تخجيل من حرف التوراة والإنجيل

صالح الجعفري

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... تخجيل مَن حرَّف التّوراة والإِنجيل دراسة وتحقيق: د/ محمُود عبد الرّحمن قدح المُقَدِّمة إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله1، وخاتم أنبيائه ورسله، وأنّ موسى كليم الله ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حقّ والنار حقّ2. أما بعد: فإنّ القرآن الكريم - بجانب دعوته إلى التوحيد وبيان حقائق الإسلام وشريعته - قد عرض مقولات الأديان وآراء الملل والنحل المختلفة التي كانت منتشرة وقت التنزيل. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا والصَّابِئِينَ والنَّصَارَى والمَجُوسَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصُلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَة إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ} . [سورة الحجّ، الآية: 17] . وقال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} . [سورة الجاثية، الآية: 24] . وقد ناقش القرآن الكريم الأديان المنحرفة والعقائد الباطلة، وبرهن على بطلانها وفسادها، ودحض كلّ فرية وردّ كلّ مزعم، وأبان عن الدّين الصحيح الذي هو دين الأنبياء جميعاً، وأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين بتبليغ الدعوة الإسلامية

ومجادلة الخصوم. فقال الله عزوجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلُوهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } . [سورة النحل، الآية: 125] . لذلك كانت حياته صلى الله عليه وسلم جهاداً في سبيل الدعوة الإسلامية بالحجّة والبرهان في مجادلة الكفار على اختلاف الملل والأديان، ثم بالسيف والسنان بعد ظهور الحجّة والبرهان، وكذلك كان أصحابه - رضي الله عنهم - من بعده صلى الله عليه وسلم، فقد كان بعض الصحابة على اطِّلاع واسع وعميق على الأديان، وبخاصة اليهودية والنصرانية، كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومسلمة أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وتميم الداري وسلمان الفارسي وغيرهم - رضي الله عنهم -. وكذلك كان بعض التابعين وأتباعهم كمالك1 بن دينار، وكعب الأحبار، ووهب بن منبة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وغيرهم - رضي الله عنهم - 2. وحينما نشطت حركة التأليف والكتابة عند العلماء المسلمين، أفردوا العلم الأديان كتباً ومؤلّفاتٍ خاصة به، ومن ذلك: الإمام محمّد بن إدريس الشافعي (توفي سنة 204هـ) له كتاب في

_ 1 توفي سنة 131هـ، وكان يقول: قرأت الزبور، ويقول: مكتوب في التوراة: ... ثم يسوق مقتبسات توراتية وزبورية. (ر: حلية الأولياء 2/376، 377، لأبي نعيم) . 2 ر: روايات الصحابة والتابعين وتابعيهم عن اليهود والنصارى في كتب التفاسير والتواريخ كتفسير ابن جرير الطبري وتاريخه.

(تصحيح النّبوّة والرّدّ على البراهمة) 1، وآخر في (الردّ على أهل الأهواء) 2. عليّ بن ربن الطبري - كان نصرانياً فأسلم - (توفي سنة 247هـ) له (الرّدّ على أصناف النصارى) 3 و (الدين والدولة في إثبات بنوة النبي صلى الله عليه وسلم) 4. والإمام أبو الحسن الأشعري عليّ بن إسماعيل (توفي سنة 344هـ) له كتاب في مذاهب النصارى، وآخر في الكلام على النصارى5. والعلاّمة ابن حزم الظاهري (توفي سنة 456هـ) له (الفصل في الملل والأهواء والنحل) . ومحمّد بن عبد الكريم الشهرستاني (توفي سنة 548هـ) له (الملل والنحل) . والمفسر محمّد بن عمر الرازي (توفي سنة 606هـ) له (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين) . والإمام ابن تيمية (توفي 728هـ) له (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) ، وغيرهم من العلماء الكثيرين الذين أسهموا في هذه السلسلة المباركة في علم الأديان التي استمرت إلى يومنا هذا. ولقد كانت جهود هؤلاء العلماء بتأثير مباشر من القرآن الكريم الذي وضع أسس علم الأديان، فكان لعلمائنا بذلك فضل السبق في تدوين هذا العلم مستقلاً

_ 1 يدلّ ذلك على أنّ البراهمة ينكرون النبوة والرسالة كما هو معروف عند معظم الأديان، وقد أفادني فضيلة المشرف بأن البراهمة لا ينكرون النبوة والرسالة وإنما حرفوها إلى عقيدة (الأفتار) وهي نزول الربّ إلى الأرض في صورة البشر لتبليغ الشريعة. (ر: فصول في أديان الهند ص 107، تأليف أ. د/ محمّد ضياء الرحمن الأعظمي) . 2 ذكر ذلك عبد القاهر البغدادي في أصول الدين ص 308. 3 نشرة الأبوان خليفة وكوتشك في بيروت سنة 1959م، بدون تحقيق. 4 حققه ونشره الأستاذ عادل نويهض. 5 ذكره ابن عساكر في تبيين كذب المفتري، ص 129، 130، 135.

مستقلاً عن العلوم الأخرى، وفي وضع المنهج السليم له بالاعتماد على المصادر الأصلية لكلّ ديانةٍ بعيداً عن الأساطير والشائعات، وفي النقد البنَّاء الهادف لإظهار الحقّ وإزهاق الباطل. ومن هؤلاء العلماء الذين أسهموا بحظٍّ وافرٍ في هذا العلم القاضي الفقيه أبو البقاء صالح بن الحسين الجعفري الهاشمي المتوفى سنة 668هـ، الذي يعتبر من المتخصصين في هذا العلم، وذلك بحسب ما وقفت على ترجمته وبعض آثاره العلمية وهي: كتاب (تخجيل مَنْ حرَّف التوراة والإنجيل) و (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) و (الرّد على النصارى) . لذلك كان اختياري دارسة وتحقيق كتابه (تخجيل مَنْ حرَّف التوراة والإنجيل) ليكون موضوع رسالتي المقدَّمة لنيل الشهادة العالمية العالية (درجة الدّكتوراه) ، نظراً لأهمية الكتاب في موضوعه الذي يتضمن الرّدّ على اليهود والنصارى، ولأنّه بمثابة الأصل لكتابيه الآخرين، ولاشتماله على الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، ولعدّة مميّزات أخرى سنتبيّنها - إن شاء الله تعالى - من خلال دراسته. إضافة على ما سبق فإن اختياري لهذا الموضوع له أسباب عديدة من أهمّها: 1- العمل بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وتطبيق المنهج القرآني في المبادرة بالهجوم على العقائد الباطلة والمفاهيم الخاطئة بهتك أستارها وبيان فسادها وتناقضها، وذلك من أنواع الجهاد الذي قال عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"1.

_ 1 رواه أنس بن مالك رضي الله عنه وأخرجه الإمام أحمد (3/100) ، وأبو داود (3/10) ، والنسائي (6/7) ، والحاكم (2/81) ، وصحّحه، ووافقه الذهبي.

2- إنّ في دراسة الأديان والفرق ومعرفة أسرارها فوائد عديدة منها: أنّها تمكن الدَّاعية من النجاح في دعوته - بعد توفيق الله وعونه - حيث إن معرفة الداعية بدين المدعو يساعدهكثيراً في التأثير فيه وتخليصه من رواسب العقائد الباطلة، فيكون ذلك أدعى لقبول الحقّ. ومنها: الوقوف على أسباب انحراف اليهود والنصارى وغيرهم، من باب معرفة الشرّ لتوقيه. ومنها: زيادة الإيمان بديننا، والحمد الشكر لخالقنا عزوجل، فمن الظلام نعرف قيمة النور ومن الباطل نعرف قيمةالحقّ. ومنها: أنّ بمعرفة حقيقة الأديان الباطلة يعرف بطلان ما يشبه أقوالهم من أقوال أهل الإلحاد والبدع. 3- إنّ في إبراز تراث علمائنا المسلمين في هذا العالم تأكيداً لأصالته وهويته الإسلامية واستمداده من الكتب والسنة، وتأكيداً لتأثير التراث الإسلامي في حركة النقد للتوراة والأناجيل المحرفة عند أحبار اليهود والنصارى ومفكِّريهم المتأخرين. ولإعطاء هذا الموضوع حقّه من البحث - حسب جهدي المتواضع وعلمي القاصر - وجلباً للفائدة التي يتوخاها الباحث قسمت عملي في دراسة الكتاب وتحقيقه إلى قسمين كالآتي: القسم الأوّل: دراسة المؤلّف وكتابه، ويشتمل على بابين هما: الباب الأوّل: التعريف بالمؤلِّف، ويندرج تحته فصلان: (الأوّل: عصر المؤلِّف، والثاني: حياة المؤلّف) .

الباب الثاني: التعريف بالكتاب وبيان منهج التحقيق، وتحته فصلان: (الأوّل: التعريف بالكتاب، والثاني: التعريف بالمخطوطة وبيان منهج التحقيق) . القسم الثّاني: نص الكتاب المحقَّق، ويشتمل على عشرة أبواب. ثم وضعت خاتمة ذكرت فيها أبرز الصعوبات التي واجهتها في البحث وأهمّ النتائج والتوصيات التي ارتأيتها، وقمت بوضع فهارس متنوعة للبحث ليسهل على القارئ الاستفادة منه. وفي ختام هذه المقدِّمة فإني أحمد الله عزوجل وأشكره كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه عزوجل على نعمه الظاهرة والباطنة، وأسأله العون على ذكره وشكره وحسن عبادته تبارك وتعالى. ثم أتوجه بالشكر والامتنان للوالدين الكريمين على حسن تربيتهما وتوجيههما، فجزاهما الله خير الجزاء وأجزل مثوبتهما في الدنيا والآخرة. ثم أشكر كلّ من أعانني في إتمام هذا البحث وإخراجه، وأخصّ بالذكر أستاذي فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد ضياء الرحمن الأعظمي الذي أشرف على هذا البحث فأفادني من علمه وأخلاقه فجزاه الله عني خير الجزاء في الدنيا والآخرة. كما أسجل عظيم شكري وامتناني للجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة التي نشأت في رعايتها منذ المرحلة الثانوية، حفظها الله وأدامها لخدمة الإسلام والمسلمين وسدد خطى القائمين عليها والمسؤولين فيها. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين. المحقِّق: محمود بن عبد الرحمن قدح

القسم الأول: الباب الأول: التعريف بالمؤلف

القسم الأول: الباب الأول: التعريف بالمؤلف الفصل الأول: عصر المؤلف ... الفصل الأوّل: عصر المؤلِّف إنّ العصر الذي يعيشه الإنسان له دور بارز في حياته وتكوين شخصيته لذلك كان على الباحث الذي يدرس شخصية من الشّخصيات أو أثراً من آثارها أن يكتب - ولو على وجه الإيجاز - عن النواحي السياسية والعلمية والاجتماعية السائدة في ذلك العصر، ليقف على مدى تأثير وتأثر تلك الشخصية بأحداث عصرها. وقد عاش المؤلِّف القاضي الإمام صالح بن الحسين الجعفري في الفترة ما بين نهاية القرن السادس ومنتصف القرن السابع الهجريين. الحالة السياسية: كان القرن السادس ومنتصف القرن السابع الهجري من فترات العصر العباسي الثاني الذي ضعفت فيه الخلافة العباسية وتفككت إلى دويلات صغيرة، وظهرت ممالك مستقلة عنها، ولم يكن للخليفة العباسي إلاّ السلطة الاسمية على بغداد وما جاورها. أما السلطة الفعلية فكان للسلاجقة في بلاد فارس والمشرق وما رواء النهر، وللغزنويّين في بلاد الهند وخراسان، وللفاطميّين في مصر حتّى سنة 567هـ، ثم انتقلت إلى الأيوبيّين الذين بسطوا سلطانهم إلى بلاد الشام، والموحدّين في الأندلس والمغرب، والصليحيّين في

اليمن1. وكانت الصورة العامة في ذلك العصر اضطراب الأمن وعدم الاستقرار وانتشار الفتن والثورات والقلاقل وكثرة الحروب الداخلية بين الأمراء والملوك المتنازعين على السلطة والطامعين فيها، مما أدّى إلى ضعف قوّة المسلمين في مواجهة الحروب الخارجية ومن أبرزها الحروب الصليبية التي كانت تشنها دول أروبا على العالم الإسلامي، والغزو المغولي التتري الذي أدّى إلى القضاء على الخلافة العباسية وتدمير عاصمتها بغداد سنة 656هـ. ولم يكن الحال مختلفاً عن ذلك في مصر، حيث عاش المؤلِّف بداية حياته في كنف الدولة الأيوبية الفتية التي أسسها الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ، وورثها من بعده أبناؤه إلى أن انتهت الدولة الأيوبية وأفل نجمها سنة 648هـ، وكان عمر المؤلِّف حينئذٍ (57) ، عاماً، ثم عاش بعد ذلك بقية عمره في ظلّ دولة المماليك البحرية2. أما السلاطين والملوك الذين عاصرهم المؤلِّف فهم: 1- السلطان الملك الناصر صلاح الدّين الأيوبي ت سنة: 589هـ. 2- السلطان الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين ت سنة: 595هـ. 3- السلطان الملك المنصور محمّد بن السلطان الملك العزيز عثمان، وقد خلعه الملك العادل سنة 596هـ. 4- السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، أخو السلطان صلاح الدين ت 615هـ. 5- السلطان الملك الكامل محمّد بن العادل الصغير أبو بكر ت 635هـ.

_ 1 ر: الدولة العباسية ص 430، محمود الخضري، تاريخ الإسلام 631/ 4_232، د. حسن إبراهيم. 2 هم الملوك الأراك.

6- السلطان الملك العادل الصغير أبو بكر بن الكامل محمّد، وقد خلعه الأمراء سنة 637هـ. 7- السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمّد ت 647هـ. 8- السلطان الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، وقد قتله المماليك سنة 648هـ. وبموته انتهت الدولة الأيوبية من ديار مصر وانتقلت إلى دولة المماليك الأتراك. 9- وتولت السلطنة من بعده الملكة شجرة الدر زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب وتزوجت الأمير عزّ الدين أيبك التركاني ونزلت له عن السلطنة وكانت مدة سلطنتها ثمانين يوماً. 10- السلطان الملك المعزّ أيبك التركاني ت سنة: 655هـ. 11- السلطان الملك المنصور نور الدين عليّ بن الملك المعزّ أيبك، تولى السلطنة وعمره خمس عشرة سنة، وقيل: عشر، وقد خلعه الأمير سيف الدولة قطز سنة 657هـ. 12- السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، وقد قتله الأمير بيبرس سنة 658هـ، واستولى على الحكم. 13- السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري العلائي ت سنة: 676هـ بدمشق1 وفي عهده توفي المؤلِّف - رحمه الله - سنة 668هـ. ويلاحظ من خلال هذا العرض السريع كثرة من تولوا حكم مصر في هذه الفترة، ويرجع ذلك إلى أن منهم من قتل أو خلع من الحكم، إما لسوء تدبيره في الحكم، أو سوء سيرته، أو لطمع الطامعين في السلطة.

_ 1 ر: الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين، ص 220-283، لابن دقماق، خطط المقريزي 3/84-93.

وأما عن أبرز الأحداث التي حصلت في الفترة التي عاشها المؤلِّف فهي كالآتي: أوّلاً: - الجهاد الإسلامي الذي قاده ملوك الأيوبيّين ثم المماليك ضدّ غزوات الفرنجة (الأوربيّين) النصارى على العالم الإسلامي ضمن سلسلة ما يسمى بالحروب الصليبية التي بدأت منذ نهاية القرن الخامس الهجري وانتهت عسكرياً1 في نهاية القرن السابع الهجري، وقد كان الدافع لهذه الحروب الصليبية هو الحقد النصراني على العالم الإسلامي ثم الطمع والجشع في غزو ونهب ثروات البلاد الإسلامية واتّخاذ دعوى نصرة النصرانية واسترجاع بيت المقدس ستاراً لذلك، ولقد خاض المسلمون في هذه الفترة معارك ضارية ضدّ ثلاث حملات صليبية هي الحملة الخامسة والسادسة والسابعة. - أما الحملة الصليبية الخامسة فقد كانت في سنة 615هـ، وقام الصليبيّون2 بمهاجمة ومحاصرة مدينة دمياط بمصر، وكان سلطان الدولة الأيوبية إذ ذاك الملك العادل أبو بكر الذي مات أثناء حصار دمياط، فاضطربت أمور الدولة واستطاع الصليبيّون احتلال دمياط سنة 616هـ، ثم الانطلاق منها لغزو القاهرة، وكان الملك الكامل ابن الملك العادل قد تولى السلطنة بعد وفاة أبيه، ونادى بالنفير العام، واستنجد بأخويه الملك عيسى صاحب دمشق، والملك الأشرف صاحب حلب فحضرا بجيوشهما لخدمته، لما اجتمعوا ساروا إلى دمياط والتقوا مع الصليبيّين في المنصورة سنة 618هـ في معركة فاصلة كان النصر للمسلمين والهزيمة للكافرين واستسلامهم

_ 1 أما فكرياً، فلا تزال الحروب الصليبية مستمرة إلى يومنا هذا متمثلة في الغزو الفكري الغربي وحملات التنصير والاستشراق بأسلحتها المتنوعة الإعلامية والفكرية والاقتصادية. 2 بقيادة ملك بيت المقدس (مملكة عكا النصرانية) حنابرين، وملك النمسا ليوبولد السادس، وملك المجر أندريه الثاني الذي رجع إلى بلاده قبل حصار دمياط.

وخروجهم من مصر صاغرين، وهكذا انتهت هذه الحملة بهزيمة منكرة وفشل ذريع1. وأما الحملة الصليبيّة السادسة فقد كانت أيضاً في عهد الكامل ابن الملك العادل، وكان قائدها الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني الذي وصل بأسطوله الحربي إلى عكا سنة 626هـ، وفاوض فريدريك الملك الكامل - الذي كان آنذاك بالشام لخلاف بينه وبين أخيه الملك عيسى صاحب دمشق - على أن يرد المسلمون إلى النصارى ما كان صلاح الدين قد استرجعه منهم، فوقعت المصالحة بين الإمبراطور فريدريك والملك الكامل على أن يردوا لهم بيت المقدس وحده دون الأماكن المقدسة الإسلامية وأن تبقى بقية البلاد بأيدي المسلمين2. وعندما استولى الملك الصالح أيوب من الملك الكامل على السلطنة في مصر سنة 637هـ، كانت له عداوة مع بقية بني أيوب بالشام خاصة عمه الملك الصالح إسماعيل الذي تحالف مع الصّليبيّين وتنازل لهم عن بعض البقاع منها طبرية وصيدا لمساعدته في حربه ضدّ الملك الصالح أيوب فلم يكن أمام الملك الصالح أيوب (صاحب مصر) إلا الاستعانة بالقبائل الخوارزمية من وراء الفرات سنة 642هـ لمحاربة عسكر الشام المتحالف مع الفرنجة، وجرت معارك شديدة بين الفريقين انتصر فيها الملك الصالح أيوب على أعدائه جميعاً سنة 642هـ، وأعاد بيت المقدس إلى السيادة الإسلامية3.

_ 1 ر: بدائع الزهور في وقائع الدهور 1/258-263، لأبي البركات محمّد بن أحمد بن إياس، الجوهر الثمين ص 235، وفيات الأعيان 4/172، لابن خلكان. 2 ر: الجوهر الثمين ص 235، البداية والنهاية 13/123، 124، الحروب الصليبية في المشرق والمغرب ص 113-116، لمحمّد العروسي. 3 ر: النجوم الزاهرة6/321-324،لابن تغري بردي، البداية والنهاية13/164-165.

كان استرجاع بيت المقدس من النصارى سبباً في قيام الحملة الصليبية السابعة التي قادها ملك فرنسا لويس التاسع1 سنة 647هـ، ضدّ البلاد المصرية - التي كانت لها السيادة على الأماكن المقدسة - وقامت أساطيله الحربية باحتلال مدينة دمياط، ولما وصلت الأخبار بذلك إلى الملك الصالح أيوب أمر بإشهار النداء في مصر والقاهرة بالنفير عاماً، وخرج الملك الصالح بجيشه لصدّ زحف الصليبيين المتّجهين نحو القاهرة وأثناء الحرب ونشوب المعارك توفي الملك الصالح إلاّ أنّ زوجته شجرة الدر أنقذت الموقف وأخفت موته إلاّ عن بعض خاصة القواد وقامت معهم بتدبير الأمور إلى حين وصول ولي العهد الملك توران شاه بن أيوب وتوليه السلطة سنة 648هـ، وقيادة الجيوش ضدّ الصليبيين في معركة فاصلة قاسية كنت الغلبة فيها للمسلمين والهزيمة المنكرة للصليبيين، وأسرّ فيها قائدهم الملك لويس التاسع الذي افتدى نفسه بمبلغ كبير وعاد إلى بلاده مدحوراً2، وبذلك انتهت هذه الحملة التي تعتبر آخر الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي. أما عن جهاد ملوك دولة الممالك، فإن الملك الظاهر بيبرس لما تولى السلطنة في مصر أخذ يهاجم الصليبيّن ويحرر منهم الحصون والمدن كقيسارية3، وأرسوف صفد4، ويافا والشقيف5، وأنطاكية وغيرها عنوة أو مصالحة، وما إن توفي الظاهر بيبرس سنة 676هـ، حتى انحصرت الإمارات الصليبية في منطقة

_ 1 في الجوهر الثمين: إفرنسيس، وفي النجوم: ريدا فرنس. 2 ر: الجوهر الثمين ص 244-248، النجوم الزاهرة 6/362-368، البداية والنهاية 13/178، الحروب الصّليبيّة ص 117-122 للعروسي. 3 ر: الجوهر الثمين ص 277-292، لابن دقماق، الحروب الصّليبيّة ص 131، للعروسي. 4 مدينة بفلسطين بين يافا وحيفا. (ر: المنجد في الأعلام ص 560) . 5 قلعة بمدينة صفد بفلسطين. (المرجع السّابق، ص: 427) .

ساحلية صغيرة لا تعدو عكا وطرابلس1. ثانياً: ومن أبرز الأحداث المؤلمة في هذه الفترة الزمنية الغزو المغولي على العالم الإسلامي الذي قضى على الخلافة العباسية ودمر عاصمتها بغداد سنة 656هـ، واستولى المغول التتار على بلاد الشام وغيرها من بلاد المسلمين وعاثوا في الأرض قتلاً وحرقاً ودماراً وفساداً مما لا مثيل له في التاريخ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم. ثالثاً: حينما عزم التتار على غزو مصر بعد استيلائهم على الشام، اتّفق الأمراء المماليك على تولية الملك المظفر قطز سنة 657هـ، الذي أعد العدة لملاقاة التتار وأعلن النفير العام في القاهرة وسائر الأقاليم بالخروج إلى الجهاد ومقاتلة التتار الذين انهزموا شرّ هزيمة في معركة عين جالوت2 بيان3 سنة 658هـ4، وكانت نهاية الخرافة السائدة بأن المغول لا ينهزمون، وبداية تحرير البلاد الإسلامية منهم. ولله الحمد. رابعاً: إعادة الخلافة العباسية في مصر على يد الملك ظاهر بيبرس سنة 659هـ، بعد هدمها وانقطاعها في بغداد، وتولية المستنثر بالله أحمد بن الإمام الظاهر

_ 1 قلعة بالقرب من قضاء النبطية بجنوب لبنان. (المرجع السّابق، ص: 37) . 2 بليدة شرق دارين بين بيسان ونابلس من أعمال فلسطين. (ر: معجم البلدان / 76، ياقوت الحموي) . 3 مدينة بالأردن بالغور الشمالي. (ر: معجم البلدان 3/60) . 4 ر: الجوهر الثمين ص 264-269، السلوك 1/431، الخطط 2/238، للمقريزي النجوم الزاهرة 7/79-82.

بالله محمّد الخلافة العباسية ومبايعته بالقاهرة1. تلك كانت أهمّ الأحداث وأبرزها في عصر المؤلِّف باختصار، ويهمنا الآن معرفة دور المؤلِّف فيها، وما مدى تأثيرها فيه؟ لم تذكر المصادر2 التي ترجمت للمؤلّف - رحمه الله - دوراً بارزاً له في تلك الأحداث، إلاّ أنّها ذكرت أنّ المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري كان قاضياً في مدينة قوص3 مدة وواليا عليها مدة أخرى، وقد استنجت من ذلك أنّ المؤلِّف كان له دور علمي أثناء الحروب الصليبية وغيرها - بحكم ما تولاه من الوظائف المهمّة في الدولة ومكانته الاجتماعية والعلمية والقيادية - في حثّ الناس على الجهاد والخروج لصدّ الغزاة وحماية الأعراض والبلاد، وترغيب الناس في الصدقة، وجمع الأموال لإعداد الجيوش، خاصة حينما أعلن الملك الكامل والملك الصالح والملك المظفر قطز النفير العام في مصر. وبجانب جهاد المؤلِّف بالسيف والسنان كان له أيضاً جهاد القلم واللسان والحجّة والبرهان ضدّ الصليبيّين وأعوانهم من اليهود، وبيان فساد دينهم وما هم عليه من الباطل والخذلان. ويظهر لنا هذا الجانب بحسب ما وقفت عليه من كتبه في الرّدّ على اليهود والنصارى ومنها: (تخجيل من حرَّف التوراة والإنجيل) و (الرّدّ على النصارى) ، و (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) .

_ 1 ر: الجوهر الثمين ص 179-185، البداية والنهاية 13/231-232. 2 سيأتي ذكر هذه المصادر. (ر:) . 3 قوص: مدينة في مصر على ضفة النيل الشرقية (محافظة قنا) ، تبعد عن القاهرة (800كم) تقريباً في جنوب الصعيد، أصبحت في القرن السابع الهجري (القرن 14م) أولى مدن الصعيد وثانية المدن المصرية، فكانت مدينة كبيرة عظيمة وأهلها أرباب ثروة واسعة وهي محط التجار القادمين من عدن، وهي شديدة الحر لقربها من البلاد الجنوبية. (ر: معجم البلدان 4/413، لياقوت الحموي، المنجد في الأعلام ص 558، الموسوعة الميسرة 1407) .

وقد أكد لنا المؤلِّف أداءه لهذا الواجب في ذكره سبب تأليف كتابه (البيان الواضح) أنّه كان من باب الذَّبِّ عن الدين والجهاد القامع للملحدين1. الحالة الاجتماعية: كان المجتمع المصري يتألف من عدة طبقات: طبقة أهالي البلاد الأصليّين السنيّين الذين يؤلفون الأغلبية الساحقة من المصريّين، ثم طبقة المغاربة الذين قامت الدولة الفاطمية على أكتافهم ويدينون بالمذهب الشيعي مذهب الفاطميّين، ثم طبقة الأتراك الذين كثر عددهم في مصر منذ أيام الدولة الطولونية سنة 254-292هـ، وظهر أمرهم في عهد الخليفة الحاكم الفاطمي، ثم طبقة السودانيّين الذين كثر عددهم في مصر منذ أيام كافور الإخشيد سنة 355-357هـ. وظهر أمرهم منذ أيام الحاكم الفاطمي الذي استعان بهم ضدّ الأتراك2، ثم ظهرت طبقة أخرى في عهد المماليك وهم التتار الذين قدموا إلى مصر في أوائل عهد السلطان بيبرس وازداد عددهم في عهد السلطان كتبغا سنة 695هـ3. كما كان يعيش في المجتمع المصري المسلم طائفة أهل الذّمّة (وهم اليهود والنصارى) التي تدفع الجزية للدولة الإسلامية مقابل حمايتها وتمتعها بحريتها الدّينية في ظلّ التسامح الإسلامي. وقد تعددت فرق أهل الكتاب وطوائفهم في مصر على النحو الآتي:

_ 1 ر: مقدمة كتاب: (البيان الواضح المشهود) ورقة 5 / أ. 2 ر: مصر في العصور الوسطى ص 461، عليّ إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام 4/627، 628، د. حسن إبراهيم. 3 ر: مصر في العصور الوسطى ص 478، د. عليّ إبراهيم.

أما اليهود فكانوا أقلية بالنسبة للنصارى، وينقسمون إلى ثلاث فرق رئيسة هي: 1- فرقة الربانيّين: وهم جمهور اليهود، ومنهم يكون رئيس اليهود المشرف على الطوائف اليهودية الأخرى. 2- ثم يليهم في العدد فرقة القرائين. 3- ثم فرقة السامريّين (أو السامرة) وكانوا أقلية صغيرة العدد في مصر1. وقد كان لكلّ من فرق اليهود كنائسها الخاصّة بها، وقد أحصى المقريزي إحدى عشرة كنيسة في القاهرة والفسطاط وأقاليم البلاد المصرية، وكلّها محدث في الإسلام على حدّ قوله2. أما النصارى فقد انقسموا إلى ثلاث فرق رئيسة هي: 1- اليعاقبة (مذهب اليعقوبية) وهم الأقباط الذين يمثلون أغلبية النصارى في مصر. 2- الملكية أو الملكانية: وهم أقلية بالنسبة لليعاقبة كما أنهم في غالبيتهم من أصول غير مصرية كالروم وغيرهم، ومن ثمّ اشتدت العداوة بينهم وبين الأقباط. وكان لكل فرقة بطريرك خاص بها يتولى تنظيم الشؤون الداخلية لجماعته وفقاً لقوانينهم والإشراف على الكنائس والأديرة وما يتعلق بها، وتحديد مواعيد أعيادهم ومواسمهم وتنظيم علاقة أبناء طائفته بالدولة3.

_ 1 ر: صبح الأعشى 11/385، 388، 3/253، 257، 268، للقلشندي. 2 الخطط 2/463، 474. 3 ر: صبح الأعشى 11/392، 395، 397، أهل الذمة ص 34، 103-180، د. قاسم عبده.

3- النسطورية: وهم أقلية صغيرة العدد في مصر1. وقد انتشرت كنائس النصارى في كلّ أنحاء مصر، وكانت غالبيتها ملكاً لليعاقبة بحكم كونهم الأغلبية، فقد أحصى المقريزي ما يزيد على اثنتين وثمانين كنيسة لليعاقبة في الوجه القبلي، كما امتلك النصارى الملكية بعض الكنائس في القاهرة والفسطاط، ووجدت بعض كنائس للأرمن والنساطرة2. أما فيما يتعلق بالناحية الاقتصادية في مصر زمن الأيوبيّين وعصر المماليك البحرية فقد كانت منتعشة، وكان المال يأيتها من موارد عدّة، منها: الجزية التي كانت تصلها من الإمارت، والضرائب المعتادة التي تجبى من الشعب، إضافة إلى غنائم الحروب وغيرها، ولم تحدث في عهد الأيوبيّين إلاّ مجاعة واحدة في عهد السلطان العادل سنة596هـ استمرت نحو ثلاث سنوات، كان سببها انخفاض مياه النيل، فانتشر القحط، وهرب الناس من مصر إلى الشام وغيرها ومات الناس من التعب والجوع واشتدّ الغلاء3. تلك صورة موجزة عن المجتمع المصري زمن المؤلّف، نتعرف من خلالها بعض المؤثّرات في شخصية المؤلّف وتكوينه، إذ لا يخفى أن للبيئة الاجتماعية التي تحيط بالإنسان تأثيراً فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، سلباً أو إيجاباً. وقد كان المؤلِّف - بحكم وظيفته قاضياً لمدينة قوص ووالياً عليها - على اتّصال وثيق بمختلف طبقات الشعب مسلمهم وذميهم، كبيرهم وصغيرهم، واطلاع على أمورهم ومشكلاتهم، وتحكيم شرع الله فيهم وإقامة العدل

_ 1 خطط المقريزي 2/510، الانتصار لواسطة عقد الأمصار ص 107، لابن دقماق. 2 خطط المقريزي 2/516-518، الانتصار لواسطة عقد الأمصار ص 107-109، أهل الذّمّة ص 129، 130، د. قاسم. 3 السلوك 1/156، للمقريزي، البداية والنهاية 13/22، 29، مصر في العصور الوسطى ص 380-383.

والقسط بينهم، وقد كان للاحتكاك المباشر بين المؤلِّف القاضي واليهود والنصارى أثر في تأليف كتبه في الرّدّ اليهود والنصارى، خاصة إذا ما علمنا أن مدينة قوص من المدن الرئيسة التي كان يعيش فيها عدد كبير من الذّميّين، فقد ذكر بنيامين التطيلي - الذي قام برحلة إلى مصر في عصر الأيوبيّين - أنّه وجد بقوص حوالي ثلاثمائة يهودي1، كما ذكر المؤرخ المقريزي أنه كان بقوص وأسوان إحدى عشرة كنيسة للنصارى2، فقد كان من الطبيعي أن يقوم المؤلِّف الفقيه بجوابه في الدعوة إلى الإسلام بأن يبيّن لليهود والنصارى بطلان ما يعتقدونه من العقائد الفاسدة وما يتمسكون به من الشريعة المنسوخة والكتب المحرفة ويقدّم لهم النصيحة الواجبة المؤيّدة بالأدلة النقلية والبراهين العقلية لاعتناق الإسلام والانضمام إلى أهل الإيمان، وقد أوضح المؤلِّف أن من أسباب تأليفه لكتاب (التخجيل) هو القيام بما أُمِر به المسلمون في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهِم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، كما بيَّن المؤلِّف خلال كتابه بعضاً من نشاطه في مجال الدعوة عن طريق المناظرة والمحاورة لأحبار اليهود والنصارى بإبطال شبههم وإقامة الحجّة عليهم وإلزامهم بالاعتراف بنبوّة سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم.

_ 1 ر: كتاب (رحلة بنيمين التطيلي) ص 173، ترجمة وتعليق عزرا حداد - طبعة بغداد سنة 1945م، نقلاً من كتاب أهل الذّمّة في مصر ص 21،60،د. قاسم عبده. 2 ر: الخطط 3/579.

الحالة العلمية: إنّ الحوادث المؤلمة والغزوات المتكررة على العالم الإسلامي من التتار والصليبيّين تركت آثاراً سيّئة وخطيرة على الحركة العلمية، فقد قتل الأئمة والعلماء وهدمت المساجد والمدارس وأحرقت المكتبات وأتلفت الكتب، ولكن على الرغم من ذلك فإن الحركة الفكرية والثقافية في ذلك العصر كانت مزدهرة ازدهاراً كبيراً، فقد ظهر الأئمة والعلماء والأعلام في مختلف العلوم منهم: محمّد بن عمر بن حسين الرازي المفسر ت سنة: 606هـ، وعبد الله بن أحمد بن محمّد بن قدامة المقدسي، ت سنة: 620هـ، وعلي بن محمّد الشيباني المعروف بابن الأثير المؤرخ ت سنة: 630هـ، وعلم الدين عليّ بن محمّد بن عبد الصمد السخاوي ت سنة: 643هـ، وابن التلمساني شرف الدين عبد الله بن محمّد الفهري ت سنة: 644هـ، وابن الحاجب عثمان بن عمر ت سنة: 646هـ، ونجم الدين مختار بن محمود الزاهدي الغزميني ت سنة: 658هـ، والعزّ ابن عبد السلام المعروف بسلطان العلماء ت سنة: 660هـ، ومحمّد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي المفسر ت سنة: 671هـ، وأبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي ت سنة: 676هـ، وشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي ت سنة: 684هـ، وغيرهم ممن يصعب حصرهم والإحاطة بهم. كما نشطت مراكز علمية في الأندلس وغيرها، وانتشرت المؤلَّفات النافعة في العلوم المختلفة وتنافس الناس على اقتنائها ودراستها وقد ساعد على هذه الحركة العلمية وازدهارها عدّة عوامل من أبرزها:

_ 1- اعتناء الملوك والولاة بالعلم وتشجيعهم وإكرامهم للعلماء. 2- تولي العلماء للمناصب المهمّة والعالية في الدّولة واحترام الناس لهم وتقديرهم.

3- كثرة المدارس والمراكز العلمية التي تنشأ في البلاد الإسلامية. 4- توافر خزائن الكتب في المساجد والمدارس وانتشار المكتبات العلمية العامّة والخاصّة. وقد توافرت تلك العوامل في مصر، حيث عاش المؤلِّف رحمه الله، فقد عرف عن ملوك الأيوبيّين والمماليك حبهم وتقديرهم للعلم والعلماء، فكان السلطان صلاح الدين الأيوبي ت سنة: 589هـ، يحبّ العلماء وأهل الخير ويقربهم ويحسن إليهم، حتى صار لكثرة مخالطته بهم وأخذه عنهم من كبار الفقهاء1، وكذلك كان ابنه بعده الملك العزيز عثمان الذي سمع الحديث من الحافظ السلفي والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري وغيرهم2، وكذلك كان من بعده الملك العادل أبو بكر3. ثم كان الملك الكامل الذي يحضر مجلسه الفقهاء كلّ ليلة ويتحدث معهم ويشاركهم في علومهم ويبيت معهم كواحد منهم4، ويتنافس العلماء في إهداء كتبهم ومؤلَّفاتهم إليه، فقد أهدى إليه المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري كتابه: (العشر المسائل) وتسمّى أيضاً: (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) الذي ألّفه في عهد الكامل سنة 618هـ، وأهداه إليه ليقمع به أشطان طاغية الروم الأبتر الشيطان الذي أرسل إلى السلطان الكامل عدّة

_ 1 ر: الجوهر الثمين ص 224، 225، النجوم الزاهرة 8/9، 56. 2 ر: وفيات الأعيان 3/251، لابن خلكان، الجوهر الثمين ص 230، النجوم الزاهرة 6/127-129. 3 ر: النجوم الزاهرة 6/163. 4 ر: وفيات الأعيان 5/81، الجوهر الثمين ص 238، النجوم الزاهرة 6/227، 228، خطط المقريزي 3/339.

مسائل يطلب من المسلمين الجواب عنها، وكان ذلك سبب تأليف المؤلِّف لذلك الكتاب1. كما أهدى الإمام أحمد بن إدريس القرافي كتابه: (أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية) إلى السلطان الكامل2. وكذلك كان الملك الصالح نجم الدين يكرم العلماء ويحبّهم ويسمع منهم ويبالغ في إكرامهم ويجري على أهل العلم الجرايات3. أما عن ملوك المماليك فإن السلطان الظاهر بيبرس كان محبّاً للعلماء ومقرباً لهم، وبنى المدارس والجوامع الكثيرة4. أما عن المدارس والمراكز العلمية فقد كانت كثيرة جدّاً، نذكر منها5: 1- المدرسةالناصريةوقد بناها السلطان صلاح الدين في عام566هـ. 2- المدرسةالصلاحية وبناها السلطان صلاح الدين في عام572هـ. 3- المدرسة الفاضلية أسسها القاضي الفاضل عبد الرحيم ت سنة: 596هـ، وكان من أكابر العلماء في عصر الأيوبيّين. 4- المدرسة الشريفية وقفها الأمير الشريف فخر الدين أبو نصر إسماعيل بن ثعلب الجعفري الزيني أحد أمراء مصر في الدولة الأيوبية ت سنة: 612هـ. 5- المدرسة الكاملية وهي دار الحديث بناها الملك الكامل في عام 621هـ.

_ 1 مقدمة كتاب: (البيان الواضح المشهود) - مخطوط، الورقات 4، 5. 2 ر: مقدمة كتاب (أدلة الوحدانية) ص 19-21، تحقيق عبد الرحمن دمشقية. 3 ر: السلوك 2/308، 340، النجوم الزاهرة 6/331. 4 ر: النجوم الزاهرة 7/181، عصر سلاطين المماليك 1/27. 5 ر: للتوسع خطط المقريزي 3/313-383، حسن المحاضرة 2/257-270.

6- المدرسة الصالحية وهي أربع مدارس للمذاهب الأربعة بناها الملك الصالح نجم الدين أيوب في عام 639هـ. 7- المدرسة الظاهرية وبناها الملك الظاهر بيبرس في عام 662هـ. وكانت هذه المدارس وغيرها تعنى بتدريس العلوم الدينية والأدبية والعقلية، كما كانت تلك المدارس والمساجد والقصور تلحق بها خزائن الكتب (المكتبات) التي تحتوي على أمّهات الكتب وأنفسها وأوسعها في سائر العلوم. بذلك نرى أن البيئة العلمية المحيطة بالمؤلِّف ساعدته كثيراً في تكوينه العلمي وعلى تحصيل العلم والاجتهاد فيه حتى أصبح من العلماء البارزين الذين كانت لهم التصانيف العديدة المفيدة ونال ثقة الولاة والحكام في تعيينه قاضياً في مدينة قوص ووالياً عليها، خاصّة إذا ما علمنا أن مدينة قوص قد نشطت أثناء الحروب الصليبية حينما استولى الصليبيّون على فلسطين وعلى ثغورها فازداد خطرهم وأصبح الطريق المألوف لحجاج بيت الله الحرام غير مأمون، فأصبحت مدينة قوص من المدن الرئيسة المهمّة التي يمرّ بها حجاج بيت الله القادمين من الأندلس وشمال أفريقيا، فكثرت بها المدارس والمعاهد والمساجد وقصدها العلماء ونزلوا فيها، وبزغ منها علماء في مختلف العلوم، وكثر فيها الأدباء والشعراء؛ لأنّها أصبحت محط رحال الحجيج1. ومن هؤلاء العلماء الذين درسوا العلم ودَرَّسوه في قوص: شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن محمود الأصفهاني توفي سنة: 688هـ2، وجلال الدّين أحمد بن عبد الرحمن الكندي الدشنادي توفي بقوص سنة 677هـ3، والقاضي

_ 1 ر: الغزو الصليبيب والعالم الإسلامي ص 229، 230، عليّ عبد الحليم محمود، الموسوعة الميسرة 1/1407. 2 ر: طبقات الشافعية 8/101، للسبكي، حسن المحاضرة 2/164. 3 ر: طبقات الشافعية 8/20، للسبكي.

بهاء الدين القفطي هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل، كان قيماً بالمدرسة النجيبية قوص توفي سنة 697هـ1، وتقي الدين بن دقيق العيد محمّد بن عليّ بن وهب القشيري، تفقه على والده بقوص وتفي سنة: 702هـ2، والحسين بن أبي بكر بن عياض بن موسى السبتي القوصي توفي سنة 682هـ3، وغيرهم.

_ 1 ر: طبقات الشافعية 8/390. 2 ر: طبقات الشافعية 9/207. 3 ر: معجم المؤلِّفين 3/317.

الفصل الثاني: حياة المؤلف

الفصل الثاني: حياة المؤلف ... حياة المؤلِّف إنّ بعض الشّخصيات التّاريخية لا تحظى بما تستحقّه من الاهتمام والدراسة من المؤرخين على الرغم من تميز تلك الشّخصيات بمميزات وصفات عديدة تؤهلهم لذلك. وإنّ المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري من أولئك الذين قَلَّ حظّهم ونصيبهم عند المؤرخين. وقد بذلت ما في وسعي من الجهد والوقت سعياً وراء ترجمة وافية للمؤلِّف في بطون كتب المؤرخّين والتاريخ، وبعد توفيق الله عزوجل وقفت على بعض المصادر التاريخية1 التي ذكرت تاريخ ولادة المؤلِّف، ووفاته وبعض المعلومات المهمة عنه علماً بأن من سبقني إلى دراسة المؤلِّف وآثاره؛ وهو د. محمّد محمد حسانين الذي قام بدراسة شاملة وتحقيق كتاب (الرّدّ على النصارى، لصالح بن الحسين الجعفري) لم يذكر تاريخي ولادة ووفاة المؤلِّف، واكتفى في الترجمة بما في كتاب كشف الظنون لحاجي خليفة وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان.

_ 1 ذكرت ترجمة المؤلِّف في المصادر الآتية: ذيل مرآة الزمان 2/438، لأبي الفتح اليونيني المتوفى سنة 726هـ. تاريخ الإسلام، للحافظ الذهبي المتوفى سنة 745هـ (مخطوطة بدار الكتب المصرية، ورقة 74/أللسنوات 663-680هـ) الوافي بالوفيات 16/256، صلاح الدين الصفدي المتوفى سنة 764هـ. كشف الظنون 1/379، حاجي خليفة. هداية العارفين 5/422، إسماعيل البغدادي. معجم المؤلِّفين 5/6، عمر رضا كحالة. الأدب الجدلي والدفاعي في اللغة العربية بين المسلمين والنصارى واليهود ص 36، 141، 409، للمستشرق مورتز (باللغة الألمانية) . تاريخ الأدب العربي 1/553، والذيل 1/766، كارل بروكلمان (بالألمانية) .

1- اسمه ونسبه: هو صالح بن الحسين بن طلحة بن الحسين بن محمّد بن الحسين الهاشمي الجعفري الزينبي1. ومن المعلوم أن لقب (الهاشمي) نسبة إلى بني هاشم القرشيّين، وأما لقب (الجعفري) فنسبة إلى جعفر بن أبي طالب، الملقب بالطيار وذي الجناحين، شهيد مؤتة رضي الله عنه وينتسب إليه جماعة، منهم أبو الحسن عليّ بن الحسن الجعفري السمرقندي2، ومحمّد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر3، والأمير الكبير الشريف فخر الدين أبو نصر إسماعيل بن حصن الدولة فخر العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم الجعفري الزينبي4، ومحمّد بن الحسن بن العربي بن محمّد الحجوي الجعفري الزينبي5.

_ 1 كذا أورده أبو الفتح اليونيني في ذيل مرآة الزمان، وبمثله أورده الذهبي ما عدا ذكر اسم الجدّ الرابع في النسب وهو (الحسين) . وبمثل ذلك نقله الصفدي عن الذهبي. أما الباقون فقد ذكروه مختصراً كالآتي: صالح بن الحسين الجعفري. 2 ذكره ابن الأثير الجزري في اللباب في تهذيب الأنساب 1/283. 3 ذكره الزبيدي في تاج العروس من جواهر القاموس 10/446. 4 ذكره المقريزي في الخطط 3/332، وقال عنه: كان أمير الحاج والزائرين وأحد أمراء مصر في الدولة الأيوبية، أوقف مدرسة نسبت إليه باسم (المدرسة الشريفية) وتمّ بناؤها سنة اثنتي عشرة وستمائة وهي من مدارس الفقهاء الشافعية اهـ. 5 توفي سنة 1376هـ، (ر: الأعلام 6/96، للزركلي، مقدمة تحقيق كتاب (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) للدكتور عبد العزيز القارئ) .

وقد سكن الجعافرة بمصر في إسنا1 بالصعيد الأعلى وهم قبائل كثيرة2، ولهم قرية تنسب إليهم3. وكانوا بادية أصحاب شوكة يحالفون الأمويّين المقيمين هنالك4. ويرى الأستاذ عبد الله خورشيد أن الجعافرة عاشوا في مصر منذ القرن الثالث على الأقل وأنهم هاجروا إلى أرض الأشمونيّين في هجرة قريش إلى تلك المنطقة5. وأما لقب (الزينبي) فنسبة إلى بطن من ولد عليّ الزينبي ابن عبد الله الجواد بن جعفر الطيار، نسبة إلى أمّه زينب6 بنت عليّ - رضي الله عنه -، وأمّها فاطمة الزهراء - رضي الله عنها -. 2- كنيته ولقبه: أجمعت المصادر التي ذكرت المؤلِّف على أن كنيته: (أبو البقاء) 7، ولكن لم تذكر تلك المصادر عدد أولاده أو أسماءهم. وقد اشتهر المؤلِّف بلقبين هما: الأوّل: (تقي الدين) ، ذكره اليونيني والذهبي والصفدي.

_ 1 وهي الآن من المدن الكبيرة بمحافظة قنا المصرية. (ر: موسوعة المنسرة 1/1399) . 2 ر: تاج العروس 10/447، للزبيدي، لسان العرب 17/235، لابن منظور، معجم البلدان 1/121، 3/247، 4/235، لياقوت الحموي، معجم قبائل العرب القديمة والحديثة 1/191، عمر رضا كحالة. 3 ر: لب اللباب في تحرير الأنساب ص 65، للسيوطي. 4 ر: البيان والإعراب ص 32، للمقمريزي. 5 ر: القبائل العربية في مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة ص 25. 6 زينت بنت عليّ بن أبي طالب الهاشيمة، سبطة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن الأثير: "إنها ولدت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، زوجها أبوها ابن أخيه عبد الله بن جعفر فولدت له أولاداً، وكانت مع أخيها لما قتل". (ر: الإصابة8/100) ،وينسب إليهافي مصرمسجدها، توفيت سنة 65هـ، ودفنت بقناطرالسباع بمصر. (ر: أعلام النساء2/91،99 عمر كحالة) . 7 وحرفت هذه الكنية إلى (أبي التقي) في كتاب الوافي بالوفيات للصدفي، ولعله خطأ مطبعي.

الثاني: (قاضي قوص) لتوليه القضاء بها مدّة، ذكره الذهبي والصفدي. 3 - ولادته ونشأته: ولد المؤلِّف في سنة إحدى وثمانين وخمسائة من الهجرة النبوية الشريفة1 بمصر، وكانت سنة ولادته في السنة الخامسة عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين الأيوبي على مصر، وفيها أيضاً توفيت زوجة السلطان صلاح الدين2. وقد نشأ المؤلِّف في بيت سلالة النبوة والعلم والإمارة، فقد كان لآل جعفر الهاشميّين منزلة رفيعة في الدولة الأيوبية حيث كان منهم الأمراء والقضاء. 4- شيوخه وتلاميذه ومؤلَّفاته: مما لا شكّ فيه أن المؤلِّف قد طلب العلم على عدد من أهل العلم حتّى أصبحت له المكانة العلمية التي تؤهله لتولي القضاء في مدينة قوص التي تعتبر ثاني المدن المصرية أهمية في ذلك الوقت. ثم تولى ولايتها مدّة من الزمن، غير أن المصادر التاريخية لم تذكر لنا شيوخه وتلاميذه سوى ما ذكره الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام فقال: "إن المؤلِّف سمع من عليّ بن البناء3 وغيره وحدَّث ... ، وحدَّث عنه الدمياطي"4.

_ 1 ر: ذيل مرآة الزمان 2/438، تاريخ الإسلام ورقة 74/أوقد وقع خطأ مطبعي في كتاب الوافي بالوفيات للصفدي حيث ذكر أن المؤلِّف ولد سنة إحدى وثمانين. 2 ر: النجوم الزاهرة 6/98. 3 هو: الشيخ الجليل المسند أبوالحسن عليّ بن أبي الكرم نصربن المبارك الواسطي الأصل البغدادي ثم المكّي الخلال ابن البناء، قال عنه الذهبي: "راوي الجامع عن عبد الملك الكروخي، وما علمته روى شيئاً غيره، حدَّث به بمكّة والإسكندرية، ومصر ودمياط وقوص، وحدَّث به جماعة، مات بمكّة في صغر وقيل في ربيع الأوّل سنة 622هـ". (ر: سير أعلام النبلاء 22/248،النجوم الزاهرة 6/63،شذرات الذهب5/101) . 4 ترجم له الذهبي فقال: "عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف، والعلامة الحجة شرف الدين، أبو محمّد الدمياطي، الشافعي، أحد الأئمة الأعلام، وبقية نقاد الحديث، ولد سنة: 613هـ، واشتغل بدمياط وأتقن الفقه، ثم طلب الحديث ورحل وسمع من عدّة أشياخ بدمشق وبحران والموصل والحرمين، وله تصانيف متقنة في الحديث والعوالي والفقه، توفي سنة: 705هـ بالقاهرة". (ر: سير أعلام النبلاء 1/502، النجوم الزاهرة 8/218) .

أما مؤلَّفاته؛ فقد اتّفق أبو الفتح اليونيني مع الحافظ الذهبي على القول بأن للمؤلِّف تصانيف عدّة مفيدة، لكنهما لم يذكرا أسماء مؤلَّفاته، وقد وقفت - بفضل الله عزوجل وتوفيقه - على ثلاثة من مؤلَّفاته المعروفة هي: 1- تخجيل مَن حرّف الإنجيل1. 2- البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود2؛ (كتاب العشر المسائل) . 3- الرّدّ على النصارى3. 5- عقيدته ومذهبه الفقهي: قد يتبادر إلى ذهن القارئ لأوّل وهلة حينما يقرأ اسم المؤلِّف صالح ابن الحسين الجعفري4 أنه ينتمي إلى المذهب الجعفري الإمامي الرافضي، المعروف بمذهب: (الشيعة الاثني عشرية) ، وهذا وهمٌ باطلٌ، فإنّ المؤلِّف صالح بن الحسين الجعفري من أهل السنة على المعنى العام الذي يدخل فيه جميع المنتسبين إلى الإسلام عدا الرافضة، وهذا اصطلاح العامة، (لأنّ الرافضة هم

_ 1 وهو الكتاب الذي بين أيدينا، وسيأتي الحديث عنه. 2 ذكره رضا كحالة في معجم المؤلفين 5/6، وتوجد نسخة منه بالمتحف البريطاني تحت رقم: أ. د. د. 16661. 3 توجد نسخة منه بمكتبة آياصوفيا تحت رقم: 2246م، بتركيا، وقام د. محمّد محمد حسنانين بتحقيقه ونشره. 4 وهو الاسم الذي ذكرته المصادر المتأخرة ككشف الظنون وهداية العارفين ومعجم المؤلفين وتاريخ التراث العربي كما تقدم بيانه. ر: ص: 41.

المشهورون عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضدّ السني إلاّ الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سني، فإنما معناه لست رافضياً) 1. والأدلة على أنّ المؤلِّف من أهل السنة على هذا المعنى ما يأتي: 1- دعاؤه للصحابة - رضي الله عنهم - في مقدمة كتابه بعد البسملة والحَمْدَلة2، ثم دعاؤه بأن يرضى الله عن الصحابة جميعاً، وإقراره بأنهم أعيان الأمة، وإيراده لحديثين في فضل الصحابة3. 2- استدلاله بالأحاديث التي روواها الصحابة كأبي بكر وعمر وأبي هريرة وغيرهم - رضي الله عنهم - 4. 3- إيراده لمناقب بعض الصحابة كأبي بكر وعمر وأنس وسعد بن أبي وقاص وغيرهم5. 4- ذكره لكرامات أبي بكر وعمر وعليّ والعلاء بن الحضري والبراء بن مالك وعمران بن الحصين وأبي أمامة وابن عباس وغيرهم6 - رضي الله عنهم أجمعين -. 5- إثباته لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ - رضي الله عنهم - على الترتيب7.

_ 1 ر: مجموع الفتاوى 3/356، لابن تيمية، منهاج السنة النبوية 2/221، لابن تيمية. 2 ر: ص: 106 من الكتاب المحقَّق. 3 ر: ص: 130، 131 من الكتاب المحقَّق. 4 ر: الباب العاشر القسم الثاني. 5 ر: ص: وما بعدها من الكتاب المحقَّق. 6 ر: ص: وما بعدها من الكتاب المحقَّق. 7 ر: ص:.

وقد تقدم بيان أن لقب (الجعفري) نسبة إلى جعفر الطيار رضي الله عنه1. أما على المعنى الأخصّ لأهل السنة - الذي يراد به أهل السنة المحضة الخالصة من البدع، ويخرج به سائر أهل الأهواء والبدع كالخوارج والجهمية والمرجئة والأشاعرة وغيرهم، ويبين ذلك قول الإمام ابن تيمية: "فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلاّ الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلاّ من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول: إنّ القرآن غير مخلوق وإنّ الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة"2، - فعلى هذا المعنى فإنّ المؤلِّف - غفر الله لنا له - متأثر بمنهج الأشاعرة فيما يبدو لي من خلال كتابه (التخجيل) في بعض المسائل المحدودة التي أشار إليها وهي كالآتي: 1- إثباته سبع صفات لله عزوجل، وهي التي يسمّيها الأشاعرة صفات المعاني3، ثم تأويله لصفات الاستواء، والنُّزُول، والوجه، والعين، واليد، والقدم4. 2- نفيه أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علّة مشتملة على حكمة تقتضي إيجاد الفعل أو عدمه5، وهذا الأصل تسمّيه بعض كتب الأشاعرة بـ: (نفي الغرض عن الله) ويعتبرونه من لوازم التَنْزيه.

_ 1 وفي ذلك ردّ على الرافضة، فهذا رجل من آل عليّ وآل جعفر ومن بني هاشم يوالي أبا بكر وعمر وبقية الصحابة ويتبرأ ممن يعادونهم. 2 منهاج السّنّة النّبويّة 2/221. 3 ر: ص: من الكتاب المحقَّق. 4 ر: ص: 5 ر: ص: من الكتاب المحقَّق.

3- قوله: (إنّ النُّزُول والصعود والحركة والسكون هي أدلة حدث العالم عند المحقّقين) 1، وهذه طريقة الأشاعرة في الاستدلال على حدث العالم ثم الاستدلال على وجود الله، ويسمّونه (دليل الحدوث والقدم) . ومع ذلك فإنّه لا يجدر بنا أن نسند الرأي إلى الشخص لمجرد أنه ذكره في كتاب له، بل ينبغي أن نعرف أوّلاًَ الظروف التي أحاطت بالمؤلِّف حين ألّف الكتاب الذي نحن بصدده، هل ألّفه لنفسه أو لغيره؟ وتحت أي تأثير عامل من العوامل ألّفه؟ 2. فما هو ظاهر أنّ المؤلِّف - رحمه الله - قد ألّف كتابه في الرّدّ علىاليهود والنصارى خاصّة، فهو يورد أحياناً على الخصوم كثيراً من الاعتراضات والآراء التي لا يرتضيها هو كدليل عقلي يمكن الاستدلال به على ما يريده، ولكن يورده على أنه يجوز أن يعارض بها الخصم ولا يستطيع الخصم أن يدفع معارضته بها، ومقصوده من ذلك أن يبيّن للخصم أن الآراء الباطلة كافية أن يدخض بضها بعضاً. كما يبدو لي أنّ سبب تأثر المؤلِّف - عفا الله عنا وعنه - بمنهج الأشاعرة يرجع إلى نشأته وحياته في كنف الدولة الأيوبية التي كان ملوكها وقضاؤها قد تلقوا العقيدة الأشعرية وحفظوها من أساتذتهم، فحملوا كافة الناس في أيام دولتهم على التزامه في مواجهة المذهب الفاطمي الشيعي، وكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام بحيث نسي غيره من المذاهب وجهل3.

_ 1 ر: ص: من الكتاب المحقَّق، وقد قمت بالتعليق على تلك المواضع ببيان مذهب أهل السنة والجماعة فيها وإبطال بعض شبه المخالفين، ولله الحمد. 2 ر: مقدمة تحقيق د. سليمان دنيا لكتاب (تهافت الفلاسفة للغزالي) ص 56،بتصرف. 3 ر: خطط المقريزي 3/279، 280، 306.

وفي ختام الحديث عن عقيدة المؤلِّف - رحمه الله تعالى - نقول كما قال الإمام الذهبي في حقّ المفسّر قتادة بن دعامة الذي كان يرى القدر، قال: "لعلّ الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنْزِيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل، ثم إنّ الكبير من أئمة العالم إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحقّ، واتّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتّباعه، ويغفر له زلَلُه، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم. ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك"1. أما مذهبه الفقهي فإنّه كان شافعي المذهب فيما يبدو لي، حيث كان مؤسّس الدولة الأيوبية صلاح الدين شافعياً، وعمل على القضاء على الدولة الفاطمية الشيعية، فصرف جميع القضاة الشيعيّين وعين بدلهم قضاة من الشافعية السنيّين وفَوَّض القضاء لصدر الدين عبد الملك بن درباس الشافعي، فلم يستنب عنه في أقاليم مصر إلاّ من كان شافعي المذهب مثله، ومن ثم انتشر المذهب الشافعي في مصر وما تبعها من الأقاليم2. وبقي الأمر كذلك في مصر طوال عهد الأيوبيّين وطرفا من عهد المماليك إلى أن ولي أمر مصر السلطان بيبرس الذي وَلَّى بمصر والقاهرة أربعة قضاة: شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي واستمر ذلك من سنة خمس وستين وستمائه3.

_ 1 ر: سير أعلام النبلاء 5/271. 2 ر: خطط المقريزي 3/297، الروضتين في أخبار الدولتين 1/191، لأبي شامة، تاريخ الإسلام السياسي 4/378، 379، د. حسن إبراهيم حسن، مصر في العصور الوسطى ص 349، د. عليّ إبراهيم حسن. 3 ر: خطط المقريزي 3/280.

6- شخصيته العلمية وثناء العلماء عليه: لقد كان المؤلِّف - رحمه الله - شخصية علمية فذّة متعددة الجوانب وذا ثقافة واسعة متنوعة، يدلّنا على ذلك بعض آثاره العلمية التي وقفت عليها وما ذكره المؤرّخون في ترجمته، وموجز القول في ذلك أنّه كان مُتخصِصاً في العلوم الآتية: 1- علم الفقه وأصوله، يدلّ على ذلك توليه القضاء في مدينة قوص، فإنّ من شرط القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد1. 2- علم الأديان وخاصّة اليهودية والنصرانية، ويبدو لنا اهتمام المؤلِّف بهذا العلم وبروزه فيه واشتهار ذلك عنه بين العلماء فيما صَرَّح به المؤلِّف في مقدمة كتابه: (تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) 2، إضافة إلى بعض مؤلَّفاته التي عثرت عليها وهي: (البيان الواضح المشهود في فضائح النصارى واليهود) ، و (الرّد على النصارى) وقد تقدم الحديث عنها. 3- علم المناظرة والجدل، وهو ظاهر في كتبه السابقة التي تبيّن أنّ المؤلِّف ذو نفس طويل في المناظرة والإقناع، فإذا أراد إثبات مسألة أو نفيها وبيان بطلانها فإنه يأتي بالأدلة النقلية العقلية ويأخذ بمجامع القول والمسألة ويسدّ على خصمه الطريق ويواصل البحث والنقاش من جميع الوجوه والجوانب المحتملة حتّى يلزم الخصم ويفحمه. وقد ذكر لنا المؤلِّف في كتابه: (التخجيل) بعض المناظرات والمجادلات التي جرت بينه وبين أحبار اليهود والنصارى في بيان بطلان ما يعتقدونه3، وهذا

_ 1 ر: المغني 14/12، 14، لابن قدامة، تحقيق د. عبد الله التركي، ود. عبد الفتاح الحلو. 2 ر: من الكتاب المحقَّق. 3 ر: ص:، وغيرها من المواضع في الكتاب المحقَّق.

دليل آخر على تمكنه في المناظرة ومقارعة الخصوم. 4- علم الأدب، ويبيّن لنا اهتمام المؤلِّف بالأدب وبروزه فهي أيضاً ما ذكره أبو الفتح اليونيني في ترجمة (بأنه كان أحد الفضلاء العارفين بالأدب وغيره ... وله خطب حسنة ونظم جيد) . وقال فيه الذهبي: "بأنه كان عارفاً بالأدب وله خطب ونظم ونثر ... ". ونقل ذلك عنه صلاح الدين الصفدي في كتابه: (الوافي بالوفيات وأراد أن يضيف على ما نقله من الذهبي بعض الأبيات الشعرية للمؤلِّف إلاّ أنّ النسخة المخطوطة لكتاب الوافي بالوفيات فيها بياض بمقدار خمسة أسطر في المكان الذي ذكرت فيها تلك الأبيات الشعرية1. ومما يدل على سعة اطلاع المؤلِّف على الأدب والشعر استشهاده بالأبيات الشعرية في كتابه: (التخجيل) 2 وكثرة إيراده لها. وقد عثرت على منظومة نثرية للمؤلِّف، تظهر الناحية الأدبية فيه، وهي صيغة يمين مغلظة كتبها المؤلِّف ليحلف بها اليهود والنصارى في الشيء الخطير ونصّها كالآتي: قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "يمين مغلظة يحلف بها النصارى في المال الخطير: يحضر النصراني إلى الكنيس في أوّل الصوم الكبير ويجتمع عليه مشائخ دينه فإن كان ذلك بحضرة الجاثليق3، أو نائبه فهو أولى، ويقال له: قل: والله إله إبراهيم ماسك الكلّ، خالف ما يرى وما لا يرى، صانع كلّ شيء ومتقنه، الرّبّ لا أعبد سواه، ولا أعتقد إلاّ إيّاه ما تستحقّ عليّ شيئاً مما تدعيه على

_ 1 ر: الوافي بالوفيات 16/257. 2 ر: ص: من الكتاب المحقَّق. 3 كبير قساوسة النصارى ورئيسهم.

مقتضى عقدك وموجب شرعك وإلاّ فبرئت من الثالوث وجحدت الأب وكذبت الابن وكفرت بروح القدس، وخلعت دين النصرانية والتزمت دين الحنيفية، وضمخت الهيكل1 بحيضة يهودية، ورفضت مريم وقرنت مع الإسخريوطي2 في جهنم، وقلت إنّ المعمداني3 فيما شهد به ليسوع كذاب، وأنّ المسيح كآدم خلقه الله من تراب، وكفرت بإحياء العازر4 ومجيء الفارقليط5 الآخر، وتبرأت التلاميذ الاثني عشر6، وعلى جزم الثلاثمائة والثمانية عشر، وإن كانت ذمتي لك مشغولة ونيتي في حلفي هذا مدخولة، فكسرت الصلبان ودست برجلي القربان7، وبصقت في وجوه الرهبان عند قولهم: (كرياليصان) 8، واعتقدت أنّ مجمع نقية كفر وفجر، وأن يوسف النجار زنى بأم يسوع وعهر، وإن كنت في إنكاري متأولاً وفي دعوى براءة الذّمّة متقولاً، فعطلت الناقوس ورجعت إلى ملّة اليهود والمجوس، وكسرت صليب الصلبوت، وطبخت به لحم الجمل وأكلته في أوّل الصوم الكبير تحت الهيكل بحضرة الآباء، ونقضت حجارة قمامة9، وبنيت بها بيعة اليهود ومزقت عفارة أم الرّبّ، وشاركت الشّرط في سلب ثيابه، وأحدثت تحت صليبه، وتجمرت بخشبته، وصفعت الجاثليق، وهذه اليمين في عنقي وأعناق عقبي إلى الأبد".

_ 1 أي: مكان القربان المقدس عند النصارى. 2 هو يهوذا الإسخريوطي الذي أخذ الرشوة من زعماء اليهود ليدلهم على المكان الذي اختبأ في المسيح، كما في الأناجيل المحرفة. 3 هو: يوجنا المعمدان، أي: النبيّ يحيى عليه السلام. 4 اسم الشخص الذي أحياه المسيح من الموت كما ورد في الأناجيل. 5 وهو الذي بشرت الأناجيل بمجيئه. 6 هم: حواريو المسيح عليه السلام. 7 أي: القربان المقدس أو العشاء الرباني الذي تقدمه الكنيسة للنصارى يوم الأحد. 8 معناه: ربّ ارحم. 9 أي: كنيسة القيامة في فلسطين والتي يعتقد النصارى أنّ يوم القيامة ستكون فيها.

يمين مغلظة يحلف بها اليهود في الشيء الكثير: يحضر اليهود إلى بيعتهم وهو صائم أو في يوم عيدهم ويجمع عليه جمع كبير من شيوخ دينهم وإن كان ذلك بحضرة المثيبة1 أو نائبه فهو أولى، ويقال له: قل: والله الأزلي الذي لم يزل ولا يزال الإله الذي برأ العالم وخلق حواء من آدم، وأرسل ماء الطوفان وتقبل من هابيل القربان، وكلّم موسى من الشجرة ونصره على فرعون والسحرة، وغرف فرعون في بحر سوف، وأهلك قورح ومن معه بالخسوف، ونَجَّى بني إسرائيل بيد القوية وأطعمهم منّاً وسلوى بالبرية، ما يُستحق على شيء من مطلبك على مقتضى مذهبك وإلاّ فرفضت موسى المكلَّم واتّبعت عيسى بن مريم، وإن كان لك في ذمتي مثقال ذرّة ونيتي في حلفي هذا غير برة، فعبدت الصلبان وعظمت الأوثان، وهدمت قبة الزمان2، وبنيت بها دير الرهبان، وكذبت التوراة وصدّقت الإنجيل، وفضلت يسوع الراوي على موسى وشمؤيل، وإن كنت قد جنحت لتأويل في هذه الأقاويل فقذفت مريم النبية3، وانسللت من اليهودية، والتزمت المجوسية وفارقت الملة الإسرائيلية بالكلّيّة، وكفرت بالعشر الآيات4، وبقيت محروماً إلى الممات، وحشرت في اليوم المعلوم بين عامورا وسدوم5، وهذه اليمين في عنقي وأعناق عقبي إلى الأبد". أهـ. قال المؤلِّف: "لا تستبعد منا نظم هذه الكلمات وإلزامهم بها فقد قال الفقهاء من أئمتنا - رضي الله عنهم - إنّ اليهود والنصارى والمجوس - أبعدهم الله -

_ 1 رأس المثيبة: أي: مدير الأكاديمية الشرعية اليهودية ورئيسي أحبارهم. (ر: الفكر الديني اليهودي ص: 117، حسن ظاظا) . 2 وهي: خيمة الاجتماع التي أمر الله بني إسرائيل ببنائها في القبة كما ورد في التوراة الحالية. 3 يعتقد اليهود أن مريم أخت موسى نبية من الأنبياء. 4 أي: الوصايا العشر الواردة في التوراة. 5 مكان نزول العذاب على قوم لوط عليه السلام.

يغلظ عليهم اليمين بإحضارهم بيوت متعبداتهم عند الحلف، مع أنه لا حرمة لها، وكأن المطلوب من ذلك حمل الذمي على الخروج من الحقّ بتكليفه التلفظ بما يعظم موقعه في قلبه ليكن أدعى إلى حصول المقصود، كما يكلف المسلم حضور المسجد الجامع يوم الجمعة بعد صلاة العصر عند المنبر بحضرة جمع من المسلمين وزيادة ألفاظ معظمة كقوله: الطالب الغالب جل وعلا". ا. هـ1. وقد ظهر لي من خلال ما ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة المؤلِّف بأنه سمع من المُحَدِّث عليّ بن البنا، ثم تحديثه للعلامة الدمياطي، ومن خلال كثرة استشهاده واستدلاله بالأحاديث النبوية والآثار في كتابه التخجيل وكتبه الأخرى، أنّ المؤلِّف - رحمه الله - كان له اهتمام كبير وحرص شديد على طلب الحديث وسماعه وروايته. تلك بعض الجوانب العلمية لشخصية المؤلِّف - رحمه الله - التي استعطت إثبات أدلتها، وقد تكون هناك جوانب أخرى نجهلها. فإنّ المؤلِّف بلا شكّ من الشخصيات العلمية المرموقة في عصره، ومن أصحاب المواهب والاهتمامات المختلفة، والله أعلم. أما ثناء العلماء عليه، فقد كان المؤلِّف متخلقاً بأخلاق القاضي العدل والعالم الجاد الوقور، مما دعا المترجمين أن يثنوا عليه ثناءً حسناً، ويكفيه في ذلك شهادة إمامين وعالمين من ثقات المؤرّخين: أوّلهما: الشيخ الإمام العالم بقية السلف2

_ 1 ورد نصّ اليمين المغلظة في نهاية الجزء الثاني من كتاب (التخجيل) بالمخطوطة، راجع الورقات: 186، 187، 188، وفي آخرها كتب: "تم الكتاب وحسبي الله وبه التوفيق برحمته وصلواته على خير خلقه سيدنا محمّد وآله وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله". ا. هـ. وإنّ أوّل ما استخدمت هذه الأيمان لليهود والنصارى في زمن الفضل بن الربيع وزير الرشيد أحدثها كاتب له، ذكر ذلك محمّد بن عمر المدائني في كتاب: (القلم والدواة) . (ر: صبح الأعشى 13/266-287، للقلقشندي) . 2 تلك الأوصاف ذكرها الإمام ابن كثير في ترجمة قطب الدين اليونيني. (ر: البداية والنهاية 14/126.

قطب الدين أبو الفتح موسى بن محمّد اليونيني الذي قال عنه: "صالح بن الحسين، أبو البقاء، تقي الدين، كان أحد الفضلاء العارفين بالأدب وغيره، والرؤساء المذكورين بالفضل والنبل، وتولى قضاء قوص مدّة، ونظرها أيضاً مدّة أخرى ... ". وثانيهما: مؤرّخ الإسلام وشيخ المُحدِّثين والحفاظ الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن عثمان الذهبي الذي ترجم له بقوله: "صالح بن الحسين، القاضي الجليل، الإمام تقي الدين، أبو البقاء الهاشمي، كان رئيساً نبيلاً عارفاً بالأدب، ولي قضاء قوص مدّة، وله خطب، ونظم، ونثر، وتصانيف، وأبخس نفسه بولاية نظر قوص وفاعل ذلك منقوص ... ". 7- وفاته: عاش المؤلِّف سبعة وثمانين عاماً قضاها في القضاء والولاية والتأليف والدعوة إلى الله، فقد مرّ بنا أنّ ولايته كانت سنة: (581هـ) ، وكانت وفاته سنة: (668هـ) 1 بالقاهرة في مستهل ذي القعدة، ودفن من الغد بسفح المقطم2. رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

_ 1 ذكره أبو الفتح اليونيني والذهبي والصفدي ورضا كحالة. 2 هضبة قرب القاهرة، تشرف على القرافة، وهي مقبرة فسطاط مصر والقاهرة، تقوم عليها قلعة صلاح الدين ومدينة المقطم. (ر: المنجد في الأعلام 679، الموسوعة الميسر 1731) .

القسم الأول: الباب الثاني: دراسة الكتاب وبيان منهج التحقيق

القسم الأول: الباب الثاني: دراسة الكتاب وبيان منهج التحقيق الفصل الأول: دراسة الكتاب ... الفصل الأوّل: التّعريف بالكتاب 1- اسم الكتاب: ذكر للكتاب اسمان بينهما اختلاف يسير: الأوّل: (تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) وقد نصّ عليه المؤلِّف في المقدمة والخاتمة، وكتب على الصفحة الأولى من المخطوطة، كما نصّ عليه أيضاً في مقدمة كتابه: (الرّدّ على النصارى) 1، وذكره أبو الفضل المالكي في مقدمة مختصره المسمَّى: (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) 2، وأورده بهذا الاسم كلّ من حاجي خليفة في كشف الظنون، والبغدادي في هداية العارفين وبروكلمان في تاريخ العربي. الثاني: (تخجيل مَنْ حرَّف التّوراة والإنجيل) ، وقد نصّ عليه المؤلِّف في مقدمة كتابه: (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) 3، وقد رجحت هذا الاسم على الاسم السابق واخترته عنواناً للكتاب؛ لأنه يطابق موضوع الكتاب وهو الرّدّ على اليهود والنصارى، ويدلّ عليه دلالة واضحة، إذ إنّ تحريف التوراة ينسب لليهود، وتحريف الإنجيل إلى النصارى، وقد غلب على ظنّه أنّه الاسم الذي ارتضاه المؤلِّف أخيراً لكتابه حيث نصّ عليه في كتابه (البيان الواضح) الذي ألّفه بعد كتاب (التخجيل) ، وفي أيام الشيخوخة كما يفهم منه في المقدمة.

_ 1 ر: ورقة 5/ب، مخطوطة بمكتبة أياصوفيا بتركيا تحت رقم: 2246م، ص 57، من النسخة المطبوعة. 2 ر: ص 2. 3 روقة 3/أ، مخطوطة بمكتبة المتحف البريطاني تحت رقم: 16661 أ. د. د.

2- توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلِّف: إنّ الأدلة التي تثبت صحّة نسبة كتاب التخجيل إلى القاضي صالح ابن الحسين الجعفري، أدلة متنوعة ومتعددة، لا تدع مجالاً للشّكّ في صحة تلك النسبة، ومن تلك الأدلة: 1- تصريح المؤلِّف بتأليفه للكتاب في مقدمة كتبه الأخرى (البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) ، و (الرّدّ على النصارى) . 2- تأكيد الشيخ أبي الفضل المالكي السعودي صحّة تلك النسبة في مقدمة مختصره للكتاب والمُسمَّى (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) 1. 3- اتّفاق المصادر التي ذكرت المؤلِّف وكتبه على نسبة الكتاب إليه تلك المصادر هي: أ- كشف الظنون 1/379، للعلامة حاجي خليفة. ب- هداية العارفين 5/422، لإسماعيل البغدادي. ج- معجم المؤلِّفين 5/6، لعمر رضا كحالة. د- الأدب الجدلي والدفاعي في اللغة العربية بين المسلمين والنصارى واليهود ص 36، 141، 409، للمستشرق مورتز شتاينشيندر (باللغة الألمانية) . هـ- تاريخ الأدب العربي 1/553، وفي ذيله 1/766، للمستشرق بروكلمان.

_ 1 طبع بمطبعة التمدن بمصر سنة 1322هـ، وتوجد النسخة المخطوطة للكتاب في مكتبة أحمد الثالث بتركيا تحت (1765) ، وذكر في نهاية الكتابة أنّ مؤلِّفه قد فرغ منه في الخامس والعشرين من شهر شوال سنة 942هـ، وذكره أيضاً الحاجي خليفة في كشف الظنون 1/379.

يضاف إلى ما سبق ذكر اسم المؤلِّف على الصفحات الأولى لنسخ المخطوطة وتصريح المؤلِّف بتأليفه للكتاب في المقدمة. 3- موضوع الكتاب: لقد بين المؤلِّف موضوع الكتاب بقوله في المقدمة: "كتاب تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل، يتضمن الرّدّ على النصارى واليهود من كتبهم التي بأيديهم"1. قد تحدّث المؤلِّف في مقدمة كتابه عن عدّة أمور منها: 1- سبب تأليف الكتاب. 2-بيان منهجه في التأليف. 3- بيان بعض الفوائد التي اشتمل عليهاالكتاب ومنهافوائد دراسة الأديان. 4- بيان حكم قراءة كتب أهل الكتاب كالتوراة والأناجيل وغيرها. أما موضوعات الكتاب فقد قسمها المؤلِّف في الأبواب الاتية: الباب الأوّل: في كون المسيح عبداً من عبيد الله لقوله وفتواه: وقد ذكر المؤلِّف فيه عشرين دليلاً على عبودية المسيح من أقواله وأفعاله في الأناجيل. الباب الثاني: في إثبات نبوّة المسيح عليه السلام وتحقيق رسالته: وقد صدّره ببيان ضلال اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام وأنّ في إثبات نبوّته وتحقيق رسالته ردّاً عليهم وإبطالاً لزعمهم، ثم ذكر اثنين وثلاثين دليلاً من معجزات المسيح وأقواله وأفعاله الشاهدة بنبوّته من الأناجيل.

_ 1 ر: ورقة 2/أمن المخطوطة.

الباب الثّالث: في تأويل ظواهر الإنجيل: وقد بيّن فيه تفسير الألفاظ التي ضلّ فيها النصارى وهي: الأب، والابن، والإله، والرّبّ، ما تحتمله من المعاني الواردة في التوراة والأناجيل وإيراد الشواهد على ذلك، ثم إبطال ما يدعيه النصارى من اختصاص المسيح بظواهر تلك الألفاظ. الباب الرّابع: في تعريف مواطن التحريف في الأناجيل: وقد ذكر فيه خمسين موضعاً من مواضع التحريف في الأناجيل بدلالة تناقض بعضها ببعض وتعارضه وتكاذبه وتهافته ومصادمته بعضها بعضاً. الباب الخامس: في أنّ المسيح عليه السلام وإن قصد وطلب فما قتل وصلب: افتتحه بذكر رواية الأناجيل في قتل المسيح وصلبه، ثم أبطلها بدليل عام وأبتعه بعشر حجج مفصلة نقلية وعقلية، ثم أورد بعدها عشر مسائل مفحمات للنصارى، ثم أبطل دعاوى للنصارى فيما يقصدون من ادعاء قتل المسيح وصلبه وألوهيته. الباب السّادس: في الأجوبة المسعدة عن أسئلة الملحدة: أجاب المؤلِّف فيه على تسعة عشر سؤالاً واعتراضاً من النصارى على المسلمين، ثم أبطل المؤلِّف سبعة أدلة للنصارى استدلوا بها على ألوهية المسيح من أسفار العهد القديم. الباب السابع: في إفساد دعوى الاتّحاد: وذكره فيه اختلاف فرق النصارى في دعواهم اتّحاد اللاهوت بالناسوت في

المسيح عليه السلام، ثم ردّ على فرقه منها وأبطل دعواها بأدلة عقلية ونقلية، ثم تناول بالرّدّ والإبطال عقيدة التّثليث عند النصارى. - الباب الثّامن: في الإبانة عن تناقض الأمانة: حيث بيّن فيه بطلان ما يسمّيه النصارى بالأمانة بأدلة نقلية وعقلية وأنّها تناقض بعضها بعضاً وتخالفها من خمسة عشر وجهاً. - الباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود: وقد ذكر فيه ثلاثاًوتسعين فضيحة من فضائح اليهودوالنصارى مأخوذة من كتبهم المقدسة لديهم واعتقاداتهم الباطلة وعباداتهم المنحرفة. - الباب العاشر: في البشائر الإلهية بالعزّة المحمّدية: وقد قسمه المؤلِّف إلى قسمين: الأوّل: ذكر فيه أربعاً وثمانين بشارة من البشارات الواردة في النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى. الثاني: ذكر فيه معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوّته وما أظهره الله على يد أصحابه وأمّته صلى الله عليه وسلم من الكرامات والآيات البيات. أما خاتمة الكتاب فقد ناقش فيه ادعاء النصارى بأنه لا نبي بعد المسيح وبيّن تكذيب ما بأيديهم لدعواهم. 4- سبب تأليف الكتاب: ذكر المؤلِّف في المقدمة أن سببين قد دفعاه إلى تأليف هذا الكتاب هما: 1- سؤال بعض أهل العلم له أن يؤلِّف كتاباً في الرّدّ على النصارى وبيان

ما هم عليه من الضلال وإزالة الشبهات التي أعانت على ضلالهم، لعلّ ذلك يكون سبباً في هدايتهم. 2-القيام بواجب الدعوة إلى الله عملاً بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلُوهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } . [سورة النحل، الآية: 125] . ولعلّي أضيف سبباً ثالثاً وهو أنّ الأحداث السياسية التي عاصرها المؤلِّف والبيئة الاجتماعية المحيطة به كان لها دور أيضاً في تأليف هذا الكتاب كما سبق الحديث عنه. 5- زمن تأليف الكتاب: لم يذكر المؤلِّف زمن تأليف هذا الكتاب، إلاّ أنّه ذكر في نهاية المجلد الأوّل من المخطوطة أنّ الفراغ من نسخها كان يوم السبت الثالث من شهر صفر نم سنة سبع وثلاثين وستمائة من الهجرة النّبوّية الشريفة، وقد ظهر لي من مقدمة الكتاب أنه من أوّل مؤلَّفات المؤلِّف - رحمه الله - في هذا العلم، ويؤكّد ذلك تصريح المؤلِّف في مقدمة مؤلَّفاته الأخرى (البيان الواضح) و (الرّدّ على النصارى) باقتباسه من كتابه (التخجيل) واختصار أبوابه فيهما. 6- منهج المؤلِّف في الكتاب: 1- استدل المؤلِّف على كلّ باب في الكتاب بآيات من القرآن الكريم تكون له منهجاً ونبراساً فيما يريد إثباته من القضايا أو نفيها. 2- أنه لم يبدأ في تأليف هذا الكتاب حتّى قرأ التوراة والأناجيل وبقية أسفار العهد القديم والعهد الجديد قراءة متأنية متفحصة عدّة مرات، وكانت طريقته في النقل من تلك الأسفار أن منها ما نقله بنصه، منها ما أوجزه لركاكة نصّه، وقد كان استدلال المؤلِّف بهذه النصوص لإلزام اليهود والنصارى من باب

التسليم لهم بصحة كتبهم المقدسة لديهم، ومن باب التنزيل في الجدال مع الخصم. 3- إنّ موضوع الكتاب الرّدّ على اليهود والنصارى، غير أنّ الرّدّ على النصارى قد استأثر بمعظم أبواب الكتاب نظراً لأنهم كانوا سبب تأليف للكتاب. ويتخلص منهج المؤلِّف في الرّدّ على اليهود بالآتي: أ- إثبات جواز النسخ عقلاً ونقلاً من التوراة وبقية أسفار العهد القديم، وإبطال شبههم في أبدية شريعة التوراة وعدم نسخها من كتبهم المقدسة لديهم. ب- ذكر فرق اليهود واختلاف عقائدهم، وإن كلّ فرقة تضلِّل الأخرى وتبدِّعها وإن من فضائحهم فسادهم وكفرهم بما هو ثابت عنهم في توراتهم وكتبهم المقدسة لديهم. ج- نقد التوراة المحرفة التي بأيدي اليهود والنصارى بأدلة متنوعة هي: 1- ذكر ما فيها من صفات التجسيم والتشبيه والنقائص التي نسبوها إلى الله عزوجل كالتعب والندم والجهل وغيرها. 2- ذكر ما فيها من صفات العيب والنقائص التي نسبوها إلى أنبياء الله عزوجل كالشرك بالله والظلم والغشّ وشرب الخمر والزنا بالمحارم والقتل المحرم وغيرها. 3- بيان ما فيها من التناقض ومخالفة الحقائق التاريخية والعلمية. د- إثبات نبوّة المسيخ عليه السلام بإثبات معجزاته بالطرق التي ثبتت بها معجزات موسى وغيره من الأنبياء.

هـ- إثبات نبوّة النّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم بالبشارات الواردة فيه صلى الله عليه وسلم. أما منهجه في الرّدّ على النصارى فكالآتي: أ- أنه اطلع على كثير من مصنفات النصارى في نصرة دينهم واحتجاجهم لأغاليطهم وما ردّت به كلّ فرقة من الفق الثلاث: الملكية والنسطورية واليعقوبية على الأخرى وما نصرت به مذبها. ثم إنه قرأ عدداً من مؤلَّفات علماء المسلمين في الرّدّ على النصارى وسيأتي بيانها في المصادر التي اعتمد عليها المؤلِّف. ب- اهتم المؤلِّف بنقد أسس العقيدة النصرانية وهي: 1- التّثليث، واتّحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح. 2- صلب المسيح تكفيراً عن خطيئة آدم الأزلية. 3- محاسبة المسيح للناس يوم القيامة. 4- شريعة إيمان النصارى (قانون الأمانة) المشتملة على الأسس السابقة والتي لا يعتبر الإنسان نصرانياً دون الإقرار بها. وكانت طريقته في الاستدلال بالأدلة النقلية كالآتي: 1- ذكر النصوص الدالة على عبودية ونبوة المسيح عليه السلام من الأناجيل وما يتبعها من أسفار العهد الجديد. 2- إيراد النصوص المصرحة بوحدانية الله عزوجل، ونفي التعدد والشريك عنه تعالى من أسفار العهد القديم والجديد. 3- مقارنة معجزات المسيح عليه السلام في الأناجيل بمعجزات من سبقوه

من الأنبياء في أسفار العهد القديم، وأنّ هذه المعجزات دليل نبوته وليست دليلاً على ألوهيته كما يزعم النصارى. 4- ذكر النصوص الأناجيل الدالة على نجاة المسيح من القتل والصلب، وأنّ المصلوب هو مَنْ أُلقي عليه شبه المسيح. 5- ذكر نصوص الأناجيل التي غلط النصارى في فهمها وفي نسبة المسيح إلى الألوهية، والاستدلال على تفسيرها بنصوص أسفار العهد القديم والعهد الجديد. 6- نقد الأناجيل المحرفة ببيان انقطاع سندها وعدم تواتر رواتها، ثم ببيان مواطن التناقض والتكاذب والتهافت في الأناجيل ومصادقة بعضها بعضاً. كما بيّن المؤلِّف بالأدلة العقلية استحالة العقائد النصرانية وعدم معقوليتها ورفض العقل الصحيح والفطرة السليمة لها، ومخالفتها للواقع المعاين المحسوس لأمر المسيح، وتناقضها مع الأناجيل. كما ناقش المؤلِّف أدلة النصارى وشبهاتهم حول ألوهية المسيح وبنوته لله، وبَيَّن بطلان ما استدلوا به وأوضح الحقّ الذي يجب أن يعتقدوه. ج- تطرق المؤلِّف إلى نقد بعض شعائر النصارى وعبادتهم كالقربان المقدس، والاعتراف بالذنوب للقسيس، وصلواتهم وما يتعلق بها كالقبلة والطهارة والقراءة فيها، والصوم، والأعياد، والسجود للصور والتماثيل، وعدم الختان، والحجّ، وتعظيم الصليب وأكل لحم الخنْزِير. د- ذكر فضائح القسيسين ومخاريق رهبانهم وما يروجونه من الحيل على ضعفاء النصارى ليقووا به واهي أباطيلهم.

هـ- ذكر فرق النصارى واختلاف عقائدهم وتكفير كلّ فرقة منهم الأخرى، وذكر ما ردت به كلّ فرقة على الأخرى في دعواهم اتّحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح، ليكون أبلغ في بيان الفساد والباطل الذي هم عليه. 4- اهتم المؤلِّف بالغاً بدلائل نبوّة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، حيث إنّ المقصود من كتابه دعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام بعد بيان بطلان عقائدهم وكتبهم. لذلك استطرد في ذكر البشارات الواردة في النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة والأناجيل وبقية أسفار العهد القديم والجديد، ثم ذكر بعض المعجزات الكثيرة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم والإرهاصات التي بشِّرت ببعثته صلى الله عليه وسلم والكرامات التي كانت لأصحابه صلى الله عليه وسلم وأمّته من بعده صلى الله عليه وسلم. وقد كان ذلك بمثابة خاتمة الكتاب والنتيجة الحتمية التي يتوصل إليها كلّ منصف عاقل من اليهود والنصارى بعد قراءة الأبواب السابقة من الكتاب. 5- وخلاصة القول في منهج المؤلِّف أنه جمع مناهج من سبقه من علماء المسلمين في الرّدّ على اليهود والنصارى ويتركز في الآتي: أ- المنهج التفسيري: الذي يقوم على افتراض صحة الأناجيل، ثم تفسير الألفاظ التي زلّ فيها النصارى وبيان ما تحتمله من المعاني الصحيحة بشواهد من الأناجيل والتوراة وغيرها. ب- منهج المحدِّثين: الذي يستند على نقد السند والمتن أيضاً، وبيان ما فيها من التهافت والتناقض والتكاذب. ج- المنهج العقلي: الذي يبيّن استحالة عقائد النصارى وعدم معقوليتها وتناقضها.

7- مصادر الكتاب: لقد كان المؤلِّف من القلائل الذين ذكروا بعض مصادرهم وذلك من المميّزات العديدة التي تسجل للمؤلِّف - رحمه الله -، على الرغم من أنه لم يحدد المواضع التي نقلها من تلك المصادر إلاّ نادراً، كما كانت عادة المؤلِّفين المتقدمين، وتنقسم المصادر التي ذكرها المؤلِّف أو أشار إليها من خلال كتابه إلى قسمين رئيسين هما: مصادر شفهية، ومصادر كتابية. أما المصادر الشفهية: فهي التي سجل المؤلِّف معلوماته عن طريق المشافهة بالسؤال أو المناظرة لأحبار اليهود والنصارى ومن أمثلة ذلك: - قال المؤلِّف: "سألت حبراً من أحبار اليهود عن هذا المزمور (يقصد النصّ الوارد في مزمور داود وهو: "قال الرّبّ لربِّ"، قال: (قال الرّبّ لربّي) تفسيره عندنا بالعبرانية: "قال الرّبّ لوليّي"، قال: "والرّبّ"، عندنا يطلق على المعظَّم في الدين، ثم تلا قول إبراهيم ولوط الذي حكيناه". أهـ. - وقال المؤلِّف: "سألت حَبْراً من أحبار اليهود عن قوله داود: "ثقبوا يدي" بالمزمور، فأجابني بنحو ما ذكرته في الوجه الأوّل على الفور من غير توقف، فتعجبت من اتّفاقه لنصّ ما عندهم". أهـ. - قال المؤلِّف: "لقد فاوضني بعض الرهبان ممن يدعي بناناً في البيان فأفضى الحديث معه إلى ذكر الابن والبنوة، فألزمته قول التوراة: "ابني بكري"، وقلت له: لعلّ البكر يكون أحظى عند والده بطريف بره وتالده، فما تقول في بنوة إسرائيل، فقال: إسرائيل وغيره ابن النعمة والمسيح ابن على الحقيقة، فعكست عليه كلامه، فتلبد واختزى ولجأ إلى ضعف العبارة لا واختزى". أهـ.

ويلاحظ على هذه المصادر عدم ذكر المؤلِّف لأسماء من سألهم أو ناظرهم من الأحبار والرهبان أو ذكر رتبتهم الدينية خاصّة، وأنّ أولئك الأحبار لا بدّ أن يكونوا من رؤساء أهل ملتهم وممن يحتج بقولهم نظراً إلى مكانة المؤلِّف العلمية والاجتماعية. وأما المصادر الكتابية: فمما هو معلوم أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من المصادر العامّة التي لا يستغني كلّ مسلم عن الرجوع إليهما في جمع أموره العلمية والعملية. وأما المصادر الأخرى الخاصّة فقد ذكر المؤلِّف في مقدمة المخطوطة بعض مصادره الأساسية في مجال الرّدّ على اليهود والنصارى، وذكر بعضها خلال كتابه، وبعضها الآخر مما لم يصرح به المؤلِّف ولكن وقفت عليها عن طريق مقارنة النصوص في الكتب الأخرى. المصادر التي ذكرها المؤلِّف في مقدمة المخطوطة فهي: قال المؤلِّف: "كتاب تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل، يتضمن الرّدّ على النصارى واليهود من كتبهم التي بأيديهم كتوراة موسى الخمسة الأسفار، والأربعة الأناجيل متَّى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا، ومزامير داود، ونبوة أشعيا، ونبوة هوشاع، ونبوة ميخا، ونبوة حبقوق، ونبوة دانيال، ورسائل فولس الرسول، وسفر الملوك وسير التلاميذ"1. قال مؤلِّفه - عفا الله عنه -: "وقد وقفت على كثير من مصنفاتهم وتواليفهم في نصرة دينهم، واحتجاجهم لأغاليطهم، وما ردّت به كلّ فرقة من الفرق الثلاث: الملكية والنسطورية واليعقوبية على الأخرى وما نصرت به مذهبها وقرأت عدّة

_ 1 أي: سفر أعمال الرسل.

ردود لأصحابنا عليهم مثل: كتاب الرهاي1، وكتاب عمرو بن بحر الجاحظ2، وكتاب عبد الجبار المعتزلي3، ومقالة أبي بكر4، وكلام الجويني5، وكتاب لبعض المغاربة6، وكتاب لابن الطيب7، وكتاب للطرطوشي8، وكتاب لابن عوف9.

_ 1 كذا في الأصل، ولعلّ صوابه: (الرهاوي) حيث سقط حرف الواو من الناسخ. وهو: عبد القادر بن عبد الله الفهمي الرهاوي، أبو محمّد عالم بالتراجم ومن حفاظ الحديث، توفي سنة: 612هـ، له كتاب: (رد النصارى) ذكر المستشرق مورتز في كتابه: (الأدب الجدلي والدفاعي في اللغة العربية بين المسلمين والنصارى واليهود ص 136) . (ر: ترجمته في الأعلام 4/40، للزركلي) . 2 الأديب المعروف، من أئمة المعتزلة توفي سنة: 255هـ، له (المختار في الرّدّ على النصارى) حققه ونشره د. محمّد عبد الله الشرقاوي، وله (الرسالة العسلية) ذكره القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة 1/198. 3 القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني الأسدابادي، شيخ المعتزلة في عصره توفي سنة 415هـ، له: (المغني في أبواب التوحيد - مطبوع في أجزاء) وقد رد على النصارى في الجزء الخامس منه، وله: (تثبيت دلائل النبوة - مطبوع في جزئين) تحقيق د. عبد الكريم عثمان، وقد رد على النصارى في الجزء الأوّل منه. وله: (رد النصارى) ذكره مورتز في الأدب الجدلي والدفاعي ص 114. 4 القاضي أبو بكر محمّد بن الطيب الباقلاني، من أئمة الأشاعرة توفي سنة 403هـ، له: (التمهيد في الرّد على الملحدة والمعطلة والخوارج والمعتزلة - مطبوع) ، وله: (الملل والنحل) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ص 1820. 5 أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، إمام الحرمين، توفي سنة 478هـ، له: (شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل - مطبوع) بتحقيق د. أحمد السقا، وله: (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد - مطبوع) وقد رد على النصارى في جزء من الكتاب. 6 هو أحمد بن عبد الصمد بن أبي عبيدة الخزرجي، فقيه أندلسي توفي سنة 582هـ، له: (مقامع هامات الصلبان في الرّدّ على عبدة الأوثان ومراتع روضات الإيمان - مطبوع) ، حققه ونشره د. محمّد شامه بعنوان: (بين الإسلام والمسيحية) ، كما حقّقه أيضاً د. عبد المجيد الشرفي. (ر: ترجمته في الأعلام 1/150 للزركلي) وقد استفاد المؤلِّف من هذا المصدر في ذكر فضائح الرهبان وحيلهم في الباب التاسع. (ر: ص: وما بعها) . 7 أبو العباس أحمد بن محمّد بن مروان بن الطيب السرخسي، فيلسوف غزير العلم بالتاريخ والسياسة والأدب والفنون، توفي سنة: 286هـ، له: (رد النصارى) ذكره مورتز في الأدب الجدلي ص 142، 143. (ر: ترجمته في الفهرست ص 365-367، لابن النديم، والأعلام 1/205، للزركلي) . 8 محمّد بن الوليد بن محمّد الفهري، أبو بكر الطرطوشي، من فقهاء المالكية، توفي سنة: 520هـ، له: (رد النصارى) ذكره مورتز في الأدب الجدلي ص 144، وله: (السعود في الرّدّ على اليهود) ذكره القاضي عياض في (الغنية) ص 63، طبعة بيروت. (ر: ترجمته في: سير أعلام النبلاء 19/490، أعلام 7/133) . 9 عوض بن عوف، له: (رد النصارى) ذكره مورتز في الأدب الجدلي ص 126.

وكتاب الدمياطي1، وكتاب لعض معاصرينا2، ثم نظرت جزءاً من كتاب لابن ربن من المتقدمين3، وأرجو أن يكون هذا المختصر - إن شاء الله- قد جمع شتاتهم واستدرك ما فاتهم، والله الموفِّق بحمده"4.أهـ. وأما المصادر الكتابية التي أشار إليها المؤلِّف ضمن كتابه فهي: 1- بعض أسفار العهد القديم التي قد تقدم ذكر بعضها وهي: سفر صفنيا، وسفر زكريا، وسفر أرميا، وسفر حزقيال. 2- بعض الأناجيل غير المعتمدة عند النصارى وهي: إنجيل الصبوة ويسمّى (إنجيل بطرس) 5، ونسخ أخرى للأناجيل. 3- كتاب (الملل والنحل) لأبي الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني. وأما المصادر التي وقفت عليها عن طريق مقارنة نصوص الكتاب في الكتب الأخرى فهي:

_ 1 خلف الدمياطي له: (رد النصارى) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون 1/838. 2 لعلّه كتاب: (الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام - للقرطبي المفسّر - أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري المتوفى سنة: 671هـ، وقد طبع بتحقيق د. أحمد السقا، وقد اشترك المؤّلف مع القرطبي في النقل من كتاب الشفا للقاضي عياض دون الإشارة إليه. 3 عليّ بن ربن الطبري، أبو الحسن، كان نصرانياً فأسلم، توفي سنة: 247هـ، له: (الرد على النصارى - مطبوع) نشره الأبوان خليفة وكوتشك في بيروت سنة: 1959م، وله: (الدين والدولة في إثبات نبوة النّبي صلى الله عليه وسلم - مطبوع) تحقيق الأستاذ عادل نويض. وقد اعتمد المؤلِّف على كتاب الدين والدولة اعتماداً كلّيّاً في الباب العاشر في القسم الأوّل منه في البشارات الواردة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة والأناجيل. (ر: ص: وما بعدها) . 4 انتهى كلام المؤلِّف في بداية المجلد الأوّل من المخطوطة ورقة 2/أ. 5 ر: ص:.

1- كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم) للقاضي عياض بن موسى اليحصبي (توفي سنة: 544هـ) . وقد تبيّن لي أنّ المؤلِّف قد اعتمد على كتاب الشفا اعتماداً كلّيّاً، حيث نقل الباب الرابع مع القسم الأوّل من كتاب الشفا وهو: "فيما أظهره الله على يديه (النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم) من الآيات والمعجزات وشرَّفه به من الخصائص والكرامات وفيه ثلاثون فصلاً" نقله المؤلِّف في القسم الثاني من الباب العاشر من كتابه نقلاً حرفياً مع حذف واختصار بعض الأحاديث الواردة فيه1. 2- كتاب (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) - للحافظ أبي نعيم الأصفهاني توفي سنة 430هـ. 3- كتاب (صفة الصفوة) للإمام جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي توفي سنة 597هـ، وقد استفاد المؤلِّف من هذين المصدرين في نهاية الباب العاشر في ذكر ما أظهره الله على يد أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأمّته من الكرامات والآيات البيّنات. 8- قيمة الكتاب العلمية: إن من مواصفات الكتاب العلمية البارز أن يحوز على ثناء العلماء واهتمام المتخصصين منهم باختصاره أو بالاعتماد عليه في كتبهم ومؤلَّفاتهم، أو بالإشارة إليه والنقل منه، وأن يحرص العلماء والأمراء على اقتنائه وقرائته. وإنّ الكتاب الذي بين أيدينا قد جمع - بحمد الله - تلك الصفات السابقة، مما يؤكِّد قيمته العلمية والعالية والبارزة، وإليكم الأدلة على ذلك:

_ 1 قارن نص كتاب الشفا 1/481-432، للقاضي عياض مع نص كتاب التخجيل ص 531 للمؤلِّف وما بعدها.

أوّلاً: لقد سجّل لنا المؤلِّف مدى تأثير كتابه عند العلماء ومدى اهتمامهم به في مقدمة كتابه: "البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود) الذي يعتبر اختصاراً لكتاب (التخجيل) فقال: "وعمدت إلى تكابي الملقَّب بـ: (تخجيل مَنْ حرَّف التوراة والإنجيل) وهو كتاب وضعته في أيام الشباب والنشاط، وجودة القريحة والانبساط فأكب على نقله علماء أهل الفسطاط واغتبطوا به غاية الاغتباط، ولا شكّ أنّ علماءنا - أيّدهم الله - يردّون عليهم بالحجج العقلية والطرق الكلامية، وعقول النصارى قاصرة عن المعقول مائلة إلى المنقول، وكنت قد طالعت التوراة الخمسة الأسفار والأناجيل الأربعة وإنجيل الصبوة ومزامير داود المائة وخمسين مزموراً ورسائل فولوس وسير التلاميذ ونبوات الأنبياء الأوّل والأمانة التي ألفها قدماؤهم، وقرأت كتب اليعاقبة والروم والنسطور، وتلوت عليهم من كتبهم وخاطبتهم باصطلاحهم، فجاء الكتب ندرة في فنّه، غاية في باب لا يسمع به أمير أو مأمور إلاّ حصله واقتناه وبلغ من مناظرة أهل الكتاب مناه، فجردت منه عشر مسائل مسألة من كلّ باب من أبواب الكتاب ... "1 الخ. اهـ. ثانياً: إنّ مما يؤكِّد كلام المؤلِّف في اهتمام العلماء بكتابه اعتماد الإمام أحمد بن إدريس القرافي (توفي سنة 684هـ) في كتابه (الأجوبة الفاخرة في الرّدّ على الأسئلة الفاجرة) 2، اعتماداً مباشراً عليه، فقد نقل منه نصوصاً كثيرةً جدّاً بحيث يشبه

_ 1 ر: ورقة 5 من المخطوطة. 2 طبعته دار الكتب العلمية عام 1406هـ، في بيروت وقد حقّق الكتاب في جامعة أم القرى لنيل درجة الدكتوارة، كما حقّق أيضاً في جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية لنيل درجة الماجستير.

أن يكون اختصاراً له، ولى الرغم من أن الإمام القرافي لم يصرِّح بنقله من كتاب التخجيل، إلاّ أنّ ذلك يبدو واضحاً بمقارنة النصوص1. ثالثاً: اختصره الشيخ أبو الفضل المالكي السعودي بعنوان: (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) 2، وقد فرغ من اختصاره في شوال سنة 942هـ، إلاّ أنّ أبا الفضل المالكي قد حشا مختصره بمخاريق الصوفية وخزعبلاتهم3، وخرافاتهم. رابعاً: نقل منه محمّد بن عبد القادر الشهير بابن الصلف المحلي المالكي في كتابه: (المنقذ من الضلالة الشاهد لمحمّد وعيسى - عليهما الصلاة السلام - بالرسالة) 4. خامساً: اعتمد عليه الشيخ رحمة الله الهندي (المتوفى سنة: 1308هـ) في مناظرته

_ 1 ذكر د. ناجي محمّد داود، محقِّق كتاب الأجوبة الفاخرة في جامعة أمّ القرى، أن كتاب التخجيل من المصادر الأساسية التي اعتمد عليها القرافي في الأجوبة. (ر: ص 113، من رسالة الدكتوراه) . وقارن أيضاً بين الباب الثاني في الأجوبة الفاخرة وبين الباب الأوّل والثاني في كتاب التخجيل، وبين الباب الثالث في الأجوبة الفاخرة والباب التاسع في كتاب التخجيل، وبين الباب الرابع في الإجوبة الفاخرة والقسم الأوّل من الباب العاشر في كتاب التخجيل. 2 مخطوطة بمكتبة أحمد الثالث بتركيا تحت رقم: (1765) ، وتوجد عنها نسخة ميكروفليم بمركز البحث العلمي تحت رقم:68/15، عقيدة بجامعة أم القرى. 3 ر: الباب السادس من المخطوطة، وص 81-97، من النسخة المطبوعة. 4 مخطوطة بمكتبة باريس تحت رقم: (5049) ، ولم أقف على هذه المخطوطة لكنني وقفت على كتاب (الصليب في الإسلام ص 38 لحبيب زيات) الذي نقل نصّاً من المخطوطة السابقة، وهذا النصّ موجود في كتاب التخجيل.

الكبرى مع القسيس فندر في بلدة أكبر آباد بالهند1، واستشهد فيها بثلاثة نصوص من كتاب التخجيل من الباب الثاني والتاسع2. كما نقل منه الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه القيم: (إظهار الحقّ) 3 الذي يعتبر من خير ما ألّف في العصر الحديث في الرّدّ على النصارى وافتراءاتهم، وأصبح من المراجع التي لا يستغني عنها أي باحث في الرّدّ على اليهود والنصارى4. وإن قراءة الشيخ - رحمه الله - الهندي لكتاب التخجيل ونقله منه ليدل دلالة قوية على مدى أهمية كتاب التخجيل وقيمته العلمية الكبيرة. ويوجهنا ذلك إلى إبراز بعض مميّزات كتاب التخجيل وهي: أ- حسن ترتيبه لأبواب الكتاب وتناسقها. ب- اعتماده في مجادلة أهل الكتاب على ما جاء في كتبهم المقدسة لديهم وفي كتب فرقهم وأحبارهم ليكون أبلغ في الحجّة وأفحم للخصم.

_ 1 وتسمَّى المناظرة الكبرى التي عقدت في يوم الاثنين 11 رجب 1270هـ، وطبعت بتحقيق د. محمّد عبد القادر خليل (رسالة دكتوراه) ، وأيضاً بتحقيق د. أحمد السقا في ملحق الطبعة الثانية لكتاب إظهار الحقّ. 2 ر: ص: 276، 277، من المناظرة الكبرى بتحقيق د. محمّد عبد القادر، وص: 436، 437، من المناظرة الكبرى بتحقيق د. أحمد السقا. 3 ر: ص: 190، بتحقيق د. أحمد السقا. 4 لقد نال كتاب (إظهار الحقّ) مكانة كبيرة عند علماء قَلَّ أن - ينالها كتاب آخر في هذا المجال - فقد طبع وحقّق مرات عديدة وترجم إلى تسع لغات أجنبية منها: الألمانية والفرنسية والإنجليزية، ولما انتشرت الترجمة الإنجليزية للكتاب علقت عليها جريدة لندن تايمز. وجاء في التعليق: "لو استمرّ الناس في قراءة ومطالعة هذا الكتاب لتوقف رقي الدين النصراني وازدهاره في العالم كلّه". (ر: للتوسع في صدى كتاب (إظهار الحقّ) وقيمته العلمية، مقدمة د. أحمد السقا لتحقيق الكتاب ص: 31-36، دراسة د. محمّد عبد القادر لتحقيق المناظرة الكبرى ص: 382-41)

ج- إحاطته بالموضوع وشموليته في إبطال أهمّ العقائد الباطلة لأهل الكتاب. د- قوّة مناقشته وكثرة استدلالاته وتنوعها، وطول نفسه في المناظرة. هـ بساطة أسلوب الكتاب وسلاسته. تلك أبرز المميّزات في نظري. والله أعلم. 9- المآخذ على الكتاب: لقد تبيّن لنا مما سبق قيمة الكتاب العلمية الكبيرة ومكانته البارزة بين كتب الرد على اليهود والنصارى بما يروي الغليل ويشفي العليل ويثلج صدور قوم مؤمنين، ومع ذلك فإنّ كلّ إنسان يؤخذ من كلامه ويُرَدُّ إلاّ الأنبياء والمرسلين، وإنّ المؤلِّف مع سعة علمه لم يخل كتابه هذا من بعض المآخذ التي ارتأيتها - رغم قصر باعي وقلة اطلاعي - ومنها: 1- التكلف في السجع-في بعض المواطن وخاصة في خطبة الكتاب-الذي يؤدّي إلى غموض المعنى وصعوبة فهمه. (ر: ص:89-92) . 2- التكرار لبعض المسائل والقضايا الواردة فيه، مثال ذلك:

_ مسألة بقاء المسيح في القبر كما وردت في الأناجيل تكررت في ص: 187، 256، 295، 308-310، 356، 357، 421. - مسألة الختان عند النصارى تكررت في ص: 228، 588، 589. - مسألة القبلة في الصلاة عند النصارى تكررت في ص: 156، 593، 643. - مسألة استعباد بني إسرائيل في مصر تكررت في ص: 575، 584، 585.

3- إيراد بعض الأحاديث والآثار الموضوعة والضعيفة دون بيانها، مع أنّ في الأحاديث والآثار الصحيحة التي أوردها المؤلِّف ما يغني عنها، (ر: ص: 733، 766، 767، 773، 821، وغيرها) . 4- ذكر بعض البشارات التي فيها تكلف ظاهر لإثباتها في نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم. (ر: ص: 665، 678، 679، 687، 688، 697) . 5- عدم ذكر المؤلِّف لكتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم - للقاضي عياض -) من بين المصادر التي اعتمد عليها، مع أنّه قد نقل من كتاب الشفا جزءاً كبيراً كما سبق بيانه.

الفصل الثاني: التعريف بالمخطوطة وبيان منهج التحقيق

الفصل الثّاني: التّعريف بالمخطوطة وبيان منهج التّحقيق أوّلاً: وصف المخطوطة: لقد بذلت ما وسعي من الجهد في سبيل جمع نسخ المخطوطة حسب ما يقتضيه التحقيق العلمي، فاطلعت على معظم فهارس المخطوطات الموجودة بمكتبات العالم، وسافرت إلى تركيا ومصر، وراسلت مكتبة المخطوطات بجامعة لندن بهولندا، ومكتبة المتحف البريطاني بلندن وغيرهما من المكتبات، وقد كانت نتيجة تلك الجهود - بعد عون الله عزوجل وتوفيقه - ما يأتي: 1- وقفت على نسخة خطيةكاملةللكتاب مكونةمن مجلدين كبيرين في مكتبة السليمانية بتركيا، وهي نسخة فريدة حصلت على ميكروفيلم لها، وقدكتبت هذه النسخة بخط نسخ واضح، ولم يذكر الناسخ اسمه عليها. وأما تاريخ نسخها، فقد كتب في نهاية المجلد الأوّل أنّ الناسخ انتهى من النسخ في يوم السبت في شهر صفر من سنة 637هـ. وكتب في نهاية المجلد الثاني عبارة: "نظر فيه مؤلِّفه صالح بن الحسين عفا الله عنه برحمته". مميّزات النسخة: تتميّز بأنها نسخة كاملة كتبت في عصر المؤلِّف وقرأت عليه وراجعها1، كما تتميّز أيضاً بقلة الأخطاء وندرة السقط فيها، ووجود التصحيحات والتعليقات واستدراك النقص على الهامش. إنّ تلك المميّزات تجعلها بحقّ النسخة الأم أو الأصل التي يسعى للحصول عليها كلّ باحث في مجال التحقيق، وقد رمزت لها بالرمز (ص) ووصفها

_ 1 وفي اعتقادي أنها نسخة المؤلِّف التي نقل عنه علماء الفسطاط نسختهم كما ذكر ذلك المؤلِّف في مقدمة كتابه: (البيان الواضح) .

كالآتي: أ- وصف المجلد الأوّل: هو نسخة خطية موجودة بمكتبة رئيس الكتاب مصطفى باشا تحت رقم (6) بمكتبة السليمانية، وتحتوى على مقدمة الكتاب إلى منتصف الباب السادس منه. عدد الأوراق والأسطر: تتكون من (184) ، ورقة، وتحتوي كلّ صفحة منها على (17) سطراً في المتوسط، ويتراوح عدد الكلمات في السطر الواحد ما بين 7-9 كلمات تقريباً. وصف الصفحة الأولى والأخيرة: كتب على الصفحة الأولى ما يأتي: "الجزء الأوّل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل - تصنيف الشيخ الفقيه الإمام الفاضل تقي الدين صالح - وفقه الله لما يرضيه برحمته"، وعليها ختم مكتبة رئيس الكتاب مصطفى، وكتب في أعلى الصفحة العبارة الآتية: "من كتب العبد ويسما سنة 1021هـ". وأما الصفحة الأخيرة فقد كتب في نهايتها: "ولله الحمد والمنّة، تَمَّ الجزء الأوّل ويتلوه الجزء الثاني من كتاب تخجيل مَنْ حرّف الإنجيل، ووافق الفراغ منه في يوم السبت في شهر صفر الثالث من سنة سبع وثلاثين وستمائة". ب- وصف المجلد الثاني: هو نسخة خطية بمكتبة دماد إبراهيم باشا تحت رقم: (4) ، بمكتبة السليمانية، وتشتمل على منتصف الباب السادس - من حيث ما انتهى إليه المجلد الأوّل - إلى خاتمة الكتاب. عدد الأوراق والأسطر: تتكون من (188) ورقة، وعدد الأسطر فيها (17) سطراً في المتوسط، وعدد الكلمات في السطر الواحد ما بين 7-9 كلمات تقريباً. ووصف الصفحة الأولى والأخيرة: لم يكتب على الصفحة الأولى اسم الكتاب

والمؤلِّف، وإنما كتب في أعلاها عبارة: "من كتب العبد ويسما سنة 1020هـ) . وفي منتصفها ختم مكتبة دماد إبراهيم باشا. وأما الصفحة الأخيرة من الكتاب فقد كتب فيها: "والله أعلم وأحكم نجز الكتاب الملقب بتخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل. ولله الحمد. رحم الله من قرأه ودعا لمؤلِّفه بالرحمة والرضوان وكاتبه وجميع المسلمين. وصلى الله على محمّد وآله وسلم". وكتب على الصفحة الأخيرة من المجلد الثاني (ورقة 188/أ) العبارة الآتية: "تَمَّ الكتاب وحسبي الله وبه التوفيق برحمته، وصلواته على خير خلقه سيدنا محمّد وآله وسلم تسليماً كثيراً. الحمد لله وحده". وكتب فيها أيضاً ما نصُّه: "نظر فيه مؤلِّفه صالح بن الحسين - عفا الله عنه برحمته - ". وكتب تحته الاسم الآتي: "ذو النون المصري رضي الله عنه". ثم كتب في أسفل الصفحة دعاء نصّه: "لك سجدت الحيتان في البحار الزاخرات، ولعظمتك اضطربت الأمواج في البحار والمتلاطمات، وبقدرتك قامت السماوات العاليات، ولهيبتك تدكدكت الجبال الراسيات، لك سجد سواد الليل وضياء النهار والنجم الزهار والبحر الزخار وكلّ شيء عندك بمقدار، لبيك أنت الله المتكبّر. تَمَّ الدعاء والحمد لله وصلى الله وسلم". اهـ. 2- وقفت على نسخة خطية للمجلد الثاني من المخطوط في مكتبة عارف حكمت تحت رقم: (130توحيد) بالمدينة المنورة وتوجد لها مصورة ميكروفيلم بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلاميّة تحت رقم: (6188) . وتشتمل هذه النسخة الناقصة على منتصف الباب السادس من الكتاب إلى نهايته، وفي ظني أنها نسخة منقولة عن المجلد الثاني بمكتبة دمار إبراهيم باشا

التي تقدم وصفها، وقد رمزت لهذه النسخة بالرمز: (م) في المقابلة على النسخة الكاملة. اسم الناسخ وتاريخ النسخ: كتب فيها أن اسم الناسخ: فضل الله، دون ذكر بقية نسبه، وقد كتبت النسخة بخط نسخ جميل، وانتهى من نسخها في العاشر من شهر ذي الحجة سنة 1177هـ. عدد الأوراق والأسطر: عدد أوراق هذه النسخة (121) ، ورقة، وعدد الأسطر في الصفحة الواحدة (17) سطراً، ويتراوح عدد الكلمات في السطر الواحد ما بين 10-14 كلمة تقريباً. وصف الصفحة الأولى والأخيرة: كتب في منتصف الصفحة الأولى عبارة: "رد فرق النصارى"، وفي أعلاها عبارة: "من كُتُب الفقير مصطفى بهجت - رئيس الأطباء السلطاني". وأما الصفحة الأخيرة فقد كتب فيها عبارة: "تَمَّ الكتاب بعناية الملك الوهّاب من نسخة مؤلِّفه وهو الشيخ صالح بن الحسين عفا الله عنه برحمته ورضوانه، في عاشر ذي الحجة سنة 1177هـ". 3- حصلت على ميكروفيلم لثلاث مخطوطات، اثنتان منها مختصرتان من كتاب التخجيل للمؤلِّف نفسه، والأخرى لأبي الفضل المالكي السعودي، وقد رجعت إلى هذه المخطوطات لتأكيد قراءة نص في النسخة الأصلية أو إكمال بعض السقط فيها، وقد أشرت في الهامش إلى ذلك، ولم أضع رموزاً لهذه المخطوطات نظراً لقلة اعتمادي عليها ووضوح النسخة الأصلية، وهذه المخطوطات هي: أ- نسخة خطية لكتاب "البيان الواضح المشهود من فضائح النصارى

واليهود - للمؤلِّف نفسه) وتسمّى أيضاً بكتاب: (العشر المسائل) توجد في المتحف البريطاني بلندن ضمن مجموع يحمل رقم: (أ. د. د 16661) ، ولم يذكر الناسخ اسمه عليها ولا تاريخ النسخ، وقد كتبت بخط نسخ جميل، وعدد أوراقها (74) ورقة، في كل صفحة منها 18 سطراً، في كل سطر منها ما بين 6-9 كلمات تقريباً. ب- نسخة خطية لكتاب (الرّدّ على النصارى - للمؤلّف نفسه) في مكتبة مسجد أيا صوفيا تحت رقم: 2246م، وتقع في (115) ورقة، في كل صفحة منها ما بين 11-12 سطراً، وفي كل سطر ما بين 6-7 كلمات، وقد كتبت بخط نسخ جميل جداً، ولم يذكر الناسخ اسمه عليها ولا تاريخ النسخ. ج- نسخة خطية لكتاب (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل - لأبي الفضل المالكي السعودي) في مكتبة أحمد الثالث تحت رقم: (1765) بتركيا، وتوجد مصورة ميكروفيلم عنها بمكتبة مركز البحث العلمي، تحت رقم: (68/15 عقيدة) بجامعة أم القرى، وقد نسخها إسماعيل بن محمّد الزرقاني الحنفي المصري بخط نسخ جميل، وانتهى من نسخها عام 989هـ، وتقع في (134) ورقة، في كل صفحة منها 19 سطراً تقريباً. وقد طبعت هذه النسخة في مكتبة الحلبي بمصر بدون تحقيق. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ ناسخ المخطوطة الفريدة الكاملة الأولى - التي رمزتُ إليها بالرمز (ص) - كان ناسخاً عادياً، لم تكن له ثقافة واسعة ورفيعة، مما أدى به إلى الوقوع في الكثير من الأخطاء النحوية واللغوية والإملائية، وكان يرسم بعض الكلمات رسماً دون إدراك أو فهم لمعناها، إضافة إلى صعوبة قراءة خطِّه في بعض المواضع، مما أرهقني كثيراً في قراءة المخطوطة.

ثانياً: منهجي في التحقيق: يتلخص عملي في تحقيق الكتاب بالأمور الآتية: 1- ضبط النّصّ وتقويمه، وذلك بتصحيح ما اعتراه من تصحيف أو تحريف، وإكمال ما سقط منه، وإضافة ما يقتضي السياق إضافته، واعتمدت في ذلك على مقابلة النسخ الناقصة للنسخة الفريدة الكاملة، وعلى مخطوطات الكتب الأخرى للمؤلِّف، وهي الرّدّ على النصارى والبيان الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود، وعلى مختصر الكتاب المسمّى: (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) لأبي الفضل المالكي السعودي، وعلى كتاب الشفا للقاضي عياض، وعلى المصادر الأخرى التي نقل منها المؤلِّف في كتابه. 2- عزوت الآيات القرآنية الكريمة إلى سور القرآن الكريم مُبيِّناً اسم السورة ورقم الآية. 3- خرَّجتُ الأحاديث النبوية الشريفة من مظانِّها في كتب السنة المطهرة، فإن كان الحديث في الصحيحين اكتفيت بالعزو إليهما وقد أزيد عليهما، وإن كان في غيرهما عزوته إلى مظاّنه ما أمكن، وأجتهد في النقل عمن تكلم على إسناده من العلماء، وإن لم أجد اجتهدت في بيان رأيي في إسناده بالنظر في تراجم رجال الإسناد إلاّ في القليل منها. 4- عزوت الآثارإلى مظانِّها من الكتب الحديثية أوالتأريخية أو التراجم. 5- عزوت نصوص التوراة والأناجيل وبقية أسفار العهد القديم والجديد إلى مصادرها مُوَضِّحاً رقم الإصحاح والفقرة، مُشيراً إلى اختلاف النصوص في النسخة الحالية للكتاب المقدس عند اليهود والنصارى وبين النسخة التي كانت بين يدي المؤلِّف.

6- ترجمت للأعلام والأماكن الواردة في الكتاب، مشيراً إلى مصادر الترجمة باختصار. أما أعلام الصحابة - رضي الله عنهم - فلم أترجم للمشهورين منهم، ولكني قد أشير إلى عدد الأحاديث المروية لهم في كتب السنة معتمداً في ذلك على مقدمة مسند الإمام بقي بن مخلد - بتحقيق د. أكرم ضياء العمري، وأما مَنْ عَدَا المشهورين من الصحابة ومن اختلف في صحبته فإني أجتهد في ترجمته ترجمة مختصرة. 7- ترجمت الأديان والفرق الواردة في الكتاب، مشيراً إلى مصادر الترجمة بإيجاز. 8- رقمت الأدلة والشواهد التي أوردها المؤلِّف. 9- شرحت المفردات اللغوية التي بدت لي غريبة، والمصطلحات اليهودية والنصرانية شرحاً واضحاً. 10- نسبت الأبيات الشعرية إلى قائلها وعزوت ما أمكن منها إلى مظانّها من دواوين الشعر وكتب اللغة إلاّ في القليل منها. 11- علقت على بعض فقرات الكتاب لاستكمال جوانب البحث، مراعياً عدم الإكثار من التعليقات نظراً لضخامة حجم الكتاب. 12- صحَّحت الأخطاء النحوية والكتابية المخالفة لقواعد الكتابة والإملاء الحديثة. 13- بيَّنت في خاتمة البحث أهمّ النتائج التي توصلت إليها والصعوبات التي عانيتها في البحث والتوصيات التي ارتأيتها. 14- وضعت في نهاية البحث جملة من الفهارس التي تسهِّل على القارئ الوصول إلى ما يريده من الكتاب بأسرع السبل وأسهلها وهي:

أ- فهرس الآيات القرآنية. ب- فهرس الأحاديث الشريفعة. ج- فهرس الآثار. د- فهرس نصوص أسفار العهد القديم والجديد. هـ فهرس الأبيات الشعرية. وفهرس الأعلام. ز- فهرس الأماكن. ح- فهرس الأديان والفِرق. ط- فهرس المصادر والمراجع. ي- فهرس الموضوعات. ثالثاً: المصطلحات والرموز المستخدمة في التحقيق: ص: نسخة الأصل. ش: تعليقات على هامش نسخة الأصل. م: نسخة مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة المجلد الثاني. [] : ما بين المعقوفتين من إضافات المحقِّق وزياداته على النصّ. توجد رموز وأرقام وسط المتن تشير إلى ما يقابلها من نسخة المخطوطة فمثلاً:

_ 1/7/أ: أي: المجلد الأوّل من المخطوطة، الورقة السابعة، الوجه (أ) . 2/41/ب: أي: المجلد الثاني من المخطوطة، الورقة الرابعة عشرة، الوجه (ب) .

القاموس: القاموس المحيط (قاموس لغوي) . قاموس: قاموس الكتاب المقدس. فتح: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري للحافظ ابن حجر. ر: راجع أو انظر.

القسم الثاني: خطبة الكتاب

القسم الثاني: خطبة الكتاب ... خطبة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد الذي لا يتكثر بالأعداد، الماجد1 الذي لا تضارعه الأشكال والأنداد، المقدس عن الشريك والصاحبة والأولاد، المنَزَّه الذات والصفات عما يقول أهلُ الإلحاد، الصمد المتعالي عن الأكل والشرب كما اعتقد من حاد، القديم2 لا بِكُرور العصور ومرور الدهور والآباد، العظيم لا بِكبر أجسام وأجساد، القيوم الذي لو نام فشا في الكون الفساد، خالق الآباء والأبناء والأزواج والأحفاد، سامك السماء بالملائكة الكرام وماسك الأرض بالأطواد، مظلم الليل ومضيء النهار ومفجِّر الأنهار من الصلد الجماد، مقدِّر الأقوات

_ 1 بمعنى: المجيد، كالعالم بمعنى العليم، لكن الفعيل أكثر مبالغة، وهو الشريف ذاته، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه. (ر: المقصد الأسنى، لأبي حامد الغزالي، ص93، 103) . ولم يرد الاسم الشريف "الماجد" في القرآن الكريم ولكنه ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في سرد الأسماء الحسنى، وقد أخرجه الترمذي 5/496، وابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 2/330) ، وابن حبان (ر: الموارد ص 592) ، والحاكم 1/16، 17، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 15، وغيرهم، وقد اختلف في تصحيح الحديث، فإن مداره على الوليد بن مسلم. (للتوسع في تصحيح الحديث، ر: رسالة الترشيد في اعتبار الأسماء برواية الوليد - تصنيف رجائي بن محمّد المصري) . 2 "القديم" ليس من أسماء الله الحسنى فإنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة فإن أسماء الله عزوجل توقيفية. قال العلامة ابن أبي العزّ الحنفي: "وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى فهو مشهور عند أهل الكلام وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف. ولا ريب أنه كان مستعملاً في نفس التقدم، فإن ما تقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه: "الأوّل" وهو أحسن من القديم؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له بخلاف القديم، والله تعالى له الأٍسماء الحسنى لا الحسنة". (ر: شرح العقيدة الطحاوية ص 114، 115، بتصرُّفٍ بسيط) .

ومدبِّر الأوقات الانتقاص والازدياد، مالك السماوات والأرض وواهب الرفع / (1/3/أ) والخفض والبسط والقبض الملك الجواد، مرسل أنبيائه بلطائف أنبائه لإرشاد العباد، مهلك كسرى1 وقيصر2 وتبع3وحمير4 وعاد5 وشداد6، واهب موسى النصر والعون وخاذل فرعون ذي الأوتاد7، جاعل بنَ مريم

_ 1 كسرى: لقب ملوك الساسانيّين، وهو معرَّب (خسرو) أي: واسع الملك، جمعه: أكاسره وكساسرة، والقياس كسرون. (ر: القاموس المحيط ص604،الصحاح 2/807) . 2 قيصر: اسم أسرة قديمة من أشراف روما، ولما تبنى يوليوس قيصر (44 ق. م) ابن بنت أخته أوكتافيوس، اتّخذ الأخير اسم قيصر، وجرى خلفاؤه الأباطرة على اتّخاذ هذا الاسم، إلى أن قرر هادريان الاحتفاظ للأمبراطور وحده بلقب أغسطس معناه: "المبجل"،وتلقيب ولي العهد بـ:"قيصر". (ر: الموسوعة العربية الميسرة2/1411) . 3 ورد ذكرهم في القرآن الكريم بموضعين قال تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} . [الدخان 37] ، وفي [سورة ق 12-14] . وأما تبع فقد ورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري تبع أنبيّاً كان أم لا؟ ... "، أخرجه الحاكم 1/36، وصحّحه ووافقه الذهبي والألباني. (ر: صحيح الجامع الصغير 1/969) . وفي التاريخ أن تبع: ملك في الزمان الأوّل، والتتابعة: ملوك اليمن، قيل: لا يسمى تبعاً حتى يملك حضرموت وسبأ وحمير. (ر: النهاية لابن الأثير 1/18) ، وسمّوا بذلك لاتباع بعضهم بعضاً في الرئاسة والسياسة، والتبع: الظل لأنه يتبع الشمس، وضرب من اليعاسيب. (ر: المفردات للراغب ص 72، والقاموس ص 912) . 4 حمير بطن عظيم من القحطانية ينتسب إلى حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسم حمير العرنج، وبلادهم اليمن أما أديانهم فقد انتشرت فيهم اليهودية، وكانوا يعبدون الشمس. (ر: معجم قبائل العرب - عمر كحالة 1/305-306) . 5 قبيلة يقال لهم: عاد بن عوص بن سالم بن نوح، وكانوا عرباً يسكنون الأحقاف. (وهي جبال الرمل) وكانت باليمن بين عمان وحضرموت بأرض مطلة على البحر يقال لها: الشحر، واسم واديهم مغيث، وقد أرسل الله إليهم نبيّه هوداً عليه السلام، فكذّبوه فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية. (ر: قصص الأنبياء - لابن كثير 1/89) . 6 شداد: من قبائل اليمن تقيم في شرقي صنعاء اليمن، ومنهم بطن من الأنبج بن هلال ابن عامر صعصعة، من العدنانية وكانت بلادهم في بلاد بونه من المغرب. (المرجع السّابق 2/585) . 7 فرعون: كلمة من لفظتين: (بر - عو) ، أي: (البيت الأعظم) ، وكانت نعتاً للقصر الملكي منذ أيام الدولة القديمة، ثم أصبحت علماً على ملوك مصر منذ الألف الأولى. ق. م. (ر: الموسوعة العربية الميسرة 2/1290) ، وبعد دخول الإسلام إلى مصر فإن لقب (فرعون) يطلق على الكافر الذي ملك مصر، ولا يلقب به المسلم، وقيل: لفرعون ذي الأوتاد؛ لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت، وقيل: لأنه كان يوتد أيدي وأرجل أعدائه في أوتاد من حديد ويعلقهم بها، وقيل: بأن الأوتاد هم الجنود الذين يشدون أمره. (ر: تفسير ابن كثير 3/543) .

وأمَّه آية للعالم وما هما بأعجب من حواء وآدم، فتعسا لعباد الأنداد، ضلّوا بالمشي على الماء، وصعود السماء وإحياء الموتى وتكثير الأزواد، هذا موسى قد فلق وإدريس قد صعد وإلياس قد أحيا من أنتن وداد1، ولم يكونوا أرباباً بذلك، فكيف يغلط فيما هنالك لولا الشقاء والعناد؟!. أحمده على ما أسدى وأفاد، وأمدحه على ما أبدى وأعاد، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة تضمن للصدر الثَّلَج، وكلمة تعصم المهج بأوفى الدَّرَج2 وأقوى الحجج، وأشهد أنّ محمّداً عبده الذي نصّ عليه موسى، ونبيّه الذي طرق بين يديه عيسى، وصفيه الذي أخدمه جبريل، ونجيّه الذي رسمه في التوراة والإنجيل، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة/ (1/3/ب) تزيدهم تبجيلاً إلى تبجيل وتخلد جيلاً بعد جيل. قال من عفا الله له3 عن ذنبه وحباه بحبّه: "حضرت محفلا تحفَّل بالمعارف [أخلافه] 4 وتكفَّلبالعوارف5 [أُلاَّفُه] 6، فأذاعوا مزائد الفوائد وأعادوا ودائع العوائد وأفاضوا في العلوم الدينية، وأضافوا إلى ذلك ذكر الأمة النصرانية

_ 1 في ش: داد الطعام إذا وقع فيه السوس، أي: الدودة. 2 دَرّجَ وأَدْرَج: صعد في المراتب، ولزم المحجة من الدين أو الكلام. (ر: القاموس المحيط ص 240) . 3 في ش: عبارة عن المؤلِّف - رحمة الله عليه. 4 في ص (أخلاقه) ، والذي أثبته (أخلافه) بالفاء حيث يدل عليه الفعل (تحفل) ففيه تشبيه المحفل (المجلس) المملوء علماً ومعرفة بالضرع الممتلئ بالحليب، كما أن كلمة (أخلافه) موافقة لسياق الكلام وللجناس الذي يكثر منه المؤلِّف في كلامه. أخلاف - مفرده: (خلف) من ذوات الخف كالثدي للإنسان، وحلمة ضرع الناقة أو طرفه أو المؤخر من الأطباء أو هو للناقة كالضرع للشاة. (ر: القاموس المحيط ص 1042، المصباح المنير ص 180) . 5 العارفة: المعروف كالعُرف، ج: عوارف. (ر: القاموس المحيط ص 1081) . 6 في ص (الأفة) ، وفي ش: (الآفه) بالفاء أو بالقاف فَظ، والآفة بالفاء فَظ أيضاً أو بالقاف فمن ألف البرق إذا لمع أو من الألوقة وهي طعام يصلح من الزبد. اهـ. قلت: الصواب ما أثبته؛ لأنه الموافق لسياق الكلام، فإن الإلف، بالكسر: الأليف وجمعه: آلاف. ويجوز أن يكون: (أُلاَّفه) من الإلف الإلفه وجمعه أُلاَّف. (ر: القاموس ص 1024) . وتوضيح معنى عبارة كالآتي: وتكفل بالمعروف من يأْلِفون فعل المعروف أو يألفون المحفل ويعتادونه.

فتعجب مَنْ حضر كيف زلت بهم القدم، حتى اعتقدوا اتّحاد العَدَم بالقِدَم؟ ومن أين قادهم الخبيث إلى القول بالتثليث وروَّج عليهم المحال، فدانوا بعبادة الرجال؟ واستعبدوا أن يعتقد لبيب أن الإله يصلب على صليب، أو يستقرّ في الأحلام أن تشتمل على القديم الأرحام!!!. فقلت: إن من المستحيل أن يضلّ السالك مع وجود الدليل، وعيسى عليه السلام فهو خِرِّيت1 عارف بالطريق، وله من ربّه تعالى أوفى رفيق، وقد شهد له المصطفى - وهو المُزكَّى المعدَّل - بأنه بلغ عن الله، ولم يبدِّل، قال ربّنا جلّ اسمه حكاية عنه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُم وَكُنْتُ عَلَيْهُم شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِم ... } . [سورة المائدة، الآية: 117] . لكن ربما خلف من بعده خُلُوف2 كالخلوف3 واستعوص4/ (1/4/أ) عليهم كلامه فتناولوا بأيدي التحريف الحروف، وأتاهم العدوّ من قبل الألفاظ فغلظهم وجرأهم على الكفر بإجرائها على الظاهر فورطهم. ومعلوم أنّ كلّ تنْزِيل [لا يخلو] 5 عن جملة من الظواهر لعرض التأويل يضلّ بها الجاهلون وما يعقلها إلاّ العالمون.

_ 1 في ش: أي: دليل حاذق ماهر. 2 الخلَف - بالتحريك والسكون -: كلّ من يجيء بعد من مضى، إلاّ أنه بالتحريك في الخير، والتسكين في الشرّ، يقال: خلَف صِدق، وخَلف سوء. ومعناهما جميعاً القرن من الناس، وخَلف جمعه خلُوف. 3 الخِلفَة - بالكسر -: تغير ريح الفم، لأنها رائحة حدثت بعد الرائحة الأولى، يقال: خَلف فمه يخلف خِلفة وخلوفاً. ومنه الحديث: "لخلوف فم الصائم ... ". (ر: النهاية لابن الأثير 2/65-68) ، القاموس ص 1043، 1044) . 4 في ش: استصعب. 5 في ص: (لا يخلوا) والتصويب من المحقِّق.

وهذا كما هفا1 قوم في لفظ الاستواء2 والنُّزُول إلى سماء الدنيا3 ولفظ الوجه4 والعين5 واليد6 والقدم7 وغير ذلك فحملوا الأمر في هذه

_ 1 في ش: من الهفوة وهي الزلة لفظاً ومعنى. 2 قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، [سورة طهَ، الاية: 5] ، والآيات كثيرة في إثبات صفة استواء لله عزوجل على العرش وعلوّه على خلقه، ومعنى {اسْتَوَى} ، - كما فسرّه السلف رحمهم الله -: "ارتفع وعلا واستقرّ وصعد". 3 قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} . [سورة الفجر، الآية: 22] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينْزِل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل ... " الخ. أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 3/29، ومسلم 1/521، 523) ، والروايات كثيرة ومتواترة في إثبات صفة نزول الله عزوجل إلى السماء الدنيا كما شاء وكيف شاء. إن صفتي الاستواء والنُّزُول إلى السماء الدنيا من الصفات الخبرية الثبوتية الفعلية الاختيارية التي تتعلق بمشية الله عزوجل إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها. 4 قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَام} . [سورة الرحمن، الآية: 27] . والأدلة من القرآن الكريم والسنة المطهرة كثيرة في إثبات صفة الوجه لله عزوجل. 5 قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . [سورة طهَ، الآية:39] .وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . [سورة القمر، الآية:14] . وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة على أن الله تعالى موصوف بأن له عينين حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته عزوجل. 6 قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} . [سورة ص، الآية: 75] . وقال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} . [سورة المائدة، الآية:64] .وغيرها من الآيات والأحاديث الصحيحة التي تثبت صفة اليدين حقيقة لله عزوجل بما يليق بجلاله وعظمته تبارك وتعالى. 7 قال عليه السلام: "لا يزال يلقى فيها - يعني النار - وتقول: هي من مزيد؟ حتى تضع فيها ربّ العالمين قدمه فينْزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قطٍ قطٍ قطٍ بعزّتك وكرمك".أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري13/434،ومسلم4/2186-2188) . وجملة القول في ذلك: إنّ إطلاق صفات الله عزوجل توقيفية، وتنقسم إلى قسمين: 1- صفات بإثبات مفصل (الصفات الثبوتية) . 2- صفات بنفي مجمل (الصفات السلبية) . فالصفات السّلبية؛ هي: ما نفاها الله في كتابه الكريم، أو على لسانه نبيّه صلى الله عليه وسلم، وكلّها صفات نقص في حقّه عزّ وجلّ، كالموت، والنوم، والجهل، والعجز وغيرها، فيجب نفيها عن الله تعالى لما سبق مع إثبات ضدّها على وجه الأكمل. أما الصفات الثبوتية الخبرية فهي: ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات الكمال لا نقص فيها، وتنقسم إلى قسمين: أ- صفات ذاتية قائمة بذات الله العلية، وهي التي لم يزل ولا يزال متّصِفاً بها كالوجه والعينين واليدين والقدم وغير ذلك مما وردت به النصوص الصحيحة. ب- صفات فعلية تتعلق بمشيئته عزوجل إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها، كالاستواء والنُّزول والمجيء والقبض والبسط. وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمته إثبات ما أثبته الله ورسوله من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه عزوجل مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته. (ر: للتوسع: الرسالة التدمرية والجزء الثاني والثالث من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، لوامع الأنوار البهية 1/123، وما بعدها للسفاريني شرح العقيدة الطحاوية ص 127، وما بعدها، ومن المراجع الحديثة: كتاب الصفات الإلهية - د. محمّد أمان، وشرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الله الغنيمان، والقواعد المثلى في صفات الله أسمائه الحسنى، للشيخ محمّد بن عثيمين) .

التّسميات على ما يبتدر إلى أفهامالعوام1 فزلوا. وإذا كان النصارى إنما أتوا2 من قبل الألفاظ وعدم الحفَّاظ فيتعين على من له دُرْبة3 بهذا الشأن حل إشكالهم وفكّ الشبهات التي أعانت على ضلالهم، فزعم الجماعة أني عارف بكتبهم خبير بمخاريقهم وكذبهم دَريّ بمرادهم بالجوهر والأقنوم، دَرِب بالفَرق بين فِرَق النسطور واليعاقبة والروم، وقالوا: لو أَنرتَ لَمعا تكون على الحق علما فرب كلمة واحدة تهدي أمماً، فأجبتهم لوجوب حقّهم ورجوت الحيا4 عند رميض برقهم، واستخرت الله تعالى وشجعت جنانا جبانا وأطلقت من ضعيف / (1/4/ب) العناية ودأبت5 في تحصيل ما لم أقف عليه من كتب القوم ولم أجتز6 بما كان في يدي منها حتى استكملت

_ 1 قول المؤلِّف: "فحملوا الأمر في هذه التسميات على ما يبتدر إلى أفهام العوام فزلوا"، لا بدّ من تقييده بأنهم العوام الذين انحرفت فطرتهم وتلوثت أفهامهم بالتشبيه والتمثيل أو التعطيل أو التأويل. (أما عوام المسلمين فالأصل فيهم أنهم على عقيدة السلف، لأنها الفطرة التي يولد عليها الإنسان وينشأ عليها المسلم بلا تلقين ولا تعليم (من حيث الأصل) فكل من لم يلقنه المبتدعة بدعتهم ويدرسوه كتبهم فليس من حقّ أي فرقة أن تدعيه إلاّ أهل السنة الجماعة) . (ر: العلم الشامخ ص 271-273، للشيخ صالح المقبلي، منهج الأشاعرة في العقيدة - د. سفر الحوالي ص 23) . 2 في ص: (أوتوا) والصواب ما أثبته. 3 في ش: درية بالمنقوط التحتانية واحدة أو اثنتين، فأما بالباء فمن التدرب وأما بالياء فمن الدراية. 4 في ش: أي: المطر. اهـ. وفي مختار الصحاح ص 167: "الحيا" مقصور - أي: المطر والخصب. 5 في ش: أي: تعبت. 6 أي: لم أقطع، ولم أكتف. (كما في القاموس المحيط ص 449) .

التوراة1 الخمسة الأسفار

_ 1 التوراة: كلمة عبرية معناها الشريعة، وتسمّى الناموس أي: القانون. كما تسمى أيضاً: (البانتاتيك) وهي كلمة يونانية تعني: الأسفار الخمسة وهي: 1- سفر التكوين: يقع في (50) إصحاحاً، وسمي بذلك لاشتماله على قصة خلق العالم، ثم قصص آدم وذريته ونوح وإبراهيم وذريته ينتهي، هذا السفر باستقرار بني إسرائيل بمصر وموت يوسف عليه السلام. 2- سفر الخروج: ويقع في (40) ، إصحاحاً، وسمي بذلك نسبة إلى حادثة خروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض سيناء بقيادة موسى عليه السلام، وفيه ذكر الحوادث التي جرت لبني إسرائيل في أرض التيه، والوصايا العشر والكثير من الأحكام والتشريعات. 3- سفر اللاويّين: ويقع في (27) ، إصحاحاً، ويحتوى على شؤون العبادات وخاصة القرابين والطقوس الكهنوتية وكانت الكهانة موكولة إلى سبط لاوي بن يعقوب، فلذلك نسب السفر إليهم. 4- سفر العدد: ويقع في (36) إصحاحاً، وسمي بذلك لأنه حافل بالعد والإحصاء لأسباط بني إسرائيل ومما يمكن إحصاؤه من شؤونهم ويتخلل ذلك بعض الأحكام والتشريعات. 5- سفر التثنية: ويقع في (34) ، وسمي بذلك لإعادة ذكر الوصايا العشر وتكرار الشريعة والتعاليم مرة ثانية على بني إسرائيل عند خروجهم من أرض سياء، وهذا السفر الذي ينهي التوارة المنسوبة إلى موسى عليه السلام ورد في آخرها النص الآتي: "فمات هناك موسى، عبد الرّبّ في أرض مؤاب بأمر الرّبّ وتَمَّ دفنه في الوادي في أرض مؤاب تجاه بيت فاعور ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم وكان موسى بن مائة وعشرين سنة حين مات ... ". ر (: السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم 1/1، قاموس الكتاب المقدس ص 235، 239، 609، 801، 808) ، والنص السابق صريح في أن كاتبه ليس موسى عليه السلام، وهو ما صرح به الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوز (ت 1677م) ، في كتابه: رسالة في اللاهوت والسياسة ص:266-267، حيث ذكر ملاحظات ابن عزرا (ت: 1167) ، وهو عالم يهودي شَكَّ في نسبة الأسفار الخمسة إلى موسى-وأضاف إليها ملاحظاته الشخصية ثم ذكرسبينوزاالنتيجةالتي توصل إليهامن خلال أبحاثه فيقول: "ومن هذه الملاحظات كلها يبدو واضحاً وضوح النهار أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة بل كتبها شخص عاش بعد موسى بقرون عديدة". اهـ. وقد توصل إلى هذه النتيجة أيضاً المؤرخ ول ديورانت وذكرها في موسوعته قصة الحضارة 2/376. وتذكر دائرالمعارف الفرنسية (معجم لاروس) تحت عنوان توارة:"أن العلم العصري ولاسيما النقد الألماني قد أثبت بعد دراسات مستفيضة في الآثار القديمة والتاريخ وعلم اللغات أن التوراة لم يكتبها موسى وإنما كتبها أحبار لم يذكروااسمهم عليها ألفوهاعلى التعاقب ومعتمدين على روايات سماعية سمعوها قبل أسر بابل".اهـ. فهذه بعض اعترافات محقِّقيهم وعلمائهم في عدم صحة نسبة التوراة الحالية إلى موسى عليه السلام. علماً بأن هذه التوراة تعتبر جزءاً رئيساً من (الكتاب المقدس) عند اليهود - والذي يسمّيه النصارى بالعهد القديم - وينقسم بحسب محتوياته إلى أربعة أقسام هي: 1- التوراة. 2- الأسفار التاريخية وهي: (12) ، سفر تعرض لتاريخ بني إسرائيل منذ دخولهم فلسطين حتى فترة السبي البابلي وهذه الأسفار هي: سفر يوشع، القضاة، راعوث، صموئيل الأوّل والثاني، الملوك الأول والثاني، أخبار الأيام الأوّل والثاني وعزرا ونحميا وأستير. 3- أسفار الأناشيد الأسفار الشريعة: وعددها (5) ، أسفار هي: أيوب، المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الأناشيد. 4- أسفار الأنبياء وعددها (17) ، سفرا تنسب إلى أنبيائهم ومنهم أشعيا وأرميا وحزقيال وغيرهم.

ونبوة داود1، ونبوة

_ 1 داود عليه السلام: اسم عبري معناه (محبوب) وهو ابن يسي وثاني ملوك بني إسرائيل ومن أنبيائهم الكرام، إلاّ أن الأسفار المقدسة عند اليهود والنصارى تتهمه بارتكاب الكبائر وفعل الفواحش. وتنسب إليه (سفر المزامير) وهي مجموعة من الأشعار الملحنة وغرضها تمجيد الله وشكره وكانت ترنم على صوت المزمار وغيره من الآلات الموسيقية، وفي العبرانية يسمى (كتاب الحمد) وقد عرفت باسم (مزامير داود) بالنسبة لعدد المزامير التي نسبت إليه وبلغت 73 من 150 مزموراً. وتنقسم هذه المزامير إلى خمسة أقسام هي: 1- يتضمن القسم الأوّل (41) ، مزموراً، منها) (37) ، لداود، أما أربعة منها وهي: (1، 2، 10، 33) ، لمؤلفين غير معروفين لذلك يدعونها المزامير اليتيمة نظراً لعدم وجود أب لها. 2- القسم الثاني يتضمن (31) مزموراً (أي: من 42-72) ، (7) لبني قورح و (مزمور واحد) لآساف و (18) لداود و (4) لمؤلِّفين غير معروفين ومزمور لسليمان. 3- القسم الثالث: يتضمن (17) ، مزموراً (أي: من 73-89) ، منها: (11) لآساف و (3) لبني قورح وواد لداود وواحد لهيمان وبني قورح وواحد لايثان. 4- القسم الرابع يتضمن (17) مزمورا (أي: من 90-106) ، منها مزمور لموسى، و (2) لداود والبقية لمؤلِّفين غير معروفين. 5- القسم الخامس يتضمن (44) مزمور (أي: 107-150) ، منها: (15) لداود وواحد لسليمان والبقية لمؤلِّفين غير معروفين. وتقرأ هذه المزامير في الكنيسة والعبادات الفردية والجماعية. (ر: ترجمته في سفر صومئيل الأوّل وسفر الملوك الأوّل، السنن القويم الجزء (16) ، قاموس الكتاب المقدس ص 430، 361-366) . أقول: من العجب، ومن غير المعقول أن تضاف مزامير آساف وبني قورح وغيرهما إلى الأسفار المقدسة وهم ليسوا أنبياء حسب ما ورد في تراجم!!! والأدهى من ذلك أن عدداً كبيراً من المزامير يبلغ عددها (50) مزموراً تنسب لمؤلِّفين غير معروفين - باعتراف مفرسيهم ومحقِّقيهم بذلك - فبأي حقٍّ يضفي على تلك المزامير صفة القداسة والوحي، وهم لا يعرفون قائلها؟!! وهل ذلك إلاّ اتباع الهوى واتّخاذ أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله؟!!. وأما سيرة هذا النبيّ الكريم في المصادر الإسلامية فهي مبسوطة في كتب التفسير وتاريخ الطبري1/231-256،وقصص الأنبياء لابن كثير ص196-229، وغيرها وفيها وصفه بما هو أهل له من التكريم والتعظيم لنبيّ من أنبياء الله الكرام والعصمة في التبليغ ومن كبائر الذنوب وتنْزِيهه مما نسبه أهل الكتاب إليه من الإفك والبهتان.

أشعيا1، ونبوة ميخا2، ونبوة حبقوق3،

_ 1 أشعيا بن آموص، ومعنى اسمه (الرّبّ يخلص) ، ويعتبره النصارى نم أعظم أنبياء العهد القديم ويلقبونه بـ: (النبيّ الإنجيلي) لكثرة نبواته عن المسيح، ويغلب على ظنّ المؤرخين بأن أشعياء قد مات مقتولاً في اضطهاد الملك منسي الإسرائيي. وينسب إلى أشعياء سفر باسمه عدد إصحاحاته (66) إصحاحاً، ويعتبر ضمن أسفار الأنبياء المتأخرين الذي يشمل عدداً من أنبيائهم كـ: ميخا وحبقوق وصفنيا وزكريا وحزقيال وأرميا ودانيال وهنوشع وغيرهم وتحتوي هذه الأسفار بصفة عامة على وصايا الأنبياء ومناجاتهم لله عزوجل والتنديد بفساد سلوك بني إسرائيل وكثرة ذنوبهم والتهديد بزوال دولتهم ونصحهم بالتوبة والرجوع إلى الله. (ر: سفر أشعيا، السنن القويم 8/66، وما بعدها، قاموس الكتاب ص 81-85) . وعن سفر أشعيا يقول الكاتب المصري النصراني حبيب سعيد في كتابه المدخل إلى الكتاب المقدس ص 103: "اختلفت آراء الشراح والباحثين حول هذا السفر اختلافاً لا نظير له في أي سفر آخر، هذا ويجمع الدارسون في العهد القديم على أن أشعيا قد يكون كتب جزءاً من هذا السفر، بينما يرى بعض الدارسين أن كُتَّاب السفر ثلاثة أو أكثر. والإصحاحات من رقم: (40) إلى رقم: (66) تمثل مشكلة حادة أمام الباحث ذلك أن فيها براهين قوية وأدلة صريحة تؤكّد عدم صلة هذه الأصحاحات من السفر لأشعيا، ولا تتصل بالزمن الذي يدعيه المؤرخين عصراً لأشعيا وهو الفترة من: 765-700 ق. م. ذلك أن اسم أشعيا في بدية هذه الإصحاحات لم يذكر تماماً، ويبدو أن الإصحاحات من رقم: (1-39) كانت كتاباً منفصلاً وأدمجا بطريق الصدفة عند نسخ أسفار الأنبياء". اهـ. وبنحو ذلك أشار إليه سبينوزا في رسالته ص 311، وفي مقدمة السفر من الكتاب المقدس للكاثوليك - منشورات دار المشرق 1983م. فلا حاجة بنا إلى المزيد من التعليق بعد هذا الاعتراف الصريح منهم في شكّهم بنسبة هذا السفر إلى أشعياء. 2 ميخا معناه: (من مثل يهوه؟!) ويلقب بالمورشتي نسبة إلى قرية مورشه مسقط رأسه، وهو في العهد القديم سادس الأنبياء الصغار، وينسب إليه سفر باسمه (سفر ميخا) وعدد إصحاحات (7) إصحاحات. (ر: سفر ميخا، السنن القويم 12/90، وما بعدها، قاموس ص 936، 937) . 3 حبقوق معناه: (يعانق) ، وهو عند أهل الكتاب ثامن الأنبياء الصغار الذين ظهروا في مملكة يهوذا، وما يعرفونه من سيرة حبقوق إنما هو مجرد استنتاجات من السفر المنسوب إليه بأنه كان أحد المغنيين في الهيكل ومن سبط اللاويّين، وعدد إصحاحات السفر المسمَّى باسمه (سفر حبقوق) ثلاثة إصحاحات. (انظر: ترجمته في: سفر حبقوق، السنن القويم 12/116، قاموس ص 287، 288) . أقول: هذا سفر منسوب إلى شخص فيه جهالة ظاهرة فلا يعرف شيء عن مكان أو زمان ولادته أو عن سيرته إلاّ عن طريق التخمين والظن. (ر: مقدمة طبعة الكتاب المقدس بالإنجليزية سنة 1971م) .

ونبوة صفنيا1، ونبوة زكريا2، ونبوة أرميا3، ونبوة حزقيال4،

_ 1 صفنيا: اسم عبري معناهك (يهوه يستر) ، وهو في العهد القديم يعتبر تاسع الأنبياء الصغار، ويعود نسبه إلى الملك حزقيا، وقد كان صغفنيا معاصراً لحقبوق، وينسب إليه سفر باسمه: (سفر صفنيا) عدد إصحاحاته ثلاث إصحاحات. (ر: ترجمته في: سفر صفنيا، السنن القويم 12/136، قاموس الكتاب المقدس ص 544، 545) . 2 زكريا: معنه: (يهوه قد ذكر) وهو ابن برخيا - وهو ليس زكريا أبو يحيى عليهما السلام-وهو في العهد القديم يعتبر الحادي عشر بين الأنبياء الصغار، ويظهر أنه كان من نسل لاوي فكان مستحقاً لوظيفة كاهل أو نبي، وقد كان معاصراً لحجي- أحد أنبيائهم-الذي كان في عهد الملك داريوس في فترة ما بعد السبي البابلي، وينسب إليه سفر باسمه: (سفر زكريا) عدد إصحاحاته (14) إصحاحاً. (ر: سفر كزريا، السنن القويم 12/160، قاموس ص 428-429) . 3 أرميا: معناه: (الرّبّ يؤسس أو يثبت) ، وهو ابن حلقيا الكاهن. وهو في العهد القديم أحد الأنبياء الكبار مثل: (أشعيا وحزقيال ودانيال وقد ظهر في زمن الملك يوشيا إلى سقوط أورشليم، ولا يعرف شيء عن تاريخ ومكان موته. وينسب إليه (سفر أرميا) الذي كتبه صديقه باروخ بن نيريا وعدد إحاحاته (52) إصحاحاً، كما ينسب إليه أيضاً (مراثي أرميا) وعدد إصحاحاته (5) إصحاحاً. (سفر أرميا قاموس ص 52-56) . ويرى سبينورزا أن سفر أرميا مجموعة مأخوذة من كتب أخرى متعددة، ويكون خليطاً من نصوص بلا ترتيب ودون مراعاة للأزمنة وبعض الإصحاحات مستمدة من سفر باروخ، ويرى معظم النقاد - كإيسفيلت وهالر وأدولف - أن أرميا لم يكتب المراثي. (ر: رسالة في اللاهوت ص 311-313) . 4 حزقيال: معناه: (الله يقوي) ، وهو ابن بوزى من عشيرة كهنونية، ويعتبرونه أحد الأنبياء الكبار، وقد نشأ في فلسطين زمن النبيّ أرميا، ثم حمل مسبياً مع ملك يهوذا (يهو ياكين) إلى أرض بابل أثناء الغزو البابلي، ولا يعرف وقت ومكان موته، وينسب إليه (سفر حزقيال) عدد إصحاحاته (48) إصحاحا. (ر: سفر حزقيال، قاموس ص 301-304) . وقد يبدو من النظرة الأولى أن هذا السفر الطويل من وضع حزقيال وحده، على أن الرّأي السائد بين المهتمين بأخبار ودراسة العهد القديم أن بعض أجزاء من هذا السفر كتبت في وقت متأخر كثيراً عن زمن حزقيال، وأن حزقيال نفسه لم يضع السفر الذي بين أيدينا كلّه فضلاً عما في قضايا السفر من حوادث ومراحل تاريخية تنفي صلتها بحزقيال، والباحث في السفر يرى نفسه أمام أساليب مختلفة وصياغات عديدة مما يؤكّد أنه من المتعذر أن تكون كتابة هذا السفر في نفس عصر حزقيال بل بعد فترة طويلة. (ر: رسالة في اللاهوت - سبينوزا ص 313-314، المدخل إلى الكتاب المقدسة، حبيب سعيد، ص 116) .

ونبوة دانيال12، والأناجيل

_ 1 دانيال: معناه: (الله قضى) ، عاش في فترة السبي البابلي، ونال مكانة عالية عند نبوخد نصر بعد أن فسر له دانيال حلماً قد أزعجه، وتوفي دانيال في عهد الملك كورش ملك الفرس، وينسب إليه سفر باسمه عدد إصحاحاته (12) إصحاحاً يحتوي - إضافة إلى ما ذكر - على تاريخ بني إسرائيل في فترة السبي وعلى تنؤات مستقبلية. (ر: سفر دانيال، قاموس ص 357-360) . يقول سبينوزا في رسالته ص: 316: "كتب دانيال سفره ابتداء من الأصحاح الثامن، أما الإصحاحات السبعة الأولى فمجهولة المؤلِّف" اهـ. ويؤكّد ذلك ما ورد في مقدمة التعريف بهذا السفر في الكتاب المقدس للكاثوليك ونصّه: "ليس دانيال مؤلِّف السفر الذي يحمل اسمه، إن هو إلاّ شخصه الرئيسي ... إن مؤلِّفاً ملهماً لم يترك اسمه قد ضم إلى هذه الصورة الشهيرة الماضي عدة رؤى ذات إنشاء روائي". اهـ. 2 إن الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم يجب علينا الإيمان بهم تفصيلاً أي: بأشخاصهم وأسمائهم وهم: آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب وإدريس ويونس وهود وشعيب وصالح ولوط وإلياس واليسع وذو الكفل وزكريا ويحيى وعيسى ومحمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وكذلك يوشع بن نون الذي ثبت نبوته بالسنة النبوية الصحيحة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما بقية الأنبياء فإنه يجب الإيمان بهم جملة كما قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ... } . [سورة النساء، الآية: 164] . وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ... } . [سورة فاطر، الآية: 24] . أما ما ورد عن بني إسرائيل وفي كتبهم المقدسة لديهم من أخبار بتسمية بعض الأشخاص بالأنبياء كأشعياء، وأرميا وصفنيا وهوشع وغيرهم، مما لم يقم على نبوتهم دليل من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة فإننا لا نكذبه ولا نصدّقه؛ لأن خبرهم يحتمل الصدق والكذب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ... } الآية. [سورة البقرة، الآية: 136] . (أخرجه البخاري فتح الباري 8/170) . قال الحافظ ابن حجر: "أي: إذا كان ما يخبرونكم به محتملاً لئلا يكون في نفس الأمر صدقاً فتكذّبوه، أو كذباً فتصدّقوه فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاته، نبّه على الشافعي رحمه الله". اهـ. وأيضاً لوجود الاضطراب والانحراف في نظرة اليهود والنصارى نحو النبوة والأنبياء - وهو ناشئ من كتبهم المقدسة عندهم - فإن لفظ (النبي) في كتبهم الحرفة تطلق على النبيّ من الله. (ر: تكوين20/7، وغيرها كثير) . وعلى كهنة الهيكل وأحبارهم. أخبار الأيام الأول 25/1، أرميا 6/13، أشعيا 9/14) ، وعلى الساحر والمنجم. (حزقيال 13/19) ، وعلى الأنبياء الكاذبة. (أرميا 5/31) ، كما تطلق أيضاً على كهنة الآلهة الوثنية. (الملوك الأوّل 18/19، والثاني 3/13-10) . وعلى نسائهم أيضاً. (الخروج 15/20، القضاه 4/4، صموئيل 2/1) . ويؤكّد هذا الاضطراب تصريح أريك ويليام هيتون - أستاذ دراسات العهد القديم بجامعة أوكسفود - في كتابه: (أنبياء العهد القديم ص 35) ، إذ يقول: "إن أي محالة لتمييز الأنبياء الحقيقيّين بناء على التعريف النظري المجرد للنبوة، إنما هو عمل مقضي عليه بالفشل، ذلك أن تعريف النبوة كغيره من تعاريف بض الكلمات المذكورة في العهد القديم مثل عقيدة وكاهن - لن يقودنا على أحسن الفروض إلاّ إلى ربط النبوة بمظاهر خاريجة عرفها الناس في حياتهم العادية". اهـ. (نقلاً من النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية ص 15، لأحمد عبد الوهّاب) . كما أنهم يتهمون بعض أنبيائهم بالشرك وارتكاب الكبائر من الذنوب كالزنى والسرقة والقتل بغير حقٍّ ونحوه، وهذا مما نجزم بكذبه ولا تجوز روايته إلاّ لبيان بطلانه وكذبه. وينفون النبوة عن بعض أنبيائهم كسليمان عليه السلام فهو في نظرهم مجرد ملك وليس بنبيٍّ. لذلك فإن موقفنا نحو ما ورد في كتبهم المقدسة المحرفة هو أن ما وافق منه شرعنا فنصدقه أو نقبله، وأما ما خالفه وظهر بطلانه فنرده ونرفضه، وأما ما سكت عنه شرعنا فلا نصدِّقه ولا نكذِّبه.

الأربعة1، ورسائل

_ 1 إنّ الأناجيل تمثل جزءاً رئيساً من (الكتاب المقدس) عند النصارى، الذي ينقسم عندهم إلى قسمين رئيسين هما: أوّلاً: العهد القديم: الذي يحتوي على أسفار الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح عليه السلام ومنها التوراة. ثانياً: العهد الجديد: ويحتوي على الأسفار التي تبدأ بظهور المسيح عليه السلام، وتنقسم بحسب محتوياتها إلى ثلاثة أقسام هي: 1- قسم الأسفار التاريخية: وتشمل: الأناجيل الأربعة، وسفر أعمال الرسل. 2- الأسفار التعليمية: وتشمل: رسائل الحواريّين وتلاميذ المسيح. 3- رؤيا يوحنا اللاهوتي. أما الإنجيل لغة، فهي: كلمة مأخوذة من اللفظ اليوناني: (إيفا نجليون EVANGELION) ومعناه: (الخبر الطيب) أو البشارة. واصطلاحاً: يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام قد استعمل كلمة الإنجيل بمعنى (بشرى الخلاص من خطيئة آدم الأزلية) التي حملها إلى الشر، واستعملها تلاميذه من بعده بالمعنى نفسه، ثم استعملت هذه الكلمة على الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى وهي سيرة المسيح عليه السلام، وقد غلب استعمالها بهذا المعنى على إنجيل متى، إنجيل مرقس، إنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا. (ر: كتاب يسوع المسيح ص 14، للأب بولس إلياس، قاموس الكتاب ص 120، 121، قصة الحضارة 11/206، لديورانت) . وأما محتويات هذه الأناجيل فيمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات، وهي باختصار كالآتي: 1- القصص: ويشغل الحيز الأكبر منها، وتتحدث عن قصة المسيح عليه السلام، بدءاً بولادته ثم دعوته ثم موته على الصليب ودفنه ثم قيامه من القبر ثم صعوده إلى السماء - حسب زعمهم. 2- العقائد: وتتركز بشكل رئيسي حول ألوهية المسيح وبنوته لله وتقرير أسس العقيدة النصرانية المنحرفة، وأكثر الأناجيل صراحة في تقرير ذلك إنجيل يوحنا. 3- الشريعة: يفهم من الأناجيل أنها أقرت شريعة موسى عليه السلام إلاّ ما ورد عن المسيح

التلاميذ المعروف

_ بتعديله أو نسخه في أمور محددة وهي: الطلاق وقصاص الجروح ورجم الزانية. 4- الأخلاق: يفهم منها الغلو والإمعان في المثالية والتسامح والعفو ودفع السيئة بالحسنة. (ر: متى الإصحاح 5) ، ولا يمنع هذا من وجود بعض النصوص في الأناجيل التي تدعو إلى القتال، إلاّ أنّ جانب المثالية والتسامح هو الأغلب. 5- الزواج وتكوين الأسرة: لم تهتم الأناجيل كثيراً بمسألة الزواج، ولكن يفهم منها عموماً أن المتبتل الأعزب أقرب إلى الله من المتزوج الذي يعاشر النساء. وقد تَمَّ اعتماد هذه الأناجيل الأربعة عند النصارى بموجب قرار مجمع نيقية عام 325هـ، - وهو مما يدل على أن العقيدة النصرانية المنحرفة قد أقرت أوّلاً ثم بحث من بين الأناجيل المعروضة على المجمع ما يوافقها - مع أنّها لم تكن الأناجيل الوحيدة التي دونت في القرون الأولى للمسيحية وعرضت على مجمع نيقية، وعلى الرغم من أن الكنيسة قد أعلنت بعد المجمع أن ما عدا الأناجيل الأربعة والأسفار المعتمدة فإنّها هرطقات أو أسفار خفية غير قانونية اصطلح على تسميتها بـ: (أبو كريفا (APOCYRPHAL) ، فقد بقيت بعض الأناجيل المحرفة متداولة ومشتهرة بين النصارى حتى عهد قريب. ومنها: إنجيل المصريّين، إنجيل نيكوديم (نيقوديموس) ، إنجيل العبرانيّين، إنجيل توما، إنجيل برنابا، إنجيل الأبيونيّين وقد عدّها بعضهم فبلغت أكثر من خمسمائة إنجيلاً - علماً بأن الكتب الممنوعة الاطلاع في مكتبات الكنائس وخاصة في الفاتيكان أكثر من أن تحصى والتي لا يطلع عليها إلاّ الخاصة من كبار القساوسة وإن قيمة بعض تلك الأناجيل المحرمة من حيث السند والمتن ليست بأسوأ حال من الأناجيل المعتمدة إن لم تكن أفضل منها، ولكن النصارى اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. (ر: دائرة المعارف الأمريكية 13/70، 71، قاموس الكتاب ص 122، دائرة معارف القرن العشرين 1/655، 656 لفريد وجدي، المسيح في مصادر ص 36-38، أحمد عبد الوهّاب، ملحق الجزء الأوّل لشكيب أرسلان على تاريخ ابن خلدون ص 59-64، الإنجيل والصليب ص – ط، للأستاذ المهتدي عبد الأحد داود - الذي كان قسيساً فأسلم -) . وأما تعريف الإنجيل في الإسلام فهو كما قال الله عزوجل: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . [سورة المائدة، الآية: 46] . فهو إذن: وحيٌ وكتابٌ أنزل الله على عبده عيسى عليه السلام فيه هدىً ونورٌ وموعظة ومصدِّقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهو إنجيلٌ واحدٌ وليس أناجيل متعددة، وقد كان المسيح يدعو بني إسرائيل للإيمان بهذا الإنجيل كما ورد التصريح بذلك في إنجيل متى 26/13، ومرقس 14/9، وورد في رسالة بولس إلى رومية 15/19، نسبة الإنجيل إلى المسيح فقال: "قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح". إلاّ أنّ هذا الإنجيل قد فقد واندثر أو لعبت به أيدي التحريف والتبديل والنسيان والإهمال حتى انطمست آثاره ومعالمه باختلاط الحقّ بالباطل. أما هذه الأناجيل الأربعة فإنه ليس واحداً منها هو الإنجيل الصحيح، لأنها تنسب إلى غير المسيح ولِمَا فيها من الباطل الذي قد بينا بعضه ولأسباب أخرى سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى، ومع ذلك فإنه لا ينفي وجود بعض بقايا الوحي الإلهي في خطب المسيح، ومواعظه التي نقلها تلاميذه وتوافق ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة وفيها البشارة بالنّبي ّ محمّد صلى الله عليه وسلم.

بفراكسيس1، ورسائل فولس2 الرسول وصلوات النصارى وشريعة إيمانهم

_ 1 إن الأسفار المتبقية من العهد الجديد - عدا الأناجيل الأربعة، هي: رسائل يزعم النصارى بأن تلاميذ المسيح قد كتبوها إلى كنائس معينةٍ أو أشخاص أو النصارى عامة، ثم اعتبرتها الكنيسة أسفاراً قانونياً وأنها كتبت بإلهام من الروح القدس لمؤلِّفيها، وتفصيلها كما يأتي: أ- سفر أعمال الرسل - ويسمى سفر براكسيس (PRAXIS) وهي كلمة يونانية تعني الأعمال - وينسب هذا السفر إلى لوقا - صاحب الإنجيل الثالث - وعدد إصحاحاته (28) أصحاحاً، يحتوي على سير الحواريّين وتلاميذ المسيح وجهودهم في سبيل نشر تعاليم المسيح بعد رفعه عليه السلام. ب- رسائل الحواريّين والتلاميذ - وتعتبر من الرسائل التعليمية لأنها توضح تعاليم النصرانية ومبادئها - تشتمل على (21) رسالة موزعة كالآتي: (14) رسالة لبولس عدد إصحاحاتها (99) إصحاحاً، رسالة واحدة ليعقوب عدد إصحاحاتها (5) ، رسالتان لبطرس عدد إصحاحاتها (8) ، (3) رسائل ليوحنا عدد إصحاحاتها (7) ، رسالة واحدة ليهوذا مكونة من إصحاح واحد فقط. ج- رؤيا يوحنا - صاحب الإنجيل الرابع - وهو عبارة عن تنبؤات مستقبلية، عدد إصحاحاتها (22) إصحاحاً. وقد يتصور الإنسان أن هذه الرسائل أو الأسفار قد اعتمدت - أي: أصبحت قانونية مقدسة - دفعة واحدة وفي قائمة واحدة من قبل رجال اللاهوت ومجامعهم المسكونية لكن الواقع غير ذلك وتفصيله كالآتي: عندما انعقد مجمع نيقية المشهور سنة 325م، تم فيه اعتماد معظم أسفار العهد القديم والأناجيل الأربعة وأغلب رسائل العهد الجديد ما عدا رسالة يعقوب، والرسالة الثانية لبطرس، والرسالتان الثانية والثالثة ليوحنا، ورسالة يهوذا، ورسالة بولس إلى العبرانيّن، وسفر رؤيا يوحنا، وظلت مشكوكاً بها ومدرجة ضمن الكتب المفروضة. ثم انعقد مجمع لوديسيا سنة 364م، اعتمدت فيه الأسفار المذكورة آنفاً ما عدا سفر رؤيا يوحنا الذي ظل مدرجاً ضمن الكتب المشكوك فيها والمرفوضة. ثم انعقد مجمع قرطاج سنة 397م، وتم فيه اعتماد سفر رؤيا يوحنا، وكذلك بعض أسفار العهد القديم، ثم تأيدت قرارات تلك المجامع السابقة بمجامع ثلاثة أخرى هي: مجمع ترلو سنة 692م، مجمع فلورنس سنة 1439م، مجمع ترنت من سنة 1542م-1563م تم فيها اعتبار الأسفار المشكوك فيها مسلمة بين جمهور النصارى. (ر: تاريخ الكنسية ص 152، 153، يوسابيوس القيصري ترجمة القمص مرقس داود، كتاب الغفران بين الإسلام والمسيحية ص 33-35، للأستاذ إبراهيم خليل - الذي كان قسيساً وأستاذ اللاهوت بكلية اللاهوت بأسيوط ثم هداه الله إلى الإسلام - أظهار الحقّ ص 76-82، للشيخ رحمة الله الهندي - بتصرف) . فهذه حال كتب القوم، تصبغ بالقداسة والتعظيم حسب أهواء شياطينهم وأحبارهم، ولا مستند لهم في قبول الأسفار ورفضها إلاّ اتباع الهوى والشيطان. 2 هو: (بولس) - ومن عادة العرب أن يقلبوا الباء فاء حين الترجمة عن اللغة اليونانية ومعنى: (الصغير) ، وكان اسمه في اليهودية شاؤول ويلقبه النصارى بالرسول على الرغم من أنه لم يكن من تلاميذ المسيح، ولم تثبت له رؤية المسيح عليه السلام في حياته، وقد كان بولس في بداية أمره من أشدّ الناس اضطهاداً وتعذيباً لأتباع المسيح عليه السلام، ثم زعم بولس وهو طريقه إلى دمشق بأن المسيح قد ظهر له يقظة في عمود من نور وذلك بعد رفع المسيح بسع سنين - وأمره باتباعه وتبليغ رسالته إلى الأمم - وبذلك أصبح بولس من أكبر الدعاة فأخذ يطوف البلاد وينشأ الكنائس ويلقي الخطب ويكتب الرسائل حتّى قتل في اضطهاد دنيرون سنة 67 أو 68م، وتنسب إليه (14) رسالة من أسفار العهد الجديد تعتبر مصدراً رئيساً للعقائد والتشريعات النصرانية المحرفة. (ر: سفر أعمال الأصحاح (9) وما بعدها، قاموس ص 196-199، المسيحية نشأتها وتطورها - شارل جينبر ص 67-111، تاريخ المسيحية (فجر المسيحية) - حبيب سعيد ص 40-45) . وكما يقول حبيب سعيد: "بأن بولس صاحب الفضل الكبير في وضع أركان المسيحية الأولى". اهـ. فإننا نجد في رسائل بولس النصرانية المنحرفة وأوّل من غرس بذرة التثليث، فهو قد دعا إلى تأليه المسيح وبأنه ابن الله. (ر: رسالته إلى رومية2/23-27، 5/10-12) . وبأن المسيح سيحاسب الناس يوم القيامة. (ر: رسالته إلى أفسس 1/22، ورسالته إلى رومية 14/10) . ونسخ الختان. (ر: رسالته إلى كونثوس 7/18، 19) . وجعل المسيحية ديناً عالمياً. (ر: رسالته إلى رومية 1/5، 14-16، وإلى غلاطية 3/26-29) . وغير ذلك من الانحرافات التي أدت إلى افتراق برنابا الحواري عنه في رحلاته وكتابته لإنجيل برنابا. (انظر: مقدمة إنجيل برنابا 1-9) . وقد أدرك حقيقة بولس وتأثيره في أتباع المسيح الكثيرون من المحقِّقين والمفكِّرين مثل بيري في كتابه: (ديانات العالم ص 68-76) ، وويلز في كتابه: (المحيط في التاريخ 3/679) . حيث يقولون عن بولس: "إن كثيراً من الثقات العصريّين يعدونه المؤسس الحقيقي للمسيحية". (نقلاً من المسيحية - د. شلبي ص 79-86) . ويقول الأستاذ شارل جنيبر - أستاذ المسيحية بجامعة بارس - في كتابه السابق ص 84، 111: "بدون بولس كان من المحتمل أن لا توجد المسيحية وأن بولس كان منشئ المستقبل". اهـ.

الملقبة بالأمانة وسير الحواريّين، فقلبتها ظهراً لبطن دفعات، فإذا ظواهرها مأولة، وكلماتها على غير النحو الذي صار إليه أربابها منْزِلة. فأجدت في تأويل ما أجراه النصارى على الظاهر، وبينت بالدليل من التوراة والنبوات والإنجيل غلط الكافر، بعد أن قدرت صحّة كتبهم وإن كانت سقيمة وسلمت وجودها وإن كانت في حكم العديمة، وأظهرت من كتبهم فساد معتقدهم وكشفت ما أخفوه من بشارة الأنبياء عليهم السلام بمحمّد صلى الله عليه وسلم، وأكذبتهم فيما نسبوه إلى المسيح صلى الله عليه وسلم من نقائص ورذائل / (1/5/أ) يجل قدره عنها، وأوضحت أن ما جاء به من الخوارق والمعجزات قد سبقه بها من تقدمه من إخوانه الأنبياء، ونبهت على إنكاره قول من غلا فيه ونسبه إلى ما لا

يليق من الربوبية، وأكذبت اليهود في تخرصهم عليه وعلى والدته العذراء البتول بما حققت من معجزاته. وأديت تناقض الأناجيل الأربعة التي بأيدي النصارى وتكَاذُبَها وفضائح القسيسين ومخاريق الرهبان وما أحدثه النصارى بعد المسيح عليه السلام في صلواتهم ومتعبداتهم [وروجوا] 1 به من المدكات2 والمخاريق على ضعفائهم ليقووا به واهي أباطيلهم، وبينت بالأدلة الواضحة تناقض شريعة إيمانهم التي يزعمون أنه لا يتمّ لهم حرب ولا سلم ولا عيد ولا قربان إلاّ بها ومجانبتها لما كان عليه المسيح عليه السلام وتلاميذه، وأفسدت عليهم ما أجمعوا عليه من القول بالثالوث بما أبديته من التوحيد المحفوظ عن المسيح وأصحابه وأبديت عوار صلواتهم الثمانية3 وما اشتملت عليه من الكفر والضلال وعبادة غير الله تعالى، وأوضحت زللهم فيما صاروا إليه من قتل / (1/5/ب) المسيح وبينت من الإنجيل أن المفعول به ذلك غير المسيح تحقيقاً لقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] . فاشتمل الكتاب على فوائد منها: رسوخ الإيمان للمسلم بموافقة ما في أيديهم للكتاب العزيز كما نبه عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} . [سورة الشعراء، الآية: 196] . وقوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} 4. [سورة الأعلى، الآية: 19] . وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُم فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} . [سورة الأعراف، الآية: 157] . وكثرة الأدلة توجب

_ 1 في الأصل: (ورد جوابه) ولعله تحريف من الناسخ، فإن سياق الكلام يدل على ما أثبته. 2 المدك: اسم آله من الدك: أي: الهدم والدق، والمرادبه هنا: الهدم. (ر: القاموس ص1212) . 3 سيأتي تفصيل هذه الصلوات. 4 {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . [سورة الأعلى، الآية: 18-19] .

الطمأنينة وتثلج الصدور. ومنها: تعلم الحجّة عليهم من كتبهم وإلزامهم على مقتضى أصولهم وذلك أفحم لهم. ومنها: قصد إرشادهم ببيان احتمال الألفاظ التي اقتضت غلطهم، فعسى الله أن يقدر هداية بعضهم، ونحن مأمورون بدعائهم إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة1. ومنها: الوقوف على سرّ قول نبيّنا عليه السلام وقد رأى في يد بعض أصحابه صحيفة من كتبهم فغضب عليه السلام وقال له: "ألقها فوالله جئتكم بها بيضاء نقية"2.

_ 1 يشير إلى قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . [سورة النحل، الآية: 125] . 2 أخرجه الإمام أحمد 3/387، وابن أبي شيبه 5/521 ح 26421 كلاهما نمت طريق هشيم عن مجالد عن الشعبي عن جبار بن عبد الله - رضي الله تعالى عنهما - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبيّ صلى الله عليه وسلم فغضب فقال: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحقّ فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلاّ أن يتبعني". وذكره الهيثمي في المجمع 1/179، وعزاه إلى أبي يعلى والبزار وقال: "فيه مجالد بن سعيد ضعَّفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما". اهـ. ووافقه الحافظ في فتح الباري 13/334. وهناك أدلة أخرى تفيد ما أفاده الحديث في منع النظر في كتب أهل الكتاب نمها: ما رواه البخاري (ر: فتح الباري 5/291) ، عن ابن عباس قال: "يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يُشَبْ؟ وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيّروا بأيديهم الكتاب فقالوا: هذا من عند الله. ليشتروا به ثمناً قليلاً أفلا ينهاكم بما جاء من العلم عن مساءلتهم؟ ... ". وما أخرجه عبد الرزاق في مسنده عن عبد الله بن مسعود قال: "لا تسألوا أهل الكتاب فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم، فتكذبوا بحقّ أو تصدقوا بباطل". وأخرجه سفيان الثوري بلفظ قريب منه. وقال الحافظ: "وسنده حسن". (ر: فتح الباري 6/334) .

وأنت - رحمك الله - إذا شاهدت ما انطوت عليه كتب القوم من التكرار / (1/6/أ) والتطويل واشتمال اللفظ الكثير على المعنى القليل وضرب الأمثال بالكلمات الركيكة السوقية عرفت سرّ قوله عليه السلام: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية" إلى غير ذلك كما يوضحه الكشف. فإن قيل: كيف استجزت النظر إلى هذه الكتب وصحبتها محظورة والأمّة بالنظر فيها غير مأمورة، وقد نهى الصحابي عنها وبحر منقوله عجاج وبنية معقولة مركبة من أعدل مزاج؟ قلنا: المحظور هو النظر فيها على وجه التعظيم والتفخيم وإجراؤها على ظواهرها الموهمة لاسيما للعامي الغر والحدث الغمر، فأما من نظر فيها على المقصد الذي قصدته والنحو الذي أردته وأوردته فهو إن شاء الله من أمهات القربات. فأما نهيه عليه السلام الصحابي عن ذلك فلأن الأمر كان في ابتدائه والشرك بعد لم يمت بدائه1، فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أن غير ذلك أولى بالصحابة في ذلك الوقت، ولأن الصحابة - رضوان الله عليهم - هم أعيان الأمّة فلو أكبوا على تلك الكتب المبدلة والصحف المحرفة لا شكّ / (1/6/ب) أن يتابعهم الناس في ذلك وقد قال عليه السلام لأصحابه: "إنكم أئمة يقتدى بكم"2.

_ 1 قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6/498 في شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حجر ... " "أي: لا ضيق عليكم في الحديث عنهم؛ لأنه كان تقدم منه صلى الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم، والنظر في كتبهم ثم حصل التوسع في ذلك وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار". 2 أخرجه الإمام أحمد 1/346 قال: "ثنا يحيى عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس - موقوفاً -: دعا أخاه عبيد الله يوم عرفة إلى طعام قال: إني صائم، قال: إنكم أئمة يقتدى بكم قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بحلاب في هذا اليوم فشرب. قال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح". (ح 3239) . قلت: وله شاهد من حديث عمر بن الخطاب إلاّ أنّه موقوف أيضاً. أخرجه الإمام مالك في الموطّأ ص 236 عن نافع أنه سمع أسلم مولى عمر بن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله ثوباً مصبوغاً وهو مجرم، فقال عمر: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر، فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس، فلو أنّ رجلاً رأى هذا الثوب لقال: إنّ طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئاً من هذه الثياب المصبغة.

وقال أصحابي كالنجوم ... "1. فلهذا نهى الصحابي وندبه إلى الاشتغال بالكتاب العزيز بقوله: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية". قلت: وقد ذكر الفقهاء تردداً في جواز استصحاب هذه الكتب للوقوف عليها وتوجيه وجوه الرد إليها، وبالجملة فالأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى2، والحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها خطبها،3 ومطية تنهج سواء السبيل بمن ركبها، وربنا المسؤول أن يصحح منا المقاصد ويبعث رائد التوفيق فيقف لنا بالمراصد4.

_ 1 أخرجه ابن عبد البر في جامع العلم 2/191، وابن حزم في الأحكام 6/82، من حديث جابر رضي الله عنه وقال ابن عبد البر: "هذا الإسناد لا تقوم به الحجة؛ لأن فيه الحارث بن غصين مجهول". وأخرجه البيهقي في (لمدخل 1/162) من طرق عن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - ثم قال البيهقي: "هذا حديث متنه مشهور وأسانيده ضعيفة لم يثبت في هذا إسناد". اهـ. وذكره الألباني في (الأحاديث الضعيفة 1/78، 82، 439) . من طرق أخرى ثم حكم عليه بأنه موضوع. 2 يشير إلى حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ... ". الحديث. أخرجه البخاري (ر: فتح الباري 1/9) ، ومسلم 3/1515، 1516. 3 يشير المؤلِّف إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقّ بها". أخرجه الترمذي 5/49، وابن ماجه. (ر: ضعيف ابن ماجه للألباني ص 343) . قال الترمذي: "هذا حديث غريب". وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث من قبل حفظه، وقال الألباني: "ضعيف جداً". (ر: المشكاة 1/75) . 4 أدلة جواز النظر في كتب أهل الكتاب كثيرة، منها: - قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . [سورة آل عمران، الآية: 43] . قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} . [سورة يونس، الآية: 94] . ومنها: ما أخرجه البخاري (ر: فتح الباري 6/496) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بلّغوا عن ولو آية، وحدّثوا عن نبيّ إسرائيل ولا حرج ... ". وهذا يستلزم النظر في كتبهم. وما ثبت من رجوع بعض الصحابة - رضي الله عنهم - إلى بعض من أسلم من أهل الكتاب يسألونهم عن بعض ما جاء في كتبهم كأبي هريرة وابن عباس وابن مسعود وغيرهم. وما ورد أن عبد الله بن عمرو أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدّث منها. (ر: مجموع فتاوى لابن تيمية 13/366) . وللتوفيق بين ما ذكرنا سابقاً من أدلة ظاهرها النهي عن النظر في كتب أهل الكتاب وبين الأدلة التي ظاهرها الجواز نقول: إن الأمر للإباحة والجواز ليس على إطلاقه فإن جاء ما في كتبهم موافقاً لما في شرعنا صدّقناه وجازت روايته، وما جاء مخالفاً لما شرعنا كذّبناه، وحرمت روايته إلاّ لبيان بطلانه، وما سكت عنه شرعنا توقفنا فيه، فلا نحكم عليه بصدق أو بكذب. وأما الأمر بالنهي فقد سبق ذكر كلام الحافظ ابن حجر بأنه وقع قبل استقرار الأحكام والقواعد الإسلامية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في ذلك من الاعتبار. وقد نقل ابن بطال عن المهلب أنه قال: "هذا النهي إنما هو سؤالهم عما لا نص فيه؛ لأن شرعنا مكتف بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نص ففي النظر والاستدلال غني سؤالهم ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأخبار المصدّقة لشرعنا والأخبار عن الأمم السالفة". اهـ. والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان والعلم فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك، بخلاف الراسخ فيجوز له، ولاسيما عند الاحتجاج إلى الردّ على المخالف، ويدل على ذلك نقل الأئمة قديماً وحديثاً من التوراة والأناجيل وإلزامهم اليهود والنصارى بطلان كتبهم ودينهم المحرف والتصديق بمحمّد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتبهم، ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه - وهذا ما عناه المؤلِّف رحمه الله وفعله - كما أن النظر في كتب أهل الكتاب لبيان ما فيها من التحريف الذي به يهدم أساس دينهم المحرف ونسخه بالإسلام داخل ضمن ما أمرنا به من مجادلة أهل الكتاب بقول تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ... } . [سورة العنكبوت، الآية: 41] ، وقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} ، [سورة النحل، الآية: 125] . (للتوسع في هذا الموضوع يراجع: فتح الباري 6/498، 13/333-335، مصنف ابن أبي شيبة 5/313، 318، مقدمة أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، والإسرائيليات في التفسير والحديث. د. محمّد حسين الذهبي، الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير - د. رمزي نعناعة) .

وقد كنت وقفت لجماعة من العلماء على عدة كتب في الباب وأرجو ألاّ يكون هذا المختصر مقصراً عن شأوهم وقد سمَّيته: (تخجيل مَنْ حَرَّفَ الإنجيل) ورتّبته في عشرة أبواب. والله الموفِّق للصواب. الباب الأوّل: في كون المسيح عبداً من عبيد الله بقوله وفتواه لقول ربنا جلّ اسمه حكاية / (1/7/أ) عنه: {قَالَ إِنَّي عَبْدُ اللهِ ... } 1. {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} . [سورة الزخرف، الآية: 59] .

_ 1 قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 30] .

{لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ... } . [سورة النساء، الآية: 172] . ونظائرها. الباب الثّاني: في إثبات نبوة المسي عليه السلام وتحقيق رسالته نذكر فيه من أقوال المسيح وأفعاله ما يشهد له بالنبوة والرسالة ويخصم اليهود في افترائهم عليه وعلى والدته لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلِيكُم ... } . [سورة الصف، الآية: 6] . وقوله: {آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ... } . [سورة مريم، الآية: 30] . ونظائرها. الباب الثّالث: في تأويل ظواهر الإنجيل نبدأ بعون الله تأويل لفظ الأب والابن والإله والرب والسجود والغفران وغير ذلك ومساوة المسيح غيره من أنبياء الله تعالى وأصفيائه لقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه ... } . [سورة المؤمنون، الآية: 41] . {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَم} . [سورة المائدة، الآية: 17، والآية 72] . {وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} . [سورة النساء، الآية: 171] . ونظائرها. الباب الرّابع: في تعريف مواضع التحريف نحكي فيه تكاذيب الأناجيل الأربعة التي بأيدي النصارى يومنا هذا1 وتناقضها / (1/7/ب) بحيث يقطع من وقف على ذلك أنه ليس الإنجيل المنَزَّل من الله ليتحقق قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكَلْمَ عِن

_ 1 قول المؤلِّف (يومنا هذا) كان ذلك في القرن السابع الهجري، وأما في زماننا هذا فقد زاد التحريف على ما كان محرفاً، فمثلاً كلمة (فارقليط) كانت موجودة في النسخ القديمة في زمان المؤلف وقبله وبعده بيسير، ثم حرفها النصارى إلى كلمة: (المعزى أو الوكيل. (ر: اختلاف ف تراجم الكتاب المقدس - للمهندس أحمد عبد الوهّاب) .

مَوَاضِعِهِ} . [سورة النساء، الآية: 46، والمائدة، الآية: 13] . {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تَبْدُونَهَا وَتَخْفُونَ كَثِيراً} . [سورة الأنعام، الآية: 94] . {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى} . [سورة البقرة، الآية: 159] . {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} . [سورة آل عمران، الآية: 77] . ونظائرها. الباب الخامس: في بيان أنّ المسيح وإن قصد وطلب فما قتل وما صلب نذكر فيه حماية الله تعالى نبيّه المسيح عيسى بن مريم من أعدائه، واشتباه أمره على اليهود الذين أرادوا قتله ووقوع شبهه على رجل سواه شغلوا به عنه فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه ورفع الله نبيّه المسيح ليتحقق قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ... } . الآية، [سورة النساء، الآية: 157] . ونظائرها. الباب السّادس: في الأجوبة المسعدة عن الأسئلة الملحدة نسطر أسئلة عبثوا بالسؤال عنها ونشفعها بالجواب لينتفع بذلك من أحبّ مكالمتهم عملاً بقول ربنا جل اسمه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ... } . / (1/8/أ) . [سورة محمّد، الآية: 7] . {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} . [سورة الحجّ، الآية: 40] . {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَونَ ... } . [سورة آل عمران، الآية: 139] . ونظائرها.

الباب السّابع: إفساد دعوى الاتّحاد، نحكي فيه مقالات فرقهم في اتّحاد اللاهوت بالناسوت وتناقض الروم والنسطور واليعاقبة، ثم نعكر على الجميع بالإبطال ليتضح قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... } . [سورة المائدة، الآية: 72] . {لَقَدْ كَفَرَ الَّّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ... } . [سورة المائدة، الآية: 73] . ونظائرها. الباب الثّامن: في الإبانة عن تناقض الأمانة، نبيّن فيه فساد أمانتهم التي يلقبونها بشريعة إيمانهم ويسمّونها التسبيحة، وهي التي لا يتم لهم عيد ولا قربان بدونها، وكيف أكذب بعضها بعضاً وناقضه وعارضه، وأنه لا أصل لها في شرع المسيح البته، وإنما ألفها قوم من بعده بدهر طويل، قال ربنا تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِيْنِكُم غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَومٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} . [سورة المائدة، الآية: 77] . ونظائرها / (1/8/ب) . الباب التّاسع: في الوضع المعهود من فضائح النصارى واليهود، نذكر فيه حيل القسيسين ومخاريق الرهبان ومدكاته وما يقرؤونه في صلواتهم الثمانية من السخف والهذيان وما افتراه اليهود على أنبياء الله الأبرار وصفوته الأطهار مما ذلك مزبور مسطور في توراتهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ ... } . [سورة التوبة، الآية: 34] . وقال: {اتَّخَذُوا

أَحْبَارَهُم وَرُهبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً ... } . [سورة التوبة، الآية: 31] . ونظائرها. الباب العاشر: في البشائر الإلهية بالتسمية المحمّدية، نذكر في هذا الباب ما اشتملت عليه التوراة والإنجيل ونبوات الأنبياء من البشرى بسيِّدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنصيص على اسمه وأرضه التي يبعث منها وبلده ودينه وملته وأنه خاتم الأنبياء، وأنّ أمته خير أمةٍ وملته أفضل ملة وأن / (1/9/أ) شريعته تدوم إلى قيام القيامة ليتحقق قول ربنا تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُم فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُم عَنِ المُنْكَرِ وَيَحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ... } . [سورة الأعراف، الآية: 157] . ونظائرها. فصل: أعلم أنّ الكتاب الذي بأيدي النصارى اليوم ليس هو إنجيلاً واحداً1 بل أربعة أناجيل: إنجيل مَتَّى - وهو من الاثني عشر حوارياً2، كتبه بالعبراني

_ 1 في ص (إنجيل واحد) والصواب ما أثبته. 2 في ص (حواري) والصواب ما أثبته. والحواريّون: هم أنصار عيسى عليه السلام، والحواري: الناصر، على الصحيح من الأقوال. (ر: تفسير ابن كثير 1/373، المفردات للراغب ص 635، ويسمّيهم النصارى رسلاً، أي: رسل المسيح عليه السلام ويشترط عندهم في الرسول شرطان: أوّلاً: أن يكون قد اتّصل بالمسيح وعاشره وتلقى تعاليمه منه مباشرة. ثانياً: أن يكون المسيح قد دعاه إلى هذه الخدمة. (ر: قاموس ص 403) . غير أن روايات الأناجيل في أسماء الحواريّين متعارضة. (كتاب المسيح في مصادر العقائد المسيحية ص 84، للمهندس أحمد عبد الوهّاب) .

بفلسطين، وكتبه بعد صعود المسيح إلى السماء بثمان سنين1. وإنجيل مرقس - هو من السبعين كتبه بالرومية، بالروم بعد صعود المسيح إلى السماء باثنتي

_ 1 إنّ كلام المؤلّف يوحي بصحّة نسبة الأناجيل الأربعة إلى أصحابها، والمؤلِّف إنما ينقل ذلك من المصادر النصرانية ومن أبرزها (نظم الجوهر) - لسعيد ابن البطريق - بطريك الإسكندرية - غير أن الدراسات النقدية - قديماً وحديثاً - قد أثبتت بما لا يدع مجالاً للشّكّ عدم صحّة نسبة هذه الأناجيل إلى أصحابها المزعومين، وسوف أذكر بعض الأدلة على ذلك باختصار - إن شاء الله تعالى -. فأما إنجيل متى: فهو عند معظم النصارى منسوب إلى متى الحواري الذي كان عاشراً أي: جابياً للضرائب للؤومان ومات بالحشبة سنة 70م. (ر: الكنْز الجليل في تفسير الإنجيل 1/1ـ د. وليم أدى، قاموس ص 832-833) لكن يقول المؤرخ ول ديورانت في قصة الحضارة 1/208: "إنّ النقاد يميلون إلى القول بأنه من تأليف أحد أتباع متى وليس من أقوال العشار (متى) نفسه". اهـ. ويقول فيلبس - القسيس بالكنيسة الإنجيليكانية بإنجلترا - في تقديمه لإنجيل متى: تنسب التقاليد القديمة جداً هذا الإنجيل إلى الحواري متى، ولكن علماء العصر الحاضر غالباً ما يرفضون هذا الرأي". ويقول. موريس بوكاي: "إنه لم يعد مقبولاً اليوم القول بأن (متى) أحد حواريّ المسيح، ولم يعد أحد يعتقده في عصرنا". اهـ. هذه بعض أقوالهم في هذا الإنجيل الذي يواجه انتقادات ومشاكل كثيرة من أبرزها: أ- الاختلاف في تاريخ تدوين هذا الإنجيل ما بين سنة 37م إلى سنة 64م. ب- الاختلاف في لغة التوين، فقيل: بالعربية، وقيل: الآرامية، وقيل: اليونانية. ج- الجهالة التامة لمترجم النسخة الأصلية المفقودة للإنجيل - سواء كانت بالعبرية أو الآرامية - إلى اللغة اليونانية. د- جهالة مكان تأليفه. هـ إيراده لروايات خالف بها بقية الأناجيل الأخرى يصعب تصديقها أو إيجاد تعليل لها، خصوصاً عن قيامة المسيح من قبره، وأيضاً خطأ الاستشهاد بنبؤات العهد القديم. (ر: للتوسع: إظهار الحقّ ص 250-253، لرحمة الله الهندي الذي نقل أقوالاً كثيرة لعلماء النصارى في إنكار نسبة هذا الإنجيل إلى متى الحواري، المسيح في مصادر ص 57-61، لأحمد عبد الوهّاب، رسالة الغفران بين الإسلام والمسيحية ص 16، المهتدي إبراهيم خليل أحمد، هل الكتاب المقدس كلام الله؟ ص 155-156، لأحمد ديدات، دراسة الكتب المقدسة ص 80، 81، موريس بوكاي) .

عشرة سنة1. وإنجيل لوقا - وهو من السبعين، كتبه باليونانية بالإسكندرية2. وإنجيل يوحنا - وهو من الاثني

_ 1 إنجيل مرقس: ينسب إلى مرقس الذي لم يكن حوارياً ولا من تلاميذ المسيح - وإنما كان تلميذ بطرس ومرافقه، وظن بعضهم أنه استشهد بالإسكندرية. (ر: الكَنْز الجليل 2/5-7) . ويقول د. بوكاي عن إنجيل مرقس: "إنه ليس كتاب أحد الحواريّين، هو على أكثر تقرير كتاب حرره تلميذ أحد الحواريّين". اهـ. وعن حقيقة شخصية مرقس يقول نينهام - أستاذ اللاهوت بجامعة لندن - في تفسير إنجيل مرقس ص 39: "لم يوجد أحد بهذا الاسم عرف أنه كان على صلة وثيقة وعلاقة خاصة بيسوع، أو كانت له شهرة خاصة في اكنيسة الأولى ... ومن غير المؤكّد صحّة القول المأثور الذي يحدد مرقس كاتب الأنجيل بأنه يوحنا مرقس المذكور في أعمال الرسل 12/12، 25، أو أنه مرقس المذكور في رسالة بطرس الأولى 5/13 - ثم يقول: لقد كان من عادة الكنيسة أن تفترض أن جميع الأحداث التي ترتبط باسم فرد ورد ذكره في العهد الجديد، إنما ترجع جميعها إلى شخص واحد له هذا الاسم، ولكن عندما نتذكر أن اسم مرقس كان أكثر الأسماء اللاتينية شيوعاً في الإمبراطورية الرومانية ... فعندئذٍ نتحق من مقدار الشّكّ في تحديد الشخصية في هذه الحالة". اهـ. كما أن صاحب الأنجيل مجهول الهوية فإنه لا واسطة لتحقيق زمن كتابة الإنجيل، ولا دليل على مكان كتابته فقيل: رومية، وقيل: أنطاكية، وقيل: الإسكندرية. (ر: الكنْز الجليل 1/6) . يضاف إلى ما سبق اعتقاد الكثير من المحقّقين أن خاتمة هذا الإنجيل 16/9-20، مؤلّف مضاف إليه، لأنها ليست موجودة في أقدم مخطوطتين كاملتين للأناجيل ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي، وقال وارد الكاثوليكي في كتابه: "صرح جيروم في كتبه أن بعض العلماء كانوا يشكّون في الإصحاح الأخير من إنجيل مرقس". (ر: دراسة الكتب المقدسة ص 84-87، المسيح في مصادر ص 53، إظهار الحقّ ص 100، محاضرات في النصرانية ص 46، 47، محمّد أبو زهرة". 2 إنجيل لوقا: اختلف الباحثون في شخصية لوقا، وفي صناعته، وفي القوم الذين كتب لهم إنجيله، ولا يعرف شيء عن زمن وكيفية موته، وإن كان الباحثون قد اتّفقوا على أن لوقا ليس من تلاميذ المسيح ولم يكن أحد السبعين الذين أرسلهم المسيح للتبشير، وإنما كان الصديق المخلص والمرافق لبولس. (ر: الكنْز الجليل 2/131، 132، قاموس ص 822) . يضاف إلى ما سبق من الجهالة في شخصية لوقا، الخلاف في تاريخ تدوينه ما بين سنة 53م إلى سنة 64م، كما أن مقدمة إنجيله 1/1-5 تثير عدة ملاحظات من أهمّها: أن هذا الإنجيل لم يكن إلهامياً، وإنما هو عبارة عن رسالة شخصية من لوقا إلى شخصية اسمها ثاوفيلس، وبأن كثيرين قد أخذا في تأليف أناجيل، اعتراف لوقا بأنه لم ير المسيح ولم يكن من تلاميذه. ويؤكّد بعض الباحثين تطرق الشّكّ إلى بعض إصحاحات وفقرات هذا الإنجيل، فقد صرح جيروم في كتبه أن بعض العلماء المتقدمين وبعض القدماء كانوا يشكّون في بعض الآيات من الإصحاح (22) من إنجيل لوقا، وبعض القدماء كانوا يشكّون في الإصحاحين الأولين من هذا الإنجيل، إذ إنهما لم يكونا في نسخة فرقة مارسيوني. وأخيراً ما نقل عن اتّفاق المؤرخين المسيحين بان لوقا كبت إنجيل بإرشاد بولس، ولا يخفى على أحد الدور الخطير الذي لعبه بولس في انحراف النصرانية وتحويلها إلى ديانة وثنية شركية!!!. (ر: دراسة الكتب المقدسة ص 87، 88، محاضرات في النصرانية ص 48، 49، الأسفار المقدسة، د. عليّ وافي ص 85-88، إظهار الحقّ ص 100، المسيح في مصادر ص 63) .

عشر [حوراياً] 1 كتبه باليونانية، بمدينة2 أفسس بعد صعود المسيح بثلاثين سنة3.

_ 1 في ص (حواري) والصواب ما أثبته. 2 مدينة قديمة على بحر إيجه بتركيا عقد فيها مجمع كنسي سنة 431م، وأعلن فيها أن العذراء (أم الله) - تعالى الله عن كفرهم علوّاً كبراً - وأن في المسيح أقنوماً واحداً. (ر: المنجد في الأعلام ص 54) . 3 تزعم المصادر النصرانية بأن كاتب إجيل يوحنا هو الحواري يوحنا بن زبدي، وبأنه مات بمدينة أفسس، وتنسب إليه كذلك ثلاث رسائل وسر رؤيا يوحنا من العهد الدديد. (ر: الكنْز الجليل 3/5، 6، قاموس ص 1108-1114) . إلاّ أن عدداً كبيراً من الباحثين وعلماء النصارى يقطعون بعدم صحة النسبة لهذا الإنجيل ووجهوا إليه انتقادات عنيفة فيقول الأستاذ إبراهيم خليل عن إنجيل يوحنا: "كتبه كاتب مجهول، ولايوجد عالم من العلماء المتحررين من يعتبرهذا الإنجيل من أعمال يوحنا بن زيدي. وجاء في دائرة المعارف الكبرى الفرنسية 16/871، 872،: "أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور، أراد صاحبه مضادة اثنين من الحواريين بعضهما لبعض وهما: القديسان يوحنا ومتى ... وإننا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا ولو بأوهى رابطة، ذل الرجل الفلسفي - الذي ألف هذا الكتاب في الجيل الثاني - بالحواري يوحنا الصياد الجليل، وإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى". اهـ. ويرى إستادلين في العصور المتأخرة: "إن كاتب إنجيل يوحنا طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية بلا ريب". وهناك الكثير من هذه الاعترافات التي تنفي نسبة هذا الإنجيل إلى الحواري يوحنا، كما أن حال هذا الإنجيل لا يختلف عن الأناجيل الأخرى من حيث الجهالة في مكان كتابة، والخلاف في تاريخ تدوينه ما بين سنة 68م إلى سنة 98م. يضاف إلى ما سبق شيء خطير هو كثرة الاختلافات المهمة بين إنجيل يوحنا والأناجيل الأخرى كالاختلافات في الفترة الزمنية لبعثة المسيح وظهور لتلاميذه بعد قيامه من الموت وغيرها، وهي اختلافات صريحة لا تجد لها حلاً ولا تأويلاً إلاّ بتصديق أحد الأناجيل وتكذيب الآخر. وهو ما دفع د. موريس بوكاي أن يتساءل: "إذن فمن يجب أن نصدّق؟! أنصدق متى أو مرقص أو لوقا أو يوحنا؟!!! ". والجواب معروف لكلّ ذي لب وهداية هو رفض هذه الإناجيل المتناقضة لعدم التمكن من التمييز بينها ولأن الوحي الإلهي لا يكون فيه تناقض. (ر: دراسة الكتاب ص 93، إظهار الحقّ ص 83-100، المسيح في مصادر ص 70، الأسفار المقدسة ص 88، 89، محاضرات في النصرانية ص 50، ما هي النصرانية - محمّد تقي العثماني ص 142-145، وانظر أيضاً فيما سبق الملحق الأوّل لتحقيق كتاب: (النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية - للمهتدي نصر المتطبب) ، رسالة مقدمة من المحقِّق لنيل درجة العالية) .

وعدة هذه الأناجيل تسعة آلاف واثنان وستون آية1. وعدة فرخس2 أربعة ألف ومائة وتسع وأربعين آية. وعدة كتاب فولوس3 ستة آلف وأربع مائة وإحدى وسبعون آية / (1/9/ب) وقد ذكر أن لهم إنجيلاً خامساً ولم أقف عليه، وذكر لي بعض النصارى أنه يسمى إنجيل الصبورة ذكر فيه الأشياء التي صدرت من المسيح عليه السلام في حال طفوليته4.

_ 1 كان الأولى بالمؤلِّف - رحمه الله - أن يعبِّر عن فقرات الأناجيل بـ: (فقرة) - وهو ما اصطلح عليه النصارى - وليس بـ: (آية) فإن لفظ آية، أصبحت اصطلاحاً إسلامياً تطلق على آيات القرآن الكريم. وقد قيل بأن نصوص القرآن سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها. (ر: تفسير ابن كثير 1/9) . وقد عددت فقرات الأناجيل الأربعة في النسخة التي بيدي فوجدتها (3778) ، فقرة، وإن تقسيم الكتاب المقدس إلى إصحاحات (فصول) -الذي يبدو شائعاً اليوم-قد ظهرلأوّل مرة سنة1200م، هو يرجع إلى أسقف كانتربري (CANTERBURY) ستيفن لانجتون رئيس أساقفة كنْتربري ت سنة: 1228م. أما تقسيم الإصحاحات إلى أعداد (فقرات) مرقمة فهو يرجع إلى الناشر الباريسي روبرت ستيفنون وظهر لأوّل مرة في طبعة 1551م بخنيف. (ر: قاموس الكتاب ص 765، الغفران بين الإسلام والمسيحية ص 36، لإبراهيم خليل) . 2 هكذا في ص، ولعل صوابه: (فراكسيس) وهو سفر أعمال الرسل المنسوب إلى لوقا، وقد عددت نصوصه فبلغت (1007) ، فقرة. 3 كتاب بولس يحتوى على (14) رسالة في أسفار العهد الجديد وهي كالآتي: رسالته إلى أهل رومية، ورسالتان إلى أهل كورنثوس، رسالة إلى أهل غلاطية، وإلى أهل أفسس، وإلى أهل فليبي، وإلى أهل كولوسي، ورسالتان إلى أهل تسالونيكي، ورسالتان إلى تيموثاوس، ورسالة إلى تيطس، وإلى فليمون، والعبرانيين. وقد عددت نصوص تلك الرسائل فبلغت (2363) ، فقرة. 4 ش: قال المؤلّف: وقع لي بعد ذلك وقرأته دفعات وهو يحكي عن بطرس عن مريم عليه السلام وفيه زيادة ونقصان وقد أغفل نقلته أشياء كثيرة من كلام المسيح ومشاهير معجزاته يذكر فيه قدوم المسيح وأمه ويوسف النجار إلى صعيد مصر ثم عوده إلى الناصرة". اهـ. قلت: إنجيل الصبوة يسمى أيضاً: (إنجيل بطرس) ، وقد وجدت قطعة منه سنة 1887م في قبر راهب ببلدة أخميم في مصر. وقد كان يوستينوس يقول بصحّة هذا الإنجيل ما بين سنة 160، و170م، والفرق بينه وبين إنجيل متى يسير، وقد كان معتمداً معمولاًبه إلى سنة190م. (ر: كتاب الديانات والعقائد3/473،لأحمد عطار) .

الباب الأول: في كون المسيح عبدا من عبيد الله بقوله وفتواه

الباب الأوّل: في كون المسيح عبداً من عبيد الله بقوله وفتواه ولندل على ذلك من كتبهم كما شرطنا في صدر الكتاب: 1- قال متى الحواري في الفصل الثامن من إنجيله: "قال الله في نبوة أشعيا - يعني المسيح - هذا1 فتاي الذي اصطفيت وحبيبي الذي ارتاحت له نفسي أنا واضع روحي عليه ويدعو إلى الحقّ"2. قلت: سمّاه الله عبداً مصطفى على لسان أشعيا وابتعثه مأموراً بدعوة الأمم أسوة غيره من الأنبياء، أورد ذلك متى في معرض الاسشتهاد على أهل العناد3 حيث نسبه الفُجَّار إلى يوسف النجار4، فقد تضافر الإنجيل ومحكم التنْزيل على عبودية عيسى وجعله داعياً للأمم كداود وموسى.

_ 1 في ش: قال المؤلّف: "نقل ابن ربن والطرطوشي وابن عوف قوله هذا عبدي فكشفت عنه الأناجيل فلم أجده بهذه الترجمة، بل الذي وجدته في النسخ التي وقفت عليها كما وضعت، غير أن الفتى هاهنا هو العبد أو الصاحب كما دللت عليه من التوراة والإنجيل". والله أعلم. 2 متى 2/17، 18. 3 أراد المؤلِّف بأهل العناد اليهود الذين رموا مريم الزنى مع يوسف النجار. 4 يوسف النجار: تزعم المصادر النصرانية، أنه كان خطيب مريم العذراء على عادة اليهود في اتّخاذ العشير - حيث يخطب الشاب الفتاة من أهلها ثم يتعاشران بدون اتصال زوجي مدة من الزمن فإذا رضي كل واحد منهم الآخر تم الزواج - وقد أراد يوسف هجر مريم سراً حينما ظهرت عليها آثار الحمل إلاّ أن الملاك ظهر له في المنام وأخبره بالحقيقة، حينئذ قام يوسف برعايتها وابنها ولا يعرف عن يوسف بعد قيام المسيح الدعوة الجهرية، وأغلب الظن أنه مات قبل ذلك. ر: إنجيلي متى، لوقا، الإصحاح 1، 2، والكنْز الجليل في تفسير الإنجيل 1/7، وقاموس ص: 1118، وتاريخ المسيحية - حبيب سعيد ص 32، 33. وقد انساق بضع المؤلّفين المعاصرين إلى رواية هذه الخطبة المزعومة بين مريم ويوسف النجار ونسبة المسيح عليه السلام إلى يوسف النجار من غير التعليق أو الرّدّ عليها، بل ذكر بعضهم أن ما جاء في الأناجيل بشأن هذه القصة لا يخالف ما في القرآن وبأنه أمر مسكوت عنه فلا نصدقها ولا نكذّبها ويصح إيرادها. ر: قصص الأنبياء ص 382، 383، عبد الوهّاب النجار. فنقول: بأن القرآن الكريم والسنة الصحيحة لم يذكر فيهما شيء عن هذه الخطبة المزعومة ولم يثبت دليل لهذه العادة المذكورة، كما أن خطبة مريم ليوسف النجار لو كانت معروفة ومشتهرة لما استهجن قومها فعلتها، قال تعالى: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 27، 28.] . وذلك مما يدل على كذب النصارى فيما يزعمونه من علاقة يوسف بمريم، وأنه من الإسرائيليات التي لا نقبلها بل نكذّبها. ر: نظرات في كتاب النبوة والأنبياء للصابوني ص 7-10، محمّد أبو ريحم، التحذير من مختصرات الصابوني ص 18، 19، للشيخ بكر أبو زيد.

والفتى هو العبد والخادم لا الولد، والدليل عليه من التوراة في السفر الأوّل منها قول موسى: "ولما بلغ إبراهيم / (1/10/أ) أن الملوك أغاروا على سدّوم وسبوا لوطا بن أخي إبراهيم عَبَّأَ فتيانه وعددتهم ثلثمائة وثمانية عشر رجلاً، وسار في طلب العدوّ واستنقذ لوطا وماشيته وجميع ماله"1. ومعلوم أن إبراهيم الخليل عليه السلام لم يكن له يؤمئذ هذه العدة من الأولاد فمن ادعى ذلك أكذبه أهل الكتابين، فقد شهد موسى عليه السلام أن الفتى هو العبد أو الخادم. وقال موسى في السفر الرابع من التوراة ما هو أجلى من ذلك قصة بلعام2 بن بعور وهو: "أن بالاق3 بن صفوري الملك أرسل إلى بلعام ليلعن

_ 1 تكوين 14/14، 15، وموضع الشاهد من النصّ كالآتي: "فلما سمع أبرام أن أخاه سُبي جَرَّ غلمانه المتمرنين ... ". 2 بلعام بن بعور: تذكر المصادر الإسرائيلية بأنه كان نبياً مشهوراً في قرية فيما بين النهرين وقد دعاه ملك مؤاب ليلعن بني إسرائيل ويدعو عليهم فرفض وبعد إلحاح رضي بذلك ولكنه كان يدعو لهم بدل أن يدعو عليهم، ومع ذلك دبر وسيلة لإيقاع بني إسرائيل في الإثم والشرك ليهلكوا، وعندما حارب بنو إسرائيل المديانيين قتلوا بلعام. ر: سفر العدد الإصحاحات 22، 24، 31، وقاموس ص 189. وقد ذكر ابن كث ير قصته في تفسير قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ... } الآيات. [سورة الأعراف، الآية: 175-177] . قال ابن إسحاق وغيره: "بأن بلعام كان رجلاً مجاب الدعوة وقد سأله قوه بأن يدعو على موسى وقومه ... " الخ. وذكر قصة مشابهة لما في التوراة، ثم قال ابن كثير: "وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة بلعام صحيح وقد ذكره غير واحد من علماء السلف". اهـ. قلت: ولم يكن نبيّاً كما يزعم أهل الكتاب. والله أعلم. ر: تفسير ابن كثير 12/275-278، وقصص الأنبياء، ص 380، 381. 3 بالاق: اسم مؤابي معناه: المتلف أو المخرب وهو ابن صفور، وكان ملك مؤاب وهي أرض يقابلها اليوم القسم الشرقي من البحر الميب لمملكة الأردن اليوم. ر: سفر العدد إصحاح 22، قاموس ص 160، 927.

له بني إسرائيل ويدعو عليهم فأجابه بعد مفاوضات وسار إليه راكباً أتانه ومعه فتيان من مماليكه"1. فقد شهدت التوراة أن الفتى هو العبد والمملوك لا كما تخرصه متأخرو النصارى في حمل هذه اللفظة على الولد. والدليل على أن لفظ الفتى ليس موضوعاً للولد قول الإنجيل "إن المسيح بعد قيامه وقبل رفعه مَرَّ على جماعة من تلاميذه وهم يصيدون السمك فقال: يا فتيان هل عندكم من طعام؟ فأطعموه جزءاً من حوت وشيئاً من شهد العسل"2. فقد وضح أن لفظة الفتى ليس / (1/10/ب) فيها مستروح للنصارى فيما يرومونه من النبوة بل هي لا تستعمل إلاّ فيما قلناه، وقد قال ربنا جل اسمه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ... } . [سورة الكهف، الآية: 60] . يعنى خادمه يوشع3، وقال سبحانه: { ... مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ ... } . [سورة النساء، الآية: 25] .

_ 1 سفر العدد 22/5-22، في سياق طويل وقد اختصره المؤلّف وموضع الشاهد من النصّ كالآتي: "....وهو راكب على أتانه وغلامه معه". 2 يوحنا 21/4/13، لوقا 24/26-42، بألفاظ متقاربة، وقد ورد موضع الشاهد كالآتي: " ... فقال لهم يوسع: يا غلمان ألعل عندكم إداماً؟ ... ". 3 يوشع بن نون عليه السلام، كان اسمه في الأصل: هوشع، يهوشوع ثم دعاه موسى يوشع ومعناه: يهود خلاص وهو خليفة موسى الذي قاد بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة ومحاربة لله أهلها، وأنه أمر الشمس بالوقوف والتأخير في المغيب ليتم له فتح الأرض والنصر على أعدائه. وينسب إليه سفر باسمه عدد إصحاحاته 24 إصحاحاً، وكاتب هذا السفر مجهول وقد ينسب إلى أشخاص متعددين. ر: ترجمته في مصادر أهل الكتاب سفر ويشع، وقاموى ص 1067، 1070ن بتخليص. أما المصادر الإسلامية، فإن القرآن الكريم لم يصرح باسمه في قصة الخضر في الآية السابقة، وقد ورد النص على نبوته وأنه خليفة موسى في بني إسرائيل فيما رواه الإمام مسلم 3/1366، وأحمد 3/318، والبخاري مختصرا فتح 9/223 عن أبي هرية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها. قال: فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليّ شيئاً، فحسبت عليه حتى فتح الله عليه ... ". الحديث. ويتبين لنا اسم هذا النبي الذي حبست له الشمس من الحديث الذي رواه الإمام أحمد 2/325 عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس لم تحبس على بشر إلاّ ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس". قال الإمام ابن كثير: "انفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط البخاري". وصحّحه الشيخ الألباني. ر: الأحاديث الصحيحة1/347-351،ح202،ر: سيرة هذا النبي الكريم في تفسير ابن كثير3/97-101،قصص الأنبياء، ص 377،384.

وقال نبيّنا صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي"1. فقوله تعالى في نبوة أشعيا (هذا فتاي) مكذب للنصارى في دعواهم ربويبة المسيح وألوهيته، إذا أضافه سبحانه إلى نفسه إضافة الملك. فقال جل من قائل2: هذا فتاي وحبيبي أنا أفعل به كذا وكذا، وهذا تصريح من متي الحواري بأن المسيح ليس هو وأن الله ليس هو المسيح وأن الله قائل والمسيح مقول له، وأ، الله مُعْطِ ومُنْعِم وأن المسيح مُعْطَى ومُنْعَم عليه، وأنه فتى من فتيان بني آدم، وأن الله مالكه، وأنه عبد وأن الله سيده. وقد روى النصارى في الإصحاح السابع والأربعين من إنجيل مارقس: "أنه بينا بطرس في الدار ينظر الغابه إذ جاءت فتاة من جواري رئيس الكهنة فنمت عليه ورأته [أخرى] 3 فذكرت مثل ذلك"4.

_ 1 أخرجه البخاري ر: فتح الباري 5/177، ومسلم 4/1764، 1765، وأبو داود 4/294، وأحمد 2/423، عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 ما كان ينبغي للمؤلِّف أن يجزم بنسبة هذا النصّ وغيره من نصوص التوراة والأناجيل وغيرها إلى الله عزوجل أو إلى أحد الأنبياء، وإنما ينسبها إلى توراة اليهود وأناجيل النصارى وما يتبعها من الكتب التي فقد تقدم بيان عدم حجيتها وظنية ثبوتها. 3 في ص أخوي والتصويب من النص. 4 مرقس 14/66-69، وقد ذكره المؤلّف بالمعنى.

فهذا تصريح منهم أن الفتى هو اعبد / (1/11/أ) والفتاة هي الجارية، فكيف يحملون ذلك على غير محمله وهذه التوراة والإنجيل تكذبهم وتخطئهم وتصرح بالرّدّ عليهم. وقد حكى لوقا أيضاً في إنجيله: "أن مريم عليها السلام لما رأت أم يوحنا قالت لها وهي تثني على الله: إن الله أنزل الأقوياء عن الكراسي ورفع المتوضعين وأشبع الجياع من الخيرات ورد الأغنياء صفراً وعضد إسرائيل فتاه"1. يريد عبده، وعبودية إسرائيل متفق عليها، وذلك يهدم ما تعلقوا به من حمل الفتى على الولد، وفي ذلك رد على النصارى وتشويش لأمانتهم وإفساد لصلواتهم وتكذيب لمشائخ دينهم إذ يقرؤون في صلاة الساعة الأولى من صلواتهم "المسيح الإله الصالح الطويل الروح الكثير الرحمة الداعي الكل إلى الخلاص". ويقرؤون في صلاة السَّحر: "تعالوا بنا نسجد للمسيح إلهنا". ويقرؤون في صلاة الساعة الثّالثة: "يا والدة الإله مريم العذراء افتحي لنا أبواب الرحمة"2. ويقرؤون في أمانتهم وتسبيحة دينهم: "المسيح الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء". وينقلون عن مشائخ دينهم وعلماء أهل ملتهم مثل أفريم3 / (1/11/ب) وغيره قوله: إن اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي سُمِّرت على الصليب، وأن

_ 1 لوقا 1/52-54. 2 سيأتي المزيد من التفصيل لهذه الصلوات. 3 أفرايم السراياني: من آباء الكنيسة الشرقية، ولد سنة 306م، في نصيبين، وكان رئيس المدرسة الأسقفية في مدينته، له مؤلَّفات وقصائد تعليمية دينية، امتاز بمديح العذراء مريم، علم مات الرها سنة 373م. ر: فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية 2/398، 399، تأليف لويس غردية، المنجد في الأعلام ص 52، 53.

الشبر التي مسحت السماوات هي التي سمرت على الخشبة، وأن من لا يقول إن مريم ولدت الله فهو بعيد عن ولاية الله". وذلك كله باطل وزور وإفك وبهتان بقول متى حواري المسيح عن الله: "هذا فتاي الذي اصطفيت"، أَهْمْ - وَيْلَهُم - أعلم بالمسيح من تلميذه متى وسائر أصحابه الذين عاصروه وشاهدوه فليس فيهم من ينتحل هذا الهذيان الذي صار إليه المتأخرون من النصارى. وإذا قال أشعيا النبيّ عليه السلام: "إن المسيح مضاف إلى الله فقد عُلِمَ وعُرف أن ما سوى الله تعالى فهو عَبْدُه وخلقٌ من خلقه، وكون المسيح حبيباً من أحبابه وفتى من فتيانه لا يخرجه ذلك عن العبودية، وقد دلّلنا من التوراة والإنجيل على أن الفتى هو العبد والخادم فلا التفات بعد ذلك إلى جهلة النصارى. 2- وقد صرح فولس فصيح النصارى ومفسرهم بأن المسيح عبد مخلوق فقال في الرسالة الثانية عشرة: "انظروا إلى هذا الرسول رئيس أحبارنا يسوع المؤتمن عند من خلقه مثل موسى في / (1/12/أ) جميع أحواله غير أنه أفضل من موسى"1. فأي بيان وأي تصريح أوضح من شهادة فولس بأن المسيح مخلوق وأنه مؤتمن عند خالقه تعالى؟!. 3- دليل آخر على عبودية المسيح من قوله وفعله قال متى: "جاء يسوع المسيح إلى يوحنا المعمداني من الأردن إلى الجليل ليتعمد على يده، فقال حين رآه: هذا الذي قلت إنه يجيء بعدي وهو أقوى مني وأنا لا أستحق أن [أحل معقد] 2 خُفِّه ثم قال للمسيح: إني لمحتاج أن أتعمد منك، فقال يسوع: دع الآن هذا فإنه ينبغي لي أن أكمل لك البر فتولَّه. فتعمد المسيح"3.

_ 1 الراسالة إلى العبرانيّين 3/1-3، بألفاظ متقاربة. 2 في ص اجلس مقعد والصواب ما أثبته لموافقته سياق نص الأناجيل. 3 متى 3/11/16.

قلت: هذا المسيح عليه السلام متقيد بالعبادات، متطوق عهده التكاليف، ملتزم وظائف الخدمة، قائم بما يجب ليوحنا من الحُرْمَة، مساوٍ في تعمده وتعبده سائر الأمة، فكيف تعتقد فيه الربويبة والألوهية وهو يتعمد1 من عبد من عبيده ليكمل بِرَّه؟! وهل يفتقر إلى التكميل إلاّ ناقص ويدعى إلى فعل الجميل إلاّ من هو عنه ناكص؟! والتكليف عبارة عن التزام ما فيه كلفة، ورُتْبَة المُوجِب فوق رتبة الموجَب عليه، فالتزام المسيح وظائف العبادة دليل على / (1/12/ب) عبوديته، وقد صرح يحيى المعمداني بعبودية المسيح قولاً وفعلاً. أما تصريحه قولاً فإذ يقول: "إن المسيح أقوى منه، والتفضيل إنما يكون بين فاضلين رجح أحدهما على الآخر، ولا يحسن التفضيل بين الإله والآدمي. وأما تصريحه فعلاً فتعميده للمسيح أسوة أمثاله من الناس، وكيف يحسن من نبي الله يحيى بن زكريا أن يجهل ربه فلا يعرفه حقّ معرفته فيعامله معاملة المخلوقين والعبيد المربويبن؟! وإن كان قد عرفه فهلا نصح لعباده، وأرشدهم إلى معرفة بارئهم، وقام خطيباً في الناس حين رأى المسيح، وقال: اعلموا أن الله تعالى قد رحمكم وتجشهم لخلاصكم وجاء إليكم لينقذكم من الخطية ويفيكم من أعدائكم وها هو هذا الذي جاء ليتعمد مني، كما يعتقده النصارى يومنا هذا. وحاشى ابن زكريا عن أمثال هذه الترهات. فإن قيل: إنما تعمّد وتعبّد ليعلم الناس العبادة إذ ليس المتابعة في الأقوال مثل المتابعة في الأفعال. فنقول: أو لم يكن الناس يعرفون العبادة قبل مجيء المسيح / (1/13/أ) فما زادهم على أن قال: تعلموا العبادة يا من هم بها عالمون، فصار ذلك مكن يقول لحاسب

_ 1 سيأتي تعريف التعميد ونوعه.

ماهر: اعلم أن خمسة وخمسة عشرة سواء. ثم هذا السؤال ينْزل منْزلة من يدعي أنه إنما جاء ليعلم الناس الأمور الناسوتية من الأكل والشرب والنوم وأمثاله وذلك لا يقوله لبيب، فتعمده وتعبده عليه السلام دليل ظاهر على عبوديته، فمن عذيري من قوم دُفعنا معهم إلى أن يستدل على أن الله القديم الأزلي ليس بآدمي يأكل ويشرب ويجيء ويذهب ويسترح ويتعب. فإن قيل: فقد قال متي في تمام هذا الكلام: "إن يسوع لما تعمد وخرج من الماء انفتحت له أبواب السماء ونظر روح الله جاءت إليه في شبه حمامة وإذا صوت من السماء قائلاً: هذا ابني الحبيب الذي سُرَّت نفسي"1. وذلك دليل على ما ينتحله النصارى من بنوته وألوهيته. قلنا: أوّلاً: لا نسلم صحة هذا النقل لضعفه والدليل على ضعفه ووهاه أن صدور مثل هذه الآية العظيمة الآتية عند التعميد واجتماع الغَويّ والرشيد سبيلها أن تشتهر وتنتشر / (1/13/ب) بحيث ينقلها الجم الغفير والخلق الكثير، فلما لم ينقلها غير واحد2 تبيّنّا بطلان ذلك وكذب ناقله، على أنّا لو سلما ذلك فليس فيه مستروح

_ 1 متى 3/3/16، 17. 2 قول المؤلِّف - رحمه الله - "فلما لم ينقلها غير واحد ... " فيه نظر، فإن حادثة تعميد يوحنا المعمداني للمسيح عليه السلام وفتح السماء ونزول الورح في شكل حمامة وسماع النداء من السماء لم ينفرد متى بنقله فقط، بل نله أيضاً مرقس في إنجيله 1/10، ولوقا في إنجيله 3/21، ويوحنا في إنجيله 1/22، مع وجود التناقض والاختلاف في روايات الأناجيل كالآتي: ورد في إنجيل متى إصحاح 3، وإنجيل لوقا إصحاح 3، بأن يوحنا كان يعرف المسيح قبل نزول الروح على المسيح. وخالفهما يوحنا الحواري في إنجيله إصحاح 1 فذكر: بأن يوحنا ما عرف المسيح إلاّ بعد نزول الروح على المسيح. ثم تناقض متى ولوقا مع ما ذكراه سابقاً فذكر متى إصحاح 11، ولوقا إصحاح 7، بأن يوحنا ما عرف المسيح بعد نزول الروح أيضاً، وإنما أرسل يوحنا إلى المسيح تلميذين من تلاميذه يسألانه عن حاله، هذا ظاهر التناقض والفساد.

للنصارى فيما يرمونه؛ لأن بفتح السماء وسماع النداء ونزول الروح الذي هو الملك كل ذلك من المعجزات الدالة على صحة النبوات، ولا غرو أن يأتي المسيح بخارق قاطع لشغب اليهود نازل منْزلة قول الله: صدق عبدي، فأما الروح [1] فتارة يكون جبريل، [2] وتارة يكون مَلَكاً غيره يقوم يوم القيامة صفاً وحده وسائر الملائكة صفاً آخر [3] وتارة يكون بمعنى الشيطان [4] وتارة يكون عبارة عن العلم والحكمة. [5] وتارة يكون عبارة عن روح الآدمي. [6] وتارة يكون كناية عن سرّ الشيء ولبه. [7] وتارة يكون بمعنى الوحي فهذه عدة محامل. والدليل على الأوّل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِيْنُ عَلَى قَلْبِكَ ... } . [سورة الشعراء، الآية: 193] . وفي الإنجيل: (روح القدس تحل عليك) 1. يقول لمريم. والدليل على الثاني: {يَومَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّاً} . [سورة النبأ، الآية: 38] 2. والدليل على الثالث: قول الإنجيل: "إن المسيح أبرأ الناس من الأرواح

_ 1 لوقا 1/35. 2 قد اختلف المفسِّرون في المراد بالروح في الآية ما هو؟ على أقوال: أحدهما: رواه العوفي عن ابن عباس أنهم أراح بني آدم. الثاني: هم بنو آدم. قاله الحسن وقتادة عن ابن عباس. الثالث: أنهم خلق من خلق الله على صور بني آدم وليسوا ملائكة ولا بشر وهم يأكلون ويشربون. قاله ابن عباس ومجاهد وأبو صالح والأعمشي. الرابع: هو جبريل. قاله الشعبي والضحاك ومقاتل. الخامس: أنه القرآن. قاله ابن زيد. السادس: هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقاً. قاله ابن عباس، وابن مسعود في تفسيره للروح، ونقل ابن جرير لهما حديثين في ذلك، وعلق عليهما ابن كثير بقوله: "هذان حديثان غريبان جداً". وقال ابن جرير بعد سرده الأقوال: "والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن خلقه لا يملكون منه خطاباً يوم يقوم الروح، والروح خلق من خلقه، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذكرت، والله أعلم أي ذلك هو، ولا خبر بشيء من ذلك أنه المعني به دون غيره يجب التسليم له، ولا حجة تدل عليه، وغير ضائر الجهل به". اهـ. انظر: تفسير الطبري 30/22، 23، تفسير ابن كثير 4/496، 497.

النجسة فخلصوا"1. والدليل / (1/14/أ) على الرابع: قول التوراة لموسى: "يصنع لك قبة الزمان بصلئيل الذي ملأته روح الحكمة والعلم"2 والدليل على الخامس: { ... وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ... } . [سورة الإسراء، الآية: 85] . والدليل على السادس: قول القائل: هذا روح المسألة، أي: سِرُّها ولُبُّها. والدليل على السابع: {وَكَذَلِك أَوْحَيْنَا إِلَيكَ رُوحَنَا مِنْ أَمْرِنَا} . [سورة الشورى، الآية: 52] . {يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ... } . [سورة النحل، الآية: 2] . وقول المعمداني: "إن روح الله نظرها جاءت إليه". يريد المَلَك الآتي في صورة طائر واختصاصه بالحمام، لأنه ميمون غير متشائم به، ونسبتها إلى الله بنسبة مِلْك كقولهم في التوراة: "أن موسى رجل الله"3، و"العصا التي يبده قضيب الله"4، و"وقبة الأمد التي بنيت في التيه، خباء الله"5، و"أورشليم التي هي البيت المقدس بيت الله"6، فكذلك قول مَتَّى: (ونظر روح الله جاء إليه"، يريد مَلَك الله. والدليل على مساواة المسيح غيره في هذه الروح والتأييد بها قول لوقا في إنجيله: "قال يسوع لتلاميذه: إن أباكم السماوي يعطي ورح القدس للذين

_ 1 لوقا 4/36، وقد ذكر المؤلف النصّ بالمعنى. 2 خروج 31/1-3. 3 تثنية 33/1. 4 خروج 4/20. 5 أخبار الأيام الثاني 31/13، نحميا 11/11. 6 تكوين 28/17، 22.

يسألونه"1. والدليل عليه من / (1/14/ب) التوراة قول الله لموسى: "اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك، فيحملوا عنك ثقل هذا الشعب. ففعل موسى فأفاض عليهم من روحه فتنبؤا لساعتهم"2. وفي التوراة أيضاً في حقّ يوسف الصديق: "يقول الملك: هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله حال فيه"3. والدليل عليه من نبوة دانيال: "أن روح الله حلت على دانيال"4. وفي التوراة أيضاً: "أن موسى لما توفي امتلأ يوشع خادمه من روح القدس؛ لأن موسى كان قد وضع يده على رأسه"5. فقد استوت الحال بين المسيح وبين من ذكرنا في تشريفه بهذه الروح، وقد قال الله في الكتاب العزيز في حقّ إخواننا من المسلمين: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ} . [سورة المجادلة، الآية: 22] . فما أجاب النصارى به عن حلول الروح على هؤلاء فهو جواب لنا عن حلوله على من يَّدعونه. فإن تجاهلوا وقالوا: الروح الآتي إلى من عدا المسيح هي الملك والعلم والحكمة، والروح الآتي إلى المسيح هي حياة الله. قلنا لهم: الويل لكم إن كان ما تقولون فقد صار ذاتاً ميتة لا روح / (1/15/أ) فيها، وإذا كان قد صار ذاتاً خالية من الحياة، فكيف يقولون: إنه قال: هذا عبدي وهذا ابني؟ فقد آل ما تدعون إلى نفي ما تدّعون.

_ 1 لوقا 11/13. 2 عدد 11/16-25، في سياق طويل. 3 تكوين 41/38. 4 لم أعثر في فسر دانيال بالنسخة الحالي على النصّ الذي أورده المؤلف ولعل المؤلف يقصد حزقيال فقد ورد في سفر حزقيال 3/23، 24: "أن روح الله حلَّت فيه". 5 تثنية 34/9.

ثم نقول لهم: بم تنكرون على من يزعم أن الروح الآتي والنداء ليس هو لعيسى بل هي لأستاذه الذي عَمَّده هو يحيى بن زكريا؟! لأنه بشهادة الإنجيل أفضل منه إذ هو الذي امتلأ من روح القدس وهو جنين في بطن أمه ثم نشأ سيداً وحصوراً1. وقد قلتم في إنجيلكم: "إن يوحنا هذا لا يأكل ولا يشرب ولا يتناول خمراً ولا مسكراً2 ولا يلبس سوى جلود الحيوان3 وأنه انتهض قبل المسيح إلى الدعاء إلى الله وعمد الخلق حتى عمَّد المسيح فيمن عمد. فأما المسيح فلم تأته الروح - في قولكم - إلاّ بعد الثلاثين سنة من عمره على يد يوحنا، ولم يتصف بما اتصف به يوحنا شيخه وأستاذه بل أكل الخبز واللحم وشرب الخمر في زعمكم وحضر الدعوات4 وتناول نفائس الطعام، وصبت عليه امرأة دهنا قيمته ثلاثمائة مثقال فلم ينكر عليها5، كل ذلك يشهد به إنجيلكم. وإذا كان الأمر على ما وصفتم من حال الرجلين سلام الله عليهما فلا خفاء بكونه أفضل منه، وإذا ثبتت أفضلية يوحنا فمن أين لكم أن الروح الآتي والنداء المسموع لم يكن ليوحنا؟ فدلوا أنتم على أن ذلك كان للمسيح، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلاً.

_ 1 يقال ساد القوم يسودهم، ولما كان من شرط المتولي للجماعة أن يكون مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلاً في نفسه: "سيد" وعلى ذلك قوله: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} . [سورة آل عمران، الآية: 39] . أما الحصور فإنه الذي لا يأتي النساء إما من العنة وإما من العفة والاجتهاد في إزالة الشهوة، والثاني أظهر في الآية؛ لأن بذلك يستحق المحمدة. ر: المفردات للراغب الأصفهاني ص 120، 247. 2 لوقا 7/33. 3 مرقس 1/6. 4 يوحنا الإصحاح الثاني. 5 متى 26/7-12، مرقس 14/3-8، ولم يرد فيهما ذكر قيمة الطيب.

ثم نقول لهم: أليس قد زعمتم أن الروح إنما جاءت في شبه حمامة فعرف شكلها وكميتها وقدرها وفرَّغت حيراً وشغلت آخر وتنقلت في الجهات؟! وذلك صفة المخلوق الحادث ويتعالى عن ذلك القديم جل جلاله، ثم لفظ النبوَّة معارض بلفظ العبودية، فقد سمّاه الله عبده ولله واختار له ما عنده، وسوَّاه في العبودية بمن كان قبله ومن جاء بعده. 4- دليل آخر على عبودية المسيح عليه السلام قال متى: "أخذ إبليس يسوع المسيح وأخرجه إلى البرية ليجربه وقال له: إن كنت أنت ابن الله فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً، فقال المسيح: إنه مكتوب أنه ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان بل بكل كلمة تخرج من الله فأخذه إبليس ومضى به حتى أقامه على أعلى جبل في الأرض وأراه جميع ممالك العالم وقال: هذا كلّه لي وأنا أعطيكه إن سجدت لي / (1/16/أ) سجدة واحدة، فقال: اغرب عني يا شيطان فإنه مكتوب للربّ إلاهك أسجد وله وحده أعبده، فمضى به إبليس وأقامه على جناح الهيكل، وقال له: انطرح من هاهنا إلى أسفل، فإنه مكتوب أن يرسل بعض ملائكته فتحملك حتى لا تعثر رجل بحجر، فقال المسيح: ومكتوب أيضاً لا تجرب الرّب إلاهك، فمضى به إبليس وتركه وجاءت ملائكة تحرسه، وصام المسيح عند ثلك ثلاثين يوماً بلياليها وجاع أخيراً"1. قلت: هذا متى الحواري قد ذكر هذه القصة وهي شاهدة على المسيح بصريح العبودية وافتقار البشرية، وسلوك سنة المتعبدين وطريق المتبتلين من المجتهدين، وأدب الأولياء ومقدمات أمور الأنبياء، ينقطعون إلى مولاهم في قنن2 الجبال، ويفرغون البال بمواصلة الوصال، ألم يأتكم نبأ ابن عمران3 إذ

_ 1 متي 4/1-11، بألفاظ متقاربة. 2 القُنة: أعلى الجبل، والجمع قنان وقنات. ر: مختار الصحاح ص 553. 3 يقصد: النبيّ موسى بن عمران عليه السلام، وقد ورد ذلك في سفر الخروج 34/28.

طوى الأربعين لا يفطر وفعل من الخوارق بمصر وغيرها ما لا يجحد ولا ينكر. ولقد أربت آياته في النقل الصحيح على آيات المسيح، وإذا انتهينا إلى ما يليق بذلك أشبعنا القول فيها إن شاء الله، والعجب كيف يجرب إبليس يسوع ويمتحنه ويسحبه معه من مكان إلى مكان، / (1/16/ب) ويسومه السجود له وهو في زعم النصارى خالقه وخالق كل شيء، فنحن نسألهم عن هذا المتردد مع الشيطان من مكان إلى مكان، والمقهور في يده والشيطان طامع في استتباعه وصيرورته عبداً له، أهو إنسان مخلوق أو إله خالق أو إله اتّحد بإنسان أو سكن في أهابه واتّخذه محلاً له؟!. فإن قالوا: إنه إنسان مخلوق وافقوا شرعنا وخالفوا شريعتهم وأمانتهم إذ يقولون فيها: "إن المسيح إله خالق غير مخلوق وأنه الذي أتقن العالم بيده". وإن قالوا: إنه خالق أو إله اتّحد إنسان أو حل فيه وسكنه، فقد حكموا أن الإله الأزلي سحبه الشيطان، وردده وجرت عليه أحكامه، وطمع فيه أن يسجد له وفيه امتهان الربّ القديم، والإله العظيم في يد الشيطان الرجيم. وقد شهد متى أن المسيح قد جاع، والإنجيل يقول: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد"1. وإذا ثبت بقول أصحاب المسيح أن المسيح قد جاع،

_ 1 لم أجد نص هذه العبارة في نسخة الأنانجيل التي بين يدي، وقد ذكر هذا النص الحسن بن أيوب في كتابه: الرد على النصارى والإمام القرافي في الأجوبة الفاخرة ص 149، والمهتدي نصر بن يحيى المتطبب في النصيحة الإيمانية ص 248، وابن القيم في هداية الحياري ص 274، كالآتي: "إن الله تبارك وتعالى لم يلد ولم يولد ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم ولم يره أحد من خلقه ولا رآه أحد إلا مات". وقد علق شيخ الإسلام في الجواب الصحيح 2/334 على النصّ بقوله: "إن هذه العبارة مما ينازع فيه النصارى بأنه ليس موجوداً في كتبهم ولا يعترفون به".اهـ. قلت: إن معنى النص المذكور ذكر متفرقاً في العهد القديم والجديد الآتي: في إنجيل يوحنا 1/18: "الله لم يره أحد قط". وبنحوه ذكر في التوراة خروج 33/20، وفي رسالة يوحنا الأولى 4/12، وفي الرسالة الأولة لتيموثاوس 6/16. في الميزان 121/4: "إنه لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل". في أشعيا 40/28: "إله الدهر الربّ خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا وليس عن فهمه فحص". وبما أن المسيح قد اعترف في الأناجيل بأنه غير ناسخ للتوراة، بناء عليه فكل ما في التوراة عن الله وصفاته ملزم للنصارى تمام الإلزام.

وتظافرت عليه الآلام والأوجاع فقد ثبت بذلك أنه عبد لله، إذ ثبت أن ما سوى / (1/17/أ) فهو عبد له. فإن قالوا: لا ننكر أن المسيح جاع وشبع واطمأن وجزع وناله النفع والضرر واعتورت عليه أحوال البشر، غير أن هذه النقائص إنما دخلت على ناسوته دون لاهوته1. قلنا لِمَ يَدَعُ الاتّحاد الذي تدعونه ناسوتاً متميّزاً عن لاهوت حتى يُخَصَّ بالعطش والجوع والأرق والهجوع! بل صار المسيح بالاتّحاد الذي يدّعيه أهل الإلحاد شيئاً واحداً، والشيء الواحد لا يقال إنه جاع ولم يجع ومات ولم يمت. على القول أيضاً بذلك مفسد للاتّحاد الذي يدعونه؛ لأنه قد كان المسيح قبل الاتّحاد يدركه عوارض الآدميّين من الجوع والعطش والطمأنينة والدهش وغير ذلك، فإن كان بعد الاتّحاد كَهُوَ2 قبل الاتّحاد فلا معنى للاتّحاد، فقد صار الاتّحاد الذي يُدَّعى له مجرد تسمية ساذجة عن المعنى. وإذا ثبت أن المسيح قد تناول الطعام وصلى وصام والتزم الأحكام فقد أربى في العبودية على سائر الأنام. والعجب أن الشيطان لا يثبت مع وجود المَلَك، فكيف يطمع فيمن يعتقد ربوبيته حتى يسومه أن يجعله / (1/17/ب) من الأتباع [ويوظف] 3

_ 1 يؤمن النصارى بالاتّحاد: وهو اتّحاد اللاهوت الجزء الإلهي مع الناسوت الجزء الإنساني في المسيح عليه السلام، وسيأتي في الباب السابع تفصيل اختلاف النصارى في تصوير ذلك الاتّحاد. 2 كهو: أي: كمثله. 3 في ص يوصف ولعل الصواب ما أثبته.

عليه السجود الذي هو نهاية الاتضاع، ألا تنظر النصارى إلى قول المسيح: "ولله وحده أعبد"، فإنه أثبت لربه الوحدة والانفراد، ونفى عن خالقه سائر الأنداد، من الشريك والصحابة والأولاد. فالمسيح يقول: "لا ينبغي السجود إلاّ لله الواحد"، والنصارى تقول: لا يسجد إلاّ لثلاثة آلهة. لقد تباعد ما بينهم وبين المسيح. 5- دليل آخر على عبودية المسيح عليه السلام قال متى: "سمع مهيرودس ملك اليهود خبر يسوع فقال لغلمانه: أترى يوحنا قد قام من بين الأموات وهذه القوى تعمد معه. وكان هيرودس هذا قد قتل يوحنا المعمداني في السجن وأعطى رأسه لابنة هيروديا1، وكانت قد تمنت عليه ذلك يوم رقصت فيه مجلس مولود ولد له، فجاء التلاميذ وأخبرا يوسع بمصاب يوحنا، فجزع يسوع وخرج من وقته من الموضوع الذي كان به منفرداً"2. قلت: اشتبه أمر المسيح على الناس، والرّبّ لا يقع التشابه بينه وبين خلقه، وإنما شبهه الناس بيوحنا لاشتراكهما في أعلام النبوة، وأخبر التلاميذ المسيح بالقصة قبل أن يعلم بها، والربّ تعالى / (1/18/أ) يجب أن يكون عالماً بجميع المعلومات محيط بما تحت تخوم الأرضين إلى أعلى السماوات، {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} . [سورة الملك، الآية: 14] . وخرج المسيح عقب هذه الأخبار مؤثراً للإستار معملاً مطايا الحذار من الأشرار، ومن دأب البشر عند توقع الضرر الأخذ بالحذر.

_ 1 يقال إن اسمها: سالومة ابنة هيروديا والتي رقصت في حفلة عيد ميلاد هيرودس وطلبت رأس يوحنا المعمدان على طبق. انظر: قاموس ص 447. 2 متى 14/1-13.

وقد اتّفق مثل هذا الابتلاء لطائفة من الأولياء ولم يجدَّ بهم الهلع بزمامه ولا أنزلهم عن غارب التوكل سنامه، قال بعض السلف: "نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله"1. اعلم أن يسوع2 هو عكس عيسى، وكأنه (يَسُع) أشبعت الضمة قليلاً فصارت واواً، وكذلك يشوع في التوراة هو يوشع3. فأما يلامعمداني فهو يحيى4 بن زكريا - وهو نبي ابن نبي - ولد بالبشرى من الله، وهو أكبر في السن من المسيح بستة أشهر أو نحوها، وقد تولى التعميد

_ 1 هذه مقالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما خرج إلى الشام فأخبره أمراء الأجناد بأن الوباء وقع بالشام فاستشار الصحابة في دخول الشام أو الرجوع عنها فأشار عليه مشيخة قريش من مهاجرة الفتح بأن يرجع بالناس ولا يقدمهم على الوباء، فأذن عمر بالناس، إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أفراراً من قدر الله؟. قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم. نفر من قدر الله عزوجل إلى قدر الله ... ، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علماً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه". قال: فحمد الله عزوجل ثم انصرف. أخرجه البخاري في كتاب الطبّ باب 30. فتح الباري 10/179، مسلم 4/1740، 1741، في سياق طويل عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. 2 نقله أيضاً نجم الدين الطوفي في كتابه: الانتصارات الإسلامية ص 77، وفي الصحاح للجوهري 2/955: عيسى اسم عبراني أو سرياني، والجمع العيسون، والنسبة عيسى وعيسوي. وجاء في قاموس الكتاب ص 1065: أن يسوع الصيغة العربية للاسم العبري يوشع ومعناه: يهوه مخلص، الله مخلص، وقد سمي بهذا الاسم المسيح حسب قول الملاك ليوسف: متى 1/21، مريم لوقا 1/31. اهـ. 3 هو يوشع بن نون عليه السلام، الاسمان يشوع ويسوع شبيهان وقد تقدمت ترجمته. انظر: ص 119. 4 يحيى بن زكريا - عليهما السلام -، ورد ذكرهما في آيات متعددة في القرآن الكريم. انظر: سيرتهما في قصص الأنبياء لابن كثير ص 466-477، ولعبد عبد الوهّاب النجار ص 368-369، والنبوة والأنبياء للصابوني ص 326-336. ويذكر عنه قاموس الكتاب ص 1106-1108، ما ملخصه: "بأنه كان ناسكاً زاهداً يدعو الناس إلى التوبة ويعمدهم بعدها في نهر الأردن وذلك سبب تسميته: "يوحنا المعمداني" وقد أمر هيردوس بقتله في حوالي سنة 28م، ودفنه تلاميذه في سبطياً عاصمة السامرة بجانب قبر اليشع وعوبديا". اهـ بتصرف.

قبل المسيح وعمد المسيح فمن عمده من الناس، والتعميد1 هو غمس التائب في الماء يشيرون بذلك إلى الانغماس في الطاعة والتجرد عن المخافة كما ورد شرع الإسلام بتطهير الكافر حين يسلم. فأما هيردوس2 فهو أحد الأربعة / (1/18/ب) الذين كانوا يدور عليهم أمر الشام من جهة قيصر وكان قد رام نكاح ابنة أخيه وقيل ابنة زوجته فحال بينه يوحنا المعمداني وبين ما أراد من ذلك فاعتقله هيردوس ثم قتله بالتماس أم الصبية إذ رأت أنه زاعم3 مقصودها، فذكر أن دم يوحنا هذا لم يغض4 مذ وقع على الأرض حتى حرك الله داعية بعض ملوك بابل، قال أصحابنا: يقال لهذا الملك حردوش البابلي فسار إلى اليهود يجر الشوك والشجر فقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم، وحرق قراهم وعضَّد5 شجرهم، وأجلاهم عن البيت المقدس،

_ 1 ورد في قاموس الكتاب ص 637: "بأن اليهود استعملوا عادة التعميد، وبأن تعميد يوحنا كانت تسمّى "معمودية التوبة لمغفرة الخطايا" وفي النصرانية جعل التعميد بالماء باسم الثالوث الأقدس علامة على التطهير من الخطيئة والنجاسة وعلى الانتساب رسمياً إلى كنيسة المسيح، وقد جعل التعميد عوضاً عن الختان الذي كان مفروضاً على بني إسرائيل، وقد اختلفت وجهات نظر النصارى حول قضيتين: نوع المعمودية، ومعموديةالصغاروالكبار".اهـ. بتصرف. وتعتبرالمعمودية من أسرار الكنيسة ووظائفها التي تختص بها. ر: أيضاً الكنْزالجليل في تفسيرالإنجيل1/28، 539. 2 هيردوس انتيباس: هو الابن الثاني لهيرودوس الكبير، عُيِّن حاكماً على الجليل وقد غضب عليه الإمبراطور ونفاه إلى ليون ثم أسبانيا وكان زمن ملكه من 4 ق. م إلى 39 م. ر: قاموس ص 1011. 3 في ش: راغم بالراء من المراغمة وهي المغاضبة، وبالزاي فهي المزاغمة، أي: التغضب في الكلام هذا على الغين المعجمة، أما على المهملة والزاي وهو الراغم أي: القول. ر: الصحاح 5/1934، 1941، 1942. 4 في ش: لم ينقص ولم يضع. 5 في ش: عضد الشجر أي: قطعه بالمعضدة المقتلع. ر: الصحاح 2/509.

وأعطى الله عهداً ألا يكف عنهم حتى يغيض ذلك الدم، فلم يغض حتى كاد يستأصل اليهود واستاق السبي معه إلى بابل1. وفيهم أنْزل الله على نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَينِ} . [سورة الإسراء، الآية: 4] . فكانت المرّة الأولى على يد بختنصر2 بسبب قلتهم نبي الله أشعيا في زمن أرميا النبي عليه السلام، ثم رد الله إليهم ملكهم، وكانت المرة الثانية على يد خردوش3 اليوناني بسبب قتلهم يحيى بن زكريا / (1/19/ب) وذكر أن بين الوقعتين أربع مائة وإحدى وستون سنة4.

