تحقيق الفوائد الغياثية
الكرماني، شمس الدين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(ح) الجامعة الإسلامية، 1425 هـ فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر تَحْقِيق الْفَوَائِد الغياثية لشمس الدِّين الكرمانِي تَحْقِيق ودراسة: د. عليّ بن دخيل الله بن عجيّان الْعَوْفِيّ - الْمَدِينَة المنوّرة. 570 ص، 17 × 24 سم ردمك: 8 - 221 - 02 - 9960 1 - 2 - أ - العنوان ديوي 415.5 ... 2640/ 22 رقم الْإِيدَاع: 2640/ 22 ردمك: 8 - 221 - 02 - 9960 جَمِيع حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة للجامعة الإسلامية بِالْمَدِينَةِ المنوّرة مكتبة الْعُلُوم وَالْحكم الْمَدِينَة المنورة - شَارِع السِّتين - ص. ب 688 ت: 8251942 - 8263356 - فاكس 8220665
السّعوديّة الملك عبد العزيز -رَحِمَهُ اللهُ-، ولأبنائه كذلك من بعده، ففي عهد خادم الحرمين الشّريفين، أوّل وزير للمعارف بلغت مسيرة التّعليم مستوى عاليًا، وازدهر التّعليم العالي وارتقت الجامعات، ومن هذه الجامعات العملاقة، الجامعة الإسلاميّة بالمدينة النّبويّة، فهي صرح شامخ، يشرف بأن يكون إحدى المؤسّسات العلميّة والثّقافيّة، التي تعمل على هدي الشّريعة الإسلاميّة، وتقوم بتنفيذ السّياسة التّعليميّة بتوفير التّعليم الجامعيّ والدّراسات العليا، والنّهوض بالبحث العلميّ والقيام بالتّأليف والتّرجمة والنّشر، وخدمة المجتمع في نطاق اختصاصها. ومن هنا، فعمادة البحث العلميّ بالجامعة تضطلع بنشر البحوث العلميّة، ضمن واجباتها، التي تمثل جانبًا هامًّا من جوانب رسالة الجامعة ألا وهو النّهوض بالبحث العلميّ والقيام بالتّأليف والتّرجمة والنّشر. ومن ذلك كتاب: [تحقيق الفوائد الغياثيّة]، تأليف: شمس الدين محمد بن يوسف الكرمانيّ (ت 786 هـ) تحقيق ودراسة د. عليّ بن دخيل الله عجيّان العوفي. نفع الله بذلك ونسأله سبحانه أن يرزقنا العلم النّافع والعمل الصّالح، وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمّد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين. معالي مدير الجامعة الإسلاميّة د / صالح بن عبد الله العبود
مقدمة التحقيق
المقدِّمة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} (¬1) آمين. والصَّلاةُ والسَّلامُ على أَشْرفِ الأَنبياءِ والمُرْسلِين، وآلهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين، وصَحابتهِ الغُرّ الميَامين، والتَّابعين لهَم بإِحْسَانٍ إلى يومِ الدِّين وبعد؛ فإِنَّ أعظمَ ما اسْتُنفرت له الطاقات، وأُنفِقَت في سَبيله الأَوْقَات، ما امتدَّ نفعُه للمَرءِ من الحياةِ إلى المَمَات، وقَدْ قَال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطعَ عَنْه عَمَلُهُ إلا مِنْ ثَلاثةٍ: إلا مِنْ صَدَقةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ به، أَوْ وَلَدٍ صَالح يَدْعو له" (¬2). ¬
وكانَ من نِعَم الله عليَّ أَنْ أَلقى في رُوْعِي -منذُ نعومةِ أَظفاري، وأَنا أَتَلقى تَعْلِيمي الأَوَّليّ في جَنَباتِ هذه الجامعةِ المباركةِ- فَهْمًا صَحِيحًا لحديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الآنفِ الذِّكر، ولغيرِه من الأَحَاديثِ الوَاردةِ في فَضْلِ العِلْم. فَأَحْببتُ طريقَه وسلكتُ سُلَّمه، سَائِلًا الله -سُبْحَانَه وتَعالى- فَضْلَه وبركَتَه، ومَا زِلْتُ كذلك؛ أَتقلَّبُ بين مَعَاهدِ الجَامعةِ الإِسْلاميَّةِ وَكُلِّيَّاتِها نَاهِلًا من مَعِينها العَذْبِ الصَّافي حتَّى امتنَّ الله عليَّ بالقبول في مَرْحلةِ العَالمِيَّةِ العَالِيَة "الدُّكْتُوراه". وكان مِن تَوفيقِ اللهِ وفَضْلِه عليَّ وعلى زُملائي طلبة الدِّراساتِ العُليا في كُلِّيَّةِ اللُّغةِ العربيَّةِ -في تلك السَّنة- أَنْ رَأى القَائِمون على الجَامِعةِ الإسْلاميّة، وعلى رَأْسِهم مَعَالي مُديرِها الحاليِّ، فضيلة الدُّكتور / صالح بن عبدِ الله العُبود -ضرورةَ العودة إلى الإفادة من نظام التّعاقد بتزويدِ قسمِ الدِّراساتِ العُليا بالكُليَّة بعددٍ من الأساتذةِ الفُضلاءِ، والعلماءِ الأَجلّاء؛ ليكونوا عونًا لطلبةِ الدِّراسات العُليا مِنْ جِهة، وليسْهِموا مع زملائِهم السُّعوديين في تَنْمية المعرفةِ الإنْسانِيَّة مِنْ جِهةٍ أُخرى. وبالفِعْلِ قَيَّضَ الله لي مُلازمةَ أحدِهم، وهو مَنْ هو في العِلْمِ والفَضْل!! فضيلةِ الأستاذِ الدُّكتورِ / عَبْد السَّتَّار حُسَين زَمُّوط؛ حيثُ عُيِّن مُشرْفًا لي. وما زلتُ أستخيرُ الله، وأستشيرُ مشرفي في موضوع البَحْث، وهو يحبِّبُ إليَّ التَّحقيقَ ويقرّبُنِي منه؛ حتَّى اسْتشعرتُ أهميَّته، وأدركتُ خُطُورتَه، وأنَّه لا يَضْطلعُ به إلا أصحابُ الهممِ العاليةِ والقُدراتِ الفائقة؛ مِمَّن عرفَ لعلماءِ الأُمَّةِ الأسلافِ حقَّهم، وقدَّرهم حقَّ قَدْرِهم. وأَدْركَ تَمَامًا أَنَّ العبثَ بتراثِهم، والتَّسرّعَ في إخْراجِه؛ أشدُّ وبالًا وأَعظمُ
خِزْيًا من بقائِه قَابعًا في مَكانِه؛ عَلى صُورتِه الَّتي تَركها المؤلِّفُ عَليه. وهكذا ظللتُ أُطالعُ مرشدي -بين الوَقْتِ والآخر- بما تَيسّر لي الوقوفُ عليه؛ من مَخْطُوطاتٍ جَديرةٍ بالتَّحقيقِ -في نظري-، وأعرضُ عليه، وهو لا يَأْلُو جُهدًا في الفَحْصِ والنَّظر، والتَّقصِّى والتَّتبُّع؛ بَل وقراءةِ المَخْطوطِ؛ مع مَا فِيه مِنْ الجُهدِ والمَشَقَّةِ؛ ثم يصدر حُكْمَه المصيبَ لكبد الحقِيقَةِ. وعندما يَسَّر الله لي الاهْتداءَ إلى كتابِ "تَحْقيقِ الفَوائدِ الغياثيَّة" لشَمس الدِّين الكِرْمَانيِّ وجَدْتُني مع زَميلٍ بَاحثٍ فاضلٍ في قِسْم اللُّغويَّات؛ هو فضيلةُ الدّكتور / ناجي محمدو حين، وكان قَدْ سجَّلَ مَوْضُوعًا يَتعلَّقُ بتحقيقِ كتابٍ لشَمْس الدِّين الكِرْمَانيِّ؛ مكَّنه من الوُقوفِ على عَنَاوين كُتبهِ، فذكرَ ليَ أنَّ لشارح صحيح البخاريّ؛ شمسِ الدِّين الكِرْمَانيِّ مؤلَّفًا في البلاغةِ ودلَّني على بعضِ المَصَادر الَّتي أورَدت خبرَه. وبعونِ الله وتيسيرِه؛ لَمْ تمضِ أسابيعُ قَلائِل إلا وتصوّرٌ شاملٌ عن الكتابِ ومؤلِّفه تحت سَمْع المشرف وبصره، وإِحدى نُسَخِهِ المجلوبة من خارج المملكةِ بين يَدَيْه، فوافقَ اسْتِحسانُه اسْتِحْسَاني، وفرضتْ قيمةُ الكتابِ العِلميَّة نَفْسها عليَّ وعليه؛ فَلَمْ أجدْ مَناصًا من التَّقدُّم به إلى القسْمِ وتَسْجيله. وثَمَّت أسبابٌ عدَّة دَفَعتْنِي إلى اخْتيارِ هذا الموضُوع، ويمكنني أَنْ اقسِّمَها إلى قِسْمين: أولًا: دوافع تَتَعلَّقُ بالباحثِ، منها: 1 - رغْبَتي الملِحَّة -الَّتي أَذْكاها في مشرفي- في المُشَاركةِ في
إحياءِ التُّراثِ العربيِّ والإسلاميِّ؛ بتحقيقِ مخطوطاتِه، وبعثِ نَفائِسه وكنوزه، ولو لَمْ يكن للتّحقيق سوى هذه الميزة لكفت. 2 - رغبتي الجادَّةِ في الجمع بين التَّأليف والتَّحقيق، واكتساب التَّجربة في كليهما، ولَمَّا كانت أطْروحتِي في (الماجستير) مَوْضُوعًا؛ ناسبَ أن تكونَ في (الدُّكتوراه) تحقيقًا ودراسةً؛ فأجمعُ بذلك بينَ النَّوعين. 3 - إيمانِي بأن البلاغةَ العربيَّةَ في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى تَجْديد، وأَنَّ أَوَّلَ سبلِ تَجْديدِها الرُّجوعُ إلى تُراثِنا البَلاغيِّ واسْتيعابُه، لنبني على أُسسهِ ما نَطمحُ إليه من التَّجديد. 4 - رَغْبتي في إِشْباع شوقٍ تملَّكني في أَثْناء قِراءتي المخطوطَ لأوّلِ مرةٍ؛ أجد مَكْمنه في عمقِ الفِكرةِ، ودقّةِ المَلْحظِ، وقوَّةِ الحُجَّةِ، وحسنِ العرض. 5 - رَغْبتي في التَّمكُّنِ والاسْتِيعاب التَّامِّ لجميع المباحثِ البلاغيَّةِ العربيَّةِ، والنَّهلِ من مَعِينها التُّراثيّ الصَّافيَّ. 6 - رَغْبتي في الإِسْهامِ في إخْراج كتاب مِنْ كُتبِ التُّراثِ العَربيِّ؛ خدمةً للعلم وأهله، وإِثْراءً للمراجِع الأَصْليّة في المكتبةِ العربيَّة. ثانيًا: دوافع تتعلَّقُ بالمَخْطُوط: 1 - قيمةُ الكتابِ العلميَّةِ فهو متضمِّن لكتابَينِ عَظِيمَين؛ أَحدهما: مختصرِ الإيْجيّ، والآخر: شرح الكِرْمَانيِّ، وكلاهما ذو أَهميَّةٍ بالغةٍ؛ لأَنَّهما يستمدَّان مادَّتَهما من مفتاح العلومِ للسَّكاكيِّ مباشرةً. هذا؛ وقَدْ تَضَمَّن الكتابُ الشَّارحُ "تحقيقُ الفَوائد" علومَ البلاغةِ الثَّلاثة:
المَعَاني، البَيَان، البَدِيعَ. وتناولَ بالشَّرح التَّفصيليِّ -أَحْيانًا- جميع المباحث البلاغِيَّةِ؛ حيثُ بدأَ بتعريفِ علمِ المعاني وتحدَّثَ عن غَايتِه ثمَّ تحدّثَ عن الخَبرِ، فعرَّفهُ واسْتَطردَ في بيانِ حَقِيقتِه، وخلافِ العلماءِ حولَ صِدْقِه وكذبِه، ثمَّ بَيَّنَ الغرضَ من إلقائِه، وأضْرُبَه، وخروجَه عن مُقْتَضى الظَّاهرِ، وأدواتِ تأكيدِه، ومَا قَدْ يردُ من أغراضٍ فرعيَّة، ثمَّ تحدَّثَ عن بقيَّةِ أحوالِ الإسنادِ، ثُمَّ بَيَّنَ أحوال المُسْندِ إِليه، والمُسْند؛ من حيثُ الحذفُ والذِّكرُ، والتَّقديمُ والتَّأخيرُ، والتَّعريفُ والتَّنكيرُ ... إلخ؛ ذاكرًا الأَسْرارَ البلاغِيَّة الَّتي تَقْتضي كلًّا منها، ثم تحدَّثَ عن أَحْوالِ متعلِّقاتِ الفِعْل من حيثُ التَّقديمُ والتَّأخيرُ، .. إلخ؛ مع بيانِ الأَسْرارِ البَلاغيَّةِ لهذه الأَحوال، ثُمَّ تحدَّث عن القَصْر؛ فعرَّفه، وقسَّمَه باعتبارِ طَرفيه، وباعتبارِ حالِ المُخاطبِ، وبَيَّنَ طُرقَه وأَدَواتِه، ثُمَّ تحدَّثَ عن الفَصْلِ والوَصْل، فعرَّفهما، وبَيَّنَ مواضعهما، ثُمَّ تحدَّث عن الإِيجازِ والإِطْنابِ والمُسَاواةِ، وخَتَم كلامَه بالحديثِ عن الطَّلبِ فَعَرَّفَه، وبيَّنَ أَقْسَامه، وتقسيماتِ كُلِّ قِسْم. وكذلكَ الحالُ في عِلْمي البيانِ والبديع؛ فقَد تناولَ جميعَ مباحثِ عِلْمِ البيانِ، وبعضَ المُحَسَّناتِ البَديعيَّة؛ المعنويَّة واللفظيَّةِ. وممَّا يزيدُ في قيمةِ الكتابِ ويرفعُ شأنَه بين الكتبِ البلاغيَّة الأُخرى؛ أَن المؤلِّفَ لَمْ يقتصرْ في عَرْضهِ للمباحثِ البلاغيَّةِ على التَّعريف والتَّقسيمِ والتَّمثيلِ؛ بَلْ إِنَّه لا يَفْتأ تَوضيحًا وتفصيلًا وعرضًا للأدلَّةِ وتَرْجيحًا، مقرِّبًا المعلومةَ من أَقْربِ الطُّرقِ وأيسرِها فإذا مَا تعرَّضَ لمثالٍ يحتاجُ إلى إيضاحٍ شرحَ غامضَه وفكَّ طَلْسَمَه وربما نَسَبه إلى قائِله؛ إِنْ كان له قائلٌ معيَّن، وإذا ما تطرَّقَ لقضيَّةٍ بلاغيَّةٍ تناولهَا البلاغيُّون تحدَّث عنها وذكرَ
مُجْمَلَ ما وردَ فيهَا من آراءٍ وناقَشَها وربَّما رجَّح بينها، وكلُّ ما تقدَّمَ يعرضُه بعقلٍ منظَّمٍ ناضجٍ مؤصَّلٍ تأصيلًا قويًّا بشتَّى أنواعِ العُلُوم، ناهيكَ عن المنهج الواضع الَّذي سارَ عليه المؤلِّفُ في كتابِهِ، حيثُ ضمَّن كتابَه كتابَ شيخِه الإِيجيِّ دون أَنْ يُنقصَ منه حرفًا واحدًا مُلتزمًا في ذلك كُلِّه بخطّةِ الكتابِ المَشْرُوح؛ الَّذي بناهُ صاحبُهُ على أُسسٍ مُحْكَمَةٍ؛ قوامها الفصولُ، ثُمَّ القوانينُ، ثُمَّ الفُنونُ، ثُمَّ الأَنواعُ. أمَّا الكتابُ المشروحُ "الفوائدُ الغياثيَّة في المعانِي والبَيَان" فقَد تضمَّن تلخيصًا وافيًا للقسمِ الثالث من كتابِ "مفتاح العُلُومِ" للسَّكاكيِّ؛ الَّذي يُعدُّ من أهمِّ الكتبِ البَلاغيَّةِ عند المتأَخِّرين؛ لأَنَّه رأسُ مَدْرَسَتِهِم؛ مِمَّا جعلهُم يعكفُون عليه تَلْخيصًا وشَرْحًا، وظلَّت هذه الشُّروحُ والدِّراساتُ عمدةَ الدَّارسين للبلاغةِ إلى يَوْمِنَا هذا. وعليه: فإِنَّ كتابَ "الفوائدَ الغياثيَّة" لعضُد الدِّين الإيجيِّ يُوازي كتابَ تخليصِ الخَطيبِ في المَنْزِلَةِ؛ فكلاهُما مختصرٌ للمِفتاح. كمَا أَنَّ "تَحقيقَ الفَوائِد" للكرمانيِّ يُوازي كتابَ الإيضاح للخطيب؛ فكلاهما شرحٌ لمُخْتَصر. وإذا رأَينا كثرةً من الشُّروح قامتْ على التَّلخيصِ؛ لاحْتِيَاجهِ إلى الإِيضاح والشَّرح حتَّى شَرَحَه صاحبُه نَفْسُه (الخطيبُ القَزْوينيُّ) في كتابه المَشْهُورِ: "الإيضاح"؛ فإن ذلك يُؤكِّد حاجةَ كتاب الإِيجيِّ إلى شرحٍ وإيضاحٍ؛ فجاءَ هذا الكَتابُ موضوعُ التَّحقيقِ والدِّراسةِ محقّقًا لهذا الهدف. ومن هُنا نَلْمَسُ أهميَّةَ الكتابَيْن؛ المَشْروح والشَّارح. 2 - تَمَيُّزُ الكِتابين المُتقَدِّمين -الشَّرح والمشروح- بأنَّهما لعَلَمَين
بارِزَين عُرِفا بالثقافة العَميقَةِ والاطِّلاع الواسع مِمَّا أَعْطى للكِتَابين صِبْغةً جَديدةً تُميِّزهما عَنْ غيرِهما من كُتبِ البلاغةِ الأُخْرى. فصاحبُ الكتابِ المَشْروح هو / عبدُ الرَّحمن بنُ أحمدَ بنِ عبدِ الغفَّارِ الإِيْجيُّ، المُكنَّى بأبي الفَضْل، والملقب بعضدِ الدِّين، قَاضي القُضَاةِ في زَمَنِه، وشَيخ الشَّافعيَّةِ في بلده. قال عنهُ الأَسْنويّ في طَبقاتِه (¬1): "كان إمامًا في عُلُومٍ متعدِّدةٍ، مُحقِّقًا مُدقّقًا ذَا تصانِيف مَشْهورةٍ". وصاحبُ الكتابِ الشَّارح هو / شمسُ الدِّين؛ محمَّد بنُ يوسفَ الكِرْمَانيّ؛ عالِمٌ ذاعَ صيتُه، وطَارَت بشهرتِه الآفاقُ؛ فقد كان أُصُوليًّا فَقِيهًا مُحَدِّثًا، مُفَسِّرًا مُتكلِّمًا، أَدِيبًا نَحْويًّا، بَيَانيًّا. ومن اتَّصف ببعضِ هذهِ الصِّفات فإِنَّ كتابَه -ولا شكَّ- سَيكونُ ذا شأنٍ عظيمٍ؛ لما سَوف يحويهِ من فَرائدَ ونَفَائِس؛ فكيفَ بمن اتَّصفَ بهذِه الصِّفاتِ كُلِّها؟!. ثُمَّ إِنٌ الكِرْمَاني تتلمذَ على شيخهِ الإيجيِّ ولازمَه مُدَّةً طويلةً، وقَرَأَ عليه جُلَّ كُتُبه؛ ممَّا جَعَلَه من أخصِّ تلاميذِه، وهذَا بِدَورِه يَجْعَله أَدْرى بمُرَادِه، وأَعْلَمَ بكُتُبِهَ، وقَدْ بَدَا ذلك جَلِيًّا مِنْ خِلالِ كتابهِ "تحقيقِ الفوائدِ الغيَاثيَّة" في أَثْناءِ تَعْلِيقهِ على بَعْضِ القَضَايا؛ حيثُ صرَّح في مَواضِعَ مُتفرِّقةٍ بأَنَّ لشيخِه رأيًا حولَ هذهِ القَضيَّةِ لَمْ يذكُرهُ ويحسنُ بالمقامِ ذِكرهُ فيَذْكره. 3 - كَونُ "تحقيقِ الفوائدِ" من المَخْطوطاتِ النَّادرةِ الْمُهِمّةِ الَّتي لَمْ تُنشرْ وإِخراجُه يُعدُّ خدمةً جَلِيلةً للتُّراثِ العربيِّ، أمَّا "الفوائدُ الغِياثيَّةُ" فإِنَّه -وإِنْ ¬
أُخرِجَ متأَخِّرًا (¬1) إلا أنَّه لَمْ يَظْهَرْ بالصُّورةِ المرضيَّةِ؛ حيثُ لَمْ يَلْقَ من المُحَقِّقِ العَنَايةَ المَأْمُولَة؛ ناهِيكَ عَنْ اعتمادِه في التَّحقيقِ عَلَى نُسخٍ متَأَخِّرةٍ. 4 - تَمَيُّز كِتابِ "تحقيقِ الفَوائدِ" بالشُّمُولِيَّةِ وحُسْنِ العَرْضِ في الغالبِ الأَعَمِّ. ¬
خطة البحث هَذَا؛ وقَدْ قسَّمتُ موضوعَ الرِّسالةِ إلى قْسِمينِ رئيسين؛ تسبقهُما مُقدِّمةٌ وتَعْقُبُهما الفَهَارسُ الفَنِّيَّة، ورسمتُ الخُطَّةَ على النَّحو الآتي: 1 - المُقدِّمة. 2 - القسمُ الأَوَّل: قِسمُ الدِّراسة. ويشتملُ على تمهيدٍ وفَصْلين: التَّمهيدُ: التَّعريف بالعضدِ الإيجيِّ وكتابِهِ "الفوائد الغياثيَّة"، وفيه مبحثان: المَبْحثُ الأَوَّل: التَّعريفُ بعضدِ الدِّين الإيجيّ. المَبْحثُ الثاني: التَّعريفُ بكتابِهِ "الفوائدِ الغياثيَّة". الفصل الأَوَّل: التَّعريفُ بشمسِ الدِّين الكِرْمَانيِّ، وفيه: تمهيدٌ، وثلاثَةُ مباحثٍ: التَّمهيدُ: نُبْذَةٌ موجزةٌ عن عَصْر الكِرْمَانيِّ. المَبْحثُ الأَوَّل: حياةُ الكِرْمَانيِّ، وفيه ثلاثةُ مطالبٍ: المطلَبُ الأَوَّل: اسمهُ، ونسبهُ، ولقبهُ، وكنيتُه. المطلَبُ الثاني: مولدهُ، ونشأتهُ، ورحلاتُه. المطلَبُ الثالث: عقيدتهُ، وأخلاقهُ، وصفاتُه. المَبْحثُ الثاني: شيوخُه، وتلاميذهُ، ومكانتُه العِلْميَّة، وفيهِ ثلاثَةُ مطالِبٍ: المطلَبُ الأَوَّل: شيوخُه. المطلَبُ الثَّاني: تلاميذه. المطلَبُ الثَّالث: مكانتُه العِلْمِيَّة.
المَبْحثُ الثَّالث: مصنَّفاتُه، ووفاتُه، وفيه مَطلبَان: المطلَبُ الأَوَّل: مُصنَّفاتُه. المطلَبُ الثَّاني: وفاتُه. الفصل الثاني: التَّعريفُ بكتابِ "تَحْقيقِ الفَوائدِ الغِياثيَّةِ"، وفيه أربعةُ مباحثٍ: المَبْحثُ الأَوَّلُ: اسمُ الكتابِ، وتَوْثِيقُ نِسْبَته للمُؤَلفِ، ومنهجُ المؤلِّفِ فِيه، وفيه ثِلاثةُ مَطَالبٍ: المطلَبُ الأَوَّلُ: اسمُ الكتابِ. المطلَبُ الثَّاني: توثيقُ نِسْبَته للمؤلِّف. المطلَبُ الثَّالث: منهجُ المؤلِّف فيه. المَبْحثُ الثَّاني: مصادرُ الكتابِ وشواهدُه، وفيه مَطْلبَان: المطلَبُ الأَوَّل: مصادرُ الكتابِ. المطلَبُ الثَّاني: شواهدُ الكتابِ. المَبْحثُ الثَّالث: تَقْويمُ الكتابِ، وفيه مَطْلَبَان: المطلَبُ الأَوَّلُ: مَزَايا الكتابِ. المطلَبُ الثَّاني: المآخذُ عليه. المَبْحثُ الرَّابع: وصفُ مَخْطُوطَاتِ الكتابِ، ومنهجُ التَّحقيقِ، وفيهِ مطْلبَان: المطلَبُ الأَوَّلُ: وصفُ مَخْطُوطاتِ الكِتاب. المطلَبُ الثَّاني: منهجُ التَّحقيقِ.
3 - القِسمُ الثاني: قِسْمُ التَّحقيق. 4 - الفَهَارسُ الفنِّيَّة. وبعدُ ... فَهذا خلاصةُ جَهْدي أَضَعُه بينَ يَدَي كلِّ مقوِّمٍ أو مُثَقِّفٍ غيرَ مُسْتنكفٍ من الرُّجوع إلى الصَّوابِ؛ فالنَّقصُ مِنْ طبيعةِ البَشَرِ والكَمَالُ لله وحدَه ولِكتَابِه العَزيزِ؛ الّذي لا يَأْتِيه البَاطلُ مِنْ بينِ يديهِ ولا مِنْ خَلْفِه. وحَسْبِيَ أنَّني اجْتَهدتُ وسَلَكتُ ما اعْتقدْتُ أنَّه صَوابٌ؛ فإِنْ وافَقْتُ الصَّوابَ فذلك فَضْلُ الله وتَوْفِيقُه، وإِنْ كانَت الأُخرى فأَنا محلُّها ولَمْ أبغِ إِليها سَبيلًا. وأخيرًا: فإِنَّني أحمدُ الله سُبحانَه وأشْكرُه؛ إِذْ وفقنِي لطلبِ العِلْم أَوَّلًا وأَكْرَمني بإنجازِ هَذا البحثِ ثانيًا. ثُمَّ إِنَّني أتوجَّهُ بالشُّكرِ الجَزيلِ والتَّقدير الوَافِر إِلى مشرفي فضيلةِ الأستاذِ الدُّكتورِ: عبدِ السَّتَّارِ حُسَين زَمُّوط؛ حيثُ تفضَّلَ مَشْكورًا بالإِشْراف على هَذا البحثِ، وتَعَاهده بالرِّعاية الدَّقيقة، والعِنايةِ الفَائقة؛ مُنذُ أَنْ كانَ بذرةً إلى أَنْ خَرج إلى حَيِّزِ الوُجودِ. والحقَّ أقولُ: إِن لتوجِيهاتِه المُفِيدة، وآرائِه السَّديدة، وخبرتِه في مجالِ تَحْقِيق النُّصوصِ اليدَ الطُّولى في إخراجِ هذا البحثِ، ولنْ أنْسَى له -ما حَييتُ- ما غَمَرنِي به مِنْ الرِّعايةِ والاهْتمامِ، وأَوْلانِيه من التَّوجيهِ والنُّصح، وتكرَّم به عليَّ من الجُهدِ والوقت؛ حيثُ فتحَ لي أبوابَ قلبِه قبلَ بيتِه، وعلَّمنِي بإِشْفَاقِه وحِلْمِه خُلُقَ العُلَماءِ قَبْل عِلْمِهم؛ فَجَزاكَ الله عَنِّي -مُشْرفي ومُعَلِّمي- خيرَ الجزاءِ، والله أسألُ أن يُباركَ لكَ في عُمُرك، ويَنْسَأَ لكَ في أَثَرِكَ، ويرزقَكَ العَفْوَ والعافية؛ إِنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
كما أتوجَّهُ بالشُّكرِ الجزيلِ، والعِرفانِ الوافرِ، لكُلِّ من قدَّم لِي عَوْنًا أَوْ نُصحًا أَوْ توجيهًا مِنْ أساتِذَتي الفُضَلاء وإِخْوتي الزُّملاء، وأَخصُّ منهم بالذِّكر؛ فضيلةَ الدُّكتورِ / عبدِ الخالقِ بن مُسَاعدِ الزَّهرانيِّ، وفضيلةَ الدكتور / تَرَحيبَ بن رُبَيْعَانِ الدَّوسريِّ. فللجَميع مِنِّي خالصُ الشُّكرِ والثَّناءِ. والله أسألُ أَنْ يجزِيهم خيرَ الجَزاء. ولا يَفُوتني -في الخِتامِ- أَنْ أشكرَ الجامعةَ الإسلاميَّة التي احْتَضَنَتْنِي منذُ الصِّغَر وهَيَّأت لي ولسائرِ طلَّاب العِلْم من جميع أنحاءِ العالمِ سبلَ التَّحصيلِ والمَعْرفةِ. والحمدُ لله ربِّ العَالمين، وصلاةً وسلامًا على رَسُوله الأَمِين، وعلى آله وصحْبِه والتَّابعين، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين. علي بن دخيل الله بن عجيّان العوفيّ المدينة النَّبويَّة
القسم الأوّل قسم الدِّراسة ويشتمل على تَمهيدٍ وفصلين: التَّمهيد: التعريف بالعضد الإيْجيّ وكتابه "الفوائد الغياثيّة" الفصل الأول: التَّعريف بشمس الدِّين الكرمانيّ. الفصل الثّانِي: التَّعريف بكتابه "تَحقيق الفوائد"
التمهيد: التعريف بالعضد الإيجي وكتابه "الفوائد الغياثية"
التّمهيد: التّعريف بالعضد الإيْجيّ وكتابه "الفوائد الغياثيّة" وفيه مبحثان: المبحث الأوّل: التّعريف بعضد الدّين الإيْجيّ. المبحث الثّانِي: التّعريف بكتابه "الفوَائد الغياثيّة"
المبحث الأول التعريف بعضد الدين الإيجي
المبحث الأول التعريف بعضد الدّين الإيْجي (*) هُو / أَبو الفضل، عبدُ الرّحمن بن أَحْمد بن عبد الغفار (¬1) بن أَحْمد الصِّدِّيقيِّ (¬2) الإيجيِّ (¬3) الشِّيرازيِّ (¬4)، عضد الدِّين، قاضِي القُضَاة في زمنه، وشيخ الشَّافعيَّة في بلده، المعروف بالقاضي العَضُد. ¬
ولدَ بـ (إيج) -من نواحي شِيراز- بعدَ سنة ثَمانين وستمائة هجريّة؛ كما ورد عند أغلب المترجمين له (¬1). ولَمْ يذكرْ المترجِمُون له شيئًا ذا بالٍ عن نَشْأتهِ أَوْ رحلاتهِ أَوْ مَشَايخهِ وغاية ما أَفْصحوا عنه أنَّه أخذَ العلمَ عَلى مشايخ عَصْره، ولازمَ الشَّيخَ زينَ الدِّين الهنكيّ (¬2) تِلميذَ القاضي نَاصرِ الدِّين البَيْضاويِّ (¬3) وغَيْره. وأَنَّه رحلَ إلى مدينةِ السُّلطانِيَّة (¬4)، وأَقامَ بها مُدَّةً طويلةً ثمَّ ¬
عادَ إلى إِيج (¬1). كان إمامًا في عُلوم مُتعددةٍ، محقِّقًا، مدقِّقًا، بَارعًا في المعقولاتِ، قائمًا بالأَصلين (أَي: علم الكلام، وأُصول الفقه)، عَارفًا بالبيانِ، والمعانِي، والنَّحو، مُشَاركًا في الفقه. كما أَنَّه كان كريمَ النَّفس، نافذَ الكلَمة، قويَّ الحُجَّة، كثيرَ المال، كثيرَ الإِنْعام عَلى طَلَبةِ العلم (¬2). ويَبدو أَنَّه بحانبِ تَولِّيه قَضَاء القُضَاة -بِمملكةِ أَبي سعيد (¬3) - آخر مُلُوك التَّتار -صَرف هِمَّةً عاليةً إلى التَّدريس والتَّصنيف؛ حيثُ ذكرَ المترجمون له تلامذةً أفذاذًا (¬4)، طبقت شُهرتُهم الآفاق، منهم: 1 - شمسُ الدِّين؛ محمَّد بن يُوسف الكِرمانيِّ (¬5). ¬
2 - الضِّياءُ العفيفيّ (¬1). 3 - سعدُ الدِّين التَّفتازانيّ (¬2) كما ذكروا له عدّة مصنّفات؛ منها: 1 - "تحقيقُ التَّفسيرِ في تكثيرِ التَّنوير" فِي تَفْسير القرآن (¬3). 2 - "الفوائدُ الغياثيَّة في المعاني والبَيان" وهو مختصر لمفتاح السَّكاكيّ (¬4). 3 - "كتابُ المواقفِ" في عِلم الكلام (¬5). ¬
4 - "كتابُ الجَواهر" وهو مُخْتصر للمواقف (¬1). 5 - "شرحُ مختصرِ ابن الحاجب" في أُصول الفقه (¬2). 6 - "المَدْخل في عِلم المعَاني والبَيان" (¬3). 7 - "أَشْراف التَّواريخ" (¬4). 8 - "بُهْجةُ التَّوحيدِ" (¬5). 9 - رسالة في عِلمٍ الوَضْع (¬6). ¬
10 - "العقائدُ العضديَّة". وهي آخر مؤلَّفاته (¬1). وتوفّي -رَحِمَهُ اللهُ- مسجونًا بقلعةِ درَيميان -بكسرِ الدَّال وفتحِ الرَّاء- بالقرب من مسقط رأسه (إِيج)؛ بعدَ أَن غَضِب عليه صاحبُ كرمان فَحَبسَه. وكانت وَفَاتُه سنة ستٍّ وخَمْسين وسبعمائة (¬2)، وقيل: سَنةَ ثلاثٍ وخَمْسين وسبعمائة (¬3). ¬
المبحث الثاني: التعريف بكتابه "الفوائد الغياثية"
المبحث الثّانِي: التّعريف بكتابه "الفوائد الغياثيَّة" عنوانه: كتابُ الفوائدِ الغياثيَّة مؤلفٌ بلاغيٌ ينتظمُ في سلكِ المدرسةِ السَّكاكيّة؛ الَّتي تعتمد على كثرة التّقسيمات، والتّفريعات، وإخراج المحترزات، والتّعويل على المنطق أكثر من الذّوق، وكنّا ننتظرُ أَنْ نقفَ على هويَّةِ الكتابِ أَوْ موضوعهِ أَوْ على أقلِّ تقدير الفنّ الَّذي يندرجُ تحته من العنوانِ الَّذي على غلافِه كما جَرت به عادةُ الكتبِ، حيثُ يصدق العنوانُ على مضمونِ الكتاب، ويشتمل على جميع جزئيَّاته ومباحثِه اشتمال الرَّحم على الجنين؛ من مثل: كتاب عبد القاهر الجرجانيَّ الَّذي وسمه بـ "دلائل الإعجاز" مُنْطلقًا في هذه التَّسمية من الغايةِ السَّامية الَّتي ألَّفَ من أجْلها كتابَه ولحظَها في جميع مباحثِه؛ وهي خدمة كتابِ الله العظيم؛ ببيان أسرار النَّظم وتفاوتِ أبعادِ الكلام جودةً ورداءةً. وسلوكُ هذا الطريق -أَعْني صدقَ العنوان على المعنونِ له- منهجٌ قويمٌ، لا يعدم الدَّارسون ثمارَه ولو لم يكن منه إلّا معرفة الفنّ الَّذي ينضَوي تحته الكتاب -كَمَا أَسْلفت- لكفى، وكمْ من كتابٍ صرفَ عنه عنوانُه!! غيرَ أنّ الإيجيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- ارتضى سلوكَ منهجِ آخر، تسابق إليه بعضُ من سبقه، حيثُ يعزونَ مؤلَّفاتِهم إلى أَشْهرِ أعلامِ عصْرِهم، تزلُّفًا إليهم أَوْ اعترافًا بنِعْمتهم عليهم، أَوْ حتَّى تَشْجيعًا لهم على الأَخذ بيَدِ طلبة العلم والعلماء وتيسير أمورهم؛ كما نلتمسُ العذرَ به للإيْجيّ، الَّذي
سبب تأليفه
نسَبَ كتابه الَّذي بين أيدينا - إلى غياثِ الدِّين الوزير؛ ذلك الرَّجلِ التَّقيِّ الصَّالح؛ الَّذي سلكَ سبيلَ العلمِ، وتأَدَّبَ مع العلماءِ، بِجلوسِه بين أيديهم مع سائر الطّلابِ في حلقاتِهم العِلْمِيَّة. وفي مقدِّمة كتابِه ينصُّ على عنوانِه فيقول (¬1): " ... فهذا مختصرٌ في علْمَي المعاني والبَيان يَتَضمَّنُ مقاصدَ مفتاح العلومِ سمَّيتُه بـ "الفوائد الغياثيَّة" (¬2) تيمّنًا باسم من أَلْقى إليه الدَّهر قياده ... ". سبب تأليفه: يعود الفضلُ في إِخْراج هذا الكتاب إلى الوزيرِ غياثِ الدِّين؛ فهو الَّذي أمرَ بتأليفه، وبذا صرَّحَ الإيجيُّ نَفْسُه في مقدِّمة كتابه، إذ قال -بعد إيرادِه النَّصَّ المتقدِّم في تسميةِ الكتاب (¬3) -. "وامتثالًا له حين أمر بتلخيصِ مُسْتودعاته، وتجريدِها عن فَضْفَاض عباراتِه المُنَمَّمة ... ". أَمَّا السَّببُ المباشرُ الَّذي جعلَ الوزيرَ يطلبُ من شيخِه الإيجيِّ تلخيصَ "مفتاح العلوم" فمردّه -كمَا صرَّحَ ابن الكرمانيِّ في عبارةٍ موجزةٍ سطَّرها على غلافِ شرح أبيه- إلى (¬4): "أَنَّ الوزيرَ كانَ يقرأُ ¬
مضمون الكتاب
"المفتاح" للسَّكاكيِّ على الشَّيخ عَضُدِ الدِّين، وكان يفيدُ عند الدَّرسِ فوائدَ زوائدَ على "المفتاح"؛ فسَأَله الوزيرُ أَنْ يجمعَ تلك الفوائدَ مفردةً، فجَمَعها ... ". مضمون الكتاب: تضمَّن كتابُ "الفوائد الغياثيَّة" تلخيصًا وافيًا للقسم الثَّالثِ من مفتاح العلومِ مع إيجازٍ شَديدٍ مَشُوب ببعضِ التَّنبيهاتِ المُهمَّة، والتَّذنيباتِ المُتمّة، والفوائدِ القيِّمة الَّتي زيدت على "المفتاح". وعليه فإن كتابَ "الفوائد الغياثيَّة" يوازي كتابَ تلخيصِ الخطيب في المَنْزِلةِ؛ فكلاهما مختصرٌ للمفتاح وإن تميَّزَ الثَّاني بالبُعْدِ عن الرُّوح المنطقِيَّة، والتَّوسّع في التَّحليل، والاسْتشهادِ، وبسطِ الآراء، وإبْدَاءِ الاعْتراضاتِ؛ وبخاصَّة على السَّكاكيِّ نَفْسِه؛ متى لم يَقْتَنِعْ برأيه، وهو ما نُفَسِّرُ به ذيوعَ صيته، وكثرة الشّروح حوله مقارنة بمؤلّف صاحبنا. ويَبْدو لنا -بالمقابل- مختصرُ الإيجيِّ مركّزَ العبارةِ، عميقَ الفكرةِ، ظاهرَ الصَّنعةِ، جيِّد السّبك، لم يغبْ عن مُؤلِّفه -ولو طَرْفة عينٍ- أَنَّه يعدُّ مختصرًا صالحًا للحفظ. ومَهْما يكن من أمرٍ فقد نال كتابُ الإيجيِّ حظَّه من الفَضْلِ والمكَانةِ، وتلقَّاه العلماءُ بالقَبولِ والرِّضا، وبخاصّة علماءُ المشرقِ، وتواردَ عليه الشُّرَّاحُ من مختلف العُصورِ يفكّون عباراتِه ويَنْشُرون عَبِيرَه. ومِمَّن صرَّحت كتبُ المؤلّفين بذكْرِهم من أُولئك الشُّرَّاح ممّا يدلُّ على أهميَّةِ الكِتاب ما يلي: 1 - السّيّد عبد الله بن محمد أحمد الحسينِيّ (ت 776 هـ).
2 - شمس الدِّينِ الكرمانيّ (ت 786 هـ) (صاحبَ الكتاب الَّذي نحن في صدد تحقيقه). 3 - شمس الدِّينِ؛ محمَّدِ بن حمزة الفَناريِّ (ت 834 هـ). 4 - محمَّد بن السّيّدِ الشَّريف (علي) الجرجانيّ (ت 838 هـ). 5 - الشّريف مير علي البخاريّ (ت 950 هـ). 6 - السّيّد عيسى بن محمّد الصَّفويِّ (ت 953 هـ). 7 - عصامَ الدِّين؛ أحمد بن مصطفى طاش كبرى زاده (ت 968 هـ). 8 - محمود بنَ محمَّدِ بن شاه الفاروقيّ الجونبوريّ (ت 1062 هـ) (¬1). وعن قيمة الكتاب العلميّة يقول آخرُ الشّرّاح في مقدِّمة شرحه (¬2): "ولعمري إِنَّه مع تَنَاهيه في الإيجازِ جاوزَ حدَّ السِّحر وإن لم يبلغ الإعجاز، وهو قمين بأن ينمَّق بطباقِ العينِ على طباقِ العين: فَفِي كُلِّ لَفظٍ مِنْه رَوْضٌ من المُنى ... وفِي كُلِّ سَطْرٍ مِنْه عقْدٌ من الدُّرَرِ". ¬
الفصل الأول: التعريف بشمس الدين الكرماني
الفصل الأوّل: التّعريف بشمس الدِّين الكرمانيّ وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: التّمهيد: نبذة موجزة عن عصر الكرمانِيّ. المبحث الأوّل: حياة الكرمانِيّ. المبحث الثّاني: شيوخه وتلاميذه ومكانته العلميّة. المبحث الثّالث: مصنفاته ووفاته.
التمهيد: نبذة موجزة عن عصر الكرماني
التّمهيد: نبذةٌ موجزةٌ عن عصر الكرمانِيّ مِمَّا لا شكَّ فيه أَنَّ الإِنْسانَ قرينُ بيئتهِ، يتَأثَّر بها، ويُؤثِّر فيها، وبقطعِ النَّظرِ عن حجمِ التَّأثير وقوَّة التَّأثُّر بينهما؛ فإنَّنا لا نستطيعُ أنْ نتصوَّر أَحدَهما بدون الآخر، حتَّى باتَ في الظَّاهر أنَّ الحكمَ عَلى أحدِهما حكمٌ عَلى الآخر -في الغالب الأَعمِّ-. ومن هنا يتحتّمُ علينا إن نلقىَ الضَّوء عَلى عصرِ مُؤلّفنا؛ وبخاصَّةٍ إذا أَردنا أَنْ نَسْبر غَوْره حقَّ السَّبر، ونَقْتفي حياتَه حقّ الاقْتِفاء. وقبل البدءِ في تفْصيلات عصرِ المؤلِّف يجدرُ بي أَنْ أُشير إلى أَنَّ ما أعْنيه بعصرِ المؤلِّف هُو تلك الحقْبَة الزَّمنيَّة الَّتي شهدت مولِدَه، ورافقت حَيَاته حتَّى وفاتِه، بكلِّ ما تَحْمله من تأثيرٍ واضحٍ عَلى الفَردِ والمُجْتَمع والأُمَّة الإسلاميَّةِ آنذاك. وقد جرت سُنَّةُ الدَّارسين لأيِّ عصرٍ من العصور أَنْ يتحدَّثوا عنه -في الغالبِ- من زوايا ثلاثة؛ تكشفُ أَسْتارَه وتُجَلِّي معالِمَه؛ وهي: 1 - الحالةُ السّياسيةُ: تكشفُ لنا الكتبُ الموُرِّخة لعصرِ مصنِّفنا عن مَزيد من التُّفكُّكِ والانْقسامِ داخلَ البلاد الإسْلاميَّة، مِمَّا نتجَ عنه ظُهورُ إمارات جَديدةٍ لَمْ تَكُنْ قائمة من قبل، أَوْ قيام بعضِها عَلى أَنْقاضِ بعضِها الآخر (¬1). ¬
وهذا بدوره أَفْضى إلى نشوبِ الخلافاتِ واشتعالِ الحروبِ سَواءٌ فيما بين تلك الإمارات بعضها لبعض، أَوْ فيما بينهما وبين غَيْرها من الأُمم الأُخرى المجاورة. وقد هَيَّأَ لذلك الانْقسام وما ترتَّب عليه عدَّةُ أسبابٍ سبقت عصر الكرمانيِّ، أُجْملها فيما يلي: 1 - الحملاتُ الصَّليبيَّةُ الحاقِدة الَّتي شَنَّها النَّصارى الأوربِّيُّون عَلى الأَقاليم الإسلاميَّة (¬1)؛ بقصد النَّيل من المسلمين واستِغْلال ثَرواتِهم (¬2). 2 - انْقِضاءُ دولةِ بني العبَّاس إِثر الهجوم التَّتري الغاشِم، الذي أَسْفر عن سقوطِ بغداد سنة 656 هـ (¬3)، وقتل الخليفة، واجْتياح أغلب البلاد الإسلاميّة. ¬
3 - انتشارُ الخلافاتِ المذهبيَّة والطَّائفيَّة. ومع أنَّ الأمَّةَ الإسلاميّةَ استطاعت بفضل الله ثمّ بفضلِ جُهودِ المخلصين للإسلام آنذاك تجاوز خطر السَّببين الأوَّلين؛ في القضاءِ عَلى الإسلامِ واقْتلاع جذُوره؛ بالتَّصدِّي لحملاتِ الصَّليبِ العَاتية؛ بلْ وتَوجيه ضَرباتٍ موجعةٍ لها عَلى أَيْدي الأَيُّوبيِّين، وبخاصَّةٍ صلاح الدِّين (¬1) الأيُّوبيّ الَّذي أَوقع بهم هزيمةً ساحقةً في معركةِ حطِّين سنة (583 هـ)؛ كسرَ من خلالها شوكتَهُم، واستردَّ بيت المقدِس بعدَ غيابٍ زاد عَلى تسعين عامًا (¬2). وكذا هزيمة التَّتارِ عَلى أَيدي المماليك بقيادةِ الملك المُظفَّر قُطُز (¬3) في ¬
عين جالوت سنة (658 هـ) (¬1)، وانْحسار نفوذِهم عن الشَّام إلى أَطْراف العراق. أَقولُ: مع تجاوزِ خطر هذين السَّببين إلَّا أَن ثَلْمهما لَمْ يؤربْ بسهولة، وبقيت آثارُهما مع اسْتِفحال السَّببِ الثَّالثِ حائلًا دون توحيدِ البُلْدان الإسلاميَّة، أَوْ حتَّى بقائِها عَلى ما كانت عليه. فهذه بلادُ العراقِ وفارس ما زالت تَرْزح تحت سُلطانِ المَغُول حيثُ استطاعَ هولاكو (¬2) أَنْ يُقِيمَ لنَفْسه وذُرِّيَّتِه دولةً عظيمةً اتخذ من إِيران مركزًا لها، وسُمِّيت فيما بعدُ بدولةِ (الإيلخانيّين)، وما زال خلفاؤه يَتَعاقبون رئاسَتها من منتصف القرنِ السَّابع الهِجريّ حتَّى منتصف القرن الثَّامن سنة (744 هـ) حيثُ توفِّي آخرُ ملوكِها (¬3) (أَبو سعيد) (¬4). ¬
وبعد هذا الأَخِيرِ اضطربت الدَّولة، واستولى الطامعون عَلى بعضِ الأَقاليم، وبَقوا عَلى ذلك زَمنًا حتَّى تغلَّب عليهم محمَّدُ (¬1) بن المظفَّر الَّذي لَمْ يُوفّق في تَرْسيةِ قواعد متينةٍ لدولتهِ الفَتيَّة، وذلك عندما ارْتكب خَطأً فادحًا بتقسيمِ البلادِ بين ابْنيه المتنافِسين؛ حيثُ ولَّى أحدَهما مُلْكَ أَصْبهان، والآخَر مُلْكَ شيراز وكرمان؛ تَاركًا البابَ مفتوحًا لنشوبِ الخلافات المُستمرَّة بينهما؛ مِمَّا أدَّى إلى إِعلانِ الحربِ بينهما أَكْثر من مرَّة، وضعف أَمْرهما، وأَخيرًا اسْتيلاء تيمور لنك عَلى أَمْلاكِهما سنة (788 هـ) (¬2). ولَمْ يكن الحالُ في مصر والشَّام آنذاك بأَفضل منه في بلادِ فارس والعراق؛ حيثُ وجدَ الْمَمَاليكُ الَّذين جاءَ بهم الملكُ الصَّالِحُ نجمُ الدِّين (¬3) ¬
أيّوب للدِّفاع عن سَلْطَنته- فرصةً سانحةً للانْقضاضِ عَلى دَولةِ بني أيُّوب إِثر الخلافِ الشَّديدِ الَّذي دبَّ بين ملوكِها في آخر سنيِها. وسرعان ما غدا لأولئك المَمَاليك كلمة مَسْموعة -في مصر- بعدَ قَتْل تُوران شاه (¬1) سنة (648 هـ) وتسلُّم شَجرةِ الدُّرِّ (¬2) مقاليدَ الحُكم من بَعْده؛ تلك المرأة الَّتي اعتبرها المقريزيُّ (¬3): "أوَّل من مَلَكَ مصر من مُلوك التُّرك المَمَاليك". ولَمْ يَلْبَث نُفُوذُهم في ازْديادٍ وشوكَتُهم في قُوَّةٍ حتَّى تَمَّ لهم الاسْتيلاءُ عَلى الشَّام ومزاحمةُ التَّتار في أَطراف العِراق؛ مُعْتمدين في ذلك عَلَى سِياسَةِ حكيمةٍ، تقومُ عَلى مُوادعةِ النَّاسِ والتَّودُّدِ إليهم ابْتداءً، ثمَّ أَخْذهم بالحزْمَ والصَّرامةِ بعدَ ذلك. ¬
وهكذا ظل المماليكُ البحريَّة (¬1) "يحكمون مصر والشَّام نحو قرنٍ وثلث (648 - 784 هـ) اسْتطاعُوا فيها مواجهةَ المشاكل العَديدة الَّتي واجهت المسلمين في الشَّرق الأَدنى عندئذٍ، سواءٌ كانت هذه المَشَاكل خارجِيَّة من جانب الصَّليبيِّين والتَّتار، أَوْ داخليّة في صُورةِ ثوراتٍ أَوْ مؤامراتٍ أَوْ أَزماتٍ اقْتصادِيَّة" (¬2) حتَّى أَذِنَ الله لها بالزَّوالِ لتحلَّ محلَّها دَولةٌ أُخْرى من المماليك -أَيضًا-، هم المماليك الجَراكِسة أَوْ البُرجيَّة (¬3). وجديرٌ بالذِّكر أَن هذه الدَّولة مع ما حَصل لها من التَّوسُّع والامْتداد والنُّفوذِ لَمْ تَعرفْ الاسْتقرارَ الدَّاخليَّ إلّا لِمَامًا من الزَّمن في عهد قادةٍ قلّة، عُرفوا بالدِّين والصَّلاح. ويَبْدو لي أَن أهمَّ ما يُميّز سلاطينها: تشوّقُهم إلى السُّلطةِ، وتدافعُهم إلى كُرسيِّ الحكم حتَّى غدا شِعارهم -كَما نصَّ عليه بعضُ المحدثين (¬4) -: "مَنْ قتلَ ملكًا أصبحَ هُو الملك". ¬
أخلصُ من هذا كلِّه إلى القَوْل: إنَّ الاضْطرابَ السِّياسيَّ كان سِمة مُمَيّزةً لهذا العصر؛ فلم تكن للك الدُّويلاتُ المتنَاثرةُ هنا وهناك داخلَ الرّقعة الإسْلاميّة عَلى وفاقٍ فيما بينها؛ بل إِنَّنا لا نكادُ نَظْفر بالاسْتقرار الدَّاخليِّ داخل أَسْوار الدَّولة الوحيدة المُسْتَقِلَّة، أَوْ حتَّى بين أَفْراد الأُسْرةِ الحاكمةِ الواحدة. هذا، وإِنَّما تَركز حديثي حَوْل العراق وفارس ومصر والشَّام دون غيرِها من أَقْطار العالمِ الإسْلامي الممتدّ شرقًا وغربا آنذاك -لأَنَّ تلك البُلدان هي الَّتي نالت حظَّها من شمس الدِّين الكرمانيِّ، إِمَّا مولِدًا، أَوْ منْشأً، أُوْ هجرةً في طلبِ العلم، أَوْ اسْتيطانًا، أَوْ وفاةً.
2 - الحالة الإجتماعية
2 - الحالةُ الإجْتماعيّة: اتضح لنا -فيما مضى- أنَّنا أمامَ عصرٍ قلقٍ، يموجُ بالفتن، ويتَّسمُ بالقَلاقل، ذاقت فيه الأُمَّة الإسلاميّةُ عَلى امتدادِ رقعتها الجُغرافيَّة ويلاتِ الحروب، وصنوفَ العذابِ، وعلى الأَخصِّ بلدان فارس، والعراق، ومصر، والشَّام؛ تلك البلدان الَّتي حفلت -ولو لمدَّة يسيرةٍ- باحتضان شمسِ الدِّين الكرمانيِّ. وطبيعيٌّ -والحالُ ما ذكرت- أَنْ نجدَ صورةَ ذلك العصرِ ماثلةً في أبنائه، منعكسةً -بصدقٍ- عَلى مناحي حيَاتهم وأمورِ عَيْشهم. فالنِّظامُ الطَّبقي يبرز واضحًا للعيان، مُتَّخذًا صورًا شتَّى: 1 - منها ما يكونُ بين أجْناسِ الشُّعوبِ المتناحرةِ فيما بينها تبعًا للغلبة، فكلُّ عُنْصر يرى أنّه الأَجْدر بالسِّيادة، والأَولى بعمارةِ الأَرض، وغيرَه لا يستحقُّ إلَّا الرِّقَّ والإذْلال. ويتمثّلُ ذلك بجلاء في هجوم التَّتار الخاطف عَلى حواضِر المسلمين وسلبِ خيراتهم؛ فقد كانوا يَرون أنَّهم أوصياءُ الله عَلى خَلْقِه؛ أرسلهم لتأديب من حلَّ عليهم غضبُه؛ وبذا أفصح هولاكو للقائدِ المظفّر قُطُز عندما أرسلَ إليه رسالةً يهدّده فيها ويأمرُه بالاسْتسلام، يقول (¬1): "يَعلمُ الملكُ المظفرُ وسائرُ أمراءِ دولتِه وأهل مملكته بالدِّيارِ المصريَّة وما حولها من الأَعْمال أنَّنا جندُ الله في أرضه، خلقنا من سخطِه، وسلَّطنا عَلى من أحل عليه غضبَه؛ فسلموا إلينا أمورَكُم تَسْلموا". ¬
وقِس عَلى هذا السُّلوك التَّتري سلوكَ الصَّليبيِّين - أَيْضًا -. كما يتمثلُ هذا التَّمييزُ العُنصريُّ في الانقلاباتِ العرقِيَّة المفاجِئة الَّتي عمَّت البلادَ شرقًا وغربًا، وأسفرَ بعضُها عن قيامِ دولٍ أخر، كقيامِ دولةِ المماليك البَحريَّة عَلى أَنْقاضِ الدَّولة الأَيُّوبيّة، ثمّ قيامِ الدَّولة الجركسيَّة عَلى أنقاضِ اليحريَّة في مصر والشَّام. وكقيامِ دولةِ بني المُظفَّر عَلى الدَّولة المغوليَّةِ، ثمَّ تغلُّب الأخيرة عَلى الأُولى في فارس. 2 - ومِنها: ما يظهرُ بين أبناءِ الجنسِ الواحدِ أَوْ الدَّولةِ الواحدةِ؛ حيثُ يتكوَّنُ المجتمعُ الواحدُ من عِدَّةِ طبقاتٍ، ولعلَّني لا أبتعدُ كثيرًا إذا قَسَّمتُها إلى ثلاثٍ؛ ليقتربَ صدقُها عَلى جميع الدُّول والإمارات الَّتي وجدت آنذاك (¬1): أ - طبقةٍ عُليا: وتمثلُ السَّلاطين، والأُمراء، والقَادة، والوُزراء، وكبارَ المُسْتشارين، ومَن لفَّ لفّهم من أبْنائهم وزَوجاتِهم. وهؤلاءِ كانوا يَحْظون بالامتيازاتِ الكُبرى في الدَّولة، ويسْتأثِرون ¬
بالرَّفاهية ورغدِ العَيش، وتَتَفاوتُ الإقطاعات فيما بينهم بحسب مَنَازلهم قربًا وبعدًا من السُّلطان. ب - طبقةٍ وسْطى: وتمثلُ أعيانَ البلدِ، وكبارَ العلماء، والجنودِ، والتُّجَّارِ، وموظّفي الدَّولة. وهؤلاء ينالون من الحظوة بقدر ما تُفيدُ منهم الطبقةُ المتقدِّمة؛ فمن رُضِي عنه أُجزلَ له العطاءُ وقُرِّب، ومَنْ سُخط عليه ضُيِّق عليه وأُبْعد. غيرَ أنَّهم -في الغالب الأَعَمِّ- يدورون في فلكِ الطائفةِ الأُولى طمعًا أَوْ خوفًا؛ سواءٌ كانوا من جِنْسهم، أَوْ من أهلِ البلادِ الأصْلِيِّين. جـ - طبقةٍ دُنيا، وتُمثِّلُ السَّوادَ الأعظمَ من الرَّعيَّة. وغالبًا ما يكونون صُنَّاعًا، أَوْ زُرَّاعًا، أَوْ تُجَّارًا، أَوْ رُعاةً. وهؤلاءِ تتفاوتُ حياتُهم باختلافِ الحُكَّام وأَسَاليبهم في إِدارة البلادِ؛ فتارةً يَنْعمون بالأَمن، ويَأمنون عَلى أَنْفسِهم وأموالِهم، وتارةً أُخرى يَرْتكسُون في الخَوف، ويَتَعرَّضُون للقتلِ والسَّلبِ. عَلى أَن الحالةَ الثَّانية هي الغالبةُ عليهم، وهم إِنْ سَلِموا من القَتل والتَّهجير فَلن يَسْلَموا من المكُوس والمغَارم الَّتي تُفْرض عليهم. ومع هذا التَّوزيع الطَّبقيِّ يبدو لنا ذَلك المجتمع ممتزجَ الأجناس، مُخْتلطَ الدِّماء، مختلفَ العَادات والأَعراف، متنوِّعَ المذاهب والأَديان، يموجُ بسائر الأَفْكار والمُعْتقدات. وليسَ بغريبٍ في مِثل هذا المُجْتمع المفككِ أَنْ نجدَ من أطلقَ لنَزواتهِ وشهواتِه العنان، وتفنَّن في اقتناءِ الجواري الملاح والغِلمان الصِّباح، والمغنِّيات، والقَينات من كلِّ لون وجنس؛ لا يَرْدعه عمَّا صرف همّه إليه رَادع، ولا يَثْنيه
عن المُضِيِّ في غَيِّه دينٌ أَوْ مبدأٌ؛ يقول السّبكيُّ (¬1): "ولقد سمعت أَنَّ واحدًا منهم (أي: أُمراء المماليك) خَرج مرَّةً إلى الصّيد فافتضَّ هُو ومماليكُه من بناتِ أهل البرِّ ما يزيدُ عَلى سَبْعين بنتًا حَرامًا". كما أَنَّه ليسَ بمسْتغربٍ أَنْ نجدَ فيه مَن تجرَّع الذّل والهوان، وذاقَ طعمَ الجوع والمرضِ، وعاشَ إِمَّا عالةً عَلى غَيْره مِمَّن يكدحُ من أربابِ المهنِ والصِّناعاتِ، وإِمَّا مُتلصِّصًا يقطعُ الطّريقَ ويسرقُ النَّاس. وظَهر من هذه الشَّريحةِ "من اتّخذَ السُّؤال صنعةً؛ فيَسْألون من غيرِ حاجةٍ، ويقعدون عَلى أَبْواب المَساجد يَشْحذُون من المُصلّين ولا يَدْخلون للصَّلاةَ مَعَهم" (¬2). وفي هذا المجتمع أَقْبل النَّاسُ عَلى الخمرِ، يَشْربونها، ويتفنّون في صُنعها، وكَثُر معاقروها في الطَّبقتين، العليا والدُّنيا؛ ناشدين بذلك الهروبَ من واقعهم المُعاشِ، فهو مُمِلٌّ، مقيتٌ للسَّادة المُتْرفين، ومُؤلِمٌ قاسٍ للضُّعفاءِ والمَعْدمين. وإذا ما عرضنا لواقعِ المرأةِ فإنَّه في جانبٍ منه يعدُّ أَشدَّ أسىً وحُزنًا؛ إذ احترفت فئاتٌ من النِّساء البِغاء وارتضين العيش منه، كما الْتَمسَ كثيرٌ منهنَّ العملَ بالمغانِي وضروبِ الملاهي كالرَّقص، وأسرفن في التَّشبُّه بالرِّجال حتَّى لبسن العمامَة (¬3). وفي الجانبِ الآخر نجدُ بعضَهنُّ يقررن في بيوتِهن، ويَصْرفن أَنْفسهنَّ ¬
3 - الحالة العلمية
لخدمةِ أَزواجهنَّ، وربَّما اشْتغلن بأعمالٍ تليق بهنَّ كالغزلِ والتَّطريز، ومنهنَّ من سَمت مكانتُها باشْتغالها بالعلمِ والتَّصدِّي للتَّدريس، من مِثْل: زينب (¬1) بنت الكَمال، الَّتي ذكر ابنُ حجرٍ أنَّها روت كثيرًا، وتزاحمَ ببابها الطّلبةُ يأخذُون عنها العِلم، ويَقْرأون عَليها الكُتبَ الكِبارَ (¬2). 3 - الحالةُ العلميَّة: يرى كثير من الباحثين أَنَّه على الرُّغم من تلك الأحداث الَّتي دَهمت هذا العَصْر وما لَحِقَه من التَّخْريب فيه أَوْ قبلَه عَلى أَيدي المَغُول والصَّليبيين، وما اكْتنفَه من فتنٍ وثوراتٍ؛ على الرُّغم من ذلك كلِّه فإِنَّهم يرون أَنَّ العُلوم والمعارفَ ظلَّت مُزدهرةً؛ بل كانت غنيَّةً بالنِّتاج الأَدبي، ونجدهم يُعلِّلون ذلك بأسبابٍ عدَّةٍ؛ منها: تشجيعُ بعضِ الملوكِ للعلمِ والعلماء، وحثُّهم عَلى البَحث في شتَّى فروع المعرفة. وأَجدُني -إِذ أُؤيد ما أَشاروا إِليه من كَثْرةِ النِّتاج وتشجيع بعضِ الملوك العلمَ وأَهله- مُتشكِّكًا في عدمِ تَأثير تلك الأحداثِ العظامِ عَلى حياةِ العلم وتطوُّرِه، ولعلَّ الواقعَ الملموسَ يُصدِّقني في ذلك؛ فالحياةُ العلميَّة -كما هُو مُشَاهد- إِنَّما تَنْمو وتَزْدهرُ في ظلِّ الاسْتقرارِ والأَمن؛ عندما يَنْصرفُ النَّاسُ عن همِّ الجوع والخوفِ إلى همِّ التَّحصيل والدَّرس. ¬
وأقطعُ بأَنَّ النِّتاجَ الفِكريّ لا يُقاسُ ازدهارُه بكثرةِ المؤلّفاتِ الَّتي تَتواردُ عَلى فكرةِ معيَّنةٍ تردّدها وتشرحُها وتُوسِّعُ الحديث حولها -وهو ما تَتَّسمُ به مؤلَّفاتُ ذلك العصرِ بوجهٍ عامٍّ-، وإِنَّما الشَّأنُ في قياسِه مردّهُ الابْتكارُ والعمقُ والدِّقةُ، وهو ما تَحقَّق في مؤلَّفاتٍ كثيرةِ سابقةٍ، أُلِّفت في عصورٍ مُطْمئنَّة آمنة؛ نجزمُ مُطْمئِنّين أنَّها تَفُوق بمراحَلَ نِتاج عصرِنا المُضْطرب. ومعَ ذلك فلستُ أنكرُ فضلَ مؤلَّفاتِ عصرِ الكرمانيِّ وأثرها الفَاعل في الحِفاظِ عَلى مُقدَّراتِ الأُمَّة العِلميَّة، وما اتَّسمَت به من وفرةٍ مردُّها إيضاحُ الفكرةِ، وتقريرُ المعنى، وتأكيدُ المعلومةِ، كما أَنِّي لا أتجاهل همَّةَ عُلمائِه وصدقَ عزيمتِهم في الانْقطاع للتَّدريسِ ونشرِ العلم؛ وإن كُنت أَتساءلُ عن واقع حالِهم وطلّابِهم، وقد أَحاط ببلدِهم جيشٌ عَرَمْرَم أَوْ نَزَل بِسَاحتهم ثائرٌ أهوج!. وإذا تقرَّر هذا فإِنَّ عواملَ عديدة شاركت في استمرارِ الحركةِ العلميَّة، وظهورِ كثيرٍ من المصنَّفات المخْتلفة في ذلك العَصْر؛ أَذْكُر منها عَلى وجهِ الإِيجازِ ما يلي: 1 - تَقْديرُ بعضِ السَّلاطين للعلم، وإِجلالهم لأَهله، والمبالغة في إِكْرامهم، وتَهْيئة الجوِّ العلميِّ لهم -أَحْيانًا-، ويُذْكرُ في محاسن هولاكو أنَّه كان يشجّع "العلماءَ والحكماءَ عَلى مواصلةِ البحثِ والدَّرسِ؛ إذ كان يُخصِّص لهم الرَّواتب، ويُغْدق عليهم الِهبات، ويُزيِّن مجلسَه بحضورِهم كَمَا أَنَّه كانَ شَغُوفًا بعلوم الحِكْمة والنُّجوم والكيمياء فلا غَرْو أَن كان يصرفُ بسخاءٍ في سبيلِ تقدُّم هذه العُلوم، وليس أَدلّ عَلى هذا
الشَّغف من أنَّه عهد إلى العَالِم الرِّياضيِّ الفَلكيِّ نصير الدِّين (¬1) الطوسيِّ ببناءِ مرصد كبيرٍ ... " (¬2). كما يُذْكرُ عن الظاهرِ بيبرس (¬3) -أحدِ ملوك المماليك- وَلَعُه الشَّديد بعلمِ التَّاريخ وميله إلى أَهله ميلًا شديدًا، وكان يَقُول (¬4): "سماعُ التَّاريخ أَعظمُ التَّجارب". وممّا يحسبُ لأولئك السَّلاطين -في هذا المضمار- مِمَّا يدل عَلى اهتمامهم بالنَّشاط العلميِّ -العناية بإنشاءِ المؤسَّساتِ التَّعليميَّةِ من مدارسَ وغيرِها حيثُ حَرص سلاطينُ المماليك وأمراؤُهم على إنشاءِ عددٍ كبيرٍ من المدارسَ، مثل المدرسة ¬
الظاهريّة (¬1)، والمدرسة المنصوريَّة (¬2)، والمدرسة الشَّيخونيَّة (¬3)، والمدرسة الصَّرغتمشيَّة (¬4)، ولَم يكتفوا بإنشائها بل "وقفت عَلى هذه المدارس الأَوقاف الغَنيَّة لتضمن للطُّلَّاب والمدرّسين قَدرًا من الحياةِ الهادئةِ تجعلهم يَنْصرفون إلى الاشْتغال بالعلمِ آمنين مُطْمئنّين" (¬5). 2 - انتشارُ المراكزِ التَّعليميَّةِ من جوامعَ ومدارسَ ومكاتبَ؛ ففي الجوامع تُلقى الدُّروس العامَّة، وتُعقدُ حلقاتُ العلم، ولكلِّ شخصٍ يدخلُ المسجدَ الحقُّ في سماع الدُّروس والإفادةِ منها. ويبدو أَن من أهمِّ تلك الجوامع إلى أدَّت دورَها كاملًا في المجال التَّعليميِّ آنذاك: الجامعَ الأَزْهر ¬
بالقاهرةِ -وسيأتي معنا إن شاء الله أَن شمسِ الدِّين الكرمانيِّ دَرَس في هذا الجامع في أثناءِ طلبه العلمَ في مصر- (¬1)، وجامعَ عمرو بن العاص حيثُ نَالا رعايةَ المماليك في تلك المدَّة، ويَذْكُر لنا العلَّامةُ شمس الدِّين، محمَّدُ بن الصَّائغ الحنفيِّ أنَّه أدركَ بجامع عمرو قَبْل الوباء الذي حدث سنة (749 هـ) بضعًا وأَربعين حلقة لإقراء العلمِ لا تكادُ تبرح منه (¬2). وأَمّا المدارسُ فكانت تُعنى بالدُّروس الخاصَّةِ المنظمةِ، ويقومُ عليها نخبةٌ ممتازةٌ من المدرِّسين، ولَم يكن إنشاؤُها مقصورًا عَلى السَّلاطين والأمراءِ -كما تقدّم-، بل شاركَ فيه -أيضًا- الوزراءُ، والعلماءُ، والقُضاة، وعليةُ القومِ (¬3). وهي أنواعٌ، فمنها: العاهدُ الخاصَّهُّ بتدريسِ الحديثِ، ومنها المعاهدُ الخاصَّةُ بتدريسِ الفِقْه، وغالبًا ما تَقتصر على مذهبٍ واحدٍ، ومنها المُتَخَصِّصُ في علومِ اللُّغة، ومنها المُتَخَصِّصُ في الطِّب، و"معنى التّخصّص في هذه المدارس: أَن المادَّة الأساسيَّة فيها هي إلى أُنشئت المدرسةُ من أجلها، وليس ذلك بمانعٍ من أَنْ تُدرَّس إلى جَانبها موادّ أُخرى" (¬4). أَمَّا المكاتبُ فكانت تُعنَى بالتَّعليمِ الأَوَّلي، وأغلب طلابِها من الأَيْتام، ¬
الأمر الذي دعا الخيِّرين إلى الإِكثار منها وحبس الأَموال عليها (¬1). هذا فيما يتعلَّقُ بأهمِّ الأَسْباب التي أَدَّت إلى النُّهوض بالحركةِ العِلميَّة، وهُناك أسبابٌ أُخرى أَدَّت دورَها الفعَّال، ولكن عَلى نطاقٍ محدودٍ، وفي إِطار شريحةٍ خاصَّةٍ، منها: خزائنُ الكتبِ الخاصَّةِ، ومجالسُ السَّلاطين والأمراء، وبيوتُ العلماءِ، وحوانيتُ الورَّاقين. أَمَّا ما يتعلقُ بطبيعةِ نِتاج ذلك العصرِ فإِنَّه شمل جميعَ العُلوم والمعارف، ولَم يغلب عليه طابعُ الابْتكار والتَّأصِيل -كمَا هُو الحال في العُصور العبَّاسيَّة الأولى-، وإِنَّما غلب عليه طابعُ الجمع والتَّقرير والشَّرح والاخْتصار. ولذا وجدنا أغلب مُؤلّفاته إِمَّا موسوعاتٍ عامَّة، تشملُ كثيرًا من المعلوماتِ المتنوّعةِ المتباينة؛ من مثل؛ كتاب "نهاية الأَرب في فنون الأدب" لشهابِ الدِّين النُّويريِّ المتوفّى سنة (732 هـ)، ويقعُ في نَيِّفٍ وثلاثين مجلّدًا، وكتاب "مَسَالك الأبصار في مالك الأمصار" لشهابِ الدِّين بن فضلِ الله العمريِّ المتوفّى سنة (748 هـ)، ويقعُ في أكثر من عِشرين مجلَّدًا. أَوْ موسوعاتٍ خاصَّةٍ تشملُ كثيرًا من المعلوماتِ الّتي تَنْدرج تحتَ فن واحدٍ من مثل "لسان العرب" للعلأمة جمالِ الدّين محمَّدِ بن مكرم بن منظورٍ الإفريقيِّ المصريّ المتوفّى سنة (711 هـ). أَوْ شروحاتٍ إِمَّا لكتبٍ ألفها المؤلِّف نفسُه؛ من مثل "شرح شذورِ الذهب في معرفةِ كلام العرب" لجمالِ الدِّين أبي محمّد عبدِ الله بن يوسفَ بن ¬
أحمدَ (ابن هشام) المتوفّى سنة (761 هـ) حيثُ شرحَ فيه كتابَه المسمَّى "شذور الذّهب في معرفة كلام العرب"، وإِمَّا لكتبٍ أَلفها غيرُه؛ كالكتابِ الذي نحن بصددِ دِراسته وتحقيقه، فإِنَّه شرحٌ لمختصرِ الإِيجي "الفوائد الغياثيَّة في المعَاني والبَيان". أوْ مختصراتِ إِمَّا لكتبٍ ألفها المؤلِّفُ نفسُه، من مثل: "الطبقات الصُّغرى" لتاج الدّين عبدِ الوهَّاب بن تقيِّ الدِّين السّبكيّ المتوفّى سنة (771 هـ)، حيثُ اخْتصر فيه "الطبقات الكبرى" و"الطبقات الوسطى" الكتابين اللذين ألفهما في تَراجم فقهاءِ الشَّافعيَّة. وإِمَّا لكتبٍ ألّفها غيرُه؛ كمختصرِ الإِيجيِّ المتقدِّم فإنَّه اختصارٌ لقسم البلاغة في مفتاح السَّكاكيِّ. وأَخيرًا أودُّ أن ألفت النَّظرَ إلى أنَّ علمَ التَّاريخ كان أبْرز عُلوم ذلك العصرِ، إذْ ظَهر فيه عددٌ كبيرٌ من المؤرِّخين الذين تَركوا تُراثًا ضَخْمًا يَحكي واقعَ العَصر وأحداثَه ويترجمُ لأَبرز شخصيَّاته. ونجدُ أَن تآليفَ هذَا الفنِّ تخرجُ في صورٍ مختلفةٍ من "تاريخِ عام للدُّول الإسلاميَّة إلى جَمْعٍ لتاريخ البَشَرِ مُنذ بدءِ الخليقة، مُنْضمًّا إليه تاريخُ بعضِ الأمم المجاورة، ومن رُوَّاد هذا الاتِّجاه: أبو الفِداء (¬1)، وابنُ كثيرٍ (¬2) .. ومنهم ¬
من اتَّجه إلى التَّاريخ لدولةٍ (¬1)، أَوْ لبلدِ أَوْ إقليم .. (¬2). وأَمَّا السِّيرُ والتَّراجمُ؛ فمنها السِّيَرُ العامَّة (¬3)، ... ومنها السِّيرُ الخاصَّةُ لجماعةٍ من الرِّجال تربطهم رابطة ما (¬4) " (¬5). ¬
المبحث الأول: حياة الكرماني
المبحث الأوّل: حياة الكرمانيّ. وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأوّل: اسمه ونسبه ولقبه وكنيته. المطلب الثّاني: مولده ونشأته ورحلاته. المطلب الثّالث: عقيدته وأخلاقه وصفاته.
