تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة

صلاح الدين العلائي

مقدمة

مقدمة ... كتاب تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة تأليف: الإمام العالم المجتهد: خليل بن كيكلدي العلائي، ت (761هـ) دراسة وتحقيق: د. عبد الرحيم محمد أحمد القشقري أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف، بالجامعة الإسلامية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي نزه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من النقائص، وعدلهم من سبع سمواته بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . وبقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . (التوبة آية: 100) . وآيات كثيرة تدل على فضلهم وعدالتهم، وأحاديث ثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم تدل على أن أحداً منا مهما عمل فلن يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه. وقد ظهرت فرق أعمى الله أبصارها عن الأدلة الواردة في حق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا يكيلون الشتائم ويرمون فضلاءهم بكل أنواع الفسق والفجور دون مراعاة لحق الصحبة، وما ذاك إلا لغرض في نفوسهم المريضة، فبئست تلك النفوس، وبئست تلك الأغراض. وقد تعلق أولئك القوم بأحاديث ساقطة لتأييد ما ذهبوا إليه ضاربين عرض الحائط جميع المصطلحات والقواعد التي تعارف عليها العقلاء من الناس، فضلاً عن المسلمين الذين آمنوا بكتاب الله المنزل فيه تزكية صحابة رسول الله، وسنة نبيه الثابتة والتي تؤكد فضلهم وعدالتهم. فمن الأدلى التي ساقوها لتأييد ما ذهبوا إليه حادثتان:

الأولى منهما: ما روي عن عطاء بن السائب أن عبد الله بن الزبير قال يوماً لأصحابه: أتدرون ما تأويل هذا الحديث..؟ من كذب علي متعمداً. فقالوا: لا علم لنا بذلك، فقال: إن رجلاً من المدينة عشق امرأة، فأتى أهلها فلم يزوجوه منها فلبس حلة وأتى أهلها وقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إليكم لكي أتضيف في أي بيت شئت من بيوتكم، وكان ينتظر أن ينام عندهم ... ليتصل بتلك المرأة، فأتى رجل منهم رسول الله فقال له: إن فلاناً يزعم أنك أمرته أن يبيت في أي بيوتنا شاء، فقال: كذب والله. ثم أرسل رجلاً وأمره أن يضرب عنقه إن تمكن منه ويحرقه في النار، فلما خرج دعاه رسول الله ونهاه عن إحراقه بعد قتله، لأنه لا يعذب في النار إلا رب النار. ورويت هذه الحادثة عن طريق صالح بن حيان عن إبن بريده عن أبيه بتفاوت يسير لا يغير المعنى. والدليل الثاني: رواه إبن سعد في الطبقات والطبراني، عن المنقع التيمي أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة إبلنا وقلت له: إن فيها ناقتين هدية لك، فأمر بعزل الهدية عن الصدقة، فمكث أياماً وخاض الناس أن رسول الله باعث خالد بن الوليد إلى رقيق مصر فمصدقهم. فقلت: والله ما عند أهلنا من مال، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن الناس خاضوا في كذا وكذا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه حتى نظرت إلى بياض إبطه، وقال: اللهم لا أحل لهم أن يكذبوا علي. قال المنقع فلم أحدث بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً نطق به كتاب أو جرت به سنة يكذب عليه في حياته فكيف بعد موته. وقد نظرت في هذين الدليلين فلم أرهما على شرط المحدثين

الذين لا يقبلون من الأحاديث إلا ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحديث الأول أورده ابن الجوزي في موضوعاته محتجاً به، وهو لا يصلح للاحتجاج لأن في سنده عطاء بن السائب. قال فيه الحافظ: صدوق اختلط1، والراوي عنه داود بن الزبرقان. قال فيه البخاري: حديثه مقارب. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو زرعة: متروك. وقال أبو داود: ضعيف ترك حديثه2. أما طريق صالح بن حيان، فلا يكون مسانداً لرواية ابن الزبير، لأن الراوي صالح بن حيان ضعفه ابن معين، وقال مرة: ليس بذاك. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ3. أما الحديث الثاني، فهو لا يصلح أيضاً للاحتجاج به، لأنه من رواية سيف بن هارون البرجمي. قال فيه النسائي والدارقطني: ضعيف. وفي رواية الدارقطني: ضعيف متروك4. وقال إبن حبان: يروي عن الأثبات الموضوعات5.

_ 1 تقريب التهذيب 2/22. 2 ميزان الاعتدال 2/7. 3 الكامل 4/1373، ميزان الاعتدال 2/292. 4 ميزان الاعتدال 2/258. 5 المجروحون 1/346.

وعصمة بن بشير البرجمي قال فيه الذهبي: عصمة بن بشير عن الفزع، قال الدارقطني: هما مجهولان، والخبر منكر1. فلا يصلح إذاً أن يكون مستمداً لمن أراد إثبات الكذب ووقوعه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلا أن الحسيني صاحب كتاب الموضوعات في الآثار والأخبار "يرى أن الصحابة كانوا يكذبون إستدلالاً بهذين الحديثين. وقد تقدم ما فيهما من علل. وهذا والله تحامل من المؤلف على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم العدول الأخيار، ولم يكتف بهذا، بل نص على أنه مهما كان الحال فسواء صحت هذه المرويات أو لم تصح، فالمعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا في مستوى واحد كغيرهم من سائر الناس في مختلف العصور. فمنهم الصديقون الأبرار ومنهم المسلم الذي لم يبلغ مرتبة الأبرار، ومنهم المتستر بالإسلام الذي يستبيح كل شيء في سبيل تحقيق أهدافه ورغباته. ثم تناقض ذلك المؤلف فقال: ونحن لا ندعي وقوع الكذب منهم على الرسول في حياته بصورة قاطعة، لأن الأرقام التي بأيدينا لا تنتهي إلى هذه النتيجة، ثم رجع عن هذا القول، وألبس الصحابة لباس الكذب حين قال: ولكنا لا نستبعده بل نقر به اعتماداً على هذه المرويات2. أهذا هو المنهج العلمي؟ لا أظن ذلك، وإنما هي أحقاد دفينة في

_ 1 ميزان الاعتدال 2/67. 2 الموضوعات في الآثار والأخبار ص: 95.

نفوس ضعيفة منذ العصور المتقدمة، وما ذاك إلا لهدم أساس الشريعة الإسلامية التي أتى بها محمد بن عبد الله، وحملها صحابته الأخيار بكل صدق وأمانة وإخلاص وتضحيات، وبذلوا في سبيل إعلائها الغالي والنفيس. وقد قيد الله للرد على هؤلاء أئمة أجلاء منهم الإمام العالم خليل بن كيكلدي العلائي رحمه الله رحمة واسعة في كتابه الذي بين أيدينا، فجاء رده موجزاً في عبارته وقوياً في أدلته، ومنصفاً في ترجيحه للحق دون الميل لهوى شخصي أو تعصب مذهبي. وقد تعلقت به حال قراءتي له، فعزمت على إخراجه وتحقيقه مشاركة مني في الدفاع عن الصحابة الذي عدلهم الله ورسوله. وأسأل الله أن ينفع به جميع المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه. التعريف بالمؤلف وكتابه منيف الرتبة: هو الإمام الفقيه الأصولي المحدث الأديب الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي بن عبد الله الدمشقي الشافعي. المعروف بالعلائي، ويكنى بأبي سعيد. وكان مولده في أحد الربيعين سنة أربع وتسعين وستمائة، بمدينة دمشق، ويرى إبن العماد الحنبلي أنه ولد في شهر ربيع الأول. وبدأ مشوار العلم في سن مبكر جداً، ولا يستبعد أن يكون طلبه للعلم كان في الخامسة من عمره. لأنه حكى عن نفسه أنه سمع صحيح الإمام مسلم رحمه الله سنة ثلاث وسبعمائة، وكان عمره آنذاك تسع سنوات، وذلك بعد حفظه لكتاب الله وتمكنه من أصول اللغة العربية. وبهذين يتأهل لدراسة المزيد من علوم الشريعة التي ابتدأها بسماع

صحيح الإمام مسلم، وصحيح الإمام البخاري، وعلم الفقه والفرائض. وكان لهذا التبكير في التحصيل أثر كبير في إستيعابه للمسائل العلمية الدقيقة التي تطرق إليها في مؤلفاته، وكانت الحجة على من عليه. وكان من نتيجته أيضاً كثرة المؤلفات التي خلفها لنا في كل فن، والتي سبق ذكرها في مقدمة تحقيقي لكتاب النقد الصحيح، وسأذكر في هذه العجالة بعضها. شيوخه: قال إبن العماد الحنبلي: بلغ عدد شيوخه بالسماع سبعمائة. وأخذ علم الحديث عن المزي وغيره. وأخذ الفقه عن الشيخين. البرهان الفزاري ولازمه وخرج له مشيخة. والكمال الزملكاني وتخرج به وعلق عنه كثيراً. انتهى. ومن شيوخه أيضاً: الشيخ نجم الدين القحفازي الذي ابتدأ قراءة العربية عليه. والشيخ زكي الدين الزكوي الذي أخذ عنه الفقه وعلم الفرائض. أقوال العلماء فيه: قال السبكي: كان حافظاً ثقة ثبتاً عارفاً بأسماء الرجال والعلل والمتون. وقال الحافظ ابن كثير: كانت له يد طولى بمعرفة العالي والنازل،

وتخريج الأجزاء والفوائد. وله مشاركة قوية في الفقه واللغة العربية والأدب. وقال الحافظ الذهبي: وهو من أخص تلاميذه. كان إماماً في الفقه والنحو والأصول، مفتناً في علوم الحديث ومعرفة الرجال. علاّمة في معرفة المتون والأسانيد فمصنفاته تنبئ عن إمامته في كل فن. وقال في معجمه: معدود في الأذكياء. وله يد طولى في فن الحديث ورجاله. وقال إبن العماد: جد واجتهد حتى فاق أهل عصره في الحفظ والإتقان. رحلاته: لم تذكر الكتب التي ترجمت للمؤلف أنه ارتحل كثيراً، ولعل ذلك يعود إلى أن المؤلف اكتفى بالسماع من أهل بلده، لأنه عاش في عصر كان معظم العلماء في مدينة دمشق1. فالرحلة لم تكن ضرورة ملحة إلا إذا كان للحج، وقد قام بها المؤلف مراراً. أو للتدريس وقد قام بها في القدس، حيث أقام بها مدرساً بالصلاحية واستقر بها مدة طويلة يدرس ويفتي ويصنف إلى آخر عمره، حيث كانت وفاته في تلك الديار، وذلك في ثالث المحرم عام إحدى وسبعين وستمائة، ودفن بمقبرة باب الرحمة إلى جانب السور. بعد حياة حافلة بالعلم والعمل، فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

_ 1 انظر: شذرات الذهب 6/4-190 لتقف على العلماء الأعيان الذي سكنوا دمشق وماتوا فيها، وكان لهم أثر كبير في ازدهار العلوم الإسلامية وتقدمها.

مؤلفاته: إن الباحث في حياة المؤلف يدرك تماماً مدى الجهد الذي بذله في إيصال العلوم النافعة للأجيال الذين عاصروه ومن جاء بعده. وقد ذكرت الكتب التي تناولت حياته بالترجمة جملة كبيرة من المصنفات في شتى العلوم الشرعية تجاوزت في عددها الخمسين مصنفاً بين كتاب كبير تجاوز المجلدات الكبيرة، وأجزاء صغيرة مثل هذا الجزء الذي بين أيدينا. وقد ذكرت في مقدمة تحقيقي لكتاب النقد الصحيح ما مجموعه سبعة وأربعون كتاباً فأغنى ذكره هناك عن الإعادة في هذه العجالة. إلا أنه من المناسب أن أورد مصنفاته الموجودة بين أيدينا سواء كانت مخطوطة أو ما طبع منها وهي قليلة جداً بالنسبة لما فُقد أو مازال في أرفف المكتبات العالمية. فمن مؤلفاته المطبوعة: 1- إجمال الإصابة في أقوال الصحابة. وهو جزء صغير أفرده لاستيفاء القول في حكم – أقوال الصحابة- من حيث كونها حجة في الأحكام الشرعية أم لا1. 2- بغية الملتمس في سباعيات حديث الإمام مالك بن أنس2. 3- تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد3.

_ 1 طبع بتحقيق محمد بن سليمان الأشقر عام 1407هـ. 2 طبع بتحقيق وتعليق حمدي عبد المجيد السلفي عام 1985م. 3 طبع بتحقيق الشيخ إبراهيم السلقيني.

4- جامع التحصيل لأحكام المراسيل1. 5- جزء في تفسير الباقيات الصالحات وفضلها2. 6- النقد الصحيح لما أعترض عليه من أحاديث المصابيح3. أما مؤلفاته المخطوطة فهي ما يلي: 1- الأشباه والنظائر. وقفت على نسخة منه في الجامعة العثمانية تحت رقم 362-297، وعدد أوراقه 219 ورقة. 2- تفصيل الإجمال في تعارض بعض الأقوال والأفعال. منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية قسم المخطوطات، تحت رقم 1304. 3- تلقيح الفهوم في صيغ العموم. منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية قسم المخطوطات، تحت رقم 647 / 648. 4- التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة. يحققه الدكتور مرزوق بن هياس الزاهراني معتمداً فيه على نسختين مختلفتين، وقد أوشك على الانتهاء منه. 5- تهذيب الأصول إلى مختصر جامع الأصول. منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية قسم المخطوطات، تحت رقم 2510.

_ 1 طبع بتحقيق الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي عام 1978م. 2 طبع بتحقيق علي أبو زيد وحسن مروه ومراجعة عبد القادر الأرناؤوط عام 1407هـ. 3 طبع بتحقيقي عام 1405هـ.

6- توفية الكيل لمن حرم لحوم الخيل. يحققه الدكتور عبد الكريم صنيتان العمري، بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية، وهو على وشك الانتهاء منه. 7- جزء فيه أحاديث منتقاة من جزء أبي مسعود بن الفرات. منه نسخة مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عن الأصل المخطوط في المكتبة الأحمدية. ورقمه في الجامعة 516/ 13 ص (ل70 –72) في 3 لقطات. 8- مجمع الفوائد. منه نسخة مخطوطة في مكتبة الشيخ عارف حكمت بالمدينة تحت رقم 493 عام. 9- رسالة في تفسير {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} . منه نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية تحت رقم 3602. ح ضمن مجموع من 48ق –68ق. 10- رسالة في تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى} . منه نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية تحت رقم 2121 ب، ضمن مجموع من 1ق - 7ق. 11- رفع الأشكال عن حديث صيام ستة أيام من شوال. ذكره د. عمر فلاته في مقدمة كتابه المراسيل للعلائي 1/ 15، وقال: موجود في القاهرة. 12- شفاء المسترشدين في حكم إختلاف المجتهدين. منه نسخة في مكتبة كوبريللي باسطمبول، تحت رقم 386/ 2. 13- العدة في أدعية الكرب والشدة. منه نسخة مخطوطة في مكتبة كوبريللي تحت رقم 334 ب م

ونسخة في مكتبة برلين تحت رقم: 4148. 14- الفتاوى المستغربة. منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بقسم المخطوطات تحت رقم 6868 ف. 15- الفصول المفيدة في الواو المزيدة. منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم: 2709، من ورقة 109- 126. 16- حديث "قطع في مجن" وما يتعلق به. منه نسخة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم: 542. 17- كشف النقاب عما روى الشيخان للأصحاب. منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم: 1770. 18- الكلام في بيع الفضولي. منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم: 878. 19- المجموع المذهب في قواعد المذهب. منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم: 1790. 20- الوشي المعلم فيمن روى عن أبيه عن جده. لم يبق من الكتاب سوى قطعة وقفت عليها مصورة في مكتبة شيخنا الفاضل الشيخ حماد بن محمد الأنصاري حفظه الله.

مصدار ترجمة المؤلف: 1- الأنس الجليل 2/107. 2- البداية والنهاية 14/267. 3- تذكرة الحفاظ 4/1507. 4- الدارس 1/60. 5- الدرر الكامنة 2/91. 6- ذيل طبقات الحفاظ ص 360. 7- الرسالة المستطرفة ص 63. 8- شذرات الذهب 6/190. 9- طبقات الشافعية 10/36. 10- العبر 4/186. 11- معجم الشيوخ للذهبي 1/223. 12- مقدمة كتاب المراسيل للدكتور عمر حسن فلاته. 13- مقدمة تحقيقي لكتاب النقد الصحيح للعلائي. 14- فهرس الفهارس 2/790. وصف النسخ: لقد اعتمدت في تحقيقي لهذا الكتاب على أربع نسخ مختلفة من أصل خمس نسخ قمت بجمعها في أوقات متباينة، مما جعلني أعيد النظر في تحقيق الكتاب ثلاث مرات قبل دفعها إلى المطبعة لكتون متداولة بين أيدي الباحثين. وكانت النسخ المتعددة خير معين لي على إخراج النص كما أراده المؤلف بدون تصحيف أو تحريف.

وكانت أولى النسخ الأربع نسخة الأسكوريال، وهي ضمن مجموعة تحتوي على مؤلفات العلائي. ورقمها: 1612. الناسخ وتاريخ النسخ: لم يذكر الناسخ اسمه بعد الانتهاء من نسخ الكتاب كعادة النساخ. وذلك اكتفاء بما ذكره في أول المجموعة التي تضمنت هذا الكتاب وغيره. وقد ذكرالناسخ اسمه في نهاية كتاب التنبيهات المجملة. وحيث أن الخط واحد مع اختلاف في تاريخ النسخ. فإن الناسخ لهذا الكتاب هو محمد بن أحمد بن الصميدي الذي نسخ كتاب التنبيهات في الثامن من شهر جمادى الأولى سنة ست وسبعين وسبعمائة، وكتاب منيف الرتبة في التاسع عشر من جمادى الأولى من تلك السنة. ومن خلال نسخي لهذه النسخة التي جعلتها أصلاً تبين لي أن الناسخ بذل جهداً وعنابة في نسخ الكتاب، تجلى ذلك في الاهتمام بالعناوين وبداية الأحاديث التي أوردها المصنف بخط يغاير الخط الذي استعمله في تسطير الكتاب، ولم ينس كتابة الكلمة من الورقة المقابلة في آخر سطر من الورقة السابقة حتى لا تتداخل الأوراق عند عدم كتابة أرقامها في أعلى الورقة. ويظهر أنه قابل بين نسخته والنسخة التي نقل عنها، بدليل الدائرة المنقوطة بعد انتهاء المعلومة. وهو مصطلح معروف لدى علماء هذا الشأن. ومن أجل هذه الميزات الآنفة الذكر إضافة إلى جودة الخط ووضوحه، وعدم وجود سقط جوهري أو تحريم أو تصحيف ذي ضرر على مادة الكتاب، جعلت هذه النسخة أصلاً في التحقيق. والنسخ التي

سيأتي ذكرها فرعاً لها في التصحيح والتكميل عند المقابلة. عدد أوراق النسخة: 27 ورقة. مسطرتها: 19 سطراً. النسخة الثانية: وهي نسخة مصورة عن الأصل المخطوط في مكتبة جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية. تحت رقم هـ 785 – وقد تفضل الشيخ نظام يعقوبي مشكوراً بإرسال نسخة مصورة عنها، فجزاه الله عني خير الجزاء، وأجزل له المثوبة في الدارين. وتقع النسخة في 29 ورقة من الحجم المتوسط، وتمتاز بوضوح خطها ووجود بعض الفوارق الجيدة عن النسخة التي اعتمدتها في التحقيق، وقد أشرت إلى تلك الفوارق في الحاشية عند التحقيق، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وتوفرت فيها ميزان النسخة الأصلية من تمام الضبط وإثبات الكلمة الأولى في آخر الورقة التي تسبق العبارات الموجودة في الورقة التالية. والاعتناء بالمقابلة من الأصل المنقول منه، بدليل إثبات الكلمات الساقطة في حاشية النسخة. إلا أن الناسخ لم يهتم بذكر اسمه ولا تاريخ نسخه للكتاب، وقد أدى هذا التصرف إلى أن أجعلها نسخة أخرى للمقابلة والتصحيح عند الحاجة. النسخة الثالثة: وهي نسخة مصورة من مكتبة خدابخش والمحفوظة هناك تحت رقم 3183/2 وعدد أوراقها 33 ورقة تحتوي كل ورقة على 19

سطراً. والخط قريب جداً إلى الخط الفارسي. وفيها بعض الإلحاقات مما يدل على أنها قوبلت بعد الانتهاء منها. ويكاد يكون الاختلاف بينها وبين النسخ الأخرى نادرة جداً. وقد أثبت بعضها في الحاشية. النسخة الرابعة: وهي نسخة المتحف الوطني بكراتشي، ضمن مجموعة تحمل رقم 1980 وتقع في 28 ورقة وتحتوي كل ورقة على 18 سطراً. وقد أتحفني بها فضيلة الأستاذ الدكتور ضياء الرحمن الأعظمي، فجزاء الله خيراً ونفع بعلمه المسملين. وتمتاز هذه النسخة كسابقتها من جودة الخط ووضوحه، مع بعض الفوارق الخفيفة. وقد أثبتها في الحاشية أثناء المراجعة. التعريف بالكتاب: عنوان الكتاب هو: ((تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة)) . وقد اتفقت النسخ التي اعتمدتها على هذه التسمية، إلا أن الكتاني رحمه الله ذكر في فهرس الفهاري 2 /790 أن من مؤلفاته كتاب تحقيق منصب الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، وأظنه تصحف عليه كلمة منصب من كلمة منيف، ونظراً لورود الاسم حسبما ذكرت بعاليه في النسخ المذكورة، فإنني اعتمدته في غلاف الكتاب.