_ 1 بابل: مدينة قديمة في أواسط ما بين النهرين، تقع أنقاضها على الفرات قرب الحلة، على مسافة 80كم جنوب شرقي بغداد، وقد أطلق اسم بلاد بابل على القسم الجنوبي من بلاد ما بين النهرين لتمييزه عن بلاد آشور. ر: المنجد في الأعلام ص: 106. 2 نبوخذ ناصر، نبوخذ نصر: اسم بابلي معناه: "نبو حامي الحدود" ملك بابل. حكم 605-652 ق. م أخمد ثورة قام بها اليهود في أرض يهوذا وعندما أعادوا الكرة لم يخمد ثورتهم وحسب بل ساق ملكهم وكبراءهم أسرى إلى بابل وهو ما يعرف في تاريخ اليهودية بالأسر البابلي. ر: قاموس ص 954-955، الموسوعة العربية 2/1821. 3 ذكره الطبري في تاريخه 1/591 باسم: خردوس وبأنه من ملوك بابل، وفي مروج الذهب ص 63، للمسعودي: أنه حردوس بالحاء المهلة. ويرى د. ف. عبد الرحمن - أستاذ فقه اللغة - أن اسم خردوس إنما هو تحريف لاسم الحارث بالاتينية وهو: ARETAS - نقلاً عن مسودة كتاب الإعلام بأصول الأعلام - تأليف د. ف عبد الرحيم. أما الحارث فهو ملك البتراء، الذي حارب هيرودوس، وهيروديا انتيباس لزواجه بهيروذيا زوجة أخيه فيليس وقيل: إنها ابنة أخيه، وقد كان هيرودس متزوجاً بابنة الحارث من قبل وقد طلقها لذلك، وهيروديا هي التي طلبت من هيردودس رأس يحيى عليه السلام لمعارضته هذا الزواج. ر: قاموس ص 282. 4 هذا ما نقله الإمام ابن جرير الطبري في تاريخه 1/593، وفي تفسيره 15/22-27، 41، 42، عن ابن حميد قال: ثنا سلمة، ثني ابن إسحاق قال: فذكره في سياق طويل جداً. في تفسير قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} . والذي أراه - والله أعلى وأعلم - هو ترجيح ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ر: تفسير الدر المنثور للسيوطي 4/163، 165، بأن المُسلَّط على بني إسرائيل لإفسادهم في المرّة الأولى هم جالوت وجنوده الذين اضطهدوا وأذلوا بني إسرائيل يدل على ذلك قولهم - كما حكي القرآن الكريم عنهم حينما طلبوا من نبيّهم أن يبعث الله لهم ملكاً: {وَمَا لَنَا أَلاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} . [سورة البقرة، الآية: 246] . ثم بعث الله طالوت ملكاً لهم وقتل داود عليه السلام جالوت، ورجع إلى بني إسرائيل ملكهم، ثم لما فسدوا المرة الثانية وقتلوا نبيّهم أشعيا، بعث الله عليهم بتختنصر فقتلهم وسبى نساءهم وذراريهم وهدم الهيكل المعروف بـ: هيكل سليمان، وهذا التدمير البابلي هو ما يعرف في تاريخهم بـ: السبي البابلي حيث أجلاهم بختنصر عن بيت المقدس وأخذهم سبياً إلى بابل. وعندما رجع بعض بني إسرائيل مرة ثانية إلى بيت المقدس في ظل حكم الفرس وأفسدوا بقتلهم زكريا وابنه يحيى، ومحاولة قتل عيسى عليه السلام سلط الله عليهم الرومان بقيادة تيطس سنة 70م، ثم بقيادة أدريانوي سنة 135م، فقتلهم وشردهم في جميع أنحاء البلاد المجاورة، وهكذا كلما عاد اليهود للفساد والإفساد في الأرض تكرر تسليط الله عليهم من يسومهم أشد العذاب تصديقاً لقوله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} . وهو مستمر فيهم في كل زمان ومكان. حيث سلط الله عليهم المؤمنين فقتلوا وأجلوا بني قينقاع والنضير وقريظة عن المدينة وعن خيبر، كما سلط الله عليهم أيضاً ملوك أروبا في العصور الوسطى و"هتلر" وغيره في العصر الحديث. ونرجو الله أن يسلطنا عليهم بتمسكنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فنسترد أولى القبلتين ونطهر الأرض من رجسهم وسادهم، كما سيسلط الله عليهم المهدي والمسيح عليه السلام والمؤمنين إذا ما خرج اليهود مع المسيح الدجال كما ذكر ذلك في أحاديث أشراط الساعة. وأما بالنسبة لتحديد الذين سلطهم الله على بني إسرائيل لفسادهم في الآية الكريمة فالأولى فيه ما قاله الإمام ابن كثير في تفسيره 3/28: "وفيما قصّ الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ورسوله إليها، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوّهم فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم، وأذلهم وقهرهم جزاءً وفاقاً، وما ربّك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء".

ينبغي أن يقال للنصارى: ما الذي دفعكم إلى عبادة مخلوق يفزع عند الضرار إلى التقية والحذار، ويلجأ عند توقع المكروه إلى الفرار والاستتار في الجدار؟! أين قولكم إنه حين تعمد جاءته روح الله؟! وأنتم رويتم لنا أن موسى قد قاتل الجبابرة وأباد الفراعنة، وطهر الأرض من العمالقة، وقتل عوج1 مبارزة، ولم يفر من خصمه وإن عظم بأسه، ولا نكل عن فرعون وإن اشتدت شوكته، وقد كان يدخل على فرعون فينغص عليه سلطانه،

_ 1 عوج: ملك الأموريين في باشان، وكان وكان جبار القامة شديد البأس، وقد انتصر عليه موسى في حربه معه واحتل مملكته. ر: سفر التثنية3/1-11،قاموس ص646.

ويُرْغم مجاهرةً شيطانه، ويحقر عند أهل مملكته شأنه، ثم جَرَّعه أليم اليَمِّ، وأباد جنوده في اللج الخضم، أفكانت الروح التي مع موسى أقوى من الروح التي ادعيتموها للمسيح؟! فما نرى موسى إلاّ أحق من المسيح بالربويبة إذ كان لم يخف والمسيح قد خاف، وكذلك يوشع وداود قد قهرا الصناديد، والمسيح قلتم إنه قتله اليهود. 6- دليل آخر على عبودية المسيح: قال فولس الرسول في الرسالة الأولى1: "وأنا أحب يا إخوتي / (1/19/ب) أن تعلموا أن رأس المرأة الرجل، وأن رأس كل رجل المسيح، وأن رأس المسيح الله". فهذا فولس قد نطق بأن المسيح مرؤوس وأن الله رئيس عليه، وذلك منه رَدٌّ على النصارى وإفساد لأمانتهم وشريعتهم. 7- دليل آخر، قال متى: "أصعد يسوع تلاميذه سفينة وصعد هو إلى الجبل يصلي، فلما كان في الهجعة الرابعة من الليل جاء ماشياً على الماء طالباً السفينة فخاف التلاميذ وتصارخوا فقال يسوع: لا بأس عليكم. فقال بطرس له: يا ربّ إن كنت أنت هو فادعني آتيك على الماء، فقال: تعال. فنزل بطرس يمشي على الماء فاشتد الريح فكاد أن يغرق فصاح: يا ربّ نجّني. فمد يسو يده وأخذه، وقال له: يا قليل الأمانة لم شككت؟ ثم صعد يسوع فسجدوا له"2. قلت: هذا الفصل معرب عن تعبد المسيح وتبتله وتهجده لمولاه وتذلله، وحركته في الجهات وتنقله وصعوده قنن الجبال وتوقله3، وهذه كلّها أفعال دالة على حدثه.

_ 1 الرسالة الأولى من رسائل بولس إلى أهل كورنثوس 11/2، 3. 2 متى 14/22-32. 3 في ش: وَقَل الجبل توله: علاه وصعده.

فأما مشيه على الماء فليس فيه مستروح في دعوى ربوبيته فغايته أن التحق في / (1/20/أ) ذلك بموسى وإلياس واليسع صلوات الله عليهم. والتوراة: "تنطق أن موسى ضرب البحر فانفرق طرقاً وفرقاً، فكان كلّ فِرْقٍ لفريق من بني إسرائيل، حتى عبره ستمائة ألف رجل من بني إسرائيل سوى النساء والصبيان وبهيم الحيوان"1. وهذا أعجب من مشي عيسى وصاحبه على الماء إذ السفن تساويهما في ذلك، فلو كان عيسى ربّاً بذلك لكان موسى أولى، لما ظهر من عظيم فعله وجسيم نبله. وقد جاء في سفر الملوك2 من كتبهم:"إن إلياس3 عليه السلام انتهى إلى الأردن ومعه صاحبه اليسع فنزع إلياس عمامته وضرب بها الأردن فيبس له الماء وناول عماته اليسع4 صاحبه فلما رجع الآخر ضرب بها الماء فيبس أيضاً حتى

_ 1 سفر التكوين الإصحاح الرابع عشر والخامس عشر. 2 سفر الملوك: من أسفار العهد القديم، والتي تسمى بالأسفار لاتاريخية، ويتكون من سفرين هما: سفر الملوك الأوّل وعدد إصحاحاته 22، وسفر الملوك الثاني وعدد إصحاحاته 25 إصحاحاً، والمقصود بالملوك هم الذين تولوا حكم بني إسرائيل عن الملك بعد عهد القضاة. وموضوع سفر الملوك هو: الحديث عن ملك سليمان عليه السلام وبنائه الهيكل، ثم انقسام مملكته بعد وفاته إلى مملكتين شمالية وجنوبية، وحروب المملكتين فيما بينهما، وينتهي سفر الملوك المملكتين وحريق الهيكل سنة 587 ق. م. وسبي اليهود إلى بابل. ومما ننكره على اليهود والنصارى - ونستغربه - هو تقديسهم لهذين السفرين مع تصريحهم بأنه لا يعرف مؤلّفها، وبأنه مجهول يروي قصصاً قديمة سابقة على عصره. ر: مقدمة الكتاب المقدس طبعة 1971م، قاموس ص 920، رسالة في اللاهوت ص 275، 276، سبينوزا. 3 إلياس عليه السلام، ورد ذكره في القرآن الكريم بموضعين: [سورة الأنعام الآية: 85، وسورة الصافات الآية: 123-132] . ر: سيرته ي تاريخ الطبري 1/325، قصص الأنبياء لابن كثير، ص 400، النبوة والأنبياء للصابوني ص 318. أما مصادر أهل الكتاب فتذكر عنه بأنه إليا التشبي، وإيليا: اسم عبري معناه: الاهي يهوه والصيغة اليونانية لهذا الاسم هي: إلياس وتستعمل أحياناً في العربية، وقد عاش في المملكة الشمالية حيث حارب إيزابل زوجة الملك أخاب التي ساقت زوجها وبني إسرائيل إلى عبادة العجل، وقد أيده الله بمعجزات كثيرة وفي نهاية أيامه ذهب إلى نهر الأردن مع تلميذه اليسع، ثم جاءت مركبة وفرسان نارية حملت إيليا إلى السماء. ر: سيرته في سفر الملوك الأوّل والثاني، وقاموس ص 144-145. 4 اليسع عليه السلام، ورد ذكره في موضعين في القرآن الكريم: [سورة الأنعام، الآية: 86] ، و [سورة ص، الآية: 48] . ر: سيرته في تاريخ الطبري 1/327، وقصص الأنبياء، ص 408، والنبوة للصابوني ص 321. ويذكر عنه قاموس ص 111 ما ملخصه: "أن اسمه عبراني معناه: الله خلاص وهو خليفة إيليا في النبوة"، ويسجل سفر الملوك الثاني معجزات كثير قام بها لايشع حتى بعد موته.

مشى عليه راجعاً"1. فلم يكن واحد منهما رباّ بذلك، وقد خاف بطرس2 صاحب المسيح الغرق، لم يخف منه اليسع، وقوة الصاحب تدل على قوة حال المصحوب. مناقشة على قول بطرس "يا ربّ إن كنت أن هو": اعلم أنّ هذا من الكلام الخلف وذلك إن بطرس إن عرف أنه / (1/20/ب) المسيح، فكيف يقول: "إن كنت أنت هو؟ " وإن لم يكن عرفه، فكليف يقول له يا رب؟!. 8- دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى: "قال رجل للمسيح: يا معلم صالح، فقال له لا تقل لي صالحاً، لا صالحَ إلاّ الله الواحد"3. قلت: أضاف المسيح لربّه الوحدة، واعترف له بالألوهية وحده، وفي ذلك ردٌّ على النصارى في دعواهم التثليث وعبادة المسيح إذ نفى الصلاحية عن نفسه وأثبتها لله وحده، ولو كان الأمر في ذلك على ما يعتقده النصارى لبيَّنه للرجل ولقال له: لا صالح إلاّ الأب وأنا روح القدس، لم يؤخر البيان عن وقت الحاجة. وفي قول المسيح عليه السلام: "لا صالح إلاّ الله الواحد"، تكذيب للنصارى فيما يقرؤونه في صلواتهم إذ يقرؤون في بعض فرائصهم: "الإله الصالح الطويل

_ 1 سفر الملوك الثاني 2/1-8. 2 بطرس: رئيس الحواريين واسمه الأصلي سمعان بن لوقا ومهنته صيد الأسماك، وقد سماه المسيح كيفا ومعناها صخرة يقابلها في العربية صفا فسمي بشمعون الصفا في المصادر العربية، وقد وقف شمعون جهوده على التبشير بالمسيحية إلى أن قبض عليه في روما وصلب منكساً بناء على طلبه سنة 67م في زمن الإمبراطور نيرون، وتنسب إليه رسالتان من الرسائل السبع التي يسمّونها: الرسائل الكاثوليكية. ر: ترجمته في الأناجيل الأربعة، وسفر أعمال الرسل والإصحاحات: 1، 2، 4، 5، 15، قاموس ص 174-178. 3 متى 19/16، 17.

الروح الداعي الكلّ إلى الخلاص". وقد يقرؤون فيها: "يا ربنا وإلهنا يسوع المسيح لا تضيع من خلقت بيديك، لا." ويقرؤون في شريعة إيمانهم التي لا يتم لهم قربان إلاّ بقراءتها: "نؤمن بالربّ الواحد يسوع المسيح الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كلّ شيء". وهذا / (1/21/أ) كله مخالف لقول المسيح عليه السلام: "لا صالح إلاّ الله وحده"، وإذا كان هذا قول المسيح فقد ثبت أنه ليس هو الله ولا صفة من صفاته، وإذا ثبت أنه غيره ثبت أنه عبده؛ لأن ما سواه فهو عبده وخلقه، وتبيّن فساد الأمانة التي لهم وجهل من ألفها بدين المسيح وشريعته. 9- دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى: "قال يسوع: من أراد أن يكون منكم كبيراً فيلكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون أوّلاً فليكن آخراً إن ابن الإنسان لم يأت ليخدم، بل ليخدم ويبذل نفسه عن كثير"1. قلت: هذا دأب المتّقين وعباد الله المشفقين، قام عليه السلام بوصفه الاتضاع، ولزم مناهج إخوانه من الأنبياء في رعاية الأتباع، وصرح بأنه إنما بعث خادماً والربّ يجب أن يكون مخدوماً، وأنه باذل نفسه ويتعالى القديم أن يكون عديماً. 10- دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى: "مرّ يسوع بشجرة تين وقد جاع فقصدها فلم يجد فيها سوى الورق فقال: لا تخرج منك ثمرة إلى الأبد فيبست الشجرة لوقتها فتعجب التلاميذ وقالوا: كيف يبست؟ فقال: الحقّ أقول لكم: إنه لو كان / (1/21/ب) لكم إيمان بغير شكّ وقلتم للجبال: تعال واسقط في البحر لفعل كلّ ما سألتموه تنالوه"2.

_ 1 متى 20/26-28. 2 متى 21/18-22.

قلت: أدركته عليه السلام عوارض البشر من الجوع والعطش وما أكثر ما يصفه الإنجيل بذلك، ولما سبق في علم الله تعالى ما سيدعى فيه من الربويبة والإلهية حفظ هذه المواضع من الإنجيل وحرسها عن التغيير والتبديل، ولتكون وازعة ذوي عن الأحلام، عن عبادة رجل من الأنام، يفتقر إلى الشراب والطعام، فقل للنصارى: يا معشر من بخس حظه من المعقول، كيف خفي عن يسوع حال الشجرة وهو في زعمكم الذي غرسها؟! أم كيف افتقر إلى تناول الثمرة وهو الذي كَوَّن بلسها1؟!. ولِمَ دعا عليها؟! ومن الذي دعاه حتى ساق الثوى2 إليها؟ وأخبرونا من هو هذا الذي جاع؟، فإن زعمتم أنه الإله أكذبكم الإنجيل إذ يقول: "إن الله لا يأكل ولا يشرب". وأكذبكم داود في المزامير إذ يقول: "إن إله إسرائيل لا يأكل لحوم العجاجيل ولا يشرب دماء أولاد الغنم"3. فإن قلتم: إن الناسوت هو الذي جاع، أبطلتم الاتّحاد، إذ الاتّحاد عندكم صيَّر / (1/22/أ) الكثرة قِلة وجعل الاثنين واحداً، وأنتم زعمتم أن فائدة الاتّحاد تشريف الطبيعة الناسوتية لا انحطاط الطبيعة اللاهوتية. فإذا قلتم: إن طبيعة الناسوت باقية على حكمها، لم يحصل التشريف الذي ذكرتم، فما نرى طبيعة اللاهوت أكسب الناسوت خيراً. وأخبرونا أليس مَتَّى هذا يقول إنّ المسيح هو الذي جاع، وهو الذي تردد مع الشيطان في سخرته وواصل الصيام بسببه؟، والمسيح هو عبارة عن الطبيعتين

_ 1 البلس: من لا خير عنده، أو عنده إبلاس وشر، وثمر كالتين’، والتين نفسه. ر: القاموس المحيط ص 687. 2 ثَوَّى، تَثْوِيَةً: مات. انظر: القاموس المحيط ص 1637. 3 مزمور 50/13.

لللاهوتية والناسوتية جميعاً، إذ طبيعة الإنسان على تجردها لا تسمى مسيحاً عندكم، وإذا كان هذا هكذا فقد لزمكم القول بجوع الإله وعطشه ودخول الآفات عليه، وإذا كان ذلك غير سائغ فالمسيح إذاً عبد مربوب ومخلوق مألوه يتأذى بأسباب الأذى ويفتقر إلى تناول الغذاء. فأما جفاف الشجرة بدعوته فليس في ذلك معتصم في دعوى ربوبيته ولو جاز أن يدعى في المسيح الربوبية بهذه القضية لجاز ذلك لإبراهيم وموسى وإلياس ودانيال وخلق كثير / (1/22/ب) من أصفياء الله، فقد أجيبت لهم دعوات، وأمددهم الله من الملائكة بربوات. 11- دليل آخر على عبودية المسيح، قال متى: "اجتمع الفريسيون1 والهيروديسيون2 ودسوا على يسوع رجلاً ليصطادوه3 بكلمة، فقال له الرجل: يا معلم، قد علمنا أنك محق، وأن طريق، الله بالحق تعلم، وأنك لا تبالي بأحد ولا تعمل لوجه إنسان، فقل لنا هل نعطي الجزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع سرّهم وخاف شرّهم، فقال: يا مراؤون إنما جئتم لتجربوني4 أدوا ما لقيصر لقيصر وما لله - لله"5. قلت: هذه من المسيح عليه السلام حيدة6 عن الجواب وهي مؤذنة بالتقية

_ 1 الفريسيون: كلمة آرامية، ومعناه: "المنعزلون"، ويقلبون أنفسهم بلقب: حسيديم أي: الأتقياء، وكذلك: صيريم، أي: الزملاء، وهم من أبرز الفئات اليهودية وأضيقها رأياً وتعليماً وأشدّها عداء للمسيح وأتباعه، ومن أبرز معتقداتهم: إيمانهم بأسفار العهد القديم وبالتلمود، وإيمانهم بالبعث الدنيوي. ر: الكنْز الجليل في تفسير الإنجيل 1/28، انظر: قاموس الكتاب ص 674، الفكر الديني اليهودي - حسن ظاظا ص 210. 2 هيرودسيون: هم جماعة ليسوا طائفة دينية ولا حزباً سياسياً، بل مجرد أتباع هيرودس الكبير وخلفائه في فلسطين وكان لهم نفوذ واسع. ر: قاموس ص 1012. 3 في ص ليصطادونه والصواب ما أثبته. 4 في ص لتجربونني، والصواب ما أثبته. 5 متى 22/15-21. 6 في ش: الحيدة: الميل للضرورة.

القاضية بضعف البشرية، والحيدة توجد كثيراً في كلام الأنبياء عليهم السلام يستعملونها للضرورة الحاضرة. وأنا أستحسن قول سيدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقد قال له العباس: يا رسول الله، إن أبا طالب كان بارّاً أترجو الله له؟ فقال عليه السلام: "كلّ الخير أرجوه من ربّي"1. وقوله: "وقد سأله رجل: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال: "ما أعددت لها؟ "، قال: حبّ الله ورسوله. فقال / (1/23/أ) : "أنت مع من أحببت"2. ولما قال إبراهيم للكافر: ربي الذي يحيي ويميت. قال: يا إبراهيم أنشدك

_ 1 أخرجه ابن سعد 1/124، والذهبي في تاريخ الإسلام السيرة النبوية ص 233، كلاهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال: قال العباس: ... ، فذكر. وذكره السيوطي في الخصائص 1/147، وغزاه لابن عساكر أيضاً. قلت: رجاله ثقات وهم من رجال الستة. ر: التقريب على الترتيب 1/197، 1/115، 1/58. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلّ الخير أرجوه من ربّي". فهو بيّن في كمال ثقته صلى الله عليه وسلم بربّه عزوجل. وفيه تطييب لنفس عمّه العباس رضي الله عنه، كما أن دفاع أبي طالب في حياته عن النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته عن أذى المشركين قد حصل له بذلك خير في الآخرة، كما ورد في الحديث الصحيح عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله، هل نفعتَ أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ فقال: "نعم. هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". أخرجه البخاري. ر: فتح الباري 7/193، ح 3883، ومسلم 1/194. وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهون النار عذاباً أبو طالب منتعلاً بنعلين يغلي منهما دماغه". أخرجه مسلم 1/195. والذي تصرّح به هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها في أمر أبي طالب هو معتقد أهل السنة والجماعة فيه بعكس الرافضة التي تدّعي موت أبي طالب على الإسلام، وتستدل عليه بأحاديث قال عنها الحافظ ابن حجر: "بأن أسانيدها واهية"، وقد أفاض وأجاد الحافظ ابن حجر في الإصابة 7/112-116، في ترجمة أبي طالب في الرد على شبه الرافضة في دعوى إسلام أبي طالب. 2 أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب 96ر: فتح الباري 10/557، ومسلم 3/2032، 2033، عن أنس رضي الله عنه.

الله أأنت رأيته يفعل ذلك؟، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} . [سورة البقرة، الآية: 258] . واعتبر هذا الفصل الذي نقله مَتَّى تجده من كلام الراوي ليس للمسيح منه إلاّ القليل، وهذا حال أكثر الإنجيل، والإنجيل الحقّ هو المأخوذ عن المسيح عليه السلام لا عن غيره. وما أديص1 قول هذا الراوي [ليصطادوه] 2 بكلمة!! هذا يعتبر سلفهم فما ظنّك بخلفهم؟! أما كان يستطيع أيجعل مكان [ليصطادوه] 3 [ليمتحنوه ويختبروا ما عنده ويقفوا] 4 على حقيقة مذهبه، أين هذا من ألفاظ الكتاب العزيز إذ يقول: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيكَ} . [سورة الإسراء، الآية: 73] . {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ... } . [سورة الإسراء، الآية: 76] . 12- الدلالة على أن التلاميذ لم يكونوا [يعتقدون] 5 في المسيح ما ابتلي به النصارى، قال نقلة الإنجيل: لما كان في أوّل من عيد الفطير جاء التلاميذ إلى يسوع وقالوا له: أين تريد أن تأكل الفصح؟، فقال: اذهبوا إلى فلان فقولوا: يقول لك المعلم: عندك آكل الفصلح مع تلاميذي6.

_ 1 دَاص يديص ديَصَاناً: زاغ، حاد. الدَّائص الدّص ج داصة، والداصة: السفلة لكثرة حلاكتهم. ر: القاموس المحيط ص 800. 2 في ص ليصطادونه، والصواب ما أثبته. 3 في ص ليصطادونه، والصواب ما أثبته. 4 في ص ليمتحنونه ويختبرون ما عنده ويقفون، والصواب ما أثبته. 5 في ص يعتقدوا، والتصويب من المحقِّق. 6 متى 26/17، 18، وذكره أيضاً مرقس 4/12-15، ولوقا 22/7-12.

فَعَرْضُهم/ (1/23/ب) عليه الطعام والعمل بسنة العيد المأخوذة عن موسى، واتباعه أحكام التوراة دليل ظاهر على أنهم لا يفرقون بينه وبين البشر في شيء سوى النبوة، إذ هم يروون عنه في الإنجيل أن الأنبياء كلهم [معلمون] للناس، وهم الذين يروون عنه أن الله لا يأكل ولا يشرب. وقد شهد فولس الرسول في رسالته الأولى بأن المسيح عبدٌ لله وأن الله مالكه فقال وهو يُسهب في إفادة إخوانه: "إن كل شيء فهو لكم، وأنتم للمسيح والمسيح"1. فأضافه الله بلام التمليك كإضافة الأشياء لملاكها، وقوله: "وأنتم" يريد أنتم له أتباع، وهو يبلغكم عن الله أوامره بطريق السفارة. فإن قال النصارى: إنما أكل وشرب بناسوته، قلنا: ذلك باطل على رأي اليعقوبية2 القائلين أن الاتّحاد قد أصار طبيعتي المسيح طبيعة واحدة، فإنه لم يبق ناسوت متميّز عن لاهوت حتى يضاف إليه الأكل والشرب، وهو باطل على قول من جعل المسيح درعاً للاهوت أو مسكناً له3. إذ لو تجرد اللاهوت عن ناسوته حال ملابسة هذه النقائص لبطلت ألوهيته وخرج عن كونه مسيحاً / (1/24/أ) فإنه لم تثبت له هذه التسمية إلاّ بعد الاتّحاد في زعمهم. فقد أقام يسوع بينهم ثلاثين سنة لا يسمى مسيحاً إنما يعرف بيسوع بن يوسف، فمن أضاف الأكل والشرب إلى ناسوته وحده فقد جعله آكلاً شارباً ببعضه، ومن جوّز قبول آلهة للتنصيف، فقد أبان عن عقل سخيف وعقل ضعيف. ألم تسمعوا إلى قول المسيح: "يقول لك المعلم"، سمّى نفسه معلماً لهم؟! وقال لهم في موضع آخر: "ليس لكم معلم سوى المسيح"4. وقد قال في

_ 1 رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 3/22، 23. 2 فرقة من فرق النصارى سيأتي الحديث عنها. 3 هذاالقول على مذهب النسطوريةوهي من فرق النصارىالكبيرة وسيأتي الحديث عنها. 4 متى 23/8، 10.

الإنجيل غير مرة: "إن الأنبياء كلهم [معلمون] 1 لدواب الله"2. فكيف صرتم تُضربون عما في الإنجيل من دلائل نبوته وتتعلقون بأدنى خيال ف محاولة ربوبيته؟!. فإن أشكل عليكم لفظ الإنجيل - وليس بمشكل - فارجعا القهقرى إلى التوراة كتاب موسى والأنبياء من بعده، فهل تجدون فيها ما تنتحلونه من عبادة رجل من بني آدم؟! وإنا نجد غير ذلك في التوارة، وقد حذرت من الشرك بالله ومجانبة توحيد الله حتى قالت: "متى سمعتم بذلك في بلد أو قرية فأهلكوا جميع من في تلك القرية / (1/24/ب) والبلد بحد السلاح، ولا ترحموهم، الله ربكم هو إله واحد غيور عظيم مرهوب فاتقوه وخافوه، واحفظوا سنته وأحكامه وأزيلوا الشرّ من بينكم"3. وكرر ذلك في أسفار التوراة مرة بعد أخرى، فالاعتماد في ذلك على التوراة المقولة بلسان الإجماع عندكم، وذل أولى من الاعتماد على كتاب، إنما نقله أربعة أنفس وفيهم اثنان ليسا من أصحاب المسيح بل من التابعين لهم، فلا جرم لمّا نُقل هذا الكتاب بلفظ الآحاد وقع فيه من الغلط ما ستقفون عليه إن شاء الله في الباب الرابع من هذا الكتاب. وحينئذ تتحققون أنه ليس هو الإنجيل المنَزَّل من عند الله.

_ 1 في ص معلمين والصواب ما أثبته. 2 لم أجد في الأناجيل النص الذي ذكره المؤلف، ولكن ورد في إنجيل يوحنا 6/45، ما يؤدّي نفس المعنى كالآتي: "أنه مكتوب في الأنيباء ويكون الجميع متعلمين من الله". ولعل الناسخ زاد كلمة لداوب في النص الذي أورده المؤلف. 3 خروج 23/23، 24/12-16.

13- شهادة المسيح على أهل زمانه بالشّكّ في شأنه قال متى: "بينما التلاميذ يأكلون طعاماً مع يسوع قال: كلكم تشكون فِيَّ هذه الليلة؛ لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فيفترق الغنم، فقال بطرس: لو شَكَّ جميعهم لم أشك أنا، فقال يسوع: الحقّ أقول لك إنك في هذه الليلة تنكرني قبل أن يصيح الديك"1. فقد شهد / (1/25/أ) عليهم المسيح بالشّكّ فيه وأن خيارهم وهو بطرس خليفته عليهم من بعده سينكره، وإذا وقع لهم الشّكّ في المسيح في آخر أيامه ومنتهى مدته فقد تخرمت الثقة بأقوالهم، وإذا أنكره مثل بطرس ولم يعرفه بطل جزمهم بأنه قتل وصلب وصحّ قول2 ربنا تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتَّبَاعُ الحَقِّ} . الآية. [سورة النساء، الآية: 157] . فهذا المسيح عليه السلام قد وافق محمّداً - عليهما السلام - في أن القوم شاكون فيه، وذلك مبطل لدعوى القتل والصلب. وقد صرح المسيح في هذا الفصل بحرف لو تأمله النصارى لما عدلوا عن اعتقاد نبوته إلى انتحال بنوته وهو قول المسيح: "إنه مكتوب أني أضرب الراعي"، سمّى نفسه راعياً وهادياً داعياً، وهذا حال الأنبياء - عليهم السلام - فإنهم يطوقون أعباء السياسة، ويرفقون الأنام بأخلاق الحراسة. فنحن نسأل النصارى، من هو الضارب؟ ومن هو المضروب؟

_ 1 متى 26/31-34. 2 قول المؤلف: "وصحّ قول ربنا تعالى ... "، هو من باب الإلزام وإقامة الحجة على النصارى. وإلاّ فإن كلّ مسلم يعتقد بأن قول الله عزوجل هو الحقّ ووعده الصدق.

فإن زعموا أن الضارب هو الله، والمضروب هو الإنسان فقد وافقوا شريعتنا وخالفوا / (1/25/ب) شريعتهم إذ تقول: "إن المسيح إله لا إنسان". وإن قالوا: الضارب هو الإنسان والمضروب هو الله، كان هذا قولاً لا يقوله أحد من الحمقاء فضلاً عن العقلاء. فإن عادوا وقالوا المضروب هو المسيح أعدنا عليهم القول المتقدم، وقلنا: المسيح عندكم ليس آدمياً محضاً ولا إنساناً صرفاً، بل هو مركب بالاتّحاد من إله وإنسان، فقد لزمكم أن يكون الإله مضروباً أيضاً مع الإنسان، فإن راموا تخصيص الناسوت بالضرب لم يتهيأ لهم بعد القول بالاتّحاد، وإن راموا تصحيح الضرب وإضافته وسائر النقائض إلى الناسوت فقد أبطلوا الاتّحاد، وهو المراد. وإن قالوا: المراد بالمضروب (الابن) وبالضارب (الأب) ، قلنا لهم: فالأب والابن عندكم قديمان، فما الذي أصار أحدهما ضارباً والآخر مضورباً بأولى من العكس؟! وإذا كان الابن عندكم عبارة عن الحكمة الأزلية، فما معنى ضرب الله كلمته؟ وإنما تضرب الأجسام، فأما صفات الله القديمة فلا تفارق ذاته الكريمة ولا تقوم بغيره. وما نرى لروح القدس في أكثر هذه الفصول ذِكراً، فلا ضارب ولا مضروب / (1/26/أ) تعالى الله عن هذيانكم هذا علوّاً كبيراً. 14- صلاة المسيح وتعبده واجتهاده في الطاعة وتهجده، قال متى: "جاء المسيح مع تلاميذه إلى قرية تدعى جسمانية1 فقال لهم: امكثوا هاهنا حتى أصلي هناك. ثم أخذ يحزن ويكتئب، وقال: إن نفسي حزينة حتى الموت. ثم قال لبطرس وابني زيدي: اسهروا معي هذه الليلة. ثم خَرَّ على وجهه يصلي

_ 1 ورد في النص جشسيمَاني: وهي كلمة آرامية معناها: معصرة الزيت ويقع شرق أورشليم، وهو الآن مكان مقدس عند النصارى؛ لأنه مكان ألم المسيح وتسليمه والقبض عليه فيما زعموا. ر: قاموس ص 249، بتخليص.

ويقول: يا [أبتاه] 1 إن كان يستطاع فَلْتَعْبُر عني هذا الكأس، وليس كإرادتي لكن كإرادتك، ثم جاء إلى تلاميذه فوجدهم نياماً، فقال لهم: ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة، ثم مضى وصلى وقال: يا [أبتاه] 2 إن لم تستطع أن تعبر عني هذا الكأس حتى أشربها فليكن مسَّرتك، وجاء أيضاً فوجدهم نياماً فتركهم ومضى يصلي وأعاد كلامه الأوّل"3. قلت: انظروا معاشر الضلال ودعاة الضلال، هل تليق هذه الخلال بصفات ذي الجلال؟!. لو لم يكن في إنجيلكم سوى هذا الفصل لكان قائداً للعميان، سائقاً إلى غير دين النصرانية من الأديان، إذ كان وما شاكله من أوضح الأدلة على ضعف البشرية وعجز العبودية، / (1/26/ب) فسبحان من بخس النصارى عقولهم وأظلم سبلهم وأعمى دليلهم، أين هذا مما روى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتضر جعل يقول: الرفيق الأعلى"! 4. فأنبياء الله بل صلحاء الناس محاشون عن هذا التردّد حال الانتقال. وهذه التوراة تشهد باحتضار طائفة من أولياء الله كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وهارون وموسى وغيرهم، وهم راضون بلقاء ربّهم، فرحون بانقلابهم إلى [شَعُوبهم] 5 فنحن نوَرِّك6 على من نقل هذا التردد القبيح عن السيد المسيح.

_ 1 في ص به، والتصويب من النصّ. 2 في ص به، والتصويب من النصّ. 3 متى 26/36-44. 4 أخرجه البخاري في كتاب الصحابة يباب 5. ر: فتح الباري 7/20، 10/127، ومسلم4/1894،والترمذي15/491، وأحمد 6/274، عن عائشة رضي الله عنها. 5 في ص شعهم وما أثبته الموافق للسياق. ومعناها: منيتهم وموتهم، حيث اشتق من التفريق. شَعَب اسم المنية شعوب على وزن رسول. لأنها تفرق الخلائق وصار علماً عليها غير منصرف. ر: المصباح المنير ص 313. 6 ورّكه توريكاً: أوجبه والذنب عليه حمله. ر: القاموس المحيط ص 1235.

وفي هذا الفصل حرف يقطع بانحرافه وتحريفه وهو قوله: "إن لم تستطع أن تَعْبُر عني هذا الكأس". ثكلت لافظه أمه، لقد عجَّز قادراً، وسلك طريقاً عن الجَدَد1 نادراً، كيف يعجز القادر على الإطلاق، ويبخل من بيده مفاتيح أقفال الأرزاق؟!. فنحن نسأل النصارى، ما سبب هذا الحزن والاكتئاب؟! هل يعدو أن يكون إما جزعاً من الموت أو أسفاً على بقاء الناس على الكفر؟! وأَيُّ ذلك كان فقد تحقق عجزه فلا يصلح مَنْ هذا حاله للربوبية. ثم نقول لهم: ألم تنقلوا عنه أنه إنما جاء ليُخلِّص الخلق ويفديهم / (1/27/أ) بدمه الكريم من الجحيم؟ وإذا كان الأمر على ما زعمتم فلا معنى لحزنه ولا اكتئابه. وفي الفصل أيضاً ما يفسد عليهم ما لفقوه في شريعة إيمانهم، وهو قوله: (وليس كإرادتي لكن كإرادتك" [فصرَّح] 2 بأن إرادته مغايرة لإرادة الله تعالى، وإذا كانت إرادته غير إرادة الله بطل قولهم في الأمانة: "المسيح إله حقٌّ من حقّ إله حق من جوهر أبيه". فإن صححوا الأمانة أكذبوا الإنجيل، وإن صححوا الإنجيل أفسدوا الأمانة، إذ لو كان من جوهر الأب لكانت إرادته من جوهر إرادته، وهم يطلقون على الباري لفظ الجوهر تعالى الله عن كفرهم علوّاً كبيراً. 15- دليل آخر على عبودية المسيح، قال لوقا: "ورد أمر قيصر بتدوين الناس، فمضى يوسف ومريم وهي حامل بالمسيح ليكتتبا مع الناس فضربها

_ 1 في ش: أي: عن الطرق. 2 في ص مسرح، والتصويب من المحقِّق.

الطَّلَق فولدته ولفته في الخرق وتركته في مذود حيث نزلاً، فلما تمت له ثمانية أيام سمّوه يسوعاً ولما أكملوا أيام تطهيرهم أقاموه ليقربوا عنه زَوْجَيْ يمام أو فرخي حمام كَسُنَّة الناموس"1. قلت: هذه أحوال البشرية في تنقلها من / (1/27/ب) الاختتان إلى الرضاع إلى الطفولية ويتعالى ربّ الأرباب أن تحويه معالف الدواب، بل لا تحويه الأقطار ولا يحده المقدار، ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السماوات2. قال لوقا: "ولما أكملوا سنَّتهم على مقتضى ناموس الربّ رجعوا إلى الجليل إلى بلدهم الناصرة فكان الصبي ينشأ ويصفو بالروح ويمتلئ بالحكمة، وكانت نعمة الله عليه وأبواه يمضيان به في كل سنة إلى عيد الفصح، ولما تمت له اثنتا عشرة سنة مضوا به إلى ارشليم كالعادة، فلما رجعوا تخلف عنهم يسوع في أورشليم ولم يعلموا به وسارا وهما يحسبانه مع الرفقة فلما لم يجداه رجعا إلى أورشليم فوجداه في الهيكل بين العلماء والشيوخ يباحثهم ويسمع منهم فأخذاه وانصرفا وكان يطيعهما"3. قلت: هذا الكلام والذي قبله يشير إلى تقيد المسيح بشريعة موسى عليهما السلام، وأنه وغير شرع في الشرع، ورتبة التابع دون رتبة المتبوع وفي ذلك دلالة على عبوديته، فأما اعتقاد الربوبية في صبي يتعلم أحكام / (1/28/أ) التوراة ويسأل اليهود عما أشكل عليه منها فذلك عين الجنون، وهذا لوقا أَحدُ مُدَوَّني الإنجيل يشهد بأن المسيح عبد من عباد الله، وأنه صبي منت صبيان بني آدم، وأنه كان يتَزيد مواقع النعمة من الله شيئاً فشيئاً ويتعلم العلم ويسأل عما جهل ويستفيد

_ 1 لوقا 2/1-24، في سياق طويل وقد ذكره المؤلف مختصراً. 2 قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [سورة الزمر، الآية: 67] . 3 لوقا 2/39-51، في سياق طويل ذكره المؤلف مختصراً.

ممن هو أعلم منه، ويخبركم أن الله معطيه ومنعم عليه، فكيف لم ترضوا له ما وصفه به لوقا من صفته؟ أأنتم أعلم بما يجب له من لوقا؟! ألم تسمعوا إلى قوله: "وأبواه يمضيان به كلّ سنة إلى أورشليم". ألا يعجبوا من جلوسه بين العلماء للاستفادة والتعليم؟ فالنجاء النجاء من وبال هذا المذهب الذميم، والوحا الوحا1 في حلّ عقد هذا التصميم. 16- دليل آخر على عبودية المسيح وضعفه وافتقاره إلى خالقه وتبرئه ممّا يدّعيه النصارى فيه، قال لوقا: "قال رجل ليسوع: أتبعك إلى حيث تمضي يا سيد، فقال له يسوع: للثعالب أجحار ولطيور السماء أوكار، وابن الإنسان فليس له موضع يسند رأسه"2. قلت: الزهد شعار الأنبياء ودثار المتقين ونعت المؤقنين، يفرغ القلب منت الهموم / (1/28/ب) ويقشع عن الفكر غيوم الغمون، ويعرب عن قوة الإيمان والوثوق بضمان الرحمن، اشتغل المسيح بالزهد والنسك وتفرغ لخدمة ربه فرفض الملك، ورضي فقره فسكن الفقر3 وحقّق صبره، فتوسد الحجر وافترش العفر4. فكيف تعبد النصارى من لا يحوي مسقط رأسه فقراً؟! وتأمل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً. وإذ قد رووا عن الصادق المسيح أنه ليس موضع يسند رأسه، ورووا عنه أنه لا صالح إلاّ الله وحده، وحكوا عنه أنه قال: إنّ الله الإله الحقّ وحده، وأخبروا عنه أنه صام وصلى وانقطع لعبادة ربه وتخلَّى، فقد أكذبوا الأمانة التي

_ 1 الوحا: السرعة. يمد ويقصر، ويقال: "الوحا الوحا"، أي: البدار البدار. ر: مختار الصحاح ص 713. 2 لوقا 9/57، 58. 3 القفر: مغازة لا نبات فيها ولا ماء، والجمع: قفار. ر: مختار الصحاح ص 545. 4 العفر: التراب. المرجع السّابق، ص: 441.

ألفها قدماؤهم إذ تقول: "إن المسيح إله حقّ وأنه خالق كلّ شيء وأن بيديه أتقنت العوالم". وتعيَّن عليهم العمل بمقتضى قول المسيح وفتاوى تلاميذه الأبرار، وشهادة الأنبياء الذين تقدموه مثل: موسى، وداود. "فقد قال المسيح ورفع وجهه إلى السماء: إلهي أنت الإله الحقّ الذي أرسلت يسوع المسيح"1. وقال موسى في التوراة: "لا إله إلاّ إلهنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب الرّبّ الأزلي الذي لم يزل"2. وقال داود في مزموره3: "إن الله أقسم / (1/29/أ) إن المسيح رجل كاهن يشبه في عبادته وتقواه ملكي صادق". الكاهن الذي كان يخدم البيت المقدس على عهد إبراهيم4. 17- وقال سمعون الصفا رئيس الحواريين: "إن المسيح رجل أظهره الله بالأيد والقوة والمعجزات"5. وقال المسيح: "إنه لا يقدر على عمل شيء

_ 1 يوحنا 17/1، 3. 2 خروج 3/15. 3 مزمور 110/4. 4 ملكي صادق: اسم سامي معناه: ملك البر، وتزعم المصادر اليهودية، بأنه كان ملك أورشيلم وكاهن الله العلي، وكان معاصر لإبراهيم عليه السلام الذي باركه ملكي صادق، وأعطاه إبراهيم زكاة العشر. أما المصادر النصرانية فتصفه بأنه بلا أب ولا أم وبلا نسب. ولا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله ويبقى كاهناً إلى الأبد. ر: تكوين14/18-20، السنن القويم1/50،الرسالة إلى العبرانيين 7/1-4، قاموس ص 922. قلت: وهذا غلوٌّ ممقوتٌُ من أهل الكتاب في وصفهم ملكي صادق بهذه الصفات المستحيلة عليه؛ لأنه ليس هناك من هو بلا أب وبلا أم إلاّ آدم عليه السلام، ولا بُدّ لكل مخلوق من أن تكون له بداية ونهاية. وأما قول المؤلّف - رحمه الله -: "بأن ملكي صادق كأن يخدم البيت المقدس"، فمناه: بأنه كان ملكاً على أورشليم. 5 سفر أعمال الرسل 2/22.

ولا يتفكر فيه حتى يكون الله هو الذي يعمله"1. وسئل عن القيامة، فقال: "لا يعرفها إلاّ الله وحده"2. وهذه أقوال دالة وروايات متظاهرة على أن المسيح عبد مربوب، وأن له رباً يضرع إليه، ويعول في مصادره وموارده عليه لا إله غيره ولا رب سواه. فهلموا معشر النصارى إلى عبادة ذي الجلال، وقدسوا القديم عن تشبيهه بالرجال، واستحيوا من ذوي الحجى أن تعبدوا إنساناً قد حملت به أمه كما تحمل النساء بالأجنة، وترددت عليه أطوار الخلق وتنقلت به الحال إلى أن ناهز الثلاثين من السنين، ينسب إلى أُبوَّة يوسف مرة وداود أخرى، يتغذى بالطعام ويتردد بين الأنام، ثم تعتوره عوارض الحيوان فيعافى ويكرب، ويحزن ويطرب، ويعيا فيركب، ويستريح ويتعب، ويجوع ويعطش،/ (1/29/ب) فيأكل ويشرب، ويستتر من عدوّه ويطلب، ويقرن باللصوص كما زعمتم ويسحب، ويحمل صليبه فيقتل بقولكم ويصلب، ويدفن في المقابر فيبكى عليه ويندب، وقولوا بنا جميعاً كما قال المسيح في الإنجيل: "لِلرّبِّ إِلاَهِكَ اسجد وله وحده اعبد"3. قصم بذلك ظهر الخبيث وفصم عرى أهل التثليث وأثبت لربه الوحدة، وسجد لله وحده، ولم يعبد إلهين اثنين، ولا ثالث ثلاثة، ولا رأى ادِّراع ولا أقسم بالذراع، ولا اعتقد اتّحاد اللاهوت بالناسوت، ولا أقسم بصليب الصلبوت، ولا عظَّم الصّور والصلبان، ولا نطق بقولكم (كُرْياليصان) 4 بل عبد الله،

_ 1 يوحنا 5/9، 8/28، بالمعنى. 2 مرقص 17/32. 3 متى 4/10. 4 كلمة كرياليصون: اصطلاح يوناني معناه: يا ربّ ارحم، يتلى في القداس وفي صلوات عديدة بصيغته اليونانية في الكنيستين: الشرقية والغربية على السواء، وبهذه الكلمة يستفتحون بها صلواتهم وأدعيتهم. ر: ترانيم ومدائح منتخبة للكنيسة القبطية، كتاب: قائمة المصطلحات الكنسية في العربية، ص 49، باللغة الألمانية جورج غراف، الموسوعة العربية 2/1458.

ودعا إليه وعول فيما يأتيه ويدره عليه، قال الله تعالى في الإنجيل: "هذا فتاي" سمّاه عبداً وسمّيتموه ربّاً، وقال: "هذا رسولي"، سمّاه نبيّاً وجعلتموه أنتم إلهاً، وقال المسيح: "لا أعمل بمشيئتي" وقلتم إنه خالق كل شيء حتى كأنكم قد تتابعتم على خلافه بدليل أو تبايعتم على رفضه برهن ثقيل، فاستدركوا الغلط واهجروا الهُجر اللغط وتعلقوا بذمام قول الإسلام: {مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأَمُّه1 صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} . [سورة المائدة، الآية: 75] . ولا تغلوا في دينكم بغير دليل، واعتقدوا عبودية المسيح كما نطق به الإنجيل. 18- دليل آخر على عبودية المسيح ومساواته البشر، قال مرقس في إنجيله: "قال يسوع: إن نفسي حزينة حتى الموت، ثم خرّ على وجهه يصلي لله وقال: أيها الأب كلّ شيء بقدرتك، أخّر عني هذا الكأس لكن كما تريد لا كما أريد أنا"2. فها هو سائل والله مسؤول. وأي عبودية تزيد على هذا؟! 19- دليل آخر على عبوديته، قال يوحنا: "وقف يسوع على بئر من آبار [السامرة] 3 فقالت: له امرأة من نسل يعقوب: إن آبائنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إنه أورشليم؟! فقال لها يسوع: أنتم تسجدون لمن لا تعلمون ونحن نسجد لمن نعلم"4. قلت: هذا يوحنا التلميذ حبيب المسيح يشهد على المسيح أنه معترف بربّ لا تجزئه العبادة لغيره ولا تنبغي الربوبية لسواه سبحانه، ولو كان الأمر على ما

_ 1 / 1/30/أ. 2 مرقس 14/34-36. 3 في ص: السمرة، والتصويب من النصّ. والسامرة: اسم عبراني معناه: مركز الحارس، وهي اسم المملكة الشمالية مملكة إسرائيل التي أقامتها الأسباط العشرة من بني إسرائيل، ويضم إقليم السامرة وسط فلسطين ويقع بين الجليل في الشمال واليهودية في الجنوب. قاموس الكتاب ص 448، 449. 4 يوحنا 4/19-22.

يهتف به النصارى لأرشدها، وقال: اضربي عن معتقد أسلافك العواة واسجدي لي ولأبي وروح القدس، فإني ثلث الإله، كلا ولكنه / (1/31/أ) أخبره أنه عبد مذلَّلٌ تحت رقّ العبودية وأنه يسجد لله مستحق الربوية. وأعلم أن المسيح قد كان يصلي إلى أورشليم1 وهي البيت المقدس قبلة الأنبياء قبله، ولم يزل يتوجه إليها مدة مقامه إلى حين رفع فكان مما أحدث النصارى بعده الصلاة إلى جهة الشرق، وتركوا القبلة التي كان المسيح يتوجه إليها. فإذا عيب عليهم ذلك اعتذروا بأن صاحبهم صلب إلى تلك الجهة، قالوا: فتعين علينا التوجه إلى حيث صلب2. فيقال لهم: أرأيتم لو صلب إلى جهة المغرب أوصلب منكساً إلى أسفل ماذا كنتم تصنعون؟ وإذ تركتم قبلة المسيح والأنبياء وحسن عندكم خلافه فهلا توجهتم إلى الناصرة3 التي هي بلد ربكم أو إلى مصر التي هرب إليها بزعمكم خوف القتل، وتعلقتم بشبهتين من الإنجيل: إحداهما: قوله: "إنه كتب أن يدعى المسيح ناصرياً"4. والأخرى قوله: "من مصر دعوت ابني"5.

_ 1 أورشليم: معناه: أساس السلام، وكانت تسمى يبوس وأريئيل، وأما بالعربية فتسمى بيت المقدس والقدس الشريف، والقدس. ر: قاموس ص 129. وهي مدينة مقدسة منذ عصر إبراهيم عليه السلام. قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} . [سورة الأنبياء، الآية: 71] . قال أبي بن كعب، وقتادة وغيرهما: إنها أرض الشام. ر: تفسير ابن كثير 3/194. 2 ذكر ذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه: تثبيت دلائل النبوة 1/197، وابن القيم في: هداية الحياري ص 264. 3 الناصرة: اسم عبري ربما كان معناه: القضيب أو المحروسة، وهي مدينة في الجليل في شمال فلسطين إليها ينسب المسيح يسوع الناصري كما ورد في الأناجيل، فهي قرية أمه، وفيها نشأ المسيح في صغره، وإليها ينسب النصارى ودينهم النصرانية. ر: قاموس ص 946، المنجد في الأعلام ص 704. 4 متى 2/32. 5 متى 2/15.

فكيف تركتم هاتين الجهتين ولكم فيهما مستمسك وتوجهتم إلى جهة ارتضاها اليهود الملاعنين للتنكيل بإلهكم كما زعمتم؟!. ولو كنتم ذوي نظر وعبر لكانت هذه الجهة حرية عندكم بالمقت / (1/31/أ) فإنها الجهة التي هلك فيها معبودكم وقبلت دم ربّكم. وأخبرونا عن توجه هذا المصلوب إلى هذه الجهة أكان في ذلك طائعاً أو كارهاً؟! فإن كان كارهاً لم يكن لكم أن تصلوا إلى جهةٍ لم يخترها صاحبكم ولم يرضها وإنما حُمِل عليها مجبراً، وإن كان قد توجه إليها طائعاً راضياً، فَلِمَ [تلعنون] 1 اليهود الذين صلبوه [وتكفرونهم] 2 والذي فعلوه به إعانة له ومساهمة في حصول محبوبه وقرة عينه، ولاسيما أنهم نهجوا لكم قبلة تصلّون إليها؟! فتحننوا الآن على اليهود وتبركوا بهم إذاً، إذ كانوا قد فعلوا ما هو قرّة عينكم وعين صاحبكم. وكذلك يهوذا الإسخريوطي3 الذي ارتشى عليه وألقاه في أيدي اليهود حتى قتلوه وصلبوه بزعمكم فصلّوا عليه وترحموا وتبركوا باسمه وصَوِّبُوا فعله، فإنه صار وسيلة إلا خلاصكم، وإذ قلتم: إن أسلافكم في دركات النيران ولا خلاص لهم من ذلك إلاّ بقتل ربكم، وإنما قتل وصلب بدلالته وبركة سفارته

_ 1 في ص تلعنوا، والصواب ما أثبته. 2 في ص وتكفروهم، والصواب ما أثبته. 3 يهوذا: اسم عبري، معناه: حمد، ولقب بالإسخريوطي تمييزاً له عن يهوذا آخر، وكان أحد الحواريين الاثني عشر، وأميناً للصندوق، وبرغم ذلك فقد خان يهوذا المسيح ووشى بمكانه لليهود مقابل ثلاثين مثقالاً من الفضة، ثم قيل: بأنه خنق نفسه شنقاً ندماً على خيانته. ر: متى إصحاح 27، قاموس الكتاب ص 1089-1091. وقد ورد أن الله عاقبه على خيانته فألقى شبه المسيح على يهوذا فقبض الحراس عليه، ثم قتلوه صلباً بدلاً من المسيح الحقيقي الذي نجّاه الله عزوجل ورفعه إليه. ر: إنجيل برنابا إصحاح 215، 216.

وليس في النصارى - يرحمك الله - / (1/31/ب) من يُقِلُّ اللعن عن اليهود أو يقدر يسمع باسم الإسخريوطي، وهذه المؤاخذات واردة على الأصل الفاسد الذي أَصَّلوه، فإن أَبَوْا إلاّ لعن اليهود ومقت يهوذا فليتطيَّروا بجهة المشرق لكونها عَمَّتْهم بالشر وسقتهم بالكأس المرّ، وإلاّ فكيف يذمّ اليهود وتمدح الجهة وكلاهما مشؤوم؟! وما أحسن لعن [إله] 1 تقتله اليهود، [ورب] 2 تغلبه إخوان القرود. 20- دليل آخر على عبوديته وحدثه وأنه آدمي محض وإنسان صرف: اعلم أوّلاً أن تعاقب الأحوال من التغير والزوال والتفريغ والإشغال، والسكون والحركات والاختصاص بالمقادير والهيئات، هي الأدلة على حدث أجسام العالم. ولا خلاف بين النصارى أن المسيح عليه السلام ولدته أمه في بيت لحم في أرض يهوذا ولفتة ووضعته في الخرق في معلف وأرضعته ثديها وأفرشته حجرها وتولت تأديبه ونشأ نشوء الآدميين، لم يتميّز عنهم في حال من الأحوال من صغره إلى حين ابتداء الدعوة، قد عُرف طوله وقدره ولونه وكميته واعتذى بالطعام وانتقل من مكان إلى مكان ونحن نعلم / (1/32/أ) أنه كان إذا نزل أورشليم فقد فارق الناصرة، وإذا أقام بالناصرة فقد خلت منه أورشليم، وأنه ولد في دولة هيرودس ملك اليهودية، وأن مريم فرت به إلى مصر خوفاً من هيرودس ثم أعادته إلى الشام حين هلك أعداؤه، وأنه عاش نيفاً وثلاثين سنة يتعلم العلم ويقرأ التوراة ونبوات الأنبياء ويركب الحمير ويزجي3 الأوقات من الأقوات باليسير الحقير ويلجأ إلى الله في حوائجه ومآربه. ويدعوه إذا أعوزته وجوه

_ 1 في ص إلهاً وما أثبته الموافق لقواعد النحو. 2 في ص ورباً، وما أثبته الموافق لقواعد النحو. 3 زَجَّى الشيء: دفعه برفق، يقال: كيف تُزَجِّي الأيام؟ أي: كيف تدافعها، وتَزَجَّى بكذا: اكتفى به. ر: مختار الصحاح ص 269.

مطالبه، ويفرح ويغتم ويلبس ويعتم، ويفرّ من السلطان ويناظر الشيطان. وإذا كان حال المسيح على ما وصفنا فقد ثبت أنه مخلوق ومحدث، وعبد، وأن الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب هو خالقه ومحدثه، فإن تحامق النصارى فزعموا أنه هو الله أو صفة من صفاته، أو أن الله ساكن فيه وحال في إهابه، فقد حكموا أن القديم الأزلي ولدته امرأة، وخرج من فرجها، ولفته في الخرق، وألقته في مذود ثور، وسقته ثديها وقومته بتأديبها، وهربت به من خوف من يقصده من الأعداء وعلَمته وهذّبته / (1/32/ب) . وأنه كان يتردد إلى اليهود، يتعلم منهم وأن الله الأزلي كان له إلهاً يدعوه ويرجوه، وهذا كلّه لازم للنصارى على الأصل الذي أصلوه، وإذا كان ذلك محالاً فقد ثبت بما قدمناه أن المسيح عبد من عباد الله بقوله وفتواه.

الباب الثاني: في إثبات نبوته وتحقيق رسالته

الباب الثّاني: في إثبات نبوّته وتحقيق رسالته الدلالة على نبوّة المسيح: اعلم أن في إثبات نبوّة المسيح عليه السلام [إرغاماً] 1 لليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم ارتكبوا في طرفي نقيض. أما اليهود - خذلهم الله - فإنهم يرمونه بالكذب والسحر والنيرنجات2 واستخار الشياطين في أغراضه ومآربه، فقالوا: "إنه إنما يخرج الشياطين من الإنسان ببعلزبول3 رئيس الشياطين، وقالوا: إنه لم يحي ميتاً قط ولا أبرأ ذا علة وعاهة، ولكنه واطأ صديقاً له يقال له ألعازر4 فتماوت ثم إنه دخل عليه في جماعة معه فوجد أمه تبكي، فقال لها: لا تبكي، ثم وضع يده عليه فقام وادعى في البلد أن المسيح أحياه، وكانت أمه تهتف بذلك لشغفها بولدها5. وقالوا: وواطأ آخر فجلس على الطريق كأنه زمن فلما طال مقامه / (1/33/أ) وعُرِف بالزمانة والاستعطاء مَرَّ به في أناس معه كأنه لا يريد فناداه: ارحمني يا ابن داود. فأجابه: ما الذي تريده؟ فقال: أريد أن أنهض. فأخذ بيده وأقامه فقام وقد تعقدت رجلاه من طول الجلوس، فكانت أمه تشيع أن يسوع أقامه". واستبشع آخرون منهم هذا واستعبدوه فقالوا: لا. ولكن لَطُفَت معرفته بالطبّ حتّى أبرأ الأرض والأكمه وأقام الزمنى والمخلعين. وهم بأسرّهم

_ 1 في ص (إرغام) والصواب ما أثبته. 2 النَّيْرَنج: أَخْذٌ كالسحر وليس به. (ر: القاموس المحيط ص265) . 3 متى 12/24، مرقس 3/22، لوقا 11/15. وبعلزبول: اسم كنعاني ومعناه: (بعل الأقذار) ، وأصل هذا الاسم (بعلزبوب) وقد غيره اليهود، وأما بعلزبوب، فمعناه: (إله الذباب) وهو أكبر آلهة الوثنيّين ولذلك دعي رئيس الشياطين. (ر: قاموس ص 183) . 4 العازر: معناه: (من يعيه بهوه) ، وهو رجل من بيت عينا، وكان من نصيبه أن يقيمه المسيح من الأموات، ولا يعرف بعد ذلك مكان وزمن وفاته. (ر: المرجع السّابق، ص: 816) . 5 هذا ادعاء اليهود وتفسيرهم لما ورد في إنجيل يوحنا، الإصحاح (1) ، لمعجزة المسيح عليه السلام في إحياء الميت واسمه العازار.

ينسبونه إلى بنوّة الزنى كا يشهد به الإنجيل1، "إذ يقولون له في محاوراتهم: أما نن فلسنا من أولاد الزنى"2. فإذا أثبتنا معجزاته وآياته بالطرق التي ثبتت بها معجزات موسى وغيره من الأنبياء لم يبق إلى القدح في نبوّته سبيل، وكان ما يعترضون به على المسيح منعكساً عليهم في معجزات أنبيائهم3، وكلّ سؤال انعكس على سائله فهو باطل من أصله. 1 يوحنا 8/41. 2 ورد في كتاب التلمود - وهو كتاب فقه اليهود المقدس لديهم، إذ يعتبرونه التوراة الشفوية من الله لموسى عليه السلام ولكنه في حقيقته ليس إلاّ تفسيرات واستنباطات حاخاماتهم لنصوص التوراة؛ فقد ورد فيه: "أن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم يبن الزفت والنار، وأن أمه مريم أتت به من العسكري باندارا بمباشرة الزنى، وأن الكنائس النصرانية بمقام قاذورات، وأن قتل المسيحي من الأمور المأمور بها". وجاء في التلمود وصف المسيح بأنه كان ساحراً وثنياً ومجنوناً ومرتداً كافراً وشريراً. وبأنه صنم عبده أتباعه بعد صلبه. وبأن تعاليمه كذب وهرطقة ومستحيلة الإدراك. (الكنْز المرصود في قواعد التلمود - د. روهلنج - ترجمة د. يوسف نصر الله ص 27، 105، فضح التلمود - للأب براناتيس ص 55-76) . 3 لما لم يؤمن اليهود بالمسيح عليه السلام وكفروا بدعوته؟ لقد ذكر الباحثون لذلك عدة أساب نجمل أهمها كالآتي:

_ 1- أن اليهود كانوا ينظرون ظهور نبيّ يكون ملكاً عليهم ويخلصهم من أعدائهم بالسلاح، ولكنمهم فوجئوا بنبيٍّ يدعو إلى الصبر الإيمان بالله ولم تتحقق فيه الشروط التي وردت عند الأنبياء السابقين - حسب زعمهم - حول المسيح المنتظر وزمانه كنُزول إيليا مرهصاً له، ومجيء الخير والقضاء على الشرّ، فلذلك انفضوا من حوله وأظهروا له العدواة. 2- إن علماء الدين عند اليهود رأوا في المسيح رجلاً جاهلاً يتطاول عليهم، وعند طائفة منهم كانوا يعتبرونه أكثر الفوضويّين خطورة وأضرهم بمصالحهم الدنيوية، فكان أعداؤه ينشرون أن الأعمال الخارقة التي يعملها المسيح مرجعها الشيطان. 3- لأن المسيح عليه السلام قد خالف بعض تشريعات اليهود التي توجب مخالفتها الرّدّة والكفر-حسب زعمهم-وذلك كقدسية يوم السبت وتحريم العمل فيه. (ر: سفر الخروج (20) ، وسفر العدد (15) . وكالأكل بدون غسل الأيدي. (ر: مرقس (2) ، و (7) ، وكالدعاء على أورشليم بالخراب، (لوقا (21) . (ر: المسيحية نشأتها وتطورها ص 44، 45، شارل جنيبر، الفكر الديني اليهودي ص 110-12، د. حسن ظاظا، اليهودية ص41،42، د. شلبي، محاضرات في النصرانية ص 32، أبو زهرة، اليهودية والمسيحية ص 250-254، د. محمّد الأعظمي) .

وأما النصارى فإنهم مجمعون1 على ألوهية المسيح واعتقاد ربوبيته وأنه الإله الذي خلق العالم وجبل بيديه طينة آدم. فإذا أثبتنا نبوّته وأوضحنا رسالته عُرِف أن الإله غيره، والرّبّ سواه، ونحن نثبت ذلك من كتب النصارى التي بأيديهم ونوضحه من قول المسيح / (1/33/ب) وأقوال تلاميذه الذين صحبوه: 1- قال يوحنا التلميذ: "قال المسيح لتلاميذه: من قَبِلكم وآواكم فقد قبلني وآواني ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني. ما من عبد أفضل من سيّده"2. فهذا يوحنا حبيب المسيح يشهد بأن المسيح لم يَدَّع سوى الرسالة وأن من يقبل منه فإنما يقبل من الله الذي أرسله، ويذكر أن الله غيره وأن الرّب سواه، وأنه رسول من عند الله وها هو معترف بالعبودية في قوله: "ما من عبد أفضل من سيّده"، وذلك موافق للكتاب العزيز إذ يحكي منه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلِنِي نَبِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 30] . فإن زعم النصارى أنه سيد الحواريين وأنهم عبيده وأنه عناهم بقوله: "ما من عبد أفضل من سيّده" أكذبهم الإنجيل إذ يقول فيه: "إن الحواريين إخوته". "فقال له قائل: قابل إخوتك بالباب يطلبونك، فأشار إلى تلاميذه وقال: هؤلاء إخوتي"3. "وقال له أحدهم: يا سيّد. فقال: لست أدعوكم عبيد بل أنتم

_ 1 إن النصارى لم يتفقوا على ألوهية المسيح، إلاّ في القرن الرابع الميلادي بعد مجمع نيقية عام 325م، بعد أن فرض الإمبراطور قسطنطين على المسيحيين القول بذلك بالوعد والوعيد والبسلطة. وبالرغم من ذلك فقد بقيت طوائف كثيرة على الاعتقاد بعدم ألوهية المسيح. ومن أبرزها: طائفة الأريوسية، وفي العصر الحديث نجد الكثير من الباحثين ومفكّري النصارى ينكرون ألوهية المسيح. (ر: المسيح في مصادر العقائد المسيحية - لأحمد عبد الوهّاب) . 2 يوحنا 13/16، 20. 3 متى 12/46-49، مرقس 3/31-34، لوقا 8/19-21.

إخوتي"1. "وقال بعد قيامه: قل لإخوتي يسبقوني إلى الجليل"2. فقد ثبت بقوله رسالته وأن الله غيره وأنه غير الله، والرسول نبي بسفر بين الله وبين خلقه. فإن قالوا: نسلم أن الله أرسله ولا غرو / (1/34/أ) أن يرسل الله كلمته رحمة لخلقه ولطفاً بهم، وذلك أنه لما أرسل الله أنبياءه، فكذّبوهم وقتلوهم بعث إليهم ابنه الذي هو كلمته فتجسدت من مريم البتول ليتهيأ للناس السماع منها والأخذ عنها. فنقول: هذا تعريج على ثدنات3 الحمق وترويج بِبُنيَّات4 الطرق، وذلك لأن الكلمة عندكم قديمة، وهي علم الله على رأي بعضهم، ونطقه على رأي آخرين، وإذا كانت الكلمة قديمة، فكيف يصح إرسالها؟! أفتقولون إن الأب بعد إرسالها بقي أخرساً جاهلاً بغير علم ولا نطق؟! ثم الكلمة هي صفة العلم فكيف تفارق الصفة ذات الباري والصفة لا تفارق موصوفها؟! أو تقولون إن الصفة تقوم بمحلين؟!. وأخبرونا كيف قَدِر الخلائق على رؤية الكلمة القديمة وثبتوا عند مواجهتها؟! والتوراة تشهد أن موسى بن عمران عليه السلام لم يثبت عند جلال التجلي بل خَرَّ صعقاً وصار الجبل يضطرم ناراً5 وكذلك السبعون شيخاً ماتوا لوقتهم عند سماع كلام الله6.

_ 1 يوحنا 15/15، بألفاظ متقاربة. 2 متى 28/10. 3 ثَدِنَ اللحم: تغيرت رائحته. وفلان كثر لحمه وثقل فهو ثَدِن، وأمرأة ثَدِنة: ناقصة الخلق. المراد به هنا: نواقص الحمق. (ر: القاموس ص 1528) . 4 بُنَيَّات الطرق: الترهات. (ر: القاموس ص 1633) . 5 خروج 19/16-19، تثنية 5/23. 6 خروج 19/20-25، 24/9-18، تثنية5/24، ولم يرد فيها أنهم ماتوا عند كلام الله.

أتقولون إن موسى وصلحاء أصحابه لم يبلغوا من التمكين مبلغ / (1/34/ب) الحواريين الذين زعمتم أنهم شاهدوا الكلمة وخدموها؟! على أن اليهود الملاعنين أيضاً قد شاهدوا المسيح وقاوموه. أفتقولون إن موسى ومن معه من الأشياخ لم يبلغوا من التمكين والقوة مبلغ اليهود؟! هذا وأنتم تروون في التوراة: "إن قوم لوط لما دنوا من الباب يريدون ضيفه برقت من بعض من الملائكة بارقة أعشت أبصارهم، فلم يقدروا على رؤية الملائكة"1. فمن لم يستطع رؤية مخلوق مثله، كيف استطاع رؤية الرّبّ العظيم والإله القديم؟! وأخبرونا كيف تقوم الكلمة تتردد بين اليهود في الأرض نيفاً وثلاثين سنة لا يسطع منها نور يغشى الأبصار ويذهل العقول ويزعزع القلوب؟!. وكيف لم [تتناوبها] 2 الملائكة ويترددون إلى خدمتها؟! وهذه التوراة تنطق: "أن ابني هارون حين دنوا من قبة الزمان وبخَّرا بنار غريبة لم يؤذن فيها، نزلت من السماء نار فأحرقتهما بين يدي موسى وهارون وسائر بني إسرائيل"3. "وقد كلم الله موسى من صوب العوسجة فأضاء له الوادي"4. "وأرسل [أخزيا] 5 الملك الكافر خمسين رجلاً ليأخذوا الياء / (1/35/أ) النبي فنَزلت نار من السماء فأحرقتهم ثم بعث آخرين فنَزلت النار فأحرقتهم ثلاث مرات"6.

_ 1 تكون 19/1-11. 2 في ص (تنتابها) ولعل الصواب ما أثبته. 3 لاويين 10/1-3. 4 خروج 3/2-4. 5 في ص: (آحاب) والتصويب من النص. 6 الملوك الثاني 1/1-14.

"وألقى بختنصر ثلاثة من أرقاب دانيال النبي في نار عظيمة1 فلم تعد عليهم" "وطرح بختنصر دانيال إلى السباع فلم تهجه"2. وهؤلاء عبيد لله تعالى، فكيف نكص عنهم الشيطان وتمكن من ربّهم على زعم النصارى حتّى أغرى به شرذمة من أَخَسَّ جنده وهم اليهود فقتلوه وصلبوه؟! إذكان المسيح عندهم هوالله أومتّحداًبه وساكناًفيه. وأخبرونا كيف تتجسدالكلمةفتصيرلحماًودماًوعروقاً شعراًوظفارً؟! أذلك شيء شاهدتموه عياناً فساغ لكم أن تخبروا به الناس وتدعوهم إلى اعتقاده والقول به، فادَّعوا ما بدا لكم، فمن الذي يمسخ الله عقله ويسلخ لبه فيجيبكم إلى دين اعتقاد أهله أن الله ولد علمهُ، وأن علمه صار إنساناً، وصار ذلك الإنسان إلهاً خالقاً، وأن ذلك الإله قتله خلقه وصلبوه ونكلوا به؟!! فمتى تُساعدون على هذه الخرافات التي يأنف منها النوكى والمغفلون والعجائز المثكلون؟ وأخبرونا أليس المسيح عندكم / (1/35/ب) هو الكلمة، والكلمة هي المسيح؟ فإذا قالوا: نعم. قلنا: فنحن وأنتم نعلم أن المسيح كان يكون منه يكون من الآدميين، أفتصفون الكلمة بأنها كانت بائلة غائطة؟!. فإن قالوا: البائل الغائط هو الناسوت أبطلوا الاتّحاد وأزروا على يوحنا الإنجيل الذي زعم أن الكلمة صارت جسداً وحلّت في الناسوت. وكذَّبوا فولس الذي يسمونه رسولاً في قوله: "إن المسيح ابتاعنا من لعنة الخطيئة بصلبه وقتله فصار لعنة بدلنا"3.

_ 1 سفر دانيال إصحاح (2) . 2 سفر دانيال إصحاح (6) . 3 رسالة بولس إلى أهل غلاطية 3/13.

وسفّهوا إفريم في قوله: "إن اليدين التي جبلت آدم هي التي سمرت بالمسامير وإن الشِّبر التي مسحت السماوات هي التي علقت بالصليب". فإذا قالوا: "إن الآكل الشارب البائل الغائط هو الناسوت فقد كفروا بإفريم وفولس الرسول وغيره من مشائخهم". وقد نقل عن أكابرهم أنهم قالوا: "من لم يقل إن مريم ولدت الله فهو محروم من ولاية الله"1. وهم يقرؤون في صلواتهم: "يا والدة الله افتحي لنا أبواب الرحمة، يا من سمرت يده على الصليب لا تضيع من خلقت بيدك". وإذا كان هذا اعتقادهم فقد اعترفوا بأن الآكل الشارب المقتول المصلوب هو الله، تعالى عن كفرهم علوّاً كبيراً. فإن قالوا: هذا لازم / (1/36/أ) لكم أيضاً فإنكم موافقون على أن المسيح كلمة الله وقد نطق به قرآنكم. قلنا: لسنا سواء، فإنا نقول إن الله تعالى شرّفه بتسمية سمّاه بها كما سمّى إبراهيم خليلاً، وسمّى موسى كليماً، وسمّى إسرائيل ابناً بكراً بزعمكم، وسمّى موسى رجل الله، وسمّى عصاه قضيب الرّبّ، وسمّى قبة الزمان خباء الله، كلّ ذلك قد نطقت به كتبكم، والتسميات لا اختلاط لها بالذوات.

_ 1 قائل هذا القول هو: غريغورس، وهو من أكابر علمائهم، ويعتقدون أنه يتكلم بروح القدس. (ر: النصيحة الإيمانية ص 19، للمهتدي نصر بن يحيى المتطبب) . وهذا الاسم يطلق على أكثر من عالم لاهوتي عند النصارى. من أبرزهم: غريغوس العجائبي (213-270) ، أسقف قيصرية، غريغورس المنور (ت 332م) أسقف أرمينيا، غريغورس النازينزي (ت 389م) ، بطريرك القسطنطينية، غريغورس النيصي (ت 395م) ، أسقف نيسا ومن أشهر معلمي التصوف المسيحي. كما أن هناك (16) باباً من باباوات الكنيسة يحملون هذا الاسم. (ر: فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية 2/272، المنجد في الأعلام ص 505) .

ألا ترون الشخص الواحد والعين1 الواحدة تسمّى باسمٍ عند قوم وتسمّى باسمٍ آخر عند آخرين، وإذا كان المسيح عندنا قد سمّاه الله: (كلمة) لم يلزمنا ما لزمكم، فأما أنتم أيها الضلال فتقولون: إن كلمة الله انقلبت لحماً ودماً، فأكلت الخبز وشربت الماء وذلك هو الحَيْرة والعماء. فإن رجعتم إلى الطريقة المثلى وأضربتم عن هذه المقالة الشوهاء، وقلتم: إن النقائص يستحيل دخولها على الله وعلى صفته، فقد تركتم القول بألوهية المسيح وأبطلتم الاتّحاد، وذلك هو المراد؛ ووافقتم المسلمين والأنبياء المتقدمين. قال الله تعالى حكاية عن المسيح {قَالَ إِنِّ عَبْدُ اللهِ} . [سورة مريم، الآية:30] .وقال تعالى في المزامير:"إن المسيح يشبه/ (1/36/ب) ملكي صادق"2."ملك عادل الذي كان ببيت المقدس"،وقال الحواريون: "إن يسوع يشبه موسى"،وقال بعضهم:"إن المسيح أفضل من موسى"3. وقال في الإنجيل: "أنا أفضل من يونس"4. وقال المسيح: "أتيتم من آفاق الأرض لتسمعوا من حكمة سليمان، وهاهنا أفضل من سليمان"5. يريد نفسه. وقال في الإنجيل: "إلهي لم تركتني"6؟!.

_ 1 العين تقع بالاشتراك على أشياء مختلفة، والمراد هنا: الشيء نفسه. 2 مزامير 110/4. وقد تقدم التعليق. (ر: ص) . أن هذا النصّ وغيره من نصوص كتب أهل الكتاب مما لا ينبغي الجزم بنسبته إلى الله عزوجل وإنما تنسب إلى كتبهم. 3 رسالة بولس إلى العبرانيين 3/1-6. 4 متى 1/41، لوقا 11/32. 5 متى 12/32، لوقا 11/31. 6 متى 27/46، مرقس 15/34.

وقال في خاتمة إنجيل يوحنا: "إني ذاهب إلى إلهي وإلهكم"1. فاعترف بأن له إلهاً ورباّ فقد ثبتت عبوديته ونبوّته ورسالته. 2- دليل آخر على نبوّته عليه السلام، قال يوحنا التلميذ: "قال يسوع: أنا هو الراعي الصالح وأنا عارف برعيتي وهي تعرفني"2. وجه الدلالة من ذلك ما اشتملت عليه التوراة والكتب من رعاية إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى - عليهم السلام - تقدمت لهم مقدمات في رعاية النعم ثم أُهِّلُوا بعد لسياسة الأمم، فالنبي راع من الرعاة، وداع من الدعاة، يذودهم بالإنذار عن مراتع الهلاك ويريهم بأنوار الإيمان أشراك الإشراك، ولو كان الأمر على ما يهتف به النصارى من ربوبيته لم يقل في مجلس محشود ومحفل مشهود: أنا الراعي الصالح، بل كان يرفع / (1/37/أ) الالتباس ويقطع عن الناس الوسواس، ويقول: اعملوا أني أنا الله خالق السماء والأرض وجامعكم ليوم العرض، أو أنا ابن الله أو ثالث ثلاثة، أو أنا الكلمة القديمة اتّحدت بجسم إنسان. وحوشي3 عليه السلام عن هذا الذيان، بل الذي نصّ عليه ودعا تلاميذه إليه قوله في الإنجيل: "لا صالح إلاّ الله الواحد"4. وقوله: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد". وقوله: "إني لا أعمل بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"5. وسئل عن القيامة فقال: "لا يعرفها إلاّ الله وحده، فأما أنا فلا أعرفها"6.

_ 1 يوحنا 20/17. 2 يوحنا 10/14. 3 في ص (حوشي) . 4 مرقس 10/18، لوقا 18/18. 5 يوحنا 6/38. 6 مرقس 13/32.

فقوله: "أنا هو الراعي"، تكذيب للنصارى في دعوى ربوبيته؛ لأن الراعي ليس إليه ملك الغنم بل ملكها لغيره وليس له سوى الرعاية. وقوله: "وأنا عارف برعيتي وهي تعرفني". فيه دليل على أن الخلائق ليسوا بمعمومين بدعوته، بل لم يبعث إلاّ إلى طائفة من بني آدم لا غير. وقد كشف هذا وأوضحه في موضع آخر: "وهو أن أصحابه سألوه أن يقضي حاجة امرأة من الكنعانيين، فقال: لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين فيلقى للكلاب إني لم أرسل إلاّ إلى الذين ضلّوا من آل إسرائيل"1. فهذه نصوص الإنجيل الناجية من التبديلد، وكلها دالة على نبوته ومفصحة برسالته / (1/37/ب) صلى الله عليه وعلى إخوانه من النبيّين والمرسلين. 3- معجزة دالة على نبوّته، قال متى: "جاء رجل أبرص إلى يسوع وسجد له وقال: يا ربّ طهِّرني، فقال: طهرتك. فزال برصه لوقته، فقال له يسوع: اذهب وقرب قرباناً كما أوصى موسى"2. إن طعن اليهود في هذه الآية وجحدوها ولم يؤمنوا بها، قلنا لهم: ما الدليل على أن هارون وبنيه كانوا يزيلون البرص عن الأبرص3 وذلك شيء لم تشاهدوه؟ فإن قالوا: نقل إلينا بطريق التواتر التي توجب العلم ويقتضي القطع ولا يبقى معها شكّ. قلنا لهم: فكذلك تواتر واشتهر وانتشر أن المسيح كان يفعل

_ 1 متى 15/21-26، مرقس 7/24-28. 2 متى 8/2-4. 3 لاويين 13/1، 2.

ذلك، فإن حاولوا طعناً في آية المسيح انعكس عليهم في آية هارون وسائر الرسل، وإذا كانت هذه الآية لا سبيل إلى ردها وجحدها فقد لزم اليهود القول بنبوّته وترك ما هم عليه من التهود1. وإن حاولوا إسناد ذلك إلى معرفته بالطبّ ووقوفه على خواص تزيل البرص بسرعة، قيل لهم: فلعل موسى أيضاً حين طهر أخته مريم من برصها2 كان قد لطف في علم الطبّ ووقف على خواص فعل بها ما فعل دون أن يكون ذلك معجزة له، وحيث / (1/38/أ) بطل ذاك بطل هذا، وكان ما صدر منهما معجزة من عند الله تعالى. وإن قال النصارى: بذلك نستدل على ربوبيته إذ سجد له الأبرص، وقال له: يا رب، فلم ينكر عليه، ولو كان ذلك غير جائز لأرشده وقوّم أوده، فإقراره على ذلك وإزالة برصه دليل على ربوبيته.

_ 1 الهَود: الرجوع برفق. ومنه: التهويد، وهو مشي كالدبيب، وصار الهود في التعارف التوبة، قال تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . أي: تبنا. قال بعضهم: يهود في الأصل من قولهم: هدنا إليك. (ر: المفردات للراغب الأصفهاني ص 546) . وقيل: إنهم سمّوا بذلك لأنهم يتهودون، أي: يتحركون عند قراءة التوراة. وقيل: إنهم سمّوا يهوداً نسبة إلى يهوذا الابن الرابع ليعقوب عليه السلام. وجاء في قاموس الكتاب ص 1084: أن كلمة (يهود) أطلقت أوّلاً على سبط أو مملكة يهوذا تمييزاً لهم عن الأسباط العشرة الذين سمّوا إسرائيل فصارت تشمل جميع من رجعوا من الأسر من الجنس العبراني ثم صارت تطلق على جميع اليهود المشتتين في العالم. اهـ. وقال البيروني: "إنه قد أبدلت الذال المعجمة دالاً مهملة (يهوذا - يهود) . لأن العرب كانوا إذا نقلوا أسماء أعجمية إلى لغتهم غيّرا بعض حروفها". اهـ. وذكر أن الفرس قد أطلقوا على شعب يهوذا اسم اليهود وعلى عقيدتهم اليهودية. فلفظة يهود أعم من بني إسرائيل؛ لأن كثيراً من أجناس العرب والروم وغيرهم دخلوا اليهودية وليسوا من بني إسرائيل. (ر: صبح الأعشى 13/253، الخطط للمقريزي 3/503، قصة العقائد - سليمان مظهر ص 318، اليهودية - د. شلبي ص 92، بنو إسرائيل في القرآن والسنة - د. طنطاوي ص 19، أثر أهل الكتاب - د. جميل المصري ص 25) . 2 سيأتي ذكر هذه القصة.

قلنا: ليس في ذلك دلالة على ما انتحلتموه، أما السجود1 فهو كان سلام القوم وتحيّتهم فيما بينهم، يعرف ذلك من طاع كتبهم وقرأ تواليف المتقدمين منهم. والدليل على ذلك ما اشتملت عليه توراتهم من "سجود2 إبراهيم ولوط للملائكة الذين مرّوا بهم لهلالك سدوم"3. "وسجود إبراهيم لقم ساومهم في قطعة من الأرض لدفن زوجته سارة فسجد لهم مرتين حين فاتحهم فيها"4. والتوراة تشهد أيضاً: "إن إسرائيل حين دخل على يوسف بمصر سجد له هو وأولاده"5. وكذلك التوراة: "تشهد أن إفرام ومنشا6 سجدا ليقعوب جدهما

_ 1 ورد في قاموس الكتاب المقدس ص 459، أن السجود يدل عل تقديم الاحترام والإكرام والتحية المتواضعة. (تكوين 37/10، الملوك 1/53، متى 9/18) . وهذا النوع من السجود لا يزيد عما يقدمه الناس لمن يكرمونه من الأمراء أو الحاكم ولا يزيد على الانحناء أمامهم، ويوجد سجود آخر يفهم من القرينة أنه تقديم التعبد لله. (تكوين 24/48، ويوحنا 4/24) . اهـ. 2 تكوين 18/1، 2، 19/1. 3 سدوم، أرض قول لوط الذين أهلكهم الله، وهي إحدى مدن السهل الخمسة وتقع الآن تحت الماء في جنوب البحر الميت، وقد صارت خطيئة سدوم ومصيرها مضرب الأمثال، كما أن خطيئة "السدومية" أو الشذوذ الجنسي أخذت اسمها من سدوم. (ر: قاموس ص 460، 461) . 4 تكوين 23/2-12، وفيه: ( ... فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبَنِي حِثّ) . 5 لم أجد في التوراة المحرفة أن يعقوب (إسرائيل) وأولاده سجدوا ليوسف حينما دخلوا عليه بمصر. (ر: تكوين 46/28-31) . ولكن ذكر فيها أن إخوة يوسف قد سجدوا له عندما جاءوا يطلبون الطعام منه أوّل مرة. (ر: تكوين 43/28) . وقد وصف القرآن الكريم دخول يعقوب وبنيه على يوسف بقوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ً ... } . [سورة يوسف، الآيتان: 99-100] . قال ابن كثير في تفسره 2/509: "وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له. ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة. وجعل السجود مختصاً بجناب الرّبّ سبحانه وتعالى. هذا مضمون قول قتادة وغيره". 6 منسى وإفرايم: اسمان عبريان معناهما: (من ينسى) ، و (الأثمار المضاعفة) وهما ابنا يوسف عليه السلام، وقد ولدا بمصر. (ر: قاموس ص 90، 924) .

بحضرة أبيهما يوسف فدعا لهما وبارك عليهما"1. ولم ينكر فعلهما. وأما قوله: "يا ربّ"، فسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - في باب تأويل ظواهر الإنجيل ونبيّن / (1/38/ب) أنه لفظ يخاطب بها الأكابر والعظماء من الناس، وذلك مشهور في كلّ ملة. فأما تطهير الأبرص فليس فيه دلالة على ربوبية عسى عليه السلام وألوهيته، بل ينتهض ذلك دليلاً على تقريبه من ربّه ومزيته، ولو جاز أن يتخّذ المسيح بذلك ربّاً لجاز ذلك في حقّ اليسع عليه السلام؛ إذ قد روى النصارى واليهود في كتاب سفر الملوك من كتبهم: "أن نعمان2 الرومي برص فرحل إلى اليسع من بلده واستأذن عليه فلم يأذن له، بل قال لرجل من أصحابه: "قل له ينغمس في الأردن سبع مرات"، ففعل الرجل فبرأ من برصه لوقته ورجع إلى بلده معافى فاتبعه غلام للمسيح يقال له: (حِجْزا) 3 وأوهمه أن المسيح أرسله يطلب منه مالاً ففرح نعمان بذلك وأعطاه مالاً وجوهراً ثميناً فأخفاه الغلام وجاء إلى اليسع، فقال له اليسع: تبعت نعمان وأوهمته عني كذا وكذا، وأخذت منه كذا وخبأته في موضع "كذا، إذ فعلت ذلك فليصر برصه عليك وعلى نسلك. فبرص الغلام مكانه"4. فهذا نبيّ الله اليسع قد فعل ما هو أعجب من فعل المسيح / (1/39/أ) لأنه أبرأ نعمان وبرَّص الغلام ونطق بالغيب، وقد أشار الإنجيل إلى طرف من القصة.

_ 1 تكوني 48/8-21. 2 نعمان الرومي: رئيس جيش بنهدد ملك الآراميين في أواسط سورية. (ر: قاموس ص 973) . 3 حيجزى: اسم عبري معناه: "وادي الرؤية"، غلام النبي المسيح ورفيقه. (ر: ص:279) . 4 سفر الملوك الثاني، الإصحاح الخامس.

فأما التوراة فهي تنطق: "أن مريم ابنة عمران1 أخت موسى وهارون تَغَرَّبت على موسى في أمر من الأمور فلما صعدوا إلى قبة الزمان وكلّمهم الله سبحانه تهدد مريم جدا وغضب عليها، فلما خرجت من القبة نظر إليها هارون أخوها فإذا هي قد ضربت بالبرص من قرنها إلى قدمها، فرق لها هارون وسأل موسى أن يدعو الله لها فدعا لها فشفيت"2. وهذه الأنبياء قد فعلت ما هو مثل فعل المسيح وأعجب منه. فإن قال النصارى: "إن موسى واليسع وغيره كانوا يفعلون ذلك ولكن بعد ابتهال إلى الله ودعاء وطلب ورغبة، فأما المسيح فإنه كان يخترع ذلك اختراعاً من نفسه من غير دعاء ونداء. قلنا لهم: من سلم أن المسيح كان يفعل ما يفعل غير مبتهل إلى الله ولا طالب إليه، والدعاء لا يشترط لإجابته الإعلان، فإن الداعي يناجي بحوائجه من استوى عند السر والجهر، ومن أين لكم أن المسيح كان لا يدعو ربه / (1/39/ب) سرّاً؟! على أنا نريكم عدة مواضع من الإنجيل الذي بأيديكم يشهد أنه كان لا يفعل معجزاً إلاّ بعد أن يسأل الله ويضرع إليه ويُعَوِّل في نُجْح مطالبه ومآربه عليه، قال في الإنجيل: "عندما أحيا حبيبه العازر ورفع بصره إلى جهة السماء: يا

_ 1 مريم ابنة عمران - أخت موسى وهارون - يذكر عنها قاموس الكتاب ص 856 أن اسمها عبري معناه: (عصيان) ، ويظن أنها أكبر من موسى نحو عشر سنين، وقد ماتت ودفنت في قادش. (وهي على مسافة (50ميلاً) من بئر سبع إلى الجنوب" اهـ. وكانت في نظر اليهود والنصارى نبية من الأنبياء. (ر: سفر الخروج15/20) . 2 قبة الزمان هي ما يسمى في التوراة بـ: "خيمة الاجتماع"، وأطلق عليها اسم علم: "بيت الرّبّ"، وتسمّى أيضاً بـ: "المسكن"، و"ومسكن الشهادة"، وقد أمر الله موسى عليه السلام ببنائها في البرية وتنقسم إلى ثلاثة أجزاء: المسكن، والخيمة، والغلطاء. (ر: سفر الخروج: إصحاح (30) - (35) ، وقد كانت مركز عبادة بني إسرائيل وتقديم قرابينهم. (ر: قاموس ص 352-354) .

[أبت] 1 أشكرك لتستجيب لي وأنا أعلم أنك تستجيب لي في كلّ حين، ولكن أشكرك من أجل هؤلاء الفئام ليعلموا أنك أرسلتني"2. فها هو قد أكذب النصارى في دعواهم أنه كان يخترع من تلقاء نفسه من غير دعاء وابتهال. وقال فيما حكاه النصارى عنه: "إلهي إن كان يحسن صرف هذا الكأس فاصرفها عني كما تشاء أنت لا كما أشاء أنا"3. وهذا شيء لم نسمعه إلاّ منهم فقد وضح كذب مورد السؤال. فأما موسى عليه السلام فالتوراة تشهد بأنه كان يلقي عصاه فتصير ثعباناً ثم يأخذها فتعود خشبة4 ثم يلقيها فتعود شجرة وتمد أغصاناً وتثمر لوزاً5 ثم يتناولها فتعود عصا ثم يضرب بها النيل فينقلب دما ثم يضربه / (1/40/أ) فيرجع ماء6 كل ذلك من غير سؤال ولا استغاثة. وقد أحيت تربة قبر اليسع ميتا7، وأبرأ يوسف عيني أبيه من غير سؤال ولا

_ 1 في ألأصل: يأبه، والتصويب من النص. 2 يوحنا 11/41-43، بألفاظ متقاربة، وقد ورد في الأناجيل ذكر معجزة إحياء المسيح عليه السلام للموتى ثلاث مرات هي: الأولى: إحياء ابنة يَايِرُس - رئيس المجمع - ورد ذلك في إنجيل متى 9/18-39، وإنجيل مرقس 5/21-43، ولوقا 8/40-56. الثانية: إحياء ابن الأرملة - انفرد بذكرها لوقا 7/11-17. الثالثة: إقامة العازر - انفرد بذكرها يوحنا. 3 متى 26/39، بألفاظ متقاربة. 4 ر: سفر الخروج الإصحاح السابع. 5 إن ما ورد في التوراة سفر العدد 17/8-10، يفيد أن عصا هارون هي التي أصبحت شجرة وأزهرت وأنتجت لوزاً وليست عصا موسى كما ذكره المؤلف. 6 ر: سفر الخروج الإصحاح السابع. 7 سفر الملوك الثاني 13/20، 21.

دعاء1، وأحرق إيليا ثلاثة عساكر بنار نزلت من السماء2 ولم يتقدم منه دعاء ولا طلب فعل ذلك عدّة من الأنبياء، فأما المسيح فقد بينا أنه كان في غالب أمره يدعو ويضرع كما قدمناه، ولم ينقل أن واحداً ممن سَمَّينا ضُرب ولا غُلب، فأما المسيح فالنصارى تزعم أنه قتل وصلب. والعجب منا ومنهم فإنا نعتقد نبوّته وسلامته وهم يعتقدون ربوبيته وعطبه، لقد تباعد ما بيننا وبينهم. 4- معجز دال على نبوته، قال مى: "جاء رئيس من الرؤساء إلى يسوع فقال: إن ابني قد ماتت فلعل تأتي إلينا فتضع يدك عليها، فمضى معه ووضع يده عليها، فعاشت ابنة الرجل"3. فإن أنكر اليهود ذلك مع تواتره وأكذبوا التواتر انعكس عليهم في نبوة أنبيائهم وإن زعموا أنه فعل ذلك تخييلاً، قيل لهم: ولعل قلب العصا حيواناً يسعى كان أيضاً تخييلاً / (1/40/ب) وشعبذة4 ودكا، فقد لزمهم القول بنبوة المسيح بالطريق التي لزمهم القول بنبوة موسى وغيره. ولو تطرق التشكيك إلى نبوة المسيح مع ظهورها لم يثبت نبوة نبيٍّ ولا استقرت رسالة رسول.

_ 1 قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} . [سورة يوسف، الآيات: 93-96] . 2 سفر الملوك الثاني إصحاح (1) . 3 متى 9/18-26. 4 شعوذ الرجل شعوذة ومنهم من يقول: "شعبذة شعبذة"، وليس من كلام أهل البادية. وهي لعب يري الإنسان منه ما ليس له حقيقة كالسحر. (ر: المصباح ص: 314) .

وإن قال النصارى: ذلك دليل على ربوبيته إذ لا قادر على إحياء الموتى سوى الله تعالى، قال الله: {وَالمَوْتَى يَبْعَثُهم الله ... } . [سورة الأنعام، الآية: 36] . قلنا: فيلزم على ذلك أ، تعتقدوا ربوبية كل من أحيا ميتاً وتتخذوه ربّاً، وقد قال عندكم في كتاب سفر الملوك إن إلياس أحيا ابن الأرملة1، وأن اليسع أحيا ابن الإسرائيلية2 وأن حزقيال أحيا بشراً كثيراً يقال إنهم ستّون ألفاً أحياهم في ساعة واحدة3، وهذا أعجب من إحياء المسيح نفسين أو ثلاثة. والتوراة تشهد إن موسى كان يقلب عصاه ثعباناً، فبينما هي خشبة إذ عادت حيواناً ذا عينين يأكل ما مرّ عليه4، وقلب الخشب حيواناً أبدع من إعادة الروح إلى ميت. 5- معجز دال على نبوة المسيح، قال متى: "حضر إلى يسوع أعميان فقالا: ارحمنا يا ابن داود، فقال: أتؤمنان؟ قالا: نعم. فلمس أعينهما وقال: / (1/41/أ) كإيمانكما يكون لكما. فانفتحت أعينهما، فقال: لا تقولا لأحد شيئاً"5. فإن أنكر اليهود هذه الآية وطرقوا إليها المطاعن، قيل لهم: بأي طريق ثبت لكم "أن موسى عليه السلام شكا إليه [بنو] 6 إسرائيل الحيات التي لدغتهم في

_ 1 الملوك الأوّل 17/17-24. 2 الملوك الثاني 4/18-37. 3 حزقيال 37/1-10. 4 الخروج 7/10-13. 5 متى 9/27-30، بألفاظ متقاربة. 6 في ص (بنوا) والصواب ما أثبته.

التيه فاتّخذ لهم حيةً من نحاس ونصبهم على خشبة وقال: من لدغته أفعى فلينظر إلى تلك، ففعلوا وصحوا"1. فإذا قالوا: "التواتر والنقل المستفيض يشهد به. قيل لهم: فاقتعوا منا بهذا الجواب. وإن قال النصارى: ذلك دليل على ربوبية المسيح. قلنا لهم: لو جاز ادعاء ربوبيته بذلك لجاز لآل يوسف أن يدّعوا ربوعيته بمثله؛ إذ التوراة تشهد أنه أبرأ عيني والده يعقوب بعد ذهابهما، ولما لم يجز التمسك بذلك في الربوبية لم يجز هذا، والمسيح أمرّ بستر ذلك، ويوسف لم يأمر به، فيدل على أنه أقوى حالاً وأعظم تمكيناً من غيره. ومعلوم عندكم: "أن موسى قد ضرب بعصا كثيب رمل فانهال قملاً لكل واحدة عينان تبصر بهما"2. وهذا أعجب من فعل المسيح؛ لأن فيه خلق الحيوان كله، وذلك رد الصحة على جارحة من جوارحه بعد ذهابها. وقد / (1/41/ب) شهد متى صاحب المسيح أن المسيح لا يعلم المغيبات "إذ يقول للرجلين: أتؤمنان؟ فقالا: نعم". وأنه لم يعلم بإيمانهم بعد قولهما حتى علق الشفاء على إينمانهما، "فقال: مثل إيمانكما يكون لكما". فضاهى ذلك قوله: "وقد

_ 1 العدد 21/6-9، وقد آل أمر هذه الحية النجاسية في بني إسرائيل في السنين التالية أنهم عظموها وغلوا في أمرها حتى عبدوها وأصبحت صنماً إلى أن حطمها حزقيا. (ر: سفر الملوك الثاني إصحاح (18) ، وقد كان التطرف والانحراف عن الشريعة الإلهية عادة في بني إسرائيل ثم أصبحت هذه الحية شعاراً ورمزاً لليهود ولجمعياتهم السّرية الصهيونية كالماسونية وغيرها. كما أنهم يشبهون أن أحلامهم في السيطرة على العالم بالأفعى التي تلف حول الكرة الأرضية فيلتقي رأس الحية بذنبها في فلسطين المحتلة. 2 الخورج 8/16، 17، والقُمَّل: صغار الذباب، قال تعالى: {وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} . والقمل معروف. (ر: المفردات للأصفهاني ص 413) .

سئل عن يوم القيامة فقال: لا أعلمها. بل الله وحده هو الذي يعلم ساعته ووقتها". وبذلك نرد على من زعم أنه من جوهر الأب، حيث قالوا في الأمانة: "المسيح إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه". وهذه الفصول من الإنجيل تكذب تلك الأمانة وتُخطِّئ من ألفها إذ لو كان من جوهر الأب لكان علمه من جوهر عمله، ومشيئته من جوهر مشيئته، وسائر صفاته من صفاته، ولم يكن جسماً ذا شعر وبشر، بل المسيح من جوهر أبيه داود وإبراهيم فهو إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر أبيه، والعجب أن المسيح عليه السلام رضي من الرجلين أن نسباه إلى داود وقضى حاجتهما ولم ترضَ النصارى له بما رضيه لنفسه حتى نسبوه نسبة خالفوه فيها وأسخطوا الله وأضحكوا منهم سائر / (1/42/أ) طوائف آدم، على أن قول الرجلين له: "يا ابن داود" لوكان خطأ منهما، لم يقرّهما المسيح على الخطأ، ولاسيما خطأ هو كفر! 1. وكيف يسمعهما ينطقان بالكفر وهو إنما جاء ليخلص الناس منه؟! بل قد سمع ذلك منهما فأقرهما عليه وشفاهما، وذلك منه بما نسباه إليه من نبوة داود، وكيف لا يرضى بذلك منهما وهي النسبة الجليلة التي نسبه بها جبريل الملك حين بشر به مريم بالناصرة كما شهد به لوقا في إنجيله: "إذ يقول لها: إنك تقبلين حبلاً بولد اسمه يسوع يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود"2. فالويل للنصارى، لم يرضوا له النسبة التي نسبه بها الحواريون، وارتضاها المسيح من أهل زمانه، وجاء بها جبريل من عند الله.

_ 1 يعني: أن قول الرجلين للمسيح عليه السلام: "يا ابن داود"، كفر على مقتضى اعتقاد النصارى بأنه ابن الله، فكيف يقرّهما المسيح عليه السلام على ذلك ولا ينكر عليهما؟! وهذا من باب إلزام النصارى الحجة ببشرية المسيح وعبوديته. 2 لوقا 1/30-32.

فمن عذيري1 من قوم لبسوا عقولهم مقلوبة يتنكبون السبيل ويرتكبون خلاف ما في الإنجيل؟!. نكتة: قال متى: "سمع يوحنا وهو السجن بأعمال المسيح فأرسل إليه اثنين من تلاميذه، وقال: قولوا له أأنت الآتي أو يرجى آخر؟ فقال يسوع: اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما العمي يبصرون والعرج يمشون، والبرص يطهرون،/ (1/42/ب) والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، فطوبى لمن لم يشك فِيَّ، فلما ذهب التلميذان قال يسوع: هذا الذي كنت من أجله، هو ذا أنا مرسل ملاكي قدام وجهك ليستهل طريقك، الحق أقول لكم، إنه لم تلد النساء أفضل من يوحنا، والصغير في ملكوت الله أفضل منه، بماذا أشبه هذا الجيل الشرير؟ أشبهه بصبيان يصيحون بإخوانهم قائلين: زمنا لكم فلم ترقصوا، ونحنا لكم فلم تبكوا، جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب، فقالوا: به شيطان، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فقالوا: إنسان أكول شريب خمر خليل العشارين والخطاة، فتبررت الحكمة في بينها"2. قلت: كيف يعتقد في المسيح الربوبية وهذا نبي الله يحيى بن زكريا يرسل إليه: "أأنت الآتي أو يرجى آخر؟ ". فإن كان هذا الشّكّ من يوحنا لا يقدح في إيمانه ونبوته فالمسيح ليس بإله؛ لأن الشّكّ في الإله كفر. وإن كان المسيح إلهاً كما يهذي به النصارى فقد كفَّروا يوحنا هذا. أفتدعي النصارى - ويلهم - أن يحيى بن زكريا كان جاهلاً بربّه مع قول المسيح: "إن النساء لم تلد أفضل منه؟ ". فشهادة المسيح / (1/43/أ) ليوحنا بأنه أفضل أهل زمانه دليل

_ 1 أي: من يلومه على فعله وينجي باللائمة عليه ي بيان فضائح النصارى وسخافاتهم وضعف عقولهم؟ (ر: المصباح المنير ص 399) . 2 متى 11/2-19، بألفاظ متقاربة وقد اختصر المؤلِّف بعض النصوص.

على غلط النصارى في دعوى ربوبية المسيح، إذ لو كان كما قولوا لكان الأولى باعتقاد ذلك يوحنا، وإنما أرسل يوحنا يسأل عن النبوة والرسالة، فلما أحاله على رؤية الخوارق والتي هي أعلام النبوة زال تردده في نبوته. وأما قول المسيح: "والصغير في ملكوت الله أفضل منه"، فيعني بالصغير نفسه جرياً على عادته في سلوك التواضع، وفي ذلك دلالة على نبوته من قوله؛ لأن الأفضلية لا تثبت إلاّ بين فاضلين اشتركا في أصل الفضل ثم ترجح أحدهما على الآخر بمزيد من الفضل، ولا يحسن أن يقال: إن الباري جل وعلا أفضل من زيد أو عمرو. مناقشة: قلب النصارى الحكمةَ وأبدلوها وحرفوا كتب الله وبدلّوها، وصفوا يوحنا بصفة الأرباب في استغنائه عن الطعام والشراب، فقالوا: "كان يوحنا لا يأكل ولا يشرب". واعتقدوا في المسيح الربوبية مع وصفهم له بنقص العبودية، فقالوا: "كان المسيح إنساناً أكولاً شريب خمر"1. فسخر / (1/43/ب) منهم ذووا الألباب وآضوا2 سُبَّةً على ممرّ الأحقاب. مناقشة: زعم النصارى أن المسيح كان يتردد إلى أورشليم للاستفادة والتعليم ويسائل الأحبار عن الأخبار3 ثم اعتقدوا أنه الذي أنزل التوراة على الكليم وفدى الذبيح من يد إبراهيم، فيقال لهم: يا ممسوحي الحلوم ومسلوخي الفهوم، كيف يتعلم كتاباً هو الذي أنزله أو يتلمذ لرسول هو الذي أرسله؟!. 6- معجزة دالة على نبوته عليه السلام، قال متى: "حضر إلى يسوع رجل يابس اليد، وذلك بحضرة جماعة من اليهود، فسألوه: هل يحل أن تداوي في

_ 1 متى 11/، 18، 19. 2 أي: صاروا، آض كذا: صار وفعل ذلك. (ر: القاموس ص 821) . 3 لوقا 2/41-50.

السبت؟! لكي [يَنُمُّوا] 1 عليه، فقال لهم يسوع: "أي رجل منكم يسقط خروفه في بئر في يوم السبت فلا يقيمه؟!، فالإنسان أولى من الخروف، ثم قال للرجل: امدد يدك، فمدّها فصحت وعادت كالأخرى، فخرج اليهود متآمرون في إهلاكه، فعلم يسوع سرّهم، وانتقل من هناك فتبعه مرضى فشفاهم"2. قلت: هربه وتواريه غير قادح في نبوته ولا غاض من رسالته، فذلك كثير ما اتّفق لأنبياء الله وصوفته / (1/44/أ) غير أنه لا يليق بجلال الربوبية، وهو يقدح في قول النصارى إن المسيح إنما نزل من السماء وتجسد من روح القدس وولدته مريم وحلّ في هذا العالم لخلاص آدم وذريته م الجحيم ببذل دمه حتى يكون مؤدياً ما وجب على آدم بأكله الشجرة، فلو كان الأمر على ما يهذون به لما فرّ من ذلك وتوارى وتَحَوَّل من بلدة إلى بلدة أخرى من أمر إنما جاء وتَعَنَّى بسببه، إذ في تأخير قتله استدامة آدم وذريته في العذاب. فإن قال النصارى:"إنما تَحوَّل واختفى لأن ساعة أجله لم تحضربعد". قلنا: فكان الأولى أن لا يتحول إذاً، إذ كان لبثه لا يجر إليه مكروهاً ولا يسلط عليه سفيهاً، وما أحسن3 إلهاً له ساعة ترتقب وأجل ينقرض وينقضب. 7- مضاهاة كلام المسيح لكلام الرسل - عليهم السلام -، قال متى: "أتي يسوع بأعمى به شيطان أخرس فأبرأه، فعظم الجمع ذلك، فقال الفريسيون: "إنما يخرج الشياطين ببعل زبول رئيس الشياطين، فعلم يسوع سرهم، فقال: لا يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب متاعه / (1/44/ب) إلاّ أن يربط القوي أوّلاً ثم يأخذ متاعه، من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق، إن كلّ 1 في ص (ينمو) ، الصواب ما أثبته.

_ 2 متى 12/10-15، بألفاظ متقاربة. 3 أسلوب التهكم والسخرية من معبود النصارى.

تجديف يترك للناس، والتجديف على روح القدس، لا يترك في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي"1. قوله: "كل تجديف يترك للناس والتجديف على روح القدس لا يترك"، مواطئ لقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار "2. غير أن بين الكلامين في المقدار ما بين الدرهم والدينار. 8- دليل على نبوته من قوله: قال متى: "قال له قوم من الكتبة: يا معلم نريد أن ترينا آية، فقال: الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلاّ آية يونان النبيّ؛ لأن يونان أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، كذلك ابن الإنسان يكون في قلب الأرض وبطنها ثلاثة أيام وثلاث ليال. رجال نينوى يقومون في يوم الحكم ويحاكمون هذا الجيل لأنهم تابوا بدعوة يونان وها هنا أفضل من يونان"3. قلت: هو ذا المسيح قد صرح بنبوته في عدة / (1/45/أ) مواضع من هذا الكلام: - أحدها: تقرير الكتبة على قولهم له: يا معلم، ولم ينكر عليهم ويقول: كذبتهم بل أنا ربكم أو ابن إلهكم، كما لفق النصارى في أمانتهم التي بأيديهم.

_ 1 متى 12/22-32. 2 حديث متواتر أخرجه البخاري عن علي والزبير بن العوام وأنس بن مالك وسلمة ابن الأكوع وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم. (ر: فتح الباري 1/200-203، ومسلم 1/9، 10-4/2298) عن أبي سعيد وغيره، وأخرجه أبو داود 3/319، والترمذي 4/454، وابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 1/11-13) ، وغيرهم. واللفظ الذي أورده المؤلّف أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب (33) . (ر: فتح الباري3/160، ومسلم 1/10، وأحمد 4/245) ، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. 3 متى 12/39، 40.

وكيف يجوز إقرارهم على الخطأ في ذات الله، بل إنما أقرهم على الصواب، إذ قال لهم في الإنجيل غير مرة: "إن الأنبياء كلهم [معلِّمون] 1") . - والثاني: تسويته بين نفسه وبين يونان النبي في جريان المقدور، ويونان2 هو يونس3 بن متى عليه السلام، ومحاكمة أمة يونس لأمته يوم القيامة. - والثالث: تفضيله نفسه على يونان، وقد قلنا: إن التفضيل إنما يكون بين فاضلين رجح أحدهما على الآخر، ولا يحسن بين الملك والأتوني4، فكيف يحسن بين الله وعبد من عبيده، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} . [سورة الإسراء، الآية: 55] .ولا غرو أن يفضُل المسيح يونس كما فضُل محمّد سائر الرسل على ما نوضحه إن شاء الله في الباب العاشر من هذا الكتاب. فأما قوله: "إن ابن الإنسان يكون في قلب الأرض وبطنها ثلاثة أيام وثلاث ليال"، إن سلم عن الاختلاق فذلك محمول على الشبه / (1/45/ب) الذي قتله اليهود وصلبوه فإنه ابن الإنسان، فأما المسيح فهو عندكم معشر النصارى ابن الله، وإلاّ فما بالكم في صلواتكم وبيعكم لا تدعون المسيح ابن الإنسان، فتقولون في أدعيتكم وقراءتكم: يا ابن الإنسان اغفر لنا، يا ابن الإنسان ارحمنا، هذا شيء لا تقولون به ولا تستجيزون إطلاقه، فكيف صرتم إذا لدغتكم حجاج

_ 1 في ص (معلمين) الصواب ما أثبته. 2 يونان: الصيغة السريانية للاسم العبري (يونه) ومعناه: حمامة، وهو ابن متاي من سبط زبولون، وقد تنبأ في أيام يربعام الثاني ملك السامرة، وينسب إليه. (سفريونان) مكون من أربعة إصحاحات. (ر: سفر يونان، قاموس ص 1126-1128) . 3 يونس بن متى عليه السلام، وردت نسبته إلى أبيه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متي". "ونسبه إلى أبيه". أخرجه البخاري، (ر: فتح الباري 6/450) ، ومسلم 4/1846. 4 الأتان: الأنثى من الحمير، والأتون وزان رسول، قال الأزهري: هو للحمام والجصاصة. وجمعه: أتاتين. (ر: المصباح ص 3) .

الحقّ تستروحون إلى ما لا تقولون به؟! هل ذلك إلاّ حيرة وضلال وغلو في عبادة الرجال؟! على أنا نريكم من الإنجيل ما يسيء ظنكم بهذا الفصل وينفركم من القول بصحته وذلك أن الإنجيل الذي بأيديكم يشهد أن المصلوب لم يمكث في بطن الأرض وقلبها سوى يوم واحد وليلتين لا غير، لأن الإنجيل يشهد: "إن يوسف الرامي1 استوهب الجسد من فيلاطس2 القائد عَشية الجمعة ودفنه في قبر كان قد اتّخذه له ليلة السبت، وبقي يوم السبت مدفوناً، وطلب بكرة يوم الأحد غلساً فلم يوجد سوى الأكفان في القبر موضوعة بشادة مريم المجدلانية3 خادمة المسيح وغيرها"4. فلم يلبث سوى يوم / (1/46/أ) وليلتين، فقد اختلف قولكم أنه يقيم في قلب الأرض وبطنها ما أقام يونان في بطن الحوت وهو ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ5. فأي وثوق بقي يحصل لعاقل بكم؟ وأي طمأنينة تتفق بنقلكم؟ وأية حجّة

_ 1 يوسف الرامي: من الرامة وكان صالحاً غنياً، ولقد كانت الشريعة اليهودية تقضي بألا تبيت جثة المحكوم عليه بالإعدام على آلة التعذيب، والقانون الروماني يجيز لذوي المحكوم عليه بالإعدام أن يطالبوا بجسده ويأخذوه وهذا مما حفز يوسف على طلبه جسد المسيح من القائد بيلاطس. (ر: قاموس الكتاب ص 1119) . 2 بيلاطس النبطي: الحاكم على فلسطين من قبل الحكومة الرومانية سنة 29م، وكانت قيصرية مركز ولايته، وقد أقيل من وظيفته لقسوته ونفي إلى فرنسا ومات هناك، ويعتقد النصارى بأنه تمت على يده محاكمة المسيح. (المرجع السّابق، ص: 207، 208) . 3 مريم المجدلية: وكان المسيح قد أخرج منها سبعة شياطين، فلذلك اتبعته، وكانت معه وقت الصلب والدفن - على حدّ زعمهم - وقد شرفها المسيح بحديثه معها بعد قيامته. (المرجع السّابق، ص: 207) . 4 إنجيل مرقس إصحاح 15، 16. 5 سيأتي بيان المزيد من التناقض في قضية دفن المسيح ومكثه في القبر - حسب زعم النصارى - في الباب الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله.

لكم على تصحيح مذهبكم في القتل والصلب بعد صدور هذا الكذب الشنيع؟!. فإذا كان هذا تحريفكم في أمر يتعلق بالعدد مما لا تعظم فيه المؤنة ولم تشتد الكلفة، فكيف يوثق بكم فيما وراءه؟! ونحن إذا انتهينا معكم إلى ذكر القتل والصلب أريناكم غلطكم في دعوى قتل المسيح وصلبه وأبدينا لكم من الأناجيل التي بأيديكم ما يدل على خلاف ما صرتّم إليه وأرشدناكم إلى وجه الاستنباط منه؛ رجاء الأجر فيكم والمثوبة في هداية بعضكم، وتبصرة وإيضاحاً لإخواننا المسلمين، وتعريفاً لهم مصداق قول ربنا جل اسمه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] . 9- معجزة دالة على نبوة المسيح عليه السلام، قال متى: "حضر إلى يسوع جمع كثير وليس عنده إلاّ / (1/46/ب) خمس خبزات [وحوتان] 1 فرفع بصره إلى السماء ودعا وبارك على الطعام فأكل الجمع وشبعوا وفضلت كسر كثيرة"2. إن قدح اليهود في هذه الآية وزعموا أنها قُيدت في الإنجيل هي وأخواتها من غير أن يكون لها صحة، فيقال لهم: فما يؤمنكم أن يكون أيضاً قد قيل في كتاب التوراة التي بأيديكم ما ليس له صحة ولا تحقيق؟ فإن زعموا أن أسلافهم الذين نقلوا إليهم خوارق التوراة انتهوا في الثقة والديانة والصدق والأمانة إلى حدّ أمنوا معه هذه الغائلة، أجيبوا بمثل ذلك، وقيل لهم: الناقلون لمعجزات المسيح أيضاً انتهوا من الدين والتقى والعفاف إلى غاية انتفت عنهم أسباب التهم.

_ 1 في ص (حوتين) الصواب ما أثبته. 2 متى 14/13-21.

وإن قال النصارى: هذه الآية تدل على ربوبية المسيح، قلنا: كيف ذلك، وها هو قد رفع وجهه إلى السماء وحرك أخلاف الإجابة بأنامل الدعاء، وهذا هو دأب الأنبياء وسنة الأولياء إذ دُفِعوا لبثِّ الحقّ وإرشاد الخلق رغبوا إلى معبودهم وطبلوا إليه ما يحقق قصدهم ويعرف أممهم / (1/47/أ) صدقهم والخلائق عيال الله، والنبي نائب عنه في إيصال رزقه إلى خلقه، وبالجملة فلو جاز أن يعتقد في المسيح الربوبية بمثل هذه الدعوى لجاز أن يعتقد في موسى: "بإطعام قومه المن والسلوى وهم يزيدون على ستمائة ألف نفس سوى النساء والصبيان. فأما المن فكان يسقط على الأرض الليل كله كصفائح الجليد أبيض كحب الكزبرة وطعمه كشهد العسل، وأما السلوى فطائر السمان كان يتراكم على الأرض في عسكر بني إسرائيل حتى ملأ الرحاب"1. وهذا أعجب من فعل المسيح في الحوتين والخمسة الأرغفة؛ إذ آية المسيح تكثير خبز موجود، وآية موسى إيصال خير مفقود وقد اشتملت التوراة على عدة من الخوارق لم يأت المسيح بنظيرها فنسمح بشطرها. 10- بعد ذوي اليسار2 عن مقام الأبرار، قال متى: "قال رجل ليسوع: يا معلم ما أعمل من الصلاح لأرث الحياة الدائمة؟ فقال: احفظ الوصايا، قال: وما هي؟ قال: لا تقتل. لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور /1/47/ب) أكرم أباك وأمك، وأحبب قريبك مثلك، فقال الرجل: كل هذا قد عرفته منذ صباي. فما الذي بقي علي؟ فقال المسيح: إن كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب وبع كلّ شيء لك وأعطه للمساكين ليكون لك كنْزاً في السماء وتعال اتبعني. فلما

_ 1 سفر العدد إصحاح (11) ، وكذلك فعل غيره من أنبياء بني إسرائيل في إطعام الخلق الكثير من الشيء اليسير كـ إليا واليسع، حيث ذكر ذلك في سفر الملوك إصحاح (17) ، والملوك الثاني إصحاح (4) . 2 الغنى واليسر.

سمع الرجل هذا الكلام مضى حزيناً؛ لأن ماله كان كثيراً، فقال المسيح: الحق أقول لكم، إن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني ملكوت الله، فقال التلاميذ: من يقدر على هذا؟ فقال لهم: أما عند الناس فما يستطاع هذا، وأما عند الله فكل مستطاع. الأنبياء إنما بعثوا بالزهد في الدنيا والتفرغ للمولى والتزود للعقبى"1. وهذا الكلام من المسيح دال على نبوته ورسالته وفيه ما يهدم قاعدة من قواعد النصارى وهو: جعله حفظ وصايا الله المذكورة في هذا الفصل سبب الخلاص وإرث الحياة الدائمة من غير حاجة إلى قتل المسيح وصلبه. وعند النصارى أن الناس لا يخلصهم من الخطيئة إلاّ قتل المسيح وسفك دمه إذ يقولون في الأمانة / (1/48/أ) : "من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل المسيح من السماء وتجسد وولد وقتل وصلب". وهو ذا المسيح يكذب تلك الأمانة ويزري على من أَلَّفها إذ جعل الخلاص منوطاً بحفظ وصايا الله وأتباع أمره، ولم يوقف الخلاص على ما هذوا به في الأمانة التي هي في الحقيقة خيانة، والشريعة التي هي لإضاعة الشريعة ذريعة، فهلاَّ قال المسيح للرجل: لا ترث الحياة الدائمة حتى تعتقد ربوبيتي وتدين بألوهيتي وتعتقد أني إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله، وتعترف بأني أتقنت العوالم وخلقت كل شيء وأني إله مسجون في إنسان أو متّحد به - كما لفقوه في شريعة إيمانهم وتسبيحة دينهم؟!. وحاشاه حاشاه أن يناط به هذا الوضَر2 ويغشاه؛ إذ هو القائل في إنجيله وفي أدعية ربّه تعالى: "أنت الإله الحقّ وحدك الذي أرسلت يسوع المسيح"3.

_ 1 متى 9/16-27. 2 الوضر: الوسخ، وما تشمه من ريح تجدها من طعام فاسد. (ر: القاموس ص 634) . 3 يوحنا 17/3.

وقال: "لا صالح إلاّ الله وحد"1. وقال لرجل وهو يوصيه: "أحب الله من كلّ قلبك ومن كل قوتك ففي هذه الوصية جميع وصايا الأنبياء"2. / (1/48/ب) . وقال:"أنا ذاهب إلى إلهي وإلهكم"3. يقول ذلك للحواريين. فهذه نصوصه في التوحيد ونفي التثليث4. فمن أين جاءت النصارى هذه الداهية؟! 5. أسأل الله العصمة.

_ 1 ورد النص في متى: 19/16، 17، مرقص 10/17، لوقا 18/18. 2 ورد النص في إنجيل متى 22/35-37، وورد أيضاً فيه 23/9، أن المسيح قال: "إن أباكم واحد في السماوات". ويؤكّده ما ورد في إنجيل مرقص 12/30، قول المسيح: "الرّبّ إلهنا إله واحد، وليس آخر سواه". 3 يوحنا 20/17. 4 لقد وردت في أسفار العهد القديم أيضاً - التي يؤمن النصارى بقدسيتها - نصوص كثيرة تصرح بوحدانية الله وتنفي الشرك عنه. منها: ما ورد في التوراة سفر الخروج 20/1، 2، قول الله لبني إسرائي: "أنا الرّبّ إلهك الذي أخرجك من أرض مصر بيت العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمامي". وفي سفر التثنية أيضاً قول موسى: "الرّبّ إلهنا ربٌّ واحدٌ". وقد ورد التوحيد في سفر أشعياء 45/5، وسفر ملاخي 2/10، وغير ذلك كثير. وبعد ذلك التصريح بوحدانية الله في التوراة وأسفار الأنبياء والأناجيل، فإنّ للمؤلِّف وغيره أن يستاءل مندهشاً ومنكراً على النصارى - من أين تسرب التثليث إلى دين التوحيد الذي جاء به المسيح عليه السلام مع عدم الدليل عليه؟!. 5 للإجابة عن تساؤل المؤلّف ودهشته ينبغي لنا أن نتعرف تاريخ الديانات الوثنية وتعدد الآلهة وتاريخ النصارى وأسباب انحرافهم، وخلاصة ذلك ما يأتي: 1- أن ظهور التثليث كان تحديداً لتعدد الآلة المبالغ فيه أحياناً عند الديانات الوثنية القديمة، ولعل البابليين هم أوّل من قال بالثالوث في الألف الرابع قبل الميلاد. 2- نشأ مذهب عند الهنود وسط بين التوحيد والتثليث هو: "التعدد في وحدة، والوحدة في تعدد"، وقد قالوا به قبل ظهور المسيح بأكثر من ألف عام، فكان عندهم: "براهما وفشنو وسيفا". ويعدونهم ثلاثة جوانب لإله واحد. 3- وظهر في الإسكندرية - زمن بطليموس الأوّل - عبادة الثالوث المصري المكون من: "سيرابيس وإيزيس وحورس" وكان هيئات ثلاث لإله واحد. 4- الاضطهادات التي نزلت بالنصارى من اليهود والرومان أدت إلى قتل علماءهم وتحريق كتبهم ومنع قراءتها وتفريقهم واستتارهم، كل ذلك كان من أسباب انحرافهم ونفوذ الأهواء والأساطير والبدع إلى قلوبهم لتحل - مع الزمن - محل العقائد الصحيحة. 5- ظهور بولس اليهود وتظاهره بالنصرانية - وقد كان عارفاً بالفلسفة الإغريقية ومدرسة الإسكندرية-ووضعه بذور التثليث بالدعوةإلى تأليه المسيح وبنوته لله. 6- ظهر في مدرسة الإسكندرية تجديد مذهب أفلاطون على يد أفلوطين وخلاصة فلسفته التي اعتنقها الكثيرون من الرومان: أ- قمة الوجود هو الواحد أو الأوّل. ب- الشيء المحدث عند (عقل) شبيه به. ج- وهذا يفيض بدوره فيحدث صورة منه هي (نفس) . وبعبارة أخرى سهلة: "ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة". ثم إنّ التاريخ يروي لنا أنه في القرن الثاني والثالث والرابع الميلادي قد دخل الرومان والمصريون أفواجاً في النصرانية، وكثير منهم دخل النصرانية وفي رأسه تعاليم الوثنية الرومانية، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة لم تخلع منه، وهؤلاء ولا شكّ أثر تفكيرهم في النصرانية. 1- انعقاد مجمع نيقية المسكوني عام 325م وتقريره لألوهية المسيح والتثليث، ثم انحياز الإمبراطور قسطنطين - الذي كان وثنياً - إلى ذلك الرأي وتأييده بجاه السلطان وقوة السنان. وكان لنشره تلك العقيدة أكبر الأثر في انتشارها واعتبارها الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية. بذلك يتبيّن لنا الترابط الوثيق بين النصرانية المنحرفة والديانات الوثنية والفلسفية السابقة عليها كما حكم القرآن الكريم عليهم من قبل، فقال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} . [سورة التوبة، الآية: 30] . (ر: للتوسع - تاريخ الفلسفة ص 6-19، لإبراهيم مدكور، محاضرات في النصرانية ص 33-39، 154، لأبي زهرة، العقائد الوثنية في الديانة النصرانية - محمّد طاهر التنير، المسيحية ص 108، 130-133، د. أحمد شلبي، أقانيم النصارى ص 88، 89، أحمد السقا، النصيحة الإيمانية ص 135-140، للمهتدي نصر المتطبب وتعليقات الطالب المحقٌِّ عليها".

11- اعتراف أهل زمانه بنبوته واستجابتهم لدعوته: انقسم الناس في وقته أقساماً، فمنهم من يرميه بالخنا وبنوة الزنى، ومنهم من اعترف بنبوته واستجاب لدعوته، ومنهم من أدركته النفاسة وخشي أن يستلب الرئاسة، وداء الحسد متى استولى على الجسد فسد، وهو داء قديم من يوم: (أخرج منها فإنك رجيم) 1. قال رجل من الصحابة2: يا رسول الله أرفق بعبد الله بن أبيّ،

_ 1 اقتباس من الآية الكريمة: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} . [سورة الحجر، الآية: 34] . 2 هو سعد بن عبادة رضي الله عنه.

فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنملكه علينا، فإنه ليرى أنك استلبته ملكاً1، فرفق به عليه السلام كما علم ولم يعرض له حتى اخترم. قال متى: "لما دنا يسوع وأصحابه من أورشليم أرسل من جاءه بأتان وجحش فركب وفرش الناس له ثيابهم فارتجَّت المدينة لدخوله وقال الجمع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل، فدخل إلى / (1/49/أ) هيكل الله وأخرج الباعة الذين فيه وأمر برفع موائد الصيارف وكراسي باعة الحمام وقال: مكتوب أن بيت الله بيت الصلاة يدعى، وأنتم صيَّرتموه مغارة للصوص وكل مفسد"2. قلت: هذا الفعل من المسيح قريب من قوله عليه السلام حين بال الأعرابي في المسجد: "صبوا عليه ذَنُوباً من ماء، إن المساجد لم تُبنَ لهذا، إنما بُنِيت للصلاة والذكر"3. وفي الفصل: أن أحسن أقوال الناس فيه كان قول من يقول: هو نبي من الأنبياء. وفيه: أن المسيح احتاج أن يركب حماراً من التعب والإعياء وذلك يكذب الأمانة إذ تقول: "إن المسيح من جوهر الله". وقد خلق الله الخلق في ستة أيام وما مسَّه من لغوبٍ، فكيف يفتقر مَنْ هو مِن جوهره إلى المركوب؟! وإنما هو على الحقيقة من جوهر أبيه يعقوب، كما نطق به الإنجيل عن جبريل. 12- ومن الدلالة على نبوته إقراره من ينطق بنبوته على ذلك وترك الإنكار عليه:

_ 1 أخرجه ابن إسحاق مختصراً. (ر: السيرة النبوية 2/270) . والبخاري في كتاب التفسير باب (15) ، (ر: فتح الباري 8/230) ، ومسلم 3/1422 في ساق طويل، والبيقهي في الدلائل 2/576، كلهم من طريق الزهري عن عروة بن الزبير عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما ... فذكره بنحوه. 2 متى 21/1-14. 3 أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب (57، 58) ، (ر: فتح الباري 1/322، 323) ، ومسلم 1/236، 237، وأحمد 3/111، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. واللفظ لمسلم.

قال لوقا في إنجيله: "صحب يسوع بعد قيامه رجلين/ (1/49/ب) وهما يتحدثان في أمره وأمر اليهود فقال لهما: مَن تذكران؟ وكانت أعينهما ممسوكة عن معرفته، فقالا: يسوع الناصري كان رجلاً نبياً قوياً بالأعمال، فلم ينكر عليهما وسار معهما فأضافاه وبات عندهما"1. فكيف يُقرِّهما على الكفر أنه إله وربّ كما يقول النصارى؟ وهَلاَّ نبههما وعرَّفهما خطأ ما قالا. فكيف يسكت على ما لا يجوز؟! فقد كان يقاوم اليهود في المحافل ويخزيهم ويلعنهم فيالمجالس ولا يغتفر لهم الزلل ولا يغطي منهم على الخطأ والخطل2 ويحاققهم فيما لا تعم به البلوى، فكيف يجوز أن يسامح في أمر يتعلق بالربوبية؟! وكيف يداهن الرجلين ويسمح لهما في أن يعتقدوا نبوته وهو ربهم وخالقهم وإلههم ويؤخر البيان عن وقت حاجتهم إليه، وهو في الساعة التي أزمع فيها على مفارة أهل الأرض وقد صار لهما عليه مع حقّ العبودية حقّ الرفاقة واسترسال الصحبة والمبايتة وهو يسمعهما يشهدان أن المشيح كان نبيّاً قويّاً بالأعمال؟! / (1/50/أ) . والمداهنة في الدين لا تليق بمثل المسيح مع أنه لا حاجة به في تيك الساعة إليهما، فإقرارهما على ما قالا ومسايرته لهما ومبيته عندهما تناوله طعامهما رضا بقولهما فيه وحكماً بصحة ما ذهبا إليه من نبوته، فكيف لم ترض النصارى له بما رضي هو لنفسه من أهل زمانه؟!. 13- دليل على نبوته من مفهوم قوله: قال متى: "جاء إلى يسوع رؤساء الكهنة فقالوا: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن الذي أعطاك هذا السلطان؟ فقال يسوع: وأنا أسألكم عن كلمة واحدة: معمودية يوحنا من أين هي؟ أمن الله أم

_ 1 لوقا 24/13-29، وقد أرد المؤلِّف النص بالمعنى، ولكن لم يُذكر في لوقا أو غيره أن المسيح بات عند الرجلين. 2 الخطل: المنطق الفاسد المضطرب. (ر: مختار الصحاح ص 181) .

من الناس؟ فقالوا: لا نعلم. فقال: وأنا أيضاً لا أعرفكم بأي سلطان أفعل ما أفعل، ثم قال: الحق أقول لكم إن الزناة والعشارين سيسبقونكم إلى ملكوت الله، جاءكم يوحنا بطريق العدل فلم تؤمنوا به والعشارون والزناة آمنوا"1. هذا القول بمفهومه يدلّ على بنوته إذ جعل أفعاله وأفعال يحيى بن زكريا تخرج من مشكاة واحدة، وفي هذا الكلام ما يهدم على النصارى قطباً من أقطاب كفرهم، وهو ما حكيناه عنهم / (1/50/ب) من أنه لا يخرجهم من الخطيئة التي ورطهم فيها أبوهم آدم إلاّ قتل المسيح، وها هو يقول إن الزناة والعشارين يسبقون اليهود إلى الملكوت بالتوبة والانصباغ في معموديته ومعمودية يوحنا، ولم يحوجهم إلى غير ذلك، ولم يُرجِ خلاصهم إلى قتله وصلبه كما يهتف به النصارى، بل جعل التوبة وحسن الاتباع كافياً في ذلك. 14- ومن الدليل على نبوته دعاؤه إلى الله سبحانه أسوة غيره من الرسل: قال متى: "قال له قائل: يا معلم، أيما أعظم الوصايا في الناموس؟ قال: أعظم الوصايا في الناموس أن تحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك ومن كل قوتك ففي هذا جميع نواميس الأنبياء"2. قلت: لو كان الأمر على ما يعتقد أهل الضلال لقال للرجال: "أعظم الوصايا في الناموس أن تحب الثالوث والصليب، كلا والله، وأين هذا الهذيان من نواميس الأنبياء؟! وأعظم النواميس توراة موسى ثم داود ثم أشعيا وقد فليناها طرقاً تترى وتصفحناها بطناً وظهراً، فلم نر فها / (1/51/أ) ما يدعيه النصارى أصلاً البتة، ولقد شددت على من تنكب التوحيد أشد تشديد حتى قالت: "أيما

_ 1 متى 21/23-33. 2 متى 2/34-40. وفيه: "قال له يسوع: تحب الرّبّ إلهك من كل قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك - هذه هي الوصية الأولى والعظمى - والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك، بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء".

نفس أشركت مع الله غيره في حبها فأهلكوا تلك النفس من شعبها"1. 15- دليل صحيح على نبوة المسيح، قال متى: "قال يسوع المسيح وهو يخطب البلد: يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم من مرة أردت أن أجمع بنيك حولك كما تجمع الدجاجة فراريجها فلم يريدوا"2. وجه الدلالة من هذا الكلام أنهم كانوا يتوثبون عليه في المجالس بأورشليم يريدون قتله، إذ كان يفحمهم بالحجج فربما تناولوا الحجارة ليحصبوه فيتوارى ويخرج من بينهم ويذهب. وقد قتلوا عدة من أنبيائهم بها، فكأنه يقول: "تريدون قتلي كما فعلتم بمن تقدمني"، والخطاب للبلد والمراد أهلها، والقول بنبوته ألزم على قول النصارى إنه قتل بأورشليم؛ لأنه سماها قاتلة الأنبياء ولم يقل يا قاتلة الإله، وفي الكلام ما يمنعهم من اعتقاد ربوبيته؛ لأنه أراد جمعهم على الإيمان فلم تنفذ إرادته، ومَنْ هذا / (1/51/ب) سبيله فلا يصلح للربوبية؛ فقد شهد على نفسه بالعجز عن جمعهم على الدين والهدى، وأولى ذلك لربّه عزوجل إذ يقول في دعائه: "أيها الأب كلّ شيء بقدرتك اصرف عني هذا الكأس". كما تقدم. والعجب أن المسيح أراد وأراد اليهود فنفذت إرادتهم وقصرت إرادته، إذ قال: إنه أراد أن يجمعهم، فلم يريدوا هم، وإله تقصر إرادته وتنفذ إرادة عدوّه إله ضعيف. وهذا فاعلم حال الأنبياء مع كفار قومهم، قال الله تعالى لنبيّه عليه السلام: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُم وَلَكِنَ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . [سورة البقرة، الآية: 282] . وقال:

_ 1 ورد حكم القتل على المرتد المشرك في سفر الخروج إصحاح (20، 34) ، وفي شفر التثنية إصحاح (13، 17) . 2 متى 13/37.

{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} . [سورة يونس، الآية: 99] . وفي هذا الكلام إثبات مزية لموسى عليه السلام، وذلك أن موسى عليه السلام أراد جمع قومه على الإيمان فاستجابوا وأذعنوا، وأمرهم بالنفر معه فسارعوا وظعنوا، فأخرجهم من مصر وجلَّلهم النصر، وشقّ بهم البحر، ورفع عنهم السيف بعد أن بلغ النحر، وقاتل بهم الملوك فلم يغلب، وقهر العمالقة والجبابرة ولم يقتل ولم يصلب. فما نرى موسى إلاّ كان أحقّ أن يُدَّعى له ما ادُّعي في المسيح. / (1/52/أ) . فلو أن النصارى جمعت بين قوله للبلد: "يا قاتلة الأنبياء" وبين دعواهم أنه قتل بها لما وسعهم إلا القول بنبوته ولكن أفهام القوم بعيدة عن هذا النمط، قريبة من السقط والغلط. ألا ترهم كيف جمعوا في الاعتقاد بين الأضداد فقالوا في تسبيحة أمانتهم: "نؤمن بالرّبّ أيسوع المسيح الذي أتقنت العوالم بيده وخلق كلّ شيء وقتل وصلب أيام هيردوس؟! ". فبينا هم ينعتونه بالرّبّ المجيد إذ وصفوه بذُلٍّ ما عليه مزيد!. 16- شهادة أشعيا للمسيح عليهما السلام بالنبوة والرسالة وتكذيب اليهود فيما قرفوه به. قال لوقا: "جاء يسوع إلى الناصرة حيث تربى ودخل كعادته في مجامعهم يوم السبت ليقرأ فدفع إليه سفر أشعيا النبي فلما فتحه إذ فيه مكتوب: "روح الرّبّ عليّ من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين، وأشفى منكسري القلوب، وأنذر المأسورين بالتخلية، والعميان بالنظر، وأبشر بالسنة المقبولة". ثم طوى السفر ودفعه إلى / (1/52/ب) الخادم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: اليوم كمل هذا المكتوب في سماعكم, فجلعوا يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟!

فقال: الحقّ أقول لكم إنه لا يقبل نبي في مدينته وعند عشيرته"1. فهذه بنوة من أشعيا على تصديق المسيح في دعوى النبوة والرسالة، وقد ذكر أن روح الرّبّ عليه، وهو نزول روح القدس الذي هو العلم والحكمة والواصلة إليه مع الملك، كقول الله في التوراة لموسى: "يصنع لك قبة الزمان بصلئيل2 الذي من سبط يهوذا ورفيقه الذي من سبط دان وهما اللذان ملأتهما روح الله بالعلم والحكمة"3. وكقول الإنجيل: "إن يوحنا بن زكريا امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه"4. وكقول المسيح في الإنجيل: "إن سمعان5 كان ينتظر عزاء إسرائيل وكانت روح القدس تحل عليه"6. فهذه الروح متى حلت على آدمي تنبأ أو نطق بالحكمة وذلك مشهور عند أهل الكتاب. وقد حكينا قول الله في الكتاب العزيز في حقّ المؤمنين: {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} . [سورة المجادلة، الآية:22] . وقال أشعيا النبي في كتابه: "قال الله لي: اخرج إلى بقعة كذا وكذا، فخرجت / (1/53/أ) فجاءت الروح فدخلت فيَّ فأقامتني على رجلي"7. فهذه الروح متى جاءت نبياً كانت وحياً، ومتى جاءت ولياً من أولياء الله أكسته إلهاماً عن الله

_ 1 لوقا 4/16-24، بألفاظ متقاربة. 2 في الأصل: (يصل أل) والتصويب من نص التوراة. 3 خروج 35/30-32. 4 لوقا /15. 5 هو سمعان الشيخ: رجل تقي سكن أورشليم، وأوحي إليه أنه سيعيش حتى يرى المسيح. (ر: قاموس ص 483) . 6 لوقا 2/25. 7 ورد النص في سفر حزقيال 3/22-24 منسوباً إليه، وقد وهم المؤلِّف رحمه الله في نسبته القول إلى أشعيا وكتابه، ولعله من الناسخ. والله أعلم.

وجودة وفراسة وصدق توسم قال الله في كتابه العزيز: { ... إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلمُتَوَسِّمِينَ} . [سورة الحجر، الآية: 75] . وقال سيّدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي [محدثين] "1 2. وقد قال النصارى: قال المسيح لأصحابه: "لا تهتموا بها تقولون إذا حضرتم المجالس فإن روح أبيكم الحال فيكم هي تنطق عنكم بالعلم والحكمة"3. فأما قول المسيح في آخر الكلام عندما وخزه الناس بأبصارهم: "إنه لا يقبل نبيّ في بلدته وعند عشيرته"4، فذلك واضح في نبوته لمن أراد الله هدايته. واعلم أن من لاحظ هذا الفصل يعين الإنصاف لم يتخالجه الشكوك في نبوة المسيح وأن اعتقادها هو الاعتقاد الصحيح، ولهذا تجد كثيراً من عقلاء النصارى يضمرون اعتقاد نبوته دون ربوبيته، ولكن لا يبوحون بذلك خشية الجمهور مع الأُنس بالمَرْبَى، إذ كل مولود يولد على الفطرة / (1/53/ب) فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه5.

_ 1 في ص (محدثون) ولعل الصواب ما أثبته. 2 أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب (54) ، (ر: فتح الباري 6/512) ، وأحمد 2/339 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: "إنه كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب". وأخرجه مسلم 4/1864، والترمذي 5/581، عن عائشة رضي الله تعالى عنها بنحوه، قال ابن وهب: "تفسير: محدثون: ملهمون". 3 مى 10/17-20. 4 متى 13/57، لوقا 4/24. 5 اقتباس من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء؟ ... ". أخرجه البخاري في كتاب الجنائز. (ر: ف:3/219) ، ومسلم 4/2048، وأحمد في مسند 2/315.

17- خارق من خوارق نبوته يتحقق به كذب اليهود وبهتهم فيما نسبوه إليه: قال لوقا: "رأى يسوع جنازة شاب واحد لأمه ومعها جمع من أهل المدينة ورآها تبكي وراءه، فَرَقَّ لها وتحنن عليها، وقال لها: لا تبكي. ثم تقدم ومس النعش فوقف الحاملون، فقال يسوع للميت: لك أقول يا شاب قم فاجلس. فجلس الميت وتكلم فدفعه لأمه ومجدوا الله، فقال الناس: لقد قام فينا نبيّ عظيم وتعاهد الله شعبه بصلاح. فذاع ذلك اليهودية"1. فإن أنكر اليهود دلالة هذه المعجزة على النبوة وصلاحيتها لدعوى الرسالة، قلنا لهم: فلعل انقلاب العصا حيواناً ذا عينين لا يدل أيضاً على النبوة، وحيث بطل القول بذلك بطل هذا. على أن آية المسيح أوضح في الدلالة وذلك أن إحياء من مات أوثق في النفوس من اضطراب خشبة وتحركها، مع احتمال السحر والشعبذة، كيف واليهود يزعمون أن سحرة / (1/54/أ) فرعون عارضوا موسى وفعلوا مثل فعله على ما يشهد بذلك توراتهم2؟ وذلك متعذر في إحياء الميت، فقد وضحت نبوته، وأكذب الله اليهود وأخزاهم بظهور صدقه. وقد شهد له الجمع العظيم بالنبوة وبقولهم: (لقد قام فينا نبي عظيم". وذلك حجة على النصارى، إذ صَحَّ عن خيار أسلافهم أنهم شهدوا له بالنبوة، فكيف يدعي المتأخرون ألوهيته؟! وإنما طريق من غاب الأخذ عمن حضر، فإن زعم النصارى اليوم أن قول ذلك الجمع ليس بحجة في إثبات نبوته، قلنا لهم: الحجة القاطعة تقريرهم على ذلك والرضا منهم به وترك الإنكار عليهم. أفتقول النصارى - ويلهم - إن المسيح عليه السلام أقرّهم على الكفر وقول الباطل؟! وهل تسمية الله نبيّاً إلاّ كتسمية النبيّ إلهاً؟! وكيف يعتقد في المسيح

_ 1 لوقا 7/12-17، بألفاظ متقاربة. 2 انظر: سفر الخروج الإصحاح السابع.

أن يسمعهم ينطقون بالمحال ولا يرشدهم؟! وهو القائل في إنجيله: "لا تدعوا لكم معلماً على الأرض فإن معلمكم هو المسيح"1. والأنبياء كلهم معلمون. "ولا تدعوا لكم مدبراً في الأرض فإن مدبركم هو المسيح". / (1/54/ب) وإذا كان المسيح هو معلمهم ومدبرهم، فكيف تقولون إنه أهملهم وتركهم يخبطون في عمياء ويتيهون في ظلماء ويخاطبون ربّهم بأنه نبي من الأنبياء ثم لا يرشدهم إلى اعتقاد الحقّ وقول الصدق؟!. فإن استروح النصارى في دعواهم ربوبيته إلى إحياء الميت أريناهم من كتبهم التي بأيديهم جماعة من أنبيائهم قد أحيوا الموتى مثل: إلياس واليسع وحزقيال وغيرهم ولم يخرجهم هذا الصنع عن كونهم عبادالله تعالى. فإن قال النصارى: إن أولئك كانوا إذا راموا شيئاً من ذلك تضرعوا إلى المسيح وسألوه وطلبوه منه المعونة ودعوه، قلبنا عليهم السؤال وقلنا. فلعل المسيح كان إذا رام شيئاً من هذه الآيات تضرع إلى أحد من ذكرنا وسأله ودعاه وطلب منه فهم متقدمون عليه وأرواحهم في حضرة الملكوت قبله، وهو متأخر عنهم فهو أحقّ أن يسألهم من أن يسألوه. فقد وضح بذلك نبوته واستوى حاله وحال من تقدمه من إخوانه الأنبياء صلوات الله عليهم أجعين. 18- شهادة فولس بنبوة المسيح ورسالته / (1/55/أ) وأنه واسطة بين الله وبين عبادة أسوة غيره من الأنبياء. قال في الرسالة الرابعة عشرة إلى العبرانيين: "أما أنتم فاقتربتم من جبل صهيون ومن مدينة الله أورشليم التي في السماء ومن ديوان الملائكة ومن الله ديّان الجميع ومن يسوع المسيح واسطة الوصية الحديثة الذي هو أفضل من هابيل"2.

_ 1 متى 23/8/10، بألفاظ متقاربة. 2 رسالة بولس إلى العبرانيين 12/22-24، بألفاظ متقاربة.

فهذا فولس لم يدع للمسيح ما يتقوله النصارى من ربوبية المسيح وألوهيته، بل يشهد بأنه سفير وواسطة بين الله وبين عباده في الوصية1. ويخبر بأنه أفضل من هابيل، وكلّ تصريح منه بخلاف ما ذهب النصارى إليه. 19- بيان أنه كان يضيف ما يفعله إلى الله تعالى، قال لوقا: "أُتي المسيح بمجنون لا يسكن إلاّ المقابر لا يلبس ثوباً فلما رأى يسوع خرّ بين يديه وقال: يا يسوع سألتك بالله ولا تعذبني. فأمره أن يخرج من الرجل فخرج، ثم أفاق الرجل وسأل يسوع الصحبة فقال له: اذهب وأخبر بالذي صنع الله بك. فذهب فجعل ينادي بذلك في المدينة"2. قلت: طلب الرجل صحبة المسيح فصرفه وعرفه أن الشفاء من الله وأمره بإشاعة / (1/55/ب) شكر الله، فقال: أخبر بالذي صنع الله بك. ولم يقل: بالذي صنعت بك. فإن قال النصارى: لا فرق بينهما، إذ كان المسيح هو الله، والله هو المسيح. قلنا لهم: فالمجنون إذاً أعقل وأعرف بالله منكم؛ إذ يقول: يا يسوع أسألك بالله، فقد عرف الله تعال على [حدً] 3 وعرف المسيح على [حدٍ] 4 وأدرك التفرقة بين الإله المقسم به وبين الإنسان المقسم عليه. وأنتم تقولون إن الإله هو الإنسان والإنسان هو الإله، فأيكم أولى بالجنون؟!.

_ 1 في ش: الوصية الحديثة هي: الإنجيل؛ لأن الوصية القديمة هي: "للتوراة فاعلمه". اهـ. قلت: التعبير المعاصر هو: العهد القديم، والعهد الجديد. 2 لوقا 8/27-39، في سياق طويل. وقد ذكره المؤلِّف بالمعنى. 3 في ص: (حدن) . 4 في ص: (حدن) .

إن طرق اليهود إلى هذا شيئاً من الطعن انعكس عليهم في [حية] 1 النحاس وغيرها؛ إذ طريق ثبوت الكلّ واحد، فالاعتراض على نوع منها يعود على سائرها، ولا سبيل إلى ردّ شيء منها. 20- دليل على رسالته من لفظه، قالو لوقا: "اختار يسوع سبعين [رجلاً] 2 وبعثهم إلى كلّ موضع أزمع أن يأتيه، وقال: الحصاد كثير والحصادون قليل، اطلبوا إلى صاحب الزرع أن يرسل فَعَلَة لحصاده ثم قال: من سمع منكم فقد سمع مني، ومن شتمكم فقد شتمني، ومن شتمني فإنما يشتم / (1/56/أ) مَنْ أَرْسلني"3. فإن قال النصارى: ذلك دليل على الربوبية لأن إرسال الرسل إلى الخلق دليل على ما قلناه. قلنا لهم: أما بعث السبعين فليس فيه مستروح لكم، فقد اختار موسى سبعين رجلاً من قومه وندبهم لإبلاغ بني إسرائيل فنبأهم الله ببركة اختياره فصاروا أنبياء4. فأما السبعون الذي اختارهم المسيح فمن سلم لكم أنهم كانوا أنبياء مؤيّدين بالمعجزات؟ ولعل المسيح عليه السلام إنما اقتدى بسنة موسى في الإرسال والعدد، فالمسيح عليه السلام نبي ورسول ولا يمتنع أن يكون [للرسول] 5 رسول، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه إلى ملوك الأرض. فإن قال النصارى: قوله: "من شتمني فإنما يشتم من أرسلني". دليل على

_ 1 في ص (الحية) والصواب ما أثبته. 2 في ص (رجل) والصواب ما أثبته. 3 لوقا 10/، 2، 16. 4 يعتقد النصارى أن الحواريين والسبعين رسولاً الذين اختارهم المسيح لتبليغ دعوته كانوا أنبياء ورسلاً. وكذلك بولس الملقب بالرسول. أما نحن المسلمين فنعتقد أنه ليس بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين المسيح عليه السلام نبيّ أو رسول. كما ورد ذلك الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم 4/1837 عن ابن هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أولى الناس بابن مريم؛ الأنبياء أولاد علات وليس بيني وبينه نبيّ". 5 إضافة يقتضيها السياق.

الاتّحاد1 الذي نقول به. قلنا: وقوله:"من شتمكم فقد شتمني"،دليل على اتّحادهم بالمسيح. أفتقولون إن السبعين اتّحدوا بجسد المسيح؟ فإن تراعنواوادعوا ذلك. قلنا لهم: فيلزم على ذلك أن يكونوا قد اتّحدوا / (1/56/ب) بذات الله إذ اكانوا قد اتّحدوا بمن اتّحد به المسيح. فإن التزموا ذلك. قلنا: فالسبعون هم الله تعالى، والله هو السبعون، والرسول هو المرسِل والمُرسِل هو الرسول، وهذا هو الجنون. ثم نقول للنصارى: أليس قد اعترف المسيح بأن غيره أرسله؟! فكيف تقولون إنه هو نفسه؟ فإن قالوا: هذا اعتقاد طائفة2 منّا ونحن لا نلتزمها فيلزمنا الذّبّ عنها ولكن الاعتقاد المرضي عندنا أن المسيح ابن الله3 ولا نقول هو الله نسفه ولا يعبد أن يرسل اله ابنه إلى عباده. فحينئذ يحسن أن نعيد عليهم بعض ما مضى لنا ونقول: "ألم تقولوا في الأمانة: "نؤمن بالمسيح الإله الحقّ الذي أتقن العوالم بيده وخلق كلّ شيء الذي نزل من السماء وتجسد وولدته مريم وقتل وصلب؟! ". ألم تقرؤوا في صلواتكم: "يا ربنا المسيح الذي ذاق الموت من أجلنا ونزل من السماء لخلاصنا لا تضيع من خلقت بيديك؟! ". ألم ينقلوا عن إفريم من أسلافكم وكبار مشائخكم قوله: إن / (1/57/أ) اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي سمرت على الخشبة، وإن الشَّبر التي مسحت السماوات هي التي عُلقت على الصليب، وإن من لم يقل إن مريم ولدت الله فهو محروم من ولاية الله؟! وإذا كانت صلواتكم وأمانتكم وأقوال مشاخئكم

_ 1 يقصدون به اتّحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح عليه السلام. 2 هي طائفة اليعقوبية وسيأتي الحديث عنها، وقد أشار القرآن الكريم إلى اعتقاد هذه الطائفة بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} . [سورة المائدة، الآية:17] . 3 هذا اعتقاد طائفة النسطورية، وقد أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ... } . [سورة التوبة، الآية: 30] .

مصرحة بذلك فقد كذبتم في هربكم مما ألزمناكم وصدق المسيح في قوله: "إن الله نبأه وأرسله". وأما قولهم: "فلا يبعد أن يرسل الله ابنه، وتسمية الله أبّاً والمسيح ابناً، فنحن نسألهم ما تعنون بهذه النبوة؟ أمجرد تسمية وتشريف أم لما خصّه به من الآيات والخوارق أم تريدون البنوّة المعروفة المألوفة؟ فإن قالوا: إنّ ذلك مجرد تسمية وتشريف، قلنا: فلا اختصاص للمسيح بهذا التشريف والتسمية. ولا مزية له على غيره؛ فقد سمّى الله يعقوب ابناً وسمّى داود ابناً وسمّى الصالحين وأولاد الأنبياء أبناء بزعمكم. فرويتم أنتم لنا عن الله في التوراة قوله: "إسرائيل ابني بكري"1. يقول ذلك لفرعون في عدّة مواضع. وقال في السفر الأوّل: "لما رأى بنو الله بنات الناس حساناً / (1/57/ب) جدّاً نكحوا منهم على ما أحبوا وأرادوا فغرقهم الله بالطوفان"2. وقال في المزامير: "داود حبيبي"3. وقال المسيح: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم"4. فقد استوى المسيح وغيره في هذا التشريف وترجح إسرائيل بالبكارة عليه. وإن أردتم البنوة المعروفة المألوفة بين الناس وهي المتّخذة من الزوجية والمملوكة، على معنى أن المسيح انفصل من من الله، فكيف يصحّ هذا؟ وإنما ينفصل الجسم من جسم مثله والباري منَزَّه عن الجمسية؟! ثم ذلك باطل بنصّ الإنجيل؛ إذ قال لوقاً: "إن المسيح من روح القدس"5. فكيف تقولون

_ 1 سفر الخروج 4/22. 2 تكوين 6/1، 2. 3 مزمور 2/7. 4 يوحنا 20/17. 5 لوقا 1/35.

إنّه منفصل من ذات الله؟! فقد بطل مقصودكم من البنوة على كلا القسمين. وإن قالوا: إنما استحق المسيح البنوة لما اتّحدت به الكلمة فصار بها ابناً على1 الحقيقة، وغيره ممن ذكرتم لم يتّحد به فبقي ابناً على سبيل التشريف. قلنا: أخبرونا عن هذه الكلمة، ما هي؟ وما الذي تعنون بها؟ فإنهم يقولون: الكلمة هي العلم أو النطق ولا يعدلون عن ذلك، فيقال لهم: أليس من حكم الصفة أن لا تفارق الذات / (1/58/أ) الموصوفة بها فإذا كان العلم أو النطق هو صفة لذات الباري تعالى فلا تفارقه إلاّ ويخلفها ضدّها وهي الجهل أو الخرس. فإن كان علم الباري قد انفصل أو نطقه وقام بغيره فقد صار القديم ماوقاً2 ناقصاً وذلك مستحيل على الله سبحانه. وإن كان علم الله لم يزايله وكلامه لم يفارقه، فلا حقيقة لهذا الاتّحاد الذي تدَّعونه. قد أطلبت النفس قليلاًفلنرجع إلى إيثار الاختصار؛ فإن هذه الفرقة أنزر شأناً من أن يحتفل لها. 21- إيثاره الله على ما سواه وذلك دأب النبيين من إخوانه عليه السلام قال لوقا: "جلس يسوع يوماً يتكلم على تلاميذه فرفعت امرأة من المجلس صوتها وقالت: طوبى للبطن التي حملتك [وللثديين] 3 التي أرضعتك. فقال لها المسيح: مهلاً طوبى لمن يسمع كلام الله فيحفظه"4.

_ 1 يشير النصارى - في قولهم ذلك - إلى ما ورد في إنجيل يوحنا 1/1-2، 14، ونصّه: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان من عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان البدء عند الله ... والكلمة صار جسداً، وحلّ بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لو حيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً". 2 المُوقُ: حمق في غباوة، يقال: أحمق مسائق، والجمع: (مَوقَى) مثل: حمقى ونَوْكى. (ر: الصحاح للجهوري 4/1557) . 3 في ص (وللأيدي) والتصويب من النّصّ. 4 لوقا 11/27، 28.

قلت: هذه امرأة اشتغلت بمدح المخلوق فأرشدها لمدح الخالق جل وعلا. انظر إلى هذا الكلام الصادر من هذه المرأة، هل خرج من قلب معتقد ربوبية المسيح وألوهيته؟ وإلاّ فما أحسن رباً في بطن وإلهاً على أيدي المراضع! أعوذ / (1/58/ب) بالله من الضلال والتعبد للأطفال. 22- شهادة يوحنا الإنجيلي على المسيح بالنبوة، قال يوحنا: "كان الناس إذا رأوا يسوع وسمعوا كلامه يقولون: هذا النّبيّ حقّاً"1. وقال يوحنا أيضاً: "تفل يسوع على طين ووضعه على عيني أكمه وقال: اذهب فاغتسل في عين شلوخاً. ففعل فانفتحت عيناه. وذلك في يوم السبت فوقع بين اليهود فيه خلف، فمنهم من يقول: ليس هذا الرجل من الله إذ لا يحترم السبت. ومنهم من يقول: إن الله لا يستجيب للخاطئين، ومنهم من يقول: هو نبيّ"2. "ومنهن من يقول: إنه لا يجيء نبيّ من الجليل"3. قلت: هذا هو يحونا الإنجيلي الذي يُسمّى حبيب المسيح يشهد بنبوته، وهو أحسن أقوال زمانه فيه، وذلك يكذب اليهود والنصارى. أما اليهود ففي جحد نبوته، وأما النصارى ففي ادّعاء ربوبيته. 23- موعظة مشابهة لمواعظ الأنبياء عليهم السلام قال المسيح لمن حضره: "لِمَ لَمْ تحكموا بالحقّ من نفوسكم؟! فإذا ذهب أحدكم مع خصمه إلى الرئيس فليدفع ما / (1/59/أ) يجب عليه في الطريق فيخلص كيلا يذهب به إلى الحاكم فيدفعه الحاكم إلى المستخرج فيلقيه المستخرج في السجن، الحقّ أقول لكم إنه لا يخرج منه حتى يؤدي آخر فلس عليه"4.

_ 1 يوحنا 4/19، 6/14، 7/40، 9/17. 2 يوحنا 9/13-17. 3 يوحنا 7/52. 4 لوقا 13/57-59، وبنحوه متى 5/25، 26.

قلت: الموعظة بليغة ومعناها رائق وقاعدتها مبنية على رأس من الحقائق، غير أن قول خاتم النّبيّين "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"1. أبلغ من ذلك وأخصر وأضبط لشوارد فرائد الفوائد وأحصر. 24- قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: قد شهد يوحنا الإنجيلي أن المسيح ليس إلهاً، ولكنه نبيّ بار ذو شفاعة مقبولة عند الله، فقال في الفصل الأوّل من رسالته الأولى: "أيها الأبناء لا تخطؤوا، فإن أخطأ أحدكم فلنا شفيع عند الأب يسوع المسيح البار"2. فهذا - رحمكم الله - يوحنا الحواري مفارق لمقالة النصارى في المسيح موافق لاعتقاد الملة الحنيفية في بنوته عليه السلام. 25- دليل صحيح على نبوة المسيح، قال لوقا: "قال الفريسون ليسوع: أخرج من هاهنا فإن هيرودس يريد قتلك، فقال امضوا وقولوا لهذا الثعلب أني

_ 1 أخرجه الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه: (محاسبة النفس) بتحقيق المستعصم بالله مصطفى بن عليّ ص 22، وعنه ابن كثير في تفسيره 4/442، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ... ". قلت: وهذه الرواية موقوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكل رواتها ثقات. والخبر قد رواه الترمذي 4/550 مختصراً بلفظ: يروى عن عمر. 2 ورد النص في رسالة يوحنا الأولى 2/1، كالآتي: "يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطؤوا وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الأب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كلّ العالم أيضاً". قلت: إن استدلال المؤلِّف بهذا النص على نبوة المسيح وعدم ألوهيته صحيح؛ لأن الشفاعة تقتضي خضوع طرف لآخر وتذلله، والمسيح هنا مصرح بأنه يطلب الشفاعة من الله، فهو إذن عبد من عبيد الله أكرمه بالرسالة والنبوة. وأما بقية النص فإنه لا يسلم للنصارى بأن المسيح جاء كفارة لخطايا العالم. فهذه دعوى للنصارى لا دليل صحيح لهم عليها. لاسيما وأن ذلك يتعارض - بجانب العقل - مع ما جاء في كتابهم المقدس مصرحاً بـ: "النفس التي تطخئ هي تموت، الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، برّ البار عليه يكون، وشرّ الشرير عليه يكون". سفر حزقيال 18/20.

/ (1/59/ب) أقيم هاهنا اليوم وغدا وفي اليوم الثالث أكمل لأنه لا يهلك نبي خارجا عن أورشليم"1. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "لو اجتمع علماء النصرانية ورامو صرف هذا الكلام عن صلاحيته لنبوة المسيح إلى إثبات ما يدعونه من الربوبية لأعوزهم2 ذلك. فمن أبدى من النصرانية في بنوته نزاعاً. ورام لهم دفاعاً فهذا الفصل وأمثاله حجّة عليه. فإن قال النصارى: هب أن هذا الفصل يدل على نبوته، أليس قد شهد عليكم معشر المسلمين بأنه في اليوم الثالث يقتل ويصلب؟ قلنا: لم يقل ذلك وحاشاه منه، إنما قال: إنه في اليوم الثالث يكمل، يريد أنه تتم مدة إقامته في هذا العالم الناقص ثم يرتفع، وكيف أراد ما ذكرتم من القتل والصفع والصلب وذلك غاية النقص؟! لأنكم زعمتم أنه ضرب وسحب ثم قتل وصلب وسلب وذلك لا يعد كمالا، بل الكمال الذي أراده هو الذي يقول به المسلمون من أن الله حماه من أعدائه حين طلبوه ورد طلبتهم منه بالحرمان، فما / (1/60/أ) قتلوه وما صلبوه، ونحن إن شاء الله إذا انتهينا إلى ذكر القتل والصلب أبدينا فيه العجب العجاب وأقررنا عيون أولي الألباب. 26- وصية مناسبة لكلام الرسل: "قال المسيح عليه السلام: "إذا دعاك أخوك فلا تجلس في صدر المجلس؛ فلعله قد دعا هناك من هو أكرم عليه منك، فليأتي المدعو فيقال لك: دع المكان لهذا، فتقوم فتجلس في آخر باب الناس فتخزى أمام الحاضرين، ولكن إذا دعيت فاجلس في آخر موضع حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: يا حبيب ارتفع عن مجلسك هذا فيكون لك مجد أمام

_ 1 لوقا 13/31-33. 2 في ش: أعوزه الشيء: إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه.

الحاضرين، فمن اتضع ارتفع ومن ارتفع اتضع. وإذا صنعت وليمة فلا تدع أحباءك وأغنياء جيرانك لكي [يكافئوك] 1 ولكن ادع المساكين والضعفاء والزمنى والمقعدين؛ فطوبى لك إذ ليس لهم ما يكافئونك به ومجازاتك تكون في قيامة الصّدِّيقين - ثم عَرَّض بالعلماء - فقال: جيدٌ هو الملح فإذا فسد فبماذا يملح؟ "2. من كانت له أذنان سامعتان فليسمع هذه الوصية وما / (1/60/ب) شاكلها لم تمتد إليها يد التغيير سوى ما عبق بها من قصر التعبير. وهي بطولها مندمجة في قوله عليه السلام: "شرّ الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء" 3. وقال عليه السلام: "من تواضع لله رفعه الله"4. وفي قوله: "إنكم أئمة يقتدى بكم"5. يقول ذل لأصحابه - رضي الله عنهم -. اشتمال الجنة على الأكل والشرب والنكاح: وذلك على خلاف معتقد أهل الكتاب، قال المسيح عليه السلام: "كان رجل من الأغنياء يلبس [البز] 6 والأرجوان7 ويتنعم كلّ يوم ويلتذ. وكان ببابه رجل مسكين يسمّى اليعازر مضروب بالقروح، وكانت الكلاب تأتي فتلعق قروحه ويود لو ملأ بطنه من الفتات الذي يسقط من مائدة ذلك

_ 1 في ص (يكافئونك) والصواب ما أثبته. 2 لوقا 14/7-14، 34، 35. 3 أخرجه مسلم 2/1055، عن أبي هرير رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه البخاري في كتاب النكاح باب (72) . (ر: فتح الباري 9/244) ، وأبو داود /125، وابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 1/323) ، موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه. 4 أخرجه مسلم 4/2001، الترمذي 4/330، وأحمد 2/386، كلمهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ... فذكره. 5 تقدم تخريجه. ر: ص: 104. 6 في ص (البرفية) والتصويب من نصّ الإنجيل. 7 لون صباغة يشمل البنفسجي والقرمزي أو الأحمر. وكانت ثياب الأرجوان غالية الثمن يلبسها الأغنياء وذوو المكانة الرفيعة. (ر: قاموس ص 45) .

الغنى، فلما مات ذلك المسكين أخذته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات ذلك الغني فقر في الجحيم ففتح عينيه وهو في العذاب فنظر إلى اليعازر في حضن إبراهيم يتنعم ويلتذ فنادى: يا أبتاه إبراهيم ارحمني وأرسل اليعارز ليبل طرف إصبعه بماء يبرد لساني من هذا / (1/61أ) اللهيب، فقال إبراهيم: يا بني اذكر أنك أفنيت خيراتك في حياتك واليعازر إذ ذاك في بلائه، والآن فهو ها هنا يستريح وأنت تعذب، ومع ذلك فبيننا وبينكم هوة بعيدة لا يقدر أحد منا على العبور إلى الآخر"1. قلت: قال الله فيمن حاله بحال ذلك الغني: {أَذْهَبْتَم طَيِّبَاتِكُم فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُوْنِ بِمَا كُنْتُم تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُم تَفْسُقُونَ} . [سورة الأحقاف، الآية: 20] . واعلم أن اليهود والنصارى2 ينكرون أن يكون في الجنة طعام أو نكاح أو شراب، وهو الكلام من المسيح حجّة عليهم، وقد قال المسيح: "إن اليعازر هذا في كفالة إبراهيم يتنعم ويلتذ في الآخرة". كما قال: "إن ذلك الغني كان كلّ يوم يتنعم في دنياه ويلتذ". والذي يبتدر إلى الأفهام منه التنعم بالطيبات المألوفة المعروفة؛ إذ الإنسان إنما يشتاق لما عرف جنسه ونوعه وقد جاء ذلك في

_ 1 لوقا 16/19-26، بألفاظ متقاربة. 2 قال الإمام ابن تيمية: "واليهود والنصارى والصابئون من المتفلسفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن. والرّدّ عليهم هو أن ما ورد في القرآن الكريم من وصف ملذات الجنة أن حقيقتها ليست مماثلة لما في الدنيا، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه في الأسماء، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كلّ وجه، وتلك الحقائق على ما هي عليه". (ر: رسالة الإكليل من مجموعة الرسائل الكبرى - لابن تيمية 2/11) .

الإنجيل [كثيراً] 1 ولكن النصارى2 محجوبون بالتقليد عن النظر في أقوال الأنبياء، قال قولقا: "قال يسوع: إذا صنعت وليمة فادع المساكين والضعفاء لتكون / (1/61/ب) مجازاتك في قيامة الصديقين. فقال من حضر: طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله"3. وقال حملة الإنجيل: "قال يسوع لتلاميذه: إني ذاهب أعد لكم مائدتي في الملكوت [لتأكلوا وتشربوا وتجلسوا] 4 على كراسي المجد"5. وقال الإنجيل: "إن المسيح شرب مع تلاميذه عصيراً ثم قال: إني لست شارباً من هذه الكرمة حتى أشربها معكم حديثاً في ملكوت السماوات"6. وقال المسيح في الإنجيل: "إنكم ستأكلون وتشربون على مائدة أبي"7. وقال المسيح في الإنجيل: "بحقّ أقول لكم إنه سيأتي قوم من المشرق والمغرب [فيجلسون] 8. مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماء وتخرج بنو الملكوت إلى الظلمة البرانية، هنالك يكون البكاء وصرير الأسنان"9. وقال المسيح في الإنجيل: "طوبى

_ 1 في ص (كثير) والصواب ما أثبته. 2 يقول القسيس حنا مقار العيسوي في رسالته إلى أبي عبيدة الخزرجي: "إننا إذا حشرنا يوم القيامة حشرنا بأجسادنا ونفوسنا ولكن لا نأكل هناك ولا نشرب". اهـ. (ر: مقامع هامات الصلبان ص 106، للخزرجي، تحقيق د. محمّد شامة) . ونقل ذلك عنهم ابن كمونة اليهودي في تنقيح الأبحاث ص 53، وانظر أيضاً خلاصة الأصول الإيمانية في معتقدات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية - لحبيب جرجس ص 156-157، ويلاحظ أن ذلك الاعتقاد في أمور الآخرة بشبه اعتقاد الفلاسفة والملاحدة في ذلك مما يدل على تأثر اليهود والنصارى بالأفكار الوثنية الفلسفية. 3 لوقا 14/12-15. 4 في ص (لتأكلون وتشربون وتجلسون) والصواب ما أثبته. 5 لوقا 22/29، 30. 6 متى 26/29، مرقس 14/25، لوقا 22/18. 7 لوقا 22/30. 8 في ص (فيتلون) والتصويب من نصّ الإنجيل. 9 متى 8/10-12.

للجياع العطاش فإنهم يشبعون، طوبى للرحماء فإنهم يرحمون"1. فهذا المسيح يشهد أن في الجنة أكلاً وشرباً وشبعاً وأن المساكين يتملكون ذلك وفي الإنجيل يقول المسيح: "بيعوا أمتعتكم وتصدقوا، اجعلوا لكم أكياساً لا تبلى وكنوزاً في السماء لا تفنى حيث لا يصل إليها سارق ولا يفسدها / (1/62/أ) سوس فحيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم معلقة"2. وقال المسيح عليه السلام لأصحابه: "أنتم تقولون إن الحصاد يأتي بعد أربعة أشهر، وأنا أقول لكم ارفعوا أعينكم فانظروا إلى الكور قد ابيضت وبلغت الحصاد، والذي يحصد يأخذ الأجرة ويجمع ثمار الحياة الدائمة"3. وقال المسيح عليه السلام لتلاميذه: "اعملوا لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي في الحياة المؤبّدة لأن ذلك قد ختمه الله"4. فقد ثبت عن المسيح اشتمال الجنة على الأكل من الطيبات والتنعم بالذات والتفكه في الشهوات. فإن قيل: وأين ذكر الجماع في الجنة؟!. قلنا: قال المسيح عليه السلام في الإنجيل: "من ترك زوجة أو بنين أو حقلاً من أجلي فإنه يعطى في الجنة مائة ضعف ويرث الحياة الدائمة"5. فقد صرح المسيح بأن الرجل المؤمن يعطى في الجنة مائتي زوجة كما يعطى مائتي حقل. والحقل الكرم والبستان. وذلك مكذب للنصارى واليهود فيما صاروا إليه.

_ 1 متى 5/6-7. 2 متى 6/19-21، لوقا 12/33، 34. 3 يوحنا 4/35، 36. 4 يوحنا 6/27. 5 متى 19/25، مرقس 10/29، 30.

فإن قيل: هذا فيه الحجة الواضحة على النصارى، فما الحجة فيه على اليهود1 مع إنكارهم / (1/62/ب) شرع الإنجيل؟ قلنا: قال الله تعالى في السفر الأوّل من التوراة وهو الذي يدعى سفر الخليفة: "إن الله غرس فردوساً في جنة عدن وأسكنه آدم وغرس له من كل شجرة طيبة المأكل شهية الطعم وتقدم إليه: إني قد جعلت كل شجر الجنة لك مأكلاً سوى شجرة معرفة الخير والشرّ، ثم قال الله سبحانه: لا يحسن أن يبقى آدم وحده. فألقى عليه سباتاً ونزع ضلعاً من أضلاعه ثم أخلف له عوضه لحماً ثم خلق الله من ذلك الضلع حواء فزوجها آدم فلما أكلا من الشجرة التي [نُهيا] 2 عنها انفتحت أعينهما وعرفا أنهما عريان فكلمهما الله وتوعدهما على المخالفة، ثم صنع سبحانه لآدم وزوجته سرابيلات من الجلود فألبسهما ثم أرسلهما من جنة عدن وأهبطهما إلى الأرض ليحرث فيها"3. وقال في السفر الأوّل أيضاً: "كانت سدوم قبل أن يخسف الله بها تشبه فردوس الله وأرض مصر"4. وقال في السفر الأوّل أيضاً: "أما هابيل الشهيد فإنه يجزى بدل الواحد سبعة"5.

_ 1 يقول ابن كمونة اليهودي في تنقيح الأبحاث ص 27: "واعتقدت اليهود أن ثواب الطاعة هو الخلود في نعيم الجنة والعالم الآتي، وعقاب المعصية هو العذاب في جهنم من غير خلود لمعتقد هذه الشريعة وإن كان عاصياً. ومنهم من اعتقد أن بعث الأموات يحصل مرتين، مرة في زمن المسيح المنتظر عندهم وذلك البعث مختص بالصالحين من الأمة ... وتارة يبعث الموتى في القيامة العامة لكافة الناس، الصالحين منهم والطالحين للجزاء بالثواب الأبدي على الطاعة وبالعقاب على المعصية. واعتقدوا أيضاً بقاء الأنفس بعد فساد الأجساد، وأنها لا تعدم أبداً. ونبغ منهم من زعم أن العالم الآتي هو ما بعد الموت فقط، وأن الثواب الأبدي والعقاب إنما هو للأنفس المجردة بعد خراب أجسادها، وليسا بجسمانيين بل هما روحانيان فحسب، والنصوص الكثيرة المنقولة عن علمائهم وحملة شرعهم ناطقة بالمجازاة بالثواب والعقاب بغير عود الأنفس إلى الأبدان, وهي غير محتملة التأويل عند كل عاقل يتأملها جميعاً". اهـ. بتلخيص. 2 في ص (نهي) والصواب ما أثبته. 3 سفر التكوين الإصحاح الثاني والثالث. 4 سفر التكوين 13/10. 5 سفر التكوين 4/15.

وهذا دليل أن الجزاء جنس المنفق في الدنيا تقرباً / (1/63/أ) إلى الله، فإن هابيل كان قد قرب من أبكار غنمه فتقبله الله منه ووعده الجزاء على الواحد سبعة. فهذه التوراة والإنجيل مصرحة بموافقة الكتاب العزيز، وبذلك تتم اللذة وتجتمع المسرة وتحصل الدعة، فمن أعظم جرماً وأشد إثماً وأثقل وزراً وأضعف أزراً ممن يقرأ هذه النصوص من التوراة والإنجيل ثم يكفر بها ويردها؟!. ولو أن اليهود والنصارى إذ حرموا لذة الاستنباط والاستخراج قلدوا أنبياء الله في ذلك لأخذوا بحظهم من الخير، فقد قال النبي أشعيا في نبوته: "يا معشر العطاش الجياع توجهوا إلى الماء والورود ومَن ليس له فضة فليذهب يمتار ويستقي ويأكل ويتزود من الخمر واللبن بلا فضة ولا ثمن"1. قلت: وذلك موافق لقول الله تعالى في الكتاب العزيز في وصف الجنة: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّنْ مَاءٍ غَيرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خِمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّن عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُم فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [سورة محمّد، الآية:15] . وقال دانيال عليه السلام: "سيبعث من الأجداث قوم كثير بعضهم إلى الحياة الدائمة وبعضهم إلى البوار"2. وقال / (1/63/ب) داود: "الله باعثهم وناشرهم من بين أنياب السباع ومن لجج البحار"3. وقال أيضاً في المزمور الخامس والثلاثين: "يا ربّ البشر بظلال بيتك يستترون ومن نعيم بيتك يشبعون ومن وادي نعمك بترعون؛ لأن ينبوع

_ 1 سفر أشعيا 55/1. 2 سفر دانيال 12/2. 3 ورد معنى النص في مزمور 96/10-13.

الحياة عندك"1. وقال في [المزمور] 2 الثمنين: "لو سمع مني شعبي وسلك سبلي لأذللت أعلاه ومحوت سيئاته وأطعمته من طيباتي"3. وقال في المزمور الرابع والعشرين والمائة: "المتوكلون على الله مثل جبل صهيون الذي بأورشليم لا يزول إلى الأبد. والذين يزرعون بالدموع يحصدون بالفرح كانوا ينطلقون باكين ويقبلون بالتهليل وقد حملوا غلاتهم"4. فهذه نبوات أنبياء بني إسرائيل والتوراة والإنجيل قد تظاهرت وتضافرت5 بما نطق به الكتاب العزيز من اشتمال دار الثواب على الطعام والنكاح والشراب. فإن قال اليهود: ما حكيته عن التوراة من الجنة محمول على بستان من بساتين الدنيا ولا ينكر تسمية الجنة بستاناً، والبستان جنة. قلنا: يا إخوان القرود ومشاركي ثمود إنما قالت التوراة: إن الله / (1/64/أ) أسكن آدم فردوساً في جنة عدن وجعل فيه من كل شجرة طيبة المأكل وقال لآدم: جعلت لك كل شجر الجنة مأكلاً. والله تعالى يقول: إنه فردوس في الجنة وأنتم تقولون: بل بستان وحديقة في الدنيا، ألم تسمعوا إلى قوله في بقية الكلام: إن الله كلمهما وتهددهما ثم صنع لهما سرابيلات من الجلود وأرسلهام من جنة عدن إلى الأرض التي أخذ منها آدم وأهبطهما للحرث؟!.

_ 1 مزمور 36/7-9. 2 في ص (مزمور) والتصويب من المحقِّق. 3 مزمور 81/13-16، وهو منسوب إلى إمام المغنين. (آساف) . 4 مزمور 125/1-2، 136/5، 6. 5 في ص: تطافرت.

وإن تعلق النصارى بقول أسلافهم: إن أهل الجنة لا يتزوجون1. قلنا لهم: يا عباد الرجال وربات الحجال، لو قدرنا صحة ما نقلتموه عن أسلافكم من ورود هذا اللفظ بعينه لم يلزم نفي ما صرنا إليه من التنعم بالنسوان في الجنان، إذ يحتمل أن يراد به أنهم لا يتزوجون الزواج المعروف المألوف من قاعدة النكاح والزواج الدنيوي وهو تقدم الخطبة وبذل الصداق والعقد والشروط وغير ذلك مما فيه حرج وكلف على الناكح، بل يمنحون ذلك ويتملكونه ويرثونه وراثة وتملكاً والدليل عليه من الإنجيل قول المسيح:"من ترك زوجة من أجلي في الدنيا فإنه/ (1/64/ب) يعطى مائة ضعف ويرث الحياة الدائمة"2. وفي ذلك موافقة الكتاب العزيز حيث يقول: {تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُون} . [سورة الزخف، الآية: 72] . ولفظة الميراث كثيرة مستعملة في الإنجيل والتّنْزِيل، ولهذا شمر كثير من أتباع المسيح في طلب هذا التضعيف فترهبنوا وانقطعوا عن النساء والشواغل، فإذاً قولكم: إن أهل الجنة لا يتزوجون منافاة بينه وبين قوله في الإنجيل: "من ترك زوجة فإنه يعط للواحد مائة ضعف". والأصل المعتبر عند أرباب النظر الجمع بين الأدلة، لا تعطيل بعضها واستعمال بعض؛ فقد ثبت - بعون الله ومنه - ما

_ 1 يستدل النصارى على ذلك بما ورد في إنجيل متى 22/22-30، ومرقس 12/18-25، ولوقا 20/27-35: "حين جاء إلى المسيح صدوقيون - وهم فرقة من اليهود - يسألونه عن امرأة تزوجت بسبعة أزواج واحداً تلو الآخر فلمن من السبعة تكون زوجة في يوم القيامة؟ فقال المسيح: "تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله؛ لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء". وهذا النصّ لا نسلم بصحته ونجزم بتحريفه وكذبه ناقله؛ فإن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قد بشروا المؤمنين بالجنة وما فيها من الملذات والنعيم. 2 ورد النص في إنجيل متى 19/29، كالآتي: "قال لهم يسوع: ... وكل مَن ترك بيوتاً أو إخوةً أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية". وبنحوه ورد في إنجيل مرقس 10/30.

ضمناه من اشتمال الجنة على الملاذ الروحانية والجسمانية جميعاً1. لزوم الاستقامة خوف هجوم القيامة:/ (1/65/أ) "قال المسيح يشبه ملكوت الله-عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العروس، خمس منهم جاهلات وخمس حكيمات، فأما الجاهلات فأخذن مصابيحهن ولم يعددن زيتاً، وأما الحكيمات فأعددت الزيت مع مصابيحهن، فلما أبطأ العروس نعسن ونمن أجمع وانتصف الليل وصرخ الصوت: قد جاء العروس فاخرجن للقائه. فقال الحكيمات وزيّتن مصابيحهن فقال الجاهلات للحكيمات: أعطونا من زيتكن فإن مصابيحنا قد طفئت. فقلن: ليس معنا ما يكفينا وإياكن فاذهبن وابتعن لكن زيتا. فلما ذهبن لذلك جاء العروس ودخل مع المستعدات إلى العرس وأغلق الباب، وجاء الجاهلات فقلن: يا ربّ يا ربّ. فقال: الحقّ أقول لكن إني لست أعرفكم، ثم قال لتلاميذه: اسهوا الآن وصلوا فإنكم لا

_ 1 ونؤكد ما ذكره المؤلِّف من الأدلة في إثبات البعث الجسماني والتنعم من الأكل والنكاح واللباس وغيره - بذكر دليل سمعي وآخر عقلي - كالآتي: أما الأوّل: وهو الذي نعتمد عليه - أن السمع قد قام على أن الله عزوجل خلق الأشياء واخترعها مبتدعاً لها لا من شيء ولا على أصل متقدم، وإذ هو كذلك فلا متوهم يتعذر عليه إذ ما شاء كان. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قامت به الدلائل الضرورية على صحة نبوته وأنه عن الله عزوجل يخبرنا أن الأكل والشرب والنكاح واللباس هنالك، وهذا قبل أن يخبر به الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم داخل في حد الممكن. ثم قام دليل على صحته فصار في حد الواجب. وأما الدليل العقلي، فإن الله تعالى خلق جواهرنا وطباعنا تلتذ بالمأكل والمشرب والروائح والملابس والأصوات الموافقة لجوهرنا والوطء، وقد علمنا أن النفس هي الملتذة بذلك، وأن هذه الحواس الجسدية هي الموصلة لهذه الملاذ إلى النفس، فهذه طبيعة جواهر أنفسا التي لا سبيل في وجودها دونها، فإذا جمع الله عزوجل يوم القيامة في دار الجزاء بين أجسادنا بعد تصفيتها من كل كدر وبين أنفسنا عادت الطبيعة كما كانت فجوزيت هنالك ونعمت بملاذها وبما تستدعيه طباعها التي لم توجد قط إلاّ لذلك، إلاّ أن ذلك الطعام غير معاني بنار ولا ذو آفات ولا مستحيل كما أخبرنا تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} . (ر: الأصول والفروع ص 78، لابن حزم. مقام هامات الصلبان ص 280، 281، للخزرجي باختصار) .

تعرفون ذلك اليوم ولا تلك الساعة"1. قلت: قال ربنا جل اسمه: {يَومَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُم قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُم فَالتَمِسُوا نُوراً فَضُرَبَ بَينَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنَادُونَهُم أَلَمْ نَكُن مَّعَكُم قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُم فَتَنْتُم أَنْفَسَكُم وَتَرَبَّصْتُم وَارْتَبْتُم وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ} . [سورة الحديد، الآياتان: 13-14] . انظر - رحمك الله - إلى هذا الكلام الرفيع القدر، الطيّب النّشر، الحسن البشر، وقسمه بفصل العذارى العشر لتعلم / (1/65/ب) قدر ما أوتيت الأمة المحمدّية، وتقف على سِرِّ قوله عليه السلام: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية"2. 27- شهادة يوحنا الإنجيلي للمسيح عليه السلام بالنبوة، وفي ذلك تكذيب للمتأخرين من النصارى في دعوى ربوبيته؛ قال يوحنا تلميذ المسيح وحبيبه وهو أحد مدوني الإنجيل: (لما أطعم يسوع خمسة [آلاف] 3 رجل من خمسة أرغفة وحوين من السمك قال الناس: حقا إن هذا لهو النبيّ الآتي إلى العالم. فلما علم أنهم يريدون يخطفونه ويصيرونه ملكاً عليهم خرج من بينهم وذهب وحده إلى الجليل"4. فهؤلاء خمسة آلاف رجل ممن شاهد المسيح يشهدون له بالنبوة وهو مقرّهم على شهادتهم، حاكم بصحة إيمانهم، راضٍ بهذا المعتقد منهم. ولو أنكر عليهم قولهم لنقل إلينا كما نقلت منهياته وأوامره على ما سيأتي، وما أحسن إلهاً يخاف من العبيد أن [يخطفوه ويصيروه ملكاً عليهم ويغلبوه] 5 على رأيه في ذلك!!.

_ 1 متى 25/1-13. 2 تقدم تخريجه ص 104. 3 في ص (ألف) والتصويب من النص. 4 يوحنا 6/10-15. 5 في ص (يخطفونه ويصيرونه ... ويغلبونه) والصواب ما أثبته.

وقد نقلوا عن لوقا أن جبريل حين بشر مريم أم المسيح بالناصرة قال لها: "إن ولدك يجلسه الرّبّ على كرسي / (1/66/أ) أبيه داود ويملكه على بيت يعقوب"1. فإن كان ما حكوه عن لوقا عن جبريل صحيحاً فقد كذبوا في هربه من التمليك عليهم، وإن كان ما نقلوه هاهنا في الهرب صحيحاً فقد كذبوا في نقلهم عن لوقا عن جبريل، وإلاّ فكيف يتقدم الله إليه على لسان جبريل بسياسة عباده والتملك عليهم ثم يأبى ذلك ويخالف أمره وينكص عنه فلا يمتثله؟! هذا مما يورَّك فيه على النقلة وبهذا الاضطراب وشبهه ردّ العلماء كتب هؤلاء القوم وأضربوا عن الاحتفال بها؛ فإن شغب النصارى بذكر هذه الآية أعدنا عليهم آية موسى وقلنا: قد نقلنا من التوراة أن موسى أطعم قومه وهم ستمائة ألف رجل سوى الصبيان والنسوان والغرباء مَنّاً وسلوى وأدامه عليهم2، ومن صنع خيراً كثيراً وأدامه أفضل بلا شكّ ممن صنع قليلاً منه وقطعه. وبالجملة فآيات الأنبياء ليست نمطاً واحداً؛ إذ المقصود منها الإعجاز. 28- معجزة دالة على صدق نبوته عليه السلام، / (1/66/ب) قال يوحنا التلميذ: "دعي المسيح إلى عرس في الجليل ففرغ الخمر الذي لهم، فقالت أم يسوع: ليس للقوم خمر ثم قالت للخدام: افعلوا ما يأمركم به يسوع، وكان هناك أوعية من حجارة لتطهير اليهود فأمرهم يسوع فملؤوها ماء ثم أمرهم فسقوا الناس منها خمراً طيبة. قال يوحنا: هذه أوّل آية أظهرها المسيح بقانا الجليل"3.

_ 1 لوقا 1/32، 33. 2 ورد ذلك في سفر الخروج الإصحاح (16) . 3 يوحنا 2/1-11.

فإن قال النصارى: بذلك نستدل على ربوبيته إذ قلب الأعيان ليس من مقدور البشر، فالجواب أن المستبدل بالخلق والاختراع هو الله الذي لا إله غيره الفرد القديم الواحد العالم القادر الحكيم خالق العالم بما فيه من الأجسام والأعراض، وليس في تحويل الماء خمراً سوى تبديل عرض بعرض؛ إذ لا يخلو الجوهر عن عرض إلاّ ويخلفه ضدّه، فتارة يكون ذلك الضدّ مناسباً، وتارة يكون مخالفاً، وذلك كله ممكن والله تعالى متّصف بالقدرة على كلّ ممكن، وقد دللنا على عبودية المسيح في الباب الأوّل / (1/67/أ) وفي ذلك ما يردّ هذا السؤال، والمعجز في الحقيقة خالق العجز وهو الله عزوجل، وصدوره على يد عبد من عبيد الله يدعي أن الله أرسله يتَنَزَّل منْزِلَة قول الله تعالى: "صدق عبدي". ونحن نناقش النصارى على ذلك فنقول: أوّلاً: لا نسلم أن هذه المعجزة لعيسى بل هي لمريم أمه بدليل أنها التي اقترحتها وطلبتها. ألا تراها كيف تقدمت للخدام وقالت: افعلوا ما يأمركم به يسوع، وذلك من غير مؤامراته؟ وقد حكى بعض العلماء من أصحابنا في نبوة مريم قولين، فإن كانت نبية فهذه معجزة لها، وإلاّ فهي كرامة في حقّ ولايتها1، والكرامة صورتها صورة

_ 1 اختلف العلماء في مسألة جواز نبوة النساء مطلقاً على أقوال هي: أ- ذهب بعضهم إلى جواز نبوة النساء واتّفقوا على نبوة مريم واختلفوا في حواء وسارة وهاجر وأم موسى، ومن هؤلاء العلماء ابن حزم. (ر: الفصل في الملل والنحل 5/119-121) ، والقرطبي وتبعهم بعض العلماء. ب- وذهب بعضهم إلى التوقف في المسألة؛ فقد نقل عن السبكي الكبير أنه قال: "لم يصح عندي في هذه المسألة شيء". (ر: فتح الباري 6/471، 474) . ج- وذهب الجمهور إلى عدم جواز نبوة النساء، وأن النبوة خاصة بالرجال. قاله القاضي عياض، ونقل النووي وابن تيمية الإجماع على ذلك عن غير واحد مثل القاضيين: أبي بكر بن الطيب وأبي يعلى وابن أبي الفراء، والأستاذ أبي المعالي الجويني وغيرهم. (ر: فتح الباري 6/471، 473) . قصص الأنبياء ص 483، لابن كثير، الجواب الصحيح 1/331، لابن تيمية) . واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ... } . [سورة النحل، الآية: 43] . وبقوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} . [سورة المائدة، الآية: 75] . فجعل غاية مريم الصديقة كما جعل غاية المسيح الرسالة. وذكروا لذلك حِكَماً؛ منها: أن النبوة عبء ثقيل لا تتحمله طبيعة المرأة الضعيفة، ولأن الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة، والأنوثة تقتضي التستر وتنافي الاشتهار لما بين الاشتهار والاستتار من التمانع. ولعلوّ مرتبة الذكور على الأنوثة فلذلك جعل الله القوامة للرجال على النساء، والنبوة تقتضي قوامة النبي على من يتابعه، ولأن المرأة يطرأ عيلها بحكم طبيعتها ما يعطلها عن كثير من الوظائف والاتصال بالملأ الأعلى كالحيض والحمل والولادة ونحوه، ولكون النفوس مائلة في ذواتهن بحسب الطبع فيغفلون عن مقالهن، وكل ذلك مانع من القيام بأعباء الرسالة وتكاليفها. كما ناقش الجمهور أدلة المخالفين بردود قوية. (ر: للتوسع: قصص الأنبياء، ص 482-486، للإمام ابن كثير، لوامع الأنوار البهية 2/265، 266، للسفاريني، الرسل والرسالات ص 84-89، د. عمر الأشقر) .

المعجزة وإنما يفترقا في التحدي على رأي بعضهم، قال الله تعالى في حقّ مريم أم المسيح: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا زِرْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عَندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ} . [سورة آل عمران، الآية: 37] . ولا يستنكر من أصحابنا القول بنبوة مريم؛ فأهل الكتاب يعتقدون نبوة جماعة من النسوان منهم: مريم1 أخت موسى وخُلدى2 وأستار3

_ 1 ورد نسبة النبوة إلى مريم أخت موسى وهارون في التوراة المحرفة في سفر الخروج 15/20، وقد تقدمت ترجمتها ص: 176. 2 خلدة: يذكر عنها قاموس الكتاب ص 344: أن اسمها عبري معناه: "ابن عرس"، وهي امرأة شالوم، وهي نبية شهيرة سكنت القسم الثاني من أورشليم في عهد الملك يوشيا، وتنبأت عن خراب أورشليم. (ر: أيضا: سفر الملوك الثاني إصحاح (22) ، وسفر أخبار الأيام الثاني إصحاح (34) . 3 أستير: معناه في الفارسية: "كوكب"، واسمها في العبرية هدسة أي: "شجرة الآس) وهي امرأة يهودية جميلة اتّخذها ملك الفرس زوجة له، وقد لعبت دوراً مهمّاً في إنقاذ اليهود من مكيدة دبرها وزير الملك للقضاء عليهم يوم الثالث عشر من آذار، وقد استطاعت أن تستصدر أمراً من الملك بالقضاء على وزيره بعد اتّهامه بالخيانة ضدّ الملك، وقتلت أكثر من سبعين ألفاً من الفرس أتباع الوزير في اليوم المحدد السابق لقتل اليهود فيه، ولذلك اتّخذ اليهود يوم الرابع عشر من آذار عيداً لهم إلى يومنا هذا تخليداً لذكرها، ولا يعرف شيء عن موت أستير وتاريخه. وينسب إليها سفر باسمها: "سفر أستير" عدد إصحاحاته: (10) إصحاحات ضمن أسفار الوحي القانونية، له مكانة خاصة ممتازة عند اليهود. (ر: سفر أستير، وقاموس الكتاب ص 63-66) .

ورفقى1، وقد زعموا أنّه كان لفولس2 / (1/67/ب) الرسول من أتباع المسيح بعد المسيح أربع بنات كلهن نبيات3. ولو سلمنا أن الآية مضافة إلى المسيح وفي حقه فهي آية تدل على صدقه والله يؤيد من يشاء لإرشاد خلقه، ولو جاز أن يدعي في المسيح الربوبية بتحويل الماء خمراً لجاز أن يدَّعي ذلك في اليسع بتحويله زيتاً فقد جاء في سفر الملوك من كتب أهل الكتاب: "أن اليسع عليه السلام نزل بامرأة من بني إسرائيل فأضافته وأكرمته فلما عزم على الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ قالت: يا نبي الله إن على زوجي ديناً قد فدحه وإن رأيت أن [تدعو] 4 الله تعالى لنا بقضاء ديننا. فقال لها اليسع: أحضريني ما عندك من الأواني واستعيري من جيرانك ما قدرت عليه من الآنية. ففعلت ذلك فأمرها فملأتها كلّها ماء ثم قال: اتركيها ليلتك هذه. وتركها ومضى فأصبحت المرأة وقد تحوَّل ذلك كلّه زيتاً فباعوه وقضوا دينهم"5. فهذه الآية أعجب وأغرب. ولم ينقل أن اليسع امتهن

_ 1 رفقة: اسم عبري ربما كان معناه: "رباط أ, حبل قيد"، وهي ابنة بتوئيل، وزوجة إسحاق وأم يعقوب - عليهما السلام - وينسبون إليها زوراً وبهتاناً في التوراة المحرفة أنها دبرت حيلة ليعقوب لينال البركة والنبوة من أبيه إسحاق بدلاً من أخيه الأكبر عيسو - وقد ماتت رفقة قبل إسحاق ودفنت في مغارة المكفيلة عند قبر إبراهيم عليه السلام، ولم يذكر أنها كانت نبية. (ر: سفر التكوين إصحاح 24، 25، 27، 49، قاموس الكتاب ص 408) . 2 الصواب أنه فيلبس المبشر: أحد السبعة المرسومين شماسة في كنسبة أورشليم، وقد كرس نفسه بعد الاضطهاد للتبشير وخاصة في السامرة، وقد كان له أربع بنات عذارى يتنبأن. (ر: أعمال الرسل21/8،9) .وقد استقر فيلبس بقيصرية، وصار أسقف تراليس. (ر: سفر أعمال الرسل إصحاح6،8،21، وقاموس الكتاب ص 702) . 3 ذكر قاموس الكتاب المقدس ص 952 أن الإناث من الأنبياء-حسب اعتقاد أهل الكتاب-في الكتاب المقدس هن: 1- مريم أخت موسى وهارون. 2- دبورة. 3- حنة أم صموئيل. 4- خلدة امرأة شلوم. 5- حنة بنت فنوئيل. 6- بنات فيلبس الأربع. ولم يذكر الكتاب نبية غيرهن إلاّ أنّه ذكر وجود نبيات كاذبات وحذر منهن مثل: نوغدية وإيزابيل. اهـ. 4 في ص (تدعوا) والتصويب من المحقِّق. 5 سفر الملوك الثاني 4/1-7.

وغلب وقتل وصلب. بلْ لم يزل / (1/68/أ) آمناً في سِرْبه1 إلى أن لحق بالله ربه. ولقد فعل موسى ما هو أعجب من ذلك كله وهو: "أنه ضرب بعصاه بحر النيل بمصر فتحوَّل الماء بسائر أرض مصر دماً عبيطاً"2. وكذلك "ألقى عصاه بين عصي بني إسرائيل فاهتزت شجرة ذات أغصان وأفنان وأورقت وأثمرت لوزاً، فبينا هي خشبة إذْ صارت شجرة خضراء مثمرة"3. فبطل ما عوَّل النصارى عليه، فما أجابوا به عن آيتي موسى واليسع فهو جواب لنا عن آية المسيح. وقد صرح فولس في الرسالة الرابعة عشرة إلى العبرانيين بأن المسيح ليس ربّاً ولا إلهاً بل إنّه عبد من عباد الله، شرّفه الله كما شرّف غيره من أنبيائه وأهل صفوته. فقال: "إن المسيح هو رئيس أحبارنا وهو الذي صعد إلى السماء وليس لنا رئيس أحبار غيره، ثم قال: إن كل رئيس أحبار إنما يكون من الناس ليقوموا فيما بين الناس وبين الله، وليس أحد ينال الكرامة لنفسه إلاّ من أناله الله مثل هارون، وكذلك المسيح لم يمدح نفسه، بل الله الذي مدحه حيث يقول: أقسم الربّ بأنّك أنت الكاهن المؤيد شبه/ (1/68/ب) ملكي صادق"4. فهذا فولس - الذي ليس عند النصارى من يعدله - يشهد بأن المسيح إنسان من بني آدم [وحَبْرٌ] 5 من أحبارهم كهارون. 29- دليل صحيح على نبوته: قال يوحنا الإنجيلي: "جاء يسوع إلى بئر من آبار السامرة مستسقياً ماء وقد عيي من تعب الطريق ففاوضته امرأة منهم

_ 1 السرب: النفس، يقال: فلان آمن في سربه، أي: في نفسه. (ر: مختار الصحاح ص293) . 2 سفر الخروج 7/14-21. 3 تقدم تخريجها ر: ص: 84. 4 الرسالة إلى العبرانيين 4/14-16، 5/1-10. 5 في ص (حبرا) والصواب ما أثبته.

فقالت: يا سيد إني أرى أنك نبي. فقال لها يسوع: أنا هو الذي أكلمك. ثم وافاه تلاميذه فعرضوا عليه طعاماً، فقال: إن لي طعاماً لستم تعرفونه، إن طعامي أن أعمل مَسَرَّة من أرسلني، وأتم عمله. ثم بعد يومين خرج من هناك؛ لأنه شهد أن النبي لا يكرم في مدينته"1. وجه الدلالة على النبوة والرسالة من وجوه: أحدها: قولها له: "يا سيد إني أرى أنك نبي". فصدّقها وحقّق ظنّها، فقال لها: "أنا هو"، وهذا واضح. الثاني: قوله: "إن لي طعاماً لستم تعرفونه"، يعني بذلك اللذات الروحانية الحاصلة من المناجات والمكالمة. الثالث: قوله: "أعمل مسرة من أرسلني". كَنَّى / (1/69/أ) بالمسرة عن المحبة، وإن كان الباري لا يتصف بالمسرة، وذلك من سوء تعبيرهم، وعَرَّف بأنه رسول مأمور بإتمام العمل ولزوم الطاعة، والنبي وغيره شرع في الشرع إلاّ ما قام الدليل على تخصيصه به. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "من وقف على هذه الفصول الشاهدة بالنبوة والرسالة، وشاهد ما كفيته من مؤنة استخراجها من أيدي الضانين بها، الكاتمين لها؛ ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمُّ نوره، فليخصّصني بدعوة صالحة تكون زادي لمعادي، ويتعين عليه إظهار ذلك للمسلم والكافر، أما المسلم ليقف على مصداق قوله تعالى في حقّ المسيح: {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ... } 2. [سورة مريم، الآية: 30] . وقوله: {ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} . [سورة المائدة، الآية: 75] . وأما الكافر فحتى تظهر عليه الحجة، ويتّضح المحجة، وأنذر

_ 1 يوحنا 4/5-44، في سياق طويل وقد اختصره المؤلِّف. 2 {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 30] .

من بسطت يداه في دنياه، وأهمته العناية بأخراه أن يجمع من وجوه هذه الطائفة الزائفة جمعاً كثيفاً، ويحضر إنجيلهم ويقررهم بهذه الفصول على النبوة والعبودية، ليهلك من هلك/ (1/69/ب) عن بيِّنةٍ ويحيى من حَيَّى عن بيِّنةٍ. وأما قول يوحنا: "وقد عَيِيَ يسوع من تعب الطريق"، فدليل على الحدث، ظاهر لمن له ناظر. وليت شعري كيف يعتقد ربوبية رجل ذي رأس وعينين، وقذال1 وأذنين، وفم ولسان وكف وبنان، يأكل ويشرب، ويعيا ويتعب، ويهان ويضرب، ويقتل في زعمه ويصلب؟!. على أَنَّا نسأل النصارى فنقول: من هو هذا الذي عطش وعيي من تعب الطريق؟! فإن قالوا: هو اللاهوت، أكذبتهم التوراة إذ تقول: "إن الله خالق العالم بأسره وما مسه إعياء ولا تعب"2. وإن قالوا: هو الناسوت، أبطلوا الاتّحاد، إذ لم يبق لاهوت متميّز عن ناسوت حتى يضاف إليه الإعياء والتعب، وإذا كان الإله منَزَّهاً عن التعب والإعياء وقد تعب المسيح وعيي، فذلك دليل على كذب النصارى فيما هذوا به من الاتّحاد، اللهم إلاّ أن يفسروا الاتّحاد بما ظهر على يده من آيات الإله من إحياء الميّت وتطهير الأبرص وغير ذلك. فيقودهم القول بذلك إلى مساواة المسيح / (1/70/أ) غيره، ويصير لا خصوصية له بهذا الاتّحاد. فإن راموا تفرقة بين المسيح وبين غيره ممن أحيا الميّت وطهر الأبرص وفعل أضعاف فعل المسيح لم يقدروا على ذلك، وقد حكى لوقا في إنجيله: "أن رجلاً من الفريسين طلب إلى يسوع أن يأكل عنده خبزاً، فلما دخل بيته حضرت إليه امرأة خاطئة، وصبَّت

_ 1 القَذَال: جماع مؤخر الرأس، ويكون من الفرس معقد العذار خلف الناصية. والجمع: "أَقذِلَة وقُذُل". (ر: المصباح المنير ص 495) . 2 ورد النص في سفر أشعيا 40/28، كالآتي: "إله الدهر الرّبّ خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا". فلعل مراد المؤلِّف في نسبة النصّ إلى التوراة أي جنس الكتب القديمة المتقدمة على الإنجيل، وذلك من إطلاق اسم الجزء على الكل.

على رجليه قارورة طيب، وبكت عند قدميه حتى بَلَّتهما بدموعها، وجعلت تمسح قدميه بالطيب وبشعر رأسها، فقال الفريسي في نفسه: لو كان هذا نبيّاً لعرف أن هذه المرأة خاطئة. فأجابه يسوع عما هجس في نفسه"1. 30- الدليل على رسالته من قوله واعترافه بأن الله غيره وأنه رسول الله إلى عباده، قال يوحنا التلميذ: "لما انتصف العيد حضر يسوع إلى الهيكل وشرع يعلم، فقال اليهود: كيف يحسن هذا التعليم؟ فقال تعليمي ليس هو لي بل للذي أرسلني، فمن عمل بطاعته فهو يعرف تعليمي، هل هو من عندي أم من عند الله؟ إن من يتكلم من عند نفسه إنما يريد مجد نفسه. فأما من يريد مجد/ (1/70/ب) من أرسله فهو صادق فعلام تريدون قتلي؟ فقال الجمع: لأنك شيطان. فقال لهم: تزعمون أن موسى عَلَّمكم الختان وليس الختان من موسى ولكنه من الآباء: "وقد يختنون الإنسان ومن الختان يهلك الإنسان كيلا تنقضوا سنة موسى"2. فعلام تنقمون عليَّ إبرائي الإنسان يوم السبت، ثم قال: إني لم آت من عندي ولكن الذي أرسلني محقّ، ولستم تعرفونه وأنا الذي أعرفه، وهو أرسلني. فَهَمَّ اليهود بأخذه ولم يقدروا، لأن ساعته لم تحضر بعد"3. فقد وضحت رسالته من الله إلى الناس وضوح الصبح لذي عينين، ولولا تعاسة الجِد4 لما اشتبه الخالق بمخلوق، ولا قوبلت حقوقه بالعقوق. فأما موضع التحريف من هذا الفصل، فهو قوله: "ليس الختان من موسى ولكنه من الآباء". وذلك غير صحيح؛ لأن التوراة قد أوجبت الختان، وجعلته

_ 1 لوقا 7/36-50، في سياق ذكره المؤلِّف مختصراً. 2 ورد النص في إنجيل يوحنا 7/22، 23، كالآتي: "ففي السبت تختنون الإنسان، فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا ينقض ناموس موسى ... ". 3 يوحنا 7/14-30. (الجد) في الأمر الاجتهاد، وهومصدر يقال منه: جَدَّ يجدّ والاسم: الجِدُّ. (ر: المصباح ص 92) .

من شرائع الإيمان، فقال الله فيها: "اختنوا لحم غرلتكم أنت وبنوك ورقيقك والساكن عندك الذي أقبل إليَّ، واجعلوا ذلك ميسماً لي في أجسادكم، فمن لم يفعل ذلك فليقتل بما أبطل من عهدي"1. والتوراة تشهد أن إبراهيم أمره/ (1/71/أ) الله فاختتن بعد ما كبرت سنة وختن بنيه وعبيده2، واختتن موسى وهارون والمسيح3 [وحواريوه] 4 وتلاميذه، والدليل على ثبج5 هذا النقل واضطرابه قوله بعد ذلك: "كيلا تنقضوا سنة موسى"،سمَّى الختان سنة موسى بعد قوله:"وليس الختان من موسى"، ولم يزل أتباع المسيح يختنون ويستنون بسنة الأنبياء في الختان حتى جاء رجل من المتأخرين يدعى فولس، هو الذي يسمونه فولوس الرسول، فادّعى أن المسيح ترآءى له، وأرسله إلى أهل دينه، فأحلَّ لهم فولس أشياء، وحلهم مما كانوا مرتبطين به من أقوال موسى والمسيح6، فكان مما حلهم منه سنة الختان التي شرعها الأنبياء عليهم السلام فراجعوه في ذلك،

_ 1 سفر التكوين 17/9-14. 2 سفر التكوين 17/23-27. 3 جاء النص بختان المسيح في إنجيل لوقا 2/21. 4 في ص (وحواريه) والصواب ما أثبته. 5 الثبج: وسط الشيء ومعظمه. واضطراب الكلام وتفنيه وتعمية الخط وترك بيانه. (ر: القاموس ص 233) . 6 إن الختان من الشعائر المعروفة في اليهودية، وهو قطع لحم غرلة كل ذكر ابن ثمانية أيام، وكان فرضاً دينياً عند اليهود، وفي بكور العصر المسيحي زعم فريق من اليهود المتنصرين أن حفظ تلك السنة ضروري للخلاص، ولهذا قال بولس: لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة بل الخليقة الجديدة. (رسالته إلى غلاطية 6/15) . (ر: قاموس ص 337، 338، بتخليص) . ويفهم من سفر الأعمال الرسل الإصحاح (15) بأن الحورايين قد عقدوا ما يسمّى بـ: "مجمع أورشليم" بطلب من بولس - الذي كان أوّل من دعا إلى ترك الختان، وعدم اتباع عادات بني إسرائيل - وبرنابا وغيرهم في النظر في مسألة الوثنيين الذين دخلوا في المسيحية ويرفوضون الختان، وقرر الحواريون السماح للوثنيين في الدخول في المسيحية دون شرط الختان - الذي لم ينسخ نسخاً باتاً - اعتباراً منهم على أن ذلك سيكون خطوة أولى إلى التمسك الكامل بأحكام المسيحية. إلاّ أن الواضح بعد ذلك في أقوال بولس التصريح منه بنسخ الختان نسخاً باتاً، وعدم الفائدة منه كما تقدم، واستبدال الختان بالتعميد في العهد الجديد حيث قال بولس في رسالته إلى كولوسي 2/11، 12: "وبه أيضاً ختنتم ختاناً غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقمتم أيضاً معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات. اهـ.

فقال لهم فولس هذا المدعي رسالة المسيح: "إن الختان ليس بشيء، وإن الغرلة ليس بشيء"1. فأطبق الملكية2 على ترك الختان، وتربص بقية طوائف بها فلم يتجاسروا على إهمالها. وهذا فولس3 الرسول عندهم له كلمات تدل على تهكم وتلاعب بدين النصارى ستأتي متفرقة في أضعاف هذا المختصر إن شاء الله تعالى. وقد سمعت بعض / (1/71/ب) النصارى يذكر أن كلمة ينطق بها المسيح مركبة من اللاهوت والناسوت جميعاً، فيلزم على قول هذا القائل أن يكون الإله قد نطق بكلام المستضعفين إذ يقول في كلامه لليهود: إنكم تريدون قتلي، وذلك زلل عظيم. 31- مناظرة جرت بينه وبين اليهود تشهد له بالنبوة والرسالة؛ قال يوحنا التلميذ: "قال يسوع لليهود الذين حضروه: إن أنتم ثبتم على الحقّ فالحقّ يعتقكم، فقالوا: نحن ذرية إبراهيم وأنت تزعم أنا عبيد. فقال: الحقّ أقول

_ 1 رسالة بولس إلى أهل كورنثوس 7/19. 2 فرقة من فرق النصارى الكبيرة، وسيأتي التعريف بها. 3 لقد سبق لنا في ترجمة بولس (انظر: ص: 100) بيان الدور الخطير الذي قام به في انحراف النصارى، وقد أكّد الباحثون المعاصرون من النصارى ما قد قرره علماء المسلمين قديماً في المؤسس للنصرانية المنحرفة هو بولس، وليس عيسى عليه السلام. والأدلة على ذلك كثيرة من أقوال بولس في رسالته التي تثبت أنه واضع أسس العقيدة النصرانية المنحرفة ومنها: قوله في رسالته إلى كولوسي 1/15: "الذي هو (يعني: المسيح) صورة الله غير المنظور بكر كل خليفة، فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أو رئاسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق". وقوله في رسالته إلى رومية 3/23: "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله متَبَررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه". وكذلك في نفس الرسالة 5/10-21. وقوله أيضاً 4/100: "وأما أنت فلماذا تدين أخاك ... لأننا جميعاً سوف نقف أمام كرسي المسيح".

لكم إن من يعمل بالخطيئة فهو عبد الخطيئة، قد عرفت أنكم من ذرية إبراهيم، ولكنكم تريدون قتل رجل كلمكم بالحقّ الذي سمعه من الله، فقالوا: أما نحن فلسنا مولودين من زنى، وإنما لنا أبٌّ واحدٌ هو الله. فقال: لو كان الله أباكم كنتم تحبونني؛ لأن الله أرسلني ولستم تفهمون كلامي ولا تطيقون استماع قولي، أنتم من أبيكم إبليس وشهوة أبيكم تأتون. فقالوا: ألم نقل إنك سامري وأن بك جنوناً؟ فقال: الحقّ أقول لكم إن من يحفظ كلامي لا / (1/72/أ) يذوق الموت إلى الأبد. فقالوا: الآن علمنا أنك مجنون. قد مات إبراهيم والأنبياء؛ فلعلك أعظم من أبينا إبراهيم ومن مات من الأنبياء، من تجعل نفسك؟ فقال يسوع: أبوكم إبراهيم اشتهى أن يرى يومي فرأى وفرح. فقال له اليهود: لم يأت لك خمسون سنة فكيف رأيت إبراهيم؟ فقال يسوع: الحقّ أقول لكم إنني [كائن] 1 قبل أن يكون إبراهيم. فتناولوا حجارة ليرجموه، فتوارى يسوع وخرج من الهيكل"2. قلت: فقد نطق المسيح في هذا الفصل وفي غيره بأنه رسول من الله، وأنه إنسان من خلقه يروم أعداؤه قتله على تبليغ رسالة ربّه، وأنه سامع من الله، وأن الله غيره ولو أن الأمر على ما يتخيله النصارى لأرشد أهل ذلك المجلس إلى الصواب ولعرّفهم أن الإله لا يتصور قتله والظهور عليه، ولكنه أثبت عندهم أنه رجل ضعيف من بني آدم، وأكّد ذلك في نفوسهم بهربه وتواريه من المجلس على أعين الناس وهم يشهدون، وكيف يكون إلهاً ويترك خلقه يرتبكون في حبائل الشكوك، ويقول في محاورته: "إنّكم تريدون قتلي / (1/72/ب) وأنا إنسان كلمتكم بالحق وفُهْت لكم الصدق"؟!.

_ 1 إضافة يقتضيها السياق مأخوذة من نص الإنجيل. 2 يوحنا 8/31-59، في سياق طويل، وقد اختصر المؤلِّف بعضه.

وفي هذا الفصل مواضع يسألون عنها، وكلّها قريبة المغزى على من أمعن من مطالعة كتبهم، وعرف نبوات أنبيائهم، منها قوله: "أنا قبل أن يكون إبراهيم". وإنما يريد قبلية الاصطفاء والاجتباء، وتقدير الكلام: "أنّ الله قدّر لي النبوة واصطفاني للرسالة قبل خلق إبراهيم". وهذا محمل يتعين حمل هذا الكلام عليه إن صحّ نسبته إليه، ولو كان الأمر على ما [ينهق] 1 به النصارى من دعوى الربوبية لم يخصص القبلية بإبراهيم ولقال: "أنا كنت قبل خلق العالم، وأنا الذي نفخت الروح في حواء وآدم"، ولو جاز أن يتمسك بقوله: "أنا قبل أن يكون إبراهيم"، لجاز ذلك في سليمان فقد قال عليه السلام في حكمته: "أنا كنت قبل الدني، وأنا كنت مع الله حين مدَّ الأرض، وكنت صبيّاً ألهو بين يديه"2. فإن قالوا: هذا مُأَوَّل لأن سليمان3 من بني إسرائيل، فكيف يكون قبل الدنيا؟!. قلنا: ويسوع المسيح من ولد إبراهيم، فكيف يكون قبل إبراهيم؟! فاستوت الحال وترجح جانب سليمان في / (1/73/أ) هذه القَبْليِّة4.

_ 1 في ص (يهيق) ولعل الصواب ما أثبته. 2 سفر الأمثال 8/22-31، بألفاظ متقاربة، وقد ذكره المؤلِّف مختصراً. 3 سليمان بن داود - عليهما السلام - اسم عبري معناه: "رجل السلام". وهو وأباه داود عند أهل الكتاب مجرد ملكين من ملوك بني إسرائيل وليسا نبيّين من أنبيائهم الكرام، وينسب إليه الهيكل المسمّى بـ: (هيكل سليمان) ، كما ينسبون إليه زوراً وبهتاناً الكثير من كبائر الذنوب، وحتى الشرك بالله، كما ينسبون إليه سفر الجامعة وعدد إصحاحاته (2) ، وسفر الأمثال وإصحاحاته (31) ، وسفر نشيد الأناشيد وإصحاحاته (8) . (ر: سيرته في سفر الملوك الأوّل وقاموس الكتاب ص 481، 483، 951) . أما في المصادر الإسلامية فإن سليمان وداود - عليهما السلام - بلا شكّ - من أنبياء الله الكرام المعصومين. (ر: سيرته في تاريخ الطبري 1/344-356، قصص الأنبياء، ص 428-447، لابن كثير وغير ذلك) . 4 إن كلام المؤلِّف في الردّ على استدلال النصارى على ألوهية المسيح بقوله: "أنا قبل أن يكون إبراهيم"، مقتبس من كلام الحسن بن أيوب - وقد كان نصرانياً ثم أسلم - في الرّدّ على النصارى، وكتابه مفقود، إلاّ أن الإمام ابن تيمية قد نقل أغلب كتابه في الجواب الصحيح 2/340، 341، كما ذكر الرّدّ أيضاً المهتدي نصر بن يحيى المتطبّب في النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية ص 276، 277.

ومنها قوله: "إن أباكم إبراهيم ليشتهي أن يرى يومي فرأى وفرح"، يحتمل أن يكون إبراهيم كان قد اشتهى أن يرى يوماً يتلذذ فيه بمناجاة الله ومكالمته، فلا جرم أن الله تعالى أناله طلبته، وأسعفه بحاجته، وشرفه نحلته "فكلمه عند انتصاف النهار، حين مرت به الملائكة لهلاك قوم لوط كما شهدت به التوراة، وفارقوه وبقي إبراهيم قائماً بين يدي الله يناجيه ويتلذذ بمراجعته ويقول له: يا ربّ أتهلك الأبرار مع الفجار بغضب واحد"1. كما شهدت به التوراة، فضاهى ذلك اليوم من حسنه وطيبه يوم المسيح: "إذا كان يدعو ربّه عند إحياء العازر، ويقول: أشكرك؛ لأنك تستجيب لي، وأنا أعلم أنك تستجيب لي في كلّ حين، ولكن أشكرك من أجل هؤلاء الفئام ليعلموا أنك أرسلتني"2. كما نطق به الإنجيل، فهذا تأويل قول:"إبراهيم اشتهى أن يرى يومي"،ولو كان على ما يذهب إليه النصارى لقال: اشتهى أن يراني، ولم يقل: اشتهى أن يرى يومي. ويحتمل أيضاً أن يكون إبراهيم كان قد سأل الله تعالى أن يجعل / (1/73/ب) في ذريته رجلاً صالحاً تعمّ بركته، فوعده الله أن يخرج من ذريته من يحيى الميت، ويبرئ الأبرص والأكمه، ويشفي المرضى، فاشتهى إبراهيم أن يري يوماً من أيام هذا المولود الموعود به لكي يحصل له مع علم اليقين عين اليقين [فأحيا له] 3 ميتاً أو عدداً من الموتى، وشفى له مرضى، وكثر له من الزاد القليل ما أشبع الجمع الكثير، وقال: إن من ذريتك من أُجري هذه الأمور على يده، ففرح بذلك اليوم التي حصل له فيه من ربّه ما حصل.

_ 1 سفر التكوين إصحاح (18) . 2 يوحنا 11/1-46. 3 بياض في ص، والإضافة من المحقِّق حسب سياق الكلام.

وفي الفصل ما يقتضي مساواة المسيح غيره في لفظ النبوة إذ يقولون: "إن أبانا واحد هو الله"، فلم ينكر عليهم [ويقل] 1: كذّبتم بل هو أبي دونكم، بل أقرّهم على ذلك، وقال: "لو أن الله [أبوكم كنتم تحبّونني] 2". ومن ذلك قوله: "الحقّ يعتقكم"، ومعلوم أنهم أحرار، ومن ذلك قوله: "أنتم من أبيكم إبليس"، ومعلوم أنهم من بني آدم، فهذا التوسع من المسيح يوجب صرف الأبوَّة والبُنُوَّة عن ظاهرها. ويقتضي إطلاق البنوة على العبد المطيع حيث يقول: لو أن الله / (1/74/أ) [أبوكم كنتم تحبونني] 3. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "لقد فاوضت بعض النصارى فيما يتعلق بألفاظ البنوة، فقال: لا تعجب من تسميتنا السيد المسيح ابناً، فنحن بأسرنا ندعو الله أباً لجميعنا. فقلت له: فأنتم إذاً مع المسيح في الرتبة، فلم تسمونه ربّاً وتتّخذونه إلهاً؟ ولم يميز عنكم في هذه التسمية؟! فذكر اختصاصه بالخوارق والآيات فتلوت عليه أمثالها صدرت عن عدة من الأنبياء، فحار ولم يحر جواباً، وأصيب ولم يصب صواباً. فليت شعري، أي شيء في هذا الفصل يصلح للاستدلال على ربوبية المسيح وفيه قوله لليهود: "من منكم يوبخني على خطيئة؟! "، وفيه هربه من المجلس بحضرتهم. وهلاّ كان مكان قوله: "من منكم يوبخني على خطيئة"، من منكم يجحد خلقي العالم؟! ونفخي الروح في آدم؟!، ولم تنكرون ربوبيتي وتجحدون ألوهيتي، وأنا الذي بيده البسط والقبض، وبأمره قامت السماء والأرض؟! وحاشاه حاشاه، بل إنما استدل على نبوته بثبوت عصمته، فقال: "من منكم يوبخني على خطيئة؟! ".

_ 1 في ص (ويقول) والصواب ما أثبته. 2، و (4) في ص (أباكم كنتم تحبوني) والصواب ما أثبته.

32- معجزة دالة على نبوّته / (1/74/ب) : قال يوحنا التلميذ: "أحيا يسوع العازر، وجاء إلى القبر مع أخته، وقال لها: أين دفنتموه؟ فأشارت إلى المغارة التي هو فيها، فقال: ارفعوا الحجر عنه. ثم دمعت عيناه، فقال اليهود: انظروا حبه له. فقالت أخت العازر: يا سيد إنه قد أنتن؛ لأن له أربعة أيام، فقال: إن آمنت رأيت مجد الله، فرفعوا الحجر عن القبر، ورفع يسوع بصره إلى فوق، وقال: يا أبتاه أشكرك لأنك تسمع لي، وأعلم أنك تسمع لي في كلّ حين، ولكن أشكرك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا أنك أرسلتني، ثم نادى بصوت عظيم: عازار اخرج. فخرج الميت ويداه ورجلاه ملفوفة باللفائف ووجهه مستور بعمامة، فقال يسوع: حُلُّوه ودعوه يمضي إلى بيته"1. قلت: بهذا وشبهه ثبتت نبوّة المسيح، ووضحت رسالته، وقطع ألسن اليهود الذي قرفوه بالخناء، ونسبوا أمير الصدق إلى الزنا، وهذا الكلام من المسيح هو التحدّي على النبوّة. فإن نازع اليهود في صدق هذه الآية من المسيح [ود] لالتها2 على النبوّة/ (1/75/أ) ورد عليهم ذلك بعينه في شقّ البحر وإجراء المياه من حجر [الصَّوَانٍ] 3 وغيره من آيات عيسى، وكلّ سؤال انعكس على مورده مردود من أصله. وإن زعم النصارى أن ذلك دليل على ربوبية المسيح إذ ليس في مقدور البشر إحياء من في القبور. قلنا: قد بيّنا في الباب الأوّل عبودية المسيح، وأنه إنسان من الخلق أكرمه الله بالآيات وأمدّه بالمعجزات، والرّبّ تعالى هو الذي يعيد الروح إلى قالبها، ويفعل ذلك عند دعوة النبي ليتوجه على العباد قبول أمره

_ 1 يوحنا 11/1-44، في سياق طويل، وقد اختصر المؤلِّف بعضه. 2 في ص: بياض، والمثبت من اجتهاد المحقِّق حسب سياق الكلام. والله أعلم. 3 في ص: (الطران) ولا معنى له، ولعله تحريف من الناسخ، وما أثبته موافق لسياق الكلام. و (الصواب) ضرب من الحجارة شديد.

وينْزِل ذلك منه سبحانه منْزِلة قوله: "صدق عبدي فأطيعوه"، وهذا كما فلق البحر بسؤال موسى، وأخرج له من الرمل حيواناً كثيراً [قملا فأرسله] 1 إلى فرعون وجنوده، وقد شهد كتاب [سفر] 2 الملوك من كتبهم: أن قوماً حملوا ميتاً لهم إلى [القبر فرأوا عدوّاً لهم] 3، فطرحوا الميت عن أعناقهم، وابتدروا [الهرب إلى المدينة، فأحيا الله تعالى الميت] 4، وأقبل حتى دخل المدينة، فنظروا [فإذا هم قد وضعوه على قبْرِ] 5 نبي الله اليسع، فهذا تراب [قبْر اليسع قد أحيا ميّتاً وهو أعجب] 6 من فعل المسيح، والمسيح سأل / (1/75/ب) وتضرع في ذلك، واليسع ميّت لم ينسب إليه سؤال. وقد ذكرنا أشعيا النبي "أن الله عزوجل قال لحزقيال: قم فتنبأ على هذه العظام حتى أحييها لك. ففعل فأحيا الله بدعوته عالماً كبيراً يقال: إنهم ثلاثون ألفاً، وقيل: ستون ألفاً، كان بختنصر اليوناني قتلهم، وكان لهم من يوم قتلوا ستون سنة"7. وقد أحيا إلياس وغيره8 الأموات. "وقد كان موسى ضرب بعصاه الرمل فَتَكَوَّنَ منه [قمل] 9 وذباب فانثال على أعدائه"10. ولا شكّ أن من صوَّر حيواناً ابتداءاً فهو أبدع ممن أعاد الروح إلى قالبها الأوّل. وكلّ هذه المنقولات تشهد بها التوراة والنبوات، فهلاّ اتّخذ

_ 1 في ص بياض، والإضافة من نص التوراة سفر الخروج 8/16، 17. 2 و (3) ، و (4) ، و (5) ، و (6) بياض وسقط في الأصل، وقد أكملت النقص من سفر الملوك الثاني 13/20-21، ومن المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل، لأبي الفضل المالكي ص 82. 7 ورد النصّ في سفر حزقيال 37/1-10، ولم يرد في سفر أشيعا كما ذكر المؤلِّف. ولعله سهو منه، أو إضافة من الناسخ. 8 ورد في سفر الملوك الأوّل 17/17-24 أن النبي إيليا (إلياس) عليه السلام أحيا ابن الأرملة الميت، وكذلك أحيا النبي اليسع عليه السلام ابن الإسرائيلية الميت كما ذُكر في سفر الملوك الثاني 4/18-37. 9 في ص (قملاً) والصواب ما أثبته. 10 سفر الخروج 8/16، 17.

النصارى من ذكرنا من الأنبياء آلهة وأرباباً، وقد أربوا على ما صدر من المسيح عليه السلام. واعلم أن في قصة العازر أشياء تمنع النصارى من اعتقاد ربوبية المسيح منها: قوله: "أين دفنتموه"، فإنه لو كان المسيح ربّه [لعرف أين] 1 مكانه. فكيف يسأل الرّبّ عن موضع [قبر العازر؟!] 2. ومنها: استعباره عند رؤية قبْره [وذلك من صفات] 3 الآدميّين / (1/76/أ) وحُنُوِّ الجنسية. ومنها: قوله لأخت الميّت: "إن آمنت رأيت مجد الله"، أضاف القدرة على الإحياء إلى غيره. ومنها: ابتهاله وطلبه من الله وإظهار فاقته وحاجته إليه سبحانه، وعجزه وقصوره عن أن يأخذ إلاّ ما أعطاه، وقد صرّح هو بذلك في موضع آخر من الإنجيل إذ يقول: "إن الابن لا يقدر أن يفعل شيئاً ولا يتفكر فيه إلاّ أن يأمره الأب"4. وهذا غاية العجز والافتقار، فلو كان المسيح هو الله أو الله حالاً فيه كما يقول النصارى للزم اتّحاد السائل والمسؤول، والداعي والمدعو، والطالب والمطلوب منه. ولو كان الله هو المسيح أو صفة من صفاته لجر إلى تلبيس عظيم، إذ سؤاله غيره، وطلبه من غير مطلوب منه، تلبيس وتدليس، وحمل لخلقه أن يقفوا به دون حقّه، وأن يعاملوه بما يقصر عن جلاله، ولا يعطونه من الخدمة والعبادة ما

_ 1، و (3) ، و (4) طمس وبياض في الأصل، وإكمال النقص من المحقِّق حسب سياق الكلام 4 إنجيل يوحنا 5/9، 8/28، بنفس المعنى.

يتقاضاه الربوبية وتوجيه الإلهية بل يعاملونه معاملة البشر ويخاطبونه مخاطبة الآدميين، فينسبونه تارة إلى بنوة داود وأخرى إلى بنوة يوسف / (1/76/ب) ومريم، وذلك غض عظيم من منصب الربوبية وحط لجلال الألوهية. فنحن - يرحمك الله - نسأل النصارى عن هذا الداعي المبتهل الطالب أهو الإله الأزلي الواحد أو إنسان من بني آدم؟! فإن قالوا: إنه إنسان من بني آدم وافقوا شريعتنا وخالفوا شريعتهم إذ تقول: "إن المسيح إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله، وأن المسيح بيده أتقن العوالم وخلق كلّ شيء". وحينئذٍ يصيروا مسلمين إذا اعترفوا بالرسول صلى الله عليه وسلم. وإن زعموا أن القائل لذلك هو الإله الخالق الأزلي الواحد، فقد صرّحوا أن الله الأزلي لا يعلم المغيبات، وأنه مفتقر إلى سؤال غيره، وأن له ربّاً فوقه يسأله حوائجه، ويضرع إليه في نوازله ومأربه، وكفى بذلك تجاهلاً. مؤاخذة على إحياء العازر: ذكر يوحنا في قصة العازر هذه أن مريم ومرثا أختا العازر ذهبتا إلى يسوع فقالتا: "يا سيد إن حبيبك العازر قد مات، فقال يسوع: ليس هذا موتاً على الحقيقة، ولكن ليظهر مجد الله"1. قلت: لا يخلو أن يكون / (1/77/أ) العازر مات أو لم يمت، فإن كان قد مات، فكيف يقول: إنه لم يمت حقيقة، وإن كان لم يمت لم يحصل الإعجاز بإحياء من لم يمت وإحياء الحيّ محال.

_ 1 ورد النّصّ في إنجيل يوحنا 11/3، 4، كالآتي: "فأرسلت الأختان إليه فائلتين: يا سيد هو ذا الذي تحبه مريض، فلما سمع يسوع قال: هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله؛ ليتمجد ابن الله به". اهـ. هو مخالف للنّصّ الذي ذكره المؤلِّف، ولا يتطرق إليه الاعتراض الذي ذكره؛ لاختلاف عبارات النّصّين.

نكته: من غَلُظَ فهمه وأظلم حسه وكثف لبه افتقر في إرشاده إلى معجز كثيف، فلا جرم كانت الآيات في أهل الكتاب من جنس فُهومِهم. ولما لطفت أفهام آخرين وتروحنت نفوسهم وقوي نفوذ إدراكهم اكتفى في هدايتهم بالروحاني من المعجز، فلا جرم آمن طوائف بمجرد رؤية نبيّهم وسماع أوّل كلامه، ولم يتوقف إيمانهم على ما توقف عليه إيمان الأوّلين.

_ نكته أخرى: من أرسله الملك إلى قطر في أمر ذي بالٍ فهو إما خصيص به أو غير خصيص، فإن كان خصيصاً به لم يحتج في تبليغ أوامره إلى مزيد ثبته. وإن كان الآخر فلا بدّ لوجوب الامتثال مما يقطع الاحتمال، فقد ثبتت بحمد الله نبوة المسيح، وتقررت رسالته بالأدلة المستنبطة من كتبهم على وجه لا خفاء به على من نَوَّرَ الله قلبه. (1/77/ب) .

الباب الثالث: في تأويل ظواهر الإنجيل

الباب الثّالث: في تأويل ظواهر الإنجيل / (1/77/ب) اعلم - رحمك الله - أنه إنما دخل الخلل على النصارى وغيرهم ممن بضاعته من المعقول مزجاة، ومن جهلهم بمقتضيات الألفاظ وعدم المعرفة بوجوه الكلام ولقصور أفهامهم هابوا تأويل الظواهر فلم يحملوها على بعض محتملاتها بالدليل، وليس ذلك صواباً، بل ينبغي حراسة ما دَلَّ عليه دليل العقل الذي لا احتمال فيه، فإذا ورد لفظ عرض ظاهره على ما ضبطه دليل العقل، فإن لم يَنْبُ عنه استعمل الظاهر من اللفظ ولم يتأول، وإن نبا عنه طُلب له [وجه] 1 يحمل عليه ما يحتمله ليجمع بين اللفظ وبين مقتضى العقل2، إذ الشرع لا

_ 1 في ص (وجها) ولعل الصواب ما أثبته. 2 كان الأولى بالمؤلِّف في ردّه على النصارى في هذا الباب أن يستفتحه ببيان حقيقة الأناجيل وألفاظها: فإن أناجيل النصارى ليست قطعية الثبوت والدلالة، بل هي ظنية إن لم تكن منتفية عنها. وذلك بنص القرآن الكريم في أخباره بتحريف أهل الكتاب لما أنْزَل عليهم، ولما ثبت من وجود التناقض والاختلاف في الأناجيل وعدم السند المتصل المتواتر لكتبهم، واعتراف بعض أحبارهم بكل ذلك كما سنبيّنه في الباب الرابع إن شاء الله تعالى. وعلى فرض التسليم الجدلي لهم بصحة أناجيلهم وفيها تلك الألفاظ التي زل فيها النصارى وهي - الأبّ والرّبّ والإله والابن - فإننا نجد لها تأويلاً (أي: تفسيراً) لمعانيها الصحيحة من نصوص كتبهم المقدسة لديهم - حيث إن الكتاب الواحد يفسر بعضه بعضاً - وما يمكن أن تحمل عليه من المعاني الصحيحة بحسب سياق الكلام وبما يناسب إطلاقها عليه. فإن ألفاظ: (الإله والرّبّ) إذا أطلقت على الله فإنها تحمل على حقيقتها وما يستلزمه مقام الربوبية والألوهية من التعظيم والتنْزِيه والتفرد. وإذا ما أضيفت إلى المخلوقين وأطلقت عليهم فإنه يراد بها التكريم والتفخيم والتدبر والرعاية والتعليم بحسب ما يناسب مقام العبودية والبشرية. وكذلك لفظة: (الابن) إذا ما أضيفت إلى الله عزوجل فإنها لا تعني بنوة الولادة أو الانفصال عن الله عزوجل - كما توهمه النصارى - حيث لم ينفرد المسيح بإطلاقها عليه، بل شاركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين في التوراة والإنجيل - ممن لم يدع أحد فيه الألوهية فإنها تعني حينئذٍِ بنوة الطاعة والمحبة. أما قول المؤلِّف: "فإذا ورد لفظ ... الخ"، فهو نفس القانون الكليّ في التعارض بين الأدلة النقلية والعقلية الذي توهمه الرازي في كتابه: (أساس التقديس ص 172) ، وقد سبقه إليه طائفة من أئمة الأشعرية منهم: أبو حامد الغزالي وابن العربي والجويني والباقلاني. (ر: المواقف للأيجي ص 39، وأصول الدين للبغدادي ص 12) . وقد أبطل الإمام ابن تيمية قانونهم الكلّي في كتابه: "درء تعارض العقل والنقل"، حيث قال: "ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كلّ فريق لأنفسهم قانوناً فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم وردّوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل كسائر الغالطين، فمن يحتج بالسمعيات فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن. وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم وقد غلطوا في الرأي والعقل، فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء. ثم ذكر الإمام ابن تيمية جوابين في الرّدّ على قانونهم: جواب إجمالي وتفصيلي: أما الإجمالي فيقول: والكلام على هذه الجملة بني على بيان ما في مقدمتها من التلبيس فإنها مبنية على مقدمات - أوّلها - ثبوت تعارضهما - والثانية - انحصار التقسيم فيما ذكروه من الأقسام الأربعة - والثالثة - بطلان الأقسام الثلاثة. والمقدمات الثلاثة باطلة، وبيان ذلك بأصل وهو: أن يقال: إذا قيل: تعارض دليلان - سواء كانا سمعيين أو عقلين، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً - فالجواب أن يقال: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين. وأما أن يكون أحدهما قطيعاً والآخر ظنياً. فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما، وهذا متّفق عليه بين العقلاء؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة. وحينئذٍ فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم الجمع بين النقيضين وهو محال. وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر، فإنه يجب تقديمه باتّفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي فإن الظنّ لا يرفع اليقين. وأما إن كان جميعاً ظنيّين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سمعياً أو عقليّاً. فتبيّن أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي، ومثل هذا الغلط - أي: القانون السابق - يقع فيه كثير من الناس، يقدِّرون تقديراً يلزم منه لوازم فيثبتون تلك اللوازم ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعاً، والتقدير الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . [سورة الأنبياء، الآية: 22 [. اهـ. (ر: درء تعارض العقل والنقل 1/4-7، 78-81، بتصرف يسير) . وأما الجواب التفصيلي فقد شغل معظم أجزاء الكتاب الذي يقع في عشرة أجزاء بتحقيق د. محمّد رشاد سالم. مما سبق يتبيّن لنا فساد ما ذكره المؤلِّف - عفا الله عنه وعنا - في مقدمة الباب الثالث؛ فإن الباطل لا يرد بباطل مثله. كما أنه يستلزم أن يتسلط النصارى على المسلمين بهذا القانون الكليّ الفاسد فيطالبون بتأويل ما ورد في القرآن الكريم والسنة من الألفاظ الشرعية كالصلاة والزكاة ونحوه بحملها على ظواهرها اللغوية ونفي معانيها الشرعية، وغير ذلك من الأمور التي تلزم قانونهم الفاسد.

يرد بخلاف ما يقتضيه العقل. فإذا عرفت هذا فاعلم أن الألفاظ التي زلوا فيها وقدروها نصوصا وليست

_ وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم وردّوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل كسائر الغالطين، فمن يحتج بالسمعيات فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن. وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم وقد غلطوا في الرأي والعقل، فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء. ثم ذكر الإمام ابن تيمية جوابين في الرّدّ على قانونهم: جواب إجمالي وتفصيلي: أما الإجمالي فيقول: والكلام على هذه الجملة بني على بيان ما في مقدمتها من التلبيس فإنها مبنية على مقدمات - أوّلها - ثبوت تعارضهما - والثانية - انحصار التقسيم فيما ذكروه من الأقسام الأربعة - والثالثة - بطلان الأقسام الثلاثة. والمقدمات الثلاثة باطلة، وبيان ذلك بأصل وهو: أن يقال: إذا قيل: تعارض دليلان - سواء كانا سمعيين أو عقلين، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً - فالجواب أن يقال: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين. وأما أن يكون أحدهما قطيعاً والآخر ظنياً. فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما، وهذا متّفق عليه بين العقلاء؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة. وحينئذٍ فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم الجمع بين النقيضين وهو محال. وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر، فإنه يجب تقديمه باتّفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي فإن الظنّ لا يرفع اليقين. وأما إن كان جميعاً ظنيّين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سمعياً أو عقليّاً. فتبيّن أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي، ومثل هذا الغلط - أي: القانون السابق - يقع فيه كثير من الناس، يقدِّرون تقديراً يلزم منه لوازم فيثبتون تلك اللوازم ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعاً، والتقدير الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . [سورة الأنبياء، الآية: 22 [. اهـ. (ر: درء تعارض العقل والنقل 1/4-7، 78-81، بتصرف يسير) . وأما الجواب التفصيلي فقد شغل معظم أجزاء الكتاب الذي يقع في عشرة أجزاء بتحقيق د. محمّد رشاد سالم. مما سبق يتبيّن لنا فساد ما ذكره المؤلِّف - عفا الله عنه وعنا - في مقدمة الباب الثالث؛ فإن الباطل لا يرد بباطل مثله. كما أنه يستلزم أن يتسلط النصارى على المسلمين بهذا القانون الكليّ الفاسد فيطالبون بتأويل ما ورد في القرآن الكريم والسنة من الألفاظ الشرعية كالصلاة والزكاة ونحوه بحملها على ظواهرها اللغوية ونفي معانيها الشرعية، وغير ذلك من الأمور التي تلزم قانونهم الفاسد.

بنصوص أربعة: الإبن، والأب، والإله، والرب. وإذا نحن أتينا عليها بالتأويل1 وبيّنا ما يحتمله بالدليل من التوراة والإنجيل لم يبق إلى إجرائها على الظاهر من سبيل، بعد أن / (1/78/أ) نقدّر صحّتها مثلاً ونسلم ورودها جدلاً، ولو نسبناهم فيها إلى التحريف والتصحيف لأغريناهم بطغيانهم وحسمنا عنهم مادة إيمانهم، بل نلاطفهم ونتكلم بمقتضى اصطلاحهم ومنقولهم فعسى أن يكون ذلك أقرب لمعقولهم، فأما الخوض بهم في أدلة العقول فشيء لا تحمله قواهم ولا يلائم هواهم. فنقول - وبالله التوفيق -: أما لفظتا الابن والأب: فلغتهم تسمي الولي (ابناً) وتسمي المربِّي (أباً) 2 ويعبرون عن ذلك بأبوَّة النعمة وبُنُوَّة الخدمة وذلك

_ 1 التأويل في اللغة: يطلق على معنيين: 1- الرجوع والعاقبة والمصير. 2- التفسير والبيان. (ر: الصحاح للجوهري 4/1627، القاموس المحيط ص 1244) . 2 ورد في قاموس الكتاب ص 17 أن كلمة (الأب) وردت في الكتاب المقدس بمعانٍ كثيرة منها: 1- السلف المباشر للإنسان أي: والده. 2- الجد أو الأسلاف على وجه عام. 3- أطلق هذا اللفظ رمزياً على: أ- الأب الروحي الذي ينفث من روحه في غيره سواء كان تأثيره طيباً أو على النقيض من ذلك، فقد دُعي إبراهيم (أبو المؤمنين) ، كما دعي إبليس أبو الأشرار. ب- الدلالة على التشابه والتقارب والتماثل (وقلت للقبر أنت أبي) . سفر أيوب 17/14. ج- على مصدر الشيء مثل: (أبو المجد) . أفسس 1/17. د- على الخالق. هـ وعلى مبتدع فنّ ما أو عمل ما، أو مبتكر أسلوب خاص للحياة. (أب ساكني الخيام) . تكوين 4/20. وعلى الشخص الذي تظهر فيه خاصيات الأبوة. (أبو اليتامى) . مزمور 68/5. ز- على من يقوم بعمل المرشد والمشير والمهتم بأمر من الأمور. (وهو قد جعلني أبا لفرعون) . تكوين 45/8. ح- على رئيس محترم مكرم، ويطلق بخاصة على الأنبياء والمتقدمين في السن والمقام وعلى المسيحيين الأوّلين. يعتبر الله في الديانة المسيحية أباً، وأبوة الله تسير في اتجاهين: الأوّل: أبوته للبشر بالخلق. والثاني: أبوته للمؤمنين بالنعمة. اهـ. ملخصاً. قلت: فإذا كانت هذه معاني الأبوة في الكتاب المقدس لديهم، فما الذي جعل أبوة الله للمسيح مختصة بأن تكون من نفس جوهر الذات الإلهية - على حد زعمهم وسخافتهم؟ - وكيف يكون ذلك وقد شاركه غيره من الأنبياء والصالحين في تلك الأبوة ولهم من المعجزات أكثر مما للمسيح؟؟.

عندهم مشهور وفي نبوات أنبيائهم مذكور مرسوم والدليل عليه من التوراة قول الله لموسى: "اذهب إلى فرعون فقل له: يقول لك الرّبّ إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك"1. قالت التوراة: "فلما لم يرسل فرعون بني إسرائيل كما قال الله قتل الله أبكار فرعون وقومه من بكر فرعون الجالس على السرير إلى الأتوني من أولاد الآدميين إلى ولد الحيوان البهيم"2 / (1/78/ب) . فهذه التوراة تُسَمِّي بنبي إسرائيل كلهم أبناء الله وأبكاره وتسمي أبناء أهل مصرأبناء فرعون وتوسع بتسمية سخال3 الحيوان أولاداً لمالك الحيوان. فهل بقي بعد هذا ريب في صرف البنوة عن ظاهرها وحملها على الوليّ والعبد؟! ألم تسمع النصارى قوله الله: "أرسله يعبدني"، فعبر عن العبد المطيع له الممتثل أمره بالابن؟! 4.

_ 1 سفر الخروج 4/22، 23. 2 سفر الخروج 12/29، 30. 3 يقال (السخلة) لولد الغنم من الضأن والمعز ساعة وضعه ذكراً كان أو أنثى، وجمعه: سخل وسخال. (ر: مختار الصحاح ص 290) . 4 ورد في قاموس الكتاب ص 108، 109، أن كلمة: "ابن الله أو أبناء الله" لقب أطلق على: 1- المسيا (المسيح) وهو يدل على العلاقة القوية بين الأب السماوي والابن الأزلي. 2- دعي آدم ابن الله. (لوقا 3/38) . 3- دعي إسرائيل وشعبه ابن الله وأبناء الله. 4- أطلق على المؤمنين بالله والناس الأتقياء. 5- وعلى الملائكة. اهـ. ملخصاً. وأستشهد هنا بقول الأستاذ شارل جنيْبر في كتابه: "المسيحية" ص 39، 106، في بيان حقيقة إطلاق (ابن الله) على المسيح، فيقول جنيبر: "والدراسات الأكيدة لدراسات الباحثين هي: أن عيسى لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه إنه (ابن الله) ، وذلك تعبير لم يكن في الواقع ليمثل - بالنسبة إلى اليهود - سوى خطأ لغوي فاحش وضرب من ضروب السفه في الدين. كذلك لا يسمح لنا أي نص من نصوص الأناجيل بإطلاق تعبير (ابن الله) على عيسى، فتلك لغة لم يبدأ في استخدامها سوى المسيحيين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية، إنها اللغة التي استخدمها القديس بولس كما استخدمها مؤلِّف الإنجيل الرابع، وقد وجدوا فيها معانٍ عميقة وعلى قدر كافٍ من الوضوح بالنسبة إليهما. ثم يقول جنير: يمكن لليهود أن يعتبر نفسه (عبداً ليهوه لا ابناً ليهوه) ، ونعتقد أنه من المحتمل أن يكون عيسى قد تصور نفسه (عبد الله) وتقدم للناس بهذه الصفة. والكلمة العبرية (عبد) كثيراً ما تترجم إلى اليونانية بكلمة تعني (خادماً) و (طفلاً) على حد سواء، وتطور كلمة (طفل) إلى كلمة (ابن) ليس بالأمر العسير، فإن كلمة (رضي الله عنهX?S) (اليونانية) تعني في نفس الوقت (خادم) و (طفل) ، تماماً كالكلمة اللاتينية: (Pعزوجلeصلى الله عليه وسلم) ، وعلى هذا يكون التطور في اللغة اليونانية من: (رضي الله عنهX?S) أي: (طفل) إلى: (عزوجلigs) أي: (ابن) أمراً في غاية البساطة. ولكن مفهوم (ابن الله) نبع من العالم الفكري اليوناني".اهـ.

قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "قَلَّ ما رأيت لفظة الابن في كتبهم إلاّ مقرونة بالعبودية والتعبد كقول التوراة: "إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني"1. وكقول المزامير: "أنت ابني سلني أعطيك"2. وكقول المسيح: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"3. وكقوله: "إذ صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات قدوس اسمك افعل بنا كذا وكذا"4. من باب السؤال والدعاء، فإذا كان إسرائيل ابن الله وبكره، فأيُّ مزية للمسيح عليه وعلى غيره في هذه البنوّة؟!

_ 1 خروج 4/22. 2 مزمور 2/7، 8. 3 يوحنا 20/17. 4 متى 6/9-13.

وقال أيضاً في التوراة في قصة الطوفان: "إنه لما نظر بنو الله إلى بنات الناس [حسانا] 1 جدا شغفوا بههن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فلولدوا جبابرة مذكورين / (1/79/أ) فأفسدوا فقال الله: لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم"2. قال المؤلِّف: أراد بأبناء الله أولاد القتيل من بني آدم وهو هابيل، وأراد ببنات الناس بنات القاتل وهو قابيل، وكُنَّ [حسانا] 3 جدا فصروا قلوبهن عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، وقد سمَّى الله أولاد الصلحاء من عباده أبناء له إذ كانوا أولياءه وأبناء وليه وصفيه الشهيد. فدلّ على ما قلناه من تسمية الولي في شرع أهل الكتاب ابناً والمربِّي له أباً ومنعماً، وذلك لا خفاء به عندهم، والدليل على ذلك من المزامير قول الله: "يا داود أنت ابني حبيبي"4، وذلك يقضي بمساواته المسيح إذ يقول له: "هذا ابني الحبيب"5. فما نرى الإنجيل زاد المسيح على أن ساواه بداود وإسرائيل وأولاده الصلحاء من أولاد هابيل الذي قتله قابيل. وقال في المزامير لداود أو لغيره: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، سلني أعطيك"6. وفي المزامير: "ولدتك من البطن قبل الفجر"7. وقال نبي الله أشعيا في نبوته حاكياً عن الله: "توصوا بني في أبنائي وبناتي"8. يريد ذكور عباده / (1/79/ب) الصالحين وإناثهم.

_ 1 في ص (حسان) والصواب ما أثبته. 2 تكوين 6/1-4، وفي ش: في التوراة لما نظر بنو اللهم، اللام مفخمة وهو عبارة عن اسم الله تعالى. 3 في ص (حسان) والصواب ما أثبته. 4 متى 3/17، مرقس 9/7. 5 مزمور 2/7. 6 مزمور 22/9، 110/3. 7 سفر أشيعا 43/6. 8 سفر أشعيا 1/2.

وقال الله في نبوة أشعيا: "إني ربيت أولاداً حتى كبروا ونشأوا"1، فما نرى المسيح إلاّ نسج له على منوال من تقدمه من صلحاء عباد الله فإن لم يصح هذا النقل فلا بنوة، وإن كان صحيحاً فلا مزية. والدليل على أن البنوة بمعنى التربية والإنعام قول المسيح في الإنجيل: "إني رباني"2، فقرن الأبوة بالتربية. وقال المسيح: "أنا الكرم وأبي الفلاح فكما أن الفلاح يسقي الكرم ويدفع عنه الأذى ويُنمِّيه فكذلك يفعل الأب"3. قال المؤلِّف: وإذا كان هذا نقلهم عن الله تعالى أن الله تعالى سمَّى الصالحين من عباده والمتقين من خلقه أبناء، فلا معنى لإطنابهم في بنوة المسيح وتخصيص التأويل بداود وإسرائيل وغيره ما إليه من سبيل. قلت: وهذه الولادة الروحانية هي الأبوة المعتبرة المستفادة من تربية المشائخ والعلماء بالله الدالين عليه المحبين عباده، وبها يصير الإنسان إنساناً، وذلك أن الوالد الجسماني يضع المولود ساذجاً عن المعرفة، خالياً عن العلم، عاطلاً من الأدب، متوفر البهيمية / (1/80/أ) نزر الإنسانية، ليس له كبير فضل على الحيوان البهيم، فإذا ولد الولادة الروحانية نقل إلى طور الإنسان، وحُوِّل عن بهيم الحيوان، فتروى بالعلم، وتحلَّى بالحكم، وتَشَنَّف بالأدب، وتشرف بالزهد، وتَرَوْحن بالمعرفة، فترقى عن الإنسانية وناسب الملائكة، فحينئذٍ تمت له الولادة الروحانية وتلاشت في جنبها الولادة الترابية الجسمانية.

_ 1 يوحنا 14/31. 2 يوحنا14/31. 3 يوحنا15/1-9.

والدليل على اعتبار هذه الولادة قول المسيح: "لن يدخل ملكوت السماوات من لم يولد من ذي قبل، قيل له: كيف يولد شيخ، قال: الحقّ أقول لكم إن المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح روح هو"1. يريد عزوجل روح الحكمة التي قالت التوراة: "إنها ملأت بصلئيل من سبط يهوذا"2. "وقال رجل من أصحاب المسيح له: يا سيد مرني أن أذهب فأدفن أبي، فقال: دع الموتى يدفنون موتاهم"3. أمره بملازمة الأب الروحاني الذي يكون سبب الحياة الدائمة. ولما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد4 على مكّة قال: "يا عتاب أتدري على من استعملتك؟ / (1/80/ب) استعملتك على أهل الله، قالها مرات"5. وقال عزوجل: "أهل القرآن هم أهل الله"6.

_ 1 يوحنا 3/3-6. 2 سفر الخروج 31/1-3. 3 مى 8/21-22، لوقا 9/59، 60. 4 عتاب بن أسيد أبي العيص، أسلم يوم الفتح، وكان عامل الرسول صلى الله عليه وسلم على مكّة، ومات في آخر خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما ـ. (ر: ترجمته في ابن سعد 5/446، والإصابة 4/211) . 5 أخرجه ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 7/245، قال: "ثنا القاسم بن عليّ الجوهري، ثنا يحيى بن عثمان، ثنا يحيى بن بكير، ثني يحيى بن صالح الأيلي عن إسماعيل بن أمية عن عطاء عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عتاب بن أسيد إني قد بعثتك إلى أهل الله وأهل مكّة ... ". الحديث. وفي إسناده يحيى بن صالح الأبيل، قال العقيلي عنه: روى مناكير وكذا قال ابن عدي. (ر: لسان الميزان 6/262) . وأما نصّ المؤلِّف فقد ذكره ابن سعد في الطبقات 5/446، من غير إسناد. 6 أخرجه ابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 1/42) ، والإمام أحمد 3/127، 128، 242، والحاكم 1/556، وغيرهم من طرق كلها عن عبد الرحمن بن بديل عن أبيه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله رضي الله عنه ... ، فذكره. قال الحاكم: "قد روى هذا الحديث من ثلاثة أوجه عن أنفس هذا أمثلها"، ووافقه الذهبي.

وقيل لأبي بكر الصّدِّيق: ماذا تقول لربّك وقد استعملت علينا عمر؟ فقال: "أقول: استعملت على أهلك خير أهلك"1. وذلك لكه للتشريف وإلاّ فلا مناسبة بين القديم والحادث والخالق والمخلوق وبعد، فقد كانت هذه الولادة - أعني ولادة التربية - مشهورة في الزمن الأوّل والدهر المتقدم، فكأن التبني بالغير مسوغ فانظر إلى المعنى الذي أشرنا إليه، ولم يزل ذلك كذلك إلى قبيل الإسلام ولما قال عزوجل: "إن زيداً2 ابني يرثني وأرثه، رضي بذلك والد زيد وعمومته وانصرفوا"3. فلما جاء الله بالإسلام والنبوة منع من ذلك رفعا للالتباس بالتسمية وأحكام الأبوة الدنيوية فقال جل من قائل: {ادْعُوهُم لآبَائِهِم} . [سورة الأحزاب، الآية: 5] . فإن أراد النصارى بالأبوة والبنوة المذهب الروحاني من التربية والتعليم والتهذيب والتقويم، لم نشاححهم في الألفاظ بعد فهم المعاني، لكنا نقول لهم: لا اختصاص للمسيح عزوجل بهذه البنوة، ونتلو عليهم ما تقدم مما نقلناه من التوراة والنبوات والإنجيل.

_ 1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/199، 274، بإسناده. 2 زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصحابي المعروف رضي الله عنه. 3 إن موضع استشهاد المؤلِّف بأن زيداً عرف بابن محمّدصلى الله عليه وسلم لتربيته وتبنّيه له، قد أخرجه البخاري في كتاب التفسير. (ر: فتح الباري 8/517) ، ومسلم 4/1884، والترمذي 5/634، عن ابن عمر - رضي الله عنهما ـ: "أن زيداً بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلاّ زيد بن محمّد حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} . وأما لفظ ما أورده المؤلِّف فقد أخرجه ابن سعد3/42،ابن حجر في الإصابة 3/25، من طريق هشام بن السائب الكلبي عن أبيه، وعن حميد بن مرثد الطائي وغيرهما في سياق طويل، إلاّ أنّ في إسناده محمّداً بن السالبي وهو متّهم بالكذب، ورمي بالرفض، من السادسة. (ر: التقريب 2/163) .