المطلب الأول: اسمه، ونسبه، ولقبه، وكنيته
المطلب الأوّل: اسمه، ونسبه، ولقبه، وكنيته هُو محمَّد بن يُوسف بن علي بن سعيدٍ الكرمانيّ، ثمّ البَغْداديّ. هكذا ورد اسمُه ونسبُه في أغلب المصادر المُترجِمة (¬1) له من غيِر خلافٍ يُذْكر؛ سِوى ما ورد فِي بعضِها من ذِكْر (بن محمَّدٍ) بعدَ (بن علي)، وقبل: (بن سعيدٍ) (¬2). وما وردَ في بعضِها الآخر من إِيراد (بن عبد الكريمِ) بدل (بنِ سعيد) (¬3). ¬
والكرماني -بكسر الكاف- كما ضَبَطها الكِرمانيّ نفسه (¬1). وقيل: بفتحِها، كما ضبَطَها غيرُ واحدٍ (¬2) - وسكونِ الرَّاء نسبة إلى كرمان؛ وهو إقليمٌ واسعٌ يلي بلاد فارس من جِهةِ الشَّرق، يحتوي عَلى بلدان شَتَّى (¬3) "كثيرة النَّخل والزَّرع والمواشي والضَّرع .... وأهلُها أخيارٌ؛ أهلُ سنَّةٍ وجماعةٍ وخيرٍ وصلاح"، افْتُتحت كلُّها في زمنِ الخليفةِ ¬
الرَّاشدِ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه -. وإليها يُنْسب خَلْقٌ عظيمٌ من العلماء (¬1). وكذا البغدادي، نسبة إلى بغداد، إِحدى الحواضر الإِسْلامية في زَمنه. وهو إذ يُنْسب لكرمان لعرقٍ له فِيها؛ فإِنَّه يُنْسب إلى بغداد لإِلْقاءِ عصا التِّسيار بها. وليس له مِنْ نِسبة ثالثةٍ إلَّا ما ذكَره السَّخاويُّ في ترجمةِ يحيى ابْنه (¬2)؛ حيثُ انْتهى به إلى "السَّعيديِّ" نسبةً لسعيد بن زيدٍ - رضي الله عنه - أحد العَشَرةِ المبشَّرين بالجنّة (¬3). أَمَّا لقبه المشْهورُ بهِ فهو: (شمس الدّين) (¬4)، وكنيتُه: (أبو عبدِ الله) (¬5). ولا أَعلم فيهما خِلافًا. وهناك لقب آخر يصفه به بعضُ مَن ترجم له، فيقولُون: "شارح ¬
البُخاريِّ"، أَوْ "صاحب شَرح البُخاريّ" (¬1)، ولكنَّه لقبٌ لا يصدُق عليه مُنْفردًا، ولا يقوى مُميِّزًا له عن غيرهِ من شُرَّاح البُخاريِّ. ¬
المطلب الثاني: مولده، ونشأته، ورحلاته
المطلب الثّاني: مولده، ونشأته، ورحلاته لَمْ تضِنّ علينا المصادرُ المترجمة لشَمس الدِّين الكرْمانيّ بشيءٍ من حياتِه، كما وقعَ لغيرِه من العُلماء ممَّن طوت الأيامُ حياتَهم، ولفَّ النِّسيانُ سِيَرهم وأَخْبارَهم، فلم يُبْق لهم مَا يُذكرُون بِه إلا ما بقي من آثارِهم. ولعل الفضلَ كل الفضلِ في ذلك يعودُ إلى ابن المؤلِّف البارِّ (يحيى)؛ حيثُ ترجمَ لوالده ترجمةً وافيةً ضافية؛ تعرَّض فيها -بشيءٍ من التَّفصيل- لمسيرة حياتِه، ابتداءً من ولادتِه وحتَّى مماتِه (¬1)، وهو ما نفسِّر به اتِّفاقَ المترجمين له عَلى نُقاطٍ كثيرةٍ في حياتِه، وعدمِ اختلافهم حوله إلا في التَّفصيلاتِ الدَّقيقة، وفي النَّادر اليسير. مولده: وُلِدَ شمس الدِّين الكِرمانيّ يومَ الخميس، السَّادسَ عشرَ من جُمادى الآخرة، سنة سبع عشرة وسبعمائة من الهِجْرة النَّبويَّة (¬2). ¬
نشأته ورحلاته
وعن مكانِ ولادته يقولُ ابنُه (¬1): "كان مولِدُه ببلدة (كونان) مِنْ أَعمال (كوبيان) (¬2)، بينها وبين بَلده كرمان مسيرةُ ثلاثة أيام، رأيتُها في مدَّة والدي -رحمه الله تعالى-، وهي بلدةٌ طيِّبةٌ، وهواؤها طيِّبٌ صحيحٌ، وأهلُها عُلَماء فُضَلاء صُلَحاء ... ". نشْأته ورحلاته: ساق ابنُ الكِرمانيّ -رحِمهما الله- في معرضِ حديثِه عن نَشْأة والدِه ورحلاته حَديثًا مُخْتصرًا شَافيًا؛ لا أجدُ مَحيصًا من إيرادِه بتَمامه. وفيه يتَّضحُ بجلاءٍ أَنَّ الكرماني شبَّ في بيتِ والدِه (بهاءِ الدِّين، يوسف)، ونشأَ عَلى مرأَى ومَسْمعٍ منه، يُلقِّنه المعارفَ والعُلوم، ويغرسُ في نفسِه الصِّفاتِ النَّبيلةَ والأَخلاقَ الفاضلةَ، كما يتَّضحُ منه جلَدُه ¬
وصبْرُه في طلبِ العلمِ؛ حتَّى غَدا عالمًا عَاملًا، ويكفي شَاهدًا عَلى ذلك: أَنَّه رحلَ -في سبيل تحصيل العلم- إلى بلدانٍ مختلفةٍ متباعدةٍ أَدَعُ التَّصريحَ بها لابْنِه في سياقِ حديثه التَّالي عن أَبيه. يقول (¬1): "نشأ والدي -رحمه الله- بها -أي: ببلدة كونان-، واشْتغل عَلى والده يوسف (¬2)، وكان من العُلماءِ العاملين. حكى لي والدي عنه أَنَّه ما كان يأَكلُ إِلَّا من ثمنِ مصحفٍ شريفٍ كان يكتُبه في كلِّ شهرٍ بخمسة دَراهم، يبيعه ويقتاتُ بالدَّراهم طولَ شهْره؛ فإذا انقضى الشَّهرُ بعد كتَب آخر؛ فينسخه ولا يأكل إلا منه مع كثرةِ أملاكهِ وسعةٍ من الدُّنيا ... ثمّ لَمَّا بلغَ والدي مبلغَ الرّجال ارتحل إلى كرمان، وقرأَ بها عَلى علمائِها، ثمّ بلغَه شرحُ أصولِ ابن الحاجبِ للشَّيخ عضدِ الدِّين عبد الرَّحمن، فكتبه ونسخه، وأَرادَ قراءتَه عَلى بعضِ علماءِ كرمان.،. فرحلَ بإذن والده إِلى (شباكار) (¬3) وهي بلد من أعمالِ (شِيراز) (¬4)، وفيها الشَّيخ عضدُ الدِّين، فلازمَه واشتغلَ عليه وقرأَ عليه شرحَ مختصرِ ابن الحاجِب، وكتابَ المواقف في أصولِ الكلام. وغير ذلك من مؤلفات شيخِه عضد الدِّين، ثمّ وقعت خراب في بلاد (شيراز)، وقُتل سلطانها، وكان مُحسنًا إلى ¬
والدي، وكان دائمًا يَتَرَحَّمُ عليه. وقصدَ بغداد، ثمّ قصدَ الشَّام، ثمّ أتَى مصر. ولكنَّه في سنة خمسٍ وخمسين وسبعمَائة ورد مصر وسُلْطانها الملك الصَّالح، والأمير الكبير بها شَيْخون. فأرادَ السُّلطان شيخون أَنْ يُقِيم بالقاهرةِ ويريدُ أنْ يحجَّ. فحجَّ من طريقِ الحاجِّ المصري، بعدَ أَنْ قرأَ البخاريّ بالقاهرةِ بالجامع الأزهر عَلى الشَّيخ ناصر (¬1) الدِّين الفَارقيِّ، وغيره من علمائِها. ثمّ لَمَّا حجَّ رجع إلى بغداد، وكانت بغدادُ إذ ذاك عامرةً بأَهلِها من أحسن بلادِ الدُّنيا؛ فأقامَ بها، واشْتَغل بالتَّأليف، وشُغل النَّاسُ في فنون العلم. وحجَّ مرَّات وجاورَ وأَنا في خدمَته سنة خمسٍ وسبعين وسبعمائة. ثمّ رجعَ إلى بغداد، وأقامَ بها إلى سنة خمس وثمانين، فقصدَ الحجّ وأَنا في خِدمتِه؛ فحجَّ سنة خمس وثمانين ... ". ¬
المطلب الثالث: عقيدته، وأخلاقه، وصفاته
المطلب الثّالث: عقيدته، وأخلاقه، وصفاته عقيدته: ليسَ ثمّةَ أدَنى شك يُساورني في أَن شمسَ الدِّين محمَّد بن يُوسف الكِرمانيِّ أشعريُّ المعتقد؛ فقد بدا ذلك واضحًا جَليًّا من خلال كُتبهِ التي ألّفها، ويبدو بروز ذلك بِشَكلٍ ظاهرٍ في مولَّفَين من مؤلّفاته هما: 1 - "الرُّدود والنُّقود". مؤلف في أُصول الفقه (¬1). 2 - "تحقيقُ الفوائدِ الغياثيَّة". الكتابُ الذي بين يديّ. ولعل السَّببَ في بروزِ معتقدهِ في هذين الكِتابين دونَ غَيْرهما من مؤلَّفاته يعودُ إلى طبيعةِ مادَّتِهما من جهةٍ، وما يَسْتلزمانه من كيفيَّة المعالجةِ من جهةٍ أُخرى. الأَمر الذي يؤوبُ بالباحثِ فِيهما إلى العودَةِ إلى كثيرٍ من المُرتكزاتِ العَقديَّة الّتي يَنْطلقُ منها. والنَّاظرُ في هذين الكتَابين يقفُ عَلى مواضعَ عِدّةٍ، تؤكِّدُ انْتسابه إلى المذهبِ الأَشْعريّ، منها: 1 - جاءَ في "الرُّدود والنُّقود" عند حديثِه عن مَسْألة التَّكليف بما لا يُطاق قولُه (¬2): "فإنَّا معشرَ الأَشَاعرةِ نُجوّزه -أَيْ: التّكليف بالمحال ¬
- وإِنْ لَمْ يقع، والمعتزلةُ تَمنعه". والعبارة صريحة لا تحتمل صَرفًا ولا تَأويلًا. 2 - جاء في "تحقيقِ الفوائد" عند حديثهِ عن الاستعارة التَّخْييليَّة -بعد إيراد قولَ الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬1) - قوله (¬2): "فإنَّه يلزم من ازدواج اللفظِ في {يُبَايِعُونَكَ} و {يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أَن يكون هُو -سبحانه- مبايِعًا، وإذ لا بدَّ للمبايع من يدِ فتُخيّل له سبحانه وتعالى شيءٌ يُشْبه اليد وهو القُدرة، فيطلق عليها لفظَ أَوْ يقول إنَّه استعارةٌ بالكناية بإدخال الله سبحانه وتعالى في جِنْس المبايعين ادِّعاء وإثبات ما هُو مِنْ خَواصّهم". وظاهر أَن هذا القَولَ ينطلقُ من مُعتقدِ الأَشاعرة في الصِّفاتِ؛ حيثُ يثبتونَ للهِ سبحانه وتعالى سبعَ صفات هي: الإرادة، والحياة، والعِلم، والقدرة، والسَّمع، والبصر، والكلام، ويُؤوِّلون ما عَدا ذلك كاليَد، فإنّها -بزعمهم- تَعني القدرة (¬3). ¬
3 - جَاء في "الرّدود والنّقود" عند حَديثه عن القرآنِ وهو بصدد الرَّدِّ عَلى القُطيِّ في قوله إِن المعنَى القَائِم بذاتِ الله ليس بكتابٍ - قَوْلُه (¬1): "المشهورُ عند الأشَاعرة ... أن كلامَ الله عبارةٌ عن ذلك المعنى، وهذه الألفاظ دَالَّةٌ عَلَيه". ولا يكشف السِّياقُ الذي وردَت فيه تلك العبارة عن مسوِّغ مقنع لإيرادِ مَذْهب الأَشاعرةِ في كَلامِ الله هنا (في معرض الرَّدِّ) سوى انتسابِ الكِرمانيِّ إلى هذا المَذْهب (¬2). بل ظهر في غيرِ مَوْطن في "تحقيقِ الفوائدِ الغياثيّة" ثمرة اعتقادِه فِي كلامِ الله. بما يتَّفق مع المذهبِ الأَشْعريِّ، منها: ¬
إيرادُه لتعريفِ شيخهِ الإيجيِّ للأمر، وأَنَّه (¬1) "اقتضاء الفعلِ بالقولِ استعلاءً"، وشَرحه إِيَّاه وعدم تسجيلِ أيِّ اعتراضٍ عليه إلا في موافقتهِ المعتزلةِ في القَيْد الأَخير (الاستعلاء)، واعتذاره عن تلك الموافقةِ بقوله (¬2): "وذكره هذا من حيثُ متابعتُه السَّكاكيَّ وإلّا فعندَه -كمَا هُو مذهبُ أهلِ السُّنَّة- لا دخل للاسْتعِلاءِ في مَفْهومِ الأَمر". وباعتذارِه عن القيدِ الأخير وتَسْليمه ببقيَّة القيودِ فإنَّه يقف جنبًا إلى جنب مع الأشَاعرة؛ الذين يسمون الأَمر بأَنه "اقتضاءُ الفعلِ بالقَول" انْطلاقًا من مُعتقدهم في كلامِ الله سبْحانه وتعالى أنَّه معنى قائمٌ بنفسهِ. ولا يغرنّك قوله "كما هُو مذهب أهل السنة"؛ فإن الأشاعرة كثيرًا ما يُطْلقون عَلى أَنْفسهم "أهل السنة"، وبخاصَّةٍ عندما يكونون في مُواجهةِ المُعتزلة (¬3). أَضف إلى ذَلك أَنه عُنيَ عناية خَاصَّةً بمؤلّفاتِ شيخه الإيجيّ -أحدِ أقطابِ الأشاعرة في زمانِه-، وأَشْبعها دَرسًا وشرحًا، ولَم يُنقَل ¬
أخلاقه وصفاته
عنه أَنَّه استدرك أَوْ نبَّه عَلى فسادِ معتقده. مِمَّا يدل -أيضًا- عَلى انتسابِه إلى المذهب الأشعريِّ. أخلاقه وصفاته: يظهرُ لي أن شمسَ الدِّين الكرمانيّ كانَ شديدَ التَّعلق بالله سبْحانه وتَعالى، محبًّا له ولِرَسوله صَلى الله عليه وسلم، عالي الهِمَة، صادقَ العزيمةِ، شريفَ النَّفْس، عَلى جانبٍ عظيمٍ من التَّواضع وحسنِ الخلُق، قويّ الشَّخصيَّة، زاهدًا في الدُّنيا، معرضًا عن أهلها، محبًا للففراء وطلبة العلم. قال عنه ابنُ حجر (¬1): "وكان تامَّ الخَلق، فيه بشاشةٌ وتواضعٌ للفقراء وأهلِ العلم، غيرَ مكترثٍ بأهلِ الدنيا، ولا مُلْتفتٍ إليهم؛ يأتي إِليه السَّلاطينُ ويسألونه الدُّعاءَ والنصيحةَ". وقال غيرُه (¬2): "كانَ مُقبلًا عَلى شَأنه، مُعرضًا عن أَبْناء الدُّنيا". ومن يطالعُ بعضَ مقدِّمات مؤلَّفاته يلمس قوّة إِخْلاصه لله، وانْصرافه عمَّن سواه. ¬
يقول في مقدِّمة الكواكب الدَّراري (¬1): "وما توسّلت به إلى غرضٍ دنيوي من مالٍ أَوْ جاه، أَوْ تقرُّبٍ إلى سُلْطان أَوْ خليفةٍ -كما هُو عادة أَبْناء زَمَانِنا من أَصحاب إلهِممِ القَاصرةِ والعقولِ الضّعيفة-، بَل جَعَلْته لله ولوجههِ خالصً". كما يقُول في مقدمته للنُّقود والرُّدود (¬2): "وما تَقَرَّبت به إلى أحدِ الخلائق رجاءَ أَنْ يكون سبب قُربتي إِلى الخالق؛ فإِنَّه عَلى ذلك قدير، وبتحقيق رجاء الرَّاجين جَدِير. وما توفيقي إلَّا بالله، عليه توكّلتُ وإليه أُنيب". ويبدو أنه كان عَابدًا طَائعًا مُكْثرًا من النَّوافل والقُرب؛ فعلى الرَّغم من أنَّه كان لا يمشِي إلا عَلى عَصا مُذْ كان ابن أربعٍ وثلاثين سنة (¬3) إلا أَنَّه حجَّ من بغداد مرَّات. كما ذكر ابنه (¬4). ¬
المبحث الثاني شيوخه، وتلاميذه، ومكانته العلمية
المبحثُ الثاني شُيوخُه، وتَلاميذُه، ومكانتُه العلميّة. وفيه ثلاثةُ مطالب: المطلبُ الأوّل: شيوخُه. المطلب الثاني: تلاميذُه. المطلب الثالث: مكانتُه العلميَّة.
المطلب الأول: شيوخه
المطلب الأوّل: شيوخه ننتظرُ ونحن أَمَام عالم ذائع الصّيت، بارعٍ في علومٍ متعددة، رحَّالة يطلب العلم كشمس الدِّين الكِرمانيّ -أن نظفرَ له. بمشائخ كُثر- وهم بلا شك كذلك-، غيرَ أن ما حفظته لنَا كتبُ التَّراجم منهم قليل لا يَتَجاوزون أولئك المَشْهورين في عصره، وربما وجدَ المترجمون في شُهْرتهم واسْتِفاضة عِلْمهم، أَوْ قربهم من الكرمانيّ وتأَثره بهم ما يُعني عن ذِكْر غَيْرهم ممن لَمْ يكُونُوا كَذلك. وممن صرَّحت كتبُ التَّراجم بأَسْمائهم من مَشَايخه ما يَلي: 1 - والده: بهاء الدِّين؛ يُوسف بن عليِّ الكِرمانيّ. ولم أُفْلح في الوقوف عَلى ترجمة له سوى ما ذَكرهُ حفيدُه التَّقيُّ الكِرمانيّ عنه (¬1). وعَلَى يديه تَلَقّى الكِرمانيّ دروسَه الأولى. ويَبْدو لي -في ثَنَايا الأَخْبارِ اليَسيرة الوَارِدة عنه- أنَّه عالم ورع، من بيت صالحِ، كسائر بيوتِ قريتِه الّتي اشْتَهر أهلُها بالصَّلاح وتوارثِ الفَضِيلة (¬2)، ولستُ واجدًا دليلًا يؤكِّدُ ذلك أَقْوى من اهْتمامِ الوالدِ بابنهِ في هذه الأسرة (¬3). ¬
2 - القَاضي: عَضُد الدِّين؛ عبد الرّحمن بن أَحمد بن عبد الغَفار الإِيجيّ وسبق الحديث عنه في المبحث التَّمهيدي (¬1). وهو شيخه الذي لازمَه ثنتي عَشْرة سنة محبًّا لشخصه عاكفًا عَلى درسه، نَاهلًا من مَعِينه، شَارحًا لكُتبه. وقد بَدا -لي- شِدَّة تَأثره بهذا الشَّيخ وعظيمُ توقيره له؛ فهو لا يَسِمه إلا بالأسْتاذ (¬2)، ولا يذكره إلا بالثّناءِ العاطرِ (¬3). 3 - المحدِّث، ناصر الدِّين، محمّد بن أَبي القاسم الفَارقيِّ (¬4). ولَم تُسْعِفنا كتب التّراجم بشيءٍ عنه سِوى مَا تقدَّم من اسمه ونَسَبه. وعنه تَلقّف شمس الدِّين الكرماني الحديثَ، وبينَ يديه في الجَامع الأَزْهر قرأَ صحيحَ البخاريِّ (¬5). ¬
المطلب الثاني: تلاميذه
المطلب الثّاني: تلاميذه لَمْ يَفْتَأ شيخُنا الكرمانيُّ -رحمه الله- يتضلعُ صنوفَ العلومِ والمعارف ويعبُّ من مَعينها الصَّافي حتَّى ارتوى وفَاضَ خيرُه عَلى غيره؛ فكان له تلاميذ أَبْرار يجتمعون إليه ويُفِيدون منه. ويَذْكُرُ المترجمون له -في هذا الصَّددِ- أنَّه استوطنَ في نهايةِ تَطوافه بغدادَ، "وتصدَّى فيها لنَشْر العلم مدَّةَ ثلاثين سنة" (¬1). ومع أَنها مدَّة تكفي لتَخريج أجيالٍ يُعجز المرءَ حصرُهُم -وهم بلا شك كذلك-، إلا أنّ ما حفظته المصادرُ لنا منهم عدد يسير ممن شُهِر فيما بعدُ، جَرْيًا عَلى عادة تلك المصادرِ الّتي لا تُنوّه من قربٍ أَوْ بعدٍ إلّا بأولئك الأَفْذاذ الذين فَرَضوا أَنْفسهم عليها. ومنهم: 1 - ابنه يحيى: تقيُّ الدِّين، المعروف بابن الكِرمانيّ (¬2). ويعدُّ أبرزَ تلاميذِه، وأكثرهم إِفادةً منه، لملازمته له جل وقتهِ، يَقُولُ السَّخاويُّ (¬3): "ولكن جلّ انتفاعه إِنَّما كان بوالدِه؛ فإِنَّه لازَمه سفرًا ¬
وحضرًا، وجَابَ معه نحو خمسين مدينة". ولِدَ في رجب سنة (762 هـ) ببغدادَ، وحفظَ القرآنَ صَغِيرًا، ثم الشَّاطبيَّة، والكَافِيَة، والشَّافِيَة، والحَاوي، والملْحة، وغيرَ ذلك، وما زَال يَنْهل من معين والدِه ويَرتشف رحيقَ غيره من علماءِ عصره؛ أَمثال أَسعد بن محمّد بن محمود الحنفيّ، وسعيد بن محمَّد المالكيّ، والقَاضِي العلاء الهرَويّ، والجمال ابن الدَّبَّاغ الحنبليّ- حتَّى تبحَّر وبَرَع؛ فأَتْقن الحديثَ، والطِّبَّ، والتَّاريخ (¬1). وتذْكر بعض المَصَادر أنه أَخَذ عن والدِه: "الكتبَ السِّتَة سَمَاعًا غيرَ مرّة، وأَعربَ عليه غالبَ القرآن، وسَمِع عليه الكشَّافَ، وتفسيرَ البَيْضاويَ غيرَ مرّة، وجميعَ كافيةِ ابن الحاجبِ في النَّحو، وشَافيته في الصَّرفِ، والمِنْهاج الأصلي، وشرحه للبرهان العبديّ، والطوالع للبيضاويّ، وشرحه للشَّمس الأَصبهانيّ، والمطالع في المنطق، وشرحه للقطب التّحتاني، مع أسئلة واعتراضاتِ عليه، والفوائد الغِياثيّة لشَيخه العَضُد، و ... ، و ... " (¬2) وتَعدادها يَطولُ. وله من التَّصانيف: * مَجْمَعُ البحرين وجَوْهر الحبرين في شرح صحيح البخاريّ. كتبه بخطّه، وأَخْرجه في ثمانية أَجْزاء كبار. ¬
* شرحُ صحيح مُسلم. * المَقْصودُ من تحفة المودود. لابن القيّم. * هذا بالإضافة إلى خدمته كتبًا كَثِيرة، إِمَّا باختصارها، أَوْ بإعادة صِيَاغتها نظمًا أَوْ نثرًا، ويُذْكر من ضمن مُؤلّفاته -أيضًا-: كتابٌ في الطِّبِّ (¬1). توفّي -رحمه الله- مطعونًا بالقاهرة سنة (833 هـ) بعد أن كفّ بصره. 2 - ابنه: حميد الدِّين الكرمانيّ (¬2). واسمُه: عبدُ الحميد، ويبدو أنه كان أَقل ملازمةً لأَبيه من أَخِيه تقيِّ الدِّين، ومع ذَلك فقد أَخذَ عن والدِه كثيرًا، ونال حظه منه، وتُطْلِعنا المصادر أنَّه هُو الذي نسخَ لوالده شَرحَ البُخاريِّ بخطِّه، وأَن له عدَّةَ رحلاتٍ في طلبِ العلم بينَ بغداد والقَاهرة والشَّام التي استوطنها إِلى أَن توفي بها سنة عشر وثمانمائة (810 هـ) وقد زاحمَ الأربعين. 3 - زميلُه في الطَّلب: العلامة السَّرائي (¬3). وهو يوسفُ بن الحَسنِ بن محمود السَّرَّائيّ، المولود بتبرز سنة (730 هـ). ¬
زامل الكرماني في الطلب، وتَتَلمذ عَلى شيخه الإِيجيِّ، وعندما عَلِم بعودةِ زميلِه محدِّثًا إلى بغداد رحلَ إِليه، ولَم يَستنكف من الأَخذِ عنه لعلْمِه بفَضْلِه وموفورِ عِلْمه. له عدّة مؤلّفات، منها: * شرح منهاج البَيضاويِّ. * حاشِية عَلى الكشَّافِ. * حاشِية عَلى شَرح الشَّافيةِ. اختلف في وَفَاتهِ فقيل: سنة (802 هـ)، وقيل (804 هـ). رحمه الله وأسكنَه فسيحَ جنّاته!. 4 - المجد الشِّيرازيّ (¬1): وهو محمَّد بن يعقوب بن محمّد الشّيرازيّ الفيروزآباديّ، وفد عَلى شمس الدِّين الكِرمانيِّ سنة أربع وخمسين وسبعمائة (754 هـ) (، وقرأ عليه، ثم رحل معه إلى الشَّام، ثم إلى مصر، وهناك سمعا الصَّحيحَ عَلى الفارقيِّ، وهُناك افترقا بعود الكِرمانيِّ إلى الحجّ -كما سبق ذكره-. له عدّة مصنّفات، منها: * بصائرُ ذوي التَّمييز في لطائف الكتابِ العزيزِ. * القَاموس المُحيط. وكان مطوَّلًا في مجلّدات عديدةٍ، وبأَمرِ شيخِه الكرمانيّ اخْتصره في مجلّد ضخمٍ. ¬
* القَاموس الوَسيطِ لِمَا ذَهب من لغةِ العربِ شَمَاطِيط (¬1). تُوفي في شَوال سنة سبع عَشْرة وثمانمائة، عن عمرٍ يُناهز الثامنة والسَّبعين عامًا. 5 - أَبو الفتح التستريّ (¬2): وهو نصرُ الدِّين؛ أحمد بن محمّد التَّستريّ البغداديّ. ولد سنة (733 هـ)، واشْتَغَل بالعِلم حتَّى برع في علمِ الحَديث، مُفِيدًا من شيخه شَمس الدِّين الكرمانيِّ، وعليه قرأَ الكِتابَ الْذي نحن بصددِ تحقيقه، وأَجازَه روايتَه، يقول السَّخاويُّ (¬3): "قال التَّقيُّ فيما قرأته بخطِّه: قرأ على والدِي شرحَ المختصر، وأَجَازه والدِي واستفدتُ أنا منه فوائدَ جمَّةً". والتَّقيُّ بذلك يشيرُ إلى نصِّ الإجازةِ الواردةِ في إحدى نُسَخ الشَّرح المَخْطوطة والتي اعتمدتُها أَصْلًا، كما سيأتي إيضاحُه فيما بعدَ (¬4). ولهذا التَّلميذِ النَّجيبِ مؤلّفاتٌ، منها: * نظمُ غريبِ القرآن. * حاشيةٌ عَلى فروع ابن مفلح. * حاشية عَلى تَنْقيح الزّركشي في الحديث. * وله منظومة في الفِقْه تزيد عَلى سبعةِ آلاف بيت، وأخرى في ¬
الفرائضِ تَقَعُ في مائة بيت. توفِّي سنة ثنتي عشرة وثمانمائة من الهجرة، وله من العُمر تسعةٌ وستّون عامًا. 6 - محبّ الدِّين التّستريّ (¬1): وهو أَحمدُ بن نصر الله (أبي الفتح) المتقدِّم، ولِدَ بمسقط رأسِ أبيهِ (بغداد) سنة (765 هـ)، وعلى حلقاتِ شيخ أبِيه -أيضًا- تفتّح سمعُه وشقَّ بصرُه؛ فأخذَ يستنشقُ عبيرَها ويَرتشفُ رحيقَها حتَّى فتح الله عليه فجادَ أدبًا وعلمًا، وغدا "قدوةً رجَعُ إليه، وإِمَامًا تحطُّ الرَّواحل لديه، مع استحضاره للفروع والأصول، والمعقول والمنقول، وصدق اللَّهجة، والوقوف على الحجَّة" (¬2). وقد كان موضعَ تَقديرِ الكِرمانيّ وموطنَ ثقتِه؛ إذْ أَجازه روايةَ ما صحَّ عنه من التَّفاسير والأحاديثِ والأصولِ والفُروع والأَدَبيّاتِ وغيرِ ذلك، خصوصًا: الصِّحاح الخَمْسة الّتي هي أصول الإسلام ودفاترَ الشَّريعة، وشرحه صحيحَ البخاريّ المسمَّى بالكواكب الدَّراري (¬3). له عدَّةُ حواشٍ عَلى بعض المصنَّفات، منها: * حَاشِيتُه عَلى تنقيح الزّركشيّ. ¬
* وأُخرى عَلى فروع ابن مفلح. * وثالثة عَلى الوَجِيز. توفِّي رحمه الله سنة أربعٍ وأربعين وثمانمائة، ولَهُ من العُمر ثلاثٌ وسبعون سنة.
المطلب الثالث: في مكانته العلمية
المطلب الثالثُ: في مَكانته العلميَّة تَسنَّم أَبو عبدِ الله الكِرمانيّ منْزلة علميّةً رفيعة، بزَّ بها أقرانَه، وفاقَ بها كثيرًا من علماء عصره، وقد هيَّأ لذلك ما تميَّز به من عُلوِّ الهمّةِ وسموِّ النّفسِ ويَكْفي شَاهِدًا عَلى رسوخِه في العلم وتمكنه منه ما نقله المترجمون أنَّه: "تصدَّى لنشرِ العلم بِبغدادَ ثلاثين سنة ... " (¬1)، وبغدادُ آنذاك تمثِّل إِحدى أكبر حواضر المسلمين العِلْميّة، إليها يفدُ طلّابُ العلمِ من كلِّ فج، وفي رحابها تعقدُ الحلقاتُ وتُدارُ المحاوراتُ والمُنَاظرات. ولَم يكن شَيْخُنا فيها كغيرِه من شيوخ عَصرِه ممَّن كانت تَقُوم بهم الحَلقات، بل كان مشارًا إليه فِيها، معقودًا له بناصية العِلْم بين عُلَمائها. يقول عنه الدَّاوديّ (¬2): "وكان مُشَارًا إليه بالعراق وتلك البلادِ في العِلْم"، ويقول أُخرى (¬3): "ومهر وفاقَ أقرانَه وفضل غالبَ زَمانه". وقد تقدَّم -في مطلب تلاميذه- مِمَّا يوضِّحُ مكانتَه العِلْميّة أن العلَّامةَ السَّرائِيّ؛ وهو مَن هُو في العلم؛ وقد زاملَه في الأخذ عن الإيجيّ يَنْكسرُ للعلمِ فَيأخذ عن الشَّمسِ ويتتلمذُ عَلى يَديه (¬4). ¬
أضف إلى ذلك أن تلاميذَه أصبَحوا -فيما بعدَ- من العلماءِ المَشَاهِير. ويَبْدو أن الفَضْلَ في تبوّئه تلك المَكَانةَ المرموقةَ يعود -بعدَ توفيق الله- إلى تَنْشِئته الصَّالحة التي تعاهدها أبوه، ثم إِلى حرصهِ وإِخْلاصه في طَلبِ العلمِ، وأخيرًا إلى اهْتمامه بسنّةِ الرَّسول صلى الله عليه وسلّم وَتبحُّره في علمِ الحديث (¬1). ¬
المبحث الثالث: مصنفاته ووفاته
المبحث الثَّالثُ: مصنّفاتُه ووفاتُه. وفيه مطلبان: المطلب الأوّل: مصنفاتُه. المطلبُ الثّاني: وفاتُه.
المطلب الأول: مصنفاته
المطلب الأوّل: مصنّفاته تركَ لنا محمّدُ بن يوسفَ الكِرْماني -بعدَ رحلةٍ مباركةٍ حافلةٍ بالجدِّ والنَّشاطِ- آثارًا علميَّةً جليلةً، تشهدُ، بموفورِ عِلمه، وسَعةِ اطّلاعِه، وتكشفُ عن عالمٍ فذٍّ طرقَ أبوابَ العلومِ وحصَّل ثمارَها، فلا تكادُ تجدُ فنًّا من الفنونِ المعروفةِ في زمنه إلا وله فيه مؤلفٌ أَوْ شَرحٌ أَوْ مختصرٌ. وفي ظنِّي أَن هذا الرَّجلَ لو خُلِّيَ مَا بينه وبين التَّأليف في سِني انْقطاعِه للتَّدريس لفَاقتْ مؤلفاتُه غيرَه ممّن بلغ شأوًا في التَّصنيفِ. ومَنْ يدري لربَّما كانت موُلّفاتُه كذلك، لكن عَفَا عليها الزَّمنُ، وجَارت عليها المصائبُ والنّكباتُ، وبخاصَّة تلك الّتي اتّسم بها عَصرُه. ومن المُؤسف حقًّا: أَن تلك المصنّفات -عَلى عظيم نَفْعها وجَلِيل قَدرها- لَمْ تعرف طريقها إِلى كثيرٍ من طلبةِ العِلْم في عصرنا الرَّاهن؛ فما زَال بَعضُها غائبًا لا نَعرف عنه شيئًا إلّا ما صرَّح به المترحمونَ، وما فتيء الآخرُ قابعًا داخل سُجونِ المخطوطات. هذا إذا اسْتثنينا مِنْها شرحه لصحيع البخاريِّ، فَقَد نَال حظَّه من الطبع ولَم ينل حظه من التَّحقيق.
أَمَّا مؤلّفاتُه الّتي ذكرها المترجمون له فهي: 1 - "تحقيقُ الفوائدِ الغِياثيّة في المعاني والبيان" (موضوع الدّرس والتّحقيق) وسيأتي الحديثُ عنه مفصَّلًا -فِيما بعدَ- إِنْ شاءَ الله تعالى. 2 - "الكَواشف البُرهانيَّةُ في شرح الواقف الْسُّلطانيَّة" (¬1) وهو كما يَظْهر من عنوانِه شرحٌ لكتابِ شيخه العَضُد الإِيجيّ الموسوم بِـ "المواقفِ في علم الكلام". 3 - "الزَّواهر" (¬2) -وهو أَيضًا- شرحٌ لكتابِ شيخهِ العَضُد "الجواهر في أصول الكلام". وهذا الأَخيرُ مختصرٌ لكتابِ "المواقف" المتقدّم. ويفهمُ من حديثِ تقيِّ الدِّين الكِرماني عن مؤلّفاتِ أبيه أن هذه الشّروحاتِ الثّلاثةِ دوِّنت فيما بينها عَلى التَّوالي؛ وبحسب التَّرتيب المتقدِّم، وهذا ما جَعَلني أُقدّمها عَلى غيرِها؛ فقد نصَّ عَلى أن أوّلَ مؤلّفاتِ والدِه: شرحُ الفوائد الغياثيّة، ثم قال عقب ذلك مباشرة (¬3): "ثم شرحَ المواقف في أصولِ الكَلام، ثم الجَواهرَ في أصول الكلام، وهذه الأصول من مؤلّفات شيخه عَضُد الدِّين" عَلى أنه ينبغي أَنْ لا يغفل أن التَّرتيبَ ¬
المشار إليه مقطوعٌ به فيما بين الشُّروحاتِ الثّلاثةِ دون النَّظرِ إلى غيرِها من المؤلَّفات الأخرى؛ فالعطف بـ (ثم) -كما هُو معلوم- يفيد التَّرتيبَ مع التَّراخي، وليس ثمة مانعٌ يَمْنع أَنْ يكون بين هذه الشُّروح مؤلف أَوْ مؤلَّفات؛ يؤكّدُ هذا حديثُ التَّقيِّ نفسهِ عن مؤلَّفاته والدِه، إذ قال عقبَ قولِه السَّابقِ مُبَاشرة (¬1): "ثم شرحَ تفسيرَ البيضاويِّ، ووصل فيها إلى سورة يوسفَ فاخترمته المنيَّةُ، وهي آخرُ مصنَّفاتِه"، ومن المقطوع بِه أن هناك مؤلفات أُخرى لشمس الدِّين الكِرمانيّ لَمْ يَذْكرها ابنُه في سياقِ حديثِه. 4 - النُّقود والرُّدود (¬2)، وسمّاه: "السَّبعة السيارة"؛ لأَنَّه جمعَ فيه سبعة شروحٍ فالتزمَ استيعابَها، وذُكر أنه أردفها بسبعةٍ أُخرى لكن بغيرِ اسْتيعاب (¬3). وهو مؤلفٌ حافلٌ غنيٌّ في بابه، استوعبَ فيه المصنّفُ جلّ مسائلِ أصولِ الفِقْه، ولا يَعيبه إلَّا التَّكرار (¬4). وقد أحسنت الجامعةُ الإسْلاميّةُ بالمدينةِ النَّبويّة صُنعًا عِنْدما وجَّهت طلابَ الدِّراسات العُليا في قِسْمِ أُصولِ الفقه إليه، وشَجَّعتهم عَلى تحقيقه. 5 - "الكَواكبُ الدَّراريّ في شرحِ صحيحِ البُخاريِّ" (¬5). ¬
وهو الكتابُ الوحيدُ المطبوعُ للمصنّفِ -كما أَسلفتُ-، وفي يَقيني أن شُهْرَته من جهةٍ وارتباطَه بعلمِ الحديثِ من جهةٍ أُخرى هُمَا اللذان وجَّها الأَنْظار إِليه ولفتا -بعدَ ذلكَ- إِلى طَبْعه. وقد نصَّ التَّقيُّ الكِرْمانيّ أنَّه "كَمَّله بمكَّةَ سنة خَمس وسَبْعين (أَي: بعدَ السَّبعمائة) حين مجاورتِه بها قُبَالةَ الرُّكنين اليَمَانِيَّين" (¬1). 6 - أُنموذجُ الكشَّافِ. وهو تعليقاتٌ عَلى كشافِ الزمخشريِّ، ونصَّ عَليه ابنُه (¬2). 7 - عقائدُ عضُدِ الدِّين. ونصَّ عليه ابنُه (¬3). 8 - رسالةٌ في كافيةِ ابن الحاجبِ. ونصَّ عليها ابنُه (¬4). 9 - رسالةٌ في التَّصوير والتَّصديق في المنطقِ. ونصَّ عليها ابنُه (¬5). 10 - رسالةٌ في مَسْأَلة الكُحل. ونصَّ عليها ابنُه (¬6). 11 - أسئلةٌ واعتراضَاتٌ عَلى شرح القُطب التَّحتانيّ للمَطَالع في المَنْطقِ (¬7). ¬
12 - ذَيْلُ مَسَالك الأبصار في التاريخ (¬1). 13 - شرحُ أَخْلاقِ عَضُد الدِّين (¬2). 14 - ضَمَائرُ القرآن (¬3). 15 - حاشِية عَلى تَفسير البَيْضَاويِّ، وتقدَّم -عَلى لسانِ ابنه- أنَّه آخرُ مصنَّفاتِه، وأَن المنيَّةَ اخْترمته قَبْل أن يُتمَّه؛ حيثُ وصلَ فيه إلى سورةِ يوسف (¬4). ¬
المطلب الثاني: وفاته
المطلب الثانِي: وفاته اتّفقت كلمةُ المُتَرجمين لشَمس الدِّين محمَّد بن يوسفَ الكِرمانيِّ عَلى أنه توفي بكرة خميسِ السّادسَ عَشرَ من الشّهر المحرّم سنة سِتّ وثمانين وسبعمائة من الهجرة في طريق عَوْدته من الحجِّ (¬1). ولوصيّةٍ كان قد أَوْصى نَقَله ابنُه التَّقيُّ إلى بغدادَ ودَفنه بموضع كانَ قد اخْتارَه في حياتِه بقربِ أبي إسحاق (¬2) الشِّيرازيِّ وغيرِه من العُلماء (¬3). رَحمه الله، وأسكنه فسيحَ جنّاته!. ¬
الفصل الثاني: التعريف بكتاب "تحقيق الفوائد"
الفَصلُ الثّاني: التَّعريف بكتاب "تحقيق الفوائد" وفيه أربعةُ مباحث: المبحث الأوَّل: اسمُ الكتابِ، وتوثيقُ نسبته للمؤلّف، ومنهجُ المؤلّف فيه المبحث الثَّاني: مصادر الكتابِ وشواهدُه. المبحث الثالث: تقويم الكتاب. المبحث الرَّابع: وصفُ مخطوطاتِ الكتابِ ومنهجُ التَّحقيق
المبحث الأول: اسم الكتاب، وتوثيق نسبته للمؤلف، ومنهج المؤلف فيه
المبحث الأوَّل: اسمُ الكتابِ، وتوثيقُ نسبتهِ للمؤلّفِ، ومنهجُ المؤلّف فيه وفيه ثلاثةُ مطالب: المطلب الأول: اسمُ الكتابِ. المطلب الثاني: توثيقُ نسبتِه للمؤلِّف. المطلب الثالث: منهجُ المؤلِّف فيه.
المطلب الأول: اسم الكتاب
المطلب الأوّل: اسم الكتاب لم يكُن أَمامي بدٌّ -وأَنا أنشدُ تحقيقَ عنوانِ الكتاب- من سلوكِ منهج الاسْتقراءِ والتَّقصِّي لكلِّ ما من شَأنِه أَنْ يصلَ بي إلى حقيقةٍ قاطعةٍ أطمئنُّ إِليها في وسمِ الكتاب بعنوانِه الذي سَمَّاه به صاحبُه. وفي سبيلِ ذلك تتبّعتُ جميعَ كتبِ التَّراجمِ التي تَرْجمت للمؤلِّف وأَشارت من قُربٍ أو من بعدٍ إلى مؤلَّفاتِه. كما تتبّعت جلّ الفَهارسِ البلاغيَّة، بلْ وغيرِ البلاغيَّة تحسّبًا لما قَدْ يقعُ فيه بعضُ المفهرسين من إِيرادِ الكتابِ في غير فنِّه. كما حرصتُ على الاطّلاع على الكُتب البلاغيّة التي جاءت عَقِبَ كتابِ المؤلِّف وبخاصَّةٍ تلك الّتي عُنيت بشرحِ الفَوائد الغِياثيّة، فربَّما وجدت في إِحداها عبارةً صَريحة أَوْ إشارةً عابرةً تكشفُ عن اسمِ الكتابِ مما هو واقعٌ متحقِّقٌ في حالاتٍ كَثيرةٍ، عند غالبِ المصنِّفين الذين يُصرِّحون في كُتبهم بأَسْماء كتبٍ أُخرى نَقَلوا عنها. كما أنني -قَبلَ هذا وذَاك- استعرضتُ ما وقعَ بين يديَّ من كتب المصنِّف وآثارِه، ناهيكَ عن كِتابِه الذي بين يديّ ونُسَخِه المتعدّدة وكلُّ ذلك بغيةَ الاهتداءِ إلى أيِّ خيطٍ يقود إلى الاسم الحقيقيِّ للكتاب!!. والحقَّ أقولُ: إِنّني -بعد خَوْضي تلك التَّجْربة الشَّاقة- ظفرتُ بثلاثةِ عنوانات لا رابعَ لها، وهي على النَّحو التَّالي:
1 - شرحُ الفوائدِ الغياثيَّةِ. وعَلَى هذه التَّسْمية أَغلبُ من ترجم له مِمَّن ذكرَ مصنّفاتِه (¬1). وإليها يُشيرُ بعضُ شرَّاح الفَوائد الآخرين عندما يُحيلونَ إلى الكتابِ، وهو العنوانُ الذي أُثْبت على الورقةِ الأُولى من النُّسخة "الأصل"، وكذا بقيةِ النُّسخ الأُخرى. 2 - التَّحقيقُ في شَرحِ الفَوائد الغيَاثيّةِ. وانْفردَ به صاحبُ هديَّة العَارفين (¬2). 3 - تحقيقُ الفَوائدِ. نصَّ عليه صاحبُ كَشْف الظّنون (¬3). وقَبْله صاحبُ تاريخ آل مُظَفَّر (¬4)، وهو الواردُ برفقةِ العنوانِ الأَوَّل على ظهر الورقةِ الأَولى من النُّسخة التركية؛ الموجود أصلها في مكتبة شهيد. وبعدَ إمعان النَّظر وإِعْمال الفكرِ ترجَّح عِندي العنوانُ الأخير؛ وذلك للأَسباب الآتية: ¬
1 - أنَّ العنوانَ الأَخيرَ "تحقيقَ الفوائدِ" نصٌّ صريحٌ في التَّسمية؛ ورد في مصادر مُتقدِّمةٍ لصيقةٍ بالمؤلِّف؛ كمَا هُو الحال في تاريخ آل مُظفَّر، أَوْ متخصِّصة في أسماءِ المؤلَّفات؛ كما هُو الحال في كَشْف الظُّنون. فالأَخذُ عنها أَوْلى وأَدقُّ، ثمَّ إنّ من حَفِظَ حجّةٌ على من لَمْ يحفظْ. 2 - أنَّ العنوانَ الأَوَّل "شرح الفوائد" أَقْربُ إلى الوصفِ مِنْه إِلى التَّسميةِ، وكثيرٌ من الكتبِ المَشْهورةِ تُنْعت بوصْفها، فيكونُ طاغيًا على التَّعريفِ بها مع وجودِ أسماء حقيقةٍ لها. منْها -على سَبيل المثال-: "الكَواكبُ الدَّراري في شَرحِ صحيح البُخَاريِّ" للكرمانيِّ نفسِه؛ فعلى الرَّغم من أَنَّ الكرمانيّ نصَّ على اسْمِ الكتابِ صراحةً في مقدِّمته (¬1) إلَّا أَنَّه اشْتَهرَ بين النَّاس بوَصْفه، حيث يَقُولون "شرحُ صحيحِ البخاريِّ" للكرمانيِّ، أو "شرح الكرمانيِّ على الصَّحيحِ". 3 - ليس من عادةِ الكرمانيِّ في مؤلَّفاتِه تَرْكَها بلا تَسْميةٍ أو تسميتها بـ "شَرْح ... "، بل إِنَّه يحرصُ عَلى تَسْمِيتها بأَسْماء مميِّزة لها، فَهُو يعرفُ تمامَ المعرفة أَنَّه في عصرٍ يغصُّ بالشّروح. وتركَها هَكَذا في إِطار الوَصف لا يَضْمن تمييزها أَوْ حتَّى نسبتها إِلى غيرِ صاحبِها. ولذَا نجده يُسمِّى شرحَه لصَحيح البخاريِّ بـ "الكواكب الدَّراريِّ". ويسمِّي شَرْحه للمواقِف: "الكواشفُ البرهانيَّةُ في شرحِ المواقفِ السُّلطَانيَّة" (¬2)، ويسمِّي شرحَه للجواهرِ في أُصولِ ¬
الكلام بـ "الزَّواهر" (¬1). 4 - جاءَ في الورقةِ الأولى من النُّسخةِ التُّركيّة الموجود أصلها في مكتبة شهيد، (إِحدى النُّسخ الَّتي لم أَعْتمدها في تحقيقِ الكِتاب لأَسْبابٍ سوف أُوردها فِيما بعدُ) ما نصُّه: "كتابُ شرح الفوائد الغياثِيَّة، وسمَّاه بـ "تحقيقِ الفوائد" وسُطِّر أسفل منه عبارة "صحَّ أنَّ الشَّارحَ للفوائدِ شارحُ صحيح البخاريِّ، وهو مولانا العلَّامةُ شمسُ الدِّين بن محمّد بن يوسف الكرمانيِّ الشَّافعيِّ -رحمة الله علينا آمين-. وسمَّى هذا الشَّرحَ في إجازةٍ أجازَ بها بتحقيق الفوائد بخطِّه". ونحنُ إِنْ لم نَقِفْ على تلك الإجازةِ التَّي حَظِيت باسم الكتاب إلَّا أنَّنا نَطْمئنُّ إلى العبارةِ السّابقة، ونَرى أنَّها تقومُ مقَامَها وبخاصَّة أَنَّها كُتِبت بنفس الخطِّ الَّذي سُوِّد به الكتاب، وهو خطٌّ قديم أُرجِّحُ أنَّه كُتبَ في عصرِ المؤلِّف أو قريبًا منه؛ كمَا يؤكّدُه نوعُ الورقِ والتَّمليكات الَّتي سُجِّلت على المَخْطوط. 5 - أَمَّا العنوانُ الثَّاني: "التَّحقيقُ في شرحِ الفوائد" فَيُستَأنسُ به في صِحَّةِ العِنوانِ الثَّالث. ولا يَقْوى مُنَاهضًا له، لتأَخُّر البغداديِّ (ت 1339 هـ) وانْفراده به. واليقينُ أنَّه تصرَّفَ فيه اخْتصارًا، جَرْيًا على عادة بعض المترجمين في إِيراد أَسْماء بعضِ الكُتب. وبذا نختمُ المبحثَ، مطمئنّين إلى أَنَّ اسمَ الكتابِ هو "تحقيقُ الفوائدِ". ¬
المطلب الثاني: توثيق نسبته للمؤلف
المطلبُ الثَّاني: توثيقُ نسبته للمؤلِّف بلا أَدْنى شكِّ أستطيعُ القولَ بأنَّ تحقيقَ الفوائدِ مؤلَّفٌ لشمس الدِّين محمّد بن يوسف الكرمانيِّ. لا يُنازعه فيه مُنازعٌ، ولا يَنْفيه عنه حاسدٌ. وقد تَأكَّد ذلك من أَوْجه عدَّة؛ منها -إِضافةً إلى ما تقدَّم في المبحثِ السَّابق ما يَلي-: 1 - نصَّ الكرمانيُّ نفسُه على ذَلك في أَوَّل كتابه في نُسْخَة (أ) المُعْتمدةِ، والنُّسْخَتين التّركيّة والإيرانيّة المُهْملتين؛ حيثُ قال: " ... وبعدُ؛ فيقولُ العبدُ؛ أصغرُ عباد الله -تعالى- محمّدُ بن يوسف الكرمانيُّ أَعْلى الله منزلَه، ومنْزلَته في المَنْزِلَين ... قال الأُسْتاذُ ... ". 2 - نصَّ ابنُ الكرمانيِّ "يحيى" -أَيْضًا- على ذلك؛ حيثُ قَال في مقدمة كتابه "مجمع البحرين"؛ في أثناء حديثه عن والده (¬1): "وله تصانيف مُفِيدة؛ منها شرحُ البخاريِّ، وسمَّاهُ بالكواكبِ الدّراري ... وله شرحُ الفوائد الغياثيَّة في المعاني والبَيان، وهو أَوَّل مصنَّفاته، ثمَّ شرح ... ". وقال -أيضًا- في تَقْريظٍ مقتضبٍ كتبَه بخطِّ يده على ظَهْرِ الورقةِ الأُولى من النُّسخة الَّتي اعتمدتُها أَصْلًا لكتاب "تحقيق الفوائد"؛ مُنوِّهًا بشيخِ والدِه الإِيجيِّ ومؤلَّفاته. قال: "وله شرحُ المختصرِ لابن الحاجبِ وهو أحسنُ شروحِه وأَشْكلُها، وقد نَقَّحه والدِي؛ الشَّارحُ للفوائد المذكور أَعْلاه (إشارة إلى عنوان الكتاب) ". ¬
3 - أَنَّ اسمَ شمسِ الدِّين محمّد بن يوسف الكرمانيِّ ذُكرَ برفقةِ عنوانِ الكتابِ على غلافِ كلِّ نسخةٍ من نُسخ المخطوط الَّتي وقفْتُ عليها. 4 - وجودُ بعضِ نصوصِ الكتابِ أو آرائه الخاصَّة في كتبِ المتأَخِّرين وعَلى وجهِ الخُصوصِ شراح الفوائدِ؛ منسوبة إلى شمسِ الدِّين الكرمانيِّ صراحةً، أو كنايةً؛ كقوله: "قال بعض الشُّرَّاح من تلاميذ المصنِّف" ممّا يدلُّ دلالةً قويّةً على أَنَّ الكتابَ له. من ذلك قولُ طاش كبرى زَاده في شَرْحِه للفوائد الغِياثيَّة (¬1): "قال الكِرمانيّ في شَرْحه: (والحملية -بالحاء المهلمة- هو المناسبُ لقوله فبالحمل. وبالجيم هو المناسب لاصطْطلاحاتِ الفَنِّ -كما سيأتي- وكلٌّ منهما قُرئ على الأُسْتاذ؛ هذا كلامه". وهذا الكلامُ بعينِه موجودٌ ضمنَ كتابِ صاحبِنا (¬2). 5 - لم أَجدْ -فيما وقفتُ عليه- من فهارسَ؛ نَقلَت شَيئًا من أوّل الكتابِ وآخره أو مصادر عُنيت بالمؤلِّف أَوْ كُتبِه من ينسبُ هذا الشَّرحَ لغيرِه من العلماءِ مع كثرةِ الشُّرَّاح وتَقَاربِ الشُّروح. وبذا نَخْتم المبحثَ مُطْمئنّين إِلى أنَّ صاحبَ "تحقيق الفوائد" هو شمسُ الدِّين محمَّد بن يوسف الكرمانيِّ. ¬
المطلب الثالث: منهج المؤلف فيه
المطلبُ الثَّالثُ: مَنْهج المؤلِّف فيه لَمْ يشِر شَمْسُ الدِّين الكرمانيُّ -على غيرِ عَادتِه في بعضِ مقدِّماتِ كُتبِه- إلى المَنْهج الَّذي سَلَكه في تَألِيف كتابِه "تحقيق الفوائد" وبخلافِ ما دَرَج عليه المُصنِّفون في الغَالبِ من تَنْميقِ المقدِّماتِ وتَحْبيرها نَراه عَجِلًا إِلى الالتحامِ بكلامِ شَيخِه الإِيجيّ "صاحبِ المُختصر" فإِنَّك لا تَكادُ تَتَجاوز السَّطرين حتَّى تجدَ نَفْسكَ وجهًا لوجهٍ أَمام الإِيجيّ مُسْلِمًا له العنانَ في رحلةٍ طويلةٍ تبدأ من مبتدأ الكتاب وتنتهى بنهايتِه. وقَدْ تَتَساءلُ كيف يكونُ ذلك ونحنُ أمامَ كتابٍ للكرمانَيّ لا للإيجيّ؟! وهُنا أقولُ: لقد أظهرَ الكرمانيُّ قدرةً فائقةً في الدَّمج بين كتابِه "تحقيق الفوائد" وكتابِ شيخِه "الفوائد الغياثية" حتَّى صارا كأنهما كتاب واحد؛ وكلُّ ذلك من غيرِ أن يغمطَ شيخَه حَرفًا واحدًا من كتابه. وأسوقُ للدِّلالة على ذلك النَّصَّ التَّالي (¬1): "الثَّامنُ: إتباعُ الاستعمال؛ فإنَّه إذا كانَ الاستعمالُ واردًا على الحذف منه أَوْ من أمثالِه ونظائِره -كمَا قال في المفتاح- وقامت القرينَةَ لا بُدَّ من حذفِه؛ كَما في: (نعم الرّجل زيدٌ!)؛ على قولِ من يَرى أَصلَ الكلامِ "نعم الرَّجل هو زيد" وكمَا في: "ضَرْبي زيدًا ¬
قَائمًا" فإنَّ التَّقدير -على الأَصحّ-: "ضربي زيدًا حاصلٌ إذا كانَ قائمًا"، وكمَا في قَوْلهم: (سقيا)، إذ التَّقدير: "سَقَاك الله سقيًا"، وكَذا: (عجبًا) إذ التَّقدير: عَجبتُ عجبًا، وكما في قولها: إلَّا حَظيَّةٌ فَلا أَليَّةٌ". فالكَلامُ المكتوبُ بالخطِّ المثقَّل للإِيجيّ؛ أي: كتاب "الفَوائد الغياثيّة" والكلامُ المكتوب بالخطِّ المخفَّف للكرَمانيِّ؛ أي: كتاب "تحقيق الفوائد". وكَمَا هو ملاحظٌ تحقَّقَ الرّبطُ بينهما بعناية فائقةٍ يَتعذَّرُ معها -لولا مغايرة حجم الخطِّ- التَّمييزُ بَيْنهما (¬1). كَمَا يظهرُ في الوقتِ نفسِه مثولُ نصِّ الإيجيِّ كما هو بقضِّه وقَضِيضه بحيث يمكنُ قراءة مخْتصرِه كامِلًا بلا أدنى زيادةٍ أو نَقْصٍ؛ ولك أَنْ تتحقَّق مِن ذلك بقصرِ النَّظرِ على قراءة الخطِّ المثقَّل. وإذا كانَ الأمرُ كذلك فإنَّ كلا الكتابين يَنْضويان تحت أَرْوقة المدرسةِ السَّكَّاكيَّة، فالإِيجيّ "لَمْ يخلّ بالأَصلِ الَّذي اخْتصرَه فقد أَوْفىَ على الأَفكارِ الرَّئيسة المَوْجودة في المفتاح وشَفَعها بالأَدلَّة المَنْطقيَّة والفَلْسفيةِ اتّباعًا لأَصْلِه ... ، بَل ربَّما فاقَ السَّكَّاكيَّ في الإلحاحِ على الجدلِ الفَلْسفيّ" (¬2). والكرمانيُّ التزمَ بكتاب شيخِه واعتمدَ خطّته، وحتَّى عندما شَرَعَ في فكِّ رمُوزِه وتَفْصيلِ مُجْملِه لَمْ يغبْ عنه أَصْله أيضًا. ¬
وكمَا هو معلومٌ فإنَّ المدرسةَ السَّكَّاكيَّة تعتمدُ على التَّقعيدِ والتَّنظيمِ، حيثُ التَّعريفاتُ، والتَّقسيماتُ، والتَّفريعاتُ، والتَّعليلاتُ، وإِخراجُ المُحْترزاتِ، وتوهمُ الاعتراضاتِ، ودفعُ الاحتمالاتِ. وكلُّ ما يمكن أَن يُسْهمَ في ضبطِ الدَّرسِ البلاغيِّ وحصرِه في إطارٍ محدَّدٍ واضحٍ. هذا ما يتعلَّقُ باتجاه الكِتاب البلاغيِّ ومشربِه العامِّ، أمَّا إذا نَظرنا إلى التَّفصيلات الدَّقيقة فإنَّ منهجَه يتَّضحُ بالمعالمِ الآتية: 1 - سارَ الكرَمانيُّ في كتابِه على الخطِّ نَفْسِه الَّذي رسمَه الإِيجيُّ في كِتابِه؛ حيثُ بناهُ على مقدّمةٍ وفَصْلين وذَيل. جعلَ الفصلَ الأوّل في علمِ المعانِي والكلامِ في الخَبر والطَّلبِ. وقَسَّمهُ إِلى قَانُونَين، جعلَ القَانونَ الأَوَّلَ في الخبرِ. وقَسَّمه إلى فنون: الفنُّ الأَوَّلُ: في الإِسناد. الفنُّ الثَّاني: في المسند والمُسندِ إِليه، والكلامِ في الحذفِ والإِثباتِ، وفي التَّعريفِ بأَنواعه، والتَّنكيَر، وفي التَّوابع. وقَسَّمه إلى أَنْواع: النَّوعُ الأَوَّلُ: في الحذفِ والإِثباتِ. النَّوعُ الثَّانِي: في التَّعريفِ بأَقسامه والتَّنكير. النَّوعُ الثَّالثِ: في التَّوابع. الفنُّ الثَّالثُ: في وضعِ الطَّرفين كلِّ عِند صاحبه، والنَّظرِ في التَّقديم والتَّأخير وفي الرَّبط وفي القصر. وقسَّمه إلى أَنْواع: النَّوعُ الأوّلُ: في التَّقديم والتَّأخير.
النَّوع الثَّاني: في الرَّبط. النَّوع الثَّالث: في القَصْر. الفنُّ الرّابعُ: في وضع الجُملتين والكلام في الوصل والفَصْل وفي الإِيجازِ والإِطْناب وفي جَعْل إِحداهما حالًا. وقسمَّه إلى أَنْواع: النَّوعُ الأوَّل: في الفصلِ والوَصْل. النَّوعُ الثَّاني: في الإِيجازِ والإِطْناب. النَّوعُ الثَّالثُ: في جَعْل إِحدى الجُملتين حالًا. وجعل القانون الثَّاني في: الطَّلب. أَمَّا الفَصْلُ الثَّاني فَعَقَده: في علمِ البيانِ. وأداره على أُصولٍ أَرْبعة: الأَصْل الأَوَّل: في التَّشبيه. وتَناوله بالحديثِ في أَنواعٍ خَمْسة. النَّوعُ الأَوّل: في الطَّرفين. النَّوعُ الثَّاني: في وجْه التَّشبيه. النَّوعُ الثَّالث: في غرضِ التَّشبيه. النَّوعُ الرَّابع: في حال التَّشبيه. النَّوعُ الخَامس: في صِيغة التَّشبيه. الأَصلُ الثَّاني في: المجاز. وقسَّمه إلى نوعين: ما كان التَّصرّف فيه باللّفظ. وله أَقْسام. ما كان التَّصرّف فيه بالمعنى. وله أَقْسام. الأَصْل الثَّالث: في الاسْتعارة. وتَناوله من خِلال: مُقَدّمةٍ. تَقْسيماتٍ.
خَاتمَة الأَصْلُ الرَّابعُ: في الكِناية. وقسَّمها إلى ثلاثةٍ: ما كانَ المقصودُ بها الموصوفَ نفسَه. ما كانَ المقصودُ بها الصِّفةَ نفسَها. ما كانَ المقُصودُ بها اخْتصاصَ الصِّفة بالموصُوف. أمّا الذَّيل فَعَقَده في علمِ البَديعِ. وجَعَله قِسْمين: معنويّ. وذكرَ من أَصْنافه: المطابقةَ. الْمُقَابَلةَ. الْمُشَاكلةَ. مُراعاةَ النَّظير. المُزَاوجة. اللَّف والنَّشر. الجَمع. الفَرق. الجمعَ مع التَّفريق. الجمعَ مع التَّقْسِيم. التَّقسيمَ مع الجَمع .... الجَمْعَ مع التَّفريقِ والتَّقسيم.
