعون هذا الصوت كجر السلسلة على الصفوان، والتشبيه هنا للسماع بالسماع لا للمسموع بالمسموع. وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنكم سترون ربكم كما ترون القمر"فالتشبيه هناك للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي كما سبق. " وذكر الحديث " أي إنَّه اختصره، وفي الحديث ذكر قوله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1. وقد أبطلت هذه الآية الشرك بترتيب بديع عجيب، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2، يقول أهل العلم ـ على ضوء دلالة هذه الآية ـ: من يصلح أن يُعبد لابد أن تكون فيه إحدى صفات أربع: 1ـ فإما أن يكون مالكاً، فإذا كان ثمة مخلوق عنده ملك استقلالي بدون تمليك الله له فإنَّه يستحق أن يعبد، فنفت الآية ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} .

_ 1 الآية 23 من سورة سبأ. 2 الآيتان 22، 23 من سورة سبأ.

2ـ فإن لم يكن مالكاً، فهناك احتمال دونه، إن وجد فإنَّه يستحق أن يعبد، وهو أن يكون شريكاً للمالك في ملكه، وقد نفت الآية هذا الاحتمال أيضاً بقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} . 3ـ فإن لم يكن مالكاً ولا شريكاً للمالك، فثمة احتمال ثالث، إن وجد فإنه يستحق أن يعبد، وهو أن يكون ظهيراً للمالك ومعيناً، فنفت الآية ذلك أيضاً بقوله تعالى: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} . 4ـ ويبقى احتمال رابع، وهو أن يملك الشفاعة الابتدائية عند المالك بدون إذنه، فنفته الآية بقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . ثم ذكر مثالاً لحال الملائكة الذين هم أشد المخلوقات وأقواها، فبين حالهم مع الله، فإنَّهم مع عظم قوتهم وشدتهم وجسامتهم وقدرتهم ـ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش: إنَّ ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة" 1 ـ"فهذه المخلوقات العظيمة إذا تكلم الله بالوحي خرت صعقة، فهي لا تملك شيئاً لنفسها ولا لغيرها، فكيف تدعى من دون الله. ولهذا قال الله عز وجل في ختام الآية: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} أي: الذي يستحق أن يعبد هو العلي الكبير. بعد أن فرغ المصنف ـ رحمه الله ـ من ذكر النصوص والأدلة التي فيها إثبات الحرف والصوت في كلام الله، ختم هذه الصفة بإيراد شبهة أهل الكلام التي لأجلها أنكروا الحرف والصوت في كلام الله، فقال: " وقول القائل: بأنَّ الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج: باطل ومحال "

_ 1 أخرجه أبو داود " رقم 4727 "، وقال الذهبي في العلو " ص58 ": " إسناده صحيح "، وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 151 "

" وقول القائل ": أي من المعتزلة ومن تأثر بهم من الكلابية والأشاعرة والماتريدية. " بأنَّ الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج " شبهتهم في إنكار الحرف والصوت في كلام الله هي أنَّ الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج، نظروا إلى ما يشاهدونه من المخلوقات، ثم وضعوا قاعدة ردوا بموجبها جميع الآيات والأحاديث المثبتة للحرف والصوت في كلام الله، فلم يعارضوها إلا لما قام في أنفسهم من التشبيه، حيث قاسوا الخالق على المخلوق، ثم نزهوا الخالق عن هذا التشبيه فعطلوا صفته سبحانه. وقد أَوْدتْ هذه القاعدة بالمعتزلة إلى جحد كلام الله بالكلية، وأفضت بالكلابية إلى نفي الحرف والصوت. وامتن الله على أهل السنة فأثبتوا الكلام لله عز وجل بحرف وصوت كما دلت عليه النصوص، بدون تشبيه لكلام الباري بكلام خلقه سبحانه. " باطل ومحال " أي: إنَّ القاعدة التي أقاموا عليها باطلهم باطلة في أصلها، أحالتها النصوص؛ لأنَّ اللازم الذي ذكروه لا يلزم في حق كثير من المخلوقات فضلاً عن الخالق العظيم، فقد دلت النصوص الكثيرة على أن مخلوقات تكلمت وستتكلم وليس لها مخارج. ثم شرع المصنف ـ رحمه الله ـ بذكر هذه الأدلة فقال: " قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} . وكذلك قال عز وجل ـ إخباراً عن السماء والأرض أنهما ـ: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . فحصل القول من غير مخارج ولا أدوات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كلمه الذراع المسمومة. وصح أنَّه سلم عليه الحجر. وسلمت عليه الشجرة "

" قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} " في هذه الآية بيان سعة جهنم وأنها تستوعب كلَّ ما يلقى فيها، وهذا أبلغ ما يكون في وصف سعة النار، يذكر أنَّ رجلاً جمع مجموعة من الأدباء وطلب منهم المبالغة في وصف سعة جهنم، فبذل كل منهم ما استطاع من المبالغة في بيان سعتها، كلٌّ بما تجود به قريحته، فلما انتهوا قال: ما رأيكم في قول الله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} 1. فذهلوا وأذعنوا لهذا الوصف الباهر، فمهما يلقى فيها تستوعبه وتطلب الزيادة، وقد وعدها الله بملئها فقال سبحانه: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 2، ومِنْ شأنها أنها يلقى فيها حتى يكتمل أهل النار الذين هم أهلها وهي تطلب المزيد، ولا تكتفي حتى يضع الجبار عليها قدمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد. حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، بعزتك وكرمك. ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة" 3. بهذا يتحقق وعد الله لها بالامتلاء، أما الجنة فقد اقتضت حكمته سبحانه أن ينشئ لها خلقاًَ يدخلونها فتمتلئ؛ فهي دار فضله، والله عز وجل يتفضل بها على من يشاء. والشاهد من الآية: قول النار: " هل من مزيد " فهي تنطق به، فأين اللازم الذي ذكروه من لزوم المخارج، فالنار تتكلم وليس لها شيء من ذلك. " وكذلك قال عز وجل إخباراً عن السماء والأرض أنهما: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} " فالقول هنا بلسان المقال، تقوله السماء والأرض حقيقة.

_ 1 الآية 30 من سورة ق. 2 الآية 13 من سورة السجدة. 3 أخرجه البخاري " رقم 7384 "، ومسلم " رقم 7108 " واللفظ له.

" فحصل القول من غير مخارج ولا أدوات " فإنَّ السماوات والأرض والنار معروفة، ليس لها ما يدعيه هؤلاء من المخارج. " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كلمه الذراع المسمومة " ذراع الشاة التي كان فيها السم كلمته، وليس لها تلك المخارج. " وصح أنَّه سلم عليه الحجر " يقول صلى الله عليه وسلم:"إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن"1. والحجر معروف ليس فيه مخارج ولا لهاة ولا لسان فأين اللازم؟! " وسلمت عليه الشجرة " وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة. وإذا بطل اللازم بطل الملزوم

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 5898 "

الإيمان بالقضاء والقدر

[الإيمان بالقضاء والقدر] " وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قليله وكثيره بقضاء الله وقدره، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يجري خير وشر إلا بمشيئته، خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلاً، وخلق من أراد للشقاء واستعمله به عدلاً، فهو سر استأثر به، وعِلمٌ حجبه عن خلقه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} . وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} " شرع المصنف ـ رحمه الله ـ هنا في الكلام على القدر. والإيمان ينبني على أصول ستة، لا قيام له إلا عليها، وهي الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقد ر خيره وشره، وهذه الأصول الستة جاء ذكر أدلتها إجمالاً وتفصيلاً في مواضع كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبق ذكر شيء منها. فلا إيمان لمن لم يؤمن بالقدر، ومن كذب بالقدر فلا إيمان له ولا توحيد، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال:""الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن وكذب بالقدر فهو نقض للتوحيد " 1. ومما يوضح هذا قول الإمام أحمد:""القدر قدرة الله " 2، فأي توحيد عند من ينكر قدرة الله.

_ 1 رواه عبد الله بن أحمد في السنة " رقم 925"، واللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 1224" 2 منهاج السنة " 3/254 "، وشفاء العليل " ص53 "

رومن لم يؤمن بالقدر لا تقبل أعماله، فلا ينتفع لا بصلاة ولا بصيام ولا بصدقة ولا غير ذلك، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. فإيمان العبد ودينه لا يمكن أن ينتظم إلا إذا آمن بأقدار الله جل وعلا، وأنَّ كلَّ شيء بقدر، وأن يؤمن بالقدر كلِّه حلوه ومره، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وسيأتي عند المصنف ـ رحمه الله ـ ذكر شيء من الأدلة على هذا. ثم إنَّ الإيمان بالقدر لا يصح إلا بالإيمان بمراتبه التي دل عليها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهي أربعة: الأولى: الإيمان بعلم الله عز وجل الأزلي المحيط الشامل لما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. الثانية: الإيمان بالكتابة، وأنَّ الله عز وجل كتب مقادير الخلائق، وكلَّ ما هو كائن، وهذه الكتابة تمت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت في الحديث:""كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة " 2. الثالثة: الإيمان بالمشيئة، وأنَّ الأمور كلَّها بمشيئة الله، وأنَّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فالملك ملكُ الله، ولا يمكن أن يكون فيه شيء إلا بمشيئته، لا ذرة ولا حركة ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه. الرابعة: الإيمان بالخلق والإيجاد، وأنَّ الله خلق كلَّ شيء، بما في ذلك أفعال العباد، قال تبارك وتعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 3، وقال

_ 1 الآية 5 من سورة المائدة. 2 سبق تخريجه. 3 الآية 62 من سورة الزمر.

سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1. وقد جمع بعض أهل العلم هذه المراتب الأربعة في بيت من الشعر فقال: علمٌ كتابةُ مولانا مشيئتُه ... وخلقُه وهو إيجادٌ وتكوينٌ فمن لم يؤمن بمراتب القدر الأربعة فليس بمؤمن بالقدر. فلو قال قائل: أنا أؤمن بالعلم والكتابة والإيجاد، ولكن لا أؤمن بالمشيئة. عُدَّ كافراً بالقدر. ولهذا يحسن بمن أراد تعريف الإيمان بالقضاء والقدر أن يذكر هذه المراتب الأربعة. وللإمام الشافعي أبيات جميلة ذكر فيها القدر وما يتعلق به، وصفها ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ بقوله:""ومن شعره الذي لا يختلف فيه، وهو أصح شيء عنه " 2، وهي قوله: ما شئتَ كان وإن لم أشأْ ... وما شئتُ إن لم تشأْ لم يكن خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن 3. فقوله: " ما شئتَ " أي: أنت يا الله كان، فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. " وإن لم أشأ " أي: وإن لم أشأ أنا أيها العبد ذلك الأمر، " وما شئتُ " أي: أنا أيها العبد إن لم تشأ أنت يا الله لم يكن

_ 1 الآية 96 من سورة الصافات. 2 الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء " ص80 " 3 رواه اللالكائي " رقم 1304 "، والبيهقي في الاعتقاد " ص162 "، وابن عبد البر في الانتقاء " ص80 "

وهذا فيه أن للعبد مشيئة لكنها تبع لمشيئة الله عز وجل، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. " خلقت العباد على ما علمت " أي: خلقُك يا الله للعباد وإيجادك لهم هو على وفق العلم السابق الأزلي المحيط بكلِّ شيء. " ففي العلم يجري الفتى والمسن " فجري الناس في هذه الحياة وأعمالهم وحركاتهم وسكونهم كله إنما هو على ضوء العلم الأزلي السابق. " على ذا مننت " أي: بالإيمان والطاعة والهداية والاستقامة. " وهذا خذلت " فبقي على ضلاله وغيه وإعراضه وصدوده وكفره ونفاقه. " وهذا أعنت " أي على طاعتك، ووفقته لهداك. " وذا لم تعن " أي: لم تعنه على الطاعة والخير. ولهذا فإنَّ العبد في حاجة إلى عون الله تعالى في كلِّ حركة وسكون، وكلِّ قيام وقعود. " فمنهم شقي ومنهم سعيد " أي: إنَّ الناس على ضوء ذلك قسمان، شقي: وهم الذين كتبت عليهم الشقاوة وعملوا بعمل أهل الشقاوة. وسعيد: وهم الذين كتبت لهم السعادة وعملوا بعمل أهل السعادة. " ومنهم قبيح ومنهم حسن " أيضاً هيئاتهم متباينة ومختلفة، وكلُّ ذلك بقدر. قال المصنف ـ رحمه الله ـ: " وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قليله وكثيره بقضاء الله وقدره " أي: كله بقضاء الله وقدره. وقد اجتمع في كلامه ـ رحمه الله ـ ذكر القضاء والقدر، وهي من الألفاظ التي يقول عنها أهل العلم: إذا افترقت اجتمعت وإذا اجتمعت افترقت، مثل

_ 1 الآيتان 28، 29 من سورة التكوير.

الإسلام والإيمان، والبر والتقوى، والفقير والمسكين، وغيرها من الألفاظ الشرعية. فإنَّها إذا اجتمعت في الذكر افترقت في المعنى، وإذا افترقت في الذكر اجتمعت في المعنى فينتظم كلُّ منها معنى الآخر. يقول ابن رجب ـ رحمه الله ـ:""إنَّ من الأسماء ما يكون شاملاً لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قُرن ذلك الاسم بغيره صار دالاً على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها " 1. فالقدر إذا ذكر مفرداً انتظم معنى القضاء، وإذا ذكر القضاء مفرداً انتظم معنى القدر، لكن إذا ذكرا معاً كما عند المصنف هنا: فمن أهل العلم من يجعل القدر هو التقدير السابق، والقضاء: هو الإبرام والإيجاد، فيكون القدر أسبق. ومنهم من يرى العكس، فيجعل القضاء هو السابق، والتقدير هو اللاحق 2. " لا يكون شيء إلا بإرادته " السياق هنا واضح بأنَّ المراد بالإرادة: الإرادة الكونية القدرية، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3. " ولا يجري خير وشر إلا بمشيئته " أي: إنَّ كلَّ الأمور خيرها وشرها بمشيئة الله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. " خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلاً " أي: استعمله بالسير في طريق أهل السعادة وسلوك مسالكهم فضلاً منه ونعمة، كما قال سبحانه {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ

_ 1 جامع العلوم والحكم " ص27 " 2 انظر: الدرر السنية " 1/315 " فتوى للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في الفرق بين القضاء والقدر. 3 الآية 82 من سورة يس.

وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ َضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} 1. " وخلق من أراد للشقاء " أي: للكفر والنفاق والضلال. " واستعمله به عدلاً " لأنَّه سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً. " فهو سر استأثر به، وعلم حجبه عن خلقه " القدر سِرُّ لله تبارك وتعالى استأثر به، ولهذا يجب أن يتنبه المسلم لهذه الكلمة: " القدر سر الله في خلقه "، وهذا مروي عن عدد من السلف 2. ولهذا نهينا عن التعمق فيه والبحث عن سره بالأسئلة الاعتراضية، والخوض في أفعال الله: بـ " لِمَ ": لِمَ فعل كذا؟ ولِمَ لَمْ يفعل كذا؟ ، يقول تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 3، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك عنه فقال:""إذا ذكر القدر فأمسكوا " 4. فعلى المسلم أن يسأل عما ينفعه في دينه، فلا تقل: لمَ فعل الله؟ ولكن قل بم أمر الله؟ أما بحث القدر من خلال الأحاديث والآيات والأدلة، والعناية بهذا الجانب فهو مطلوبٌ مرغَّبٌ فيه، وهو من جملة دين الله الذي أمرنا بفهمه والعناية به: " {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ." منع سبحانه خلقه وحذرهم من أن يسألوا بـ " لم " في أفعاله، فلا يقال في أفعال الله: " لم "، كما لا يقال في صفاته: "كيف "، والسلف يسمون من يخوض في هذا الباطل: بالمكيفة واللمية كما تقدَّم

_ 1 الآيتان 7،8 من سورة الحجرات. 2 انظر: بيان تلبيس الجهمية " 1/198 "، ومجموع الفتاوى " 8/408 " 3 الآية 23 من سورة الأنبياء. 4 أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده " رقم 742 "، والطبراني في الكبير " 10/198 "، واللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 210 "، وأبو نعيم في الحلية " 4/108 " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 34 "

وفي قوله تعالى: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} تنبيه للمسلم لما ينبغي أن يبحث عنه في هذا الباب؛ فإنَّ كلَّ إنسان سيُسْأَل عما خُلق لأجله ووُجد لتحقيقه، فلن يُسأل عن أفعال الله: لمَ فعل كذا ولمَ لمْ يفعل، بل سيسأل عما قدم في هذه الحياة، فمن الخير له أن ينظر فيما يسأل عنه يوم القيامة فيقيمه، ويأتي به على التمام والكمال. " قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} " هذا فيه دليل على أنَّ الأمور كلَّها بتقدير الله؛ لأنَّه سبحانه ذرأ لجهنم كثيراً من الجن والإنس، أي خلقهم وأوجدهم ليكونوا حطباً لجهنم وقدَّر ذلك عليهم. " وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} " أي: لو شاء الله لجعل الناس كلَّهم مؤمنين، ولو شاء لجعلهم على مرتبة واحدة في الإيمان، ولكن اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، فخلق خلقاً هم للنار، وخلق خلقاً هم للجنة. وهذا من أوضح ما يبيِّن أنَّ الأمور كلَّها بقدر. " وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} " يدخل تحت لفظة: " كلَّ " جميع الأشياء: القيام والقعود، والحي والميت، والأخضر واليابس، فكلُّ شيء خلقه الله بقدر. " وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فنكس وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال:""ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. فقالوا: يا رسول أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال:

اعملوا فكلٌّ ميسر لما خُلق له، أمَّا من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأمَّا من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الآية " " إيراد المصنف ـ رحمه الله ـ لحديث علي رضي الله عنه هذا عقب تقريره لمسألة القدر دال على دقة علمه وجودة ترتيبه؛ لأنَّه إذا آمن العبد بالقدر بمراتبه الأربعة، واعتقد أنَّ الله علم جميع الأمور في الأزل، وأنَّه كتبها في اللوح المحفوظ، وأنَّها لا يمكن أن تقع إلا بمشيئته، وأنَّها مخلوقة لله تبارك وتعالى بما في ذلك أفعال العباد، فإنَّ ثمة سؤالاً عظيماً يرد على بال كلِّ مؤمن في هذا المقام، ألا وهو: فيم العمل؟ ولماذا يعمل العبد وينشط ويجتهد مادام أنَّ القلم جف بما هو كائن، والمقادير كتبت قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؟ هذا سؤال عظيم ومثمر، وطرحه مفيد، ومازال الناس يطرحونه عند سماعهم تقرير مسائل القدر التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، ومن يتأمل في أجوبة الناس عنه يجد تبايناً في الأفهام، وانحرافات في الأفكار والتصورات والتقريرات، حتى إنَّ بعضهم يصل به الحال في هذا المقام إلى أن ينكر أموراً من القدر، بحثاً عن جواب لهذا السؤال. والمصنف ـ رحمه الله ـ أتى بهذا الحديث ليجيب به عن هذا السؤال. فالصحابة رضوان الله عليهم ورد في أذهانهم هذا السؤال، وسألوا عنه غير مرة، سأله غير واحد من الصحابة، وفي كلِّ مرة يجيبهم صلى الله عليه وسلم بكلمة موجزة، لكنها كبيرة الفائدة عظيمة النفع، يجيبهم بقوله: " اعملوا، فكل ميسر لما خلق له ". وعندما يتأمل المسلم هذا الجواب العظيم يجده شافياً كافياً وافياً لمن منَّ الله

عز وجل عليه بفهمه والعمل على ضوئه، بل مهما بحث العبد عن جواب لهذا السؤال فلن يجد أشفى ولا أوفى ولا أسد من جواب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وهذا الجواب يقرر أصلين عظيمين وأساسين متينين يقوم عليهما صلاح العبد واستقامة شأنه في هذا الباب. الأصل الأول: وهو داخل تحت قوله: " اعملوا "، فهذه الكلمة لا توجه إلا لمن له مشيئة، ولمن هو مخير، يستطيع أن يذهب إلى مكان الخير ويستطيع أن يذهب إلى مكان الشر، ويستطيع أن يفعل الخير ويستطيع أن يفعل الشر. فمن ليست عنده مشيئة ـ كالجمادات ـ لا يمكن أن يُخاطب بمثل هذا الخطاب. فهذه الكلمة دالةٌ على أصل عظيم، وهو أنَّ الإنسان عنده مشيئة، وأنَّه يمكنه أن يختار طريق الخير وطريق الشر، وأنَّه مطلوب منه أن يجدَّ ويسعى في الأعمال الصالحة، وأن يجاهد نفسه على القيام بطاعة الله تبارك وتعالى. والأصل الثاني: وهو داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: " فكلُّ ميسر لما خلق له "، فهو دالٌّ على أنَّ الأمور كلَّها بتيسير الله، وأنَّه لا يمكن أن يكون في الكون شيء لم يشأه الله، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ الناس منهم من خلق للسعادة فييسر لعمل أهل السعادة، ومنهم من خلق للشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة. وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ المطلوب من كلِّ إنسان يريد لنفسه السعادة في الدنيا والآخرة أن يعمل ويجاهد نفسه، ويلزمها بالتمسك بطريق الحق إلزاماً، وفي الوقت نفسه يمد يد الضراعة إلى الله عز وجل ملحاً عليه أن يعينه ويسدده ويثبته وأن يجعله من السعداء، وأن يعيذه من طريق أهل الشقاء؛ فإنَّ الأمور كلَّها بتيسير الله جل وعلا.

وعندما ننظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم العملية نرى هذا الأمر فيها واضحاً جلياً في كلِّ عمل؛ لأنَّ هدي النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على الجد والاجتهاد مع الاستعانة بالله خالق السماوات والأرض. هذه حياته صلى الله عليه وسلم. على حد قول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وقوله سبحانه: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:""احرص على ما ينفعك واستعن بالله " 2، وقوله صلى الله عليه وسلم:""اعقلها وتوكل " 3. أصلان متلازمان: بذل من العبد ومجاهدة ومصابرة ومرابطة وسعي بالأعمال الصالحة، وفي الوقت نفسه لجوء إلى الله تعالى واستعانة به وطلب منه واعتماد عليه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:""يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " 4، ويقول:""اللهم اهدني فيمن هديت " 5، ويقول:""اللهم إني أسألك الهدى والسداد " 6، ويقول لمعاذ:""يا معاذ والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كلِّ صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " 7.

_ 1 الآية 123 من سورة هود. 2 أخرجه مسلم " رقم 6716 " 3 أخرجه الترمذي " رقم 2517 " وحسنه الألباني في صحيح الجامع " رقم 1068 " 4 أخرجه الترمذي " 3522 " من حديث أم سلمة وقال: " وفي الباب عن عائشة والنواس بن سمعان وأنس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو ونعيم بن عمار. وقال: هذا حديث حسن ". 5 أخرجه أبو داود " رقم 1425 "، والترمذي " رقم 464 وقال: هذا حديث حسن "، والنسائي " رقم 1745 "، وابن ماجه " رقم 1178 "، وأحمد " 1/199 "، وابن خزيمة " 1095 "، وابن حبان " رقم 722 " 6 أخرجه مسلم " رقم 6850 " 7 أخرجه أبو داود " رقم 1522 "، والنسائي " رقم 1303 "، وأحمد " 5/244 " وصححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 7969 "

الأمور كلُّها بقدر وقد كتبت على العبد، فأنت مفتقر إلى الله أن يعيذك من طريق الضلال، وأن يأخذ بناصيتك إلى طريق الهداية وأن يثبتك على الحق، وأن يمن عليك بالتوفيق والهداية والسداد، وأن يجعلك من أهل السعادة أهل الجنة. أنت مفتقر إلى الله في كلِّ حركة وسكون، مفتقر إلى عفو الله سبحانه وتعالى، فليس أمامك إلا أن تلجأ إلى الله تبارك وتعالى في كلِّ وقت وحين أن يثبتك ويعينك ويسددك وأن يعيذك من طريق الضلال، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:""اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس"يموتون " 1. وفي الوقت نفسه لابد أن تبذل الأسباب وتصبر على فعلها وتجاهد نفسك مجاهدة تامة على لزوم طريق الخير، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 3. فهذا أصل شريف وعظيم، لابد من فهمه، ولا نجاة ـ والله ـ للإنسان في هذه الحياة إلا بفهم هذا الأصل المبارك الذي دل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام رضي الله عنهم عليه، وأرشدهم إليه وهو الناصح الأمين. والصحابة رضي الله عنهم لما سمعوا هذا الجواب وجدوا فيه الكفاية والشفاء والغنية، ولم يحتاجوا بعده إلى جواب أحد، بل أخذوه مأخذ

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 7383 "، ومسلم " رقم 6837 " واللفظ له. 2 الآية 200 من سورة آل عمران. 3 الآية 69 من سورة العنكبوت.

التسليم، وتلقوه بالقبول، واتجهوا إلى تطبيق مدلوله وتحقيق مقصوده، بالبذل والعمل والجد والاجتهاد مع طلب العون من الله تبارك وتعالى. اقرأ سيرهم وأخبارهم، وانظر نصحهم لأنفسهم في العبادة والطاعة والجد والاجتهاد والإقبال على الله تعالى وأطرهم لأنفسهم وإلزامهم لها"لتسلك طريق الحق وتسير في جادته، وفي الوقت نفسه يلجأون إلى الله عز وجل في كلِّ وقت وحين، يسألونه الثبات والهداية والرشاد، هكذا كانت حياتهم وحياة من اتبعهم بإحسان. ولما وُجد من ضل في هذا الباب، ووُجِد من صار عنده جرأة على الاعتراض على أقدار الرب العظيم، والانتقاد لأفعاله، وطرح الأسئلة الاعتراضية على قدره تبارك وتعالى، تغيرت الحال عما كان عليه السلف، فجمع هؤلاء بين الانحراف في العقيدة والانحراف في العمل والعبادة. وقد ضلت في هذا الباب طائفتان: 1ـ طائفة أنكرت القدر وجحدته، وقالوا: لا قدر، والأمر أنف. وهؤلاء يسمون عند أهل العلم: بالقدرية النفاة؛ لأنهم ينفون القدر، ويقولون: لم يقدِّر الله تبارك وتعالى أفعال العباد ولم يخلقها، وإنما الذي قدرها وخلقها الإنسان نفسه. ويصفهم أهل العلم بمجوس هذه الأمة؛ لأنَّ اعتقادهم هذا يتضمن تقرير وجود خالقين: الله الخالق للإنسان، والإنسان الخالق لفعل نفسه. 2ـ ويقابل هؤلاء طائفة أخرى، يقولون: ليس للإنسان قدرة ولا مشيئة، فهو ـ عندهم ـ مسلوب الإرادة والمشيئة، والله عز وجل خالق لفعله وهو الفاعل الحقيقي؛ لأنَّ الإنسان ليس له مشيئة في أفعال نفسه، بل هو مجبور

عليها، ويصفون حاله بأنَّه كالورقة في مهب الريح. وهؤلاء يسميهم أهل العلم: القدرية المجبرة. ولو قارنا بين هاتين العقيدتين وبين جواب النبي صلى الله عليه وسلم: " اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له " لأدركنا ما لدى كلِّ طائفة من انحراف في هذا الباب. فلو كان الإنسان كالورقة في مهب الريح، هل يصح أن يقال له: اعمل؟!! من ليس له مشيئة لا يخاطب بمثل هذا الخطاب. ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعملوا" رد على القدرية المجبرة، كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 1 أي: طريق الخير وطريق الشر، وكيف يؤمر بالطاعة وينهى عن فعل الحرام مَنْ لا مشيئة له ولا إرادة. وإذا نظرت إلى عقيدة القدرية النفاة، وهي مبنية على إنكار القدر، وأنَّ الله عز وجل لا علاقة لمشيئته وقدرته بأفعال العباد، تجد الرد عليهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " فكلٌّ ميسر لما خلق له " أي أنَّ الأمور كلَّها بتيسير الله وتوفيقه، فأهل السعادة ييسرهم لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ييسرهم لعمل أهل الشقاوة. وعليه ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعملوا فكل ميسر لما خُلق له " رد على الطائفتين، وفيه تقرير للمعتقد الحق والقول الصواب: قول أهل السنة والجماعة: أن للإنسان مشيئة وإرادة واختياراً، ولكن مشيئته تبع لمشيئة الله جل وعلا. " كنا في جنازة في بقيع الغرقد " سمي بقيع الغرقد لأنَّه كان فيه شجر ذو شوك يسمى شجر الغرقد. " فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة " المخصرة: عود صغير كان بيده صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الآية 10 من سورة البلد.

" فنكس " أي: أنزل رأسه إلى جهة الأرض قليلاً. " وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار " هذا هو الإيمان بالقضاء والقدر: أنَّ الأمور كلَّها بقدر الله، قدَّر كلَّ شيء، وجف القلم بما هو كائن والصحابة لما سمعوا هذا البيان " قالوا: يا رسول أفلا نتكل على كتابنا؟ " أي: أفلا نعطل الأعمال ونتكل على الكتاب المكتوب في اللوح المحفوظ، ولهذا جاء في روايات أخرى: " أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ " 1، وفي رواية: " فلمَ نعمل؟ " 2. فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب المبارك: " فقال: اعملوا فكلٌّ ميسر لما خُلق له " أي: مع إيمانكم بما قُضي وقُدر وكُتب اعملوا واجتهدوا في العمل، وفي الوقت نفسه الجأوا إلى الله واعتمدوا عليه واسألوه الإعانة والسداد والهداية والرشاد. والناس في هذا قسمان: سعداء وأشقياء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة " أي: من كتب الله له السعادة فيما قدَّره وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ فإنَّه سبحانه ييسر له العمل بعمل أهل السعادة وسلوك سبيلهم. " وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاء " أي: من كتب الله له الشقاوة فيما قدَّره وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ فإنه ييسر لعمل أهل الشقاء

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 4948 "، ومسلم " رقم 6673 " 2 أخرجه مسلم " رقم 6675 "

" ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} " لاحظ دلالة هذه الآيات على تقرير هذا الأصل، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} هذا جانب العبد: عمل وبذل وتصديق،: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وهذا من الرب تعالى جده. " وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ:""إنَّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره، إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " " هذا الحديث مشهور بحديث: الصادق المصدوق؛ لأنَّه لما ذكر ابن مسعود رضي الله عنه تحديث النبي صلى الله عليه وسلم لهم به ذكر صفته، فقال: " حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق " فهو صلى الله عليه وسلم الصادق في قوله وفيما يبلغه عن ربه. والمصدوق: أي المؤيد من الله عز وجل بما ينزله عليه من وحي السماء. وذكرُ ابن مسعود رضي الله عنه لهذا الوصف في مقام ذكر القدر والكتابة فيه فائدة؛ لأنَّ من يأتي فيما بعد ويكون عنده ارتياب عليه أن ينظر إلى ما جاء في هذا الحديث على أنَّه لم يأت من أيِّ إنسان، وإنَّما جاء عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فإذا كان المحدِّثُ صادقاً مصدوقاً فما بال الإنسان يتردد؟ وما الموجب للشك وعدم القبول؟

ومع هذه اللفتة الكريمة من ابن مسعود رضي الله عنه، ومع علم المسلمين قاطبة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، إلا أنَّ القدرية النفاة ردوا هذا الحديث؛ لأنَّه يناقض أصلهم الفاسد في نفي القدر، وبالغوا مبالغة شديدة شنيعة في رده، حتى إنَّه لما ذكر لعمرو بن عبيد ـ رئيس المعتزلة ـ قال:""لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته أو قال: لما أحببته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول لقلت له: ليس على هذا أخذت ميثاقنا " 1. فانظر إلى هذه الوقاحة الشنيعة من رؤوس البدع تجاه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر ليس غريباً على صاحب الهوى عندما يظلم فؤاده بالهوى ويكتنفه الضلال ويحتوشه الباطل. " إنَّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك " هذا فيه مراحل تكون الجنين في رحم الأم، وأنَّه أولاً يكون نطفة وهي قطرة المني التي تستقر في رحم الأنثى. ثم تتحول إلى علقة، وهي القطعة الصغيرة من الدم. ثم تتحول إلى مضغة، وهي قطعة صغيرة من اللحم. ثم تبدأ تتفتق منها الأعضاء، وهذا حال جميع الناس، فتبارك الله أحسن الخالقين. " ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات " هذه الكلمات الأربعة يكتبها الملك لكلِّ جنين في هذه المرحلة من تكوينه في رحم أمه. " يكتب رزقه " وهو كلُّ ما سيطعمه ويشربه ويتغذى به في هذه الحياة إلى أن يموت.