(1/81/أ) الدليل على مساواة المسيح غيره في هذه البنوة وأنه لم يخص بها نفسه: وذلك في الإنجيل كثير جداً قال المسيح في خاتمة الإنجيل: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" فقد سوى بين نفسه وبين تلاميذه في هذا المعنى ويوضحه قوله: "وإلهي وإلهكم"، فإن رام النصارى تفرقة بين المسيح وبين غيره قلبنا عليهم الكلام وعكسنا المرام حتى يضطرهم الحجاج إلى جعل البنوة في حق المسيح وغيره بمعنى واحد. قال المؤلِّف لقد فاوضني بعض الرهبان ممن يدَّعي بناناً في البيان، فأفضى الحديث معه إلى ذكر الابن والبنوة، فألزمته قول التوراة: "ابني بكري" وقلت له: لعل البكر يكون أحظى عند والده، وأولى بطريف1 بِرِّه وتالده2، فما تقول في بنوة إسرائيل؟ فقال: إسرائيل وغيره ابن النعمة والمسيح ابن على الحقيقة، فعكست عليه كلامه فتبلد واختزى ولجأ إلى ضعف العبارة واعتزى3. وقد سوَّى المسيح بين نفسه وبين سائر المطيعين من عباد الله في هذه البنوة وقد أخبر يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من الرسالة4 الأولى أن إطلاق لفظ البنوة إنما هي / (1/81/ب) مجرد تسمية امتن الله بها عليهم تشريفاً لهم فقال: "انظروا إلى محبة الأب لنا أنه أعطانا أن ندعا له أبناء"5. ثم قال في الفصل الثالث منها: "أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله وقد تبنَّن بنا فينبغي لنا أن نَنْزِله من الإجلال

_ (الطارف والطريف) من المال المستحدث وهو ضدّ التالد والتليد والاسم: (الطرفة) . (ر: مختار الصحاح ص 390) . 2 التالد: المال القديم الأصلي الذي ولد عندك وهو ضدّ الطارف. (ر: مختار الصحاح ص78) . 3 أي: نسيب إلى ضعف العبارة والخزي والتبلد، وأصله عزا، عزاه، فااعتزى. (المرجع السابق، ص 431) . 4 رسالة يوحنا الأولى من ضمن أسفار العهد الجديد. 5 رسالة يوحنا الأولى 3/1.

على ما هو عليه، فمن صحّ له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك الخطيئة والإثم واعملوا أن من لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه"1. قال متى: "قال المسيح: أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا على من يطردكم، لكيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصّديقين والظالمين"2. وقال المسيح لتلاميذه: "كونوا كاملين مثل أبيكم فهو كامل، لا تصنعوا معروفكم قدام الناس لكي تراؤنهم فيحبط أجركم عند أبيكم الذي في السماوات، لتكن صدقتك في السّرّ وأبوك يرى السّرّ فيجزيك علانية، إذا صليت فادخل مخدعك وأغلق بابك وصل لأبيك سراً وأبوك يرى السّرّ فيجزيك علانية، وإذا صليتم فلا تتشبهوا بالوثنيين لأنهم يظنون أن / (1/82/أ) يسمع منهم بكثرة كلامهم، فأبوكم عالم بحوائجكم قبل أن تسألوه"3. فهذا المسيح قد سوَّى بين نفسه وبين سائر المطيعين لله في البنوة، وبيَّن أن لفظة: "الابن" قد تطلق على العبد الصالح بدليل قوله لليهود: "أنتم لو كان الله أباكم كنتم [تحبونني] 4، أنتم من أبيكم إبليس وشهوة إبليس تهون"5.

_ 1 رسالة يوحنا الأولى 3/2-6، وقد ورد النص الآتي: "أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون؟ ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا س سنراه، كما هو وكلّ من عنده هذا الرجاء به يطهر نفسه كما هو طاهر، كل من يفعل الخطيئة يفعل التعدي أيضاً والخطيئة هي التعدي وتعلمون أن ذلك أظهر، يرفع خطايانا وليس فيه خطيئة، كل من يثبت فيه لا يخطئ، كل من يخطئ لم يبصره ولا عرفه". 2 لوقا 6/27-35، في سياق طويل وقد ذكره المؤلِّف مختصرا. 3 متى 5/48، 6/1-8. 4 في ص (تحبوني) ولعل الصواب ما أثبته. 5 يوحنا 8/42-44، بألفاظ متقاربة.

وقد قال فولس في الرسالة الخامسة: "إياكم والسفه والسب واللعن واللعب، فإن الزاني والنجس والغاشم كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت الله، احذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على الأبناء الذين لا يطيعونه، فإياكم أن تكونوا شركاءهم فقد كنتم من قبل في ظلمة فاسعوا لأن نسعى [كأبناء] 1 النور"2. انظر كيف سمى فولس حكيم النصارى [من] 3 يعمل بالمعاصي ابناً، كما سمّى المتقين من عباد الله ابناً، فقد استبان لك مرادهم بالبنوة التي يطلقونها. نوع آخر: قال المسيح: "سمعتم ما قيل العين بالعين والسن بالسن وأنا أقول لا تقاوموا الشرّ بالشرّ ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول الآخر، ومن رام أخذ ثوبك فزده إزارك / (1/82/ب) ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ومن سألك فأعطه، ومن اقترض منك فلا تمنعه، سمعتم ما قيل أحبب قريبك وأبغض عدوّك وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا على من يطردكم ويخزيكم، لكيما تكونوا بني أبيكم كونوا كاملين مثل أبيكم فهو كامل4، وإذا صنعت رحمة فلا تصوِّت قدامك بالبوق كالمرائين في المجامع والأسواق لكي يُحمدوا من الناس، الحقّ أقول لكم لقد أخذوا أجرهم، وإذا صنعت رحمة فلا تعلم شمالك ما صنعت يمينك لتكن صدقتك في السِّرّ وأبوك يجزيك علانية، وإذا صليتم فلا تكونوا كالمرائين الذين يصلون ليظهر للناس صلاتهم، الحقّ أقول لكم لقد أخذوا أجرهم5، وإذا

_ 1 في ص (أبناء) ولعل الصواب ما أثبته. 2 رسالة فولس إلى أهل أفسس 5/3-8. 3 إضافة يقتضيها السياق. 4 متى 5/38-48. 5 متى 6/1-5.

صمتم فلا تكونوا كالمرائين الذين يعبسون وجوههم ويغيِّرونها ليظهر للناس صيامهم، الحقّ أقول لكم لقد أخذوا أجرهم، وأنت إذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك كيلا يظهر للناس صيامك، اغفروا للناس خطاياهم ليغفر لكم أبوكم السماوي خطاياكم، لا تكنِزوا لكم كنوزاً في الأرض [حيث] 1 الأكلة والسوس / (1/83/أ) والسارق ولكن اكنِزوا لكم كنوزاً في السماء حتى لا تفسدها سوس ولا تنالها أيدي السُّرَّاق، فحيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم"2. فهذه أقوال من المسيح شاهدة بأنه عزوجل لم يخص نفسه بالبنوة دون أدناهم، وأنه وإياهم فيها سيَّان، وأنّها كلمة تطلق على عباد الله الصالين، وأنه حيث ما ذكرها قرنها بالعبودية والتشمير في الطاعة، وأن من كان منحرفاً عن التقى والديانة لم يصلح لهذه البنوة، كما قال المسيح لليهود: "أنتم من أبيكم إبليس". حيث لم يرضهم للبنوة المعزوة إلى الصالحين من بني إسرائيل. إطلاق أتباع المسيح لفظ البنوة على أنفسهم غير مفرقين فيها بينهم وبين المسيح [و] 3 أنهم لم يفهموا منها إلاّ ما أشرنا إليه: قال يوحنا التلميذ في قصص الحواريّين الذي يسمى فراكسيس: "يا أحبائي إنا أبناء الله سمانا بذلك، واعملوا أن الفصل بين أبناء الله وأبناء الشيطان أن من لم يتَبَرر ويحب أخاه فليس من الله بل من الشيطان"4.

_ 1 في ص (جنب) والتصويب من النص. 2 متى 6/16-21. 3 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم. 4 رسالة يوحنا الأولى 3/1-11، بألفاظ متقاربة، ولم يرد النصّ في سفر أعمال الرسل كما ذكر المؤلِّف.

فبيَّن الحواري أن بنوة الله عبارة عن طاعته وأن من لم يطع الله / (1/83/ب) فليس يصلح لهذه البنوة ولا تليق به، وساوى بين نفسه وبين المسيح في هذه البنوة. فلم يبق بعدها للنصارى باقية، ولم تقم لهم في تخصيص المسيح بالبنوة قائمة. وقد عبَّر يوحنا الإنجيلي عن هذه البنوة بالطاعة والاستقامة، وذكر أن مَن كان منحرفاً عن خدمة الله لم يصلح لهذه البنوة، فقال في الفصل الثالث من رسالته الأولى: "اعملوا أن كل من ولد من الله فلن يعمل خطيئة من أجل أن زرعه [ثابت] 1 فيه فلا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله وبهذا نتبيّن أبناء الله من أبناء الشيطان فكل من لا يعمل البر فليس هو من الله"2. فالمسيح عزوجل ويعقوب وداود ومن مضى من أولياء الله وأنبيائه لما تحققوا بخدمة الله وسارعوا إليها أطلق اللسان العبراني عليهم هذه التسمية تشريفاً له ولا مزية للمسيح على غيره في ذلك. وقال فولس الذي يسمونه فولس الرسول وهو المفرس العالم الذي لهم في رسالته إلى ملك الروم: "أن الروح تشهد لأرواحنا أنا أنباء الله وإذا كنا أبناءه فنحن ورثته / (1/84/أ) أيضاً". وقال فولس في هذه الرسالة: "إن البرية كلها تترجى ظهور أبناء الله"3. قال المؤلِّف: إن كان هذا الكلام صحيحاً، فالمسلمون أحق بهذه التسمية فإنهم الذين ملأوا الأرض ونفعوا البرايا والأمم بما أرشدوهم إليه من طاعة الله، وعلموهم من توحيده، وشرعوا لهم من أحكامه، وتحقق رجاء البرية بما أفادهم المسلمون من مصالح دينهم ودنياهم.

_ 1 في ص (ثابتا) والصواب ما أثبته. 2 رسالة يوحنا الأولى 3/9، 10. 3 رسالة بولس إلى أهل رومية 8/16-19، وقد وهم المؤلِّف في قول إنها رسالة بولس إلى ملك الروم.

وقال فولس في رسالته إلى بعض النواحي: "أولا تعلمون أنكم هياكل الله، وأن روح الله حالة فيكم، وأن الدنيا والآخرة لكم"1. وقال فولس لإخوانه: "إن أجسامكم هيكل لروح القدس التي قبلتموها عن الله"2. وقال فولس في رسالته الثانية: "إن الله تعالى قال: إني أحل فيهم وأسعى معهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون بمنْزِلة البنين والبنات"3. فهذا فولس- المؤتمن عند النصارى-لم يدَّع أن المسيح [مباين] 4 أحد من الملة في هذه البنوة، وقول فولس: "إنكم هياكل الله"، الهيكل5 بيت متعبدهم كالمسجد ونحوه، فشبه بيت العبد الصالح في طهارتها وعمارتها بذكر الله بالهيكل والمسجد. وقال متى في إنجيله / (1/84/ب) : "إن جباة الجزية جاءوا إلى بطرس فقالوا: ما بال [معلمكم لا] 6 يؤدّي الجزية؟ فقال لهم: نعم. ثم أخبر المسيح بمقالتهم فقال: يا بطرس والبنون أيضاً تؤدّي الغرم، اذهب إلى البحر فأوّل حوت يخرج فخذ وأدِّ عني وعنك"7. فهذا متى يشهد على المسيح بأنه لا يختص بهذه البنوة وأن [البنين] 8 سواه كثير.

_ 1 رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 3/12، 16، في سياق طويل وقد ذكره المؤلِّف مختصراً. 2 رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 6/19 بألفاظ متقاربة. 3 رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 6/19 بألفاظ متقاربة. 4 في ص (مباينا) والصواب ما أثبته. 5 الهيكل: كلمة سومرية معناها: (البيت الكبير) وهو مكان عبادة الله، ويقوم مقام الكنيسة اليوم، وكان اليهوديطلقون اسم:"الهيكل" على مكان واحدكبير في القدس، وباقي أماكن العبادةكانت تسمى: (مجامع) ومفردها مجمع. (ر: قاموس ص1012) . 6 بياض في الأصل، والتصويب من النصّ في ص: 198. 7 متى 17/24-27. 8 في ص (البنون) والصواب ما أثبته.

وهذه صورة [صلاة] 1 زعم النصارى أن المسيح علَّمها تلاميذ: وهي: "أبانا الذي في السماوات قدوس اسمك يأتي ملكوتك تكون مشيئتك كما في السماء كذلك تكون على الأرض، آتنا خبزنا قوتاً في اليوم، واغفر لنا ما وجب علينا كما نحب أن نغفر لمن أخطأ إلينا، ولا تدخلنا التجارب ولكن نجنا من الشرير، إذ لك المجد والقوة والملك إلى الأبد. آمين"2. قال المؤلِّف: قوله: "آبانا الذي في السماوات" لفظ موهم من حيث الأبوة ومن حيث الجهة. فالأبوة متروكة الظاهر بقول يوسف في التوراة: [لأخيه بنيامين - وهو لا يعرفه - يا بني الله يترأف] 3 عليك. فقد سمى أخاه ابنه، وليس ابناً له على الحقيقة، وبقوله / (1/85/أ) في التوراة لإخوته: "لستم أنتم الذين بعتموني بل الله قدمني أمامكم، وجعلني أبا لفرعون وسيداً لأهل الأرض"4. يريد مدبراً له.

_ 1 إضافة يقتضيها السياق. 2 متى 6/9-14، لوقا 11/2-4. وهذه الصلاة يسميها النصارى: "بالصلاة الربانية" وهي فاتحة صلاتهم وبعدها يقرؤون الصلوات (الأدعية) التي تناسب صلاتهم، وتنقسم هذه الصلاة إلى ثلاثة أقسام: (1) الدعاء "أبانا الذي ... "، (2) الطلبات وهي سبت، ثلاث منها تختص باسم الله وملكوته ومشيئته، وثلاث باحتياجات الإنسان الزمنية والروحية. (3) التمجيد (لأن لك الملك ... ". (ر: قاموس ص 552، الصلاة في الأديان الثلاثة ص 135، 158، أحمد أبو طبة". 3 في ص: "لا جيب سامن وهو لا يعرفه يا بني الله يترأف"، والتصويب من النّصّ في سفر التكوين 43/29. 4 تكوين 45/4-8.

وقد كان التلاميذ يقولون للمسيح يا أبت1، وليس [أباهم] 2 إلاّعلى جهة التدبير كما قال لهم: "لا تدعوا لكم مُدبَّر على الأرض فإن مدبركم المسيح"3. وكانوا أيضاً يدعون بطرس بعد المسح (أبا) لهم كما شهدت به سير التلاميذ، وذلك بمعنى المدبر، فيعلم اللبيب أن قول المسيح لربّه (يا أبت) إن صحّ ذلك عنه كقول بطرس للمسيح (يا أبت) وكقول التلاميذ لبطرس (يا أبت) . وعند الوقوف على هذه المواضع تنحل عقود النصارى في دعوى بنوة المسيح وينفصم عراهم فلا يحاولون انفصالاً إلاّ وينعكس عليهم في بنوة المسيح. ويقال لهم: هل بنوة يوسف لأخيه بنيامين ولملك مصر إلاّ كأبوة الله للمسيح؟ ‍‍! وهل بنوة المسيح لله إلاّ كبنوة إسرائيل وداود وأولاده الشهيد من ابني آدم كما حكوا عن التوراة والكتب القديمة؟ ولما كان الأب هو المشفق المرفق العاطف ببره العابد بخيره، المحرك بإحسانه / (1/85/أ) المفضل بتطوله وامتنانه، وكانت هذه المعاني لا تتحقق على الحقيقة إلاّ من الله جلت قدرته، وكان المسيح قد توفرت روحانيته فلم ير الوسائط، حَسُنَ4 عنده التجوز باسم الأب عن الرّبّ، وهذا محمل يتعين حمل هذه الألفاظ عليه إن صحّ إطلاقها

_ 1 لم أعثر في الأناجيل على نصّ يشير إلى أن التلاميذ كانوا يقولون للمسيح: يا أبت، ولكن ورد فيها أ، التلاميذ كانوا ينادون المسيح بالألقاب الآتية: - (المسيح ابن الله) . ر: متى 16/16. - (ربّ) . ر: مى 16/26، مرقس 8/31، يوحنا 21/15. - (سيد) . ر: مرقس 9/4-5، يوحنا 13/137. - (معلم) . ر: يوحنا 3/2. 2 في ص (أبوهم) والصواب ما أثبته. 3 متى 23/9. 4 في ش: جواب لَمَّا.

منه، إذا القديم جلّ وعلا يتقدس عن أن يشار إليه بأبوة البعضية المتّخذة من الزوجة والسرية تعالى القديم عن مماسة العديم، ويقدس العظيم عن ملابسة الهضيم1. {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] . ولما كان الابن هو المضهوم الجناح، المفتقر في سعيه إلى النجاح، الخائف من دركات الهلكات بركوب الجناح، اللائذ بأبيه [لاستمطار] 2 نواله، المتعلق بذيول كرمه في مضمون سؤاله، المرمَّى ببره العظيم المعدي بمنه الجسيم لم3 يقبح عنده التوسع باسم الابن عن العبد. فإن تأوّل النصارى البنوة والأبوة بهذا التأويل وإلاّ فضحتهم التوراة والنبوات والإنجيل فقد حكوا عن التوراة قول الله: "إسرائيل ابني بكري"، وفي المزامير يقول داود لأكابر بني إسرائيل: "أنا قلت لكم إنكم آلهة وبنو / (1/86/أ) العلا كلكم تدعون"4. ولا خلاف أن الإنجيل من فاتحته إلى خاتمته لم يخصص المسيح بهذه البنوة، بل شارك فيها غيره من الصحلحاء والأتقياء من عباد الله وأوليائه، ومن أنصف من النصارى عرف صحة ما قلناه فقد قال يوحنا في إنجيله: "إن يسوع كان مزمعاً أن يجمع أبناء الله"5. فهذا يوحنا التلميذ يذكر أن سائر بني إسرائيل يسمون بهذا الاسم ويذكر أن المسيح رام جمع الناس على كلمة الإيمان فلم يقدر على ذلك.

_ 1 هضم فلاناً: ظلمه، وغصبه. كاهتضمه وتضهمه. فهو هضيم. (ر: القاموس ص1511) . 2 في الأصل: (لاستمطار) ، وأظنه تحريف من الناسخ لكلمة: (لاستمطار) وهو ما أثبته لموافقته سياق الكلام. والله أعلم. 3 في ش: جواب لما. 4 مزمور 82/6. 5 يوحنا 11/52.

وإذا ثبت إطلاق لفظة البنوة على يقعوب وداود وغيره، فما بال النصارى لا يقولون في أيمانهم وحلفهم: "وحقّ يعقوب ابن الله؟! ". ولِمَ حطُّوا حرمته وهو ابن الله بكره - والبكر له مزيد حرمة عند أبيه؟! وكذلك هلا أقسموا بداود وهو ابنه حبيبه، ولم هجروا اسمه وهو مساو المسيح في البنوة والحبّ؟!. وكذلك قال لوقا الإنجيلي: "جبريل أخبر عن الله أن المسيح ابن داود"1. فهلا نسبوه نسبته التي نسبه بها جبريل ولهجوا بذلك في أقسامهم وأيمانهم فقالوا: "وحقّ المسيح ابن داود". وكيف رغبوا له / (1/86/ب) عن تسمية سماه الله بها على لسان جبريل قبل خلقه؟! أهم أعلم بما يجب له من الله؟! فكيف تكروا تسمية الله له وأخلفوا تسمية أجمع أرباب الملل والنحل على تخطئتهم فيها؟!. فإن رجعوا الفهقرى وتمسكوا بقوله: "يا أبت"، أوردنا عليهم قولة التلاميذ: "قولوا: أبانا الذي في السماوات"، ونظائرها. على أنا نقول لهم: ألم ترووا لنا عن المسيح في خاتمة الإنجيل قوله: "أنا ذاهب إلى إلهي وإلهكم"2، وقوله وهو على الصليب فيما زعمتم: "إلهي إلهي لم تركتني؟ "3. فهلا تقولون في صلواتكم وأدعيتكم: يا عبد الله اغفر لنا، وكذلك إذا دعوتم الأب فقولوا: يا سيد إلهنا ارحمنا، وكذلك قولوا في دعائكم الأب: يا جَدَّنا افعل بنا كذا؛ لأن بطرس4 أبوكم، والمسيح أبٌ لبطرس، والله أب للمسيح.

_ 1 لوقا 1/32. 2 يوحنا 20/17. 3 متى 27/46. 4 باعتبار أن بطرس رئيس الحواريّين.

وقد زعمتم أن [المسيح] 1 صفعه اليهود في رأسه بالقصب [وضَفَّروا] 2 على رأسه إكليلا من الشكوك وألبسوه ثياباً حمراً وسقوه الخلّ عندما عطش، وأنتم في صلواتكم تبتهلون إليه بالأدعية، فما بالكم لا تقولون: يا من صفعه اليهود في رأسه وبصقوا في وجهه / (1/87/أ) واقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة واستعار على خشبته وقرن باللصوص - افعل بنا كذا! - الدلالة على استعمال المسيح المجاز والاستعارات: - فإن تلاميذه كانوا [معافين] 3 مما ابتلى به المتأخرون من النصارى قال متى: "بينا يسوع جالسا يتكلم على الناس إذ قيل له: أمك وأخوتك بالباب يطلبونك، فقال: من أمي ومن أخوتي، ثم أومأ بيده إلى تلاميذه وقال: هؤلاء هم أمي وإخوتي، وكل من صنع مشيئة أبي الذي في السماوات فهو أخي وأختي وأمي"4. قلت: هو ذا المسيح عليه السلام قد أعرف في التجوز والتوسع والاستعارة حتى سمى المطيع لله قريباً له من هذه الجهات فجعله أماً له وأختاً وأخاً، وإذا كان النصارى لا يجرون على ظاهر هذا اللفظ، بل يحملونه على ما يليق به من التأويل فكذلك يلزمهم في لفظ البنوة والأبوة، فإنه كما يستحيل أن يكون آحاد الناس أماً وأختاً وأخاً للمسيح فكذلك يستحيل أن يكون المسيح - وهو رجل من بني إسرائيل يناله من النفع والضرر ما ينال غيره من البشر - ابناً لله / (1/87/ب) القديم الأزلي.

_ 1 إضافة يقتضيها السياق. والظاهر أنها سقطت من الناسخ. 2 في ص (ظفروا) والصواب ما أثبته. 3 في ص (معافون) والتصويب من المحقِّق. 4 متى 12/46-50، مرقس 3/31-35، لوقا 8/19-21.

فإن [هذى] 1 هاذ منهم وقال: فإذا لم يكن له بُدُّ من أبٍ، فمن أبوه؟!. قلنا له: إذا لم يكن لآدم بُدُّ من أبٍ، فمن أبوه؟!، فإذا قالوا: إن آدم خلقه الله آية وأعجوبة إذ خلقه من غير تناسل وتوالد، قلنا: وكذلك المسيح خلقه الله تعالى آية وأعجوبة إذ خلقه من [غير أب] 2، فكم خلق الله سبحانه من الحيوان من غير توالد وتناسل معروف، وقد ابتدأ الله العالم بأسره لا عن مثال سبق، فأي آيات الله تنكرون3؟!. واعلم أن إطلاق المسيح لفظ: (النبوة) جرى فيه على عادة من تقدمه من بني إسرائيل، فإنهم كانوا يطلقون هذه البنوة والربوبية والألوهية على المعظمين في الدين والمدبرين للأمم كقول التوراة: "إسرائيل ابني بكري"، وكقول المزامير: "داود ابني حبيبي"، وقوله للأكابر من بني إسرائيل: "أنا قلت: إنكم آلهة وبني العلاكلكم تدعون"، وقول شعيا: "توصوا بي في بني وبناتي". وقول أشعيا: "إني رببت أولاداً حتى نشأوا وكبروا". فحال المسيح منسج على منوال من سبقه. فقال: "أنا ذاهب / (1/88/أ) وأبيكم". غير أن هذه اللفظة لم تأت إلاّ ومعها لفظ العبودية ليزول الإيهام ويحصل التشريف والإنعام، والدليل على ما قلناه من بنوة شعيا النبي عليه السلام: "إن الله تعالى تهدد بني إسرائيل على جرم فعلوه، فلما خافوا نزول العقوبة قالوا في دعائهم: الله ترأف علينا، وأقبل بوجههك إلينا، ولا تصرف

_ 1 في ص (هذا) والصواب ما أثبته. والهذيان هو: الكلام غير المعقول لمرض أو غيره. (ر: القاموس ص 1734) . 2 في ص: (غراب) ، وفي ش: (من تراب) ، اقتباس من قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ... } . الآية. لكن فيه ما فيه، كأن العبارة من غراب أو من تراب. اهـ. قلت: الصواب ما أثبته. فهو الموافق لسياق الكلام، والتحريف حصل من الناسخ. 3 اقتباس من قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} .] سورة غافر، الآية: 81 [.

رحمتك عنا فأنت هو الرّبّ أبونا، فأما إبراهيم وإسرائيل فلم نعرفه، لكن أنت أبونا وقد ملنا عن طرقك، يا ربّ ارحمنا فنحن عبيدك"1. وقد رووا عن يوحنا الإنجيلي: "أن من لابس المعاصي وانغمس في الخطايا فليس له في هذه الولادة من نصيب"2. فقالوا: قال يوحنا في خاتمة رسالته الأولى: "قد علمنا أن كل من هو مولود من الله لا يخطئ؛ لأن ولادته من الله وهو حافظه له من أن يقترب إليه الشرير"3. فإن صدق النصارى في هذا النقل فليس فيهم إذاً من يستحق هذه التسمية لأنه لا يكاد أحد منهم يخلص من ملابسة المعاصي واقتراف الخطيئة والإثم. فإما أن يبطلوا هذا / (1/88/ب) ويوصوا بفساده لهم دعواهم البنوة، وإما أن يصحّحوه فيخرجوا عن بنوة الله التي يدَّعون بها، فقد حكم يوحنا وغيره من أئمتهم أن مَنْ ولد مِنَ الله لم يرتكب على نفسه ذنباً ولم يختلف وزراً. فهكذا كان اعتقاد من يطلق لفظ الأبوة على الله ويُسمِّي نفسه (ابناً لله) إنما يجعل ذلك من باب التودد إلى الله والخدمة له، فلهذا لم يكن يضرّه إطلاقه، ولما جاء المتأخرون أكثروا من هذا الإطلاق وصاروا يوردونه على جهة الفخر والتزكية وتمجيد النفس فخوطبوا بالتكبر4، وقيل لهم في الكتاب العزيز: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ... } 5.

_ 1 سفر أشعيا 63/10-17، بألفاظ متقاربة. 2 رسالة يوحنا الأولى 3/4-9، بنحوه. 3 رسالة يوحنا الأولى 5/18. 4 قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . [سورة المائدة، الآية: 18 [. 5 قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} . [سورة المؤمنون، الآية: 91 [.

فأما [لفظتا] 1 الإله والرّبّ: فالرّبّ هو المربي باللطف والإحسان العائد بالعطف والامتنان، وهاتان اللفظتان قد تستعملان في حقّ العظيم من الآدميّين تجوزاً وتوسعاً، لكن على جهة التقييد لا جهة الإطلاق، وقد قال أشعيا النبي: "عرف الثور من اقتناه والحمار مربط ربه ولم يعرف ذلك بنو إسرائيل"2. وهذه كتب القوم تشهد بأن المعلم / (1/89/أ) والمدبر والقيم يسمى رباً3، كما أن الرجل رب منْزِله وداره وبيته ورب ماله. قال نبيّنا صلى الله عليه وسلم لرجلٍ:"أربّ إبل أنت أم ربّ غنم؟ "، فقال: من كل آتاني الله فأجزل4.

_ 1 في ص (لفظتي) ولعل الصواب ما أثبته. 2 ورد النّصّ في سفر أشعيا 1/3 كالآتي: "الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف ... ". والفرق واضح بين النّصّ الذي أورده المؤلِّف وبين النّصّ المذكور حالياً في سفر أشعيا والظاهر أن عبارة "والحمار مربط ربه"، كانت موجودة في نسخة المؤلِّف، ثم حرفت بعد ذلك في النسخ التي كتبت بعد زمن المؤلِّف. رحمه الله. 3 ذكر في قاموس الكتاب ص 396، أ، لفظة: (رب) يقصد بها: 1- اسم الجلالة، وفي هذه الحالة تطلق على الأب والابن بدون تمييز سيما في رسائل بولس الرسول. 2- وقد تستعمل بمعنى: سيد أو مولى دلالة على الاعتبار والإكرام. اهـ. ويحدّثنا ستيفن نيل عن استعمالا كلمة (رب) في كتابه: "من هو المسيح؟ ص 49" فيقول:"إن الكلمة اليونانية الأصلية التي معناه: (رب) يمكن استعمالها كصيغة للتأديب في المخاطبة، فسبحان فيلبي يخاطب بولس وسيلا بكلمة: (سيدي أو ربي: أعمال 16/30"، ولكن يمكن أن تستعمل بمعنى أرفع وأرقى، وكانت تستعمل وصفاً للإمبراطور في كلّ أنحاء الإمبراطوريةالرومانية، كماكانت تستعمل أيضاًلملوك اليهود. وكانت اللفظة لقباً من ألقاب الكرامة خلع على كثير من الآلهة الوثنية وخاصة آلهة أديان الأسرار، ولهذا السبب ذهب بعض العلماء إلى أن لفظ (الرّبّ) أطلق أوّلاً على يسوع في الجماعات الأممية الناطقة باليونانية؛ وذلك لأنه هو الوصف الذي خلعوه على آلهتهم قبل أن يعتنقوا المسيحية، وكان من الهَيِّن على أولئك الأمم أن يقبلوا هذا اللقب الذي كان مألوفاً لديهم". اهـ. ويعلق على ذلك الأستاذ محمّد مجدي مرجان - الذي كان نصرانياً فأسلم - بقوله: "والواقع أن لفظ (رب يستعمل في كثير من المجتمعات، وخاصة في الأزمنة القديمة بقصد التكريم والتعظيم، ويتكرر اللفظ كثيراً في أسفار التوراة بمعنى سيد أو معلم". (ر: المسيح إنسان أم إله - محمّد مرجان، ص 175) . 4 أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد ص 59، مختصراً، والإمام أحمد 4/136، 5/53، وعنه الطبراني في المعجم الكبير 19/283، والحافظ أبي بكر الحميدي في مسنده (ح 883) ، كلهم من طريق سفيان بن عيينة، قال: ثنا أبو الزعراء عمرو بن عمور عن عمه أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة الجشمي، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فصعد في النظر وصوب، وقال: "أربّ إبل أنت أو ربّ غنم؟ "، قال: من كل قد آتاني فأكثروا طيب ... الخ". وقال الحافظ في الإصابة 6/35: "سنده صحيح".

والدليل على ذلك من التوراة قول إبراهيم ولوط للملك: "يا رب مِلْ إلى منْزِل عبدك"1. ونحن والنصارى متّفقون على عدم التعبد للملائكة وإنما أرادا الإجلال في الخطاب، وفي التوراة يقول الله لموسى: "قد جعلتك إلهاً لفرعون"2. يريد: مسلطاً عليه ومتحكماً فيه. وفي التوراة: "وقد شكا موسى لثغةَ في لسانه وعجمة في منطقه، فقال الله له: "قد جعلتك رباً لهارون وجعلته لك نبيّاً، أنا آمرك وأنت تبلغه وهو يبلغ ابن إسرائيل"3. ولم يقل الله للمسيح: قد جعلتك ربّاً وإلهاً، بل إنما ذلك شيء تَقَوَّله النصارى، فقول بطرس للمسيح: "يا رب"، إن صحّ فهو مُنَزَّل منْزِلة ربوبية موسى لهارون من حيث إن المسيح أيضاً مبلغ عن الله أوامره كتبليغ موسى أخاه هارون. وقد قال داود في المزمور الثاني والثمانين: "قام الله في جماعة الآلهة / (1/89/ب) ، وقال فيه وهو يعنف الأكابر من بني إسرائيل: "أنا قلت إنكم آلهة وبني العلا

_ 1 سفر التكوين 18/1-3، كالآتي: "وظهر له الرّبّ بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة ... وقال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك". وورد في نفس السفر 19/2، أن لوطاً عليه السلام قال للملكين: "يا سيّديَّ ميلا إلى بيت عبدكم ... ". 2 سفر الخروج 7/1. 3 سفر الخورج 4/16، 7/1، 2، بألفاظ متقاربة.

تدعون"1. وفي المزامير أيضاً في حقّ يوسف: "فخلاَّ الملك يوسف وصيَّره سلطاناً على شعبه ربّاً على بنيه"2. يريد القيم عليهم والمدبر لأمورهم. وقد قال يوسف للساقي عندما فسر له رؤياه: "اذكرني عند ربّك"3، يريد مدبرك والقيم عليك. وإذا عرفت ذلك سهل عليك ما يهتف به النصارى من تسمية المسيح ربّاً وإلهاً، وعرفت كيف تكسر حجتهم بتأويل هذه الألفاظ، وقد قال شمعون الصفا رئيس الحواريّين: "إن الله جعل أيسوع ربّاً"4، يريد وَكَل تدبير أصحابه إليه، إذ الرّبّ لا يقال إن غيره جعله وصيره ربّاً وإلهاً، فما نرى شمعون الصفا زاد المسيح في ذلك على ما قالت التوراة: "إن الله جعل موسى ربّاً لهارون وإلهاً لفرعون". ولم يتجاوز به أيضاً قول المزامير: "إن يوسف صار ربّاً للملك". وفي الإنجيل: "إن الكلاب لتأكل من موائد أربابها"5.

_ 1 مزمور 82/6. 2 مزمور 105/20، 21، ونصّه كالآتي: "أرسل الملك فحله، أرسل سلطان الشعب فأطلقه، أقامه سيدا على بيته ومسلطاً على كل ملكه". 3 قال تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} . [سورة يوسف، الآية: 42 [. قال شيخ الإسلام: "فإن قيل: لا ريب أن يوسف سمى السيد ربّاً في قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ، و" {ارْجِعْ إِلَى رَبِّك} ، ونحو ذلك، وهذا كان جائزاً في شرعه، كما جاز في شرعه أن يؤخذ السارق عبداً، وإن كان هذا منسوخاً في شرع محمّد صلى الله عليه وسلم". اهـ. (ر: الفتاوى 15/188) . 4 سفر أعمال الرسل 2/36. 5 متى 15/27، مرقس 7/28.

وقد روي عن سلمان الفارسي1 أنه قال: "تداولني بعضة عشر من ربّ إلى ربّ"2. وإنما / (1/90/أ) يريد المرشدين والمدبرين له. وقد يكون بمعنى السيد، قال الأعشى: وَأَهْلَكْن يوماً رَبَّ كِنْدَةَ وابنَه وَرَبَّ مَعَدّ بين خَبْتٍ وَعَرْعَر3

_ 1 سلمان أبو عبد الله الفارسي رضي الله عنه، ويقال له: سلمان بن الإسلام وسلمان الخير الصحابي المعروف، له ستون حديثاً. 2 أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب (53) . (ر: فتح الباري 7/277) ، وابن عبد البر في الاستيعاب 4/221، وأبو نعيم في الحلية 1/195، عن سلمان الفارسي: "أنه تداوله بضعة عشر من ربّ إلى ربّ". واللفظ للبخاري. قال الحافظ: "أي: سيد إلى سيد، وكأنه لم يبلغه حديث أبي هريرة في النهي عن إطلاق ربّ على السيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربّك، وضئ ربَّك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي". أخرجه البخاري 5/177، ومسلم 4/1764. وقال الحافظ: "ويفه نهي العبد أن يقول لسيده: ربّي، وكذلك نهي غيره فلا يقول له أحد: ربّك، والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى، لأن الرّبّ هو المالك والقائم بالشيء فلا توجد حقيقة ذلك إلاّ لله تعالى. قال الخطابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله وترك الاشتراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحرّ والعبد، فأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: ربّ الدار، وربّ الثوب، وقال ابن بطال: لا يجوز أن يقال أحد غير الله: ربّ، كما لا يجوز أن يقال له: إله. وقال الحافظ: ويحتمل أن يكون للتنْزِيه وما ورد من ذلك فلبيان الجواز - يشير إلى قوله عليه السلام في أشراط الساعة: "أن تلد الأمة ربّها"، وقيل: هو مخصوص بغير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد ما في القرآن أو المراد للنهي عن الإكثار من ذلك واتّخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن كذرها في الجملة". اهـ. 3 البيت من شعر لبيد بن ربيعة العامري وليس للأعشى كما ذكر المؤلِّف. (ر: ديوان لبيد بن ربيعة ص 55، تحقيق د. إحسان عباس، ط سلسلة التراث العربي، وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت - سنة 1962م، ر: لسان العرب 1/399، تارج العروس 1/260، وتفسير الطبري 1/62، ور: ترجمة لبيد بن ربيعة ت سنة 41 في الأعلام للزركلي 5/240) .

ويكون أيضاً للرّبّ بمعنى: المالك. قال طرفة1: كقنطرة الرومي أقسم ربّها لتكتنفن حتى تشاد بقرمد2 ويكون أيضاً الرّبّ بمعنى: المربي من قولهم: رَبّ َ يَرُبُّ فهو رَبٌّ3. قال الشاعر: يَرُبُّ الذي يأتي من الخير أنه متى فعل المعروف زاد وتمما4 ويكون أيضاً بمعنى: المصلح للشيء، قال الشاعر: كانوا كاسالِئَةٍ حَمْقاء إذ حقنت سلاءها في أديمٍ غَيرَ مَرْبُوب5 ويقال للشمس إلهة، قال الشاعر: وأعجلنا الإلهة أن تؤوبا6 ويقال: ألهت إلى فلان، إذا فزعت إليه واعتمدت عليه، وقيل: هو من ألهت فيه إذا تحيرت فيه فلم تهتد إليه، فقول بطرس: "يا ربّ"، يريد يا مدبر أمرنا والقيم علينا.

_ 1 طرفة بن العبد البكري الوائلي، أبو عمرو، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى. (ر: ترجمته في الأعلام 3/225) . 2 ورد البيت في ديوان طرفة ص 22، شرح وتقديم: مهدي محمّد ناصر الدين، دار الكتاب العلمية، بيروت، ط الأولى سنة 1407هـ، ور: شرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 87. تصحيح عبد السلام الحوفي، دار الكتب العلمية، ط الأولى سنة 1405هـ. 3 رَبَّ فلان ولده يَرُبُّه رَبّاً، وربَّبه، وتربَّبه، بمعنى أي: ربَّاه. (ر: الصحيح 1/130) . 4 ورد البيت في لسان العرب 1/386، وتاج العروس 3/261 غير منسوب، وقد أنشده ابن الأنباري كالآتي: يرب الذي يأتي من العرف أنه إذا سئل المعروف زاد وتمما 5 ذكره الطبري في تفسيره 1/62، ونسبه إلى قول الفرزق بن غالب، وورد في لسان العرب 1/390، كالآتي: "سلالها ف أديم غير مربوب، أي: غير مصلح". 6 ذكره الجوهري في الصحاح 6/2224، وقال أنشدني أبو علي: تروحَّنا من اللعباء قصراً وأعجلنا الإلهة أن تؤوبا

وقول أشعيا: "هوذا العذراء تحبل وتلد ولداً عمانويل الذي تفسير إلهنا"1 محمول على بعض هذه المحامل / (1/90/ب) إن صح نقلهم عن أشعيا هذا اللفظ بعينه. وقد فسر علماء الإنجيل قول مريم المجدلانية للمسيح (ربوني) 2 بالمعلم، والمعلم والمربي والمدبر بمعنى واحد3. وقد صرح يوحنا الإنجيلي بأن الألوهية ليست على ظاهرها فقال في إنجيليه: "جلس يسوع في إسطوان سليمان بأورشليم فأحاطت به اليهود وتناولوا الحجارة ليرجموه وقالوا: حتى متى تعذب نفوسنا؟ فقال: أريتكم أعمالاً حساناً من عند الله، أفمن أجل الأعمال [ترجمونني] 4؟! فقالوا: إنما نرجمك لأنك بينا أنت إنسان إذ جعلت نفسك إلهاً، فقال يسوع: أليس هكذا مكتوب في ناموسكم: "إني قلت إنكم آلهة وبني العلا تدعون"5، فإذا قيل لأولئك: (آلهة) لكون كلمة الله عندهم، فالذي قدَّسه الله وأرسله إلى العالم، كيف تقولون إنه يجدف"6. فقد اعترف يوحنا والمسيح بأن الألوهية متْروكة الظاهر، وإن إطلاقها عليه كإطلاقها على العلماء والحكماء والمدبرين من بني إسرائيل، وقد صرح في هذا

_ 1 أشعيا 7/14. 2 يوحنا20/16، 17، والنصّ كالآتي: "قالت له: ربوني، الذي تفسيره: يا معلم ... ". 3 علق محمّد مجدي مرجان ص 174، على النّصّ السابق وعلى ما ورد في إنجيل يوحنا 1/37، 38، بقوله: "لم يشأ يوحنا أن يطلق كلمة (رب) على عيسى من غير تفسيره، فقد خشي أن يتصور الناس أن عيسى إله أو بعض إله، ففسر يوحنا الكلمة في صلب الإنجيل نفسه بأنها تعني المعلم، فعيسى بالنسبة لتلاميذه هو معلمهم وأستاذهم. 4 في ص (ترجموني) والصواب ما أثبته. 5 نصّ مقتبس من مزمور 82/6، ونصّه: "قلت: إنكم آلهة وبنو العلي كلكم". 6 يوحنا 10/22-36، في سياق طويل وقد اختصر بعضه المؤلِّف وذكره بالمعنى.

الكلام بأنه ليس هو الله، ولا الله حال / (1/91/أ) فيه، وأن الله قدّسه؛ أي: طهّره وأرسله إلى العالم، وكذلك يفعل بسائر الأنبياء والرسل1. ولو كان المسيح هو الله، كقول الجهلة من النصارى للزم اتّحاد المُرْسِل والرسول والمُقدَّس. قال فولس في رسائله: "وقد يعرفون نعمة سيدنا يسوع المسيح إذ تَمَسْكن من أجلكم وهو غني، لكي تستغنوا بمسكنته"2. فشهد فولس بأن المسيح رجل من عباد الله يتواضع لله كدأب أوليائه وصفوته. - وقد استشهد النصارى على ربوبية المسيح بقصة الكنعانية: قال متى: "حضر إلى يسوع امرأة كنعانية فقالت: إن ابنتي بها شيطان رديئ فعسى تتعطف عليها، فلم يجبها فسأله التلاميذ أن يقضي حاجتها فقال: لم أرسل إلاّ للخراف الضالة من بيت إسرائيل. فجاءت المرأة وسجدت له وقالت له: يا رب أَعِنِّي. فقال: ليس يجيد أن يؤخذ خبز النبيّين فيعطى للكلاب. فقالت: نعم. يا ربّ والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد

_ 1 يقول محمّد مجدي مرجان في كتابه السابق ص 172: "يطلق لفظ: (إله) في الكتب المقدسة على بعض الأنبياء على سبيل المجاز تعبيراً عن قربهم من الله كسائر أبناء الله الصالحين والبشر المؤمنين، يقول عيسى موضحاً المجاز: "إنما بنوة الله بالأعمال"، ويقول لأتباعه عند صعوده إلى السماء وإنقاذه من أعدائه: "إني أصعد إلى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم". نعم. فنبوة الله ليست باللحم والدم، وليست بالتناسل والتوالد، إنما بالعمل الصالح، وكلما صدق الإيمان وثبت اليقين وحسنت النيات والأعمال كلما زاد اقتراب الإنسان من خالقه، وصار قريباً من ربّه وكأنه ابنه، فنحن أبناء الله وصنع يديه". اهـ. 2 رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 8/9.

أربابها، فحينئذٍ عطف / (1/91/ب) عليها وقال: [يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لك كما تريدين] 1، فشفيت ابنتها من تلك الساعة"2. قال النصارى: سجدت له [المرأة] 3 وخاطبته بالربوبية، وذلك دليل على ربوبيته إذ لم ينكر عليها، بل تقريرها وشفاء ابنتها من أوضح الأدلة على ربوبيته. وسبيل من وقف على ذلك أن يعارض قول الكنعانية له: "يا رب"، بقولها: "والكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها"، فقد جعلت ملاك الكلاب [أرباباً] 4 لهم ولم ينكر عليها أيضاً. وكذلك فليعارضوا بقوله: "ليس بجيد أن يؤخذ خبز النبيّين فيعطى للكلاب"، فقد سمى الكفار من بني آدم كلاباً، وقد سمى الدعاء والشفاء خبزاً، وذلك كله دليل التجوز والتوسع، وإذا كان ذلك كله جائزاً على المعنى، فالربوبية والبنوة أيضاً جائزة على طريق المعنى، فإن أحاولوا أن يكون الآدمي كلباً فليحيلوا أن يكون ربّاً. وأما سجودها له ولم ينكر عليها فذلك كان سلام القوم وتحيتهم في الزمن الأوّل على عظمائهم وأكابرهم، / (1/92/أ) والدليل عليه أن التوراة تنطق: "بأن إخوة يوسف حين عرفوه سجدوا له طالبين قدميه"5، وكذلك قالت التوراة: "إن إفرام ومنسى [ابني] 6 يوسف سجدا لجدهما يعقوب بحضرة أبيهم يوسف"7. فلن ينكر عليهم.

_ 1 في ص (يا مرأة عظيمة أمانيك يكون لك ما أردتي) والتصويب من النص. 2 متى 15/22-28. 3 إضافة يقتضيها السياق. 4 في ص (أربا) والتصويب من المحقِّق. 5 سفر التكوين 42/6. 6 في ص (ابنا) والتصويب من المحقِّق. 7 تكوين 48/8-21.

وقد قالت التوراة: "إن إبراهيم ولوطاً سجدا للملائكة على الأرض"1، فلم ينهوا عن ذلك. "وقد ساوم إبراهيم قوماً في أرض لهم ليدفن سارة فلم يكلّمهم، ولم يساومهم حتى سجد لهم مرتّين"2. على ما في التوراة، فبطل تعلقهم بسجود المرأة للمسيح. وقال المؤلِّف - عفا الله عنه -: قصة هذه الكنعانية التي استدلوا بها على الربوبية هي من أدل الدلالة على عدم الروبية، وبيانه: أنها جاءت إلى المسيح مؤمنة به، سالكة طريقه في التواضع، معتقدة أن معجزته لا تعجز عن شفاء ابنتها، وهو فلم يَعْلَم بما انطوى عليه ضميرها من الإيمان به، ألا تراه كيف جابهها بالرّدّ؟! وقال: ليس بجيد أن يؤخذ خبز النبيّين فيعطى للكلاب، فلما قالت له ما قالت ظهر له من إيمانها ما كان مستوراً / (1/92/ب) عنه وبدا له من معتقدها فيه ما لم يكن في حسابه، فحينئذٍ قضى حاجتها وشفى ابنتها. - دليل من قوله على أنّ ما يفعله بقوّة الله وحوله: قال مرقس: "قال رجل ليسوع: يا معلم قد جئتك بابني وبه روح أبكم حيثما أدركه صرعه وسألت تلاميذك فلم يقدروا على إخراجه، فقال يسوع: آتوني به، فلما رآه قال لأبيه: مُذْ كم أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه فتارة يلقيه في الماء وتارة يطرحه في النار، فإن استعطت فأعنا وتحنن علينا، فقال يسوع: كلّ شيء يستطيعه المؤمن، فبكى أبو الصبي، وقال: أنا مؤمن فأعن ضعف إيماني، فانتهر يسوع الروح وقال: أيها الروح النجس الأبكم الأصم اخرج من الإنسان، فخرج، وصار الصبي كالميت وأخذ يسوع بيده وأقامه فقال:

_ 1 تكوين 18/1، 192/1. 2 تكوين 23/2-12.

التلاميذ: لم لم نقدر نحن على إخراجه؟ قال يسوع: إن هذا الجنس لا يستطاع إلاّ بصوم وصلاة، وخرج يسوع من هناك إلى الجليل مستتراً"1. قلت: إن قدح اليهود في هذه الآية، قيل لهم: ألم ترووا/ (1/93/أ) لنا: "أن موت الفجأة وقع في بني إسرائيل بغتة فقتل منهم أربعة وعشرين ألفاً وسبعمائة رجل، فأمر موسى هارون أن يضع في المجمرة بخوراً وقام بين الأموات والأحياء فأمسك الموت الفاشي عن بعضهم"2.؟! فما الدليل على صحة ما نقلتم من هذه الآية ولعلها زور وكذب ومينٌ3 وإفك؟ فإذا قالوا: قد ثبت أن الناقلين لهذه الآية انتهوا في الكثرة إلى حد يستحيل مهم التواطؤ على الكذب، قيل لهم: وكذلك آية المسيح نقلها من يستحيل تواطؤهم على الباطل فاستوت الحال. وإن زعم النصارى أن ذلك يصلح للدلالة على ربوبويته، قيل لهم: لا تتعرضوا للاستدلال بهذه القصة على ربوبية المسيح البته، فهي من إحدى الشواهد على عبوديته وبيانه من وجوه: أحدها: قوله لأبي الصبي: "مذن كم أصابه الجني"، فإن ذلك مشعرٌ بعدم علمه بالزمن الذي علقه الجني فيه، إذ لو كان ربّه وإلهه كما يزعم النصارى لكان هو الذي ابتلاه ولَمَا عَلِقَه الجني دون إذنه وعلمه، فعدم علمه بالوقت الذي لبسه فيه دليل / (1/93/ب) على عبوديته، إذا الغيب لا يعلمه إلاّ الله

_ 1 مرقس 9/17-30. 2 سفر العدد 16/42-50، في سياق طويل، وقد ذكره المؤلِّف مختصراً، وقد ورد في النّصّ أن الذين قتل من بني إسرائيل أربعة عشر ألفاً وسبعمائة، وليس كما ذكره المؤلِّف، والظاهر أنه تحريف من الناسخ. 3 المين: الكذب، وجمعه: (ميون) . (ر: الصحاح ص 641) .

الواحد جلّ وعلام، وقد مضى نظائر ذلك إذ قد سئل عن يوم القيامة، "فقال: لا أعلمها ولا يعلمها إلاّ الله الواحد"1. والثاني: قوله: "كلّ شيء يستطيعه المؤمن"، أراد إنما يصدر منه من شفاء المرضى وسائر الآيات إنما كانت لإيمانه بالله واهب القوي وما حي أثر الداء بالدواء. والثالث: قوله للتلاميذ: "إن هذا الجن لا يستطاع إلاّ بصوم وصلاة". يدل على أن المسيح تقدم في الصوم والصلاة والعبادة إلى حد أربى فيه على غيره من عبيد الله. وفي بقية الفصل ما دل على خوف يسوع وتواريه وعجزه عن مقاومة مناوئيه، وهو أنه بعد قيام الفتى من صرعته خرج إلى الجليل فاراً من ساعته، والكلمة الأزلية لا تعتورها نقائص البشرية. كذب النصارى في دعوى بنوة المسيح: قال مرقس: "خرج يسوع وتلاميذه إلى البحر وتبعه جمع كثير فأبرأ أعلالهم فجعلوا يزدحمون عليه ويقولون: "أنت هو ابن الله، فكان ينهاهم وينتهرهم"2. قلت: أعلم / (1/94/أ) أن هذا الكلام لو كان إيماناً من قائله لم ينهه المسيح، وكيف ينهى عنه، وإنما جاء لنشر الدين وبثّ الحقّ اليقين، والأمر بالكتمان ينافي الإعلان بالإيمان؟. فلو أن قول أهل زمانه:"أنت ابن الله"توحيد لم ينههم عن التوحيد، لكنه إنما نهاهم لمخالفة نصّ الإنجيل إذا قال فيه لوقا: "إن المسيح هو ابن داود وأن

_ 1 مرقس 12/32. 2 مرقس 3/7-12، بألفاظ متقاربة.

الرّبّ يجلسه على كرسي أبيه داود"1. وذلك بشهادة جبريل عليه السلام. وإذا كان المسيح إنما هو ابن داود، فكيف لا ينهاهم عن قول ما لا يحسن قوله؟!. فإن قال النصارى: إنما نهاهم خوفاً من اليهود أن يفطنوا به إذ كانوا يرومون قتله. قلنا: ألم تزعمواأنه إنما تعنى ونزل إلى الأرض ليقتل إيثاراًلكم وتخليصاً من العذاب الذي ورطكم فيه آدم بتعاطي الخطيئة؟! أفترونه ندم على ذلك؟! فهو يستتر ويتوارى خوفاً من القتل، أفتصفونه بالبداء والندم والجهل بعواقب الأمور؟! لقد كادالله هذه العقول وحادبها عن سواء السبيل. - نوع منه آخر: قال لوقا: "كان كلّ من له مريض يجيء به إلى يسوع / (1/94/ب) فيضع يده عليه فيبرأ فيقولون له: أنت ابن الله، فكان ينتهرهم ولا يدعهم ينطقون بهذا"2. انظر رحمك الله إلى انتهار المسيح من ينطق بلفظة البنوة ليعلم أن النصارى اليوم معرضون عن إنجيله سالكون غير سبيله. فقد شهد لوقا بمثل ما شهد به مرقس، فإن زعموا أنه إنما نهاهم خشية اليهود قيل لهم: لو كان ذلك كذلك لما أكثر من فعل الآيات وفي فعلها وإظهارها ما يوجب شهرته وظهوره، فلما أكثر من المعجزات وأشاع فعلها دلّ على كذبكم في أنه نهاهم خشية أن يفطن به، بل إنما نهاهم لنصّ الإنجيل وبيان جبريل، حيث يقول: "إن يسوع هو ابن داود"، فلذلك لم يرض منهم بهذا الإطلاق. وقد قال متى في إنجيله: "هذا ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم"3. فشهد - وهو الصادق عندهم - أن أبا المسيح هو داود، وذلك ردّ على من زعم من النصارى أنه ابن الله - تعالى الله عن قولهم علوّاً كبيراً.

_ 1 لوقا 1/32. 2 لوقا 4/40، 41. 3 متى 1/1.

فإن قيل: ساعدتمونا على ترك العمل بظاهره إذ سلمتم أنه مولود / (1/65/أ) من غير أبٍّ، فكيف توردون علينا بنوة داود؟!. وإذا كنتم لا تقولون بذلك فقد سُلِّم لنا مرادنا. قلنا: النسبة نسبتان: نسبة تعريف ونسبة تشريف. فالأولى: هي نسبة الإنسان من والده الذي هو أصله. والثانية: هي نسبته من والد والده الذي هو أصل أصله، فالمسيح منسوب إلى داود النسبة الثانية - التي هي نسبة تشريف - وهي كنسبة داود إلى إبراهيم، ثم مريم أم المسيح1 من نسل داود، وداود من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وإذا كان المسيح بن داود بهذه النسبة بطل ما ذهبتم إليه من الضلال وانتحال المحال. فإن قيل: إن كان قد روى مرقس ولوقا - من أصحابه - نهيه من ينطق بلفظ البنوة فقد قال هو: "إني ذاهب إلى أبي وأبيكم". قلنا: فبذلك نستدل على اضطراب النقل وضعفه، إذ لو كان صحيحاً لم يختلفوا فيه، وإذا كان بعض الإنجيل يقول إن المسيح بن داود، وبعضه يقول: لا. بل هو ابن يوسف، وبعضه يقول: بل هو ابن الله، لم تحصل الثقة بقول واحد لاسيما والمسيح يقول: / (1/95/ب) "إنّي ذاهب إلى إلهي وإلهكم"، ويقول في زعمكم: "إلهي إلهي لم تركتني؟ ". فالمسيح يقول إن الله إلهه وربّه، وأنتم تقولون: لا. بل هو ابنه. لقد تباعد ما بينكم وبين المسيح. مسألة: زعم النصارى أن يسوع إنما جاءهم لينصرهم على اليهود ويطلع عليهم بالثالوث شموس السعود.

_ 1 ورد ي قاموس الكتاب ص 756، أن مريم العذراء من سبط يهوذا من نسل داود. (قارون لوقا1/32، 69، رومية 1/3، 2، الرسالة الثانية ليتموثاوس 2/8، وعبرانيّين 7/14) .

فيقال لهم: يا عباد الرجال وربات الحجال1 إن كان الأمر على ما تصفون فقد كان يقضي أمره على ألسن رسله والحال صالحة، وميزان التوحيد بطاعات العبيد راجحة، والخلائق مقبلون على أنبيائهم إقبالهم على آبائهم وأبنائهم، فما الذي دعاه إلى نزوله عن مجده الرفيع وعِزَّه المنيع إلى حضيض النصب ومقر الآفات والوصب؟! فيولج بطن امرأة من إمائه ومكث برحمها منغمساً في المشيمة على حال ذميمة، ثم ولدوه وأرضعته وفضلته وأدبته فأمرته بحقوقها ونهته عن عقوقها، وترددت به إلى الأعياد والمواسم وأرته الشعائر والمعالم، ولم تزل تلقنه وتثقفه حتى شبّ وترعرع وتشوَّف / (1/96/أ) إلى حنكة الرجولية وتطلع، فلما شرع فيما جاء له من نصرتكم وثب عليه اليهود فكذبوا فمه وأهدروا دمه، وأقصوه وشردوه وكدروا عليه روح الحياة ونكدوه، وأجمعوا أن يخربوا جثمانه ويفسدوه، فلما طال عليه تمردهم أعمل مطايا الحذار وعَوَّل على معقل الاستتار في الحذار، وتقدم إلى أصحابه ألا يذكروه وأن يبالغوا في طي أمره فلا ينشروه بل ينكروه، ولم يزل ذلك حاله واليهود تنقب عليه وترشي من يرشدها إليه، حتى دلّ عليه صاحبه يهوذا، وساق إليه من أعدائه جمعاً كثيفاً وأنزل به من الذعر خطباً منيفاً. فأنشبوا فيه مخاليب الضراب، وأمطروه شآبيب العذاب، وسحبوه على شوك السفاه والسباب، وبقي هذا الإله المسكين في أيدي اليهود ممتهناً يرون أقبح ما يأتونه إليه حسناً، فلما بلغوا من إهانته المراد، مضوا به إلى بقعة من الأرض تزعم النصارى أنه دحاها وألزموه حمل خشبة قالوا: [إنه] 2 أنبت لحاها، / (1/96/ب) وألبسوه أثواباً كان قد صنع ورسها3 وأصهوره شمساً هو الذي أسخن مسها، فسألهم شربة من الماء - الذي فجره - حين

_ 1 الحجل: هو الخلخال. (ر: الصحاح ص 124) . 2 في ص (إنها) والتصويب من المحقِّق. 3 ورَّسه توريساً: صبغه به. (ر: القاموس ص 747) .

وقفت نفسه لدى الحنجرة [فضنوا] 1 عليه بذلك، وعوَّضوه الخل مما هنالك، فلما تضافرت عليه فوق جذعةٍ الدواهي أعلن بقوله: إلهي إلهي، وصار بين اللصوص ثالثة الأثافي2، وعُوِّض عن بلوغ المنى بالمنافي، ثم زهقت نفسه وفتح رمسه3 وصار في صدر الأرض سراً مكتوماً، وعاد هذا الإله العظيم عديماً، ولما تمت له ثلاثة أيام في الرخام، قام من ذلك المكان ورجع إلهاً كما كان، فتلبِّس الحال الوبيل4 وادَّرع5 الذّل العريض الطويل، ولم يؤمن به إلاّ عصابة هي أقل من قليل. فما أرى هذا الإله إلاّ نايل6 الرأي فاسد الحسّ فطير7 الفطرة مشؤوم الغرة8 منقوص الهمة مظلم الفكرة9، إذ عرض نفسه للمحن وأثار بين عباده الأحقاد والإحن، فلقد شان الربوبية وأزل بهجتها وطمس نورها وأطلق ألسن السفلة بنقصها، وثلبها حتى لقد شكك كثير / (1/97/أ) منهم في الربوبية وسَهَّل

_ 1 في ص (فطنوا) والتصويب من المحقِّق. 2 الأُثْفَيَة: الحجر توضع عليه القدر، جمعه: أَثافي، وأُثَف. ورماه الله بثالثة الأثافي، أي: بالجبل، والمراد: بداهية، وذلك أنهم إذا لم يجدوا ثالثة الأثافي أسندوا القدر إلى الجبل. (ر: القاموس ص 1636) . 3 الرَّمس: الدفن والقبر، جمعه: أرْمَاس، ورموس. (ر: القاموس ص 708) . 4 وبيل: أي: ثقيل وخيم. (ر: مختار الصحاح ص 707) . 5 أدرع: أي: لبس. (ر: م. ن ص 203) . 6 هكذا في الأصل، والذي أراه أن الكلمة الصحيحة هي: "مائل"، وقد حصل لها تحريف من الناسخ والله أعلم. 7 الفطير: ضدّ الخمير، وهو العجين لم يختمر، وكل شيء أعجتله عن إدراكه فهو فطير، يقال: إياك والرأي الفطير. (ر: مختار الصحيح ص 507) . 8 غُرّة كلّ شيء أوّله، وأكرمه. والغِرَّة: الغفلة. 9 إن هذه الصفات القبيحة التي ذكرها المؤلِّف لازمة للإله الذي يعبده النصارى، وذلك بحسب ما ورد في أناجيلهم المقدسة عندهم.

عليهم ارتكاب مذاهب الدهرية1. وسلَّهم من ربقة العبودية بالكلية، فسحقاً سحقاً لإلهٍ هذه حكمته ومحقاً محقاً لربٍّ هذا تدبيره. فلو أن إنساناً نشأ ببعض الجزائر المنقطعة عن العمران لا يعرف رباً ولا يقرأ كتباً، ولا يدين بملة عرض عليه دين النصارى، فقيل له: إن لك رباً خلقك وأبدعك، ومن صفته أنه رجل مثك يبول ويغوط ويبصق ويمتخط ويجوع ويعطش ويعرى ويكتسي ويسهر وينام، وسارع مع الأنام الكلام وأن إنساناً مثله حقد عليه بعض الأمر فضربه وسحبه، ثم قتله وصلبه بعد أن حطم شعره ولطم نحره، فجاور الأموات وتعذر عليه روح الحياة وفات.

_ 1 الدهرية: أنكروا الخالق والرسالة والبعث والإعادة، وهم الذين أخبر عنهم القرآن الكريم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ} .] سورة الجاثية، الآية: 24 [. وزعموا بأن العالم قديم لم يزل ولا يزال، وما ثم إلاّ أرحام تدفع، وأرض تبلع، وسماء تقلع ... الخ. ويسمون بالملاحدة. ودهرية زماننا يسمون بالشيوعية الماركسية والاشتراكية والوجودية. (ر: الفصل - لابن حزم 1/47، الملل للشهرستاني 2/3، 235، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان - للسكسكي الحنبلي ص 88، إغاثة اللهفان - لابن قيم الجوزية 2/255) . إن ما ذكره المؤلّف - في زمنه - من اعتناق كثير من النصارى لمذهب الدهرية والإلحاد وإناكر الروبية وأنه ناتج عن عقيدة النصارى السخيفة التي لا يقبلها عقل صحيح ولا فطرة سليمة - نجده واضحاً وبارزاً في زماننا حيث أخذت العقيدة الدينية في الذبول وأصبح الإلحاد مفخرة الأندية حتى أندية الكنيسة نفسها، وظهرت الشعارات الإلحادية المختلفة فكان شعار الثورة الفرنسية (أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس) ، وشعار الثورة الشيوعية: (الدين أفيون الشعوب) ، وشعار العلمانية: (فصل الدين عن الحياة والدولة) . وقد ملئ الفراغ العقدي عند النصارى بالاتّجاه الوثني الروماني الذي تمثله في العصر الحديث الأفكار المادية، فنشأت في المجتمعات والبلاد النصرانية المذاهب المادية الهدامة كالشيوعية الماركسية والبرجماتية والوجودية والداروينية والفريدوية وخلافها من الأمراض العقلية التي أنتجها العقل البشري المريض. وذلك يفسر لنا الانحلال الاجتماعي الرهيب والانهيار الأسري والخلقي والروحي في المجتمع الغربي النصراني.

لاستنكف الرجل أن يعترف بوجود هذا الإله فضلاً عن أن يتعبد له ولأحال تصوّره ولرأى لنفسه عليه فضلاً لا ينكر ومزية من حقها أن تذكر فتشكر1. قال المؤلِّف: ليس في الصنارى من يجحد مما ذكرته في هذا الفصل حرفاً واحداً بل قد / (1/97/ب) مدوا أعناقهم للذل، وأسلبوا آذانهم للخزي وأنسوا بسماع التوبيخ، واستلانوا ملابس التقريع، فهم يتلون هذا الفصل تلاوة [المتبجح] 2 ويبتهجون به ابتهاج [المُنْجح] 3. فالحمد لله الذي حَصَّننا بمعقل العقل عن سلوك هذا المذهب و [أنار لنا] 4 بدهن الذهن [حلوك] 5 هذا الغيهب.

_ 1 ذكر أبو عبيدة الخزرجي في كتابه: (مقامع هامات الصلبان ص 123) ، والقرطبي في: (الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 167) ، ما وصف أحد ملوك الهند-وكان من الملوك الذين يحكمون بالسياسة الدينية الذين لم يتقلدوا أتباع ملة دينية-وقد ذكرت له الملل الثلاث فقال: أما النصارى-وإن كان مناصبوهم من أهل الملل يجاهدونهم بحكم شرعي فلقد أرى ذلك بحكم شرعي، وإن كنا لم نر بحكم عقولنا قتالاً ولكن استثني هؤلاء القوم من جميع العالم، فإنهم قصدوا مضادة العقل وناصبوه العداوة، واستحلوا بيت الاستحالات مع أنهم حادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع، وقد كان لهم فيهم كفاية ولكنهم شذوا عن جميع مناهج العالم الشرعية الصالحة والعقلية الواضحة، واعتقدوا كلّ مستحيل ممكناً فلم يُعرَف عنهم شيء، وبنوا من ذلك شرعاً لا يؤدي البتة إلى صلاح نوع من أنواع العلام إلاّ أنه يُصيِّر العاقل إذا تشرع به أخرق أحق والمرشد سفيهاً والمحسن مسيئاً؛ لأن من كان في أصل عقيدته-التي نشأ عليها-الإساءة إلى الخالق، والنيل منه بوصفه بغير صفاته الحسنى فخليق به أن يستحل الإساءة إلى مخلوق. وكذلك ما بلغنا عنهم في خلقهم من جهل وضعف العقل والطمع والبخل ومهانة النفس وخساسة الهمة والقدر وقلة الحياء إلاّ قليلاً منهم. فلو لم تجب مجاهدة هؤلاء القوم إلاّ لعموم أضرارهم التي لا تحصى وجوهه لكفى. وكما يجب قتل الحيوان المؤذي بطبعه، لا يلام المرء على قتل هؤلاء فكيف وثم من الموجبات ما تقدم؟! ". اهـ. 2 في ص (المحج) ولعل الصواب ما أثبته. والله أعلم. 3 في ص (المنجح) ولعل الصواب ما أثبته. والمنجح: هو الظفر بالشيء. أنجح زيد وهو منجح. كما في القاموس ص 311. 4 في ص (أنالنا) والصواب ما أثبته. 5 في ص (حلول) والصواب ما أثبته.

الباب الرابع: في تعريف مواضع التحريف

الباب الرّابع: في تعريف مواضع التّحريف نبيّن - بعون الله - في هذا الباب من تناقض إنجيل النصارى وتعارضه وتكاذبه وتهافته ومصادمة بعضه بعضاً ما يشهد معه من وقف عليه أنه ليس هو الإنجيل الحق المنَزَّل من عند الله1، وأن أكثره من أقوال الرواة وأقاصيصهم، وأن نقلته أفسدوه ومزجوه بحكاياتهم، وألحقوا به أموراً غير مسموعة من المسيح ولا من أصحابه مثل ما حكوه من صورة الصلب والقتل واسوداد الشمس وتغير لون القمر وانشقاق الهيكل، وهذه أمور إنما جرت في زعم النصارى بعد المسيح، فكيف تجعل من الإنجيل ولم تسمع من المسيح؟!. والإنجيل الحقّ إنما هو الذي نطق به المسيح2، وإذا كان / (1/98/أ) ذلك كذلك فقد انخرمت الثقة بهذا الإنجيل وعدمت الطمأنينة بنقلته.

_ 1 لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بتحريف أهل الكتاب وكتمانهم وإخفائهم لما أنزله الله من البيّنات والهدى فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [سورة آل عمران، الآية: 71] . وقال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ... } . [سورة المائدة، الآية: 13] . وغيرهما من الآيات الكريمة. ولقد أجمع المسلمون على وقوع التحريف في التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب المتقدمة إما عمداً وإما خطأ في ترجمتها وفي تفسيرها وشرحها وتأويلها، إلاّ أنهم اختلفوا في مقدار التحريف فيها؛ قال بعضهم: إن كثيراً مما في التوراة والإنجيل باطل ليس شئاً من كلام الله. ومنهم من قال: بل ذلك قليل، وقيل لم يحرف أحد من حروف الكتب، وإنما حرفوا معانيها بالتأويل، وقال بعضهم: إنه كانت توجد نسخ صحيحة من التوراة والإنجيل بقيت إلى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ونسخ كثيرة محرفة. والذي نراه أن تحريفاً كثيراً قد وقع في كتبهم إلاّ أنه لا تزال فيها بقايا الوحي الإلهي المنَزّل على أنبيائه - عليهم الصلاة والسلام - وهذه البقايا ليست بالشيء القليل أيضاً - وطريق معرفتها هو موافقتها لما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة. وأما أنواع التحريف في كتبهم فهو: تحريف بالتبديل، وتحريف بالزيادة، وتحريف بالنقصان، أي: بالحذف (والكتمان والخفاء) ، وتحريف بتغيير المعنى دون تغيير اللفظ، والشواهد على ذلك كثيرة جدّاً. (ر: مجموع الفتاوى 13/104، 105، والجواب الصحيح 1/356، 367، 2/5، 3/264، لابن تيمية، تفسير ابن كثير 1/520، تفسير الرازي 10/118، هداية الحياري ص 105، لابن القيم، التوراة دراسة تحليل ص 64-68، د. محمّد شلبي شتيوي) . 2 قوله: "والإنجيل الحقّ ... "، نقله الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه: "إظهار الحق ص 190) .

وقد قدمنا أنه ليس إنجيلاً واحداً، بل الذي في [أيدي] 1 النصارى اليوم أربعة أناجيل جمع كل إنجيل منها في قطر من أقطار الأرض بقلم غير قلم الآخر، وتضمن كلّ كتاب من الأقاصيص والحكايات ما غفله الكتاب الآخر مع تسمية الجميع إنجيلاً. وقد ذكر العلماء أن اثنين من هؤلاء العلماء الأربعة وهما: (مرقس) و (لوقا) لم يكونا من الاثني عشر الحواري أصحاب المسيح، وإنما أخذا عن من أخذ عن المسيح، وإذا كان الأمر كذلك، فهذان الإنجيلان ليسا من عندالله؛ إذ لم يسمعا من لفظ المسيح، والحجّة إنما تقوم بكلام الله وكلام رسوله وإجماع أصحاب رسوله. وقد صرّح لوقا في صدر إنجيله بذلك فقال: "إن ناساً راموا ترتيب الأمور التي نحن بها عارفون كما عهد إلينا أولئك الصفوة الذين كانوا خداماً للكلمة، فرأيت أنا إذ كنت تابعاً أن أكتب لك أيّها الأخ العزيز [ثاوفيلس] 2 لتعرف به حقائق الأمر الذي وعظت به"3./ (1/98/ب) . فهذا لوقا قد اعترف أنه لم يلق المسيح ولا خدمه، وأن كتابه الذي ألفه إنما هو تأويلات جمعها مما وعظه به خدام الكلمة4.

_ 1 في ص (أيد) والتصويب من المحقِّق. 2 في ص (ثاوفيلا) والتصويب من النّصّ. وثاوفيلس: اسم يوناني معناه: "محبوب من الله". ولا يملك النصارى أية معلومات صحيحة عن شخصية وترجمته، وأقصى ما لديهم عنه نظريات تفتقر إلى الدليل. (ر: قاموس ص 233) . 3 لوقا 1/1-5. 4 إن الاعتراض الذي أورد المؤلِّف على كلام لوقا صحيح، وقد سبق لنا بيان الانتقادات الأخرى التي توجه إلى هذا النّصّ. (ر: ص 30) .

واعلم أن هؤلاء الأربعة تَوَلوا النقل عن رجل واحد فلا بدّ وأن يكون الاختلاف إما من قبل المنقول عنه أو من قبل الناقل، وإذا كان المنقول عنه معصوماً تعيَّن الخطأ في الناقل. 1- تكاذيب: قال متى: "من يوسف خطيب مريم - وهو الذي يسمى يوسف النجار - إلى إبراهيم الخليل اثنتان وأربعون ولادة". قال لوقا: "لا ولكن بينهما أربعة وخمسون ولادة"، وذلك تكاذب قبيح، ولعل التوريك على لوقا أولى؛ لأن متى [صحابي] 1 ولوقا ليس بصحابي، إلاّ أنه لا فرق بينهما عند النصارى وذلك يقتضي بانخرام الثّقة بهما جميعاً. قال المؤلِّف: "صواب النسب الذي عددته في إنجيل متى تسعة وثلاثون رجلاً، وفي إنجيل لوقا خمسة وخمسون رجلاً، وذلك من يوسف خطيب مريم إلى إبراهيم الخليل بشرط دخول الجدين يوسف وإبراهيم في العدد، وقد اختلفا في الأسماء أيضاً وذلك / (1/99/أ) زلل ظاهر"2.

_ 1 في ص: صحابياً، والتصويب من المحقِّق. 2 أن قضية التناقض الواضح في نسب المسيح بين إنجيل متى 1/1-8، وإنجيل لوقا 3/23-38، مما اتّفق على ذكره العلماء في نقدهم الأناجيل. (ر: الفصل لابن حزم 2/27-24، الإعلام للقرطبي ص 207، مقامع هامات للخزرجي ص 147، وهداية الحياري لابن القيم ص 215، والنصيحة الإيمانية لنصر بن يحيى ص 191، وتحفة الأريب لعبد الله الترجمان ص 185،وإظهار الحقّ ص 114، 152، وغيرهم. وقدر وردت أنساب آباء المسيح المزعومين في أسفار العهد القديم وخاصة سفري التكوين وأخبار الأيام الأوّل، ولمعرفة حقيقة التناقض في ذلك فإننا سنقارن بين ما ورد في سفر أخبار الأيام الأوّل (الإصحاح الثالث) وبين إنجيل متى وإنجيل لوقا في الجدول الآتي:

_ أخبار الأيام الأوّل إنجيل لوقا تسلسل إنجيل متى أخبار الأيام الأوّل إنجيل لوقا 1 داود داود داود 22 زربابل زربابل شلتائيل 2 سليمان سليمان ناثان ناثان 23 أبهود حنقيا زربابل 3 رحبعام حبعام متاثا 24 الباقيم ريا 4 أيا أبيا مينان 25 عازور يوحنا 5 آسا آسا مليا 26 صادوق يهوذا 6 يهوشافاط بهرشافا الباقيم 27 أخيم يوسف 7 يورام يورام يونان 28 البود شمعي 8 عزيا أخزيا يوسف 29 اليعازر متاثيا 9 - يوآش يهوذا 30 متان مآث 10 - أمصيا شمعون 31 يعقوب نجاى 11 - عزريا لاوي 32 يوسف حلى 12 بوثام يوثام متثات 33 ناحوم 13 آحاز آحاز بوريم 34 عاموص 14 حزقيا حزقيا اليعازر 35 متاثيا 15 منسى منسى برسى 36 يوسف 16 آمون آمون عير 37 ينا 17 يوشيا يوشيا المردام 38 ملكى 18 - يهوباقيم قصم 39 لاوي 19 يكنبيا بكنيا أدى 40 متثات 20 شلتائيل شلتائيل ملكى 41 هالي 21 - فدايا نيرى 42 يوسف وخلاصة تلك المقارنة الانتقادات الآية: 1- يعلم من متى أن يوسف بن يعقوب، ومن لوقا أنه ابن هالي. 2- اختلف متى مع لوقا اختلافاً جوهرياً، حين جعل يوسف - زوج مريم حسب زعمهم - ينحدر من نسل سليمان داود، بينما جعله لوقا ينحدر من نسل ناثان بن داود. 3- يعلم من متى أن جميع آباء المسيح من داود إلى جلاء بابل سلاطين مشهورون، ومن لوقا أنهم ليسوا سلاطين ولا مشهورين غير داود وناثان. 4- يعلم من متى أن اسم زور بابل (أبيهود) ، ومن لوقا أن اسمه (ريسا) ، والعجب أن كلا الاسمين غير موجودين في نسب سفر أخبار الأيام الأوّل. 5- يعلم من متى أن شتائيل بن يكينا، ومن لوقا أنه ابن نيري. 6- أخطأمتى في سلسلة نسب المسيح حين أسقط منها في المواقع خمسة أسماء (المسلسلات أرقام: 9، 10، 11، 18، 21) . 1- إن عدد الأجبال المذكورة من داود إلى يوسف (27) حسب رواية متى، (42) حسب رواية لوقا. وأمام هذه التناقضات الواضحة فقد اعترف به جماعة من محقِّقي أحبارهم مثل: "أكهارن، وكيسر، وهيس، وديوت، وجون فنتون في كتابه: (تفسير إنجيل متى ص 39، 40) ، د. جورج بردوفوردكيرد في كتابه: (تفسير إنجيل لوقا ص 19) ، وغيرهم". مما دفع بـ: "آدم كلارك" أن ينقل اعتذار (مستر هارمرسي) ونصّه: "ويعلم كلّ ذي علم أن متى ولوقا اختلفا في بيان نسب الرّبّ اختلافاً تحير فيه المحقِّقون من القدماء والمتأخرين وكما أعترض على المؤلِّفين لهذه الأسفار، ثم أزال العلماء الاعتراضات، فكذلك ربما يأتي من العلماء من يزيل هذه الاعتراضات في المستقبل. والزمان سيحقِّق هذا". اهـ. ولكن هيهات هيهات أي يجود الزمان بمن يزيل هذه التناقضات الساطعة، فإنه لا يمكن الأخذ برواية أي من متى أو لوقا عن نسب المسيح إلاّ إذا اعتبرنا أحدهما صحيحاً والآخر مخطئاً ولا شكّ، وعند عدم التمييز بينهما؛ فإن الخطأ والبطلان ينسحب عليهما جميعاً. (ر: إظهار الحقّ ص 114، المسيح في مصادر العقائد المسيحية ص 78-83، لأحمد عبد الوهّاب. بتصرف".

2- نوع آخر: قال لوقا: "قال جبريل الملك لمريم الناصرة: إنك ستلدين ولداً اسمه يسوع يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود ويملكه على بيت يعقوب"1. وأكذبه يوحنا وغيره فقال: "حُمل يسوع هذا الذي وعده الله بالملك إلى القائد فيلاطس، وقد ألبسوه شهرة الثياب وتوَّجوه بتاج من الشوك وصفعوه وسخروا منه ففاوضه فيلاطس طويلاً فلم يتكلم فقال له: أما تعلم أن لي عليك سلطاناً، إن شئت صلبتك وإن شئت أطلقتك، فأجابه يسوع: لولا أنك أعطيت ذلك من السماء لم يكن لك علي سلطان ومن أجل ذلك خطيئة الذي أسلمني إليك عظيمة"2.

_ 1 لوقا 1/30-33. 2 يوحنا 19/1-11، في سياق طويل وقد ذكره المؤلِّف مختصراً، وقد ورد نحوه في إنجيل لوقا الإصحاح (23) ،وإنجيل مرقص إصحاح (15) ،وإنجيل متى إصحاح (27) .

وهذا تكاذب قبيح؛ لأن أحدهما يقول: إن يسوع يملك على بني إسرائيل، والآخر يصفه بصفة ضعيف ذليل1. 3- موضع آخر: قال لوقا: "لما نزل بيسوع الجزع من اليهود ظهر له ملك من السماء ليقوِّيه وكان يصلى متوارياً وصار عرقه كعبيط الدم"2. ولم يذكر ذلك متى ولا مرقس / (1/99/ب) ولا يوحنا، وإذ تركوا ذلك لم يؤمن أن يتركوا ما هو أهمّ منه فتضيع السنن وتذهب الفرائض وترفع الأحكام. فإن كان ذلك صحيحاً، فكيف تركه الجماعة؟ وإن لم يصحّ ذلك عندهم لم يُؤمن أن يُدخِل لوقا في الإنجيل أشياء أُخَر أفظع من هذا. ولعل لوقا قد صدق في نقله، فإن ظهور الملك علامة دالة وأمارة واضحة على رفع المسيح إلى السماء وصونه عن كيد الأعداء.

_ 1 إن واقع حياة المسيح كما يزعمهما النصارى في الأناجيل تفيد أن المسيح عليه السلام لم يكن ملكاً ولا متسلطاً على بني إسرائيل يوماً واحداً، فقد "قال له واحد من الجمع: يا معلم، قل لأخي أن يقاسمني الميراث، فقال له: يا إنسان من أقامني عليكما قاضياً أو مقسماً؟ ". لوقا 12/13، 14، وحين علم المسيح: "بأنهم مزمعون أن يأتوا ويخطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده". يوحنا 6/15، كما نجد الأناجيل المحرفة تصف المسيح بخلاف صفة الملوك التي يدعونها له حيث إن الأناجيل المحرفة تزعم بأن المسيح قد قبض عليه وضرب وأهين وشتم ثم قتل مصلوباً. إذن فحقيقة الأمر وواقع الحال في الأناجيل المعتمدة عند النصارى تكذب وتخالف ما ادّعاه لوقا على لسان جبريل عليه السلام. يضاف إلى ما سبق أن المسيح من أولاد "يهوياقيم" حسب النسب الذي ذكره متى في إنجيله 1/10، 11، وأن أي واحد من أولاد يهوياقيم وسلالته لا يجوز له الجلوس على كرسي داود كما ورد النّصّ بذلك في سفر أرميا 36/30: "لذلك هكذا قال الرّبّ: عن يهوياقيم ملك يهوذا لا يكون له جالس على كرسي داود ... ". 2 لوقا 22/43، 44.

مناقشة: اعلم أن المسيح عند النصارى عبارة عن لاهوت اتّحد بناسوت فصارا بالاتّحاد شيئاً واحداً، وإذا كان ذلك كذلك فظهور الملك ليُقوِّي مَن منهما؟ فإن قيل: ليقوِّي اللاهوت، كان ذلك باطلاً إذ لا حاجة بالإله إلى مساعدة عبده وتقويته. وإن قالوا: ليقوِّي الناسوت، أبطلوا الاتّحاد إذ لم يبق ناسوت متميّز عن لاهوت حتى يفتقر إلى التقوية والنصرة، ثم ذلك يشعر بضعف اللاهوت عن تقوية الناسوت المتّحد به حتى احتاج إلى التقوية، وكيف يحتاج الإله إلى عبد من عبيده ليقوِّيه - وكلّ عباد الله إنما قوتهم بالله / (1/100/أ) عزوجل -؟! ". 4- موضع آخر: ذكر يوحنا - الذي هو أصغر الأربعة سنا - "أن أوّل آية أظهرها المسيح تحويل الماء خمراً"1. ولم يذكر أصحابه الثلاثة ذلك. وإذا أغفلوا مثل هذه الآية

_ 1 يوحنا 2/1-11، ونصّه كالآتي: "ودُعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر، قال لها: ما لي ولك يا امرأة لم تأت ساعتي بعد، قالت أمه للخدام: مهما قال لكم فافعلوه، وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كلّ واحد مطرين أو ثلاثة قال لهم يسوع: املأوا الأجران ماء، فملأوها إلى فوق ثم قال لهم: استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ، فقدموا فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمراً، ولم يكن يعلم من أين هي لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا ... هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه". قلت: في هذه القصّة افتراء وتجروء على عيسى وأمه - عليهما السلام -، والأدلة على كذب هذه القصّة كثرة منها: أ- ما ذكره المؤلِّف من انفراد يوحنا بذكرها عِلماً بأنها قد حدثت في عرس والحاضرون كثيرون، وهذا من أدلة كذب هذه القصّة حسب المعايير التي وضعها علماء مصطلح الحديث في معرفة الحديث الموضوع ومنها: أن يكون خبراً عن أمر جسيم تتوافر الدواعي على نقله بمحضر الجمع العظيم، ثم لا يرويه إلاّ واحد. (ر: النكت على كتاب ابن الصلاح 2/845، لابن حجر) . ب- أنه قد ورد في إنجيل لوقا 7/33-35، مدح يوحنا العمداني بأنه لا يشرب الخمر ويتهمون عيسى بأنه يشر بها ويبالغ في ذلك، فكيف يعقل أن يفعل المسيح وأمه هذا المنكروالله تعالى يذمّ الخمر وشاربيها؟! كلاوحاشاهما من ذلك. ج- وردت نصوص كثيرة في النهي عن الخمر وأن السكر بها خطيئة في الكتب المقدسة عندهم ومنها: في سفر اللاويين 10/8: "وكلّم الرّبّ هارون قائلاً: خمرا ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكيلا تموتوا". وفي سفر أشعيا 5/11-17: "ويل للمبكرين صباحاً يتبعون المسكر، للمتأخرين في العتمة تلهبهم الخمر ... ". وفي سفر ميخا 6/15: "ولا تشرب خمراً". وفي رسالة بولس إلى أهل أفسس 5/18: "ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاصة". وفي رسالته الأولى إلى كورنثوس /10: "ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله". وغير ذلك. د- ثم انظر إلى كذبهم وجرأتهم على القول بأن المسيح قال لأمه: ما لي ولك يا امرأة، فهذا من سوء الأدب والعقوق لأمه إن كان خاطبها بهذه القسوة والجفاء، ولكن حاشاه أن يفعل ذلك ولكنه كان عليه السلام كما قال عنه عزوجل على لسان عيسى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 32] . وبعد ذلك كلّه يزعم النصارى أن عيسى عليه السلام فعل كلّ ذلك وهو يعلم أنه نبيّ ولم تحن ساعته بعد وأن عمله كان آية ومعجزة وهم يضمرون غير ذلك من الافتراء والكذب عليه. (ر: دراسة تحللية لإنجيل مرقس - د. محمّد عبد الحليم ص 318، الفارق بين المخلوق والخالق، باجة جِي زاده ص 328، 370) .

مع شهرتها دلَّ ذلك على غفلة عظيمة وقلة اعتناء بأمر الدّين، وإذا كانت لم تصحّ عندهم فتحرَّجوا من تسطيرها، فكيف ثبتت من الإنجيل بقول واحد وشرط ثبوت كلام الله التواتر - وهو النقل من قوم لا تجمعهم رابطة التواطؤ على الكذب. 5- موضع آخر: ذكر يوحنا هذا: "أن المسيح غسل أقدام تلاميذه ومسحها بمنديل كان في وسطه وأمرهم أن يقتدوا به في التواضع وترك التكبر"1. ولم يذكر ذلك أصحابه الثلاثة، فإن لم تصحّ عندهم فهو طعن على يوحنا، وإن كان ذلك صحيحاً فهو طعن عليهم.

_ 1 يوحنا13/4-18في سياق طويل وقدذكره المؤلِّف مختصراً بالمعنى. وهذه الحادثة أيضاً من الأمورالتي تتوافرالدواعي على نقلها بمحضرالجمع العظيم، ثم لا يوريها إلاّ واحد.

وكيف يُعدُّ ذلك من الإنجيل والأكابر من التلاميذ لم يعرفوه، ولم يدوِّنونه في أناجيلهم؟! والتوريك على واحد صغيرأولى منه على ثلاثةكبار. 6- موضع آخر / (1/100/ب) في غاية الفساد: حكوا أن يوحنا هذا قال في الفصل الخامس من إنجيله: "إن يسوع قال: إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي لكانت شهادتي باطلة ولكن غيري يشهد لي1، فأنا أشهد لنفسي وأبي أيضاً يشهد لي أنه أرسلني، وقد قالت توراتكم: إن شهادة رجلين صحيحة"2. فانظر - رحمك الله - ما أفسد هذا الكلام وأقربه من كلام المجانين!!. وذلك أنهم جعلوا الله رجلاً وجعلوا شهادته لنفسه تقوم مقام شهادة شاهد بعد قوله: "لو كنت أنا أشهد لنفسي لكانت شهادتي باطلة"، والتوراة تقول: "إن شهادة شاهدين صحيحة"، ولم تقل: "إن شهادة الإنسان لنفسه صحيحة". وإذا كان المسيح وتلاميذه [منَزِهين] 3 عن هذا الكلام الفاسد فليرم به جانباً وليعلم أنه ليس من الإنجيل الحقّ. 7- موضع آخر: نقل يوحنا: "أن المسيح مضى إلى المعمداني ليعتمد منه فقال له المعمداني حين رآه: هذا خروف الله الذي يحمل خطايا العالم وهو الذي قلت لكم: إنه

_ 1 يوحنا 5/31، 32، ثم نقض قوله في الإنجيل نفسه /14، فقال: "أجاب يسوع وقال لهم: وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حقّ"، قال العلامة ابن حزم: فأعجبوا لهذا الاختلاط. (ر: الفصل 2/180، 189) . 2 يوحنا 8/17، 18، ونصّ التوراة في سفر التثنية 19/15. 3 في ص (منَزِهون) والصواب ما أثبته.

يأتي بعدي، وأنه أقوى مني وأن بيده / (1/101/أ) الرفش ينقي بيدره فيجمع الحنطة إلى أهرائه1 ويحرق الأتبان2 بالنار التي لا تطفئ"3. وخالفه في ذلك متى ولوقا، أما متى فقال: "إن المعمداني حين رأى المسيح قال له: إني لمحتاج أن أنصبغ على يدك، فكيف جئتني تنصبغ على يدي؟ "4. "وأنه أرسل بعد ذلك إلى المسيح يقول له: أأنت الآتي أو ننتظر غيرك"5. فأما مرقس: فلم يذكر شيئاً من ذلك البتة6، وهذا تكاذب قبيح؛ لأن يوحنا جزم أنه هو ولم يحتج إلى سؤاله، ومَتَّى: ما عَلَم حتى أرسل يسأل المسيح، والآخر أغفل القصّة بالجملة7، وهذا القدر منفر موجب لسوء الظن.

_ 1 الهرى: بيت كبير يجمع فيه السلطان، وجمعه: أهراء. (ر: القاموس ص 1734) . 2 التبان: من يبيع التبن. (م. س ص 1527) والمراد بالأتبان الفجار والمشركين. (ر: النصيحة الإيمانية - لنصر المتطبب، ص 190) . 3 يوحنا 1/29، 30، بلفظ مخلتف. 4 متى 3/11-13. 5 متى 11/2-4. 6 أشار مرقس إلى الحادثة 1/9، بقوله: "جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن". 7 ذكر الشيخ رحمة الله الهندي ف إظهار الحقّ ص 123: "هذا التناقض في حادثة تعميد المسيح بقوله: 1- يعلم من إنجيل متى: "الإصحاح الثالث"، بأن يوحنا المعمداني (يحيى) كان يعرف المسيح قبل نزول الروح عليه في شكل حمامة. 2- ولكن ذكر إنجيل يوحنا "اًلإصحاح الأوّل"، بأن يوحنا ما عرف المسيح إلاّ بعد نزول الروح عليه في مثل حمامة. 3- ثم تناقض إنجيل متى "الإصحاح الحادي عشر" مع نفسه فذكر بأن يوحنا لم يعرف المسيح بعد نزول الروح أيضاً، وإنما أرسل له يوحنا تلميذين من تلاميذه يسألانه عن حاله. وهذا كلّه متناقض ظاهر الاختلاف والفسد".اهـ. ثم إننا نجد بمقاربة النصوص التي أوردها المؤلِّف وبين النسخةالحالية للأناجيل نلاحظ ما يلي: 1- انفرد إنجيل يوحنا عن سائر الأناجيل بذكر عبارة: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم". 2- إن النّصّ الذي نسبه المؤلِّف إلى إنجيل يوحنا قوله: "وأن بيده الرفش ينقي بيدره..الخ".لانجده في النسخةالحاليةلإنجيل يوحنا، وإنمانجده في إنجيلي متى ولوقا.

8- موضع آخر: ذكر متى: "أن يوسف خطيب مريم كان أبوه يسمى يعقوب بن ماتان"1. وذكر لوقا غير ذلك فقال: "أقام يسوع ثلاثين سنة وهو يظن أنه ابن يوسف بن هالي بن مطب"2. وهذا تناقض عجيب3. 9- موضع آخر: ذكر متى: "أن المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعاً كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويُعيِّرانه"4. / (1/101/ب) . وذكر لوقا خلاف ذلك فذكر: "أن أحدهما كان يهزأ بالمسيح والآخر يقول له: أما تتقي الله؟ أما نحن فبعدل جوزينا وأما هذا اللّصّ فلم يعمل قبيحاً، ثم قال للمسيح: يا سيد اذكرني في ملكوتك. فقال: حقّاً إنك تكون معي اليوم في الفردوس"5. وهذا تكذيب لقول متى أنهما جميعاً كانا يعيران المسيح ويهزءان به وأغفل هذه القصّة مرقص ويوحنا، ومن المحال أن يحدث مثل هذا في ذلك الوقت ولا

_ 1 متى 1/15، ونصّه: "ومتان ولد يعقوب ويعقوب ولد يوسف". 2 لوقا 3/23. 3 ثم إن قول لوقا: "إن المسيح كان يظن أنه ابن يوسف"، شكّ منه وقبيح بمثله أن ينسب المسيح إلى ما يظن به الجهال أنه مولود من أبٍّ ولا يرفع قدره عن ذلك. (ر: النصيحة الإيمانية - لنصر المتطبب ص 192) . وقد سبقت الإشارة إلى التناقضات الظاهرة في سلسلة نسب المسيح الواردة في إنجيلي متى ولوقا. 4 متى 27/38، 44، في سياق طويل. 5 لوقا 23/32-44، في سياق طويل، وقد ذكر هذا التناقض عبد الله الترجمان في كتابه تحفة الأريب ص 210، وابن حزم في الفصل 2/125.

يكون شائعاً ذائعاً، فإن كان صحيحاً فلم تركاه؟ وإن أهملاه سهواً لم يؤمن أن يهملا شيئاً كثيراً من الإنجيل ولعلّهما لم يصحّ عندهما، والدليل على عدم صحته تناقض متى ولوقا، فإن اللّصين عند مَتّى [كافران] 1 بالمسيح وعند لوقا إن أحدهما كافر والآخر مؤمن وذلك قبيح جداً. 10- تكاذب قبيح: قال لوقا: "قال يسوع للمؤمن به: حقّاً إنك اليوم معي في الفردوس"2. وأكذبه سائر أصحابه فقالوا: أقام يسوع بعد هذا القول في الأرض أربعين يوماً ثم صعد في الجنة3. / (1/102/أ) وذلك تكذيب لما نقله لوقا من أنه معه من يومه. 11- تناقض واضح: قال لوقا: "قال يسوع: إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك نفوس الناس، ولكن ليحيي"4. وخالفه أصاحبه، فقالوا: "بل إن الإنسان لم يأت ليلقي على الأرض سلامه لكن سيفاً ويضرم فيها ناراً"5. وهذا تناقض وتكاذيب لا خفاء به6، ونحن نُنَزِّه التلاميذ عن هذا التناقض القبيح والنقل الغير صحيح. إذ بعضهم يجعله جاء رحمة للعالمين، والآخرون يقولون: بل جاء نقمة على الخلائق أجمعين.

_ 1 في ص (كافرين) والصواب ما أثبته. 2 لوقا 23/43. 3 سفر أعمال الرسل 1/3. 4 لوقا9/56. 5 متى 10/34. 6 وقد ذكر هذا التناقض ابن القيم في هداية الحياري ص 214، وابن حزم في الفصل 2/62، 63.

12- موضع آخر: ذكر متّى: "أن مريم خادمة المسيح جاءت لزيارة قبره عشية السبت ومعها امرأة أخرى، وإذا ملك قد نزل من السماء وقال لهما: لا تخافا فليس يسوع هاهنا قد قام من بين الأموات وهو يسبقكم إلى الجليل، فمضتا مسرعتين فإذا المسيح قد لقيهما وقال: لا بأس عليكما قولاً لإخوتي ينطلقون إلى الجليل"1. وخالفه يوحنا فقال: "جاءت مريم وحدها يوم الأحد بغلس فرأت الصخرة وقد رفعت عن القبر فأسرعت إلى شمعون م (1/102/ب) الصفا وإلى تلميذ آخر فقالت لهما: إن المسيح قد أُخِذَ من تيك المقبرة ولا أدري أين دفن. فخرج شمعون وصاحبه فأبصر الأكفان موضوعة ناحية من القبر فرجعا وجلست مريم تبكي عند القبر فبينا هي كذلك اطلعت في القبر فرأت ملكين جالسين - حيث كان يسوع - عليهما ثياب بيض فقالا: ما يبكيك؟ فقالت: أخذوا سيدي ولا أدري أين وضعوه. فبينا هي كذلك التفتت فرأت المسيح قائماً فلم تعرف وحسبته حارس البستان قالت له: بالله إن كنت أخذته فقل لي أين وضعته حتى أذهب إليه. فناداها المسيح: يا مريم. فعرفته، وقالت: بالعبرانية: ربوني تفسيره يا معلم. فقال لها: لا تدن مني فإني لم أصعد بعد [إلى أبي] 2، اذهبي إلى إخوتي فقولي إني منطلق إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. فذهبت وبشرت التلاميذ"3. وهذا نقل يكذب بعضه بعضاً، وذلك أن أحدهما يذكر أن الملك هو الذي أرسل مريم إلى التلاميذ، والآخر يذكر أن الذي أرسلها هو المسيح نفسه،

_ 1 متى 28/1-11. 2 ليس في (ص) والتصويب من نصّ الإنجيل. 3 يوحنا 20/1-18.

وأحدهما يقول: إن ذلك كان عشية السبت،/ (1/103/أ) والآخر يقول: لا بل اليوم الأحد بغلس، وأحدهما يحكي عن مريم وحدها، والآخر يحكي عن أخرى معها1. والعجب من قبول النصارى قول امرأة واحدة في مثل هذا الأمر العظيم. وقد جاء على هذا الوجه من الاضطراب!!، وهذا الفصل حَرِي بأن يُسطر في حكايات المغفلين والعجائز المثكلين، وبعد - يرحمك الله - فما سمعنا قط بربٍّ يصفع ويضرب ويقتل ويصلب ويبكى عليه ويندب ويتردّد بين خلقه في زيّ إنسانٍ ويشتبه على من رآه بناطور بستان، فلو أن اليهود نصبوا جماعة من المجان على السخرية بدين النصارى والغض منه ما بلغوا منهم ما بلغوا من أنفسهم وهذا كما قيل:

_ 1 من الواضح أن هناك اختلافاً بين ما ترويه الأناجيل عن زيارة النساء للقبر وملابساتها يتلخص بعضها - إضافة على ما ذكره المؤلِّف - في الأمور الآتية: أ- يذكر متى 28/1-8 أن الزائرات للقبر كن اثنتين من النسوة. لكن يذكر مرقس 16/1-8 أن الزائرات للقبر كن ثلاثاً من النسوة. بينما يقول لوقا 27/1-10 أن الزائرات للقبر كن جمعاً من النسوة. أما يوحنا 20/1-3 فجعل مريم المجدلية الزائرة الوحيدة للقبر، ثم ذهبت فأحضرت معها التلميذين بطرس ويوحنا. والاتّفاق الوحيد يبن الأناجيل في ذلك هو وجود مريم المجدلية في موضع الصدارة بين الزائرات، وقد صارت بذلك المصدر الرئيسي لكلّ ما قيل عن قيامة المسيح من الأموات. ب- أن النساء رائين عند القبر شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء - حسب رواية مرقس -. بينما هو في متى: "ملاك الرّبّ ... وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج". أما في لوقا فهما: "رجلان بثياب برأقه". وفي يوحنا نجدهما: "ملايكن بثياب ببعض جالسين". ج- حسب رواية مرقس، فإن النساء قد حَمَلن رسالة لإبلاغها للتلاميذ وقد فشلن في توصليها لأنهن كن خائفات. بينما يخبرنا لوقا أنهن قَدَّمْنَ تقريراً كاملاً عما رأينه وسمعنه إلى التلاميذ. د- من الذي دحرج الحجر عن القبر؟ يقول متى: "بأن الملاك الذي نزل من السماء هو الذي دحرج الحجر الكبير عن باب القبر وجلس عليه". أما الباقون مرقس ولوقا ويوحنا فذكروا: "بأن الحجر قد دحرج، ولم يذكروا من الذي دحرجه". (ر: رسالة للشيخ أحمد ديدات بعنوان: "من دحرج الحجر؟ ".

ما بلغ الأعداء من جاهل ما بلغ الجاهل من نفسه 13- موضع آخر: قال متى في إنجيله: "إن يوحنا المعمداني أفضل من نبيٍّ"1. ثم نسي نفسه فقال بعد ذلك: "وكان المعمداني مثل نبيٍّ"2. فليت شعري من في بني آدم تسمو رتبته على رتبة النّبيّ حتى يقال: إنه أفضل من نبي؟!، هل ذلك إلاّ من / (1/103/ب) سوء التعبير، وسوء التعبير من سوء الفهم. 14- موضع آخر: قال نقلة الإنجيل: "قال يسوع لبطرس: طوبى لك"3. ثم نقضوا ذلك فقالوا في آخر: "قال يسوع لبطرس هذا: اذهب عني يا شيطان لا تشككني لأنك ما تفكر فيما لله بل فيما للناس"4. فبينا بطرس عنده لطوبى مالكاً إذ جعله في الدركات هالكاً5. 15- موضع آخر: قال نقلة الإنجيل عن لوقا: "إن يسوع ليجلس على كرسي أبيه داود ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد"6. ثم نقضوا ذلك فقالوا: قال يسوع: "إنه ينبغي أن أقتل وأصلب"7، وهذا غاية التناقض والتكاذب.

_ 1 متى 11/9. 2 متى 14/5. 3 متى 16/17. 4 متى16/23. 5 ذكرهذاالتناقض أيضاًابن حزم في الفصل2/85،وابن القيم في هدايةالحياري ص214. 6 لوقا 1/32، 33. 7 متى 17/22، 23، مرقس 8/31-33، لوقا 24/46.

وكيف يخبر جبريل عن الله أن المسيح يجلس على كرسي داود ويملك على أسباط بني إسرائيل ويخلف ذلك فلا يجري منه حرف واحد بل يجري نقيضه؟!. فيرذل يسوع ويقهر ويطاف به مُهاناً ويُشهر، ويأرق من شدّة الفرق ويسهر، ويقرن مع الصوص ويسب وينهر ويقتل ويصلب ويقبر وينصدع شمل أصحابه بمصابه، فلا يجبر هذا ما لا يصدر / (1/104/أ) عن جهال الكهان، فكيف يصدر من رئيس ملائكة الرحمن؟! ثم العجب من قولهم أن يسوع جاء ليقتل ويصلب ويهان، لا والله، ولا كرامة ولا ينبغي لمن عنده أدنى مسكة من عقل أن يعرض دابته وكلبه لهذه المحن، فكيف بالإله الذي تقوم السماء والأرض بأمره ويجري بتقديره حلو العيش ومره؟!. وكيف إذ عزم على هذا الخاطر الرديء وتنفس بهذا النفس الصدى لم تمنعه التلاميذ ويشيروا عليه بالإضراب عن هذا الرأي الغائل ويعرفوه أن الخلائق تهلك بهلاكه وتعدم بعدمه؟!. ومن الذي يرزق البغاث1 في عشه إذا حمل الإله على نعشه أو يرسي الجبل في رأسه2 وقد حصد الرّبّ في رمسه3؟!. فإن أجاب إلى الصواب وإلاّ ربطوه وضبطوه وشدّدوا عليه في الحجر واعتقدوا في ذلك الثواب والأجر. فانظر - رحمك الله - ما أقبل عقول هؤلاء القوم إلى الترهات التي تمجها الأسماع وتأباها الطباع.

_ 1 البغاث: من الطير ما لا يتصيد ولا يرغب في صيده. لأنه لا يؤكل. قاله الأزهري، وقال ابن السكيت: طائر أبغَث دون الرخمة بطيء الطيران. والجمع: "البغاث"، كالحمام، وفيه قول المثل: إن البغاث بأرضنا يستنسر، أي: الضعيف يصير قويّاً بأرضنا. (ر: المصباح المنير ص 56) . 2 الأس: أصل البناء. (ر: القاموس ص 682) . 3 الرَّمس: كتمان الخبر، والدفن والقبر. (م س ص 208) .

16- موضع آخر: قال يوحنا في خاتمة إنجيله: "لقد فعل يسوع أموراً كثيرة لو أنها كتبت واحدة/ (1/104/ب) واحدة لم يسمعها العالم صحفاً مكتوبة"1. وهذا - لعمرك - من الكذب الذي لا يتجانبه على البوح به إلاّ من أنسل من الحجا واعتزى إلى الحماقة ولجأ، إذ العالم أوسع أكنافاً وأبعد أطرافاً من أن يضيق عن أوراق تتضمن معجزات نبيّ وآيات رسولٍ، وهذا الواضح وشبهه مما يورك على النقلة فيه، وإلاّ فالحواريّون محاشون عندنا عن التفوه بالمحال. 17- موضع آخر: قال يوحنا في الفصل العشرين من إنجيله: "كان التلاميذ مجتمعين في غرفة لهم يتحدّثون في قيامة المسيح فقال توما: لا أؤمن بذلك حتى أرى آثار المسامير في يديه بعيني"2. ولم يذكر ذلك سوى يوحنا وأغفله الباقون، والإنجيل لا يثبت بخبر واحد، وكيف أغفله الأكابر من التلاميذ وظفر به صبيّ واحد؟!. وإنما النصارى يتعلقون بالقول الضعيف إذا وافق مقصودهم، ونحن بعون الله سنبطل دعواهم في القتل والصلب بحيث لا يبقى لهم حجّة يحتجون بها في ذلك.

_ 1 يوحنا 21/25، وقد ورد النّصّ كالآتي: "وأشياء أخرى صنعها يسوع أن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة". ومن الواضح أن هذا القول قائم على الظن، ومن أمهات الحقائق: "أن الظن لا يغني من الحقّ شيئاً"، ومن المؤكّد أن معجزات المسيح لو كتبت جميعها فإن العالم يسعها وزيادة. 2 يوحنا 20/19، 20، وهذا الخبر كسابقه في أن دليل كذبه معه حيث إن اجتماع التلاميذ في مكان واحد مما تتوافر الدواعي على نقله فإذا انفرد بروايته واحد فإنه يدل على كذب نقله أو غفلة من لم ينقله، ولعدم التمكن من تمييز الصادق أو الثقة منهم فإن البطلان والفساد يسري على الجميع.

18- موضع آخر: صعود المسيح إلى السماء أغفله يوحنا ومتى فلم يذكراه وهما من الاثني عشر، وذكره لوقا ومرقس وليسا / (1/105/أ) من الاثني عشر بل من السبعين على أنهما قد اختلفا في ذلك - أعني لوقا ومرقس - فقال مرقس: "إن سيدنا يسوع لما قام كلَّم تلاميذه تكليماً ثم صعد من يومه"1. وخالفه في ذلك لوقا فقال: "إنما صعد بعد قيامه بأربعين يوماً"2. وهذا تكاذب [فظيع] 3 واختلاف فاحش شنيع. ومما يخرم الثقة بنقلهم قول متي: "قال يسوع: حقّاً أقول لكم إنّ قوماً من القيام هاهنا لا يذوق الموت حتّى يرووا ابن الإنسان آتيا في ملكوته"4. ومعلوم أنه قد مضى من حين صدور هذا الكلام ما نيف على ألف عام ولم يأت في ملكوته، فإن قالوا: لم يعن إلاّ أنه يقوم من بين الأموات بعد ثلاث متتابعات. قلنا: إنما قلتم إنه يأتي في ملكوته، وأيُّ ملكوت كان له في اليوم الثالث ومريم المجدلانية تبكي عليه وتسأل من يرشدها إليه؟!، وأيُّ مجد كان له في ذلك اليوم وهو من سوء الحال يشبهه بناطور البستان؟! 5.

_ 1 مرقس 16/9-19، في سياق طويل. 2 سفر أعمال الرسل للوقا 1/3. 3 في ص (فصيح) ولعل الصواب ما أثبته. 4 متى 16/28. 5 إن مسألة وقت صعود المسيح إلى السماء حسب روايات الأناجيل مما وقع الخلاف فيه بين النصارى، ويحدّثنا عن ذلك د. أدولف هرنك - أستاذ تاريخ الكنيسة بجامعة برلين - في كتابه: "تاريخ العقيدة ص 201-204) ، فيقول: "إن الاعتقاد في أن يسوع صعد إلى السماء بعد أربعين يوماً من القيامة قد أخذ يشقّ طريقه تدريجياً ضدّ المعتقدات القديمة التي كانت تقول بأن القيامة الصعود حدثا في نفس الوقت، وكذلك ضدّ أفكار أخرى كانت تؤمن بوجود فاصل زمني أكبر بين الحاديثن، على أن بولس لا يعلم شيئاً عن الصعود كذلك لم يذكره كلّ من كليمنت وأجناتيوس وهرمس وبوليكارب. وغالباً ما اتّحدت صيغة الكلام عن القيامة والجلوس عن يمين الله"، (كما في أقسس 1/20، وأعمال الرسل 2/32) . وحسبما جاء في إنجيل لوقا 24/51، ورسالة برنابا 1/9: "فإن الصعود إلى السماء قد حدث في نفس يوم القيامة". "ومن المحتمل أن يكون ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا 20/17، أن القول بأن الصعود حدث بعد أربعين يوماً من القيامة قد ذكر لأوّل مرّة في سفر أعمال الرسل". ثم يقول: "وقد قالت بعض الطوائف والمصادر المسيحية أن الصعود إلى السماء حدث بعد ثمانية عشرشهراً من القيامة، وقال أخرى: حدث بعدأحدعشرعاماً". اهـ. (نقلاً من: المسيح في مصادر العقائد المسيحية-أحد عبد الوهّاب ص305-306) .

19- موضع آخر: قال متى: "قال يسوع للتلاميذ الاثني عشر: أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي [جلوسا] 1 على اثني عشر كرسياً / (1/105/ب) تدينون [اثني] 2 عشر سبط إسرائيل"3. فشهد للكل بالفوز والزعامة في القيامة، ثم نقضَ ذلك متى وغيره وقال: "مضى واحد من التلاميذ الاثني عشر المشهود لهم وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع ثلاثين درهماً، وجاء بالشرط فسلم إليهم يسوع فقال يسوع: الويل له، خير له ألا يولد"4. فانظر - رعاك الله - إلى قبح هذا النقل وشناعة هذه الرواية، هذا راوٍ واحدُ بينما يهوذا عنده جالس على كرسي من كراسي المجد يحاسب سبطاً من أسباط بني إسرائيل، إذ جعله كافراً فاجراً بائعاً ربَّه بالثمن البخس طالعاً نجمه بعد السعد بالنحس، وهذا لا يليق بنبيّ الله المسيح أن يخبر عن رجل بمصيره إلى

_ 1 في ص (جلوس) والصواب ما أثبته. 2 في ص (اثنا) وهو خطأ، والتصويب من المحقِّق. 3 متى 19/27، 28. 4 متى الإصحاح (26) ، مرقس الإصحاح (14) ، لوقا الإصحاح (22) ، يوحنا الإصحاح (14، 18) .

السعادة والسيادة ويختاره لحفظ أموال الصدقات وهو من الكفار في دركات النار، هذا مما يحاشي عنه النبيّ، فكيف يصدر ممن تعتقد ربوبيته؟! 1. 20- موضع آخر: قال يوحنا: "قال يسوع لتلاميذه: الحقّ أقول لكم أن من يؤمن بيَ يعمل أفضل من أعمالي"2. وأكذب ذلك أصحابه فقالوا: "لما أبرأ يسوع المجنون الأبكم قال والد المجنون / (1/106/أ) لقد سألت تلاميذك فلم يقدروا على إخراج الجني، فقال يسوع: إن هذا لا يقدر عليه إلاّ بصوم وصلاة"3. فمرة يقول: إنهم يفعلون أفضل من أعماله، وأخرى يقول: إنهم لا يقدرون على مثل أعماله مع شهادته لهم بالإيمان والجلوس معه في القيامة على كراسي المجد وذلك تناقض عظيم وتكاذب جسيم. 21- موضع آخر: قال متى: "قال يسوع لأصحابه: لا تهتموا بما تأكلون وتشربون فطيور السماء لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء والله يطعمها"4.

_ 1 إذا قارنا نصّ متى السابق بنظيره في إنجيل لوقا 22/29، 30، ونصّه يقول المسيح: "أنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر". لوجدنا الأمر كما يقول الأستاذ جون فنتون- عميد كلية اللاهوت بإنجلترا في كتابه: (تفسير إنجيل متى ص 317) : "إن (لوقا) حذف العدد اثني عشر (كرسياً) ولعل ذلك يرجع إلى أنه كان يفكر في يهوذا الإسخريوطي" اهـ. (ر: المسيح في مصادر العقائد - أحمد عبد الوهّاب ص 99) . 2 يوحنا 14/12. 3 متى 17/14-21،مرقس9/17-29،في سياق طويل، وذكره المؤلِّف مختصراً بالمعنى. 4 متى 6/25، 26.

وخالف ذلك الإنجيل فقال: "إذا قمتم إلى الصلاة فقولوا: يا أبانا أعطنا كلّ يوم خبزاً نأكله"1. فالأوّل ينهى عن الاهتمام بالشراب والطعام، والآخر يقول: كذا ولكنه أمر به، وهذا تكاذب عجيب، فإن الأوّل نهيٌ محضٌ، والثاني أمرٌ جزمٌ، والأمر بالشيء والنهي عنه من وجه واحد غير معقول. 22- تناقض آخر: قال الرواة: "قال يسوع: أنا وأبي واحد"2. ثم قالوا: "قال يسوع: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم"3. فإن لم يحملوا الأوّل على التبليغ والسفارة وإلاّ تناقضا لا محالة؛ / (1/106/ب) إذ ذهابه إلى نفسه محال. 23- فساد إنجيل يوحنا: رووا عن يوحنا الإنجيلي أنه قال: "إن الكلمة صارت جسداً وحلَّ فينا"4. وهم لا يعنون بالكلمة إلاّ صفة العلم أو النطق وذلك محال، إذ يلزمهم أن يكون القديم صار محدثاً والأزلي عاد زمنياً، وثار الآن عندهم عبارة عن ذات جاهلة ساكتة خرساء وتحولت الألوهية للمسيح؛ لأنه ذات كاملة بالعلم والنطق، وذلك من النصارى عزل لله عن الربوبية وإخراج عن الألوهية الكلّيّة. قال المؤلِّف: لقد كنت أتعجب من قراءتهم في صلواتهم: "المسيح الإله الصالح الداعي الكلّ إلى الخلاص"، ومن شريعة إيمانهم حيث تقول: "المسيح إله حقّ".

_ 1 متى 6/9-11، لوقا 11/2، 3. 2 يوحنا 17/21، 22. 3 يوحنا 20/17. 4 يوحنا 1/14.

وأقول: من أينَ جاءت النصارى هذه المحنة حتى وقفت على قول يوحنا هذا: "إن الكلمة صارت جسداً وحلّت فينا"، فتحققت أن تلك الصلاة وتلك الشريعة إنما أسست على هذه الكلمة الرذلة. 24- فساد المنقول عن يوحنا أيضاً: انفرد يوحنا وحده بفصل ذكره / (1/107/أ) في صدر إنجيله وهو في غاية التهافت والرِّكة فقال: "في البدء كانت الكلمة، والكلمة عند الله، والله هو الكلمة"1. وهذا كما ترى مضطرب من جهة لفظه ومعناه: أما اضطرابه من جهة لفظه فإن ذلك بمنْزِلة قول القائل: الكلام عند المتكلم والمتكلم هو الكلام، والعلم عند العالم والعالم هو العلم، والدينار عند الصيرفي والصيرفي هو الدينار، وذلك هو الجنون.

_ 1 يوحنا 1/1، ونصّه: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله". يقول الأستاذ أحمد عبد الوهّاب في كتابه: (اختلافات في تراجم الكتاب المقدس ص 42-44: "إن النّصّ السابق هو ما تقوله ترجمة الكتاب المقدس للكاثوليك، والتراجم الإنجليزية والفرنسية التي درجنا على استخدامها. إلاّ أن ترجمة العهد الجديد للكاثوليك، والعهد الجديد للمطبعة الكاثوليكية تقول: "والكلمة هو الله"، وهناك تراجم أخرى تختلف عن الترجمتين السابقتين، ففي ترجمة حديثة صدرت عام 1985م، بعنوان: "العهد الجديد الأصلي"، تقرأ مقدمة إنجيل يوحنا كالآتي: "في البدء كانت الكلمة، وكانت الكلمة عند الله، وهكذا كان الكلمة السماوية، كانت في البدء عند الله، بها كلّ شيء عمل، وبدونها لم يكن شيء ... ". وكذلك تقول "ترجمة إنجليزية اليوم" الصادرة عن جمعية الكتاب المقدس الأمريكية في افتتاحية إنجيل يوحنا: "وكان الكلمة مثل الله". ثم نقل الأستاذ أحمد عبد الوهّاب كلام د. جون ربنسون - أسقف ولويش بإنجلترا - في إثبات خطأ القول: "وكان الكلمة الله أو والكلمة هو الله"، مستنداً على ترجمة "الكتاب المقدس الإنجليزية الحديثة" التي تترجم العبارة السابقة كالآتي: "وما كان الله، كان الكلمة". قلت: هذا الخبط والخلط في فهم النصوص ناشئ عن سوء الترجمة وعدم الأمانة والدقة العلمية، وقد سبق لنا نقل كلام الأستاذ شارل جنيبر في الإشارة إلى دور الترجمة في تحريف الأناجيل لفظاً ومعنىً وإبدال المعنى الصحيح بالباطل. (ر: ص 142، 143) .

وأما اضطرابه من جهة معناه، فإن الكلمة عندهم هي العلم أو النطق، وهي التي اتّحدت بالجسد المأخوذ من مريم، فإذا قال يوحنا: إن الله هو الكلمة، فقد صرح بأن الأب قد اتّحد بالجسد وحَلَّ في رحم مريم وناله القتل والصلب وتردد مع الشيطان من مكان إلى مكان، وهذا لا يقول به نصراني، وهو لازم لهم بمقتضى ما رووا عن يوحنا أن الله هو الكلمة، ومما يُرَدُّ به قول يوحنا هذا تصريح المسيح في عدّة مواضع من الإنجيل بأنه نبيّ وأنه رسول ومعلم وأن الله نبَّأه وأرسله، وأنه لا يعلم الغيب والقيامة، وذلك كلّه بخلاف / (1/107/ب) قول يوحنا: "إن الله هو الكلمة". 25- ومن اللعب البديع: قول يوحنا: "قال يسوع لتلاميذه: إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فلا حياة لكم؛ لأن جسدي مأكل حقّ ودمي مشرب حقّ، ومن يأكل جسدي وشرب دمي يثبت فِيَّ وأثبت فيه، فلما سمع تلاميذه هذه الكلمة قالوا: ما أصعبها، من يطيق استماعها؟، فرجع كثير منهم عن صحبته"1. قلت: الكلام على الشيء بالرّدّ والقبول فرع كونه معقولاً، وهذا الكلام لو أراد البليغ أن يوجهه لأفضى به الحال إلى المحال، فيكفينا في الرّدّ عليه مجرد تسطيره، والكلام على الشيء الركيك لا يجيء إلاّ ركيكاً. وإذا كان في الأنابيب خلف وقع الطيش في صدور الصعاد وكيف لا يرجع العقلاء عن صحبة يسوع وهو يقول في الكلام المتقدم على هذا إن الله هو الكلمة والكلمة صارت جسداً؟! وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يأمرهم بأكل ذلك الجسد وشرب دمه؟!

_ 1 يوحنا 6/41-67، في سياق طويل، وقد ذكره أيضاً ابن حزم في الفصل 2/183، وأشار إلى سقوط هذا الكلام واختلاط قائله.

ولا شكّ أن العقلاء من النصارى اليوم لو جمعوا بين قول يوحنا أوّلاً وقوله آخراً لرجعوا أيضاً كما رجع من رجع عن يسوع، إذ يجتمع من الكلامين أكل جسد الله القديم / (1/108/أ) الأزلي وشرب دمه، ومن الذي يسمع ذلك فلا يقضي على قائله بالجنون أو المجون؟. فساد المنقول عن فولس: قال في رسالته السادسة وهو يحث على التواضع والتودد: "لا ينظرن أحدكم إلى نفسه دون صاحبه لكن ليعُدَّ صاحبه أفضل منه، واقتدوا بيسوع المسيح الذي كان شبه الله وعدل الله، كيف أخفى نفسه وأخذ شبه العبد وألقى نفسه في زيّ إنسان وشكله حتى مات وصلب"1. فبينا المسيح عنده [مشابه للإله ومعادل] 2 له إذ حكم عليه بالذلّ والإهانة والقتل والصلب وذلك غاية الجهل والحمق، وإلاّ فأي حاجة بالإله الخالق الباري إلى تلبسه بهذه الأمور؟! وما الذي اضطره إلى ذلك؟! تعالى عن هذا الهذيان. 26- موضع آخر من التكاذب: قال متى: "كان يوحنا لا يأكل ولا يشرب"3. وأكذبه الآخرون فقالوا: "كان طعام يوحنا هذا الجراد وعسل البر"4. وهذا من أقبح الكذب.

_ 1 رسالة بولس إلى فيلبي 2/4-8. 2 في ص (مشابهاً للإله ومعادلاً) والصواب ما أثبته. 3 متى 11/18. 4 متى 3/4، ومرقس 1/6.

27- موضع آخر: قال يوحنا الإنجيلي: "قال يسوع: أنا هو الراعي الصالح وأنا عارف برعيتي / (1/108/ب) وهي تعرفني"1، وأكذبه متى قال: "قال المعمداني حين رأى يسوع: هذا خروف الله"، وقال مرة أخرى: "هذا حمل الله"2. فمتى يجعل المسيح خروفاً، ويوحنا يقول: لا ولكنه [راعٍ] 3 للخروف، في الله العجب، هلاّ قال المعمداني حين رأى المسيح: هذا هو الله أو هذا ابن الله أو هذا مسكن الله. والنصارى تقول: "إن المعمداني إنما جاء شاهداً للمسيح، والمسيح يقول في إنجيله: "لم تقم النساء عن رجل أفضل من المعمداني هذا"4. فكيف يجوز من مثل المعمداني أن يسمى المسيح خروفاً أو حملاً، ويثبت له مالكاً هو الله تعالى؟!، أو تدعي النصارى أنها أعرف بالله من نبيّه يحيى بن زكريا وأعلم بها بما يجب له!! فكيف استجازوا خلافه وسلكوا في المسيح مذهباً غير مذهبه وطريقاً سوى طريقه فقالوا تارة: المسيح هو الله، وأخرى قالوا: هو بيت الله ومسكنه؟!. وقالوا في شريعة إيمانهم: "المسيح إله حقّ بيده أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء". وقالوا في صلواتهم: "يا ربنا المسيح لا تُضيِّع من خلقت بيدك"، وهذا كله بخلاف قول / (1/109/أ) المسيح في نفسه، وبخلاف شهادة يوحنا له؛ لأن يوحنا شهد أن المسيح عبدُ الله، وأن الله مالكه. وقال حين رآه: "هذا الذي قلت لكم إنه يأتي بعدي وأنه أقوى مني وأني لا أستحق أن أحل معقد خفّه". وهذا يدل على

_ 1 يوحنا 10/14. 2 لم يرد وصف المسيح بأنه: "حمل الله"، في إنجيل متى، بل ورد في إنجيل يوحنا 1/29، 36، وأما وصفه بأنه (خروف ... ) فقد ورد في رؤيا يوحنا 15/3. (ر: قاموس الكتاب ص 886) . 3 في ص (راعياً) والصواب ما أثبته. 4 متى 11/11.

مساواته المسيح؛ لأن الرجل الفاضل المتقي قد يذكر ذلك لمن هو دونه في الفضل تواضعاً لله تعالى وفرار من تزكية النفس، وقد يكون القائل أفضل من المقول له وهذا واضح، وإلاّ فيوحنا هذا أكبر من المسيح سناً وأقدمهم تعميداً، ولقد عمَّد المسيح فيمن عمَّد وامتلأ من روح القدس وهو في البطن، ونبأ الله أباه زكريا ببركته، يشهد بجميع ذلك الإنجيل1. وذلك كلّه يخصم النصارى في دعوى ربوبية المسيح ويفسد عليهم الأمانة التي ادّعوها في إثبات ألوهيته. 28- موضع آخر: قالت النصارى: قال داود في مزمور له: "قال الرّبّ لربي: اجلس عن يميني"2. قالوا فقد سمى داود المسيح ربّه. قلنا: فقد حكيتم / (1/109/ب) لنا عن إنجيل لوقا أنه قال: "قال جبريل لمريم: إنك ستلدين ابناً اسمه: يسوع يجلسه الله على كرسي أبيه داود"3. فإن كان النقل الأوّل صحيحاً، فالثاني باطل، وإن كان الأوّل باطلاً، فالثاني صحيح، وإذا كان المسيح هو ابن داود بإخبار جبريل عن الله فكيف يكون ربّاً لداود؟! أما كان في النصارى من يتدبر ذلك قبل تسطيره، فإنه قد صار سبة عليهم آخر الدّهر. 29- موضع آخر: قالوا: قال متى: "قام المسيح من الموتى مساء يوم السبت"4. وخالفه أصحابه فقاوا: "ما قام إلاّ صبيحة يوم الأحد بغلس"5. وذلك مما يخرم الثقة بأصل الخبر، وسأوضح ذلك إن شاء الله إذا انتهيت إلى بابه.

_ 1 لوقا 1/13-17. 2 مزمور 110/1. 3 لوقا 1/30. 4 متى 28/1-7. 5 مرقس 6/16-19، لوقا 24/1-3، يوحنا 20/1، 2، وقد ذكر بان حزم في الفصل 2/127-132 هذا الاختلاف بنحو ما أورده المؤلِّف.

وفي خبر قيامة المسيح ما هو أنكر من هذا وهو أن متى يقول: "إن اليهود سألوا المسيح أن يريهم آية، فقال: إن يونس أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، وكذلك ابن الإنسان يكون في بطن الأرض وقلها ثلاثة أيام وثلاث ليال مثلما أقام يونس"1. ثم لم يصحّحوا هذا الخبر إذ رووا كلهم / (1/110/أ) أنه صلب في الساعة الثالثة من يوم الجمعة، ثم أُنزل ودفن مساءً من يومه فمنهم من زعم أنه قام يوم السبت مساءً، ومنهم من قال: قام صبيحة الأحد مغلساً، فإذا لم يقم بطن الأرض سوى يوم واحد وليلة أو ليلتين على الرواية الأخرى2.

_ 1 متى 12/39، 40، إن المراد بآية النبيّ يونان في هذا النّصّ هو نفسه المراد في الإصحاح 16/4 ونصّه: "فأجاب وقال لهم: جيل شرير فاسق يلتمس آية ولا تعطى له آية يونان النبيّ". وهو نفسه المراد أيضاً في قول اليهود لبيلاطس: "يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المفضل قال وهو حي إني بعد ثلاثة أيام أقوم". 27/63. فهذه الشواهد تدل على أن المراد بمثل آية النبيّ يونان هو المسيح عليه السلام. 2 يوضّح لنا الشيخ رحمة الله الهندي في إظهار الحقّ ص 159 التناقض في روايات الأناجيل للقيامة بقوله: "إن المسيح صلب قريباً إلى نصف النهار من يوم الجمعة، كما يعلم من الإصحاح (19) من إنجيل يوحنا، ومات في الساعة التاسعة (الواحد ظهراً - الثالثة بعد الظهر) وطلب يوسف جسده من بيلاطس وقت المساء فكفنه ودفنه كما جاء في إنجيل مرقس (ومتى) . فدفنه لا محالة كان في ليلة السبت، وغاب هذا الجسد (المسيح) عن القبر قبل طلوع الشمس من يوم الأحد - كما جاء في إنجيل يوحنا - فما بقي في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، بل يوماً وليلتين، وما قام بعد ثلاثة أيام. في القبر أسبوع عيد الفصح الليالي الأيام يوم الجمعة دفن في القبر قبل غروب الشمس. ليلة واحدة لا شيء يوم السبت ليلة واحدة يوم واحد يفترض أن يكون في القبر. يوم الأحد لا شيء لا شيء مفقود دفنه قبل طلوع الشمس. ليلتان يوم واحد الإجمالي ولما كان هذه الأقوال غلطاً فقد اعترف به (بالس وشانر) أن هذا التفسير من جانب متى وليس من قول المسيح. وقالا: "إن مقصود المسيح أن أهل نينوى كما آمنوا بسماع الوعظ وطلبوا المعجزة كذلك فليرضى الناس مني بسماع الوعظ". اهـ. (ر: أيضاً رسالتين للشيخ أحمد ديدات (من دحرج الحجر؟، ما هي آية يونان؟) .

والنصارى قد يقرؤون هذا الفصل في كلّ سنة في آية سبت في الصوم، وهو السبت الذي يكون في صبيحته الفطر1، فيقرأ القارئ الفصل المذكور ثلاث مرات وهو يقول: "الآن وفي هذا الوقت قام المسيح من بين الموتى، وهذا كما نرى نقل مضطرب على أنّا لو أضفنا لهم يوم الصلب وهو يوم الجمعة أيضاً لم يحصل الوفاء بالثلاثة الأيام والثلاث الليالي. ومن لم يكن عنده من اللب ما يعرف به هذا الخطأ مع وضوحه لم يتعجب من قبوله لكلّ مستحيل. 30- موضع آخر: قال المصلوب لأحد اللصين: "حقّاً إنك اليوم تكون معي في الفردوس2، فحكم بأنه يوم الجمعة يكون معه في الجنة، وذلك مناقض لما روى لوقا إذ قال: "إن المسيح / (1/110/ب) لم يصعد من الأرض إلاّ بعد أربعين يوماً"3. وإذا كان قد مكث في الأرض أربعين يوماً قبل الصعود فقد بطل قوله: "إنه معه يوم الصلب في الفردوس".

_ 1 عيد الفطير: ويسمى أيضاً: بـ: (عيد الفصح) ، وهو العيد الرئيسي عند النصارى، وهو ذكرى قيامة المسيح من بين الأموات، ويقع بين 22 مارس و25 إبريل ويرتبط به عدد كبير من الأعياد الأخرى، ويسبق بالصيام الكبير الذي يدوم (40) يوماً بجمعة آلام المسيح. وهذا العيد أيضاً من أبرز أعياد اليهود ويقع عندهم في 15 نيسان، وفيه خرج بنو إسرائيل من مصر هرباً من فرعون. (ر: قاموس ص 678، الموسوعة العربية الميسرة ص 1247) . 2 لوقا 23/43. 3 سفر أمال الرسل 1/3، وقد سبق للمؤلِّف ذكر هذا التناقض ولعله قد نسي فأورده مرة ثانية. انظر: ص 182 التناقض رقم: (10) .

31- موضع آخر: قال متى: "لما حُمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال: أي شرّ عمل هذا؟ فصرخ اليهود وقالوا: يصلب يصلب، فلما رأى القائد عزمهم وأنه لا ينفع فيهم شيء أخذ ماء وغسل يده وقال: أنا بريء من دم هذا الصّدِّيق وأنتم أبصر"1. وأكذب ذلك يوحنا فقال: "لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال الهيود: ما تريدون؟ قالوا: يصلب، فضرب يسوع ثم سلمه إليهم"2. فانظر يا أخي - أسعدك الله بقربه وعصمك من الشيطان وحزيه - ما أقبح هذا التكاذب وأوضح هذا التناقض، أحد التلميذين يقول: إن القائد أثنى على يسوع وغسل يده، والآخر يقول: كلا، ولكن جَلَده. 32- موضع آخر: قال يوحنا: "لما حلم يسوع إلى رئيس الكهنة قيافاً موثقاً سأله مستخراً عن حاله فيصيح يسوع / (1/111/) [أنا كلمت العالم علانية أنا علمت كلّ حين في المجمع وفي الهيكل، حيث يجتمع اليهود دائماً، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء، لماذا

_ 1 متى 27/22-245. 2 يوحنا 18/38-40، 19/1. قلت: إن على النصارى الكاثوليك ومن يؤمن منهم بعصمة الباب والكنيسة الكاثوليكية وبحقّها في التشريع أن يحذفوا هذه النصوص وغيرها التي تتهم اليهود بصلب المسيح وتطالبهم بدمه وذلك بعد صدور وثيقة التبرئة عام 1965م، من البابا بولس السادس وفيها التصريح بتبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام. ولا يخفى دور اليهود ومكرهم الخبيث في استصدار هذه الوثيقة من الفاتيكان ولذلك سعت إلى تحريف الأناجيل - زيادة على تحريفه السابق - وتغيير كلمة اليهود واستبدالها في النسخ الحديثة لأسفار العهد الجديد المطبوعة في إسرائيل، فاستبدلت كلمة اليهود في النّصّ السّابق بكلمة الشعب، أو الرعاع. (للتوسع، ر: إسرائيل حرفت الإناجيل - أحمد عبد الوهّاب) .

تسألني أنا أسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا، ولمّا قال هذا] 1 قام إليه رجل من الشرط فلطم يسوع على خده الأيمن وقال: هكذا تجاوب عظيم الكهنة. قال له يسوع: إن كنت قلتُ ردياً فاشهد بالرّدي وإن كنت قلت جيداً فلمَ تضربني؟ "2. وهذا خلاف ما قال لوقا إذ قال: "إن جبريل أخبر عن الله تعالى أن يسوع يكون ملك بني إسرائيل"3. ولم يقل: إنه يحمل في الكبول والقيود إلى اليهود. 33- موضع آخر: قال لوقا: "قال جبريل لمريم وهو يبشرها إنك ستلدين ولداً تسمينه يسوع يجلس على كرسي داود ويملك على بيت يعقوب"4. فأخبر عن الله بتمكله على بيت أبيه داود وأكذب ذلك يوحنا فقال: "لما حمل يسوع إلى رئيس الكهنة قال له: أنت ملك اليهود؟ فقال يسوع: أمن عندك قلت هذا؟ أم حُكي لك عني؟ "5. وهذا تكاذب قبيح إذ لوقا جعله ملك إسرائيل، والآخر وسمه بِسِمّة ذليل. قال المؤلِّف: ألتحقيق عندنا أن هذا جواب الشبه، ألا تراه كيف ورَّى في الجواب، وقد كان الشَّبه شرى نفسه من الله وآثر المسيح / (1/111/ب) بمهجته، وأنت إذا تتبعت ذلك اتّضح لك أن المأخوذ المصلوب هو الذي شبه بالمسيح لا المسيح، وسنَزيده وضوحاً إن شاء الله.

_ 1 في ص (المعاديده بين يديه) وأما المثبت فهو من نصّ الإيجيل. 2 يوحنا 18/19-24. 3 لوقا 1/32، 33. 4 لوقا 1/32، 33. 5 يوحنا 18/33، وفيه أن الذي سأل المسيح: أنت ملك اليهود؟ هو بيلاطس الوالي على اليهودية وليس رئيس الكهنة كما ذكر المؤلِّف.

34- ومما تفرد به يوحنا دون أصحابه: قال يوحنا: "لم صلب يسوع واللصان معه قال اليهود: هذا يوم الجمعة وغدا السبت، ولا تبقى هذه الأجساد على الصلب، وسألوه أن يتقدم بكسر أسوقهم، فمضى الشرط ففعلوا ذلك باللصين وانتهوا إلى يسوع فوجدوه ق مات فلم يكسروا ساقيه، بل جاء رجل من الجند بحربة فطعنه في جنبه الأيمن فخرج من جرحه ماء ودم"1. وأغفل الباقون ذلك فلم يخبروا به، وإذ تركوه لم يؤمن أن يتركوا ما هو أهمّ منه ولعلّهم استضعفوا أصل الخبر فأضربوا عن نقل تفاصيله. 35- قال ابن2 رَبَّن - وكان من أذكيائهم فأسلم على يدي المتوكِّل3 وردَّ عليهم وعلى اليهود وغيرهم بكتابٍ له حسن -: "إن متى أسقط من نسب المسيح ثلاثة آباء غلطاً4، وأن لوقا زاد في نسب المسيح أباً"5. واعترف بذلك المفسقان / (1/112/أ) مفسرهم وقال: "هذا غلط وقع في الإنجيل، فاستحيا من ذلك بعض علمائهم وقال: إن هذا الخطأ في الإنجيل؛ لأنه كتب

_ 1 يوحنا 19/31-34. 2 هو: أبو الحسن عليّ بن سهل ويعرف بابن ربن الطبري، المهتدي كان نصرانياً فأسلم، طبيب حكيم، له كتاب: "الرّدّ على أصناف النصارى". و"الدين والدولة في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم". قيل مات سنة 260هـ. (ر: ترجمته في هدية العارفين للبغدادي 1/669، عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ص 414، مقدمة كتاب الدين والدولة - بتحقيق الأستاذ عادل نويهض) . 3 هو: أبو الفضل جعفر (المتوكّل بالله) بن محمّد بن هارون الرشيد، أحد ملوك الدولة العباسية. اغتيل في سامراء سنة 247هـ. (ر: الأعلام للزركلي 2/127) . 4 ورد في إنجيل متى 1/8 أن: (يورام ولدَ عزيا) ، وليس ذلك صحيحاً؛ لأن غزيا (عزريا) ابن أمصيا بن يو آش بن أخزيا بن يورام، كما ورد ذلك في سفر أخبار الأيام الأوّل 3/10-12، فمتّى أسقط من نسب المسيح ثلاثة أجيال، وهؤلاء الثلاثة كانوا من الملوك المشهورين وأحوالهم مذكورة في سفر الملوك الثاني الأصحاح (8، 12، 14) ، وسفر أخبار الأيام الثاني الأصحاح (22، 24، 25) . 5 ورد في إنجيل لوقا 3/35، 36، أ، "شالح بن قينان بن أوفكشاد"، وهو غلط؛ لأن شالح بن أرفكشاد، وليس ابن ابنه، كما ورد ذلك في سفر التكوين 11/12، 13، فلوقا قد زاد أباً للمسيح هو (قينان) .

بروح القدس ولكنه من التوراة والكتب العتيقة، وذلك باطل، فإن كان الإنجيل قد حضر كتابته روح القدس فالتوراة وسائر النبوات كذلك. 36- تناقض إنجيل لوقا نفسه: قال لوقا: "قال جبريل لمريم القول المتقدم في تمليك يسوع على بني إسرائيل وجلوسه على كرسي داود". ثم أكذب نفسه بنفسه فقال: "جاء الجباة من قبل قيصر إلى بطرس فقالوا: ما بال معلمكم لا يؤدي الغرم؟ فذكر بطرس ذلك ليسوع فقال: يا بطرس [والبنون] 1 أيضاً تؤدّي الغرم، ثم قال له: امض إلى البحر، وألق الصنارة فأول حوت ترفعه افتح فاه وخذ منه ما تؤدي عني وعنك"2. انظر - رحمك الله - أي قبيح هذا التناقض؟ هذا راوٍ واحدٌ لإنجيلٍ واحدٍ بينما يسوع عنده ملك بني إسرائيل جالس على كرسي داد بشهادة جبريل إذ نسي القصّة فجعله ضعيفاً مسكيناً تحت جزية لتظهر آيته في تناول / (1/112/ب) الذهب أو الورق من فم الحوت. قلنا: إنما مرادنا أنه ظهر كذبكم وأخلف قولكم ونقلكم عن جبريل، وأن يسوع لم يملك ولم يجلس ولم يطلق، وعلى أن ذلك لا ينفع في إثبات ربوبيته، وما أحسن ربّاً يلتزم الذلة والصغار ويبذل الجزية ليقوي بها الفجار. 37- تكاذب إنجيل متّى: قال متى في صدر إنجيله: "هذا مولد يسوع المسيح بن داود"3. فشهد بأن داود أبوه، ثم قال بعده بورقة: "لما خطب يوسف مريم فَقَبل أن يعرفها وجدت

_ 1 في ص (والبنبن) والصواب ما أثبته. 2 ورد هذا النّصّ في إنجيل متى 17/24-27، ولم يرد في إنجيل لوقا كما ذكر المؤلِّف، فلعل نسخة الأناجيل التي كانت بيد المؤلِّف ذكر فيها النّصّ في إنجيل مرقس، أو لعله قد اختلط عليه الأمر في ذلك، فيكون تصويبه حينئذٍ بأن إنجيل لوقا قد تناقض مع إنجيل متى في هذا الأمر. والله أعلم. 3 متى 1/1.

حبلى من روح القدس، وكان يوسف صِدِّيقاً فلم ير أن يشهرها وهَمَّ بتخليتها سِرّاً فظهر له المَلك في الرؤيا فقال له: يا يوسف لا تخف من إمساك خطيبتك، فإن الذي تلده هو من روح القدس وستلد ابناً ويدعى يسوع"1. وذلك تكاذب قبيح؛ لأنه إن صدق في خبره الأوّل كذب لا محالة في الثاني. 38- موضع آخر: قال لوقا: "لما انطلقوا بيسوع ليصلبوه وجدوا سمعان2 القونياني فحملوا عليه الصليب ليحمله وجعل النسوة خلف يسوع يبكين فالتفت إليهن وقال: / (1/113/أ) يا بنات أورشليم لا تبكين علي وابكين على أولادكم، ليأتين عليكن زمان تقولون طوبى للبطون العواقر التي لا يلدن والأيدي التي لا ترضع، إذا كان هذا فعلهم بالعود الرّطب، فكيف يصنعون بالعود اليابس؟ "3. وخالفه يوحنا فقال: "مضى يسوع ليصلب وهو حامل صليبه إلى موضع يسمى الجمجمة حيث صلبوه"4. وخالفهما مرقس فزاد في القصّة ونقص وقال: "أخذوا سمعان وهو أبو الكسندروس"5. وخالفهم متى فقال: "وجدوا إنساناً فسخروه لحمل الصليب"6.

_ 1 متى 1/18-21. 2 في الأناجيل: "سمعان القيرواني"، من قريني في ليبيا، ولذا فيجب أن يكون لقبه القريني، وهو أبو الكسندر وروفس. (ر: قاموس الكتاب ص 484) . 3 لقوا 23/26-31. 4 يوحنا 19/16، 17. 5 مرقس 15/20، 21. 6 متى 27/32، 33.

فلوقا يقول: حملوا الصليب على سمعان القرونياني وطوَّل القصّة. ويوحنا يقول: ما حمل الصليب إلاّ يسوع نفسه. ومرقس اختصر القصّة جداً وسمى ولد حامل الصليب. ومتَّى يقول: سخَّروا رجلاً لحملٍ خشبته. فهذه قصة لطيفة تناقضوا فيها هذا التناقض1، فما ظنك بالمطولات. واعلم أن هذه الأمور تزعم النصارى أنها جرت بعد المسيح، لم تسمع من المسيح فكيف عَدوها من الإنجيل؟! قال المؤلِّف - عفا الله عنه - قوله: "يا بنات / (1/113/ب) أورشليم ... إلى آخر". هو كلام الشبه ألا ترى إلى قوله: "إذا كان هذا فعلهم بالعود الرّطب"، ولو كان على ما يزعم النصارى لقال: إذا كان هذا فعلهم بالابن الذي قدَّسه الله وأرسله إلى العالم، كما تقدم في قوله لليهود غير مرّة. فقوله: (يا بنات أورشليم ... "، يكذب النصارى في دعوى قتل المسيح وصلبه، ولأنهم يقولون في شريعة إيمانهم: "إن المسيح إله حقّ من إله حقّ وإن بيده أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء". وإذا كان الأمر كما قالوا فليس هو قائل: "يا بنات أورشليم"، بل غيره؛ ولأن المسيح جاء في زعم النصارى لخلاص العالم، وأقلّ درجات مخلص العالم أن يخلِّص نفسه، فكيف يحسن القول بعطبه وقتله وصلبه؟!.

_ 1 إن هذا التناقض ليس ملزماً للنصارى؛ فإن لهم أن يقولوا: إن المسيح لم يقو على حمل الصليب، فسخروا سمعان ليساعده على حمله، وليس معنى ذلك أن الصليب رفع عن المسيح، بل كان سمعان مساعداً إيّاه فقط، فلا فرق بين القولين. ا. هـ. (ر: حل مشاكل الكتاب المقدس - للقس منسي يوحنا ص: 138، ور: الفصل لابن حزم 2/123) .

39- وانفرد لوقا بفصل لم يشاركه أصحابه في نقله: قال لوقا: "لما ولد المسيح وضعته أمّه مقموطاً في معلف من مذاود الدواب وكان هناك رعاة يرعون أغناهم - قال - فنظر الرعاة إلى الملائكة قد نزلوا إليهم وبشرهم فقالوا: نبشركم ببشارة عامة لأهل العالم كله، أنه ولد الليلة لكم [مخلّص/ (1/114/أ) ومنج] 1وهو يسوع المسيح الرّبّ"2. وهذه قصة لم يذكرها سوى لوقا وانفراده بها يوجب سوء الظن به فيها مع أن فيهاما يقضي بردهاوهو بشرى الملائكة للعالم بأسره بأن يسوع مخلّصهم ومنجيهم، وذلك بمطلقه يقضي بأن الهنود والصين والترك والسودان واليهود وفرعون ونمرود وسائر طوائف الكفار وعباد الأنداد من الخشب والحجار قد خلصوا ونجوا بمولد هذا المسيح وبطلت الخطيئة بمجيئه، وهذا القول مع قباحته مردود بنصّ الإنجيل إذ يقول فيه: "إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وعن شمالي فأقول لأهل اليمين: فعلتم بيَ كذا فاذهبوا إلى النعيم، وأقول لأهل الشماء: فعلتم بيَ كذا فاذهبوا إلى الجحيم"3. ثم إخبار هؤلاء الملائكة للرعاة يوجب مسرة العالم بمولد يسوع، إذ كان فيه خلاصهم ونجاتهم، ومعلوم أن اليهود وأكثر هذه الطوائف لم يسروا [بمولده] 4. ثم هذه الرواية التي رواها لوقا من كون المسيح / (1/114/ب) مخلصاً للعالم معارضة بقول المسيح: "إني لم أُرسل إلاّ إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل5، فإن الأصحاء

_ 1 في ص (مخلصاً ومنجياً) والصواب ما أثبته. 2 لوقا 2/6-11. 3 متى 25/31-46، في سياق طويل، وقد ذكره المؤلِّف بالمعنى مختصراً. 4 في ص (بمولوده) والصواب ما أثبته. 5 متى 10/6، 15/24.

لا يحتاجون إلى الدواء وإنما يحتاج إليه المرضى"1. وإذا كان المسيح نفسه قد قال: إنه لم يرسل إلى العالم، بل إلى من ضلّ من بني إسرائيل، فلا يعوَّل على ما قال ونقله لوقا، وما أحسن إلهاً يُستر بخرق الثياب ويشتمل عليه معالف الدواب!!. 40- تناقض واضح وتعارض فاضح: قال لوقا: "قال يسوع: من ليس له سيف فليبع ثيابه وليشتر له سيفاً"2. وهذا أمر حزم، وذلك مردود بأقوال أصحابه إذ قالوا: "قال يسوع: لا تقابلوا الشرّ بالشرّ، ولكن من لطمه على خدك الأيمن فحول له الآخر ومن أراد أخذ ثوبك فزده رادءك ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين"3. "ولما كان ليلة الفزع جرد شمعون الصفا من أصحابه سيفه فانتهره وقال: أردده إلى غمده"4. فإن كان أحد النقلين صحيحاً [فالآخر كذباً] 5 قطعاً. ونسخ الإنجيل بعضه ببعض عندهم لا يجوز. 41- ومن التكاذب: / (1/115/أ) قال متى: "لما ذهبوا بيسوع جَرّد واحد من أصحابه سيفاً وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى، فقال له يسوع: أردد سيفك إلى غمده فإنّ كلّ من أخذ بالسيف بالسيف يهلك"6.

_ 1 متى 9/12، مرقس 2/17، لوقا 5/31. 2 لوقا 22/36. 3 متى 5/39-41، لوقا 6/28-30. 4 متى 26/51، 52، لوقا 22/50، 51، يوحنا 18/10، 11. 5 في ص (والآخر كذب) والصواب ما أثبته. 6 متى 26/51، 52.

انظر إلى هذا التصادم البديع والتهافت [الفظيع] 1، لوقا يقول: إن المسيح يحثّ على شراء السيوف لهذا المهم قبل أن يسلم، والآخر يقول: بل نهى صاحب السيف وعنّفه، والثالث، يقول: بل إنه لصق أذن المضروب وبالسلامة شنَّفه. قال المؤلِّف: قوله: "كلّ من أخذ بالسيف يهلك". فاسد من جملة منطوقه ومفهومه، إذ ذلك يقضي أن يكون كلّ من أخذ بالسيف قتل، فكلّ من لا يأخذ بالسيف لا يقتل، وكلاهما فاسد. فكيف يزعم النصارى أن يسوع قتل وصلب ونكل به منع أنه لم يأخذ بالسيف؟!. فهذا الكلام من المسيح عليه السلام من أقوى الشهود على عصته مما افتراه النصارى عليه من القتل والصلب؛ لأنه لم يأخذ إلاّ ما أتاه الله كما قال في إنجيله عن المعمداني: "إن العبد / (1/115/ب) لن يأخذ إلاّ ما أعطاه الله من السماء"2. 42- تفرد لوقا: قال لوقا: "قال الرّبّ: سمعان سمعان هوذا الشيطان يسأل أن يغربلكم كما تغربل الحنطة"3. قلت: قد أجيب الشيطان إلى سؤاله فغربلهم بغرباله وسربلهم بسرباله وخدمهم بأباطيله، واعتقدوا المحال، ودانوا بالعبادة للنساء والرجال، فالحمد لله الذي عصم من كيده وقصم أحبولة صيده، وفي هذا الكلام ما يقضي أن للحواريين مزية على المسيح إذ يقول في الإنجيل: "إن إبليس سحب يسوع معه من مكان إلى مكان وقال له: اسجد لي وأعطيك الدنيا بما فيها"4. فالشيطان

_ 1 في ص (الفصيح) ولعل الصواب ما أثبته. 2 يوحنا 3/27. 3 لوقا 22/31. 4 متى الإصحاح (4) ، مرقس الإصحاح (1) ، لوقا الإصحاح (4) .

يشاور المسيح ويقول له: اسجد لي، ويسأل ويضرع أن يغربل الحواريين، وهذا يدل على أن الشيطان أهيب لهم منه المسيح. 43- ومن التكاذب: قول يسوع: "لا تحقروا أحداً من هؤلاء الصغار المؤمنين فإن ملائكتهم في كلّ حين ينظرون وجه الله الذي في السموات"1. ثم أكذب ذلك فقال: "الله لم يره أحد قط"2. وقال أيضاً: "الله لا يأكل ولا يشرب ولا يراه أحد / (1/116/أ) قطّ إلاّ مات"3. 44- ومما تفرد به لوقا: قال لوقا: "لما قطعت أذن العبد لمسها يسوع فأبرأها وأنكر على صاحبه فعله"4. ولم يذكر ذلك أصحابه الثلاثة، ولم يسم صاحب السيف أحدٌ من الجماعة سوى يوحنا فقال: "هو شمعون الصفا"5. 45- ومما تفرد به مرقس: قال مرقس: "لما أخذ يسوع وذهبوا به تبعه شاب واحد على عُربه إزار فتعلقوا به، فترك إزاره لهم وذهب عرياناً"6. ولم يذكر ذلك أصحابه الثلاثة.

_ 1 متى 18/10. 2 يوحنا 1/18. 3 تقدم تخريجه. انظر: ص 129. 4 لوقا 22/50، 51. 5 يوحنا 18/10. 6 مرقس 14/51، 52، ويعلق نينهاهم على هاتين الفقرتين في كتابه: (تفسير إنجيل مرقس ص 396) ، بقوله: "إن هاتين الفقرتين تدعوان للحيرة، فقد وضعا بطرية مربكة بعد الفقرة (50) ، ولهذا فإن بعض النساخ قد نقحوا الأصل الأغريقي لكي ينصقل الترابط مع قبلهما، كما أن كلاً من مى ولوقا قد حذفهما من إنجيله". اهـ. (نقلاً من: المسيح في مصادر ص 145، لأحمد عبد الوهّاب) .

46- ومما تفرد به لوقا: قال لوقا: "لما رأى الذين مع يسوع ما كان قالوا: يا ربّ نضرب بالسيف؟ "1. ولم ينقل هذا الاستئذان سواه وأغفله الباقون. 47- ومما انفرد به يوحنا: قال يوحنا: "كان اسم العبد مَلخس"2. ولم يذكر ذلك سواه. 48- ومما انفرد به يوحنا: فصول الفارقليط3 فلم ينقلها سواه وأغفلها الباقون، فلم يذكروا منها حرفاً، وذلك يقضي بالمطاعن عليهم. فلو وجدنا مصفحاً من مصاحف المسلمين قد أسقط منه سورة / (1/116/ب) لأررنا4على فاعله، فكيف أن يهملها الكافلة ويثبتها واحد.

_ 1 لوقا 22/49. 2 يوحنا18/10،ومعنى: (مخلس) :ملك. وهو خادم رئيس الكهنة. (ر: قاموس ص 915) . 3 يوحنا 14/16، 15/26، 16/7، وقد استبدلت كلمة: "الفارقليط" في النسخ الحديثة للأناجيل بكلمة: "المعزى". وقد ذكر قاموس الكتاب ص 626: بأن كلمة: "المعزى" هو الروح القدس، ولم ترد إلاّ في إنجيل يوحنا، وبأن الكلمة الأحلية اليونانية: "براكليتيس" وتعني: "معز، ومعين، وشفيع، ومحام". اهـ. والصحيح أن كلمة فارقليط تعني: الحمد وهو معنى اسم نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وسوف نوضح ذلك - إن شاء الله في الباب العاشر في موضوع البشارات بنبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم. 4 الأزّ: السوق. والطرد، وإيقاد النار، والمراد به هنا الطرد. والله أعلم. (ر: القاموس المحيط ص 437) .

49- ومما قالوا: إن متى سها فيه: قوله: "إن يوسف صار بالمسيح إلى قرية يقال لها الناصرة ليتم قول النبي القائل إن المسيح يدعى ناصريا"1. قال العلماء: "ليس لذلك ذكر في نبوة من النبوات البتة"2. 50- وكذلك قوله - أعني متِّى -: في الفصل الأوّل: "إن يوسف ومريم هربا بالمسيح إلى مصر خوفاً من هيرودس ليتم ما قيل في نبوة النبيّ القائل من مصر دعوت ابني"3. قالوا: ليس لهاتين النبوتين صحة4، فما هما إلاّ عنقاءمغرب5.

_ 1 متى 2/23. 2 يقول قاموس الكتاب المقدس ص 647: "ويغلب الظن أن هذا اللقب الذي لُقب به المسيح في إنجيل متى 2/23، يشير إلى النبوة التي يسمى فيها المسيح (قضيب) بالعبري (ينصر) في سفر أشعيا 11/1 ونصّه: "ويخرج قضيب من جذع يسي"....". قلت: إن هذه محاولة يائسة من مؤلفي قاموس الكتاب لإيجاد نبوءة من النبوات المتقدمة لأنبيائهم في إثبات صحة ما ورد في إنجيل متى، وإن الظن لا يغني من الحقّ شيئاً، والصحيح ما ذكره المؤلِّف بأن كلام متى ليس له ذكر في أقوال الأنبياء المتقدمين وأسفارهم بالعهد القديم، ويؤيّد قول المؤلِّف ما صرح به الأستاذ جون فنتون في كتابه: (تفسير إنجيل متى ص 51) ، إذ يقول معلّقاً على نصّ إنجيل متى السابق: "إن مصدر هذه النبوءة غير معلوم" اهـ. إذن فأسفار الأنبياء لم تقل شيئاً مما ادّعاه متّى في إنجيله. والعلماء متّفقون على ذلك، ولا عبرة بمن خالف بظنه في لك، فشهادة متى لا يعرف لها أصل. (ر: المسيح في المصادر العقائد المسيحية - أحمد عبد الوهّاب ص 118) . 3 متى 2/14، 15، 17. 4 يزعم قاموس المقدس ص 861، أن ما ورد في إنجيل متى 2/14، السابق إتمام لنبوءة وردت في سفر هوشع 11/1 ونصّها: "لما كان إسرائيل غلاماً أحببته ومن مصر دعوت ابني". اهـ. قلت: للرّدّ على هذه المغالطة أنقل كلام جون فنتون في كتابه السابق ص 48، حيث يقول: "إن هذه الشهادة التي ساقها متى من سفر هوشع إنما تشير إلى دعوة الرّبّ للشّعب الإسرائيلي باعتباره ابناً له للخروج من مصر (على عهد موسى" اهـ. ويؤيّد ذلك أن إطلاق لفظ (الابن) على إسرائيل وبنيه قد ورد في التوراة سفر الخروج 4/21-23 في بدء رسالة موسى عليه السلام وفيه: "عندما تذهب لترجع إلى مصر ... فتقول لفرعون: هكذا يقول الرّبّ: إسرائيل ابن البكر، قلت لك: أطلق ابني يعبدني"، ولهذا فإن ما ورد في سفر هوشع، إنما هو تذكير ببعض نعم الله على بني إسرائيل حينمنا دعاهم للخروج من مصر وتخليصهم من ذلّ فرعون، وليس هناك ما يجعلها نبوءة تشير إلى عودة للصبي يسوع؛ لأن ما ذكرته أسفار العهد القديم عن دعوة الابن من مصر لا يخرج عن كونه مجرد سرد لحادث مضى في زمن موسى عليه السلام. 5 عنقاء مغرب ومغربة: من الأمثال يقال: حلقت به العنقاء مغرب، يضرب لمن يئس منه، والعنقاء: الداهية وطائر معروف الاسم مجهول الجسم. وقال الدميري: بأن (عنقاء مغرب) من الألفاظ الدالة على غير معنى. (ر: الحيوان الكبرى 2/86، 90، والقاموس المحيط ص 1178) .

51- حكاية الجحش والأتان وما اشتملت عليه من السخف والهذيان والزيادة والنقصان: قال متى: "لما قرب يسوع من أورشليم أرسل اثنين من تلاميذه وقال: اذهبا إلى القرية التي أمامكما فإنكما تجدان أتاناً وجحشاً لم يركب مربوطين فحلاهما وأتياني بهما، فإن قيل لكما شيء فقولا الرّبّ يحتاج إليهما وهو يرسلها للوقت. فذهب التلميذان وفعلا ذلك / (1/117/أ) ووضعا الثياب عليهما وركب يسوع وفرشت له الثياب في الطريق وفرش آخرون أغصان الشجر، فلما دخل يسوع أورشليم ارتجلت له المدينة فقال الناس: هذا يسوع النبي الذي من الناصرة الجليل"1. وقال مرقس: "لما قرب يسوع من أورشليم أرسل من تلاميذه رجلين وقال: امضيا فإنكماتجدان جحشاًمربوطاً"2.وكذلك قال لوقا. فأما يوحنا فقال:"إن [يسوع] 3وجد حماراً فركبه"4.ولم يذكر سوى ذلك. فمتى يقول: أتاناً وجحشاً، وذكر خطبة طويلة، ومرقس ولوقا لم يذكرا سوى الجحش، لا غير، ويوحنا لم يذكرهما البتة بل قال: إنه وجد حماراً فركبه5.

_ 1 متى 21/1-8. 2 مرقس 11/1-8. 3 في ص (يسوعا) والصواب ما أثبته. 4 يوحنا 12/14. 5 لقد حاول القس منسي يوحنا في كتابه: (حلّ مشاكل الكتاب المقدس ص 125) ، إيجاد جواب مقنع لهذا التناقض فقال: "فنجيب: أن متى ذكر ما حدث بالتفصيل، أما البشيرون الآخرون فذكروا فقط الجحش الذي ركبه المخلص". قلت: إنه جواب غير مقنع، فإن متى ذكر أن المسيح: "قال للتلميذين: اذهبا إلى القرية التي أمامكما ... تجدان أتاناً مربوطة وجحشاً معها فحلاهما". وأما مرقس فقد ذكر: "أن المسيح قال للتلميذين: اذهبا إلى القرية التي أمامكما ... تجدان جحشاً مربوطاً لم يجلس عليه أحدٌ من الناس فحلاه". وذكره لوقا كذلك. يتّضح من ذلك أن أقوال المسيح متناقضة في ذلك، ولا مجال لما زعمه القس منسي بأن متى ذكر ما حدث بالتفصيل، فإن الأناجيل روت الحادثة الواحدة بأمر المسيح وقوله، ثم بفعل تلميذيه، وهي متناقضة في ذلك تماماً. فإن أصر القس منسي على سخافته فإننا ننقل له اعتراف جون فنتون - عميد كلية اللاهوت - في كتابه: (تفسير إنجيل متى ص 329) ، حيث يقول: "إن قول متى: (أتاناً مربوطة وجحشاً معها) ، يخالف قول مرقس ولوقا: (جحشاً مربوطاً لم يجلس عليه أحدٌ من الناس") . اهـ.

ولم يذكر الثلاثة إرساله إلى أصحاب المركوب واستئذانهم وفرش الثياب وأغصان الشجر، ودخول المدينة واتجاجها لدخوله، وشهادة الناس له، بأنه النبي الذي جاء من الناصرة، وما أحسن رباً يفتقر إلى ركوب الحمير وإلهاً يغتذى بالخمر والخمير. مأ أخلق هذه المواضع من الإنجيل أن / (1/117/ب) يكون اليهود قد أدرجها في أوّل نسخ الإنجيل [ليُضحكوا] 1 الناس من دين النصراينة، ثم تناقلها النصارى بالغفلة وحسن الظن المانعين عن النظر في مقابح الكلام. 52- موضع آخر من الكتاب الشنيع: قول إنجيلهم: "قال يسوع: ما جئت إلاّ الأخلص من كان ضالاً"2. ثم أكذب ذل فقال: "ما جئت لألقي على الأرض سلامة لكن سيفاً وأضرم بها ناراً"3.

_ 1 في ص (ليصلحوا) ولعل الصواب ما أثبته. 2 متى 18/11، يوحنا 3/17، 12/47، بنفس المعنى. 3 متى 10/34-35.

فلم يكفه ادعاؤه صلب المسيح حتى لعنه صريحاً، وهب أنه اعتقد بفاسد عقله صلب المسيح، فمن أين له أن كلّ مصلوب ملعون؟! 1 وقد صلب من أولياء الله وأصفيائه جماعة ليس الملعون إلاّ من فعل بهم / (1/118/أ) ذلك2. فساد عقل إفريم: قال إفريم - من قدماء الصنارى - إن اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي سُمِّرت على الصليب، والشبر التي مسحت السماوات هي التي علقت على الخشبة. وذلك خطأ بإجماع عقلاء النصارى؛ لأن الذي عُلق علىالصليب إنما هو الجسد المأخوذ من مريم، وأين كانت هذه الأجساد الإنسانية يوم خُمرت طينة آدم ويوم قُدرت السماوات والأرض؟! هل ذلك إلاّ جهل وضلال وغلوّ في عبادة الرجال؟!. فهذا-رحمك الله-كتاب قد تلاعبت به بنيات الطرق وتزاحكت به [تراجمة] الفرق، وولد من لسان إلى لسان، وعبث به التحريف والتصحيف في كلّ زمان3.

_ 1 قلت: ورد ذلك في سفر التثنية 21/22، كالآتي: "وإذا كان على إنسان خطية حقّها الموت فقتل وعلقته على خشبة فلا تبت جثته على الخشب بل تدفنه في ذلك اليوم؛ لأن المعلق ملعون من الله". ولذلك زعم بولس اليهودي بأن المسيح صلب تكفيراً عن خطيئة آدم وفداء عن البشرية وإثمها الذي تحملته بعد ذلك، لكي يجد بولس مبرراً لصلب المسيح حسب ما توهمه وقد أكّد ذلك في رسائله الأخرى. (ر: رسالته إلى أهل رومية 5/16، /18، ورسالته الثانية إلى أهل كورنثوس 3/7-9) . 2 إن اعتراض المؤلِّف على النصارى بذلك صحيح، إنهم يزعمون بأن رئيس الحواريين بطرس، واندراوس أحد الحواريين قد قتلا صلباً. (انظر: قاموس ص 122، 177) ، فإذا كان كلّ مصلوب ملعوناً فعليهم أن يلعنوا بطرس وهم لا يقولون بذلك. فحينئذٍ يتبيّن فساد ما قاله بولس. 3 إن بيان تناقضات الأناجيل وأسفار العهد الجديد بعضها ببعض وتعارضها مع التوراة وبقية أسفار العهد القديم وذكر ما وقع فيها من التبديل والتحريف يحتاج إلى كتاب ضخم لاستيفاء حقّه من البحث والتوضيح؛ وذلك لكثرة التناقض والتحريف فيهما، ولقد اهتمّ علماء المسلمين بهذا الجانب انطلاقاً من القرآن الكريم الذي صرح بتحريف التوراة والإنجيل وإلزاماً لأهل الكتاب بتحريف كتبهم وفساد دينهم، فلا يخلو كتاب في الرّدّ على اليهود والنصارى من باب أو فصل فيه بيان ذلك. (انظر: الفصل لابن حزم، إفحام اليهود للسموءل المغربي، هداية الحياري لابن القيم، الأجوبة الفاخرة للقرافي، وغير ذلك كثير) . كما أن هناك كتباً ألفت في هذا الموضوع خاصة مثل: كتاب (شفاء العليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل، لأبي المعالي الجويني) ، و (على التوراة للباجي) ، و (الفارق بين المخلوق والخالق، لباجه دي زاده الإشراف على مسائل الخلاف زاده) . وتجدر بنا الإشارة إلى كتاب: (إظهار الحقّ للشيخ رحمة الله الهندي) الذي أثبت وقوع التحريف والأغلاط والاختلاف والتبديل في التوراة والإنجيل بأدلة علمية دامغة، وبأقوال أحبارهم في ذلك مما يجدون معه ردّاً ولا جواب. وذلك في مواضع متعددة تزيد على الثلاثمائة بين الأناجيل ولما هي عليه من الأهمية عند النصارى نردد قول د. موريس بوكاي: "إذن فمن يجب أن نصدق؟! أنصدق متى أم مرقس أم لوقا أو يوحنا؟! ". (ر: دراسة الكتب السماوية ص 93) .

قال المؤلِّف - عفا الله عنه برحمته -: لقد رأيت على حاشية نسخة من نسخ الإنجيل على فصل من فصوله ما مثاله: ليس هذا الفصل في أناجيل القبطي ولا بعض أناجيل الرومي، فاستدللت بذلك على أن علوم القوم تفرقتها أيادي سبأ، وعصفت عليها رياح التبديل فأصارتها كالهباء كما / (1/118/ب) أخبر عن ذلك الكتاب العزيز إذ يقول: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ} 1. أي: يميلون بالأحكام عن مواضعها ويسلكون بها غير سننها ويجرونها سوى مجاريها. والفصل المشار إليه: هو: "أن الكتبة والفريسيين قدموا إلى يسوع امرأة وجدت في زنى فأقاموها في الجمع وقالوا: يا معلم إن هذه المرأة وجدناها تزني وفي ناموس موسى يجب عليها الرجم فما تقول أنت؟ وإنما قالوا ذلك ليجدوا عليه حجّة فأطرق يسوع ينكت الأرض بإصبعه ثم رفع رأسه وقال: من منكم بغير خطيئة فليرجمها أوّلاً بحجر؟ ثم أطرق ثم أطرق ينكت الأرض فلما سمعوا مقالته خرجوا بأسرهم وبقي يسوع وحده والمرأة قائمة فرفع يسوع رأسه إليها وقال: يا امرأة أين أولئك الذين أدانوك؟ قالت: ما أرى منهم أحداً. فقال يسوع: ولا أنا أيضاً أدينك اذهبي الآن ولا تعودي إلى الخطيئة"2.

_ 1 قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكِلِمَ عَن مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِرُوا بِهِ ... } . [سورة المائدة، الآية: 13] . 2 يوحنا 8/1-11.

ألا ترى أنهم كتموا ذلك وغيروا حكمه. ولقد مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهوديين قد زنيا وحمما وطيف بهما فاستدعاهم / (1/119/أ) صلى الله عليه وسلم واستدعى التوراة وأمر بعض أحبارهم بقراءتها فوضع الجريدة على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك أي عدوّ الله، فرفع يده عنها فإذا آية الرجم تلوح فقرأها عبد الله على سول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: "ما حملكم على ذلك؟ ". قالوا: ثقلت علينا فصرنا إذا زنى الشريف منا حممناه وأطفناه، وإذا زنى الضعيف والخامل أقمنا عليه الحدّ. فقال عليه السلام: "أشهد أبي عبد الله ورسوله، ثم أمر بهما فرجما"1. فإن قيل: كيف أسقط المسيح عنها الحدّ والتّوراة والكتاب العزيز شاهدان بوجوب الحدّ على الزاني. قلنا: القوم الذين جاءوا بالمرأة وشهدوا عليها بالزنى كانوا كفاراً فلم يقبل شهادتهم المسيح. والدليل على كفركم قوله: "إنهم جاءوا متعبين له شاكين في نبوته مع ظهور أعلامها". وإنما أتو بالمرأة ليجدوا عليه حجّة كا ذكر الفصل المشار إليه وإذا كانوا / (1/119/ب) إنما أتوا طالبين غرته2 ملتمسين عثرته، وهو نبي الله الكريم عليه، فكيف يقبل شهادتهم، وأما المرأة فلم تقر عنده بالزنى ولم تعترف به، والحدّ لا يثبت إلاّ بحجة معتبرة، وهي إما شهادة جازمة أو إقرار صحيح، والكافر مردود القول3. والله أعلم.

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الحدود باب 37. (ر: فتح الباري 12/166) ، ومسلم 3/1326، 1327. عن عبد الله بن عمر والبراء بن عازب.-رضي الله عنهم-. 2 غَرَّه: خدعه وأطمعه بالباطل. (ر: القاموس ص 577) . 3 إن هذه الاحتمالات التي ذكرها المؤلِّف من باب التّنْزِل في الناظرة والتسليم الجدلي بصحّة النّصّ السابق، وإلاّ فإنّ النّصّ لا يسلم لهم بصحّته لانفراد يوحنا بذكره مع اشتهاره وتوفر الداعي لتواتر نقله، وكذلك ما ذكره المؤلِّف من عدم وجوجد هذا النّصّ في أناجيل أخرى.

الباب الخامس: في أن المسيح عليه السلام وإن قصد وطلب فما قتل وما صلب

الباب الخامس: في أنّ المسيح عليه السلام وإن قُصدَ وطُلبَ فما قُتلَ وما صُلبَ نورد هذا الفصل على نصّه لتقفوا عليه وتعجبوا من هذه النقائص التي نسبها النصارى إلى المسيح مع قولهم بربوبيته واعتقادهم أنه خالق السماء والأرض وجامع الناس ليوم العرض1. قال النصارى: بينما بسوع [جالس] 2 مع تلاميذه ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهوذا الإسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشائخ الشعب وقد قال لهم يهوذا: الرجل الذي أُقبله هو هو فأمسكوه، ثم جاء يهوذا وقال / (1/120/أ) : السلام عليك يا معلم، ثم قبله فقال يسوع: ألهذا جئت يا صاحب؟ فوضعوا أيديهم عليه وربطوه3 فتركه التلاميذ كلهم هربوا فقال يسوع: مثل ما يفعل بالصوص خرجتم إليَّ بالسيف والعصى وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أُعلم

_ 1 إننا نعجب ونستنكر - أيضاً - من تناقض الأناجيل بعضها ببعض في سرد الأحداث التي جرت قبل الصلب وبعده وأحداث قيامة المسيح من الموت - حسب زعمهم - وأمام هذه التناقضات الواضحة - فيما سنرى - لا يسع العاقل إلاّ أن يرفض تلك الروايات المكذوبة المتناقضة ويحكم ببطلانها جميعاً لعدم إمكان تمييز الصادق والكاذب منها. 2 في ص (جالسا) والصواب ما أثبته. 3 إن حادثة القبض على المسيح عليه السلام ترويها الأناجيل بصورة متناقضة مع بعضها، فقد اتّفقت روايتا متى 26/47-50، ومرقس 14/43-46 على أنّ يهوذا الإسخريوطي الخائن قد قبل المسيح حينما جاء بالجند للقبض عليه - وقد كانت القُبلة هي العلامة المتّفق عليها بين يهوذا والجند لتمييز المسيح عن تلاميذه -. أما رواية لوقا 22/47، 48، فتذكر بأنه: "بينما هو - أي: المسيح - يتكلم إذا جمع والذي يدعي يهوذا أحد الاثني عشر يتقدمهم، فدنا من يسوع ليقبله فقال له: يسوع: يا يهوذا. أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟! ... فأخذوه وساقوه". وأما رواية يوحنا 18/1-12، فإنها لا تذكر شيئاً عن تلك القبلة. (ر: نصّ رواية يوحنا في ص 223) . ويظهر تناقض آخر في هذه الحادثة وهو: أن كلاً من متى ومرقس يذكران أنّ تحية وكلاماً قد جرى بين يهوذا والمسيح أثناء القبض، بينما يصمت لوقا عن ذكر تلك التحية، ولا يذكر يوحنا عن يهوذا شيئاً سوى الصمت التام بعد أن قاد الجند إلى مكان المسيح للقبض عليه.

فلم تعرضوا لي1، لكن هذه ساعة سلطان الظلمة2، إلى رئيس الكهنة3 حيث يجتمع الشيوخ4 - وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلاً وجلس ناحيةً منها متنكراً ليرى ما يؤول أمره إليه5 - فالتمس المشائخ على يسوع شهادة ليقتلوه بها فجاء جماعة من شهود الزور، ثم تقدم منهم اثنان فشهدا أن يسوع قال: أنا أقدر أنقض هيكل الله وأبنيه في ثلاثة أيام، فقال له الرئيس: أما تجيب عن نفسك بشيء؟ فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي: أنت المسيح؟ فقال له المسيح: أنت قلت ذلك وأنا أقول لكم إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالساً عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء. فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شقَّ ثيابه وقال: ما

_ 1 متى 26/55، 56، مرقس 14/48-50، لوقا 22-52، 53. 2 انفرد بهذه العبارة لوقا 22/53. 3 رواية متى 26/57، ومرقس 14/53، لوقا 22/54، تفيد أن الجند ذهبوا بالمسيح إلى رئيس الكهنة مباشرة. أما رواية يوحنا 18/12-14، فإنها تذكر أن الجند ذهبوا بالمسيح إلى حنا أوّلاً - وهو حنا قيافا رئيس الكهنة - بدلاً من الذهاب إلى رئيس الكهنة مباشرة كما ذكر الثلاثة الآخرون. 4 تفيد روايات متى 26/57-60، ومرقس 14/53-55، ويوحنا 18/15-20، أن محاكمة المسيح أمام مجمع اليهود كان في الليل عقب القبض عليه مباشرة. أما رواية لوقا 22/54-71 فإنها تفيد أن المحكمة كانت في صباح اليوم التالي لعملية القبض. 5 إن قصّة إنكار بطرس للمسيح بعد القبض عليه من مواضع الخلاف الواضح بين ما ترويه الأناجيل. قارن: رواية متى 26/58-75، ومرقس 13/53-72، ولوقا 22/54-61، ويوحنا 18/16-27. وذلك الخلاف الواضح بين الروايات دفع نينهام - استاذ اللاهوت بجامعة لندن - أن يقول: إنّ قصة إنكار بطرس تثير عدداً من المشاكل ... ويرى بولتمان أنه أسطورية ... ". اهـ. (ر: تفسير إنجيل مرقس ص 401، 409، نقلاً من كتاب: (المسيح في مصادر ص 155، لأحمد عبد الوهّاب) .

حاجتنا إلى شهادة هوذا / (1/120/ب) قد سمعتم تجديفه، ماذا ترون في أمره؟ فقالوا: هذا مستوجب الموت. فحينئذٍ بصقوا في وجهه ولطموه وضربوه وهزؤوا به جدّاً وجعلوا يلطمونه ويقولون له: بيِّن لنا أيّها المسيح من لطمك1، ولما كان من الغد أسلموه لفلاطس القائد فتصايح الشعب بأسره وقال: يصلب يصلب. فتحرج فيلاطس من قتله وقال: أيُّ شيء فعل هذا؟ فقال الشيوخ: دمه عليهم وعلى أولادهمم2، فحينئذٍ ساقه جند القائد إلى الأبروطورون3 واجتمع عليه الشعب ونزعوا ثيابه وألبسوه لباساً أحمر [فضفَّروا] 4 إكيلاً من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبه، ثم جثوا على ركبهم يهزءون به ويقولون: السلام عليك يا ملك اليهود، وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في

_ 1 متى 26/59-68، مرقس 14/55-65، أما رواية لوقا 22/63-71، ويوحنا 18/19-13، فلم تذكر قصة شهود الزور على المسيح. 2 متى 27/1، 2، 11/26، مرقس 15/1-14، يوحنا 18/28-40. أما رواية لوقا 23/1-25، فقد انفردت بأن محاكمة المسيح أمام بيلاطس (والي اليهودية) حدثت على مرحلتين: الأولى: عندما قام جمهورية اليهودية وجاءوا بالمسيح إلى بيلاطس. والثانية: بعد محاكمة أخرى كانت أمام هيرودس - (حاكم الجليل) والتي قد انفرد بذكرها أيضاً لوقا دون سائر الأناجيل. 3 دار الولاية. وكلمة (وال) ترجمة عربية لكلمتين لاتينيتين: (بروقنصل) أو (بروتوكوراتور) . (ر: قاموس الكتاب ص 1040) . 4 في ص (فطفروا) والصواب ما أثبته.

رأسه1، ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه2 إلى موضع يعرف بالجمجمة3 فصلبوه4 وسمَّروا يديه على الخشبة: وسألهم شربة ماء، فأعطوه خلاً مذاباً بمر فذاقه ولم يسغه، فنادى على الخشبة: إلهي إلهي لم خذلتني؟ 5 وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحاً مكتوباً هذا يسوع ملك/ (1/121/أ) اليهود6استهزاءً به، ثم جاءوابلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيراً له7، وكان اليهود يقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خَلص نفسك إن كنت ابن الله كما تقول أنزل عن الصليب. وقال اليهود: هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه؟! أن كان متوكلاً على الله فهو ينجيه مما هو فيه8،

_ 1 رواية متى 27/27-28، ومرقس 15/16-19، ويوحنا 19/1-5، تفيد أن الجنود الذين سخروا من المسيح واضطهدوه هم جنود الوالي بيلاطس. لكن رواية لوقا 23/11، تفيد بأنهم جنود هيرودس وليس جنود بيلاطس. 2 نجد حسب رواية متى 27/32، ومرقس 15/11ت، ولوقا 23/26، أن شخصاً مجهولاً يدعى سمعان القيرواني هو الذي سخره الرومان لحمل الصليب بدلاً من المسيح، لكن يوحنا 19/16، 17، لم يذكر ذلك. 3 الجمجمة: هي مضوع الجلجثة حيث يزعم النصارى أن المسيح صلب هناك. ويقول نينهام: "وبالنسبة لموضع جلجثة فإن التقاليد تقول: إنه يقع داخل كنيسة القبر المقدس، لا يمكن إرجاعها لأبعد من القرن الرابع، كما أنها لا تزال موضع جدل، ولقد اقترحت أماكن أخرى في عصرنا الحاضر، إلاّ أنّ القطع بواحد منها لا يزال بعيداً عن التحقيق". (ر: تفسير إنجيل مرقس ص 422، فاقوس ص 267، 268) . 4 إن هناك اختلافاً واضحاً في تجديد وقت الصلب، حيث يقول مرقس 15/25: "وكانت الساعة الثالثة فصلبوه". ا. هـ. لكن يوحنا 19/14-16، يقول: "إن الصلب حدث بعد الساعة السادسة"‍‍‍!!!. 5 لم ترد هذه العبارة في هذا الموضع بالأناجيل، ولعله وهم من المؤلِّف. 6 متى27/34-37، مرقس15/23-26، لوقا 23/36-38، يوحنا19/19-29. 7 يتّفق متى 27/38، 44، مع مرقس 15/27، 32، في أن اللصين اللذين صلبا مع المسيح كانا يعيرانه. لكن لوقا 23/39-43، يذكر أن أحد اللصين كان يعير المسيح، أما اللص الآخر فكان ينهر اللص الأوّل ويطلب الدعاء من المسيح بأن يكون معه في ملكوته. أما يوحنا 19/18 فلم يذكر شيئاً عن موقف اللصين من المسيح. 8 متى 27/39-43، مرقس 15/29-32، لوقا 23/35-36. أما يوحنا فلم يذكر شيئاً من ذلك. (ر: الإصحاح (16".

ولما كان ست ساعات من نهار الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم فقال: " [ألوى ألوى لما شبقتني] 1 تفسيره (إلهي إلهي لم تركتني؟ "2. فأخذ اليهود أسفنجة فيها خل ورفعها أحدهم إلى قصبة وسقاه وقال آخر منهم: دعوه حتى نرى من يخلصه، فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح3 فأنشق جدار الهيكل وتزلزلت الأرض وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم فدخلوا المدينة المقدسة وظهوراً للناس4، ولما كان المساء جاء رجل من الرامة يسمى يوسف فسأل القائد جسد يسوع فأمر له به فلفه يوسف بلفائفنقيه وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة، ثم جغل على باب القبر حجراً ظيماً5، / (1/121/ب) وجاء مشائخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا: يا سيد ذكرنا أن ذاك الضال كان قد قال لتلاميذه: أنا أقوم بعد ثلاثة أيام، فلو أمرت من يغلق القبر ويحرسه حتى تمضي المدّة كيلا يأتي تلاميذه ويسرقونه ثم يشيعون في الشعب أنه قد قام فتكون الضالة الثاني [شرّاً] 6 من الأولى، فقال لهم القائد: اذهبوا وسدوا عليه وحَرِّسُوا كما تريدون، فمضوا وفعلوا ما أرادوا7،

_ 1 في ص (الوى الوى إيما صاصا) والمثبت من إنجيل مرقس 15/34. 2 هذه العبارة من رواية مرقس 15/34. أما رواية متى 27/46 فهي: "إيلي إيلي لما شبقتني. أي: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ ". بينما لم يذكر لوقا ويوحنا هذه العبارة في إنجيلهما. ويتساءل هنا المؤرِّخ ول ديورانت: "هل يمكن أن يكون الإيمان العظيم الذي أعاد المسيح في موقفه أمام بيلاطس". (ر: يوحنا 18/33-39) . قد انقلب في تلك اللحظات المريرة إلى شكّ أسود؟! ولعل لوقا قد رأى أن هذه العبارة لا تتّفق مع عقائد بولس الدينية فبدّلها بقوله: "يا أبتاه في يديك استودع روحي". وهي عبارة تردد صدى الفقرة الخامسة من المزمور الحادي والثلاثين ترديداً يثير الريب لما فيه من دقة". اهـ. 3 متى 27/47-50، مرقس 15/35-37، لوقا 23/46، يوحنا 19/28-30. 4 إن الأحداث التي وقعت عقب الصلب ترويها الأناجيل بصورة متناقضة يظهر فيها الكذب والخيال الفاضح. انظر: ص 228، لبيان التفصيل في ذلك. 5 متى27/57-60،مرقس 15/42-47، لوقا 23/50-54، يوحنا 19/38-42. 6 في ص (شر) والصواب ما أثبته. 7 انفرد متى 27/62 - عن سائر الأناجيل الأخرى - بما ذكره عن طلب اليهود من بيلاطس أن يرسل حراساً لضبط القبر واستجابته لهم.

وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقها لينظرن إلى القبر1 - وفي إنجيل مرقس - إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس2، وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق، فكاد الحراس يموتون من هيبته، ثم قال للنسوة: لا تخافا قد علمت أنكما جئتما [تطلبان] 3 يسوع المصلوب ليس هو هاهنا إنه قد قام تعالين فانظرن إلى المكان الذي كان فيه الرّبّ واذهبا وقولا لتلاميذه: إنه يسبقكم إلى الجليل، فمضتا وأخبرتا التلاميذ4، ودخل / (1/122/أ) الحرس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر، فقالوا: لا تنطقوا بهذا وأرشوهم بفضة على كتمان القضية فقبلوها منهم وأشاعوا أن تلاميذه جاءوا وسرقوه ومهدت المشائخ عذرهم عند القائد5، ومضت الأحد عشر تلميذاً إلى الجليل6، وقد شكّ بعضهم

_ 1 ذكر ذلك متى في إنجيله 18/1، أما لوقا 24/1، 2، فيذكر أن الزائرات للقبر جمع من النساء، أما يوحنا 20/1، فيجعل مريم المجدلية هي المرأة الوحيدة التي ذهبت ليزارة القبر ثم ذهبت فأحضرت معها بطرس ويوحنا. 2 مرقس 16/1، ويذكر أن الزائرات للقبر كن ثلاث نسوة. 3 في ص (تطلبن) والصواب ما أثبته. 4 ذكر ذلك متى في إنجيله 18/1، أما رواية مرقس 16/5-8، فتذكر أن النساء رأين شاباً جالساً عن اليمين في القبر لابساً حلة بيضاء ... ، وأما رواية لوقا 24/4-9، فتذكر بأن النساء رأين رجلين بثياب براقة، وفي يوحنا 20/11-13، نجد أنهما ملاكين بثياب بيض جالسين - في القبر - واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين. ويعلق فرانك موريسون في كتابه: (من دحرج الحجر؟ ص 182) ، على هذه الرويات بقوله: "إن هذه الروايات - التي نقل عنها كل من متى ولوقا - قد تطورت واختلفت بفعل النسيان، وهكذا فإن الشاب الواحد الذي كان عند المقبرة - والذي كان في الحقيقة شاباً واحداً حسب القصة الأصلية - قد أصبح بمرور الزمن الملاك العظيم في إنجيل متى، والزائرين السماويين بثياب براقة في إنجيل لوقا. وهكذا أيضاً فإن دحرجة الحجر بعيداً (عن القبر) . - قد أصبحت موضوعاً للكثير من الحدس والتخمين، فقال: بعضهم: إن الحجر دحرج نفسه بعيداً، بيمنا قال آخرون: قد دحرجته الملائكة". اهـ. 5 انفرد متى 2/11-15 بذكر ذلك عن سائر الأناجيل الأخرى. 6 يتّفق متى 28/16، 17، مع مرقس 16/7، 14، على أن لقاء المسيح بتلاميذه حدث في الجليل، واختلفا بذلك مع لوقا 24/33-36، ويوحنا 20/19-22، اللذين جعلا مكان اللقاء في أورشليم.

وجاءهم وكلمهم، وقال لهم: اذهبوا فعمدواكلّ الأمم وعلموهم ما أصيكم به وهوذا أنا معكم إلى انقضاء1 الدهر2. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: أوّل ما نفاتح النصارى أن نقول: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواتراً أو آحاداً؟. فإن زعموا أنهم ينقلونه نقل الآحاد لم تقم بذلك حجة ولم يثبت العلم الضروري، إذ الآحاد لا يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض [لهم] 3 ذلك فلا يحتج بهم في القطعيات4.

_ 1 نصّ المؤلِّف مقتبس من إنجيل متى 28/17-20، وأشار إليه مرقس 16/14، 15، ولوقا /36، 24-47. 2 وبعد هذه التعليقات المختصرة ما ذكر في الباب السابق في بيان ما في الأناجيل من التناقضات وخصوصاً في حادثة الصلب المزعومة نخلص إلى النتيجة التي توصل إليه ول ديورانت حيث يقول: "وملاك القول أن ثمة تناقضاً بين بعض الأناجيل والبعض الآخر، وأن فيها نقطاً تاريخية مشكوك في صحتها، وكثيراً من القصص الباعثة على الريبة والشبهة بما يروي عن آلهة الوثنيين، وكثيراً من الحوادث التي يبدو أنها وضعت عن قصد لإثبات وقوع كثير من النبوءات الواردة في العهد القديم، وفقرات كثيرة، ربما كان المقصود منها تقدير أساس تاريخي لعقيدة متأخرة من عقائد الكنيسة أو طقس متأخر من طقوسها ... ، ويبدو أن ما تنقله الأناجيل من أحاديث وخطب قد تعرضت لما تتعرض له ذاكرة الأميين من ضعف وعيوب ولما يرتكبه النساخ من أخطاء أو تصحيح".اهـ. (ر: قصة الحضارة 11/210، بتصرف يسير) . فهذه شهادة عالم من علمائهم واعتراف منه بوقوع التحريف بالزيادة والنقصان في أناجيلهم. 3 إضافة يقتضيها السياق. 4 يعلّق الإمام القرافي على قصة الصلب في الأناجيل بقوله: "فإنه لو وقع الصلب ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا علم بالصلب؛ لأن المتواترات إذ نقلت بأخبار الآحاد سقط اعتبارها في إفادة لاعلم لجواز كذب الناقل فلا يكون عدد التواتر حاصلاً في نفس الأمر". اهـ. (ر: الأجوبة الفاخرة ص 53) . ويقول الإمام ابن القيم في مختصر الصواعق ص 571: "خبر الواحد بحسب الدليل الدال عليه، فتارة يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه، وتارة يظن كذبه إذا كان دليل كذبه ظنياً، وتارة يتوقف فيه فلا يترجح صدقه ولا كذبه إذا لم يقم دليل أحدهما، وتارة يترجح صدقه ولا يجزم به، وتارة بصدقه جزماً لا يبقى معه شك. فليس خبر كلّ واحد يفيد العلم ولا الظن، ولا يجوز أن ينفى عن خبر الواحد مطلقاً أنه يحصل العلم فلا وجه لإقامة الدليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم وإلاّ اجتمع النقيضان". اهـ.

وإن عزوا ذلك إلى التواتر، قلنا لهم: شرط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين

_ وعلى هذا فإن الخبر الوارد في الأناجيل بصلب المسيح لا يثبت له العلم الضروري بل يجزم بكذبه لقيام الأدلة على ذلك منها: أ- أنه بالنسبة لنا - نحن المسلمين - فقد ورد النّصّ الصريح من القرآن الكريم بتكذيب اليهود والنصارى فيما زعموه، فقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} . ب- أنه لا يمكن الوثوق بالمصادر النصرانية لجهالة مؤلفي الزناجيل ومترجميها ثم عدم السند المتّصل لصحة نسبها إلى أصحابها، وقد سبق الحديث عن ذلك. ج- تناقض الأناجيل بعضها ببعض واختلافها لفظاً ومعنىً خاصة فيما يتعلق بأحداث الصلب، وهو ما بينه المؤلِّف في هذا الباب وقد سبق التعليق على بعض ذلك. د- أنه لا يلزم تصديق النصارى في ذلك؛ لأن مرجعهم إلى خبر اليهود الذين دخلوا على المسيح في البيت وادعوا القبض عليه وصلبه، وهم عدد قليل لا يبعد تواطؤهم على الكذب، ولأنهم لم يكونوا على علم بمن قتلوه حتى أكثروا رجلاً يدلهم عليه مع اشتهار أمر المسيح ووضوح دعوته عند الناس. هـ- أنه لم يحضر أحد من كاتبي الأناجيل حادثة الصلب والقتل كما هو ظاهر في الأناجيل، فخبرهم إذاً لم يكن عن أمر محسوس ومشاهد. وأن المسيح عليه السلام يجري على يديه من الآيات وخوارق العادات-التي هي من معجزاته-ما لا يستبعد معه قلب الحقائق فيما يبدو للناظر وإن كان محسوساً. ز- أن قصة صلب المسيح كحادثة وقعت أو كعقيدة تكفيراً عن الخطيئة ليست أمراً مجمعاً عليه عند جمع النصارى، فقد ورد في تاريخ موسهيم المؤرخ البروتستانتي - الذي يدرس في مدارس اللاهوت الإنجلية - أن كثيراً من فرق النصارى كانت ترفض حصول الصلب رفضاً كليّاً؛ لأن البعض منهم كان يعده إهانة لشرف المسيح ونقصاً يلحق به، والبعض الآخر كان يرفض استناداً على الأدلة التاريخية، وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة منها: 1- الساطرينوسيوف 2- والكاربوكراتيون 3- والمركيرنيون 4- والبارديسانيون 5- والتاتبانيسيون 6- والمايتسيون 7- البارسكاليونيون 8- واليولبيسيون 9- والدوسيتية 10- المرسيونية 11- الفلتطائيائية " اهـ. وكذلك طائفة الباسيليديون. (ر: كتاب عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصراينة ص 49، لـ دوارسيوس الفرنسي، نقلاً عن كتاب الفارق بين الخلق والمخلوق، ص 281، لـ عبد الرحمن البغدادي، (باجة ذي زادة) ، المسيح في مصادر العقائد المسيحية ص 273-276، مهندس أحمد عبد الوهّاب". ح- وجود أناجيل أخرى قد أنكرت صلب المسيح عليه السلام، ومنها: (إنجيل برنابا) وفيه نجاة المسيح من كيد اليهود رفعه إلى السماء حيا وأن الصلب والقتل إنما وقع على

به وعلموه ضرورة، فإن / (1/122/ب) اختل شيء من ذلك فلا تواتر، وإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة أكذبتهم نصوص الإنجيل التي بأيديهم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم وعليهم معولكم: "إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة من تلاميذه فلما قبض عليه هربوا بأسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته فقالت: وهذا كان معه، فحلف بطرس أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم فذهب ولم يعد، وأن شاباً تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره في أيديهم وأفلت عرياناً"1. فهؤلاء أصحابه وأتباعه لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة الأناجيل، وأما أعداؤه من اليهود الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر فلم يبلغوا عدد التواتر أصلاً بل كانوا آحاداً وأفراداً، فمن نازع فيما قلناه ونقلناه فهذا الإنجيل

_ يهوذا الإسخريوطي الذي أخذ الرشوة من اليهود ليدلهم على مكان المسيح عليه السلام. (ر: إنجيل برنابا الإصحاح (14) وما بعده إلى نهاية الإنجيل". ط- وردت تنبوءات كثيرة في سفر المزامير بنجاة المسيح عليه السلام من الصلب والقتل منها: مزمور 20/1-6: "ليستجيب لك الرّبّ في يوم الضيق ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه ... الآن عرفت أن الرّبّ مخلص مسيحه ... ". مزمور 4/1، 22: "في يوم الشّرّ ينجيه الرّبّ، الرّبّ يحفظه ويحييه ويغتبط في الأرض ولا يسلمه إلى مرام أعدائه ... ". (للتوسع في تنبوءات المزامير انظر: الدراسة القيمة للمهندس أحمد عبد الوهّاب في كتابه: (المسيح في مصادر ص 207-270) . فآحاد هذه الأدلة كافية في إبطال دعوى النصارى بصلب المسيح وقتله، فكيف بمجموعها؟!!. ولم يبق أمام أصحاب العقول والأفهام من اليهود والنصارى، إلاّ الإيمان بما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة بأن المسيح عليه السلام لم يصلب ولم يقتل بل رفعه الله إلى السماء الدنيا حيّاً بجسده وروحه عليه السلام إلى أن يحين نزوله إلى الأرض - ويكون ذلك من علامات الساعة الكبرى - فيقتل المسيح الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنْزِير ويضع الحرب ويحكم بشريعة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم. (ر: صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 2/256، وصحيح مسلم 1/135، وكتاب التصريح بما تواتر من نزول المسيح للشيخ محمّد أنور شاه الكشيمري، وكتاب عيسى بن مريم آخر الزمان للأمام السيوطي، وفتوى صادرة من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء رقم الفتوى 1621، في 11/7/1397هـ) . 1 متى الإصحاح (26) ، مرقس الإصحاح (14) ، لوقا الإصحاح (22) ، يوحنا الإصحاح (18) .

الذي بأيديهم حكماً فيما بيننا وبينه، وإذا ثبت أن أتباع المسيح لم يحضر منهم أحد، واليهود الذين حضروا عصابة / (1/123/أ) قليلة دون عدد التواتر يجوز عليهم السهو الغلط واعتماد الكذب؛ لم يجب قبول أقوالهم. فلا جرم قُدم تواتر الكتاب العزيز وهو قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] . ومما يزيد الأمر وضوحاً قول الإنجيل: "إن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت مَلَكاً قد نزل من السماء برَجة عظيمة، فدحرج الحجر عن فم القبر وجلس عنده فكان الحراس يموتون من هيبته، وبادروا من فورهم إلى مشائخ اليهود وأعلموهم بالقصّة، فأرشاهم المشائخ بشروة وتقدموا إليهم بستر القصة والإشاعة أن تلاميذ المصلوب سرقوه ومهدوا لهم عذرهم عند القائد"1. وإذا كان الأمر كذلك فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود قد صلبوا شخصاً من أصحاب يسوع وأتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح ليغضوا منه ويحطوا من قدره، حيث جهدوا جهدهم في طلبه فلم يقدروا عليه وأعوزتهم وجوه الحيل في مغالبته كما فعلوا في ستر الآية التي ذكرتهم؟ ‍! وإذا كان أصحابكم الموقنون العدول / (1/123/ب) عندكم لم يحضر منهم أحد البتة واليهود الكفار المدَلِّسون شرذمة قليلة وأكثرهم لم يعرف المسيح، لم يحصل لكم غلبة ظنٍ بقتل المسيح فضلاً عن حصول العلم الضروري.

_ 1 متى 28/1-15.

وها نحن نورد من الحجج المقبولة عندكم ما يقضي بغلطكم في قتل المسيح وصلبه ويحقّق لكم أن المفعول به ذلك سواه هو الشبه الذي نقول به إن شاء الله تعالى. - الحجّة الأولى: لا شكّ ولا خفاء أن كتابكم ينطق في غير موضع: "أن المسيح نشأ بين أظهر اليهود وتردد معهم في مواسمهم وأعيادهم وزاحهم في مجامع قراراتهم يعرفونه ويعرفون أمه وسبطه، وأنه حين بهر في علم التوراة والنبوات كان يعلم عندهم في الهيكل بأورشليم ويناظر أحبارهم فيبهتهم بحسن التعليم فيقولون: أليس هذا ابن يوسف؟! أليس أمه مريم؟! أليس أخواته عندنا؟! فمن أين له هذه الحكمة؟! "1. وإذا كان اليهود عارفين بعينه واسمه، ونسبه، فما حاجتهم إلى أن أكتروا رجلاً من تلاميذه بالأجرة حتى عرَّفهم / (1/124/أ) بشخصه لولا وقوع الشبه الذي نقول به. - الحجّة الثانية: على أن المفعول به ذلك غير المسيح وأنه كان قد شبه لهم قوله نقلة الإنجيل: "إن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله الحيّ: أأنت المسيح ابن الله الحيّ؟! فقال له: أنت قلت"2. ولم يجبه بأنه هو المسيح فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له: نعم ولم يستجز أن يُوري في الجواب وهو يحلف بالله الحيّ، وهذا دليل على أنه غير المسيح، ثم المسيح إنما جاء لبثّ الحقّ ونشر الصّدق فكيف تجشَّم لشيء ثم يكتمه؟!

_ 1 متى الإصحاح (4) ، مرقس لإصحاح (1) ،لوقا لإصحاح (2) ، يوحن الإصحاح (2) . 2 متى 26/63.

فإن قال النصارى: هذا أيضاً لنا إذ لو كان غيره لم يخف ذلك ولبينه وقال: لست المسيح بل أنا رجل سواه. قلنا: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الشبه قد أدركته دهشة منعته من البيان والإفصاح عن حاله كما يجري للبشر، وهذا لا بُعد فيه أن يأخذ الله على لسانه ويسد عنه مادة الكلام صوناً لنبيّه المسيح أن يفصح الرجل عن أمره. والوجه الثاني: أن يكون الشبه لِصديقيّته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه المسيح رغبة منه في / (1/124/ب) الشهادة فلهذا ورى في الجواب وجمجم في القول، ويؤيد هذا الوجه قول التلاميذ للمسيح أيام الخوف من إيقاع اليهود به: "بأنه لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا"1. والشبه كان من جملة التلاميذ فلهذا وفَّى بما وعد من نفسه وهذا شيء لم تزل تفعله أصحاب الأنبياء في الحروب وغيرها [أن] 2 يقوا بأنفسهم أنبيائهم فينالون بذلك الثناء في الدنيا والثواب في العقبى. فقد وضح أن المجيب لرئيس الكهنة غير المسيح إذ لو كان المسيح لم ينكر ولم يُورِّ. - الحجّة الثالث: على حماية الله المسيح عليه السلام وأن المصلوب غيره. قال لوقا: "صعد يسوع إلى جبل الجلي ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا فبينا هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه، وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق، وإذا

_ 1 مرقس 14/27-31، وذكره المؤلِّف بالمعنى. 2 إضفاة يقتضيها السياق، ولعلها سقطت من الناسخ. والله أعلم.

موسى بن عمران وإلياء قد ظهرا له، وجاءت سحابة فأظلتهم، فأما الذين كانوا مع يسوع فوقع عليهم النوم فناموا"1 قلت: هذا من أوضح الدلالة على رفع المسيح وحصول الشبه الذي نقول به؛ لأن تغيُّر صورة المسيح وتبدل لون ثيابه عما كانت عليه / (1/125/أ) وظهور موسى النبيّ عليه السلام وإلياء عليه السلام ومجيء السحاب يظللهم ووقوع النوم على التلاميذ من أقوى ما يتمسك به في حماية المسيح ووقوع شبهه على آخر سواه، فلا معنى لظهور هذين النّبيّين له ووقوع النوم على أصحابه إلاّ رفعه عليه السلام. مما يؤيّده قول الإنجيل: "إن اليهود حين رفعوا المصلوب على الخشبة قالوا: دعه حتى نرى إن كان إلياء يأتي فيخلصه"2. وهم يظنون أن المصلوب هو المسيح، وقد كان المسيح يقول لأصحابه: إن إلياء سيأتي. والدليل على غلط النصارى: قول فولس الرسول في صدر رسائله زاريا عليهم: "أنهم لم يعرفوا الله تعالى، لكن أظلمت قلوبهم التي لا تفقه، فجهلوا واستدلوا بالله الذي لا يناله فساد شبه صورة الإنسان الفاسد؛ فلذلك أهملهم الله وتركهم وشهوات قلوبهم النجسة، فبدلوا حقّ الله بالكذب، وعبدوا الخلائق وآثروها على خالقها الذي له التسابيح والبركات، فلذلك وكلّهم الله إلى أولاد الفاضحة"3. فهذا فولس كأنما ألهم ما سيفتريه متأخرو النصارى/ (1/125/ب) إلهاماً، فنطق بذلك ردّاً عليهم وإزراء بعقولهم وتصريحاً بكفرهم وضلالهم.

_ 1 متى 17/1-8، مرقس 9/2-8، لوقا 9/28-36. 2 مرقس 15/36. 3 رسالة بولس إلى رومية 1/21-26، بألفاظ متقاربة.

- الحجّة الرّابعة: على حماية المسيح مما نسب إليه، قول الأناجيل: "إن المأخوذ كان قد [غُيِّرَتْ] 1 صورته وشوهت هيئته، وسيق ذليلاً وتوج من الشوك إكليلاً، وألبس أرجواناً وأبلس هوناً، وجذب وسحب وشقي وسجن ولدم وضرب، وحمل خشبته التي عليها صلب وأعنف به في سحبه، فكُرّب وما ركب". قال يوحنا: "أُخذ في ليلة باردة من بستان بوادي الأرز، كان يخلو فيه مع تلاميذه"2. فاجتمع في القصة ما يصحح الغلط ويرجع في النقل اللغلط، وهو أن المصلوب أخذ في حندس3 ليل مظلم على حين فترة، فلم يصل به الشرط حتى طمست صور محاسنه لَدْماً وضرباً ونسخت سور حلاه جذباً وسحباً، فكان جميع ما جرى إنما هو على الشبه، ومع احتواش القصة بهذه الشبه لا يجزم بأنه المسيح. فالذي نقله لوقا فيه أعظم الدلالة على إلقاء الشبه، ثم ظهور موسى وإلياء ووقوع النوم / (1/126/أ) على القوم دليل واضح على رفع المسيح إلى السماء وصونه عن أيدي الأعداء. - الحجّة الخامسة على ما قلناه: قال يوحنا التلميذ: "كان يسوع مع تلاميذه بالبستان، فجاء اليهود في طلبه، فخرج إليهم يسوع وقال لهم: من تريدون؟ قالوا: يسوع، وقد خفي شخصه

_ 1 في ص (غرر) والتصويب من المحقِّق. والله أعلم. 2 يوحنا 18/1. 3 الحندس: الليل المظلم والظلمة، جممه: حنادس. (ر: القاموس ص 695) .

عنهم، فقال: أنا يسوع، وفعل ذلك مرتين، وهم قد أنكروا صورته"1. وذلك دليل على الشبه ورفع المسيح؛ إذ أنكروا صورته وهو الناشئ بينهم والمربي في جماعتهم. - الحجّة السادسة: قول لوقا في إنجيله: "إن المسيح بعد قيامه صحب رجلين من أورشليم، وهما يطلبان قرية يقال لها: عمواس، فتبعهما وماشاهما، وكانت عيونهما ممسوكة عن معرفته فلما كلمهما عرفاه بعد ذلك"2. وقد حكى بعض النصارى أن المسيح قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة، وذلك كلّه يشهد بصحة ما قلناه، وإذ التبس أمره على خواص أصحابه وتلاميذه حتى أنكروا هيئته وصورته وثيابه فما ظنك بغيرهم؟! وقال لوقا أيضاً: "بينا التلاميذ / (1/126/ب) في غرفة لهم إذ وقف المسيح في وسطهم بعد قيامه، والتمس منهم شيئاً يأكله فأطعموه جزءاً من حوت، وشيئاً من شهد العسل"3. وذلك كلّه يشهد بما قلناه حمايته في وصونه من أعدائه وإلقاء الشبه على غيره.

_ 1 ورد النّصّ في إنجيل يوحنا 18/1-1 كالآتي: "فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيين، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع النصاري، قال لهم يسوع: أنا هو، وكان يهوذا مُسَلِّمُه أيضاً واقفاً معهم فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض، فسألهم أيضاً: من تطلبون؟ فقالوا: يسوع النصاري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو. فإن كنتم تطلبوني فدعوا هؤلاء يذهبون ... ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه". إن رواية يوحنا تعطينا صورة مختلفة تماماً عما روته الأناجيل الثلاثة عن حادثة القبض على المسيح وملابساتها، وقد سبق بيان ذلك. 2 لوقا 24/13-31، في سياق طويل، وقد ذكره المؤلِّف مختصراً. إن رواية لوقا لهذه الحادثة في إنجيله تفيد أن هذين التلميذين هما أوّل من رأى المسيح بعد قيامته من الموت - حسب زعمهم - وهي رواية تخالف ما ورد في أناجيل متى 28/9-17، ومرقس 16/9-14، ويوحنا 20-13-26، 21/1-14،ـ وفيها: "أن أوّل من رأى المسيح بعد قيامه هي مريم المجدلية التي لم تعرفه". 3 لوقا 22/36-43.

- الحجّة السابعة: قال يوحنا: "وقف المسيح على تلاميذه وهم يصيدون السمك، فقال: يا فتيان هل عندكم من طعام؟ فلم يعرفوه. فقالوا: لا. فقال: ألقوا الشبكة من الجانب الأيمن. ففعلوا. فرفعت سمكاً كثيراً فحينئذٍ عرفوه. وقالوا: هو المسيح. وكان أحدهم عرياناً، فأخذ مئزره حين عرف أنه المسيح"1. [فهؤلاء] 2 التلاميذ وخواص أصحاب المسيح يشهدون بما صرنا إليه من تغيير شبه المسيح عليهم وتصديق قول من يقول منهم: إن المسيح كان قد أعطي قوة التحول من هيئة الصبوة إلى هيئة الكهولة والشيوخية وغير ذلك. وإلاّ فكيف يخفي وجهه عن مثل الاثني عشر من أصحابه وتلاميذه ويستبعد ذلك من اليهود؟ - الحجّة الثّامنة: إن القول بقتل المسيح يؤدّي إلى تكذيب الميسح، وما أدى إلى تكذيبه فهو باطل، وبيانه هو أن المسيح عليه السلام / (1/127/أ) قد بَشَّر في إنجيله بمحمّد صلى الله عليه وسلم وقال: إنه النّبيّ الصّادق الآتي بعده؛ ومحمّد جاء وأخبر بأن المسيح ما قُتل وما صُلب، فالقول بقتل المسيح يفضي إلى تكذيب من صدَّقه المسيح، فكان تكذيباً للمسيح، وسنبيّن بشرى المسيح وموسى وغيره من الأنبياء بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الباب الأخير من هذا الكتاب.

_ 1 يوحنا 21/1-7، في سياق طويل. 2 في ص (فهذه) والتصويب من المحقِّق.

- الحجّة التّاسعة: لو قد صحّ قتل المسيح وصلبه لبطلت الدلالة على وجود الباري تعالى، وبيانه: هو أن في ذلك إبطال بشائر الأنبياء عليهم السلام بمحمّد صلى الله عليه وسلم، وإظهار كذبهم فيما شهدوا به من النبوة والرسالة وصدق المقالة وذلك يَعْكُر على نبواتهم بالإفساد، إذ أخلفت أقوالهم، ولم تَصْدق أخبارهم، وذلك يخرم الثقة بجميع ما أخبروا به من حدث العالم ووجود الصانع تعالى، وما أدى إلى ذلك فهو مردود من أصله. - الحجّة العاشرة: قال لوقا: "لما كان في الشهر السادس من حمل اليصابات زوجة زكريا بيحيى ابنها جاء جبريل إلى مريم العذراء بالناصرة من أرض الجليل، وهي / (1/127/ب) إذ ذاك خطيبة لرجل من نسل داود يقال له: يوسف. فقال لها جبريل: أبشري يا ممتلئة بنعمة الرّبّ، مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه، فقال لها جبرئيل: لا تخافي يا مريم فقد [ظفرت] 1 بنعمة من عند الله وأنت تقبلين حبلاً بولد يدعى يسوع، يكون عظيماً وابن [العلي] 2 يُدعى، يعطيه الرّبّ كرسي أبيه داود. ويملك على بيت يعقوب. فقالت مريم: أتاني ذلك ولم أعرف رجلاً. فقال جبريل: روح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، وهذه اليصابات نسيبتك حبلى بابن على كبر سنها لأنه ليس عند الله أمر عسير. فقالت مريم: أنا ذا عبدة الرّبّ فليكن ما قلت"3.

_ 1 في ص (ظفرتي) والصواب ما أثبته. 2 في ص (العلاء) والصواب ما أثبته. 3 لوقا 1/26-38.

ورد ذلك من الله على مريم مَوْرد الامتنان والإنعام وهو أن يجلس ولدها في دست1 داود ويُمَلِّكه رقاب اليهود، فالقول بأن المسيح هلك وما ملك يقضي بالسخرية من البتول، أو البداء من المرسِل2، أو الكذب من الرسول، والكلّ محال، فالقول بقتل المسيح وصلبه محال. فهذه عشر حجج كلّها تقضي بالثّلب على مدّعي الصلب، ومما يدلّكم على فساد دعوى القتل والصلب ما اشتمل عليه الفصل / (1/128/أ) من الاضطراب وقبيح الألفاظ كقوله لرئيس الكنة: "إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالساً عن يمين القوّة وآتياً في سحاب السماء"3، يريد بالقوّة: الله تعالى. وكقوله: "إن ناساً من القيام هاهنا لا يذوقون الموت حتّى يرون ابن الإنسان آتياً في ملكوته"4. وكقول الملك للنسوة: "تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرّبّ في القبر"5. ما أخلق هذه المواضع أن يكون بعض مجان اليهود قد أدرجها في كتاب النصارى ليضحك منهم الناس. أسمعتم يا معشر النوكى بربٍّ في قبرٍ، وإلهٍ في لحدٍ؟! أيُّ جَدَثٍ وسعه؟! أيُّ كفنٍ واراه؟! أيُّ نعشٍ حمله؟! هل نجا من ضغطة القبر؟! هل لُقِّن حجته عند السؤال؟! هل ثبت جأشه عند طلعة الملك؟!

_ 1 الدست: صدر البيت، والمقصود هنا ملك داود. (ر: القاموس ص 194) . 2 بدا له في الأمر بَدْواً وبداءاً وبداةً: نشأ له فيه رأي، وهو ذو بدوات. (كما في القاموس ص 1629) . ومعنى: (أو البداء من المرسِل" أي: البداء من الله - تعالى وتنَزَّه عن ذلك علوّاً كبييراً. 3 مرقس 14/61، 62. 4 متى 16/28، مرقس 9/1، لوقا 9/27. 5 متى 28/6.

أُفٍّ لترابٍ تغَشَّى وجه هذا الإله، وتبّاً لكفن ستر محاسنه، وسحقاً لجذع انتصب تحته صلب عليه، عجباً للسماء كيف لم تَبِدْ وهو سامكها وللأرض كيف مل تَمِدْ وهو ماسكها، وللبحار كيف لم تَغِض وهو مجريها، وللجبال كيف لم تَسِر وهو / (1/128/ب) مرسيها، وللحيوان كيف لم يصعق وهو مشبعه، وللكون كيف لم يمحق وهو مخترعه؟! وأنَّى استقام الوجود والرّبّ في اللحود، وثبت العالم على نظام والإله في الرحام؟! لقد لبس الكون ثوباً من القحة صفيقاً، واستمر على البقاء وكان بالفناء خليقاً - فإنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة بهذا الرّبّ والرّزية بهذا الإله، لقد ثكلته أمه التي خلقها وصوَّرها وعدمته الدنيا التي أبدعها وفطرها، فليت شعري هل قُسم ميرائه وعمل مأتمه؟ وهل أخذ بثأره أو سُلم مسلمه؟! هذا وأيبكـ1 الخذلان والتلاعب بالأديان. وفي الفصل موضعان آخران يشعران بأن المصلوب رجل غير المسيح: أحدهما: شكواه العطش، فإنا نعلم أن الإنجيل مصرّح: "بأنّ المسيح كان يطوي أربعين يوماً أو أربعين ليلة"2. ويقول لتلاميذه: "إن لي طعاماً لستم تعرفونه"3. ومن صبر عن الماء والطعام ثمانين [يوماً] 4 وليلة لا يجزع من فراقه ساعة واحدة. وبذلك يتحقق أن العطشان غيره والمستسقي سواه. والموضع الآخر: / (1/129/أ) قوله: "إلهي وإلهي لِمَ تركتني وخذلتني؟ "، (لِمَ) كما يُعلم كلمة تنافي الرضى بمر القضاء، وتناقض التسليم لأحكام الحكيم ويجل عن ذلك رتبة الصالحين فضلاً عن أكابر المرسلين. فهذا وما شاكله من كلام المصلوب يوضح ما قلناه في الشبه، فإن أبى النصارى إلاّ أن يكون قائل هذا هو المسيح، قلنا لهم: ألم تزعموا أن المسيح تعنَّى

_ 1 هكذا في ص. 2 متى 4/2. 3 يوحنا 4/32. 4 في ص (يوم) والتصويب من المحقِّق.

ونزل ليؤثر العالم بنفسه ويُخلِّصه من الشيطان ورجسه؟! أفتقولون إنه تبرّم بالإيثار واستقال العِثار؟ 1. آلم ترووا لنا عن التوراة أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون كانوا حين احتضروا مستبشرين بلقاء ربّهم فرحين بانقلابهم إلى شعبهم، لم يجزعوا من الموت ولا هابوه ولا استَوبلَوا2 مذاقه ولا أعابوه، هذا وهم عبيد. والمسيح بزعمكم ولدٌ وربٌّ، أفكان وثوقهم بالله فوق وثوقه، أم حظ المسيح عند الأب دون حظ رقيقه؟! وأما قولهم في الفصل: "إن يسوع صرخ وأمال رأسه وأسلم روحه"، فمناسب لكلام/ (1/129/ب) المجانين، وإلاّ فكيف يتولى الميت في حال النزع تسليم روحه مع شدّة الأمر وعظم الخطب واشتغال البال في ذلك الوقت عن التسليم والتسلم؟! وإن امرءاً تجذب روحه من تحت كلّ شعره من جسده وقد أوثق كتاف ذبيحه، وبر بصره، وانحل عقد تماسكه، واستولت عليه الآلام، ورشقته من جميع جهاته سهام الحمام لغير مختار في تسليم روحه، والعجب من تجاسر هذا الحاكي على قول ما يقطع بكذبه فيه، وذلك أن تسليم روحه غير مشاهد بالعيان فيقع عليه بصر إنسان. أين قول النصارى في شريعة إيمانهم: "نؤمن بالرّبّ الواحد يسوع المسيح الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء، وليس بمصنوع الذي نزل من السماء لخلاص معشر الناس؟!!. وكيف يصحّ لهم هذه الدعوى والمصلوب ينادي بحضرة اليهود: "إلهي إلهي كيف تركتني وخذلتني؟!! ".

_ 1 العثار: الشّرّ. (ر: القاموس ص 560) . 2 استوبل الأرض: إذا لم توافقه وإن كان محبّاً لها. (ر: القاموس ص 1378) .

وكيف يكون خالق السماوات والأرض مقروناً باللصوص مصلوباً على الخشب له إله يدعوه ويسأله أن لا يتركه ولا يخذله؟!!. فإن كانت / (1/130أ) الأمانة صادقة فالإله الأزلي قد بكى واستغاث وسأل شربة من الماء وقُرِن بالذُّعار وعلُق على الخشب وسمرت يداه بالمسامير، وإن كان الإله الرّبّ الأزلي، يتعالى عن هذه النقائص يتقدس عن أن تناله هذه الرذائل، فالأمانة باطلة، وأقوال مَن عقدها لهم فاجرة، وآراؤهم غاشَّة، وسنأتي على أمانتهم إذا انتهينا إليها، ونوضح فسادها وغشّ من ألفها وسوء رأيه في دين النصرانية إن شاء الله تعالى. وأما قولهم في الفصل: "إنه حين مات يسوع على الصليب انشقّ حجاب الهيكل، وتزلزت الأرض كلّها، وتشققت الصخور، وتفتحت القبور، وقام القديسيون من قبورهم ودخلوا المدينة حتّى رآهم الناس"

_ 1. "وأظلمت 1 هذه رواية متى في إنجيله 27/51-54، ويعلّق عليها نورتن - المحامي عن الإنجيل - فيقول: "هذه الحكاية كاذبة، والغالب أن أمثال هذه الحكايات كانت رائجة في اليهود بعدما صارت أورشليم خراباً، فلعل أحداً كتب في حاشية النسخة العبرانية لإنجيل متى، وأدخلها الكُتاب في المتن، وهذا المتن وقع في يد المترجم فترجمها على حسبه". اهـ. ويدل على كذبها الأوجه الآتية: - الأوّل: إن متى ذكر بعد ذلك 27/62-66: "إن اليهود ذهبوا إلى بيلاطس في اليوم الثاني من الصلب قائلين: يا سيد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حيّ: إني بعد ثلاثة أيام أقوم، فمُرْ بضبط القبر إلى اليوم الثالث ... ". كما قد صرّح متّى في نفس الإصحاح أن بيلاطس وامرأته كانا غير راضيين بقتله، فلو ظهرت هذه الحوادث العجيبة لما استطاع اليهود أن يتجرؤوا بالذهاب إلى بيلاطس ويقولوا بأن المسيح كان مضلاً ويطلبوا منه إقامة الحرس على قبره، لاسيما وأن بيلاطس كان غير راضٍ عن قتله منذ البداية، فإذا رأى هذه الحوادث فإنه لا بدّ أن يكذّب اليهود وينقلب عليهم، وكذلك غيره من الناس. - الثاني: إن هذه الحوادث من الآيات العظيمة التي لو ظهرت لآمن كثير من الروم واليهود على ما جرت به العادة، ألا ترى أنه لما نزل روح القدس على الحواريين - كما يزعم النصارى - وتكلموا بألسنة مختلفة تعجب الناس، وآمن نحو ثلاثة آلاف رجل كما جاء في سفر أعمال الرسل الإصحاح الثاني؟! - الثالث: إن قيام كثيرين من أجساد القديسين مناقض لكلام بولس، الذي صرح بأن المسيح عليه السلام أوّل القائمين وباكورة الراقدين. (ر: رسالة بولس إلى كورنثوس 15/20، 22، 23، وفي رسالته إلى كولوسي 1/18) ، ر: إظهار الحقّ ص 158، 159، للشيخ رحمة الله الهندي، بتصرف يسير.

الشمس وحال لون القمر"1. فذلك كذب ومحال وبهت لا يخفى بحال؛ لأنه لو كان صحيحاً لأطبق الناس على نقله ولم يبق إخفاء مثله، ولزال الشّكّ عن تلك الجموع في أمر يسوع، فحيث داموا على الحجّة له والتّكذيب عنه دلّ ذلك على كذب هذا النّقل. ومما يوضح ما قلناه / (1/130/ب) أن الأناجيل تشهد في تمام هذا الفصل "أن جماعة من أصحاب يسوع شكوا فيه بعد ذلك فرجعوا عن رأيهم الأوّل"2. وذلك يكذب قول من قال: "إن العالم تشوش لمصرع يسوع"3. فإن قيل: إنما لم يشتهر ذلك لأن أصحاب يسوع لم يحضر منهم أحد خوفاً من اليهود، واليهود الذين شاهدوا هذه الآيات تواطؤا على كتمانها بغياً وحسداً. قلنا: هذه الآيات إذا وقعت عَمَّ عِلْمُها من حضر ومن غاب من الأعداء والأحباب لأنها آيات نهارية، فما بال الهنود والسند والصين والسودان والفرس والترك وسائر الطوائف الذين لم يتعصبوا للأديان ولا انحازوا الملة وشريعة لم ينقلوا هذه الآيات ويلهجوا بها خلفاً عن سلف حقباً بعد حقب؟!!.

_ 1 هذه رواية لوقا في إنجيله 23/44، 45، ونصّها كالآتي: "فكانت ظلمة على الأرض كلّها إلى الساعة التاسعة وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه ... ". ويعلّق على ذلك د. كيرد في كتابه: (تفسير إنجيل لوقا ص 253) بقوله: "إن حدوث كسوف للشمس بينما يكون القمر بدراً - كما كان وقت الصلب - إنما هو ظاهرة فلكية مستحيلة الحدوث ... ولقد كان الشائع قديماً أن الأحداث الكبيرة المفجعة يصحبها نذير سوء، وكأن الطبيعة تواسي الإنسان بسبب تعاسته". اهـ. (نقلاً من المسيح في مصادر ص 174، لأحمد عبد الوهّاب) . 2 ورد في سياق طويل في إنجيل لوقا الإصحاح (24) ، ويوحنا الإصحاح (20) ، وقد ذكره المؤلِّف مختصراً بالمعنى.. 3 إن روايات الأناجيل متناقضة في سرد الأحداث التي أعقبت الصلب، مما يؤكّد عدم الثقة في روايتها، فإن متّى قد انفرد بذكر الأمور العجيبة كتزلزل الأرض وتشقق ... الخ. ومرقس 15/38، يقول: "وانشق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل ... ". ولوقا 23/44، زاد على ما ذكره مرقس بكسوف الشمس. وأما يوحنا فإنه لا يعلم عن كلّ ذلك شيئاً. (ر: الإصحاح 19) . وهذا من أعجب العجب!!!.

وقد نقل المؤخرون في صحفهم أموراً هي أنزر وأقل خطراً من هذا الأمر الذي يَدَّعي النصارى أنه طبَّق العالم الأعلى والأسفل، فلما رأينا هذه الأمم الخالية عن الأهواء والتعصب للشرائع والتزام الأحكام علىكثرتها لم تنقل مما حكاه1 النصارى حرفاً واحداً علمنا بالضرورة أن ذلك اخترعه كذبة النصارى ليخدعوا به ضعفائهم،/ (1/131/أ) وسنأتي على قطعة من ذكر حيل القسيسين ومخاريق الرهبان عند وصولنا إلى بابه، فيتوسلون بهذه المخارق إلى جلب الحطام وجذب الدنيا الدّنية بالخطام، والحقّ مستغن عن أن يقوى بهذه الترهات. وأما قولهم في الفصل: "إن يسوع جاء التلاميذ الأحد عشر بالجليل، وأوصاهم أن يعمدوا الناس، وأنه يكون معهم إلى انقضاء الدّهر"2. فأقول: انطفأ السراج على التلميذ الثاني عشر، وهو المشهود له في الإنجيل بولاية حساب بني إسرائيل، وبقي كرسيه شاغراً ودسته في القيامة غامراً، وصار أحد الأسباط في القيامة ليس له من يدينه، فاستراح من العتاب وسوء الحساب. قال المؤلِّف: قلت لنصراني من عقلائهم: "قال يسوع لتلاميذه الاثني عشر وفيهم يهوذا الأسخريوطي الذي أسلمه للقتل والصلب: أتم ستجلسون يوم القيامة على اثني عشر كرسياً تدينون اثني عشر سبط إسرائيل"3. وذلك شهادة لكل بالزعامة في4 القيامة، فكيف صنع أصحابكم في يهوذا وسبطه؟ فإن المسيح يقول: "الويل لمن يُسلم ابن الإنسان كان [خيراً له ألا / (1/131/ب) يولد] 5".

_ 1 في ص زاد: (حكاه) . 2 متى 28/16-20. 3 متى 19/27، 28. 4 في ص زاد: (في) . 5 في ص (الخيرة له ألا بولد) والتصويب من النصّ في إنجيل متى 14/21،لوقا 22/22.

فقال: قد عوَّضوه برجل غيره ونصبناه بدلاً منه لتتم العدة1. قلت: فليس هذا المُعوَّض هو المخاطب بوعد المسيح بل غيره فقد أخلف قوله: "إن كرسيه لا يجلس عليه غيره، ولا يدين سبطه سواه". فأبلس العلج2، ولم يحر جواباً. وأما حكايتهم عنه: "أنه معهم إلى انقضاء الدهر"، فإنه نسألهم فنقول: هل تقولون إن هذا الكلام محمول على ظهره أو محمول على معناه دون ظاهر؟ فإن زعموا أنه محمول على الظاهر لزم منه أن يكون التلاميذ الأحد عشر الآن في قيد الحياة، وسِيَرُهم تُكَذِّب ذلك، إذ يقول إنّ القوم اخترموا موتاً وقتلاً. وإن قالوا: إن ذلك محمول على المعنى دون الظاهر وهو أن الآن مع كلّ جاثليق وأسقف ومطران وقس وراهب3 منهم، قيل: أهو معهم بذاته أم بعلمه؟! فإن زعموا أن المسيح معهم بذاته أكذبتهم شواهد العقول وشواهد

_ 1 يزعم النصارى أن الحواريين قد اجتمعوا - بعد صعود المسيح - برئاسة بطرس بعد الصلاة وبمشورة الروح القدس؛ ليختاروا بالقرعة بديلاً عن يهوذا الأسخريوطي من تلاميذ المسيح، فوقعت القرعة على: "متياس". (انظر: سفر أعمال الرسل الإصحاح الأوّل) ولا يعلمون شيئاً عن حياته وخدمته. (ر: قاموس ص 836) . 2 العِلْجِ: الرجل من كفار العجم، ج علوج وأعلاج. (ر: القاموس ص 254) . 3 إن النصرانية المحرفة من الديانات الكهنوتية التي تعتد في قامة طقوسها على الكهنة أو ما يسمى بـ: (رجال الدين) ، ومما يدلّ على اختراع النصارى للكنيسة - ومعناها (مجمع) وهي مأخوذة من كلمة: (اكليزيا) اليوناينة - وللرتب الكنسية وتأثرهم في ذلك بالثقافات الوثنية ما ذكره البروفيسور شارل جنيبر في كتابه: (المسيحية نشأتها وتطوّرها ص 130، 131، 135) ، حيث يقول: "إن المسيح لم ينشئ الكنيسة ولم يردها، ولعلّ هذه القضية أكثر الأمور المحققة ثبوتاً لدى أي باحث يدرس النصوص الإنجيلية من غير ما تحيز ... كما أن المسيح لم يصنع من الحواريين قساوسة، حيث لم يكن في حاجة إلى ذلك، وبدراسة ما قام به الحواريون فإننا لا نجد أنهم فكّروا في إنشاء الكنيسة، إذ ظلوا على إخلاصهم للدين اليهودي، وداوموا بكل دقّة على شعائره - ثم يقول -: ومن المرجح أن تأثير الجماعات الوثنية وتأثير النظم اليهودية وقعا عليهم (النصارى) في آنٍ واحدٍ، مع ترجيح اتّجاه على الآخر حسب ظروف الزمان والمكان، وقد فرضت الضرورات أنواع الوظائف، وسمى الموظفون بأسماء أخذت عن اللغة الشائعة مثل: (بريسبيتيروس) أي: شيخ، و (ايبسكوبوس) ، أي: مشرف، و (دياكونوس) ، أي: خادم، وقد تطورت معاني هذه الكلمات فيما بعد إلى: قسّ، أسقف، وشماس". أهـ. بتصرف يسير. وهناك اختلاف في هذه الرتب بين الكنائس، فالكنيسة الكاثوليكية تتبع النظام البابوي ويرأسه الباب والكرادلة، وهم أصحاب الحقّ في تنظيم الكنيسة، وتنقسم الكنيسة إلى أبروشيات على رأس كلّ منها مطران، وفي كلّ أبروشية عدة كنائس يديرها الكهنة. أما الكنيسة الأرثوذكسية (ومنها: الكنيسة القبطية) فإنها تتبع نظام الإكليروس ويبدأ من البطريرك ثم المطارنة، ثم الجثالقة، ثم الأساقفة، ثم القسس الممتازون ويسمون (القماصة) ، ثم القسس العاديون ويسمون (القساوسة) - وهؤلاء جميعاً أصحاب الرأي في تنظيم الكنيسة - ثم الشماس (دياكون) ، ثم معين الشماس (ايبودياكون) ، ثم القارئ (الأغنسطس) ، ثم المرتل (الأبصلتس) ، ولكلّ منهم وظيفة محدَّدة في الكنيسة. (ر: أسرار الكنيسة السبعة ص 186، وما بعدها - حبيب جرجس، الوسائل العملية للإصلاحات القبطية ص 128، 129، حبيب جرجس، المسيحية ص 238-240، د. أحمد شلبي) .

الإنجيل، أما شواهد العقول: فإن العقل فاضٍ بأن الشخص الواحد لا يكون حالاً في عدّة مواضع في حالة واحدة، بل إن شغل مكاناً فرغ من الآخر لا محالة. وأما شواهد الإنجيل: فإنها / (1/132/أ) مصرحة بأن المسيح كان إن حلّ بالناصرة فارق أورشليم، وإن حلّ بأورشليم فارق الناصرة، ولم يتحدّد له ما يرفع هذا الحكم. فإن قالوا: لم يرد المعية بذاته بل بعلمه كقول الكتاب العزيز: {وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَمَا كُنْتُم} 1. قلنا: فاسلكوا التأويل في جميع ظواهر الإنجيل ترشدوا. فلو ألهم النصارى رشدهم لمحوا هذا الفصل من الإنجيل ودرسوا2 خبره، وعفوا أثره، وأدبوا من ينطق به، فإن اللافظ به إنما يُعَرض سبّ إلههم والتنقص من معبدوهم، وإنه فصل وخيم، والعار عليهم في نشره عظيم، إذ مضمونه أن اليهود الملاعين والعبيد المدبرين عدوا على إلههم، ورصدوه، وتوقعوا غرته، فقصدوه، فوضعوا أيديهم عليه ذليلاً، وأناطوا به جوامع وكبولاً، ولم يجد إلى الإفلات منهم سبيلاً. وهرب تلاميذه عنه وأسلموه، فتناوله أعداؤه بيد القسر وتسلموه وساقوه بينهم يحمل جذعة أسيراً، ثم لُطم حتى حُطِّم، وأُرضع لبان الهوان حتى ودَّ لو قُطم، وتفل في وجهه القيام والقعود من أراذل اليهود، فنَزل به من الدهش

_ 1 {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . [سورة الحديد، الآية: 4] . 2 درس: عفا: محا من المحو، والإمحاء. كما في القاموس ص 701، 1693.

والعطش والكرب ما لا / (1/132/ب) يقصر في الألم عن القتل والصلب، وأنه استسقاهم ماء فسقوه خلاًّ، وسأل البقيا فأسمعوه كلاً، فصرخ على جذعه إلهي إلهي كيف تركتني؟!. وصرح بالعبودية لا يتلقب ولا يكتني، ولم يزل ينزع في قوس النزاع حتى مرق سهم روحه، ولقد راموا كسر ساقيه كفعلهم برفيقيه، فعُجلت عليه منيته وأُبطلت عنه أمنيته، وأعول عليه أحبابه وتفرق من الفرق أصحابه، وسأل الوالي جسده فدفن وتصدق عليه بالكفن، وهذه لعمرك مَعَرَّة يأنف العاقل من إلصاقها بكلبه، فكيف يلصقها بربّه؟!. وما أرى مُلحق هذا الفصل بكتاب النصارى إلاّ قد جعل له اليهود جُعْلاً على إلحاقه، ولستُ أُبعد ذلك، فإن يهوذا الأسخريوطي - أحد الاثني عشر المشهود له بالزعامة في المحشر - زعموا أنه ارتشى على يسوع ثلاثين درهماً من اليهود حتى أنزل به من الهوان ألواناً، وإذا كان هذا فعل يهوذا الذي هو أسنى من غيره وأفضل وأرمى عن قوس الصحبة القديمة وأفضل، وقد استمالته الدنيا فادَّرع الفضيحة واستهواه الهوى فحلّ عقيد1 / (1/133/أ) الصحيحة. فما ظنك بمن لم يصحب المسيح ولم يلقه ومرض بداء الحسد فلم ينقه؟!. فنسأل الله الذي شرفنا بالإسلام وعرفنا نبيّه عليه السلام أن يقطع عنا أشطان الشيطان ويصلنا بعباده الذين ليس له عليهم سلطان. ومن أدل الدلالة على كذب النصارى في دعوى القتل والصلب: ما رواه متَّى في إنجيله قال متى: "سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال: الجيل الشرير

_ 1 العَقِيد والمُعَاقد: المُعاهد. (ر: القاموس ص 384) .

الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلاّ آية يونان - النّبيّ: يعني: [يونس] 1 عليه السلام - لأن يونان أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وكذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ"2. قال المؤلِّف: وكذلك كذب وغلط بإجماع نقلة الإنجيل؛ لأنه لا خلاف بينهم أن المأخوذ صلب في الساعة الثالثة من يوم الجمعة، ثم أنزل من يومه ذاك فدفن ليلة السبت، وأقام السبت كلّه مدفوناً ثم طلب ليلة الأحد بغلس فلم يوجد، فمنهم من قال: قام ليلة الأحد، ومنهم من ذكر أنه قام يوم الأحد باكراً، وإذا كان الأمر كذلك فلم يقم في بطن الأرض سوى يوم واحد وليلتين. قال المؤلِّف: ولنذكر عشر / (1/133/ب) مسائل مفحمات، تفحم من وردت عليه من النصارى، من ردَّها منهم كفر بالتوراة والإنجيل والنبوات، ومن قَبِلَها كفر بالأمانة التي لهم والصلوات ودين النصرانية جملة: المسألة الأولى من العشر المفحمات: هو أنا نسألهم عن قول القائل: إن الله - الأزلي خالق العالم ونافخ الروح في حواء وآدم - هو إله واحد فرد حيّ عالم قادر مريد سميع بصير متكلم3، أحقّ ذلك أم باطل؟.

_ 1 في ص (يونسا) والصواب ما أثبته. 2 متى 12/39، 40، وقد سبق بيان التناقض في هذا الخبر. (ر: ص 309) . 3 هذه الصفات السبع التي يؤمن بها من ينتسب إلى مذهب الأشاعرة ولا يتعداها إلى غيرها كالاستواء واليد والعين، مع أن الإمام أبا الحسن الأشعري يؤمن بصفات الاستواء والنزول واليد والعين، وغير ذلك مما تثبته الآيات القرآنية والسنة الصحيحة. (ر: كتاب الإبانةعن أصول الديانة، رسالةإلى أهل الثغر، وكلاهمالأبي الحسن الأشعري) وأما هذه الصفات السبع: (الحياة، العلم، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام) ، فتسمى عند الأشاعرة بصفات المعاني، وطريق إثباتها عندهم العقل ثم النقل. (ر: أصول الدين ص 49-67، للرازي، والتبصير في الدين ص 164، للإسفرائيني، أصول ص 90، للبغدادي وغير ذلك) . وقد تعرض السفاريني لتعريف كل صفة من هذه الصفات السبع، وذكر مذهب أهل الحقّ فيها، والرّدّ على المخالفين. (ر: كتابه لوامع الأنوار البهية 1/131-152) .

فإن قالوا: إنه حقّ، أبطلوا دين النصرانية وكفروا بالأمانة والصلوات الثمانية التي لهم، إذ سائر فرق النصارى اليوم يدينون بعبادة ثلاثة آلهة قديمة أزلية وإنسان من بني آدم يُسمَّى يسوع النصارى. فيقرؤون في أمانتهم التي هي أصل دينهم: "نؤمن بالله الأبّ الواحد ضابط الكلّ، ونؤمن بالرّبّ الإله الواحد يسوع المسيح الإله الحقّ الذي بيديه أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء، ونؤمن بروح القدس الواحد المحيي". فعبدوا ثلاثة آلهة، والتوراة وسائر النبوات تقول: هو واحد جلّ وعلا. ويقرؤون في صلاة لهم تعرف عندهم بصلاة النوم: "الملائكة يمدحونك بتهليلات مثلثة أيها الأبّ؛ لأنك لم تزل وابنك / (1/134/أ) نظيرك في الابتداء وروح القدس مساويك في الكرامة ثالوث واحد". فقد صرحوا في الأمانة التي لهم والصلوات بعبادة ثلاثة آلهة قديمة أزلية وإنسان من بني آدم يسمّى يسوع المسيح وذلك مضاد لتوحيد الذي سلَّموا صحته. وإن قالوا: بل ذلك باطل وكُفر، كفروا بتوراة موسى وإنجيل عيسى ومزامير داود ونبوة أشعيا وسائر النبوات. قال الله في التوراة: "يا موسى أنا الله ربّك وربّ آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب قد ذكرت عهدي لإبراهيم، وقد عرفت ذلّ شعبي بمصر، اذهب إلى فرعون، وقل له: هكذا يقول لك إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرسل شعبي يعبدني، فقال موسى: يا ربّ أنا أذهب إلى بني إسرائيل فأقول الرّبّ إلهكم أرسلني إليكم، فيقولون لي: ما اسمه؟ فقال الله تعالى: قل لهم: الأزلي الذي لم يزل أرسلني إليكم"1. وقال الله تعالى في التوراة: "إني أنا [أهيه الذي أهيه] 2 إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب هذا اسمي إلى الأبد وإلى دهر الداهرين".

_ 1 سفر الخروج 3/6-14، في سياق طويل. 2 في ص (أهيا شر أهيا) والتصويب من النّصّ في سفر الخروج 3/15.

وقال الله لموسى في التوراة: "أنا الله / (1/134/ب) إلهك فلا يكن لك إله غيري فلا تعبده ولا تسجد له ولا تشبهه بشيء مما في السماء ولا مما في الأرض ولا مما في البحار"1. وقال الله تعالى في التوراة: "اعلم أني أنا الله وحدي وليس معي غيري، أنا أميت وأحيي وأنا أقسم وأبرئ، ولا ينجو أحد من يدي"2. وإفراد الباري بالوحدانية ونفي الشركاء في التوراة كثير جدّا. وقال المسيح في إنجيل متّى: "لا صالح إلاّ الله الواحد"3. وقال المسيح في إنجيل يوحنا ورفع بصره إلى فوق: "إلهي إن الحياة الدائمة تجب للناس إذا علموا أنك الواحد الحقّ الذي أرسلت المسيح"4. وقال أيضاً في إنجيل متّى جواباً للشيطان - حين قال له اسجد لي وأعطيك جميع ما في العالم -: "أغرب عني يا شيطان، فإنه مكتوب للرّبّ إلهك اسجد وله وحده اعبد"5. وقال في إنجيل يوحنا "إني ذاهب إلى إلهي وإلهكم"6. وقال في إنجيل يوحنا أيضاً: "إني لم آت لأعمل بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"7. وقال في إنجيل مرقس: "إلهي إلهي لِمَ تركتني؟ "8. وقال في إنجيل متِّى: "يا أبت إن أمكن صرف هذا الكأس عني فأصرها / (1/135/أ) لكن كما تشاء أنت لا كما أشاء أنا"9. وقال مرقس في إنجيله: "سأل المسيح

_ 1 سفر الخروج 20/2-4. 2 سفر التثنية 32/39. 3 متى 19/16، 17، مرقس 1017، لوقا 18/18. 4 يوحنا 17/3. 5 متى الإصحاح (4) . 6 يوحنا 20/17. 7 يوحنا 6/38. 8 متى 27/46، مرقس 15/34. 9 متى 26/43.

عن يوم القيامة، فقال: لا يعرفها ملائكة السموات ولا الابن يعرفها ولا يعرف ذلك اليوم سوى الأبّ وحده"1. وقال في إنجيل يوحنا في الفصل الأوّل منه:"الله لم يره أحد قط"2. وقال فيه لليهود: "لِمَ تطلبون قتلي وأنا رجل كلمتكم بالحقّ الذي سمعته من الله تعالى؟! "3. وقال لليهود أيضاً:"لم تمجدون الناس ولا تجدون الله الواحد؟! "4. وقال في إنجيل متّى: "إنّ ربّكم واحد فرد"5. وقال شمعون الصفا في كتاب فراكسيس تأليف لوقا: "يا بني إسرائيل اسمعوا مقالتي: إن يسوع الناصري رجل ظهر لكم من الله بالقوّة والأيد والعجائب التي أجراها على يده"6. قال داود في المزمور السابع عشر: "الله لا ريب فيه، هو منجي من توكّل عليه، لا إله إلاّ الرّبّ ولا عزيز مثله"7.وذلك في المزامير كثير جدّاً. وقال داود في المزمور التاسع والأربعين: "اسمع يا إسرائيل: أنا الله إلهك لست/ (1/135/ب) أوبخك على ذبائحك وقودك أمامي في كلّ حين"8. وقال فولس في رسائله: "إنه لا إله إلاّ واحد"9. وقال أيضاً: "إن كان في الأرض آلهة وأرباب كثير فإن إلهنا إله واحد، هو الأب الذي منه كلّ شيء

_ 1 مرقس 13/32. 2 يوحنا 1/18. 3 يوحنا 8/40. 4 يوحنا 5/44. 5 متى 23/9، كالآتي: "لأن أباكم واحد الذي في السموات". 6 سفر أعمال الرسل 2/22-24. 7 مزمور 18/30، 31، بألفاظ مقاربة. 8 مزمور 50/7، 8، وهذا المزمور منسوب إلى آساف رئيس الكهنة. 9 رسالة إلى رومية 3/30، 31، وإلى غلاطية 3/20، ورسالته الأولى إلى كورنثوس 8/4.

ونحن به تعالى"1. فمن زعم أن الذي ذكرناه كُفْرٌ فقد كَفر بتوراة موسى وإنجيل عيسى ونبوات الأنبياء. المسألة الثّانية من العشر المفحمات: إنا نسألهم عن هذا الإله الواحد الأزلي جلّ وعلا، أهو جسم ذو لحم ودم وأعضاء وشعر وظفر أم يتنَزَّه ويتقدّس عن ذلك؟ فإن قالوا: إن الباري يتقدس عن ذلك إذ هو خالق الأجسام، أخرجوا المسيح من الربوبية إذ الإنجيل يشهد من فاتحته إلى خاتمته بأنه ذو جسد ولحم وشعر وظفر، لا يفارق المخلوقين في شيء ولا يباينهم في هيئة. وإن وصفوا الباري بهذه النقائص أكذبتهم التوراة والإنجيل والنبوات، قال الله تعالى في التوراة: "لا تشبهوني بشيء مما في السماوات فوق ولا في الأرض أسفل ولا في البحار تحت ولا بشيء / (1/136/أ) مما يدبّ من الحشرات والهوام"2. وغير ذلك وهو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثلِه شَيءٌ ... } 3. وقال موسى في التوراة: "لا إله مثل إلهنا"4. وقال أيضاً فيها: "لا إله مثل إله بني إسرائيل"5. والمسيح مما في الأرض وله أمثال وأشباه وأشكال. وقال المسيح في الإنجيل: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد قط"6. وذلك يقضي بنفي الجسمية عنه.

_ 1 رسالته إلى كورنثوس 8/5، 6. 2 سفر الخروج 20/4. 3 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] . 4 الخروج 15/11، بنحوه. 5 التثنية 10/17. 6 تقدم تخريجه. (ر: ص 129) .

وقال داود في المزمور السبعين: "عليك توكلت يا ربّ، فلا أخزى أبداً، أنت إلهي وحافظي وحصني الذي ألجأ إليه في كلّ حين، أنت صانع العجائب لا نظير لك يا قدوس إسرائيل"1. المسألة الثّالثة من المفحمات: إنا نسأل النصارى عن الرّبّ الخالق الأزلي إله إبراهيم وداود وسائر العالم، هل يفتقر إلى الطعام والشراب فيجوع ويعطش وينام ويسهر وحزن ويفرح ويمشي ويركب أم لا؟ فإن قدَّسوا الباري عن هذه النقاائص تركوا القول بربوبية المسيح؛ إذ الإنجيل من فاتحته إلى خاتمته يشهد بملابسة المسيح لهذه الأمور / (1/136/ب) ، وإن جوَّزوا ذلك على الباري جلّ وعلا كفروا بالإنجيل والمزامير، قال المسيح في الإنجيل: "الله لا يأكل ولا يشرب ولا رآه أحد". وقال داود في المزمور التاسع والأربعين2: "اسمع يا إسرائيل: أنا الله إلهك لست أوخك على ذبائحك وقودك أمامي في كلّ حين، لا أقبل ثيران بيتك ولا جداء غنمك؛ لأن لي جميع حيوان البرّ وطير السماء ووحش الصحاري، وأحسن الحقول معي، لي الدنيا وما فيها، لا آكل لحوم الثيران ولا أشرب دمّ المعزّ، أذبح ذبيحة المسيح، وأوفي للعلي نذورك، وادعني في يوم شدتك أنقذك". وقال داود: "إن حارس بني إسرائيل لا تأخذه سنة ولا نوم"3.

_ 1 مزمور 71/1-1. 2 ورد النّصّ في مزمور 50/7-15، وينسب هذا المزمور إلى (آساف) ، وليس إلى داود كما ذكره المؤلِّف. 3 مزمور 121/4.

فمن زعم أن الباري مفتقر إلى هذه الأمور فللحيوان البهيم عليه فضل عظيم بشهادة نبيّ الله أشعيا حيث يقول في نبوته: "عرف الثور والحمار مَن مالكه ولم يعرف بنو إسرائيل إلههم"1. وقول داود عن الله: "لا آكل لحوم الثيران ولا أشرب دماء المعز". موافق لقول الله تعالى في الكتاب العزيز (1/137/أ) : {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم} . [سورة الحجّ، الآية: 37] .وقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُون} . [سورة الذّاريّات، الآية: 57] . المسألة الرّابعة من العشر المفحمات: إنا نسألهم هل كان مع الله في أزله إله ثانٍ أو ثالث يشاركه في الربوبية ويساويه في الألوهية أم لم يزل سبحانه واحداً بغير ثانٍ وثالث؟!. فإن قالوا: لم يزل واحداً فرداً وافقوا الملة الحنيفية، وفارقوا دين النصرانية حيث يقرؤون في الصلاة الأولى وهي التي يسمّونها صلاة السحر: "أيها المسيح ارحمنا واقبل تضرعنا، تعالوا نسجد لمسيح إلهنا، أيها الرّبّ المسيح حامل خطايا العالم ارحمنا أيها المسيح، أنت وحدك القدوس المتعالي بار كلّ يوم إلى الأبد". وإن قالوا: بل كان معه في أزله آلهة أخرى، أكذبتهم التوراة والإنجيل والنبوات. قال الله تعالى في التوراة في السفر الأوّل منها - ويسمى سفر الخليقة -: "في البدء خلق الله السماء والأرض، وكانت الأرض خالية / (1/137/ب) خاوية غير مرئية، والظلمة غاشية وجه الغمر، روح الله يوف على المياه، فقال الله: ليكن كذا ليكن كذا، إلى أن أكمل سبحانه خلق السماء والأرض وما فيها في ستة أيام ثم خلق آدم وخلق منه حواء زوجته"2.

_ 1 أشعيا 1/3. 2 سفر التكوين الإصحاح (1) .

فالتوراة من فاتحتها إلى خامتها مصرحة بوحدانية الله تعالى، وأنه ليس معه إله غيره، وأنه مستبد بالخلق والاختراع. وقال التوراة:"وكلّم الله آدم"1."وكلّم الله قايين"2."وكلّم الله نوحاً"3. "وكلّم الله موسى"4.كلّ ذلك بلفظ الوحدة ونفي الشركاء. وقد قال موسى في السفر الخامس: "إلهي، أيّ إله في السماء أو في الأرض يعمل مثل أعمالك؟ "5. وقال موسى في هذا السفر وهو يوصي بني إسرائيل: "احترسوا واحتفظوا بنفوسكم جداً، فإنكم لم تروا شبهاً في اليوم الذي كلمكم الله ورأيتم مجده، إياكم أن تبعدوا آلهة معمولة من الخشب والحجارة وغيرها، فحينئذٍ تطبون الله فلا تجدونه، أقبلوا يا بني إسرائيل إلى الله ربّكم وجده، واعبدوه، ووحّدوه، تجدونه إذا طلبتموه من كلّ قلوبكم وأنفسكم/ (1/138/أ) لأن الله ربّكم إله رحيم لا يخذل ولا يُسلِّم من عَبَده ووحَّدَه وعلم أنه لا إله غيره هو ربّ كلّ شيءٍ وإلهه، واعملوا أن الله هو إله في السماء فوق وفي الأرض أسفل وليس إله سواه"6. وقال الله تعالى في هذا السفر من التوراة: "احفظوا ما آمركم به، ولا تحيدوا عنه يميناً ولا شمالاً، بل سيروا في الطريق التي أمركم بها إله ربّنا واحد فأحبوه من كلّ قلوبكم وأنفسكم وأموالكم، واكتبوا ذلك في قلوبكم، وتكلموا به إذا سافرتم أو أقمتم أو رقدتم وشدّوه على أبدانكم، وليكن مَيْسَماً بين أعينكم،

_ 1 سفر التكوين الإصحاح (2، 3) . 2 سفر التكوين الإصحاح (4/6) . 3 سفر التكوين الإصحاح (6، 7) . 4 سفر التكوين الإصحاح (3، 4) . 5 سفر التثنية 3/24. 6 سفر التثنية 4/15-39، في سياق طويلٍ وقد أورده المؤلِّف مختصراً.

واكتبوا على [قوائم] 1 بيوتكم وأبوابكم. واتّقوا الله وإيّاه فاعبدوا، وباسمه فاقسموا، ولا تعبدوا آلهة أخرى، فالله ربّكم إله غيور"2. وقال الله في التوراة: "إن دعاك قريبك أو صديقك إلى عبادة إله غير الله فاقتله ولا تحنن عليه ولا ترحمه، أنا الله وحدي وليس معي غيري"3. وقال رجل للمسيح في الإنجيل: "يا معلم، ما أوّل الوصايا؟ فقال المسيح: أوّل الوصايا كلّها اسمع يا إسرائيل، الرّبّ واحد، أحبب الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن / (1/138/ب) كلّ قوتك، ففي هذا جميع نواميس الأنبياء"4. وقال المسيح في إنجيل يوحنا: "ورفع رأسه إلى السماء: أنت الإله الحقّ وحدك الذي أرسلت يسوع". وقد قال في النبوات: "أنا الله الأوّل، أن الله الآخر وليس معي غيري"5. فمن زعم أن مع الله تعالى غيره فقد كفر بما تلوناه من كتب الله، وصار لا مسلماً ولا يهودياً ولا نصرانياً، ومن صرّح بذلك لم يقبل منه سوى الإسلام أو السيف. المسألة الخامسة من العشر المفحمات: إن نسأل النصارى عن الرّبّ الأزلي جلّ وعلا، هل يجوز أن يُقهر ويُغلب ويُقتل ويُصلب أم لا؟ فإن نزّهوا الباري عن ذلك أبطلوا قولهم في المسيح، إذ يقرؤون في صلاة الساعة السادسة: "يا من سُمِّرت يداه على الصليب خرق العُهْدة المكتوب فيها خطايانا وخلّصنا، يا من سُمِّر على الصليب وبقي حتى لصق دمه عليه، قد أحببنا الموت لموتك، نسألك يا الله بالمسامير التي سُمِّرت بهم نَجِّنَا".

_ 1 في ص (معاقم) والتصويب من النّصّ. 2 سفر التثنية 5/31-33، 6/4-15. 3 سفر التثنية 13/6-11. 4 مرقس 12/28-30. 5 سفر أشعيا 44/6.