الإِيهامَ. التَّوجيه. الاعْتِراض. التَّجاهل. الاسْتتباع. لفظيّ. وذكرَ من أَصْنافه: التَّجْنيس. ردَّ العجزِ على الصَّدر. القَلب. السَّجع. التَّرصيع. وفي تَضَاعيفِ هذه الفصولِ والقَوانينِ والفُنونِ والأَنواع ساقَ كثيرًا من التَّنبيهاتِ والتَّذنيباتِ والخَواتيمِ؛ إِتمامًا للفائدةِ ومَزيدًا للإيضاحِ وإِن شَابها -أحيانًا- بعضُ النَّظرات الفَلْسفيَّة. 2 - نثر الكرمانيُّ كتابَ شيخه داخلَ كتابِه -كما أسلفتُ- حيث يورد أَحْرفًا، أَوْ كلمات، أَو جُملًا، أَوْ عِبارات من المُخْتصر ويَصلُها بكلامه من غيرِ أَن يخرجَ بها عن مرادِ صاحبِ المُختصر ومقصده العامِّ، ولكيَ يخرج الكتابُ متَّصلًا في سياقٍ واحدٍ لم يجدْ الكِرمانيّ مناصًا من الآتي:
أ- التَّمهيد لعباراتِ المُخْتصر قبلَ إِيرادها بعباراتٍ من عنده حتَّى إذا ما الْتحَمت بها ظهرَ السِّياق مُنْسجمًا وكأَنَّه لشخَصٍ واحدٍ كقوله (¬1): "فالأوّل؛ كقوله: وقال إنّي في الهوى كاذبٌ ... ". ب- فَصْل الجملةِ الواحدةِ وإعادة رَبْطها بعد إضافة ما يوضِّح مَعْناها بما يتَّسق معها من المُفْردات والجُمَل كقولِه (¬2): "وعلمُ البيانِ: معرفةُ مراتب العبارات الدَّالّة على معنى واحدٍ في الجلاء". جـ - التَّعقيب على عباراتِ المُخْتصرَ بعد إِيرادها بعباراتِ مُتَمِّمة لها كَقَوله (¬3): "الرَّابع: (مثلُك لا يَبْخل)، و (غَيْرك يَبْخلَ) التُزم فيهما التَّقديم للتَّقوية؛ لأَنَّ بناءَ الفعْل عَلَى المبتدأ أَقْوى للحُكمِ ... ". د- الإكْثار من (أَيْ) التَّفْسيريَّةِ، والجُملِ الاعْتراضِيَّة بين الشَّرحِ والمَشْروح عَلى أَنَّهما لَمْ يحدثا في السِّياق انْقِطاعًا لاتِّسام الكتَابين بِهما عَلَى حدٍّ سَواء. نَحْو (¬4): "فـ (ما ضربت إِلَّا زيدًا)؛ أَيْ: أَحدًا، أي: يُقَدر (أحدًا) مَفْعولًا لِقَوله (ضَربت) لأنَّه عامٌّ مناسبٌ للمُسْتثنى في الجنس والوَصْف، و (إلَّا راكبًا)؛ أَيْ: عَلَى حال؛ أي: ما ضَربتُ على حالٍ إلَّا راكبًا والمقدَّر فيه ذلك لمُناسَبته له. و (إِلَّا تَأديبًا) أي: لغرضٍ؛ أي: مَا ضَربْتُ لغرضٍ إِلَّا تَأدَيبًا". ¬
وأخيرًا يَنْبغي أَنْ أُشير إِلى أنّ الكتابَ لَمْ يجرِ على وتيرةٍ واحدةٍ من الاتِّصال، بل التَّمازجُ هو السَّمةُ الغَالبةُ والطَّابع العامُّ. وهناك مواضعُ متفَرِّقةٌ في الكتاب يبدو فيها الانْفصال واضِحًا حيثُ يعمدُ الشَّارحُ إِلى إيرادِ جملةٍ من المُخْتصر ويعقبها بكلامٍ مُسْتأنفٍ يشرحُها. وكَثُر هذا المَسْلَك عند شرحِ المُفْردات الغَريبة والتَّعليق على الجملِ البليغة؛ الأمر الَّذي يحتِّمُ عليه قطعَ اتِّصال المعلومة ليَشْرعَ فِيما هو أهمّ -وهو إِيضَاحُها-. ومن ذلك قولُه في أَوَّل الكتاب (¬1): "الحمدُ لله الذي خلقَ الإِنْسانَ. الحَمدُ: الثَّناءُ على الجَميل عَلى جهةِ التَّعظيمِ، وهو باللِّسانِ وحده. والشُّكر ... أَلْهمه المَعَاني وعلَّمه البَيانَ؛ فيه من حسنِ المَطْلعِ وبراعة الاسْتهلالِ ما لا يَخْفى. والصَّلاةُ عَلَى نبيِّه محمَّدٍ ... ". 3 - حرصَ الكرمانيُّ على إيضاحِ عباراتِ المُخْتصرِ الغَامضةِ وشَرْحِ مفرداتِه الغَريبة، وكَثُر تعرّضُه للغريب في مقدِّمةِ الكتابِ، وعُقَيب الشَّواهد الشِّعريَّة. 4 - اعْتنَى الكِرمانِيُّ بتوثيقِ الأَقْوالِ، ونسْبتها إِلى قَائِليها في الغَالب. وهو إِنْ لَمْ يجمعْ بين الكتاب وصَاحِبِه فإِنَّه يَذكرُ أَحدَهما. فمثالُ ما جمعَ فيه بَيْن الكتاب وصاحبِه قولُه (¬2): "قَال الشَّيخُ في دلائلِ الإِعْجاز ... "، وقولُه (¬3): "وقال الزَّمخشريُّ في الكشّاف ... ". ¬
ومثال مَا ذكرَ فيه اسم الكتاب وحده، قولُه (¬1): "قال في الإِيْضاح ... "، وقولُه (¬2): "قَال في المِفْتاح ... ". ومثالُ ما ذكرَ فيه صاحب الكتاب وحده قولُه (¬3): "كَمَا قال ابنُ الحاجب ... "، وقولُه (¬4): "وقال السَّكَّاكيُّ ... ". ويلحظُ -في هذا الصَّدد- أنّه أكثر النّقل عن السّكّاكيّ، وشيخه الإيجيِّ، والزَّمخشريِّ، والجُرجانيِّ، وابنِ الحاجبِ، والقَزوينيِّ. وصرَّح بمؤلَّفاتهم. 5 - يَنْزعُ الكِرمانيُّ -أحيانًا- إلى الاسْتِطرادِ في إيضاح بعض مَا يَعْرضُ من ألفاظٍ غَريبة أو شواهد سَواءٌ أكانت قُرآنية أَمْ شِعريَّة أَمْ أمثالًا. ومنْ أَمثلةِ ذلك استطراده في تَفْسيرِ قولِه تَعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} قال (¬5): "ونَظِيرُه ... قولُه تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}؛ أَثْبتَ الرَّميةَ لرسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلّم؛ إِذْ هو الرَّامي بحسبِ ¬
الصُّورة، ونَفَاها عنه بحسبِ التَّأثِير إذ لا مُؤثِّر إِلَّا الله، ولا سيَّما في الأَثر العَظيم الَّذي ليسَ في قوّةِ البَشر، روي أَنَّه -عَليه السَّلام- لَمَّا طَلَعت قريشٌ قَال: "هذه قريشٌ قد جَاءت بخُيلائِها وفَخْرها يُكَذِّبون رسولك: اللَّهم أَسأَلك مَا وَعدتَّني! "، فأَتاه جبريلُ فقال: خُذ قبضةً من ترابِ فَارْمهم بِه، فقَال النَّبيُّ -عليه السَّلام- لعليٍّ -رضِي الله عنه- لَمَّا التقَى الجمعانُ: "أعطني قبضةً من الحصبان"، فَرمى بِها في وجوههِم، وقال: "شَاهتِ الوُجوه"، فلم يبق كافرٌ إِلا شُغل بعينه فانْهزَموا". - حَرِص الكرمانيُّ على ضَبْط كثيرٍ من الأَسماء الغَريبةِ وبعضِ الأَلْفاظ الملْبسة سواءٌ في ذلك الوارِدة في شَرْحه أَمْ في المُخْتصر. فمِن ذلك قولُه (¬1): "وفي أبياتِ ابن حجر الكنديِّ -وهو امرؤُ القَيس؛ بالحاءِ المُهْملة المَضْمومة ثمَّ الجيم ... ". وقولُه (¬2): "الأَثْمُد -بفتحِ الهمزة، وضمِّ الميم-: مَوْضع". وقولُه (¬3): "أَو لأَنَّه لَما دهش -بكسر الهاءِ- عَنْ مُقْتضى الظَّاهر". - حرصَ الكرمانيُّ على إِتمامِ ما اخْتصرَه الإيجيُّ من الشَّواهد القُرآنية أَوْ الشِّعريّة. مُقْتصرًا على موضعِ الشَّاهد أحيانًا. ومتجاوزًا ذلك إلى نهايةِ الآيةِ، أَوْ ذكر البيتِ المجاورِ أحيانًا أُخرى. ¬
ومن أمثلة ذلك قوله (¬1): "والإِطْناب كقولِه - تعالى -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ". وقولُه (¬2): "كما قال الشَّاعرُ، أي: كَمَا فَعلَ تَأَبَّط شرًّا في قوله: بأَنِّي قَدْ لقيتُ الغُولَ تَهْوي ... بسَهبٍ كالصَّحيفةِ صَحْصَحان فأَضْربها بلا دهش فَخَرَّت ... صَريعًا لليَدين وللجِرانِ". - حرص الكرمانيُّ على ذِكرِ أَقْوال العُلماء ومُناقَشتها أَحْيانًا، وكذا التَّرجِيح بَينها أَحْيانًا أخرى. ومن ذلك قولُه في مبحثِ الالْتفاتِ (¬3): "ثم إِنَّ الحكايةَ والخطابَ والغيبةَ ثلاثتَها تُسْتعملُ كلٌّ في مقامِ الآخر أَوْ يُنْتقل منه إِليه ويُسَمَّى التفاتًا. قَال في المِفْتاح: (واعلم أَنَّ هذا النَّوع أعني: نقل الكلامِ عن الحكايةِ إلى الغيبة لا يختصُّ بالمسند إليه ولا هَذا القدر؛ بل الحكايةُ والخطابُ والغيبةُ ثلاثتُها يُنْقلُ كلُّ وَاحدٍ منها إلى الآخر، ويُسمّى هذا النَّقل: الْتِفاتًا عند علماءِ علم المعاني). ولَمَّا كان مُرادُ السَّكّاكيِّ أعمَّ ... صرَّح الأستاذُ بالقِسْمين. ¬
قال صاحبُ الإِيضاحِ: (المَشْهورُ عِنْد الْجُمهورِ أَنَّ الالْتِفات هو التَّعبير عن معنًى بطريقٍ من الطُّرق الثَّلاثة بعد التَّعبير عنه بطريقٍ آخر، وهذا أَخصُّ من تَفْسير السَّكاكيِّ ...). وقال الأستاذُ: كونُه مَشْهورًا عِنْد الجَمْهور مَمْنوعٌ بَلْ ما ذَكره السَّكاكيُّ هو المَشْهورُ بَلْ هو أعمُّ .... وذكرَ الزَّمخشريُّ في سُورةِ الأَنْفالِ في الكشَّافِ في قَوْلِه: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} ما هو قريبٌ منه .... والحقُّ: أن هذا النَّوع مِن الكلامِ كثيرٌ ... ولا مشاحَّة في تَسْميته الْتِفاتًا. والأَمثِلَة -بحسب التَّقديريّ والتَّحقيقيّ والمضمر من نوعه أو بالنّسبة إلى المظهر- لا تكاد تحصى". - نَبَّه الكِرمانيُّ إِلى اخْتلافاتِ نسخ الكتابِ في تِسْعةَ عَشر مَوْضِعًا، وكشفَ عن اطِّلاعٍ واسعٍ بها، كما أَشارَ إلى مَعْرِفة شيخِه لبعضِ تلك الاخْتلافاتِ وإجازتهِ لها. وفي مرَّات عديدةٍ صرَّح بمَراءَتِه نُسْختَه على المُؤلِّف. وممَّا ذكر في هذا الصَّدد قولُه (¬1): "اعْلم أَنَّ في هذه الصَّفحة اختلفت النُّسخ بحسب تَقْديم بَعْض؛ لكنَّ النُّسخةَ الصَّحيحةَ والموافِقة للمفتاح كَمَا شَرْحناه". وقولُه (¬2): "هَذا على مَا في النُّسخةِ الَّتي قرأتُها على المصنِّف. وفي ¬
بعضِ النُّسخِ: (...) فلا حَاجةَ إِلى مَا ذَكرْناه". وقوله (¬1): "وفي بعضِ النُّسخ (...) وكلاهما مَقْروآن عَلَى المُصنِّف". وقولُه (¬2): "وفي بَعْض النُّسخ مكان قَوله: (...) قوله: (...) وهو سَهوٌ من النَّاسخِ". - ربطَ الكرمانيُّ بين المُخْتصرِ وأَصْلِه مقارنةً، وإتمامًا، وإِيْضاحًا، وربَّما كشفَ عن رأيٍ لصاحبِ المختصر بخلافِ ما أَوْرده في كتابه مُعْتذرًا عن ذلك بِمُتابعة السَّكَّاكيّ كقولِه (¬3): "والمصنِّفُ ينقلُ كلامَ السَّكَّاكيِّ وإلَّا فالحقُّ عنده عَلى طرفِ التَّمام وهو ... " أَوْ (¬4): "والمصنِّف قلَّد فيه السَّكَّاكيّ لا أَنَّه الحقّ عِنْده". وقد يسوقُ صاحبُ المُخْتصرِ أَوْ الشَّارح ما لا يَرِدُ في المفْتاح. ومَتى وقعَ نبَّه عليه بقولِه (¬5): "وهذه المسأَلةُ زائدةٌ على المِفْتاح"، أَو (¬6): "وهذا مِمّا زاد على المِفْتاح". ¬
- ساقَ الكِرمانيُّ بعضَ الأسئلة الافْتراضيَّة وأجابَ عليها. وذَلك عِندما يَشْعر أَنَّ المخاطبَ يخالفه الرَّأَيَ، فيطرحُ ما يتصوَّر أنّه عالقٌ في ذهنه مِنْ شُبهٍ في قالبِ سُؤالٍ ثمَّ يَشْرع في الإجابةِ عَلَيها. ومِنْ ذلك قولُه (¬1): "فإِنْ قُلتَ: فَمَا الفرقُ حينئذٍ بَيْنه وبينَ الحرفِ؟، قلتُ: لوجهين، الأَوَّل: أَنَّ معناه وإِنْ لم يتحَصَّلْ إِلَّا بذكر المتعلّق؛ لكنَّه إذا تحصَّل فَفِي نَفْسه بخلاف الحرفِ فإنَّه في غَيْره. والثّاني: أَنَّه بعد ذِكر متعلّقه يصيرُ إِسنادًا تامًّا مُفيدًا بخلافِ الحرف. وإِن قُلتَ -أيضًا-: سَلَّمنا أَنَّه لا يتحصَّل إِلَّا بالمسندِ إليه، لكنَّه أعمُّ من أن يكونَ مذكورًا أَوْ مَحْذوفًا عِند القَرينة؟، قلتُ: العللُ النَّحويَّة تعليلاتٌ بعد الوقوع ولا تَوْجيه للنَّقضِ عَليها. فإنْ قُلتَ: فَمَا تَقُول في فاعلِ المصدر فإِنَّه جائزُ الحذفِ؟. قُلت: لأَنَّ المصدر وضِع للنِّسبة المُطلقةِ لا المُقيَّدة، والتَّقريب ظاهرٌ. كيفَ وبحثُنا في فاعلِ الفعلِ لا مُطْلَقًا! ". - ختمَ الكرمانيُّ حديثَه حولَ بعضِ المسائلِ الَّتي تَنَاولها بِخُلاصةٍ موجزةٍ يُقرِّر فيها المسأَلَة ويَفْصلُ القولَ فيها وغالبًا ما يَبْدؤها بقولِه: "والحاصلُ" أَوْ "وحَاصلُه" ومن ذلكَ قولُه (¬2): " ... وَضْعُ الفعل الماضي مَوْضِع الفِعْل المُضَارع للتَّحقيق والتَّوكيد؛ نحو: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} فإِنَّه كان مُقْتضى الظَّاهر أَنْ يُقَال: (وينادى) ¬
لأَنَّه في القِيامة. لكنَّه عدلَ إلى الماضِي بيانًا لتَحقّقه وتَوْكيدًا؛ لأَنَّ هذا النِّداءَ ضَروريُّ الوُقوعِ. فالحَاصلُ: أَنَّ ما هو للوقوع أَخْذه كالوَاقع لتَحقُّقِ وقوعِه". - حَرِصَ الكِرمانيّ عَلى التَّأدّبِ مَعَ العُلَماءِ وتَوْقيرِهم والثَّناءِ عليهم والدُّعاءِ لهم، وبخاصَّةٍ شيخه الإيجي، وفي أَكْثر من مَوضع وجدته يَتْلمس العذرَ لمخطئهم منكرًا التَّشنيعَ عليه حتَّى وإِن أَبْعد. ومِنْ ذلك قولُه (¬1): "وأَمَّا المنقولُ من الرّبعيِّ ... فَهُو مِمَّن خَطَّأ فأَخطأ ومع إمكانِ أَنْ يُحْمل على مَحْمل صَحِيح لا حاجة إلى مِثْل هَذا التَّشْنِيع عَلى مِثل الإمام؛ ذلك الرَّجلِ الفَاضلِ والفَحْل البَازلِ". - صرَّح الكِرمانيُّ بأَنَّ شَيْخَه إِذا أَطْلق لَفْظَ "الشَّيخٍ" فإِنَّه يَعْني السَّكَّاكيَّ. وإذا أَطْلقَ لفظَ "الإِمام" فإِنَّه يَعْني عبدَ القاهر الجُرجانيّ (¬2). أَمَّا الكرمانيُّ فوجدتُه إِذَا أَطْلق لَفْظَ "الأُستاذِ" أو "المصنِّف" فإِنَّه يَعْني شَيخَه الإِيجيّ. وإذَا أَطْلق "الشَّيخ" فإِنَّه يَعْني عبدَ القَاهرِ الجُرْجانيّ، أمَّا "شارح المفتاح" فإِنَّه يَعْني به الشِّيرزايَّ. ¬
المبحث الثاني: مصادر الكتاب وشواهده
المبحث الثَّاني: مصادرُ الكتاب وشواهدُه. وفيه مطلبان: المطلب الأَوَّل: مصادرُ الكتاب. المطلب الثَّاني: شواهدُ الكتابِ.
المطلب الأول: مصادر الكتاب
المطلب الأوّل: مصادرُ الكتاب تنوَّعتْ مصادرُ شمسِ الدِّين الكرمانيِّ الَّتي اعتمدَ عليها في هذا الكتاب؛ وتَوزعتْ على أَغلب الفنون العِلْميّة المَشْهورة في عَصْره، وتفاوتَ نقلُه منها كثرةً وقلّةً، طولًا وقصرًا، نصًّا ومعنى. ففي حين نَجد نقوله من بعضِ المصادرِ تكثُر كثرةً مُلْفتة؛ بحيث تَتَجاوز المائة نَقْل؛ نجدها تقلّ قلّةً ظاهرة في مصادرَ أُخرى؛ بحيث لا تَتَعدّى المرةَ الواحدة. ويَبْدو لي أَنَّ الكتب الَّتي أكثرَ من النَّقلِ منها كانت بحوزَته؛ بدليل أَنَّه ينقلُ منها نَقْلًا مباشرًا في حالاتٍ كثيرةٍ، وغالبًا ما تكَون كتبًا مشهورةً تداولها النَّاسُ فِيمَا بَيْنهم، كـ "الكشّاف" للزَّمخشريِّ، أوْ ذات صلةٍ وطيدةٍ بكتاب المؤلّفِ نَفْسه كـ "مفتاح العلوم" للسَّكاكيِّ، أو ذات صلةٍ وطيدةٍ بالمؤلّف نفسهِ لكونِه تتلمذَ عليها كَكُتبِ شَيْخِه الإِيجيّ، أو اطَّلعَ عليها وكانت أثيرةً عنده كـ "كتاب الصِّحاح" للجَوهريِّ؛ الَّذي لا أَسْتبعد حِفْظه له-. وفي حين نَظْفر بنقلٍ طَويل من تلك الكتب يمتدُّ فيَشْمل صفحةً كَاملةً أَوْ قريبًا منها في بعض المواطن؛ لا نكاد نَعْثر إلّا على الكلمةِ أو الكَلِمتين في مواطنَ أخرى.
وقِسْ عَلَى هذا التَّفاوتِ تَفاوتَه في النُّصوص المنقولة. فتارةً تكون بالنَّصِّ وأُخرى تَكُونُ بالتَّصرّفِ اليسيرِ، وتَارةً ثالثةً بالمعنى. وكذا تَفَاوتَه في طريقةِ النَّقلِ من تلك المصادر؛ فأحيانًا يُصرِّحُ باسم الكِتابِ واسمِ مؤلِّفه، وأَحْيانًا يَكْتفي بإيرادِ اسمِ الكتابِ دون اسمِ مؤلّفه، أو اسمِ المؤلِّف دُون كتابِه. وأحيانًا أُخرى لا يذكرُ اسمَ الكتابِ ولا اسم مؤلِّفه، وإِنَّما يوردُ ما يدلُّ على أنَّه ينقلُ؛ كقوله: "قِيل"، "كقولهم"، "كقول النُّحاةِ"، "كَمَا ذكرَ أَهْلُ ... "، "يُروى". وهَا هِي ذي مصادرُ المؤلِّف في كتابِه أَسُوقُها مرتبةً بحسب الوفاة (¬1): ¬
1 - أَبو بِشْر؛ عمرو بن عُثْمان بن قنبر المُلقَّب بـ "سيبويه" (ت:180 هـ). نَقَل عنه فِي موضعٍ واحدٍ، ناصًّا على اسْمهِ دون كتَابه (¬1). 2 - أَبو إِسْحاق؛ إبراهيمُ بن سُفيان بن هَاني، النَّظَّامَ (توفّي بعد العشرين ومائتين ببضع سنين هجرية). نَقَل عَنْه في موضعٍ وَاحدٍ (¬2). 3 - أبو عُثْمان؛ عمرو بن بَحْر بن محبوب الكِنانيِّ الملقب بـ "الجَاحظ" (ت 255 هـ). نقل عنه في موضعٍ واحدٍ. ناصًّا على اسْمه دون أيٍّ من كُتُبِه (¬3). 4 - أبو سَعيدٍ الحسنُ بن عبد الله السِّيرافي النّحويِّ (ت 385 هـ). نقلَ عنه في موضعٍ واحدٍ وَلم يَنُصّ على اسْمه ولا كِتابه. وإنَّمَا أشارَ إليه بقولِه: "كَمَا هو رأي بعض" (¬4). 5 - أَبو نَصْرٍ؛ إسماعيلُ بن حمّادٍ الجَوهريِّ الفارابيِّ (ت: 398 هـ). نَقَلَ عنه في سبعةٍ وسبعين (¬5) موضعًا من كِتابه "الصِّحاح"، وصرَّح باسْمه واسْمِ كتابِه في موضعٍ واحدٍ (¬6). ¬
وبالاستقراءِ والتَّتبّعِ وجدتُ أَنَّه ينقل عنه نَصًّا في أَغْلب الأَحوال. وإِنْ شابَ نَقْلَه شيءٌ من التَّقديم والتَّأخيرِ بحسبِ المعنى الَّذي يهدفُ إلى إيضاحِه. ولذا فإِنَّه -في سبيلِ ذلك- لا يجدُ حَرجًا في الرَّبط بين نَصين مُتَباعِدين تَوارَدا على معنًى واحدٍ داخل المادةِ الواحدةِ؛ من مِثْل قولِه في بيانِ مَعْنى العَويصِ (¬1): "العَويصُ: ما يَصْعبُ اسْتخراجُ معناه؛ اعْتاصَ عليه الأمرُ أَيْ الْتوى" حيثُ فسَّر العويصَ بجُملتين أَوْردَهما كما هما نصًّا في "الصِّحاح" (¬2)، غير أَنَّ ثانِيتَهما: "اعتاص ... التوى" سَبَقَتِ الأُولى: "ما يصعب استخراج معناه"، وفُصِل بَيْنهما بثلاثِ جُملٍ. وربما كان السببُ في مثلِ هذا الرَّبطِ الَّذي لم يراع التَّقديمَ والتّأخيرَ اعتمادَه -في ظَنِّي كما سَبق أنْ ذكرتُ- على اسْتظهارِه لهذا الكتابِ الَّذي ضبطَ فيه الجملَ والعبارات دون تَرْتِيبِها. 6 - أَبُو الحَسن؛ عليٌّ بنِ عيسى البَغداديّ الرَّبعيّ (ت 420 هـ). نَقَلَ عنه في ثلاثة مواضع (¬3) صرَّحَ فيها باسْمه دون ذكْرِ شَيءٍ من كُتُبِه. 7 - أَبُو عليٍّ؛ أحمدُ بن محمد بن الحسن المرزوقيِّ (ت 421 هـ). نقلَ عنه في موضعٍ واحدٍ (¬4)، من كتابه "شَرْحِ ديوانِ الحَماسة"، ولَمْ يُصرِّح إِلَّا باسم المؤلِّفِ. ¬
8 - أبو بكرٍ؛ عبدُ القَاهرِ بن عبد الرَّحمن بن محمّد الجُرجانيّ الشَّافعيّ (ت 471 هـ). نقلَ عنه في عَشْرةِ مواضع، وسَمَه في مَوْضعين منها بـ "الشَّيخ" (¬1)، مصرّحًا باسم مؤلِّفه "دلائل الإعجاز" برفقَة أحدِهما (¬2)، ونصَّ على اسْمِه بَعْد وسْمه بـ "الشَّيخ" في ثلاثةِ مواضع (¬3)، ونَصَّ على اسْمِه بعد وصفه بـ "الإمام" و"الشيخ" (¬4) في موضعٍ واحدٍ. ونصَّ على اسْمِه في موضعٍ واحدٍ (¬5). بينما نصَّ على اسمِ مؤلِّفه "دلائل الإِعْجاز" دون اسْم أو وصفٍ في ثلاثةِ مِواضِع (¬6). 9 - أَبُو حامدٍ؛ محمَّدُ بن محمّد بن محمّد الطُّوسيّ الغَزاليّ، حجّة الإِسلام (ت 505 هـ). نقلَ عنه في موضعٍ واحدٍ. مصرِّحًا باسْمِه (¬7). 10 - أَبُو محمَّد؛ القاسمُ بن عليٍّ بن محمّد بن عثمان الحريريِّ (ت 516 هـ). ¬
نقل عنه في خمسة مواضع (¬1)، صرّح في ثلاثة مواطن منها باسمه (¬2)، ولم ينصّ على أيّ من كتبه، وإن كانت نقوله كلّها من كتابه "المقامات الحريريّة". 11 - أَبُو القاسمِ؛ جارُ الله محمود بن عمر الزَّمخشريّ (ت 538 هـ). نَقَل عنه في عِشْرين مَوْضعًا. صرَّحَ باسْمِه واسم كتابه "الكشَّاف" في أربعةِ مواضع (¬3)، وباسمه منفردًا في ستّة مواضع (¬4)، وباسمِ كتابه منفردًا في أربعة مواضع (¬5)، وبلا نسبةٍ إلى اسْمِه أو كتابه في ستة مواضع (¬6)، منها موضعٌ اعتمد فيه على كتابه "المُفَصَّل". وقَدْ ظَهَر لي من خِلال تَتَبّعي لنُقولِ المؤلِّفِ عنه إجلالُ الكرمانيِّ له (¬7)، وَثَأثّرُه الشَّديد به؛ بل واسْتيعابُه الكامل لكتابه "الكشَّاف"، إذْ أنَّه لا يَكْتفِي بالإِحالةِ إلى اسمه أَوْ كتابه، بَلْ يَتجاوز ذَلك -أحْيانًا- إِلى اسمِ السُّورة وموضعِ الآياتِ، منها (¬8). ¬
12 - أبُو عبدِ الله؛ محمّدُ بن عمر بن الحسين بن عليٍّ الرَّازيّ؛ الملقَّب بـ "فخر الدِّين" (ت 606 هـ). نقلَ عنه في أَرْبعةِ مواضع صرَّح فيها باسْمِه دون أَيٍّ من كُتُبِه (¬1). ويُلْحظُ أَنَّ صاحب الفوائد "الإيجيّ" تابعَ السَّكاكيَّ وحملَ عليه مرَّةً حِينما غَمزَه بـ "من لا خبرة له بالنَّحو" بَيْنما نجد الشَّمسَ الكرمانيَّ يصفه فِي ثلاثة مواضع بالإمامِ. 13 - أَبُو يعقوبَ؛ يوسفُ بن أَبي بكرٍ محمّد السَّكَّاكيّ الخَوارزميّ (ت 626 هـ). نقل عنه في مائة وأَربعةٍ وعشرين مَوْضعًا محيلًا إلى اسْمِه "السَّكَّاكيِّ" مرةً (¬2)، وإِلى صاحب المفتاحِ أُخْرى (¬3). وإِلى كتابه "المفتاح" ثالثةً (¬4)، ولم أَقف إِلَّا على موضعٍ واحدٍ جمعَ فيه بين اسْمه وَكتابه -وإنْ لَمْ ينصّ عَلى اسمِ كتابه-. وظاهَرٌ أنَّ السَّبَب في كَثْرة الإِحالِة إلى كتَابه مقارنةً بغيرهِ مردُّه كونه أَصْلًا لكتابي الإيجيِّ "المختصَر"، والكرمانيِّ "الشَّرح"؛ فهما يَستقيان مادَّتهما مِنه بالدَّرجةِ الأُولى. ¬
وإِذَا ما تَتبّعنا نُقولَ المؤلِّف من المفْتاح فإنَّا نجدها في الغالب الأَعمِّ نصيَّة وبخاصَّة تلك الَّتي يُقَدمُ لها بقولهَ: "قال في المفتاح" (¬1) أَو "وفي المفَتاح" (¬2). 14 - أَبُو الفَتحِ؛ ضياءُ الدِّين ابن الأَثير (ت 636 هـ). نقلَ عنه في ثلاثةِ مواضع (¬3) دون أَنْ يُصرِّحَ باسمه أَوْ كتابِه "المثل السّائر" الَّذي نقلَ منه. 15 - أَبو عَمرو؛ عُثْمان بن عمر بن أَبي بكر جمال الدِّين؛ المعروف بابن الحاجب (ت 646 هـ). نقلَ عنه في تِسْعة مواضع، صرَّح في جَمِيعها باسْمه "ابن الحاجب"، وفي ستٍّ منها قرنَ اسْمه باسمِ أحدِ كُتبِه، ناقلًا عن "مختصر المُنْتهى" ثلاث مَرَّات (¬4)، وعن "المُنْتهى" نفسِه مرَّتين (¬5)، وعن "شرح الكَافية" مرَّةً واحدة (¬6). أَمَّا كتابُ "الإِيضاحِ في شَرْحِ المفصَّلِ"، فَلَم يُصَرِّح به، وَتبيَّن لي نَقْلُه منه مرَّةً واحدةً (¬7). ¬
16 - أَبُو عبدِ الله؛ جمالُ الدِّين محمّد بن مالك الطَّائيِّ الأَنْدلسيّ (ت 672 هـ). نَقَل عن أَلْفيّته بالمَعْنى في مَوْضِعين، ولم يصرِّح إِلَّا باسمِه (¬1) "ابن مالك". 17 - مَيْثمُ بن عليٍّ بن ميثم كمالِ الدِّين البَحرانيّ (ت 681 هـ). نقلَ عنه في موضعٍ واحدٍ نَاصًّا على اسْمِه "البَحرانيّ"، واسم رِسالتِه الَّتي نَقَل عنها "التَّجريد" (¬2). 18 - محمودُ بن مَسْعود بن مُصلح، قطب الدِّين، الشِّيرازيّ (ت 710 هـ). نقلَ عنه في عشرَة مَواضع لَمْ يُصرِّح في أيٍّ منها باسْمِه أو باسْمِ كتابِه وإِنَّما أَشَار إلى الشِّيرازيّ في ستّةِ مواضعَ بوصفه "شارح المفتاح" (¬3)، وإِلى كتابِه في موضعٍ واحدٍ بِوصْفه: "شرح المفتاح" (¬4)، ونقلَ عنه نُصُوصًا بِلا إِشارةٍ في ثلاثة مواضعٍ (¬5). ¬
وفِي الجُمْلة فإنَّ عبقَ الشِّيرازيِّ وروحَ كتابِه "مفتاح المفتاح" لا يكادان يَغِيبان عن شَرْح الكِرمانيِّ البَتَّة مُتَمثِّلين في طريقةِ العَرض، وأسلوبِ المُعَالجةِ وصياغة المادَّة. 19 - أَبُو عبد الله؛ مُحمَّد بن عبد الرَّحمن بن عمر، جلال الدِّين، القَزْوينيّ (ت 739 هـ). نقلَ عنه في أَحدَ وعشرينَ مَوْضعًا، لَمْ يُصرِّح في أيٍّ منها باسْمِه صراحةً، بل كانَ يَقُول: "قال صاحبُ الإِيضاح"، وتكرَّر منه ذلك ثِنْتي عشرةَ مرَّةً (¬1)، ويقول -أَيْضًا-: "وفِى الإيضاح"، أو قريبًا منه كقَوْله: "والمَفْهومُ من الإيضاح"، وتكرَّر منه ذلك في ستّةِ مواضع (¬2)، أَمَّا بقيَّةُ النُّقول فَسَاقَها بلا إشارة (¬3). ويلحظُ: أَنَّ أغلبَ النُّقول عنه تَدُور فِي فلك التَّعريفاتِ أو التَّقْسيماتِ أَوْ بيانِ وجْهَاتِ نظرهِ تَقريرًا أو اعْتِراضًا. 20 - أَبُو الفَضْل؛ عبدُ الرَّحمن بن عبد الغفَّار الإيجيِّ (ت 756 هـ). نقلَ عنه في ستِّة وعِشْرين مَوْضعًا، كثيرًا ما يُسَميه فيها بـ "الأُستاذ" (¬4)، ¬
أَوْ بـ "المصنِّف" (¬1)، صرَّح في ستَّةِ مواضع بكتابِه "شَرْح مختصرِ ابن الحاجب" (¬2)، وفي موضعٍ واحدٍ بـ "رُسيلة له في مَسائلَ شتَّى في النَّحو" (¬3) وبالسَّماع منه مباشرةً في موضع واحدٍ (¬4). وتكشفُ النُّقولاتُ عنه عن قربِ الشَّمسِ الكِرمانيِّ منه وفهمه الدَّقيق لآرائِه؛ من ذلك قولُه (¬5): "وإذا لم يرتضِ المصنّف ذلك ... قال: (قال)، وقولُه (¬6): "والمرضِيُّ عنده"، وقولُه (¬7): "والمصنِّفُ ينقلُ كلامَ السَّكَّاكيِّ، وإلَّا فالحقُّ عنده على طرف التَّمامِ". 21 - عبَّادُ بن سُلَيمان الضَّمريّ. نقلَ عنه في موضِعين، صرَّح في الأَوّلِ منهما باسْمِه كَامِلًا (¬8) وفي الثَّاني باسمه الأولُ مُنْفردًا (¬9). ¬
22 - صاحبُ المطالعِ. لم أقفْ على ترجمته ولا على كِتابِه. ونَقَل عنه بالنِّسبة المتقدّمة في موضعٍ واحدٍ (¬1). ¬
المطلب الثاني: شواهد الكتاب
المطلب الثّاني: شواهدُ الكتاب كمَا تنوّعتْ مصادرُ شمسِ الدِّين الكَرمانيِّ في هذا الكتابِ تنوَّعتْ -أَيْضًا- شَواهده "فَشَملت آيَ الذِّكر الحكيمِ، وأحاديثَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمثال العربِ، وأقوالهم، وحكمَهم، وأَشْعَارهم. وتفصيلُ ذلك على النَّحو التَّالي: أَوَّلًا: القُرآن الكريم. لَمَّا كان للقرآنِ الكريم مكانةٌ عظيمةٌ اهتمَّ به علماءُ المسلمين وتَعاهدُوه حفظًا، ودَرْسًا، وتطبيقًا، ولم تكن منْزلتُه البيانيّةُ لديهم بأَقلَّ من منْزلتهِ التَّشْريعيَّة. لذا نجدهم -كَمَا يَسْتنبطُون أَحْكامه- يَتَمثّلُون بيانَه. وقَدْ يَجْري على أَلْسنتهم من بديعِ نَظْمِه وجَميلِ صُورِه وآنق مُفرَداته ما لا يَتَكلَّفون له جَلْبًا، أو يَمْلكون له دَفْعًا، ومن أولئك العُلَماءِ الَّذين أسرهَم أسلوبُ القرآنِ وبهرهم قوّةُ حجّته صاحبنا شمسُ الدِّين، كيف لا!. وهو العالم الرَّبَّانيّ بما كان يعلِّمُ النَّاس وبما كانَ يَدْرس!!. والنَّاظرُ في "تحقيقِ الفَوائد" يجد أَنَّه اشتملَ على مائة وثمانية وثمانين شاهدًا قرآنيًّا، وهذا العددُ -في نَظَري- عددٌ لا يُسْتهان به وبخَاصَّةٍ إذا ما قُورن ببعضِ المصادرِ البَلاغيَّة، ناهيك عمَّا تميَّزت به تلك الشَّواهد من شموليَّة؛ إذ لم تَقْتصر على المسائل البلاغيَّة وحْدَها -كما هو منتظر-، وإِنَّما توزَّعت على مسائلَ متعدِّدة هي:
1 - شواهد تختصُّ بقضايا بلاغيَّة. وهي السِّمةُ الغالبةُ، وبلغ عدَدُها مائة وستة وسبعين شاهدًا. منها: مائة وثلاثون شاهدًا ضمنَ علمِ المعَاني، واثنان وثلاثون شاهدًا ضِمنَ علمِ البيان، وأربعة عشر شَاهدًا ضِمْن علمِ البَديع. وغَالِبًا ما يوضّحُها بما يُقرّر القَاعدة البَلاغيّة الَّتي يعرضُ لها. ومِنْ أمثلةِ هذا النَّوع قولُه في بيانِ أضرب الخبرِ في أَثْناء حديثه عن الضَّرب الثَّالثِ (الإنكاريّ) (¬1): "ويسمَّى إِنْكاريًّا. ويشهدُ له قولُ رسلِ عِيسى عليه السَّلام أَوَّلًا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}، وثانيًا: إذ بولغَ في تَكْذيبهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أرسلَ عيسى -عليه السَّلام- إلى أَهْلِ أنطاكية اثْنين: شمعون، ويُوحَنَّا فكذَّبوهما، فقوَّاهما برسولٍ ثالث؛ هو بُولس أَوْ حبيب النَّجَّار. فقالوا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونِ} فأَنْكروا بقولهم: {مَا أَنْتُمْ إلا بَشَرٌ} الآية؛ فأَجابوا بقولِهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ}؛ ولَمّا كانَت الآيةُ مُشْتملةً على تكذيبِ الرُّسلِ من ثلاثةِ أَوجهٍ أكّد إثبات رسالاتهم -أَيْضًا- بثلاثةِ أَوْجهٍ: اللَّام، وإِنَّ، ومَا في قوَّة القَسَم". 2 - شواهد لا تختصُّ اخْتصاصًا مُباشرًا بقضايا بلاغيَّة، وإِنَّما ترد بالدَّرجة الأُولى في خِدْمتها بهدفِ تقريبِ المعنى وإيضاحِه. وهي عَلَى قِسْمين: ¬
أ) شواهد تردُ برفْقَةِ شواهد بلاغيَّة لرابطٍ بينهما وعددها أربعة شواهد. ويجدُ المسْتَشهدُ في إِيرادها ما يوضِّح به استشهادَه ويقرِّر به المعنى الَّذي ساقَ الشَّاهد لأَجْله. ومن أَمثلتها قولُه في بيانِ أَحدِ الأَوجه المرجِّحةِ للإِثْبات (¬1): "العاشرُ: بسط الكلام افْتراصًا لإصغاءِ السَّامع نحو {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} إذْ كان يتمُّ الكلامُ بأَنْ يقول (عصا) فذكر المُسْند إليه وهو {هِيَ} للبَسْط، قيل: ولذلك ... أتبع موسى ما أتبع، أَيْ: قوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} ... ومع ذلك خافَ فقال الله تَعالى: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} ". وشاهدنا في الآية الأُخرى الَّتي أَكْملَ بها المَشْهدَ ولم تكن جزءًا من الشَّاهدِ البَلاغيِّ. ب) شواهد لتَقْريبِ معنى بلاغيٍّ دون أَنْ تَنْدرجَ تحت قاعدتِه، وعددُها ثلاثة شواهد. وفي جميعها قدَّم المؤلِّفُ بما يدّلُ على أَنَّها لتوضيحِ المرادِ خارجَ نطاقِ القاعدةِ المَسُوقة؛ حيثُ يقول: "ونظيرُه"، "ومثلُه". ومن تلكَ الشّواهدِ قولُه (¬2): "ونظيرُه -أي: نظير قوله ¬
تعالى في النَّفي والإِثبات؛ في أَنَّ المتَّصف بالشَّيءِ نُزَّل منْزلة الخَالي عنه بوجهٍ خَطَابيّ لا في تَنْزيلِ العَالم منْزلةَ الجَاهل، قولُه تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أَثْبتَ الرَّمية لرسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إذْ هو الرَّامي بحسب الصُّورة ونَفَاها عنه بحسب التَّأثِير؛ إذ لا مؤثّرَ إلّا الله، ولا سيما في الأَثرِ العَظيم الَّذي ليس في قُوَّة البَشر". (3) شواهدٌ استدعى ذِكْرها مناسبةٌ خاصّةٌ. وعدُدها أَرْبعةٌ، وتفصيلها يتمثّل فيما يلي: (أ) شاهِدان اختصَّا بقضايا نحويّة. وقد تَطَلَّبَ الإيضاحُ الشّافي الَّذي ألزم المؤلِّفُ نفسَه به في غالبِ مباحثِ الكتابِ إِيرادهما، فجاءا حجةً قَاطِعةً وبرهانًا سَاطِعًا عَلَى ما أُردفا عليه. ومن ذلك قولُه في أَحدِهما موضّحًا القُرب بين المعرَّفِ تعريفَ الحقيقة والنَّكرةِ (¬1): "ولذلك، أي: ولاتّحاد المُودّى وعدمِ اخْتلافه إلَّا بالاعتبارِ حكم النُّحاة بتقاربهما، أَيْ: بتقارب المعرَّفِ باللَّامِ للحقيقةِ -لا لغيرها من الاسْتغراقِ أَوْ العهد- والنّكَرة، وجوِّز، أي: ولذلك جوّز وصف المعرَّف هذا التَّعريف، وهو تَعْريف الحقيقة بالنّكرة، كمَا في قولِه تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، فإِنٌ {غَيْرِ} نكرةٌ وصفَ بها المَعْرفة، وهو قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ". ¬
(ب) شاهدٌ لإيضاح لفظ غريبٍ. ومثالُه قولُ المؤلِّف (¬1): "والفَواصل لعلَّها أُخذِت من قَوْلِه تعالى: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} ". (جـ) شاهدٌ لإِيضاح مَعْنى مُجْملٍ، وهو الوارد في قوله (¬2): "وإِنَّما أَكْتفي بأحد الضِّدين عن الآخر لدلالة حُكْمه على حُكْمه نحو قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ". هذا وتجدرُ الإِشارةُ إلى أنَّ شواهدَ الكتاب القُرآنية لم تقتصرْ على قراءةِ حفصٍ، بل بَنَى المؤلفُ استشهاده البلاغيَّ في خمسة مواضع على بعضِ القراءات القرآنيةِ الأُخرى؛ منها موضعٌ تكرَّر مرَّتين (¬3)، ومن تلكَ المواضع قولُه (¬4): "ففي قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ} بقراءة الاسْتِفهام؛ أي: على لَفْظ "مَن" الاسْتِفهاميّة ورَفْع {فِرْعَوْنَ}، يُؤوَّل بها المراد منه: العذابُ المقول عنده مَن فرعون". ثمَّ إنَّ مما يُلفت النَّظرُ إليه بخصوص تلك الشَّواهد -ممَّا يحسبُ للكتاب- حُسْنَ اخْتيارها بما يُلائم المقامَ، ودقّةُ توظيفها. مما يَخْدُم المَعْنى المُسْتشهد عَليه. ¬
ولك أَن تَتأَمَّل ذلك في حُسْن اخْتِيارِه الآية الَّتي خَتَم بها عِلْمي المَعَاني والبيان بغرض تَأَمُّل لطائفها، يَقُول (¬1): "وإذا وقفت على البلاغة وعلى الفصاحة المعنويَّة واللَّفظية فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آيةً، فإن شئتَ فتأمل قولَه تعالى: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} تر ... ما فيه ... من لطائفهما" (¬2). ثانيًا: الحديثُ الشَّريفُ. يعدُّ الحديثُ الشّريفُ ثَاني مصادر التَّشريعِ الإسْلامي بَعْد القرآن الكريمِ، والحديثُ الصَّحيحُ وحيٌ أَجْراه الله على لسانِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلم؛ من لا ينطقُ عن الهَوى إِنْ هو إلى وحيٌ يُوحى. وترجع أهميّته إلى أنه يوضِّح القرآنَ في بيانِ أحكامه وتفصيلِ إِجْماله. وقَد عُنِي به صاحبنا شمسُ الدِّين الكرمانيُّ عنايةً فائقةً حين أَفْرده بالبحثِ والدِّراسة، بل إِنَّه أَلَّف فيه أكبرَ مؤَلّفاته وأشْهرها على الإِطْلاق، حِينَما شَرح "صَحيحَ البُخاريّ" بكتابِه الموسومِ بـ "الكواكبُ الدَّراريِّ شرحُ صحيحِ البخاريِّ". ¬
وكنَّا ننتظرُ -والحالُ ما تقدَّم- أَن نجدَ أثرَ هذه العناية ظاهرًا في كتَابه "تحقيق الفَوائد"، لكنَّ الواقع خَالفَ ذلك؛ فالَّذي بين دَفَّتي الكَتابِ من الأَحاديث والآثار لا يَتجاوزُ تسعةَ شواهد! فما سرُّ ذلك؟!. يَبْدو لي -والله أَعلم- أَنَّ عنايةَ شمسِ الدِّين الكرمانيِّ بالحديثِ اسْتجدّت بعدَ تَأْليفه "تحقيق الفوائد"، ويَشْهد لذلك تَأْخُّر رحلتِه في طلبِ علمِ الحديث، ومن ثمَّ تأخُّر تَأليفِه فيه وقد تقدَّم معنا أَنَّه كَمَّلَ الكواكبَ الدَّراريَّ بمكَّةَ المكرَّمة سنة خمس وسبعين بعد السَّبعمائة؛ حين مجاورتِه بها قبالةَ الرُّكنين اليَمانِيّين. كمَا أنَّ طبيعةَ الدَّرسِ البَلاغيِّ الَّذي تَرَعْرَعَ في ظلِّ الإِعجاز القُرآنيِّ من جهة، والدِّراسات الأَدبيّة من جهةٍ أُخرى جعلَ شواهدَه -في الغالبِ الأَعم- تؤول إليهما وتدورُ في فلكهما، والمُتَأخِّرون -كما هُو معلومٌ- عيالٌ على المُتقدِّمين، وهو ما نُفسِّر به كثرةَ الشَّواهدِ القرآنيّةِ والشَّواهد الشِّعريّة وقفة ما عداها من الشَّواهد الأُخرى. أَمَّا شواهدُ "تحقيق الفوائد" الحَديثيَّة التِّسعة (¬1) فقد اتَّسمت بالإيجازِ والوُضوحِ، ولذا لَمْ يحتجْ إلى شرحِ لفظةٍ غريبةٍ أَوْ بيانِ تركيبٍ غامضٍ. وخلت أَرْبعةُ شواهد مِنْها من أَيِّ إشارةٍ تدلّ على أَنَّها أحاديث أَوْ آثار؛ حيثُ كانَ المؤلِّفُ يقدِّم لها بقوله: ¬
"نحو" (¬1)، أو "مثل" (¬2)، أو "نَحْو قوله" (¬3). وتَوزعَ الاسْتشَهادُ بها بين القَضايا البلاغيَّةِ والأُخرى العرضيَّة الَّتي تجيءُ في خدمة القضايا البلاغيَّة. ومن أَمثلة ما اسْتُشْهد به على قضيّة بلاغيَّةٍ قوله (¬4): "وقد يُذْكر -أي: الشَّرط- بدون الواو، وذلك فِيما كانَ المتروكُ أَولى بِترّتبِ الجزاءِ عليه لدلالة العقل حينئذٍ عليه؛ نحو: نعم العبد صهيب، لو لم يخفِ الله لم يعصه، إذْ يلزم منه بالطريقِ الأَولى أنّه لو خافه لَمْ يعصه أَيْضًا". ومن أمثلة ما استُشْهد به في خدمة قضيّة بلاغيّة. قَوْلهُ (¬5): "ولذلك يُتَبرّأُ عن الكَذب بدَعْوى الاعتقاد أو الظَّنِّ، أَي الدَّليل عليه: أنّه يُتبرّأ عن الكذبِ بدعوى الاعْتقاد أو الظَّنِّ متى ظَهر خَبرُه بخلافِ الواقعِ، أَيْ: إِذا قِيل له: كذبتَ يقول: لا؛ بَلْ قُلتُه بناءً على اعتقادي؛ كما قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: "ما كذبَ، ولكنَّه وهم". ¬
ثالثًا: الأَمثال والأَقْوال. خلَّف لنا أَسْلافُنا العربُ كمًّا هائِلًا من الأَمْثال السَّائرة، والأَقْوال البَليغةِ الَّتي كثيرًا ما يَعِنّ لنا التّمثلُ بها في مُناسباتٍ تشبهُ المناسباتِ الَّتي قِيلت فِيها. وتعدُّ بسببِ إيجازِها وسهولةِ حفظِها، وسرعةِ انْتشارِها أمثلَ تُراثٍ للأُمَّةِ وأَصْدقه. وأَجدُها -وإنْ أخذت حقَّها من الجَمعِ والتَّأصيلِ- لَمْ تَأخذ حقَّها من الاسْتِنطاقِ والتَّحليلِ. وفي ظَنِّي أنَّها -بحكمِ جريانِها على الأَلْسنة بلا تَغْيير يُذْكر- مَتَى مَا أَخَذت حَظَّها من الدَّرسِ العميقِ سوف تَكْشفُ لنا عن أَبْعاد تُراثيَّة مُفيدة. وبالعَوْدةِ إلى كتابِ "تحقيق الفوائد" نَجدُ أَنَّ نصيبَه من الأَمثالِ والأَقوال عشرون شَاهدًا (¬1)، جاءَ بعضُها شَاهدًا بلاغيًّا كقولِه (¬2): "وإذا كان وجهُ الشَّبه أمرًا مُنْتزعًا من عدَّةِ أمور؛ نحو قولك: تقدِّمُ رجْلًا؛ أي: لإِرادة الذَّهاب، وتؤخِّر أُخرى لإرادة عدمه، للمتردِّد في الأمر". ¬
وبعضُها الآخرُ في سياقِ شاهد؛ للإيْضاحِ والتَّأكيد، كَقَولِه (¬1): "الخامسُ: الاسْتِلْذَاذ؛ كذكرِ العاشقِ للمَعْشوق، ولهذا قِيل: "من أحبَّ شيئًا أكثرَ مِن ذَكْرِه". ويَبْدو واضحًا للعِيان تباينُ طريقة الاسْتشهادِ بها في الكتاب، فتارةً يُذكر ما يدلّ على أنه مثَلٌ أو قولٌ، كقَوله (¬2): "فتأمّل في مثل هذا المثل: (أنُخدع بالزَّبيب بعد المشيب) ". وتارة لا يذكر: كقوله (¬3): "فالتزمت الواو فيها أي في الاسمية إما نادرًا نحو: (كلَّمتُهُ فوه إلى فِيَّ) ". ومن جهةٍ أُخرى نجدُ الحديثَ يطولُ حولَ بعضِها بشرحِ الغَريبِ وبيانِ المعنى العَامِّ، وذكرِ قصّة المثل ومضربه أَحْيَانًا، كقولِه (¬4): "وكَمَا في قَوْلِها: (إِلَّا حظيَّة فلا أليَّة)؛ حظيّةٌ: فعَيلةٌ من حَظِيت المرأةُ عند زوجها حُظوة. وأليَّةٌ: فَعيلة من الأَلو. وهو التَّقْصير؛ بِمَعنى فاعله؛ أَيْ: إِنْ لا يَكن لك في النِّسَاء حظيّة؛ لأَنَّ طبعكَ لا يُلائِمُ طبعهن، فإنِّي غيرُ مقصّرة ... ومورد المَثل: أَنَّ رجلًا كان لا تَحظى عنده امرأةٌ فلمَّا تزوّج هذه لَمْ تَأل جهدًا في أَنْ تحظى عِنْده، ومَع ذَلك لم تَحْظ، بل طلَّقها فَقَالتْ. ومَضْربُه كلُّ قضيةٍ كانَ الإنسانُ أهلًا لها مُجتهدًا فيها، ولكنَّها امْتنعت عَليه لعارضٍ عَرض من غيرِ جِهته". ¬
ويَقْصر الحديث حولَ بعضِها الآخر أحْيانًا أُخرى كقولِه (¬1): "لاستكراه النَّفس التَّكرار بالذَّات، كما قِيل: (أَكْره من مُعَادٍ)، واسْتِحبابه الجدَّة؛ كما قيل: (لكلِّ جديدٍ لذّةٌ) ". وأخيرًا: أَودُّ الإشارةَ إلى أَنَّ غالبَ ما وردَ في كتابِ "تحقيق الفوائد الغياثية" من أَمثالٍ وأَقْوالٍ اسْتشَهدت بها كتبُ البلاغيِّين المُتَقدّمين عليه؛ وعلى الأَخصِّ "مفتاح العلوم" للسَّكَّاكيِّ. رابعًا: الشِّعر: الشِّعرُ ديوانُ العَربِ، وهو كَمَا يقولُ الدُّكتور محمَّد أَبو موسى (¬2): "الدَّائرة الأَوسع الَّتي إذا حفظناها نكونُ قد أَقَمنا حولَ كتابِ الله ثوابتَ من المعارف المؤسسّة على أُصولٍ من المنهج الصَّحيح؛ تظلُّ بين يدي الذِّكرِ الحكيمِ تهّيئ لسَماعه وفَهْمه وتَذَوّقِ بلاغتِه وأسرارِ بيانِه". وحَسْبك دليلًا على أَهَميتِه وخطورةِ شأنِه قولُ ابن عبّاس رضي الله عنهما (¬3): "إذا أَشْكلَ عَلَيكم الشَّيءُ من القُرآن فارْجِعوا إلى الشِّعْرِ فإِنَّه دِيوانُ العَربِ". ¬
لذا اهْتمَّ به علماؤُنا قَدِيمًا وحَدِيثًا على اخْتلافِ تَخَصُّصاتهم العِلميَّة فاسْتَشْهد به الفُقَهاءُ، والمحدِّثون، والمفسِّرون، والنُّحاة، واللُّغويّون على حدٍّ سواء. وقد امْتلأ كتابُنا بهذا النَّوعِ من الشَّواهد، حيث بلغَتْ مواضعُ الاستِشْهاد الشِّعريّةِ مائة وثمانية عشر مَوْضعًا (¬1)، وهي -بلا شكّ- كثيرةٌ جدًّا، ويُلْحظُ أنَّه سلكَ في طريقةِ الاستشهادِ بها وطريقةِ إيرادها نفسَ المسلك الَّذي سَلكه في بقيَّةِ الشّواهدِ المتقدِّمة. على أَنَّه لَمْ ينسبْ تسعين شاهدًا، واسْتطعتُ بفضلِ الله نِسْبة (82) شاهدًا إلى قائِلها. كَمَا يُلْحظ أَنَّ شواهدَ الكتابِ الشّعريّة لَمْ تَخْرج في الجُمْلة عن شَواهد المصادر البلاغيَّة الأُخرى الَّتي تقدَّمت على الكتابِ وبالأَخصِّ كتاب "مفتاح العلوم" للسَّكَّاكيِّ. ولبيانِ ما تقدَّم بجلاءٍ أَسُوقُ الشَّاهدين التَّاليين: 1 - شاهدٌ لم يُنْسبْ، ولم يُسْبق بما يدلُّ على أَنَّه شاهدٌ، ولم يُبيَّن مَعْناه، أَوْ يُشْرح غَرِيبه وليسَ بلاغيًّا، كقوله (¬2): "فإنَّ المحلَّ الخالي إِذا كانَ فَارغًا تَمكَّن فيه نقشٌ يردُ عليه أَشدَّ تمكُّن: أَتَاني هَواها قَبل أَنْ أَعْرفَ الهَوى ... فَصَادفَ قَلْبي خَاليًا فَتَمكّنا". ¬
2 - شاهدٌ نُسب، وسُبق بما يدلُّ على أنَّه شاهدٌ، وبيَّن مَعْناه، وشُرح غَريبُه، واستُشْهد به عَلَى موضع بَلاغيٍّ؛ كقوله (¬1): "ومن هَذَا القبيلِ وضْعُ الحاضرِ موضع الماضِي لإيهامِ المشاهدَة؛ مشاهدة تلك الحالةِ واسْتِحضارها في ذهنِ المُخاطب .. كَمَا فعلَ تأبَّط شرًّا في قولِه: بأَنِّي قَدْ لَقيتُ الغُولَ تَهْوي ... بسَهْبٍ كالصَّحيفة صَحْصَحان فَأضْرِبُها بلا دهَشٍ فَخرَّت ... صَرِيعًا لليدينِ وللجِرانِ وكانَ مقتضَى الظَّاهرِ: "فضَربتُها"، لكنَّه عدلَ إلى الحاضر قَصْدًا أن يصوِّر لقومه الحالةَ الَّتي تَشجَّع فِيها بضربِ الغُول كأنَّه يُبصرهم إِيّاها -أي: تلكَ الحالة- ويُطلعهم عَلَى كُنْهها، ويَتَطلَّبُ مِنْهم مُشاهدَتَها؛ تَعْجيبًا من جُرْأَته علَى كُلِّ هَوْل، وثبَاته عندَ كلِّ شدَّةٍ. والسَّهبُ -بالسِّين والصّاد المهملتَين-: الفَلاةُ. والصَّحصحانُ: المُستوي؛ أي بفلاةٍ كالقِرطاس مُسْتَوية. لليَدين: أَيْ عَلَى اليَدين. والجِرَانُ: مقَدَّم عنق البَعير من مذبحه إِلى مَنْحرِه". وقِس على هذين الشَّاهدين المتنافيين شواهدَ شعريَّة أخرى اتّفقت أَوْ أَخذَت صُورًا مُتنوّعةً من النّفي والإِثْباتِ. ¬
المبحث الثالث: تقويم الكتاب
المبحث الثّالث: تقويم الكتاب وفيه مطلبان: المطلب الأوّل: مزايا الكتاب المطلب الثّاني: المآخذ عليه
المطلب الأول: مزايا الكتاب
المطلبُ الأَوَّل: مزايا الكتاب 1 - حسن التّبويب والتنظيم: سبق أَن قدَّمت أنَّ كتابَ تحقيقِ الفوائد ينضوي تحت أَرْوقة المدرسةِ السَّكَّاكيَّةِ ولذا فإِنَّه يستمدُّ قيمته العِلميَّةَ من تلك الأسس المحكمة إلى قامت عليها والمنهج القَويم الذي ترسمته. ولستُ أعني عندما أعبِّر -هنا- بـ (السَّكاكيَّة) سبق السَّكاكيِّ إلى ذلك المنْهج الَّذي خالفَ به المتقدِّمين ممَّن صنَّفوا كتبًا مُسْتقلّة في البَلاغةِ؛ كعبد القاهرِ الجُرجانيِّ الَّذي صنَّف كتابيه "أسْرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" أَوْ حتّى كتبًا لا يصدقُ عليها التَّصنيفُ البلاغيُّ تمامًا كتلك التي تضمَّنت كثيرًا من المباحث البلاغيَّة دونما حاجزٍ مانعٍ من دخولِ غيرها من المباحث الأُخرى. من مثل كتاب "الموازنة بين أبي تمام والبحتريّ" لأبي القاسم الآمديّ، وكتاب: "الوساطة بين المتنبّي وخصومه" للجرجانيّ -وإنَّما أعْنِي الارتباطَ الوثيقَ الَّذي يصل كتابَ الشَّيخ الكرمانيِّ "تحقيق الفوائد" بكتابِ شيخ شيخِه أبي يعقوب السّكاكيّ "المفتاح"؛ ذلك الكتاب الذي ذاعَ صيتُه بين النَّاس، ونال شهرةً لم ينلها كثيرٌ من الكتبِ البلاغيَّة الأخرى. فكتابُ الكرمانيِّ -كما سبق- أَنْ ذكرتُ يشرحُ كتابًا آخر شديدَ الصِّلةِ بكتاب السَّكاكيّ؛ هو كتاب "الفوائد الغياثيَّة"؛ ذلكم الكتاب الَّذي اختصر به صاحبُه -بعنايةٍ فائقةٍ- "مفتاح العلوم" للسَّكاكيّ.
وغنيٌّ عن الإِيضاح أن السَّكاكيَّ أفادَ كثيرًا في تبويبِه وتقعيدِه وتقسيمِه من الفَخْر الرَّازي في كتاب: "نهاية الإيجاز في دِراية الإعْجَاز"، بل إنّه كما يقولُ محقّقُ نهاية الإيجاز الدّكتور بَكري شَيْخ أمين (¬1): "كادَ أَنْ يكون ظلًّا للرَّازيّ وصدًى لصوته". وفي نظري أنَّه لم يتميَّز عنه كثيرًا إِلَّا بما امتنّ الله به عليه من دِقَّةِ التَّنظيمِ وضبطِ التَّقسيم وقوَّةِ الأَدلَّة. ومع سبقِ الرَّازي إلى التّنظيم والتَّبويب وتشْعيبِ المسائل وتَفْريعها وفق أسسٍ عقليّةٍ منطقِيَّةِ إلّا أنّ أغلبَ الدَّارسين المحدثين يغضّون الطّرف عنه، ويتَجَاهلون سَبْقه، ولا يلوونَ على كتابِه كما يَلْوون على كتابِ السَّكاكيِّ الَّذي نُسب إليه السَّبق ورَكَّز عليه الدَّارسون مُتَعرّضين لمنهجِه -في الغالب الأَعمَّ- بالذَّمِّ والتَّسفيه؛ رامينه بالانْحرافِ والجمودِ وعدمِ الفَهم؛ ومنهم الدُّكتور عبد العزيز عتيق (¬2) يقول: "ومن هنا كانت خُطُورة منهاج السَّكاكيِّ الَّذي يُعدُّ في تاريخ البلاغةِ بداية طور الجُمود في دراستها لقد خُيِّلَ إِليه أنَّه بمنهاجِه المنظّم المتقن يُصْلح من شأنِ البلاغةِ، فإذا به من حَيثُ لا يَدْري يُفْسدها ويُسئُ إليها". والحقّ أنَّ السَّكاكيَّ -رحمه الله- حُمِّل ما لا يَحْتمل؛ إذ طُلبَ منه أَنْ يواكب بلاغة عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- وأن يأتي بما يحاكي كتابيه على الأقل إذ لم يستطع أن يتفوّقّ عليه. ومن هذه الجهة انهالت السّهام عليه. ولو أُمعن النّظر في صنيع السَّكاكيّ وغايته منه لما ¬
حُمّل كلّ ذلك. ولأُحيل ذمّه مدحًا. فهو لم يؤلّف كتابه ليغيّر مسار البلاغة العربيّة ويلبسها ثوب الجمود -كما زعموا- ولم يكن هذا مقصدًا له على بال، وغاية ما هدف إليه هو اختصار كلام الإمام عبد القاهر وتصفيته من التّكرار وتقريبه لطلبة العلم بوضع الحدود والرّسوم التي تضبط مباحثه وتفصّل مسائله. ليستقيم لطالب البلاغة الطّريق وتتّضح أمامه الصّورة؛ متى ما خاض غمار البيان وأدلج في بحور تذوّق الكلام، ولعلّ الَّذي حداه إلى ذلك ضعف الذّوق العربيّ في العصور المتأخّرة فأراد بمنهجه المنطقيّ الإعانة على فهم البلاغة. وأجدني مع الأستاذ الدكتور فضل حسن عبّاس: حين يقول (¬1): "ورحم الله السَّكاكيّ ونرجو أن يؤجر على هذه الحملات الَّتي توجّه إليه؛ فلقد حمّلوه مسؤولية جمود البلاغة ووقوفها عند حال لا تحسد عليه .... صحيح أَن السَّكاكيَّ سلب بلاغة عبد القاهر هذه السّمات الأدبيّة، وهذا الأسلوب الَّذي يستند إلى الذّوق والقاعدة معًا؛ ولكن ينبغي أن لا ننسى، ولا يجوز أن ننسى أنّ البلاغة كانت بحاجة إلى من يحدّد لها مصطلحاتها تحديدًا تامًّا، ومن يفصِّل مسائلها، ويَفْصل بعضها عن بعض، وتلك حسنة لا ينبغي أن تغفل، ولكن الكثيرين -سامحهم الله- لا يذكرون إلّا السّلبيّات". أخلص من هذا كلّه إلى القول بأنّ انضواء كتاب "تحقيق الفوائد" تحت أروقة المدرسة السَّكاكيّة لا يغمط شيئًا من شأنه ولا يحط قدرًا ¬
2 - التوسط والاعتدال
من قدره كما ظنّ بعض، بل هو ميزة تحسب للكتاب؛ تشتدّ الحاجة إليها في ميدان التعليم "ثمّ يبقى ما وراء ذلك مفتوحًا ليشمل كل دراسة تستخرج أسرار البيان" (¬1). ولست في حاجة -هنا- إلى استعراض طريقة الكرمانيّ الموفّقة التي بنى عليها كتابه، فقد سبق الحديث عنها في المطلب الثّالث عن المبحث الأوّل من هذا الفصل في أثناء الحديث عن منهج المؤلّف في الكتاب؛ حيث استعرضتُ بالتّفصيل المخطّط الَّذي سار عليه الشّارح في كتابه (¬2). 2 - التَّوسُّط والاعتدال: حيث تجنّب مؤلّفه الإطناب المملّ والاختصار المخلّ، فسلك به منهجًا وسطًا سواءٌ في عرض المادّة العلميّة أَوْ في التّقسيم والتّفريع. وما يندرج تحتهما من التقعيد والتّمثيل وإيراد الأقوال والأدلّة ومناقشتها. متحاشيًا في ذلك كلّه التّكرار والإطالة، ومحترزًا -في الجملة- عن التّقصير والإيجاز، ولذا نجده عندما يتعرّض لأحوال المسند والمسند إليه وبعض أحوال متعلّقات الفعل لا يفرد كلّ نوع ببحث مستقلّ -كما فعل غيرُه من البلاغيّين، بل كما فعل السَّكاكيّ نفسه، عمدة الكرمانيِّ في كتابه- وإنّما يعالجها جميعًا تحت مبحث واحد ذاكرًا أغلب النّكت البلاغيّة؛ ممثّلا لها بما تيسّر من الأمثلة مما قد يَكون مندرجًا تحت المسند ¬
إليه أَوْ تحت المسند؛ أَوْ تحت متعلّقات الفعل؛ تاركًا المجال مفتوحًا أمام القارئ لإعمال عقله في تحصيل ما لم يذكره وقياس الأشباه على النّظائر فيما لا يستغلق فهمه أَوْ يشقّ طلبه، وأسوق للدّلالة على ذلك قوله (¬1): "ثمّ إنَّه، أي الحذف، يترجَّحُ لوجوهٍ: الأوّل: ضيق المقام؛ كجوابِ المشرف -أي على الموت-: أموت، حيث يقال له: كيف أنت؟ إذا الوقت لا يسع أن يقول: أنا أموت ... وكضروة الشّعر، وقوله: قَال لِي: كَيْفَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: عَلِيلٌ ... سَهَرٌ دَائمٌ وحُزْنٌ طَويلُ الثّاني: الاحترازُ عن العَبَثِ؛ نحو: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ}؛ إذ لو كرِّر فعلُ التّسبيح؛ لكان عبثًا؛ إذ هو معلومٌ من الأوّل". فلقد تحقّقت الفائدة المنشودة بإيراد الوجهين المذكورين وغيرهما من الوجوه الأخرى الواردة بعدهما التي تكشف أسرار الحذف البلاغيَّة غير أنَّه درءًا للتطويل والتّكرار عالج أوّلهما "ضيق المقام، ضرورة الشّعر" في باب المسند إليه؛ حيث جاء المحذوف في أمثلته مسندًا إليه. وعالج ثانيهما "الاحتراز عن العبث" في باب المسند؛ حيث جاء المحذوف في مثاله مسندًا. ¬
3 - اشتمال الكتاب على بعض الفوائد المهمة
وكان بإمكانه أن يمثّل لكل وجه بمثالين؛ أحدهما في باب المسند إليه، والآخر في باب المسند، كما فعل غيره ممّن رام البسط والتّوسّع. وظاهر أنّ الَّذي هيّأ لهذا المسلك، أي مسلك "التّوسّط والاعتدال" هو الإيجيّ، صاحب الكتاب المختصر؛ حيث بنى كتابه على أسس منطقيّة لا تقبل الحشو والاسترسال. ويبدو لي أنّ الكرمانيّ -رحمه الله- نشد هذا المسلك وهدف إليه قبل تأليف الكتاب، ولو أنه آثر منهج المطوّلات لعدل من أوّل الأمر عن ربط كتابه بمختصر شيخه، أَوْ حتَّى عدم تضمينه إيّاه بالطّريقة الدّقيقة المحكمة الَّتي سبق أن أشرت إليها (¬1) على أقلّ تقدير. 3 - اشتمال الكتاب على بعض الفوائد المهمّة: تضمَّن كتاب تحقيق الفوائد فوائد جليلة؛ انفرد بها الكتاب عن سائر الكتب البلاغيّة التي سبقته، ويعود الفضل في إيرادها -في الدّرجة الأولى- إلى الإيجيّ صاحب المختصر. فهو الَّذى ضمنها كتابه صراحة، أَوْ قدح في ذهن الكرمانيّ إليها. وغالبًا ما يشير الشّارح إليها بقوله (¬2): "وهذا ممّا زاد على المفتاح"، وتبدو لنا قيمة تلك الزّيادات بجلاء إذا ما ربطا بينها وبين عنوان الكتاب المختصر: "الفوائد الغياثيّة" وتَذَكِّرْنا ما ¬
سبق أن أوردناه في سبب تأليف الكتاب (¬1). حيت نصّ ابن الكرمانيّ "أنّ الوزير (غياث الدّين) كان يقرأ المفتاح للسّكّاكيّ على الشّيخ عضدِ الدّين، وكان يفيد عند الدّرس فوائد زوائد على المفتاح؛ فسأله الوزير أن يجمع تلك الفوائد مفردة فجمعها ... ". وقد تتبّعت المواطن التي صرّح الشّارح بأنها ممّا زاده شيخه على ما في "المفتاح" فوجدتها تقارب العشرين موطنًا وقد يكون في الموطن الواحد أكثر من فائدة. وجدير بالذّكر أنّ تلك الفوائد لم تعرف مواطن معيّنة من الكتاب تلتزم الورود فيها، بل ترد بحسب المقتضى الدّاعى لها، فأحيانًا ترد في ثنايا المباحث الرّئيسة، وأخرى في خواتيمها، وثالثة خارجًا عنها في إطار التّنبيهات. وغالبًا ما يكون تصريح الشّارح بأنها من الفوائد الزّائدة على ما في "المفتاح" في بداية الحديث (¬2) عنها، بخلاف الفوائد الأخرى، فالتصريح بزيادتها يرد عقب إيرادها (¬3). وللإيضاح أسوق المثال التّالي مشتملًا على كلام المصنّف والشّارح (¬4): ¬
"وتعريفاتُه [أي الخبر] تَنْبيهات، فإنَّ التَّعريفَ قد لا يُرادُ بهِ إحداثُ تَصوّرٍ؛ بل الالتفاتُ إلى تصوُّرٍ حاصلٍ ليتميّز من بين التَّصوُّراتِ؛ فيعلَم أَنَّه المرادُ. إشارةٌ إلى سؤالٍ وجواب. تقديرُ السّؤال: لا يشتغلُ العقلاءُ بتعريفِ التَّصوُّرات البديهيَّة كما لا يُبَرهن على القَضايا البديهيّة؛ فلو كان الخبرُ ضروريًّا لما عَرَّفُوه .... تقديرُ الجوابِ: أَنَّ هذه تنبيهاتٌ لا تعريفاتٌ تنافي الضَّرورة فإنّها ليست لإفادة تصوُّرٍ وإحداثِه؛ بل لتَمْيِيز ما هو المراد به مِنْ بين سَائِر التَّصوُّراتِ الحَاصِلة عنده .... وهذا ممّا زاد على "المفتاح". ومن أمثلة ذلك -أيضًا- ما أورده المصنِّف وعلَّق عليه الشّارح في التنبيه الَّذي جاء عقب النّوع الثّالث المعقود في التّعريف بأقسامه والتّنكير، قال (¬1): "تنبيه: ما في هذا التّنبيه من الفوائد ممّا زادها على الأصل وهي فوائد شريفة مهمّة لا بدّ من معرفتها: التعريف: يقصد به معيّن عند السّامع من حيث هو معيّن كأنه؛ أي: التّعريف إشارة إليه؛ أي: إلى ذلك المعيّن بذلك الاعتبار، أي: باعتبار أنَّه معيّن عنده. وأمّا النَّكرة: فيقصد بها التفات النّفس إلى المعيّن من حيث هو، من غير أن يكون في اللَّفظ ملاحظة تعيُّن، وإن كان لا يكون إلّا معيّنا؛ ¬
فإن الفهم موقوف على العلم بوفع اللَّفظ له، أي: للمعنى الَّذي هو مفادٌ من اللَّفظ وذلك، أي: العلم بالوضع إنَّما يكون بعد تصوّره ذلك المعنى، وتميّزه عنده عمَّا عداه، لكنه لا يلاحظ في اللفظ أنه معيّن. والحاصل: أنّ الخطاب لا يكون إلّا بما يكون معلومًا للمخاطب ومتصوّرًا له، سواءٌ كان اللَّفظ نكرة أو معرفة، لكن الفرق: أنّ في لفظ المعرفة إشارة إلى أنَّه يعرفه السّامع دون المنكر؛ فإذا قلت: ضرب الرّجل؛ فكأنَّك قلت: ضرب الرّجل الَّذي تعرفه؛ ففي اللَّفظ إشارة إلى أنَّه يعرفه بخلاف النّكرة". وظاهرٌ أنّ ما في التّنبيه تكميلٌ مهمٌّ للمبحث البلاغيّ المعقود، بتحديد مصطلحين رئيسين وردا فيه يحوّل القصور في معرفة المراد بكلّ واحد منهما بدقّة دون الفهم المنشود؛ بل ربّما أدّى إلى الوقوع في خلافه؛ ممّا يتنافى مع أسس البلاغة كأن يسبق إلى الفهم من "التّعريف" مجرّد التعيّن لمعنى اللَّفظة المعرفة من غير ملاحظة تعينها بخصوص معيّن في ذهن السّامع وارتباط مدلولها -سلفًا- به. وكذا التّنكرِ بأن يسبق إلى الفهم منه مطلق النّكرة، أي: عدم العلم بمعنى اللَّفظة المنكرة أصلًا، الأمر الَّذي يؤول بالمتكلّم إلى مخاطبة السّامع بما لا يعلمه. أمّا ما يتعلّق بالفوائد الواردة في شرح الكرمانيّ فهي الكثرة الكاثرة وإن لم ينصّ عليها إلّا في النّادر كقوله (¬1): "وهَا هُنا فائدةٌ جليلةٌ لا بدَّ من ذكرها؛ وهي: أنَّ اللَّفظ قد يُوضعُ وضعًا عامًّا لموضوع له عامّ؛ كـ (رجل) ¬
4 - ظهور شخصية المؤلف العلمية بشكل واضح
وقد يُوضع وضعًا خاصًّا لموضوع له خاصّ؛ (زيد)، وقد يُوضع وضعًا عامًّا لأمورٍ مَخْصُوصةٍ (هذا) فإِن وضْعه عامٌّ لكلِّ مشارٍ إليه مخصوص ... ". 4 - ظهور شخصيّة المؤلّف العلميّة بشكل واضح: وبدا هذا الظّهور المتألّق عند المُختصر والشَّارح على حدٍّ سواء؛ كلّ بحسب طبيعة تناوله. فصاحب المختصر يكتفي بالإشارات الموجزة العابرة، وصاحب الشّرح يميل إلى الإيضاح والتّفصيل. وقد برزت شخصيّتهما من خلال آرائهما واختيارهما وتعليلاتهما ومناقشتها وردودهما التي ردّا بها على بعض العلماء. ومن أمثلة ظهورها عند صاحب المختصر قوله (¬1): "الثَّاني: ألا يُعْرف منه إلا ذلك القَدْرُ حقيقةً أَوْ ادِّعاءً ... وعليه حُمل قوله تعالى: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)}. فتعبيره بقوله: "وعليه حُمل" إشارهٌ ظاهرة إلى عدم قبوله وجه الحمل، ولو قبله لما ساغ له الإتيان بلفظ زائد هو "حُمل"، ولكفاه أن يقول: "وعليه قوله"؛ فهو المتّسق مع منهج الاختصار الَّذي سار عليه. ولم يكن له أن يسلك هذا التّطويل بهذه الإشارة العابرة لو انساق خلف آراء الآخرين؛ يأخذها ويحكيها كما هي؛ دون أن ينصب عليها عقله ناقدًا ومقوّمًا. ¬
يقول الكرمانيّ (¬1): "ولَمّا كانَ عند المصنِّف وجهٌ أَنسبَ منه لسياقِ الآية- قال: "وعليه حُمل" والمراد به صاحب "المفتاح". ولم يقل: (وعليه ورد) أَوْ (عليه قوله). والوجهُ فيه: أَنَّهم نكَّروه لاعتقادِهم أنَّه لا يجوز أن يكون شخص هكذا موجودًا يقول كذا وكذا. ويدّعى: كذا وكذا، واستبعدوه، بل أحالوه، فكأنَّه للتّعجّب وبيان الاستحالة لذلك الخبر الَّذي يدّعيه؛ أي: هل ندلّكم على رجلٍ عجيبٍ، يقول كلامًا عجيبًا، متّصفٍ بصفة غريبة، يدّعي أمرًا غريبًا. ولو قال مقام (على رجل): (على محمّد): لم يكن مفيدًا لذلك". ومن ظهورها عند صاحب الشّرح قوله بعد أن ساق الخلاف في "لو"؛ هل هي لامتناع الثّاني لامتناع الأوّل، أَوْ هي لامتناع الأوّل لامتناع الثّاني ممثّلًا بقوله: "لو جئتني أكرمتك" قال (¬2): "والتَّحقيقُ فيه أنَّه يُستعملُ في كلا المعنيين لكن بالاعتبارين؛ باعتبار الوجود والتّعليل، وباعتبار العلم والاستدلال؛ فيقول: لَمّا كان المجئُ علّة للإكرام بحعسب الوجود فانتفاء الإكرامِ لانتفاءِ المجيء؛ انتفاءٌ للمعلول لانتفاءِ علَّته. و -أيضًا-: لمّا يعلم انتفاء الإكرام فقد يُستدلُّ منه على انتفاء المجيء؛ استدلالًا من انتفاء اللّازم على انتفاء الملزوم ... وهذا تحقيق لم ينقّح إلى السّاعة". ¬
هذا؛ وقد ظهر لي أنّ الكرمانيّ -رحمه الله- ينشد الحقَّ بعيدًا عن التّعصّب والهوى، ومتى تجلّى الحقُّ أمامه بدليله ذكره وإن أدّى ذلك إلى مخالفته القول السّائد الَّذي عليه أرباب الفنّ، أَوْ عليه شيخه "الإيجيّ" غير أنَّه لا يهمل وجهات نظر الآخرين أَوْ آراءهم. ولا يتعرّض لها بشيء من النّقد الجارح. وإنّما يقدّمها على رأيه ويوفيها حقّها من البسط والإيضاح ثمّ يعقّب -في النّهاية- عليها برأيه، وأسوق للدّلالة على هذا المثال الآتي (¬1): "ويقبح (هل زيدًا عرفت) لإشعاره؛ أي: التّقديم بثبوت التّصديق بنفس الفعل، وإشعاره (هل) بعدم ثبوت التّصديق؛ لأنّه لطلب التّصديق. وإنّما قال: (يقبح) ولم يقل: (يمتنع) لأنّه وإن احتمل التّقديم المنافي؛ كذلك يحتمل عدم التّقديم، وإن كان مرجوحًا بالنّسبة إلى احتمال التّقديم؛ وذلك بأن يقدّر: عرفت آخر قبل زيد، أَوْ تجعل مفعول (عرفت) المذكور محذوفًا، والتّقدير: (هل عرفت زيدًا عرفته). بخلاف عرفته؛ أي: بخلاف (زيدًا عرفته) فإّنه لا يَقْبُح؛ لأن زيدًا لا يحتمل التّقديم؛ لأنّ (عرفته) قد أخذ مفعوله، وإذ لم يحتمل التّقدىم لا يستدعي ثبوت التّصديق بنفس الفعل؛ فلا ينافي (هل). وهذا على ما هو كذلك لفظ المختصر وأصله، وعلى ما شرحه الشّارح للأصل؛ لكن الحقّ: أن (زيدًا عرفته) -أيضًا- يحتمل التّقديم؛ بأن ¬
5 - اشتمال تحقيق الفوائد على بعض آراء الإيجي التي لم ترد في مختصره
يقدّر المفسّر بعد (زيدًا)؛ نحو: "هل زيدًا عرفت عرفته ... فلا يخرج من باب القبح". وجدير باللّحظ في هذا النّصّ تأدّب الكرمانيّ مع شيخه وغيره من العلماء؛ فعندما صرّح بالحقّ في غير جانبهم لم يصرّح بأسمائهم، وإنّما أحال إلى مؤلّفاتهم؛ إذ قال: (هذا على ما هو كذلك لفظ المختصر وأصله" أَوْ على وصف يُشْترك فيه إذ قال: "وعلى ما شرحه الشّارح للأصل". 5 - اشتمال تحقيق الفوائد على بعض آراء الإيجيّ الّتي لم ترد في مختصره: ذكر الكرمانيُّ في كتابه بعضَ آراء شيخه الإيجيِّ، وكثيرًا منها لم أجد له ذكرًا في كتب الإيجيّ نفسه، ممّا يرجّح أنَّها ممّا تلقّفه التّلميذ عن شيخه مشافهة في وقت ملازمته له وتلقّيه عنه. ويمثّل حفظ مثل هذه الآراء قيمة تاريخيّة وفكريّة، يمكن أن يفاد منه في رصد حركة التّطوّر الفكريّ للأمّة بعامّة؛ كما يمكن أن يفاد منه في دراسة الشّخصيّات وتقصّي أبعادها. ومن أمثلة ما حفظه الكرمانيّ لشيخه قوله معلّقًا على ما ورد في المختصر (¬1): "وهاهنا نظر؛ فإنّ الإلف بالتّكرار يحصل؛ فكيف يتنافى حكمها؟! "، قال (¬2): "والمصنّف ينقل كلام السَّكاكيّ، وإلّا فالحقّ عنده ¬
6 - اشتمال تحقيق الفوائد على أصح نسخ المختصر
على طرف التّمام، وهو: أن كلّ تكرار لا يورث الكراهة، بل الَّذي يورثها تكرار شيء منه بدّ؛ وهو مناف للإلف، وأمّا تكرار شيء لا بدَّ منه؛ كتكرار الشُّبه الضّروريّة عند الطّبيب، فهو غير مناف للإلف؛ بل موجب له". وبدت -لي- بعد الاستقراء والتّتبّع لكلّ ما هو على شاكلة هذا المثال حقيقتان مهمّتان: أوّلهما: قرب الكرمانيّ من شيخه الإيجيّ قربًا يجعله أخصّ تلاميذه وأعرفهم بمراده، وأكثرهم إحاطة بآرائه. ثانيهما: ولاء الكرمانيّ لشيخه وحبّه له، وكأنِّي به لا يجد أدنى مناسبة تستدعي إيراد وجهة نظر لشيخه أَوْ رأي له حتَّى يبادر إليها ويوفيها حقّها. 6 - اشتمال تحقيق الفوائد على أصحّ نسخ المختصر: أشرتُ فيما مضى أنّ كتاب الفوائد الغياثيّة مختصر أُعدّ بعناية فائقة ليكون صالحًا للحفظ، وليس بغريب على هذا الكتاب ومثله أن تكثر نسخه. وأن تتعدّد روايته، وأن يطرأ بعض التّغيير على جمله ومفرداته، لانتشاره بين النّاس واعتمادهم في ضبطه أحيانًا على حفظهم وهو يختلف باختلاف القدرات العقليّة. ومع اختلاف النسخ وكثرتها -الَّتي وجدت في حياة المؤلّف ناهيك عمّا وقع يعدها- نجد الحاجة ملحّة إلى تسخة صحيحة ليست أقلّ من أن تكون كُتبت بخطِّ المؤلّف نفسه، أَوْ قُرأت بين يديه.