_ 1 انظر: تاريخ الإسلام " وفيات 141 ـ 160 " " ص238 ـ239 "

" وأجله " أي: متى يموت. " وعمله " أي: الأعمال التي سيقوم بها من إيمان وصلاة وصيام وحج، أو كفر وضلال وزيغ وإعراض وفواحش. " وشقي أو سعيد " أي: هل هو من أهل الشقاء أم من أهل السعادة. وهذا تقدير خاص بكلِّ إنسان، ويسميه أهل العلم: التقدير العمري، أي: التقدير المتعلق بعمر كلِّ إنسان فيما يخصه ويعنيه. وعلى ضوء النصوص، يقول العلماء: أنواع التقدير أربعة: 1ـ تقدير عام: وهو الذي جاء في نصوص كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:""كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة " 1. 2ـ تقدير عمري: وهو المتعلق بعمر كلِّ إنسان، ويدل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا. 3ـ التقدير السنوي: الذي يكون في ليلة القدر، كما قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} 2 أي: يقدَّر في هذه الليلة كلُّ ما هو كائن إلى ليلة القدر التي تليها، ولهذا لما سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم:""أرأيت إن علمت أي ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنَّك عفو تحب العفو فاعف عني " 3 فما أجمل ملازمة العبد لهذه الدعوة في تلك الليلة العظيمة التي يكتب فيها ما هو كائن إلى ليلة القدر الأخرى. 4ـ التقدير اليومي: الذي دل عليه قول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 4.

_ 1 سبق تخريجه. 2 الآية 4 من سورة الدخان. 3 أخرجه الترمذي " رقم 3513 وقال: هذا حديث حسن صحيح "، والنسائي في السنن الكبرى " رقم 10708"، وابن ماجه " رقم 3850 "، وأحمد "6/171"، والحاكم " 1/712 وقال: صحيح على شرط الشيخين " 4 الآية 29 من سورة الرحمن.

وهذه التقديرات الثلاثة العمري والسنوي واليومي كلُّها داخلة تحت التقدير العام، وليست خارجة عنه، فهي تقدير بعد تقدير. " فو الذي لا إله غيره " يحلف بالله العظيم. " إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها " فمن وُفِّق للطاعة وأُعِين على العبادة، يحتاج أن يسأل الله تبارك وتعالى أن يثبته عليها إلى الممات. قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 1. فعلى العبد الذي وُفِّق للعمل أن يصلح سريرته ما بينه وبين الله، بأن يكون منكسراً متذللاً خاضعاً لجنابه، طالباً عونه وتوفيقه وتسديده، وليحذر من العجب ورؤية العمل؛ فإنَّ من أسباب سوء الخاتمة ـ والعياذ بالله ـ فساد الباطن وسوء السريرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:""اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها " 2. وقد جاءت رواية توضح هذا المعنى، وأنَّ خذلان الله للعبد إنما يكون لسوء سريرته، فعن سهل بن سعد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:""إنَّ الرجل ليعمل عمل أهل الجنة ـ فيما يبدو للناس ـ وهو من أهل النار، وإنَّ الرجل ليعمل عمل أهل النار ـ فيما يبدو للناس ـ وهو من أهل الجنة " 3. ولذا قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:""وأمَّا كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإنَّ هذا عمل أهل الجنة

_ 1 الآية 27 من سورة إبراهيم. 2 أخرجه مسلم " رقم 6844 " 3 أخرجه البخاري " رقم 4202 "، ومسلم " رقم 6683 "

فيما يظهر للناس، ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله "1. قال عبد الحق الإشبيلي:""واعلم أنَّ سوء الخاتمة ـ أعاذنا الله تعالى منها ـ لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سُمِع بهذا ولا عُلِم به والحمد لله، وإنما تكون لمن له فساد في العقد أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم " 2. " وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " أي حياته كلُّها على الكفر، ثم يشرح الله عز وجل صدره للإيمان في آخر حياته فيكون من أهل الجنة. ومن أمثلة هذا ما رواه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال:""خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأنَّ هذا الراكب إياكم يريد. فانتهى الرجل إلينا فسلم فرددنا عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أقبلت؟ قال: من أهلي وولدي وعشيرتي. قال: فأين تريد؟ قال: أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقد أصبته. قال: يا رسول الله علمني ما الإيمان. قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. قال: قد أقررت. قال: ثم إنَّ بعيره دخلت يده في شبكة جِرذان فهوي بعيره وهوى الرجل، فوقع على هامته فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليَّ بالرجل. قال: فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة فأقعداه، فقالا: يا رسول الله قبض الرجل. قال: فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لهما

_ 1 الفوائد " ص 213 " 2 الجواب الكافي لابن القيم " ص198 "

رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما رأيتما إعراضي عن الرجل، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة، فعلمت أنَّه مات جائعاً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من الذين قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1، قال: ثم قال: دونكم أخاكم " 2. وفي رواية:""هذا ممن عمل قليلاً وأجر كثيراً " 3. " وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي رواه مسلم في الصحيح وأبو داود في السنن وغيرهما من الأئمة:""أنَّ جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنتُ؟ قال: نعم " "" ختم المصنف ـ رحمه الله ـ الأحاديث التي أوردها ليستدل بها على الإيمان بالقدر بطرف من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مشهور عند أهل العلم بحديث جبريل؛ لأنَّ جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة رجل وطرح عليه أسئلة، وفي كلِّ مرة بعد أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: صدقت. فعجب الصحابة من ذلك وقالوا: عجبنا له يسأله ويصدِّقه. وللحديث قصة، يرويها يحيى بن يعمر قال:""كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني. فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر. فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد،

_ 1 الآية 82 من سورة الأنعام. 2 أخرجه أحمد " 4/359 " قال الهيثمي في المجمع " 1/41 ": " في إسناده أبو جناب وهو مدلس، وقد عنعنه " لكن للحديث طرق يتقوى بها. 3 المصدر السابق.

فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أنَّ صاحبي سيكل الكلام إليَّ فقلت: أبا عبد الرحمن! إنَّه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم ـ وذكر من شأنهم ـ وأنهم يزعمون أن لا قدر وأنَّ الأمر أنف. فقال: فإذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أني برئ منهم وأنهم براء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أنَّ لأحدهم ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال: حدثني أبي: عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقتَ ... " الحديث 1. وساقه ابن عمر رضي الله عنه لأجل هذه الجملة " وأن تؤمن بالقدر خير وشره " فهو دال على أنَّ الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان وأصل من أصول الدين، وأنَّه لا إيمان لأحد إلا بالإيمان بالقدر، وأنَّ من لم يؤمن بالقدر فلن يقبل الله عز وجل منه صلاة ولا صياماً ولا صدقة ولا فرضاً ولا نفلاً. والكلام حول حديث جبريل والمعاني المستفادة منه يطول جداً، لكن أشير.

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 93 "

إلى فائدة جليلة أخذها أهل العلم من هذا، ألا وهي: أنَّ الإسلام والإيمان إذا ذكرا معاً حمل الإسلام على الأعمال الظاهرة، والإيمان على الاعتقادات الباطنة. وإذا ذُكِر كلُّ واحد منهما مفرداً تناول الآخر. ولهذا جاء في حديث وفد عبد القيس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:""أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس " 1، ففسر لهم الإيمان بالأعمال الظاهرة، وهو شاهد على دخول الأعمال في مسمى الإيمان. ولما ختم المصنف ـ رحمه الله ـ ذكر الأدلة على القدر، قال: " وفيه من الأدلة ما لو استقصيناه لأدى إلى الإملال " " وفيه " أي: القدر. " من الأدلة ما لو استقصيناه لأدى إلى الإملال " يعني أنَّ أحاديثه كثيرة جداً، وأهل العلم الذين كتبوا في القدر أوردوا كثيراً من هذه الأحاديث، مثل الإمامين البخاري ومسلم في كتاب القدر من صحيحيهما، وكذلك أصحاب السنن، وغيرهم من أهل العلم، بل من أهل العلم من أفرده بالتصنيف، كالفريابي في كتاب " القدر "، وابن وهب في كتابه " القدر وما ورد في ذلك من الآثار "، وابن القيم في كتابه العظيم " شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ".

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 53 "، ومسلم " رقم 116 "

الإسراء والمعراج

[الإسراء والمعراج] " وأجمع القائلون بالأخبار والمؤمنون بالآثار: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسرِي به إلى فوق سبع سماوات ثم إلى سدرة المنتهى، أُسرِي به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى: مسجد بيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماء بجسده وروحه جميعاً، ثم عاد من ليلته إلى مكة قبل الصبح، ومن قال: إنَّ الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة فقد غلط، ومن قال: إنَّه منام وأنَّه لم يُسْرَ بجسده فقد كفر " انتقل المصنف ـ رحمه الله ـ إلى الكلام عن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، والعروج به إلى السماء، وهو من فضائله صلى الله عليه وسلم وخصائصه." ولا يؤمن بالإسراء إلا من يؤمن بالأخبار ويعول عليها، أما التائهون الذين يقدمون عقولهم وآراءهم وأفكارهم ولا يعظِّمون الآثار ولا يعتنون بالأخبار فلا يؤمنون به، بل ربما اعترضوا أو انتقدوا أو حرَّفوا أو أوَّلوا أو سلكوا غير ذلك من المسالك الباطلة في سبيل رده. في ليلة واحدة: إسراء إلى بيت المقدس وعروج إلى السماء، من كانت حدود إيمانياته بالمعقول فقط وليس للأخبار عنده شأن هل يتلقى ذلك بالقبول؟! ولهذا قال المصنف ـ رحمه الله ـ: " وأجمع القائلون بالأخبار والمؤمنون بالآثار " ففي هذا فضيلةُ من شرح الله عز وجل صدره لتلقي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالقبول. وإذا أردت معرفة تمام هذه المرتبة فانظر إلى حال الصديق رضي الله عنه لما ذكرت له قريش هذا الأمر وقالت له: إنَّ صاحبك يزعم أنَّه عُرج به إلى السماء. قال:""والله لئن كان قاله لقد صدق " 1. وعلى سبيلها قول

_ 1 انظر: السيرة النبوية لابن هشام " 2/423 "

صاحب السنة: إن صح الحديث فأنا مؤمن به. " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسرِي به إلى فوق سبع سماوات ثم إلى سدرة المنتهى " في الكلام شيء من الاختصار؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم أُسري به إلى بيت المقدس ثم عُرج به إلى السماء كما سيبينه المصنف بعد. " أُسرِي به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى: مسجد بيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماء " أُتِي صلى الله عليه وسلم ليلةً بالبراق وانطلق به إلى بيت المقدس، فربط البراق عند باب المسجد ودخل وصلى فيه، ثم عُرج به من بيت المقدس إلى السماء، ثم فتح له باب السماء، ثم عرج به إلى السماء التي تليها، إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى فوق السماء السابعة، وفي كلِّ سماء يمر بنبي من الأنبياء أو أكثر، فمر في الأولى بآدم، وفي الثانية بيحيى وعيسى، وفي الثالثة بيوسف، وفي الرابعة بإدريس، وفي الخامسة بهارون، وفي السادسة بموسى، وفي السابعة بإبراهيم. ثم رُفع له البيت المعمور، وسأل عنه جبريل فقال: هذا البيت المعمور، يدخله في كلِّ يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون. ثم فرض الله عليه الصلاة خمسين صلاة، ثم رجع، فمر بموسى فقال له: إنَّ أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فكان يتردد بين الله عز وجل وموسى حتى خففت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال له موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فقال صلى الله عليه وسلم: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. فلما جاوز نادى مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي 1. وهذا يبين عظم شأن الصلاة في الدين وجلالة قدرها عند الله، فكلُّ طاعة

_ 1 انظر: صحيح البخاري " رقم 3887 "، ومسلم " رقم 409 "

أمر الله بها ينزل بها جبريل إلى الأرض ثم يبلغها النبي صلى الله عليه وسلم، إلا هذه الصلاة عُرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء وتلقاها منه سبحانه مباشرة. وهو في ذلك المقام سمع كلام الله من الله، فهو كليم الله، شارك موسى عليه السلام في الكلام، كما شارك إبراهيم عليه السلام في الخلة، قال صلى الله عليه وسلم:"" فإنَّ الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً " 1، ولهذا اجتمع فيه ما تفرق في الأنبياء. ويعتبر حديث المعراج أحد أدلة علو الله عز وجل، وأنَّه سبحانه مستو على عرشه. حدثني ثقة قال: التقيت برجل يقول: إنَّ الله في كلِّ مكان. فقلت: هل تؤمن بفضل النبي صلى الله عليه وسلم ومناقبه؟ قال: نعم. قال: قلت: هل تؤمن بالعروج به إلى السماء؟ قال: نعم. قال: قلت: إن أنكرت علو الله لم تؤمن لا بفضل النبي صلى الله عليه وسلم ولا بربك، فلا عظمت النبي صلى الله عليه وسلم ولا آمنت بربك وبعلوه. يقول: فقال لي الرجل: آمنت بعلو الله وصدقت. " بجسده وروحه جميعاً " هنا يرد المصنف ـ رحمه الله ـ على من يقول: إنَّ الإسراء والمعراج كان بالروح فقط. وهذا باطل وغير صحيح، بل عُرج به صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده،قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} 2 وقوله جل وعلا: " بعبده " يتناول الروح والجسد، وهكذا بقية الأحاديث. فمن قال: إنَّ الإسراء والمعراج كان بالروح فقط ليس عنده دليل. ومن قال: إنَّه منام فهو أشد باطلاً وبعداً عن الحق والصواب. " ثم عاد من ليلته إلى مكة قبل الصبح " أي: لم يأت عليه الصبح إلا وهو في فراشه.

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 1188 " 2 الآية 1 من سورة سورة الإسراء.

" ومن قال: إنَّ الإسراء في ليلة، والمعراج في ليلة فقد غلط " قال هذا بعض شراح الحديث بناء على أوهام وقعت لبعض الرواة فيه، وبنى عليها بعضهم تعدد وقوع الإسراء والمعراج. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:""وكان الإسراء مرة واحدة. وقيل: مرتين: مرة يقظة ومرة مناماً، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله: " ثم استيقظت " وبين سائر الروايات. ومنهم من قال: بل كان هذا مرتين، مرة قبل الوحي لقوله في حديث شريك: " وذلك قبل أن يوحى إليه "، ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الروايات. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي، ومرتين بعده. وكلُّ هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل، الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى، فكلَّما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع. والصواب الذي عليه أئمة النقل: أنَّ الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة " 1. " ومن قال: إنَّه منام وأنه لم يُسْرَ بجسده فقد كفر " لأنَّه جحد هذا الأمر الواضح الصريح الذي دلت عليه النصوص. بعد أن ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ هذا التلخيص فيما يتعلق بالإسراء والمعراج أعقبه بذكر الأدلة كما هي طريقته، فقال: " قال الله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} "

_ 1 زاد المعاد " 3/ 42 " وقال الحافظ ابن حجر في الفتح " 13/494 ": " مجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء، بل تزيد على ذلك ".

فهذا دليل على الإسراء، وفيه أيضاً إشارة إلى المعراج إذ قال جل وعلا: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 1، فقد رأى صلى الله عليه وسلم من آيات ربه الكبرى عندما عُرج به إلى السماء. " وروى قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أبو ذر، وأنس بن مالك، ومالك بن صعصعة، وجابر بن عبد الله، وشداد بن أوس، وغيرهم " فهو حديث مستفيض، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، وعدَّه غير واحد من أهل العلم من الأحاديث المتواترة 2. " كلُّها صحاح مقبولة مرضية عند أهل النقل مخرجة في الصحاح " وهذا حكم من المصنف على أحاديث الإسراء بأنها صحيحة مرضية متلقاة بالقبول عند أئمة السلف وعلماء أهل السنة والجماعة.

_ 1 الآية 1 من سورة الإسراء. 2 منهم: ابن القيم كما في اجتماع الجيوش الإسلامية " ص98 "

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه

[رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه] بعد انتهاء المصنف ـ رحمه الله ـ من ذكر الإسراء والمعراج دخل في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، فقال: " وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل،كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} . قال الإمام أحمد ـ فيما روينا عنه ـ: وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، فإنَّه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح، رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس. والحديث على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره، ولا نناظر فيه أحداً " هذه المسألة فيها نزاع معروف بين أهل العلم على قولين: القول الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عندما عُرِج به إلى السماء، ونُقِل ذلك عن بعض الصحابة. القول الثاني: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه. وبعض أهل العلم في كتب الاعتقاد انتصروا للقول بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ومنهم المصنف هنا، وكذلك ابن خزيمة في كتاب التوحيد 1. لكنَّ التحقيق أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وليس مع من قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج دليل واضح يبنى عليه القول بذلك، بل الأدلة في عدم الرؤية أصرح، سواء الأدلة العامة في هذا الباب، أو الأدلة الخاصة المتعلقة به صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الأدلة: ما جاء في صحيح مسلم 2 عن أبي ذر رضي الله عنه

_ 1 " 2/477 ـ 562 " 2 الصحيح " رقم 442 "

قال:""سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه ". فهذا واضح في الدلالة على أنَّه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه. ولعله صلى الله عليه وسلم رأى النور، كما جاء في الحديث:""حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " 1. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:""قد ثبت بالنصوص الصحيحة واتفاق سلف الأمة أنَّه لا يرى الله أحد في الدنيا بعينه، إلا ما نازع فيه بعضهم من رؤية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة " 2. وقال ـ أيضاً ـ:""وليس في الأدلة ما يقتضي أنَّه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل " 3. والمصنف ـ رحمه الله ـ لما انتصر لقول من قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه لم يذكر دليلاً واضحاً على ذلك فقال: " كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} " وهذه الرؤية لجبريل؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رآه على صورته الحقيقية مرتين، كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها"أنَّها قالت ـ لما قال لها مسروق بن الأجدع: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} 4،: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 5"ـ:""أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض " 6. " قال الإمام أحمد فيما روينا عنه " هذه رواية عبدوس بن مالك العطار عن الإمام أحمد.

_ 1 تقدم تخريجه. 2 مجموع الفتاوى " 6/510 " 3 مجموع الفتاوى " 6/ 509 ـ 510 " 4 الآية 23 من سورة التكوير. 5 الآية 13 من سورة النجم. 6 أخرجه مسلم " رقم 438 "

" وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، فإنَّه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحٌ، رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس " لهذا الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله عنهما روايتان، الرواية الأولى مطلقة، قال فيها:""رأى ربه تبارك وتعالى " 1. والرواية الأخرى مقيدة، قال فيها:""رآه بفوائده مرتين " 2، وقال مرة:"" رآه بقلبه " 3. ولم يأت عنه رضي الله عنه أنه قال: رآه بعينه 4. فإذا حملت الرواية المطلقة على المقيدة اتفقت أقاويل السلف في هذا الباب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:""ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإنَّ ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه " 5. والرؤية التي بالفؤاد ثابتة له صلى الله عليه وسلم، كما في قوله:""إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة " 6.

_ 1 أخرجه الترمذي " رقم 3280 "، وابن أبي عاصم " رقم 439 "، وابن حبان في صحيحه " رقم 57 "، والبيهقي في الأسماء والصفات " رقم 933 "، وقال الألباني: " إسناده حسن ". 2 أخرجه مسلم " رقم 436 " 3 أخرجه مسلم " رقم 435 " 4 انظر: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه للشيخ محمد بن خليفة التميمي " ص126 " ضمن العدد 113 من مجلة الجامعة الإسلامية فقد أشار إلى جملة من الروايات عن ابن عباس بهذا المعنى لكنها لم تصح. 5 اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم " ص48 " 6 أخرجه الترمذي " رقم 3235 "، وأحمد " 5/ 243 "، وابن خزيمة في التوحيد " رقم 320 " قال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح ".

" والحديث على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " الحديث كما سبق موقوف على ابن عباس وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتحقيق في هذا كما سبق أن يحمل المطلق من كلامه رضي الله عنه على المقيد. " والكلام فيه بدعة " يعني إذا ردَّ المسلم الشيء الصحيح الثابت المتقرر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيعترض عليه وينتقده بعقله فهذا بدعة"، لكن الشأن في ثبوت ذلك. " ورُوي عن عكرمة عن ابن عباس قال:""إنَّ الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية " " أورد المصنف ـ رحمه الله ـ هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنه مستدلاً بها على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وهي محمولة على الرواية المقيدة والله أعلم. " وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:""رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين " " وهذه الرواية مقيدة بما جاء في الرواية الأخرى:""بفؤاده مرتين " 1. " ورُوي عن أحمد ـ رحمه الله ـ أنَّه قيل له: بم تجيب عن قول عائشة رضي الله عنها:""من زعم أنَّ محمداً قد رأى ربه عز وجل ... " الحديث؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم:""رأيت ربي عز وجل " "

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 436 " ?

المروي عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في هذا الباب مثل ما هو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه، إمَّا روايات مطلقة، قال فيها: " رأى ربه "، أو روايات مقيدة بفؤاده. وعلى هذا فتحمل الرواية المطلقة على المقيدة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ وهو العارف المستقرئ لكلام الإمام أحمد ـ:""وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: رآه بفؤاده. ولم يقل أحد إنَّه سمع أحمد يقول: رآه بعينه. لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين " 1. " بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"" رأيت ربي عز وجل " " إن كان المقصود بهذا حديث ابن عباس الذي استدل به الإمام أحمد في رواية عبدوس فقد سبق الكلام عليه. وإن كان المقصود حديث:""رأيت ربي في أحسن صورة " فهذه رؤية منامية وليست يقظة كما قرر ذلك أهل العلم. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:""وكلام أحمد يصدق بعضه بعضاً، والمسألة رواية واحدة عنه؛ فإنَّه لم يقل بعينه، وإنما قال: " رآه ". واتبع في ذلك قول ابن عباس: " رأى محمد ربه ". ولفظ الحديث:""رأيت ربي " وهو مطلق، وقد جاء بيانه في الحديث الآخر. ولكن في رد الإمام أحمد قول عائشة ومعارضته بقول النبي صلى الله عليه وسلم إشعار بأنَّه أثبت الرؤية التي أنكرتها عائشة، وهي لم تنكر رؤية المنام، ولم تقل: من زعم أنَّ محمداً رأى ربه في المنام فقد أعظم على الله الفرية. وهذا يدل على أحد أمرين: إمَّا أن يكون الإمام أحمد أنكر قول من أطلق نفي الرؤية؛ إذ هو مخالف للحديث. وإمَّا أن يكون رواية عنه بإثبات الرؤية، وقد صرح بأنَّه رآه

_ 1 مجموع الفتاوى " 6/509 "

رؤيا حلم بقلبه، وهذا تقييد منه للرؤية، وأطلق عنه بأنَّه رآه، وأنكر قول من نفى مطلق الرؤية، واستحسن قول من قال: رآه ولا يقول بعينه ولا بقلبه. وهذه النصوص عنه متفقة لا مختلفة، وكيف يقول أحمد: " بعيني رأسه يقظة "، ولم يجد ذلك في حديث قط. فأحمد إنما اتبع ألفاظ الحديث كما جاءت، وإنكاره قول من قال: لم يره أصلاً، لا يدل على إثبات رؤية اليقظة بعينه، والله أعلم " 1. " وفي حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:""فرجعت إلى ربي وهو في مكانه " والحديث بطوله مخرج في الصحيحين، والمنكر لهذه اللفظة راد على الله ورسوله " ورد هذا في صحيح البخاري 2 في سياق تردد النبي صلى الله عليه وسلم بين موسى وبين الله عز وجل، لكن بلفظ:""فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه يا رب خفف عنا ". والضمير في قوله: " وهو مكانه " يعود إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، أي: في مكانه الذي أوحى الله إليه فيه قبل نزوله إلى موسى عليهما الصلاة والسلام 3. وهذا السياق ـ كما هو واضح ـ ليس فيه ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم رآه. " والمنكر لهذه اللفظة راد على الله ورسوله " نعم المنكر لهذه اللفظة ـ حسبما هو ثابت في الصحيح ـ راد على الله ورسوله؛ لأنها ثابتة فلا يجوز ردها، لكن ليس فيها ما يدل على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه.

_ 1 التبيان في أقسام القرآن " ص260 ـ 261 " 2 " رقم 7517 " 3 انظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ عبد الله الغنيمان " 2/461 "

وعلى هذا فليس فيما استدل به المصنف ـ رحمه الله ـ شيء صريح في الدلالة على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه. والتحقيق أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يره، وأنَّ رؤية الله في الدنيا وإن كانت غير ممتنعة إلا أنَّه اقتضت حكمته عز وجل أن تكون يوم القيامة في دار الجزاء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""إنَّكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " 1. ونسأل الله جل وعلا أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة بمنه وكرمه.

_ 1 سبق تخريجه.

إثبات الشفاعة

[إثبات الشفاعة] ثبتت الشفاعة في نصوص كثيرة وأحاديث عديدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والإيمان بها هو من جملة الإيمان بالأمور المغيبة، كالصراط والحوض والدواوين والميزان وغير ذلك من أحوال يوم القيامة وأموره التي دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والإيمان بذلك كلِّه من الإيمان بالغيب الذي امتدح الله عز وجل أهله بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 1 أي: الذين يؤمنون بما غاب عنهم مما أخبرتهم به رسل الله. والشفاعة في اللغة مأخوذة من الشفع: وهو ضد الوتر، وسميت بذلك لضم الشافع دعاءه إلى المشفوع له؛ فالمشفوع له دعا لنفسه، ثم دعا له الشافع فكان ذلك شفعاً. وعليه يكون تعريف الشفاعة: طلب الخير للغير. والشفاعة التي تكون يوم القيامة أنواع عديدة، منها ما هو مختص بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو عام له وللأنبياء والصالحين من عباد الله. فأما الشفاعات المختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهي: 1ـ الشفاعة العامة أو الشفاعة الكبرى: وهذه الشفاعة لا ينكرها أحد من المنتسبين إلى الإسلام، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف عندما يقفون قياماً لله رب العالمين ينتظرون الجزاء والحساب، وتدنو الشمس من الخلائق ولا يدري كلُّ واحد منهم ما مآله وما مصيره، فلما يطول مكثهم ويشتد تعبهم يأتون إلى الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا عند الله بأن يبدأ بالحساب، فيأتون آدم فيعتذر ويحيلهم إلى نوح، فيعتذر ويحيلهم إلى إبراهيم، فيعتذر ويحيلهم إلى موسى، فيعتذر ويحيلهم إلى عيسى، فيعتذر ويحيلهم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها. ثم يسجد

_ 1 الآية 3 من سورة البقرة.

لله تبارك وتعالى تحت العرش، ويعلمه الله حينئذ من محامده وحسن الثناء عليه ما لا يعلمه حال حياته صلى الله عليه وسلم، فيحمد الله ويثني عليه، فيقول الله له: ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع. وحينئذ يجيء الرب بنفسه تعالى لفصل القضاء، وهذا من تمام عدله كما قال سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} 1. وهي التي يغبطه عليها الأولون والآخرون من الخلائق لما فيها من بيان فضله صلى الله عليه وسلم على الناس كلِّهم في ذلك الموقف العظيم، وأنَّه أفضل عباد الله، وسيد ولد آدم، الشافع المشفع. وهي المقام المحمود المذكور في قول الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 2. 2ـ الشفاعة لأهل الجنة بأن يدخلوها: وهي أيضاً خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو أول من يستفتح باب الجنة فيفتح له. وأول الداخلين من الأمم أمته صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة " 3. وهذا أيضاً فيه بيان فضله وعظيم مكانته صلى الله عليه وسلم. 3ـ شفاعته لعمه أبي طالب بأن يخفف عنه العذاب: وأبو طالب من الكفار من أهل النار، لكنه على كفره نصر النبي صلى الله عليه وسلم، واجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في هدايته وحرص على إسلامه، فأنزل الله عز وجل في ذلك قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 4. وهذه الشفاعة خاصة بأبي طالب؛ فإنَّ الكفار لا تنفعهم الشفاعة، كما أخبر

_ 1 الآيتان 22، 23 من سورة الفجر. 2 الآية 79 من سورة الإسراء. وانظر: صحيح البخاري " رقم 4718، 7440 "، وصحيح مسلم " رقم 472 " 3 أخرجه البخاري " رقم 876 "، ومسلم " رقم 1977 " واللفظ له. 4 الآية 56 من سورة القصص.

الله جل وعلا: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 1، ويستثنى من هذا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بأن يخفف عنه العذاب مع بقائه في النار. وأما الشفاعات العامة وهي التي تكون من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الملائكة والصالحين من عباد الله، فهي: 1ـ الشفاعة لمن دخل الجنة: بأن تُرفع درجته فيها وتعلو فوق ما كان يقتضيه ثواب عمله. 2ـ الشفاعة لمن استحق النار: بأن لا يدخلها. 3ـ الشفاعة لمن دخل النار: بأن يخرج منها. وهذان القسمان الأخيران خاصان بعصاة الموحدين. وهذه الشفاعات لا تكون إلا بشرطين، دل عليهما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهما: الأول: إذن الله للشافع، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2، فلا يمكن أن تكون شفاعة يوم القيامة إلا بإذن الله، ولا يمكن أن يشفع أحد بين يدي الله إلا إذا أذن الله له. الثاني: رضا الله تبارك وتعالى عن المشفوع له. ولا يرضى سبحانه إلا عن أهل التوحيد،قال جل وعلا: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 4. وقد جُمع هذان الشرطان في غير آية، كما في قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 5 فذكر الشرطين: الإذن والرضا. وقد اقتصر المصنف ـ رحمه الله ـ على نوعين من الشفاعة: الشفاعة

_ 1 الآية 48 من سورة المدثر. 2 الآية 255 من سورة البقرة. 3 الآية 48 من سورة المدثر. 4 الآية 28 من سورة الأنبياء. 5 الآية 26 من سورة النجم.

الكبرى وهي من القسم المختص بالنبي صلى الله عليه وسلم. والشفاعة لعصاة الموحدين وهي من القسم العام، فقال: " ويعتقد أهل السنة ويؤمنون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يشفع يوم القيامة لأهل الجمع كلهم شفاعة عامة، ويشفع في المذنبين من أمته فيخرجهم من النار بعدما احترقوا " ثم شرع ـ رحمه الله ـ"يسوق الأدلة عليها، فقال: " كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:""لكلِّ نبي دعوة يدعو بها، فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة " " في هذا الحديث دلالة على أنَّ لكلِّ نبي دعوة مستجابة، وأنَّ الأنبياء تعجلوا دعواتهم في الدنيا، وأنَّه صلى الله عليه وسلم اختبأ هذه الدعوة لأمته يوم القيامة. وقد ذكر بعض أهل العلم أنَّ هذه هي الشفاعة العظمى التي يغبطه عليها الأولون والآخرون. وقيل: غير ذلك. وفعله هذا من تمام نصحه وشفقته وحرصه على أمته صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. ثم أورد المصنف ـ رحمه الله ـ حديث أبي هريرة المبين للأسباب التي تنال بها الشفاعة فقال: " وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّه قال:""قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لِمَا رأيت من حرصك على الحديث. إنَّ أسعد الناس بشفاعتي

_ 1 الآية 128 من سورة التوبة.

يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه " رواه البخاري " " من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ " أي: من أحظاهم وأولاهم بها، ومن هو الأكثر استحقاقاً لها؟ وفي هذا السؤال من أبي هريرة رضي الله عنه دلالة على اهتمام الصحابة بهذا الأمر وعنايتهم به، فهم يعرفون قدر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانتها، وكلُّهم يرغب في نيلها، حريصون على معرفة الأسباب التي تنال بها؛ لأنهم يدركون أنَّ أسبابها شرعية، لا يمكن أن تعرف إلا من طريق النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا سألوه مثل هذا السؤال. وينبغي لكلِّ عبد عرف قدر الشفاعة أن يعتني بهذا السؤال؛ لأنَّه إذا عرف الجواب وسلك مسلكه: سلم من الأباطيل التي ضل فيها أقوام ـ من هذه الأمة ومن الأمم السابقة ـ عندما انحرفوا في مفهوم الشفاعة، كما قال تبارك وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. ولهذا ترى أناساً يطلبون الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: اشفع لي يا رسول الله. وبعضهم يدعوه مباشرة من دون الله ويسمي عمله هذا شفاعة، كقول بعضهم: مدد يا رسول الله. ومتى كان نيل الشفاعة بالشرك؟! فدعاء غير الله ـ أياً كان ـ يبعد عن رحمة الله ويمنع ثوابه تبارك وتعالى. قال تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 2، فهي حق لله لا تطلب إلا منه سبحانه. ومن أراد أن يشفع له أحد عند الله فلا يطلب ذلك إلا من الله. ولهذا فلا ضير على العبد أن يقول: اللهم شفع فيَّ نبيك. أو: اللهم اجعلني ممن يشفع فيهم نبيك. وعليه أن لا يكتف بهذا الدعاء، بل عليه أن يفعل الأسباب التي ينال بموجبها الشفاعة كما هو واضح في هذا السؤال وجوابه

_ 1 الآية 18 من سورة يونس. 2 الآية 44 من سورة الزمر.

" قال: لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لِمَا رأيت من حرصك على الحديث " في هذا فضيلة لأبي هريرة رضي الله عنه، وبيان شدة حرصه على العلم وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم. كما يؤخذ منه أسلوب نافع في التربية، وهو إعطاء الحريص حقه من التشجيع والترغيب؛ فإنه يزيده حرصاً واهتماماً. والنبي صلى الله عليه وسلم إمام في كلِّ شيء: في العلم والتربية والمعاملة وغيرها، وهو الأسوة في كلِّ جانب، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1. ومع ذلك ترى بعض المهتمين بالتربية يشرِّقون ويغرِّبون في طلب الأساليب التربوية المؤثرة الناجحة، ويتركون هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من النقص ووهاء العلم وضعفه، وإلا فالتربية بأروع صورها وأتم أساليبها وأكمل أبوابها عند نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا أتم من تربيته، ولا أكمل من هديه، ولا أحسن من أسلوبه. " إنَّ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال: لا إله إلا الله خالصاً " هذا هو الجواب، فأهل لا إله إلا الله: محققو التوحيد: المخلصون لله هم أسعد الناس بشفاعة النبيين والصالحين. أمَّا من أخل بالإخلاص وضيَّعه وفرط فيه فلا يستحق الشفاعة، ولا يسعد بها. فمن أراد نيل الشفاعة، فعليه بالإخلاص والعمل بطاعة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لربيعة بن كعب الأسلمي لما قال له: أسألك مرافقتك في الجنة قال:""فأعني على نفسك بكثرة السجود " 2. " من قبل نفسه " أي من قلبه يبتغي بها وجه الرب العظيم سبحانه. ومعنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، ففيها نفي العبودية عن كلِّ

_ 1 الآية 21 من سورة الأحزاب. 2 أخرجه مسلم " رقم 1094 "

ما سوى الله، وإثباتها لله وحده. فلا يكون الإنسان موحداً إلا بتحقيق هذا النفي والإثبات، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا) 1 إذ بالنفي وحده يكون الإنسان ملحداً، وبالإثبات وحده يكون الإنسان مشركاً. وفي هذا الحديث بيان فضيلة كلمة التوحيد وعظم مكانتها، فهي أعظم الكلمات وأفضلها على الإطلاق، وهي أصل الدين وأساس السعادة، وسبيل الفوز في الدنيا والآخرة، كما جاء في مسند الإمام أحمد 2 عن أبي ذر رضي الله عنه قال: " يا رسول الله أفمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: نعم هي أحسن الحسنات ". وفي حديث الشعب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:""الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " 3. وفي حديث مباني الإسلام: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""إنَّ الإسلام بني على خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت " 4. وفيه أنَّ كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، لا تنفع صاحبها بمجرد القول، بل لابد من الإتيان بشروطها وضوابطها التي دل عليها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قيل لوهب بن منبه رحمه الله:""أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتِح لك، وإلا لم يُفتَح لك " 5.

_ 1 الآية 256 من سورة البقرة. 2 " 5/169 " وحسَّنه الألباني في الصحيحة " 3/361 " 3 سبق تخريجه. 4 أخرجه البخاري " رقم 8 "، ومسلم " رقم 114 " 5 علقه البخاري في صحيحه " 3 / 131 مع الفتح " جازماً به، ووصله في التاريخ الكبير " 1/95 "، وأبو نعيم في الحلية " 4/66 "

وقيل للحسن البصري ـ رحمه الله ـ:""إنَّ ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة " 1. يشير إلى شروط لا إله إلا الله. ولهذا لم يَكتف النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقول لا إله إلا الله، بل اشترط الإخلاص ـ وهو الصفاء والنقاء ـ، فلا إله إلا الله لا تقبل من قائلها إلا إذا كان عمله نقياً صافياً، لم يرد به إلا وجه الله تبارك وتعالى، كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2، وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3، وكما في الحديث القدسي:""أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " 4. وإذا أردت أن تعرف معنى الإخلاص في اللغة فتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} 5، فاللبن الأبيض النقي الصافي يخرج حين يخرج من بهيمة الأنعام من بين فرث ودم، حتى إنه قيل: إنَّ خروجه من بين الفرث والدم يكون عند الحلب مباشرة، ومع ذلك وصفه الله بأنَّه خالص لا ترى فيه قطرة من دم ولا قطعة من فرث. وقد ذكر العلماء ـ بالاستقراء لنصوص الكتاب والسنة ـ أنَّ لا إله إلا الله لها شروطاً سبعة لا تقبل إلا بها، وهي: 1ـ العلم بمعناها المنافي للجهل.

_ 1 جامع العلوم والحكم " ص209 " 2 الآية 5 من سورة البينة. 3 الآية 3 من سورة الزمر. 4 أخرجه مسلم " رقم 7400 " 5 الآية 66 من سورة النحل.

2ـ اليقين المنافي للريب. 3ـ الإخلاص المنافي للشرك والرياء. 4ـ الصدق المنافي للكذب. 5ـ المحبة المنافية للبغض والكره. 6ـ الانقياد المنافي للترك. 7ـ والقبول المنافي للرد. وهي مجموعة في قول الناظم: علم يقين وإخلاص وصدقك مع ... محبة وانقياد والقبول لها ولكلِّ واحد من هذه الشروط العشرات من الأدلة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ حافظ الحكمي: وبشروط سبعة قد قيدت ... وفي نصوص الوحي حقاً وردت فإنَّه لا ينتفع قائلها ... بالنطق إلا حيث يستكملها العلم واليقين والقبول ... والانقياد فادر ما أقول والصدق والإخلاص والمحبه ... وفقك الله لما أحبه وقد شرحها رحمه الله في كتابه " معارج القبول " شرحاً نافعاً، وذكر دلائل كلِّ شرط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم 1. " وروى حديث الشفاعة بطوله: أبو بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى عبد الله بن قيس، وأبو هريرة، وغيرهم " وقد نص غير واحد من أهل العلم على أنَّه حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم 2.

_ a 1 معارج القبول " 2/418 ـ 434 " 2 منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى " 13/35 "، وابن أبي العز في شرح الطحاوية " ص233 "

الإيمان بالحوض

[الإيمان بالحوض] " ثم الإيمان بأنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً ترده أمته كما صح عنه، وأنَّه كما بين عدن إلى عمان البلقاء، وروي من مكة إلى بيت المقدس، وبألفاظ أخر. ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء " الإيمان بالحوض المورود من جملة الإيمان بالغيب؛ إذ ليس عندنا فيه خبر إلا من خلال النصوص والأدلة، وإنما نؤمن به لورود الخبر الصادق بشأنه، وهذه ميزة أهل الإيمان الذين يؤمنون بالأخبار ويتلقون ما جاءت به الأنبياء بالقبول. أمَّا من سواهم فلا يقبلون ذلك ولا يؤمنون به. " ثم الإيمان بأنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً ترده أمته " أي: من عقيدة أهل السنة: الإيمان بالحوض المورود، وبكلِّ صفة له ثبتت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم". " كما صح عنه " الحديث في الحوض صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو حديث متواتر كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم 1، بل إنَّ عدد الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض يزيدون عن خمسين صحابياً، بل عدهم بعضهم زيادة على الستين 2. وقد دلت السنة على أنَّه مربع الشكل، طوله وعرضه: شهر، وطعم مائه: أحلى من العسل، ولونه: أبيض من اللبن، ورائحته: أطيب من ريح المسك، وعليه كيزان كنجوم السماء في الجمال والكثرة، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً. قال النبي صلى الله عليه وسلم:""حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من

_ 1 منهم القاضي عياض كما في شرح مسلم للنووي " 15/ 53 "، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى " 13/35 " 2 انظر هذه الروايات في فتح الباري لابن حجر " 11/475 ـ 477 "

الورق، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبداً " 1. وقال صلى الله عليه وسلم:""ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل " 2. وقد أشار المصنف ـ رحمه الله ـ إلى بعض صفاته، فقال: " وأنَّه كما بين عدن إلى عمان البلقاء " أي: المسافة بين طرفيه كما بين اليمن وعمان الأردن. " وروي من مكة إلى بيت المقدس، وبألفاظ أخر " والمسافة بين عدن وعمان أكبر من المسافة بين مكة وبيت المقدس، ولذا استشكله بعض أهل العلم، لكن الجمع بينهما متيسر؛ لأنَّ المسافة الأقل داخلة في المسافة الأكثر. وحمله بعضهم على اختلاف السير من حيث قوته وضعفه 3. " ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء " سبقت الإشارة إلى هذه الصفات. ثم ذكر المصنف ـ رحمه الله عدداً ممن روى حديث الحوض عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " رواه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وأبي بن كعب، وأبو ذر، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو أمامة الباهلي، وبريدة الأسلمي " فذكر بعضهم، وإلا فإنَّ رواة حديث الحوض يتجاوزون الخمسين وقيل الستين صحابياً كما سبق. وإذا آمن العبد بهذا الحوض العظيم وبصفاته فلاشك أنَّ قلبه يحصل فيه

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 6579 "، ومسلم " رقم 5928 " واللفظ له. 2 أخرجه مسلم " رقم 5945 " 3 انظر: شرح مسلم للنووي " 15/57 "، فتح الباري " 11/480 "

شوق عظيم ورغبة شديدة في أن يكون من هؤلاء الذين يسعدون ويهنؤن بالشرب من هذا الماء. وإذا حصل في نفسه مثل هذا الشعور فعليه أن يعرف أنَّ أناساً يذادون عنه ويحرمون منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""ليردن عليَّ ناس من أصيحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي. فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك " 1. فعلى المؤمن أن يقف متأملاً عند هذه الكلمة: " لا تدري ما أحدثوا بعدك " ليعلم خطورة الإحداث في الدين، ومخالفة طريقة سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وأنها مستوجبة الحرمان من هذه المكرمة العظيمة. والذين يذادون عن الحوض هم المرتدون، كما جاء في بعض الروايات:""إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى " 2. وقيل: إن الذين يذادون هم المنافقون الذين كانوا يتظاهرون بالإيمان ويبطنون الكفر. وقد وُجد أقوام انتكست أفهامهم رأساً على عقب ـ وهم الروافض قاتلهم الله أنى يؤفكون ـ فادعوا ظلماً وزوراً أنَّ المعنيين بالذود عن الحوض هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين منَّ الله عليهم بصحبته ورؤيته وسماع حديثه منه، ونصرة دينه والمدافعة عنه، وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، حتى إنَّ هؤلاء الحمقى في بعض كتبهم يستغربون من رواية أهل السنة لهذا الحديث في كتبهم. وهذا منهم ضلال على ضلال، وعدوان على عدوان، وجهل متراكم، وإلا فقد دل الحديث على أنَّ الصحابة هم أولى الناس وأحقهم بالشرب من الحوض؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تدري ما

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 6582 "، ومسلم " رقم 5951 " 2 أخرجه البخاري " رقم 6587 "

أحدثوا بعدك " وهم ـ بحمد الله ـ ليسوا كذلك، وحاشاهم من ذلك، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} 1 هذا هو شأنهم، والتبديل إنما وُجد فيمن بعدهم. فهم أعظم الناس مراعاة للسنة وتقيداً بها وبعداً عن البدع، بل لم يتعلم الناس السنة ولم يعرفوها إلا من طريقهم. فإذا حُكِم على هؤلاء الأخيار بأنهم مُحْدِثون فمن أين للناس أخذ الدين وتلقيه؟! ولهذا فإنَّ الطعن في الصحابة طعن في الدين ذاته، كما قال أهل العلم: الطعن في الناقل طعن في المنقول. يقول أبو زرعة الرازي:""إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة " 2. ولهذا فإنَّ أهل السنة إذا صح الإسناد عندهم وجُهِل الصحابي لم يؤثر ذلك في صحة الحديث؛ لأنَّ الصحابة كلَّهم عدول بشهادة الله لهم، وبشهادة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبإجماع الأمة على خيريتهم وفضلهم، فهم أولى الناس دخولاً في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:""خير الناس قرني " 4.

_ وأختم الكلام عما يتعلق بالحوض بقول أنس بن مالك رضي الله عنه:""لقد 1 الآيتان 23، 24 من سورة الأحزاب. 2 الكفاية للخطيب " ص49 " 3 الآية 110 من سورة آل عمران. 4 أخرجه البخاري " رقم 3651 "، ومسلم " رقم 6419 "

تركت عجائز بالمدينة ما تصلي واحدة منهنَّ صلاة إلا سألت ربها عز وجل أن يوردها حوض محمد صلى الله عليه وسلم " 1. فأسال الله لنا جميعاً ذلك، وأن يسقينا منه بمنه وكرمه.

الإيمان بعذاب القبر

[الإيمان بعذاب القبر] " والإيمان بعذاب القبر حق واجب وفرض لازم، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأبو أيوب، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو بكرة، وأبو رافع، وعثمان بن أبي العاص، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأختها أسماء، وغيرهم " بدأ المصنف ـ رحمه الله ـ بذكر الشفاعة والحوض ثم رجع إلى عذاب القبر وفتنته، وهو بهذا لم يراع الترتيب، ولذا عطفه بالواو ـ بخلاف ما سبق ـ فإنه ذكر الإيمان بالشفاعة ثم عطف عليه الإيمان بالحوض بـ " ثم " الدالة على الترتيب. والإيمان بعذاب القبر من مسائل الإيمان باليوم الآخر؛ لأنَّ ضابطه الجامع هو: الإيمان بكلِّ ما يكون بعد الموت، مما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وعذاب القبر حق، دل عليه الكتاب العزيز وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فنؤمن به ولا ننكره. أمَّا أرباب العقول الفاسدة الذين لا يؤمنون إلا بما شهدت به عقولهم فإنَّهم يجحدونه، ويبنون ذلك على عقول مجردة، حتى قال بعضهم: حُفِرت بعض القبور فما رأينا شيئاً.

_ 1 أخرجه ابن المبارك في الزهد " رقم 1609 "، وأحمد " 3/230 "، وابن أبي عاصم في السنة " رقم 698 ".قال الحافظ ابن حجر في الفتح " 11/ 476 ": " وسنده صحيح ". وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم.

وقد اقتصر المصنف ـ رحمه الله ـ على ذكر أدلة السنة ـ وهي متواترة كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم ـ 1، لكن في القرآن آيات تدل عليه، منها قول الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 2، فيعرضون على النار صباحاً ومساءً قبل يوم القيامة، وهذا بلا شك في القبر. وفي الآية دليل على أنَّ عذاب الكفار في القبر مستمر إلى يوم القيامة، وإذا قامت فعذابهم أشد وأبقى. أمَّا عصاة الموحدين من أهل الكبائر فعذابهم على قدر كبائرهم ولا يكون مستمراً. فقد""مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أمَّا أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة. ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، فغرز في كلِّ قبر واحدة. قالوا: يا رسول الله: لم فعلت هذا؟ قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " 3. وقد اقتضت حكمة الله أن لا يكون عذاب القبر ظاهراً، إذ لو كان ظاهراً لما تدافن الناس، قال صلى الله عليه وسلم:""إنَّ هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه " 4. فإذا عُذِّبَ الميت في قبره صاح صيحة يسمعها كلُّ من يليه إلا الثقلين، قال النبي صلى الله عليه وسلم:""ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة

_ 1 منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى " 13/35 "، وابن أبي العز في شرح الطحاوية " ص 399 " 2 الآية 46 من سورة غافر. 3 أخرجه البخاري " رقم 218 "، ومسلم " رقم 675 " 4 أخرجه مسلم " رقم 7142 "

يسمعها من يليه إلا الثقلين " 1. وإنما كان عذاب القبر خفياً لأنَّه لو كان أمراً ظاهراً لما كان الإيمان به إيمان غيب، والإيمان النافع المنجي إنما هو إيمان الغيب. ونعيم القبر ـ أيضاً ـ حق، فالناس بين منعم ومعذب، فالمنعمون هم أهل الإيمان والطاعة، والمعذبون أهل الكفر والعصيان. قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 2.

فتنة القبر

[فتنة القبر] " وكذلك الإيمان بمسألة منكر ونكير " بعد أن فرغ المصنف من ذكر عذاب القبر أشار هنا إلى فتنة القبر، وأنَّ الناس يفتنون في قبورهم، فكلُّ عبد يدخل قبره يسأل، ويكون هذا السؤال فور إدراجه قبره والفراغ من دفنه، ولهذا""كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل " 3. وقد بيَّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسئلة، وهذا من تمام نصحه لأمته. فالامتحان واقع، والأسئلة محددة. فيأتيه ملكان ويسألانه ثلاثة أسئلة: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فأهل الإيمان الذين حققوا هذه الأمور في الدنيا واعتنوا بها يثبتهم الله، وأما الكافر

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 1338 " 2 الآية 27 من سورة إبراهيم. 3 أخرجه أبو داود " رقم 3221 "، والحاكم في المستدرك " 1/526 "، والبيهقي في الكبرى " 4/56 "، والضياء في المختارة " 1/528 " وصححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 945 "

والظالم فيضله الله، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 1. وقد وُفِق شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ توفيقاً عظيماً، ونصح للناس نصحاً بالغاً عندما أفرد هذه الأسئلة الثلاثة في رسالة عمَّ نفعها وشاع ذكرها وانتشرت بين الناس، منهم من حفظها، ومنهم من قرأها غير مرة، ومنهم من درسها مرات، وتُرجمت إلى لغات كثيرة. ومن نصحه ـ رحمه الله ـ وشدة عنايته بهذه الأصول الثلاثة أنَّه كتبها بأكثر من أسلوب، كتبها لطلبة العلم، وكتبها للعوام وللصبيان، كلٌّ باللهجة التي تناسبه، ووقفت على نسخة من الأصول الثلاثة كتبها الشيخ بلهجة العوام، حتى إنَّه كتب: " وإذا قيل: وش ربك؟ قل ربي الله ". وبعض المبتدعة الذين أعمت البدع قلوبهم يحذرون من هذه الرسالة ويقولون: هذه كتب الوهابية. مع أنها ليس فيها إلا أجوبة هذه الأسئلة التي يسأل عنها كلُّ عبد في قبره، ولم نسمع إلى يومنا هذا أحداً وجَّه انتقاداً علمياً على هذه الرسالة. وقد جاء في بيان عظم هذه الأصول الثلاثة أحاديث كثيرة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:""ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً " 2. وقال صلى الله عليه وسلم:""من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، غفر له ذنبه " 3. فعند كلِّ أذان يشرع للعبد أن

_ 1 الآية 27 من سورة إبراهيم. 2 أخرجه مسلم " رقم 150 " 3 أخرجه مسلم " رقم 849 "

يستذكر هذه الأصول الثلاثة. " منكر ونكير " هما ملكان جاء وصفهما في السنة بأنهما سود الوجوه وزرق العيون، يأتيان العبد في قبره فيقعدانه ويسألانه من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأمَّا المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينعم في قبره. وأمَّا الكافر فلا يحار جواباً، فيضرب بمرزبة من حديد يصيح منها صيحة يسمعها كلُّ من يليه إلا الثقلين. ومن الأحاديث الواردة في هذا: ما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:""إذا قُبِر الميت ـ أو قال أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر والآخر: النكير. فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا ... " 1.

الإيمان بالجنة والنار

[الإيمان بالجنة والنار] " والإيمان بأنَّ الجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً، خلقتا للبقاء لا للفناء، وقد صح في ذلك أحاديث عدة " الإيمان بالجنة والنار هو من الإيمان باليوم الآخر، ومن الإيمان بالجنة والنار: الإيمان بكلِّ أوصافهما وكلِّ ما فيهما مما ثبت في القرآن والسنة. " والإيمان بأنَّ الجنة والنار مخلوقتان " أي: مخلوقتان موجودتان الآن، فالجنة معدة والنار معدة. والدلائل على وجودهما كثيرة جداً، منها: قوله

_ 1 أخرجه الترمذي " رقم 1071 وقال: حسن غريب "، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي " رقم 856 "، والصحيحة " رقم 1391 ".

تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 1، وقوله عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 2، ومعنى أعدت أي: هُيئت ووجدت. ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم:"" فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة " 3. وهذا دليل على أن الجنة فوق السماوات، وفوقها عرش الرحمن. ومنها: ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال:""انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ... قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك، ثم رأيناك كعكعت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الجنة فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا. وأريت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع " 4. هذا عنقود واحد!! ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما:""ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء " 5 أي أنَّ الحقائق مختلفة والنعيم متباين. ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم:""الحمَّى من فيح جهنم " 6. ومن الحكم الظاهرة في وجود الجنة والنار: أنَّ أهل الإيمان عندما يعلمون أنَّ الجنة موجودة بنعيمها والنار بعذابها يعظم استعدادهم للجنة ويشتد خوفهم من النار. وقد خالف في هذا المعتزلة، وتعاملوا مع المسألة بعقولهم القاصرة وأفهامهم الحقيرة، فقالوا: لا وجود للجنة والنار الآن، وإنما تخلقان يوم القيامة إذ لا حاجة للعباد بهما إلا في يوم القيامة.

_ 1 الآية 33 من سورة آل عمران. 2 الآية 131 من سورة آل عمران. 3 سبق تخريجه. 4 أخرجه البخاري " رقم 1052 "، ومسلم " رقم 2106 " 5 رواه ابن جرير الطبري في تفسيره " رقم 534 " 6 أخرجه البخاري " رقم 3264 "، ومسلم " رقم 5715 "

" لا تفنيان أبداً " وهذا من عقيدة أهل السنة: أنَّ الجنة والنار لا تفنيان، بل باقيتان. " خلقتا للبقاء لا للفناء، وقد صح في ذلك أحاديث عدة " ولهذا فإنَّ الحور العين والغلمان الذين في الجنة لا يشملهم الصعق الذي يكون يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} 1. هذا هو قول أهل السنة والجماعة في الجنة والنار: أنهما لا تفنيان. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} 2. وهناك قول نُسِب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله ـ وهو"أنَّ النار تفنى ولا تبقى، لكن من يطالع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أنَّه يقرر بوضوح أنَّ النار لا تفنى، وقد جمع غير واحد من الباحثين نصوصاً كثيرة فيها تصريحه ـ رحمه الله ـ بأنها لا تفنى. وكذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ جاءت عنه نصوص مجملة، وأخرى واضحة في أنَّها لا تفنى. ومن أوضح كلامه في هذا قوله:""ولما كان الناسُ على ثلاث طبقات: طيب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان. ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة " 3، وهذا كلام مفصَّل صريح في بقاء نار الكفار وأنَّها لا تفنى، فيجب حمل كلامه المجمل على هذا الكلام المفصل

_ 1 الآية 68 من سورة الزمر. 2 الآيتان 36، 37 من سورة فاطر. 3 الوابل الصيب " ص34 "

الإيمان بالميزان

[الإيمان بالميزان] " والإيمان بالميزان، قال الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} " ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالموازين التي توضع لوزن أعمال الناس يوم القيامة. وقد جاء في ذكره آيات وأحاديث عديدة، وقد اقتصر المصنف ـ رحمه الله ـ على ذكر دليل واحد، وهو قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 1. وقد جاء ما يدل على أنَّ الوزن يوم القيامة بمثاقيل الذر، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 2. فمهما صغر العمل ودق فإنَّه يؤتى به يوم القيامة ويوزن، قال الله تبارك وتعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} 3. كما دلت النصوص أيضاً على أنَّ الأشخاص وأعمالهم وصحائفهم كلَّها توزن يوم القيامة. وإذا آمن العبد بالميزان وأنَّه ميزان حقيقي له كفتان، توضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، وكلُّ عملٍ عملَه في هذه الحياة يوزن، إذا آمن بذلك إيماناً جازماً فإنه لا ريب سيزداد إقباله على الحسنات، ويشتد بعده عن السيئات. وقد أنكرت المعتزلة الميزان فلا يؤمنون به، ولا يعبأون بأدلته الواضحة الصريحة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الآية 47 من سورة الأنبياء. 2 الآيتان 7، 8 من سورة الزلزلة. 3 الآية 16 من سورة لقمان.

مسائل الإيمان

[مسائل الإيمان] " والإيمان بأنَّ الإيمان قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ، وقال عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} ، وقال عز وجل: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} " ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ هنا خلاصة مفيدة وإيجازاً نافعاً يتعلق بقول أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان وأمور متعلقة به. والإيمان هو أجل المقاصد وأعظم المطالب وأنبل الغايات، وحاجة الناس إليه وضرورتهم إلى العلم به وتطبيقه أعظم الضرورات، بل ليس للناس حاجة في هذه الحياة مثل حاجتهم إلى الإيمان بالله وبما أمر الله تبارك وتعالى عباده بالإيمان به؛ فإنَّ حياة الناس الحقيقية في الدنيا والآخرة إنما تكون بذلك، قال الله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} 1 فالحياة الحقيقية لا تكون ولا تتحقق إلا بالإيمان. ومن حكمة الله سبحانه وعظيم فضله أنَّ الأمر كلَّما كانت حاجة العباد إليه أعظم، وضرورتهم إليه ألزم كانت سبل نيله وطرائق تحصيله أوضح وأبين وأيسر من غيره. وتأمل هذا في حاجات الناس، فحاجتهم إلى الهواء أعظم من حاجتهم إلى الماء، ولهذا فإنَّ تحصيل الهواء أيسر من تحصيل الماء. وحاجة الناس إلى الماء أعظم من حاجتهم إلى الطعام، ولهذا فإنَّ تحصيل الماء أيسر من تحصيل الطعام. وحاجة الناس إلى الإيمان أعظم من ذلك كلِّه، ولهذا فإنَّ براهين الإيمان ودلائله وحججه أوضح ما يكون لمن منَّ الله عز وجل عليه بالهداية وشرح صدره للخير، والشواهد عليه أكثر من أن تعد أو تحصى.

_ 1 الآية 24 من سورة الأنفال.

وعندما يقع للناس اشتباه فيه، فإنَّه ليس عائداً إلى الإيمان نفسه ولا إلى براهينه الصحيحة، وإنما هو عائد إلى ما يحدثه الناس من آراء واصطلاحات أو نحو ذلك؛ ولهذا فإنَّ كثيراً من الخلافات التي تنشب سببها الاصطلاحات الحادثة، والآراء التي تستجد، فيكون الناس فيها بين أخذ وعطاء وقبول ورد، وينشأ بينهم بسببها شقاق وخلاف. ولهذا فإنَّ حل النزاع ورفع الاشتباه في هذا وغيره إنما يكون بالرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال جل وعلا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1، ولهذا فإنَّ من جميل صنيع شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لما بيَّن الإيمان في كتابه الفريد الفذ " الإيمان "، وتكلم عما نشأ فيه من خلاف وأقاويل بدأه أول ما بدأ بالإشارة إلى أنَّ النزاع الذي حدث ويحدث بين الناس سببه الاصطلاحات الحادثة، فيتخاصم الناس فيها ويختلفون عليها، والطريقة الصحيحة السليمة في جمع القلوب ومعرفة الحق إنما تكون بالعودة إلى الكتاب والسنة، فقال:""ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع كلام الله تعالى فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله ورسوله، فإنَّ هذا هو المقصود، فلا نذكر اختلاف الناس ابتداءً، بل نذكر من ذلك في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله ما يبين أنَّ رد موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول خير وأحسن تأويلاً، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة " 2 ثم أخذ يأتي بالآيات والأحاديث التي فيها تعريف الإيمان، وهذه هي طريقة السلف في الإيمان وغيره، ولو سُلكت واتبعها الناس لما وُجِد خلاف. وحقيقةً من يراقب حال الناس يرى عند بعضهم اهتماماً بالغاً باصطلاحات

_ 1 الآية 59 من سورة النساء. 2 كتاب الإيمان " ص7 "

حادثة ويشتد فيها، وإذا سئل عن بعض الأحاديث المهمة في تعريف الإيمان وبيان حده لا يعرفها. فهناك أحاديث مهمة في تعريف الإيمان وبيان حده، كحديث جبريل"، وحديث وفد عبد القيس، وحديث الشعب وغيرها، ينبغي أن تحفظ وتضبط وتعرف معانيها؛ ليعيش العباد مع نصوص الشريعة، دون زج بهم في مصطلحات حادثة، لا طائل من ورائها ولا ثمرة تقرب إلى الله من تحصيلها إلا زيادة الشقاق وتوسيع الخلاف. والمصنف ـ رحمه الله ـ عرَّف الإيمان في هذا المختصر على طريقة السلف وذكر شيئاً من دلائله وبراهينه بعيداً عن التكلفات والتعقيدات والمصطلحات المتعبة، وبدأ بذكر تعريفه قبل التفاصيل الأخرى وفقاً للقاعدة المشهورة عند العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فقال: " والإيمان بأنَّ الإيمان قول وعمل ونية " أي: ومن أمور الاعتقاد: أنَّ الإيمان قول وعمل ونية، وهذا باتفاق السلف ـ رحمهم الله ـ، ليس بينهم خلاف في ذلك. وإن اختلفت عباراتهم في بعض الأحيان إلا أن المؤدى واحد. فقال بعضهم: الإيمان قول وعمل. وقال بعضهم: قول وعمل واعتقاد. وقال بعضهم: قول وعمل ونية. وقال بعضهم: قول وعمل ونية واتباع. فمن قال: الإيمان قول وعمل. عنى بالقول قول القلب، وهو الاعتقاد الحق الصحيح المتلقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقول اللسان: وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله؛ لأنَّ القول إذا أُطلق في النصوص شمل قول القلب الذي هو الاعتقاد، وقول

اللسان الذي هو النطق. كما قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} 1، أي: قولوا ذلك بقلوبكم وألسنتكم. وكذلك قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} 2، ونظائرهما. ولا يكون القول خاصاً بقول اللسان إلا إذا قيد كما في قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 3. وعنى بالعمل: عمل القلب، وذلك بأن يأتي العبد بقلبه بأعمال الإيمان، مثل الحياء والتوكل والرجاء والخوف والإنابة وغير ذلك. وعمل اللسان: مثل التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعمل الجوارح: مثل الصلاة والصيام والحج والجهاد. ولما كان دخول الاعتقاد في القول لا يظهر لكل أحد، نص بعض السلف عليه عند التعريف فقالوا: الإيمان قول واعتقاد وعمل. وقال بعضهم: الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح. ومن زاد النية ـ كقول المصنف ـ فإنما زادها لتوقف قبول الأعمال عليها. ومن لم يذكرها فهي داخلة في كلامه؛ لأنَّ مراده بالعمل: العمل القائم على نية صالحة، كما قال صلى الله عليه وسلم:""إنما الأعمال بالنيات " 4. وكذلك من زاد اتباع السنة فإنما زاده تنبيهاً على اشتراطه لقبول الأعمال، كما قال صلى الله عليه وسلم:""من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " 5. هذا هو تعريف الإيمان في الشرع، ودخول القول والعمل والنية في الإيمان عليه دلائل كثيرة من الكتاب والسنة، وهي مبسوطة في كتب أهل العلم، وسيشير المصنف ـ رحمه الله ـ إلى شيء منها.