موضوعه: قال المؤلف في مقدمة كتابه: هذا الكتاب يشتمل على تحقيق من يتصف بهذه الرتبة التي هي الصحبة الشريفة، وبماذا تثبت من الطرق حتى يحكم للواحد منهم بالرتبة المنيفة. وقد تطرق رحمه الله إلى مواضيع هامة جداً لم يتطرق إليها مجتمعة من قبله أحد. وقد حصر كلامه في كتابه هذا على ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في تعريف الصحبة. وحكى في ذلك أقوال الأئمة المتقدمين، والتي بلغت مجموعها ستة أقوال. ثم أورد ما يمكن إيراده من المعارضة ورد ما يمكن رده، وخلص إلى نتيجة رأى أنها صحيحة لا يمكن ردها. المسألة الثانية: الطرق التي يمكن بها إثبات الصحبة. وأنها تثبت تارة بالتواتر وتارة بالاستفاضة القاصرة عن التواتر وتارة بأن يروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، وتارة بقوله وإخباره عن نفسه بعد ثبوت عدالته أنه صحابي. المسألة الثالثة: في تقرير عدالة الصحابة رضي الله عنهم. وأنه لا عبرة بمن حط على الصحابة أو خاض فيما شجر بينهم. ثم أورد جملة من الأدلة التي

تؤكد عدالة الصحابة من الكتاب والسنة الصحيحة وإجماع الأمة.. وأورد أدلة من ذهب إلى أنهم غير عدول، وناقشها نقاشاً علمياً رد فيها كل تخرصاتهم واجتهاداتهم الخاطئة في فهم النصوص الواردة. وختم كتابه بفصل عن التهم التي أوردها بعض الناس في حق أبي هريرة رضي الله عنه ورواياته عن النبي صلى الله عليه وسلم وردها رداً شافياً فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته إثبات الكتاب للمؤلف: إن الأدلة قائمة على أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو كتاب الإمام العلائي. فقد اعتمد الحافظ إبن حجر نصاً واحداً في كتابه الإصابة 1/10-11. إلا أنه لم يشر إلى إسم الكتاب. بل اكتفى بقوله: قال العلائي. وعند رجوعي إلى الأصل وجدت الكلام الذي نقله الحافظ منطبقاً على ما في هذا الكتاب. وكذلك فعل الإمام السخاوي. حيث نقل نصين عن الكتاب في فتح المغيث 3/ 89-104 دون الإشارة إلى عنوان الكتاب. والسيوطي أيضاً نقل نصاً واحداً وعزاه إلى العلائي دون الإشارة إلى عنوان الكتاب، إلا أن المقارنة أثبتت أنهم نقلوا هذه المعلومات من كتاب منيف الرتبة. وأما الكتاني فقد ذكر إسم الكتاب مصحفاً كما أشرت إليه آنفاً. فهذه الأدلة تكفي لإثبات نسبة الكتاب للعلائي بعنوانه الذي

أثبته، بما لا يدع مجالاً للشك، وبهذه النقولات التي اعتمدها العلماء بعده في كتبهم نستدل على أهمية الكتاب، وما تطرق إليه من مواضيع فيه تدور في فلك الصحابة رضوان الله عليهم. عملي في التحقيق: كان جل اهتمامي في تحقيق النص وإخراجه وضبطه ضبطاً تاماً على قدر الاستطاعة، وذلك بالرجوع إلى النسخ المتوافرة لدي، والتي أشرت إليها آنفاً وبالرجوع إلى المراجع التي اعتمدها في نقل معلوماته. ثم التعليق على المواضع التي أرى أنه لا بد من التعليق عليها. ولذا لم أطل في الحاشية لأن القارئ يريد الوقوف على ما في أصل المؤلف، ثم إن كثيراً من الروايات التي استند عليها المؤلف في كتابه هي من الصحيحين أو أحدهما. وما كان فيه ضعف نبه عليه، فأغنى ذلك عن التعليق الذي يفوت الفائدة من نص الكتاب، والله الموفق والهادي إلى الصواب. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آل وصحبه وسلم. وكتبه د. عبد الرحيم بن محمد القشقري في المدينة النبوية عام 1409

ملاحظة: توجد صورة لنسحة الاسكوريل باسبابيا

ملاحظة: توجد هنا صورة لنسخة برنستون "امريكا"

نسخة خدا بخش بالهند

نسخة التحف الوطني بكرتشي

المسألة الأولى: في تعريف الصحابي

المسألة الأولى: في تعريف الصحابي ... نص، كتاب تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة للإمام الحافظ العلائي بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيق إلا بالله. أما بعد: حمداً لله الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، وفضل من اجتباه بما آتاه من جميل الرغائب وجزيل النعمى (ويسر للخير من هداه إليه فكان للسابقين المزية العظمى) 1، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث برحمة ورحمى المنعوت بأشرف الصفات حكمة وحكماً. الذي فتح به قلوباً غلفاً وعيوناً عمياً وآذاناً صماً. وعلى آله وصحبه الحائزين به نعماً جماً. الفائزين لما خصوا به من صحبته بالمحل الأسمى. فإن الله سبحانه وتعالى اختص نبيه صلى الله عليه وسلم بصحابة جعلهم خير أمته، والسابقين إلى تصديقه وتبعيته والمجاهدين بين يديه والباذلين نفوسهم تقرباً إليه (والناقلين لسننه وقضاياه، والمقتدين به في أفعاله ومزاياه) 2، فلا خير إلا وقد سبقوا إليه من بعدهم. ولا فضل إلا وقد استفرغوا فيه جهدهم. فجميع هذا الدين راجع إلى نقلهم وتعليمهم. ومتلقى من جهتهم بإبلاغهم وتفهيمهم. فلهم مثل أجور كل من اهتدى بشيء من ذلك على مر الأزمان. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء بالطول والإحسان.

_ 1 ما بين القوسين من الأمريكية. وفي نسخة كراتشي: ((المرتبة العظمى)) . 2 ما بين القوسين من الأمريكية.

وهذا الكتاب يشتمل على تحقيق من يتصف بهذه الرتبة التي هي الصحبة الشريفة، وبماذا تثبت من الطرق حتى يحكم للواحد منهم بالرتبة المنيفة. ثم إثبات العدالة لجميعهم رضي الله عنهم، وأنه لا يشذ عن هذه المنقبة أحد منهم، وذكر المذاهب الشاذة وبيان ما يعتمد من قويم المسالك. وبالله تعالى التوفيق. وإياه نسأل الهداية إلى أقصد الطريق. إنه بالإجابة جدير وعلى ما يشاء قدير. والكلام فيما قصدنا له ينحصر في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: فيما يثبت به إسم الصحبة حتى ينطلق على من قام به إسم الصحابي، وفي ذلك مذاهب متباينة. الأولى: وهو الذي عليه جمهور أهل الحديث. "أنه كل مسلم رآه النبي صلى الله عليه وسلم ولو لحظة وعقل منه شيئاًَ، فهو صحابي، سواء كان ذلك قليلاً أو كثيراً". وهذا ما حكاه القاضي عياض وغيره عن أحمد بن حنبل رحمه الله. ورواه عبدوس بن مالك قال: سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: "كل من صحبه سنة أو شهراً أو ساعة أو رآه فهو من

أصحابه"1. وقال البخاري في صحيحه: "من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه"2. وأخرج أبو داود في سننه حديث طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 1 -"الجمعة حق واجب على كل مسلم ... الحديث". ثم قال أبو داود عقيبه: طارق بن شهاب قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئاً. فدل إخراجه الحديث في سننه على أنه مسند، ولولا أن طارقاً يعد من الصحابة لمجرد الرؤية، وإلا كان تابعياً، فيكون الحديث مرسلاً3. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: "المعروف في طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الصحابة". قال: وبلغنا عن أبي المظفر بن السمعاني المروزي أنه قال: "أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابة على كل من روى عنه حديثاً أو كلمة. ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من الصحابة. وهذا لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم. أعطوا كل من رآه حكم الصحبة"4. والقول الثاني: وهو أضيق من الأول قليلاً، أنه لا يكتفي بمجرد الرؤية، لكن لا بد مما ينطلق عليه اسم الصحبة ولو ساعة.

_ 1 الكفاية 99. 2 فتح الباري 7/3. وقال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي ذكره البخاري هو الراجح. 3 انظر عون المعبود 3/394 مع الحواشي. 4 مقدمة ابن الصلاح ص 146.

لطيفة حكاه بعض أئمة الحديث المتأخرين عن الواقدي أنه قال: "ورأيت أهل العلم يقولون: كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أدرك الحلم فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه، فهو عندنا ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من النهار"1. وهكذا قال الآمدي في الأحكام ناقلاً له عن أكثر أصحابنا: "أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولو ساعة، وإن لم يختص به اختصاص المصحوب، ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته"2. وعبارة الشيخ صفي الدين الأرموي في نهاية الوصول نحو هذا. وهي أعم من قول الواقدي المتقدم آنفاً. من جهة أن ذاك اشترط فيه البلوغ، ولم يقيد الآمدي والأرموي كلامهما بذلك. بل يدخل فيه أيضاً الصبي المميز كمحمود بن الربيع الذي عقل عن النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهه وهو ابن خمس سنين3. وعده البخاري وغيره من الصحابة لذلك. فيمكن لذلك أن يجعل الكلامان قولين متباينين. وأما ابن الحاجب فإنه اختار في مختصريه القول الذي نقلناه أولاً عن أحمد بن حنبل والجمهور من الاكتفاء بمجرد الرؤية4.

_ 1 الكفاية ص 99، وفي نسخة كراتشي: -ولو ساعة من الزمان. 2 قال الآمدي في أحكام الأحكام 2/92 ذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل. 3 رواه البخاري في صحيح فتح الباري 1/172. 4 شرح مختصر المنتهى 2/67.

((القول الثالث)) : إن الصحابي أنما ينطلق على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم واختص به اختصاص المصحوب، وطالت مدة صحبته، وإن لم يرو عنه. حكاه هكذا الآمدي والأرموي عن جماعة ولم يسموهم1. ونقله ابن الصلاح عن أبي المظفر بن السمعاني أنه ذكر أن اسم الصحابي من حيث اللغة. والظاهر إنما يقع على من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وكثرت مجالسته له على طريق التتبع له والأخذ عنه. قال: وهذا طريق الأصوليين2. ((القول الرابع)) : إن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه العلم. حكاه الآمدي هكذا عن عمر بن يحيى3. وعبر غيره عن هذا القول بأن يجمع بين الصحبة الطويلة والرواية عنه صلى الله عليه وسلم. وهذا أقرب، لأنه من المعلوم أن من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم فلا بد وأن يتحمل عنه شيئاً ما، ولو من أفعاله التي شاهدها. لكن يرد على هذا القائل: أنه لا يعرف خلاف بين العلماء في أن من طالت صحبته ولم يحدث عنه صلى الله عليه وسلم بشيء. أنه معدود من الصحابة، لكن وقوع مثل ذلك نادر جداً. إذ لا يلزم من عدم وصول رواية عن ذلك الصاحب إلينا أن لا يكون روى شيئاً عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه أو شاهده.

_ 1 أحكام الأحكام 2/92 حيث عبر بقوله: وذهب آخرون. 2 مقدمة ابن الصلاح ص 146. 3 أحكام الأحكام 2/92.

((القول الخامس)) : وهو أضيق المذاهب. ما حكاه إبن الصلاح وغيره عن سعيد بن المسيب أنه قال: "لا يعد الصحابي إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين"1. قال الشيخ أبو عمرو: وكان المراد بهذا إن صح عنه راجع إلى المحكى عن الأصوليين. ولكن في عبارته ضيق يوجب أن لا يعد في الصحابة جرير بن عبد الله رضي الله عنه ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافاً في عده من الصحابة2. قلت: مثل وائل بن حجر، ومعاوية بن الحكم السلمي. وخلق كثير ممن أسلم سنة تسع وبعدها. وقدم عليه صلى الله عليه وسلم فأقام عنده أياماً ثم رجع إلى قومه، وروى عنه أحاديث. اللهم إلا أن يؤول كلام سعيد بن المسيب على من يعطي كمال الصحبة المقتضى للعدالة، على ما اختاره الإمام المازري كما سيأتي إن شاء الله من قوله: إن العدالة المطلقة إنما يحكم بها لأمثال هؤلاء.

_ 1 أخرجه ابن سعد عن الواقدي، وهو ضعيف الحديث. فتح المغيث 3/94. 2 انظر الأقوال التي أوردها السخاوي في إسلام جرير. فتح المغيث 3/

وهو قول مرجوح أيضاً كما سنبينه إن شاء الله تعالى. ((القول السادس)) : وهو أوسع المذاهب، ما حكاه القاضي عياض قال: ذهب أبو عمر بن عبد البر في آخرين إلى أن إسم الصحبة وفضيلتها حاصلة لكل من رآه وأسلم في حياته، أو ولد وإن لم يره، وإذا كان ذلك قبل وفاته بساعة ولكن كان معهم في زمن واحد. وجمعه وإياه عصر مخصوص. قلت: إن كان هذا أخذه القاضي عياض من تصريح إبن عبد البر وغيره بذلك، ففيه من الأشكال ما سيأتي. وإن كان مأخوذاً من إدخالهم أمثال هؤلاء في كتب الصحابة التي صنفوها، فقد صرح إبن عبد البر بأنه إنما أدخل مثل الأحنف بن قيس، والصنابحي، وأولاد الصحابة الذين ولدوا في حياته صلى الله عليه وسلم، ولا يثبت لأحد منهم رؤية لموته صلى الله عليه وسلم وهم صغار جداً. ليستكمل بذكرهم القرن الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خير القرون. يعني لا لأنهم من الصحابة. فقد حكم على روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإرسال في غير موضع من كتبه، فعرف مقصده بذكرهم في كتاب الصحابة1. هذا حاصل المذاهب التي وقفت عليها في هذه المسألة، ويتعلق بها مباحثات. الأولى: إن الصحبة لها اعتباران. أحدهما: من حيث الوضع. والآخر: من حيث العرف.

_ 1 لعل القاضي عياض أخذ هذا عن كتاب الاستيعاب 1/13/126.

فهي من حي الوضع اللغوي ينطلق على القليل والكثير سواء كان في مجالسة أو مماشاة ولو ساعة يسيرة1. وقد روى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه خرج مع عبد الله بن مسعود رديفاً له. فصحبه دهقان في الطريق من القنطرة، فأنشعبت له طريق فأخذ فيها. قال: فقال عبد الله: أين أخذ الرجل. فقلت: إنشعبت له طريق. فلما رآه قال: السلام عليك فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدؤا بالسلام. قال: بلى ولكن هذا حق الصحبة. فأطلق إبن مسعود رضي الله عنه إسم الصحبة على السير معه شيئاً يسيراً. وأما من حيث العرف: فإنه لا ينطلق إلا على الصحبة الطويلة أو الكثيرة. صرح بذلك إبن سيده، والراغب2 وغيرهما. لكن لا حد لتلك الكثرة، كما أنه لم يحد الاعتبار اللغوي من حيث القلة إلا بما ينطلق عليه الإسم. وقد استدل ابن الحاجب لقول الجمهور الذي اختاره. أن إسم الصحابي يقع على من له مجرد الرؤية فأكثر من ذلك، بأن إسم الصحبة يعم القليل والكثير. بدليل أنه يصح تقسيمها إلى ذلك. ويقبل التقييد بكل منهما.

_ 1 وهو رأي الباقلاني والخطيب. انظر فتح المغيث 3/86. 2 المفردات في غريب القرآن ص 275.

فيكون للقدر المشترك بينهما، لأن مورد التقسيم يجب أن يكون مشتركاً. ولذلك لو حلف حالف أنه لا يصحب فلاناً حنث بصحبته لحظة1. واستدل غيره أيضاً بصحة الاستفهام، فإن القائل إذا قال: صحبت فلاناً..؟ حين أن يقال صحبته يوماً أو شهراً أو ساعة يسيرة. ونحو ذلك، فلولا أنه موضوع للكل لما حسن الاستفهام منه. واعترض عليه بشيئين: أحدهما: أنه – أعني ابن الحاجب- صدر المسألة بما اختاره من قول الجمهور بأن إسم الصحبة يقع على من له مجرد الرؤية، كما تقدم. وهذا الدليل لا يطابق المدعي. لأن من رأى شخصاً من بعيد، ولم يكلمه ولا صحبه لحظة. لا يقال له أنه صحبه. لا من حيث الوضع ولا من حيث العرف قطعاً. فلا يستقيم الدليل إلا لمن قال بالقول الثاني أنه لا يكتفي بمجرد اللقاء، بل لا بد مما ينطلق عليه اسم الصحبة من ملابسة ما إما بكلام أو مماشاة ونحو ذلك دون من رآه من بعيد وقتاً ما كأبي الطفيل وأمثاله. الثاني: إن هذا التقسيم والاستفهام إنما يجيئان في مطلق اسم الصحبة التي هي المصدر وكذلك الفعل. فأما إسم الفاعل الذي هو الصاحب فلا ينطلق إلا على الملازم الذي كثرت منه الصحبة. كما يقال المزني والربيع صاحبا الشافعي.