7 - وضوح المعنى، وسلامة الأسلوب غالبا
ولمّا تعذّر وجود الأولى أسعفنا الكرمانيّ -رحمه الله- بالثَّانية، حينما ضمّن كتابه كتاب شيخه دون أن ينقصه حرفًا واحدًا، مع ما كشف عنه من إلمام بالنُّسخ الأخرى المعاصرة له، واعتماده النسخة المقروءة على الشيخ. وقد تقدم التَّمثيل لهذه القضية بما ينبغي عن إعادته هنا (¬1). 7 - وضوح المعنى، وسلامة الأسلوب غالبًا: اتّسم تحقيق الفوائد -في الجملة- بوضوح معانيه، وسلامة أساليبه، ولو خلا من بعض الأفكار الفلسفيَّة الَّتي شابته وبعض أخطاء النسخ لقُلْتُ: إنَّ النَّاظر فيه لا يحتاج إلى إعمال عقل وإعادة نظر ليدرك المعنى المراد. ومع ما تمثله هذه الميزة من أهميَّة، وكونها مطلبًا ضروريًّا في كلّ مولّف إلَّا أنها كانت منتظرة من الكرمانيِّ الذي أخذ على عاتقه شرح كتاب شيخه وتقريبه لطلبة العلم، وأنَّى يكون ذلك بعيدًا عن المعنى الواضح المبني على الأسلوب السّليم!!. ¬
المطلب الثاني: المآخذ عليه
المطلب الثّاني: المآخذ عليه " تحقيق الفوائد" عملٌ بشريّ والبشرُ مظنّةُ الخطإِ والنِّسيان والنَّقص، ولم يكتب الله الكمال لكتاب إِلّا لكتابه؛ فهو الَّذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (¬1). فعلى الرّغم من توافر محاسن الكتاب، وكثرة مزاياه؛ إلّا أنَّه لم يخل من بعض المآخذ القليلة التي أرجو أن لا تقلّل من قيمته العلميّة. ومنها: 1 - أخطاء عقديّة: كتأويله اليد بالقدرة في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬2). وتقدّم في مبحث عقيدته أنَّه ينتسب إلى المذهب الأشعريّ (¬3). فأدّت أشعريّته إلى الوقوع في هذه الأخطاء في نظر أهل السنّة والجماعة بالمعنى الخاصّ. ¬
ومن المآخذ العقديّة الَّتي تؤخذ على الشّارح وقوعه في بعض التّعبيرات الَّتي تحمل في ظاهرها مخالفة شرعيّة واضحة؛ كقوله في أوّل الكتاب عند التّعرّض لبيان تسمية كتاب شيخه الإيجيّ بـ "الفوائد الغياثيَّة" (¬1): "منسوبةً إلى الوزير بن الوزير بن الوزير؛ الَّذي ما وسع في طرف العالمين إدراك عظمته، وما وضع الزّمان أمرًا إلا بعد مشيئته، الدّستور، الأعلم، الأعظم، سلطان وزراء العالم، غياث المستغيثين، خلاصة الماء والطّين، غياث الدّنيا والدّين، رشيد الإسلام والمسلمين". ففي قوله -كما هو ظاهر- مغالاة في الإطراء ومجاوزة في المدح والثناء؛ بل تضّمنت بعض جمل القول ما ينافي التّوحيد؛ منها: وصفه ممدوحه بأن الزّمان لا يضع أمرًا إلّا بعد مشيئته؛ فالمشيئة المطلقة -كما هو معلوم- لله سبحانه وتعالى، (والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله ولا قدرة له على أن يشاء شيئًا إلّا إلى إذا كان الله قد شاءه. قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ (29)} (¬2) (¬3). ومنها: وصفه الممدوح بأنَّه (غياث المستغيثين) و (غياث الدّنيا والدّين)؛ فالاستغاثة بهذا الإطلاق لا تكون إلّا لله - سبحانه وتعالى - فهو المتفرّد بذلك، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ¬
2 - أخطاء منهجية
وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (¬1). ثمّ من هو الوزير بن الوزير بن الوزير -وإن سما- بجانب صفوة الخلق من الأنبياء والمرسلين حتى يوصف بأنَّه خلاصة الماء والطّين؟! وهذا مأخذ يتّجه إلى ظاهر التّعبير أمّا مراد الشّيخ من هذه العبارات فلم يفصح عنه، على أنَّنا لا نتوقّع من عالم جليل كالشّيخ الكرمانيّ أن يعتقد ما تضمّنته تلك التّعبيرات -وإن كانت تحسب عليه- وحكمنا مبني على الظّاهر، والله يتولّى السّرائر. 2 - أخطاء منهجيَّة: وتمثّلت فيما يلي: أ - اعتماده -أحيانًا- على بعض الرّوايات الضّعيفة، ممّا أدّى به إلى الوقوع في الإسرائيليّات المنكرة، وظاهر أنّ السّبب في ذلك يرجع إلى اعتماده اعتمادًا كليًّا في تفسير ما يعترضه من آي الذّكر الحكيم على كشّاف الزّمخشريّ؛ ذلك الكتاب الَّذي يموج بالرّوايات الضّعيفة. ومن ذلك تفسيره "المآرب" في قوله تعالى حكاية عن موسى -عليه السّلام-: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (¬2) بقوله (¬3): "وقيل: كان فيها من المآرب الأخرى أنَّه كان يستقي بها فتطول بطول البئر، ويصير ¬
شعبتاها دَلوًا، ويكونان شمعتين باللّيل، وإذا ظهر عدوٌّ حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأَوْرقت وأَثْمرت، وكان يحملُ عليها زاده وسقاه، فجعلت تُماشيه، ويركزها فينبع الماءُ؛ فإذا رفعها نَضَب، وكانت تقيه الهوامَّ". وهذا الكلام بقضّه وقضيضه منقول نصًّا عن الزّمخشريّ (¬1). ب - إخفاقُه -أحيانًا قليلة- في ربط شرحِه بالكتاب المشروح؛ على النّحو الَّذي سلكه في الدَّمج بينهما؛ فظهر الانقطاع في السّياق تارة، والتّدخّل المخلّ تارةً أخرى. فمن الأوّل: انشغال الشّارح عن إكمال فكرته الَّتي ساق الحديث من أجلها بشرح بعض المفردات الواضحة، الَّتي لا يفضي إغفال شرحها إلى انغلاق المعنى، كقوله (¬2): "الثَّاني: لا تغلط في مثل قول الشَّاعر: كما أبرقت - أي: صارت ذات برق - قومًا عطاشًا غمامةٌ فلمّا رأوها أقشعت - انكشفت. وقشعته: كشفته، وهو مثل: أكبَّ، وكبّ؛ لزومًا وتعدّيًا -وتجلّت أي ظهرت. لكثرة الْتِبَاس الوصف الحقيقيّ بالاعتباريّ، وانتزاعه من أمرين -مثلًا- مع وجوب الانتزاع من أكثر؛ فتنزع الوصف؛ الَّذي هو وجه التّمثيل مما لا يتمّ المراد به؛ كالمصراع الأوّل ... ". ¬
فأنت تلحظ كيف أدّى انصرافُ الشَّارحِ عن المعنى المراد، بما لا يستدعيه المقام إلى توزّع البيت الشّعري -جملًا ومفردات- هنا وهناك حتَّى كدت تنسى أنَّه يعرض بيتًا شعريًّا، وكان الأولى به أن يعرض البيت مجرّدًا، ليسارع إلى اقتناص المعنى المراد، ثم لا يعيبه -إن كان لا بدّ شارحًا- أن يؤخّر شرح المفردات عقب تمام المعنى كما هي عادته في أغلب المواضع المشابهة (¬1). ومن الثّاني: ما ترتّب على تدخّله من إيهام معنى لم يقصد إليه المصنّف في قوله (¬2): "وإمّا للتَّباين؛ أي الفصل إمّا للاتِّحاد وإمّا للتَّباين ... فتارة ... لاختلافهما ... خبرًا وطلبًا ... كقوله: ... إلا أن تضمّن إحداهما ... معنى الأخرى نحو قوله ... وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} بعد قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ... وعُدَّ عطفًا على {فَاتَّقُوا} ... والأظهر؛ أي عند السَّكاكيّ أنَّه على (قل) ". فظاهر قول المصنّف: "والأَظهر" أنَّه يؤيّد هذا الرّأي، بينما ظاهر قول الشّارح بعده: "أي: عند السَّكاكيّ" اختصاص الرّأي بالسَّكاكيّ دون المصنّف أَوْ الشّارح، وليس الأمر كذلك، إذ لم يورد الشّارح عنه أَوْ عن شيخه رأيًا آخر، بل كشف السّياق فيما بعد موافقة المصنّف للسّكّاكيّ. ¬
3 - خطأ علمي
وعليه فإن تدخّله بالجملة السّابقة أوقع في فهم خلاف المراد. وكان الأَوْلَى -إن كان لا بدّ متدخّلًا- أن يقول: "كما حكاه السَّكاكيّ". ج / خطؤه في نقل بيت شعريّ دون أن يكون ما أورده رواية ذُكرت له. والبيت مشهور عند البلاغيّين. استشهد به الإمام عبد القاهر ومن جاء بعده بما فيهم السَّكاكيّ عمدة المختصر والشّرح. وهو (¬1): "وقال: إني في الهوى كاذب انتقم الله من الكاذب". أَمَّا خطؤه فيه فقد وقع في أوّل البيت؛ حيث قال: "قد قال"، ولم أقف على مصدر متقدّم أَوْ متأخّر أورده بهذا النّقل. وقد يقول معترض: ربّما وقع هذا الخطأ من النّاسخ دون المؤلّف!! فأقول: قد يكون، وربّما كان الأمر كذلك!!، إلّا أنّ جميع نسخ الكتاب على هذا النّقل، الأمر الَّذي يقوّي أن يكون من المؤلّف. والله أعلم. 3 - خطأ علمي: وتحقّق هذا الخطأ عندما فهم الشّارح من كلام المصنّف ما لم يقصده، فحمّل كلامه ما لا يحتمل؛ وقد يبدو هذا الخطأ واردًا بل ربّما وقع فيه كلّ من يقرأ المختصر إلّا أنَّنا لم ننتظره من الكرمانيّ بالذّات فهو أقرب الناس إلى شيخه وأعرف التّلاميذ بكلامه ومراده، فكيف فاته ألّا يميّز بين كلام شيخه وكلام غيره!! ¬
ولنتبيّن الأمر بجلاء أسوق من الكتاب النصّ الآتي (¬1): "قال الرّبعيّ، أي: عليُّ بن عيسى الرّبعي نحويُّ بغداد: (إنّ) للتَّحقيق، أي كلمة إنّ للتّحقيق ولتأكيد إثبات المسند للمسند إليه و (ما) مؤكّدة؛ لا نافية كما قال من لا خبرة له بالنّحو؛ قيل عرّض به للإمام الرَّازي ... ". أقول: الظّاهرُ المتبادرُ إلى الذّهن من هذا النّصّ أنّ قول الرّبعيّ يمتدّ -فيما ساقه المصنّف- إلى نهاية الجملة؛ أي: " ... من لا خبرة له بالنّحو" وهو ما تبادرَ إلى ذهنِ الشَّارع؛ بدليل قوله فيما بعد (¬2): "وقال الربعيّ: إنّها قول من لا خبرة له بالنّحو ... " فقد فهم أنّ الجملة السّابقة كلّها مقول للرّبعي؛ لكن الحقيقة تبدو بالرّجوع إلى "المفتاح" وشروحه خلاف ما تبادر؛ فحملة "وما مؤكّده؛ لا نافية؛ كما قال من لا خبرة له بالنّحو" ليست من كلام الرّبعيّ؛ كما ظنّ الكرمانيّ، وإنّما هي من الإيجيّ يحكيها عن السَّكاكيّ الَّذي علَّق عليها في "المفتاح" بقوله (¬3): "ثم اتّصلت بها [أي: بـ "إنّ"] ما الموكّدة لا النّافية على ما يظنّه من لا وقوف له بعلم النّحو"؛ وقد أبان شرّاح المفتاح (¬4)؛ بل الكرمانيّ عقب الجملة ¬
4 - أخطاء أسلوبية
مباشرة أنّ المعنيّ بذلك هو الإمام الرَّازي؛ فهو صاحب القول المعترض عليه. وهنا يتجلّى الخطأ الَّذي وقع فيه الشّارح حيث فهم أنّ الاعتراض متّجه من الرّبعيّ إلى الرَّازي، وليس الأمر كذلك؛ إذ إِنّ الرّبعيّ متقدّم في الوفاة على الفخر الرّازي فالرّبعيّ توفّي سنة (420 هـ). أمّا الفخر فتوفّي سنة (606 هـ). فكيف يعترض متقدّم على متأخّر؟! -كما يفهم من كلام الكرمانيّ-. ثمّ لم تنقل كتب النّحو أنّ أحدًا قال بقول الرَّازي ممّن سبق الرّبعيّ حتَّى يوجّه قوله إليه. والله أعلم. 4 - أخطاء أسلوبيّة: ويمكن أن نقسمها إلى قسمين: أ - ما يتعلّق بالمعنى: ومن أمثلته: استطراد الشّارح -رحمه الله- في إيضاح قول المصنّف (¬1): "فإما أن لا يستدعي الإمكان" مشيرًا به إلى القسم الأوّل أقسام الطّلب بما يعدّ أقرب إلى الغموض والإلباس؛ إذْ بنى حديثه على كلمتين زاوج بينهما ثمّ أدارهما نفيًا وإثباتًا؛ قال: "أي: لا يستدعي في مطلوب إمكان الحصول؛ لا أنَّه يستدعى أن لا يمكن. والأوّل أعمّ؛ لأنَّه كلّما صدق: (يستدعى أن لا يمكن) صدق: (لا يستدعي أن يمكن) وإلّا لصدق (يستدعى أن يمكن) فيتجمع النّقيضان. وليس كلما صدق (لا يستدعي ¬
أن يمكن) صدق (يستدعي أن لا يمكن) لأن الأوّل يحتمل أن يجامع الإمكان وعدمه؛ لاحتماله منهما، بخلاف الثّاني فإنّه لا يجامع الإمكان لاستلزامه عدمه". ولعلّ التوغّل في النطق عند بعض تلاميذ المدرسة السَّكاكيَّة هو الَّذي أدّى إلى مثل هذا التّعقيد. ب - ما يتعلّق باللَّفظ: ومن ذلك خطؤه في مخاطبة المؤنّث بصيغة المذكّر. ومثاله قوله (¬1): "الأوّل: عقد الهمّة به منك أَوْ من السَّامع ولو ادِّعاءً؛ أي تكون همّة المتكلّم أَوْ السَّامع معقودًا به؛ حقيقةً أَوْ ادِّعاء ... ". فلفظة "معقودًا" وردت بصيغة التذكير، وحقّها أن ترد بالتّأنيث لكونها خبرًا لمؤنّث هو لفظة: "همّة". وممّا يلفت إليه النّظر في هذا الجانب إقحام الكرمانيّ -رحمه الله- لبعض الألفاظ الفقهيّة معبّرًا بها عن بعض الأسرار البلاغيّة من مثل قوله (¬2): "فعلم أنّ الجملة بالنّسبة إلى الواو لها الأحكام الخمسة ما يجب دخولها فيها كالجملة الاسميّة، وما يستحبّ كالماضيّة، وما يحرم ويمتنع كالمضارع المثبت، وما يكره دخولها ويكون تركها أولى كالجملة المنفيّة، وما يستوي الأمران فيها كما في الظّرفيّة". ¬
فالألفاظ: (يجب، يستحبّ، يحرم، يمتنع، يكره) ألفاظٌ شرعيّة يكثر استعمالها على السنة الفقهاء، وكان ينبغي على الكرمانيّ أن لا يزجّ بها في المباحث البلاغيّة؛ لأنّ البلاغة تقوم على الذّوق والتّحليل، وكلاهما لا يقبل الجزم أو القطع حتى تصدق عليهما تلك الألفاظ. ويبدو لي أنّ ثقافة الكرمانيّ الشّرعيّة هي السّبب وراء وجود مثل تلك الألفاظ. وبعد؛ فهذه أبرز المآخذ التي تؤخذ على الكتاب، وهي -في نظري- لا تقلّل من قيمة الكتاب العلميّة، ولا تنقص من قدره إذا ما قوبلت بما له من حسنات، ولله درّ القائل: وَمَنْ ذَا الذي تُرضَى سجاياه كلَّها ... كَفَى المرءَ نُبْلًا أَنْ تُعدَّ معَايبُهْ (¬1)!!. ¬
المبحث الرابع: وصف مخطوطات الكتاب، ومنهج التحقيق
المبحث الرّابع: وصف مخطوطات الكتاب، ومنهج التّحقيق وفيه مطلبان: المطلب الأوّل: وصف مخطوطات الكتاب. المطلب الثّاني: منهج التّحقيق
المطلب الأول: وصف مخطوطات الكتاب
المطلبُ الأوَّل: وصفُ مخطوطاتِ الكِتابِ بعد بحثٍ وتَنْقيبٍ شَديدين عثرتُ لهذا الكتابِ على خَمْس نُسخٍ (¬1)، استطعتُ -بفضلِ الله تعالى- وعلى الرُّغم من تَوزّعها على ثلاثِ دول الحصولَ على مُصوّراتها جميعًا. وبالمُقارنة بينها لم أَجْد كبيرَ فرقٍ يُذكر؛ فجميعُ النُّسخ سَليمةٌ من آفاتِ المَخْطوطاتِ، اللهمّ إلّا ما كان من نُسْخة مكتبة شهيد التُّركية الَّتي امتدت لها معاولُ الأَرَضَة فأَحْدثت بها خُرومًا وتَشَقُّقات. وجَميعُها أَيْضًا سليمةٌ من آفاتِ النُّسَّاخ باستثناء نسخة مكتبة مشهد الإِيرانية الَّتي طغت عليها العُجمةُ في بعضِ الكلمات. وقد أَسْفر إِمْعانُ النَّظرِ في تِلك النُّسخ إلى اتِّخاذ إِحداها أَصْلًا، قابلت بعض النُّسخ عليه، وأهملت بعضها الآخر، لعلل سيرد ذكرها - إن شاء الله - فيما بعد. وإليكَ بيانَ هذه النُّسخ: ¬
أولا: النسخ المعتمدة
أوّلًا: النّسخ المعتمدة: 1 - النّسخة الأصل: وهي مَحْفوظةٌ في مكتبةِ دامادا إبراهيم باشا زادة في تركيا تحت رقم (1026)، وتقعُ في ثلاثٍ وثمانين ورقة، في كلِّ ورقةٍ صفحتان، وعددُ أَسْطرِ الصَّفحةِ الوَاحدةِ يترواح ما بين (25 - 27)، وفي كلِّ سطرٍ منها نحو ثلاث عشرة كلمة. وهي مكتوبةٌ بخطٍّ نسخيٍّ واضحٍ، سار على نَمطٍ واحد حتَّى بداية الصَّفحة العَاشرة، ثم تغيَّر إلى خطِّ نسخ تعليق واضحٍ أيضًا؛ ليعود مع بدايةِ الصَّفحة الثامنة عشرة إلى الخَطِّ الأَول. وهكذا يستمرُّ إلى بداية الصَّفحة الحادية والسِّتين حيثُ يعود النّسخ تعليق ليأخذَ الخطّ شكله الأوَّل بعد الصَّفحة الثَّامنة والسِّتين، وهكذا يستمرُّ إلى نهايةِ المَخْطوط. ويلحظُ أَن نَاسخَها ميَّز المختصرَ من الشَّرح بالمدادِ الأَحْمر، كما أَنَّه اسْتدركَ في الحاشيةِ بعضَ السَّقطاتِ التي تنمُّ عن مراجعتِه لها. وكانَ يُشِير إلى السَّقط بـ (‹) أَوْ (›). أَمَّا غِلافُها فجاءَ على النَّحو التَّالي: 1 - عنوانُ الكِتاب واسم مؤلِّفه. وصورتها: "كتاب شرح الفوائد الغياثيّة؛ للشَّيخ الإمام العالم المحقّق العلَّامة شمس الدِّين تلميذِ مصنِّفها تغمَّدهُ الله برحمته" وكُتبَ أَعْلى الوَرقة.
2 - كلمة "لا إِله إلَّا الله محمَّدٌ رسولُ الله"، وكتبتْ بخطٍّ دَقيقٍ في أعْلى الصَّفْحةِ في رُكْنها الأَيْسر على وجه التَّحديدِ. 3 - تَقْريظٌ بخطِّ ابن الكرمانيِّ "يحيى" وردَ في عشرين سَطرًا كُتبَ تحتَ العُنوانِ مباشرةً وامتدَّ به الكاتبُ إلى نصف الصّفحة، ثم اتَّجه به إلى الطرف الأَيسر، كاتبًا من أسْفلِ الصَّفحة إلى أَعْلاها نحو ستّة أَسْطر. وفي الطرف المقابلِ إِلحاقٌ آخر كتبَ في سطرين. وتضمّنَ التَّقريظُ إشادةً بمؤلِّف الفوائدِ الغياثيَّةِ، وذكر اسمِه، ونسبه، ومؤلَّفاتِه، وتاريخ وفاته ومكانِه. 4 - كلمةٌ بخطِّ ابن الكرمانيِّ أيضًا؛ تَتَضمّنُ تاريخَ وفاةِ والدِه، ومكان دفنه. وكُتِبت أَمام العنوانِ واسمِ المؤلِّف. 5 - عبارةٌ مسجوعة من ثلاثةِ أسطرٍ كتبتْ بخط مغايرٍ للخُطوطِ المُتقدّمةِ بقلمٍ مُخْتلفٍ؛ نصُّها: "إذا ... في على الناس فالرّدى ... بموجع بخير مليك سيّد وسميدع مصطفى ... متمم ومصقع. بجيش ... قبل محكمه الجمع". ودوّنت في منتصف الصّفحة تقريبًا. ويبدو أنَّها كُتبَتْ قبل تقريظ ابن الكرمانيّ المتقدّم بدليل أنَّه انحرف عنها إلى طرف الصّفحة الأيسر. 6 - ختم تملّك؛ نصّه: "وقف الملّا عليّ أفندي القاضي بفسا كرزوم إيلي على أولادِه بطنًا بعد بطن ثمّ على من يكون مدرّسًا
بمدرسة المرحوم شهزاده السّلطان محمّد خان بقسطنطينيّة المحميّة سنة ... "، ومكانُه في ركنِ الصَّفحةِ الأَيْسر مقابل الأَسْطر المَسْجوعة المُتَقدّمة، ويميل إِلى الأَسْفل عنها قَليلًا. 7 - كلمة: "كتاب معاني" كُتبت إحدى الكلمتين فوق الأخرى بخطٍّ فَارسيٍّ. وموقعُها في أَقْصى الرُّكن الأَيمن قبالةَ الختمِ السَّابق. 8 - بيتا شعر؛ نصّهما: "يَقُولون لي: صَبْرًا ... فَصَبرُك أَحْمد فَقُلتُ لهم: مَهْلًا ... فَصدُّك أحمد" وجَاءا تحت الختمِ السَّابقِ بميلٍ إلى الجهةِ اليُمْنى مِنْه. أَمَّا الصَّفحةُ الأَخيرةُ من هذا المخطوط فجاءت تَحْمل نَصَّين مُهمَّين: أحدهما: يَتَضمَّن تاريخَ نسخ المخطوط، واسمَ ناسخِه، ونصُّه: "تمَّ نسخُ الكتابِ في الثُّلث الأَخير من شهرِ المبارك جُمادى الأَولى من سنةِ أربعٍ وستّين وسبعمائة هجريّة على يد المفترق في الذّنوبِ والمُعْترف بالعيوبِ الحسنِ بن عليٍّ بن مبارك بن القَوّام الموصليّ. غَفَر الله ذُنوبهم وسَتَر في الدَّارين عيوبَهم، مُصَلّيًا ومُسلِّمًا على نبيِّه وآلهِ الطّيّبين وأَصْحابه الطاهرين. آمين يا ربَّ العالمين". ثانيهما: يَتَضمن سماعَ المؤلِّف هذا الكتابَ من كَاتِبه وإِجَازَته له بروايتِه عنه. وتَكْمُن أهميّةُ هذا النَّصِّ في أَن كاتبَه هو محمَّد بن يوسف الكرماني نفسه. ونصّه ما يلي:
"بِسْم الله، والحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِه محمّدٍ وآلهِ وصحبِه أَجْمعين. أمّا بعدُ: فقد سَمِع المولى؛ إِمامُ الأَئمَّةِ، قدوةُ أفاضلِ العصرِ؛ جامعُ الفَضِيلتين، مجمعُ الكَمالات، ذُو النَّفسِ القُدسيَّة، والفَضائلِ الإنسيَّة، جلالُ الملَّةِ والدِّين، نصرُ اللهَ، أدامَ الله كماله، وزادَ جلاله في المنْزِلين من الكاتبِ هذا الكتابَ؛ فأجزتُ له أَنْ يرويَه عنِّي، ويعربه غيره، مسطهرًا بدعائِه الشَّريفِ، مُلْتمسًا منه تَصْحيحه لو اطلع على ما يَقْتضيه، نفعه الله وإِيَّاي بما سَعَينا فيه. وهذا خطُّ مؤلِّفه أصغرِ عبادِ الله تعالى محمّدِ بن يوسفَ بن علي بن محمّد الشَّافعيّ الكرمانيِّ؛ غَفَر الله زلّاتِه. وذلكَ في أوّل أَوَّلِ ربيعي سنة أربعٍ وستّين وسبعمائة ببغداد". أسباب اتّخاذ هذه النُّسخة أَصْلًا: ثمّة أسبابٌ عدَّة، ومواصفاتٌ عالية؛ ارتقت بهذه النُّسخة، وأَهَّلتها لأَنْ تكون أَصْلًا، أسوقُها فيما يلي: 1 - وضوحُ خطِّها، وسلامةُ أَوْراقها. 2 - استقامة نَصِّها، وقفةُ سَقْطِها. 3 - كونُها أقدَم النُّسَخ تاريخًا، فهي مكتوبةٌ في زَمنِ المؤلِّف. 4 - كونُها مقابلةً على نُسخةٍ أخرى، فهي بوزنِ نُسْختين.
2 - النسخة (أ)
5 - اطّلاعُ ابنِ المؤلِّف عليها وكتابتُه على غِلافِها. وهو تلميذُ أَبيْه وألصقُ النَّاسِ به. 6 - إجازةُ روايتِها أَوْ النُّسخةِ الَّتي قُوبلت عَليها من قِبَل المؤلِّف وبخطِّ يدهِ. 2 - النُّسخة (أ): وهي محفوظةٌ في مكتبة فاتح كتبخانة سي، فاتح جامع شريفي، در ونداه واقصر في تركيَا رقم (4638)، وتقع في أربع وستِّين ورقة، في كلِّ ورقةٍ صَفْحتان، وفي كلِّ صفحةٍ سبعة وعشرون سطرًا، وفي كلِّ سطرٍ منها نحو من ستّ عشرة كلمة. وهي مكتوبة بخطّ نسخيٍّ جميل، سارَ على نمطٍ واحدٍ من أَوَّل المخْطوطةِ إلى آخرِها، وعَليها اسْتدراكاتٌ قَليلةٌ في أَوَّلها، تدلّ على أن ناسخَها راجعها بعد أَن أتمَّ نَسْخها. ولَمْ يُكْشَف عن نَاسِخها ولا عن تَاريخ نَسْخها، وإنْ كان خَطُّها يرْتقي بها إلى القَرنِ الثامن الهِجريِّ "عصر المؤلّف". ويبدو أنَّ ناسخَها على قدرٍ من العِلم والإتقان، فَهُو حسنُ الخَطِّ، نادرُ التَّصحيف والتَّحريف، ملمٌّ بالمتن والشَّرح؛ حيث كتبَ أَوَّلهما بالمدادِ الأَحمر والآخر بالمداد الأَسْود. وهي لَمْ تَبدأ بالمتن -كما بَدأت سابقتُها-، وإِنَّما بالشَّرح؛ حيث جاءَ في أَوَّلها: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ربِّ يِسِّر. الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ على خيرِ خَلْقِه محمَّدٍ وآله أجمعين. وبعد؛ فيقولُ العبدُ
3 - النسخة (ب)
أصغرُ عبادِ الله تعالى محمّدُ بن يوسفَ الكرمانيِّ أَعلى الله مَنْزلَه ومَنْزلَته في المَنْزلين، ورفَع مَقَامَه ومَكَانَته في المَكَانين. قال الأستاذُ". وأهمُّ ما يُميِّزها -سوى ما تقدَّم- سلامةُ أوراقها؛ حيث خَلَت تَمامًا من أيِّ تلفٍ سواء داخل النَّصِّ أَوْ خارجه، واسْتقامةُ سِياقها، وقِلَّةُ سَقطِها، وتميّز خطوط عناوينها الدّاخليّة بخطّ سميك واضح. ولهذه الامْتيازات قَدَّمتُها على بقيَّةِ النُّسخ الأُخرى، ورمزتُ لها بالحرفِ الهِجائي الأَوَّل "أ". 3 - النُّسخة (ب): وتوجدُ في دارِ الكُتبِ الوَطنيَّةِ في تُونس تحت رقم (1955) وتقعُ في مائة وستّ وعشرين ورقة؛ تَشْتمل الصَّفحةُ الواحدةُ منها على ثلاث وعشرين سطرًا بمعدَّل تسع كلمات للسَّطر الواحدِ. وهي مكتوبةٌ بخطٍّ فارسيٍّ جَمِيل جدًّا، سارَ على نمطٍ واحدٍ حتَّى نِهايةِ المَخْطوطة، والنُّسخةُ مكتوبةٌ بالمدادين؛ المتن بالأحمر، والشَّرح بالأسود. وقد تأثرت أوراقُها بسبب الأَرضةِ والرُّطوبةِ، ممَّا أحدثَ فيها تَشَقُّقاتٍ وتَرْشيحات، وبدا الجهدُ الَّذي بُذلَ في تَرمِيمها واضِحًا حيث القصّ واللّزق والأَشْرطةِ الشَّفافةِ اللَّاصِقةِ. وقراءُتها في الجملةِ -مع ما اعْترَاها من آفات- لا تُشَكِّلُ كبيرَ عناءٍ وبخاصَّةٍ مع وجودِ النُّسخ الأخرى الَّتي تُوضِّحُ مُشْكلها وتفكُّ طَلْسَمَهَا.
ثانيا: النسخ المهملة
ومع أنَّها كثيرةُ السَّقطِ، وبخاصَّة ما يكون بسببِ انْتقالِ النَّظرِ، إِلا أنَّ أهميَّتها تكمنُ في تاريخها، حَيْثُ فرغَ نَاسِخُها من كتابَتِها في حياة مؤلِّفها وبِالتَّحديدِ في ربيع الآخر سنةَ تسعٍ وستِّين وسبعمائة، ولذا اعْتَمَدتُّها في المُقَابلةِ، ورمزتُ لها بالحرفِ الهِجائي الثاني "ب". ثانيًا: النسخ المهملة: 1 - نسخة مكتبة شهيد: وهي موجودةٌ في مكتبةِ شَهيد على في تُركيا تحت الرَّقم (2239)، وتقعُ في ثماني وثمانين ورقة، بَيْنما زاد ترقيمُها ورقةً واحدةً على الأَصْل، وهو خطأٌ سببُه احْتسابُ ورقةٍ لا علاقةَ لها بالكِتاب قَبْل العُنوان. أَمَّا عددُ أسطرِ صفحتِها الواحدةِ فثلَاثةٌ وعشرون سَطرًا. وخَطُّها نَسْخيٌّ جميلٌ جدًّا، معجمٌ في غالبِ أَحْرفه، محدّدُ الفَقَراتِ، واضحُ العَناوين، وظاهرٌ من ورقِها وخطِّها أَنَّها قديمة النَّسخ بحيث تَرْتقِي إِلى زَمن المؤلِّف. ومع هذا لَمْ يكن أَمامي بدٌّ من إِهْمالها، والاكْتِفاء بمجردِ الاسْتِئناس بها، وذَلك لسَببين رئيسين: 1 - شدَّةُ التَّلفِ الذي لحق بها، ويَتَمثَّلُ تأكل أَرضة امتدَّ إلى جَميع أَوْراقها. ابْتداءً من صَفْحة العُنوان إِلى صفحةِ الخِتام، ولكونه وَقَعَ في مُنْتصفِ الوَرقةِ في طَرفها الأَسفل لَمْ تسلم منه الصَّفحتان اليُمنى واليُسرى. 2 - تَطَابُقُ نصِّها مع النُّسخةِ "أ" حيث سَارت معها حَذْو القُذَّةِ بالقُذَّة وتَابعتها حتَّى في الخَطأَ؛ الأَمر الذي يؤكِّد كون إِحداهما مَنْسوخة
2 - نسخة مكتبة مشهد
عن الأُخرى. وإِنْ كُنتُ أُرجِّحُ تَأخّرَ نسخة مكتبة شهيد لأَسْبابِ تَبيّنتُها في أثناءِ المُقارنةِ بينهما. منها وقوعُ ناسخ الأَخيرةِ في ثلاثةِ أَخْطاءٍ مُتفرِّقةٍ نَتجتْ عن إِخْفاقِه -قطعًا- في قِراءة ثلاثِ كلمات من النّسخة "أ". 2 - نسخة مكتبة مشهد: ويعودُ الفَضْلُ في الاهْتِداء إليها -بعد الله سبحانه وتعالى- إلى فضيلةِ الدُّكتور / يوسفَ بن عبد الرَّحمن المرعشليّ الباحثِ بمركز خدمة السُّنَّة والسِّيرة النَّبويّة؛ حيث تفضَّل مَشْكورًا بمراجعةِ النُّسخةِ الأَلمانيَّة الأَصليَّة لكتاب بروكلمن الموجودةِ لديه فوجدَ ما يدلُّ عليها في الذَّيل. وتَمكّنتُ بفضل الله من الحصولِ على مُصَوَّرة لها من مكتبةِ مشهد في إِيران، فوجدتُها تقعُ في ثنتين وتسعين ورقة، في كلِّ صفحةٍ منها ثلاثة وعشرون سطرًا؛ في كلِّ سطرٍ نحو ثلاث عشرة كلمة. وَخطُّها نسخيٌّ جميل جدًّا مُعْجم، سارَ على نَمطٍ واحدٍ من أَوَّلِها إلى آخرها. والحقَّ أَقُولُ: أنني توسَّمت في هذه النُّسخة خيرًا بادئ الأَمر وبخاصَّة قَبلَ الحصولِ عليها وقلتُ في نَفْسي: لعل في وجودها في بيئة صاحب المتنِ وصاحبِ الشَّرع ما يُميّزها عن غَيْرها. وما زالت كَذلك حتَّى قرأتُها كاملةً وقارنتُها بغيرِها. فوجدتُها كثيرةَ السَّقط؛ ظاهرةَ العجمةِ في بعضِ كَلماتِها؛ غيرَ متّضحة المتن في بعضِ المواضِع لكتابته بالأحمر فآثرتُ عدم الاعْتمادِ عليها دون الاسْتِئناسِ برغمِ ما بذلتُ في جَلْبها من الجُهدِ والمالِ.
3 - نسخة المتن
3 - نسخة المتن: سبقتِ الإشارةُ إلى أن الكرمانيّ ضَمَّن كتابَه "تحقيق الفوائد" كتاب شيخه الإِيجيّ "الفوائدَ الغياثيَّة" وإتمامًا للفائدةِ وتَحرِّيًا للدِّقَّة رأيتُ أَن أعرضَ نصَّ المتن الموجود في شَرْح الكتابِ على نُسخةٍ مُستقلَّة للمتن واضعًا نصبَ عيني هدَفين رئيسين: 1 - الاطمئنانُ على نصِّ المتن الموجودِ في كتابِ الكرمانيِّ والتَّأكُّدُ من سلامتهِ كَمَا وضَعه مصَنِّفُه دون تَغْيير قد يَلْحق به، أوْ يَعْتريه من جَرَّاء التضمين، وكَثيرًا ما يحدثُ ذلك في المصنفات المشَابهة؛ حيت يُسَوِّغُ الشّارُح لنَفْسه تكييف المتن بما يَتَناسب مع سياق الشَّرح. 2 - تحرِّي الدِّقة في تَرْجيح إحدى الرِّوايتين أوْ الروايات عِنْد اختلاف المَتنِ في نسخ الشَّرح، وبخاصَّةٍ أن ذلك لاختلافَ متوقّعٌ، بل واردٌ نظرًا لأهميَةِ كتابٍ "الفوائد" الَّذى تلقاه النَّاس بالقبولِ، وتَلقّفته الصُّدور بالحفْظِ ممَّا أدَّى إلى كثرة نُسخِهِ واختلاف روايته. وفي سبيل ذلك لمْ أجدْ مناصًا من الاعتماد على نسخة خطِّيَّة للفوائد الغياثيَّة، أمّا الكتاب المحقّق فأهمله تمامًا لأسباب سوف أَذْكرُها في نهاية المطلب.
وإليك وصفًا موجزًا لهذه النُّسخة: - نسخةُ الفوائد الغياثيَّة "ف": وتوجد مصوّرتها في مكتبة مخطوطات الجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة تحت الرقم (103/ 16). وتقع في إحدى وثلاثين ورقة، في كل ورقةٍ صَفْحتان، ومسطّرتُها تسعةَ عشرَ سطرًا؛ بمعدّل ثماني كلمات في السطر الواحد. وخطُّها قديمٌ واضحٌ، وبها سقط لكنَّه قليلٌ. ويلحظ أنني رمزت لها في أثناء المقابلة بالحرف "ف" الحرف الأوَّل من عنوان الكتاب. أمَّا كتاب "الفوائد الغياثيَّة" المحقّقُ فإِنَّني لم أُعوِّل عليه لعدَّة أسباب أجْمِلُها فيما يلي: 1 - تَأَخَّرُ زمنِ النُّسخ التي اعتمد عليها محقّقه في التحقيق وعدمِ استقلالية بعضها؛ حيث كان ضمِن بعض شُروح الكتاب المتأخرةِ. 2 - كثرة المآخِذ الَّتي اسْتدركتُها عليه -بعد قراءةِ الكتاب كَاملًا ومُقَارنَتِه بِالنُّسخ الَّتي لديَّ-؛ حيث تجاوزت تسعين مأخذًا، بعضُها أَخطاء في إقامةِ النَّصِّ إمَّا بالزيادة أَوْ بالنّقص، أوْ بالتَّقديم أَوْ بالتأخير، أوْ بالتَّحريف أُوْ التَّصحيف، أو بإثبات غيرِ الصَّواب مع وجُود الصَّواب. وبعضها أخطاء طباعيَّة، وأُخر وقَعت في آياتٍ قرآنيَّةٍ.
المطلب الثاني: منهج التحقيق
المطلبُ الثاني: منهجُ التحقيق حاولتُ جَهْدِي إخراجَ كتابِ "تحقيق الفوائد" كما أراده مؤلِّفُه، واستنفذتُ الوسعَ في أَنْ يكون في المكانَة اللائقة به وبصَاحبِه. ولذا حرصتُ على اتّباع مَنْهجٍ عِلْميٍّ سَلِيم مُتَحرِّيًا الأمَانةَ والدِّقةَ في كلِّ ما أكتبُه أَوْ أعْرض له. ولهذا قُمْتُ بما يلي: 1 - اعتمدتُ نسخةَ مكتبةِ "دامادا إبراهيم باشا" أصلًا، لامتيازات حَظِيت بها، ثمّ نسختُها كاملةً مراعيًا في ذلك قَواعدَ الإملاء الحَديثة وعلامات التَّرقيم إِلَّا ما كان من الآياتِ القرآنيّة فإِنِّي أثْبتُّ رسْمَها كمَا هو في المُصْحفِ العُثْماني. 2 - رمزتُ لوجهِ الوَرقةِ بالرَّمز "أ"، ولظَهْرها بالرَّمز "ب". 3 - أثبتُّ أرقامَ صفحاتِ النُّسخةِ الأَصليَّةِ. وذلك بوضع خطٍّ مائلٍ عند نهايةِ كلِّ صفحة، والإشارَةِ إِلى رقمِ الورقةِ، ورمزِ صفحتِها، في الهامشِ الأَيْسر، أَمام الخطِّ. 4 - قابلتُ نسخةَ الأَصْل بالنُّسختين الأخريين المعتمدتين، ذاكرًا الفُروقَ بينها في الحَاشِية، ولم أَتَدخّلْ في الأَصْل إلا لمسوِّغ قَويٍّ يَقْتضي ذَلك من:
أ: تَيَقُّن خطأ الأَصل. وفي هذه الحالةِ أُثبتُ الصَّوابَ في المتنِ وأُشير في الحاشِيةِ إِلى مَا وردَ في الأصلِ بقَولي: "في الأصْلِ ... والصّواب من نسخة ... ". الحالة الثانية: ب: تيقُّن صحّةِ بقيَّةِ النُّسخ، وفي هذه الحالةِ أُثبتُ الصَّحيحَ في المتن وأُشير في الحاشِية إلى ما ورد في الأَصل بِقَوْلي: "في الأَصْل ... والمُثبت من نسخة ... ". وجلُّ ما أَثْبتُّه ممَّا تيقَّنتُ صِحَّته وجَدتُ له شَواهدَ تُقوّيه وتُرجّحه على غيره؛ إِمَّا من النُّسخ الأخرى وغالبًا ما يكونُ بإجماعِها سواء المعتمدة أَوْ المهملة، أَوْ بالنُّسخ الأُخرى ومصادر القَولِ النَّاقلة له إِنْ وجدت. 5 - قابلتُ نصَّ "الفوائد الغياثيّة" الموجودَ بالنُّسخةِ المعتمدةِ أَصْلًا بنسخة خطِّيّة مستقلّة للكتاب وهي الّتي رمزت لها بالحرف "ف" كما سبق أن ذكرت وأَشْرتُ إلى الفُروق بَيْنهما، وكثيرًا ما أُطَمِئْنُ القارئ إلى أنّ ما خالف الأصل من النّسختين الأخريين ليس خطأ ورادًا، بل رواية ثابتة للكتاب. 6 - عزوتُ الآياتِ القرآنيَّة، بذكرِ اسمِ السُّورة ورقمِ الآية؛ مُفَرِّقًا بين الاسْتشهاد بجزءِ الآيةِ والآيةِ؛ بقولي في الجُزْء: "من الآيةِ" أَوْ "بعضَ الآيةِ"، ومكمِّلًا بعضَ الآياتِ في الحاشيةِ إن تَطَلَّب الإيضاحُ ذلك. كما أَنَّني قمتُ بتَمييزِ الآياتِ عن سائرِ النُّصوص بِوَضعها بين قَوْسين مُزهرين {}.
7 - وثَّقتُ القراءاتِ القرآنيَّة من كتبِ القِراءاتِ بالدَّرجةِ الأولى، ثم من كتب التَّفسير الَّتي تُعْنى بالقراءاتِ، ونَسَبتها إلى أَصْحابِها. 8 - خَرَّجتُ الأَحاديثَ النَّبويَّة والآثارَ من مصادر الحديثِ المَعْروفة، متبدأً بالبحثِ عن الحديثِ أَوْ الأَثرِ في كتبِ الصِّحاح، فإِن لم أجدْ بحثتُ في كتبِ غريبِ الحديثِ والأَثر، مشيرًا في الغَالبِ إلى لفظِ الحديثِ كما وردَ في مصدرِه. 9 - خرَّجتُ أمثال العربِ السَّائرةَ وأقوالهم المَشْهورةَ من كتبِ الأمثالِ، ومن بقيَّةِ كتب الأدبِ واللّغَة. 10 - خرَّجت الشَّواهد الشِّعريَّةَ الواردةَ في الكتاب مبتدأً بالدِّيوان إِنْ كان للشَّاعر ديوانٌ، أَوْ من مَجْمُوعه الشِّعري إِنْ وُجِدَ. مع تخريجه -أيضًا- من بعضِ كتبِ اللّغة والأَدب. مُشِيرًا في غالبِ الأبياتِ إلى اخْتلافِ روايات البيت، فإِن لم أَجد ديوانًا أَوْ مَجْموعًا شعريًّا خرّجتُ البيتَ من كتبِ اللّغة والنَّحو والأَدب. وإذا كانَ الشَّاهدُ الشِّعريُّ بلاغيًّا أشرتُ -إضافةً إلى ما تقدَّم إلى- الاسْتشهادِ به في المصادر البَلاغيَّةِ المتقدِّمة على المُصنِّف. كما أنَّني حرصتُ على نسبةِ الأبياتِ -التي لم يَنْسبها الكتاب- إلى قائِليها، مبيّنًا الخلافَ في نسبةِ البيتِ إِنْ نسبَ إلى أكثرِ من قائلٍ، ومتى ورد صدرُ البيتِ أَوْ عجزُه أَوْ جزؤُه أكْملتُه في الهامشِ إن اهتديت إلى بقيّته، وقد أذكرُ في الهامشِ بيتًا أَوْ بيتين وَردا برفقةِ البيتِ المُسْتشهد به.
11 - قمتُ بتخريج أقوالِ العلماء وغيرهم، وما وقفتُ عليه من آرائهم من مؤلفاتِهم إِنْ كان لَهم مؤلَّفاتٌ، فإِن لم تَكُن أَوْ فُقدت خَرَّجُتها من المصادر الَّتي تَنْقُلَها. 12 - وضعتُ الأحاديثَ النَّبويّةَ، والآثارَ، والأقْوال، والأَمْثال، والنُّصوص المَنْقولة، وأَسماء الكُتب بَين قَوْسين صَغِيرين: "". 13 - شَرَحتُ المُفْرداتِ الغَريبةَ، وحاولتُ أَن يكونَ ذلك مِن مَظَانِّها قَدْر الإِمكان؛ فإِنْ كَانت اللَّفظةُ الغَريبةُ في آيةٍ قرآنيَّة فَسَّرتُها من كتبِ غريب القُرآن أَوْ التَّفسير، وإِنْ كانت في حديث أَوْ مثلٍ شَرحتُها من كتبِ غريبِ الحديثِ، أَوْ شُروح الحديثِ، وإِنْ كَانت في سائِر النُّصوص الأخرى فمن كتبِ المعَاجِم، والمصادر اللُّغويَّة. 14 - علَّقت على بعضِ عِباراتِ الكِتاب بمَا يُزيلُ إبهامها، ويوضِّحُ غموضَها، وحَرصتُ على إِعادة الضَّمائر إلى مَرْجعها من الكلام. 15 - خَرَّجتُ الكلماتِ الدَّخيلة أَو الْمُعَرِّبَة من كتبِ المعرَّبِ أَوْ الدَّخيل إِنْ وجدت بالدَّرجة الأُولى، فإِنْ لَمْ توجد فَمِن بقيّةِ كتبِ اللُّغةِ. 16 - ضَبطتُّ الآياتِ القُرآنِيَّة، والأَحاديثَ النَّبويَّة، والآثارَ، والأشعار، والأَمْثال بالشَّكلِ التَّامِّ. 17 - ربطتُّ أجزاءَ الكتابِ بعضَها ببعضٍ، وذلك بالإشارةِ إلى أَرْقام الصَّفحاتِ التي أَحال عليها الشَّارحُ في الكِتاب.
18 - ترجمتُ للأَعلامٍ الذين وردَ ذكرُهم في متنِ الكِتابِ، وحاولتُ أَنْ تكونَ التَّرجمةُ موجزة متناولةً أبرزَ مَعَالم الشَّخصيَّة؛ كاسْمه، ونَسبِه، ولَقبِه، وكُنْيتِه، وولادتِه، وتاريخ وفاتِه، وأهم مؤلّفاته. مُشيرًا -بعد ذلك- إِلى أهمّ مصادر التَّرجمة الَّتي استفدتُّ منها. 19 - حرصتُ -جهدي- أن أُرتِّبَ المصادرَ الَّتي أُحيلُ عليها في الهامشِ بحسبِ وفيّات مُؤلِّفيها ما لَمْ يَسْتدعِ السِّياقُ تقديمَ متأَخرٍ على متقدِّم. 20 - عرفتُ بالأَماكن والبُلدان والمَواضِع الَّتي ورد ذكرُها في المَتن، وعَوَّلتُ في ذلك على كتبِ الأَماكن والبُلدان. 21 - أشرتُ -أحيانًا- إلى بعضِ الأَخطاءِ الواردةِ في المتن من النُّسّاخ، كَأَن أَقُول: "وهو تَحْريفٌ"، أَوْ " تَصْحيفٌ"، وعلَّلتُ لبعضِ السَّقطِ بقَولي مثلًا: "وهو من انتقال النَّظر". 22 - اختصرتُ -أحيانًا- أسماءَ بعضِ الكتب بما يُنْبئ عنها؛ مَنْعًا للإِطالة من مِثْل "المفتاح" في الدّلالة على "مفتاح العلوم"، و"المعاهد" في الدّلالة على "معاهد التّنصيص". 23 - ذَيّلتُ الدِّراسةَ بنماذجَ من صُور الصَّفحاتِ الأُولى والأَخيرة للأَصل وبقيَّةِ النُّسخ المُعْتمدة، وبفهرس لموضوعات الدّراسة. 24 - وضعتُ للكتابِ عدَّةَ فهارسَ فنِّية؛ تيسيرًا للإِفادة منه.