_ 1 الآية 136 من سورة البقرة. 2 الآية 30 من سورة فصلت. 3 الآية 11 من سورة الفتح. 4 أخرجه البخاري " رقم 1 "، ومسلم " رقم 4904 " 5 أخرجه مسلم " رقم 4468 "

أما تعريفه في اللغة فهو مشتق من الأمن وهو بمعنى القرار والإقرار، وكلاهما يعطي معنى الطمأنينة والثقة. ولهذا فإنَّ أحسن ما يعرف به الإيمان لغة هو الإقرار، وهو ما اختاره وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. أما التصديق فليس مرادفاً للإيمان، بل الإيمان: تصديق وقدر زائد عليه، وهو الإذعان وانقياد القلب؛ فإنَّ العبد قد يكون مصدقاً ولا يكون مقراً ولا مؤمناً، كما قال أبو طالب: ولقد علمت بأنَّ دين محمد ... من خير أديان البرية ديناً لولا الملامةُ أو حِذارُ مَسَبَّةٍ ... لرأيتني سمحاً بذاك مبيناً فهو مصدِّق أنَّ الدين حق لكنه لم يوجد عنده الإذعان فلم يكن مؤمناً. وللإيمان ـ عند السلف ـ شعب وأجزاء، منها ما هو متعلق بالقلب، ومنها ما هو متعلق باللسان، ومنها ما هو متعلق بالجوارح. كما أنَّ للإيمان أصلاً وفرعاً،قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} 1 فشبَّه الإيمان وكلمته بالشجرة التي لها أصل وفرع وثمار، وللإيمان كذلك أصل وفرع وثمار. فالاعتقاد الراسخ والإيمان الجازم هو أصل الإيمان الذي عليه يبنى ويقوم. وفروعه: الأعمال الصالحة والطاعات الزاكية والقربات العظيمة التي يتقرب بها المؤمنون إلى الله تعالى. وثماره: كلُّ خير وفضل يناله العبد في الدنيا وفي الآخرة. وأمور الإيمان التي يتركب منها على ثلاثة أقسام: 1ـ قسم يزول الإيمان بزواله، ومن ذلك أصول الإيمان الستة، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} 2.

_ 1 الآية 24 من سورة إبراهيم. 2 الآية 54 من سورة التوبة.

وقال سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. 2ـ وقسم يزول بزواله كمال الإيمان الواجب، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:""لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن " 2. فليس المنفي هنا أصل الإيمان كما يقوله الخوارج والمعتزلة، وإنما هو كمال الإيمان الواجب؛ لأنَّه واجب على كلِّ مسلم أن يبتعد عن الزنا. وهكذا القول في بقية الأمور المذكورة في الحديث. 3ـ وقسم يزول بزواله كمال الإيمان المستحب، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"" الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من"الإيمان " 3. فعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، لكن من ترك إماطة الأذى فقد نقص إيمانه المستحب؛ لأنَّه ليس أمراً واجباً، بل هو أمر مستحب وأجره عند الله عظيم وثوابه جزيل، وهو من موجبات مغفرة الذنوب ودخول الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق، فأخَّره، فشكر الله له، فغفر الله له " 4. ولهذا إذا قيل عن أمر من أمور الإيمان إنه مستحب لا يعني هذا أن يستهين به العبد، فإنه قد ينجو به من النار. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ في بيان هذا التقسيم ـ:""وهو مركب من

_ 1 الاية 5 من سورة المائدة. 2 أخرجه البخاري " رقم 5578 "، ومسلم " رقم 200 " 3 سبق تخريجه. 4 سبق تخريجه.

أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة " 1. وقد خالف أهل السنة في مسمى الإيمان إجمالاً طائفتان: 1ـ طائفة ترى أنَّ الإيمان قول واعتقاد وعمل، إلا أنهم يعتقدون أنَّ الإيمان كلٌّ واحد لا يتجزأ، إذا ذهب بعضه ذهب كلُّه، ويخرج العبد من الإيمان بارتكابه الكبيرة أو فعله المعصية. وهذا هو مذهب الخوارج والمعتزلة. وزاد الخوارج الحكم بدخوله في الكفر، ويوم القيامة يكون مخلداً في النار. وقالت المعتزلة: بل يبقى في منزلة بين المنزلتين، ويوم القيامة يكون مخلداً في النار. 2ـ وطائفة أخرجوا العمل من مسمى الإيمان، وهم المرجئة، وإنما سُمُّوا بذلك لأنهم أخروا العمل عن مسمى الإيمان، والإرجاء في اللغة التأخير، كما قال الله تبارك وتعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} 2 أي: أخِّرْه. وهم على أقسام: أـ فمنهم من يرى أنَّ الإيمان هو مجرد المعرفة، وهم الجهمية. ب ـ ومنهم من يرى أنَّ الإيمان هو مجرد التصديق، وهم الأشاعرة. ج ـ ومنهم من يرى أنَّ الإيمان هو القول فقط، وهم الكرامية. د ـ ومنهم من يرى أنَّ الإيمان قول واعتقاد، وهم مرجئة الفقهاء. فهؤلاء جميعاً يشملهم اسم الإرجاء لتأخيرهم العمل عن مسمى الإيمان، إلا أنهم ليسوا على درجة واحدة فيه، بل أحسنهم حالاً القسم الأخير، وقولهم هذا مع كونه أخف حالاً من غيره إلا أنَّه باطل مخالف لأدلة لا تعد ولا تحصى من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم دالةٍ على دخول العمل في مسمى الإيمان.

_ 1 مجموع الفتاوى " 7/637 " 2 الآية 111 من سوة الأعراف.

زيادة الإيمان ونقصانه

[زيادة الإيمان ونقصانه] " يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية " مما امتن الله به على أهل السنة والجماعة وميزهم به، وفارقوا فيه كلَّ الطوائف الضالة قولهم: بأنَّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنَّ أهله ليسوا فيه سواء، بل يتفاوتون فيه تفاوتاً عظيماً، فإذا أقبل العبد على طاعة ربه وحافظ عليها زاد إيمانه، وإذا غفل عن ذكره أو اقترف شيئاً من المعاصي نقص إيمانه بحسب ذلك. وزيادة الإيمان ونقصانه تكون من أوجه كثيرة، أوصلها شيخ الإسلام ابن تيمية في "كتاب الإيمان " 1 إلى تسعة أوجه، هي في الجملة راجعة إلى وجهين: زيادة الإيمان من جهة أمر الرب، وزيادة الإيمان من جهة فعل العبد 2. والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه كثيرة، ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ طرفاً منها، فقال: " قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ، وقال عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} ، وقال عز وجل: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} " فهذه الآيات صريحة في أنَّ الإيمان يزيد، وهي أحد أنواع الأدلة الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه. ومن يتأمل القرآن الكريم يجد أنَّه دلَّ على زيادة الإيمان ونقصانه من خلال أنواع كثيرة، منها هذا النوع الذي أشار إليه المصنف وهو: التصريح بزيادة الإيمان. ومنها: التصريح بزيادة الهدى، والهدى من الإيمان، قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 3.

_ 1 " ص199 ـ 204 "، وانظر: مجموع الفتاوى " 7/562 ـ 584، 672 " 2 انظر: مجموع الفتاوى " 13/51 ـ 55 "، " 18 /277 ـ 278 " 3 الآية 17 من سورة محمد.

ومنها: التصريح بزيادة الخشوع، والخشوع من الإيمان، كقوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} 1. ومنها: أمر المؤمنين بالإيمان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} 2، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} 3 فهذا أمر للمؤمنين بالإيمان، والأمر بالشيء لمن هو قائم به أمر بالزيادة منه والمحافظة عليه والعناية به. ومنها: ذكر تفاضل درجات أهل الإيمان في الآخرة، كقوله تبارك وتعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 4، وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} 5 والتفاضل في درجات الجنة وثواب الآخرة إنما هو لتفاضل أهل الإيمان في إيمانهم. ومنها: إخبار الله تبارك وتعالى بأنَّ أهل الإيمان على طبقات، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 6 فذكر تعالى الظالم لنفسه وهو الذي وقع في بعض الذنوب بترك بعض الواجبات أو الوقوع في بعض المعاصي والمحرمات التي هي دون الشرك، ثم المقتصد وهو الذي فعل الواجبات وترك المحرمات، ثم السابق بالخيرات وهو الذي فعل الواجبات وترك المحرمات والمكروهات ونافس في فعل المستحبات. وهؤلاء بلا ريب ليسوا على درجة واحدة في الإيمان، ولا شك أن الظالم لنفسه أنقص إيماناً من المقتصد، والمقتصد أنقص إيماناً من السابق بالخيرات.

_ 1 الآية 109 من سورة الإسراء. 2 الآية 135 من سورة النساء. 3 الآية 28 من سورة الحديد. 4 الآية 19 من سورة الأحقاف. 5 الآية 21 من سورة الإسراء. 6 الآية 32 من سورة فاطر.

فأنواع الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه في الكتاب والسنة كثيرة جداً، وللسلف من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان أقوال كثيرة أيضاً في تقرير ذلك، منها: قول عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه:""الإيمان يزيد وينقص. فقيل له: فما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا ربنا وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه " 1. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقول بعضهم لبعض:""اجلس بنا نؤمن ساعة " 2 أو""قم بنا نزداد إيماناً " 3. وإذا تقرر عند العبد أنَّ الإيمان يزيد وينقص فلابد له"أن يعرف أسباب زيادته ليحرص على تطبيقها والعمل بها، وأن يعرف أسباب نقصانه ليحذرها ويجتنبها. ومن أهم أسباب زيادة الإيمان: 1ـ معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته. 2ـ تدبر كتاب الله. 3ـ معرفة سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وسنته. 4ـ قراءة سير الصحابة الأبرار والسلف الأخيار. 5ـ التأمل في آيات الله الكونية. 6ـ البعد عن المعاصي، والجد في فعل الطاعات. 7ـ مرافقة أهل الخير ومصاحبتهم.

_ 1 أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان " رقم 14 "، وعبد الله بن أحمد في السنة " رقم 624 " 2 أخرجه أبو عبيد في الإيمان " رقم 20 "، وابن أبي شيبة " رقم 105 " عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. وقال الألباني: " إسناده صحيح على شرط الشيخين ". 3 أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان " رقم 108 " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأما أهم أسباب نقص الإيمان وضعفه، فهي ترجع إلى قسمين: 1ـ أمور ترجع إلى الإنسان نفسه، ومن أهمها: النفس الأمارة بالسوء، والجهل بالدين، والغفلة والإعراض. 2ـ مؤثرات خارجية، ولعلها ترجع إلى ثلاثة: الشيطان: وهو أعظم دعاة إنقاص الإيمان وإضعافه وإذهابه. وقرناء السوء وخلطاء الشر والفساد. والدنيا بفتنها ومغرياتها. ويمكن أن نضيف أمراً آخر استجد في زماننا هذا ألا وهو القنوات الفضائية، فهي وإن كانت داخلة فيما سبق إلا أنها يتعين التنصيص عليها لشدة خطورتها ولفداحة أضرارها وأخطارها. " وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:""الإيمان بضع وسبعون، ـ وفي رواية بضع وستون ـ شعبة، والحياء شعبة من الإيمان ". ولمسلم وأبي داود:""فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " " هذا الحديث مشهور عند أهل العلم بحديث الشعب، وللعلماء عناية فائقة به، حتى أفرده بعضهم في مصنف، كما فعل البيهقي ـ رحمه الله ـ في كتابه: " شعب الإيمان "، وقبله الحليمي، وابن حبان. " الإيمان بضع وسبعون، وفي رواية بضع وستون شعبة " من أهل العلم من يرى أنَّ هذا العدد لا مفهوم له وأنَّ المراد التكثير، قالوا: وهذا كثير في لغة العرب لاسيما في العدد سبعة وما تضاعف منها. ومنهم من يرى أنَّ العدد مقصود، وأنَّ المراد أنَّ عدد شعب الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون. وقد اعتنى عدد منهم بجمع هذه الشعب وذكر

أدلتها، وتفاوتت مناهجهم في جمعها، وأعجب طريقة مرت عليَّ في مناهج من جمعها هي طريقة ابن حبان البستي رحمه الله، حيث قال:""تتبعت معنى الخبر مدة، وذلك أنَّ مذهبنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم قط إلا بفائدة، ولا من سننه شيء لا يعلم معناه، فجعلت أعد الطاعات من الإيمان، فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئاً كثيراً، فرجعت إلى السنن فعددت كلَّ طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان فإذا هي تنقص من البضع والسبعين، فرجعت إلى ما بين الدفتين من كلام ربنا، وتلوته آية آية بالتدبر، وعددت كلَّ طاعة عدها الله جل وعلا من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممت الكتاب إلى السنن، وأسقطت المعاد منها، فإذا كلُّ شيء عدَّه الله جل وعلا من الإيمان في كتابه، وكلُّ طاعة جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان في سننه تسع وسبعون شعبة، لا يزيد عليها ولا ينقص منها شيء، فعلمت أنَّ مراد النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخبر أنَّ الإيمان بضع وسبعون شعبة في الكتاب والسنن، فذكرت هذه المسألة بكمالها بذكر شعبه في كتاب " وصف الإيمان وشعبه " بما أرجو أنَّ فيها الغنية للمتأمل إذا تأملها، فأغنى عن تكرارها في هذا الكتاب " 1. وللحافظ ابن حجر كلام مختصر جميل في عد هذه الشعب بدون ذكر للأدلة، استخلصه مما أورده أهل العلم من هذه الشعب، فقال:""ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه، وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره: وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب وأعمال اللسان وأعمال البدن. فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان بالله

_ 1 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان " 1/387 ـ 388 " وكتابه " وصف الإيمان وشعبه " مفقود.

ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنَّه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه 1. والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره. والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر، والبعث والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار. ومحبة الله. والحب والبغض فيه. ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم واعتقاد تعظيمه ويدخل فيه: الصلاة عليه، واتباع سنته. والإخلاص ويدخل فيه: ترك الرياء والنفاق. والتوبة. والخوف. والرجاء. والشكر. والوفاء. والصبر. والرضا بالقضاء. والتوكل. والرحمة. والتواضع، ويدخل فيه: توقير الصغير، وترك الكبر والعجب. وترك الحسد. وترك الحقد. وترك الغضب. وأعمال اللسان وتشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد. وتلاوة القرآن. وتعلم العلم. وتعليمه. والدعاء والذكر، ويدخل فيه الاستغفار. واجتناب اللغو. وأعمال البدن وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة، منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حساً وحكماً، ويدخل فيه اجتناب النجاسات، وستر العورة. والصلاة فرضاً ونفلاً. والزكاة كذلك. وفك الرقاب. والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف. والصيام فرضاً ونفلاً. والحج والعمرة كذلك. والطواف. والاعتكاف. والتماس ليلة القدر. والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك. والوفاء بالنذر. والتحري في الأيمان. وأداء الكفارات. ومنها ما يتعلق بالأتباع، وهي ست خصال: التعفف بالنكاح. والقيام بحقوق العيال. وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق. وتربية الأولاد. وصلة الرحم. وطاعة السادة. أو الرفق

_ 1 الصواب: أن يقال: الإيمان بالله، ويدخل فيه أركان الإيمان بالله الثلاثة، وهي الإيمان بوحدانيته في ربوبيته، ووحدانيته في أسمائه وصفاته، ووحدانيته في ألوهيته.

بالعبيد. ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل. ومتابعة الجماعة. وطاعة أولي الأمر. والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة. والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإقامة الحدود. والجهاد، ومنه المرابطة. وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه. وإكرام الجار. وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله، وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف. ورد السلام. وتشميت العاطس. وكف الأذى عن الناس. واجتناب اللهو. وإماطة الأذى عن الطريق. فهذه تسع وستون خصلة ويمكن عدها تسعاً وسبعين خصلة باعتبار إفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر والله أعلم " 1. وفي الحديث فوائد، منها: أنَّه صريح في أنَّ الإيمان يتناول ما يقوم بالقلب وما يقوم باللسان وما يقوم بالجوارح، أمَّا ما يقوم بالقلب ففي قوله صلى الله عليه وسلم: " والحياء شعبة من شعب الإيمان "، وأمَّا ما يقوم باللسان ففي قوله صلى الله عليه وسلم: " فأفضلها قول: لا إله إلا الله "، وأمَّا ما يقوم بالجوارح فقوله صلى الله عليه وسلم: " وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ". ومنها: فضل كلمة التوحيد وأنَّها أفضل الكلمات، ولهذا عدها النبي صلى الله عليه وسلم أفضل شعب الإيمان وأرفع درجاته ومراتبه. ومنها: أنَّ شعب الإيمان ليست على مرتبة واحدة، بل هي متفاوتة، فأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعبٌ كثيرةٌ منها ما هو قريب من الأعلى ومنها ما هو قريب من الأدنى. ومنها: أنَّ الإيمان يزيد وينقص؛ فإنَّه إذا كان متناولاً لهذه الشعب وهي

_ 1 فتح الباري " 1/68 ـ 69 "

شعب متفاوتة لها أعلى وأدنى، والناس متفاوتون في تطبيقها قوة وضعفاً زيادة ونقصاً، فهذا فيه أبين دلالة على أنَّه يزيد وينقص، بل إنَّ الشعبة الواحدة من شعبه يتفاوت الناس في تحقيقها والقيام بها تفاوتاً كبيراً، فليسوا على درجة واحدة في الحياء مثلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""أصدقهم حياء عثمان " 1. وكذلك الحال في إماطة الأذى عن الطريق، فإنَّ الناس مع هذه الشعبة على ثلاثة أقسام: قسم يميط الأذى عن الطريق، وقسم يدع الأذى في الطريق، وقسم يضع الأذى في الطريق. وكلُّهم من أهل الإيمان لكنهم لا يستوون. وفي الحديث فائدة لطيفة، وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ إماطة الأذى عن الطريق إيماناً، والمراد بالأذى: أي الحسي الذي يؤذي الناس ويعيقهم في سيرهم لتحصيل مصالحهم الدنيوية. وعليه فإنَّه من باب أولى أن يكون إماطة الأذى المعنوي الذي يعيق الناس في طريقهم إلى طاعة ربهم إيماناً، ولهذا كان الرد على أهل البدع وتحذير الناس من باطلهم والرد على شبهاتهم من إماطة الأذى عن الطريق وهو من الإيمان.

_ 1 أخرجه الترمذي " رقم 3791 وقال: حسن صحيح "، وابن ماجه " رقم 154 "، وأحمد " 3/281 "، وابن حبان " رقم 7131 "، وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 1224 "

الاستثناء في الإيمان

[الاستثناء في الإيمان] " والاستثناء في الإيمان سنة ماضية. فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله. رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وأبي وائل شقيق بن سلمة، ومسروق بن الأجدع، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي، ومغيرة بن مقسم الضبي، وفضيل بن عياض وغيرهم " شرع المصنف ـ رحمه الله ـ في الكلام عن مسألة الاستثناء في الإيمان، ومن عادة أهل العلم في كتبهم أن يبحثوا هذه المسألة عقب زيادة الإيمان ونقصانه، لما بين المسألتين من ارتباط من جهات كثيرة؛ فإنَّ القول بزيادة الإيمان ونقصانه له تأثير في مسألة الاستثناء في الإيمان. وقول أهل السنة في هذه المسألة واضح، وقد أعطى المصنف في ذلك خلاصة نافعة فقال: " والاستثناء في الإيمان سنة ماضية "، ثم عرَّفه بقوله: " فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله " وهذه صيغة من صيغ الاستثناء اقتصر المصنف على ذكرها، وإلا فهناك صيغ أخرى معروفة عند السلف كأن يقول ـ إذا سئل أمؤمن أنت ـ: " إن شاء الله " أو يقول: " مؤمن أرجو " أو: " آمنت بالله " أو: " لا إله إلا الله ". فالمراد بالاستثناء: عدم الجزم والقطع. وامتحان الناس بهذا السؤال ليس من هدي السلف، وأول من امتحن الناس بذلك المرجئة، ولهذا جاء عن غير واحد من السلف تبديع من امتحن الناس بهذا الأمر 1.

_ 1 انظر: الإيمان لابن أبي شيبة " رقم 60 "، والسنة لعبد الله بن أحمد " رقم 608، 713 "

لكن إن طُرِح السؤال وسئل المسلم عن إيمانه، فالسنة التي مضى عليها السلف ـ رحمهم الله ـ أن يستثنوا. وهم في هذا يلحظون اعتبارات أربعة تعرف بالتتبع لأقوالهم، هي: 1ـ أنَّ الإيمان المطلق شامل للقول والاعتقاد والعمل، شامل للأمور الواجبة والمستحبة، ولا يمكن لأحد أن يجزم لنفسه بأنَّه استكمل هذه الأمور كلها. 2ـ أنَّ الإيمان النافع هو المتقبل، ولا يمكن لأحد أن يجزم بأن عمله متقبل. قال الله عز وجل في وصف المؤمنين الكُمَّل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} 1. وثبت في الحديث الصحيح أنَّ عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء فقالت:""أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت أبي بكر ـ أو يا بنت الصديق ـ"ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو يخاف أن لا يتقبل منه " 2. وقال الله عز وجل واصفاً إمام الحنفاء إبراهيم الخليل عليه السلام حال بنائه البيت الحرام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 3 وقد كان وهيب بن الورد يقرأ هذه الآية ويبكي ويقول:""يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك " 4. 3ـ أنَّ الجزم بالإيمان فيه تزكية للنفس، وقد قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 5، فلا يقول: أنا مؤمن خشية الوقوع في تزكية النفس.

_ 1 الآية 60 من سورة المؤمنون. 2 أخرجه الترمذي " رقم 3175 "، وابن ماجه " رقم 4198 "، وأحمد " 6/205 "، والحاكم " 2/427 وقال: صحيح الإسناد "، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي " رقم 2537 " 3 الآية 127 من سورة البقرة. 4 تفسير ابن كثير " 1/167 " 5 الآية 32 من سورة النجم.

ومن لطيف ما يُروى في هذا الباب: أنَّه""قيل لأعرابي أمؤمن أنت؟ فجعل يقول: أزكي نفسي! " 1. فهذا الأعرابي بفطرته خير من مئات المتكلمين الذين تاهوا في خضم بحر الكلام الباطل. 4ـ أنَّ الاستثناء لا يعني الشك، فقد يستثنى في الأمور المتيقنة، قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} 2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لأهل القبور:""وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون " 3، وقد نعيت له نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 4. فالاستثناء في الإيمان لا يقتضي الشك، ومن لا يستثني في الإيمان ـ كما سيأتي الإشارة إليهم ـ يلمزون السلف بأنَّهم شكاك، وهذا لمز لهم بأمر لا يلزمهم، فقد عرفنا من أدلة القرآن والسنة أنَّ الاستثناء قد يكون بدون شك، والسلف ـ رحمهم الله ـ لما استثنوا لم يكن ذلك عن شك منهم في أصل الإيمان، وإنما استثناؤهم راجع إلى كمال الإيمان وتمامه. ومن جميل ما يُروى في هذا الباب أنَّ الحسن البصري ـ رحمه الله ـ سئل مرة أمؤمن أنت؟ فقال:""الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والبعث والحساب أنا مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا

_ 1 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 1853 " 2 الآية 27 من سورة الفتح. 3 أخرجه مسلم " رقم 2252 " 4 الآية 30 من سورة الزمر.

رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 1 فوالله ما أدري أنا منهم أو لا"" 2. وإنما فصَّل الحسن ـ رحمه الله ـ لأنَّ الإيمان يطلق في النصوص أحياناً ويراد به أصل الإيمان، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 3، وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 4. ويطلق أحياناً، ويراد به تمامه، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} ونظائرها من الآيات. وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ هذه الملاحظ الأربعة ولخصها في سياق واحد، فقال:""فإذا كان مقصوده أني لا أعلم أني قائم بكلِّ ما أوجب الله عليَّ، وأنَّه يُقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه، فهذا استثناؤه حسن وقصده أن لا يزكي نفسه، وأن لا يقطع بأنه عمل عملاً كما أمر فقبل منه، والذنوب كثيرة، والنفاق مخوف على عامة الناس " 5. ثم أورد المصنف ـ رحمه الله ـ أسماء جماعة من السلف ثبت عنهم الاستثناء فقال: " رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وأبي وائل شقيق بن سلمة، ومسروق بن الأجدع، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي، ومغيرة بن مقسم الضبي، وفضيل بن عياض وغيرهم " " وهذا استثناء على يقين " أي: ليس عن شك، ثم ذكر على ذلك دليلاً

_ 1 الآيات 2ـ 4 من سورة الأنفال. 2 رواه البيهقي في الاعتقاد " ص182 " 3 الآية 9 من سورة الحجرات. 4 الآية 92 من سورة النساء. 5 مجموع الفتاوى " 13/41 "

واحداً فقال: " قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} " وقد سبق ذكر بعض الأدلة الأخرى. وقد خالف السلف في الاستثناء في الإيمان طائفتان: 1ـ طائفة ـ وهم مرجئة الفقهاء والماتريدية ـ قالت بعدم جواز الاستثناء في الإيمان، وعللوا ذلك بأنَّ الاستثناء لا يكون إلا عن شك، والشك في الإيمان كفر، حتى غلا بعضهم فنص على عدم جواز تزويج من يستثني في الإيمان. 2ـ طائفة ـ وهم الكلابية والأشاعرة ـ قالت بوجوب الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة، فيقولون: إيمان الحال نقطع به ولا نستثني فيه، لكن إيمان المآل وهو الذي يوافي به العبد ربه نستثني فيه. وهذا على اعتبار أنهم لا يدرون بم يختم لهم، وهل سيبقون على هذا الإيمان أم لا. فاستثناؤهم باعتبار المآل لا باعتبار الحال. وبسبب هذا القول الفاسد نشأت بدعة المرازقة المنتسبين لأبي عمرو عثمان بن مرزوق ـ وكان في الاستثناء على طريقة السلف ـ إلا أنَّهم انحرفوا عن منهجه، فأخذوا يستثنون في كلِّ شيء، فيسأل أحدهم ـ وفي يده حبل ـ فيقول: هذا حبل إن شاء الله. فإن قيل: هذا لا شك فيه. قال: إن شاء الله أن يغيره غيره 1. وهناك حديث موضوع ربما استشهد به هؤلاء، وهو""إنَّ من تمام إيمان العبد أن يستثني في كلِّ حديثه " قال الذهبي ـ معلقاً على هذا الحديث ـ:""هذا الحديث باطل، قد يحتج به المرازقة الذين لو قيل لأحدهم: أنت مسيلمة الكذاب لقال: إن شاء الله " 2.

_ 1 انظر: كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية " ص371 " 2 ميزان الاعتدال " 4/134 "

ومسألة الاستثناء في الإيمان من المسائل القليلة التي اختلف فيها مذهب الماتريدية ومذهب الأشاعرة، وقد عدَّها بعض الباحثين اثنتي عشرة مسألة، وإلا فبقية المسائل هم فيها على وفاق؛ وذلك لأنَّ أصل مذهبهم واحد وهو ابن كُلاَّب.

الفرق بين الإسلام والإيمان

[الفرق بين الإسلام والإيمان] لما بين المصنف ـ رحمه الله ـ الإيمان وشيئاً مما يتعلق به كزيادته ونقصانه والاستثناء فيه، أخذ يبين العلاقة بين الإيمان والإسلام، فقال: " والإيمان هو الإسلام وزيادة، قال الله عز وجل: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} " " والإيمان هو الإسلام وزيادة " وهذا التقرير للفرق بين الإسلام والإيمان ـ على وجازته واختصاره ـ دقيق جداً؛ فإنَّ الإيمان إذا أطلق وذكر مفرداً شمل الدين كلَّه، كما في قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 1. وكذلك الإسلام إذا أطلق وذكر مفرداً تناول الدين كلَّه بأصوله وفروعه، وباعتقاداته الظاهرة وأعماله الباطنة، كما في قول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} 2، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 3، وقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 4. فإذا قُرنا في نص واحد كان الإيمان مختصاً بالاعتقادات الباطنة، واختص الإسلام بالأعمال الظاهرة، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ

_ 1 الآيتان 2، 3 من سورة الأنفال. 2 الآية 19 من سورة آل عمران. 3 الآية 85 من سورة آل عمران. 4 الآية 3 من سورة المائدة.

وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 1، وكما في الآية التي أوردها المصنف رحمه الله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 2. وهذا كلُّه مبني ـ كما سبق ـ على قاعدة عند أهل العلم بيَّنها الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ بقوله:""إنَّ من الأسماء ما يكون شاملاً لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالاً على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها " 3. ويعبر عنها غيره بقوله: " إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا ". ففي الآية دلالة واضحة على وجود فرق بين الإسلام والإيمان عند الاجتماع في الذكر، فقد ادعى هؤلاء الأعراب لأنفسهم مرتبة الإيمان ولمَّا يصلوا إليها بعدُ، فنفاها الله عز وجل عنهم بقوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} ، ولم يكونوا بنفي الإيمان عنهم داخلين في الكفر، إذا إن هناك رتبة دون الإيمان وهي الإسلام. ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: إنكم مازلتم بعد في رتبة الإسلام. وهذا يفيد أنَّ الدين مراتب: مرتبة الإسلام، ثم أعلى منها مرتبة الإيمان، ثم أعلى منهما مرتبة الإحسان. وإذا كان الأمر كذلك فما هو الإحسان؟ وما هو الإيمان؟ وما هو الإسلام؟ وقد جاءت الإجابة عن هذا السؤال في حديث جبريل المشهور وهو حديث طويل مخرج في صحيح مسلم 4 من حديث ابن عمر عن أبيه، وفي

_ 1 الآية 35 من سورة الأحزاب. 2 الآية 14 من سورة الحجرات. 3 سبق ذكره. 4 الصحيح " رقم 93 "

الصحيحين 1 من حديث أبي هريرة، وفيه أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان فاجتمعت الثلاثة في الذكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:""الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً "، وقال عن الإيمان:""أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره "، وقال عن الإحسان:""أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وفي آخر الحديث قال:""هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ". فدل الحديث على أنَّ الإسلام هو الأعمال الظاهرة، وأن المسلم هو من شهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله وأقام الصلاة وأتى بالعمل الظاهر، كما قال صلى الله عليه وسلم:""من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته " 2. لكنَّ هذه الأعمال الظاهرة لا تكون نافعة لمن قام بها عند الله تبارك وتعالى إلا إذا كان عنده من الإيمان القلبي ما يصحح إسلامه، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3، فإن لم يكن له هذا القدر من الإيمان القلبي كان منافقاً. أما المؤمن: فهو الذي تحقق الإيمان في قلبه، فآمن بما أمر الله تعالى عباده بالإيمان به. ومن كان شأنه كذلك في باطنه صلح ظاهره تبعاً لذلك؛ لأنَّ الجوارح لا تتخلف عن مرادات القلوب. فإذا صلح القلب هذا الصلاح وعمر

_ 1 البخاري " رقم 50 "، ومسلم " رقم 97 " 2 أخرجه البخاري " رقم 391 " 3 الآية 5 من سورة المائدة.

بالإيمان هذه العمارة جدَّت الجوارح واجتهدت عملاً وطاعة وتقرباً إلى الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه ألا وهي القلب " 1. أما المحسن فأعلى من هؤلاء، إذ الإحسان: الإتقان والإجادة، فالمحسن هو الذي أتقن في تحقيق الدين وأجاد في تتميم العبادة والطاعة لرب العالمين حتى بلغ به الحال أنْ يعبد الله كأنَّه يراه. وهذه رتبة عالية رفيعة لا يصل إليها كلُّ أحد كما قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} 2. فهذه مراتب الدين، وقد جاء نظيرها في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 3. ومن لا يفرق بين الإسلام والإيمان يحتج بقول الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4 فإنَّ المعنيين في الآية أهلُ بيت واحد وقد ذكروا مرة بالإيمان ومرة بالإسلام. والجواب على هذا أن التنويع في الوصف في الآية قد جاء للفرق بين حالين: حال الإخراج وحال الوجود، فلما ذُكر الموجودون ذكروا بصفة الإسلام على اعتبار العمل الظاهر، ولما ذُكر المخرجون ذكروا بصفة الإيمان؛ لأنَّ الموجودين فيهم من عمله الظاهر عمل أهل الإسلام لكنه ليس منهم، كامرأة لوط، ولهذا لم تكن من المخرجين، مع أنها من الموجودين.

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 52 "، ومسلم " رقم 4070 " 2 الآيتان 13، 14 من سورة الواقعة. 3 الآية 32 من سورة فاطر. 4 الآيتان 35، 36 من سورة الذاريات.