وإن جوّزوا ذلك على الله تعالى أكذبتهم التوراة والإنجيل والمزامير، / (1/139/أ) إذ التوراة تشهد في السفر الأوّل1 منها أن الله أنزل الطوفان، وأهلك الجبابرة والفراعنة والطغاة والنماردة وسائر الملوك من بني آدم وكلّ ذي روح من الحيوان البهيم وغيره، وكذلك تشهد أنّ الله غَرَّق فرعون وهو في ستمائة ألف فارس في البحر في ساعة واحدة2، ولم يُقْهر سبحانه ولم يغلب بل هو القاهر الغالب جلّ وعلا. وقد قال المسيح في إنجيله: "لا صالح إلاّ الله الواحد، ولا يعلم يوم القيامة سوى الله وحد". فمن ألحق بالله شيئاً من هذه النقائص فقد افترى على الله، تعالى الله عن قول الجاهلين علوّاً كبيراً. قال داود في المزمور السابع عشر: "لا إله إلاّ الله، لا عزيز مثل إلهنا، الذي عَلَّم يدي القتال، وشدّد ذراعي مثل قوس النحاس، يمينه نصرتي، أطلب أعدائي فأدركهم، عضّدي في الحرب، بقوته جعل الذين قاموا عليّ تحتي، سحق أعدائي مثل التراب ومثل طين الطرق أطؤهم، صيَّرهم رأساً على الشعوب"3. المسألة السّادسة من العشر المفحمات: إنا نسأل النصارى عن ما تضمنه الإنجيل من أقوال المسيح وأقوال تلاميذه فيه أحقّ هو أم باطل؟ فإن زعموا أنها باطلة كفروا بالمسيح، وساووا في ذلك اليهود والمجوس وغيرهم. وإن قالوا: إنها حقّ وصدق، اعترفوا بعبودية المسيح ونبوته ورسالته

_ 1 سفر التكوين الإصحاح (7، 8) . 2 سفر الخروج الإصحاح (14) . 3 المزمور 18/31-43.

أسوة غيره من الأنبياء والمرسلين، إذ قال المسيح في إنجيله: "أنا ذاهب إلى إلهي وإلهكم". وقال المسيح فيما حكوا عنه: "إلَهي إلَهِي لِمَ تركتني؟ ". ولا خلاف بين النصارى أن المسيح تطهَّر وتعمَّد وصام وصلى وتعبَّد وأخلف إلى العلماء في طلب العلم وتردد: "وفاوضته امرأته من السامرة فقالت له: إن آباءنا سجدا في هذا الجبل، فكيف تقولون أنتم إنه أورشليم؟ فقال: يا هذه أنتم تسجدون لما لا تعلمون، ونحن نسجد لمن نعلم"1. أخبرها أن له ربّاً يسجد له وإلهاً يعبده، وذلك مقصد لقوله تعالى حكاية عنه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الكِتَابَ} . [سورة مريم، الآية: 30] . وقد قال متَّى في إنجيله: "إن المسيح حين دخل أورشليم وارتجّت المدينة لدخوله، قال الناس: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل"2. وقال لوقا في/ (1/140/أ) إنجيله. "صحب يسوع بعد قيامه رجلين، وهما يتحدثان في أمره، فقال لهما: من تذكران؟ فقالا: يسوع الناصري كان رجلاً نبيّاً قويّاً بالأعمال"3. فأقرّهما ولم ينكر عليهما. وقال لوقا: "لما أحيا يسوع المسيح ابن الأرملة وسلّمه إلى أمه، قال الناس: لقد قام فينا نبيّ كريم، وتعاهد الله شعبه بصلاح، فذاع ذلك في اليهودية"4. ولم ينكره عليه السلام. وقال بوحنا في إنجيله: "كان الناس إذا سمعوا كلام المسيح ورأوا وجهه قالوا: هذا النّبيّ حقّاً"5. وقال لوقا: "قال الفريسيون ليسوع: اخرج من هاهنا، فإن هيرودس يريد قتلك، فقال: امضوا وقولوا له إني أقيم هاهنا اليوم

_ 1 يوحنا 4/19-22. 2 متى 21/10-11. 3 لوقا 24/13-19. 4 لوقا 7/12-17. 5 يوحنا 7/40.

[وغداً] 1 وفي اليوم الثالث أكمل لأنه لا يهلك نبي خارجاً عن أورشليم"2. وقال يوحنا حبيب المسيح: "إن المسيح لما أطعم من حوتين وخمس خبزات جماً عظيماً، قال الناس: حقّاً إنّ هذا لهو النّبيّ الآتي إلى العالم"3. فإن صدّق النصارى أقواله وأقوال تلاميذه فقد اعترفوا بعبوديته ونبوته، وإن ردوا أقواله كفروا به جملة، وساووا في ذلك سائر الكفار/ (1/140/ب) . المسألة السابعة من العشر المفحمات: إن نسأل النصارى عن يسوع المسيح، هذا الذي يتّخذونه إلهاً مع الله، هل كان آدم ونوح وإبراهيم وموسى وهارون وأهل مللهم في زمانهم يعرفونه أم لا؟. فإن زعموا أنهم ما كانوا يعرفونه فقد أزروا على من ذكرنا من أنبياء الله وأهل صفوته وشهدوا عليهم بالكفر الصريح، إذ كانوا لا يعرفون ربّهم يسوع المسيح الذي لا يصحّ التوحيد دون معرفته. وإن قالوا: إنهم كانوا عارفين به أنه هو ربّهم وخالقهم، أكذبتهم كبتهم ونبواتهم، إذ ليس فيها شيء من هذا القبيل، وأزروا على المسيح وعلى تلاميذه وخطوؤهم في أقوالهم، إذ يخاطبون المسيح بلفظ العبودية والنبوة والرسالة كما تقدم في بابي عبوديته ونبوته. وكيف يكون المسيح ربّ موسى وإبراهيم ومَن ذكرنا وشمعون الصفا رئيس الحوريين يقول في رسالته إلى إخوانه: "اعلموا أن الله أرسل إليكم يسوع المسيح"4. ويقول: "اعلموا أن المسيح رجل جاءكم من الله بالقوة والأيد؟ "5.

_ 1 في ص (وغد) ولعل الصواب ما أثبته. 2 لوقا 13/31-33. 3 يوحنا 6/10-14. 4 سفر أعمال الرسل 2/26. 5 سفر أعمال الرسل 2/22-24.

فكيف يكون المسيح ربّاً وإلهاً والمعمداني يغسله / (1/141/أ) ويعمّده بالماء ويقول حين رآه: هذا الذي قلت لكم إنه يأتي بعدي وهو أقوى منّي؟!. وكيف يكون المسيح إلهاً لداود وغيره، وداود يقول في مزاميره: "إن المسيح يكون كاهناً مؤيّداً من الله يشبه "ملكي صادق"، خادم البيت المقدس؟! "1. وقد قال المسيح: إنه أفضل من يونس بن متّى2، وإنه أفضل من سليمان3. وقال فولس: إنه أفضل من موسى بن عمران4. فهذه الأقوال من المسيح ومن خيار أصحابه ومن بينا عليه من الأنبياء دليل على كذب النصارى. المسألة الثامنة من العشر المفحمات: إنا نسألهم عن آدم عليه السلام لما زلَّ وهفا، هل استرجع وتاب وأقلع وأناب أم لا؟ فإن زعموا أن آدم لم يتب، أكذبتهم الكتب التي بأيديهم، فإنها مصرحة بأنه حين أسف وندم لجأ إلى الله، وتاب الله عليه. وإن اعترفوا بتوبته - ولا بُدَّ لهم من ذلك - قيل لهم: فلا حاجة إذاً إلى قتل المسيح وصلبه إذ التوبة [تمحو] 5 الجريرة، ولا تدع على التائب صغيرة ولا كبيرة. فإن قالوا: إنه لا بُدَّ من قتل المسيح، فالتوبة لا أثر لها بل حال التائب بعد التوبة النصوح حاله قبل التوبة في ملابسة القبيح / (1/141/ب) .

_ 1 مزمور110/4، 5،وقد استشهدبه بولس في رسالته إلى العبرانيين5/6،10، 6/20. 2 متى 12/41. 3 متى 12/42. 4 رسالته إلى العبرانيين 3/3. 5 في ص (تمحوا) والصواب ما أثبته.

فالقول بصحّة التوبة ينفي القول بالقتل والصلب، والقول بالقتل والصلب ينفي صحّة التوبة. المسألة التّاسعة من العشر المفحمات: إن نسأل النصارى هل يوصف الباري سبحانه بالجهل بالغيب أم لا؟ فإن وصفوه بذلك تجاهلوا، إذ التوراة والإنجيل وسائر كتب التَّنْزِيل تشهد بأنه تعالى عالم بالمغيبات، محيط بما تحت تخوم الأرضين إلى أعلى السموات، {أَلاَّ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير} . [سورة تبارك، الآية: 14] . فإن قالوا: إنه لا يصلح مَن هذا حاله للربوبية تركوا ما يهتفون به من ربوبية المسيح إذ "سُئل عليه السلام عن القيامة وعن يومها فقال: لا أعرف يومها ولا ساعتها ولا يعرفها إلاّ الله وحده"1. و"قال لمريم ومرثا - أختي ألعازر حين مات - أين دفنتموه؟ "2. و"قال عليه السلام لرجل: منذ كم أصاب ابنك هذا المرض؟ "3. و"قصد شجرة تين ليصيب منها، فلم يجد بها ثمرة فدعا عليها"4. و"جاءته الكنعانية مؤمنة به، فلم يعلم بإيمانها"5. فهذا مصرح بأن المسيح عليه السلام لا يعلم إلاّ ما علمه الله ربّه وإلهه، وفي ذلك تكذيب لقولهم في الأمانة التي لهم / (1/142/أ) إذ يقولون: "إن المسيح إله حقّ وإنه خالق كلّ شيء، وإنه بيديه أتقنت العوالم، فإن كانت الأمانة صحيحة فقد كذب الإنجيل، وإن كان الإنجيل صحيحاً فقد كفر من عقد لهم هذه الأمانة، التي هي في الحقيقة فساد الأمانة.

_ 1 مرقس 13/32. 2 يوحنا 11/33، 34. 3 مرقس 9/21. 4 متى 21/19، مرقس 11/13. 5 متى 15/21-28.

المسألة العشرة من المفحمات: إنا نسأل النصارى، هل كان الباري تعالى يوصف بالقدرة على خلاص آدم وذريته، دون قتل المسيح وصلبه والتنكيل به أم لا؟ فإن قالوا: لا يقدر على ذلك، جعلوا الله مضطراً مدفوعاً إلى قتل المسيح، عاجزاً عن خلاص عباده إلاّ بذلك، وأكذبتهم التوراة والإنجيل وسائر كتب التَّنْزِيل، إذ يقول: "إن الله خلق العالم بما فهي، وفعل من ذلك ما شاء وأراد: {لاَ يُسْأَل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُون} . [سورة الأنبياء، الآية: 23] . وإن وصفوا الباري بالقدرة على ذلك جَوَّروه ونسبوه إلى الحيف على المسيح، وذلك يفسد عليهم القول بالتحسين والتقبيح. دعوى للنصارى في ما يرومونه من قتل المسيح وصلبه: زعموا بأجمعهم أن آدم لما تخطى ما أُمر به وزلّ استحقّ العقاب، فلما توجه عليه العتاب أشفق من ذنبه وتقطع / (1/142/ب) أسفاً على مخالفة ربّه، فرحمه الله ولطف له وفداه بابنه المسيح، فكان كلّ ما نزل بالمسيح من ضربٍ وإذلالٍ وصلبٍ وموتٍ إنما هو فداء وقضاء عن آدم، فضرب عوضاً من رفاهية آدم، وأهين بدلاً من عزّه الذي أمله بالخلود في الجنة، وصلب على خشبة لتناوله الشجرة، وسُمِّرت يداه لامتداد يد آدم إلى الثمرة، وسقي المرَّ والخل عند عطشه لاستطعام آدم حلاوة ما أكله، ومات بدلاً عن موت المعصية الذي كان آدم يتوقعه لولا قتل المسيح، فاقتضت حكمة الله الأزلي أن لا يعذب عبده آدم لوجود التوبة النصوح الصادرة منه، وأن لا يُهمل مجاناً فيقع الخُلف في خبره، وذلك رحمة من الله ولطف لآدم وبنيه وإظهار الشرف للمسيح، إذ جعله كبش قربان العالم

_ 1سورة الانبياء:23

بأسره فصبر المسيح ولم ينازع، واستسلم ولم يدافع، فهذه هي الحكمة في قتل المسيح وصلبه1. والجواب أن نقول: أليس قد وافقتم على أن آدم لما ورد عليه العتاب استرجع وتاب وأقلع وأناب؟ وإذا كان الأمر كذلك فأيّ شيء / (1/143/أ) أنفت التوبة من ذنبه حتّى يقتل المسيح فِدَاءَ عنه؟!. والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فصار قتل المسيح عبثاً، والرّبّ يتعالى ويتقدّس عن العبث، وليس قوله تعالى لآدم نصاً، بل هو ظاهر يدخله النسخ والتخصيص والدليل عليه أنه لو وصله بالكلام وقال: إن عصيتني عذّبتك إلاّ أن تتوب، لقبله الكلام ولم ينب عنه، ولعُدَّ كلاماً حسناً، وإنما ترك الزيادة فلم يصلها بالكلام ليكون أدعى إلى الانكفاف، وهكذا كلّ ظاهر فإنه يرد مطلقاً بلفظ يوهم التأبيد ثم يجيئ الناسخ والمخصّص فيبيّن أن المطلوب وقتاً

_ 1 هذا هو الأساس الثاني من أسس العقيدة النصرانية المنحرفة، وهو بإيجاز: الاعتقاد بصلب المسيح تكفيراً عن خطيئة آدم التي انتقل إثمها إلى ذريته من بعده. ومنشأ هذه العقيدة يُبينه لنا أرنست ذي بولس الألماني في كتابه: (الإسلام والنصرانية الحقّة ص 142) ، إذ يقول: "إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه من الذين لم يروا المسيح، لا من أصول النصرانية الأصلية". اهـ. ويضيف المؤرخ ول ديورانت بأن عوامل عديدة قد أوحت إلى بولس بتلك العقيدة، منها: انقباض نفس بولس وندمه بالصورة التي استحال إليها المسيح في خياله، وتأثره بالفلسفة الأفلاطونية والرواقية التي تنبذ المادة والجسم واعتبارهما شرّاً وخبثاً. وتأثره كذلك بالطقوس الوثنية في التضحية الفدائية للتكفير عن خطايا الناس، وتلك عقيدة موجودة عند الوثنيين في مصر وآسيا الصغرى وبلاد اليونان التي تؤمن بالآلهة التي ماتت لتفتدي بموتها بني الإنسان. (ر: قصة الحضارة 11/263-265، بتصرف) . ولاستحالة هذه العقيدة ووضوح بطلانها في العقول والفطر السليمة فإنها كانت من أهمّ الأسباب التي أدّت بالمهتدي عبد الأحد داود إلى اعتناقه الإسلام ونبذه النصرانية وتأليفه كتاب: (الإنجيل والصليب) . (للتوسع، ر: الفارق بين المخلوق والخالق ص 278، وما بعدها، لعبد الرحمن البغدادي، الإنجيل والصليب ص 6-10، 124-127، وكتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية ص 48-57، وما بعدها للأستاذ محمّد طاهر التنير، وكتاب المسيح إنسان أم إله ص 131-162، المهتدي محمّد مجدي مرجان، وغير ذلك ... ) .

قد انقضى ومضى وأنه ليس مسترسلاً أبداً، فهو سبحانه توعد آدم إلاّ أن يتوب وقد تاب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا معنى بعد ذلك لقتل المسيح. ثم نقول لهم: أخبرونا عن هذا القضاء الذي تدّعونه، أليس هو استدراك مصلحة الأداء، وهو أن يأتي القاضي بمثل ما فَوَّت؟!. فإذا قالوا: نعم. قلنا: فالذي فَوَّته آدم هو الانكفاف عن الأكل، وقد قضاه المسيح بصومه ووصاله أربعين يوماً / (1/143/ب) بلياليها كما حكيتم عنه في الإنجيل، وفي ذلك قضاء لما ضيّعه آدم؛ لأنه من جنس الأداء المفَوَّت فلا حاجة إلى قتل المسيح إذ هو خارج عن جنس الأداء المضيَّع. فإن قالوا: إن آدم وجب عليه موت المعصية، وهو: الخلود في النيران أبداً وهو أعظم الموتتين، فجاء موت المسيح قضاء عن ذلك الموت فصار من جنسه. فنقول: هذا باطل؛ لأنه لو كان موت المسيح من جنس موت آدم لكان المسيح قد أماته الله موت الخطيئة، فكان يكون مخلداً في دركات النار بدلاً عن آدم، فأما إذ مات موت الطبيعة - ينقضي عن صاحبه وشيكاً - فكيف جعلتم موتاً لا بقاء له مكافئاً لموت لا انتهاء له؟!!. فبطل ما عوَّلتم عليه، وإذا بطلت دعواكم بطل قتل المسيح إذ صار ساذجاً عن المعنى، فارغاً من الفائدة والرّبّ يتعالى عن العبث. ثم نقول لهم: أليس ولد الصُّلب أولى من ولد الابن، وولد البنت في الميراث وكثير من الأحكام، فما الذي أصار المسيح على بُعْدِه/ (1/144/أ) أحق من شيث1 ومن

_ 1 شيث عليه السلام: اسم سامي معناه: (معين أو بديل) ، ابن آدم. وقد ولد بعد قتل هابيل فكان بديلاً عنه، وقد عاش 912 سنة. (ر: تكوين 5/3، قاموس ص 531) . قال الإمام ابن كثير في قصص الأنبياء 1/57: "فلما مات آدم عليه السلام قام بأعباء الأمر بعده ولده شيث عليه السلام، وكان نبيّاً بنص الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه. (ر: موارد الظمآن ص 53) عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل مائة صحيفة وأربع صحف، على شيث خمسين صحيفة ... " اهـ.

في درجته بهذا الفداء والقضاء؟ فإن قالوا: المسيح هو ابن الله ولم يصلح لفداء الخلائق وخلاص الأمم سواه. قلنا: ليس من العدل أن يجني ابن آدم فَيُقْتَل ابن الله في جنايته. ثم نقول: أليس إسرائيل عندكم في التوراة هو بكر الله، والبِكْرُ أولى وأفضل عند أبيه من غير البكر، فهلا فداه به ولم يدع الناس في العذاب إلى حين مجيء المسيح؟!. ثم نقول: إن المسيح عند طائفة منكم1 هو الله الأزلي، وعند أخرى2 هو ابن الله، فكيف يستقيم أن يقتل الله نفسه أو ابنه بدلاً عن عبده؟!. و {الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوتِهَا} . [سورة الزمر، الآية: 42] . فكيف يتوفّى نفسه، فيتّحد القاتل والقتيل فيكون قاتلاً قتيلاً؟!. ثم نقول: أرأيتم لو أنّ رجلاً أمر عبده بأمر فخالفه فغضب عليه وتوعده فخافه العبد وأشفق من عقوبته وراجع خدمته وشمّر في مرضاته فعطف عليه مولاه فرحمه، ثم عمد إلى ولد نفسه فقتله وصلبه على أعلى جذع، ثم التفت إلى عبده فقال: هذا فداؤك، أكنتم تعدونه حكيماً؟!. ثم نقول: ألستم عبتم قول ربّنا جلّ اسمه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكَِن شُبِّهَ لَهُم} . [سورة النساء، الآية: 157] . وزعتم أن ذلك ظلم وحيف لا يليق بالحكمة؟ فكيف نسيتم نفوسكم هاهنا؟! وجوَّزتم أن يقتل الله المسيح ويصلبه وينكل به فداء عن آدم، ولم تجعلوا ذلك ظلماً وحيفاً؟! والجور لا يجوز على الولد كما لا يجوز على العبد والأجنبي.

_ 1 وهم طائفة اليعقوبية كما سيأتي بيانه في الباب السابع. 2 وهم طائفة النسطورية، كما سيأتي بيانه.

ثم نقول: أليس يجب أن يكون القضاء متصوراً بصورة الأداء - هو أن يأتي القاضي بمثل ما فات - والمسيح عندكم ليس مثل آدم؛ لأن آدم إنسان محض والمسيح ليس محضاً بل قلتم إنه عبارة عن لاهوت وناسوت اتّحدا، وإذا كان الأمر كذلك فليس في قتله ما يقضي عن آدم. فإن قالوا: هذا بمثابة مَن عليه درهم، فقضى درهماً وديناراً، فإن ذلك يُعَدُّ من حسن القضاء. قلنا: هذا خطأ في التمثيل. بل ذلك بمثابة مَنْ عليه صوم فقضاه بصلاة أو زكاة لا يكون قضاء، وإذا كان المسيح ليس إنساناً محضاً، فكيف يكون مكائفاً لإنسان / (1/145/أ) محض وآدم صرف؟!. ثم نقول: بم تنكرون على من يزعم أن الذي فُدِي به آدم إنما هو هابيل ابنه لصُلبه فإنه استسلم للقتل فحصلت له الشهادة ولأبيه الفداء؟!. وهذا أولى لوجهين: أحدهما: أنه من جوهر أبيه آدم، فهو إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر آدم، فأما المسيح فهو عندكم إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله كما عقدتم في أمانتكم. والوجه الثاني: أن في الفداء بهابيل المبادرة إلى خلاص الخلائق من الجحيم، وفي الفداء بالمسيح بقاء آدم وذريته في العذاب خمسة آلاف سنة1.

_ 1 يعتقد النصارى - بناء على أن المسيح صلب تكفيراً عن خطيئة آدم التي انتقل إثمها إلى ذريته من بعده - أن أرواح الناس جميعاً بما فيهم الأنبياء والرسل - قبل المسيح - كانت تتعذب في نار جهنم إلى أن صلب المسيح ومات ودفن ونزل إلى الجحيم فأخرج منها أرواح آدم وذريته، ثم في اليوم الثالث قام المسيح من الأموات. (ر: قانون الإيمان ص 353، وما بعدها، تحفة الأريب للترجمان ص 150) . ويعتمد النصارى في اعتقادهم ذلك على ما ورد في نصّ قانون إيمان الرسل (الأمانة) ، الذي كان من قرارات نيقية المشهور سة 325م. ويتملكنا العجب إذا عرفنا أن تلك العقيدة لا يشير إليها أيّ نصّ في الأناجيل الأربعة المعتمدة لديهم، وإنما وردت في إنجيل نيقوديموس (نيكوديم) 17/13 - وهو أحد رؤساء اليهود الذين آمنوا بالمسيح - وهذا الإنجيل من ضمن الأناجيل المرفوضة من النصارى. (ر: المسيح في مصادر العقائد المسيحية ص 306-309، الأسفار المقدسة ص 106، د. عليّ وافي) . ومما لا شكّ فيه أن القول بنزول المسيح إلى جهنم وتخليص أرواح الناس والأنبياء والرسل السابقين منها إنما هو زيغ وضلال وكفر، فإنه لا يعقل أن يكون الأنبياء والصالحون في نار جهنم، وإلاّ فما الفائدة أن يسعى الناس ليكونوا صالحين إذا كانت نهايتهم سواء مع الظالمين والفاسدين في نار جهنم؟!!!. {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} . [سورة السجدة، الآية: 18] . وكيف يكون الأنبياء في الجحيم وقد بيّن لوقا في إنجيله 16/23-25 على لسان المسيح أن الموتى من الصالحين ينتقلون فوراً إلى النعيم بينما يتلظى الأشقياء في نار الجحيم؟!!.

وكان الفداء (بهابيل) أولى ولاسيما على أصلكم، فإنكم توجبون على الله تعالى رعاية الأصلح لعباده، وليس من الصلاح فضلاً عن الأصلح أن يعاقب الله عبيده آلافاً من السنن وله مندوحة عن ذلك. ثم نقول: ألستم رويتم عن توراتكم أن الله كان قد فدى ولد عبده إبراهيم بذبح عظيم؟! فإذا قالوا: بلى. قلنا لهم: أفكان ولد عبده أزكى لديه وأعزّ عليه من ولده المسيح / (1/145/ب) أم تقولون: إنه أعوزته الغنم فلم يقدر على رأس يذبحها ويريح العالم من الفتنة؟! وقد رويتم لنا ما يدل على أن الباري سبحانه صان المسيح عن شرّ أعدائه، وحماه من القتل والإهانة التي ذكرتم في التوراة: "إن الله تقدم إلى إبراهيم بذبح ولده، فلما عزما على امتثال أمر الله لطف الله لهما وفدى الولد"1. وتعقب ذلك الأمر الحزم والحكم الحتم رحمة لعبده، وإذا كان ذلك جائزاً في حكمه فلعل الله تعالى قد أمر المسيح في حقّ نفسه بما أمر به إبراهيم في حقّ ولده فاستسلم المسيح وانتهى إلى ما أمره الله به وصار يخبر بذلك تلاميذه كما كان إبراهيم يخبر به ولده.

_ 1 سفر التكوين الإصحاح (22) . في سياق طويل وقد ورد فيه: "أن الله تعالى قال لإبراهيم خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق ... ". وهذا النص مما يُظهر تحريف اليهود ويفضحهم، فقد أضاف اليهود اسم إسحاق في النص ليدعوا بأنه هو الذبيح وليس إسماعيل عليهما السلام، علماً بأن النّصّ يقول لإبراهيم: "ابنك وحيدك"، ومما هو معلوم ومذكور في التوراة أن إسماعيل بكر أبناء إبراهيم ووحيده قبل مجيء إسحاق، فكيف يدّعي اليهود أن إسحاق هو الذبيح؟!!.

ثم لما صحّ عزم المسيح على تجرع الكأس الذي أُمِرَ به لَطُفَ الله له ورحمه وفداه برجل قد حضر أجله، فإن عناية الله بالمسيح لا تتقاصر عن عنايته بولد عبده إبراهيم. وقد حكيتم لنا: "أن [حزقيا] 1 ملك يهوذا مرض، فأوحى الله إلى أشعيا عليه السلام أن قل لحزقيا يوصي فإنه ميت من علته هذه / (1/146/أ) فدخل إليه أشعيا عليه السلام وأخبره بوحي الله، فاستقبل [حزقيا] الجدار وبكى وتضرع إلى الله تعالى، فنزل الوحي على أشعيا قبل خروجه من الدار وقال: قل [لحزقيا] إنك تعافى من علتك هذه، وتنزل إلى الهيكل بعد ثلاثة أيام، وقد زيد في عمرك خمس عشرة سنة"2. وإذا كان هذا وشبهه غير مستحيل عند النصارى، فما الذي أحاله في حقّ المسيح، وقد تضرع إلى الله غير مرّة في صرف كأس المنية عنه كما شهد به الإنجيل؟ والمسيح لا ترد له عندهم دعوة، فلعل الله تعالى قد أجاب دعاءه ورحم نداءه وحال بين اليهود وبين ما أرادوا منه. ثم نقول لهم: وبم تنكرون على من يرى أن الله تعالى تاب على عبده آدم، وعافا نبيّه المسيح وفداه بكافر عَجَّله3 إلى النار. أو بمؤمن عجله إلى الجنة؟! 4. فأي شيء تنكرونه من ذلك؟! وقد بينا فيما تقدم وقوع الشبه وسؤال رئيس الكهنة للشبه: أأنت المسيح؟ وتورية الشبه في الجواب، وأنه لو كان هو المسيح نفسه لما / (1/146/ب) استعمل الحيدة مع استغنائه عن ذلك.

_ 1 في ص (حزقيال) والتصويب من النّصّ. وحزقيا: اسم عبري معناه: (الرّبّ قدقوي، أو الرّبّ قوة) .وهوابن آحازملك يهوذا، وقد مات نحو693،ق. م. (ر: قاموس ص305) . 2 سفر أشعيا 38/1-5. 3 هذا على القول بأن الذي صلب هو الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي وشى لليهود بمكان المسيح. 4 وهذا على القول بأنه الحواري الذي فدى المسيح بنفسه وصلب بدلاً عنه.

ويقال للنصارى: ما تقولون في أحدنا اليوم إذا عصى ربّه وارتكب إثماً واحتقب1 وزراً، أتجزيه التوبة أم لا بدّ أن يقتل ويصلب؟ فإن قلتم: تجزيه التوبة، فمن أصاره بهذا التخفيف أولى من صفي الله آدم؟! إذ قلتم: لا بدّ مع توبته من قتل المسيح لأجله. وإن قلتم: لا تجزيه التوبة، أكذبتم فولس الرسول، حيث يقول في صدر كتابه: "أنراك تقدر على الهرب من عقوبة الله الذي أنه مجتر عليه، أو لا تعلم أن إمهال الله لك إنما هو ليقبل بك إلى التوبة؟ "2. قد صرح فولس في هذا الكلام أن التوبة مجزئة ومخلصة فلا حاجة إلى قتل وصلب. ويقال للنصارى: ألستم تعلمون أن الله إنما فدى آدم بالمسيح رحمة لآدم وامتناناً عليه، فقتل المسيح بدلاً من الموت الذي وجب على آدم؟! فإذا قالوا: بلى. قيل لهم: أليس ناسوت الميسح [إنساناً] 3 من بنى آدم يحس ويألم ويفرح ويغتم؟!. فإذا قالوا: بلى. قيل لهم: فكيف فدى آدم ببعض آدم، فقد صارت النعمة مشوبة بالكدر والنفع الحاصل / (1/147/أ) مشوشاً بالضرر؟! فإن قالوا: هذا بمثابة المال يشرف على الهلاك، [فتقتضي] 4 الحكمة إتلاف بعضه لصون بقيته. فنقول: إنما ذلك لعسر الأمر على المالك، إذ هو مدفوع، إما لهلاك الكل أو البعض، فكأنه كالمكره المحمول على ذلك، والله سبحانه لا مستكره له وليس مضطراً محمولاً ولا يفعل ما يفعله لعلة، فلو عفا عن أجرم عبيده وأحسن إليه لم يعد ذلك منه إلاّ حسناً ولم ينقص الإحسان [خزائنه] 5، ولو عاقب

_ 1 احتقب: ادخر. (ر: القاموس ص 97) . 2 رسالة بولس إلى رومية 2/3-5. 3 في ص (إنسان) والصواب ما أثبته. 4 في ص (فتتقاضى) والصواب ما أثبته. 5 في ص (حراينه) والصواب ما أثبته.

أطوع الناس لم يقبح ذلك منه1، وقد أخبرت التوراة أن الله تعالى عفا عن

_ 1 ينفي الأشاعرة قطعاً أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علة مشتملة على حكمة تقضي إيجاد الفعل أو عدمه، هو ردّ فعل لقول المعتزلة بالوجوب على الله، حتى أنكر الأشاعرة كل لام تعليل في القرآن الكريم وقالوا: إن كونه يفعل شيئاً لعلة ينافي كونه مختاراً مريداً. وهذا الأصل تسمّيه بعض كتبهم (نفي الغرض عن الله) ، ويعتبرونه من لوازم التَّنْزِيه، وجعلوا أفعاله تعالى كلّها راجعة إلى محض المشيئة، ولا تعلق بها لصفة أخرى - كالحكمة مثلاً - ورتبوا على هذا أصولاً فاسدة كقولهم بجواز أن يخلد الله في النار أخلص أوليائه، ويخلد في الجنة أفجر الكفار، وجواز التكليف بما لا يطاق ونحوها. وسبب هذا التأصيل الباطل عدم فهمهم ألا تعارض بين المشيئة والحكمة، أو المشيئة والرحمة. (ر: منهج الأشاعر - د. الحولي ص 47، والحكمة والتعليل - د. محمّد ربيع المدخلي ص 62-67، ر: كتب الأشاعرة المواقف للإيجي ص 331، ونهاية الأقدام للشهرستاني ص 397، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 102، وغيرها. وأما مذهب السلف أهل السنة والجماعة في إثبات الحكمة والتعليل فهو أن أفعاله تعالى تعلل بالحَكَم والغايات الحميدة، التي تعود على الخلق بالمصالح والمنافع، ويعود إلى الله تعالى حبّه ورضاه لتلك الحِكَم وهذه الحكم مقصودة ويفعل لأجل حصولها، واستدل السلف على ذلك بأدلة منها: أ- أجمع المسلمون على أن الله تعالى حكيم، ولا يجوز أن يخلو فعل الحكيم من الحكمة، ولا تكون الحكمة إلاّ من فاعلٍ مختارٍ يكون قاصداً بفعله تلك الحكمة، وفاعلاً لها. ب- النصوص الواردة في القرآن الكريم التي ورد فيها التصريح بلفظ الحكمة، كقوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} ، [سورة القمر، الآية: 5] . وقوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . [سورة النساء، الآية: 113] . ولا شكّ أن المعطي الحكمة غيره يجب أن يكون حكيماً، وورد في آيات أخرى أنه عزوجل فعل كذا لكذا، كقوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . [سورة النساء، الآية: 165] . ج- ومن الأدلة أيضاً، إنكار الله سبحانه على من زعم أنه خلق الخلق لا لحكمة وغاية كقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} . [سورة المؤمنون، الآية: 115] . هذه بعض الأدلة العقلية والنقلية التي استدل بها السلف رحمهم الله. (للتوسع، ر: الفتاوى للإمام ابن تيمية 8/35، 44، 16/299، منهاج السنة 1/447، وما بعده إلى 470، كما أطال ابن القيم في ردّ شبه الأشاعرة في شفاء العليل ص 391-521، الحكمة والتعليل في أفعال تعالى - د. محمّد ربيع المدخلي) .

السامري مع عظم جرمه1، وأهلك بلعام بن بعور مع سابق معرفته2، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُون} . [سورة الأنبياء، الآية: 23] . ويقال لمن زعم خطيئة آدم قد عمّت سائر أولاده، وأنه لا يطهرهم من خطاياهم إلاّ قتل المسيح: فالتوراة والنبوات ترد هذه المقالة الشوهاء؛ وذلك أن التوراة تقول في السفر الأوّل - وهو الذي يعرف بسفر الخليقة ت لقابيل الذي قتل هابيلاً، وردّ الله عليه قربانه ولم يتقبله / (1/147/ب) : "إنك إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطية رابضة ببابك"3. وإذا كان الأمر كذلك فقد صار إحسان المحسن من بني آدم مطهراً له ومخلصاً، فلا حاجة إلى شيء آخر. وقال الله تعالى في السفر الأوّل من التوراة: "إني سأجزي هابيل عن الواحد سبعة"4. وفي ذلك مندوحة عن التطهير بقتل وصلب، إذ الجزاء طهرة وزيادة. وقد قال الله تعالى في بعض النبوات: "لا آخذ الولد بخطية والده ولا الوالد بخطية ولده، طهارة الطاهر له تكون، وخطية الخاطئ عليه تكون"5. وذلك موافق لقول ربنا جلّ اسمه: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . [سورة الأنعام، الآية: 164] .

_ 1 لم يرد في التوراة المحرفة ذكر السامري، الذي صنع العجل لبني إسرائيل، فعبدوه من دون الله حينما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربّه كما أخبرنا القرآن الكريم في سورة طهَ الآيات: 83-99. وإنما تنسب التوراة المحرفة هذا الشرك القبيح - الذي فعله السامري - إلى هارون عليه السلام - حسب عادة اليهود في تحريف كتبهم ونسبة الشرك والقبائح إلى أنبيائهم، ليكون ذلك ذريعة لهم إلى فعلها. (ر: سفر الخروج الإصحاح (32) ، وقاموس الكتاب ص 944) . وقد ذكرت التوراة أن الله غفر له خطأه، وأمر برسمه وذريته كهنة على بني إسرائيل. (ر: سفر الخروج 40/12-15، وقاموس الكتاب ص 995) . 2 وردت قصته في سفر العدد (الإصحاحات: 22، 23، 24، 31) ، وقد تقدم ذكرها. (ر: ص 35) . 3 سفر التكوين 4/6، 7. 4 سفر التكوين 4/15. 5 سفر حزقيال 18/20.

وقد قال الله في المزمور الرابع:"يا بني البشر حتى متى أنتم [ثقيلوا] 1 القلوب؟! لماذا تهون الباطل وتتبعون الكذب؟! اغضبوا ولا تأثموا، والذي تهمون به في قلوبكم اندموا عليه في مضاجعكم، اذبحوا الله ذبيحة البر وتوكلوا على الرّبّ"2. فهذا المزمور من مزامير داود يقول: إنه لا حاجة إلى قتل المسيح، / (1/148/أ) إذ كان الندم والتوكل على الرّبّ تعالى فيه مندوحة عن ذلك. وقال الله تعالى في المزمور الأوّل: "طوبى لمن لم يتبع سبيل المنافقين، ولم يقف في طريق الخاطئين، ولم يجالس المستهزئين، لكن في ناموس الرّبّ يدرس الليل والنهار"3. فقد أخبر الله تعالى على لسان داود عليه السلام أن الاشتغال بأسباب الخير ومفارقة أهل الشّرّ مخلص فلا حاجة إلى الخلاص بقتل المسيح وصلبه. وقال فولس - خطيب النصارى ومتكلمهم -: "أو لا تعلم أن إمهال الله لك إنما هو ليقبل بك إلى التوبة؟ "4. فإن كان لا بدّ من قتل المسيح لضرورة خلاصهم فلا معنى لتوبة الله على عبده. والدليل على أن التوبة ماحية للخطيئة، قول الإنجيل: "إنه لما أُسْلِم المعمداني للقتل خرج يسوع إلى الجليل، وجعل ينادي ويقول: قد كمل الزمان واقتربت ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالبشرى"5. فقد شهد المسيح عليه السلام في هذا الكلام بأن التوبة تستقل بمحو الآثام فلا حلاجة / (1/148/ب) إلى محوها بأمر آخر.

_ 1 في ص (ثقيلي) لصواب ما أثبته. 2 مزمور 4/2-5. 3 مزمور 1/1، 2. 4 رسالة بولس إلى رومية 2/3-5. 5 مرقس 1/14، 15.

ويقال للنصارى: ما تقولون فيمن اخترم قبل مجيء المسيح، أكفاراً كانوا أم مؤمنين؟ فإن قالوا: مؤمنين، فقد سَلَّموا أنه لا حاجة إلى قتل المسيح في تخليصهم، إذ إيمانهم هو الذي خلصهم. وإن قالوا: بل كانوا كفاراً، أكذبهم المسيح إذ يقول في الإنجيل: "إني لم أرسل إلاّ إلى الذين ضلّوا من بيت إسرائيل، وإن الأصحاء لا يحتاجون إلى الدواء"1. ثم نقول لهم: ألستم تزعمون أن المسيح إنما تجشَّم ونزل من السماء لخلاص معشر الناس كما عقدتم في الأمانة التي لكم؟! فإذا قالوا: بلى. قلنا لهم: فما قولكم فيمن مات قبل نزوله عليه السلام؟!. وكيف الطريق إلى بلوغ دعوته إليهم؟!. فإن قالوا: تعذّر تلافي أمره وفات استدراكه بموته. قلنا لهم: جوَّزتم المسيح ونسبتموه إلى الظلم والحيف حيث لم ينْزل لخلاصهم قبل موتهم، فلِمَ أخَّر ذلك حتى اخترموا على الكفر والضلال؟! وكيف صار الأحياء أحقّ برحمة المسيح عندكم من الأموات؟ وفي هذه المقالة / (1/149/أ) هدم أصلكم في التحسين والتقبيح، وإن تحامقوا وقالوا: إن المسيح لما جاء دعا الأحياء وهو حيّ، ثم مات فدعا الأموات في أجداثهم، فمن أجابه نجى ومن أبى هلك ... ، فنقول: أدعاهم في أجداثهم وهو حيّ أم دعاهم وهو ميّت؟!. فإن قالوا: دعاهم وهو ميّت، سقطت مكالمتهم لتبيّن جنونهم. فإن قالوا: دعاهم وهو حيّ، نقضوا قولهم أنه مات فدعا الأموات. ثم يقال لهم: هب أنا ساعدناكم على هذا المحال، فهل لما أتى الأموات دعا المؤمنين والكفار أو اقتصر على دعاء المؤمنين فقط؟!

_ 1 متى 9/12، 13، 15، 24، مرقس 2/17، لوقا 5/31، 32.

_ فإن قالوا: دعا الجميع. قلنا لهم: فلعله قد دعا فرعون ونمرود فآمنا، ودعا جماعة من الموحدين فلم يجيبوا، فهل تشكون في أحد من الفريقين؟!. فإن توقفوا في ذلك فقد جوزوا أن يكون فرعون الآن في الجنان، ومن مات على التوحيد في دركات النيران لاحتمال تغير الحال. وإن منعوا ذلك وقالوا: بل كل من الفريقين على ما مات عليه من كفر وإيمان. قلنا: فدعاء المسيح إيّاهم / (1/149/ب) وموته بسببهم وقع عبثاً. وإن قالوا: لا بدّ من صورة الدعوة لإقامة الحجة عليهم في القيامة. قلنا: قد دعتهم أنبياؤه ورسله وأقاموا الحجة عليهم، فما حاجته إلى تجشمه أمراً قد فرغ منه إلاّ أن تقولوا: إنه اتّهم أنبياءه في الرسالة والسفارة، أو أنه لم يعلم ما أحدثوا في التبليغ عنه فنزل ليعلم حقيقة الأمر. ثم يقال لهم: أليس قد دعاهم في حالة حياته، فزعمتم أنهم وثبوا عليه فقتلوه فصلبوه وأهانوه؟ أَفَترون أنه في حال مماته أنهض منه في حال حياته؟!. فما يؤمنكم أن يكون الأموات حين دعاهم في الأجداث قد وثبوا به أيضاً؟ وهذا عندكم غير مستبعدٍ، إذ قلتم إنه دعا الأموات وهو ميّت، وإذا كان الميّت لا يستحيل منه الدعوة والإجابة، فكذلك لا يستحيل الوثوب والقتل. ثم يقال للنصارى: أليس المسيح عندكم عبارة عن لاهوت وناسوت اتّحدا فصارا مسيحاً؟! فإذا قالوا: بلى. قلنا: فالميت أيهما؟! فإذا قالوا: الناسوت، قلنا: فكيف استقل بهداية الخلق ناسوت ميّت / (1/150/أ) وعجز عن ذلك لاهوت حيّ؟! أفتقولون: إن ناسوت المسيح أقدر على الهداية من لاهوته، وأيضاً، فإن الناسوت في حال اتّحاده أقام فوق الثلاثين سنة بالناصرة وأورشليم لم يتجاوز ذلك فلما فارق لاهوته يوماً وليلة، قلتم: إنه أتى الأموات وهم في أكناف الأرض

متفرقون فدعاهم، فما نرى الناسوت على مقتضى ذلك إلاّ أعم إحاطة من اللاهوت، وما نرى هذا اللاهوت الذي كان متّحداً بالجسد إلاّ قد حبسه عن خير كثير، إذ عطله عن الانبعاث ونشر الدعوة، فسحقاً لإله حيّ أنهض منه جسد ميّت. ثم يقال للنصارى: إذا قلتم: إن ربّكم المسيح قد مات ثم عاش، فَمن الذي أحياه بعد إماتته؟!. فإن قالوا: هو أحيا نفسه، فنقول لهم: هل أحياها وهو حيّ أو أحياها وهو ميّت، والقسمان باطلان على ما لا يخفى. وإن قالوا: بل أحياه غيره وهو الذي أماته، قلنا لهم: فذلك الغير الذي تولى موته وحياته أحيّ هو أم ميّت؟ فإن قالوا: [ميّت] 1، كان ذلك محالاً إذ الميّت لا يحيى ولا يميت. وإن قالوا: إنه حيّ قادر أمات المسيح، ثم / (1/150/ب) أحياه. قلنا: فقد اعترفتم بأن المسيح عبد من عبيد الله تعالى، تجري عليه أحكامه من الموت والإحياء، وفي ذلك بطلان شريعة إيمانكم، إذ تقولون فيها: إن المسيح إله حقّ خالق، غير مخلوق، وإنه أتقن العوالم وخلق كلّ شيء بيده. ثم يقال لهم: أخبرونا هل إماتة المسيح ممن أَماتَه وأعدمه فضل وحكمة أم سفه وعبث؟!. فإن قالوا: [فضل] 2 وحكمة، فقد أثنوا على اليهود؛ لأنهم ساعدوا على حصول الفضل والحكمة، ومدحوا يهوذا الإسخريوطي؛ لأنه فاز بالدلالة وأعان على حصول هذا الفضل والحكمة.

_ 1 في ص (مينا) والصواب ما أثبته. 2 في ص (فضلا) والصواب ما أثبته.

وإن قالوا: إن إماتة المسيح سفه وعبث. فقد نسبوا الرّبّ الأزلي إلى السفه والعبث، ويتعالى عن ذلك. وإن قالوا: إن إماتته فضل وحكمة، ولكن لَعْن اليهود ويهوذا متعيّن؛ لأن ذلك كَسْبُهم وإن وافقوا الفضل والحكمة وصادفوا ذلك مصادفة. قلنا لهم: أزريتم على المسيح غاية الإزراء، إذ زعمتم أنه قال على الصليب: "إلهي إلَهي كيف تركتني وخذلتني؟ "1. وقال أيضاً: "إن كان يحسن / (1/151/أ) صرف هذا الكأس عني فاصرفها"2. فلزم بمقتضى قولكم أنه قد تطير بهذا الفضل والحكمة، والتمس البقيا وترك هذا الفضل، وذلك فيما زعمتم سفه يناقض الحكمة. ثم يقال لهم: أخبرونا لو لم يتب آدم ولقي الله بخطيئته، هل كان قتل المسيح يستقل بخلاصه؟!. فإن قالوا: لا. أحالوا الخلاص إلى التوبة دون قتل المسيح. وإن قالوا: نعم في دم المسيح وفاء بالخلاص. وإن لم يتب آدم [وبنوه] 3، أخلوا التوبة عن الفائدة، ولزم أن يكون كل فاجر وقاتل وظالم خلصوا، فإن التزموا ذلك قيل لهم: فيهوذا الإسخريوطي وفرعون ونمرود وأشباهم قد خلصوا أيضاً، وليس في النصارى من يتجاسر على البوح بذلك، وهو لازم لهم على مقتضى قولهم هذا. فإن قالوا: بل الخلاص بمجموع الأمرين بالتوبة ودم المسيح. قلنا: كأنكم لا ترون دم المسيح مكافئاً لآدم ما لم تنضم إليه التوبة، وهذا تصريح منكم

_ 1 متى 27/46، مرقس 15/34. 2 متى 26/29، مرقس 14/36، لوقا 22/42. 3 في ص (بنيه) والصواب ما أثبته.

بنقصه عن مقابلة آدم وعجزه عن خلاصه لولا التوبة، ولعمري إن من عجز عن خلاص عبدٍ واحدٍ أنه عن خلاص / (1/151/ب) سائر الخلائق أعجز. ويقال لمن زعم أنّ الخلائق لا يخرجهم من خطاياهم ويخلصهم من ذنوبهم إلاّ قتل المسيح: أليس قد رويتم عنه في الإنجيل قوله: "إذا كان في القيامة أقمت الصالحين عن يميني والظالمين عن شمالي، وأقول لأهل اليمين فعلتم بيَ كذا فاذهبوا إلى النعيم. وأقول لأهل الشمال: فعلتم بيَ كذا فاذهبوا إلى الجحيم"1. وإذا كان ذلك صحيحاً فإحسان المحسن هو الذي اقتضى خلاصه، لا ما ادعيتم من قتل المسيح، ومما يؤيد ما قلناه قول مرقس في خاتمة إنجيله: "إن المسيح حين ودع تلاميذه صاعداً إلى السماء، قال لهم: كرِّزوا بالإنجيل في الخليقة كلها، فمن آمن خلص، ومن لا يؤمن فإنه يدان"2. وإذا كان إيمان3 الإنسان هو يخلصه بشهادة المسيح فلا حاجة إلى الخلاص بقتل ولا صلب، وقال لوقا أيضاً: "إن امرأة صبت على رجلي المسيح دهناً كثيراً له قدر كبير، وبكت حتى بلت قدميه بدموعها، فقال لها: اذهبي إيمانك خلصك"4. ويقال للنصارى: أخبرونا / (1/152/أ) لو لم يقتل المسيح فداء وقضاء عن آدم، ومات حتف أنفه ما كان يكون حال آدم؟!. فإن قالوا: يعذب على خطيئته. قيل لهم: فلا معنى لقبول توبته إذاً. وإذا قالوا: لا يعذب. قيل لهم: فقتل المسيح وقع عبثاً.

_ 1 متى 25/31-46. 2 مرقس 16/14، 15. 3 في ص: (إيمان المسيح الإنسان) ، فزاد كلمة (المسيح) والذي أراه حذفها ليستقيم المعنى. والله أعلم. 4 لوقا 7/37-50، في سياق طويل.

ويقال لهم: أخبرونا عن قول الله تعالى في التوراة لآدم: "إنك في اليوم الذي تأكل من الشجرة تموت موتاً"1. ما أراد الله سبحانه بهذا الموت؟ أموت المعصية أم موت الطبيعة؟. فإن قالوا: موت المعصية. قلنا لهم: فقد أحيته التوبة. وإن قالوا: موت الطبيعة، أكذبتهم التوراة والكتب القديمة؛ إذا صرحت بأن آدم بعد ملابسة الزلة عاش دهراً حتّى رزق الأولاد ورأى فيهم البَر والفاجر2، فقد لزمهم خلو قتل المسيح عن الفائدة. ويقال لهم: أخبرونا هل كان المسيح في الثلاثين سنة قبل الدعوة يسمى ابناً ومسيحاً أم لا؟ فإن زعموا أنه كان يسمى بذلك، أكذبتهم أقوال التلاميذ في الإنجيل، إذ قالوا: "إنه في طول هذه المدّة لم يعرف إلاّ بابن داود3 وابن يوسف"4. وإن قالوا: لم يسم ابناً إلاّ بعد التعميد، فقد اعترفوا بأن المسيح ليس مسيحاً / (1/152/ب) وابناً حقيقة، وإنما هو مسيح بالتسمية لا غير، وفي ذلك تسوية له بيعقوب وداود، وكلّ من مُسِح من أولاد هارون وسُمِّي بهذا الاسم، وعند ذلك لا نشاححهم في مجرد التسمية إذا صحّ إطلاقها على الصلحاء من بني إسرائيل، وتحقق أن فداء آدم من خطيئته برجل صالح من ذريته قد شرفه الله بأن سماه ابناً ومسيحاً كما شرف عبده إسرائيل وغيره.

_ 1 سفر التكوين 2/16، 17. 2 سفر التكوين الإصحاح (4، 5) . 3 متى 1/1، 9/27، 21/9. 4 لوقا 3/23، يوحنا 1/45.

ويقال لهم: هل كان خلاص آدم من غير أن ينال المسيح سوء ممكن في قدرة الله أم كان عاجزاً عن ذلك؟!. فإن قالوا: لا يمكن ذلك، جعلوا الله سبحانه مضطراً مدفوعاً عاجزاً عن سلامة عباده وصونهم عن المحن والبلايا، والتوراة والكتب تكذبهم إذ هي شاهدة بقدرة الله على كلّ ممكن. وإن قالوا: إنه كان قادراً على ذلك، جوّروا الله وحيِّفوه ونسبوه إلى الظلم؛ إذ عذب آدم أو قتل المسيح وهو قادر على سلامته وكفايته، وذلك يشوش عليهم القول بالتحسين والقبيح. قال المؤلِّف: إنما طوّلنا النفس في هذا الباب هدماً لقاعدتهم / (1/153/أ) في القتل والصلب. وهي قطب كفرهم1. والله أعلم.

_ 1 لقد سبق بيان أهمية عقيدة الصلب في النصرانية. ويؤكّده قول البروفيسور جوردن مولتمان في كتابه: (الإله المصلوب) : "إن وفاة عيسى على الصليب هي عصب كلّ العقيدة النصرانية. إن كل النظريات المسيحية عن الله وعن الخليقة وعن الخطيئة وعن الموت؛ تستمد محورها من المسيح المصلوب. وكل النظريات المسيحية عن التاريخ وعن الكنيسة وعن الإيمان وعن التطهر وعن المستقبل وعن الأمل؛ إنما تنبع من (المسيح المصلوب".اهـ. (نقلاً من - مسألة صلب المسيح - للشيخ أحمد ديدات، ص 10) .

الباب السادس: في الأجوبة المسعدة عن أسئلة الملحدة

الباب السّادس: في الأجوبة المسعدة عن أسئلة الملحدة نسطر أسئلة عبثوا بالسؤال عنها، ونشفعها بالجواب، لينتفع بذلك من أحبّ مكالمتهم: 1- سؤال: قال النصارى: قد علمتم معاشر المسلمين أن اليهود والنصارى يزيد عددهم على عدد التواتر أضعافاً مضاعفة، وها هم ينقلون ويخبرون أن المسيح قد قُتل وصُلب على رابية من روابي البيت المقدس، وخبر التواتر يفيد العلم ويُوجب القطع، فكيف ينفي كتابكم ما أثبته التواتر؟! وما ذلك إلاّ بمثابة من ينفي وجود بغداد وغيرها مما عُلم بالضرورة. والجواب: هو أنّا نقول: مَن سَلَّم لكم أن الذين شاهدوا والقتل وشهدوا به بلغوا حدّ التواتر، كلاَّ. لم يكونوا بهذه الصفة، وبيانه أن الذين حضروا القتل والصلب إنما كانوا شرذمة من اليهود، فأما أصحاب المسيح فلم يحضر منهم أحد البتة كما قدمنا1. وإذا كان المخبرون آحاداً / (1/153/ب) وأفراداً فلا تواتر، إذ التواتر شرطه أن يستوي فيه الطرفان والواسطة. وإذا كان الحاضرون للقتل لم يوصفوا بهذه الصفة فكثرة من جاء بعدهم إنما أخبر عنهم، فلا جرم قُدِّم تواتر الكتاب العزيز على خبرهم. فهذا وجه.

_ 1 ر: الباب الخامس.

والوجه الثاني: أَنَّا لو قَدَّرنا أنهم بلغوا حدّ التواتر - غير أن التواتر إنما أثبت قتلاً وصلباً لا غير - فلا جرم أن القرآن الكريم لم يَنْفِه، ولكن القرآن إنما نفى أن يكون المفعول به ذلك المسيح نفسه، وأعلمنا أنه كان قد شُبِّه لهم. وهذا القدر لو عُرِض على الذين شاهدوا الصلب وقيل لهم: أتجوِّزون أن يكون هذا الذي قد أُحْضر للقتل ليس هو المسيح، ولكنه رجل قد ألقى الله شبهه عليه أو خلقه الله ابتداء يُشبه المسيح؟! فإنا نعلم أنهم كانوا يجوّزون ذلك ولا يحيلونه؛ لأن تغيير الأشباه والأشكال جائز في مقدور الله تعالى، وإنما يمتنع ذلك في زمان لا تخرق فيه العوائد، وقد كان في زمان المسيح خوارق [لا يخفى] 1 / (1/154/أ) أمرها، فلا يمتنع أن يكون الله سبحانه قد خرق العادة بإلقاء شبه المسيح على غيره، أو أتاح لهم شخصاً يشبهه، كما خرق العادة فقلب النار برداً وسلاماً على إبراهيم الخليل وعلى الفتية في زمن دانيال عليه السلام، وكما حوَّل لون يد موسى عن لونها الأوّل، وغَيَّر جوهر الماء إلى الخمر والزيت للأنبياء - عليهم السلام -. وإذا كان ذلك جائزاً، فالذين أخبروا أن المصلوبَ المسيحُ ليسوا على ثبت، فلم يوجب خبرهم عِلْماً، فلا جرم قُدِّم تواتر الكتاب العزيز عليهم، وإذا ثبت ذلك لم يقع التعارض بين الأدلة القطعية. فإن قيل: مَن هو الذي وقع عليه الشَّبه حتى التبس أمره على اليهود والنصارى واشتبه؟

_ 1 في ص (لا تخفى) والصواب ما أثبته.

قلنا: روى وهب1 بن منبه: أن المسيح حين أحاطت به اليهود في بيت كان فيه، صوَّر الله الجميع بصورة المسيح، فخرج واحد منهم وكانوا تسعة عشر رجلاً فأخوه وذهبوا ليلاً2، وكذلك روى مجاهد3. وقال ابن4إسحاق - عمَّن أسلم منهم -: "إن المسيح/ (1/154/ب) ، حين حصره اليهود قال: من يقبل صورتي فيقتل وله الجنة؟ فقال أحد من معه: أنا. فوقع عليه شبه المسيح. وصعد بالمسيح من ساعته إلى السماء، وأخذ الرجل فقتل صبيحة تلك الليلة"5. قاله من المفسرين: السُّدِّي6، وقتادة7، وابن8 جريج.

_ 1 هو: وَهْبُ بن مُنبه بن كامل اليماني، أبو عبد الله الأنباري. العلامة الإخباري القصصي، من خيار علماء التابعين، مات سنة 110هـ. (ر: ترجمته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 9/24، وسير أعلام 4/544، تهذيب التهذيب 11/147، التفسير والمفسرون - الذهبي 1/195) . 2 أخرجه الإمام ابن جرير الطبري، ورجّه في تفسيره 6/12، 15، 16. 3 هو: مُجَاهد بن جَبْر، الإمام، شيخ القراء والمفسرين، أبو الحجاج المكي، مولى السائب بن أبي السائب. من كبار التابعين، مات سنة 104هـ على الأشهر. (ر: ترجمته في المصادر السّابقة على الترتيب 8/319، 4/449، 10/38، 1/104) . 4 هو: محمّد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر، المطلبي مولاهم، إمام أهل المغازي، صاحب السيرة النبوية. صدوق يدلس. مات سنة:150هـ. وقيل: بعدها. (ر: ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/321، سير أعلام النبلاء 7/33، تهذيب التهذيب 9/38، تاريخ بغداد 1/214) . 5 أخرجه ابن جرير الطبري في تفسير 6/14، 15، عن ابن إسحاق، والسّدّي، وقتادة، وابن جريج، والقاسم ابن أبي بزة. 6 هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كَرِيمة، الإمام المفسّر، أبو محمّد الحجازي ثم الكوفي الأعورُ السُّدِّي. أحد موالي قريش. صدوق يهم. ورمي بالتشيع. من الرابعة. مات سنة 127هـ. (ر: ترجمته في: طبقات ابن سعد 6/323، سير أعلام النبلاء 5/264، تهذيب 1/313، طبقات المفسرين 1/109) . 7 هو: أبو الخطاب، قتادة بن دعامة السّدوسي البصري، الأكمه، حافظ العصر، قدوة المفسرين، وهو حجة بالإجماع إذا بيّن السماع، فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر - نسأل الله العفو - وهو رأس الطبقة الرابعة. مات سنة: 117هـ. (ر: ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/229، سير أعلام النبلاء 5/269، تهذيب 8/315، طبقات المفسرين 2/43، التفسير والمفسرون، الذهبي 1/125) . 8 هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الإمام الحافظ، شيخ الحرم، أبو خالد وأبو الوليد الأموي، ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل من السادسة، مات سنة 150هـ، أو بعدها. (ر: ترجمته في: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم5/356،سير أعلام النبلاء 6/325، تهذيب 6/402، التقريب 1/520، التفسير والمفسرون 1/198) .

وقيل: "إن اليهود لما جاؤوا لأخذ المسيح هرب من كان معه من أصحابه وثبت معه رجل واحد يسمّى: جرجس، فألقى الله شبهه عليه، فأخذوه وذهبوا به ليلاً، وستر الله المسيح عن أعينهم، فعذبوا الرجل ليلاً، ثم قتلوه من صبيحة تلك الليلة"1. فلم يشكّ من كان ترك المسيح وهرب عنه أن المأخوذ هو المسيح، فلذلك أخبروا أن المسيح قد صلب. قال المؤلّف: قد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا عن بطرس - صاحب المسيح - أن المسيح عليه السلام صعد إلى جبل الجليل في جماعة من أصحابه، فنظروا إلى وجهه وإذا هو قد تغيرت صورته، وابيضت ثيابه، وإذا موسى وإلياء قد نزلا إليه ومعهم سحابة تظلهم، وعند ذلك وقع على بطرس / (1/155/أ) وأصحاب المسيح النوم فناموا2، وذلك يحقّق قولنا في الشبه 3.

_ 1 أخرجه ابن جرير6/15،قال: قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق: ... فذكره بنحوه. 2 متى 17/1-8، ومرقس 9/1-8. 3 اختلف العلماء في الشبه المصلوب بدلاً عن المسيح عليه السلام على أقوال هي: الأوّل: أن عيسى عليه السلام سأل أصحابه - ممن كان معه في البيت حين أحاط به اليهود - فقال: "أيّكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ ". فانتدب لذلك شاب من أحدثهم سنّاً، فألقي عليه شبهه فيقتل، ورفع عيسى عليه السلام. قال بهذا قتادة والسدي والقاسم بن أبي عزة وابن جريج. ورجّحه الإمام ابن كثير 1/587، 588، وساق في ذلك أثراً من تفسير ابن عباس ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه. وكذا ذكره غير واحد من السلف. اهـ. الثّاني: قيل: إن شبه عيسى ألقي على جميع من كان معه في البيت من غير مسألة عيسى إيّاهم ذلك، فخرج إلى اليهود بعض من كان في البيت، فقتلوه وهم يحسبونه أنه المسيح عليه السلام. وهذا القول أحد الروايتين عن وهب بن منبه واختاره الإمام ابن جرير في تفسيره 6/16. الثّالث: قيل: إن الشبه ألقي على الحواري الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي أخذ الرشوة من اليهود ليدلهم على مكان المسيح عليه السلام، فعاقته الله بعكس مقصوده. فألقي شبه عيسى عليه، فقبض عليه اليهود وقتلوه وهم يحسبون أنه المسيح عليه السلام. وهذا القول أحد الرواتين عن وهب منبه. (ر: تفسير الطبري 6/13، وبه قال نجم الدين الطوفي في كتابه: (الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية ص 102) . وقد وردت هذه الرواية في إنجيل برنابا: (الفصل الإصحاح 214، 215، 217) . الرّابع: قل: إنه شبه للنصارى القول بذلك، أي: حصلت لهم الشبهة في أمره، وليس لهم علم بأنه قتل وصلب، وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشُرُطهم المُدَّعون لهم أنهم قتلوه وصلبوه، وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك. وإنما أخذوا مَنْ أَمْكَنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس، ثم أنزلوه ودفنوه تمويهاً على العامّة الذين شبه لهم الخبر. وقال بهذا ابن حزم في الفصل الملل والنحل 1/125، وذكره ابن القيم في هداية الحياري ص 314. والذي أرجّحه - والله أعلم - هو القول الأوّل لصحّة إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على الحواريين في عدة آيات من سورة آل عمران، والمائدة، والصّفّ، قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} . [سورة المائدة، الآية: 111] . وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . [سورة آل عمران، الآية: 52، 53.] . فناسب أن يكون موقفهم بحسب قوّة إيمانهم بالله وتصديهم لنبيّه عيسى عليه السلام أن يفدوه بأنفسهم ويستشهدوا في سبيل الدفاع عنه عليه السلام.

2- سؤال: قال النصارى: كيف يصحّ أن يكون المصلوب غير المسيح ثم يقترن بصلبه ظهور ما ظهر من الآيات من اسوداد الشمس وانشقاق حجاب الهيكل وقيام الأموات وغير ذلك، وكم قد قُتِلَ من الأنبياء والشهداء ولم يظهر عند مقتلهم شيء من هذا؟ قلنا: قد دللنا على كذب هذا النقل بعدم انتشاره في العالم واشتهاره بين طبقات بني آدم، وأنه لو كان صحيحاً لَدُوِّن في الكتب ونقله علماء العجم والعرب، فيحث لم ينقل ذلك دلّ على كذبه وافتعاله1. ثم لو قدرناه صدقاً وأمراً ثابتاً حقّاً لم يلزم منه أن يكون المصلوب هو المسيح بل لكونه من الحواريين الذين هم عندكم أفضل من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين، ثم ذلك الحواري أفضل الحواريين كلّهم لوجهين: أحدهما: لإيثاره المسيح بنفسه حتى فداه من القتل. والثاني: لإيثار المسيح إيّاه بشبهه، فقد صار له بذلك مزيّة أجبت أن تبكى عليه السماء والأرض ويتشوش العالم فيأخذ في النقص والنقض. / (1/155/ب) .

_ 1 ر: ص 228، 229.

3- سؤال على النصارى: يقال: للنصارى: قد زعمتم أن المسيح هو إله العباد وخالقهم وبارؤهم ورازقهم وآمرهم وناهيهم ومدبِّرهم في جيمع أحوالهم وحافظهم إلى منتهى آجالهم، ثم زعمتم مع ذلك أن اليهود عدوا عليه فأخذوه قهراً وسحبوه قسراً بعد أن هرب واختفى، وإنما دَلَّ عليه بعض أصحابه، فلما ظفروا به أهانوا وبذلوه وما صانوه، ثم جعلوا على رأسه إكليلاً من الشكوك، وعبثوا به كما يعبث بأهل النوك، ثم رفعوه على جذع ضماناًواستسقى ماء فسقي خلاً هواناً، ثم ترك حتى ألصقت الشمس جسده بالصليب، ولم يكفن لولا تصدّق عليه بالكفن إنسان غريب، وبقي برهة تحت التراب تبكيه الأحباب والأتراب، فأخبرونا يا سخفاء العقول ومنتحلي هذا المحال المنقول-مَنِ الذي كان يقوم برزق الأنام والأنعام في تلك الأيام؟!. وكيف كان حال الوجود والإله في اللحود؟! ومَن الذي دَبَّر السماء والأرض وخلقه فيها بالبسط والقبض والرفع والخفض؟! وهل دُفنت الكلمة بدفنه وقُتلت بقتله أم خذلته/ (1/156/أ) وهربت مع تلاميذه؟ فإن كان قد دفنت بدفنه، فإن قبراً وسع الإله القديم لقبر عظيم، وإن كانت قد فَرَّت وأسلمته، فكيف تصحّ مفارقتها له بعد اتّحادها به؟! أين ذهب الاتّحاد وكيف بطل الامتزاج؟!. وما شأن هذا الإله المسكين - أسمله قومه لأعدائه وخذله سائر أودائه1؟. أين قولكم في الأمامنة: "إن المسيح أتقن العوالم بيدهوخلق كلّ شيء"؟ أين ما وصفتم عن الإنجيل أن العالم بالمسيح كُوِّن؟

_ 1 أي: أحبائه. (ر: القاموس ص 415) .

وقولكم: إن الآب لا يدين أحداً، بل الابن هو الذي يدين الناس1، أترونه كان راضياً بما فعل به قادراً على الدفع عن نفسه؟ فإن كان راضياً، فالذي فُعِل به كفر، ومذهبكم يأبى ذلك، وكان ينبغي على سياق هذا أن تثبتوا على اليهود وتترحموا على يهوذا الأسخريوطي وتصلوا عليهم؛ فإنهم أعانوا على حصول رضاه وسارعوا إلى ما قدَّره وقضاه. وإن كان ذلك بغير رضاه فاطلبوا إلهاً سواه، فإن من عجز عن حماية خشاشة حتى تم عليه ما نسبتم له، كيف ترجون عنده نفعاً أو تؤملون / (1/156/ب) لديه دفعاً؟! وهذه نقيصة تقتضي تَنَقُّضُ من لصقت به. فإن قيل: إنما يكون ذلك نقيصة إذا كان المفعول به عاجزاً عن الامتناع والدفاع، فأما المسيح فلو شاء لامتنع من اليهود وأهلك من قصده بأذى من سائر الجنود، بل إنما أراد أن يستسلم ويبذل نفسه فداءً عن الناس لينقذهم من الخطيئة ويزيل عنهم درن الذنوب ويطهرهم من التبعات والحوب. فنقول: لا نسلم ما ذكرتم، إذ كتابكم شاهد عليه بأنه هرب واختفى واستتر من أعدائه مراراً واعتنى وتنقل من مكان إلى مكان، وبذل في طلب السلامة غاية الإمكان، إلى أن دلَّ عليه رجل من أصحابه فأخذ بغير اختياره وإيثاره. وهذا شيء لم نسمعه إلاّ منكم ومن كتابكم، وقد حكيتم أن آخر كلام سُمع منه: "إلَهي إلَهِي لِمَ تَركتني؟ ". مع تقدم قوله في دعائه: "إلهي إن كان يحسن صرف هذا اكأس فاصرفها عني". فبطل قولهم في هذا السؤال لو شاء لامتنع وفعل بأعدائه وصنع.

_ 1 هذا هو الأساس الثالث من أسس العقيدة النصرانية المنحرفة. وهو الاعتقاد بأن المسيح سيحاسب الناس يوم القيامة. لأنه من أجلهم - كما يزعم النصارى - وهذا الأساس مبنى على الأساس الثاني الذي تقدم بيانه. (ر: ص 375) .

وأما قولهم: إنه أراد أن يستسلم ويبذل نفسه فداء عن الناس لينقذهم من الخطيئة والبأس، فهذا كلام من الكلام/ (1/157/أ) السخيف، وذلك أنه لا يخلو أن يفديهم بنفسه من عقاب نفسه أو عقاب غيره. فإن كان إنما فداهم من عقاب نفسه، فما حاجته أن يرذل نفسه في أمر هو يملكه وزمامه بيده؟ فهلا عفا عنهم وأعفا نفسه من القتل والإهانة! وإن كان إنما افتداهم من عقاب غيره فقد صار ضعيفاً عاجزاً لم يمكنه صلاح عباده إلاّ بأن يشفع لهم، ثم لا تقبل شفاعته حتى يبذل نفسه للصفع والإهانة والموت. والعجب أنه مع بذل نفسه لهذه المحن لم تقبل شفاته، ولم يحصل لهم الفداء الذي يدعون، هذا مع أن المشفوع إليه أبوه، أفلم يكن له عند أبيه من الجاه ما يُشَفِّعه في مطلوبه وهو معافى من هذه المحن بلا قتله وصلبه من غير إسعافه بمراده؟ ومثل هذا الفعل لا يصدر إلاّ من العدوّ المشاحن وأرباب الحقود والضغائن، ومما يتعجب منه أن هذا الرّبّ الذي تدعون بعد أن تعنَّى ونزل إلى الأرض وحَلَّ به ما وصفتم يبتغي بذلك خلاصكم، لم يحصل لكم خلاصاً ولا تَمَّ له مراد. لأنه إن كان أراد خلاصكم من محن الدنيا فها أنتم باقون على ما كنتم / (1/157/ب) عليه من طبائع البشر وتحمل الضرر ومعالجة الهرم والكبر ومضاجعة الأجداث والحُفر. وإن كان أراد خلاصكم من عهد التكاليف ليحط عنكم الآثام ويسقط الصلاة والصيام، فها أنتم دائبون على التكليف مخاطبون بالتصحيح والتوسيف، وإلاّ فكان ينبغي أن مَن زنا منكم وسرق وافترى وفسق لا يؤاخذ

بجريرة ولا يعاقب على صغيرة ولا كبيرة. وإن كان أراد خلاصكم من أهوال القيامة وأنكال يوم الطامة وما يتوجه على العباد عند قيام الأشهاد، أكذبكم الإنجيل إذ يقول فيه: "إني جامع الناس في القيامة عن يميني وشمالي، فأقول لأهل اليمين: فعلتم خيراً فاذهبوا إلى النعيم، وأقول لأهل الشمال: فعلتم شرّاً فاذهبوا إلى الجحيم"1. وإذا لم يحصل لكم بنزول المسيح خلاص من عقاب الدنيا ولا من عذاب الآخرة، فأين ترجون الخلاص الذي جاءكم لأجله وفعل بنفسه ما ذكرتم ثم لم يتم له مراد؟!. وإذ كان ذلك فاطلبوا الخلاص ممن هو بيديه ومُعَوِّل سائر الخلائق عليه وهو الذي لا إله سواه سبحانه وتعالى عما يشركون. 4 سؤال: (1/158/أ) قال النصارى: إنما استسلم المسيح ليعلمنا الصبر على الشدائد فتعظم أجورنا وتجزل مثوباتنا، والمتابعة بالحال أبلغ منها بالمقال. فنقول: فما بال أحدكم لا يجلس في بيته حتى يناله ما وصفتم غير منازع خصمه ولا مدافع عدّوه؟ وما بالكم تقيمون سوق الحروب وتبيحون الغصوب وتنصبون القتال وتسفكون الدماء من النساء والرجال؟ فما نرى التعليم أفادكم خيراً ولا منعكم شرّاً ولا أكسبكم عِلماً ولا أنالكم حِلماً، وصار ما وصفتم به ربكم من الإهانة خالياً عن الفائدة صفراً من الحكمة. وكيف يحسن منكم إيراد هذا السؤال مع قولكم عنه: إنه حين نزل به المكروه الذي وصفتم، قال: "إلَهي إن كان يمكن صرف هذا الكأس عني فاصرفه عني". وهذا القول منه إن صحّ عنه يكذبكم في قولكم: إنه استسلم وألقى بيديه لقصد تعليمكم وتقويمكم.

_ 1 متى 25/31-46.

5- سbؤال: قال النصارى: إنما يكون القتل نقيصة لو أنه مضاف إلى لاهوت المسيح، ونحن لا نعتقد ذلك؛ وإنما القتل والضرب والصلب مضاف إلى ناسوت / (1/158/ب) المسيح دون لاهوته. فنقول: يمتنع ذلك على اليعقوبية1 منكم القائلين بأن المسيح قد صار بالاتّحاد طبيعة واحدة، إذا الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميّز عن لاهوت حتى يخص بالقتل والإهانة بل قالوا: إنه صار شيئاً واحداً، والشيء الواحد لا يقال إنه مات ولم يمت، وقتل ولم يقتل، وأهين ولم يهن. وأما الروم2 وغيرهم القائلون بأن المسيح بعد الاتّحاد باق على طبيعتين، فيقال لهم: هل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل والصلب؟ فإن زعموا أنه فارقه أبطلوا دين النصرانية جملة، إذ بطل الاتّحاد ولم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلاّ بالاتّحاد، فإذا حكموا بأن الإله قد تجرد عن الإنسان وفارقه فقد بطلت ربوبية المسيح في ذلك الزمان. وإن قالوا: لم يفارقه، فقد التزموا ما ورد على اليعقوبية، وهو كون اللاهوت قتل بقتل الناسوت وأهين بإهانته. وإن فسروا الاتّحاد بالتَّدَرُع، وهو أن الإله جعله درعاً ومسكناً له وبيتاً3، ثم فارقه عند ورود ما ورد على الناسوت أبطلوا ألوهية المسيح في تيك الحال. وقلنا لهم: أليس / (1/159/أ) قد امتهن الناسوت وأهين وأرذل؟! وهذا القدر يكفي في إثبات النقيصة إذ لم يأنف لمحله وسكنه ودرعه أن تناله هذه النقائص، وإن الإنسان ليركب دابة ويلبس ثوباً فيصونه عن الأذى والقذى أن يناله.

_ 1 فرقة من فرق النصارى الكبيرة وسيأتي الحديث عنها. 2 وهم طائفة الملكية من فرق النصارى الكبيرة. 3 هذا القول هو مذهب طائفة النسطورية. من فرق النصارى الكبيرة.

ثم إن كان اللاهوت قادراً على دفع النقائص عن محله ومسكنه ثم لم يفعل فقد أساء مجاورته ورضي بدخول النقص على موضعه، وذلك بالنقص عليه في نفسه. وإن لم يكن قادراً، فذلك أبعد له عن عِزَّ الربوبية وأقرب إلى ذلّ العبودية. 6- سؤال: فإن قال النصارى: كيف يجوز إلقاء الشبه - وهو ضلال؟ - وإذا كان الله تعالى هو الذي أضل عباده فلا معنى لإرسال الرسل إليهم، بل يكون ظالماً للرسل إذا بعثهم إلى من يكذبهم أقوالهم ويَرُدُّ، وكيف يستقيم أن يرسل رسلاً يهون العباد من كُفْرٍ وهو الذي زينه لهم؟!. قلنا: الانفصال عن هذا السؤال في التوراة والإنجيل. أما التوراة فإنها مصرحة بأن الله قد قَسَّى قلب فرعون فلم يؤمن بموسى: "فقال الله فيها: يا موسى اذهب إلى فرعون/ (1/159/ب) وقل له: يقول لك إله بني إسرائيل: أرسل شعبي تتعبد لي، وأنا أُقَسِّي قلب فرعون فلا يرسلهم"1. وفي التوراة: "إن كلّ آية صنعها موسى بمصر قد صنع السحرة مثلها"2. وأما الإنجيل فقال: "قال يسوع: إني ذاهب إلى أورشليم لأقتل وأصلب، فقال له بطرس: حاشاك من هذا، فانتهره، وقال: إني جئت لهذا"3. فقد علم الكفر وأراده وتعنَّى بسببه، وقدر على كفّ اليهود وتركهم على كفرهم فلم يكففهم.

_ 1 سفر الخروج 4/21. 2 سفر الخروج 7/11. 3 متى 16/21-23.

وقد قال يسوع في الإنجيل: "الويل لذلك الإنسان الذي يسلَّم ابن الإنسان خير له لو لم يولد"1. وإذا كان هذا جائزاً عند النصارى واليهود جميعاً2، فكيف يمنعونأن يصون الله نبيّه المسيح عن قوم يريدون قتله ويلقي شبهه على رجل آخر قد حضر أجله يجعله له جُنَّةً ويثيب ذلك الرجل عن صبره الجنّة؟!. على أَنَّا نقول: ليس في إلقاء الشبه ضلال كما زعم مورد السؤال، إذ ليس الإلقاء هو الذي بعثهم على القتل، بل ما جاؤوا إلى المسيح إلاّ وهم قد أجمعوا على الفتك به، وبهذا القصد كفروا، وإنماكان/ (1/160/أ) الإلقاء لتخليص المسيح من أيديهم، وهذا خلاص من الضلال لا إضلال. وإنما كان يكون تضليلاً لو كان الله أمرهم بقتل المسيح، ثم ألقى شبهه على آخر فقلتوه، وأما إذ نهوا عن القتل فخالفوا وجاروا ليقتلوا، فحال بينهم وبين المسيح. وإلقاء شبهه على غيره، أو أباح لهم من يشبهه في الصورة، فلا يقال لهذا القبيل تضليل.

_ 1 مرقس 14/21. 2 يقول ابن القيم: "وقد اتّفقت رسل الله من أوّلهم إلى آخرهم وكتبهم المُنَزَّلة عليهم أنه سبحانه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلّ فلا هادي له. وأن الهدى والضلالة بيده لا بيد العبد. وأن العبد هو الضالّ أو المهتدي. فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء الضلال فعل العبد وكسبه". اهـ. وقد ذكر الإمام ابن القيم بعد هذا مراتب الهدى والضلال في القرآن الكريم، وتكلم على كلّ منها، وبيّن ما بينها من الخصوص والعموم وأطال في ذلك. (ر: شفاء العليل ص 142-182) .

ثم ولو قدَّرنا ذلك تضليلاً، فمذهب أهل الحقّ أن الله يفعل ما يريد ويضلّ من يشاء من العبيد، ولا ينسب إلى ظلم ولا جور إذ له بحقّ ملكه - وملك حقّه - أن يفعل ما أراد، فلا يجب عليه شيء ولا يتوجه لمخلوق عليه حقّ، وكلّ ما يفعل فهو حسن. وكل ما يوصله من خير فهو ابتداء فضل. وكلّ ما يبتلي به من ضرّ فهو قضاء عدل. وقد زَلَّ وهفا مَن أوجب على الله ثواب المحسنين أو عقاب المسيئين [إذ لا] 1 يجب على ربّ الأرباب ثواب أو عقاب2.

_ 1 في ص (أنا) والتصويب من المحقِّق. والزيادة يقتضيها السياق. 2 إن مسألة الوجوب على الله أو (هل يجب على الله تعالى شيء؟) ، قد سلك فيها كلّ من المعتزلة والأشاعرة طريقين كليهما خطأ. ولم يوفقوا لطريق الحقّ الذي دلّ عليه الكتاب والسنة، وتوضيح ذلك: 1- أن المعتزلة أفرطوا في تمجيد العقل، حتّى أوجبوا بمقتضاه على الله تعالى أموراً وحرموا عليه أموراً أخرى، ووضعوا لله شريعة التعديل والتجوير، فهم بذلك شبهوا الخالق بالمخلوق. (ر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 132، والمجموع المحيط بالتكليف لابن منتويه ص 234) . 2- أما الأشاعرة فقد أخطأوا في إطلاقهم القول بنفي الوجوب في حقّه تعالى، فلم ينَزِّهوه عن فعل شيء، بناء منهم على نفي التحسين والتقبيح العقليين، وقالوا: إن الوجوب لا يتصور في حقّه؛ لأنه المالك المتصرف ولا يسأل عما يفعل، ونسوا أنه لا يسأل لكمال حكمته. (ر: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص 147، 148، المواقف للإيجي ص 328، 329، والتبصير في الدين للإسراييني ص 68) . 3- وأما أهل السنة والجماعة - الفريق الوسط - فهم الذين منعوا أن يوجب العقل على الله تعالى شيئاً، ولم يمنعوا أن يوجب الله على نفسه بعض الأمور التي يقتضيها كماله والتي أخبر أنه أوجبها على نفسه. كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} . [سورة الأنعام، الآية: 54] . وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لما قضى الخلق كتب على نفسه كتاباً، فهو موضوع عنده فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي". أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 13/404) . ولا يلزم من كونه تعالى أوجب على نفسه بعض الأمور أن يكون فاعلاً بالإيجاب - أي: لا اختبار له ـ؛ لأنه سبحانه أوجبه على نفسه باختياره، فإذا شاء الحسن واختاره لم يكن ذلك نافياً للاختيار، فاختياره وإرادته اقتضت التعلق بما كان حسناً على وجه اللزوم فكيف لا يكون مختاراً. (ر: مدارج السالكين 1/66، 2/338، شفاء العليل لابن القيم ص 179، والحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى د. محمّد ربيع المدخلي ص 110-111) . ويُبَيِّن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - موقف السلف في هذه المسألة بقوله: "وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية - أي: المعتزلة - وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول. وأهل السنة متّفقون على أنه سبحانه خالق كلّ شيء وربّه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئاً. ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب، قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرّم الظلم على نفسه، فإن الله هو المنعم على العباد بكلّ خيرٍ، فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح". اهـ. (ر: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص 409، 410) .

وقد شهد أهل الكتاب واعترفوا بأن الله تعالى هو الذي نفخ الروح في العجل حتى عبده بنو إسرائيل، وقد قال الله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِييحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} . [سورة المائدة، الآية: 17] . وعيسى / (1/160/ب) وأمه لا جُرْم لهما، فأخبر تعالى أنه لو أهلكهما لم يكن ممنوعاً من ذلك {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُم يُسْأَلُون} . [سورة الأنبياء، الآية: 23] . 7 سؤال: قال النصارى: شهد كتابكم ونبيّكم بأن المسيح عيسى ابن مريم هو كلمة الله، والكلمة عندنا وعندكم قديمة كالكلام.

قلنا: لا نزاع في تسميته عليه السلام (كلمة) 1 كما سمّي إبراهيم خليلاً2. وموسوى كليماً3، والتسميات لا حجر فيها، وإذ وافقناكمعلى تسمية المسيح كلمة، فمن أين لكم قِدَمُهَا؟ وبم تنكرون على من يزعم أن الكلمة عبارة عن الآية؟. والآيات تسمى كلمات، وهو المعني بقوله: {مَا نَفَدَتْ كَلْمَاتُ الله} 4. يعني: آياته ومصنوعاته، وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأَمَّهُ آيَةً ... } . [سورة المؤمنون، الآية: 50] . وقال: {وَجَعَلْنَاهَا وابْنَهَا آيَةً لِلعَالِمينَ} . [سورة الأنبياء، الآية: 91] . فهذا وجه. ووجه آخر: وهو أن نقول: المعنى بإلقاء الكلمة إلى مريم تكوين المسيح من غير نطفة فحل، والمقصود أن الله اخترعه وكَوَّنه من غير تناسل معروف وقال له: كن، فكان. إذ كلّ أمر اتّصل بأمرور فهو ملقى إليه.

_ 1 قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} . [سورة آل عمران، الآية: 45] . وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ..} . الآية. [سورة النساء، الآية: 171] . قال ابن كثير في تفسيره 1/603: "إنما المسيح عبد من عباد الله، وخلق من خلقه، قال له: كن فكان، ورسول من رسله، وكلمته ألفاها إلى مريم، أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربّه عزوجل فكان عيسى بإذنه عزوجل، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنْزِلة لقاح الأب والأمّ، والجميع مخلوق لله عزوجل، ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه؛ لأنه لم يكن له أب تولد منه إنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال لها بها: كن فكان". اهـ. 2 قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} . [سورة النساء، الآية: 125] . 3 قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} . [سورة النساء، الآية: 164] . 4 قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . [سورة لقمان، الآية: 27] . قال قتادة: أي: لو كان شجر الأرض أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفذ عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه". (ر: تفسير ابن كثير /460) .

وسمى المسيح كلمة لقول لوقا في إنجيله: "إن جبريل قال لمريم: السلام عليك أيتها المباركة / (1/161/أ) في النساء إنك تحبلين بولد يسمى المسيح يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود"1. فعندها حملت مريم بالمسيح؛ أي: عند هذه الكلمة فسمي المسيح بها كما يُسَمَّى الشيء بما يلازمه عادةً، فكان المسيح (كلمة) بهذا الاعتبار لا كما اعتقد جهلة النصارى من انقلاب الكلمة الأزلية جسداً ذا شعرٍ وظفر. 8 سؤال: قال النصارى: أليس في كتابكم معشر المسلمين: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} . [سورة التحريم، الآية: 12] . فما تأويل ذلك غير ما ذهبنا إليه؟!. والجواب أنا نقول: هذا لا يفيدكم شيئاً في مطلوبكم؛ إذ ليس اعتقاد أحد منكم أن روح الأب اتّحد بالمسيح، وإنما الذي اتّحد به هو العلم. وقد قلنا: إن الروح ترد على معانٍ شتّى منها: أن ترد والمراد بها الوحي، كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّن أَمْرنَا} . [سورة الشورى، الآية:52] . وترد والمراد بها جبريل، وهو المعني بقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} . [سورة الشعراء، الآية: 193] . وترد والمراد بها ملك كبير يقوم يوم القيامة صفّاً وحده والملائكة كلّها صفّاً آخر. وترد والمراد بها أرواح الأشخاص وهو المعني بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِن أَمْرِ رَبِّي} . [سورة الإسراء، الآية: 85] . وإذا كان اللفظ متردداً / (1/161/ب) بين معانٍ كثيرة فلا يسوغ التمسك به إلاّ مع اقترانه بما يفسره، وكلّ مفتقر للتفسير فلا وجه للاستدلال بظاهره.

_ 1 لوقا 1/30-31.

فالمسيح سمّاه الله (روحاً) كتسمية جبريل روحاً، وقد قلنا: إن الشيء قد يسمى بما يلازمه، فالله تعالى نفخ في مريم بواسطة جبريل وهو المعني بقول لوقا في إنجيله: "روح القدس تحلّ عليك"1. وقد قالت التوراة: "إن روح الله حال في يوسف"2. وذلك كناية عن العلم والحكمة. وفي التوراة: "إن بصلئيل رجل من سبط يهوذا ورجل آخر من سبط دان قد ملأتهما روح القدس"3. وفي التوراة: "إن يوشع امتلأ من روح القدس؛ لأن موسى كان قد وضع يده على رأسه"4. وفي كتاب الأسباط5: "إن روح الله لبست جدعون"6. وفيكتاب شمويال7: "إن روح الله تكلمت على لساني"8. وفي كتاب حزقيال يقول: "رأيت قدوس الله فوقعت فدخلت فِيَّ الروح فأقامتني"9.

_ 1 لوقا 1/35. 2 سفر التكوين 41/38. 3 سفر الخروج 31/1-3. 4 سفر التثنية 34/9. 5 كتاب الأسباط هو سفر القضاة: نسبة إلى فترة من تاريخ بني إسرائيل كان القضاة هم الذين تولوا شؤون الحكم في بني إسرائيل بعد استيلائهم على بلاد كنعان بقيادة يوشع بن نون، وعدد إصحاحاته (21) إصحاحاً، وموضوعه: تاريخ بني إسرائيل من قبل موت يوشع إلى آخر أيام شمعون. أما مؤلِّف هذا السفر، فإنه لا يعرف على التحقيق، ويظن أنه صموئيل النبيّ، قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} . [سورة النجم، الآية: 28] . (ر: قاموس ص 737، مقدمة الكتاب المقدس بالإنجليزية، طبعة سنة 1971م، وهي التي يطلق عليها النسخة القياسية المنقحة (R.S.V) ، رسالة في اللاهوت ص 275، سبينوزا) . 6 سفر القضاة 6/34، وجدعون: هو ابن يوآش. أحد قضاة بني إسرائيل، ويزعمون أن ملاك الرّبّ قد دعاه ليخلص شعبه من المديانيين والوثنيين، وليهدم مذبح البعل الذي كان يعبده قومه. (ر: سفر القضاة الإصحاحات (6، 7، 8، قاموس ص252) . 7 كتاب شمويال هو: سفر صموئيل، وصموئيل مناه: (اسم الله) ، وهو في العهد القديم من الأنبياء وآخر القضاة في بني إسرائيل، وقد أمره الله أن يمسح شاؤل ملكاً على بني إسرائيل، وينسب إليه سفران باسمه، وكانا في الأصل سفراً واحداً وتمَّ تقسيمه إلى جزئين في طبعة البندقية 1516-1517م، من النسخة السبعينية، وعدد إصحاحات السفر (31) ، والثاني (24) ، إصحاحاً. أما مؤلِّف السفر الأوّل والثاني فهو مجهول. ويقول سبينوزا: لم يكتب صموئيل سفره؛ لأن الرواية تمتد إلى ما بعد موته بقرون عديدة. (ر: رسالة في اللاهوت ص 275، قاموس ص 552، وما بعدها، مقدمة الكتاب المقدس، ط سنة 1971م، بالإنجليزية) . 8 سفر صموئيل الأوّل 10/10. 9 سفر حزقيال 3/23، 24.

وفي إنجيل لوقا: "إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه"1. وقال لوقا في إنجيله: "كان في بيت المقدس رجل يقال له: سمعان، ينتظر عزاء إسرائيل / (1/162/أ) وروح القدس كانت تحلّ عليه"2. وقال يوحنا التلميذ في إنجليه: "كلّ إنسانٍ لا يولد من الماء والروح لا يدخل ملكوت الله"3. وقال فولس في رسالته الأولى لإخوانه: "أو لا تعلمون أنكم هياكل الله وأن روح الله حال فيكم، ومن يفسد هيكل الله يفسده الله"4. وذلك كلّه دليل على مساواة المسيح غيره من الأنبياء والأولياء في حلول هذه الروح التي هي إما الملك، أو العلم والحكمة. فما أجاب به النصارى عن حلول الروح على من ذكرنا وامتلائهم منها فهو جواب عن قول جبريل لمريم: "روح القدس تحلّ عليكِ"5.

_ 1 لوقا 1/41. 2 لوقا 2/25. 3 يوحنا 3/3. 4 رسالته الأولى إلى هل كورنثوس 6/16، 17. 5 تقدم الحديث عن معاني كلمة (الروح) . (ر: ص 125) .

9 سؤال: قال النصارى: قال يسوع لمقعد قد غفرت لك1، وذلك دليل ربوبية إذا لا يغفر الذنوب إلاّ الله. والجواب: هو أنا نقول: ليس كذلك لفظ الإنجيل؛ وإنما قال له: مغفورة لك خطاياك. أخبره عن الله بغفر خطاياه لصبره على بلواه وسكونه تحت مجاري قد مولاه، ثم ولو سلمنا ورد هذه اللفظة بعينها على ما على حرفها السائل فليس فيها مستروح لما يحاول، إذ يحتمل أن يكون / (1/162/ب) ذلك المقعد من جملة من كان يؤذي المسيح مع اليهود ويقول فيه كقولهم، فلما رآه المسيح وشاهد بلاه رَقَّ له وحنى عليه فقال له: قد غفرت لك، يريد حللتك، والدليل عليه قول بطرس في الإنجيل للمسيح: "يا أبت، إلى كم أغفر لأخي إذا أخطأ إِليَّ إلى سبع مرات؟ قال: لست أقول إلى سبع مرات فقط بل إلى سبعين مرة سبع مرات"2. وهذه أكابرهم اليوم يفعلون ذلك ويغفرون لمن أرادوا حط ذنوبه، وليس فيهم من يعتقد خروجه عن ربقة العبودية3. وقد ذكر الإنجيل: "إن اليهود ومن حضر يسوع أنكروا عليه هذه الكلمة، فقال: ألم تعلموا أن ابن الإنسان قد جعل له أن يغفر الخطايا"4. فصرّح في هذا القول بأنه عبد مخلوق، جعل الله له أن يخبر عباده بغفر خطاياهم لإيمانهم به وتصديقهم له.

_ 1 متى 9/2. 2 متى 18/21، 22. 3 إنّ تجرؤ قساوسة الكنيسة على ادعائهم غفران خطايا النصارى يعتبر سرّاً من أسرار الكنيسة السبعة، ويُسمَّى (سرّ الاعتراف وغفران الذنوب) ، وقد قررته الكنيسة حقّاً لنفسها في المجمع الثاني عشر (الإيتراني الرّابع) سنة 1215م، وتمادت في ذلك إلى أن أصدرت الكنيسة (صكوك الغفران) لاستغلال النصارى وجمع الأموال للكنيسة وقساوستها، وقد كانت مسألة غفران الذنوب من أبرز الأسباب التي دعت إلى ظهور حركة الإصلاح الكنسي وظهور فرقة البروتستانت. 4 متى 9/3-6.

وقد قال مرقس في إنجيله: "قال يسوع لتلاميذه: إذا قمتم إلى الصلاة فاغفروا لمن لكم عليه خطيئة، لكيما يغفر لكم ربّكم خطاياكم"1. وقالت التوراة في السفر الخامس منها: "يا موسى ارحل أنت وبنو / (1/163/أ) إسرائيل، وأنا أرسل معكم ملكاً يغفر لكم خطاياكم"2. أضاف الغفران إلى الملك وهو عبد من عبيد الله تعالى. وقالت التوراة: "إن إخوة يوسف دنوا لتقبيل رجليه، فلم يدعهم، فاعترفوا له بذنوبهم فغفر لهم"3. فقول المسيح للرجل: قد غفرت لك، معناه: قد حاللتك أو قد شفعت لك. وقال فولس في آخر الرسالة الخامسة - وهو يوصي بالبر واللطف -: "وأنتم أيّها الأرباب اغفروا ذنوب مماليككم؛ لأن ربّكم في السماء وليس عنده هوادة"4. 10 سؤال: قال النصارى: قال يوحنا المعمداني ين رأى المسيح: "هذا خروف الله الذي يحمل خطايا العالم"5. فشهد وهو نبيّ صادق بأن المسيح سيقتل ويصلب قرباناً عن خطيئة آدم. والجواب: أن هذا السؤال دالّ على عدم فهم مورده وسوء بصيرته بالإنجيل، وذلك أنّ يوحنا أورد هذا الكلام شهادة للمسيح بالنبوة والرسالة أسوة غيره من الأنبياء في حملهم خطايا قومهم بما يرشدونهم إليه من الإيمان

_ 1 مرقس 11/25، 26. 2 سفر الخروج 23/23، 32/34. 3 لم أجد في النسخة التي يبدي في التوراة اليونانية والسامرية النّصّ الذي ذكره المؤلِّف، وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى في حكاية يوسف مع أخوته: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ. قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . [سورة يوسف، الآية: 91-92] . 4 رسالته إلى أهل أفسس 6/9. 5 يوحنا 1/29، 30.

والمغفرة بالله سبحانه،/ (1/163/ب) وقد كان المعمداني يتصل به ما يهتف به اليهود من فذف المسيح وقذف والدته الطاهرة، ويبلغه قول اليهود: "إنه لن يجيء من الجليل والناصرة نبيّ"1، فلما وقع بصره على المسيح وعرفه بتعريف الله له قال: "هذا الذي به يحط الله خطايا عالم زمانه". والدليل عليه: بقية الكلام إذ قال يوحنا: "هذا الذي قلت لكم إنه يأتي بعدي، وهو أقوى مني، وأنا فلا أستحقّ أن أحلّ سيور حذائه ولا أصلح أجلس مقعد خفه، وهو الذي بيده الرفش ينقي بيدره الغلة إلى إهرائه، ويحرق الأتبان بالنار التي لا تطفئ"2. فقد أفادنا قول المعمداني هذا معانٍ شتّى في شأن المسيح منها: تسويته المسيح مع مسائر بني إسرائيل في جعله خروفاً، قال المسيح في إنجيله: "إني إنما أرسلت للخراف الضالّة من بني إسرائيل"3. سمّى الناس خرافاً، وسماه المعمداني خروفاً من غير تفرقه بينه وبين غيره، وكذلك قال المسيح: "أنا الراعي الصالح وأنا عارف برعيتي"4. ومنها: أن المعمداني شهد / (1/164/أ) بأن المسيح عبد الله، وأضافه إليه إضافة ملك، فقال: "هذا خروف الله". وقال مرة أخرى: "هذا حمل الله". فشهد بأن الله مالكه، ولم يقل المعمداني حين رأى المسيح: هذا هو الله - كما يهذي به طوائف من النصارى. ولا قال: هذا الإنسان الذي اتّحد الله به أو سكن الله في إهابه واتّخذه له نزلاً ومسكناً - كما افتراه متأخرو النصارى.

_ 1 يوحنا 1/46. 2 يوحنا 1/29، 30. 3 متى 10/6. 4 يوحنا 10/14.

وفي ذلك تكذيب للأمانة وإظهار لفسادها ومراغمة لمن عقدها حيث يقولون فيها: "إن المسيح إله حقّ، بيد أتقنت العوالم وخلق كلّ شيء، وإنه خالق غير مخلوق". الويل لهم، أَهُم أعلم بالمسيح وأعرف به من نبيّ الله يحيى بن زكريا الذي شهد المسيح "بأن النساء لم تلد مثله"1، فيوحنا هذا النبي عليه السلام إنما بعثه الله على زعم النصارى ليشهد للمسيح، وها هو يشهد بأن المسيح خروف وأن الله مالكه، وأنه يأتي بعده يعمد الناس ويستتيبهم كما كان يحيى بن زكريا يفعل غير أنه أقوى منه، وهذا قد يقول ذوو الورع والتقوى تورعاً وخوفاً من السلب بالإعجاب، / (1/164/ب) ولا يلزم أ، يكون القائل لذلك دون المقول له فلم يزل الصالحون يعتمدون ذلك. وقد شهد يوحا بنبوة المسيح صريحاً إذ يقول: "إنه يجمع الصلحاء إلى ملته والأبرار ويبعد الكفار إلى النار". فقد وضح أنه ليس في كلام المعمداني ما يدلّ على انتحال الضلال. وإلاّ فما أحسن ربّاًُ له حذاء ينتعله وخف يقي رجليه؟!!. أعوذ بالله من العمي وتنكب الهدى. 11 سؤال: وهو معضلات النصارى، قال النصارى: قال يسوع: "أنا بأبي، وأبي بِيَ"2. قالوا: هذا تصريح من المسيح بأنه متّحد بالله، والله متّحد به. والجواب: في قول يوحنا التلميذ في الفصل السادس عشر من إنجيله، قال يوحنا: "تضرع المسيح إلى الله في تلاميذه فقال: أيها القدوس احفظهم

_ 1 متى 11/11. 2 يوحنا 14/10، 11.

باسمك ليكونوا هم أيضاً شيئاً واحداً كما أنا شيء واحد، قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ليكونوا شيئاً واحداً، فأنا بهم وأنت بِيَ"1. وتأويل ذلك: أنت يا إلهي معي وأنت لي، وأنا أيضاً مع أصحابي وأنا لهم، وكما أنك / (1/165/أ) أرسلتني لأدعو عبادك إلى توحيدك فكذلك أرسلتهم ليدعوا إليك، فكن لهم كما كنت لي، فإن عُدِل عن هذا التأويل لزم منه المحال؛ وهو أن يكون قوام الله وثبوت ربوبيته برجل من خلقه، ويلزم منه محال آخر؛ وهو: أن يكون الباري وعبد من عبيده متداخلين، ويلزم منه محال آخر؛ وهو: أن يكون التلاميذ متداخلين مع المسيح ويكون المسيح متداخلاً معهم2. فإن التزمه النصارى قيل لهم: فالله إذاً حالّ في التلاميذ والتلاميذ حالّون في الله - تعالى الله عن هذيان النصارى علوّاً كبيراً. وقد قال فولس - وهو يعظ بعض إخوانه ويحذره من الزنى -: "أما علمتم أن أجسادكم أعضاء للمسيح، فيعمد أحدكم إلى عضو من المسيح فيجعله عضواً للزانية؛ لأن من يصحب الزانية يصير معها جسداً واحداً، والذي يصحب سيدنا المسيح يصير معه روحاً واحداً"3. وذلك يفسد على النصارى سؤالهم. 12 سؤال ثانٍ: من المعضلات، قال النصارى: قال يوحنا التلميذ في الفصل / (1/165/ب) الثالث عشر من إنجيله: "من رآني فقد رآى أبي فأنا وأبي واحد"4.

_ 1 يوحنا 17/11-23. 2 ورد هذا الجواب أيضاً في النصيحة الإيمانية للمهتدي نصر بن يحيى المتطبب ص 174. 3 رسالته الأولى إلى كورنثوس 6/15-17. 4 يوحنا 14/9-11، 10/30.

والجواب: أن له وجوهاً من التأويل: أحدها: إنه قد اعترف في الإنجيل في غير موضع أنه رسول من الله إلى عباد الله، ولا شكّ أن رسول الملك إذا توجه إلى قطر فأبدى بعض الرعية شماساً1 عن الامتثال فيحسن منه أن يقول: أنا ومن أرسلني واحد، ومن رآني فقد رآى من أرسلني، ومن بايعني أو عاهدني فقد بايع وعاهد من أرسلني وحصل له العصمة والذمام، وذلك غير مستنكر من الرسل والنواب والوكلاء ومن ندب لسفارة ووساطة بين اثنين أو جماعة، ومنه قول الله عزوجل لنبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أَيْدِيهِم} . [سورة الفتح، الآية: 10] . الوجه الثاني: أن رؤية الصنعة تدل على صانعها؛ إذ لا يتصور بناء محكم متقن إلاّ ببانٍ حكيم متقن، وكلما جَلَّت الصنعة دلّت على جلال صانعها، والمسيح لما بهر الناس بما صدر على يديه من العجائب ورأى التفاتهم إليه / (1/166/أ) واشتغالهم به فأحب رفع هممهم إلى الله الذي هو أعلى وأجل وأحكم من كلّ حكيم، وقد قال في إنجيله: "أبي أعظم مني"2. وقال له إنسان: يا معلم صالح. فقال: "لا تقل لي صالحاً، لا صالح إلاّ الله واحده".

_ 1 أي: امتناعاً وإباء. (ر: القاموس ص 712) . 2 يوحنا 14/28.

والوجه الثالث: المسيح كان عبراني اللسان، والعبرانيون يعتقدون قول التوراة في السفر الأوّل منها: "أن الله خلق آدم يشبهه"1. قولاً صحيحاً، فخاطبهم المسيح بما يفهمون، وإنما أرادت التوراة: أن الله حيّ عالم قادر، وقد أعطي آدم هذه الصفات من الحياة والعلم والقدرة، فكأنه يقول من رآني فقد رأى آدم، ومن رأى آدم فقد رأى الله، فحذف الواسطة.

_ 1 سفر التكوين 1/26، 27، ونصّه: "وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا". قال الإمام ابن تيمية: "إن لفظ التوراة: "نصنع آم كصورتنا وشبهنا". وبعضهم يترجمه: "نخلق بشراً على صورتنا شبهنا) . والمعنى واحد. وهو كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته". (أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 8/43) ، ومسلم 4/2183، وأحمد 2/315) . وفي رواية: "على صورة الرحمن". (أخرجه ابن أبي عاصم في السنة / 228، 229، والآجري في الشرعية ص 315، والبيهقي في الصفات ص 291، وصحّحه الإمامان: أحمد وابن راهويه. (ر: نقض التأسيس 2/133، 140، المخطوط) - ثم قال - إن شبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيم يجب ويجوز ويمتنع. وإذا قيل: هذا حيّ عليم قدير، وهذا حيّ عليم قدير، فتشابها في مسمّى الحيّ والعليم والقدير، لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمّى مماثلاً لهذا المسمّى فيما يجب ويجوز ويمتنع؛ بل هنا ثلاثة أشياء: أحدها: القدر المشترك الذي تشابها فيه، وهو معنى كلّي لا يخصّ به أحدهما، ولا يوجد كلّيّ عامٌ مشترك إلاّ في علم العالم. والثاني: ما يختصّ به هذا، كما يختصّ الرّبّ به من الحياة والعلم والقدرة. والثالث: ما يختصّ به العبد من الحياة والعلم والقدرة. فمما اختصّ به الرّبّ عزوجل لا يشركه فيه العبد، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد، وما يختصّ به العبد لا يشركه فيه الرّبّ، ولا يستحق شيئاً من صفات الكمال التي يختصّ به الرّبّ عزوجل. وأما القدر المشترك كالمعنى الكلّيّ الثابت في ذهن الإنسان فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق، فالاشتراك فيه غير محذور. ولفظ التوراة فيه: "سنخلق بشراً على صورتنا يشبهنا". لم يقل: على مثالنا، وهو كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته". فلم تذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كموسى ومحمّد صلى الله عليه وسلم إلاّ لفظة (شبه) دون لفظ (مثل) . وقد تنازع الناس: هل لفظ الشبه والمثل بمعنىً واحدٍ أو معنيين؟ على قولين: أحدهما: أنهما بمعنىً واحدٍ، وأن ما دلّ عليه لفظ المثل مطلقاً ومقيداً يدلّ عليه لفظ الشبه. وهذا قول طائفة من النظار. والثاني: أن معناهما مختلف عند الإطلاق لغةً وشرعاً وعقلاً. وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر. وهذا قول أكثر الناس. فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان تشتبه في كونها ألواناً مع أن السواد ليس مثل البياض. ومعلوم في اللغة أن يقال: هذا يشبه هذا وفيه شبه من هذا؛ إذ أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفاً له في الحقيقة. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} . [سورة البقرة، الآية: 188] . فوَصَف القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل. فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة. (ر: للتوسع: الجواب الصحيح 2/231-234، شرح كتاب التوحيد 2/29-98، للشيخ الغنيمان، وعقيدة أهل الرحمن في خلق آدم على صورة الرحمن - للشيخ حمود التويجري، نقض أساس التقديس 2/133-142، للإمام ابن تيمية) .

فإن عدلوا عن هذا التأويل لزمهم أن يكون اليهود وسائر الكفار والحمير والكلاب قد رأوا الله، وأكذبوا التوراة والإنجيل؛ إذ يقول: "إن الله لم يره أحد قط"1. 13 سؤال ثالث وهو من المعضلات: حكى النصارى عن المسيح عليه السلام أنه قال: "لا يصعد إلى السماء إلاّ من / (1/166/ب) نزل من السماء"2. والجواب: من وجوه: أحدها: أنه أشار إلى زاكي الأعمال وهي التي نزلت بالوجه مع الملائكة، وكأنه يقول: لا يصعد من الأعمال إلاّ ما كان خالصاً قد أُريد به وجه الله. قال الله تعالى: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُم أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ} 3. وقال سبحانه: {إِلَيهِ يَصْعَدُ الكَلْمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . [سورة فاطر، الآية: 10] . الوجه الثاني: أنه لا يبادر إلى سموّ الأخلاق والأعمال والأحوال إلاّ من له سموّ وهِمَّة مثل الحواريين الذين أجابوا داعي المسيح من غير تقدم رؤية آية بل قال لهم: "دعوا الدنيا واتّبعوني ففعلوا"4.

_ 1 يوحنا 1/18. 2 يوحنا 3/13. 3 قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} . [سورة الأعراف، الآية: 40] . 4 متى 4/18-22، في سياق طويل، وقد ذكره المؤلِّف بالمعنى مختصراً.

والوجه الثالث: أنه أشار إلى الأرواح الطاهرة السماوية التي تنام على طهارة يؤذن لها فتعرج وتسرح ثم تعود فإذا فارقت الجسد صعدت، وأما أرواح الكفار والفجار فلا تصعد وإذا فارقت الجسد أودعت في الأرض السفلى؛ لأنها لم تنْزل من السماء. فإن عدلوا عن هذه الوجوه وأجروه على ظاهره، قلنا لهم: فقد صعد إلى السماء / (1/167/أ) من لم ينْزل منها وهو إدريس الذي يسمونه خنوخ1. وناسوت المسيح أيضاً لم ينَزل من السماء وقد صعد إلى السماء، فإما أن يتأولوا الخبر وإلاّ أخرجوه إلى الكذب. فإن قال النصارى: لم يزل يسوع متجسداً، أكذبتهم نصوص الإنجيل والأمانة إذ تقول: "إنه أخذ جسده من مريم عليهما السلام، وقال في الإنجيل: "هذا مولد يسوع المسيح"، فحكم بأنه مخلوق". 14 سؤال رابع من المعضلات: روى النصارى عن المسيح أنه قال: "إن إبراهيم الخليل اشتهى أن يرى يومي فرأى وفرح، فقال له اليهود: لم يأت لك

_ 1 أخنوخ: اسم عري ومعنا: (مكرس أو محنك) ، وهو ابن يارد، وقد ذكر في التوراة أنه عاش في طاعة الله ثلاثمائة وخمساً وستين سنة، ثم لم يوجد بعد ذلك؛ لأن الله أخذه. (سفر التكوين 5/2-24) . وفسر ذلك بأن الله نقله لكي لا يرى الموت. (ر: قاموس ص 32) . وقال الإمام ابن كثير: "إن إدريس عليه السلام هو خنوخ، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 56-57] . وقد كان قبل نوح عليه السلام، ويزعم كثير من علماء التفسير والأحكام أنه أوّل من تكلم عن الخطّ بالرمل، ويسمونه هرمس الهرامسة. ويكذبون عليه أشياء كثيرة كما كذبوا على غيره من الأنبياء والعلماء الحكماء والأولياء" اهـ. (ر: قصص الأنبياء لابن كثير ص 58، وراجع: قصص الأنبياء للنجار ص 24، والنبوة للصابوني ص 243) .

خمسون سنة فكيف رأيت إبراهيم؟ فقال: الحقّ أقول لكم إنني [كنت] 1 قبل أن يكون إبراهيم". قال المؤلِّف: هذا من أقوى ما يتمسك به النصارى في ربوبية المسيح. والجواب: يحتمل أن يكون الله تعالى قد أرى إبراهيم أيام المسيح كما أرى آدم جميع أيام ولده، وأعلم إبراهيم بأحواله كما أعلم آدم بأحوال ولده من بعده، وكما أرى موسى ما يؤول أمر بني إسرائيل إليه على ما / (1/167/ب) يشهد بذلك التوراة وذلك بالروح المدركة لا بالعين الباصرة. فإن أبى النصارى هذا التأويل أكذبوا متّى إذ يقول في صدر إنجيله: "هذا مولد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم"2. وأكذبوا لوقا في روايته عن جبريل إذ يقول لمريم: "إنك تلدين ولداً يسمّى يسوع يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود". وإذ كان المسيح إنما هو ابن مريم ولدته في زمن متأخر عن إبراهيم بمئتين من السنين، فكيف يكون قبل إبراهيم إلاّ على وجه التأويل وهو أن الله تعالى كان قد قَدَّر له الاصطفاء والاجتباء في سباق علمه قبل إبراهيم، وأعلَم الله إبراهيم: أن من ولدك مَن أجعله آية للعالمين، فاشتاق إلى رؤية هذا الولد، فكشف الله له عن روحه الزكية النبوية فرآها وفرح بها.

_ 1 ساقطة من الأصل، وقد أثبتّها من نصّ الإنجيل. 2 متى 1/1.

وقد روي في الخبر: "أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأشباح بألفي عام"1. وقد قال سليمان في حكمته: "أنا قبل خلق الدنيا"2. كما حكينا فيما مضى، وقال داود في مزموره: "ذكرتني يا ربّ من البدء وقدّستني بأعمالك"3. وقيل لمحمّد صلى الله عليه وسلم / (1/168/أ) متى وجبت لك النبوة؟ فقال عليه السلام: " كنت نبيّاً وآدم منجدل في طينته"4. 15 سؤال خامس وهو من المعضلات: روى النصارى عن يوحنا الإنجيلي أنه قال في صدر إنجيله: "إن الكلمة صارت جسداً وحلّت فينا"5.

_ 1 رواه الأزدي عن عليّ رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: "إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم جعلها تحت العرش ثم أمرها بالطاعة فأول روح سلمت عليّ روح عليّ". قال الأزدي: في إسناده عبد الله بن أيوب بن أبي علاج وهما كذابان، وقال ابن عدي في الكامل 4/210: وهو منكر. وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع. (ر: الموضوعات لابن الجوزي 1/401، والآليء المصنوعة للسيوطي 1/199، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ص 382) . ورواه أبو عبد الله بن منده عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: "إن الله خلق الأرواح قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف". قال ابن القيم: "إسناده لا يصح". ففيه عتبة بن السكن، قال الدارقطني: "متروك". وأرطأة بن المنذر، قال فيه ابن عدي 1/431: بعض أحاديثه غلط". (ر: الروح لابن القيم ص 216، 232) . 2 سفر الأمثال 8/22-31، بألفاظ متقاربة. 3 سفر المزامير 143/5، بألفاظ متقاربة. 4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/127، وابن حبان (ر: الموارد ص 512) ، والحاكم 2/418، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: ... فذكره بنحوه. وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي. كما صحّحه الشيخ الألباني في حاشية مشكاة المصابيح 3/127. وفي رواية أخرى عن ميسرة الفجر رضي الله عنه. أخرجها الإمام أحمد 5/59، والحاكم 2/607-209، وصحّحه ووافقه الذهبي. 5 يوحنا 1/14.

والجواب: أن ذلك يحتمل التقديم والتأخير لفساد التعبير وتبدل اللسان فتكون إن الجسد الإنساني الذي هو جسد المسيح سمي الكلمة، ولا معنى لـ: (صار) إلاّ تجدد ما لم يكن، وقوله: (وحلّ فينا) إشارة إلى جسد يسوع المسيح الذي صار كلمة بالتسمية من الله تعالى، وكأن يوحنا يقول: إن الذي كفر به اليهود ونسبوه إلى الجنون شرَّفه الله سماه كلمة له، وأقام بين أظهرنا ما أقام لم يعرفوا قدره. ويحتمل أن يكون يوحنا أشار بهذا القول إلى بطرس كبير التلاميذ وَوَصَّي المسيح من بعده، فإنه قام بتدبيرهم بعد رفع المسيح بعهد عهده إليه ووصية أوصاه، وكان التلاميذ يفزعون إليه في نوازلهم بعد المسيح على ما يشهد به سيرهم، / (1/168/ب) وكأن يوحنا يقول: "إن ذهبت الكلمة من بيننا فإنها لم تذهب حتى صارت جسداً وحلّ فينا". يريد أن بركة الكلمة وتدبيرها حاضر في جسد بيننا وهو بطرس. ويحتمل أن يكون يوحنا قال: "إن الكلمة أصارت جسداً وحَلَّ فينا". فأسقطوا الهمزة عند إخراج الكلام إلى اللسان العربي من العبراني، والميز1 بين صارت وأصارت لا يكاد يدرك في اللسان الواحد، فكيف مع النقل والتحويل وفساد الترجمة؟! وقد أخبر الله تعالى أن المسيح كان يصنع من الطين حيواناً2، والنصارى وإن أنكروا هذا ففي الإنجيل ما يصدِّقه وهو: "أن المسيح عليه السلام تفل على الطين من ريقه وصوَّره على موضع عيني رجل أكمه قد

_ 1 أي: التمييز والتفريق بين صارت وأصارت ... 2 قال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ ... } . [سورة آل عمران، الآية: 49] . ولم تذكر الأناجيل المحرفة هذه المعجزة لعيسى عليه السلام. كما لم تذكر أيضاً كلام عيسى في المهد صبيّاً، وذلك بسبب نسيانهم وإهمالهم وتحريفهم لكتب الله عزوجل.

ولد أعمى، وقال: اذهب فاغتسل في عين شلوخا ففعل وأبصر، فتعجب اليهود من ذلك"1. فإن أبى النصارى تأويلناالكلام يوحنا هذا لزمهم أن تكون الكلمة الأزلية استحالت لحماً ودماً وعروقاً وشعراً وظفراً واغتذت بالطعام / (1/169/أ) وكان منها ما يكون من الأنام، وبقيت ذات الباري خرساء غير ناطقة وجاهلة غير عالمة، وذلك لا يقوله لبيب. فإن قيل: فما المرضي عندك في كلمة يوحنا هذه على تقدير صحّتها وسلامتها عن التحريف والتصحيف؟ فأقول: يحتمل أن تكون كلمة جبريل التي أوردها على مريم قد صارت جسداً وتخلَّق منها المسيح الذي حلَّ فيهم، وقد قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} - إلى قوله: - {فَحَملَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} . [سورة مريم، الآية: 17-22] . وذلك بعينه هو الذي حكاه لوقا في إنجيله عن جبريل، وإذا كانت الكلمة التي صارت جسداً هي كلمة جبريل اندفعت عنا مؤنة التأويل. 16 سؤال سادس من المعضلات: حكى النصارى عن المسيح أنه قال: "كما أقام يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام وليال، فذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض وقلبها ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ"2. والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: لا أُسلِّم صحّة هذا النقل بل هو كذب ومَيْن، إذ الإنجيل يشهد أن المصلوب المقبور لم يبق / (1/169/ب) في قلب الأرض وبطنها سوى يوم واحد وليلتين على كلا الروايتين، فقد أخلف قولهم وظهر كذبه وإفكه فلا حاجة بنا إلى الكلام عليه.

_ 1 يوحنا 9/1-7. 2 متى 12/39، 40.

والوجه الثاني: أن المسيح لم يقل: إني أقتل وأصلب وأدفن وأقيم في بطن الأرض هذه المدة كما تخرصه النصارى، إنما قال: إن ابن الإنسان يجري له ذلك، وابن الإنسان هو الذي يُشَبَّه لليهود بالمسيح؛ لأن المسيح على ما قررته وأوضحته فيما تقدم1. وقد قلَّبت الإنجيل دفعات كثيرة وأنعمت النظر فيه فما وجدته قط أضاف ذلك إلى نفسه الكريمة ولا أورده إلاّ مضافاً إلى ابن الإنسان يعرف ذلك من وقف على الإنجيل. والعجب من النصارى كيف يُنْزِلون ذلك على المسيح وهو [لا] 2 يرضون له بنوةإبراهيم وداود؟! فكيف يجعلونه ابن إنسان من عرض الناس؟! والعجب أيضاً أنهم يصفونه بما وصفه به اليهود من حيث لا يشعرون؛ لأن غاية ما قال فيه اليهود أنه ولد يوسف النجار، فأي فرق بينهم وبين اليهود في ذلك / (1/170/أ) إذا اعترفوا أنه ابن الإنسان؟ وإذا كان المسيح عندهم إنما هو ابن الله - تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً - فلا يمكن أن يكون ابن الله يُقتل ويُدفن في الأرض بين الأموات، هذا مع وصفهم له في الأمانة: "فإنه إله حقّ من إله حقّ من جوهر الله". فإن صدقوا - وحوشوا من الصدق - فالذي قال المسيح: إنه يكون في قلب الأرض أيام وثلاث ليالٍ، إنما هو ابن الإنسان الذي هو إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر أبيه آدم، وفي ذلك تكذيب لهم في دعوى قتل المسيح وصلبه.

_ 1 ر: الباب الخامس في أن المسيح عليه السلام وإن قصد وطلب فما قتل وما صلب. 2 في ص (فلا) والصواب ما أثبته.

17- سؤال سابع من المعضلات: حكى النصارى عن المسيح عليه السلام أنه قال: "قال داود في مزمور له: قال الرّبّ لربي"1. قال المسيح: "فهذا داود يدعوه ربّه فكيف تقولون إنه ابنه؟ "2. والجواب: أنا لا نصحّح هذا النقل عن داود نبيّ الله، فإنه إنما بعث ذاباً عن توحيد التوراة ومقرراً لها أسوة غيره من الأنبياء الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام والتوراة، فليس فيها ما يدل على ضلال النصارى، ومتى شهر عن / (1/170/ب) موسى أو داود وغيره من أنبياء الله أن الرّبّ يكون له ربّاً وللإله إلهاً؟!. وإذا كان ذلك من الهذيان فلنوَرِّك3 على النقلة عن داود، إذ داود ثابت العصمة وهو أعرف بالله تعالى من أن يجعل له ربّاً فوقه أو ربّاً تحته يشاركه في الربوبية، على أن ذلك مردود بشهادة الإنجيل عن جبريل إذ قال لمريم: "إنك تلدين ولداً يجلسه الله على كرسي أبيه داود". وفي ذلك تكذيب لمن نقل عن المسيح أيضاً، إذ المسيح قد شحن إنجيله بتوحيد الله وإفراده بالربوبية كما حكيناه عنه، فكيف يَدَّعى أنه ربّاً لداود والناس ينادونه: يا ابن داود ارحمنا، فيفعل ويرضى منهم بهذا القول؟!. وهو القائل في إنجيله: "لا صالح إلاّ الله"4. "إن إلهكم واحد"5. "إن أفضل الوصايا كلّها الله واحد"6. "أنا ذاهب إلى إلهي و [إلهكم] 7". "إلَهي إلَهِي

_ 1 ورد في مزمور 110/1، وقد نقل الإمام ابن تيمية استدلال النصارى بهذا النّصّ، وذكر الرّدّ عليهم من أربعة أوجه. (ر: الجواب الصحيح 2/237، 238) . 2 متى 2/43، 44. 3 أي: فلنوجب حمل الذنب على النقلة عن داود. (ر: قاموس ص 1235) . 4 متى 19/16-17، مرقس 10/17، لوقا 18/18. 5 متى 23/9. 6 مرقس 12/28-30. 7 في ص (الاهي) والتصويب من النص في إنجيل يوحنا 0/17.

لِمَ تركتني؟ "1. "إنكم تريدون قتلي وأنا إنسان كلمتكم بالحقّ الذي سمعته من الله"2. وذلك في الإنجيل كثير جداً. وإذا كان هذا نصّ المسيح في الإنجيل فقد كذبوا عليه في ادِّعائه أن داود / (1/171/أ) عبده. قال مؤلِّفه: سألت حَبراً من أحبار اليهود عن هذا المزمور، قال: "قال الرّبّ لربي". تفسيره عندنا بالعبرانية: "قال الرّبّ لوليي". قال والرّبّ عندنا يطلق على المعظم في الدين ثم تلا قول إبراهيم ولوط الذي حكيناه3. 18- سؤال ثامن من العضلات: قال النصارى: نحن واليهود من مخالفينا في الملة ننقل أن الذي قتل وصلب لم يكن سوى يسوع المسيح فلو تطرق التشكيك إلى رواتنا ونقلة أخبارنا وحملة ديننا لتطرق مثله إلى ما تنقلونه عن أسلافكم ولم يثبت لأحد من أتباع الأنبياء قاعدة ألبتة4. والجواب: أن الرواة الأربعة الذين رووا لكم القتل والصلب لم يحضر منهم أحد البتة ذلك المشهد من خوف اليهود بشهادة الإنجيل. وقد شهدت أقاصيص الإنجيل بأن المسيح كان قد تغيَّر منظر وجهه حتى على بطرس وخواص تلاميذه. واستولى عليه ذلك حتى تعدَّى إلى لون ثيابه فغيرهما عما كانت عليه، وأنه لما التبس أمره وتنكرت حلاه على أصحابه فضلاً عن اليهود إحتاجوا / (1/171/ب) إلى أن أرشوا رجلاً من تلاميذه الاثني عشر برشوة حتى دلّهم عليه، ثم لم يعرفوه حتى قال لهم: إذا رأيتموني أُقَبِّل شخصاً فأمسكوه، فإنه

_ 1 متى 27/46، مرقس 15/34. 2 يوحنا 8/40. 3 ر: ص 263، 264. 4 ذكر هذا الاعتراض من النصارى والرّدّ عليه أيضاً في الأجوبة الفاخرة للإمام القرافي ص 50، 51، والانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية، لنجم الدين الطوفي ص 101.

يسوع، هذا مع كون المسيح في كلّ يوم في الهيكل يناظرهم ويفحمهم بالحجج النبوية ويظهر عليهم ويكسر حججهم في كلّ مجلس ومجمع يجتمعون فيه. فما حاجتهم إلى مَنْ يعرِّفهم عينه بعلامة وأمارة يجعلها لهم لولا وقوع الشبه الحائل بينهم وبين رجلٍ من أسباطهم وعشائرهم فَأَخْذُهم من أخذوه إنما هو الشّبه، ثم الشبه إنما أخذ ليلاً فلم يصيروا به إلى رئيس الكهنة وله حيلة تُعرف فقتلوه صبيحة تلك الليلة كما أخبر الإنجيل. وإذا كان هذا نص الإنجيل أن أصحاب المسيح لم يحضروا، واليهود قد اشتبه عليهم الحال وأنكروا صورة المسيح بعد طول المعرفة به، فإخبار من جاء بعدهم لا يفيد ولا الظن إذ كان مستنده ما ذكرنا. فالقول بقتل المسيح وصلبه لا سبيل إلى صحته بعد إخبار جبريل عن ربّ العالمين أن المسيح يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود، ويملِّكه / (1/172/أ) على بيت يعقوب على ما تضمنه إنجيل لوقا. وقد حققنا ذلك غير مرة فلا نعيده1. 19- سؤال تاسع من المعضلات: قال النصارى: قال المسيح: "إذا كان يوم القيامة أرسل ابن الإنسان ملائكته، فجمعوا أصحاب الشكوك وفاعلي الآثام فيلقونهم في أتون النار، هنالك يكون البكاء وصرير الأسنان"2. قال النصارى: فقد أثبت لنفسه ملائكة، ولا يثبت ملك الملائكة إلاّ لله تعالى، وأثبت أنه المقتول المصلوب.

_ 1 ر: الباب الخامس. 2 متى 13/41، 42.

والجواب: أن هذه نسبة صحبة لا نبسة ملك، والدليل على ذلك من الإنجيل قول يسوع: "لا تحقروا أحداً من هؤلاء الصغار المؤمنين بِيَ. فإن ملائكتهم ينظرون وجه أبِي الذي في السماوات في كلّ حين"1. فقد أثبت للصغار ملائكة لم يرد الملك، وقد قال يسوع أيضاً لليهود في الإنجيل: "لا تظنوا أني لا أستطيع أن أدعو أبي فيرسل لي اثني عشر جوقاً من الملائكة"2. أثبت ها هنا ملك الملائكة لله وحده فكان ذلك المطلق [محمولاً] 3 على هذا المقيد. وقد قالت التوراة: "إن بني / (1/172/ب) إسرائيل كان لهم ملك يحمل عمود الغمام ويسير أمامهم ويلهب لهم بالليل ناراً يؤمونها في مسيرهم"4. وقوله: "إن ابن الإنسان" يوهم أنه أراد نفسه، ونحن نحمله على الشَّبه الشهيد الذي صلبه اليهود، أنعم فإنه من الحواريين الذين هم تلوا النّبيّين في الشفاعة. قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِّنَ النَّبِيِّين وَالصِّدِّقين..} الآية. [سورة النساء، الآية: 69] . وإذا كان الشَّبَه صِدِّيقاً فهو من خيرهم لإيثاره المسيح، فلا بُعد أن يشهد له المسيح بأنه يشفع يوم القيامة، ويرسل الملائكة بين يديه ويؤمر بامتثال أوامره ويلقي من آذاه وقتله وصلبه في أتون النار. والدليل على تشريف الأولياء والأصفياء بهذه الرتبة الكتاب العزيز والإنجيل، قال الله: {فَمَا تَنْفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . [سورة المدّثر، الآية: 48] . دلّ على أن من الشافعين مَنْ تنفع شفاعته. وقال المسيح لتلاميذه: "أنتم الذين صبرتم معني

_ 1 متى 18/10. 2 متى 26/53. 3 في ص (محمول) والصواب ما أثبته. 4 سفر الخروج 13/21، 22.

في تجاربي وإنكم يوم القيامة تجلسون على اثني عشر كرسياً من كراسي المجد تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل"1.فقد أثبت محاسبة/ (1/173/أ) الأسباط من بني يعقوب إلى تلاميذه، والمصلوب من خيرهم كما تقدم. وكيف لا يعظم جرم اليهود ويسلط عليهم في الدار الآخرة أصحاب المسيح وإنما قتلوا في زعمهم واعتقادهم وظنهم المسيح؟! فبشؤم قصدهم عظم إثمهم وإن لم يصادفوه ولا قتلوه فسلط الله عليهم في القيامة بعض خدمه وهو الشَّبه لينتقم منهم. 20- سؤال عاشر وهو من المعضلات، قال النصارى: قال دواد في مزمور له وتنبأ به على آلام المسيح وما يجري عليه من اليهود: "ثقبوا يدي، وجعلوا في طعامي المرار، وعند عطشي سقوني خلاً، يا رب لا تبعد نصرك مني"2.

_ 1 متى 19/28. 2 ورد في مزمور 22/16-19 كالآتي: "لأنه قد أحاطت بي كلاب جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يديَّ ورجلي، أحصى كل عظامي وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ، يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون، أما أنت يا ربّ فلا تبعد، يا قُوَّتي أسرع إلى نصرتي". يقول الشيخ رحمة الله الهندي: "إن هذه العبارة (ثقبوا يدي ورجلي) المذكورة في التراجم الشائعة، لا توجد في العبرانية، بل يوجد بدلاً منها هذه الجملة: "كلتا يدي مثل الأسد". فنسأل النصارى: هل النسخة العبرانية هاهنا محرفة في زعمكم أم لا؟ فإن لم تكن محرفة، فلم حرّفتم هذه الجملة لتصدق على المسيح في زعمكم؟! وإن كانت محرفة فلا بُدَّ أن تُقِرُّوا بتحريفها". (ر: إظهار الحقّ ص55،بتصرف بسيط) . وهذا يؤكّد أن هذا المزمور بالذات قد تعرَّض للكثير من التحريف والتعديل، مما يجعلنا في شكّ من أن تراجمه الشائعة لا تعطي نفس المعاني والمفاهيم التي سجلها داود عليه السلام في مزموره الأصلي. كما أن فهم علمائهم لهذا المزمور يتمثل فيما يقوله الأستاذ نينهام-أستا اللاهوت-في كتابه: (تفسيرإنجيل مرقس ص428) :"بأننا لو أخذناه ككل، فإنه لا يعدوا أن يكون صلاة لعبد بار يعاني آلاماً إلاّ أنه يثق تماماً في حبّ الله له وحفظه من الشرّ وهو مطمئن تماماً لحمايته وخاصة الفقرات19/26،وبالذات الفقرتين24،26"وفيهما: لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين ولم يحجب عنه بل عند صراخه استمع إليه". وتوجد بعض الشواهد على أن افتتاحية المزمور كان يفسرها قدماء اليهود على ضوء بقية أجزائه وأنه كان يُعرف كصيغة صلاة مؤكّدة الاستجابة من أجل العون في وقت الضيق"اهـ. (نقلاًمن المسيح في مصادر-لأحمد عبد الوهّاب ص227-229) . وأما احتجاجهم بالنّصّ: "وجعلوا في طعامي ... ". فقد ورد في مزمور 69/21 كالآتي: "ويجعلون في طعامي علقماً وفي عطشي يسقونني خلاً". إلاّ أننا نجد النصّ مختلفاً في الترجمة الحديثة (THE PSALMS) طبعة لندن وجلاسجو عام 1963م كالآتي: "أعطوني لطعامي سماً في عطشي سقونني خلاً". ومن الواضح أنه لا يمكن تطبيق هذه الترجمة على المصلوب حرفياً لأن الذي يعطي لطعامه سماً، لا يلبث أن يموت بالسم وليس بالصلب. (ر: المرجع السّابق، ص: 246، 252) .

قالوا: فأي حجة أبين أو دليلاً أوضح من هذا؟! والجواب: عن ذلك من وجوه: أحدها: لا نسلم أن دواد عنى بذلك المسيح بل لم يعن إلاّ نفسه، والكلام يحمل على المعنى حيث أعوز حمله على اللفظ، وكأنه عليه السلام كَنَّى بذلك عما هو بصدده من قتال المشركين ومنازعة أعداء الدين وجبابرة فلسطين، وكأنهم / (1/173/ب) لطول حروبهم وموالاة شرورهم فعلوا هذه الأشياء، وداود أخبر بهذا المزمور عن نفسه فمَن أراد صرفه عنه إلى غيره فعليه إقامة الدليل. قال مؤلِّفه: "بعد تبييض هذه النسخة والفراغ سألت حبراً من أحبار اليهود عن قول داود: "ثقبوا يدي" بالمزمور، فأجابني بنحو ما ذكرته في الوجه الأوّل على الفور من غير توقف، فتعجبت من اتّفاقه لنصّ ما عندهم. الوجه الثاني: نسلم أن داود لم يعن بذلك نفسه ولكن عنى غيره فبم تنكر النصارى أن ذلك المعنِيَّ رجلٌ كان قبل داود؟!. واللفظ يساعد عليه فإنه ذكره بلفظ الماضي فقال: ثقبوا يدي جعلوا في طعامي المرار، وذلك يشير إلى أمر قد وقع وفرغ منه، وإذا كان ذلك لم يصلح للاستقبال فلعلّ داود إنما أراد بالمزمور رجلاً من أسلافه الماضين كإبراهيم وموسى وغيره من الأصفياء فتألم بذلك تألم الولد البار لوالده وذوي رَحِمِه وعزَّى نفسه وسلاّها فيما ابتلى به من/ (1/174/أ) قتال كفار زمانه وملوك دهره.

الوجه الثالث: نسلِّم أن داود أرد الاستقبال، لكن ليس في المزمور ما يدلّ على قتل وضرب وصفح وصلب كما نسبه الصنارى لربّهم في زعمهم، وليس فيه إلاّ أن رجلاً من الناس يُثقب يده ويُسقى خلاً عند عطشه ويُمَرَّر طعامه ويسأل ربه وخالقه إلهه أن ينصره، ولا يلزم من وجود هذه الأموروجودقتل وصلب، فقديثقب يد الإنسان ويسقى الخل ولا يموت. والوجه الرّابع: سلَّمنا أن ذلك يستلزم القتل والصلب والإهانة، وأن داود عبَّر ببعض الآلام عن سائرها، لكن من أين للنصارى أن المفعول به ذلك هو المسيح؟!، وليس في كلام داود له ذكر البتة. فبم ينكرون على من يقول: إن المفعول به ذلك هو الشبه لا المسيح؟ وليس دعواهم أن داود أراد المسيح بأولى من دعوى مَن يقول: لم يرد بذلك إلاّ الشبه. والدليل على أن داود أراد الشبه قوله: "يا ربّ لا تبعد نصرك مني". فصرَّح داود بأن المفعول به ذلك عبد من عبيد الله/ (1/174/ب) يستصرخ بربه ويلتمس نصر خالقه عند نزول كربه، ويؤيّده قول نقلة الإنجيل إن المصلوب قال في آخر كلام تكلم به على الخشبة: "إلَهِي إِلَهِي كيف تركتني؟ ". والمسيح ليس كذلك عند النصارى. ولاسيما وقد رووا عن داود أنه عنى المسيح بقوله في المزمور: "قال الرّبّ لربِّي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئ قدميك". وإذا قالوا: إن داود يخاطب المسيح بلفظ الربوبية وأن أعداءه تكون موطئ قدميه بطل أن يكون عنى بقوله: "ثقبوا يدي". المسيح وصحّ إضافة ذلك إلى الشبه. ثم داود عبراني اللسان، فلو كان في مزمور ما ينوه بذكر المسيح وربوبيته وقتله وصلبه لكان العبرانيون - وهم اليهود - أحقّ بمعرفته من غيرهم. لاشتغالهم بتلاوة مزامير داود وانكماشهم على قراءتها والتعبد بها، فإقدامهم على ما أقدموا عليه من طلب المسيح وتكذيبه، وعزمهم على قتله حتى شغلهم الله

عنه بالشبه الذي قتلوه وصلبوه-دليل واضح (1/175/أ) على غلط النصارى فيما استنبطوه من المزامير بعقولهم واستخرجوه بأذهانهم. فهذه عشرة أسئلة معدودة من معضلات أسئلتهم مضافة إلى ما قدمناه، غير أن هذه الأسئلة هي أساس كفرهم، وعليها عقدوا أمانتهم التي سنبيّن بعون الله فسادها وتناقض ألفاظها ومعارضتها للثالوث ومعارضة الثالوث لها. وقد بيّن داود في المزمور التاسع عشر على ما ذهبنا إليه من خلاص المسيح من أعدائه اليهود، وأخبر أن الله تعالى حماه منهم وستره عنهم، فقال: "يستجيب لك الرّبّ في يوم شديد، ويرسل لك عوناً من قدسه يعضدك من الآن، عرف خلاص الله لمسيجه ومن سماء قدسه استجاب له"1. فقد شهد داود بأن الله خلّص المسيح. وهذا المزمور مصدِّق لقول لوقا: "إن جبريل خبَّر عن الله أن المسيح يكون ملك بني إسرائيل". فأما مزمور "ثقبوا يدي"، فكذَّب بشارة جبريل، وما رَدَّ بشارة جبريل عن الله تعالى فهو مردود. فإن قيل: فالمسيح صعد إلى السماء2 وهذا يدل على ربوبيته. قلنا: هذا من أضعف ما يتمسك / (1/175/ب) به؛ إذ الملائكة تصعد السماء وليسوا آلهةً ولا أرباباً، وأخنوخ الذي هو إدريس قد صعد إلى السماء3 وهو عبد من عبيد الله. وكذلك إلياء وَدَّع تلميذه اليسع وصعد إلى السماء على فرس من نور4.

_ 1 مزمور 20/1-7. 2 مرقس 16/19، لوقا 24/51. 3 سفر التكوين 5/24. 4 سفر الملوك الثاني 2/1-11.

والعجب أن التلاميذ عندكم أفضل من إدريس وإليا وغيرهم وقد قتلوا وماتوا ودفنوا في الإرض، فليس في صعود السماء ما يدلّ على ما يذهبون إليه. فإن قيل: فالمسيح أخبر بالمغيِّبات وعَرَّف تلاميذه بما سيحدث في المستقبل1 ولا يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه. قلنا: التعلق بذلك يصلح لإثبات النبوة والرسالة، أما أنه يصلح لما تدّعونه فلا. والدليل على ذلك أنّ نوحاً وإبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وجماعة من الأصفياء قد أخبروا بالمغيَّبات فوقعت على وفق خبرهم. فأخبر نوح بالطوفان وهلاك الخلق بأسرهم إلاّ من ركب سفينته2، وأخبر إبراهيم بأن ذريّته يكونون في العبودية والسخرة بمصر المدة الطويلة3، وأخبر يعقوب بأن الله سيذكر بني إسرائيل ويخرجهم من مصر إلى بلادهم بيدٍ / (1/176/أ) منيعة غزيزة قوية4، وأخبر موسى بشتات أمر اليهود وعبادتم الأصنام والأوثان وإعراضهم عن طاعة الله الذي أنقذهم من سخرة فرعون5، وأخبر يوسف بالغلاء والمجاعة التي تعمُّ الأرض سبع سنين6، وأخبر دانيال بختنصر بمغيبات كثيرة7. فلم يخرم مما قالوا ولم يخلف كما شهد بذلك كله التوراة

_ 1 متى 24/1-31، مرقس 13/1-32، لوقا 21-5-28، لوقا 22/31-38، يوحنا 13/36-38. 2 سفر التكوين إصحاح (6) . 3 سفر التكوين 15/13-17. 4 سفر التكوين 48/21. 5 سفر التثنية 31/24-30، 32/1-47. 6 سفر التكوين 41/25-36. 7 من هذه المغيبات: إخبار دانيال بختنصر بحلمه عن التمثال العجيب وتفسيره له. (ر: دانيال صح 2) ، وعن حلم الملك عن الشجرة العظيمة التي قطعت وتأويل ذلك. (ر: دانيال صح 3) ، وعن تفسير الكتابة التي ظهرت على الحائط في الوليمة التي أقامها الملك. (ر: دانيال صح 5) . وغير ذلك.

والنبوات وأربوا على المسيح في ذلك، وذلك كله بتعريف الله: {عَالِمُ الغَيبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رُّسُولِ} 1. والعجب كيف يتمسك النصارى في دعوى ربوبية المسيح بإخباره الغيب، وهذا نوح وإبراهيم ويعقوب يخبرون به وينبؤون عنه، مع أن النصارى لا يعتقدون فيهم سوى أنهم قوم صالحون لا غير2، وهذا من أجلِّ أغاليطهم وكفرهم إذ

_ 1 الآية الكريمة: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} . [سورة الجن، الآية: 26-27] . 2 إن الفكر النصراني المنحرف في القرون الأولى المسيحية لم يتطرق إلى بحث قضية الوحي والنبوة؛ لأن ألوهية المسيح عليه السلام وما يتعلق به من قضايا فلسفية هي المحرر الرئيسي للفكر النصراني أو ما يسمى بعلم: (الثيولويجا: THEOLOGIA) . أما بعد ظهور الإسلام فإن موقف النصارى من بعض قضايا النبوة مثل: نبوة بعض الأنبياء السابقين كنوح وإبراهيم ويعقوب عليهم السلام، فهو يتلخّص في الآتي: الأوّل: اعتبارهم مجرد آباء للشعب الإسرائيلي ورجال صالحين وليسوا أنبياء مرسلين من الله، وهذا الموقف ناشئ من التراث اليهودي الذي ورثه النصارى. (فإن التراث اليهودي يجعل النبوة تبدأ في مرحلة متأخرة من الزمان، بدأت بموسى عليه السلام - الذي يعتبر أباً الأنبياء ومن أبرز آبائهم المتقدمين - وتنتهي بأنبياء القرن الرابع قبل الميلاد. أما نوح وإبراهيم ويعقوب وغيرهم فإنهم - في نظر اليهود - مجرد آباء للشعب الإسرائيلي وبأن ما تلقاه هؤلاء الآباء من الوحي الإلهي فإنه إرث يهوذي خالص. ونادراً ما يستخدم تعبير (الأنبياء) للتعريف بهذه المجموعة من الأنبياء - حسب الفهم الإسلامي ـ، فكل الشخصيات السابقة على موسى عليه السلام في التراث اليهودي يجمعهم لقب البطارقة: (THE PATRIACHS) أو الآباء بما يعني أنهم كانوا بمثابة رؤساء وشيوخ لقبائلهم، وأن وظيفتهم كانت سياسية اجتماعية أكثر منها دينية". (ر: تاريخ النبوة الإسرائيلية ص16-21، د. محمّد خليفة حسن أحمد، دائرة المعارف اليهودية 13/181. مادة البطارقة 13/1149، مادة النبوة، قاموس أكسفورد ص د، 1132) . كما أن أصحاب هذا الموقف قد يكونون متأثرين برد الفعل المعاكس لما ورد في القرآن الكريم من إثبات نبوة هؤلاء الأنبياء الكرام، مما دعاهم إلى إنكار نبوتهم عناداً ومخالفةً لما عند المسلمين. أما الموقف الثاني: الاعتراف بنبوتهم، فهو ما ورد في بعض المصادر اليهودية. (ر: تنقيح الأبحاث ص 21، لابن كمونة اليهودي، الأصول الثلاثة عشر لموسى بن ميمون) . وأصحاب هذا الموقف متأثرون بالإسلام، وهم بذلك يتحاشون الانتقادات التي توجه إليهم لعدم إثباتهم نبوة هؤلاء الأنبياء الكرام مع ثبوت تكليم الله عزوجل لهم في التوراة. وبذلك يتبيّن لنا أن ما ذكره المؤلِّف عن أهل الكتاب صحيح. والله أعلم.

أخرجوا من ديوان النبوة مثل نوح وإبراهيم عليهم السلام مع شهادة التوراة بأعلامهم ورسوخ أقداهم ومكالمتهم الحقّ ودعائهم الخلق1. فإن قيل: فالمسيح جاء من غير/ (1/176/ب) فحل ونحن وأنتم قاطعون بطهارة مريم وبراءتها. وإذا كان لا بدّ من أب فلا أب له سوى الله تعالى. قلنا: هذا من أضعف ما يُتَمسك به؛ وذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق حواء من آدم، قال الله تعالى في صدر التوراة: "لا يحسن أن يبقى آدم وحده بل نخلق له زوجاً مثله، فألقى الله عليه النوم فنام فنَزَع ضلعاً من أضلاعه وأخلف له عوضه لحماً، فخلق الله من ذلك الضلع حواء زوجته"2. فإذا كان لا بدّ لها من أم فهل تقولون: إن الله أمها؟! فَخَلْقُ أنثى من ذكر بغير أم أعجب من خلق ذكر من أنثى بغير أب، وأعجب من هذين خلق بشر من غير أنثى ولا ذكر. وقد خلق الله آدم من تراب، فمن كان قادراً على أن يخلق بشراً من غير أبوين ولا يكون ابناً له كيف لا يقدر أن يخلق بشراً من أنثى ولا ذكر ولا يكون ابناً له؟!.

_ 1 لقد وردت نصوص كثيرة في سفر التكوين من التوراة تثبت نبوة هؤلاء الأنبياء وإنزال الوحي عليهم، فأما نوح عليه السلام فقد ورد في الإصحاحات (6-9) النصوص الآتية: "فقال الله لنوح: نهاية كلّ بشر ... ". "وكلم الله نوحاً قائلاً: اخرج من الفلك ... "، "وقال الله لنوح: هذه علامة ... ". وغير ذلك. وأما إبراهيم عليه السلام فقد ورد عنه في الإصحاحات (12-18، 20-24) نصوص كثيرة منها: "قال الرّبّ لأبرام: اذهب من أرضك". "ظهر الرّبّ لأبرام وقال له: أنا الله القدير ... ". (فقال الله له - أي: لملك جرار الذي أخذ سارة زوجة إبراهيم - في الحلم: ... فالآن ردّا امرأة الرجل فإنه نبيّ ... ". وغيرها. وأما يعقوب عليه السلام فقد ورد عن الإصحاحات (35، 46) مثل ذلك، منها: "قال الله ليعقوب: قم اصعد ... ". "وقال له الله: اسمك يعقوب ... ". وغيرها. لكن التوراة المحرفة لا تذكر أي نشاط للدعوة لهؤلاء الأنبياء. 2 سفر التكوين 2/18-23.

وكم قد خلق الله سبحانه من مخلوقاته من غير تناسل معروف ولا ولادة معتادة؟! {فَأَيُّ آيَاتِ الله تُنْكِرُون} 1. انتزاعات لهم: وانتزع النصارى من / (1/177/أ) التوراة والكتب العتيقة مواضع زعموا أنها دالة على ربوبية المسيح، ونحن نوردها في معرض الأسئلة، ونجيب عنها، ونبيّن أن ليس فيها [تفريج لكربة النصارى ولا معتصم] 2 لهم فيما يحاولونه. 1- فإن قيل: ففي التوراة ما يدل على عقد النصارى في المسيح، وهو: "أن إسرائيل لما احتضر بمصر جمع بنيه ودعا واحداً ثم قال لابنه يهوذا: لا يعدم سبط يهوذا ملكاً مسلطاً، ونبيّاً مرسلاً حتى يأتي الذي له الملك. وإياه ينتظر الشعوب، ربط بالحبلة جحشه، يرخص بالخمر لباسه، ويصبغ بعصير العنب رداءه، عيناه أشد سهولة من الخمر، وأسنانه أشد بياضاً من اللبن"3.

_ 1 قال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} . [سورة غافر، الآية: 81] . 2 في ص (تفريجاً للبرية النصارى ولا معتصماً) والصواب ما أثبته. 3 ورد النّصّ في سفر التكوين 49/1-12 كالآتي: "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب، رابطاً بالكرمة جحشة وبالجنفة ابن أتانه، غسل بالخمر لباسه وبدم العنب ثوبه، مسوّد العينين من الخمر ومبيض الأسنان من اللبن". قلت: الفرق واضح بين هذا النّصّ وما ذكره المؤلِّف، وقد أشار الشيخ - رحمة الله - إلى اختلاف اللفظ في عبارة: "حتى يأتي الذي له الكل". وذكر أنها موجودة في التراجم العربية للكتاب المقدس المطبوعة سنة 1722م، 1831م، 1844م، وأن عبارة: "الذي له الكل"، أو "الذي هو له"، ترجمة للفظ: "شيلوه"، أو "شيلون". (ر: إظهار الحق ص 518، 519) . وبناء على ذلك فإن تفسير هذه البشارة كالآتي: إنه لا تزول السلطة من بيت يهوذا والمشترع من بين رجليه أو صُلْبِه - وهو المسيح - لأنه من بيت يهوذا، فيكون ما بيَّنه في الأناجيل من الشريعة يبقى مستمراً حتى يأتي شيلون "أي: من له الأمر أو الكلّ"، فيكون الحكم والعمل على شريعته، ولم يتحقق هذا إلاّ بمجيءسيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم. وقد فسر الأستاذ عبد الأحد داود - الذي كان قسيساً فأسلم - كلمة: "شيلوه" بالرجوع إلى أصل اشتقاق هذه الكلمة في اللغة العبرية، فسرها بثلاث تفسيرات: الأوّل: "الشخص الذي له"، ويكون المعنى كالآتي: "إن الطابع الملكي المتنبئ لن ينقطع من يهوذا إلى أن يجيء الشخص الذي يخصّه هذا الطابع ويكون له خضوع الشعوب". الثاني: "المسلم، الهادئ، الوديع، الأمين". الثالث: أن كلمة شيلوه تحريف لكلمة: "شلواه"، ومعناه: الرسول أو المبعوث. ثم يقرر الأستاذ عبد الأحد أنه على أي تفسير من هذه التفسيرات الثلاثة فإنها تنطبق تماماً على نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم الذي أقام دين الإسلام ووحَّد جميع الشعوب وأزال سلطة اليهود، وهو صلى الله عليه وسلم الملقب بالأمين، وهو رسول الله الذي يتكرر إطلاق هذا اللقب عليه في القرآن الكريم وفي الأذان وفي الصلاة خمس مرات كلّ يوم. ثم يقول: فإننا مضطرون بحكم تحقق هذه الصفات في محمّد صلى الله عليه وسلم، أن نُسلِّم بأن اليهود ينتظرون عبثاً مجيء (شيلوه) آخر، وأن النصارى مصرون على خطئهم في الاعقاد أن عيسى كان هو المقصود بـ: (شيلوه". (ر: محمّد في الكتاب المقدس - عبد الأحد داود ص 77-85، بتصرف) .

قال النصارى1: وهذه صفات المسيح. قلنا: اللفظ للتوراة وهي عبرانية واليهود من أولاد يعقوب أعرف بذلك منكم، وها هم إلى الآن ينازعونكم في الموصوف بهذه الصفات، ويدَّعون أنه صاحبكم وهم إلى الآن ينتظرونه، ونحن لا نسلم أن هذا الموعود به عيسى بن مريم ولا غيره بل هو محمّد صلى الله عليه وسلم / (1/177/ب) والدليل على ذلك قول يعقوب: "حتى يأتي الذي له الملك". وليست كذلك وإنما هي: "الكلّ"، فحرفت بسوء النقل وكذلك هي في بعض نسخ التوراة "الكلّ"، فجعله مع النبوة ملكاً مطاع الأمر كما قال

_ 1 ويزعم ذلك أيضاً مؤلفو قاموس الكتاب المقدس ص 536، وقد توهمه أيضاً العلامة نجم الدين الطوفي في كتابه: (الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية، ص 107، 108) حينما زعم أن الصفات الواردة في النّصّ السابق هي صفات المسيح، هذا اجتهاد خاطئ منه - رحمه الله - يرده ما ذكرناه سابقاً.

أبو سفيان للعباس: "لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً فقال له: اسكت فإنها النبوة"1. وقال: لقد أتيت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه فما رأيت قوماً أهيب لملكهم من أصحاب محمّد لمحمّد صلى الله عليه وسلم2. وقال صناديد قريش: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كَبْشة3، جد من أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان عليه السلام، فإن الله جمع له الكلّ كما قال يعقوب: النبوة، والملك، فاستقام أمره واستوسق4 سلطانه واستتبت دولته وألقت إليه الدنيا سلطان مقاليدها فكان نبيّاً رسولاً كما كان سلطاناً مبعوثاً إلى الأحمر والأسود والقريب والبعيد، ولقد هابته الملوك وهادته واعتصمت منه بالذمم، وحضت على مؤازرته، وتابعه قيصر والنجاشي وملوك العرب. فأما المسيح عليه

_ 1 حديث العباس مع أبي سفيان - رضي الله عنهما - ورد في قصة فتح مكة - في سياق طويل - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجه ابن إسحاق. (ر: سيرة ابن هشام 4/64) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده. (ر: المطالب العالية 4/244-246 لابن حجر) . وأخرجه ابن سعد 2/134-137، والبيهقي في الدلائل 5/32-35، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6/167-1700، وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". وقال الحافظ بن حجر: "هذا حديث صحيح". 2 هذه مقالة أبي سفيان للعباس رضي الله تعالى عنهما في قصة الفتح حينما رأى أبو سفيان المسلمين يتلقون وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجها البيهقي في الدلائل 5/39-40، برواية موسى بن عقبة. ونقلها ابن كثير في البداية والنهاية 4/324. 3 هذه مقالة أبي سفيان بن حرب قالها لأصحابه من كفار قريش بعد ما ساله هرقل ملك الروم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وفد أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي باب (7) . (ر: فتح الباري 1/31-33) . ومسلم 3/1393-1397، والبيهقي في الدلائل 4/377-380، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في سياق طويل. قال الحافظ ابن حجر: "وابن أبي كبشة أراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جدّ غامض"، وقال ابن قتيبة والخطابي والدارقطني: "وهو رجل من خزاعة خالف قريشاً في عبادة الأوثان فعبد الشعرى، فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة". وكذا قاله الزبير. قال: واسمه: "وجز بن عامر بن غالب". (ر: فتح الباري 1/40) . 4 استوسق: اجتمع وانتظم. (ر: القاموس ص 1199) .

السلام / (1/178/أ) فقد شهدت عليه أقواله وأقوال تلاميذه في الإنجيل بأنه لم يرسل إلى كلّ الأمم من العرب والعجم؛ إذ يقول في إنجيله: "إني لم أرسل إلاّ إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل"1. "وسئل أن يقضي حاجة امرأة من الكنعانيّين، فقال: ليس بجيد أن يؤخذ خبز النبيين فيلقى للكلاب"2. وقال المسيح حيث بعث تلاميذه: "مدن السامرة لا تدخلوا، وطريق الزنادقة لا تسلكوا، واذهبوا إلى الخراف التي ضلت من بيت إسرائيل"3. فبين في كلّ كلامه أن دعوته خاصة وليست عامة، فإذاً ليس هو المراد بلفظ إسرائيل، إذ إسرائيل يقول: "إنه ينتظره كلّ الشعوب". ولم يقل ينتظره من ضلّ من شعب إسرائيل لا غير. والعجب من النصارى كيف ينْزِلون هذا الكلام على المسيح عليه السلام وهم مجمعون أن صاحبهم كان مستضعفاً يبذل الجزية أسوة سائر [أهل] 4 الذمة، فرووا في إنجيلهم الذي بأيديهم اليوم: "أن جباة الجزية من جهة قيصر قالوا لبطرس: ما بال معلمكم لا يؤدّي إلينا الغرم؟ فذكر ذلك بطرس للمسيح، فقال: [والبنون] 5 أيضاً يؤدّون الغرم / (1/178/ب) ثم قال لبطرس: اذهب إلى البحر وألق الصنارة واصطد ما تؤدّي عني وعنك"6.

_ 1 متى 15/24. 2 متى 15/21-28. 3 متى 10/5، 6. 4 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم. 5 في ص (والبنين) والصواب ما أثبته. 6 متى 17/24-27.

وهذا نقلهم والعُهدة عليهم، وإذا كان الأمر ما نقلوا فليس هو صاحبهم؛ لأن الصادق إسرائيل قال: إن هذا الآتي يكون ملكاً نبيّاً وكلّ الشعوب ينتظرونه، والخلائق معمومون برسالته ودعوته. والنصارى يقولون: هو هذا الذي يبذل الجزية من صيد السمك ويتحمَّل الصَّفار وإن خساس اليهود وأراذلهم وثبوا به وأرذلوه واستذلوه وربطوه ربط اللصوص وأهل الدَّعر1، ووضعوا على رأسه إكليلاً من الشوك، وجعلوا يصفعونه ويسخرون منه، ولما قضوا نهمتهم من عقوبته صلبوه على خشبة فوق نشز من الأرض، وقرنوه بلصين مصلبين، ثم قتلوه وإياهما، كما حكوه لنا في إنجيلهم، أفكانت بشرى يعقوب لسائر الشعوب برجل يرذل ويصفح ويؤيّدي الجزية فيذل لها ويخضع ويحمل خشبته ويصعد عليها ويرفع ويستسقى ماء فَيُذاد عنه ويُدفع ويسأل البقيا فلا يجاب إليها ولا يسمع. قال يعقوب عليه السلام: / (1/179/أ) "وإيّاه ينتظر الشعوب". والمسيح عند النصارى إله خالق وربّ رازق. ومعلوم أن أكثر شعوب الأرض وأهل الدنيا ينكرون هذا ولا يقرون به فكيف ينتظرونه؟! وإنما ينتظر الإنسان ما يجوّزه فأما ما يحيله ويقضي بمنعه واستحالته فلا ينتظر مجيئته وإتيانه. فقد وضح أن الذي نصّ عليه يعقوب في التوراة ليس هو المسيح عليه السلام. فأما اليهود فيقال لهم: أخبرونا عن مسيحكم هذا الذي أنتم تنتظرونه، هل يعرفه غيركم أو يقرّ به سواكم؟

_ 1 الدعر: الفساد والفسق والخبث. (ر: القاموس ص 501) .

فإن ادّعوا ذلك كابروا العيان، فإن أحداً من الناس لا يعرفه ولا يدين الله بمجيئه، وانتظار الشيء فرع معرفته، وإنما ينتظرون المسيح الدجال الكذاب الضال المضل الذي حذّر منه الأنبياء1 وأتباع الأنبياء، قالت التوراة في السفر الخامس بعد أن نصّ على مجيء النبيّ الصادق: "فأما الذي يقول ما لم آمره به ويتكلم باسم إله أخر فليقتل ذلك2 قتلاً، وإن أشكل عليهم معرفة الصادق من الكاذب فانظروا فإني لا أتمُّ عمل الكاذب ولا أكمل فعله؛ لأن قوله ذلك / (1/179/ب) كذب وجرأة وصفاقة وجه لا يخافوه ولا يفزعوا منه"3. فهذا ما في التوراة. وأما الإنجيل فقال4: "إنه سيقوم مسيح كذب وأنبياء كذبة بآيات وعلامات [ويضلون] 5 الناس إن قَدَرُوا، ويتم الذي حكاه دانيال حيث يقول: "يهرب الناس إلى الجبال ولا ينْزِل مَنْ على سطح داره أن ينْزل لأخذ ثيابه، الويل للحبالى والمرضعات في تيك الأيام، ويكون ضيق عظيم لم يكن مثله في العالم، ولولا أن تيك الأيام قصرت لم يخلص ذو جسد، ولكن من أجل المنتخبين قصرت تيك الآيام، ومن بعد ذل تظلم الشمس والقمر وتسقط الكواكب وترتج السماء". وقد قال المسيح في الإنجيل "ومن قِبَل ثمارهم يعرفونهم"6. ونحن نعلم

_ 1 عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله فما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: إني لأُنْذَركموه، وما من نبيٍّ إلاّ أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبيّ لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور". أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 6/370) . 2 في ص: تكررت لفظة: (ذلك) . 3 سفر التثنية 18/20-23، بألفاظ مختلفة. 4 إنجيل متّى 24/3-34، مرقس 13/5-32، لوقا 21/8-32. 5 في ص (ويضلوا) والصواب ما أثبته. 6 متى 7/16، 20.

أن من ثمار محمّد عليه السلام توحيد الباري وتقديسه وخلع ما سواه جلّ وتعالى، وأما المسلمون فلا يعدلون لهذا النعت عن محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما النصارى فمكذبون لليهود زاعمون أنه المسيح ابن مريم عليه السلام، وقد أبطلنا ذلك. وأما المجوس1 وسائر فرق الناس كالصابئة2 وأصحاب هرمس3

_ 1 المجوس؛ هم: الذين أثبتوا أصلين للعالم هما: (إله النور) خالق الخير واسمه: يزدان. و (إله الظلمة) خالق الشّر، واسمه: أهرمن. والمجوس يعظمون النيران والأنوار. وانقسموا إلى مذاهب كثيرة منها: الثنوية، والزرادشتية، والمركونية، والمزدكية، والتناسخية. (ر: التمهيد للباقلاني ص 87، الفصل لابن حزم 1/86، الملل والنحل للشهرستاني 1/230، والداعي إلى الإسلام لأبي البركات الأنباري ص 221، 271، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 86، البرهان للسكسكي ص 90) . 2 الصابئة؛ في مقابلة الحنيفية، وفي اللغة: صبأ الرجل: إذا مال وزاغ. وقيل: بأنها كلمة آرامية الأصل تدل على التطهير، ويعرف منها: 1- الصابئة الحرانيون: وقد انقرضوا في القرن (11هـ) ومركزهم (حران) . 2- الصابئة المندائيون: ويزعمون أنهم أتباع النبيّ يحيى عليه السلام. ويُقَدَّر عددهم حالياً بعشرة آلاف شخص تقريباً معظمهم في العراق وإيران. والصابئة يقدسون الكواكب والنجوم، ويعتبر الاتّجاه نحو القطب الشمالي والتعميد في المياه الجارية من أبرز معالم ديانتهم. (ر: الفصل 1/88-90، الممل والنحل 2/5-57، اعتقادات ص 90، والبرهان ص 932، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب ص 317) . 3 هرمس: وجمعه هرامس، يسمى عند العرب إدريس، وعند اليونانيين أطرسمسين، وعند العبرانيين أخنوخ، وعند الفرس: أبهجل أو اللهجد - وتفسيره - ذو عدل. وقد اشتهر من الهرامسة ثلاثة: 1- هرمس الأوّل ويسمونه: (هرمس الهرامسة) - وقد كان قبل الطوفان - وهو أخنون أو إدريس، وللصابئة شرائع يسندونها إليه، وقيل أوّل من استخرج الحكمة وعلم النجوم والطبّ. 2- هرمس الثاني: من أهل بابل الكلدانيين وكان بعد الطوفان. 3- هرمس الثالث: سكن مصر. (ر: الفهرست لابن النديم ص 492، الفصل لابن حزم 1/90، الشهرستاني 2/45، الكامل لابن الأثير 1/34، أخبار العلماء للقفطي ص 5، دائرة معارف فريد وجدي 10/504) .

وغيرهم فينقسمون إلى من له شبهة كتاب / (1/1810/أ) وهو لا يدين بالتوراة ولا بشيء من قول اليهود، وإلى من ينكر النبوات جملة كالبراهمة1 والهنود وغيرهم. وإذا كان ذلك كذلك فليس المذكور في التوراة صاحبهم الذي ينتظره سائر الشعوب، وإذا فسدت دعوى اليهود والنصارى جميعاً فلا بدَّ من الوفاء بقول إسرائيل الله الصادق، ولم يبعث إلى سائر الشعوب سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن دعوى ذلك لموسى عليه السلام إذ هو مهجور على كلّ قول ولا ادعاه أحد، ثم اعلم أنه يتعين تأويل ألفاظ إسرائيل وصرفها عن ظاهرها، فأكثر كلام القوم متروك الظواهر موكول استنباطه إلى آراء العلماء وفهوم الحكماء. والدليل على أنّ نبيّنا محمّداً صلى الله عليه وسلم ينتظره سائر الشعوب قوله تعالى في محكم كتابه العزيز: {قُلْ يَا أَيَّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيكُم جَمِيعاً} . [سورة الأعراف، الآية: 158] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلعَالِمِينَ} . [سورة الأنبياء، الآية: 107] . {تَبَارَك الَّذِي نَزَلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . [سورة الفرقان، الآية: 1] .

_ 1 البراهمة: نسبة إلى الإله: (براهما) ، أحد عناصر الثالوث الهندي المكون من: (براهما، وفشنو، وسيفا) ، ويمثلون الديانة الهندوسية، والبراهمة هم أعلى الطبقات في المجتمع الهدوسي، ولهم الكهانة والمراتب العليا، ويزعمون أنهم خلقوا من فم الإله براهما، ثم يلونهم طبقة الكاشتر ثم الويش ثم الطبقة المنبوذة وهم الشودر. وهذه الديانة يعتنقها معظم أهل الهند، وأبرز معتقداتهم: الكارما (قانون الجزاء) ، وتناسخ الأرواح، والانطلاق، ووحدة الوجود. (ر: الفصل 1/137، اعتقادات فرق 2/250، البرهان ص 87ت، والداعي إلى الإسلام ص 272، الموسوعة الميسرة ص 531، مقارنة الأديان، د. شلبي، أديان الهند الكبرى) .

وقد قال عليه السلام / (1/180/ب) "بعثت إلى الأحمر والأسود، لو أدركني موسى وعيسى ولم يتبعاني لأكبهما الله في النار"1. وذلك الذي يوضح أنه عليه السلام المراد في التوراة على لسان يعقوب. وقد نصت الأنبياء في نبواتهم على أن هذا النبيّ المنتظر يكون خاتم الأنبياء، وسنذكر ذلك في الباب الأخير. أما ما يتعيّن تأويله: فقوله: "ربط بالحبلة جحشة"، فتأويله بعض أصابنا فقال: يشد الحمار بالشجرة - ثم قال - الحمار هم اليهود والشجرة هم أصحاب النبيّ عليه السلام، قال: وشاهد ذلك من القرآن والتوراة. قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّورَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} . [سورة الجمعة، الآية: 5] . فَشَبَّه اليهود بالحمار. وقال تعالى في التوراة: "أخرجت شجرة من مصر ثم فرعتها في جميع الدنيا"2. يعني: بالشجرة أصحاب موسى وكذلك أصحاب محمّدأيضاً شجرة بهذا الاعتبار، وكأنه يقول: يربط الكفار بأصحابه وأهل بيته، قال الله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُم فَشُدُّوا الوَثَاق} . [سورة محمّد، الآية: 4] .

_ 1 لم أعثر عليه بهذا اللفظ، ولكن ورد معناه بلفظ آخر، فقد أخرج الإمام مسلم 1/371، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي كان كلّ نبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كلّ أحمر وأسود ... " الحديث. وأخرجه ابن سعد 1/191، عن أبي جعفر مرسلاً بلفظ: "بعثت إلى الأحمر والأسود". وأخرج الإمام أحمد 3/387، وابن أبي شيبة 5/312، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحقّ فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حيّاً ما وسعه إلاّ أن يتبعني". وقد تقدم تخريجه. (ر: ص 21) . 2 ورد النّصّ في مزمور 80/8، 9، كالآتي: "كرمة من مصر نقلت. طردت أمماً وغرستها. هيأت قدامها فأصَّلت أصولها فملأت الأرض". ولعل المؤلِّف قصد بقوله: "إن النّصّ في التوراة" العهد القديم وكتب الأنبياء. وذلك من باب إطلاق الجزء على الكلّ.

وقد قال المسيح لليهود: "إما أن تكونوا / (1/181/أ) شجرة وثمرتها طيبة، إما أن تكونوا شجرة خبيثة وثمرتها خبيثة؛ لأن من الثمرة تعرف الشجرة"1. هذا تأويله عند بعض أسلافنا. رحمهم الله. وأنا أقول: يحتمل أن يريد بالحبلة جزيرة العرب وهي الحجاز وما والاه، وقد كانت قبل معبث سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمل الشرور ومحط الآثام كالحبلة التي خمَّرتها أم الخبائث فربط عليه السلام مركوبه؛ أي: استقر بها فلم يزايلهاحتى أزال ما بها من الشرك، وأبادما اشتملت عليه من الكفر والإفك، وأحال حالها من عبادةالأوثان إلى عبادةالرحمن كاستحالةالخمر خلاً. وقد قال بعض أهل العلم: إنهم غيَّروا من كلام يعقوب كلمتين: أحدهما: (جحشه) وإنما هي: مهره. والثانية: (الملك) وإنما هي: الكلّ. وذكر أنه رأى ذلك في نسخة لم تتغير - قال -: وإنما فعلوا ذلك لكي يخرجوا نص يعقوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: ولا فائدة لهم أيضاً في ذلك، فلعمري لقد كان له عليه السلام [حمار] 2 يسمى يعفور، ومعلوم أنه لا بدَّ من ربطه بالشجر/ (1/181/ب) وغيرها، وخفاء علامة واحدة - لو خفيت - لا يقدح في ظهور بقية الصفات. وأما قوله: "يرخص بالخمر لباسه"، فذلك كناية عن جهاده الكفار وقتاله في سبيل الله، أسوة سائر الرسل كما صنع إبراهيم وموسى ويوشع وداود، والخمر هو الدم ودليله قول المسيح: "وأشار إلى الخمر: هذا دمي"3. وكأنه

_ 1 متى 7/17-20. 2 في ص (حماراً) والصواب ما أثبته. 3 متى 26/27، 28، مرقص 14/24، لوقا 22/20.

عليه السلام لشجاعته وإقدامه في طاعة ربه يصبغ لباسه بدماء المشركين كما ورد: "أنه حين رجع من بعض غزواته ناول سيفه ابنته فاطمة عليها السلام وقال: يا بنية أزيلي ما عليه فلقد أبلى عن أبيك اليوم"1. وكيف لا يصفه يعقوب بذلك وقد روي: "أنه عليه السلام حمل في بعض مواقفه سبعين حملة على المشركين"2. وكذلك قول يعقوب عليه السلام: "يصبغ بعصير العنب رداءه". يعني: يغمس سيفه في دماء الكافرين، والسيف يسمى رداءاً وإزاراً. ولو تصرف متأول في كلام يعقوب فقدّم وأخّر فقال: يرخص الخمر بلباسه، / (1/182/أ) لكان محسناً؛ يعني: يحرم الخمر ويزيل وضرها بتقواه. قال الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيرٌ} . [سورة الأعراف، الآية:26] .سمى التقوى لباساً. وأما قوله: "عيناه أشدُّ سهولة من الخمر". فقد روي في حلاه: صلى الله عليه وسلم أنه كان بعينيه حمرة ظاهرة لا تفارقه3، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى

_ 1 أخرجه ابن إسحاق معلقاً: (ر: السيرة 3/146) ، وعنه الحاكم في مستدركه 3/24 عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غزوة أحد) أعطى فاطمة ابنته سيفه فقال: يا بنية اغلسي عن هذا الدم، فأعطاها عليٌّ سيفه، قال: وهذا فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم القتال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدق معك القتال اليوم سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبو دجانة". وقال الحاكم: "حديث صحيح". وسكت عنه الذهبي. 2 لم أقف على تخريجه بهذا النصّ، ولكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان من أشجع الناس وأصبرهم وأجلدهم، حتى قال بعض أصحابه: كنا إذا اشتدّ الحرب وحمى الوطيس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم. (ر: الشمائل ص 110 لابن كثير) . 3 ورد في صفته صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه كان صلى الله عليه وسلم: "أشكل العينين". أخرجه مسلم 4/1820، وأحمد 5/86، 88. والشكلة: حمرة في بياض العينين، وهو محمود. والسهلة: حمرة في سواد العين. قاله القاضي وأبو عبيد وجميع أصحاب الغريب. (ر: شرح النووي لصحيح مسلم 15/93) . وقد ورد أيضاً في حديث عليّ رضي الله عنه "أنه كان صلى الله عليه وسلم: "هدب الأشفار مشرب العينين بحمرة". أخرجه الإمام أحمد 1/89.

شدّة حيائه عليه السلام فإنه كان أشدّ حياءً وخفراً من الغذراء في خدرها1. فكان إذا أتى أهله تلفع من شدّة حيائه صلى الله عليه وسلم. وكان لا [يجابه] 2 أحداً في وجهه بما يكره3، وإن أمضه ما يصدر منه عرَّض، فقال: ما بال قوم يفعلون كذا وكذا4، ومال الرجال نولِّيه مما ولاّنا الله فيفعل كيت وكيت، وإن أقواماً استأذنوني في أمر فلا آذن لهم، وذلك لما طبعه الله عليه من الحياء والخفر والسكينة صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: "وأسنانه أشدُّ / (1/1/2/ب) بياضاً من اللبن". فإن حمل على ظاهره فكذلك كان عليه السلام لكثرة محافظته على سنة السواك5، وقد اختلف الفقهاء في وجوب السواك عليه صلى الله عليه وسلم6.

_ 1 قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ... } . [سورة الأحزاب، الآية: 53] . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها ... " الحديث. أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 6/566) ، ومسلم 4/1809، والترمذي في الشمائل ص 283. 2 في ص (كبه) والتصويب من المحقِّق. 3 عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه - فلما خرج قال: "لو أمرتم هذا أن يغسل ذا عنه". أخرجه أبو داود 4/250، والترمذي في الشمائل ص 273. 4 عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟! ولكن يقول: مابال أقوام يقولون كذاوكذا". أخرجه أبوداود4/250. 5 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشقّ على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كلّ صلاة". أخرجه البخاري واللفظ له. (ر: فتح الباري 2/374) . ومسلم 1/220. وعن عائشة رضي الله عنها "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك". أخرجه مسلم 1/220. 6 عن عبد الله بن حنظلة الغسيل: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمر بالوضوء لكلّ صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلمَّا شقّ ذلك عليه أمر بالسواك عند كلّ صلاة". أخرجه أبو داود 1/12، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم 1/155، والبيهقي في السنن، وذكر ذلك السيوطي في الخصائص 2/397. قال الحاكم: "حديث صحيح، على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.

وإن تأوّل فالأسنان الأصحاب والأعوان الذين هم أعون النبيّ على تبغيغ أوامر ربه تعالى كاستعانة الإنسان [بالأسنان] 1 على تناول غذائه. فوصف يعقوب أصحاب نبيّنا رضوان الله عليهم وأهل بيته الأكرمين بصفاء التوحيد ونقاء العقائد عن ظلم التجسيم والتجسيد. قال الشاعر يرثي سناً سقط له: وصاحب لا أمل الدهر صحبته يشقي لنفعي ويسعى سعي مجتهد لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت عيني عليه افترقنا فرقة الأبد 2- فإن قيل: وفي التوراة ما يدلّ على ما ندين به من صلب المسيح، وهو أن موسى عليه السلام صنع لبني إسرائيل في التيه حية من النحاس، وأمرهم بالنظر إليها. قال النصارى/ (1/183/أ) :"فهذا تنويه بأن المسيح سيقتل ويصلب؛ لأن موسى محاشى عن العبث، قالوا: وقد كان المسيح يقول لأصحابه: "اذكروا الحية النحاس"2. فنقول لهم: يا نوكا لو قرأتم ما قبل ذلك لتبيّن لكم غلطكم وسقطكم؛ وذلك أن التوراة تقول: "إن بني إسرائيل شكوا إلى - موسى وهم في التيه - من

_ 1 في ص (بالإنسان) وهو خطأ. والتصويب من المحقّق لموافقة السياق. والله أعلم. 2 يوحنا 3/14، 15، ونصّه: "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كلّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحية الأبدية". ويقول مؤلفو قاموس الكتاب تعليقاً على النّصّ: "بأنه عندما تنبأ الرّبّ يسوع بصلبه، شرح معناه وأهميته الروحية بمقارنته برفع الحية النحاسية". اهـ. قلت: هذا موافق لما نقله المؤلِّف عن النصارى في زمنه. وهو دليل على سخافة عقولهم، وضعف تفكيرهم، وتمسكهم بأوهى الحجج وأضعفها لإثبات باطلهم وسخافاتهم.

حيات تلدغهم، فأهلكت منهم خلقاً كثيراً، فأمرهم أن يصنعوا حية من نحاس ثم يرفعوها على خشبة. وقال: من لدغته حية فليأتِ ولينظر إلى تلك فيبرأ"1. وإنما رفعوها لكبر العسكر حتى تسهل رؤيتها ولا تتعذر مشاهدتها. وأما ما ذكرته النصارى من أن ذلك تنويه بصلب المسيح فكذب على نبيّ الله موسى، وكيف يُعدَّى ذلك إلى موسى عليه السلام وقد شحن توراته بتوحيد الله وتنْزِيهه وإفراده بالربوبية والألوهية، ثم أمر بقتل المصورين للصور، ونهى عن إتيان العرافين والمنجمين ومتحلمي الأحلام، وحرص على قتل من دعا إلى عبادة غير الله وأشرك مع الله / (1/183/ب) إلهاً آخر كما [ذكرت] 2 التوراة. وقال عليه السلام: "من [دعاك] 3 إلى عبادة آلهة أخرى فاقتله واقتل من استجاب له من الواحد والجماعة والبلدة، ولا تحننوا عليهم، ولا ترحموهم، وأزيلوا الشرّ من بينكم، فالله ربّكم واحد هو إله جبار عظيم مرهوب إله غيور هو نار محرقة"4. فمن زعم من النصارى أن توراة موسى فيها ما يعضد باطله أكذبناه بما نقلناه من التوراة. قال المؤلِّف: يقال للنصارى هَبْ أن ذلك كان تنويهاً بصلب، فبم تنكرون على من يزعم أن ذلك المصلوب إنما هو الشّبه - الذي قدمنا ذكره - وبيانه أن المسيح أعلى قدراً من الشّبه؛ لأنه: عندنا نبيّ وعندكم معشر النصارى إله، فلو كانت الحية تنويهاً بالمسيح لاتّخذوها من الذهب أو من شيء أعلى من الذهب

_ 1 سفر العدد 21/8، 9. 2 بياض في الأصل، والمثبت من المحقِّق حسب سياق الجملة. والله أعلم. 3 بياض في الأصل، والمثبت من نصّ التوراة. 4 سفر التثنية 13/6-11.

ليكون ذلك تنويهاً بأن المصلوب يكون أعلى من من كلّ شيء وأفضل كفضل الذهب على غيره من المنطبعات، فلما اتّخذوها من النحاس منع / (1/184/أ) قدرتهم على الذهب دلّ ذلك على أن المصلوب لا يكون إلاّ مفضولاً. وقد شهدت التوراة بأن موسى عليه السلام حلَّى قبة الزمان التي بناها للرّبّ بقدر كبير من الذهب1 فيا لله العجب تُبنى قبة للرّبّ وتُحَلى بقناطير من الذهب! فكيف تتّخذ الحية من النحاس وهي تنويه بالرّبّ نفسه؟! هذا ما لا يجمل ولا يحسن بمثل موسى وصلحاء أصحابه، ففضل ما بين الذهب والنحاس كفضل ما بين المسيح والشّبه، ثم النحاس يسمى بأرض الشام المجاورة لأرض التيه شَبَهاً2، فلعل القوم إنما اتّخذوا الحية من الشّبه لتكون منوِّهة بصلب الشبه وحماية المسيح. فأعجب - هداك الله - المواطأة بين الاسمين، إذ كلّ واحد منهما يسمى شبهاً. ثم يقال للنصارى: وكيف استدللتم بنصب الحية النحاس على صلب المسيح وهي على النقيض منه، وذلك أن تلك حين صارت على جذعها صارت سبباً للشفاء ووسيلة إلى العافية من البلاء؛ فمن رآها خلص من علته وعوفي من لدغته / (1/184/ب) لساعته، فأما يسوع فحين صار على جذعه صار سبباً للهلاك ووسيلة إلى الاشتراك، فلو أن يسوع حين صار على الخشبة أطبق اليهود على الإيمان وخلصوا من لدغات الكفر والعصيان لكان ذلك موضع شبهة،

_ 1 سفر الخروج الإصحاحات (35، 36، 37، 38، 39) . 2 ورد في القاموس المحيط (ص 1610) ، أن الشَّبَه والشَّبَهان - محركتين ـ: النحاس الأصفر. ويكسر، وجمعه: أَشْبَاه. اهـ.

فأما والأمر على العكس والنقيض مما تذهبون إليه فلا وجه لاستدلالكم بذلك وهي على نقيض مقصودكم، فقد صار ما انتزعوه استدلالاً على الباطل دليلاً على الحقّ1. ولله الحمد والمنة. / (2/2/ب) قال مؤلِّفه - عفا الله عنه -: ولنَزدهم2 زيادات أخر من التوراة والإنجيل تدل على وقوع الشبه والاشتباه ليتأنسوا به ولا يحيلونه، ومن ذلك: "أن الله تعالى غَيَّر صورة يد موسى عن لونها الأوّل ثم أعادها إلى لونها"3. وفعله سبحانه ذلك تدريجاً لهم وتأنيساً على الاشتباه قبل وقوعه، إذ النفوس تبتدر4 إلى إنكار ما لم يتقدم معرفته، فكما جاز في القدرة الإلهية تغير لون يد موسى حتى صارت تلمع كالثلج فكذلك وجه المسيح. ولهذا نصّ الإنجيل: "أنه قبل الفزع بقليل صعد إلى جبل بالجليل ونزل إليه موسى وإليا، قال التلاميذ: فنظرنا فإذا منظر وجه المسيح قد تغيَّر وتغيّرت ثيابه فصارت تلمع كالبرق"5. وهذا الموضع إن وفق الله له ذا لبّ من النصارى اضطره إلى ترك القول بقتل المسيح وأحال ما كان من قتل وصلب على شبه المسيح. ومن ذلك: أن الله تعالى أمر موسى / (2/3/أ) فضرب البحر بعصاه فتحول دماً عبيطاً، فكان المصريون يشربونه دماً، والإسرائيليون6 يشربونه ماء صافياً.

_ 1 ورد في أخره العبارة الآتية: "تَمَّ الجزء الأوّل يتلوه الجزء الثاني من كتاب: (تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) ، ووافق الفارغ منه في يوم السبت في شهر صفر الثالث من سنة سبع وثلاثين وستمائة". 2 في م: ولنَزدرهم. 3 سفر الخروج 4/6، 7. 4 في م: تتبدر. 5 متى /1-8، مرقس 9/2-8، لوقا 9/28-36. 6 سفر الخروج 7/19-24.

ومن ذلك: أن مريم ابنة عمران - أخت موسى - تغيرت على موسى في أمر من الأمور، فأمرهما الله أن يصعدا إلى قبة الزمان، فكلَّم الله مريم وتوعدها في حقّ موسى، فلما خرجت مريم من القبة إذا هي بيضاء برصاء من قرنها إلى قدمها، فرقّ لها هارون فقال لموسى: يا سيد اشفها. فدعا لها، فأمرها الله أن تخرج خارج العسكر وتقيم سبعة ثم تدخل، ففعلت، فزال عنها البرص1. ومن ذلك: أن عصا موسى كانت من شجرة جوز فبينما هي خشبة يابسة لا نبات بها إذ صارت شجرة ذات أفنان وعرشت وأثمرت جوزاً، وبينما هي كذلك صارت حية ذات روح تسعى وتأكل ما وجدت، وبينما هي كذلك إذ عادت إلى حالها الأوّل2. ومن ذلك: أن امرأة لوط لما التفتت تنظر ما نزل من العذاب بقومها صارت لوقتها نصبة ملح3، وكلّ ذلك تأنيس بشبه4 / (2/3/ب) سيتّفق في المستقبل، هذا ما شهد به المنقول من التوراة. فأما الإنجيل فقد شهد بأن الماء تحول خمراً5، وشهد سفر الملوك بأن الماء انقلب زيتاً6. فأما ما يشاهد من بديع تدبير الله وعجيب فعله؛ ما نرى الرجلين قد استويا في الحلى والصورة حتى لا يكاد الإنسان يفرق بينهما.

_ 1 سفر العدد 12/1-15. 2 سفر العدد 17/8-10، والنصّ يفيد أن عصا هارون هي التي أصبحت شجرة وأثمرت لوزاً وليست عصا موسى. 3 سفر التكوين 19/26. 4 في م [تشبه] . 5 يوحنا 2/1-11. 6 سفر الملوك الثاني 4/3-7.

وقد تتاعقب الألوان على الشجر والثمر، فترى الثمرة الواحدة بينما هي في غاية البياض إذ عادت في غاية الاخضرار، وبينمنا هي كذلك إذ صارت صفراء ثم حمراء ثم سوداء وكذلك أحوالها في الطعوم وتنقلها من المرارة إلى الغضوضة إلى الحلاوة وذلك في الزمن اليسير. وقد نرى الشخص أزهر اللون نقي البشرة في حال الصبوة ثم نراه في حال الشيخوخة فلا تكاد تبين1 صورته، وهذا الشَّيْب فإنه يصبغ الأسود الحالك أبيضاً يَقَقَا2 وهذا من أعجب أنواع الصباغ، ولا عجب من حسن ما الله خالق، وقد قال شاعرهم في هذا المعنى: أنكرتني إذ رأت شيبي بدا ثم قالت ما الذي بعدي عراه قلت هذا صبغة الله ومن يصبغ الأسود مبيضاً سواه / (2/4/أ) وكم مَنْ قد اتّفق له هم وغم وركوب هول في بر أو بحر فبات غربيباً فأصبح أشيباً ولقد خُبرِّت3 أن عندنا بأرض مصر حيواناً يعرف بالحرباء يتلون في الساعة الواحدة عدة ألوان، وهذه أمور شاهدة بأن الشبه غير مستحيل في نفسه، وإذا كان جائزاً فقد أخبر الصادق بوقوعه فلا التفات بعد ذلك إلى جهلة4 النصارى في ردِّه.

_ 1 في م: [تثبت] . 2 اليقق: القطن. وأبيض يقق شديد البياض. (ر: القاموس ص: 1201) . 3 في م: أخبرت. 4 في م: جهة.

وإن قالوا: لا ننكر جوازه1 وإنه غير مستحيل في نفسه غير أن المسيح قال لنا: إنه سيناله من اليهود قتل وغلب وآلام كثيرة، فوقع الأمر كما أخبر. قلنا لهم: أين قال ذلك في الإنجيل أم في غيره؟! فإن عزوه إلى غير الإنجيل أكذبهم جملة الإنجيل إذ هو مقصور على أخبار المسيح من حين ولادته إلى حين رفعه، وليس يؤثر عنه شيء خارج عما في الإنجيل، وإن عزوه إلى الإنجيل افتضحوا؛ إذ اللفظ في الإنجيل أقربه إلى مقصودهم قول المسيح: "إن ابن الإنسان سيناله من اليهود كيت وكيت"2. وقد بينا غير مرة أن ابن الإنسان المذكور إنما هو الشبه الذي قتل وصلب، والدليل على ذلك أن النصارى إلى يومنا / (2/4/ب) هذا ليس فيهم من إذا روى شيئاً عن المسيح قال: قال المسيح ابن الإنسان، ولا إذا أقسم قسما قال: وحقّ المسيح ابن الإنسان، ولا إذا دعا وابتهل سأل المسيح ابن الإنسان، ولكن ديدنه وهجيره أن يقول: قال المسيح ابن الله، وحقّ المسيح ابن الله. فإذاً دعواهم أن المسيح قال: إني سأُقتل وأُصلب دعوى لا حقيقة لها فاعملوا ترشدوا. 3- وانتزع النصارى من التوراة تحريم الأعمال في السبت: وقالوا: إنما كان ذلك تنويهاً وتنبيهاً للناس على آلام المسيح، وذلك لأنه صلب يوم الجمعة ودُفن ليلة السبت وقام يوم الأحد باكراً، فنبَّهت التوراة على أنه يكون يوم السبت كله مَيِّتاً معطلاً من الأعمال.

_ 1 في م: [لا شك بوازه] . 2 مرقس 8/31.

ونحن - يرحمك مولاك - قد أريناك1 بعون خالقك حماية الله عبده المسيح وصونه عن كيد أعدائه، وإلقاء شبهه على رجل قد حضر أجله ورضي الله له الشهادة فلا معنى للإعادة، غير أن النصارى يتعلقون في أباطيلهم بأدنى سبب كالغريق في اللجة يتعلق بما لا ينجيه، وإلاّ فأي مناسبة بين خلق الله تعالى العالم في ستة أيام وإنجاز / (2/5/أ) المخلوقات في اليوم السابع وبين إهانة رجل وقتله وصفعه وصلبه في ذلك اليوم؟! والفراغ من الأعمال غاية الكمال، والصفع والصلب والقتل غاية الذلّ والنقص ولا مناسبة بينهما البتة. وإنما حرَّم الله على بني إسرائيل العمل يوم السبت2 ليتذكروا ما كانوا فيه من السّخر والتعب والنصب عند فرعون، ويحمدوا الله على ما أراحم من جور الفراعنة، فرسم لهم يوماً واحداً في الأسبوع يكون لهم تذكرة كيلا يتقادم الزمان فينسون حسن صنيع الله عندهم فتلزمهم العقوبة أو نقص المثوبة بقلة الشكر على ما اتّخذ عندهم من النعمة. فيقولون: لو أن الله وضع لنا علماً نعلم3 به ما جرى لسلفنا لم نقصر في الشكر، فأزاح الله عللهم وعين لهم اليوم الذي تمت فيه خلائق الله ومصنوعاته، فهذه هي العلة في العطلة من الأعمال يوم السبت لا كما انتزع النصارى. على أنا لو تركناهم وما انتزعوا لم يكن فيه دلالة إلاّ على قتل الشبه الذي فرغنا من ذكره.

_ 1 في م: [أرينا] . 2 سفر الخروج 20/8، 21/12-18. 3 في م: [نعمل] .

وكذلك / (2/5/ب) أمره تعالى برجم الزاني واللوطي تذكيراً لهم ولنا ما فعل بأهل سدوم وعامورا1 ليحصل الانزجار عن مثل فعلهم، ال الله تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِين بِبَعيِدٍ} . [سورة هود، الآية: 83] . وكذلك أمره سبحانه بالاغتسال من الجنابات والأحداث تذكيراً لهم ما صنع بفرعون وقومه، وكيف أغرقهم في البحر وفجَّر لهم المياه من الصخر القاسي. وكذلك أمرهم باتّخاذ الأواني من الذهب في بيت مقدسهم إذكاراً لهم بالذهب الذي خرجوا به من مصر وكيف سلبه من الفراعنة ومنحهم2 إيّاه مع عزِّ المسلوب وضعف السالب. وكذلك أمره إيّاهم بأن يفدوا أولادهم بذبيحة كلّ على قدر طوقه إذكاراً لهم فعل إبراهيم حين أراد ذبح ولده3 ليتأسوا به في الرضى والتسليم لله عزوجل فيعظم مثوبتهم ويجزل أجرهم. وكذلك أمره سبحانه بالقرابين والأضاحي تذكرة فعل ابْنَيْ آدم وسخاء نفس هابيل وشح أخيه قابين4، لكيف البخيل عن بخله ويجود السخي في سخاه. وكذلك أمر إياهم أن يقربوا / (2/6/أ) عن أبكارهم إذكاراً لهم ما صنعه الله بأبكار فرعون وقومه وكيف قتل في ليلة واحدة فأبكار الناس والحيوان من الملك إلى الأتوني5.

_ 1 تكوين 19/24. 2 في م: بومنحتهم] . 3 ورد ذلك في سفر التكوين 22/1-13. 4 ورد ذلك في سفر التكوين 4/2-7. 5 ورد ذلك في سفر الخروج 13/13-16.

وكذلك رش الكهنة الدم على المذبح إذكاراً لهم الدم الذي أرسل على المصريين والنعمة على بني إسرائيل1، إذ يشرب هؤلاء الماء العذب وهؤلاء الدم العبيط من معين واحد ومجرى واحد. وكذلك أمره لهم بعيد [المظال] 2 إذكاراً لهم تظليلهم بالغمام من حرّ الشمس، وقد ذكرت التوراة العلة في ذلك، فقال الله تعالى: "إن سألك ابنك عداً وبعد غد، وقال لك: أيّ شيء هذا؟ فقل له: بيد منيعة قوية أخرجنا قومنا من مصر"3. وهذه المواضع تبطل على النصارى ما احتجوا به من العطلة في السبت على قتل المسيح وصلبه. 4- وانتزع النصارى من التوراة قوله: "تعالوا نخلق بشراً4 يشبهنا ومثالنا"5. وقوله أيضاً فيها: "تعالوا ننْزِل نبلبل ألس الناس"6. قالوا: فهذا دليلنا على الثالوث وإنما خاطب بذلك الروح / (2/6/ب) والابن، وقوله: "شبهنا ومثالنا". دليل على التأنس الذي فعله7.

_ 1 سفر الخروج 7/19-24. 2 في ص، م (الظال) ، والصواب ما أثبته. عنيد المظال: هو آخر الأعياد السنوية الكبرى، وثاني أعياد الحصاد عند بني إسرائيل، واشتقّ الاسم من عادتهم في أن يسكنوا مظالاً أثناء مدة العيد، ويسمى أيضاً (عيد الجمع) ، وكان يقام في الشهر السابع. (سبتمبر - أكتوبر) . (ر: قاموس ص 586، 587) . 3 سفر اللاويين 23/42، 43. 4 في م: [بشر] . 5 تكوين 1/26، والنّصّ كالآتي: "وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا". 6 تكوين 11/7، 9. 7 نقل الإمام ابن تيمية استدلال النصارى بهذا النّصّ: على أن المراد بشبهه ومثاله هو كلمته وروحه (أي: الله - تعالى عما يقولون علوّاً كبيراً -) ثم ذكر ابن تيمية الرّدّ على الشبهة من ستة أوجه منها: أ- أن الله ليس كمثله شيء، وليس لفظ النّصّ (على مثالنا) . ب- أنه لا اختصاص للمسيح بما ذكر على كلّ تقدير حقّ وباطل بأيّ تفسير فُسِّر قوله: "سنخلق بشراً على صورتنا شبهنا". لم يخص ذلك المسيح. (ر: الجواب الصحيح 2/231-235) .

والجواب: أن نقول أخطأتهم الطريق وقذفتم بنفوسكم من مكان سحيق، وذلك أن الروح والابن قديمان لا دخول لهما تحت أوامر الآب حتى يأمرهما، وليس قوله لهما بأولى من قولهما له، فمن صَيّر الأب أولى بافتتاح القول منهما؟! ثم الأب عبارة عن الذات، والروح عبارة عن الحياة، والابن عبارة عن العلم أو النطق، فكيف يخاطب الله علمه وحياته فيقول لهما: تعالوا ننْزل، والصفة على تجردها لا تُخَاطَب ولا تُخاطِب؟!. فإذا قالوا: فإذا كان لفظ التوراة هكذا وهو صالح للتثليث فما وجه حمله على التوحيد؟ قلنا: هذه النون مشهورة في كلّ لسان وعند كلّ إنسان يطلقها العظماء بينهم والأكابر، وهي بالله أليق، إذ هو العظيم على الحقيقة وكلّ عظيم سواه فهو عبده، ومخترع1 من صنعه. وقد قال لوقا في إنجيله: "إن ناساً راموا ترتيب الأمور التي نحن بها عارفون كما عهد إلينا أولئك الصفوة"2. فهذا لوقا قد ذكر نفسه3 بلفظ الجمع فبطل ما تخيّله / (2/7/أ) النصارى من ذلك. وقد قال الله تعالى في الكتاب العزيز: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . [سورة الحجر، الآية: 9] . {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 4.

_ 1 في م: [ومخترعا] . 2 لوقا 1/1، 2. 3 في م: [بنفسه] . 4 قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... } . [سورة النساء، الآية: 163] .

ويحتمل أن يكون أمر الملائكة بالنُزول وبخمر طينة آدم وتديرها على هذا الشكل الإنساني كالفعلة1 والعمال الذين يصدرون عن رأي المهندس الحكيم، فلما كملت فخارته نفخ الله في الروح، والخلق عبارة عن التقدير قال الأوّل: وَلأَنْتَ تَفْري مَا خَلَقْت وبعـ ـضُ القومِ يخلُق ثم لا يَفْري2 هذا كله إن كانت ألفاظ التوراة والإنجيل لم يدخلها التحريف والتصحيف، وهذا الموضع إن لم يمش على ما قلناه وإلاّ صادم بقية نصوص التوراة في استبداد الله تعالى بالخلق والاختراع إذ قال الله في السفر الأوّل منها: "في البدء خلق الله السماء والأرض، فقال الله ليكن كذا ليكن كذا، حتى أكمل سائر مخلوقاته في ستة أيام"3. كلّ ذلك ليس فيه ما يشعر بتثنية ولا تثليث. فأما قوله: "شبهنا ومثالنا"، فهذا الموضع هو الذي غلط اليهود والنصارى فاعتقدوا أن الله / (2/7/ب) [جسم] 4. وأنه مشابه لهذا الهيكل الإنساني، ويتعالى القديم عن مشابهة مخلوقاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] . وإنما أراد الله تعالى أن آدم صار يعرف الخير والشّرّ، ولم يرد المثال والشبه الخلقي، وقد فسرته التوراة بعد ذلك بأسطر فقال الله تعالى: "هذا آدم قد صار كأحدنا يعرف الخير والشّرّ"5. والسّرّ في ذلك أن الملك مركوز في خلقه معرفة الخير الشّرّ، والحيوان البهيم خال عن ذلك، وقد كان آدم في بدء أمره

_ 1 في ص: لفعله، والمثبت من نسخة م. 2 ذكر الجوهري في الصحاح 4/1471 ونسبه إلى الشاعر: زهير بن أبي سلمى. 3 سفر التكوين الإصحاح الأوّل. 4 في ص (جسما) ، والصواب ما أثبتّه. 5 تكوين 3/22.

[ساذجا] 1 عن معرفة ذلك، فلما تناول الشجرة بدت له سوءته، وعرف ما لم يكن يعرف من الخير والشّرّ. وإذا كان الله سبحانه2 إنما أراد المماثلة في العلم بالخير والشّرّ بطل قول النصارى إن ذلك [دليل] 3 على التثليث. وأما قوله: "ننْزِل نبلبل الألسن". فنُزوله نزول أوامره وتجدد أحكامه وهبوط الملائكة بوحيه، وإلاّ فالحركة والتفريغ والاشتغال يستحيل على القديم سبحانه4. وقد رُوي عن سيّدنا رسول الله أنه قال: "ينْزِل ربُّنا إلى السماء الدنيا في كلّ ليلة جمعة / (2/8/أ) فيقول: هل من تائب ... " الحديث5.

_ 1 في ص (ساذج) والصواب ما أثبته. 2 في م: زاد: وتعالى. 3 في ص (دليلا) والصواب ما أثبته. 4 في م: زاد: وتعالى. 5 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينْزِل ربُّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له". أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 3/29) ، ومسلم 1/521، والإمام أحمد في المسند 2/264، 265. وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على التصديق بنُزول الله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا كما ورد في الحديث من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف وتكييف. ووصفه بالنُزول كوصفه بسائر الصفات كالاستواء على العرش والإتيان والمجيء. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] . وأما الشبهة التي أوردها المؤلِّف في أن النُزول يستلزم الانتقال والتفريغ والاشتغال, وذلك من خصائص الأجسام التي تمتنع في حقّ الله عزوجل. فجوابها أن نقول: إن نُزول الله عزوجل وإتيانه ومجيئه لا يشبه نُزول الخلق وإتيانهم ومجيئهم، فلا يلزمه تبارك وتعالى ما لزمهم، فإن الله عزوجل لا يزال فوق العرش، ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونُزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة. يقول الإمام ابن القيم: "إن الصفة يلزمها لوازم لنفسها وذاتها، فلا يجوز نفي هذه اللوازم عنها لا في حقّ الرّبّ ولا في حقّ العبد، ويلزمها لوازم من جهة اختصاصها بالعبد، فلا يجوز إثبات تلك اللوازم للرّبّ، ويلزمها لوازم من حيث اختصاصها بالرّبّ. فلا يجوز سلبها عنه ولا إثباتها للعبد". اهـ. (ر: مختصر الصواعق2/485) . يقول ابن قتيبة: "لا نحتم على النُزول منه (الله) بشيء، ولكنا نبيّن كيف النُزول منا وما تحتمله اللغة من هذا اللفظ - والله أعلم بما أراد - والنُزُول منا يكون بمعنيين: أحدهما: الانتقال عن مكان إلى مكان كنُزولك من الجبل إلى الحضيض ومن السطح إلى الدار. والمعنى الآخر: إقبالك على الشيء بالإرادة والنية، وكذلك الهبوط والارتقاء والبلوغ والمصير وأشباه هذا من الكلام". اهـ. مختصراً. (ر: تأويل مختلف الحديث ص 184، 185. فالإمام ابن قتيبة يبيّن لنا في كلامه ما تحتمله اللغة من معنى النُزُول الحقيقي بالنسبة للخلق، فعلى المعنى الثاني الذي ذكره ليس فيه انتقال جسم - وهو لازم على المعنى الأوّل - فنُزُول البشر يأتي على تلك الصفتين وهو فيهما حقيقة. إذن فلا يحكم على نُزُول الله تعالى أنه يكون كنُزُول خلقه. وأنه يلزم نزوله ما يلزم نُزُولهم، وإن كان هناك اشتراك في اللفظ فإنه لاشتراك في حقيقة الصفة وقيامها بالمتّصف بها، فصفات الله تعالى لائقة بكماله وجلاله وعظمته، ولا يجوز نفيها عنه عزوجل خوفاً من التشبيه؛ لأنه لا مشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوق. كما لا مشابهة بين ذاته المقدسة وذواتهم. ولأن صفات الخلق مناسبة لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم. وصفاته عزوجل مناسبة لعظمته وبقائه وقدرته وغناه سبحانه وتعالى. (للاستزادة ر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة اللالكائي 3/434-453، شرح حديث النُزُول للإمام ابن تيمية) .

وقول التوراة في خاتمتها1: "أقبل الله من سيناء، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران"2. فنُزُوله سبحانه؛ نزول أوامره، وظهوره ظهور3 شرائعه، وإقباله؛ إسباغ نعمه على خلقه، وهذه كلّها معانٍ معقولة يؤمن بها اللبيب ولا يجريها على الظاهر إلاّ المريب، ونحن فقد بينا نم كتابهم الذي بأيديهم توحيد الباري، واستشهادنا بأقوال المسيح في التوحيد وأقوال تلاميذه، وذلك يبطل تعلقهم بهذه الكلم التي لا دلالة فيها على التثليث.

_ 1 في (خاتمتها) ليست في م. 2 تثنية 33/1-3. 3 ليست في م.

5- وانتزع النصارى من التوراة: "أن ثلاثة من الملائكة مروا بإبراهيم عليه السلام فسجد لهم وخاطبهم بـ:"يا رب" 1، قالوا: فهذا إبراهيم يعتقد التثليث الذي نحن نقول به2. فيقال لهم: غلطتم أيّها القوم غلطاً عظيماً، وحدتم عن صوب الصواب، وأشكل عليكم غير المشكل، وذلك أن التوراة تقول في السفر الأوّل منها: "إن الله سبحانه كان متجلياً لإبراهيم قبل رؤيته الملائكة الثلاثة"3. فقوله: "يا رب"، خطاب4 لله وحده. ويؤيد ما قلته قول / (2/8/ب) التوراة: "ومضى الملائكة نحو سدوم وبقي إبراهيم قائماً بين يدي الله تعالى يشفع في القوم، ويقول: بخطيئة واحدة تهلك الأبرار مع الفجار، حاشاك من ذلك يا حاكم الأرض أن5يكون هذا من صنيعك"6. فهذا وجه حسن مقبول. ووجه آخر: وهو أنه يحتمل أن يكون إبراهيم أَضْمَر (يا رسل رب) ، والإضمار في التوراة كثير جداً: "كقول الملك لهاجر رآها ومعها ولدها إسماعيل: شُدِّي يديك بهذا الغلام فإني سأكثر نسله كثيراً"7. فأضمر الملك: "يقول لك الله: إني سأكثر نسل ولدك". إذ الملك لا يقدر على ذلك، وهو صادق لا يكذب.

_ 1 ورد النّصّ في تكوين 18/2، 3، كالآتي: "وسجد إلى الأرض وقال: يا سيد ... " 2 نقل ذلك عنهم أيضاً الإمام ابن حزم في كتابه: (الفصل في الملل والنحل 1/220) ، وقال: "وقد رأيت في بعض كتب النصارى الاحتجاج بهذه القضية في إثبات التثليث". اهـ. 3 تكوين 12/7، 18/1. 4 في م: [خطابا] . 5 في م: (أن) ساقطة. 6 تكوين 18/22-25. 7 تكوين 21/17، 18.

وكذلك قول التوراة في هذا السفر: "إبراهيم، إبراهيم لا تذبحن الغلام، فقد علمت أنك تخاف الله حين لم تمنعني ابنك وحيدك"1. فأضمر "قال الله"؛ لأن إبراهيم لم يقصد بذبح ولده التقرب إلى الملك، ولم يكذب في قوله. وإذ ثبت أن إبراهيم إنما خاطب بذلك الله؛ وسجد له؛ بطل انتزاع النصارى لذلك واستشهادهم به. على أنا نقول: لو ثبت أن إبراهيم خاطب الملائكة وسجد لهم لم يلزم منه / (2/9/أ) ما انتحله النصارى من عبادة الثالوث؛ لأن قصد الجماعة الكثيرة2 بلفظ الواحد هو لسان القوم كان في ذلك الزمان، وشاهده من التوراة قوله لبني إسرائيل: "وتعملون للرّبّ إلهكم ليبارك في طعامكم وشرابكم، ويدفع الآلام عن بيوتكم، ولا يجعل عاقراً في أرضكم، وأرسل هيبتي بين يديك، وأقاتل عنك كلّ من تذهب إليه، وأجعل أعداءك خاضعة بين يديك"3. وهذا كما ترى مخاطبة الجمع الكثير بلفظ الواحد، وفي التوراة من هذا الجنس كثير؛ كقوله لبني إسرائيل: "إنكم تعرفون أنفس التواينة؛ لأنكم كنتم تواينة بأرض مصر، ازرع أرضك ستّ سنين ودعها في السابعة"4. وشاهد من المزامير لداود: "اسمع يا قوم، أقول لكم يا إسرائيل: أنا الله ربّك"5. وشاهده من الإنجيل: "لا تقابلوا الشّرّ بالشّرّ، ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن رام أخذ ثوبك فألق عليه رداءك"6.

_ 1 تكوين 22/11، 12. 2 في م: [الكبيرة] . 3 خروج 23/25-27. 4 ورد النّصّ في سفر الخروج 23/9/11، كالآتي: "ولا تضايق الغريب فإنكم عارفون نفس الغريب، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر، وستّ سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها وأما في السابعة فتريحها". 5 مزمور 81/8-10. 6 متى 5/39، 40.

وفي الإنجيل: "لا تصنعوا بِرّكم قُدَّام الناس لتراؤوا لهم فيحبط أجركم؛ لكن إذا صنعت رحمة فلا تُصوّت/ (2/9/ب) قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المحافل والأسواق لكي يحمدهم الناس"1.وذلك في كتبهم كثير. فلو كان خطاب إبراهيم للثلاثة بلفظ واحد يدل على التثليث؛ فهذه كتبهم تخاطب الجموع الكثيرة بلفظ الواحد فيلزم منه إفساد التثليث. وأما قوله: "يا ربّ" فقد قدمنا أن لغة القوم تجيز ذلك، وأنهم يخطابون العظيم القدر الرفيع المنْزلة ولا يستنكر ذلك منهم، وقد قال زكريا عليه السلام: "قال لي الملك: ما تدري ما هذا؟ قلت: لا يا رب"2. ورأى يوشع رجلاً في يده السيف مصلتاً؛ فذهب إليه فقال: "أَمِنَّا أنت أم من عدونا؟ "، فقال: أنا رئيس جند الله3. فسجد يوشع. وقال: أَيُّ شيء يقول الرّبّ لعبد؟ فقال: اخلع نعليك فإن الموضع الذي أنت فيه مقدس"4. وهذا في كتب القوم كثير يخاطبون به أكابرهم وعظماءهم، ولما كان لفظ الرّبّ يطلقونه على غير الله تجوزاً وتوسعاً، احتاجوا إلى لفظ التأكيد والتكرار عند إرادة الرّبّ الحقيقي. فقيل لهم في التوراة والكتب العتيقة: "اعلموا / (2/10/أ) أن الله ربّكم وإلهكم وخالقكم ورازقكم". حتى يرتفع الاشتراك بين المجاز والحقيقة. وقال سبحانه في التوراة لبني إسرائيل: "اختنوا قلفة قلوبكم ولا

_ 1 متى 6/1، 2. 2 ورد النّصّ في سفر زكريا 4/5 كالآتي: "فأجاب الملاك الذي كلمني وقال لي: أما تعلم ما هذه؟ فقلت: لا يا سيدي". 3 في م: [الرب] . 4 سفر يشوع 5/13-15.

تقسوا رقابكم، الله ربّكم هو إله الآلهة وربّ الأرباب، إله عظيم مرهوب جبار، لا يرتشي ولا يحابي، وينصف الأيتام والأرامل الذين يقبلون إليه"1. وقد ذكرنا أن السجود كان سلام القوم على أكابرهم وتحيتهم لعظمائهم، فقد سجد يوشع للملك، والتوراة تشهد بأن إبراهيم ولوطاً وإخوة يوسف وأولاده قد فعلوا ذلك، وذلك مذكور مشهور2. قال مؤلِّفه-عفا الله عنه-في هذاالفصل من التوراةمعانٍ رديَّة فتأمل: منها قولهم: "إن الله قال لإبراهيم: لقد وصل إلى إثم سدوم وعامورا فقلت انزل الآن فانظر هل صنعوا وأثموا كما بلغني وإلاّ عرفت ذلك"3. فإن فيه نسبة الباري إلى عدم العلم بالمغيبات، ونسبة الملائكة إلى عدم الصدق وأنهم في موضع تهمة ومحل ظنه. والموضع / (2/10/ب) الآخر قولهم: "إن الملائكة أكلت الطعام عند إبراهيم ولوط، فنقلوا عن إبراهيم أنه أطعمهم خبز ملة، وصنع لهم عجلاً سميناً، وساقهم لبناً وسمناً، وأن لوطاً أطعمهم فطيراً"4. هذا وأهل الكتاب ينكرون قول أهل الإسلام إن أهل الجنة يغتذون بالطعام والشراب، ويقولون: لا طعام في الجنة ولا شراب ولا نكاح؛ بل يكون حالهم كحال الملائكة لا يأكلون ولا يشربون وهذه غفلة عظيمة. وقد قال تعالى في شأن الملائكة في هذه القصة: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُم لاَ تَصِلُ إِلَيهِ نَكِرَهم} . [سورة هود، الآية: 70] . وذلك كناية عن ترك الأكل ويشبه أن يكونوا أمسكوا5 طعام إبراهيم وباركوا عليه. وتقدموا إليه بإطعامه أبناء السبيل وذوي الحاجة.

_ 1 تثنية 10/16-18. 2 ر: ص 174. 3 تكوين 18/20-21. 4 تكوين 18/6-8. 5 في م: مسوا.

6- وانتزع النصارى من التوراة قولها: "وأهبط الرّبّ على سدوم وعامورا ناراً وكبريتاً من بين يدي الرّبّ من السماء"1. فزعموا أن تكرار "الرّبّ" مرتين دليل لهم على اقنومين2، وأن الله أَبْهَم ذكر [الأقنوم] 3 الثالث ووكله إلى استخراج العلماء والفهماء4 / (2/11/أ) لتكثر أجورهم وتجزل مثوبتهم بالبحث والاستنباط. والجواب عن ذلك: أنه سبحانه5 إنما كرر لفظة الرّبّ للتأكيد ليُعْلِم عباده أنه هو المتولي عذاب الظالمين، وهذا موجود في كلّ لغة عند إرادة التأكيد وهو كقول القائل: نعوذ بالله من غضب الله، وكقول التوراة: "وصعد موسى إلى الله وناداه الله: قل لبني إسرائيل وأَعْلِم بني يعقوب قد رأيتم ما صنعت بالمصريين"6.وكررالله مرتين وكرر يعقوب والمعنى واحد. وقد قال أشعيا في نبوته: "إن الرّبّ رحم7 يعقوب ونجى إسرائيل"8. وقال أشعيا أيضاً: "تكلم يا يعقوب وقل يا إسرائيل ولا تخف"9. وفي التوراة: "قال موسى: يا ربّ الشعب الذين معني ستمائة ألف، وأنت قلت إنك تطعمهم لحماً شهراً كاملاً، فلو ذُبح لهؤلاء أنعام الأرض وثيرانها أو

_ 1 تكوين 19/24. 2 نقل الإمام ابن تيمية هذا الاستدلال الفاسد من النصارى. وأورد الرّدّ عليهم من اربعة أوجه. (ر: الجواب الصحيح 2/236، 237) . 3 في ص (القنوم) والصواب ما أثبتّه. 4 في م: (الفقهاء) . (أنه سبحانه) ليست في م. 6 خروج 19/3، 4. 7 في م: [وهم] . 8 أشعيا 14/1 كالآتي: "لأن الرّبّ سيرحم يعقوب ويختار أيضاً إسرائيل". 9 أشعيا 40/27.

صيد لهم سمك البحور أين كان يقع ذلك منهم؟ فقال الرّبّ: يد الرّبّ تكمل الأشياء، والآن ترى هل يتمّ كلامي أم لا؟ "1. فبطل ما تعلقوا به من قوله: "أنزل / (2/11/ب) الرّبّ من بين يدي الرّبّ". ويقال للنصارى: ما قولكم فيمن يدعي أن الأقانيم خمسة ويستشهد بقول الله تعالى في التوراة: (فدعا بنو إسرائيل، فصعد نحيبهم إلى الله، فرأى الله بَلِيَّتهم فذكر اله ميثاقه مع إبراهيم أبيهم، فنظر الله لهم وعلم الله حالهم واضطرارهم"2. وإن كان قوله: "أهبط الرّبّ على سدوم ... ". تدل على أقنومين. فهذه الآية من التوراة تدل على خمسة أقانيم. ولعل ثم أيضاً عدة أقانيم وراء هذه الخمسة أظهر منها ما أظهر وأبهم الباقي؛ ليكثر أجر الحكماء والعلماء في استنباط ما أبهم منها. وكذلك قال داود في مزمور الثامن عشر: "ناموس الرّبّ بلا عَيب، شهادة الرّبّ صادقة، أمر الرّبّ مستقيم، ووصية الرّبّ تدبر العيون، خشية الرّبّ زكية، أحكام الرّبّ عادلة"3. فهذا المزمور قد كرر (الرّبّ) ست مرات، أفتقول النصارى إن الأقانيم ستة؟! فبطل ما ادّعوه في قوله: "أنْزله الرّبّ على سدوم) . ونُزِّل ذلك منْزلة قوله: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا فرق في التكرار والتأكيد / (2/12/أ) بين أن يأتي بالاسم الواحد مرتين وبين المغايرة بين الاسمين والمعنى واحد. 7- فإن قيل: دليلنا على ربوبية المسيح أنه أحيا الميّت، وأبرأ الأكمه وطهَّر الأبصر، ومشى على الماء، وصعد السماء، وحوَّل الماء خمراً، وكثَّر الطعام القليل، وأقام الز َمِن، وحمته الملائكة، وسترته الغمامة، وأخرج الشياطين من الآدميين.

_ 1 سفر العدد 11/21-23. 2 خروج 2/23-25. 3 مزمور 19/7-9.

والجواب: أنه لم يُسلَّم لكم هذه الدعاوى سوى هذه الأمة البارة وهي أمة محمّد صلى الله عليه وسلم، فلولا محمّد عليه السلام شهد لأخيه عيسى بالرسالة والنبوة لما عَرَّج أحد اليوم على أقوالكم ولا وثق بروايتكم، وإلاّ فما بال بني إسرائيل على كثرتهم لم يصدقوكم بما تنقلون؟! هذا وأنتم تنقلون عن أمور محسوسة إذا وقعت لم تكد تخفى. فإن قالوا: إن اليهود لعداوتهم لنا تمالؤوا على ستر هذه الخوارق بغياً وحسداً. قلنا لهم: فما بال من عدا اليهود من الأمم والطوائف كالفرس والديلم والترك والهنود والصين لم يصدقوكم على ذلك ويتّفقوا1 على دينكم ويتابعوكم على معتقدكم / (2/12/ب) وقد أَرَّخَ الناس أخبار العالم وحوادثه ودَّنوا في كتبهم عجائبه؟!. فما بال العالم يُكذبكم ويقولون: إن يسوعكم لم يحي مَيِّتاً قط، ولا أقام زمناً ألبتة، ولا طَهَّر أبرص أصلاً. وإن جميع ما تنقلونه من ذلك كذب ومين وإفك واختلاق لا أصل له ولا صحة. فلولا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد بصدق أخيه المسيح، وأخبر أنه أحيا الميّت، وأبرأ الأكمه والأبرص، وخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله - لما عَرَّج أحد على أمثالكم وأشباهكم. فأما بقية الآيات التي تدعونها فإن ثبت أن نبيّنا صلى الله عليه وسلم أخبرنا بها أو أخبرنا صادق آخر من الأنبياء المتقدمين شيء منها سمعناه وآمنا به وصدقناه وكان عندنا عَلَماً من أعلام نبوته عليه السلام، فأما أنتم فإنا لا نصدقكم فيما تنقلون عن الأنبياء بعد وقوفنا على تخليطكم في منقولكم، وفساد عقولكم وقبولها لكلّ مستحيل، ألستم الذين تنقلون عن يوحنا الإنجيلي: "أن

_ 1 في م: [وتصفقوا] .

كلمة الله التي هي علمه صارت لحماً وشعراً وظفراً؟ " ألستم الذين تنقلون عن أفريم:"أن اليدين اللتين خمرت طينة آدم سُمِّرت بالمسامير على/ (2/13/أ) الصليب، والشِّبْر التي مسحت السماوات عُلِّقت على خشبة، وأن من لم يقل إن مريم ولدت ربّها إلهها فهو محروم؟! "1. ألستم الذين زعمتم أنّ لوطاً وقع على ابنتيه فأحبلهما وأولدهما2؟!، وأنّ رؤبيل بكر يعقوب وقع على سُرِيَّة أبيه وفجر بها؟! 3، وأنّ يهوذا وقع على امرأة ابنه؟! 4، وأنّ دينا ابنة يعقوب افترعت وأزيلت بكارتها؟!! 5. وصيَّرتم ذلك قرآناً يتلى في بيِّعكم وكنائسكم بحضرة جموعكم، ألستم الذين زعمتم أن لله الخالق الباري ابناً، وأنه أرسل أنبياء فقهروا وغلبوا وظهر عليهم الشيطان وقل جدهم وقهر سلطانهم. واستولى على ملك الله، فاحتاج الله أن أرسل ابنه ذلك إلى الأرض. فولج فوائد امرأة من خلقه وأقام برحمها تسعة أشهر، ثم خرج من فرجها طفلاً، وبقي يتردد بين اليهود يدعوهم، وأن الشيطان قهره وأخرجه إلى البرية وسحبه من مكان إلى مكان ودعاه إلى أن يسجد له، فلما أتى عليه هذا الابن سلط عليه شرذمة من أَخس6 جنده وأدبر أعوانه؛ وهم اليهود فأخذوه وصفعوه / (2/13/ب) وصلبوه وأغضبوا والده وأثكلوه؟! وإذا كان هذا نقلكم فأيّ عاقل بعدها يسكن إليكم أو يعول في أمر عليكم؟!

_ 1 نقل ذلك عن النصارى القاضي عبد الجبار المعتزلي، في كتابه: (تثبيت دلائل النبوة ص 104) . والإمام ابن القيم في: (هداية الحياري، ص 269) . 2 تكوين 19/30-38. 3 تكوين 35/22. 4 تكوين 19/12-30. 5 تكوين 34/1-3. 6 في م: [أحسن] .

فأما إحياء الميّت1 فقد حكينا أن إلياس أحيا ابن الأرملة2، وأن اليسع أحيا مَيِّتين [واحداً] 3 في حال4 حياته وآخر بعد وفاته5، وأن حزقيال أحيا الذين قتلهم بختنصر، وكانوا ألوفاً من الناس، ولهم من يوم قتلوا [نَيِّف وأربعون] 6 سنة، فقال الله لحزقيال: تنبأ على هذه العظام حتى أحييها لك7، وقد فعل قبر اليسع8 أعجب من فعل المسيح؛ لأن قوماً حملوا جنازة إلى الجبال فرأوا9 عَدُوّاً، فخافوا وطرحوا الميت عن رقابهم وابتدروا فزعه، فقام الميت، وجاء يمشي حتى دخل المدينة، فنظروا فإذا هم قد ألقوه على قبر نبي الله اليسع، وفعل حزقيال أبدع من فعل المسيح، وفعل موسى أغرب من فعله؛ إذ قلب الخشبة لها عينان تبصر بهما10، وأخرج من الرمل11 قملاً يسعى حتى ملأ قياطن فرعون وأرض مصر، وهذا أعجب وأغرب من فعل المسيح. وأما إبراء الأكمه من بني آدم: فلا شكّ أنّها من الآيات الباهرة أيضاً، وهو يلحق بإحياء الميّت؛ / (2/14/أ) لأن ذاك أحيا عضواً كان ميّتاً فأشبه إحياء الإنسان جملة، غير أن آية موسى12 أغرب عند العقلاء منهم. وذلك أن صنعه عينين

_ 1 ورد إحياء عيسى بن الأرملة في إنجيل يوحنا7/11-17، وإحياء لعازر11/1-46. 2 سفر الملوك الأوّل 17/17-24. 3 في ص (واحد) والصواب ما أثبتّه. 4 سفر الملوك الثاني 4/18-37. 5 سفر الملوك الثاني 13/20، 21. 6 في ص (نيفاً وأربعين) والصواب ما أثبتّه. 7 سفر حزقيال 37/1-10. 8 في م: [اليست] . 9 في م: [فغذوا] . 10 خروج 4/2، 7/9-12. 11 خروج 8/16، 17. 12 في م زاد: [عليه السلام] .

لخشبة يابسة جافة لا روح فيها أبدع. وأبدع من فتح عيني آدمي، ثم آية موسى كيف أراد أدارها وحولها، إذ بينما هي خشبة صارت حيواناً يبصر بعينيه ويأكل ما قدر عليه، وبينما هي حيوان إذ عادت شجرة لوز مثمرة، وبينما هي كذلك إذ عادت إلى حالها الأوّل، ثم إنها يستدعي بها الجواد والذباب والقمل والضفادع، ويثير بها الثلوج والمياه والظلمة، ويشق بها البحر، ويُجري بها المياه من الصخر، ويجاهد بها الجبابرة فَتَنْفُذ في كلّ ما عمل بها أعظم نفوذ، وهذا - فاعلموا - لم يكن للمسيح من الآيات مثله، وقد فتح يوسف الصّدّيق عيني أبيه يعقوب عليهما السلام كلّ ذلك يشهد به التوراة. وأما إبراء الأبرص1: فقد شهدت التوراة أيضاً أن مريم أخت موسى وهارون تكلمت في موسى فبرصت من ساعتا، فأخرجت عن العسكر، فرضي عنها فزال برصها2، ولم يدع عليها في الأوّل ولا / (2/14/ب) دعا لها في الثاني وذرنا عن نعمان الرومي أنه برص فرحل إلى اليسع، واستأذن عليه فلم يأذن له، وقال: قولوا له يذهب إلى الأردن فينغمس فيه سبعاً فإنه يبرأ، ففعل، فبرأ من برصه3. وأما مشيه على الماء4 فقد حكينا أن إلياس وتلميذه اليسع ق مَشَيَا على نهر الأردن جميعاً5، وكذلك يوشع بن نون قد مشى على الماء بتابوت السكينة هو ومن معه6.

_ 1 متى 8/1-4، مرقس1/40-45، لوقا 5/12-14، 17/11-19. 2 سفر العدد 12/1-10، في سياق طويل. 3 سفر الملوك الثاني الإصحاح (5) . 4 متى 14/25، مرقس 6/48. 5 سفر الملوك الثاني 2/1-8. 6 سفر يشوع الإصحاح (3) .

وأما تحويل الماء خمراً1 فقد حكينا عن سفر الملوك من كتبهم أن إلياس أو اليسع قلب الماء زيتاً؛ فأغنى به بيتاً من الفقراء2. وذلك أعجب من فعل المسيح على الكلّ سلام الله. وأما تكثيره القليل من الطعام3، فقد حكي في التوراة أن موسى دعا الله فأطعم بني إسرائيل مَنَّاً وسلوى في البرية. وهم ستمائة ألف سوى النساء والصبيان4. وذلك أعجب وأغرب من آية المسيح - علهما السلام -. وقد حكي في سفر الملوك أن إلياس عليه السلام نزل بامرأة أرملة في زمن قحط شديد حتى هلك الناس. ومكثت السماء لم تمطر ثلاث سنين / (2/15/أ) فقال لها: هل عندك من طعام؟ قالت: والله يا نبيّ الله، ما عندي إلاّ كفّ دقيق في قلة لنا. أردت أن أخبزه لطفل صغير. وقد أيقنَّا بالهلاك. فقال عليه السلام: أحضريه ولا خوف عليك. فأحضرته بين يديه. فبارك عليه. فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر؛ تأكل منه هي وأهلها وجيرانها حتى فرّج الله عن الناس5. ومَن كَثَّر القليل وأدامه أغرب في الإعجاز ممَّن كَثَّر ولم يدمه. وأما حراسة الملائكة له6، فالتوراة تشهد بأن الملك كان يسير في عمود الغمام أيام بني إسرائيل حتى شقّ بهم البحر وخلّصهم من فرعون7. وذلك أعجب من تخليص المسيح من يد الشيطان.

_ 1 يوحنا 2/1-11. 2 سفر الملوك الثاني 4/1-7. 3 متى 14/15-21، 15/32-38، مرقس 6/34-44، لوقا 9/12-17، يوحنا 6/5-12. 4 سفر الخروج الإصحاح (16) . 5 سفر الملوك الأوّل 17/10-16. 6 متى 4/11، مرقس 1/13، لوقا 4/13. 7 خروج 13/21، 22.

والعجب من النصارى يعتقدون أنّ المسيح ربّ الشيطان وربّ كلّ شيء ومع ذلك يُقِرُّون أنّ الشيطان حصره في البرية واستولى عليه. وقال له: اسجد لي. حتى خلصته الملائكة من يده وأنقذه من ورطته1. وأما صعوده إلى السماء2، فسائر كبتهم تشهد أنّ أخنوخ قد صعد إلى السماء3، وأنّ إلياء قد صعد إلى السماء4، فاستوت حالهما مع المسيح. / (2/15/ب) . والعجب أنّ الملائكة مأواها السماء وهي في زعم النصارى خدم المسيح، فكيف يعدون صعوده إلى السماء دلالة على الربوبية؟!. وأما شفاء الزمن5 من علة زمانته، فالتوراة شاهدة أن سارة حملت وهي عجوز فانية وولدت إسحاق ببركة نبيّ الله إبراهيم6، وكذلك الإنجيل يشهد أن أليصابات على كبر سنها حملت وولدت يحيى ببركة نبيّ الله زكريا7. وما ذلك إلاّ غضو أزيلت علته. فبطش بعد ضمان عطبته وزمانته. فاستوى الأمران. وأما ستره بالغمامة حين صعد إلى الجبل8، فالتوراة تشهد بأنّ بني إسرائيل إذ كانوا في التيه مع موسى، وكان الغمام يسترهم من حرّ الشمس وهم ستمائة ألف سوى النساء والصبيان وبهيم الحيوان9. وذلك أربعة سنة. وهذا

_ 1 متى 4/1-11، مرقس 1/12، 13، لوقا 4/1-13. 2 مرقس 16/19، 20، لوقا 24/50-53. 3 سفر التكوين 5/24. 4 سفر التكوين الثاني 2/1-11. 5 شفاء المفلوج: متى 9/1-8، شفاء الأخرس: 9/32-34، شفاء الأعمى: متى 8/22-26. 6 تكوين 21/1-8. 7 لوقا 1/5-25. 8 متى 17/5، لوقا 9/28-36. 9 عدد 10/34، 6/15-23.

أعجب من ستر المسيح بالغمامة ومعه نفر يسيرة. وأما شفاء المجنون من جنونه1، فالتوراة تشهد أن موت الفجأة وقع في بني إسرائيل فقتل منهم في يوم واحد آلافاً منهم، فأخذ هارون / (2/16/أ) البخور في مجمرة وقام بين الأموات والأحياء، فكفّ الموت عن بقيتهم2، وما الجنون إلاّ مرض أصاب العقل، وهو دون مرض جملة البُنية. وكذلك نهشتهم الحيات في التيه فاتّخذ لهم حية من نحاس، فكان كلّ من لدغته حية جاء إلى الحية النحاس فيبرأ من علته3، فهاتان الآيتان من التوراة أعجب من فعل المسيح. وأما إجابة دعوته4، فالتوراة تشهد بأن إسحاق حين كبر وقرم إلى اللحم وقضى أولاده شهوته دعا ليعقوب وعيسى فاستجيب فيهما5. وكذلك قالت: إن يعقوب بارك ودعا لأولاده عند وفاته، فلم ترد دعوته6، ومما أخبر يعقوب تلميذ المسيح في رسالته: أن إلياس دعا على قومه فلم تمطر السماء ثلاث سنين وستة أشهر. ثم دعا بعد ذلك فزال الجدب7. وهذا أعجب من فعل المسيح وأغرب. وقد بقيت للأنبياء آيات لم يأت المسيح عليه السلام بنظيرها فنسمع بتسطيرها. والله أعلم.

_ 1 مرقس 1/21-28، يوحنا 4/31-37، متى 9/32-34، 12/22-37. 2 عدد 16/41-50. 3 عدد 21/6-9. 4 ورد أن المسيح دعا الله لأجل إحياء لعازر في إنجيل يوحنا 11/1-46، ودعا لأجل إطعام الكثير من الطعام القليل في إنجيل متى 14/15-21، وغير ذلك. 5 تكوين الإصحاح (27) . 6 تكوين الإصحاح (49) . 7 رسالة يعقوب 5/17، 18.

الباب السابع: في إفساد دعوى الاتحاد والتثليث

الباب السّابع: في إفساد دعوى الاتّحاد والتّثليث في إفساد دعوى الاتّحاد والتّثليث1: نحكي فيه مقالات الفرق الثلاث من النصارى اليعاقبة والروم والنسطورية في دعوى اتّحاد اللاهوت بالناسوت. وكيف تناقضوا وتعارضوا، ثم نعكر على الجميع بالإفساد والإبطال2. اعلم أنّ فرق النصارى كثيرة ولكن المشهور منهم الآن [ثلاث] 3 فرق: اليعاقبة والروم والنسطور4. وعقائدهم في الإله مختلفة وآراؤهم متباينة ومقالاتهم متناقضة، ولم أر لهم قدماً يثبت ولا قاعدة تستقر في هذه الدعوى، وسبب خبطهم أن كلاًّ منهم يريد أن يفرِّع عن أصل مستحيل؛ مذهباً صحيحاً جائزاً عند العقلاء5 وما ذلك إلاّ كقول القائل: ومتى كان في الأنابيب خلف وقع الطيش في صدور الصِعَاد

_ 1 الزيادة من المحقِّق لإكمال عنوان الباب مع محتواه. 2 إن نقد المؤلِّف وإبطاله لعقيدة الاتّحاد والتّثليث في هذا الباب قد استكمل به نقد أسس العقيدة النصرانية المنحرفة الثلاثة وهي كالآتي: 1- التّثليث والاتّحاد. 2- صلب المسيح تكفيراً عن الخطيئة الأزلية التي ارتكبها آدم عليه السلام. وقد سبق للمؤلِّف نقد هذا الأساس في الباب الخامس. (ر: ص 375) . 3- محاسبة المسيح للناس يوم القيامة، وقد تقدم مناقشة هذه العقيدة وإبطالها. (ر: ص 397) . 3 في ص، م: ثلاثة، والتصويب من المحقِّق. 4 في م: النسطورية. 5 إن اتّحاد اللاهوت بالناسوت - حسب اعتقاد النصارى - غير معقول؛ لأنه بعد الاتّحاد إما أن يكونا اثنين كما كانا، أو صار الاثنان واحداً. فإن كانا اثنين كما كانا فلا اتّحاد، بل هما متعددان، كما كانا متعددين، وإن كانا قد صارا شيئاً واحداً، فإن كان هذا الواحد هو أحدهما فالآخر قد عدم. وهذا عدم لأحدهما لا اتّحاده. وإن كان هذا الذي صار واحداً - ليس هو أحدهما - فلا بدّ من تغييرهما واستحالتهما، وإلاّ فلو كانا بعد الاتّحاد اثنين ابقيين بصفاعهما لم يكن هناك اتّحاد. (ر: الجواب الصحيح 2/267، النصيحة الإيمانية ص 144، 145، تنقيح الأبحاث ص 54، 55 لابن كمونة، إظهار الحقّ ص 337) .

الفرقة الأولى: فرقة يعقوب السروجي ويسمى البرادعي أيضاً. ادّعت أنّ المسيح أصاره الاتّحاد طبيعة واحدة [وأقنوما] 1 واحداً2.

_ 1 في ص (وقنوما) ، وهو خطأ يكرره الناسخ كثيراً. والصواب ما أثبتّه. 2 اليعقوبية: أتباع المذهب القائل بأنّ المسيح طبيعة واحدة - من طبيعتين لاهوتية وناسوتية - ومشيئة واحدة. (المونوفيزيتية MONOPHSIYES) ، وأوّل من قال به أوطاخي (أوتيكيس EUTYCHES) ، وهو رئيس ديربالقرب من القسطنطينية. وقد أنكر هذا القول فلافيان FLAVIAN بطريك القسطنطينية وعقد مجمعاً محليّاً لإنكار هذه المقالة وحرمان قائلها أوتيكس من الكنيسة، إلاّ أن الراهب لجأ إلى بطريق الإسكندرية ديسقورس، الذي أقنع الأمبراطور ثودوسيوس الصغير بعقد مجمع أفسس الثاني سنة 449م برئاسة ديسقورس. وصدر قرار المجمع بإعلان مذهب الطبيعة الواحدة ولعن من يخالفه، إلاّ أنّ هذا القرار أغضب البابا (ليو الأوّل) الذي أطلق على المجمع السابق اسم: (مجمع اللصوص) وعقد مجمعاً آخر من خلقيدونية سنة 451م قرر فيه تأييد ازدواج طبيعة المسيح وإبطال قرار المجمع السابق. ولعن يسقورس ومن شايعه ونفيه إلى فلسطين. ومن هذا المجمع افترق النصارى إلى ملكية ممن تبعوا مذهب الملك مرقيانوس - إمبراطور الروم الذي أمر بانعقاد المجمع ـ. ويعقوبية على مذهب ديسقورس المنفي. وقد اشتهر تسمية أتباع المذهب باليعقوبيين نسبة لى يعقوب البرادعي (JACOB BARADOS) الذي ظهر في القرن 6م، فكان داعية لهذا المذهب بليغ الأثر، جزئياً في الجهر برأيه. وقيل: نسبة إلى ديسقورس الذي كان اسمه قبل بطريكيته: (يعقوب) ، فكان يكتب - وهو في منفاه - إلى أصحابه أن يثبتوا على أمانة المسكين المنفي يعقوب. وقد أخذت بهذا المذهب ثلاث كنائس من الكنائس التي سمت نفسها (الأرثوذكسية ORTODOXE) وهي كلمة يونانية معناها: (الرأي الصحيح المستقيم) . وقد استخدم القساوسة اليونانيون هذا الاصطلاح في القرن الرابع الميلادي - وهذه الكنائس الثلاث هي: 1- الكنيسة الأرثوذكسية في مصر والحبشة. 2- الكنيسة الأرثوذكسية السريانية ويتبعها كثير من مسيحي آسيا. 3- الكنيسة الأرثوذكسية والأرمنية موطنها أرمنيا. (من بلاد روسيا) . (ر: قصة الحضارة 12/96، 102، 103، 233، ول ديورانت، موجز تاريخ المسيحية ص 318-323، يسطس الديوري، دائرة المعارف البريطانية 7/597-598، قاموس أكسفورد للكنيسة النصرانية ص 931، 932، 1014، خطط المقريزي 2/488، النصيحة الإيمانية ص 127-130،نصر المتطبب، الأسفار المقدسة ص 132،133،د. عبد الواحد وافي) . وأصحاب هذا المذهب يزعمون أن مريم ولدت الله - تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً - وأنه صلب متجسداً وسُمِّر ومات ودفن ثم صعد إلى السماء، وإليهم أشار القرآن الكريم فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... } . [سورة المائدة، الآية: 17، 72] .

قالوا: لأن طبيعة اللاهوت تركبت مع طبيعة الناسوت كما تركبت نفس الإنسان بجسده فصار إنساناً واحداً فكذلك المسيح. فالمسيح عندهم إله كلّه وإنسان كلّه وله طبيعة واحدة. / (2/17/أ) وهو يفعل بها ما يشبه أفعال الإله وما يشبه أفعال الإنسان وهو [أقنوم] واحد، [والأقنوم] 1 هو الشخص، والأقانيم هي: الأشخاص. ومجرد حكاية هذا المذهب يكفي في الرّدّ عليه؛ إذ حاصله أنّ الإله هو الإنسان والإنسان هو الإله. وسبيل الرّدّ على هذه الفرقة: أن يقول لهم: أخبرونا عن هاتين الطبيعتين اللتين أصارهما الاتّحاد طبيعة واحدة، هل تغيرت كلّ واحدة عما كانت عليه قبل التركيب أم لا؟ فإن زعمت أنهما لم يتغيرا بل بقيت طبيعة الإله بحالها وطبيعة الإنسان أيضاً بحالها؛ فقد نقضوا مذهبهم ورجعوا عن قولهم إلى قول من يقول: إن المسيح بعد الاتّحاد كَهُوَ قبل الاتّحاد. وسيأتي الكلام عليه.

_ 1 الأقانيم: الأصول، واحدها: أقنوم. وأحسبها رومية. كذا في الصحيح للجوهري 5/2016. وفي المعجم الفلسفي (ص 19) : أنّ الأقنوم لغة: الأصل. واصطلاحاً: أ- عند أفلوطين: أحد مبادئ العالم الثلاثة: الأولى وهي: الواحد، والعقل، والنفس الكلية. ب- في اللاهوت المسيحي: أحد الأقانيم الثلاثة وهي: الأب والابن والروح القدس. ويقول د. محمّد البهي في كتابه: (الجانب الإلهي ص 113) : "تسمية هذه الأمور بالأقانيم أو الأصول يرجع إلى أثر الفلسفة الإغريقية في تفلسف المسيحية. وتحديدها بثلاثة؛ يرجع إلى المصدر نفسه أيضاً. لأن ما نراه في المسيحية على هذا الوجه يذكرنا - بـ: (مثل) أفلاطون. فقد جعلها أصول هذا (الوجود) المشاهد واغتبره ظلاًّ لها وشبيهاً بها فقط. كما يذكرنا بثالوث أفلوطين المصري، الذي يتمثل في الواحد، والعقل، ونفس العالم. ولو فتشنا على الألفاظ الدالة على هذه المعاني الثلاثة في المصدر النّصّي للمسيحية وجدناها: الله، كلمة الله، الروح القدس". اهـ.

وإن زعمت أن الطبيعتين قد صارتا طبيعة ثالثة، لا تشبه واحدة من الأوليين، فهذا تصريح بأنّ هذه الطبيعة لا إله ولا إنسان. فكان ينبغي على سياق هذا القول أن لا يصفوا المسيح بأنه إله ولا يصفوه بأنه إنسان؛ بل شيء آخر غريب عجيب؛ وذلك / (2/17/ب) لأن الطبيعتين كانتا قبل التركيب إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً، فإن كان التركيب قد أخرجهما إلى طبيعة غيرهما لم تكن تلك الطبيعة لا إلهاً ولا إنساناً. فإن زعموا أنّهما كانتا قبل التركيب كاملتين، والتركيب لم يخرجهما عن الكمال بل بقي المسيح [إلهاً كاملاً] 1 وهو بعينه إنسان كامل، فقد تحامقوا إذ زعموا أنّ القديم هو بعينه الحادث، وأنّ الزَّمني هو بنفسه الأزلي؛ وذلك بمثابة قول القائل: إن الحركة هي السكون وأنّ السواد هو البياض. وذلك هو الجنون. الحجّة الثّانية: الجمع بين الجوهرين2، [والأقنومين] في الجوهرية [والأقنومية] يوجب كون الطبعين طبعاً واحداً [والأقنومين] أقنوماً واحداً. فيسقط القول فيه بالدنايا إن كان المسيح إلهاً. أو يسقط القول بظهور الآيات إن كان المسيح إنساناً3. فبطل القول بكونه طبعاً واحداً [وأقنوماُ] واحداً.

_ 1 في ص، م: (إله كامل) وهو خطأ، والتصويب من المحقِّق. 2 الجوهر: ما قام بنفسه. فهو متقوم بذاته ومتعين بماهيته. وهو المقولة الأولى من مقولات أرسطو، وبه تقوم الأعراض والكيفيات ويقابل العرض. (ر: المعجم الفلسفي ص 64) . 3 زيادة في الإيضاح نورد هذه الحجّة بصيغة أخرى، فنقول: إن اليعقوبية إذا قالوا: إن المسيح جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين، لا يخلو أن يقولوا: إن أحدهما أبطل الآخر وأخرجه عما كان عليه عند الاتّحاد. أو كل واحد منهما بحاله لم يتغير ولم يبطل الآخر. فإن قالوا: إن كلّ واحد منهما لم يتغير عما كان عليه، فخرجوا عن قولهم إلى النسطورية في أنهما باقيان بحالهما بعد الاتّحاد. وظاهر أن ذلك ليس باتّحادٍ. وإن قالوا: إن أحدهما قد غيَّر الآخر وأبطله كانوا قد أقروا ببطلان الإله، ولزمهم أن يكون المسيح لا قديماً ولا محدثاً، ولا إلهاً ولا غير إله. إذا كان كلّ واحد منهما قد خرج عما كان عليه إلى مشابهة الآخر. والعيان شاهد بأن ناسوت المسيح على ما كان عليه ناسوت غيره من الناس. فإن قالوا: اللاهوت أبطل الناسوت، كان العيان يبطل قولهم فإن ناسوت المسيح مثل ناسوت غيره في الجسمية واللحمية. وإن قالوا: الناسوت أبطل اللاهوت لزمهم أن يكون المحدث يبطل القديم. وهذا لا يجوز؛ إذ اللاهوت هو الذي يُؤثِّر في غيره. وغيره يمتنع أن يُؤثِّر فيه. (ر: تنقيح الأبحاث ص 56 لابن كمونه اليهودي، النصيحة الإيمانية ص 144-146، نصر المتطبب) .

الحجّة الثّالثة: لو قد صار الجوهران واحداً للزم أن يكون القديم هو الحادث من الوجه الذي هو قديم، / (2/18/أ) والمحدث [قديماً] 1 من الوجه الذي هو محدث. فبطل أن يكونا صارا واحداً. الحجّة الرّابعة: هذا الرأي2 من اليعقوبية مردود بأقوال المسيح في الإنجيل حيث يقول: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"3. ففرق بين الذاهب والذي يذهب إليه. فبطل أن يكونا قد صارا واحداً، وإلاّ لاتّحد الذاهب ومن يذهب إليه والداعي والمدعوّ، ودعاء المسيح نفسه محال. الحجّة الخامسة: إن كان طبع الإله وطبع الإنسان قد صارا واحداً والإله خالق والإنسان مخلوق، فطبع4 الخالق هو طبع المخلوق، وطبع العلة هو طبع المعلول، وذلك محال. الحجّة السّادسة: إن كان جوهر الأزلي قد تغيّر [وأقنومه] قد تغيّر فقد صار الأزلي زمنياً والزّمنيّ أزليّاً، وذلك جهل من قائله. الحجّة السّابعة: إن كان جوهر5 الابن الأزلي، وجوهر الإنسان قد تغيّرا عن طباعهما فقد بطلت فائدة الاتّحاد التي يدّعيها النصارى؛ لأنّ فائدته عندهم أن يقع الفيض من الطبيعة اللاهوتية على الطبيعة الناسوتية / (2/18/ب) بحلولها فيه. وإذا كانت [الطبيعتان] 6 قد انقلبتا إلى ثالثة، فلا المفيد بقي مفيداً، ولا المستفيد بقي مستفيداً.

_ 1 في ص (قديم) والصواب ما أثبتّه. 2 في م: الذي. 3 يوحنا 20/17. 4 في م: فبطبع. 5 ليست في (م) . 6 في ص، م (الطبيعتين) ، وهو خطأ. والتصويب من المحقِّق.

الحجّة الثّامنة: إن كان الجوهران و [الأقنومان] سليمين في المسيح، لم يصدق قول من يقول إنهما صارا واحداً بالعدد. وكيف يقال في الكثرة إنها واحد1 من الجهة التي هي كثرة؟!. وكيف يقال في الواحد إنه كثرة من الجهة التي هو بها واحد؟!. وإن كان الجوهران والأقنومان قد تفاسدا وعدما فكان ينبغي أن لا يوجد المسيح بل يعدم ويتلاشى. الحجّة التّاسعة: إن كان الجوهران و [الأقنومان] قد صارا واحداً بالعدد فيجب أن يبطل فعل هذا وفعل هذا؛ لأنّ المختل في الطباع إذا تركب منهم طبع آخر لم يَبن فعل الأوّل ولا الثاني. فكان يجب أن لا يظهر المسيح2 لا فعلاً إلهياً ولا فعلاً ناسوتياً، ألا ترى أنّ الاستقصات الأربع إذا تركب عنها جسم فلا شكّ أن ذلك الجسم ليس بنار محضة ولا هواء ولا ماء ولا تراب. فعلى سياق هذا كان يلزم أن يكون المسيح بالاتّحاد / (2/19/أ) الذي يدّعونه لا إله ولا إنسان، ويؤول القول بالاتّحادإلى رفع ثمرته وفائدته. الحجّة العاشرة: الإنجيل مصرَّح بأنّ المسيح كان يتَزَايد أوّلاً في بنيته ومعارفه وعلومه، والمتزايد غير الكامل فبطل أن يكون شيئاً واحداً؛ لأنّ الإله لا يتقلب ولا يتغيّر ولا يستحيل ولا يزيد. فإذا قلتم: إنهما قد صارا واحداً ثم انقلب وتغيّر، فيكون غير المنقلب منقلباً وغير المستحيل مستحيلاً.

_ 1 في م: واحدة. 2 في م: للمسيح.

وإذا انقلبت الكلمة فمن القالب لها؟!. ثم جوهر الابن على زعمهم غير مائت ولا1 فاسد. وجوهر الإنسان المأخوذ من مريم مائت وفاسد. فإن كان المجتمع منهما صار واحداً فقد صار بجملته لا مائتاً ولا غير مائت ولا فاسداً ولا غير فاسد. وذلك خبط وجهل. وإنه لقبيح بموجد أوجه خالقه بعد أن لم يكن أن يقول: إنه صار هو وخالقه شيئاً واحداً وطبيعة واحدة، ولا يقبح أن يقال: إن الخالق الباري أفاض على عبده النعماء. وقال فولس في أواخر الرسالة العاشرة: "الله مالك العالمين الذي لا يفسد ولا يرى، هو الله / (2/19/ب) الأحد، له الكرامة والحمد إلى أبد الآباد. جلّ وعلا2. الحجّة الحادية عشرة: صيرروة الجوهرين المتنافيين كالثلج والنار واحداً مستحيل ببداية العقول مع اشتراكهما ي أصل الجوهرية. فصيرورة خالق الجوهر مع الجوهر واحداً أولى3 بالاستحالة. الحجّة الثّانية عشرة: قال يحيى بن زكريا حين رأى المسيح: "هذا خروف الله وحمل الله الذي يحمل خطايا العالم"4. فَفَرَّق بينه وبين الباري تعالى فبطل أن يكونا واحداً. الحجّة الثّالثة عشرة: قال شمعون الصفا: "يا رجال بني إسرائيل إن يسوع رجل جاءكم من الله"5. وأيسوع اسم المسيح. فشهد شمعون وهو رئيس

_ 1 في م: وإلا. 2 رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس 1/17. 3 في م: إلى. 4 يوحنا 1/29، 36. 5 أعمال الرسل 2/22.

أصحاب المسيح بأنّ المسيح رجل، وأن الله أرسله، أنه إنسان كلّه، وذلك تكذيب لليعقوبية في دعوى هذا النوع من الاتّحاد. الحجّة الرّابعة عشرة: سئل المسيح عن يوم القيامة، فقال: "لا يعرف ذلك إلاّ الأب وحده، فأما الابن فلا يعرفها"1. وقول المسيح أولى بالتصديق، وقد أخبر أنه لا يعلم بالمغيّبات، ولو قد صار مع الله شيئاً واحداً لعلم ما يعلمه الله / (2/20/أ) لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يثبت لبعضه من الحكم ما يجب نفيه عن البعض، فبطل أن يكونا شيئاً واحداً. الحجّة الخامسة عشرة: الأناجيل الأربعة تذكر أنّ المسيح بكى على صديقه إلعازر، وفرح بتوبة التائب، وأكل في دعوات أصحابه، وشرب وركب الأتان، وتعب من وعر الطريق، وحزن2 من نزول الموت. وقال: "إلهي اصرف عني هذا الكأس". وهذه النقائص قبيح إضافتها إلى الابن الأزلي. فبطل أن يكونا صارا واحداً. فهذه حجج دامغة لليعاقبة قاضية بفساد ما ذهبوا إليه. وكثيراً ما [يحاولون] 3 تحقيق مقالتهم إذا ألزموا4 ما يعتقدونه من قتل المسيح وصلبه فلا يمكنهم ذلك إلاّ أن يفروا إلى مذهب النسطور.

_ 1 مرقس 17/32. 2 في م: وخرز. 3 في ص (يحاولوا) والصواب ما أثبتّه. 4 في م: لزموا.

الفرقة الثّانية: فرقة الملكية1؛ ومذهبهم أنّ المسيح بعد صدور الاتّحاد جوهران وهو [أقنوم]

_ 1 الملكية؛ نسبة إلى المذهب الذي اعتنقه ملوك الرومان النصارى، وهو: أنّ للمسيح طبيعتين ومشيئتين في أقنوم واحد، وقد أخطأ الشهرستاني حينما زعم نسبة هذا المذهب إلى رجل اسمه: (ملكا) . وقد مرّ هذا المذهب بعدة مراحل، حيث بدأ إقراره في مجمع نيقية سنة 325م، بتأييد الملك قسطنطين لمذهب تعدد الآلهة واعتبار المسيح ابناً وإلهاً ومستقلاً. ثم في مجمع القسطنطينية الأوّلسنة 381م، تحددت هوية الثالوث النصراني بالآب والابن في المسيح طبيعتين - خلافاً لليعقوبية - وحيث إن الذي دعا إلى هذا المجمع هو الملك (الإمبراطور) الروماني وتأييده لمذهب ازدواج الطبيعتين فقد أطلق عليه المذهب الملكي أو الملكاني. ثم أضيف إلى هذا المذهب القول بأنّ المسيح له طبيعتان ومشيئتان في مجمع القسطنطينية الثالث سنة 680م خلافاً للمارونية القائلين بأنّ المسيح له طبيعتان ومشيئة واحدة. وظلّت الطوائف القائلة بمذهب الملكية (بالطبيعتين والمشيئتين) متّفقة في آرائها إلى أن دَبَّ الخلاف بينها بشأن انبثاق روح القدس. أكان من الأب وحده؟ أم من الأب والابن معا؟ ولأجل ذلك عقد مجمع القسطنطينية الرابع سنة 869م، ونتج عنه انفصال الكنيسة الشرقية رئاسة ومذهباً واسماً عن الكنيسة الغربية (مذهب المالكية) ، حيث أصبحت الكنيسة الشرقية تسمى بـ: كنيسة الروم الأرثوذكسية أو اليونانية، وأتباعها يعتقدون بأنّ الروح القدس منبثق عن الأب وحده، وأكثرهم في الشرق باليونان وتركيا وروسيا، وغيرها. ولهم بطاركة أربعة: 1- بطريك القسطنطينية وهو كبيرهم. 2- بطريك الإسكندرية للروم الأرثوذكس. 3- بطريك أنطاكية. 4- بطريك أورشليم. كما تميّزوا باعتقادهم أن الإله الأب أفضل من الإله الابن. وتحريم الدم والمنخنقة وإيجاب استخدام الخبز في العشاء الرباني وغير ذلك. أما الكنسية الغربية اللاتينية فتسمى بـ: الكنيسة البطرسية - نسبة إلى بطرس رئيس الحواريين - الكاثوليكية (نسبة إلى كاثوليك CATHLIQE) وهي كلمة يونانية ومعناها العالمي أو العام. (وهو اصطلاح استخدمته الكنيسة في القرن الثاني الميلادي) . ويرأسها البابا بالفاتيكان في روما. ويعتقد أتباعها أن الروح القدس منبثق عن الأب والابن معاً. وبالمساواة الكاملة بين الأب والابن، وإباحة الدم والمنخنقة واستخدام الفطير بدلاً من الخبز في العشاء الرباني، وتتميّز الكنيسة الكاثوليكية بعدة سمات بارزة، منها: استعمال اللغة اللاتينية. والبخور، واتّخاذ الأيقونات والمصورات البارزة، والتقويم الخاص وغير ذلك. وينتشر أتباعها في معظم بلاد العالم لما لها من النفوذ والمال. ثم حدث انشقاق آخر بداخل الكنيسة الكاثوليكية عند ما ظهر دعاة الإصلاح الكنسي في أوائل القرن (16م) بتخليص الكنيسة من مظاهر الفساد. ومن أبرز هؤلاء الدعاة: مارتن لوثر الألماني سنة 1546م، وزونجلي السويسري سنة 1531م، وكلفن الفرنسي سنة 1564م. الذين احتجوا على فساد الكنيسة. فسمي مذهبهم بـ: (البروتستانتية PROTESTANNTISME) أي: المحتجّين، وقد سموا أنفسهم بـ: (الإنجيليين) على كنيستهم (الكنيسة الإنجيلية) لدعواهم أنهم يتبعون الإنجيل ويفهمونه بأنفسهم دون الحاجة إلى البابوات. ومن أبرز مبادئهم: إبطال الرئاسة في الدين، وصكوك الغفران والرهبنة، وتحريم التماثيل والصور في الكنيسة، وأن الخبز والخمر في العشاء الرباني لا يتحولان إلى لحم المسيح ودمه وإنما هو وسيلة رمزية. وينتشر أتباعهم في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا الشمالية وغيرها. وعندما ظهرت الحاجة إلى توحيد صفّ النّصارى وجمع كلمتهم عقد عام 1563م مجمع (مؤتمر) عالمي في الفاتيكان بدعوة من البابا يوحنا الثالث والعشرين لأجل تحقيق الوحدة الدينية بين المذاهب النصرانية المختلفة، فتساهلت بذلك الكنائس والمذاهب النصرانية المختلفة في الاعتراف للكنيسة الكاثوليكية بالتقدم عليها في الرئاسة لا بالسلطان. (ر: قصة الحضارة 11/396، موجز تاريخ المسيحية ص 313-318، دائرة المعارف البريطانية 2/543، 644، 8/249، قاموس أوكسفورد ص 254-256، 1134-1136،الموسوعة الميسرة ص357،1489،1490،الملل والنحل 1/222-224، للشهرستاني، الأسفار المقدسة 133-136، 140-146، النصرانية 130-134 الطهطاوي) . ويزعم أتباع هذا المذهب أن الآلهة ثلاثة متميزون ومنفصلون: الأب، والابن، والروح القدس، ومع ذلك فهم شيء واحد في الطبيعة والذات. ويزعمون أنّ الكلمة (وهي أقنوم العلم وهي الابن) قد اتّحدت بجسد المسيح، وأنّ مريم قد ولدت الإله والإنسان وأنهما شيء واحد، وأن الموت والصلب وقع على اللاهوت والناسوت معاً، وإليهم أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ... } . [سورة المائدة، الآية: 73] .