_ 1 شرح مختصر المنتهى 2/67.

وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة ونحو ذلك. صرح بذلك الراغب وغيره1. فلا يلزم من كون الصحبة للقدر المشترك بين القليل والكثير أن يكون الصاحب كذلك، ولا يحسن الاستفهام عند إطلاق لفظ الصاحب كما يحسن عند إطلاق الفعل أو المصدر. وكذلك الحنث في اليمين أيضاً. فإنه إذا حلف أن لا يكون صاحباً لفلان لم يحنث بصحبته ساعة لطيفة، وهذا هو المأخذ الذي اعتبره المازري في تخصيص الحكم بالعدالة لمن اشتهر من الصحابة دون من قلّت صحبته، أو كان له مجرد الرؤية، فلا يبقى في إدراج من كان له مجرد الرؤية في عداد الصحابة إلا لشرف المنزلة، أعطي من رآه حكم الصحبة. وقد روى شعبة عن موسى السيلاني وأثنى عليه خيراً قال: 2-"أتيت أنس بن مالك رضي الله عنه فقلت: هل بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد غيرك. قال: بقي ناس من الأعراب قد (رأوه) 2 فأما من صحبه فلا"3.

_ 1 انظر أحكام الأحكام 2/93. 2 في أ: رواه. والتصويب من الهندية والنسخ الأخرى. 3 قال السخاوي: قال موسى السيلاني فيما رواه إبن سعد في الطبقات بسند جيد. قلت لأنس: أأنت آخر من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم..؟ فقال بناء على ما في ظنه قد بقي قوم من الأعراب. فأما أصحابه فأنا آخرهم. لكن قد يجاب عنه بأنه أراد إثبات صحبة خاصة، ليست لتلك الأعراب. فتح المغيث 3/93.

قال ابن الصلاح: إسناده جيد حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة1. قلت: وهو يقتضي التفرقة بين الرائي ومن يطلق عليه إسم الصاحب. والحاصل أن تسمية الجميع بإسم الصحابي له إعتبارات. إحداها: من يصدق عليه الإستعمال العرفي قطعاً، وهؤلاء هم، جمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم. ومن هاجر إليه من القبائل وغزا معه. ولا ريب في أمثال هؤلاء. الثاني: من يقرب من هؤلاء كالذين هاجروا إليه وأقاموا عنده أياماً قلائل ورجعوا إلى أماكنهم كوفد (عبد القيس) 2 ووفد ثقيف وأمثالهم، وكمثل وائل بن حجر، ومعاوية بن الحكم السلمي، وجرير بن عبد الله البجلي3. ومن لم يصحبه إلا مدة يسيرة – الأيام والليالي- ولكن حفظ عنه وتعلم منه، وروى عنه عدة أحاديث، فهؤلاء أيضاً وأمثالهم يطلق عليهم إسم الصاحب حقيقة عرفية. وإن كانت مدة صحبتهم ليست طويلة. لتحقق الإسم فيهم وصدق الإتصاف بالصحبة لهم.

_ 1 مقدمة ابن الصلاح ص 146. 2 في أ: عبد الله القيسي. 3 انظر: فتح المغيث 3/94. للتحقق من المدة الزمنية التي صحبها جرير بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثالث: من لقيه صلى الله عليه وسلم بمجالسة يسيرة أو مبايعة أو مماشاة. وكان مسلماً إما بالغاً أو مميزاً. وعقل من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما، بأن أجلسه في حجره أو مج في وجهه ماء أو غير ذلك، فلاريب في أن الإطلاق العرفي منتف عن مثل هؤلاء. وأما الإطلاق اللغوي فهو قريب. وقد ينازع فيه لأنه يصح نفي الصحبة عن أمثال هؤلاء. فيقال ما صحبه ولكن بايعه أو كلمه يسيراً أو جلس في حجره صغيراً ونحو ذلك. وصحة النفي1 من علامات المجاز. فلا يكون إطلاق إسم الصحبة عليهم بطريق الحقيقة، لكن الإتفاق واقع من أئمة الحديث في كل عصر على تسمية هؤلاء من جملة الصحابة. وإخراج ما حكوه من تلك الوقائع في مسانيد الصحابة والإحتجاج بما فيها من الأحكام إذا صح السند إليهم من غير توقف في ذلك. فإسم الصحبة في أمثال هؤلاء قريب من الحقيقة اللغوية قرباً قوياً وإن كان الاستعمال العرفي معدوماً في حقهم. ومن هؤلاء طارق بن عبد الله المحاربي حيث أخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال: 3-" هل معكم شيء تبيعونه؟ قلنا: نعم. هذا البعير. قال: بكم؟ قلنا: بكذا وكذا وسقاً من تمر. قال: فأخذه بخطامه (وسار إلى المدينة. فقلنا: بعنا من رجل لا ندري من هو) 2 ومعنا ظعينة3. فقالت: أنا ضامنة لكم ثمن البعير. رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة

_ 1 في نسخة كراتشي: اللقى. 2 ما بين القوسين ساقط من الهندية. 3 الظعينة: الهودج تكون فيه المرأة. تاج العروس 9/271.

البدر (لا نحبس بكم) 1 فأصبحنا. فجاء رجل فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم. يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر حتى تشبعوا. وتكتالوا حتى تستوفوا. قال: ففعلنا" 2. رواه عن جامع بن شداد وربعي بن حراش. وعداد طارق هذا في أهل الكوفة. والرابع: من لم يجتمع به صلى الله عليه وسلم أصلاً. وإنما رآه من بعيد، وحكى شيئاً من أفعاله. أو لم يحك شيئاً. مثل أبي الطفيل عامر بن واثلة وغيره ممن ليس له إلا مجرد الرؤية. أما في حجة الوداع أو غزوة الفتح أو غزوة حنين. وغير ذلك. أو كان مع أبيه فأراه النبي صلى الله عليه وسلم من بعد. فلا ريب في أن الإطلاق اللغوي منتف عن هؤلاء قطعاً، فضلاً عن الاستعمال العرفي، وإنما أعطي هؤلاء حكم الصحبة لشرف ما حصل لهم من الرؤية له صلى الله عليه وسلم، ولدخولهم في القرن الذي أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خير القرون من أمته. فكان ذلك على وجه التوسع المجازي لا بالحقيقة والله أعلم. الثانية: أما ما بعد هذه المراتب من إلحاق من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره أصلاً. بالصحابة إذا كان قد أسلم في زمنه كالأحنف بن قيس،

_ 1 في أ: لا يحتس بكم. وفي الهندية: لا يحسن بكم. وفي المعجم: لا يحتريكم. والتصويب من نسخة كراتشي. 2 رواه الطبراني في الكبير 8/376 وقال الهيثمي: فيه أبو جناب الكلبي وهو مدلس، وقد وثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 6/22. قلت: ذكره ابن حبان في المجروجين، وقال: كان يدلس على الثقات ما سمع من الضعفاء فالتزق به المناكير التي يرويها عن المشاهير. المجروحين 3/111. وانظر تهذيب التهذيب 5/4.

وأبي عبد الله الصنابحي وأشباههما. فلا ريب أنه بعيد جداً. لأن الصحبة منفية عن هؤلاء قطعاً بالإعتبار اللغوي والمعنى الإصطلاحي. ولا رؤية حصل لهم بها شرف المنزلة، فلا وجه لعدهم في جملة الصحابة، إلا على ما تقدم ذكره من استيفاء ذكر أهل القرن الأول الذي عاصره النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك من ولد في حياته صلى الله عليه وسلم من أبناء الصحابة، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهو إبن سنة ونحو ذلك. فلا يطلق على أحد من هؤلاء إسم الصحبة لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز1. لكن هؤلاء المعاصرون على قسمين: أحدهما: من لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مكاتبة أصلاً ولا قرأ كتابه كأبي رجاء العطاردي، وإسمه عمران بن ملحان، وأمثاله ممن لا عداد له إلا في التابعين. الثاني: من كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أو راسله كالنجاشي واسمه أصحمة بن بحر. أو قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله إبن عكيم الجهني. فهؤلاء أقرب من القسم الأول بناء على أن المكاتبة أحد أنواع التحمل

_ 1 قال الحافظ ابن حجر: القسم الثاني: في من ذكر في الصحابة من الأطفال الذي ولدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة من النساء والرجال ممن مات صلى الله عليه وسلم وهو في دون سن التمييز. إذا ذكر أولئك في الصحابة إنما هو على سبيل الإلحاق لغلبة الظن على أنه صلى الله عليه وسلم رآهم. لتوفر دواعي أصحابه على إحضارهم أولادهم عنده عند ولادتهم ليحنكهم ويسميهم ويبرك عليهم. لكن أحاديث هؤلاء من قبيل المراسيل عند المحققين من أهل العلم بالحديث. الإصابة 1/5.

التي تصح بها الرواية. فهم مرتفعون عن أن يعدوا في قسم التابعين، ولا بد لما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من الإتصال فيكون ذلك علامة مجوزة لإطلاق إسم الصحبة عليهم بطريق المجاز، وأما الحقيقة فمنتفية قطعاً. ومقابل هذا في التوسع. أعني عد هذين القسمين من جملة الصحابة. قول من ضيق الأمر جداً ولم يجعل الصحابي إلا من صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وهو المحكي عن سعيد بن المسيب إن ثبت عنه1. والإجماع منعقد في كل عصر على عدم اعتبار هذا الشرط في إسم الصحابي. كيف والمسلمون في سنة تسع وما بعدها من الصحابة آلاف كثيرة، وكذلك من أسلم زمن الفتح من قريش وغيرها ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا زمناً يسيراً. واتفق العلماء على أنهم من جملة الصحابة. وأما اشتراط الجمع بيه الصحبة والرواية فضعيف. لأن الرواية لم تتصل إلا عن عدد يسير من الصحابة بالنسبة لجميعهم رضي الله عنهم. فقد جاء عن أبي زرعة الرازي أنه سئل عن عدد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

_ 1 قال العراقي 1- لا يصح هذا عن إبن المسيب. ففي الإسناد إليه محمد بن عمر الواقدي، ضعيف في الحديث. التقييد والإيضاح 297، فتح المغيث 3/94.

4-" شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفاً، وشهد معه تبوك سبعون ألفاً" وعن أبي زرعة أيضاً أنه قال: 5-"قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفاً من الصحابة، ممن روى عنه وسمع منه". وفي رواية: ممن رآه وسمع منه. فقيل له: يا أبا زرعة، هؤلاء أين كانوا وأين سمعوا منه..؟ فقال: أهل المدينة وأهل مكة ومن بينهما من الأعراب. ومن شهد معه حجة الوداع، كل رآه وسمع منه فعرفه1. قلت: وكذلك من شهد معه فتح مكة، وغزوة حنين فإنهم كانوا يوم حنين إثني عشر ألفاً. ومن وفد عليه من القبائل، ومع هذا كله فأكبر الكتب المصنفة في مسانيد الصحابة وأكثرهاً حديثاً مسند الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله. وجميع ما فيه لمن سمى من الصحابة من الرجال والنساء نحو سبعمائة وثلاثين نفساً، ومن المبهمين الذي لم يسموا من الصنفين نيف وثلاثمائة. فيسقط من هؤلاء جملة من الصحابة مع المعرفة بهم، وعدهم في أهل بدر وأحد والحديبية ونحوها. وقد تقدم أنه لا يلزم مع عدم إتصال رواية عن أحد منهم أن لا يكون روى شيئاً بالكلية، والله أعلم. الثالث: ذكر الآمدي وابن الحاجب2. وغيرهما من أئمة

_ 1 مقدمة ابن الصلاح ص 149، فتح المغيث 3/112. 2 شرح مختصر المنتهى 2/67، أحكام الأحكام 2/93.

الأصول أن الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى نزاع لفظي في مسمى الصحابي على ما ينطلق. وهذا فيه نظر من جهة أن مراد المصنفين غالباً بالنزاع اللفظي ما لا يترتب عليه حكم شرعي. ولا ريب في أن هذا الخلاف يترتب عليه أحكام شرعية. منها: العدالة الآتي تقريرها للصحابة رضي الله عنهم. فإن من لا يعد الرائي من جملة الصحابة يتطلب تعديله بالتنصيص على ذلك كما في سائر الرواة من التابعين فمن بعدهم. ومن ثبتت له خصيصة الصحبة بمجرد اللقاء أو بالصحبة اليسيرة لا يحتاج إلى ذلك، بل يكتفي بشرف الصحبة تعديلاً. ومنها: الحكم على ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بكونه مرسل صحابي أم لا. فإن الجمهور على قبول مراسيل الصحابة ولم يخالف فيها إلا الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني1. فإذا أثبت لمن له مجرد الرؤية كونه صحابياً التحق مرسلة بمثل ما روى عن ابن عباس، والنعمان بن بشير وأمثالهما عن النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 وشبهته في ذلك أنه وجد لبعض الصحابة أحاديث. حدثهم بها جماعة من التابعين فرووها عنهم، والجمهور على خلاف ذلك. لأن العلة في رد المرسل إنما هي الجهل بعدالة الراوي، لجواز أن لا يكون عدلاً وهو منتف في حق الصحابة، لأن كلهم عدول ولا يضر الجهالة بعين الراوي منهم بغير كونه صحابياً. جامع التحصيل 31.

في القبول على رأي الجمهور. وإن لم نعطه إسم الصحبة كان حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم كمرسل سائر التابعين يجيء فيه الخلاف المشهور. ومنها أن من كان منهم مجتهداً أو نقلت عنه فتياً وحكمة1 هل يلتحق ذلك بكونه قول صحابي حتى يكون حجة على رأي كثير من أهل العلم أو لا يكون كذلك – يعني أيضاً على إعطائه رتبة الصحبة أم لا. فتبين أن الخلاف في هذه المسألة ينبني عليه أحكام مهمة عظيمة الجدوى فكيف يكون لفظياً. وما صرح به بعضهم أن الخلاف اللفظي قد يترتب عليه حكم شرعي فهو بعيد عن المعروف من اصطلاحهم، والله أعلم. الرابعة: تقدم في عبارة الإمام البخاري وغيره، تقييد من رآه صلى الله عليه وسلم أو كلمه أو ماشاه بكونه مسلماً في تلك الحالة حتى يثبت له إسم الصحبة. وكذلك قال الآمدي وغيره2. وهذا هو الحق وإن كانت المسألة قل من صرح بها فإن الصحبة رتبة شريفة اختص بها من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو كلمه أو مشي معه، أو رآه على القول بذلك، وإنما تثبت هذه الخصيصة ويصح الاتصاف بها بشرطها، وهو الإيمان به صلى الله عليه وسلم حتى يصح انتسابه إليه، فمن ليس كذلك لا بصح انتسابه إلى صحبته.

_ 1 في نسخة كراتشي: فتا وحكاية. 2 وهو رأي السبكي أيضاً. جمع الجوامع 2/165. وانظر أحكام الأحكام 2/92-93.

ولهذا منع الله تعالى نسبة المنافقين إلى صحبته صلى الله عليه وسلم وأن يُروى عن أحد منهم شيء أصلاً، ولا يوجد لأحد منهم ذكر في شيء من كتب الصحابة. وكذلك أيضاً لم يذكر أحد عبد الله بن صياد في الصحابة، وقد كلمه النبي صلى الله عليه وسلم ووقف معه في قصته المشهورة1، وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحج، ولم يعتدوا بذلك اللقاء والكلام في حال كفره، والله أعلم بما آل إليه أمره بعد إسلامه، وقد ذكر هذه المسألة بعض المتأخرين من فضلاء المغاربة وقال: لعلها لم تقع. أي أن يلقى النبي صلى الله عليه وسلم رجل على كفره ويكلمه ثم يسلم بعد وفاته. وغفل عن إبن صياد هذا2. وممايستغرب ذكره هنا شيئان: أحدهما: ما رواه أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن شقيق عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء قال:

_ 1 أوردها البخاري في صحيحه. فتح الباري 6/171 2 قال الحافظ ابن حجر: لم يثبت أنه أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا معنى لذكر ابن صياد في الصحابة، لأنه إن كان الدجال فليس بصحابي قطعاً، لأنه يموت كافراً. وإن كان غيره فهو حال لقيه النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلماً. * في الأمريكية – في محله – الإصابة 3/134.

6-"بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه. ونسيت ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: يا فتى لقد شققت علي. أن هاهنا منذ ثلاث أنتظرك"1. فهذه القصة كانت قبل النبوة، ولم يكن أسلم عبد الله بن أبي الحمساء يومئذ قطعاً، ثم إنه لم يذكر له بعد ذلك صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له إلا هذا الحديث الواحد. ولكن الظاهر أن له صحبة وإسلاماً مع النبي صلى الله عليه وسلم2. فقد ذكره جماعة ممن سكن البصرة من الصحابة وعده بعضهم في المكيين3. فلو فرض في مثل هذا أنه أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه بعد إسلامه. هل يكتفي بذلك اللقاء الأول مع إسلامه في زمنه ويعد صحابياً بذلك..؟ هذا مما فيه نظر واحتمال منقدح، بخلاف من لم يسلم إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. ومن هذا النوع أيضاً: سعيد بن حيوة الباهلي. رأى النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو صغير في حياة جده عبد المطلب، وهو يتطلبه لما أبطأ عنه في قصة رويناها من طريق داود بن أبي هند عن العباس بن عبد الرحمن عن كندير بن سعيد عن أبيه4.

_ 1 رواه أبو داود في باب في العدة من كتاب الأدب. عون المعبود 13/339. وانظر تحفة الأشراف 4/313. 2 الإصابة 2/298. 3 تهذيب التهذيب 5/192. 4 القصة أوردها الحافظ ابن حجر في كتاب الإصابة 2/45. وقال عقبه: لم أره في شيء من طرق حديثه أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة. وقال إبن أبي حاتم: كندير بن سعيد بن حيوة قال: حججت في الجاهلية فإذا أنا برجل يطوف بالبيت.. الخ. وقال الحافظ: وهم في ذلك وهماً شنيعاً، فإنه أسقط منه ذكر والده سعيد. انظر: الجرح والتعديل 2/3/173، الإصابة 3/311.

قال ابن عبد البر: لا يعرف سعيد إلا بهذا الحديث1. قلت: ولم يذكر أحد له لقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد المبعث والله أعلم. الثاني: أن الصحابي إذا لقي النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ثم ارتد بعد وفاته ثم رجع إلى الإسلام، هل تحبط ردته ما ثبت له من شريف الصحبة، حتى إنه لا يعد فيهم أو لا..؟ لأنه رجع إلى الإسلام بعد ذلك. هذا مما فيه نظر. ولا يبعد على أصل الحنفية القائلين بأن هذا إسلام جديد، يجب عليه فيه الحج وإن كان قد حج أولاً، فقد حبط ذلك الحج أن يقال بأن صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم بطل حكمها وبقي كمن لمن يسلم إلا بعد وفاته. وأما على أصول أصحابنا فلا يجيء ذلك لأن الحبوط مشروط بالوفاة على الردة فلما رجع هذا إلى الإسلام، بقي حكم الصحبة في حقه متسمراً، ولهذا ذكروا الأشعث بن قيس من جملة الصحابة وعدوا أحاديثه من المسندات، وكان ممن ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى الإسلام بين يدي أبي بكر رضي الله عنه2 وزوجه أخته3، والله أعلم.