وعلى هذا فالآية مؤكدة للفرق بين الإسلام والإيمان، وهي حجة على من لم يفرق، وليست حجة له. وبعد أن ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ الفرق بين الإسلام والإيمان شرع بذكر بعض الأدلة المبينة للإسلام والإيمان فقال: " وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:""بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت " ". هذه يسميها العلماء مباني الإسلام الخمسة، فالإسلام يبنى على هذه الأسس ويقوم عليها، وكما قيل: والبيت لا يُبتنى إلا بأعمدة ... ولا عماد إذا لم تُرسَ أوتاد والملاحظ في هذه المباني أنَّها من أعمال الظاهر، ومن جاء بها إن كان عنده في الباطن من الإيمان ما يصحح به إسلامه فهو المسلم. وإن كان مُظهراً لهذه الأعمال في الظاهر فقط وليس عنده إيمان باطن فهو منافق وليس من أهل الإسلام. فبين هذا الحديث المراد بالإسلام، ولهذا قال المصنف عقبه: " فهذه حقيقة الإسلام ". " والإيمان فحقيقته ما رواه أبو هريرة فيما قدمناه " يشير المصنف ـ رحمه الله ـ إلى حديث الشعب المذكور قريباً، وعلى هذا فإنَّ الإيمان أعم وأشمل وأوسع من الإسلام، وقد سبق قول المصنف ـ رحمه الله ـ: " والإيمان هو الإسلام وزيادة ".

ثم ذكر المصنف حديثاً في الفرق بين الإسلام والإيمان فقال: " وروى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:""أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلاً هو أعجبهم إلي، فقمت فقلت: مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمناً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً. ذكر ذلك سعد ثلاثاً وأجابه بمثل ذلك. ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه " " هذا الحديث يبين الفرق بين رتبة الإسلام ورتبة الإيمان، فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً ـ والرهط: الجماعة ما بين الثلاثة والعشرة ـ نفقة، وترك رجلاً من بينهم. ولما ظنَّ سعد رضي الله عنه أنَّ العطاء بحسب الإيمان وقوته ـ وكان يرى أنَّ هذا الرجل أفضلهم ديناً وطاعة وعبادة ـ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمناً " فنبهه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أو مسلماً " أي احكم عليه برتبة الإسلام التي يحكم بها على كلِّ من صلح ظاهره، ولا تحكم عليه بالإيمان لأنَّه مبني على معرفة ما في باطن العبد؛ إذ هو راجع إلى صلاح الباطن مع صلاح الظاهر، وهذا شيء لا يطلع عليه الناس. فلا يطلق الحكم بالإيمان على شخص إلا بالاستثناء ـ كما سبق ـ فيقال: هو مؤمن إن شاء الله، كما يمكن إطلاق الحكم بالإيمان في الخطاب العام ويكون المقصود أصله، كما يقول الخطيب يوم الجمعة أيها المؤمنون، أو يا أيها الذين آمنوا. " ذكر ذلك سعد ثلاثاً وأجابه بمثل ذلك " أدركت سعداً رضي الله عنه الرحمة والمحبة لهذا الرجل لما يرى من صلاحه فكرر كلامه ثلاثاً، ويكرر النبي صلى الله عليه وسلم جوابه. ثم بين له النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة والمقصد من العطاء فقال: " إني

لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه " أي أنَّ هذا العطاء تأليف للقلوب، ولم يعط النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل لما عنده من الإسلام والصلاح الظاهر. وقد نفع الله عز وجل بهذا التأليف نفعاً عظيماً، ودخل أقوام كثيرون في دين الله بهذا التأليف، ولهذا جعله الله أحد مصارف الزكاة. " قال الزهري: فنرى أنَّ الإسلام الكلمة، والإيمان العمل الصالح " " الزهري ": إمام من أئمة السلف، له نقول كثيرة في السنة والعقيدة لها شأنها عند أهل العلم. " الإسلام الكلمة، والإيمان العمل الصالح " وهذا الكلام إذا لم يفهم على وجهه الصحيح ربما استشكل، لأنَّه سبق أنَّ الإسلام هو الأعمال الظاهرة، وأنَّ الإيمان رتبة أعلى منه. وقد عدَّ الزهري ـ وهو الإمام المعروف ـ الإيمان العمل الصالح. ولهذا استشكل الشيخ حافظ الحكمي ـ رحمه الله ـ هذا الكلام من الزهري فقال:""هذا عندي فيه نظر؛ فإنَّه غير قيم المبنى ولا واضح المعنى، والزهري إمام عظيم من كبار حملة الشريعة لا يجهل مثل هذا، وليس هذه العبارة محفوظة عنه من وجه يصح بهذه الحروف. فإنْ صح النقل عنه ففي الكلام تصحيف وإسقاط، لعل الصواب فيه هكذا: " الإسلام الكلمة والإيمان والعمل " فسقطت الواو العاطفة للعمل على الإيمان. وهذا متعين لموافقته قول أهل السنة قاطبة أنَّ الإيمان اعتقاد وقول وعمل " 1.

_ 1 معارج القبول " 2/605 "

لكن كلام الزهري رحمه الله ثابت عنه 1، وليس مراده أنَّ الإسلام الواجب أو المطلوب هو الكلمة، بل مقصوده بـ " الإسلام: الكلمة ": أنَّ أول ما يُدخَل به الإسلام هو الكلمة: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أتى بها صار مسلماً متميزاً عن اليهود والنصارى تجرى عليه أحكام المسلمين. وإذا أتى بهذه الكلمة طُولب بما وراءها من أعمال الإسلام. وقوله: " والإيمان: العمل الصالح ": إشارة إلى أنَّه إذا وُجد الإيمان تُوجد الأعمال الكثيرة والطاعات العديدة؛ لأنَّ الإيمان إذا تحقق في القلب وتم واكتمل جاءت الأعمال على أحسن ما يكون 2. " قلنا: فعلى هذا قد يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلا إلى الكفر بالله عز وجل " وهذا يوضحه بعض أهل العلم بوضع ثلاث دوائر، كلُّ واحدة منها أضيق من الأخرى، فالدائرة الصغرى الإحسان، والأوسع منها الإيمان، ثم الأوسع منها الإسلام، فيحتاج العبد إلى أن يحقق الإسلام والإيمان حتى يصل بعد ذلك إلى درجة الإحسان. فإن خرج من الإحسان لم يخرج إلى الكفر وإنما يخرج منه إلى مرتبة الإيمان، فإن خرج من الإيمان كان في مرتبة دونه وهي مرتبة الإسلام، فإن خرج منها فما ثم إلا الكفر 3. فعلى هذا كلُّ محسن مؤمن مسلم، وكلُّ مؤمن مسلم، وليس كلُّ مسلم مؤمناً، وليس كلُّ مؤمن محسناً.

_ 1 رواه أبو داود " رقم 4684 "، وعبد الله بن أحمد في السنة " رقم 752 "، واللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 1493، 1495 " كلهم بلفظ: " الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل ". 2 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية " 7/415 " 3 انظر: السنة لعبد الله " رقم 725 "

الإيمان بأشراط الساعة

[الإيمان بأشراط"الساعة] أخذ المصنف ـ رحمه الله ـ يتحدث في هذا الموطن عن أشراط الساعة وعلاماتها، والكلام عنها يطول، والمختصرات ـ كهذا الكتاب ـ لا يناسبها التطويل، فاقتصر على ذكر علامتين منها، وهي خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، وفي هاتين العلامتين اللتين ذكرهما تنبيه على الإيمان بالأشراط والعلامات الأخرى التي دل عليها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنَّها كلَّها مشتركة في أنَّها أمور تأتي بين يدي الساعة علامة على دنوها وقرب مجيئها، فيلزم الإيمان بها كلِّها. وللساعة أشراط وعلامات، كما قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} 1، وهذه الأشراط قسمها العلماء قسمين: 1ـ علامات صغرى: وهي التي تسبق مجيء الساعة بزمن، وتكون في الغالب من جنس أمور معهود أصلها بين الناس. 2ـ علامات كبرى: وهي أمور عجيبة وغريبة تظهر آخر الزمان، فيها إيذان بخراب العالم وانتهائه وقرب قيام الساعة وانقضاء الدنيا، مثل طلوع الشمس من مغربها، وخروج يأجوج ومأجوج، والدخان، والدابة. ومن شأن هذه العلامات الكبرى: أنَّها إذا خرجت واحدةٌ منها تتابعت بقيتها كنظم الخرز إذا انقطع. وأنَّها إذا ظهرت لم ينفع الإيمان؛ لأنَّه يصبح إيمان شهادة، كما قال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} 2. ويقسِّم أهل العلم هذه الأشراط تقسيماً آخر، بحسب ظهورها وعدمه، إلى

_ 1 الآية 18 من سورة محمد. 2 الآية 158 من سورة الأنعام.

ثلاثة أقسام، هي: 1 ـ قسم ظهر وانقضى. 2ـ قسم ظهر ولا يزال يظهر ويتتابع. وهذان القسمان خاصان بالعلامات الصغرى. 3 ـ قسم لم يظهر بعد.

خروج المسيح الدجال

[خروج المسيح الدجال] " ونؤمن بأنَّ الدجال خارج في هذه الأمة لا محالة، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنه " أي: إنَّ خروجه حق، ولن تقوم الساعة حتى يخرج. والدجال مأخوذ من الدجَلِ وهو الكذب والافتراء، فهو أعظم الناس كذباً وأشدهم افتراء وإفكاً على الله، يصرف الناس بكذبه عن دين الله تعالى. ويسمى: المسيح الدجال لأنَّ عينه اليمنى ممسوحة طافية، قال النبي صلى الله عليه وسلم:""الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه كافر. ثم تهجاها: ك ف ر. يقرؤه كلُّ مسلم " 1 فهو أعور، وهذه علامة على نقصه، يراها كلُّ أحد. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:""ألا إنَّه أعور، وإنَّ ربكم ليس بأعور " 2، فكيف يصدق أنه رب وفيه مثل هذه العلامة. وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أنَّ الله عز وجل موصوف بأنَّ له عينين اثنتين؛ لأنَّ العور في اللغة: وجود عينين إحداهما طافية، ونفيه يدل على.

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 7292 " 2 أخرجه البخاري " رقم 7131 "، ومسلم " رقم 7290 "

وجود عينين مبصرتين لا عيب فيهما ولا نقص. وخروج الدجال فتنة عظيمة، بل هي أعظم الفتن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال " 1. ولخطورة فتنته وعظمها كان كلُّ نبي يحذر أمته منه، فقال صلى الله عليه وسلم:""ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الدجال " 2، وأمرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من فتنته في كلِّ صلاة فقال:""إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع. يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال " 3. ومن الإيمان بالدجال: الإيمان بكلِّ أمر يتعلق به صحت به السنة. ومن نصحِ النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن بيَّن لنا صفته وعلامته، وذكر لنا أخباره وأحواله وأعماله، وقد أكثر صلى الله عليه وسلم من ذكره حتى بلغت أحاديثه حد التواتر. ويدَّعي عند خروجه أنَّه رب العالمين، ويصدِّقه أقوام كثيرون، ويتبعه خلق عديدون، ويخرج معه من يهود أصبهان سبعون ألفاً، ويُمكِّنه الله عز وجل من بعض مقدوراته ابتلاء وامتحاناً للناس، فيمر بالمدن والقرى يدعو أهلها لاتباعه واعتقاد أنَّه الرب، فإن استجابوا له أمر السماء أن تمطر عليهم فتمطر، وأمر الأرض أن تنبت فتنبت وتخرج كنوزها، وتغدو ماشيتهم على أتم ما يكون من السمن وضرعها أحسن ما يكون من الدر. وإن امتنعوا أجدبت أرضهم وتضرروا ضرراً بالغاً. ومعه جنة ونار، فمن آمن به أدخله جنته،

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 7321 " 2 أخرجه البخاري " رقم 7131 "، ومسلم " رقم 7290 " 3 أخرجه مسلم " رقم 1324 "

ومن امتنع أدخله ناره. وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم من ابتلي به أن يدخل ناره فقال صلى الله عليه وسلم:"" فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً، فإنه ماء عذب طيب " 1. ويمكث في الناس أربعين يوماً، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أيامه هذه فقال:"" أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. فقال الصحابة: فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره " 2. وفي هذا دليل على حرص الصحابة على الخير، إذ سألوا عن أمر دينهم، ولو كان غيرهم ربما سأل كيف ينام. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم " أنَّ رجلاً ـ هو من خير الناس يومئذ ـ يأتي الدجال فيقول: أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر الدجال به فيشج، فيقول: خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً، فيقول: أو ما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب. فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه، حتى يفرق بين رجليه. ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم. فيستوي قائماً. فيقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة. ثم يقول: يا أيها الناس إنَّه لا يفعل بأحد بعدي من الناس. فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً، فلا يستطيع إليه سبيلاً. فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس إنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة " 3. فهذه بعض الفتن التي تحصل من هذا الدجال، وعلى العبد المؤمن أن يحذر هذه الفتنة وأن يتقي أسبابها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:""من

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 3450 "، ومسلم " رقم 7296 " 2 أخرجه مسلم " رقم 7299 " 3 أخرجه البخاري " رقم 1882 "، ومسلم " رقم 7303 " واللفظ له.

سمع بالدجال فلينأ عنه، فو الله إنَّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات " 1. وعلى الإنسان أن يُروِّض نفسه على البعد عن الفتن وعدم الدخول فيها، فإنَّه إذا فعل ذلك سلم بإذن الله وحفظ من فتنة الدجال؛ لأنَّ فتنته ـ كما يقول العلماء ـ"كما أنَّها فتنة شخص فهي فتنة جنس، فإذا لم يملك العبد نفسه عند دجال صغير فكيف بالدجال الأكبر. كما أنَّه على المسلم أن يلازم الاستعاذة بالله من شر فتنة المسيح الدجال عند كلِّ صلاة كما أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اتفق علماء الأمة على خروج الدجال، ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من ضلال المبتدعة قالوا: ليس هناك دجال يخرج حقيقة، وإنما المراد بالدجال رمز لوجود الباطل، كما أنَّ المراد بنزول عيسى رمز لوجود الحق. وممن فاه بذلك وتكلم به رجل يقال له محمد أبو عبية 2. وقد رد عليه الشيخ حمود التويجري ـ رحمه الله ـ رداً وافياً شافياً في كتابه: " إتحاف الجماعة ".

نزول عيسى عليه السلام

[نزول عيسى عليه السلام] " وأنَّ عيسى بن مريم عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيأتيه وقد حُصِر المسلمون على عَقَبَة أَفْيَق، فيهرب منه، فيقتله عند باب لُد الشرقي. ولُد من أرض فلسطين بالقرب من الرملة على نحو ميلين منها "

_ 1 أخرجه أبو داود " رقم 4319 "، وأحمد " 4/431 "، والحاكم " 4/576 وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم "، وصححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 6301 " 2 انظر: التعليق على نهاية البداية لابن كثير " 1/118 ـ 119 "

لما فرغ المصنف ـ رحمه الله ـ من الكلام عن مسيح الضلالة الدجال انتقل للحديث عن نزول مسيح الهداية عيسى عليه السلام، وفي ذكر عيسى عليه السلام عقب الدجال مراعاة من المصنف للترتيب؛ فإنَّ نزول عيسى عليه السلام يكون بعد خروج الدجال، ويكون قتله على يده عليه السلام. وإنَّما سمي عيسى عليه السلام مسيحاً لأنَّه إذا مسح على المريض يبرأ بإذن الله وقيل: أقوال أخرى. وهو آخر الرسل قبل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأحد أولي العزم من الرسل الذين ذكروا في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} 1 وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا} 2. وقد وُجد من أم بلا أب، وكان هذا سبباً في اختلاف الناس فيه اختلافاً كبيراً، فادعى فيه اليهود أنَّه ابن بغي وأنَّ أمه حملت به من الزنا، وحاولوا قتله. فكذبهم الله تعالى في كتابه، فقال فيما ذكره عن أمه مريم: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} 3. وادعى النصارى أنَّه ابن الله، وأنَّه جزء منه. والقول الحق فيه هو قول أهل الإسلام، وهو أنَّه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فهو عبد من بني آدم، ولد من أم بلا أب. حاول اليهود قتله، فرفعه الله عز وجل إليه إلى السماء حقيقة بروحه وجسده حياً، وشُبِّه عليهم برجل بقي مكانه فقتلوه وظنوا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} 4 وقال سبحانه: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 5. فهو

_ 1 الآية 7 من سورة الأحزاب. 2 الآية 13 من سورة الشورى. 3 الآية 20 من سورة مريم. 4 الآية 157 من سورة النساء. 5 الآيتان 157، 158 من سورة النساء.

الآن حي في السماء إلى أن يأذن الله عز وجل بنزوله آخر الزمان. وهذا يؤمن به أهل الإيمان كما دل عليه القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} 1 قبل موته أي: عندما ينزل من السماء؛ لأنه يموت في آخر الزمان لما ينزل. فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحصل على يديه خير عظيم. ونزوله يكون بعد خروج الدجال " على المنارة البيضاء شرقي دمشق "، واضعاً يديه على جناحي ملك، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جُمَّان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلب الدجال لقتله. " فيأتيه وقد حُصِر المسلمون على عَقَبَة أَفِيق " وهي بلدة قريبة من دمشق، وقد ورد هذا في حديث عثمان بن أبي العاص في سياق طويل، لكن في إسناده ضعف 2، وله شواهد كثيرة في الصحيحين وغيرهما، ولذكر عقبة أفيق شاهد من حديث سفينة رضي الله عنه عند الإمام أحمد 3. " فيهرب منه، فيقتله عند باب لُد الشرقي. ولُد من أرض فلسطين بالقرب

_ 1 الآية 159 من سورة النساء. 2 أخرجه أحمد " 4/216 ـ217 "، والطبراني في الكبير " 9/60 "، والحاكم في المستدرك " 4/524 وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم " وتعقبه الذهبي بقوله: ابن هبيرة واه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد " 7/342 ": " رواه أحمد والطبراني، وفيه علي بن زيد وفيه ضعف وقد وثق، وبقية رجالهما رجال الصحيح ". 3 المسند " 5/221 " قال الهيثمي في المجمع " 7/340 ": " ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر ".

من الرملة على نحو ميلين منها " وهذا ثابت في صحيح مسلم 1 من حديث النواس بن سمعان، فلما يرى الدجالُ المسيحَ ابن مريم يتصاغر ويذوب كما يذوب الملح في الماء، ولو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكنَّه يتقدم ويضربه بحربته فيموت. فيقضى على مسيح الضلالة بيد مسيح الهداية عيسى عليه السلام. فإذا قُتلَ الدجال يفاجأ الناس بخروج يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان عظيمتان من بني آدم، موجودتان على وجه الأرض، سواء رآهم الناس أو لم يروهم. أما ما يقوله بعض الناس من أنَّ الأرض اكتشفت بالوسائل الحديثة"ولم يُر فيها سدٌّ ولا هؤلاء القوم. واتخذوا هذا ذريعة للإنكار، فهذا شأن من ليس لنصوص الشرع عنده مكانة ولا يقيم لها وزناً. ولا يليق بمسلم أن يشك في الأخبار الصحيحة، أو يتوقف فيها، أو يظن فيها الظنون بناء على أقاويل قوم كفار، أو بناء على النظريات والمكتشفات الحديثة؛ فإنَّ الله قادر على كل شيء، وهو قادر سبحانه على أن يُعجز الناس عن الوقوف على مكانهم، كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 2. وإذا أراد المسلم عبرة في هذا الباب فليقرأ قصة بني إسرائيل عندما قضى الله عز وجل عليهم أن يتيهوا في الأرض، فتاهوا في أرض سيناء أربعين سنة. قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 3 وإذا نظرت إلى الخريطة تجدها منطقة صغيرة، فهي الزاوية التي في رأس البحر الأحمر، فلولا أنَّ الله عز وجل أعمى قلوبهم

_ 1 الصحيح " رقم 7299 " 2 الآية 44 من سورة فاطر. 3 الآية 26 من سورة المائدة.

وصرفهم عن الاهتداء لما ضاعوا في مثل هذا المكان الصغير هذه المدة الطويلة. فلله الأمر من قبل ومن بعد، وهو على كلِّ شيء قدير. وأمَّا قول من قال: إنهم بعض أمم الكفر، وحددها بعضهم بالصين ونحوها، وحملوا قوله تعالى {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} 1 على أنهم يأتون بالطائرات والسيارات: ففيه تكلف ونظر؛ لأنَّ النصوص تأباه، خاصة تلك التي تبين أنَّهم منحازون خلف السد، وأنَّهم إذا خرجوا حصل منهم ما حصل. فنحن نؤمن بوجودهم ونصدق به للأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة الدالة على ذلك. فيخرجون على الناس بعد أن كانوا منحصرين خلف السد الذي بناه ذو القرنين، فيحاولون في كلِّ يوم فتحه، ويجتهدون ويبالغون في فتحه حتى إذا كادوا أن يخرقوه، يقول الذي عليهم: ارجعوا فستخرقونه غداً. ولا يقول إن شاء الله. فيعيده الله عز وجل كأشد ما كان. حتى إذا أذن الله بفتحه، يقول قائلهم: قولوا: إن شاء الله. فيقولون: إن شاء الله فيجدونه كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس، ويحصل منهم فساد عظيم وبلاء وشر، ينهبون ويقتلون ويسفكون ويعتدون، ويمرون على بحيرة طبرية فيشربها أولهم، فإذا مر آخرهم قال: لقد كان في هذه البحيرة ماء. روى الإمام أحمد 2 والترمذي 3عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً،

_ 1 الآية 96 من سورة الأنبياء. 2 المسند " 2 / 510 ـ 511 " 3 السنن " رقم 3153 وقال حسن غريب " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 1735 "

فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم، وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله، ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع وعليها كهيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ". وتكون نهايتهم بإذن الله عز وجل، حيث يرغب عيسى نبي الله عليه السلام ومن معه إلى الله أن يخلص الناس من شرهم، فيرسل الله عز وجل عليهم دابة صغيرة تسمى النغف، يسلطها على كلِّ واحد منهم فتكون في قفاه، فيصبحون صرعى كموت نفس واحدة، ثم تتأذى الأرض من نتنهم وجيفهم وعفنهم فيرسل الله عز وجل طيوراً تحملهم إلى حيث يشاء الله عز وجل، ثم يرسل مطراً لا يَكُنُّ منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة أي كالمرآة في الصفاء والنقاء 1. فهذا شيء من أشراط الساعة، وفي معرفتها فائدة للمسلم ومنفعة له؛ لأنَّها تحرك في قلبه الإيمان والخوف من الله، والحذر من الفتن والإقبال على الله عز وجل وطاعته. والإيمان بها من الإيمان باليوم الآخر؛ فهي علامات له ودلالات عليه.

_ 1 انظر في هذا حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم " رقم 7299 "

الإيمان بملك الموت وأن موسى عليه السلام فقأ عينه

الإيمان بملك الموت وأن موسى عليه السلام فقأ عينه ... [الإيمان بملك الموت وأن موسى فقأ عينه] " ونؤمن بأنَّ ملك الموت أرسل إلى موسى عليه السلام فصكه ففقأ عينه، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله ورسوله " " ونؤمن بأن ملك الموت " أي: الملك الذي وكله الله عز وجل بقبض أرواح بني آدم، قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} 1، ولم يأت دليل صريح على اسمه، والقول بأنَّه عزرائيل ليس عليه دليل، وإنما جاء في بعض الإسرائيليات، فيكتفى بوصفه بأنَّه ملك الموت. وفي هذا إشارة إلى الإيمان بملك الموت الذي وُكِّل بقبض الأرواح، والإيمان به هو من الإيمان بالملائكة، وهو ركن من أركان الإيمان الستة، وأصل من أصوله العظيمة. والإيمان بالملائكة في الجملة يتناول أموراً أربعة ثبتت في الكتاب والسنة، هي: 1ـ الإيمان بأسمائهم: فنؤمن بالأسماء المجملة التي تتناول الملائكة عموماً، مثل: الملائكة، ورسل الله، وجند الله. ونؤمن بالأسماء المفصلة لآحادهم وأفرادهم، مثل: جبريل، ومنكر ونكير، وإسرافيل، ومالك. 2ـ الإيمان بأعدادهم: فنؤمن إجمالاً بأنَّ عددهم كثير، لا يحصيهم إلا الذي خلقهم، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} 2. وكما ورد في حديث الإسراء:""فرُفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كلَّ يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم ... " 3، وفي الحديث الآخر:""أطت السماء

_ 1 الآية 11 من سورة السجدة. 2 الآية 31 من سورة المدثر. 3 أخرجه البخاري " رقم 3207 "، ومسلم " رقم 416 "

روحُق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع"إلا وملك واضعاً جبهته ساجداً لله " 1. ونؤمن بالأعداد التفصيلية للملائكة مما ثبت في الكتاب أو السنة، ومن ذلك قول الله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} 2، وهؤلاء رؤوس الملائكة الذين هم خزنة جهنم، ويرأس الجميع مالك. وقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} 3، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ""يؤتى بجهنم يومئذ ولها سبعون ألف زمام، مع كلِّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها " 4. 3ـ الإيمان بأوصافهم: فنؤمن إجمالاً أنَّهم مخلوقون من نور، وأنَّ لهم أجنحة، كما قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 5، وأنَّ لهم أعيناً كما في الحديث الذي أورده المصنف. وغير ذلك من الصفات الواردة في الكتاب والسنة. ونؤمن بالصفات التفصيلية التي وردت، ومن ذلك ما رواه ابن مسعود:""أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح " 6، ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم:""أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة " 7. 4ـ الإيمان بوظائفهم: فنؤمن إجمالاً بأنَّهم جند الله ورسله، لا يعصون

_ 1 أخرجه الترمذي " رقم 2312 وقال: حسن غريب "، وابن ماجه " رقم 4190 "، وأحمد " 5/173 "، والحاكم " 2/554 وقال: صحيح الإسناد " وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي " رقم 1882 " 2 الآية 30 من سورة المدثر. 3 الآية 17من سورة الحاقة. 4 أخرجه مسلم " رقم 7093 " 5 الآية 1 من سورة فاطر. 6 أخرجه البخاري " رقم 4856، 4857 "، ومسلم " رقم 431 " 7 سبق تخريجه.

الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ونؤمن بوظائفهم التفصيلية: كقبض الأرواح، والنزول بالوحي، والنفخ في الصور، وغيرها من الوظائف الثابتة في الكتاب والسنة. " أرسل إلى موسى عليه السلام " ملك الموت يرسل إلى كل الناس بما فيهم الأنبياء عليهم السلام. " فصكه ففقأ عينه " أي: أراد قبض روحه فضربه على وجهه ففقأ إحدى عينيه. وإذا قال قائل: لمَ فقأ عينه؟ نقول: إن كان سائل هذا السؤال سأله منتقداً ومعترضاً فهو سؤال محرم وباطل، وهو دخول من هذا السائل فيما لا يعنيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " 1. وإن كان سؤاله من باب التعرف على الحكم أو بيان الأسباب فلا بأس من ذلك، لكن سواء علمنا هذا أو لم نعلم فليس للعبد أن يكذب أو يعترض. ولهذا قال المصنف: " كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " فالحديث ثابت 2، وشأن المسلم مع الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلقاها بالقبول والتصديق، فلا يعترض عليها ولا ينتقدها " لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله ورسوله " وهذا شأن الراد المكذب بهذا الخبر مع معرفته بثبوته

_ 1 أخرجه الترمذي " رقم 2317 " وصححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 5911 " 2 أخرجه البخاري " رقم 1339 "، ومسلم " رقم 6100 "

ذبح الموت يوم القيامة

[ذبح الموت يوم القيامة] " ونؤمن بأنَّ الموت يؤتى به يوم القيامة فيذبح " وهذا حق، نؤمن به على ظاهره، فنعتقد أنه يؤتى بالموت فيذبح حقيقة، ولا نسلك مسلك أهل التأويل، بل نمره كما جاء ونصدق به كما ورد. قال الترمذي:""والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة، مثل: سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ثم قالوا: تروى هذه الأحاديث، ونؤمن بها. ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت، ويؤمَن بها، ولا تفسر، ولا تتوهم، ولا يقال: كيف؟ وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه " 1. هذه جادة السلف ـ رحمهم الله ـ وطريقهم، وهو نهج مبارك مضوا عليه في جميع الأخبار المغيبة: يمرون الخبر كما جاء، ولا يتوهمون ولا يكيفون، فلا يحاولون قياس الخبر المغيب من أمور يوم القيامة بمداركهم وعقولهم، بل يؤمنون به كما ورد، ويقولون هو حق كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومراد الترمذي ـ رحمه الله ـ بقوله: " ولا تفسر " أي: التفسير الباطل، الذي هو تكلف وتنطع وحمل للنص على غير معناه، وإبعاد له عن دلالاته. أما بيان معناه على ضوء دلالة اللغة فهذا لا إشكال فيه، فإننا مخاطبون بكلام واضح مفهوم المعنى. وهذه الكلمة ترد عن السلف في الصفات، كما جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام، ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، لما ذكروا أحاديث الصفات

_ 1 السنن " 4/692 "

قالوا: " لا نفسرها "، ومرادهم ـ كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ: أي: لا نفسرها تفسيرات الجهمية المبتدعة 1. " كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة. فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: هذا الموت ـ وكلهم قد رآه ـ، ثم ينادي: يا أهل النار. فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت ـ وكلهم قد رآه ـ، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} " " " كهيئة كبش أملح " الأملح: الأبيض الذي يخالطه سواد، والله عز وجل قادر على كلِّ شيء، قادر على أن يقلب الأعراض أجساماً والأجسام أعراضاً، ولا يعجزه تبارك وتعالى شيء، فلا يقال: كيف يؤتى به ونحن نعلم أنَّ الموت عرض؟! لا يقول ذلك إلا ضال منحرف شاك في قدرة الله. " فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون " أي يتطلعون إلى مزيد فضل وإنعام؛ لأنَّهم يعلمون أنَّهم لا ينادون إلا للزيادة في النعيم والإكرام. " فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: هذا الموت، وكلُّهم قد رآه " فكلُّ واحد منهم مات وعاين الموت ورآه، فلكلِّ واحد منهم معه موقف عصيب. " ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون " فيظنون أنَّ هناك خروجاً وفكاكاً من هذا العذاب، فيتطلعون لذلك. " فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت ـ وكلُّهم قد رآه ـ

_ 1 انظر: الحموية " ص40 "

فيذبح " أي الكبش الذي هو الموت يذبح حقيقة بين الجنة والنار، وأهل الجنة والنار يرونه، في مشهد من الجميع. " ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت " فيبقى أهل الجنة في الجنة خالدين فيها أبد الآبدين، ويبقى أهل النار ـ نسأل الله عز وجل السلامة والعافية ـ خالدين فيها أبد الآبدين، كما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} 1. وهذا إنما يكون بعد إخراج عصاة الموحدين من النار، حين لا يبقى في النار إلا أهلها الخالدون فيها. " ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ? وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ? " يتقطعون أسفاً وندماً وحسرة، ولكن لا ينفع الندم حينئذ، ونسأل الله عز وجل السلامة والعافية وأن يجيرنا وإياكم من النار.

_ 1 الآيتان 36، 37 من سورة فاطر.