القسم الثّاني: قسم التّحقيق
تحقيق الفوائد لشَمْس الدِّين؛ محمَّد بن يُوسف الكِرمَانيّ
القادم مخطوطات ورقة العنوان من النسخة الأصل
الورقة الأولى من النّسخة الأصل
الورقة الأخيرة من النّسخة الأصل
الورقة الأولَى من النُّسخة (أ)
الورقة الأولَى من النّسخة (ب)
الورقة الأخيرة من النسخة (أ) الورقة الأخيرة من النسخة (ب)
الورقة الأولَى من النّسخة (ف) نسخة الفوائد الغياثيّة
خطبة الكتاب
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ربِّ يسِّر. الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ على خير خلقِه محمّد وآله أجمعين، وبعدُ؛ فيقول العبدُ، أصغرُ عبادِ الله -تعالى- محمَّدُ بن يوسف الكرمانيّ؛ أعلى اللهُ منزلَه، ومنزلَته في الْمَنزلَيْن!، ورفع مكانَه، ومكانتَه في المَكَانَيْن! -: قال الأستاذُ (¬1):] (¬2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬3) الحمدُ للهِ الِّذي خَلَقَ الإنسانَ. - الحمدُ: الثناءُ على الجميلِ على جهةِ التَّعظيمِ. وهو بِاللِّسانِ وحده. والشُّكْرُ على النِّعمة خاصَّة؛ لكن يعمُّ اللِّسانَ والجنانَ ¬
والأركانَ (¬1). فبينهما عمومٌ وخصوصٌ من وجه (¬2). والحمدُ قد يترتَّب على الفضائِل (¬3). والشُّكرُ لا يكون إلَّا للفواضل (¬4). أَلْهمَهُ (¬5) المعاني، وعلمه البيان؛ فيه من حُسْنِ المطْلع وبراعةِ الاسْتهلال ما لا يَخْفَى (¬6). ¬
والصلاة على نبيِّه محمدٍ الذي أُنزلَ إليه (¬1) القرآن معجِزًا، أَبْكمَ بِهِ فُصَحَاءَ بني عدنان (¬2)، وعلى آلهِ وأصحابهِ أهلِ الرحمةِ والرّضوان. وبعدُ: فهذا مُختصرٌ في عِلْمي (¬3) المعاني والبيان؛ يتضمَّن مقاصدَ مفتاح ¬
العُلوم (¬1)، لا أَفرادَ مسائلهِ، وآحادَ دلائله. سمَّيتُه بـ: "الفوائد الغياثيّة"، منسوبةً إلى الوزيرِ بن الوزيرِ بن ¬
الوزيرِ (¬1)، الذي ما وَسع في طَرفِ العالمين (¬2) إدراك طرف عَظمتهِ، وما وَضَعَ الزَّمانُ أَمرًا إلَّا بَعد مشيئَتِه، الدّستورِ، الأعلمِ، الأعظَمِ، سلطانِ وزراءِ العالم، غياثِ المستغيثين، خُلاصةِ الماءِ والطِّينِ (¬3)، غِياث الدُّنيا والدِّين، رشيدِ الإسلامِ والمسلمين (¬4). ¬
سقاهُ (¬1) الله شَآبيبَ (¬2) الرِّضوانِ!، وكساهُ (¬3) جلابيبَ (¬4) الغفران!، تيمُّنًا (¬5) باسم منْ ألقى إليه الدَّهرُ قيادَه. القِيادُ: حَبْلٌ تُقاد به الدَّابَّة. وقامَ بأمرِ المُلكِ بأيْدٍ، فيه مُبالغةٌ في جدِّه واجتهادِه به. فأقامَه وما آده؛ أي: ما أَتعبَه (¬6). بابُه قِبْلةُ الحاجاتِ، يُطْوى إليه كُلُّ فَج عميقٍ (¬7)، الفجُّ: ¬
الطريقُ الواسع بين الجبلينِ. ويُلْوى إليه أعناقُ الآمالِ من كلّ بلدٍ سحيقٍ (¬1). يُعَفَّرُ؛ أي: يُمَرَّغُ في التُّرابِ، في فنائه، أي: فيما امتدَّ من جوانب دارِه. جِباهُ الصّيَدِ، وهو جمع الأَصيَد. وَهُو (¬2) الذي يرفع رَأسَه كِبْرًا. ومنه قيلَ للملِك: أَصيَدُ. ويَتزاحمُ لاسْتسلامِ (¬3) عتبته (¬4) شِفاةُ الصناديدِ. استسلمَ الحجرَ، أي: لَمِسَه (¬5)، إمَّا بالقُبْلة، أَوْ باليَد. وفي بَعض النُّسَخ: "لاستلامِ"؛ والْمعنى هو الْمَعنى. [و] (¬6) الصَّناديدُ: حمعُ الصِّنديد (¬7)، وهو: السَّيِّد الشُّجاع. وامتثالًا له؛ عطفٌ على قوله: (تيمّنًا)؛ حين أمرَ بتلخيصِ مُستودعاته، وتجريدها عن فَضْفاض عباراتهِ المنمنَمَةِ. الفَضْفَضَةُ: سَعَةُ الثوبِ والدِّرع والعيشِ؛ يقالُ: ثوبٌ فَضْفَاضٌ، أي: واسِع. ¬
ونَمنم الشَّيءَ نَمنَمه؛ أي: نَقَّشَه (¬1) وزَخْرَفه. وثوْبٌ مُنَمنَمٌ؛ أي: مُوَشَّى. الَّتي تَسْتَميلُ؛ أي: العبَارات. النُّفوسَ بحُسْنِها (¬2)، وتشغلُ بريِّق شفيفها ومُؤنق تفويفها. راقني الشَّيءُ يروقني: [أي] (¬3) أعجبني. والرَّوق جاء. بمعنى: الصَّفاء -أيضًا-. والشّفَيفُ: الرَّقيقُ؛ بحيثُ يُرى ما خَلْفَه. ومُؤنق: اسْم فاعلٍ منْ آنقني الشَّيءُ؛ إذا (¬4) أعجَبني. والتَّفْويف: التَّخطيط؛ بُرْدٌ مُفوَّفٌ؛ أي: فيه خُطُوط بيض. عن مُشاهدةِ الخرائدِ (¬5)؛ جمع (¬6) خريدةٍ؛ وهي: الحيِيَّةُ من النِّساء (¬7). ¬
المُتجَلْبِبَة بها (¬1). وقد قُرئ -أيضًا- على المصنّف (¬2) - بدل قوله: "مُشاهدة": "محاسنِ الخرائد" (¬3). والتَّمتّع؛ عطفٌ على قوله: "مُشاهدة". بلطائفِ خِلَقِهنَّ؛ جَمع الخِلْقة؛ وهي -بالكَسْر - (¬4) الفِطرة. وشمائلهنَّ؛ جمع شِمال؛ وهو الخُلُق. لِيَجْتَليَها (¬5)؛ يتعلّق بقوله: "أَمَر" غاية له (¬6)، ويحتملُ -أيضًا- كونه غايةً لقوله: "امتِثَالًا" (¬7). وهي غَوَانٍ؛ جملةٌ معترضِةٌ؛ جمع غَانيةِ؛ وهي: الجاريةُ الّتي غَنِيَتْ بزوجها؛ أي: استغنت به عَن غيره. وقد يكَونُ للّتي (¬8) غَنِيَت بحُسنها وجمالها عن الحليّ. مرفوضة السِّتر (¬9)، مرفوعةَ الحجابِ، مُمَاطةَ اللّثام، مَنْضُوَّةَ ¬
الجلباب (¬1)؛ فيقْضِيَ منها وطَرَه (¬2) في أَقْصر مُدَّةٍ (¬3). ولا يُعَرِّج: عطفٌ على قوله: "لِيجْتليها"، [أَوْ على قوله: "فيقضي"] (¬4). والتَّعريجُ على الشَّيءِ: الإقامةُ عليه، يُقالُ: "عَرَّج فُلانٌ على المنْزلِ"، إذا حَبَسَ مَطيّتَهُ عليه وأَقام. أي: لئلَّا يَكثُر توقُّفُه عليه. ولا يُقيم عَليها إلّا إناخة (¬5) راحلٍ مُشَمِّرٍ عن ساق الجدِّ؛ شَمَّر عن ساقه، وشَمَّر (¬6) في أمره (¬7)؛ أي: ¬
خفَّ. أي: إلَّا إقامةً (¬1) قليلةً على جناح الاستعجال (¬2). لتدبُّر، متعلِّق بقوله: "لا يُعَرِّج". لطائفِ كتابِ اللهِ وفوائدِه، والغوصِ: عطفٌ على قوله: "لتدبُّر". في تيَّار بحارِ عويصاتِه؛ لاسْتخراجِ فرائده: التَّيَّارُ: الموج. والعويصُ: ما يصعُبُ استخراجُ معناه؛ اعتاص عليه الأَمرُ؛ أي: الْتَوى. والفريدةُ: الدُّرَّة الكبيرة (¬3). والله -تعالى- أَسألُ أن ينفعَ (¬4) به (¬5)، إِئَه خير موَفِّق ومُعين. وهو (¬6) مرتَّبٌ على مقدِّمة وفصلين؛ لأَن البحثَ فيه إمَّا أن يكون بحيث [إِن] (¬7) الأبحاثَ الآتية موقوفةٌ عليه، أَوْ لا؛ الأوّل: المقدِّمة. والثاني: إمَّا أن يكون من حيث الإفادة، أَوْ من حيث كيفيَّة الإفادة؛ الأَوَّل: الفصل (¬8) الّذي في المعاني. والثاني: الفصل الذي في البيان (¬9). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المقدِّمة
المقدمة
المقدّمة المقَدِّمة -بكسر الدّال- من قدَّم؛ بمعنى: تقدَّم (¬1)، مثل: نبَّه .. بمعنى: تنبَّه. وما يتوقّف عليه العلمُ إِمَّا أن يكون من حيث إِن تصوره موقوف عليه، أَوْ لا. الأوَّل: التَّعريف. والثاني: إِمَّا أن يكون من حيث الشُّروع فيه، أَوْ لا. الأوَّل: الغاية. والثاني: ما يتوقف عليه الكلام في مسائل العلم (¬2)، وقد يختصّ بعلم المبادئ؛ فوجب لكلِّ طالبِ علم أن يتصوّره (¬3) أوّلًا بمعرّفه (¬4) ليكون على بصيرة فيما يطلبُه؛ لثلّا يشتغل (¬5). بما لا يعنيه، وثانيًا بفائدته؛ ليعلم أن سعيه ليس عبثًا، وليزداد جدّه إذا كان مهما، وأن يُقَدِّم ما يتوقف المسائل عليه لِيتمّ بذلك مطالبه. فلهذا قدَّم الثلاثة (¬6)؛ ذكر الأوَّلين في المقدِّمة، والثالث في أوائل الفصلين (¬7). ¬
علمُ المعاني (¬1): تَتبّع ما يُفيده التراكيب لا بمجرَّد (¬2) الوضع (¬3): أَطْلق التَّتبّع وأَراد المعرفة الحاصلة منه (¬4)؛ للزوم بينهما؛ ليُعْلم أنَّه علمٌ يحصّل بالتَّمرّن والتَّتبّع. والقرينةُ ظاهرةٌ (¬5). وأَمثال هذه جائزة في التَّعريفات لظُهور المراد. والمفاد المذكور شاملٌ لقسميْه من الخواصِّ الخطابيَّة، (أي: الظّنيّة)، والاستدلاليَّة؛ (أي: العقليَّة)، لأَن ما يكون لا بمجرَّد (¬6) الوضع قد يكون باستعانة من العقل، كلزوم نفي الشَّكّ من قولنا: "إِن زيدًا لمنطلق" (¬7)، وقد يكون بمجرَّد العقل، كما يُفيد قولنا: "كُل إِنسَانٍ حيوانٌ": أَن كلٌّ ما لا يكون حيوانًا لا يكون إِنْسانًا. ¬
وإنَّما سُمِّي بعلم المعاني (¬1)؛ لأنَّه -بالحقيقة- عبارة عن معرفة المعنى المفاد من التَّركيب؛ كما أنَّ علم البيان سُمِّي به؛ لأنَّه [-بالحقيقة-] (¬2) عبارة عن معرفة بيان المُفاد. قال الأستاذ (¬3): محاسنُ الكلام وخواصُّه إمّا بحسب اللفظ؛ وهو البديع اللفظي، وإمَّا بحسب المعنى؛ وهو البديع المعنويّ، وإمَّا بحسب إفادة المُفاد؛ وهو علم المعاني، وإمَّا بحسب كيفيَّة إفادته؛ وهو علم البيان. ويُسمَّى؛ أَي: ما يُفِيده التَّراكيب: خاصيَّة (¬4) التَّركيب. وإنَّما يُراعِيها البليغ؛ أي: من له فَضْل تمييزٍ ومعرفة (¬5)؛ لنُزوَل التَّراكيب ¬
الصَّادرةِ عمَّن سِواهُ -في صناعةِ البلاغة- منزلة (¬1) أصوات حيوانات تصدُر عن محالِّها بحسب ما يتَّفقُ (¬2). ويفهمُها ذو الطبع السليم (¬3)؛ لاعتبار ذوقه وصحَّة انتقال ذهنه. وتنقسمُ إلى ما هُو كاللازم لِصُدوره عن البليغ، وإلى ما هو لازمٌ لما (¬4) هو (¬5) هو (¬6) حينًا: أي: تَنْقسم الخاصيَّةُ إلى قِسمين: قِسمٍ ليس بِلازم؛ بلْ هوَ كاللَّازمِ لصُدوره عن البليغ (¬7)؛ وهي اللّوازمُ الخطَابيّة؛ كلُزوم نفي الشَّكِّ بقولنا (¬8): "إِن زيدًا منطلقٌ"؛ فإنّه ¬
يلزمهُ لصدوره عن البليغ؛ إذ لوْ صدر من غيره لم يُفهم (¬1). وهذا القِسْمُ يقعُ كثيرًا؛ بلْ دائمًا في كلام البليغ. وقسمٍ لازم لذاتِ التَّركيَب صدرَ عن البليغ أوْ لا؛ وإنْ لم يُعتبر إِلّا عند الصُّدورِ من البليغ؛ وَهي اللَّوازم الاستدلاليَّة؛ كعكسِ نقيضِ القضيَّة (¬2). وهذا القسمُ يقعُ في كلامه حِيْنًا لا كثيرًا وَلا دائمًا؛ أي: خَواصّ كلامِ البليغ أكثرها من الأوَّل، ومن الثّاني قليلٌ. فعلى هذا قوله: "حينًا" يتعلّقُ بمحذوفٍ؛ مثل: حاصلًا (¬3)، أَوْ حصل (¬4)، أَوْ يَقع، أَوْ يَصدر، إلى غَير ذلك. ومَنْ تتبَّع كتابَ "المفتاح" عَلِم أن الخواصَّ الاسْتدلاليَّة -أَيضًا- ممّا فيه البحثُ؛ صرَّح بها (¬5) السَّكاكيُّ (¬6) في مَواضع من ¬
كتابه (¬1)، كما قال في أَوّل المنطق (¬2): "الكلامُ في تكمل" (¬3) علمِ المعاني؛ وهي: تتبُّع خواصّ تراكيبِ الكلَامِ في الاسْتِدلال". واللام في قوله: "لصُدُوره" ظاهرٌ في التَّعليل، ويُحتمل كونُه من صلة اللّازم، وحينئذٍ يَكونُ اللازمُ والملزومُ مذكورين بالفعل. واعلم: أن هذا الموضعَ (¬4) من مَزال الأَقْدام، وَمَضالِّ الأفهامِ، واشْتَغلَ بتوجيهِه جمٌّ غفيرٌ (¬5) من الأفاضل؛ كالتَّوجيهاتِ الّتي فِي شُرُوح "المفتاح" (¬6). وكمَا قِيل: المرادُ. مما هو كاللازمِ: اللازمُ الغيرُ البيِّن، وبِمَا ¬
هو لازُم: اللَّازمُ البيِّن. وَكَذا (¬1) قيل: إن "حِينًا" متعلّقٌ بقوله: "لازم" (¬2)؛ أي: الملازمة جُزْئيّة (¬3)؛ ولا مُنافاة بين كونه ذاتيا وبين الجزئيّة (¬4)؛ والكلُّ فيهِ ما فيه (¬5)، إلا ما ذكرنَا، فإنّه لا غُبارَ عَليه. وغايتُه (¬6)؛ أي: غايةُ علمِ المعاني. تَطْبيقُ الكلام على مُقتضى الحال؛ وهو الأمرُ الدّاعى إلى التَّكلُّم على الوجه المخْصُوص؛ فإن المقاماتِ (¬7) مختلفةٌ (¬8)، كالجدِّ: أي: كمقامِ الجدِّ مع مقام الهزْلِ، ومقامِ التَّواضع مَع مقام الفخر، ومقامِ الشُّكرِ جمع مقامِ الشِّكَايةِ، ومقامِ التَّهنئةِ جمع مقام التَّعزية (¬9). ¬
وكل (¬1)؛ أي: كلُّ مقامٍ من المقامات، يَسْتَدعي تركيبًا يفيدُ ما يُناسبُه؛ أي: المقام، وحُسْن الكلام (¬2)، ولا حُسْنه؛ بمطابقته (¬3) [للمَقام] (¬4) وعدم مُطابقتِه له؛ وهذَا هو الذي يُسمَّى: مُقْتضى الحال؛ على أنَّه -أي: المقام- قَدْ يَقْتضي تأدية المعنَى بِمُجرَّد دلالاتٍ وضعيَّة وألفاظ مُسْتعملةٍ كيف كانتْ، ومجرّدِ تأليفٍ بينها (¬5)؛ يُخرجها عن حُكم النَّعيق (¬6)، ¬
وهو الذي يُسَمَّى في علمِ النحو: أصلُ المَعنى، كما إِذَا كانَ الْمُخاطبُ غَبيًّا غيرَ ذكِي يستوي بالنِّسبة إليه كُلُّ التَّراكيبِ، وحينئذٍ يكونُ المطابقُ للحالِ ما يُفيدُ أصلَ المعنى لا غير؛ وهذا -أيضًا- نوعٌ من الخاصيَّة يُراعيها البليغُ. والحاصلُ: أنَّ كل علمٍ يتحصَّل بمتعلّقه (¬1)، ويُحصَّل لغرضه، ويستحصل بطريقه. ومتعلقُ (¬2) علمِ المعاني: خواصُّ التَّراكيب. وغرضه: تطبيقُ الكلامِ على مُقتضى الحال، فمن المتكلِّم: بأن يُوردَ تركيبًا يُفيدُ مَعنًى مُنَاسبًا، وَهُو البليغ، ومن السَّامع (¬3): بأن يَحمِله عليه؛ وهو لِذِي الطبع السَّليم، وطريقُه: الاستقراءُ والتَّتبُّعُ. وعلمُ البيان: معرفةُ مراتبِ العبارات الدَّالة على معنًى وَاحدٍ في الجلاء (¬4)؛ ¬
أهي (¬1): بطريق التَّمثيلِ، أو الكناية، أو الاستعارةِ، أَوْ غيرها (¬2). [وإنّما أهملَ ذكرَ الخفاء؛ لأنه إذا عُلم مراتب العبارات في الجلاء عُلم مراتبُها في الخفاء - أيضًا (¬3)] (¬4). ¬
قال الشّيخُ (¬1) - في "دلائل الإعجازِ": لنا معنى، ومعنى معنى؛ أَمَّا المعنى؛ فهُو: ما يُفهمُ من ظاهرِ اللفظِ بلا واسطة (¬2)، وأمَّا معنى المعنى؛ فهو: أن يُفهمَ من لفظٍ معنى، ثُمَّ يُفيدُ ذلك المعنى معنى آخر لتعلُّقٍ بينهُمَا؛ كدلالة: "زيدٌ طويلُ النَّجاد" على أنه طويلُ القامة (¬3). ولاخْتلافِ التَّعلُّق بَيْن المعنَيين؛ في: الظّهُوَر والخفاء، و [بسبب] (¬4) كثرةِ اللوازِم وقِلَّتها - اخْتلفت طُرُقُ تأديةِ المعنى الواحدِ بأساليبَ مختلفةٍ بالجلاءِ والخفاءِ. وهذا العلمُ -أيضًا- تتبُّعيٌّ، لكنّه لَمَّا كان شُعبةً مِنْ علم (¬5) المعاني -وهو تتبُّعيّ- لم يَحتَجْ ها هنا (¬6) إلى التِّكرار (¬7). ¬
وهذا (¬1) كشعبة (¬2) للمعاني؛ لأنَّها مَعرفةُ العبارات بحسبِ الإفادةِ؛ وهذا معرفةُ مراتبها بحسبِها، ومعرفةُ مرتبة الشَّيءِ مُتأخّرةٌ عَن معرفةِ الشَّيءِ؛ لأنَّها متفرِّعةٌ عليه ومُنْشَعِبَةٌ (¬3) مِنْه (¬4). وهذا المعنى في ¬
الحقيقةِ (¬1) راجعٌ -أيضًا- إلى الإفادةِ، وكيفيَّةِ الإِفادة فَجَرى (¬2) مجرى المُركبِ من المُفْرد؛ ولِهذا قُدِّم وضعًا ليُوافق الطبْع؛ لأن المفردَ مقدّمٌ على المركبِ بالطبع. ومَا أفقرَ؛ صيغةُ فعلِ التَّعجّبِ: طالبَ الوقوفِ على تمامِ الْمُرادِ مِنْ كلامِ الله -تعالى - (¬3) إلى هذَيْن العلْمين (¬4)!. المراد؛ أي: ما يُراد بَيَانُه مِن التَّكلَّم (¬5). ¬
وذلك (¬1) المعنى الواحد الذي اخْتَلفت (¬2) فِيه العباراتُ؛ كمعنَى: "زيدٌ شُجاعٌ"؛ فَإنَّه واحدٌ فِي قَوْلنَا: "زيدٌ كالأسدِ في الشَّجاعةِ"، و"زيدٌ كالأسدِ"؛ بحذفِ وجه الشَّبهِ (¬3)، و"زيدٌ أسدٌ" بحذفِ حرفِ التّشبيه -أيضًا-. وتمام الْمُرادِ: كون العبارةِ الدَّالة على ذلك المعنى على ما يَنْبغي من مراتب الجلاءِ؛ وهي (¬4) ما يُفيدُه الصَّرفُ عن الحقيقةِ وعن التَّصريح إلى المجازِ والكنايةِ والتَّشبيهِ والاستعارةِ (¬5) وغير ذلكَ. وهذَا القدر -أي: تمام ما يُرادُ من العبارةِ- مِمَّا لا اختلافَ في إمكانِ الوقوفِ عليهِ. وعلى الوَجْهِ الذي وَجَّهناه (¬6) لا وُرودَ لِمَا يُقالُ: إن الاطِّلاعَ على تمام مُرادِ الله -تعالى- لا يَصِحُّ إذا كان مُمتَنعًا (¬7) -كَمَا في ¬
المُتَشابهاتِ (¬1)؛ فَكَيْف يَفْتقِرُ طالبُ الوقوفِ على تمامِه إلى هذين العِلْمَين؟!؛ وإنَّمَا يَصِحُّ لو كانَ الوقوفُ مُمكنًا، فَلَا حاجة إلى الجوابِ: بأنَّ المدّعى أنَّه لا يُمكنُ الوقوفُ على تمامِ المرادِ من غير هذينِ (¬2) العِلْمين، وهُو مُسلّم، وأَمَّا أنَّه لا يُمكِنُ مَعَهُما -أيضًا-؛ فلا يُنافِي ذلكَ. وأمَّا أنَّه لَوْ افتقرَ إليهما لَعلِمَ تمامه معهُما فغيرُ لازمٍ (¬3). ¬
ولم يتعرَّضْ لغايةِ علمِ البيانِ لظهورها (¬1)؛ وهي: تطبيقُ الكلامِ على ما يَنْبغي مِنْ مراتبِ الجلاءِ، أي: على تمامِ المرادِ. ¬
الفصلُ الأول في علْمِ المعاني والكلامِ في الخَبر والطَّلبِ
الفصل الأول: في علم المعاني والكلام في الخبر والطلب
الفصل الأوّلُ: في علْمِ المعاني والكلامِ في الخَبر والطّلبِ (*) لَمَّا شغل (¬1) عَن تعريفِ العلمين وَمَا يتعلقُ بهما (¬2) - شغل (¬3) ببيَانِ المسائلِ وما تتوقفُ عليه. لا يخفى عليكَ أن التعرُّضَ لخواصِّ تراكيبِ الكلامِ موقوفٌ على التَّعرُّضِ لِتَراكيبه؛ الّتي هي موضوع هذا العلم؛ لامتناع معرفة خاصيَّة الشَّيء دون معرفته. كما لا يخفى -أيضًا- حال التعرض لها (¬4) مُنْتشرةً (¬5)؛ فيجب المصيرُ إلى (¬6) إيرادها تحتَ الضَّبط (¬7)؛ ¬
بتعيين مَا هو أصلٌ لها وسابقٌ في الاعتبار (¬1)، ثم حَمل مَا عَدا ذلك عليه؛ بناء على موجب المساق. والسَّابقُ في الاعتبارِ -في كلامِ العربِ- شيئان: الخبرُ، والطلبُ المنحصرُ بحُكمِ الاستقراءِ في الأبواب الخمسة؛ الّتي هي: التَّمنِّي، والنِّداء، والأمْر، والنَّهي، والاسْتِفْهام، وما سوى ذلك نتائج امتِناع إجراء الكلام على الأصل (¬2)؛ هكذا قال السَّكاكيُّ (¬3)، والمصنِّفُ تلا تِلْوه (¬4) فيه؛ لكنَّ التَّقسيمَ الحقَّ عندَه رُباعيٌّ؛ لأن الكلامَ لا بُدَّ له من فائدة؛ فحصولها إمَّا من المتكلم، وإِمَّا من المخاطَب، وعَلى التَّقدِيرين؛ إمَّا أن تَحصُل في ¬
الخارج، أَوْ في الذّهن؛ فما (¬1) من المتكلِّم وفي الخارج: إنشاءٌ، وفي الذِّهن: إخبارٌ. ومَا من المخَاطَب [و] (¬2) في الخارج: أمرٌ، وما يُشْبهه؛ أي: الطلَب، وفي الذِّهن: استفهامٌ. لا ثُنائيٌّ كما في "المفتاح" (¬3)، وكما قاله ابنُ الحاجب (¬4) في "مختصر منتهى السُّول والأمل": بأن الكلامَ إمَّا أن يدلّ على أن له متعلّقًا خَارِجيًّا أوْ لا (¬5). الأوّلُ: الخبرُ، والثاني: الإنشاءُ. ولا ثُلاثيٌّ كما قاله المنطقيّون (¬6): بِأنه إمَّا أَن يحتملَ الصِّدقَ ¬
الكذبَ، أوْ لا؛ الأوَّلُ: خبر، والثاني: إمَّا أن يدل بالذّات على طلب (¬1)، أوْ لا، الأوّلُ: يُسمَّى: طلبًا، والثاني: تنبيهًا (¬2). لأن في كُل منهما (¬3) حَزازَةً (¬4) تُعرف بالتَّأمّل؛ كما في قول السّكاكيِّ مثلًا؛ فإنّه يَلْزم عليه أن يكون مفهومُ النّداءِ طلبًا؛ لكنَّه ليس كذلك؛ لأن مفهومَ النِّداءِ صوتٌ يَهْتف (¬5) به الإنسانُ. صرَّحَ به الزَّمخشريُّ (¬6) في ¬
"الكشَّاف" (¬1)، والطلبُ غايتُه، وكذا لا يَصحُّ كَوْن التَّمنِّي منه؛ لأنّ الطلب يقتضي مطلوبًا منه، ولا مطلوب منه للتَّمنِّي. وعلَى هذا فالخبرُ: تَصوُّرهُ ضَرُوريٌّ في الأَصحِّ. اختلف في أَنَّ تصوُّر الخَبرِ من التَّصوّرات الضَّروريّة أَوْ الكسْبيّة حتى لا يحتاجُ إلى التَّعريف أوْ يحتاج!. الأصحُّ: الأوّل. وذلك لِمَا أنَّ كلٌّ واحدٍ من العُقلاء ممّن لم يُمارس الحدود (¬2) والرُّسوم (¬3) يعرفون الصَّادقَ والكاذبَ، بدليل أنَّهم ¬
يُصدِّقون أبدًا في مقام التَّصديق، ويُكذِّبون أبدًا (¬1) في مقام التَّكذيب، والعلم بالصَّادق والكاذب مَوْقوفٌ على العلم بالخبرِ الصِّدق والخبر الكذب؛ فكان تَصَوُّر الخبر ضَروريًّا؛ لاستحالة كون تصوُّر الكُلِّ ضرُوَريًّا [دون جزئه] (¬2). وتَعريفاتُهُ (¬3) تَنْبيهاتٌ (¬4)؛ كان التَّعريفَ قد لا يُرادُ به إِحداثُ تَصَوُّرٍ بل الالْتفاتُ إلى تَصَوُّرٍ حاصلٍ ليتَمَيَّز (¬5) من بين التّصوُّراتِ؛ فيُعلَمَ أنَّه المراد. إِشارةٌ إلى سُؤالٍ وجَوابِ. تقديرُ (¬6) السُّؤال: لا يشْتغلُ العقلاءُ بتَعريف التَّصوّراتِ البديهيَّة كَمَا لا يُبرهنُ على القضايا البديهيّة؛ فلو كان الخبرُ ضروريا لَمَا عَرَّفُوه. لكنَّهم عرَّفُوه (¬7) كقَوْلهم (¬8): "هُوَ الكلامُ المُحتَمِلُ للصِّدقِ والكذبِ"، ¬
وكقولهم (¬1): "هو الكلامُ المفيدُ بنفسهِ إضافة أمرٍ من الأمورِ إلى أمرٍ من الأمور إثْباتًا أَوْ (¬2) نفيًا" (¬3). تقديرُ (¬4) الجوابِ: أن هذه تنبيهات لا تعريفاتٌ تنافي الضَّرورَة؛ فإنَّها ليست لإفادة تصوُّرٍ وإحدَاثِه؛ بل لتمييز (¬5) ما هو (¬6) المراد به من بين سائر التَّصَوُّرات الحاصلة عنده، والتفات النّفس إليه بخُصوصه؛ كما أن الإنسان يُطلق على حيوان ذِي أوصافٍ؛ من كونه: ناطقًا، وضاحكًا، ومنتصبَ القامةِ، وعريضَ الأظفَار -مثلًا-، ولا يُعرف أنه بإزاء أيِّ شيءٍ منها وُضِع؛ فيُقال: "الإنسانُ: حيوان ناطقٌ"، ليُعلم المراد منها؛ وهذا مِمَّا زاد على "المفتاح" (¬7). ¬
وكذلكَ الطلبُ (¬1) بأقسامِه (¬2)؛ فإنّ كلًّا يُميّزُ بينها، ويُوردُ كلّا (¬3) في موضعه، ويجيبُ عنه بِمَا يُطابقه؛ حتى الصبْيانُ (¬4) ومن لا يَتَأتى منه النَّظَرُ (¬5)؛ أي: وكذلك الطلبُ بأقسامه تَصَوّرُه ضرُوريّ -على الأصحِّ من المذاهب- (¬6)؛ فإن كل أحدٍ (¬7) حتَّى الصِّبيان ومن لا يتأتى منه النَّظرُ -كالمعاتيه (¬8) والمجانين- يُدركُ التَّفرقَة بِالبديهةِ بين الأقسام، ويُميِّز ¬
بينها، ويُورِدُ كُل واحد منها في موضعه؛ فيتمنَّى في مقام التَّمنّى، وينهى في موضع (¬1) النَّهى، وهكذا، ويُجيبُ (¬2) عن كل بما يُطابقه؛ وكلٌّ منها طلبٌ مخصوصٌ، والعِلم به مَسْبوقٌ بنَفْس الطلبِ. والمصنِّفُ قلّدَ فيه (¬3) السَّكاكيَّ؛ لا (¬4) أنَّه الحقُّ عنده؛ للفَرق (¬5) بينَ التصوُّر والحُصول؛ فإن المُتَميِّزَ الحصول لا التَّصَوُّر؛ فيلزم كون الحصول ضروريًّا دُون التَّصوُّر؛ فلا يَتمُّ المقصودُ. ¬
القانون الأول: في الخبر
القانونُ الأوّلُ: في الخبر (*) مرجعُ الخبَريّةِ إلى حُكمٍ يُوقع؛ أي: سَبَبُ كون الكلامِ خبرًا اشتمالُه على حُكم يُوقعه المخبرُ الّذي (¬1) يَحكُم بمفْهومٍ لمفهومٍ؛ كما تجده فاعلًا ذلك إذا قال (¬2): نحو: "هُو قائمٌ" (¬3)؛ لا إلى حُكمٍ يُشارُ إليه؛ نحو: "الذي هو قائمٌ" (¬4)، أَوْ "إنهُ قائمٌ" (¬5)؛ فإنّه (¬6) تصوّرٌ يُحكم به؛ كما يقال: "الذي أدّعيه أنَّه زيد". أوْ عليه؛ أي: أَوْ تصوُّر يحكم عليه؛ كما يقال: "حقّ أنه زيد". ومن حقِّه؛ أي: ومن حقِّ هذا ¬
التَّصَوُّر. أن يكون مَعلومًا للمخاطب قبلُ؛ أي: قبل الخطاب؛ لِتَصِحَّ (¬1) الإشارةُ إليه، والحُكْم به أَوْ عليه. ومرجعُ احتماله (¬2) للصِّدق والكذب إلى تحققِه مِن حيثُ هو حكمُ حاكمٍ (¬3) معهما، أي (¬4): مَعَ الصِّدقِ والكذَبِ بَدَلًا، أي: بطريق البدل؛ لامتناع اجْتماعِهما وتعيُّن أحدهما؛ فإنّه (¬5) لو كان لازم (¬6) الصِّدق مِن حيثُ هو حكمُ حاكمٍ لَمَا تَحَقّق مع الكذِب، وبالعكسِ؛ كما هو حكم الماهيَّاتِ من حيثُ هي مع المتقابلاتِ. وإنْ كان خصوصيَّةُ المحلِّ -أي: المقام، ليشْمَل ما من المُخْبر، وما من مَادَّةِ (¬7) الخبر، هكذا قال الأستاذُ (¬8)، قد (¬9) تأبى إلّا أحدهما، كخبرِ اللهِ -تعالى- (¬10)، وكالواحدِ نصف الاثنين؛ فإن خصوصيَّة المُخْبر ¬
في الأوَّلِ، والخبرِ في الثاني تمنع إلّا الصِّدق، وكخبر مُسَيْلمة (¬1) الكذّاب، والواحد ضِعْف الاثنين؛ فإنّها تمنع إلا الكذب. وهذا -أيضًا- زائدٌ على "المفتاح" (¬2). ومرجعُ الصِّدقِ والكذبِ إلى مُطابقةِ الواقع وعدمِها؛ وهذا (¬3) هو المَشْهُور من الجمهور، وعليه التَّعويل (¬4)؛ وعلى هذا لا يكون بَيْنَهما واسطة (¬5)، ولأنَّه (¬6) بِبُطلِ سائرِ المذاهب فيه لم يحتجْ إلى الاستدلال على حقّيته لتعيُّنه حِينئذٍ لها. ¬
وقيل (¬1)؛ والقائلُ هو: الجاحِظُ (¬2)، وقد يُقال: هو الَّذي اشتهر عند العامَّة بجُحَا (¬3)، ولعلّه تَخْفيف تصغيره: مع القَصد [أي] (¬4) إلى مطابقة الواقع [وعدمها] (¬5) مع القَصْدِ ¬
والاعتقاد: فحيثُ لا قَصْدَ لا (¬1) صِدقَ ولا كذبَ (¬2) لقوله (¬3) -تعالى-: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} (¬4)؛ وجهُ الاستدلال بالآية: أنَّهم (¬5) -وهم أهْلُ العربيّةِ- جعلوا دَعْواه الرِّسَالة من جِنس كلامِ المجنون -الَّذي ليس صَادقًا عندهم- قَسيمًا للكذب؛ فلا يكون صَادِقًا ولا كاذبًا؛ فثبتت (¬6) الواسطةُ، وما ذلك إلَّا لأنَّ المجنون لا يقُول عن قصدٍ واعتِقاد. والجوابُ: أَنَّ الافْتراءَ أَخصُّ من الكذبِ المطلق؛ لأنَّهُ كذبٌ خاصٌّ؛ [لأنَّه كذبٌ مع القَصْد] (¬7) فمقابلُهُ قد يكون -أيضًا- ¬
نَوْعًا آخر من الكذِب (¬1). فالحاصلُ أنَّهُما نوعانِ من الكذِب جُعِلا قِسْمَين؛ فَلَا (¬2) يَلزم الواسِطة؛ وهذا زائدٌ على "المفتاح". وقيل -والقائلُ هو: النَّظَّام (¬3) -: إلى مُطابقةِ الاعتقادِ وعدمها؛ أي: مَرجعُ الصِّدقِ والكذبِ إلى مُطَابقة الحكمِ لاعتقادِ المخبرِ أوْ ظَنِّه، وإلى عَدم المُطَابقة لذلك (¬4)؛ سواءٌ كان ذلك الاعتقادُ أَوْ الظنُّ خطأً أَوْ صوابًا (¬5)؛ ولذلك (¬6) يتَبَرّأُ عن الكذبِ بدعوى الاعتقادِ أَوْ الظَّنِّ؛ أي: ¬
الدَّليل عليه: أنّه يُتَبرّأُ عن الكذب بدعوى الاعتقادِ أَوْ الظَّنِّ متي ظهَر خَبَرُه بخلاف الواقع؛ أي: إذا قيل له: كَذَبْتَ؛ يقول: لا؛ بل قُلْتُه بناء على اعتقادي؛ كما قالت عائشةُ (¬1) - رضي اللهُ عنها -: "مَا كَذَب؛ ولكنَّه وَهِمَ" (¬2)؛ فلو لمْ يكن الكذِبُ مخالفةَ الاعتقاد لَمَا قِيل. ¬
وممَّا يُحقِّق (¬1) ذلك (¬2) قولُه -تعالى-: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (¬3)، كذَّبَهم في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (¬4) مَعَ مُطابقته للواقع؛ لأنَّه لَمْ يُطابق اعْتِقادَهم؛ فعُلِم أنَّ المُعْتَبَر هو مُطابقةُ الاعتقادِ لا الواقِع. والجوابُ: أَنَّه يستلزمُ تَكذيبَ اليهوديِّ في قوله: "الإسلامُ حقٌّ"، وتصديقَه في خلافِه. والإجماعُ يخالفُه (¬5). و {لَكَاذِبُونَ} أي (¬6): فيما يُشعر به "إنّ واللّام واسميَّة الجُملة"؛ من كون الشَّهادةِ من صميمِ القلبِ. ¬
الجوابُ (¬1) بوجهين: بالمناقضةِ (¬2) جدلًا، والحلِّ (¬3) تحقيقًا. أمَّا المناقضةُ (¬4): فأَنْ (¬5) يُقال: لوْ صحَّ ما ذكرتُم للزِمَ تكذبينُا لليهوديِّ (¬6) إذا قال: "الإسلامُ حقٌّ"؛ لعدم مُطابقتِه لاعتقادِه، وتصديقُنا له في خلافه؛ أي: إذا قال: "الإسلامُ باطلٌ"، لمطابقته له؛ لكنَّه خلاف الإجماع. وأمّا الحلُّ فهو: أنّه لَمْ يتبرّأ عن الكذِب؛ بلْ عن مَذَمَّةٍ الكذبِ وتعَمُّدِه المستلزمِ للتّوبيخ عليه. ولظهورِه (¬7) لَمْ يَتَعرَّض لَهُ (¬8) المصنِّفُ. والجوابُ عن الآية: أنَّهُ ليسَ المرادُ أنَّهم لكاذبون في مقولهم (¬9)؛ بل فيما يُشعر به كلمة: "إنَّ، واللّام، واسميّة الجملة"، من كَوْن شهادتهم ¬
من صميمِ القَلْب (¬1). هذا هو كَمَا أجابَ في "المفتاح" (¬2)، لكن له وجُوه أُخرى (¬3)؛ كما يقال: إنَّهم لكاذبون (¬4) في شهادتهم، إمَّا لإشعارها عُرفًا بالعِلْم؛ لأنَّ من قال: "أشْهد بكذا" تَضَمَّن (¬5) أنّي أقوله عن عِلم (¬6)، وإن كان الشَّهادة بمجرّدها تحتمل العِلْم والزُّور، وتقيّد بهما لُغَةً (¬7). وإمّا لأنّهم زَعَموا أنَّ شَهَادَتهم بذلك مُسْتَمِرَّةٌ (¬8) غيبةً وحضورًا [لقولهم نَشهد على طريقة قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (¬9)] (¬10). أوْ أنَّهُم كاذبون في تَسْميتهم إخبارَهم شهادة؛ لأنَّ الإخبارَ إذا خَلَا عن مُواطأة القَلب (¬11) لَمْ يكُن شهادةً -في الحقيقة-. ¬
أوْ أنَّ المعني: لكاذِبُونَ فيما عند أنفُسِهم؛ لاعتقادهم أنَّهُ خبرٌ على خلاف ما عليه حالُ الْمُخبَر عنه (¬1). أَوْ أَنَّهم قومٌ كاذِبُون (¬2) شأنُهم الكَذِب وإن صَدَقوا في هذا الخَبَر؛ وذلك لا يُخْرجهم عَن (¬3) زُمْرةِ الكاذبين (¬4). ثُمَّ البحثُ في الخبر إِمَّا عن الإسنادِ أَوْ عَنْ طرفيه، أي: المُسْنَد والمُسْنَد إليه، أَوْ عَنْ وَضْع كُلٍّ منهُما عند صاحِبِه، أوْ عن وَضْع الجُمْلَتينِ (¬5) إذا تَعَدَّدت، ففيه أَرْبعةُ فُنونٍ. إذا (¬6) عَرَفْتَ أنَّ الخبرَ يَرْجعُ إلى الحُكم (¬7) بمفهومٍ لمفهوم (¬8)؛ وهو الَّذي نُسمِّيه: الإسناد الخبريّ؛ كقولنا: "شيءٌ ثابتٌ"، "شيءٌ لَيْس ¬
بثابت"؛ فأنت في الأوّل تحكم بالثُّبوت للشَّيء، وفي الثَّاني باللَّاثبُوت - فاعرف (¬1) أنَّ الاعتبارات الرَّاجِعة إلى الخبرِ ثَلاثةٌ: اعتبارٌ يرجعُ إلى نفسِ الإسناد من حيثُ هو حكمٌ؛ من غير التَّعَرُّضِ لكونِه لغويًّا أَوْ عَقْليًّا، فإنّه وظيفةٌ بيانيّةٌ؛ بل من حَيْثُ هو مجرَّد عن لام الابْتداء (¬2) أَوْ غير مجرَّد- مثلًا (¬3). واعتبارٌ يرجع إلى طَرَفي الإسنادِ لا من حيثُ الحقيقةُ والمجاز؛ بلْ من حيثُ هُمَا هُمَا (¬4) لكونه (¬5) محذوفًا أَوْ ثَابتًا، مُعَرّفًا أَوْ مُنَّكرًا. واعتبارٌ يرجعُ إلى وضع كُلٍّ من الطّرفين عِنْد صَاحبه -أي: الطَّرف الآخر- ونِسبته إليه؛ من التَّقديم ¬
والتَّأخير وغَيْرهما (¬1). هذا إذا كانت الجُمْلةُ الخبريّةُ مُفرَدَةً؛ أَمَّا إذَا تَعَدَّدت فَلِوضع كُلٍّ من الجُمْلتين عندَ صاحبتها (¬2) -أيضًا- اعتبارٌ آخر؛ من الفصلِ والوصلِ وغيرِهما (¬3). وجعلَ لكلِّ اعتبارٍ فنًّا، فالفنونُ (¬4) أربعة (¬5). واعلم: أَنَّه (¬6) في وضع الفنون خَالفَ السَّكَّاكيَّ؛ لأنَّه (¬7) وضعَ لكلٍّ من الطّرفين فنًّا، ولم يَضَعْ (¬8) للوَضْع فنًّا مُسْتقلًّا، بَلْ ذكره في خِلالِ ¬
فَنَّي الطرفين (¬1)، بخلافه (¬2)؛ فإنَّهُ وَضَع للطرفين كِليهما فنًّا، وللوضْع فَنًّا، وهَذا أخْصر، وأَوْفق للنَّظم الطَّبيعيِّ. ¬
الفن الأول: في الإسناد
الفنُّ الأوّلُ: في الإسنادِ: قدَّمَ الفنَّ الرَّاجع إلى الإسنادِ على الأخوات (¬1) -وإنْ كان بحسبِ الوُجود مُتأخّرًا لتأخُّرِ النِّسبةِ عن المُنْتسبين؛ لأنَّه هو المقْصُودُ من الخبرِ؛ فله التَّقَدُّم (¬2) بحسب الشَّرف. قد يُريدُ بهِ المُتَكلِّمُ أن يُعلِمَ منه الحُكْمَ؛ نحو: "زيدٌ قائمٌ"، لِمَن لا يَعْلمه؛ أي: لمخاطَبٍ لا يعلمُ قيامَ زيدٍ. ويُسَمَّي: فائدةَ الخبرِ، وقدْ يُريدُ؛ أي: المتكلِّمُ به؛ أي: بالخبرِ، أن يُعلمَ أنَّه يَعْلمُه؛ أي: يُعْلم المخاطبَ أنَّ المتكلَّمَ يعلمُ ذلك الخبر؛ نحو قولك: حفظتَ التَّوراةَ؛ لمن قَد حفظها (¬3)؛ أي: لِمُخاطبٍ حفظَ التَّوراة؛ فإنَّه لا يُريد (¬4) به إعلامُ المخاطب بأنَّه (¬5) حافظٌ للتَّوراة لامتناع إعلامِ المعلوم؛ بلْ يُريدُ إعلامَه بأنَّه (¬6) يَعْلَمُ أنَّه حافظٌ للتَّوراة. ويسمّى (¬7): لازمَ فائدةِ الخبرِ. ¬
والأُولى (¬1) بدون هذه (¬2) تمتنعُ (¬3) من غير عكسٍ (¬4)؛ هذا [على] (¬5) ما هو المشهور من القومِ؛ إذْ قالوا: من الضَّرُوريَّاتِ لكلِّ عاقلٍ أَنْ يقصدَ (¬6) بالخبرِ إفادة المخاطبِ، وإلَّا كان (¬7) الإخبارُ عَبَثًا، لكنَّ الحقَّ أنَّه بحسب مُقْتضى الظَّاهر، أوْ منْ حيثُ هو الخبر، أوْ بحسبِ (¬8) الغالب؛ لأن قَصْدَ (¬9) حَنَّة أمِّ ¬
مريم في قولها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} (¬1) ليسَ إلى إِفَادةِ فائدة الخبر، ولا إلى إِفادةِ لازمها؛ لشُمولِ علمِ الله -تعالى-؛ بلْ إلى إظهارِ التَّحسُّرِ، وإنشاء (¬2) التَّأسُّفِ، أوْ غيرِه (¬3)، وَكَم مِثلها فِي القرآن! (¬4). ومن حقِّ الكلامِ عقلًا، أي: العقلُ يَحْكُم بأن حقَّ الكلامِ أن يكونَ بقدرِ الحاجةِ، مُفْرَغًا فِي قالب (¬5) المراد، لا أزْيَد وإلَّا كان (¬6) هَذَرًا (¬7)، ولا أنقصَ وإلَّا كان (¬8) حَصَرًا (¬9). ¬
فالخطابُ بالخبرِ إمَّا (¬1) مع خالي الذِّهن عن الحُكْمِ بأحدِ طرَفي الحبرِ على الآخرِ نَفْيًا (¬2) أَوْ إِثْبَاتًا، وعن (¬3) التَّرددِ فيه؛ فَيُجَرَّدُ عن المُؤَكِّداتِ، ولا يُشَمّ رَائحتُها، وَكَفى في انْتِقاشِ (¬4) ذِهْن المُخَاطبِ حِينئذٍ بالحُكْم مُجَرَّدُ الإسناد؛ لمصادفتهِ (¬5) خاليًا؛ فإنّ المحلَّ الخَالي (¬6) إذا كانَ فارِغًا تمكَّنَ فيه نقشٌ يَرِدُ عليه أشدّ تَمَكُّنٍ: أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى ... فَصَادَفَ قَلبي خَالِيًا فَتَمَكَّنَا (¬7) ¬
نحو: "زيدٌ قائمٌ"؛ مثال المجرَّد (¬1) عن المؤكِّدات، ويُسمَّى: ابتدائيًّا؛ لأنَّه يقعُ غالبًا فِي ابتداء الكَلام (¬2). وقوله: لأنَّ المحلَّ الخالي يَتمكَّن فيه كلُّ نقْشٍ يَرد عليه: تَعْليلٌ لقوله: "فيُجرَّد". وإِمَّا مع مُتَحيِّرٍ (¬3) طالبٍ (¬4) للحُكم، طَرَفاه -أي: طَرَفا الإسناد (¬5) - حاصلان عندَه دُونَ الحكمِ والإسناد؛ فهو -أي: المُتَحيِّر (¬6) - بَيْنَ بَيْن (¬7)؛ أي: بَيْن الإسنادِ وبينَ اللَّا إسناد؛ فيؤكّد للاحتياجِ إليه لزَوال التَّحَيُّر. نحو: "لزيدٌ قائمٌ"؛ مُؤكّدًا بلام الابتداءِ، و"إن زيدًا قائمٌ"؛ مُؤكّدًا بإِنَّ التَّحقيقيّة. ويُسَمّى: طَلَبيًّا؛ لكونِ المخاطبِ طالبًا لَه. ¬
وقولُه: "طرفاه عِنده" جملةٌ وقعت صِفة لقوله: "مُتَحيِّر". وإِمَّا (¬1) مَع مُنْكرٍ يَحْكُم بخلافِه؛ أي: بخلافِ ما عِنْدَ المُتَكلِّم، فيُزادُ (¬2) توكيدُه بحسبِ قوَّةِ إنكارِه؛ أي: بِحَسبِ ما أُشْرِبَ (¬3) من الإنكارِ في اعتقادِه، ليَرُدّه -أي: المُتَكَلِّمُ المخاطبَ- (¬4) إلى حُكْم نفسه. نحو: "إنَّ زيدًا لَقَائمٌ"؛ لمن يُنْكرُ القيامَ، وَ "وَاللهِ إنَّ زيدًا لقائمٌ"؛ لمن يُبالغُ في إنكار القيامِ، ويُسمَّى إنكاريًّا. ويشهدُ له قولُ رُسُل عيسى -عليه السّلام -أوَّلًا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (¬5)؛ وثانيًا: إذ بُولغَ في تكذيبهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (¬6). ¬
أَرْسل عيسى - عليه السلام - إلى أهلِ أَنْطَاكِيةَ (¬1) اثنين: شَمْعُون، ويُوحَنَّا؛ فكذَّبُوهُما؛ فقوَّاهُما برسول ثالثٍ هو بُولِسْ (¬2)، أَوْ حَبيب النَّجَّار، فقالُوا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مرْسَلُونَ}، فأنْكَرُوا (¬3) بقولهم: {مَا أَنتُمْ إلا بَشَرٌ} (¬4) الآية؛ فأَجَابُوا بقَوْلهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} (¬5) الآية. وَلَمَّا كانت الآيةُ مشتملةً على تكذيبِ الرُّسلِ من ثَلاثة أوجهٍ (¬6) ¬
أكد إثبات رسالاتهم (¬1) -أيْضًا- بثلاثةِ أوجهٍ: "اللَّامِ، وإنَّ، وما في قُوَّة القَسَم (¬2) ". ¬
هذا كُلُّه (¬1) إخْراجُ الكلامِ على مُقْتَضى الظّاهر، وأنَّه في عِلْمِ البيانِ يُسَمَّى: بالتَّصْريحِ (¬2). وإخراجُ الكلامِ على مُقْتضى الظَّاهرِ أخَصُّ من إخراجِ الكلامِ على مُقْتضى الحالِ (¬3)؛ لأن العُدولَ عن مُقْتَضى الظاهر -أيْضًا- مُقْتضى الحال، ولا يَنْعَكِس. وقد يُعدلُ؛ أي: الكلام عَنْه؛ أي: عن مُقْتَضى الظَّاهرِ، ويُسمَّى حينئذٍ: إخراج (¬4) الكلامِ لا على مقتضى الظَّاهِر؛ فيُقامُ العالمُ بالفائدةِ ولازمِهَا مُقامَ الجاهل؛ لاعتباراتٍ خطابيَّةٍ (¬5) إقناعيَّةٍ؛ أي: مَظْنُوناتٍ ¬
ومَقْبُولاتٍ، لا بُرْهَانِيَّة. مَرْجعُها، أي: مَرْجِعُ تلك (¬1) الاعتباراتِ التَّجهِيلُ أي: تجهيلُ العالم؛ لوجوه (¬2) مُخْتَلفةٍ؛ كعدم العَمَل بِمُقْتَضى عِلْمه؛ كَمَا في قول [تعالى] (¬3): {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬4)؛ ينفي العلمَ عنهم حيثُ لم يعمَلوا (¬5) به؛ بعلمهم، ولمْ يَجْروا عَلى سَنَن مُقتضاه بعد قوله في صَدْر الآية: {وَلَقَدْ عَلِمُوا}؛ مؤكِّدًا باللَّامِ القسميَّة واصفًا لهم بالعلم على سبيلِ التّوكيد القسَميّ. ونظيرُه؛ أي: نَظِيرُ قوله -تعالى- في النّفي والإثباتِ؛ في أنَّ المتَّصفَ بالشَّيءِ نُزِّل مَنْزلة الخالي عنه بوجهٍ خطابيّ؛ لا في تَنْزيل العالِم مَنْزلة الجاهل، قوله -تعالى-: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} (¬6) أثْبَتَ الرَّمْيةَ لرسُولِ الله- صلى الله عليه وسلَّم-؛ إذْ هو الرَّامِي بِحَسَبِ الصُّورةِ، ¬
ونفاها عَنْه بِحسبِ التَّأثيرِ، إذْ لا مُؤَثِّر إلَّا الله ولا سِيَّما (¬1) في الأثرِ العظيمِ الَّذي ليس في قُوَّةِ البشرِ. رُوي أَنَّه - عليه السلام - لَمَّا طلعتْ قريشٌ (¬2) قال: "هذه قُريشٌ ¬
قَدْ جَاءت بخُيلائِها وفَخْرها (¬1) يُكذِّبون رَسُولك؛ اللهمَّ أسْألُك مَا وعدتَّني!؛ فأتاهُ جبريلُ، فقال: خُذْ قَبْضَةً منْ تُرابٍ فارْمِهم به؛ فقال النّبيُّ -عليه السّلامُ- لعَليٍّ -رضي اللهَ عنه- لما الْتَقى الجَمْعان: أَعْطِني قَبْضَةً من الحصبَانِ (¬2)؛ فَرمى بها فِي وُجوهِهم، وقال (¬3): شَاهَت الوُجُوه! (¬4)؛ فلم يَبْقَ كافرٌ إلّا شُغل بعينِه؛ فانهزَمُوا". وقولُه -تعالى-: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} (¬5) أثبتَ لهم الأيمانَ في صدر الآية، ونفى عنهم في عجُزها؛ إذْ لَمْ يَتَرتَّبْ عليها الغرضُ الَّذِي هو الاسْتِيثَاقُ والوفاءُ. ¬
وقَدْ يُلقى؛ أي: وإذْ (¬1) يُعدل عن (¬2) الظَّاهر بناءً على أنَّهُ هُو مقتضى الحال قَدْ يلقى الخبرُ إلى المنكرِ مُجَرَّدًا عن المؤكِّداتِ؛ تَنْزيلًا لَهُ منْزلة من لا يُنكر (¬3)، إذا كان معه؛ أي (¬4): مع المُنْكر ما إذا تأمَّله؛ كالدَّلائل العَقْليَّة (¬5) ارْتَدع عن الإنكارِ؛ تَقُولُ للكافرِ: "الإسلامُ حَقٌّ" لوُضُوح دلائله؛ أي: لما مَعه مَن الدَّلائل الواضحةِ الَّتى لَوْ تَأَمَّلها (¬6) عَرفَ حَقِّيته (¬7). ومِثْلُه: {لَا رَيْبَ فِيهِ} (¬8) مع كَثْرةِ المُرْتابين فِيه؛ لأنَّهُ كان في وُضوحِ الدِّلالة وسُطوع البُرهان بحيث لوْ تأمَّلوا فيه ارْتَدعُوا عن الارتياب. وإلى غيْرِ السّائلِ؛ أي: يُلقى إلى غَيْرِ السَّائلِ. عَبَّرَ عن خَالي الذِّهن "بغَيْرِ السَّائل" ليُنبّه على أنَّ إلقاءَ الخبرِ إليه مُؤكَّدًا لتنزيلِه منْزلة السَّائلِ (¬9) مؤكّدًا؛ وذلك ليسَ كما اتَّفَق؛ بلْ إذا قُدِّم إليه؛ أي: إلى غَيرِ ¬
السَّائلِ، ما يُلوِّح (¬1)، كلام يُشير به بالخَبرِ (¬2)، ويُشعِر بِحُكم ذَلك الخبرِ ومَضْمُونِه؛ لأنَّه للنَّفسِ اليَقْظي (¬3) مظِنَّةُ الترَدُّد؛ لأنَّ تقديم (¬4) الملوّح للنَّفس اليَقظي مظِنَّةُ الطَّلبِ والتَّرَدُّد في تحققِ (¬5) مضمُونه للتَّلويحِ، وعدم تَحَقّقِه لعدمِ التَّصْريح. قال (¬6): {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (¬7)، أي: لا تُراجعني يا نُوحُ في إهلاكِ الكُفَّارِ وإغراقهم. ولَمَّا أوْرَثَ هذا النَّهيُ تحيُّرَ (¬8) نوحٍ -عليه السّلام- في سبب عدمِ المراجعةِ، وأنَّهم مُغرَقون أمْ لا؟ - أُزيل هذا التَّحَيُّرُ بأنْ قيلَ: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} على سبيلِ التَّوكيدِ، أي: محكومُون (¬9) بغرَقِهم. ¬
وكذَا إلى غَيْر المُنْكر؛ أي: كما يُلقى إلى غَيْر السَّائل مُؤَكدًا؛ كذلك يُلْقى إلى غير المُنْكِر مُؤكدًا زيادةَ تأكيدٍ (¬1) عند شيءٍ؛ أي: إِذَا كان عليه شيءٌ من مخايل (¬2) الإنْكارِ وأَمَارَاتِه؛ قال (¬3): جَاءَ شَقِيقٌ (¬4) عَارِضًا رُمْحَهُ ... إِنَّ بَنِي عَمِّكَ فِيهِم رِمَاح شقِيق: اسمُ رجلٍ حسِبَ تأَتي (¬5) المقاومة مع بَنَي عمِّه سهلًا؛ ¬
حينَ (¬1) جاء آخذًا رُمْحَه بالعَرْض؛ غير مُلتفِتٍ إلى القرْنِ المكافح (¬2)، حَتَّى يَجْعل طرفَ الرُّمح إليه، مغرُورًا بشجاعته؛ فنزَّلهُ الشَّاعرُ لهذا منْزلةَ من يُنكِرُ أنَّ في بني عمِّه أُهْبَةَ (¬3) الْحَرْب؛ من الرِّماح وسائرِ السِّلاح، ويعتقدُ كون كُلِّهم عُزْلًا (¬4). والحاصلُ: أنَّه يجبُ أَنْ يكونَ لباسُ (¬5) الكلامِ على قَدِّ (¬6) المقام؛ لا زائدًا ولا ناقصًا، ووضعُ الخبر ليعتقدَ المخاطبُ مضمونَه؛ فحَقُّهُ أن يُخاطبَ به من لا يَعْتقدُه (¬7)؛ وهو إِمَّا غيرُ مُتَصوّرٍ له (¬8)، أَوْ مُتصوّرٌ مَع تجويزِ نقيضِه (¬9) أَوْ مع اعتقادِه (¬10). ¬
فمعَ الأوَّلِ يَكْفي أصلُ الخبرِ. ومع الثَّاني يجبُ زيادةُ تقويةٍ له لِمنع (¬1) تجويزِ نقيضِه. ومع (¬2) الثَّالث أَزْيد لِمَنع (¬3) اعتقادِ النَّقيضِ. ثُمَّ تَجْويزه. وكلَّما كان اعتقادُه أقوى احتاجَ إلى مُزيل أَقْوى؛ لا جَرَمَ يُخاطَبُ الأوَّلَ به مُجَرَّدًا، والثَّاني مُؤكّدًا، والثَّالثَ أشدَّ تأكيدًا. ثمَّ هذه الثَّلاثةُ قدْ تكون ادّعَاءً لا حقيقة، وتُسمَّى: إخراجَ الكلامِ لا على مقتضى الظَّاهِر، فيدَّعى خُلُوَّ الذِّهنِ للتَّجْهيلِ، أَوْ السُّؤال لسبق كلامٍ يوجبُه، أَوْ الإنكارَ لأمارته أَوْ عدمِه لظُهورِ الدّلائلِ. ومنْ هُنَا (¬4)؛ أي: مِمَّا علِمتَه ها هنا (¬5)؛ من كيفيَّة إخراج الجُملِ الخبريَّةِ على مُقْتضى الحالِ، وأنواع تركيباتِها الأُوَل؛ أي: تركيباتها بحسبِ عقدِ الجُمْلةِ، ونسبةِ بَعْضها إلى بعضٍ. مَعْ ما سيأتِيكَ؛ في الفنِّ الرَّابع (¬6) من تركيباتها الثَّواني؛ أي: تركيباتها مع الجُمَل بعضها إلى بعض فَصْلًا وَوَصْلًا؛ تعرفُ تفاوتَ: "اعْبُدْ رَبَّكَ إِنَّ العادة (¬7)، أو العبادةُ (¬8)، أو فالعبادةُ حقٌّ له" (¬9)؛ بِحسبِ المقام؛ أي: تفاوت ما ¬
بينَ (¬1) هذه الجُمل الثَّلاث (¬2) على مُقْتضى المقام (¬3)، كما يُقال: إنَّ الأُوْلى (¬4) تُستعملُ حيثُ يُحتاجُ إلى التَّأكيد، ويُرادُ تحقيقُ العِلَّة (¬5)، والثَّانيةَ حيثُ يُخَاطبُ خالي الذِّهن، ولا يُرَادُ التَّعليلُ، والثّالثةَ حيثُ يُرَادُ التَّعليلُ، ولا يُرادُ التَّحقيق؛ لأَنَّ "الفاء" مُشْعِرٌ بالعلِّيَّة، و"إنّ" بالتَّحقيق، حتَّى لو أُريد (¬6) كلاهُما يُؤْتى بهما؛ فيُقالُ: "فإنَّ العَبادةَ حقٌّ". وتقِفُ؛ أي: ومن هَذا (¬7) تقِفُ (¬8) على اعتباراتِ (¬9) النَّفي؛ لأن من أتقنَ الكلامَ في (¬10) اعتباراتِ الإثباتِ وقفَ على اعتباراتِ النَّفي بالقياسِ عليه (¬11)، ¬
وعلى سببِ؛ أي: ومن هذا تقفُ على سبب (¬1) نزولِ القُرآن على هذه المناهج المذكورةِ؛ من اعتباراتِ الإسنادِ الخبريِّ، إِمَّا على وفقِ الظّاهر، وإِمَّا لا على وفقِه بحسب المقاماتِ. ¬
الفن الثاني: في المسند والمسند إليه
الفنُّ الثَّاني: في الْمُسْنَدِ والْمُسْنَد إليه، والكلامِ في الحذفِ والإثبات، وفي التَّعريفِ بأَنواعه الْخَمْسَة (¬1). والتَّنكر، وفي التَّوابعِ؛ أي: الخمسةِ (¬2) -أيضًا- (¬3)؛ وإنَّما كرَّرَ لفظة: "في" فِي التَّعريفِ إشعارًا بأنَّه نَوْعٌ آخرَ من الكلامِ، وكذا في التَّوابع؛ والأَمرُ فيه سهلٌ جدًّا. ¬
النوع الأول: في الحذف والإثبات
النوعُ الأَول: في الحذف والإثباتِ (*) فالحذفُ (¬1) إنَّما يجوزُ لقرينةٍ (¬2) حاليَّةٍ؛ كقولِ المُسْتهلِّ (¬3): "الهِلال واللهِ" (¬4)، أَوْ مقاليَّة؛ كقولِه -تعالى-: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا (¬5)} (¬6) الآية. ¬
ويجيءُ؛ أي: الحذف، في المسندِ (¬1) والمسندِ إليه (¬2)، وفي الفعلِ (¬3)، وإنَّمَا ذكرَه (¬4) وإنْ كانَ يدخُلُ (¬5) تحتَ المسند لتخصّصهِ بخَواصّ وأحكامٍ. والمفعولِ (¬6) وسائرِ المُتَعَلِّقَاتِ (¬7) سوى الفاعلَ؛ إذ الفعلُ وُضِع للإسناد المُحَصَّلِ أَوْ الموجود (¬8)، أي: المُعَيَّن الجُزْئِي لا المطلق الكُلّيّ، وهو (¬9) نسبةٌ لا تتحصَّلُ إلَّا بذكرَ المسندِ إليه؛ كـ "نصر" -مثلًا-؛ فإنَّه لم يُوضَع ¬
لنسبةِ الحدث إلى شيءٍ ما، بَلْ لنسبتِه إلى أمرٍ مُعيَّنٍ؛ وهو ما يُذكرُ بعده. فما لَمْ يُذكرَ الفاعل لمْ يَتِمَّ مدلُولُه ومَعْناه، وإذا النِّسبة (¬1) لا تَسْتَقِلُّ بوجُودها، بل تحصّلها تبعٌ لتحصّل لحوقها للغير فتحصّلُها عبارة عن أنّ يُقْر (¬2) بها لُحُوقٌ للغير خَاصٌّ، وإطلاقُها بخلافه؛ كـ "ضرب زيدٌ"، و"الضّرب"؛ فالأَوَّل: يقالُ: إنَّها نسبةٌ مُحصَّلة، والثَّاني: مُطْلَقةٌ. وكـ "هذا النّصف" و"النّصف"، و"ظَرفيَّةُ الدَّارِ" و"الظرْفِيّة"، كما بُيِّن في علمِ الطَّبيعية (¬3). فالحاصلُ: أنَّ "نَصَرَ" وُضِعَ لِكُلِّ نصرٍ خاصٍّ، كـ "نَصَرَ زَيْدٌ"، و"نصر بكرٌ"، فلو ذُكرَ بدون الفاعلِ لم يُفدْ شَيْئًا. وهَهنا فائدةٌ جليلةٌ لا بدَّ من ذكرها، وهي: أنَّ اللَّفظَ قد يُوضعُ وضعًا عامًّا؛ لموضوع (¬4) له عَامّ؛ كـ "رجُل"، وقد يُوضعُ وضعًا خاصًّا؛ لموضوع (¬5) له خاصّ، كـ زيد"، وقد يوضع وضعًا عامًّا لأمورٍ مخصوصةٍ؛ كـ "هذا"؛ فإنَّ وضعه عامٌّ لكُلِّ مُشارٍ إليه مَخْصوص؛ أي: وضع لاعتبارِ (¬6) المعني العامّ ¬
للخُصوصِيَّاتِ (¬1) الَّتي تَحْته؛ فلا يُقالُ: "هذا" والمرادُ: أحدٌ مِمَّا (¬2) يُشارُ إليه (¬3). وكالحُروفِ كـ "مِنْ" فإنَّها وُضِعَتْ باعتبارِ معني عامّ؛ وهو نَوعٌ من النِّسْبة؛ كالابتداء لكلِّ ابتداء مُعَيَّن بخُصوصه (¬4)؛ فما لم يُذكرَ مُتَعلّقه لا يَتَحصّل فردٌ من ذلك النَّوع [الّذي] (¬5) هو مدلولُ الحرفِ، لا في العقل ولا في الخارجِ، وإنَّما يتحصّل بالمَنْسُوب إليه، فيتعقّل بتعقّله. وهكذا الفعل فإنّه وُضِع لنسبةِ الحدثِ إلى أمرٍ مُعيَّن، فما لم يُذكر ذلك الأمرُ لم يُفد. فإن قلتَ (¬6): فما الفرقُ حينئذٍ بينه وبين الحرف؟. قلتُ: لوجهين (¬7): الأَوَّل: أنَّ معناه وإنْ لم يتحصَّل إلّا بذكر المتعلِّقِ؛ لكنَّه إذَا تحصَّل ففي نفسهِ بخلاف الحرف؛ فَإنَّه في غيرِه، والثَّاني (¬8): أنَّه بعد ذِكر مُتعلّقه يصير إسْنادًا تامًّا مُفيدًا (¬9) بخلافِ الحرف. ¬
وإن (¬1) قلتَ -أيضًا-: سلَّمنا أَنَّه لا يتحصّل إلّا بالمسند إليه، لكنّه أَعمُّ من أنْ يكون مَذْكورًا أو محذوفًا عند القرينة؟. قلتُ (¬2): العللُ النَّحويّةُ تَعْليلاتٌ بَعْد الوقوع ولا تَوجيه للنَّقضِ عليها. فإن قلتَ: فما تقولُ في فاعل المصدر؛ فإنه جائزُ الحذفِ؟. قلتُ: لأنَّ المصدرَ وُضِع للنِّسبة المُطْلقة لا المقيّدةِ، والتَّقريبُ ظاهرٌ؛ كيف وبحثُنا في فاعل الفِعل لا مُطلقًا! (¬3). وهذه المسألةُ زائدةٌ على "المفتاح" (¬4). ثم إنَّه؛ أي: الحذف (¬5). يترجَّحُ (¬6) ¬
لوجُوهٍ (¬1): الأَوَّل: ضِيق المقَام (¬2)؛ كجوابِ المشْرف -أي: على الموتِ-: أمُوت؛ حيث يُقال له: كيف أنت؟، إذ الوقت لا يَسع أن يقُول: أنا أموتُ (¬3). وكعند (¬4) ملاقاةِ المحبِّ والمحبُوب في مضيق، فيُحذف خوفًا من تنبُّه الرُّقَباء. وكضَرُورة الشِّعْر. وقوله (¬5): قَال لِي: كَيْفَ أَنتَ؟ قلتُ: عَلِيلٌ ... سَهَرٌ دَائِمٌ، وَحُزْنٌ طَويلُ يحتملُ الأخيرين لا الأَوَّل (¬6)؛ كما قال شارحُ "المفتاحِ" (¬7)؛ لأنَّ المِصْراعَ الأخير يَنْفيه (¬8). ¬
الثَّاني: الاحْتراز عن العَبث (¬1)؛ نحو: {يُسَبِّحُ (¬2) لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ} (¬3)، إذ لو كُرِّر فعلُ التَّسْبِيح (¬4) لكان عبثًا؛ إذْ هو معلومٌ من الأَوَّل (¬5). وفيه؛ [أي] (¬6): في الحذفِ في هذا المثال مَع ذلك؛ مع الاحترازِ ¬
عن العبث تكثيرُ الفائدةِ بنيابته؛ أي: بنيابة ذلك الكلامِ عن ثلاثِ جُملٍ؛ إحْداها: المذكورةِ (¬1)، والثَّانية: مَنْ يُسبّح؟ (¬2). والثَّالثة: يُسبّحُ رجالُ (¬3)، ولو بَنَاه للفاعلِ لكان جُمْلةً واحدةً. ولا شُبْهة أنَّ الكلامَ متى كان أجمعَ للفوائدِ كان أبلغ، وفوائدُ ثلاثِ جُملٍ أكثرُ من فوائدِ جملةٍ؛ فيكون الكلامُ ببناءِ المفعولِ أبلغ، ويكون؛ عطفٌ على قوله: "بنيابتهِ"، {يُسَبَّحُ لَهُ} و {رِجَالٌ} مقصودَين [بالذِّكر] (¬4)؛ لأنّهما حينئذٍ من أركان الكَلامِ لا من الفَضَلات؛ وفيه أدنى مُخالفةٍ للمفتاح؛ لأنَّه قال في قوله: "يُكتبُ القرآنُ لي زيدٌ" (¬5): أنَّ "كُلَّ واحدٍ من لفظي: (القرآن) و (زيد) مقصودٌ إليه في الذِّكرِ غير مستغنىً عنه؛ بخلافِه في التَّركيب الآخر (¬6)؛ فإن لفظ (القرآن) يُعدُّ فيه فَضْلة" (¬7). فالموافِق له (¬8) أن يُقَال: [ويكون المسبّح (له) و (رجال) ¬
مقصودين؛ اللهم إلّا أَنْ يُقال:] (¬1) المراد من قوله: {يُسَبّحُ لَهُ} لفظة: "له". وفي بعض النُّسخِ لم تُوجد لفظة: "يسبّح"، لكنَّ المقروء على المصنِّف هو المشْرُوحُ. وبذكرِ الشَّيءِ عطفٌ على [قوله] (¬2) "بنيابته" مُجْمَلًا ثُمَّ مفصَّلًا؛ وهو (¬3) أوقعُ في النَّفسِ؛ لتكرار (¬4) الإسناد (¬5)، وأَنَّهُ (¬6) إذا ورد (¬7) عليها المجْمَل (¬8) انتقَش فيها واشْتاقت -أيضًا- إلى تفصيله؛ ثمّ إذا ذُكر بعده المُفَصَّل (¬9) تمكَّن فيها. والمحصُولُ بعد الطَّلبِ أعزُّ من المنساق بلا تَعب (¬10). ¬
الثّالث: تَخييلُ (¬1) التَّعويلِ، أي: الاعتماد على شهادة العقلِ دون اللّفظِ (¬2)، وكم بَينهما!، لأنَّ الاعتمادَ على شهادةِ العقلِ لو حُذِف، وعلى شهادةِ اللّفظِ لو ذُكر. وكم بين الشَّهاديتن من الفرق!؛ فإنَّ شهادة العقلِ أَقْوى وأدلُّ. ¬
الرَّابعُ: تَطْهيرُ اللِّسان عَنه (¬1)؛ لغاية دَناءته وخِسَّته؛ فلا يَليق ذكره باللِّسانِ (¬2)، ويقرُب منه؛ من تَطْهيرِ اللِّسان، من حيثُ إنَّه لا يَليقُ بالذِّكر الحياءُ من التَّصريح (¬3)؛ أي: ما يُسْتَحى من التَّصْريح بذِكْره؛ كما قالتْ عائشة -رضِى الله عنها- (¬4): (مَا رَأَى مِنِّي وَمَا رَأَيْتُ مِنْه)، أي: ما رأى رسُول الله- صلى الله عليه وسلّم- العورةَ منّي (¬5)، وما رأيتُ العورةَ منه. الخامسُ: تَطْهيرُه عن اللِّسان، لغاية شرفهِ وعظمتهِ (¬6). ¬
السَّادسُ: إمكانُ الإنكارِ إن احْتيج إليه، كما تقول عند وجودِ القرينة: يُعْطي ويَمْنعُ لا بُخلًا ولا كَرَمًا. ولا تذكر المُسْند إليه لتتمكّنَ من الإنكار؛ أي: إن احتجت إليه، وكما قال الصدِّيق [رضي الله عنه] (¬1) -في جوابِ سُؤالِ الكفّار: مَنْ هَذا؟ - (¬2): (رَجُلٌ يَهْدِيني السَّبِيلَ)، قريبٌ منه (¬3). ¬
السّابعُ: تعيُّنُه للخبرِ حقيقةً أو ادِّعاءً؛ أي: يكون المسندُ إليه مُتَعيِّنًا لهذا الخبرِ لا يُشاركه فيه غيرُه، ولا يَصلُح الخبرُ إلَّا له (¬1). حقيقةً؛ كقولك: "خالق لما يشاء [فاعل لما يريد (¬2)] (¬3) ", أو ادّعاءً من المتكلّمِ؛ ¬
كقولِ الشَّاعرِ -في حقِّ ممدوحِه- (¬1): الوَاهِبُ المائةَ الهِجانَ وعبدَها ... عوذًا تُزَجِّي خَلفَها أَطْفالها الثَّامنُ: اتباعُ الاستعمالِ (¬2)؛ فإنَّه إِذا كان الاستعمالُ واردًا على الحذفِ منه (¬3) أو من أمثاله ونظائِره (¬4) -كما قال في "المفتاح" (¬5) -، وقامت القرينةُ لا بُدَّ من حذفه؛ كما في (¬6): (نِعم الرَّجلُ زيدٌ!)، على قول من يرى أصل (¬7) الكلامِ: "نِعمَ الرَّجلُ هو زيدٌ" (¬8)، ¬
وكما في: "ضرب زيدًا قائمًا"؛ فإن التَّقديرَ -على الأصحِّ-: "ضربي زيدًا حاصلٌ إذا كان قائمًا" (¬1)، وكما في قولهم (¬2): (سُقيا)؛ إذ التَّقدر: "سقاك الله سُقيا"، وكذا: (عجبًا)، إذ التَّقدير: "عجبتُ عجبًا" (¬3)، وكما في قولها (¬4): "إلا حَظَّةٌ فلا أَليَّةٌ"؛ حَظِيَّةٌ: فَعِيلة من حظيت المرأةُ عند زَوْجها حُظِوة (¬5). وأَليّةٌ: فعيلة من الأَلْو؛ وهو التَّقْصِير؛ بمعني فاعله؛ أي: إن لا يكن لك في النِّساءِ حَظيّة؛ لأنَّ طبعك لا يُلائم طبعهنّ -فإنّي غيرُ مُقَصِّرةٍ، ¬
و (كان) هي (¬1) تامَّة. وموردُ المثل: أن رَجلًا كان (¬2) لا تَحْظَى عنده امرأة، فلمَّا تزوَّج هذه (¬3) لم تَأْل جهدًا في أن تَحْظى عنده؛ ومع ذلك لم تَحْظ، بلْ طَلَّقها؛ فقالت (¬4). ومَضْرِبُه: كلُّ قضيَّةٍ كان الإنسانُ أهلًا لها، مُجْتهدًا فيها، ولكنَّها امتنعت عليه لعارضٍ عرضَ من غير جِهته. التّاسعُ: اختبارُ السّامعِ هلْ يتنبّه للمحذوفِ مع وجودِ القرائن، واختبارُ قَدْرِ تَنبّهه عند وجودها -أيضًا- (¬5). يُحكى أنّ واحدًا -من خُلفاء بغداد- (¬6) ركِب مع واحدٍ من نُدمائهِ في سفينةٍ ¬
ذات يومٍ (¬1)، فبينا هما كذلك إذْ سَأَل من نديمه: أيُّ طعامٍ أشهى عندك، وألذُّ لديك؟، فقال: مُخُّ البيضِ المسلوق (¬2). فعبرا، حتّى اتَّفَق عودُهما هنالك في العام القَابل. فقال: مع أيْشٍ؟ (¬3)، فأجاب النّديمُ: مع الملحِ؛ فتعجَّب من استحضارِه، وكمالِ تنبهّهِ وتيقُّظِه؛ فخلع عليه، وقرَّبه من نَفْسه. العاشرُ: تَكثير الفائدة باحْتمال الأمرين (¬4)؛ من حَمل المذكُور تارةً على ¬
ترك مُسنده، وحمله أخرى على تَرك المسند إِليه؛ كما في الآيتين؛ نحو (¬1) قوله -تعالى- (¬2): {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (¬3)، و {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} (¬4) لحملهما (¬5) تارةً على: "فصبرٌ جميلٌ أجملُ"، و "طاعةٌ معروفةٌ أَمْثل" (¬6)، وحملهما أُخرى على: "فأمري صَبْرٌ جميل"، و"طاعتُكم طاعةٌ معروفةٌ" (¬7) بالقولِ دون الفعل والنِّيَّة. الحادي عَشَر: أن يقصدَ بحذفِ المفعولِ تعميمَ الفعل؛ احْترازًا عن أنْ يَقْصر (¬8) السَّامعُ الفِعل على المفعُول المذكور لو ذُكر؛ كقولك: "فلانٌ يُعْطي ويَمْنع"؛ فإنَّه أعمُّ تناولًا من قولك: يُعْطي الدِّرهم (¬9)، ويَمْنَعه (¬10). ¬