_ 1 الإستيعاب 2/17. * الأمريكية: منقدح. 2 انظر السخاوي 3/91. وانظر أدلة كل فريق باستيعاب في كتاب: ((صحابة رسول الله)) تأليف الأستاذ عبادة أيوب ص 55. 3 هي أم فروة. وانظر ترجمتها في الإصاة 4/482.

الخامسة: إذا قيل بأن من له مجرد الرؤية من الصحابة، فهل يلتحق بذلك من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد وفاته وقبل دفنه صلى الله عليه وسلم وقد كان مسلماً في حال حياته؟ لم أر أحداً تعرض لهذه الصورة1، وهي محتملة وليست مجرد فرض، بل قد وقعت لأبي ذؤيب الهذلي الشاعر. وقيل اسمه خويلد بن خالد في قصته المشهورة لما أخبر بمرض النبي صلى الله عليه وسلم فسافر نحوه فقبض صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى المدينة بيسير وحضر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر رضي الله عنه ثم حضر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه مسجى وشهد دفنه ولم تتقدم له رؤية قبل ذلك، لكنه كان مسلماً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.2 ولا يبعد أن يعطي هذا حكم الصحبة لشرف ما حصل له من رؤيته صلى الله عليه وسلم قبل دفنه وصلاته عليه، وهو أقرب من عد المعاصر الذي لم يره أصلاً فيهم. أو الصغير الذي ولد في حياته. والله أعلم.

_ 1هذا الإطلاق فيه شيء من المبالغة. لأن العلماء تناولوا هذه القضية فمنهم من صنفها – أي كونه في عداد الصحابة- كالعز بن جماعة، والحافظ العراقي، وابن حجر، والسخاوي، وهناك من عده منهم كابن عبد البر والبلقيني. انظر فتح المغيث 3/89. 2 ذكره الحافظ ابن حجر في القسم الثالث. الإصابة 4/65.

المسألة الثانية: في طرق إثبات الصحبة

المسألة الثانية: في طرق إثبات الصحبة ... المسألة الثانية: "فيما تثبت به الطرق المتقدمة". قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح3:

_ 3 مقدمة ابن الصلاح ص 146، فتح المغيث 3/96.

ثم إن كون الواحد منهم صحابياً يعرف تارة بالتواتر، وتارة بالإستفاضة القاصرة عن التواتر. وتارة بأن يروي عن آحاد الصحابة أنه صحابي. وتارة بقوله وأخباره عن نفسه بعد ثبوت عدالته أنه صحابي. وقال الآمدي في الأحكام: لو قال من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم أنا صحابي مع إسلامه وعدالته فالظاهر صدقه، ويحتمل أن لا يصدق في ذلك لكونه متهماً بدعوى رتبة يثبتها لنفسه. كما لو قال: أنا عدل أو شهد لنفسه –بحق-1. قلت: وقد بنى بعض المصنفين هذا على أن مجرد الرؤية أو الصحبة اليسيرة، هل يثبت فيها مسمى الصحابي أم لا؟ فإن قلنا يكون بذلك صحابياً فذلك مما يتعذر فيه إثبات بالنقل دائماً إذ ربما لا يحضره حالة اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم أحد أو حال رؤيته إياه، أو حضر ذلك واحداً أو اثنان ولم ينقلا ذلك. فلو لم يثبت ذلك بقوله لتعذر إثباته. بخلاف ما إذا ادعى طول الصحبة وكثرة التردد في السفر والحضر، فإن مثل ذلك يشاهده أقوام كثيرون فينقل ويشتهر فلا يثبت بقوله2. ونظير هذا النوع، المودع والوكيل إذا ادعيا الهلاك بسبب ظاهر، فإنه لا يقبل قولهما إلا ببينة لإمكان ذلك3. بخلاف ما إذا ادعيا مطلق الهلاك. أو أسنداه إلى سبب خفي فإنه يقبل قولهما فيه من غير بينة. ثم

_ 1 الزيادة من أحكام الأحكام 2/93. 2 انظر فتح المغيث 3/98. 3 أي لإمكان إثبات البينة في الهلاك.

إن قول من تقدم أنه يقبل قوله. أنا صحابي بعد ثبوت عدالته يشمل على صورتين: أحداهما: أن يكون ثابت العدالة قبل دعواه أن صحابي. والثاني: أن يقول ذلك ولم يعلم حاله ثم تظهر عدالته بالاختبار بعد ذلك، وهذا ظاهر في القسمين، ووراء هذا قسم آخر وهو أن يذكر لقائه النبي صلى الله عليه وسلم واجتماعه به أو يروى شيئاً يذكر أنه سمعه منه أو شاهده بفعله، ولا يعرف ذلك إلا من جهته ولا يعلم حاله قبل ولا بعد. غير أنه لم يظهر فيه ما يقتضي جرحاً. وقد ذكر الإمام أبو الحسين بن القطان في أثناء كلام له، أن الناس اختلفوا في تصحيح أحاديث هذا الصنف. فقبلها قوم وردها بعض أهل الظاهر1. وفي كلامه ما يقتضي ترجيح الثاني لأنهم لو ادعوا لأنفسهم أنهم ثقات لم يسمع منهم فكيف يقبل منهم ادعاء مرتبة الصحبة. والذي ذهب إليه أبو عمر بن عبد البر، قبول قول أمثال هؤلاء وتصحيح أحاديثهم بناء على ظاهر سلامتهم عن الكذب والفسق، وهذا هو الذي يقتضيه عمل أئمة الحديث، فإنهم خرجوا في مسانيدهم ومعاجمهم المصنفة على أسماء الصحابة حديث جماعة كثيرين من هذا الصنف. وكذلك كل من صنف في الصحابة يذكر هؤلاء فيهم من غير توقف. ولكن يبين الطريق إلى ذلك وأنها غريبة. وأنه لا يعرف صحبته

_ 1 انظر فتح المغيث 3/98.

إلا بها لأن هذا شأن مصنفه، بخلاف أصحاب المسانيد والمعاجم فإنهم يخرجون أحاديثهم ويسكتون عنها غالباً. والاحتمال في هذه الصورة أقوى منه فيما تقدم إذا كانت عدالة المخبر بذلك معلومة. وهذا كله فيمن لم يتضمنه كتب التواريخ والسير بأنه صحابي, فأما إذا شهد له بالصحبة مثل البخاري أو مسلم، أو ابن أبي حاتم، أو ابن أبي خيثمة في كتبهم المصنفة وأمثالهم، فإن صحبته تثبت بذلك وإن كان سند حديثه غريباً أو فرداً ولا يعرف بغيره، كما أن من لم يرو عنه إلا راو واحد فهو محكوم عليه بالجهالة إلا أن يكون بعض أئمة الحديث قد وثقه، فإنه لا تلازم بين الجهالة وبين إنفراد الراوي عن الشيخ، فقد يكون معروفاً بالثقة والأمانة ولم يتفق أن يروى عنه إلا واحد، كذلك هذا يكون معروف اللقاء والصحبة اليسيرة بين أهل المغازي والسير وإن لن يرو ذلك إلا من جهة واحدة بأخباره عن نفسه. فأما إذا أخبر التابعي أنه صحابي حالة الرواية، فهذا على أضرب: أحدها: أن يقول أخبرني فلان أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول كذا، مقتصراً على مثل ذلك فهذا حكمه ما تقدم في مدعي الصحبة. وثانيهما: أن تثبت صحبته حال الرواية عنه، ويسميه باسمه، فإن كان مذكوراً بذلك في كتب المغازي والسير فحكمه ما تقدم. وأما إذا لم يكن معروفاً بالصحبة إلا من هذه الطريق فالظاهر الإعتماد على قول التابعي إذا كان ممن يعتمد قوله في مثل ذلك. على أنه يجوز أن يكون التابعي بنى ذلك على تصديقه في دعواه الصحبة وأن المسلمين محمولون على العدالة إلا في من ظهر منه ما يوجب الفسق، فاكتفى فيه بذلك

ولكنه احتمال بعيد، والأول أظهر منه مثل هذه الرتبة لا يثبتها التابعي العارف المعتمد إلا بعد تثبت وغلبة الظن بأن هذا صحابي. ثالثها: أن لا يسميه بل يقول أخبرني رجل أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أو رآه يفعل كذا ونحو ذلك ولا يزيد عليه. فهذا يقرب من الضرب الأول. فلو قال أخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم بكذا ولم يصرح بلقائه وقلنا بالراجح أن عن تقتضي الإتصال إلا من المدلس، فلا ريب في أن هذه الصورة يترجح فيها احتمال الوقف، إلا أن تثبت صحبة ذلك الرجل بأحد الطرق المتقدمة لأن التدليس وإن كان لم يثبت في حق هذا الرجل الذي قال عن النبي صلى الله عليه وسلم فالإرسال غير منتف عنه. وكم من تابعي يرسل حديثاً بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن إنما نثبت الإتصال بلفظ عنه إذا ثبت لقاء المعنعن عنه على الراجح أو يكتفي بمجرد إمكان اللقاء على قول مسلم، وليس في قول التابعي أخبرني رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقتضي ثبوت لقائه إياه ولا إمكان ذلك. نعم قد يفرق في مثل هذا بين التابعي الكبير المتقدم وبين من بعده إذ الغالب على الظن أن التابعي الكبير إنما يروي عن الصحابة دون التابعي الصغير. فيقوى الحكم بكون ذلك الرجل صحابياً1. وقد وقع للقاضي أبي بكر بن العربي في أثناء كلامه في كتابه القبس في شرح الموطأ أنه قال: اتفقت الأمة على أن مجهول العين تجوز الرواية عنه إذا قال يعني الراوي عنه من التابعين حدثنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لوجوب العدالة لهم ولا يجوز ذلك في غيرهم لعدم العدالة فيهم. وفي هذا النقل

_ 1فتح المغيث 3/99.

من الإجماع نظر ظاهر يعرف مما تقدم. وقد حكى ابن القطان الخلاف في ذلك مع تسمية المذكور بأنه صحابي فهو جار في قوله رجل. بطريق الأولى. وقد حكى بعض الفضلاء عن ابن حزم أنه قال في كتابه النبذ الكافية له: كل من روى عن صاحب لم يسمه، فإن كان ذلك الراوي ممن لا يجهل صحة قول من يدعي الصحبة من بطلانه، فهو خبر مسند تقوم به الحجة، لأن جميع الصحابة رضي الله عنهم عدول. قال: وإن كان الراوي ممن يمكن أن يجهل صحة قول مدعي الصحبة، فهو حديث مرسل لا تقوم به الحجة، إذ لا يؤمن من فاسق من الناس أن يدعي الصحبة عند من لا يعرف كذبه من صدقه1. وأما إذا روى الراوي الثقة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خبراً ولم يسمها فهو حجة قاطعة، لأنه لا يمكن أن تخفى أمهات المؤمنين على أحد من أهل التمييز في ذلك الوقت2. هذا ما نقله عن ابن حزم، وهو تفصيل حسن بالغ، ومقتضاه أن ما قال فيه أحد علماء التابعين وأهل الخبرة منهم حدثني رجل من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بكذا أنه يكون مقبولاً، لأن الظاهر أنه لا يطلق ذلك إلا بعد ثبوت صحبته عنده. وحينئذ لا تضر الجهالة بإسمه لما سنقرره إن شاء الله تعالى من عدالة جميعهم.

_ 1 في النسخة الأمريكية: صدقه من كذبه. 2 النبذ لابن حزم ص 53. وانظر السخاوي 3/99 حيث فرق بين التابعي الكبير والصغير.

وأما إذا لم يكن من علماء التابعين ففيه الاحتمال الذي قاله ابن حزم والتوقف فيه قوى. هذا إذا وصفه التابعي بأنه صحابي، فأما إذا قال حدثني رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن فيه ما يقتضي اللقاء، فقد تقدم الكلام فيه، وإن الأقوى التفرقة بين كبار التابعين وصغارهم، ويلتحق بما ذكره ابن حزم من الراوية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مبهمة. ما إذا قال التابعي الثقة حدثني رجل من أهل بدر، أو من أهل بيعة الرضوان، ونحو ذلك مما لا يخفي بطلان دعوى من يدعي ذلك لنفسه إذا كان كاذباً على أهل ذلك الزمن، لأن المتصفين بمثل هذه الصفات كانوا حينئذ مشهورين مميزين عند كل أحد بخلاف دعوى مطلق الصحبة، فإن فيهم الأعراب ونزاع القبائل ممن لا يعرف حاله أصلاً، ولهذا نجد كثيراً منهم اختلف أئمة الحديث في إثبات الصحبة له، فأثبتها بعضهم ونفاها آخرون، ولم يختلفوا في من شهد بدراً والحديبية إلا في النادر منهم. وقد تحصل من مجموع ما تقدم أن ما ثبت به الصفة المقتضية للصحبة على مراتب: أولها وهو أعلاها: التواتر المفيد للعلم القطعي بصحبته، وهذا لا يختص بالعشرة المشهود لهم بالجنة وأمثالهم، بل يدخل فيه أيضاً كل من تواترت الرواية عنه من الصحابة المكثرين الذين بلغ عدد الرواة عنهم العدد المفيد للتواتر كأبي سعيد الخدري، وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأمثالهم، وكذلك من اتفقت الأمة على صحة حديثه وتلقته بالقبول، وإن لم تكثر الرواية عنه كأبي قتادة وأبي مسعود البدري ونحوهما.

فإن من لوازم ذلك اتفاقهم على كونه صحابياً، ويندرج في هذا عدد كثير من الصحابة المتفق على صحة أحاديثهم. وثانيها: أن تكون صحبته ثابتة بالإشتهار القاصر عن رتبة التواتر وهو يفيد العلم النظري عند كثير من العلماء، ويلتحق بهذه الرتبة من اتفقت كتب السير والمغازي والتواريخ على ذكره في الصحابة وتسميته في عدد من الغزوات ولم يوجد أحد خالف في ذلك ولا أهمل ذكره في ذلك. ويندرج في هذا النوع خلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم، وإن كان فيهم من ليس له إلا الحديث الواحد أو الإثنان. وثالثها: من لم يشتهر من جهة الرواية عنه، ولكنه تضمنه كثير من كتب السير بالذكر، أما بالوفادة على النبي صلى الله عليه وسلم أو باللقاء اليسير أو في أثناء قصة أو غزوة، له ذكر ونحو ذلك. فهذه مرتبة دون التي قبلها. ورابعها: من روى عنه أحد أئمة التابعين الذين لا يخفى عنهم مدعي الصحبة ممن هو متحقق بها وأثبت له ذلك التابعي الصحبة أو اللقاء أو جزم الرواية عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير معترض على ذلك لما يلزم في روايته عنه على هذا الوجه من تصديقه فيما ذكر من الصحبة والرواية سواء سماه في روايته عنه أو لم يسمه. بل قال رجل: إذا كان التابعي كما وصفنا بحيث لا يخفى عنه ذلك، ولا فرق بين الحالتين والتابعي كذلك. إذ لا تضر الجهالة بعين الصحابي بعد ثبوت صحبته. وخامسها: أن يقول من عرف بالعدالة والأمانة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رأيته يفعل كذا ونحو ذلك. ويكون سنه يحتمل ذلك، والسند إليه صحيح. فهذا مقبول القول على الراجح وفيه ما تقدم من الاحتمال،

ونظيره أن يروي أحد متقدمي التابعين عن رجل لم يسمه شيئاً يقتضي له صحبة، فإن القرائن هنا قائمة بصدقه منها: ندرة كذب مثل ذلك في ذلك العصر الأول. ومنها: أن الظاهر من التابعي الكبير أنه لا يروي إلا عن صحابي. فإن انضم إلى ذلك وصفه بصفة خاصة، كرجل من أهل بدر أو من أهل بيعة الرضوان فهو أعلى من هذه المرتبة لما تقدم أن مثل هؤلاء كان مشهوراً. فإذا وصفه التابعي الثقة بذلك كان كالتصريح باسمه وهو معروف. فتكون هذه الحالة حينئذ من المرتبة الرابعة. وسادسها: أن يصح السند إلى رجل مستور لم تتحقق عدالته الباطنة، ولا ظهر فيها ما يقتضي جرحه فيروي حديثاً يتضمن أنه صحابي إما بسماعه ذلك أو بمشاهدته شيئاً من أفعاله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. أو برواية مجردة إذا اكتفينا بها في إثبات الصحبة. فهذا يتخرج على قبول رواية المستور. فمن قبله كان ذلك هنا بطريق الأولى لقرينة صدق مثل هذا. وأنه لم يوجد في ذلك القرن من يدعي ذلك كذباً إلا نادراً جداً، ولعله لا يصح السند إليه. 1-ومن لم يقبل رواية المستور في التابعين فمن بعدهم قد يقبل مثل هذا. وهو الذي عليه عمل ابن منده، وابن عبد البر وغيرهما ممن صنف في الصحابة، لعدهم هذا الصنف فيهم من غير توقف فيهم ومن العلماء من توقف في حديثهم وإثبات الصحبة لهم كما تقدم.

_ 1 سقط هذا السطر وما بعده إلى قوله الذين غزوا معه صلى الله عليه وسلم من النسخة الأمريكية.

وسابعها: أن يروي بعض صغار التابعين ومن ليس من أهل الميز منهم عن رجل مبهم ما يقتضي له صحبة، وهي أضعف المراتب وإن كان جماعة من الأئمة قبلوا مثل ذلك وأثبتوا حديثهم في مسانيد الصحابة والرواة عنهم كما وصفت. وكان ذلك –والله أعلم – لقرينة صدق ذلك الجيل الذي هو خير القرون. وأن مثل هذه المرتبة الشريفة لم يدعها أحد في ذلك العصر كذباً، بخلاف الأعصار المتأخرة فقد رويت أحاديث عن جماعة ادعوا أنهم عُمروا وأن لهم صحبة. كما قد أولع كثير في هذه الأزمان بحديث رتن الهندي الذي ادعى الصحبة وأنه عاش إلى نحو الستمائة والخمسين. ولعله لا وجود له البتة. ووضعت عليه هذه الأحاديث. وإن كان له وجود وقد ادعى مثل ذلك، فهو كذاب قطعاً لا يستريب أحد من علماء أهل الأثر في ذلك. وليس هذا موضع بسط الكلام فيه. فأما في ذلك العصر الأول فيعز وجود من يدعي صحبة وهو فيها كاذب. فهذا تقسيم بالغ في تحقيق مراتب ما تثبت به الصحبة، منّ الله به وله الحمد والمنة. ولم أر أحداً بسط الكلام في هذه المسألة مع قوة الحاجة الداعية إليها. والله الموفق للصواب وله الحمد كثيراً لا نحصي ثناء عليه.

_ انظر ترجمة رتن في الإصابة 2/532 القسم الرابع.