" فصل " من أصول الإيمان: الإيمان بالأنبياء والرسل الكرام الذين أرسلهم الله عز وجل، واعتقاد أنَّهم رسله حقاً وأنبياؤه صدقاً، وأنَّ الله عز وجل بعثهم للناس بالهدى والحق مبشرين ومنذرين. واعتقاد أنهم أدوا الأمانة ونصحوا لأممهم، وبلغوا ما أمرهم الله بتبليغه على الكمال والتمام، وأنَّ من أطاعهم فهو من أهل الجنة، ومن عصاهم فهو من أهل النار. واعتقاد فضلهم ورفعة شأنهم وعلو قدرهم، وأنَّ الله عز وجل اجتباهم واختارهم وميزهم على الناس، خصهم برسالته وفضلهم على العالمين. واعتقاد التفاضل بينهم، وأنَّ أفضل الأنبياء الرسل، وأفضل الرسل أولو العزم منهم، وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو إمام المرسلين وخيرهم ومقدمهم صلى الله عليه وسلم. وكما أنَّ الإيمان بالرسل عموماً أصل من أصول الإيمان، فإنَّ الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنَّه خاتم الأنبياء والمرسلين أصل عظيم من أصول هذا الدين، ولا إيمان لمن لم يؤمن بنبوته؛ بَشَّر به الأنبياء قبله، وذكروه لأممهم. وقد بُعث صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين، ورحمة للعالمين، لم يبعث للعرب خاصة وإنَّما بعث للناس عامة. ومن الإيمان به صلى الله عليه وسلم: الإيمان بفضائله وخصائصه ومناقبه، وجميع ما منَّ الله تبارك وتعالى عليه به، ولهذا عقد المصنف هذا الفصل العظيم لبيان فضل الرسول الكريم خاتم النبيين وإمام المرسلين وقدوة الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم. فقال:

خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم

[خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم] " ونعتقد أنَّ محمداً المصطفى خير الخلائق وأفضلهم، وأكرمهم على الله عز وجل وأعلاهم درجة، وأقربهم إلى الله وسيلة، بعثه الله رحمة للعالمين، وخصه بالشفاعة في الخلق أجمعين " " المصطفى " أي: الذي اصطفاه الله واجتباه واختاره وفضله على الناس أجمعين بمن فيهم من الأنبياء والرسل عليهم السلام، فهو أفضل خلق الله عند الله جل وعلا. الرسل كلُّهم اصطفاهم الله، كما قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 1، فتخصيصهم بالرسالة وبعثهم بالتوحيد هذا اصطفاء واجتباء، لكنَّ اصطفاء النبي صلى الله عليه وسلم له فيه مزيد تفضيل وتكريم وعلو شأن على بقية الأنبياء والمرسلين، وسيأتي عند المصنف ـ رحمه الله ـ ذكر جملة من الأدلة على تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم وتعلية شأنه وبيان فضله على الناس أجمعين وعلى الأنبياء والمرسلين. " خير الخلائق " أي: أفضلهم وأكملهم وأعلاهم شأناً، وأرفعهم قدراً وأنبلهم ذكراً. " وأفضلهم، وأكرمهم على الله عز وجل " الطاعة كريمة على الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " 2، وكل من أطاع الله فهو كريم عليه، قال صلى الله عليه وسلم:""ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في

_ 1 الآية 75 من سورة الحج. 2 أخرجه البخاري في الأدب المفرد " رقم 712 "، والترمذي " رقم 3370 وقال: حسن غريب "، وابن ماجه " رقم 3829 "، وأحمد " 2/362 "، وابن حبان " رقم 870 "، والطبراني في الأوسط " رقم 2523 "، والحاكم " 1/666 وقال: صحيح الإسناد "

الإسلام، يكثر تكبيره وتسبيحه وتهليله وتحميده " 1، فالطاعة ذاتها كريمة على الله، وأهلها كريمون على الله، وأكرم خلق الله على الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أفضلهم طاعة وأكملهم عبادة وأعلاهم شأناً. " وأعلاهم درجة " الدرجة هي المنزلة والرتبة، فرتبته ومنزلته أعلى المنازل وأرفع الرتب، فليس في الناس أرفع منه رتبة ولا أعلى منه منزلة. " وأقربهم إلى الله وسيلة " الوسيلة هي السبب الموصل إلى الله جل وعلا، فأقرب الناس وسيلة إلى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أتم العبودية وأكمل الطاعة، وكان قدوة للناس في كلِّ خير ونبل وفضل وعبادة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 2. وقد جاء في معنى الوسيلة أنَّها منزلة لا تنبغي إلا لواحد من عباد الله، يقول صلى الله عليه وسلم:""إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو " 3، كما قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 4، فله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود وستأتي إشارة المصنف ـ رحمه الله ـ إلى هذا. " بعثه الله رحمة للعالمين " كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 5، وقال صلى الله عليه وسلم:""إنما بعثت رحمة " 6، وقال صلى الله عليه وسلم:""يا أيها الناس

_ 1 أخرجه النسائي في الكبرى " رقم 10674 "، وأحمد " 1/163 "، وعبد بن حميد في منتخبه " رقم 104 "، والضياء في المختارة " 3/33 " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 652 " 2 الآية 21 من سورة الأحزاب. 3 أخرجه مسلم " رقم 847 " 4 الآية 79 من سورة الإسراء. 5 الآية 107 من سورة الأنبياء. 6 أخرجه مسلم " رقم 6556 "

إنما أنا رحمة مهداة " 1، فهو رحمة مهداة، رحيم بالناس حريص عليهم، بذل وسعه وجهده في دعوتهم إلى توحيد الله تبارك وتعالى واستنقاذهم من النار. وسيرته صلى الله عليه وسلم مليئة بالشواهد والدلائل على كمال رحمته، ومن ذلك: أنَّه لما قدم الطفيل وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنَّ دوساً قد كفرت وأبت، فادع الله عليها. فقيل: هلكت دوس. فقال صلى الله عليه وسلم:""اللهم اهد دوساً وائت بهم " 2. " وخصه بالشفاعة في الخلق أجمعين " المراد بالشفاعة: الشفاعة العظمى الكبرى التي يشفع بها صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف بعد أن يعتذر عنها الأنبياء جميعاً، ويقول صلى الله عليه وسلم: أنا لها. وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، فيظهر الله به فضله ورفعته على الخلق أجمعين. بعد أن ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ هذا الكلام المجمل في بيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم شرع في ذكر بعض الأدلة من السنة على ذلك فقال: " وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:""أعطيت خمساً لم يعطهنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة " " " أعطيت خمساً لم يعطهنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي " أي: فُضِّلت وخصصت ومُيِّزت على سائر الأنبياء بخمس خصال. وتمييزه بهذه الخصال

_ 1 أخرجه الدارمي " رقم 15 "، والطبراني في الصغير " رقم 264 "، والحاكم في المستدرك " 1/91 وقال صحيح على شرطهما " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 490 " 2 أخرجه مسلم " رقم 6397 "

وتخصيصه بها من بين سائر الأنبياء دليل على فضله وعلو قدره صلى الله عليه وسلم. " نصرت بالرعب مسيرة شهر " أي أنَّ الله عز وجل يلقي الرعب الشديد والهلع والخوف في قلوب أعدائه، فما يتوجه صلى الله عليه وسلم إلى عدو إلا ملأ الله قلوبهم رعباً وخوفاً من مقدمه عليهم. " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل " أي: في أيِّ مكان منها يتطهر، وفي أي مكان يؤدي صلاته، إن كان ثمة ماء توضأ، وإلا تيمم. ويستثنى من هذا الأماكن التي نُهي عن الصلاة فيها كالحمام والمقبرة. وهذا فيه أنَّ الصلاة لا تؤخر عن وقتها، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} 1. " وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي " وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم. " وأعطيت الشفاعة " والمراد بالشفاعة كما قدمت الشفاعة العظمى؛ فإنَّ الشفاعة لأهل المعاصي من الموحدين ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم، بل الأنبياء والصالحون من عباد الله أيضاً يشفعون، وقد تقدم ذكر أنواع الشفاعة، وأنَّ منها ما يختص به صلى الله عليه وسلم ومنها ما يشمل غيره أيضاً. " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة " بعث رحمة للعالمين ورسولاً للناس أجمعين. وقد ثبت في السنة أحاديث عديدة، فيها ذكر ما فُضِّل به النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم:"" فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون " 2 وغيره، فإذا ضُمَّتْ إلى هذا الحديث

_ 1 الآية 103 من سورة النساء. 2 أخرجه مسلم " رقم 1167 "

تبين أنَّ الخصال التي تميز بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من هذه الخمس. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ـ بعد جمعه لعدة أحاديث في هذا المعنى ـ:""فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع ... وقد ذكر أبو سعد النيسابوري في كتاب " شرف المصطفى " أنَّ عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلة " 1. " وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال:""كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرُفِع إليه الذراع ـ وكانت تعجبه ـ فنهش منها نهشة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة " وذكر حديث الشفاعة بطوله " " في دعوة " أي: وليمة. " فرُفِع إليه الذراع، وكانت تعجبه " أي: قدمت إليه ليأكل منها. " فنهش منها نهشة " أي: قطع منها قطعة بأضراسه، يقال: النهس ـ بالسين المهملة ـ: بالأسنان، والنهش ـ بالشين ـ: بالأضراس. " أنا سيد الناس يوم القيامة " السيد هو المقدم على غيره لفضله وعلو قدره ورفعة شأنه، وسيد الناس يوم القيامة النبي صلى الله عليه وسلم. " وذكر حديث الشفاعة بطوله " سبق للمصنف أن أشار إليه عندما تكلم عن الشفاعة، فذكر أنَّ حديث الشفاعة رواه جماعة من الصحابة، عدَّ منهم أبا هريرة، والحديث طويل. " وروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""آتي يوم القيامة باب الجنة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك " رواه مسلم "

_ 1 فتح الباري " 1/523 ـ 524 "

" فأستفتح " أي: أطلب أن يُفتح الباب. " بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك " وهذه من خصائصه وفضائله صلى الله عليه وسلم، فهو أول من يفتح له باب الجنة، وهو أول الداخلين، وأمته أول الأمم دخولاً. " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع " رواه مسلم وأبو داود " " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة " سبق قبل قليل أنَّ من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه سيد ولد آدم أي مقدمهم وإمامهم وقائدهم وقدوتهم وأفضلهم. " ولا فخر " أي: لا أقول ذلك على وجه المفاخرة والمباهاة، وإنَّما أقوله تحدثاً بنعمة الله وشكراً له، واعترافاً بمنه وفضله وعطائه. " وأول من ينشق عنه القبر " فهو أول من ينشق عنه القبر عند قيام الناس من قبورهم لرب العالمين. " وأول شافع " أي: أول من يشفع عند الله، وسبق بيان أنَّ من أنواع الشفاعة ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو عام يشاركه فيها غيره، لكنَّ العام منها يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الأول فيها والمقدم على غيره؛ فالشفاعة مبنية على الفضل والتقدم والرفعة على الناس من حيث العبادة والطاعة والإقبال على الله جل وعلا، ولهذا من كان في الحياة الدنيا شفيقاً على الناس حريصاً على نصحهم ودلالتهم على الخير حري أن يكون شفيعاً عند الله يوم القيامة. ومن كان لا هم له إلا الإساءة إلى الناس، والطعن فيهم والنيل منهم فليس مؤهلاً لأن يكون شفيعاً عند الله يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة " 1. قال ابن القيم رحمه الله:""إنَّ

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 6556 "

الشهادة من باب الخبر، والشفاعة من باب الطلب، ومن يكون كثير الطعن على الناس ـ وهو الشهادة عليهم بالسوء ـ وكثير اللعن لهم ـ وهو طلب السوء لهم، لا يكون شهيداً عليهم ولا شفيعاً لهم؛ لأنَّ الشهادة مبناها على الصدق، وذلك لا يكون فيمن يكثر الطعن فيهم، ولا سيما فيمن هو أولى بالله ورسوله منه. والشفاعة مبناها على الرحمة وطلب الخير، وذلك لا يكون ممن يكثر اللعن لهم، ويترك الصلاة عليهم " 1. وأكمل الناس نصحاً لعباد الله وقياماً بطاعة الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا هو أول شافع. " وأول مشفع " أي: أول من تقبل شفاعته، ويستجاب له في شفاعته. فهذه بعض الأحاديث، وهذا كتاب مختصر، وإلا فالأحاديث التي في بيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته وما خُصَّ به كثيرة جداً.

_ 1 الصواعق المرسلة "4/1505" وانظر: فقه الأدعية والأذكار [القسم الثاني] " ص233 ـ 238 "

فضائل الصحابة

[فضائل الصحابة] بعد أن تكلم المصنف ـ رحمه الله ـ عن شيء من فضائل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وخصائصه، أتبعه بالكلام عن فضائل أصحابه الكرام. والصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ومات على الإسلام. وهم خيار هذه الأمة، شرفَّهم الله وأكرمهم برؤية نبيه صلى الله عليه وسلم وسماع حديثه، وأخذ الدين منه غضاً طرياً. شهد الله لهم بالخيرية وعدلهم ورضي عنهم، وشهد لهم بذلك رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 1، وهم أولى الناس دخولاً في قول الله"تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2. وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم:""خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " 3. ومناقبهم وفضائلهم وميزاتهم كثيرة مشهورة لا تحصى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ""لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " 4. وهم مع فضلهم ليسوا في الفضل سواء، بل بعضهم أفضل من بعض، والمصنف ـ رحمه الله ـ عقد هذا الفصل لبيان فضل الصحابة وبيان المفاضلة بينهم. وهذا التفاضل عائد إلى الإيمان وطاعة الله عز وجل وامتثال أوامره، فيكون دليلاً آخر على زيادة الإيمان ونقصانه، وأنَّ أهله ليسوا فيه سواء، ويتفاضلون في خصال الإيمان، فليس أحد منهم في الصديقية مثل أبي بكر،

_ 1 الآية 18 من سورة الفتح. 2 الآية 110 من سورة آل عمران. 3 سبق تخريجه. 4 أخرجه البخاري " رقم 3673 "، ومسلم " رقم 6434 "

ولا في الحياء مثل عثمان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:""أصدقهم حياء عثمان " 1، وفي الحديث الآخر:""ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه " 2. وفي هذا ردٌّ على المرجئة وبيانٌ لشناعة قولهم وفداحته؛ إذ كيف يقال: إنَّ آحاد الأمة في الفضل كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. " ونعتقد أنَّ خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأخص، وأخوه في الإسلام، ورفيقه في الهجرة والغار: أبو بكر الصديق، وزيره في حياته، وخليفته بعد وفاته: عبد الله بن عثمان عتيق ابن أبي قحافة " هذا من جملة اعتقاد أهل السنة: اعتقاد أنَّ أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، فهو أفضل الصحابة على الإطلاق. " ونعتقد أنَّ خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأخص " فله في الصحبة خصوصية وسبق وتميز، وله مواقف عظيمة، بل هو الصحابي الوحيد الذي ذُكِر بهذا اللقب الشريف في القرآن: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} 3. فهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم الأخص، وفي هذا إشارة إلى أنَّ الصحابة في الصحبة متفاضلون. وأبو بكر رضي الله عنه كان سباقاً إلى كلِّ خير، وشهد له الصحابة بذلك. " وأخوه في الإسلام " الصحابة كلُّهم أخوة للنبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام، لكن المصنف يشير إلى خصوصية أبي بكر بذلك؛ لأنَّه وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم من أول الأمر، فهو أول من أسلم من الرجال. " ورفيقه في الهجرة والغار " لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ودخل الغار

_ 1 سبق تخريجه. 2 أخرجه النسائي " رقم 5008 "، وابن ماجه " رقم 147 "، وابن حبان " رقم 7076 "، والحاكم " 3/443 " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 807 " وفي صحيح الجامع " رقم 5888 " 3 الآية 40 من سورة التوبة.

كان معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1، وهذه معية خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه. " وزيره في حياته " الوزير: المعاون والمساعد والمستشار، ووزارته قديمة، فهو وزيره من أول الأمر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشيره في كثير من شؤونه، ويأخذ برأيه إلى أن مات صلى الله عليه وسلم. " وخليفته بعد وفاته " فهو أول الخلفاء الراشدين، وهو خليفة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعد مماته. ثم ذكر الخليفة الثاني ـ وهو في ضمن هذا يشير إلى طرف من مناقب كلِّ صحابي يذكره بحسب ما يحتمله هذا المختصر ـ فقال: " ثم بعده الفاروق: أبو حفص عمر بن الخطاب الذي أعز الله به وأظهر الدين " لُقِّبَ بالفاروق لأنَّ الله عز وجل فرق به بين الحق والباطل، وأيد به الدين، ونصر به الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، فكان أحبهما إلى الله عمر بن الخطاب " 2، فأسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفرح الصحابة بإسلامه، ونصر الله به دينه كما قال ابن مسعود:""مازلنا أعزة منذ أسلم عمر " 3.

_ 1 الآية 40 من سورة التوبة. 2 أخرجه الترمذي "رقم 3681 وقال: حديث حسن صحيح غريب "، وأحمد "2/95"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي "رقم 2907". وأورده القاري في المصنوع في الموضوع "ص49 " بلفظ: " أحد العمرين " وقال: " لا أصل له بهذا اللفظ ". 3 أخرجه البخاري " رقم 3684 "

" ثم بعده ذو النورين: أبو عبد الله عثمان بن عفان، الذي جمع القرآن وأظهر العدل والإحسان " " ذو النورين " ولُقب بهذا اللقب لأنَّه تزوج بابنتي النبي صلى الله عليه وسلم: رقية وأم كلثوم، وهذا لم يحصل لأحد مع أي نبي. وقيل أقوال أخرى، أوصلها المحب الطبري إلى خمسة أقوال 1. " الذي جمع القرآن " بإشارة من بعض الصحابة، جمعهم على رسم واحد للمصحف حتى لا يختلف الناس في كتاب الله عز وجل. " وأظهر العدل والإحسان " نص المصنف ـ رحمه الله ـ على هذه الفضيلة لعثمان رضي الله عنه رداً على دعاوى بعض المبطلين من أنَّه رضي الله عنه كان يحابي قرابته ولم يكن عدلاً ولا منصفاً وغير ذلك مما ذكر في مبررات قتله. وهذا قول باطل في حق هذا الصحابي الجليل 2. " ثم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنُه: علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم. فهؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون " " وخَتَنُه " الختن: زوج البنت، وعلي رضي الله عنه كانت تحته ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها، ومناقبه وفضائله رضي الله عنه كثيرة. " رضوان الله عليهم " أي: الأربعة المذكورين. " فهؤلاء الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون " هذه ألقاب لهم جميعاً، فلقبوا بالخلفاء لأنَّهم خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم. والراشدون من الرشاد وهو ضد الغواية. والأئمة من الإمامة فهم قدوة في الخير. والمهديون من الهداية وهي ضد الضلال.

_ 1 انظر: الرياض النضرة في مناقب العشرة " 3/6 " 2 انظر في هذا الباب كتاب " فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه " للدكتور محمد الغبان وفقه الله.

وهذه الأوصاف الأربعة مأخوذة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض ابن سارية رضي الله عنه:""فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " 1. ففي هذا الحديث إشارة إلى صلاح العلم والعمل وأنَّهم قدوة في هذين الأمرين؛ فالراشد: من ليس عنده غواية، بل عنده بصيرة وعلم وفهم ودراية بدين الله جل وعلا. والمهدي من ليس عنده ضلال، بل عنده عبادة وطاعة وتقرب إلى الله تبارك وتعالى. ومن كان كذلك فهو إمام وقدوة في الخير. وهذا نظير وصف الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} 2، فنفي الضلال فيه إثبات كمال ضده وهو الهداية، ونفي الغواية فيه إثبات كمال ضدها وهو الرشاد. وهذا الترتيب الذي ذكره المصنف ـ رحمه الله ـ للخلفاء هو من عقيدة أهل السنة والجماعة ولم يخالف فيه أحد، وإنما عُرِفَ عن بعض أهل السنة تفضيل علي على عثمان. أما ترتيبهم في الخلافة فلا خلاف في أنَّ أحقهم بها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. ثم استقرت كلمة أهل السنة والجماعة فيما بعد على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة. وهذا الترتيب كان معروفاً عند الصحابة، كما جاء في صحيح الإمام البخاري 3 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قوله:""كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان

_ 1 سبق تخريجه. 2 الآية 2 من سورة النجم. 3 الصحيح " رقم 3655 "

رضي الله عنه ". زاد الطبراني 1:""فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا ينكر ". وجاء في هذا المعنى آثار عديدة عن الصحابة والسلف، منهم علي رضي الله عنه، فقد سأله ابنه محمد بن الحنفية، فقال:""أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: عمر. وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال ما أنا إلا رجل من المسلمين ""2. لما أنهى المصنف ـ رحمه الله ـ الكلام عن الخلفاء الراشدين انتقل للكلام على بقية الستة المبشرين بالجنة فقال: " ثم الستة الباقون من العشرة: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح رضوان الله عليهم. فهؤلاء العشرة الكرام البررة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة " وهؤلاء يعرفون بالعشرة المبشرين بالجنة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بشَّرهم بالجنة في مجلس واحد، كما ورد ذلك في عدة أحاديث، منها: حديث سعيد بن زيد 3، وحديث عبد الرحمن بن عوف 4، قال النبي صلى الله عليه وسلم:""أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة،

_ 1 ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري " 7/20 " 2 أخرجه البخاري " رقم 3671 " 3 أخرجه أبو داود " رقم 4749 "، والترمذي " رقم 3748، 3757 وقال حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن سعيد بن زيد "، وابن ماجه " رقم 134 "، وأحمد " 1/187 "، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي " رقم 2955 " 4 أخرجه الترمذي " رقم 3747 "، وأحمد " 1/193 " قال الترمذي: " وقد رُوي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وهذا أصح من الحديث الأول ... وسمعت محمداً ـ يعني البخاري ـ يقول: هو أصح من الحديث الأول ".

والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ". وقد نظم غير واحد هؤلاء العشرة في أبيات، منها هذان البيتان: للمصطفى خير صحب نص أنهم ... "في جنة الخلد نصاً زادهم شرفاً هم طلحة وابن عوف والزبير مع ... أبي عبيدة والسعدان والخلفاء1 وقد أفرد بعض أهل العلم فضائل هؤلاء العشرة بمصنفات خاصة، منهم المحب الطبري ـ رحمه الله ـ في كتابه " الرياض النضرة في مناقب العشرة ". " فنشهد لهم بها كما شهد لهم بها؛ اتباعاً لقوله وامتثالاً لأمره " وفي هذا إشارة إلى طريقة أهل السنة والجماعة في التعامل مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في كلِّ شيء، ومن ذلك: الشهادة بالجنة والتفضيل بين الصحابة رضوان الله عليهم. " وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لثابت بن قيس، وعبد الله بن سلام، ولبلال بن رباح، ولجماعة من الرجال والنساء من أصحابه " شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس رضي الله عنه بالجنة ثابتة في الصحيحين 2 من حديث أنس رضي الله عنه:""أنَّه لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ} 3 جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟ قال سعد: إنَّه لجاري، وما علمت له بشكوى. فأتاه سعد فذكر له قول النبي صلى الله عليه وسلم. فقال ثابت: أنزلت

_ 1 انظر هذه الأبيات وأبيات غيرها في مقدمة الرياض المستطابة للعامري. 2 البخاري " رقم 3613 "، ومسلم " رقم 310 " واللفظ له. 3 الآية 2 من سورة الحجرات.

هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل هو من أهل الجنة ". وأما عبد الله بن سلاَم 1 رضي الله عنه، فثبت أيضاً في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنَّه قال:""ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنَّه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام " 2. وأما بلال رضي الله عنه فثبت في الصحيحين 3 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:""يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة ". " وبشَّر خديجة ببيت من قصب لا صَخَبَ فيه ولا نَصَب " وهذا الحديث في الصحيحين 4، وقيل: إنَّ القصب هو اللؤلؤ المجوف، أي: ليس فيه أصوات مزعجة، ولا شدة فيه ولا عنت ولا تعب. " وأخبر أنَّه رأى الرميصاء بنت ملحان في الجنة " الرميصاء هي زوجة أبي طلحة، أم أنس بن مالك، وقد بشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة هي وبلال في حديث واحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم:""أريت الجنة فرأيت امرأة أبي طلحة، ثم سمعت خشخشة أمامي، فإذا بلال " 5. لما أشار المصنف ـ رحمه الله ـ إلى بعض من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة قال:

_ 1 ابن سلاَم بتخفيف اللام. وللفائدة ينظر كتاب " مختصر من الكلام في الفرق بين من اسم أبيه سلاَم وسلاَّم " لأبي محمد بن أسعد الجواني ت 588. لم يطبع، وله نسخة مصورة بقسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية " رقم 20537 " 2 البخاري " رقم 3812 "، ومسلم " رقم 6330 " 3 البخاري " رقم 1149 "، ومسلم " رقم 6274 " 4 البخاري " رقم 1792 "، ومسلم " رقم 6224 " 5 أخرجه البخاري " 3679 "، ومسلم " رقم 6271 "

" فكلُّ من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له، ولا نشهد لأحد غيرهم " أي: لا نشهد لأحد معين غير من شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. " بل نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء " هذه طريقة أهل السنة في الشهادة، لا يشهدون لمعين بجنة أو نار، إذا رأوا أحداً على خير وإحسان وطاعة وعبادة وإقبال على الله قالوا: نرجو أن يكون من أهل الجنة، أو نحسبه من أهل الجنة، أو إن شاء الله من أهل الجنة. ومن أساء خافوا عليه النار، بدون جزم بها. " ونكل علم الخلق إلى خالقهم " أي: نفوض العلم بحالهم وخاتمتهم وصدق إيمانهم وما يستحقونه من جنة أو نار وسعادة أو شقاء إلى الله " فالزم ـ رحمك الله ـ ما ذكرت لك من كتاب ربك العزيز، وكلام نبيك الكريم ولا تحد عنه " هذا الكلام عائد لكلِّ ما سبق، فالعقيدة التي أوردها المصنف في هذا الكتاب كلُّها مبنية على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إلى هذا المعنى في مقدمة الكتاب وفي ثناياه غير مرة، وأعاده هنا في تمامه. فأهل السنة يبنون كلَّ صغير وكبير، وكلَّ أمور المعتقد والدين على كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. ولهذا يقول المصنف: خذ كلَّ ما ذكرته لك في هذا الكتاب، وهو ليس مني، ولم آت به من عند نفسي، فهذه العقيدة لم أنشئها من قبل نفسي، ولم أبتكرها من بنات عقلي، بل جمعت فيها ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن أخذ من المنهل الأول وجد بقية الموارد كدرة، لكن هذا أمر لا يدركه أهل الأهواء. فكلُّ من اشتغل بالعقول أو اشتغل بالمنامات أو اشتغل بالأذواق والمواجيد لا يدرك ما يدركه أهل السنة من حلاوة في المعتقد ولذة في الإيمان

لكونه مأخوذاً من هذا المنبع الصافي والمنهل العذب كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. " ولا تبتغ الهدى في غيره " لأنَّ من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة ضل، كما قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 1، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:""تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض " 2، فالذي يتبع الهدى وهو ما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لن يضل. ثم حذَّر قارئ هذا المعتقد من أباطيل أهل الأهواء فقال: " ولا تغتر بزخارف المبطلين " فسمَّى ما عند المبطلين زخارف، وذلك لأنَّه باطل مردود يأباه كلُّ مسلم، لكنَّ أهل الباطل لا ينفِّقون باطلهم إلا بإلباسه لباس الحق وزخرفته وتزيينه وتنميقه؛ فينفق على جهال الناس وعوامهم، ويغترون به. فكلُّ حق لا يريدونه يسمونه باسم مستشنع، وكلُّ باطل يريدون تقريره يلقبونه بألقاب جميلة، كما سمى المعطلة تعطيلهم للصفات تنزيهاً، وإثبات الصفات تجسيماً، وكما سمَّوا تعطيلهم للصفات توحيداً، وإنكارهم للقدر عدلاً، ونحو ذلك.ولهذا لا ينبغي لمسلم أن يغتر بزخرفة القول. قال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ:""عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول " 3. " وآراء المتكلفين " وهذا فيه إشارة إلى أنَّ ما عند أهل الباطل إنَّما هو مجرد آراء، هي من نتاج عقولهم وبنات أفكارهم، ولهذا عندما يقرأ المسلم في كتاب لأهل السنة وكتاب لأهل الأهواء في المعتقد يجد صاحب السنة ينطلق فيه

_ 1 الآية 123 من سورة طه. 2 أخرجه الحاكم " 1/172 " وصححه الألباني في صحيح الجامع " رقم 2937 " 3 رواه الآجري في الشريعة " ص102 "، والخطيب في شرف أصحاب الحديث " ص7 "، وابن عبد البر في بيان العلم " 2/114 "، وصحح إسناده الألباني في مختصر العلو " ص138 "

من آيات وأحاديث. ويجد صاحب البدعة والهوى ينطلق من آراء، ثم يتكلف ليستدل لها، فترى الواحد منهم يعتقد ثم يستدل، فيلوي الآيات والأحاديث ويأطرها لتكون دليلاً له على معتقده، أو يوردها ليردها، حتى إنَّ قارئ كتبهم والمطلع عليها ليلمس فيهم عند إيرادهم لنصوص الشرع أنَّهم إنَّما أوردوها ليشرعوا في ردها وتأويلها شروع من قصد ذلك أصلاً وابتداء بأيِّ طريقة كانت. فمثلاً يقرر بعضهم بشواهد عقلية فاسدة نفي العلو ثم يقول: فإن قيل: ما قولكم في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، ثم يشرع في تأويلها وصرفها عن ظاهرها، فهو لم يأت بالآية أصلاً إلا ليردها. " فإنَّ الرشد والهدى " عندما يجتمع الرشد مع الهدى، فالرشد: في العلم، وضده الغواية. والهدى: في العمل، وضده الضلال. وإذا ذكر كلُّ واحد منهما مفرداً تناول الآخر. " والفوز والرضا فيما جاء من عند الله ورسوله " وهنا ينبه المصنف على شيء سبق أن نبه عليه ألا وهو أنَّ المسلم ينبغي أن يعوِّد نفسه على تلقي كلِّ ما يأتي في الكتاب والسنة بالرضى والقبول والتسليم. وإن استوحش من بعض الأمور لضعف بصيرته، وقلة علمه فليتهم رأيه في الدين، وليرض بما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الزهري:""من الله عز وجل الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم " 2، فإنَّ في ذلك الفوز والفلاح. " لا فيما أحدثه المحدثون " المحدثون من الإحداث وهو الابتداع أي إنشاء شيء في الدين ليس منه، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:""من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 3.

_ 1 الآية 5 من سورة طه. 2 سبق تخريجه. 3 أخرجه البخاري " رقم 2697 "، ومسلم " رقم 4467 "

" وأتى به المتنطعون " التنطع: التكلف، أي الذين لم يسعهم ما في الكتاب والسنة وما عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فأخذوا يتكلفون أشياء ويستحسنون أموراً يأتون بها من قبل أنفسهم يلصقونها بالدين. " من آرائهم المضمحلة " الاضمحلال هو التلاشي والتصاغر، فهي آراء حقيرة واهية، لا تقوم على عقول راجحة ولا أفهام سوية، بل على عقول فاسدة وأفهام ردية. " ونتائج عقولهم الفاسدة " وهؤلاء إنَّما أتوا من فساد العقول؛ فسدت عقولهم فبنوا عليها الدين، وإلا لو صحت العقول لتلقوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بالرضا والتسليم. ثم عاد ـ رحمه الله ـ ناصحاً فقال: " وارض بكتاب الله وسنة رسوله " وبهذا الرضا ينال العبد حلاوة الإيمان وطعمه كما قال صلى الله عليه وسلم:""ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً " 1. " عوضاً من قول كلِّ قائل وزخرف وباطل " يعني لا تغتر بكلام الناس ولا زخارفهم ولا باطلهم، بل عليك بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والرضا بما جاء فيهما. ونظير كلام المصنف قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:""العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، فالشأن في أن نقول علماً، وهو النقل المصدق والبحث المحقق. فإنَّ ما سوى ذلك ـ وإن زخرف مثله بعض الناس ـ خزف مزوق، وإلا فباطل مطلق " 2.