أو إطلاقَه؛ أي (¬1): يقصد به الإطلاق، ونفس الفعل، بتنزيل المتعدِّي منزلةَ اللّازم ذهابًا في: "فلانٌ يُعطي" إلى معنى: أنَّه يفعلُ الإعطاء، ويُوجد هذه الحقيقة إيهامًا للمُبالغة (¬2). والغالبُ أنَّ الأَوَّل يُستعمل (¬3) في النَّفي، والثَّاني في الإثبات؛ كما في الآيتين قال (¬4) -تعالى-: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)} (¬5)، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬6). الثَّاني عَشَر: رعايةُ فواصل الآي؛ أي: أواخر الآيات. والفواصل لعلّها أُخِذت من قوله -تعالى-: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (¬7). نحو: {مَا ¬
الإثبات
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (¬1)؛ إذْ لَوْ قال: و"ما قَلاك" لبطل السَّجع. والإثباتُ يجبُ عند عدم القرينة وإلا لم يُمكن الإفادة (¬2)، وإذا (¬3) كانت القرينة فيجُوز الحذفُ والإثبات. وقدْ يَتَرَجَّحُ طرفُ الإثباتِ لوجوهٍ: الأَوَّل: كونُه؛ أي: الإثبات: الأصل (¬4)؛ لأن الأصلَ في الكلامِ أن تكون أرْكانُه وأجزاؤُه مَلْفُوظةً مَذْكورةً بالفعلِ. مع عدمِ الصَّارفِ عن الإثبات؛ أي: مع عدمِ المانع عنه، والحامل على التَّركِ والحذفِ (¬5). ¬
الثاني: زيادةُ التقرير والإيضاح (¬1)؛ إِذْ لو لَمْ يُذْكر لَفُهم المقصُود لكن عند ذِكْره يَتَقرّرُ زيادة تقرير (¬2). الثّالثُ: الاحتياطُ لقلّةِ الثِّقةِ والاعتماد بالقرائنِ؛ إمّا لغباوةِ السَّامع (¬3)، أو لغيرها (¬4). الرّابع: أن لا يَتَمكّن السَّامعُ من ادِّعاءِ عدم التَّنبّه له؛ إذ لو تركه لَعَلهُ (¬5) يدّعي عدمَ معرفة ¬
مُراده (¬1) عند المُؤَاخذة (¬2). وهذا الوجهُ لا يُعلم من "المفتاح". الخامسُ: الاستلذاذُ؛ كذكرِ العاشق للمَعْشُوق؛ ولهذا قيل (¬3): "مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أكثرَ ذِكْرَهُ". قال المتنبّي (¬4): أَسَامِيًا لَمْ تَزدْهُ مَعْرِفَةً ... وَإِنَّمَا لَذَّةً ذَكَرْنَاهَا السَّادس: التَّبرُّك؛ كما يُذكر اسمُ اللهِ والأنبياءِ والأَولياءِ تبرُّكًا. وفي جَعل الاستلذاذِ وَجْهًا، والتَّبرّك وجهًا آخر إشمامُ رَائِحة خِلافٍ "للمفتاح" (¬5)؛ فإنَّه ¬
قال (¬1): "أو يُذكر تَبركًا واسْتلذاذًا به؛ كما يَقُول الموحِّدُ: الله خالقُ كلِّ شيءٍ" (¬2). السابع: التعجّب؛ كما يقال: "زيدٌ يقاومُ الأسد". الثّامن: التعظيم؛ كما (¬3) في بعضِ الألقابِ المحمودة. التّاسع الإِهانة؛ كما في الألقابِ المذمومة. العاشر: بَسْطٌ لكلامٍ افْتراصًا (¬4) لإصغاء (¬5) السامع؛ نحو: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} (¬6)؛ إذْ كان يتمُّ الجوابُ بأن يقول: "عصا"، فذكر المسنَد إليه، وهو "هي" للبَسْط؛ قيلَ: ولذلك، أي: ولأجلِ البسطِ افتراصًا أَتْبع مُوسى ما أَتْبع, أي: قولَه: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} الآية. ¬
ولَمَّا لم يكن هذا الوجهُ مُسْتحسنًا عند المصنِّف؛ لأنَّ بسطَ الكلام لمجرَّدِ (¬1) الافتراص [لا يكون] (¬2) مناسبًا أَوْ لا يليق بالبُلغاء، إذ هو هَذَرٌ (¬3) وترك أدب؛ سيّمَا في جناب الجبروت -عَبَّر عنه بلفظة (¬4): "قيلَ". وقال: الحقُّ أَنْ يُقال: إن السُّؤال إذا كان وَاردًا على شيءٍ ظاهر يَتَوجَّه إلى أمر يتعلق به بحسب مُقتضى الحال، وإلّا يَكُون عبثَا لظُهوره (¬5)؛ كما إذا سأَلت عَمَّن لبِسَ ثياب السَّفر: ما هذا؟، فإنّك لا تسأله عن نفس الثوب وماهِيَّتهِ لظهُوره؛ بل عن سَببِ لبْسِه. فكأنكَ قُلتَ: ما عزيمتُك؟، والجوابُ: أريدُ سَفَرَ الكعبة. ولو أجاب: بأنَه كِرْباس (¬6)، عُدَّ مسخرة؛ فكذلك هَا هُنا، لَمَّا كان السُّؤال عن أمر ظاهرٍ، وعُلمَ من مُقتضى المقام؛ من مُناظرةِ السَّحرةِ أو غيرها أنَّه بصددِ أن يَرد عليه صورة (¬7) أخرى، وأن هذا السُّؤال يَعْقُبه أمرٌ عظيمٌ يُحدثه الله في العصا - ¬
عُلِم أَنَّه لتقرير صورتِه (¬1) الأوْلى في نفسه؛ حتَّى لا يغفل عنها عند ورود الصُّورة الأخرى، ولتوطينِ نفسه وتثبيته حتَّى لا يخاف عنده، ولا يتوحَّشَ منه. فالجوابُ لا يكونُ إلَّا أن يقول: إن صُورتها مقرَّرةٌ في نفسي؛ أعرفها بالذاتِ؛ فإنَّها ما هي إلا عصاي لا تنفع إلا منافع بنات جنسها، وبالصِّفات واللَّوازم، فإنّني (¬2) قديمًا {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (¬3)؛ ليكونَ جوابُهُ مُطابقًا للغَرض الذي فهمه من فحوى سُؤال رَبِّه؛ فَعُلِم أن البسْط لذلك، لا للافْتراص (¬4)، ومع ذلك خافَ؛ فقال [الله] (¬5) -تعالى-: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} (¬6). ¬
وهكذا يفعلُه المشعِبدون (¬1) إذا أرادوا أن يجعلوا حبلًا من الحبالِ في صُورة حَيَّةٍ (¬2)، فإنَّهم يقولون للنُّظّار: ما هذا؟، أليس حَبْلًا من قُطنٍ أو صوفٍ!، ويُكرِّرون ذلك لِئلّا يَغْفَلوا عند لبس الصُّورة الثانية، وخلع الصُّورة الجبليّةِ (¬3) عنها. وقد ذُكِر في "الكشَّاف" -أيضًا- وجهًا لسنا هنا لبيانِه (¬4). وقيلَ: كان فيها من المآرب الأخرى "أنه كان يَسْتقى بها؛ فتطول بطول البئر، ويصير شُعْبَتَاها دَلْوًا، ويكونان شمعتين بالليلِ، وإذا ظهر عدوٌّ حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرةً ركزها فأَوْرَقت وأَثْمرت، وكان يحملُ ¬
عليها زَاده وسقاه، فجعلت تُماشيه، ويركزها فينبع الماءُ، فإذا رفعها نَضَبَ، وكانت تقيه الهوامَّ (¬1) " (¬2). الحادي عشر: التَّصريحُ في المسْنَد بالاسم للثبات، أي: ليُسْتفاد الثُبوت (¬3) صريحًا؛ لأن أَصل الاسم الدّلالة على الثُّبوت. أو بالفعل للتَّجدُّد، نحو: "زيدٌ قام" (¬4)، أو لتعيين أَحدِ الأَزْمنة الثلاثة باختصارٍ، كدلالةِ "قام" على الزَّمانِ الماضي باختصار؛ فإنَّه لو قال: "زيدٌ قائمٌ في ¬
الزَّمان الماضي" أفادَ تعيين الزَّمان؛ لكن بتَطْويل. أو بالظَّرفِ للاحتمال؛ أي: لاحتمال الثُّبوت لو قُدِّر الاسم، واحتمال التَّجَدُّد لو قُدِّر الفِعل (¬1). الثاني عشر: التَّعريضُ (¬2) بغَبَاوةِ السَّامع، وأنَّه ممن لا يتنبَّه بالقَرائن (¬3). ¬
النوع الثاني: في التعريف بأقسامه، والتنكير
النوعُ الثاني: في التَّعريف بأَقْسامه (*)، والتَّنْكير (**). التَّعريفُ (¬1): لإفادةِ فائدة يُعْتَدُّ بها؛ أي: إذا كان المقصودُ من الكلامِ تَربية الفائدة (¬2)، وإفادةَ السَّامع فائدةً تُعتبرُ ويُعتدُّ بمثلها، -يُعرَّفُ؛ وإن الحكم سواء كان فائدة الخبرِ، أو لازمها؛ لأنَّه حكمٌ - أيضًا-؛ فإنّ "زيدًا قائم" يَشْتملُ (¬3) على حُكمين: أحدهما: صريحًا؛ وهو إسنادُ القِيامِ إليه. وثَانِيهما: ضِمنيًّا، وهو أَنك تَعْلمُ أنه قائمٌ؛ فإنّه إسنادٌ -أيضًا-؛ فإن العِلْمَ فيه مُستندٌ (¬4) إليك. كلما كان أخص فاحتمال وقوعِه أقلُّ (¬5)؛ فالفائدةُ في تعريفه أقوى، أي: كُلَّما ازدادَ تَخْصيصًا ازدادَ الحُكمُ بُعدًا فَقَلّ احتمالُ وُقوعِه؛ فالفائدةُ بحسبه تزداد قُوّة، وكلما ¬
كان أعمّ كان احتمالُ وقوعه أكثر، فالفائدةُ فيه أضعفُ. فاعتبرْ حال الحُكمِ في قولنا (¬1): (شيء ما موجودٌ)، و (زيدُ بنُ عمرو طبيبٌ ماهرٌ)، ولهذا: لا استغرابَ في الأَوَّل، ولا توجّه للنَّفس إلى سَماعه (¬2)، بخلافِ الثاني، فإنَّه لا تسمعه إلا وتَتوجّه إليه النَّفس (¬3). واقتفى المصَنِّفُ فيه أَثرَ السَّكّاكيِّ؛ وإِلَّا فعنده أن فهمَ قُوَّة هذه الفائدة ها هنا وعدمه يمكن أن يقال: إنّه حاصلٌ من جوهر اللَّفظِ لا (¬4) من التَّعريف والتَّنكير؛ لأن لفظَ مثالِ التَّعريف خاصٌّ، ولفظَ مثالِ التَّنْكيرِ أعمُّ العامِّ. نعم، لو أثبتَ هذا الفرقَ بين الشَّيءِ وشيءٍ لتمَّ دسته (¬5). ¬
تنبيه
تنبيه: ما في هذا التَّنبيه من الفوائد مِمَّا (¬1) زادها على الأصل؛ وهي فوائد شريفةٌ مُهمّةٌ لا بدَّ (¬2) من معرفتها. التَّعريفُ (¬3): يقصد به مُعيَّن عند السامع من حيثُ هو مُعيَّنٌ؛ كأنه؛ أي: كأن التَّعريفَ إشارةٌ إليه؛ أي: إلى ذلك المُعَيَّن بِذَلك الاعتبار؛ أي: باعتبار أنه مُعيّن عنده. وأمّا النَّكرة (¬4): فيُقصدُ بها (¬5) التفاتُ النَّفسِ إلى المعيَّنِ من حيثُ هو؛ مِنْ غيرِ أَنْ يكون في اللَّفظِ مُلاحظة تَعيُّن، وإن كان لا يكونُ إلَّا معيَّنًا، فإن الفهمَ موقوفٌ على العلم بوضع اللَّفظِ له؛ أي: للمعنى الذي هو مُفادٌ من اللفظ؛ وذَلك؛ أي: العِلْم بالوضع إنَّما يكونُ بعد ¬
تصوُّره (¬1) ذلك المعنى، وتميّزه عنده عَمَّا عداه؛ لكنَّه لا يلاحظ في اللَّفظِ أنَّه مُعيَّن. والحاصل: أَن الخطابَ لا يكون إلَّا بما يَكون مَعلومًا للمخاطب ومتصوَّرًا له، سواءٌ كان اللَّفظُ نكرةً أو معرفةً، لكن الفرْق: أن في لفظ المعرفة إشارةً إلى أنَّه يعرفة السَّامع دون المُنكّر (¬2)، فإذا قلتَ: ضربَ الرَّجلُ؛ فكأنك قلتَ: ضربَ الرَّجلُ الذي تعرفُه؛ [ففي اللفظ إشارةٌ إلى أنَّه يعرفه] (¬3) بخلاف النّكرة (¬4). وبهذا يُعرف الفرق بين أسد والأسدِ مُرادًا به الحقيقة، أي: إذا أُريد بالأسدِ الماهيَّة التي يُعبَّر عنها بالجنسِ في عُرفِ النُّحاةِ لا العهد والاستغراق (¬5)، ¬
ويعرفُ أن مُؤدَّاهما (¬1)؛ أي: معنى الأسد وأسد (¬2) بالحقيقة واحدٌ؛ وهو الماهية المعيَّنة (¬3) المعلومةُ للسَّامِع، وإِنَّما يختلف الاعتبارُ؛ وهو أَن في المعرفة إشارةً إلى تعيُّنه عند السَّامع، وفي النَّكرة لا إشارة إليه؛ ولذلك؛ أي: ولاتّحادِ المؤدَّى وعدمِ اختلافه إلّا بالاعتبار حكم النُّحَاةُ بتقارُبهما؛ أي: بِتقارُبِ المعرَّف باللام للحقيقة- لا لغيرها، من الاستغراقِ، أو العهد والنَّكرة (¬4)؛ وجُوِّز؛ أي: ولذلك جُوِّز وصف ¬
المعرَّف هذا (¬1) التَّعريف؛ وهو تعريفُ الحقيقة بالنَّكرة؛ كما في قوله -تعالى-: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (¬2)؛ فإِن {غَيْرِ} نَكِرةٌ وصفَ بها المعرفة؛ وهو قوله -تعالى-: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬3). ولوْ قِيلَ: إن لفظ {غَيْرِ} بإضافته إلى أحد الضِّدَّين؛ -لأن المغضوبَ عليه ضِدُّ المنعم عليه- صار معرفةً، أو إن (¬4) تعريف الّذين أنعمت ليس من التَّعريف الذي فيه البحث- فبَعد التَّسليم الأمرُ فيه سَهْلٌ؛ لأن التَّمثيلَ للتَّفهيم لا للتَّحقيق (¬5). ¬
ولذلك قيل (¬1) -أيضًا- في قَوله (¬2): وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللّئِيمِ يَسبُّنِي ... فَمَضيتُ ثُمَّتَ (¬3) قُلْتُ: لا يَعْنِينِي ¬
إن "يَسُبُّني" صفةٌ للئيم لا حال؛ لوجوبِ كون ذي الحالِ معرفةً واللئيم كالنَّكرة (¬1). ومعنى البيتِ (¬2): إنِّي أمرُّ على لئيمٍ من اللِّئام؛ صفته؛ أنه يُسُبُّني؛ فأمضي هُناك (¬3) ولا ألتفتُ إليه؛ ثم أقولُ -في نفسي-: هو يُريدُ شخصًا آخر ولا يرُيدني، لا أَنِّي أمرُّ على اللئيمِ حال السَّبِّ فأقُول: لا يَعْنيني. فإن قلتَ: فعرِّفني الفرقَ بين الأسدِ وأُسامة. ولِمَ قيلَ: الأسدُ اسمُ جنسٍ (¬4)، وأُسامةُ عَلَمُه! أي: عَلَم الجنس، مع أنهما -في المعنى- واحد؛ لأن معناهما مُعيَّن من حيث هو مُعيَّن باعتبارِ أَنه مُعَيّن. قلتُ: أُسامةُ يَدلُّ على التعيين بجوهر اللفظ، ويُشيرُ إليه (¬5) ¬
لا بحسب أمرٍ خارج من نفس اللفظ؛ فلا يحتمل غيره (¬1)؛ أي: الدّلالة على غير التعيين (¬2)، كما هو مقتضى العَلَميَّة، والأسدُ بخلافه؛ فإنَّه لم يدل على التَّعين بجوهر لفظه (¬3)؛ بل دلالته على التَّعين وإشارته إِليه تُستفاد (¬4) من الخارج؛ كما قال: فإن التعيين مُستفادٌ من اللام؛ ولهذا تحتمل الدّلالة على غير التَّعيين عند نَزْع اللام. قال المصنِّفُ في "رُسيِّلةٍ له" في مسائلَ شتَّى في النَّحو (¬5): الفرقُ بين اسْمِ الجنس وعَلَم الجِنس: أن عَلَم الجنس كأُسامة وُضِع للتَّعيُّن (¬6) بجوهرِه، وأسد وضع لا لِمُعيَّن، ثُمَّ جاء التَّعيُّن وهو معنى فيه من اللّام؛ وهذا صَرَّح ابنُ مالكٍ (¬7). ¬
ثمّ نقُول -في حَصْر المعارف-: التَّعيُّن: إمَّا أن يُفيده جَوهر اللفظ؛ وهو العَلَم، أَوْ لا. فإمَّا حرفٌ، وهو: التَّعريف (¬1) باللام أو النِّداء، أَوْ لا. فالقرينةُ، إمَّا في الكلام؛ وهو: المُضْمر (¬2)، أَوْ لا. ولا بُدَّ من إشارة (¬3)، إمّا إليه؛ وهو: اسمُ الإشارة (¬4). وإمَّا إلى نسبةٍ معلومةٍ له؛ إمَّا خبريّةٍ؛ وهو: الموصول، أوْ لا؛ وهو الإضافة، لكنَّ الإضافةَ إلىَ غيرِ المعين (¬5) لا تُفيد تعيينًا؛ فهو المضافُ إلى أحدِ الخمسة. قدْ عُلم أن المعرفةَ هو (¬6) الذي يكون فيه إشَارةٌ إلى التَّعيُّن (¬7) عند السّامع؛ فذلك التَّعيُّنُ إمَّا أن يُفيدهُ (¬8) جوهرُ اللفظ (¬9) ويُشير إليه ذاته أو لا؛ الأَوَّل: العَلَم (¬10)، والثاني: إِمَّا أن يُفيده حرفٌ أو لا؛ الأَوَّل: هو المعرَّفُ ¬
باللام، أو المعرَّفُ (¬1) بالنِّداء. ولعدمِ الاعتداد بِتعريف المِيمِ؛ نحو قوله (¬2): "لَيْسَ مِن امْبِرّ امْصِيام (¬3) في امْسَفَر" لم يتعرَّض له (¬4). والثاني: لا بُدَّ أن يكون بقرينة ليُشار بها إليه (¬5)، وهي إِمَّا في الكلام [أي: في المكالمة والتَّخاطب] (¬6) أو لا؛ الأَوَّل: هو الْمُضمرات، والثاني: وإذ ¬
لا بُدَّ فيه (¬1) من إشارةٍ؛ إذ بَينَا أن الإشارةَ (¬2) جزءُ مفهوم المعرفة؛ فتلك الإشارة؛ إِمَّا إليه أي: إلى الشَّيءِ الذي يُراد تعينه؛ وهو: اسم الإشارة أو لا (¬3)، بل إلى نسبةٍ لذلك الشَّيءِ معلومةٍ للسَّامع، وإلا امتنع (¬4) تعريفُ الشَّيءِ بها ومعرفته منها، أي: فالإشَارةُ إِمَّا حسيّةٌ أو عقليَّة (¬5)، وتلك النّسبة إمَّا إسناديّة خَبريَّة؛ وهو الموصُولات، أو لا؛ وهي النِّسبة الإضافيَّة؛ أي: التي حصلت بطريق الإضافةِ؛ وهو المضاف، لكنَّ الإضافةَ إلى غيرِ المعيَّن لا تُفيد (¬6) التَّعيين؛ إذ النِّسبةُ إلى الشَّيءِ لا تُفيدُ للمنتسب (¬7) ما ليس للمنتسب إليه؛ فالمعرَّفُ بالإضافة: ما أُضيفَ إلى أحد المعارفِ الخمسةِ، لكن بالشُّروط (¬8) الّتي ذكرها النُّحاة. فالمعارفُ ستةٌ: العَلَم، المعرَّف ¬
التعريف بالعلمية
بالحرفِ (¬1)، المضمر، اسمُ الإشارةِ، الموصول، المضاف. ويختارُ (¬2) العَلَمُ لوجوهٍ: ومُخالفةُ السَّكّاكيّ في تقديم العَلَم على المضمر إِمَّا لأنَّه أعرف -كما هو رأي بعضٍ- (¬3)؛ لأن له وضعًا خاصًّا، وموضوعًا له خاصًّا، وإِمَّا لأنَّه أَوَّل خارجٍ من التَّقسيم - (¬4): ¬
الأَوّل: إحضارُه بعينه، أي: إحضارُ المتكلِّمِ المسْندَ إليه -مثلًا- (¬1) في ذهن السَّامع بشَخْصه (¬2) بحيث لا يُشاركه فيه غيره، بطريقٍ يخصُّه، أي: يختصُّ المسند إليه (¬3)، وما هو إلَّا لفظة العَلَم؛ لأنَّه طريقٌ لتعريفه خاصٌّ به؛ نحو: لفظة "الله" في قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬4). قوله: "بعينه" يُخرج الإحضار (¬5) بالصِّفات المختصَّة. [و] (¬6) قوله: "بطريق يخصّه" تخرج الإحضار بسائر المعارف؛ فعُلم أن ما لم زاد في "المفتاح" عليه بقوله: "ابتداءً" لا حاجةَ إليه (¬7)؛ ولهذا لم يذكره المصنِّفُ. ¬
الذي: التعظيم. الثالثُ: الإهانة. كما في (¬1) بعض الألقابِ والكُنى المحمودتين في الأَوَّل (¬2)، والمذمومتين في الثاني (¬3). قيلَ: العَلَمُ إِمَّا أن يكُون مُشْعرًا بمدحٍ أو ذمٍّ أو لا؛ الأَوَّل: اللقبُ (¬4)، والثاني: إِمَّا أن يكونَ مُصَدَّرًا بمثل: أبٍ وابنٍ (¬5)، أوْ لا؛ الأَوَّل: الكُنية (¬6)، والثاني: الاسمُ (¬7). الرَّابعُ: الاستلذاذُ بذكرهِ (¬8). ¬
التعريف بالمضمر
الخامس: التَّبرُّكُ بهِ، وذلك ظاهرٌ (¬1). والمضمرُ لوجوهٍ (¬2): الأَوَّل: الإشارة إلى مذكورٍ (¬3)، يقول الشّاعر (¬4): بيُمنِ (¬5) أَبي إِسْحَاقَ (¬6) طَالتْ يَدُ العُلَى ... وَقَامت قَنَاةُ الدِّين، واشتدَّ كَاهِلُه ¬
هو البَحرُ من أَيِّ النَّواحي أَتيتَه؛ ... فَلُجَّتُهُ (¬1) المعْرُوفُ، والبَرُّ (¬2) سَاحِلُهُ (¬3) أَوْ ما في حكمِه؛ أي: حُكمِ المذكورِ؛ كما في قوله (¬4) -تعالى-: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬5). الثاني: حكايةُ المتكلِّم واحدًا أَوْ فوقه، وكونُ المقام مقام التَّكلّمِ (¬6) كقول الشَّاعرِ (¬7): ونحنُ التَّاركُونَ لِمَا سَخِطْنَا ... ونحنُ الآخذُون لما رَضِينا ¬
الثّالثُ: تخصيصُ المخاطب (¬1)؛ يقول ابن الدُّمَيْنَة (¬2) -وكَتَبه (¬3) إلى امْرأتِه أُمَّامة (¬4) - (¬5): ¬
وأنتِ الّتي (¬1) كَلَّفْتَنِي دَلَجَ (¬2) السُّرى ... وُجُونَ القطا (¬3) بالجلهتين جُثُومُ (¬4) وكجوابها (¬5) له (¬6): وأنتَ الذي أَخْلَفْتَني مَا وَعَدْتني ... وَأَشْمَتَّ بِي مَنْ كَان فِيكَ يَلُومُ الجَلْهَةُ: طرف الوادي. ¬
قال المصنِّفُ: أمثالُ هذه المباحث وظيفُة اللُّغة أو النَّحو لا المعاني (¬1)؛ لكن بالسَّكّاكيِّ اقتديتُ في إيرادِها (¬2). وحقُّ الخطابِ أن يكون مع مُعَيَّن، وقد يُعْدل (¬3) عنه؛ [أي] (¬4) عن الحقِّ إلى غير مُعَيَّن تَعْميمًا؛ أي: لِيَعمَّ كل مخاطبٍ؛ كما تقول: فلانٌ لئيمٌ؛ إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه أَسَاء إليك؛ فلا (¬5) تُريد بـ "أكرمت" و"أحسنت" (¬6) مخاطبًا مُعيّنًا؛ كأنك قلتَ: إنْ أكرم أهان، وإن أحسن إليه أساءَ. وعليه؛ أي: على التَّعميم يُحمل قولُه -تعالى - (¬7): {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا ¬
التعريف بالموصولية
رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬1) قصدًا إلى تفظيع (¬2) حال المجرمين، كأنه لوضُوحه (¬3) بحيث يمتنع خَفَاؤُها (¬4) حُقَّ أن يُخاطب به كُلُّ من يتأتى منه الرُّويةُ، ولا (¬5) يَخْتصّ براءٍ دُون راءٍ. والموصولُ [لوجوه] (¬6)؛ أي: يُختارُ (¬7) الموصولُ [لوجوهٍ] (¬8)؛ وهو متى صحَّ إحضارُ الشَّيءِ في ذهن السَّامع بوساطة ذكرِ جملةٍ معلومة الانتساب إلى مشارٍ إليه، ومع ذلك اتَّصَل به غرضٌ من الأغراض، أو وجهٍ من الوُجُوه. الأَول: ألا يَعْلم منه، من ذلك الشَّيءِ المخاطِبُ، أي: المتكلّم، أو المخاطَبُ، أي: السَّامعُ، أو هما (¬9) غرَ ذلك الإسنادِ والانْتسابِ، مثل: ¬
"الذي كان معك أمس لا أعرفه" (¬1)، أو "الذي كان معنا أمس رجلٌ عارفٌ فاعرف" (¬2)، أو "الذين في بلاد الشَّرق لا نعرفهم" (¬3). الثاني: استهجانُ (¬4) التَّصريح بالاسم لكونه من الأَسْماء المذمومة؛ فلا تقول: "حنظلةُ فعل كذا"؛ بل "الذي كان معكَ فعل كذا" (¬5). الثالثُ: الإخفاءُ، وذلك حيثُ لو ذُكر الاسم لعَلِمه غَيْرُ المخاطب؛ فيُعدل إلى الموصول إخفاءً من غيره (¬6). الرابعُ: زيادةُ التقرير؛ أي: تقرير الخبر؛ نحو قوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} (¬7)؛ فإن في كونه في بيتها؛ المُسْتلزمِ لزيادةِ الاختلاط والانبساط - زيادةَ تقررٍ (¬8) للمُراودة ليستْ في إيراد لفظةِ العَلَم؛ التي هي "زليخا" (¬9). ¬
هكذا وجَّهَهُ المصنِّفُ، لكن قال صاحبُ "الإيضاح": زيادةُ التَّقريرِ لتنْزيه يُوسفَ؛ لأن الآيةَ مَسُوقةٌ لتنْزيهه عن الفَحْشاءِ، والمذكور أدلُّ عليه من امرأة العزيزِ (¬1)، ولفظُ "المفتاح" مُحْتملٌ للوجهينِ (¬2). ¬
الخامسُ: توجُّه الذِّهن (¬1) لما سيردُ عليه من الخبر عن الموصول؛ مُنتظرًا لِوُروده (¬2) عليه (¬3) حتَّى يأخذ (¬4) منه (¬5) مكانه إذا وَرَد -كما هُو المشهُور في لسانِ القومِ (¬6): "الْمَحْصُولُ بَعْد الطلَبِ أَعَزُّ مِن المُنْسَاقِ بِلا تَعبٍ"- يقول الشَّاعر (¬7): والذِي حَارَتِ (¬8) البَرِيَّةُ فِيهِ ... حَيَوانٌ مُسْتَحَدثٌ مِنْ جَمَادِ (¬9) ¬
وهو إِمَّا آدم -عليه السّلام-، أو ناقةُ صالحٍ، أو غيرُهما؛ من جمادٍ صار حيوانًا، إذا كان مجازًا للعُقولِ (¬1). ¬
السّادسُ: بناءُ الخبرِ عليهِ [أي: على الموصول] (¬1) تعظيمًا؛ [أي: تعظيمًا للخبرِ] (¬2) نحو: إِن الذِي سمَكَ (¬3) السَّماءَ بَنَى لنا ... بَيْتًا (¬4) دَعَائِمُهُ (¬5) أَعَزُّ وَأَطْولُ (¬6). وفيه تعظيمٌ؛ حيثُ كان باني بيته سامكَ السَّماءِ. ونحو: ¬
إن الذِي خَلَقَ الأَشْيَاءَ صَوَّرني ... نارًا مِنَ البَأسِ في بَحْرٍ (¬1) مِن الجُودِ (¬2)!. أو تحقيقًا؛ نحو: إن التي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهَاجرَة ... بكُوفةِ الجُنْدِ (¬3) غَالتْ (¬4) ودَّها غُوْلُ (¬5)، (¬6) ¬
وفيهِ تحقيقُ الخبرِ؛ لأنها إذا هَجَرت وضَرَبت البيتَ بكُوفةِ الجندِ عازمةً للسَّفرِ - كان ودُّها هالكًا. يُقال: غَالته غولٌ: إذا وقعَ في مهلكة. أَوْ تَعْلِيلًا، نحو (¬1): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ} (¬2). وهذا؛ أي: اختيار الموصولِ لبناءِ الخبرِ عليه تعليلًا قدْ يتبعه تعظيمٌ للمتكلِّم، نحو: "الذي يُرافقني يستحقُّ الإجلال"، أو للسامع؛ نحو: "الذي يُرافقُك (¬3) يستحقُّ الإكرام"، أو للمذكور وهو المسند إليه؛ نحو: "الذي عنده السُّلطان يستحقُّ التَّعزير (¬4) والتَّوقير"، أو ¬
لغيرهم (¬1)؛ أي: غير المتكلم والسَّامع والمذكور؛ نحو: قوله -تعالى-: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} (¬2)؛ فإن في بناءِ كونهم خاسرين على تكذيبهم شُعَيبًا تعريضًا بتعظيمِ المصَدِّقين وتَنْزيههم عن الخُسْران (¬3). أو إِهانةٌ عطفٌ على قوله: "تعظيم"؛ نحو: "الذي (¬4) يفارقُني أو يُفارقك يستحقُّ الإكرام"، أو: "الذِي عنده الحرافيش" (¬5) يستحقُّ اللوم". أو تنبيهًا -بالنَّصْبِ- عطفًا (¬6) على قوله: "تعظيمًا"، والرَّفع (¬7) عطفٌ (¬8) على قوله: "تعظيم" والطاهرُ: أن النَّصبَ أقربُ إلى ما في "المفتاح" (¬9) ¬
على خطأ (¬1)؛ نحو (¬2): إن الذينَ تَرَونهم [إِخوانكُمْ] (¬3) يَشْفي ... غَلِيلَ صُدُورِهم أَنْ تُصْرَعُوا (¬4). الغليلُ: حرارةُ العطشِ، والضِّغنُ (¬5)، والحقدُ -أيضًا-. أو غيرُها -بالنَّصْبِ والرَّفع، تابعين لرفع التَّنبيه ونصبه-؛ أي: غير المذكورات؛ بنحو: تطييبُ (¬6) قلوبِ الفقراءِ، أو غيره؛ يقول الشَّاعرِ (¬7): ¬
إن الذِي الوَحْشَةُ في دَارِه ... تُؤْنِسُهُ الرحْمَةُ في لَحْدِهِ وإنَّما أوردَ السَّكّاكي هذا البيتَ مثالًا للتَّنبيه على معنى آخر غير الخطأ (¬1)، كعلى (¬2) التَّطييب، فعلى هذا هو مثال لما هو قسمٌ للتَّنبيه، وعلى ما فعله المصنِّفُ لما هو قسيم للتَّنبيه (¬3). ¬
وحاصلُه: أن معنى بناءِ الخبرِ على الموصول كونُ الموصولِ مَع صلتهِ بحيثُ يكون بينه وبينَ الخبرِ تعلُّقٌ يقتضِي بناءَه عليه وإسناده إليه، ويكُون هو الباعثُ على الإِخبار، وذلك إِمَّا بالتَّعريض للتَّعظيم؛ نحو: "إن الذِي سمك السَّماءَ"، وإِمَّا بالعَلِّية لميّة (¬1)، نحو: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬2)، أو آنيَّة (¬3)، وهو الذي عبَّر عنه بتحقيق الخَبر، نحو: "إن الّتي ضَرَبت"، وإِمَّا بالرَّدِّ عليه والتَّنبيه على الخطأ، نحو: "إِن الذين ترونهم (¬4) "، وإِمَّا بغيرِ (¬5) المذكورات، نحو: "إن الذي الوحشة في داره (¬6) ". وعلى هذا التَّوجيه لا يَرِدُ اعتراضٌ، فتأَمَّل. ¬
التعريف بالإشارة
والإشارةُ؛ أي: يُختارُ الإِشارةُ، وهو (¬1) متى صحَّ إِحْضاره الشَّيءَ في ذهن السامع بواسطةِ الإشارةِ الحسِّيَّةِ إليه؛ لا الإشارةِ العَقْليَّة (¬2) -كما في الموصولاتِ- لوجوهٍ: الأَوَّل: تعيُّنه؛ أي: اسم الإشارة طريقًا إلى إحضاره (¬3)، بأن لا يكون لكَ أو لسامعك طريقٌ إليه سواها (¬4). الثاني: العنايةُ بكمالِ التَمييزِ، إذ التَّمييزُ والتَّعيينُ بالحسِّ أَكملُ؛ كقوله (¬5): ¬
وإذَا تَأَمَّلَ شَخْصَ ضَيْفٍ مُقْبلٍ ... مُتَسَرْبِلٍ سِربال (¬1) لَيْلٍ أَغْبَر أوما (¬2) إِلى الكَوْمَاءِ (¬3): هذا طَارِقٌ ... نَحَرَتْنِيَ الأَعْدَاءُ إن لَمْ تُنْحَر! فإنّه لَمَّا أراد أن يُميِّز المشارَ إليه أكملَ تمييزٍ ذكرَ اسمَ الإشارةِ؛ وقال: "هذا طارقٌ". الثّالثُ: التَّنبيهُ على غباوةِ السَّامع وادعاء أن الشَّيءَ لا يتميَّز عنده إلَّا بالحسِّ؛ ولا يَفهم إلا (¬4) بالإشارة الحسية؛ كقولِ الفرزدقِ (¬5) في ¬
خطابه جَريرًا (¬1): أولئِكَ آبائِي، فَجِئْني بِمثْلِهِم، ... إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامعُ! (¬2) الرّابع: التَّهكُّمُ؛ أي: الاستهزاء أو التَّمَسْخُر (¬3)، كما تقول (¬4) للأعمى: "هذا هذا"؛ وليس ثَمةَ شيء يُشارُ إليهِ. ¬
الخامسُ: بيان حالهِ في القربِ والبعدِ والتَّوسُّطِ بـ "هذا" و"ذلك" و"ذاك" فإن "هذا" يشار به إلى القَريب، و"ذلك" إلى البعيد، و"ذاك" إلى المتوسِّط. وكأنه (¬1) بحسبِ زيادة الحروفِ يزداد البُعدُ؛ إذ به كمال التمييز [إذ ببيانِ حالهِ من التَّوسُّطِ وطَرَفيْه يحصل كمال التّمييز] (¬2) المطلوب من الإشارة، نحو: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3). وقد يعتبرُ القربُ في الرُّتبةِ تَحْقيرًا (¬4)، وذلك فيما يُشار إليه إشارة القريب، ويُراد قربه في المرتبةِ -لا القرب المكاني- وانحطاطُه فيها، تحقيرًا للمشار إليه واستِرْذالًا له؛ نحو: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬5)، وكما يحكيه القائل عن امرأته (¬6): ¬
تَقُولُ وَدَقَّتْ نَحْرَهَا بِيَمِينِها ... أبعْلِي هَذَا بالرَّحى الْمُتَقَاعِسُ؟! (¬1). أَوْ البُعْدُ [أي] (¬2) وقد يُعتبر البعدُ فيها -في الرُّتبةِ- تعظيمًا، وذلك فيما يُشارُ إليه إشارة البعيد، ويُرادُ بعدُه في المرتبة (¬3) وارتفاعُه فيها؛ كأنه بلغ الدَّرجَةَ العليا، بحيثُ لا يُدرك قُربه، نحو: قوله -تعالى-: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} (¬4) ذهابًا إلى بُعدِه درجةً، فإن الكتابَ لَمَّا كان قريبًا وأُشير إليه إشارةَ البعيدِ عُلِم أنَّه لا يريدُ البُعدَ المكاني، بل البُعدَ الرُّتبيَّ. ¬
أَوْ خلافه (¬1) قد يُعتبر البُعدُ في الرُّتبة بخلاف التَّعظيم، أي (¬2): التَّحقير؛ كما يُقال: ذلك اللعين، وهو حاضرٌ تبعيدًا له عن ساحة العزَّةِ لاسْتِرْذَالِه. هذا كما هو في "المفتاح" (¬3)؛ لكن قال المصنِّف بحمله -أيضًا- على التَّعظيم (¬4)؛ أي: ذلك اللعينُ العظيمُ المرتبة الرَّفيعها (¬5) في اللعن. قوله: "أوْ خلافه" بالنَّصبِ عطفٌ على قوله: "تعظيمًا"؛ ولا يجبُ في معطوفِ المفعولِ له التَّنكيرُ؛ بل في نفس المفعولِ له. ¬
التعريف باللام
والمُعَرَّفُ باللامِ للإشارة إلى الحقيقةِ؛ أي: يُختار المعرَّفُ باللام إذا كان المقصودُ به الإشارة (¬1) إلى نَفْس الحقيقةِ -أي: الماهيّة التي يُعبَّر عنها في عُرْفهم بالجنس-، وهذا التَّعريفُ يُسمَّى: تعريفُ الجنسِ، وتعريف الماهيَّةِ، وتعريف الحقيقة (¬2). نحو: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (¬3) أَي: جعلنا مبدأَ كلِّ شيءٍ حي هذا الجنسِ الذي هو جنس الماءِ؛ حتَّى الملائكة؛ فإنَّها خُلقت من ريح خُلِقت من الماءِ، والجنّ فإِنَّه خُلق (¬4) من نارٍ خُلقت من الماء -كمَا جاء في الرِّوايات- (¬5). أَوْ للاستغراق؛ أي: وإذا (¬6) كان المقصودُ العمومَ إمَّا مُطلقًا؛ وذلك بأَن لَمْ ينقلْ عن الحقيقة اللُّغويَّة، ولم يُقيَّد بعُرفٍ أَوْ غيره، فيَستغرق جميعَ أفراد ذلك الاسم بحسب اللغة؛ وهو الاسْتغراقُ الحقيقيُّ؟ نحو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (¬7) أي: جميع أفراد الإنسان بشهادة استثناء ¬
{إلا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1) عنه؛ إذ الاسْتثناءُ مِعْيارُ العُمومِ. أَوْ مقيدًا (¬2)؛ وهو بخلافه (¬3)؛ فيستغرق لم جميع أَفرادِه بحسبِ ذلك القيدِ (¬4)؛ كالعُرفِ -مثلًا-، وهو الاستغراقُ العُرفي؛ نحو: "جمعَ الأَميرُ الصاغة"؛ إذا جمع صاغةَ مملكته لا صاغةَ الدُّنيا. أَوْ للَعهد؛ أي: وإذا (¬5) كان المقصودُ حِصَّةً معهودةً من الحقيقة؛ كما إذا قال [قائلٌ] (¬6): "جاءني رجلٌ من قبيلةِ كذا"، فتقول: "الرَّجلُ فعلَ كذا" لفظا؛ نحو: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (¬7)، (¬8) أَوْ ذِهْنًا؛ نحو: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬9) (¬10). ¬
تنبيه
العهدُ نوعان؛ لأنَّ تعريف العهدِ إشارةٌ إلى ما هو مُعيَّن (¬1) ومعهود (¬2) قبل؛ فهو (¬3) إمَّا أن يكونَ في اللفظِ والذِّكرُ دليلٌ عليه سابقًا، أَوْ لا يكون (¬4)، فإنْ كان؛ فهو: العهد اللفظي، ويُسمَّى -أيضًا-: بالخارجيِّ (¬5)؛ كما في الآية الأولى، فإن (¬6) لم يكن؛ فهو: العهدُ الذِّهنيُّ؛ كما في الآيةِ الثانيةِ. تنبيه: اللامُ للتَّعريف؛ اللام -كما عرفت (¬7) - لتعريف المتكلِّم السَّامعَ الحقيقةَ المعلومة المُتَميِّزة عنده، والإِشَارة إليها (¬8). والحقيقةُ يُفيدُها جوهرُ اللفظ؛ من حيثُ هي بلا ملاحظةِ عمومٍ واستغراقٍ أَوْ عهدٍ وخصوصٍ. والتَّعميم؛ أَيْ: الاسْتغراق، والتَّخصيص؛ أي: العهد عارضان من خارج؛ فإن الحقيقةَ كما لا تقتضي التَّوحُّد (¬9)، وكونه في ضمن فردٍ واحدٍ؛ كذلك لا تقتضي التَّعدُّد، وكونه في ضمن الأفراد. فيُحتاج ¬
التعريف بالإضافة
فيهما؛ أي: التَّعميم والتَّخصيص الزَّائدين على مدلولِ اللَّامِ وجوهرِ اللَّفظِ إلى القرينةِ (¬1) من مقتضى المُقامِ وغيره. والحاصلُ: أَنَّ اللَّامَ لَمَّا كان لتعريفِ ما هو معلومٌ عند السَّامع والإشارةِ إليه؛ فإن كان عِلْمُ المخاطبِ بمطلق الحقيقةِ فهو لتعريف الجنس، وإن كان علمُه بها بحسبِ العهدِ؛ فإن كان بالبعضِ (¬2) فهو لتعريفِ العهد لفظيًّا أَوْ ذهنيًّا، وإن كان بالكلِّ فهو لتعريفِ الاستغراقِ. فتَغَيُّرُه بحسبِ تغيُّر علم المخاطَبِ ومُقْتضى المقام. فعُلِم أنَّ أصل وضْعِه للتَّعريفِ؛ لكن بكلِّ اعتبارٍ له تعريفٌ خاصٌّ؛ وإشارةٌ خاصّةٌ. وأمّا في تعريف الجنسِ فلا يحتاج إلى قرينةٍ؛ لأنَّ جوهرَ اللَّفظِ مفيدٌ له. والمضافُ لأمورٍ؛ أي: يُخْتار (¬3) الْمُضاف لوجوهِ: الأوَّلُ: أَنْ لا طريق؛ أي: لا يكون للمُتَكلِّم إلَى إحضاره في ذِهن السَّامع طريقٌ سواها؛ سوى الإضافةِ؛ كقولك: "غلامُ زيدٍ" إن لم يكن عندك أَوْ عند سامعك (¬4) منه شيءٌ سِواه. ¬
الثَّاني: تعذُّرُ التَّعدادِ (¬1) بالامتناعِ العاديِّ؛ كَكَون عَدَد المسندِ إليه غير محصُور، أَوْ بغيره؛ نحو: بَنُو مَطَرٍ يومَ اللِّقَاءِ كأَنَّهُمْ ... أُسُودٌ لَهَا فِي غِيْل خَفَّانَ أَشْبُلُ (¬2). فإنَّه لَمَّا كان تعدادُ بني مطر (¬3) مُتعذّرًا لكونهم غير محصورين اخْتارَ الإضافة. الغيلُ -بالكسر-: الأَجَمَة (¬4) ومأوى الأسدِ. وخفَّانُ (¬5): مأسدةٌ. ¬
وأشبلُ: جمع شبلٍ (¬1). أَوْ تعسُّرُه، كقوله (¬2): قَومِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيْمَ (¬3) أَخِي ... فإذا رَمَيْتُ يُصِيبُني سَهْمِي فإنَّ قومَه إذا لم يكونوا غيرَ محصورين لم يتعذَّر التَّعداد؛ لكنَه مُتعسِّرٌ لكَثْرته. ويجوزُ كونه للمَذَمَّةِ -أيضًا-. أَوْ إِمْلالُه؛ كقوله (¬4): ¬
قَبَائِلُنا سَبْعٌ وأنْتُم ثَلاثةٌ ... ولَلسَّبْعُ (¬1) خَيْرٌ مِن ثلاثٍ وأكْثَرُ. الثَّالثُ: مجازٌ لطيفٌ (¬2)، أي: لكون الإضافةِ متضمِّنة لاعتبارٍ لطيفٍ مجازيٍّ، كقوله (¬3): إذا كَوْكَبُ الخَرْقاءِ، -أي: الحَمْقَاءِ- لاحَ بسُحْرةٍ (¬4) سُهيْلٌ (¬5) أَذَاعتْ (¬6) غَزْلَها في القَرائِبِ والاعتبارُ اللَّطيفُ المجازيُّ هو الإضافةُ لأَدنى مُلابسةٍ، وهو ظهورُ حُمْقِها عند طلوعِه، فإنَّ الكَيِّسَةَ (¬7) من النِّساءِ تَسْتعدُّ للشتاءِ صَيْفًا ¬
فَتَسْتريح عند طلوعه، والحَمْقَاء لعدم استعدادها إذا أخذها البردُ بطلوعه أخذت تُفَرِّقُ قُطْنَهَا وتُذيعُه في نساءِ القرائب؛ ليَغْزِلن لأجلها. والغزلُ؛ بمعنى: المغزول، وأَراد به: القطنَ مجازًا باعتبارِ المآلِ. الرّابعُ: نوعُ تعظيمٍ للمضاف؛ نحو: عبدُ الخليفةِ رَكِبَ (¬1)، أَوْ المضافِ إليه؛ نحو: "عبدي حَضَر" (¬2)، أَوْ غيرهما، نحو: "عبدُ السُّلطان عندي"؛ فتعظم شأنَك لا شأنَ المُضافِ ولا شأنَ المضافِ إليه (¬3). أَوْ إهانةٍ، أي: نوع إهانةٍ للمُضافِ؛ كـ "غُلامِ الحَجَّام جاء"، أَوْ للمُضَافِ إليه، كـ "عبد العالمً سىَرَقَ"؛ مُحقِّرًا لشأن (¬4) العالم بعِلَّةِ سُوء سِياسَته له، أَوْ لِغيرهما؛ نحو: "ولد الحَجَّام رفيقُ فُلانٍ". ¬
تذنيب
تَذْنِيب (*): قدْ يقعُ المعرفةُ (¬1) مُسندًا؛ وذلك إذا كان المُسندُ مشخَّصًا (¬2) عند السَّامع، مَعْلُومًا له بإحدى (¬3) طُرقِ التَّعريف. وكَوْنُه معلومًا مُعَيَّنًا عند السَّامع (¬4) لا يمنعُ كونَ الخبرِ مُفِيدًا، إذ قدْ يُقصدُ به لازمُ الفائدة، أَوْ الفائدة بأَنْ يكون السَّامعُ عَلِم ذاتين بصفتين، ثُمَّ يَشُكُّ في إحداهما؛ أهي الأخرى أم لا؟؛ فينفي عنه ذلك الشَّكّ. قوله: "وكونه مَعْلومًا مَعيَّنًا لا يَمْنع" جوابٌ وسؤالٌ. تقديرُ (¬5) السُّؤالِ: إنَّه إذا كانَ مُشَخَّصًا عنده (¬6) معلومًا له يكونُ المسندُ إليه لا مَحَالة -أيضًا- مَعْلُومًا له (¬7)؛ لأنَّ كون ¬
المسند إليه نكرة والمسند معرفة ليس في كلام العربِ. وإذا كانا معلومين فماذا يستفيدُ من ذلك الخبرِ؟. وتقديرُ (¬1) الجوابِ: إِنَّه قد يَسْتفيدُ إِمَّا فائدة لازم الخبرِ (¬2)؛ كما في قولك لمن أثنى عليك بالغيبِ: "الَّذي أثنى عليَّ بالغيبِ أنت"؛ مُعَرِّفًا له أنّكَ عالمٌ بذلك، وإِمَّا نَفْس فائدةِ الخبرِ؛ وذلك فيما إذا كان السَّامعُ عَلِمَ ذَاتين بِصِفَتين، ثُمَّ يَشُكُّ في إِحْداهما وهي ما يَجْعله مسندًا، أَهي الأخرى أَمْ لا؟؛ فيُريد المُتَكلِّمُ أن يَنْفِي عنه ذَلك الشَّكَّ (¬3)، ويُخْبره بأنَّ ذلك الشَّيءَ مُتَّصفٌ بالأُخرى؛ فيورد اللَّفظ الدَّال على الأُولى مُسْندًا إليه، واللَّفظ الدَّال على الثَّانية (¬4) مُسْندًا، فيَسْتَفِيد السَّامعُ من ذلك ما كان يُخْبره له (¬5) من اتِّصافِ ذلك الشَّيء بالثَّانية (¬6)؛ كما في قَوْلك لمن يعرف ¬
أنَّ له أخًا، ويعرف أنَّ (¬1) إِنسانًا يُسمَّى زيدًا؛ ولكن (¬2) لا يعرف أنَّ ذلك الإنسانَ هو أَخُوه: "زيدٌ أَخُوك، أَوْ أخُوك زيدٌ" (¬3). والحاصلُ (¬4): أنَّ العلمَ بالطَّرفينِ غيرُ العلم بالنِّسبة والحَمْل، ثمَّ لا يُقَدَّمُ فيما نحنُ فيه ما تَقَدَّمَ بسلامة الأمير (¬5)؛ أي: جُزافًا (¬6) من غير عِلَّةٍ حتَّى يكون مُخَيَّرًا في التَّقديم والتَّأخير كيف اتَّفق؛ بل لا بُدَّ أن يكون التَّقديمُ لعِلَّةٍ على حسب ما يقتضيه المقامُ. فيُقدَّم في مسألةِ الأخ ¬
وزيدٍ -مثلًا- ما يُرادُ الحُكْم عليه، ونَفْي شكِّ ثبوت الآخر لَه (¬1) عنه؛ فتقولُ لمن يعرفُ زيدًا بعينه وباسمه، لكن لا يعرف أنَّه أخُوه، وهو كالطَّالب حكمًا له، وكان معتقدًا أنَّ له أخًا لكن لا يعلمُه على التَّعيين: "زيدٌ أخوكَ"، على ما يتصوَّرُه من السَّامعِ من كونه طالِبًا للحُكْمِ على زيدٍ، وكذا عكسه؛ تقول لمن يعتقد أنَّ أخًا لنفسه؛ لكن لا يعرفه على التَّعيين، وهو كالطَّالب منك الحُكم على أخيه بالتَّعين: "أخوك زيدٌ"، فيورد الحكم على ما يتصوَّره من السَّامع. وبهذا يُعلم الفرْقُ بين "زيد أخوك" و "أخوك زيد" (¬2)؛ فظهر الفرْقُ بهذا بين العبارتين فإنّه لأيّ شيء في الأوَّل، الحكم على زيد بالأَخ، وفي الثَّاني بالعكس. ويُعرفُ معنى قول النُّحاة: "المقدَّمُ من المعرفتين هو المبتدأ" (¬3)؛ لأنَّك تجعل المشكُوك في ثبوته للآخر (¬4) مُسندًا فتُؤخّره، والآخر مُسندًا إليه فتُقَدِّمه (¬5)، معَ أنَّه؛ [أي: مع أنَّ الخبر ¬
المعرف باللَّام] (¬1) إذا أُريدَ به الحقيقة أفاد حصرها في المبتدأ، أي: كونه مَعْلومًا لا يمنع كونِ الخبر مُفيدًا (¬2). إذ قد يُقْصَدُ به لازم الفائدةِ، أَوْ الفائدة نفسها؛ مع أنَّه قد يُقْصدُ به فائدة أُخرى هي (¬3): الحصر (¬4)؛ وهو إذا كان اللَّامُ (¬5) للتَّعريف وأُريد به (¬6) الحقيقة والجنس؛ فإنَّكَ إذا قلت: "زيدٌ المنطلق"؛ وأَردتَّ حقيقة المنطلق أفادَ حصر الانطلاق في زيدٍ؛ لأنَّ حقيقةَ المنطلق -حينئذٍ- هو زيد؛ فلا (¬7) يكون غيره منطلقًا. قال السَّكَّاكيُّ: "زيدٌ المنطلق"، و "المنطلقُ زيدٌ"، كلا العبارتين تستلزمُ انحصار الانطلاق في زيدٍ (¬8). وعبارةُ الأُسْتاذ تُشعرُ بخلافِهِ. وأيضًا: بنَى السَّكَّاكيُّ الحصرَ على الاستغراق؛ فإنَّه بعدما ذَكَر أنَّ المقامَ إذا كان خطابيًّا، مثل: "المؤمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ" (¬9) حُمل على ¬
التنكير
الاستغراق، وأنَّ الاستغراقَ نوعان: عُرفيٌّ، وغيرُ عُرفيٍّ، وأنَّ استغراقَ المفرَد أشملُ من استغراق الجمع -قال (¬1): "إذا عرفتَ هذا فنقول: متى قلنا: (زيدٌ المنطلق)، أَوْ (المنطلقُ زيدٌ)؛ في المقام الخطابيِّ لزمَ ألَّا يكون غيرُ زيدٍ منطلقًا" (¬2). والمصنِّف بَنَى على تعريفِ الحقيقةِ، وأنت الحاكمُ الفيصلُ. والتَّنكيرُ لأمُور (¬3): الأوَّلُ: الإفرادُ (¬4) شخصًا أَوْ نوعًا، كقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ ¬
كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} (¬1) يجوزُ أن يُرادَ: خلقَ كُلَّ فردٍ من أفراد الدَّوابِ من فردٍ من الماءِ؛ وهو النُّطفةُ المعيَّنة الَّتي يكونُ ذلك الفردُ منها، وأن يُرادَ: خَلقَ كلَّ نوعٍ من أنواعِ الدَّوابِ من نوعٍ من أنواعِ المياهِ، وهو نُطفةُ ذلك النَّوع. الثَّاني: ألَّا يُعرف منه (¬2) إلا ذلك القدرُ حقيقةً أَوْ ادِّعاءً، فلا بُدَّ (¬3) حينئذٍ من التَّنكيرِ لعدمِ القدرة على التَّعريف؛ وعليه حُمل قوله -تعالى-: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (¬4)، ولَمَّا (¬5) كان عند المُصَنِّف" (¬6) وجهٌ أنسبَ منه لسياقِ الآية - قال: "وعليه حُمل"، والمرادُ به: صاحبُ "المفتاح" (¬7)، ولَمْ يقلْ: "وعليه وَرَد"، أَوْ: "عليه قوله". ¬
والوجهُ فيه: أَنَّهم (¬1) نكَّرُوه لاعتقادهم أنَّه لا يجوزُ أن يكونَ شخصٌ هكذا موجودًا؛ يقول: كذا وكذا، ويدَّعي: كذا وكذا، واستبعدوه، بلْ أحالوه، فكأنَّه (¬2) للتَّعجُّب وبيانِ الاستحالةِ لذلك الخبرِ الَّذي يدَّعيه؛ أي: هل ندلُّكم (¬3) على رجلٍ عجيبٍ، يقول كلامًا عجيبًا، مُتَّصفٍ بصفةٍ غريبةٍ، يَدَّعي أمرًا غريبًا. ولو قال مقام: "على رجل": "على محمَّدٍ"؛ لم يكن مُفيدًا لذلك. الثَّالثُ: أن لا يُمْكن تعريفُ السَّامع، كأن لا يعرف منه (¬4) إلَّا ذلك القدْرَ الغير المُعَيَّن (¬5). الرّابعُ: المانعُ من التَّعيين (¬6)، أي: التَّنكيرُ يكون لمانعٍ يَمْنع منُ التَّعيين والتَّعريف، كالإخفاءِ عن الحَضْرة. الخامسُ: إيهامُ بلوغه، حيثُ لا يكتنهُ كُنْهه (¬7)؛ أي: لا يدخل ¬
تحتَ التَّعيين والتَّعريف. لحقَارتِه أَوْ لعَظَمته. ويحتملُها؛ أي: الحَقَارةَ والعظمةَ قوله -تعالى-: {أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} (¬1)؛ لاحتمالِ كون التَّنْكير (¬2) والتَّنوينِ للتَّحقير؛ أي: عذابٌ حقيرٌ، وللتَّعظيم؛ أي: عذابٌ عظيمٌ. وقيل: المسيسُ قرينةٌ للأوَّلِ؛ وكونه من الرَّحمن قرينةٌ للثَّاني؛ لأنَّ عذاب الرَّحمن أشدُّ؛ لأنَّه لا يُعذّب إلَّا لمن اشتدَّ استحقاقُه له (¬3)؛ كما يقالُ: "نعوذُ باللهِ من غضب الله الحليمِ". ¬
النوع الثالث: في التوابع
النُّوعُ الثَّالثُ: في التَّوابع (*) وهي لتربيةِ الفائدةِ (¬1)؛ لأنَّ (¬2) تربيةَ الفائدةِ إنَّما (¬3) تكونُ بتخصيص الحُكم، وهو (¬4) بتخصيصِ المسندِ أَوْ المسندِ إليه؛ وذلك كما يكونُ لكونه أحد أقسام المعارف؛ يكُون لكونه مَصْحوبًا بشيءٍ (¬5) من التَّوابع؛ لأنَّها تُفيدُ زيادة تقيد (¬6) لمتبوعه فيتخصّص. فالوصفُ لوجوهٍ: الأولُ: التَّبْيِينُ (¬7)؛ وذلك حيثُ كان المرادُ الكشفَ عن حقيقةِ ¬
الموصوف وتبيينها وتفسيرها؛ كما إذا قلتَ: "الجسمُ الطَّويلُ العريضُ العميقُ يحتاجُ إلى فراغ يَشْغَلُه". الثَّاني: التَّمييزُ؛ وذلك حيثُ يكون المرادُ تخصيص الموصوف زيادة تخصيص وتعيين؛ نحو: "زيدٌ التَّاجرُ عندنا". و {لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} (¬1) يحتملُهما؛ أي: التَّبيين؛ وذلك إذا أُريد (¬2) بالمتَّقِي: الَّذى يفعلُ الواجباتِ بأسرها، ويجْتَنِبُ (¬3) الفواحشَ والمنكرات عن آخرها؛ فكشفته كشفًا، كأنَّكَ حَدَّدَته؛ لأَنَّك ذكرتَ أساسَ الحسناتِ؛ وهو: الإيمان (¬4)، وعقَّبْته بأمّي العبادات البدنيَّة والماليَّة المُسْتَتْبِعتين (¬5) لسائرِ العبادات؛ وهما: الصَّلاة، والزَّكاة (¬6)، فأفدتَّ بذلك فعل الواجباتِ بأسرها، وذكرتَ النَّاهيَ عن ¬
الفحشاءِ والمنكرِ وهو الصَّلاة (¬1)، فأفدتَّ بذلك اجتنابَ الفواحش عن آخرها. والتَّمييز؛ وذلك إذا أُريد بالمُتَّقي (¬2) المجتنب عن المعاصي. والأُولى عند النُّحاة تُسمَّى: بالصِّفة الموضِّحة، والثَّانية: بالمُخَصِّصَة (¬3)؛ وفيهما نوعُ تمييزٍ، لكن التَّمييز بالثَّانيةِ يكون بين (¬4) الأفراد المُتَّفقة بالحقيقةِ، وبالأُولى من الماهيّاتِ المختلفة بالحقيقةِ (¬5). الثَّالثُ: التَّأكيدُ المُجرَّدُ؛ نحو: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬6) فإنَّه لا فائدة فيها من التَّبين أَوْ التَّمييز أَوْ المدحِ سوى التَّوكيد؛ نحو: "أمس الدَّابرُ لا يعودُ". الرابع: المدْحُ أَوْ الذَّمُّ (¬7): نحو: {اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} (¬8)؛ ¬
فإنَّ هذا الوصفَ لمجرَّدِ المدح لامتناع أن يكون كاشفًا؛ لأنّه -تعالى -أوضَح من أن يوُضَّح، أَوْ مُخَصِّصًا؛ لتَميُّزه بذاته، أَوْ تأكيدًا لعدمِ إفادة تقرير (¬1) أمرِ المتبوع. وكذا قولُك: "إبليس اللّعين"، في طرف الذّمّ. وأعلم: أنَّ الصِّفةَ معلومةُ الثُّبوت للموصوفِ؛ لأنَّ أصلَ الصِّفة للتَّمييز، ويمتنعُ أن يُميَّز شيءٌ عن شيءٍ بما لا يُعْرف له؛ فحقُّه أن يكون عند السَّامع معلومَ الثُّبوت للموصوف؛ وهو -أي: الثُّبوت- للموصوف (¬2) - فرعُ ثُبُوتها في نَفْسها؛ لأنٌ ثبوتَ الشَّيءِ للشَّيءِ فرعٌ على ثبوتهِ في نفسه؛ فما لا يكونُ ثابتًا لا يكون وصفًا (¬3)؛ فلا يَكون؛ أي: فالوصْفُ لا يكون طلبًا لعدم ثُبُوته. فإن (¬4) وقعَ يجبُ أن يُؤوّل (¬5)؛ كما ¬
في قوله (¬1): ..................... ... جاءُوا بمذقٍ (¬2) هَلْ رَأَيتَ الذِّئبَ قَطْ! فإنّه يؤوَّلُ: بمقولٍ عنده هذا القول (¬3)؛ لإيرادِ ذلك المذق في خيالِ الرَّاثين (¬4) لونَ الذّئب بورقته (¬5) لكونه سمارًا؛ أي: لبنًا مخلوطًا بالماء. ففي قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ} (¬6) بقراءةِ الاستفهامِ؛ أي: على لفظ (¬7): "مَنْ" ¬
التوكيد
الاستفهاميَّة، ورفع فرعون (¬1) - يُؤوَّل بأنّ المُراد منه: العذابُ المقولُ عنده مَن فرعون؟!. قال في "المفتاح" (¬2): "لَمَّا وصفَ اللهُ العذابَ بكونِه مُهينًا؛ بيانًا لشدَّتِه وفظاعةِ أمرِه (¬3)، وأراد أن يُصوّر كُنهه؛ قال: (مَن فرعون)؟!، هلْ تعرفونَه؟ مَن هو في فرط عتوّه وشدَّةِ شكيمته في تَفَرْعَنِه وتكبُّره؟!؛ ما ظنُّكم (¬4) بعذابٍ يكون المُعَذِّب به مثله! ". والتَّوكيدُ (¬5) لمجرَّدِ التَّقريرِ (¬6)؛ كما في قولك (¬7): "ضربت أنا"؛ فإنَّ ذكر المؤكِّد يقرِّر (¬8) أمر النِّسبة. ¬
البيان
أَوْ مع دفع توهُّمِ التَّجوُّزِ أَوْ السَّهو (¬1)؛ أي: أَوْ يكون للتَّقرير مع دفع تَوَهُّم السَّامع في حكم المتكلِّم تجوُّزًا أَوْ سَهْوًا أَوْ نِسْيانًا (¬2)؛ فإنَّك إذا قلتَ: "جاء السُّلطان" جاز أن يَظُنَّ السَّامع أنَّك تجوَّزت أَوْ سهوت، والجائي وزيرُه. أَوْ خلافِ الشّمول؛ أي: أَوْ يكونُ للتَّقرير (¬3) مع دفع توهُّم السَّامع خلاف الشُّمول والإحاطة؛ كقولك: "جاء القومُ كلهم"، وبالحقيقة مآلُ الكُلِّ التَّقرير وإليه المصير. والبيانُ للإيضاح؛ وهو (¬4) إذا كان المُراد زيادة إيضاحه بما يخصُّه من الاسم؛ كقوله (¬5): أَقْسَمَ باللهِ أَبو حَفْصٍ عُمَر ....................... ¬
ولو لمعنى ضمني (¬1)؛ أي (¬2): لا يجبُ أن يكون الإيضاحُ لما يكون مصرَّحًا به؛ بل قد يكونُ لمعنَّى ضمنِيٍّ، قال -تعالى- (¬3): {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬4)؛ شفع إلهين باثنين، وإله بواحدٍ؛ لأنَّ لَفظ "إلهين" يحتمِلُ معنى (¬5) الجَنسيَّة ومعنى التَّثنية، وكذا لفظ: "إله" يحتملُ الجنسيَّة والوحدة (¬6)، والَّذى له الكلام مَسُوقٌ هو العدد في الأوَّل، والوحدة (¬7) في الثَّاني؛ ففسَّرَ إلهين بـ"اثنين"، وإله بـ"واحد"؛ بيانًا لما هو الأصل في الغرض (¬8) بخلاف الجنسيَّة؛ فإنَّها ليست أصلًا في الغرض، ¬
بخلاف الجنسيَّة؛ فإنَّها ليست أصلًا في الغرض، وإن كان لها مدخلٌ فيه، لأنَّ المراد: لا تتَّخذوا من مسمَّى بالإله (¬1) اثنين سواء كانا (¬2) من جنسين أَوْ من جنس (¬3). قال الزَّمخشريُّ: إنَّهما للتَّوكيد (¬4)، وردَّه ابنُ الجاحبِ: بأنَّ حدَّ التَّأكيدِ (¬5) لا ينطقُ عليهما لتوقُّف التَّقْرير على دلالة التَّابعِ على المتبوع، وليسَ فيهما دلالةٌ على إلهين وإله؛ بل هما صفتان لانطباق حدِّها عليهما (¬6). وعند السَّكاكيِّ هذا -أيضًا- مردودٌ، لأنَّهما وإن دلَّا على معنًى في متبوعهما لكنَّهما لم يُذْكرا لذلك، أي: ليدلّ على أنَّ في المتبوع معنى التَّثنية والوحدة (¬7) حتَّى يكونا صفتين؛ فإن هذا القيدَ مُرادٌ في الحدودِ النَّحويَّةِ، وإن حُذفتْ (¬8) عنها اختصارًا؛ كما ذكره ¬
ابنُ الحاجبِ في "شرح الكافية (¬1) "؛ كما في المفعولِ به -مثلًا-؛ فإنَّه ما ذُكر ليَدُلَّ على أنَّه وقع عليه فعلُ الفاعل لا ما قعَ عليه فعلُ الفاعل، وإلَّا لزم أن يكونَ زيدٌ في قولنا: "زيد ضربته" مفعولًا به؛ وليس كذلك؛ بل عنْده (¬2) بيان كما ذكر؛ لأنَّه ذُكر لبيان أنَّ المُرادَ بما توجَّه إليه النَّهيُ معنى التَّثنية لا الجنسيَّة، فهو تابعٌ غير صفةٍ يوضِّح ويبيِّن متبوعه؛ وهو (¬3) معنى عطف البيان (¬4)؛ وأمَّا صاحبُ "الإيضاح" فقد قال: ¬
إنَّهما وصفانِ للبيان (¬1). ومنه (¬2) لم: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (¬3) ذَكَرَ {فِي الْأَرْضِ} مع {دَابَّةٍ} و {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} مع {طَائِرٍ} لبيان أنّ القصدَ من لفظ {دَابَّةٍ} وَلفظِ (¬4) {طَائِرٍ} (¬5) ليس إلى صنفين أَوْ فردين منهُما، وإلَّا لبيَّنهما بخواصّ الصّنف أَوْ الفرد (¬6)؛ بل إنَّما هو إلى (¬7) الجنسين؛ وإلى تقديرهما (¬8) في ¬
البدل
مكانهما (¬1)، وهو أنَّهما على عمومهما؛ ولهذا بيَّنهما (¬2) بخواصّ الجنسين؛ وهي في الدَّابة حصولها في الأرض، وفي الطَّائرِ الطَّيرانُ بالجناحِ. وبين الآيتين فرقٌ؛ كأَنَّ الثَّانيةَ عكسُ الأُولى؛ فإنَّها حاملةٌ للجنسيَّة وللتَّعدّد، والبيان موضِّح (¬3) لها بأنَّ المقصود من النَّهي: التَّعدُّد لا الجنس؛ والثَّانيةُ حاملةٌ للجنسيَّة والتَّوحّد (¬4) المتوهَّم من التّنوين بكونه نوعًا واحدً أَوْ صنفًا واحِدًا منه، والبيان موضِّحٌ (¬5) لها بأنَّ المقصودَ الجنس والعُموم لا التَّوحّد والخصوص؛ ولعلَّه لهذا فصلَ بينهما بلفظة (¬6) "منه". والبَدَلُ لذكرِ المقصودِ بعد التَّوطَية، لأنَّه تابعٌ مقصُودٌ بما نُسبَ إلى المتبوع دونه. وهذا صحيحٌ في الأبْدالِ الثَّلاثةِ: بدلِ الكُلِّ (¬7)؛ نحو: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ ¬
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬1). وبدلِ البعضِ (¬2)؛ نحو: جاءَ (¬3) القومُ أكثرُهم (¬4). وبدل الاشتمال (¬5)؛ نحو: "سُلبَ زيد ثوبه" (¬6). لا في الغلَطِ (¬7)؛ نحو: "جاءَ (¬8) رجلٌ حمارٌ" (¬9) فإنَّه لا ¬
توطئة (¬1) فيه؛ وهو لا يقعُ في فصيح الكلام استقراءً. قال المصنِّفُ: والحَقُّ ما قاله ابنُ مالكٍ (¬2) وهو: أنَّه [لا] (¬3) يقعُ في فصيح الكلامِ، كما يقالُ: "أعطني ثوبًا فرسًا جملًا" (¬4)، كما (¬5) نقل حديثًا مثله في كتابه (¬6). ولعلَّ غلَط القومِ فيه من تصوُّرهم وجوب كونه غلطًا استشعارًا من اسمِه؛ لكنَّه ليس بواجبٍ. وأمَّا ما يُظنُّ أن في البدل قسمًا خامسًا هو بدلُ الكُلِّ من البعض؛ نحو: "نظرتُ إلى (¬7) القمرِ فَلكِه"، ¬
العطف
وكقوله (¬1): نَضَّرَ اللهُ أَعْظُمًا دَفنوهَا ... بِسِجِسْتَانَ (¬2) طَلْحَةَ (¬3) الطَّلَحَاتِ فإنَّه بعضُ الظَّنِّ؛ لأنَّ الأوَّلَ بدلُ الاشتمال؛ لاشْتمالِه على القَمَر. والثَّاني: بدلُ البعضِ الكُلِّ؛ لأنَّ طلحةَ بعضُ الأعظُم المدفونةِ بسجستان (¬4). والعطفُ لتفصيلٍ مع اختصارٍ؛ فلما دخل عليه الواوُ؛ أي: ¬
فلتفصيل ما دخل عليه؛ وهو الفاعل (¬1) -مثلًا- في قولنا: "جاء زيدٌ وعمرو". ولفظةُ "الواوُ"، فإنَّ فيه تفصيلًا للفاعل مع (¬2) اختصار لطيّ الفعل وحذفه من المعطُوف (¬3)، وليسَ فيه تفصيلٌ لصاحبه؛ أي: الفعل؛ كالمجيءِ (¬4) لجوازِ أن يكون مجيئُهما (¬5) في زمانٍ واحدَ. [ولصاحِبه مع التَّعقيب الفاء؛ أي: ولتفصيل صاحب] (¬6) ما دخل عليه وهو الفعل -مثلًا- مع التَّعقيبِ لفظةُ "الفاء"؛ نحو: "جاء زيدٌ فعمرو"؛ فإنَّ فيه تفصيلًا للفعل؛ إذ التَّعقيبُ يقتضي تغايُرَ أزمنةِ المجئِ، واختصارً بحذف الفعل. قال سيبويه (¬7): المُرورُ في قول القائل: "مررتُ برجلٍ ثمَّ امرأةٍ" ¬
مرُوران (¬1)؛ لأَنَّهما متغايران في الزَّمانِ لا مُتّحدان فيه؛ وكذا في أخواته (¬2)؛ يعني: "الفاء، وحتَّى", والمُرادُ: أنَّ تفصيلَ الفعل هو المقصود فيه؛ لأنَّ تفصيلَ الفاعلِ فيه لازمٌ. وبِتراخٍ (¬3)؛ أي: ولتفصيل صاحبِ ما دخلَ عليه مع التَّراخِي كلمةُ: "ثُمَّ"؛ نحو: "جاءَ (¬4) زيدٌ ثمَّ عمرو". والتَّراخي على نوعين؛ فإنَّه كما يكون بحسب الزَّمانِ (¬5) يكونُ بحسب المرتبةِ (¬6). وبتدريجٍ؛ أي: ولتفصيل صاحبه مع تدريج "حتَّى"، ويفيد (¬7) لِما ¬
بعده قُوَّةً أَوْ ضَعْفًا نحو: "قَدِمَ الحاجُّ حتَّى المُشاة" (¬1)، و "مات الناسُ حتَّى الأنبياءُ" (¬2). قال صاحبُ (¬3) "المفتاح" (¬4): وهو "للتَّدريج (¬5) كما يُنبئُ عنه قولُه (¬6): ¬
وكُنتُ فتًى مِنْ جُندِ إِبْلِيسَ فارْتَمى ... بِي الحَالُ حتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي" وفيه نظرٌ، لجوازِ أَنْ يُستفاد معنى التَّدريج من خصوصيَّة المحلِّ (¬1). وللإضرابِ، عطفٌ على "لتفصيل"؛ أي: العطفُ للإضراب؛ وهو صرفُ حكمِكَ عن محكومٍ له إلى آخر، "بَلْ"، نحو: "جاءني (¬2) زيدٌ بلْ عمرٌو"، فإنَّه صرفَ المجيءَ المثبتَ لزيدٍ عنه وأثبته لعمرو؛ نحو: "ما جاءني زيدٌ بل عمرو"، وهذا المثالُ يَحتملُ أن يصرفَ النَّفْي عن زيدٍ ويثبته لعمرو (¬3) حتَّى يكون جائيًا، وأن يصْرفَ النَّفْي عنه ويثْبته لعمرو حتَّى لا يكونَ جائيًا. نصَّ عليه ابنُ الحاجب (¬4). ولرَدِّ قالبٍ للحُكم؛ أي: مَنْ يعتقد نفيَ ما أثبته، أَوْ إثبات ما تنفيه، أوْ شاكٍّ، أي: من يعتقد أحدَ الأمرين بلا ترجيحٍ. أوْ مُعمِّمٍ، أي: مَن يعتقد أمرين معًا. "لا، ¬
ولكن"؛ أي: ولردِّ (¬1) السَّامع عن الخطأ إلى الصَّوابِ: "لا, ولكن"؛ وذلك إمَّا ردّ من يقلبُ الحكمَ ويحكُمُ بخلافِ ما هو واقعٌ؛ كما إذا اعتقدَ أنَّ زيدًا شاعرٌ لا منجِّم؛ فيقول: "زيدٌ منجِّمٌ لا شاعرٌ" (¬2)، أَوْ يشكُّ أنَّ زيدًا على أحدِ الوصفين -مثلًا- من القيام والقُعودِ من غير ترجيحٍ؛ فيقول (¬3): "زيدٌ قائمٌ لا قاعدٌ" معيِّنًا أحدَ الطَّرفين بالتَّرجيح (¬4)، أَوْ يُعمِّمُ (¬5) الحكمَ فيعتقده شاعرًا ومنجِّمًا؟ فيقول: "زيدٌ شاعرٌ لا منجِّمٌ" (¬6). وفي كتاب "المفتاح": وإن لم يذكُرْ مسألةَ الشَّاكِّ في بابِ العطفِ (¬7)، لكن ذكره في باب القَصْر (¬8). هذا حكمُ "لا" وهو لا يُستعملُ إلَّا بعد الإثبات. وأمَّا "لكن" فلم يَذكر في "باب العطْف" إلَّا مثال القَلْبِ، وفي "باب القصْر" لَمْ يتعرَّضْ لشيءٍ له أصلًا. ¬