المسألة الثالثة: في تقرير عدالة الصحابة

المسألة الثالثة: ((في تقرير عدالة الصحابة رضي الله عنهم)) . والذي ذهب إليه جمهور السلف والخلف، أن العدالة ثابتة لجميع الصحابة رضي الله عنهم، وهي الأصل المستصحب فيهم، إلى أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد منهم لما يوجب الفسق مع علمه، وذلك مما لم يثبت صريحاً عن أحد منهم، بحمد الله فلا حاجة إلى البحث عن عدالة من ثبتت له الصحبة ولا الفحص عنها بخلاف من بعدهم. وهذه المسألة عظيمة الجدوى، والحاجة إليها ماسة في أصول الدين وأصول الفقه جميعاً. أما في أصول الدين: فبالنظر إلى الإمامة وشرايطها وبماذا تنعقد ومن يصح أن يكون إماماً، ومن الذي يعتبر قوله في الحل والعقد. وأما في أصول الفقه: فلأن الصحابة نقلة الشريعة، ولم تصل إلى الأمة إلا من جميعهم، فمتى تطرق الطعن إلى أحد منهم حصل التشويش في أصول الشريعة ولم يبق بأيدينا والعياذ بالله متمسك بشيء منها وتوجهت المطاعن لأهل الزيغ والشبه في الدين، وأدى ذلك إلى الإنحلال بالكلية، كما سيأتي بيانه إن شاء الله، ولا محذور أصعب من هذا، ولذلك لا تجد المخالفين في هذه المسألة إلا شذوذاً لا يعتد بهم من أهل البدع ومن في قلبه مرض. فمنهم من زعم أن حكمهم –أعني الصحابة- في العدالة كحكم غيرهم يجب البحث عنها ومعرفة ما في حق كل واحد منهم1.

_ 1هذا القول نقله الإمام الآمدي. ونسبه السخاوي إلى أبي الحسين بن القطان. انظر: أحكام الأحكام 1/274، فتح المغيث 3/103.

ومنهم من زعم أن الأصل في كل واحد منهم العدالة، لكن في أول الأمر فأما بعدما ظهرت بينهم الفتن فلا، بل حالهم فيما بعد ظهور الفتن كحال غيرهم لأن الفاسق منهم غير متعين1. وذهب جمهور المعتزلة إلى أن من قاتل علياً رضي الله عنه فهو فاسق مردود الرواية والشهادة لخروجه على الإمام الحق2. ومنهم من زعم أنه لا تقبل رواية كل من الفريقين ولا شهادته لأنا لا نقطع بفسق أحد الفريقين، وهو غير متعين فلا يتميز العدل عن الفاسق فيعتذر القبول3. ومنهم من قال: إذا انفرد أحد الفريقين بالرواية أو الشهادة كان مقبولاً، لأن أصل العدالة ثابتة له، وقد شككنا في زوالها، فلا تزال بالشك كما في المياه، فأما إذا شاركه في ذلك مخالفه حيث لا يثبت إلا بهما، فلا يثبت بهما شيء لأن فسق أحد الفريقين معلوم قطعاً من غير تعيين، فيعارض ذلك تعين العدالة المستصحب كما في الإنائين إذا تيقن نجاسة أحدهما وهذا مذهب واصل بن عطاء. ومنهم من شك في فسق عثمان وقتلته رضي الله عنه4. وقال بعض المصنفين: أما قتلة عثمان رضي الله عنه فلا شك في فسقهم، لعدم التأويل الحامل لهم على ذلك، وهذا لا يحتاج إليه فيما

_ 1 فتح المغيث 3/104. 2 وهو رأي واصل بن عطاء. انظر الفرق بين الفرق ص 120. 3 انظر التقييد والإيضاح ص 302. 4 الملل للشهرستاني 1/73.

نحن فيه بحمد الله، لأنه ليس في قتلة عثمان رضي الله عنه من ثبتت له الصحبة أصلاً، ولا من يذكر فيهم سوى محمد بن أبي بكر، وهو لا صحبة له ولا رؤية أيضاً، لأنه ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر. وجميع ما تقدم من هذه الأقوال الشاذة باطلة، والحق ما ذهب إليه الجمهور الأعظم من القول المتقدم أولا، إلا أن الإمام المازري لم يعم به جميع الصحابة بل قال: لسنا نعني به كل من رآه اتفاقاً أو زاراه لماماً أو ألمّ به لغرض وانصرف عن قريب، لكن إنما نريد به الصحابة الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأولئك هم المفلحون.1 وهذا قول غريب يخرج كثيراً من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم لهم بالعدالة أصلاً كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث، وعثمان بن أبي العاص، وأشباههم ممن وفد عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقم إلا أياماً قلائل ثم انصرف. وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد أو الإثنين ولم يدر مقدار صحبته من أعراب القبائل. فالقول بالتعميم هو الذي عليه الجمهور، وإن كان بعض الأدلة التي نذكرها تظهر اختصاصها بالذين أشار إليهم المازري، فغيرها يقتضي تعميم الحكم للجميع، ومجموعها يرجع إلى وجوه: أحدها: ثناء الله عليهم ومدحه إياهم ووصفه لهم بكل جميل، قال الله تعالى:

_ 1 الإصابة 1/10-11 حيث أشار الحافظ إلى اعتراض بعض الفضلاء لقول المارزي منهم العلائي، ونقل عنه الرد الوارد هنا.

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية1. والمراد بالذين اتبعوهم بإحسان، من جاء بعد السابقين الأولين من الصحابة رضي الله عنهم. قاله جماعة من المفسرين2. قالوا: وهم من أسلم بعد الحديبية وبيعة الرضوان إلى آخر زمنه صلى الله عليه وسلم3. ويؤيد ذلك أن الآيات كلها فيما يتعلق بالمتخلفين عن النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين في غزوة تبوك. فأتبع الله ذلك بفضيلة الصحابة4 الذين غزو معه صلى الله عليه وسلم وقسمهم إلى السابقين الأولين ومن بعدهم. ثم أتبع ذلك بذكر الأعراب وأهل البوادي الذين في قلوبهم نفاق أو لم يرسخوا في الإسلام. فقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} .. الآية5. فدل على أن المراد بالذين اتبعوهم بإحسان هم بقية الذين تأخر إسلامهم. فشملت الآية جميع الصحابة6.

_ 1 سورة التوبة الآية: 100. 2 فتح القدير 2/398. 3 المصدر السابق. 4 انتهى السقط هنا. 5 سورة التوبة آية 101. 6 قال الشوكاني: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وهم المتأخرون عنهم من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، وليس المراد بهم التابعين اصطلاحاً. فتح القدير 2/398.

وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه، فمن ادعى بعد ذلك في أحد منهم أنه قد سخط عليه، لزمه بيان ذلك بدليل قاطع عن الله تعالى، ولا سبيل إلى ذلك. قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} .. إلى آخر الآية1. وهي أيضاً شاملة لجميع الصحابة رضي الله عنهم. لأن كل من أقام معه صلى الله عليه وسلم ساعة ثبت إتصافه بأنه ممن معه فكان المدح في الآية شاملاً للكل رضي الله عنهم. وقال الله تعالى في وصف المهاجرين: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 2. ثم مدح الأنصار بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} .. الآية إلى آخرها3. ثم ذكر من أسلم بعدهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} .. الآية4.

_ 1 سورة الفتح الآية 29. 2 سورة الحشر آية 8. 3 السورة السابقة آية 9. 4 السورة السابقة آية 10.

والظاهر أن المراد بها من تأخر إسلامه وصحبته منهم، كما في الآية المتقدمة، بدليل قوله: {جَاءُوا} بلفظ الماضي، فهو أولى من حمله على التابعين، لما فيه من التجوز بلفظ الماضي عن الاستقبال. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية، وهي خاصة بأهل بيعة الرضوان منهم. بخلاف الآيات المتقدمة فإنها تعم جميع الصحابة رضي الله عنهم. ولكنها –أعني هذه الآية- مفيدة التمسك بها في حق من لابس الفتن من أهل الحديبية. فقد تقدم فيهم الخلاف مطلقاً. والله سبحانه وتعالى أخبر أنه قد رضي عمن بايع تحت الشجرة فيستصحب هذا الحكم فيهم إلى أن يتبين خلافه عن الله تعالى، كما تقدم قريباً. واحتج جماعة من المصنفين بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .. الآية1. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الوسط. العدل" 2. وبقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 3 الآية.

_ 1 سورة البقرة الآية 143. 2 حديث صحيح. رواه البخاري في صحيحه. انظر فتح الباري 8/171، 13/316، تفسير ابن كثير 1/190 للنظر في طرقه المتعددة. 3 سورة آل عمران الآية 110.

وأعترض بعضهم على ذلك. بأن المراد بالآيتين جميع الأمة إلى قيام الساعة فلا يتخصص بها بعضهم لما يلزم في ذلك من إستعمال اللفظ في معنيين مختلفين. وهوالمجموع من حيث هو مجموع الأمة، وعصر الصحابة دون غيرهم. ويمكن الجواب عنه بوجهين: أحدهما: إلتزام جواز استعمال اللفظ في المعنيين بناء على جواز التمسك به في الحقيقة والمجاز جميعاً. وهو مذهب الشافعي كما في حمل اللفظ المشترك على كلا المعنيين. وثانيهما: أن دلالة الآيتين وإن كان شاملاً لجميع الأمة، فهي متضمنة الثناء عليهم بأنهم خير أمة، ووصفهم بالعدالة في الآية الأولى. وقد خرج من هذا الوصف من بعد الصحابة بالإجماع على أنه لا بد من معرفة ذلك فيهم بالبحث عن أحوالهم. فبقي في الصحابة على مقتضى الآية. وإذا كانت الآية الأخرى متضمنة وصف الأمة كلهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس. فلا ريب في أن الصحابة رضي الله عنهم أولى الناس بالاتصاف بذلك وأعلاهم رتبة فيه. فلا أعدل ممن ارتضاه الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته والسبق إليه. ولا تزكية أفضل من ذلك ولا تعديل أكمل منه. الوجه الثاني من الأدلة: ثناء النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره بما منحهم الله تعالى من كونهم خير القرون من أمته وأفضلها وإن أحداً ممن يأتي بعدهم لا يبلغ أدنى جزء من شأنهم ولو أنفق ملء الأرض ذهباً في سبيل الله.

ففي الصحيحين من طريق عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 7- "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" 1. ومن حديث زهدم الجرمي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 8- "خير الناس قرني الذي أنا فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" قال عمران: فلا أدري أذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. متفق عليه – أيضاً2. ورواه الترمذي من حديث الأعمش عن علي بن مدرك عن هلال إبن يساف عن عمران رضي الله عنه3. وأخرج مسلم أيضاً من حديث عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ 1 رواه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم في باب فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. فتح الباري 7/3، صحيح مسلم 16/86. 2 رواه البخاري بلفظ: "خير أمتي قرني". ومسلم بلفظ: "إن خيركم قرني". فتح الباري 7/3، صحيح مسلم 16/87. 3 باب ما جاء في القرن الثالث. وقال عقبه: هكذا روى محمد بن فضيل هذا الحديث عن الأعمش عن علي بن مدرك عن هلال بن يساف. وروى غير واحد من الحفاظ عن الأعمش عن هلال بن يساف ولم يذكروا علي بن مدرك، وهو أصح عندي من حديث محمد بن فضيل. تحفة الأحوذي 6/470.

9- "خيركم قرني. ثم الذين يلونهم. قال: فلا أدري ذكر مرتين أو ثلاثاً ... الحديث" 1. وفي مسند أحمد بن حنبل من طريق عاصم بن أبي النجود عن خيثمة، والشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 10- "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.. الحديث" 2. وإسناده صحيح. وروينا من حديث أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني ثنا صدقة بن خالد ثنا عمرو بن شراحيل عن بلال بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: قلنا: 11- "يا رسول الله، أي أمتك خير؟ قال: أنا وأقراني. ثم ماذا؟ قال: ثم القرن الثاني. قال: ثم ماذا؟ قال: ثم القرن الثالث" 3. وسعد هذا هو ابن تميم مشهور من الصحابة. وابنه بلال من فضلاء التابعين. وعمرو بن شراحيل وثقه ابن حبان ولم يتكلم فيه أحد. وصدقة بن خالد احتج به البخاري. وأبو مسهر مشهور من رجال الصحيحين. وقد رواه معلى بن منصور عن صدقة بن خالد أيضاً ولفظه:

_ 1 متفق عليه. واللفظ الذي أورده المؤلف هو لفظ رواية عمران بن حصين. أما رواية أبي هريرة فلفظه: "خير أمتي القرن الذي بُعثت فيه..". انظر: فتح الباري 5/258، صحيح مسلم 16/86. 2 المسند 4/267. 3 رواه الطبراني في الكبير 6/54، وقال الهيثمي: "رجاله ثقات". 10/19. وانظر: فتح الباري 7/7.

12- "قيل يا رسول الله أي التابعين خير. قال: انا وأصحابي.." وذكر بقيته. وهذا يؤيد ما تقدم من أن المراد بالتابعين الصحابة الذين تبعوه في الإسلام، دون المعني الاصطلاحي فإنه متأخر. وروى أبو نعيم الفضل بن دكين وغيره. عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن جعدة بن هبيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 13- "خير الناس قرني الذين أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.." 1. وجعدة بن هبيرة هو إبن أم هانئ، أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه2. أثبت له ابن عبد البر وجماعة الصحبة3. قال يحيى بن معين: لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً4. والأول أظهر. وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وجوه عديدة أنه قام بالجابية خطيباً فقال:

_ 1 رواه ابن أبي شيبة والطبراني. عن عبد الله بن إدريس عن أبيه عن جده. قال الحافظ ابن حجر: "رجاله ثقات. إلا أن جعدة مختلف في صحبته". وقال الهيثمي: "إدريس بن يزيد الأودي لم يسمع من جعدة". قلت: وفي إسناده أبي نعيم. داود الأودي، قال فيه الحافظ: ضعيف. أما جعدة فقد أثبت المزي صحبته والحافظ ابن عبد البر وكذلك ابن حجر. انظر: الاستيعاب 1/240، المصنف 12/176، المعجم الكبير 2/320، تهذيب التهذيب 2/81، الإصابة 1/236، فتح الباري 7/7، مجمع الزوائد 10/20. 2 وهم الحافظ العلائي هنا إذ خلط بين جعدة الأشجعي راوي الحديث وهو صحابي باتفاق. وبين جعدة المخزومي وهو إبن أم هانئ، وليس له تعلق بالحديث، وقد اختلف في صحبته، وذكره الحافظ لأجل ذلك في القسم الثاني. 3 الاستيعاب 1/240. 4 التاريخ 2/83، جامع التحصيل 185، تهذيب التهذيب 2/82.

14- "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: أكرموا أصحابي فإنهم خياركم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 1. وذكر الحديث. فهذا الحديث مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي بعض ما تقدم من ألفاظه ما يقتضي دخول من رآه صلى الله عليه وسلم في أنه متصف بهذه الخيرية. وقد روى الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء بن زبر عن عبد الله بن عامر اليحصبي أنه سمع واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: 15- "لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني.. الحديث" 2. وإسناده صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: 16- "فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه". متفق عليه3. وفي حديث عبد الرحمن بن سالم بن عويم بن ساعدة عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

_ 1 رواه عبد الرزاق في مصنفه. والترمذي في جامعه. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقد رواه ابن المبارك عن محمد بن سوقه. وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. المصنف 11/241، تحفة الأحوذي 6/383. 2 قال الهيثمي: رواه الطبراني من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح. مجمع الزوائد 10/20. 3 رواه البخاري في كتاب الفضائل. ومسلم في باب تحريم سبّ الصحابة. فتح الباري 7/1، صحيح مسلم 16/93.

17- " إن الله اختارني واختار لي أصحاباً، وجعل لي منهم وزراء وأنصاراً، فمن سبهم فعليه لعنة الله" 1. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: 18- "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه وبعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون عن دينه". وروى السدي عن أبي مالك عن إبن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} . قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم2. وروى سنيد المصيصي ثنا حجاج عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: 19- "لما نزلت إذا جاء نصر الله والفتح قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس. وقال: الناس خير وأنا وأصحابي خير" 3.

_ 1 رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي. المستدرك 3/632. 2 تفسير ابن كثير 3/369. 3 رواه الطيالسي في مسنده وأحمد والطبراني باختصار شديد. قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. قلت: لكنه مرسل. لأن أبا البختري لم يسمع من أبي سعيد الخدري. قال إبن أبي حاتم: لم يدرك أبا ذر ولا أبا سعيد ولا زيد بن ثابت. انظر: مسند الطيالسي 293. مسند الإمام أحمد 3/22، المراسيل ص76، جامع التحصيل 222، مجمع الزوائد 6/250.

وصدق أبا سعيد عليه. زيد بن ثابت ورافع بن خديج رضي الله عنهما1. وفي مسند البزار بسند غريب عن جابر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: 20- "إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين" 2. الحديث والآثار في هذا المعنى كثيرة. والخير هنا اسم جنس مضاف، أو ضيغة أفعل مضافة. فتعم جميع أنواع الخير. فمتى جعل أحد من الصحابة في التعديل كمن بعده حتى ينظر في عدالته ويبحث عنها لم يكن خيراً ممن بعده مطلقاً. فإن قيل هذه الأحاديث معارضة بما روي في حق الأمة من الفضل، كقوله عليه السلام: 21- "وددت أنّا قد رأينا إخواننا. قالوا يا رسول الله. أولسنا إخوانك. قال أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". أخرجه مسلم3، وروى معناه من عدة طرق. وفي معجم الطبراني من حديث الأوزاعي حدثني أسيد بن عبد الرحمن حدثني صالح بن جبير حدثني أبو جمعة رضي الله عنه قال:

_ 1 أنظر تمام القصة في المسند 3/22. 2 قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف. وقال البزار: لا نعلمه عن جابر إلا بهذا الإسناد ولم يشارك عبد الله بن صالح في روايته هذه عن نافع بن يزيد أحداً نعلمه. كشف الأستار 3/289، مجمع الزوائد 10/16. 3 رواه في باب استحباب إطالة الغرة. صحيح مسلم 3/138.

22- "تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فقلنا يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ قال: نعم قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" 1. وصالح بن جبير وثقه إبن معين وغيره2. وقد رواه عنه أيضاً معاوية بن صالح ولفظه: 23-"قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً". وذكر بقيته كما تقدم. وفي حديث لأبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 24- "فإن من ورائكم أيام الصبر للعامل منهم في ذلك الزمان أجر خمسين رجلاً، قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم، قال: بل أجر خمسين رجلاً منكم". رواه أبو داود والترمذي. وإسناد حسن3. وروى الترمذي أيضاً من حديث حماد بن يحيى الأبح عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ 1 قال الهيثمي: رواه أحمد وأيو يعلى والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد أحمد رجاله ثقات. وقال الحافظ إبن حجر: أخرجه أحمد والدارمي وصححه الحاكم. مجمع الزوائد 10/66، الإصابة 4/33. 2 وقال الذهبي: وثقه إبن معين وليس بالمعروف. انتهى وسيأتي توجيه المؤلف لهذه الرواية. انظر: تاريخ الدارمي ص: 133، ميزان الاعتدال 2/291. 3 رواه أبو داود في كتاب الملاحم 11/493، والترمذي في تفسير سورة المائدة 8/424 وقال عقبه: هذا حديث حسن غريب. وعند ابن كثير 2/109 عن الترمذي حسن غريب صحيح.