_ 1 سبق تخريجه. 2 مجموع الفتاوى " 6/388 " وانظر: مجموع الفتاوى " 13/329 "، والرد على البكري " ص375 "

فأهل الباطل ليس عندهم إلا هذيان وآراء فاسدة وتقريرات باطلة لكنَّهم زخرفوها وزوقوها ونمقوها وألبسوها قوالب الحق فنفَّقوها بذلك بين الناس وروجوها فيهم. وقد ختم المصنف ـ رحمه الله ـ بهذه الخاتمة التي فيها التأكيد على التمسك بالكتاب والسنة والتعويل على ما جاء فيهما، والحذر من الباطل وأهله، والبراءة من الأهواء وأهلها. ونظراً لعظم هذا المقام وأهميته وحاجة الناس لمزيد التأكيد عليه وبيان بعض أدلته، لم يكتف بذلك، بل أفرد له فصلاً خاصاً فقال:

فصل في فضل الاتباع

" فصل في فضل الاتباع " يجب على كلِّ مسلم أن يدرك فضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ السعادة إنَّما تنال باتباعه والسير على نهجه صلى الله عليه وسلم، فلم يبعث الله الرسل إلا ليُتَّبعوا ولتقتفى آثارهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. وفضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور المتقررة والأصول المتأكدة، فلا دين إلا بالاتباع، ولا سعادة ولا فلاح في الدنيا والآخرة إلا به. وما كان الناس بحاجة إلى أن تعقد الفصول وتؤلف المؤلفات في بيان فضل اتباعه، ولكن لمَّا عمت في الناس الأهواء وكثرت البدع والآراء وفشت الضلالات احتاج أهل العلم إلى تأليف الكتب وعقد الفصول وكتابة الرسائل وجمع الأدلة في بيان فضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من الأهواء وأهلها حتى تستبين الجادة وتتضح الطريق، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} 2. فالباطل إذا وُجد في الناس وانتشر يجب أن يحذر منه، وأيضاً إذا ضعف الحق والتمسك به ينبغي أن ينشر بين الناس فضله. وإذا نظرت في كثير من مجتمعاتنا اليوم ترى أنَّهم يحتاجون إلى هذه الأصول، يحتاجون إلى أن تذكر لهم الأحاديث والأدلة الدالة على فضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا عرفوا فضل ذلك، بُين لهم كيف يكون الإنسان متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم سائراً على نهجه مقتفياً لآثاره. وإذا قيل: ما علاقة الاتباع بالاعتقاد؟ يقال: لا صحة للاعتقاد إلا إذا كان مبنياً على الاتباع، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 3 أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر. فلا يقبل من الناس أي اعتقاد أو عمل إلا إذا كان مبنياً على الاتباع. ولهذا فالاتباع

_ 1 الآية 64 من سورة النساء. 2 الآية 55 من سورة الأنعام. 3 الآية 1 من سورة الحجرات.

هو أصل أصول الإيمان، وإنما تبنى أصول الإيمان على الاتباع وعلى العلم الصحيح المتلقى من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كثيراً ما يقول:""من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول"صلى الله عليه وسلم " 1. ويقول ابن أبي العز الحنفي:""كيف يرام الوصول إلى علم الأصول بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم " 2. ولهذا ترى عامة المصنفين من أهل السنة أول ما يبدءون المعتقد يبدءونه بالحث على الاتباع والتمسك بالكتاب والسنة؛ لأنَّ هذا هو الركيزة والأساس الذي يبنى عليه المعتقد، فإن لم يبن على هذه الركيزة لا يكون صحيحاً ولا مقبولاً. وهذا تأصيل مبارك ينبغي أن يغرس في قلب كلِّ مسلم. وقد أورد ـ رحمه الله ـ تحت هذا الفصل أحاديث بدأها بحديث جابر ابن عبد الله فقال: " روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:""كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: نحمد الله تعالى ونثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار. ثم يقول: بُعثت أنا والساعة كهاتين. وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنَّه منذر جيش، صبَّحكم ومسَّاكم. ثم قال: من ترك مالاً فلأهله، ومن

_ 1 انظر: مفتاح دار السعادة " ص 90 " 2 شرح العقيدة الطحاوية " ص 18 "

ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ، وأنا ولي المؤمنين " رواه مسلم والنسائي. ولم يذكر مسلم:""وكلُّ ضلالة في النار " " أحسن الهَدي هَدي محمد " وتروى أيضاً بلفظ: " الهُدى: هُدى محمد " والهَدي: هو الطريق، والهُدى: هو الدلالة والإرشاد، فأحسن الطرق طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن الدلالة والإرشاد هو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الحديث بيان أساس ذلك التأصيل المبارك والمنهج الطيب الذي سار عليه أهل السنة في افتتاح عقائدهم بالإرشاد والتنبيه على أهمية الاتباع، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم في كلِّ خطبة يقرر للناس هذا الأصل: " إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد " تأكيداً على أنَّ العقيدة والعبادة والأخلاق مبناها على لزوم الكتاب والسنة. وتكرار ذلك في كلِّ جمعة فيه تنويه بهذا الأصل العظيم والأساس المتين، وأنَّه أصل ينبغي أن يفهم في كلِّ مقام، وهو أنَّ العمدة على أصدق الكلام وهو كلام الله، وخير الهدي وهو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. " وشر الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار " وهذا فيه التحذير من البدع، وبيان شدة خطورتها وعظم ضررها، وأنَّها مفضية إلى الضلال، وأنَّ الضلال مفض إلى النار. " ثم يقول: بُعثت أنا والساعةَُ كهاتين " يقول النووي ـ رحمه الله ـ:""روي بنصبها ورفعها. والمشهور: نصبها على المفعول معه " 1. وزاد في صحيح مسلم 2: " ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى " وهذا فيه إشارة إلى قرب

_ 1 شرح مسلم " 6/392 " 2 الصحيح " رقم 2002 "

الساعة، وأنَّ بعثته صلى الله عليه وسلم من علاماتها. " وكان إذا ذكر الساعة " أي القيامة، وإنما سميت الساعة لأنَّها تجيء بسرعة، وقيل: لأنَّها تقوم في ساعة. " احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنَّه منذر جيش، صبَّحكم مسَّاكم " كان صلى الله عليه وسلم لمَّا يذكر الساعة وأمرها وأحوالها يكون على هذه الصفة، كأنَّه منذر جيش، وهو الرجل الذي خرج من بلده فوجد جيشاً قادماً لمداهمة البلد وإهلاك من فيها، فرجع فزعاً خائفاً يصيح بالناس، يقول: صبَّحكم أو مسَّاكم أي: الجيش. وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا ليس متكلفاً، وإنما هو تأثرٌ ونصحٌ وقيامٌ ببيان هذا الأمر العظيم والمقام الخطير، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وهذا يدل على أنَّ الواعظ والخطيب إذا كان متأثراً بما يقول أثر في الناس غاية التأثير، وانتفعوا بمواعظه وخطبه. " من ترك مالاً فلأهله " أي: يرثونه عنه. " ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ " أي: من ترك ديناً أو أولاداً ليس لهم من يعولهم فهو يقوم بهم ويتولاهم. وهذا إنَّما قاله صلى الله عليه وسلم لما حصلت الفتوحات وتيسر المال والحال؛ لأنَّه كان في أول الأمر إذا جيء إليه بمن عليه دين لم يصل عليه حتى يُقضى عنه دينه. " وأنا ولي المؤمنين " وجاء في صحيح مسلم 2: " أنا أولى بكلِّ مؤمن من نفسه "، وفي معناه قول الله تبارك وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ

_ 1 الآية 128 من سورة التوبة. 2 سبق تخريجه.

أَنْفُسِهِمْ} 1، وله معان كثيرة، منها: أنَّه أحرص عليهم وأنصح لهم من أنفسهم. ومنها: أنَّ محبته مقدمة على محبة المؤمن لنفسه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:""لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " 2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كلِّ شيء إلا من نفسي ـ:""لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنَّه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر " 3. " وروى زيد بن أرقم قال:""قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر، ثم قال: أمَّا بعد، أيها الناس، فإنَّما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيبه، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن تركه وأخطأه كان على الضلالة. وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاث مرات " رواه مسلم " " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً " هذه الخطبة كما ثبت في الصحيح قالها النبي صلى الله عليه وسلم بماء أو غدير يقال له: خم، أو قم، بين مكة والمدينة، فخطب الناس في ذلك المكان خطبة. " فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر " أي: ذكَّر الناس بطاعة الله والتزام أمره والبعد عن معصيته. " ثم قال: أمَّا بعد، أيها الناس، فإنَّما أنا بشر مثلكم " فبيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّه بشر

_ 1 الآية 6 من سورة الأحزاب. 2 أخرجه البخاري " رقم 15 "، ومسلم " رقم 167 " 3 أخرجه البخاري " رقم 6632 "

من بني آدم، وأنَّ شأنه شأن البشر في الأكل والشرب واللباس وكلِّ ما هو من أوصاف البشر، ولكن فضَّله الله جل وعلا بكمال العبودية وبأن جعله رسولاً للعالمين، فلا يُعبد ولا يعطى شيئاً من خصائص الإله، وهذا البيان منه صلى الله عليه وسلم امتثال لأمر الله تبارك وتعالى له بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} 1. ففي قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر مثلكم " تحذير من الغلو فيه، وأنَّه أمر باطل محرم. ومع هذا التحذير البين في القرآن والسنة إلا أنَّ الغلو فيه عند بعض الطوائف ـ لا سيما المتصوفة ـ يصل إلى درجة إعطائه ما هو من خصائص الرب العظيم ويخرجه عن خصائص البشر. كقول البوصيري في بردته: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم فإنَّ من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا غلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وإعطاءٌ له من خصائص الله في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ففيما يتعلق بالألوهية قال: ما لي من ألوذ به سواك. وهذا التجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستنجاد به وطلب منه. وفيما يتعلق بالربوبية قال: وإن من جودك الدنيا وضرتها. وفيما يتعلق بالأسماء والصفات قال: ومن علومك علم اللوح والقلم. وجميع ذلك من خصائص الرب، فلو أنه قال: يا خالق الخلق ما لي من ألوذ به سواك.. الخ لأصاب الحق ولسلم من الضلال. وافتتح آخر أبياتاً له يمدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: هو الأول والآخر محمد ... هو الظاهر والباطن محمد

_ 1 الآية 110 من سورة الكهف.

فلو عقل هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر مثلكم " لما غلو فيه مثل هذا الغلو، ولما أعطوه من خصائص الرب جل وعلا. وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم أشياء دون هذا في زمانه، ففي صحيح البخاري 1 أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع جارية من الأنصار قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد فقال:""دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين "، زاد ابن ماجه 2: "ما يعلم ما في غد إلا الله ". ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قال: ما شاء الله وشئت قال:""أجعلتني لله عِدلاً؟ قل: ما شاء الله وحده " 3. وسد صلى الله عليه وسلم ذرائع الشرك، وقال:""لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله " 4. وعبد الله: تبطل الغلو، ورسوله: تبطل الجفاء، والحق هو التوسط بين الغلو والجفاء، فلا يرفع فيعطى خصائص الرب، ولا يجفى فلا يمتثل أمره ولا تتبع سنته. " يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيبه " أي: ملك الموت، وهذا أيضاً من خصائص البشرية، فهو صلى الله عليه وسلم يلحقه ما يلحق البشر من الموت، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 5، فمن كان بشراً، ويلحقه ما

_ 1 الصحيح " رقم 5147 " 2 " رقم 1897 " 3 أخرجه البخاري في الأدب المفرد " رقم 783 "، والنسائي في الكبرى " رقم 10824 "، وأحمد " 1/241 "، والبيهقي في الكبرى " 3/217 " وصححه الألباني في الصحيحة " رقم 139 " 4 أخرجه البخاري " رقم 3445 " 5 الآية 30 من سورة الزمر.

يلحق البشر لا يستحق أن يعبد، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} 1، وقال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته لما مات النبي صلى الله عليه وسلم:""أمَّا بعد، فمن كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حي لا يموت " 2. فالعبادة والذل والخضوع حق لله سبحانه وتعالى لا يصرف لأيِّ أحد من البشر كائناً من كان، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3. لكن بسبب انتشار الضلال وكثرة الجهل، ودروس الدين وعدم فهمه، تمادى أقوام في الغلو والإطراء حتى صرفوا العبادة لغير الله من الأنبياء والصالحين وغيرهم. " وأنا تارك فيكم الثقلين " فنصح النبي صلى الله عليه وسلم أمته حياً وميتاً، في حياته بذل وسعه وجاهد في الله حق جهاده وبلَّغ البلاغ المبين، ولما شعر بدنو أجله نصح أمته هذه النصيحة البالغة. " أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور " ولهذا من ابتغى الهدى ومعرفة الخير وإصابته والوقوف عليه فهو في كتاب الله، كما قال تبارك وتعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 4، ومن أراد النور والضياء وإبصار الطريق ومعرفة الحق، فهو في كتاب الله، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 5، ومن التمس الهدى والنور في غير كتاب الله جل وعلا ضل. " من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن تركه وأخطأه كان على

_ 1 الآية 58 من سورة الفرقان. 2 أخرجه البخاري " رقم 1442 " 3 الآية 18 من سورة الجن. 4 الآية 123 من سورة طه. 5 الآية 52 من سورة الشورى.

الضلالة " ومن التمسك بكتاب الله: التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1، فالوصية بالكتاب: وصية بالسنة، ومن لم يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمسك بالكتاب. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:""تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ما إن تمسكتم به لن تضلوا " 2. " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " وهذه وصية منه صلى الله عليه وسلم بأهل بيته المؤمنين؛ بأن يعرف الناس قدرهم، وأن تحفظ مكانتهم، وألا يبغض أحد منهم، وأن يقابلوا بالحب والدعاء والثناء. ولم يحفظ أحد هذه الوصية المباركة إلا أهل السنة والجماعة، فهم الذين توسطوا فيهم بين الغلو والجفاء: بين غلو الرافضة الذين أعطوهم أموراً كثيرة من خصائص الله فادعوا فيهم أنَّهم يعلمون الغيب وأنَّهم يعلمون متى يموتون، وأنَّهم لا يموتون إلا بإذنهم وأنَّهم يتصرفون في الكون إلى غير ذلك من الغلو العجيب الذي امتلأت به كتبهم، وجفاء النواصب الذين وقعوا في أهل البيت وطعنوا فيهم، وأخذوا يتكلمون فيهم ويلعنونهم. ولم يحفظ وصية النبي صلى الله عليه وسلم فيهم إلا أهل السنة، فعرفوا لهم قدرهم، وحفظوا مكانتهم، وأحبوهم، وتولوهم، ودعوا لهم، وترضوا عنهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:""ويحبون ـ يعني أهل السنة ـ آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: " أذكركم الله في أهل بيتي " " 3 وهذه عادة أهل السنة: وسط عدول في كلِّ الأمور، وسط بين الإفراط

_ 1 الآية 7 من سورة الحشر. 2 سبق تخريجه. 3 الواسطية " ص109 " وبسط هذا المعنى بسطاً واسعاً في منهاج السنة، وبين أن أهل السنة هم الذين حفظوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته.

والتفريط. أمَّا من سواهم ففي أحد طرفي النقيض، إما الجفاء أو الغلو. وللرافضة في يوم غدير خم انحراف متزايد مبني على هذا الغلو، ولهذا يتخذون هذا اليوم عيداً، ويجتمعون فيه على الضلال والانحراف والزيغ والغلو في أهل البيت ورفعهم فوق مكانتهم، وفي هذا اليوم أيضاً يقعون في بقية الصحابة رضوان الله عليهم، بل يقعون في أفضل الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم، وينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أموراً يدَّعون أنَّه قالها في هذا اليوم. ومن ادعاءاتهم في هذا اليوم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه، وادَّعوا أنَّ الصحابة كتموا ذلك، ولهذا يجتمعون في هذا اليوم ويلعنون الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم بزعمهم كتموا وصية النبي صلى الله عليه وسلم. فيجتمعون على لعن بعض الصحابة والغلو في بعضهم الآخر. ثم يتباكون على أهل البيت تباكياً يخدعون به جهال الناس1. فأين حفظهم للوصية؟! فهل حفظ الوصية بالكذب والافتراء عليه صلى الله عليه وسلم وتقويله ما لم يقل؟! أم بالطعن في أصحابه وإضاعة سنته والغلو في آل بيته والتمادي في البدع؟! ومع ذلك يدَّعون أنَّ أهل السنة لم يحفظوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. وهذا كما قال القائل: رمتني بدائها وانسلت. " ثلاث مرات " وهذا مما يبين عظم قدر أهل البيت ورفعة مكانتهم، وقد صدر للوالد ـ حفظه الله ـ رسالةٌ في هذا الباب بعنوان: " فضل أهل البيت ومكانتهم عند أهل السنة والجماعة " ساق فيها فضائل أهل البيت في القرآن، وفي السنة، وعند الصحابة، وعند أئمة السلف، وأخذ يسوق فضائل أهل البيت عبر التاريخ، إلى أن وصل إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

_ 1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية " ص 293 ".

رحمه الله، وبيَّن ثناء الشيخ محمد على أهل البيت، وأنَّه من شدة حبه لآل البيت ـ رحمه الله ـ سمَّى أكثر أبنائه ـ كلهم إلا واحداً ـ بأسماء آل البيت، فسمى الحسن والحسين وعلياً وفاطمة وإبراهيم وعبد الله، بل أسماء آل البيت مازالت باقية في ذريته إلى وقتنا هذا. وأهل الضلال يدَّعون أنَّ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يكرهون آل البيت، وأشار الوالد ـ حفظه الله ـ أيضاً أنَّه قد سمَّى عدداً من أبنائه بأسماء آل البيت. فمكانة آل البيت محفوظة وقدرهم معروف عند أهل السنة في القديم والحديث، لكن الغلاة لا يرضيهم إلا الغلو، ولا يعجبهم إلا الإطراء الزائد عن الحد، وقد سلَّم الله أهل السنة ووقاهم من ذلك كلِّه، فله الحمد والمنة. والشاهد من الحديث: وصية النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وأنَّه فيه الهدى والنور، وهذا متضمن للوصية بسنته صلى الله عليه وسلم. " وروى العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال:""وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأنَّ هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال أوصيكم بتقوى الله تعالى، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة " رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح. ورواه ابن ماجه، وفيه قال:""وقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " " في هذا الحديث وصية من النبي صلى الله عليه وسلم على إثر موعظة وصفها العرباض

رضي الله عنه بأنها: " موعظة بليغة، ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب " وهذا يبين لنا حال الصحابة مع مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم، ترق القلوب وتدمع العيون ويتأثر الجميع. فلما وعظهم هذه الموعظة وتأثروا هذا التأثر قالوا: " كأنَّ هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ " أرادوا وصية مودع، وعادةً وصيةُ المودعِ تكون جامعة. " قال أوصيكم بتقوى الله تعالى " وهذه أعظم الوصايا، وهي وصية الله تبارك وتعالى للأولين والآخرين من خلقه، كما قال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} 1، وهي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فقد كان صلى الله عليه وسلم""إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً " 2. وهنا لما طلب منه الصحابة وصية بدأها بتقوى الله. وتقوى الله: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من سخط الله وعقابه وقاية تقيه. وهذا إنَّما يكون بفعل الأوامر وترك النواهي. ولهذا فإنَّ من أحسن ما عرفت به التقوى: قول طلق بن حبيب ـ رحمه الله ـ:""تقوى الله العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وترك معاصي الله على نور من الله مخافة عقاب الله " 3. وقد وقفت لشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والذهبي وابن رجب على ثناء على هذا التعريف وأنَّه من أحسن ما عرفت به التقوى.

_ فقال الذهبي:""أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بتروٍّ من 1 الآية 131 من سورة النساء. 2 أخرجه مسلم " رقم 4497 " 3 حلية الأولياء " 3/64 "، وجامع العلوم والحكم " ص158 "

العلم والاتباع. ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله " 1. وقال ابن القيم:""وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى " 2. " والسمع والطاعة " أي: لمن تأَمَّر على الناس، أوكان أميراً عليهم. " وإن كان عبداً حبشياً " إن استتب له الأمر، وصارت له الإمارة فلا يجوز للمسلم أن يفتات عليه، وما ثم إلا السمع والطاعة. وقد دلت النصوص على أنَّ الطاعة في المعروف، وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. " فإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً " وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، يخبر عن أمور مغيبة وتقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم. وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:""وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلُّها في النار إلا واحدة " 3. لما أخبر صلى الله عليه وسلم بالاختلاف الذي سيقع أرشد إلى المخرج منه دون أن يُسأل، فكلُّ من يسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً " لابد ـ إن كان ناصحاً لنفسه ـ أن يرد في ذهنه هذا السؤال، ولهذا فمن تمام نصح النبي صلى الله عليه وسلم وكمال بيانه: أجاب دون أن يُسأل، فقال: " فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور " هذا هو المخرج، وهو يتلخص في أمرين: لزوم السنة، وهذا في قوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي.. ". ومجانبة البدعة، وهو في قوله صلى الله عليه وسلم: " وإياكم ومحدثات الأمور ... ". فالمخرج من الاختلاف الكثير والفرقة التي تنشأ

_ 1 السير " 4/601 " 2 الرسالة التبوكية " ص10 " 3 سبق تخريجه.

والشقاق الذي ينشب بين الناس يكون بهذين الأمرين: لزوم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومجانبة البدع. والشاهد من الحديث: أنَّ فيه وصية بالاتباع، ولا يكون العبد متبعاً إلا بهذين الأمرين: لزوم السنة ومجانبة البدعة. " فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة " وهذا عام في كل البدع بدون استثناء، والبدعة هي الأمر الذي أحدث في الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1. فكلُّ ما كان هذا شأنه فهو محدث مردود ليس مقبولاً من صاحبه. ومن قال إنَّ في البدع شيئاً حسناً، فإنَّ معنى ذلك أنَّ في الدين أموراً حسنة لم يبينها النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ:""من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 2 فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " 3. فالبدع كلُّها ضلال، والدين كلُّه تام عقيدة وعبادة وأخلاقاً، ولم يبق إلا الاتباع، ولهذا كان شأن الصحابة الاتباع، وستأتي بعض أقوالهم في ذلك. ولو نظرت في حال من يستحسنون كثيراً من البدع ترى أنَّ عشرات بل مئات من السنن الثابتة بالأحاديث الصحيحة الصريحة مهجورة عندهم ومتروكة ولا يعملون بها. فإن لم يكونوا مفضلين لبدعهم على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم يهجرون سنته وينهمكون في هذه البدع؟!

_ 1 سبق تخريجه. 2 الآية 3 من سورة المائدة 3 سبق ذكره.

بل إنَّ بعضهم يترك بعض الفرائض ولا يفوت بعض البدع، وخاصة البدع الموسمية والتي فيها استرواح للنفس بالباطل ومتع من متع الدنيا كالطبول وغيرها، ومن يتركها ولا يحضرها يعد عند بعضهم غير محب للنبي صلى الله عليه وسلم ولو كان محافظاً على الفرائض والسنن، وإنما المحب من يحضر هذه البدع وإن فعل ما فعل، فصار المعيار في صدق المحبة البدعة لا السنة، وهذا من قلب الحقائق. قال ابن القيم رحمه الله ـ شارحاً قول النبي صلى الله عليه وسلم:""تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيُّ قلب أُشربها نُكت فيه نكتة سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض. والآخر أسود مُربادَّاً كالكوز مُجَخِّياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه " 1 ـ قال:""فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقاً. الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وانقياده للهوى واتباعه له " 2. نسأل الله العافية والسلامة. " وقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها " تركنا على السنة الواضحة والجادة المستقيمة التي لا خفاء فيها ولا لبس." " لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " أي إلا من كتب الله عز وجل عليه الهلاك.

_ 1 أخرجه مسلم " رقم 367 " 2 إغاثة اللهفان "1/12"

ثم أورد المصنف حديث أبي الدرداء وهو بمعنى الحديث السابق، فقال: " وروى أبو الدرداء قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه فقال:""الفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتُصَبَّنَّ الدنيا عليكم حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هِيَهْ، وأيم الله قد تركتكم على البيضاء ليلها ونهارها سواء ". قال أبو الدرداء: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء. رواه ابن ماجه " " الفقر تخافون؟ " أي: هل تخافون من الفقر؟ " والذي نفسي بيده لتُصَبَّنَّ الدنيا عليكم " أي: يوسع عليكم في الرزق، وهذا أيضاً كسابقه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فلم يمض بعد كلامه إلا وقت يسير حتى جاءت كنوز الدنيا إلى الصحابة. " حتى لا يُزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هِيَهْ " أي: الدنيا والركون إليها، والتكالب عليها وشغل الأوقات بها. فمن أسباب الزيغ: الافتتان بالدنيا، فتكون أكبر هم الإنسان، حتى يبلغ الحال ببعضهم أن يكون عبداً للدينار وللدرهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: ""تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض " ثم نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يهتم به فقال: " وأيم الله قد تركتكم على البيضاء ليلها ونهارها سواء " أي أنَّه صلى الله عليه وسلم أبان الدين وأوضح الطريق وأقام الحجة وأزال المعذرة ونصح للأمة، وما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه، ولا شراً إلا حذرها منه، وبهذا الذي أبانه تكون النجاة.

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 2886 "

" قال أبو الدرداء: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء " فدين هذا شأنه في الوضوح، ما الذي يحوج أتباعه إلى الرغبة عنه والاشتغال بغيره، كما يفعل أهل البدع، يهجرون هذا الواضح البين ويشتغلون بالشبهات والأهواء. فالحديث شاهد على أهمية الاتباع وفضله وعظم شأنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن دين الله أتم البيان، ولم يمت حتى أتم الله به الدين وأكمله، وأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1. " وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:""إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما، أو عملتم بهما: كتاب الله وسنتي. ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض " رواه أبو القاسم الطبري الحافظ في السنن " وإسناد هذا الحديث عند اللالكائي ضعيف، لكن له شواهد يتقوى بها 2 وهو بمعنى ما سبق. " ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض " وفي هذا دلالة على التلازم بين الكتاب والسنة والارتباط الوثيق بينهما، وأنَّ المسلم مأمور بأن يعمل بالكتاب والسنة؛ إذ هما متلازمان لا يتفرقان حتى يردا على الحوض. قال ابن القيم رحمه الله ـ تعليقاً على هذا الحديث ـ:""فلا يجوز التفريق بين ما جمع الله بينهما، ويرد أحدهما بالآخر " 3 أي: الكتاب والسنة. ثم أخذ المصنف ـ رحمه الله ـ يورد جملة من الآثار عن السلف الصالح ـ

_ 1 الآية 3 من سورة المائدة. 2 انظر: تفصيل هذه الشواهد في السلسلة الصحيحة " رقم 1761 " 3 إعلام الموقعين " 2/307 "

رحمهم الله ـ في فضل الاتباع والبعد عن الابتداع، وذكرنا فيما سبق أنَّ النجاة إنما تكون بلزوم السنة والتمسك بها ومجانبة البدع والبعد عنها. " وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته:""إنما أنا متبع، ولست بمبتدع " "أي: متبع لسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، أتقيد بها وأتمسك بما جاء فيها، ولا أتجاوزها. ولا أبتدع في الدين شيئاً من عندي. وإذا كان الصديق رضي الله عنه ـ وهو من هو في الإمامة والفضل ومعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " ولست بمبتدع " فكيف يتجرأ على الابتداع أناس لا شأن لهم في العلم ولا دراية؟! " وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:""قد فُرضت لكم الفرائض، وسُنت لكم السنن، وتُركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً " " لهذا الأثر قصة، ألا وهي:""أنَّ عمر رضي الله عنه لما صدر من منى أناخ بالأبطح، ثم كوَّم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء، فقال: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني غير مضيع ولا مفرط. ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال: أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً ... قال سعيد بن المسيب ـ الراوي عن عمر رضي الله عنه ـ: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رحمه الله " 1. ولهذا فإنَّ هذه الوصية تُعد من أواخر وصايا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي في مجملها وصية باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بين رضي الله عنه أنَّ الدين قد بُيِّن ـ الفرائض والسنن ـ، وأنَّه لا نقص فيه بأيِّ وجه من الوجوه، وما مات

_ 1 أخرجه مالك في الموطأ " 2/824 "

صلى الله عليه وسلم حتى أتم الله به الدين وأكمله، ولم يبق شيء من الدين لم يوضَّح. وهذا من أعظم الأصول التي يبطل بها الابتداع والإحداث؛ لأنَّه إذا سُلِّم بهذا الأصل العظيم: كمال الدين، لم يبق أمام الناس إلا الامتثال والاتباع والاقتفاء لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم، فما هو الموجب للابتداع؟ إذا أراد العبد أن يتقرب إلى الله عز وجل فليتقرب إليه بدينه الذي شرعه وأتمه. " إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً " يعني تفترق بكم الأهواء والسبل عن الصراط المستقيم والجادة السوية. ومصداق هذا فيما رواه ابن مسعود رضي الله قال:""خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل متفرقة، على كلِّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 1 " 2. " وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:""إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر " " " إنا " أي: الصحابة عموماً، فهو يبين النهج والمسلك الذي كانوا عليه. " نقتدي " أي: بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ونترسم خطاه، ونلزم غرزه، ونتمسك بسنته. " ولا نبتدي " أي: لا نبتدئ شيئاً من الدين من قبل أنفسنا، ولا نأتي بشيء من الدين ابتداء من عند أنفسنا، وإنما حالنا: الاقتداء بما كان عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الآية 153 من سورة الأنعام. 2 أخرجه النسائي في الكبرى " 11174 "، وأحمد " 1/435، 465 "، والطيالسي " رقم 244 "، وابن أبي عاصم في السنة " رقم 17 " وحسن الألباني إسناده.

" ونتبع ولا نبتدع " وهذا نظير قول الصديق رضي الله عنه، أي: نتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نبتدع شيئاً في الدين من قبل أنفسنا. " ولن نضل ما تمسكنا بالأثر " أي: مادام هذا هو مسلكنا فلا سبيل للضلال إلينا؛ لأنَّ السالك في هذا الطريق على الجادة القويمة التي لا يضل من سلكها وسار عليها، والذي يضل إنَّما هو الذي يحيد وينحرف عنها، وهو الذي يدخل في متاهات الأهواء ودروب الباطل. كما قال محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ:""مادام على الأثر فهو على الطريق " 1، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه آثار كثيرة ونقول عديدة في ذم البدع والتحذير منها، وذلك لأنَّه وقف على بدايات ظهور البدع والمبتدعة ونشأتهم 3. " وروى الأوزاعي عن الزهري أنَّه روى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:""لا يزني الزاني حين يزنى وهو مؤمن " فسألت الزهري ما هذا؟ فقال: من الله العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. أمِرُّوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت. وفي رواية: فإنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروها " هذا يبين المنهج الذي كان عليه السلف ـ رحمهم الله ـ فيما ثبت وصح عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فطريقتهم في جميع ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من أمور الإيمان المغيبة ـ مثل ما يتعلق بصفات الرب جل وعلا، أو الجنة والنار، أو أحاديث الوعيد

_ 1 رواه الدارمي في سننه " رقم 141 " 2 الآية 22 من سورة الملك. 3 انظر جملة من هذه الآثار في الإبانة لابن بطة.

وغيرها ـ أن يُمر النص كما جاء، ويثبت كما ورد، دون أن يقابل بشيء من الانتقاد أو الاعتراض أو التساؤل الذي فيه شيء من الإنكار. " من الله العلم " أي: بيان الدين وأمور الشريعة، فالحكم لله والتشريع لله، يحكم بما يشاء ويشرع ما يريد سبحانه. " وعلى الرسول البلاغ " أي أنَّ مهمة الرسول إبلاغ كلام مرسله، لا أن ينشئ كلاماً من عنده ينسبه إلى من أرسله، كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ} 1. فالذي من الله تحقق، فشرع لعباده ما يريد. والذي على الرسول حصل على التمام والكمال، فبلغ البلاغ المبين، ووضح الدين، وأبان الحجة. وبقي الذي على الناس فقال: " وعلينا التسليم " أي: نسلِّم لكلِّ ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم،: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2، فليس أمام المسلم تجاه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتلقاها بالقبول والرضا والتسليم. ثم بين المنهج الذي كان عليه الصحابة والسلف الكرام فقال: " أمِرُّوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت. وفي رواية: فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروها " هذا هو المنهج، وقد جاء عن غير واحد من السلف ـ منهم مالك والأوزاعي والثوري ـ أنهم سئلوا عن بعض أحاديث الصفات فقالوا: أمروها بلا كيف 3. ولا يعني هذا أنَّهم لا يعرفون معاني هذه النصوص، فهم أجلُّ مكانة

_ 1 الآية 99 من سورة المائدة. 2 الآية 65 من سورة النساء. 3 سبق تخريج هذه الآثار.