واحد - وقد حكينا عنهم أنّ [الأقنوم] هو الشخص - قالوا: فله بطبيعة اللاهوت مشيئة كمشيئة الأب، وله بطبيعة الناسوت مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود غير أنّه / (2/20/ب) واحد أي شخص واحد. فردّوا الاتّحاد إلى [الأقنوم] إذ رأوا1 الاتّحاد بالنسبة إلى الجوهر مستحيل. وسبيل الرّدّ على هذه الفرقة: أن نقول: إذا قلتم: إن المسيح بعد الاتّحاد باقٍ على طبيعته ومشيئته كما كان قبل الاتّحاد فقد أبطلتم الاتّحاد، إذ افتراق أحد الجوهرين بالطبيعة والمشيئة هو غاية الافتراق، وإذاكان ذلك كذلك، فلا معنى للاتّحاد. إذ الاتّحاد عبارة عن صيرورة أكثر من الواحد واحداً. وإذا كان جوهر الأزلي باقٍ بحاله وجوهر الإنسان باقٍ بحاله فقد آل الاتّحاد مجرد تسمية فارغة عن المعنى خالية عن الفائدة.

_ 1 في م: رو.

الحجّة الثّانية: هو أن نقول لهم: أتقولون إن اللاهوت اتّحد بالناسوت حقيقة أو مجازاً؟ ‍!. فإن قالوا: إن ذلك [تجوز وتوسع] 1 أبطلوا وتجوزوا بإطلاق ما لم يجز إطلاقه على القديم سبحانه2. وإن قالوا: إنه اتّحد به حقيقة لزمهم أن تكون مشيئتهما3 واحد؛ لأن الواحد لا تكون له إلاّ مشيئة واحدة، إذ لو كان للواحد مشيئتان للزم إما أن يكونا متماثلتين أو مختلفتين، فإن كانتا / (2/21/أ) متماثلتين فإحداهما مغنية عن الأخرى، وإن كانتا مختلفتين تناقضت أحكامهما وامتنع حصول مرادهما. فثبت أنه لا بدّ من إبطال إحدى4 المشيئتين إن كان الاتّحاد حقيقة، أو إبطال الاتّحاد جملة أن يثبت المشيئتان. الحجّة الثّالثة: على الروم أصحاب الجوهرين و [الأقنوم] الواحد، هو أن نقول: إن قلتم: إن [الأقنومين]- أعني: [أقنوم] الأزلي [وأقنوم] الإنسان - قد صارا5 واحداً، فالجوهران أيضاً قد صارا واحداً، والقول [بصيرورة] 6 الجوهرين واحداً باطل، والقول بالأقنوم الواحد باطل. الحجّة الرّابعة: هذا المذهب فيه قباحة، وذلك أن صيرورة جوهرين مختلفي الطباع شخصاً واحداً [أقنوماً] لا يبوء به عاقل، إذ يلزم عليه أن يشار إلى المسيح بأنه قديم محدث إشارة واحدة.

_ 1 في ص (تجوزا وتوسعا) والصواب ما أثبتّه. 2 في م: زاد: (وتعالى) . 3 في م: مشيئتها. 4 في ص (أحد) والتصويب من نسخة (م) . 5 في م: صار. 6 في ص، م: (بضرورة) ، ولعله خطأ من الناسخ. والتصويب من المحقِّق لموافقته سياق الجملة. والله أعلم.

الحجّة الخامسة: إن كان أقنوم المسيح قد صارا [أقنوماً] واحداً، وأحدهما زمني والآخر أزلي، فقد صار الأزلي زمنيّاً والزمنيّ أزليّاً، أو صار منهما شيء آخر لا أزلي ولا زمني وذلك محال. وعلى هذا يبطل فعل [أقنوم] الإنسان وهو الأكل والشرب وغيره، وقد وُصِف المسيح به (2/21/ب) بذلك، أو يبطل فعل [أقنوم] الإله؛ وهو إحياء الميت وتطهير الأرض وقد وُصف المسيح به. الحجّة السّادسة: إن كان [الأقنومان] قد صارا [أقنوماً] واحداً منع تنافي طباعهما فهذا إنما يتم بالامتزاج والاختلاط، فيلزم أن يتغير الإله ويستحيل مع طبع الإنسان، وذلك متعذر على ذات الباري تعالى. وأكثر الحجج الواردة على الفرقة الأولى ورادة على الفرقة الثانية لقولها باتّحاد الأقنوم. الفرقة الثّالثة: فرقة النسطور1 وهم نصارى المشرق المنسوبون إلى نسطورس أخذوا الأمانة

_ 1 النسطورية: نسبة إلى نسطوريوس الذي ولد بسوريا (380م - ت 451م) - وقد أخطأ الشهرستاني في قوله: "إن نسطور الملقب بالحكيم ظهر في زمان المأمون". وقد أصبح نسطور بطريكاً على القسطنطينية سنة 428م، لمدة أربع سنين إلى أن أعلن مذهبه - الذي تأثر فيه بأستاذه ثيودور المبسوستيائي ت 428م - بأن مريم العذراء أم المسيح الإنسان وليست والدة الإله، ولذلك كان إثبات أحدهما الإنسان الذي هو مولود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي يقول إنه المسيح بالمحبة متوحد مع ابن الإله، ويقال له: الإله وابن الإله، ليس على الحقيقة ولكن على المجاز. ولما قال نسطور مقالته تلك كاتبه كيرلس بطريرك الإسكندرية ويوحنا بطريرك أنطاكية ليعدل عن رأيه ولكنه لم يستحب. فانعقد لذلك مجمع أفسس سنة 431م وتقرر فيه: وضع مقدمة قانون الإيمان، وأن مريم العذراء والدة الله، وأن للمسيح طبيعتان لاهوتية وناسوتية في أقنوم واحد، وتقرر أيضاً خلع نسطور من الكنيسة ولعنه ونفيه إلى مصر. ويذكر المؤرخ ابن البطريق في التاريخ ص 152؛ "أن مقالة نسطور قد اندثرت، فأحياها من بعده بزمان طويل برصوما (ت 490م) مطران نصيبين في عهد قباذ بن فيروز ملك فارس، وثبتها في الشرق وخاصة أهل فارس. فلذلك كثرت النسطورية بالمشرق وخاصة أرض أهل فارس بالعراق والموصل ونصيبين والفرات والجزيرة".اهـ. وهذا يفسر لنا سبب انحراف النسطوريين عن مقالة نسطور الأصلية، فقد مالوا إلى القول بامتزاج اللاهوت (ابن الإله) في الناسوت، وبأن المسيح أقنومان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وإليهم أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ... } . [سورة التوبة، الآية: 30، 31] . ولا تزال توجد منهم جماعات متفرقة في آسيا وخاصة في العراق وإيران والهند والصين، ومع أن الكنيسة الكاثوليكية أدخلتهم في خظيرتها إلاّ أنهم لا يزالون ينكرون عبادة مريم. (ر: قصة الحضارة 2/100، 101، مجموعة الشرع الكنسي ص 288-293، دائرة المعارف 7/269، قاموس أكفسورد ص 961، 962، الملل والنحل 1/224، 225، للشهرستاني، الفصل 1/111، لابن حزم، محاضرات في النصرانية ص 157-159، لأبي زهرة) . وكان لأتباع النسطورية تأثير بالغ في ظهور الفرق المنتسبة إلى الإسلام، وخصوصاً الغلاة منها إلتي ظهرت في المشرق، قد تأثرت الشيعة بعقائدهم وخاصة حلول اللاهوت في الإمام أو أن الإمام له طبيعة إلهية. (الملل 2/53 للشهرستاني) . وكان لهم شأن خطير في ترجمة كتب اليونان وخاصة كتب الفلسفة التي أفسدت عقائد المسلمين وسرَّبت إليهم الأفكار المنحرفة التي تأثرت بها فرقة المعتزلة تأثراً كبيراً وخاصة في تحكيم العقل والقول بنفي القدر ونحوه.

عن السليح1 ماري2 وعنتوما3، ساعدوا نسطورس على رأيه فنسبوا إليه. ومذهبها أنّ المسيح بعد الاتّحاد جوهران [وأقنومان] باقيان على طباعهما كما كانا قبل الاتّحاد وردّوا الاتّحاد إلى خاص البنوة وهي علم الباري. قالوا: فهذا الشخص المأخوذ من السيدة شارك الله في هذه الخاصية فصار بها ابناً ومسيحاً.

_ 1 السليح: كلمة سريانية معناها: (الرسول) . ر: المنجد ص 344 مادة: (سلح) . 2 مار ماري: يزعمون أنه في السبعين تلميذاً الذين أرسلهم المسيح، وأنه أسس كرسي المشرق وأوّل الأساقفة في أيام أفرهط ملك بابل ونيرون قيصر ملك الروم. توفي سنة 393 يونانية. (ر: أخبار بطاركة كرسي المشرق ص 3-5، لماري بن سليمان، أخبار بطاركة كسي المشرق ص 1، 2، عمرو بن متى) . 3 توما: اسم آرامي معناه: (توأم) أحد الاثني عشر رسولاً - حسب اصطلاح النصارى - والمقصود به أحد الحواريين حيث ورد اسمه في إنجيل متى 10/3 ضمن الحواريين، ويلقب بالمتشكك؛ لأنه شكّ في قيامة المسيح من الموت - حسب زعمهم - وتذكر الروايات التاريخية أنه كان مبشراً في بلاد الفرس والهند ومات هناك. وينتسب إليه النصارى الذين يتبعون طقس الكنيسة السريانية (النسطورية) ، كما ينتسب إليه النصارى الذين يتبعون طقس الكنيسة السريانية (النسطورية) ، كما ينسب إليه (إنجيل توما) الذي لا تعترف به الكنيسة. (ر: قاموس ص 226، 227، المنجد في الأعلام ص 196) .

سبيل الرّدّ على هذه الفرقة: أن نقول: إذا/ (2/22/أ) قلتم إن الجوهرين [باقيان] 1 و [الأقنومين] كذلك على حالهم فلا موقع للاتّحاد وصار الاتّحاد اسماًساذجاًلا ثمرة له ولا فائدة. الحجّة الثّانية على النسطور: أن نقول: القول بكون المسيح [أقنومين] مُكذَّب بالحسّ؛ وذلك أن الذي يراه كلّ ذي بصر سليم من المسيح إنما هو [أقنوم] واحد، أي: شخص واحد، وتكذيب أصدق الحواس وهو البصر لا سبيل إليه. الحجّة الثّالثة: القول بكونه [أقنومين] يجر إلى السيلان ويفتح باب السفسطة ويشكك في الضروريات، فالقول به باطل إذ كون المسيح شخصاً واحداً [أقنوماً] احداً معلوم ضرورة، ومن زعم أن المسيح كان شخصين لم يسلم من خبل في عقله. الحجّة الرّابعة: هذا الرّأي أعني: القول [بالأقنومين] مُكذَّب بأقوال حملة الإنجيل الذين كانوا قبل صدور هذا الخلاف. فإنهم يشهدون بأن المسيح ابن داود بن إبراهيم، وأنه ولد في بيت لحم ووضع في معلف وذلك في أيام هيردوس فإنه صام وصلى وأكل وشرب وفرح وحزن وأنه كان شخصاً، / (2/22/ب) فالقول بأنه كان شخصين مردود بأقوال التلاميذ الذين هم أعرف الناس بالمسيح. الحجّة الخامسة: قال بطرس-صاحب المسيح-في كتاب فراكسيس: "يا بني إسرائيل، إن أيسوع الناصري رجل جاء من الله، وأن الله مسحه بروح القدس وبالقوة الإلهية"2. فشهد بطرس المؤتمن عند النصارى بأن المسيح رجل

_ 1 في م:، ص (باقيين) ، وهو خطأ، والتصويب من المحقِّق. 2 أعمال الرسل 10/38.

واحد شخص واحد [أقنوم] واحد، فمن قال بأنه شخصان فقد خَطَّأَ بطرس وجَهَّله. ومن جَهَّل مثل بطرس منهم فهو بالجهل1 أجدر. الحجّة السّادسة على النسطور: قال فولس-الذي يسمونه فولس الرسول-: "واحد هو الله، وواحد هو المتوسط بين الله والناس"2. فشهد بأن المسيح شيء واحد وأنه غير الله الواحد. وقال فولس أيضاً: "إن ربّ جميع الشعوب واحد غني متّسع لكلّ من يدعوه وكلّ من يدعو باسم الرّبّ يحيي"3. ولكن كيف يدعوه من لم يؤمن به. وذلك يقضي بفساد مذهب النسطور؛ إذ مذهبهم أن المسيح شخصان، وفولس الرسول يقول: كلا، ولكنه واحد. الحجّة السّابعة على النسطور4: أن يقال لهم: إن كان المسيح شخصين فلا [يخلو] 5 / (2/23/أ) الأمر فيه من أن يكونا متجاورين أو متداخلين، فإن كانا متجاورين فيلزم منه أن يكون [أقنوم] الإله مذروعاً ممسوحاً له قدر وكمية، إذ كلّ شيئين تحاذيا فلا بدَّ أن يكونا متساويين أو متفاوتين، فإن كانا متساويين فقد ساوى [الأقنوم] الإلهي [الأقنوم] الإنساني وذلك محال. وإن كانا متفاوتين فإن كان أقنوم اللاهوت أصغر لم يصلح للربوبية، وإن كان أكبر فقد أخذ [الأقنوم] الإنساني منه بعضه بالمسامته والمحاذاة، والقدر الزائد منه على [الأقنوم] الإنساني يعود إليه التقسيم. فإن كان مساوياً [لأقنوم] الإنسان فقد ساوى الخالق المخلوق، وإن كان أصغر لم يصلح، وإن كان أكبر فقد ساوى أقنوم الإنسان بعض الإله والقدر الزائد يعود إليه التقسيم، وذلك يقضي بالكمية على الأقنوم الإلهي وهو محال.

_ 1 في م: بالجهال. 2 رسالته إلى أهل غلاطية 3/20. 3 رسالته إلى أهل رومية 10/11-13. 4 في م: النسور، وهو خطأ. 5 في ص (يخلوا) والصواب ما أثبتّه.

وإن كانا متداخلين فلا يخلو أن يتداخلا تداخل امتزاج أو تداخل إدراع كلابس الدرع، فإن كانا تداخلا تداخل امتزاج حتى صارا طبيعة واحدة فهذا مذهب اليعقوبية / (2/23/ب) ، وقد أبطلناه. وإن تداخلا تداخل إدراع فيلزم منه أن يكون الأقنوم الأزلي الذي لا يوصف بالجسم قد تشكل الأجسام وصار له لحية وفرج مسامت لما تشكل به من [أقنوم] الإنسان، وكلّ ذلك محال فالقول به محال. الحجّة الثّامنة: الإنجيل يشهد: "بأن المسيح رفع وجهه إلى جهة السماء وابتهل في الدعاء وقال: يا أبتِ أدعوك فتستجيب لي، وأعلم أنك تستجيب لي في كلّ حين، ولكن إنما أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا أنك أرسلتني"1. فهذا الداعي المبتهل لا يخلو من أن يكون [الأقنوم] اللاهوتي أو [الأقنوم] الإنساني، فإن كان [الأقنوم الإنساني] 2 فيلزم منه أن يكون الجسد مولداً من الأب [مرسلاً] 3 منه، وهذا ما لا يقول به نصراني ألبتة؛ لأن المولود من الأب عند سائرهم إنما هو الكلمة. وإن كان الداعي هو الأقنوم اللاهوتي فهذا فيه تدليس عظيم إذا المشاهد داعياً إنما هو الجسد المشاهد بائلاً وغائطاً. الحجّة التّاسعة: هذا المذهب مردود بقول يوحنا الإنجيلي إذ يقول في كتابه: "إن الكلمة صارت جسداً وحلّ فينا"4. وذلك / (2/24/أ) عند النصارى عبارة عن انقلاب [الأقنوم] اللاهوتي إنساناً مسيحاً، فكيف يقول النسطور: إن المسيح [أقنومان اثنان] 5 ويوحنا يقول: إنه واحد؟!.

_ 1 يوحنا 11/41، 42. 2 في م: (فإن كان القنوم الإنساني) ساطقة. 3 في ص (مرسل) والصواب ما أثبتّه. 4 يوحنا 1/14. 5 في ص (قنومين اثنين) والصواب ما أثبتّه.

الحجّة العاشرة: لا شكّ أنّ طائفتي الروم والنسطور يطلقون اللعن والجرم على طائفة اليعاقبة لقولهم: "إن طبيعة اللاهوت وطبيعة الناسوت قد صارتا طبيعة واحدة بالاتّحاد". فمن قال إنّ المسيح اثنان في العدد بعد كونه واحداً فهو [حقيق] 1 بهذا الذّمّ. فهذا ما يخص كلّ طائفة على انفرادها. وقد عرفت أنّ مقالة اليعقوبية أنّ المسيح عبارة عن طبيعتين لاهوتية وناسوتية، وأنهما بالتركيب صارتا طبيعة واحدة لها مشيئة واحدة. وأنّ مقالةالروم أنّ المسيح بعدالاتّحاد [طبيعتان] 2لكن [أقنوم] واحد. وأنّ مقالة النسطور أنّ المسيح بعد الاتّحاد [جوهران وأقنومان] 3. وردوا الاتّحاد إلى صفة البنوة4.

_ 1 في ص (محقوق) والصواب ما أثبتّه. 2 في ص (طبيعتين) والصواب ما أثبتّه. 3 في ص (جوهرين وقنومين) والصواب ما أثبتّه. 4 قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح3/179: "والنصارى - في هذا الباب - من أبلغ الناس تناقضاً، يقولون الشيءويقولون بمايناقضه ويلعنون من قال هذاومن قال هذا. وأيضاً فلكّ طائفة منكم تلعن الأخرى، فإن أهل الأمانة تلعن الأريوسية وغيرهم من طوائف النصارى. وهم يلعنونكم. وكلّ فرقكم الثلاثة النسطورية واليعقوبية والملكية تلعن الطائفتين الأخريين. فأنتم واليعوقوبية تلعنون من يقول: إن مريم لم تلد إلهاً، ويقولون: إن مريم ولدت إنساناً تاماً إلهاً تاماً. وأنتم والنسطورية تلعنون من قال: إنهماجوهر واحد بمشيئةواحدةوطبيعةواحدة، ومن قال: إن اللاهوت مولود من مريم، ومع قولكم المسيح الذي ولدته مريم مات وصلب. وفي أقوالكم من العجائب المتناقضة التي توجب أنكم ملعونون - ما يطول وصفه - فما منكم من أحد إلاّ وهو لاعن ملعون. فلعنكم من قال بهذه المقولات لا يوجب أنكم على الحقّ بل يوجب أن يكون من جملة الملعونين عندكم كطائفة من طوائفكم. والنصارى طوائف كثيرون مختلفون اختلافاً كثيراً. والطوائف الثلاثة المشهورة في الأزمان المتأخرة فهم بعض طوائفهم، وإلاّ فهم طوائف كثيرون مختلفون في التثليث والاتّحاد". اهـ.

ومما يرد على الجميع ويفسد عليهم دعوى الاتّحاد، قول فولس في الرسالة الثّالثة: "أوسلتم تعلمون وتوقنون بأن يسوع المسيح حال فيكم، ولإن لم يكن حالاً فيكم (2/24/ب) إنكم لمرذولون، وأنا أرجو أن تكونوا لستم بمرذولين"1. فيجب على مقتضى قول فولس أن يكون اتّحاد اللاهوت بناسوت المسيح كاتّحاد المسيح بناسوت أمته ومتبعيه، ولإن كان من المستحيل أن يتّحد جسم المسيح بأجساد آلاف من النصارى في أقطار الأرض، فاتّحاد القديم جلّ جلاله بجسد المسيح أجدر بالاستحالة! 2.

_ 1 رسالته الثّانية إلى أهل كورنثوس 13/5، 6. 2 لقد اعتنى علماء المسلمين بنقد عقائد هذه الفرق النصرانية الثّلاثة بأدلة نقلية وعقلية، ومن هؤلاء العلماء: المهتدي الحسن بن أيوب في رسالته: (الرّدّ على النصارى) ، والتي قد نقل الإمام ابن تيمية جزءاً كبيراً منها في كتابه: (الجواب الصحيح 2/315-318) ، والقاضي الباقلاني في كتابه: (تمهيد الأوائل ص: 100-125) ، والقاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه: (تثبيت دلائل النبوة ص: 91-105) ، والعلامة ابن حزم في: (الفصل والنحل 1/109-132) ، وأبو حامد الغزالي في كتابه: (الرّدّ الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل ص: 155-162) ، والإمام القرطبي في كتابه: (الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص: 127-134) ، والمهتدي نصر بن يحيى المتطبب في كتابه: (النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية ص: 119-149) ، والقرافي في كتابه: (أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية ص: 95-97) ، وغيرهم.

القول في إبطال التّثليث: اعلم أنّ سائر النصارى مجمعون على الثّالوث، وهو أنّ ربهم أبٌ، وابن، وروح، فيعبّرون بالأب عن الذات، وبالابن عن النطق الذي هو الكلام، وبالروح عن الحياة 1. ويزعمون أنه لا يصحّ التّوحيد لموحّدٍ دون أن يعتقد هذا، فزعموا أنّ الأب جوهر 2، وأنّ له صفة حياة وصفة نطق.

_ 1 إن القول الذي أجمع عليه النصارى هو: "أن الله - تعالى عما يقولون علوّاً كبيراً - جوهر واحد، له ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وبأنها واحد في الجوهر مختلفة الأقانيم". وقد أشار القرآن الكريم إلى اعتقادهم بهذه الأقانيم الثّلاثة، فقال: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُم وَلاَ تَقُولُوا عَلَى الله إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عَيسَى ابن مَرْيمَ رَسُولُ الله وَكَلْمَتُهُ أَلْقَاَهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَة انْتَهُوا خَيراً لَّكُم ... } ، [سورة النساء، الآيتان: 171-172] . ولقد تناقض أحبارهم في شرح وعرض هذه العقيدة تناقضاً واضحاً؛ بحيث لا يمكن الجمع بين أقوالهم أو الجزم بواحد منها، فقد اختلفوا في التعبير عن ماهية تلك الأقانيم: فقال بعضهم: إنها أشخاص وذوات، وقال بعضهم: إنها خواص، وقال بعضهم: إنها صفات وهكذا. واختلفوا في انبثاق روح القدس، هل هو من الأب وحده؟ أم من الأب والابن معاً؟ ثم اختلفوا في نسبة كلّ من الأقانيم الثّلاثة من الإله المجموع الذي يسمونه الثّالوث، وقال بعضهم: إن كلاّ منها إله بذاته، كالإله المجموع (الثّالوث) ، وقال بعضهم: إن كلاّ منها إلهٌ بذاته، ولكنه دون الإله المجموع، وقال بعضهم: إن هذه الأقانيم ليست آلهة وإنما الإله هو مجموعها: (الثّالوث) ، وهكذا نرى سلسلة طويلة من الاختلافات والتناقضات في أهم أسس عقيدتهم؛ لأن الإيمان بالتّثليث والتوحيد في آنٍ واحدٍ هو إيمان بغير المعقول باعتراف فهمه وإدراكه، وإن من يحاول إدراك سرّ الثّالوث تمام الإدراك كمَن يحاول وضع مياه المحيط كلّها في كفه. ويقول القسّ باسيليوس إسحاق في كتابه: (الحقّ) : "أجلّ إن هذا التعليم عن التّثليث فوق إدراكنا، ولكن عدم إدراكه لا يبطله". ويقول يس منصور في كتابه: (التّثليث والتوحيد) : "إن من الصعب أن نحاول فهم هذا الأمر بعقولنا القاصرة". (ر: النصرانية والإسلام ص: 149، 150، محمّد الطهطاوي) . وهذه الشهادات منهم كافية في الدلالة على بطلان هذه العقيدة وفسادها. 2 قال الإمام ابن تيمية: "وأما قدماء الفلاسفة كأرسطو، وأمثاله، فكانوا يسمّونه (الله) جوهراً، وعنهم أخذت النصارى هذه التسمية، فإن أرسطو كان قبل المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، ولهذا قال هؤلاء في كتابهم: نعجب مِمَن ينكر ذلك، وهو قد قرأ شيئاً من كتب الفلاسفة والمنطق". اهـ. ثم أورد ابن تيمية سبعة أوجه في الرّدّ على النصارى في تسميتهم الباري عزّ وجلّ بالجوهر. (ر: الجواب الصحيح 3/204-327) . ويؤكّد ما ذكره ابن تيمية اعتراف النصارى بذلك، حيث يقول الأب متى المسكين في كتابه: (القديس اثناسيوس الرسولي ص 351) : "إن الجوهر ESSENTIA بمنعى: الوجود الحقيقي أو الكيان الواقعي، كان هذا التعبير مستخدماً عند أفلاطون قديماً ليفيد لخواص النوعية للمُثل IDEAS العليا أو الحقائق في مقارنتها بالمظاهر التي نراها. ولما جاء أضاف إليها معانٍ جديدة وتثبتها في المحيط الفلسفي الإغريقي، وهي عنده بمعنى: الكائن". اهـ.

قالوا1: فلا يكون الإله فاعلاً حكيماً إلاّ بعد كونه حياً ناطقاً فإذا وجب أن يكون الإله حيّاً ناطقاً، فهل الحياة والنطق ذوات أو صفات؟ ‍ اختلف فيه أكابرهم، فمنهم من قال: الحياة والنطق صفات2 لجوهر الأب. ومنهم من قال: بل هي ذوات بأنفسها. ومنهم من قال: بل هي خواص لذلك الجوهر. وطريق مفاوضتهم في ذلك: أن3 نقول لهم: هل / (2/25/أ) تثبون الألوهية لكل واحد من الأقانيم الثلاثة أم تزعمون أن الجميع إله واحد، أم تقولون إن الإله واحد منها والباقي صفات له؟ فإن قلتم: بأن الإله واحد والزائد صفات له، فقد أبطلتم القول بالثالوث وواففقتمونا على قولنا: إنّ الإله واحد وله صفات من العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام. وإنّ شيئاً من هذه الصفات ليست إلهاً وإنما ذات موصوفة بهذه الصفات، وفارقتم حينئذٍ قول مشائخ4 الأمانة إذ يقولون: "إن الأب إله واحد، وإنّ الأب أيسوع إله واحد، وإن الروح القدس إله ثالث". وأفسدتم صلواكم حيث تقرأون فيها: "الملائكة يمجدونك وابنك نظيرك في الابتداء وروح القدس مساويك في الكرامة".

_ 1 في م: قال. 2 ليست في (م) . 3 ليست في (م) . 4 في م: المسيح، وهو خطأ.

وإن زعمتم أن الجميع إله واحد وأن واحداً من الثلاثة ليس إلهاً على انفراده فقد تركتم القول بالتثليث وعبدتم إلهاً واحداً متركباً من ثلاثة أقانيم وهذا ترك لما انطوت عليه الأمانة في أنّ كلّ واحد من الأب والابن والروح القدس [إله مستقل] 1 بالألوهية. / (2/25/ب) وهدم لأصل النصرانية إذ لا خلاف بينهم أن اللاهوت اتّحد بالناسوت. وإذا كان الإله عبارة عن الثلاثة الآب والابن والروح، فالأب والروح ما اتّحدا بالناسوت أصلاً، وإنما اتّحد به الابن الذي هو العلم أو النطق، فإذاً ما اتّحد الإله بل أحد الأقانيم الثلاثة، وذلك على تجرده لا يسمى إلهاً. وفي الأمانة: "إن المسيح إله حقّ وإنه أتقن العوالم بيد، وخلق كلّ شيء، وأنه نزل من السماء لخلاص الناس". وذلك مما يبطل هذا [الأقنوم] لأن الذي نزل إنما هو في زعمكم [أقنوم] الابن، فإذا كان الإله هو مجموع الثلاثة بطل أن يكون الابن هو خالق الأشياء ومتقن العوالم ومخلص الناس؛ إذ لا يوصف بذلك إلاّ الإله الذي هو مجموع الثلاثة القانيم وهي: الأب والابن والروح القدس. وإن زعموا أنّ كلّ واحد من الثلاثة الأقانيم إله ومجموعها إله واحد، قلنا لهم: أتزعمون أنّ كلّ واحد من الثلاثة إله حقيقة أو على سبيل التجوز والتوسع وأن الإله الحقيقي هو مجموع الثلاثة؟. فإن قالوا بهذا وصرفوه إلى مجرد التسمية دون الحقيقة تركوا القول بالثالوث وأثبتوا / إلهاً واحداً له صفات، ثم سَمُّوا صفاته آلهة تحكماً وتخرصاً بغير توقيف ولا دلالة، هدموا قول الأمانة: "إن المسيح إله حقّ"، وقالوا: بل هو إله تجوز. وأبطلوا عبادة المسيح حيث يقرأون في صلاتهم: تعالوا نسجد، تعالوا نتضرع للمسيح إلهنا، وردوا قول مشائخ الأمانة إذ يقولون: "المسيح إله حقّ، وإنه أتقن

_ 1 في ص (إلهاً مستقلاً) والصواب ما أثبتّه.

العوالم وخلق كلّ شيء بيده". لأن الذي أتقن العوالم هو الإله بالحقيقة كما لا إله بالتسمية والتجوز، وهذا الإله الحقيقي لم يتّحد بجسد المسيح بل ما اتّحد به إلاّ [أقنوم] واحد، ويسمَّى إلهاً على سبيل التجوز والاستعارة. وإن زعموا أن كلّ واحد من الثلاثة الأقانيم إله كامل على الحقيقة إذا أفردوا، وأن الجميع إله واحد على الحقيقة إذا جمعوا، وبهذا القول يقولون فهذا في الدرجة العليا من الفساد والتهافت؛ وذلك أَنَّا نقول لهم: أيجوز خلو الإله عن الحياة والعلم؟ فإن جوَّزوا ذلك، قيل لهم: فإذا لا حاجة إلى الأقانيم إذ الإله مستغنٍ عنها. وإن قالوا: لا بدَّ للإله من أن يكون حيّاً عالماً، فيقال لهم: إذا قلتم إنّ كلّ واحدٍ / (2/26/أ) من الأقانيم تسعة فيصير التثليث تتسيعا، إذ حياة كلّ واحد من الأقانيم الثلاثة وعلمه [أقنومان] له، ثم كلّ واحد من التسع الأقانيم إله حقيقة وإنما يصير إلهاً حقيقة إذا ثبت وجوده وحياته وعلمه، إذ لا يجوز خلو الإله عن الحياة والعلم وحينئذٍ يتسلسل القول إلى إثبات آلهة لا نهاية لها. فهذا يلزم من يقول: إن كلّ واحد من الأقانيم الثلاثة له حياة وعلم. وإن قالوا: لا يثبت هذا الوصف إلاّ لواحد منها، امتنع عليهم وصف الثاني والثالث بالألوهية حقيقة لم تقرر أن الإله يجب أن يكون حيّاً عالماً، وبطل عليهم القول بالثالوث على كلّ الوجوه1. والله أعلم وأحكم.

_ 1 انظر: نقد التثليث وإبطاله في رسالة الحسن بن يوسف. (ر: الجواب الصحيح 3/350) . وفي: الفصل في الملل والنحل للإمام ابن حزم 1/109-132، وفي الإعلام بما في دين النصارى للإمام القرطبي ص 55-88) ، وفي: (الجواب الصحيح للإمام ابن تيمية 3/90-115 وما بعدها) وفي النصيحة الإيمانية للمهتدي نصر بن يحيى المتطبب ص 135-143، وفي تحف الأريب للمهتدي عبد الله الترجمان ص 139-149، وفي (إظهار الحقّ للشيخ رحمة الله، ص 335-350) . وغير ذلك.

المجلد الثاني

المجلد الثاني الباب الثامن: في الإبانة عن تناقض الأمانة ... الباب الثّامن: في الإبانة عن تناقض الأمانة في الإبانة عن تناقض الأمانة: نبيّن فيه فساد أمانتهم التي يلقبونها بشريعة الإيمان، وهي التي لا يتمّ لهم عيد ولا قربان إلاّ بها. وكيف أكذب بعضها بعضاً، وناقضه وعارضه، وأنه لا أصل لها في شرع الإنجيل. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "ذكر المؤرخون1 وأرباب النقل أنّ الباعث لأوائل للنصارى على ترتيب هذه الأمانة / (2/27/أ) - الملقبة2 أيضاً بالتسبيحة والشريعة ولعن من يخالفها منهم وحرمه - هو أن أريوس3 أحد أوائلهم، كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه غيره، ولا يرى في المسيح ما يراه

_ 1 يشير المؤلِّف إلى مجمع نيقية المسكوني الأوّل عام 325م، وقد اقتبس المؤلِّف خبر المجمع من كتاب التاريخ المعتمد عند النصارى وهو: "نظم الجوهر" لبطريرك الإسكندرية سعيد بن البطريق المتوفى سنة 328هـ والموافق 940م، وفي الكتاب ذكر مبدأ الخلق وتواريخ الأنبياء والملوك والأمم وأصحاب الكراسي بروما والقسطنطينية وغيرهما. ووصف دين النصرانية وفرق أهلها. (ر: أيضاً: مجموع الشرع الكنسي ص 40-50، جمع حناينا إلياس، موجز تاريخ المسيحية ص 268) . وقد اشترك في النقل من كتاب ابن البطريق الكثير من علماء المسلمين الذين كتبوا عن النصرانية وفي الرّدّ عليها، ومن هؤلاء العلماء: الإمام ابن تيمية في الجواب الصحيح. (ر: بداية الجزء الثالث) ، والإمام القرافي في أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية ص 32-55، وابن القيم في هداية الحياري ص 313-339. 2 في م: المقلبة، وهو خطأ 3 آريوس: كان قسيساً بالإسكندرية عاش بين (256-336م) وكان ليْبِي الأصل وكان يقول: إن الله واحد فرد غير مولود، لا يشاركه شيء في ذاته تعالى، وبأن المسيح مخلوق ومصنوع. فهو يدعو إلى التوحيد ونبوة المسيح عليه السلام، وله ثلاثة آثار تنسب إليه هي: أ- بعض منثورات من كتابه (ثاليا) . ب- رسالتان: أحدهما إلى أوزيبيوس، والأخرى إلى أسقف الأسكندرية. جـ- العقيدة التي وجهها إلى الإمبراطور قسطنطين سنة 330م. (ر: فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية 2/286، 287، لويس غرديه، مختصر علم اللاهوت 2/35، عيسى يبشر بالإسلام ص 128، 149، م. عطاء الرحيم) .

النصارى؛ بل يعتقد نبوته ورسالته، وأنه مخلوق بجسمه وروحه، ففشت مقالته في النصرانية فتكاتبوا واجتمعوا بمدينة نيقية1 عند الملك قسطنطين2 وتناظروا فشرح آريوس مقالته فردّ عليه الأكصيدروس3 بطريك الإسكندرية وشنع مقالته عند الملك قسطنطين ثم جلس الأكصيدروس وجماعة من حضر

_ 1 نيقية: مدينة قديمة بآسيا الصغرى اسمها اليوم: (أزنيق) ، أسست في القرن (4 ق. م) وكانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية (1204-1206م) . (ر: الموسوعة الميسرة ص 1867، المنجد في الأعلام ص 721) . 2 الإمبراطور قسطنطين الكبير: ابن غير شرعي لضابط روماني اسمه: (قنسطنطيوس) من خادمة إحدى الحانات اسمها: (هيلانة) ، ولم ينل قسطنطين حظاً وافراً من العلم، إذ انحرط في الجندية مبكراً، وبعد وفاة والده - الذي تقاسم الإمبراطورية الرومانية مع جليروس بعد اعتزال الإمبراطور دقلديانوس، نادى به الجند إمبراطور سنة 306م إلاّ أن القائد مكسنيوس نازعه عرش الإمبراطورية، وبعد معارك طاحنة استطاع قسطنطين القضاء على منافسه في معركة جسر ملفيان سنة 312م، بفضل دعم النصارى له بسبب تسامحه الديني الذي أظهره نحوهم بعد ما رأى كثرة عددهم في إمبراطوريته، وليضمن تأييدهم فقد أدَّعى أنه رأى - قبل معركة - في حلمه صليباً من نور في السماء وصوتاً يقول له: بأنه سينتصر بهذا الشعار، وبعد المعركة أصدر مرسوم ميلاد سنة 313م وفيه اعتبار النصرانية ديانة مرخصة، ثم في 324م ادّعى قسطنطين اعتناقه النصرانية بدلاً عن الوثنية الرومانية إلاّ أنه لم يعتمد ويعلن اعتناقه النصرانية رسمياً إلاّ وهو على فراش الموت سنة 330م. (ر: قصة الحضارة 11/382-403، حياة قسطنطين - يوسابيوس القيصري، الموسوعة الميسرة ص 1379، المسيحية نشأتها ص 172، 173، شارل جنيبر، يا أهل الكتاب ص 206-211، الدكتور رؤوف شلبي) . وعُذري في هذا الاستطراد هو أن دور قسطنطين في انحراف المسيحية لا يقل أهمية وخطراً عن دور بولس اليهودي، فإن كان بولس قد زرع بذرة التثليث وما يتبعها من الانحرافات فإن قسطنطين هو الذي نمى شجرة التثليث ورعاها ونشرها بقوة السلطان، حيث إن الوثنية الرومانية يعتنقها قسطنطين دفعته إلى تأييد القائلين بالتثليث وألوهية المسيح - وهم أقلية - في مجمع نيقية ضدّ الأكثرية وهم الآريوسية القائلون بالتوحيد وبشرية المسيح. أما حقيقة تنصر قسطنطين فيوضحه لنا المؤرخ ول ديورانت بقوله: "إن اعتناق قسطنطين المسيحية حركة بارعة أملتها عليه حكمته السياسية!! وبأنه قلما كان يخضع لما تتطلبه العبادات المسيحية من شعائر وطقوس، وبأنه لم يكن مسيحياً حقّاً وإنما كانت المسيحية عند قسطنطين وسيلة لا غاية". اهـ. وبنحو ذلك ذكره أيضاً المؤرخ فاسيليف، والمؤرخ فيشر في كتابه: (تاريخ أوربا، العصور الوسطى) . 3 ذكر ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/20، أن اسمه الإكصندروس، والصحيح أنه إلكسندروس أو إلكسندر (ALEXANDAR) ولد بالإسكندرية، وأصبح سنة 295م البطريرك التاسع عشر للكرازة المرقسية (بابا الكنيسة القبطية بالإسكندرية) . وقد كان تلميذ البابا بطرس وروفيق أرشلاوس البابا الذي كان قبله، وكانت مدة جلوس إلكسندروس على كرسي الكرازة المرقسية (15) سنة. ومات في 17 أبريل سنة 328م. (ر: أخبار بطاركة كرسي المشرق ص 182-201/ عمرو بن متى، السنكسار 2/127، 128، جمع مجموعة من القساوسة) .

فتناظروا، فطال تنازعهم، فتعجب الملك من انتشار مقالاتهم وكثرة اختلافهم وأقام لهم [النّزل] 1 وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضي، فاتّفق رأي الإكصيدروس وجماعة2 على نظم هذه الأمانة بعد أن أفسدوها دفعات وزادوا ونقصوا3 وهي هذه: "نؤمن بالله الواحد الأبّ ضابط الكلّ، مالك كلّ شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرّبّ الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق / (2/27/ب) كلّها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كلّ شيء، الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح

_ 1 في ص (النّزول) والصواب ما أثبتّه. 2 انتدب المجمع ثلاثة لوضع قانون الإيمان (الأمانة) وهم: إلكسندروس (البابا الإسكندري) ، وشماسه اثناسيوس، وليونتيوس (أسقف قيسارية) . (ر: قصة الكنيسة ص 189، إيريس حبيب) . 3 من العجب أن قانون الإيمان (الأمانة) قد وضع على عدة مراحل، ففي مجمع نيقية وضع الجزء الأوّل من الأمانة ابتداء من عبارة: "نؤمن بإله واحد" حتى عبارة: "للقضاء بين الأموات والأحياء وليس لملكه انقضاء". وكان ذلك بسبب مقالة آريوس إن الابن أصغر ومخلوق، وقد عقد المجمع بأمر الأمبراطور قسطنطين. وفي مجمع القسطنطينية سنة 381م وضعت مؤخرة الأمانة ابتداء من عبارة: "ونؤمن بروح القدس ... " الخ. وكان ذلك بسبب مقالة مكدونيوس أن روح القدس مخلوق، وقد عقد المجمع بأمر الإمبراطور ثاؤديوس الكبير. والمرحلة الأخيرة في مجمع أفسس سنة 431م وضعت مقدمة الأمانة ونصّها: "نعظمك يا أم النور الحقيقي، ونمجدك أيتها العذراء المقدسة والدة الإله لأنك ولدت لنا مخلص العالم أتى وخلص نفوسنا، المجد لك يا سيدنا وملكنا المسيح فخر الرسل. أكليل الشهداء. تهليل الصدّيقين, ثبات الكنائس، غفران الخطايا، نبشر بالثالوث المقدس، لاهوت واحد، نسجد له ونمجده، يا ربّ ارحم، يا ربّ بارك آمين". وكان ذلك بسبب مقالة نسطور إن مريم ليست أم الله، فانعقد المجمع لوضع المقدمة السابقة بأمر الإمبراطور ثيودوسيوس (أوثاديوس) الصغير. (ر: تاريخ الأقباط 1/178، 179، زكي شنوده، مجموعة الشرع الكنسي ص 82-90، جمع حنانيا إلياس) .

القدس وصار إنساناً. وحبل به وولد من مريم البتول1، [وأوجع] 2 وصلب أيام فيلاطس النبطي، ودفن وقام في اليوم الثّالث - كما هو مكتوب - وصعد إلى السّماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحقّ الذي يخرج من أبيه روح محبته وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قديسية جاثليقية3 وبقيامة أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين4.

_ 1 البتول: من النساء العذراء المنقطعة عن الأزواج. وقيل: هي المنقطعة إلى الله تعالى عن الدنيا. (ر: مختار الصحاح ص 40) . 2 في م: ص (واتجع) ، والتصويب من نصّ الأمانة التي ذكرها عبد الله الترجمان في كتابه: (تحفة الأريب ص 174) ، ومن معنى نصّ الأمانة في الفصل في الملل والنحل 1/118، لابن حزم، وقد وردت فيه بلفظ: (وألم) . 3 الجثيليق والجاثليق: ج جثالقة، متقدم الأساقفة (يوناينة) . (ر: المنجد ص 79 مادة: (جثل) . هي كلمة معربة. (ر: الصحاح ص 145) . ومعنى الجملة: أنهم المؤمنون بالكنيسة المقدسة المنَزَّهة الكهنونية. 4 إني أدعو القارئ الكريم إلى أن يقارن تسبيحة النصارى هذه بما ذكره ما لغيرو في كتابه المطبوع في باريس سنة 1895م والذي ترجمة إلى العربية (نخلة شفوات) سنة 1913م ما يأتي: "لقد ذكر في الكتب القديمة الهندية التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية عن عقيدة الهنود القدماء ما يأتي: (نؤمن بـ (سافسترى) - أي: الشمس - إله واحد ضابط الكلّ خالق السماوات والأرض وبابنه الوحيد (أكني) - أي: النر - نور من نور مولود غير مخلوق مساوٍ للأب في الجوهر تجسد من (فايو) - أي: الروح - في بطن (مايا) العذراء. ونؤمن بـ (فايو) الروح المحيي المنبثق من الأب والابن الذي هو مع الأب والابن يسجد له ويمجد". فالثالو ث القديم هو: (سافستري) أي: الأب السماوي و (أكني) النار، أي: الابن وهو النار المنبثقة من الشمس و (فايو) ، نفخة الهواء أي: الروح. وهو أساس المذهب عند الشعوب الآرية (الهنود القدماء". اهـ. (نقلاً من كتاب: "إله واحد أم ثالوث - محمّد مجدي مرجان ص 81) . وانظر كتاب (البهائية) - عبد الرحمن الوكيل ص 173، 174) . فهذا دليل من أدلة كثيرة على تأثر النصرانية المنحرفة بالقعائد الوثنية، فإن نصّ عقيدة الهنود القدماء مطابقة تماماً لما يسمى عند النصارى بـ: قانون الرسل أو الأمانة أو التسبيحة. وقد علَّق على ذلك المشرف بقوله: "إن هذا الكلام المنسوب إلى عقيدة الهنود القدماء ليس له أساس يذكر، إنما الثالوث المعروف عند الهنود القدماء والمحدثين هو المكون من ثلاثة أقانيم هي: براهما ومعناه: (الخالق) ، وفشنو (الحافظ أو المدبر) ، وسيفا (المهلك) من حقيقة واحدة هي (بارميشوار) . أي: الإله الأكبر أو الإله الأم.

قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: هذه الأمانة التي أجمع عليها اليوم سائر فرق النصارى من اليعاقبة والملكية والنسطورية، وهي التي يزعمون أنهم لا يتمّ لهم عيد ولا قربان إلاّ بها، وهي مع كونها لا أصل لها في شرع الإنجيل ولا1 مأخوذة من قول المسيح ولا أقوال تلاميذه مضطربة متناقضة / (2/28/أ) متهافتة2 يكذب بعضها بعضاً ويعارضه ويناقضه3. وبيان ذلك من وجوه: أحدها: قولهم: "نؤمن بالله الواحد الأب ضابط الكلّ مالك كلّ شيء صانع ما يرى ولا يرى". فهذا أوّل الأمانة قد أثبتوا فيه الانفراد لله4 بالألوهية والربوبية والوحدانية. وأنه المستبد بالخلق والاختراع. وأنه مالك كلّ شيء وضابطه وخالقه. فدخل في هذه المخلوقات المسيح روح القدس وغير ذلك. وذلك أنهما إن كانا مرئيين كالأجسام والأعراض فالأب الواحد خالقهما، وأن كانا غير مرئيين كالأرواح والعقول فالأب خالقهما وصانعهما، فهذا كلام حسن لو ثبتوا عليه ولم يشوشوه بالتشريك، غير أنهم نقضوا5 ذلك على الفور

_ 1 و (2) في م: (وألا) . 2 في ص (متاهفتة) والصواب ما أثبتّه. 3 لقد اهتم علماء المسلمين بهذه الأمانة لأهميتها عند النصارى كما ذكر المؤلِّف. فلا يخلو كتاب في الرّدّ عليهم من ذكر هذه الأمانة والإشارة إلى تناقضها واستحالتها أو تحليلها ونقدها بالعقل والنقل. ومن تلك الكتب: تثبيت دلائل النبوة 1/94، 95، للقاضي عبد الجبار، الملل والنحل 1/223، للشهرستاني، الفصل في الملل والنحل 1/118 لابن حزم، والجواب الصحيح 2/119-121، لابن تيمية، وهداية الحياري ص 268، 269، لابن القيم، تحفة الأريب ص 174-184، لعبد الله الترجمان، أدلة الوحدانية ص 98-101، للقرافي، النصيحة الإيمانية ص 185-160، لنصر المتطبب. ولقد تتبع المؤلِّف نصّ هذه الأمانة فقرة فقرة ونقدها نقداً علمياً بأدلة العقل والنقل. وهذا مما يميّز ردّ المؤلِّف - رحمه الله - عن سائر الرذود الأخرى ويجعل ردّه على هذه الأمانة من أشمل الردود التي وقفت عليها من كتب التراث - حسب علمي القاصر -. وقد اختصر أبو الفضل المالكي هذا الكتاب في مختصره سمّاه: (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) .ونقل هذه الردود بأكملها في الباب الرابع منه. كما تتبع د. أحمد حجازي السقا في كتابه القيِّم: (أقانيم النصارى ص59-66) فقرات هذه الأمانة بالتحليل والنقد الشامل. 4 في م: الله. 5 في م: نقضوه.

فقالوا: "ونؤمن أيضاً أن مع هذا الإله الواحد المستبد بخلق ما يرى وما لا يرى [رباً آخر1 واحداً2 أتقن العوالم بيده وخلق كلّ شيء". وفي أوّل الأمانة بأن الله هو خالق كلّ شيء. ثم لم يلبثوا أن قالوا: كلا ولكن المسيح ابن مريم هو خالق كلّ شيء ومتقنه. وهذا غاية التناقض. وفيه عبادة رجل من بني آدم مع الله سبحانه. لأن يسوع المسيح اسم / (2/28/ب) للإنسان المنفصل من مريم، وذلك مناقض لاعتقاد الماضين من أسلافهم وأكابر دينهم ومُدوِّني إنجيلهم كما قدمناه في مواضعه. ومناقض لما اشتملت عليه التوراة والمزامير وسائر النبوات من توحيد الله وإفراده بالربوبية والألوهية. - الوجه الثّاني: قول الأمانة: "إن يسوع المسيح ابن الله بكر الخلائق الذي ولد من أبيه". وذلك مشعر بحدوث المسيح إذ لا معنى لكونه ابنه إلاّ تأخره عنه وتقدم والده عليه في الوجود. إذ الولد والوالد لا يكونا معاً في الوجود. إذ كونهما معاً مستحيل ببداية العقول. وكذلك قولهم: "إن يسوع بكر الخلائق كلّها". مع ما في لفظه من الزيادة، لا يفهم منه إلاّ أن المسيح خلقه الله قبل خلق كلّ الخلائق؛ لأن باكورة الشيء أوّله. وذلك مناقض لقولهم في الأمانة: "وليس المسيح بمصنوع بل هو إله حقّ". فبينا هو في الأمانة مولود مصنوع إذ نعتوه بكونه غير مصنوع، فصار حاصل هذا الكلام أن المسيح مخلوق غير مخلوق، وكفى بذلك تجاهلاً وخذلاناً؛ لأن الأب لا [يخلو] 3 أن يكون / (2/29/أ) ولد وَلَداً لم يزل. أو وَلَدَ ولداً لم يكن. فإن قالوا: ولد ابناً لم يزل.

_ 1 في ص (رب آخر واحد) والصواب ما أثبتّه 2 ليست في (م) . 3 في ص (يخلوا) والصواب ما أثبتّه.

قلنا لهم: فما ولد شيئاً إذ كان الابن لم يزل. وإن ولد ابناً لم يكن فالولد1 حادث مخلوق. وذلك مكذب لقول الأمانة: "إنه إله حقّ من جوهر أبيه. وإنه أتقن العوالم بيده وخلق كلّ شيءٍ". - الوجه الثّالث: قول الأمانة في المسيح: "إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه". ينقضه قول المسيح في الإنجيل وقد سئل عن يوم القيامة، فقال: "لا أعرف ذلك، ولا يعرفه إلاّ الأب وحده"2. فلو كان من جوهر الأب لعلم ما يعلمه الأب، لكنه إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر أبيه داود. إذ سئل داود وغيره من الأنبياء عن القيامة وأشياءكثيرة فقالواكقول المسيح هذا: لا نعلم ذلك، ولا يعلمه إلاّ الله وحده. ولو قال قائل: إن جوهر الماء من جوهر النار لكان [أحمق] 3. فكذلك من يقول: إن جسم إنسان وهو مركب من لحم ودم4 وشعر وظفر وأقذار وأسنان من جوهر الإله الذي يستحيل عليه هذه الأمور. ثم لو جاز أن يكون إله يأتي من إله أوّل لجاز أن يكون ثالث من ثاني ورابع من ثالث ولما وقف الأمر على غاية. وإذ5 أبطل / (2/29/ب) ذلك من أصله وجب الرجوع إلى قول المسيح: "إن أوّل الوصايا: الرّبّ واحد6. وقوله في إنجيل

_ 1 في م: قالوا. وهو خطأ 2 مرقس 13/32. 3 في ص (أحمقا) والصواب ما أثبتّه. 4 ليست في (م) . 5 في م: وإن. 6 متى 22/35.

يوحنا: "الله الإله الحقّ هو الذي أرسل يسوع المسيح1. وإلى قوله في إنجيل مرقس وغيره: "لا صالح إلاّ الله وحده"2. وإلى أوّل الأمانة: "إن الله واحد مالك كلّ شيء صانع ما يرى وما لا يرى". - الوجه الرّابع: قول الأمانة: "إن يسوع المسيح أتقن العوالم وخلق كلّ شيء". وذلك مناقض للإنجيل ومكذب له إذ يقول متى: "هذا مولد يسوع المسيح ابن داود"3. ومن أتقن العوالم وخلق كلّ شيء لا يكون متأخراً عن العوالم وتكون العوالم سابقة له. ثم مِن العالَم أمه مريم فكيف يوصف بأنه خالق أمه قبل أن تلده؟ ‍‍! ومِنَ العالَم الثياب التي لُفَّ بها والمعلف الذي أَكنَّه وهو طفل والطعام الذي نمَّى أعضاءه. وذلك من الغلوّ الذي لا يخفى فساده عن لبيب. أما كان في شيوخ الأمانة من تصفح فساد هذا الكلام قبل تسطيره؟ ألم يسمعوا إلى قول الإنجيل: "إن إبليس قال للمسيح: اسجد لي وأعطيك جميع ما في العالم وأملكك كلّ شيء"4. وإبليس بزعمهم / (2/30/أ) من جملة مَنْ خلقه المسيح، فكيف بقي خالق العوالم محصوراً في يد بعض العَالَم يسحبه من مكان ويحول بينه وبين مراده ويطمع في تعبده له وجعله من جملة أتباعه؟!. أعوذ بالله من العماء والضلال والغلوّ في الرجال. - الوجه الخامس: قول الأمانة: "إن المسيح الإله الحقّ الذي خلق كلّ شيء، نزل من السماء لخلاص الناس، وتجسد من روح القدس إنساناً وحبل به وولد".

_ 1 يوحنا 17/1-3 2 مرقس 10/18، لوقا 18/18. 3 متي 1/1. 4 متى 4/8، 9.

في هذا الكلام عدة مفاسد، منها: أن المسيح اسم لا يخص الكلمة على تجردها ولا الجسد على تجرده. بل هو اسم يخص هذا الجسد المأخوذ من مريم والكلمة معاً. ولم تكن الكلمة في الأزل تسمى مسيحاً. فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء. والدليل على ذلك قولهم: "وتجسد من روح القدس". لأنه لو كان الذي نزل هو المسيح لم يكن لتجسده ثانية معنى. وتجسد المتجسد محال. ومنها: قولهم:"إنه نزل من السماء".وهذا الموصوف بالنُّزُول لا يخلو أن يكون الكلمةأوالناسوت، فإن/ (2/30/ب) زعموا أن الذي هو الناسوت فذلك مكذّب بنصوص الإنجيل إذ صرّحت بأن الناسوت مكتسب من جسد مريم. وإن زعموا أنه اللاهوت، قلنا لهم: أتعنون الأب أم صفته، وهي العلم؟! فإن زعموا أنه الأب نزل وتجسد لزمهم لحوق النقائص [بالباري] 1 من الأكل والشرب والقتل وحصر الشيطان وغير ذلك. ثم ذلك لا يقول به أحد منهم. وإن زعموا أن النازل المتجسد هو العلم المعبر عنه بالكلمة قلنا لهم: لو جاز على ما وصفتموه من التجسد لجاز أَحَدُ مَخذُورَيْن، وهو إما بقاء الباري ولا علم له، أو جعله عالماً بعلم قائم بغيره. ثم النُّزُول والصعود والحركة والانتقال والتفريغ والاشتغال، كلّ ذلك مستحيل على الباري وعلى صفاته2. وإذا كان ذلك كذلك بطل أن يكون النّازل من السماء هو المسيح؛ لأن المسيح اسم موضوع للمعنيين: الكلمة والجسد عندهم.

_ 1 في ص (به الباري) والصواب ما أثبتّه 2 سبق بيان مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك، والرّدّ على شبهة المبتدعة.

ومنها قولهم: "إنه إنما نزل وتجسد وحبل به لخلاص معشر الناس". فهم يريدون أن آدم لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان / (2/31/أ) وأوجب عليهم الخلود تحت طباق النيران، فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به، فإنهادعوى لا دلالة عليها، وقدأبطلناها فيما تقدم. وهب أنا سلمنا لكم، فأخبرونا عن هذا الخلاص الذي يعني الإله الرّبّ الأزلي وفعل بنفسه ما فعل من الدنايا التي جرت عليه في زعمكم، ما هو؟ أو ممن خَلصكم؟! وبمَ خَلَّصكم؟! وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينه وبينهم أثلاثاً؟! وكيف صار مبتذلاً ممتهناً في خلاصكم دون الأب والروح؟!. فهذه عدة أسئلة، فإن زعموا أن الخلاص قد حصل لهم من تكاليف1 الدنيا وهمومها وأمراضها وأعلالها وهرمها وموتها، أكذبهم الحسُّ، فإنا نراهم ولا مزية لهم على سائر البشر. وإن زعموا أنهم قد خلصوا من هموم السعي في طلب الرزق والتكسب للعيال والتبذل في تحصيل ضرورات العيش أكذبهم الحسُّ أيضاً. وإن زعموا أنهم/ (2/31/ب) قد خصلوا من تكاليف الشرع، وأنهم قد حطّ عنهم المسيح بمجيئه الصوم والصلاة وسائر وظائف التكليف، وأنهم غير مؤاخذين بشيء منها، أكذبهم العافرون بما وُظِّف عليهم من الصوم والصلاة والقرابين وغير ذلك. وإن زعموا أنهم خلصوا من أحكام الدار الآخرة، وأن من تعاطى في الدنيا جريرة فزنى منهم وسرق وقتل وقذف لا يؤاخذ يوم القيامة بشيء من ذلك

_ 1 في م: تكليف

أكذبهم الإنجيل والنبوات، إذ يقول المسيح في الإنجيل: "إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول لأهل اليمين: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعدِّ لكم قبل تأسيس الدنيا، وأقول لأهل الشمال: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعدّ لكم قبل تأسيس العالم"1. وإذا كان هذا حالكم في الدنيا والآخرة، فأين الخلاص الذي تدعون أن الإله تعنى ونزل إلى الأرض وأكل وشرب وخامرته الهموم والغموم وذاق الموت ليحصِّله لكم، وسميتموه بسببه: "مخلص العالم". وإذا لم يحصل لكم الخلاص الذي تدعون فقد بطلت الأمانة. فهذا بحثنا عن ماهية الخلاص الذي جاء لأجله فلم / (2/32/أ) يتهيأ له؛ بل بقيتم مركوسين منكوسين على ما كنتم عليه قبل مجيئه. فأخبرونا ممن خلّصكم؟! هل كان قد غلبه عليكم غالب؟ أو سلبكم من يديه سالب؟ وهل كان معه مزاحم له عليكم أوقع بكم من المكروه ما اضطرّه إلى تجشمه هذه النقائص لخلاصكم؟!. فإن قلتم: إنه كان له عدوّ مناصب، قد عاث في مملكته حتى استولى2 عليها وحاز أطرافها وجرت3 فيها أحكامه شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، فما نرى هذا العدوّ الذي تدعون إلاّ أعظم منه مملكة. وأعزّ جانباً، وأنفذ قدرة، ومن كان هذا حاله فهو لا شكّ أحقّ بالعباد والبلاد منه.

_ 1 متى 25/31-46، في سياق طويل. قد ذكره المؤلِّف مختصراً. 2 في م: اسوى 3 في م: جرب

فما نرى هذا الرّبّ الذي تشيرون1 إليه إلاّ معزّاً2 بنفسه في مقاومة هذا العدوّ، مخاطراً بمهجته، مهوراً في رأيه، مدخولاً عقله، خفيفاً حكمه، إذ رام مكافحة من هو أثبت جناناً وأعزّ مكاناً، وأكثر أعواناً، فهذا بحثنا عمن كنتم في يده. فأخبرونا بمَ خلَّصكم؟ فإن زعموا أنه نزل إلى الأرض فربط الشيطان واستنقذكم من يده، وأهانه ونكل به غاية التنكيل، وعاقبه أشدّ العقوبة ومحى آثاره وطمس معالمه، وأهان جنده3 ومن يقول بقوله، فلعمري إن ذلك لقمن/ (2/32/ب) أن يعبد4 ويفزع إليه في النوازل ويصمد. وإن زعموا أن الأمر على العكس من ذلك، وإن المسيح الإله الرّبّ الذي يعبدونه، نزل إلى الأرض يروم خلاصكم، فاستعمل التقية وأعمل5 الروية وسكن إهاب امرأة، يقلب الأمر بطناً وظهراً ويُقْدِم تارة ويحجم أخرى، ثم استعار منها صورة إنسان، وأخفى نفسه بغاية الإمكان. وكان يفر من الناصرة إلى الجليل. ويتحول من خليل إلى خليل، والشيطان يطلبه ويرقبه. والمسيح يتباعد عنه ولا يقربه. ولما رآه الشيطان قد أعمل مطايا الحذار، و [اختار] 6 طول الاستتار بالحذار، وَكَّل به شرذمة من أتباعه، فآذوه ضرباً ثم قتلوه صلباً، لقد كذبوا وكذبت الأمانة التي لهم في دعوى الخلاص. فهذا بحثنا عن سبب خلاصكم الذي عوّلتم عليه. فأخبرونا أليس الأقانيم المعبودة الثلاثة

_ 1. في م: الرّب يسرون 2. في م: معراً. 3 في م: جمعه. 4. في م: يعبده 5. في م: وأغمد. 6 في ص (اختال) والصواب ما أثبتّه

قديمة أزلية، وهي: أب وابن وروح قدس. فما الذي أوجب اختصاص الابن بالنُّزُول ومحاربة الشيطان، دون الأب والروح، مع استوائهم في الربوبية؟!. أكان أحْنى على العباد منهما وأرحم؟! أم جريمة الشيطان إليه أكبر وأقحم؟! وما الذي أصاره أولى بالتبدّل والتبديل من الأب والروح ونسبتهم في / (2/33/أ) الربوبية واحدة؟!. - الوجه السّادس: قول الأمانة: "وتجسد من روح القدس". وذلك باطل بنصّ الإنجيل؛ إذ يقول1 متى في الفصل الثاني من إنجيله: "إن يوحنا المعمداني حين عمَّد المسيح جاءت وروح القدس إليه من السماء في شبه حمامة"2. وذلك بعد ثلاثين سنة من عمر المسيح. وإذا كان ذلك كذلك بطل أن يكون متجسداً من روح القدس وكذبت الأمانة. وإذا كان لا بدَّ من تصديق المُخْبِر، فإخبار نبي الله يحيى بن زكريا أولى بالتصديق من أخبار مَن جاء بعد المسيح بمدة متطاولة، ونظم هذه الأمانة المتناقضة، ثم التجسد من شيء إنما يصح لو كان من جنسه كالماء مع الماء وكالنار والنار3. ولا تجانس بين الإله والإنسان، وبين القديم والحادث، وكلّ ذلك يرد الأمانة. ويبيّن زلل مَن4 عقدها. - الوجه السّابع: دعوى النصارى بأجمعهم أن المسيح ابن الله: إن كان كما يقولون فقد كذبت الأمانة في قولها: "إن المسيح تجسد من روح القدس". وإن كانت الأمانة صحيحة فالمسيح ابن روح القدس، وليس هو ابن الله. فقد تناقضت الأمانة واعتقادهم؛ إذ في صحّة / (2/33/ب) أحدهما بطلان الآخر. - الوجه الثّامن: قول الأمانة: "إن المسيح نزل من السماء، وحبلت به امرأة

_ 1 في م: قال 2 متى 3/16، 17. 3 ليست في (م) . 4 ليست في (م)

وسكن رحمها". مُكَذَّب بقول لوقا الإنجيلي إذ يقول في قصص الحواريين في الفصل الرابع عشر منه: "إن الله هو خالق العالم بما فيه، وهو ربّ السماء والأرض، لا يسكن الهياكل، ولا يناله أيدي الرجال، ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء؛ لأنه هو الذي أعطى الناس الحياة فوجودنا به، وحياتنا وحركاتنا منه1. فقد شهد لوقا بأن الباري وصفاته لا يسكن الهياكل، ولا تدنه أيدي الرجال، وذلك مُكذّب للأمانة في دعواها سكون الكلمة في هيكل، مريم، وتحولها إلى هيكل المسيح، ومفسد عليهم دعوى قتل المسيح وصلبه، إذ يقول لوقا: "إن الباري لا تناله أيدي الرجال". وشهد أيضاً بأن المسيح مخلوق؛ لأنه من جملة العالم الذي خلقه الله وذلك تكذيب لدعوى النصارى، ومَشَوَّش نظام الأمانة إذ يقول: "إن المسيح هو إله خالق غير مخلوق". وقد شهد فولس بأن المسيح عبد الله، وأن الله إله وربه، فقال في صدر رسالته الخامسة: "إني قد سمعت بإيمانكم، لست أَفْتَر من الدعاء/ (2/34/أ) لكم في صلاتي أن يكون إله سيدي يسوع المسيح الأب المجيد يعطيكم روح الحكمة والبيان، وينير عيون قلوبكم"2. فهذا فولس المؤتمن عندهم يشهد بأن الله هو إله المسيح، وذلك مما يبطل الأمانة التي لفقوها، والوثوق بهذا القول من فولس أولى من قول غيره، ممن جاء بعد المسيح. وهذا القول من فولس موافق لقول المسيح حيث يقول: "إني ذاهب إلى إلهي وإلهكم"3. - الوجه التّاسع: تسمية يسوع: "المسيح" يستدعي ماسحاً مسحه، وفاعلاً

_ 1 أعمال الرسل 17/24، 25 2. رسالته إلى أهل أفسس 1/15-18 3 يوحنا 20/17.

فعله، وإذا كان مسيحاً بمعنى ممسوح، وقد ثبت بقول الأمانة: (أنه مصنوع) . فإذا قالت: إنه ليس بمصنوع، صار تقدير الكلام أن المسيح مصنوع، ليس بمصنوع ومخلوق ليس بمخلوق؟!. ولم تزل بني إسرائيل من زمن موسى يتخذون دهناً مجموعاً من عدة أنواع من الطيب في قرن معلق في الهيكل، تمسح به الكهنة من أرادوا تمليكه، وربما فار القرن عند دخول من يقع الاختيار على تمليكه، فيكون علامة على تمليكه1. وقد تنبأ داود على المسيح فقال: "من / (2/34/ب) أجل هذا مسحك ربك بدهن السرور أكثر مما مسح نظراءك"2. فشهد داود بأنه ممسوح، وأن الله ماسحه وأنه مربوب، وأن الله ربّه، وأن له نظراء قد مسحوا قبله، وذلك مناقض لقول الأمانة: "إن المسيح خالق غير مخلوق". وقال داود أيضاً نبوءة على المسيح في المزمور الخامس والأربعين: "يا من فاق الناس جمالاً لقد أفرغت الرحمة على شفاهك"3. فبيَّن أنه إنسان، وأنه جميل الصورة، وأن الله أفرغ الرحمة على فيه، فلو كان المسيح هو الله أو صفة من صفاته لاتَّحَدَ الماسح والممسوح والقائل والمقول له، وذلك مما يفسد الأمانة، ويزحزح أركانها. - الوجه العاشر: قول الأمانة: "إن يسوع بعد أن قُتل وصلب قام من الأموات،

_ 1 ورد في قاموس الكتب ص 859: "أن المَسْح في الكتاب المقدس هو صبّ الزيت أو الدهن على الشيء؛ لتكريسه لخدمته تعالى، وقد صار التدهن علامة الفرح، وتركه علامة الحزن، فكانوا يمسحون الكهنة والأنبياء والملوك". اهـ. بتصرف. 2. مزمور 45/7. 3 مزمور 45/2.

وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه"1. وذلك من الكذب الفاحش، والاعتقاد الفاسد، أما كونه من الكذب الفاحش فإنه ليس أحد من القائلين هذا الكلام صعد إلى السماء ورأى ذلك عياناً وعاد إلى الأرض فأخبر به. وأما كونه من الاعتقاد الفاسد فإنه متى جلس شيء عن يمين شيء / (2/35/أ) أو عن جهة من جهاته دلَّ على حدث الشيئين، ثم لا خلاف عندهم أن جسد يسوع حادث؛ إذ قالوا: إن هذا الجسد الحادث قد جلس عن يمين الله - فقد اعتقدوا أن الباري تعالى [جسم] 2 من الأجسام. وسارووا في ذلك حشوية من اليهود القائلين بأن الله تعالى في صورة شيخ أبيض الرأس واللحية، وأنه ينْزل إلى الأرض، ويتردد فيها. وقد جمعوا في هذا الموضع بين أمرين متناقضين، وهو أنهم قالوا في أوّل الأمانة: "إن المسيح إله حقّ خالق كلّ شيء". فإذا قالوا ها هنا: إنه قتل وصلب ودفن بين الأموات فقد اعترفوا بأن المخلوق قتل خالقه، والمصنوع صلب صانعه. - الوجه الحادي عشر: قول الأمانة: "إن يسوع هذا الرّبّ الذي صلب وقتل مستعد للمجيء تارة أخرى؛ لفصل القضاء بين الأحياء والموات". للمنكر عليهم أن يقول: إنه لما تجشَّم أوّل مرة فجرى عليه من الشيطان وحزبه ما وصفتم من الأذى والإهانة والقتل والصلب فرَّ إلى أبيه ليستريح برهة، وتثوب إليه نفسه وتستجم قوته، وليستظهر بالعدد والعدد من عند أبيه / (2/35/ب) ، ثم يأتي ثانية لمحاربة عدوه، فإما عليه وإما له.

_ 1 في م: ربه 2. في ص (جسما) والتصويب من المحقِّق

وأما قول الأمانة: "إنه يعود لفصل القضاء بين الأحياء والأموات". فهو نازل منْزلة قول القائل: وفي حياتي ما زودتني زادا لا ألفينك بعد الموت تندبني إذا زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تَمَّ عليه من أعدائه ما تمّ، فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية؟!. - الوجه الثّاني عشر: قول الأمانة: "ونؤمن بروح القدس الذي يخرج من الله". فيه تصريح بأن المسيح وروح القدس [أخوان وأن الله أبوهما] 1 جميعاً. إذ تقول الأمانة: "إن يسوع ولد من أبيه، وإن روح القدس يخرج من أبيه". أيضاً. وذلك مُكذِّب بقول لوقا في إنجيله: "إذ حكى عن الملك أن الذي ولدته مريم هو روح القدس"2. وإذا كان المسيح من روح القدس في الإنجيل، وروح القدس من الله في الأمانة، فقد تناقض الإنجيل والأمانة؛ إذ الأمانة تجعلهما أخوين قد ولدا3 من الله. والإنجيل يقول:"لا بل المسيح من روح القدس، وذلك خبط عظيم". فقد وضح لك بطلان قول/ (2/36/أ) الأمانة: "إن المسيح ولد من أبيه قبل العوالم كلّها، وأنه بكر الخلائق كلّهم، فكيف يكون قبل العوالم، وقد سبقه روح القدس، بشهادة الإنجيل. - الوجه الثّالث عشر: قول الأمانة: "ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الخطايا". فيه مناقضة عظيمة لأصولهم، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لا يغفر خطاياهم بدون قتل المسيح، ولذلك سمّوه: "حمل الله الذي يحمل خطايا العالم". ودعوه أيضاً: "مخلص العالم من الخطيئة". فإذا آمنوا بأن المعمودية

_ 1 في ص (أخوين وأن الله أباهما) والصواب ما أثبتّه 2 لوقا 1/35 3. في م: ولدوا

الواحدة هي التي تغفر خطاياهم من ذنوبهم فقد صرحوا أنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة، فإن كان التعميد كافياً فقد اعترفوا بوقوع القتل عبثاً. وإن كان لا تحصل المغفرة بدون قتل المسيح فقد تناقضت الأمانة، وكذبت في دعوى المغفرة بالتعميد؛ إذ كان لا بدَّ من القتل. - الوجه الرّابع عشر: قول الأمانة: "ونؤمن بجماعة واحدة قديسية". يعنون من عقد لهم هذه الأمانة، التي نحن نتكلم على تناقضها ونوضح فسادها، / (2/36/ب) وفي الإيمان بها [ولهؤلاء] 1 القوم كفرٌ بالمسيح، وردّ لأقواله وأقوال تلاميذه، وبيانه هو: أن المسيح عليه السلام قد شحن إنجيله بتوحيد الله وتمجيده وتقديسه وتنْزِيهه عن الثاني والثالث وإفراده بالربوبية والألوهية، فقال عليه السلام: "الله واحد هو الله"2. وقال: "إن الله لم يره أحد قط"3. وقال: "لا ينبغي لأحد أن يعبد رَبيَّن"4. وقال: "لا صالح إلاّ الله وحده"5. ورفع وجهه إلى السماء وقال: "إلهي أنت الإله الحقّ الذي أرسلت المسيح"6. فهذه أقوال المسيح التي روتها عنه تلاميذه، ليس فيها تثنية ولا تثليث؛ بل مجردة لتوحيد الباري جلّ وعلا.

_ 1. في ص، م (ولاي) . ولعل الصواب ما أثبته. - والله أعلم 2 -. يوحنا 5/44. 3 يوحنا 1/18. 4 متى /10، ونصّه: "قال له يسوع: لأنه مكتوب للرّبّ إلهك تسجدوا إياه وحده تعبد". 5 مرقس 10/18. 6 يوحنا 17/1-3.

فإذا قالوا في الأمانة: "إنهم يؤمنون بأن الآلهة ثلاثة أزلية، وإن إلهاً واحداً ولد إلهاً مثله، وإن امرأة من بني آدم ولدت ربّها، وأرضعت خالقها ثديها، وأفرشته حجرها، وإن الرّبّ الذي أتقن العالم بيده كلّ شيء قد قوتل فقتل، وغولب فغلب، ودفن في المقابر، كما رَتَّبوه في أمانتهم، فلا شكّ في كفرهم بالمسيح وتلاميذه، لأن من آمن بالثالوث فقد كفر بالتوحيد فإن كانت [الأمانة] 1 صادقة فقد كذب / (2/37/أ) الإنجيل، وإن كان الإنجيل صادقاً فقد كذبت الأمانة، وتَبَيَّن عِشُّ من ألفها أو غلطه. وبعد - يرحمك الله - فقد أقام المسيح وتلاميذه وأكابر أصحابه برهة من الزمان بالناصرة والجليل وأورشليم وغيرها من البقاع، يصلون لله إله إبراهيم ويتعبدون له. فهل حفظ عنهم أو عن أحد ممن روى عنهم أنه كان إذا قام إلى مصلاّه وشرع يناجي مولاه يقرأ هذه الأمانة المتضمنة عبادة ثلاثة آلهة، بعضها آب، وبعضها ابن، وبعضها قاتل، وبعضها قتيل، وبعضها والد، وبعضها مولود، فكون المسيح وخيار أصحابه لم يؤثر عن واحد منهم من ذلك لفظة ولا كلمة واحدة من أدل دليل على افتعال هذه الأمانة، وجهل من عقدها، وسخريته بدين النصرانية، وقصده الإزراء بهم وإبداء عوراهم. - الوجه الخامس عشر: في طريق امتحان هذه الأمانة، ومعرفة حقّها من باطلها وصحتها من فسادها؛ بأقوال الأنبياء الذين تنبؤوا على المسيح، وأقوال أصحابه الذين شاهدوه وأخذوا عنه أقواله المروية عنه / (2/37/ب) وفي الإنجيل. فنقول لمن نظم هذه الأمانة وعقد هذه الشريعة: قد زعمت أن المسيح إله حقّ، وأنه أتقن العالم بيده، وخلق كلّ شيء، فنحن نورد عليك نصوص2

_ 1 إضافة يقتضيها السياق، ولعلها سقطت من الناسخ 2. في م: بنصوص

كتبك وآيات صحفك، وأقوال مشائخك، وسلفك، وما تنبأ به الأنبياء على من ادعيت ربوبيته، ونحاكمك إلى نفسك فنقول: قالت التوراة في آيات تفوت الحصر: "إن الله تعالى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب واحد لا شريك له". وقال في العشر كلمات من التوراة: "أنا الله ربّك الذي أخرجتك من مصر بيدي القوية، لا يكن لك إله غيري"1. وقال: "لا تشبهوني بشيء مما في السماء ولا مما في الأرض ولا مما في البحار، أنا الله إله واحد جبار غيور، لا تتّخذوا آلهة غيري"2. وذلك في التّوراة كثير، وهو تكذيب لأهل الأمانة في قولهم: "إنّ مع الله إلهين آخرين؛ أحدهما إنسان من بني آدم". وقال أشعيا في نبوته: "قال إله إسرائيل: أنا الأوّل والآخر، وليس بعدي غيري"3. وقال: "عرف الحمار والثّور ربّه، ولم يعرف ذلك بنو إسرائيل"4. فقد أكذبهم أشعيا في نظم هذه الأمانة، ودعواهم أنّ الآلهة / (2/38/أ) ثلاثة قديمة أزلية. وقال داود في مزموره وهو يناجي ربّه: "يا ربّ إنك حين عبرت ببلاد أشيمون تزلزت5 الأرض من هيبتك، وانفطرت انفطاراً - ثم قال - ما لك أيها البحر هارباً مزبداً، وأنت يا نهر الأردن ما بالك وليت راجعاً، وما لكم أيّها الجبال طفرتن6 كالأيائل" - ثم أجاب عن ذلك بنفسه - فقال: "من هيبة الرّبّ تزلزت البقاع، واصطربت الشوامخ"7. فهذا الذي يليق بجلال الله وعظمته لا ما

_ 1 سفر الخروج 30/2، 3 2. سفر الخروج 30/2-4. 3 سفر أشعيا 44/6. 4 سفر أشعيا 1/3. 5 في م: تزلزل. 6 في م: اصطفرتن 7. مزمور 114/1-7، بألفاظ متقاربة

وصفه به النصارى من الجوع والعطش، والتعب والسهر، والضعف والعجز، والانحصار في الرحم، والقتل والصلب، تعالى الله عن هذيانهم علوّاً كبيراً. وقال المسيح في إنجيله: "الله لم يره أحد قط"1. وقال أيضاً فيما رواه تلاميذه عنه: "إنّ أوّل الوصايا كلّها: اسمع يا إسرائيل الرّبّ واحد فاحبّه من كلّ قلبك ومن كلّ قوتك"2. ففي هذه الوصية سائر وصايا الأنبياء، وقال فيما رواه عنه يوحنا التلميذ: "إلهي أنت الإله الحقّ، وحدك الذي أرسلت يسوع"3. وقال له إنسان: "يا معلم صالح". فقال: "لم [تدعونني] 4 صالحاً، لا صالح / (2/38/ب) إلاّ الله وحده"5. وقال: "أنا ذاهب إلى إلهي"6. وقال: "إلهي أعظم مني"7. وقال: "إلهَي إلَهِي لِمَ تركتني؟ "8. وقال لوقا: "قال جبريل لمريم: إنك ستلدين ابناً يكون عظيماً، يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود"9. فشهد عن الله تعالى بأن المسيح هو ابن داود. وقال بطرس، الحواري في الفصل السّابع من رسالته الأولى: "إن الله هو إله النعمة كلّها، وهو الذي دعانا إلى مجده الدائم بالسيد المسيح، له التسبيح والعزّ إلى دهر الداهرين"10. فهذا توحيد أنبياء الله تعالى لخالقهم، وتنْزيههم له سبحانه مسطور مزبور في كتبهم، قد نهجوه لأتباعهم، فتلقوه عنهم، وكلّ

_ 1. يوحنا 1/18. 2 متى 22/35-37 3. يوحنا 17/1-3. 4 في ص، م (تدعني) والصواب ما أثبتّه 5. مرقس 10/18، لوقا 18/18. 6 يوحنا 20/17. 7 يوحنا 14/28. 8 متى 27/46. 9 لوقا 1/32. 10 رسالة بطرس الأولى 5/10، 11

ذلك تكذيب لهذه الأمانة، وردٌّ على من عقدها؛ فإنها تقول: إنه إله، وإنه أتقن العالم بيده وخلق كلّ شيء. وهذا جبريل يخبر عن الله أنه ولد من الناس وأن والده داود، وهذا المسيح يخبر عن نفسه بما سطرناه، فلا التفات بعدها للمحال المضمَّن في هذه الأمانة، التي هي في الحقيقة فساد الأمانة. وقد قال داود في المزامير: "إن المسيح رجل قد فاق الناس جمالاً"1. وشبَّهه برجل / (2/39/أ) كاهن، كان في زمن إبراهيم الخليل خادماً للبيت المقدس، فقال في مزموره: "يا مسيح أقسم الرّبّ إنك أنت الكاهن المؤيّد يشبه ملك الصادق"2. فما بال داود لم يقل إن المسيح هو الإله الحقّ الذي أتقن بيده العالم وخلق كلّ شيء، وإنه المولود من الله قبل الدهور، كما هذوا به الأمانة التي لهم؟!. وكيف يقول نبي الله داود إن المسيح رجل من الآدميين، يشبه كاهناً من الكهان؟! ويقول أصحاب الأمانة: كلا، ولكنه الإله الذي خلق الكاهن ملكي صادق وغيره. فإن قالوا: قد خبر جبريل مريم حين بشرها بأن الرّبّ معها، فقال لها: "مريم ربنا معك". قلنا: ليس كم ذهبتم إليه. وإنما أراد بالمعية ها هنا المعاضدة والمؤازرة وحسن الإرفاق والتعهد بالمعونة. والدليل عليه قول الله في التوراة لموسى: "اذهب برسالتي إلى فرعون، وأنا أكون معك، وراقبا للسانك"3. وقال ليوشع بعد وفاة موسى: "أنا أكون معك كما كنت مع عبدي موسى"4.

_ 1 مزمور 45/2. 2 مزمور 110/4. 3 خروج 4/12 4. يشوع 1/5.

وقال حملة الإنجيل: "وكان الله مع الصبي"1. / (2/39/ب) وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٌ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُم وَلاَ خَمْسَةٌ إّلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرُ إِلاَّ هُوَ مَعَهُم أَيْنَمَا كَانُوا ... } . [سورة المجادلة، الآية: 7] . وقد قال المسيح: "إنه أفضل من يونس وأفضل من سليمان"2. وقال فولس: "إن يسوع أفضل من موسى"3. وقال المعمداني حين عمد المسيح: "هذا الذي قلت لكن إنه يأتي بعدي وهو أقوى مني"4. فما نرى الحواريين ولا يوحنا ولا فولس قالوا كما قالت الأمانة: "إن المسيح إله الحقّ وأنه خلق كلّ شيء". والعجب من النصارى [يخبروننا] 5 أنّ المسيح كان رجلاً تجري عليه أحكام الآدميين، وأنه أقام مع الشياطين أربعين يوماً محصوراً في البرية وهو يجره من مكان إلى مكان، وأنه جاع وعطش، وفرح وحزن، ولبس الثياب، وركب الحمار، وبذل الجزية كسائر المستضعفين. فكيف تقول الأمانة: إن المسيح هو الإله الذي أتقن العالم، وخلق كلّ شيء؟!. هل ذلك إلاّ حمق ورعونة؟!. فإن كانت الأمانة صحيحة فقد كذب الإنجيل، وإن كان الإنجيل صادقاً فقدكذبت الأمانة وكذب من ألفها، فقد وضح أن هذه الأمانة منتقضة فاسدة / (2/40/أ) لا تثبت لأدنى نفخة من الحقّ.

_ 1 لوقا 1/66 2 متى 12/41، 42، لوقا 11/31، 32. 3 رسالة بولس إلى العبرنيين 3/1. 4 متى 3/11-16 5. في م: (يخبرونا) ، والصواب ما أثبتّه.

ولنختم هذا الباب بإبطال التثليث1 المسطور في هذه الأمانة. فنقول للنصارى: قد زعمتم أن معبودكم عبارة عن ثلاثة أقانيم، وهي: الوجود والحياة والعلم. فما دليلكم على حصرها في هذا العدد؟! وبِمَ تنكرون على من يرى أنها أربعة، ويزيد القدرة فيصير التثليث تربيعاً؟!. فإن قالوا: لا حاجة إلى ذلك إذ في أقنوم العالم مندوحة عن إثبات القدرة. قلنا: لا نسلم لكم ذلك. فمن أين يلزم من حصول العلم حصول القدرة؟!. فقد يكون الواحد عالماً ولا يكون قادراً، إذ حظ العلم [كشف] 2 للمعلوم ومعرفته على ما هو به، وحظ القدرة الاختراع والإيجاد، فلا يلزم من معرفة الشيء إيجاده ولو جاز الاجتزاء بالعلم عن القدرة لجاز الاجتزاء بالحياة عن العلم، وكما لا يلزم من الحيّ أن يكون عالماً، فكذلك لا يلزم من العالم أن يكون قادراً وكما أن العلم لا يُفْقَدُ إلاّ ويخلفه ضدّه وهو الجهل، فكذلك القدرة لا يجوز أن تفقد إلاّ ويخلفها ضدّها وهو / (2/40/ب) العجز. وقد أوجد الباري تعالى العالم بعد أن لم يكن، وذلك أنثر القدرة لا أثر العلم، وإلاّ فقد كان العلم حاصلاً لله تعالى قبل الإيجاد وهو التعلق، فقد وجب وصفه تعالى بالقدرة. وإذا ثبت وصفه بالقدرة فقد وجب وصفه بالإرادة، إذ حظ القدرة الاختراع والإبداع. وحظ الإرادة التخصيص بالمقادير والأشكال والأزمان والأحوال. فقد بطل القول بالتثليث ووجب وصفه تعالى بالجلال والكمال. وذلك يستدعي وصفه سبحانه وتعالى بأنه واحد حيّ عالم قادر مريد سميع بصير متكلم. وهذه الصفات الزائدة على الثالوث قد نطقت به صحف أهل الكتاب. وهي موجودة في التوراة والإنجيل

_ 1 لقد سبق لنا التعليق على عقيدة التثليث عند النصارى في الباب السابع. 2 في ص (يكشف) ولعل الصواب ما أثبتّه

، والزبور. ولو أردنا انْتزَاعها من كتبهم وإثباتها في هذا المختصر لما أعوزنا ذلك. ولكنا نؤثر الاختصار، فقد ثبت بهذه الوجوه الخمسة عشر بطلان الأمانة وانتقاضها وانتثار1 نظمها. وإذا بطلت شريعة الدين بطل الدين المبني عليها، ووجب الرجوع إلى / (2/41/أ) أقوال الأنبياء في توحيد الله سبحانه وإفراده بالربوبية سبحانه لا إله غير ولا ربّ سواه.

_ 1 في م: وانتشار.

الباب التاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود

الباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النّصارى واليهود في إثبات الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود: / (2/41/أ) نذكر في ما اشتملت عليه التوراة وإنجيل النصارى من الفضائح التي يأنف من إيرادها مجان الصبيان والمغفلون من النسوان، ولنبدأ بذكر فضائح اليهود، وتقدمهم هنا لتقدم كفرهم: 1- فضيحة عبدت قدماء اليهود عزيراً1، وقالوا: إنه ابن الله. وساووا في ذلك النصارى في عبادتهم المسيح. وقد أخبر الكتاب العزيز بالقصة

_ 1 عزير: اسمه في العبرانية (عزرا) ومعناه: عون. وهو كاهن بان سرايا. لُقِّب بالكاتب أو الوراق. كان من أحبار اليهود في الأسر البابلي. وقام بقيادة الجماعة التي أذن لها ملك الفرس بالعودة إلى أورشليم سنة 457 ق. م. ويزعم اليهود بأنه أعاد التوراة المفقودة من حفظه. وبأنه الذي جمع أسفار الكتاب المقدس ونظمها. وبأنه مؤسس نظم اليهودية المتأخرة (في القرن 5 ق. م) . وأما الحياة الخاصة لعزرا فلا يعلم عنها شيء إلاّ ما نسجته الأساطير اللاحقة، كما لا يعرف أين قبره، وينسب إليه سفر باسمه مكون من عشرة إصحاحات. (ر: سفر عزرا، السنن القويم في تفسيرالعهدالقديم5/80،81،قاموس ص621،622) . ونظراً للدور الكبير الذي قام به عزرا فقد غلا فيه اليهود غلوّاً كبيراً. حتى قالوا فيه: "عزرا أوجد حل البقاء لإسرائيل، فهو من إسرائيل عن طريق التلمود كموسى عن طريق التوراة، وكما أن موسى خلق أمة من العبودية كذلك خلق عزرا أمة من السبي. وكان حَرِياً بأن يعطي الله التوراة على يد عزرا لو لم يعطها على يد موسى". وهذا القول يعزى إلى مجلس السنهدرين. (ر: المقدمة من كتاب التلمود) ، بالإنكليزية EVERYMAN'S TALMUD أكوهين) .فليس غريباً أن يذهب فريق من اليهود في تعظيم عزرا إلى حدّ تأليهه والقول بأنه ابن الله كما ورد ذلك في القرآن الكريم. أما في المصادر الإسلامية فإنه لم يثبت فيها نبوة عزير بنصّ صحيح. (ر: قصص الأنبياء 416-422 لابن كثير) . بل إن كثيراً من العلماء الذين كتبوا في الأديان منهم إمام الحرمين الجويني وابن حزم وابن القيم ينسبون إلى عزير (عزرا) تحريف التوراة وتبديلها. (ر: شفاء الغليل ص 31، الفصل 1/287، 298، هداية الحياري ص 207، 208) . وقيل: إن عزرا ليس هو (العزير) كما يظن؛ لأن العزير هو تعريب (العازار) . فأما عزرا فإنه إذا عُرِّب لم يتغير عن حاله؛ لأنه اسم خفيف الحركات والحروف. (ر: إفحام اليهود ص 152، للسموأل المغربي) . ويقول العلامة ابن عاشور في تفسيره: (التحرير والتنوير 10/167، 168) : "إن (عزرا) ذُكِر مصغراً، فيحتمل أنه لما عُرِّب عُرِّب بصيغة تشبه صيغة التصغير فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة. ويحتمل أن تصغيره على لسان يهود المدينة تحبباً فيه". اهـ. والله أعلم.

والمتأخرون من اليهود ينكرون ذلك ويجحدونه1. وليس الأمر كما يظنون بل قد صحّ أن تلك طائفة من أسلافهم يقال لها: المؤتمنية2. قال الله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيرٌ ابن الله ... } إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدوا إِلَهاً وَاحِداً} 3. فمن عبد المسيح وعَدَّه من الآدميين إنما تأسى بهم وتسبب بأسبابهم.

_ 1 قال الفخر الرازي في تفسيره 16/33: "المسألة الثانية في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ... } . على أقوال: الأوّل: قال عبيد بن عمير: إنما قال الله هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه: "فنحاص بن عازوراء". الثاني: قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة: أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: سلام بن مشكم والنعمان بن أوفى ومالك بن الصيف وقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ولا تزعم أن عزيراً ابن الله؟ فنزلت هذه الآية. وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود، إلاّ أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد. الثالث: ولعلّ هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع، فحكى الله ذلك عنهم. ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك. فإن حكاية الله عنهم أصدق. (ر: أيضاً تفسير ابن جرير الطبري 10/110-112) . 2 قال ابن حزم في الفصل 1/178: "الصدوقية: ونسبوا إلى رجل يقال له: (صدوق) ، وهم يقولون من أثر اليهود أن العزير هو ابن الله - تعالى الله عن ذلك - وكانوا بجهة اليمن".اهـ. ونقله ابن تيمية عنه في الجواب الصحيح 3/185. وقال المقريزي في الخطط 3/511: "وأما يهود فلسطين فزعموا أن العزير بن الله تعالى، وأنكر أكثر اليهود هذا القول". 3 قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [سورة التوبة، الآية: 30، 31] .

2- فضيحة أخرى: عبدت قدماء اليهود الكواكب والزهرة. / (2/41/ب) وقرَّبت لها القرابين، وقد أخبر بذلك نبي الله أرميا في نبوته. فقام أرميا فيهم فوعظهم وخوَّفهم بأس الله وسرعة بطشه وذكرهم بأيامه وما صنعه من الآيات. فتواثب عليه الشعب بأسرهم. وقالوا: إنا لا ندع البخور للزهرة والكواكب وهمّوا بقتله1. 3- فضيحة أخرى: عبدت اليهود العجل في حياة نبي الله موسى عليه السلام، وذلك حين ذهب عليه السلام إلى مناجاة ربّه وترك هارون خليفة عندهم. وكانوا حين أنجاهم الله من الغرق وأصعدهم من البحر ورأوا قوماً يعبدون أصناماً على صور البقر، فبقي ذلك في2 نفوسهم. فلما استبطأوا موسى صنع لهم السامري من الذهب عجلاً، فأقبلوا على عبادته، وتركوا عبادة الله الذي صنع لهم العجايب وأراهم الآيات3 فقام هارون فيهم خطيباً ووعظهم. فهمّوا أن يقتلوه فاعتزل عنهم في طائفة من قومه. وقد نطق بذلك الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {وّاتَّخَذَ قَومٌ مُّوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِم عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُم / (2/42/أ) وَلاَ يَهْدِيهُم سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} . [سورة الأعراف، الآية: 148] .

_ 1 سفر أرميا الإصحاحات (5-18) . 2 قال الله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . [سورة الآعراف، الآية: 138-140] . ولم تذكر التوراة المحرفة هذه القصة. 3 سفر الخروج الإصحاح (32) .

4- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة يقال لها الأشمعية1. مشبهة مجسمة يعتقدون أن خالقهم في صورة شيخ أبيض الرأس واللحية2، ويزعمون

_ 1 الأشمعية أو الشمعونية (الفريسيون PHARISEES) : نسبة إلى شمعون الصديق (ت 135 ق. م) من بقايا رجال الكنيس الكبرى والمؤسس للدولة الأسمونية أو الحشمنية في أيام المكابيين. واشتهر إطلاق اسم (الفريسيون) بالعبرية (فروشيم) على هذه الطائفة. ومعنى هذا الاسم أنهم المفروزون أو المنعزلون الذين امتازوا عن العامة. وهم طائفة علماء الشريعة من الربانيين قديماً. ويطلقون على أنفسهم اسم (حسيديم) أي: الأتقياء و (حبيريم) أي: الزملاء. أما الربانيون (RABBINATE) فهم امتداد لفريسيين في أفكارهم، ويمثلون جمهور اليهود قديماً وحديثاً. وأطلق عليهم هذا اللقب لإيمانهم بأسفار التلمود التي ألَّفها الربانيون وهم الحاخاميم أوالفقهاء لهذه الطائفة. ومن أبرزمبادئ هذه الطائفة ما يأتي: أ- أنها تعترف بجميع أسفار العهد القديم، وتذهب إلى تأويل النصوص. ب- تؤمن بأسفار التلمود. جـ تؤمن بالبعث، وتعتقد أن الصالحين من الأموات سينتشرون في هذه الأرض ليشتركوا في ملك المسيح المنتظر، الذي يزعمون أنه سيأتي لينقذ الناس ويدخلهم في اليهودية. د- أشدّ طوائف اليهود عداوة لغيرهم من الأمم. وينظرون إلى من عداهم بعين النقص والازدراء وبأنهم حيوانات خلقوا في صورة البشر لخدمة اليهود. ومن هذه الطائفة نشأت الحركة الصهيونية والحركات الهدّامة الأخرى التي تهدف إلى إخضاع العالم لليهود. (للتوسع ر: دائرة المعارف اليهودية 13/363-366، 1445-1458، وتاريخ الإسرائيليين ص 54، 117-119، شاهين مكاريوس، تنقيح الأبحاث ص 48، لابن كمونه اليهودي، إفحام اليهود ص 174، للسموأل المغربي، قاموس ص674، تمهيد الأوائل ص 187، للباقلاني، الملل والنحل1/212، لرشهرستاني، الفصل1/178 لابن حزم، الداعي إلى الإسلام ص318، للأنباري، الخطط ص510، للمقريزي، الفكر الديني اليهودي ص210-213،د. حسن ظاظا، الأسفار المقدسة ص 63 د. عليّ وافي. اليهودية ص 226-229 د. أحمد شلبي) . 2 ورد في سفر دانيال 7/9، 10، وسيأتي تفصيله في ص 556.

أن له في السماء الثالثة خليفة يسمّونه الله الأصغر. ويزعمون أنه مُدَبِّر العالم1. وهم يقولن بالنسخ2. 5- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة يقال لهم: العنانية3. وهم يوحدون ولكنهم يحيلون النسخ من جهة العقل والسمع جميعاً.

_ 1 قال ابن حزم عن اليهود: "واعلموا أنهم أفردوا عشرة أيام من أوّل أكتوبر يعبدون فيه ربّاً آخر غير الله عزوجل. فحصلوا على الشرك المجرد. واعلموا أنّ الرّبّ الصغير الذي أفردوا له الأيام المذكورة يعبدونه فيها من دون الله عزوجل هو عندهم (صندلفون) الملك خادم التاج الذي في رأس معبودهم هذا أعظم من شرك النصارى - ولقد أوقفت بعضهم على هذا، فقال لي: (ميططرون) ملك من الملائكة". اهـ. (ر: الفصل 1/328) . 2 اتّفقت اليهود قاطبة على منع نسخ شريعتهم بشريعة نبي آخر، واختلفوا في جواز النسخ عقلاً وشرعاً: أ- فذهبت طائفة الأشعنية إلى النسخ يجوز عقلاً ولا يجوز توقيفاً (لم يقع شرعاً) . (ر: تمهيد ص 187، الداعي ص 318) . وعلى هذا فإن قول المؤلِّف عن هذه الطائفة بأنهم يقولون بالنسخ محمول على أنهم يجوزون وقوع النسخ عقلاً لا شرعاً. ولكن يذكر الآمدي في كتابه: (الإحكام 3/106) : "بأن هذه الطائفة تقول بامتناع النسخ عقلاً". ب- وذهبت طائفة العنانية إلى أنه لا يجوز عقلاً ولا شرعاً. (ر: تمهيد ص 187) . ولكن الآمدي يذكر بأنهم يجيزونه عقلاً لا سمعاً. وخالف الأنباري في قوله بأنهم يجيزونه عقلاً وشرعاً. (ر: الإحكام 3/106، الداعي إلى الإسلام ص 318) . جـ وذهبت طائفة العيسوية إلى جوازه عقلاً وسمعاً. واعترفوا بنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم لكن إلى العرب لا إلى بني إسرائيل. (ر: الإحكام 3/106، الداعي ص 319) . 3 العنانية (القراؤون) (ANANITES – KARAITES) : نسبة إلى عنان بن داود أحد كبار الأحبار في القرن الثامن الميلادي (كان موجوداً سنة 136هـ) في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وحيث إن هذه الطائفة تتمسك بأسفار العهد القديم وحده - التي كانت تسمى عند اليهود (المقرا) أي: المقروء - وتفكر بالتلمود، فقد سمي أتباع هذه الطائفة بـ: (القرائين) في القرن التاسع الميلادي. ويرى بعض المؤرخين أن القرائين إنما هم امتداد فكري لطائفة (الصدوقيين) القديمة. أما أعداؤهم من اليهود الربانين فيسمون القرائين بـ: (مينيم) أي: الزنادقة، و (أبيقوريم) أي: الأبيقوريين نسبة إلى المدرسة الفلسفية اليونانية الوثنية. والعداء مستحكم بين الطائفتين إلى حدّ أنّ كلاً منها تُكَفِّر الأخرى وتُنَجِّسها وتُحرِّم التعامل والزواج من أتباعها، ومن أبرز مبادئهم ما يأتي: أ- تأثّروا بالصدوقيين والعيسوية في التمسك بأسفار العهد القديم فقط وإنكار التلمود. ب- تأثّروا بالإسلام فقالوا بأن عيسى عليه السلام ليس زنديقاً وإنما كان رجلاً من بني إسرائيل تقياً صالحاً ومصلحاً، وبأن محمّداً صلى الله عليه وسلم نبي حقّ إلاّ أنهم زعموا بأن عيسى لم يكن نبيّاً وبأن محمّداً صلى الله عليه وسلم لم ينسخ شريعة التوراة. وقالوا: بنفي التجسيم والتشبيه عن الله عزوجل. جـ يخالفون سائر اليهود في أحكام السبت والأعياد. وينهون عن أكل الطيور والظباء والسمك والجراد. ويذبحون الحيوان على القفا. د- يعتبرون مؤسس فرقتهم عنان قديساً ويجعلون له دعاءً خاصاً في صلواتهم. هـ يعادون الحركة الصهيونية وينفرون منها؛ لأنهم يرون أن استيلاء الكفرة الربانيين على مقدسات إسرائيل خطرٌ يهددهم. وقد كان أكثر القرائين يقيمون في مصر والشام وتركيا والعراق وإيران وبعض أجزاء من روسيا وأوربا الشرقية والأندلس. وعددهم قليل بالنسبة إلى اليهود عموماً حالياً يوجد منهم حوالي عشرة آلاف يتركزون حول الرملة وعدد معابدهم تسعة. (ر: دائرة المعارف اليهودية 2/919-922، 10/761-785، تاريخ الإسرائلييتن 119، 120، إفحام اليهود ص 171-175، تمهيد الأوائل ص 178، الملل والنحل 1/215، الفصل 1/178، الداعي إلى الإسلام ص 318، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 82، للفخر الرازي، الخطط 3/507، الفكر الديني ص 247-256، اليهودية ص 231، د. أحمد شلبي، اليهودية ص 178، 179، د. محمّد بحر.

6- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تعرف بـ: الأصبهانية1. أصحاب أبي عيسى الأصبهاني، يزعمون أن أبا عيسى كان نبيّاً مبعوثاً قبل موسى وذلك على خلاف رأي سائر اليهود. فليس تعتقد اليهود أنه كان قبل

_ 1 الأصبهانية (العيسوية) (ISFAHANIANS – ISAWITES) : أتباع إسحاق بن يعقوب (عوبديا) المعروف بأبي عيسى الأصفهاني، من مواليد أصفهان ببلاد فارس، الذي ادّعى النبوة وبأنه رسول المسيح المنتظر، ثم زعم بأنه هو المسيح المنتظر لليهود. وزعم بأن الله كلّمه وأرسله ليُخلّص بني إسرائيل من السبيّ. فلذلك جمع جيشاً قوامه عشرة آلاف رجل لتحقيق أهدافه. إلاّ أنه انهزم في معركة الري وقتل فيها. ويذكر الحبر القرائي القرقشاني أن أبا عيسى ظهر في عهد الخليفة الأموي عبد الملك ابن مروان (685-705م) . ويخالفه الشهرستاني الذي يقول: بأنه كان في زمن المنصور. (750-754م) . وابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية مروان بن محمّد (744-750م) . وقد رجحت دائرة المعارف اليهودية قول الشهرستاني على القرقشاني. وأبرز مبادئهم ما يأتي: أ- ادعى أتباع أبي عيسى له المعجزات. واعتقدوا بأنه حيّ لم يمت. وأنه اختفى في كهف وسيظهر ليتم رسالته بإنقاذ اليهود. ب- أنكر أبو عيسى التلمود. وأدخل تعديلات كثرة على الأحكام اليهودية ضمنها كتابه: (سفر همصفوت) أي: كتب الوصايا. ومنها: أنه حرم الذبائح كلّها، ونهى عن أكل كلّ روح على الإطلاق. وأوجب عشر صلوات على أتباعه. وألغى الطلاق وغير ذلك من التشريعات التي خالف بها أحكام التوراة. جـ يعترفون بنبوة عيسى عليه السلام ونبوة محمّد صلى الله عليه وسلم، غير أنهم يقولون: بأنهما لم يؤمروا بتبليغ شريعة موسى عليه السلام، بأن محمّداً صلى الله عليه وسلم لم يرسل إلاّ إلى العرب. وقد بقيت من هذه الطائفة بقية في أصبهان ودمشق والعراق إلى القرن العاشر الميلادي ثم انقرضت. (ر: دائرة المعارف 1/183، 184، 9/77، تمهيد الأوائل ص 189، الفصل 1/179، الملل والنحل 1/215، 216، اعتقادات ص 83، الخطط 3/510، في الفكر الديني ص 115، 244، اليهودية ص 147، د. محمّد بحر، الأسفار ص 72، د. عليّ وافي) .

موسى نبيّ ألبتة. فينكرون نبوة شيث ونوح وإبراهيم وغيره ويقولون: "إن موسى هو مفتاح النبوة وبكر الرسالة". والتوراة التي بأيديهم تكذبهم. إذ هو مصرحة بأن أوامر الله قد وردت على من ذكرنا/ (2/42/ب) وانتهضوا دعاة إلى الله. وهذه نبوة دانيال تشهد بأن بختنصر حين غزا البيت المقدس حرق كتب الله المنَزَّلة على إبراهيم وشيث وغيره. قال دانيال: "وعدتها مائة كتاب وأربعة كتب"1. فمن زعم أنه لا نبي قبل موسى عليه السلام فنبوة دانيال حجّة عليه. 7- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تعرف باليوزعانية2 مشبهة. تزعم أن المسيح هو يوزعان. وأنه قد جاء مرة وسيأتي مرة أخرى. وتقول إن

_ 1 لم أجد في سفر دانيال بالنسخة التي بين يدي على النصّ الذي ذكره المؤلِّف. ولكن ورد في سفر الملوك الثاني الإصحاحين (24، 25) أن بختنصر قد أخذ خزائن بيت الرّبّ (الهيكل) وما فيها من كنوز ثم أحرقها وأحرق ما فيها. 2 اليوذعانية أو اليودجيانة (YUDGHANITES) : أتباع يوذعان (يودجان) من همذان. وقيل: كان اسمه: يهوذا. وكان تلميذاً لأبي عيسى الأصفهاني. وقام من بعده في منتصف القرن الثامن الميلادي مدعياً النبوة. ويزعم أتباعه بأنه المسيح المنتظر وأنه سيرجع من السماء مرة ثانية. ولقّبوه باسم (الراعي) . وأهم ما يعرف من تعاليم يودجان التي يقال إنها نفس تعاليم أبي عيسى الأصفهاني، إذ إنهما أوصيا بالتقشف والنسك. والإكثار من الصوم والصلاة. وجعلا تناول اللحم والخمر حراماً في وقت النسك. كما أعلنا أن طقوس السبت والأعياد ليست فرضاً واجبَ الأداء في فترة تشريد اليهود في الأرض. كذلك عطل يودجان عدداً من الشرائع مدعياً بأنها واجبة التنفيذ فقط عندما تكون لليهود دولة في فلسطين. وزعم بأن للتوراة ظاهراً وباطناً وتنْزِيلاً وتأويلاً. وخالف بتأويلاته عامة لليهود. وخالفهم في التشبيه. ومال إلى القدر. وأثبت الفعل حقيقة للعبد وقدّر الثواب والعقاب عليه وشدد في ذلك. وذكر الشهرستاني شعبة من اليودجانية كانت تسمى بـ: (الموشكانية) أتباع (موشكان) . وكان يوجب الخروج على مخالفيه ونصب القتال معهم. فخرج في تسعة عشر رجلاً فقتل بناحية (قم) بإيران. وذكر عن جماعة من الموشكانية أنهم أثبتوا نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم إلى العرب وسائر الناس سوى اليهود. لأنهم أهل ملّة وكتاب".اهـ. ومن اليودجانية طائفة تسمى بـ: (الشادجاينة) يتَزَعمها يافث بن عليّ. ويقول أتباعها بإسقاط الشعائر وأحكام النجاسة والطهارة طالماً شعب الله المختار يعيش مشرداً في البلاد. وفي غضون القرن العاشر الميلادي (سنة 938م) - في حكم الخلفاء العباسيين - تقلص أتباع اليودجانية وتجمعوا كلّهم تقريباً في مدينة أصفهان. ومالوا إلى التأثر بالمعتزلة من المسلمين. وما أن ظهرت فرقة اليهود القرائين حتى اتبعوها. (ر: دائرة المعارف 16/867، 868، الملل والنحل 1/216، 217، اعتقادات ص 83، الفكر الديني ص 244-246) .

مافي التوراةمما يظنه اليهودعلى ظاهره كالسبت وغيره إنماهي معانٍ وأسرارتشيرإلى مجيء مسيحهم يوزعان. 8- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تسمى البنيامية1 أصحاب بنيامين. موحدة غير أنها تعتقد أن لله تعالى [مضاداً] 2 يضاده. وهو فاعل الشّرّ غير أنه مخلوق من خلقه.

_ 1 البنيامينية (المقارية) (BENJAMINTES) :فرقة متشعبة من طائفة العنانية (القرائين) .وهم أتباع بنيامين بن موسى النهاوندي الفارسي. (830-860م) . الذي نادى بتعاليمه في أوائل القرن التاسع الميلادي. وهي في جملتها مستمدة من تعاليم (عنان) مع بعض المسائل التي خالفه بها متأثراً بالمعتزلة والفلاسفة. فقد قرر لأتباعه أن النصوص المتشابهات في التوراة كلّها لا مؤولة. فجعل الله روحانياً. ومن النقص في حقّه أن يتصل بالماديات إلى حد أنه أنكر أن يكون الله قد تولى عملية الخلق في صورة مباشرة. وبأن الله خلق الملائكة - وهم كائنات روحية - ليتولوا خلق هذا العالم المادي. كما قرر بنيامين بأن الله - لا يوصف بأوصاف، ولا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها. وبأن كلّ ما في التوراة وسائر الكتب من وصف الله تعالى بالكلام والاستواء ونحوه فإن المراد بذلك الوصف ملك عظيم خلقه الله وقدَّمه على جميع الخلائق واستخلفه عليهم. ويبدو لنا أن بنيامين كان متأثراً أيضاً بعقائد المغاربة أو أصحاب المغار وسيأتي الحديث عنهم. وقد انضم إلى نحلة بنيامين عدد كبير من القرائين. وعظمت مكانته بين أتباعه حتى رفعوه إلى مرتبة عنان. وقد عُرِفَ أتباعه أيضاً باسم (المقارية أو المقاريت) . (ر: دائرة المعارف 10/767، 768، الملل والنحل 1/217، 218، إفحام اليهود ص 171، الأسفار ص 72، 73، اليهودية ص 150، د. محمّد بحر) . 2 في ص، م (مضاد) والتصويب من المحقِّق.

9- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تسمى الملكية1. يقولون بالتوحيد غير أنهم يزعمون أن الذي خلق العالم ليس هو الله بل ملك من الملائكة أقدره الله على ذلك. قالوا: (2/43/أ) وهذا الملك هو الذي كلَّم موسى من الشجر وفلق له البحر، ورأس هذه الطائفة: "مالك الصيدلاني". من أهل الرملة2.

_ 1 الملكي (الرملية) (RAMILITES) : من الفرق المتشعبة عن طائفة القرائين وهم أتباع (مالك الرملي) الذي كان في منتصف القرن التاسع الميلادي. وكان متأثراً في آرائه بالسامريين. إذ كان مالك يعتقد - مثل السامريين - بأن عيد الحصاد أو عيد الأسابيع ويسمى عندهم بـ: (شبوعوت) لا تكون بدايته إلاّ في يوم الأحد. وقد اندثرت طائفة الملكية في نهاية القرن التاسع. وذابت ضمن الفرق الكبيرة من طائفة القرائين. وذكر المقريزي أن المالكية يزعمون أن الله تعالى لا يحيي يوم القيامة من الموتى إلاّ من احتج عليه بالرسل والكتب. (ر: دائرة المعارف اليهودية 10/766، 11/826، السامريون واليهود ص 188، 189، د. سيد فراج، الخطط 3/511) . 2 بلدة في فلسطين شمال شرقي القدس. (ر: المنجد في الأعلام ص 310) .

10- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة يعرفون بأصحاب المغار، وإنما سموا بذلك لأنهم صنفوا كتباً وتركوها في مغار وانقرضوا، فوجدت تلك الكتب وفيها تأويلات تخالف ما عليه اليهود1. 11- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة أخرى تعرف بالفارجية أصحاب يوحنا بن فارج2 وكان على زمن أمريا. كانوا يعبدون صنماً يقال له "بعل" ويقربون لنجوم السماء كما هو مذكور في نبوة أرمياً. ونزلوا أرض مصر وتكلموا باللسان القبطي. والتوراة والنبوات عندهم مترجمة بالقبطي، ولا يعرفون شيئاً من العبراني ألبتة.

_ 1 أصحاب المغار أو الكهوف (المغاربة) (MAGHARIYA) : ذكرت دائرة المعارف اليهودية 14/1088: "أن هذه الطائفة قد انقرضت في القرن الأوّل الميلادي - نقلاً عن العالم القرائي القرقشاني -. وبأنهم كانوا يحفظون كتبهم في كهوف التلال المحيطة بفلسطين. ومن أبرز الاختلافات العقائدية بينهم وبين بقية المجتمع اليهودي هو: اعتقادهم بتنْزِيه الإله وعدم اختلاطه بالمادة. ورفضوا القول أن العالم خلق مباشرة بواسطة الله. ولكنه خلق بواسطة قوة وسيطة (وهو الملك) مسؤول عن الخلق. وحل محله الإله في العالم المخلوق. ونسبوا الشريعة والاتصال الإلهي إلى الملك وليس إلى عزوجل. ويرى بعض المؤرخين بأن هذه الطائفة هي الفرقة المعروفة باسم (الأسينيين) نظراً لتشابه عقائدها وتاريخ انقراضها". اهـ. باختصار. 2 ورد في سفر أرميا أن اسم مؤسس هذه الطائفة هو: يوحانان بن قاريح - فعلى ذلك يكون الصواب في اسم هذه الطائفة هو: (القاريحية) - وهو أحد رؤساء سبط يهوذا من بني إسرائيل الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى. فعظموا الأصنام وقدموا لها القرابين. فسلط الله عليهم نبوخذ نصر فقتلهم وسبي أغلبهم إلى بابل. وكان يوحانان ممن بقي في فلسطين بعد السبي البابلي إلاّ أنه بعد ثورة أحد زعماء اليهود على الوالي المكلف من نبوخذ نصر. ومقتله فإن يوحانان ومن اتبعه أرادوا الفرار إلى مصر خوفاً من انتقام نبوخذ نصر، لكن نبيهم أرميا أخبرهم أن ذلك مخالف لإرادة الله الذي يأمرهم بالبقاء في فلسطين. فكذبوه وأخروا ما بقي من الشعب إلى مصر. وتنبأ أرميا بموتهم هناك. (ر: سفر أرميا الإصحاحات (40، 41، 42، 43، 44، قاموس ص 1105) . فهذه الطائفة التي يذكرها المؤلِّف من سلالة الشعب الذي سار مع يوحانان إلى مصر وتكلموا باللسان القبطي. والله أعلم.

وقال الشهرستاني1: "يهود الروم على مذهب الأشمعية العراقيين". 12- فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تعرف بالعيسوية2 أصحاب أبي عيسى الأصفهاني، وهم يعترفون بنبوة عيسى ومحمّد عليهما السلام غير أنهم يقولون: لم يرسلا / (2/43/ب) إلاّ لقومهما خاصة. ولم يؤمرا بنسخ شريعة موسى عليه السلام3. 13- فضيحة أخرى: من اليهود السامرة4 وهم طائفتان: طائفة تقر بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون لا غير. وتجحد نبوة من عداهم من النّبيّين. والطائفة الأخرى تعترف بنبوة كلّ من عدا عيسى ومحمّد عليهما

_ 1 هو أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني. كان إماماً في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة. يلقّب بالأفضل. ولد في شهرستان سنة 479هـ. وتوفي سنة 548هـ. (ر: ترجمته في طبقات الشافعية 4/78، شذرات الذهب 4/49، وفيات الأعيان 4/273، الأعلام للزركلي 6/215) . 2 في م: بالعيساوية. 3 ذكر ذلك عنهم أيضاً الباقلاني في التمهيد ص 189، وابن حزم في الفصل1/179، والرازي في اعتقادات فرق ص 83، وقد تقدم الحديث عن هذه الطائفة ر: ص532. 4 السامريون (SAMARITANS) : نسبة إلى مدينة السامرة القديمة التي يعيشون حولها والتي قامت على أنقاضها مدينة نابلس. وعرفوا أيضاً باسم (الشكميين) نسبة إلى مدينة شكيم (نابلس) . ويسميهم أعداؤهم من الطوائف اليهودية الأخرى باسم (الكوتيين) أي: المرتدين. ويزعم السامريون أنهم البقية على الدين الصحيح. وينتسبون إلى هارون عليه السلام، ويسمون أنفسهم بـ: (بني إسرائيل أو بني يوسف) . وأبرز مبادئهم الدينية ما يأتي: أ- الإيمان بإله واحد روحاني. وأن موسى خاتم الرسل. وأن جبل جريزيم هو القبلة الصحيحة الوحيدة لبني إسرائيل. ب- يؤمنون بالتوراة وسفر يوشع - لأن التوراة نصت على أنه خليفة موسى من بعده - وسفر الفضاة باعتباره سفراً تاريخياً، وينكرون ما عدا ذلك من أسفار العهد القديم والجديد. ونسخة التوراة التي يؤمنون بها تخالف النسخة التي بأيدي سائر اليهود. وتسمى توراتهم بـ: (التوراة السامرية) . جـ ينكرون كلّ الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى ويوشع عليهما السلام إلاّ أنهم ينتظرون المسيح المخلص لهم الذي يعلن عن مولده ظهور نجم يستمر طوال الوقت في سماء جريزيهم. وقد تقلص عدد أفراد هذه الطائفة فأصبحوا لا يزيدون عن بضع مئات فقط يعيشون جوار مدينة نابلس ولا يستحلون الخروج منها. (ر: دائرة المعارف اليهودية 14/725-758، تاريخ الإسرائيليين ص 122، السامريون واليهود د. سيد فرج راشد، قاموس ص 448-425، الملل والنحل 1/218، 219، تمهيد الأوائل ص 188، الفصل 1/177، 178، الفكر الديني ص 205-209، صبح الأعشى 13/268، للقلقشندي) .

السلام1. وتزعم أن المسيح لم يبعث بعد وأنه سيأتي. ولهم خط غير الخط العبراني. وآراء غير آراء اليهود. ويخالفون اليهود في القبلة ولا يصلون إلى صخرة بيت المقدس ويتوجهون في صلاتهم إلى جبل بالشام2 وإليه يحجون وهو قريب من نابلس. وهم الذين يقال لهم

_ 1 ذكر الشهرستاني أن السامرة افترقوا إلى فرقتين: الأولى: الدوستانية ومعناها: (الفرقة المتفرقة الكاذبة) ، وهم الألفانية (أتباع رجل يقال له الألفان، ادعى النّبوّة، وبأنه المسيح المنتظر) . وهذه الفرقة تنكر البعث وتزعم بأن الثواب والعقاب في الدنيا. (ولعل هذه الفرقة هي التي قصدها ابن حزم في الفصل 1/178، بقوله: إن السامرية لا يقرون بالبعث ألبتة) . الثانية: الكوستانية، ومعناها (الجماعة الصادقة) وهم يقرون بالآخرة والثواب والعقاب فيها. (ر: الملل والنحلل 1/218، 219) . وإن الباحثين المحدّثين مثل: د. حسن ظاظا، ود. سيد راشد، يذكرون بأن السامريين يؤمنون بيوم القيامة ويسمونه يوم البعث أو يوم الموقف العظيم، وذلك ناشيء من تأثر السامريين بالإسلام فيما يتعلق بيوم القيامة. والله أعلم. 2 وهو جبل (جرزيم) الذي يرتفع (700قدم) فوق مدينة نابلس. والاسم الثابت لهذا الجبل في التراث السامري هو: (جريزيم - بيت - إيل - لوزا) وبأن جنة عدن سوف تكون عليه. وبأنه البداية إلى السماء. (ر: قاموس ص 258، السامريون واليهود ص 131-133) .

: لا مساس. ويرون تحريم أكل ما مسَّه غيرهم1. واليهود تزعم أنهم ليسوا من بني إسرائيل2. وبالجملة فقد ذكر العلماء أن عدة فرق اليهود إحدى وسبعون فرقة3. وكلّ فرقة من هذه الفرق تضلل الأخرى وتُبدِّعها. والمعروف الآن منهم أربع فرق: فرقة تعرف بالقرائين. وفرقة تعرف بالربانيين. وفرقة تعرف بالعيسوية. وفرقة / (2/44/أ) تعرف بالسامرة.

_ 1 تذكر بعض المصادر الإسلامية طائفة السامرية باسم (الإمساسية) نسبة إلى أنهم يرون تحريم أكل ما مسّه غيرهم. وقيل: نسبة إلى السامري الذي صنع العجل لبني إسرائيل وزيَّن لهم عبادته في زمن موسى فعاقبه الله عزوجل: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ... } . [سورة طَه، الآية: 97] . (ر: الخطط 3/508، للمقريزي، صبح الأعشى 13/268 للقلقنشدي) . 2 يزعم اليهود أن السامريين جاؤوا من بابل. وأسكنهم ملك آشور مكان الأسباط العشرة من بني إسرائيل (في المملكة الشمالية) الذين أخذهم آشور سبياً إلى بابل. فامتلك القادمون الجدد السامرة واستوطنوا بها. ويعتمد أصحاب هذا الرأي على ما ورد في سفر الملوك الثاني الإصحاح (17) . أما المعتدلون من اليهود فيرون أن أصل السامريين يرجع إلى من بقي من اليهود الجهلة الضعفاء في فلسطين بعد السبي البابلي. (ر: دائرة المعارف العبرية المجلد العاشر المقال الخاص بالسامرة، نقلاً من الفكر الديني ص 207، د. ظاظا. السامريون واليهود ص 21-24. د. سيد راشد) . 3 ذكر ذلك الأسفرائيني في كتابه: التبصير في الدين ص 150، والشهرستاني في الملل 1/219، اعتماداً منهم على حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". أخرجه أبو داود 4/198، والترمذي 4/134، وابن ماجه 2/479، والحاكم 1/128، وأحمد 2/332. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحصح على شرط مسلم". ووافقه الذهبي. والألباني. (ر: الأحاديث الصحيحة 1/356-367، ح 203، 204) .

فأما هذه الفرق الأربع فيزعمون أنهم أهل توحيد لا يذكر بينهم اختلاف في ذلك. فأما القراؤون فمشبهة، وأما الربانيون فمعتزلة1، وأما العيسوية فتقرُّ بنبوة عيسى ومحمّد عليهما السلام، وأما السامرة فهم طائفتان كما تقدم. الكلام على اليهود: أما العيسوية المعترفون بنبوة محمّد عليه السلام ورسالته إلى العرب خاصة. فنقول لهم: إذا صدقتم محمّداً في قوله: (إنه نبي) لزمكم تصديقه في كلّ ما أخبر به، ومن جملة ما أخبر به أنه رسول الله إلى الناس أجمعين. قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم جَمِيعاً} . [سورة الأعراف، الآية:158] . فإن قالوا: (الناس) أهل مكة لا غير. إذ كلّ ما في كتابه من هذه الآي فهو مخاطب به أهل مكة، وما كان منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} . فالمخاطب به أهل المدينة. قلنا: لا نُسَلِّم لكم هذا التأويل. بل الناس المذكورون بالألف واللام لاستغراق جميع الناس من بني آدم. وقد أكَّده بقوله: {جَمِيعاً} ، والدليل على ذلك قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَلَ الفُرْقَانَ عَلَى2عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . [سورةالفرقان، الآية:1] .وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلْنَّاسِ} . [سورة سبأ، الآية: 28] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء، الآية:107] .

_ 1 قال الشهرستاني عن اليهو: "وأما القول بالقدر: فهم مختلفون فيه حسب اختلاف الفريقين في الإسلام. والربانيون كالمعتزلة فينا. (الذين يقولون بنفي القدر) والقراؤون كالجبرة والمشبهة (الذين ينفون الفعل حقيقة عن العبد ويضيفونه إلى الله تعالى) (ر: الملل والنحل ص 212) . 2 / (2/44/ب) .

وقد صحّ عنه عليه السلام أنه قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود" 1. يريد العربي والعجمي. وقد تواتر عنه عليه السلام أنه لم يختص بدعوته قوماً دون قوم، وأنه أرسل رسله إلى ملوك الأطراف والنواحي يدعوهم إلى دينه. والتواتر لا سبيل إلى ردّه. فمن صدَّقه عليه السلام في بعض أقواله لزمه تصديقه في جميع أقواله. وقد قتل عليه السلام المخالفين لملته من اليهود2 كما قتل موسى ويوشع وداود-عليهم السلام-من خالفهم من أهل الأديان، فهذا قولنا للعيسوية. فأما غير العيسوية فإنهم أنكروا النسخ، فمنهم من أنكره عقلاً، ومنهم من أنكره شرعاً. فالذين أنكروه عقلاً قالوا: يستحيل في العقل أن يتعبد الله عباده بشرع يأمرهم فيه بأمر في وقت ثم يأمر بنقيضه في وقت آخر. قالوا: وهذا هو البداء3. والبداءة لا يجوز إلاّ من جاهل بعواقب الأمور فأما الباري فلا يجوز منه ذلك. إذ الأمر الأوّل إن كان حقّاً / (2/45/أ) وحكمة فنقضه باطل وسفه وذلك لا

_ 1 أخرجه مسلم 1/371، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، والبخاري بلفظ: "وكان النبيّ يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة". (ر: فتح الباري 1/435، 436) . 2 كيهود بني قريظة، ويهود خيبر. (ر: السيرة لابن هشام 3/324-354، 455-468) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بِيَ أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلاّ كان من أصحاب النار". أخرجه مسلم 2/143. 3 قال الشهرستاني في الملل والنحل 1/148: "البداء له معانٍ: البداء في العلم: وهو أن يظهر له ما علم، ولا أظن عاقلاًيعتقد هذا الاعتقادفي الله عزوجل. والبداء في الإرادة: وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم. والبداء في الأمر: وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف لك. ومن لم يُجَوِّز النسخ ظنّ أن الأوامر المختلفة في الأوقات المختلفة متناسخة". اهـ. والفرق بين النسخ والبداء من وجهين: أحدهما: أن البداء: هو أن يأمر بالأمر والآمر لا يدري ما يؤول إليه الحال. والنسخ هو: أن يأمر بالأمر والآمر يدري أنه سيحيله في وقت كذا، ولا بدَّ قد سبق ذلك في علمه وحتمه من قضائه. والثاني: أن سبب النسخ لا يوجب إفساد الموجب لصحة الخطاب الأوّل، والبداء يكون سببه دالاً على إفساد الموجب لصحة الأمر الأوّل. مثل: أن يأمره بعمل يقصد به مطلوباً، فيتبيّن أن المطلوب لا يحصل بذلك الفعل فيبدو له ما يوجب الرجوع عنه. (ر: نواسخ القرآن ص 83، لابن الجوزي، الإحكام في أصول الأحكام 4/446 لابن حزم) .

يليق بالحكيم سبحانه. فالتزموا ردّ ما جاء من الناسخ بعد موسى عليه السلام. و1 إنكار شرع من كان قبله من شرائع الأنبياء فالتزموه. وقالوا: ليس قبل موسى نبيّ أصلاً. فردّوا نبوة شيث وإدريس ونوح وإبراهيم ولوط وغيره. وقالوا: أوّل الأنبياء موسى بن عمران عليه السلام. وزعموا أن الأنبياء أربعة و [عشرون] 2 نبيّاً أوّلهم موسى3. فيقال لهم: إذا كان إنما مستندكم تعاقل العقلاء وتعارفهم وقياس الغائب على الشاهد، فاعلموا أن السيد قد يأمر عبده في وقت بفعل وينهاه عنه في وقت آخر. لعلمه بمصلحته في إيقاع الفعل وتركه في الوقتين جميعاً. وكذلك الوالد قد يأمر ولده في أوّل نشوئه بتحصيل الفضائل، فإذا بلغ مبالغ الرجال واحتاج إلى ما لا بُدَّ له منه أمره بالكسب، ونهاه4 عما كان يأمره به أوّلاً لعلمه

_ 1 في ص م (وليفهم إنكار) ولعل حذف كلمة (ليفهم) موافق لسياق الكلام. 2 في ص م: (عشرين) والصواب ما أثبتّه. 3 يحتل موسى عليه السلام مكان الصدارة بين الأنبياء عند اليهود. ويقولون: إن كلّ معجزة لنبي جاء بعده - وهو على دين موسى ويدعو إليه - فهي كالمعجزة له. ويقول موسى بن ميمون في الأصل السابع من (الأصول الثلاثة عشر) التي جعلها ابن ميمون أركان الإيمان اليهودي: "أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن نبوة سيدنا موسى عليه السلام كانت حقّاً، وأنه كان أباً للأنبياء، من جاء منهم قبله، ومن جاء بعده". (ر: الفكر الديني اليهودي ص 134 د. ظاظا) ويبدو تأثر علامة اليهود في العصور الوسطى الإسلامية ابن ميمون طبيب الدولة الأيوبية - يبدو تأثره واضحاً بالعقائد الإسلامية في الأصول التي وضعها. ففي النّصّ السابق الاعتراف بنبوة الأنبياء السابقين على موسى عليه السلام مع أن التراث اليهودي يعتبرهم مجرد آباء للشعب الإسرائيلي. 4 ليست في م.

بمصلحته في الحالين. وكذلك الطبيب الماهر قد ينهى العليل في وقت عن الأغذية المقوية للمادة، ويأمره باستعمال اللطيف الذي لا / (2/45/ب) يخصب البدن ويزيد في المادة، فإذا نَقِه1 عاد فأمره بما كان ينهاه عنه لمعرفته بما يصلحه في الحالين. وقد عَلِمَ أوّلاً أنه سينهاه عما أمره به ويأمره بتناول ما نهاه عنه أوّلاً، وإذا كان ذلك حسناً من الوالد في ولده والطبيب في سقيمه، فما المانع أن يتعبد الله عباده في وقت بحكم يعلم أن مصلحتهم في التكليف به، ويطلق لهم الأمر من غير تقييد بمدة ليكون أدعى2 إلى المسارعة والامتثال، ثم يأمرهم في وقت آخر بترك تلك التكاليف واستعمال غيرها؛ لعلمه بكونها مصلحة لهم في ذلك الوقت، والشرائع مصالح للعباد. والله تعالى هو العالم بمصالح عباده على اختلاف أحوالهم وأوقاتهم! فما الذي جَوَّز ذلك للوالد والطبيب مع الجهل3 بالعاقبة، وأحاله4 من العَالِم بعواقب الأمور الذي لا يخفى عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء المدبِّر لعباده كما يشاء. {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ العَالِمِينَ} . [سورة الأعراف، الآية: 54] . واعلم أن النسخ لا يدخل على الأخبار؛ لأن المخبر عنه يصير كذباً، وإنما يدخل / (2/46/أ) على الأحكام؛ لاختلاف المصالح باختلاف أحوال المكلّفين واختلاف الأوقات. فهذا بيان جواز النسخ عقلاً5.

_ 1 نقه من مرضه نقهاً ونقوها: أي: صحّ وبرئ وفيه ضعف. (ر: القاموس ص1619) . 2 في م: إذعان. 3 في م: الجهد. 4 في م: وإحالته. 5 النسخ في اللغة: قد يطلق بمعنى الإزالة. ومنه يقال: نسخت الشمس الظلّ أي: أزالته. وقد يطلق بمعنى نقل الشيء وتحويله من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه. كنسخ الكتاب. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . [سورة الجاثية، الآية: 29] . وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. ودليل إثباته عقلاً، هو: أن التكليف لا يخلو أن يكون موقوفاً على مشيئة المُكَلِّق أو على مصحلة المُكَلّف. فإن كان الأوّل فلا يمتنع أن يريد تكليف العباد عبادة في مدة معلومة ثم يرفعها ويأمر بغيرها. وإن كان الثاني فجائز أن تكون المصلحة للعباد في فعل عبادة في زمان دون زمان. ويوضح هذا أنه قد جاز في العقل تكليف عبادة متناهية كصوم يوم، وهذا تكليف انقضى بانقضاء زمان. وأما عن الشبهة العقلية التي احتج بها المنكرون للنسخ، فنقول: بأننا لا نسلم بما قالوه إن النسخ يستلزم البداء على الله تعالى أو العبث، بل إن النسخ يكون لحكة معلومة لله تعالى الذي أحاط بكلّ شيء ولم تخف عليه، غاية الأمر أن مصالح العباد تتجدد بتجدد الأزمان وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وأسراره وحكمه سبحانه وتعالى لا تتناهى. فإذا نسخ الله تعالى حكماً بحكم لم يخل الحكم الثاني من حكمة جديدة غير حكمة الحكم الأوّل، وما يظهر في النسخ من جديد فإنما يعتبر جديداً بالنسبة لنا. أما بالنسبة لله عزوجل فقد سبق علمه المحيط الشامل وعليه فلا يستلزم نسخ الله تعالى لأحكامه البداء والعبث، وإنما هو كما قيل: تغير في المعلوم لا في العلم. (للتوسع ر: الداعي إلى الإسلام ص 319، وما بعدها، تمهيد الأوائل ص 212-217، نواسخ القرآن ص 80 لابن الجوزي، الإحكام 2/238-240، للآمدي، إظهار الحقّ ص 295-296، لرحمة الله، فتح المنان في نسخ القرآن ص 80-186، عليّ العريفي، النسخ بين الإثبات والنفي ص 40/132 د. محمّد فرغلي) .

فأما جوازه شرعاً فيستدل عليه من توراتهم التي يعتقدون صحّتها ليكون أفحم لهم وأقطع لعذرهم ونحن نثبت ما فيها من النسخ. والله الموفّق والمعين. فنقول: إن في توراتهم عدة مواضع تدل على تبدل الأحكام وذلك لاختلاف مصالح الأنام: الموضع الأوّل: قالت التوراة في السفر الأوّل يدعى سفر الخليقة: "إن الله تعالى خلق آدم وخلق من ضلعه حواء زوجه وبارك عليهما وقال: أنميا وأكثرا واملآ1 الأرض. وتسلطا على سمك البحور وطائر السماء والأنعام والدواب

_ 1 في م: واملاا.

وكلّ شيء على وجه الأرض، وقال لهما سبحانه: هائنذا1 قد أعطيتكما كلّ ما على وجه الأرض من شجر ودواب وعشب وطير من البحر والبر ليكون لمأكلكم"2. فهذا إخبار من الله أنه قد أباح لآدم وزوجه جميع الحيوان مطلقاً لمأكلهم، فهل ما أباحه الله لآدم مباح لكم / (2/46/ب) في شرع التوراة أم قد حرَّم عليكم كثيراً من ذلك؟!. وهَا هنا لا يحيرون جواباً ولا يجدون إلى الانفصال سبيلاً، فقد قال الله في التوراة لموسى وهارون: "قولا لبني إسرائيل لا تأكلوا من الأنعام التي على وجه الأرض إلاّ ما شقّ ظلفه وهو يجتر، الجمل حرام عليكم، والخنْزِير حرام، ولا تأكلوا من طير السماء النسر والحدأة والغراب، ولا أجناسهم، ولا البوم والعقعق والصعوة والرخمة وأجناسهم، ولا الهدهد والطاوس فهذا كله عليكم حرام"3. ومعلوم عندكم أن هذا مما أبيح لآدم وحواء بنصّ أوّل التوراة. فهل4 النسخ إلاّ أن يبيح الله الشيء على لسان نبيّ ثم يحرمه على لسان نبي آخر أو بالعكس. فكيف تقرأ اليهود ذلك ثم تكفر به؟! وإذا كفروا بما في أيديهم من كتب الله، كيف يطمع فيهم أن يؤمنوا بما ليس في أيديهم من عند الله؟!. الموضع الثّانيّ: قالت التوراة: "كان آدم يزوج بنيه من بناته بإذن الله له في ذلك"5. حُرم بعد ذلك6 فهذا نسخ / (2/47/أ) لشرع آدم نفسه. فإن قالوا: ذلك

_ 1 في م: ها أنا. 2 تكوين 1/27-30. 3 لاويين 11/1-18. 4 في م: فهذا. 5 سفر التكوين 4/17-22. 6 ورد تحريم ذلك في سفر اللاويين 18/9: "عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجاً لا تكشف عورتها ... ". و (ر: أيضاً سفر التثنية 27/22) .

لضرورة عدم اتساع الخلق. قلنا: قد كان الله تعالى قادراً على أن يخلق لهم أزواجاً ولا يحوجهم إلى وطء الأخوات. الموضع الثّالث: قالت التوراة: "جمع إسرائيل بين أختين في عصمته وهما1 ليئا وراحيل [ابنتا] 2 لابان"3. وإسرائيل نبي ثابت العصمة وهو عند اليهود والنصارى من الصالحين لا غير. وهو إسرائيل4 الله. ومنصبه يَجِل5 عن الإقدام على ما لا يحل ومن ظن به سوى ما ذكرناه فقد قدح فيه، ثم قالت التوراة في السفر الثالث منها: "لا تنكح المرأة على أختها فتغبطها وتجتلى عورتها في حياتها ولا يقترب من امرأة طامث في حيضها فمن فعل شيئاً من هذه النجاسات منكم أو ممن يقبل إلي ويسكن بينكم فلتبد تلك النفس"6. وهذا فاعلموا تحريم ما كان مباحاً لإسرائيل، ولا جواب لكم عن ذلك. الموضع الرّابع: "قال الله تعالى في التوراة: إبراهيم، قال: هائنذا يا رب. قال اذهب بابنك الذي تحبه فقربه لي قربانا / (2/47/ب) على أحد الجبال التي آمرك. فبكّر إبراهيم وذهب بالولد وبني مذبحاً وأوثق الولد ورفعه على المذبح وجذب السكين لينحره فناداه الملك: إبراهيم لا تذبحن الصبي فقد علم الله أنك تخشاه إذ لم تبخل عليه بولدك، ورفع إبراهيم بصره فرأى الكبش فذهب فأخذه ورفعه على المذبح"7. وهذا فاعلموا أنه لا معنى له غير النسخ

_ 1 في ص (هم) والتصويب من نسخة م. 2 في ص، م (ابنتي) والصواب ما أثبتّه. 3 تكوين 29/16-30. 4 تقدم التعليق على قول المؤلِّف بأن اليهود والنصارى لا يؤمنون بنبوة يعقوب عليه السلام. (ر: ص 432) . 5 في م: بحد. 6 لاويين 18/9. 7 تكوين 22/1-14، في سياق طويل.

أفتقولون - ويلكم - إن ذلك بداء من الله - تعالى عن كفركم علوّاً كبيراً -؟!. الموضع الخامس: الجمع في النكاح بين الحرّة والأمة. قد كان جائزاً في شرع يعقوب فجمع في عصمته بين حُرتين وأمتين1 ثم نسخته التوراة بعد ذلك فلم تجزه. الموضع السّادس: قالت التوراة: "قال الله تعالى لموسى: اخرج انت وشعبك من مصر ليرثوا الأرض المقدسة التي وعدت بها أباكم إبراهيم أن أُوَرِّثها نسله2. فلما صار بهم موسى في التيه - قالت التوراة - قال الله تعالى: لا تدخلوها/ (2/48/أ) أنتم لأنكم أغضبتموني"3.فلم يدخلوها هم ولا موسى وهارون ولم يدخلها أحد ممن خرج من مصر سوى رجلين: يوشع بن نون وكالاب4 بن يوفينا. وهذا نسخ لشرع موسى نفسه.

_ 1 سفر التكوين 30/1-9، وذكر بأن اسم الزوجتين الحرتين، هما: راحيا وليئة ابنتا لابان. واسم الأمتين هما: بلهة جارية راحيل، زلفة جارية ليئة. 2 سفر الخروج 33/1، 2. 3 سفر العدد الإصحاح (14) . 4 ورد في النّصّ أن اسمه: كالب: وهو اسم عبري معناه: كلب. وهو ابن يفئة. وكان رأساً لأحد آباء سبط يهوذا. وأحد الجواسيس الاثني عشر الذين أرسلهم موسى ليتجسسوا على أرض كنعان. وأحد أفراد الجماعة التي أقامها موسى قبل الدخول إلى أرض كنعان لتقسيم الأرض. وكان عمره 85 سنة لما تم الاستيلاء على أرض كنعان. (ر: قاموس ص 758) .

الموضع السّابع: قالت التوراة: "قال الله تعالى لموسى: تنح عن هذا الشعب الخبيث القلوب القاسي الرقاب. فإني أهلكه وأبيده عن جديد الأرض وأبدلك شبعاً خيراً منه. فلم يزل موسى يصلي ويشفع فيهم حتى عفا الله عنهم فلم يهلكهم ولم [يبدهم1] 2. وهذا نسخ. الموضع الثّامن: تحريم السبت3. وقد أقام الناس من لدن آدم إلى زمن موسى لم يُتعبَّدوا بتحريم الأعمال فيه. بل كانت الأعمال فيه مباحةً ثم حرِّمت على لسان موسى. ولولا إيثار الاختصار لتلونا عليكم من هذا الجنس [كثيراً] 4. فهذه نصوص التوراة تصرح بنسخ الأحكام وتبديل الحرام حلالاً والحلال حراماً. فمن أشد كفراً وأبين ضلالاً من قوم يقرؤون التوراة ثم يكفرون بها / (2/48/ب) بعد اعتقاد صحّتها وينسبون أنبياء الله إلى تعاطي المحرمات ولاستباحة الفروج بغير أمر الله؟! ومن قدح في أنبياء الله فقد كفر بالله. ولو كان اليهود أولي أحلام لما رَدُّوا النسخ واعتلوا بأنه بداء مع وصفهم الله تعالى بالندم والأسف وذلك أشد شناعة من البداء. فرووا5 في السفر الأوّل من توراتهم: "أن الله رأى ظلم الناس

_ 1 في ص، م (يبيدهم) والصواب ما أثبتّه. 2 سفر الخروج 32/9-15، يرى العلامة ابن حزم 1/181، أن ذلك ليس بنسخ فقد قال بعد ذكره للنّصّ السابق: "وهذا هو البداء - الذي هو أشد من النسخ - والكذب المنفيان عن الله تعالى. لأنه ذكر أن الله تعالى أنه سيهلكهم ويقدمه على غيرهم ثم لم يفعل. فهذا هو الكذب بعينه - تعالى الله عنه - " اهـ. (ر: الفصل 1/181) . 3 خروج 20/8-10، ونصّه: "اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرّبّ إلهك. لا تصنع عملاً ما أنت وابنك". 4 في ص، م (كثير) والصواب ما أثبتّه. 5 في م: وقرروا.

وشرّهم قد كثر على وجه الأرض فأسف الله إذ خلق آدم على الأرض فقال: لأزيلن ما على الأرض من البشر والأنعام والدواب وطير السماء؛ لأني قد ندمت على خلقي إيّاهم"1. فوصفوا ربّهم تعالى بالأسف والندم الدالين على غاية النقص والجهل بالعواقب ثم أنكروا النسخ وهو ضدّ البداء، إذ النسخ أمر بمصالح العباد في أوقاتهم وأحوالهم. وقد حكوا في توراتهم ما هو أقبح من البداء صريحاً فرووا في السِّفر الأوّل من التوراة: "أنه لما نظر بنو الله بنات الناس حساناً ونكحوا منهم ما أحبوا قال الله: لا تسكن الروح بعدها في بشر ولتكن أيامهم مائة وعشرين سنة"2. / (2/49/أ) فهذا إخبار من الله أنه لا يعمر بشراً أكثر من مائة وعشرين سنة ولا يسكن الروح في بشر، ثم نصت التوراة بعد هذا القول أن أرفخشد عاش من بعد ما ولد له شالح أربعمائة وثلاث سنين3. وعاش رعوا من بعد ما ولد ساروج مائتي سنة وسبع سنين4. وعاش إبراهيم مائة سنة [وخمساً وسبعين] 5 سنة6. وعاش إسحاق مائة سنة وثمان سنة7. وجماعة كثيرة عُمّروا أعماراً تزيد على ما حكوه عن الله تعالى. وهذا أشدّ من البداء لأنه كذب في الأخبار. وإذا كان هذا [جائزاً] 8 عندكم معشر اليهود فكيف تمنعون النسخ وتتعللون9 بأنه بداء من الله؟!!.

_ 1 تكوين 6/5-13. 2 تكوين 6/1-3. 3 تكوين 11/10-13، وفيه أن اسمه: (أرفكشاد) ، وهو ابن سام بن نوح عليه السلام. 4 تكوين 11/20، 21، وهو رعو بين فالج بن عابر بن شالح بن أرفكشاد. 5 في ص (خمس وسبعون) والصواب ما أثبتّه. 6 تكوين 25/7. 7 تكوين 35/28. 8 في ص (جائز) والصواب ما أثبتّه. 9 في م: وتتقولون.

وقد جاء في قصة [حزقيا] 1 ملك يهوذا "أنه مرض فأوحى الله إلى أشعيا النبي عليه السلام أن قل لحزقيا يوصي فإنه ميت من علته هذه، فدخل عليه أشعيا وأخبره بوحي الله إليه في شأنه. فاستقبل حزقيا الجدار وبكى وتضرع إلى الله فنَزل الوحي على أشعيا النبي قبل خروجه من الدار يقول له، إن جزقيا يقوم من علته وينْزل إلى الهيكل / (2/49/ب) بعد ثلاثة أيام وأنه قد زيد في عمره خمس2 عشرة سنة"3. وإذا كانت كتب اليهود وتشهد بمثل هذه الأشياء لم يلتفت إليهم بعدها في ردّ النسخ. هذا وقد ابتدأ الله تعالى العالم بعد أن لم يكن وفرض تكاليف بعد أن لم تَجِب وأحدث أموراً ولم يدل ذلك على البداء، وقد نقل سبحانه عباده من حال إلى حال ومن صحة إلى سقم ومن حياة إلى موت ولم يدل على البداء. وكذلك نقلهم من جنس من التكاليف إلى جنس آخر لا يدلّ على البداء، وكأنه سبحانه يأمر عباده بالأمر فيتمرنوا عليه المدة الطويلة حتى يصير عندهم من قبيل الاعتياد، فيأمرهم بتركه والتزام سواه اختباراً لهم وامتحاناً لطاعتهم له. وهل امتثالهم لأمره طاعة محضة أو عادة مستصحبة4. وكلّ ذلك منه حسن. فلا يدل شيء من ذلك على البداء والاستدراك. فإذا وردت العبارة مطلقة بلفظ يوهم التأبيد ثم نسخت تَبَيَّنَّا5 أن المراد بها وقت دون وقت. وقد تمسكت اليهود بقول التوراة: "تمسكوا بالسبت أبدا الدهر"6. (2/50/أ) فظنوا أنّ ذلك للتأبيد، وأن لفظه نصّ لا يحتمل التأويل،

_ 1 في ص، م: حزقيال، والتصويب من النّصّ. وحزقيا: تقدمت ترجمته. (ر: ص 377) . 2 في م: عشر. 3 سفر أشعيا 38/1-5. 4 في م: مستطحبه. 5 في م: بينا. 6 سفر الخروج 31/16، 17.

وقالوا: أمرت التوراة بقتل من أحل السبت وجوز فيه الأعمال1. قالوا: وقد أحدث سلفنا في السب حدثاً فمسخوا. واعلم أنّهم لما ألزموا بما في التوراة والنبوات من الأحكام التي نسخت وتجدد غيرها عدلوا إلى هذه اللفظة، وليس كما ذهبوا إليه إذ قوله: "تمسكوا بالسبت أبد الدهر" يحتمل صلة محذوفة وهي: "ما لم يأتكم نبيّ يأمركم بحِلِّه". والدليل على هذا الاحتمال أنه لو قرن بآخر الكلام وسيق معه لم يتناقض ولم ينب عنه وإذ كان الكلام يقبله حملناه عليه إذ نبوة عيسى ومحمّد لا سبيل إلى ردّها. وقول التوراة إن صحّ يمكن تخصيصه، فواجب أن يُخَصَّ لضرورة الجمع بين أقوال الصادقين حتى لا تقع المعارضة بين الأدلة القطعية، فتحريم العمل في السبت حكم من جملة الأحكام التكليفية فنسخه كنسخ سائر الأحكام. والدليل على أن قوله: "تمسكوا بالسبت أبد الدهر" / (2/50/ب) ليس للتأبيد بل لدهر مخصوص وزمان مؤقت، قول التوراة: "قال الله تعالى لنوح لما كثرت خطايا البشر: لا تسكن روحي2 في البشر إلى الدهر"3 - ثم قال بعد ذلك لموسى عليه السلام: "يعمل لك قبة الزمان [بصلئيل] 4 الذي من سبط يهودا5 الذي ملأته روح الله بالعلم والحكمة". - وقال أيضاً -: "كذلك في رفيقه الذي من سبط دان"6. وهما من البشر. فوضع أن لفظة الدهر لا تقتضي التأبيد.

_ 1 سفر الخروج 31/15، سفر 15/32-36. 2 في م: روح. 3 تكوين 6/3. 4 في ص، م (بصل إلي) والتصويب من النّصّ. 5 في م: اليهود. 6 خروج 31/1، 2، 6، 35/30-35.

وفي نبوة حزقيال أيضا: "إن الله تعالى قال له: تنبأ على هذه العظام وأنا أبث روحي فيهم فيحيون، ففعل"1. فقد سكنت روح الله في البشر. وفي التوراة: "إن الله تعالى قال لإبراهيم: إن أرض الشام له ولذريته من بعده أبد الدهر"2. في عدة مواضع من التوراة. وذلك لا يتقاضى إلاّ دهراً مخصوصاً بدليل خروجها من أيديهم3. فلم يرد سبحانه إلاّ المدة التي أقامت في أيديهم. وقالت التوراة: "إن الله تعالى قال لموسى: اصنع قبة الزمان ومن صفتها كيت وكيت وليلبس هارون ثياباً للتكهن من صورتها كذا وكذا للدهر"4. وليس بقاء القبة ولا هارون / (2/51/أ) مؤبداً.

_ 1 سفر حزقيال 37/1-10. 2 ورد النّصّ في سفر التكوين 17/8، كالآتي: "وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كلّ أرض كنعان ملكاً أبدياً". وتكرر في نفس السفر 13/14-17، 15/18-21. إلاّ أن هذا الوعد من الله كان مشروطاً بالإيمان والطاعة لله عزوجل. والتمسك بشرائعه وفرائضه. فستحقه من آمن بالله وطبق شريعته، ويحرم منه من أشرك مع الله آلهة أخرى أو كذب بأنبيائه ونقض العهد والميثاق. فحينئذٍ تحل عليه اللعنة والغضب من الله كما ورد ذلك في سفر اللاويين 26/1-46، في سياق طويل جداً. كما أن هذا الوعد مع إبراهيم عليه السلام كان بعد ميلاد إسماعيل وقبل ميلاد يعقوب - عليهما السلام -. فالسياق يدل إذن على أن المراد بالوعد هو إسماعيل عليه السلام وذريته من بعده. 3 فقد أخرجهم الآشوريون إلى بابل سنة 72 ق. م. (ر: سفر الملوك الثاني 17/6) . وأخرجهم كذلك نبوخذ نصر البابلي سنة 587 ق. م. (ر: المرجع السّابق 25/7، وسفر أخبار الأيام الثاني 36/5-21) . وقد كان ذلك عقاباً لهم من الله عزوجل لكفرهم بالله وعبادتهم الأصنام وقتلهم الأنبياء ونقضهم الميثاق وفسادهم في الأرض. فكتب الله عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله, فتشردوا في أنحاء العالم. وفي ذلك ردّ على ما يروجه اليهود ويخدعون به الناس، بأن الله تعالى قد أعطى أجدادهم وعداً أن يمنحهم أرض كنعان (فلسطين) كما يقول بيجن: إن هذه الأرض أعطيت لنا وعداً. ولنا عليها حقّ. (للتوسع ر: فلسطين أرض الرسالات الإلهية - رجاء جاروري ص 241-257، اليهودية د. أحمد شلبي ص 90-92) . 4 سفر الخروج الإصحاحات (25، 26، 27، 29، 30) .

وقالت التوراة في السِّفر الربع منها لموسى: "اصنع قرنين من فضة تستعين بهما على الدعوة للرحلة، فإذا نفخ فيهما اجتمع [بنو] 1 إسرائيل عند قبة الزمان [وبنو] 2 هارون هم الذين يهللون بالقرون ولتكن هذه سنة لكم إلى الدهر"3. وليس ذلك للتأبيد بل لدهر مخصوص. فثبت بذلك أن الذي وعد به إبراهيم من تمليك ولده الأرض مخصوص به ولد يعقوب في ذلك الدهر الذي انقضى ومضى ثم قد زالت من أيديهم وزال ملكهم عنها. وإذ قد ثبت بهذه النصوص أن لفظ: (الدهر) لا يقتضي التأبيد في سكنى روح الله في البشر ولا في ملك الأرض ولا في لباس هارون الثياب وضربه بالقرون للرحيل بل لدهر مخصوص في علم الله. فكذلك لفظ الدهر في تحريم السبت. وهذا هو أقوى ما تمسك به اليهود في تأبيد تحريم السبت ولا جواب لهم عما ألزمناهم من نصوص توراتهم. وأما احتجاجهم بمسخ من مسخ من أسلافهم قردة وخنازير، فذلك لتعديهم في السبت قبل نسخه إذ كانوا مكلّفين في ترك الأعمال فيه / (2/51/ب) فلما دلسوا على الله وخالفوا أمره وارتكبوا نهيه مع بقاء حرمته عاقبهم بالمسخ4، فلما

_ 1 و (2) في ص، م (بنوا) والصواب ما أثبتّه. 3 سفر العدد 10/1-8. 4 قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . [سورة الأعراف، الآية: 163-166] . وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . [سورة المائدة، الآية: 60] .

بعث الله نبيّه المسيح ابن مريم عليه السلام نسخ السبت وأباح الأعمال فيه1، وغيَّر كثيراً من الأحكام وآمن طوائف من اليهود بالمسيح عليه السلام وتركوا السبت فلم يُنسبوا بعد إلى عدوان ولم يمسخوا.

_ 1 عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضلّ الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد. فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد. وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة. نحن الآخرون من أهل الدنيا والأوّلون يوم القيامة. المقضي لهم قبل الخلائق". أخرجه مسلم 2/586، والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: "ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا، والنصارى بعد غد". (ر: فتح الباري 2/354) . قال ابن بطال: "ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل - والله أعلم - أنه فرض عليهم يوم من الجمعة وُكِّل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أيّ الأيام هو، ولم يهتدوا ليوم الجمعة". اهـ. ومال عياض إلى هذا ورجّحه. وقال النووي: "يمكن أن يكونوا أمروا به صريحاً، فاختلفوا هل يلزم تعيّه أم يسوغ إبداله بيوم آخر؟ فاجتهدوا في ذلك فأخطأو". ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} . قال: "أرادوا الجمعة فأخطأوا وأخذوا السبت مكانه، ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والصارى في ذلك" (ر: فتح الباري 2/355، شرج النووي لصحيح مسلم 6/143، 144) . وعلى هذا فإن المسيح عليه السلام لم يمر أتباعه بتقديس يوم الأحد بدلاً من السبت. (ر: هدية الحياري ص 265) . لأنه كان متّبعاً شريعة موسى عليه السلام. وقد كانت رسالة عيسى عليه السلام كما قال عزوجل وحكاية عن عيسى: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ... } . [سورة آل عمران، الآية: 50] . إنما ينسب إلى بولس استبدال السبت بالأحد عند النصارى فيما ورد من تعاليمه في رسالته الأولى إلى كورنثوس 16/1-2، وهذا الاستبدال من الانحرافات التي أحدثها بولس في دين المسيح كما سبق بيانه. (ر: ص: 100) . ومما يدلّ على تحريف النصارى واستبدالهم السبت بالأحد هو ما ذكرته أناجيلهم من أن المسيح كان يعظم السبت وبأنه كان يذهب إلى المجامع للصلاة في السبت. (ر: لوقا 4/16) . ويقول مؤلِّفو قاموس الكتاب المقدس ص 454، 455: "إن المسيحيين الأوّلين قد قدسوا يوم السبت، ولكن يوم الأحد حلَّ تدريجياً محل يوم السبت، فقد جعلت قيامة ربّنا (أي: قيامة المسيح من الموت) . قيمة خاصة ليوم الأحد. وفي قرار المجمع المسيحي الأوّل لم يفرض قادة الكنيسة الأولى حفظ يوم السبت اليهودي.... وقد كانت هناك جماعة من المسيحيين يعتقدون بأن عليهم أن يحفظوا يوم السبت لا يوم الأحد. وقد كان بعض المسيحيين الأوّلين يحفظون كلاً من السبت اليهودي ويوم الرّبّ المسيحي (الأحد) ، واستمر مدة أربعة قرون ثم انتهى أمره بعد أن منعه مجمع خلقدونية الكنسي في عام 364م. ويخبرنا تاريخ الكنيسة أنها حفظت يوم الأحد بناء على أوامر الرسل، حيث يقول جستينوس: نجتمع سوية يوم الأحد، لأنه اليوم الأوّل الذي فيه غيَّر الله الظلمة إلى نور. والعدم إلى وجود، وفي هذا اليوم قام مخلصنا يسوع المسيح من الأموات. وشهد اثناسيوس الإسكندري: أن الله قد غيَّر يوم السبت إلى يوم الأحد". اهـ. بتصرف.

فقد ثبت جواز النسخ عقلاً ودللنا على وقوعه شرعاً واننقطعت معاذير اليهود1. - والله ربّنا المحمود 14- فضيحة أخرى: زعم اليهود: "أن روح الله قبل خلقه العالم كانت ترفرف على المياه"2. انظر - عافاك الله - إلى سوء هذا التعبير وسماجته، كأنهم يعتقدون أن حياة الباري تزايله وتفارق ذاته. فإن قالوا: إنما عنينا أن المياه كانت مصونة بحفظه عن الضياع. قلنا لهم: فليس للمياه اختصاص بذلك فهلا قلتم: وصان الله المياه وحفظها كي لا تضيع، ولِمَ استعملتم هذا اللفظ الموهم الموجب للالتباس، القاضي بالفكر الرديء والوسواس؟!

_ 1 ر: في إثبات انسخ وإلزام اليهود والنصارى بذلك: إفحام اليهود ص 86-102، للسموأل المغربي، مقامع هامات الصلبان ص 265-267، لأبي عبيدة الخزرجي، التمهيد ص 204-219، للباقلاني، الداعي إلى الإسلام ص 319-340، للأنباري، إغاثة اللهفان ص 646-652، لابن القيم، إظهار الحقّ ص 295-313، لرحمة الله. وغيرها. 2 سفر التكوين 1/2. وقد ورد في السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم 1/18، تفسير النّصّ كالآتي: "وروح الله يرف على وجه المياه، أو ريح الله، وأكثر مفسري اليهود يفسّرون الروح هنا بريح عظيمة من الله واعتاد العبرانيّون أن ينسبوا إلى الله ما يريدون تعظيمه، وعلى هذا، ذهب جماعة من علماء التفسير إلى أنّ المقصود (بالروح) هنا: ريح عظيمة بدد الله بها ظلمات الغمر والخلو". اهـ. ويقول الفيلسوف اليهودي سبينوزا في: (رسالة اللاهوت والسياسة ص: 135-138) : "تدلّ كلمة (رواه) في معناه الأصلي على الريح كما هو معروف، ولكنها تستعمل أيضاً في كثير من الأحيان بمعانٍ أخرى مشتقة من المعنى الجأول، فتقول مثلاً: 1- نسمة. 2- نفخ أو تنفس. 3- الشجاعة أو القوة. 4- الصفة أو القدرة. 5- الرأي أو الفكرة إلى غير ذلك - ثم يقول: وهكذا يسهل علينا تفسير كلّ نصوص الكتاب التي يرد فيها ذكر روح الله، فعبارة (روح الله) أو روح (يهوه) لا تعني في بعض النصوص إلاّ ريحاً قويّة جافة عاتية، كما في سفر التكوين 1/2". اهـ.

15- فضيحة أخرى: زعم اليهود أنّ الله تعالى حين أكمل خلقة العالم قال: / (1/52/أ) "تعالوا حتى نخلق بشراً شبهنا ومثالنا فخلق آدم"1. فلذلك اعتق كثير من اليهود التجسيم، فقال: إن الله في صورة آدمي وأنه شيخ أبيض الرأس واللحية وأنه جالس على كرسي والملائكة قيام بين يديه والكتب تقرأ بحضرته2 - والويل لليهود - من أين الله [شبه ومثال؟!] 3. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] .

_ 1 تكوين 1/26. 2 ورد ذلك التجسيم في سفر دانيال 7/107 كالآتي: "كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي. وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة. نهر نار جرى وخرج من قدامه. ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدامه. فجلس الدين وفتحت الأسفار". كما ورد في التلمود أن الله - تعالى عما يقولون علوّاً كبيراً - يطالع الشريعة (التوارة) في الساعات الثلاث الأولى من النهار، وبأنه لا شغل لله في الليل غير تعلمه التلمود مع الملائكة ومع ملك الشياطين". (ر: الكنْزالمرصودفي قواعدالتلمود ص55) . فهذا التصور المنحرف لليهود للذات الإلهية العلية ناشئ من تأثرهم بالوثنية التي كانوا تحت سلطتها في السبي البابلي. وللمادية التي طغت على نفوسهم وتحكّمت في تصوراتهم. 3 في ص، م (شبها ومثالا) والصواب ما أثبتّه.

16- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الباري لما خلق الخلق في ستة أيام استراح في اليوم السابع1. واعتقدوا بغلط2 أفهامهم أن الباري يعتوره التعب والنصب، وربما نُقل عن بعض اليهود أن الباري في اليوم السابع استلقى على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى. وهذه الزيادة لم أقف عليها في نسخ التوراة غير أنها قد نقلت عن بعضهم3. ولست أبعد من عقولهم اعتقادها والبوح بها. 17- فضيحة أخرى: زعم اليهود: "أن الله تعالى قال لآدم وحواء: إنكما في اليوم الذي تأكلان فيه من الشجرة التي نيتكما عنها [تموتان] 4 موتاً"5. وذلك من الكذب الفاحش على الله فإن التوراة تشهد إنهما / (2/52/ب) عاشا بعد الأكل دهراً حتى رزقا الأولاد ورأيا فيهم البر والفاجر6. واليهود تزعم أن الجنة لا أكل فيها ولا شراب7. وهذا الموضع يكذبهم. وقد قررت ذلك في مسألة مفردة أثبت فيها اشتمال الجنة على أصناف من الملاذ من الأكل والشراب والنكاح8.

_ 1 ورد ذلك في سفر التكوين 2/1-3. وقد ردّ الله عزوجل على زعمهم الكاذب بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . [سورة ق، الآية: 38] . قال قتادة: "قالت اليهود - عليهم لعائن الله - خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة. فأنْزل الله تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه". (ر: تفسير ابن كثير 4/245) . 2 في م: بلغط. 3 نقل الشهرستاني ذلك عنهم. فقال: "اجتمعت اليهود عن آخرهم على أن الله تعالى لما فرغ من خلق السماوات والأرض استوى على عرشه مستلقياً على فقاه، واضعاً إحدى رجليه على الأخرى". (ر: الملل النحل 1/219) . 4 في ص، م (تموتا) والصواب ما أثبتّه. 5 تكوين 2/17. 6 تكوين 4/1، 2، 25. 7 في م: ولا شرب. 8 ر: ص: 112، 113.

18- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن نمرود1 لما بنى الصرح وشيَّده نزلالباري إلى الأرض حتى هدمه وحال بين نمرود2 وبين ما أراد من ذلك. واليهود كثيراً ما يطلقون في توراتهم نزول الباري فكأنما يعجزون الله تعالى عن القدرة على ما أراد حتى يصفونه بالحركة والانتقال والتفريغ والاشتغال. وذلك كلّه من صفات المحدثين ويتعالى عن ذلك ربّ العالمين. أين هذا من ألفاظ الكتاب العزيز حيث يقول: {فَأَتَى الله بُنْيَاهُم مِّن القَوَاعِد} 3. وقوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} 4. 19- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن إبراهيم حين مرت به الملائكة لهلاك سدوم وعامورا مدائن لوط عليه السلام أضافهم وأطعمهم / (2/53/أ) خبزاً ولحماً وسقاهم سمناً ولبناً ولما باتوا عند لوط عشاهم فطيراً5. وذلك جهل عظيم إذ اعتقدوا أن الملائكة شأنهم شأن الآدميين يتناولون ما يتناوله الآدميون من الأغذية. وتلك أجسام روحانية إنما غذاؤها وقوت أرواحها جنس آخر روحاني لا يعرفه اليهود.

_ 1 نمرود: ابن كوش بن حام، صياد جبار وملك قدير. وربما كان هو نفسه جلجاميشي الأكادي أو البابلي. (ر: قاموس ص 978) . 2 تكوين 11/1-9. 3 قال تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} . [سورة النحل، الآية: 26] . 4 قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} . [سورة القصص، الآية: 81] . 5 تكوين 18/1-8.

وقد قال أهل الكتاب: "إن المؤمنين في الجنان لا يأكلون ولا يشربون بل يكون حالهم عند الله كحال الملائكة". فكيف ناقضوا هَاهنا فزعموا أن الملائكة أكلت الطعام وشربت الشراب. وبهذا التحريف وشبهه تعلم أن أهل الكتاب ليس بأيديهم من كتب أنبيائهم إلاّ الرسوم1. وقد قال الكتاب العزيز: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُم لاَ تَصِلُ إِلَيهِ نَكِرَهُم وَأَوْجَسَ مِنْهُم خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ} . [سورة هود، الآية: 70] . وذلك كناية عن عدم الأكل ويشبه أن يكون الملائكة وضعوا أيديهم على الطعام وتقدموا به إلى الفقراء وأبناء السبيل. 20- فضيحة أخرى: زعم اليهود - أبعدهم الله - أنّ نبيّ الله لوطاً لما2 تقدم / (2/53/ب) الله إليه بالخروج من تلك القرية الظالمة لم يسارع إلى الخروج وتباطأ في الامتثال. حتى جعل الملائكة يدفعون في ظهره دفعاً عنيفاً حتى أخرجوه كرهاً3. والأنبياء محاشون عن عوارض الشكوك فيما يأمر به الله سبحانه - أعوذ بالله من القد في عصم الأنبياء والتشبه بأمثال اليهود الأغبياء. 21- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن نبيّ الله إبراهيم حين حضرته الوفاة وأشرف على القدوم على الله تعالى، ورّث ماله كلّه إسحاق ولده وحرّم

_ 1 مفرده: الرّسم. وهو الأثرأوبقيته، أو ما لا خص له من الآثار. (ر: القاموس ص1438) . 2 ليست في م. 3 تكوين 19/15-22. ونصّه: "ولما طلع الفجر كان الملكان يعجلان لوطاً قائلين: قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة. ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرّبّ عليه أخرجاه ووضعاه خارج المدينة".

باقي أولاده1. فنسبوه - وهو خليل الله - إلى جهل وحيف يتَنَزه عنه جهال الصبيان وقد قال خاتم النّبيين: "إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"2.

_ 1 سفر التكوين 25/5، 8. ونصّه: "وأعطى إبراهيم إسحاق كلّ ما كان له. وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه إلى أرض المشرق وهو بعد حيّ. وهذه أيام سني حياة إبراهيم التي عاشها مئة وخمس وسبعون سنة. وأسلم إبراهيم روحه ومات بشيبة صالحة شيخاً ... ". إن ما نسبه اليهود إلى إبراهيم عليه السلام من محاباة ابنه إسحاق وتفضيله على سائر إخوته في توزيع ممتلكاته-ليتسنى لليهود الادعاء بأنهم الصفوة المختارة من البشر والموعودون بالبركة من الله-يخالف قانون الوراثة المذكورة في سفر التثنية 21/15-17. ونصّه: "إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة، فولدتا له بنين المحبوبة والمكروهة. فإن كان الابن البكر للمكروهة فيوم يُقسّم لبنيه ما كان له. لا يحل له أن يقدّم ابن المحبوبة بكراً على ابن المكروهة البكر. بل يعرف ابن المكروهة بكراً ليعطيه نصيب اثنين من كلّ ما يوجد عنده. لأنه هو أوّل قدرته. له حقّ البكورية". بناء عليه فإ، حقّ إسماعيل عليه السلام في الميراث حقّ شرعي وعادل باعتباره الابن البكر الشرعي لإبراهيم. إذ إن إسماعيل يكبر إسحاق بأربع عشرة سنة. فمن المعلوم من التوراة أن هاجر ولدت إسماعيل وعمر إبراهيم 86 سنة. (تكوين 16/16) . ولكن عندما ولدت سارة إسحاق كان عمر إبراهيم 100 سنة. (تكوين 21/5) وهذا يدل على أن إسماعيل الابن البكر لإبراهيم. فإن كان هناك إرث لإبراهيم عليه السلام-كم يزعم اليود-فلإسماعيل الحقّ في الضعف مما يأخذه أولاد إبراهيم ومن بينهم إسحاق عليه السلام. وإلاّ فإن حقيقة الأمر كما أخبرنا به الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: "بأنا معاشر الأنبياء لا يورثون، وأنّ ما تركوه فهو صدقة". فإن الميراث القحيقي للأنبياء هو علم الشريعة والوحي الإلهي فقد ورد في الحديث: "إن العلماء ورثة الأنبياء، ورّثوا العلم. من أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ". أخرجه أبو داود 4/57، وبن ماجه. (صحيح ابن ماجه للألباني 1/43) ، والترمذي 5/47، 48، وأحمد 5/196، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. 2 أخرجه أحمد في مسنده 2/463، والبخاري في كتاب الفرائض باب (2) . (ر: فتح الباري 12/5-7) ، ومسلم 3/1379-1383، الترمذي في سننه 4/157، 158، وفي الشمائل ص 314، وأبو داود 3/142، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "لا نورث ما تركناه صدقة".

22- فضيحة أخرى: زعم اليهود أنّ نبيّ الله يعقوب احتال على أبيه وقد كذب عليه قولاً وفعلاً وأوهمه أنه العيص1 ولده إذ كان إسحاق يحب العيص أكثر من يعقوب. وأنه لبس حلة أخيه العيص وجعل على ذراعيه وعنقه جلد ماعز حتى ذهب بدعوة [إسحاق] 2 التي ادّخرها3 للعيص فتمّت حيلته على أبيه ونجحت مكيدته وأن / (2/54/أ) إسحاق لما عرف حقيقة الحال تعجب من ذلك. وقال: "ليت شعري من هذا الذي ذهب بدعوتي"4. والأنبياء وأولادهم منَزّهون عن الكذب5 والتدليس وسائر الكبائر وعن كلّ ما يجر إليهم جرحاً أو يقتضي قدحاً. والعجب أن اليهود يظنّون أن هذه حيلة على إسحاق وهي في الحقيقة على الله عزوجل.

_ 1 ورد في التوراة أن اسمه: (عيسو) ومعناه: (شَعَر) . وهو توأم يعقوب وبكر أبناء إسحاق. لأنه خرج أوّلاً، وتزعم التوراة المحرفة أن يعقوب قد اشترى البكورية من عيسو بحصن عدس. وبأنه سكن جبل سعير وذريته من بعده. (سفر التكوين الإصحاحات (25-35) ، قاموس ص 649) . 2 إضافة يقتضيها السياق. ولعلّها سقطت من الناسخ. والله أعلم. 3 في م: ادخروا. 4 تكوين 27/1-33، في سياق طويل وقد ذكره المؤلِّف مختصراً. 5 اتّفقت الأمة الإسلامية على أن الأنبياء معصومون في التبليغ عن الله عزوجل، وعن ارتكاب الكبائر من الذنوب. أما غير الأنبياء فإنهم ليسوا معصومين ولو كانوا أبناء الأنبياء أو أولياء الله. فهذا ابن نوح عليه السلام يعصي ربه وأباه. قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِي قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ... } . [سورة هود، الآية:42-47] . وهؤلاء أبناء يعقوب عليه السلام وأخوة يوسف عليه السلام قد حالوا قتل يوسف حسداً من أنفسهم ثم كذبوا على أبيهم يعقوب عليه السلام واحتالوا عليه وقصتهم مبسوطة في سورة يوسف.

23- فضيحة أخرى1: زعم اليهود أن الذبيح هو إسحاق وليس هو إسماعيل2، فأكذبهم التواتر وسخر منهم البادي والحاضر، وذلك أن التواتر يشهد بأن الذبح والنحر إنما هو بمنى وهي موطن إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام -. ولم تزل قرون الكبش - كبش إسماعيل - معلقة في جوف الكعبة إلى أيام ابن3 الزبير فاحترقت في فتنة الحجاج4 بن يوسف5.

_ 1 نقل المؤلِّف هذه الفضيحة من كتاب مقامع هامات الصلبان. (ر: ص 247) لأبي عبيدة الخزرجي. 2 سفر التكوين الإصحاح (22) . 3 هو الصحابي المعروف عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه. توفي سنة 74هـ. وله ثلاثة وثلاثون حديثاً. 4 هو: الحجاج بن يوسف الثقفي. كان ظلوماً. سفاكاً للدماء. ذا شجاعة ومكر ودهاء وفصاحة وبلاغة. رمى الكعبة بالمنجنيق. مات بواسط سنة 95هـ. قال الإمام الذهبي في ترجمة الحجاج: "فَنَسُبُّه ولا نحبه. بل نبغضه في الله. فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان. وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه. وأمره إلى الله. وله توحيد في الجملة. ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء". اهـ. (ر: ترجمته في: سير أعلام النبلاء 4/243، تهذيب التهذيب 2/210، الأعلام 2/168) . 5 قال الإمام أحمد في منسده 5/380: "ثنا سفيان ثنا منصور عن حاله مسافح عن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم ولّدت عامة أهل دارنا قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة - وقالت مرة - إنها سألت عثمان: لِمَ دعاك النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما. فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي. قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش في البيت حتى احترق البيت فاحترقا". اهـ. قلت: إسناده صحيح. فإن صفية بنت شيبة صحابية - رضي الله عنها -. (ر: التقريب 2/603) . قال الإمام ابن كثير: "وكذا روي عن أن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقاً عند ميزاب الكعبة قد يبس وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل. لأنه كان هو المقيم بمكة. إسحاق لا نعلم أنه قدمها في حال صغر. (ر: قصص الأنبياء، ص 143) .

والدليل على أن الذبيح إسماعيل وأن القصة كانت قبل أن يولد إسحاق قول التوراة: "إن إبراهيم لما أهوى بالسكين إلى نحر ولده ناداه الملك: إبراهيم، إبراهيم قد علمت أنك تخشى الله حيث لم تمنعه ابنك وحيدك"1. وهذا من أدلّ الدليل على أنه إسماعيل. فإن قالوا: فقد / (2/54/ب) نصت التوراة على أنه إسحاق. قلنا: ذلك من تحريفكم. والدليل على كذبكم قوله: "ابنك وحيدك" فلو قلنا: إنه إسحاق لكان قوله: "وحيدك" باطلاً. وكيف يكون إسحاق واحده وابنه إسماعيل أكبر منه؟! 2. فليس واحده سوى إسماعيل. وقد نقلنا التواتر ومن خالف المتواتر فهو مخصوم به. تابع للباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النّصارى واليهود 24- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى لما رأى معاصي بني آدم قد كثرت على الأرض، قال: لقد ندمت إذ خلقت آدم. فأرسل ماء الطوفان وأباد ما على الأرض من الحيوان3 وزعموا أنه لما فعل ذلك ندم أيضاً وقال: لا أعود أفعل ذلك. وذلك مذكور في سفر الخليقة4 من توارتهم، فقبح الله هذه الأحلام التي تترفع5 عن أمثالها الأنعام. وهل خفي عن علام الغيوب ما سيقترفه العباد ويجري في مستقبل الزمان من الصلاح أو الفساد؟. وإنما يتصور الندم والأسف

_ 1 تكوين 22/10-12) . 2 لقد ظلّ إسماعيل الابن البكر الوحيد لإبراهيم - عليهما السلام - مدة أربع سنة إلى أن ولد إسحاق عليه السلام. والدليل على ذلك ما ورد في سفر التكوين 16/16: "كان أبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام". وفي نفسه السفر 21/5: "وكان إبراهيم ابن مئة سنة حين ولد له إسحاق ابنه". إذن فالوحيد لدى إبراهيم هو إسماعيل - وهو الذبيح - وهو يكبر إسحاق - عليهم السلام - بأربع عشرة سنة. 3 في م: الحياة. 4 سفر التكوين 6/5-13، 7/6، 8/21. 5 في م: يرتفع.

من الجهل بعواقب الأمور، والباري تعالى عالم بالخفيات محيط بجزئيات ما فات وما هو آت. 25- فضيحة أخرى: / (2/55/أ) زعم اليهود أن الذي وسوس لآدم وحواء حتى أكلا من الشجرة ليس هو إبليس وإنما هي الحية1. قالوا: وكانت أحكم الدواب. فأما إبليس فلا يعتقدون بوجوده وليس له في توراتهم ذكر ألبتة2. والله تعالى يقول: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَان} . [سورة الأعراف، الآية: 20] .

_ 1 ورد ذلك في سفر التكوين 3/1-7. 2 لم يرد في التوراة المحرفة ذكر إبليس اللعين. ولكن ورد الشيطان في بعض أسفار العهد القديم كسفر أخبار الأيام الأوّل 21/1، وسفر أيوب 1/6، ومزمور 109/6. أما قول المؤلِّف بأن اليهود لا يعتقدون وجود إبليس، فإنه يحمل على اعتقاد فرقة الصدوقيين من اليهود التي تنكر وجود الملائكة والشياطين. وتنكر التلمود أيضاً. أما جمهور اليهود من الرّبّانيين ونحوهم، فإنهم يثبتون وجود الشيطان. حيث إنه مذكور في نصوص كثيرة من كتاب التلمود الذي يقدسونه. ومن تلك النصوص: - أن الله خلق الشياطين في غسق يوم الجمعة. ولم يخلق لهم أجساداً أو ملابس لأن يوم السبت كان قريباً. فما كان لديه الوقت لعمل كلّ ذلك؟!!. وفي رواية أخرى أن الله لم يخلق لهم أجساداً عقاباً لهم لأنهم كانوا يريدون أن يخلق الإنسان بدون جسد!!!. وبأن الشياطين على أنواع: فبعضهم مخلوق من مركب مائي وناري. وبعضهم من الهواء. وبعضهم من الطين. أما أرواحهم فمخلوقة من مادة موجودة تحت القمر. وبعض الشياطين من نسل آدم ... (ر: الكنْز المرصود في قواعد التلمود ص 60-63. د. روهلنج. همجية التعاليم الصهيونية ص 36-43، بولس حنا مسعد. اليهودية ص 144 د. محمّد بحر عبد المجيد) .

والنصارى وهم أفخاذ منهم يخالفونهم في ذلك ويثبتونه ويعتقدون وجوده، وذكره في الأناجيل كثير1. 26- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن نوحاً عليه السلام نام في خيمته فكشف الريح عورته فضحك منه ابنه حام فدعا عليه وعلى عقبه2. وذلك من ترهات العوام وخرافات العجائز، فجعله اليهود قرآنا يتلى في المحاريب.

_ 1 ورد ذكر الشيطان في الأناجيل وبقية الأسفار العهد الجديد مرات كثيرة منها: متى 4/10، 9/33، 11/18، مرقس 1/13، 3/26، لوقا 4/33، 8/29، يوحنا 6/70، 7/20، أعمال الرسل 5/3، رسالة إلى رومية 16/20، وغير ذلك. ويعتقد النصارى أن الشيطان كائن حقيقي. وهو أعلى شأناً من الإنسان ورئيس رتبة من الأرواح النجسة. وبأن نهايته أن يعذب أبد الآبدين. (ر: قاموس ص 533-535) . 2 ورد النّصّ في سفر التكوين 9/20-27، كالآتي: "وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافها ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما. ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمر علم ما فعل له ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته. وقال مبارك الرّبّ إله سام وليكن كنعان عبدا لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدا لهم". إن هذه القصة من افتراءات بني إسرائيل على أنبياء الله تعالى واتهامهم بارتكاب الكبائر. وتفضح عنصرية اليهود البغيضة حيث قصدوا بهذه القصة اللعنة إلى الكنعانيين سكان فلسطين قبل اليهود. ونسبوا أنفسهم إلى سام وادعوا اختصاصهم بذلك ليتسنى لهم ادعاء حقّ السيطرة على الكنعانيين وأرضهم فلسطين. - ولنا على هذه القصة المكذوبة عدة ملاحظات تفضح افتراءها، منها: - كيف يلام حام وهو لم يفعل شيئاً يستحق اللوم عليه إضافة إلى أنه كان طفلاً صغيراً ... ؟. - وكيف يلعن نوح كنعان بن حام - الذي سيولد بعد 20 سنة؟ -. فما ذنب كنعان؟.. كيف يتحمل ذنب أبيه - إن كان لأبيه ذنب؟.

27- فضيحة أخرى: زعم اليهود-أخزاهم الله-أن نبي الله لوطاً لما نجاه الله من عذاب سدوم، سكن كهف جبل. ومعه ابنتاه اللتان سلمتا من أهله. فلما استقر بهم الحال قالت إحداهما للأخرى: هلمي نسقي أبانا الخمر حتى إذا سكر ضاجعناه وأقمنا من أبينا نسلا. وأنهما فعلتا ذلك فوطئهما لوط فحملتا منه بولدين/ (2/55/ب) وهما مؤاب وعمون1. أبعد الله اليهود، كيف يحسن أن يبتلي الله من اصطفاه وارتضاه لرسالته بهذه الكبيرة؟ وكيف يحميه بالأمس ويهتك ستره اليوم؟ فأيّ فائدة في نشر هذه الفاحشة وتخليدها الكتب ليقرع بها الأنبياء قرناً بعد قرن وحقباً بعد حقب؟ 2. الله أكرم من ذلك.

_ 1 ورد ذلك في سفر التكوين 19/30-38. و (مؤاب) فإليه ينسب المؤابيون أو بنو مؤاب وسكنوا في القسم الشرقي من البحر الميت. وأما (عمون) فينسب إليه بنو عمون الذين سكنوا في الشمال بجبال جلعاد بين نهري أرنون ويبوق. وقد كان المؤابيون وبنو عمون في صراع مستمر مع بني إسرائيل. (ر: قاموس ص640، 928) . 2 علق المهتدي السموأل المغربي - الذي كان يهودياً فأسلم - على هذه الفضيحة بقوله: "ومما يؤكّد استحالة ذلك، أنهم زعموا أن ابنته فعلت كذلك به في الليلة الثانية فعلقت أيضاً. وهذا ممتنع مع المشائخ الكبار أن يعلق من أحدهم في ليلة ويعلق منه أيضاً في الليلة الثانية. إلاّ أن العداوة التي ما زالت بين (بني عمون ومؤاب) وبين بني إسرائيل؛ بعث واضع هذا النّصّ على تلفيق هذا المحال ليكون أعظم الأخبار فحشا في حقّ بني عمون وبني مؤاب ... وأيضاً فإن عندهم أن موسى جعل الإمامة في الهارونيين فلما ولى طالوت وثقلت وطأته على الهارونيين وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم انتقل الأمر إلى داود. بقي في نفوس الهارونيين. التشوق إلى الأمر الذي زال عنهم. وكان عزرا هذا خادماً لملك الفرس حظيا لديه. فتوصل إلى بناء بيت القدس وعمل لهم هذه التوراة التي بأيديهم. فلما كان هارونيا كره أن يتولى عليهم في الدولة الثانية داودياً. فأضاف في التوراة فصلين طاعنين في نسب داود. أحدهما: قصة بنات لوط. والآخر: قصة ثامار. ولقد بلغ - لعمري - غرضه. فإن الدولة الثانية التي كانت لهم في بيت المقدس لم يملك عليهم فيها داوديون بل كانت ملوكهم هارونيين". اهـ. (ر: إفحام اليهود ص 151، 152، ونقله القرافي في الأجوبة الفاخرة ص 81) .

28- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن رؤبيل1 بكر يعقوب من ولده. زنى بسرية أبيه يعقوب وافتراشها2. وأن أباه يعقوب لما حضر أجله ودنت وفاته قرّع رؤبيل ابنه بذلك وعَيّره بين إخوته وقال له: يا رؤبيل حقاً لقد نجست فراشي وامتهنته فلذلك لست أعطيك السهم الزائد3. قالوا: وكان من سنة إبراهيم أن يرث الولد البكر سهمين من الميراث وغيره يرث سهماً واحداً4. فأي فائدة وأي حكمة في نقل هذه الفاحشة يُعيّر بها سبط عظيم من الأسباط؟ ومآثر الآباء مفاخر الأبناء. وهاهنا حَرْفٌ يتبيّن به كذب اليهود في توريث إبراهيم إسحاق / ماله كله وحرمان إسماعيل5. وهو أن سُنَّة إبراهيم توريث البكر من الأولاد سهمين. فكيف حرموه الميراث؟ هل ذلك من اليهود إلاّ غفلة وجهالة بما في أيديهم من كتب الله. 29- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن يهوذا6 بن يعقوب زنى بكنتّه ثامار7 ورهنها على ذلك خاتمه وعصاه. وأنها حملت منه واشتهرت قصته وقصتها في بني إسرائيل وصارا بذلك شهرة8. هذا مع حظوته عند أبيه

_ 1 في النّصّ (رأوبي) : اسم عبري معناه: (هوذا ابن) وهو بكسر يعقوب ولدته ليئة. وإليه ينسب أحد أسباط إسرائيل الاثني عشر وهو سبط رأوبين. (ر: قاموس ص 393) . 2 تكوين 35/21، 22. 3 تكوين 49/3-5. 4 تثنية 21/17. 5 تقدم التعليق على ذلك. (ر: ص 399) . 6 يهوذا: اسم عبري معناه: (حمد) وهو رابع أبناء يعقوب عليه السلام من ليئة. وأعطي هذا الاسم بسبب أم أمه شكرت الله عند ولادته. ولا يذكر العهد القديم شيئاً كثيراً عنه. (قاموس ص 1085) . 7 ثامار: اسم عبري منعاه: (نخلة) وهي زوجة (عير) بكر يهوذا. ولما توفي عير أعطيت زوجته لأخيه (أونان) الذي مات أيضاً عاجلاً لشره. (ر: قاموس ص 233) . 8 تكوين الإصحاح (38) .

ودعائه له بتخليد الملك والنبوة في عقبه حتى يأتي محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم1. فأي فخر في ذلك وأي فضل يودعوه التوراة ويعظموه تعظيم الوحي والتّنْزيل جيلا بعد جيل؟!. 30- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن دينا2 بنة يعقوب خرجت وهي عذارء فرآها مشرك من عبدة الأوثان وهو سحيم بن خمون3 رئيس القرية فوقع عليها وافترعها، وأزال بكارتها، وأنْزل العار بأبيها نبيّ الله يعقوب، وأن حمور أباه جاء إلى بني يعقوب وتنصل وآمن والتزم أحكامهم هو وجميع أهل القربة. وأن بني يعقوب قالوا: لأهل القرية. إن أحببتم / (2/56/ب) الاستنان بسنتنا والدخول في ديننا فاختتنوا لنصير شعبا واحداً، ومكروا بهم واحتالوا عليهم. فلما اختتن كل من في القرية دخلوا عليهم فوجاً وهم بالسلاح وهم لا يستطيعون الدفع عن أنفسهم وقتلوهم عن بكرة أبيهم وانتهبوا أموالهم وحريمهم. وأن يعقوب لما انتهت إليه القصة قال لنيه: أنا رجل قليل العدد. الساعة يميل عليّ أهل هذه القرى والشعوب فيبيدوا [حضرائي] 4 وأنه اتخذ الليل جملاً فأصبح ولا أثر له بتلك البلاد5. فحكموا على أولاد نبي الله يعقوب بأنهم قتلوا المؤمنين وأبادوا

_ 1 ونصّه كما في سفر التكوين 49/8-10: "يهوذا إياك يحمد إخوتك. يدك على قفا أعدائك. يجسد لك بنو أبيك. يهوذا جرو أسد. من فريسة صعدت يا ابني. جثا وربض كأسد وكلبوة من ينهضه. ولا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب". 2 في م: لينا. وفي النسخ المتداولة من التوراة (دينه) وهو اسم عبري معناه: (دينونة) . وهي الابنة الوحيدة ليعقوب عليه السلام من زوجته ليئة. (ر: قاموس ص 383) . 3 ورد اسمه في التوراة (شكيم بن حمور الحوي) وكان أميراً لمدينة شكيم (نابلس) . 4 وفي نص التوراة: "فأبيد أنا وبيتي". 5 تكوين الإصحاح (34) .

الموحدين وانتهبوا الأموال الحرام. ونحن نورك1 على اليهود في نقل هذه الأحاديث عن الأنبياء وأولاد2 الأنبياء. 31- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن يعقوب عند منصرفه من حران3 طالبا بلاده تصارع مع الملك فغلبه يعقوب وتألم ورك يعقوب حين دنا منه الملك. وأن الملك بقي في يد يعقوب مقهوراً حتى قال له: دعني وأباركك4. فلهذا لا يأكل اليهود عرق الفخذ5. وربما قال بعض جهال اليهود: "إن الذي / (2/57/أ) صارعه يعقوب هو الله - تعالى الله عن جهلهم علواً كبيراً - وأستغفره من حكاية أقوالهم. 32- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى نزل إلى الجنة ومشى فيها حين كلّم6 آدم. وأنه تعالى نزل إلى الأرض حتى أنقذ بني إسرائيل من

_ 1 في م: نورد. 2 في م: وأبناء. 3 حران: مدينة بين النهرين على نهر بليخ وهوفرع للفرات. وتقع على مسافة 280. ميلا إلى الشمال الشرقي من دمشق. (ر: قاموس ص 281) . 4 تكوين 22/24-32. 5 في م: العجل. وقد ورد في نفس السفر 32/32. ما يأتي: "لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا الذي على حقّ الفخذ إلى هذا اليوم. لأنه ضرب حقّ فخذ يعقوب لى عرق النسا". وتصحيح هذا التحريف الواقع في توراتهم، فما أخرجه الحاكم 1/292، وابن جرير في تفسيره 4/4، عن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إسرائيل أخذه عرق النساء، فكان يبيت وله زقاء. فجعل إن شفاه الله ألا يأكل لحماً في عروق. قال: فحرمته اليهود. فنَزلت الآية: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلاّ مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ..} . [سورة آل عمران، الآية: 93] . قال الحاكم:"حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".ووافقه الذهبي. وقال به ابن جريج والعوفي والضحاك والسدي. (ر: تفسيرابن كثير1/390) .والله أعلم. 6 في م: كلمه. وقد ورد النّصّ في تكوين 3/7-19.

سحرة فرعون1. وأنه نزل إلى الأرض عندما كلم موسى من شجرة العليق2. وأنه نزل عندما كلم إبراهيم وبشره بالولد3. وأنه نزل حتى بلبل ألسن نمرود وقومه ومعهم من بنمء الصرح4. وكلّ ذلك جهل منهم بأن الباري يتقدس عن الحركات والتنقل في الجهات. فظنوا أن سماع آدم ونوح وإبراهيم وموسى كلام الباري من الجنة وشجرة العليق يقتضي الحلول أو يوجب على الباري الصعود أو النُّزُول5. 33- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن هارون ومريم أخته وقعا في موسى وتناولوه وجرى بينهم شرّ وتحاسد. وأن مريم عابت على موسى نكاحه امرأة سوداء. وأنهما قالا له: أتظن أن الله تعالى إنكما كلمك وحدك كلمنا نحن أيضاً. قال اليهود فنَزل الله تعالى [إلى] 6 قبة / (2/57/ب) الزمان ودعا هارون ومريم وتوعدهما. وبرَّص مريم فصارت برصاء من ساعتها7. وكذب اليهود هذا ما لا يبتلى به أمثال هؤلاء الأعلام. إذ الحسد مرغمة لمقدور8 الله وهو كبيرة لا تجوز على الأنبياء. وهارون نبي ثابت العصمة.

_ 1 خروج 14/19-24. 2 خروج 3/2-4. 3 تكوين 18/1-23. 4 تكوين 11/1-9. 5 تقدم بيان مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك. ر: ص 458. 6 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم. 7 ورد ذلك في سفر العدد 12/1-10. 8 في م: لقدور.

ومريم لا خلاف بين أهل الكتاب في نبوتها1. فصدور الكبائر منهم تخرم الثقة بهم والطمأنينة إليهم. فلعن الله اليهود ما أكثر ما يتناولون أنبياء الله قتلاً وقذفاً. 34- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن أسلافهم الذين شاهدوا الآيات مع موسى عندما خرجوا من البحر. قال لهم موسى: ادخلوا الأرض المقدسة التي وعدكم الله بها على لسان أبيكم إبراهيم. وأنهم أبوا عليه وخالفوا أمره2. قال الله عزوجل حكاية عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخَلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُون} . [سورة المائدة، الآية: 24] . وقال بعضهم لبعض: هلم فلنول علينا ولاة ويؤمر كلّ سبط رجلاً عليه وندع موسى ونرجع إلى مصر فقد كان الموت بين يدي فرعون [خيراً] 3 لنا من الدخول إلى الأرض التي وعدنا بها4. وهذا / (2/58/أ) مع ما شاهدوا من الآيات وعاينوا من العبر والمعجزات. فإن صدقوا في نقلهم فبئس السلف سلفهم. وإن كذبوا عليهم فبئس الخلف خلفهم.

_ 1 يقول الحاخام سيجال في كتابه حول تاريخ الأنبياء عند بني إسرائيل ص 79: "نجد أن مريم - أخت موسى - تتزعم جوقة النساء في أنشودة بمصاحبة الدفوف والرقص قد سميت نبية. (خروج 15/20، 21) لأنها في عملها هذا كانت تقوم بما يقوم به الأنبياء. فهي إذن قد تنبأت. ومن هناك يتأكد لنا أن التغني بالأناشيد بمصاحة آلات الموسيقي والرقص كان من عمل الأنبياء". اهـ. نقول: لعن الله اليهود الذين يقذفون أنبياءهم بالفحشاء والمنكر. ليكون ذلك ذريعة لهم في ارتكاب الفحشاء والمنكر. وهذا من خبث نفوسهم ورداءة طبائعهم. فلا غرو أن كانوا من المغضوب عليهم في الدنيا والآخرة. وقد تقدم ذكر الراجح عند المسلمين بعدم صحّة نبوة النساء. 2 سفر العدد إصحاح (13، 14) . 3 في ص، م (خير) والصواب ما أثبتّه. 4 سفر العدد، إصحاح (13، 14) .

35- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى حين أراد قتل أبكار فرعون وجنوده قال لموسى: مُرْ بني إسرائيل أن يذبحوا حملاً وينضحون من دمه على أبواب دورهم حتى إذا جزت الليلة في أرض مصر ورأيت الدم عرفت أبوابكم من أبواب المصريين كيلا أهلككم معهم1. كأنهم يعتقدون أن الباري تعالى لا يرى إلاّ بإمارة ولا يعلم إلاّ بإشارة. {أَلاَ يَعْلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير} . [سورة الملك، الآية: 14] . 36- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن موسى عليه السلام لما جاء لميقات ربّه واستخلف هارون على قومه وأمره بإصلاح أحوالهم ونهاه عن اتباع سبيل من أفسد منهم خالف موسى في ذلك واتّخذ لهم عجلاً وأمرهم بعبادته2. وذلك مردود عليهم بما حكاه دانيال نبي الله في نبوته3؛ إذ قال: إن الذي صنع العجل لبني إسرائيل حتى عبدوه هو ميخا / (2/58/ب) السامري وكان آباؤه يعبدون البقر فاستتابه موسى ونفاه إلى الشام4. فالسامرة بالشام أكثر منهم بغيرها. وذلك موافق للكتاب العزيز حيث يقول: { ... وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} . [سورة طَه، الآية: 85] .

_ 1 خروج 12/12، 13. 2 خروج 32/1-6. 3 لم أجد في سفر دانيال النّصّ الذي ذكره المؤلِّف. 4 أخرج ابن جرير في تفسيره 1/282 عن ابن إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: وكان السامري رجلاً من أهل باجرما. وكان من قوم يعبدون البقر. وكان حبيبة عبادة البقر في نفسه. وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل ... وكان اسم السامري موسى بن ظفر. وقع في أرض مصر فدخل في بني سرائيل.

{فَأَخْرَجَ لَهُم عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ... } . [سورة طَه، الآية: 88] . وإلاّ فكيف يحسن بهارون نبي الله وخليفة موسى صفيه، أن ينتدبه موسى لإصلاح1 فيدعو إلى الكفر الصراح؟!. 37- فضيحة أخرى: عبدت اليهود الكواكب والأصنام وقربوا لها القرابين وعاقروا الزنى وموسى بين أظهرهم حيّ فبينما هم مجتمعون إذ هجم (زمري) 2 رجل من قبيلة شمعون على بغي من البغايا يقال لها كشتي3 ابنة صور ففجر بها بحضرة الجمع. فضربهم الله بموت الفجأة فقتل منهم في يوم واحد أربعة وعشرين ألفا، كما شهد بذلك الإصحاح الثامن عشر من السفر الرابع من توراتهم4. 38- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن موسى عند خروجه ببني إسرائيل من مصر قال لهم: استعيروا حليّ المصريين عارية. فلما فعلوا واستعاروا حلي المصريين القوم وثيابهم / (2/59/أ) أمرهم موسى أن يهربوا بها ويغصبوها. وقال: هذه أجرة سخرتكم. فلبسوها وذهبوا ليلا5. ومعلوم أنهم لا أجرة لهم على الأيتام والأرامل والمستضعفين من أهل مصر بل على فرعون وذويه الذين استوفوا منافعهم. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمَرُكُم أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} . [سورة النساء، الآية: 58] . وقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين المشركين كما فعل موسى غير أنه ترك من أهل بيته من أدّى

_ 1 في م: (سد به موسى للاصاح) . 2 ورد في النّصّ أن اسمه: زمري بن سالور - رئيس بيت أب من الشمعونيين. 3 ورد النّصّ أن اسمها: كزبي بنت صور. 4 ورد ذلك في سفر العدد 25/1-15. 5 خروج 11/1-3، 12/35-37.

الودائع إلى أربابهاولم يخلل بأمانته صلى الله عليه وسلم1. 39- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى أمرهم بالربا في التوراة وأباحه لهم. فلذلك استحلوه. وقالوا: لم يحرم علينا إلاّ فيما بيننا فقط2. وقد أخبر الكتاب العزيز عنهم بذلك فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا

_ 1 قال ابن إسحاق: "ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلاّ عليّ بن أبي طالب وأبو بكر الصدّيق وآل أبي بكر. أما عليّ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، - فيما بلغني - أخبره وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلاّ وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانه صلى الله عليه وسلم". (ر: السيرة 2/142) ، ونقله البيهقي عن ابن إسحاق في الدلائل 2/464. 2 ورد ذلك في التوراة المحرفة سفر الخروج 25/22، كالآتي: "إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي. لا تضعوا عليه ربا" وكذلك في سفر اللاويين 25/35-37. وورد في سفر التثنية 23/19، 20: "لا تقرض أخاك بربا. ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرّبّ إلهك ... ". وبناء على هذه النصوص المحرفة فق احترف اليهود الربا منذ العصور الأولى واعتبروه مهنة لهم ووضعوا لها النصوص المتعددة. فقد جاء في التلمود التأكيد على أنه غير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلاّ بالرّبا. (الكنْز المرصود ص 87-89) . ولكن نظرا لما جبل عليه اليهود من حبّ المال فإنهم تحايلوا - وتلك سجية فيهم - حتى على تحريم الربا فيما بينهم فيقول د. حسن ظاظا: "إنه جاء في المادة 585 من المجموعة القانونية التي ترجمها دي بولي، تقييد تحريم الربا بما يعطيه اليهودي من قرض لأخيه اليهودي ليواجه به ضرورات ملحة لا قبل له باحتمالها". "أما إذا اقترض اليهودي نقداً من يهودي آخر بقصد الاستثمار أو الوسع في التجارة أو تنفيذ بعض المشروعات التي تدر ريعاً. فإن الذي يقرضه المال يمكنه أن يفرض عليه نصيباًفي الأرباح يتفق عليه" (ر: الفكرالديني اليهودي ص196) . وقد بيّن الله افتراء اليهود وتحريفهم التوراة بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ... } . [سورة البقرة، الآية:275، 276] . ففي هذه الآية وما بعدها الرّدّ على المشركين وغيرهم. لما قالوا: إنما البيع مثل الربا. وهذا يفيد بأن البيع كان حلالاً قبل الإسلام. وبأن الربا كان حراماً قبل الإسلام. وأكّد الله تعالى تحريم الربا بخصوصه وأنه كان حراماً على اليهود وهم يتعاطونه؛ بقوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . [سورة النساء، الآية: 161] .

لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأَمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكَذبَ وَهُم يَعْلَمُون} . [سورة آل عمران، الآية: 75] 1. 40- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى أمرهم أن يبنوا له قبة ينْزلها إذا سافر معهم وأنه اقترح عليهم صفتها فبنوها له على النعت الذي طلبه2. قالوا: فكان موسى / (2/59/ب) إذا أراد الرحيل قال: انهض إلينا يا رب لنكبِّتَ شانئيك. قالوا: فكان الباري جل اسمه يظعن بظعنهم ويقيم بإقامتهم3. وزعموا أن الله تعالى أبى مرة أن يسير معهم وقال: اظعنوا أنتم؛ فإني لا أظعن أنا بل أنا أبعث معكم ملكاً يغفر ذنوبكم4. وهذه الأقاويل تؤذن باستخفافهم بالله عزوجل. 41- فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى قال لإبراهيم: إن بني إسرائيل تستعبد بأرض مصر أربعمائة سنة5. وقد تضمنت توراتهم ذلك. ولا خلاف عند متأخريهم ومتقدميهم أن بني إسرائيل لم تستعبد بمصر سوى مائتي سنة وخمس عشرة سنة. ذكر ذلك محرور بن قصطنطين المنبجي أسقف منبج. وذلك خلف عظيم6.

_ 1 روى ابن جرير في تفسيره 3/318، عن قتادة رحمه الله في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ} . قال: "ليس علينا في المشركين سبيل. يعنون: من ليس من أهل الكتاب". اهـ. وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . أي: وقد اختلفوا هذه المقالة وائتفكوها بهذه الضلالة؛ فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلاّ بحقّها، وإنما هم قوم بهت. (ر: تفسير ابن كثير 1/382) . 2 سفر الخروج الإصحاحات (23، 25، 40) . 3 ورد ذلك في سفر العدد 10/33-36. 4 ورد ذلك في سفر الخروج 33/1-5. 5 تكوين 15/13، 14، خروج 12، 40، 41. 6 سيأتي تفصيل هذا الخطأ التاريخي الواضح. (: ص 584، 585) .

42- إخبار الله تعالى بما يؤول أمر اليهود إليه من الكفر والعناد وسلوك سبل الضلال والفساد: ذكرت التوراة في أواخر السفر الخامس منها: "أن الله تعالى قال لموسى: أنت ميت ومنتقل إلى أبائك وأن هذا الشعب - يعني بني إسرائيل - سيضل ويتبع آلهة أخرى من آلهة الشعوب التي تُعبد من دوني / (2/60/أ) ويخالفني ويترك عهدي الذي عهدت فيشتد غضبي عليهم. وأخذلهم وأدير وجهي عنهم وأجعلهم مأكلا لأعدائهم وأنزل بهم شرّاً شديداً وغماً طويلاً"1. قال المؤلِّف: قد أخبر الله تعالى عنهم بذلك؛ فجاء الأمر2 كما أخبر سبحانه فكفروا وضلوا وعبدوا الأوثان والأصنام وقربوا القرابين للزهرة ونجوم السماء ونحروا لها النحور فلما بعث الله إليهم أرميا النبي عليه السلام قام فيهم فوعظهم وخوفهم وحرهم وأنذرهم. وقال: يا بني إسرائيل لِمَ تعملون هذا الشّرّ وتلتوون"3. عن طاعة الله وتهلكون الرجال والنساء من آل إسرائيل ولا تبقوا لكم بقية عند الله تعالى. بخرتم للنجوم والأوثان في أرض مصر وغيرها حتى أراد أن يهلككم ربكم ويصيركم عاراً بين الشعوب. فلما فرغ أرميا [من] 4 موعظته أجابوه وقالوا: أما ما قلت لنا عن الرّبّ فلا نقبله ولكنا نفعل ما أحببنا وحسن في أعينا. وننحر ونبخر5 لنجوم السماء ونقرب القرابين للزهرة كما كان يفعل آباؤنا / (2/60/ب) وأشرافنا في قرى يهودا وكنا بخير. ولم نعاين الشرّ والآن فمذ6 تركنا البخور للزهرة وأهملنا القرابين لها أعوزتنا الأشياء وجعنا، ثم تصايح الشعب كلّه على أرميا وقالوا

_ 1 تثنية 31/16-18. 2 في م: الأرض. 3 في م: وتلثون. 4 إضافة يقتضيها السياق. 5 ليست في م. 6 في م: مذ.

: نحن لا ندع البخور لنجوم السماء والقاربين لها بل نفعل كما فعل آباؤنا. فقال أرميا عليه السلام: "اجتمعوا1 يا معشر اليهود اسمعوا أقوال الرّبّ إله إسرائيل، قال الرّبّ: قد أقسمت باسمي العظيم أنه لا يذكر اسمي في جميع أفواه اليهود الذين بأرض مصر لأني معجل لهم الشّرّ ومهلكهم بالجوع والموت وسيعلمون أي القولين أصدق قولي أم قولهم"2. وكذلك أخبر صفنيا بن كوش النبي عليه السلام في نبوته: "قال صفنيا: قال الرّبّ لأزيلن إسرائيل عن وجه الأرض زوالاً. ولأبيدن طير السماء وسمك البحور. ولأنزلن عذابي بالخطاة من بين إسرائيل. ولأصيرن أيامهم عبرة. ولأهلكنهم عن حديد الأرض. ولأرفعن يدي على يهودا وسكان أورشليم. ولأهلكن كلّ من عبد بعلا الصنم. ولأعاقبن الذين يسجدون لنجوم السماء. كما فعلت/ (2/61/أ) بآبائهم الذين عبدوا الأصنام والنجوم والعجل"3. فالعجب من اليهود ينكرون أخبار الكتاب العزيز بعبادتهم عزيراً وهذه توراتهم ونبوات أنبيائهم تشهد عليهم بما هو أخبث من ذلك. وقد أخبر إليا النبي في كتابه وهو يشكو ببني إسرائيل إلى الله تعالى: "فقال: يا ربّ إن بني إسرائيل قد كفروا وضلّوا، فقتلوا أنبياءك وهدموا مذابحك، وها هم يريدون قتلي"4.

_ 1 في م: استمعوا. 2 سفر أرميا الإصحاحات (11، 16، 17، 18) . في سياق طويل جدّاً. وقد أورده المؤلِّف مختصراً بالمعنى. 3 سفر صفنيا 1/2-6. 4 سفر الملوك الأوّل 19/10.

فقد تضافرت شهادات أنبيائهم بالكفر والضلال وعبادة غير الله تعالى. - شهادة موسى عليه السلام على خيار أسلاف اليهود بالكفر والفسق وارتكاب محارم الله واستحقاقهم الخزي واللعن في الدنيا والعذاب في الأخرى: - لما قربت وفاة موسى عليه السلام قال لمن حضره من اليهود: "قد عرفت جفاكم وقسوة قلوبكم وما تصيرون إليه. وكيف لا تكونون كذلك وقد أغضبتم الله وأنا حيّ بين أظهركم فمن بعد موتي أحرى أن تفعلوا ذلك". ثم قال عليه السلام: "أخطأ أولاد / (2/61/ب) الأنجاس الجيل المعوج المتقلب الجاهل الذي ليس بحكيم الناسي ما صنع الله إليه من الإحسان وأراه من العجائب. شرب الخمر وملأ بطنه فتبطن وغلظ وشحم ونسي الإله العظيم الذي خلقه وبعد من الله مخلصه - " ثم قال: "قال الله: أسخطوني بأوثانهم وأغضبوني بأصنامهم وذبحوا للشياطين ولم يقربوا لإله إبراهيم ولم يعرفه الجيل الجديد ونسي عهده. يا إسرائيل تركت الإله الذي أشبعك ونسيته وأسخطته، لأصرفن وجهي عنك ولأظهرن ما يكون من عاقبتك لأنك جيل خبيث أولاد من آسفني بآلهته وأسخطني بأوثانه. لأبتلينه بأمة جاهلة ضالة بعيدة عن الحكمة لا تعقل ولا تفهم". يقول الرّبّ: هذا كلّه عندي ومحفوظ في خزانتي إلى يوم النقمة1 أجازيهم في اليوم الذي تزل فيه أقدامهم لأن يوم هلاكهم قريب معد لهم. أنا الله الرّبّ وليس غيري. أنا أميت وأحيي وأسقم وأبرئ وليس [هارب] 2 من يدي. أنا3 الذي أشحذ سيفي وتجري الأحكام بيدي وأجازي الأعداء بالنقمة وأسكر / (2/62/أ) نبلي من الدم ويأكل سيفي لحوم الجرحى. أين هي آلهتهم التي توكلوا عليها وأكلت قرابينهم؟! فلتقم الآن وتغني عنهم شيئاً. والرّبّ سبحانه يرحم

_ 1 في م: القيامة. 2 في ص، م (هارباً) والصواب ما أثبتّه. 3 ليست في م.

شعبه وعلى الصالحين من عباده يترأف"1. فقد أخبر الله تعالى عن اليهود بما أخبر. وشهد عليهم الصادق موسى بما شهد. وصدق الله ورسوله. وتعيّن علينا وعلى كافة عباد الله بغض اليهود ومقتهم وتكذيب أقوالهم وردّ روايتاهم2. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: إنّا لم نعتمد فيما نقلناه على تعليقات علمائنا ومؤلّفاتهم حتى طالعنا توراة اليهود وأناجيل النصارى ومزامير داود ونبوات الأنبياء مرّة بعد أخرى. ونقلنا كما رأيناه واستنبطنا واستخرجنا مما وجدنا. فمنه ما نقلناه على نصّه ومنه ما أوجزناه لركاكة نصّه. وإن ما نقلناه من فضائحهم [قليل من كثير ويسير] 3 من خطير. والله الموفّق.

_ 1 سفر التثنية 31/24-30، 32/1-42، في سياق طويل. وقد ذكره المؤلِّف مختصرا. 2 لقد تحققت نبوءة موسى عليه السلام في بني إسرائيل. فلم يمض وقت طويل على وفاته عليه السلام إلاّ وقد انحرفوا عن دين التوحيد الذي جاء به موسى والأنبياء جميعاً والشواهد على ذلك من أسفارهم المقدسة لديهم كالآتي: فقد ارتدوا في زمن يشوع فتى موسى وخليفته من بعده عليهما السلام. (ر: سفر يشوع إصحاح 22) . وارتدوا كذلك بعد وفاة يشوع في عهد القضاة عدة مرات فعبدوا البعل وعشتاروت وآلهة الشعوب الوثنية فسلط الله عليهم كوشان ملك آرام الذي استعبدهم. (ر: سفر القضاة 3/5-11) . وعندما عاد بنو إسرائيل إلى عمر الشّرّ سلط الله عليهم عجلون ملك مؤاب. (ر: قضاة 3/12-30) . وعندما انحرفوا أيضاً سلط الله عليهم يابين ملك كنعان. (ر: قضاة 4/1-24) . ثم ارتدوا بعد ذلك عدة مرات. وفي كلّ مرة كان الله يسلط عليهم أعداءهم. (ر: سفر القضاة الإصحاحات 6، 10، 13، 17) . وكذلك انحرفوا مرات عديدة في عهد الملوك. (ر: سفر الملوك الأوّل، الإصحاحات (12، 14، 15، 16-19، 22) . والملوك الثاني، الإصحاحات (1، 13، 15، 16، 17، 21، 23، 24) . وبعد هذه الانحرافات المتكررة هل يوثق بتوراةٍ كانت بين ظهراني قوم لا يؤمنون بها وارتدوا عنها؟! وهل دينهم لا زال نقياً صافياً كما جاء به موسى والأنبياء من بعده؟! أم قد حرّف وبُدل واختلطت به شوائب الوثنية والشرك؟!!. 3 في ص، م (قليلا ... يسيراً) والصواب ما أثبتّه.

فضائح النصارى: اعلم أن جميع ما ذكرنا من فضائح اليهود لازم للنصارى أيضاً؛ لأن كلتاالطائفتين تعتقدحرمةالكتاب التي نقلنا/ (2/62/ب) منها وتعظمها جداً. وما النصارى إلاّفخذ من اليهود خلا الروم وقوم من المشرق فإنهم ليسوامن بني إسرائيل والذي يخصّ النصارى من الفضائح دون اليهودفمن ذلك: 43- فضيحة: زعم كلّ النصارى أن الكلمة الأزلية نزلت إلى الأرض فولجت فؤاد امرأة عذراء وسكنت برحمها تسعة أشهر تغتذي بفاضل قوتها ثم خرجت من فرجها إنساناً فتردد في الأرض بين الناس وناله ما ينال الأطفال من الآلام والإعلال وتقلبت به الأحوال إلى أن بلغ مبالغ الرجال. فلما شرع يشهر نفسه ويظهر قدسه توثبت1 عليه طائفة من عبيده فكذبوا فمه وسفكوا دمه وقتلوه ظمآنا وصلبوه عريانا2. فإذاقيل لهم: ماالذي أحوج الكلمة الأزلية إلى تجشم هذه القضية الدّنية؟ قالوا: إنما فعلت3 ذلك ليخلصنا من الجحيم ويخصصنا بالنعيم المقيم. تبالهم. أيزعمون أن الباري أوصفته عجز عن خلاص عباده حتى اعتضد بناسوت اكتسبه من امرأة منهم وما نراه أيضاً قدر / (2/63/أ) على خلاصهم وهو معافى بل جاء بخلاصهم فعطب. ورام سلامتهم فقتل وصلب، هذا لعمرك هو التلاعب بالدين. أعوذ بالله من الضلال واعتقاد الربوبية في الرجال.

_ 1 في ص (توبت) والتصويب من نسخة م. 2 ما نقله المؤلِّف عنهم إنما هو اختصار لسيرة المسيح عليه السلام في الأناجيل الأربعة المعتمدة عند النصارى. والمحرفة عند المسلمين والعقلاء. 3 في م: فعل.

44- فضيحة أخرى: زعم النصارى أنّ1 إلههم صلب مع اللصوص ودفن في المقابر بين الأموات وقام في اليوم الثالث إلى السماء وجلس فيها2. وذلك مما يأنف عن اعتقاده أهل الجنون وأرباب المجون، أسأل الله العافية. 45- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن إبليس - لعنه الله - احتمل المسيح ورفعه على جبل عال وأراه الدنيا بأسرّها وقال: هذا كلّه لي وأنا أعطيكه3 إن خررت لي ساجداً4. هذا ينقض قولهم: إن المسيح ربّ إبليس وربّ كلّ شيء، وإذا كان إبليس عبداً للمسيح، فكيف يسومه السجود له؟!!. 46- فضيحة أخرى: روى النصارى أن جبريل قال مريم: إنك ستلدين ولداً تسميه يسوع المسيح يكون عظيماً يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود، ويملك على بيت يعقوب5. ثم رووا عن بطرس أن المسيح / (2/63/ب) وأصحابه كانوا يبذلون الجزية لقيصر أسوة سائر المستضعفين6. وذلك تناقض عجيب. والصحيح ما أخبر به جبريل الأمين عن ربّ العالمين. وأما الرواية الثانية فيلزم من القول بصحّتها تكذيب جبريل. ومن كان عدوّاً لجبريل الأمين فهو عدوّ لله7 ربّ العالمين.

_ 1 في ص زاد (إبليس لعنه الله) وهو خطأ. 2 وذلك مما اتفقت عليه الأناجيل المرحفة. 3 في م: أعطيك هو. 4 متى 4/1-9، لوقا 4/1-8. 5 لوقا 1/30-33. 6 متى 17/24-27. 7 قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} . [سورة البقرة، الآية: 98] .

47- فضحية أخرى: عند النصارى ثلاثة آلهة قديمة أزلية ورجل من بني آدم وعبّروا عن ذلك بالأب والابن والروح القدس. وعيسى بن مريم1 على ما تشهد به صلواتهم الثمانية. وذلك باطل وكفر. والدليل عليه قول التوراة والإنجيل: "إن الله خالق العالم واحد لا شريك له"2. وأنه الإله الحقّ الذي لا ربّ غيره ولا معبود سواه على ما تقدم فمن أشرك مع الله غيره فقد كفر بالتوراة والإنجيل. 48- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن المسيح خلقها آدم وذريته وسائر الخلق أجمعين. فيقال لهم: فمريم من خلقها؟ فإن قالوا: ليست من خلقه. نقضوا مقالهم. وإن زعموا أنه خلقها، فيقال لهم: يا نوكا كيف تلد المسيح وهو خالقها؟ أم كيف ترضعه وهو رازقها؟ / (2/64/أ) أسمعتم يا معشر العقلاء بامرأة ولدت خالقها وأرضعت ثديها رازقها؟!!. 49- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن ربّهم وإلههم أكل وشرب ومشى وركب وهُزم وغُلب وصُفع وصُلب. وأكذبهم الإنجيل إذ يقول: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا يراه أحد ولا رآه أحد قط إلاّ مات"3.

_ 1 في م: (ابن مريم) ساقطة. 2 لقد تقدم ذكر النصوص الدالة على وحدانية الله عزوجل من التوراة والأناجيل. (ر: ص 236، 237، وسيأتي ذكرها أيضاً في ص: 459، 460) . 3 تقدم تخريجه. (انظر: ص: 129) .

50- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن معبودهم ين ولدته أمه في السفر لفته في الخرق وتركته في مذود1 من مذاود البقر إذا لم تجد موضعاً تجعله فيه2، تعالى الله ربّ الأرباب أن تحويه معالف الدواب بل لا تحويه الأقطار ولا يحده المقدار ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السماوات3. 51- فضيحة أخرى: من مشائخ النصارى رجل يقال له أفريم يعظمونه جدّاً ويرون فيه وهو الذي يقول: إن الأيدي التي جبلت طينة آدم هي التي سمرت على الصليب. وإن الشّبر التي مسحت السماوات هي التي علقت على الخشبة. وهذا الرجل قد جمع إلى الكفر الجنون. والجنون فنون، ومن يعتقد فيه خير فهو أجهل وأكفر منه. 52- فضيحة أخرى: النصارى يعظمون غرغوريس وهو القائل: "إن الذي لا يألم ولا يتجع صار متجعاً. وإن الذي لا يحس صار محسوساً، وإن الذي لا يحد صار محدوداً، وصار الخالق مخلوقاً وإن من لا يقول إن مريم ولدت الله فهو بعيد عن ولاية الله"4.

_ 1 في م: مزود من مزواد. 2 لوقا 2/7. 3 قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [سورة الزمر، الآية: 67] . 4 نقل ذلك أيضاً القاضي عبد الجبار في كتابه: (تثبيت دلائل النبوة 1/98-99) ، والمهتدي نصر بن يحيى المتطبب في: (النصيحة الإيمانية ص 194) .

قال المؤلِّف: وهذا خلاف قول النصارى وذلك أن عندهم إنما كان خاصية الاتّحاد وثمرته أن يقع الفيض الإلهي على الشكل الإنساني فتكسبه شرفاً. فأما أن يقع الأمر بالعكس فيكتسب الإله خسة ونقيصة، فهذا ما لا يقول به إلاّ جهلة القبط من النصارى. فأما أذكياؤهم فيأنفون من القول به. 53- فضيحة أخرى: على الطائفتين جميعاً رووا عن توراتهم: "أن الله تعالى قال لإبراهيم الخليل عليه السلام: إن ذريتك يستعبدون بأرض مصر أربعمائة سنة"1. قال مؤرخهم: إن هذا القول لم يتم بل أخلف2. لأن بني إسرائيل لم يمكثوا بمصر أكثر من مائتين وثلاثين سنة. وقال المنبجي أسقف منبج3: مائتي سنة وخمس عشرة سنة لا غيره. - كما تقدم في حاشية [وعد] 4 خليله / (2/65/أ) إبراهيم - على أنا لو أضفنا لهم5 إلى إقامتهم بمصر سني التيه وهي الأربعون لم

_ 1 ورد النّصّ في سفر التكوين 15/13، وورد أيضاً في سفر الخروج 12/40، بصيغة مختلفة كالآتي: "وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربعمائة وثلاثين سنة". فزيد في عبارة سفر الخروج لفظ: (ثلاثين) . 2 في م: خلف. 3 منبج: اسم عجمي تكلمت به العرب. وهي مدينة في سورية. مركز قضاء منبج. (محافظة حلب) . (ر: معجم ما استعجم ص 1264، للبكري، المنجد في الإعلام ص 686) . 4 في ص، م (وعلى) ولعلّ الصواب ما أثبتّه. 5 اعترف مفسرو العهد القديم بوقوع الغلط في مدة إقامة بني إسرائيل في مصر. قالوا: "ومدة غربتهم في مصر على ما في التوراة العبرانية 430 سنة. وجاء في السبعينية (أي: النسخة اليونانية المعتمدة عد الصنارى الكاثوليك) والساميرة أنها كانت نصف ذلك أي: 215 سنة. ولكن لا سبب يحملنا على إثيار ما في هاتين على ما في الأصل العبراني. (أي: على اختيار 215 على 430) . فلنا أن نعتقد صحّة العدة في العراني". اهـ. (ر: السنن القويم 1/363) .

يكمل لهم العدد، والله تعالى محاشى عن وقوع الخلف في خبره. بل قوله الحقّ ووعده الصدق سبحانه وتعالى عما يشركون. 54- فضيحة أخرى: النصارى إذا تقربوا في الكنيس الذي لهم فأكلوا الخبز وشربوا الخمر، قالوا: قد أكلنا جسد الرّبّ وشربنا دمه، ورووا عن المسيح

_ نقول: إن ترجيحهم هذا تحكم من غير دليل ومكابرة. والصواب أن المدة مائتان وخمس عشرة سنة. وبيانه كالآتي: إن الزمن من دخول إبراهيم عليه السلام أرض كنعان إلى ولادة إسحاق عليه السلام (25) سنة، ومن ولادة إسحاق إلى ولادة يعقوب عليهما السلام (60) سنة. ولما دخل يعقوب أرض مصر كان عمره (130) سنة. فيكون مجموع السنوات من دخول إبراهيم أرض كنعان إلى دخول حفيده يعقوب عليهم السلام (215) سنة. وكانت مدة إقامة بني إرسرائيل في مصر (215) سنة. فمجموع الكلّ (430) سنة. ولذلك صحّح المحقِّقون مهم عبارة النسخة السامرية واعتبروها صحيحة تزيل كل إشكال وقع في غيرها. لأنها تذكر سكنى بني إسرائيل وآبائهم في أرض كنعان وأرض مصر. ونصّها في سفر الخروج 12/40، كالآتي: "وسكنى بني إسرائيل وآبائهم ما سكنوا في أرض كنعان وفي أرض مصر ثلاثين سنة وأربعمائة سنة". وقد ذهب إلى تأييد ذلك عدد من محققيهم منهم: الكاهن أبو الفتح السامري في كتابه: (التاريخ مما تقدم عن الآباء ص 6، 7) ، ومؤلف كتاب: (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين، وآدم كلاك في تفسيره، وجامعو تفسير هنري وإسكات وغيرهم) . (ر: الفصل 1/214-216، لابن حزم، إظهار الحقّ، لرحمة الله، نقد التوراة ص 128، 129، د. السقا) .

أنه أعطاهم خبزاً. وقال: هذا دمي فاشربوه1. وهذا لعمرك إلى أن يعد جناية موجبة للعقاب أقرب من تسميته قربة مستدعية للثواب. فليت شعري أي شيء أبقوا لليهود ولم يبلغوا منه من النكاية إلى هذه الغاية بل قالوا: إنهم اقتصروا على قتله وصلبه. فأما النصارى فكأنهم لم يرضواله بهذاالقدرحتى ترقوا إلى تمزيق لحمه وشرب دمه. وهذالم يسمع به إلاّمن العدوّالمشاحن وأرباب الأحقادوالضغائن.

_ 1 متى 26/26-28، لوقا 22/19،20 واستدل النصارى على ذلك أيضاً بما ورد في إنجيل يوحنا الإصحاح (6) ،وفي رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس11/23-30. وقد استدل النصارى بهذه النصوص على أداء ما يسمى بـ: (سرّ الشكر أو الإخار ستيا) وهو أحد الأسرار السبعة المختصة بالكنيسة ولا يجوز أداؤها إلاّ في الكنيسة. وهي: (1- سر المعمودية. 2- سر الميرون. 3- سر الشكر. 4- سر التوبة. 5- سر مسحة المرضى. 6- سر الزواج. 7- سر الكهنوت) . وتعريف سر الشكر عندهم: أنه سر مقدس يأكل به المؤمن (النصراني) جسد المسيح الأقدس ويشرب دمه الزكي تحت أعراض الخبز والخمر. وله عدة أسماء منها: العشاء الرباني. القربان المقدس. العشاء السري. المائدة المقدسة أو السرية. خبز الرّبّ. الخبز السماوي. وغير ذلك. وصفة إيمان الكنيسة الأرثوذكشية بهذا السر كالآتي: إننا نؤمن أنه بعد تقديس سر الشكر واستدعاء حلول الروح القدس على القرايبن يستحيل الخبز والخمر استحالة سرية إلى جسد المسيح ودمه الأقدسين. حتى إن الخبز والخمر اللذين ننظرهما على المائدة ليسا خبزاً وخمراً بسيطين، بل هما جسد الرّبّ ذاته ودمه تحت شكلي الخبز والخمر. ونؤمن أن ربنا يسوع المسيح حاضر في هذه الخدمة لا بوجه الرمز أو الإشارة أو الرسم أو الصورة أو المجاز، ولا بأنه مستتر في الخبز بل هو حاضر حضوراً فعلياً. وهذا الإيمان هو إيمان الكنيسة كلّها شرقاً وغرباً منذ ابتدائها. ولا يختلف اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية عن ذلك إلاّ أنّها تجيز أداء هذا السر بالفطير بدلاً عن الخبز الخمير الذي توجب الكنيسة الأرثوذكسية أداء السر به". اهـ. ويزعمون أن من يتناول هذا السر فإنه يستحق أثماراً خلاصية من همها: 1- الثبات والاتّحاد مع المسيح. 2- النموّ في النعمة والكمال الروحي والحياة في الرّبّ يسوع. 3- ينال عربون الحياة والقيامة المجيدة.

_ ومع أهمية هذا السر عندهم، فإنه ليس بمجمع عليه من النصارى جميعاً. فقد أنكره الكثيرون منهم. واعتبروا الخبز والخمر رمزاً لجسد المسيح ودمه وليس حقيقة. ومن أبرز هؤلاء المنكرين يوحنا أيجانا الإيرلندي في القرن (9م) . وبرنغاريوس رئيس مدرسة تورس بفرنسا في القرن (11م) . وطائفة البطروبروسيون (تلاميذ بطرس دي بريز بفرنسا) في القرن (12) . وطائفة الألبيجنسيين في القرن (13م) ثم يوحنا ويكلف الإنجليزي، وزوينكل وكلفن ولوثر في العصر الحديث زعماء طائفة البروتستان. وكان إنكار هذا السر قديماً أيضاً في زمن أغناطيوس وإيريناوس وكيرلس الأورشليمي ويوحنا ذهبي الفم - آباء الكنيسة القدماء - الذين أنكروا على من أسموهم بالهراطقة الذين لا يؤمنون بهذا السر. (ر: أسرار الكنيسة السبعة ص 62-102، حبيب جرجس، قصة الكنيسة القبطية ص 502، إيريس حبيب) بتصرف واختصار. وهذا السر الذي يؤمن به النصارى كعقيدة التثليث مستحيلة عقلاً وشرعاً. فالعقل السليم يرفض الإيمان بأن الخبز والخمر يتحولان حقيقة - بعد تقديسهما - إلى جسد المسيح ودمه ... والاعتراضات العقلية والنقلية كثيرة في إبطال هذه العقيدة المستحيلة. (ر: إظهار الحقّ ص 326-328، للشيخ رحمة الله الهندي) .

قال المؤلِّف: صَرَّح لي بهذا الحرف بعض النصارى وكان معنا في المجلس / (2/65/ب) رجل من عقلائهم. فقطع عليه الكلام وانتهره حتى فهم القصة من حضر ذلك المجلس. فأي فائدة وأي فضل وفخر في دعوى هذا المحال على عبد الله المسيح وجعله قرآناً يتلى؟ ... ولقباحة هذه الأقوال وسماجتها وبعدها من كلام الأنبياء صار كثير من النصارى يُسْلم من غير أن يطلع على محاسن دين الإسلام ونظافته من هذا الهذيان. بل تبرماً وتطيراً من قباحة ما عليه النصارى لا غير. 55- فضيحة أخرى: ترك طوائف من النصارى الاختتان وحرموه ورأوا أنه معصية. وأن إطالة القلف دين يُدان الله به وشرع لا يسع المكلف خلافه. فيجامع أحدهم امرأته وجلدة قفلته مستطيلة والأخرى عضوها بارز نات كأنه عرف ديك [فيكونان] 1 أقبح شيء وأسمجه. وراغموا التوراة والإنجيل وسائر النبيّين. أما التوراة فنصّت: "إن إبراهيم الخليل أمره الله بالختان فقال له: هذه عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك أن يختتنوا غرلة كل ذكر منكم ومن عبدانكم ليكون عهدي مَيْسَماً / (2/66/أ) في أجسادكم عهداً دائماً إلى الأبد. وكلّ ذكر لا يختتق غرلته. فلتهلك تلك النفس من شعبها لأنها أبطلت عهدي. فعمد إبراهيم فاختتن وهو إذ ذلك شيخ كبير وختن أولاده وعبدانه"2. فإذا كان هذا نصّ التوراة، أنه واجب إلى الأبد وأن تاركه يقتل؛ فقد وضح كفر من خالفه من النصارى. وغيرهم. وقد ترك الروم والفرنج وغيرهم الختان. هذا وقد اختتن المسيح وتلاميذه. والعجب من النصارى منهم من يَجُبُ مذاكيره ويخصي نفسه. وآخرون يحلقون لحاهم. ولم يأت ذلك في شرع ولا نزل به كتاب. ويتركون الختان. ولم يزل النصارى يختتنون بعد رفع المسيح إلى أن أتاهم رجل يدعى عندهم

_ 1 في ص، م (يكونا) والصواب ما أثبتّه. 2 تكوين 17/9-14، 23-27.

فولس بعد المسيح بمدة متطاولة فقال لهم: "إن الختان ليس بشيء وإن الغرلة ليس بشيء"1. وما أعلم على النصارى أشأم من هذا الرجل - أعنى فولس - فإنه حلهم من الدين بلطيف خدعه. فحلهم من سنة الختان إذ رأى عقولهم قابلة لكل ما يلقى إليها2. 56- فضيحة أخرى: للنصارى كنيسة ببعض البلاد يحجون3 إليها ويعظمونها / (2/66/أ) ويزعمون أن يد الله تخرج إليهم من وراء ستر منها فتصافحهم وذلك في يوم من السنة، فبلغ ذلك بعض رؤساء دولتهم وقيل له: ألا4 تعجب من يد الله تعالى كيف تظهر للناس ويرونها؟! فمضى ذلك الرئيس إلى الكنيسة في ذلك اليوم. فلما ظهرت اليد قَرَّبه الأقساء إليها ليقبلها فلما رآها وضع يده فيها والتزمها فصاحوا به. وقالوا: الساعة يخسف بنا الأرض أو تسقط

_ 1 رسالته إلى غلاطية 6 الشافعي: الأمّ 15. 2 تقدم التعليق على إبطال النصارى لشعيرة الختان (ر: ص 228) ، ونضيف هنا بأن كثيراً من النصارى قد مالوا إلى الختان لتقليدهم المسلمين وتأثرهم بهم عن طريق التجارة والدراسة والحروب. وأيضاً لما لمسوه من الفوائد الصحية والنظافة الشخصية للختان. (ر: المجتمع القبطي ص 223، 224، إيريس حبيب، الصليب في الإسلام ص 6 حبيب زيات) . 3 الحج في تعريف النصارى هو: زيادة الأماكن المقدسة. ويُعرف من أدّى عبادة الحج عند النصارى باسم (المقدسي) نسبة أي: بيت المقدس. وتاريخ حجّ النصارى يبدأ على الأكثر منذ القرون الوسطى. فمنذ عهد قسطنطين سنة 306م أخذ النصارى يزورون الأماكن التي تقدست بولادة المسيح وموته وقيامته والأماكن التي لها تعلق بعجائب المسيح. ولكن لم يقتصر النصارى على زيارة ما ذكر من الأماكن فقد توسعوا في ذلك كثيراً فأصبحوا يحجون إلى الصوامع والأديرة التي كان يقيم فيها رهبانهم وقديسيهم وإلى روما حيث كنيسة بطرس بالفاتيكان وكنائس أخرى كثيرة في ألمانيا ومصر وسويسرا وأسبانيا وبريطانيا وتركيا وغيرها كثير جدّاً. (ر: دائرة المعارف 6/693-698، للمعلم بطرس البستاني - باختصار) وهذا يؤكّد لنا أن معظم عبادتاهم محرفة ومبتدعة. فالحجّ على الصفة السابقة إنما هو زيارة الأماكن المقدسة الأثرية أو السياحة الأثرية ولا أكثر من ذلك. وما يزعمون أنه الحجّ إنما هو من اتباعهم الهوى والشيطان. 4 في م: لا.

علينا السماء وترسل الصواعق فنهلك. فقال: دعوا عنكم هذا فإني والله لا أدع هذه اليد من يدي حتى أرى وجه صاحبها. فلما شاهدوا منه التصميم قالوا له: أرجعت عن دين النصرانية وهو دين آبائك وأسلافك؟ قال: لا ولكني أردت الوقوف على سر ذلك. قالوا: فإنها يد أسقف من أصحابنا وراء هذا الستر. فلما رآه وشاهده أرسل يده وخرج من تلك الكنيس1 فلم يعد بعد. واشتهرت القصة. قال المؤلِّف: سمعت ذلك من كثير من أصحابنا المغاربة ثم شاهدت القصة مسطورة في تصنيف لبعض المغاربة2. 57- فضيحة أخرى: للنصارى صليب من حديد / (2/67/أ) معلق في قبة كنيسة لهم بالمغرب. قد وقف في الهواء بغير علاقة ولا دعامة والناس يحجون إليها ليشاهدوا الصليب ويتعجبون من تلك الآية. فأكثر التعجب من ذلك بعض ملوكهم. فقال لكاتب كان عنده من اليهود: ألا تعجب يا فلان من هذه الآية العظيمة التي في هذا الصليب؟ فذكر له اليهودي أن في جهات الصليب المذكورة حجارة المغناطيس العظام مخبأة في الجدار وفي ما يوازيه من سقف القبة وأرض الكنيسة فهي التي أوجبت قيامه ومنعته من السقوط. فحضر الملك إلى الكنيس المذكور في وقت خلوة وتقدم بالكشف عن الحجارة من بعض الجدران من الصليب. فاضطرب الصليب حتى خافوا أن يسقط فعرف حقيقة الحال وانصرف3. 58- فضيحة أخرى: للنصارى في بلد من بلاد المغرب4 أيضاً كنيسة

_ 1 في م: الكنسي. 2 هو كتاب: "مقامع هامات الصلبان في الرّدّ على عبدة الأوثان ومراتع روضات الإيمان". لأبي عبيدة الخزرجي الأندلسي ت 582هـ. وقد حققه. د. محمّد شامه ونشره بعنوان (بين الإسلام والمسيحية) ر: ص: 268، 269. من الكتاب المذكور. 3 نقل المؤلِّف هذه الفضيحة من المرجع السابق. (ر: مقامع هامات ص:269، 270) . 4 ذكر أبو عبيدة الخزرجي أن الكنيسة بالأندلس.

فيها ثريا معلقة نحو تعليق الصليب، ينْزل إليها نور من فوق فتتقد للوقت في وقت من السنة. فهم يعظمون ذلك اليوم ويفخمونه. فأطرق بها بعض ولاتهم فصار إليها فعرف حقيقة الحال / (2/67/ب) وذلك أنهم مَدُّوا من الجدار قصبة حديد مجوفة وأبرزوا لها أنبوباً دقيقاً على وزان طرف الذبالة. فإذا كان ذلك الوقت المخصوص أرسلوا نار. النفط في تيك القصبة فتخرج بسرعة فتتقد للوقت. فلما عرف وجه هذه الحيلة أمر بصفع السدنة وانصرف1. 59- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن مريم أم المسيح تنّزل من السماء على الأرض دار المطران2 بطليطلة في يوم معروف من السنة بكسوة تلبسها له. وهم لا يشكون في صحّة هذا ببلادهم. قال بعض من نقلها: يا ليت شعري هل نزولها3 بغير إذن الأب أم بإذنه؟ فإن كان ذلك بإذنه فكيف لم يرسل بعض ملائكته ورسله ويوقر أم ولده ويصونها عن التبذل لرجل من جنسها أجنبي عنها؟ وإن كانت تنْزل بغير إذنه مستبدة برأيها، فكيف يجوز من الأب أن يصطفي لنفسه خائنة تخونه وتخرج من بيته بغير إذنه إلى رجل بكسوة تكسوه4 وتزينه بها؟ أترون الأب لا يعلم خيانتها وترددها إلى من ليس له بمحرم؟ / (2/68/أ) أو ترونها قد عشقت المطران فهي تتردد5 إليه شغفاً به؟ فما بالها لا تولي ذلك غيرها من خدمها حتى تتجشم هي بنفسها؟ 6. 60- فضيحة أخرى: للنصارى عيد بيت المقدس مشهور يعرف بعيد

_ 1 نقل المؤلِّف هذه الفضيحة من المرجع السابق. (ر: مقامع هامات ص:270، 271) . 2 ذكر أبو عبيدة الخزرجي أن اسم المطران: دون أقريس. وبأنها كانت عليه في ليلة النصف من شهر أغسطس. 3 في م: ترونها. 4 ليست في م. 5 في م: زاد (له) . 6 نقل المؤلِّف هذه الفضيحة من المرجع السابق. (ر: مقامع هامات، ص: 171) .

النور، يحجون إليه في يوم من السنة. وإذا اجتمعوا عنده نزلت نار من تجويف القبة فتعلقت بذبالة القنديل فيتقد بسرعة فتكثر الأصوات وتعج بالدعاء والابتهال، فلا يشك الغر ولا يرتاب الغمر1 أن تلك آية نزلت من السماء دالة على صحة دينهم. ووجه الحيلة في ذلك أن رجلاً يختبئ في أفرير القبة من داخل وهي غلسة جداً. فإذا كان ذلك الوقت الذي يُكمل فيه اجتماعهم وقُرأ الإنجيل والكتب؛ أرسل الرجل قبسا من نار النفط فجرت على خيط مدهون بدهن البلسان فتبتدر2 الذبالة فيتقد. فيجأرون حينئذٍ بالأدعية. قال علماؤنا: وقد تفطّن لذلك بعض ولاة بيت المقدس فصار إليهم / (2/68/ب) في ذلك العيد وأراد أن يفضحهم بكشف القصة فبذلوا له مالاً فقنع به منهم وانصرف. ومعلوم أن ذلك لو كان نوراً لم يتقد منه المصابيح. إذ صفة النار الإحراف وصفة النور الإشراق فقط. ولو كان ذلك نازلاً من السماء كما يدعي النصارى لروئي خارج القبة. والدليل على كذبهم أن تلك البقعة أقامت في أيدي اليهود مدة طويلة ثم جاء الله بالإسلام ولم يُرَ شيء من هذا الجنس3. 61- فضيحة أخرى: النصارى يصلون إلى مشرق الشمس ويتّخذونها قبلتهم4. وقد كان المسيح عليه السلام طول مقامه يصلي إلى قبلة بيت

_ 1 في م: زاد (أن) . 2 في م: فتبدر. 3 ذكر أبو بكر الطرطوشي (474هـ) هذه الحيلة للنصارى، ونقلها عنه ابن القيم في إغاثة اللهفان ص 619، ونقلها المؤلِّف عن كتاب مقامع هامات ص 75، 76، 272. 4 إنّ الأقباط الأرثوذكس والأقباط الكاثوليك يتجهون في صلاتهم إلى المشرق لعد أسباب (في زعمهم) منها: أن الشرق هو الجهة التي قال السيد المسيح إنه يظهر منها عند مجيئه الثاني. ولأن المسيح نور العالم، والشرق مطلع الأنوار. ولقد كان لاتّجاههم إلى الشرق تأثير في نظام الكنائس حيث جعلت جميع الهياكل تقام في الجهة الشرقية من الكنيسة. أما الأقباط الإنجيليون (البروتستانت) فيتجهون في صلاتهم إلى أية جهة. (ر: المجتمع القبطي في مصر في القرن التاسع عشر ص 622، رياض سوريال) .

المقدس قبلة موسى بن عمران والأنبياء. "وقال: إني لم آت لأنقض1 التوراة بل لأكملها. وأن السماء والأر ليزولان وكلمة واحدة من الناسوت لا تزول حتى يتم بأسره"2. غير أن النصارى خالفوا المسيح والأنبياء واعتذروا في توجههم إلى المشرق بأنه الجهة التي صلب إليها ربّهم وقتل فيها إلههم فيقال لهم: يا حمقى لو كنتم أولي ألباب لَمَقَتُّم جهة الشرق وأبغضتموها / (2/69/أ) وتَطَيَّرتم بها ورفضتموها في أمور العادة فضلاً عن العبادة. وذلك لأنها الجهة التي لم يصل إليها المسيح ولا شهدت [لها الأناجيل ولا3 صَلَّى] إليها نبي من الأنبياء البتة. ثم إنها الجهة التي4 تشتت بها شملكم وبددت5 كلمتكم وفرقت جموعكم. فتعظيمكم لهذه الجهة هي أشأم الجهات عليكم، أمر يقتضي السخرية بكم والإزراء عليكم. وكان الأولى بكم أن لا تتحولوا عن جهة بيت المقدس لقول الإنجيل: "إن امرأة سامرية من اليهود قالت للمسيح: يا سيد، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل للأب فكيف تقولون أنتم إنه أورشليم؟. فقال لها: أيتها المرأة أنتم تسجدون لما لا تعلمون، ونحن نسجد لما نعلم، فهذا المسيح6 يشهد أنه ليس لله قبلة يصلي إليها إلاّ بيت المقدس الذي هو أورشليم". فأنتم أعرف وأعلم من المسيح بما يجب لله تعال؟ - إنا لله وإنا إليه راجعون على عقولكم -. لقد رميتم فيها بداهية.

_ 1 في ص (لأجل الأنبياء) وفي م: (لأجد) . والصواب ما أثبتّه. 2 متى 5/17، 18. 3 في ص (ولا الأناجيل صلى إليها) وفي م (الأناجيل بأن صلى) والتصويب من المحقِّق. ولعلّ الناسخ أخطأ في التقديم والتأخير. والله أعلم. 4 في م: (إنها الجهة التي) ساقطة. 5 في م: وبدت. 6 يوحنا 4/19-22.

62- فضيحة أخرى: الروم من النصارى / (2/69/ب) على كثرة طوائفها لا يرون وجوب الاستنجاء، فيبول أحدهم ويغوط ويقوم من فوره إلى مصلاه وهو متضمخ ببوله1. وذلك مما أحدثوه بعد المسيح. وإلاّ فشرائع الأنبياء عليهم السلام قد وردت أن العبد لا يقوم إلى الصلاة إلاّ وهو على أكمل أحواله. فيجتمع لهم في الصلاة بأمور] 2 قبيحة منها: أن يقوموا بغير طهارة. ومنها: استدبارهم3 قبلة المسيح التي كان يصلي إليها. ومنها: دعواهم وتضرعهم إلى رجل من بني آدم أن يغفر لهم خطاياهم، ويكفر عنهم سيّئاتهم. وربما سألوه

_ 1 قال ابن القيم: "إن النصراني يقوم من على بطن المرأة يبول ويتغوط ولا يمس ماء ولا يستجمر. والبول والنجو ينحدر على ساقه وفخذه ويصلي كذلك. وصلاته صحيحة تامة عنده. ولو تغوط وبال وهو يصلي لم يضره؛ فضلاً عن أن يفسو أو يضرط. ويقولون: إن الصلاة بالجنابة والبول والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة؛ لأنها حينئذٍ أبعد من صلاة المسلمين واليهود وأقرب إلى مخالفة الأمتين". (ر: هداية الحياري ص 263، إغاثة اللهفان ص 616) . ومما معلوم أن الطهارة في الديانتين: الإسلامية واليهودية تعتبر شرطاً أساسياً في صحّة الصلاة وقبولها. بعكس النصرانية التي تعتبر الطهارة الجسمية أموراً رمزية ثانوية لا قيمة لها أساساً. وهذا من التحريف الذي أحدثه النصارى في دينهم قطعاً. حيث إن الطهارة لأداء الصلاة وردت به شرائع الأنبياء جميعاً. وقد تطرف القساوسة والرُّهبان في العصور الوسطى إلى حد اعتبار القذارة من وسائل التقرب إلى الله. وأن النظافة من عمل الشيطان. فكان أزهدهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات. حيث يقول الراهب أتهينس: "إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طول عمره. وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين سنة. وقد أبت العذراء سلفياً أن تغسل جزءاً من جسدها عدا أصابعها. وكان في أحد الأديرة النسائية (130) راهبة لم تستحم واحدة منهم قط أو تغسل قدميها، إلاّ أن الرهبان مالوا إلى استخدام الماء في آخر القرن الرابع، وسَخِر الأب إسكندر من هذا الانحطاط. فأخذ يحن إلى تلك الأيام التي لم يكن فيها الرهبان يغسلون وجوههم قط. (للتوسع ر: قصة الحضارة 12/121-123، تاريخ أخلاق أوروبا الجزء الرابع، كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 168، 169. لأبي الحسن الندوي) . 2 في ص، م (أمورا) والصواب ما أثبتّه. 3 في م: استدبارها.

بحقّ المسامير التي سمر بها في يديه وبالخشبة التي صلب عليها بزعمهم على ما أذكر منه طرفاً في آخر فضائحهم. 63- فضيحة أخرى: من النصارى من لا يقبل توبة [المذنب] 1 ما لم يعترف له بذنوبه. ويقر له بإجرامه ويشرح ما فعله في طول عمره. وأنه زنى وسرق وقتل وفعل كيت وكيت ويعدد الخائر2 ما ستره الله عليه ويبدي عورته لهم. فيجد أكابرهم الوسيلة إلى التحكم في ماله والتبسط في ما حواه من دنياه فيطوفون حوله3 / (2/70/أ) ويوظفون عليه ما رأوه4 لائقاً بماله واتسع حاله. ويبقى المثكل في أيديهم وفي قبضتهم طول عمره. وقد أُرِّخَت عليه سيّئاته وخلدت في دفاترهم قبائحه. وعرفها من لم يعرفها منهم ومن غيرهم. وعيرت بها أولاده وعقبه من بعده جيلاً بعد جيلٍ وقرناً بعد قرنٍ5. ولقد بلغني عمن لا أشك في صدقه وثبته أن النصارى عندنا بمصر أرادوا نصب رجل من أفضلهم بطريكا عليهم. فبينما هم على ذلك إذ جاء آخر من أكابرهم وذوي الهيبة فيهم، فاعترف أنه وهذا

_ 1 أضفنا هذه الكلمة لتستقيم العبارة ويتضح المعنى. والله أعلم. 2 الخائر: أي: الضعيف والجبان. كما في القاموس ص 497. 3 في م: (فيطوفون حوله) ساقطة. 4 في م: ما داؤه. 5 هذه الفضيحة التي ذكرها المؤلِّف تسمى عند النصارى بـ: (سر التوبة) . وهو أحد الأسرار السبعة للكنيسة. وتعريفه عندهم: هو سر مقدس يرجع الخاطئ إلى الله ويتصالح معه تعالى. والاعتراف جزء من سر التوبة. وتعريفه هو: إقرار الخاطئ بخطاياه أمام كاهن الله إقراراً مصحوباً بالندامة والتأسف والعزم والثابت على ترك الخطية وعدم الرجوع إليها. لينال الحِلَّ منه بالسلطان المعطى له من الله (المسيح) القائل: "من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت". يوحنا 20/21-23، وكذلك في متى 16/19، 18/17، 18. وهناك عقوبات وتأديبات كنسية متعددة على المذهب منها: الصوم الخصوصي علاوة على الأصوام المفروضة على جميع النصارى. وصلوات يقدمها الخاطئ في مخدعه مع عدد من الركعات. وتأخير التناول من الأسرار المقدسة وقتاً مناسباً لثقل خطيئته. وتوزيع جزء من ماله صدقة على الفقراء. وتختلف نظرة الكنيسة الأرثونكسية عن الكاثوليكية في أن الغرض من هذه التأديبات إصلاح حال الخاطئ ليس إلاّ، ولكن الكنيسة الكاثوليكية تعتبرها قصاصات حقيقية، الغاية منها وفاء العدل الإلهي الذي أهانه الخاطئ بخطاياه. وبناء على ذلك فقد تمادت الكنيسة الكاثوليكية في إصدار الغفرانات (صكوك الغفران) وقررته حقّاً لها في المجمع الإيتراني الرابع سنة 1215م. فأصبح البابا يوزع ذلك الصكوك. وتباع وتشترى كالسلع متضمنة الصفح والغفران ليس عن خطايا الماضية فقط بل والمستقبلة أيضاً. فأصبحت هذه الصكوك مصدراً لريادة ثراء رجال الكنيسة وتوفير الرفاهية والترف لهم. لذلك فقد اعترضت الكيسة الأرثوذكسية والبروتستانتية على هذه الصكوك واعترها عاراً على النصرانية. (ر: أسرار الكنيسة ص 103-127، حبيب جرجس - بتصرف - قصة الكنيسة القبطية ص 502-504، إيربس حبيب، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 173، لأبي الحسن الندوي) .

المرشح للبتركة قد فعل كلّ واحد بصاحبه الفعل المحذور أيام الحداثة فتصادقا على ذلك. فأفسدوا على النصارى ما راموا من نصب الرجل وتوليته عليهم، وهذا أمر لا أصل له في شريعة ولا نصّ عليه ناموس؛ ولكنه شيء اختلقه الجهلة من مشائخ النصارى اختلاقاً وابتدعوه بعقولهم ابتداعاً. 64- فضيحة أخرى: (2/70/ب) زاد النصارى في صومهم الكبير1 جمعة يصومونها لهرقل2 ملك البيت المقدس. وسبب ذلك أن الفرس لما استولوا على البيت المقدس وقتلوا النصارى وهدموا الكنائس، أعانهم اليهود على ذلك وكانوا أشدّ فتكاً في النصارى من الفرس. فلما توجه هرقل إلى بيت المقدس تلقاه اليهود بالهدايا وسألوه الأمان فكتب لهم كتاباً يؤمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم. فلما

_ 1 ويسمى بالصوم المقدس وعدد أيامه (55) ، يوماً. وهي عبارة عن الأربعين يوماً التي صامها المسيح مضافاً إليها أسبوعان: الأوّل قبل الأربعين ويسمى أسبوع الاستعداد والتهيئة للصوم الأربعيني المقدس. والأسبوع الثاني: أسبوع الآلام، ويأتي بعد الأربعين وينتهي بـ: (أحد القيامة) . ولهم مواسم للصوم كثيرة منها: صوم يوم الأربعاء. ذكرى التشاور للقبض على المسيح. وصوم يوم الجمعة ذكرى صلب المسيح - حسب زعمهم -. وصوم الميلاد، وعدد أيامه 43 يوماً، ينتهي بعيد الميلاد. ويزعمون أن الصوم ليس إجبارياً عليهم وإنما هو اختياري. وميقاته تتخالف فيه فرقهم. وكيفية صومهم: هو الامتناع عن تناول الطعام مدة من النهار قد تصل على الظهر أو العصر أو الغروب - حسب مقدرة الصائم - ويتناول الصائم بعدها أطعمة خالية من الدسم غير الحيواني. (ر: المجتمع القبطي ص 228، رياض سوريال، دائرة المعارف 11/70، بطرس البستاني، النصرانية والإسلام ص 82، محمّد الطهطاوي) . 2 هرقل (هيراكليوس) : إمبراطور الروم (610-641م) عرف عهده حروباً كثيرة مع الفرس وحرر بيت المقدس منهم سنة 628م. ر: قصة الحضارة 12/295، فجر المسيحية ص: 208، حبيب جرجس، المنجد في الأعلام ص:727.

دخل البيت المقدس شكى إليه النصارى ما لقوا من اليهود وكيف مالؤوا عليهم الفرس وسألوه قتل اليهود. فقال: كيف أقتلهم بعد أن أمنتهم؟ فقالوا: نحن نصوم عنك جمعة في أوّل الصوم الكبير كفارة لخطيئتك هذه. وندع أكل اللحم في الصوم ما دامت النصرانية. ونلعن من يخالف ذلك ونُعيَّره ونكتب به إلى الآفاق غفراناً لذنبنك. فأجابهم مسألتهم وملتمسهم وقتل اليهود قتلاً ذريعاً. فصاموا له جمعة في أوّل الصوم وكتبوا بذلك إلى سائر البلاد، وأهل بيت المقدس ومصر يصومونها. وبقية أهل / (2/71/أ) الشام لا يأكلون اللحم1 فيها ويصومون الأربعاء والجمعة2. ولا شكّ أنّ هذا وشبهه من باب التلاعب بالدين. وقد صار هذا النمط سجية للنصارى وخلقاً. أليس هم الذين عمدوا إلى إنسان قد تربى بينهم طفلاً ونشأ حتى صار كهلاً فاتّخذوه إلهاً،

_ 1 قال ابن القيم: "وإذا شئت أن ترى التغيير في دينهم، فانظر إلى صيامهم الذي وضعوه لملوكهم وعظمائهم، فلهم صيام للحواريين وصيام لماري مريم، وصيام لماري جرجس، وصيام للميلاد، وتركهم أكل اللحم في صيامهم مما أدخلوه في دين المسيح. وإلاّ فهم يعلمون أن المسيح عليه السلام كان يأكل اللحم. ولم يمنعهم منه لا في صوم ولا فطر. وأصل ذلك: أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا روح، فلما دخلوا في النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيقتلوا، فشرعوا لأنفسهم صياماً فصاموا للمياد والحورايين، وماري مريم، وتركوا في هذا الصوم أكل اللحم محافظة على ما اعتادوه من مذهب ماني، فلما طال الزمان تبعهم على ذلك النسطورية واليعقوبية فصارت سنة متعارفة بينهم ثم تبعهم على ذلك الملكانية". اهـ. نقل ابن القيم ذلك من تاريخ ابن البطريق (نظم الجوهر) . (ر: إغاثة اللهفان ص 618، الجواب الصحيح 3/34) . 2 ذكر هذه الفضيحة بنصّها ابن القيم في إغاثة اللهفان ص 624، والمقريزي في خططه 3/533، 534.