25 -" أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أو آخره" 1. وحماد بن يحيى وثقه إبن معين2. قلنا: ذهب بعضهم إلى أنه لا يلزم من تفضيل مجموع القرن الأول على من بعده تفضيل كل فرد فرد من القرن الأول، على كل فرد فرد ممن بعدهم ورأو أن في آخر الزمان من يكون أفضل من بعض آحاد الصحابة رضي الله عنهم. وهذا اختيار ابن عبد البر والقرطبي للجمع بين جميع الأحاديث، واستثنى إبن عبد البر أهل بدر والحديبية للتنصيص على فضلهم على كل هذه الأمة. والحق الذي ذهب إليه الأكثرون أن فضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم والفوز برؤيته لا يعدل بعمل. وأن من منحه الله تعالى ذلك فهو أفضل ممن جاء بعده على الإطلاق لوجوه: أحدها: مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيها: فضيلة السبق إلى الإسلام. وثالثها: فضيلة الذب عن حضرته صلى الله عليه وسلم. ورابعها: فضيلة الهجرة معه أو إليه أو النصرة له. وخامسها: ضبطهم الشريعة، وحفظهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسادسها: تبليغهم إياه إلى من بعدهم. وسابعها: السبق بالنفقة في أول الإسلام.

_ 1 رواه في باب الأمثال 8/170، وقال عقبه: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ويروى عن عبد الرحمن بن مهدي أنه كان يثبت حماد بن يحيى الأبح. وكان يقول هو من شيوخنا. وقال الحافظ: حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة. فتح الباري 7/6، وانظر كشف الأستار 3/319. 2 التاريخ الكبير 2/133، وسيأتي رد المؤلف على هذا التوثيق.

وثامنها: إن كل فضل وخير وعلم وجهاد ومعروف عُمل في هذه الشريعة إلى يوم القيامة، فحظهم منه أجل ونوالهم منه أجزل. لأنهم سنوا سنن الخير وفتحوا أبوابه. ونقلوا معالم الدين وتفاصيل الشريعة إلى من بعدهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: 26- "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: 27- "من دعى إلى هدى كان له من الأجور مثل أجر من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً "2. فهم مساهمون لجميع هذه الأمة في كل أجر يحصل لها إلى يوم القيامة، مع ما اختصوا به مما تقدم ذكره. وأما الأحاديث التي ذكرت: فحديث "وددت أني رأيت إخواني" لا يلزم منه أن يكونوا أفضل من أصحابه. كيف والأخوة العامة كانت حاصلة أيضاً للصحابة رضي الله عنهم بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، وأيضاً فالصحبة فيها قدر زائد على الأخوة. لما يوجد غالباً بين الأخوة من العداوة بخلاف الصحبة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "للعامل منهم أجر خمسين رجلاً منكم" فلا حجة فيه. لأنه لا

_ 1 رواه مسلم في كتاب الزكاة. وكذلك النسائي. صحيح مسلم 7/102. سنن النسائي 5/76. 2 رواه مسلم في كتاب العلم. صحيح مسلم 16/227.

يلزم من ثبوت زيادة الأجر في بعض الأعمال ثبوت الفضيلة المطلقة. وأيضاً فالأجر إنما يكون تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل الذي ترتب الأجر عليه. لا في غيره من الأعمال، فيكون عمل المؤمن في آخر الزمان من قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. أرجح مما يترتب على مثل ذلك العمل من الصدر الأول1. وأما الذي فاز به الصحابة رضي الله عنهم من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد بين يديه ونقل السنن عنه، فإنه لا يتفق مثله لأحد ممن بعدهم قطعاً، فلا يقع التفاضل فيه. فيبقى لهم من غير مشاركة لهم في مثله. وبه استقرت الفضيلة لهم على من بعدهم. فهذا أشد ما يُجاب به عن هذا الحديث. وحديث أبي جمعة: لم تتفق الروايات فيه على لفظ: هل أحد خير منا؟ بل قد تقدم رواية معاوية بن صالح له "هل من قوم أعظم منا أجراً"، ومعاوية بن صالح أحفظ من أسيد بن عبد الرحمن. فروايته أرجح. ويتأول الحديث على ما ذكرناه آنفاً بالنسبة إلى بعض الأعمال التي يمكن وقوعها من الطائفتين، دون ما أختص به الصدر الأول من الصحبة. وأما حديث: "أمتي كالمطر"، فحماد بن يحيى الأبح وإن وثقه إبن معين2. فقد قال فيه أبو زرعة: ليس بالقوي3.

_ 1 انظر قول الحافظ ابن حجر في هذا الموضوع. فتح الباري 7/6. 2 التاريخ 2/133. 3 الجرح والتعديل 1/2/152 عن أبي زرعة أنه قال: ليس بقوي.

وذكره البخاري في كتاب الضعفاء، وقال: يهم في الشيء بعد الشيء1. وقال الجوزجاني: روى عن الزهري حديثاً معضلاً2. وقال إبن عدي: بعض حديثه لا يتابع عليه. وذكر من جملة حديثه حديث أنس هذا3. وهو شاذ أو منكر لتفرد حماد بن يحيى به دون أصحاب ثابت البناني، ولا يحتمل منه مثل هذا التفرد. ثم على تقدير صحته فهو مؤل على أن المؤمنين في آخر الزمان إذا أقاموا الذين وتمسكوا به. وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفتن والهرج وكثرة المعاصي. كانوا في ذلك غرباً. فزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أوائل الصحابة عند كثرة المشركين، وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم4. أو يكون ذلك إشارة إلى أيام نزول عيسى بن مريم عليه السلام ومقامه بالأرض حيث تظهر البركات وينشر العدل ويذهب الفساد في تلك الأيام. وهي من أواخر أزمان هذه الأمة. فلا يكون في ذلك تفضيل أهل ذلك العصر على الصدر الأول، ولا مساواتهم بل بالنسبة إلى ما ذكرناه، كيف والأحاديث الثابتة في تفضيل الصحابة على من بعدهم صريحة لا تحتمل التأويل، وهي أصح وأكثر من هذه الأحاديث المحتملة، فلا تكون معارضة لها، وبالله التوفيق.

_ 1 التاريخ الكبير 1/2/24. 2 تهذيب التهذيب 3/22. 3 الكامل 2/663. 4 انظر ما ذكره الحافظ حول هذا الموضوع في فتح الباري 7/7.

الوجه الثالث: الإجماع على ذلك ممن يعتد به على أحد الوجهين: أما على أنه لا اعتداد بأهل البدع في الإجماع والخلاف، فإنه لم يخالف في عدالة الصحابة من حيث الجملة أحد من أهل السنة، وإنما الخلاف عن المعتزلة والخوارج وأمثالهم. وأما على أن ندرة المخالف مع كثرة المجمعين لا يمنع إنعقاد الإجماع، إن ثبت أن أحداً من أهل البدع، خالف في ذلك. والطريق الأولى أقوى، ولا فرق في هذا بين من لابس الفتن من الصحابة ومن لم يلابسها. قال ابن الصلاح: أجمع العلماء الذين يعتمد بهم في الإجماع على عدالتهم أيضاً إحساناً للظن بهم، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله تعالى أباح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة. فهذا الوجه وحده كاف في رد قول المخالفين، والله أعلم. الوجه الرابع: إنما يكتفي في التعديل بأخبار الواحد منا وتزكيته مع أنه لا يعلم إلا بعض الظواهر، ومع عدم عصمته عن الكذب، فكيف لا يكتفي بتزكية علام الغيوب الذي لا يعزب عن علمه مثال ذرة في الأرض ولا

_ 1 علوم الحديث لابن الصلاح ص 265.

في السماء، وقد أحاط علمه بما سيقع منهم من الفتن والحروب، وأنزل مدحهم والثناء عليهم قرآناً يتلى مستمراً ما بقيت الدنيا، وذلك يقتضي أن الثناء عليهم ومدحهم وتعديلهم مسترماً لا يتغير، وكذلك أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم ما يقع بينهم، وأخبر بذلك إما على وجه الإجمال كقوله صلى الله عليه وسلم: 28- "أرى مواقع الفتن بين يبوتكم كمواقع المطر" 1، ونحو ذلك. (او تفصيلاً في بعض القضايا، كمن أسر إليه ذلك، كحذيفة رضي الله عنه2، ولم يكن ذلك مانعاً له صلى الله عليه وسلم من الثناء على جميع الصحابة ووصفهم بأنهم خير القرون ونحو ذلك) 3 مما تقدم. وهذا مع عصمته صلى الله عليه وسلم عن وقوع الكذب في أخباره وبراءته من المداهنة لأحد منهم، فكل هذا يقتضي أن ما وقع بينهم بعده صلى الله عليه وسلم لم يحط من رتبتهم شيئاً ألبتة. فأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحوض: 29-"ليختلجن رجال من دوني أعرفهم فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول:

_ 1 رواه البخاري في صحيحه باب آطام المدينة بلفظ: إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع المطر. فتح الباري 4/94. 2 يشير المؤلف إلى حديث حذيفة الذي يقول فيه: لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان وما يكون حتى تقوم الساعة. وفي الصحيحين أن أبا الدرداء قال لعلقمة: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره..؟ يعني حذيفة. هكذا قال الحافظ. انظر الإصابة 1/317. 3 ساقط من النسخة الأمريكية.

سحقاً" 1. وفي رواية: "فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ... الآية. فإنه محمول على من ارتد بعده صلى الله عليه وسلم ثم مات على ذلك. بدليل قوله: فيؤخذ بهم ذات الشمال. وكذلك في الرواية الأخرى: إنهم لم يزالوا مرتيدين على أعقابهم منذ فارقتهم ... الحديث. وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم قد شهد للعشرة رضي الله عنه بأنهم من أهل الجنة، وقال: 30- "لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار" 2. ولما قال حاطب، 3وقد شكاه، ليدخل حاطب النار. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: 31- "كذب إنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله تعالى إطلع على أهل بدر، فقال: إعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" 4. وقد علم القتال الواقع بين علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم، وأن كثيراً من أهل بدر وبيعة الرضوان شهدوا الحروب في تلك الفتن مع قطع النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم لا يدخلوا النار، وشهادته للعشرة بأنهم في

_ 1 رواه البخاري في كتاب الرقاق 11/464. ومسلم في الفضائل 15/35. 2 صحيح مسلم 16/58. 3 هكذا في الأصل. وفي صحيح مسلم 16/57 أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً. 4 المصدر السابق.

الجنة، وقد أخبر الزبير بما سيقع بينه وبين علي رضي الله عنهما من القتال. فتعين أن يكون المراد بالذين يختلجون دونه أهل الردة1. الوجه الخامس: أن من اشتهر بالإمامة في العلم والدين، كمالك والسفيانين والشافعي والبخاري ومسلم، وأمثالهم لا يحتاج إلى التعديل، ولا البحث عن حاله بالإتفاق، وهو عمل مستمر لا نزاع فيه. فالصحابة رضي الله عنهم أولى بذلك، لما تواتر عنهم واشتهر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأولاد وقتل الآباء والأولاد والأقرباء والأهل، ومفارقة الأوطان والأموال. كل ذلك في موالاة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته لله خالصاً. ثم ما كانوا عليه دائماً من إشتدادهم في أمور الدين بحيث لا تأخذهم فيه لومة لائم، ومواظبتهم على نشر العلم وفتح البلاد، وتدويخ الأمصار، فيا لله العجب كيف يداني أحداً من هؤلاء من بعدهم فضلاً عن مساواتهم، حتى إنه يحتاج الواحد منهم إلى الكشف عن حاله وتزكيته أو يكون ما صدر عنه عن إجتهاد أو تأويل قادحاً في عدالته وحاطاً له عن علو مرتبته العلية. إن هذا القول الأعمى في البصيرة، وتوصلاً إلى الطعن في الشريعة والقدح في الدين وإلقاء الشبهة فيه. ولذلك رد الله تعالى كلام من تكلم فيهم على القادحين، فكان ذلك سبباً لحط مرتبتهم ومقتضياً

_ 1 انظر المستدرك 3/366، البداية والنهاية 7/240.

لجرحهم وفسقهم، ولله الحمد والمنة. فهذه الأوجه الخمسة كل منها مقتضي للقطع بعدالة الصحابة رضي الله عنهم، والأخير مختص بمن أكثر صحبته صلى الله عليه وسلم وأقام معه مدة، وهاجر معه أو إليه بخلاف الوجه الثاني، فإن من أحاديثه ما هو عام لكل من رآه ولو لحظة، بحيث يعد من الصحابة بل ربما يقال بأنه شامل لكل من كان في عصره من المسلمين وإن لم يثبت له صحبة ولا رؤية. لكن خرج هؤلاء بالإجماع على أنه لا بد من معرفة عدالتهم بطريقها كمن بعدهم، فتبقى فيمن ثبت له الصحبة أو الرؤية على عمومه وبالله التوفيق. وأما المخالفون في هذا المقام فقد تعلقوا بقصص كثيرة مما طعن فيه بعض الصحابة على بعض، ونقل منها بعض المصنفين قطعة كبيرة وهي منقسمة إلى: ما لا يصح عنهم أصلاً. وإلى ما قد صح، وله محامل صحيحة وتأويلات سائغة. كقول عائشة في زيد بن أرقم رضي الله عنهما. 32- "أبلغوا زيداً إنه قد أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب"1.

_ 1 أورده عبد الرزاق في مصنفه عن امرأة أبي إسحاق أنها دخلت على عائشة. ورواه الدارقطني بسنده عن يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية قالت: خرجت أنا وأم محبة، وقال عقبه: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما. وقال ابن عبد البر في الإستذكار: هذا الخبر لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولا هو مما يحتج به عندهم. والحديث منكر اللفظ لا أصل له. انظر: المصنف 8/184، سنن الدارقطني 3/52، سنن البيهقي 5/330، الإجابة ص 153.

وقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه وقد قيل له إن أبا محمد يزعم: 33- "إن الوتر واجب"1. فقال: كذب أبو محمد2. وأبو محمد هذا من الصحابة رضي الله عنهم ونحو ذلك. فالأمر فيه بين والخطب هين لسهولة تأويلها وإنها لا تعارض نصوص الكتاب والسنة المشهورة. وأما الذي أولع به أكثر أهل البدع وهو الفتن والحروب التي كانت بينهم، فقطعوا على كل من قاتل علياً رضي الله عنه من أهل الجمل وصفين بالفسق، واستثنى بعضهم من ذلك عائشة طلحة والزبير رضي الله عنهم. قال: لأنهم تابوا من ذلك دون معاوية ومن كان معه. ولهم في ذلك أقوال كثيرة تقدم بعضها. ويقشعر القلب من سماعها، ثم يعضدون ذلك بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم الدماء، وذكر ما يترتب على سفكها. ولأهل السنة عن ذلك أجوبة كثيرة مجملة ومفصلة، وحاصل الإجمالية ترجع إلى وجهين:

_ 1 رواه مالك في الموطأ وعبد الرزاق في مصنفه وأبو داود في سننه. تنوير المحالك 1/110، المصنف 3/5، عون المعبود 4/294. 2 كذب أبو محمد، أي أخطأ. وسماه كذباً لأنه يشبهه في كونه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق. وهذا الرجل ليس بمخبر، وإنما قاله باجتهاد أداه إلى أن الوتر واجب. والإجتهاد لا يدخله الكذب، وإنما يدخله الخطأ. عون المعبود 4/295.

أحدهما: أن ذلك كان من كل منهم بناء على الإجتهاد منه في ذلك والتأويل المسوغ له للأقدام عليه، ومع هذا فلا يكون شيء من ذلك قادحاً في عدالتهم. لأن جميع تلك الوقائع إن كانت مما يسوغ فيه الإجتهاد فظاهر لأنه حينئذ إن قلنا إن كل مجتهد مصيب فلا يتوجه تخطئته إلى أحد من الفريقين. وإن قلنا المصيب واحد والثاني مخطئ، فالمخطئ في إجتهاده معذور غير آثم، فلا يخرجه خطؤه عن العدالة. وإن لم يكن ذلك مما يسوغ فيه الإجتهاد فالمخطئ كان متأولاً فيما فعله. وإن كان تأوله خطأ فلا يخرج بذلك عن العدالة، كيف وإن عدالتهم ثابتة بما تقدم من الأدلة القطعية، فيستصحب ولا يُزال بالشك والوهم. لا سيما مع ما تقدم من ثناء الله تعالى عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم مع العلم بما يصدر منهم. ومما يؤيد أن ذلك من المجتهد فيه قعود جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن الكون مع أحد الفريقين، كسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة وغيرهم لأنه خفي عليهم الأمر. وروي أن علياً رضي الله عنه دعى سعد بن أبي وقاص إلى أن يكون معه فقال له: 34- "أعطني سيفاً يعرف الحق من الباطل، أو قال: المحق من المبطل، وكان علي رضي الله عنه مع أن الحق معه يغبط سعدً رضي الله عنه بذلك، فكان يقول: 35- "لله در منزل نزله سعد بن مالك، إن كان ذنباً فذنب صغير، وإن كان أجر فأجر عظيم1.

_ 1 تذكرة الحفاظ 1/22.

وقال علي رضي الله عنه أيضاً غير مرة1: 36- "إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير يوم القيامة ممن قال الله تعالى فيهم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} . والآثار في ذلك كثيرة معروفة في كتب أهل التاريخ. الوجه الثاني: إن كلما قدح به المبتدعة في الصحابة الذين أسقطوا عدالتهم يتصور عليهم مثله في الصحابة الذين لم يقدحوا في عدالتهم. فإن تأولوا أفعال من وافقوا على عدالته وحسنوا لهم المخارج في أمورهم كانوا مقابلين بمثله فيمن خالفونا في عدالته، ولا يجدون فارقاً قاطعاً بين الطائفتين بالنسبة إلى انقداح التأويل وإحسان الظن بهم. وانسداد ذلك في حق الجميع. وحينئذ يؤدي إلى أحد أمرين لا بدّ منهما: إما التأويل وإحسان الظن في حق الجميع، وهو المطلوب. وإما إسقاط عدالة الجميع، وذلك أمر عظيم خارق للإجماع القطعي. فإن الأمة كلها ممن يُعتبر بأقوالهم أجمعوا على أنه لا يصح إسقاط عدالة جميع الصحابة كيف وإن ذلك يؤدي إلى هدم الدين وإزالة ما بأيدينا من أمور الشريعة، معاذ الله من ذلك. وأما من تقدمت الحكاية عنه. بأن كل من لا بس الفتن فهو ساقط العدالة، فهو قول باطل ممن لا يُعتد به. ونظيره إكفار الخوارج كل

_ 1 شذرات الذهب 1/43.

الفئتين، فلا يرجع هذا القول إلا على قائله. ونسأله الله السلامة من الأهواء المضلة. فإن قيل: أنتم وإن تأولتم. فإن تأويلكم لا يزيح الشك في أفعالهم، والشك في أفعالهم يلزم منه الشك في عدالتهم. قلنا: الإجماع الذي حكيناه من إمتناع إسقاط عدالة جميع الصحابة، حجة قاطعة في أن هذا الشك غير مؤثر. فإذا انضم ذلك إلى ما تقدم من الأدلة الدالة على عدالتهم، واستصحبنا ذلك في كل1 فرد منهم كان هذا الشك مندفعاً. كيف ونحن إنما نتأول تأويلاً في كلّ قصة. هو الظاهر المستفاد ظهوره منها كما سيأتي بيان بعضه إن شاء الله تعالى قريباً. وهذا أمر معمول به –أعني استصحاب العدالة- وأنها لا ترفع بالشك في حق من ثبتت عدالته بشاهدين وشهادتهما لم يفد إلا الظن المجرد. بجريان ذلك في حق من هو مقطوع بعدالته بتعديل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى. وبهذا يتبين أنه ليس المعنى بعدالة كل واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن العصمة له ثابتة والمعصية عليه مستحيلة. ولكن المعنى بهذا أن روايته مقبولة وقوله مصدق ولا يحتاج إلى تزكية كما يحتاج غيره إليها؛ لأن استصحاب الحال لا يفيد إلا ذلك. هذا ما يتعلق بالطريق الإجمالي. وأما التفصيلي: فلأئمتنا المتقدمين فيه مصنفات مستقلة، ويطول الكلام به هنا إن تعرضنا للجميع. ولكن نشير إلى فصل موجز يتعلق بوقعة الجمل

_ 1 سقط من نسخة كراتشي ما بعد كلمة ((كل)) قدر ثلاث ورقات. وانتهى السقط عند عبارة ((رواية غيره)) .