وأنبل قدراً من ذلك؛ فإنَّ الأحاديث مفهومة المعنى واضحة الدلالة. بل المراد بقولهم: " أمروها كما جاءت " أي مع إثبات المعنى، فليس مرادهم تفويض المعنى وعدم العلم به، وإنما وُجِد هذا عند طائفة من المتأخرين ممن عُرِفوا بالمفوضة: مفوضة المعاني، ولم يكن أحد من السلف مطلقاً على هذه الطريقة. ومن تعلق من المفوضة بمثل هذه المقالة عن السلف فقد تعلق بشيء لا حجة له فيه، بل هو حجة عليه؛ لأنَّ السلف لما قالوا: " أمروها " قيدوا هذا الإمرار بأن يكون " كما جاءت "، والنصوص جاءت محملة بمعاني ودلالات، فإمرارها كما جاءت يكون بإثبات معانيها التي جاءت محملة بها. ومما يؤكد هذا: قولهم عقب هذه الكلمة: " بلا كيف " فإنَّ نفي الكيفية لا يكون إلا ممن يثبت المعنى، لأنَّ من لا يثبت المعنى، لا يحتاج أن يقول: " بلا كيف ". وأيضاً لهم مقصود آخر من هذه الكلمة، وهو أن أحاديث الوعيد تترك بدون تفسير، حتى تبقى هيبتها وزجرها وردعها للعوام، وهذا ملحظ يلحظه بعض السلف في نصوص الوعيد حتى تكون أبلغ في الزجر وأقوى في الردع. وعندما نتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " نجد أنَّه نفى الإيمان عن الزاني، فهل هو نفي لأصل الإيمان بمعنى أن من فعل هذا الأمر الذي هو الزنا أو السرقة ـ كما في بقية الحديث ـ ينتقل من الملة ويخرج من الدين، أم أنَّه نفيٌ لكمال الإيمان الواجب؟ والجواب عن هذا السؤال يتضح بمقارنة الحديث ببقية الأحاديث، فهذا حديث من أحاديث الوعيد، وهناك أحاديث وعد، وعندما يأخذ العبد في هذا المقام أحاديث الوعيد مجردة عن أحاديث الوعد يشتط وينحرف به الفهم

كما هو حال الخوارج والمعتزلة. وإذا أخذ أحاديث الوعد وأهمل أحاديث الوعيد يشتط وينحرف كما هو حال المرجئة. فالخوارج والمعتزلة يتكئون على مثل حديث أبي هريرة هذا:""لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " 1، والمرجئة يتكئون على مثل حديث أبي ذر:""ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق " 2، والطريقة السليمة القويمة أن يجمع بين أحاديث الوعد وأحاديث الوعيد وعلى ضوء ذلك يخرج الإنسان بالحكم. فكيف نجمع بين حديث أبي هريرة النافي للإيمان عن الزاني والسارق، وحديث أبي ذر الذي أثبت لهما الإيمان؟ إذا تأملنا نصوص الشريعة في هذا الباب نجد أنَّ النفي في حديث أبي هريرة ليس هو نفياً لأصل الإيمان، وإنما المنفي كماله الواجب، الذي إذا نفي بقيت دونه رتبة الإسلام. فمعنى الحديث: لا يزني الزاني حين يزني وهو كامل الإيمان الكمال الواجب، فقد انتقص إيمانه الواجب بقدر كبيرته. وهذا الأسلوب في النفي يرد في لغة العرب كثيراً، فتقول العرب: " لا رجل إلا زيد " ومرادهم كمال الرجولة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:""اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة " 3، ومراده صلى الله عليه وسلم نفي الكمال، فإنَّ الدنيا فيها عيش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:""وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي " 4.

_ 1 سبق تخريجه. 2 أخرجه البخاري " رقم 5827 "، ومسلم " رقم 269 " 3 أخرجه البخاري " رقم 2961 "، ومسلم " رقم 4649 " 4 أخرجه مسلم " رقم 6841 "

فعقيدة السلف في عصاة الموحدين أو من يسمى بالفاسق المِلِّي أنَّه مؤمن ناقص الإيمان. أو يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يقال: خرج من الإيمان كما قالت الخوارج والمعتزلة، ولا يقال: هو كامل الإيمان كما قالت المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، وأنَّ إيمان العاصي وإيمان الصديق رضي الله عنه سواء. ومن الطرائف التي تُذكر في هذا الباب:""أن أحد المرجئة مرَّ على رجل سكران، فقال له: يا مرجئ وآذاه، فقال له: صدقت، الذنب مني جئت سميتك مؤمناً مستكمل الإيمان " 1. " وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:""سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعته، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنوا اهتدى، ومن استبصر بها بصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً " " جاءت عن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ آثار كثيرة في الترغيب في السنة والحث على اتباعها والتحذير من البدع، وله نصوص عديدة في العقيدة جمعها أحد الباحثين في رسالة علمية بعنوان " الآثار المروية عن عمر ابن عبد العزيز في العقيدة " وهي آثار قوية ومتينة في تقرير السنة وبيان المعتقد والتحذير من البدع والأهواء. " سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً " سبق أن ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ آثاراً عن الصحابة تبين أنَّهم يقتدون ولا يبتدئون ويتبعون ولا يبتدعون،

_ 1 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد " رقم 1838 "

ولهذا فإنَّ السنن التي جاء بها من بعد الرسول ليس المراد بها أنَّهم أتوا بشيء في الدين لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هي سنن للنبي صلى الله عليه وسلم أحيوها ونشروها ومكنوا لها وأشاعوها في الأمة. وهذا كقول عمر رضي الله عنه عند جمعه الناس للتراويح:""نعم البدعة هذه " 1؛ لأنَّه لم يحدث التروايح من قبل نفسه، وإنَّما أحيا سنة الاجتماع لها. وهكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:""من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده " 2 وقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي تصدق فتتابع الناس على إثر صدقته يتصدقون، وهذه السنة الحسنة ليست أمراً في الدين جاء به من قبل نفسه؛ فإنَّ الصدقة مشروعة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم 3. وفي هذا المقام يغلط بعض أهل الأهواء فيتخذون مثل هذا متكأً للإحداث في الدين. " الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعته، وقوة على دين الله " هذا يصلح شاهداً لما سبق تقريره من أنَّ الإيمان يزيد وينقص، وأنَّ الدين يستكمل بالطاعة التي هي المتابعة والاقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر بعض أهل العلم هذا الأثر شاهداً على زيادة الإيمان ونقصانه. " ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها " فهذا هو الشأن الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم تجاه السنن: لا يغير ولا يبدل، ولا ينظر في آراء المخالفين لها، وإنَّما يتمسك بها وينهج نهجها، ويلزم هذه السنن والآثار الثابتة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

_ 1 أخرجه البخاري " رقم 2010 " 2 أخرجه مسلم " رقم 2348 " مطولاً بذكر القصة. 3 انظر: الاعتصام " 1/182 "

" فمن اقتدى بما سنوا اهتدى، ومن استبصر بها بصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً " ويشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1. " وقال الأوزاعي:""اصبر على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل في ما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنَّه يسعك ما وسعهم " " " اصبر على السنة " ولابد عموماً من الصبر على طاعة الله، كما قال الله تعالى لنبيه: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 2، وهذا يتناول الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية والصبر على أقدار الله المؤلمة؛ لأنَّ حكم الله نوعان: 1ـ حكم ديني شرعي، وهذا يتناول الأوامر والنواهي. 2ـ حكم كوني قدري، وهذا يتناول المصائب. وقد يبتلى العبد بصوارف عن السنة وصواد عن التمسك بهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فليصبر على السنة، وليحبس نفسه عليها، وليلزم بها نفسه إلى أن يتوفاه الله عز وجل. ويسمي ابن القيم هذه الصوارف عوائق، فقال:""أما العوائق فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها فإنَّها تعوق القلب عن سيره إلى الله، وتقطع عليه طريقه، وهي ثلاثة أمور: شرك وبدعة ومعصية. فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد، وعائق البدعة بتحقيق السنة، وعائق المعصية بتصحيح التوبة " 3.

_ 1 الآية 115 من سورة النساء. 2 الآية 48 من سورة الطور. 3 الفوائد " ص154 "

" وقف حيث وقف القوم " المراد بالقوم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، وهم الذين لا يشقى من سلك سبيلهم. فقف حيث وقفوا، ولا تتجاوز خطاهم ومسارهم، تنظر ماذا فعلوا فتفعل، ولا تتجاوز ذلك؛ فإنَّهم لم يقفوا حيث وقفوا عن عجز أو عدم قدرة، بل لتمسكهم بالسنة ولزومهم لها وحرصهم عليها، كما قال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ:""قف حيث وقف القوم، فإنَّهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر، لقد قصَّر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنَّهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم " 1. " وقل في ما قالوا " أي: إذا أردت أن تقول قولاً فقل فيما قال السلف ولا تزد. كما قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ:""إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام من السلف " 2؛ لأنَّهم أهل هدى وحق وبصيرة في دين الله تعالى. " وكف عما كفوا " أي: الشيء الذي كف عنه السلف كف عنه، واعلم أنَّ الخوض فيه مما لا خير فيه؛ لأنَّه لو كان خيراً لسبقونا إليه. " واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنَّه يسعك ما وسعهم " وقد قال بعض السلف:""من لم يسعه ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا وسَّع الله عليه " 3،

_ 1 مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي " ص83 ـ 84 "، ولمعة الاعتقاد لابن قدامة " ص42 ـ 43 " 2 مجموع الفتاوى " 21/291 "، وانظر: السنة للخلال " 3/ 552 " 3 انظر: الإبانة لابن بطة " الرد على الجهمية 2/273 "

وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله":""ومن لم تسعه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقة المؤمنين السابقين؛ فلا وسَّع الله عليه " 1. ولهذا فإنَّ السلف وسعتهم السنة وعاشوا عليها، ودافعوا عنها، وماتوا عليها، وهم في رفيع درجات الخير والسبق والفضل والنبل، فمن لم يسعه هذا الذي وسعهم فلا وسَّع الله عليه. " وقال نعيم بن حماد:""من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه تشبيهاً " " هذا أيضاً يتعلق بالاتباع والتمسك بما كان عليه السلف ـ رحمهم الله ـ ولا سيما في باب الصفات، وما من مسألة من مسائل الدين إلا والناس فيها طرفان ووسط: غلو وجفاء. وأهل السنة والجماعة دائماً يتوسطون، والتوسط إنما يكون بلزوم السنة، وههنا يبين نعيم ـ رحمه الله ـ الوسطية التي عليها السلف في صفات الله، فهم وسط بين المشبهة الذين يقولون في صفات الله إنَّها كصفات خلقه. والمعطلة الذين يعطلون صفات الله ويجحدونها ولا يؤمنون بها، وفي هذا أيضاً تقرير للقول الحق: قول أهل السنة والجماعة القائم على الإثبات بلا تمثيل، والتنزيه بلا تعطيل. " من شبه الله بخلقه فقد كفر " وأيُّ كفر أشنع من أن يقال في حق الرب العظيم: إنَّ صفاته تماثل صفات المخلوقين، تعالى الله عما يقولون، وسبحان الله عما يصفون. " ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر " ومن أدلة كفر من يجحد شيئاً من صفات الله: قول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 2.

_ 1 نقد القومية العربية "ص48 " 2 الآية 30 من سورة الرعد.

" وليس ما وصف الله به نفسه تشبيهاً " وهذا فيه إشارة إلى أنَّ إثبات الصفات على الوجه الذي يليق بالله لا يستلزم التشبيه، كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، فأثبت لنفسه سبحانه السمع والبصر بعد نفيه للمثلية، فدلَّ ذلك على أنَّ إثبات الصفات لا يستلزم التشبيه. ومما ينبه عليه في هذا المقام أنَّ كلَّ من وقع في التعطيل فقد وقع في التمثيل، وكلَّ من وقع في التمثيل فقد وقع في التعطيل، ولهذا يقول العلماء: كلُّ معطل ممثل، وكلُّ ممثل معطل. فالمعطل مثَّل مرتين: مرة قبل تعطيله؛ لأنَّه لم يعطل إلا لتشبيه قام في نفسه، ومرة بعد تعطيله؛ لأنَّ تعطيله جره إلى تشبيه الله إما بالجمادات أو المعدومات أو الممتنعات بحسب نوع تعطيله. والممثل عطَّل ثلاث مرات؛ لأنَّه عطل الرب تبارك وتعالى عن صفة كماله، وعطل الآيات التي أثبتت هذه الصفات، وعطل الآيات التي فيها نفي التمثيل كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ولم يسلم من هذه الأدواء والشرور إلا صاحب السنة، فهو برئ ـ كما يعبر ابن القيم ـ من فرث التعطيل ومن دم التمثيل 2. وشأن السني كاللبن الذي يخرج من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. قال ابن القيم:""فكان مذهبهم مذهباً بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين والمجهلين والمشبهين كما خرج اللبن من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين " 3.

_ 1 الآية 11 من سورة الشورى. 2 انظر: بدائع الفوائد " 1/173 " 3 الصواعق المرسلة " 2/426 "

" وقال سفيان بن عيينة:""كلُّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثل " " " فقراءته تفسيره " أي: لا يجوز أن يصرف عن معناه، أو يبعد عن دلالته، أو أن يتكلف تأويله، بل يمر كما جاء، ويؤمن به كما ورد، ويفهم معناه على ضوء لغة العرب. فعندما نقرأ قوله سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 1 نثبت لله يدين، وعندما نقرأ قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 نثبت لله الاستواء، وعندما نقرأ: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 3 نثبت الغضب. فقراءتها تفسيرها: أي نثبت ظاهرها على الوجه اللائق بجلال الله وكماله سبحانه. قال الذهبي:""يعني أنَّها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى لها مضايق التأويل والتحريف " 4. " لا كيف ولا مثل " أي لا يجوز أن نقول في شيء من هذه الصفات بالتمثيل أو التكييف، فكلاهما باطل في الصفات وضلال. والتكييف هو إثبات الصفات على كيفية مقدرة في الذهن. والتمثيل إثبات الصفة على كيفية مماثلة لكيفية صفات المخلوقين. ولهذا كلُّ ممثل مكيف، وليس كلُّ مكيف ممثلاً؛ لأنَّ المكيف قد يكون في بعض حالاته قد اخترع صورة قدَّرها في ذهنه وليس عن قياس على أشياء يراها في المخلوقات. بينما الممثل فهو في كلِّ تمثيله مكيف؛ لأنَّه جعل بتمثيله كيفية صفة الله ككيفية صفة المخلوق. " وقال أبو بكر المروذي: سألت أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات والرؤية، والإسراء، وقصة العرش، فصححه أبو عبد

_ 1 الآية 64 من سورة المائدة. 2 الآية 5 من سورة طه. 3 الآية 14 من سورة المجادلة. 4 مختصر العلو " ص270 "

الله، وقال: تلقتها العلماء بالقبول، تُمر الأخبار كما جاءت " " سألت أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات، والرؤية، والإسراء، وقصة العرش " من المعلوم أنَّ طريقة الجهمية في التعامل مع أحاديث الصفات أنَّهم"لا يثبتونها ولا يؤمنون بها، بل يجحدونها، فأيُّ حديث يثبت الصفات يردونه ويكذبون به. وهي بعينها طريقة المعتزلة، فهم أول من أنشأ القول بأنَّ أحاديث الآحاد لا يحتج بها في الاعتقاد، والقوم ليسوا أهل حديث، ولا يدرون ما المتواتر وما هو الآحاد، ولكن جعلوها قاعدة ومتكأً للرد، ولهذا ردوا أحاديث متواترة كثيرة جداً بقولهم: أحاديث آحاد لا يحتج بها في الاعتقاد. فهم أنشأوا هذه القاعدة ليردوا بها كلَّ حديث فيه عقيدة لا يؤمنون بها ولو كان متواتراً. وإذا كان الحديث يوافق عقيدتهم أثبتوه واحتجوا به ولو كان موضوعاً مكذوباً على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من أبرز العلامات على أنَّ القوم أهل أهواء وضلال. " فصححه أبو عبد الله " أي صحَّح الأحاديث الواردة في ذلك، ثم بين منهج السلف في التعامل معها، فقال: " تلقتها العلماء بالقبول، تُمر الأخبار كما جاءت " وقد سبق أن عرفنا مراد السلف ـ رحمهم الله ـ ومقصودهم بقولهم: تمر كما جاءت. " وقال محمد بن الحسن الشيباني ـ صاحب أبي حنيفة ـ:""اتفق الفقهاء كلُّهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تفسير ولا تشبيه. فمن فسر اليوم من ذلك شيئاً فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنَّهم لم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول

جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنَّه وصفه بصفة لا شيء " " " اتفق الفقهاء كلُّهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل " اتفقوا على الإيمان بها وإثباتها، وعدم إنكار شيءٍ منها. وطريقتهم في هذه الأحاديث أنَّهم يمرونها كما جاءت " من غير تفسير ولا تشبيه، فمن فسر اليوم من ذلك شيئاً فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإنهم لم يفسروا " وليس المراد بالتفسير في قوله: " لم يفسروا " أنهم فوضوا المعنى، حاشاهم، بل مرادهم التفسيرات المحدثة التي وُجدت عند الجهمية ومن سار مسارهم التي هي التحريف والتغيير والتبديل وصرف النص عن دلالته. قال مجاهد:""عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات أقفه على كلِّ آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت " 1. فقد فسر ابن عباس لمجاهد آيات الصفات. وعندما تقرأ الآثار المروية عن الصحابة والسلف الصالح تجد فيها تفسيراً لمعاني الآيات وفقاً لدلالة اللغة، مثل قولهم: الاستواء: العلو والارتفاع، وهذا منقول عن بعض الصحابة وعن عدد من التابعين 2، وهكذا في صفات الله تبارك وتعالى الأخرى يفسرونها بمعناها الذي دلت عليه اللغة. ولهذا لما أورد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأثر عن محمد بن الحسن وأثراً آخر نظيره عن أبي عبيد القاسم بن سلام علق عليها بقوله:""فقد أخبر ـ يعني أبا عبيد ـ أنه ما أدرك أحداً من العلماء يفسرها تفسير الجهمية " 3.

_ 1 رواه أحمد في فضائل الصحابة " رقم 1868 "، وأبو نعيم في الحلية " 3/279 ـ 280 "، والذهبي في السير " 4/456 ـ 457 " 2 انظر: مسند الشافعي " ص70 ـ 71 "، وتفسير البغوي " 1/59 "، والأسماء والصفات للبيهقي " 2/310 " 3 الحموية " ص40 "

" ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة " وهذا صريح في أنَّ التفسير الذي نفاه وحذر منه إنما هو تفسيرات الجهمية المحدثة الباطلة. ثم ذكر نتيجة قول جهم في الصفات، وتفسيرها تلك التفسيرات الباطلة فقال: " لأنَّه وصفه بصفة لا شيء " أي: وصفَ الرب العظيم بصفة العدم. قال حماد بن زيد ـ رحمه الله ـ:""الجهمية إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء"" 1، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ تعليقاً على كلام حماد هذا ـ:""وهذا الذي كانت الجهمية يحاولونه قد صرح به المتأخرون منهم، وكان ظهور السنة وكثرة الأئمة في عصر أولئك يحول بينهم وبين التصريح به، فلما بعد العهد وخفيت السنة وانقرضت الأئمة صرحت الجهمية النفاة بما كان سلفهم يحاولونه ولا يتمكنون من إظهاره " 2 وعلى كلٍّ فإنَّ صفات الله جل وعلا عندما تعطل وتجحد ولا تثبت يكون نتيجة هذا وصف الرب بالعدم. " وقال عباد بن العوام: قدم علينا شريك بن عبد الله فقلنا: إنَّ قوماً ينكرون هذه الأحاديث: " إنَّ الله ينزل إلى سماء الدنيا " والرؤية وما أشبه هذه الأحاديث فقال:""إنَّما جاء بهذه الأحاديث من جاء بالسنن في الصلاة والزكاة والحج، وإنَّما عرفنا الله بهذه الأحاديث " " " إنَّ قوماً ينكرون هذه الأحاديث: " إنَّ الله ينزل إلى سماء الدنيا " والرؤية وما أشبه هذه الأحاديث " يعني أحاديث الصفات. " إنَّما جاء بهذه الأحاديث من جاء بالسنن في الصلاة والزكاة والحج " أي:

_ 1 اجتماع الجيوش لابن القيم " ص72 " 2 المصدر السابق.

إنَّ جحد أحاديث الصفات يقتضي جحد الدين؛ لأنَّ الذين نقلوا أحاديث الصفات هم الذين نقلوا بقية الدين من صلاة وزكاة وحج وغيرها، وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان. " وإنَّما عرفنا الله بهذه الأحاديث " فمن جحد هذه الأحاديث أو شكك فيها فقد قطع على نفسه الطريق إلى معرفة الله سبحانه وعبادته؛ لأنَّ هذه الأحاديث هي التي علمت من خلالها صفات الرب، وعلم من خلالها الدين كلُّه. وعلى ضوء هذه القاعدة التي ذكرها شريك، يمكننا أن نسأل من جحد أحاديث الصفات، فنقول: ما رأيك في الأحاديث التي رواها الصحابة ومن تبعهم بإحسان، في الصلاة والصيام والحج وبقية الأحكام هل تقبلها أم تردها؟ فإن قال: ليست مقبولة فقد جحد الدين كلَّه. وإن قال: مقبولة. يقال: الذين نقلوا هذه الأحاديث هم الذين نقلوا أحاديث الصفات أنفسهم، فعليك أن تقبل أحاديثهم في الصفات كما قبلت أحاديثهم في الأحكام. [خاتمة] " فهذه جملة مختصرة من القرآن والسنة وآثار من سلف، فالزمها وما كان مثلها مما صح عن الله ورسوله وصالح سلف الأمة ممن حصل الاتفاق عليه من خيار الأمة، ودع أقوال من كان عندهم محقوراً مهجوراً، مبعداً مدحوراً ومذموماً ملوماً، وإن اغتر كثير من المتأخرين بأقوالهم، وجنحوا إلى اتباعهم، فلا تغتر بكثرة أهل الباطل، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:""بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء " رواه مسلم وغيره " " فهذه جملة مختصرة من القرآن والسنة وآثار من سلف " أي: النصوص التي أوردها في هذا الفصل.

" فالزمها وما كان مثلها مما صح عن الله ورسوله وصالح سلف الأمة ممن حصل الاتفاق عليه من خيار الأمة " يشير بهذا إلى أنَّه لم يذكر إلا نبذاً يسيرة من النصوص تتناسب مع هذه الرسالة المختصرة. ثم لما أكَّد على التمسك بالكتاب والسنة ولزوم ما كان عليه السلف رحمهم الله، أتبعه بالتحذير من أقاويل أهل الباطل فقال: " ودع أقوال من كان عندهم محقوراً " أي: حقيراً. " مهجوراً " أي: مهجور في كلامه وأقواله وشخصه. " مبعداً " أي: مطروداً من المجالس؛ لأنَّ السلف ـ رحمهم الله ـ كانوا يخرجون دعاة البدع ورؤوس الباطل من مجالسهم، مثل ما فعل الإمام مالك مع ذاك السائل الذي سأل عن كيفية الاستواء. " مدحوراً ومذموماً ملوماً " كلُّ هذه صفات لأهل البدع. ثم أكدَّ تحذيره بقوله ـ رحمه الله ـ: " وإن اغتر كثير من المتأخرين بأقوالهم، وجنحوا إلى اتباعهم، فلا تغتر بكثرة أهل الباطل " ولا تستوحش من الحق لقلة أهله وسالكيه، فالحق أحق أن يتبع ولو كان أهله قلة. ثم استدل على ما قال بقوله: " فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:""بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء " وعليه فإنَّ أمور الدين لا تقاس بالكثرة والقلة، بل الدين ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. وليست الجماعة الكثرة على أيِّ شيء كانوا، ولكن الجماعة ما كان عليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. والحق لا يعرف بالكثرة، وإنما يعرف بموافقة الكتاب والسنة. والإنسان إذا كان متبعاً للسنة هو الجماعة ولو كان وحده.

" وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:""ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا واحدة " وفي رواية:""قيل: فمن الناجية؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي " رواه جماعة من الأئمة " هذا الحديث معروف عند أهل العلم بحديث الافتراق، وهو من علامات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع الأمر طبقاً لما أخبر، فوُجدت الفرق وكثرت وتعددت وتشعبت. " كلُّها في النار " هذا حكم عام مطلق في حق كلِّ من كان من هذه الفرق أو على قول من أقوالها، لكن إلحاق هذا الوعيد بمعيَّنٍ ممن ارتكب هذا الأمر المتوعد به متوقف على وجود شروط وانتفاء موانع، فالقول في هذا الحديث كالقول في بقية أحاديث الوعيد." " إلا واحدة. ـ وفي رواية ـ قيل: فمن الناجية؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي " وهذا فيه أنَّ الحق لا يتعدد، وأنَّه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. " واعلم ـ رحمك الله ـ أنَّ الإسلام وأهله أُتوا من طوائف ثلاث، فطائفة ردت أحاديث الصفات وكذبوا رواتها، فهؤلاء أشد ضرراً على الإسلام وأهله من الكفار. وأخرى قالوا بصحتها وقبولها، ثم تأولوها، فهؤلاء أعظم ضرراً من الطائفة الأولى. والثالثة: جانبوا القولين الأولين، وأخذوا بزعمهم ينزهون وهم يكذبون، فأداهم ذلك إلى القولين الأولين، وكانوا أعظم ضرراً من الطائفتين الأولتين " " واعلم " أي: يا صاحب السنة، ويا من يريد لنفسه العقيدة الصحيحة الصافية النقية المتلقاة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. " رحمك الله " وهذا دعاء من المصنف ـ رحمه الله ـ لمن يطَّلِع على كتابه

بالرحمة. " أنَّ الإسلام وأهله أُتوا من طوائف ثلاث " أي أنَّ الخلل والانحراف الذي وُجد في باب الصفات إنما وُجِد بسبب طوائف ثلاث، بيَّن مذاهبها فقال: 1ـ " فطائفة ردت أحاديث الصفات وكذبوا رواتها، فهؤلاء أشد ضرراً على الإسلام وأهله من الكفار " ونتيجة قول هؤلاء: تعطيل الرب ونفي وجوده؛ لأنَّه إذا عطلت الصفات بقي الموصوف عدماً؛ لأنَّ نفي الصفات عن الله تبارك وتعالى وصف له بالعدم. وضررهم على الإسلام من هذه الجهة ومن جهة أنَّ أقاويلهم تُنشر على أنَّها من الإسلام، أما الكفار فالمفاصلة بينهم وبين أهل الإسلام موجودة، وكراهية ما عندهم والحذر منهم قائم في نفوس المسلمين. 2ـ " وأخرى قالوا بصحتها وقبولها " أي: صححوا هذه الأحاديث، وقالوا: نثبتها ولا نكذب بها. " ثم تأولوها " أي: صرفوها عن معناها ودلالتها. فالمراد بالتأويل هنا تحريف نصوص الصفات بصرفها وإمالتها عن مقصودها والمراد منها. والتحريف تعطيل؛ لأنَّ من حرف الصفة وصرفها عن معناها عطل صفة الرب التي دلت عليها تلك النصوص. " فهؤلاء أعظم ضرراً من الطائفة الأولى " فإنَّ تكذيب أولئك بالأحاديث يعطي من يستمع إليهم من الناس توقفاً وحذراً منهم. أمَّا هؤلاء فلم يكذِّبوا بها، بل قالوا: نؤمن بها ولا نجحدها. لكنَّهم تأولوها وصرفوها عن دلالتها فالتقوا مع أولئك في النتيجة وهي التعطيل. 3ـ " والثالثة: جانبوا القولين الأولين " أي جانبوا قول المكذبين بالأحاديث، وقول المحرفين لها.

" وأخذوا بزعمهم ينزهون وهم يَكْذبون " فزعموا أنَّهم ينزهون الله سبحانه، ويكذبون بزعمهم أنَّ هذه الأحاديث ظاهرها التشبيه، فلم يكذِّبوا بالأحاديث ولم يؤولوها، بل فوضوا معانيها، فقالوا: هذه نصوص مجهولة المعاني وظاهرها غير مراد، ونحن نقرأ هذه الأحاديث ونصدق أنَّها جاءت عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ونفوض معناها إلى الله، فآيات الصفات وأحاديثها ـ عندهم ـ تماماً كقوله تعالى: {الم} ،: {حم} وغيرها من الحروف المقطعة، مجهولة وغير معروفة المعاني. " فأدَّاهم ذلك إلى القولين الأولين " لأنَّ حقيقة قولهم تعطيل الرب تبارك وتعالى عن صفات كماله الثابتة له في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد وُجِد في المفوضة التحريف؛ لأنَّهم يعتقدون أنَّها مصروفة عن ظاهرها، وأنَّ ظاهرها غير مراد، وإن لم يعينوا المعنى، فهذا تأويل إجمالي، ووُجِد فيهم التكذيب أيضاً. " وكانوا أعظم ضرراً من الطائفتين الأولتين " لأنَّ ظاهر التفويض عند من يجهل حقيقة الأمر السلامة، ولهذا هم يدَّعون أنَّ السلف أهل تفويض، ويقولون: مذهب السلف أسلم. وفي الحقيقة أنَّ ظاهره وباطنه فيه الضرر والتلف. " فمن السنة اللازمة: السكوت عما لم يرد فيه نص عن الله ورسوله، أو يتفق المسلمون على إطلاقه، وترك التعرض له بنفي أو إثبات. فكما لا يثبت إلا بنص شرعي، كذلك لا ينفى إلا بدليل سمعي " " فمن السنة اللازمة " أي: التي يلزم كلَّ مسلم أن يعضَّ عليها بالنواجذ وأن يتمسك بها. " السكوت عما لم يرد فيه نص عن الله ورسوله أو يتفق المسلمون على

إطلاقه، وترك التعرض له بنفي أو إثبات " سبق للمصنف ـ رحمه الله ـ أن بيَّن طريقة السلف في الصفات، وهي أنَّهم يثبتون ما ثبت في الكتاب والسنة، وينفون ما نُفي فيهما، ولا يتجاوزون القرآن والسنة، كما قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ:""لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نتجاوز القرآن والحديث " 1، وكما قال الإمام الأوزاعي:""ندور مع السنة حيث دارت " 2 أي: نفياً وإثباتاً. فهذا منهجهم فيما ثبت في الكتاب والسنة إما نفياً أو إثباتاً. أما ما سُكِت عنه فلم يذكر في الكتاب والسنة، فبيَّن المصنف هنا أنَّه لا يُثبت ولا يُنفى، ولا يتعرض له بنفي أو إثبات. وعلَّل ذلك بقوله: " فكما لا يثبت إلا بنص شرعي، كذلك لا ينفى إلا بدليل سمعي " يعني كما أنَّ صفات الله توقيفية لا تثبت إلا بنص شرعي ودليل من الكتاب والسنة، كذلك لا يُنفى إلا بدليل سمعي؛ فإنَّ النفي علم، والعلم يحتاج إلى دليل يستند عليه، بل إنَّ أمر النفي أشد؛ فإنَّه يحتاج إلى استقراء تام وتتبع كامل ودراية واسعة بالنصوص. ثم ختم ـ رحمه الله ـ بهذه الدعوة التي بدأ بها في أول هذه العقيدة، وهي منطلقة من المعاني التي قررها في هذا الكتاب، فقال: " نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لما يرضيه من القول والعمل والنية، وأن يحيينا على الطريقة التي يرضاها " وهي السنة، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم. " ويتوفانا عليها " وأن يرزقنا الوفاة عليها. " وأن يلحقنا بنبيه وخيرته من خلقه محمد المصطفى وآله وصحبه،

_ 1 سبق تخريجه. 2 سبق تخريجه. ى

ويجمعنا معهم في دار كرامته، إنَّه سميع قريب مجيب " وهذه الدعوة مباركة وعظيمة، ولا تتحقق للعبد إلا بسلوكه المعتقد الحق وبلزومه القول والعمل والنية على الطريقة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تنال مرافقة المصطفى صلى الله عليه وسلم في دار كرامته: الجنة إلا بالعمل، كما قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 1، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ لربيعة بن كعب الأسلمي لما قال له: أسألك مرافقتك في الجنة ـ قال:""فأعني على نفسك بكثرة السجود " 2. فلابد من اعتقاد صحيح وعمل جاد وسعي حثيث مع سؤال الله تبارك وتعالى والاستعانة به وطلب الثبات والعون منه تبارك وتعالى، فالتوفيق منه وحده. " وكلُّ حديث لم نضفه إلى من أخرجه فهو متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما " هذه قاعدة المصنف في تخريج النصوص الواردة في هذا الكتاب، وقد سبق وأن أشرت إليها، وهي أنَّ كلَّ حديث تركه غفلاً بدون أن يذكر من خرجه فهو في الصحيحين، وهذا منه مراعاة للاختصار. " آخره والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً " والله تعالى أعلم، وكان الفراغ من هذا الشرح مراجعة وتصحيحاً في منتصف شهر شعبان من عام ثلاثة وعشرين وأربعمائة وألف، فلله الحمد وحده لا شريك له، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

_ 1 الآية 123 من سورة النساء. 2 سبق تخريجه.

§1/1