وأعلنوا بعبادته سفاهاً وخاطبوه بالربوبية شفاهاً؟! نعوذ بالله من الضلال وأن نشرك مع الله الرجال. 65- فضيحة أخرى: للنصارى عيد يقال له: (عيد ميكائيل) ليس له أصل في شرعهم ألبتة، بل هو مما أحدثوه وابتدعوه. وسبب إحداثه على ما ذكر أهل العلم: أنه كان بالإسكندرية صنم1 وكان أهل الإسكندرية ومصر يُعَيَّدون له عيداً عظيماً2، ويذبحون له الذبائح، فولي بطركة الإسكندرية رجل يقال له: (الأكصيدروس) 3، فرام إبطال هذا العيد وتعطيل الصنم فلم يقدر من عوام النصارى. فقال: إن تعبدكم لصنم لا يضرّ ولا ينفع لضلال وكفر. فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل المَلَك وذبحتم له الذبائح / (2/71/ب) لكان يشفع لكم عند الله. وذلك خير لكم من هذا الصنم. فأجابوه إلى ذلك فكسر ذلك الصنم واتّخذ منه صلباناً وسمي الهيكل (كنيسة ميكائيل) وتحول العيد فصار لمكيائيل إلى اليوم بمصر وتخومها ولا أصل له في زمن المسيح ولا في زمن الحواريين4. والشيء الضعيف لا يزيده الأمر الباطل إلاّ ضعفاً. والحقّ متسغن بنفسه عن أن يقوى بأمثال هذه الترهات.

_ 1 ورد أنه كان صنماً من نحاس في هيكل عظيم، بنته أكلاً أو بطرة الملكة وسمّته باسم زحل. 2 كان ذلك العيد في شهر تشرين الثاني. 3 ورد أن اسمه: (الأسكندريس) . 4 ذكر أبو المكارم (النصراني) في كتابه المخطوط: (تاريخ الكنائس والأديرة 1/152، 153) قصة عيد ميكائيل والكنيسة التي يقام فيها هذا العيد، مثل ما أورده المؤلِّف - رحمه الله -، وأضاف أبو المكارم: "بأن الكنيسة تسمى بـ: (كنيسة الفيسارية) وقد أحرقت هذه الكنيسة في يوم الاثنين لثلاث خلون من شوال سنة ثلاثمائة، عند دخول المغاربة (القرامطة مع المسمى أبو عبيد الله) إلى الإسكندرية". اهـ. وقد نقل هذه (الفضيحة) بعض علماء المسلمين في الرّدّ على النصارى وبيان سخافة عقولهم وتهاونهم في أمور دينهم وتأثرهم بالوثنية. ومن هؤلاء العلماء الإمام ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/20، 21، وابن القيم في هداية الحياري ص 322، وفي إغاثة اللهفان ص 625، والمقريزي في خططه 3/525، 539.

66- فضيحة أخرى: للنصارى عيد يعرف بعيد الصليب1 لا أصل له ألتبة وهو مما أحدثوه بعد رفع المسيح كعيد ميكائيل وعيد النور وغيره. قال العلماء: "من ميلاد المسيح إلى أن وجد الصليب ثلاثمائة سنة وثمان عشرة سنة. وسبب إحداثه أن اليهود اتّخذوا المقبرة التي دفن فيها الشبه مزبلة يطرحون فيها الكناست والأوساخ تحقيراً لشأن المصلوب، وتصغيراً لقدره. فأقامت مزبلة نحواً من ثلاثمائة سنة إلى أن جاءت زوجة2 قصطنطين الملك فأمرت بالكشف عن المقبرة فظهرت لها فإذا / (2/72/أ) فيها ثلاث صلب وهم صليب اللصين والشبه. فقالت: كيف لنا أن نَعْلَم خشبة ربّنا التي صلب عليها؟ وكان هناك مريض قد أشرف على الموت، فأمرت فوضع عليه الصليب فلم يقم، فأمسته الثاني فلم يقم، فأمسته الثالث فقام وبرأ من علته كأن لم يكن به بأس. قال النصارى: فعلمت أنه صليب الرّبّ فعلقته بالذهب وبعثت به إلى الملك3.

_ 1 يحتفل النصارى عادة بهذا العيد في الثالث في شهر مايو كلّ عام ويسمى: (عيد اكتشاف الصليب) إحياء لذكرى قصة اكتشاف الصليب الذي صلب عليه الميسح - حسب زعمهم -. أما الكنيسة القبطية فإنها تحتفل بعيد ظهور الصليب باحتفالين: الأوّل: ذكرى اكتشاف الصليب على يد الإمبراطورة هيلانة في يوم 16 من شهر توت. (من الشهور القبطية) سنة 326م. الثاني: ذكرى استرجاع الصليب من الفرس الغزاة على يد الإمبراطور هرقل في يوم 10 من شهر برمهات سنة 627م. (ر: السنسكنار 2/29، 30، الأنبا بطرس الجميل وغيره. ما هي النصرانية؟ ص 74، محمّد تقي العثماني) . 2 الصواب أنها أم الإمبراطور قسطنطين وليست زوجته ويسمّيها النصارى (القديسة هيلانة) أو (هلينا) الملكة) كما ذكر ابن البطريق في تاريخه نظم الجوهر وغيره من المصادر النصرانية. 3 وردت هذه القصة في تاريخ سعيد بن البطريق (ت 940م) المسمى بـ: (نظم الجوهر) ونقلها عنه العلماء في باين سخافة دين النصارى. ومن هؤلاء العلماء ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/25، وابن القيم في إغاثة اللهفان ص 625، 626، والقرافي في أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية: 75-77، والمقريزي في خططه 3/525، 552، وغيرهم. كما نقلها المصادر النصراينة أيضاً مثل: كتاب السنكسار 2/162، 163، موجز تاريخ المسيحية ص 190، ليسطس الدويري. لكننا نستغرب من أن المؤرخ يوسابيوس القيصري - الذي عاش في العصور الأولى 264-340م وكان معاصر للإمبراطور قسطنطين، وأسقفا لقيصرية - لم يذكر هذه القصة في كتابه: (حياة قسطنطين العظيم) الذي أَرَّخ فيه حوادث عصر قسطنطين. ومعن ثنائه في هذا الكتاب على الأعمال الخيرة التي قامت بها الإمبراطورة هيلانة أم قسطنطين فإنه لم يشر أبداً إلى القصة السابقة. (ر: حياة قسطنطين ص 103-105) . ويدلنا ذلك على كذب هذه القصة واختلاقها بعد عصر قسطنطين؛ إذ لو كانت القصة صحيحة لبادر إلى ذكرها المؤرخ يوسابيوس الذي يكيل الثناء والمديح بلا حساب لسيده الإمبراطور قسطنطين.

وإذا كان هذا إنما جرى بعد المسيح بهذه المدة فكيف يعد مأخوذاً عن المسيح؟ وهذه الأعياد لو كانت معتبرة لكان الأولى أن تكون مسطورة في الإنجيل ومأخوذة عن التلاميذ، ولو بعث الله التلاميذ الآن لم يعرفوا مها ولا مما عليه النصارى شيئاً. إذ ما في أيديهم شيء مما كان عليه المسيح وأصحابه. ونحن - يرحمك الله - نسأل النصارى فنقول: أخبرونا بماذا استحق الصليب عندكم هذا التعظيم والتفخيم حتى صرتم تقبلونه وتمرونه على أعينكم وتصلبون به على وجوهكم؟ 1. فمنكم من يصلب على وجه بإصبع / (2/72/ب) واحد وهم القبط، ومنكم من يصلب بإصبعين وهم الروم. ومنكم من يصلب بالخمسة وبالعشرة وهم الفرنج2.

_ 1 قال أفرايم السرياني - أحد كبار أحبار النصارى وقديسيهم الأوائل -: "لا تعمل عملاً إلاّ وتبدأ بإشارة الصليب، وكذلك اختم بإشارة الصليب الحي جميع أعمالك. لا تخرج من باب منْزلك قبل أن ترسم نفسك بالصليب، ولا تغفل عن ذلك في طعامك وشرابك. حين رقادك أو استيقاطك، في البيت أو في الطريق، في العمل أو الاستراحة". اهـ. (ر: الوسائل العلمية للإصلاحات القبطية ص 105، 106، حبيب جرجس) . 2 يقول حبيب زياد النصراني: "اختلف النصارى منذ القرون الأولى في كيفية التصليب على عدة أشكال: أ- التصليب بأصبع واحد - وهي سنة اليعاقبة من سريان وأقباط وحبش ونوبة، ابتداء من العلوّ إلى الأسفل (إشارة إلى نزول المسيح من السماء إلى الأرض) . ومن الشمال إلى اليمن (إشارة إلى نقلهم من جهة الشمال التي هي الخطيئة إلى ناحية اليمين التي هي المغفرة ومحل النعمة حيث يكون سيدهم) . ب- التصليب بأصبعين - وهو ما كان الأقباط والسريان والنساطرة يتهمون به الروم البيزنطيين والملكيين بالتصليب بأصبعين. جـ التصليب بثلاثة أصابع - وهو الشكل القديم الذي عَمَّ الكنيستين: الشرقية والغربية قبلاً. ولا تزال تستعمله الكنيسة البيزنطية، وجرى عليه الأرمن. د- التصليب بالأصابع الخمس-شاع ذلك في الكنيسة اللاتينية بعد القرن 13م، واختاره الموارنة والسريان الكاثوليك من الشرقيين تقليداً للإفرنج منذ القرنين 16م، 17م. ثم يقول حبيب زيات مستغرباً مما ذكره المؤلِّف بأن منهم من يصلب بالخمسة والعشرة: "وأغرب من ذلك حكاية بعض كتبه الإسلام عنهم أنهم يصلبون بالخمسة والعشرة، ولا ندري ما الذي رأوه من إشارات الصليبيين حتى نسبوا لهم استعمال اليدين معاً في التصليب". (ر: الصليب في الإسلام ص 26-38) ، باختصار.

أفهذا دين نقلتموه عن الأنبياء وأخذتموه1 من شرائع الرسل؟ فأرونا ذلك في توراة موسى ونبوات أشعيا وأرميا ومزامير داود. وأَنَّى تجدون ذلك في هذه الكتب وهي مشحونة بالتوحيد كما قد بيّناه. وقد كان من حُكم الصليب لو كنتم أَلِبَّاء عقلاءً أن تمقتوه وتلعنوه وتميتوا ذكره وتخفوه فلا تعلنوه. فإن قالوا: إنما عظمناه لأنه شَرُف بصعود المسيح عليه ونحن نقبله ونعظمه لذلك. قلنا: فهلاّ تعظموا الحُمُر وتقبلوها وتسجدوا لها؛ لأن لوقا وغيره قد أخبر أن المسيح ركب حماراً عند دخوله المدينة والصبيان بين يديه ينادون: مبارك الآتي باسم الرّبّ2. فكان ركوبه لحمار في حال تعظيمه وكرامته وركوبه الصليب في حال تصغيره وإهانته. فهلاّ تعظمون الحمير وتضمخونها بالعير وتقبلونها فإنها أفضل من الصليب بكثير. / (2/73/أ) فشتان بين مركوب بالرئاسة مخصوص، ومركوب قرنه باللصوص. فلو عقل النصارى لأسقطوا ذكر الصليب ورفضوه ومقتوا ذكره3 وأبغضوه. فإن ذاكره يُعَرِّض بربّهم ويُنوِّه بثلبهم. تابع الباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النّصارى واليهود 67- فضيحة أخرى: النصارى مختلفون في السجود للصور. فمنهم من يؤثره ويهواه. ومنهم من كان يكرهه ويأباه. وأكثرهم على المذهب الأوّل بدليل أنّ كنائسهم لا تكاد [تخلو] 4 من الصور. وهذا مما أحدثوه بعد المسيح وأصحابه5 وهذه الأناجيل الأربعة في أيدينا ليس فيها شيء يدل على انتحال ذلك ألبتة. بل قد صرحت بالتوحيد من غير موضع كما قدمناه. وأيّ فرق بين السجود للصورة والسجود للوثن والصنم؟ ولو كان ذلك من الدين

_ 1 في م: وأحدثتموه. 2 متى 21/9. 3 في م: ومنعتوا ذاكره. 4 في ص، م (تخلوا) والصواب ما أثبتّه. 5 ورد النهي عن صنع التماثيل والتصاوير (وتسمى عندم بالأيقونات) والسجود لها صريحاً في التوراة سفر اللاويين 26/1، كالآتي: "لا تصعنوا لكم أوثاناً ولا تقيموا لكم تمثالاً منحوتاً أو نًصَباً ولا تجعلوا

لكان أولى الصور السميح وأولى الناس بالسجود لها الحواريون. وقد بقوا بعد المسيح حتى اخترموا لم يؤثر عنهم شيء من هذا القبيل. وقد ذكرنا أن التوراة قد

_ في أرضكم حجراً مصوراً لتسجدوا له. لأني أنا الرّبّ إلهكم". وتكرر ذلك النهي أيضاً في سفر التثنية 4/15-20. يقول ول ديورانت: "إن الكنيسة - أوّل أمرها - تكره الصور والتماثيل وتعدها بقايا من الوثنية. وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدي إلى تمثيل الآلهة. ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر في القسطنطينية والشرق الهلنستي - كلّ هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية. ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم، فظهر لهم ولمريم العذراء كثير من الصور. وحَوَّل الشعب المسيحي الآثار والصور والتماثيل المقدسة إلى معبودات يسجدون لها ويقبلونها ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي". اهـ. وعندما تولى الإمبراطور ليو الثالث (713-741م) عرش الإمبراطورية - وكان متأثراً بالمسلمين في تحريمهم التماثيل والصور - فإنه عقدا مجلساً من الأساقفة وأعضاء مجلس الشيوخ وأذاع بموافقتهم في عام 726م مرسوماً يقضي فيه تحريم عبادة الأيقونات وإزالتها من الكنائس والأديرة. وسانده في هذا المرسوم المثقفون من النصارى. ولكن عارضه المؤيّدون لعبادة الأيقونات وهم الرهبان والأساقفة وقاموا بمساندة الشعب بثوراتهم ضدّه. وخلفه ابنه قسطنطين الخامس (741-775م) الذي عقد مجمعاً بالقسطنطينية سنة 754م للتأكيد على تحريم عبادة الأيقونات. كما سار على نهجه ابنه الرابع (775-780م) وبعد موته انتقلت السلطة إلى أرملته (إيريني) الوصية على ابنها الصغير قسطنطين السادس. وقد كانت من أشدّ أنصار عبادة الصور والتماثيل. فألغت تنفيذ المرسوم السابق وعينت طرسيوس - وهو من عادة الأيقونة - في منصب بطريرك القسطنطينية. ثم سعت إلى عقد المجمع المسكوني السابع في نيقية سنة 787م الذي أقر تعظيم الصور والتماثيل المقدسة لا عبادتها وبأنه تعبير مشروع عن التقي والإيمان النصراني. وبذلك انتصر المؤيّدون لمذهب الصور وعبادتها لكن الصراع لا زال دائراً حيث أيّدت طائفة البروتستانت القول بتحريم الصور والتماثيل وإزالتها من الكنائس. (قصة الحضارة 14/154-158، المسيحية في العصور الوسطى ص 47، 52-54، جاد المنفلوظي، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء، ص 225-239، د. رؤوف شلبي) .

شددت وغلظت على من يفعل شيئاً من ذلك. / (2/73/ب) والمسيح عليه السلام قد1 قال في إنجيله: "إنه لم يأت لنقض التوراة بل جاء لإكمالها"2. فهذه التوراة مصرحة بتكفير عابد الصور. وهذا الإنجيل ليس فيه لها ذكر. وهذه كنائس النصارى مملوءة بها. فلم يبق إلاّ المجاهرة والعناد وعبادة الأنداد. 68- فضيحة أخرى: للروم كنيسة ببعض بلادهم يحجون إليها في يوم من السنة فيشاهدون صنماً بها. إذا قُرأ الإنجيل بين يديه درَّت ثدياه وخرج منه اللبن فيشاهده من حضر ويتحدث فيه من غاب ويعدها آية بيّنة ودلالة على الدين ليست بالهينة. ويحصل للسدنة بسبب ذلك مال عظيم. فبحث ملكهم عن ذلك فوجد القَيِّم قد ثقب من وراء الجدار طاقة لطيفة وهندمها حتى أوصلها بثدي الصنم وجعل فيها أنبوبة من نحاس وأصلحها بالجير وأخفى أمرها. فإذا كان يوم العيد فتحها وصبّ فيها لبناً فيخرج من ثدي الصنم ويسقط نقطَةً نقطةً على تدريج فلا يشكّ من حضر أنها آية ظهرت عند / (2/74/أ) تلاوة الإنجيل وبركة العيد. فلما انكشف له وجه هذه الحيلة ضرب عنق القيم وتقدم أن لا يبقى في الكنائس ببلده صورة3. فوقع بينهم اختلاف بذلك وكفَّر بعضهم بعضاً وبَدَّعه وتبرأ منه. 69- فضيحة أخرى: للنصارى صنم بالقسطنطينية له عيد في السنة تحج إليه النصارى من كلّ وجه في يوم مشهود. فإذا تلي الإنجيل بين يديه بكى بالدموع الغزار. فيشاهد ذلك من حضر ويكثرون الابتهال والدعاء ويعجون بالبكاء فاجتمع عنده مال واحتاج الملك إلى قرض فرام اقتراض ذلك وأخذه

_ 1 في ص (فقد) والمثبت من م. 2 متى 5/17. 3 نقل ابن القيم هذه الفضيحة وذكر أنها حدثت في زمن المتوكل. (ر: إغاثة اللهفان ص 619) . ولكن ذكر المقريزي أن هذه الفضيحة وقعت في زمن (قسيما) - الذي تولى بطركية اليعاقية في مصر سنة 244م. وأقام فيها سبع سنين وخمسة أشهر ثم مات - وبأن اسم الملك الذي أمر بمحو الصور من الكنائس بسبب هذه الفضيحة - هو نوفيل بن ميخائيل ملك الروم. (ر: الخطط 3/539) .

فأبى عليه القَيِّم فحضر الملك إلى الكنيس بنفسه وقال للأسقف: اقرأ الإنجيل الساعة حتى نرى كيف يبكي الصنم. فقال: إنما يبكي في يوم واحد من السنة. فاستشعر الملك أن تلك مخرقة فتقدم يحفر ما تحت الصنم فوجد حفرة مصنوعة والصنم مُجَوّف من أسفله تجويفاً ضيّقاً فإذ كان ذلك اليوم وضع الأسقف في تلك الحفرة / (2/74/ب) قربة ماء وجعل فيها أنبوبة مستطيلة رقيقة متصلة برأس الصنم وستر الحفرة ستراً محكماً فإذا مسَّها ماسٌّ وأضغطها صعد الماء في الأنبوبة إلى رأس الصنم وقد حشي رأسه بالقطن فإن تشرب القطن الماء سالت منه دمعات وسقطت من عيني الصنم على تدريج بأمر قد أحكم وحيلة قد أتقنت. فلما اطلّع الملك على ذلك أمر بالصنم فأخرج وأخذ ما وجد بالكنيسة من المال وأدَّب القَوَمَة وشرّدهم1. 70- فضيحة أخرى: افترقت النصارى فرقاً كثيرة2 وتقاطعوا وتدابروا وكفّر بعضهم بعضاً وضلّله. والكل ضلال. فمنهم اليعقوبية ومنهم الملكية ومنهم النسطورية. وقد تقدم ذكرهم. ومنهم الآريوسية أصحاب أريوس. واعتقادهم أن المسيح مخلوق جسمه وروح وأنه ليس بإله ولا ربّ غير أن له سلطاناً على السماء، وأنه قد قُتل وصُلب. واتّفق النصارى بنيقية3 على لعنه والتبري منه وبسببه عقدوا الأمانة التي أوضحنا فسادها / (2/75/أ) وجهل من ألفها. ومن النصارى فرقة تعرف بالليانية4 شاركت السوفسطائية في السنلان في

_ 1 نقل المؤلِّف هذه الفضيحة من كتاب أبي عبيدة الخزرجي. (ر: مقامع هامات الصلبان ص 269) . 2 قال ديورانت: "كان سلس - أحد الرومانيين المهاجمين للنصرانية - قد قال ساخراص: إن المسيحيين تفرقوا شيعاً كثيرة. حتى أصبح هَمَّ كلّ فرد منهم أن يكوِّن لنفسه حزباً. واستطاع إيرينيوس في عام 187م أن يحصي عشرين شيعة مختلفة من المسحيين. وأحصى إيفانيوس في عام 384م ثمانين. وكانت الأفكار الأجنبية تتسرب إلى العقيدة المسيحية في كلّ نقطة من نقاطها". (ر: قصة الحضارة 11/314) . 3 في م: بنفيه. 4 في م: باللياميته.

المسيح خاصة فقالت: إن الذي تراه العين من المسيح ليس هو المسيح، وإنما هو خيال وإلاّ فالمسيح ليس يُتصور أن يرى1. وفي نفس دعواهم هذه ما يقضي بِرَدَّها إذ يقال لهم: إذا كان المسيح لا يرى وإنما هو خيال فمن أين لكم أن الذي أثبتموه خيالاً للمسيح أنه هو المسيح؟ ولعل الذي رأيتموه خيالاً ليس بخيالٍ أيضاً. ولعل أحدكم [حمار أو كلب أو حيوان] 2 آخر وإن كان آدميّاً في رأي العين وذلك قلب للحقائق. ومن النصارى من يقول: إن مريم لم تلد إنساناً3 وإنما ولدت جسداً وجاءت الكلمة فاتّحدت به فصار بها إنساناً كاملاً. ومن النصارى من يعتقد أن المسيح مولود من الأب والروح4. وأنّ الرّوح قوة تحل على الصالحين كما حلّت على يوحنا وهي التي تحلّ على القربان فتبارك فيه. وأنها إذاً من إرث الأنبياء أتتهم في صورة إنسان حسن الصورة. / (2/75/ب) .

_ 1 القائلون من النصارى إن المسيح نزل في جسم خيالي يُسمون بالمتخيلة (DOCETISTS) وهم عدة مبتدعين منهم: في القرن الثاني الميلادي: فالنتيوس، وسطرينس، ومركيون، وتاتيانس، وبرديياس. وفي القرن الثالث الميلادي: ماني. وفي القرن الرابع الميلادي: أبو ليناريوس. وفي القرن الخامس الميلادي: أوطاخي (أفتيخوس) - رئيس دير بضواحي القسطنطينية وقد استمرت بدعته إلى القرن السادس فاعتنقها يولياناس الخيالي. (ر: موجز تاريخ المسيحية ص 308، 309، يسطس، قصة الحضارة 11/294) . ويوليانس هو الذي تنسب إليه طائفة الإليانية، وأتباعها قوم من فرقة اليعقوبية وهم بالشام واليمن وأرمينيا. (ر: الملل والنحل 1/227، للشهرستاني، الجواب الصحيح ظ/ 23، وهداية الحياري ص 335) . 2 في ص، م (حمارا أو كلباً أو حيوانا) والصواب ما أثبتّه. 3 لعل خطأ قد وقع من الناسخ في هذه الكلمة. وتصحيحها كالآتي: "إن مريم لم تلد إلهاً وإنما ولدت جسداً". وهذه مقالة النسطورية من فرق النصارى. وقد تقدم التعريف بها. ر: ص: 486. 4 هذه مقالة فرقة الملكية (الكاثوليك) من النصارى. وقد تقدم التعريف بها. ب: ص: 483.

ومن النصارى فرقة تسمى القافرونية تزعم أنّ أورشليم ليست بيت المقدس، وإنما هي قافرون بأفرنجة. ويزعمون أن المسيح ترائى لهم في تلك المدينة وهو يتّخذون القسيسين من النساء1. ومن النصارى فرقة تعرف بالمريمية يزعمون أن مريم حين ولدت المسيح لم تكن عذراء وأنهاكانت ولدت قبله عدةأولاد من يوسف2.

_ 1 ظهر في منتصف القرن الثاني الميلادي في مدينة (فريجيه) بآسيا الصغرى، رجل يدعى (مونتانوس) وهو كاهن وثني متنصر. ادّعى أنه نبي مسيحي. وزعم أن (فريجيه) مقر أورشليم الجديد. وأن لديه رسالة جديدة من الروح القدس. ونادى بتحريم الزواج. ووضع قوانين للصوم، ويزعم أتباعه بأن المرأتين اللتين اتبعتا مونتايوس - وهما مكسيميلا وبريسكلا وكانتا متزوجتين فتركا زوجيهما وتتلمذتا عليه - نبيّتان له وأصبحت عذراوين في كنيسته. وتسمى هذه الفرقة بـ: (المونتانية MONTANISM) . (ر: تاريخ الكنيسة ص 261-271، يوسابيوس القيصري، فجر المسيحية ص 121، 122، حبيب سعيد، قصة الحضارة 11/293، 294) . 2 يذكر المقص زكريا إبراهيم: "أن هذه الفرقة ظهرت في القرن الخامس الميلادي. وكان أصحاب هذه البدعة من الوثنيين الذين اعتنقوا المسيحية. وكانوا في وثنيتهم يعبدون الزهرة ويقولون عنها ملكة السماء. وعندما اعتنقوا المسيحية حالوا التقريب بين ما كانوا يعبدون وبين العقيدة المسيحية. فاعتبروا (مريم) ملكة النساء أو إلهة النساء بدلاً من الزهرة ولذلك أطلقوا على أنفسهم اسم (المريميين) " اهـ. (ر: الله واحد في الثالوث المقدس ص 41) . وقد ذكر ابن البطريق هذه الطائفة في كتابه: (نظم الجوهر) ونقله عنه ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/22، وابن القيم في هداية الحياري ص 321، والمقريزي في خططه 3/524. وقد ذكرها ابن حزم باسم (البربرانية) وبأنها قد بادت. (الفصل في الملل والنحل 1/110) . وقد ردّ الله عزوجل على هذه الطائفة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة المائدة، الآية: 116] . ومع أن النصارى يقولون بانقراض هذه الفرقة وأن الكنيسة لا تعترف بألوهية مريم وتؤمن بأن العذراء مريم إنسانة بشرية. (ر: الله واحد في الثالوث ص 42) . إلاّ أن تقديس النصارى لمريم جاء في مجمع أفسس الأوّل سنة 431م، الذي وضع مقدمة قانون الإيمان كالآتي: "نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك أيتها العذراء المقدسة والدة الإله". ويؤكّده أيضاً ما جاء في أوامر الكنيسة وتعاليمها بالتوجه والدعاء إلى مريم. وأن تختم الصلاة الربانية عندهم بالصلاة المريمية عشرين مرة. (ر: الإنجيل الصليب ص 125، 126، للمهتدي عبد الأحد داود. المسيحية في العصور الوسطى ص 44 جاد المنفلوطي) .

ومن النصارى فرقة تخالف سائرهم في أمرين: أحدهما تقول: إن مُلكَ المسيح على الأرض لا غير. والآخر يقول: إن في الجنة طعاماً وشراباً لكنه لا يبقى أكثر من ألف سنة1. ومن النصارى فرقة لا يدخلون الكنائس إلاّ عراة ويحرمون النكاح2. ومن النصارى فرقة يعبدون حَيَّة ويعظمونها كتعظيم المسيح3. ومن النصارى فرقة يزعمون أن المسيح جاء معه بجسد من السماء وجرى من مريم مجرى الماء في الميزاب4.

_ 1 هذه اعتقادات طائفة (الكيرنثيون) وهم أتباع كيرنثوس (CERINTHUS) زعيم الهراطقة. وقال بها من بعد بابياس (ولعلّ اسم (بابياس) قد نقله الشهرستاني محرّفاً إلى (بليارس) . ثم قال بها نيبوس (NEPOS) أحد أساقفة مصر في القرن الثالث الميلادي. (ر: تاريخ الكنيسة ص 157، 158، 177، 371، يوسابيوس، موجز تاريخ المسيحية ص 152، والملل والنحل 1/227 للشهرستاني) . 2 ذكر يوسابيوس: "فرقة باسم (النيقولاويين) نسبة إلى نيقولاوس أحد الشمامسة الذين أقامهم الرسل مع استفانوس لخدمة الفقراء. وأن نيقولاس كانت له زوجة جميلة وعندما اتهمه الرسل بالغيرة والحسد بعد صعود المخلص أخذها ووضعها في وسطهم وسمح لأي واحد أن يتزوج بها. لأنه يقال إن هذا كان يتفق مع القول المعروف عنه أن المرء يجب أن يذل جسده. أما الذين اتبعوا هرطقته وقلدوا بحماقة كلّ ما فعله وقاله تقليداً أعمى فإنهم يرتكبون الزنى بلا خجل أو حياء". (ر: تاريخ الكنيسة ص 159) . 3 لا عجب في ذلك فإن أسلافهم اليهود قد عبدوا الحية النحاسية التي ورد ذكرها في التوراة المحرفة سفر العدد 21/9. أن موسى قد صنعها وأقامها على عمود في البرية لكي ينظر إليها بنو إسرائيل الذين لدغتهم الحيات فيشفون. وفي السنين التالية اتّخذها اليهود صنماً يعبدونها إلى أن حطمها نبيّهم حزقيا كما في سفر الملوك الثاني 18/4. وقد زعم النصارى أن تلك الحية النحاسية - المرفوعة على عامود - رمز ونبوءة على صلب المسيح. وأن تلك المقارنة قد وردت في إنجيل يوحنا 3/14، 15. 4 هذه مقالة فالنتيوس (VALENTINUS) الذي ظهر في منتصف القرن الثاني الميلادي. واشتهر في روما في عهد هيجينوس أسقف روما. وأسس شيعة تنتمي له. وقال أبيفانوس عنه: "إنه ولد في مصر ودرس الآدب اليونانية في الإسكندرية". ر: تاريخ الكنيسة ص194،195،يوسابيوس، موجز تاريخ المسيحية ص152، 308) . وقد ذكر مقالته تلك ابن البطريق في نظم (الجوهر) ونسبها إلى اليان (يوليانس) الذي كان في القرن السادس الميلادي. ونقل ذلك عن ابن البطريق عدد من العلماء منهم ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/23، وابن القيم في هداية ص 323، والمقريزي في الخطط 3/524.

ومن النصارى فرقة تعرف بالوغانية ينكرون إنجيل يوحنا التلميذ لا يعترفون به ألبتة ويقولون: ليس المسيح إلهاً غير أنا قد أمرنا بعبادته1. ومن النصارى / (2/76/أ) فرقة تقول: "إن المسيح من الأب بمنْزلة شعلة نار أخذت من شعلة نار لم تنقص بالأخذ"2. وقد بقيت من النصارى فرق لو ذكرناها لأطلنا وخرجنا عن شرطنا في الاختصار وقد ذكر العلماء أن عدّة فرق النصارى اثنتنان وسبعون فرقة. 71- فضيحة أخرى: ترك طوائف من النصارى أكل اللحم في صيامهم وحرموه، وذلك مما أحدثوه بالرأي بعد المسيح وتلاميذه. فانتحلوا مذهب المانوية أصحاب ماني3 الزنديق. قال الشاعر في المانوية: تركنا اللحم للإفلاس والقلة والضيق فقالوا منويين بقول غير تحقيق ولو مَرَّ بنا ماني أكلناه على الريق

_ 1 ورد أن فرقة (الوحين) التي كانت في القرن الثاني الميلادي تنكر إنجيل يوحنا وجميع تصانيفه. وقد سبق لنا في التعليق على إنجيل يوحنا ص 113 ذكر بعض الذين أنكروا هذا الإنجيل. (ر: إظهار الحق ص 90، 100، لرحمة الله) . 2 هذه مقالة (سابليوس) الذي كان رئيس شيعة تنسب إليه باسم (السابلية) في روما أثناء أسقفية زفيرينوس (198-217م) . (ر: تاريخ الكنيسة ص 349، قصة الحضارة 11/295) . وقد ذكر مقالته تلك ابن البطريق في (نظم الجوهر) ونقلها عنه علماء المسلمين منهم: الإمام ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/23، وابن القيم في هداية ص 323، والمقريزي في الخطط /524. 3 ماني الطشقوني: الذي ظهر في أواخر القرن الثالث الميلادي. كان فيلسوفاً من بلاد فارس. حاول إيجاد ديانة توفق بين الديانات الفارسية والبوذية واليهودية والنصرانية. وادّعى بأنه المسيح المنتظر وقد رحب به سابور الأوّل ملك الفرس في بداية الأمر. ولكن كهنة المجوس ثاروا ضده فاضطر إلى الهرب. ولما عاد تبعه جمع كثير. ولكن الملك فاراسن الأوّل حكم عليه بالإعلام سنة 276م. وقد انتشرت شيعته التي نسبت إليه باسم المانيكيين (MANICHEANS) في غربي آسيا وشمالي أفريقيا ونظريتها الأساسية الاتعقاد بوجود إلهين: إله للخير (النور) وإله للشّرّ (الظلمة) . (ر: تاريخ الكنيسة ص 386، موجز تاريخ المسيحية ص 154-156، قصة الحضارة 11/295) .

وبعد، فقد أكل الأنبياء والنجباء من عباد الله اللحم واغتذوا به فلو كان لذلك أصل لكان مذكوراً في نبواتهم ومأثوراً عنهم. 72- فضيحة أخرى: جوَّز النصارى على الباري تعالى النّزول والصعود والحركة والسكون وتلك أدلة حدث العالم عند المحقِّقين1. فإذا وصفوا الباري بذلك / (2/76/ب) فقد أبطلوا الدلالة على حدث العالم وذلك يمنع من إثبات الصانع. فكأنهم يحاولون إثبات الروبية بما يستدعي نفيها وإبطالها2. 73- فضيحة أخرى عظيمة: أكل النصارى لحوم الخنازير وأحلوه وذلك مما أحدثوه بعد المسيح وقد رفع الله المسيح وإن الخنْزير لحرام. فراغموا التوراة والإنجيل. أما التوراة فقال الله فيها: "الخنْزير حرام عليكم فلا تأكلوه"3.

_ 1 قلت: تلك أدلة حدث العالم عند الفلاسفة ومن تابعهم من المعتزلة والأشاعرة. وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية: "وأما المعتزلة والجهمية ومن تبعهم، فطريقتهم المشهورة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع هي الاستدلال بإثبات الأعراض أوّلاً، وإثبات حدوثها ثانياً. وبيان استحالة خلوّ الجواهر عنها ثالثاً. وبيان استحالة حوادث لا أوّل لا رابعاً. وقد وافقهم عليها أكثر الأشعرية وغيرهم. وهذه هي التي ذمّها الأشعري وبيّن أنها ليست طريقة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا من اتبعهم". اهـ. (ر: درء تعارض العقل والنقل 1/38-41، 7/223-232 لابن تيمية، رسالة إلى أهل الثغر، ص 178-187، لأبي الحسن الأشعري، وللتوسع في الرّدّ على تلك الأدلة، مجموع الفتاوى 6/49، 50، 247-302، لابن تيمية) . والفرق ظاهر بين إثبات النصارى لتلك الصفات وبين إثبات المسلمين. فإثبات النصارى إثبات تجسيم لإلههم المجسم المُحدث وهو المسيح بزعمهم. وهو الضلال بعينه. أما إثبات المسلمين لصفات الله عزوجل فمبني على الوحي والنقل الصحيح من غير تشبيه أو تمثيل أو تكييف أو تعطيل. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ولا يحيطون به علماً. وقدتقدم بيان مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك. ر: ص:90،91. 2 ليست في (م) . 3 لاويين 11/7، 8.

وهذا نصّ لا يحتمل التأويل. وأما الإنجيل فقد حكى مرقس في إنجيله: "إن المسيح أتلف الخنْزير وغرق منهم في البحر قطيعاً كبيراً"1. وقال لتلاميذه: "لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قُدَّام الخنازير"2. فقرنها بالكلاب فمن أحلّ الخنْزير قد كفر بموسى والمسيح. فإن قالوا: إن بطرس رأى في النوم صحيفة نزلت من السماء فيها صور الحيوانات وصور الخنْزير وقيل له: يا بطرس كلّ منها ما أحببت"3. قلنا لهم: الشرايع والأحكام لا تنسخ بالمنام والأحلام ونحن نحاشي بطرس أن يخالف التوراة والإنجيل / (2/77/أ) بمنام رآه. والتوريك على من نقل ذلك عنه أولى من رفع القواعد الثابتة بالرؤيا والأحلام. 74- فضيحة أخرى: اعترض النصارى على قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلِيهِم فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر} . [سورة النحل، الآية: 43] . قالوا: إنما عنى بأهل الذكر حملة التوراة والكتب العتيقة. وقد قال أهل الذكر: إن الله قد بعث أنبياء من النساء منهن مريم أخت موسى وخلدي ورفقا وأستار. فافتضح النصارى لما حققوا جريان الآية على سبب وهو أن مشركي العرب أَنِفَتْ أن يأتيها برسالة الله رجل منها، وودَّت أن لو كان الرسول إليهم مَلَكاً من ملائكة السماء، فقالوا ما أخبر الله به في كتابه: {وَقَالُوا لَولاَ أُنْزِلَ عَلَيهِ مَلَكٌ} . فقال الله: {وَلَو أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْر} 4.

_ 1 مرقس 5/1-14، متى 8/28-32، لوقا 8/26-33. 2 متى 7/6. 3 أعمال الرسل 10/10-16. 4 قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} . [سورة الأنعام، الآية: 8] .

ثم قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} . ولم نرسل الملائكة بل لم نبعث إلى البشر إلاّ من جنسهم فقل لمن تَعَنّد: فليسأل أهل الكتاب هل بعث الله قط الرسل إلى الناس / (2/77/ب) إلاّ من جنسهم فإنهم سيخبرونهم بصحّة ذلك. والنَّزاع لم يكن بين النبي عليه السلام وبين العرب في إرسال النساء أو الرجال، بل في إرسال الملائكة والآدميين1. هذا، إن سلمنا ما ادّعوه من نبوة هؤلاء النسوة. ونحن لم نصدّقهم فيما لم تقم عليه حجّة ولا دلّ عليه دليل ولم نتجاوز بهم القدر اللائق بهم والمشهود به على لسان أرميا وأشعيا - عليهم السلام - من لعنهم وخزيهم ومقتهم ولنا في ذلك أسوة حسنة بمن تقدمنا من أنبياء الله. فقد قال أشعيا فيهم: "عرف الثور من اقتناه، والحمار مربط ربه، ولم يعرف ذلك بنو إسرائيل"2. ومن لا يعرف ربه فالأولى أن لا يعرف نبيّه. ومن جهل المرسل جهل الرسول لا محالة. ومن غلط فأخرج من ديوان النبوة مثل نوح وإبرهيم وإسرائيل فغير عجيب منه إثباتها للنسوة المجاهيل.

_ 1 قال الضحاك عن ابن عباس: "لما بعث الله محمّداً رسولاً أنكرت العرب ذلك. أو من أنكر منهم. وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمّد. قال: فأنزل الله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} . وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تعلمون بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} . فاسألوا أهل الذكر: يعني: أهل الكتب الماضية. أبشراً كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشراً فلا تنكروا أن يكون محمّد رسولاً". أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 14/109. (ر: تفسير البغوي والخازن 4/76، أسباب نزول القرآن ص 285، لأبي الحسن الواحدي، تفسير القرطبي 10/107، تفسير ابن كثير 2/591، الجواب الصحيح 1/337، 38، لابن تيمية) . 2 سفر أشعيا 1/3.

75- فضيحة أخرى: ترك طوائف من1 النصارى النكاح المباح ورفضوا النساء ولم يروا بالتناسل وإبراز الذرية الصالحة إلى الوجود/ (2/78/أ) هذا شيء لو ما لأهم الناس عليه لانقطع التناسل وانقرض جنس الآدميين. وهذا - فاعلم - مما أحدثوه بعد المسيح وكأنهم [نَحَوْ] فيه نَحْوَ المتفلسفين من الطبائعيين. فإن تمسكوا بقوله في الإنجيل: "من ترك زوجة من أجلي فإنه يعطي للواحد مائة ضعف ويرث الحياة الدائمة"2. قلنا: في الفصل كلام أسقطتموه وهو قوله: "من ترك بنين وبنات أو حقولاً فإنه يعطى"3. وذلك مما لا نصححه عن المسيح إذ لا يجوز إجراء هذا الكلام على ظاهره، فإن الفرار عن الأولاد والأطفال وتركهم بلا كافل يكفلهم ومنفق ينفق عليهم مما لا يجوز، ومن نسب المسيح إلى الجهل بذلك فقد كفر بالمسيح. ثم ذلك على تقدير صحّته معارض بنصّين عن المسيح؛ أحدهما: قوله في جواب الزنادقة الذين جاؤوا متعنتين له: "إن الذي زَوَّجه الله لا يقدر أحد على تفريقه"4.

_ 1 من المعلوم عن النصارى أن الرهبان والقساوسة ورجال الدين في الكنيسة حرموا النكاح المباح على أنفسهم وادّعوا التبتل وهم بذلك قد انحرفوا عن الفطرة الإنسانية مما نتج عنه انحراف أعظم وأخطر حيث انغمس الكثير منهم في الملذات والشهوات المحرمة واتّخذوا العشيقات والسراري. وخاصة البابوات منهم مثل: البابا إسكندر السادس. وتحولت الأديرة والكنائس من دور عبادة وطهر إلى مواخير دعارة ونجاسة - والعياذ بالله - وكتب مؤرخيهم تشهد بذلك. (ر: كتاب تاريخ الإصلاح في القرن السادس عشر لمؤلِّفه ميرل دوبينياه طبع بيروت سنة: 1878م، وقصة الحضارة 12/129-131، 18/84-86، في الباب العشرين من الانحلال الخلقي، كتاب (الديارات للشابشتي) . وهناك طوائف أخرى من النصارى دعت إلى العزوبة وترك النكاح منهم: المارسينيون أتباع مرسيون الذي ظهر في عام 1410م. والمانوية أتباع ماني. والإنكراتيون أتباع تاتيان، والساويرسيون أتباع ساويروس. (ر: تاريخ الكنيسة ص 227، 228، قصة الحضارة 11/292-295) . 2 متى 19/29، مرقس 10/29. 3 متى 19/29، مرقس 10/29. 4 متى 19/3-6، مرقص 10/29.

والآخر: قوله عليه السلام: "إن من طلق زوجته باطلاً فقد عرضها للزنا ومن تزوج بمطلقة فقد زنا بها"1. / (2/78/ب) . ثم النكاح والتناسل سنّة الأنبياء وخواص الأولياء ودأب النجباء والأقوياء. وقد امتن الله على إبراهيم وإسرائيل وزكريا ومريم وغيرهم بنعمة الأولاد كما هو مزبور مذكور في كتبهم. ومن رغب عن سنة الأنبياء التحق بالأغبياء2. وقد قال فولس في الرسالة الثانية عشرة: "إن القسيس محقوق أن يكون غير ملزم فإنه وكيل الله غير حقود. ولا يستبد برأيه ولا [مجاوزاً] 3 للمقصد4 في الخمر. ولا يسرع بيده إلى الضرب. وأن يكون محباً للغرباء والأعمال الصالحات. وأن يكون عفيفاً باراً ضابطاً لنفسه عن الشهوات. عنياً بالعلم والتعليم. ويكون له زوجة واحدة وبنون صالحون"5. فمن رفض النكاح ومنع منه فقدخالف من ذكرنامن الأعلام والقدوة. 76- فضيحة أخرى: مع غلبة الجهل على النصارى فهم أشدّ الناس دعاوى وأوسعهم تخرصاً على الله يزعمون أن فيهم اليوم من يمشي على الماء ويحيى الموت ويفعل العجائب. / (2/79/أ) ويدّعون أن بفارس بيعة لهم كانت على قنة جبل ولها مرتقى صعب وأن واحداً منهم دعا إلهه الذي صلبته اليهود فحطها له من أعلى الجبل حتى جعلها على وجه الأرض.

_ 1 متى 19/9، مرقس 10/11، لوقا 16/18. 2 في م: (التحقق بالأغنياء) . 3 في ص، م (مجاورا) والصواب ما أثبتّه. 4 في م: القصد. 5 رسالته إلى نبطس 1/6-9.

ويزعمون أن كنيسة بالسوس كانت بأعلى تل ولها بئر في أسفله، وأن القَيِّم بالكنيسة كبر وعجز عن النّزول فدعا ربّه المصلوب وتوسل إليه وأقسم عليه بالخشبة التي صلب عليها فرفع البئر إليه، فيدعي ذلك اليعقوبي على النسطوري، والنسطوري على الملكي1.

_ 1 يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "قد قال بعض الحكماء: هَا هنا ديانات ومقالات تعرف كذب أهلها بأدنى تأمل. منها: النصرانية فإنهم يَدَّعون الآيات لكبرائهم وأنها لا تنقطع في زمان من الأزمنة. وأن الذين أجابوا إلى النصرانية إنما أجابوا بالمعجزات". ثم يقول القاضي: - "ومن أكبر كيد رؤساء النصارى ادعاء المعجزات لأنفسهم ولأمثالهم ممن سلف من رؤسائهم. والنصارى تقبل ذلك منهم بغير برهان ولا حجّة. فإذا مات ذلك الرئيس من راهب أو قس، قعد راهب وقال: أنا كنت أخدمه فرأيت منه العجائب، فتحموا عليه معشر النصارى وتوسلوا إلى الله به فإنه شاهد فاشهدوا قبره وأكثروا زيارته. فيقول النصارى: يا ربّاني حدّثنا بما رأيت منه فيمتنع ويقول: اعفوني من الشرح. وكلما تمنَّع لَجُّوا في مطالبته. فيقول: قد كان انقطع بنا الزيت في البيعة. وكان لا يطلب الزيت من أحد ولا يدعني أطلبه. فإذا كان الليل أشعل القنديل وقام إلى جرة فيها خلّ فيصبه في القنديل فيصير من ساعته زيتاً. فيصطبح به كذا وكذا شهراً. - ثم يذكر القاضي أمثلة أخرى من تلك المعجزات التي يدعيها النصارى لرهبانهم ورءسائهم، مثل: إحياء الموتى وفعل الخوارق. ثم يقول: - "فيصدق النصارى الرهبان فيما يدعونه ويكتبونه عنهم. ويجعلون له عيداً وذكراناً فيقولون: هذا ذكران جورجس وهذا ذكران مرقس، وهكذا. وهذا أصله ومخرجه وأوّله. فإذا تَخَلَّد وانبث ومرت عليه الدهور وأتت عليه الأعصار، ادعوا أنه شيء كان أصله بمشاهدة الأمم. لأن الكذب فيما تقادم عهده أمكن. وإنما يجعلون له كراناً وعيداً ويوماً بعينه لتتم الحيلة فيه. وليظن من يسمع أنه ما جعل له عيد ويوم معلعوم وتاريخ محدود مؤقت إلاّ هو حقّ. وله أصل ليتأكد الكذب ويتم التمويه. وليتصل البرّ والصّدقات على الرهبان في هذه الأعياد. والفطناء من النصارى يقولون: هذه الآيات والمعجزات إنما هي من احتيالات الجثالقة والرهبان ومن يبغض العمل ويفر من الكَدِّ. ويسمونهم بلغتهم السريانية: (عازق معناثا) معناه: أنه ترهب ولزم الدين ليأكل من غير ماله ويستريح من الكد". اهـ. (ر: تثبيت دلائل النبوة 1/175، 202-209، بتصرف) .

77- فضيحة أخرى: النصارى أنزل الناس لما في كتبهم ولما نصّ عليه المسيح من التواضع واللطف والإيثار؛ وذلك أن القتال لم يكن من سنة المسيح ولا من طريق تلاميذه الذين صحبوه. بل كان مذهبهم الذي جاء به المسيح الاستسلام إذا عجزوا والعفو إذا قدروا. وهم الذين رووا عنه في الإنجيل: "من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر. ومن نازعك ثوبك فزده رداءك، ومن سَخَّرك مِيلاً فامض معه/ (2/79/ب) اثنين"1. وهم الذين حكوا عنه في الإنجيل: "أحبوا مبغضيكم، وصلوا على لاعنيكم، وأعطوا من حرمكم، وصلوا من قطعكم، وأحسنوا إلى من أساء إليكم"2. وقالت أوائلهم: لو أراد المسيح نصب الحروب لم يستسلم فنحن لا نخالف سيدنا المسيح. وقد قال المسيح: "طوبى للذين يرحمون وأن الرحمة تكون لهم، طوبى للذين يصلحون بين الناس، أولئك أصفياء الله ونور بني آدم"3. فهم مع كونهم يروون ذلك عن المسيح أنزل الناس له وأبعدهم منه. وقد قال فولس في الرسالة الحادية عشرة: "اهرب من جميع الشهوات، وَاسْعَ للرّبّ وللإيمان والود والسلم. وتنكب المنازعات فإنها تولد القتال، وليس يحل لعبد

_ 1 متى 5/39، لوقا 6/29. 2 متى 5/44، 6/27، 28. 3 متى 5/7-10.

من عبيد الله أن يقاتل"1. فأمر فولس بترك ما يؤدي إلى القتال سداً للذريعة، فكيف خالفه النصارى وشرعوا الحروب وسفكوا الدماء الحرام؟ "2. 78- فضيحة أخرى: أخصت الحبشة من النصارى أولادهم وكذلك بعض الروم. / (2/80/أ) والخصي أشدّ المثلة وأفظع الذنوب. ثم هم يفعلون ذلك بأطفال لا دفاع عندهم. وتلك قسوة عظيمة وغلظة جسيمة. وقد قال المسيح عليه السلام: "طوبى للرحماء"3. ثم هم يخصونهم ويبيعونهم فيأكلون أثمانهم وهذه مَعَرَّة لو وافقتهم عليها الناس لذهب بنو آدم ومُحي جنس البشر. ثم هم يتصوفون في وجوههم ولحاهم بالحلق والنتف والكشط فيصيرون مع عوج ألسنتهم أسمج شيء خلق الله. وهذه كتب الأنبياء لم تأمر بشيء من هذا الجنس4. 79- فضيحة أخرى: ليس بين النصارى شيء من الأحكام والفرائض والسنن والمحتاج إليها في المعاملات والمناكحات، والأناجيل التي بأيديهم ليس فيها سوى مواعظ ووصايا قد خلطت بكفر صريح وأكاذيب كثيرة لم يصدقهم عليها أحد من الأمم. وأكثر ما يفزعون إلى أحكام المسلمين لخلو أكابرهم عن معرفة الحلال والحرام. وأي شيء استحسنوه بعقولهم شَرَّعوه وحكموا به فمن نازعهم من (2/80/ب) أهل ملتهم أحرموه ومنعوه من دخول الكنائس فيحكمون فيهم

_ 1 رسالته إلى تيموثاوس 2/22-24. 2 وردت في الأناجيل ثلاثة نصوص تشير إلى القتال وهي: أحدها في إنجيل متى 10/34، كالآتي: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً. فإني جئت لأفرق الإنسان ضدّ أبيه والابنة ضدّ أمها والكِنة ضدّ حماتها". ثم تكرر هذا النّصّ في إنجيل لوقا 12/49-50، والنّصّ الثالث ورد أيضاً في لوقا 1927، كالآتي: "أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدّامي". ومع ذلك فإن النصوص الأخرى الكثيرة في الأناجيل - وقد ذكر المؤلِّف بعضها - تطغى على هذه النصوص، وتدعو إلى التسامح والعفو دفع السيئة بالحسنة والمغالاة في المثالية. 3 متى 5/7. 4 بل قد ورد النهي عن الخصي في سفر التثنية 23/1 كالآتي: "لا يدخل مخصي بالرّض أو مجبوب في جماعة الرّبّ".

بأحكام ما أنزل الله بها من سلطان1. قال أبو الطّاهر بن عوف رحمه الله: وليس يشتمل ديوان فقه النصارى على أكثر من خمسمائة مسألة ونيف وليست مأخوذة عن المسيح. 80– فضيحة أخرى: زعم النصارى أن يوحنا أحد مدوّني الإنجيل جلس بأفسس2 بلدة من بلاد الروم يكتب إنجيله فوقع مطر محى بعض ما كتب فغضب يوحنا ورفع وجهه إلى السماء وقال: أما تستتحيي أن تمحو اسم ابن إلهك، قالت النصارى: فلم تمطر تلك القرية من بين سائر البلاد3. ليت شعري ما طريق تصحيح هذه الدعوى، وهل البلدة اليوم تمطر أم لا؟ وإن كانت قد محلت فهل كان ذلك بسبب غضب يوحنا على ربّه وتخطئته

_ 1 لا عجب إن كانت النصرانية المحرفة من أفقر الديانات تشريعاً وأحكاماً فإن المسيح عليه السلام لم يأتِ بشريعة جديدة. وإنما كان متبعاً لشريعة بني إسرائيل. وقد كانت دعوته لإصلاح وهداية بني إسرائيل الذين ضلوا ولتخفيف بعض الأحكام عليهم. قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام قال: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} . [سورة آل عمران، الآية: 50-51] . وقال المسيح في إنجيل متى 5/17: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل". لذلك كانت الأحكام الواردة في الأناجيل محصورة في أمور محددة في الخطبة التي ألقاها المسيح على الجبل وعرفت بخطبة أو وصية الجبل. (ر: الإصحاحات 5، 6، 7. من إنجيل متى) - وإن كنا لا نسلم بصحّة نسبة جميع ما ورد في الخطبة إلى المسيح - وعندما حرّف النصارى دعوة المسيح عليه السلام فإنهم ابتدعوا عقائد جديدة وعبادات وطقوساً كنسية خالفوا بها شريعة التوراة وتحكموا فيها من خلال المجامع التي يقعدها قساوستهم فيحلون ويحرمون، ويشرعون بما شاؤوا مصداقاً لقول الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..} . [سورة التوبة، الآية: 31] . 2 أفسس: كلمة يونانية معناها: (المرغوبة) .وهي مدينة قديمة في آسيا الصغرى على بحر إيحة بتركيا. ويحسب الروايات النصرانية فإن يوحنا قام فيها في السنوات الأخيرة في حياته. كما وجه إليها بولس إحدى رسائله. وعقد فيها المجمع المسكوني الثالث عام 431م. (ر: قاموس ص 92، 93، المنجد في الأعلام ص 54) . 3 لقد زرت مدينة أفسس في شتاء عام 1407هـ الموافق 1987م. وكان المطر يهطل فيها بغزارة، وقد وقفت أيضاً في هذه المدينة على قبر يزعمون أن الحواري يوحنا قد دفن فيه.

لخالقه أم لا؟ وبعد فلعلّ في بلاد الله بلاداً وبقاعاً كثيرة لا تمطر وأخرى لا تخلو من المطر. وقد حكى النصارى أن بين هذه [القرية] 1 وبين القسطنطينية نحواً من ألف فرسخ. وهذا دأبهم فيما يستشهدون به على/ (2/81/أ) أباطيلهم فإنهم يبعدون شاهدهم غاية البعد ليعسر على الممتحن مراجعته، وليت شعري هل كان يعدو أمر ذلك المطر إما أن يكون الله هو الذي ساقه أو مَلَكٌ من قِبَل الله أو سحابة سخرها الله، فإن كان إنما انتهر الغيم والسحاب فهذا سخيف العقل إذ وَبَّخ من لا يعقل ولا يفهم ولا ذنب له. وإن كان إنما وبخ الملك المتولي سوقها فهو جاهل إذ الملك إنما يصدر عن أمر الله تعالى. وإن كان إنما خاطب الله فقد زعم أن لله إلهاً فوقه. وبالجملة ففي إنجيل يوحنا هذا أمور انفرد بها عن أصحابه ولم يوافقوه عليها، والنصارى يكاتمونا2 اختلافهم ولا يبوحون به لنا؛ لأنه اختلاف في الإله نفسه وليس هو في الفروع فيغتفر. 81- فضيحة أخرى: قال النصارى: إن المسيح لم يتكلم في المهد ولم ينطق ببراءة أمه مريم صغيراً، بل أقام ثلاثين سنة واليهود تقذف أمه بيوسف النجار وتحكم بأنه ولد زنا. فلزم على سياق قولهم أنه لم تلقَ أُمٌّ بسبب ولدها من الشّرّ ما لقيت مريم من المسيح؛ لأنه فضحها وهتك سترها ودعا / (2/81/ب) إلى رميها3 بالزنا ولم يدفع عنها بحجّة تقطع شغب اليهود وهو قادر على ذلك. ثم إنه كَلَّفها عبادته فأوجب عليها الصوم والصلاة وألزمها ترك الشهوات ومخالفة الهوى فهي ملتزمة

_ 1 في م، ص (الفرقة) والتصويب من المحقِّق. 2 في م: يكاتمون. 3 في م: خرمها.

لذلك إما خوفاً من عقابة أو رجاءً لثوابه. ثم قضى عليها الموت وجَرَّت غصصه1 وسلط عل جسدها البلى. وهذا شيء لم يُعرف في بِرِّ الأولاد وما سمعنا بعاقٍ بلغ هذا المبلغ من أمه. فبمقتضى قولهم إنه كان مشؤوماً عليها والله تعالى يقول في حقِّه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ} - إلى قوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} 2. 82- فضيحة أخرى: ربما عَرَّضَ بعض النصارى بردة ابن أبي السرح3 عن الإسلام. وقال: كيف يكون نبيّاً يوحي إليه ولا يعلم بحال من يرشحه ويختاره لكتابة الوحي. فيقال له: يا أخرق، النبيّ لا يعلم من المغيّبات إلاّ القدر الذي أعلمه الله به وكونه لا يعلم بفساد نية من يصحبه لا يقدح ذلك في نبوّته. فإن أبيت إلاّ القول بذلك فارغب بنفسك عن اتّباع المسيح؛ فإنك رويت وروى أصحابك وأهل دينك أن المسيح/ (2/82/أ) اختار رجلاً من تلاميذه الاثني عشر الذين شهد لهم بإدانة بني إسرائيل يوم القيامة وَوَلاّه صندوق مال الصدقات وقدمه على غيره من أصحابه ورشحه لأمانته وهو يهوذا

_ 1 في م: غصه. 2 قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاًً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} . [سورة مريم، الآية:31-32] . 3 هو: عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري رضي الله عنه. أسلم قبل الفتح. وكان من كُتَّاب الوحي. ثم ارتد فأهدر النبيّ صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح. فاستجار له عثمان بن عفان - أخوه من الرضاعة - فعاد مسلماً. وكان صاحب الميمنة في الحرب مع عمرو بن العاص في فتح مصر. ثم ولي مصر في عهد عثمان رضي الله عنه. ولما وقعت الفتنة سكن عسقلان ولم يبايع عليّاً ولا معاوية. ومات سنة 59هـ. في آخر عهد معاوية. وقال الذهبي: "الأصح وفاته في خلافة عليّ - رضي الله عنهم جميعاً". (ر: ترجمته في: الإصابة 4/77، سير أعلام النبلاء 3/33-35) .

الأسخريوطي - كفر وفجر وواطأ اليهود على المسيح وارتشى منهم على المسيح ثلاثين درهماً وزاد على ابن أبي السرح بأن قتل نفسه كافراً. فأما ابن أبي السرح فإنه راجع الإسلام ومات مؤمناً1. فإذا كُفْر من كَفَر من أتباع النبيّ لا يقدح في نبوته بدليل أن اليهود كفروا بعد موسى في حياته عبدوا العجل. ولم يقدح ذلك في نبوة موسى وصحّة رسالته. 83- فضيحة أخرى: عاب النصارى قول ربّنا: {وَلَو شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} . [سورة السجدة، الآية: 13] 2. ونظائرها في إثبات الخير والشّرّ من الله تعالى3. وقالوا: لا يفعل

_ 1 حديث إسلام عبد الله بن سعد بن أبي السرح بعد ردته رواه ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة لابن هشام 4/73) . وأخرجه وأبو داود 3/133، 134، والنسائي في كتاب الحدود. (ر: صحيح النسائي للألباني 3/852) . والحاكم 3/45، وأبو يعلى في مسنده 1/216، كلهم من طريق أحمد بن المفضل ثنا أسباط بن نصر. قال: زعم السدي عن مصعب بن سعد عن سعد قال: ... فذكره في سياق طويل. قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. قال الشيخ الألباني: "إلاّ أن أسباط بن نصر وأحمد بن المفضل قد تكلم فيهما بعض الأئمة من جهة حفظهما. لكن الحديث له شاهد يتقوى به يرويه نافع أبو غالب عن أنس رضي الله عنه. أخرجه أبو داود. (ح 3194، وأحمد 3/151، بسند حسن. فالحديث بهذا الشاهد صحيح إن شاء الله تعالى". اهـ. (ر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/300 ح 1723) . 2 وكقوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... } . [سورة النساء، الآية: 78] . وغيرهما من الآيات في سورة الأنعام: 39، 125، والإنسان: 30، والتكوير: 29. 3 دلت النصوص الشرعية على نفي نسبة الشّرّ إلى الله تعالى. وأنه لا ينسب إليه عزوجل إلاّ الخير. فقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [سورة آل عمران، الآية: 26] . وقال صلى الله عليه وسلم - في ثنائه على ربّه دعاء الاستفتاح -: "لبيك سعديك والخير في يديك. والشّرّ ليس إليك. تباركت وتعاليت". أخرجه مسلم 1/534. وهذا يدل على أن الشّرّ لا يضاف إلى الله تعالى ولا وصفاً ولا فعلاً ولا يتسمّى باسمه بوجه من الوجوه. بل يدخل في مفعولاته ومخلوقاته. والله سبحانه لا يوصف بشيء من مخلوقاته ومفعولاته، وإنما يوصف بفعله وخلقه ولا يجيء في كلام الله تعالى إضافة الشّرّ وحده إلى الله. بل لا يذكر الشّرّ إلاّ على أحد وجوه ثلاثة:

الله سوى الخير المحض. فأما الشّرّ فهو من الشيطان لا من الله. فالتزموا مذهب الثنوية1 القائلين بأن الخير من النور، وأن الشّرّ من الظلمة. فلزمهم

_ 1- إما أن يدخل في عموم مخلوقاته ومفعولاته، فإنه إذا دخل في العموم أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق، وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . [سورة الزمر، الآية: 62] . وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [سورة البقرة، الآية: 284] . 2- وإما أن يحذف فاعل الشّرّ كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} . [سورة الجن، الآية: 10] . 3- وإما أن يسند إلى محله القائم به كقول إبراهيم الخليل عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . [سورة الشورى، الآية: 78-80] . فلم يسند الخليل عليه السلام الأمراض إلى الله تعالى بل أسند المرض إلى نفسه التي هي محل المرض. وإنما كان الشّرّ شرّاً لانقطاع نسبته إلى الله تعالى. لأنه إن أريد بالشّرّ وضع الشيء في غير موضعه فهو الظلم والله منَزَّه عنه. وإن أريد بالشّرّ الأذى اللاحق بالمحل بسب ذنب ارتكبه فإيجاد الله العقوبة على ذنب لا يعد ذلك شرّاً بالنسبة له بل ذلك عدل منه تعالى. وإن أريد بالشّرّ عدم الخير وأسبابه الموصلة إليه فالعدم ليس فعلاً حتى ينسب إلى الله. وليس للعبد على الله أن يوفقه. فهذا فضله يؤتيه من يشاء. ومنع الفضل ليس بظلم ولا شر. يقول الإمام ابن القيم: "وأسماء الله الحسنى مثل القدوس والسلام تمنع نسبة الشّرّ والسوء والظلم إليه مع أنه سبحانه الخالق لكلّ شيء. فهو الخالق للعباد وأفعالهم. والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشّرّ والسوء. والرّبّ - تعالى - هو الذي جعله فاعلاً لذلك. وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب. فَجَعَلُه العبدَ فاعلاً خيرٌ وحسنٌ. والمفعول شرّ وقبيح. فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها فهو خير وحكمة ومصلحة. وإن كان وقوعه من العبد عيباً ونقصاً وشرّاً". اهـ. (ر: مجموعة الرسائل الكبرى 1/336، 337، لابن تيمية، وشفاء العليل ص 359-363، 436، 527-531، لابن القيم، وشرح العقيدة الطحاوية ص 283-286، لابن أبي العز الحنفي، لوامع الأنوار 1/341-343، للسفاريني، الحكمة والتعليل ص 199-204، د. محمّد المدخلي) . 1 الثنوية: هم طائفة من المجوس الذين أثبتوا أصلين اثنين، مدبرين قديمين، يقتسمان الخير والشر. والنفع والضر، يسمون أحدهما: (النور) وبالفارسية (يزدان) . والثاني (الظلمة) وبالفارسية أهرمن، ويزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس الأصليين القائلين بحدوث الظلام. (ر: الفهرست ص 442-474، لابن النديم. الملل والنحل 1/132-244) .

أن يكون مراد الله أقلّ وقوعاً وأن إرادة الشيطان أنفذ من إرادة الباري./ (2/82/ب) وكذلك يلزمهم من عزو الشرور إلى النفوس ممن ينكر وجود الشياطين من اليهود وغيرهم - أن يكون سلطان النفوس أنفذ من سلطان الله. ولو عقل النصارى واليهود لعرفوا في كتبهم ما أنكروا علينا إذ هو مسطور في صحفهم ولكن لا يهتدون إليه سبيلاً. قال الله تعالى في التوراة لموسى: "امض إلى فرعون وقل له: أرسل شعبي يعبدني وأنا أقسي قلب فرعون فلا يرسلهم"1. ثم قالت التوراة عقيب كلّ آية صنعها موسى بحضرة فرعون: "وقسى الله قلب فرعون فلم يؤمن كما قال الرّبّ"2. هذا تصريح من الله لا جمجمة3 بأنه سبحانه هو الذي يقذف في قلبه القسوة والكفر وهذا بعينه هو قول المسلمين أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء؛ ولأنه تعالى لو أراد هداية فرعون لشرح صدره للإيمان ولم يقس قلبه كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرْدِ الله أَنْ يَهْدِيَه يَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرْد أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} . [سورة الأنعام، الآية: 125] . ولما أخرج الصاع من رَحْلِ بنيامين جزع إخوته / (2/83/أ) وقالوا: من عند الله نزلت هذه الخطيئة. كما نطقت به التوراة4. وهذا دليل على أنهم كانوا يعتقدون صدور الخير والشّرّ من الله تعالى. وهذا الجنس في التوراة كثير. وقال5 بلعام بن فعرو - لما قال له الملك: العن لنا بني إسرائيل. فقال: إني لا أستطيع أن أفعل خيراً ولا شرّاً من قبل نفسي وإنما أقول ما أمرني به الرّبّ. ذكرت التوراة6 ذلك.

_ 1 خروج 9/1، 12. 2 خروج 9/12، 10/1، 20. 3 في م: حمه. والجَمْجَمَة: أن لا يبين كلامه وإخفاء الشيء في الصدر. (ر: القاموس ص 1408) . 4 تكوين 44/15، 16، 45/5، 7-8. 5 في م: (وقال بلعام ... إلى ... ذكرت التوراة ذلك) ساقطة. 6 عدد 22/38، 24/13.

وقد قال المسيح في الإنجيل: "إني لم آت لأعمل بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"1. وهذا نظير قوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُون إِلاّ أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ العَالَمِين} . [سورة التكوير، الآية: 29] . وقالت التوراة في عدة مواضع: "وقَسَّى الله قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل"2. وذلك نظير قوله: {وَإِذ يُرِيكُمُوهُم إِذِ التَقَيتُم فِي أَعْيُنِكُم قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُم فِي أَعْيُنِهُم لِيَقْضِي الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} . [سورة الأنفال، الآية: 44] . وضرب المسيح مثلاً في الإنجيل: "فقال: إن ملكاً عمل وليمة ودعا إليها أهل مملكته وأمر ألا يتخلف عنها أحد فلما جلس فلم ير إلاّ بعض القوم فقال: المدعوّون كثير والحاضرون قليل"3. فبيّن عليه السلام عموم الدعوة وخصوص الهداية وذلك معنى قوله تعالى: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . [سورة يونس، الآية: 25] . فبيّن الله تعالى أن دعاء الأنبياء عموم / (2/83/ب) وهداية الله خصوص. فلا يستنكر قول الإسلام إن الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء. فلم ترد شريعة لم ينْزل كتاب الله إلاّ وهو متضمن ذلك. وبذلك يتحقق أن أصول الشرائع ومقاصدها واحد وإن اختلفت الأحكام التكليفية لاختلاف مصالح المكلفين4.

_ 1 يوحنا 6/38. 2 خروج 10/20. 3 متى 22/1-14، في سياق طويل. 4 قال ابن القيم: "قد اتّفقت رسل الله من أوّلهم إلى آخرهم وكتبه المنَزَّلة عليهم أنه سبحانه يضل من يشاء. وأنه من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأن الهدى والإضلال بيده لا بيد العبد. وأن العبد هو الضال أو المهتدي. فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره. والاهتداء والإضلال فعل العبد وكسبه. ومراتب الهدى أربعة: إحدها: الهدي العام وهو هداية كلّ وهو هداية كلّ نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها. وهذا أعم مراتبه. المرتبة الثانية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين. وهي التي أثبتها الله لرسوله. قال عزوجل: {وإنّك وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام. وتستلزم أمرين: أحدهما: فعل الرّبّ تعالى وهو الهدى. والثاني: فعل العبد وهو الاهتداء. وهو أثر فعله سبحانه فهو الهادي المهتدي. قال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} . وهي التي نفاها الله عن رسوله. قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . المرتبة الرابعة: الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة. قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} . (ر: شفاء العليل ص 141-179، باختصار.

84- فضيحة أخرى: لازمة للنصارى واليهود وهي ما اشتملت عليه كتبهم من الاختلاف والتكاذب وقد ذكرنا فيما تقدم نُبذاً من ذلك ليستدل بها من وقف عليها على قلة ضبطهم لدينهم ولنذكر ها هنا ما وقع في التوراة من التكاذب. فمن ذلك ما وقع في تاريخ عمر آدم وأعمار مشاهير أولاده ففي نسخة من نسخ التوراة: أن آدم عاش مائة وثلاثين سنة ثم ولد على شبهه ولد فسماه شيت1. وفي نسخة أخرى: أنه لم يرزق شيت حتى صار له من العمر مائتان وخمسون سنة2. وعاش آدم بعد أن ولد له شيت ثمانمائة سنة / (2/84/أ) فولد له بنين وبنات ثم مات. وكان جميع عمر آدم تسعمائة سنة3. وفي نسخة: ألف وثلاثون سنة4.

_ 1 اتفقت النسختان العبرية والسامرية على ذلك. (ر: سفر التكوين 5/3) . 2 الصواب: أنه لم يرزق شيت حتى صار له من العمر مائتان وثلاثون سنة. وقد ورد ذلك في النسخة اليونانية أو السبعينية. (التي قام بترجمها 72 حبراً من اليهود عن النسخة العبرية فيما بين عام 285 ق. م إلى 150 ق. م) وهي النسخة المعتمدة عند النصارى - ما عدا طائفة البروتستانت الحديثة التي تعتمد النسخة العبرية - وهي النسخة المقصودة في كلام الجويني في كتابه: (شفاء العليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل ص 33، 34) . حينما يقول: التوراة التي بيد النصارى. 3 اتّفقت النسختان: العبرية والسامرية على ذلك. (ر: تكوين 5/4، 5) . 4 انفردت النسخة اليونانية بذلك.

ثم عاش شيت مائة وخمس [سنوات] 1 فولد له أنوش. وعاش من بعد ما ولد له أنوش تسعمائة واثنتي عشرة سنة ثم مات2. وفي نسخة تسعمائة وسبع سنين3. ثم رأيت هذا التناقض التكذيب جارياً في أعمار مشاهير أولاد آدم إلى نوح عليه السلام4. فلم تكد نسخة توافق أخرى وإذا كان هذا ضبطهم للتوراة وهي أُسُّ دينهم فكيف يوثق بهم فيما عداها؟.

_ 1 في ص، م (سنة) والصواب ما أثبتّه. 2 اتّفقت النسختان: العبرية والسامرية على ذلك. (ر: تكوين 5/6-8) . 3 انفردت النسخة اليونانية بذلك. 4 يعترف مفسرو العهد القديم بوقوع الأغلاط في ذلك فقد ورد في السنن القويم 1/69، 70، ما نصّه: "إن معرفة حقيقة الأعداء في التوراة صعبة جدّاً. لأن الأسلوب العبراني في ضبط الأعداد كان بأحرف يضم بعضها إلى بعض. وإذ لم يكن لمجموعها معنى سهل تغييرها بلا قصد. ولذلك اختلف أعداد المواليد في العبرانية والسامرية والسبعينية. فالوقت بين طرد آدم من الجنة إلى الطوفان 1586 سنة بمقتضى العبرانية. و1307 سنة بمقتضى السامرية. و2262 بمقتضى السبعينية. على أنّ الثلاث تتفق على مدد أعمار الآباء. والظاهر أنه لا يوثق بأعداد السبعينية. وأما أعداد السامرية فتقرب من أعداد العبرانية". اهـ. وورد في تفسير (هنري وإسكات) جدول كتب فيه في مقابل اسم كلّ شخص سنة ولادة ابنه الذي يليه في الجدول. وكتب في مقابلة اسم نوح عليه السلام سنوات عمره وقت حدوث الطوفان. والجدول كالآتي: الاسم عدد السنوات في النسخة العبرية السامرية اليونانية آدم عليه السلام 130 130 230 شيت عليه السلام 105 105 205 أنوش 90 90 190 قينان 70 70 170 مهللئيل 65 65 165 يارد 162 62 262 أخنوخ 65 65 165 متوشالح 187 67 187 لامك 182 53 188 نوح عليه السلام 600 600 600 1586 1307 2262 كما ورد في نفس تفسير هنري وإسكات: "أن أكستائن كان يقول: إن اليهود قد حرفوا النسخة العبرانية في بيان زمان الأكابر الذي قبل زمن الطوفان وبعده إلى زمن موسى عليه السلام. وفعلوا هذا الأمر لتصير الترجمة اليونانية غير معتبرة. ولعناد الدين المسيحي. وكان قدماء المسيحيين يقولون: إن اليهود حرفوا التوراة في سنة مائة وثلاثين بعد الميلاد. وكان هيلز وكني كات يقولان بذلك أيضاً. (ر: للتوسع إظهار الحقّ ص 205-208، 262، الفصل 1/122-124، لابن حزم شفاء الغليل ص 33-38، للجويني، أدلة اليقين ص 156-160، للجزيري. دراسة الكتب المقدسة ص 40-50 موريس بوكاي) .

وليس يمكن إضافة هذا التحريف إلى سواهم فإن التوراة لم ينقلها من اللسان السرياني إلى غيره إلاّ اليهود وذلك يشعر بتهاونهم بأمور دينهم وإلاّ فكيف يحسن أن يخبر عن شخص أن عمره مائة سنة. وأن عمر خمسين سنة ويكون الخبران صدقاً. وإذا كان هذا تحريفهم لما لا يتعلق به غرض ظنك بتحريفهم لما يتحققون به الدلالة على نقض أصولهم وذلك من مرغوبات النفس وحبّ الانتصار والتعصب القاضي بعمي البصيرة. ولن يتخلص من ذلك إلاّ موق قد / (2/84/ب) أعانه الله على قمع هواه وجعل الحق مطلوبه والانقياد إليه مراده ومقصوده. فهو ينقاد إليه حيث دعاه لَبّاه ولو على لسان عدوّه وبذلك وعد الله تعالى فقال عزوجل من قائل: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} . [سورة النازعات، الآية: 40-41] . 85- فضيحة أخرى: زعم النصارى أن المسيح أراد بقتل نفسه تطهيرهم من خطاياهم. فيقال لهم: تطهير من آمن به واتّبعه أو تطيره من كفر به وخالفه؟! فإن قالوا: تطهير من كفر به. قلنا لهم: كيف يطهرهم من خطاياهم بأعظم من خطاياهم. وما هذا إلاّ بمثابة من غسل البول بالعذرة يريد تطهيره فإنه لا يزيد المحل إلاّ نجاسة. وعلى هذا ينبغي أن يكون اليهود الذين قتلوه

وصلبوه والأسخريوطي الذي نَمَّ عليه ونمرود وفرعون قد طهروا من خطاياهم وكذلك الهنود والمجوس وكلّ كافر على وجه البسيطة. وإن قالوا: إنما أراد تطهير من آمن به واتّبعه. قلنا: فكيف تكون معصية العدوّ طهرةً لولي؟ وإنما يُطَهِّر / (2/85/أ) الإنسان عملُه الصالح وتوبته الصادقة دون كُفْر من كَفَر. ثم إن كانوا قد آمنوا بالمسيح فإيمانهم يطهِّرهم فلا حاجة إلى قتل المسيح وصلبه. وإن قالوا: إنما أراد تطهير الحواريين. فيقال: وما هذا الذنب الذي لا يظهره إلاّ قتل الله وصلبه؟! ... ، وينبغي أن يكون [الحواريون] 1 شرار خلق الله؛ إذ كان لا يطهرهم إلاّ هذا القتل2 الذي لا يشابهه قتل3. فليت شعري أَيُّ ذنب لقوم هو عند النصارى خير من جبريل وميكائيل وسائر النبيين والمرسلين؟!. وإن قالوا: إنما أراد بتسليمه نفسه ليتهذّب الخَلْق و [يتعلموا] 4 الصبر على الشدائد والمحن ولا يضطربوا تحت مجاري الأقدار ليفوزوا بأجور الصابرين. قلنا: فإصلاحه لقلوبهم بخلق الصبر فيها والاحتمال مع بقاء جلاله وعظمته كان أليق بالربوبية. فإن كان إلهاً قادراً فهلا أصلح قلوبهم وهذّب نفوسهم من غير أن يتلبس بما وصفتهم من الصفح والضرب والقتل والصلب ليصلحهم. ثم أيّ صلاح يظهر في العالم بقتله؟ وأيّ فساد زال؟ أليس العالم على ما كان عليه/ (2/85/ب) قبل مجيئه؛ السارق يسرق، والفاسق يفسق، والقاتل يقتل

_ 1 في ص، م: (الحورايين) وهو خطأ. والتصويب من المحقِّق. 2 في ص (الغسل، غسل) والتصويب من م. 3 في ص (الغسل، غسل) والتصويب من م. 4 في ص، م (يتعلمون) والصواب ما أثبتّه.

والظالم يظلم، وأسواق الشرور قائمة وعيون الشياطين عن إغواء الآدميين غير نائمة. بل قد زادت الشرور بما ذكرتم زيادة كثيرة؛ لأن أهل العالم بزعمكم قتلوه وصلبوه ونكلوا به وبتلاميذه الذين هم عندكم أفضل من الأنبياء والمرسلين. فقد تفاقمت الشرور واتسعت بمصرعه دائرة المحذور. وقد كان أهل العالم قبل مجيئه يعبدون الله تعالى، وإن عُبد صنم ففي العقول السليمة مندوحة عن المتابعة عليه. فلما جاء1 هذا الذي زعمتم أنه قتل وصلب عبد مع الله غيره. وإن كابرتم وقلتم: إن الخطيئة قد ارتفعت بمجيء المسيح وقتله صرتم ضحكة بين العقلاء على أنكم قد تأنستم بإزراء2 العقلاء بكم وتمرنتم على السخرية منكم. ألستم الذين تقرؤون بعد الفطر بجمعتين التسبيحة المشهورة عندكم وهي: "بصلبوت ربّنا يسوع المسيح بطل الموت / (2/86/أ) وانطفأت فِتَنَ الشياطين ودرست آثارها؟ "3. ألستم تقرؤون يوم الأحد من الصوم التسبيحة المشهورة عندكم وهي: "أن المسيح هو الذي أنقذ رعيته من الفتن والكفر وغلب بصومه الموت والخطيئة؟ "4. ألستم الذين تقرؤون بعد كل قربان: "يا ربّنا يسوع الذي غلب بوجعه الموت الطاغي؟ "5. كذلك قولكم في ثاني جمعة من الفطير: "إن فخرنا إنما هو بالصليب الذي بطل به سلطان الموت. وصرنا إلى الأمل والنجاة بسببه"6.

_ 1 في ص (جاهد) والمثبت في م. 2 في م: بارز. 3 وردت هذه التسابيح بألفاظها في رسالة المهتدي الحسن بن أيوب والتي نقل الإمام ابن تيمية جزءاً كبيراً منهما في كتابه: (الجواب الصحيح 3/330) . ووردت كذلك في النصيحة الإيمانية للمهتدي نصر بن يحيى المتطبب ص 232، 233. 4، (5) وردت هذه التسابيح بألفاظها في رسالة المهتدي الحسن بن أيوب والتي نقل الإمام ابن تيمية جزءاً كبيراً منها في كتابه (الجواب الصحيح 3/330) . ووردت كذلك في النصيحة الإيمانية للمهتدي نصر بن يحيى المتبب، ص 232، 233. 6 وردت هذه التسابيح بألفاظها في رسالة المهتدي الحسن بن أيوب والتي نقل الإمام ابن تيمية جزءاً كبيراً منها في كتابه (الجواب الصحيح 3/330) . ووردت كذلك في النصيحة الإيمانية للمهتدي نصر بن يحيى المتبب، ص 232، 233.

وفي هذه التسابيح التي لكم ما يضحك من تأملها إذ يحسن منه أن يقول: كيف بطل الموت بصلب المسيح وموته؟. ألسنا نرى الموت فافراً لا يشبع، والشيطان مستمراً على الإضلال والإغراء لا يقلع؟ وأنَّى يغلب الموت من قد مات وغلب. ويقهر الشيطان من قد قهر وصلب؟!!. 87- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في الصلاة الأولى وهي التي يسمونها صلاة السحر وصلاة الفجر1.: "تعالوا نسجد ونتضرع للمسيح إلهنا أيها الرّبّ

_ 1 يزعم النصارى أن الصلوات المفروضة عليهم في كلّ يوم سبع صلوات كما ورد في مزمور 118/164، وكما جاء في كتاب قوانين الرسل وابن العسال. وإن كان الكثيرون منهم يرون أن الانتظام في الصلاة توجيه اختياري لا إجباري. وتنقسم الصلاة إلى فردية وجماعية. وأوقات الصلوات السبع وأسباب تخصيصها عندهم كالآتي: 1- صلاة باكر (الفجر) . رتبت وقت شروق النور عند الفجر عند القيام من النوم. وفيها شكر الله على حراسته لهم فيما مضى من الليل. ويسألونه أن يحفظهم في هذا اليوم بغير خطيئة. 2- صلاة الساعة الثالثة (حوالي التاسعة صباحاً) . لأنه في الساعة الثالثة من النهار حل الروح القدس على التلاميذ الأطهار. 3- صلاة الساعة السادسة (وقت الظهر تقريباً) . لأنه في تلك الساعة صلب المسيح وسمرت يداه ورجلاه. فينبغي الصلاة فيه ليساعدهم المسيح على النصرة في جهادهم. 4- صلاة الساعة التاسعة (حوالي الرابعة بعد الظهر) . ورتبت في هذا الوقت لأن يسوع نادى فيه بصوت عظيم: "يا أبتاه في يديك أستود روحي. ولما قال هذا أسلم الرو ... ". الخ. فَيُصَلّون ليصنع معهم رحمة. 5- صلاة الغروب: رتبت شكراً لله على حفظه لهم طول النهار ومباركته أعمالهم ويسألونه أن يحرسهم. 6- صلاة نصف الليل: رتبت شكراً لله الذي أجاز النهار بسلام ويسألونه أن يجيز الليل بسلام. 7- صلاة نصف الليل: حيث يكون فيها الهدوء من قلق العالم. ولما كانت كلمة (ساعة) هي: (آجب) بالقبطية كان الكتاب المتضمن لهذه الصلوات اليومية يعرف بـ: (الأجبية) . ويزعمون بأن هذه الصلوات شائعة الاستعمال منذ القرون الأولى. (ر: ترانيم ومدائح منتخبة (للكنيسة القبطية) ص 5-8، قصة الكنيسة القبطية ص506،إيريس حبيب، بتصرف، المسيحية ص234،د. أحمدشلبي) .

خروف الله ارحمنا. أنت وحدك القدوس المتعالي. أيها المسيح الرّبّ إنا بكل / (2/86/ب) كلّ يوم إلى الأبد". اعلم أن هذه الصلاة للمسيح خاصة وقد صرحوا فيها بأن المسيح هو الله الرّبّ. وأنه وحده المتعالي المبارك إلى الأبد. وهو كما ترى الكفر الصراح الذي لا غبار عليه. وهو باطل بالتوراة والإنجيل والنبوات والمزامير. فأما التوراة فليس فيها شيء من هذه النجاسات ألبتة بل هي مشحونة بتوحيد الباري إله إبراهيم وتنْزيهه وإفراده بالربوبية. وقد قال في السفر الخامس منها: "الرّبّ واحد في السماء والأرض ليس غيره"1. وقال سبحانه في العشر الكلمات: "أنا الله الذي أخرجتك من مصر لا يكن لك إله غيري"2. وقال الله تعالى في التوراة: "لا تتخذوا أصناماً ولا أشباهاً في السماء فوق ولا في الأرض أسفل ولا في البحر تحت، ولا تسجدوا لها ولا تعبدوها أنا الله إله غيور"3. وقد كلم الله في التوراة آدم ونوحاً وإبراهيم ويعقوب وموسى وهارون وأمرهم ونهاهم كل ذلك4 يقول: "أنا الله وحدي". وقال الله لموسى: "أنا الله إله آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لا يكن لك إله غيري"5. / (2/87/أ) . فحذرهم من الإشراك واتّخاذ إله آخر. وذلك من أدلّ الدليل على كفر النصارى6. أما الإنجيل فقال المسيح: "لا يقدر أحد أن يعبد رَبَّين"7. وقال: "لا صالح إلاّ الله الواحد"8. وقال: "أوّل الوصايا كلّها في الناموس اسمع يا إسرائيل

_ 1 تثنية 4/39. 2 خروج 20/2، 3. 3 تثنية 5/6-9. 4 في م: كذلك. 5 خروج 20/2، 3. 6 في م: الكفر. 7 متى 4/10، لوقا 16/13. 8 متى 19/17.

الرّبّ الإله واحد هو، فاحببه من كلّ قلبك"1. وقال المسيح لليهود: "أنتم تمجدون نفوسكم ولا تمجدون الله"2. وسئل عن القيامة، فقال: "لا يعرفها إلاّ الله وحده"3. ورفع وجهه إلى السماء وقال: (أنت الإله الحقّ وحدك"4. وأما المزامير والنبوات فكلّها توحيد أيضاً وليس فيها من كفر النصارى شيء ألتبة. قال داود في المزمور السابع عشر: "الله لا ريب في سلبه، كلام الرّبّ مختبر. وهو منجي من توكل عليه. لا إله إلاّ الرّبّ. لا عزيز مثله"5. وقال في المزمور التاسع عشر: "الرّبّ يستجيب لك. في يوم شدتك إله يعقوب ينصرك، ويرسل لك عوناً من قدسه. ومن صهيون يعضدك سؤلك. هؤلاء / (2/87/ب) بالخيل وهؤلاء بالمراكب. ونحن باسم إلهنا ندعو"6. فقد وضح لك أن هذه الصلاة التي للنصارى مقصورة على عبادة رجل من بني آدم، وأنها باطلة بما نصت عليه كتب الله المنَزّلة. 88- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة الساعة الأولى7: "المسيح الإله الصالح الطويل الروح الكثير الرحمة الداعي الكلّ إلى الخلاص"8. هذه

_ 1 مرقس 12/29. 2 لوقا 16/15، 16. 3 متى 19/17. 4 يوحنا 17/3. 5 مزمور 18/30، 31. 6 مزمور 20/1-5. 7 يقصد المؤلِّف بها: "صلاة الساعة التاسعة". 8 وردت هذه القراءة في كتاب: (ترانيم ومدائح منتخبة للكنيسة القبطية ص 23) . وفي كتاب العبادات المسيحية ص 67 للأرسمنديرت إلياس. وذكر فيها أن هذه القراءة تقرأ أيضاً في آخر كلّ ساعة من الصلوات. ونصّها كالآتي: "ارحمنا يا الله ثم ارحمنا. يا من في كلّ وقت وكل ساعة في السماء وعلى الأرض مسجود له وممجد. المسيح إلهنا الصالح الطويل الروح، الكثير الرحمة الجزيل التخن. الذي يحب الصديقين ويرحم الخطاة الذين أوّلهم أنا. الذي لا يشاء موت الخاطئ مثل ما يرجع ويحيا. الداعي الكلّ إلى الخلاص لأجل الموعد بالخيرات المنتظرة ... ".

الصلاة أيضاً من1 النمط الأوّل وهي باطلة بشهادة المسيح إذ نطق الإنجيل: "بأن إنساناً قال: يا معلم صالح ما أعمل من الصلاح؟ فقال: أتدعوني صالحاً؟! لا صالح إلاّ الله وحده"2. وإذا لم يرض المسيح أن يكون معلماً صالحاً، بل3 أنكر ذلك وأولى الصلاح لله وحده. فكيف تَخَطَّا النصارى أمره وزادوا حتى سموه الإله الصالح؟ وإذا أنكر عليه السلام القول الأوّل فالأولى أن ينكر هذه الصلاة وهذه القراءة. ثم قول النصارى: "المسيح الإله الصالح". وتخصيصه بذلك دون الآب والروح القدس فيه إبطال لمذهبهم في الثالوث؛ إذ لا خلاف عندهم / (2/88/أ) أن التعبد لأقنوم الكلمة على تجردها لي بجائز. إذ الإله المحقوق بالعبادة هو عبارة عن ثلاثة أقانيم وهي: الآب والابن والروح القدس. فما لم يتوجه المكلف بالعبادة إلى هؤلاء الثلاثة لم تعتبر عبادته. فإذا قصدوا المسيح بهذه الصلاة فإنما قصدوا أقنوماً واحداً والمسيح عندهم [ما] 4 اتّحد به سوى العلم. فأما الآب والروح فلما اتّحدا به. ثم هذه القراءة منهم تشعر بأن المسيح أصلح الثلاثة ثم لا يخلوا أن يقصدوا بهذا القول لاهوت المسيح أو ناسوته. فإن قصدوا ناسوته لزمهم أن يكون الجسد المخلوق إلهاً خالقاً وذلك جهل. وإن قصدوا لاهوته وهي صفة العلم لزمهم أن يكون صفات الله من العلم والقدرة آلهة معه وذلك لا يقول به عاقل. أما قولهم: "الطويل الروح". فإن زعموا به الروح التي زعموا أنها جاءته عند المعمودية فتلك إن كانت قديمة لم يصح وصفها بطول ولا قصر؛ إذ كل ما دخله المساحة وكان له طول / (2/88/ب) وعرض وعمق فهو جسم مخلوق حادث. وإن عنوا به

_ 1 ليست في (م) . 2 متى 19/17. 3 ليست في (م) . 4 في ص، م (فما) والأولى حذف الفاء.

روح الإنسان على معنى أن المسيح صبر في زعمهم على إهانة اليهود مع قدرته على الانتصار فقد ناقضوا قولهم: "إنه الإله الصالح"؛ إذ الإله هو الذي لا تمتد إليه الأيدي وهو الذي يأمر عباده بالصلاح. أما من يشرع الفساد فلا يستحق اسم الصلاح. وأما قولهم: "الداعي الكلّ إلى الخلاص". فنقول: أدعاهم وأراد هدايتهم أم دعاهم ولم يرد ذلك؟ فإن كان قد أراد هدايتهم فلم يهتدوا فقد تحقق عجزه؛ إذ لم تنفذ إرادته ومثل هذا لا يصلح للربوبية. وإن كان قد دعاهم ولم يرد هدايتهم فقد ظلمهم بعدم إرادة هدايتهم وقد فعل الشّرّ وضد الصلاح. وهذا يهدم أصول النصارى في القول بالتحسين والتقبيح. وإن زعموا أنهم قد اهتدوا بدعائه أكذبهم شاهد الوجود. 89- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة الساعة الثالثة: "يا والدة الإله السماوي أنت هي الكرمة الحقانية الحاملة ثمرة / (2/89/أ) الحياة إليك نتضرح لترحمي نفوسنا يا والدة الإله السماوي افتحي لنا أبواب رحمتك"1. أوّل ما نبدأ به أن نقول للنصارى: أخبرونا هل هذا القول منكم من أصول العقائد التي لا يسع المكلف جهله أو لا؟ فإن زعموا أنه لا بدّ للمكلفين من اعتقاده والصلاة به، وأنه لا رخصة لعبد حتى يعتقد أن لله والداً ولده وأُمّاً حملته وأرضعته. فإن قالوا: لا يسع [مؤمناً] 2 إلاّ ذاك. قلنا لهم: أخرجتم آدم وإبراهيم وموسى ومن بينهم من المؤمنين عن الإيمان؛ إذ لم يعرفوا ذلك ولا اعتقدوه ولا سمعوا به. ولو كان ذلك إيماناً وتوحيداً لم يجهلوه. وإن زعموا أن موسى وإبراهيم ومن بينهم كانوا يعتقدون أن لله والدةً حملت به ووالداً ولده. قلنا لهم: أرونا ذلك في توراة موسى ونبوات الأنبياء وأَنَّى يجدون إلى ذلك سبيلاً.

_ 1 ورد معنى هذه القراءة في كتاب: (إنجيلك نور لحياتي) 3/1366، 1367. 2 في ص، م (مؤمن) والصواب ما أثبتّه.

ثم نقول لهم: ما قولكم فيمن خرج عن دين السيح وخالفه من طبقات بني آدم أكفارٌ هم أم مؤمنون؟. فإن / (2/89/ب) قالوا: إنهم كفار فجار قد هلكوا بتكذيبهم المسيح. قلنا: فقولهم في أم المسيح: "إنها حملت ثمرة الحياة" كذب وزور وإفك وَمَين؛ إذ الذين هلكوا بانتهاك عرضها وقذفها من اليهود وغيرهم أكثر من أن يحصوا فقد كذبتهم في قولكم: "إنها الكرمة الحاملة ثمرة الحياة". وصارت بمقتضى ما ذكرتهم حاملة ثمرة الهلاك كما قال ولدها في الإنجيل: "لا تظنوا أني جئت لألقي على الأرض [سلاماً] 1 ما جئت لألقي عليها [سلاماً] 2 لكن سيفاً وأوقد بهاناراً"3. وإذا كان هذا قول المسيح وهو الثمرة التي ذكرتهم فما صدقتم في تسميته في صلاتكم (ثمرة الحياة) . واعلم أن هذه الصلاة أيضاً مقصورة على عبادة مريم عليها السلام وهي خارجة عن أصول النصارى؛ لأن جسد مريم لم يتّحد به شيء عند كافة النصارى بل جسدها كسائر أجساد بني آدم. فلو جاز أن يعبد مريم لكونها حملت بالمسيح عن عدة الله لجاز أن تعبد أليصابات4 وسارة وهاجر؛ إذ حملوا عن عدة الله تعالى. فقد زاد النصارى على الثالوث / (2/90/أ) إلهاً رابعاً وخالفوا أهل ملتهم من القدماء. 90- فضحية أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة السادسة: "يا من سُمِّرت يداه على الصليب من أجل الخطيئة التي تجرأ عليها آدم. خرق العهدة المكتوب فيها خطايانا وخلصنا. يا من سُمِّر على الصليب وبقي حتى لصق على الخشبة

_ 1، (3) في ص، م (سلامة) والتصويب من النّصّ. 2 متى 10/34، لوقا 12/51. 4 أليصابات: صيغة يونانية للاسم العبري (أليشبع) أي: (الله قسم) . وهي: امرأة زكريا وأم يوحنا المعمدان عليهما السلام. (ر: لوقا 1/5، 45، قاموس ص 113) .

بدمه قد أحببت الممات لموتك، أسألك بالمسامير1 التي سمّرت بهم. نجّني يا الله"2. هذه القراءة وإن كانت تصلح لتعاليق المجان ومن يعتن بالأضاحيك فلا بُدّ أن نبيّن مراد النصارى بها، ومرادهم: أن آدم أبيح له كلّ شجر الجنة وقيل له: كُلْ مَا أحببت خلا شجرة معرفة الخير والشّرّ؛ فإنك في اليوم الذي تأكل تموت موتاً. قالوا: فلما أكل وخالف أمر ربّه وجب في حكم الله تعالى أن يميته موت الخطيئة لا موت الطبيعة؛ إذ سبق في علم الله أنه لا يفرغ العالم من نسله. فلما ورد عليه العتاب والتوبيخ أسف وندم على ما فعل. وأنه تعالى تاب عليه وبقي في عهدة قوله السابق / (2/90/ب) فلطف له وبعث المسيح فصام بدلاً من توسع آدم في تناول الشجرة. وصلب على خشبة بدلاً من تيك الشجرة. وسمّرت يداه بالجذع لامتدادها إلى الثمرة المنهي عنها. وسقي المرار لالتذاذ آدم بحلاوة ما أكله من الجنة. ومات بدلاً عن الموت الذي كان الله يهدد به آدم. وهذه دعوى لا برهان لهم عليها ولو ادّعاها بعض الناس لبعض من صلب في الدنيا قَبل المسيح أو بعده لما وجد النصارى إلى ردّ ذلك سبيلاً. وليس - وعزة الله - لما لفقوه من ذلك أصل في كتب الله لا في العتيقة ولا في الجديدة3. وقولهم: "خرق العهدة التي كتبت فيها خطايانا وخلصنا". وذلك أنهم يعتقدون أن خطيئة آدم التي جناها على نفسه قد شمل وزرها وتبعتها سائر ولده حقباً بعد حقبٍ وقرناً بعد قرنٍ إلى مجيء المسيح. وقد أبطلنا ذلك فيما تقدم وتلونا ما ورد في التوراة والإنجيل والمزامير مما يكذب هذه الدعوى4.

_ 1 ليست في م. 2 ورد معنى هذه القراءة في كتاب العبادات المسيحية ص 66. تحت عنوان: (صلاة الساعة السادسة) . 3 يقصد المؤلِّف أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. 4 ر: ص: 372، 373.

وقد قالت التوراة: "إن الله / (2/91/أ) قال لقابيل بن آدم: إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة ببابك أنت تقبل إليها وهي تتسلط عليك"1. فقد أخبرت التوراة أن في إحسان المحسن وقبول البر من الرجل البار مندوحة عن قتل المسيح وغيره. وقالت التوراة أيضاً: "أما هابيل فإنه يجزئ للواحد سبعة"2. وفي ذلك مندوحة عن القتل والصلب إذ الجزاء خلاص وزيادة. وقال الله تعالى في المزامير: "طوبى للرجل الذي لم يتبع رأي المنافقين ولم يقف في طريق المستهزئين ولم يجالس الخاطئين لكن في ناموس الرّبّ هواه، يدرس ليلاً ونهاراً"3. فقد شهد المزمور أن الاشتغال بقراءة كلام الله وعبادته مخلِّص لصاحبه وأن طوبى له. فلا حاجة إلى الخلاص بشيء آخر. وإلاّ فيلزم تكذيب داود في خبره عن الله تعالى. وقد قال التلاميذ للمسيح وسألوه: من العظيم في ملكوت الله تعالى؟ فقال: "من تواضع مثل الصبيان فهو العظيم في ملكوت الله"4. قد أخبر المسيح أنه لا حاجة إلى قتل وصلب بل من تواضع لله ولم يتكبر كفاه الله وخلّصه. / (2/91/ب) والعجب كيف تحكَّم النصارى بصحّة توبة آدم ويقولون: "إن ذريته مأخوذون بجريرته". وقد رووا في بعض نبوات أنبيائهم عن الله: "لا آخذ الولد بذنب والده، ولا الوالد بذنب ولده. طهارة الطاهر له

_ 1 تكوين 4/6، 7. 2 تكوين 4/15. 3 1/1، 2. 4 متى 18/1-4، مرقس 9/34-37.

تكون وخطيئة الخاطئ عليه تكون"1. وذلك موافق لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . [سورة الأنعام، الآية: 164] . والعجب كيف يثبتون عند سماع هذه القراءة ولا يستغربون ضحكاً؟! ولعمري ما بلغ أعداؤهم منهم ما بلغوا في أنفسهم في جعل مثل هذا السخف قرآناً يتلى. 91- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة الساعة التاسعة: "يا من ذاق الموت من أجلنا في الساعة التاسعة إليك ابتهالنا، يا من سلّم نفسه إلى الآب لمّا علّق على الصليب لا تغفل عنا. يا مَن مِن أجلنا ولد من العذراء، واحتمل الموت، لا تخيّب من خلقت بيديك واقبل من والدتك الشفاعة فينا. ولا تنقض عهدك الذي عاهدت عليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب"2. وفي هذه الصلاة يقرؤون أيضاً: "لما رأت / (2/92/أ) الوالدة3 الحمل والراعي ومخلّص العالم على الصليب قالت وهي باكية: "أما العالم ففرح4 بقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب عندما أنظر إلى صلبوتك يا بني". والغَيّ قولهم: "يا من ذاق الموت من أجلنا". قد بيّنا خُلُو هذه الدعوى عن الفائدة، وأن القتل والصلب وقع باطلاً؛ إذ5 الخلاص الذي قتل لأجله لم يعرفوا له حقيقة ولا وقفوا من أمره على نبأ إلى الساعة. وما هو إلاّ عنقاء

_ 1 سفر خزقيال 18/20. 2 وردت هذه القراءة في كتاب العبادات المسيحية ص 67. 3 في م: الولدات. 4 في م: فقدح. 5 ليست في (م) .

مغرب1 يُسمع به ولا يُرى. على أن هذه القراءة مع أنها سبَّةُ2 على قارئها ففيها تناقض لا يخفى على من تأمله. وذلك: أن أوّلها يشهد بأنه قتل وصلب وذاق الموت من أجل خلاصهم. وقد سمته أمه بزعمهم: "مخلص العالم". فما حاجتهم إلى التضرع إليه ألا يخيبهم ولا يغفل عنهم وأن يمدوا إليه بشفاعة والدته؟ أهم شاكون في خلاصهم بقتله وصلبه؟ أم يقولون إن الأب لم يفِ له فخسر نفسه ولم يحصل لهم خلاص؟!!. وأما قولهم: "ولا تنقض عهدك الذي عاهدت عليه إبراهيم / (2/92/ب) وإسحاق ويعقوب"، فذلك غلط من النصارى. إذ ما عاهد إبراهيمُ وإسحاقُ ويعقوبُ الأبَ. قد قال المسيح: "الله لم يره أحد قط". وعلى مقتضى هذه الصلاة المدبرة يكون المصلوب المُسَمَّر اليدين بالمسامير هو الأب الذي عاهد إبراهيم وإسحاق ويعقوب. والذي غلّط النصارى هَا هنا أفريم - من جهال سلفهم -: "إن اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي علقت على الصليب. وإن الشبر الذي مسحت السماء هي التي سمرت في الخشبة". فأستغفر الله من حكاية أقوال هؤلاء الضلال. وأما قولهم: "إن والدة إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب واقفة تبكي تحت خشبته وتناديه يا بني وإلهي أحشائي تحترق لصلبك". فلو سمعه بعض المجان لاتّخذه من أظرف ما يمجن به. لأن حاصله أن ابنها إلهها الذي ولدته. وخالقها هو ولدها الذي أرضعته.

_ 1 العنقاء: الداهية. وطائر معروف لاسم مجهول الجسم. أو طائر عظيم يبعد في طيرانه. أو من الألفاظ الدالة على غير معنى. كما في القاموس ص 154. 2 في م: سيئة.

ولاشتمال صلوات النصارى على هذا السخف يبالغون في ستر أحوالهم ولا يُعجبهم أن يحضر بِيَعهم أحد غيرهم. 92- فضيحة أخرى: / (2/93/أ) النصارى يقرؤون في صلاة الغروب: "يا والدة الإله العذراء أسعي في خلاصنا وافرحي يا والدة الإله. مباركة أنت في النساء ومبارك ثمرة بطنك لأنك ولدت لنا مخلّصاً. يا والدة الإله لا تغفلي عن وسائلنا1 ونجنا من المعاطب"2. وفي هذه الصلاة: "يا صابغ المسيح يوحنا اذكر جماعتنا ونجّنا". قولهم: "يا والدة الإله"، اعلم أن الألوهية عندهم تكون حقيقة وتكون مجازاً. فالإله الحقيقي هو الله الآب عندهم. والإله المجازي هو المعظم في الدين الذي يدعو إلى الله ويعلم الناس أوامر الله ويبيّن لهم أحكامه. فإن عنوا هَا هنا الإله الحقيقي سقطت مكالمتهم لبيان جنونهم. وإن عنوا القسم الثاني وهو الإله الذي هو مُعظم في الدّين كقول الله في التوراة لموسى عليه السلام: "أخوك هارون يكون لك مترجماً وأنت تكون له إلهاً مدبّراً"3. وكقول داود لعلماء بني إسرائيل في المزامير: "أنا قالت: إنكم آلهة وبني العلي كلكم تدعو"4. وكقول حبقوق النبيّ: / (2/93/ب) "إله يأتي من التيمن ومقدس من جبال فاران"5. يصف نبيّاً يخرج من الحجاز وصلوات الله عليه وسلامه.

_ 1 في م: وساليفا. 2 وردت هذه القراءة في كتاب ترنيم ومدائح منتخبة ص 20، 21. 3 خروج 7/1. 4 مزمور 82/6. 5 سفر حقبوق 3/3.

فإذا قال النصارى في صلواتهم: "يا والدة الإله"، لَمْ يُعلم من هي المدْعوَّة. أهي أُمُّ1 إبراهيم فإنه في التوراة عظيم2 الله. أَمْ3 أُمُّ إسرائيل، فإنه في التوراة بكر الله4. أَمْ والدة موسى. فإنه في التوراة: [إله ومدبّر] 5. أَمْ [إحدى] 6 أمهات أصحاب داود فإنهم في المزامير آلهة؟! 7. وإذا كان هؤلاء يُدْعَون آلهة فقد صار اللفظ مجملاً. فمن التي دعوها لتنجيهم من المعاطب وتسعى في خلاصهم؟!. وقد زادوا في هذه الصلاة إلهاً سادساً، وهو يوحنا إذ قالوا: "يا يوحنا صابغ المسيح نجّنا من المعاطب". فصارت الآلهة ستة: الآب والابن وروح القدس والمسيح ومريم والمعمداني. وفي دعائهم يوحنا وطلبهم النجاة منه تكذيب لهم في دعوى الخلاص بقتل المسيح، إذ لو كانوا قد خلصوا بالمسيح لم يفتقروا إلى دعاء غيره. وحيث احتاجوا إلى الغير دلّ أنهم ما خلصوا وصار ما ادّعوه من قتل / (2/94/أ) المسيح خالياً عن الفائدة. 93- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة النوم: "الملائكة يمدحونك بتهليلات مثلثة. لأنك قبل الكلّ لم تزل أيّها الأب. وابنك نظيرك في الابتداء. وروح القدس مساويك في الكرامة. ثالوث واحد".

_ 1 في م: امرأة. 2 يشير إلى ما ورد في سفر التكوين 12/2: "فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك". 3 ليست في (م) . 4 يشير إلى ما ورد في سفر الخروج 4/22: "هكذا يقول الرّبّ إسرائيل ابني البكر". 5 في ص، م (إلها ومدبرا) والصواب ما أثبتّه. يشير إلى ما ورد في سفر الخروج 4/22: "وهو يكون لك فماً وأنت تكون له إلهاً". 6 في ص، م (أحد) والصواب ما أثبتّه. 7 يشير إلى ما ورد في سفر المزامير 82/6: "إنكم آلهة وبنو العلي كلهم".

أما قولهم: إن الملائكة يعتقدون الثالوث الذي يقولون به فبهت قبيح وكذب صريح بَنَوْهُ على فاسد معتقدهم. وإلاّ فمن أين علموا أن اعتقاد الملائكة ما حكوه عنهم والدليل على تخرص ذلك على الملائكة التوراة والإنجيل والمزامير فإنها شاهدة بالتوحيد وتنْزيه الباري عن الثاني والثالث. وقد قال لوقا: "إن جبريل حين خاطب مريم وسلّم عليها ارتاعت منه. وقالت: ما هذا السلام؟ فقال لها جبريل: اعلمي أبي أنا جبريل الواقف قدّام الله جئتك أبشرك"1. وقد أكثرنا من ذكر الشواهد على التوحيد مما يقضي ببطلان هذه القراءة وتبيّن تخرص من ألّفها. وفي قول النصارى / (2/94/ب) هَا هنا: "لأنك قبل الكلّ لم تزل"، يدلّ على حدث الابن والروح القدس لتأخرهما2 عن الأب في الوجود. إذ لو كانا قديمين لم يكونا مسبوقين. فإن عبّر النصارى عن صفتي العلم والحياة بالابن والروح. قلنا لهم: فالصفتان قديمتان أيضاً. فكيف يكون الأب قبل الكل والصفة لا تتأخر عن موصوفها؟ فالقراءة على ذلك باطلة. فنحن نسألهم عن الابن والروح أهما [إلهان أزليان أو مخلوقان حادثان؟] 3. فإن كانا حادثين4 مخلوقين فقد أبطلوا القول بألوهيتهما وأبطلوا القول بالتثليث. وإن كانا إلهين خالقين بطل أن يكون الأب سابقاً لهما وفسدت هذه التلاوة.

_ 1 لوقا 1/28-30. 2 في م: إذاخرهما. 3 في ص، م (إلهين أزليين أو مخلوقين حادثين) والصواب ما أثبتّه. (فإن كانا حادثين) ليست في (م) .

وأما قولهم: "ثالوثاً واحداً". فلا تظن أنهم يعتقدون أنها صفات للذات بل مرادهم أن الآلهة ثلاثة فقط بغير رابع. والدليل عليه إفراد كل واحد منهم بالذكر والتعبد والسؤال كما شهدت به الصلوات والأمانة التي لهم والتسابيح. ولو كانوا يردون ذلك إلى أنهم صفات للذات لاقتصروا على إفراد / (2/95/أ) الله تعالى بالذكر كما أفرد موسى عليه السلام والأنبياء - عليهم السلام -. فهل تجدون في التوراة والنبوات للتثليث ذكراً ألتبة؟ على أن النصارى قد عبدوا بني آدم، ألا تراهم كيف يقرؤون في الصلاة: "تعالوا نسجد تعالوا نتضرع للمسيح إلهنا". والمسيح هو المولود الذي ولدته مريم - عليهما السلام -. 94- فضيحة أخرى: النصارى يقرؤن في صلاة نصف الليل وهي الثامنة: "تبارك الرّبّ إله آبائنا وفوق المتعالي إلى الدهر. تبارك1 مجدك القدوس فوق المسيح وفوق المتعالي إلى الدهر. مبارك أنت فوق المسيح وفوق المتعالي إلى الدهر"2. وكرروا هذه الفوقية في هذه الصلاة دفعات. فوصفوا الله تعالى بأنه فوق المسيح وفوق مَن هو أعلى من المسيح وذلك مناقض لما قرؤوه في صلاة النوم إذ قالوا فيها: "إن المسيح نطير الله في الابتداء وإن روح القدس مساويه في الكرامة". فإن كان الله فوق المسيح بطل قولهم أنه نظيره. وإن كان المسيح نطيره بطل أن يكون فوقه. / (2/95/ب) فلا بدّ من إبطال أحد القراءتين ضرورة الوفاء3 بالأخرى. ثم نقول لهم: أليس أقنوم الوجود وأقنوم الحياة وأقنوم العلم متساوية في الأزلية والقِدَم واستحقاق الربوبية. فما الذي خصص أحدهم بالفوقية دون الآخرين وليس مقدماً عليهم؟.

_ (تبارك مجد ... إلى آخر الصلاة) ليست في (م) . 2 ورد معنى هذه القراءة في كتاب: (ترانيم ومدائح منتخبة ص 33، 34) . 3 في م: بالوفاء.

فإن أبيتم إلاّ إثبات الفوقية له عليهما فقد أثبتم أنهما دونه. وذلك تشويش للثالوث وإن وفيتم1 بالثالوث أبطلتم هذه القراءة ولا سبيل إلى إبطالها. فإن التوراة والإنجيل والنبوات شاهد لها2 بالصحّة؛ إذ خصصت الباري بالألوهية ووصفته بأنه المتعالي فوق المسيح وفوق كل شيء. جلّ وعلا وتقدّس عما يقول الجاحدون علوّاً كبيراً. فهذه بهديكم ثمان صلوات قد اشتملت على الكفر والبهت والفجر وقلة الحياة. وذلك أن أحدهم يقوم [مضمخاً] 3 ببوله فيتوجه إلى مشرق الشمس - وهي جهة كان المسيح وغيره من الأنبياء يتنكبها في صلاته - فيناجي رجلاً من بني آدم فيقول في قراءته: "يا من قتله اليهود وصلبوه، وسمّروا يديه على خشبة وتركوه على جذعة بين اللصوص حتى أسالت الشمس دمه وحتى لصق بالخشبة / (2/96/أ) جسده. برحمة المسامير التي سمّرت بها في يديك ارحم من خلقت بيديك4 يا الله". وهذا - حوشيتم - لو خوطب به زعيم قرية أو رئيس محلة لتطيّر من سماعه وعجّل العقوبة لقائله. فكيف بمن يناجي بذلك إلهه وربّه جل وعلا؟!. سؤال على النصارى: نقول للنصارى: أخبرونا ما الذي صنعه الله بيسوع حتى صار ابناً له إذ لم تقولوا بالنبوة المعروفة المتّحدة من الزوجة والمملوكة؟.

_ 1 في م: أفيتم. 2 ليست في (م) . 3 في ص، م (متضمخ) والصواب ما أثبتّه. 4 في م: تكرر: "ارحم من خلقت بيديك".

فإن قالوا: "مسحه فصار بمسحه له مسيحاً وابناً. قلنا: أبينوا لنا هل مسحه بدهن؟ فإن قالوا: نعم. ساووا بينه وبين داود وغيره. إذ قال داود في مزاميره: "صبياً كنت في غنم أبي فأخذني ربّبي ومسحني بدهن مسيحه"1. وقال داود في مزمور آخر: "ائتمر2 الشعوب على الرّبّ وعلى مسيحه" 3. يعني: نفسه. وقال الله تعالي في السفر الثالث من التوراة ويسمى سفر الكهنة: "إن الحبر الممسوح من أولاد هارون هو الذي يتولى القرابين ورش الدم على زوايا المذبح"4. وذلك مشهور عندهم فالمسيح هو الممسوح فما زادوا أن وصفوه بوصف / (2/96/ب) كاهن. وفي الإصحاح الخامس من هذا السفر: "قال الله لموسى: اعمد إلى هارون وبنيه وخذ اللباس ودهن5 المسيحين الذي يمسح به الأحبار وخذ الجماعة كلها إلى باب قبة الأمد. وقدم هارون وألبسه لباس الكهنة وكلله بأكليل من ذهب وصب على رأسه من دهن المسيحين [وامسحه] 6 وقدسه. ففعل موسى ذلك بهارون"7. فما نرى المسيح له مَزِيَّة على داود وهارون في ذلك. وما نراه نسج له إلاّ على منوال من تقدم من صفوة الله تعالى. وقد حكوا عن إنجيل لوقا أن جبريل بشّر مريم بأن ولدها المسيح ابن داود يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود، ويملكه على بيت يعقوب. وذلك يتقاضى أن

_ 1 مزمور 23/5، 89/20. 2 في م: أقيموا. 3 مزمور 2/2. 4 لاويين 4/5، 6. 5 في م: وهني. 6 في ص، م (ومسحه) والصواب ما أثبتّه. 7 سفر الخروج الإصحاح (8) .

يكون1 أفضل منه أو معه في رتبة الفضل - فيالله العجب - جبريل يخبر عن الله أن المسيح هو ابن داود، وأنتم تقولون كلا ولكنه ربّ داود. لقد تباعد ما بينكم وبين جبريل, ومن كان عدوّاً لجبريل الأمين فهو لا شكّ عدوّ لله ربّ العالمين. وإن قالوا: إنما جعله مسيحاً وابناً بتسمية سماه بها وسمى نفسه ابناً له. قلنا: وكذلك يعقوب إذ حكيتم / (2/67/أ) لنا عن التوراة أن الله تعالى قال لموسى: "ابني بكري إسرائيل"2. والبكر أَجَلُّ قَدراً عند والده من غير البكر على ما لا يخفى. والتوراة تشهد بأن للولد الأكبر سهمين في الميراث ولغيره سهم واحد3 ثم4 هو جَدُّ المسيح وعامة الأنبياء من نسله فهلاّ عبدتموه واتّخذتموه إلهاً؟!. وإن زعموا أن المسيح إنما سمّاه الله ابناً للتربية وحسن التأديب - فلعمري - لئن كان الله قد غَذَّاه بغير رضاع وقوته بسوى الطعام المألوف وألبسه غير الثياب المعهودة وبعث إليه مَلَكاً يؤدبه واختلفت الملائكة إلى بيت أُمّه لزيارته وامتثال أوامره ليخالف بينه5 وبين سائر الناس إن ذلك لموضع شبهة. فأما وأمره في جميع أحواله على ما يعهد من الناس ولم تطهر له آية6 في صباه ولم يتكلم في المهد كما زعموا ولا زاد أبلغ ثلاثين7سنة على رجل من بني آدم. فما وجه ادعاء ربوبيته وألوهيته؟.

_ 1 في ص (يكونا) والتصويب في م. 2 خروج 4/22. 3 تثنية 21/15-17. 4 ليست في (م) . 5 في م: عينه. 6 في م: أنه. 7 في م: ثلاثون.

ولو أن النصارى قالوا: إنه تكلم في المهد وخلق من الطين كهيئة الطير كما يقول فيه المسلمون لوجدوا شعباً / (2/97/ب) يستريحون إليه ساعة وساعة. وإن قالوا: إنه إنما صار مسيحاً وابناً بمعمودية يوحنا، فقد اعترفوا بأن مريم لم تلد الابن المسيح في الحقيقة وإنما هي امرأة ولدت طفلاً من أطفال بني آدم. وحينئذٍ تكون بنوة المسيح مجرد تسمية لا غير. ويستوي حاله وحال من تَقَدَّمه في هذه التسمية من بني إسرائيل. وإن قالوا: إنما اتّخذه الله مسيحاً وابناً لأنه أطاعه1 طاعةً لم يطعها أحد قبله. وعبده عبادة لا يتصور أن يبلغها أحد. فنقول: كيف ذلك وإنما أطاع الله تعالى منذ عقل وبلغ مبالغ الرجال. وذلك دون [العشرين] 2 سنة وأنتم حكيتم لنا في التوراة أن موسى عليه السلام عَمَّر مائة وعشرين سنة3. فإذا طرحنا سِنَّ الصبي كان عمر المسيح خُمْس عمر موسى. وإذا كان الأمر كذلك فقد زادت أعمال موسى وطاعاته4 وأَرْبَت على طاعة المسيح. وقد حكيتم لنا أن موسى مَلَك جانباً كبيراً من الأرض وقاتل الجبابرة وجاهد العمالقة وأباد الفراعنة وقتل عوجاً مبارزة وواصل5 / (2/98/أ) لله أربعين يوماً وأربعين ليلة لا يذوق طعاماً وابتلى بخلاف قومه وكثرة تلونهم وتعنتهم بالجهل المركوز في طباعهم فصبر عليهم ورفق بهم وساسهم وتلقى أوامر ربّه بصدر فسيح وباع رحيب. فلم يهب جباراً وإن عَظُم قَدْرُه ولا نكل عن عدوّ وإن تفاقم أمره. حتى فتح الشام ودوخ البلاد. ولما دنا حمامه وزمه6

_ 1 في ص: زاد "الله". 2 في ص (العشرون) والصواب ما أثبتّه. 3 تثنية 34/7. 4 في م: وطاعته. 5 في م: زاد: (من) . 6 ليس في م.

من المقدور زمامه. تقدم إلى خادم كان له يقال له: يوشع بن نون يفتح باقي بلاد الشام وأفاض عليه من فاضل همته وصحيح عزمته ما شَدَّد شكيمته وأَيَّد نحيزته فقاتل أربعة وعشرين مَلِكاً وأبادهم عن جديد الأرض. وهذه عبادات لم يتفق للمسيح عليهما السلام مع نزول سنه. وأنتم أخبرتمونا في الإنجيل أن المسيح كان مذ بلغ الحلم إلى أن ناهز الثلاثين مشتغلاً بتعلم التوراة واقتباس العلم من أتباع موسى فلم يكن يُحَارِب ولا يُحَارَب ولا امتحن بما امتحن به موسى. فقد كذبتم في قولكم / (2/98/ب) إنه اتّخذ ابناً لتقدمه في الطاعات على غيره. وكيف تستقيم لكم هذه الدعوى والمزامير تشهد بخلافهم. قال داود عليه السلام متنبئاً على المسيح: "أقسَم الرّبّ ولا يكذب إنك أنت الكاهن المؤيّد تشبه مملكي صادق"1. فشبه المسيح برجل كاهن كان في زمن إبراهيم الخليل وأقصى درجات الشبه أن يساوي المشبه به في الفضل. وهذا الكلام من داود يفضي بانحطاط درجة المسيح عن درجة إبراهيم وموسى - عيلهما السلام - إذ لا خلاف بين أهل الكتاب أن إبراهيم وموسى أفضل من ملكي صادق هذا الذي شُبه به المسيح فاعلم ذلك. وإن قالوا: إنه كان [له] 2 من النية ما لم يكن لموسى ولا غيره - والأعمال بالنيات. - قلنا: لو عكس عليكم الأمر وقيل لكم: بل نية موسى كانت أعظم وقصده كان أتم وأفخم. فبماذا كنتم تجيبون؟ فإن من كان له من أنواع العبادات والقُربات ما وصفنا فهو أحق بأن يقال إن نيته أعظم من نية غيره فقد بطل جميع ما تمسك / (2/99/أ) النصارى به في بنوة المسيح واستوت حاله وحال أحبار بني إسرائيل في المسيحية والبنوة.

_ 1 مزمور 110/4. 2 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم.

وإنما أوردنا ما أوردنا من ذلك كسراً لحجج النصارى وهدماً لأباطيلهم. ونحن والحمد لله أسلم قلوباً لأنبياء الله وأحسن قولاً منهم وأجمل اعتقاداً صلوات الله عليهم أجمعين. اهـ.

الباب العاشر: في البشائر الإلهية بالعزة المحمدية

الباب العاشر: في البشائر الإلهية بالعزة المحمدية ... لباب العاشر: في البشائر الإلهيّة بالعزّة المحمّديّة في البشائر الإلهية بالعزّة المحمّدية: وتشتمل على قسمين: نذكر في القسم الأوّل: ما نصت عليه الأنبياء من لدن إبراهيم إلى المسيح - عليهم السلام - مما يشهد بنبوة محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحقّق رسالته وأنه عليه السلام أفضل النّبيّين والمرسلين. فلو لم يبعث محمّد صلى الله عليه وسلم لاختلفت أقوال الأنبياء ورُدَّت شهاداتهم وعكَّر ذلك على نبواتهم بالإبطال. وقد بالغوا - عليهم السلام - في التنصيص على اسمه ونعته وحليته وذكر أرضه وبلده وجميل سيرته وصلاح أمته / (2/99/ب) وسعادة ملته وأنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن. وأن دعوته تدوم إلى قيام القيامة. والقسم الثاني: ر فيه ما جاء من الآيات البيّنات والخوارق الباهرات مما تضمّنه الكتاب العزيز واشتملت عليه السنة الطاهرة فأوجب الله به الحجة وأنار المحجة وأقام منار الأبرار ومحى بذلك آثار الكفار. ولتقع البداءة بما في التوراة من ذلك1. - البشرى الأولى: قالت التوراة في الفصل العاشر من السفر الأوّل منها: "إن الله تعالى قال لإبراهيم: إن في هذا العام يولد لك ولد اسمه إسحاق. فقال إبراهيم: ليت2

_ 1 لقد حرصت على تتبع مواطن ذكر هذه البشارات في كتب الأديان التي ألّفها العلماء المسلمون. وخاصة العلماء الذين كانوا من أهل الكتاب وهداهم الله إلى الإسلام ذلك لتمكنهم من لغة التوراة والإنجيل ومعرفتهم الجيدة بمعانيها. فاستشهادهم بهذه البشارات يعتبر حجة على من يعتقدون قدسية تلك الكتب. 2 في م: كيت.

إسماعيل هذا يحيى بين يديك يمجدك. فقال الله تعالى: قد استجبت لك في إسماعيل وإني أباركه وأُيَمِّنه وأعظمه جدّاً جِدّاً بما قد استجبت فيه وأُصيِّره لأمة كبيرة وأعطيه شعباً جليلاً وسيلد اثني عشر عظيماً"1. قلت: قد علم الموالف والمخالف والموافق والمفارق أنه لم يكن في ذرية إسماعيل مَنْ ظهرت بركته / (2/100/أ) ونمت أمته وأعطي الشعب الجليل سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلقد ملئوا الأرض برحبها2 وطبقوا من شرق الدنيا إلى غربها. ودوخوا الآفاق وأربوا في العدد على أولاد إسحاق. وهم - والحمد لله - لا يزدادون على مرّ الأيام إلاّ نماءً وكثرةً. وهذا بالغ في شرف إسماعيل إذ فخر الولد يكسب الوالد فخراً ويرفعه دنيا وأخرى. وناهيك بمن يصفه الله بالعظم والبركة واليمن والجلاله وبأقل من هذه الوعود يثبت الفضل على سائر المخلوقات؛ إذ اليسير من الله عظيم والعظيم منه فلا شيء أعظم منه.

_ 1 تكوين 17/15-20. وقد وردت هذه البشارة في المراجع الآتية: (الدين والدولة ص 131، للمهتدي إلى الإسلام علي بن ربن الطبري. إفحام اليهود ص 115-116، للمهتدي السموأل المغربي. الجواب الصحيح 3/331، لابن تيمية، أعلام النبوة ص 198، للماوردي. هداية الحيارى ص 115، لابن القيم، الأجوبة الفاخرة ص 163، للقرافي، الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأهوام ص 265، للقرطبي، مقامع هامات الصلبان ص 217، لأبي عبيدة الخزرجي، إظهار الحقّ ص 517، لرحمة الله الهندي، ومحمّد رسول الله هكذا بشرت به الأناجيل ص 64، للمهتدي بشرى زخارى ميخائيل، محمّد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن ص 36، للمهتدي إبراهيم خليل أحمد) . وقد ذكر السموأل - الذي كان من أحبار اليهود فأسلم - النّصّ العبري للنّصّ السابق 17/19 كالآتي: "وليشماعيل شمعيتَخَا هَنِّي يبرخْتى أونوا وهفريثي أوثو وهِزْ بيثي أوثو بماد ماد". ثم قال السموأل: فهذه الكلمة (بماد ماد) إذا عددنا حساب حروفها بالجمل كان اثنين وتسعين. وذلك عدد حساب حروف اسم (محمّد) صلى الله عليه وسلم. فإنه أيضاً اثنان وتسعون 10هـ. وتوضيح كلامه كالآتي: ب=2+م=40+أ=1+د =4=47، عدد كلمة (بماد) م=40+أ= أ=1+د=4=45 عدد كلمة (ماد) . ومجموع تلك الحروف:47-45=92. وهو عدد حروف اسم (محمّد) م=40+ح=8+م=40+د=4، المجموع: =92، وقد نقله القرطبي في الإعلام ص 265، 266. وذكره أيضاً عبد السلام - الذي كان من أحبار اليهود فأسلم - في كتابه: (الرسالة الهادية) . (ر: إظهار الحقّ ص 518) . 2 في م: (بر حربا) .

- البشرى الثّانية: قالت التوراة في الفصل التّاسع من السفر الأوّل: "إن الملك ظهر لهاجر وقد فارقت ساره. فقال يا هاجر مِن أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال: ارجعي فإني سأكثر ذريّتك وزرعك حتى لا يحصون وها أنت تحبلين وتلدين ابناً تسمينه إسماعيل، لأن الله قد سمع تذللك1 وخضوعك. / (2/100/ب) وولدك يكون وحشي الناس2. وتكون يده فوق الجميع ويد الكل به. ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته"3. فهذه بشارة شافه الله تعالى بها هاجر على لسان ملكه وأخبرها أنه جاعل يد ابنها العليا ويد من سواه السفلى. ولم تتم هذه البشرى إلاّ بمبعث محمّد صلى الله عليه وسلم.

_ 1 في م: نداءك. 2 وردت العبارة في الدين والدولة ص 131، كالآتي: "وهو يكون عَيْر الناس". ويبيّن لنا المهتدي عبد الأحد داود أن العبارة محرفة وتصحيحها كالآتي: "وسوف يصبح إسماعيل ذا ذرية كثيرة". ويقول: لقد قام المسيحيون بترجمة نفس هذه الكلمة التي تعني: (وفير أو كثير) من الفعل: (PARA) الذي يرادفه بالعبرية لفظ: (وفير) ترجموها إلى معنى مغاير لحقيقة اللفظ ألا وهو: (الحمار الوحشي؟!) أليس من العار والكفر أن ينعت إسماعيل بالحمار المتوحش وهو النبي الذي كرمه الله فنعته (بصاحب الذرية الخصية الكثيرة العدد؟!! ". 3 تكوين 16/7-12. (ر: هذه البشارة في الدين والدولة ص 131، وأعلام النبوة ص 197، للماوردي، تحفة الأريب في الرّدّ على أهل الصليب ص 258، للمهتدي عبد الله الترجمان، الجواب الصحيح 3/305، وهداية الحيارى ص 114، الأجوبة الفاخرة ص 164، مقامع هامات ص 217، ص 266، محمّد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس ص60، 61، للمهتدي البروفسور عبد الأحد داود، محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم 64) .

- البشرى الثّالثة1: قالت التوراة في الفصل الثالث عشر من السفر الأوّل أيضاً: "قال الله لإبراهيم: إني جاعل ابنك إسماعيل لأمة عظيمة لأنه من زرعك"2. - البشرى الرّابعة: قالت التوراة في الفصل العشرين من السفر الخامس: "قال موسى: أقبل الله من سينا3.وتجلى من ساعير. وظهر من جبال فاران. معه ربوات الأطهار عن يمينه"4.

_ 1 في م: الثالث. 2 تكوين 21/12، 13، كالآتي: "قال الله لإبراهيم ... لأنه بإسحاق يدعى لك نسل وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك". المراد بابن الجارية هو إسماعيل عليه السلام. وهذا من تحريف أهل الكتاب لتوراتهم. وتثبيت نظرة الحقد الاحتقار إلى ذرية إسماعيل عليه السلام واعتبارهم أبناء الجارية. ويؤكد لك ما ورد في رسالة بولس إلى غلاطية 4/21-31، وفيه: "كن ماذا يقول الكتاب اطرد الجارية وابنها لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة. إذاً أيّها الإخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد الحرة". اهـ. (ر: البشارة في الدين والدولة ص 132، والجواب الصحيح 3/311، وهداية الحيارى ص 114، الأجوبة الفاخرة ص 165، محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم 64) . 3 في م: الواو ساقطة. 4 تثنية 33/1-3. وقد تكرر معنى هذه البشارة في سفر حقبوق 3/3 كالآتي: "الله جاء من تيمان والقدوس من جبال فاران، سلاه. جلاله غطى السماوات والأرض أمتلات من تسبيحه وكان لمعان كالنور". وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص 138، الإعلام بمناقب الإسلام ص 203، للعامري، أعلام النبوة ص 199، الفصل في الملل والنحل 8/194، لابن حزم، الجواب الصحيح 3/212، وهداية الحيارى ص 112، الأجوبة الفاخرة ص 165، إفحام اليهود ص 118، الإعلام ص 264، تحفة الأريب ص 265، مقامع هامات ص 216، إظهار الحق ص 517، محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم 63، النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية ص 346، للمهتدي نصر بن يحيى المتطبب، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 32،عبد الأحد، محمّد رسول الله ص63، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 65-67، إبراهيم خليل) .

فسيناء1 الجبل الذي كلم الله فيه موسى. وساعير2 هو جبل الخليل بالشام. وكان المسيح يتعبد فيه ويناجي ربّه. وفاران3 جبل بني هاشم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث فيه ويتعبد4. وقد خصت التوراة محمّد صلى الله عليه وسلم / (2/101/أ) بزيادة على موسى وعيسى، فقالت: "معه ربوات الأطهار عن يمينه". وذلك كناية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بالربوات: الجماعات من الأكابر والمعظمين في الدين على مذهب تسمية العظيم القدر "رباً". فجمعوا الرّبّ ربوات ولم يقولوا (أرباباً) لفساد التعبير وسوء الترجمة. كما قال فولس مفسرهم: "إن جبل فاران متّصل ببلاد أرابيا"5. يريد بلاد العرب.

_ 1 سيناء: أو حوريب اسم جبل واقع في شبه جزيرة سيناء جنوباً. وهناك رأيان في موقعه: أحدهما أنه جبل سربال في واد فيران. والآخر: أنه جبل موسى. (ر: قاموس ص 498، الموسوعة الميسرة ص 1057) . 2 ساعير: جبال ممتدة في الجهة الشرقية من وادي عربة من البحر الميت إلى خليج العقبة سميت كذلك نسبة إلى سعير الحوري. ويطلق على جبل في أرض يهوذا. بين قرية يعاريم وبيت شمس. (ر: قاموس ص 466، دائرة المعارف 9/623، للبستاني) . 3 فاران: كلمة عبرانية معربة. من أسماء مكة أو جبال الحجاز. وقيل: إن (فاران) اسم أحد العمالقة السبعة الذين اقتسموا الأرض. فجعلوا الفاران الحجاز. (ر: معجم البلدان4/225،ياقوت الحموي، النصيحة الإيمانية ص346،تحفة الأريب ص265) . قال شيخ الإسلام في تعليقه على البشارة السابقة: "وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقاً. جبل حراء الذي ليس حول مكة، جبل أعلى منه، ومنه كان نزول أوّل الوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وحوله من الجبال جبال كثيرة حتى قد قيل: إن بمكة اثني عشر ألف جبل. وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم والبرية التي بين مكة وطور سيناء تسمى (برية فاران) . ولا يمكن أحد أن يدّعي أنه - بعد المسيح - نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي". (ر: الجواب 3/301. 4 ذكر هذه النبوات الثلاثة في هذه البشارة نظير ذكرها في أوّل سورة: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ} . (ر: للتوسع في ذلك هداية الحيارى ص 113، 114) . 5 لم أقف في رسائل بولس على ما نقله المؤلِّف. ولكن ورد في رسالة بولس إلى غلاطية 4/25، النّصّ الآتي: "لأن هاجر جبل سيناء في العربية".

ويحتمل أن يكون أراد بالربوات جماعة الملائكة وهو الأقرب. لأن الربوات الجماعات واحدها: ربوة. قال داود في المزمور الثالث: "الرّبّ ناصري لا أخاف من ربوات الشعوب المحيطين بِيَ"1. فيكون ذلك كناية عن تأييد الله نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم وبالملائكة في حروبه وغزواته وترددهم إليه بالوحي والتَّنْزِيل. وفي التوراة: "إن إسماعيل سكن برية فاران ونشأ بها وتعلم الرمي"2. وذلك كلّه بمكة وإذا كان ذلك كذلك، فلم يأت من جبال فاران من دعا إلى الله وأظهر أحكامه ونشر أعلامه وشرع الدين القويم ونهج للأمم الطريق / (2/101/ب) المستقيم ومهد الحاج وعمّر الأندية وعمر رؤس الجبال وبطون الأودية بالتلبية سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. - البشرى الخامسة: قالت التوراة في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: "يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبيّا من إخوتهم. مثلك. أجعل كلامي في فيه. ويقول لهم ما آمره به. والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه"3.

_ 1 المزمور 3/5، 6. 2 تكوين 21/2. ومما يؤكّد أن مسكن إسماعيل عليه السلام وذريته من بعه في جزيرة العرب وفي أرض الحجاز خاصة ما ورد في تكوين 25/17، 18: "ومات إسماعيل وانضم إلى قومه وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر". وقد ورد في قاموس الكتاب: "إن حويلة من أبناء يقظان وقد سكنوا بجهة اليمن والحجاز يبن اليمن وأشور أمام مصر". (ر: تكوين 10/7، 29، 30، قاموس ص 329، 467، 939) . 3 تثنية 18/18، 19. وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص 137، إفحام اليهود ص 111، الإعلام بمناقب ص 202، أعلام النبوة ص 198، هداية الحيارى ص 109، الأعلام ص 263، مقامع هامات الصلبان ص 214، الأجوبة الفاخرة ص 164، تحفة الأريب ص 260، إظهار الحقّ ص 508، محمّد رسول الله ص 64، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 67، 68، إبراهيم خليل، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 31، عبد الأحد، الانتصارات الإسلامية ص 120، 121، نجم الدين البغدادي الطوفي.

قلت: هذه آثار النقمة على من فارقه لائحة وآثار النعمة على من وافقه واضحة. واعلم أن إخوة بني إسرائيل هم ولد إسماعيل ولا يجوز أن يكون هذا النبيّ المذكور من بني إسرائيل ألبتة لأن الله تعالى يقول لموسى: "نبي مثلك". ولم يبعث من بني إسرائيل نبي مثل موسى جاء بكتاب منَزَّل وشرع مبتدأ1. فوجب أن يكون من ولد إسماعيل ولم يقم من ولد إسماعيل من يمكن تنْزِيل هذا الوعد الحقّ عليه سوى2 رسول الله. فلو لم يبعث محمّد صلى الله عليه وسلم لأخلفته أقوال التوراة - وخبر الله تعالى محاشا عن الخلف بل قوله الحقّ ووعده الصدق سبحانه وتعالى ... / (2/102/أ) . - البشرى السّادسة: قالت التوراة في هذا السفر: "قال موسى لبني إسرائيل: لا تطيعوا العرافين ولا المنجّمين. فسيقيم لكم الرّبّ نبيّاً من أخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي"3.

_ 1 ذكر الشيخ رحمة الهندي عشرين وجهاً في المماثلة بين نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم وموس عليه السلام. (ر: إظهار الحقّ ص 512) . 2 ليست في م. 3 تثنية18/14، 15.وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص137، والإعلام بمناقب ص203،إفحام اليهود ص111، الأجوبةالفاخرة ص164،هداية الحيارى ص115. ومما يؤكّد هذه البشارة والتي قبلها وأنها في نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم وليست في المسيح ولا غيره من الأنبياء قول بطرس في سفر أعمال الرسل 3/19-24: "فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرح من وجه الرّبّ ويرسل يسوع المبشر به لكم قبل الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنه رد كلّ شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر. فإن موسى قال للآباء: إن نبيّنا مثلي سيقيم لكم الرّبّ إلهكم من إخوتكم له تسمعون في كلّ ما يكلمكم به ويكون أن كلّ نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب وجميع الأنبياء أيضاً من صموئيل فما بعده جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام". فهذا القول من بطرس الحواري المعظم عند النصارى - فيه التصريح بأن النبي الآتي ليس هو المسيح ولا غيره من الأنبياء؛ لأنهم قد بشروا به. فلا يعقل أن يكون واحداً منهم. ولأنهم من بني إسرائيل وليس أحد منهم يشبه موسى عليه السلام في سيرته وإتيانه بشريعة جديدة. فقد وجب على العاقل المنصف منهم أن يقرّ بالنبي المبشَّر به بأنه محمّد صلى الله عليه وسلم الذي تنطبق عليه أوصاف هذه البشارة تماماً.

فإن قيل: فلعلّ هذا الموعود به بنو إسرائيل هو هارون أخو موسى ووزيره. أو يوشع خادمه ومشيره. قلنا: التوراة تأبى ذلك. إذ قد أخبرت أن هارون توفي في حياة موسى وعاش موسى بعده. وأما يوشع بن نون فهو من بني إسرائيل والله تعالى يقول: "من إخوتهم". ولم يقل من أنفسهم. والتوراة أيضاً قد1 سدت هذا الباب فقالت في آخر ورقة فيها من السفر الخامس: "ومات موسى فكان بنو إسرائيل يسمعون من يوشع ويطيعونه ولم يقع من بني إسرائيل بعد موسى مثل موسى الذي عرف الله وجهاً قِبَل وجه وصنع الآيات والعجائب"2. ثم هارون ويوشع قد كانا أقيما للنبوة قبل صدور هذا الخطاب من الله. ولا يصحّ أن يُنَزَّل على المسيح بإجماع الأمم. أما اليهود فهو عندهم كذَّاب أشِر. وأنه ما أحيا ميتاً قط ولا أبرأ أبرص. وأما / (2/102/ب) النصارى فهم يزعمون أنه الرّبّ الذي بعث الأنبياء وأرسل الرسل وأنه الذي خلق الخلق وأتقن العالم. فإن رجعوا القهقري وقالوا: إن المسيح مثل موسى فقد تناقض قولهم وخبطوا عشوى. وأما المسلمون فالمسيح عندهم نبي كريم غير أنه من بني إسرائيل والله تعالى يقول: "من إخوتهم" ولم يقل من أنفسهم. فبطل أن يكون المسيح أو غيره وتعيّن أن يكون محمّد صلى الله عليه وسلم ضرورة الوفاء بقول الله تعالى3. - البشرى السّابعة: قالت التوراة: "لما حضرت إسرائيل الوفاة وهو بمصر عند يوسف دعا أولاده فحضروا بين يديه فباركهم واحداً واحِداً ودعا لهم ولما انتهت النوبة إلى ابنه

_ 1 ليست في (م) . 2 تثنية 34/5-12. 3 تعليق المؤلِّف على البشارة نقله من كتاب الدين والدولة ص 138.

يهوذا قال فيه: لا يعدم سبط يهوذا [مَلِكاً مُسلَّطاً] 1 وأفخاذه [نبيّاً مرسلاً] 2 حتى يأتي الذي لهالكل"3. وإنما عنى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك فيما تقدم فهذه. سبع بشائر من التوراة باقية خالدة قد صانها الله عن التحريف وحماها عن التغيير والتصحيف ولو غسل / (2/203/أ) الخاطر4 من وضر الهموم وإنجاب عن القلب غيوم الغموم حتى تطهر النفس ويضيء الحسّ ويصفوا دهن الذهن لتوسعت في استخراج جميع ما في التوراة من أعلام نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم وفي هذا القدر بلاغ وكفاية. - البشرى الثّامنة: من مزامير داود في مزمور له: "سبحوا الله تسبيحاً جديداً، وليفرح بالخالق من اصطفى الله له أمته وأعطاه5 النصر وسدد الصالحين منهم بالكرامة. يسبحونه على مضاجعهم، ويكبرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذوات شفرتين لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه"6.

_ 1 في م: مسلك. وفي ص (ملك مسلط) والصواب ما أثبتّه. 2 في ص، م (نبي مرسل) والصواب ما أثبتّه. 3 ورد النّصّ في سفر التكوين 49/1-12، وقد سبق تفسير هذه البشارة والتعليق عليها. (ر: ص: 298) . وقد وردت البشارة في محمّد صلى الله عليه وسلم ص 77-84، عبد الأحد. الأجوبة الفاخرة ص 164، إظهار الحقّ ص 518، 519، مقدمة تعليق د. السقا على كتاب الإعلام ص 31، 32، محمّد نبيّ الإسلام للطهطاوي ص 4، 5) . 4 في م: (الخاضر) . 5 في م: زاد (الله) . 6 مزمور 149/1-9، وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص 142، وأعلام النبوة ص 210، الجواب الصحيح 3/315، هداية الحيارى ص 143، الأجوبة الفاخرة ص 170، والإعلام ص 266، ومقامع هامات ص 218، إظهار الحقّ ص 525.

وقوله: "يكبرون الله بأصوات مرتفعة" إشارة إلى ما يفعله الحجيج من التلبية وهذه كلها صفات النبيّ محمّد وأمته1. - البشرى التّاسعة: قال داود النبي عليه السلام: "من أجل هذه بارك الله عليك إلى الأبد. فتقلد أيّها الجبار السيف لأن البهاء لوجهك والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحقّ وسمت التأله. فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك / (2/103/ب) وسهامك مسنونة والأمم يخرون تحتك"2. ليس متقلد السيف من الأنبياء بعد داود سوى نبيّنا عليه السلام وهو الذي خَرَّت الأمم تحته وقرنت3 شرائعه بالهيبة. فإما القبول وإما الجزية وإما السيف. وتصديقه قوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب"4. فإن قالوا: سماه المزمور جباراً. قلنا: لا يمتنع أن يكون النبيّ جباراً على الكافرين رحيماً بالمؤمنين. كقوله تعالى: {أَذِلَّةً عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الكَافِرِين} . [سورة المائدة، الآية: 54] . وقد شهد

_ 1 قال الإمام ابن تيمية معلّقاً على هذه البشارة: "إن هذه الصفات إنما تنطبق على محمّد صلى الله عليه وسلم وأمته. فهم الذين يكبرون الله بأصواتهم المرتفعة في أذانهم للصلوات الخمس وعلى الأماكن العالية في الحج وفي عيد الفطر وعيد النحر. وليس هذا لأحد من الأمم لا أهل الكتاب ولا غيرهم سواهم فإن اليهود يجمعون الناس بالبوق والنصارى بالناقوس. وقوله: "بأيديهم سيوف ذات شفرتين" فهي السيوف العربية التي فتح الصحابة بها البلاد وهي إلى اليوم معروفة لهم. وقوله: "يسبحون على مضاجعهم" هو: نعت للمؤمنين الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم". اهـ. بتصرف بسيط. (ر: الجواب الصحيح 3/315-318، هداية الحيارى ص 143، 144) . 2 ذكر النّصّ في المزمور 45/2-5، وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص 139، والجواب الصحيح 3/318، وهداية الحيارى ص 145، والإعلام ص 267، مقامع هامات ص 219، إظهار الحق ص 520، 521، وقد أفاض وأجاد الشيخ رحمة الله في تحليل هذه البشارة ومطابقة الصفات الواردة فيها لنبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم. فمن أراد التوسع فعليه مراجعة كلامه في إظهار الحقّ. 3 في م: وقونت. 4 أخرجه البخاري في كتاب التيمم. (ر: فتح الباري 1/453) . عن جابر رضي الله عنه، وملسم 2/164، وأحمد في مسنده 2/412، عن أبي هريرة رضي الله عنه) .

المزمور له بالنبوة صريحاً إذ أخبر أن له ناموساً وشرائع كنواميس الأنبياء وشرائعهم. وقال: إن دينه يظهر على كلّ دين فلم يُخْرم ما أخبر به. - البشرى العاشرة: قال داود في مزمور له: "إن ربّنا عظيم محمود جدّاً، وفي قرية إلهنا قدوس، ومحمّد قد عَمَّ الأرض كلها فرحاً"1. فقد نصّ داود على اسم محمّد وبلده وسماه قرية الله تعالى. وأخبر أن كلمته تعُم أهل الأرض2. - البشرى الحادية عشرة: قال داود في مزمور له: "إن الله أظهر من صهيون / (2/104/أ) إكليلاً محموداً"3. فهذا داود قد أكثر في مزاميره من ذكر سيدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو محمود وأحمد والمحمود. ووصف داود له بأنه (إكليل) 4 يشير إلى أنه رئيس الأنبياء عليهم السلام. إذ الإكليل هو الذي يجعل على الرأس.

_ 1 ورد النّصّ في مزمور 48/1، 2 كالآتي: "عظيم هو الرّبّ، وحميد جدّاً في مدينة إلهنا. جبل قدسه جميل الارتفاع. فرح كلّ الأرض جبل صهيون. فرح أقاصي الشمال مدينة الملك العظيم". وكذلك في مزمور 66/4، ونصّه: "لأن الرّبّ عظيم وحميد جدّاً. مهوب هو على كل الآلهة ... ". وأمّا نصّ ما ذكره المؤلِّف فقد ورد في الدين والدولة ص 139، والجواب الصحيح 3/319، هداية الحيارى ص 147، الأجوبة الفاخرة ص 171، والمعنى بين النصين واحد وواضع أيضاً في معنى اسم نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم. 2 وهذا مما أخبر به نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم. فقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها". أخرجه أحمد 5/278، ومسلم 4/2215. 3 ورد في مزمور 50/2 ما نصّه: "من صهيون كمال الجمال الله أشرق يأتي إلهنا ولا يصمت". وقد ورد النّصّ الذي ذكره المؤلّف في الدين والدولة ص 140، أعلام النبوة ص 210، هداية الحيارى ص 146، والإعلام ص 267. 4 في ص، م (إكليلاً) والصواب ما أثبتّه.

- البشرى الثّانية عشرة: قال داود في مزمور: "لترتاح البوادي وقراها. ولتصر أرض قيدار مروجاً. ولتسبح سكان الكهوف. ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرّبّ ويذيعوا تسابيحه في الجزائر"1. فليت شعري لمن البوادي من الأمم سوى أمة محمّد؟ ‍! ومن قيدار2 سوى ابن إسماعيل جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. ومَنْ سكن الكهوف وقلل الجبال سوى العرب؟!. - البشرى الثّالثة عشرة: في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال داود في مزمور له: "ويجوز من البحر إلى البحر ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض. تخر أهل الجزائر بين يديه. وتلحس أعداؤه التراب وتسجد له ملوك الفرس. وتدين له الأمم بالطاعة / (2/104/ب) والانقياد. ويخلص المضطر البائس ممن هو أقوى منه. وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له. ويرأف بالمساكين والضعفاء ويُصلَّى عليه ويبارك في كلّ حين"3.

_ 1 ورد النّصّ في سفر أشعيا 42/11، 12، وليس في مزمور داود كما ذكر المؤلّف. وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص 143، أعلام النبوة ص 202، الجواب الصّحيح 3/322، هداية الحيارى ص 147، الأجوبة الفاخرة ص 171، الإعلام ص 273، مقامع هامات ص 225، إظهار الحقّ ص 526. 2 قيدار: سام سامي معناه: "قدير أو أسود". وهو ابن إسماعيل الثاني بنصّ التوراة في سفر التكوين 25/12-18. "وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم، نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار وأدبئيل ... " وهو أب لأشهر قبائل العرب وتسمى بلادهم أيضاص: قيدار. (ر: قاموس ص 751) . 3 مزمور 72/8-15. ونصّه كالآتي: "ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض. أمامه تجثو أهل البرية. وأعداؤه يلحسون التراب. ملوك ترشيش الجزائر يرسلون تقدمه. ملوك شبا وسباء يقدمون هدية. ويسجد له كلّ الملوك. كلّ الأمم تتعبد له. لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبائس، ويخلص أنفس الفقراء من الظلم والخطف، يفدي أنفسهم ويكرم دمهم في عينيه ويعيش ويعطيه من ذهب شباً ويصلي لأجله دائماً اليوم كله يباركه". ويلاحظ الفرق بين النّصّ الموجود حالياً في المزامير. وبين نص المؤلِّف الذي ذكره علماؤنا في كتبهم. وإن الاختلاف بين النّصّين يرجع إلى تحريف أهل الكتاب لأسفارهم محاولة منهم لطمس الحقّ بالبشارات الورادة في نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم. (ر: البشارة في الدين والدولة ص 140، وتحفة الأريب ص 275، 276، أعلام النبوة ص 210، الجواب الصّحيح 3/322/ هداية الحيارى ص 146، الإعلام ص 267، مقامع هامات ص 219، الأجوبة الفاخرة ص 171) .

وهذه صفات محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد جرت الملوك بين يدي أصحابه، وأسروا ملوك الفرس والروم، ودانت له ولأمته الأمم ولحسوا التراب وصُلِّي عليه على توالي الأيام1. - البشرى الرّابعة عشرة: قال داود في مزمور تنبأ به على نبيّنا عليه السلام: "دامت شكايتي، ونزلت في مساكن قيدان. وكثيراً ثوت نفسي مع الذين يغضون السلم، وبالسلم كنت أتكلم فيهم وهم كانوا يحاربونني"2. فهذا تنويه بأن الساكن (ماسكن قيدار) هو رسول الله. وإلاّ فمتى فارق داود البيت المقدس ونزل بمكة في منازل قيدار ابن إسماعيل؟!. - البشرى الخامسة عشرة: قال داود في مزموره تنبأ به على كثرة أمة محمّد صلى الله عليه وسلم ودوام شرعه إلى الأبد / (2/205/أ) ووجوب النبوة له قبل خلق العالم: "ثماره مثل الزروع الكثيرة على وجه الأرض

_ 1 قال ابن رَبَّن: "ولحس أعداؤه التراب، وأتته ملوك اليمين بالقرابين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمته وإلى مكة. ولا نعلم أحداً يصلي ويبارك عليه في كلّ وقت غير محمّد صلى الله عليه وسلم وهو قول الأمم: "اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد وبارك على محمّد وعلى آل محمّد". (ر: الدين والدولة ص 142) . 2 مزمور 120/5-7، ونصّه: "ويلي لغربتي في ماشك لسكنى في خيام قيدار. طال على نفسي سكنها مع مبغض السلام. أنا سلام وحينما أتكلم فهم للحرب".

كالذي يطلع من لبنان، ويدوم ذكره إلى الأبد. وإن اسمه لموجود قبل الشمس، وكلّ الأمم يتبركون به ويحمدونه"1. وهذه كلّها صفاته وصفات أمته وقد أخبر داود بتأبيد شرعه وتأييده وأنه لا نبيّ بعده وأنه خاتم الأنبياء. - البشرى السّادسة عشرة: قال داود في مزمور من المزمور الثاني له وتنبأ به على اتّساع خطة الإسلام: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. سلني أعطيك. الشعوب ميراثك. وسلطانك إلى أقطار الأرض. ترعاهم بقضيب من حديد. ومثل آنية الفخار تسحقهم"2. قال مؤلِّفه: اعلم أنه لا يتصور من عارف صرف هذا المزمور عن سيّدنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأنه عليه السلام هو الذي ورث الشعوب كلّها وبلغ سلطانه إلى أقطار الأرض ورعى الأمم وحاطهم بسيفه. ولا يمكن صرف هذا المزمور إلى داود؛ لأنه لم يرث سائر الشعوب / (2/105/ب) ولا بلغ سلطانه إلى أقطار الأرض، إذ ما ملك سوى ناحية من الأرض وهي البيت المقدس. ثم خرجت من بعده إلى أمة هذا النبيّ والأقطار والنواحي. وقد بلغ سلطان محمّد عليه السلام جوانب الدنيا وأطراف العالم ففتح الله عليهم الحجاز واليمن والحبشة والنوبة والهند والسند إلى الصين. ودوخت أمته الشام والعراق وفارس إلى الترك. وافتتحوا أرض مصر والمغرب الأقصى إلى بحر طنجة. فقد ورث محمّد سائر الشعوب وبلغ سلطانه إلى أقطار الأرض. فصارهذا المزمور مضاهياً لبشرى يعقوب في التوراة بمحمّدصلى الله عليه وسلم الذي نقلناه.

_ 1 مزمور 72/16-17، ونصّه كالآتي: "تكون حفنة بر في الأرض في رؤوس الجبال تتمايل مثل لبنان ثمرتها. ويزهرون من المدينة مثل عشب الأرض. يكون اسمه إلى الدهر قدام الشمس يمتد اسمه. ويتباركون به كلّ أمم الأرض ويطوبونه". وقد تقدم ذكر مقدمة هذه البشارة في (البشرى الثّالثة عشرة) . ر: الدين والدولة ص 141. 2 مزمور 2/7-9، نقل هذه البشارة القرافي في الأجوبة الفاخرة ص 170.

فأما قوله في أوّل المزمور: "أنت ابني"، فجرى فيه داود على عادتهم في إطلاق لفظة البنوة على النبيّ والمطيع لله فقد قال في التوراة: (إسرائيل ابني بكري"1. وقال المسيح في الإنجيل: "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم". - البشرى السّابعة عشرة: قال داود في مزمور له مخاطباً لربّه ومتنبئاً على رسوله صلى الله عليه وسلم / (2/206/أ) : "إلهي من الرجل الذي ذكرته، والإنسان الذي أمرته، ألبسته الكرامات والمجد، وملّكته على خلقك؟! "2. - البشرى الثّامنة عشرة: من نبوات نبيّ الله أشعيا قال أشعيا مبشراً برسول الله صلى الله عليه وسلم: "قيل لي: قم نظاراً فانظر ماذا ترى؟ فقلت: أرى راكبين مقبلين، أحدهما على حمار والآخر على جمل. يقول أحدهمالصاحبه: سقطت بابل وأصنامها للمنحر"3.

_ 1 خروج 4/22. 2 لم أقف في سفر المزامير على نصّ هذه العبارة. ولكن ورد في مزمور 144/3، 4، النّصّ الآتي: "يا ربّ أي شيء هو الإنسان حتى تعرفه، أو ابن الإنسان حتى تفتكر به، الإنسان أشبه نفخة أيامه مثل ظل عابر". وقد نقل القرافي هذه البشارة عن المؤلِّف في كتابه وعلّق قائلاً: "فمن هذا الذي جعل أميراً ملكاً من قبل الله تعالى على جميع الخلق في جميع الأرض؟! ولم يوجد ذلك إلاّ بمحمّد عليه السلام. فيكون هو المبشَّر به". (ر: الأجوبة الفاخرة ص 172) . 3 سفر أشعيا 21/6-9، البشارة في الدين والدولة ص 149، أعلام النبوة ص 201، 202، والجواب الصّحيح 3/323، هداية الحيارى ص 148، الإعلام ص 285، مقامع هامات ص 227، الأجوبة الفاخرة ص 172.

فراكب الحمار هو المسيح ابن مريم1. وراكب الجمل هو محمّد صلى الله عليه وسلم وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار. وبمحمّد صلى الله عليه وسلم سقطت أصنام بابل2. البشرى منها أيضاً - قال أشعيا عليه السلام متنبئاً على مكة - شرفها الله تعالى -: "ارفعي ما حولك بصرك فتبتهجين وتفرحين من أجل أن الله يُصيّر إليك ذخائر البحرين. ويحجّ إليك عساكر الأمم، حتى يعم3 بك فطر4

_ 1 ورد في إنجيل متى 21/5-7. أن المسيح عليه السلام دخل أورشليم راكباً على الحمار وقد استقبله جموع كثيرة من الناس في الطريق. 2 قال شيخ الإسلام في تعليقه على هذه البشارة: "ومما ينبغي أن يعرف أن الكتب المتقدمة بشرت بالمسيح، كما بشرت بمحمّد صلى الله عليه وسلم. وكذلك أنذرت بالمسيح الدجال. والأمم الثلاثة - المسلمون واليهود والنصارى - متفقون على الإخبار بمسيح هدى من نسل داود. ومسيح ضلالة. وهم متفقون على أن مسيح الضلالة لم يأت بعد وسيأتي. ومتفقون على أن مسيح الهدى سيأتي. ثم المسلمون والنصارى متفقون على أن مسيح الهدى هو عيسى بن مريم. واليهود ينكرونه مع إقرارهم بأنه من ولد داود. والنصارى يقرون بأن المسيح مسيح الهدى بُعث. وبأنه سيأتي مرة ثانية، لكن يزعمون أن هذا الإتيان الثاني هو يوم القيامة. وهو - في زعمهم - هو الله، والله الذي هو اللاهوت في ناسوته كما زعموا أنه جاء قبل ذلك. وأما المسلمون فآمنوا بما أخبرت به الأنبياء على وجهه. وهو موافق لما أخبر به خاتم الرسل حيث قال في الحديث الصحيح: "يوشك أن ينْزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً. فيكسر الصليب ويقتل الخنْزير ويضع الجزية ... ". ولما كان المسيح عليه السلام نازلاً في أمة محمّد صلى الله عليه وسلم صار بينه وبين محمّد الاتصال ما ليس بينه وبين غير محمّد صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن أولى الناس بابن مريم لأَنَا. إنه ليس بيني وبينه". وروى: "كيف تهلك أمة أنا في أوّلها وعيسى في آخرها؟! ". وهذا مما يظهر به مناسبة اقترانهما فيما رواه أشعيا حيث قال: "راكب الحمار وراكب الجمل". (ر: الجواب الصّحيح 3/324-326 بتصرف) . 3 في م: يعلم. 4 قَطَر الإبل قطراً: قُرِّب بعضها إلى بعض على نسق. (ر: القاموس ص 596) .

الإبل المؤبلة1. وتضيق أرضك عن القطرات التي تجمع إليك. وتساق إليك كباش مدين. / (2/106/ب) وتأتيك أهل سبأ. وتسير إليك أغنام فاران. وتخدمك رجال [نبايوت] 2 يريد سدنة الكعبة وهم أولاد نبايوت3 ابن إسماعيل. وهذه الصفحات كلها حصلت بمكة فحملت إليها ذخائر البحرين. وحجّ إليها عساكر الأمم. وسيقت إليها أغنام فاران للهدايا والأضاحي. - البشرى التّاسعة عشرة: قال أشعيا النبيّ والمراد مكة: "أيتها المتغلفة في الهموم التي لم تنل حظوة إني جاعل حجرك بَلُّور. ومُوَنِّق أساسك بالحجر الاسما نجوني، ومزين حياطانك باللازورد. ومزخرف خدودك بالأحجار النفسية. وأعم أبناءك بالسلم. وأزينك بالصلاح والبر. وأبعد عنك الأذى والمكاره وأجعلك آمنة. ومن انبعث إليّ فإليك قصده وفيك حلوله. وتصيرين ملجأ [ووزراً] 4 لقاطنيك وسكانك"5.

_ 1 أي: الإبل الكثيرة المقتناه. (ر: القاموس ص 1239) . 2 في ص وم (مأرب) وصححت من النّصّ في سفر أشعيا 60/1-7، بألفاظ متقاربة. وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص 161، أعلام النبوة ص 201، والجواب الصّحيح 3/326، وهداية الحيارى ص 149، مقامع هامات ص 277، الأعلام ص 279، الأجوبة الفاخرة ص 172. محمّد صلى الله عليه وسلم ص 33، عبد الأحد، محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم 69، محمّد صلى الله عليه وسلم 70، إبراهيم خليل. 3 نبايوت: الابن الأكبر لإسماعيل. وذكره ابن كثير باسم "نابت" وذكر ابن إسحاق أن عدنان - جد عرب الحجاز - من سلالة نابت بن إسماعيل عليه السلام. (ر: البداية 2/184، 195، قاموس ص 952) . 4 في ص، م (ووزا) . وصححت من كتاب الدين والدولة ص 159، والوَزَرُ: الجبل المنيع. وكلّ معقل والملجأ والمعتصم. (ر: القاموس ص 633) . 5 أشعيا 54/11-15.

وهذه صفات مكة والكعبة والمسجد الحرام. لأن مهدي1 بني العباس والملوك قبله وبعده قد تأنقوا في بناء المسجد الحرام بالأحجار النفيسة والذهب والأصباغ / (2/107/أ) واللازورد. وحملت تيجان الملوك وذخائرهم فحليت بها الكعبة. ولقد شاهدت شقوف الحرم وهي تكاد تلمع البصر حسناً. فمن رام صرف كلام النبيّ أشعيا هذا إلى غير مكة من البلاد أَكّد خاطره وأكدى سعيه ولم يظفر ببيت آخر وحرم آخر ينْزل ذلك عليه. ولا يمكن تنْزيل ذلك على البيت المقدس؛ لأنه لم يكن متغلغلاً في الهموم ولا سقوط الحطوة2 بل هذه صفة الكعبة فاعلم ذلك. -[البشرى] 3 العشرون: قال أشعيا يخاطب الناس عن محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفهّمي أيّتها الأمم إن الرّبّ أهاب بِيَ من بعيد. وذكر اسمي وأنا في الرحم. وجعل لساني كالسيف الصارم وأنا في البطن. وحاطني بظل يمينه. وجعلني كالسهم المختار من كنانته. وخزنني لسره وقال لي: أنت عبدي. فصر في وعد لي حقاً قدام الرّبّ. وأعمالي بين يدي إلهي. وصرت محمّداً عند الرّبّ. فبإلهي حولي وقوتي"4. فهذا (2/107/ب)

_ 1 أبو عبد الله محمّد بن المنصور عبد الله. ولد سنة 127هـ. وبويع له بالخلافة العباسية سنة 158هـ. ومن أعماله في مكة: أنه جرد الكعبة وكساها بالثياب القبطية والخز والديباج. وطلى جدرانها بالمسك والعنبر. وأمر بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام. وأدخل في ذلك دورا كثيرة. وحمل إلى المسجد الحرام من مصر (480) عاموداً من الرخام. وعمل للمسجد (23) بابا وجعل سلاسل قناديله ذهباً. وقد أمر بعمارة طريق مكة وغير ذلك. وقد مات سنة 169هـ. (ر: أخبار مكة 2/74-81، للأزرقي، إتحاف الوري بأخبار أم القرى 2/205-214، لابن فهد، البداية والنهاية 10/147-152، الجوهر الثمين في سير الخلفاء والسلاطين ص 95-97، لابن دقماق) . 2 في م: الحطوط. 3 ليست في ص، وأثبتها من م. 4 أشعيا 49/1-5، ولم يذكر في النسخة الحالية اسم محمّد صلى الله عليه وسلم وذكر في موضعه العبارة الآتية: "فأتمجد في عيني الرّبّ". وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص 96، والنصيحة الإيمانية ص 353، الأجوبة الفاخرة ص 173، 174.

نبي الله أشعيا قد صرح باسم نبيّنا ولم يجمجم وأعرب عنه ولم يجمجم. فلا حاجة بنا مع بيان أشعيا عليه السلام إلى مترجم. وقوله: "إنّ الرّبّ أهاب بِي من بعيد". يريد أنه لم يكن من بني إسرائيل ولا من بلدهم بل من غيرهم. فليرونا آخر اسمه محمّد جاء بشريعة جديدة داعية إلى الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب حتى تنصرف هذه البشارات إليه. - البشرى الحادية والعشرون: قال أشعيا النبي والمراد هاجر أم العرب: "سبحي أيتها النزور1 الرقوب2 واغتبطي بالحمد لقد زاد ولد الفارغة المَجفُوَّة على ولد المَشْغُولة المَحْظِيّة. وقال لها الرّبّ: أوسعي مواضع خيامك ومُدِّي مضاربك وطَوِّلي أطنابك واستوثقي من أوتادك. فإنك ستنبسطين وتنتشرين في الأرض يميناً وشمالاً. ويرث ذريتك الأمم. ويسكنون القرى المعطلة البنيان"3. فهل بقي بعد هذا البيان بيان؟! وهل تليق هذه النبوة بغير هاجر ونسلها أو الكعبة شرفها الله تعالى. / (2/108/ب) . - البشرى الثّانية والعشرون: قال أشعيا نبؤة على محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عبدي الذي يرضي نفسي. أعطيه كلامي. فيظهر في الأمم عدلي. ويوصيهم بالوصايا. لا يضحك ولا يصخب. يفتح العيون العور. ويسمع الآذان الصم. ويحيى القلوب الميتة.

_ 1 النّزُور: المرأة القليلة الولد. كالنَّزِرة. أو القليلة اللبن. وكلّ شيء يقل. (ر: القاموس ص 619) . 2 الرَّقُوب: الناقلة التي لا يبقى لها ولد أو مات ولدها. (ر: القاموس ص 116) . 3 أشعيا 54/1-3، بألفاظ متقاربة. ر: البشارة في الدين والدولة ص 158، الأجوبة الفاخرة ص 174، وإظهار الحقّ ص 527، 528، مقامع هامات ص 175، الإعلام ص 278، هداية الحيارى ص 150، محمّد رسول الله ص 67.

وما أعطيه لا أعطيه غيره. أحمد يحمد الله حمداً حديثاً. يأتي من أفضل الأرض، فتفرح به البرية وسكانها، ويوحدون الله على كلّ شرف. ويعظمونه على كلّ رابية. لا يضعف ولا يغلب. ولا يميل إلى الهوى ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصب الضعيف بل يُقوي الصديقين المتواضعين. وهو نور الله الذي لا يطفئ. أثر سلطانه على كتفه"1. فهذا أشعيا نبي الله قد أعلن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أعلنت به الأنبياء. وهذا الكلام من أشعيا إبانة واضحة لمن كان مطلبه الحقّ والهدى ولم يمل به التعصب والهوى إلى الاعتداء.

_ 1 أشعيا 42/1-9. ولم يذكر فيه التصريح باسم محمّد صلى الله عليه وسلم. وقد وردت البشارة بنصّ المؤلّف في الجواب الصّحيح 3/281، هداية الحيارى ص 153، 162، الأجوبة الفاخرة ص 174، 175، الإعلام ص 273، ومقامع هامات ص 225، تحفة الأريب ص 279، 280. وهذه البشارة مطابقة تماماً لما أخرجه البخاري في كتابه البيوع. (ر: فتح الباري 4/343) . والإمام أحمد 2/174، كلاهما من طريق عطاء بن يسار. قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهما -: قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل. والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن. يا أيّها النبيّ إنا أرسلنا شاهداً ومبشراً ونذيراً. وحرزاً للأميين. أنت عبدي ورسولي. وسميتك المتوكل. ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق. ولا يدفع بالسيئة السيئة. ولكن يعفو ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله الله ويفتح بها أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً". قال الإمام ابن تيمية: ولفظ التوراة (في الحديث) يراد به جنس الكتب التي يقر بها أهل الكتاب. فيدخل في ذلك الزبور. ونبوة أشعيا وسائر النبوات غير الإنجيل.

- البشرى الثالثة والعشرون: قال نبيّ الله أشعيا / (2/108/ب) مُنَوِّها باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتفرح البادية العطشاء ولتبتهج البراري والفلوات ولتزهو. فإنها ستعطي بأحمد1 أحسن محاسن لبنان حتى تصير كالدساكر2 والرياض، وسيرون جلال الله وبهاء إلهنا"3. فذكر البراري القفار أنها تصير بأحمد صلى الله عليه وسلم مأهولة معمورة محجوجاً إليها. أفلا يستحيي من يُحجم عن الإسلام من نبيّ الله أشعيا أن يرد قوله؟!. وكيف يصح الإيمان بأشعيا مع إبطال أقواله ورد أخباره وتكذيب شهادته والقدح في رواياته؟! وأَيّ شكّ في صدر لبيب بعد سماعه أشعيا ينصّ على اسم نبينا واسم أرضه. - البشرى الرّابعة والعشرون: قال أشعيا: "هتف هاتف في البدر وقالوا: خلوا طريق الرّبّ. وسهلوا لإلهنا السبيل في القفر. فستمتلئ البادية مياهاً ونقيص فيضاً. وتصيراً الآكام4 دكادك5.

_ 1 ليست في م. 2 الدَّسكرة: القرية. والصومعة. والأرض المستوية. وبيوت الأعاجم يكون فيها الشراب والملاهي. أو بناء كالقصر حوله بيوت. (ر: القاموس ص 501) . 3 أشعيا 35/1-2، ونصّه كالآتي: "تفرح البرية والأرض اليابسة. ويبتهج القفر. ويزهر كالنرجس يزهر أزهاراً. ويبتهج ابتهاجاً ويرنم. يدفع إليه مجد لبنان. بهاء كرمل وشارون. هم يرون مجد الرّبّ بهاء إلهنا". وقد وردت البشارة بنصّ المؤلِّف في الدين والدولة ص153، أعلام النبوة ص 202، وهداية الحيارى ص 150، 151، 172، والأجوبة الفاخرة ص 175، 176، ومقامع هامات ص 228، 278. 4 الأَكَمَة: التل من القف من حجارة واحدة. أو هي دون الجبال. أو الموضع يكون أشد ارتفاعاً مما حوله. وهو غليظ لا يبلغ أن يكون حجراً. (ر: القاموس ص 1391) . 5 الدّك: ما استوى من الرمل. والدكداك من الرمل: ما تكبس واستوى أو ما التبد منه بالأرض. (ر: القاموس ص 1391) .

والوعر سهلاً. وتظهر كرامة الرّبّ. الرّبّ يقول ذلك1. وذلك كله إشارة إلى ما مهد الله برسله محمّد عليه السلام والصلاة. / (2/109/أ) . - البشرى الخامسة والعشرون: قال أشعيا: "يا آل إبراهيم خليلي الذي قويته ودعوته من أقاصي الأرض. لا تخف ولا ترهب فأنا معك. ويدي العزيز مهدت لك. جعلتك مثل الجرجر2 الحديد تدق ما يأتي عليه دقاً. وتسحقه سحقاً حتى تجعل هشيماً. تلوي به هوج الريح. وأنت تبتهج وترتاح وتكون محمداً"3. ألا ترى هذا النبي الكريم الذكر العظيم القدر لا يكاد يخلي كلامه من التبرك باسم سيد المرسلين حتى كان ذلك عليه ضربة لازب وحتم واجب4.

_ 1 أشعيا 40/3-5 بألفاظ متقاربة. قال عليّ بن ربّن الطبري معلقاً على البشارة. - "فهل تعرفون أمة دعاها الله من البدو القفار. وسهل لها الوعورة. وأخصب الجناب. وأمرع الجدوب، وأترع لعطاشهم الأودية إتراعاً. وأذلّ لها الجبارة والملوك الذين شبههم بالروابي والجبال إلاّ هذه الأمة التي صارت دجلة بين أيديهم كالشرك الذلل". اهـ. (ر: الدين والدولة ص 153، 154، وردت البشارة أيضاً في أعلام النبوة ص 202) . 2 الجَرْجَر: ما يداس به الحبّ المحصود المجموع والفول ويكسر. ر: القاموس ص 464. 3 أشعيا 41/8-16. وقد ورد في عبارة طويلة أنقل منها هذه العبارات: "وأما أنت يا إسرائيل عبدي يا يعقوب الذي اخترته نسل إبراهيم خليلي الذي أمسكته من أطراف الأرض ومن أقطارها دعوته وقلت لك: أنت عبدي اخترتك ولم أرفضك لا تخف لأني معك ... تدرس الجبال وتسحقها وتجعل الأكمام كالعُصَافة تذريها فالريح تحملها والعاصف تبددها. وأنت تبتهج بالرّبّ. بقدوس إسرائيل تفتخر". ويلاحظ الفرق بين النّصّ الموجود حالياً في نسخ الكتاب المقدس، وبين نصّ المؤلِّف الذي نقله مختصراً من ابن ربن في الدين والدولة ص 155، 156، وإنّ الاختلاف بين النّصّين يرجع إلى تحريف اليهود والنصارى لكتبهم محاولة منهم لطمس البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم وتحريفها. لأن تكون في بني إسرائيل وبأنها وعد من الله لهم بالتمكين في الأرض والانتصار على الأعداء. وذلك من إفكهم وكفرهم. 4 قال ابن ربن في تعليقه على البشارة: "وإن شغب شاغب فأكثر ما يمكنه أن يقول: إن تفسير اللفظة السريانية هو أن يكون محموداً وليس بمحمّد. ومن عرف اللغة وفهم نحوها لم يخالفنا في أن معنى محمود ومحمّد شيء واحد".

فهؤلاء الأنبياء الأطهار والأصفياء الأبرار يصرحون باسم محمّد. فلا حاجة بنا بعدها إلى الاستنباط والاستخراج. - البشرى السّادسة والعشرون: قال أشعيا النبي عليه السلام معلناً باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني جعلت اسمك محمّداً. يا محمّد يا قدوس الرّبّ اسمك موجود من الأبد"1. فهل بقي بعد ذلك لزائغ مقال أو لطاعن عن مجال؟ وقول أشعيا أن اسم محمّد موجود من / (2/109/ب) الأبد موافق لقول داود الذي حكيناه: "إن اسمه موجود قبل الشمس"2. وقوله: "يا قدوس الرّبّ". يعني: يا مَنْ طَهَّره الرّبّ وخلّصه من شوائب بشريته واصطفاه لنفسه. - البشرى السّابعة والعشرون: وشهد لهذه الأمة بالصلاح والديانة: "سأرفع علماً لأهل الأرض بعيداً، فيصفر لهم من أقاصي الأرض فيأتون سراعاً"3. فالنداء هو ما جاء به النبيّ عليه السلام من التلبية في الحجّ. وهم الذين جعلوا لله الكرامة فوحدوه وعبدوه

_ 1 أشعيا 63/15-16، ونصّه كالآتي: "تطلع من السماوات وانظر من مسكن قدسك ومجدك. أين غيرتك وجبروتك؟ زفير أحشائك ومراحمك نحوي امتنعت. فإنك أنت أبونا وإن لم يعرفنا إبراهيم وإن لم يدرنا إسرائيل، أنت يا ربّ أبونا ولينا منذ الأبد اسمك". ويلاحظ الاختلاف بينه وبين ما أورده المؤلِّف وغيره من علماء المسلمين. (ر: هذه البشارة في الدين والدولة ص 166، والجواب الصّحيح 3/326، وهداية الحيارى ص 151، والأجوبة الفاخرة ص 176) . 2 مزمور 72/17، وقد تقدم النّصّ في البشارة الخامسة عشرة. 3 أشعيا 5/26. لقد اقتصر المؤلِّف على ذكر مقدمة هذه البشارة وقد وردت تامة في الدين والدولة ص 145، كالآتي: "قال أشعيا: إني رافع آية للأمم من بلد بعيد. وأصفر لهم من أقاصي الأرض سفيراً فيأتون سراعاً عجالاً. لا يملون ولا يعثرون ولا ينعسون ولا ينامون ولا يحلون مناطقهم. ولا ينقطع معقد خفافهم. سهامهم مسنونة. وقسيهم موترة. وحوافر خيلهم كالجلاميد صلابة. وعجلهم مسرعة مثل الزوابع. وزئيرهم كنهم الليوث. وكشبل الأسد الذي يزأر وَبَنْهَم للفريسة. فلا ينجو منه ناج. ويرهقهم يومئذ مثل دوي البحر واصطكاكه. ويرمون بأبصارهم إلى الأرض فلا يرون إلاّ النكبات والظلمات. وينكشف النور عن عجاج جموعهم. (وهذا النّصّ موجود في النسخة الحالية بألفاظ متقاربة سفر أشعيا 5/26-30) . قال ابن ربن: "فهؤلاء بنو إسماعيل عليه السلام وأُمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم الذين صَفَّر الله لهم صغيراً فجاؤا من بلدانهم سراعاً لا يملون ولا يسأمون وكانت سهامهم مسنونة...."الخ. اهـ. (ر: البشارة في مقامع هامات ص 275، الجواب الصّحيح /327، وهداية الحيارى ص 150، الأجوبة الفاخرة ص 176، الإعلام ص 278، 279، إظهار الحقّ ص 527، مقامع هامات ص 275) .

وأفردوه بالربوبية وكسروا لأصنام وعطلوا الأوثان. والعلم المرفوع هو النبوة، وصفيره هو دعاؤهم إلى بيته ومشاعره فيأتونه سامعين مطيعين. - البشرى الثّامنة والعشرون: قال أشعيا النبي والمراد مكة شرّفها الله: "سُرِّي واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد. وانطقي بالتسبيح. وافرحي إذ لم تحبلي. فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي"1. يعني بأهلي: أهل بيت المقدس. ويعني بالعاقر: مكة شرّفها الله. / (2/110/أ) لأنها لم تلد قبل نبيّنا عليه السلام نبيّاً2. ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس؛ لأنه بيت الأنبياء ومعدن الوحي فلم تزل تلك البقعة وَلاَّدة.

_ 1 أشعيا 54/1، ونصّه: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخضي لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل) . (ر: البشارة في الدين والدولة ص 158، والجواب الصّحيح 3/327، وهداية الحيارى ص 150، والأجوبة الفاخرة ص 176، الإعلام ص 278، 279، إظهار الحق ص 527، 928، مقامع هامات ص 275) . 2 وأما إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإنه لم يولد بمكة. وإنما قِدم إليها بعد ولادته مع أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام. لذلك لم يولد بمكة نبيّ سوى نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم.

- البشرى التّاسعة والعشرون: قال أشعيا النبيّ - ونصّ على خاتم النبوة: "ولد لنا غلام يكون عجباً وبشيراً. والشامة على كتفه. أركون السلام. إله جبار. سلطانه سلطان السلامة. وهو ابن عالمه. يجلس على كرسي داود"1. قال المؤلِّف (الأركون) هو العظيم بلغة الإنجيل، والأراكنة، المعُظَّمون: (لما أبرأ المسيح مجنوناً من جنونه قالت اليهود: إن هذا لا يخرج الشياطين من الآدميين إلاّ بأركون الشياطين"2. يعنون: عظيمهم. وقال المسيح أيضاً في الإنجيل: "إن أركون هذا يدان"3. يريد إما إبليس أو الشرير العظيم الشّرّ من الآدميين. وسماه إلهاً على نحو قول التوراة: "إن الله جعل موسى إلهاً لفرعون"4. أي: حاكماً عليه ومتصرفاً فيه. وعلى نحو قول داود للعظماء من قومه: / (2/110/ب) إنكم آلهة"5. فقد شهد أشعيا بصحّة أمر محمّد رسول الله ووصفه بأخص علاماته وأوضحها وهي: شامته6. فلعمري لم تكن الشامة لسليمان ولا للمسيح. وقد

_ 1 أشعيا 9/6. "لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً. وتكون الرياسة على كتفه. ويدعى اسما عجيباً. مشيراً إلهاً قديراً. أبا أبدياً. رئيس السلام لنمو رياسته وللسلام. لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد". (ر: البشارة في الدين والدولة ص 146، 147، الجواب الصّحيح 3/327، 328، والأجوبة الفاخرة ص 177) . 2 متى 9/32-34. 3 يوحنا 16/11، كالآتي: "فلأن رئيس هذا العالم قد دين". 4 خروج 4/16. 5 مزمور 82/6. 6 جاء في الحديث عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت خاتماً في ظهر رسول الله عليه السلام كأنه بيضة حمام ... ". أخرجه مسلم 4/1823، والترمذي 5/602، وغيرهم. وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه. وفيه: "فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه". أخرجه البخاري 4/163، ومسلم 4/1823.

وصفه بالجلوس على كرسي داود. يعني: أنه سيرث بني إسرائيل نبوتهم وملكهم ويبتزهم رئاستهم. - البشرى الثّلاثون: قال أشعيا ووصف أمة محمّد عليه السلام: "ستمتلئ البادية والمدن من أولاد قيدار. يسبحون من رؤوس الجبال ينادون، هم الذين يجعلون لله الكرامة ويسبحونه في البر والبحر"1. - البشرى الحادية والثّلاثون: وقال أشعيا والمراد هاجر أو مكة: "أنا رسمتك على كفي، وستأتيك أولادك سراعاً. ويخرج عنك من أراد أو يخيفك ويخزيك، فارفعي بصرك إلى ما حولك فإنهم سيأتونك ويجتمعون إليك. قسماً باسمي إني أنا الحيّ لتلبسي الحلل وتزيني بالأكاليل مثل العروس، ولتضيقن خراباتك من كثرة سكانك والراغبين فيك. ولينهزمن كلّ من يناوؤك ولتكثرن أولادك / (2/111/أ) حتى تقولي من رزقني هؤلاء كلهم وأنا وحيدة فريدة نزور رقوب؟: فمن رَبَّى هؤلاء ومن تكفل لي بهم؟! "2.

_ 1 أشعيا 42/11-12. بألفاظ متقاربة. (ر: البشارة في الجواب الصّحيح 3/328، هداية الحيارى ص 152، الإعلام ص 273، مقامع هامات ص 225، إظهار الحقّ ص 226، 227، محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم 65، 66. قال الإمام ابن تيمية: "وقيدار هو ابن إسماعيل باتّفاق الناس. وربيعة ومضر من ولده. ومحمّد صلى الله عليه وسلم من مضر. وهذا الامتلاء والتسبيح في البر والبحر لم يحصل لهم إلاّ بمبعث محمّد صلى الله عليه وسلم. والتسبيح: الصلوات الخمس، وقد جعلت لهم الأرض مسجداً وطهوراً. فهم يصلون الخمس في البر والبحر". اهـ. 2 أشعيا 49/16-21، بألفاظ متاقربة. (ر: البشارة في الدين والدولة ص 164، 165، الجواب الصّحيح 3/328، 329) .

وذلك إفصاح من أشعيا بشأن الكعبة. فهي التي ألبسها الله الحلل الديباج الفاخرة ووكّل بخدمتها الخلفاء والملوك. ومكة هي التي رَبَّى لها الأولاد من حجاجها والقاطنين بها. فالحمد لله الذي أوضح لنا الدين وقمع الملحدين. - البشرى الثّانية والثّلاثون: قال أشعيا: "مثل الريح العقيم يأتي من التيمن. والظالم يظلم. والمنتهب ينتهب"1. (التيمن) تهامه. وشُبِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالريح العقيم في تدميره الكافرين، وأنه عليه السلام يبعث في زمن جاهلية يظلم بعضها بعضاً وينتهبه، فجاء الأمر كما تنبأ به أشعيا عليه السلام. - البشرى الثّالثة والثّلاثون: قال أشعيا ونَبَّه على انتشار العلم من الحجاز إلى أقطار الأرض: "يا سكان التيمن اسقوا العطاش الماء، وقوتوهم بخبزكم"2. فالماء هَا هنا كناية عن العلم. قال المسيح في الإنجيل: / (2/111/ب) "من شرب من هذا الماء يعطش. ومن شرب من الماء الذي أسقيه لا يعطش أبداً. بل تنبع مع بطنه عين ماء الحياة"3.

_ 1 أشعيا 21/1، 2، كالآتي: "وحي من جهة برية البحر. كزوابع في الجنوب. عاصفة يأتي من البرية من أرض مخوفة. قد أعلنت لي رؤيا قاسية. الناهب ناهباً والخرب مخرباً ... ". وردت هذه البشارة في: الدين والدولة ص 148-151، في نصّ مطول فقد كان النّصّ مقدمة للبشارة الثامنة عشرة. 2 أشعيا 21/14، 15، كالآتي: "هاتوا ماء لملاقاة العطاش يا سكان أرض تيماء. وافوا الهارب بخبزه. فإنهم من أمام السيوف قد هربوا ... ". قال ابن ربن في تعليقه على البشارة: "فمن هؤلاء العطاش الذين أقبلوا من جهة التيمن الذين أمر الله عزوجل أهل بلدانهم بتلقيهم؟ أو من هؤلاء الذين أجلتهم الحروب أو شردت بهم؟ ومن الذين أمر الله باستقبالهم بالمياه والمطاعم غير العرب عند نهوضها لمحاربة الأمم المحيطة بهم الحائلة بينهم وبين المرعى والماء من الفرس والروم وغيرهم؟ (ر: الدين والدولة ص 152، وذكرت هذه البشارة في كتاب محمّد صلى الله عليه وسلم ص 33، عبد الأحد". 3 يوحنا 4/14.

يريد بالماء: العلم والحكمة. وذلك إخبار من أشعيا عن ظهور كتاب الله وسنة نبيّه. وكذلك قوله: "قوتوهم بخبزكم" على نحو قول المسيح في الإنجيل: "أنا هو خبز الحياة الذي من أكل منه لم يمت"1. وهذه كلّها كلمات متروكة الظاهر مؤولة. -[البشرى] 2 الرّابعة والثّلاثون: قال أشعيا حاكياً عن الله تعالى: "اشكر حبيبي وابني أحمد"3. فسمّاه الله حبيباً وسمّاه ابناً على اصطلاح اللسان العبراني. كتسمية إسرائيل ابناً غير أنه خصّه عليهم بمزيه. فقال: "حبيبي ابني اشكره". فَتَعَبُّد مثل أشعيا بشرك محمّد صلى الله عليه وسلم ووضف عليه وعلى قومه شكره وإجلاله ليتبيّن قدره ومنْزلته عنده. وتلك منقبة لم يؤتها غيره من المرسلين. -[البشرى] 4 الخامسة والثّلاثون: قال أشعيا: "إن الأمة التي كانت في الظلمات رأت نوراً باهراً. والذين كانوا في الدجى وتحت ظلال الموت سطع عليهم الضوء. فلقد أكثرت من الأتباع / (2/112/أ) والأحزاب لم يستكثر للاغتباط بهم. فأما هم فإنهم فرحوا بين يديك كمن يفرح يوم الحصاد وعند اقتسام الغنائم. لأنك فككت النير أيضاً الذي كان أذلهم والعصا التي كانت على أعناقهم. وكسرت القضيب الذي كان يستعبدهم مثل كسرك من كسرت في يوم مدين"5.

_ 1 يوحنا 6/35، 48. 2 ليست في ص، وأثبتّها من م. 3 لم أقف على هذا النّصّ في سفر أشعيا. وقد ذكر النّصّ أيضاً في الجواب الصّحيح 3/329، 300، وهداية الحيارى ص 162، والأجوبة الفاخرة ص 177. ولم يقف د. السقا أيضاً على موضع هذا النّصّ في تعليقه على كتاب: هداية الحيارى. 4 ليست في ص، وأثبتّها من م. 5 أشعيا 9/2-4، بألفاظ متقاربة. ر: البشارة في: الدين والدولة ص 146.

وذلك موافق لقول الله تعالى في نعت نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُم إِصْرَهُم وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهُم} . [سورة الأعراف، الآية: 157] . وبرسول الله صلى الله عليه وسلم زالت1 ظلمة الشرك وحصل ضوء الإيمان. فكسر الأصنام وأباد الأوثان. وأعلن بالقرآن وعبد الرحمن. -[البشرى] 2 السّادسة والثّلاثون: قال أشعيا: "إنا سمعنا من أطراف الأرض صوت محمّد"3. وهذا إفصاح وليس بجمجمة وإعراب من أشعيا باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليُرنا أهل الكتاب نبيّاً نصّت الأنبياء على اسمه صريحاً سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[البشرى] 4 السّابعة والثّلاثون: قال أشعيا - وسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/112/ب) ربّاً وإلهاً كتسمية موسى في التوراة -: "إنّ الرّبّ الإله سيظهر بالعزّ والحول والقوّة. أجره معه وعمله أمامه. فهو كالراعي الذي يحوط غنمه ويذودهم عن مراتع الهلاك"5.

_ 1 في م: أزالت. 2 ليست في ص، وأثبتّها من م. 3 ورد في سفر أشعيا 24/16، بنصّ مقارب لما ذكره عليّ بن ربن في الدين والدولة ص 152، 153. فقال: "قال أشعيا: إنا سمعنا من أطراف الأرض مزموراً وترتيلاً للبر والخير وهو يقول: إن لي سراً إن لي سراً. ويقول: يا ويحي. فجر الفجار فجر الفجار فجوراً فهأنذا محدق بكم يا سكان الأرض الرعب والمهواة والفخ. فمن نجا من الحرب وقع في المهواة، ومن صعد من المهواة اشتمل عليه الفخ. لأن أبواب السماء تفتحت وتزعزعت أساسيات الأرض وارتاعت". فهذا في تفسير ما رقوس. فأما في العبراني الذي هو الأصل فإنه يقول: "إنا سمعنا من أطراف الأرض صوت محمّد". ومكة أطراف الأرض وعلى ساحل البحر. فليعلمونا متى وفي أي دهر نزل بأهل الإشراك والكفر من الروعات والنقم والنكبات مثل ما عَمَّهم ونزل بهم في هذه الدولة؟!! ". اهـ. (ر: البشارة في: الجواب الصّحيح 3/330، وهداية الحيارى ص 162، والأجوبة الفاخرة ص 177) . 4 ليست في ص، وأثبتّها من م. 5 أشعيا 40/10، 11، وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص 154.

والدليل على ما قلناه أنه جعل (الرّبّ الإله) المذكور هو إنساناً له أجر وعمل. وقوله: (أجره معه) . يشير إلى الغنائم التي أحلت له وصفاياها، وقد وصفه أشعيا بالجهاد في سبيل الله واستيلائه على أعدائه بالحول والقوّة والعزّ. وكذلك كان عليه السلام. وهو1 وأمته الذين قهروا الجبابرة وكسروا الأكاسرة وأبادوا الفراعنة والقياصرة واستولوا على ممالك العالم2 وهابتهم طبقات بني آدم. ومن شَدَّ طَرَفاً من مغازيهم عرف صحّة ما قلناه. -[البشرى] 3 الثّامنة والثّلاثون: قال أشعيا وذكر ما امتن الله به على أهل الحجاز واليمن من أهل ملة محمّد صلى الله عليه وسلم: "إن المساكين والضعفاء والذين جفت ألسنتهم من الظمأ سأسقيهم ماء حيث لا ماء لهم. / (2/113/أ) أنا الرّبّ أجيب دعوتهم ولن أهملهم بل أفجر لهم في الجبال الأنهار. وأجري بين القفار العيون. وأجعل في البدو آجاماً. وأجري في الأرض العطشى معيناً. وأنبت في القفار غروساً. ليعلم الناس أن يد الرّبّ فعلت ذلك. وقدوس إسرائيل ابتدعه"4. فقد نصّ على أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها بصفاتها وما فجر بها من الأنهار وأجرى من العيون وأنبت من الخيرات لأهلها. وذكر أن يده هي التي فعلت ذلك. وقد أكثر أشعيا عليه السلام من ذكر محمّد وأحمد ووصفه أرضه وبلاده وبيته ومنازل أبيه إسماعيل. فلم يبق لجاحد علة ولا لمنكر ريبة.

_ 1 ليست في م. 2 في م: العجم. 3 ليست في ص، وأثبتّها من م. 4 أشعيا 41/17، 20. وقد وردت هذه البشارة في: الدين والدولة ص 156، وأعلام النبوة ص 203.

-[البشرى] 1 التّاسعة والثّلاثون: قال أشعيا أيضاً: "لتسبحني وتحمدني حيوانات البر من بنات آوى حتى الأنعام. لأني أجريت الماء في البدو لتشرب منها أمتي المصطفاة التي اصطفيتها"2. هذا يصدّقه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وَلَّى على أهل مكّة عتاب بن أسيد فقال له: "يا عتاب / (2/113/ب) أتدري على ما ولّيتك؟. ولّيتك على أهل الله". قالها مرّتين أو ثلاثاً3. وكنَّى عن أهل الحجاز والبراري ببنات آوى والأنعام لسكنى الفيافي والقفار. وأخبر أشعيا أن الله تعالى اصطفى هذه الأمة من بين سائر الأمم. -[البشرى] الأربعون: قال أشعيا: "أنا الرّبّ ولا إله غيري. أنا الذي لا يخفى عليه خافية. بل يخبر العباد بما لم يكن قبل أن يكون، وأكشف لهم الحوادث والغيوب. وأُتِم مشيئتي كلها إني سأدعو طائراً من البدو البعيد الشاسع"4. والطائر المدعو من البدو البعيد الشاسع هو محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم5.

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 أشعيا 43/20، 21. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 157، والأجوبة الفاخرة ص 177. 3 تقدم تخريجه. ر: ص: 250. 4 أشعيا 46-9-11. كالآتي: "اذكروا الأوليات منذ القديم. لأني أنا الله وليس آخر الإله. وليس مثلي مخبر منذ البدء بالأخير ومنذ القديم بما لم يفعل. قائلاًً رأيي. يقوم، وأفعل كلّ مسرتي. داع من المشرق الكاسر من أرض بعيدة. رجل مشورتي قد تكلمت فأجريه". وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 157، والأجوبة الفاخرة ص 182. 5 قال القرافي موضحاً البشارة السابقة: "فهذا (طائراً) هو: محمّد صلى الله عليه وسلم. لأنه من البدو الشاسع عن إقليم بني إسرائيل. وسماه طائراً لطيران ملكه. وهديه في الآفاق. والحمل على الطائر الحقيقي لا يبقى في هذا الكلام العظيم فائدة. فتعين حمله على معنى نفيس لائق بهذا السياق العظيم ولم تقع في هذا العالم ما يليق بهذا الخبر سوى محمّد صلى الله عليه وسلم فتعيّن". اهـ. (الأجوبة الفاخرة ص 182، 183) .

-[البشرى] 1 الحادية والأربعون: قال أشعيا متنبئاً على ما شرحه الكتاب العزيز من نعيم أهل الجنة: "يا معشر العطاش توجهوا إلى الماء والورود. ومن ليس معه فضة فليذهب و [يمتر] 2 ويأكل ويشرب من الخمر واللبن مجاناً بلا ثمن"3. ذلك تصديق لقوله تعالى: / (2/114/أ) {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّر طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّن خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٍ مِّن عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُم فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . [سورة محمّد صلى الله عليه وسلم، الآية: 15] . وفي ذلك تكذيب للنصارى واليهود وكطائفة من أهل الأهواء إذ قالوا: ليس في الجنة شيء من هذه الملاذ. [البشرى] 4 الثّانية والأربعون: قال أشعيا وتنبأ على دعاء محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكافة وأخبر أن رسالته عامة إلى الناس أجمعين: "إني أقمتك شاهداً للشعوب، ومدبّراً وسلطاناً للأمم. لتدعو الأمم الذين لم تعرفهم. ويأتيك الأمم الذين لم يعرفوك هرولة وشدّاً من أجل الرّبّ إلهك. قدوس إسرائيل هو الذي أحمدك، فاطلبوا ما عند الرّبّ واستجيبوا له. وليرجع الخاطئ عن خطيئته والفاجر عن فجوره وليتب5 إلي لأرحمه"6.

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 في ص، م (يمتار) والصواب ما أثبتّه. 3 أشعيا 55/1، وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 160. 4 ليست في ص، وأثبتّها من م. 5 في م: زاد (ولينيب) . 6 أشعيا 55/4-7، كالآتي: "هو ذا جعلته شارعاً للشعوب. رئيساً وموصياً للشعوب. ها أمة لا تعرفها تدعوها وأمة لم تعرفها تركض إليك من أجل الرّبّ إلهك وقدوس إسرائيل. لأنه قد مجدك. اطلبوا الرّبّ ما دام يوجد ادعوه، وهو قريب ... ". وقد وردت البشارة بنصّ المؤلِّف في: الدين والدولة ص 160.

فهذه نبوة مفصحة وبشرى مصرحة باسم أحمد صلى الله عليه وسلم. وكأن كلماتها قد جمعها أشعيا من الكتاب العزيز والسنة الطاهرة. -[البشرى] 1 الثّالثة والأربعون: وقال أشعيا: "إن الله سبحانه نظر في الناس فلم ير من يعين على الحقّ فأنكر ذلك. / (2/114/ب) وبعث وليه فأنفذه بذراعه ومهد له بفضله. فاستلأم العفاف والبر كالدرع ووضع على رأسه إكليل الإغاثة والفلح. ولبس الخلاص لينتقم من المبغضين له المعاديين. ويجزي أهل الجزاء2 جزاءهم أجمعين ليدوم اسم الله في مغارب الأرض وليخشع في مشارقها لجلاله سبحانه"3. فقد استلأم عليه السلام بالبر والتقى ولبسه والتحفه وارتدى، وخلّص أولياءه وانتقم من أعدائه. وأعلن باسم الله في مشارق الأرض ومغاربها. فهذه نبوات ظاهرة وبشارات متضافرة يؤمن بها من قضى الله له بالتوفيق ويجحدها من عدل به عن نهج الطريق. -[البشرى] 4 الرّابعة والأربعون: قال أشعيا وتنبأ بها على مكّة: "قومي وأزهري مصباحك فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك، فقد تخلل5 الأرض الظلام وغطى على الأمم كلّها

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 في م: الجزائر. 3 أشعيا 59/16-19، وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 160، 161. 4 ليست في ص، وأثبتّها من م. 5 في م: (محل) .

الضباب، يشرق عليك إشراقاً. يظهر عليك كرامته. فتسير الأمم إلى نورك. والملوك إلى ضوء طلوعك1./ (2/115/أ) إنهم سيأتونك ويحجون إليك من البلد البعيد. ويتربى بنوك وبناتك على السرر والأرائك"2. وهذه نبوءة على تخصيص مكّة بشدّ الرحال إليها وتمليك أهلها وظهور الإيمان بالله منها. وإزالة ظلم الجهل بمصباح العلم المأخوذ عن أولادها. فمن أبى من المخالفين تنْزيل هذا الكلام على مكّة والكعبة [فليرنا] 3 كعبة أخرى في الأرض شرقاً وغرباً وشريعةً هاديةً من الضلال. وملة ثابتة خالدة على مرّ الأحوال. -[البشرى] 4 الخامسة والأربعون: وقال أشعيا باسم الكعبة وحجها وتعظيمها: "إنه سيرد عليك أبناؤك من بلد بعيد. ومعهم فضتهم وذهبهم من أجل اسم الرّبّ إلهك قدوس إسرائيل الذي أحمدك. وتبنى أبناء الغرباء سورك. وتخدمك ملكوهم. وتفتح أبوابك آناء5 الليل والنهار فلا تغلق. وتدخل إليك أرسال الأمم. وتقاد إليك ملوكهم أذلة. وكلّ أمة لا تخضع لك تتبدد تبديداً. والشعوب التي لا تخدمك/ (2/115/ب) تصطلم اصطلاماً. وتأتيك الكرامة من صنوبر لبنان البهي. ومن الأبهل لتبخر به بيتي وموضع قدمي ومستقر كرامتي. والقوم الذين كانوا يذلونك يأتون لتقبيل آثار أقدامك. وأجعلك كرامة إلى الأبد وغبطة وفرحاً إلى دهر الداهرين

_ 1 في م: طوع. 2 أشعيا 60/1-4. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 161، مقامع هامات ص 276،الإعلام ص 279، هداية الحيارى ص149،الأجوبة الفاخرة ص177. 3 في ص، م (فليرينا) والصواب ما أثبتّه. 4 ليست في ص، وأثبتّها من م. 5 في م: لها.

و [سترضعين] 1 ألبان الشعوب. وتصيبين من ذخائر الملوك. و [تعلمين] 2 أني أنا الرّبّ مخلصك. والذي يجعل مصابحك تزهر إلى الأبد"3. فهذا أشعيا قد نصّ فصرح وحقق أمر بيت الله العتيق وأفصح [فليوجد لنا] 4 المخالف بيتاً لله تعالى موصوفاً بهذه الصفات مخصوصاً بهذه الكرامات مشتملاً على قدم إبراهيم مقبلاً مقبولاً في الغداة والأًصيل. -[البشرى] 5 السّادسة والأربعون: قال أشعيا مخاطباً للنبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم: "هكذا يقول الرّبّ قدوس إسرائيل ستقوم لك الملوك إذا رأوك وتسجد لك السلاطين. لأن وعد الله حقّ وأنا الذي انتخبتك واخترتك وفي / (2/116/أ) شدائدك أعنتك. لنفسي اجتبيتك وجعلتك ميثاقاً للشعوب ونوراً للأمم. لترث الأرض وتطلق الأسرى المسجونين وتؤمنهم. وتجعل الجبال طرقاً مذللة. وتوافيك الأقوام من بلاد شاسعة. فسبحي أيتها السماء6 واهتزي أيتها الأرض فرحاً وابتهجي أيتها الجبال بالحمد. فقد تلاقى الرّبّ شعبه ورحم المساكين من خلقه"7. اعلم أن هذه النبوة لا تليق بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مختار الله ومجتباه ومنتخبه من خلقه. الذي أعانه على شدائده. وهو رجل واحد بغير أعوان ولا معتضد بأنصار حتى قهر الملوك فدانوا بدينه. والتزموا شرعه وتقيدوا بأحكامه وأخذوا بسنته طوعاً وكرهاً واختياراً وجبراً. وورث الأرض وفتحها هو وأمته شرقاً وغرباً

_ 1 في ص، م (سترضعين ... تعلمي) والصواب ما أثبتّه. 2 في ص، م (تعلمي) والصواب ما أثبتّه. 3 أشعيا 60/1-9, وقد وردت البشارة في: ب 2 163، وذكرت مقدمة هذه البشارة في نفس الإصحاح في البشارة الثامنة عشرة. ر: ص: 488. 4 في ص، م (فليوجدنا) والصواب ما أثبتّه. 5 في ليست في ص، وأثبتها من م. 6 في ص: تكررت لفظه: (أيتها) . 7 أشعيا 49-7-13. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 163، 164. وذكرت مقدمة هذه البشارة في نفس الإصحاح في البشارة العشرون ص: 489.

وجنوباً وشمالاً. وقيد الملوك والطغاة. وفكّ الأسرى والمسجونين. وأمن الجبال الوعرة ودكّها فصارت شرائع وطرقاً1 مسلوكة. وقد كانت العرب قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم / (2/116/ب) محبوسة بأرضها [لا يتجاوزونها] 2 من خوف فارس وكسرى وقيصر وغيرهما من الملوك. وأطلقها الله برسوله من سجنها. وأورثهم أرض فارس وقيصر وغيرهما وملكهم أموالهم فاستخرجوا ذخائرهم وحازوا معاقلهم وتملكوا عقائلهم. فإن قيل: ما معنى قول أشعيا في أوّل هذه البشارات: "يا قدوس إسرائيل". قلنا: هو إنما يخاطب في أيامه بني إسرائيل. وبنو إسرائيل إذا دعوا الله قالوا: يا قدوس إسرائيل افعل بناكذا وكذا. فاحتاج أن يخاطبهم بما يفهمون. -[البشرى] 3 السّابعة والأربعون: قال أشعيا وتنبأ على الكعبة والركن الأسود: "هكذا يقول الرّبّ: هأنذا ناصب للأمم علماً وآية. وهي أنهم يأتونك بأبنائهم وبناتهم على أيديهم وأكتافهم وتكون الملوك ظؤورتك4 وعاقل نسائهم مرضعاتك ويخرون على وجوههم سجداً لك ويلحسون تراب أقدامك. فتعلمين حينئذٍ أني أنا الرّبّ الذي لا يخزى الراجون لدى"5. الظوؤورة: جمع ظئر. وهي: الداية والمزيِّنة / (2/117/أ) والمرضعة يشير إلى ما قام الملوك ونساء الملوك من خدمة المسجد الحرام وتحلية الكعبة وتزيينها بالديباج والذهب والفضة وتغليفها بالمسك وغسلها بالماورد المفتوق فيه الطيب6 الفاخر. وتذللهم

_ 1 في م: (طرق) وهو خطأ. 2 في ص (لا يتجاوزها) ، وفي م (لا يتجاوزها) والصواب ما أثبتّه. 3 ليست في ص، وأثبتّها من م. 4 في م: خاوورتك. 5 أشعيا 49/22-23. وقد وردت هذه البشارى في: الدين والدولة ص 165، 166. وذكرت مقدمة هذه البشارة في نفس الإصحاح في البشارتين: العشرين والسّادسة والأربعين. 6 في م: زاد: (و) .

حولها وخضوعهم لأهلها وتطوافهم حولها. وتقبيلهم حجرها. حفاة الأقدام حسر الرؤوس مبتذلين متواضعين. فأي بيان أبين من هذا البيان لمن نوّر الله قلبه وجوهر لبه وأراد به الخير وحماه من الهوى؟!!. -[البشرى] 1 الثّامنة والأربعون: قال هوشاع2 النبيّ وتنبأ على محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الرّبّ أنا الرّبّ الإله الذي رعيتك في البدو. وفي أرض قفر خراب غير مأهول. وفي أرض لا أنيس بها"3. وما يعرف من هذا حاله سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبوه إسماعيل عليه السلام. -[البشرى] 4 التّاسعة والأربعون: قال هوشع متنبأ على أمة محمّد عليه السلام: "قال الله: إنها أمة جليلة عزيزة لم يكن مثلها قط / (2/172/ب) ولا تكون. النار تحرق من أمامها ومن خلفها"5. وتلك أمة النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم وهي التي لا تقوم لها شيء من الأمم كأنها النار في إحراقها، وقد وصفها الله بالجلالة والعزّة6 وأنه لم يكن في العالم مثلها ولا يكون

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 هوشع: اسم عبري معناه: (الخلاص) . وهو ابن بئري. وهو عند أهل الكتاب من الأنبياء الصغار الاثني عشر. وقد عاصر هوشع سقوط السامرة التي كان ينتمي إليها - سنة 722هـ. ق. م. وكان معاصراً لأشعيا الذي تنبأ في مملكة الجنوب (يهوذا) . وينسب إلى هوشع سفر باسمه يحتوي على (14) إصحاحاً. (ر: قاموس ص 1005، 1006) . يقول سبينوزا: "إن سفر هوشع قد كتب بعد موته بمدة طويلة. ولا يذكر السفر إلاّ جزءاً ضئيلاً من نبوته - ثم يقول: - ولكني أعجب حقاً من أننا لا نعرف شيئاً عن رجلٍ استمرت نبوته أكثر من 84 سنة. كما يشهد الكتاب نفسه. (ر: رسالة في اللاهوت ص 314، 315) . 3 هوشع 13/4-6 بألفاظ متقاربة. وقد وردت البشارة في: كتاب الدين والدولة ص 167. 4 ليست في ص، وأثبتّها من م. 5 لم أعثر على هذا النّصّ في سفر هوشع. وقد وردت في البشارة في: الدين والدولة ص 167، 168. 6 في م: العز.

أبداً. وتلك تزكية ومدحة جليلة وثناء فخم من الله لهذه الأمة. وهو دليل محبته لها لأنه تعالى إذا أحب شيئاً فخّمه وعظمه. فلله ربنا الحمد السرمد والمدح المؤبد. -[البشرى] 1 الخمسون: قال هوشع النبيّ على محمّد صلى الله عليه وسلم: "وقد بلغ وقت النعمة ودنا ميقات الجزاء، فليعرف بنو إسرائيل الجهلة النبي السفير وليتبينوا2 شأنه. فإنه لا خفاء بالرجل الذي عليه روح السفارة. وإن كثرة إثمهم وخطاياهم هي التي حملتهم على الخبث"3. قوله: "قد بلغ وقت النعمة". يعني بذلك وقت محمّد صلى الله عليه وسلم، فشهد هوشاع أنه نعمة على العالمين نظيره قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} . [سورة الأنبياء، الآية: 107] . -[البشرى] 4 الحادية الخمسون: قال هوشاع وهو أحد الاثني / (2/118/أ) عشر وتنبأ على أمة محمّد عليه السلام: "إن

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 في م: وليهوا. 3 ورد النّصّ في سفر هوشع 9/7-9، كالآتي: "جاءت أيام العقاب جاءت أيام الجزاء، سيعرف إسرائيل النبيّ أحمق إنسان الروح مجنون من كثرة إثمك وكثرة الحقد. أفرايم منتظر عند إلهي النبي فخ صياد على جميع طرقه. حقد في بين إلهه. قد توغلوا فسدوا كأيام جبعة سيذكر إثمهم سيعاقب خطاياهم". وقد ذكر هذه البشارة أيضاً القرطبي في الأعلام ص 275، 276، بلفظ مقارب لما ذكره المؤلِّف. ولكنه أخطأ في نسبه النّصّ إلى سفر أشعيا. 4 ليست في ص، وأثبتّها من م.

إفرام قد اكتفى بالكذب والفرية، وبنو إسرائيل ويهوذا قد عنوا بالكذب والخيانة حتى نزلت أمة الله الأمة المقدسة المؤمنة"1. وهذه صفة أمة محمّد صلى الله عليه وسلم. -[البشرى] 2 [الثّانية] 3 والخمسون: قال ميخا النبيّ وتنبأ على بيت الله الحرام وما يحجه من الناس: "إنه يكون في- آخر الأيام بيت الرّبّ مبنياً على قلل الجبال وفي أربع رؤوس العوالي. يأتيه جميع الأمم يقولون: تعالوا نطلع إلى جبل الرّبّ"4. وذلك كله صفة البيت العتيق وجبل عرفة. فإن زعم أهل الكتاب أن ذلك بيت المقدس لم يصحّ قوله: "إن ذلك إنما يكون في آخر الأيام". وبيت المقدس قد كان موجوداً معظماً في زمن ميخاً قائل هذه النبوءة. والنبيّ إنما يتنبأ على شيء لم يأت ولا يتنبأ على ما هو حاضر عنده. -[البشرى] 5 الثّالثة والخمسون: قال حبقوق وسمى محمّد رسول الله مرّتين في نبوته: "إن الله جاء من التيمان. والقدوس / (2/118/ب) من جبل فاران. لقد أضاءت السماء من بهاء محمّد. وامتلأت الأرض من حمده. شعاع منظره مثل النور. يحوط بلاده بعزّة. تسير المنايا أمامه. وتصحب سباع الطير أجناده. قام فمسح الأرض فتضعضعت له الجبال

_ 1 ورد النّصّ في سفر هوشع 11/12، كالآتي: "قد أحاط بِيَ أفرايم بالكذب. وييت إسرائيل بالمكر. ولم يزل يهوذا شارداً عن الله وعن القدس الأمين". وقد نقل القرافي هذه البشارة عن المؤلِّف في الأجوبة الفاخرة ص 177، 178. وقال: "فصرح بأن بني إسرائيل واليهود على الكذب والضلال حتى تأتي الأمة المقدسة. ولم يأت بعد نبي إسرائيل أمة غيرنا. فإن النصارى داخلون في بني إسرائيل. فيكون نحن الأمة المقدسة. وهو المطلوب". اهـ. 2 ليست في ص، وأثبتّها من م. 3 في ص، م (الاثنى) والصواب ما أثبتّه. 4 سفر ميخا 4/1، 2، وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 168، وتحفة الأريب ص 278، والأجوبة الفاخرة ص 178. 5 ليست في ص، وأثبتّها من م.

القديمة. وانخفضت الروابي. وتزعزعت ستور أهل مدين. ولقد حاز المساعي القديمة - ثم قال: زجرك في الأنهار واحتدام أصواتك في البحار. وركبت الخيول. وعلوت مراكب الإنقاذ. وستترع في قسيك إغراقاً وترعاً. وترتوي السهام بأمرك يا محمّد ارتواء. ولقد رأتك الجبال فارتاعت. وانحرف عنك شؤبوب1 السيل. ونعرت2 المهاري نعيراً ورعباً. ورفعت أيديها وجَلا وخوفاً. وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك3. تدوخ الأرض غضباً وتدوس الأمم زجراً. لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ تراث آبائك"4. اعلم أنه من رام صرف نبوة حبقوق هذه عن محمّد صلى الله عليه وسلم فقد رام ستر النهار وحبس الأنهار. وأنّى يقدر/ (2/119/أ) على ذلك وقد سماه باسمه مرّتين وأخبره بقوة أمته وسير المنايا أمامهم واتباع جوارح الطير آثارهم. وهذه النبوة لا تليق إلاّ بمحمّد ولا تصلح إلاّ له ولا تنَزَّل إلاّ عليه فمن حاول صرفها عنه فقد حاول ممتنعاً. -[البشرى] 5 الرّابعة والخمسون: قال صفنيا النبي عليه السلام وتنبأ على كلمة التوحيد هي شهادة أن لا إله إلاّ الله: "أيّها الإنس تَرجوا اليوم الذي أقوم فيه للشهادة. فقد حان أن أُظهر

_ 1 الشُّؤبوب: الدفعة من المطر. وحدّ كلّ شيء. وشدّة دفعه. وجمعه: شآبيب. (ر: القاموس ص 127) . 2 النعير: الصراخ والصياح في حرب أو شر. (ر: القاموس ص 624) . 3 في م: بناؤكك. 4 ورد النّصّ في سفر حبقوق 3/3-15، كالآتي: "الله جاء من تيمان. والقدوس من جبل فاران. سلاه - جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور ... ". ولم يذكر بالنسخة الحالية اسم محمّد صلى الله عليه وسلم كما ذكر المؤلِّف. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 169، 170، أعلام النبوة ص 204، مقامع هامات ص 227، الإعلام ص 274، الجواب الصّحيح 3/330، هداية الحيارى ص 162، 163، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 71، إبراهيم خليل، الأجوبة الفاخرة ص 178. 5 ليست في ص، وأثبتّها من م.

حكمي لحشر الأمم كلها. هنالك أجدد لهم اللغة المختارة ليعلنوا باسم الرّبّ جميعاً ويعبدوه في ربقة واحدة. ويأتون بالذبائح في تلك الأيام من معابر أنهار كوش"1. واللغة المختارة هي لغة العرب. وهي التي طبقت الأرض وملأت الدنيا وتكلم غير أهلها وهجروا لغاتهم لخفتها. ومعابر أنها ركوش هي نواحي اليمن والحجاز، وهي التي تساق منها الأغنام والهدي إلى بيت الله الحرام. فمن ظن أن (كوش) تحمل أغنامه وذبائحه إلى الشام وبيت المقدس فقد ظنّ عجزاً. -[البشرى] 2 الخامسة والخمسون: (2/119/ب) قال زكريا النبيّ وتنبأ أيضاً على جمع كلمة التوحيد وصيرورة الدين ديناً واحداً: "أنه يكون الرّبّ يومئذٍ ربّاً واحداً ويكون اسمه اسماً واحداً"3. وقد صار الأمر كذلك بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شرقاً وغرباً فجنوباً وشمالاً، فمن شَذَّ عن ذلك فإلى النار. -[البشرى] 4 السّادسة والخمسون: قال زكريا أيضاً: "وفي ذلك اليوم يكون اسم الرّبّ القدوس على كلّ شيء حتى على لجام الفرس"5. فقد تمت هذه النبوة ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم. وصار اسم الله على كلّ شيء من ثوب

_ 1 ورد النّصّ في سفر صفنيا 3/8-10، كالآتي: "لذلك فانتظروني يقول الرّبّ إلى يوم أقوم إلى السلب. لأن حكمي هو بجمع الأمم وحشر الممالك لأصب عليهم سخطي كلّ حمو غضبي. لأنه بنار غيرتي تؤكل كلّ الأرض. لأني حينئذ أحول الشعوب إلى شفة نقية ليدعوا كلّهم باسم الرّبّ ليعبدوه بكتف واحدة. من عبر أنها كوش المتضرعون إلي. متبددي يقدمون تقدمتي". وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 171، 172، وأعلام النبوة ص 206. 2 ليست في ص، وأثبتّها من م. 3 سفر زكريا 14/9، وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 172، 173. 4 ليست في ص، وأثبتّها من م. 5 ورد النّصّ في سفر زكريا 14/20، كالآتي: "في ذلك اليوم يكون على أجراس الخيل قدس للرّبّ". وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 173.

ودار وسلاح وذهب وفضة وغير ذلك. وذلك شيء لم يكن يعرف قبل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[البشرى] 1 السّابعة والخمسون: قال أرميا النّبيّ عليه السلام وخاطب بها محمّداً صلى الله عليهما حاكياً عن الله: "من قبل أن أصورك في الرحم عرفتك. ومن قبل أن تخرج من الرحم قدستك وجعلتك نبيّاً للأمم. لأنك بكل ما آمرك تصدع2. وإلى كلّ من أرسلتك تتوجه. وأنا معك لخلاصك يقول الرّبّ: / (2/120/أ) أفرغت كلامي في فمك إفراغاً. فانظر فقد سلطتك اليوم على الأمم والممالك لتنسف وتهدم وتبتر وتسحق وتغرس وتبني ما رأيت"3. قال المؤلِّف: قول أرميا: "أفرغت كلامي في فمك إفراغاً"، نظير لقول الله تعالى في التوراة: "أجعل كلامي في فمه"4. يعني النبيّ عليه السلام. وهذه نبوات متضافرة ودلالات متظاهرة. فسبحان من بخس اليهود والنصارى حظهم من الإيمان بها والتمسك بسببها. -[البشرى] 5 الثّامنة والخمسون: قال أرميا أيضاً وتنبأ على نصر الأمة المحمّدية على اليهود والنصارى وغيرهم: "إني مُهيِّج عليكم يا بني إسرائيل من البعد أمة عزيزة أمة قديمة. أمة

_ 1 ليس في ص، وأثبتها من م. 2 في م: تصنع. 3 أرميا 1/4-10. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 173، 174، مقامع هامات ص 223، هداية الحيارى ص 170، 171. 4 تثنية 18/18. 5 ليست في ص، وأثبتها من م.

لا تفقهون لسانها وكلّها مجرب جبار"1. فهذه هي الأمة الحنيفية العربية التي سلطها الله على كلّ من كفر به وعبد معه عجلاً ووثناً. واتّخذ من دونه آلهة أخرى. وقد صدق الله في خبره ووفى بقوله سبحانه تعالى. -[البشرى] 2 التّاسعة والخمسون: وقال أرميا متنبئاً على أمة محمّد صلى الله عليه وسلم: "إني جاعل شريعتي في / (2/120/ب) أفواههم وأكتبها في قلوبهم، وأكون لهم إلهاً ويكونون لي شعباً. ولا يحتاج الرحل أن يتعلم من غيره الدين والملة ومعرفة الله. بل يصير الكلّ عارفين بالله صغيرهم وكبيرهم, وأنا أغفر حينئذٍ ذنوبهم ولا أقرعهم بخطاياهم"3. هذه النّبوة الجليلة القدر شاهدة بأن هذه الأمة هي أمة الله. وأن هذا الشعب الطاهر شعبه، وكفى بذلك فضلاً وشرفاً. فلا نعلم أمة تقرأ كتاب ربّها عن ظهر قلب المَلِك إلى الأتوني سوى هذه الأمة المحمدّية. فأما من عداها من الأمم فإنما يقرؤون من الصحف ويسمعون من غيرهم. -[البشرى] السّتّون: قال أرميا أيضاً وتنبأ على إزالة ملك الفرس وهلاك فارس بالمسلمين من أمة محمّد صلى الله عليه وسلم: "يقول الرّبّ: إني كاسر قوس4 [عيلم] 5 رأس عزّهم وجبروتهم

_ 1 سفر أرميا 5/15، 16. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 174. والأجوبة الفاخرة ص 182. 2 ليست في ص، وأثبتّها من م. 3 سفر أرميا 31/33-35. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 174. 4 في م: نفوس. 5 في ص، م (عيكم) . والتصويب من نصّ سفر أرميا. وعليكم أو عيلام: اسم عبري من أصل أكادي معناه: (مرتفعات) وهي بلاد فيما وراء دجلة، وإلى الشرق من مملكة بابل. وقد سميت بعيلام نسبة إلى عيلام بن سام ونسله العيلاميون. (ر: قاموس ص 651) .

وإني أغري بعيلم أربعة رياح من أربع جهات السماء، وأبدد أهلها في تلك الجهات، وأفض عيلم قدام أعدائهم فضّاً. وأفُلُّهم قدام طالبي أنفسهم فلاًّ, وأنْزل عليهم البلاء والرجز / (2/121/أ) الأليم حتّى أفنيهم ثم أنصب كرسي بعيلم، وأبيد من هناك من الملوك"1. عيلم هي العراق. والملوك الذين كانوا بها هم ملوك الفرس ونزوله تعالى (بعيلم) هو نزول الأمة المحمّدية التي ذكر في النبوة المتقدمة أنها شعبه وأمته، ونصب كرسيه بها هو إقامة الخلفاء من أهل بيته بها وبناؤهم بها المساجد والجوامع والمدارس لإقراء كلامه وسنن رسله، ولا خفاء أن ذلك كلّه لم يتحقق إلاّ بمحمّد وأمته. -[البشرى] 2 [الحادية] 3 والسّتّون: قال أرميا وشافه بها محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعد آلات الحرب فإني أُبدد بك الشعوب، وأبدد بك الخيل وفرسانها والمراكب وركبانها، وأبدد بك الطغاة لتجازي الكذابين بأوزارهم التي ارتكبوها. هذا قول الرّبّ"4. فقد صدق الله ورسله، وبدّد برسول الله صلى الله عليه وسلم شعوب المشركين وخيلها وفرسانها ومراكبها وركبانها وانتقم به وبأمته من الكذابين من الفرس والديلم والروم وأهل الكتاب، فكذب الفرس أنهم / (2/121/ب) أناطوا الألوهية والربوبية بالنار. واليهود أنهم قذفوا أنبياءهم وحكموا بأن معبودهم جسم من الأجسام. وكذب النصارى لاعتقادهم أن ربّهم الذي خلقهم ورزقهم هو رجل من بني آدم. وكذب اليهود

_ 1 أرميا 49/35-38. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 175. 2 ليست في ص، وأثبتّها من م. 3 في ص، م (الأحد) والصواب ما أثبتّه. 4 أرميا 51/20-24، وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 176.

إناطتهم الربوبية بالأنداد من الحجارة والخشب، وكذب الصائبة وغيرهم إناطتهم الربوبية بالكواكب ونجوم السماء، فسلط الله عليهم رسوله محمّداً صلى الله عليه وسلم، فأباد1 أبدادهم وأخمد نيرانهم وكسر صلبانهم ومحق أوثانهم وأفنى فرسانهم. -[البشرى] 2 الثّانية والسّتّون: قال حزقيال النبيّ متنبئاً على هذه الأمة العربية المحمّدية: "إن كرمة أخرجت ثمارها وأغصانها، فأشرفت على الأكابر والسادات، وارتفعت وبسقت أفنانها، فلم تلبث تلك الكرمة أن قلعت3 بالسخط ورمي بها على الأرض فأكلتها. فعند ذلك غرس4 غرس في البدو وفي الأرض المهملة المعطلة / (2/122/أ) العطشى وخرجت من أغصانه فأكلت تلك حتى لم يوجد فيها [عصا] 5 قوية ولا قضيب بأمر السلطان"6. يريد بالغرس الأوّل: ملل النصارى واليهود وسائر الطوائف. وكيف سخط الله عليهم وأباد جموعهم واجتثت أصولهم وفروعهم. ويريد بالغرس الجديد الذي غرسه في البدو والأرض العطشى هذه الأمة الغريبة والشريعة المحمّدية

_ 1 في م: زياد (أيد) . 2 ليست في ص، وأثبتّها من م. 3 في م: قلت. 4 ليست في م. 5 في ص، م (غضوا) والتصويب من الدين والدولة ص 177. 6 حزقيال 19/10-14، وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص 177، أعلام النبوة ص 205، ومقامع هامات ص 228، والإعلام ص 276، هداية الحيارى ص 172، محمد رسول الله ص 69، 70، الأجوبة الفاخرة ص 178، 179.

واستيلاءها على ممالك من تقدم حتى لم يدع لها عزّاً ولا سلطاناً إلاّ احتوت عليه وأكلته وهذه نبوءة واضحة وبشارة صادقة. -[البشرى] 1 الثّالثة والسّتّون: وقال حزقيال أيضاً وهو يتهدد اليهود ويصف أمة محمّد صلى الله عليه وسلم: "وأن الله مظهرهم عليكم وباعث فيهم نبيّاً، ومنَزِّل عليهم كتاباً. ومملكهم رقابكم فيقهرونكم ويذلونكم بالحقّ، وتخرج رجال بني قيدار في جماعات الشعوب، معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين فيحيطون بكم، وتكون عاقبتكم إلى النار"2. نعوذ بالله من النار. -[البشرى] 3 الرّابعة والسّتّون: / (2/122/ب) قال دانيال النبيّ عليه السلام وذكر محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه فقال: "ستنْزع في قسي إغراقاً، ترتوي السهام بأمرك يا محمّد ارتواء"4. فهذا تصريح بغير تعريض وتصحيح ليس فيه تمريض. فإن نازع في ذلك منازع فليوجد لنا] 5 آخر اسمه محمّد له سهام تنْزع. وأمر مطاع لا يدفع.

_ 1 ليست في ص. وأثبتّها من م. 2 لم أعثر على هذا النّصّ في سفر حزقيال بالنسخة الحالية. ولكن توجد بعض ألفاظ هذا النّصّ في سفر حزقيال 38/14-23، وقد ورد البشارة بالنّصّ الذي ذكره المؤلِّف في الجواب الصّحيح 3/331، وهداية الحيارى ص 164، ومقامع هامات ص 225، والإعلام ص 273، الأجوبة الفاخرة ص 179. 3 ليست في ص. وأثبتّها من م. 4.لم أعثر على نصّ بهذا اللفظ في سفر دانيال. وقد تقدم ذكر هذا النّصّ في البشارة الثّالثة والخمسون التي وردت في سفر حبقوق. وقد وردت هذه البشارة بنصّها في: الجواب الصّحيح 3/4، الأجوبة الفاخرة ص 179. 5 في ص، م (فليوجدنا) والصواب ما أثبتّه.

-[البشرى] 1 الخامسة والسّتّون: قال دانيال عليه السلام: "طوبى لمن أدرك أيام الألف والثّلاثمائة والخمسة والثّلاثين"2. وقد اعتبر العلماء العارفون بأيام الناس وتواريخهم فلم يجدوا ذلك ينْزل على واقعة بعد أيام دانيال سوى عدد من كان من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية وهي مقدمات الفتح3. -[البشرى] 4 السّادسة والسّتّون: قال دانيال النبيّ عليه السلام حين سأله بختنصر عن تأويل رؤيا رآها ثم نسيها: "رأيت أيّها الملك صنماً عظيماً قائماً بين يديك رأسه من ذهب، وساعداه من الفضة. وبطنه وفخذاه من الناس وساقاه من حديد، ورجلاه من خزف،

_ 1 ليست في ص. وأثبتّها من م. 2 سفر دانيال 12/12، وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 183، وقال ابن ربن معلقاً عليها: "فأعملت فيه الفكر فوجدته يوحي إلى هذا الدين وهذه الدولة العباسية خاصة. وذلك أنه لا يخلو دانيال من أن يكون أراد بهذا العدد الأيام والشهور والسنين. أو سراً من أسرار النبوة يخرجه الحساب. فإن قال قائل: إنه أراد به الأيام. فإنه لم يحدث لبني إسرائيل ولا في العالم بعد أربع سنين فرح ولا حادثة سارة. ولا بعد ألف وثلاثمائة وخمس وثلاثين شهراً. فإن ذلك مائة وأحد عشرة سنة وأشهر فإن قالوا: عنى به السنين، فإنما ينتهي ذلك إلى هذه الدولة، لأن زمن دانيال إلى المسيح نحو من خمسمائة سنة. ومصداق ذلك ما أوحي إليه: "إنه يأتي عليه وعلى قومه سبعون أسبوعاً في السبي، ثم يرجعون إلى بيت المقدس ويبعث المسيح". ومن المسيح إلى سنتنا هذه ثمانمائة وسبع وستون سنة. وينتهي ذلك إلى هذه الدولة العباسية منذ ثلاثون سنة أو يزيد شيئاً. فإن قال قائل: إنه ليس بسنين أيضاً بل سرّ من أسرار النبوة يخرجها الحساب. فإني فكرت فيه فوجدت عدد هذه الأيام مساوياً لما يجتمع مع عدد حروف: "محمّد خاتم الأنبياء مهدي ماجد". فإنه إذا جمع حروف هذه الألفاظ بحساب الجمل خرج منها ما بيّنا وهي خمسة أسماء ... ". اهـ. 3 قال ابن حزم في جوامع السيرة ص 20: "اختلف في عدد المسلمين في غزوة الحديبية، فقيل: إنهم بضع عشرة مائة من الصحابة. وقيل: ألف وخمسمائة لا تزيد أصلاً. وقيل: ألف وثلاثمائة. وقيل: ألف وأربعمائة. وقال بعضهم: كانوا سبعمائة. وهذا وهم شديد ألبتة. والصحيح بلا شكّ بين الألف والثلاثمائة إلى ألف وخمسمائة". (ر: السيرة 3/427، 428، لابن هشام، الطبقات 1/69، لابن سعد، المغازي (تاريخ الإسلام) ص 363، للذهبي، البداية والنهاية 4/164، لابن كثير". 4 ليست في ص، وأثبتّها من م.

ورأيت حجراً لم يقطعه يد إنسان قد جاء وصَكَّ / (2/123/أ) ذلك الصنم فتفتت وتلاشى وعاد رفاتاً. ثم نسفته الريح فذهب وتحوّل ذلك الحجر فصار جبلاً عظيماً حتى ملأ الأرض كلّها. هذا ما رأيت أيّها الملك. فقال بختنصر: "صدقت. فما تأويلها؟ ". قال دانيال: "أنت الرأس الذي رأيته من الذهب. ويقوم بعدك ولداك اللذان رأيت من الفضة وهم دونك. ويقوم بعدهما مملكة أخرى وهي دونهما وهي التي تشبه النحاس. والمملكة الرّابعة تكون قوية مثل الحديد الذي يدق كلّ شيء. فأما الرجلان التي رأيت من خزف فمملكة ضعيفة وكلمتها مشتتة. وأما الحجر الذي رأيت قد صَكَّ ذلك الصنم العظيم ففتته فهو نبيّ يقيمه الله إله السماء والأرض من قبيلة شريفة قوية، فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلئ منه الأرض ومن أمته. ويدوم سلطان ذلك النبيّ إلى انقضاء الدنيا. فهذا تعبير رؤياك أيّها الملك"1. فقد أخبر دانيال عن الله تعالى أن2 نبيّنا هو خاتم الأنبياء ودولته خاتمة الدول. وصدق بنبوته هذه جميع النبوات الواردة في رسول الله صلى الله عليه وسلم3.

_ 1 سفر دانيال 2/31-45. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 180، 181، أعلام البنوة ص 207، 209، مقامع هامات ص 229، 230، الإعلام ص 277، الفصل 1/194، 195، لابن حزم. الجواب الصّحيح 4/3، هداية الحيارى ص 165، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 69، 70، إبراهيم خليل، الأجوبة الفاخرة ص 179، 180، إظهار الحقّ ص 530، 531، الفصل في الملل والنحل 1/194، 195. 2 ليست في (م) . 3 يوضح لنا الأستاذ إبراهيم خليل - الذي كان قسيساص فأسلم - تحقق هذه النبوة التي أخبر بها دانيال على النحو الآتي: 1- سنة 701 ق. م مملكة بابل. ويرمز لها بالرأس من الذهب في عهد نبوخذ نصر. 2- سنة 612 ق. م مملكة الكلدانيين في عهد ميداس، ويرمز لها بالفضة. 3- سنة 326 ق. م المملكة الإغريقية في عهد الإسكندر المقدوني. ويرمز لها بالناس. 4- سنة 53 ق. م الإمبراطورية الرومانية في عهد بومباي. ويرمز لها بالحديد. 5- سنة612م الإمبراطورية البيزنطية في الغرب. والإمبراطورية الساسانية في الشرق. 6- سنة 637م الإسلام. وكتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وتفويض الإمبراطورية البيزنطية والفارسية.

-[البشرى] 1 السّابعة والسّتّون: / (2/123/ب) قال دانيال النبيّ أيضاً: "رأيت في نومي كأن الرياح الأربع قد هاجت وتموج بها البحر. واعتلج اعتلاجاً شديداً. ثم صعد منه أربع حيوانات عظام مختلفة الصور؛ الأوّل مثل الأسد وله أجنحة نسر. والحيوان الثاني مثل الدّبّ وفي فمه ثلاثة أضلاع، وسمعت قائلاً يقول له: قم فكل من اللحم واستكثر منه. والحيوان الثالث مثل النمر. وفي جبينه أربعة أجنحة من حديد عظام فهو يأكل ويدق برجليه ما بقي. ورأيته مخالفاً لتلك الحيوانات وكانت له عشرة قرون فلم يلبث أن نجم له قرن صغير من بين تلك القرون ثم صار لذلك القرن عيون، ثم عظم القرن الصغير جداً أكثر من سائر القرون، فسمعته يتكلم كلاماً عجيباً وكان ينازع القديسين ويقاوهم. قال دانيال: فقال لي الرّبّ: تأويل الحيوان الرابع مملكة رابعة تكون في آخر الممالك وهي أفضلها وأجلها تستولي على جميع الممالك وتدوسها وتدقها وتأكلها / (2/124/أ) رغداً"2. فقد شهد دانيال النبيّ عليه السلام وأخبر عن الله أن أمتنا هي الدائمة إلى الأبد. وأن ملتنا هي التي لا يقاومها أحد. وهي التي كانت أكلت الأمم ودقتها وداستها واستولت عليها بإذن الله. ووعده الحقّ وخبره الصدق. فهل يبقى بيان أبين من الله تعالى على ألسن أنبيائه الأطهار؟ وقد3 قال من فسر كتب أهل الكتاب: "إن الحيوان الأوّل هو

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 دانيال 7/2-22. وقد وردت البشارة في الدين والدولة ص 181، 183، أعلام البنوة ص 207، الأجوبة الفاخرة ص 181، 182، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 86، 105، 133، عبد الأحد داود. 3 هذا كلام عليّ بن ربن الطبري.

دولة أهل بابل. والحيوان الثاني دولة أهل الماهين1. والحيوان الثالث دولة الفرس، والحيوان الرابع دولة العرب. وفي ذلك تصديق قول الله في التوراة لإبراهيم عليه السلام: "إني أبارك إسماعيل ولدك وأعظمه جدّاً جِدّاً2 ومن تولى الله تعالى تعظيمه وتفخيمه وبركته كيف لا يكون كذلك؟ ‍‍!!. -[البشرى] 3 الثّامنة والسّتّون: قال دانيال: "سألت الله وتضرعت إليه أن يبيّن لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم ويرد إليهم ملكهم ويبعث فيهم الأنبياء أو يجعل ذلك في غيرهم؟ قال دانيال / (2/124/ب) عليه السلام: "فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه فقال: السلام عليك يا دانيال إن الله يقول: إن4 بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا عليَّ وعبدوا من دوني آلهة أخرى. فصاروا من بعد العلم إلى الجهل ومن بعد الصدق إلى الكذب. فسلطت عليهم بختنصر فقتل رجالهم وسبي ذراريهم وهدم بيت مقدسهم وحرق كتبهم وكذلك فعل من بعده بهم. وأنا غير راضٍ ولا مقيلهم عثرتهم. فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول فأختم عليهم عند ذلك باللعن والسخط فلا يزالون ملعونين، عليهم الذلة والمسكنة، حتى أبعث نبيّ بني إسرائيل الذي بشرت به هاجر وأرسلت إليها ملاكي فبشرتها، فأوحي إلى ذلك النبيّ وأعلمه الأسماء، وأزينه بالتقوى. وأجعل البر شعاره. والتقوى ضميره. والصدق قوله. والوفاء طبيعته. والقصد سيرته. والرشد سنته. أخصه بكتابٍ مصدق لما بين يديه من الكتب وناسخ لبعض ما فيها، أسري / (2/125/أ) به إليّ، وأرقيه من سماء

_ 1 هي: دولة الماديين: نسبة إلى مادي بن يافث. وكانت مملكتهم قوية تشتمل على فارس وتوابعها وأشور وغيرها. (ر: قاموس ص 729-731) . 2 تكوين 17/17. 3 ليست في ص، وأثبتّها من م. 4 ليست في (م) .

إلى سماء، حتّى يعلو فأُدنيه وأُسلِّم عليه وأوحي إليه ثم أرده1 إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظاً لما استودع، صادعاً بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة. لا فظّ ولا غليظ. ولا صخاب في الأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن آمن به، خشن على من عاداه، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي، ويخبرهم بما رآى من آياتي فيكذبونه ويؤذونه - قال المؤلِّف - ثم سرد دانيال قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً مما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أيام أمته بالنفخة وانقضاء الدنيا"2. ونبوته كبيرة وهي الآن في أيدي النصارى واليهود يقرؤونها. وفيها ما وصفنا من إشادة الله بذكر هذه الأمة وذكر نبيّها واتصال مملكتهم بالقيامة. ولكن الحسد وفساد المربي صار قتّار عن السعادة والله الموفّق. -[البشرى] 3 التّاسعة والسّتّون: قال يوحنا الإنجيلي: قال يسوع المسيح في الفصل الخامس عشر / (2/125/ب) من إنجيله: "إن الفارقليط روح الحقّ الذي يرسله أبي هو يعلمكم كلّ شيء"4.

_ 1 في م: أردوه. 2 ورد النّصّ مطولاً في سفر دانيال الإصحاحات: (9، 10، 11، 12) . وبألفاظ مختلفة عما ذكره المؤلِّف. والنّصّ في النسخة الحالية ليس ملزماً لأهل الكتاب لأن يعد من البشارات. وقد وردت البشارة في: الجواب الصّحيح 4/4، 5، وهداية الحيارى ص 166، 167، الأجوبة الفاخرة ص 181، 182. 3 ليست في ص، وأثبتّها من م. 4 ورد النّصّ في إنجيل14/26،كالآتي:"وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كلّ شيء ويذكركم بكلّ ما قلته لكم". وقد وردت بشارات الأناجيل المصرخة بلفظ (الفارقليط) في المراجع الآتية: الدين والدولة ص174،185، أعلام النبوة ص211-213، الجواب الصّحيح 4/6-8، هداية الحيارى ص 117-134، تحفة الأريب ص 267-270، الإعلام بمناقب ص 203، للعامري، الإعلام ص 268-270، للقرطبي، النصيحة الإيمانية ص 319-320، مقامع هامات ص 550، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 219، 229، عبد الأحد داود، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 72، إبراهيم خليل، الرسالة السبعية بإبطال الديانة اليهودية ص 40، للمهتدي إلى الإسلام الحبر إسرائيل ابن القطان شموئيل الأورشليمي، الفصل في الملل والنحل1/195،الأجوبة الفاخرة ص165،168، السيرةالنبوية1/295، لابن هشام.

(فالفارقليط) هو: محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله بعد المسيح، وهو الذي علّم الناس كلّ شيء، قال يهودي لرجل من الصحابة1: علمكم نبيّكم كلّ شيء حتى الخراة؟ فقال أجل: "لقد نهى أن يستقبل أحدنا القبلة ببول أو غائط"2. وقد سماه المسيح (روح الحقّ) وذلك غاية المدحة وأعلى درجات المنحة. واعلم أن النصارى اختلفوا في تفسير لفظة الفارقليط على أقوال: فقيل: إنه (الحماد) . وقيل: (الحامد) . وقيل: (المعز) . وأكثر النصارى على أنه (المخلًِّص) . فإن فرّعنا عليه فلا خفاء بكون محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخلِّصاً للناس من الكفر والمعاصي والجهل. ومنقذهم من دركات الهلاك بإرشادهم إلى توحيد الله وعبادته. قال عليه السلام: "إني آخذ بحجركم وأنتم تقحمون في النار"3. وبذلك سمّى المسيح نفسه في الإنجيل؛ إذ قال: "إني لم آت لأدين العالم بل لأخلّص العالم"4. والنصارى يقرؤون في صلاتهم: "يا والدة الإله لقد ولدتي لنا / (2/126/أ) مخلّصاً". وإذا كان المسيح مخلّصاً لا بدّ من مخلص آخر لأمته. فأما على بقية الأقوال، فليس لفظ أقرب إلى محمّد من الحامد والحماد. فقد وضح أن

_ 1 هو سلمان الفارسي رضي الله عنه. والقائل له ذلك هو: رجل من المشركين وليس من اليهود كما ذكر المؤلِّف. 2 أخرجه مسلم 1/223، 224، وأحمد 5/438، وأبو داود 1/3. 3 أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب 26. (ر: فتح الباري 11/316) . ومسلم 4/1789، عن أبي هريرة رضي الله عنه. 4 يوحنا 12/47.

(الفارقليط) هو: محمّد عليه السلام1. -[البشرى] 2 السّبعون:

_ 1 إن الطبعات الحديثة للأناجيل لا توجد فيها لفظة: (فارقليط) . وأبدلت بألفاظ أخرى مثل: (المُعزي، المحامي، المعين، المخلص، الوكيل، الشافع) . علماً بأن كلمة (الفارقليط) كانت موجودة في الترجمة العربية للأناجيل المطبوعة في لندن سنة 1821م، 1831م، 1844م. وقد وقفت على مخطوطة لترجمة التوراة والزبور والإنجيل في إسطنبول بمكتبه عاطف أفندي تحت رقم: (7) . وفيها ذكرت لفظة (الفارقليط) . ومعلوم لدينا أن اليهود والنصارى يسعون إلى إخفاء البشارات بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من كتبهم المقدسة لديهم أو تحريف معناها. وذلك مما أخبرنا الله عزوجل عنهم فقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 146] . فما معنى كلمة: (فارقليط) التي اخلف النصارى في معناها؟ إن (فارقليط) معربة من كلمة: (بيركليتوس) اليونانية (PERIQLYTOS) التي تعني اسم: أحمد، صيغة المبالغة من الحمد. والأدلة على ذلك كثيرة منها: 1- شهادة العلامة علي بن ربنّ الطبري - الذي كان مسيحياً فأسلم - في القرن الثالث الهجري بذلك في كتابه: الدين والدولة ص 184. 2- إن هذه الكلمة كانت سبباً في إسلام القس الأسباني: أنسلم تورميدا في القرن التاسع الهجري بعدما أخبره أستاذه القسيس (نقلاً ومرتيل) - بعد إلحاح منه - أن الفارقليط هو اسم من أسماء محمّد صلى الله عليه وسلم. فكان ذلك سبباً في إشهار إسلامه وتغيير اسمه إلى عبد الله الترجمان وتأليف كتابه: تحفة الأريب في الرّدّ على أهل الصليب، وذكر فيه قصته مفصلة. ر: ص: 65-75. 3- شهادة القسيس (دافيد بنجامين كلداني) - الذي هداه الله إلى الإسلام وغيّر اسمه إلى: (عبد الأحد داود) - في كتابه القيم: (محمّد في الكتاب المقدس) بذلك فقد وضح فيه أن الفارقليط ليس هو الروح القدس وليس أي شيء يدعيه النصارى، وإنما هو اسم محمّد صلى الله عليه وسلم. وبيّن ذلك بأدلة من نصوص الأناجيل وقواميس اللغة اليونانية. (ر: ص: 207-229 من كتابه المذكور) . 4- ذكر الأستاذ عبد الوهّاب النجار في قصص الأنبياء ص 397، 398، أنه كان في سنة 1894م زميل دراسة اللغة العربية للمستشرق الإيطالي. (كارلو نالينو) وقد سأله النجار في ليلة 27/7/1311هـ ما معنى: (بيريكلتوس) ؟. فأجابه قائلاً: إن القسس يقولون إن هذه الكلمة معناها: (المعزي) . فقال النجار: إني أسأل الدكتور كارلونالينو الحاصل على الدكتوراه في آداب اليهود باللغة اليونانية القديمة. ولست أسأل قسيساً. فقال: إن معناها:"الذي له حمد كثير".فقال النجار: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد؟ فقال الدكتور: نعم. فقال النجار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسماء (أحمد) فقال الدكتور: يا أخي أنت كثيراً ثم افترقا. (ر: للتوسع في المزيد من الأدلة: إظهار الحق ص 511-514، دراسة الكتب المقدسة ص 125-129، موريس بوكادي) . 2 غير موجودة في ص، وأثبتّها من م.

قال يوحنا التلميذ أيضاً لتلاميذه: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطاً آخر يثبت معكم إلى الأبد. روح الحقّ الذي لم يطق العالم أن يقبلوه؛ لأنهم لم يعرفوه. ولست أدعكم أيتاماً لأني سآتيكم عن قريب"1. قد نقلنا تفسيرهم (للفارقليط) وأنه على صحيح أقوالهم: (المُخلِّص) وقد ذكر المسيح أنه لا بدّ من (فارقليط) آخر يثب إلى الأبد. وثبوت النبي إلى الأبد ممتنع. فلم يبق إلاّ حمل الكلام على الشريعة التي جاء بها النبيّ. وهذه شريعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم باقية على أس قويم ومنهج من الحقّ مستقيم. لا تنقض بوفاقه ولا تنقرض ولا يتخلل الخلل خلالها ولا يعترض. وذلك نظير قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّين} . [سورة الأحزاب، الآية: 41] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبي بعدي"2. فالنصارى في ذلك بين أمرين: وهو إما أن يقولوا: إنه محمّد رسول الله، / (2/126/ب) وإما أن يقولوا: إن المسيح أخلف قوله ولم يفِ بوعده وتركهم أيتاماً بغير نبيّ يتكفل بأمورهم ولم يأتهم عن قريب كما وعد، بل إنما أراد أن هذا النبيّ المخلص هو الذي يأتيهم عن قريب، ولم أر أحداً من النصارى يحسن تحقيق مجيء هذا (الفارقليط) الموعود به. إذ بعضم يزعم أنه ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ3 ففعلوا الآيات والعجائب. وذلك خلاف ما أخبر به المسيح؛ إذ المسيح ذكر (فارقليطاً) آخر. وذلك يشير إلى أوّل تقدم لهم. وهذه الألسن لم يتقدم محيؤها ولم تعرف أوّلاً. ثم ذلك كذب من قائله؛ إذ سِير التلاميذ تشهد بأنهم بعد المسيح امتهنوا تقتيلاً وعذبوا بأنواع

_ 1 يوحنا 14/15-19. 2 أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب (50) . (ر: فتح الباري 6/495) . ومسلم 3/1471، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد 5/278، وأبو داود 4/452، والترمذي 3/338، عن ثوبان رضي الله عنه. وقال الترمذي: "حديث صحيح". 3 أعمال الرسل 2/1-4.

العذاب. وذلك تكذيب لمن زعم أنه نزل عليهم من السماء ألسن من نار تؤيدهم على أعدائهم. ثم المسيح يقول: إن هذا (الفارقليط) الآخر يأتي بعده ويدوم مع الناس إلى الأبد ويعلّم الخلائق كلّ شيء. وأنه قد سمي روح الحقّ. فكيف تقول النصارى إنه هو هذا الذي يزعمون أنه ألسنة من نار نزلت ثم انقضت ومضت ولم تدم إلى الأبد ولم تعلّم أحداً شيئاً؟!. / (2/127/أ) ، هل هذا إلاّ جهل من قائله، وحمل لكلام الأنبياء والرسل على الخلف والكذب؟! فقد وضح أن هذا الموعود به على لسان المسيح إنما هو محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد وصفه المسيح: "بأنه لم يطق العالم أن يقبلوه؛ لأنهم لم يعرفوه". يريد أنه يأتي في زمن الغالب على أهله عبادة الأوثان وتعظيم الصلبان وسجر النيران. قد نبتت على ذلك أجسادهم وثبتت عليه آباؤهم وأجدادهم فما راعهم إلاّ رسول قد جاءهم من التوحيد بما لم يعرفوه. وهاجم جمعهم بفطم1 ما ألفوه فقالوا ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين2. وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب3. فلذلك لم يقبلوه والنبيّ على الحقيقة لا يعرفه إلاّ من فاض عليه من فيضه. وارتاض في فسيح روضه. -[البشرى] 4 [الحادية] 5 والسّبعون: قال يوحنا: "قال المسيح: من يحبني يحفظ كلمتي، وأبي يحبه وإليه نأتي،

_ 1 في م: بعظم. 2 اقتباس من قوله تعالى: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ} . [سورة القصص، الآية: 36] . 3 اقتباس من الآية الكريمة في سورة ص: الآية: 5. 4 ليست في ص، وأثبتّها من م. 5 في ص، م (الأحد) والصواب ما أثبتّه.

وعنده نتخذ المنْزل، كلمتكم بهذا لأتي عندكم مقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله أبي هو يعلمكم كلّ شيء / (2/127/ب) وهو يذكركم كلّ ما قلت لكم، أستودعكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبونني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب. فإن أنتم ثبتم فيّ ثبت كلامي فيكم كان لكم كلّ ما تريدون وبهذا يمجد أبي"1. وقد شهد المسيح عليه السلام بأن محمّدا هو (روح القدس) 2. كما شهد أوّلاً بأنه روح الله، وأن الله أرسله، وأنه يعلم الناس كلّ ما يحتاجونه إليه من أمر معاشهم ومعادهم، وأخبر تلاميذه أنهم إن ثبتوا على وصيته في تعظيم أمر هذا المخلّص الثاني والتزام أوامره واجتناب نواهيه والحثّ على اتباعه كان لهم ما أرادوا. نظير ذلك من الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَلَو أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَكَفَّرْنَا عَنْهُم سَيِّئَاتِهِم وَلأَدْخَلْنَاهُم جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُم أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِم لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِم وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} . [سورة المائدة، الآية: 65-66] . قال المؤلِّف: إنه لما قربت مدة المسيح وانتهاء مقامه في الأرض ودنا رفعه منها حمَّل أصحابه هذه الأمانة ليؤدوها إلى من بعدهم. / (2/128/أ) وكذلك فعل سائر الأنبياء والرسل كما نقلنا عنهم. ولهم في ذلك مقاصد:

_ 1 يوحنا 14/23-31. 2 اعترض بعض علماء البروتستانت بشبهات على هذه البشارة. ذكرها الشيخ رحمة الله الهندي وردّ عليها. ومن تلك الشبهات: أنه جاء في هذه العبارة تفسير (فارقليط) بروح القدس وروح الحقّ وهما عبارتان. عن الأقنوم الثالث. فكيف يصحّ أن يراد بـ (فارقليط) محمّد صلى الله عليه وسلم؟!. وقد ردّ الشيخ رحمة الله الهندي على ذلك بجواب مفصل مقنع خلاصته: "وليس المراد بروح الله وروح الحقّ الأقنوم الثالث الذي هو عين الله على زعمهم كما هو ظاهر. فتفسير (فارقليط) بروح القدس وروح الحقّ لا يضرنا لأنهما بمعنى: (الواعظ) . كما أن روح الحقّ وروح الله بهذا المعنى في رسالة يوحنا الأولى فيصح إطلاقها على محمّد صلى الله عليه وسلم بلا ريب". اهـ. ر: إظهار الحقّ ص 544-545.

أحدها: أن يقوموا لله تعالى بما وجب من حقّه في تعظيم من عظَّم من أهل صفوته، فقد قال الله تعالى في التوراة لإبراهيم: "إني سأعظّمه جدّاً جِدّاً"1. قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُم رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} . [سورة آل عمران، الآية: 81] . والثّاني: أن يحصلوا لأممهم أجرين: أجر الإيمان بنبيّ حاضر ونبيّ كريم مرتقب ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتّين - وذكر منهم - رجلاً من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثم أدركه وآمن به"2. والثّالث: دفع الشكوك عن ضعفاء أتباع هذا النبيّ فإنه اتصل بهم أن الأنبياء من المتقدمين قد تنبؤا عليه وذكروه باسمه ووصفوا بلده وأرضه وقومه وميزته زالت عنهم عوارض الشكوك فأثبتوا فيهم. لذلك قال الله تعالى في محكم كتابه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُم فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ} . [سورة الأعراف، الآية: 157] . وعزّ من قائل: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ3 وَمُوسَى} . [سورة الأعلى، الآية: 18-19] . وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} . [سورة الشعراء، الآية: 196] .

_ 1 تكوين 17/17. 2 أخرجه البخاري في كتاب العالم باب (31) . (ر: فتح الباري 1/190) ، ومسلم 1/134، 135، وأحمد 2/33، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر: "وقد ثبت أن الآية الموافقة لهذا الحديث وهي قوله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرّتين} . نزلت في طائفة آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وغيره". 3 / (2/128/ب) .