والظَّاهرُ تساويهما في الثَّلاثة (¬1)، اللَّهُمَّ إلَّا أن يقال: الاسْتداركُ استئنافُ كلامٍ بعد كلامٍ، فالمُناسبُ أن يكونَ في اعتقاد السَّامع -أيضًا- كلامانِ ليتطابقا، وهذا صادقٌ في القلبِ؛ لأَنَّ في التَّعميم والشَّكّ ليس كلامان، بل حكم واحد، وأمّا أمتلتُه فتكونُ عكسَ أمثلة "لا" لأنَّها لازمةٌ للنَّفْيِ (¬2). وللتَّشكيك أَوْ الشَّكّ (¬3) "أوْ، وإمّا"، نحو: "جاءني زيدٌ أَوْ عمرو"، و "إمَّا زيدٌ وإمَّا عمرو"، فإنَّه يُحتمل أن يُستعملَ في الشَّكّ؛ [وذلك] (¬4) إذا كان المُتكلِّمُ جاهلًا بالتَّعيين، ويُحتملُ أن يُستعملَ في التَّشكيك، وذلك إذا كان المُتكلِّمُ عالمًا به ويُريد (¬5) تشكيك (¬6) المخاطَب. ¬
قال: (وللتَّفسير: "أي" عندي)؛ أي: قال صاحبُ "المفتاح": والعطفُ قد يكونُ للتَّفسيرِ؛ كما في قولك: "جاءني أخوك؛ أي: زيدٌ"؛ فإنَّه حرْفُ عطف للتَّفسير عندي (¬1)؛ لصِدْقِ الحَدِّ الَّذي حُدَّ له (¬2) عليه؛ وهو إتْباع الثَّاني الأوَّل في الإعراب بتوسُّطِ حرْفٍ (¬3). وإذ (¬4) لَمْ يَرْتَضِ المُصَنِّفُ ذلك؛ لأنَّه يقتضي المُشاركةَ في الحكمِ والنِّسبةِ ولا يكفي فيه مُجرَّدُ شركة الإعراب -قال: "قال" ولا تشاحَّ (¬5) في الاصطلاح. ¬
خاتمة
خاتمةٌ: قد يُعْدلُ عن مُقْتضى الظَّاهر (¬1)، فيوضعُ اسمُ الإشارةِ موضعَ الضَّمير. جميعُ ما ذكرنا من الحالاتِ المقتضيةِ لاختلافِ أحكامِ الْمُسندِ إليه أَوْ الْمُسندِ (¬2) هو مقتضى الظَّاهر، ثُمَّ قد يُعدل عنه ويُخرَجُ الكلامُ لا على مقتضى الظّاهر؛ فيُوضع اسمُ الإشارةِ موضع الضَّمير؛ وذلك إمَّا للعناية بتمييزه (¬3)؛ كقوله (¬4): ¬
كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ (¬1) أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ (¬2) ... وَجَاهلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقا هَذَا الَّذي تَركَ الأَوهامَ حائِرَةً ... وصَيَّرَ العَالِمَ النِّحْرِيرَ (¬3) زِنْدِيقا (¬4) أَوْ للتهكُّم؛ أي: للاستهزاء (¬5) والسُّخرية بالسَّامع، كما إذا كان فاقدَ البصرِ؛ فيسْخر منه؛ ويقال: هذا أبصر". أَوْ لإيهام بَلادَةِ السَّامعِ بأنّه لا يُميِّزُ بين المحسوسِ بالبصرِ وبين غيرِه؛ فيُشار إلى غير المحسوسِ عنده بما يُشار إلى المحسوس؛ عسى أن يُدركَه. أَوْ كمالِ فطَانتهِ، أي: لإيهامِ كمالِ فطانةِ السَّامع بأنَّ غيرَ المحسوسِ بالبصرِ عنده كالمحسوسِ عند غيره. أَوْ لظهورِه؛ فهو عنده كالمحسوسِ؛ فيُشار إِليه باسمِ الإشارةِ، ¬
كقوله (¬1): تَعَاللْتِ (¬2) كَيْ أَشْجَى (¬3) وَمَا بِكِ عِلَّةٌ ... تُرِيدِينَ قَتْلِي قَدْ ظَفِرْت بَذَلِكِ. أي: بقتلي، وكان القياسُ أن يقولَ: "به" ولكن لَمَّا كان قتلُه بادِّعاءِ الشَّاعرِ كأنَّه ظهرَ ظهور المحسوس بالبصرِ أشار إليهِ باسمِ الإشارة لا بالضَّمير. والمظهرُ؛ أي: ويُوضعُ (¬4) المظهرُ، موضعَ المضمر؛ فيوضع موضعَ الضَّميرِ (¬5) الغائب؛ لتمكين نقشه نقش المُظهر (¬6)، نحو: {اللهُ ¬
الصَّمَدُ} (¬1) دُون هُو الصَّمَد، أَوْ موضعَ الضَّميرِ المتكلِّم؛ لتربية المهابة في عينِ السَّامعِ، وإدخال الرَّوْعةِ في ضميره؛ كما يقولُ الخليفةُ: "أميرُ المؤمنين يأمرُك بكذا"، أَوْ: "الخليفةُ يرسمُ لك"، مكان: "أنا آمرُ"، أَوْ "أرسم". أَوْ لتقوية الدَّاعيةِ؛ أي: داعية المأمُور، نحو: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬2): تركَ (¬3) ضميرَ النَّفسِ (¬4) وهو: "اليَاء" بأن يقول: "وعليَّ" (¬5) إلى المظهر وهُو الله؛ فإنَّ داعيتَه إلى التَّوكّل تتقوَّى بسماع لفظةِ "الله" بخلافِه لو قيلَ: "وعليَّ" (¬6). والمضمرُ (¬7)؛ أي: يوضعُ المضمَرُ موضعَ المظهرِ عكس المذكور؛ كقوله -تعالى-: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} (¬8)، لأنَّه -أي: السَّامع- إذا لم يَفْهَمْ من الضَّمير معنيَّ ينتظرُ ما يردُ عليه فيتمكّن المسموعُ ¬
الالتفات
بعده والواردُ عقيبه أكثرَ تمكُّن وأَفْضله (¬1)؛ لما (¬2) مرَّ غير مرَّة (¬3): أنَّ المحصولَ بعد الطَّلب أعزُّ من المُنْساقِ بلا تعبٍ. ولذلك؛ أي: ولتمكُّن (¬4) الواردِ أكثر تمكُّن. التُزِمَ تقديمُهُ؛ أي: تقديم ذلك الضَّمير -أي: ضمير الشَّأنِ الَّذي وضعَ موضعَ المُظْهر-. ثمَّ إن الحكايةَ والخطابَ والغيبةَ ثلاثتها يُستعملُ كلٌّ مقامَ الآخر، أَوْ يُنتقلُ منه إليه؛ ويُسمَّى التفاتًا. قال في "المفتاح" (¬5): "واعلم: أن هذا النَّوع -أعني: نقلَ الكلامِ عن (¬6) الحكايةِ إلى الغيبةِ- لا يختصُّ المسند إليه ولا هذا القدْر (¬7)، ¬
بل الحكايةُ والخطابُ والغيبةُ (¬1)، ثلاثتُها ينقلُ كلُّ واحد منها إلى الآخر. ويُسمَّى هذا النقل: التفاتًا عند عُلَماء (¬2) [علمِ] (¬3) المعاني". ولَمَّا كان مُراد السَّكَّاكيِّ من النَّقلِ أعمَّ من النَّقلِ التَّحقيقيِّ؛ وهو أن يُعبَّرَ عنه بطريقٍ من هذه الطُّرقِ بعد ما عُبِّر عنه بطريقٍ آخر (¬4) منها، ومن النَّقل (¬5) التقديريِّ؛ وهو أن يُعبَّر عنه بطريقٍ مِنها فيما كانَ مقتضى الظَّاهرِ أن (¬6) يعبَّر عنه بغيره منها؛ بدليل الأمثلة؛ كما في أوَّلِ بيتِ امرئ القيْسِ (¬7)، حيثُ قال (¬8): ¬
"تطاولَ ليلُك (¬1) " فيما كان مُقتضى الظّاهرِ أن يقول: "ليلى" - صرَّحَ الأستاذُ بالقسمين تنبيهًا على مرادِه (¬2)؛ بأن أشارَ إلى التَّقديريِّ بقوله: "يُسْتعملُ كلٌّ مقام الآخر"، وإلى التَّحقيقيِّ بقوله: "أَوْ ينتقل (¬3) منه إليه". قال صاحبُ "الإيضاح" (¬4): "المشهورُ عند الجمهور: أن الالتفاتَ هو التَّعبير عن معنى بطريقٍ من الطُّرقِ الثلاثةِ بعد التَّعبير عنه بطريقٍ آخر. وهذا (¬5) أخصُّ من تفسير السَّكَّاكيِّ؛ لأنَّه أراد بالنَّقل: أن يُعبَّر بطريقٍ من هذه الطُّرق عمَّا عُبِّرَ عنه [بغيره] (¬6)، أَوْ كان مقتضى الظَّاهر أن يُعبّر عنه بغيره منها (¬7)؛ فكلُّ التفاتٍ عندهم التفاتٌ عنده؛ من غير عكسٍ" (¬8). ¬
وقال الأستاذُ: كونُه مشهورًا عند الجُمْهور مَمْنوُعٌ؛ بلْ ما ذكره السَّكَّاكيُّ هو المشهور (¬1)؛ بل هو (¬2) أعمُّ -أيضًا- ممَّا ذكره السَّكَّاكيّ (¬3)؛ لأنّه قد يُقال: النَّقل من المُفردِ إلى المُثنَّى أَوْ الجمع (¬4) وبالعكسِ في نَوعٍ واحدٍ من التَّكلُّم (¬5) والخطابِ والغيبةِ من غير النَّقلِ إلى نوعٍ آخر -أيضًا- التفاتٌ (¬6). فعلى هذا نقولُ: الالتفاتُ وضعُ ضميرٍ (¬7) موضعَ آخر، وهو مثل قوله (¬8): ¬
فَوَقَفْتُ (¬1) أَسْأَلُهَا وَكيفَ (¬2) سُؤَالُنا ... ........................ بل الانتقالُ من المُظهر إلى المضمرِ مُتَكلِّمًا أَوْ مُخاطِبًا أَوْ غائبًا وبالعكس -أيضًا-: التفاتٌ؛ وعلى هذا: يحتاجُ إلى تعريفٍ أعمَّ منه. وذكر المَرْزُوقيُّ (¬3) ما يُشعرُ بما قلنا (¬4)، ومَثَّل بقوله (¬5): ¬
........ ... أَحْيَا أَبَاكُنَّ يَا لَيْلَى الأمَادِيحُ. وذكرَ الزَّمخشريُّ في سورةِ الأنفالِ (¬1) في "الكشَّاف" في قوله: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} (¬2) ما هوَ قريبٌ منه (¬3). بل صرَّحَ به في سورة النِّساءِ في قوله -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (¬4) إذْ قال (¬5): "ولم يقلْ: (واستغفرت لهم)، وعدلَ عنه (¬6) إلى طريقةِ الالتفاتِ تفخيمًا لشأنِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلّم-، وتنبيهًا على أنَّ شفاعةَ (¬7) من اسمُه ¬
الرَّسُول من الله بمَكَان (¬1) ". والحقُّ: أنَّ هذا النَّوعَ من الكلام كثيرٌ، مثل قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (¬2)، ولا مُشاحَّة في تسميتِه الْتِفَاتًا، والأمثلة -بحسبِ التَّقديريّ والتَّحقيقيّ والمضمَر من نوعه أَوْ جنسه أَوْ بالنِّسبة إلى المظهر- لا تكادُ تُحْصى. ثمَّ قولُ السَّكَّاكيِّ: إنّه التفاتٌ عند عُلماءِ علم المعاني (¬3)، لا يُنافي قولَ الآخرين، كالزَّمخشريِّ: إنّه التفاتٌ في علم البَيانِ (¬4)؛ كما ظنَّ بعضٌ، لأنَّ البيانَ قد يُطلقُ كثيرًا ويُرادُ به علمُ المعاني والبيان والبديع ثلاثتُها معًا؛ بل رُبَّما سُمِّي به؛ تسميةً للشَّيءِ (¬5) باسمِ أشرفِ أقسامِه، كما أنَّ بعضًا يسمِّي الثلاثةَ علم البديع؛ تسمية الشَّيءِ باسمِ أشهرِ أقسامه، ويُؤيِّده قولُ الزَّمخشريِّ في آخر سُورةِ مريم في قوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا ¬
إِدًّا} ـ (¬1): أنَّه يُسمَّى الالتفات في علمِ البلاغةِ (¬2). ويزيدُ، أي: الكلام بسببِ (¬3) الالتفاتِ في القبولِ والنَّشاطِ للسَّامعِ؛ كاختلافِ الألوانِ في قرى الأشْباح (¬4)، فإنَّه أشهى غِذاءً وأطيبُ تناوُلا. أليس ذلكَ؛ أي: قرى الأشباح دأبهم [أي] (¬5) عادتهم وشأنُهم مُخالفين فيه (¬6) بين [لون ولون، وطعم وطعم؛ فكذلك عَمِلوا في قرى الأرواح مخالفين فيه بين] (¬7) أسلوبٍ وأسلوب، في إيرادٍ وإيرادٍ؛ ليكونَ (¬8) أدخل في القبُول، وأحسن في التَّطرية (¬9). ¬
ويختصُّ مواقعُه؛ أي: الالتفات. بفوائدَ؛ أي: بعد الفائدةِ (¬1) العامّة -الَّتي هي الزِّيادةِ في القبولِ والنَّشاطِ- لكُلِّ التفاتةٍ خاصَّةٍ في موقعها؛ أيضًا؛ فائدةٌ خاصَّةٌ؛ من فضل بهاءٍ ورونقٍ، وزيادةِ هزة (¬2)، ورفعة منزلةٍ، لا يُدركها إلَّا أربابُ الذّوقِ من البُلغاءِ النَّحاريرِ، والحُذَّاقِ المهرةِ (¬3). مَلاكُ إدراكِها (¬4) الذَّوقُ السَّليمُ والطَّبعُ المستقيمُ. والملاكُ: ما يُمْلكُ به الأَمرُ (¬5). فيزدادُ الحسنُ؛ أي: إذا اختصَّ موقعُ الالتفات بشيءٍ من تلك الفوائد ازدادَ الكلامُ حسنًا؛ كأنْ تشكُو وتَشْكُر؛ أي: تشكو (¬6) حاضرًا له جناياتٌ [كثيرة] (¬7) -في حَقِّك- إلى غيره مُحَوِّلًا وجهكَ عن الجاني إلى الغيرِ تُعدِّدُ (¬8) جناياته؛ واحدةً فواحدة؛ فتجد من نَفْسكَ داعيًا يدعوكَ إلى مُواجهته -ذلك الجاني- بهما؛ بالشُّكْرِ ¬
والشِّكاية. تُغَالبُه؛ أَي: وأنت (¬1) تغالبُ ذلك الدَّاعيَ ولا تَلْتفتُ إِليه حتَّى يغلبكَ، ويحملكَ -من حيثُ لا تدري- على أن تُشافِهَ ذلكَ الغير بالسُّوءِ والتَّسفيه؛ فَتَلْتفت من الغَيْبةِ إلى الخطابِ. وكذا فيما تشكرُ حاضِرًا ذا نعمٍ عليكَ كثيرة إلى غيره، فإذا أخذتَ في تَعْداد (¬2) نعَمِه العِظَام؛ أحسستَ من نفسك كأنَّها تطالبُكَ بالإقبالِ على مُنْعمك، ولا تزال تزايد -ما دُمت في تعدادها-؛ حتَّى تغلِبَكَ؛ فتلْتَفتَ إليه مُثْنيًا عليه، داعيًا له، شاكرًا لصنايعه وعوارفه. أَوْ تذْكُر له؛ أي: للغير؛ عطفٌ على "تشكر"؛ يريدُ أن يُشيرَ إلى لطفِ الفائدة الخاصَّةِ في موقعِ الالتفاتِ الَّتي في الفاتحة، صفات جلالٍ بحضورِ قلبٍ يزدادُ, حتَّى كأنَّكَ ماثلٌ بين يديه؛ فَتَقُول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (¬3) يا من هذه صِفَاتُه؛ وهذا ظاهرٌ، لكن ننقلُ كلامَ السَّكَّاكيِّ [فيه] (¬4)؛ لأنَّ فيه بسطًا؛ قال (¬5): "من حقِّ العبدِ إذا أخذَ في القراءةِ أَنْ يكونَ افتتاحُهُ التَّحميدَ عن (¬6) قلبٍ حاضرٍ ونفسٍ ذاكرةٍ تعقلُ فِيمَ هو، ¬
وعند من هو. فإذا انتقلَ من (¬1) التَّحميدِ إلى الصِّفاتِ أن يكونَ انتقالُهُ مَحْذوًّا به حذو الافْتتاح؛ فإنَّه متى افتتحَ على الوجهِ الَّذي عرفتَ؛ مُجْريًا على لِسانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} (¬2) أفلا يجدُ محرِّكًا للإقبالِ على من يَحْمَدُ؛ من معبودٍ عظيمِ الشَّأنَ!، حقيقٍ بالثَّناءِ والشُّكر!، مستحقٍّ للعبادة!، ثمَّ إذا انتقل [على] (¬3) نحو الافتتاح إلى قوله: {رَبِّ الْعَالمِينَ} (¬4) واصفًا له بكونه ربًّا مالكًا للخلْقِ، لا يخرجُ شيءٌ من ملكوته وربوبِيَّته؛ أَفَتَرَى ذلكَ المحرِّكَ لا يقْوى. ثمَّ إذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬5) فوصفهُ بما يُنبئُ عن (¬6) كَوْنه مُنعمًا على الخلْقِ بأنواع النِّعَم؛ جلائِلِهَا ودقائِقِها، مُصيبًا إيَّاهُم بكلِّ معروفٍ؛ أَفلا تتضاعفُ قوَّةُ ذلكَ المحرِّك عند هذا!. ثمَّ إذا آلَ الأمرُ إلى خاتمةِ هذه الصِّفاتِ، وهي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬7) المُنادِية (¬8) على كونه ¬
مالكًا للأَمرِ كُلِّه في العاقبةِ يومَ الحَشْرِ للثَّوابِ والعقابِ؛ فما ظنُّكَ بذلكَ المحرِّك؟؛ أيسعُ ذهنُك ألَّا يصير إلى حَدٍّ (1) يوجبُ عليك الإقبال على مَوْلًى شأن نفسك معه منذُ افتتحت التّحميدَ ما تصوّرت، فتستطع أن لا تقول: {إِيَّاكَ} يا منْ هذه صفاتُه {نَعْبُّدُ} و {نَسْتَعِينُ} (2) لا غَيْرك؛ فلا يَنطق على المنزلِ على ما هو عليه". وفي أَبياتِ ابن حُجْرٍ الكِنْديِّ -وهو امْرُؤُ القيسِ (3) - بالحاءِ المُهْملة المضمومَةِ، ثمَّ الجيم-، وهو الشهودُ لي بكمالِ البلاغةِ (4)؛ المعقودُ (5) بالخُنْصر في شأنِ الفصاحةِ- ثلاثُ التفاتاتِ (6). والأبيات هي هذه (7): (1) في الأصل: "حمد". الصَّواب من: أ، ب، مصدر القول. (2) سورة الفاتحة، من الآية: 4. (3) تقدّمت ترجمته ص (392) قسم التّحقيق. (4) قولُ المصنِّف: "وهو المشهود له بكمال البلاغة" جملةٌ معترضةٌ بين المبتدأ والخبر. (5) في: أ، ب: "المشار إليه" وتعبير الأصل أدقّ؛ لأنّ الإشارة لا تكون بالخنصر وإنَّما بالسَّبَّابة. (6) في أزيادة: "في ثلاث أبيات" وليست ضمن كلام الإيجي على اعتبار أنّها منه. ولا تلائم الشَّرح لما يَنْشأ عنها من حشو في الكلام؛ إذ لو كانت منه لما ساغ قوله بعدها: "والأبيات. . ." ولا اكتفى بإيراد الضّمير "هي" بعدها مباشرة. (7) الأبيات من المتقارب وهي في ديوان الشاعر: (185) برواية: "وأُنبئتُه". واستُشهد بها أو ببعضها في المفتاح: (203)، المصباح: (35)، =
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بِالأَثْمد ... وَنَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ وباتَ وبَاتتْ لَه لَيْلَةٌ ... كَلَيْلَةِ ذِي العَائِر الأَرْمَدِ وذلكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي ... وَخُبِّرتُهُ عَنْ أَبي الأَسْودِ الأَثْمُدُ -بفتح الهمزة، وضمِّ الميمِ-: موضعٌ (¬1). والخليُّ: الخالي من الهموم. والعائرُ: ذو قَذَى العينِ. والأَرمدُ: ذُو الرَّمَد. وأَبو الأَسودِ: كُنْية من نعى هو عنه. وقيلَ: أبي؛ إضافةٌ إلى ياءِ المتكلِّم، والأسودُ مُشْتَقٌّ من السِّيادة، صفةٌ له، لأنَّه نعى بخبرِ (¬2) وفاتِ أبيهِ- والله أعلم. وأمَّا الالتفاتاتُ (¬3) الثَّلاثةُ: فالأوَّلُ: في البيتِ الأوَّلِ، من الحكايةِ إلى الخطابِ، إذ مُقتضى الظَّاهر أن يقول: "لَيْلِي"، وهذا من النَّقل التَّقديريِّ (¬4). ¬
والثَّاني: في البيتِ الثَّاني؛ من الخطابِ إلى الغيبةِ، إذ القياس: "بِتَّ وباتَتْ لكَ" بالخطابِ. والثَّالثُ: في الثَّالثِ، من الغيبةِ إلى التَّكلُّمِ؛ إذ كان القياسُ: "جاءَه". وأما "خُبِّرته" فهوَ على طريقة "جاءني"، ولا التفات (¬1) فِيه. والزَّمخشريُّ -أيضًا- قَال: إِنَّ فيه ثلاثَ التفاتاتٍ في ثلاث أَبياتٍ (¬2)؛ ومنه يظهر ضعفُ قولِ صاحبِ "الإيضاح" (¬3) من وجهين، لأنَّ الزّمخشريَّ لَمَّا قال (¬4): "في ثلاث أبياتٍ" عُلِمَ أنَّ في كُلِّ بيتٍ التفاتًا، فكيفَ يصحُّ أن يقول: لا التفات عند الجمهوو بالنَّقل التَّقديريِّ، ثم يقول (¬5): "فتعيَّنَ أن يكون عنده في الثَّالث التفاتان؟! "؛ ولعلَّهُ ذَهلَ عن قوله (¬6): "في ثلاثة أبيات". ¬
كانَ يُمكنُ تَرْكها، وذلك بأن يسوقَ الكلامَ على [الحكاية في الأبياتِ الثَّلاثة، ويُمكن الاكتفاءُ بواحدٍ منها، بأن يُجرى الكلام على] (¬1) الخطابِ مثلًا في الكلِّ، [بأن يقولَ: ليلُك، وبِتَّ، وباتت لكَ، وجاءَك، وخُبِّرتَه] (¬2)، قال: تَطَاوَلَ لَيلُكَ بالأَثْمُد (¬3) وَباتَ وبَاتتْ لَهُ لَيلَةٌ (¬4) كأنَّه (¬5)؛ يريدُ أن يُشيرَ إلى لطائف مَواقعِ التفاتاته، فذكرَ في التفاتِه (¬6) الأوَّل (¬7) أربعةَ أوجهٍ، وفي الثاني (¬8) ثلاثةَ أوجهٍ، وفي الثَّالث (¬9) وجهًا واحدًا. ¬
جعلهُ ثَكْلى (¬1) يُسلِّيها (¬2) الملوكُ؛ هذا هو الوجهُ الأوَّلُ من الالتفات الأوَّلِ؛ أي: جعل نفسه ثَكلى صاجما عزاءٍ لا تتسلَّى إلَّا أن يَذْكُر لها مَلِكٌ من الملوكِ موجباتِ التَّسلِّي، ويُسَلى إيَّاها؛ ففعل ذلك لكونه مقتضى الحالِ هنالك (¬3). أوْ لأنَّه لَمَّا لم يصبر كالملوكِ ظنَّه (¬4) غيره؛ هو الثَّاني مِنَ الأوَّل؛ أي: لأَنَّه لَمَّا لَمْ يصبر عليه وجَزِعَ (¬5) وقَلِق، وكان مِنْ حقِّه أن يَتَثبَّتَ ويَتَصَبَّر -كما هو دَيْدَنُ الملوكِ وعَادتُهم عند طوارق النَّوائبِ وبوارقِ المصائب- شَكَكته (¬6) في أنَّها نفسُه؛ بَلْ ظنَّه غيره؛ فخاطب له. ثمَّ نبَّه أنَّ التَّحزُّنَ (¬7) تحزُّنُ صدقٍ خاطب أَمْ لا؛ هو الأوَّلُ من الثَّاني (¬8)؛ ¬
وإنَّما لا (¬1) يتفاوت الحال، لأنَّ التَّحزُّنَ لَمَّا كان تحزَّنَ صدقٍ (¬2) لَمْ يَتَسلَّ خاطبه أَمْ لم (¬3) يُخاطبه؛ بخلافه إذَا كانَ تحزُّنًا تَكَلُّفيًّا، فإنّه إذا خَاطَبه يتسلَّى (¬4)؛ فلهذا عدلَ إلى الغَيْبةِ. أو لأَنَّه (¬5) لَمَّا دَهِش (¬6) -بكسرِ الهاءِ- عن مُقْتضى الظَّاهرِ غَلَبتهُ العادةُ؛ هو الثَّالثُ من الأَوَّل؛ أي: لَمَّا أَطارَ ذلك النَّبأُ قلبه، وأباد لُبَّه، وصيَّره مَدْهوشًا غافلًا عن مقتضى الظَّاهر- غلبته العادةُ ممّا (¬7) كان ألِفَه به من الخطابِ الدَّائرِ في مجاري أُمُور الكبارِ؛ أَمْرًا ونهيًا؛ فعدل (¬8) إلى مُقتضى الحال، وخاطب. وفي بعضِ النُّسخ: "مقتضى الحال" والظَّاهرُ ¬
"الظَّاهر"؛ كما قرّرنا (¬1)، ثم ببعضِ الإفاقةِ لم يجدْ نفسَه معه؛ هذا هوَ الثَّاني من الثَّاني، أي: بعد الصَّدمةِ الأولى حينَ أفاق بعضَ الإفاقة، ولم يجدْ نفسَه معه بنَى الكلامَ على الغَيْبة. أو لأنَّه غاظَه جَزعُه فوبَّخَ مُخاطبًا، الرَّابع من الأوَّلِ، أي: لأنَّ (¬2) نفسَه حين لم تَتَثبَّتْ ولم تتصبَّر غاظه جزعه، فأقامها (¬3) مقام المستحقِّ للعتاب، مخاطبًا له على سبيل التَّوبيخِ. ثمَّ سكتَ عنه الغضبُ بالعتابِ فأَعرضَ يدمدم (¬4)؛ هو الثَّالثُ من الثَّاني؛ أي: لمّا كان الحاملُ للخطابِ والعتابِ هو الغضب، فحين سكت عنه بالعتابِ الأَوَّل أعرضَ (¬5) عنه الوجه مُدَمْدمًا (¬6) -أي: مُتَكلِّمًا مع النَّفْسِ الدَّمْدَمَهّ؛ هي: الكلامُ والحديثُ مع النَّفسِ- فعدلَ إلى الغيبة. وأمَّا قولُه، "جاءني" فليُعلم -من الإعلام- أنَّ ذلكَ كلَّه ¬
مِمَّا يَخُصُّه (¬1) غيرُ متعدٍ إلى من سواه؛ هذه إشارةٌ إلى فائدةِ الالتفاتِ الثَّالث هذا؛ أي: هذا الذي ذُكر إنّما ذُكر ليُعلمَ أنْ لا يُعترف بالبلاغةِ لمن لا لطائفَ في افتناناته (¬2). قوله: "يُعترفُ" بالرَّفْع؛ أي: أنَّه (¬3) لا يُعترفُ؛ لأنّ "أنْ" (¬4) المذكورة بعدَ العلم مخفّفةٌ من الثّقيلة، وليست بناصبة؛ أي: لِيُعلم (¬5) أن الفحولَ البُزْلَ (¬6) لا يقيمونَ لكلامٍ وزنًا، ولا يعترفونَ بالبلاغةِ ¬
لأحدٍ؛ ما لم يعثروا من مطاوي افْتناناته على لطائف اعتبارات. والتَّفاضلُ في الكلامِ قلَّما يكَون لَغيرها (¬1)، بل لا يكون إلَّا بها، وما إعجازُ القرآن؛ أي: أَنَّ (¬2) كلامَ الله -تعالى- وهو قرآنهُ الكريمُ وفُرقانهُ العَظيمُ لم يكتسِ تلَكَ الطُّلاوة (¬3)؛ ولا استودع تلك الحلاوةَ، وما كانَ بحيثُ يعلُو ولا يُعلى، ويبلُغ (¬4) -في الإعجاز- الدَّرَجة العُليا (¬5)؛ إلّا لانصبابهِ في تلك القواليب (¬6)، ولورُوده على (¬7) تلكَ الأساليبِ. ¬
تذنيب
تذنيبٌ: ومن هذا القبيلِ (¬1): وضعُ الماضي موضعَ المظارع؛ أي: من قبيلِ ما عُدلَ فيه عن مُقتضى الظَّاهر: وضعُ الفعلِ الماضى (¬2) موضعَ الفعلِ المضارع (¬3) للتَّحقيق والتَّوكيدِ؛ نحو: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (¬4) فإنّه كان مُقتضى الظَّاهرِ أن يُقال: "ويُنادى"؛ لأَنَّه في القيامةِ؛ لكنَّهُ عدلَ إلى الماضي بيانًا لتحقُّقه وتوكيدًا؛ لأنَّ (¬5) هذا النِّداءَ ضروريُّ الوقوعِ. ¬
فالحاصلُ: أنَّ ما هو للوقوع أخذه كالواقع لتحقُّقِ وقوعهِ. والحاضرُ؛ أي: ومن هذا القبيلِ وضعُ (¬1) الحاضرِ موضعَ (¬2) الماضي؛ لإيهام المُشاهدةِ؛ مشاهدةِ تلكَ الحالةِ واستحضارها في ذهن المُخاطَب. كما قال الشَّاعر؛ أي: كما فعلَ تأَبَّط شرًّا (¬3) في قوله (¬4): ¬
بأنِّي قَدْ لَقِيتُ الغُولَ تَهْوي ... بسَهْبٍ (¬1) كالصَّحِيفةِ صَحْصَحان فَأَضْرِبها بلا دهَشٍ فَخرَّتْ ... صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وللجِرانِ وكان مُقتضَى الظَّاهرِ: "فَضَربْتُها"، لكِنّه عَدلَ إلى الحاضرِ قَصْدًا أَنْ يُصوِّرَ لقومه الحالة الَّتي تشجَّعَ فيها بضربِ الغُولِ، كأنَّه يُبَصِّرُهم إيَّاها -أي: تلكَ الحالة- ويُطْلعُهم على كُنْهِهَا، ويتطلَّبُ منهم مُشَاهَدَتها؛ تعجيبًا من جُرْأته على كلِّ هَوْلٍ، وثباتِهِ عند كُلِّ شِدَّةٍ. والسَّهبُ -بالسِّين والصَّاد المهملتين-: الفلاةُ. والصَّحْصَحَانُ: المُسْتوي (¬2)، أي: بفلاةٍ كالقِرطاسِ مستويةٍ. لليدين؛ أي: على اليدين. والجرانُ: مقدَّمُ عنقِ البعيرِ من مَذْبحه إلى مَنْحَره. ¬
الفن الثالث: في وضع الطرفين كل عند صاحبه
الفَنُّ الثَّالثُ: في وضع الطَّرفين (*) كُلّ عند صاحبه. أي: في (¬1) وَضْع كُلٍّ من المسندِ إليه والمسندِ عند الآخر. والنَّظر في التَّقديم والتَّأخيرِ وفي الرَّبْطِ و [في] (¬2) القصر؛ فهو مكسورٌ (¬3) على ثلاثةٍ أنواع: النَّوعُ الأَوَّل: في التَّقديم والتَّأخير (¬4). التَّقديمُ (¬5): -حيثُ ليسَ واجبًا ولا أصلًا- للاهْتِمام. جعلَ (¬6) السَّكَّاكيُّ مطلقَ (¬7) التَّقديمِ للاهتمام؛ سواء كان واجبًا، ¬
أو أَصلًا (¬1)، أو غيرهما (¬2). والمصنِّفُ (¬3) جعلَ تقديمًا ليس واجبًا ولا أصلًا للاهتمام. وهذا أَوْلَى؛ لأن فيهما لا يُحتاج إلى بيانِ العلَّةِ ولا يُطلبُ لميَّته (¬4). نعم العدولُ عن الواجبِ وعن الأصلِ هو المقتضى لنُكْتة. ¬
والتَّقديمُ الواجبُ كما إذا تضمَّنَ المسندُ إليه الاستفهام، وهو أنَّه يعلم من أوَّلِ الأمرِ أنَّه من أيِّ نوعٍ من الكلامِ. والتَّقديمُ الأصليُّ كتقديمِ المبتدأ على الخبرِ؛ وذلك لأنَّه ما لمْ يُتصوَّر شيءٌ لم يُحكم عليه. لوجوهٍ وهو؛ أي: الاهتمام يكونُ لوجوهٍ: الأَوَّل: عقدُ الهِمَّةِ (¬1) به منكَ أو من السَّامع ولو ادِّعاءً؛ أي: تكونُ همَّةُ المتكلِّمِ أو السَّامع معقودةً به (¬2)؛ حقيقةً (¬3) أو ادّعاءً (¬4)، وعنايتهُ مُتَعلِّقة به لكونه -في نفسه- نُصْبَ العينِ؛ كما يُقدِّم [من المسند والمُسْند إليه، ما كان همّةُ أحدهما؛ من المتكلِّم أو السَّامع معقودًا به؛ كما إذا صارعَ زيدٌ عمرًا، والهِمَّة مصروفةٌ لسقوط عمرو للعنايةِ إلى جانب زيد؛ فنقول: (عمرو سقط)؛ لاهْتمامكِ به، وإذا كان للاهتمام بنفسِ السُّقوطِ فقط؛ أعمّ من أن يكون سقوط زيدٍ أو عمرٍو تقول: (سقطَ ¬
فلانٌ). وهذا كما قدَّمتَ نُصْب العين تُقَدِّم] (¬1) المفعول على الفاعل؛ إذا كان الغرضُ معرفةَ من وقع عليه الفعلُ لا من صدرَ عنه؛ كما إذا خرح رجلٌ على السُّلطان، وعاثَ في البلادِ، وأظهرَ فيها الفسادَ، وتأذى منه العبادُ؛ فقُتلَ، ثم أردتَّ أن تُخبرَ بقتله؛ فإنَّكَ لا تُرخِص التَّأخير بل تجدك مضطرًّا إلى التَّقديمِ؛ قائلًا: (قَتَل الخَارجيَّ فُلانٌ)؛ بتقديمِ الخارجيِّ؛ إذْ ليس الاهتمامُ إلى معرفةِ قاتله، وإنَّما [الّذي] (¬2) الاهتمامُ به معرفةُ المقتولِ، لينْجُوا من شرِّه، ويَخْلُصُوا منْ أذَاه. الثَّاني: التَّشويق؛ أي: يُقدَّم لأنّ في تقديمه تشويقًا للسَّامع إِلى الخبر؛ ليتمكّنَ في ذهنه إذا وردَ ذلكَ الخبرُ [عليه] (¬3)، كما إذا قلتَ: (صديقُكَ فلانٌ الفاعلُ الصَّانعُ رجلٌ صدوقٌ)؛ فإنَّه لَمَّا قدّمَ (¬4) المبتدأَ الموصوفَ اشتاقتْ نفسُ السَّامع إلى ما يردُ بعدَه. وهو -أي: التَّشويقُ- أحدُ خواصِّ الإخبارِ بالَّذي (¬5)، وخواصُّهُ ¬
الآخر ما مرَّ في الحالةِ الَّتي تقتضي كونَه موصولًا، من قصدِ زيادةِ التَّقرير، وبناءِ الخبرِ عليه، وغيرِه. وأمَّا كيفيّةُ الإخبارِ فهو وظيفةُ النَّحو. الثَّالثُ وهو (¬1): التَّفاؤلُ والتَّيمُّنُ؛ وذلكَ فيما إذا كان الاسمُ يصلحُ (¬2) للتَّفاؤُل؛ فيقدِّمه إلى السَّامع لتعجيل إيصَالِ (¬3) المسرّةِ إليه، نحو: (سعدُ بنُ سعيد في دارك). وكذا حكم التَّشاؤمُ والتَّطيُّر -فيما يصلحُ الاسمُ له-، فيُقدّمه إليه لتعجيل إيصَال (¬4) المَسَاءَةِ إليه، نحو: (السَّفَّاحُ في دارِ صديقك). وإنَّما اكْتَفى بأَحَدِ الضِّدَّين (¬5) عن الآخر لِدلالةِ حُكمِه على حكمِه (¬6)، نحو قوله -تعالى-: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (¬7). ¬
الرَّابعُ: طلبُ إثبات الحبرِ لا نفْسِه، نحو: (الخطيبُ يشربُ ويطْرَبُ) في جوارب: كيفَ الخطيبُ؟؛ أي هو مُتَّسِمٌ به، أي: يكونُ المطلوبُ إثباتَ الخبر للمسند إليه، واتِّصافَه واتِّسامَه بذلكَ الخبرِ، كما يقال: (الخطيبُ يَشربُ)، أي: الشُّربُ ثابتٌ له؛ بمعنى: أنَّه من شأنه وصفته وحالٍ من أحواله، وإن لمْ يكن شاربًا في حالِ الإخبار (¬1)؛ بخلافِ: (يشربُ الخطيبُ)، فإن المطلوبَ فيه نفسُ الإخبار بحصولِ الفعلِ وصدوره منه (¬2) لا كونه صفةً وحالًا له (¬3)؛ ولهذا يلزمُ أن يكونَ فيه شَاربًا في الحالِ (¬4). والأَوَّل: يُستعملُ في موضع يكون المقصودُ بيانَ حال الخطيبِ وكيفيَّة شأنه بصدقِ ذلك الوصفِ عليه واتِّسامه به، لا كونه شاربًا في الحالِ، ولهذا يُقال في جوابِ: (كيفَ الخطيبُ؟). والثَّاني: يُستعمل في موضع يكونُ المقصودُ إخبارَ السَّامع بذلكَ الفعل لا بَيَانَ حاله وصفتِه، ولهذا يُقالُ في جواب: (ما يفعلُ الخطبُ؟). وهذَا قريبٌ ممَّا قال متأخِّرو المنطقيِّين، كأُسْتَاذِنا في بحثِ جهةِ السّور وجهةِ الحمل: إنَّ الجهةَ قد تكونُ -أيضًا- للصِّدق، كما يُقال ¬
في زمان خُلُوِّه عن الشُّرب يجبُ أن يصدُقَ في الحال: (الخطيبُ يشربُ)، وكما يجبُ أن يَصْدُقَ عندَ الزَّوالِ: (الشَّمسُ تطلُع)؛ ولتحقيقِه مواضع أُخَر. الخامسُ: كونُه مَحَزَّ التعجُّبِ أو الاسْتِبعاد؛ أي: يُقدَّمُ ليُعْلمَ أنَّه محلُّ التَّعجُّبِ أو الاسْتبعاد. المَحَزُّ: موضع الحَزِّ؛ وهو القَطْعُ. فتأمَّلْ في مثل هذا المثل (¬1): (أَنخْدَعُ (¬2) بالزَّبِيبِ بَعْدَ المَشِيبِ)، وأخَويه؛ أي: مثل: (أبالزَّبيبِ (¬3) نُخْدَعُ بَعْدَ الْمَشِيبِ)، و (أَبَعْدَ الْمَشيب نُخْدعُ بالزَّبِيبِ)؛ قال: فإنَّ في (¬4) الأَوَّل التَّعجّبُ في الخدع، وفي الثَّاني: [في] (¬5) المخدوع به، وفي الثَّالثِ في المخدوع فيه، كما (¬6) قال الشَّاعر (¬7): ¬
أبعدَ الْمَشِيبِ الْمُنْتَضَى (¬1) في الذَّوائبِ ... تُحَاولُ وصْلَ الغَانِياتِ الكَواعِبِ (¬2) وقدْ يُقدّمُ متعلِّقُ الفِعل (¬3) فاعلًا مَعْنى، أَوْ مفعولًا، أو غيرَهُما، للتَّخصيصِ، وذلك شاملٌ لأَربعةِ أنواع من التَّقديم، كَتَقديم الفاعلِ المعنويِّ على الفعل، نحو: (أنا عَرَفْتُ)، وكتقديمِ المفعولِ على الفعل؛ نحو: (زيدًا عَرفتُ)، وكتقديمِ غير الفاعلِ والمفعولِ، كالحالِ والتَّمييز على الفعل؛ نحو: (راكبًا جئتُ)، و (نفسًا طِبْتُ)، وكتقديم ¬
مُتعلِّق الفعلِ على مُتَعلِّقٍ آخر له؛ كالمفعولِ على الفاعلِ؛ نحو: (ضربَ زيدًا عَمْرٌو)؛ هذا (¬1) إن قلنا: التَّقديم الَّذي بين المُتعلِّقات بعضِها مع بعضٍ يُفيدُ التَّخصيصَ. وقوله: "قدْ يُقدَّمُ" يكونُ عامًّا (¬2) لتقديمه إمَّا على الفعل، وإمَّا على المتعلِّق (¬3)، وإن قُلنا لا يُفيد (¬4) فيكونُ خاصًّا (¬5) لتقديمه على الفعل، ولا يشمل إلَّا الأنواع الثَّلاثةَ الأوَل، ومُساعدةُ الأمثلة عليه (¬6). وإنَّما قال: "فاعلًا معنى"؛ لأنَّ ما هو فاعلٌ لفظًا يستحيلُ تَقْديمُه على الفعلِ بالاتِّفاق (¬7). ¬
نحو (¬1): (أنا ضربت)؛ مثالٌ لتقديمِ الفاعلِ المعنويِّ (¬2) على الفعل، لمن ينفي الضَّرب عنك ويثبته لغيرك، أو يجعل لك فيه شريكًا؛ أي: لمن يعتقدُ وجودَ الضَّرب، لكنَّه مُخْطئٌ في فاعله؛ بأن ينفي عنك ويثبت لغيرك، أو يُخْطئُ (¬3) في أن لك فيه شريكًا (¬4)، وأنت تقصدُ أن تردَّه إلى الصَّوابِ؛ بأن تثبته لنفسك وتنفي عن غيركَ في الأَوَّلِ (¬5)، وبأن تبيِّن الإنفرادَ والاستبدادَ في الثَّاني (¬6). فتقولُ في تأكيده في الأَوَّل: "لا غيري"، وفي الثَّاني: "وحدِي"؛ أي: ولأنَّ الخطأَ في الأَوَّل كان في الفاعل وأنّه غيرُك تقولُ في تأكيده: "لا غيري"، وفي الثاني في التَّعميم وأنَّ لك فيه شريكًا تقول في تأكيده: "وحدي". فإنْ قلتَ: "أنا فعلته وحدي" في قوّة "أنا فعلته لا غيري"، وبالعكس؛ ¬
فَلِمَ اختصّ الأَوَّل بنحو "لا غيري". والثَّاني: بـ "وحدي (¬1) "؟!. قلتُ: لأنّ فائدةَ التَّأكيد (¬2) إماطةُ الشُّبهة، وهي في الأَوَّل: أنَّ الفعلَ صدر عن غيرك؛ فأزلتها بـ "لا غيري"، وفي الثَّاني: أَنَّ الفعل صدر منك (¬3) بشركة الغير فأمطتّها بـ "وحدي"، ولو عكست -وإن أفاد ذلك- (¬4) لم يكن الكلام مُورَدًا على وجهه (¬5)؛ لأن التَّأكيد إنَّما يَحسُن بما يدلّ على المقصودِ بالمطابقة لا بالالتزامِ (¬6). وكذا (¬7) زيدًا ضربتُ؛ مثالٌ لتقديمِ المفعول المتعدَّى إليه بلا واسطة (¬8). ¬
وبه مررتُ مثالٌ لتقديم المفعولِ (¬1) المتعدَّى إليه بالواسطة. وراكبًا جئتُ، مثالٌ لتقديم الحال. ونفسًا طبتُ، مثالٌ لتقديم (¬2) التَّمييز. فلا تقل (¬3) في (ما زيدًا ضربت): (ولا غيره) (¬4)، إلّا لمن يراك تظنّه ضرب عمرًا؛ فقال: (زيدًا ضربتُ)؛ أي: فلا تقل في مثل (¬5): (ما (¬6) زيدًا ضربتَ) -بفتح التّاء- لفظة: "ولا غيرَه"؛ لأَنَّ منطوقَ "لا غيره" يُنافي مفهومَ تقديمِ (زيدًا)؛ لأن مفهومه (¬7) أن يكون غيرُ زيدٍ مضروبًا لك -إلَّا لمن يراك أنَّك تظنّه ضرب عَمْرًا، فقال لك مدَّعيًا خطأ ظنِّك، وقاصدًا ردَّك إلى الصَّوابِ: "زيدًا ضربتُ"- بضمِّ التَّاءِ-؛ فإنّه يصحُّ منك أن تقولَ مثله؛ فإِنَّك لا تقصد فيه بالتَّقديمِ إلَّا مُطابقة الجوابِ؛ فقلتَ: "ما زيدًا ضربتَ" ردًّا لقوله: "زيدًا ضربتُ"، ¬
وقلتَ: "ولا غَيْرَه"، ردًّا لحُسْبانه في حقِّك (¬1). ولا تَقُلْ فيه (¬2)؛ أي: في "ما زيدًا ضربتَ" كلمة (¬3): "ولكن أكرمتَه"؛ فتعقب الفعل المنفي بإثباتِ فعل [هو] ضدُّه (¬4)؛ لأنَّك إنَّما تُخَطِّئه في المفعول؛ لأنّ مبنى (¬5) الكلامِ ليسَ على أن الخطأ وقعَ في الضّرب؛ فتردّه (¬6) إلى الصَّوابِ في الإكرام، وإِنَّما مبناه على أنَّ الخطأ وقعَ في المضروب (¬7) حين اعتقد زيدًا فتردّه (¬8) إلى الصَّوابِ أن تقولَ: "ولكن عَمْرًا". ولا تقلْ: ما أَنا قُلْتُ شعرًا إذا أنت تريدُ العمومَ؛ كما يفهم من ¬
قول الشّيخ عبد القاهر (¬1)، إذ لا يُعتقدُ أنَّ: قلتَ كلَّ شِعْر؛ أي: لاسْتلزامه أن يكونَ قد اعتقد فيك (¬2) مُعْتقدٌ: أنَّك قُلتَ كل شعرٍ في الدُّنيا فنفيت أن يكون إِيَّاه. ووجهُ الاستلزامِ أنَّه في قُوَّةِ: قال غيري كلَّ شعرٍ، وهو في جواب: ما قال غيرُك كل شعرٍ، وفيه اعتقادٌ أَنَّك قلتَ كلَّ شعرٍ. وأمَّا لو أردتَ التَّخصيص، كما تُريد شعرًا معيّنًا فلا مَنْع منه. ولا في "مما أنما ضربتُ"؛ أي: لا تقلْ في [نحو] (¬3) "ما أنا ضربتُ" كلمة: "إلا زيدًا" حتَّى يصير هكذا: "ما أنا ضربتُ إلّا زيدًا"؛ لأنّه يُفيد أنَّك ضَربته ولم تضربه، لأن نقضَ النَّفي بـ "إلّا" يقتضي أن ¬
تكون ضربت زيدًا، وتقديمُك ضميرك وإيلاؤُه حرفَ النَّفي يقتضي نفيَ أن تكونَ ضربته؛ هكذا في "المفتاح" (¬1)، وفي "دلائل الإعجاز" (¬2). وقال صاحبُ "الإيضاح" (¬3): "وفيه نظرٌ؛ لأنّا لا نُسلِّم أنَّ تقديمَ الضَّميرِ وإيلاءَ حرفِ النّفي يقتضي ذلك"؛ بل [عليه] (¬4) أنّه يقتضي أن يكون ها هنا إنسانٌ غيرُ المتكلِّم قد ضرب من عدا زيدًا منهم؛ وهو مُحالٌ. وقال (¬5) المصنِّفُ: إِنَّا (¬6) ندَّعي ذلك في مادَّةٍ خاصّةٍ؛ كما أنَّ التّخصيصَ بالتَّعميم مراد في قولك: (ما أَنا قلتُ شعرًا)، وهي [في] (¬7) ¬
صورةٍ يكون الضَّربُ الواقعُ منحصرًا على زيدٍ، ويكون النِّزاعُ في فاعلِ ذلك الضَّرب المعيَّن؛ وحينئذٍ لزوم التّناقض ظاهرٌ؛ لأنْ النَّقضَ يقتضي أن تكون ضربته، والتَّقديمَ والإيلاءَ يقتضي صرفَ الضَّربِ عنك إلى غيرك، بلى (¬1) لو لم يحصر (¬2) لم يتناقض؛ لأن النَّقضَ يقتضي ضربَك إيَّاه، والتّقديمَ يقتضي صرف ضربٍ عنك (¬3) لا (¬4) ضربَ زيد؛ فلا يتناقض. وقد يُقدَّمُ الفاعلُ؛ أي: بحسبِ التَّلفّظ لا على نِيَّةِ التّقديم والتَّأخيرِ؛ كما في التَّقديم التَّخصيصى، معنىً؛ أي: ما هو فاعلٌ معنىً لا لفظًا (¬5)، خاصَّة عليه. إنّما قال: "خاصةً"؛ لأنَّ سائرَ متعلِّقاتِ الفعل لا تتقدم عليه للتَّقوية؛ بل للتَّخصيص؛ كما مرَّ؛ نحو: (أنا عرفتُ) لتقويةِ الحكمِ؛ لأنَّ المبتدأ لاستدعائه (¬6) حكمًا يَصْرف ما يصلحُ له (¬7)؛ إلى نفسه (¬8). ولو بلا ضميرٍ؛ نحو: (زيدٌ غلامٌ)، فإذا وجدَ الضّميرُ ¬
صرفَه (¬1) إليه ثانيًا. اعلمْ (¬2): أنَّك إذا قُلت: (عرفتُ أنا)؛ "فأنا" فاعلٌ معنى؛ لأنّه تأكيدٌ للفاعل، فإذا قُلت: (أنا عرفتُ) يحتمل أن يقال: أصلُ النَّظمِ: (عرفتُ أنا)، ثُمّ قدّمَ (أنا)، ويحتمل أن يُجرى الكلامُ على الظَّاهرِ، ويقال: (أنا) مُبتدأٌ و (عرفتُ) خبرُه؛ ولا يُقدّر تقديمٌ وتأخيرٌ. فنظمُ الكلامِ بالاعتبارِ الأَوَّل يفيدُ التَّخصيصَ، وبالاعتبارِ الثَّاني يكونُ مُفيدًا لتقويةِ الحكمِ، وسببُ تقوِّيه (¬3)؛ هو أنَّ المبتدأَ لكونه مُبتدأ واستدعائه (¬4) به حكمًا، وَأن يُسندَ إليه شيء -يصرف إلى نفسه ما يصلح له وللإسنادِ إليه إذا وردَ بعدَه؛ ولو كانَ ذلك الصَّالحُ الواردُ بلا ضميرٍ يرجعُ إلى المبتدأ؛ نحو: (زيدٌ غلامٌ) (¬5)؛ فإذا وُجد الضَّميرُ- بأن كانَ الخبرُ متضمِّنًا له (¬6) - صرفَ ذلكَ الضّميرَ إلى المبتدأ ثانيًا؛ فيكتسي الحكمُ قُوّةً لتكريرِ (¬7) الإسنادِ، فإذا قلت: (أنا عرفتُ) كان المرادُ تحقيق حُكمِ العرفةِ، وتقويته عند السَّامع؛ لا تخصيصه به. ¬
تذنيبات
وأمّا: (عرفتُ أنا) بتأخير لفظة: (أنا) فتأكيدٌ للفاعل لا للإسناد؛ وهو غيره، [أي: غير "أنا عرفت"؛ لأنَّ المفهومَ من "أنا عرفت" تكريرُ (¬1) المعرفة، ومن (عرفت أنا) تكرير (¬2) العارف دونَ المعرفةِ واحدُهما غيرُ الآخر] (¬3). تذنيباتٌ الأَوَّل: (أنا عارفٌ) (¬4) دون (¬5) (أنا عرفتُ) في التَّقويةِ لعدمِ تغيُّر الضَّميرِ في الحكايةِ والخطابِ والغيبةِ؛ تقول: (أنا عارفٌ)، (وهو عارفٌ)، (وأَنت عارفٌ)؛ بخلاف ما تقول: (أنا عرفتُ)، (وهو عرفَ)، (وأنت عرفتَ) (¬6) فكأنه لا ضمير. ¬
والسِّرُّ في عدمِ تفاوت الضَّميرِ: أنَّ معنى (عارف) ذاتٌ (¬1) ثبتَ له المعرفة، فكأنَّ (¬2) ضميرَه راجعٌ إلى الذّاتِ؛ والذاتُ لا تختلفُ باختلافِ الاعتباراتِ، ولأن ضميرَه لما لمْ (¬3) يرجع إلى المبتدأ لم يُفد (¬4) التَّأكيد؛ كما أفاد (أنا عرفت) (¬5)، ولأنَّ الذَّاتَ بالحقيقة هو نفسُ المبتدأ؛ فكأنَّه راجعٌ إليه، وأفادَ (¬6) شيئًا من التَّأكيدِ (¬7). ¬
الثَّاني: قال (¬1): (زيدٌ عرف) للتَّوكيدِ والتَّقويةِ؛ لأنَّه إذا أُخِّر كان فاعلًا إلّا نادرًا؛ نحو: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (¬2)؛ فإنَّه يجوزُ على المذهبِ النَّادرِ (¬3) أن يكون (زيد) (¬4) مؤخَّرًا، ولا يكون فاعلًا؛ بلْ يكون فيه ضميرُ فاعله، و (زيد) تأكيدٌ، أو بدلٌ منه (¬5)، كما يُقالُ في الآيةِ: إِن الفاعلَ مُضمرٌ، و (الّذين) بدلٌ (¬6)، فلا يقدّم [أي] (¬7) لكونهِ ¬
فاعلًا لو تأخَّر لا يُقدَّم، لأنَّ الفاعلَ لا يتقدَّم على الفعل، فلا يجوز كونُه للتَّخصيصِ. وإن تقدّم (¬1) فيُحمل على النَّادرِ عند عدمِ جوازِ المبتدئيّة (¬2)، نحو: (رجلٌ جاءَ)؛ أي: لفقدان شرطِ الابتداءِ (¬3)، وتعذُّرِ حَمْله على الأصل؛ يُحْمل على النَّادرِ ويُحكم بالتَّقديم فيُفيد التَّخصيصَ؛ أي: لا امرأة ولا رجلان (¬4)؛ أي: يُفيد [إمّا] (¬5) تخصيص الجنس؛ نحو: رجلٌ [جاءَ] (¬6) لا امرأة، وإمّا تخصيص الأفراد، نحو: رجل [جاءَ] (¬7) لا رجلان أو رجال. وقولهم (¬8): "شَرٌّ أَهَرَّ (¬9) ¬
ذا نابٍ (¬1) "يأباهما (¬2) موضعُ استعماله، لأَنَّه لا يُستعمل (¬3) في موضع يكونُ المراد: شرٌّ أَهرَّ لا خير، وشرٌّ أهرّ لا شرَّان. والسَّكَّاكيُّ خصّصَ إباءَ الموضع بالوجهِ الأخيرِ؛ حيثُ قال: لامتناع أنْ يُقال: المهرُّ شرٌّ لا خير؛؛ إذ التَّخصيص يَسْتدعي اشتراكَ الخيرِ والشرِّ في الإِهْرَار، لكنَّ الخيرَ لا يكونُ مُهِرًّا (¬4)، وامتناع أن يكونَ التَّقديرُ: شرٌّ لا شرّان؛ لأنَّه بهذا الوجه يكونُ (¬5) نابيًّا عن مظانِّ استعماله (¬6). وإذا نَصُّوا بأن معناه: (ما أهرَّ ذا نابٍ إلا شَرٌّ)، فالوجهُ: أنَّ التَّننكر للتَّعظيمِ، أي: وإذا (¬7) نصَّ الأئمةُ (¬8) بأنَّ فيه تخصيصًا؛ حيثُ ¬
قالوا: معناه: (ما أهرَّ ذا نابٍ إلا شرٌّ)؛ فالوجهُ: أن يقال: إنَّ (¬1) التَّنكيرَ للتَّعظيمِ، وأنَّ المرادَ تفظيعُ شأنِ الشَّرِّ؛ أي: ما أهرَّ ذا نابٍ إلَّا شرٌّ عظيمٌ فظيعٌ (¬2)؛ فيُفيد تخصيصَ النَّوعِ. والحاصلُ: أنَّ (أنا عرفتُ) يحتملُ تقويةَ الحكمِ وتحقيقه "بأن يكونَ (أنا) مُبتدأٌ و (عرفتُ) خبرَه -كما هو الظَّاهرُ-، ويحتملُ التَّخصيصَ؛ بأن يكون التّقديرُ: (عرفتُ أنا)؛ فُقُدِّم (أنا). و (زيدٌ عرفَ) لا يصلح للتَّخصيص؛ إذ لو قدَّرت (عرفَ زيدٌ) كان (زيدٌ) فاعلًا، فلا يتقدَّمُ إلّا على طريقةِ: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (¬3)، وهو بعيد. و (رجل عرف) لا يحتملُ التَّحقيقَ، لأن النَّكِرةَ غير المخصَّصةِ لا تصلحُ مبتدأ، فهو للتَّخصيصِ لتقديرِ تقديمه. فعُلم أنَّ مأخذ التَّخصيصِ والتَّقويةِ تقديرُ التَّقديمِ والتَّأخيرِ ولا تقديرُهما!. ¬
ولمّا كانَ هذا (¬1) عند المصنِّفِ غيرَ مرضيّ، لإفضائه إلى جواز تقديم تأكيدِ الفاعل عليه في: (أنا عرفتُ)، وكذا (¬2) في: (رجلٌ عرفَ) مع التزامِ الوجهِ البعيد، وإلى عدمِ جوازِ (زيدٌ عرفَ) للتّخصيصِ مع اسْتعمالِ الفصحاءِ له، كما إذا تُصوّر أنَّ المخاطبَ يعرفُ عارفًا، لكنّه مُتردّدٌ بين (¬3) أنّه زيدٌ أو عمرو، فيقول: (زيدٌ عرف لا عمرٌو)، - قال (قال) (¬4). والمرضيُّ عندَه هو مذهبُ الشَّيخِ عبدِ القاهر، وهو: أنَّ مأخذَ التَّخصيصِ والتَّقويةِ مُقتضى المُقام، فإنْ كان (¬5) شكَّ السَّامعُ في النِّسبةِ فهو للتَّقويةِ، وإنْ كانَ في المنسوبِ إليه فهو للتَّخصيص (¬6)؛ فـ (زيدٌ عرفَ) عند الشَّيخ يحتملُ (¬7) لهما، إذ قد يشكُّ في النِّسبة فيتصوّره يسأل (¬8): (زيدٌ ماذا ¬
فعلَ؟)، وقد يعلمُ النِّسبةَ ويجهلُ نفسَ المنسوبِ إليه فيسأل: (من ذا عرف، أزيدٌ أم عمرو؟). وأمَّا (رجلٌ جاء) (¬1) فإنّه مُتعيّن للتَّخصيصِ عندَه -أيضًا-، لأنَّه لكونِه نكرةً مجهولةً لا يُتصوّر أَنْ يشكَّ في نسبةِ فعلٍ إليه، بل في مثلِ هذه الصُّورة لا يكون الشَكُّ إلَّا في تعيين (¬2) المنسوبِ إليه (¬3). ثمَّ إنَّ (شرٌّ أهرّ ذا نابٍ) لا يُحتاج فيه إلى التَّخصيصِ النَّوعيِّ (¬4)؛ بل التَّقدير فيه: شرٌّ أهرَّ لا غيره، من بَرْدٍ، أو جُوع، أو فَقْدِ إِلْفٍ، لأنَّ استعمالهم ذلك عند تطيُّرهم بنحو مُصيبةٍ ومثلها من الدَّواهي. الثَّالثُ: وكذا: (زيدٌ عرفتُ) أو (عرفتُهُ) للتَّأكيدِ؛ أي: وكذا قال: (زيدٌ عرفتُ) أو: (عرفتُه) -أعمّ من أن يُحذف ضمير المفعول، أو يُذكر- للتَّأكيدِ والتَّقويةِ، لأنَّه لا (¬5) يحتمل إلَّا الابتداء؛ وفيه ¬
تكريرُ النِّسبة (¬1)؛ فيُفيد تَقْويةَ أَنَّك عرفت زَيدًا. و: (زيدًا عرفتُ) للتّخصيص؛ لأنَّه لا يحتمل إلَّا التَّقديم، و (أنا عرفتُ) يحتملهما؛ أي: التَّأكيد والتَّخصيص -كما مرَّ-؛ وهذا فيه نوع تكرار؛ وقد ضرب القلم عليه (¬2) في بعض النّسخ، لكن المصنّف ما غيرّه عند الدّرس. وكذا (زيدًا عرفتُه) يحتملُهما (¬3)؛ إذ يُتصوّرُ فيه التَّقديم وعدم التَّقديم؛ فبتقدير (¬4) الأصل (¬5): (عرفت زيدًا عرفتُه) (¬6) للتَّقوية؛ لتكرّر (¬7) الإسناد، أو بتقدير (¬8): (زيدًا عرفتُ عرفتُه) (¬9) للتّخصيص؛ لوجودِ التَّقديمِ المُستلزمِ للتّخصيص؛ فلا يرد أن في الوجه الأوّل (¬10) منافاة لما مرّ (¬11): أن التَّقويةَ تختصُّ بتقديمِ الفاعلِ المعنويِّ؛ لأنَّ هذه التَّقوية ¬
لا تستفاد من تقديم، لأَنَّه لا تقديم فيه؛ [لأنّ الفعلَ إذا قُدِّر مقدّمًا لا يكون فيه تقديم بل التَّقوية إِنَّما تحصل بتكرار الجملة] (¬1) إلّا في نحو: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} (¬2)؛ أي: المضمر على شريطة التفسير يحتملهما؛ إلَّا إذا كان بعد أمّا؛ نحو: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}، فإِنَّه متعيّنٌ للتّخصيص لا يحتمل التَّأكيد؛ إذ لا يَصحُّ: (وأمَّا فهدينا (¬3) ثمودَ فهديناهم) (¬4)؛ وذلك بسبب استلزامه دخولَ فعلٍ؛ وهو (يكن)؛ لأنّ تقديره: (مهما يكن)، على فعلٍ؛ وهو: (فهدينا)؛ وهو مُحالٌ (¬5) -كما قال النُّحاةُ (¬6) -، وعُوّضَ (¬7) بينها وبين فائها جزءٌ ممّا في ¬
حيِّزها (¬1). هذا إذا قُرِئ: (ثمودَ) -بالنَّصْب- (¬2)، وأمَّا إذا قُرئ بالرَّفع (¬3) فليس من المبحث (¬4). ¬
الرَّابعُ: (مثْلُكَ لا يَبْخل)، و (غيرُك يبخلُ)؛ التُزم فيهما التَّقديم للتَّقوية؛ لأنَّ بناءَ (¬1) الفعلِ على المبتدأ أقوى للحكم، والمقام لكونه مقامَ مدحٍ يقْتضي التَّأكيد والمبالغةَ؛ وذلك إذا استعملوا لفظ (المثل) أو لفظ (الغير)؛ نحو: (مِثْلُك لا يَبْخل)؛ بمعنى: أنت لا تبخل؛ وكان لفظُ المثلِ مُقحَمًا، وكذا: (غيرُك لا يجُود)؛ بمعنى: أنت تجودُ. إذَا لَمْ يعرض (¬2) به لإنسانين؛ أي: من غيرِ إرادةِ التَّعريضِ (¬3) بلفظِ: (المثلِ)، و (الغيرِ) إلى إِنسانين غيرِ المخاطَبِ يقصدُ إليهما؛ فإنَّه حينئذٍ يكونُ للتَّخْصيص. فإنْ قيل: إنَّه (¬4) مثل: (زيدٌ عرفَ) وقد مرَّ أَنَّه ليس للتَّخصيص. قلنا: إنَّ هذا التَّخصيصَ مدلولٌ عليه بحسبِ المقامِ، وهو غيرُ التَّخصيصِ الَّذي يُستفادُ من التَّقديمِ (¬5). ¬
النوع الثاني في الربط والتعلق
النَّوعُ الثَّاني في الرَّبطِ والتَّعلُّق (¬1)، وهو لا يَخْلو إمَّا أن يكونَ بين الجملتين، [أولًا يكون بين الجملتين] (¬2)؛ وحينئذٍ إمّا بين المفردين (¬3) أو بين مفردٍ وجملة (¬4). أَمَّا الثَّاني -وهو: أن لا يكون بين الجملتين- (¬5)؛ فالتعلُّقُ (¬6) والرَّبطُ بينهما لا يكون إلَّا بالحَمْل (¬7) والإسناد، ثمَّ (¬8) الحملُ قد يكونُ وحده؛ أي: مُجرّدًا؛ كما قال: إمَّا بين المفردين (¬9) أو مفردٍ وجملةٍ؛ فبالحملِ وحدَه. أو مؤكَّدًا؛ أي: وقد لا يكون مُجرَّدًا؛ وذلك إمَّا أن يكونَ مؤكَّدًا بالفصل -أي: بضمير الفَصل-؛ نحو: (زيدٌ هو القائِمُ) (¬10) أو (هو قامَ)؛ أو (هو أحسنُ من بكرٍ) أو (خيرٌ منه). ¬
ويُفيد: أن مَا دخلَ عليه خبرٌ لا صفةٌ؛ ولهذا سُمِّي ضمير الفصل؛ لأنَّه يفصلُ بين كونِه خبرًا وصفةً؛ إذ لا يجوزُ الفصلُ بين الصِّفةِ والموصوفِ. والحاصلُ: أن ضميرَ الفصلِ ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ مطابقٌ للمبتدأ يتوسَّطُ بينه وبين الخبرِ إذا كان معرفةً؛ نحو: (زيدٌ هو القائم)؛ إذ لا يلتبس بأنَّه صفةٌ إذا كان نكرةً؛ نحو: (زيدٌ قائمٌ). أو كانَ فعلًا؛ نحو: (زيدٌ هو قامَ) أو (يقومُ)، أو كان للتَّفضيل؛ إمَّا بصيغةِ أفعل؛ نحو: (زيدٌ هو أحسنُ من بكرٍ)، وإمَّا بِغيرها؛ نحو: (زيدٌ هو خيرٌ منه). أمَّا في الفعلِ فلأنَّه يُشبه المعرفةَ من حيثُ اللَّفظُ؛ لامتناع دُخولِ اللَّام عليه. ولا يَرِدُ (¬1): (غلام رجل)؛ لأنَّ الامتناع في الفعل ذاتيٌّ (¬2)، وفيه عرضيٌّ (¬3)؛ فلا اعتداد بهِ (¬4). وأما في صيغة التَّفضيل (¬5)؛ فلأنَّها تُشبَّه بالمعرفةِ من حيثُ المعنى؛ لأنَّ معنى قولك: (أفضلُ من كذا): الأفضلُ؛ باعتبار أفضليّةٍ (¬6) معهودةٍ؛ فالتَّعريفُ يمسُّه مَسًّا قويًّا (¬7). ¬
وقد (¬1) يُقصدُ به (¬2) الحَصْرُ في المبتدأ وتخصيصهِ به، وفيه نوعُ مخالفةٍ لما (¬3) في "المفتاح"، لأنَّه قال (¬4): "وأمَّا الحالةُ الَّتي تقتضي الفصلَ فهي: إذا كان المرادُ تخصيصَه للمسندِ بالمسند إليه"؛ وهو يدلُّ على أنَّه كُلَّما أورد ضميرَ الفصل قصد به الحصرَ والتَّخصيصَ. وعبارةُ الأستاذِ أسدُّ (¬5)؛ لعدم وُجوبِ (¬6) كونهِ للحصرِ (¬7). ¬
أو داخلًا عليهِ فعلٌ؛ عطفٌ على قوله: "مؤكدًا" (¬1)؛ أي: أو لا يكون (¬2) مؤكَّدًا. وحينئذٍ إمَّا أن يكونَ داخلًا عليه فعلٌ؛ وهو إمَّا أن (¬3) يفيد حالًا للحكم؛ من دوام، أو حدوثٍ (¬4)، أو انتقالٍ إليه عن غيره، أو نفيٍ؛ نحو: "لا زال" (¬5)؛ مثال للدَّوامِ، و"كان" للحدُوثِ. و"صارَ" للانتقال، و"ليس" للنَّفي، أو قُربٍ؛ عطفٌ على دوامٍ؛ وذلك القُربُ والدُّنوُّ للخبر [إمَّا] (¬6) رجاءً؛ نحو: (عسى)، أو حُصُولًا؛ نحو (¬7) (كاد). أو لاعتقادك (¬8)؛ عطفٌ على قوله: "للحكم"؛ أي: أو يفيدُ ¬
حالًا، لاعتقادك لي [أي للحكم] (¬1)؛ من قُوَّةٍ أَوْ ضعفٍ (¬2)، نحو (علمتُ)؛ مثالٌ للقوّة، و (ظننتُ) للضَّعف. أو حرفٌ، عطفٌ على "فعل"، أي: أو أن يكونَ داخلًا عليه حرفٌ يُفيدُ حالًا للحكم، وهو لا يفيد حالًا للاعتقاد بالاستقراء من كونه، أي: الحكم محقّقًا، كـ (إنّ) - بالكسر، أو مُشارًا إليه كـ (أَن) - بالفتح، أو مُشبَّهًا كـ (كأنّ)، أو مرجوًّا كـ (لعلّ)، أو متمنًّى (¬3) كـ (ليت)، وهنا (¬4) في بعض النُّسخ. أو منفيًّا [بلا عموم] (¬5) كـ (ما)، ولا المشبَّهتين بليس أو مع عمومٍ، أي: منفيًّا مع عموم كـ (لا) الجنسيّة؛ أي: كـ (لا) الَّتي لنفي الجنسِ، فإنّها تُفيدُ النَّفيَ والتَّعميمَ كليهما (¬6). ¬
الربط بين جملتين
وهذه المباحثُ مِمَّا زادها (¬1) على "المفتاح"، ولا بُدَّ منها. وإمّا (¬2) بَينَ غيرهما؛ أي: وإمّا الأَوَّل -وهو (¬3) ما يكونُ بين غيرِ القسمين-، أي: المفردين أو المفرد والجُملة؛ كجُملتين أُخرِجتا بإدخالِ حرف (¬4) الشّرطِ أو التَّرديد؛ أي: حرفِ التَّرديدِ عليهما. عن الحمَليَّة (¬5)؛ فبالشَّرطِ؛ أي: فالرَّبطُ بينهما بالشَّرْط أو بالتَّردِيد (¬6) - كمَا سيأتِي-، لأن الرَّبطَ الحمليَّ لا يُمكَن بينَ (¬7) النِّسْبتين؛ فهو إِمَّا بالاتّصالِ أو بالانفصال. مثالُ حرفِ الشّرطِ: (إن كانت الشّمسُ طالعة فالنّهارُ موجودٌ). ¬
أدوات الشرط
ومثالُ حرف التَّرديدِ: (العددُ إمّا أن يكونَ زوجًا أو فردًا)، وأنَّهما (¬1) أُخرجتا بهما (¬2) عن الحَمْليّة؛ ولهذا لا يحتملان الصِّدْقَ والكذبَ. والحمليّةُ -بالحاءِ المهملةِ-، وهي المناسبُ لقوله: "فبالحملِ"، وبالجيم؛ وهو الملائمُ (¬3) لاصطلاحاتِ الفنِّ [-كما سيأتي- و] (¬4) كلٌّ منهما قرئ على الأستاذِ (¬5). وأدواتُه -أي: الشّرط-: (إنْ) للاستقبال مع عدمِ الجزمِ بوقوع الشَّرطِ ولا وقوعِه، كما يقولُ القائلُ: (إنْ تكرمني أُكرمك)؛ وهو لا يَعلم أتكرمه أم (¬6) لا. وقد يكون؛ أي: عدم (¬7) الجزمِ لجهل المخاطب، أي: استعمال "إِنْ" ¬
في مقامِ الجزمِ يكونُ لنكتة، وهي إمّا: لجهلِ المخاطبِ به (¬1) وعدم جزمه [به] (¬2)؛ كما تقولُ لمن يكذِّبُك فيما أنت تُخْبره: (إن صدقتُ فقل لي ماذا تَعمل؟) (¬3). أو تجهيلِه، أي: تَنْزيلِ المخاطبِ العالمِ ممنزلةَ الجاهلِ؛ لعدم جريِه على مُوجبِ العلم؛ كما تقولُ لابنٍ لا يُراعي حقّ أبيهِ: (إنْ كانَ أباكَ فلا تؤذه)؛ فإنَّ الابنَ لَمّا لم يراعِ حقَّ أبيهِ فكأنّه جاهلٌ به. أَو للتَّجاهلِ (¬4)، كتجاهلِ الغُلامِ في جواب من يَسْألُه (¬5) عن سيّده: أهو في الدّار؟؛ وهو يعلمُ أنّه فيها: (إذْ كان فيها أخبره بأنك على الباب) (¬6). فيُغلِّب المسْتقبلُ لفظًا إلا لنكتةٍ، أي: لعدمِ الجزمِ بتحقُّقِ الجزاءِ؛ الّذي عُلِّق بالشَّرط، الَّذي عُدم الجزم -أيضًا- فيه (¬7) يُغلّب ¬
المستقبلُ لفظًا (¬1). وقلّما يُتركُ في بليغ الكلامِ إلى الماضي المؤذنِ بالتّحقّق (¬2) نظرًا إلى لفظه- من غير نكتةٍ؛ نحو: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (¬3) إشارة إلى تحقُّقِ المودّةِ بدون الشّرَط؛ إذ القياس أن يقُولَ (¬4): "ويودّوا". قال في "المفتاح" (¬5): "تركَ (يودّوا) إلى لفظ (¬6) الماضي؛ إذ لم تكنْ تحتمل ودادتهم -لكفرهم- من الشُّبهةِ ما كان يحتملها كونهم: إن يثقفوهم أعداءً لهم وباسطي الأيدي والألسنِ إليهم للقتل والشَّتْم". وقال في "الكشّاف" (¬7): "فإن قُلتَ: كيفَ أوردَ جوابَ الشّرطِ مُضارعًا مثله، ثم قال: {وَوَدُّوا} (¬8) بلفظِ الماضي؟، قلتُ: الماضي ¬
وإنْ كانَ يجري في بابِ الشّرط مجرى المضارِع في علم الإعرابِ فإن فيه نكتةً؛ كأنَّه قيل: ودُّوا قبلَ كلِّ شيء كفرَكُم وارتدادَكُم؛ يعني (¬1): أنهم يُريدونَ أن يلحِقوا بكم مضارَّ الدُّنيا والدِّين جميعًا؛ من قتلِ الأَنْفس، وتمزيق الأعراضِ، وردِّكم كفّارًا. وردُّكم كفّارًا أسبقُ المضارِّ عندهم، وأوَّلُها، لعلمهم: أن الدِّين أعزُّ عليكم من أرواحِكُم، لأنكم بذّالُون لها دونه. والعدوُّ أهمُّ (¬2) شيءٍ عنده أن يقصدَ أعزَّ شيءٍ عندَ صاحبه". وقال في "الإيضاح": وفي كونِه من هذا البابِ "نظرٌ؛ لأن ودادَتَهم أن يرتدّوا كفّارًا حَاصِلةٌ وإن لم يظفروا بهم، فلا يكونُ في تقييدها بالشّرط فائدةٌ" (¬3). و (إذا) له؛ أي: للاستقبالِ، مع الجزم والقطع بوقوع الشَّرط، ولو ادّعاء؛ أي: الجزم به إمَّا تحقيقًا؛ كما [إذا] (¬4) قلتَ: (إذا طَلعتِ الشّمسُ فإنّي أفعلُ كذا)، أو ادّعاءً؛ كما إذا قُلتَ: (إذا جاء محبِّي فإني أفعلُ كذا)، فإنَّ مجيءَ المحبِّ ليس قطعيًّا تحقيقيًا، بل ظنيًّا وادّعاءً؛ فإنَّ المحبّ لمن يهواه زوَّار. فيغلّب الماضي لفظًا لكونِ الماضى أقربُ إلى القطع من المستقبلِ -في الجملةِ- نظرًا إلى اللّفظِ. ¬
ونحو: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (¬1) بلفظِ: "إِنْ" مع المرتابين دُون "إِذا" مع أنّه القياسُ؛ إشارةً إلى أنَّه (¬2) ليس من شأنه أن يتحقق (¬3)؛ لاشتمالِ المقام على ما يقلعُ الرِّيبة عن أصلها؛ وهو قدرةُ اللهِ والدَّلائلُ الدّالةُ على البَعثِ والتَّنزيل. أو للتَّغليب (¬4)؛ عطفٌ على قوله: "إشارةً"؛ أي: أو لفظ: (إنْ) مع المُرتابين (¬5) يكونُ لتغليبِ غير المرتابين -ممّن خُوطبوا- على مُرتابيهم (¬6). ¬
كـ {إلا إِبْليسَ}؛ أي: كالتّغليب الَّذي في قوله -تعالى-: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إلا إِبْلِيسَ} (¬1)؛ فإنّ إبليسَ (¬2) عُدّ من الملائكة؛ مع أنَّه كان من الجنِّ تغليبًا؛ وإن حملَ الاستثناء على المتّصلِ (¬3) هو الأَصل. و (للذُّكور)؛ أي: وكالتّغليبِ الَّذي يكونُ للذّكور على الإناثِ، كقوله -تعالى-: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (¬4). و (العُقلاء)؛ أي: وكالتَّغليب الَّذي [يكون] (¬5) للعقلاءِ على غيرهم؛ كقوله -تعالى-: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ ¬
أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ (¬1) فِيهِ} (¬2) خِطابًا شاملًا للعقلاءِ والأنعام، فغُلِّب المخاطبون (¬3) على الغُيَّبِ (¬4)؛ ولهذا جئَ بالكاف لا بالهاء (¬5)، وغُلِّبَ العقلاءُ (¬6) على غيرهم (¬7)، ولهذا جيء بالميمِ دون النُّون (¬8). وكـ (الأبوين)؛ للأب والأمِّ. [و (القمرين)؛ للشّمس والقمرِ] (¬9)، و (العمرين)؛ لأبي بكر وعمر [رضي الله عنهما] (¬10) تغليبًا [لأخفِّ اللّفظين] (¬11). ولو لم يكنُ الواو في (¬12) قوله: "كالأبوين" يكونُ هو والقمرين ¬
مِثالين لتغليبِ الذُّكورِ. وينبغي أن لا يكون حينئذٍ لفظة (¬1) العُمرين فيه (¬2)، كما ليس في المفتاح، وهكذا في بعض النُّسخ. اعلمْ: أنَّ في هذه الصَّفحةِ اختلفت (¬3) النُّسخُ بحسبِ تقديمِ بعضٍ وتأخيره، لكنَّ النُّسخة الصّحيحةَ والموافِقة للمفتاح كما شرحناه. و (إذا ما) للتَّعميم في الأزمنة؛ فإنَّ (إذا) بمعنى: وقت، و (إذا ما) بمعنى: كلّ وقت، قال في "المفتاح" (¬4): "لا فرق بين (إذا) و (إذا ما) في باب الشّرطِ من حيثُ المعنى إلا في الإبهامِ في الاستقبال" (¬5) "وليس فيه (¬6) ذكرُ التَّعميم، كما ليسَ في "المختصر" (¬7) ذكرُ الاستقبالِ، اللَّهمَّ إلّا أن يُقال: لفظة قوله: "في الاستقبال" في بحث (متى ما) (¬8) يتعلّقُ به- ¬