لندفع به الطعن عن مثل طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم ويكون ذلك مثالاً لغيره. وهو أن المصيبة بعثمان رضي الله عنه كانت عظيمة. ولم يكن خطر ببال علي ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم أن يُقتل. ولكن ظنوا أن الخوارج الذين حاصروه أعتبوه في شيء وأن الأمر يؤدي إلى تسكين وسلامة. فلما وقع قتله بغتة كان منكراً مهولاً. ولم يكن في قتله بحمد الله أحد ممن ثبتت الصحبة له كما تقدم. فأعجل الأمر الصحابة رضي الله عنهم عن القيام على قاتليه بغتة لشوكتهم حينئذ. ورأو المبادرة إلى نصب إمام يجمع الكلمة أولاً. ولم يكن بدّ من متابعة علي رضي الله عنه. لأنه حينئذ أفضل الموجودين بالاتفاق وأحقهم بالإمامة. لسابقته وفضله وشجاعته وغير ذلك. فاجتمعوا عليه وبايعوه وتخلف عنه أهل الشام فلم تجتمع الكلمة عليه ولا انتظم الأمر انتظاماً تاماً يتمكن به علياً رضي الله عنه من الإقادة بدم عثمان رضي الله عنه من قاتليه وقد انضموا إليه. فلو أقاد من أحدهم لتفرق1 بذلك قبائلهم كلها. وكثرت الفتن وزاد الهرج. فرأى علي رضي الله عنه أن يؤخر ذلك إلى أن تجتمع الكلمة ويتمكن من إقامة الحق من غير فتنة. ورأى طلحة والزبير رضي الله عنهما ومن قام معهما أنهم قد وقعوا في أمر عظيم من خذلان عثمان رضي الله عنه والسكوت عنه إلى أن قتل. وأن ذلك لا يمحوه إلا القيام على قاتليه وطلب الإقادة منهم. ولم يكن عندهم ما رآه علي رضي الله عنه من خوف زيادة الفتنة من قبائلهم مانعاً من المبادرة إلى الطلب بدم عثمان. فوقع ما قدره الله تعالى مع اجتهاد كل من الطائفتين ليقضي الله

_ 1 في الأمريكية: لنفرت.

أمراً كان مفعولا. قدر وقوعه في الأزل. وإن كان اجتهاد علي رضي الله عنه أقرب إلى الحق. وإن أكثر من قام مع طلحة والزبير ممن ليست له صحبة. لم يكن مقصده باطناً للاجتهاد الذي هو مأخذ طلحة والزبير. بدليل أن مروان بن الحكم كان من جملة من معهما وهو الذي باشر قتل طلحة رضي الله عنه. فالمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم إنما قاموا مجتهدين فيما نقلوه والإثم منحط عن المجتهد إذا استفرغ جهده. لا فرق فيه بين الدماء وغيرها. وذلك يرفع سمة النقص والغض عن أكابر الصحابة رضي الله عنهم. وبسط الكلام يطول به المقام ويخرج عن المقصود. وفي جميع ما تقدم كفاية لمن نور الله قلبه، ولم يمل به الهوى إلى الانحراف. وبالله التوفيق. وأما معاوية رضي الله عنه وإن كانت فئته باغية على علي رضي الله عنه بنصّ النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: 37- "تقتل عماراً الفئة الباغية" 1. فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بما أطلعه الله عليه أن معاوية سيملك، وقال له: 38- "إن ملكت فاعدل" 2.

_ 1 الحديث صحيح. رواه الإمام البخاري في كتاب الصلاة. باب التعاون في بناء المسجد، ولفظه: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار". ورواه الإمام مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، بلفظ ما في المخطوط. قال الحافظ ابن حجر: "روى حديث تقتل عماراً الفئة الباغية جماعة من الصحابة. ذكرهم ثم قال: وغالب طرقها صحيحة أو حسنة". انظر: فتح الباري 1/541-543، صحيح مسلم 18/41. 2 قال الحافظ ابن حجر: "وفي مسند أبي يعلى عن سويد بن شعبة عن عمرو بن يحيى بن سعيد عن جده سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص عن معاوية قال: "اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فلما توضأ نظر إليّ فقال: يا معاوية إن وليت أمراً فاتق الله واعدل. فما زلت أظن أني مبتلى". سويد فيه مقال، وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر. قال الإمام السيوطي: "أخرج إبن أبي شيبة والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمير قال: قال معاوية: ما زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معاوية إذا ملكت فأحسن". قال السيوطي: قد ورد في فضله أحاديث قلما تثبت". انظر: مجمع الزوائد 9/356، الإصابة 3/433، تاريخ الخلفاء 194.

وعلم أيضاً ببغيه في قتال علي رضي الله عنه. ومع ذلك دعى له في الحديث الذي رواه يونس بن سيف عن الحارث بن زياد عن أبي رهم السمعي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: 39- "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب" 1. وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صدّق معاوية في الوتر بركعة واحدة، وقال: 40- "أصاب إنه فقيه"2. وروى عنه أنه "قصّر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص"3.

_ 1 قال الهيثمي: رواه البزار وأحمد والطبراني. وفيه الحارث بن زياد، ولم أجد من وثقه ولم يرو عنه غير يونس بن سيف، وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف". قلت: الحديث ضعيف قد يرتقي إلى الحسن لغيره بالشواهد والمتابعات. وقد صرّح الإمام السيوطي بأنه ورد في فضل أبي سفيان أحاديث قلما تثبت. والله أعلم. انظر: فضائل الصحابة للإمام أحمد 2/913، مسند الإمام أحمد 4/127، مجمع الزوائد 9/356. 2 رواه البخاري في صحيحه. باب ذكر معاوية بن أبي سفيان. فتح الباري 7/103. 3 رواه البخاري في باب الحلق والتقصير عند الإحلال. ومسلم في باب جواز تقصير المعتمر من شعره. فتح الباري 3/561، صحيح مسلم بشرح النووي 8/231.

وكذلك روى أيضاً عن معاوية: جرير بن عبد الله البجلي، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن خديج، والسائب بن يزيد، وجماعة غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. وكل ذلك بعدما وقع منه من قتال علي رضي الله عنه. واتفق أئمة التابعين بعدهم على الرواية عنه وقبول ما رواه هو وعمرو بن العاص، وكل من قام معهما في الفتنة، فكان ذلك إجماعاً سابقاً على قول من قدح فيهم حتى أن جعفر بن محمد بن علي روى عن القاسم بن محمد عن معاوية حديثاً1. وقال محمد بن سيرين: كان معاوية رضي الله عنه لا يتهم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم2. قال الإمام أبو بكر البيهقي: كل من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ممن صحبه أو لقيه فهو ثقة، لم يتهمه أحد ممن يحسن علم الرواية فيما روى. ومما يتصل بذلك أيضاً: الكلام في سمرة بن جندب رضي الله عنه.

_ 1 الحديث رواه الطبراني في الكبير 19/332، وفيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: "إن صلى الإمام جالساً فصلوا جلوساً". قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 2/67. 2 وروى عن ابن عباس مثله. المعجم الكبير 19/310.

فقد تعرض إليه بعضهم لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولأبي هريرة ولآخر كان معهما1 في بيت. 40- "آخركم موتاً في النار" وكان آخرهم موتاً سمرة. ولأنه ولي البصرة لزياد بن أبيه ثم لمعاوية أيضاً. وكان يكثر القتل. وقد روى شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه أنه قال: 41- "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين في الصلاة.. الحديث"2. وأن عمران بن حصين أنكر ذلك، فكتبوا في ذلك إلى أبي بن كعب فكتب بصدق سمرة، ويقول: 42- "إن سمرة حفظ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم3. وروى عاصم بن سليمان عن محمد بن سيرين أن ابن عباس رضي الله عنهما أمر الناس بزكاة الفطر فأنكروا ذلك عليه، فأرسل إلى سمرة بن جندب فقال له:

_ 1 ذكر الحافظ ابن حجر أنه أبا محذورة. الإصابة 2/79. 2 رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وابن ماجه في باب في سكتتي الإمام. والطبراني في الكبير. انظر: تحفة الأحوذي 2/79، سنن ابن ماجه 1/275، المعجم الكبير 7/254، تحفة الأشراف 4/69. 3 الإستيعاب 2/78.

أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بها. قال: بلى. قال: فما منعك أن تعلم أهل البلدة. فلو لم يكن سمرة عند ابن عباس بالمحل الأعلى، لما سأله واستشهد به. وقال عبد الله بن صبيح عن ابن سيرين: 43- "كان سمرة فيما علمت عظيم الأمانة صدوق الحديث يحب الإسلام وأهله"1. وأما حديث: "آخركم موتاً في النار". فقد وقع مصداقه بأن سمرة رضي الله عنه أصابه في آخر عمرة كزاز فكان يعالج منه بأن يغلي له قدر مملوء ماء حاراً، فيقعد عليها يستدفئ ببخارها فسقط فيها وهي أشد ما تكون حراراة، فمات. فلم يكن مراده صلى الله عليه وسلم إلا نار الدنيا2. وأما قتله الناس: فإنما كان يقتل الخوارج المارقين الذي أكفروا الصحابة وقاتلوا الناس3، ولم يكن يقتل أحداً إذا ظفر به رضي الله عنه. وقد ذكر جماعة من أئمة الأصول في هذا الموضع قصة أبي بكرة، ومن جلد عمر رضي الله عنه في قذف المغيرة بن شعبة وأن ذلك لم يقدح في عدالتهم. لأنهم إنما أخرجوا ذلك مخرج الشهادة ولم يخرجوه مخرج القذف، وجلدهم عمر رضي الله عنه باجتهاده، فلا يجوز رد أخبارهم بل هي كغيرها من أخبار بقية الصحابة رضي الله عنهم.

_ 1 الإستيعاب 2/78. 2 المصدر السابق. 3 تهذيب الأسماء 1/236.

((فصل)) والذي نختتم به الكتاب في هذا المعنى أمر مهم أولع فيه الحنفية في كتبهم ومناظراتهم يفضي إلى خلل عظيم في الإسلام، وذلك يتعلق بأمرين: أحدهما: في حق أبي هريرة رضي الله عنه على الخصوص، وأن التهمة تطرقت إلى رواياته لكثرة ما روى، ولأنه أنكر عليه جماعة من الصحابة1. والثاني: فيما يتعلق بأخبار من ليس من فقهاء الصحابة، وإنما يقدم عليها القياس عند المعارضة، ويكون التأويل متطرقاً إليها بخلاف أخبار الفقهاء منهم، وجعلوا هذين الأمرين عمدة لهم في رد كثير من الأحاديث التي صحت على خلاف مذهبهم. والله الموعد. كما ثبت هذا اللفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه، لما قيل له إنه يكثر الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بالغ بعضهم حتى حكى أبو الحسين بن القطان من أصحابنا عن عيسى بن أبان أنه نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 44- "يخرج من أمتي ثلاثون دجالاً ... الحديث". وأن علياً قال:

_ 1 انظر صحيح الإمام مسلم 16/52.

أنا أشهد أن أبا هريرة منهم. ونقله عن إبن أبان جماعة من غلاة الحنفية ولكن أبو بكر الرازي منهم. أنكر هذا عن عيسى بن أبان، وقال: هو كذب على عيسى، ووضعه من لا يرجع إلى دين ولا مرؤة، ولا يتحاشى من الكذب في التثبت. والذي نقله الرازي عن إبن أبان أنه قال: يقبل من حديث أبي هريرة ما لم يرده القياس، ولم يخالف نظايره من السنة المعروفة، إلا أن يكون شيء من ذلك قبله الصحابة والتابعون، وذلك لكثرة ما أنكر الناس من حديثه. وشكهم في أشياء من روايته. قال إبراهيم النخعي: كانوا لا يأخذون من حديث أبي هريرة إلا ما كان في ذكر الجنة والنار، ولم يقبل ابن عباس روايته في الوضوء مما مست النار، وقال: 45- "أنتوضأ بالحميم وقد أغلي على النار". فقال له أبو هريرة: يا ابن أخي إذا جاءك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال1. قال عيسى بن أبان: فلم يرد ابن عباس رواية أبي هريرة لمعارض لها عنده – يعني نسخ الوضوء مما مست النار-، وإنما ردها بالقياس – وكانت عائشة رضي الله عنهما تمشي في الخف الواحد، وتقول: "لأخشن أبا هريرة".

_ 1 مخالفة ابن عباس لأبي هريرة أخرجه البزار في مسنده. مسند البزار 6/68 ل ب. المعتبر 1/169.

يعني في روايته المنع من ذلك1. وأنكرت عليه أيضاً: 46- حديث: "ولد الزنا شر الثلاثة". وعارضته بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2. وقالت لابن أخيها: لا تعجب من هذا وكثرت حديثه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثاً لو عده العاد أحصاه3. قال: وقد أنكر ابن عمرو وغيره من الصحابة عليه كثرة حديثه، ولم يأخذوا بكثير من رواياته حتى يسألوا غيره. وقال أبو بكر الرازي بعد سياقه هذا الكلام: لم يظهر من الصحابة من التثبت في حديث غير أبي هريرة مثل ما ظهر منهم في حديثه. فدل ذلك على أنه متى غلط الراوي وظهر من السلف التثبت في روايته كان ذلك مسوغاً للإجتهاد في مقابلته بالقياس وشواهد الأصول. ثم ذكر أن عمر رضي الله عنه قال لأبي هريرة لما بلغه أنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء لا تعرف:

_ 1 الإجابة ص 125. وقال ابن عبد البر: لم يلتفت أهل العلم إلى ذلك، لأن السنن لا تعارض بالرأي. 2 المصدر السابق ص 119. 3 فتح الباري 6/567، صحيح مسلم 16/53، وليس فيهما قول عائشة: لا تعجب من هذا.. الخ.

"لئن لم تكف عن هذا لألحقنك بجبال دوس" 1. ثم ذكر الرازي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 47- "من يبسط ردائه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلا ينسى شيئاً سمعه مني. قال أبو هريرة: فبسطت نمرة كانت عليّ حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، فما نسيت شيئاً سمعته منه" 2. وأجاب عن ذلك: بأن هذا لو كان كذلك لكانت هذه فضيلة اختص بها من بين الصحابة، ولعرفوا له ذلك واشتهر بها حتى كانوا يرجعون إليه ويقدمون روايته على3 رواية غيره، ولم يقع ذلك. بل كانوا ينكرون كثرة روايته. وأيضاً كيف يكون ذلك وقد روى حديث: 48- "لا عدوى ولا طيرة" 4. ثم نسيه. وروى حديث: 49- "لا يورد ممرض على مصح". وأنكر أن يكون حديثاً بالخبر الأول5.

_ 1 رواه الرامهرمزي. عن عثمان رضي الله عنه. وابن كثير عن عمر بلفظ لتتركن الحديث. المحدث الفاصل ص 554، البداية والنهاية 8/106. 2 رواه الإمام مسلم في فضائل أبي هريرة، صحيح مسلم 16/52. 3 انتهى السقط في نسخة كراتشي عند هذه العبارة. 4 رواه الإمام البخاري في كتاب الطب، باب الجذام. ومسلم في كتاب السلام. فتح الباري 10/158، صحيح مسلم 14/214. 5 انظر صحيح مسلم 14/215، وفيه خبر إنكاره للحديث الأول. وسيأتي رد المؤلف بعد قليل.

قال: على أنه لو صح الحديث في بسطه النمرة، لكان محمولاً على ما سمعه في ذلك المجلس خاصة دون غيره. ثم ذكر بعد ذلك توقى من توقى من الصحابة رضي الله عنهم في الرواية وتقليلهم منها. قال: وهذا يدل على أن كثيراً1 من الصحابة رضي الله عنهم أشفقوا على حديث النبي صلى الله عليه وسلم من أن يدخله خلل أو وهم. وإذا كان السهو والغلط جائزين على الرواة ثم ظهر من السلف إنكار لكثرة الرواية على بعضهم، كان ذلك سبباً لاستعمال الرأي والإجتهاد2 فيما يرويه وعرضه على الأصول والنظاير3. "رد المؤلف على أبي بكر الرازي" 4 وهذا الفصل كما تراه ظاهر الضعف، مقتض لرد كثير من السنة الثابتة لمجرد الظن الفاسد. وليس في شيء مما ذكروه ما يقتضي توقفاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولا تطرق تهمة إليه. معاذ الله من ذلك أنّى وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالحرض على الحديث لمّا قال له: 50- "من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا أحد قبلك لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله". أخرجه البخاري5. وروى في كتاب التاريخ له من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن مالك بن أبي عامر قال:

_ 1 في الأمريكية: على أن كبراء الصحابة. 2 في الأمريكية: لاستعمال الرأي والاجتهاد. وكذلك نسخة كراتشي. 3 انتهى الاعتراض. 4 انتهى الاعتراض. 5 رواه البخاري في باب الحرص على الحديث. فتح الباري 1/193.

51- "كنت عند طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فدخل عليه رجل فقال: يا أبا محمد والله ما ندري أهذا اليماني – يعني أبا هريرة – أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، أو هو يقول على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل؟ فقال: والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم. إنا كنا أغنياء لنا بيوتات وأهلون. وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع. وكان مسكيناً لا مال له ولا أهل. يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان يدور معه حيثما دار. فما نشك أنه قد علم مالم نعلم، وسمع ما لم نسمع، ولن نجد أحداً فيه خير يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل"1. وروى حفص بن غياث عن أشعث عن مولى لطلحة قال: 52- "كان أبو هريرة جالساً في مسجد الكوفة، فمر رجل بطلحة رضي الله عنه2. فقال: قد أكثر أبو هريرة. فقال طلحة: قد سمعنا كما سمع، ولكنه حفظ ونسينا". وفي تاريخ البخاري أيضاً من طريق إسماعيل بن أمية عن محمد بن قيس بن مخرمة عن أبيه: 53- "أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه فسأله عن شيء فقال: عليك بأبي هريرة فإنا بتنا أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ندعوا الله فجلس إلينا فسكتنا فقال:

_ 1 التاريخ الكبير 2/3/132 مع اختلاف يسير. ورواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. انظر المستدرك 3/511. 2 الإصابة 4/208.

عودوا للذي كنتم فيه. قال: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا ثم دعى أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي هذان وأسألك علماً لا ينسى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمين. فقلنا يا رسول لاله ونحن لا نسألك علماً لا ينسى. قال: سبقكما بها الغلام الدوسي1. وروى هشيم عن يعلى بن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن بن إبن عمر أنه مر بأبي هريرة رضي الله عنه وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث من تبع جناز فقال: 54- "أنشدك الله يا أبا هريرة أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: اللهم نعم. لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الردى ولا صفق بالأسواق، لقد كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها". فقال إبن عمر: 55- "يا أبا هريرة قد كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه". وهذا إسناد صحيح. وأصل القصة في صحيح مسلم وفيه أن إبن عمر قال حينئذ: لقد فرطنا في قراريط كثيرة2.