-[البشرى] 1 الثّانية والسّبعون: قال المسيح وتنبأ بذلك على شهادة الرسول له بالنبوة والرسالة وتكذيب اليهود فيما رموه به من الكذب والزور ونسبوه إلى أمه الطاهرة من الفجور. قال فيما حكاه يوحنا عنه: "إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله، روح الحقّ الذي من أبي هو يشهد لي، قلت لكم هذا حتّى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه"2. تدبّروا - أتَمَّ الله علينا وعليكم نعمة الإسلام ووفّقنا وإيّاكم لشكر متابعته عليه السلام - ما اشتملت عليه فصول (الفارقليط) من الإفصاح بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد للمسيح في غير موضع من الكتاب العزيز بالنبوة والرسالة وصدقه فيما جاء به من عند الله كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} . [سورة المؤمنون، الآية: 50] . وقوله تعالى: {إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} . [سورة النساء، الآية: 171] . وقد أكذب اليهود في فريتهم على المسيح وعلى أمه إذ نسبوه إلى بنوة الزنا. وقالوا: إن به شيطاناً يتخبطه ويغويه. / (2/129/أ) وزعموا أن (بعل زبول) رئيس الشياطين هو الذي يعينه على الآيات والعجائب كما شهد بذلك الإنجيل. فلهذا استشهد المسيح بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "روح الحقّ الذي أبي أرسله هو يشهد لي". وقول المسيح هذا يشعر بتقدم رسالة محمّد

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 يوحنا 15/26، 27.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المسيح عليه السلام ذكر ذلك بلفظ الماضي فقال: "الله أرسله"، ولم يقل: (إنه يرسله) . ويؤيدّ ذلك قول محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقد سئل: متى وجبت لك النبوة؟ فقال عليه السلام: كنت نبيّاً وإن آدم لمنجدل في طينته"1. وقول المسيح للتلاميذ: "ذكرت لكم هذا قبل أن يكون حتى إذا كان لا تشكوا". تحريض لهم على متابعته والمسارعة إلى متابعته. والكلام وإن كان مع من كان حاضراً من التلاميذ، والمطلوب منه ما قدمناه من المقاصد الثلاث. وقد روي أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك بعض الحواريين وهو سلمان الفارسي ويوصيه ذلك الحواري: / (2/129/ب) "أسلم سلمان2. ولا جرم أن طائفة من

_ 1 تقدم تخريجه. (ر: ص: 421) . 2 قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه أخرجها ابن إسحاق. (ر: السيرة 1/273-282) لابن هشام) . وعنه الإمام أحمد في مسنده 5/441-444، وابن سعد في الطبقات 4/75-77، والبيهقي في الدلائل 2/82-91، الطبراني في الكبير 6/222-226. وقد وهم المؤلِّف رحمه في ظنه أن سلمان رضي الله عنه قد أدرك بعض الحواريين. وإنما كان الذي أدركه سلمان أسقف الكنيسة في الشام. ثم صاحب الموصل. ثم نصيبين. ثم في عمورية بأرض الروم. ممن كانوا على الدين الصحيح لعيسى عليه السلام. وقد أنبأه صاحب عمورية بعلامات النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يعقل أن يكون سلمان قد أدرك بعض الحواريين الذين كانوا مع عيسى عليه السلام. لأن ما بين عيسى ومحمّد صلوات وسلامه عليهما 600 سنة تقريباً.

النصارى عند مبعثه ابتدرت إلى الإيمان كنصارى نجران1. وإلى هلم جرا الداخلون في دين محمّد صلى الله عليه وسلم من النصارى واليهود أكثر من الخارجين منه. فما يحصى2 من أسلم منهم من علمائهم وصنفوا الكتب في معائب ما كانوا عليه ومحاسن ما صاروا إليه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وحقَّ القول على آخرين فلم يستنيروا بنور الهدى. وصدف بهم عن وصايا3 المسيح ما حقّ عليهم من الارتكاس في مهاوي الرّدى. فهم المرادون بقول الكتاب العزيز: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} . [سورة الزمر، الآية: 19] . ويقول أشعيا النبيّ عليه السلام: "عرف الثور والحمار ربّه وجهل ذلك بنو إسرائيل"4. ولقد بَكَّتهم بطرس صاحب المسيح في الفصل الثالث من رسالته الثانية فقال: "لقد كان خيراً لهم ألا يعرفوا طريق الحقّ من أن يعرفوه ثم ينصرفون إلى خلافه ولنوكهم الظاهره أنالتهم الأمثال الصادقة القائلة، إنهم كالكلب العائد في قيئه والخنْزير الذي اغتسل ثم تمرغ / (2/130/أ) في الحمأة"5.

_ 1 قدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران وفيهم رؤوساهم السيّد والعقائب والأسقف فساءلهم وساءلوه ونزل فيهم الوحي بصدر سورة آل عمران في الرّدّ عليهم والفصل من القضاء بينه وبينهم ثم نكولهم عن المباهلة (الملاعنة) التي دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليها. وموادعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم على أن يتركهم على دينهم ويدفعون له الجزية ويبعث معهم رجلاً من الصحابة يحكم بينهم. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح معهم. وقد أخرج ابن إسحاق القصة مطولة. ر: السيرة 2/254-266) ، وعنه البيهقي في الدلائل 5/382-391، موصولاً عن كرز بن علقمة رضي الله عنه. الذي كان أخ أسقف نجران أبو حارثة وقد أقر له بنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم وأسلم بعد رجوعهم إلى نجران فضرب كرز وجه ناقته نحو المدينة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم. وأخرج القصة مطولة أيضاً ابن سعد في الطبقات 1/357-358، من طريق محمّد بن عليّ القرشي. وذكر أن السيد والعاقب رجعا بعد ذلك فأسلما. وأخرج البخاري القصة مختصراً. (ر: فتح الباري 8/93، 94) ، ومسلم 4/1882، عن حذيفة رضي الله عنه. 2 في م: (يحمى) . 3 في ص: تكررت (عن وصايا) . 4 أشعيا 1/3. 5 رسالة بطرس الثانية 2/21.

-[البشرى] 1 الثّالثة والسّبعون: قال المسيح فيما رواه يوحنا أيضاً: "إن خيراً لكم أن أنطلق لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط؛ فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وإن لي كلاماً كثيراً أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله. لكن إذا جاء روح الحقّ ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحقّ. لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع. ويخبركم بكلّ ما يأتي. ويعرفكم جميع ما للأب"2. قال المؤلِّف: في هذا الفصل عدة معاني فليتدبرها اللبيب: منها: أن المسيح عليه السلام اعترف بأن هذا (الفارقليط) الآتي أفضل منه؛ إذ قال: "إن الخيرة لهم في انطلاقه ومجيء الفارقليط الآخر". ومنها: قوله: "فإذا انطلقت أرسلته". وهذا صحيح المعنى من حيث إن مجيء المصطفى موقوف على ذهاب المسيح. ومنها أنه أخبر: "أن هذا الآتي هو الذي يوبخ العالم على الخطيئة". وقد فعل ذلك رسول الله ووبخ العالم على خطاياهم، المجوس على عبادة النار، ووبخ اليهود على عبادة عزير والعجل، ووبخ النصارى على عبادة / (2/130/ب) الثالوث، ووبخ الصابئة على عبادة الكواكب، ووبخ كفار العرب والهنود على عبادة الأصنام والأنداد، فكان أمره في ذلك مصحِّحاً لما نطق به المسيح من أنه إذا جاء عليه السلام وبّخ الأمم على الخطيئة. ومنها: أن المسيح أخبر أن هذا (الفارقليط) الآخر الآتي: "هو الذي يخبرنا بكلّ ما يأتي، ويعرفنا كلّ شيء للأب". وهذه حال محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن أبوا

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 يوحنا 16/7-16.

ذلك فليخبرونا مَنْ هو الذي جاء مخلِّصاً (فارقليط) آخر بعد المسيح فوبخ العالم على الخطيئة. وأرشد الخلق إلى عبادة الله وطاعته، وحذرهم من عصيانه ووبال مخالفته، وعرفهم ما لله تعالى عليهم من الحقوق في أنفسهم وأموالهم، ودامت شريعته واستمرت مع الناس إلى الأبد؟!. وقد قال المسيح في الفصل الأوّل: "إن هذا الرجل الآتي بعده يعلم الناس كلّ شيء، وأنه يدوم معهم إلى الأبد. [فليوجدوا لنا] 1 ذلك وإلاّ فليكذبوا قول المسيح هذا ويردوا2 صحّته. فقد دار أمرهم فيه بين الإسلام أو تكذيب المسيح في خبره. فإن رجعوا القهقرى وزعموا / (2/131/أ) أنها الألسن النارية التي يزعمون أنها نزلت من السماء على التلاميذ وانقضت ومضت. قلنا: الويل لكم. ألم يقل المسيح: "إن هذا الفارقليط شيء واحد". فكيف يقولون: إنها عدة وجماعة نزلت؟!. وقال: "إنه يدوم إلى الأبد عندكم". فكيف تزعمون أنه أقام أياماً قلائل ثم ذهب؟! 3. لقد كاد الله هذه العقول وحاد بها عن سواء السبيل. وفي هذا الفصل من كلام المسيح4 دلالة على أن كلّ ما ينطق به محمّد صلى الله عليه وسلم من آية مبرورة وسنة مأثورة وموعظة وأدب ونهي وطلب فهو متلقى بالقبول. إذ يقول: "إنه لا يتكلم من عنده بل بما يسمع". نظيره قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} . [سورة النجم، الآية:3-4] . - البشرى الرّابعة والسّبعون: قال المسيح فيما حكاه يوحنا التلميذ عنه: "قالت امرأة من أولاد يعقوب

_ 1 في ص، م (فليوجدنا) والصواب ما أثبتّه. 2 في م: وتروا. 3 في م: (فكيف تزعمون أنهم أقاموا أياماً قلائل ثم ذهبوا) . 4 في ص (دالة) وصحّحته من م.

للمسيح: يا سيد آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إنه أورشليم؟ فقال المسيح: يا هذه آمني فإنه ستأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم يسجدون / (2/131/ب) للأب"1. قال المؤلِّف: وهذا القول من المسيح عليه السلام تنويه بأمر الكعبة. فإن التوجه إليها على يد محمّد صلى الله عليه وسلم نسخ ما عداها. وصار السجود لله تعالى لا في أورشليم ولا في غيرها بل إلى جهة الكعبة لا غير2. -[البشرى] 3 الخامسة والسّبعون: قال المسيح لمن حضره: "الحقّ أقول لكم إنه سيأتي قوم من المشرق والمغرب فيتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وتخرج بنو الملكوت إلى الظلمة البرّانية خارجاً. هنالك يكون البكاء وصرير الأسنان"4. قال المؤلِّف: وذلك القول من المسيح تنويه بأمة محمّد إذ ليسوا من الذين خاطبهم المسيح بهذا الكلام، فهم الذين يكونون في رفقة إبراهيم وإسحاق ويعقوب. قال الله تعالى: {إِنَّ أَولَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا والله وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ} . [سورة آل عمران، الآية: 68] .

_ 1 يوحنا 4/19-21. وقد نقل هذه البشارة القرافي في الأجوبة الفاخرة ص 168. 2 قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} . [سورة البقرة، الآية: 144] . 3 ليست في ص، وأثبتّها من م. 4 متى 8/11، 12، لوقا 13/26-30. ونقل هذه البشارة القرافي في الأجوبة الفاخرة ص 168، 169.

-[البشرى] 1 السّادسة والسّبعون: قال متى التلميذ: "سأل التلاميذ المسيح فقالوا: يا معلم لماذا تقول الكتبة إن إلياء يأتي؟ فقال عليه السلام: إن إلياء يأتي ويعلمكم كلّ شيء. وأقول لكم: إن إلياء قدجاء فلم يعرفوه بل فعلوا/ (2/132/أ) به كالذي أرادوا"2. وقد فسروا إليا بأنه نبيّ. وقد ذكر: "إن إلياء قد أتى ولم يعرفوا قدره". فلا بدَّ من الوفاء بقول المسيح إن إلياء يأتي ويعلم الناس كلّ شيء. ولم يأتِ بعد المسيح من علَّم الناس كلّ شيء من أمر الدنيا والآخرة سوى محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[البشرى] 3 السّابعة والسّبعون: قال يوحنا الحواري: "قال المسيح إن أركون العالم سيأتي وليس لي شيء"4. قال المؤلِّف: (الأركون) بلغته العظيم القدر. و (الأراكنة) هم العظماء. وقد قال أشعيا في وصف محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أركون السلام"5. يعني: عظيم الخير والبر. وقال المسيح عليه السلام: "إن أركون العالم يدان"6. يشير إلى السلطان الظالم، والإدانة هي شدّة المحاسبة. فقول المسيح: "إن أركون العالم سيأتي وليس لي شيء". يريد أن: (الفارقليط) الذي قدمنا ذكره يأتي ويستولي على سائر الملك وينسخ كلّ شرع فلا يبقى مع شرعه شرع معتبر ولا حكم مقرر.

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 متى 17/10-12. 3 ليست في ص، وأثبتّها من م. 4 ورد النّصّ في إنجيل يوحنا 14/30، كالآتي: "لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء". وقد وردت البشارة في: الجواب الصّحيح 4/7، 17، هداية الحيارى ص 118، 131، 135، الأجوبة الفاخرة ص 169. 5 أشعيا 9/6. 6 يوحنا 16/11.

-[البشرى] 1 الثّامنة والسّبعون: قال يحيى بن زكريا - عليهم السلام - لأصحابه: "إن الذي يأتي من بعدي / (2/132/ب) هو أقوى مني وأنا لا أستحق [أحل معقد] 2 خفه"3. وما ذلك إلاّ محمّد عليه السلام. ولا يليق أن يكون المسيح أصلاً؛ لأن المسيح جاء مع يحيى لا بعده4. فيحيى أكبر منه بستة أشهر لا غير كما نطق به الإنجيل5. -[البشرى] 6 التّاسعة والسّبعون: قال متى التلميذ: "قال المسيح: ألم تقرؤوا أن الحجر الذي أرذله البناؤن صار رأساً للزاوية من عند الله7 كان هذا. وهو عجيب في أعيننا ومن أجل ذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ستؤخذ منكم وتدفع إلى أمة أخرى تأكل ثمرتها. ومن سقط على هذا الحجر يتشدخ. وكلّ من سقط عليه يمحقه"8. فليت شعري من هذه الأمة التي دفعت لها ملكوت الله فأكلت ثمرتها بعد المسيح غير أمة محمّد؟! ومَن هو هذا الذي كلّ من غزاه انشدخ، وكلّ مَن تولى هو غزوه وقتاله محقه سوى محمّد صلى الله عليه وسلم وأمته؟!.

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 في ص، م: (أجلس مقعد) ، وصحّحت من نصّ الإنجيل. 3 متى 3/11، مرقص 1/7، لوقا 3/16، يوحنا 1/26، 27. وقد وردت البشارة في: النصيحة الإيمانية ص 185-187، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 166، 185، عبد الأحد داود، الأجوبة الفاخرة ص 170. 4 في م: زاد (و) . 5 إنجيل لوقا الإصحاح الأوّل. 6 ليست في ص، وأثبتّها من م. 7 ورد النّصّ الذي استشهد به المسيح في مزمور 118/22، 23. 8 متى 21/34-46، وقد وردت البشارة في: الجواب الصحيح 4/7، وهداية الحيارى ص: 118، 119، 132، وإظهار الحقّ ص 535، 536، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 73، إبراهيم خليل، مقامع هامات ص 132، الأعلام ص 272، الأجوبة الفاخرة ص 170.

فإن زعم النصارى أنه عني بالحجر نفسه. قلنا لهم: ما هكذا أخبرتمونا عنه، بل الذي حكيتم لنا أن شرذمة من اليهود وقعوا / (2/133/أ) عليه فمحقوه وقتلوه وصلبوه. وهذا شيء لم نسمعه إلاّ منكم ولا نُقل إلينا إلاّ عنكم. وإذا قلتم: إن أراذل اليهود ظهروا عليه وشدخوه بطل قولكم إن المسيح عني بالمثل نفسه. فإن أبيتم إلاّ أن يكون المسيح هو رأس الزاوية فقد أكذبتم نفوسكم في القتل والصلب والإهانة؛ لأن الرأس من الناس1. والرئيس منهم هو الذي يرتفع ويجل عن امتداد يد الهوان إليه. فإن ثبتم على دعوى القتل والصلب والإهانة تعيّن صرف المثل المذكور إلى من جاء بعد المسيح، ولم يأتِ بعده مَن صيّره الله رأساً للعالم وأوتيت أمته ثمرة الملكوت سوى محمّد وأمته. وقد أخبر المسيح عليه السلام بأن اليهود والنصارى يسلبون الملك والرئاسة ويصير ذلك إلى المسلمين إذ يقول: "إن ملكوت الله ستؤخذ منكم وتدفع إلى أمة أخرى تأكل ثمرتها". والمسيح عليه السلام صادق في قوله محقّ في خبره. ولم يأتِ بعد أمة المسيح مَن صار الملك والرئاسة والشريعة القائمة والكلمة القاهرة سوى هذه الأمة / (2/133/ب) العربية التي بها الأنبياء قبل المسيح كما قدمناه2. فهذا ما بقي في الإنجيل من البشرى برسول الله صلى الله عليه وسلم مما حماه الله عن أيدي الأعادي.

_ 1 في م: (هو) . 2 قال ابن القيم: "وتأمل قوله في البشارة: (ألم تر إلى الحجر الذي أخره البناؤن صار رأساً للزاوية؟!) كيف تجده مطابقاً لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأتمها إلاّ موضع لبنة منها، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها، ويقولون: هلا وضعت تلك اللبنة؟ فكنت أنا تلك اللبنة") .

- البشرى الثّمانون: قال يوحنا التلميذ في كتاب رسائل التلاميذ المسمّى فراكسيس: "يا أحبائي إيّاكم أن تؤمنوا بكلّ روح، ميّزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها. واعلموا أن كلّ روح تؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء وكان جسدانياً فهي من عند الله. وكلّ روح لا تؤمن بأن يسوع المسيح، وكان جسدانياً فليست من عند الله. بل من المسيح الكذاب الذي سمعتم به وهو الآن في العالم"1. فقد شهد الحواري بأن محمّد من عند الله؛ لأن محمّد قد آمن أن المسيح قد جاء وكان جسدانياً. فأما اليهود فلم يؤمنوا بالمسيح ولا كثير من أهل ذلك الزمان. واليهود إلى الآن في انتظار مسيح آخر. ولا مسيح يأتي سوى المسيح الدجّال الكذاب الذي حذرت منه الأنبياء - عليهم السلام -. فهذا الحواري يوحنا قد شهد / (2/134/أ) بصدق محمّد وأمته، وأن اعتقادهم في المسيح هو الاعتقاد الحقّ، وقد أكذب النصارى بقوله هذا في دعوى ربوبية المسيح. إذ فرَّق في قوله بين الله وبين الميسح. وشهد أن الله غيره وأنه غير الله. -[البشرى] 2 [الحادية] 3 والثّمانون: قال شمعون الصفا رئيس الحواريين في كتاب فراكسيس: "إنه قد حان أن يبتدأ الحكم من بيت الله ابتداء"4. فبيت الله الذي ذكره الحواري هو الكعبة شرّفها الله. ومنها كان ابتداء الحكم الجديد. ولا يحسن تنْزيل هذا الكلام على

_ 1 رسالة يوحنا الأولى 4/1-3. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 185، الجواب الصّحيح 4/7-8، وهداية الحيارى ص 135، الأجوبة الفاخرة ص 182. 2 ليست في ص، وأثبتّها من م. 3 في ص، م (الأحد) والصواب ما أثبتّه. 4 رسالة بطرس الأولى 4/17. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 186، الجواب الصّحيح 4/8.

بيت المقدس؛ لأن حكم ذاك كان مستمراً عند صدور هذا الكلام من شمعون. ولا يليق إلاّ بشرع جديد ولا يقال فيما كان مستمراً إنه قد حان أن يبتدأ. -[البشرى] 1 الثّانية والثّمانون: قال فولس الذي يسمونه فولس الرسول في رسالة من رسائله وهي الرّابعة إلى بعض إخوانه: "إنه كان لإبراهيم ابنان أحدهما من أَمَةٍ والآخر من حرة، فأما ابن الأمة فكان مولده كمولد سائر البشر، وأما ابن الحرة فإنه ولد بالعِدَةِ / (2/134/ب) من الله وهما شبيهان بالناموسين والغرضين. أما هاجر فشبيهة بجبل سيناء الذي في بلاد أرابيا2 الذي هو نظير أورشليم هذه. وأما سارة فهي نظير أورشليم التي في السماء"3. فقد أفاد قول فولس هذا أموراً: منها: أن إسماعيل وأمه هاجر قد كانا أوطنا أرض العرب (أرابيا) ، لأن عجمة فولس العرب (الأرب) . فنقل العين همزة. ومنها: أن جبل سيناء4 متّصل بوادي العرب التي هي أرابيا. وهو الذي قالت التوراة: "جاء الله من سيناء"5. ومنها: أن بيت مكّة نظير بيت المقدس بشهادة فولس. ومنها: أن كلا الولدين صاحب ناموس وشريعة وأحكام وفرائض. وقد تعصب فولس هذا على إسماعيل وأمه في موضعين من هذا الكلام وهما قوله: "إن إسماعيل مولده كمولد سائر البشر". و"تشبيه هاجر بالكعبة التي في الحجاز، وسارة بالكعبة التي في السماء". وقد غلط فولس فيهما جميعاً.

_ 1 ليست في ص، وأثبتها في م. 2 في م: (أربيا) . 3 رسالة بولس إلى غلاطية 4/22-26. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 187. 4 في م: تتصل. 5 تكوين 21/21.

أما قوله: "إسماعيل لم يولد بِعدَة من الله تعالى"، فليس الأمر كما ذكر / (2/135/أ) بل ما ولد إسماعيل إلاّ بعد أن مَنَّ الله على ما بينته من التوراة. أما قوله:"إن هاجر شبيهة بسيناء". فَمِنْ غَلَطِه أيضاً وسوء استنباطه واستخراجه، وذلك أن هذا التشبيه الذي صار إليه ليس منصوصاً عليه لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في شيء من النبوات ألبتة ولم يتقدم إلى القول به أحد من الحواريين. فلم بثق1 الإنجيل فولس هذا: "إن الحرة في المجلة أفضل من الأمة؟! ". فشبّه الأمة ببيت الله في الأرض، وشَبَّه الحرة ببيت له في السماء استحساناً لذلك بعقله. وذلك شيء لا اعتبار له ولا تعويل عليه. وتحكيم العقل في كلّ مورد ومصدر جهل وخرق من فاعله. فالفاضل في الحقيقة من كان عند الله فاضلاً أو شهدت له نبوة نبي بالفضل. وقد اعتبرنا - رحمك الله - شهادات التوراة والنبوات والأناجيل الأربعة فَلَم نجد لما ذكره هذا الرجل من تفضيل ساره وابنها على هاجر وابنها [أصلاً] 2 يتمسك به، بل قد وجدنا التوراة خاصة تشير إلى تفضيل هاجر وابنها وذلك في عدة مواضع: / (2/135/ب) . منها: أَنّا وجدنا التوراة تنطق صريحاً أن الله ارتضى هاجر لبكر3 إبراهيم، ورأينا التوراة فضلت البكر من الأولاد في الميراث وحسن الثناء فجعلت للبكر سهمين من الميراث ولمن سواه سهماً واحداً4. وقالت في حقّ بعضهم: "ابني بكري أرسله يعبدني"5. فمن ولدت البكر لإبراهيم أفضل ممن لم تلده لأن الشجرة إنما يعرف فضلها من ثمرتها وقد أثمرت هاجر بكراً طيباً.

_ 1 أي: كسر ونقص. (ر: القاموس ص 1118) . 2 في ص، م (أصل) والصواب ما أثبتّه. 3 تكوين 15/2-5، 16/15، 16. 4 تثنية 21/17. 5 خروج 4/22، 23.

ومنها: أن الله تعالى قال لإبراهيم: "دع أَمَتَك وابنك ولا يهمنك أمرهما"1. وتكفل الله بهما وتولاهما وإنما يتولى الله الصالحين من عباده. فتسلمهما سبحانه من يد إبراهيم خليله وكان خير كافل لهما. ومنها: ظهور الملك لهاجر ومكالمتها من غير حجاب ورأفته بها وقوله لها: "شدي يديك بهذا الصبي، فإن الله تعالى قد سمع تضرعك وأن ولدك هذا يعظمه الله جِدّاً جدّاً"2. وهذا لم يتفق لسارة أصلاً. ومنها: تفجير الله لها عين ماء من أرض صلد وبرية معطشة موحشة كلّ / (2/136/أ) ذلك قد شهدت به التوراة. فمن رام غضّاً من هاجر وابنها من اليهود والنصارى فقد أزرى على نفسه وكشف عورته بيده وأبان عن جهله بالتوراة والنبوات. ومنها: جعل بيتها ومسكنها وضريحها بيتاً مقدساً محجوجاً إليه3 تُعفِّر الملوك والأكابر جباهها بترابه ويطوفون به كما يطوف بعرش الرحمن، لا مندوحة لمن استطاع إليه سبيلاً عن إتيانه وحجه. ومنها: سلامة نسلها من المسخ فلم يمسخ أحد من أولاده هاجر قردة ولا خنازير، ولم يلعن صريحاً كما لعن بنو إسرائيل على لسان موسى وأشعيا وداود وعيسى بن مريم في نبواتهم وصحفهم على ما تشهد به التوراة وكتب الأنبياء.

_ 1 تكوين 21/12-14. وقد ذكره المؤلِّف بالمعنى. 2 تكوين 21/17، 18. 3 لعله سبق قلم من المؤلِّف. فهذا تعبير غير لائق يخالف العقيدة الصحيحة. فإن الله عزوجل قد جعل مكّة حرماً مقدساً منذ خلق السماء والأرض كما ثبت ذلك في الصحيحين. ولم يرد في حديث مرفوع أو أثر صحيح أن هاجر أو إسماعيل أو غيره من الأنبياء دفنوا في المسجد الحرام كما أن ذلك يخالف نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتّخاذ القبور مساجد. (ر: تحذير الساجد من اتّخاذ القبور مساجد، للألباني) .

ومنها: تنبؤ الأنبياء-عليهم السلام-عليها وعلى نسلها وموضع سكنها وشهادتهم بدوام مملكتهم وقيام شريعتهم ولزوم أحكامهم إلى قيام القيامة [فليوجد لنا] 1 فولس هذا المتعصب على أبوينا [اللذين] 2 كانا في كفالة الله واحداً من هذه الفضائل لمن تعصب له. {وَأّنَّ الفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِهِ مَن يَشَاءُ وَالله ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} . [سورة الحديد، الآية: 29] . (2/136/ب) . -[البشري] 3 الثّالثة والثّمانون: قال موسى في السفر الأوّل من التوراة: "قال إبراهبم: يا ربّ ها أنا ميّت وليس لي ولد وإنما يرثني غلامي اليعازر الدمشقي. فقال الله: كلا لا يرثك هذا بل ابنك الذي يخرج من صلبك هو الذي يرثك، فاخرج انظر إلى نجوم السماء فإن كنت محصيها فإنك ستحصي ولدك أيضاً"4. وما نعلم الآن من طبق الأرض وملأ أكناف الدنيا من ولد إبراهيم سوى ولد إسماعيل، فأما اليهود من ولد إسحاق فهم خول وذمة لبني إسماعيل في سائر الأرض كلها، وإنما ورد ذلك مورد الامتنان والإنعام على إبراهيم، ولم يكن الله تعالى ليمتن على خليله بالأولاد الدبري المسموخين قردة وخنازير وعباد العجول. وأما النصارى من ولد إسحاق فمشردون شَرَّدهم بنو إسماعيل خلف منقطع البحور وفي أطراف مغرب الأرض. فهذه نبوة ظاهرة وآية قاهرة لا يقدر مخالف على جحدها وردها.

_ 1 في ص، م (فليوجدنا) والصواب ما أثبتّه. 2 في ص، م (الذين) والصواب ما أثبتّه. 3 ليست في ص، وأثبتّها من م. 4 تكوين 15/2-6. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 133، 134، ومحمّد صلى الله عليه وسلم ص 56، عبد الأحد داود.

-[البشرى] 1 الرّابعة والثّمانون: وفي هذا السفر الأوّل من التوراة قال موسى عليه السلام: "فلما أصبح إبراهيم أخرج هاجر وولدها إسماعيل ودفع لها زادا ومزادا. وانتهى في أمرهما إلى ما أمره به ربّه تعالى. فحملت الصبيّ على كتفها وشخصت / (2/137/أ) فوصلت إلى برية سبع فنفذ ماؤها، فوضعت الصبي تحت شجرة شيح إذ سمع الله صوت الصبي فنادى مَلَك الله هاجر من السماء فقال: ما بالك يا هاجر ليفرج كربك وروعك فقد سمع الله صوت الصبي قومي فاحمليه وتمسكي به، فإن الله جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جِدّاً جدّاً. وأن الله فتح عينيها فرأت بئر ماء فدنت وملأت المزادة وشربت وسقت الصبي. وكان الله معها ومع الصبي حتى تربَّى. وكان مسكنه في بريقة فاران"2. فهذه أربع وثمانون بشارة عن الأنبياء وأتباع الأنبياء. وقد تضمنتها كتب الله المنَزَّلة من لدن إبراهيم الخليل إلى أتباع المسيح منوّهة باسم محمّد صريحاً واسم أرضه التي يخرج منها وبلده التي نشأ بها. مصرحة بتعظيم شأنه وتفخيم أمره. شاهدة بأنه عليه السلام خاتم الأنبياء وأنه حبيب الله وروحه ومختاره من عباده. مُعَرِّفة العباد / (2/137/ب) بعظم خطره عند الله وزلفته لديه، وأن دينه خير الأديان وشريعته خير شريعة. وملته أفضل ملة. وأمته أصدق أمة. وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع وأنها لا تنسخ بل تبقى ما بقيت الدنيا3. قال المؤلِّف: وإنما نقلت قليلاً من كثير. ويسيراً من خطير، ولو استوعبت جميع ما في كتب الله من الإشارة بذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم وذكر أمته لأطلت الكتاب وخرجت إلى حد الإسهاب. فهذا القسم الأوّل من هذا الباب. والله الموفّق.

_ 1 ليست في ص، وأثبتّها من م. 2 تكوين 21/14-21. وقد وردت البشارة في: الدين والدولة ص 132، 133. 3 قال القرافي: "فإن قالوا: كيف تتمسكون بهذه الكتب - وهي غير صحيحة عندكم؟! - قلنا: نبوة نبيّنا عليه السلام ثابتة بالمعجزات غنية عن هذه الكتب. وإنما نذكر ما فيها من الدلالة على نبوته عليه السلام إلزاماً لأهل الكتاب الذين يعتقدون صحتها - وهي مثل جميع كتبهم في الصحّة - فإن كان يحسن الاستدلال بها تَمَّ مقصودنا. وإن كانت لا يحسن بها الاستدلال بطل جميع ما بيد أهل الكتاب - لأن جميعه مثلها -. وكيف يسع أهل الكتاب أن يعتقدوا صحّة هذه الكتب ولا يقبلوا ما فيها من الدلالة على محمّد عليه السلام المواصل فصل حدّ القطع من كثرتها؟! وإنما عميت منهم البصائر وحنثت السرائر، فلا يجد الحقّ في قلوبهم محلاً، ولأسماع التذكر أهلاً". اهـ. (ر: الأجوبة الفاخرة ص 183) .

القسم الثّاني منه: في آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثبات معجزاته الباهرة للعقول الخارقة للعادة: واعلم أنه قد كان في الأنبياء - عليهم السلام - من له الآية والنبوة معاً مثل: موسى والمسيح وقد ذهبت آياتهما بذهابهم. فلم يبقَ في أيدي الناس منها إلاّ ذكرها. ومنهم من كانت له آية وليست له نبوة مذكورة مثل اليسع فإنه أحيا ميتاً في حياته وميتاً بعد وفاته ولم ينقل عنه أنه تنبأ نبوة ألبتة. ومنهم من كانت له نبوة1 / (2/133/أ) ولم يكن له آية مثل حزقيال النبي ويوشاع2. ومنهم من لم تكن له3 آية ولا نبوة وهو معدود في الأنبياء مثل مالاخي4 وناحوم5.

_ 1 المراد بالنبوة هنا: الإخبار بما يستقبل من الحوادث. 2 يعني: هوشع. قد تقدمت ترجمته. ر: ص: 687. 3 ليست في (م) . 4 ملاخي: اسم عبري معناه (رسولي) وهو عند أهل الكتاب آخر الأنبياء في العهد القديم. ويلقب بـ: (الختم) . لأن نبوته كانت ختاماً لذلك العهد. ولا يعرف شيء عن سيرته وزمنه إلاّ عن طريق التخمين والاستنباط من السفر المنسوب إليه باسمه وعدد إصحاحاته (4) إصحاحات. (ر: قاموس ص 613، 614) . 5 ناحوم: اسم عبري معناه: (معز) . ويعتبرونه أحد الأنبياء الاثني عشر الصغار، ويعتقد أنه كان ممن سبوا إلى بابل. ولا يعرف شيء عن سيرته وزمنه. وينسب إليه سفر باسمه، عدد إصحاحاته (3) إصحاحات. (ر: قاموس ص 944) .

وقد أثبت أهل الكتاب نبوة جماعة من النسوان مثل مريم1 وحنة2 وخلدى واستار ورفقاً ولم يكن لواحدة منهن كتاب ولا آية وهن [معدودات] 3 في زمرة الأنبياء عندهم. فأما سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم فقد جمع الله له النبوة والآية والتنبؤ. فتنبأ به الأنبياء وأخبروا بمجيئه قبل كونه على ما تقدم في القسم الأوّل من هذا الباب. وأما النبوة فأخبر صلى الله عليه وسلم بذلك وأنبأ وعَرَّف بأشياء كثيرة من المغيّبات التي لا يتصور الوقوف على علمها إلاّ بتوقيف4 من الله وإنباء منه سبحانه وكان ذلك يصدر منه على أنواع: فمنه: ما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما وقع واتّفق وسلم في الأزمان الماضية والعصور المتفرقة من عظائم الأمور ومهام الخطوب من مبتدأ خلق الله العالم إلى قيام القيامة؛ فذكر شأن / (2/138/ب) آدم وحواء وشأن مشاهير بني آدم مثل: شيث وإدريس ونوح وإبراهيم والأسباط5 ويوسف وموسى والمسيح وسرد قصصهم ومجرياتهم، وذكر مشاهير سير الملوك والجبابرة والفراعنة وما اتّفق للأنبياء والأصفياء معهم. هذا مع القطع بأميته عليه الصلاة والسلام، وأنه كان عربياً لا

_ 1 مريم أخت موسى عليه السلام. وتقدمت ترجمتها. 2 حنة: بنت فنوئيل. يعتقدون أنها نبية. وكانت أرملة. وعمرت إلى سن (84) سنة. وكانت لا تفارق الهيكل ليلاً ونهاراً. ويزعم النصارى أنها عرفت المسيح وهو طفل وأعلنت أنه هو: (المسيا) أي: المسيح المنتظر. (ر: لوقا 2/36-38، قاموس ص324) . 3 في ص، م (معدودة) والصواب ما أثبتّه. 4 في م: بتوفيق. 5 الأسباط: بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً. ولد كلّ رجل منهم أمة من الناس. فسمّوا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة. وقيل: أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر أي: في الكثرة بمنْزلة الشجرة الواحدة سبطة. (ر: تفسير ابن كثير 1/193، المفردات ص 222 للأصفهاني) .

يحسن الخط ولا قرأ ولا سمع كتاباً1 قط. بل إنما نشأ بأرض قفار بين أجبل وسياسب2 منقطعة الأطراف عن العمران فوافق خبره ما في صحف الأوّلين لم يخرم منه حرفاً. ومنه: ما أخبر به أصحابه وحوارييه وأهل بيته فوقع في زمانه واتّفق في أيامه، ومن أخبر إنساناً في نفسه ممالم يلفظ به لم يمتر في أنه صادق محقّ. ومنه: ما أخبر به مما3 سيقع بعد موته بزمان فوقع كما أخبر عليه السلام ولم يغادر منه [حرفاً واحداً] 4. وذلك مودع في كتابه الذي جاء به من عند الله وفي سنته الصادقة التي نقلها إلينا نقلة هذا الكتاب. فلو تطرق التشكيك إليها لتطرق إلى الكتاب العزيز. وقد ثبت نقل الكتاب بأقوالهم وصحّ. فكذلك ثبتت (2/139/أ) السنة بأقوالهم أيضاً والحكم فيهما واحد من حيث لزوم العمل. قال عليه الصلاة والسلام: "أوتيت القرآن ومثله معه"5. ولو قال قائل من اليهود والنصارى لعلّ أصحاب هذا النبيّ تمالؤوا على دعوى هذه المغيّبات والآيات لنبيّهم وقيَّدوها في كتابه وسننه ترويجاً وإفكاً

_ 1 قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . [سورة العنكبوت، الآية: 48] . 2 أي: الوديان. 3 ليست في (ص) والزيادة من (م) . 4 في ص، م (حرف واحد) والصواب ما أثبتّه. 5 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/131، وأبو داود 4/200، والآجري في الشريعة ص 51، وابن عبد البر في التمهيد 1/150، كلّهم من طريق حريز بن عثمان عن عبد الحكم بن أبي عوف عن المقدام بن معديكرب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه أنه قال: ... ، فذكره في سياق كويل. قلت: إسناده صحيح. فإن حريز بن عثمان وعبد الرحمن بن أبي عوف ثقتان. والله أعلم. (ر: التقريب 1/159، 494) .

لقوبلوا1 بمثل ذلك فيمن [ينتمون] 2 إليه. فما أجابوا به عن أنفسهم كان جواباً مِنَّا لهم. وكلّ سؤال انقلب على سائله سقط جوابه عن المسؤول. فهذا ما يتعلق بإنبائه عن الغيب الذي لا يدخل تحت مقدرة البشر. وأما آياته عليه الصلاة والسلام وخوارقه ومعجزاته فكثيرة جِدّاً. وقد صنف العلماء وأرباب السير فيها التصانيف الكثيرة3. ونحن نقتصر في هذا المختصر

_ 1 في م: لتقولوا. 2 في ص، م (ينتموا) والصواب ما أثبتّه. 3 للعلماء في تقسيم الآيات والبراهين الدالة على نبوة محمّد صلى الله عليه عدة اعتبارات: - فمنهم من قسمها باعتبار المدركين لها إلى حسية ومعنوية. (ر: البداية 6/76، لابن كثير) . - ومنهم من قسمها باعتبار سندها إلى متواترة وغير متواترة. (ر: الشفا 1/493-495، للقاضي عياض، وشرح الزرقاني على المواهب 5/81) . - ومنهم من قسمها باعتبار زمنها إلى منقرضة وباقية. (ر: الجواب الصّحيح 4/70، لابن تيمية، الجامع لأحكام القرآن 1/72، للقرطبي) . - ومنهم من قسمها باعتبار التحدي إلى مُتحدّي بها وغير متحدي بها. (ر: السيرة الحلبية 3/278 للحلبي) . وأوضح هذه التقسيمات وأيسرها التقسيم الأوّل - وهو للإمام ابن كثير -. لأنه ينصب على المعجزة نفسها. وتفصيل ذلك كالآتي المعجزات المعنوية: ومنها: القرآن الكريم، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسيرته الشريفة، وسيرة أصحابه - رضي الله عنهم -. أما المعجزات الحسية فتنقسم إلى قسمين هما: 1- المعجزات السماوية (أي: المتعلقة بالسماء وما فيها) مثل: انشقاق القمر، الاستسقاء والاستصحاء والإسراء والمعراج، احتباس الشمس حتى تصل عير قريش بعد الإسراء والمعراج. 2- المعجزات الأرضية: وهي: متنوعة فمنها: ما هو متعلق بالإنسان كتفله صلى الله عليه على الجروح والأمراض وشفائها. ومنها ما هو متعلق بالحيوان كسجود البعير له صلى الله عليه وشكوى البعير له وشهادة الضب له صلى الله عليه. ومنها ما هو متعلق بالنبات كتسليم الشجر عليه وإجابة دعوته صلى الله عليه. ومنها ما هو متعلق بالجمادات كتسليم الحجر عليه ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه. ومنها إجابه دعائه صلى الله عليه كدعائه للصحابة واستجابة دعائه فيهم. ومنها إخباره صلى الله عليه بالمغيّبات التي تحقق وقوع بعضها وينتظر تحقق البعض الآخر. ومنها حمايتهصلى الله عليهمن الأعداء. (ر: البداية والنهاية6/76-290) . أما مصنفات العلماء في دلائل النبوة فهي كثيرة جِدّاً من أبرزها: دلائل النبوة لابن منده، ولأبي نعيم والبيهقي والشافا للقاضي عياض وغيره ذلك. (ر: للتوسع في معرفة الكتب المؤلف في هذا الفن كتاب: (معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه للمنجد) .

منها على لُمْعة [بها] 1 يحصل الغرض والمعونة من الله سبحانه2. 1- معجزة: قد اشتهر عند أهل التواتر أن محمّداً صلى الله عليه وسلم كان أمّيّاً عربيّاً ناشئاً بأرض لا علوم بها ولا معارف ولا كتب تتضمن معرفة أخبار / (2/129/ب) المتقدمين يعرفون ذلك من حاله ضرورة. فلم يفجأهم3 أن تلي عليهم كتاباً من الله فيه مائة وأربع عشر سورة4. وقال لهم: هذه آية صدقي وإن مَن جاء منكم بمثل هذا الكتاب أو بعشر سور من مثله أو بسورة واحدة من مثله فلست صادقاً في أن الله أرسلني إليكم. فأجمعوا ولم يقدموا وأصمتوا ولم يتكلموا. هذا مع تقريعهم وعيب آلهتهم وانتقاص أوثانهم وأصنامهم وتسفيه

_ 1 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم. 2 قد اعتمد المؤلِّف في القسم الثاني من الباب العاشر على كتاب: (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض. وخاصة فيما يتعلق بذكر معجزات النبي صلى الله عليه. وقد كان المؤلِّف ينقل من كتاب الشفا نقلاً حرفياً في معظم ما ينقله. وأحياناً يختصر النّصّ ويكتفي بذكر أمثلة على مواطن الاستشهاد أو يذكره بالمعنى. ولذلك سنعتمد على كتاب (الشفا) كنسخة ثالثة للكتاب ونبيّن مواطن الخلاف أو الخطأ التي حدثت بفعل النسخ إن شاء الله تعالى. 3 في م: يعجاهم. 4 وقيل: مائة وثلاث عشرة سورة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة فأما عدد آيات القرآن العظيم فستة آلاف ومائتا آية. واختلفوا فيما زاد على ذلك. وأما كلماته فسبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة. وأما حروفه فثلاثمائة ألف وأربعون ألفاً وسبعمائة وأربعون حرفاً. وقيل: ثلاثة وعشرون ألفاً وخمسة عشر حرفاً. وقيل: واجد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفاً. (ر: مقدمة تفسير ابن كثير 1/8، مباحث في علوم القرآن ص 146، مناع القطان) .

أخلاقهم وإظهار تعجيزهم على رؤوس الملأ نيفاً وعشرين سنة بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظَهِيراً} . [سورة الإسراء، الآية:88] .وقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُم صَادِقِينَ} . [سورة هود، الآية:13] . فأخبر أنهم [لا يقدرون] على ذلك ولا [يفعلونه] أبداً فكان كما جزم وحَتّم. وقال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} 1. فكلما زادهم تقريعاً ازدادوا خضوعاً. هذا وَهُمْ أهل البراعة في النظم والنثر والخطب يرتجلون ذلك ارتجالاً، ويتنافسون فيه تنافساً ويتناقشون عليه مناقشة. فما عدلوا إلى الحرب إلاّ والذي دُعوا إليه من المعارضة أشقّ عليهم وأصعب. فمن وجوه إعجازه: حسن تأليفه، ورقة ترصيفه وفصاحته وبلاغته الخارقة لعادة / (2/140/أ) أهل البيان حتى قال البلغاء منهم حين سمعوه: إن هذا إلاّ سحر مبين2. ثم هو في سرد القصص الطوال وأخبار القرون الماضية

_ 1 قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . [سورة يونس، الآية: 38] . 2 قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} . [سورة سبأ، الآية:43] . والذي سوّل لهم القول بذلك هو الوليد بن المغيرة الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه فسمع منه القرآن الكريم ثم رجع إلى قريش فقال لهم: فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا. ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته. فقال له أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره. فنَزل قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} . [سورة المدثر، الآية: 11] . (أخرجه ابن جرير في تفسيره29/156، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/507، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبنحوه أخرجه ابن إسحاق) . (ر: السيرة 1/334، 335) ، وأبو نعيم في الدلائل ص 232-235) .

[التي يضعف] 1 في عادة الفصحاء عندها الكلام ويذهب ماء البيان -آية لمتأمله من ربط الكلام بعضه ببعض. والتئام سرده، وتناسب وجوهه مع نظمه العجيب وأسلوبه الغريب المباين لأساليب كلام الفصحاء ومناهج نثرها ونظمها. ومن وجوه إعجازه: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيّبات مما لم يكن فوقع على الوجه الذي أخبر به كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ} 2. وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} 3. وقوله: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} 4. وكقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ ... } . [سورة النصر، الآية: 1] . إلى آخرها. فدخل الناس في دين الله أفواجاً ودخلوا المسجد الحرام آمنين كما قال عليه السلام، واستخلف الله أصحابه وأمته في الأرض. ومكَّن لهم دينهم وملَّكهم من أقصى الشرق / (2/140/ب) إلى أقصى الغرب حتى دوَّخوا البلاد وملؤوا أقطار العالم. كما قال عليه السلام: "زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها. وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي

_ 1 في ص، م (الذين تضعف) والصواب ما أثبتّه. 2 قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} . [سورة الفتح، الآية: 27] . وقد كان هذا في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع من الهجرة. (ر: تفسير ابن كثير 4/215) . 3 { ... وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . [سورة التوبة، الآية: 33، سورة الصّف الآية: 9] . 4 {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . [سورة النور، الآية: 55] .

منها"1. وتلى عليهم ذلك وأخبرهم به وهم في حالة لا يستطيع أحدهم أن يذهب لقضاء الحاجة فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . [سورة الحجر، الآية:9] . فهو محفوظ من تغيير الأعداء والمخالفين وتبديلهم إلى قيام الساعة. هذا مع اشتماله على هتك أستارهم وإبداء عوارهم. وأنَّى يقدرون ويستطيعون إضاعة ما تكفل الله بحفظه!. ومن وجوه إعجازه: ما اشتمل عليه من تقريع اليهود والنصارى والمنافقين بما اشتملت عليه كتبهم وصحفهم بتكذيب من كذبوا من الرسل وقتل من قتلوا من الأنبياء2 وعبادتهم العجل وعزيراً والمسيح وأمه. فلا جرم أن كثيراً منهم لما عرف ذلك وأدركته السعادة وساعده التوفيق أسلم من فوره وصدق نبوته وآمن برسالته فسعد في دنياه وأخراه. ومنهم من غلبت عليه شقاوته وأدركته النفاسة3 وخشي أن يستلب الرئاسة فاستمر على غيه وانهمك في بغيه حتى هلك / (2/141/أ) وسكن من الجحيم في أسفل درك. ثم هو فيما اشتمل عليه من توحيد الباري وتنْزيهه وتقديسه وتحميده وتمجيده وتسبيحه وتهليله وترغيبه وترهيبه، ووصف الباري تعالى بسعة الرحمة والمغفرة والرضوان والحلم والصفح، وما أعدّ لعباده من البر والنعم وإكرام النّزل إن صاروا إليه - آية من الآيات يعرفها ويقر بها وقف على ذلك وقابل به ما اشتملت عليه الكتب المقدمة والصحف

_ 1 أخرجه مسلم 4/2215، 2216، وأبو داود 4/97، والترمذي 4/410، وأحمد 5/278، عن ثوبان رضي الله عنه. 2 قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} . [سورة النساء، الآية: 155] . 3 النّفاسة: الحسد. ونفس عليه الشيء نفاسة: لم يره أهلاً له. (ر: القاموس ص 745) .

المتقدمة والصحف الدَّارسِة كما بيّناه فيما مضى من هذا المختصر1. فلو لم يأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية وخارق سوى سورة واحدة من هذا الكتاب العزيز لاستقلت ونهضت بإثبات النبوة2. فكيف وقد أتى عليه السلام بخوارق عظام وآيات طوام؟!.

_ 1 إن هذه النتيجة الحتمية التي يتوصل إليها كلّ منصف عاقل يقارن بين مضامين القرآن الكريم - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - وبين التوراة وكتب الأنبياء السابقين والأناجيل المحرفة، حيث إن دليل تحريف التوراة والأناجيل ثابت في مضامينها كما أن دليل تصديق القرآن الكريم ثابت في مضمونه بما احتواه من الكمال في المعارف والأخلاق والأحكام. وقد ذكر نتيجة هذه المقارنة عدد من العلماء منهم: أبو الحسن العامري في كتابه: الإعلام بمناقب الإسلام ص 132، 133، والمهتدي نصر بن يحيى المتطبب في النصيحة الإيمانية ص 331-342، والإمام ابن تيمية في الجواب الصّحيح 4/78، 79، والمهتدي موريس بوكاي في كتابه: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص 284-286. 2 اعلم أن القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه ولا تفنى غرائبه ولا تحصى إعجازاته مع كرة بحث العلماء في كل دهر وشدّة فحصهم عنها في كلّ عصر ومصر. قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} . وقد أفرد علماؤنا تصانيف عديدة في أوجه إعجاز القرآن الكريم، ومنهم: الخطابي، وله: (إعجاز القرآن) . والرماني وله: (النكت في إعجاز القرآن) . والباقلاني وله: (إعجاز القرآن) . والسيوطي وله: (معترك الأقران في إعجاز القرآن) . وفي ذلك يقول د. حسن عتر في: (بينات المعجزة الخالدة ص 225) : وقد تتابع فحول العلماء قديماً وحديثاً على استقراء أوجه الإعجاز في كتاب الله تعالى. فمنهم المكثرون ومنهم المقلون. فعد القرطبي عشرة أوجه. والرماني سبعة أوجه. وعدها القاضي عياض أربعة. وعدها الباقلاني ثلاثة. فصّل أحدها في عشرة أمور. وترى الأوجه عند بعض العلماء على جانب من التداخل أو التكرار بينما يذكر بعضهم جانباً من الأوجه ويغفل بعضها الآخر". اهـ. (ر: للتوسع في أوجه الإعجاز: أعلام النبوة ص 97-125، للماوردي. البرهان في علوم القرآن 2/93-106، للزركشي. الداعي إلى الإسلام ص 393-431، للأنباري النحوي، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/500-542، للقاضي عياض. البداية والنهاية 6/76-81، لابن كثير. إظهار الحقّ ص 367-412، لرحمة الله الهندي، التبيان في علوم القرآن ص 85-152، محمّد الصابوني. أما الإعجاز العلمي في القرآن فيراجع: العلوم الطبيعية في القرآن - د. يوسف مروة. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة - د. موريس بوكاي. ظواهر جغرافية في ضوء القرآن الكريم - لإبراهيم حسن النصيرات وغير ذلك) .

2 - معجزة: انشقاق القمر. قال ابن مسعود1: واستدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدق نبوته لانشقاق القمر فرقتين، وقال ابن مسعود: لقد رأيت الجبل بين فرقتي القمر فقال عليه السلام: اشهدوا. فقال كفار قريش: سحركم / (2/141/ب) ابن أبي كبشة. فقال رجل: إن كان سحر، فإنه لا يبلغ الأرض كلّها فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا ذلك فجاء الناس من الآفاق فأخبروا بمثل ذلك. فقال الكفار: هذا سحر مستمر. رواه خلق كثير من أعيان الصحابة خيار المسلمين كأنس بن مالك2، وابن عباس3 وابن عمر4، وعلي بن أبي طالب5، وجبير6 بن مطعم، في خلق كثير. ورواه عن هؤلاء

_ 1 حديث ابن مسعود رضي الله عنه في انشقاق القمر أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (27) . (ر: فتح الباري 6/631) . ومسلم 4/2158، وأحمد في مسنده 1/377، 413، 447، والترمذي 5/370، وأبو نعيم ص 279، 281، والبيهقي 2/264، وكلاهما في الدلائل. 2 حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (27) . (ر: فتح الباري 6/631) ، ومسلم 4/2159، والإمام أحمد 3/275، 278، والترمذي 5/371، والبيهقي في الدلائل 2/262. 3 حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجه البخاري في كتاب المناقب. (ر: فتح الباري 6/631) ، ومسلم 4/2159، وأبو نعيم في الدلائل ص 280. 4 حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أخرجه مسلم 4/2159، والترمذي 5/371، والبيهقي في الدلائل 2/267، وأبو نعيم في الدلائل ص 279. 5 حديث عليّ أبي طالب رضي الله عنه أخرجه البخاري في مشكل الآثار 1/301، قال: ثنا علي بن عبد الرحمن بن محمّد بن المغيرة المخزومي ثنا الوليد (هو محمّد بن سليمان) ثنا حديج بن معاوية الجعفي عن أبي إسحاق عن أبي حذيفة (وهو سلمة بن صهيب الأرجي) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ... ". فذكره. قلت: إسناده حسن. فإن حديج بن معاوية صدوق يخطئ. وباقي رجاله ثقات. (ر: التقريب2/40،2/166،1/256،2/73،1/371، حسب ترتيب رجال الإسناد) . 6 حديث جبير بن معطم رضي الله عنه. أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/82، والترمذي 5/372، وابن حبان. (ر: الموارد ص519) .والبيهقي في الدلائل2/268، كلهم من طريق حصين بن عبد الرحمن عن محمّد بن جبير بن معطم عن أبيه قال: ... فذكره. قلت: إسناده صحيح. (ر: التقريب 1/182، 2/150) .

أعلام التابعين ووجوه الأمة. وقد تضمنها الكتاب العزيز. قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ وَإِنْ يَرَوا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌ} . [سورة القمر، الآية: 1-2] . فلا التفات بعد ذلك إلى قول مخذول. ولو جاز هذه الآية لجاز ردّ آية موسى وعيسى - عليهما السلام. والطريق في النقل واحد، وإذا كان إنما اعتماد المتأخر على نقل من تقدم فمن أصارهم بتصحيح أخبارهم أولى من غيرهم. هذا وهم ينقلون عن أسلافهم المنكر والمستحيل. ونحن إنما ننقل مُحَوِّزات العقول. وإن طعن في آية انشقاق القمر يهودي1 قلنا له: ما دليلك على2 انشقاق البحر لموسى؟ أو يشكك في ذلك نصراني. قلنا له: ما حجتك على انشقاق حجاب الهيكل عند صلب الشبه3 الذي أشركته مع الله في الربوبية؟ فإذا قالا: النقل الصحيح والخبر الصريح. قلنا: من أصار عباد الصلبان والعجول أولى بالقبول من أخبار الموحدّين العدول؟!. 3- معجزة: حبست الشمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفت عن جريانها، خَرَّج الطحاوي4 في مشكل / (2/142/أ) الحديث أسماء بنت عميس5 رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم

_ 1 ليست في (م) . 2 في م: (مادلك) . 3 إنجيل متى 27/51، لوقا 23/45. 4 هو: أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة الأزدي المصري الطحاوي. ولد سنة 239هـ. انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر. توفي بالقاهرة سنة 321هـ. (ر: ترجمته في: الجواهر المضيئة 1/102-105، وفيات الأعيان 1/53-55، وسير أعلام النبلاء 15/27) . 5 أسماء بنت عميس الخثعمية كانت زوجة جفعر بن أبي طالب ثم أبو بكر الصديق ثم علي بن أبي طالب. وماتت بعده - رضي الله عنهم أجمعين -. ولها ستون حديثاً.

يصلِّ علي العصر حتى غربت الشمس فقال عليه السلام: أصليت العصر يا عليّ؟ قال: لا. فقال عليه السلام: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس. قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقفت على الجبال. وذلك بالصهباء بخيبر"1.

_ 1 حديث حبس الشمس لعليّ رضي الله عنه أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار 2/8-11، وابن الجوزي في الموضوعات 1/355-357، وابن كثير في الشمائل ص 144، وذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة 1/336-341، والشوكاني في الفوائد المجموعة ص 350-357، وابن عراق الكناني في تنْزيه الشريعة 1/378. قال الإمام ابن تيمية: "فضل عليّ وولايته لله وعلوّ منْزلته عند الله معلوم ولله الحمد من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني لا يحتاج معها إلى كذب ولا إلى ما لا يعلم صدقه. وحديث ردّ الشمس له قد ذكر طائفة كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما وعدوا ذلك من معجزات النبيّ صلى الله عليه. لكن المحقّقين من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع". اهـ. ثم أورد ابن تيمية طرق الحديث واحدة واحِدة، مُبيّناً ما فيها من ضعف. ثم اعتذر عن أحمد بن صالح المصري في تصحيحه هذا الحديث بأنه اغتر بسنده. وعن الطحاوي بأنه لم يكن عنده نقد جيد للأسنانيد كجهابذة الحفاظ. (انظر: منهاج السنة 8/165-198، بتصرف) . وقال الإمام ابن كثير عن هذا الحديث: "هذا الحديث ضعيف ومنكر من جميع طرقه. فلا تخلو واحدة منها عن شيعي ومجهول الحال. أو شيعي ومتروك. ومثل هذا الحديث لا يقبل فيه خبر واحد إذا اتّصل سنده؛ لأنه من باب ما تتوفر الدواعي على نقله بالتواتر أو الاستفاضة لا أقل من ذلك". - ثم قال: "والأئمة ينكرون صحّة هذا الحديث ويردونه ويبالغون في التشنيع على رواته كما قدمنا عن غير واحد من الحفاظ كمحمّد ويعلى بن عبيد الطنافسيين وكإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق. وكأبي بكر محمّد بن حاتم البخاري المعروف بابن زنجويه، وكالحافظ أبي القاسم ابن عساكر، والشيخ أبي الفرج ابن الجوزي. وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين. وممن صرح بأنه موضوع شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي والعلامة أبو العباس ابن تيمية". (ر: شمائل الرسول صلى الله عليه ص 144-163، بتصرف يسير) . وقال الشيخ الألباني في تعليقه على الحديث: "وهذه القصة لا تثبت". (ر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/355) .

قال العلماء1: لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حديث أسماء، فإنه علم من أعلام النبوة. وروى يونس2 بن بكير عن ابن إسحاق لما أسري بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير، قالوا: متى تصل؟ فقال: يوم الأربعاء؛ فلما كان يوم الأربعاء أشرفت قريش ينظرون وقد وَلَّى النهار ولم تصل بعد، فدعا فزيد له في النهار ساعة ووقفت الشمس عن جريانها وسيرها حتى وصلت العير فشاهدوها3. وإن اعترض على ما شهدت أسماء رضي الله عنها مُخالف من النصارى قيل له: ألم تروُوا عن مريم المجدلانية التي أبرأها / (2/142/ب) المسيح من الجنون أموراً عظاماً من أمور المسيح؟ فإذا قالوا: بلى. قيل لهم: ما الذي جعل امرأة حديثة عهد بجنون أولى بالصدق والعدالة من امرأة غريبة لبيبة عاقلة؟ وإن قدح في ذلك يهودي؛ قيل له: ألم تحكوا عن مريم أخت موسى وهارون أموراً جمة من أعلام موسى؟ فإذا كانت أخت الإنسان مؤتمنة على ما تحكيه من أعلام أخيها وعِزُّه عِزٌّ لها، فأسماء أولى بذلك وهي أجنبية.

_ 1 زاد في الشفا 1/549: "قال الطحاوي: وهذان الحديثان ثابتان ورواتهما ثقات، وحكى الطحاوي أن أحمد بن صالح كان يقول: لا ينبغي لِمَن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء؛ لأنه من علامات النبوة". اهـ قلت: ورد ذلك في مشكل الآثار 2/11، للإمام الطحاوي.. 2 يونس بن بكير بن واصل الشيباني، أبو بكر، مؤرخ، قال عنه الذهبي: الإمام الحافظ الصدوق صاحب المغازي والسير، روى له مسلم في الشواهد لا في الأصول. وثقه ابن معين، وقال الحافظ ابن حجر: يخطئ. مات سنة 199هـ. (ر: سير أعلام النبلاء 9/245-248، التهذيب 11/382، التقريب 2/384، الأعلام 8/260) . 3 أخرجه البيهقي في الدلائل 2/404، من طريق يونس بن بكير عن أسباط بن نصر الهمذاني عن إسماعيل بن عبد الرحمن الثقفي، قال: ... ، فذكره. قلت: الحديث مرسل. فإسماعيل القرشي أو السدي، من الرابعة. روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. (ر: التهذيب 1/275، التقريب 1/72) . وفيه أسباط بن نصر الهمذاني، صدوق. كثير الخطأ. يغرب. (ر: التقريب 2/384) .

4- معجزة: نبع الماء العذب من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم والروايات فيه كثيرة وأمره مشهور منشور بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه جمع كثير من الصحابة منهم: أنس وجابر وابن مسعود، قال أنس1 وغيره: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فَأُتِيَ عليه السلام بوضوء فوضع يده في الإناء وأمر الناس أن يتوضؤوا منه. قال أنس: فرأيت الماء ينبع من بيد أصابعه صلى الله عليه وسلم فتوضؤوا من عند آخره. قيل له: فكم كنتم؟ قال: زهاء / (2/143/أ) ثلاثمائة رجل، وذلك بالسوق عند الزوراء"2. وفي الصحيح عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنا ماء، فأتي بماء فصبّه في إناء ثم وضع كفه فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم "3. وفي الصحيح أيضاً عن جابر بن عبد الله: "عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها وأقبل الناس نحوه فقالوا: ليس عندنا ماء إلاّ ما في ركوتك هذه. فوضع عليه الصلاة والسلام يده في الركوة فجعل الماء يفور من أصابعه كأمثال العيون، قال: فقلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة"4. روى ذلك جمع كثير من الصحابة5.

_ 1 حديث أنس رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب (46) . (ر: فتح الباري 1/304) . وفي كتاب المناقب. (ر: 6/580) ، ومسلم 4/1783، والترمذي 5/556، والبيهقي في الدلائل 4/21-125. 2 الزوراء بالمدينة المنورة عند السوق والمسجد. (ر: فتح الباري 6/585) . 3 أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب (25) . (ر: فتح الباري 6/587) ، والترمذي 5/557، وابن أبي شيبة في مصنفه 11/274، وأبو نعيم ص 406ن والبيهقي 4/129، 130، كلاهما في الدلائل. 4 أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب (25) ، (ر: فتح الباري 6/581) ، ومسلم 2/1856،وأبو نعيم ص406،407، والبيهقي4/115-118،كلاهما في الدلائل. 5 حديث معجزة نبع الماء من بين أصابع النّبيّ صلى الله عليه راه جمع الصحابة منهم أنس بن مالك، والبراء بن عازب، والبراء بن مالك، وجابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع، والمسور، ومروان بن الحكم، وابن عباس، وعمران بن الحصين، وأبو قتادة، وزياد بن الحارث الصداني - رضي الله عنهم أجمعين -.

وعن عبادة بن الصامت في حديث مسلم الطويل في غزوة بواط1، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جابر2 ناد الوضوء -[وذكر الحديث بطوله -] 3 ولم يجد سوى قطرة في عَزْلاء شَجْب4 فأتى به النّبيّ عليه السلام فغمزه5 بيده وتكلم بشيء لا أدري ما هو، وقال: ناد بجفنة الرّكْب6 / (2/143/ب) فأتيت بها فوضعها بين يديه فبسط يده في الجفنة وفَرَّق أصابعه وصب جابر عليه. وقال: بسم الله، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه. ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت وأمر الناس بالاستقاء فاستقوا حتى رووا. فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟ فرفع عليه السلام يده من الجفنة وهي ملأى"7. وبالجملة فحديث نبع الماء من بين أصابعه عليه السلام متواتر مستفيض، وقد روى مالك في الموطّأ عن معاذ بن جبل: "في غزوة تبوك أنهم وردوا العين وهي تَبِضُّ8 بشيء من ماء مثل الشِّراك9 فغرفوا بأيديهم من العين في إناء

_ 1 بواط: جبل من جبال جهينة من ناحية رضوى (ينبع) . وقد كانت عزوة بواط ثاني غزواته صلى الله عليه في شهر ربيع الأوّل من السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة. (ر: السيرة 2/284، لابن هشام، معجم البلدان 1/503، المعالم الأثيرة في السنة والسيرة ص 54، محمّد شراب) . 2 ساقطة من (ص) ، والزيادة من (م) . (وذكر الحديث بطوله) هذه الأضافة من الشفا 1/553. 4 عَزْلاَء شَجب: أي: فم قربة بالية، وعزلاء: فم المزادة الأسفل وجمعه: العزالى. وشجب: السقاء الذي قد أخلق وبلي وصار شَنَّا. وهو من الشب: الهلاك، ويجمع على شجُب وأشجاب. (ر: النهاية في غريب الحديث 3/231، 2/444) . 5 الغَمْز: العصر والكبس باليد. (ر: المرجع السّابق 3/385) . 6 جفنة الرّكب: أكبر قصاع الرّكب. (ر: المرجع السّابق 1/280) . 7 أخرجه مسلم 4/2301-2308، والبيهقي في الدلائل 6/7-10. 8 بَضَّ الماء: إذا قطر وسال. (ر: النهاية في غريب الحديث 1/132، لابن الأثير. 9 الشِّراك: أحد سيور النعل التي تكون على وجهها. (ر: المرجع السّابق 2/467) .

حتى اجتمع منه شيء ثم غسل عليه السلام فيه وجهه ويديه وأعاده فيها فجرت بماء كثير فاستقى الناس"1. قال ابن إسحاق: فانخرق من الماء ما له حسّ كحسّ الصواعق2. وروى البراء3 وسلمة بن الأكوع4 في قصة الحديبية: "أنه عليه السلام أتى بئراً ما تروي خمسين شاة، قال: فنَزحناه فلم ندع فيها ماء، فجلس عليه السلام على جانبها وأتي بدلو / (2/144/أ) فتفل فيها ودعا الله، فجاشت البئر بالماء فارتووا وأرووا ركابهم". وقيل5: بل غزر عليه السلام سهماً من كنانته في قعر البئر فروى الناس حتى ضربوا بعطن6 وكان عدتهم أربع عشرة مائة7.

_ 1 أخرجه الإمام مالك في الموطّأ كتاب قصر الصلاة في السفر ص 108، وعنه الإمام مسلم 4/1784، وأحمد في مسنده 5/237، 238، وأبو نعيم ص 522، والبيهقي 5/236، كلاهما في الدلائل. 2 أخرجه ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة 4/232، 233) . 3 حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/581، 7/441) ، وأبو نعيم في الدلائل ص 409، والبيهق في الدلائل 4/110. 4 وبمثله حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنهما أخرجه مسلم 3/1433، والبيهقي في الدلائل 4/111. 5 في الشفاء 1/557، قال: "وفي غير هاتين الروايتين من طريق ابن شهاب في الحديبية فأخرج سهماً من كنانته ... ". 6 العَطَن: مبرك الإبل وحل الماء. وضرب ذلك مثلاً في اتساع الناس في الرّوي. (ر: النهاية في غريب الحديث 3/258) . 7 أخرجه البخاري في كتاب الشروط باب (15) في سياق طويل. (ر: فتح الباري 5/329-333) ، وابن إسحاق بنحوه، (ر: السيرة 3/427، 428، وعنه البيهق في الدلائل 4/111، 112، كلهم من طريق الزهري عن عروة بن الزبير عن مروان ابن الحكم والمسور بن مخرمة قالا:....، فذكره. وأما الجمع بين الرواية الأولى "أنه صلى الله عليه جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ... "، والرواية الثانية: "أنه صلى الله عليه انتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه في البئر...."، فقد قال الحافظ ابن حجر: "ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معاً وقعا". (ر: فتح الباري 5/337) .

وروى أبو قتادة قال: "اشتكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره العطش فدعا بميضأة ثم التقم فمها - فالله أعلم أنفث فيها أم لا - فشرب الناس حتى رووا ملؤوا كلّ إناء معهم، فَخُيِّل إلي أنها كما أخذها مني"1. وروى مثله عن عمران بن الحصين وفي كتاب مسلم: "أنه عليه السلام قال لأبي قتادة: احفظ عليّ ميضأتك فإنه سيكون لها نبأ" فكان ما ذكرت"2. وعن عمران بن حصين: "أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابهم عطش في بعض أسفاره فبعث رجلين، وقال: ستجدان امرأة بمكان كذا معها بعير عليه مزادتان فأتيا بها، فذهبا إلى حيث ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجداها أتيا بها النبي عليه السلام فجعل في إناء من مزادتيها. وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ثم أعاد الماء في المزادتين ثم فتحت / (2/144/ب) عِزَالَيْها3 وأمر الناس فملأوا أسقيتهم كلّها حتى ملأوا كلّ إناء معهم. قال عمران: وتخيل إلي أن المزادتين لم يزدادا إلاّ امتلاءً. ثم أمر عليه السلام فجمع لها من الأزواد حتى ملأوا ثوبها وقال: اذهبي فإنا لم نرزأ من مائك شيئاً ولكن الله هو الذي سقانا" - الحديث بطوله - فرجعت4 إلى قومها فكان ذلك سبب إسلامهم"5.

_ 1 أخرجه مسلم 1/472-475، وأبو نعيم ص 407، والبيهقي 6/132-134، كلاهما في الدلائل. 2 هو فم المزادة الأسفل. (ر: النهاية 3/231) . 3 هو: فم المزادة الأسفل. (ر: النهاية 3/231) . (فرجعت إلى ... ) ، من زيادات المؤلِّف على ما ورد في الشفا 1/559. 5 أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/580) ، ومسلم 1/484-486، وأحمد في منسده 4/434، وأبو نعيم في الدلائل ص 411، 412، والبيهقي في الدلائل 6/130، 131.

وقال سلمة بن الأكوع] 1: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل من وضوء؟ ". فجاء رجل بإداوة2 فيها نطفة3 من ماء فأفرغها في قدح فتوضأنا كلّنا ندغفقه4 دغفقة حتى تطهرنا5 عن آخر فكنا أربع عشرة مائة"6. وفي حديث عمر: "وذكر ما أصابهم في جيش العسرة من العطش حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه. فرغب أبو بكر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الدعاء فرفع يده فلم يرجعهما حتى أسكبت السماء فملؤوا ما معهم من آنية فلم تجاوز السحابة العسكر"7.

_ 1 هذه الزيادة من الشفا 1/559. 2 الإداوة: بالكسر: إناء صغير من جلد. يُتخذ للماء كالسطحية ونحوها. وجمعها: أَدَاوَى. (ر: النهاية 1/33 لابن الأثير) . 3 يقال للماء الكثير والقليل. وهو بالقليل أخصّ. والمراد به هَا هنا: الماء القليل. وبه سمي المني نطفة لقلته. وجمعها: نطف. (ر: النهاية 5/74، 75) . 4 دَغْفَق الماء: إذا دَفَقَه وصبَّه صبّاً كثيراً واسعاً. (ر: المرجع السّابق 2/123) . 5 في م: (نظرنا) . 6 حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنهما أخرجه مسلم 3/1354، 1355، والبيهقي في الدلائل 4/118، 119. 7 أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 523، وابن حبان. (ر: الموارد ص 418) ، والبزار. (ر: كشف الأستار 1/354) . والحاكم 1/159، والبيهقي في الدلائل 5/231، كلهم من طريق نافع بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدّثنا من شأن ساعة العسرة. فقال: ... ، فذكره. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي وقال الذهبي. قال الهيثمي في المجمع 6/197، 198: "رواه البزار والطبراني في الأوسط. ورجال البزار ثقات". اهـ.

وعن [عمرو بن سعيد] 1: "أن أبا طالب قال للنبيّ عليه السلام وهو رديفه بذي المجاز: عطشت / (2/145/أ) وليس عندي ماء، فنَزل نبي الله صلى الله عليه وسلم وضرب بقدمه الأرض فخرج الماء فقال: اشرب"2. وقيل له3 في سنة من السنين: هلك الناس من العطش "فاستسقى عليه السلام فلم يفرغ من دعائه حتى سقي الناس وجاءه أهل العوالم يشكون كثرة المطر فقال عليه السلام: "اللهم حوالينا ولا علينا"4. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: هذه عدة من المعجزات تتعلق بهذا الفن. وفيها ما هو مساوٍ لآية موسى عليه السلام. وفيها ما هو أبهر للعقول من فعل موسى. إذ نبع الماء من الأرض والحجر معتاد لا عجب. فأما نبع الماء من أصابع يد آدمي هو العجب. فإن نازع في هذه الآيات المتعلقة بسقي الخلق الكثير في المعاطش5 من بين أصابعه عليه السلام منازع من اليهود. قيل له: من أين لك أن موسى عليه السلام سقى بني إسرائيل ماءً عذباً من

_ 1 في ص، م، والشفا (عمر بن شعيب) ، وهو خطأ. وصححته من الطبقات لابن سعد. والإصابة لابن حجر. 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/152، قال: حدّثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن عبد الله بن عون عن عمرو بن سعيد أن أبا طالب، قال: ... فذكره. ونقله الحافظ ابن حجر عن ابن سعد في الإصابة 7/116، وسكت عنه. قلت: الحديث مرسل. فإن عمراً بن سعيد القرشي، أبو سعيد البصري، ثقة. من الخامسة. (الطبقة الصغرى من التابعين) . (ر: الجرح والتديل 6/236، التهذيب 8/35، التقريب 2/70) . (وقيل له: في ... ) هذه من زيادات المؤلِّف على الشفا 1/560. 4 أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء باب (6) . (ر: فتح الباري 2/501، 508) ، ومسلم 2/612-614) ، والإمام أحمد في مسنده 3/104، 261، وأبو داود 1/148، وأبو نعيم ص 448، والبيهق 6/139-142، كلاهما في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه. 5 في م: العطش.

حجر [الصوَّان] ؟ 1. أذلك شيء عاينته أم هو الخبر والنقل والرواية؟ فإنه يفزع في ذلك إلى نقل اليهود إذ لا طريق له سواه، فيقال له عند ذلك: ما الذي جعل عباد/ (2/145/ب) العجل وبعلز بول الصنم والزهرة أولى بالعدالة من عباد الله المؤمنين المخلصين له؟! وإن نازع في ذلك نصراني. قيل له: ألم تروُوا أن المسيح عليه السلام لما قرب من أورشليم قال لرجلين من تلاميذه: اذهبا إلى القرية التي أمامكما فإنكما ستجدان أتاناً وجحشاً فأتياني بهما ففعلاً وأتيا بالأتان والجحش2. فما دليلكم على تصحيح ذلك عن المسيح؟ أذلك3 مما يمكن اليوم معرفته دون الرواية؟! فما الذي جعلكم أحقّ بما تروون منا بما نروي عن ثقاتنا؟!! وقد بعث نبيّنا رجلين ووصف لهما المرأة والماء الذي معها، وذلك أعجب من قول المسيح في الأتان والجحش. 5- معجزة: وهي تكثير الطعام اليسير ببركته صلى الله عليه وسلم. روى جابر بن عبد الله، قال: "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فأعطاه يسيراً من شعير فما زال الرجل يأكل منه وأهله وضيفه حتى كاله بعد حين. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو لم تكله لأكلتم منه وقام4 بكم"5.

_ 1 في م، ص: (الطران) ولا معنى له. وصححته بما يوافق السياق. فالصواب: حجر شديد يقدح به. (ر: القاموس ص 1563) . 2 متى 21/1-11، مرقص 11/1-11. 3 في م: زاد: (لا) . 4 في م: (لقام) . 5 أخرجه مسلم 4/1784، والبيهقي في الدلائل 6/114) .

وقال / (2/146/أ) أبو1 طلحة في حديثه المشهور: "أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين رجلاً من أقراص شعير جاء بها أنس تحت إبطه"2. وقال جابر بن عبد الله: "أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق من صاع شعير وعناق3 ألف رجل حتى تركوه وانحرفوا4، وإن البرمة5 لتغط6 كما هي وإن العجين ليخبر"7. وقال أبو8 أيوب: "صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصاحبيه أبي بكر وعمر قدر ما يكفيهما من الطعام، فقال النبيّ عليه السلام: ادع لي ثلاثين رجلاً من أشراف الأنصار. فدعوتهم فأكلوا حتى تركوه ثم قال عليه السلام: ادع لي ستين رجلاً. فأكلوا حتى تركوه ثم قال عليه السلام: ادع لي سبعين رجلاً. فدعوتهم فأكلوا حتى تركوه فلم يخرجوا حتى أسلموا وبايعوا، قال أبو أيوب: فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلاً"9.

_ 1 هو: أبو طلحة الأنصاري، زيد بن سهل الأسود الأنصاري النجاري الصحابي المعروف باسمه وكنيته. 2 في الشفا 1/562، " ... فأمر بها ففتت وقال فيها: ما شاء الله أن ي قول: ... ". اهـ. أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/586) ، ومسلم 3/1612، والترمذي 5/595، 596، وأبو نعيم في الدلائل ص 415، والبيهقي في الدلائل 6/88، عن أنس بن مالك رضي الله عنه". 3 العَنَاق: هي الأنثى من أولاد المعزّ ما لم يتم له سنة. (ر: النهاية 3/311) . 4 أي: مالوا عن الطعام. (ر: فتح الباري 7/399) . 5 البُرْمَة: القدر مطلقاً وجمعها بِرَام، وهي في الأصل المتّخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن. (ر: النهاية 3/372) . 6 لتَغِطُّ: أي: تغلي ويسمع غطيطها. (ر: النهاية 3/372) . 7 في الشفا 1/562، " ... وكان رسول الله صلى الله عليه بصق في العجين والبرمة وبارك". اهـ. أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب (29) . (ر: فتح الباري 7/395، 396) ، ومسلم 3/1610، والترمذي 5/595) . 8 أبو أيوب الأنصاري، خالد بن زيد النجاري. الصحابي المعروف رضي الله عنه. 9 أخرجه أبو نعيم ص 428، وأبو بكر الغرياني ص 28، والبيهقي 6/94، كلهم في الدلائل من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي الورد بن تمامة عن أبي محمّد الخضرمي عن أبي أيوب رضي الله عنه. وذكره الهيثمي في المجمع 8/303، وقال: "أخرجه الطبراني وفي إسناده من لم أعرفه. ونقله ابن كثير في البداية 6/111، وقال: غريب متناً وإسناداً". اهـ. قلت: سعيد الجريري، ثقة. اختلط قبل موته بثلاث سنين. (ر: التقريب 1/291) ، وأبو الورد، وأبو محمّد لم أقف على توثيق لهما ولا على متابعة.

وقال سمرة بن جندب: "أُتي عليه السلام بقصعة فيها لحم فتعاقبوها من غدوة إلى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون"1. وقال عبد الرحمن2 بن أبي عمرة [عن أبيه] 3 وسلمة بن الأكوع4 وأبو هريرة5 / (2/146/ب) وعمر بن الخطاب6: "أصاب الناس مخمصة7 مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/18، والترمذي 5/553، والفريابي في الدلائل ص 30، والحاكم 2/618، وأبو نعيم ص 528، والبيهقي 6/93، كلاهما في الدلائل، كلهم من طريق يزيد بن هارون تنا سليمان التيمي عن أبي العلاء سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: ... ،قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: "هذا إسناد صحيح". 2 عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري الخزرجي، أبوه صحابي شهير، ولد في عهد النّبي صلى الله عليه، وأمه هند بنت المقدم بن عبد المطلب بنت عم النبيّ صلى الله عليه، ذكره مطين وابن السكن في الصحابة. وقال ابن أبي حاتم: "ليست له صحبة. وحديث مرسل". قال ابن سعد: "كان ثقة كثير الحديث". وذكره ابن حبان في الثقات. (ر: الطبقات 5/83، الجرح والتديل 5/273، الإصابة 5/73، التهذيب 6/219) . 3 هذه الإضافة من الشفا 1/564. أما حديث أبي عمرة الأنصاري رضي الله عنه فقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/417، وابن حبان في صحيحه. (ر: المورد ص 31) ، والفريابي في الدلائل ص 13، والحاكم 2/618، 619، والبيهقي في الدلائل 6/121، كلهم من طريق الأوزاعي عن المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري عن أبيه، قال: ... فذكره. قال الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في المجمع 1/24، 25، وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات". 4 حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أخرجه مسلم 3/1354، 1355، والبيهقي في الدئل 4/118، 119. 5 حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم 1/55، 56، وأحمد في المسند 2/421، و3/11، والفريابي في الدلائل ص: 17، و18، وأبو نعيم ص: 418، والبيهقي 6/120، كلاهما في الدلائل. 6 وبنحوه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه الفريابي في الدلائل ص 19، 20، وذكره الهيثمي في المجمع 8/307. وقال: رواه أبو يعلى في الصغير والكبير وفيه عاصم بن عبيد الله العمري وَثَّقه العجلي وضعّفه جماعة. وبقية رجاله ثقات. قال السيوطي في الماهل ص 122: أخرجه أبو يعلى بسند جيد. 7 المَخْمَصة: المجاعة.

بعض مغازيه فدعا ببقية الأزواد فجاء الرجل بالقبضة الطعام وفوق ذلك فجمعه على نطع1، قال سلمة: فحزرته كَرَبْضَة2 العنْز ثم دعا الناس بأوعيتهم فلم يبق في الجيش وعاء إلاّ ملأؤه ثم فضلت فضلة من ذلك". وقال أبو هريرة: "أمرني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن [أدعو] 3 له أهل الصفة4 فتتبعتهم حتى جمعتهم فوضعت بين أيدينا قصعة فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهي مثل ما كانت [حين] 5 وضعت إلاّ أن فيها أثر الأصابع"6. وقال عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وكانوا أربعين ومنهم من يأكلالجذعة7 ويشرب الفرق8، فصنع لهم

_ 1 النِّطْع: بالكسر وبالفتح وبالتحريك: بساط من الأديم، جمعه: أنطاع. (ر: القاموس ص 991) . 2 رَبْضَة العنْز: ويروي بكسر الراء: أي: جثتها إذا بركت. من ربَض في المكان يربض. إذا لصق به وأقام ملازماً له. (ر: النهاية 2/184) . 3 في ص، م: (أدع) ، وصححته من الشِّفا 1/565. 4 أهل الصفة: هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منْزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه. (ر: النهاية 3/37) . 5 ليست في ص، م، وأضيفت من الشفا 1/565. 6 أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 6/314، وعنه الفريابي في الدلائل ص 29، عن حاتم بن إسماعيل عن أنيس عن إسحاق بن سالم عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأورده الهيثمي في المجمع 8/311، وقال: "رواه الطبراني في الأسط ورجاله ثقات". اهـ. وله شاهد من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أخرجه أبو نعيم ص 421، والبيهقي 6/129، كلاهما في الدلائل. وأورده الهيثمي في المجمع 8/307، وقال: "رواه الطبراني بأسنادين وإسناده حسن". 7 الجذعة: الداخلة في السنة الثانية من المعزّ، ومن الضأن ما تمت له سنة. (ر: النهاية 1/250) . 8 الفَرَق: - بالتحريك - مكيال يسع ستة عشر رطلاً. وهي اثنا عشر مداً. أو ثلاثة آصع عند أهل الحجاز. (ر: النهاية 3/437) .

مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا وبقي كما هو، ثم دعا بعُسٍّ1 فشربوا حتى رووا وبقي العُسُّ كأنه لم يشرب منه"2. وقال أنس: "بنى عليه السلام بزينب وأمرني أن أدعو من لقيت فدعوت من لقيت فقدَّم إليهم / (2/147/أ) مُدّاً من تمر جُعل حيساً3 فتناولوا منه حتى شبعوا وعدتهم زهاء ثلاثمائة رجل، ثم قال لِيَ: ارفع. فرفعت فما أدري أكان حين وضع أكثر أم حين رفع"4. وقال عمر: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أزود أربعمائة راكب من أحمس5. فقلت: ما عندنا إلاّ آصع من تمر. فقال عليه السلام: اذهب وزودهم. فذهبت فزودتهم منه وكأنه بحاله". وذكر هذه الآية جمع كبير من الصحابة6.

_ 1 العُسُّ: القدح الكبير، وجمعه: عِسَاس، وأَعْسَاس. (ر: النهاية 3/236) . 2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/159) ، عن عفان عن أبي عوانة عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد عن عليّ رضي الله عنه ... ، فذكره. وأورده الهيثمي في المجمع (8/305) ، وقال: "رواه أحمد ورجاله ثقات". وقال السيوطي في المناهل ص 122: أخرجه أحمد والبيهقي وسنده جيد. وله وجه آخر من طريق ابن عباس عن علي - رضي الله عنهم -، أخرجه أبو نعيم ص 425، والبيهقي 2/179، 180، كلاهما في الدلائل. 3 الحيس، جمع: هو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن، وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت. (ر: النهاية 1/467) . 4 أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب 64. (ر: فتح الباري 9/226) ، بنحوه، ومسلم 2/1051، والفريابي ص 25، وأبو نعيم ص 424، كلاهما في الدلائل. 5 الحُمْس: جمع الأَحْمَس؛ وهم قريش، ومن ولدت قريش. وكنانة، وجديلة قيس. سموا حمساً لأنهم تحمسوا في دينهم. أي: تشددوا. والحماسة: الشجاعة. (ر: النهاية 1/440) . والمراد بهم هنا: وفد قبيلة مزينة وجهينة، كما ورد في الدلائل 5/366، للبيهقي. 6 منهم: دكين بن سعيد المزني رضي الله عنه. أخرج حديثه الإمام أحمد في مسنده 4/174، وأبو نعيم في الدلائل ص 427، كلاهما من طريق إسماعيل عن قيس عنه. وأورده الهيثمي في: مجمع الزوائد 8/308، وقال: "روه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح". ومنهم: النعمان بن مقرن ض أخرجه أحمد في مسنده 5/445، والبيهيقي في الدلائل 5/365-367، كلاهما من طريق حصين بن سالم بن أبي الجعد عنه. وقال السيوطي في المناهل ص 122: سنده صحيح.

وقال جابر في حديث وفاء دين أبيه بعد موته: "بذلت لغرماء أبي من اليهود كلّ ماله فلم يرضوا به وكان مال أبي تمراً ولم يكن في ثمره سنتين ما يفي بدينهم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جداد المثر وهي في البياد فمشى بينها ودعا الله، قال جابر: فوفيت منه غرمائي وفضل لنا مثل ما نجد في كلّ سنة. فتعجب اليهود من ذلك"1. وقال أبو هريرة: "أصاب الناس مخمصة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل من شيء؟ فقلت: نعم. شيء من تمر في مزود. قال: فأتني به فأدخل / (2/147/ب) يده فأخرج قبضة فبسطها ثم دعا بالبركة، ثم قال: ادع عشرة. فدعوتهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: ادع عشرة. فأكلوا حتى أكل الجيش كله وشبعوا. فقال عليه السلام: خذ ما جئت به. فأكلت منه حياة رسول الله، وأبي بكر، وعمر، وجهزت منه كذا وكذا وسقاً في سبيل الله، قال أبو هريرة: وكان عدة ذلك التمر بضعة عشرة تمرة"2. وحديث أبي هريرة أيضاً حين أصابه الجوع: "فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم فوجد قدحاً من لبن قد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره عليه السلام أن يدعو أهل الصفة، قال: فقلت في نفسي: ما هذا القدح فيهم كنت محتاجاً أن أصيب منه شربة أتقوّى بها. فدعوتهم، فقال: اسقهم. فشربوا حتى رووا من عند آخرهم. ثم قال

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض باب 9. (ر: فتح الباري 5/60، وأبو نعيم ص 435، 436، والبيهقي 6/149، 150، كلاهما في الدلائل. 2 أخرجه أحمد 2/352، والترمذي 5/346، والبيهقي في الدلائل 6/109، كلهم من طريق حماد بن زيد عن المهاجر عن أبي العالية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال الترمذي: "حسن غريب من هذا الوجه. وقد روي الحديث من غير هذا الوجه". قلت: الوجه الآخر أخرجه أبو نعيم ص 434، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه 6/10، كلاهما في الدلائل من طريق يزيد بن أبي منصور عن أبيه رضي الله عنه. وله وجه آخر أخرجه أبو نعيم ص 434، والبيهقي 6/10، 100، عن أبي الفتح هلال بن محمّد بن جعفر الحفار عن الحسن بن يحيى بن عباس القطان عن حفص بن عمرو عن سهيل بن زياد أبو زياد عن أيوب السختياني عن محمّد بن سيرين عنه.

عليه السلام: بقيت أنا وأنت يا أبا هريرة. اقعد فاشرب. فما زلت أشرب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اشرب. حتى قلت: والذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكاً. فأخذ القدح وسمّى الله تعالى / (2/148/أ) وشرب الفضلة"1. وروى هذا الحديث الجم الغفير والخلق الكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تلقى ذلك التابعون بإحسان ثم أخذ ذلك عنهم أكابرهم الأعلام من المسلمين. فمن نازع في هذه الآيات البيّنات وتوقف في شيء منها من أهل الكتاب. قلنا له: بأي وجه ثبت عندك أن موسى أطعم قومه في البرية مَنّاً وسلوى2، وأطعم المسيح أصحابه ومن حضر إليه من أهل القرى خبزاً وسمكاً وهم الجمع الكبير من سمك وخبز يسير فأشبعهم وفضلت فضلة كبيرة3، وبارك إلياس على دقيق الإسرائيلية فقام بها وبجيرانها ثلاث سنين. و [أشهرا] 4؟. فإذا فزع إلى الروايات والأخبار الصحيحة عنده. قيل له: قد أجبت نفسك عنا وكفيتنا مؤنة الجواب. فإن رام قدحاً في أخبارنا لم ينفك من عكس ذلك عليه. 6- معجزة: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم كلام الحجر والشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابة داعيه صلى الله عليه وسلم. قال ابن عمر: "كنا معه في سفر فدنا أعرابي فقال: يا أعرابي / (2/148/ب) إلى أين تريد؟ فقال: إلى أهلي. قال: هل أدلك

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب 17. (ر: فتح الباري 11/281) . والترمذي 4/559، والحاكم 3/15، وأبو نعيم ص 422، والبيهقي 6/101، 102. 2 سفر الخروج، الإصحاح (16) . 3 متى 14/13، مرقص 6/30-44، لوقا 9/10-17، يوحنا 6/1-11. 4 سفر الملوك الأوّل؛ الإصحاح (17) .

على خير؟ قال: وما هو خير؟ قال: تشهد1 أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله2. قال: من يشهد لك على ما تقول؟ قال: هذه الشجرة السَّمُرة3 التي بشاطئ الوادي. فأقبلت السَمّرة تخد الأرض حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت لله ولرسوله ثم رجعت إلى مكانها"4. وقال بريدة5: "سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، فقال: قل لتلك الشجرة رسول الله يدعوك. قال: ففعل. فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها ثم جاءت تخد الأرض حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: السلام عليك يا رسول الله، فقال الأعرابي: مرها فلترجع إلى موضعها. فأمرها فرجعت حتى استوت بمكانها كما كانت. فقال الأعرابي: مرني أن أسجد لك. فأبى عليه السلام فقال: ائذن لي في تقبيل يدك ورجليك. فأذن له صلى الله عليه وسلم "6.

_ 1 في م (أشهد) , وفي ص (أشهر) ، والصواب ما أثبتّه. 2 في الشفا 1/573: "وأن محمداً عبده ورسوله". 3 السَّمُرة: ضرب من شجر الطلح. جمعه: السَّمر. (ر: النهاية 2/399) . 4 أخرجه الدارمي في المقدمة 1/9، والبيهقي في الدلائل 6/14، والبزار في مسنده. (ر: كشف الأستار 3/143) ، كلهم من طريق محمّد بن فضيل عن أبي حيان عن عطاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. قال السيوطي في المناهل ص 124: "الحديث أخرجه الدارمي والبيهقي والبزار بسند صحيح. قلت: هو حديث معل. ذكره ابن أبي حاتم في العلل 2/392، وقال: إن أباه قال: أنا أنكر هذا؛ لأن أبا حيان لم يسمع عن عطاء ولم يرو عنه وليس هذا الحديث من حديث عطاء". 5 بريدة بن الحصيب، أبو سهل الأسلمي، الصحابي المعروف. 6 أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 390، والبزار في مسنده (ر: كشف الأستار 3/132) ، كلاهما من طريق حيان بن عليّ عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه، قال: ... فذكره. قال الهيثمي في المجمع 9/13، ورواه البزار وفيه صالح بن حيان وهو ضعيف. قلت: وهو كما قال الهيثمي. فقد قال الحافظ في التقريب 1/358: "صالح بن حيان القرشي. ضعيف من السادسة".

وفي الصحيح عن جابر بن عبد الله في حديثه الطويل: "ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/149/أ) يقضي حاجته فلم يجد شيئاً يستتر به فإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فأخذ بغصن من إحدى الشجرتين، وقال: إنقادي بإذن الله. فانقادت معه كالبعير الذلول وفعل بالأخرى مثل ذلك، ثم قال: التئما عليّ بإذن الله. فالتأمتا1 - وفي [رواية] 2 أخرى - قال يا جابر اذهب فقل لهذه الشجرة تلحق بصاحبتها. [فزحفت الشجرة] 3 حتى لحقت بأختها فجلس خلفها فقضى حاجته"4. وكذلك حكى أسامة بن زيد عن النخلات والحجارة وأنه دعاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلن يتعادين حتى قضى عليه السلام حاجته ثم رجعن يتعادين إلى أماكنهن5. وقال يعلى6 بن مرة: "رأيت شجرة من الطلح جاءت فأطافت برسول الله

_ 1 الرواية الأولى، أخرجها مسلم 4/2306-2309، والبيهقي في الدلائل 6/107، في سياق طويل. 2 ليست في ص، م. وأضيفت من الشفا 1/575. 3 في ص، م: (فخرجت الشجرة تحصر) ، وصححت من الشفا 1/575. 4 أما الرواية الأخرى؛ فقد أخرجها البيهقي في الدلائل 6/18، 19، من طريق إسماعيل بن عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، في سياق طويل. وأخرجه بهذا الإسناد أبو داود في سننه 1/17، وابن ماجه (ر: صحيح سنن ابن ماجه 1/60، للألباني) ، مختصراً. ولم يذكرا قصة انقياد الشجرتين لأمره صلى الله عليه. ولا قصة سجود الجمل له صلى الله عليه. وقال الشيخ الألباني: صحيح. 5 أخرجه أبونعيم في الدلائل ص393،والبيهقي في الدلائل6/24،25،كلاهمامن طريق معاوية بن يحيى الصدفي عن الزهري عن خارجة بن يزيد عن أسامة بن زيد رضي الله عنه. وذكره السيوطي في الخصائص 2/60، وعزاه أيضاً إلى أبي يعلى وقال: حسنه ابن حجر في المطالب العالية، وبمثل ذلك ذكره السيوطي في المناهل ص 124. 6 يعلى بن مرة الثقفي رضي الله عنه، أبو المرازم، شهد خيبر وبيعة الشجرة والفتح. يعد في الكوفيين. وقيل: إنه بصري. له ستة وعشرون حديثاً. (ر: الاستيعاب 4/1587، الإصابة 6/353) .

صلى الله عليه وسلم ثم رجعت إلى منبتها فقال عليه السلام: "إنها استأذنت في السلام عليّ"1. روى هذه المعجزات جماعة من علماء الصحابة وزهادهم كعبد الله ابن عمر وبريدة وجابر وابن مسعود2 ويعلى بن مرة وأسامة بن زيد3 وأنس بن مالك4 وعليّ بن أبي طالب5 وابن عباس6 / (2/149/ب) وغيرهم7. وتلقى ذلك عنهم الجم الغفير والخلق الكثير من التابعين.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده4/173،وعنه أبو نعيم في الدلائل، ص: 382، 391، والبيهقي في الدلائل6/23،كلهم من طريق عبد الرزاق، ثنامعمر عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حفص عن يعلى بن مرة الثقفي، قال: ... ، فذكره في سياق طويل. وذكره الهيثمي في: مجمع الزوائد 9/9، وقال: "رواه أحمد بإسنادين والطبراني بنحوه، وأحد إسنادَى أحمد رجاله رجال صحيح". قلت: للحديث متابعات ذكرها الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/795-797، رقم الحديث: 485، وقال: "فالحديث بهذه المتابعات جيد". 2 حديث ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه البيهقي في الدلائل 6/20، وذكره الهيثمي في المجمع 9/12، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار بنحوه - وذكر له زيادة - ثم قال: رواه البزار بنحوه وفي إسناد الأوسط رفعة بن صالح وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله حديثهم حسن وأسانيد الطريقين ضعيفة". وقال السيوطي في المناهل ص 124،: "أخرجه البيهقي والطبراني بسند حسن". 3 تقدم تخريج أحاديث ابن عمر وبريدة وأسامة - رضي الله عنهم -. (ر: ص: 848، 849، 850) . 4 حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أخرجه البيهقي في الدلائل 2/154، وذكره السيوطي في الخصائص 1/202، وعزاه أيضاً إلى ابن أبي شيبة وأبي يعلى والدارمي وأبي نعيم من طريق الأعمش عن أبي سفيان عنه. 5 حديث علي رضي الله عنه سيأتي تخريجه. (ر: ص: 756) . 6 حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أخرجه الترمذي 5/544، والحاكم 2/620، والبيهقي في الدلائل 6/15. قال الترمذي: "حديث حسن غريب صحيح". وقال الحاكم: "على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. 7 روى هذه المعجزة أيضاً عمر بن الخطاب، وذكر حديثه الهيثمي في المجمع 9/12/ وقال: رواه البزار. (ر: كشف الأستار3/133) ، وأبو يعلى وإسناد أبي يعلى حسن. ورواه أيضاً غيلان بن سلمة الثقفي. وعبادة بن الصامت، وأبو أمامة، وجابر بن سمرة - رضي الله عنهم أجمعين -. وأخرج أحاديثهم أبو نعيم في الدلائل ص 391، 392، 395، 397.

قال الأستاذ الإمام ابن1 فورك - رحمة الله عليه -: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم [سائر] 2 ليلاً [في غزوة الطائف] 3 اعترضت له سدرة فانفرجت له نصفين فدخل بينهما ومَرَّ وبقيت السدرة على حالها إلى يوم الناس هذا، وذلك بالطائف وهي الآن تعرف بسدرة النبي صلى الله عليه وسلم يحترمها الناس"4. فإن ارتاب بشيء من هذه الآيات يهودي أو نصراني فيقال له: ألست زعمت أن موسى عليه السلام أقام عصاه في قبة الزمان بين عصي قومه فأخضرت وذلت أغصاناً وورقاً وأثمرت لوزاً5؟! ألست زعمت في إنجيلك أن المسيح أتي شجرة تين وهو وأصحابه ليصيبوا منها فلما لم يجد فيها ثمرة دعا عليها فيبست وجفت لوقتها وساعتها وصارت جذعاً يابساً؟ 6 فما طريقك في تصحيح ماادعيته بعد ألفي عام؟ فإنه كلمارضي جواباًخُصم به. 7- معجزة: ومن معجزاته عليه السلام حنين الجذع وهو مشهور معروف وحديثه متواتر، قد خرجه أهل الصحيح ورواه الأكابر / (2/150/أ) من أصحابه منهم: أُبَيُّ7 بن كعب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك

_ 1 هو: محمّد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني الشافعي أبو بكر، عالم بالأصول والكلام، من أئمة الأشاعرة، مات مسموماً سنة 406هـ. على مقربة من نيسابور. (ر: طبقات الشافعية 4/127-135، وفيات الأعيان 3/402، الأعلام 6/83، للزركلي) . 2 في ص، م (سائراً) والصواب ما أثبتّه. 3 هذه الإضافة من الشفا 1/578. 4 لم يخرجه السيوطي في المناهل ص 125، وقال القاري في شرحه للشفا 3/55،: "ولعلها كانت في زمانهم، وأما في زماننا فليست مشهورة". اهـ. قلت: ذكره الماوردي في أعلام النبوة ص 193، بلا إسناد. 5 سفر العدد 17/7، 8. 6 متى 21/19-20، مرقص 11/13، 14. 7 حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أخرجه عبد الله بن حنبل عن أبيه في المسند 5/137، وعنه أبو نعيم في الدلائل ص 401، وابن ماجه (ح: 1414) ، والدارمي 1/17، والبيهقي في الدلائل 6/67، كلهم من طريق عبد الله بن محمّد بن عقيل عن الطفيل ابن أبي بن كعب عن أبيه. وأورده الهيثمي في المجمع 2/183، وقال: "رواه ابن ماجه باختصار رواه عبد الله من زياداته في المسند وفيه رجل لم يُسَمَّ، وعبد الله بن محمّد بن عقيل فيه كلام وقد وثق". اهـ. قال الشيخ الألباني: "حديث حسن". (ر: صحيح ابن ماجه 1/238) .

وعبد الله1 بن عمر وعبد الله2 ابن عباس وسهل بن [سعد] 3 وأبو سعيد4 الخدري وبريدة5 وأم سلمة6 والمطلب بن أبي7 وداعة [كلهم يحدّث بمعنى هذا الحديث] 8.

_ 1 حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أخرجه البخاري في كتاب المناقب. (ر: فتح الباري6/601) ، والترمذي في كتاب الجمعة2/379، والبيهقي في الدلائل6/66. 2 حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجه أحمد 1/249، والدارمي 1/19، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/798، والبيهقي في الدلائل 2/558، كلهم من طريق حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عنه. قال الإمام اللالكائي: إسناد صحيح على شرط مسلم يلزمه إخراجه. ووافقه الإمام ابن كثير في الشمائل ص 246، 247. 3 في ص، م: (سهل بن عبد الله) ، وهو خطأ وصححته من الشفا 1/582. وحديث سهل بن سعد رضي الله عنه أخرجه أبو نعيم ص 403، والبيهقي 2/559، كلاهما في الدلائل من طريق عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه رضي الله عنه. قلت: عباس بن سهل بن سعد، ثقة. من الرابعة. (ر: التقريب 1/397، وأصل حديث سهل في البخاري (ر: فتح الباري 2/397) ، ومسلم 1/386، ولم يذكرا فيه معجزة حنين الجذع. 4 حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه الدارمي 1/18، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/801، وأبو نعيم ص 402، كلهم من طريق أبي أسامة عن مجالد عن أبي الوداك عنه. وأورده الهيثمي في المجمع 2/183، 184، وقال: "رواه أبو يعلى وفيه مجالد بن سعيد وقد وثقه جماعة وضعّفه آخرون". اهـ. وقال ابن كثير: إسناده غريب. (الشمائل، ص: 250) . 5 بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، الصحابي المعروف وأخرج حديثه في حنين الجذع الدارمي في سننه 1/16، عن محمّد بن حميد عن تميم بن عبد المؤمن عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه. قلت: في إسناده صالح بن حيان القرشي، وهو ضعيف. وقد تقدم. (ر: ص: 554) . 6 حديث أم سلمة رضي الله عنها، أخرجه أبو نعيم. (ر: الشمائل ص 250، لابن كثير) والبيهقي في الدلائل 2/563، كلاهما من طريق عمار الدهني عن أبي سلمة عبد الرحمن عن أم سلمة. وأروده الهيثمي في المجمع 2/186، وقال: "رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون. وقال ابن كثير: إسناده جيد ولم يخرجوه". اهـ. 7 المطلب بن أبي وداعة القرشي السهمي رضي الله عنه أسلم يوم الفتح، ثم نزل الكوفة، ثم نزل بالمدينة وله بها دار وبقي فيها دهراً. وله من الأحاديث تسعة أحاديث. (ر: الاستيعاب 3/1402) ، الإصافة (6/104، 105) ، وأما حديثه في حنين الجذع، فقد قال السيوطي: "أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة". (ر: المناهل ص 126، الخصائص 2/128) . 8 هذه الإضافة من الشفا 1/582.

قال الترمذي: "وحديث أنس صحيح". قال جابر1: "كان في المسجد جذع من النخل كان عليه السلام يقوم إليه في خطبته فلما اتّخذ له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار2 - وفي رواية أنس3 - حتى ارتج المسجد بخواره فكثر بكاء الناس لما رأوه - وفي رواية المطلب - حتى تصدع وانشق - فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت. فقال عليه السلام: إن هذا بكى لما فقد من الذكر، فوالذي نفسي بيده لولا ما التزمه لم يزل هكذا. تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به صلى الله عليه وسلم فدفن تحت المنبر"4. وحكى الإسفراييني5: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى نفسه فجاء يخرق الأرض فالتزمه ثم أمره فعاد إلى مكانه6.

_ 1 حديث جابر رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/601، وأبو نعيم ص 400، والبيهقي 6/66، كلاهما في الدلائل. 2 العشار: جمع عُشرَاء. وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر ثم اتّسع فيه فقيل لكل حامل: عُشراء. وأكثر ما يطلق على الخيل الإبل. (ر: النهاية 3/240، فتح الباري 2/400) . 3 حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أخرجه الترمذي 5/554، والدارمي 1/19، وأبو يعلى (ر: الشمائل ص 240، لابن كثير) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/198، والبيهقي في الدلائل 2/558، من طريق عمر بن يونس عن مكرمة بن عمار بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عنه. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال اللالكائي: "إسناده صحيح على شرط مسلم يلزمه إخراجه". اهـ. 4 قال في الشفا 1/583،: "كذا في حديث المطلب وسهل بن سعد وإسحاق عن أنس". اهـ. 5 هو: إبراهيم بن محمّد الإسفراييني الشافعي، أبو إسحاق، الفقيه، المتكلم، الأصولي، بنى مدرسة بنيسابور، توفي سنة 418هـ. ودفن في إسفراييني. (ر: طبقات الشافعية 3/111، سير أعلام النبلاء 17/353، الأعلام 1/61، للزركلي) . 6 قال الخفاجي في نسيم الرياض شرح الشفا 3/62: "وهذه زيادة منه، لا يقال مثلها من قبل الرأي، وهو إمام ثقة، على أن هذا رواه الإمام البيهقي في دلائله والحافظ أبو القاسم في تاريخه عن العباس كما في الشرح الجديد، ولو وقف عليه المصنّف عزاه له". اهـ. قلت: لم يوه الإمام البيهقي في دلائله، وهذه الرواية التي حكاها الإسفراييني تخالف الروايات الصحيحة الأخرى التي أجمعت على أن الرسول صلى الله عليه هو الذي ذهب إلى الجذع فاحتضنه أو مسح عليه. علماً بأن القصة واحدة لم تتكرر، فلعلّ الإسفراييني اختلط عليه حديث حنين الجذع مع حديث استجابة الشجرة لدعوته صلى الله عليه وإقبالها عليه وقد تقدم. والله أعلم.

وكان الحسن البصري / (2/150/ب) إذا حدَّث بحديث الجذَع بكى وقال: "يا عبد الله الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً لمكانه من الله فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إليه"1. روى حديث الجذع عالم كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاه التابعون بإحسان وهو من الأحاديث الصحيحة المستفيضة2. 8- معجزة: ومن معجزاته عليه السلام تسبيح الطعام بين يديه صلى الله عليه وسلم قال الصحابة: "لقد كنا نسمع تسبيح الطعام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤكل"3. 9- معجزة: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يده. قال أنس: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من حصى فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في يد أبي بكر فسبحن"4.

_ 1 أخرجه البغوي. (ر: الشمائل ص 241، لابن كثير) ، وعنه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/799، والبيهقي في الدلائل 2/559، كلاهما من طريق مبارك بن فضالة. قال: حدّثنا الحسن البصري عن أنس رضي الله عنه. قلت: إسناده صحيح. فقد صرح مبارك السماع. (ر: التهذيب 10/27، والتقريب 2/227) . 2 قال الحافظ في الفتح 6/592: "فإن حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كلاً منهما نقلاً مستفيضاً، يفيد القطع عند من يطلع على طرق ذلك من أئمة الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة في ذلك" اهـ. وبمثل ذلك قال الإمام ابن كثير في الشمائل ص 239، 251. 3 أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/587) ، والترمذي 5/557، والدارمي 1/14، 15، وأبو نعيم في الدلائل ص 406، والبيهقي في الدلائل 6/62، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. 4 أخرجه ابن عساكر. (ر: تهذيب تاريخ ابن عساكر 1/108، الخصائص 2/125، للسيوطي) ، والماوردي في أعلام النبوة ص 194، عن ثابت عن أنس رضي الله عنه. وله شاهد من حديث أبي ذرٍ رضي الله عنه. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط 2/142، وأبو نعيم في الدلائل 432، والبزار. (ر: كشف الأستار 3/136) . كلهم من طريق الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير الخضرمي عنه. وأورده الهيثمي في: مجمع الزوائد 8/302، وقال: "رواه البزار بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم ضعف". قلت: رجال الإسناد السابق ثقات، وإسناده صحيح متصل. (ر: التقريب 2/334، 1/126) . أما الإسناد الآخر الذي فيه ضعف فقد أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/806، والبزار. (ر: كشف الأستار 3/135) ، وأبو نعيم ص 432، والبيهقي 6/64، كلاهما في الدلائل كلهم من طريق قريش بن أنس عن صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سويد به. قال البزار: "صالح لين الحديث"، وقال البيهقي: "وصالح لم يكن حافظاً". وقال الحافظ ابن حجر: "ضعيف يعتبر به". (ر: التقريب 1/358) ، إذن الإسناد يزيد الحديث قوة إلى الإسناد السابق. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 6/592: "وأما تسبيح الحصى فليست له إلاّ هذه الطريق الواحدة مع ضعفها". اهـ. قلت: وما أوتينا من العلم إلاّ قليلاً، فهذا ذهول منه رحمه الله تعالى السند الآخر الصحيح كما سبق بيانه. والله أعلم.

وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "كنا بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلاّ قال: السلام عليك يا رسول الله"1. وقال جابر بن عبد الله: / (2/151/أ) "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ سجد له صلى الله عليه وسلم" 2. وفي حديث العباس: "إذ3 اشتمل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته بملاءة

_ 1 أخرجه الدارمي في المقدمة 1/12، والترمذي 5/553، والحاكم 2/620، وأبو نعيم في الدلائل ص 389، كلهم من طريق الوليد بن أبي ثور عن السدي عن عباد ابن أبي يزيد عن عليّ رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث غريب. وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. قلت: هذه غفلة من الحاكم والذهبي رحمهما الله. والصواب ما قاله الترمذي. فإن الوليد بن عبد الله بن أبي ثور الهمذاني، وينسب إلى جده، ضعيف، يكتب حديثه ولا يحتج به. (ر: الجرح والتعديل 9/2، التقريب 2/333) . وفي إسناده أيضاً عباد بن أبي يزيد أو ابن يزيد الكوفي، مجهول. (ر: التقريب 1/394) . 2 أخرجه أبو نعيم ص 443، والبيهقي 6/69، كلاهما في الدلائل من طريق مالك بن إسماعيل أبو غسان عن إسحاق ابن الفضل عن الغيرة بن عطية عن أبي الزبير به. قلت: له شاهد من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم 4/1782، وأحمد 5/89، 95، الترمذي 5/553، والدارمي 1/12. 3 في م: إذا.

ودعا لهم بالستر من الناس كستره إيّاهم بملاءته. فأمّنت أسكفة الباب وجدران البيت: آمين آمين"1. 10- ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم اضطراب الجبل لهيبته وسكونه بأمره. [عن أنس] 2: "صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان [أُحداً] 3 فرجف بهم فقال عليه السلام: اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصدِّيق وشهيدان. فقتل عمر وعثمان"4. ومثل ذلك عن أبي هريرة: "في حراء [- وزاد - معه عليّ] 5 وطلحة والزبير، فقال عليه السلام اسكن حراء فإنما عليك نبيّ أو صدِّيق أو شهيد"6. شاهد7 ذلك رواه جماعة من أعيان الصحابة ومشاهير الأمة.

_ 1 أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 432، 433، والبيهقي في الدلائل 6/71، كلاهما من طريق محمّد بن يونس الكديمي ثنا عبد الله بن عثمان بن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص ثنا مالك بن حمزة عن أبيه عن أبي أسيد الساعدي البدري رضي الله عنه. وأخرج ابن ماجه في كتاب الأدب. (ر: ضعيف ابن ماجه ص 299) ، طرفاً عن طريق أبي إسحاق الهدوي عن عبد الله بن عثمان به. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد /273، وقال: "روى ابن ماجه بعضه في الأدب ورواه الطبراني وإسناده حسن". قلت: إسناده ليس بحسن، ففيه ضعيف مجهول. فإن محمّد بن يونس الكديمي أبو العباس السامي، ضعيف. ولم يثبت أن أبا داود روى عنه. (ر: التقريب 2/222) ، وعبد الله بن عثمان بن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص المدني. مستور. من التاسعة. (ر: التقريب 1/432) . 2 هذه الإضافة من الشفا 1/590. 3 في ص، م (أحد) والصواب ما أثبتّه. 4 أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب (5) . (ر: فتح الباري 7/22) ، والترمذي 5/583، وأبو داود 4/212، وأحمد في مسنده 5/331، 346، والبيهقي في الدلائل 6/350، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه. 5 هذه الإضافة من الشفا 1/591. 6 أخرجه مسلم 4/1880، والترمذي 5/582، البيهقي في الدلائل 6/352. وله شاهد من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه. أخرجه أبو داود 4/211، والترمذي 5/609، وأبو نعيم في الدلائل ص 430، وقال الترمذي: "حسن صحيح". 7 ليست في م.

11- معجزة: قال ابن عمر: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} . [سورة الزمر، الآية: 67] . ثم قال: يمجد الجبار نفسه فيقول: أنا الجبار أنا الكبير المتعال....، قرجف المنبر حتى قلنا: ليخرن عنه"1. 12- معجزة: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم / (2/151/ب) سقوط الأوثان بإشارته. قال ابن عباس: "كان حول البيت ثلاثمائة وستّون صنماً مثبتة الأرجل بالرصاص، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح جعل يشير إليها2 بقضيب كان في يده ولا يمسّها، ويقول: {وَجَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} . [سورة الإسراء، الآية: 81] . فما أشار إلى وجه صنم إلاّ وقع لقفاه، ولا لقفاه إلاّ وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم"3. ومثله في حديث ابن مسعود4.

_ 1 أخرجه مسلم 4/2148، 2149، وأحمد في مسنده 2/72، 88، وابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 1/39) ، وابن أبي عاصم في السنة 1/240. 2 في م: إليهما. 3 أخرجه أبو نعيم في 519، 520، والبيهقي 5/71، 72، كلاهما في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عليّ بن أبي بكر عن عليّ بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وتابع عليّاً عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، أخرجه ابن هشام. (ر: السيرة 4/84) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/179، وقال: "رواه الطبراني ورجاله ثقات، ورواه البزار باختصار". اهـ. قلت: للحديث شواهد منها: حديث ابن عمر رضي الله عنه أخرجه ابن حبان. (ر: الموارد ص 416) ، وأبو نعيم ص 519، والبيهقي 5/72، كلاهما في الدلائل. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم 3/1405، 1406. 4 وحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب (48) . (ر: فتح الباري8/15،16) ، ومسلم 3/1408، والبيهقي في الدلائل5/71.

13- معجزة: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم سجود الأشياء له. قال بحيرا1 الراهب حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا سيّد العالمين يبعثه الله رحمةً للعباد، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك بذلك يا بحيرا؟ فقال: إنه لم يبق شجر ولا [حجر] 2 إلاّ سجد له وَخَرَّ بين يديه ولا يسجد إلاّ لنبيّ"3.

_ 1 بحيرا الراهب، ذكره ابن منده في الصحابة وتبعه أبو نعيم، وقصته معروفة في المغازي. وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة في (القسم الرابع فيمن ذكر في كتب الصحابة غلطاً وبيان ذلك) . ثم قال: "وما أدري أدرك البعثة أم لا؟ واختلف في أمره، فقيل: كان من يهود تيماء،.وقيل: كان نصرانياً من عبد القيس". وقال الحافظ: "إنما ذكرته في هذا القسم؛ لأن تعريف الصحابي لا ينطبق عليه. وهو: (مسلم لقي النّبيّ صلى الله عليه مؤمناً به ومات على ذلك) . فقولنا (مسلم) ؛ يخرج من لقيه مؤمناً به قبل أن يبعث كهذا الرجل". اهـ. والله أعلم. (ر: تجريد أسماء الصحابة 1/44، للذهبي، الإصابة 1/183، 184) . 2 في ص، م (مدر) ، وصححت من الشفا1/593، ومن رويات الحديث في مصادرها. 3 أخرجه ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة 1/236-239) ، والترمذي 5/550، وابن أبي شيبة 7/327، ح رقم 36540، وعنه البيهقي في الدلائل 2/24-26، وأبو نعيم ص 170-171، والحاكم 2/615-616، وعنه. وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: "أظنه موضوعاً. فبعضه باطل". كلهم من طريق قراد أبو نوح عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه رضي الله عنه. قال:.... فذكره في سياق طويل - وفيه -: "إن الراهب ناشد أبا طالب أن يرد الرسول صلى الله عليه إلى مكّة خوفاً عليه من أهل الكتاب، فلم يزل يناشده حتى ردّه وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزوده الراهب من الكعك والزيت". اهـ. قال الترمذي: "حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه". وقال الذهبي في السيرة ص 57،: "حديث منكر جدّاً، وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلاّ بعد المبعث، وأيضاً فلو أثر هذا الخوف في أبي طالب وردّه، كيف كانت تطيب نفسه أن يمكنه من السفر إلى الشام تاجراً لخديجة؟ وفي الحديث ألفاظ منكرة تشبه ألفاظ الطرقية". اهـ. بتصرف. وذكره ابن كثير في البداية 2/285-286، وتكلم على الحديث بكلام قريب من الذهبي وزاد فيه قوله: "من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة". اهـ. بتصرف. قلت: عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي، ويقال الضبِّي المعروف بقراد ثقة له أفراد. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: "كان يخطئ". وقال الدارقطني: "ثقة له أفراد". (ر: التهذيب 6/223، التقريب 1/494) .

14- معجزة: ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم إظلاله بالغمام؛ وفي الحديث1: "أنه عليه السلام أقبل وغمامة تظله من الشمس فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجر، فلما جلس مال الفيء إليه"2. "ورأت خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مع ميسرة / (2/152/أ) غلامها من الشام وغمامة تظله من حرّ الشمس"3. ومن أنكر ذلك من اليهود والنصارى ورد4 عليهم مثله في غمام موسى وعيسى، واضطرتهم الحال إلى التصديق وإلاّ شَوَّشُوا5 قواعدهم إذ طريق الثبوت واحد.

_ 1 أي: الحديث السابق الذي رواه بحيرا الراهب، وفيه ذكر سجود الشجر والحجر للنبي صلى الله عليه وإظلاله بالغمام صلى الله عليه. 2 قال الذهبي في السيرة ص 57: "أي: من الأمور المنكرة في هذا الحديث - فإذا كان عليه غمامة تظله، كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة؟ لأن ظل الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها؟!!! " اهـ. وقال ابن كثير في البداية والنهاية 2/286، في تعليقه على الحديث أيضاً: "إن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا". اهـ. مع غرابة هذا الحديث ونكارته كما تقدم من بقية كلامه فيما سبق. 3 أخرجه ابن سعد في الطبقات1/130،وعنه أبو نعيم في الدلائل ص172، من طريق محمّد الواقدي عن موسى بن شيبة عن عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك عن أم سعد بن الربيع عن نفيسة بنت أمية أخت يعلى قالت:..فذكرته في سياق طويل. وذكره السيوطي في الخصائص 1/154، 155، وعزاه أيضاً إلى ابن عساكر. (ر: تهذيب تاريخ دمشق 1/273-274) . قلت: محمّد بن عمر الواقدي، الأسلمي، المدني القاضي، متروك مع سعة علمه. (ر: التقريب 2/194، وذكره الذهبي في السيرة ص 63، 64، وقال: حديث منكر. 4 في م: (أورد) . 5 في م: (شقشقوا) .

15- معجزة: قالت عائشة: "كان عندنا داجن1 فإذا كان عندنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قَرَّ وثبت مكانه فلم يجئ ولم يذهب، وإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء وذهب"2. 16- معجزة: ومن معجزاته عليه السلام كلام العجماء وشهادتها له بالنّبوّة والرسالة؛ قال عمر: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي ومعه ضبّ قد صاده فقال: من هذا؟ قالوا: نبي الله. فقال: واللات والعزى لا آمنت بك حتى يؤمن بك هذا الضّبّ. وطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه السلام: يا ضبّ. فأجابه بلسان مبين: لبيك وسعديك يا زين مَن وافى القيامة. فقال: من تعبد؟ قال: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي البحر سبيله وفي الجنة رحمته وفي / (2/153/ب) النار عقابه. قال: فمن أنا؟ قال: رسول ربّ العالمين3 وخاتم النبييّن قد أفلح مّن صدّقك وخاب مَن كذّبك. فأسلم الأعرابي"4.

_ 1 الداجن: هي: الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم، جمعها: دواجن. والمداجنة: حسن المخالطة، وقد يقع على غير الشاء من كلّ ما يألف البيوت من الطير وغيرها. (ر: النهاية 2/102) . 2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/112، 150، 209، وأبو نعيم في الدلائل ص 380، والبيهقي في الدلائل 6/31، كلهم من طريق يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها. وأورده الذهبي في السيرة النبوية - تاريخ الإسلام - ص 249، بالإسناد السابق، قال: صحيح. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/6، 7، وعزاه أيضاً إلى أبي يعلى والبزار والطبراني في الأوسط، وقال: "رجال أحمد رجال الصحيح". وقال السيوطي في المناهل ص 129،: "وهو حديث صحيح". وعزاه أيضاً إلى الدارقطني وابن عساكر من طرق عن عائشة رضي الله عنها. (ر: الخصائص 2/105) . 3 في ص: (الله) ، وصححت من م، والشفا 1/595. 4 أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 376، 377، والبيهقي في الدلائل 6/36، 37، كلاهما من طريق محمّد بن عليّ بن الوليد السلمي البصري، ثنا أبو محمّد بن عبد الأعلى، ثنا معتمر بن سليمان، ثنا كهمس بن الحسن، ثنا داود بن أبي هند عامر الشعبي، ثنا عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهما قال:..... فذكره. قال البيهقي: "وقد رواه الحاكم في المعجزات بالإجازة عن ابن عدي الحافظ بنحو إسناده. ثم قال: وروي ذلك من حديث عائشة، وأبي هريرة، وماذكرناه هو أمثل الإسناد فيه". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/295-297، في سياق طويل، وقال: "رواه الطبراني في الصغير والإوسط عن شيخه محمّد بن عليّ بن الوليد البصري، قال البيهقي:"والحمل في هذا الحديث عليه"،قال الهيثمي: (وبقية رجاله رجال الصحيح". قلت: محمّد بن عليّ بن الوليد، قال عنه الحافظ في اللسان 5/292، صدق والله البيهقي في قوله: "الحمل في هذا الحديث على السلمي، فإنه خبر باطل، وروى عنه الإسماعيلي في معجمه وقال: بصري منكر الحديث. ولكن قال السيوطي في الخصائص2/108،:"لحديث عمر طريق آخر ليس فيه محمّد ابن الوليدأخرجه أبو نعيم، وقد وردمثله من حديث عليّ، أخرجه ابن عساكر".اهـ.

وهذا أعجب من كلام الأخرس للمسيح، إذ كلام جنس الآدمي غير بعيد بخلاف الحيوان البهيم. 17- معجزة: ومن معجزاته عليه السلام كلام الذئب. وقد جرى ذلك مراراً. قال أبو سعيد الخدري: "بينا راعٍ يرعى غنماً له إذ عرض له الذئب لشاة فانتزعها الراعي منه فأقعى1 الذئب، وقال للراعي: [ألا تتقي الله؟] 2 حلت بيني وبين رزقي. فقال الراعي: العجب من ذئب يتكلم بكلام الآدميّين. فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ رسول الله بين الحرتين يحدّث الناس بأنباء ما قد سبق، فجاء الراعي فأسلم وحدّث الناس بذلك"3. وفي طريق آخر4: "أنت أعجب مني أقمت في غنمك وتركت نبيّاً لم يبعث الله نبيّاً قط أعظم منه، قد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها ينظرون إليه وإلى أصحابه. فأسلم الراعي لذلك".

_ 1 أقعى: ألصق أسته بالأرض ونصب ساقيه وفخذيه ووضع يديه على الأرض. (ر: النهاية 4/89) . 2 هذه الإضافة من الشفا 1/595. 3 أخرجه الإمام أحمد 3/83، 84، والترمذي مختصراً 4/413، وأبو نعيم في الدلائل ص 373، والحاكم 4/467، والبيهقي في الدلائل 6/41، كلهم من طريق القاسم ابن الفضل عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:..... فذكره. قال الترمذي: "حسن غريب لا نعرفه إلاّ من حديث القاسم بن الفضل وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث وثقه يحيى القطان وابن مهدي". وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وقال البيهقي:"هذا إسناد صحيح وله شاهدمن وجه آخرعن أبي سعيدالخدري رضي الله عنه". وقال الشيخ الألباني في تخريج الحديث: "وهذا سند صحيح، رجاله ثقات، رجال مسلم غير القاسم هذا، وهو ثقة اتفاقاً". (ر: سلسلة الأحاديث الصحيحة1/191) . 4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/306، بنحوه، وأبو نعيم في الدلائل ص 374، كلاهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الأشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/295، وقال: "رواه أحمد ورجاله ثقات". وقال السيوطي في المناهل ص 130،: "أخرجه أحمد بسند جيد". وفي الخصائص 2/102: "أخرجه أحمد وأبو نعيم بسند صحيح".

وفي طريق آخر1: "أنت أعجب مني أقمت في غنمك وتركت نبيّاً لم يبعث الله نبيّاً قط أعظم منه، قد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها ينظرون إليه وإلى أصحابه. فأسلم الراعي لذلك". وقال صفوان2 بن أمية وأبو3 سفيان بن حرب: رأينا ذئباً يطرد ظبياً فدخل الظبي الحرم فانصرف الذئب / (2/153/أ) قال: فعجبنا من ذلك. فقال الذئب: أعجب من ذلك محمّد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار. فقال أبو سفيان: "واللات والعزى لإن ذكرت هذا بمكة لتتركنها خلوفاً4.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/306، بنحوه، وأبو نعيم في الدلائل ص 374، كلاهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الأشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/295، وقال: "رواه أحمد ورجاله ثقات". وقال السيوطي في المناهل ص 130،: "أخرجه أحمد بسند جيد". وفي الخصائص 2/102: "أخرجه أحمد وأبو نعيم بسند صحيح". 2 صفوان بن أمية الجحمي رضي الله عنه، أسلم بعد عزوة حنين، له ثلاثة عشر حديثاً. 3 هو: صخر بن حرب بن أمية القرشي رضي الله عنه، مشهور باسمه وكنيته. أسلم يوم الفتح، له حديث واحد. 4 هذا الخبر لم يخرجه السيوطي في المناهل ص 130.

18- معجزة: قال أنس بن مالك1: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر حائط رجل من الأنصار وفيه غنم فسجدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: نحن أحقّ بالسجود لك منها يا رسول الله"2. وقال أبوهريرة: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً، فجاء بعير فسجدله"3.

_ 1 أخرجه أبو محمّد عبد الله بن حامد الفقيه في دلائل النبوة. (ر: الشمائل ص 273، والبداية 6/160، كلاهما لابن كثير) . وأبو نعيم في الدلائل ص 379، كلاهما من طريق إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن عباد بن يوسف الكندي عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ... فذكره. قال ابن كثير بعد ذكره الحديث: "غريب وفي إسناده من لا يعرف". قلت: في إسناده أبو جعفر الرازي وهو: عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان، صدوق، سيّء الحفظ، من كبار السبعة، مات في حدود الستّين. قال ابن حبان: "كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير لا يعجبني لاحتجاج بحديثه إلاّ فيما وافق الثقات". (ر: التهذيب 12/59، التقريب 2/406) . والربعي بن أنس البكري أو الحنفي، صدوق له أوهام، رمي بالتشيع، من الخامسة مات سنة أربعين أو قبلها. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: "الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه لأن في أحاديث عنه اضطراباً كثيراً". (ر: التهذيب 3/207، التقريب 1/243) . فإسناده ضعيف لرواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس. والله أعلم. 2 تتمة الحديث: "فقال: "إنه لا ينبغي من أمتي أن يسجد لأحد، ولو كان ينبغي أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". وذكره أيضاً الماوردي في أعلام النبوة ص 188) . 3 أخرجه البزار. "ر: كشف الأستار 3/150) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه دخل حائطاً فجاء بعير فسجد له، فقالوا: نحن أحقّ أن نسجد لك. فقال: لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/7، وقال: "رواه البزار - وروى الترمذي طرفاً من آخره: "لو أمرت أحداً ... إلى آخره - وإسناده حسن"، ووافقه السيوطي في المناهل ص 131.

وقال ثعلبة بن مالك1، وجابر ابن عبد الله2، ويعلى بن مرة3، وعبد الله بن جعفر4، وعبد الله5 بن أبي أوفى: "كان ببعض حيطان المدينة جمل لا يدخل أحد الحائط إلاّ شدّ عليه الجمل، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه

_ 1 حديث ثعلبةبن أبي مالك، أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص382،عن أبي بكربن خلاد عن أحمدبن إبراهيم بن ملحان عن يحيى بن بكيرعن الليث بن سعد عن أبي الهاد عنه. قلت: رجاله ثقات، إلاّ أن يعلبة بن أبي مالك القرظي، إمام بني قريظة، مختلف في صحبته. قال ابن معين: "له رؤية". وقال ابن حبان: "هو من ثقات التابعين". وقال أبو حاتم: "هو تابعي وحديثه مرسل". وقال الذهبي: "له رؤية وطال عمر له حديثان مرسلان". وقال الحافظ: "حديثه عن عمر في صحيح البخاري ومن يقتل أبوه بقريظة، ويكون هو بصدد من يقتل لولا الإنبات. لا يمتنع أن يصح سماعه فلهذا الاحتمال ذكرته في الإصابة". اهـ. (ر: التجريد1/69،الجرح والتعديل2/463، التقريب1/119، الإصابة 1/209) . 2 أخرجه أحمد 3/310، وعنه أبو نعيم في الدلائل ص 380، والدارمي 1/11، وابن أبي شيبة في مصنفه 6/315، كلهم من طريق الأجلح عن ذيال بن حرملة عن جابر رضي الله عنه، قال: ... فذكره بلفظ المؤلِّف. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/10، وقال: "رواه أحمد ورجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف". قلت: له وجه آخر صحيح من طريق إسماعيل بن عبد الملك عن أبي الزبير عنه". أخرجه البيهقي في الدلائل6/18،في سياق طويل، وقد تقدم تخريجه. (ر: ص: 750) . 3 حديث يعلى بن مرة عن أبيه في سياق طويل، أخرجه أحمد في مسنده 4/172، والحاكم 2/617، وعنه البيهقي في الدلائل 6/20، كلهم من طريق الأعمش عن المنهال بن عمرو عنه عن أبيه. قال الحاكم: "صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي. وللحديث عدة طرق ذكرها الإمام ابن كثير في الشمائل ص 263-267، وقال: "فهذه طرق جيدة متعددة تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة". اهـ. 4 حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أخرجه أبو داود 3/23، وابن أبي شيبة 6/321، والبيهقي في الدلائل 6/26، كلهم من طريق مهدي بن ميمون عن محمّد أبي يعقوب عن الحسن بن سعد عنه. وأخرجه مسلم بالإسناد نفسه 1/268، إلاّ أنه لم يذكر فيه سجود الجمل للنبي صلى الله عليه. 5 حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، أخرجه أبو نعيم ص 384، والبيهقي 6/29، كلاهما في الدلائل من طريق فائد أبي الورقاء عنه. قلت: فائد بن عبد الرحمن، أبو الوفاء العطار، متروك، من صغار الخامسة. (ر: التقريب 2/107) .

فوضع الجمل. مشفره في الأرض وبرك بين يديه فخطمه، وقال: ما بين السماء والأرض شيء إلاّ ويعلم أني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ عاصي الجنّ والإنس". 19- معجزة: روى الإسفرائيني: أن العضْبَاء1 ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/ 153/ب) بعد وفاته لم تأكل ولم تشرب ثم ماتت غما عليه صلى الله عليه وسلم 2. وروى أن يعفور حماره بعد وفاته جاء إلى بئر فردَّى نفسه فيه فهلك3.

_ 1 قال ابن الأثير: "هو علم لها منقول من قولهم: ناقة عضباء، أي: مشقوقة الأذن. ولم تكن مشقوقة الأذن. - وقال بعضهم: إنها كانت مشقوقة الأذن، والأوّل أكثر. وقال الزمخشري: هو منقول من قولهم: ناقة عضباء، وهي: القصيرة اليد". (انظر: النهاية 3/251) . 2 ورد النّصّ في الشفا 1/601، كالآتي: "وفي قصة العضباء وكلامها للنبي صلى الله عليه وتعريفها له بنفسها ومبادرة العشب إليها في الرعي وتجنب الوحوش عنها وندائهم لها: إنك لمحمّد..، وأنها لم تأكل ولم تشرب بعد موته حتى ماتت، ذكره الإسفرائيني". اهـ. قلت: لم يخرجه السيوطي في مناهل الصفا ص 131، وقال الخفاجي في نسيم الرياض 3/82: "وهذا الحديث لم يخرجوه ولا يعرف من رواه". وقال القاري في شرحه للشفا: "قال الدلجي: وأما قصة العضباء فلم أدرِ من رواها". 3 أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات 1/293، 294، والسيوطي في اللآليء المصنوعة 1/276، وذكره ابن عراق في تنْزيه الشريعة 1/326، من حديث أبي منظور - وكانت له صحبه - في سياق طويل. وقال رواه ابن حبان من طريق محمّد بن مزيد أبي جعفر مولى أبي هاشم. وقال: "لا أصل له". وقال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع، فلعن الله واضعه، فلأنه لم يقصد إلاّ القدح في الإسلام والاستهزاء به". اهـ. وأخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 386، مختصراً من طريق عبد الله بن أذنية الطائي عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. قلت: عبد الله بن أذنية، قال عنه ابن حبان: "حدثّنا جمزة بن داود، ثنا إسماعيل بن عيسي بن زاذان الأيلي، ثنا عبد الله بن أذينة، بنسخة لا يحل ذكرها إلاّ على سبيل القدح"، وقال ابن عدي: "هو عبد الله بن عطارد بن أذنية الطائي بصري منكر الحديث"، وقال الحاكم والنقاش: "روى أحاديث موضوعة". وقال الدارقطني: "متروك الحديث". (ر: اللسان 3/257) .

20- معجزة: روى ابن وهب: أن حمام الحرم أظلت رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح عند دخوله مكّة فدعا لها بالبركة1. 21- معجزة: [عن عبد الله بن قرط] 2 قال: قُرِّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ستّ في يوم عيد لينحرهن فازدلفن إليه بأيّهن يبدأ صلى الله عليه وسلم3. الباب العاشر: في البشائر الإلهيّة بالعزّة المحمّديّة 22- معجزة: قالت أم [سلمة] 4: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحراء إذ نادته ظبية: يا رسول الله! قال: ما حاجتك؟ قالت: صادني هذا الأعرابي ولي خشفان5 في ذلك الجبل أرضعهما وأرجع. قال: أو تفعلين؟ قالت: نعم. فأطلقها فذهبت ورجعت فانتبه الأعرابي وأسلم وخلَّى عن الظبية فخرجت تعدو في الصحراء وهي تقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنك رسول الله"6.

_ 1 لم يخرجه السيوطي في مناهل الصفا ص 131. وقال الخفاجي في نسيم الرياض 3/82، 83،: "وهذا الحديث لم يخرجوه". وقال القاري في شرحه للشفا: "قال الدلجي: "وأما قصة العضباء فلم أدر من رواها ولا حديث حمام مكة". 2 في ص، م: (روى ابن وهب) . وهو خطأ من الناسخ حيث كرر ما قبله، والتصويب من الشفا 1/602. وهو: عبد الله بن قرط الأزدي الثمالي، قال البخاري وأبو حاتم وابن حبان: "له صحبة، شهد اليرموك واستعمله أبو عبيدة على حمص في عهد عمر، وكان على حمص في خلافة معاوية واستشهد بأرض الروم سنة 56هـ". (ر: الاستيعاب 3/978، الإصابة 4/118، 119) . (3) أخرجه أبو داود 2/148، وابن حبان. (ر: الموارد ص 258) ، والحاكم 4/221، كلهم من طريق ثور عن راشد بن سعد عن عبد الله بن عامر بن لحي عن عبد الله ابن قرط (. قال الحاكم: ((صحيح الإسناد ولم يخرجاه)) . ووافقه الذهبي. قلت: وهو كما قال الحاكم. 4 في ص، م: (أم سليم) ، وصححت من الشفا 1/602، وهي هند بنت أبي أمية المخزومية أم المؤمنين رضي الله عنها. 5 الخِشْفُ: مثلثة: ولد الظبي أوّل ما يولد، أو أوّل مشيه. (ر: القاموس ص 1039) . 6 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/298، وقال: "رواه الطبراني، وفيه أغلب بن تميم، وهو ضعيف". اهـ. وأورده السيوطي في الخصائص 2/101، وعزاه أيضاً لأبي نعيم، ثم قال: في "إسناده أغلب بن تميم وهو ضعيف. ولكن للحديث طرق كثيرة تشهد بأن للقصة أصلاً". اهـ. قلت: الطرق التي أشار إليها السيوطي - يقصد بها الشواهد على طريقة المتقدمين مثل البيهقي وغيره - ومن هذه الشواهد: أ- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 376، من طريق صالح المري - وهو ضعيف - عن ثابت به. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/297، وعزاه إلى الطبراني في الأوسط". اهـ. ب- حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، أخرجه أبو نعيم ص 375، والبيهقي 6/34، في الدلائل. جـ حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرجه البيهقي في الدلائل 6/35. فبمجموع هذه الشواهد يرتقي الحديث إلى درجة الحسن لغيره ويدل على أن للحديث أصلاً وقصة. قال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة ص 156: "حديث تسليم الغزالي، اشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية، وليس له-كما قاله ابن كثير- أصل. ومن نسبه إلى النبي فقد كذب. ولكن قد ورد الكلام - يعني: ورد تكليم الغزالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديثنا هذا لا تسليمها - في الجملة في عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض، أوردها شيخنا. (أي: الحافظ ابن حجر) ، في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر (أي: مختصر ابن الحاجب في الأصول". اهـ.

23- معجزة: ومن معجزاته تسخير السباع لغلمانه، قال سفينه1 مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلني عليه السلام إلى معاذ باليمن فانكسرت بيَ السفينة فطلعت إلى جزيرة فاستقبلني الأسد / (2/154/أ) فقلت: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي كتابه. فهمهم وجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق. فلما رجعت من اليمن لقيت الأسد أيضاً

_ 1 سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو عبد الرحمن، اختلف في اسمه كثيراً، كان عبداً لأم سلمة فأعتقته وشرطت عليه خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عاش، وسفينة لقب له؛ فإنه حمل مرة متاع الرفاق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وما أنت إلاّ سفينة. فلزمه ذلك. توفي بعد سنة سبعين. (ر: الاستيعاب 2/684، سير أعلام النبلاء 3/172، الإصابة 3/109) .

فهمهم بشيء فقصصت ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه يقول: سَلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. وكذلك جرى لسفينة في فتوح الشام2 حكاه الواقدي.

_ 1 ورد النّصّ في الشفا 1/603، 604، كالاتي: "ومن هذا الباب ما روي من تسخير الأسد لسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وجهه إلى معاذ باليمن فلقي الأسد فعرفه أنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه كتابه فهمهم وتنحى على الطريق، وذكر في منصرفه مثل ذلك. وفي رواية أخرى عنه: أن سفينة تكسرت به فخرج إلى جزيرة فإذا الأسد ... فقلت: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الأرض".اهـ. قال السيوطي في المناهل ص 132: "حديث تسخير الأسد لسفينة إذ وجهه إلى معاذ.... لم أقف عليه هكذا، وأخرج البيهقي أن ذلك وقع لسفينة حين ضلّ عن الجيش في أرض الروم. أما حديث:"إنه تكسرت به سفينة ... "، الحديث، فقد أخرجه البزار والبيهقي".اهـ. قلت: الرواية الأخيرة أخرجها الحاكم 3/606، والبزار. (ر: كشف الأستار 3/271) ، وأبو نعيم في الدالائل ص 583، 584، والبيهقي في الدلائل 6/45، 46، كلهم من طريق محمّد بن المنكدر أنّ سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في أجمة فيها الأسد فأقبل إليّ يريدني. فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطأطأ رأسه وأقبل إليّ فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق وهمهم فظننت أنه يودعني". وعزاه السيوطي أيضاً إلى ابن سعد وأبي يعلى وابن منده. (ر: الخصائص 2/108) . وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/369، 370، وقال: "رواه البزار والطبراني بنحوه، ورجالهما وثقوا". اهـ. 2 أخرجه البيهقي في الدلائل 6/46، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الحجبي عن ابن المنكدر أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ الجيش بأرض الروم أو أسر في أرض الروم، فانطلق هارباً يلتمس الجيش فإذا هو بالأسد ... ، فذكره بنحوه. ونقله ابن كثير عن البيهقي في البداية 6/168.

24- معجزة: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن شاء [لقوم من بني] 1 عبد القيس بين أصابعه ثم خلاّها فصار ذلك مَيْسماً2 وبقي فيها وفي نسلها بعد3. 25- معجزة: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عطش في بعض أسفاره وكانوا ثلاثمائة رجل فجاءته عنْزل فحلبها عليه السلام فأروى الجند هم على غير ماء ثم قال لرافع: املكها وما أراك تقدر. فربطها فوجدها قدذهبت. فقال عليه السلام: إن الذي جاءبهاهوالذي ذهب بها4. رواه ابن5 قانع وغيره.

_ 1 في ص، م: (لعبد القيس) ، وصححت من الشفا 1/604. 2 الوَسْم: اسم الآلة التي يكوى بها ويُعَلَّم، وأطلقت على العلامة والأثر التي تتركها الآلة مجازاً. (ر: المصباح المنير ص 660) . 3 لم يخرجه السيوطي في المناهل ص 133. وقال الخفاجي في نسيم الرياض 3/93: "وهذا الحديث لا يعلم من رواه من المحدّثين". وقال القاري في شرحه للشفا: "قال الدلجي: لا أدري من رواه". 4 أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 426، والبيهقي في الدلائل 6/137، كلاهما من طريق خلف بن خليفة عن أبان بن بشير عن شيخ من أهل البصرة عن نافع وكانت له صحبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. قلت: أبان بن بشير المكتب قال ابن أبي حاتم: مجهول. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: لا أدري سمع من أبي هاشم أم لا. (ر: لسان الميزان 1/20، ابن أبي حاتم في الجرح 2/298) ، وفي الإسناد جهالة ظاهرة. وله تابع أخرجه البيهقي من طريق خلف بن خليفة عن أبي هاشم الرماني عن نافع. قلت: أبو هامش الرماني، الواسطي، ثقة، من السادسة. ممن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة، ولم يثبت عنه أنه روى عن نافع. مات سنة 122، وقيل: 145. (ر: التهذيب 12/286، التقريب 2/483، الجرح والتعديل 9/140) . ونقله ابن كثير في البداية 6/103، عن البيهقي، وقال: "حديث غريب جدّاً متناً وإسناداً". 5 عبد الباقي بن قانع الأموي، بالولاء، البغدادي، أبو الحسين، قاض، كان ثقة أميناً حافظاً، ولكنه تغير في آخر عمره. وقال الدارقطني: "كان يخطئ ويصر على الخطأ". له كتاب: (معجم الصحابة) تعقبه ابن فتحون وبين ما فيه من أوهام في الحديث. توفي سنة 351هـ. (ر: سير أعلام النبلاء 15/526، البداية 11/242، لابن كثير، الإعلام 3/272) .

قال المؤلِّف: هذه الآية نظير آية صالح عليه السلام. 26- معجزة: روى الواقدي أن النبيّ عليه السلام أرسل رسله إلى الملوك يدعوهم إلى الدين والإيمان / (2/154/ب) بالله عزوجل فخرجوا متوجهين فأصبحوا في يوم واحد وكلّ رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذين أرسل إليهم1. قال المؤلِّف: هذه الآية مضاهية ما حكاه الإنجيل عن أصحاب المسيح الذين أرسلهم2. فإن قدحوا فيها ومنعوا صحّتها لم يسلموا من مقابلتهم مثل ذلك فيما نقلوه، إذ طريق الثبوت واحد. 27- معجزة: قال أبو هريرة: أهديت يهودية للنبي عليه السلام بخيبر شاة مسمومة فأكل وأكل القوم. فقال عليه السلام: "ارفعوا أيديكم، إن الذراع تخبرني أنها مسمومة"، ثم قال لليهودية: "ما حملك على ذلك؟ ". قالت: قلت: إن كان نبيّاً لم يضرَّه، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه. فقال عليه السلام: "ما كان الله ليسلّطكِ عليَّ".

_ 1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/264، عن بريدة والزهري وزيد بن رومان والشعبي - دخل حديث بعضهم في بعض - مرسلاً. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 7/347، رقم: 36628، ثنا حاتم بن إسماعيل عن يعقوب عن جعفر بن عمرو، قال: ... فذكره. قلت: حاتم بن إسماعيل أبو إسماعيل، صحيح الكتاب صدوق يهم، من الثامنة، مات سنة 186هـ، أو 187هـ. (ر: التقريب 1/137) . وجعفر بن عمرو الخمري، المدني، ثقة، من الثالثة، مات سنة 195هـ، أو 196هـ. (ر: التقريب 1/131) . فالحديث مرسل. 2 سفر أعمال الرسل 2/1-21.

روى ذلك جابر1 بن عبد الله، والحسن2، وأبو سلمة3، وأنس4، وأبو هريرة5، وأبو سعيد6. قال ابن عباس7: "فدفعها لأولياء بشر بن البراء فقتلوها، وقد خُرِّج حديث الشاة في الصحيح".

_ 1 حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أخرجه أبو داود 4/174، وعنه البيهقي في الدلائل 4/262، من طريق سليمان بن داود المهري عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب الزهري عنه. قلت: إسناده حسن. فإن يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي، ثقة إلاّ أن في روايته عن الزهري، وهما قليلاً. وفي غير الزهري خطأ. (ر: التقريب 2/386) . 2 هو: الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، تابعي ثقة فاضل مشهور، كان يرسل كثيراً. توفي سنة 116هـ. (ر: سير أعلام النبلاء 4/563، التهذيب 2/263) . قلت: رواية الحسن البصري أخرجها ابن سعد 2/200، عن عمر بن حفص عن مالك بن دينار عنه. 3 هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، تابعي ثقة مكثر من الحديث، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. توفي سنة94هـ. (ر: سير أعلام النبلاء4/278، التهذيب 12/127) . وروايته أخرجها أبو داود 4/174، وعنه البيهقي في الدلائل 4/262، وابن سعد في الطبقات 2/172، والدارمي 1/32، كلهم من طريق محمّد ابن عمرو عنه - مرسلاً. وفيه: "فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت". قال البيهقي: "ورويناه عن حماد بن سلمة عن محمّد بن عمرو بن أبي سلمة عن أبي هريرة، ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لما مات بشر بن البراء أمر بقتلها. والله أعلم". اهـ. قلت: وبالإسناد الذي وصله البيهقي يكون الحديث حسناً. فإن محمّد بن عمرو الليثي، صدوق، له أوهام. (ر: التهذيب 9/333، التقريب 2/196) . 4 حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب الهبة باب (28) . (ر: فتح الباري 5/230) ، ومسلم 4/1721، وأبو داود 4/173، أحمد في مسنده 3/218، وأبو نعيم في الدلائل ص 197، والبيهقي في الدلائل 4/259. 5 حديث الشاة المسمومة، رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في كتاب الجزية باب (7) . (ر: فتح الباري6/272) ، وأبوداود4/173، والدارمي1/33، والبيهقي في الدلائل 4/256. 6 حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 196، والحاكم 4/109، وصححه ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي في المجمع 8/299، وقال: "رواه البزار". (كشف الأستار 3/141) . ورجاله ثقات. 7 حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أخرجه أحمد في مسنده1/305، وابن سعد 2/200، 201، كلاهمامن طريق عبادبن العوام عن هلال بن خباب عن عكرمة عنه. وعزاه السيوطي في الخصائص 1/425، أيضاً إلى أبي نعيم. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/298، وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير هلال بن خباب، وهو ثقة". اهـ. قلت: وهو ثقة كما قال الهيثمي. (ر: الجرح والتعديل 9/75) .

28- معجزة: روى فهد1 بن عطية، قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي وقد شَبَّ ولم يتكلم / (2/155/أ) قط، فقال له: من أنا؟ فقال: أنت رسول الله2. وهذه الآية مضاهية لآية المسيح في كلامه المجنون الأخرس، وكما لا يقدح تكذيب اليهود لا يقدح تكذيب النصارى لآية محمّد عليه السلام. 29- معجزة: قال مُعَرِّض3 بن معيقب: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عجباً، أتي بصبي يوم ولد فقال له: من أنا؟ قال رسول الله. فقال له: صدقت بارك الله فيك. وذلك في حجّة الوداع بمكّة فهو مبارك اليمامة صدق الله ورسوله"4.

_ 1 قال الخفاجي في نسيم الرياض 3/97: "قال البرهان الحلبي: لا أعرفه بدال ولا براء، والذي في البيهقي أنه شمر بن عطية بعض أشياخه فيحتمل أنه تحرف على الناسخ". وقال القاري: "وكلاهما لا يعرف على ما ذكره الدلجي تبعاً للحلبي". 2 أخرجه البيهقي في الدلائل 6/61، عن أبي عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمّد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن الأعمش عن شمر بن عطية عن بعض أشياخه قال:....، فذكره. قلت: إسناده منقطع وفيه جهالة ظاهرة، وشمر بن عطية الأسدي صدوق، من السادسة. (ر: التقريب 1/354) . 3 مُعَرِّض بن مُعَيقيب اليمامي، جاء منه حديث في المعجزات تفرد به ولده عنه، قال ابن السكن: "له حديث في أعلام النبوة لم أجده عند الكديمي عن شيخ مجهول فلم أتشاغل بتخريبه". اهـ. (ر: الإصابة 6/124) . 4 أخرجه ابن قانع. (ر: الإصابة 6/124) ، والبيهقي في الدلائل 6/59، كلاهم من طريق محمّد بن يونس الكديمي عن شاصونه بن عبد عبيد عن معرض بن عبد الله بن معرض بن معيقيب اليماني من أبيه عن جدّه. قال الحافظ: "ومعرض وشيخه مجهولان، وكذلك شاصونه، واستنكروه على الكديمي". اهـ. وقال السيوطي في المناهل ص 135: "أخرجه البيهقي وابن عساكر، وقال ابن دحية: إنه موضوع" اهـ. قلت: الكديمي ضعيف. وقد تقدمت ترجمته. (ر: ص 757) ، وقال ابن عدي عنه. اتهم بوضع الحديث وبسرقته، وادعى رؤية قوم لم يرهم ورواية عن قوم لا يعرفون. وترك عامة مشايخنا الرواية عنه". اهـ. (ر: الكامل 6/292) .

30- معجزة: قال الحسن1: "أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أنه طرح بُنَيَّة له في وادي كذا، فمضى معه إلى الوادي وناداها باسمها: يا فلانة أجيْبِي بإذن الله. فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك. فقال لها: إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أن أردك إليهما، فقالت: لا حاجة لي بهما وجدت الله خيراً لي منهما"2. 31- معجزة: ومن معجزاته حياة الشاب الأنصاري بعد موته: قال أنس: "توفي شاب من الأنصار وله أم عجوز عمياء قال أنس: فسجيناه وعزيناها، فقالت: أمات ولدي؟ قلنا: نعم. فقالت: اللهم إن كنت تعلم/ (2/155/ب) إني هاجرت [إليك] 3 وإلى نبيّك رجاء أن تعينني على كلّ شدّة، فلا تحملن عليّ هذه المصيبة، قال أنس: فما برحنا حتى كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا4.

_ 1 هو: الحسن البصري. رحمه الله. 2 الحديث لم يخرجه السيوطي في مناهل الصفا ص 135. وقال القاري في شرحه للشفا 3/99: "والحديث عن الحسن لم نعلم من رواه، كذا ذكره الدلجي ... ، ثم رأيت الحديث في دلائل البيهقي صريحاً في إحيائها حديث ذكر ... ، " الخ. اهـ. قلت: لم أقف عليه في دلائل البيهقي، وقد أورده الماوردي في أعلام النبوة ص 141. 3 هذه الإضافة من الشفا 1/615. 4 أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه: (من عاش بعد الموت ص 19، 20) ، وابن عدي. (ر: الكامل4/62) ، وأبو نعيم في الدلائل ص618، والبيهقي في الدلائل6/50، 51، كلّهم من طريق صالح المري عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ... ، فذكره. قال ابن عدي: "صالح بن بشير المُرِّي البصري هو رجل قاص، ضعفه ابن معين، والبخاري، وأحمد بن حنبل، والنسائي، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه منكرات ينكرها الأئمة عليه، وليس هو بصاحب حديث، وإنما أتي من قلة معرفته بالأسانيد والمتون، وعندي مع هذا لا يتعمد الكذب بل يلغط بينا". (ر: الكامل 4/64، التقريب 1/358) .

قال المؤلِّف: قال نقلة الإنجيل: "إن المسيح أحيا ابن المرأة"1، وهذه الآية أعظم شأناً منها؛ إذ هي جرت على يد امرأة ضعيفة من أتباع نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ببركة هجرتها إليه صلى الله عليه وسلم فكما لا يضرّ ردّ اليهود لآية المسيح فكذلك لا يضرّ ردّ النصارى لآية محمّد صلى الله عليه وسلم. 32- معجزة: عن عبد الله بن عبيد الله الأنصاري، قال: كنت فيمن دفن ثابت2 بن قيس بن الشماس وكان قتل باليمامة فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول: محمّد رسول الله، أبو بكر الصّدِّيق، عمر الشهيد، عثمان الرحيم، فنظرنا فإذا هو ميّت"3. 33- معجزة: أخرى من جنسها، قال النعمان4 بن بشير: "بينا زيد5 بن خارجة ماراً في بعض سكك المدينة إذخَرَّ ميتاً فرفع وسُجِّي فسمعوه بين العشائين النساء يصرخن حوله يقول: "أنصتوا أنصتوا.

_ 1 يوحنا 11/1-46. 2 ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي، خطيب الأنصار، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، استشهد في يوم اليمامة سنة 12هـ، له حديث واحد. (ر: الاستيعاب 1/200، سير أعلام النبلاء 1/308، الإصابة 1/203) . 3 أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه من عاش بعد الموت ص 29، والبيهقي عنه في الدلائل 6/58، عن خلف بن هشام البزار عن خالد الطحان عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عبيد الأنصاري: أن رجلاً من قتلى مسيلمة تكلم، فقال: محمّدرسول الله أبوبكر الصّدِّيق عثمان اللين الرحيم، لا أدري أيش قال لعمر".اهـ. قلت: إسناده ضعيف. فإن عبد الله بن عبيد الأنصاري، مجهول، من الثالثة. (ر: التقريب 1/431) . 4 النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي، أوّل مولود بعد الهجرة النبوية، الصحابي المعروف، له مائة وأربعة عشر حديثاً. 5 زيد بن خارجة الأنصاري الخزرجي، شهد بدراً، قال الذهبي: المتكلم بعد الموت على الصحيح، توفي زمن عثمان بن عفان، له حديث واحد. (ر: الاستيعاب 2/547، التجريد 1/198، الإصابة 3/27) .

وحسر عن وجهه/ (2/156/أ) وقال: محمّد رسول الله النبي الأمّيّ خاتم النّبيّين كان ذلك في الكتاب الأوّل، ثم قال: صدق صَدق [وذكر أبا بكر وعمر وعثمان] 1، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله، ثم خرَّ ميتاً كما كان"2. 34- معجزة: قال سعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة: لما كان يوم أحد أصيبت عين [قتادة] 3 حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه4.

_ 1 هذه الإضافة من الشفا 1/616. 2 أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه: (من عاش بعد الموت ص 22) ، وعنه البيهقي في الدلائل 6/55، عن أبي مسلم عبد الرحمن بن يونس عن عبد الله بن إدريس عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: جاءنا يزيد بن النعمان بن بشير بكتاب أبيه النعمان بن بشير ... ، فذكره في سياق طويل. ثم رواه البيهقي في الدلائل 6/57، عن أبي نصر بن قتادة عن أبي عمرو بن نجيد عن عليّ بن الحسين بن الجنيد عن المعافي بن سليمان عن زهير بن معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد ... ، فذكره. قال البيقهي: "هذا إسناد صحيح". اهـ. وله شواهد، منها: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي الدنيا في: (من عاش بعد الموت ص 26، 27) . ورواية سعيد بن المسيب أخرجها البيهقي 6/55، 56، وقال: "هذا إسناد صحيح، وله شواهد". اهـ. وقال ابن كثير في الشمائل ص 298-301، 565،: "وأما قصة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت وشهادته للبني ولأبي بكر وعمر وعثمان بالصدق فمشهورة مروية من وجوه كثيرة صحيحة". اهـ. 3 في ص، م: (أبي قتادة) ، وصححت من للشفا 1/617. وهو قتادة بن النعمان الأوسي الظفري. صحابي مشهور، يكنى أبا عمرو، مات في خلافة عمر - رضي الله عنهم -. له سبعة أحاديث. 4 أخرجه ابن إسحاق، قال: "حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: ... ، فذكره. (ر: السيرة 9/119) ، وعنه البيهقي في الدلائل 3/215، وإسناده منقطع، وقد وصله أبو نعيم في الدلائل ص 483، من طريق ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن محمود ابن لبيد عن قتادة بن النعمان ... ، فذكره. وأوردهالحافظ في الإصابة5/230بالإسنادالسابق وعزاه أيضاًللدارقطني وابن شاهين. قلت: إسناده صحيح، فإن ابن إسحاق إمام في المغازي، وقدصرح بالسماع من عاصم. وأما عاصم بن عمر بن قتاة الأوسي، فهو ثقة عالم بالمغازي. وأما محمود بن لبيد الأوسي، فإنه صحابي صغير وجل روايته عن الصحابة. (ر: التقريب 1/385، و2/233) . وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عن قتادة أخرجه البيهقي في الدلائل 3/253، وعزاه الحافظ في الإصابة 5/230 إلى الدارقطني أيضاً.

قال المؤلِّف: هذا أغرب مما نقلته التوراة عن يوسف الصّدِّيق عليه السلام في عيني أبيه، فقد جمع الله لنبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ما تفرق من آيات الرسل والأنبياء وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء. 35- معجزة: نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثر سهم في وجه أبي1 قتادة الأنصاري في يوم ذي قَار2، قال أبو قتادة: فما ضرب عليّ ولا قاح3.

_ 1 هو: أبو قتادة بن ربعي الأنصاري، الصحابي المعروف بكنيته، واختلف في اسمه فالمشهور أنه الحارث، وقيل: النعمان أو عمرو. 2 وتسمى: غزوة الغابة. وهي ماء على ليلتين - وقيل: ليلة من المدينة بينهما وبين خيبر وكانت سنة ست من الهجرة الشريفة. (ر: السيرة 3/390-400، لابن هشام، المغازي ص 333، وما بعدها للذهبي) . 3 أخرجه الواقدي في مغازيه 2/544، 545، والحاكم 3/480، كلاهما من طريق يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن جدّه رضي الله عنه. قال: "أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم ذي قرد فنظر إليّ، فقال: اللهم بارك له في شعره، وبشّره. وقال: أفلح وجهك. قلت: ووجهك يا رسول الله. قال: قتلت مسعدة. قلت: نعم. قال: فما هذا الذي بوجهك؟ قلت: سهم رميت به يا رسول الله. قال: فادن. فدنوت منه فبصق عليه فما ضرب عليّ قط ولا قاح". اهـ. وسكت عنه الحاكم والذهبي. قلت: يحيى بن عبد الله ذكره البخاري في تاريخه 8/283، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 9/160، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. وعبد الله بن أبي قتادة الأنصاري، ثقة من الثانية. مات سنة 95. (ر: التقريب 1/441) . وتابع يحيى عليه عكرمة بن عبد الله بن أبي قتادة، أخرجه البيهقي في الدلائل 4/91-193، في سياق طويل. وتابعه أيضاً عليه ثابت بن عبد الله بن أبي قتادة به ذكره الحافظ في الإصابة 7/155، وعزاه إلى أبي نعيم والطبراني، قال الطبراني: "لم يروه عن أبي قتادة إلاّ ولده ولا سمعناه إلاّ من عنده". اهـ. بتصرف. وثابت بن عبد الله بن أبي قتادة، ذكره ابن حبان في الثقات 4/91، وله ترجمة في التاريخ الكبير 2/168.

36- معجزة: روى النسائي عن عثمان1 بن حنيف، قال: جاء أعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي بصري. قال: انطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة، يا محمّد إني أتوجه بك / (2/156/ب) إلى ربّك أن يكشف عن بصري. اللهم شفّعه فِيَّ. قال: فرجع الأعمى وقد كشف الله عنه بصره2. قال المؤلِّف: هذه الآية تُؤمه آية3 الإنجيل، وتؤمه آية اليسع في نعمان الرومي وقد حكيناهما فيما تقدم4.

_ 1 عثمان بن حنيف بن واهب الأنصاري رضي الله عنه، أبو عبد الله أخو سهل بن حنيف، عمل لعمر ثم لعلي، سكن الكوفة، وتوفي في خلافة عثمان، وتوفي في خلافة عثمان، وله حديثان. (ر: الاستيعاب 3/1033، سير أعلام النبلاء 3/320، الإصابة 4/220) . 2 أخرجه أحمد في مسنده4/138، والترمذي5/531، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 204، 205، وابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 1/231) ، والحاكم 1/313، والبيهقي في الدلائل 6/166، كلهم من طريق عثمان بن عمر عن شعبة عن أبي جعفر، قال: سمعت عمارة بن خزيمة يحدّث عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه، أن: ... ، فذكره. قال الترمذي: "حسن صحيح غريب لا يعرف إلاّ من هذا الوجه". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: "ورويناه في كتاب الدعوات بإسناد صحيح عن روح بن عبادة عن شبعة". قلت: وهذا الحديث مما استدل به المبتدعة على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الصالحين أو التوسل بالذات، ولكن هذا الحديث لا حجّة لهم فيه، بل هو دليل على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع وهو التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح. (للتوسع ر: التوسل ص 75، وما بعدها، للألباني، والتوصل إلى حقيقة التوسل ص 236، وما بعدها للرفاعي) . 3 أي: تُنْسي، وأصله: أَمِهَ. أي: نسي. (ر: القاموس ص 1603) . 4 ر: ص: 179.

37- معجزة: ومن معجزاته عليه السلام إبراء علّه الاستسقاء: مرض ابن ملاعب الأسنة1 بالاستسقاء فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً، فأخذ عليه السلام قبضة من الأرض فتفل عليها ثم أعطاها رسوله فأخذها متعجباً يرى أنه قد هزى به. فأتاه بها وهو على شفا2 فشربها الرجل فشفاه الله تعالى3. قال المؤلِّف - رحمه الله - حكت التوراة4 أن موسى أمر قومه أن يسقوا مَنِ اتَّهمها زوجها بالزنى من طين يكون أسفل المذبح مخلوط برماد بقرة، فإن كانت المرأة فجرت أسفح بطنها وفخذاها5، وإن كانت برية سلمت من ذلك وحملت بذكر6، وهذه الآية أنْزل منها.

_ 1 قال البرهان الحلبي: إن ابن ملاعب الأسنة لا يعرف اسمه ولا ترجمته, وأما ملاعب الأسنة فهو: عامر بن مالك العامري الكلابي، أبو براء يقال له أيضاً ملاعب الرماح لتقدمه وشجاعته في الحرب فكأنه يلاعبها. (ر: نسيم الرياض 3/106، وبهامشه شرح القاري) . وقال الذهبي في التجريد1/288: "إنه عم عامربن الطفيل، والصحيح أنه لم يسلم، وقد قدم المدينة فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يسلم".اهـ. (ر: أيضاً الإصابة4/16) . 2 شفا: هو حرف كل شيء، والمراد به هنا: الاحتضار. 3 أخرجه الواقدي في مغازيه1/350، وعنه أبو نعيم في الدلائل ص513، 514، عن عروة. قلت: الواقدي متروك. وقد تقدم ذكره. (ر: 760) . 4 ورد ذلك في سياق طويل جدّاً في سفر العدد 5/11-31. 5 في التوراة: "يرم بطنها ويسقط فخذها". 6 في م: بكرا.

38- معجزة: روى العقيلي1 عن حبيب2 بن فديك أن أباه ابيضت عيناه فكان لا يبصر به شيئاً فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم/ (2/157/أ) في عينيه فأبصر، فرأيته بعد يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين سنة3. 39- معجزة: لما تعسر فتح خيبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله. فلما أصبح دعا عليّاً رضوان الله عليه وكان أرمد، فجيء به يقاد فتفل في عينيه فبرأ لوقته، وتقدم بالراية4. وفي هذه القصة عدة من الآيات شفاء عينيه، والإخبار عن دوام حياته وحياة الرسول إلى الغد، وأن خيبر لم تفتح قبل الغد مع كونها محصورة، وأن عليّاً رضوان الله عليه محبوب الله، وأن الفتح يكون على يده.

_ 1 هو: الإمام الحافظ أبو جعفر محمّد بن عمرو بن موسى صاحب كتاب الضعفاء، ثقة جليل، توفي سنة: 322هـ، بمكّة المكرّمة. (ر: شذرات الذهب 2/295، والأعلام 6/319) . 2 حبيب بن فويك، ويقال: بدل الواو: دال، ويقال: راء، ابن عمر السلاماني، أبو فديك، وهو من بني سلامان بن سعد، وقد قدم في وفد بني سلامان على النبي صلى الله عليه وسلم في شوّال سنة عشر من الهجرة، وله حديثان كما ذكر الحافظ في الإصابة. (ر: الاستيعاب -/322، والتجريد 1/199، والإصابة 1/322، 323) . 3 أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 6/328، وعنه أبو نعيم ص 466، والبيهقي 6/173، كلاهما في الدلائل. قال: ثنا محمّد بن بشر عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن رجل من بني سلامان بن سعد عن أمه أن خالها حبيب بن فديك حدّثها ... ، فذكره. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد8/301، وقال رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم. اهـ. وأورده الحافظ في الإصابة 1/323، وقال: "ابن السكن: لم يروه غير محمّد بن بشر ولا أعلم لحبيب غيره، ثم ذكر له الحافظ حديثاً آخر رواه ابن منده. 4 أخرجه البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه، في كتاب الفضائل باب (9) . (ر: فتح الباري 7/70) ، ومسلم 4/1871، 1872، عن سعد بن أبي وقاص وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما. والبيهقي في الدلائل 4/205-213، عن سهل بن سعد وأبي هريرة وسلمة بن الأكوع وبريدة - رضي الله عنهم أجمعين -.

40- معجزة: ورُمي كلثوم1 بن الحصين يوم أحد في نحره فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأ2، وتفل على ضربة بساق سلمة3 بن الأكوع يوم خيبر فبرأت4. وأصاب السيف رجل زيد5 بن معاذ فتفل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصحت وبرأت6.

_ 1 هو: أبو رُهم الغفاري رضي الله عنه، الصحابي المشهور باسمه وكنيته، وله أربعة أحاديث. 2 لم يخرجه السيوطي في المناهل ص 137. وقال القاري في شرحه للشفا 3/108: "قال الدلجي: لا أدري من رواه". قلت: ذكره الحافظ في الإصابة 7/68، في ترجمة كلثوم بن حصين. فقال: وذكر أبو عروبة أنه رمي بسهم في نحره يوم أحد فبصق عليه صلى الله عليه وسلم فبرأ. 3 هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع، الصحابي المعروف، له سبعة وسبعون حديثاً. 4 أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة خيبر. (ر: فتح الباري 7/457) ، وأحمد في مسنده 4/48، والبيهقي في الدلائل 4/251، كلهم من طريق مكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد، قال: ... ، فذكره. 5 زيد بن معاذ الأنصاري، أخو سعد سيّد الأوس، فيمن قتل كعب بن الأشرف، ذكره عبد بن حميد في التفسير، وقال الحافظ: "لم أر له ذكراً إلاّ في هذه الرواية". اهـ. (ر: الإصابة 3/34) . 6 قال السيوطي في المناهل ص 137: "أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن عكرمة. وأخرجه الواقدي بأسانيد لكن قال الحارث بن أوس بدل زيد بن معاذ، وأخرجه البيهقي في الدلائل3/192، 199، من حديث جابر. وقال بدلهما عباد بن بشر. اهـ. قلت: الحديث أخرجه ابن إسحاق، قال: فحدّثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس، قال: فذكره في سياق طويل في قتل كعب بن الأشرف اليهودي، وبأن الذي أصيب هو الحارث بن أوس. (ر: السيرة 3/81) . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6/199، وقال: "رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق وهو مدلِّس وبقية رجاله رجال الصحيح". اهـ. إلاّ أن ابن إسحاق قد صرح بالسماع فينتفي تدليسه. وإسناده متصل، وقد أشار الحافظ في الفتح 7/338، في كتاب المغازي باب قتل كعب بن الأشرف إلى حديث ابن عباس من طريق ابن إسحاق، وقال الحافظ: وعند ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس. وأخرجه البيهقي في الدلائل 3/187-200، من طرق أخرى.

41- معجزة: انكسرت ساق عليّ1 بن الحكم يوم الخندق فتفل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/157/ب) فبرأ مكانه ولم ينْزل عن فرسه2. 42- معجزة: اشتكى عليّ وجعاً فركله برجله، وقال: اللهم اشفه، فما اشتكى ذلك الوجع بعد3. 43- معجزة: قطع أبو جهل يوم بدر يد معوَّذ4 بن عفراء فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقها فلصقها فلصقت وصحت مثل أختها5. رواه ابن6 وهب.

_ 1 عليّ بن الحكم السلمي، أخو معاوية بن الحكم، له صحبة. من أهل قباء. (ر: الاستيعاب 3/1089، الإصافة 4/268) . 2 أخرجه البيهقي في الدلائل 6/185، من كتاب المعجم لأبي القاسم البغوي، وذكره ابن حجر في الإصابة 4/268، وقال: "روى البغوي والطبراني وابن السكن وابن منده من طريق كثير بن معاوية بن الحكم السلمي عن أبيه، قال: ... ، فذكره. قال ابن منده: "غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه". وقال ابن حجر: "في الإسناد صفار بن حميد لا يعرف". اهـ. 3 أخرجه الترمذي 5/523، والإمام أحمد في مسنده 1/128، وفي فضائل الصحابة 2/697، والحاكم2/620، 621، وأبو نعيم في الدلائل ص450، 451، والبيهقي 6/179، كلهم من طريق شعبه عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة رضي الله عنه. قال الترمذي: "وهذا حديث حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي". 4 معوّذ بن الحرث النجّاري الأنصاري الخزرجي المعروف بابن عفراء، وهي أمه وأخوه معاذ، وقد ثبت ذكرهما في صحيح البخاري في قصة بدر في قتل أبي جهل وفيه - فضربه ابنا عفراء حتى برد - وهما معوذ ومعاذ -. وقال ابن عبد البر: "كان ممن قتل أبا جهل ثم قاتل بعد ذلك حتى استشهد، قتل أبو مسافع". (ر: الاستيعاب 4/1442، الإصابة 6/107، 129) . 5 لم يخرجه السيوطي في المناهل ص 138، ولم أقف على تخريجه. 6 هو: عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشي، أبو محمّد، المصري، الفقيه، ثقة، حافظ، عابد، توفي سنة 197هـ. (ر: سير أعلام النبلاء 9/223، والتهذيب 6/65، والتقريب 1/460) .

قال المؤلِّف: هذه والله أبهر للعقول من آية الإنجيل في اليد اليابسة1، وفي أذن العبد ملخس ليلة الفزع2، فالويل لمن كذب بشيء من ذلك. 44- معجزة: أصيب شقّ خبيب3 بن يساف يوم بدر حتى مال فردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ونفث عليه فبرأ وصحّ4. قال المؤلِّف: هذا نظير ما حكوه من شفاء المخلع في الإنجيل. 45- معجزة: جاءت امرأة من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي لها لم يتكلم، فأخذ عليه السلام ماء فتمضمض به وغسل يديه فأعطاها إيّاه وأمر بسقيه الصبي، ففعلت فبرأ الغلام وعقل عقلاً يفضل عقول

_ 1 متى 12/9-13، مرقص 3/1-6. 2 يوحنا 18/10. 3 خُبَيب بن يَساف ويقال: يَسَاف بن عِنَبة الأنصاري الأوسي، شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم ومات في خلافة عمر، وقيل: في خلافة عثمان - رضي الله عنهم -. (: الاستيعاب 2/443، سير أعلام النبلاء 1/501، الإصابة 2/103) . 4 أخرجه البيهقي في الدلائل 3/97، 6/178، وأحمد بن منيع. (ر: الإصابة 2/103) ، من طريق محمّد بن إسحاق والمسلم أبي سعيد كلاهما عن خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن يساف عن أبيه عن جدّه، قال: ... ، فذكره. وأورده أبو نعيم في الدلائل ص 484، عن ابن إسحاق معلقاً. قلت: إسناده صحيح، فإن خبيب بن عبد الرحمن ثقة. (ر: الجرح 3/378، والتقريب 1/222) ، وأبوه عبد الرحمن، قال عنه الحافظ في التعجيل ص 166: "عن أبيه وله صحبة، وعنه ابنه، وذكره ابن حبان في الثالثة من الثقات. (6/274) ، وكأنه لم يثبت له من والده سماع، أو ظن أ، والده ليس من الصحابة". اهـ. (ر: من روى عن أبيه عن جدّه ص 193، 194، لابن قطلوبغا) .

الناس وتكلم1. وهذه نظيرة آية الإنجيل وأبهر منها. 46- معجزة: قال/ (2/158/أ) ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها به جنون فمسح صدر الصبي فثع2 ثعة فخرج منه مثل الجرو الأسود فذهب وعوفي الغلام"3. قال المؤلِّف: من نازعنا في هذه الآية وما يشاكلها، قلنا له: ما دليلك على أن المسيح أخرج الجني من ابن الرجل الذي سأله4، ومن مريم خادمته5؟ فما أجاب به فهو جواب لنا.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/379، وأبو نعيم في الدلائل ص 464، وابن أبي شيبة في المصنف 6/321، رقم: 31755، كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عمرو بن الأحوص الأزدي عن أمه أم جندب قالت: ... ، فذكرته. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/6، وقال: "رواه أحمد والطبراني ورجاله وثقوا، وفي بعضهم ضعف". قلت: يزيد بن أبي زياد الهاشمي، مولاهم، الكوفي، ضعيف، كبر فتغير وكان شيعياً، من الخامسة، مات سنة 36هـ. (ر: التهذيب11/287، والتقريب2/365) ، وسليمان ابن عمرو بن الأحوص الجشمي، كوفي، مقبول من الثالثة. (ر: التقريب 1/328) . 2 الثَّعُ: القيء، والثَّعة: المرة الواحدة. (ر: النهاية 1/212) . 3 أخرجه أحمد في مسنده1/254، 268، والدارمي1/11، 12، وأبو نعيم ص465، 466، والبيهقي 6/182، 187، كلاهما في الدلائل، كلهم من طريق حماد ابن سلمة عن فرقد السبخي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ... ، فذكره. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/5، وقال: "رواه أحمد والطبراني وفيه فرقد السبخي، وثّقه ابن معين والعجلي، وضعّفه غيرهما". قلت: فرقد بن يعقوب السبخي، أبو يعقوب البصري، صدوق، عابد، لكنه لين الحديث كثير الخطأ، من الخامسة. (ر: الجرح والتعدل7/81، 82، والتقريب2/108) . 4 متى 17/14-21، مرقص 9/14-29، لوقا 9/37-43. 5 لوقا 8/2، 3.

47- معجزة: كان في كفّ شرحبيل1 الجعفي سلعة2 تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة، فشكاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال عليه السلام يمسحها بكفه المباركة حتى رفع كفّه وقد زالت ولم يبق لها أثر3. 48- معجزة: سألت جارية رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً وهو يأكل فأعطاها من بين يديه وكانت قليلة الحياء، فقالت: إنما أريد من الذي في فيك. فناولها من فيه - ولم يكن عليه السلام يسأل شيئاً فيمنعه - فلما استقرّ في جوفها ألقى عليها من الحياء ما لم تكن امرأة بالمدينة أشدّ حياء منها ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم4.

_ 1 شرحبيل بن عبد الرحمن الجفعي، قال ابن السكن وأبو حاتم وابن حبان: له صحبة. سكن البصرة. (ر: الاستيعاب 2/700، الإصابة 3/200) . 2 سِلْعَة: هي زيادة في البدن بين الجلد واللحم كالغدة تتحرك إذا حركت وتكون من حمصة إلى بطيخة. (ر: القاموس ص 942) . 3 أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 4/250، والطبراني في المعجم الكبير 7/267، والبيهقي في الدلائل 6/176، كلهم من طريق يونس بن محمّد المؤدب عن حماد بن يزيد عن مخلد بن عقبة بن شرحبيل الجعفي عن جدّه عبد الرحمن عن أبيه قال: ... ، فذكره. وعزاه الحافظ في الإصابة 3/200، أيضاً إلى ابن السكن والبغوي. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/301، وقال: "رواه الطبراني ومخلد ومن فوقه لم أعرفهم، وبقية رجاله رجال الصحيح". قلت: مخلد بن عقبة بن شرحبيل بن السمط الكندي، قال العلائي في الوشي: لا أعرف حال عقبه ولا مخلد. (ذكره الحافظ في اللسان 6/9) ، وذكره ابن أبي حاتم 8/348، ولم يذكر فيه جرحاً أو تعديلاً. وحماد بن يزيد بن مسلم المقري، أبو زيد، البصري، ذكره ابن أبي حاتم. 3/151، ولم يذكر فيه جرحاً أو تعديلاً. 4 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 8/236، 275، عن أبي أمامة رضي الله عنه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/351، 9/24، وقال: "رواه الطبراني وفيه: عليّ ابن يزيد الألهاني، وهو ضعيف".اهـ. وهو كما قال الهيثمي. (ر: التقريب 2/46) .

49- ومن معجزاته / (2/158/ب) إجابة دعائه وهذا باب متسع جدّاً، وإجابة دعائه صلى الله عليه وسلم متواتر معلوم ضرورة فكان إذا دعا لرجل أدركت الدعوة ولده وولد ولده. قال أنس: "قالت أمي: يا رسول الله خويدمك أنس ادع الله له. فقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما آتيته. قال أنس: فوالله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليعادُّون اليوم على نحو المائة وما أعلم أحداً أصاب من رفيع العيش ما أصبت، ولقد دفنت بيدي هاتين مائة من ولدي ولا أقول سقطاً ولا ولد ولد"1. ودعا صلى الله عليه وسلم لبعد الرحمن بن عوف بالبركة2. قال عبد الرحمن: "فلو رفعت حجر لرجوت أن أصيب تحته ذهباً3، ومات عبد الرحمن فحفر الذهب في تركته بالفؤس حتى مَجَلَت منه4 أيدي الرجال وكان له أربع زوجات فأخذت كلّ زوجة في ربع الثمن مائة ألف درهم5، وقيل: بل صولحت مطلقته في مرضه على ثمانين ألف6، وأوصى عبد الرحمن بخمسين ألفاً بعد صدقاته / (2/159/أ)

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب (61) . (ر: فتح الباري 2/284) ، ومسلم 4/1929، والإمام أحمد في مسنده 3/108، 188، 248، والترمذي 5/639-641، والبيهقي في الدلائل 6/194-197، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. 2 أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب (56) . (ر: فتح الباري 9/221) ، ومسلم 2/1042، والبيهقي في الدلائل 6/218، عن أنس رضي الله عنه. وفي الحديث دعاء النبي لعبد الرحمن لفظ: "بارك الله لك". 3 أخرجه أبو داود 2/235، مختصراً، والبيهقي في الدلائل 6/19، في سياق طويل كلاهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني وحميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه. قلت: إسناده صحيح. 4 مَجَلَت: قرحت من العمل. والمَجْل أو المَحْلَة: قشرة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل. (ر: القاموس ص 1365) . 5 ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 1/90، من طريق معمر عن ثابت عن أنس. 6 أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 2/847، عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وقال ابن عبد البر: "وقد روى غير ابن عيينة في هذا الخبر أنها صولحت بذلك عن ربع الثمن من ميراثه".

الماشية في حال صحّته وعوارفه الكثيرة1، وأعتق ثلاثين2 عبداً، وتصدق في مجلس واحد بقافلة فيها سبعمائة جمل بما عليها من البر والبضاعة حتى أقتابها3 وأحلاسها4 رضي الله عنه5. كلّ ذلك ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودعا عليه السلام لسعد بن أبي وقاص أن يجيب الله دعوته6 فما دعا قطّ إلاّ استجيب له7 فكانت دعوته مشهورة.

_ 1 ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 1/90، من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة. قلت: عبد الله بن لهيعة الحضرمي، أبو عبد الرحمن، صدوق، خلط بعد احتراق كتبه، مات سنة 174هـ. (ر: التقريب 1/444) . 2 أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 2/848، وأبو نعيم في الحلية 1/99، والحاكم 3/308، من طريق ابن إسحاق، ثنا أبو هشام الحسين بن عليّ عن جعفر بن برقان، قال: "بلغني أن عبد الرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألف بيت". وسكت عنه الحاكم والذهبي. قلت: جعفر بن برقان الكلابي، صدوق يهم في حديث الزهري، من السابعة مات سنة 150هـ. (ر: التقريب 1/129) ، فإسناده منقطع. 3 الأَقْتَاب: مفرده: قَتَب: وهو: الرَّحل الصغيرعلى قدرسنام البعير. (ر: القاموس ص157) . 4 الأحلاس: مفرده: حِلْس: وهو الكساء الذي على ظهر البعير تحت البَرْذَعة ويبسط في البيت تحت حرّ الثياب. (ر: القاموس ص 694) . 5 أخرجه أحمد في مسنده 6/115، عن عبد الصمد بن حسان عن عمارة عن ثابت عن أنس. قال: " ... فذكره في سياق طويل". اهـ. قلت: عمارة بن زاذان، الصيدلاني، صدوق كثيرةالخطأ من السابعة. (ر: التقريب2/49) . 6 عن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك"، أخرجه الترمذي 5/607، وأحمد في فضائل الصحابة 2/750، وابن حبان. (ر: الموارد ص 547) ، والحاكم 3/499، وأبو نعيم ص 567، والبيهقي 6/189، كلاهما في الدلائل وكلهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه. قال الترمذي: "حديث صحيح". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي". 7 إنّ مما ظهر من استجابة الله تعالى لدعاء سعد ما رواه البخاري عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة رضي الله عنه. قال شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر رضي الله عنه، فعزله واستعمل عليهم عماراً، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه. فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي. قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأُخُف في الأخريين. قال: ذاك - الظن بك يا أبا إسحاق - فأرسل معه رجلاً أو رجالاً إلى الكوفة فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجداً إلاّ سأل عنه، ويثنون معروفاً. حتى دخل مسجداً لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له: أسامة ابن قتادة يكنى أبا سَعْدة. قال: أما إذ نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية لا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه بالفتن. وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن". اهـ. أخرجه البخاري (ر: فتح الباري 2/236) ، ومسلم مختصراً 1/334، وقد ذكرت حوادث متعددة أخرى ظهرت فيها إجابة الله عزوجل دعاء سعد رضي الله عنه. ومنها في مستدرك الحاكم 3/499-501، ودلائل النبوة لأبي نعيم ص 568-569، وللبيهقي 6/189-191، والخصائص للسيوطي 2/280-282.

ودعا عليه السلام أن يعزّ الله الإسلام بعمر فاستجيب1 له وعَزَّ بهالإسلام، قال ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر2. وأصاب [أهل] 3الإسلام عطش فقال عمر: يا رسول الله ادع الله لنا أن يسقينا. فدعا عليه السلام فجاءت سحابة فسقت الناس حاجتهم ثم أقلعت4.

_ 1 أخرجه ابن حبان. (ر: الموارد ص 535) ، والحاكم 3/83، كلاهما من طريق هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن البني صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعزَّ الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة. قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وابن حجر. (ر: فتح الباري 7/48) . وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بمثله، أخرجه الحاكم، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وشاهد آخر من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب". قال: وكان أحبهما إليه عمر. أخرجه الترمذي 5/576، وقال: "حسن صحيح". وأخرجه أحمد في مسنده 15/95، وفي فضائل الصحابة 1/249، وابن حبان. (ر: الموارد ص 535) . 2 أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب (6) . (ر: فتح الباري 7/41، 177) ، وأحمد في فضائل الصحابة 2/277) . 3 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم. 4 في الشفا 1/628: "وأصاب الناس في بعض مغازيه عطش فسأله عمر الدعاء ... ". وقد تقدم تخريج الحديث الذي رواه ابن عباس عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. (ر: ص: 740) ، في غزوة تبوك وفيه: أن الذي رغب الدعاء من البني هو أبو بكر الصّدِّيق رضي الله عنه.

ودعا عليه السلام في الاستسقاء فسقوا، فجاءه أهل العوالي يشكون كثرة المطر وتهديم الدور فدعا صلى الله عليه وسلم برفعه فأقلع1. وقال عليه السلام لأبي قتادة: "أفلح وجهك اللهم بارك له في شعره، وبشره"، فعاش سبعين سنة وكأنه ابن خمس عشرة سنة2. وقال للنابغة3: لا يفض اللهفاك4، قال: فعاش / (2/159/ب) مائة وعشرين سنة. وقيل: أكثر من ذلك فما سقطت له سن5.

_ 1 تقدم تخريجه (ر: ص: 741) . 2 تقدم تخريجه. (ر: ص: 777) . 3 النابغة الجعدي رضي الله عنه، لَقَبُ الصحابي الشاعر المشهور أبو ليلى، اختلف في اسمه فقيل: قيس بن عبد الله، وقيل: عبد الله أو حبان، قال ابن قتيبة: عُمِّر إلى زمن ابن الزبير، ومات بأصبهان وله مائتان وعشرون سنة. وعن الأصمعي أنه عاش مائتين وثلاثين سنة. (ر: الاستيعاب 4/1516، الإصابة 6/218-220) . 4 أي: لا يسقط الله أسنانك. وتقديره: لا يكسر الله أسنان فيك. فحذف المضاف لعلم المخاطب. كما يقال: يا خيل الله اركبي: أي: يا ركاب خيل الله. (ر: غريب الحديث 1/191، للخطابي، والنهاية 3/453) . 5 أخرجه أبو نعيم ص 458، 459، والبيهقي 6/232، كلاهما في الدلائل من طريق يعلى بن الأشدق. قال: سمعت النابغة - نابغة بني جعدة يقول: أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر فأعجبه: بلغنا السماء مجدنا وثراءنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهر قال لي: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال: قلت: إلى الجنة، قال: كذلك إن شاء الله. فلا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صَفْوه أن يُكدّرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجدتَ لا يفضض فوك". قال يعلى: فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة، وما ذهب له سن". وأورده الحافظ في الإصابة 6/219، 220، بإسناد من طريق البغوي، ثم قال: أخرجه البزار والحسن بن سفيان في مسنديهما وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/74) ، والشيرازي في الألقاب كلهم من رواية يعلى بن الأشدق، وهو ساقط الحديث إلاّ أنه توبع. فقد رواه عبد الله بن جراد في غريب الحديث (1/190) ، للخطابي، و (في الدلائل 6/233 للبيهقي) ، وفي كتاب العلم للمرحبي وغيرهما عن عبد الله بن جراد قال: سمعت النابغة يقول: ... ، فذكره. ورواه كرز بن أسامة في المؤتلف والمختلف للدارقطني والصحبة لابن السكن - وكانت له وفادة مع النابغة - فذكره. وأورده الليثي في الأربعين البلدانية للسفلي، ورواه رجل لم يسم في مسند الحرث بن أبي أسامة، ورواه الطرماح في كتاب الشعراء لأبي زرعة الرازي، كلهم عن النابغة بألفاظ متقاربة". اهـ. بتصرف.

وقال لابن عباس: "اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل"1. فسمي بعد الحبر2 وترجمان القرآن. وقال لعبد الله3: "اللهم بارك له في صفقة يمينه"4، فما اشترى شيئاً إلاّ ربح فيه. ودعا عليه السلام للمقداد بالبركة5.

_ 1 أخرجه أحمد في مسنده1/266، 314، 328، 335، وفي فضائل الصحابة 2/956، وابن سعد 2/365، والحاكم 3/534، وعنه البيهقي في الدلائل 6/193، كلهم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ... ، فذكره. قال الحاكم: "حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب (10) . (ر: فتح الباري 1/244) ، ومسلم 4/1927، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عدا قوله: "وعلّمه التأويل". 2 الحِبْر: الأثر المستحسن، والحَبْر: بالفتح والكسر: العالم. وجمعه: أحبار. لما يبقى من أثر علومهم في قلوب الناس ومن آثار أفعالهم الحسنة المقتدي بها. وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين رضي الله عنه بقوله: "العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة". (ر: المفردات ص 106، للراغب، النهاية 1/328) . 3 هو: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي، أبو جعفر رضي الله عنه. من المشهورين بالجود والكرم، له خمسة وعشرون حديثاً. 4 أخرجه البيهقي في الدلائل 6/220، والبغوي. (ر: الإصابة 4/48) ، من طريق فطر ابن خليفة عن أبيه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على عبد الله بن جعفر وهو يبيع شيئاً يلعب به، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: اللهم بارك له في تجارته". ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/289، وقال: "رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات". وأورده السيوطي في الخصائص 2/288، وقال: "أخرجه ابن أبي شيبة وأبو يعلى والبيهقي بسند حسن". اهـ. 5 أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 461، عن أبي بكر الطلحي وسليمان بن أحمد، قالا: ثنا عبيد بن غنام عن أبي بكر بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد عن موسى بن يعقوب عن عمته قُرَيْبَة بنت عبد الله بن وهب عن أمها كريمة بنت المقداد بن عمرو عن ضباعة بنت الزبير وكانت تحت المقداد، قالت: كان الناس إنما يذهبون لحاجتهم فرط اليومين والثلاث فيبعرون كما تبعر الإبل، فلما كان ذات يوم خرج المقداد لحاجته حتى بلغ الحجبة وهو ببقيع الغرقد فدخل خربة لحاجته، فبينما هو جالس إذ أخرج جرذ من حجره ديناراً، فلم يزل يخرج ديناراً دينَاراً حتى بلغ سبعة عشر دينارا، فخرج بها النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرها. فقال: هل اتبعت يدك الحجر؟ قال: لا. والذي بعثك بالحق. فقال: لا صدقة عليك فيها، بارك الله لك فيها. قالت ضباعة: فما فني آخرها حتى رأيت غرائر الوَرِقِ في بيت المقداد". اهـ. قلت: إسناده ضعيف. فإن موسى بن يعقوب المطلبي صدوق سيّء الحفظ وعمته قريبة بنت عبد الله الأسدية مقبولة. (ر: التقريب 2/289، 2/611) .

فصارت عنده غرائر1 من المال. ودعا بمثل ذلك لعروة بن أبي الجعد2. فقال عروة: لقد صرت أقوم في السوق فما أرجع حتى أربح أربعين ألفاً3. وقال البخاري في حديثه: "فكان لو اشترى التراب لربح فيه". [روى مثل هذا لغرقدة أيضاً] 4، وندت له ناقة فدعا الله فجاءه بها إعصار ريح حتى ردّها عليه صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الغَرَائر: الأكياس الكبيرة. 2 أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (28) . (ر: فتح الباري 6/632) ، وأحمد في المسند 4/375، وأبو داود 3/256، والبيهقي في الدلائل 6/220، عن عروة بن أبي الجعد البارفي رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشتر له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء دينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه". 3 هذه الزيادة من قول عروة، أخرجها الإمام أحمد في المسند 4/376، وأبو نعيم في الدلائل 461، كلاهما من طريق سعيد بن زيد عن الزبير بن خريت عن أبي لبيد عن عروة البارقي، قال: ... ، فذكره في سياق طويل. وبنفس الإسناد السابق ذكره أبو داود3/256، والترمذي3/559، ولم يذكر الزيادة السابقة. قلت: إسناده حسن، فإن سعيد بن زيد بن درهم الأزدي وأبي لبيد لِمَازَه بن زَبَّار الأزدي صدوقان. (ر: التقريب 1/296، 2/138) . 4 هذه الإضافة من الشفا1/630، ولم يخرج السيوطي الروايتين: "دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لغرقدة - وندت له ناقة ... ". (ر: المناهل ص 46، الطبعة الحجرية القديمة) . قال القاري في شرحه للشفا 3/121: "روي مثل هذه لغرقدة". قال الدلجي: "لا أدري من رواه". "وندت له". أي: لغرقدة (ناقة فدعا الله) أي: النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو ظاهر الكلام ... الخ. اهـ. وقال الخفاجي في نسيم الرياض 3/121، 122: "وروي مثل هذا لغرقدة) . غرقدة صحابي يسمى أبا شبيب، روى عنه ابنه (وندت له ناقة) الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس ضمير (له) لغرقدة كما توهمه البعض. "فجاء بها إعصار ريح حتى ردّها الإعصار عليه". أي: على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لم يُخَرِّجوه، وكون الضمير لغرقدة لا يناسب المقام وإن اتفقوا عليه ... ". اهـ. بتصرف. قلت: قوله:"وروي مثل هذا لغرقدة"، فقدأخرجه ابن قانع في الصحابة، قال: حدّثناعلي ابن محمّد، حدّثنا مسدد، حدّثنا ابن عيينة عن شبيب بن غرغدة، حدّثني الحيّ من غرقدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به أضحية، أو قال: شاة، فاشترى شاتين. الحديث. قال ابن قانع:"كذاقال. وهوتصحيف وإنما هو من عروة لاعن غرقدة".اهـ. قال الحافظ ابن حجر: "وهذا الحديث في صحيح البخاري من حديث سفيان بن عيينة لكنه عن عروة بن الجعد، والحديث مشهور من حديثه، وأما غرقدة والد شبيب ذُكر في الصحابة ولا يصح، هكذا قال ابن منده".اهـ. (ر: الإصابة5/197، 198) . أما كلام الخفاجي إن الضمير في: "وندت له ... "، يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كلام جيّد ومقبول إلاّ أن الحديث لم يخرجوه.

ودعا عليه السلام لأم أبي هريرة1، وقد كانت نالت منه فأسلمت من ساعتها2 وقصتها مشهورة. ودعا لعليّ - رضوان الله عليه - أن يُكفى الحرّ والبرد، فكان عليّ بعدها يلبس لباس الصيف في الشتاء ولباس الشتاء في الصيف ولا يصيبه حرّ ولا برد3.

_ 1 هي: أميمة بنت صبيح أو صفيح بن الحارث، اختلف في اسمها فجاء عن أبي هريرة أنه ابن أميمة، وترجم الطبراني في النساء ميمونة بنت صبيح أم أبي هريرة وساق قصة إسلامها. (ر: الإصابة 8/18، 19) . 2 أخرجه مسلم 4/1938، وأحمد في مسنده 2/320، والبيهقي في الدلائل 6/203، كلهم من طريق عكرمة بن عمار عن أبي كثير الغُبَري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ... فذكره في سياق طويل - وفيه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد أم أبي هريرة". 3 أخرجه ابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه1/26، للألباني) ، وأبو نعيم ص462، والبيهقي 4/213، كلاهما في الدلائل من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عليّ رضي الله عنه ... ، فذكره في سياق طويل، وفيه: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ: "اللهم أذهب عنه الحرّ والبرد". ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/125، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن"، ووافقه الألباني.

ودعا لفاطمة سلام الله عليها: ألاّيجيعها. قالت: فماجعت قط بعدها1. وسأله الطفيل بن عمرو آية لقومه/ (2/160/أ) فقال: اللهم نَوَّر له. فسطع نور بين عينيه، فقال الطفيل: اللهم في غير وجهي فإني أخاف أن يقولوا مُثْله2. فتحوَّل النور إلى طرف سوطه كالقنديل، فكان يضيء في الليلة المظلمة فسمي ذا النور3.

_ 1 أخرجه أبو نعيم ص 462، والبيهقي 6/108، كلاهما في الدلائل من طريق مُسْهِر ابن عبد الملك الهمداني عن عتبة أبي معاذ البصري عن عكرمة عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال ... ، فذكره في سياق طويل. وفيه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "اللهم مشبع الجاعة ورافع الوضعة لا تجع فاطمة بنت محمّد". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/207، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه عتبة بن حميد، وثقّه ابن حبان وغيره، وضعّفه جماعة، وبقية رجاله وثّقوا". اهـ. قلت: عتبة بن حُنَيد الصبي. أبو معاذ أبو معاوية البصري، صدوق له أوهام. (ر: التقريب 2/4) ، وفيه أيضاً مسهر بن عبد الملك الهمداني الكوفي، لين الحديث. (ر: التقريب 2/249) . 2 أي: يعتبرها قومه عيباً وتشويهاً أصابه من آلهتهم-على حدّ زعمهم-لتركه دينهم. 3 أخرجه ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة 2/25-29) ، في قصة إسلام الطفيل وقومه في سياق طويل، وعنه أبو نعيم ص 238-240، والبيهقي 5/360-363، كلاهما في الدلائل معلقاً، ووصله ابن عبد البر في الاستيعاب 2/220، عن ابن إسحاق عن عثمان بن الحويرث عن صالح بن كيسان أن الطفيل ... ، فذكره. قلت: إسناده منقطع، فإن صالح بن كيسان لم يرو عن الطفيل. (ر: التهذيب4/350) . وأخرجه ابن سعد في الطبقات 4/237-239، عن الواقدي وهو ضعيف. وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب 2/221، عن هشام بن الكلبي، وفي الدرر ص 53، بدون إسناد. وذكره الحافظ في الإصابة 3/287، في ترجمة الطفيل بن عمرو الدوسي وعزاه أيضاً إلى الطبري وأبي الفرج الأصبهاني كلاهما من طريق ابن الكلبي". اهـ.

ودعا عليه السلام على مضر فأقحطوا حتى استعطفته قريش فدعا لهم فسقوا وأخصبوا1. ودعا عليه السلام على كسرى أن يمزق الله ملكه2 ففعل الله ذلك وقتله ابنه شِيْروَيه3 ولم يقم بعدها للفرس قائمة. وأخبر عليه السلام فيروز4 عامل كسرى في الليلة التي قتل فيها وهو بالمدينة، فكان الأمر كما أخبر فأسلم فيروز فأسلم من معه5.

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء وكتاب التفسير. (ر: فتح الباري 2/492، 8/173) ، ومسلم 4/2155-2157، وأحمد في المسند 1/380، 431، وأبو نعيم ص 447، والبيهقي 2/324-327، كلاهما في الدلائل عن ابن مسعود رضي الله عنه في سياق طويل - فيه - دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على قريش لما كذبوه واستعصوا عليه، فقال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف". فأخذتهم السنة حتى حصدت كلّ شيء، فأتاه أبو سفيان فقال: أي محمّد إن قومك قد هلكوا، فادع الله أن يكشف عنهم، فدعا. 2 أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب (101) . (ر: فتح الباري 6/108) ، وأبو نعيم ص 348، والبيهقي 4/387، 388، كلاهما من في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - وفيه -: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق. 3 شيرويه بن كسرى، واسم أبيه أبرويز بن هرمز بن أنوشروان بن قباز، ولم يعش شيرويه بعد قتله أباه إلاّ ستة أشهر أو دونها. (ر: البداية 2/180، لابن كثير) . 4 فيروز الديلمي رضي الله عنه، ويقال ابن الديلمي، ويكنى أبا الضحاك ويقال: أبا عبد الرحمن، يماني كناني أبناء الأساورة من فارس الذين كان كسرى بعثهم إلى اليمن لطرد الحبشة، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وروى عنه أحاديث ثم رجع فأعان على قتل الأسود العنسي، ومات في خلافة عثمان، وقيل: في خلافة معاوية باليمن سنة 53هـ. (ر: الطبقات 5/533، الإصابة 4/214) . 5 أخرجه أبو نعيم ص 346، في سياق طويل، والبيهقي في الدلائل 4/391، مختصراً عن دحية الكلبي رضي الله عنه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/310-312، مطولاً، وقال: "رواه البزار عن إبراهيم بن إسماعيل عن يحيى بن سلمة عن أبيه وكلاهما ضعيف. وأخرجه ابن سعد 1/259، من طريق الواقدي عن ابن عباس والمسور بن رفاعة والعلاء بن الحضرمي وعمرو بن أمية الغمري - دخل حديث بعضهم في بعض - في سياق طويل. وأخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 348، وابن أبي الدنيا في دلائل النبوة. (ر: الإصابة 1/175) . عن ابن إسحاق منقطعاً. أخرجه ابن جرير. (ر: البداية 4/269 لابن كثير) عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب مرسلاً. وأخرجه أبو نعيم وابن سعد في شرف المصطفى. (ر: الخصائص 2/17 للسيوطي) ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلاً. وأورده ابن هشام عن الزهري منقطعاً. (ر: السيرة 1/112) ، في سياق طويل. وقد وردت في الروايات السابقة أن كسرى كتب إلى (باذان) عامله باليمن فأرسل باذان قهرمانه - أي: وكيله - واسمه: (بابويه) ورجلاً من الفرس اسمه: (خرخسرة) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم باذان وأسلمت الأبناء من فارس بعد تحققه من صدق خبر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كسرى. (ر: للتوسع الإصابة 1/175، 176، 2/149) . وقد ذكر الماوردي في أعلام النبوة ص 154-155، القصة بنحو ما ذكره المؤلِّف وفي الشفا 1/672.

وقطع عليه إنسان صلاته فدعا عليه أن يقطع الله أثره فَأُقْعد1. وقال لآخر: كُلْ بيمينك. فقال: لا أستطيع. فقال له: لا استطعت. فلم يرفعها بعد إلى فيه2.

_ 1 أخرجه أبو داود 1/188، وعنه البيهقي في الدلائل 5/243، من طريق سعيد بن عبد العزيز عن مولى ليزيد عن غران عن يزيد بن نمران قال: رأيت رجلاً بتبوك مقعداً فقال: مررت بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا على حمار وهو يصلي، فقال: "اللهم اقطع أثره، فما مشيت عليها بعد". قلت: إسناده ضعيف. ففيه مجهولان: الأوّل: مولى ليزيد بن نمران، قيل: اسمه سعيد، وهو مبهم لا يعرف. (ر: التقريب 2/574) ، والمجهول الثاني: راوي الحديث: "رأيت رجلاً ... ". وله تابع لا يصح. أخرجه أبو داود من طريق ابن وهب المصري عن معاوية عن سعيد بن غزوان عن أبيه أنه نزل بتبوك وهو حاج فإذا رجل مقعد فسأله عن أمره فقال له: ... ، فذكره. وإسناده ضعيف. فإن معاوية بن صالح بن حُدَيْر، صدوق له أوهام. (ر: التقريب 2/259) ، وسعيد بن غزوان، شامي مستور من السادسة. (ر: التقريب 1/303) . 2 أخرجه مسلم3/1599، والبيهقي في الدلائل6/238، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. وذكر الحافظ في الإصابة 1/153 أن الرجل الذي دعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو: بُسر ابن راعي العير الأشجعي. كذا ذكره ابن منده وأبو نعيم وابن ماكولا وآخرون.

وقال لعتيبة1 بن أبي لهب: "اللهم سَلِّط عليه كلباً من كلابك"، فأكله الأسد بعد أن حرسه أهله وصانوه2. ودعا على النفر الذين وضعوا السَّلَى3 عليه ساجد وسماهم واحداًواحداً، قال ابن مسعود: فلم ينج منهم واحد / (2/160/ب) لقد رأيتهم قتلى يوم بدر4.

_ 1 في م: عتبة. وهو خطأ فإنه عتبة قد مات مسلماً. (ر: الإصابة 4/216) ، وفي رواية البيهقي أنه لهب بن أبي لهب، وقال: وأهل المغازي يقولون: عتبة بن أبي لهب، وقال بعضهم: عتيبة. (ر: الدلائل 338) . 2 أخرجه الحاكم 3/539، وعنه البيهقي في الدلائل 2/338، من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه قال: كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم سلّط عليه كلباً ... "، الحديث. قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث هبار بن الأسود رضي الله عنه، أخرجه أبو نعيم في الدلائل، ص 454، وابن منده وابن قانع. (ر: الإصابة 6/280) ، كلهم من طريق عروة بن الزبير عنه. قال: كان أبو لهب وابنه عتيبة قد تجهزا إلى الشام وتجهزت معهما. فقال ابنه عتيبة: والله لأنطلقن إليه فلا تؤذينه في رَبِّه، فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمّد، هو يكفر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ابعث عليه كلباً من كلابك ... "، الحديث في سياق طويل. قلت: إسناده صحيح. وأخرجه ابن إسحاق، وعنه أبو نعيم في الدلائل ص 455-457، من طرق أخرى مرسلة عن محمّد بن كعب القرظي وعن طاوس. 3 السَّلَى: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفاً فيه. وقيل: هو في الماشية السلى، وفي الناس المشيمة. والأوّل أشبه لأن المشيمة تخرج بعد الولد. ولا يكون الولد فيها حين يخرج. (ر: النهاية 2/396) . 4 أخرجه البخاري في كتاب الضوء باب (69) . (ر: فتح الباري 1/249، 594) ، ومسلم 3/1418، وأحمد في المسند 1/393، 417، وأبو نعيم ص 266، والبيهقي 3/82، كلاهما في الدلائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: ... ، فذكره في سياق طويل. وفيه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين: "اللهم عليك بقريش - اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش، ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشبيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة ابن الوليد".قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ... ".واللفظ في البخاري.

وكان الحكم1 بن العاص يَخْتَلج2 بوجهه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: "كذلك فكن". فابتلي بهذه العلة إلى أن مات3. قال المؤلِّف: هذه الآية نظيرة ما في الإنجيل من دعاء المسيح على شجرة تين فيبست4. ودعا عليه السلام على مُحَلَّم5 بن جَثَّامة فهلك فلفظته الأرض فواروه فلفظته أيضاً دفعات فجعلوه بين رضمتين - وهما جانبي الوادي - ثم رضموه بالحجارة6.

_ 1 الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي رضي الله عنه، عم عثمان بن عفان، ووالد مروان، أسلم يوم الفتح وسكن المدينة ثم نفاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ثم أعيد إلى المدينة في خلافة عثمان ومات بها سنة 32هـ. وقال ابن السكن: "يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه ولم يثبت ذلك". اهـ. (ر: الإصابة 2/28، 29) . 2 أي: كان يحرك شفتيه وذقنه استهزاء وحكاية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فبقي يرتعد ويضطرب إلى أن مات، وأصل الخَلْج: الجذب والنَّزع. (ر: النهاية 2/59، 60) . 3 أخرجه الحاكم 2/621، وعنه البيهقي في الدلائل 6/239، عن العباس محمّد بن يعقوب عن إبراهيم بن سليمان عن ضرار بن صرد عن عائذ بن حبيب عن عبد الله المزني عن عبد الرحمن بن أبي بكر ... ، فذكره. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه ضرار، وهو واهٍ". اهـ. وذكره الحافظ في الإصابة 2/29، وقال: "في إسناده نظر، وفيه ضرار بن صرد هو منسوب للرفض". اهـ. قلت: ضرار بن صرد التيمي، صدوق له أوهام. وخطئ ورمي بالتشيع. (: التقريب 1/374) . 4 متى 21/19، 20، مرقص 11/13، 14. 5 مُحَلَّم بن جَثَّامة الليثي، أخو الصعب بن جثامة، قال ابن عبد البر: يقال: إنه الذي قتل عامر بن الأضبط، وقيل: إنه غير الذي قتل، وأنه نزل حمص، ومات بها أيام ابن الزبير، ويقال: إنه الذي مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودفن فلفظته الأرض، قال الحافظ: جزم بالأوّل ابن السكن. (ر: الاستيعاب 4/1461، الإصابة 6/49) . 6 ملخص قصة محلم بن جثّامة أنه كان في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل رجلاً سَلَّم عليهم بتحية الإسلام وقد كانت بين محلم والرجل عداوة قديمة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليه فقال: "اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة" ثلاثاً. وقد أخرجها أحمد في المسند 5/112، 6/10، 11، وأبو داود 4/171، وابن عبد البر في الاستيعاب 4/1462، والبيهقي في الدلائل 6/306، كلهم من طريق ابن إسحاق. (ر: السيرة4/364-366) ، قال: حدّثني محمّد بن جعفر بن الزبير عن زياد بن سعد بن ضمير السلمي وكاناشهداحنيناً مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال:..، فذكره في سياق طويل. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد7/11، وقال:"رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات". وأما خبر موت محلم ولفظ الأرض جثته - ثلاث مرات - ثم جعلوه بين صدين ورضموه بالحجارة، فقد أخرجه ابن ماجه، (ر: صحيح ابن ماجه 2/347، 348، للألباني) ، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، في سياق طويل. وقد حَسَّن الشيخ الألباني الحديث لتعدد طرقه. وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أخرجه ابن جرير في تفسيره 5/222، من طريق ابن إسحاق عن نافع عنه. وشاهد آخر من حديث قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه أخرجه البيهقي في الدلائل (4/310) ، من طريق ابن إسحاق. وأخرجه ابن إسحاق. (ر: السيرة 4/366) ، والبيهقي في الدلائل 4/310، عن الحسن البصري مرسلاً.

وجحد رجل1 بيع فرس وهي التي شهد بها خزيمة2. فقال: اللهم إن كان كاذباً فلا تبارك له فيها. فأصبحت من ليلتها على ثلاث قوائم3.

_ 1 هو: سواء بن الحارث المحاربي، ذكره الخطيب البغدادي في الأسماء المبهمة ص 120، والحافظ في الإصابة 3/147، في قصة جحده بيع فرسه للنبي صلى الله عليه وسلم. 2 هو: الصحابي الجليل المعروف خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي ثم الخطمي، ذو الشهادتين، له ثمانية وثلاثون حديثاً. أما حديث شهادة خزيمة لبيع النبي صلى الله عليه وسلم للفرس فهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود 3/308، والنسائي في كتاب البيوع، (ر: صحيح النسائي 3/961 للألباني) ، والحاكم2/17، 18، عن عمارة بن خزيمة عن عمه رضي الله عنه ... ، فذكره في سياق طويل. وقال الحاكم: "حديث صحيح الإسناد ورجاله ثقات باتفاق الشيخين"، ووافقه الذهبي والألباني. 3 ورد في الشفا 1/635، كالآتي: "فأصبحت شاصية برجلها، أي: رافعة". وقال الخفاجي في نسيم الرياض 3/130: "المراد أن رجلها مرفوعة والإسناد مجازي، وارتفاع رجلها كناية عن أنها مات وانتفخ بطنها حتى صارت رجلها مرفوعة كما يشاهد في الجيف بعد أيام". اهـ. قلت: لم أجد فيما اطلعت عليه في تخريج الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على تلك الفرس سوى ما ذكره القاضي عياض في الشفا، غير أن الحافظ ابن حجر نقل في الإصابة 3/147 خبراً ينقض ما ذكره القاضي عياض في الشفا، والمؤلِِّف، فقال الحافظ في ترجمة سواء بن الحارث: "روى ابن شاهين وابن منده من وجه آخر عن زيد بن الحباب عن محمّد بن زرارة عن المطلب بن عبد الله، قال: قلت لبني الحارث بن سواء: "أبوكم الذي جحد بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: لا تقل ذلك، فلقد أعطاه بكرة وقال: إن الله سيبارك لك فيها، فما أصبحنا نسوق سارحاً ولا نازحاً إلاّ منها". اهـ. وسكت عنه الحافظ.

50- ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انقلاب الأعيان له، روى الفِرَبْري1 عن البخاري بإسناده عن أنس بن مالك: أن أهل المدينة فزعوا مرة فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي2 طلحة كان به قطاف3 فكان بطيئاً فلمارجع عليه السلام قال: إناوجدناه لَبَحراً4 فكان بعد لا يحارى"5.

_ 1 هو: محمّد بن يوسف بن مطر. أبو عبد الله الفربري، أوثق من روى (صحيح البخاري) عن مصنفه، سمعه منه مرتين، الأولى سنة 248هـ، والثانية سنة 252هـ، ورواه عنه كثيرون. توفي سنة 320هـ. (ر: مقدمة فتح الباري 491، الأعلام 7/148) . 2 هو: زيد بن سهل الأنصاري، زوج أم أنس - رضي الله عنهم -، الصحابي المعروف له خمسة وعشرون حديثاً. 3 القِطاف: تقارب الخطو في سرعة. من القطف. وهو القطع. والمراد أنه كان بطئ المشي، واسم الفرس (المندوب) ، سمي بذلك من الندب، وهو الرهن عند السباق. وقيل: لندب كان في جسمه، وهو أثر الجرح. (ر: النهاية 4/84، فتح الباري 5/241) . 4 أي: واسع الجري. وسمي البحر بحراً لسعته. وقال الأصمعي: يقال للفرس بحر إذا كان واسع الجري، أو لأن جريه لا ينفد كما لا ينفد البحر. (ر: النهاية (1/99) ، وفتح الباري 5/241) . 5 أخرجه البخاري في كتاب الهبة باب (33) . (ر: فتح الباري 5/240) ، ومسلم 4/1802، والإمام أحمد 3/147، 185، 261، 271، والترمذي 4/171، 172، وابن ماجه (ر: صحيح ابن ماجه 2/124) ، وأبو نعيم في الدلائل ص 439، والبيهقي في الدلائل 6/153، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، كلهم بألفاظ متقاربة.

وخفق فرسا لُجَعيل الأشجعي1 بمخفقة2 كانت في يده وبرك3 عليها فلم يملك رأسها نشاطاً وباع من باطنها باثني عشر ألفاً4. وركب حماراً قطوفاً5 / (2/161/أ) لسعد بن عبادة فَرَدَّ هِمْلاجا6لا يساير7. وكانت شعرات من شعره صلى الله عليه وسلم في قلنسوة8 خالد بن الوليد، فلم يشهد بها قتالاً إلاّ رزق النصر9.

_ 1 جعيل بن زيد الأشجعي، وقيل: ابن ضمرة، وقيل: فيه أيضاً جعال. وقد غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله حديث واحد. (ر: الاستيعاب 1/246، الإصابة 1/250) . 2 مخفقة: الدِّرة: السوط. (ر: النهاية 2/56) . 3 أي: دعا لها بالبركة. 4 أخرجه الطبراني في الكبير 5/235، والبيهقي في الدلائل 6/153، كلاهما من طريق محمّد بن عبد الله الرقاشي عن رافع بن سلمة بن زياد عن عبد الله بن أبي الجعد الأشجعي عن جعيل الأشجعي رضي الله عنه، قال غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم ... ، الحديث. وفيه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للفرس: "اللهم بارك له فيها". وتابع الرقاشي عليه زيد بن الحباب عن رافع، أخرجه البيهقي في الدلائل 6/145. وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب 1/246، وقال: "حديث حسن". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/265، 266، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات". وأورده الحافظ في الإصابة 1/250، وقال: روى حديثه النسائي بسند صحيح. 5 القِطاف: تقارب الخطو في سرعة. من القَطْف، وهو القطع. (النهاية 4/84) . 6 الهِمْلاج: فارسي معرَّب، أي: سريع الهرولة. (ر: القاموس ص 269) . 7 أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/176، مرسلاً عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً ... ، فذكره بنحوه. قلت: إسحاق بن عبد الله الأنصاري، ثقة. من الرابعة مات سنة 132هـ. (ر: التقريب 1/59) . وله شاهد من حديث عصمة بن مالك الخطمي رضي الله عنه، أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/110، وقال: "رواه الطبراني وفيه الفضل بن المختار، وهو ضعيف". اهـ. 8 قَلَنْسُوة وقَلَنْسية: إذا فتحت ضممت السين، وإذا ضممت كسرتها، تلبس في الرأس، جمعها: قلانس. (ر: القاموس ص 731) . 9 أخرجه الحاكم 2/299، وعنه البيهقي 6/249، وأبو نعيم ص 444، كلاهما في الدلائل، كلهم عن سعيد بن منصور عن هشيم عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن خالد بن الوليد فقد قلنسوة له يوم اليرموك. فقال: اطلبوها. ثم طلبوها فوجدوها فإذا هي قلنسوة له خَلِقَة. فقال خالد: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصية فجعلتها في هذه القلنسوة فلم أشهد قتالاً وهي معي إلاّ رزقت النصر". قال الذهبي: إسناده منقطع. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/352، وقال: "رواه الطبراني وأبو يعلى بنحوه ورجالهما رجال الصحيح، وجعفر سمع من جماعة من الصحابة فلا أدري سمع من خالد أم لا؟ ".

وفي الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أنها أخرجت جبة طيالسة1 وقالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها"، فنحن نغسلها للمرض يستشفى بها2. وكانت قصعته عليه السلام عند بعض العلماء وكان يجعل فيها الماء للمرضى فيستشفون3 ببركتها4. وأخذ جهجاه الغفاري5 القضيب6 من يد عثمان ليكسره على ركبته فصاح الناس به فأخذته الأكلة7 فقطعها ومات بها قبلالحول8.

_ 1 الطَّيْلَس: هو: الأسود، أي: جبة سوداء. وهي كلمة أعجمية معربة أصلها: تالسان. (ر: القاموس ص 714) . 2 أخرجه مسلم 3/1641، وأحمد في المسند 6/247، 353، وأبو داود 4/49، مختصراً، وابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 2/280 للألباني) . 3 في ص: (فيشفون) ، والمثبت من م. 4 ورد النّصّ في الشفا 1/638، كالآتي: "وحدّثنا القاضي أبو عليّ عن شيخه أبي القاسم بن المأمون، قال: كانت عندنا قصعة من قصاع النبي صلى الله عليه وسلم فكنا نجعل فيها الماء للمرضى فيستشفون بها". اهـ. قال الخفاجي في نسيم الرياض 3/134: "عن شيخه أبي القاسم بن المأمون بن محمّد هشام الرعيني السبتي المعروف بابن المأمون الإمام المشهور". اهـ. 5 جهجاه بن سعيد، وقيل: ابن قيس، وقيل: ابن مسعود الغفاري، شهد بيعة الرضوان بالحديبية ومات بعد عثمان بأقل من سنة رضي الله تعالى عنهما. وله حديث واحد. (ر: الاستيعاب 1/269، الإصابة 1/265) . 6 القضيب؛ هو: عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان الخلفاء يتداولونها. 7 الأَكِلة: داء في العضو يُؤْتَكل منه، أي: الحكة. (ر: القاموس ص 1243) . 8 ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب 1/269، وقال الحافظ في الإصابة 1/265: "روى البارودي (وأبو نعيم في الدلائل ص 581) من طريق الوليد بن مسلم عن مالك وغيره عن نافع عن ابن عمر قال: ... ، فذكره. ورواه ابن السكن من طريق سليمان بن بلال وعبد الله بن إدريس عن عبيد اله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مثله. ورواه من طريق فليح بن سليمان عن عمته عن أبيها وعمّها أنهما حضرا عثمان قال: فقام إليه جهجاه بن سعيد الغفاري حتى أخذ القضيب من يده فوضعها على ركبته فكسرها فصاح به الناس، ونزل عثمان فدخل داره، ورمى الله الغفاري في ركبته فلم يحل عليه الحول حتى مات. ورويناه في المحامليات من طريق حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن جهجاه ... ، نحو الأوّل". اهـ. قلت: إسناده صحيح. والله أعلم.

وسكب من فضل وضوئه في بئر قباء فما نزفت بعد1. ومرّ على بئر فسأل عنه فقيل: اسمه (بيسان) ، وماؤه ملح، فقال عليه السلام: "بل هو (نعمان) ماؤه طيب"، فصار كذلك"2. وكان لأم3 مالك عُكَّة تهدي فيها للنبي سمناً فكانت أبداً تجدها مملوءة سمناً فكانت تقيم بإدامهم4. وغرس لسلمان الفارسي ثلاثمائة ودية5 فلم يمت منها / (2/161/ب) واحدة، وأطعمت من عامها خلاً واحدة غرسها غيره فلم تطعم فنَزعها ثم وضعها فلحقت بأخواتها، وقصة سلمان مشهورة. وأعطاه نذراً6 من الذهب، وقال: أَدِّه فيما7 عليك، فقال: أين يقع هذا

_ 1 أخرجه ابن سعد 1/505، عن الواقدي عن سعيد بن محمّد عن سعيد بن رقيش عن أنس رضي الله تعالى عنهما قال: ... ، فذكره. وفيه أن اسم البئر (بئر غرس) . وله تابع أخرجه البيهقي في الدلائل 6/136، من طريق إبراهيم بن طهمان عن يحيى بن سعيد عن أنس رضي الله عنه. قلت: فإسناده صحيح. والله أعلم. 2 ذكره السيوطي في الخصائص1/461، وقال:"أخرج الزبير بن بكار، قال: ثني إبراهيم ابن حمزة بن إبراهيم بن بسطاس عن محمّد بن إبراهيم بن الحارث، قال: ... ، فذكره. قلت: إسناده منقطع. فإن محمّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أبو عبد الله المدني ثقة، له أفراد، من الرابعة. (روايتهم عن كبار التابعين) ، مات سنة 120هـ. (ر: التقريب 2/140) . 3 هي: أم مالك بنت أُبي بن مالك الأنصارية الخزرجية، أخت عبد الله بن أبي بن سلول، ذكرها ابن سعد، وقال: أسلمت وبايعت وأمها سلمى بنت مطرف بن الحارث الأوسية، وتزوج أم مالك رافع بن العجلان، لها حديث واحد. (ر: الاستيعاب 4/1956، والإصابة 277، 278) . 4 أخرجه مسلم 4/1784، وعنه البيهقي في الدلائل 6/114، عن جابر رضي الله عنه في سياق طويل. وأخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 559، بإسناده من طريق يحيى بن جعدة عن جدته أم مالك رضي الله عنها. 5 الوَدِيُّ - بتشديد الياء -: صغار النخل. الواحدة: وَدِيَّة. (ر: النهاية 5/170) . 6 في م: (قدرا) . 7 في: الذهب فيها.

فيما عليّ يا رسول الله؟ فأخذه عليه السلام فَقَلَّبه على لسانه فوفَّى منه أربعين أوقية كانت عليه وبقي منه له مثل ذلك1. قال حنش2 بن عقيل: شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم [سويقا] 3 وسقاني فَضْلَه، وما برحت أجد شبعاً ورياً وبرداً4. وصلى معه قتادة5 بن نعمان العشاء الآخرة في ليلة مظلمة فأعطاهعرجوناً، وقال: انطلق فإنه سيضيء لك من بين يديك عشراً ومن خلفك عشراً. فأضاء له العرجون حتى دخل بيبته6.

_ 1 أخرجه أحمد في المسند 5/441-444، ابن سعد 1/184، 4/75، وأبو نعيم في الدلائل ص 258-264، والطبراني في الكبير 6/222-226، والبيهقي في الدلائل 2/92-97، كلهم من طريق ابن إسحاق. (ر: السيرة 1/273-282) . قال: حدّثني عاصم بن عمرة بن قتادة الأنصاري عن محمود بن لبيد عن ابن عباس عن سلمان الفارسي - رضي الله عنهم -، قال:..، فذكره في سياق طويل جداً. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/335-340، وقال: "رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمّد بن إسحاق وقد صرح بالسماع". قلت: وهو كما قال الهيثمي. فإسناده متصل صحيح. 2 حَنَش - بفتحتين ثم شين معجمة -: ابن عَقيل - بفتح أوّله -، أحد بني نغيلة من مليك، أخي غفار، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم، وتوفي في خلافة عمر رضي الله تعالى عنهما. (ر: الإصابة 2/42) . 3 في ص، م (سويق) والصواب ما أثبتّه. 4 ذكره ابن حجر في ترجمته في الإصابة 2/42، وقال: "له حديث طويل ذكره ابن الأثير بغير عزو، وعزاه ابن فتحون في الذيل لقاسم فوجدته في الدلائل له من طريق موسى بن عقبة عن المسور بن مخرمة - وذكر خبراً طويلاً ملخصه: أنهم خرجوا حجاجاً مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى إذا كانوا بالعَرْج إذا هاتف بالطريق: قفوا. فوقفوا ثم استفسرهم الهاتف عن أشياء ثم سأله عمر قال: فمن أنت؟ قال: أنا الحنش ابن عقيل أحد بني نغيلة بن مليك لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ردهة بني جعال فدعاني إلى الإسلام فأسلمت فسقاني فضلة سويق فما زلت أجد ريها إذا عطشت وشبعها إذا جعت ... "، اهـ. ملخصاً. 5 هو: قتادة بن العنمان الأوسي الظفري الصحابي المعروف، له سبعة أحاديث. 6 أخرجه أحمد في المسند3/65، في سياق طويل، وأبو نعيم في الدلائل ص562، كلاهما من طريق سعيد بن الحارث عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/321، وقال: "رواه أحمد والطبراني والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح".

ودفع لعكاشة1 بن محصن جذل2 حطب حين انكسر سيفه، وقال: اضرب به. فعاد في يده سيفاً صارماً طويلاً أبيض شديد المتن وذلك في يوم بدر فقاتل به وشهد المشاهد إلى أن استشهد في قتال الردة وكان يسمى: "العون"3. هاتان الآيتان تجريان مجرى انقلاب العصا حية صلوات الله على سيّدنا محمّد وسلامه / (2/162/أ) ودفع لعبد الله4 بن جحش يوم أحدوقد ذهب سيفه عسيب5 نخل فرجع في يده سيفاً6.

_ 1 هو: عكاشة بن محصن الأسدي، الصحابي المعروف. 2 الجِذْل: بالكسر والفتح: أصل الشجرة يقطع، وقد يجعل جذلاً. (ر: النهاية 1/251) . 3 أخرجه ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة 2/326) ، وعنه البيهقي في الدلائل3/98، 99، وأخرجه الواقدي في مغازيه 1/93، وعنه البيهقي في الدلائل 3/99، عن عمر ابن عثمان الجحشي عن أبيه عن عمته، قالت: قال عكاشة: ... ، فذكره. وأخرجه ابن سعد 1/188، عن عليّ بن محمّد عن أبي معشر عن زيد بن أسلم ويزيد بن رومان وإسحاق بن عبد الله بن أبي قروة وغيرهم ... ، فذكره مرسلاً. وذكره الذهبي في المغازي ص 100، 101، وابن عبد البر في الدرر ص 108. 4 هو: عبد الله بن جحش بن رياب الأسدي، أحد السابقين إلى الإسلام، استشهد بغزوة أحد. 5 عسيب: أي: جريدة من النخل، وهي: السَّعفة مما لا ينبت عليه الخوص. (ر: النهاية 3/234) . 6 ذكره ابن عبد البرّ في الاستيعاب 3/879، والحافظ ابن حجر في الإصابة 4/46، وابن كثير في البداية 4/42، قالوا: ذكر الزبير في الموفقيات أن عبد الله بن جحش انقطع سيفه يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجوناً. فصار في يده سيفاً وكان يسمى العرجون. وقال: وقد بقي هذا السيف حتى بيع من بغا الكبير بمائتي دينار. وأخرجه البيهقي في الدلائل 3/250، من طريق سعيد بن عبد الرحمن الجحشي عن أشياخه: "أن عبد الله....، فذكره.

51- ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم بركة يده في إمرارها على ضروع الشياة الحوَائل1 فتدر ألبانها كفعله في شاة2 أم3 معبد. وشاة4 معاوية5بن ثور، وشاة6 أنس،

_ 1 الحوائل: جمع حائلة، أي: غير حالمة. والشاة العديمة اللبن. (ر: النهاية 1/463) . 2 خبر شاة أم معبد أخرجه الحاكم 3/9، وأبو نعيم ص 337، والبيهقي 1/277، كلاهما في الدلائل كلهم من طريق حزام بن هشام عن أبيه عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذكره في سياق طويل. وعزاه السيوطي في الخصائص 1/309، أيضاً إلى البغوي وابن شاهين وابن السكن وابن منده والطبراني. اهـ. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه - ثم ذكر بعض الأدلة على صحته وصدق رواته - ". ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أخرجه البيهقي في الدلائل 2/491، 492، وشاهد آخر من حديث أبي معبد الخزاعي رضي الله عنه أخرجه ابن سعد 1/230. 3 أم معبد، هي: عاتكة بنت خالد الخزاعية رضي الله عنها، صحابية مشهورة بكنيتها، لها حديثان. (ر: الاستيعاب 4/495، الإصابة 8/218، 282) . 4 خبر شاة معاوية، ذكره الحافظ في الإصابة1/161، 6/110، والسيوطي في الخصائص 2/46، وقال: أخرجه ابن سعد (1/304) ، وابن شاهين وثابت في الدلائل من طريق الجعدبن عبد الله بن ماعز البكائي عن أبيه، قال: وفد معاوية بن ثور على النبي صلى الله عليه وسلم فذكره-وفيه-: وأعطاه صلى الله عليه وسلم فأعنْزاً عفراً وبرك عليهن، قال الجعد: فالسنة ربما أصابت بني البكاء ولا تصيبهم. وقال محمّد بن بشر بن معاوية في ذلك شعراً جاء فيه: وأبي الذي مسح النّبيّ برأسه ودعا له بالخير والبركات أعطاه أحمد إذا أتاه أعنْزاً عفراً نواجل لن باللجبات يملأن وفد الحي كلّ عشية ويعود ذلك الملأ بالغدوات 5 هو: معاوية بن ثور بن عبادة بن البكاء العامري البكائي، وفد على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكتب له كتاباً ووهب له من صدقه عامة معونة له، ومسح على رأس ابنه بشر ودعا له. (ر: الاسيتعاب 4/1413، الإصابة 1/161، 6/110) . 6 حديث شاة أنس رضي الله عنه لم يخرجه السيوطي. (ر: المناهل ص 141) ، وقال الخفاجي في نسيم الرياض 3/143، (وشاة أنس) قصتها كقصة شام أم معبد، إلاّ أن الشراح لم يذكروها. اهـ.

وغنم حليمة مرضعته وشارفها1، وشاة عبد الله بن مسعود وكانت لم يَنْزُ عليها فحل2، وشاة المقداد3. وكلّ ذلك مستفيض عند أهل العلم والحديث. 52- ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم تحويل الماء لبناً وهو أعجب من تحويل الماء خمراً وزيتاً كما حكى أهل الكتاب عن كتابي4 الإنجيل5 وسفر الملوك6. قال حماد7 بن سلمة: "زود رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه سقاء من ماءبعد أن

_ 1 أخرجه ابن حبان. (ر: الموارد ص 512) ، وأبو نعيم في الدلائل ص 155-157، والطبراني في الكبير 24/212-215، والبيهقي في الدلائل 1/133، 134، كلهم من طريق ابن إسحاق. (ر: السيرة 1/214-218) ، قال: حدثني جهم بن أبي جهم عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: حدثت عن حليمة بنت الحارث أم رسول الله التي أرضعته، قال:....، فذكرته في سياق طويل جداً. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/223، 224، وقال: "رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات. وعزاه السيوطي أيضاً إلى ابن راهويه وابن عساكر، وقال: أخرجه أبو يعلى والطبراني وغيرهما، بسند حسن". (ر: الخصائص1/91-93، والمناهل ص142) . 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/462، وابن سعد 1/156، 157، 184، وأبو نعيم في الدلائل ص 329، والبيهقي في الدلائل 6/84، كلهم من طريق عاصم عن زر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:..، فذكره. قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح. (ر: المسند رقم: 4412) . 3 أخرجه مسلم3/1625، 1626، والبيهقي في الدلائل6/85، 86، عن المقداد رضي الله عنه ... ، في سياق طويل. 4 في ص: (آيتي) ، والمثبت من م. 5 تحويل الماء خمراص ورد في إنجيل يوحنا 2/1-11. 6 تحويل الماء زيتاً كانت معجزة للنبي المسيح عليه السلام وقد ورد ذكرها في سفر الملوك الثاني 4/1-7. 7 حمدا بن سلمة بن دينار البصري، الربعي بالولاء، أبو سلمة، مفتي البصرة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، تغير حفظه بآخره. مات سنة 167هـ. (سير أعلام النبلاء 7/444، التهذيب 3/11، الأعلام 2/272) .

أوكاه ودعا فيه فلما حضرتهم الصلاة نزلوا فَحَلُّوه فوجدوه لبناً طيباً وفي فمه زبدة"1. وهذا أنزل من تحويل الماء دماً كما فعل موسى بمصر. 53- ومسح عليه السلام بيده المباركة رأس عمير2 بن سعد وبرك فعاش ثمانين سنة لم يشب رأسه3. وكل ذلك ببركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/162/ب) وفعل ذلك بغير واحد من المسلمين

_ 1 قال السيوطي في المناهل ص 142: "أخرجه ابن سعد (في الطبقات 1/172) عن سالم بن أبي الجعد مرسلاً". قلت: سالم بن أبي الجعد الغطفاني، ثقة، وكان يرسل كثيراً، من الثالثة، مات سنة سبع أو ثمان وتسعين وقيل مائة. (ر: التقريب 1/279) . 2 هو: عمير بن سعد عبيد الأنصاري الأوسي كان يقال له: نسيج وحده واستعمله عمر على حمص، مات في خلافة عمر، وقيل: في خلافة عثمان. ولم يذكر الحافظ في ترجمته أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على رأسه. (ر: الاستيعاب 3/1215، الإصابة 5/32) . والظاهر أن من وقعت له هذه المعجزة هو: عبادة بن سعد بن عثمان الزرقي رضي الله عنه، وليس عميراً - كما ورد عند المؤلِّف وفي الشفا 1/644 -. وقد صرح بذلك القاري في شرحه للشفا 3/144، والخفاجي في نسيم الرياض 3/145. وقال السيوطي في المناهل ص 142: "أخرجه الزيبر بن بكار في أخبار المدينة عن محمّد بن عبد الرحمن بن سعد، وسماه عبادة لا عمير". اهـ. 3 ذكره الحافظ في الإصابة 3/81، وقال: "روى الزبير بين بكار في أخبار المدينة من طريق محمّد بن عبد عبادة يسقي، فلم يعرفه عبادة ثم جاء سعد فوصفه له فقال: ذلك رسول الله الْحِق به. فلحقه فمسح رأسه ودعا له، يقال: مات وهو ابن ثمانين سنة وما شاب".اهـ. ثم أشار الحافظ إلى هذه المعجزة في ترجمة عبادة الزرقي 4/29.

منهم السائب1 بن يزيد ومدلوك2، ومسح على بطن عتبة3 بن فرقد وظهره فكان يوجد له طيب يغلب طيب نسائه4

_ 1 هو: السائب بن يزيد بن سعيد، وقال: عائد بن الأسود أو الأزدي، ويعرف بابن أخت النمر، له ولأبيه صحبة، وكان العلاء الحضرمي خاله، استعمله عمر على سوق المدينة ومات سنة 82هـ،. وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة - رضي الله عنهم -. (ر: الإصابة 3/62) . وقصته ذكرها السيوطي في الخصائص 2/138، وقال: "أخرج ابنُ سعد وابن منده والبغوي والبيهقي (في الدلائل 6/209) ، وابن عساكر عن عطاء مولى السائب بن يزيد، قال: كان رأس السائب أسود الهامة إلى مقدم رأسه وكان سائره أبيض فقلت: يا مولاي ما رأيت أحد أعجب شعراً منك! قال: وما تدري يا بني لم ذلك؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِيَ وأنا مع الصبيان، فقال: من أنت؟ قلت: السائب بن يزيد. فمسح بيده على رأسي، وقال: بارك الله فيه. فهو لا يشيب أبداً". اهـ. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/412، بنحوه وقال: "رواه الطبراني في الصغير والأوسط والكبير، ورجال الكبير رجال الصحيح غير عطاء مولى السائب، وهو ثقة، ورجال الصغير، والأوسط ثقات". اهـ. وقد أخرج البخاري في كتاب الوضوء باب (40) . (ر: 1/296) ، ومسلم 4/1823) ، عن السائب قال: "ذهبَت بيَ خالتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وَقِع، فمسح رأسي دعا لي بالبركة، ثم توضأ ... "، الحديث. اهـ. 2 مدلوك الفزاري، مولاهم، أبو سفيان، قال ابن أبي حاتم: له صحبة وذكره ابن سعد فيمن نزل الشام من الصحابة. (ر: الجرح والتعديل 8/427) ، وقال الحافظ في الإصابة 6/75، أخرج البخاري في التاريخ الكبير (4/2/55) ، وابن سعد والبغوي والطبراني من طريق مطر بن علاء الفزاري حدثتني عمتي آمنة أو أمية بنت أبي الشعثاء وقطبة مولاة لنا قالتا: سمعنا أبا سفيان - زاد البغوي في روايته مدلوكاً - يقول: ذهب بيَ مولاي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فدعا لي بالبركة ومسح رأسي بيده، قالت: فكان مقدم رأس أبي سفيان أسود ما مسه النبي صلى الله عليه وسلم وسائره أبيض. وأخرج ابن منده وأبو نعيم من وجه آخر عن مطر". اهـ. وعزاه السيوطي أيضاً في الخصائص 2/138، إلى ابن منده وابن السكن وابن عساكر والبيهقي في الدلائل 6/215، من طريق مطر بن علاء به. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد9/412،وقال:"رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم". 3 عتبة بن فرقد بن يربوع السلمي، أبو عبد الله، شهد خيبر وقُسِم له منها، ولاه عمر في الفتوح، ففتح الموصل سنة 18هـ، وكان في أذربَيجان ثم نزل الكوفة ومات بها. (ر: الاستيعاب 3/1029، الإصابة 4/216) . 4 أخرجه البيهقي في الدلائل6/216،الطبراني في الصغيروالكبير. (ر: الإصابة 4/216) ، عن حصين بن عبد الرحمن عن أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد، قالت: ... ، فذكرته. وذكره السيوطي في الخصائص 2/141، وقال: "أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط بسند جيد".

وجرح عائذ1 بن عمرو يوم حنين2 فسلت الدم عن وجهه ودعا له فكانت له غرة كغرة الفرس ببركة يدنبي الله صلى الله عليه وسلم3. ومسح على رأس قيس4 بن زيد الجُذامي ودعا له فعاش مائة سنة ورأسه أبيض وموضع كفّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما مرت عليه يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود غربيب، فكان يدعى الأغر5.

_ 1 عائذ بن عمرو بن هلال المزني رضي الله عنه، أبو هبيرة، كان ممن بايع تحت الشجرة سكن البصرة، ومات في إمارة ابن زياد، له ثمانية أحاديث. (ر: الاستيعاب 2/799، الإصابة 4/21) . 2 من الغزوات المشهورة، وكانت في السنة العاشرة من الهجرة، وحنين تصغير حين، وهو واد من أودية مكّة، يقع شرقها بقرابة ثلاثين كيلاً، يسمى اليوم بـ: (وادي الشرائع) . (ر: معجم المعالم الجغرافية ص 107، للبلادي) . 3 أخرجه الحاكم 3/587، 588، والطبراني في الكبير 18/20، من طريق حشرج بن عبد الله بن حشرج عن أبيه عن جده، قال: قال عائذ بن عمرو ... ، وذكر الحديث. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/415، قال: "رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم، وعزاه السيوطي في الخصائص 1/449، 450، أيضاً إلى أبي نعيم وابن عساكر بالإسناد السابق. وعَقَّب الذهبي على الحاكم بقوله: "سمعه زيد بن الحريش منه (أي: من حشرج بن عبد الله) وإسناده فيه مجهولان". اهـ. ولم يبيّن من هما المجهولان. قلت: المجهول الأوّل، هو: حشرج بن عائذ بن عمرو المزني، قال عنه أبو حاتم الزاري: لا يعرف. (ر: الجرح والتديل 3/295، 296) . والثاني: هو: عبد الله بن حشرج بن عائذ، قال عنه أبو حاتم الزاري: لا يعرف. (ر: الجرح والتعديل 5/40) . 4 قيس بن زيد بن حباب الجذامي رضي الله عنه، والد نائل بن قيس الشامي، ويقال له: قيس الأغر، ذكره ابن السكن والبخاري وابن حبان والبغوي في الصحابة، ووقع لابن أبي حاتم أن قيس الجذامي ليست له صحبة، وقد ذكره ابن سعد في طبقة أهل الفتح. وقال: "كان سيداً عقد له النبيّ صلى الله عليه وسلم على قومه لما وفد عليه". (ر: الجرح والتعديل 7/98، التجريد 2/26، الإصابة 5/252، 253، التقريب 2/130) . 5 لم يخرجه السيوطي في المناهل ص 143. قلت: ذكر الحافظ في الإصابة 5/252، في سياق طويل، وقال: "أخرجه ابن منده وأبو عليّ ابن السكن باختصار كلاهما من طريق أبي الحسن أحمد بن عمير بن حوصاء الحافظ عن منصور بن الوليد بن سلمة بن يحيى عن الطفيل بن قيس بن الجذامي عن أبيه أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " الحديث. بتصرف. وسكت الحافظ عن الخبر ولم يتكلم فيه.

وكذلك فعل بعمرو بن ثعلبة الجهني1، ومسح على وجه رجل من المسلمين فكان لا يزال على وجهه نور2، وكان لوجه قتادة3 بن ملحانبريق حتى كان ينظر في وجهه كما ينظر في المرآة لأنه صلى الله عليه وسلم مسح بيده على وجهه4. ووضع يده عليه السلام على رأس حنظلة5 بن حذيم وبرك عليه،

_ 1 أخرجه البيهقي في الدلائل 6/216، من طريق أبي الوضاح بن سلمة الجهني عن أبيه عن عمرو بن ثعلبة الجهني. وذكره الحافظ في ترجمة عمرو بن ثعلبة الجهني ثم الزهري. (ر: الإصابة 4/288) ، قال: "قال السكن: له صحبة، وروى البغوي وابن السكن وابن منده من طريق الوضاح بن سلمة الجهني عن أبيه عن عمرو بن ثعلبة قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيالة فأسلمت، فمسح على وجهي فمات عمرو بن ثعلبة من مائة سنة وما شابت منه شعرة. وقال ابن منده: لا يعرف إلاّ من هذا الوجه. قال ابن حجر: وفي إسناده من لا يعرف وقد خلطه ابن منده بالذي قبله فوهم. (يقصد عمرو بن ثعلبة ابن وهب الأنصاري". اهـ. 2 قال القاري في شرحه للشفا 3/146: "قال الحلبي: هذا الآخر لا أعرفه. وقال الدلجي: لعله خزيمة بن سواء بن الحارث، إذ روى ابن سعد عن وجه السعدي أنه صلى الله عليه وسلم مسح فصارت له غرة بيضاء". اهـ. قلت: أخرج المدائني عن رجاله أن أسيد بن أبي إناس مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وألقى يده على صدره، فكان أسيد يدخل البيت المظلم فيضيء، وأخرجه أيضاً ابن عساكر. (ر: الخصائص 2/142، للسيوطي) . 3 قتادة بن ملحان القيسي رضي الله عنه، قال البخاري وابن حبان: له صحبة يعد في البصريين، له حديثان. (ر: الجرح والتعديل 7/132، الإصابة 5/229) . 4 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/28، 81، وعنه البيهقي في الدلائل 6/217، عن عارم ويحيى بن معين وهريم بن عبد الأعلى كلهم عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي العلاء بن عمير الحريري، قال: كنت عند قتادة بن ملحان حين حضر، فمر رجل في أقصى الدار، قال: فأبصرته في وجه قتادة، قال: وكنت إذا رأيته كأن على وجهه الدهان. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على وجهه". اهـ. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/322، وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". وهو كما قال الهيثم. اهـ. وذكره الحافظ في الإصابة 5/229، وعزاه لابن شاهين من طريق سليمان اليتمي عن حيان بن عمرو قال:....، فذكره. 5 حنظلة بن حذيم بن حنيفة التميمي رضي الله عنه، ويقال الأسدي والمالكي، له ولأبيه وجده صحبة. له ثلاثة أحاديث. (ر: الجرح والتعديل 3/239، الإصابة 2/42، 43) .

فكان حنظلة يؤتى بالرجل قد ورم وجهه وبالشاة قد ورم ضرعها فيضعه على موضع كف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذهب الورم ويجد الشفاء1. ونضح وجه / (2/163/أ) زينب2 بنت أم سلمة بماء، فما يعرف كان في وجه امرأة من الجمال ما في وجهها3.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/67، في سياق طويل، والبيهقي في الدلائل 6/214، مختصراً كلاهما من طريق الذيال بن عبيد بن حنظلة بن حذيم بن حنيفة، قال: سمعت جدي حنظلة يحدّث أبي وأعمامه ... ، وذكر الحديث. ونقله الحافظ عن الإمام أحمد في ترجمة حنظلة بن حذيم. (ر: الإصابة 2/43) . ثم قال: رواه الحسن بن سفيان في مسنده من وجه آخر عن الذيال، ورواه الطبراني بطوله منقطعاً، ورواه أبو يعلى من هذا الوجه وليس بتمامه، وكذا رواه يعقوب بن سفيان والمنجنيقي في مسنده وغيرهما. اهـ. ملخصاً. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/411، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه وأحمد في حديث طويل ورجال أحمد ثقات". 2 زينب بنت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومية رضي الله عنها ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمها أم سلمة بنت أبي أمية، يقال: ولدت بأرض الحبشة، وكان اسمها (برة) فغيره النبيّ صلى الله عليه وسلم، تزوجها عبد الله بن زمعة الأسدي، وكانت من فقهاء المدينة، وذكرها ابن سعد فيمن لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً وروى عن أزواجه، ولها سبعة أحاديث. (ر: الاستيعاب 4/1854-1856، الإصابة 8/96) . 3 ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب 4/1855، بدون إسناد، وذكره الحافظ في الإصابة 8/96، قال: "وروينا في القطعيات من طريق عطاف بن خالد عن آمنة عن زينب بنت أبي سلمة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يغتسل تقول أمي: ادخلي عليه، فإذا دخلت نضح في وجهي من الماء ويقول: ارجعي، قالت: فرأيت زينب وهي عجوز كبيرة ما نقص من وجهها شيء - وفي رواية ذكرها أبو عمر - فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وعمرت". اهـ. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد9/262،وقال:"رواه الطبراني وأم عطاف لم أعرفها".

ومسح على رأس صبي به عاهة فبرأ واستوى شعره1، وفعل ذلك بجماعة من المجانين والمرضى فشفوا وصحوا. قال المؤلِّف: وعند هذه الآية صح قول أشعيا النبي حيث يقول متنبئاً على محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "روح الرّبّ عليّ من أجل هذا مسحني وأرسلني، لأنذر العميان بالنظر والمأسورين بالتخلية، وأبشّر بالسنة المقبولة"2. فقد أنذر العميان وأطلق الأسارى من أيدي ملوك مثل كسرى وغيره، وكانت العرب في أسارهم يؤدون لهم الأتاوة والخراج، وبشر بالسنة المقبولة صلى الله عليه وسلم، وأطلق المجانين من أيدي الشياطين.

_ 1 قال القاري في شرحه للشفا 3/147: "لا يعرف من رواه بهذا اللفظ إلاّ أن أبا نعيم روى عن الوازع أنه انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن له مجنون فمسح وجهه ودعا له، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوته له أعقل منه، وروى مثله في خبر المهلب بن قَبالة، وروى هُلْب بن قُنَافَة كذا ذكره أبو عمر، وقيل: هو الصواب ولعلهما قصتان لرجلين، وقال الطبري: هو المهلب بن يزيد بن عدي الطائي، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقرع فمسح على رأسه فنبت شعره فسمي الهلب". اهـ. وقال السيوطي في المناهل ص 144: "أخرجه أبو نعيم عن الوازع إنه انطلق إلى ... الحديث" اهـ. قلت: المناسب لسياق الكلام أن يكون المراد بقصة الحديث المذكور هو: الهلب الطائي، فقد ذكره الحافظ في الإصابة 6/291، في ترجمته، فقال: قال ابن دريد: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أقرع فمسح على رأسه فنبت شعره فسمي الهلب، والأهلب: الكثير الشعر، والهُلب، وهو يزيد ابن قُنَافَة، وقال ابن الكلبي: ويقول الشاعر: كان وما في رأسه شعرة فأصبح الأقرع وافي الكشير 2 سفر أشعيا 61/1، 2.

وأتاه رجل به أَدْرَة فأمره عليه السلام أن ينضحها بماء من عين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمج فيها، فذهب الرجل وفعل ذلك فشفي من إدرته1. قال المؤلِّف - عفا الله عنه - هذا أعجب من قول المسيح لنعمان الأبرص: اذهب إلى عين كذا وانغمس فيها / (2/163/ب) سبع مرات فبرئ2، وألطف من قول موسى لأخته مريم وقد تبرصت: اخرجي عن عسكرنا وابعدي عنه سبعة أيام. حتى عوفيت3. وأعظم من آية الإنجيل التي حكوها في صاحبة4 النَّزيف. وعن طاوس5 قال: لم يؤت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأحد به جنون فصك في صدره إلاّ ذهب الجنون عنه6.

_ 1 لم يخرجه السيوطي. (ر: المناهل ص 144) ، وقال القاري في شرحه للشفا 3/148: "قال الدلجي: لا أعلم من رواه، وقال الخفاجي في نسيم الرياض 3/148: هذا الحديث لم يخرجوه". اهـ. قلت: قال ابن الأثير في النهاية 1/31، في مادة (أدر) : فيه الحديث: "أن رجلاً أتاه وبه أدرة، فقال صلى الله عليه وسلم: أئتِ بعُس، فحسا منه ثم مجه فيه وقال: انتضح به فذهبت عنه". الأُدرة - بالضم -: نفخة في الخيصة. يقال: رجل أدر بَيِّنُ الأَدَر - بفتح الهمزة والدال - وهي التي يسميها الناس القيلة". اهـ. وأخرج ابن سعد في الطبقات 1/505، عن الواقدي عن أُبَي بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه، قال: "سمت عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أبو أسيد وأبو حميد وأبو سهل بن سعد، يقولون: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بئر بضاعة فتوضأ في الدلو ورده في البئر ومج في الدلو مرة أخرى وبصق فيها وشرب من مائها، وكان إذا مرض المريض في عهد يقول: اغسلوه من ماء بضاعة، فيغسل فكأنما حلّ من عقال". اهـ. 2 سفر الملوك الثاني 5/20-27. 3 سفر العدد 12/1-15. 4 متى 9/18-26، مرقس 5/21-43، لوقا 8/40-56. 5 طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني بالولاء، أبو عبد الرحمن، يقال: اسمه ذكوان، وطاووس لقب، من أكابر التابعين، ثقة فقيه، فاضل، أصله من الفرس ومولده ونشأته باليمن، مات سنة 106هـ. وقيل: بعد ذلك. (ر: سير أعلام النبلاء 5/38، التهذيب 5/8، الإعلام 3/224) . 6 لم يخرجه السيوطي. (ر: المناهل ص 144) ، وقال القاري في شرحه 3/148: "كذا وقفه المصنف على طاوس، ولم يعلم من رواه من المخرجين". اهـ. وبنحو ذلك ذكره الخفاجي في نسيم الرياض 3/148.

قال المؤلِّف: هذا ألطف مما فعل المسيح إذ ما خرج الجني من الصبي الذي كلمه أبوه فيه حتى صرع الصبي ولبطه وكاد1 أن يموت2، وهذا طاوس يخبر أنه بمجرد مسّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر المجنون فيذهب جنونه. وأخذ عليه السلام قبضة من تراب يوم حنين ورمى بها وجوه الكفار وقال: "شاهت الوجوه". وانهزموا يمسحون التراب عن أعينهم3. وشكى إليه أبو هريرة النسيان وقلة الحفظ فأمره ببسط ثوبه والنبي يحدّث فلما حدّثه ضَمَّ الثوب إلى صدره، قال أبو هريرة: فما نسيت شيئاً سمعته بعد4. وكان جرير5 بن عبد الله لا يثبت على الخيل فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/164/أ) صدره ودعا له فكان أثبت العرب وأفرسهم6.

_ 1 في م: كان. 2 متى 17/14-21، مرقس 9/14-29، لوقا 9/37-43. 3 أخرجه مسلم 3/1389، والبيهقي في الدلائل 5/137-139، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، في سياق طويل، وأخرجه مسلم 3/1402، والبيهقي 5/140، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وأخرجه أحمد في المسند 5/276، والبيهقي 5/143، عن أبي عبد الرحمن الفهري رضي الله عنه. 4 أخرجه البخاري في كتاب العلم باب (42) . (ر: فتح الباري 1/215) . وفي كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/633) ، ومسلم 4/1939-1941، والترمذي في 5/642، عن أبي هريرة رضي الله عنه. قلت: أجمع أهل الحديث على أن أبا هريرة أكثر الصحابة حديثاً. فله من الأحاديث خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثاً، بتكرار الأسانيد، أما المتون فلا تتجاوز ألفي حديث. وقد كان ذلك بهذه المعجزة العظيمة. (ر: مقدمة مسند بقية بن مخلد، الإصابة 7/301) . 5 هو: جرير بن عبد الله بن جبر بن مالك البجلي رضي الله عنه، أبو عمر، الصحابي المشهور، له مائة حديث. 6 أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب (154) . (ر: فتح الباري 6/154) ، ومسلم 4/1925، 1926، وأحمد في المسند 4/362، وفي فضائل الصحابة 2/891، عن جرير رضي الله عنه.

ومسح رأس عبد الرحمن1 بن زيد بن الخطاب وكان دميماً ودعا له فَفَرع الرجال تماماًوطُولاً2. 54- ومِن آياته عليه السلام اطلاعه على الغيوب، وإعلام الله له بما يكون قبل كونه. قال العلماء والأئمة: "وهذه المعجزة من جملة معجزاته معلومة لنا على القطع واصلة إلينا بتواتر النقل لكثرة رواتها واتفاق معانيها". قال حذيفة: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فما ترك شيئاً يكون إلى أن تقوم الساعة إلاّ حدّثنا به، حفظه مَنْ حفظه، ونسيه مَنْ نسيَه، وقد علم3 أصحابي هؤلاء أنه ليكون مني الشيء، فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجهاً إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه"4. ثم قال حذيفة: " [واللهِ] 5 ما أدري أنسيَ أصحابي أم تناسوه، والله ما ترك

_ 1 عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب القرشي، أُمُّه لبابة الأنصارية، ولد سنة خمس فيما قيل، وقال مصعب: كان له عند موت النبي صلى الله عليه وسلم ست سنين. زَوَّجه عمر ابنته فاطمة، ولاّه يزيد بن معاوية إمرة مكّة. ومات في ولاية عبد الله بن الزبير. (ر: الإصابة5/70) . 2 أورده الحافظ في الأصابة 5/70، وقال: "قال الزبير: حدّثني إبراهيم بن محمّد بن عبد العزيز، قال: ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فكان ألطف مَنْ وُلِد، فأخذه جده أبو لبابة في خرقة فأحضره عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما رأيت مولوداً أصغر خلقة منه، فحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح رأسه ودعا له بالبركة، قال: فما رؤي عبد الرحمن في قوم إلاّ فرعهم طُولاً". قلت: قوله: "أَلْطَفُ مَنْ ولد"، أي: أصغر المولودين وأدقّهم جسماً وضعفاً. (ر: النهاية 4/251) . 3 في م: علمه. 4 أخرجه البخاري في كتاب القدر باب (4) . (ر: فتح الباري 11/494) ، ومسلم 4/2217، والبيهقي في الدلائل 6/312، 313، عن حذيفة رضي الله عنه. 5 الإضافة من سنن أبي داود.

رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي1 الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلاّ قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته2. (/ (2/164/ب) . وقال أبو ذرّ: "لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلاّ ذَكَّرنا منه علماً"3. وقد خرج أهل الصحيح والأئمة ما أعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من الظهور على أعدائه وفتح مكّة4 وبيت المقدس5 واليمن والشام

_ 1 في م: تقضي. 2 قال السيوطي في المناهل ص 145: "الحديث من أفراد أبي داود، وظاهر صنع المؤلِّف أنه تتمة الحديث الأوّل بإسناده، وليس كذلك. وإنما أخرجه منفصلاً بسند آخر من طريق ابن قبيصة بن ذؤيب عن أبيه عن حذيفة. اهـ. قلت: أخرجه أبوداود4/95،عن محمّدبن يحيى بن فارس عن ابن أبي مريم عن ابن فروخ عن أسامة بن زيد عن ابن لقبيصة بن ذؤيب عن أبيه عن حذيفة رضي الله عنه ... ، فذكره. وفي إسناده: عبد الله بن فروخ الخراساني أو اليماني، صدوق يغلط. وقال عنه البخاري: يعرف وينكر. (ر: التهذيب5/311، والتقريب1/440، والكامل 4/199، لابن عدي) . وفيه أسامة بن زيد الليثي، صدوق يهم. (ر: التقريب 1/53) . 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/153، 162، من طريق الأعمش عن منذر عن أشياخ من التيم قالوا: قال أبو ذرّ: ... ، فذكره. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/266، قال: "رواه أحمد والطبراني وزاد: - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بقي شيء يُقرِّب من الجنة ويباعد من النار إلاّ وقد بيّن لكم) . ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمّد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يسم". اهـ. ثم ذكر الهيثمي للحديث شاهداً عن أبي الدّرداء رضي الله عنه، وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". اهـ. وقال السيوطي في المناهل ص145: "أخرجه أحمد والطبراني بسندصحيح، وأخرجه أبويعلى والطبراني وابن منيع عن أبي الدرداء أيضاً".اهـ. (ر: الخصائص2/184) . 4 أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب (35) . (ر: فتح الباري 7/452) ، وفي كتاب التفسير، تفسير سورة الفتح. (ر: فتح الباري 8/583) ، ومسلم 3/1411-1413، والبيهقي في الدلائل 4/154-160، عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود وسهل بن حنيف وغيرهم - رضي الله عنهم -. 5 أخرجه البخاري في كتاب الجزية باب (5) . (ر: فتح الباري 6/277) ، والبيهقي في الدلائل 6/321، عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.

واليمن1. وظهور الأمن حتى تظعن المرأة من الحيرة2 إلى مكّة لا تخاف إلاّ الله3. وأنّ المدينة سَتُغزى4. وتفتح خيبر على يد عليّ فيغد يومه5، وأخبرهم بما يفتح الله على يدي أمته من الدنيا وما يؤتون من زهرتها6.

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة باب (5) . (ر: فتح الباري 4/90) ، ومسلم 2/1008،1009،والبيهقي في الدلائل6/320،عن سفيان بن أبي زهيرالنميري رضي الله عنه. 2 الحيرة: مدينة بين النجف والكوفة بالعراق. (ر: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة ص 105، محمّد شراب) . 3 أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/610) ، وأحمد في المسند 4/257، 278، وأبو نعيم ص 541، والبيهقي 6/323، كلاهما في الدلائل عن عدي بن حاتم رضي الله عنه في سياق طويل. 4 أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب (5) . (ر: فتح الباري 4/89) ، ومسلم 2/1010. وقال السيوطي في المناهل ص 146: "أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: "تتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلاّ العوافي". (تنبيه) : هذا الأمر لم يقع بعد كما اختاره النووي وغيره أن ذلك إنما يقع قرب الساعة، وزعم المصنف في شرح مسلم أنه وقع، فلذا ذكره فيما أخبره به فوقع كما أخبر". اهـ. 5 أخرجه البخاري في كتاب المغازي. (ر: فتح الباري 7/476) ، ومسلم 3/1441، 4/1871، 1872، والبيهقي في الدلائل 4/205-211، عن سلمة بن الأكوع وسهل بن سعد - رضي الله عنهم -. 6 أخرجه البخاري في كتاب الجزية، باب. (ر: فتح الباري 6/257) ، ومسلم 4/2098، وأحمد في المسند 4/137، والبيهقي في الدلائل 6/319، عن عمرو بن عوف رضي الله عنه. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما أخشى عليكم الفقر، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها فتلهيكم كما أَلْهَتْهُم". وأخرجه البخاري في كتاب الزكاة. (ر: فتح الباري 3/327) ، ومسلم 2/728، 729، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح على عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ... ". الحديث.

وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر1. وأنه ستكون لهأنماط2. ويغدو أحدهم في حلة ويروح في أخرى وتوضع بين يديه صحفة وترفع أخرى ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة3. وأنهم سيمشون المطيطاء4 وتخدمهم بنات فارس والروم ويقاتلهم الترك والخزر والروم5.ويقاتلهم الترك والخزر والروم6.

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/625) ، ومسلم 4/2237، والترمذي 4/431، وأحمد في المسند 2/233، وأبو نعيم في الدلائل ص 543، والبيهقي في الدلائل 6/324، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفس محمّد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله". 2 الأنماط: هي: نوع من البسط له خَمْل رقيق، واحدها: نمط. (ر: النهاية 5/119) . والحديث أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/629) ، ومسلم 3/1650، 1651، والبيهقي في الدلائل 6/219، 320، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك من أنماط؟ "، قلت: يا رسول الله وأنَّى؟ فقال: "إنها ستكون لكم أنماط ... ". الحديث. 3 أخرجه الإمام أحمد في مسنده4/487،والحاكم3/15،والبيهقي في الدلائل6/524، كلهم من طريق داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن طلحة البصري رضي الله عنه، قال: ... ، فذكره في سياق طويل. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال الذهبي: "صحيح سمعه جماعة من داود". 4 المُطَيْطَاء - بالمدّ والقصر -: مشية فيها تبختر ومَدُّ اليدين، يقال: مَطَوْت ومَطَطْتُ، بمعنى: مددت. وهي من المصغرات التي لم يستعمل لها مكبر. (ر: النهاية 4/340) . 5 أخرجه الترمذي 4/456، والعقيلي في الضعفاء 4/162، والبيهقي في الدلائل 5/525، كلهم من طريق موسى بن عبيده عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: ... ، الحديث. قال الترمذي: "هذا حديث غريب". وقد رواه أبو معاوية عن يحيى ابن سعيد الأنصاري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. (وأخرجه بهذا الطريق أبو نعيم في الدلائل ص 539) . ولا يعرف لحديث أبي معاوية عن يحيى بن سعيد أصل، إنما المعروف حديث موسى بن عبيدة، وقد روى مالك بن أنس هذا الحديث عن يحيى بن سعيد مرسلاً ولم يذكر فيه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر". اهـ. قلت: له شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/140، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن". 6 أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/604) ، ومسلم 4/2233، 2234، والإمام أحمد في مسنده 2/233، والترمذي 4/430، وأبو نعيم في الدلائل ص 543، والبيهقي في الدلائل 6/236، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخبرهم بذهاب كسرى وفارس1 حتى لا كسرى ولا فارس بعده. وذهاب قيصر حتى لا قيصر بعده2. وأخبرهم أن الروم ذوات قرون إلى آخر الدهر3. وأخبرهم بذهاب الأمثل / (2/165/أ) فالأمثل من الناس4،وقبض العلم وظهور الفتن والهرج5. وقال: "إنه زويت له الأرض فأري مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمته ما زوي له منها"6. فلهذا امتدت مملكة أمته - صلوات الله عليه وسلامه - من المشارق إلى المغارب كما ترى، حتى بلغت من أقصى الهند إلى بحر طنجة حيث لا عمارة وراءه.

_ 1 قال السيوطي في المناهل ص 148، وفي الخصائص 2/193: "أخرجه الحارث بن أبي سلمة عن ابن مُحَيْريز مرفوعاً: "فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد هذا، والروم ذوات القرون كلما هلك قرن خلفه قرن". قلت: الخبر مرسل، فإن عبد الله بن محيريز الجمحي ثقة من الثالثة. (ر: التهذيب 1/449) . 2 تقدم تخريجه. (ر: ص: 818) . التعليق رقم: (1) . 3 أخرجه مسلم 4/2222، بنحوه عن المستورد القرشي رضي الله عنه، عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس". قال الخفاجي في نسيم الرياض 3/156: "ذات القرون - بالتعريف - جمع قرن، وهم الجماعة في عصر واحد، أي: كلما مضى قرن خلفه قرن وقوم يملك ملكهم منهم. وقيل: المراد بهم قرون شعورهم التي كانوا يطولونها ويعرفون بها للإشارة إلى طول هممهم". اهـ. 4 أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب (37) . (ر: فتح الباري 7/444) ، وأحمد في المسند 4/193، عن مرداس الأسلمي رضي الله عنه. 5 أخرجه البخاري في كتاب الفتن 5، 25. (ر: فتح الباري 13/13) ، ومسلم 4/2057، 2231، 2232، والترمذي 4/424، عن أبي هريرة وابن مسعود وأبي موسى - رضي الله عنهم -. 6 تقدم تخريجه. (ر: ص: 729، 730) .

وقال عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرة على الحقّ لا يضرّهم من ناوأهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. فقيل: يا رسول الله وأين هم يومئذٍ؟. قال: بيت المقدس" 1. وأخبر عليه السلام بملك بني أمية2 واتّخاذهم مال الله دولاً3. وأخبر

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب (28) . (ر: فتح الباري 6/632) ، عن المغبرة ابن شعبة ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، قال معاذ: "وهم بالشام". وأخرجه الإمام أحمد في المسند 4/369، عن معاوية رضي الله عنه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7/290، وقال: "رواه أحمد والبزار والطبراني وأبو عبد الله الشامي ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه أحد، وبقية رجاله رجال الصحيح". وأخرجه بنحوه عبد الله بن أحمد في مسنده 5/269، عن أبي أمامة رضي الله عنه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7/291، وقال: "رواه عبد الله وجادة عن خطّ أبيه والطبراني ورجاله ثقات". وقال السيوطي في المناهل ص150:"أخرجه الطراني وعبد الله بن أحمدوسنده صحيح". 2 أخرجه الترمذي 5/414، والحاكم 3/170، 171، وعنه البيهقي في الدلائل 6/509، 510، كلهم من طريق القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد، ويقال له يوسف بن مازن الراسبي، قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية ... ، فذكره بنحوه في سياق طويل. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة، ويوسف بن سعد رجل مجهول". اهـ. ملخصاً. وقال الحاكم: "إسناده صحيح". ووافقه الذهبي. وقال: وروي عن يوسف بن قيس أيضاً وما علمت أن أحداً تكلم فيه. والقاسم وثّقوه، روه أبو داود والتبوذكي".اهـ. قلت: يوسف بن سعد الجمحي البصري، ويقال: هو يوسف بن مازن، ثقة، من الثالثة. (ر: التهذيب 2/380) . 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/80، والحاكم 4/480، والبيهقي في الدلائل 6/507، كلهم من طريق جرير عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد الخدري، قال: ... ، فذكره. وتابع الأعمش عليه مطرف بن طريف عن عطية به أخرجه الحاكم 4/480. قلت: إسناده ضعيف. فإن عطية بن سعد جنادة العوفي، صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلّساً. (ر: التهذيب 7/200، التقريب 2/24) . لكن له شواهد يتقوى بها منها: حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه: أخرجه الحاكم 4/480، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. ومنها: حديث أبي هريرة ومعاوية وابن عباس - رضي الله عنهم -، أخرجها البيهقي في الدلائل 6/507.

بخروج بني العباس بالريات السود1 وملكهم أضعاف ما ملكوا2. وأخبر عليه السلام بخروج المهدي3. وأخبرنا بما ينال أهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين4. وأخبر بقتل عليّ بن

_ 1 أخرجه ابن ماجه. (ر: ضعيف سنن ابن ماجه ص 334) ، والحاكم 4/463، والبيهقي في الدلائل 6/515، كلهم في طريق سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رضي الله عنه، مرفوعاً. قال: ... ، فذكره. - وفيه -: "ثم تطلع الرايات السود من المشرق ... ،" الحديث. قلت: في إسناده أبو قلابة، وعبد الله بن زيد الجرمي، ثقة في نفسه إلاّ أنه مدلس، وقد عنعن. (التقريب 1/417) . وقال الشيخ الألباني: ضعيف منكر. (ر: الأحاديث الضعيفة 1/119، 85) . 2 أخرجه العقيلي في الضعفاء 3/5، من طريق عبد العزيز بن بكّار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن جده عن أبي بكر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يلي ولد العباس من كلّ يوم يليه بنو أمية يومين ولكل شهر شهرين". وفيه: عبد العزيز بكار البكراوي فحديثه غير محفوظ، وقال الذهبي في الميزان 2/624: حديثه باطل. 3 الأحاديث الواردة في المهدي وردت من طرق كثيرة جدّاً صحيحة وحسنة، أخرجها أصحاب السنن وغيرهم. فقد أخرجها الترمذي 4/438، 439، وأبو داود 4/106-109، وابن ماجه في كتاب الفتن. (ر: صحيح ابن ماجه 2/389) ، وأحمد في المسند 3/21، وابن حبان. (ر: الموارد ص 463) ، والحاكم 4/463-464، والبيهقي في الدلائل 6/514-516، عن أبي هريرة وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وعليّ وجابر بن سمرة وأم سلمة وعائشة - رضي الله عنهم أجمعين -. راجع للتوسع كتاب: (الردّ على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي وعقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر للشيخ عبد المحسن العباد) . 4 ورد النص في الشفا 1/657، كالآتي: "وما ينال أهل بيته وتقتيلهم وتشريدهم ... ". أخرجه الحاكم 4/464، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الذهبي: إنه حديث موضوع. وأخرجه الحاكم أيضاً 4/486 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وخالفه الذهبي. فقال: "لا والله. وكيف؟ وإسماعيل بن رافع متروك، ثم لم يصح السند إليه".

أبي طالب رضوان الله عليه، وأن أشقى الناس الذي يخضب لحيته الكريمة من رأسه1. وقال عليه السلام: "يقتل عثمان وهو يقرأ بالمصحف"2. وأن الله سيلبسه قميصاً وأن المنافقين/ (2/165/ب) يريدون خلعه3، وأنه سيقطر دمه "على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: من الآية:137] 4.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/263، وفي فضائل الصحابة 2/687، والحاكم 3/140، 141، وأبو نعيم في الدلائل ص 552، كلهم من طريق محمّد بن إسحاق عن يزيد بن محمّد بن خيثمم المحاربي عن محمّد بن كعب القرظي عن محمّد بن خيثم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه، قال: ... ، فذكر نحوه في سياق طويل. قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم". ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/139، وقال: "رواه أحمد والطبراني والبزار باختصار ورجال الجميع موثقون، إلاّ أن التابعي لم يسمع من عمار". قلت: إسناده حسن متصل، فقد قال الحافظ في التهذيب 9/148: "إنه إسناد متصل، لأن محمّد بن خيثم ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فما المانع من سماعه من عمار؟ وعند ابن منده من طريق محمّد بن سلمة عن ابن إسحاق التصريح بسماع محمّد بن كعب من ابن خيثم وسماع يزيد من محمّد بن كعب. اهـ. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 7/246: "محمّد بن خيثم أبو يزيد المحاربي روى عن عمار بن ياسر، ورى عنه محمّد بن كعب". اهـ. وله شاهد من حديث فضالة بن أبي فاضلة الأنصاري، أخرجه الإمام أحمد 1/102، والبيهقي في الدلائل 6/438، بنحوه. وذكره الهيثمي مجمع الزوائد 9/140، وقال: "رواه البزار وأحمد بنحوه ورجاله موثقون". اهـ. 2 أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل عثمان شهيداً أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (7) عن أبي موسى الأشعري وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما. (ر: فتح الباري 7/53) ، ومسلم 4/1864، عن أبي موسى الأشعري. وقال السيوطي في المناهل ص 51، "أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بدون آخره (يقصد قوله: وهو يقرأ بالمصحف". 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/75، 86، 114، 149، وفي فضائل الصحابة 1/453، وابن ماجه، (ر: صحيح ابن ماجه 1/25، للألباني) ، والترمذي 5/587، وابن أبي عاصم في السنة 2/559، و560، من طرق عن عائشة - رضي الله عنهما -، قال الترمذي: حسن غريب. وقال الألباني في ظلال الجنة: صحيح على شرط مسلم. قلت: له شاهد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أخرجه البيهقي في الدلائل 6/392، 393. 4 أخرجه الحاكم 3/103، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وتعقبه الذهبي بقوله: كذب بحت، وفي الإسناد أحمد بن عبد الحميد الجعفي، وهو المتهم به.

وقال عليه السلام: "إن الفتن لا تظهر ما دام عمر حيّاً"1. وأخبر عليه السلام بقتال الزبير لعليّ2. وأخبر أن عماراً3 تقتله الفئة الباغية4. وقال لعبد الله بن الزبير: "ويل للناس منك وويل لك من الناس"5. وقال في قزمان6 وقد أبلى مع المسلمين: "إنه لمن أهل النار". فقتلنفسه7.

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب (17) . (ر: فتح الباري 13/48) ، ومسلم 4/2218، والبيهقي في الدلائل 6/386، 387، عن حذيفة رضي الله عنه. 2 أخرجه الحاكم 3/367، وعنه البيهقي في الدلائل 6/415، وابن الجوزي في العلل المتناهية 2/364، من طريق عبد الملك بن مسلم الرقاشي عن أبي جروة المازني. قال: "سمعت عليّاً والزبير، وعليّ يقول له: نشدتك الله يا زبير، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنّك تقاتلني وأنت ظالم، قال: بلى ولكن نسيت". ونقله ابن كثير في البداية 6/242، وقال: "غريب. قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح". قلت: عبد الملك الرقاشي، لين الحديث. (ر: التقريب 1/523) . 3 هو: عمار بن ياسر العنسي رضي الله عنه، الصحابي المعروف. له اثنان وستون حديثاً. 4 أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب (63) . (ر: فتح الباري 1/541) ، ومسلم 4/2235، 2236، وأحمد في مسنده 2/161، 164، 4/319، والترمذي 5/628، والبيهقي في الدلائل 6/420، 421، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. 5 أخرجه الحاكم 3/554، من طريق موسى بن إسماعيل التبوذكي عن الهنيد بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه أتى ... ، فذكره في سياق طويل. وعزاه السيوطي في الخصائص1/117أيضاً إلى البزار وأبو يعلى والطبراني والحاكم والبيهقي. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/273، وقال: "رواه الطبراني والبزار باختصار ورجال البزار رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم وهو ثقة". قلت: هنيد بن القاسم ذكره ابن أبي حاتم 9/121، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولم يرو عنه غير موسى بن إسماعيل التبوذكي. وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء3/366،وقال:"رواه أبو يعلى في مسنده وما علمت في هنيد جرحاً".اهـ. 6 قزمان بن الحرث، حليف بن ظفر، أبو العيذاق، مات كافراً يوم أحد. قال الذهبي: لا ينبغي أن يذكر في الصحابة. قتل يوم أحد فقال: ما أقاتل على دين. (ر: التجريد 2/15، الإصابة 5/240، فتح الباري 7/472) . 7 أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب (38) . (ر: فتح الباري 7/471) ، ومسلم 1/106، عن سهل بن سعد رضي الله عنه.

وقال عليه السلام لجماعة فيهم أبو هريرة وسمرة1 بن جندب، وحذيفة: "آخركم موتاً في النار". فكان بعضهم يسأل بعضاً، فكان سمرة آخرهم موتاً هرم فاصطلى بالنار فاحترق2 فيها3. وقال في حنظلة4 الغسيل: "سلوا زوجته فإني رأيت الملائكة تغسله". فأخبرتهم أنه خرج للحرب جنباً أعجله الحال على الغسل5، قال أبو سعيد:

_ 1 سمرة بن جندب الغزاري رضي الله عنه، الصحابي المعروف، له مائة وثلاثة وعشرون حديثاً. 2 في م: فاغترف. 3 أخرجه أبو نعيم ص555،556، والبيهقي6/459،كلاهما في الدلائل من طريق حماد ابن سلمة عن عليّ بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي محذورة رضي الله عنه، قال:..، فذكره. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 8/293، وقال: "رواه الطبراني، وأوس بن خالد لم يرد عنه غير عليّ بن زيد وفيهما كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح". قلت: أوس بن خالد الحجازي، أبو خالد، مجهول. (ر: التقريب 1/85) . وعليّ بن زيد بن جدعان التيمي البصري، الضعيف. (ر: التقريب 2/37) . وله شاهد لا يصّح أخرجه البيهقي في الدلائل 6/458، من طريق أبي نضرة عن أبي هريرة ... ، فذكره بنحوه. قال البيهقي: "رواته ثقات إلاّ أن أبا نضرة العبدي لم يثبت له عن أبي هريرة سماع"اهـ. وذكره الذهبي سير أعلام النبلاء 3/184، وقال: "حديث غريب جداً ولم يصح لأبي نضرة سماع من أبي هريرة". اهـ. وقال السيوطي في المناهل ص 153: "أخرجه الطبراني والبيهقي من طريق عن أبي هريرة موصولة ومنقطعة ومرسلة، وروى قضية احتراقه بلاغاً عن بعض أهل العلم، وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن محمّد بن سيرين أن سمرة كان أصابه كراز، وكان لا يكاد يدفأ فأمر بقدر عظيمة فملأت ماء وأوقد تحتها واتّخذ فوقها مجلساً وكان يصل إليه بخارها فيدفئه فبينما هو كذلك إذ خسف به فاحترق". اهـ. وأخرج ابن سعد 6/34، 7/50، منقطعاً عن أبي يزيد المدني بنحوه، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب 2/58، 654، والذهبي في سير أعلام النبلاء 3/158، وقال: فهذا إن صحّ، فهو مراد النبي صلى الله عليه وسلم يعني نار الدنيا". اهـ. 4 هو: حنظلة بن أبي عامر بن صيفي الأنصاري الأوسي، المعروف بغسيل الملائكة استشهد في غزوة أحد رضي الله عنه. (ر: الاستيعاب 2/380، التجريد 1/142) . 5 أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 484، 485، والسراج في مسنده. (ر: الإصابة 2/45) ، والحاكم 3/204، والبيهقي في الدلائل 3/246، كلهم من طريق ابن إسحاق. (ر: السيرة 3/107، معلقاً) . قال: حدّثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جدّه رضي الله عنه، قال: ... ، فذكره. قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". وسكت عنه الذهبي. قلت: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وقد صرح ابن إسحاق بالسماع. وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنحوه. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/26، وقال: "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن".

وجدنا رأسه يقطر ماء. وقال عليه السلام: "الخلافة في قريش"1. فها هي لم تعدهم. وقال: "يكون في ثقيف كذاب ومبير"2. فكانا وهما: الحجاج3، والمختار4.5. وقال:"إن فاطمة أوّل أهل بيته لحوقاً به"./ (2/166/أ) فكانت6.وأنذر عليه السلام بالردة7.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/185، عن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/195، وقال: "رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات". وقال الألباني: "حديث صحيح". (ر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/446، صحيح الجامع ح 3342) . وأخرجه البخاري في كتاب الأحكام باب الأمراء من قريش. (ر: فتح الباري 13/114) ، ومسلم في كتاب الإمارة باب الخلافة في قريش 3/1452، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان". 2 مبير: أي: مهلك. من البوار: الهلاك. 3 تقدمت ترجمته. (ر: ص: 562) . 4 المختار بن أبي عبيدة الثقفي الكذاب، أبو إسحاق، ولد عام الهجرة، وليست له صحبة ولا رؤية وأخباره غير مرضية حكاها عنه ثقات مثل: الشعبي وغيره. خرج على بني أمية سنة 61هـ. وادعى النبوة وقتله مصعب بن الزبير بالكوفة سنة 67هـ. (ر: سير أعلام النبلاء 3/538، الإصابة 6/198-200، البداية 8/289، الأعلام 8/70) . 5 أخرجه مسلم 4/1971، 1972، والبيهقي في الدلائل 6/485، عن أسماء رضي الله عنها في سياق طويل، - وفيه -: "أنها قالت للحجاج: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثنا "أن في ثقيف كذاباً ومبيراً". فأما الكذاب المختار بن أبي عبيد، والمبير الحجاج ابن يوسف. 6 أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/627، 628) ، ومسلم 4/1905، عن عائشة رضي الله عنه. 7 في م: (وأنذر عليه السلام بالردة) ، ساقطة. وأخرجه البخاري في كتاب الحدود باب (9) . (ر: فتح الباري 12/85) ، ومسلم 1/82، وأحمد في المسند 1/230، والبيهقي في الدلائل 6/360، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".

وقال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً". فكانت كذلك بولاية الحسن رضوان الله عليه1. وأخبر بشأن أويس2 القرني ووصفه بحليته وأن له والدة وأنّه كان به برص فدعا الله فشفاه إلاّ موضع الدرهم، وأن عليّاً وعمر [سيلقيانه] 34. فكان كل ذلك صلوات الله على سيّدنا محمّد وآله.

_ 1 أخرج أحمد في المسند 5/220، والترمذي 4/436، وأبو داود 4/311، والحاكم 3/145، والبيهقي عنه في الدلائل 6/342، كلهم من طريق سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخلافة ثلاثون عاماً ثم يكون بعد ذلك الملكُ"، قال سفينة: أمسك خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنتين، وخلافة عمر رضي الله عنه عشر سنين، وخلافة عثمان رضي الله عنه اثني عشر سنة، وخلافة عليّ رضي الله عنه ست سنين، - رضي الله عنهم - "، وللفظ لأحمد. قال الترمذي: "وهذا حديث حسن. قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان ولا نعرفه إلاّ من حديث سعيد بن جمهان". قلت: سعيد بن جمهان الأسلمي، صدوق له أفراد، من الرابعة. (ر: التقريب 1/292) . وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. (ر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/742، ح: 459، صحيح الجامع الصغير ح: 3341) . 2 أويس بن عامر بن جَزْء القَرَني المرادي اليماين، الزاهد المشهور، خير التابعين مطلقاً بشهادة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن منعه من القدوم بره بأمه، واستشهد بصفين عام 37هـ مع أصحاب عليّ رضي الله عنه. (ر: الطبقات6/161،سير أعلام النبلاء4/19،والتهذيب1/386،والإصابة1/118، البداية 6/202) . 3 في ص، م (سيلقياه) والصواب ما أثبتّه. 4 أخرجه مسلم 4/1968، 1969، وأحمد في المسند 1/38، والبيهقي في الدلائل 6/375-377، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سياق طويل.

وأخبر عليه السلام أنه سيكون بعد ثلاثون دجّالاً فيهم أربع نسوة وآخرهم الدّجّال الكذّاب1 وكلهم يكذّب على الله وعلى رسوله. وقال عليه السلام: "خير القرون2 قرني ثم الذين يلونهم ... ". الحديث3. فكان الأمر كذلك. وقال: "لا يأتي زمان إلاّ والذي بعده شرّ منه"4.

_ 1 ورد النص في الشفا 1/479، كالآتي: "وسيكون في أمته ثلاثون كذّاباً فيهم أربع نسوة، وفي حديث آخر: ثلاثون دجّالاً كذّاباً، آخرهم الدّجّال الكذّاب كلهم يكذب على الله ورسوله". قلت: أما الحديث الأوّل: "أنه سيكون في أمته ثلاثون كذّاباً فيهم أربع نسوة"، فقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/396، عن حذيفة رضي الله عنه بنحوه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7/335، وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط والبزار ورجال البزار رجال الصحيح". وقال السيوطي في المناهل ص 155: "أخرجه أحمد والطبراني والبزار بسند صحيح عن حذيفة". أما الحديث الآخر: "ثلاثون دجّالاً كذّاباً ... "، فقد أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/616) ، ومسلم 4/2240، والترمذي 4/432، والبيهقي في الدلائل 6/480، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي 4/432، عن أبي هريرة وثوبان رضي الله تعالى عنهما. 2 القرن: أهل كلّ زمان، وهو: مقدار التوسط في أعمار أهل كلّ زمان. مأخوذ من الاقتران، وكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل: القرن: أربعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، وقيل: هو مطلق من الزمان وهو مصدر: قرن، يقرن. (ر: النهاية 4/51، المصباح المنير ص 500) . 3 أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب (19) . (ر: فتح الباري 5/258، 259) ، ومسلم 4/1962، 1964، والترمذي 4/433، والبيهقي في الدلائل 6/552، عن عمران بن حصين رضي الله عنه. 4 أخرجه البخاري في كتاب الفتن باب (6) . (ر: فتح الباري 13/19) ، والترمذي 4/426، عن أنس رضي الله عنه.

وأخبر عليه السلام بظهور القدرية1 والرافضة2 والخوارج ووصفهم بصفاتهم3 والمُخْدَج الذي فيهم4، وأن سيماهمالتحليق5.

_ 1 عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إنه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر ... "، أخرجه الترمذي 4/397، بنحوه، والبيهقي في الدلائل 6/548، قال الترمذي: "حديث صحيح غريب، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "القدرية مجوس هذه الأمة ... ". الحديث. أخرجه أبو داود 4/252، والحاكم 1/85، واللالكائي في شرح أصول 639، وابن أبي عاصم في السنة 149، وقال الحاكم: "صحيح على شرط السيخين، إن صحّ سماع أبي حازم عن ابن عمر". ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7/208، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح وغيره وضعّفه جماعة". وقال الألباني في الظلال 1/150: "حديث حسن، وبأن له طرقاً يتقوى بها". قلت: له شواهد، منها: حديث جابر بن عبد الله أخرجه ابن ماجه، وحسّنه الألباني. (ر: صحيح ابن ماجه 1/22) ، ومنها: حديث ابن عباس بلفظ مختلف ومتفق في معناه، أخرجه الترمذي 4/395، وقال: "حسن صحيح". 2 عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي قوم في آخر الزمان يسمون الرافضة يرفضون الإسلام". أخرجه عبد الله في زوائده على مسند الإمام أحمد 1/103، وابن أبي عاصم في السنة 2/474، والبيهقي في الدلائل 6/547، 548، كلهم من طريق أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن كثير النَّواء عن إبراهيم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عن أبيه عن جده عليّ رضي الله عنه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/25، وقال: "رواه عبد الله والبزار وفيه كثير بن إسماعيل النواء ضعيف". وقال البيهقي: "تفرد به النواء وكان من الشيعة، وروى من وجه آخر ضعيف وذكر له وجهاً آخر من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بمثله ثم قال: وروي في معناه من أوجه أخر كلها ضعيفة. والله أعلم". قلت: في إسناده أيضاً يحيى بن المتوكل وهو ضعيف. (ر: التقريب 2/356، وقال الشيخ الألباني: حديث ضعيف. (ر: الظلال 4/474) . 3 أخرجه البخاري وغيره - مطولاً - في كتاب المناقب باب (24) . (ر: فتح الباري 6/618) ، وفي كتاب استتابة المرتدين في باب (6) ، في قتل الخوارج والملحدين وفي باب (7) باب من ترك قتال الخوارج للتآلف. (ر: فتح الباري 12/282، 290) ، وأخرجه مسلم في أحاديث كثير 2/740-750، وأحمد في المسند 2/291، 3/224، 5/36، والترمذي 4/417، 418، عن عليّ وأبي سعيد وأبي ذر وابن مسعود - رضي الله عنهم أحمعين -. 4 أخرجه البخاري في كتاب المناقب عن أبي سعيد رضي الله عنه في سياق طويل - وفيه - قوله صلى الله عليه وسلم في ذكر الخوارج: "آيتهم إحدى يديه - أو قال: ثدييه - مثل ثدي المرأة - أو قال -: مثل البضعة تدردر ... ". وأخرج مسلم 2/747 عن عبيدة عن عليّ رضي الله عنه قال: ذكر الجوارج فقال: "فيهم رجل مخدج اليد - أو مودن اليد أو مثدون اليد - لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمّد صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: أنت سمعته من محمّد صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي وربّ الكعبة: ثلاث مرات ... ". الخِداج: النقصان، يقال: خدجت الناقة، إذا ألقت ولدها قبل أوانه، وإن كان تام الخلق، والمخدج والمودن والمثدون كلها بمعنى، وهو: الناقص الخلق. (ر: النهاية 28/12، فتح الباري 12/395) . وقال الخطيب البغدادي: "إن اسم مخدج اليد الذي كان في جيش الخوارج هو: نافع ذو الثدية. (ر: الأسماء المبهمة ص 312) . 5 أخرجه مسلم 2/745، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق، قال: "هم شرّ الخلق - أو من أشرّ الخلق ... ". الحديث. وأخرجه مسلم 2/750 عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتيه قوم قبل المشرق محلقة رؤوسهم".

وأخبر عليه السلام بأن رعاء الشاة يتطاولون في البنيان وأن الأمة تلد ربتها1، وأن قريشاً والأحزاب لا يغزونه أبداً وهو الذي يغزوهم2. وأخبر عليه السلام بأن أمته يغزون في البحر كالملوك على الأسرة3.

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب (37) . (ر: فتح الباري 1/114) ، ومسلم 1/114، عن أبي هريرة رضي الله عنه في سياق طويل. وأخرجه مسلم 1/36 عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد اختلف العلماء قديماً وحديثاً في معنى: "إذا ولدت الأمة رَبَّتَها"، وملخَّصها أربعة أقوال هي: 1- قال الخطابي: "معناه: اتساع الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها، كان الولد منها بمنْزلة ربّها، لأنه ولد سيّدها"، قال النووي وغيره: إنه قول الأكثيرين. 2- أن تبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ذلك، فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها ولدها ولا يشعر بذلك. وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحريهم بيع أمهات الأولاد أو الاستهانة بالأحكام الشرعية. 3- وهو من نمط الذي قبله، قال النووي: "لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد، بل يتصور في غيرهن بأن تلد الأمة حراً من غير سيّدها بوطء شبهة، أو رقيقاً بنكاح أو زنا ثم تباع الأمة في الصورتين بيعاً صحيحاً وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أو ابنتها. 4-أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أُمَّه معاملة السيد لأمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليه ربّها مجازاً لذلك. وإليه ذهب الحافظ ابن حجر. (ر: شرح النووي على مسلم 1/158، 159، فتح الباري 1/122، 123) . 2 أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب (29) . (ر: فتح الباري 7/405) ، والبيهقي في الدلائل 3/475، عن سليمان بن صرد رضي الله عنه. وأخرجه البزار. (ر: كشف الأستار 2/336) ، عن جابر رضي الله عنه، وحسنه الحافظ ابن حجر. (ر: فتح الباري 7/405) . 3 أخرجه البخاري في كتاب الجهادباب (3) . (ر: فتح الباري6/10) ،ومسلم 3/1518، 1519،والترمذي4/153،وأبو داود3/6،وأبو نعيم ص 555، والبيهقي 6/450، كلاهما في الدلائل وغيرهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه في سياق طويل - وفيه - قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا ملوكاً على الأسرة - أو مثل الملوك على الأسرة ... ". والشّكّ من راوي الحديث إسحاق بن عبد الله واللفظ للبخاري.

وأخبر / (2/166/ب) فقال: "لو أن الدين والعلم عند الثريا لنالهرجل من فارس"1. فكان جميع ما قال وأخبر به صلى الله عليه وسلم. وهاجت ريح في غزاته فقال عليه السلام: "هاجت لموت منافق". فلما رجعوا إلى المدينة وجدوا ذلك2. وقال لجلسائه: "ضرس أحدكم في النار أعظم من أحد". قال أبو هريرة: فذهب القوم وبقيت أنا ورجل فقتل مرتداً يوم اليمامة3. وأخبر عليه السلام بالذي غَلَّ خرزاً من المغنم فوجدت في رحله4 وبالذي

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب سورة الجمعة. (ر: فتح الباري 8/641) ، ومسلم 4/1972، والترمذي 5/385، والبيهقي في الدلائل 6/333، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: من الآية3] قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً - وفينا سلمان الفارسي - وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان - ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال - أو رجل - من هؤلاء". 2 أخرجه مسلم 4/2145، والإمام أحمد في المسند 3/315، 341، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت هذه الريح لموت منافق"، فلما قدم المدينة، فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات". وأخرجه ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة 3/404، 405، وعنه البيهقي في الدلائل 4/59، 61، وذكر أن اسم المنافق هو: رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان عظيماً من عظماء يهود وكهفاً للمنافقين. 3 ذكره السيوطي في الخصائص 2/246، وقال: "أخرجه الواقدي والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر عن رافع بن خديج، قال: ... "، فذكره في سياق طويل. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/293، وقال: "رواه الطبراني، وقال في (الرحّال) بالحاء المشددة، وهكذا قاله الواقدي والمدائني وتبعهما عبد الغني بن سعيد ووهم في ذلك. والأكثرون قالوا: إنه بالجيم - الدارقطني وابن ماكولا، وفي إسناد هذا الحديث الواقدي وهو ضعيف". اهـ. قلت: ذكره الحافظ في الإصابة 2/232، في ترجمة رجال (بالجيم) بن عنفوه الحنفي، نقلاً عن سيف بن عمرو في الفتوح عن مخلد بن قيس البجلي قال: ... ، فذكره، وسكت عنه الحافظ. 4 أخرجه أحمد في المسند 4/114، وأبو داود 3/68، والنسائي 4/64، وابن ماجه، (ر: ضعيف ابن ماجه ص 229، للألباني) ، والبيهقي في الدلائل 4/255، كلهم من طريق يحيى بن سعيد عن محمّد بن يحيى بن حبان عن ابن أبي عمرة عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: ... ، فذكره. قلت: في إسناده: ابن عمرة، هو: عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري مقبول. (ر: التقريب1/493،2/456) ،وقال الألباني:"حديث ضعيف". (ر: أحكام الجنائز ص79) .

غَلَّ الشملة1، وأخبر بناقته2. وحيث هي باقية حين ضلت وكيف تعلقت بشجرة بوادي كذا فوجدت على النعت الذي ذكر3. وأخبر بكتاب حاطب4 إلى أهل مكّة5. وبالمال الذي تركه العباس عند أم الفضل6 فكان ذلك سبب إسلامه7.

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب (40) . (ر: فتح الباري 7/487) ، ومسلم وأبو داود 3/68، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي رواية البخاري: أن الذي غل الشملة عبد أسود اسمه: (مِدَعم) والشَّملة: هو الكسا والمئزر يتشح به، وجمعه: الشِّمال. (ر: النهاية 2/502) . 2 في ص: (وأخبر بناقته) ساقطة، وأضيفت من م. 3 أخرجه أبو نعيم ص 515، والبيهقي 4/59، كلاهما في الدلائل عن عروة بن الزبير مرسلاً. وفي الإسناد: ابن لهيعة، وهو صدوق خلط بعد احتراق كتبه. (ر: الجرح 5/145، التقريب1/244) ،وأخرجه البيهقي في الدلائل4/59،60 أيضاً عن عقبة ابن موسى مرسلاً. 4 حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو اللخمي رضي الله عنه، وقصته مشهورة في الصحيحين والسيرة، توفي سنة 30هـ، في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنهما. له أربعة أحاديث ذكرها الحافظ في الإصابة 1/314. 5 أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب (46) . (ر: فتح الباري 7/304، 519) ، ومسلم 4/1914، عن علي رضي الله عنه في سياق طويل. 6 أم الفضل امرأة العباس بن عبد المطلب، اسمها: لبابة بنت الحارث الهلالية أسلمت قبل الهجرة وقيل بعدها، وماتت في خلافة عثمان. ولها ثلاثون حديثاً. (ر: الإصابة 8/266) . 7 أخرجه أبو نعيم ص 482، والبيهقي 3/237، كلاهما في الدلائل من طريق ابن إسحاق. (ر: السيرة 3/121) ، قال: حدّثني الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، قال: ... ، فذكره في سياق طويل. قلت: إسناده متصل صحيح، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع. وأخرجه ابن سعد 2/46، والبيهقي في الدلائل 3/211، 258، عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب مرسلاً بنحوه في سياق طويل.

وأخبر عليه السلام بأنه سيقتل أُبّيّ1 بن خلف فقتله2. وقال في عتبة بنأبي لهب: "إنه سيأكله الأسد". فأكله بعد أن حُرِس3. وأخبر عن مصارع أهل بدر قبل كونها فكان جميع ذلك4. وقال: "إن الحسن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"5. وأخبر عليه السلام بقتل أهل مؤتة6 يوم قتلوا". وبينه وبينهم أكثر من شهر7.

_ 1 أحد رؤساء الكفر بمكّة ومن المؤذين للنبي صلى الله عليه وسلم، قتله النبي صلى الله عليه وسلم بأحد. 2 أخرجه أحمد في المسند 1/353، وأبو نعيم في الدلائل ص 476، كلاهما عن محمّد ابن إسحاق. (ر: السيرة 3/121-123) ، قال: حدّثني من سمع عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ... ، فذكره في سياق طويل. وذكره الهيثمي بطوله في مجمع الزوائد 6/89، وقال: "رواه أحمد وفيه راوٍ لم سم، وبقية رجاله ثقات". وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/324 عن ابن إسحاق ثنا يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ... ، فذكرته، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في الدلائل 3/258، 259، عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب مرسلاً. 3 تقدم تخريجه. (ر: ص: 796) . 4 أخرجه مسلم 3/1403، 4/2203، وأبو داود 3/58، والبيهقي في الدلائل 3/46-48، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. 5 أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/628) ، والإمام أحمد في المسند 5/44، 49، وفي فضائل الصحابة 2/768، والترمذي 5/651، وأبو داود 4/216، والبيهقي في الدلائل 6/422، 443، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: "أخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم الحسن فصعد به على المنبر فقال: "ابني هذا سيّد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين". - واللفظ للبخاري -. 6 مؤتة: بلدة أردنية، تقع في جنوب الكرك غير بعيدة منها. (ر: معجم المعالم الجغرافية ص 304، للبلادي) . 7 أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/628) ، وفي كتاب المغازي. (ر: فتح الباري 7/512) ، والبيهقي في الدلائل 4/366، 367، عن أنس رضي الله عنه، - وفيه -: قال أنس: "فنعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس قبل أن يجيء الخبر، قال: أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله ب رواحة فأصيب ثم أخذ الراية بعد سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ... ".

وأخبر بموت النجاشي1/ (2/167/أ) ومات وهو بأرض الحبشة2. وبينهما ما قد علم. وأخبر فيروز بقتل كسرى يوم قتل فأسلم فيروز ومن معه3. وأخبر أبا4 ذرٍّ بطريده ورآه في المسجد نائماً وحده فقال: كيف بك يا أبا ذرٍّ إذا أخرجت منه؟ قال: أسكن المسجد الحرام. قال: فإذا أخرجت منه5 - الحديث بطوله -، فجرى ذلك كله. وأخبر بعيشهوحده وبموته وحده فمات بالرَّبْدة6 وحده7. وقصته مشهورة.

_ 1 هو: أصحمة بن أبحر النجاشي، ملك الحبشة واسمه بالعربية عطية، والنجاشي لقب له، اسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه. ولم يهاجر ولا له رؤية. فهو تابعي من وجهٍ، صاحب من وجهٍ، توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه بالناس صلاة الغائب، ونقل بعض العلماء أن ذلك كان في شهر رجب سنة 9هـ. (ر: سير أعلام النبلاء 1/428-443، الإصابة 1/112) . 2 أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب (4) . (ر: فتح الباري 3/116) ، ومسلم 2/656، 657، والبيهقي في الدلائل 4/410، 411، عن أبي هريرة رضي الله عنه. 3 تقدم تخريجه. (ر: ص: 794) . 4 أبو ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه، الصحابي المشهور، اختلف في اسمه واسم أبيه، والمشهور أنه جندب بن جنادة، له مائتا وواحد وثمانون حديثاً. 5 أخرجه أحمد في المسند6/457،والطبراني في الكبير مختصراً2/157،كلاهما من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: ... ، فذكرته في سياق طويل. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2/22، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه شهر وفيه كلام وقد وُثِّق. قلت: شهر بن حوشب الأشعري، صدوق كثير الإرسال والأوهام من الثالثة. (ر: التقريب 1/355) . 6 كانت قرية عامرة ولكنها خربت سنة 319هـ، بسبب الحروب. وتقع في الشرق إلى الجنوب من بلدة الحناكية. (مائة كيلا عن المدينة في طريق الرياض) . (ر: المعالم الأثيرة ص 125، محمّد شراب) . 7 أخرجه الحاكم 3/50، 51، وعنه البيهقي في الدلائل 5/221، 222، من طريق ابن إسحاق. (ر: السيرة 4/228) ، قال: حدّثني بريدة بن سفيان الأسلمي عن محمّد ابن كعب القرظي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: ... ، فذكره في سياق طويل. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وخالفه الذهبي بقوله: فيه إرسال. قلت: محمّد بن كعب القرظي لم يذكر أبو حاتم أنه روى عن ابن مسعود. (ر: الجرح والتعديل 8/67) ، وفي إسناده أيضاً بريدة بن سفيان الأسلمي، ليس بالقوي وفيه رفض. (ر: التقريب 1/96) ، وذكره الحافظ في الإصابة 7/62، في ترجمة أبي ذرّ، وقال: وفي السيرة النبوية لابن إسحاق بسند ضعيف عن ابن مسعود.

وأخبر عليه السلام بأن أسرع أزواجه لحوقاً به أطولهن يداً فكانت زينب لطول يدها بالصدقة1. وأخبر بقتل الحسن رضوان الله عليه بالطَّف2. وأخرج بيده تربة وقال: "في هذه مضجعه"3. وقال لزيد بن صوحان4: "يسبقه عضو منه إلى الجنة"، فقطعت يده في الجهاد5.

_ 1 أخرجه مسلم 4/1907، والبيهقي في الدلائل 6/374، عن عائشة رضي الله عنها. وأخرجه يونس بن بكير في زيادات المغازي. (ر: فتح الباري 3/287) ، وعنه البيهقي في الدلائل 6/374 عن زكريا بن أبي زائدة عن عامر الشعبي مرسلاً. 2 الطّقّ: في اللغة: ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق، وهو أرض - من ضاحية الكوفة في طريق البرية، فيها مقتل الحسن رضي الله عنه. ويسمى الموضع الذي قتل فيه: (كربلاء) في طرف البرية. (ر: النهاية3/129،معجم البلدان 4/35،36،445) . 3 أخرجه البيهقي في الدلائل 6/470، من طريق عمارة بن غَزَيَّة عن محمّد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قال: ... ، فذكرته في سياق طويل. - وفيه - ذكر الطّف. قلت: إسناده حسن. فإن ابن غزية الأنصاري لا بأس به. (ر: التقريب 2/51) , وله شواهد تقويه إلاّ أنه ليس فيها ذكر (الطف) ومنها: حديث نجيء الحضرمي عن عليّ رضي الله عنه نحوه أخرجه أحمد في المسند 1/85، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/190: "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجاله ثقات ولم ينفرد نجيء بهذا". ومنها: حديث أنس رضي الله عنه أخرجه أحمد في المسند 3/242، وابن حبان. (ر: الموارد ص 554) ، وأبو نعيم ص 553، والبيهقي 6/469، كلاهما في الدلائل، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/190) : "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني بأسانيد وفيها عمارة بن زاذان، وثّقه جماعة، وفيه ضعف، وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح". اهـ. قلت: عمارة بن زاذان - الصيدلاني صدوق كثير الخطأ. (ر: التقريب 2/49) . ومنها: حديث أبي الطفيل رضي الله عنه، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/139: "رواه الطبراني، إسناده حسن". 4 زيد بن صوحان حجر العبدي الكوفي، أبو سليمان، أخو صعصعة وسيحان اختلف في صحبته. فقال ابن عبد البر والذهبي: لا صحبة له. وقال ابن الكلبي والرشاطي: إن له صحبة. وإليه ذهب الحافظ ابن حجر، قطعت يده يوم القادسية وقتل يوم الجمل. (ر: الاستيعاب2/550-553،وسير أعلام النبلاء3/525،الإصابة3/30،36،45) . 5 أخرجه ابن عدي. (ر: الكامل 7/123) ، وعنه البيهقي في الدلائل 6/416، عن أبي يعلى عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن حسين بن محمّد عن الهذيل بن بلال عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي عن عليّ رضي الله عنه مرفوعاً قال: ... ، فذكره. قال البيهقي: هذيل بن بلال غير قوي. اهـ. وهو كما قال البيهقي. (ر: لسان الميزان 6/192) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/401: "رواه أبو يعلى وفيه من لم أعرفهم". قلت: عبد الرحمن بن مسعود العبدي الجندي لم أقف له على ترجمة، إلاّ أ، للحيدث شاهداً أخرجه ابن منده من طريق الجريري عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: ... ، فذكره بنحوه. (ر: الإصابة 3/46) .

وقال في الذين معه على الجبل: "اثبت حراء، فإنما عليك نبيّ وصدّيق وشهيد". فقتل عمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وطعن سعد1. وقال لسراقة2:"كيف بك إذا ألبست سواري كسرى؟ ".فلما أُتي عمربهماألبسهماإياه. وقال: الحمدلله الذي سلبهماكسرى وألبسهما سراقة3. وقال عليه السلام لعمر في سهيل4 بن عمرو حين / (2/167/ب) قالله ما قال: "عسى أن يقوم مقاماً يسرك يا عمر". فقام بمكّة حين بلغه وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب خطبة يثبت فيها بصائرهم على الإسلام5 وكذلك فعل بالشام أيضاً.

_ 1 تقدم تخريجه. (ر: ص: 757) . 2 سراقة بن مالك بن جعشم الكناني المدلجي رضي الله عنه، قصته مشهورة في الهجرة، له تسعة عشر حديثاً. 3 أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 2/158، والبيهقي في الدلائل 6/25، كلاهما من طرق عن الحسن مرسلاً في سياق طويل. وذكره أيضاً. (ر: السيرة ص 377) ، والحافظ في الإصابة 3/69، عن الحسن ثم قال: وروى ذلك عنه ابن أخيه عبد الرحمن بن مالك بن جعشم. اهـ. وقال البيهقي: "قال الشافعي، وإنما ألبسهما سراقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسراقة - ونظر إلى ذراعيه: كأني بك قد لبست سواري كسرى". 4 سهيل بن عمرو بن عبد شمس القرشي العامري، رضي الله عنه خطيب قريش تولى أمر الصلح بالحديبية، سكن مكّة ثم المدينة، ثم الشام ومات بها سنة 18هـ في طاعون عمواس. 5 أخرجه الحاكم 3/282، وعنه البيهقي في الدلائل 6/367، عن الحسن بن محمّد مرسلاً، ونقله الحفاظ في الإصابة 3/146، عن البيهقي وقال: وروى - أوّله يونس ابن بكير في مغازي ابن إسحاق عنه عن محمّد بن عمرو بن عطاء، وهو في المحامليات موصول من طريق سعيد بن أبي هند عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها. اهـ.

وقال لخالد بن الوليد حين وجّهه لأكيدر1: "إنك ستجده يصيد البقر". فكان الأمر كذلك2. إلى ما أخبر به عليه السلام جلساءه من أسرارهم وبواطنهم ونَبَّه عليه السلام من أسرار المنافقين وكفرهم وإلحادهم حتى صار أحدهم يقول لأصحابه: اسكت فوالله لو لم يكن عنده مَنْ يُخبر لأَخْبَرتْه حجارة البطحاء3.

_ 1 أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكوفي، ملك دومة الجندل، - وهي بين الشام والحجاز - واختلف في إسلامه، فذكر ابن منده وأبو نعيم أنه أسلم، وتعقب ذلك ابن الأثير فقال: ومن قال إنه أسلم فقد أخطأ ظاهراً، بل كان نصرانياً، ولما صالحه النبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى حصنه وبقي فيه، ثم إن خالد بن الوليد أسره في أيام أبي بكر فقتله. قال الحافظ: "والذي يظهر أن أكيدر صالح على الجزية كما قال ابن إسحاق ويحتمل أن يكون أسلم بعد ذلك كما قال الواقدي ثم ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم مع من ارتد كما قال البلاذري ومات علي. والله أعلم". (ر: الإصابة 1/129-131) . 2 قال السيوطي في المناهل ص 162: "أخرجه ابن إسحاق والبيهقي عن يزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر مرسلاً، ووصله ابن منده في معرفة الصحابة من طريق آخر عن بجير بن بجره الطائي صحابي". اهـ. قلت: أخرجه أبو نعيم ص 526، والبيهقي 5/250، 251، كلاهما في الدلائل من طريق ابن إسحاق. معلقاً. (ر: السيرة 4/231) ، عن يزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر مرسلاً. قال ابن منده: "هذا مرسل، وقد وقع لنا مسنداً، ثم أخرج من طريق أبي المعارك السماح بن المعارك بن مرة بن صخر بن بجير بن بجرة الطائي حدّثني أبي الطائي، حدّثني أبي عن جدي عن أبيه بجير بن بجرة قال: ... ، فذكره، وفيه أبيات منها: تبارك سائق البقرات إني رأيت الله يهدي كل هاد قال الحافظ ابن حجر: "وأخرجه ابن السكن وأبو نعيم من هذا الوجه، وأبو المعارك وآباؤه لا ذكر لهم في كتب الرجال". (الإصابة 1/142) . وقال الحافظ: "ورويناه في زيادات المغازي من طريق يونس بن بكير عن سعد بن أوس عن بلال بن يحيى، قال: ... "، فذكره. (ر: الإصابة 1/129) ، وأخرجه البيهقي في الدلائل 5/251، من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة مرسلاً. 3 هذه مقالة أبي سفيان لعتاب بن أسيد والحارث بن هشام قبل إسلامهم في يوم فتح مكّة حينما أذّن بلال فوق الكعبة، ذكرها ابن هشام منقطعاً. (ر: السيرة 4/80) ، وأخرجها ابن سعد 3/235 بسياق مختلف مرسلاً عن ابن أبي مليكة.

وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بصفة السحر الذي سحره لبيد1 بن الأعصم وحيث جعله، فوجد على تيك الصفة وفي ذلك المكان2. وأعلم قريشاً أن الأَرَضَة قد أكلت صحيفتهم التي كتبوها على بني هاشم خلا قوله: باسمك اللهم3. ووصف عليه السلام لقريش بيت المقدس حين كَذَّبوه في خبر الإسراء4، وأعلمهم بشأن العير الواصلة فلم يخرم من ذلك حرف5.

_ 1 لَبيد بن الأعصم من بني زريق من الخزرج، حليف اليهود كان تاجراً منافقاً. (ر: فتح الباري 10/226) . 2 أخرجه البخاري في كتاب الطب باب (47) . (ر: فتح الباري 10/221) ، ومسلم 4/1719، 1720، عن عائشة رضي الله عنها في سياق طويل. 3 أخرجه البيهقي في الدلائل 2/314، 315، عن ابن إسحاق منقطعاً. وأخرجه ابن عبد البر في الدور ص 38-42، والبيهقي في الدلائل 2/311-312، كلاهما من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري مرسلاً. وأخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 272 عن عروة بن الزبير مرسلاً، وفي إسناده أيضاً ابن لهيعة، وهو ضعيف. وذكره ابن هشام عن بعض العلم. (ر: السيرة 2/19، 20) . 4 أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب (41) . (ر: فتح الباري 7/196) ، ومسلم 1/156، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في سياق طويل. وأخرجه الإمام أحمد في المسند1/309،عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنحوه. 5 أخرجه البيهقي في الدلائل 2/355-357، من طريق إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم الأشعري عن محمّد بن الوليد بن عامر عن الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نضير عن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: ... ، فذكره في سياق طويل. ثم قال البيهقي: "هذا إسناد صحيح، وروي ذلك مفرقاً في أحاديث غيره". اهـ. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/79، وقال: "رواه البزار والطبراني في الكبير، وفيه إسحاق بن إبرهيم بن العلاء، وثقه يحيى بن معين وضعّفه النسائي". قلت: لم أجد ترجمة إسحاق في: "الضعفاء والمتروكين". للنسائي. وقال أبو حاتم 2/201، عن إسحاق بن إبراهيم: شيخ، وقال: سمعت يحيى بن معين أثنى عليه، وقال: لا بأس به ولكنهم يحسدونه". اهـ.

إلى ما أخبر به عليه السلام من الحوادث التي ستكون ولما تجيء بعد، كقوله: "عمران بيت المقدس / (2/168/أ) خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية"1. وهذا نوع من معجزاته لا يكاد يحصر لكثرته واتساعه. 55- ومن ومعجزاته عليه السلام عصمته من أعدائه على كثرتهم: قال الله له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: من الآية48] . وقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: من الآية67] . وقال سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: من الآية36] . وقال عزّ من قائلٍ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:95] .وقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [لأنفال: من الآية30] . الآيات. قالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزل قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: من الآية67] . فأخرج عليه السلام رأسه من القبة فقال: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني ربّي عزوجل2".

_ 1 أخرجه أحمد في المسند 5/232، 245ت، وأبو داود 4/110، من طريق مكحول عن جبير بن نفير عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. قال الألباني: صحيح. (ر: صحيح الجامع 2/754،ح:4096أحمد في المسند4096،المشكاة ح: 5424) . 2 أخرجه الترمذي5/234، والحاكم2/313،والبيهقي في الدلائل2/184،كلهم من طريق مسلم بن إبراهيم ثنا الحارث بن عبيد ثنا سعيد الجُرَيْري عن عبد الله بن شقيق عن عائشةرضي الله عنها. قال الترمذي: حديث غريب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. قلت: في إسناده الحارث بن عبيد الإيادي، صدوق يخطئ، من الثامنة. (ر: التقريب 1/142) . وسعيد بن إياس الجريري، ثقة من الخامسة. اختلط قبل موته بثلاث سنين. (ر: التقريب 1/290) .

وكان عليه السلام إذا نزل منْزلاً اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها فأتاه أعرابي وهو غورث1 بن الحارث فاخترط سيفه، وقال: من يمنعك مني؟ فقال: الله. فأرعدت يده وسقط سيفه وضرب برأسه الشجرة حتى سال دمه2. والحديث في الصحيح3، فنَزل قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: من الآية67] . وجرى ذلك له مرات، منها يوم بدر وقد انفرد من أصحابه4. ومنها في غزوة غطفان5 مع رجل يقال/ (2/168/ب) له دعثور6 ابن الحارث وأنه أسلم فلما رجع إلى

_ 1 غورث بن الحارث، اخلتف في إسلامه، ذكر الذهبي في التجريد أنه أسلم، وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر طرق الأحاديث: فهذه الطرق ليس فيها أنه أسلم، وكأن الذهبي لما رأى ما في ترجمة دعثور بن الحرث سيأتي - أن الواقدي ذكر له شبهاً بهذه القصة وأنه ذكر أنه أسلم فجمع بين الروايتين فأثبت إسلام غورث، فإن كان كذلك ففيما صنعه نظر من حيث إنه عزاه للبخاري وليس فيه أنه أسلم، ومن حيث إنه يلزم من الجزم بكون القصتين واحدة مع احتمال كونهما واقعتين إن كان الواقدي أتقن ما نقل، وفي الجملة، هو على الاحتمال، وقد يتمسك من يثبت إسلامه بقوله: "جئتكم من عند خير الناس". اهـ. (ر: التجريد 2/3، الإصابة 5/191) . 2 قال القاري في شرحه 3/204: "وما رواه من الزيادة - يعني قوله: "وضرب رأسه الشجرة حتى سال دمه"، فغير معروف عند أرباب الرواية". اهـ. وقال الخفاجي في نسيم الرياض 3/204: "وهذا الحديث بهذا اللفظ قالوا: لم يوجد في الكتب المعتبرة عند أهل الأثر ولم يذكروه في أسباب النُّزول". اهـ. قلت: الحديث بلفظ المؤلِّف أخرجه الإمام ابن جرير في تفسيره 6/308، عن محمّد ابن كعب القرظي مرسلاً. 3 أصل الحديث السابق أخرجه البخاري من غير الزيادة السابقة: "وضرب برأسه الشجرة ... " في كتاب المغازي باب (31) . (ر: فتح الباري 7/426، 429) ، ومسلم 4/1786، 1787) ، وابن إسحاق. (ر: السيرة 3/288) ، والبيهقي في الدلائل 3/373 عن جابر رضي الله عنه. 4 لم يخرجه السيوطي. (ر: المناهل ص 163) ، وقال الخفاجي: "هذا الحديث لم يخرجه أحد". (ر: نسيم الرياض 3/205) . 5 وتسمى أيضاً غزوة (ذو أمر) وهو: موضع بنجد من ديار غطفان من ناحية النُّخَيْل. (ر: السيرة 3/68، لابن هشام، معجم البلدان 1/252) . 6 دعثور بن الحارث الغطفاني، قال الذهبي: "دعثور في حديث عجيب الإسناد والأشبه غورث"، وقال الحافظ بعد أن ذكر قصته من طريق الواقدي: "وقصته هذه شبيهة بقصة عورث بن الحارث المخرجة في الصحيح من حديث جابر، فيحتمل التعدد أو أحد الاسمين لقب إن ثبت الاتّحاد".اهـ. التجريد1/166، الإصابة 2/163) .

قومه الذين أغووه بذلك قالوا له: أين ما كنت تعدنا؟ وكان أبسلهم وأشجعهم، قال: إني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري وسقط السيف من يدي فعرفت أنه ملك فأسلمت1. وكانت حمالة2 الحطاب تضع العضاء - وهي جمر3 - على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما يطؤها كثيباً أهيل4.5.

_ 1 أخرجه الواقدي في مغازيه1/193-196، وعنه البيهقي في الدلائل3/168،169، من طريق عبد الله بن رافع بن خديج عن أبيه قال: ... ، فذكره في سياق طويل. وذكره الماوردي في أعلام النبوة ص 133. قال البيهقي: "وقد روي في غزوة ذات الرقاع قصة أخرى في الأعرابي الذي قام على رأسه بالسيف، وقال: من يمنعك مني؟ فإن كان الواقدي قد حفظ ما ذكر في هذه الغزوة فكأنهما قصتان. والله أعلم". اهـ. 2 هي: أم جميل العوراء، واسمها: أروى بنت حرب بن أمية، زوج لهب، وأخت أبي سفيان وكانت من سادات قريش. (ر: السيرة1/435، تفسيرابن كثير4/603، 604) . 3 العِضَاه: شجرة أم غَيْلاَن, وكل شجر عظيم له شوك، الواحدة عِضَة - بالتاء - وأصلها: عِضَهه، وقيل: واحدته: عضاهه. (ر: النهاية 3/255، المصباح ص 415) . وقال القاري في شرحه للشفا 3/207: "- وهي جمر - جملة حالية، ولعل المراد تشبيه الشوك بالجمرة حال حدتها، فإن الجمرة هي النار المتوقدة ثم اعلم أن بعضهم ذكر في معناه أنه شجر لجمره حرارة شديدة، وقد قال أهل التفسير: إنها كانت تضع الشوك، ولذا سميت (حمالة الحطب) ، على أحد الأقوال، ولعلها كانت الشوك مرة والجمرة مرة أخرى أو كانت تجمع بينهما. والله أعلم". اهـ. 4 كثيبا أهيل: أي: رملاً سائلاً حيث لم يتضرر بها. (كذا ذكره القاري) . 5 أخرجه الإمام ابن جرير في تفسيره 30/339، عن عطية الجدلي مرسلا. قلت: عطية بن سعد الجدلي، صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً من الثالثة. (ر: التقريب 2/24) .

وقد ذكر ابن إسحاق أن حمالة الحطب حين بلغها قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ} [المسد: من الآية1] 1. وذمّها الله مع زوجها جميعاً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس ومعه أبو بكر وفي يدها فهر من حجارة فلما وقفت عليهما لم تر سوى أبي بكر وأخذ الله ببصرها عن نبيّه فلم تره فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه هجاني والله لو وجدته لضربته بهذا الفِهْر2 فاه3. وقال الحكم بن أبي العاص: "تواعدنا على النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا رأيناه سمعنا صوتاً ما ظننا أنه بقي بتهامة أحد، فوقعنا مغشياً علينا فما أفقنا حتى قضى صلاته وانصرف إلى أهله، ثم تواعدنا ليلة أخرى فجئنا حتى إذا رأيناه جاءت الصفا والمروة / (2/169/أ) فحالت بيننا وبينه4.

_ 1 قال العلماء في هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد الآية:3] ، الآيات، فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان لم يقيض لهما أن يؤمنا ولا واحد منهما لا باطناً ولا ظاهراً، ولا سرّاً ولا معلناً، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة. اهـ. (ر: تفسير ابن كثير 4/604) . 2 الفِهْر: الحجر ملء الكف، وقيل: هو: الحجر مطلقاً. (ر: النهاية 3/481) . 3 أخرجه ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة1/436) ،وابن أبي حاتم. (ر: تفسير ابن كثير 4/604) ،والحاكم4/362، وعنه البيهقي في الدلائل2/195، وذكره الذهبي. (ر: السيرة ص146،147) ،كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قال: ... ، فذكرته في سياق طويل. قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. قلت: له شاهد من حديث سعيد بن جبير رضي الله عنه، أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 193، وابن حبان. (ر: الموارد ص 516) ، بنحوه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/147: "رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، وقال البزار: إنه حسن الإسناد. قلت: ولكن فيه عطاء بن السائب وقد اختلط". اهـ. 4 أخرجه أبو نعيم في الدلائل 2/209، 210، من طريق داود بن أبي هند عن قيس ابن حبتر، قال: قالت ابنة ابن الحكم: قلت لجدي الحكم: ... ، فذكرته. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/230، وقال: "وراه الطبراني ورجاله ثقات غير بنت الحكم فلم أعرفها". اهـ. وقال السيوطي في المناهل ص 163: "أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الدلائل وسنده جيد". اهـ. وزاد في الخصائص 1/215: أخرجه ابن منده.

وعن عمر قال: تواعدت أنا وأبو1 جهم بن حذيفة ليلة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا منْزله فسمعناه يقرأ: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [سورة الحاقة، الآيات: 1-8] ، إلى قوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة} . [الحاقة الآيتان: 1-8] . فضرب أبو جهم على عصدي وقال: انج. وفررنا هاربين2. ولما اجتمعت قريش على قتل نبيّ الله وبَيَّتوه خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على رؤوسهم وقد ضرب الله على أبصارهم فذر التراب على رؤوسهم وذهب فجعل الرجل يتناول من على رأسه تراباً وذهبوا خائبين3. ومن هذا القبيل كفاية الله له في الغار بما هيأ الله له من الآيات من نسج العنكبوت على باب الغار حتى قال أمية بن خلف حين قالوا: ندخل

_ 1 أبو الجهم بن حذيفة بن غانم القرشي العدوي رضي الله عنه، اسمه: عامر، وقيل: عبيد، من مسلمة الفتح، كان عالماً بالنسب ومن معمري قريش ومن مشيختهم، توفي آخر خلافة معاوية رضي الله تعالى عنهما. (ر: الاستيعاب4/1623،الإصابة7/34، 35) . 2 قال الخفاجي في نسيم الرياض 3/209: "هذا الحديث لم يوجد بهذا اللفظ إلاّ أنه في مسند أحمد بما يقرب منه عن عمر بن الخطاب ... ، فذكره في سياق طويل. قلت: أخرجه أحمد 1/17، عن المغيرة عن صفوان عن شرع بن عبيدة قال: قال عمر: ... ، فذكره. وليس في الحديث أن عمر بن الخطّاب صاحب أبا جهم. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/65، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات إلاّ أن شريح بن عبيدة لم يدرك عمر". اهـ. وهو كما قال الهيثمي. (ر: التهذيب 4/288) ، وشريح ثقة، إلاّ أنّه كان يرسل كثيراً. (ر: التقريب 1/349) . 3 أخرجه أبو نعيم ص 203، 204، والبيهقي 2/469، 470، كلاهما في الدلائل من طريق ابن إسحاق. (ر: السيرة 2/139، 140) . قال: حدّثني يزيد بن زياد عن محمّد بن كعب القرظي مرسلاً. قال البيهقي: "وروي عن عكرمة ما يؤكد هذا".

الغار-: إن على الغار من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل أن يولد محمّد. ووقفت حمامتان على فم الغار، فقالت قريش: لو كان فيه أحد لما كان هناك الحمام1. وقصته مع سراقة مشهورة، وذلك أن قريشاً جعلت في رسول الله الجعائل فركب سراقة بن مالك واتبعه حتى إذا قرب منهما دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم / (2/169/ب) فساخت قوائم فرسه في أرض صلبة ومحجر صلد، فخر عنها واستقسم بأزلامه فخرج له ما يكره، ثم اتبعهما ثانية حتى إذا دنا منهما وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله لا يلتفت قال أبو بكر: أُتينا يا رسول الله. فقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . [التوبة: من الآية40] . فساخت قوائم فرسه ثانية إلى ركابها فَخَرّ عنها زجرها فنهضت ولقوائمهما مثل الدخان. فناداهم بالأمان فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاب أمان كتبه أبو بكر، وقيل: كتبه ابن2 فهيرة. وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يدع الطلب

_ 1 أخرجه ابن سعد 1/228، وأبو نعيم في الدلائل ص 325، والبيهقي في الدلائل 2/482، كلهم من طريق أبي مصعب المكي عن أنس بن مالك وزيد بن الأرقم والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهم -. وعزاه السيوطي في الخصائص1/306 أيضاً إلى ابن مردويه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد5/55،56،وقال:"رواه البزار والطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم".اهـ. وأورده ابن كثير في البداية3/200،وقال:"هذا حديث غريب جداً من هذا الوجه". وقال الألباني: حديث منكر. (ر: سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/259-264) . وأخرجه أحمدفي المسند1/348، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنحوه في سياق طويل. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/30: "وراه أحمد والطبراني، وفيه عثمان بن عمرو الجزري، وثّقه ابن حبان وضعّفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح". وذكره ابن كثير في البداية 3/198، 199، عن الإمام أحمد وقال: "وهذا إسناد حسن، هو من أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت". اهـ. وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (ح 3251) : "في إسناده نظر. وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/262، وقال تعقيباً على قول ابن كثير: وليس بحسن في نقدي، لأن عثمان بن عمرو بن ساج الجزري لا يحتج به. وفيه ضعف". اهـ. (ر: الجرح 6/162، التقريب 2/13) . 2 هو: عامر بن فهيرة التيمي رضي الله عنه، مولى أبي بكر الصِّدِّيق وأحد السابقين وكان مولوداً من الأزد استشهد ببئر معونة. (ر: الإصابة 3/14) .

يلحق بهم فانصرف سراقة يقول للناس: كفيتم ما ها هنا. ووقع في نفسه ظهور النبي صلى الله عليه وسلم1. ورآهم آخر من الرعاة فخرج ينشد يعلم قريشاً، فلما ورد مكّة ضرب على قلبه فأنسي ما قدم له حتى رجع إلى موضعه2. قال ابن إسحاق: "وجاءه أبو جهل بصخرة وهو ساجد وقريش ينظرون إليه ليطرحها عليه، فلزقت بيده ويبست يده إلى حد عنقه فرجع القهقري وسأله فدعا له حتى انطلقت يداه، وكان حلف لقريش لئن رآه ليدمغنه فسألوه عن شأنه / (2/170/أ) فذكر أنه عرض له دونه فَحْلٌ ما رأى مثله هَمَّ به أن يأكله، فقال عليه السلام: ذلك جبريل لو دنا مني لأخذه"3.

_ 1 قصة سراقة في الهجرة أخرجها البخاري في كتاب المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/622) ، وفي كتاب مناقب الأنصار باب (45) . (ر: فتح الباري 7/338، 339) ، ومسلم 3/1592، 4/2309، 2310، وأحمد في المسند 1/2-3، وأبو نعيم في الدلائل ص 329، 330، والبيهقي في الدلائل 2/484-487، عن البراء وعن سراقة بن مالك رضي الله تعالى عنهما. 2 لم يخرجه السيوطي. (ر: في المناهل ص 55، الطبعة الحجرية) . وقال القاري في شرحه 3/214: "غير معروف عند أهل الأثر"، وقال الخفاجي في نسيم الرياض 3/214: "لا يعرف من وراه". 3 أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 205، والبيهقي في الدلائل 2/190، 191، كلاهما عن محمّد بن إسحاق. (ر: السيرة 1/364-39) ، عن بعض أهل العلم. (وفي إسناد البيهقي قال ابن إسحاق: حدّثني شيخ من أهل مصر قديم منذ بضع وأربعين سنة) ، عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال: ... ، فذكره في سياق طويل. قلت: إسناده صحيح.

وذكر السمرقندي1 أن رجلاً من بني المغيرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله فطمس الله على بصره فلم [يره] 2. وكان يسمع قراءته ولا يهتدي إليه فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه3. وعن أبي هريرة قال: "إن أبا جهل وعد قريشاً لئن رأى محمّداً ليؤذينّه، فلما صلى النبي أعلموه فأقبل فلما قرب منه ولَّى هارباً ناكصاً على عقبيه متقياً بيديه فسئل عن ذلك، فقال: لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوء ناراً كدت أهوي فيه وأبصرت هولاً عظيماً وخفق أجنحة قد ملأت الأرض. فقال عليه

_ 1 أبو الليث نصر محمّد السمرقندي، الفقيه الحنفي، الملقب بإمام الهدى له تصانيف منها: تفسير القرآن وتنبيه الغافلين. توفي سنة 373هـ. (ر: سير أعلام النبلاء 16/322، الجواهر المضيئة 2/196، الأعلام 8/27) . 2 في ص، م (يراه) والصواب ما أثبتّه. 3 أورده القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} [يّس: من الآية9] عن مقاتل قال: ... ، فذكره بلفظ المؤلِّف. (ر: تفسير القرطبي 15/9، 10) . وأخرجه البيهقي في الدلائل 2/196، 197، من طريق محمّد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عزوجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} [يّس: من الآية9] ، قال: "وذلك أن أناساً من بين مخزوم تواصوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة ونفر من بني مخزوم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلما سمعوا قراءته أرسلوا الوليد ليقتله، فانطلق حتى انتهى إلى المكان الذي كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فجعل يسمع قراءته ولا يراه ... " الخ. قال البيهقي: "وروي عن عكرمة ما يؤكد هذا". اهـ. قلت: في إسناده محمّد بن مروان، السدي الصغير كوفي متهم بالكذب. (ر: التقريب 2/206) ، وقول البيهقي: "روي عن عكرمة"، يشير إلى ما أخرجه ابن جرير في تفسير 22/152، عن عكرمة قال: "قال أبو جهل لئن رأيت محمّداً لأفعلن ولأفعلن، فنَزَلت: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً ... } [الآيات، يّس: من الآية8] . فكانوا يقولون: هذا محمّد، فيقول: أين هو؟ أين هو؟ لا يبصره. وأخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 199، 200، من طريق النضر بن عبد الرحمن أبو عمرو الخزاز عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فذكره بنحوه. إلاّ أنّ في إسناده النضر بن عبد الرحمن وهو متروك. (ر: التقريب 2/302) .

السلام: "تلك الملائكة، لو دنا لاختطفته عضواً عضواً"1. وعن شيبة2 بن عثمان الحجبي، قال: لما كان يوم حنين وكان حمزة قتل أبي وعمي، قلت: اليوم أدرك ثأري من محمّد. فلما اختلط الناس أتيته من خلفه ورفعت سيفي لأصبه عليه فلما دنوت منه ارتفع لي شواظ من نار أسرع من / (2/170/ب) البرق فوليت هارباً، وأحس بيَ النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق إليَ فما رفعها إلاّ وهو أحبّ الخلق إليَّ، وقال لي: أُدن فقاتل، فتقدمت أمامه أضرب بسيفي وأقيه بنفسي ولو لقيت تلك الساعة أبي لأوقعت به دونه3. وعن فضالة4 بن عمير، قال: أردت قتل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو يطوف بالبيت فلما دنوت، قال: أفضالة؟ قلت: نعم. قال: ما كنت تحدث به نفسك؟ قلت: لا شيء. فضحك واستغفر ليَ ووضع يده على صدري فسكن قلبي.

_ 1 أخرجه البخاري مختصراً في كتاب التفسير سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق الآية:1] . (ر: فتح الباري 8/724) ، وأخرجه مسلم مطوّلاً 4/2154، وأبو نعيم في الدلائل ص: 208، والبيهقي في الدلائل 2/189، عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 شيبة بن عثمان، وهو: الأوقص القرشي العبدي، الصحابي المعروف، خادم الكعبة، وإليه ينسب سدنة الكعبة، مات سنة 59هـ، وله ثلاثة أحاديث. 3 أخرجه ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة 4/124) ، وأخرجه أبو نعيم ص 195، والبيهقي 5/145 كلاهما في الدلائل من طريق عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة، قال: قال شيبة: ... ، فذكره. وعزاه السيوطي في الخصائص 1/449، أيضاً إلى أبي القاسم البغوي وابن عساكر، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6/185، وقال: "رواه الطبراني، وفيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف". اهـ. قلت: وهوكما قال الهيثمي، فإن أبا بكر الهذلي متروك الحديث. (ر: التقريب2/401) . 4 في ص، م (فضالة بن عمرو) والتصويب من سيرة ابن هشام 4/85. وهو: فضالة بن عمير بن الملوح الليثي، له ذكر وشعر يوم الفتح. (ر: التجريد 2/8، الإصابة 5/210) .

فوالله ما رفع يده حتى ما خلق الله من شيء أحب إليّ منه صلى الله عليه وسلم1. ووفد عامر2 بن الطفيل وأربد3 بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر قال لأربد: أنا أشغل عنك وجه محمّد بالحديث فاضربه أنت. فلما خرجا من عنده ولم يصنع شيئاً، قال: أين ما عزمت عليه؟ قال: والله ما هممت به إلاّ وجدتك بيني وبينه أفأضربك بالسيف؟ 4. ومن عصمة الله له أن كثيراً من اليهود والكهنة أنذروا به قريشاً ووصفوه لهم وأخبرهم بسطوته / (2/171/أ) بهم وحَضُّوهم على قتله فحماه الله وعصمه من كلّ سوء حتى بلغ فيه كرامته. قال المؤلِّف: وقد روي عن أفاضل الصحابة أنهم سمعوا ليلة ولادة رسول

_ 1 ورواه ابن هشام معلقاً. (ر: السيرة 4/85) ، وابن عبد البر في الدر بلا سند ص 264، وعنه الحافظ في الإصابة 5/210. 2 عامر بن الطفيل بن مالك العامري ذكره جعفر المستغفري في الصحابة وهو غلط، قال الذهبي: أجمع أهل النقل على أن عامراً مات كافراً وقد أخذته غدة، فكان يقول: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية. (ر: التجريد1/285، الإصابة 5/127) . 3 أربد بن قيس بن جزء بن خالد العامري، كان أخو لبيد بن ربيعة لأمه، أرسل الله عزوجل عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما، فأنْزل الله عزوجل: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: من الآية13] ، وقد رثاه أخوه لبيد بأبيات ذكرها ابن إسحاق. (ر: السيرة 4/285-291) ، تفسير ابن كثير 2/524، 525) . 4 أورده البيهقي في الدلائل 5/318، 319، من طريق ابن إسحاق بلا سند. (ر: السيرة 4/284، 285) ، في سياق طويل وأخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 206، 207، من طريق عبد العزيز بن عمران عن عبد الله وعبد الرحمن ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: ... ، فذكره بنحوه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/44، 45: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وفي إسنادهما عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف". اهـ. قلت: عبد العزيز بن عمران الزهري، المذني، الأعرج، متروك، احترقت كتبه فحدث من حفظه فاشتد غلطه. (ر: التقريب 1/511) ، وأورده ابن عبد البر في الدرر في السير ص 307، 308، بلا سند.

الله صلى الله عليه وسلم يهودياً ينادي صاحبه على أطم1 من آطام2 المدينة: يا فلان إنه قد طلع في هذه الليلة نجم أحمد3. وذلك مواطئ لقول المجوسالذي حكاه النصارى في إنجيلهم عند مولد المسيح4، وأنَّى لهم بتحقيق تلك الحكاية عن المجوس إلاّ بالطريق التي ثبتت به أخبارنا، فإن قدحوا في صحة أخبارنا لم يسلموا من مثل ذلك فيما صاروا إليه، وقد حكى الصنارى أنّ أم المسيح حين خافت عليه هيرودس هوبَتْ إلى مصر وهو طفل5، فأما رسول الله فعصمه الله من كيد أعدائه وهو بين أظهرهم وقد جهدوا جهدهم ولم نحتج إلى ما نقله المخالفون. 56- ومن معجزاته عليه السلام إمداد الله له بالملائكة وطاعة الجن له، قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} ، [سورة الأنفال: من الآية12] . وقال عزّ من قائل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ6 فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ ... } ، [سورة الأنفال: من الآيتان 9-10] ، وقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ

_ 1 الأطم: بناء مرتفع والمراد به هنا: الحصن. (ر: النهاية 1/54) . 2 في م: أطم. 3 أخرجه الحاكم 2/286، وأبو نعيم ص 75، والبيهقي 1/110، كلاهما في الدلائل، كلهم من طريق ابن إسحاق. (ر: 1/11، 212) ، حدّثني صالح بن إبراهيم عن يحيى ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري، قال: حدّثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت رضي الله عنه: ... ، فذكره. قلت: في إسناده انقطاع فإن يحيى بن عبد الله لم يسم عمن سمع. وله شاهد من حيدث حويصة بن مسعود رضي الله عنه بنحوه أخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 77، إلاّ أنّ في إسناده الواقدي وهو متروك، غير أن محمّد بن إسحاق إمام في المغازي والسير، فإذا روى رواية لم يخالفه فيها أحد فهي مقبولة عند المحقِّقين من المحدّثين والمؤرّخين، وروايته هذه رويت من وجه آخر، وإن كان فيها ضعف إلاّ أنّها تدل على أ، لها أصلاً. والله أعلم. 4 متى 2/1-7، لوقا 2/8-14. 5 متى 2/13-15. (2/171/ب) .

الْقُرْآنَ} ، [الاحقاف: من الآية29] ، وقد رأى الجن جماعة من أصحاب نبيّنا عليه السلام وكذلك شاهدوا جبريل وهو يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان1، ورأى جبريل عليه السلام ابن عباس2 وأسامة3 وغيرهما. وأبصر سعد4 جبريل وميكائيل عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله في صورة رجلين عليهما ثياب بيض5. وقد كانت الملائكة تصافح عمران بن حصين صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم6. ورأى ابن مسعود الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم7. ولما قتل مصعب بن عمير أخذ راية المسلمين ملك على صورته فكان النبي

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب (37) . (ر: فتح الباري 1/114) ، ومسلم 1/36، 37، وابن ماجه. (ر: صحيح ابن ماجه 1/16) ، عن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهما، في سياق طويل. 2 أخرجه أحمد في المسند 1/293، 294، والبيهقي في الدلائل 7/75، كاهما من طريق حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/279، وقال: "رواه أحمد والطبراني بأسانيد، ورجالهما رجال الصحيح". 3 حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، أخرحه البخاري في المناقب باب (25) . (ر: فتح الباري 6/629) ، ومسلم 4/1906، والبيهقي في الدلائل 7/68. 4 هو: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 5 كان ذلك في عزوة أحد، أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب (18) . (ر: فتح الباري 7/358) ، ومسلم 4/1802، والبيهقي في الدلائل 3/254، 255، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 6 أخرجه مسلم 2/899، 900، والبيهقي في الدلائل 7/79، 80، عن عمران بن حصين رضي الله عنه. 7 قال البيهقي في الدلائل 2/230: "والأحاديث الصحاح تدل على أن عبد الله بن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وإنما كان معه حين انطلق به وبغيره ويريهم آثار الجن وآثار نيرانهم". وأخرجه الإمام مسلم 1/332، عن عامر، قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا. ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه ... ". الحديث. وأخرجه البيهقي في الدلائل 2/229، عن الشعبي عن علقمة بمثله.

عليه السلام يقول له: تقدم يا مصعب. فقال: لست بمصعب. فعرف أنه ملك1. قال المصنِّف: إن طعن في هذه الشهادات المتضافرة يهدي أو نصراني وَرَد عليهم فيما حكوه عن بطرس وابني زيدي من أنهم رأوا الملائكة بالجبل2 وقد جاءت للمسيح، وكذلك ما رواه اليهود من مجيء الملائكة لإبراهيم ولوط وموسى3. وكل سؤال انعكس على السائل سقط جوابه عن المسؤول. وقد أَرَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم جبريلَ / (2/172/أ) لحمزة في الكعبة فخر حمزةُ مغشياً عليه4. وحكى جماعة من العلماء أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم [جالس] 5 إذ أقبل شيخ في يده عصا فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه النبيّ. وقال: نغمة الجن فمن أنت؟ قال: أنا هامة بن الهيثم بن لاقش

_ 1 أخرجه ابن سعد 2/29، 42، وقال: أنا الواقدي ثني الزبير بن سعيد النوفلي عن عبد الله بن الفضل بن العباس، قال: ... ، فذكره. قلت: إسناده منقطع، فعبد الله بن الفضل، ثقة من الرابعة. (ر: التقريب 1/440) ، وفيه أيضاً الواقدي وهو متروك. وله تابع أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 7/369، رقم 36770، من طريق موسى ابن عبيدة عن محمّد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ، فذكره. وإسناده ضعيف. فإن موسى بن عبيدة، ضعيف، من صغار السادسة. (ر: التقريب 2/286) ، ومحمّد بن ثابت، عن أبي هريرة، مجهول من السادسة. (ر: التقريب 2/149) . 2 متى 4/11، لوقا 22/43. 3 تكوين 18/2-22، 18/23-33. 4 أخرجه البيهقي مطولاً في الدلائل 7/81، وقال: "هكذا روى هذا (الحديث) عن عمار بن أبي عمار وهو مرسل". قلت: عمار بن أبي عمار، مولى بني هاشم، أبو عمرو، صدوق ربما أخطأ، من الثالثة. (ر: التقريب 2/48) . 5 في ص، م (جالسا) والصواب ما أثبتّه.

بن إبليس - فذكر أنه لقي نوحاً ومن بعده ... ، في حديث طويل، وأقرأه عليه السلام سوراً من القرآن1. وقد حكى الواقدي أنّ خالداً قتل العُزَّى عندما هدم بيتها2. 57- ومن دلائل نبوته ما نطقت به قدماء الشعراء الموحدّين من التنويه

_ 1 ذكره السيوطي في اللألئ المصنوعة 1/174، وابن عراق في تنْزيه الشريعة 1/238، 239، وقال: أخرجه العقيلي (في الضعفاء 1/98) ، من طريق إسحاق بن بشر الكاهلي وجاء من حديث أنس من طريق أبي سلمة محمّد بن عبد الله الأنصاري بنحوه، وهكذا قال العقيلي بنحوه ولم يسقه. ثم قال: وليس للحديث أصل، وتعقب بأن الكاهلي قد تابعه محمّد بن أبي معشر نحوه رواه البيهقي في الدلائل (5/418-420) ، وقال عقب إخراجه: أبو معشر روى عنه الكبار، إلاّ أنّ أهل الحديث ضعفّوه، قال: وقد روي من وجه آخر هذا أقوى منه، وجاء أيضاً من حديث عمر أخرجه أبو نعيم في الدلائل (ص 370-372) من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس عن عمر، وأخرجه الفاكهي في أخبار مكّة عن ابن عباس لم يذكر عمر، وأخرجه أبو جعفر المستغفري في الصحابة عن سعيد بن المسيب: قال: قال عمر. ولحديث أنس طريق ثانٍ ليس فيه أبو سلمة الأنصاري أخرجه أبو نعيم في الدلائل، وجاء عن عائشة مرفوعاً: أن هامة بن هيثم بن لاقش في الجنة. أخرجه علي بن الأشعث أحد المتروكين المتهمين في كتاب السنن. اهـ. قلت: ومع مجموع هذه الطرق فلا يزال الحديث ضعيفاً. 2 أخرجه ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة 4/112) ، وابن سعد 2/145، وأخرجه أبو نعيم ص 535، والبيهقي 5/77، كلاهما في الدلائل من طريق محمّد بن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل رضي الله عنه، قال: ... ، فذكره في سياق طويل، - وفيه -: أن العُزى امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، فعممها خالد بنالسيف حتى قتلها. قلت: في إسناده الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري، صدوق يهم، رمي بالتشيع. (ر: التقريب 2/333) . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6/179، وقال: "رواه الطبراني، وفيه يحيى بن المنذر وهو ضعيف". اهـ.

بشأنه صلى الله عليه وسلم مثل: تبع1 والأوس2 بن حارثة، وكعب3 بن لؤي،

_ 1 تُبَّع: سم لملك اليمن، وقد تقدم. (ر: ص 88) . والمراد هنا هو: تبع الثاني أبو كرب تبان أسعد بن كلي كرب بن زيد، وقد حاصر المدينة وأراد تخريبها إذ جاءه حبران من أحبار اليهود فقالا له: أيها الملك لا تفعل، فإنك إن أبيت إلاّ ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة. فقال لهما: ولم ذلك؟ فقالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره. فتناهى عن ذلك تبع وساق الحبرين معه إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه. قال السهيلي: وقد قال تبع حين أخبره الحبران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شعراً: شهدت على أحمد أنّه رسول من الله باري النسم فلو مُدَّ عمري إلى عمره لكنت وزيراً له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءه وفَرَّجت عن صدره كلّ همّ (ر: سير ابن هشام 1/54-66، ابن سعد 1/158، 159، المعارف ص 348، لابن قتبية، الروض الأنف 1/35، البداية 2/163-167) . 2 أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء، من بني مزيقياء، من الأزد، وإليه تنسب قبيلة الأوس من الأنصار، وكان أوس من عدة ناس في الفترة هداهم الله تعالى للتوحيد لم يعبدوا الأصنام وكانوا يعاشرون أهل الكتاب فيخبرونهم بما في كتبهم من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيذكرونه في خطبهم وأشعرهم، ولأوس شعر فيه أخرجه الخرائطي في (الهواتف) وابن عساكر عن جامع بن جران، قال: لما حضرت الأوس بن حارثة الوفاة أوصى ابنه مالكاً بوصايا ثم أنشأ يقول - ومنه -: ألم يأت قومي أن لله دعوة يفوز بها أهل السعادة والبر إذا بعث المبعوث من آل غالب بمكّة فيما بين زمزم والحَجَر هنالك فابغوا نصره ببلادكم بني عامر إن السعادة في النصر (ر: البداية 2/331، 332، لابن كثير، الخصائص 1/49، 50، للسيوطي، نسيم الرياض 3/258، الأعلام 2/31، للزركلي) . 3 أخرج قصته أبو نعيم في الدلائل ص 89، من طريق الحسن بن زبالة المخزومي من محمّد بن طلحة التيمي عن محمّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: كان كعب بن لؤي بن غالب بن فهر يجمع قومه يوم الجمعة ... ، فيخطبهم فيقول: أما بعد: فاسمعوا وتعلموا وافهموا واعلموا، ليل ساج ونهار وضاح ... ، - وذكر خطبة طويلة فيها -: "حرمكم زَيِّنوه وعَظِّموه، وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم ثم يقول: نهار وليل كلّ أوْب بحادث سواء عليها ليلها ونهارها يؤوبان بالأحداث حين تأوبا وبالنعم الضافي علينا ستورها على غفلة يأتي النبي محمّد فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها قلت: أورده الماوردي في أعلام النبو ص 229، بلا سند، وابن كثير في البداية 2/244، عن أبي نعيم، وفي إسناده محمّد بن الحسن بن زبالة، أبو الحسن المدني، كذاب. (ر: التقريب 2/154) .

وسفيان1 بن مجاشع، وقس2 بن ساعدة،

_ 1 سفيان بن مجاشع بن دارم التميمي المجاشعي، جد الفرزدق والأقرع بن حابس، أخرج ابن سعد 1/169 عن قتادة بن السكن العرني، قال: كان في بني تميم سفيان ابن مجاشع أتى أسقفا فقال له: إنه يكون ببلاد العرب نبي اسمه محمّد. فولد له ولد سماه محمّداً. وأخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 94 عن خليفة بن عبده، قال: سألت محمّد بن عدي بن ربيعة كيف سَمَّاك أبوك في الجاهلية محمّداً؟ فقال: ... ، فذكره بنحوه في سياق طويل. وعزاه السيوطي في الخصائص 1/40، 41، إلى البيهقي والبطراني والخرائطي في (الهواتف) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/233: "وراه الطبراني وفيه من لم أعرفهم". ونقل الصالحي عن ابن ظفر عن سفيان بن مجاشع أنه رأى قوماً من تميم اجتمعوا على كاهنة لهم فسمعها تقول: العزيز من والاه، والذليل من خالاه، والموفور من مالاه، والموتور من عاداه. فقال سفيان: من تذكرين لله أبوك؟ فقالت: صاحب حِل وحرم وهدى وعلم ... فقال سفيان لله أبوك من هو؟ فقالت: نبي مؤيَّد قد أتى حين يوجد ودنا أوان يولد، يبعث إلى الأحمر والأسود بكتاب لا يفند اسمه محمّد. فقال سفيان: لله أبوك أعرابي أم أعجمي؟ قالت: أما والسماء ذات العنان والشجرات ذات الأفنان، إنه لمن معد بن عندنان، فَقَدْك يا سفيان. فأمسك عنها ثم ولد له غلام فسمّاه محمّداً.... (ر: الإصابة 6/59، 193، سبل الهدى والرشاد 1/142) . 2 قُسُّ بن ساعد الإيادي، البليغ الخطيب المشهور، وأحد حكماء العرب، وكان أسقف نجران، ذكره ابن السكن وابن شاهين والمروزي وأبو موسى في الصحابة، وصرح ابن السكن بأنه مات قبل البعثة، وهو أوّل من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأوّل من توكا على عصا في الخطبة، وأوّل من قال: أما بعد، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم حكمته في عكاظ، ومن خطبه: إن لله ديناً هو أحب الأديان إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبياً قد حان حينه وأظلكم أوانه، وأدرككم إبّانه، فطوبى لمن آمن به فهداه وويل لمن خالفه وعصاه....، ومن شعره: الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبث لم يُخْلنا حيناً سدى من بعد عيسى واكترث أرسل فينا أحمدا خير نبي قد بعث صلى عليه الله ما حجّ له ركب وحثّ أخرج حديث قس وفيه شعره وخطبه أبو نعيم في الدلائل ص 103، والبيهقي في الدلائل 2/101-113، والطبراني والبزار. (ر: المجمع 9/419) ، وغيرهم عن ابن عباس وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - في سياق طويل. قال البيهقي: "وقد روي من وجه آخر عن الحسن البصري منقطعاً، وروي مختصراً من حديث سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة، وإذا روى حديث من أوجه وإن كان بعضها ضعيفاً دَلَّ على أن للحديث أصلاً". اهـ. وأورد أخباره ابن كثير، ثم قال: "وهذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة". اهـ. (ر: الإصابة 5/285، 286، البداية 2/230-237، الأعلام 5/196) .

وما ذكرهسيف1 بن ذي يزن الملك، وما عرف به زيد2 بن عمرو بننفيل. وورقة3 بن نوفل،

_ 1 سيف بن ذي يزن، آخر من ملك اليمن من قحطان، وأخباره مشهورة في التواريخ والسير، أما تبشيره ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرجه الماوردي في أعلام النبوة ص 234-236، وأبو نعيم ص 95-99، البيهقي 2/9-14، كلاهما في الدلائل، وابن عساكر. (ر: تهذيب تاريخ 1/362-366) ، كلهم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: ... ، فذكره في سياق طويل جداً - وفيه: أن الملك سيف قال لعبد المطلب: إذا ولد بتهامة غلام به علامة، بين كتفيه شامة كانت لكم الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة، هذا زمنه الذي يولد فيه، أو قد ولد، اسمه محمّد، يموت أبوه وأمه، وكفله جده وعمه ... إلى آخر ما ذكر من وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله. قلت: حديث منكر، فإن محمّد بن السائب الكلبي متهم بالكذب. (ر: التقريب 2/163) ، وله شاهد من حديث زرعة بن سيف بن ذي يزن، أخرجه البيهقي في الدلائل 2/9-14، بطوله. (ر: للتوسع: السيرة 1/104-111، لابن هشام المعارف ص 357، لابن قتيبة، الإصابة 3/190، البداية 2/328) . 2 زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، والد سعيد بن زيد، وابن عم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وكان ممن طلب التوحيد وخلع الأوثان، ولا يأكل مما ذبح عليها، وكان يحيي المؤودة، ويعبد الله على دين إبراهيم عليه السلام، مات قبل البعثة بخمس سنين. وسئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده". قال الذهبي: "إسناده حسن". ومن شعره: أرباً واحداً أم ألف ربّ أدين إذا تُقُسِّمَت الأمور عزلت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجَلْد الصّبَّور (ر: أخباره في صحيح البخاري كتاب المناقب. (ر: فتح الباري 7/142-145) ، دلائل 2/120-126، للبيهقي، السيرة 1/286-295 لابن هشام، السيرة ص 85-92، للذهبي، الإصابة 3/31) . 3 ورقة بن نوفل بن أسد القرشي الأسدي، ابن عم خديجة أم المؤمنين، اعتزل الأوثان، وتنصَّر وقرأ الكتب السابقة، وقصته مشهورة في حديث ابتداء الوحي بغار حراء، وذكره الطبري والبغوي وابن قانع وابن السكن وغيرهم في الصحابة، وقال ابن حجر: في إثبات الصحبة له نظر، وتوفي بعد بدء الوحي بقليل، وفي حديث عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة فقال: "يبعث يوم القيامة أمة وحده". قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/419: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". اهـ. ومن شعره: هذي خديجة تأتيني لأخبرها وما لنا يخفي الغيب من خبر بأن أحمد يأتيه فيخبره جبريل إنك مبعوث إلى البشر (ر: أخباره في صحيح البخاري كتاب التعبير. (ر: فتح الباري 9/37) ، ومسلم 1/139، السيرة 1/284-303، لابن هشام، دلائل 2/120-128، 135-154، للبيهقي ص 118-124، للذهبي، الإصابة 6/317-319) .

وعثكلان الحميري1شامول2 صاحب تبع.

_ 1 قال القاري في شرحه 3/263: لم أر من ذكره في معرض البيان. اهـ. قلت: ذكره الحافظ في الإصابة 5/107، وقال: "عسكلان بن عواكن الحميري، أحد المعمرين كان ممن بشر برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ثم أدرك البعثة وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشعر يمدحه ويذكر فيه إسلامه ولم يبلغنا أنه هاجر، وروى حديثه البلوي عن عمارة بن زيد عن عبد الله بن العلاء عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده، قال: سافرت إلى اليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة فنَزلت على عثكلان بن عواكن الحميري وكان شيخاً كبيراً ... ، فذكر قصة طويلة وفيها -: "أن عثكلان قال لعبد الرحمن: أنبئك بالمعجبة، وأبشرك بالمرغبة، إن الله قد بعث في الشهر الأوّل من قومك نبيّاً، ارتضاه صفياً، وأنْزل عليه كتاباً، وجعل له ثواباً، ينهى عن الأصنام، ويدعو إلى الإسلام، ثم حَمَّله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أبياتا منها: أشهد بالله ذي المعالي وفالق الليل والصباح إنك في السر ومن قريش يا ابن المفدى من الذباح أشهد بالله ربّ موسى أنك أرسلت بالبطاح ثم قال الحافظ: "أخرجه ابن عساكر في تاريخه الكبير من هذا الوجه، والبلوي ضعيف، رواية عنه عمر بن مدرك، اتهمه يحيى بن معين". اهـ. 2 أخرجه ابن سعد 1/158، 159، وعنه ابن عساكر. (ر: تهذيب تاريخ ابن عساكر 3/336-338) ، عن الواقدي عن سليمان بن داود بن الحصين عن أبيه عن ابن عباس عن أبي بن كعب، قال: لما قدم تبع المدينة ونزل بقناة فبعث إلى أحبار اليهود فقال: إني مُخَرِّب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى دين العرب. قال: فقال له ساول اليهودي - وهو يومئذٍ أعلمهم -: أيها الملك، إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل، مولده مكة واسمه أحمد، وهذه دار هجرته، إن منْزلك هذا الذي أنت به يكون به من القتلى الجراح ... ، الخ. في سياق طويل وفيه ذكر سامول صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وأورده ابن قتيبة في المعارف ص 351، بنحوه، والماوردي في علام النبوة ص 230، وليس فيه تسمية هذا الحبر اليهودي، وأن تبع نزل في سفح أحد.

وما حكاه علماء اليهود وأسلم لَمَّا حقق أمره مثل عبد الله1 بن سلام وابني2 سعية وابن3 يامين ومخيريق4 وكعب الأحبار5 من أحبار اليهود وعلمائهم.

_ 1 عبد الله بن سلام بن الحارث، أبو يوسف الإسرائيل ثم الأنصاري، رضي الله عنه، من ذرية يوسف عليه السلام، كان من بني قينقاع، كان اسمه الحصين فغيّره النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم أوّل ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقصة إسلامه مشهورة، أخرجها البخاري وغيره عن أنس أن عبد الله بن سلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، فقال: إني سائلك عن ثلاث خصال لا يعلمها إلاّ نبي ... ، الحديث. وفيه قصته مع اليهود أنهم قوم بهت، مات بالمدينة سنة 43هـ رضي الله عنه، وله خمسة وعشرون حديثاً. (ر: صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار والتفسير. (فتح الباري 7/249، 272، 8/165) ، السيرة 2/186، لابن هشام، دلائل 2/526-532، للبيهقي، ودلائل ص 355-357، لأبي نعيم، سير أعلام النبلاء 2/413، الإصابة 4/80) . 2 هما: أسد، وقيل: أسيد، وثعلبة ابنا سَعْيَة، رضي الله تعالى عنهما، وقيل: سَعْيَة القرظي، ممن أسلم من اليهود، وقد أخرج أبو نعيم ص 81، والبيهقي 2/80، كلاهما في الدلائل وابن السكن. (ر: الإصابة 1/31) ، كلهم من طريق ابن إسحاق. (ر: السيرة 1/272) ، قال: حدّثني عاصم بن عمرو بن قتادة أن شيخاً من بني قريظة حدّثه أن إسلام ثعلبة وأسد ابني سعية، وأسد بن عبيد إنما كان عن حديث ابن الهيبان - من أحبار اليهود بالشام - فذكره قصته بطولها ... ، وأنه كان يُعْلمهم بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، فلما كان الليلة التي في صبحها فتح قريظة، قال لهم هؤلاء الثلاثة: يا معشر يهود إنه والله للرجل الذي كان وصف لنا ابن الهيِّبان فاتقوا الله واتبعوه. فأبوا عليهم، فنَزل الثلاثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. اهـ. وأخرجه ابن سعد 1/16،عن الواقدي، وذكره الحافظ في الإصابة1/31، من طرق عدةعن ابن إسحاق. 3 ابن يامين بن عمير بن عمرو بن كعب بن حجاش، من بني النضير، وقيل: إنه بنيامين أو منبه، ويقال: بليامين-باللام-وهو أحد الحبرين اللذين قدما من اليمن مع تبع، واسم الآخر: سخيت. (ر: الروض الأنف1/163، نسيم الرياض 3/264) . 4 أخرج أبو نعيم في الدلائل ص 78، والطبري في تاريخه 2/531، كلاهما عن ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة 2/188) ، قال: وكان من حديث مخيريق وكان حبراً عالماً، وكان رجلاً غنياً كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته، وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه، لم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم أُحُد يوم السبت قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمّد عليكم الحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد وقاتل حتى قتل. اهـ. وأخرجه الواقدي في المغازي 1/263، وعنه ابن سعد 1/501، 502، وذكره الحافظ في الإصابة 6/73. 5 كعب بن ماتع الحميري، أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً وأسلم في خلافة عمر رضي الله عنه، وكان حسن الإسلام متين الديانة، ثقة، وكان خبيراً بكتب اليهود، له ذوق في معرفة صحيحها من باطلها في الجملة، روى عنه عدة من الصحابة منهم: أبو هريرة، وابن عباس، توفي كعب بحمص ذاهباً للغزو في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه سنة 32هـ. (ر: ابن سعد 7/445، سير أعلام النبلاء 3/489-494، التقريب 2/135، الجرح 7/161، الإصابة 5/322-324) .

وكذلك ما حكاه أحبار النصارى و [متديّنوهم] 1 مثل: بحيرا الراهب2 / (2/172/ب) ، و [نسطور الحبشة] 3 وصاحب بصرى4 وضغاطر5 وأسقف الشام6

_ 1 في ص، م (متديّنيهم) والصواب ما أثبتّه. 2 تقدمت ترجمته. (ر: ص: 759) . 3 في م، ص: (يصطهون) وهو خطأ، والتصويب من الشفا1 /719، وقال الخفاجي: ونسطور الحبشة، احترز به عن نسطور الشام وغيره. ونسطور الشام قصته مذكورة في السير وهي: قريبة من قصة بحيرا. (ر: ابن سعد 1/130، تهذيب تاريخ ابن عساكر 1/273) ، وفي بعض النسخ (الشفا) نسطور بدون إضافة للحبشة، وقد قال الشراح (الشفا) : "إن نسطور الحبشة غير معروف، ولعله من علماء أهل الكتاب الذين كانوا عند النجاشي". اهـ. (ر: نسيم الرياض 3/265) . 4 قال الخفاجي: وصاحبها: ملكها الذي أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم دحية رضي الله عنه بكتابه، وهو: الحارث بن أبي شمر الغساني - كما قاله ابن حجر - وقال: إنه مات عام الفتح، ولم يذكر قصته وإسلامه وما أخبر به عن أمره صلى الله عليه وسلم. (ر: نسيم الرياض 3/265، فتح الباري 1/38) . قلت: أخرج قصته ابن سعد 1/261، عن ابن عباس والمسور بن رفاعة والشَّفاء والعلاء بن الحضرمي وعمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنهم -، دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا: ... ، فذكره في سياق طويل - وفيه -: أن شجاع بن وهب رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى الحارث الغساني، وكان بغوطة دمشق فلم يُسْلِم وتَوَعَّد النبي صلى الله عليه وسلم بجيش يُسَيِّره إليه وكتب إلى قيصر يخبره بذلك. فكتب إليه قيصر أن لا تسر إليه والْهَ عنه، وأسلم حاجب الحارث واسمه: (مُرّي) ، وكان رومياً وكان يقول: إني قد قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي صلى الله عليه وسلم بعينه فأنا أومن به وأصدّقه أخاف من الحارث أن يقتلني. وبعث مُرّي بكتاب مع شجاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقرئه به السلام ويخبره أنه على دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق"، أما الحارث فقال عنه صلى الله عليه وسلم: "باد ملكه". فمات الحارث عام الفتح. وأخرجه ابن سعد أيضاً 3/64، من طريق الواقدي بنحوه، ونقله عنه ابن كثير في البداية 4/268، مختصراً، والسيوطي في الخصائص 2/18، 19. 5 ضغاطر الرومي الأسقف، ويقال: اسمه: تغاطر، وهو أسقف من كبار الروم أسلم على يد دحية رضي الله عنه، لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وغَيَّر لباسه وأظهر إسلامه فقتلوه، وكان ذلك في سنة ست من الهجرة، وهو الذي أبهمه البخاري في حديث أبي سفيان في قصة قيصر حيث قال: كتب هرقل إلى صاحب له برومية كان نظيره في العلم. (ر: التجريد 1/272، وفتح الباري 1/33، 42، 43، دلائل ص 101-103، لأبي نعيم، الإصابة 3/277، نسيم الرياض 3/266) . 6 قال القاري في شرحه 3/266: "ولعله نسطور المحترز عنه فيما تقدم". اهـ. وقال الخفاجي: (وفي نسخة (أساقفة الشام) ويعني بهم: صاحب إيليا وهرقل ابن الناطور وغيرهم". (ر: نسيم الرياض 3/266) .

والجارود1، والنجاشي ملك الحبشة2، وسلمان وأساقفة نجران3 ممن آمن وحقّق وأسلم وصدق. 58- ومن دلائل نبوته عليه السلام ما نطقت به الكهان: مثل شافع4 بن كليب وشقّ وسَطِيح5

_ 1 الجارود بن المعلى رضي الله عنه، ويقال ابن عمرو بن المعلى، أبو غياث، واسمه بشر، وكان سيد عبد القيس على دين النصرانية، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشرة فأسلم، وكان حسن الإسلام صُلْباً على دينه، وأدرك الرِّدة ولما ارتد قومه دعاهم إلى الحقّ، وقتل الجارود بأرض فارس سنة 21هـ، وفي خلافة عمر رضي الله تعالى عنهما. (ر: السيرة 4/293، 294، لابن هشام، دلائل 5/328، للبيهقي، الإصابة 1/226، البداية 5/48) . 2 تقدمت ترجمته. (ر: ص: 833) . 3 هم الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران في ستين راكباً فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم وكان لهم علم بالكتاب وفيهم أسقفهم وإمامهم أبو حارثة بن علقمة وقد شَرُفَ فيهم ودرس كتبهم وكانت ملوك الروم من النصرانية يُحلّونه ويخدمونه، وقد أبى وفد نصارى نجران قبول الإسلام وفيهم نزلت صدر سورة آل عمران، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة فنكلوا وصالحوه على الجزية، وقد أسلم بعضهم حينمنا رجعوا إلى نجران، ومنهم: كوز بن علقمة أخ لأبي حارثة حينما أقر له بأن محمّداً صلى الله عليه وسلم هو النبي المنتظر، فأضمرها كوز حتى أسلم بعد ذلك. (ر: صحيح البخاري كتاب المغازي. (فتح الباري 8/93) ، السيرة 2/254-266، لابن هشام، دلائل ص 353-354، لأبي نعيم، دلائل 5/382-393 للبيهقي) . 4 شافع بن كليب، هو: كاهن من كهان العرب، أخبر تبعاً بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وبمهاجرته إلى المدينة - كما تقدم بيانه - وقال الحافظ الحلبي ومن تبعه: لا أعرفه. (ر: نسيم الرياض 3/271) . 5 شقّ وسطيح: هما كاهنان من كهان العرب، وشِقُّ - بكسر الشين - هو: شِق بن صعب بن يَشْكر، وجده الأعلى ربيعة بن أنمار، وكان بيد واحدة ورجل واحدة، وعين واحدة، ولذلك سمي شِقٌّ شِقّاً، لأنه كان كشق الإنسان أي: كنصفه. وسَطِيح - بفتح السين وكسر الطاء - هو: ابن ربيع بن ربيعة بن مسعود، وسمي سطيح سطيحاً لأنه كان كالقطعة من اللحم الملقاة على الأرض وكأنه سطح عليها، فإن جسده لا عظم فيه غير جمجمة رأسه، فكان يدرج كالثوب فإذا غضب انتفخ وقيل: إنه عاش ثلاثمائة سنة. وقصتهما وذكرهما للنبي صلى الله عليه وسلم مذكورة في السيرة مشهورة ولهما قصص كثيرة في التواريخ وأدركا زمانه صلى الله عليه وسلم. (ر: السيرة 1/48-54، لابن هشام، أعلام النبوة ص 240-242، للماوردي، دلائل ص122-128،لأبي نعيم، دلائل 1/126-130، للبيهقي، البداية 2/268-269، الخصائص 1/57-61، نسيم الرياض 3/271) .

وسواد1 بن قارب الدوسي وخنافر2.

_ 1 سواد بن قارب الدوسي أو السدوسي، الصحابي رضي الله عنه، وكان كاهناً من كهان العرب - قبل إسلامه -، كان له رئي من الجن يزتيه ويخبره بالمغيّبات فبينما هو ذات ليلة إذ أتاه فضربه برجله وقال له: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عزوجل وإلى عبادته، ثم أتاه ليالي يقول له مثل مقالته، فركب ناقته وأتى المدينة واجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به وأخبره بخبر رؤيته وما قال له من الأشعار فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا الحديث له عدة طرق ذكرها الحافظ في الإصابة 3/148، 149، والسيوطي في الخصائص 1/170-172، وأخرجه البخاري في التاريخ 2/2/202، والحاكم 2/603، والبيهقي في الدلائل 2/248-254، وأبو نعيم في الدلائل ص 111-114، وابن إسحاق. (ر: السيرة 1/268) ، وابن شاهين في الصحابة والحسن بن سفيان في مسنده وغيرهم. وأصل هذا الحديث في صحيح البخاري كتاب المناقب. (فتح الباري 7/177) ، مختصراً دون ذكر اسم سواد، وقال البيهقي: "يشبه أن يكون سواد بن قارب". اهـ. وجزم به ابن حجر في الفتح. 2 خُنَافر بن التوأم الحميري، كان كاهناً من حمير ثم أسلم على يد معاذ بن جبل، وقصة إسلامه أنه كان له رئي في الجاهلية ففقده بعد ظهور الإسلام، ثم أتاه ذات ليلة فقال له: ... ، فذكر كلاماً طويلاً جاء فيه قول: - فرقان بين الكفر والإيمان أتى به رسول من مضر ثم من أهل المدر ابتعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجاً قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، قلت: ومَن هذا المبعوث بالآي الكبر؟ قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت البشر، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر وأقبلت إليك أبادر، قال خنافر: فاحتملت أهلي وأقبلت على معاذ بن جبل بصنعاء فبايعته على الإسلام. اهـ. أورد قصته الحافظ في الإصابة 2/151، بطولها ثم قال الحافظ: في إسناده مقال، وذكره الأزدي وقال: إسناد خبره ضعيف. اهـ.

وأفعى نجران1، وجِذْل بن جِذْل الكندي2، وابن خَلَصة الدوسي3،

_ 1 قال الخفاجي: هو: ملك من ملوك نجران كان كاهناً، وهو الأفعى بن الأفعى الجرهمي، فعن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قدم شيخ من صدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أربعون رجلاً يَحُفُّون به فقال: يا رسول الله - فذكر كلامه وفيه -: وقد سمعت أفعى نجران يذكر في غابر الزمان أنه سيبعث نبي من صفته أن له خاتماً يسطع نوره بين كتفيه يبعث بمكة ويهاجر إلى طيبة، فبالذي فضلك بالرسالة وإيضاح الدلالة إلا كشفت لي عن خاتم نبوتك، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: حفظت على طول العهد وإن فيك لمعتبراً، ثم كشف له عن خاتم النبوة فأكب عليه يقبله. اهـ. وأفعى نجران هو الذي حكم بين أولاد نزار لما تشاحوا في ميراث أبيهم وهم: مضر وربيعة وأنمار وإياد، وقال: يا مضر، أنت أبو النبي التهامي، فإنا نجد في الآثار أنه من ولد نزار بن معد بن عدنان، وإني لأرى النبوة بين عينيك نوراً، وأجلسه على سرير ملكه وجلس تحته. (ر: نسيم 3/272، تاريخ الطبري 2/25، سبل الهدى 1/342-344، للصالحي، الأعلام 2/5) . 2 قال الخفاجي: هو كاهن من كهان العرب أخبر بمبعثه صلى الله عليه وسلم قديماً، ولم نر تفصيل قصته، إلاّ أنّ التلمساني قال: جذل من كنده وهي قبيلة معروفة، لما ولدته أمه التمست ذَكَرَهُ فلم تجده من شدّة البرد، فظنته جارية فطرحته وزوجها في سكرات الموت، فاشتغلت بموته، ثم ذكرت بعد ثلاث رؤيا بشرت فيها بولد ذكر تسميه باسم أبيه، فقامت وهي تظن أنه مات فوجدت كلبه ترضعه فحملته وَسمَّته باسم أبيه. (ر: نسيم الرياض 3/272) . 3 ابن خلصة الدوسي، كاهن من كهان العرب، بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم، أخرج خبره الخرائطي في كتاب الهواتف من طريق عيسى بن يزيد عن صالح بن كيسان عمن حدّثه عن مرداس بن قيس الدوسي، قال: حضرت النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت عنده الكهانة وما كان من تعبيرها عند مخرجه، فقلت: يا رسول الله عندنا شيء من ذلك أخبرك به ... ، فذكر قصة طويلة منها: - أن كاهنهم ابن خلصة كان يصيب كثيراً ثم أخطأ مرة بعد مرة ثم قال لهم: يا معشر دوس حرست السماء وخرج خير الأنبياء، فقلنا: من أين؟ قال: بمكة وأنا ميت وإنه مات عقب ذلك. وذكره السيوطي في الخصائص1/185،186، وعزاه أيضاً إلى ابن عساكر، وقال الحافظ في الإصابة 6/79: "وعيسى بن يزيد أظنه ابن داب وهو كذاب، وفي السند عبد الله بن محمّد ابن البلوي أيضاً". اهـ.

وسعدى1 بنت كريز، وفاطمة ابنة النعمان2، إلى ما سمع من الأصنام3 ونطقت به هواتف الجان4، ووجد مكتوباً على الحجارة المدفونة بالقلم الأوّل5. إلى ما ظهر عند مولده من الآيات مما حكته

_ 1 سعدي بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس العبشمية رضي الله عنها، خالة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت قد تكهنت لقومها، ذكر أبو سعد النيسابوري في كتاب شرف المصطفى من طريق محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو الملقب بالديباج عن أبيه عن جده، قال: كان إسلام عثمان أنه ... ، فذكر قصة طويلة فيها -: أن خالته سعدى أخبرت عثمان ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجه بابنته رقية فصدقها وكان ذلك سبب إسلامه، وفي ذلك تقول خالته سعدى: هدى الله عثمان الصفي بقوله فأرشده والله يهدي إلى الحقّ فبايع بالرأي السديد محمّداً وكان ابن أروى لا يصد عن الحقّ وذكره الحافظ في الإصابة 8/106، 107، في سياق طويل وسكت عن الخبر ونقله الخفاجي في نسيم 3/273، مختصراً. 2 أخرجه ابن سعد 1/167، والبيهقي في الدلائل 2/261، من طريق عاصم بن عمر ابن قتادة والزهري عن علي بن حسين - مرسلاً - قال: كانت امرأة في بني النجار يقال لها فاطمة بنت النعمان كان لها تابع من الجن فكان يأتيها، فأتاها حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فانقض على الحائط، فقالت: مالك لم تأت كما كنت تأتي؟ قال: قد جاء النبي الذي يُحَرِّم الزنا والخمر، وذكره السهيلي في الروض الأنف 2/213، عن ابن إسحاق معلقاً. 3 ومن ذلك ما سمعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه - قبل إسلامه - من صارخ يقول: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلاّ الله. أخرجه البخاري في كتاب المناقب. (ر: فتح الباري 7/177) ، وقد ذكر ابن إسحاق. (ر: السيرة 1/268-269) ، والبيهقي في الدلائل 2/243-260) ، وأبو نعيم في الدلائل ص 115-122، والسيوطي في الخصائص 1/170-173، وغيرهم كثيراً مما سمعه المشركون من أجواف أصنامهم يقول إن أمرهم بطل بظهور الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمرهم باتباعه. 4 ومن ذلك سمعه سواد بن قارب رضي الله عنه وقد تقدم، وسماع ذياب بن الحارث هاتفاً يقول: يا ذياب يا ذياب اسمع العجاب بعث محمّد بالكتاب، وسماع ابن قرة الغطفاني هاتفاً يقول: جاء حقّ فسطع ودم باطل فانقمع، إلى غير ذلك. وللخرائطي كتاب (الهواتف) جمع فيه ذلك. وذكره أيضاً أبو نعيم في الدلائل ص 107-114، والبيهقي في الدلائل2/248،261،والهيثمي في مجمع الزوائد8/246-255، وابن كثير في البداية 2/332-356، والسيوطي في الخصائص 1/173-182. 5 وقد نقله المؤرخون في قصص كثيرة، منها: ما ورى عن طلحة رضي الله عنه، قال: وجد في البيت حجراً منقوراً في الهدمة الأولى، فدعي رجل فقرأه، فإذا فيه: عبدي المنتخب المتوكل المنيب المختار، مولده بمكة ومهاجره طيبة، لا يذهب حتى يقيم السنة العوجاء ويشهد أن لا إله إلاّ الله وأمته الحمادون ... ، ذكر ابن ظفر أنه وجد بالخط العبراني على حجر: باسمك اللهم جاء الحق من ربّك بلسان عربي مبين. لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، وكتبه موسى بن عمران. (ر: التاريخ الكبير1/1/445، للبخاري، دلائل 2/61، للبيهقي الخصائص 1/62، 63، للسيوطي، سبل الهدى والرشاد 1/103-107، 507-509، للصالحي) .

أمه والنسوة الثقات من كونه حال بروزه كان رافعاً بصره إلى السماء1، وأنها رأت نوراً خارجاً معه2، ورأين النجوم وقد تدلت من الأفق3، والنور قد أضاء حتى ملأ الأرض إلى ما جرى عند ولادته من ارتجاج

_ 1 أخرجه ابن سعد 1/102، عن عكرمة مرسلاً، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل ص 138، عن ابن أبي هند بنحوه، وفيه انقطاع فإن داود بن أبي هند القشيري، وإن كان ثقة يهم بآخرة إلاّ أنه من الطبقة الخامسة مات سنة أربعين ومائة وقيل: قبلها. (ر: التقريب 1/235) . وأخرجه البيهقي في الدلائل 1/113، عن أبي الحكم التنوخي مرسلاً. 2 أخرجه أحمد في المسند 4/128، والحاكم 2/600، وعنه البيهقي في الدلائل 1/83، وابن حبان. (ر: الموارد ص 512) ، كلهم عن طريق سعيد بن سويد عن العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه. وقال الحاكم: "حديث صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/226، وقال: "رواه أحمد بأسانيد والبزار والطبراني بنحوه، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان". اهـ. وله شاهد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أخرجه أحمد في المسند 5/262، والبيهقي في الدلائل 1/84، كلاهما من طريق فريج بن فضالة عن لقمان ابن عامر عنه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/225، وقال: "رواه أحمد وإسناده حسن وله شواهد تقويه". ورواه الطبراني. 3 أخرجه أبو نعيم ص 135، والبيهقي 1/111 كلاهما في الدلائل من طريق يعقوب ابن محمّد الزهري عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن عثمان عن أبي سويد الثقفي عن عثمان بن أبي العاص عن أمه: أنها حضرت آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ضربها المخاض ... ، فذكرته. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/223: "رواه الطبراني، وفيه: عبد العزيز بن عمران وهو متروك". اهـ. وهو كما قال الهيثمي. (ر: التقريب 1/511) .

أبواب كسرى وسقوط شرفاته1، وغيض ماء بحيرة طبرية، وخمود نار فارس وكان لها ألف عام لم تخمد2، وحراسة السماء بالشهب وقطع رصد الشياطين3.

_ 1 في م: شرافته. 2 أخرجه أبو نعيم ص138-141،والبيهقي1/126-129، كلاهما في الدلائل، والماوردي في أعلام ص240، وابن السكن في الصحابة. (ر: الإصابة 6/279) . والخرائطي في الهواتف. (ر: البداية 2/268) ، وابن عساكر. (ر: الخصائص 1/87) ، كلهم من طريق يعلى بن عمران البجلي عن مخزوم بن هاني المخزومي عن أبيه - وقد أتت عليه خمسون ومائة سنة قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ، فذكر في سياق طويل. وذكره الذهبي في السيرة ص 35-38، وقال: "هذا حديث منكر غريب". اهـ. وقال ابن عساكر: "حديث غريب لا نعرفه إلاّ من حديث مخزوم عن أبيه، تفرد به أبو أيوب البجلي". اهـ. قلت: وأخرجه عبدان في كتاب الصحابة من طريق سعيد بن مزاحم عن معروف ابن حربوذ عن بشير بن تيم، قال: لما كانت ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ... ، فذكر القصة بطولها. وقال الحافظ في الإصابة 1/187: إنه مرسل. اهـ. 3 قال تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [الجن الآيان:8-9] .

وكونه عليه السلام لم يكن له ظل في شمس / (2/173/أ) ولا قمر لأنه نور كله1، وكان الذباب لا يسقط على جسدهوثيابه2. وأعلم أصحابه بموته ودنوّ أجله3. وأخبرهم أن قبره بالمدينة يكون4 وفي

_ 1 قال السيوطي في المناهل ص 42: "أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، من طريق عبد الرحمن بن قيس وهو وضاع كذاب عن عبد الملك بن الرائد وهو مجهول عن ذكوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرى له ظل في شمس ولا قمر، ولا أثر قضاء حاجة". 2 هذا الخبر لم يخرجه السيوطي في المناهل ص 173. وقال القاري في شرحه للشفا 3/282: "قال الدلجي: لا علم لي بمن رواه". وقال الخافجي في نسيم الرياض 3/282: "هذا ما قاله ابن سبع أيضاً إلاّ أنهم قالوا: لا يعلم من روى هذا". 3 نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه إلى أبي مويهبة مولاه وقد أخرج حديث أبي مويهبة رضي الله عنه الإمام أحمد في مسنده 3/488، والحاكم 3/55-56، كلاهما من طريق عبيد بن حنين مولى الحكم بن أبي العاص عن أبي مويهبة مولى رسول الله، قال: ... ، وذكره في سياق طويل. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. كما نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها، وقد أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها من طرق. (ر: فتح الباري 8/135، كتاب المغازي باب (83) ،وفي كتاب الاستئذان باب (43) ، ر:11/79، 80، (ر: صحيح مسلم 4/1904، 1905) . 4 قال السيوطي في المناهل ص 173: "أخرجه أبو نعيم في الدلائل عن معقل بن يسار بلفظ: "المدينة مهاجري ومضجعي، من الأرض". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/313، عن معقل وقال: "رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد السلام بن أبي الجنوب وهو متروك". اهـ. وهو كما قال الهيثمي. (ر: التقريب 1/505، الكامل في الضعفاء 5/1762) .

بيته سكنه1. ونداء الملائكة عند غسله: ألا تنْزعوا قميصنبيّ الله صلى الله عليه وسلم2. 59- ومن دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم ما أظهر الله على يد أصحابه وأمته من الكرامات والآيات البيّنات، وذلك زيادة في تخصيصه وآياته وصدقه وزلفته عند الله تعالى، وهذه الدلالة متّسعة جداً فلنقتصر منها على لمعة يسيرة يحصل

_ 1 أخرجه الترمذي 3/338، عن عائشة رضي الله عنهما، قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته، قال: "ما قبض الله نبياً إلاّ في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه". قال الترمذي: "حديث غريب، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي يُضَعَّف من قبل حفظه". اهـ. قلت: إلاّ أنّ له طرقاً وشواهد تقوّيه: فقد أخرجه ابن ماجه، (ر: ضعيف ابن ماجه ص: 125، للألباني) ، وابن إسحاق، (ر: السيرة 4/417) ، وابن سعد 2/292، والبيهقي في الدلائل 7/260، من طريق ابن عباس عن أبي بكر الصّديق رضي الله عنهم. وأخرجه البيهقي في الدلائل 7/259، عن سالم بن عبيد - وكان من أصحاب الصفة - عن أبي بكر رضي الله عنهما. وأخرجه البيهقي في الدلائل 7/261، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن أبي بكر. ورواه مالك 1/320 بلاغاً ورواه ابن سعد 2/71، بسند صحيح عن أبي بكر مختصراً موقوفاً، وهو في حكم المرفوع. اهـ. وذكره السيوطي في الخصائص2/485،وقال: له طرق عدة موصولة ومرسلة. اهـ. وقال الشيخ الألباني: "إنه حديث ثابت بما له من الطرق والشواهد". (ر: أحكام الجنائز ص: 137، 138) . 2 أخرجه الترمذي 3/338، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً نسيته، قال: "ما قبض الله نبيّاً إلاّ في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه". قال الترمذي: "حديث غريب. وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي يُضَعِّف من قبل حفظ". اهـ. قلت: إلاّ أنّ له طرقاً وشواهد تقويه: فقد أخرجه ابن ماجه. (ر: ضعيف ابن ماجه ص 125، للألباني) ، وابن إسحاق. (ر: السيرة 4/417) ، وابن سعد 2/292، والبيهقي في الدلائل 7/260، من طريق ابن عباس عن أبي بكر الصّدّيق - رضي الله عنهم -. وأخرجه البيهقي في الدلائل 7/259 عن سالم بن عبيد - وكان من أصحاب الصفة عن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما. وأخرجه البيهقي في الدلائل 7/261، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن أبي بكر، ورواه مالك 1/230 بلاغاً. ورواه ابن سعد 2/71، بسند صحيح عن أبي بكر مختصراً موقوفاً، وهو في حكم المرفوع. اهـ. وذكره السيوطي في الخصائص2/485، وقال: "له طرق عدة موصولة ومرسلة". اهـ. وقال الشيخ الألباني: "إنه حديث ثابت بما له من الطرق والشواهد". (ر: أحكام الجنائز ص 137، 138) .

الغرض، ففي صدور الكرامات والآيات على يد الأتباع برهان ظاهر على صدق المتبوع1. - قالت عائشة: لما حضرت أبا بكر الوفاة، قال: يا بنية إن أحبّ الناس إليَّ بعدي أنت، وإن أعزّ الناس عليّ فقره بعدي أنت وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً من مالي فوددت والله أنك حزتيه، وإنما هو أخواك وأختاك2. قالت: هذان أخواي، فمن أختاي، قال: ذو بطن ابنة خارجة فقد ألقي في روعي / (2/173/ب) أنها جارية، فولدت أم كلثوم3.

_ 1 قال الإمام ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهو موجود فيها إلى يوم القيامة". (ر: مجموع الفتاوى 3/156) . وقال: "إن كرامات الأولياء هي من دلائل النبوة، فإنها لا توجد إلاّ لمن اتّبع النبي الصادق فصار وجودها كوجود ما أخبر به النبي من الغيب، والأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين، كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم ولكن قد يشاركونهم في بعضها كما قد يشاركونهم في بعض أعمالهم. وكرامات الصالحين تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسول، لا تدل على أن الولي معصوم، ولا على أنه يجب طاعته في كل ما يقول". (ر: النبوات ص 8، 157، مجموع الفتاوى 11/274، 275) . وقال حصل في موضوع الأولياء التباس وخلط عظيم بين الناس: فطائفة أنكروا وقوعها ونفوها بالكلية وهم الجهمية والمعتزلة ومن تابعهم. وفي هذا إنكار لما هو ثابت في القرآن والسنة، فخالفوا النصوص وكابروا الواقع. وطائفة غلت في إثباتها وهم علماء الضلال ومشائخ الطرق الصوفية والمنحرفين. الذين اعتقدوا أن السحر والشعوذة والدجل من الكرامات، واستغلوها وسيلة للشرك والتعلق بأصحابها من الأحياء والأموات حتى نشأ عنه الشرك الأكبر بعبادة القبور وتقديس الأشخاص. وطائفة توسطوا في موضوع الكرامات بين التفريط والإفراط وهم أهل السنة والجماعة. 2 في الطبقات لابن سعد وردت العبارة كالآتي: "وإنما هو مال الوارث، وهما أخواك وأختاك". 3 أخرجه ابن سعد 3/194، من طريق الزهري وهشام بن عروة كلاهما عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ... ، فذكرته. قلت: إسناده صحيح. والله أعلم.

- وروي عن عمر أنه نادى: يا سارية1 الجبل. يقول ذلك لبعض أمراء المسلمين حين أحاط به العدو، وبينهما أكثر من شهر، فأسمع الله سارية صوتَه، فكانت سبب سلامة المسلمين2، وهذه كرامة لا توازيها كرامة. - وروى سيف بن عمر الأسدي3 أن عمر اعترض الذين سيَّرهم إلى العزاة فرأى فيهم فتية فكرهم وتفرَّس فيهم الشّرّ، وتعجب الناس من كراهيته فيهم، ولم يرد أن يشهر أمرهم للناس، فكان فيهم من غزا عثمان وقتله وقتل عليّ بن أبي طالب وأثاروا الفتن على الناس بعد4.

_ 1 سارية بن زنيم بن عبد الله الدئلي الكناني، اختلف في صحبته، فقال ابن عساكر: له صحبة، وقال الذهبي: "إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال المرزباني: "كان سارية مخضرماً"، وقال العسكري: "روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه"، وذكره ابن حبان في التابعين، وقد ولاّه عمر ناحية الفرس، وأمّره على جيش وسيّره إلى فارس سنة 23هـ، وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة في القسم الأوّل، وقال: بأنهم كانوا لا يؤمرون على الجيش إلاّ الصحابة". (ر: التجريد 1/203، الإصابة 3/52، 53، الأعلام 3/69) . 2 أخرجه البيهقي في الدلائل 6/370، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة7/1230، وأبو نعيم في الدلائل ص 579، كلهم من طريق ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما. وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة 3/53، وعزاه أيضاً للزين عاقولي في زوائد ابن الأعرابي في كرامات الأولياء، وحرملة في جمعه لحديث ابن وهب، وقال الحافظ: إسناده حسن. وذكره ابن كثير أيضاً في تاريخه 7/131، ثم قال: إسناد جيد. ثم أورد للقصة طرقاً أخرى، وقال في آخرها: فهذه طرق يشد بعضها بعضاً. اهـ. 3 سيف بن عمر الأسدي التميمي الكوفي، من أصحاب السير، ضعيف في الحديث، عمدة في التاريخ، من كتبه: الجمل، والفتوح الكبير، والرّدّة، وينقل عنه الطبري كثيراً في تاريخه، توفي ببغداد سنة 200هـ. (ر: التقريب 1/344، التهذيب 4/295، الأعلام 3/150) . 4 ذكره الطبري في تاريخه 3/6، 7 في حوادث سنة 14هـ، ممن خرجوا إلى القادسية، وهؤلاء الفتية الذين كرههم عمر رضي الله عنه فتية دُلْم سباط مع معاوية بن خديج، فكان منهم رجل يقال له: (سودان بن حُمْران) قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وإذا منهم حليف لهم يقال له: (عبد الرحمن بن ملجم) قتل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

- وروي أنّ عليّاً1 رضوان الله عليه قدم عليه قوم من الخوارج من أهل البصرة فيهم رجل يقال له: الجعد بن بَعْجَة، فقال له: اتّق الله يا عليّ فإنك ميت. فقال عليّ رضوان الله عليه: بل مقتول، ضربة على هذا تخضب هذه - يعني لحيته من رأسه -، عهد معهود وقضاء مقضي وقد خاب من افترى2. - ولما حضر الناس لبيعة عليّ جاءه عبد الرحمن3 بن مْلْجَم المُرَادِي / (2/174/أ) فردّه

_ 1 ليست في م. 2 أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/542، والحاكم 3/143، والبيهقي في الدلائل 6/438، والخطيب في الأسماء المبهمة ص 49، كلهم من طريق شريك عن عثمان بن المغيرة عن زيد بن وهب، قال: ... ، فذكره. قلت: إسناده ضعيف. فإن شريك بن عبد الله بن أبي نمر صدوق يخطئ، سّيء الحفظ. (ر: التهذيب 1/351، والتقريب 1/351) ، إلاّ أنّ البيهقي فقال: "إن لهذا الحديث شواهد يقوي بها". اهـ. وذكر منها: حديث أبي فضالة الأنصاري، وثعلبة ابن يزيد، ثم قال: "ورويناه في كتب السنن بإسناد صحيح عن زيد بن أسلم عن أبي سنان الدؤلي عن عليّ رضي الله عنه في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقتله". اهـ. 3 قاتل عليّ رضي الله عنه، خارجي مفترٍ، شهد فتح مصر، واختلط بها مع الأشراف، وكان ممن قرأ القرآن والفقه ومن العُبّاد. قال الإمام الذهبي: "وهو عند الخوارج من أفضل الأمة، وكذلك تعظمه النصيرية، وعند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا - أهل السنة - ممن نرجو له النار، ونُجَوِّز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض فيه، وحكمه حكم قاتل عثمان وقاتل الزبير وقاتل طلحة وقاتل سعيد بن جبير وقاتل عمار وقاتل خارجة وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله ونكل أمورهم إلى الله عزوجل. (ر: ابن سعد3/32-40، تاريخ الإسلام-عهد الخلفاءص653، 654، للذهبي) .

مرتين أو ثلاثاً ثم أتاه، فقال: ما يحبس أشقاها ليخضبن هذه من هذه ثم تمثل: أشدد حيازيمك1 للموت فإن الموت لاقيك2 ولا تجزع من الموت3 إذا حلّ بواديك4 - ودعا عبد الله بن جحش قبل يوم أحد بيوم فقال: اللهم إنَّا لاقو عدوّنا غداً، وإني أقسم عليك يا رب لما يقتلوني ويبقروا بطني ويجدعوني5، فإذا قلت لي: لم فُعِل بك هذا؟ فأقول: اللهم فيك. فلما التقوا وفعلوا به ذلك، فمرّ عليه الذي سمعه بالأمس يدعو بذلك فقال: اللهم أما هذا فقد استجيب له، وأنا أرجو أن يعطى ما سأل في الآخرة6.

_ 1 في م: (رحبان الملك) ، والحَيْزُوم: الصدر، أو ما استدار بالظهر والبطن. أو ضلع الفؤاد، وما اكتنف الحلقوم من جانب الصدر. (ر: القاموس ص 1413) . 2 في الطبقات لابن سعد: (آتيك) . 3 في الطبقات لابن سعد: (القتل) . 4 أخرجه ابن سعد 3/33، عن الفضل بن دكين أبي نعيم عن فطر بن خليفة عن أبي الطفيل قال: ... ، فذكره. قال ابن سعد: "وزاد في غير أبي نعيم في هذا الحديث بهذا الإسناد عن عليّ بن أبي طالب: إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إليّ". اهـ. 5 في م: (ويجدعوا بيَ) . 6 أخرجه أبو نعيم في الحلية1/109، والبيهقي في كتاب السنن6/307، 308، كلاهما من طريق إسحاق بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد رضي الله عنه، قال: ... ، فذكره. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/304، 305: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". اهـ. وعزاه الحافظ في الإصابة 4/46 أيضاً إلى البغوي. وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1/109، والبيهقي في الدلائل 3/249، 250، عن سعيد بن المسيب مرسلاً.

- وذكر سيف بن عمر أنه لما كانت وقعة البحرين والمسلمون أميرهم العلاء1 بن الحضرمي فلما كانوا بالدهناء2 حيث لا ماء أراد الله أن يريهم آية عظيمة فلما نزل الناس نَفَرت ركابهم في جوف الليل فلم يبق معهم منها بعير إلاّ زاد ولا مزاد، وذلك حين نزل الناس وقبل أن يَحُطُّوا، فهجم عليهم من الغم ما لم يهجم على أمة / (2/174/ب) حتى أفضى بعضهم إلى بعض فنادى منادي العلاء: أن اجتمعوا. فاجتمعوا إليه، فقال: ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم؟ فقالوا: كيف لا نكون كذلك ونحن إن بلغنا غدالم تَحْم شمسه حتى نصير حديثاً. فقال: لا تراعوا ألستم مسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى. قال: فأبشروا فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم. فلما طلع الفجر صلّى بنا، ومنا المتيمم ومنا من بات3 على طهوره لعدم الماء، فلما قضى صلاته جثا على ركبتيه وجثا الناس فنصب في الدعاء ونصبوا معه فلمع لهم سراب مع طلوع الشمس فالتفت إلى الصفّ، وقال: رايد ينظر ما هذا؟ فرجع فقال: سراب. فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر فكذلك ثم لمع آخر فقال العلاء: ماء. فقام وقام الناس فنَزلوا على ماء كثير فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تُكْرَد4 من كل وجه فأناخت إليهم وعليها أزوادهم، فقام كل رجل

_ 1 العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه، الصحابي المعروف، واسم أبيه عبد الله بن عماد، له أربعة أحاديث. 2 الدَّهْنَاء: الوادي الذي ببلاد بني تميم ببادية البصرة في أرض بني سعد. (ر: معجم البلدان 2/493) . 3 في م: (كان) . 4 أي: تُساق. (ر: القاموس ص 402) .

منهم إلى ظهره فأخذه فما فقدوا سِلْكاً فأرووها وشربوا العَلَّ1 بعد النَّهَل2 ثم ترحوا، قال: وفيهم أبو هريرة صاحب / (2/175/أ) رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمد إلى إداوة فملأها ثم تركها على الماء فلما أبعدوا قال أبو هريرة لرفيقه: ارجع بيَ إلى الماء. فرجع فإذا الإداوة مملوءة والأرض بلاقع3 فحقق وحققوا أنها آية من الله عزوجل. - ولما انتهى العلاء إلى البحر وجد العدوّ قد تحرَّز من المسلمين في الجانب الآخر فجمع المسلمين وخطبهم فقال: إن الله - وله - الحمد قد أراكم من آياته في البر ماء تعتبرون4 به في البحر فانهضوا إلى عدوّكم واستعرضوا البحر إليهم فإن الله قد جمعهم لكم بدارين5، فقالوا: نفعل والله ولا نهاب بعد الدهناء أحداً. فارتحلوا بأجمعهم حتى جاءوا ساحل البحر فدعا ودعوا: "يا أرحم الراحمين، يا كريم يا حليم، يا أحد يا صمد، يا حيّ يا محيي الموتى، يا حيّ يا قيوم، لا إلهَ إلاّ أنت يا ربنا". فأجازوا6 البحر فإذن الله يمشون على مثل رملة ميثاء7 فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل، وإن ما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن

_ 1 العَلُّ والعَلَلُ: الشربة الثانية، أو الشرب بعد الشرب تباعاً. (ر: القاموس ص1238) . 2 النَّهَل: أوّل الشرب. (ر: القاموس ص 1377) . 3 البَلْقع: الأرض القفر. جمعه: بلاقع. (ر: القاموس ص 910) . 4 في م: (تعبرون) . 5 دارين: فرضة بالحبرين يجلب إليها المسك من الهند، والنسبة إليها: (دَارِيٌّ) وهي حالياً قرية أو جزيرة من شرق المملكة العربيّة السّعوديّة بالقرب من القطيف. (ر: معجم البلدان 2/432، المعالم الأثيرة ص 115، محمّد شراب) . 6 في م: (فأخذوا) . 7 المِيْثاء: الأرض السهلة. (ر: القاموس ص 226) .

البحر في بعض الأحوال، فالتقوا بعدوّهم فما تركوا منهم مخبراً وسبوا الذراري واستاقوا الأموال فبلغ / (2/175/ب) سهم نفل الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين فلما فرغوا من عدوّهم رجعوا عودهم على بدئهم1 حتى عبروا أيضاً، فقال عفيف بن المنذر2 شاعرهم: ألم تر أن الله ذَلَّل بَحْرَه وأنزل بالكفار إحدى الجَلاَئِل3 دَعَوْنا الذي شَقَّ البحار فجاءنا بأعجب من فَلْق البحار الأوائل ولما اتّصل الخبر بأبي بكر رضي الله عنه قال: إن هذا من عظيم الآيات، اللهم اخلف محمّداً فينا4. - ومن كرامات هذه الأمة كلام العجماء: ورى سيف بن عمر أنسعداً5 والمسلمون بالقادسية6 وهم في الغزاة قرموا إلى اللحم فأرسلوا مَنْ يطلب لهم شيئاً من الغنم والبقر فتحصن أصحابها وأحرزوا ماشيتهم

_ 1 في م: (درهم) . 2 ذكره الحافظ في الإصابة 5/109، في القسم الثالث ممن ليسوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باتّفاق من أهل العلم والحديث، قال: "عفيف بن المنذر التميمي، أحد بني عمرو بن تميم، ذكره سيف في الفتوح، وأنه شهد مع العلاء الحضرمي في قتال الحطيم وأبلى فيه بلاء حسناً، وهو القاتل يذكر خوضهم البحر مع العلاء ... ، وذكر الأبيات. اهـ. وذكر هذه الأبيات أيضاً ياقوت الحموي في معجم البلدان 2/432. 3 في م: (الجلاجل) . 4 ذكره الطبري في تاريخه 2/522-528، وقال: كتب إليَ السّرَّي عن شعيب عن سيف عن الصعب بن عطية بن بلال عن سهم بن منجاب عن منجاب بن راشد، قال: ... ، فذكره في سياق طويل. ونقله ابن كثير في البداية 6/370، مختصراً. 5 هو: سعد بن أبي وقاص مالك الزهري، الصحابي المعروف رضي الله عنه. 6 القادسية: بين النجف والجفّ إلى الشمال الغربي في الكوفي، وإلى الجنوب من كربلاء. (ر: معجم البلدان4/291، معجم المعالم الجغرافية ص 248، عاتق البلادي) .

فرأى عاصم1 بن عمرو رجلاً على أجمة2 فسأله أن يدله على البقر والغنم، فحلف له وقال: لا أعلم. وإذا هو راعي تلك الأجمة فصاح منها ثور: كذب والله هَا نحن أولاء، فدخل فاستاق الثيران فأتى بها العسكر، فقسمها عاصم على المسلمين فأخصبوا، وبلغ ذلك الحجاج بن يوسف أيامه فأنكره فحضر/ (2/176/أ) إليه جماعة ممن سمع الثور يقول ذلك فشهدوا به عنده3. - ومن كراماتهم في هذه الغزاة ما رآه رستم4 - الذي كان على الفرس - رأى فيما يرى النائم كأن ملكاً نزل من السماء حتى دخل عسكر فارس فختم السلاح أجمع ثم دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر رضي الله عنه5. - ومن كراماتهم المشهور: أن أسيد6 بن حضير، وعباد7 بن بشر كانا عند

_ 1 عاصم بن عمر التميمي رضي الله عنه، من الصحابة، أحد الشعراء الفرسان، أخو القعقاع بن عمرون أنشد أشعاراً كثيرةً في فتوح العراق، وكان له ولأخيه بالقادسية مقامات محمودة وبلاء حسن. (ر: الإصابة 4/6، الأعلام 3/248) . 2 الأَجَمَة: الشجر الكثيف الملتف. جمعه: أُجُم. (ر: القاموس ص 1388) . 3 ذكره الطبري في تاريخه 3/13، 14، عن سيف بن عمر، وفيه أن الذين شهدوا عند الحجاج بصحة هذه الكرامة منهم: نذير بن عمرو، والوليد بن عبد شمس وزاهر. 4 رستم بن فرخزاد، قائد جيش الفرس بالقادسية، وكان منجماً، وقد فَوَّضته بوران بنت كسرى ملكة الفرس أمر الملك عشر سنين ثم يصير الملك إلى آل كسرى، وقتله هلال بن علّفة التيمي في القادسية. (ر: البداية 7/29-51) . 5 ذكره الطبري في تاريخه 3/25، 26، عن سيف بن عمر، وابن كثير في البداية 7/42، 43. 6 أسيد بن الحضير بن سماك الأنصاري الأشهلي رضي الله عنه، الصحابي المعروف - له ثمانية عشر حديثاً. 7 عباد بن بشر بن وقش الأنصاري رضي الله عنه، له حديث واحد أورده أبو داود والطبراني وابن شاهين، قال إسماعيل القاضي عن ابن المديني. لا أعلم له غيره. (ر: الإصابة 4/22) .

نبي الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس يتحدثان حتى إذا خرجا من عنده أضاءت لهما عصى أحدهما فمشيا في ضوئها، فلما تفرق بهما الطريق أضاءت لكل واحد منهما عصاه فمشى في ضوئها، انفرد بإخراجه البخاري1. - ومن ذلك أن أم2 أيمن مولاة خرجت من مكّة مهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد وهي صائمة في يوم شديد الحرّ فأصابها عطش شديد، فبينا هي بالروحاء3 أو قريباً منها إذا بحفيف شيء فوق رأسها، قالت: فرفعت رأسي فإذا أنا بدلو من السماء / (2/176/ب) مدلى برشاء أبيض. قالت: فدنا مني حتى إذا كان حيث استمكن منه تناولته فشربت منه حتى رويت. قال: فلقد كنت بعد ذلك أطول في الشمس في اليوم الشديد الحركي أعطش فما عطشت بعدها4.

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب (13) . (ر: فتح الباري 7/124، 125) ، وعنه البيهقي في الدلائل 6/78، عن أنس رضي الله عنه. 2 أم أيمن رضي الله عنها مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وخاضنته اسمها: بنت ثعلبة، وماتت في خلافة عثمان - رضي الله عنهم -، ولها خمسة أحاديث. (ر: الإصابة 8/212-214) . 3 الروحاء: محطة على الطريق بين المدينة وبدر، على مسافة 74كم، من المدينة. (ر: العالم الأثير ص 131، محمّد شراب) . 4 أخرجه ابن سعد في الطبقات 8/224، أبو نعيم في الحلية 2/67، وابن السكن. (ر: الإصابة 8/213) ، من طريق جرير بن حازم وهشام بن حسان عن عثمان بن القاسم، قال: ... ، فذكره. وأخرجه البيهقي في الدلائل 6/125، عن ثابت وأبو عمران الجوفي وهشام بن حسان قالوا:. .، فذكروه وإسناده منقطع. وأورده الحافظ في الإصابة 8/218، عن ابن سعد وابن السكن، وسكت عنه.

- ومن ذلك أيضاً أن البراء بن مالك لقي جيشاً من المشركين وقد استعلى المشركون على المسلمين فقالوا له: يا براء إن رسول الله قال: إنك لو أقسمت على الله لأبرَّك1، فأقسم على ربّك. فقال: أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم. فمنحوا أكتافهم. ثم التقوا أيضاً على قنطرة السوس قاتلوا في المسلمين فقالوا له: أقسم يا براء على ربّك. فقال: أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم. فمنحوا أكتافهم2. - وفي رواية أنه لما كان يوم تستر3 انكشف المسلمون، فقال البراء: أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيّك. فمنحوا أكتافهم فاستشهد4. ومن ذلك أيضاً أن الملائكة كانت تسلم على عمران بن الحصين وتصافحه فلما اكتوى انقطعت عنه، فلما كان قبيل موته عاودته فسلمت عليه رضي الله عنه5.

_ 1 أخرجه الترمذي 5/650، من طريق ثابت وعليّ بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك". قال الترمذي: هذا حديث صحيح حسن. 2 أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 1/154، والحاكم 3/291، 292، والبيهقي في الدلائل 6/318، كلهم من طريق سلامة بن روح عن عُقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه، قال: ... ، فذكره. وقال الحاكم: "صحيح الإسناد لم يخرجاه". ووافقه الذهبي. 3 تُسْتَر - بالضم ثم السكون وفتح التاء الأخرى -: وهو تعريب شوشة، أعظم مدينة بخوزستان، فيها أقبر البراء بن مالك، وفتحت سنة 20هـ، وجعلها عمر رضي الله عنه من أرض البصرة لقربها منها. (ر: معجم البلدان 1/29) . 4 ذكره الطبري في تاريخه 3/181، وابن كثير في البداية 7/95، 96، وابن حجر في الإصابة 1/148، 149. 5 تقدم تخريجه. (ر: ص: 849) .

- ومن ذلك / (2/177/أ) قال بعضهم1: غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين فدعا بثلاث دعوات فاستجيب له فيهن، نزلنا منْزلاً فطلب الماء ليتوضأ فلم يجده، فقام فصلى ركعتين وقال: اللهم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوّك، اللهم اسقنا غيثاً نتوضأ منه ونشرب فإذا توضأنا لم يكن لأحد في نصيب غيرنا، فسرنا قليلاً فإذا نحن بماء حين أقلعت عنه السماء فتوضأنا منه وتزودنا. - قال الراوي: فملأت إداوتي2 وتركتها مكانها حتى أنظر هل استجيب له أم لا؟ فسرنا قليلاً ثم قلت لأصحابي: نسيت إداوتي، فجئت إلى ذلك المكان فإذا به كأنه لم يصبه ماء قط وأخذت إداوتي، ثم سرنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا بين العدوّ، وقال: يا عليم يا حكيم يا عليّ يا عظيم، إنّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوّك فاجعل لنا إليهم سبيلاً. وتَقحَّم3 البحر فخضنا ما يبلغ لبودنا4 فخرجنا إليهم، فلما رجعنا مرض بفؤاده فمات فطلبنا ماء نغسله فلم نجده فلففناه في ثيابه ودفناه فسرنا/ (2/17/ب) غير بعيد فإذا نحن بماء كثير، فقال بعضنا لبعض: فلو رجعنا فاستخرجناه ثم غسلناه. فرجعا فطلبناه فلم نجده. فقال رجل من القوم: إني سمعته يقول: "يا عليّ يا عظيم يا حكيم أخفِ عليهم موتي ولا تطلع على عورتي أحداً". فرجعنا وتركناه5.

_ 1 هو: سهم بن منجاب، كما ذكر ذلك ابن الجوزي في صفة الصفوة 1/659، وأشار إليه البيهقي في الدلائل 6/53. 2 الإِدَاوة - بالكسر - إناء الطهارة أو المهطرة، وجمعه: الأَدَاوَى. (ر: القاموس ص 1624) . 3 أي: دخل البحر، يقال: أقحم فرسه النظر: أدخله. (ر: القاموس ص 1480) . 4 لِبْدٌ ولِبَدة: كلّ شعر أو صوف متلبد. (ر: القاموس ص 404) . 5 ذكر هذه الرواية بنصّها ابن الجوزي في صفة الصفوة 1/695، 696، والبيهقي مختصراً في الدلائل 6/53.

- ودخلت في أذن رجل من أهل البصرة حصاة فعالجها الأطباء فلم يقدروا عليها حتى وصلت إلى صماخه فأسهرت ليله ونغصت عيش نهاره، فشكى ذلك إلى بعض أصحاب الحسن فقال: ويحك إن كان شيء ينفعك الله به فدعوة العلاء بن الحضرمي التي دعا بها في البحر وفي المفازة. قال: وما هي رحمك الله؟ قال: يا عظيم يا حليم يا حكيم1. فدعا بها فوالله ما برحنا حتى خرجت من أذنه ولها طنين حتى صكَّت الحائط وبرأ2. - قال المؤلِّف: هكذا رأيتها في عدة مصنفات وفيها تقديم وتأخير وزيادة ونقصان، فالرأي أن يدعو الإنسان بهذه الرواية مرّة وبالرواية الأخرى مرّة أخرى ليأتي على كلّ ما ورد منها3. - وقال / (2/178/أ) ثابت البناني4: شكا قَيِّمُ أنس بن مالك إلى أنس عطش أرضه فصلّى أنس ودعا، فثارت سحابة حتى غشيت أرضه وملأت، صهريجه فأرسل غلامه فقال: انظر أين بلغت هذه؟ فنظر فإذا هي لم تعد أرضه5.

_ 1 في صفوة الصفوة: (يا عليم) . 2 ذكر هذه القصة ابن الجوزي في صفة الصفوة 1/196، عن عمرو بن ثابت، قال: ... ، فذكره. 3 قصة العلاء الحضرمي رضي الله عنه، أخرجها ابن سعد 4/362، وأبو نعيم في الدلائل ص 574، والبيهقي في الدلائل 6/52، 53، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/379، والذهبي في تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء ص 237) ، وابن كثير في البداية 6/292، 293، وغيرهم. 4 ثابت بن أَسْلَم البُناني - بضم الموحدة ونوين مخففين -: أبو محمّد البصري، ثقة عابد، من الرابعة، روى عن أنس وابن عمر - رضي الله عنهم - وغيرهم، مات سنة مائة وبضع وعشرين من الهجرة، وله ست وثمانون. (ر: (ر: الجرح والتعديل 2/449، التقريب 1/115) . 5 أخرجه ابن سعد 7/21، وابن عساكر في تاريخه 3/168، كلاهما من طريق جعفر ابن سليمان الضُّبَعي عن ثابت البناني، قال:. .، فذكره. قلت: إسناده حسن، فإن جعفر الضبعي صدوق. (ر: التقريب 1/131) ، وله تابع أخرجه ابن سعد 7/21، 22، وعنه ابن عساكر 3/168، عن ثمامة بن عبد الله في سياق أطول بنحوه. يوذكره ابن الجوزي في صفوة الصفوة 1/712.

- وقالت مولاة أبي أمامة الباهي: كان أبو1 أمامة يحب الصدقة ويجمع لها الدنانير الدراهم والفلوس وما يُؤكل حتى البصلة ونحوها فلا يقف سائل إلاّ أعطاه ما تهيأ له، قالت: فأصبحنا يوماً وليس معنا ولا عندنا شيء من الطعام وليس في البيت سوى ثلاثة دنانير. فوقف به سائل فأعطاه ديناراً ثم آخر فأعطاه ديناراً ثم وقف ثالث فأعطاه الثالث، قالت: فغضبت. فاستلقى على فراشه وأغلقت عليه الباب حتى أذن المؤذن بالظهر فجئته فأيقظته فراح إلى مسجده صائماً فرققت عليه فاستقرضت ما هيأت له به عشاء وسراجاً ووضعت المائدة ودنوت من فراشه لأمهد له فوجدت تحته ثلاثمائة دينار فقلت في نفسي: ما صنع الذي صنع إلاّ ثقة بذلك فعددتها فإذا ثلاثمائة دينار فتركتها/ (2/178/ب) على حالها حتى انصرف عن المسجد بعد العشاء فلما دخل البيت ورأى ما هيأت له حمد الله وتبسم في وجهي وجلس وتعشّى فلما فرغ قلت: يغفر الله لك جئت بما جئت به ثم تركته بمضيعة. قال: وما ذاك؟ قلت: ما جئت به من هذه الدنانير. ورفعت الفراش عنها، ففزع حين رآها وقال: ويحك ما هذا؟ قلت: لا أعلم إلاّ أني وجدتها هَا هنا على ما ترى. قالت: فكثر فزعه2.

_ 1 أبو أمامة الباهي، اسمه: صُدي بن عجلان بن الحارث، الصحابي المعروف، له مائتان وخمسون حديثاً. 2 أخرجه أبو نعيم في الحلية 10/129، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدّثني مولاة أبي أمامة رضي الله عنه قالت: ... ، فذكرته. - وزاد فيه -: "قالت: (مولاة أبي أمامة) : فقمت فقطعت زناري وأسلمت، قال: ابن جابر: فأدركتها في مسجد حمص وهي تعلم النساء القرآن والسنن والفرائض وتفقهن في الدين". اهـ.

- وقال ميمون1 بن مهران: شهدت جنازة عبد الله بن عباس بالطائف فلما وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى دخل في أكفانه فالتمس فلم يوجد فلما سُوِّيَ عليه سمعنا صوتاً ولا نرى شخصاً يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [سورة الفجر الآيات: 27-30] 2. - ولما أتى العطاء إلى زينب زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمر رضوان الله عليه وقسمته في وجوه البرّ رفعت يديها إلى السماء، وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر3 بعد عامي هذا. فماتت قبل أن يدركها4.

_ 1 ميمون بن مِهْران الجزري، أبو أيوب، أصله كوفي، نزل الرِّقة، ثقة فقيه، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، وكان يرسل، من الرابعة، مات سنة 117هـ. (ر: الجرح 8/233، التقريب 2/292) . 2 أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/329، من طريق الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران. قلت: إسناده ضعيف. فإن فرات بن السائب أبو سليمان، ضعيف الحديث، منكر الحديث، قاله أبو زرعة وأبو حاتم. (ر: الجرح والتعديل 7/80) ، إلاّ أنّ له طرقاً أخرى كثيرة صحيحة، منها: ما أخرجه الحاكم 3/543، 544، والذهبي في سير أعلام النبلاء 3/358، من طريق مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/85، وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". وذكره الحافظ في الإصابة 4/94، من طرق، فقال: "أخرجه الزبير بن بكار بسند له إلى موسى بن عقبة عن مجاهد ... " فذكره. وأخرجه يعقوب بن سفيان من طريق عبد الله بن مامين عن أبيه. وأخرجه المدائني عن حفص بن ميمون عن أبيه. اهـ. ملخصاً. وقال الذهبي في سيرأعلام النبلاء3/358: "فهذه قضية متواترة". اهـ. 3 في م: (أحمر) . 4 أخرجه ابن سعد 8/109، وأبو نعيم في الحلية 2/54، كلاهما من طريق محمّد بن عمرو بن علقمة عن يزيد بن خصيفة عن عبد الله بن رافع عن برزة بنت رافع، قالت: ... ، فذكرته في سياق طويل. قلت: أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/212، والحافظ في الإصابة 8/32، وسكتا عنه. وفي إسناده: محمّد بن عمرو الليثي صدوق له أوهام. (ر: التقريب 1/196) ، وبرزة أو برة بنت رافع لم أقف على ترجمتها. وباقي رجاله ثقات. وأخرجه ابن سعد 8/109، أيضاً بسند فيه الواقدي عن محمّد بن كعب، قال: ... ، فذكره مختصراً.

- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: / (2/179/أ) أسلمت أم1 شريك عزيّة بنت جابر بن حكيم الدوسية وجعلت تدخل على أهل مكّة فتدعو النساء إلى الإسلام سرّاً ترغبهن فيه، فلما ظهر أمرها لأهل مكّة قالوا: نبعثك إلى قومك. قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء ثم تركوني ثلاثاً لا يطعمونني ولا يسقونني، وكانوا إذا نزلوا منْزلاً أوثقوني في الشمس واستظلوا هم وحبسوا عني الطعام والشراب، فبينما هم كذلك، وأنا في الشمس إذا بشيء بارد على صدري فتناولته فإذا هو دلوٌ من ماء فشربت منه قليلاً ثم نزع مني فرفع ثم عاد فتناولته فشربت منه ثم رفع مراراً ثم نزل ليَ فشربت حتى رويت ثم صببت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا وجدوا أثر الماء على ثيابي ووجدوا هيئتي حسنة، فقالوا: حَلَلْتِ سقاءنا فشربتي منه. قالت: لا والله. ولكنه كان من الأمور كيت وكيت. فقالوا: لئن كنت صادقة لدينك خير من ديننا. فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها فأسلموا، ثم جاءت هي فوهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغير مهر فقبلها ودخل بها2.

_ 1 أم شريك القرشية العامرية من بني عامر بن لؤي، اختلف في نسبتها أنصارية أو عامرية من قريش أو أزدية من دوس، قال ابن حجر: "واجتماع هذه النسب ممكن كأن يقول: قرشية تزوجت في دوس فنسبت إليهم، ثم تزوجت في الأنصار فنسبت إليهم، أو لم تتزوج بل هي نسبت أنصارية بالمعنى الأعم". اهـ. وقد كانت ممن وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم. (ر: ابن سعد 8/154، حلية الأولياء 2/66، سير أعلام النبلاء 2/255، الإصابة 8/248، 249) . 2 نقل المؤلِّف هذه الكرامة من ابن الجوزي في صفة الصفوة 2/53، 54، عن ابن عباس. وأخرجها ابن سعد 8/155، عن الواقدي - وهو متروك - عن الوليد بن مسلم عن منير بن عبد الله الدوسي قال: ... ، فذكره، وإسناده مرسل. وأخرجها أبو نعيم في حلية الأولياء 2/66، من طريق محمّد بن مروان السدي - أحد المتروكين -، وأبو موسى في الذيل. (ر: الإصابة 8/248) ، كلاهما من طريق مححّد بن السائب اللكبي - وهو متروك متهم بالكذب - عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: ... ، فذكره.

- وكانت (2/179/ب) حفصة1 ابنة سيرين2 تسرج المصباح وتقومإلى مصلاها فربما طفئ المصباح فيضيء لها البيت حتى تصبح3. - قال المؤلِّف: ووقفت على كرامة غريبة لسلف هذه الأمة وهي ما رواه سيف بن عمر في الفتوح قال: حاصر المسلمون بهرسير4 من أرض العراق فلما اشتد عليهم الحصار وأبطأ على المسلمين الفتح أشرف عليهم رسول من الحصن، فقال: إن الملك يقول لكم هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا ما يلينا من دجلة إلى الجبل ولكم ما يليكم من دجلة إلى الجبل؟ أما شبعتم، لا أشبع الله بطونكم. فبدر الناس أبو مفزَّر الأسود بن قطبة وقد أنطقه الله بشيء لا يدري ولا نحن ما هو فأجابه بالفارسية وهو لا يعرف من الفارسية شيئاً ولا نحن. فرجع الرسول إلى الملك بما سمع من أبي مفزر ورأيناهم يقطعون إلى المدائن هاربين فقلنا له: يا أبا مفزر ما قلت له؟ قال: لا والذي بعث محمّدً بالحقّ ما أدري ما هو إلاّ أنّ عَلَيَّ سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أُنطقت بالذي هو خير. وأنْبَأَت الناس

_ 1 هي: حفصة بنت سيرين أم الهذيل الأنصارية البصرية، سيدة جليلة من سيدات التابعيات، اشتهرت بالعبادة والفقه وقراءة القرآن والحديث، روت عن أخيها يحيى وأنس بن مالك وأم عطية الأنصارية وغيرهم، توفيت سنة 101هـ، وهي ابنة سبعين سنة. وفي رواية سنة 92هـ. (ر: ترجمتها في: صفوة الصفوة 4/24-26، التهذيب 12/438، أعلام النساء 1/273، 274، عمر كحالة) . 2 في م: (سيرويه) . 3 أخرجه هذه الكرامة ابن الجوزي في صفوة الصفوة 4/26، عن هشام بن حسان. قلت: هشام بن حسان الأزدي، ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين. (ر: التقريب 2/3189) . 4 بَهُرَسِير - بالفتح ثم الضم، وفتح الراح، وكسر السين المهلمة، وياء ساكنة وراء -: من نواحي سواد، وهي معربة من (دِه أردشير) أو (بِه أردشير) ، كأن معناه: خير مدينة أردشير، وهي في غربي دجلة. (ر: معجم البلدان 1/515) .

يسألون عن ذلك حتى / (2/180/أ) جاءه سعد فقال: يا أبا مفزّر ما قلت للرسول فوالله إنهم لهراب؟ ثم نادى سعد في الناس ثم نَهَدَ1 بهم فوجد القوم قد هربوا وتركوا المدينة ووجدوا منهم قوماً خارج المدينة فأسروهم، وسألهم المسلمون لأي شيء هربوا وتركوا المدينة؟ فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجاب متكلمكم إنه لا صلح بيننا أبداً حتى نأكل عَسَل إفريدين بأُترج كوثي. فقال الملك: لا طاقة لا طاقة لأحد بهؤلاء وأسرع الجلاء والهرب2. - وقال مالك3 بن دينار رضي الله عنه: لما ولي عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - قال: رعاة الشاء في رؤوس الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس؟ قال: فقيل لهم: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إنه إذا قام خليفة صالح كفت الذئاب والسباع عن شائنا4. - قال مالك بن أنس الإمام رضي الله عنه: "كان يونس بن يوسف5 من العباد ومن خيار الناس فذهب يوماً إلى المسجد فلقيته امرأة في طريقه

_ 1 أي: نهض بهم. (ر: القاموس ص 413) . 2 أورده الطبري في تاريخه 3/118، 119، وابن كثير في البداية 7/70، 71، عن سيف بن عمر. 3 مالك بن دينار البصري، الإمام الزاهد العابد، أبو يحيى من ثقات التابعين ومن أعيان كتبه: المصاحف. توفي سنة 130هـ. (ر: حلية الأولياء 2/357، سير أعلام النبلاء 5/362، التهذيب 10/14) . 4 أخرجه أبو نعيم في الحلية 5/255، من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل عن عليّ ابن مسلم الطوسي عن يسار بن حاتم عن جعفر الضبعي عن مالك بن دينار. قلت: سيار بن حاتم العَنَزي صدوق له أوهام. (ر: التقريب 1/434) ، إلاّ أنّ أبا نعيم ذكر للخبر شاهدين: أوّلهما: عن جسر القصاب، والآخر عن موسى بن أعين. وأورده ابن الجوزي في صفوة الصفوة 2/118. 5 اختلف في اسمه، فقيل: يوسف بن يونس، وقيل: يونس بن يوسف، أبو عمرو بن عماس، وكان متعبداً مجتهداً يصلي الليل. (ر: صفوة الصفوة 2/134) .

فوقع في نفسه منها، فقال: اللهم إنك جعلت بصري / (2/180/ب) لي نعمة وقد خشيت أن يكون عليّ نقمة فاقبضه إليك. قال: فعمي. وكان ابن أخ له1 يقوده إلى المسجد فإذا استقبل الجدار اشتغل الصبي يلعب مع الصبيان فإن نابته نائبة حصب الصبي فأقبل إليه، فبينا هو ذات يوم صحوة في المسجد إذ أحس في بطنه بشيء فحصب الصبي فشغل الصبي مع الصبيان حتى خاف الشيخ على نفسه. فقال: اللهم كنت جعلت لي بصري نعمة فخشيت أن يكون علي نقمة فسألتك فقبضته إليك، وقد خشيت الآن الفضيحة فاردد عليّ بصري. فانصرف إلى منْزله بصيراً، بغير قائد. قال مالك: فرأيته أعمى ورأيته بصيراً صحيحاً2. - وحجّ3 المنصور4 سنة سبع وأربعين ومائة فلما قدم المدينة بعث إلى جفعر5 بن محمّد وقال: أحضره إلي مُتعباً، قتلني الله إن لم أقتله.

_ 1 في م: (لي) . 2 ذكر هذه الكرامة ابن الجوزي في صفوة الصفوة 2/134، 135. 3 ذكره هذه الكرامة القاضي أبو علي المحسن بن عليّ التنوخي ت سنة 384هـ، في كتابه الفرج بعد الشدة 1/318-320، والذهبي سير أعلام النبلاء 6/266، كلاهما من طريق الفضل بن الربيع، قال: حجّ أبو جعفر المنصور ... ، فذكره في سياق طويل. وقد أورد القاضي التنوخي هذا الخبر من وجهين مختلفين، أحدهما: من بعض الكتب بغير إسناد، والآخر: من طريق أبي الفرج الأصفهاني. (ر: الفرج 1/313-318) . 4 عبد الله بن محمّد بن عليّ العباس، أبو جعفر المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين، ولي الخلافة بعد أخيه السفاح سنة 136هـ، وهو الذي بنى بغداد، مات بمكة محرماً بالحج سنة 158هـ. (ر: سير أعلام النبلاء 7/83، الجوهر الثمين ص91 لابن دقماق، البداية 10/121، الأعلام 4/117) . 5 جعفر بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين الهاشمي القرشي، أبو عبد الله الملقب بالصادق، فقيه، إمام، صدوق، كان يغضب من الرافضة ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر الصدّيق، فإن أمه هي أم فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصّدّيق، وأمها هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان جعفر يقول: ولدني أبو بكر الصّدّيق مرتين، ولد ومات بالمدينة سنة148هـ. (ر: سير أعلام النبلاء 6/255، التهذيب2/103، التقريب1/132، حلية الأولياء3/192، الأعلام2/126) .

فتغافل عنه الربيع1 لينساه، ثم أعاد ذكره للربيع، وقال: ابعث من يأتي به قتلني الله إن لم أقتله. فلما كان في الثالثة أحضره الربيع، وقال: أبا عبد الله اذكر الله فإنه قد أرسل إليك للتي لا شوي لها. فقال جعفر - رضوان الله عليه -: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله / (2/181/أ) العلي العظيم. ثم أعلم المنصور بحضوره. فلما دخل قال: يا عدوّ الله اتّخذك أهل العراق إماماً يُؤَدُّون إليك زكاة أموالهم وتلحد في سلطاني وتبغيه الغوائل، قتلني الله إن لم أقتلك. فقال: يا أمير المؤمنين إن سليمان عليه السلام أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلى فصبر، وأن يوسف ظلم فغفر، وأنت من ذلك السِّنخ2. فقال له المنصور: [أنت عندي يا أبا عبد الله] 3 البريء الساحة، والسليم الناحية، القليل الغائلة، جزاك الله من ذي رحم أفضل ما ذوي الأرحام عن أرحامهم. ثم تناول يده فأجلسه معه على فراشه ثم دعا بالغالية والطيب فغلَّفه بيده حتى خلت لحيته قاطرة، ثم قال: في حفظ الله وكلأته. ثم قال: يا ربيع الحقّ أبا عبد الله بجائزته وكسوته، سِرْ أبا عبد الله في حفظ الله وفي كنفه. قال الربيع: فلحقه بذلك فقلت له: إني قد رأيت من هذا الرجل في أمرك ما لم تره، ورأيت بعد ذلك ما قد رأيت فما قلت يا أبا عبد الله حين دخلت عليه؟

_ 1 هو: الربيع بن يونس، الوزير الحاجب الكبير. أبو الفضل الأموي، من موالي عثمان رضي الله عنه. كان وزيراً للمنصور، وكان من نبلاء الرجال. وألبائهم، توفي سنة 169هـ. (ر: سير أعلام النبلاء 7/335، شذارت الذهب 1/274) . 2 السِّنخ - بالكسر -: الأصل. (ر: القاموس ص 323) . 3 في م، ص: (إلى وعندي أبا عبد الله) ، وهو خطأ، والتصويب من كتاب الفرج بعد الشدة.

قال: قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام / (2/181/ب) واكنفني بركنك الذي لا يرام، واغفر لي بقدرتك عليّ، فلا أهلك وأنت رجائي، اللهم إنك أكبر وأجل ممن أخاف وأحذر، اللهم بك أدفع في نحره وأستعيذ بك من شرّه1. - مسألة: [إن] 2 قال بعض النصارى: أن لا نبيّ بعد المسيح، أكذبه ما في كتاب فراكسيس وهو رسائل الحوريين إذ قال في الفصل الحادي عشر منه: "إنه قدم في تيك الأيام أنبياء من بيت المقدس فقام أحدهم يسمى أغابوس3 فتنبأ لهم وقال: إنه سيكون في هذه البلاد قحط شديد"4.

_ 1 ورد الدعاء في كتاب الفرج بعد الشدة 1/319، وفي سير أعلام النبلاء 6/266، كاملاً كالآتي: "اللهم أحرسني بعينك التي لا تنام، واكفني بركنك الذي لا يرام، واذكرني برحمتك، واعف عني بقدرتك، لا أَهْلَكُ وأنت رجائي، ربِّ كم من نعمة أنعمت بها عَلَيَّ، قَلَّ لك عندها شكري فلم تحرمني، وكم من بلية ابتليتني بها قَلَّ لك عندها صبري فلم تخذلني، فيا مَنْ قَلَّ عند نعمه شكري فلم يحرمني، ويا مَنْ قَلَّ عند بليّته صبري فلم يخذلني، يا مَنْ رآني على الخطايا فلم يهتكني، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبداً، ويا ذا النعماء التي لا تحصى عدداً، صَلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، بك أدرأ في نحره، وأعوذ بك من شرّه، اللهم أعني على ديني بدنياي، وعلى آخرتي بتقواي، واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، يا مَنْ لا تضره الذنوب، ولا تنقصه المغفرة، اغفر لي ما لا يضرّك وأعطني ما لا ينقصك، إنك أنت الوهّاب، أسألك فرجاً قريباً، وصبراً جميلاً، ورزقاً واسعاً، والعافية من جميع البلايا، وشكر العافية". 2 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم. 3 ورد في قاموس الكتاب ص 89، ترجمته كالآتي: "ربما كانت الكلمة من أصل عبري معناها: (المحبوب) ، وأغابوس: نبي مسيحي كان في أورشليم في عصر الرسل (الحواريين) الأوّل، وذهب إلى أنطاكية وتنبأ بجوع عظيم، وقد حدث هذا الجوع في أيام كلوديوس قيصر، ولما مَرَّ بولس بقيصرية في رحلته الأخيرة إلى أورشليم جاء أغابوس من اليهودية وربط يديه ورجليه بمنطقة بولس، وحذر بولس من أنهم سيقيدونه هكذا متى وصل أورشليم، ويقول التقليد إن أغابوس كان واحداً من السبعين تلميذاً اللذين أرسلهم المسيح". اهـ. 4 سفر أعمال الرسل 11/28، 21/11.

وقال أيضاً في هذا الفصل: "إنه كان في بيعة أنطاكية أنبياء منهم: برنابا وشمعون ولوقش وما ناين وشاؤل فهؤلاء الخمسة بأنطاكية"1. وقال أيضاً في الفصل الخامس عشر من الكتاب: "إنه كان [لفيلبس المبشر] 2 أربع بنات متنبئات"3. وقال لوقا في كتاب فراكسيس أيضاً: "إن النفر المتوجهين إلى أنطاكية كان نزولهم على بيت عيناً لأنهم كانوا أنبياء"4. قال مؤلِّفه: من زعم أنه لا نبي بعد المسيح فهو جاهل بدين النصارى / (2/182/ب) إذ لا خلاف عندهم أن فولس صاحب الأربع عشر رسالة هو رسول جاء بعد رفع المسيح، وقد حكى في رسالته أنه أدرك من أصحاب المسيح شمعون الصفا ويعقوب، فقد بطل قول من قال: إنه لا نبيّ بعد المسيح. فإن قيل: فقد حَذَّرَنا المسيح عليه السلام في الإنجيل من الأنبياء الكذبة الذين يلبسون لباس الحملان وهم في الباطن بصور الذئاب الضارية ثم وصفهم فقال: ومن ثمارهم تعرفونهم5. قلنا: هذا تصريح من المسيح عليه السلام بمجيء الصادق إذ خصّ التحذير بالكذبة ولولا ذلك لم يقل: "ومن قِبَل ثمارهم تعرفونهم". ولقال: لا نبيّ بعدي، ولم يحوجهم إلى الاستدلال بثمارهم على كذبهم، كلا ولكنه صريح

_ 1 سفر أعمال الرسل 13/1، كالآتي: "وكان في أنطاكية في الكنيسة هناك أنبياء ومعلّمون، برنابا، وسمعان الذي يدعى نيجر، ولوكيوس القيرواني، ومناين الذي تربي مع هيردوس رئيس الرِّبع، وشاؤل". 2 في م، ص (لفولس المفسر) والتصويب من النصّ. 3 سفر أعمال الرسل 21/8، 9. 4 سفر أعمال الرسل 11/27. 5 متى 7/15-20، في سياق طويل، وقد اختصره المؤلّف.

بمجيء النبي الصادق ونصّ عليه في غير موضع من إنجيله كما تقدم، ثم الكاذب من لم يقم على نبوّته برهان. وقد جاء نبيّنا محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم بآيات ظاهرة ودلالات متضافرة كانشقاق القمر وتسليم الحجر واستجابة الشجر وإبراء الأبرص والأجذم والمجنون والآدر / (2/182/ب) ونطق الذارع وخسف الأرض بعدوّه عند الإتباع وتفجير الماء ونطق العجماء والإخبار عن الغيوب، والنصر في مواطن الحروب والكتاب العزيز الذي أخرس الشقاشق1 وفضح المنافق وعجز الجنّ والإنس عن الإتيان بمثله وأناط الفصحاء والحكماء حبالهم بحبله. قال المسيح عليه السلام: "ومن قِبَل ثمارهم تعرفونهم"، وقد علم الموافق والمفارق أن محمّداً صلى الله عليه وسلم لم تثمر شجرة دعوته عبادة غير الله، فلم يشرك مع الله سواه، ولا جعل له نِدّاً من خلقه، ولا ادّعى له ولداً، ولا قال: اعبدوا إلهين اثنين ولا ثالث ثلاثة، ولا عَبَدَ رجلاً ولا عجلاً لا كوكباً ولا وثناً، بل أمر بعبادة الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والإخلاص له وتنْزيهه عن النقائص والآفات والحلول في المحدثات والتدنس بالزوجات، ولم يجعل الله ولداً ولا والدً بل خلع الأنداد ونبذ الأضداد، وأمر بطاعة الله ونهى عن معصيته وزهد في الدنيا ورغب في الأخرى، وجاء بكتاب من عند الله يشتمل على الأمر بالمعروف والنهي

_ 1 الخطباء، والشِّقْشِقَة: الخُطْبَة. (ر: القاموس ص 1160) .

عن المنكر / (2/183/أ) وبر الوالدين وصلة الرحم وحفظ الجار وفرض الصدقات والأمر بالصيام والصلاة والحثّ على محاسن الأخلاق ومكارم العادات، ثم كسر الأصنام وعطل الأوثان وأخمد النيران وأعلن بالأذان1. فأما هو في نفسه صلى الله عليه وسلم فأربى على سائر الأمم في العبادة وتقدم إخوانه من المرسلين في الإرشاد والإفادة، فهذه ثمار محمّد صلى الله عليه وسلم التي صارت أعلق به من الغرام ببني عذرة، والإقدام بابن أبي صفرة. وقد بين يوحنا الإنجيلي أن التحاذير إنما كان من الدجال قال في رسالته الثانية: "إنه قد خرج في العالم ضُلاّل كثيرون لا يعترفون بالمسيح الجسداني، فمن كان من2 هؤلاء فهو الضالّ المضل، فأما المقيم على تعليم السيد المسيح فالأب يكون معه"3. والتعليم الذي أمر به المسيح هو توحيد الباري وتنْزيهه، وقوله: "أنا نبيّ الله ورسوله وعبده، لا أعمل

_ 1 وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن دعوته وما اشتملت عليه شريعته من الكمال في أمور الدين والدنيا، والآداب والفضائل لا تكون إلاّ وحياً من عالم الغيب والشهادة العليم الحكيم. ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم - إضافة على ما سبق - قرائن أحواله صلى الله عليه وسلم وسيرته قبل النبوة وبعدها، واتّصافه صلى الله عليه وسلم بالأخلاق العظيمة والكمال الإنساني، وزهده في الدنيا بعد إقبالها عليه صلى الله عليه وسلم. ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أيضاً نصرة الله عزوجل وحفظه إيّاه، وتمكين أسباب النصر له الخارجة عن عادة البشر، وإعلاء أمره وإظهار دعوته على رؤوس الأشهاد في سائر البلاد. ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أيضاً أن الداعين إلى دينه من بعده والشاهدين بحقيقة أمره كانوا خيار الناس وأبرارهم كأبي بكر الصّدّيق وعمر وعثمان وعليّ وغيرهم من الصحابة - رضوان الله عليهم - المبسوطة أخبارهم في كتب التاريخ مما يشهد بزهدهم وورعهم وكمال أخلاقهم - كيف لا يكونوا كذلك وقد تربوا في مدرسة المصطفى صلى الله عليه وسلم - وقد أقبلت عليهم الدنيا بزهرتها فأدبروا عنها، فمن كانوا كذلك لم يظن بهم الأباطيل والكذب. والله أعلم. 2 ليست في م. 3 رسالة يوحنا الثانية 1/7-11.

بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"1. كما تقدم فهذا تعليم المسيح الذي دعا إليه وعلّمه، فمن أقام عليه فهو مؤمن بالمسيح، ومن راغمه فهو الضالّ المضل كما / (2/183/ب) أخبر المسيح عليه السلام. قال المؤلِّف - عفا الله عنه -:واعلم أنه لو جاز أن يتمسك بنهي عيسى في الإنجيل عن الأنبياء الكذبة في ردّ محمّد صلى الله عليه وسلم لجاز أن يتمسك بنهي موسى في التوراة عن الأنبياء الكذبة في ردّ عيسى، فقد قال الله في السفر الخامس من التوراة بعد ذكر النبي الصادق: "فأما الذي يقول ما لم آمره به ويدعو باسم آلهة أخرى فليقتل ذلك قتلاً فإنما يريد أن يضلكم عن الطريق - ثم قال -:إن أشكل عليكم معرفة ما لم أقله مما قلته فانظروا فإني لا أتم قول الكاذب ولا أكمل فعله، لأنه قال ما لم أقله وإن ما تَقَوَّله كذب وجرأة وصفاقة وجه، فلا تخافوه ولا تفزعوا منه"2. ولمّا لم يقدح ذلك في حقّ عيسى لم يقدح مثله من الإنجيل في حقّ محمّد صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: فمن هم الكذبة الذين ذكروا في توراة موسى وإنجيل عيسى؟ قلنا: لا يلزمنا بيانهم ولكنا نتبرع بذلك ونقول: قد نَجَمَ كذابون ونَبَغ متمحلون وقد أخبر بمجيئهم بطرس صاحب / (2/184/أ) المسيح، فقال: "اعلموا أنه ما [جاءت] 3 قط نبوة من مشيئة البشر بل من روح القدس سيق بها قوم عند الله مطهرون، وقد كانت أيضاً في الشعب أنبياء كذبة كما أنه

_ 1 ورد النّصّ في نجيل متى 6/29، 38، 39، كالآتي: "هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله ... ، لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشية الذي أرسلني". 2 تكوين 18/15-22. 3 في ص، م (خاب) والتصويب من النّصّ.

يكون أيضاً فيكم معلمون كذبة أولئك الذين يدخلون إلى فرقة الهلكة، ويفتتن بنجاستهم قوم كثير، ويفترون على صحة الحقّ أولئك الذين دينونتهم لا تبطل وهلكتهم لا تنعس"1. فأخبر بطرس بأنه قد كان ويكون في شعب بني إسرائيل من يفتري على الله الكذب. قلت: وقد جرى مثل ذلك من أراذل العرب وأدعياء النبوة الكاذبة جماعة كالأسود العنسي2 باليمن، ومسيلمة3 باليمامة، وطليحة4، وسجاح5

_ 1 رسالة بطرس الثانية 1/21، 2/1-3. 2 اسمه: عيهلة بن كعب، يلقب ذا الخمار، لأنه كان معتمراً مختمراً أبداً، ادعى النبوة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الأسود رجلاً مشعبذاً يريهم الأعاجيب، وكانت ردته أوّل ردة في الإسلام، وجاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى من بقي من المسلمين باليمن بقتله، فقتله أحدهم، وقد كانت فترة ملكه منذ ظهر إلى أن قتل ثلاثة أشهر سنة اهـ. (ر: البداية 6/306-311، الكامل في الأثير 2/336-338، الأعلام /111) . 3 مسيلمة بن ثمامة بن كبير الحنفي الوائلي، ولد باليمامة، ويتلقب برحمن اليمامة، وهو أحد من وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 9هـ، من بني حنيفة، وبعد عودة الوفد ارتد مسيلمة وادعى النبوة، فأرسل إليه أبو بكر الصّدّيق بقيادة خالد بن الوليد فهزموا جيش مسيلمة وقتله وحشي بن حرب قاتل حمزة، وذلك سنة 11هـ. (ر: البداية 5/50، 51، 6/320-327، الكامل 2/361، 362، الأعلام 8/125) . 4 طليحة بن خويلد الأسدي، كان من أشجع العرب، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني أسد سنة 9هـ، وبعد رجوعهم ارتد طليحة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وادّعى النبوة، فأرسل إليه أبو بكر جيشاً بقيادة خالد وهزموا جيش طليحة الذي فرّ مع زوجته إلى الشام ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وبايع عمر بن الخطاب، ثم لحق بجيش المسلمين وأبلى في الجهاد بلاء حسناً حتى استشهد بنهاوند سنة 21هـ. (ر: البداية 6/318، الكامل 2/343، 348، الأعلام 3/230) . 5 سجاح بنت الحارث بن سويد التغليبة، وكانت من نصارى العرب، وادعت النبوة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وحدوث الرّدّة في القبائل، وقد اجتمع معها مسيلمة الكذاب، وأقامت في قومها بني تغلب إلى زمان معاوية فأجلاهم عنها عام الجماعة، ويذكر أنها أسلمت وحسن إسلامها وانتقلت إلى البصرة ومات بها سنة 55هـ، وأنه صلى عليها سمرة بن جندب عامل معاوية إذ ذاك على البصرة، وقيل: غير ذلك. (ر: البداية 6/319-321، الكامل 2/354-357، الأعلام 3/78) .

في آخرين فحام على أكثرهم حَمَام الحِمام1 وصُرعوا بسيوف أهل الإسلام، وأحق الله الحقّ وأبطل الباطل وحَلَّى نبيه حلية الرسالة وعطل العاطل. فإن قيل: قال المسيح في الإنجيل: "إنه سيقوم مسيح كذاب وأنبياء كذبة ويأتون بآيات وعلامات فيضلوا الناس إن قدروا على ذلك". وحتى يتم / (2/184/ب) ما قاله دانيال عليه السلام في نبوته2. قلنا: أما [المتنبؤون] 3 فقد ذكرنا مجيئهم وكيف أكذبهم الله وأبادهم، وأما المسيح الكذاب فهو الدجال الكذاب الضالّ المضل الذي حذرته الأنبياء قومهم، وقال فيه نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم: "إنه جعد4 قطط5 أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية، أشبه الناس بعبد العزى6 بن قطن"7.

_ 1 الحمام: ككتاب: قضاء الموت وقدره. (ر: القاموس ص 1417) . 2 ورد النّصّ في إنجيل متى 34/5-15، في سياق طويل، وقد ذكره المؤلِّف مختصراً كما ورد في نفس الإصحاح 24/24، ما يأتي: "لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنيباء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضاً". 3 في ص، م (المتنبئين) والصواب ما أثبتّه. 4 جَعْد: الجِعد في صفات الرجال يكون مدحاً وذماً، فالمدح، معناه: أن يكون شديد الأسْر والخلق، أو يكون جعد الشعر، وهو ضدّ السِّبْط، لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم. وأما الذمّ، فهو: القصير المتردد الخلْق، وقد يطلق على البخيل أيضا. (ر: النهاية 1/275) . 5 القطط: الشديد الجعودة. (ر: النهاية 4/81) . 6 عبد العزى بن قطن بن عمرو الخزاعي، من بني المصطلق من خزاعة، وأمه هالة بنت خويلد، وليس له صحبة، فقد هلك في الجاهلية. (ر: فتح الباري 6/488، 13/101) . 7 أخرجه البخاري في كتاب الفتن باب (26) . (ر: فتح الباري 30/90) ، ومسلم 1/155، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وأخرحه مسلم 4/51، 52، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه في سياق طويل.

"بين عينيه: (ك ف ر) ، يقرأ كل مؤمن ومؤمنة كاتب وغير كاتب"1. "تتقدمه سوء مجاعة"2. فقال أعرابي: "بأبي أنت يا رسول الله بلغني أن الدجال الكذاب يجيء إثر جوع ومعه جبال من الثريد، أترى لي صلى الله عليك أن أتبطن من ثريده حتى إذا تضلعت آمنت بالله وكفرت بالدجال. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إذاً يكفيك الله بما يكفي به المؤمنين"3.

_ 1 أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 13/91، ومسلم 4/2248، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه مسلم 4/2249، عن حذيفة رضي الله عنه. قال الإمام النووي: "الصحيح الذي عليه المحقّقون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقية، جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره، وكذبه وإبطاله، يظهرها الله تعالى لكل مسلم، كاتب وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا امتناع في ذلك". اهـ،. (ر: شرح النووي لصحيح مسلم 18/60، فتح الباري 13/100) . 2 أخرجه أحمد في المسند 6/455، 456، من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجال، فقال: "إن بين يديه ثلاث سنين ... ، الحديث في سياق طويل. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/347، 348: "رواه كله أحمد والطبراني من طرق، وفي إحدها: "يكون قبل خروجه سنون خمس جدب"، وفيه شهر بن حوشب وفيه ضعف وقد وثق". اهـ. قلت: شهر بن حوشب الأشعري، مولى أسماء بنت يزيد، صدوق، كثير الإرسال والأوهام، وقد تقدم. (ر: ص: 833) . وله شاهد من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه. (ر: ضعيف ابن ماجه ص 329) . 3 لم أقف على من رواه بهذا اللفظ، ولكن ورد في الحديث الصحيح أن مع الدجال جبل خبز ونهر ماء. أخرجه البخاري. (ر: فتح الباري 13/89) ، مسلم 4/54، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

واعلم أن قصة الدجال مشهورة عند سائر1 الأمم، ولم يبعث نبي بعد نوح عليه السلام إلاّ وقد حذّره قومَه2، وقصة صاف3 بن صياد صحيحة / (2/185/أ) عند أهل الحديث4 ونحن نؤثر الاختصار.

_ 1 أجمع أهل السنة والجماعة على خروج الدجال في آخر الزمان، فإن الإيمان بذلك واجب يدخل ضمن الإيمان باليوم الآخر، لأنه من أشراط الساعة الكبرى ومن أنكر خروجه فقد خالف ما دلت عليه الأحاديث المتواترة وخالف ما عليه أهل السنة الجماعة، ولم ينكر خروجه إلاّ بعض المبتدعة كالخوارج والجهمية وبعض المعتزلة وبعض الكتاب العصريّين والمنتسبين إلى العلم كالشيخ محمّد عبده، والشيخ محمّد فهيم أبو عبية، وغريهم ممن لم يعتمدوا على حجة صحيحة يدفعون بها النصوص المتواترة سوى عقولهم وأهوائهم ومثل هؤلاء لا عبرة بهم ولا بقولهم، والواجب على المؤمن الإيمان بما صحّ الله ورسوله واعتقاد ما يدلّ عليه، لأن مقتضى الإيمان بالله ورسوله هو التسليم لما جاء عنهما والإيمان به. والله أعلم. 2 أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب (3) . (ر: فتح الباري 6/370) ، ومسلم 4/1145، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: "إني لأنذركموه. ما من نبي إلاّ أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومَه ... " الحديث. 3 صاف - ويقال: عبد الله بن صياد - أبو صائد كان من يهود المدينة، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أعور مختوناً، وكان دجالاً يتكهن أحياناً فيصدق ويكذب، وقد فُقد ابن صياد يوم الحرة، وذكره الذهبي في التجريد وقال: إنه أسلم فهو تابعي، له رؤية. وقد التبس على العلماء ما جاء في ابن صياد وأشكل عليهم أمره: فقال بعضهم: إنه غير الدجال الأكبر، وإليه ذهب البيهقي وابن تيمية وابن كثير. قال بعضهم: إنه الدجال، وإليه ذهب القرطبي، والنووي والشوكاني فيما يفهم من كلامهما. ولكل منهم دليله فيما ذهب إليه. (ر: التجريد 1/319، التذكرة ص 702، للقرطبي، شرح النووي لصحيح مسلم 18/46، 47، نيل الأوطار 7/230، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 77، النهاية 1/173، لابن الأثير، الإصابة 5/136، أشراط الساعة ص 283-304، يوسف الوابل) . 4 ابن صياد وما جاء فيه من الأحاديث أخرجها البخاري. (ر: فتح الباري 3/318، 13/223) ، ومسلم 4/2240-2247، وأحمد في المسند 5/148، وغيرهم.

قد شهد يوحنا الإنجيلي أن المسيح الكذاب الآن موجود في الدنيا غير أنه لم يظهر بعد، فقال في الفصل الرابع من رسالته الأولى: "إن المسيح الكذاب الذي سمعتم به سيأتي، وإنه الآن في العالم"1. وذلك مصدق لما ذكره محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ابن صياد اليهودي2. وقد أطنب فولس في ذكره في الرسالة التاسعة وحذر إخوانه من فِتنَتِهِ فقال: "يا إخواني أطلب إليكم ألا تعجلوا ولا تشدهوا من كلمة ولا من روح ولا من رسالة تأتيكم، فإنه لعل إنساناً يطغيكم بنحو من الأنحاء، وليس يكون ذلك حتى يأتي [الارتداد] 3 أولاً ويظهر إنسان الخطيئة ابن البوار الصداد اللدان، ويستكبر على كلٍّ وحتى يجلس في هيكل الله ويخبر عن نفسه، وإنما هو الأثيم الذي يأتي في آيته بالقوى والآيات والعجائب الكاذبة ومكائد الشيطان، وجسد يبيده سيدنا يسوع المسيح بروح فيه"4. وقد شهد يوحنا / (2/185/ب) الإنجيلي في رسالته الأولى أن الدجاجلة من بني إسرائيل لا من غيرهم، فقال: "إن هذه الساعة هي آخر الزمان وقد

_ 1 رسالة يوحنا الأولى 4/3، كالآتي: "وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي، والآن هو في العالم". 2 ورد في حديث تميم الداري رضي الله عنه أنه رأى المسيح الدجال في جزيرة في البحر، وقد صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. أخرجه الإمام مسلم 4/2261-2264، عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها في سياق طويل. 3 في ص، م (العتو) والتصويب من النّصّ. 4 رسالة بولس إلى تسالونيكي 2/1-12، في سياق طويل بألفاظ متقاربة، وقد اختصر المؤلِّف بعضه.

سمعتم أنه يجيء المسيح الكذاب، والآن قد كان مسيحون كذابون كثيرون ومِنَّا خرجوا"1. فأخبر أن الدجاجلة الكذابين من بني إسرائيل لا من بني إسماعيل2، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة [دجالين كذابين] 3 قريباً من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله". وفي راوية: "فيهم أربع نسوة"4. فإن قيل: كيف يجوز إجراء الخوارق على يدي أرباب المخارق. قلنا: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني5: "أما على يد مُدَّعي النبوة فلا، وأما على يد مدعّي الربويبة فنعم. إذا الأوّل يؤدي إلى إفحام الرسل والتباس دليل التصديق على المكلّفين بخلاف ذلك في مدعي الربوبية فإن سمات الحدث عليه ظاهرة"6.

_ 1 رسالة يوحنا الأولى 2/18، كالآتي: "أيها الأولاد هي الساعة الأخيرة، وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون، من هنا نعلم أنها الساعة الأخيرة. منا خرجوا". 2 إن اليهود ينتظرون المسيح الدجال ويزعمون أنه من سلالة داود عليه السلام، وقد ورد في الحديث الصحيح أن الدجال يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان. أما النصارى فإنهم ينتظرون مسيح الضلالة ويزعمون أنه المسيح الذي قتله وصلبه اليهود وأنه ابن الله وسيأتي يوم القيامة لمحاسبة الخلائق. وأما المسلمون فإنهم ينتظرون - تصديقاً للصادق الأمين صلى الله عليه وسلم - مسيح الهدى عيسى بن مريم عبد الله ورسوله فيكسر الصليب ويقتل المسيح الدجال والخنْزير ويحكم بشريعة محمّد صلى الله عليه وسلم. 3 في ص، م (دجالون كذابون) والصواب ما أثبتّه. 4 تقدم تخريجه. (ر: ص: 827) . 5 نقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني أنه ينفي الكرامة ولا يرى جوازها، وبأن خوارق العادة لا تكون إلاّ لنبي. وهو بذلك يوافق مذهب المعتزلة. (ر: النبوات ص 5، لابن تيمية، شرح جوهرة التوحيد ص 154، للبيجوري) . 6 قال النووي: "قال المازري: إن قيل: إظهار المعجزة على يد الكاذب ليس بممكن، وكيف ظهرت هذه الخوارق للعادة على يده؟ فالجواب: أنه إنما يَدَّعي الربوبية، وأدلة الحدوث تخل ما ادعاه وتكذبه، وأما النبيّ فإنما يَدَّعي النبوة وليست مستحيلة في البشر، فإذا أتى بدليل لم يعارضه شيء صُدِّق. وأما قول الدجال (أرأيتم إن قلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا) . فقد يُسْتَشْكَل لأن ما أظهره الدجال لا دلالة فيه لربوبيته لظهور النقص عليه ودلائل الحدوث وتشويه الذات وشهادة كذبه وكفره المكتوبة بين عينيه وغير ذلك". اهـ. (ر: شرح النووي لصحيح مسلم 18/71، 72) . وقال ابن حجر: "قال الخطابي: فإن قيل: كيف يجوز أن يجري الله الآية على يد الكافر؟ فإن إحياء الموتى آية عظيمة من آيات الأنبياء فكيف ينالها الدجال وهو كذاب مفترٍ يدّعي الربوبية؟ فالجواب: أنه على سبيل الفتنة للعباد، إذ كان عندهم ما يدل على أنه مبطل غير محقّ في دعواه، وهو أنه أعور مكتوب على جبهته: (كافر) يقرأه كل مسلم، فدعواه داحضة مع وسم الكفر ونقص الذات والقدر، إذ لو كان إلهاً لأزال ذلك من وجهه، وآيات الأنبياء سالمة من المعارضة فلا يشتبهان". اهـ. ونقل الحافظ أيضاً بنحو كلام الخطابي عن الطبري وابن العربي. (ر: فتح الباري 13/103) .

والذي ارتضاه الأئمة أن الله يفعل ما يريد ويضل من يشاء من العبيد غير أن الكاذب ينتج الله له [ما يُكَذِّبه] 1 ويناقضه، أو يخلق العلم الضروري بالمكلّفين بكذبه2. والذي يدل على جريان الخارق على يد المارق نصّ التوراة والإنجيل والقرآن والسنة كما تقدم. والله أعلم وأحكم. نجز الكتاب الملقَّب بـ: [تخجيل مَنْ حَرَّفَ الإِنْجِيلَ] ولله الحمد، رحم الله مَنْ قرأه ودعا لمؤلِّفه بالرحمة والرضوان وكاتبه وجميع المسلمين. وصلى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وأتباعه وذرّيّاته والتابعين وتابع التابعين إلى يوم الدين.

_ 1 بياض في ص، م، والكلمة المثبتة من اجتهاد المحقِّق لموافقته سياق الكلام. والله أعلم. 2 قال ابن العربي: "الذي يظهر على يد الدجال من الآيات من إنزال المطر والخصب على من يُصَدِّقه والجدب على من يكذبه، واتباع كنوز الأرض له، وما معه من جنة ونار ومياه تجري، كلّ ذلك محنة من الله واختبار ليهلك المرتاب وينجو المتيقن، وذلك كله أمرٌ مُخَوِّف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا فتنة أعظم من فتنة الدجال"، وكان يستعيذ منها في صلاته تشريعاً لأمته". اهـ. (ر: فتح الباري 13/103) . وبنحو ذلك ذكره ابن كثير في البداية 1/165.

خاتمة البحث الحمد لله فاتحة كل خير وخاتمة كلّ نعمة، أحمده عزوجل وأشكره على توفيقه وعونه، وعلى جميع نعمه الظاهرة والباطنة وبعد. فإن مَنْ أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال بحثي ما يأتي: 1- إن الاطلاع على الكتاب المقدسة عند أهل الكتاب وغيرهم جائز لأهل العلم ممن أراد مجادلتهم وبيان ما فيها من التحريف والتبديل والباطل، وإنه غير جائز للعامي والحدث الغر من الناس. 2- إن مجادلة اليهود تكون في الأمور الآتية: - إثبات وقوع النسخ في شريعتهم من التوراة وما يتبعها من الكتب المقدسة لديهم. - بيان مواطن التحريف والتبديل والتناقض في كتبهم المقدسة وإثبات عدم حجيتها وصلاحيتها. - بيان بطلان عقائدهم الفاسدة وأقوالهم الباطلة في الذات الإلهية والنبوة والأنبياء اليوم الآخر وغيرها. - إظهار فصائحهم المخزية وأفعالهم القبيحة خلال تاريخهم. - إثبات نبوة عيسى عليه السلام. - إثبات نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم ونسخ الإسلام للشرائع السابقة. 3- إن مجادلة النصارى تكون في الأمور الآتية:

- إثبات وحدانية الله عزوجل وتنْزيهه عن الضد والند والولد. - إثبات بشرية المسيح عليه السلام وعبوديته لله عزوجل. - بطلان أسس العقيدة النصرانية المنحرفة (التثليث والاتّحاد، صلب المسيح تكفيراً عن الخطيئة، محاسبة المسيح للناس يوم القيامة) . - نقد قانون الأمانة. - تفسير الألفاظ التي ضلّ فيها النصارى في كتبهم المقدسة لديهم. - بيان مواطن التحريف والتبديل والتناقض في كتبهم المقدسة لديهم. - إظهار فضائح اعتقاداتهم وعباداتهم وطقوسهم وحيل رهبانهم وأحبارهم. -إثبات نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم ونسخ الإسلام للشرائع السابقة. 4- إن دلائل نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم متنوعة ومتعددة، فمنها بشارات الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم، والإرهاصات السابقة لبعثته صلى الله عليه وسلم، والمعجزات الكثيرة ومن أعظمها معجزة القرآن الكريم الخالدة، ودعوته صلى الله عليه وسلم إلى مكارم الأخلاق وكمال شريعته، وسيرته صلى الله عليه وسلم وأحواله قبل البعثة وبعدها، وتأييد الله له بالنصر والتمكين في الأرض، وسيرة أصحابه - رضي الله عنهم - الذين حملوا لواء الدعوة من بعده، وكرامات الأولياء والصالحين من أمته صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الدلائل التي تكفي مفرداتها في إثبات النبوة والرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بمجموعها؟!!. 5- إن ما توصل إليه علماء المسلمين قديماً من نتائج في علم الأديان مثل: بيان بعض مواطن التحريف والتناقض في الكتب المقدسة، وإن

النصرانية الحالية (المنحرفة) من مبتدعات بولس واختراعاته وغير ذلك من التنائج تؤكده أبحاث الباحثين المعاصرين من اليهود والنصارى وأقوال مفكريهم وأحبارهم. وهذا دليل على أسبقية علمائنا المسلمين ودقة ملاحظاتهم واستنتاجاتهم. 6- إن في السنة النبوية المطهرة مادة غنية يستفيد منها الباحث في علم الأديان، ينبغي الاستفادة منها ودراستها دراسة مستفيضة من هذا المنظور.

_ وأما التوصيات التي أقترحها فمنها: 1- ينبغي تدريس العقيدة الإسلامية الصحيحة مقرونة بأدلتها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأئمة السلف، ثم الاهتمام بتدريس مادة الأديان الفرق في الكلّيّات والجامعات الإسلامية لتثبيت العقيدة الصحيحة ولما لها نم الفوائد الكثيرة، خاصة في البلاد الإسلامية التي تواجه حملات التنصير والاستشراق والغزو الفكري. 2- أن يضاف إلى منهج مادة الأديان والفرق بالجامعة الإسلاميّة دراسة الهندوسية والبوذية وبعض الوثنيات الأخرى المعاصرة بدل الاقتصار على اليهودية والنصرانية، حيث إن طلاب الجامعة الإسلاميّة يمثلون شتى بقاع الأرض ويواجهون مختلف الأديان والفرق، لذلك ينبغي توجيههم وإعدادهم للمسؤولية الملقاة على عاتقهم. 3- ينبغي أن لا تقتصر دراسة الأديان والفرق على الدراسة الوصفية أو التاريخية، وإنما يجب أن تكون دراسة نقدية تميز بين الصحيح والباطل والخبيث الطيب، وتسلّح الطلاب ببعض أساليب المجالسة وأدوات الهجوم والنقد للعقائد الباطلة والأفكار الفاسدة.

4- الاستفادة من تراث علمائنا المسلمين في علم الأديان - خاصة في مجال نقد الكتب المقدسة عند اليهودية والنصارى - عن طريق ترجمتها وتبسيطها ونشر الأجزاء النقدية منها في كتيبات صغيرة ليسهل توصيل ما بها من المعلومات النقدية إلى الشخص العادي من اليهود والنصارى وغيرهم وتعريفهم بما في كتبهم المقدسة لديهم من مواطن الضعف والقصور، وإبراز البديل لأديانهم الباطلة وهوالإسلام الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 5- المتابعة المستمرة لخطط التنصير والاستشراق والغزو الكفري وفضح أهدافها وأساليبها وبيان أخطارها ووضع الخطط الكفيلة بمقاومتها. والله أعلم. اللهم اغفر لي فيما أذنبت لا تؤاخذني فيما أخطأت وتقبل مني فيما قدمت ... فأنت نعم الولي ونعم النصير. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس المراجع: - القرآن الكريم. 1- أبحاث الفكر اليهودي - د. حسن ظاظا، الطبعة (1) ، دار القلم، بيروت، دمشق 1407هـ. 2- أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية د. جميل عبد الله المصري، الطبعة (1) ، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، 1410هـ/ 1989م. 3- أثناسيوس الرسولي (القديس) - الأبّ متى المسكين، الطبعة (1) ، مطبعة دير القديس أنبار مقار، وادي النطرون، القاهرة، 1981م. 4- الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة - للإمام القرافي (شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي ت 682هـ) ، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406هـ/ 1986م، ونسخة أخرى بتحقيق الطالب ناجي محمّد داود - رسالة دكتوراه مقدمة في جامع أم القرى بمكة للعام الجامعي 1405-1405هـ. 5- أحكام الجنائز وبدعها - للمحدِّث محمّد ناصر الدّين الألباني، الطبعة (4ت) ، المكتب الإسلامي، بيروت 1406هـ. 6- الإحكام في أصول الأحكام - للآمدي (سيف الدين أبو الحسن عليّ بن أبي عليّ ت 631هـ) مكتبة محمّد عليّ صبيح، القاهرة، 1387هـ. 7- أخبار بطاركة كرسي المشرق من كتاب المجدل - عمرو بن متى، طبعة روما، مكتبة المثنى، بغداد، 1896م. 8- أخبار بطارقة كرسي المشرق من كتاب المجدل - ماري سليمان، طبعة روما، مكتبة المثنى، بغداد، 1896م. 9- اختلافات في تراجم الكتاب المقدس وتطورات هامة في المسيحية - اللواء أحمد عبد الوهّاب، الطبعة (1) ، القاهرة. 10- الأدب الجدلي والدفاعي في اللغة العربية بين المسلمين والنصارى واليهود - للمستشرق الألماني: مورتز شتاينشنيدر (باللغة الألمانية) ، طبع لاينبرج عام 1877م، وأعيد طبعه عام 1966م، بفيسبادن - ألمانيا.

POLEMISCHE UND APOLOGE TSCHE LITERATUR IN ARABISCHER SPACHE ZWISCHEN MUSLIMEN CHRISTEN UNOJUDEN, MORITZ STEINS CHNEIDER 11- أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية - للإمام أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: عبد الرحمن دمشقية، الطبعة (1) ، 1408هـ/ 198م. 12- أدلة اليقين في الرّدّ على كتاب ميزان الحقّ وغيره من مطاعن المبشرين - عبد الرحمن الجزيري، الطعبة (1) ، مطبعة الإرشاد، القاهرة، 1353هـ/ 1934م. 13- أسباب نزول القرآن - لأبي الحسن عليّ بن الواحدي، تحقيق: السيد أحمد صقر، الطبعة (2) ، دار القبلة، جدة، 1404هـ/ 1984م. 14- الاستيعاب في معرفة الأصحاب - لابن عبد البرّ (الإمام يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البرّ ت 463هـ) ، تحقيق: عليّ محمّد البجاوي، مكتبة نهضة مصر، القاهرة. 15- أسد الغابة في معرفة الصحابة - لعز الدين ابن الأثير - (أبي الحسن عليّ بن محمّد الجرزي ت 630هـ) ، كتاب الشعب - القاهرة. 16- إسرائيل حرفت الأناجيل والأسفار المقدسة - المهندس أحمد عبد الوهّاب، الطبعة (1) ، مكتبة وهبه، القاهرة، 1972م. 17- أسرار الكنيسة السبعة - الإرشيديا كون حبيب جرجس، الطبعة (6) ، مكتبة المحبة، القاهرة، 1977م. 18- الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام - د. عليّ بن عبد الواحد وافي - دار نهضة مصر - القاهرة. 19- الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة - للخطيب البغدادي (الحافظ أبي بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغدادي ت 463هـ) تحقيق: د. عزّ الدين على السيد الطبعة (1) ، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1405هـ/ 1984م. 20- الإصابة في تمييز الصحابة-لابن حجر (الحافظ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني ت 852هـ) دار الكتب العلمية - بيورت. 21- أصول الدين - للرازي (فخر الدين محمّد بن عمر الخطيب الرازي ت 606هـ) تحقيق: طهَ عبد الرؤوف، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.

22- أصول الدين - للبغدادي (أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي ت 429هـ) ، الطبعة (2) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ/ 1980م. 23- الأصول والفروع - لابن حزم (الإمام أبي محمّد عليّ بن أحمد ابن حزم ت 456هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت 1404هـ/ 1984م. 24- إظهار الحقّ - للشيخ رحمة الله الهندي، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، دار التراث العربي، القاهرة. 25- اعتقادات فرق المسلمين والمشركين - فخر الدين الرازي، مراجعة عليّ سامي النشار، مكتبة ألبا، مكّة المكرّمة، 1402هـ/ 1982م. 26- الأعلام - للأستاذ خير الدين الزركلي، الطبعة (5) ، دار العلم للملايين، بيروت 1980م. 27- الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام - للإمام القرطبي (أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي ت 671هـ) ، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، دار التراث العربي، القاهرة، ونسخة أخرى بتحقيق: الطالب فايز سعيد صالح عزام، رسالة دكتوراه مقدمة في جامعة أم القرى، بمكّة، للعام الجامعي 1405هـ. 28- الإعلام بمناقب الإسلام - لأبي الحسن العامري ت 381هـ، تحقيق: أحمد عبد الحميد غراب، الطبعة (1ـ) ، مؤسسة دار الأصالة - الرياض، 1408هـ/ 1988م. 29- أعلام النبوة - للماوردي (أبي الحسن عليّ بن محمّد الماوردي الشافعي ت 450هـ) ، تحقيق: محمّد المعتصم بالله البغدادي، الطبعة (1) ،دار الكتاب العربي، بيروت،1407هـ/ 1987م. 30- أعلام النساء في عالمي العرب الإسلام، عمر رضا كحالة، الطبعة (3) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1397هـ/ 1977م. 31- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - لابن القيم (الإمام أبي عبد الله محمّد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ت 751هـ) .

32- إفحام اليهود - للمهتدي السموآل بن يحيى المغربي ت 570هـ، تحقيق: د. محمّد عبد الله الشرقاوي، الطبعة (1) ، دار الهداية القاهرة، 1406هـ/ 1986م. 33- أقانيم النصارى - د. أحمد حجازي السقا - الطبعة (1) ، دار الأنصار، القاهرة. 34- الاقتصاد في الاعتقاد - لأبي حامد الغزالي، الطبعة (1ت) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ. 35- اقتضاء الصراط المستقيم ومخالفة أصحاب الجحيم - لابن تيمية (الإمام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية ت 728هـ) ، تحقيق: حامد الفقي، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ/ 1987م. 36- الله واحد أم ثالث - محمّد مجدي مرجان، دار النهضة العربية - مصر. 37- الله واحد في الثالوث القدوس - القمص زكريا إبراهيم - الطبعة الرابعة، مركز العبية، السويس، مصر. 38- الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية - نجم الدين الطوفي (سليمان بن عبد القوي الطوفي الصرصري ت 716هـ) ،تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، مطبعةدارالبيان، مصر. 39- إنجيل برنابا - تحقيق: سيف الله أحمد فاضل، الطبعة (2) ، دار القلم - الكويت - 1403هـ. 40- إنجيل نور لحياتي - إصدار الكنيسة القبطية - القاهرة. 41- الإنجيل والصليب - الأستاذ عبد الأحد داود - القاهرة - 1351هـ. 42- أهل الذمة في مصر العصور الوسطى - د. قاسم عبده قاسم، الطبعة (1) ، دار المعارف، القاهرة، 1977م. 43- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، إسماعيل باشا البغدادي، دار العلوم الحديثة، بيروت. 44- بدائع الزهور في وقائع الدهور - لأبي البركات محمّد بن أحمد ابن إياس الناصري الحنفي، تحقيق: محمّد مصطفى، الطبعة (2) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1402هـ/ 1982م.

45- البداية والنهاية لابن كثير (الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير ت 774هـ) ، دار الفكر العربي، القاهرة. 46- البهران في عقائد أهل الأديان، للسككي الحنبلي (العلامة أبي الفضل عباس بن منصور التريني ت 683هـ) ، تحقيق: د. بسام عليّ العموش الطبعة (1) ، مكتبة المنار، الأرد، 1408هـ/ 1987م. 47- بنو إسرائيل في الكتاب والسنة - د. محمّد سيد طنطاوي، الطبعة (1) ، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1407هـ/ 1987م. 48- البيان والإعراب - للمقريزي (تقي الدين أحمد بن عليّ المقريزي ت 845هـ) المحموديةالتجارية، القاهرة،1356هـ. 49- بينات المعجزة الخالدة - د. حسن ضياء الدين عتر، دار النصر، حلب، 1395هـ. 50- تأويل مختلف الحديث للإمام ابن قتيبة الدينوري ت 276هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. 51- تاج العروس من جواهر القاموس - للزبيدي (محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي ت 1205هـ) ، تحقيق: إبراهيم الترزي: إصدار وزارة الإعلام بالكويت سنة 1392هـ/ 1972م. 52- تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي - د. حسن إبراهيم حسن، الطبعة (1) ، مكتبة النهضة المصرية، القاهرية، 1967م. 53- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - للذهبي (للسنوات 663-680هـ) ميكروفيلم بدار الكتب المصرية تحت رقم 10761 تاريخ، القاهرة. 54- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام (السيرة النبوية، المغازي، عهد الخلفاء الراشدين، للذهبي (الحافظ شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748هـ) ، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري وغيره، الطبعة (1) ، دار الكتاب العربي، بيروت 1407هـ/ 1987م. 55- تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان، (باللغة الألمانية) .

56- تاريخ الإسرائيليين - شاهين بك مكاريوس، مطبعة المقتطف بمصر، 1904م. 57- تاريخ الكنائس والأديرة في القرن الثاني عشر الميلادي - لأبي المكارم، إعداد وتعليق الراهب صموئيل السرياني. 58- التاريخ الكبير - للإمام البخاري (محمّد بن إسماعيل ت 256هـ) ، دار الكتب العلمية - بيروت. 59- تاريخ الكنيسة - يوسابيوس القيصري، ترجمة القصص مرقس داود - مكتبة المحبة، القاهرة، 1979م. 60- تاريخ المسيحية (المسيحية في العصور الوسطى) - جاء المنفلوطي، دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية، القاهرة. 61- التاريخ المجموع - سعيد بن البطريق (البطريق أفيتشيوس) ، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت، 1905م. 62- تاريخ المسيحية (فجر المسيحية) ، حبيب سعيد. 63- تاريخ الأمم والملوك - لابن جرير الطبري (الإمام محمّد بن جرير الطبري) ، الطبعة (4) ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1403هـ/ 1983م. 64- تاريخ بغداد أو مدينة الإسلام، للخطيب البغدادي (أحمد بن عليّ الخطيب ت 463هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت. 65- تاريخ دمشق، لابن عساكر (الحافظ عليّ بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر ت 571هـ) ، صورة مخطوطة بمكتبة الظاهرية بدمشق، نشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة 1407هـ. 66- التبصير في الدين - لأبي المظفر الإسفرايئني ت 471هـ، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الطبعة (1) ، عالم الكتب، بيروت، 1403هـ/ 1983م. 67- تثبيت دلائل النبوة - للقاضي عبد الجبار (عبد الجبار بن أحمد الهمذاني تحقيق: د. عبد الكريم عثمان، دار العربية، بيروت. 68- تجريد أسماء الصحابة، للحافظ الذهبي، دار المعرفة، بيروت.

69- تحفة الأريب في الرّدّ على أهل الصليب - لأبي محمّد عبد الله الترجمان الميورفي ت 832هـ، تحقيق: عمر وفيق الداعون، الطبعة (1) ، دار البناء الإسلامية، بيروت، 1408هـ. 70- ترانيم ومدائح منتخبة، مكتبة المحبة، القاهرة. 71- تعجيل المنعفة بزوائد رجال الأئمة الأربعة - لابن حجر العسقلاني ت 852هـ) ،طبعة دار المحاسن، القاهرة،1966م. 72- تفسير القرآن العظيم - للإمام ابن كثير ت 774هـ، الطبعة (1) ، دار المعرفة بيروت، 1407هـ/ 1987م. 73- تقريب التهذيب - للحافظ ابن حجر، تحقيق: عبد الوهّاب عبد اللطيف - دار المعرفة، بيروت. 74- تلبيس إبليس، لابن الجوزي (جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي ت 597هـ) ، الطبعة (2) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ/ 1987م. 75- تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل - للقاضي أبي بكر الباقلاني (محمّد بن الطيب الباقلاني ت 403هـ) ، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، الطبعة (1) ، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1407هـ. 76- تنْزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة - عليّ بن محمّد بن عراق، مراجعة عبد الوهّاب عبد اللطيف وعبد الله الغماري، 1375هـ. 77- تنقيح الأبحاث للملل الثلاث: (اليهودية، المسيحية، الإسلام) - لسعد بن منصور بن كمونة اليهود، دار الأنصار، مصر. 78- تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر - تهذيب الشيخ عبد القادر بدران ت 1346هـ، الطبعة (2) ، دار المسيرة، بيروت، 1399هـ/ 1979م. 79- تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر، الطبعة (1) ، دار الفكر، بيروت، 1404هـ/ 1984م. 80- التوراة السامرية - ترجمة الكاهن السامري: أبو الحسن إسحاق الصوري، تحقيق: د. أحمد السقا، الطبعة (1) ، دار الأنصار، القاهرة، 1398هـ/ 1978م.

81- الثقات - لابن حبان (الحافظ أبي حاتم محمّد بن حبان التميمي البستي ت 354هـ) ، دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد - الهند 1398هـ. 82- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للإمام أبي جعفر الطبري، الطبعة (2) ، مطبعة الحلبي، مصر، 1388هـ/ 1968م. 83- الجامع الصحيح - للإمام البخاري (محمّد بن إسماعيل البخاري ت 256هـ) ، مع فتح الباري. 84- الجامع الصحيح - للإمام الترمذي (محمّد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي ت 279هـ) ، بتحقيق: أحمد محمّد شاكر، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1356هـ/ 1937م. 85- الجامع الصحيح للإمام مسلم (مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت 261هـ) ، بتقحيق: فؤاد عبد الباقي، الطبعة (1) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1375هـ/ 1955م. 86- الجامع لأحكام القرآن - للإمام القرطبي (أبي عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاري ت 671هـ) ، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، دار الكاتب العربي للطباعة، القاهرة، 1387هـ. 87- الجرح والتعديل - لابن أبي حاتم (عبد الرحمن بن أبي حاتم ت 377هـ) ، مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد، 1381هـ. 88- الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح - للإمام ابن تيمية، نشر السيّد عليّ صبح المدني، مطابع المجد التجارية، جدة. 89- الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين - لابن دقماق (إبراهيم بن محمّد بن أيدمر العلائي ت 809هـ) ، تحقيق: د. سعيد عاشور، إصدارات جامعة أم القرى بمكّة. 90- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة - جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت 911هـ، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة (1) ، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، 1387هـ/ 1967م. 91- الحروب الصليبية في المشرق والمغرب - محمّد العروسي المطوي، الطبعة (2) ، دار المغربي الإسلامي، بيروت، 1982م.

92- الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى - د. محمّد ربيع هادي المدخلي، الطبعة (1) ، مكتبة لينة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1409هـ/ 1988م. 93- حلّ مشاكل الكتاب المقدس - القس منسي يوحنا، مكتبة المحبة، القاهرة. 94- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - للحافظ أبي نعيم (أحمد بن عبد الله الأصفاني ت 430هـ) ، الطبعة (1) ، مطبعة السعادة، مصر، 1394هـ. 95- حول تاريخ الأنبياء عند بني إسرائيل، م. ص. سيجال، ترجمة: د. حسن ظاظا، دار القلم، دمشق بيروت،1407هـ/1987م. 96- حياة قسطنطين العظيم - يوسابيوس القيصر، ترجمة القمص مرقس داود، مكتبة المحبة، القاهرة، 1970م. 97- الخصائص الكبرى - للحافظ السيوطي (أبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ت 911هـ) ، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيوت، 1405هـ/ 1985م. 98- خطط المقريزي (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) - للإمام المقريزي (تقي الدين أحمد بن عليّ بن عبد القادر ت 845هـ) ، مطبعة بولاق، القاهرة، 1270هـ. 99- دائرة المعارف القرن البريطانية، الطبعة (15) ، في عام 1983م. THE NEW ENCYCLOPEDIA BRITANICA (READ REFERINCE) . 100- دائرة معارف العشرين - محمّد فريد وجدي، الطبعة (3) ، دار المعرفة، بيروت، 1971م. 101- دائرة المعارف القرن الأمريكية، طبعة عام 1959م. ENCYCLOPEDIA AMERICANA 102- دائرة المعارف اليهودية، أورشيلم - إسرائيل 1978م. ENCYCLOPEDIA JU-DAICA JERUSALAM – ISRAEL – 1978. 103- الداعي إلى الإسلام - للأنباري النحوي (كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد الأنباري ت 577هـ) ، تحقيق: سيد حسن باغجوان، الطبعة (1) ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1409هـ/ 1988م.

104- درء تعارض العقل والنقل - للإمام ابن تيمية، تحقيق: د. رشاد سالم، الطبعة (1) ، إصدار جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1399هـ/ 1979م. 105- دراسة تحليلية لإنجيل مرقس تاريخياً وموضوعياً، د. محمّد عبد الحليم مصطلى أبو السعد، الطبعة (1) ، مطبعة الجيلاوي، القاهرة، 1404هـ/ 1984م. 106- الدر المنثور في التفسير بالمأثور - للسيوطي (جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت 911هـ) ، المطبعة الميمنية - القاهرة. 107- الدرر في اختصار المغازي والسير - لابن عبد البرّ ت 463هـ، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، الطبعة (2) ، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، 1404هـ/ 1984م. 108- دلائل النبوة - للبيهقي (أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت 458هـ) ، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ/ 1985م. 109- دلائل النبوة - لأبي نعيم الأصفهاني ت 430هـ، تحقيق: د. محمّد رواس قلعة جي وعبد البرّ عباس، الطبعة (2) ، دار النفائس - بيروت، 1406هـ/ 1986م. 110- دلائل النبوة - للغريابي (الحافظ أبي بكر جعفر بن محمّد الغريابي ت 301هـ) ، تحقيق: محمود بن الحداد وأم عبد الله بنت محروس العسلي، دار طيبة، الرياض. 111- الدين والدولة في إثبات نبوة محمّد صلى الله عنه وسلم - عليّ بن ربن الطبري ت 247هـ، تحقيق: عادل نويهض، الطبعة (2) ، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1979م. 112- الديانات والعقائد في مختلف العصور - الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة (1) ، مكّة المكرّمة، 1401هـ/ 1981م. 113- ذيل مرآن الجنان - لليونيني البعلبكي (قطب الدين أبي الفتح موسى بن محمّد اليونيني ت 726هـ) ، الطبعة (1) ، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1374هـ/ 1954م. 114- الرّدّ الأثري المفيد على البيجوري في شرح جوهرة التوحيد - عمر بن محمود أبو عمر، الطبعة (1) ، دار الكتب الأثرية، الأردن، 1409هـ/ 1989م.

115- الرّدّ على النصارى - صالح بن الحسين الجعفري ت 668هـ، مخطوطة بمكتبة أيا صوفيا رقم 2246م بتركيا. 116- الرّدّ على النصارى - صالح بن الحسين الجعفري، تحقيق: د. محمّد محمّدِحسانين، الطبعة (1) ،مكتبة وهبة، القاهرة،1409هـ. 117- الرسالة السبعية بإبطال الديانة اليهودية - للمهتدي الحبر إسرائيل بن شموئيل الأورشليمي. تحقيق: عبد الوهّاب طويلة، الطبعة (1) ، دار القلم، دمشق، بيروت 1410هـ/ 1989م. 118- رسالة في اللاهوت والسياسة - باروخ سبينوزا، ترجمة د. حسن حنفي، الهيئة المصرية للتأليف، القاهرة، 1971م. 119- الروح للإمام ابن قيِّم الجوزية ت 751هـ، تحقيق: محمّد اسكندريلدا الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402هـ/ 1982م. 120- الروضة الأنف في شرح السيرة النبوة لابن هشام - للإمام عبد الرحمن السهيلي ت 581هـ، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، الطبعة (1) ،دار الكتب الحديثة، القاهرة،1387هـ/1967م. 121- الروضتين في أخبار الدولتين: النورية والصلاحية - لأبي شامة (شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي ت 665هـ) ، تحقيق: د. محمد حلمي محمّد أحمد، إصدار المؤسسة المصرية العامة بإشراف وزارة الثقافة المصرية. 122- السامريون واليهود - د. سيد فراج سيد، دار المريخ للنشر - الرياض. 123- سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - للإمام محمّد بن يوسف الصالحي ت 942هـ، تحقيق: د. مصطفى عبد الواحد، إصدار المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1392هـ/ 1972م. 124- سلسلة الأحاديث الصحيحة - للألباني (الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني) من منشورات المكتب الإسلامي، بيروت. 125- سلسلة الأحاديث الضعيفة - للألباني، من منشورات المكتب الإسلامي، بيروت.

126- السلوك لمعرفة دول الملوك - للمقريزي، نشر د. محمّد مصطفى، زيادة الطبعة (2) ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1970م. 127- السنكسار الجامع لأخبار الأنبياء والرسل والشهداء والقديسين - وضع الأنبا بطرس الجميل والأنبا ميخائيل والأنبا يوحنا وغيرهم، نشر مكتبة المحبة القبطية الأرثوذكسية، القاهرة. 128- سنن أبي داود - للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275هـ، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، دار الباز للنشر والتوزيع، بمكّة المكرّمة. 129- سنن الدارمي - لأبي محمّد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ت 255هـ، عناية محمّد أحمد دهمان - دار إحياء السنة النبوية - بيروت. 130- السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم، تأليف: مجموعة من اللاهوتيين، نشر وطبع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت، 1973م. 131- سنن النسائي - للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ت 303هـ، الطبعة (1) ، مطبعة الحلبي، 1383هـ/ 1964م. 132- السنة - لابن عاصم (الحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحّاك الشيباني ت 287هـ) ، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة - للشيخ محمّد ناصر الدين الألباني، الطبعة (1) ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400هـ. 133- سير أعلام النبلاء - للذهبي (الإمام شمس الدين محمّد بن أحمد الذهبي ت 748هـ) ، تحقيق: د. شعيب الأرناؤوط وزملائه، الطبعة (1) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402هـ/ 1982م. 134- السيرة النبوية - لابن هشام (أبي محمّد عبد الملك بن هشام الذهبي النحوي ت 218هـ) ، تحقيق: د. همام عبد الرحيم سعيد ومحمّد أبو صعيليك، الطبعة (1) ، مكتبة المنار، الأردن، 1409هـ/ 1988م. 135- شرح الشفا - عليّ القاري، مطبوع بهامش نسيم الرياض، الطبعة (1) ، المطبعة الأزهرية المصرية، 1327هـ. 136- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - للإمام اللالكائي (أبي القاسم هبة الله ابن الحسن بن منصور البطري اللالكائي ت 418هـ) ، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان، الطبعة (1) ، دار طيبة، الرياض.

137- شرح جوهرة التوحيد - إبراهيم بن محمّد البيجوري ت 1277هـ، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية - بيروت، 1403هـ/ 1983م. 138- شرح صحيح مسلم - للإمام النووي (محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف الخزامي ت 676هـ) ،المطبعة المصرية، القاهرة. 139- شرح العقيدة الطحاوية - للإمام ابن أبي العزّ الحنفي، الطبعة (4) ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1391هـ. 140- شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري - الشيخ عبد الله بن محمّد الغنيمان، الطبعة (1) ، مكتبة الدار بالمدينة، 1405هـ. 141- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن قيّم الجوزية ت 751هـ، تحرير الحساني حسن عبد الله، دار التراث، القاهرة. 142- شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل - للجويني (أبي المعالي إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478هـ) ، تحقيق: د. أحمد السقا، الطبعة (1) ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1398هـ/ 1978م. 143- الشفاء بتعريف حقوق المصطفى - للقاضي عياض بن موسى اليحصبي الأندلسي ت 544هـ) ، تحقيق: محمّد أمين قرة عليّ وزملائه، الطبعة (2) ، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، 1407هـ/ 1986م. 144- شمائل الرسول صلى الله عنه وسلم ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه، لابن كثير ت 774هـ، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت. 145- الشمائل المحمّدية - للإمام الترمذي ت 279هـ، إخراج: محمّد عفيف الزغبي، الطبعة (2) ، دار المطبوعات الحديثة، جدة 1406هـ/ 1986م. 146- صبح الأعشى في صناعة الإنشا - للقلقشندي (أبي العباس احمد بن عليّ القلقشندي ت 821هـ) ، نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية - المؤسسة المصرية لتأليف والترجمة، إشراف وزارة الثقافة المصرية.

147- الصحاح - للعلامة إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة (2) ، 1402هـ. 148- الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية - د. محمّد أمان بن عليّ الجاهي، الطبعة (1) ، إصدار المجلس العلمي بالجامعة الإسلاميّة، 1408هـ. 149- صفة الصفوة - لابن الجوزي (الإمام جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي ت 597هـ) ، تحقيق: محمود فاخوري ومحمّد رواس قلعة جي، الطبعة (2) ،دار الوعي، حلب،1389هـ/1969م. 150- الصليب في الإسلام - حبيب زيات - مطبعة القديس يولس في حريصا، 1935م. 151- صحيح الجامع الصغير وزيادته - للشيخ محمّد ناصر الدين الألباني، الطبعة (2) ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1406هـ. 152- صحيح سنن ابن ماجه - للشيخ محمّد نصار الدين الألباني، الطبعة (1) ، نشر مكتب التربية العربية لدول الخليج. 153- صحيح سنن النسائي - للشيخ محمّد نصار الدين الألباني، الطبعة (1) ، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، المكتب الإسلامي، بيروت، 1409هـ. 154- الضعفاء الكبير - للعقيلي (الحافظ أبي جعفر محمّد بن عمرو العقيلي ت 322هـ) ، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1404هـ/ 1984م. 155- ضعيف الجامع الصغير - للشيخ محمّد ناصر الدين الألباني، الطبعة (2) ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1408هـ، 1988م. 156- ضعيف سنن ابن ماجه - للشيخ الألباني، الطبعة الأولى، نشر مكتبة التربية العربية لدول الخليج. 157- طبقات الشافعية - للسبكي (تاج الدين أبي نصر عبد الوهّاب ابن تقي الدين ت 771هـ) ، تحقيق: عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي، الطبعة (1) ، مكتبة عيسى البابي الحلبي، القاهرة.

158- الطبقات الكبرى - لابن سعد (محمّد بن عبد الله بن سعد البصري ت 230هـ) ، دار صادر، بيروت، 1377هـ. 159- العبادات المسيحية، الأرشمندريت إلياس، القاهرة، 1981م. 160- العقائد الوثنية في الديانة النصرانية - محمّد طاهر التنير ت 1352هـ، تحقيق: محمّد بن إبراهيم الشيباني، الطبعة (1) ، مكتبة ابن تيمية الكويت، 1408هـ/ 1987م. 161- عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن - الشيخ حمود بن عبد الله التويجري، الطبعة (2) ، دار اللواء، الرياض، 1409هـ/ 1989م. 162- علاقة الإسلام باليهودية - أ. د. محمّد خليفة حسن أحمد، دار الثقافة للنشر، القاهرة، 1988م. 163- علل الحديث - لابن أبي حاتم (الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ت 327هـ) ، دار المعرفة، بيروت، 1405هـ/ 1985م. 164- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية - لابن الجوزي ت 597هـ، تحقيق: إرشاد الحقّ الأثري، فيصل آباد، لاهور، باكستان. 165- العلم الشامخ في إيثار الحقّ على الآباء والمشايخ - العلامة صالح بن مهدي المقبلي ت 1108هـ، الطبعة (2) ، دار الحديث، 1405هـ/ 1985م. 166- غريب الحديث، - للخطابي (الإمام أبي سليمان أحمد بن محمّد الخطابي البستي ت 388هـ) ، تحقيق: د. عبد الكريم العزباوي، إصدارات جامعة أم القرى بمكّة، 1402هـ/ 1982م. 167- الغزو الفكري والعالم الإسلامي - د. عليّ عبد الحليم محمود، الطبعة (2) ،مكتبة عكاظ للنشر والتوزيع،1402هـ/1982م. 168- الفارق بين المخلوق والخالق - باجة دي زاده (الأستاذ عبد الرحمن بن سليم البغدادي) ، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. 169- فتاوى ابن تيمية - للإمام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة (1) ، مطابع الرياض.

171- فتح الباري شرح صحيح البخاري - لابن حجر العسقلاني ت 852هـ، تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز، دار المعرفة، بيروت. 172- فتح المنان في نسخ القرآن - عليّ حسن العريفي، الطبعة (1) ، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1973م. 173- الفصل في الملل والأهواء والنحل - للإمام ابن حزم الظاهري ت 456هـ، تحقيق: د. محمّد إبراهيم نصر، ود. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيرت، 1405هـ/ 1985م. 174- فضائل الصحابة ت للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: وصي الله بن محمّد عباس، الطبعة (1) ، إصدارات جامعة أم القرى، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403هـ/ 1983م. 175- الفكر الديني اليهودي - د. سحن ظاظا، الطبعة (2) ، دار القلم، بيروت، دمشق، 1407هـ. 176- فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية - لويس عرديه وج. قنواتي، ترجمة صبحي الصالح، ود. فريد جبر، الطبعة (1) ، دار العلم للملايين، بيوت، 1967م. 177- فهرس الكتاب المقدس - د. جورج بوست، الطبعة (5) ، مكتبة المشعل، بيروت. 178- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة - للإمام محمّد عليّ الشوكاني ت 1250هـ، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني-الطبعة (2) ،المكتب الإسلامي، بيروت، 1392هـ. 179- قاموس أكسفورد للكنيسة المسيحية (بالإنجليزية) . THE OXFORD DICTIONARY OF THE CHRISTIAN CHURCH – F.C. CROSS AND F.L. LIVINGSTONE. 180- القاموس الجديد العالمي للكنيسة المسيحية (بالإنجليزية) . THE NEW INTERNATIONAL DICTIONARY OF THE CHRISTIAN CHRUCH – J.D DOUGLAS.

181- قاموس الكتاب المقدس - جيمس هاستنج (باللغة بالإنجليزية) ، طبعة ابدنبورج بريطانيا الطبعة (2) ، 1963م. 182- قاموس الكتاب المقدس - تأليف: مجموعة من الأستاذة اللاهوتيين - القاهرة. 183- القاموس المحيط - للفيروزآبادي (مجد الدين محمّد بن يعقوب ت 817هـ) ،الطبعة (2) ،مؤسسة الرسالة، بيروت،1407هـ/ 1987م. 184- القبائل العربية في مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة - عبد الله خورشيد البري، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967م. 185- القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم - د. موريس بوكاي، دار المعارف، القاهرة. 186- قصص الأنبياء - للحافظ ابن كثير ت 774هـ، تحقيق: محمّد أحمد عبد العزيز، الطبعة (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ/ 1983م. 187- قصص الأنبياء - الأستاذ عبد الوهّاب النجار، الطبعة (3) ، دار إحياء التراث، بيروت. 188- قصة الحضارة - ول ديورانت، ترجمة محمّد بدران وغيره، بإشراف جامعة الدول العربية، الطبعة (3) ، القاهرة، 1973م. 189- قصة الكنيسة القبطية (تاريخ الكنيسة الأورثوذكسية المصرية) - إيريس حبيب المصري، الطبعة (5) ، مطبعة الكرنك، الإسكندرية، 1984م. 190- الكامل في ضعفاء الرجال - لابن عدي (الإمام الحافظ أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني ت 365هـ) ، تحقيق: يحيى مختار غزاوي، الطبعة (3) ، دار الفكر، بيروت، 1409هـ. 191- الكتاب المقدس - ترجمة تفسيرية - الطبعة (2) ، طبعة جي، سي. سنتر القاهرة. 192- الكتاب المقدس - طبعة دار الكتاب المقدس، القاهرة. 193- الكتاب المقدس - منشورات دار المشرق، بيروت، 1983م. كشف الأستار عن زوائد البراز - للحافظ نور الدين الهيثمي ت 807هـ. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة (1) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1979م.

195- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبد الله الشهير بـ (حاجي خليفة) ، دار العلوم الحديثة، بيروت، 1360هـ/ 1941م. 196- الكنْز الجليل في تفسير الإنجيل - د. وليم إدي، طبع ونشر مجمع الكنائس في الشرق الأدنى، بيروت، 1973م. 197- الكنْز المرصود في قواعد التلمود - د. روهلنج، ترجمة د. يوسف نصر الله، الطبعة (1) ، دار القلم، بيروت، دمشق، 1408هـ/ 1987م. 198- لب اللباب في تحرير الأنساب - جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، مكتبة المثنى، بغداد. 199- لسان العرب - لابن منظور (أبي الفضل جمال الدين بن مكرم ابن منظور الإفريقي) ، دار صادر، بيروت. 200- لسان الميزان - لابن حجر العسقلاني ت 852هـ، الطبعة (2) ، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1390هـ/ 1971م. 201- اللالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي ت 911هـ، بيروت، 1395هـ. 202- اللباب في تهذيب الأنساب - لابن الأثير الجزري (أبي المحاسن عليّ بن أبي الكرم الشيباني ت 630هـ) ، دار صادر - بيروت - 1400هـ/ 1980م. 203- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية-للإمام السفاريني، (محمّد بن أحمد السفاريني) ،المكتب الإسلامي، بيروت. 204- ما هي النصرانية؟ - الشيخ محمّد تقي العثماني، مكتب دار العلوم كراتشي، 1403هـ. 205- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - للحافظ الهيثمي (نور الدين عليّ بن أبي بكر الهيثمي ت 807هـ) ، مؤسسة المعارف، بيروت، 1406هـ/ 1986م. 206- المجتمع القبطي في مصر في القرن 19م، - رياض سوريال، مكتبة المحبة، القاهرة.

207- مجموعة الرسائل الكبرى - للإمام ابن تيمية ت 728هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 208- مجموعة الشرع الكنسي (قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة) ، جمع وترتيب الأرشمندريت حنانيا إلياس كاب، مطبعة النور، بيروت، 1975م. 209- محاضرات في النصرانية، الأستاذ محمّد أبو زهرة، الطبعة (3) ، دار الكتاب الحديث، الكويت. 210- محمّد رسول الله هكذا بشرت به الأناجيل، بشرى زخارى ميخائيل، الطبعة (2) ، عالم الكتب، القاهرة. 211- محمّد صلى الله عنه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن - إبراهيم خليل أحمد، دار المنار، القاهرة، 1409هـ/ 1989م. 212- محمّد في الكتاب المقدس - الأستاذ عبد الأحد داود، ترجمة فهمي شما، الطبعة (2) ، دار الضياء للنشر، قطر، 1405هـ. 213- محمّد نبي الإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن - الأستاذ محمّد عزت الطهطاوي، مطبعة التقدم، القاهرة. 214- المختار في الرّدّ على النصارى - للجاحظ (أبي عثمان عمرو ابن بحر الجاحز ت 255هـ) ، تحقيق: د. محمّد عبد الله الشرقاوي، الطبعة (1) ، دار الصحوة للنشر، القاهرة، 1405هـ/ 1984م. 215- مختصر علم اللاهوت - الحقير فرنسيس أيوب رئيس أساقفة حلب، منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت. 216- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة-للإمام ابن قيم الجوزية اختصره الشيخ محمّد بن الموصلي، مكتبة المتنبي، القاهرة. 217- المدخل إلى السنن الكبرى - للحافظ أبي بكر البيقهي ت 458هـ، تحقيق: د. محمّد ضياء الرحمن الأعظمي، دار الخلفاء لكتاب الإسلامي، الكويت. 218- المدخل إلى الكتاب المقدس - حبيب سعيد - نشر دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية بالقاهرة، بالاشتراك مع مجمع الكنائس بالشرق الأقصى.

219- مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء - أحمد ديدات - ترجمة عليّ الجوهري، دار الاعتصام، القاهرة. 220- المستدراك على الصحيحين في الحديث - للحافظ الحاكم (أبي عبد الله محمّد بن عبد الله النيسابوري ت 405هـ) ، وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي، طبع بإشراف د. يوسف المرعشلي، دار المعرفة، بيروت. 221- مسند الإمام أحمد بن حنبل - للإمام أحمد بن حنبل الشيباني ت 241هـ، الطبعة (2) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ/ 1978م. 222- المسيح إله أم إنسان؟ - محمّد مجدي مرجان، دار النهضة العربية، مصر. 223- المسيحية نشأتها وتطورها، شارل جنيبر، ترجمة: د. عبد الحليم محمود، المكتبة العصرية، صيدا. 224- مشكل الآثار - لأبي جعفر الطحاوي (الإمام أحمد بن محمّد ابن سلامة الأزدي) الطبعة (1) ، حيدر آباد - 1333هـ. 225- مشكاة المصابيح - للتبريزي (محمّد بن عبد الله الخطيب) ، تحقيق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1399هـ. 226- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير - أحمد بن محمّد المقري الفيومي ت 770هـ، المكتبة العلمية، بيروت. 227- مصر في العصور الوسطى، د. عليّ إبراهيم حسن، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة. 228- مصنف ابن أبي شيبة - لابن أبي شيبة (عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة العبسي، ت 235هـ) ، ضبطه كمال يوسف الحوت، الطبعة (1) ، دار التاج، بيروت، 1409هـ/ 1989م. 229- المعارف للإمام ابن قتيبة (أبي محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت 276هـ) ، الطبعة

_ (1) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ/ 1987م. 230- المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، محمّد محمد حسن شراب، الطبعة (1) ، دار القلم، دمشق، بيروت، 1411هـ/ 1991م.

231- معجم البلدان - ياقوت الحموي (شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، ت 626هـ) ، دار صادر، بيروت، 1376هـ/ 1957م. 232- المعجم الفلسفي - إصدار مجمع اللغة العربية بالقاهرة - عالم الكتب، بيروت، 1399هـ/ 1979م. 233- معجم قبائل العرب القديمة والحديثة - عمر رضا كحالة، الطبعة (2) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1398هـ/ 1978م. 234- المعجم الكبير - للحافظ الطبراني (أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ت 360هـ) ، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة (1) ، الدار العربية للطباعة، بغداد. 235- معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية - المقدم عاتق بن غيث البلادي، الطبعة (1) ، دار مكّة للطباعة، مكّة، 1402هـ. 236- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي - نشر د. أ. ي. ونسنك مكتبة بريل في ليدين بهولندا، 1936م. 237- المعجم الأوسط للحافظ الطبراني، تحقيق: د. محمود الطحان، الطبعة (1) ، مكتبة المعارف، الرياض. 238- المغازي - محمّد بن عمر الواقدي، تحقيق: د. مارسدن جونس مؤسسة الأعلمي، بيروت. 239- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة للحافظ محمّد بن عبد الرحمن السخاوي ت 902هـ، تحقيق: محمّد عثمان الخشت، الطبعة (1) ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1405هـ. 240- مقارنة الأديان (اليهودية - المسيحية) - د. أحمد شلبي، الطبعة (7) ، مكتبة النهضة العربية، القاهرة، 1983م. 241- مقامع هامات الصلبان ومراتع روضات الإيمان في الرّدّ على عبدة الأوثان - لأبي عبيدة الخرزجي ت 582هـ، تحقيق: د. محمّد شامة وقد نشره بعنوان: (بين الإسلام والمسيحية) ، مكتبة وهبة، القاهرة.

242- مقدمة مسند بقية بن مخلد ت 276هـ، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري الطبعة (1) ،مطبعة بساط، بيروت،1404هـ/1984م. 243- الملل والنحل - للشهرستاني (أبي الفتح محمّد عبد الكريم الشهرستاني ت 548هـ) ، تحقيق: محمّد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت. 244- من دحرج الحجر؟ - فرانك موريسون (باللغة الإنجليزية) ، طبع فايبر أنه فليبر، لندن: WHO MOVED THE STONE? FANK MORISON, PB. FABER AND FABER, LONDON. 245- المناظرة الكبرى بين الشيخ رحمة الله والدكتور القسيس فندر - تحقيق: د. محمّد عبد القادر خليل، الطبعة (1) ، دار ابن تيمية للنشر، الرياض، 1405هـ. 246- مناهل الصفا بتخريج أحاديث الشفا - للحافظ السيوطي ت 911هـ) ، الطبعة الحجرية البقديمة. 247- مناهل الصفا بتخريج أحاديث الشفا - للحافظ السيوطي، تحقيق: سمير القاضي، الطبعة (1) ، دار الجنان ومؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1408هـ/ 1988م. 248- المنتخب الجليل مِن تخجيل مَنْ حَرَّف الإنجيل - لأبي الفضل المالكي السعودي، مخطوطة بمكتبة أحمد الثالث تحت رقم: (17659، بتركيا، ومصورة ميكروفيلم بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، تحت رقم: 68/15 عقيدة) . 249- المنتخب الجليل مِن تخجيل مَنْ حَرَّف الإنجيل - لأبي الفضل المالكي، مكتبة أحمد المليجي، مصر، 1322هـ. 250- المنجد في اللغة والأعلام-الطبعة (27) ،المكتبة الشرفية، بيروت. 251- منهاج السنة النبوية - لابن تيمية ت 728هـ، تحقيق: د. محمّد رشاد سالم، الطبعة (1) ، نشر جامعة الإمام محمّد بن سعود بالرياض. 252- منهج الأشاعرة في العقيدة - د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي، الطبعة (1) ، الدار السلفية، الكويت، 1407هـ. 253- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان - للحافظ الهيثمي، تحقيق: محمّد عبد الزراق حمزة، دار الكتب العلمية، بيروت.

254- المواقف في علم الكلام - القاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، عالم الكتب، بيروت. 255- موجز تاريخ المسيحية - القمص يسطس الدويري، مطبعة ملجأ الأيتام القبطي الخيري، بمصر، 1949م. 256- موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف - إعداد: محمّد السعيد بن بسيوني زغلول، الطبعة (1) ، عالم التراث، بيروت، 1410هـ/ 1989م. 257- الموسوعة العربية الميسرة، دار نهضة لبنان، بيروت، 1406هـ/ 1986م. 258- موسوعة تاريخ الأقباط والمسيحية - زكي شنودة، الطبعة (1) ، مكتبة النهضة المصرية، 1974م. 259- الموضوعات - لابن الجوزي (أبي الفرج عبد الرحمن بن عليّ ابن الجوزي ت 597هـ) ، من منشورات المكتب السلفية بالمدينة المنورة - 1360هـ. 260- الموطّأ - للإمام مالك بن أنس، تصحيح: محمّد فؤاد عبد الباقي، كتاب الشعب، القاهرة. 261- المسيح في مصادر العقائد المسيحية - المهندس أحمد عبد الوهّاب، الطبعة (1) ،مكتبة وهبة، القاهرة،1398هـ/1978م. 262- مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان، الطبعة (12) ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 263- المطالب العالية للحافظ بن حجر العسقلاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي الطبعة (1) ، المطبعة العصرية، الكويت. 264- المفردات في غريب القرآن - للراغب الأصفهاني ت 502هـ، تحقيق: محمّد سيّد كيلاني، دار المعرفة، بيروت. 265- مَن روى عن أبيه عن جدّه، لابن قطلوبغا (الشيخ الزين أبي العدل قاسم بن قطلوبغا، ت 879هـ) ، تحقيق: الدكتور باسم الجوابرة، الطبعة (1) ، مكتبة المعلا، الكويت، 1409هـ. 266- النبوات - للإمام ابن تيمية ت 728هـ، دار يالكتب العلمية، بيروت، 1405هـ/ 1985م.

267- النبوة والأنبياء - للشيخ محمّد عليّ الصابوني، الطبعة (1) ، عالم الكتب، بيروت، 1405هـ. ن 268- النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام - أحمد عبد الوهّاب، الطبعة (1) ، مكتبة وهبة، القاهرة، 1400هـ. 269- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - لابن تغري بردي (جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي ت 874هـ) ، طبعة دار الكتب المصرية، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة. 270- النسخ بين الإثبات والنفي - د. محمّد محمود فرغلي - دار الكتاب الجامعي. 271- نسيم الررياض في شرح شفاء القاضي عياض - للخفاجي (أحمد شهاب الدين الخفاجي المصري) ، الطبعة (1) ، المطبعة الأزهرية المصرية، 1327هـ. 272- نقد التوراة أسفار موسى الخمسة - د. أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1976م. 273- النصرانية والإسلام - محمّد عزت الطهطاوي - دار الأنصار، القاهرة. 274- النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية - للمهتدي نصر بن يحيى بن عيسى المتطبب، تحقيق: الطالب محمود عبد الرحمن قدح، رسالة ماجستير مقدمة في الجامعة الإسلاميّة للعام الجامعي: 1407هـ. 275- نقض أساس التقديس - للإمام ابن تيمية، مخطوط بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلاميّة، ميكروفيلم تحت رقم: (3625) . 276- النكت على كتاب ابن الصلاح - للحافظ ابن حجر ت 852هـ، تحقيق: د. ربيع المدخلي، إصدار المجلس العلمي بالجامعة الإسلاميّة، 1404هـ/ 1984م. 277- النهاية في غريب الحديث والأثر - لابن الأثير (مجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمّد الجزري ت 606هـ) ، تحقيق: محمود محمّد الطناحي وطاهر أحمد الزواوي، نشر أنصار السنة المحمدية، لاهور، باكستان. 278- النهاية في الفتن والملاحم، للإمام ابن كثير ت 774هـ، تحقيق: محمّد أحمد عبد العزيز، دارالحديث،1401هـ/1980م.

279- نواسخ القرآن، لابن الجوزي - تحقيق: محمّد أشرف المليباري، إصدار المجلس العلمي، بالجامعة الإسلاميّة. 280- هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصارى - للإمام ابن القيم (محمّد بن أبي بكر بن قيّم الجوزي ت 751هـ) ، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، الطبعة (2) ، المكتبة القيمة، القاهرة، 1399هـ. 281- هدية العارفين بأسماء المؤلِّفين وآثار المصنفين - إسماعيل باشا البغدادي، دار العلوم الحديثة، بيروت. 282- همجية التعاليم الصهيونية - بولس حنا مسعد - المكتب الإسلامي، 1388هـ/ 1969م. 283- الوافي بالوفيات - للصفدي (صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ت 764هـ) ، دار النشر فرانز شتاير، فيسبادن بألمانيا - 1402هـ. 284- الوسائل العلمية للإصلاحات القبطية - حبيب جرجس، المطبعة التجارية، مصر. 285- وفيات الأعيان - لابن خلكان. (أبي العباس شمس الدين أحمد ابن محمّد بن أبي بكرت 681هـ) ، الطبعة (1) ، مطبعة السعادة، 1367هـ. 286- يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء - د. رؤوف شلبي. 287- اليهودية - د. محمّد بحر عبد المجيد، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1978م. 288- اليهودية والمسيحية - د. محمّد ضياء الرحمن الأعظمي، الطبعة (1) ، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، 1409هـ/ 1988م.

§1/1