_ 1 رواه الحاكم في كتاب معرفة الصحابة وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الإمام الذهبي وقال: حماد ضعيف – يعني حماد بن شعيب الذي روى عن إسماعيل بن أمية. المستدرك 3/508. 2 صحيح مسلم باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. والحاكم في كتاب معرفة الصحابة بنحو ما ذكره المؤلف. صحيح مسلم 3/13، المستدرك 3/510.

وقال إبن أبي الزناد عن أبيه عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير بضعة عشر رجلاً، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه فيعرفه بعضهم. ثم يحدثهم الحديث فلا يعرفه بعضهم، ثم يعرفه حتى فعل ذلك مراراً. قال: فعرفت يومئذ أنا أبا هريرة أحفظ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري في تاريخه أيضاً1. وقال شعبة عن أشعث بن سليم عن أبيه قال: 56- "قدمت المدينة فإذا أبو أيوب يحدث عن أبي هريرة. فقلت: تحدث عن رجل وقد كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنه قد سمع2. (ولأن) 3 أحدث عنه أحب إلي من أن أحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وممن روى عنه أيضاً من الصحابة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وأبو أمامة سهل بن حنيف4. قال البخاري: روى عنه نحو ثمانمائة نفس من صاحب وتابع من أهل العلم.

_ 1 انظر: المستدرك 3/511. ولم أقف عليه في التاريخ الكبير للإمام البخاري. 2 رواه الحاكم في المستدرك 3/512. ويحمل كلام أبي أيوب على أن الراوي قد يغلظ بزيادة أو نقصان، فيرى أنه لو أخطأ مع راو مثله خير من الخطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 ما بين القوسين من المستدرك. 4 الإصابة 4/205.

وهذا يقتضي إجماع الأمة كلها على قبول روايته وعدم التوقف فيها1. قال أبو صالح: 57- "كان أبو هريرة رضي الله عنه من أحفظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بأفضلهم"2. وقال حماد بن زيد ثنا عمرو بن عبيد الأنصاري قال: ثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم. 58- "أن مروان بن الحكم دعا أبا هريرة، فأقعدني خلف السرير فجعل يسأله وجعلت أكتب، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به، فأقعده وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخر"3. قلت: وهذا كله نتيجة بسط ردائه الذي أشار إليه أبو بكر الرازي، وفي كلامه ما يقتضي تضعيفه. وليس كما ذكر لأنه ثابت في الصحيحين. وفي بعض طرقه الثابت قال: 59- "حضرت من النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً فقال: من يبسط ردائه حتى

_ 1 الإصابة 4/205. وقال الحاكم رحمه الله بلغ عدد من روى عن أبي هريرة من الصحابة ثمانية وعشرين رجلاً. فأما التابعون فليس فيهم أجل ولا أشهر وأشرف وأعلم من أصحاب أبي هريرة. المستدرك 3/513. 2 التاريخ الكبير 2/3/133. 3 أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.. المستدرك 7/510.

أقضي مقالتي، ثم يقبضه إليه فلن ينسى شئياً سمعه مني؟ فبسطت بردة علي حتى قضى حديثه ثم قبضتها إلي. فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئاً بعده سمعته منه "1. أخرجاه في الصحيحين من طريق إبن عيينة عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة. ورواه البخاري أيضاً من طريق إبن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت: 60- "يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً فأنساه، قال: ابسط ردائك فبسطه فغرف بيديه ثم قال: ضمه. فضممته فما نسيت حديثاً قط" 2. فهاتان الروايتان مصرحة بأن عدم نسيانه لم يكن مختصاً بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس. بل هو شامل لجميع ما سمعه منه في ذلك المجلس وغيره. وقول الرازي لو كان كذلك لاشتهر به بين سائر الصحابة، ولم يتثبت في حديثه. يقال عليه إنه غير لازم لأن القضية لم تكن بحضور جمع يسمع الحديث منهم. ولم يعرف ذلك إلا من جهته. وقد شهدوا له بالحفظ كما تقدم عن جماعة منهم، ولم يتثبت أحد منهم في حديثه. ولو وقع في بعض ذلك شيء من واحد منهم كان على وجه الاحتياط. كما في قصة أبي بكر رضي الله عنه مع المغيرة في ميراث الجدة3.

_ 1 رواه الإمام مسلم. في فضائل أبي هريرة. صحيح مسلم 16/52. 2 كتاب العلم. فتح الباري 1/215. وانظر كلام الحافظ ابن حجر. 3 رواه الإمام مالك في الموطأ باب ميراث الجدة. والترمذي وقال عقبه: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه في سننه. وأورده الذهبي في ترجمة الصديق رضي الله عنه مستدلاً به على أنه كان أول من احتاط في قبول الأخبار. وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح بثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق ولا يمكن شهوده للقصة. الموطأ 1/335، تحفة الأحوذي 6/277، سنن ابن ماجه 2/909، تذكرة الحفاظ 1/3، التلخيص الحبير 3/82.

وقصة عمر رضي الله عنه مع أبي موسى في الإستئذان ثلاثاً1. ولا يلزم من ذلك تطرق ريبة إليهما. وكذلك فعل إبن عمر في حديث أبي هريرة في إتباع الجنازة، وقد سلم له أنه كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغيبون في أشغالهم2. وأما قول عمر رضي الله عنه: "لألحقنك بجبال دوس"، فلم ثبت عنه3. وقد ولاه عمر رضي الله عنه البحرين مع عدم مداهنته4. وقال له عثمان رضي الله عنه: 61- "حفظ الله عليك دينك، كما حفظت علينا ديننا".

_ 1 أخرجه البخاري في باب التسليم والاستئذان ثلاثاً. ومسلم في باب الإستئذان من كتاب الأدب. فتح الباري 11/2611، صحيح مسلم 14/130. 2 رواه البخاري في باب فضل اتباع الجنائز. ومسلم في باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. فتح الباري 3/192. صحيح مسلم 7/14. 3 وروى عن عثمان أنه قال مثل هذا القول في أبي هريرة. ويرى الحافظ إبن كثير أن هذا القول محمول على أنه خشي من الأحاديث التي قد تضعها الناس غير مواضعها. وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص. وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ، فيحملها الناس عنه أو نحو ذلك. انظر المحدث الفاصل ص 574، البداية والنهاية 8/106، السنة قبل التدوين ص 460. 4 ثم طلبه عمر مرة أخرى ليستعمله فأبى. انظر الإصابة 4/210.

وإنما عمر رضي الله عنه كان يحب إقلال الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بذلك كثيراً من الصحابة. أخذاً بالتوقي والإحتياط وحذراً من زيادة أو نقصان يقعان من الراوي وهو لا يشعر، والروايات عنه بذلك ثابتة. فلم يكن ذلك مختصاً بأبي هريرة دون غيره. وأما نقض الرازي ذلك بنسيانه حديث:" لا عدوى" فلا يلزم لأنه لم يصرح بأنه نسيه. وربما كتمه في ذلك الوقت لمصلحة رآها في الحاضرين يومئذ. ولو سلم أنه نسيه فلا يلزم منه دوام نسيانه، بل ربما تذكره بعد ذلك. وفي إجماع العلماء كافة على قبول قول أبي هريرة وتلقيه منه غنية ورد على إبن أبان ومن تبعه في رأيه. والله ولي التوفيق. وأما الكلام في أفراد الصحابة الذين لم يشتهروا بالعلم، وأن حديثهم لا يقبل منه إلا ما وافق القياس، فهو كما تقدم في الضعف، وعلى خلاف ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم. فقد ثبت عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه سأل عن إملاص المرأة، فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: 62- "كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة.. الحديث". رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم1. وأخرجوا أيضاً بسند صحيح أن عمر رضي الله عنه كان يقول:

_ 1 أبو داود في باب دية الجنين. والنسائي في باب قتل المرأة بالمرأة. والحاكم في كتاب معرفة الصحابة. وتكلم عليه الحافظ الزركشي في كتابه المعتبر. انظر: عون المعبود 12/314، سنن النسائي 8/21، المستدرك 3/575، المعتبر 1/164.

63- "الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً. حتى قال له الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أنْ ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر رضي الله عنه إليه"1. وصححه إبن حبان أيضاً. ولما أفتى إبن مسعو رضي الله عنه بإجتهاده أن المفوضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول لها مهر المثل والميراث، وقام معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك في بروع بنت واشق. فرح به ابن مسعود كثيراً، ولولا قبول روايته لم يفرح به. وكل هذه الأمور على خلاف القياس، والصحابة الرواة لها لم يشتهروا بالقصة بل ولا بطول الصحبة، فليس لما قالوه وجه مع قبول الصحابة رضي الله عنه ذلك. وأيضاً إذا كان الصحابي عدلاً مأموناً فلا فرق فيما رواه بين ما يوافق القياس وما يخالفه. وإن كانت التهمة تتطرق إليه فيما يخالف القياس، فهي متطرقة إلى ما يوافقه أيضاً. ويكون حكمه حكم سائر الرواة من غير الصحابة ممن يتهم بسوء الحفظ، وقلة الإتقان ومعاذ الله من ذلك. ولا ريب في أن فتح هذا الباب في الصحابة يشوش الشريعة ويدخل الشك في السنن، ويطرق أهل البدع كالرافضة وغيرهم إلى القدح في الدين والتشكيك فيه والتلبيس على ضعفاء المؤمنين. وكل

_ 1 رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح. عون المعبود 8/144، تحفة الأشراف 4/202، ابن ماجه 2/883، تحفة الأحوذي 6/292، تحفة الطالب 236.

مقالة أدت إلى هذه المفاسد فهي فاسدة، لا سيما والإجماع العملي منعقد قبل قائلها وهي غنية عن الإطالة في ردها، والله ولي التوفيق. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. تم. آخر الكتاب تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، ووافق الفراغ من نسخه من نسخة المصنف في تاسع عشر جمادى الأول سنة ست وسبعمائة وسبعين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس المراجع 1- الاجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة. المؤلف: بدر الدين الزركشي ت (794هـ) تحقيق سعيد الأفغاني – نشر المكتب الإسلامي. 2- أحكام الأحكام. للآمدي. تعليق عبد الرزاق عفيفي – وتصحيح عبد الله بن غديان. ط الأولى عام 1387هـ. 3- الاستيعاب في أسماء الأصحاب. المؤلف ابن عبد البر ت (463هـ) ط الأولى سنة 1328 بمطبعة السعادة بمصر مع كتاب الإصابة. 4- الإصابة في تمييز الصحابة المؤلف الحافظ ابن حجر العسقلاني ت (852) مع كتاب الاستيعاب. 5- الأنس الجليل. لمجير الدين الحنبلي. نشر مكتبة المحتسب. عمان – الأردن. 6- البداية والنهاية. المؤلف: الحافظ ابن كثير. ت (774هـ) . ط الأولى عام 1351هـ. ط بمطبعة السعادة. 7- تاريخ الخلفاء المؤلف: الإمام السيوطي. ت (911هـ) . بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. ط الأولى عام 1371هـ. بمطبعة السعادة بمصر.

8- تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي ت (280هـ) . تحقيق د. أحمد محمد نور سيف. نشر دار المأمون للتراث. 9- التاريخ الكبير للإمام البخاري ت (256هـ) . ط الأولى عام 1361 هـ بمطبعة دائرة المعارف العثمانية. 10- تحفة الأحوذي شرح جامع الإمام الترمذي. للمباركفوري ت (1353هـ) مراجعة عبد الوهاب عبد اللطيف. نشر محمد بن عبد المحسن الكتبي. 11- تحفة الأشراف. للحافظ المزي. ت (742هـ) تصحيح وتعليق عبد الصمد شرف الدين. نشر دار القيمة ط الأولى. 12- تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب. المؤلف: ابن كثير. ت (774هـ.) . دراسة وتحقيق عبد الغني بن حميد الكبيسي. نشر دار حراء للنشر والتوزيع مكة المكرمة. 13- تذكرة الحفاظ. المؤلف: الإمام الذهبي ت (748هـ) . نشر دار إحياء التراث العربي. بتصحيح عبد الرحمن بن يحيى المعلمي عام 1374هـ. 14- تفسير القرآن العظيم. المؤلف: الإمام ابن كثير. ت (774هـ) . طبع دار إحياء الكتب العربية. عيسى البابي. 15- تقريب التهذيب. المؤلف: الإمام ابن حجر العسقلاني. ت (852هـ) .

تحقيق وتعليق. عبد الوهاب عبد اللطيف. نشر دار المعرفة للطباعة. بيروت. ط الثانية عام 1395هـ. 16- التقييد والإيضاح. المؤلف: زين الدين العراقي ت (806هـ) . تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. نشر محمد عبد المحسن الكتبي. ط الأولى عام 1389هـ. 17- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. المؤلف: الحافظ ابن حجر العسقلاني ت (852هـ) . تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني المدني عام 1384هـ. 18- تهذيب الأسماء واللغات. المؤلف الإمام النووي. ت (676هـ) . ط إدارة الطباعة المنيرية. 19- تهذيب التهذيب. المؤلف: الحافظ ابن حجر العسقلاني ت (852هـ) . ط بمطبعة دائرة المعارف النظامية. ط الأولى. 20- جامع التحصيل في أحكام المراسيل. المؤلف: الإمام العلائي ت (761هـ) . تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. 21- الجرح والتعديل. المؤلف: إبن أبي حاتم ت (327هـ) . تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي. ط بمطبعة دائرة المعارف. ط الأولى عام 1371هـ. 22- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. المؤلف الحافظ ابن حجر العسقلاني ت (852هـ) . ط بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية عام 1348هـ.

23- الرسالة المستطرفة. المؤلف: السيد محمد بن جعفر الكتاني. نشر دار الكتب العلمية – بيروت عام 1400 هـ، ط الثانية. 24- سنن ابن ماجه. للإمام ابن ماجه ت (275هـ) . تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط دار إحياء الكتب العربية عام 1372هـ. 25- السنن الكبرى للإمام البيهقي. ت (458هـ) . ط دار الفكر –بيروت. 26- سنن الإمام الدارقطني ت (385هـ) . تصحيح وتحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني. ط دار المحاسن للطباعة، عام 1386هـ. 27- شذرات الذهب. المؤلف ابن العماد الحنبلي. ت (1089هـ) ، نشر مكتبة القدس عام 1351هـ. 28- صحيح الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري ت (261هـ) بشرح النووي. ط دار إحياء التراث العربي –بيروت. 29- صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. تأليف: عيادة بن أيوب الكبيسي. نشر دار القلم – بيروت. ط الأولى عام 1407هـ.

30- طبقات الشافعية الكبرى. المؤلف الإمام السبكي ت (771هـ) . تحقيق: عبد الفتاح الحلو، ومحمود الطناحي. ط عيسى البابي الحلبي، ط الأولى. 31- العبر في خبر من غبر. المؤلف: الإمام الذهبي ت (748هـ) . تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني. ط الأولى 1405هـ. دار الكتب العلمية –بيروت. 32- عون المعبود شرح سنن أبي داود. المؤلف: أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي. ضبط وتحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان. نشر محمد عبد المحسن، ط الثانية 1388هـ. 33- فتح الباري شرح صحيح الإمام البخاري. المؤلف: الحافظ ابن حجر العسقلاني. تحقيق فضيلة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، ط المطبعة السلفية. 34- فتح القدير. المؤلف: الإمام الشوكاني ت (1250هـ) ، نشر محفوظ العلي –بيروت. 35- فتح المغيث شرح ألفية الحديث. المؤلف: الإمام شمس الدين السخاوي ت (902هـ) . ضبط وتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. نشر المكتبة السلفية. ط الثانية عام 1388هـ.

36- الفرق بين الفرق. المؤلف: عبد القاهر بن طاهر ت (429هـ) . تحقيق محمد محيي الدين. ط دار المعرفة –بيروت. 37- فضائل الصحابة. المؤلف: الإمام أحمد بن حنبل ت (241هـ) . تحقيق وصي الله بن محمد عباس. ط الأولى 1403هـ. مركز البحث العلمي. بجامعة أم القرى. 38- فهرس الفهارس والأثبات. المؤلف: عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني. تحقيق: د. إحسان عباس. ط الثانية 1402هـ. دار الغرب الإسلامي –بيروت. 39- الكامل في ضعفاء الرجال. المؤلف: الإمام أبو أحمد بن عدي ت (365هـ) . ط الأولى عام 1404هـ، ط بمطبعة دار الفكر –بيروت – لبنان. 40- كشف الأستار. المؤلف: الحافظ نور الدين الهيثمي ت (807هـ) . تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. ط بمؤسسة الرسالة. 41- الكفاية. المؤلف: الخطيب البغدادي ت (463هـ) . ط الأولى، ط بمطبعة السعادة. 42- المجروحين. المؤلف: محمد بن حبان البستي ت (354هـ) . تحقيق: محمود إبراهيم زايد، ط الأولى 1396هـ، ط دار الوعي بحلب.

43- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المؤلف: نور الدين الهيثمي ت (807هـ) . نشر دار الكتاب العربي –بيروت. 44- المحدث الفاصل. المؤلف: الإمام الرامهرمزي ت (360هـ) . تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب. ط الأولى عام 1971م، ط دار الفكر. 45- المراسيل. المؤلف: ابن أبي حاتم الرازي ت (327هـ) . تحقيق شكر الله نعمة الله. ط الأولى عام 1397هـ، ط مؤسسة الرسالة. 46- المستدرك على الصحيحين. المؤلف: أبو عبد الله الحاكم، ت (405هـ) ، نشر دار الفكر –بيروت، عام 1398هـ. 47- مسند الإمام أحمد بن حنبل ت (241هـ) . ط الأولى 1389هـ، ط المكتب الإسلامي. 48- مسند الطيالسي. المؤلف: الإمام أبو داود الطيالسي ت (204هـ) ، ط الأولى، بمطبعة دائرة المعارف النظامية عام 1321هـ. 49- المصنف – للإمام عبد الرزاق الصنعاني ت (211هـ) . تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. ط الأولى عام 1390هـ، نشر المكتب الإسلامي. 50- المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر. للإمام بدر الدين الزركشي ت (797هـ) .

تحقيق ودراسة: عبد الرحيم بن محمد القشقري، رسالة دكتوراه. 51- معجم شيوخ الإمام الذهبي. المؤلف: الإمام الذهبي ت (748هـ) . تحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة. ط الأولى 1408هـ. نشر مكتبة الصديق. 52- المفردات في غريب القرآن. المؤلف: الراغب الأصبهاني. ط مطبعة الميمنة سنة 1324 هـ. 53- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث المؤلف: أبو عمرو بن الصلاح، ت (642هـ) . نشر دار الحكمة بدمشق عام 1392هـ. 54- المعجم الكبير. المؤلف: الإمام الطبراني ت (360هـ) . تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. ط الأولى 1400هـ، بمطبعة الوطن العربي. 55- الملل والنحل للشهرستاني. ط مصطفى البابي عام 1387هـ. 56- موطأ الإمام مالك ت (179هـ) . بحاشية السيوطي المعروف بتنوير الحوالك. ط المكتبة التجارية الكبرى. 57- ميزان الاعتدال للإمام الذهبي ت (748هـ) . تحقيق علي محمد البجاوي، ط دار إحياء الكتب العربية.

§1/1