أيضًا، أو يكونُ المراد بالأزمنةِ: الأزمنةَ (¬1) المتن تدلُّ (إذا) عليها وهي الإستقباليّةُ. و"متى ما" لتعميمِ الأوقاتِ في الاسْتقبال؛ قال في "المفتاح" (¬2): و (متى) (¬3) لتعميم الأوقاتِ في الاستقبالِ؛ أي (¬4): وقتٍ من الأوقات الاستقباليّة، و (متى ما) أعمُّ منه (¬5) "؛ أي: كلّ وقت منها (¬6)؛ فالأَوَّل: التَّعميمُ على سبيل البدلِ، والثَّاني: على سبيلِ الاستغراق؛ ولهذا قال الفقهاء: لا (¬7) يتكرّرُ الطّلاقُ المعلّقُ على (متى)، ويتكرّرُ في (متى ما) (¬8). ¬
و "حيثُما" و "أينما" في الأمكنةِ؛ أي: للتّعميمِ في الأمكنة، قال في "المفتاح" (¬1): و (أين) لتعميمِ الأمكنة، والأحياز (¬2)؛ أي (¬3): مكان من الأمكنة؛ و (أينما) أعمّ؛ أي: كلّ مكانَ [كان] (¬4)، و (حيثما) نظيرُ (أينما) (¬5). ¬
و "مَن" في العقلاء؛ أي: للتَّعميمِ فيهم؛ نحو قوله -تعالى-: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} (¬1). و"ما" أعمُّ منه؛ أي: للتعيم في العقلاءِ وغيرهم؛ نحو قوله -تعالى-: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} (¬2). قال في "المفتاح" (¬3): " (من) لتعميمِ أولي العلم"؛ وهو أعمُّ من العقلِ؛ لأنَّ العلمَ يُطلقُ على الله؛ بخلافِ العقلِ؛ فإنَّه لا يُطلق عليه. و"مهما" أعمُّ [منه] (¬4)؛ أي: من كلمة (ما)؛ نحو قوله -تعالى-: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا} (¬5)، وإذا قلنا: أصلُه (ما ما)؛ أي: هي (¬6) مرّكّبةٌ من (ما) الشّرطيّة، و (ما) الزَّائدة لتأكيدِ معنى الشّرطيّة، وقلبت الألفُ (¬7) هاءً تخفيفًا؛ لاجتماع ¬
المثلين (¬1)، فظاهرٌ (¬2)، وإن قُلنا: إنَّه اسمٌ مفردٌ موضوعٌ للعمومِ؛ فكونه أعمّ أظهر؛ نظرًا إلى أن زيادةَ اللَّفظ تدلُّ على زيادة المعنى؛ كالشُّقُنْدُف والشُّقُنْدَاف (¬3). و"أي" فيما تُضاف أليه؛ أي: "أيّ" (¬4) لتعميمِ ما تُضاف إليه من أُولِي العِلْم، نحو: (أيُّ رجلٍ)، وغيرهم كانحو (أيُّ شَجرٍ). و"أنَّى" في الأحوالِ؛ أي: للتّعميمِ (¬5) في الأحوالِ الرّاجعةِ إلى الشَّرطِ؛ كما تقول: (أَنَّى تقرأ أقرأ) (¬6)؛ أي: على أيِّ حالٍ توجدُ القراءة (¬7) - من جهرِها وهمسِها، أو غيرِ ذلك - أوجدُها أنا. وكلُّه؛ أي: كلّ واحد من هذه المعمّمات لتركِ تفصيل ممتنعٍ؛ ¬
لكونه غيرِ وافٍ بالحصرِ، أو مملٍّ (¬1)؛ إلى الاجمالِ؛ نحو قوله -تعالىَ-: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬2). ثمَّ الطّرفانِ (¬3) لا ثبوتَ لهما؛ فلا يكونان اسمين ولا ماضيين. لمّا كان الشّرطُ والجزاءُ تعليقَ حصول أمرٍ بحصولِ ما ليسَ بحاصلٍ - أستلزَم ذلك في جُملتيهما إمتناعَ الثّبوتِ؛ فامتنعَ أن يكونا اسمين أو أحدَهما (¬4)، وكذا امتناعَ المُضيّ؛ فامتنعَ أن يكونا ماضيين أو أحدهما (¬5). قوله: (لا ثبوتَ لهما)؛ معناه: لا ثبوتَ لكلِّ واحدٍ (¬6) منهما؛ فلا يكونان؛ أي: لا يكون كلُّ واحدٍ منهما اسمين؛ فيشمل امتناعَ كونهما اسمين. وامتناعَ كونِ (¬7) أحدهما كذلك، وكذا في الفعلِ. فإن وقعَ في كلامِ البليغ أن يكونا [اسمين أو ماضيين] (¬8) أوْ يكون ¬
أحدُهما اسمًا أو ماضيًا، فللادِّعاء؛ أي: فعلى سبيلِ الادّعاءِ، ولا يُصارُ إليه إلَّا لنكتةٍ؛ مثل: إرادةِ إبرازِ غيرِ الحاصلِ في معرض الحاصل لتأخُّذِ الأسباب، أو لأنَّ المتوقَّع كالواقع؛ أي: إمّا لقوةِ الأسباب المتآخذةِ المتظاهرةِ في وُقوعه، نحو: (إن اشترينا كذا) حال انعقادِ الأسبابِ في ذلك الشِّرَى، وإمّا لأنَّ ما هو للوقوع ومتوقّعٌ (¬1) كالواقع؛ نحو: (إِنْ (¬2) متّ). والفرق بين الصّورتين: أن الأوْلى (¬3) بنفسها ليستْ معلومةَ الوقوع بل بالأسباب، والثانيةَ بنفسها معلومة؛ نحو: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (¬4) فإنَّه -أيضًا- ورد على فرض ما هو للوقوع واقعًا؛ لكون هذا النّداءُ ضروريَّ الوقوع كالموتِ، وإلّا يجبُ أنَّ يقال: (يُنادى)؛ لأنه في يومِ القيامةِ. أوْ للتعريض؛ عطفٌ على قوله: "لتآخُذِ" لا على قوله (¬5): "للادّعاء"؛ لأنه من أقسامه. وهو أن يكونَ الخطابُ ¬
لواحدٍ والمرادُ غيرُه؛ مثلُ قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} (¬1)؛ تعريضًا بأنَّ قومَه اتّبعوا أهواءهم فيما مضى من الزّمانِ؛ لأنَّ الرّسولَ لم يتّبع، فأبرز غيرَ الحاصل في معرض الحاصل ادّعاءً. والتَّعريضُ يكونُ لدواعٍ منها: أن لا يصرّوا؛ أي: أن لا يصرَّ المعرَّضُون به على ما هم عليه، ولا يزيد غَضَبُهم عند إسْمَاعه (¬2) الحقَّ، بخلاف ما لو صُرِّح بنسبتِهم إلى ارتكابِ الباطل. وعليه؛ أي: وعلى التَّعريض للأمرِ المذكورِ. ورد {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (¬3)، وإلّا نحقُّ النَّسقِ من حيثُ الظَّاهر: "لا تُسألون عمَّا عملنا، ولا نُسألُ عما تُجرمون"، وما قبلَه؛ أي: وكذا وردَ عليه ما قبله؛ أي: ما قبل قوله: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ ...} الآية، وهو قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬4)، حيثُ ردَّدَ الضَّلال (¬5) بينهم وبين نفسِه. والمرادُ: إنَّا على هدىً وأنتم في ضلالٍ، ولم يُصرِّح به لئلّا يُصِرّوا. ¬
قال شارحُ "المفتاح" (¬1): "خولف بين (على) و (في) في (¬2) الدّخولِ على الحقِّ والباطلِ؛ لأنَّ صاحبَ الحقِّ كأنَّه على فرسٍ جوادٍ يرتكضُ به حيث أرادَ، وصاحبَ الباطل كأنَّه مُنغَمِسٌ في ظلامٍ لا يَدري أين يتوجّه". ويُسمَّى مثلُه؛ أبي: مثلُ هذا الكلام وهو إسماعُ الحقِّ على الوجه المذكورِ؛ كلام (¬3) المنصفِ؛ لأنّه يُوجبُ أن يُنصفَ المخاطبُ إذا رجعَ إلى نفسه، [أو لإنصاف المتكلِّم من نفسِه حيث حطّ مرتبته عن مرتبةِ المخاطبِ، ويُسمّى] (¬4) -أيضًا- استدراجًا؛ لاستدراجهِ الخصمَ إلى الإذعانِ والتَّسليم، وهو شبيهٌ بالجدلِ؛ لأنَّه (¬5) تصرُّفٌ في المغالطاتِ البرهانيّةِ (¬6)؛ وهذا في المغالطاتِ الخطابيّةِ (¬7). ¬
أو للتفاؤلِ (¬1)؛ نحو: "إن وصلتُ إلى حبيبي". أو لإظهارِ الرّغبةِ بوقوعهِ؛ نحو: "إن ظفِرتُ بحسنِ العاقبةِ"؛ فإنَّ الطّالبَ إذا عظُمت رغبتُه في حُصولِ أمر، ويبالغ حرصُه فيما يطلب؛ ربَّما انتقشت في الخيَالِ صُورتهُ لكثرةِ ما يُناجي به نفسَه؛ فيخيّلُ إليه غيرُ الحاصلِ حاصلا، وبينهما (¬2) عُمومٌ وخُصُوصٌ من وجهٍ. وأمَّا نحو: (إِنْ أكرمتني اليومَ فقد أكرمتك أمس) بدخول (إن) على الفعل (¬3) الماضِي لا على سبيل الادّعاءِ لا بدَّ له مِن تأويل؛ فمؤوّلٌ بأنَّ المرادَ به: إن تعتدَّ أو تُخبر بإكرامك إيّاي اليومَ فاعتدَّ أو أخبر بإكرامي إيّاك أمس؛ وإن المقدَّرَ في معرضِ الملفوظِ به حين انصبابِ الكلامِ إلى معناه. ¬
و "لَوْ" لامتناع الشّيءِ لامتناع غيره؛ أي: لامتناع الجزاءِ لامتناع الشَّرطِ (¬1)؛ كما تقولُ: (لو جئتني أكرمتك) معلّقًا امتناعَ إكرامِك بما امتنعَ من امتناع (¬2) مجئِ مخاطبكَ؛ ولهذا امتنعت جُملتاها عن الثّبوتِ، فيغلّب الفعل (¬3) الماضي؛ أي: فلزمَ أن يكونا فعليتين (¬4) ليخلوا عن الثّبوتِ، والفعلُ يكونُ ماضيًا غالبًا لتناسب معنى لو (¬5)؛ اللَّهمَّ إلّا لنكتة؛ فإنَّه ¬
حينئذٍ يجوزُ أن يُصارَ إلى المضارع؛ نحو قوله -تعالى-: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} (¬1) إدخالًا له في سلكِ المقطوع به؛ لصُدُوره عمَّن لا يكذبُ ولا خلافَ (¬2) في إخباره، وتنزيلًا له منزلة الماضي المعلوم، و {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (¬3) أي: يستمرّ امتناعُه؛ أي: إنَّما قال: (يُطعُكُمْ) ولم يقل: (أطاعكم)، لتصويرِ أن إطاعتَه مستمرُّ الامتناع فيما يمضي وقتًا فوقتًا، إذ المعنى: لو استمرّ إطاعته وقتًا بعد وقت لعنتّم؛ لكن يمتنعُ عنتكُم لاستمرارِ امتناعه عن إطاعتكم؛ لا لامتناع استمراره عن إطاعتكم؛ كما ظنَّ بعضٌ (¬4)؛ فإنَّه بعضُ الظّنّ (¬5). ¬
أو هما (¬1)؛ أي: الآيتانِ الشَّريفتانِ، يجوزُ أن تكونَا لاستحضار الصُّورةِ؛ أي: صُورةِ رؤيةِ المجرمين ناكسي الرُّؤوس قائلين لما (¬2) يقولون في الأولى (¬3)، وصورةِ إطاعتِه لهم في كلِّ ما عن لهم في الثَّانيةِ؛ نحو: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} (¬4)؛ إذْ لم يقل: "فأثارتْ" كـ "أرسل" (¬5)، استحضارًا لتلكَ الصّورةِ البديعةِ الدَّالَّةِ على القدرهّ الباهرة؛ من إثارةِ السَّحابِ مُسخّرًا بينَ السّماء والأرض. ونحو ¬
قوله -تعالى-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1) دون "كن فكان"؛ استحضارًا لصورةِ تكوّنهِ (¬2). قال في "المفتاح" بعدَ ذكر الآيتين وبعدَ ذكرِ قوله -تعالى-: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3)، وقوله: (لو تُحسن إِليّ لشكرت) (¬4): "ولك أنَّ تردّ الغرضَ، من لفظ (¬5): (ترى) و (يودّ)، و (تحسن) إلى استحضار الصّورةِ"؛ فبتعداده (¬6) الألفاظ دون لفظِ (يطيعكم) موهمٌ (¬7) بأنّه ليسَ للاستحضارِ. وقد وقعَ في بعض النُّسخ مسألة: (إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس) ها هنا، لكنّ ذلك (¬8) الموقعَ الَّذي وقع هو الموقعُ، والموافقُ للمفتاح. ¬
تنبيهات
تنبيهاتٌ وهي فوائدُ زائدةٌ على الأصل (¬1)؛ بل بعضُها ردٌّ عليه. الأَوّل: (إن) لا تدلُّ على الجزمِ (¬2) لا أنَّها تدلُّ على عدمِ الجزم. قال السَّكَّاكيّ: الأصلُ فيها عدمُ الجزم (¬3) [أي: تدل على عدم الجزم] (¬4) بِحسب الأصل، وقال الأستاذ: ليسَ كذلك؛ بل الأصل أنَّها لا تدلُّ على الجزم. والفرقُ بين الدّلالةِ على عدم (¬5) الجزمِ وعدمِ الدّلالةِ على الجزمِ ظاهرٌ (¬6)؛ بدليل قوله -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (¬7)؛ حيث استعملَ "إنْ" في مقامِ الجزمِ بالعدمِ لتعقيبه بـ "لن ¬
تفعلوا" الدَّالِ على الجزمِ بالعدمِ؛ فصحَّ أنَّه لا يقتضي عدم الجزمِ بأحد الطّرفين. والحقّ: أنَّه بحثٌ لغويّ، والتَّعويلُ على النّقل، فالتَّخصيصُ بدونه تحكّمٌ. الثَّاني: قد تُربطُ النِّسبةُ بالنِّسبة أو صدقُها بصدقها؛ ربطُ النِّسبةِ بالنِّسبة (¬1)، بأن يكون ثُبوتُ (¬2) نسبةٍ على تقديرِ ثبوت نسبةٍ أخرى؛ فيتقارنان في الوجود؛ نحو: (كلَّما طلعت الشَّمس أشرقَ (¬3) وجهُ الأرض)، وربطُ صدقها بصدقها؛ بأن يكون صدقُ النِّسبةِ على تقديرِ صدقِ نسبةٍ أخرى؛ نحو: (كلَّما طلعت الشَّمسُ بلغت نصفَ النّهار)؛ فإنَّه إذا صدقَ المقدّم صدقَ التّالي بالإطلاق؛ وليسَ إذا ثبتتْ (¬4) هذه النِّسبةُ ثبت تلك النِّسبة. وهذا قريبٌ ممَّا قيل في المنطقِ في تعريف المتّصلة: أنَّها ما حُكِمَ فيها [بصدقِ قضيّةٍ أو صِدقها على تقديرِ صدق أخرى، أو ما حُكِمَ فيها] (¬5) بثبوتِ قضيّةٍ على تقديرِ (¬6) أُخرى. ¬
وحيثُ يضعفُ الارتباطُ المعنويُّ؛ نحو: (إن تكرمني فأنا أخوك)، أو (فقد أكرمتكَ) - يحتاجُ إلى الفاءِ رابطةً لفظيّةً؛ لمّا كان الجزاءُ مربوطًا بالشَّرط فحيث يقوى (¬1) الارتباطُ المعنويُّ بحيث يحكمُ العقلُ أو العادةُ بمجرّد سماع اللّفظِ لا يُحتاجُ إلى الارتباطِ اللَّفظي؛ نحو: (إن تكرمني أكرَمك (¬2)، وحيث يضعف الارتباطُ المعنويُّ اُحتيج إلى رابطة لفطة، وهي: "الفاءُ المعقّبة"؛ نحو: (إن تكرمني فأنا أخوك)؛ في الجملةِ الاسميّةِ، و (¬3) (إِنْ تكرمني فقد أكرمتُك أمس)؛ في الجملةِ الفعليّةِ. الثَّالثُ: "لو" لعدمِ الشَّرطِ جزمًا، ولعدمِ الجزاءِ غالبًا؛ لأنَّ عدمَ الشَّرطِ لا يثبتُ باعتبارِ اللُّزومِ إلَّا به؛ فيُصارُ إليه إلَّا إذا امتنعَ الجزاءُ لترتُّبه (¬4) على النَّقيضين؛ أي: "لو" تدلُّ على عدمِ الشَّرطِ جزمًا ووضعًا أعمُّ من أن يكون ذلكَ العدمُ (¬5) لعدم الجزاء أو لا. وتدلُّ على عدمِ الجزاءِ -أيضًا- لا وضعًا وجزمًا؛ بل عقلًا وغالبًا (¬6)؛ ¬
لأنَّ عدمَ الشَّرط في الملازماتِ لا يثبتُ ولا يعلمُ إلّا بعدمِ (¬1) الجزاءِ؛ كما تقول في قولنا: (لو كانَ إنسانًا لكانَ حيوانًا. لكنّه (¬2) ليس بإنسان لأنَّه ليس بحيوانٍ)؛ استدلال بانتفاءِ اللّازمِ على انتفاء الملزومِ، ولمّا لم يتعيَّن انتفاءُ الشّرطِ بهذا الطّريق؛ كما في غير اعتبار اللُّزومِ لم يكن لانتفاءِ الجزاءِ جزمًا وقطعا بلْ غالبًا؛ فيُصارُ إلى ما هو الغالب، ويقال: إنّه لعدمِ الجزاءِ المستلزمِ لعدم الشَّرط، وهو معنى ما يقال: إنه لامتناع الشّيء -أي: الشَّرط- لامتناع غيرِه؛ أي: الجزاء (¬3). هذا إذا لم يمتنع نفي الجزاءِ وعدمِه، وأمَّا إذا امتنع نفيُ الجزاء؛ كما لو كان الجزاءُ لازمًا للنَّقيضين - أي: الشّرط وعدمه- ومترتّبًا عليهما، ولم يلزمْ من عدم الشّرطِ عدم الجزاءِ؛ فلا يكونُ لعدمِ الجزاءِ، ولامتناع الشيء لامتناع غيره. وحينئذٍ؛ أي: حين إذ كان الجزاءُ مُترتّبًا على النّقيضين (¬4)، يذكرُ الشّرطُ بالواو ليدلَّ على ما لم يُذكر وهو نقيضُه؛ وذلك فيما لمْ يكن المتروك أَوْلَى بترتّب الجزاء عليه؛ نحو: (أحبّكَ ولو كنتَ قاتلي) أي: أُحِبُّك لو لم تكن قاتلي ولو كنت قاتلي (¬5). ¬
أو بدونها لكونِ (1) المتروكِ أَوْلَى؛ أي: وقد يذكر بدون الواو، وذلك فيما كان المتروك أَوْلَى بترتّبِ الجزاءِ عليه لدلالةِ العقلِ حينئذ عليه؛ نحو: (نعمَ العبدُ صُهَيْبٌ (¬2) لو لم يخفِ الله لمْ يَعْصه) (¬3)؛ إذ يلزم منه بالطريقِ الأَوْلَى أنَّه لو خافه لم يعصه- أيضًا. ¬
اعلمْ: أن المشهورَ [أن] (¬1) "لو" لامتناع الشَّيءِ لامتناع غيره، وقد وقعَ في بعض العبارات: أَنّه لامتناع الثَّاني لامتناع الأوّل (¬2)؛ كما يُقال في نحو: (لو جئتني أكرمتك): أن انتفاءَ إكرامك لانتفاءِ مجيءِ مخاطبك، وفي بعضها: إنّه لامتناع الأَوَّل لامتناع الثَّاني؛ كما قال ابن الحاجب في قوله -تعالى-: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬3): إنّه نفى التعدُّد لانتفاء الفساد (¬4). وَالتَّحقيقُ فيه: أنَّه يُستعملُ (¬5) في كلا المعنيين؛ لكن بالاعتبارين: باعتبار الوجودِ والتَّعليلِ، وباعتبارِ العلمِ والاستدلالِ؛ فيقول: لَمَّا كان المجيءُ عِلّةً للإكرامِ بحسب الوجودِ فانتفاءُ الإكرامِ لانتفاءِ االمجيءِ (¬6) انتفاءٌ ¬
للمعلولِ لانتفاءَ علّته (¬1). و -أيضًا-: لَمَّا يُعلم انتفاءُ الإكرامِ فقد يُستدل منه على انتفاءِ المجيء؛ استدلالًا من انتفاءِ اللازمِ على انتفاء الملزومِ. وهكذا في الآيةِ الكريمةِ (¬2)؛ تقولُ في مقامِ التَّعليلِ: انتفاءُ الفسادِ لانتفاء عِلّته -أي: التَّعدُّد-، وفي مقامِ الاستدلالِ: يُعلم انتفاء التَّعدّدِ لانتفاءّ الفسادِ؛ فمن قال بالأوّلِ (¬3) نظرَ إلى الاعتبارِ الأوّلِ، ومن قال بالثاني (¬4) نظرَ إلى الاعتبار (¬5) الثَّاني؛ هذا إذا لم يمتنعْ نَفيُ الجزاء، أمَّا إذا امتنع فليس لامتناع الشّيءِ لامتناع غيره؛ بلْ لبيان الملازمةِ وإثباتِ الجزاءِ مطلَقًا؛ أمّا عند وجودِ الواو فلاقتضائه معطوفًا عليه؛ كأنه في حكمِ شرطين؛ أي: أحبّك لو لم تكن قاتلي ولو كنت قاتلي، وأمّا عند عدمِ الواو فلأنّه إذا كان المتروك أولى يَدل عليه بمفهومِ الموافقةِ (¬6)؛ كما ¬
في: (لو لم يخفِ الله لمْ يعصه)؛ فإن فحوى الخطاب: أنَّه إذا خافَ لم يعصه- أيضًا؛ وذلك بالطّريق الأَوْلَى، ويدلُّ بمفهومِ المخالفةِ (¬1): أنَّه إذا خافَ عصى؛ لكنّه غير معتبر (¬2)؛ لأنَّ شرطَ اعتبارِ مفهومِ المخالفةِ -كما علم في علم (¬3) الأصول- عدم مفهوم الموافقة (¬4)؛ وهذا تحقيق لم ينقّح إلى السّاعةِ. الرّابع: الظّرفُ؛ نحو: (أين) في المكانِ، و (إذا) في الزّمان. والكيفُ؛ كـ "أنّى". وغيرهما من الأحوالِ؛ أي: ممّا يُفيدُ حالًا للحكم؛ كـ "ما" و "أي" وكسائر الأسماء المُعمّمةِ في الزَّمانِ أو المكان ¬
أو غيرِهما وكغيره (¬1). قدْ تجمعُ نسبتين في جُمْلتين (¬2)؛ وإذا لُحظ فيه جِهةُ ارتباطِ؛ إحداهما بالأخرى وتعلّقها بها (¬3)؛ كما يُلاحظ في مثل: (ما تصنعُ أصنع)؛ فتجعلَ صنعكَ مربوطًا بصُنع مخاطبك؛ بل مُسبّبًا له؛ صارَ المجموعُ شرطًا وجزاءً؛ فيُقال: يتضمَّنُ معنى الشّرطِ؛ وهذه قاعدةٌ كليّةٌ فاحفظها. الخامسُ: الاستفهامُ، إذا بُني عليه أمرٌ قبلَ الجواب؛ أي: قبلَ ذكرِ الجواب، فهم ترتُّبه؛ أي: ذلك الأمرُ على جوابهِ أيًّا (¬4) كانَ؛ أي: أيّ جوابٍ كان؛ لأنَّ سَبْقَه (¬5) على الجوابِ مشعرٌ بأن ذلك حالُ من يُذكرُ في الجوابِ؛ لئلّا (¬6) يكون إيراده قَبلَه عبثًا. فأفادَ تعميمًا؛ أي: حينئذ يفيدُ تعميمًا؛ نحو: منْ جاءك؟ فأُكرمَه (¬7) بالنَّصبِ، فإنَّه لَمّا قال قبلَ ذكرِ جواب الاستفهام (¬8): أكرمه؛ عُلمَ أنَّه يكرم من يقولُ المجيبُ: إنّه جاء؛ أي جاء كان (¬9). وكذا حُكمُ: من ذا جاءك؟ أكرمْه بالجزم. ¬
وإنّما جاءَ بمثالين تنبيهًا على عدمِ الفرْقِ بين مجيئه بالفاءِ السَّببيّة وعدمِه، وبين نصبِه وجزمه. وجاء بلفظِ (ذا) بَعْدَ (من) تحقيقًا لعدمِ شرطيَّتها. ثمَّ قدْ يُجرّد المتضمِّنُ لمعنى الاستفهام عن الاستفهام؛ كما جُرِّدَ حرفُ الاستفهامِ (¬1) في قوله -تعالى- (¬2): {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬3) عن الاستفهامِ؛ حيثُ صارَ لمجرّدِ التّسوية؛ مضمحلًّا (¬4) عنه بالكُّليّةِ معنى الاستفهام. ومعنى الاستواءِ فيه استواؤُهما في علم المستفهمِ عنهما؛ لأ [نه] (¬5) قدْ عُلمَ أن أحدَ الأَمرين كائنٌ؛ إمَّا الإنذار وإمّا عدَمُه؛ ولكن لا بعَيْنِه؛ فكلاهما (¬6) معلومٌ بعلمٍ غيرِ مُعيَّنٍ. فإن قيلَ: الاستواءُ يُعلمُ (¬7) من لفظة (سواءٌ) لا منه؛ أي: من ¬
حرفِ الاستفهامِ (¬1)، مع (¬2) أنَّه لو عُلم منه -أيضًا- لزِمَ التّكرَار. قُلْنا: هذا الاستواءُ (¬3) غيرُ ذلك الاستواءِ المستفادِ من لفظةِ السَّواء. وحاصله: أنَّه (¬4) كانَ للاستفهامِ عن مُستويين؛ فجُرِّدَ عن الاستفهامِ فبقي (¬5) أنَّه لمستويين (¬6)، ولا تكرّر (¬7) في إدخالِ (سواء) عليه لتغايرهما؛ لأنَّ المعنى: إن المستويين في العلم مستويان في عدمِ الإيمانِ. وهذا النَّوعُ؛ أي: حذفُ قيدٍ واستعمالُه فيما بقي كثيرٌ في كلامِ العربِ، كما في النّداء، فإنَّه لتخصيص المنادى وطلب إقباله، فيُحذفُ قيدُ الطّلب، ويُستعملُ لمطلقِ الاختصاص، نحو: (اللَّهمَّ اغفِر لنا أيتها العصابة)؛ فإنّهُ منسلخٌ عن معنى الطّلبِ، وإن معناه: مخصوصين من بين العصائبِ. وكالمرسِنِ؛ فإنَّه لأنفِ البعيرِ ويُستعملُ في مطلقِ الأنف؛ [كقوله:] (¬8). ¬
......... ... وفَاحِمًا وَمَرْسِنًا مُسَرَّجَا (¬1). وكم مثلها!. فيصيرُ؛ أي: بعدَ التَّجريدِ عن الاستفهامِ يصيرُ للشّرطِ المحض، وحكمه (¬2) حينئذٍ حُكمُه بلا تفاوتٍ. وهو السِّرُّ؛ أي: ما ذكرنا من جوازِ تجريده، وصيرورتِه للشّرطِ المحضِ -هو السِّرُّ في اشتراكهما؛ أي: في (¬3) اشتراكِ الاستفهامِ والشّرطِ في كثيرٍ من الأَسماءِ؛ كما في (¬4): "مَا" و "مَن" و "متى" وغيرها. ¬
الربط بالتردد
وبالتَّرديد؛ عطفٌ على قوله: "فبالشّرطِ" (¬1)؛ أي: وأمَّا الرّبطُ بين [غيرهما] (¬2) فيَكونُ بالشَّرط (¬3)، ويكونُ بالتَّرديد. وأداتُه؛ أي: أداةُ التَّرديد. "أو" و "إما"، وفي بعضِ النُّسخ: (وأدواته)؛ وذلك باعتبارِ أنَّ أقلَّ الجمع اثنان، أو باعتبارِ ملاحظةِ الانفرادِ والاجتماع؛ نحو: (الجائي زيدٌ، أو عمرو)، و (الجائي إمَّا زيدُ، وإمّا عمرو)؛ منفردين (¬4)، والجائي إمّا زيدٌ أو عمرو مجتمعين؛ فإنَّه يجوزُ الاطلاقُ على هذا التَّقدير بأنها ثلاثةٌ. وقوله (¬5): (ويفيدان) ينصرُ النّسخةَ الأولى. ويُفيدان؛ أي: "أو" و "إِمَّا" ثبوتَ (¬6) أحد الأمرين؛ كقولك: (زيدٌ شاعرٌ أو منجِّمٌ) ردُّا لمن يَنفيهما عن زيد، أَى: يقول (¬7): ¬
(زيد لا شاعرٌ ولا منجِّمٌ)؛ أي: لا يخلو عن أحدهما؛ ولهذا يُسمِّي المنطقيّون مثل هذه القضيّة: منفصلةً مانعةَ الخُلُوِّ (¬1). أو نفيَ؛ أي: ويفيدان نفي أحد الأمرين؛ كقولك: (زيدٌ (¬2) شاعرٌ أو منجّم) ردًّا لمن يُثْبتهما لهُ (¬3)؛ أي: يقولُ: (إنّه شاعرٌ ومنجِّمٌ معًا)؛ أي: لا جمع بينهُما؛ ولهذا يُسمّونَه: مُنفصلةً مانعةَ الجمع (¬4). أو ثبوتَ؛ أي: أو يُفيدان ثُبوتَ أحدِ من الأمرين ونفيَ أحد منهما، كقولك: (زيدٌ شاعرٌ أو منجِّمٌ) ردًّا لمن يرى إمّا ثُبوتهما أو نفيهما؛ أي: يقول: إنّه متَّصِفٌ بهما جميعًا أو ليس (¬5) مُتّصفًا بشيءٍ أصلًا؛ أي لا خلوّ (¬6) عنهما ولا جمع (¬7) بينهما؛ ولهذا يسمّونه: مُنْفصلة حقيقيةً (¬8). وهكذا حُكْمُ (إمّا). ¬
وذلكَ الرَّد قد يكونُ لجهل المخاطبِ بالحالِ، أو تجاهلٍ منه به، أو تجهلٍ من المتكلِّم له؛ [ويحتملُ أن يقال: المرادُ جهل المتكلِّم، أو تجاهله، أو تجهيلِه من المخاطب ويحتملُ ذلك] (¬1) الإشارةُ (¬2) إلى المذكورِ من الصّورِ الثلاثة من إثباتِهما، أو نفيهما، وإمّا إثباتهما أو نفيهما (¬3). والتَّجاهلُ في البلاغة والي سحْرِها وسلطانُ مملكتها؛ فانظرْ قولَ الخارجيّة -وهي (¬4) اسم امرأَة شاعرةٍ (¬5) - ترثي (¬6) على ابن طريف (¬7) تَعْرِفُ أنَّه والي سِحْرها؛ حيث تجاهلت عن إمكانِ كونِ الشّجرِ جزعًا في قولها (¬8): ¬
أَيَا شَجَرَ الخابورِ مَالكَ مُورِقًا؟ ... كأنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ على ابنِ طرِيفِ!. الخابورُ: موضعٌ من نواحِي (¬1) ديارِ بكرٍ (¬2). ومُورقًا: حالُ عن كاف (مالك)؛ ومعناه: مالك أورقت. والطّريفُ في النّسبِ: الكبيرُ الآباءِ إلى الجدّ الأكبر. وبعده: فَتًى لَا يُحِبُّ الزّاد إلّا مِنَ التُّقَى ... ولا المال إلَّا مِن قَنًا وسُيوفِ (¬3). ¬
وتذكّرْ ما قُلنا في قوله -تعالى-: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬1): من عدمِ التّصريح؛ لئلّا يُصِرّوا - تعرف كون التَّجاهُلِ والي سِحْرِها. والسَّكّاكيّ -لرعايةِ الأدبِ، والاحترازِ عن إطلاقِ لفظِ التجاهُلِ على الله تعالى-؛ قال (¬2): "لا أحبُّ تسميتهُ بالتَّجاهُل"؛ فعبّر عنه تارةً بـ: (سوقِ المعلومِ مساق غيره) (¬3)؛ كما في علمِ البديع، وتارةً بـ: (الاستخبار)، كما قال في قسمِ (¬4) المعاني (¬5). ¬
المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عمادة البحث العلمي رقم الإصدار (79) تحقيق الفوائد الغياثية تأليف شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني (ت 786 هـ) تحقيق ودراسة د / علي بن دخيل الله بن عجيان العوفي عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الجزء الثاني الطبعة الأولى 1424 هـ مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة
النوع الثالث: في القصر
النوع الثالث (*): في القصر (**) " وهو (¬1): عبارة عن تخصيص أحدِ الأمرين بالآخرِ- وحصرِه فيه". وتقديمه على أخواته؛ من نحو: الفصلِ والوصلِ، والإيجاز، وخلافه، هو النّظمُ الطبيعيُّ؛ لأنَّه لا يكون إلّا بالنِّسبةِ إلى جُملة واحدةٍ (¬2)، بخلاف ما فعل السَّكّاكيّ؛ فإنَّه أخَّره عنها. وهو -القَصْر- (¬3) يَقعُ للموصوف على الصِّفَة فلا يتعدّاها؛ أي: لا يتعدَّى الموصوف (¬4) تلك الصِّفة إلى صفة أخرى؛ لأنَّ معناه فيه ¬
تخصيصُ الموصوف بوصفٍ دون وصف ثانِ؛ كقولكَ: (زيدٌ شاعر لا منجِّمٌ) (¬1). وبالعكسِ؛ أي: يقعُ للصّفة على (¬2) الموصوفِ. فلا تتعدَّاهُ؛ أي: لا تتعدَّى الصِّفةُ ذلكَ الموصوف إلى موصوفٍ آخر؛ كقولك: (ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ) (¬3)، لأنَّ معناه فيه تخصيصُ الوصفِ بموصوفٍ دون موصوفِ آخر. والفرقُ بينهما: أن الموصوفَ في الأَوَّلِ لا يمتنع أن يُشاركَه غيرُه في الوصف، ويمتنع في الثَّاني. وأن الوصفَ في الثَّاني يمتنعُ أن يكونَ لغير الموصوفِ، ولا يمتنعُ في الأَوَّل. والمرادُ بهذه الصِّفة: الصِّفةُ المعنويَّة؛ أي: معنًى قائم بالشَّيءِ خارجٌ عن حقيقته؛ سواء كانَ اللَّفظُ الدَّالُ عليه جَامدًا أو مُشْتقًّا، اسمًا أو فِعْلًا، لا النَّعت (¬4)؛ فيشملُ (¬5) قصرَ مثل: (ما جاء إلَّا زيدٌ) و (ما في الدَّار إلَّا زيدٌ). وبهذا التَّوجيه سقطَ قولُ من يعْترض: إنَّ مثلَ قصرِ الفعلِ على الفاعل خارجٌ عنه. ولغيرهما كالفعلِ (¬6) على مفعولٍ أو حالٍ أو تَمييزٍ؛ أي: يقع ¬
القصرُ لغيرِ الصِّفةِ على الموصوفِ، ولغيرِ الموصوفِ على الصِّفةِ (¬1)؛ كما للفعلِ علي المفعولِ، أو (¬2) الحالِ، أو التَّمييز. وهذه العبارةُ أصحُّ من عبارة "المفتاح" فإنَّه قال (¬3): "القصرُ يَجري -أيضًا- بين الفاعلِ والمفعولِ، وبين المفعولين، وبينَ الحالِ وذي الحالِ"؛ لأنَّ القصرَ في إما ضربَ زيدٌ إلّا عمرًا) ليسَ لزيدِ على عمرو، بل لضربِ زيدٍ عليه، وكذا في (ما أعطيتُ زيدًا إلّا درَهمًا)؛ فإنَّه ليسَ لزيدٍ على درهم، بل لإعطاء زيدٍ عليه، وكذا في الحالِ. نعم إنّه ذَكر (¬4) في أواخر فصلِ القصرِ ما يُشعرُ بما قُلْنا؛ حيثُ قال في قوله: إما ضربَ زيدٌ إلّا عمرًا) (¬5): "الصِّفةُ المقصُورة على عمرو هي (¬6) ضَرَبَ زيد" (¬7). مثال القصرِ على الحالِ؛ نحو: (ما جاءَ زيدٌ إلَّا راكبًا)، ومثالُه ¬
على التَّمييز، نحو: (ما طابَ زيدٌ إلّا نفسًا). وبحثُه (¬1) غير مذكور في "المفتاح". وكلُّها؛ أي: كلُّ أقسامِ القصرِ، تنقسمُ إلى: قصر إفراد؛ ردًّا لمن يدّعي أمرين أو أحدهما بلا ترجيح؛ نحو. {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ} (¬2)، وهو من قبيلِ قصرِ الموصوفِ على الصِّفة. ومعناه: محمّدٌ مقصورٌ على الرِّسالة لا يتجاوزُها إلى البُعدِ عن الهلاك، كأنّهم أثبتوا له وصفين: الرِّسالة، وعدم الهلاك؛ فخصّص (¬3) بوصف الرِّسالة؛ فيكون الوصف الثَّاني مسلوبًا عنه، وهو قصر الإفراد. وقصر قلب ردًّا لمن يعتقدُ نفي ما يثبته أو إثبات ما ينفيه؛ نحو: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (¬4)؛ مثالٌ لقصرِ (¬5) الموصوفِ على الصِّفةِ منه؛ لأنَّ عيسى -عليه السَّلام - (¬6) قال في مقامٍ اشتمل على معنى: أنَّكَ يا عيسى تقلْ للنَّاس ما أمرتك (¬7) بل قلت غير منها أمرتك، لأنِّي أمرتُك أن تدعو النَّاس إلى أن يعبدوني، ثم إنك دعوتهم إلى أن يعبدوا من ¬
هو (¬1) دُوني (¬2)، وهو قصرُ القلب. أعلم: أنَّ للقصرِ ستّ (¬3) صورٍ؛ لأنَّه: إمّا قصرُ الموصوف علي الصِّفةِ، أو العكس؛ وهما إمّا قصرُ إفرادٍ، أو قصرُ قلب. والإفْراديُّ فيهما على قسمين: لأنَّ السَّامع إمّا أن يعتقدَ اتِّصافه بالوصفين: كمَن (¬4) بعتقدُ أنّ زيدًا شاعرٌ ومنجِّمٌ؛ فتقول: (زيدُ شاعرٌ لا منجِّمٌ)، فتقطع الشّركة] [وإمّا أن يَعْتقد أنّ زيدًا علي أحد الوصفين: إمّا هذا وإمّا ذاك من غير ترجيح] (¬5) فتقول: (زيدٌ هذا لا ذاك)؛ فتُعيِّن أحدهما بالترجيح. وكذا فيما يعتقد السَّامع ثبوت الوصفِ ¬
للموصوفين (¬1)، أو لأَحدهما من غيرِ ترجيح. وسمّى السَّكَّاكيّ القِسْمين: بقصرِ الأفراد؛ بمعنى: أنَّه يُزيلُ شركةَ الثَّاني في الجملةِ (¬2). وخصّصَ صاحبُ "الإيضاح" الأوّلَ به (¬3)، والثّاني: بقصرِ التَّعيين (¬4). والقلبيُّ: هو قصرُ الموصوفِ على وصفٍ مكانَ الوصفِ الذي يعتقد (¬5) السّامعُ ثبوتَه له، كقولك لمن يعتقدُ زيدًا منجّمًا لا شاعرًا: (زيدٌ شاعرٌ لا منجّم). أو قصرُ الوصفِ على موصوفٍ مكان الموصوفِ الَّذي يعتقده السّامعُ. وسُمِّي قصرَ قلبٍ: لأنَّ المتكلِّم يقلِبُ فيه حكمَ السّامع؛ فينفي ما أثبته، ويثبتُ ما ينفيه. ولم يذكر السَّكاكيُّ القسمَ الّذي يعتقدُ السّامعُ فيه ثبوتَ الوصفِ لأحد الموصوفين لا على التَّعيين بلا ترجيح لا بعموم ولا بخصوصٍ؛ لكن (¬6) ذكره غيرُه (¬7)، كما أن كلامَ المصنِّفِ -أيضًا- شاملٌ له، ¬
طرق القصر
وهو كقولك: (زيدٌ شاعرٌ لا عمرو) لمن يعتقدُ أنّ أحدهما لا بعينه -من غير ترجيح- شاعرٌ. وطُرُقُه؛ أي: طرق القصرِ، أَربعَةٌ: الأوّلُ: العطف (¬1)؛ كقولك: (زيدٌ شاعرٌ لا منجّم) في قصرِ الموصوفِ على الصِّفةِ؛ إفرادًا أو قلبًا بحسبِ اعتقاد السّامع. أو لا عمرو؛ أي: كقولك: (زيدٌ شاعرٌ لا عمرو) في قصرِ الصّفةِ على الموصوف بالاعتبارين بحسبِ المقام (¬2). وإذا كثر المنفيُّ؛ أي: من الصِّفات في قصرِ الموصوفِ على الصِّفةِ، أَوْ من (¬3) الموصوفاتِ في قصرِ الصِّفةِ على ¬
الموصوف (¬1) وريمَ؛ أي: طُلِبَ الاختصارُ قيلَ لا غيرُ (¬2)؛ أي: لا غير شاعر (¬3)، أَوْ لا غير زيد (¬4)؛ بتركِ الإضافةِ لدلالة (¬5) الحال عليه؛ وكذلك (¬6) ليسَ غيرُ، وليسَ إلّا؛ بتقدير: ليس غير شاعر، وليس إلّا شاعرًا؛ في قصرِ الموصوف على الصِّفة، وبتقدير: زيدٌ شاعرٌ لا غير زيدٍ، وليس شاعرٌ غيرَ المذكورِ، أو إلّا المذكَور؛ فتجعل النَّفي عامًّا ليتناولَ كَلّ شاعرٍ يعتقده (¬7) ممن عدا زيدًا (¬8)، في قصرِ الصِّفة على الموصوفِ. ¬
الثَّاني: "إلَّا" بعد النّفي (¬1)؛ أَيّ نفي كان: من: (ما) و (إن) و (ليس)؛ نحو: (ليسَ زيدٌ) أو (ما زيدٌ) إلَّا شاعرًا بالنّصب مع (ليس)، وبالرّفع مع (ما) في قصر الموصوف على الصِّفةِ، إفرادًا وقلْبًا بحسب اعتقاد السّامع، وكذا في قصر الصفة على الموصوف؛ تقول: (ما شاعرٌ إلّا زيدُ) إفرادًا وقلبًا بحسبِ المقام. الثالث: "إنّما" ويتضمّنُ معنى: "ما وإلَّا" بدليلِ صحّةِ انفصالِ الضّميرِ معه؛ نحو: (إنَّما يضرب أنا)؛ كانفصاله معهما (¬2)؛ نحو: إما يضرب إلّا أنا)، ققال الفرزدق (¬3): ¬
أنَا الذّائدُ (¬1) الحامِي الذِّمارَ وإِنَّما ... يُدافعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلي والذِّمارُ: ما وراء الرّجل ممّا يجبُ عليه أن يَحْمِيَه. قال الرَّبْعيُّ؛ أي: عليُّ (¬2) بن عيسى الرَّبْعيّ، نحويُّ بغداد: (إنّ) للتحقيق [أي: كلمة إنّ للتّحقيق ولتأكيد إثباتِ المسندِ للمسند إليه] (¬3) و (ما) مؤكِّدُه (¬4)؛ لا نافيةٌ كما قال من لا خبرة له بالنّحو؛ قيل: عَرَّضَ به للإمام الرّازي (¬5) [ومن قال مثل قول ¬
الإمام الرّازي] (¬1). فيزيد (¬2) تأكيدها؛ فيتضمّن معنى القصرِ، إذ القصرُ يُقصد به هذا المقصودُ إذا وقع في جوابِ المتردِّد؛ أي: المقصودُ من القصرِ -أيضًا- تأكيدٌ للحكمِ على تأكيدٍ؛ لأنّك إذا قلتَ لمخاطبٍ يُردِّد المجيء الواقع بين زيدٍ وعمرو: (زيدٌ جاء لا عمرو)، ويكون قولُك: (زيدٌ جاء) إثباتًا للمجئ لزيدٍ صريحًا. وقولك: (لا عمرو) إثباتًا للمجئ لزيدٍ ضمنًا مُؤكّدًا لما عُلِمَ صريحًا. والحاصلُ: أنَّ الإمام [وغيره] (¬3) قال: إن (¬4) (إنّ) تدلُّ على الإثباتِ، و (ما) على النَّفي، والأصلُ بقاؤهما على ما كانا، وليسا متوجهين (¬5) إلى المذكورِ، ولا (¬6) إلى غير المذكور (¬7) للتَّناقضِ؛ بل أحدُهما للمذكورِ، والآخر لغير المذكور، وليسَ (إنّ) لإثباتِ ما عدا المذكور، ¬
و (ما) لنفي المذكور وفاقًا؛ فتعيّن عكسه (¬1) وهو معنى القصْر (¬2). وقال الرّبعيّ: إنها قولُ من لا خبرةَ له بالنّحو (¬3)؛ لأنّها لو كانت نافيةً لَاقتضت التَّصدُّر، ولاجتمع حرفُ النّفي والإثبات بلا فاصلةٍ، ولجازَ نصبُ (إنّما زيدٌ قامٌ)؛ لأنَّ الحرفَ -وإن زيدَ- يعملُ، ولكانَ مع: (إنّما زيدٌ قائمٌ) يحقِّقُ عدمَ قيام زيدٍ، لأنَّ ما يلي "ما" النَّفي منفيٌّ؛ لكنَّ التّوالي الأربعةَ باطلةٌ؛ بل الوجهُ أنَّها مُؤكّدة -كما مرَّ. وقال الأستاذُ -نصرةً للإمام-: مرادُه: أنَّ كلمةَ (إنّما) هكذا؛ للحصرِ كسائر الكلماتِ المركّبةِ الموضوعةِ لمعنًى، لا أن لفظة (إِنَّ) ولفظة (ما) رُكِّبتا وبَقَيتا على أصلهما، حتَّى لا يرد عليه الاعتراضات؛ وما ذكره هو بيانُ وجهِ المناسبة، ولئلّا يلزم النّقل الَّذي هو خِلاف الأصلِ (¬4). ¬
وأمّا المنقولُ من الرّبعيِّ فهو من باب إيهامِ العكسِ؛ فإنّه لَمَّا رأى أنَّ القصر تأكيدٌ على تأكيدٍ - ظنَّ أنَّ كلَّ ما كان تأكيدًا على تأكيدٍ كان قصرًا، و-أيضًا-: يلزم كون مثل: (والله إن زيدًا لقائم) فصْرًا؛ لأنَّه تأكيدٌ على تأكيد؛ و-أيضًا-؛ يلزم تخصِيص كونه للحَصْر بما وقعَ في جوابِ المتردّد (¬1)، لكنّه للحصر في جميع المواضع؛ فهو ممّن خَطّأَ فأخطأ؛ ومع إمكان أن يُحْملَ على محملٍ صحيحٍ (¬2) لا حاجة إلى مثل هذا التَّشنيع على مثلِ الإمامِ؛ ذلكَ الرَّجلِ الفاضلِ، والفحلِ البازلِ (¬3). نعم، يردُ عليهِ في بيانِ وجه المناسبة: إن (¬4) قولك: "ما" لنفي غير المذكور؛ كنفي غيرِ قيامِ زيدٍ في قولك: (إنّما زيدٌ قائمٌ) عمّ يتعيّن؟! لِمَ لا يجوزُ أن يكون لنفيِ قيامِ غير زيدٍ؟! الرّابعُ: التَّقديم (¬5)؛ نحو: (أنا كفيتُ مهمّك ¬
وحدِي) أو (لا غيري) إفرادًا (¬1) أو قلبًا (¬2) بحسبِ المقام؛ هذا في قصرِ الصِّفةِ على الموصوف. وتقولُ في قصرِ الموصوفِ على الصِّفةِ: (تَمِيميٌّ أنا)؛ قصرَ إفرادٍ (¬3) أو قلبٍ (¬4) حسبما يقتضيه المقامُ. وبحثُ شرائطِ التَّقديم له قد تقدَّم مرّة (¬5). وللقصرِ طريقانِ آخران: توسُّطُ ضميرِ الفصلِ، وإيرادُ المسندين معرفَتين -كما صرّح به (¬6)؛ حيثُ قال (¬7): "وقد يقصدُ به الحصرَ في المبتدأ" في باب ضميرِ الفصلِ، وحيثُ قال (¬8): "مع أنّه إذا أُريد به الحقيقة أفاد حصرها في المبتدأ" في تعريف الطرفين، ولم يذكرهما ها هنا (¬9) اقتفاءً بالسَّكاكيِّ. لا يقالُ: إنّما لَمْ يذكرهما السَّكاكيُّ ها هنا لتقدُّمهما. لاستلزامه عدم ذكرِ التَّقديم لتقدُّمِه أيضًا (¬10). ¬
بلى لو قيل في الجوابِ: لأنَّ الأربعةَ لا تكونُ إلّا للحصرِ، وهما قد يكونان لغيره لَاتَّجه. لَكن يندفعُ السّؤالُ عن "المختصر" لا عن "المفتاح"؛ لأنَّ الفصل عنده مُستلزمٌ للتّخصيص -كما قال (¬1): "وأمّا الحالةُ إلى تقتضي الفصل فهي (¬2) إذا كان المرادُ تخصيصَه للمسندِ بالمسندِ إليه (¬3)؛ كقولك: (زيدٌ هو المنطلقُ). واعلم (¬4): أنَّ الأربعةَ يشملُها أمرٌ واحدٌ يشترك في الأربعة؛ وهو أنَّك للمُخاطبِ تسلِّم صوابًا، وتَرُدُّ (¬5) خطأً؛ فالصّوابُ: الحكمُ. والخطأ: التَّخصيصُ؛ وهو أنَّ المخاطبَ في كُلِّ حكمٍ حاكمٌ بحكمٍ مشوب (¬6) بخطأٍ وصوابٍ، وأنت تُسلِّمُ صوابه وتردُّ خطأه. فالصّوابُ: الحكم؛ أي: نفسُ الإسنادِ المجرّدِ، والخطا هو: التّخصيص والتَّعيين. أَمّا في قصرِ القلبِ؛ فالصّوابُ حكمُ المخاطبِ بحسبِ الاعتقادِ (¬7) ¬
كون الموصوفِ على أحد الوصفين (¬1)، أو كون الوصفِ لأحد الموصوفين (¬2)، والخطأُ تعيين حكمه وتخصيصُه. وأَمَّا في الإفراد؛ فالصَّوابُ مطلقُ الحكم بحسبِ الاعتقاد، والخطأ تعيينُه وتخصيصُه بالكلِّ [و] (¬3) في "المفتاح"، لم يتعرّض بالصَّريحِ (¬4) للزوم تعين كون الصّوابِ هو الحكم، والخطأ هو التَّخصيص، ولعلّه (¬5) لمجالِ (¬6) المناقشة في قصر الإفراد من كون الخطأ فيه هو التَّخصيص أو لغيره (¬7) - والله أعلم -. هذا على ما في النُّسخةِ الَّتي قرأناها على المصنِّفِ. وفي بعض النسخ: (والخطأ التَّعميمُ أو التَّخصيصُ) فلا حاجةَ (¬8) إلى ما ¬
ذكرناهُ (¬1). ثمَّ يختصُّ كلٌّ من الطُّرقِ الأربعةِ بأمر: فالأوّلُ (¬2): بأنَّه نصٌّ نفيًا وإثباتًا (¬3)؛ أي: التّعرّض في الطَّريقِ العطفي (¬4) للمُثْبت والمنفي منصوصٌ (¬5)؛ إمّا بخصوصه؛ نحو: [زيدٌ شاعرٌ لا مُنجِّم)، وإمّا بعمومه؛ نحو: (زيدٌ شاعرٌ لا غير). والطُّرقُ الأخيرة الأصل فيها النّصُّ بما يُثبت دون ما ينفي؛ نحو: (ما أنا إلَّا تَمِيميّ)، و (إِنَّما أنا تميمي)، و (تميميٌّ أنا). والثّاني (¬6): بأنَّه لا يجتمعُ مع الأَوَّل بخلافِ الأخيرين (¬7)؛ فإنّهما يجتمعان مع الأَوَّل؛ فلَا تقول: (ما زيدٌ إلا قائم؛ لا قاعدٌ)؛ لكن تقول: (إنّما أَنا تميميٌّ لا قيسيٌّ)، و (تميميٌّ أنا لا قيسيٌّ) إذْ "لا"؛ أي: [لا] (¬8) العاطفة: لا تدخلُ على ما دخله نفيٌّ لأنَّ من شرط منفيِّها أن ¬
لا يكون منفيًّا قبلها بغيرها من كلمات النّفي (¬1). قال في "المفتاح" (¬2): "الأَوَّلُ: لا يجامعُ الثَّاني"، والأمرُ فيه سهلٌ (¬3)؛ لأنَّ المنافاةَ لا تكون إلَّا من الطّرفين، اللَّهمَّ إلّا أن يُقال: لَمّا كان عدمُ الاجتماعِ مع الثَّاني (¬4) لا يختصُّ بالأوّل؛ لأنّ الثّالثَ -أيضًا- لا يجتمعُ مع الثَّاني بخلافِ عدم اجتماعه مع الأَوَّل؛ فإنّه يختصُّ بالثّاني - عدلَ عنه إلى هذه العبَارة (¬5). و"غير" حُكمُه في هذا حكمُ "إلا"؛ الظّاهرُ أنَّ هذا إشارةٌ إلى عدم اجتماعه -أيضًا- مع الأَوَّل. لكن قال في "المفتاح" (¬6): "واعلم: أنّ حكمَ "غَير" حكمُ "إلا" في إفادة القصرين وامتناعِ مُجامعة ¬
"لا" العاطِفة؛ تقولُ: (ما جاءني غيرُ زيدٍ)؛ إمَّا إفرادًا (¬1)، أو قلبًا (¬2)، ولا تقول: (ما جاءني غيرُ زيدٍ لا عمرو) ". بخلاف (إِنَّما)؛ فإنّها تجتمع (¬3) مع الأوّل؛ وإن كان -لكونِه (¬4) في معنى الثَّاني- مُقْتَضيًا أن لا تجتمع معه؛ لأنَّ النَّفي فيها ضمنيٌّ لا صَريحٌ (¬5)؛ كما يجوزُ أن يقال: (امتنعَ عن المجيء زيدٌ لا عمرو) مع عدم جوازِ أن يقال: (ما جاء زيدٌ لا عمرو)؛ لأنّ النَّفي فيه -أيضًا- ضمنيٌّ. وأمّا جوازُ اجتماع التَّقديمِ مع الأوّلِ فظاهرٌ. وهذا إذا لَمْ يكن المذكورُ بعده مُخْتصًا؛ أي: جواز اجتماع (إنّما) مع الأوَّلِ إذا لم يكن الوصفُ المذكورُ بعد (إنّما) ممّا له في نفسه اختصاصٌ بالموصوف المذكور (¬6)؛ كقوله -تعالى-: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} (¬7)؛ فإنَّ كلَّ عاقلٍ يعلمُ أنَّ الاستجابةَ ¬
لا تكون إلّا ممن يسمعُ ويعقل؛ وهذا (¬1) عند السَّكاكَيّ (¬2)، لكن قال في "دلائل الإعجاز": ذلك شرط الحُسن (¬3). فلا يقال: إنّما يَعْجَل من يَخْشَى الفَوْتْ لا مَنْ يَأْمَنُه؛ لأنَّ التَّعجيل له اختصاصٌ بالموصوفِ المذكورٍ؛ أي: خاشي (¬4) الفوت لأن من (¬5) لم يخشَ الفوت لم يعجل. و"إلَّا"؛ أي: وكلمة "إلَّا" تقابلُ الإصرار؛ أي: تُستعملُ في مقابلةِ اعتقادِ مُخاطبٍ يكون عند المتكلِّمِ مرتكبًا للخطأ مُصِرًّا عليه. إمّا تحقيقًا، وذلك إذا أُخرج الكلامُ على مُقتضى الظَّاهر؛ {مَا أَنْتُمْ إلا ¬
بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إلا تَكْذِبُونَ} (¬1)، فإنّه ما قال الكفّارُ للرُّسل؛ {إِنْ أَنْتُمْ إلا بَشَرٌ} (¬2) إلّا والرُّسلُ عندهم في معرض المنتفي (¬3) عنهمُ البشريّة، والمُنْسَلخ عنهمم حكمها؛ بناءً على جَهْلهم أنَّ الرّسولَ يمتنعُ أن يكون بشرًا؛ فجعلوا الرُّسلَ كأنَّهم بادِّعائهم النُّبوة قد أخرجُوا أنفسهم عن أن يكونوا بَشرًا مثلهم، فإصْرارهم على دعوى الرِّسالة: -بناءً على اعتقادِ الكُفَّار- إصرارٌ (¬4) على أن لا يكونوا بشرًا؛ فَقَلَبوا (¬5) وقالوا: {مَا أَنْتُمْ إلا بَشَرٌ}، وكذا في قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَكْذِبُونَ}. وأمَّا [نحو] (¬6) {إِنْ نَحْنُ إلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (¬7) فمن باب المجاراة (¬8) ¬
مع الخصمِ للتَّبْكيت (¬1) في المَعْثر (¬2)؛ كط تقول: (أنت صادقٌ في كلِّ ما تقولُ؛ لكن ما حيلتُك في دعواي هذه)؛ هذا جواب سؤالٍ، تقديرُ السُّؤالِ: إنّه اسْتُعملُ حرفُ النَّفي، و (إلّا) هاهنا - لا في مُقابلةِ الإصرارِ؛ لأنَّ الكُفّارَ لا يقولون: إنهم ليسوا ببشر فضلًا عن الإصرارِ. الجوابُ: إنّه من باب المجاراة والتَّماشي مع الخَصْمِ، وإرخاءِ العنانِ معه؛ لتَبْكِيتِه؛ أي: إلزامه وإسكاتِه في المَعْثَر (¬3)؛ كما قد يقولُ من يخالفك فيما ادّعيت: أنَّك من شأنكَ كيت وكيت؛ فأنت تقول: نعم؛ إنِّي من شأني كيت وكيت، وأنت (¬4) صادقٌ في كلِّ ما تقول، لكن (¬5) ما حيلتُك في دعواي هذه؟؛ وكيف يقدحُ ذلك فيها؟ (¬6). ¬
وفي "المفتاح" بدل قوله: "للتّبكيت في المعثر": "ليعْثُر حيثُ يُراد تبكيته" (¬1)، وبين العبارتينِ فرقٌ (¬2). وإمَّا ادِّعاءً، قسيمٌ لقوله: إمّا تحقيقًا. وهذا فيما أُخرجَ الكلامُ لا على مُقتضى الظاهر، نحو: {إِنْ أَنْتَ إلا نَذِيرٌ} (¬3) كأنّه للمُبالغةِ؛ أي: لمبالغتِه عليه [السّلام] (¬4) وشدّةِ حرصه على هدايتهم، وتهالُكه عليهم؛ حتَّى قيل: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} (¬5) جُعل مِمَّن يظنُّ أنّه يملكُ هدايتَهم مصرًّا عليه، ونُزِّلَ - صلى الله عليه وسلّم - منْزلته (¬6)؛ فجئَ بالنَّفي والإثبات؛ أي: أنت نذيرٌ لا هاد. ثمَّ الأصلُ: ما ضربَ زيدٌ إلا عمرًا؛ بعدَ الفراغِ عن القصرِ بين ¬
الصِّفة والموصوفِ شرعَ في غيرها، ولم يذكرْ منه إلَّا قصر الفعل على المفعول؛ لظهورِ الباقي. والأصلُ في قصرِ الفعل [على المفعول] (¬1) أن (¬2) تقول: (ما ضربَ زيدٌ إلا عمرًا)؛ أي: لم يقع ضربُه إلّا على عمر؛ فلا يمتنعُ (¬3) كونُ عمرو (¬4) مضروبًا لغيره، ويمتنعُ كونُ زيدٍ ضاربًا لغيره (¬5). ويجوزُ: (ما ضربَ إلّا عمرًا زيدٌ)؛ بتقديم (إلّا عمرًا) علي (زيدٍ)؛ لكنه قليلٌ؛ لأنَّه قصرَ الشَّيءَ وهو الضَّرْب قبل تمامه؛ أي: قبل؛ تقييده بالفاعلِ؛ وهو خلافُ المرادِ؛ لأنَّ المقصورَ علي عمرو فيه هو الضّربُ المقيّدُ؛ أي: ضرب زيدٍ دون المطلقِ؛ أي: لا (¬6) الضّرب مُطلقًا، وعلى هذا. ¬
خاتمة
خاتمةٌ: لا بدّ في الاستثناء من المستثني منه، لكون (إلّا) للإخراج، واستدعاء الإخراج مُخرجًا منه: ومن عمومِه، أي: المستثنى منه، لعدمِ المخصّصِ وامتناعِ التَّرجيحِ؛ أي: ترجيج أحدِ المُتَساويين، بلا مُرجِّحٍ. ومن المناسبةِ؛ بين المستثني والمستثنى منه في الجنس؛ أي: كونه بحيث يتناولُه ويدخلُ فيه وفي الوصفِ؛ أي: في مثل: الفاعليّةِ، المفعوليّة، والحاليَّةِ، وغيرها. فيُقدّر إذا قُدِّر؛ وذلك في الكلامِ النّاقصَ -أي: فيما لا يكون والمستثنى منه مَذكورًا- وهو الاستثناء المفرّغُ. أعمّ عامٌّ يتناولُ المستثنى، فـ (ما ضريتُ إلّا زيدًا)، أي: "أَحدًا"، أي: يُقَدَّر "أحدًا" مفْعولًا لقوله: "ضربتُ"؛ لأنَّه عامٌّ مُناسبٌ للمستثنى في الجنسِ والوصفِ، و (إلا راكبًا)؛ أي: "على حال"؛ أي: ما ضربتُ على حال إلا راكبًا، والمقدّر فيه ذلك لمناسبته (¬1) له، و (إلا تأديبًا)؛ أي: لغرضٍ (¬2)؛ أي: ما ضربتُ لغرضٍ إلَّا تأديبًا. وهذا ليسَ في "المفتاح" (¬3). ¬
وبه (¬1) يُعرفُ الفرقُ بين: (ما اختارَ إلّا منكم فارسًا)، و (إلّا فارسًا منكم)؛ فإنَّ معنى الأوّلِ: ما اختارَ فارسًا من قوم إلّا منكم؛ فقصرَ اختيارَ الفارسِ عليهم. ومعنى الثَّاني: ما اختارَ منكم أحدًا متّصفًا (¬2) بأي وصفٍ كان إلّا فارسًا؛ فقصرَ الاختيارَ منهم على الفارس. والأوّلُ أبلغُ في المدح؛ كما في قول الشّاعر (¬3): لَوْ خُيِّرَ المِنْبَرُ فُرْسَانَهُ ... مَا اختارَ إلّا مِنْكُمُ فَارِسًا (¬4) لاقتضائه انحصار الفرسانِ فيهم (¬5)، بخلاف الآخر، فإنّه لا يدلُّ على هذا الانحصار؛ بل على انحصار المختارِ مِنْهم في الفُرسَان. ¬
والثّالثُ: ويختصُّ الطّريقُ الثَّالث (¬1) بأنّه يفيدُ الحصْرَ في الجزءِ الأخيرِ من الكلامِ، فالحصرُ في (إنّما أعطيتُ زيدًا درهمًا) على الدِّرهم، وفي (إنّما أعطيتُ درهمًا زيدًا) على زيد. فلا يجوزُ فيهِ من التَّقديمِ والتأخيرِ ما جاز في الثَّاني، أي: في الطّريق الثَّاني؛ وهو: "ما وإلّا" للإلباسِ؛ لأنَّ الحصرَ فيه (¬2) دائمًا في الجزءِ الأخيرِ، لأنّه بمنْزلةِ المستثنى، فإذا قُدِّمَ أو أُخِّرَ تَغَيَّرَ القَصْرُ والْتَبَسَ الأمر، بخلافِ "ما وإلّا"؛ فإنَّ الحصرَ دائمًا فيه فيما بعد (إلّا) سواءٌ (¬3) أُخِّر ما قبل (إلا) عمّا بعدها، أو خُلِّي في مكانه؛ فلا إلباس (¬4)، ولأنّ ذلكَ هو الأصل دون هذا؛ أي: ولأنَّ الطّريقَ الثَّاني هو الأصلُ في بابِ القصر؛ وهذا الطّريقُ فرعٌ (¬5) عليه، ويجوزُ في الأصلِ ما لا يجوز في الفرعِ تحقيقًا لمزيّةِ (¬6) الأصلِ، وحَطًّا لمرتبةِ (¬7) الفرعِ. ¬
والرَّابعُ: ويختصُّ الطَّريقُ الرّابعُ، بأنَّه ذوقيٌّ لا وضعيٌّ؛ أي: بأنّ دلالته على القصرِ دلالةٌ (¬1) ذوقيّة لا وضعيّةٌ لُغَويّةٌ؛ لأنّ التَّقديمَ لم يوضع لمعنىً؛ بل ما يُفهم منه بواسطةِ الفحْوى. ¬
الفن الرابع: في وضع الجملتين، والكلام في الوصل والفصل، وفي الإيجاز والإطناب، وفي جعل إحداهما حالا
الفنُّ الرّابعُ (*): في وضعِ الجملتينِ، والكلامِ في الوصلِ والفصل، وفي الإيجازِ والإطنابِ، وفي جعلِ إحداهما حالًا. النّوعُ الأوّلُ: في الفصلِ والوصلِ. وفي: تركُ العاطف (¬1) وإيرادُه (¬2) ويختصُّ، أي (¬3): الكلام في باب الفصلِ والوَصْل، بالواو؛ لأنّها للرّبطِ المْحضِ، والجمع المطلقِ بين المعطوفين. والرّبطُ [لا] (¬4) يكونُ بينَ كلِّ شيئين، مع كثرةِ جهاتِ الرّبطِ وخفائها واختلافها قُرْبًا وبُعْدًا، بخلافِ مواضع استعمالِ سائرِ الحروفِ العاطفةِ (¬5)، فإنّها متميِّزةٌ معلومةٌ؛ لدلالةِ كلٌّ منها (¬6) على معنًى مُحصَّلٍ مستدعٍ من الجمل بَيْنًا (¬7) مخصوصًا بالوضع، فالمشكلُ موضعُ الواو، ¬
ولهذا قصرَ بعضُ أئمّةِ الفنِّ البلاغةَ في معرفة الفصلِ والوصلِ بها (¬1). فإن قيلَ: الاجتماعُ لا يُستفادُ مَن الواو (¬2)؛ بل هو معلومٌ في (¬3) نفسِ الكلام؛ كما تقولُ: (زيدٌ قائمٌ عمرو قاعدٌ)، بلا واو؛ فإنّه يعلمُ منهما اجتماعهما في الثُّبوتِ. قلتُ: الفرْدقُ: أنّ في صُورةِ الواو قُصِدَ به إعلامُ ثبوتِ الاجتماعِ؛ فجئَ بلفظٍ يدلُّ عليه؛ بخلافِ صورةِ عدمه (¬4)؛ فإنّه فيها لم يقصد به الإعلامُ به وإن لزم الاجتماع منه عقلًا. فالأوّلُ بالوضع، والثَّاني بالعقل، وكان (¬5) الأوّلُ ثبوت الاجتماع، والثَّاني اجتماع الثُّبوتِ، وهما وإن تلازما لكنّهُما متغايران بحسبِ المفهومِ. فحيثُ لا معطوفَ عليه، أي: لَمّا كان الوصلُ إيرادَ العاطفِ ولا بدَّ للموصولِ من موصولٍ به وللمعطوفِ من معطوفٍ عليه، فحيثُ ¬
لا معطوفَ عليه لفظًا (¬1). يؤوّل بأنّه مقدّرٌ؛ كقوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (¬2) وتقديرُه: (وإيَّاي ارْهَبُوا فَارْهَبُونِ). وإنّما ساغَ ذلكَ لكونِ المعطوفِ عليه في حُكْمِ الملفوظِ به (¬3)؛ لكونه مُفسَّرًا (¬4)؛ وكقوله: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا} (¬5) تقديرُه:؛ (أكفروا وكلّما)؛ إذ حرفُ الاستفهامِ يستدعي فعلًا، فيقدّرُ فعلٌ يناسبُ المقام؛ وهو ما يدلُّ على معناه مساقُ الآية؛ وذلك مثل (كفروا). ¬
وإنّما يَحسُنُ بينَ متناسبين (¬1) لا مُتّحدين ولا مُتباينين؛ أي: شرطُ كون العطفِ حسنًا مقبولًا أن لا يكون بين المعطوفين كمالُ الاتِّحادِ والاتِّصالِ؛ لامتناع عطفِ الشَّيء على نفسِه، ولا كمالُ الانقطاع؛ لعدمِ الارتباطِ والتَّعلّق بينهُما (¬2)؛ بل يكون بينهما مناسبةٌ حتى تكون مُتوسِّطةً بيْن كمالِ الاتِّصالِ وبيْن (¬3) كمالِ الانقطاعِ؛ كما ترى في نَحو: (الشَّمسُ والقمر، والسّماءُ والأرضُ، والجنُّ والإنسُ) (¬4) كلُّ ذلك محدثة؛ بخلافه في نحو: (الشَّمسُ ومرارةُ الأرنبِ والرِّجْلُ اليُسرى من الضِّفدع ودينُ المجوسِ وألف باذنجانة) (¬5) ¬
كلّها محدثة (¬1). ولذلك (¬2)، أي: ولأنَّ الوصلَ بالواو لا يحسنُ إلّا بين المتناسبين، حُرِّم ومُنع في الصِّفة والبيانِ والتَّأكيد، لأنَّ التَّابعَ فيها هو المتبوعُ بعينهِ، وحُرّم في البدلِ؛ لأنَّ المبدل في حكمِ المطروح المنحّى؛ وإذ هو كالعدمِ فليس هناك شيئان فضلًا عن متناسبين. والنّحاةُ صرّخوا به في الغلطِ؛ أيّ: بأنَّ البدلَ في حكم تنحية المبدل مطلَقًا في بدلِ الغلطِ (¬3). وفي بعضِ النُّسح: ولهذا صرّحوا بِبَلْ في الغلطِ؛ وهذا المعنى أَوْلَى بالمقامِ وأوفقُ لِمَا في "المفتاح" (¬4). ¬
الوصل
فالوصلُ بين الجملتين إِنَّما يحسُن إذا اتّحدتا طلبًا وخبرًا بأن تكونا طَلَبَّيتَين (¬1) أو خَبَرِيَّتين (¬2)، مع ارتباطٍ يجمعُ بينهما جمعًا من جهة: العقل، أَو الوهم، أو الخيال. ويُسمّى الجهة الجامعة (¬3)، وهي: إمّا عقليّ؛ كاتِّحادٍ بينهما في مسندٍ؛ نحو: (زيدٌ كاتبٌ وعمرو) (¬4)، أو في (¬5) مسندٍ إليه؛ نحو: (زيدٌ يصلُ ويَقْطع)، أو في (¬6) قيدٍ لأحدهما؛ أي: المسند، والمسند إليه؛ نحو: (زيدٌ الكاتبُ شاعرٌ، وعمرو الكاتبُ منجّمٌ)، أو تماثلٍ (¬7)؛ أي: كتماثل بينهما، فيهما؛ أي: في المسند والمسند إليه. وفي بعض النُّسح: (أو (¬8) فيها)، أي: في المسند أو المسند إليه أو ¬
القيدِ، وكلاهما مقروآن على المُصَنِّف (¬1). ومرجعهُ؛ أي: التّماثل الاتِّحادُ؛ إذ العقلُ يحذفُ الْمُشَخّصات؛ أي: يُجردُ المثلين عن الشّخصِ (¬2)؛ فيرتفعُ التَّعددُ عن البين؛ فتبقى الحقيقةُ [المتّحدة] (¬3). أو تضايفٍ؛ أي: لتضايفٍ (¬4) بينهما؛ وهو بأن لا يُعقل (¬5) أحدُهما بدون تعقلِ الآخر؛ سواء كان بين الأمور المعقولة؛ كما بين العلّةِ والمعلول، أو بين المحسوسةِ؛ كما بين العُلُوّ والسُّفل، أو بين ما يعمُّهما؛ كما بين الأقلِّ والأكثرِ؛ لأنَّ الكمَّ (¬6) المنفصل (¬7) يعمّ المعقولات والمحسوساتِ (¬8). ¬
وأمّا وهميّ (¬1)؛ كتشابه؛ وهو بأن يكون بين تصوُّراتهما (¬2) شبهُ تماثلٍ؛ نحو: أن يكون المُخْبَرُ عنه في إحداهما لون بياض، وفي الثّانيةِ لون (¬3) صفرةٍ؛ فإنَّ الوهمَ يحتالُ في أن يبرزهما في معرض المثلين (¬4). أو تضادٍّ، أي: أو كتضادٍّ (¬5). بالذّات؛ كالسّوادِ والبياضِ، فإنّ السَّوادَ لذاته يُضادُّ البياضَ، أو بالعرض؛ كالأسودِ والأبيض فإنّه ليس بين ذات الأسود من حيثُ هي، وذاتِ الأبيضِ من حيثُ هي تضادٌّ؛ إنَّما عرض لها (¬6) ذلك بواسطةِ السّوادِ والبياضِ. أو ما يُشبهه (¬7)؛ أي: أو كشبه (¬8) التَّضادِ، كالسّماءِ والأرضِ؛ فإنَّ الضِّدين هما الوُجوديّان المتعاقبان على ¬
محلٍّ واحدٍ؛ بينهما غايةُ الخلافِ، وإذ بينهما قيدُ التَّعاقبِ عليه (¬1) منتفٍ؛ فلا يتضادّان حقيقة، ولكونهما وجوديين بينهما غايةُ الخلافِ تشابهما (¬2) بهما (¬3). وإمَّا خياليّ (¬4) للتقارنِ (¬5) فيهِ بسببٍ اتِّفاقي؛ وهو أن يكون بين تصوّراتهما تقارنٌ في الخيالِ بأسبابٍ اتفاقيّةٍ مؤدِّيةٍ إلى ذلك. فإنَّ جميعَ ما يثبت (¬6) في الخيالِ ممّا يصل إليه من الخارج يثبتُ فيه على نحو ما يتأدّى إليه ويتكرّرُ لديه. والخياليّاتُ تختلفُ فيما بين معشرِ البشرِ بالأسبابِ؛ لاختلافها (¬7) وعدمِ كونهما على وتيرةٍ (¬8) واحدةٍ، من صناعةٍ خاصّةٍ، أو عُرفٍ عامٍّ، فكم من صورٍ تتعانقُ في خيالِ أهلِ صنعة أو عُرفِ وَهي (¬9) في آخر لا ¬
تتراأي ناراهُما!، وكم [من] (¬1) صورةٍ لا تكادُ (¬2) تلوحُ في خيالٍ، وهي في غيره نارٌ على عَلَم!. فتتفاوتُ بالأممِ والطّوائفِ؛ كتعانقِ السَّطلِ والحمَّام في خيال الحمَّامِي، والْقَدُوم (¬3) والمنشار في خيال النَّجّار، ولو غيّرته إلى نحو السّطل والمنشار جاء الاستبداعُ والاستنكارُ. فلا يَسْتَنكرُ قوله - تعالى -: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} الآية (¬4). إلَّا من يَجهل؛ هذا فاعلٌ لقوله: (لا يستنكرُ). أنّ الخطابَ مع العرب، وما في خيالهم؛ أي: والحال أَنَّه ليسَ في خيالهم إلَّا الإبلُ فإنّ العربَ وَأهل الوَبرِ (¬5) لَمّا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي كافي عنايتُهم مصروفةً إلى أكثرها نفعًا؛ وهي الإبلُ؛ وإذا كان انتفاعُهم بها لا يتحصّل إلَّا بأن تَرعى وتشرب، فجلُّ مرمى غرضهم أرضٌ ¬
ترعاها، وبعد ذلكَ أهمّ مسارح النَّظر عندهم سَمَاءٌ تسقيهم وإيّاها، أي: الآبال (¬1). وإذا كانوا مضطّرّين (¬2) إلى مأوى يؤويهم، وإلى حصنٍ يتحصّنون فيه عند شنِّ الغاراتِ، ولا مأوى ولا حِصْن لهم إلّا الجبال، لا بدَّ وأن يكون خاطرُهم ملتفتًا إلى (¬3) جبالٍ هي معاقلُهم عند شنّ الغارات. والمعاقِل: جمع معقل، وهو: الْمَلْجأ. فتعانقُ هذه الصُّورِ في خيالِ البدويِّ ممّا لا كلام (¬4) فيه، بخلاف الحضريّ، فإنّه حيثُ لم تتآخذ عنده تلك الأمورِ ظنَّ النّسق - قبل أن يقفَ على ما ذكرنا - معيبًا؛ وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَولًا صَحِيحًا ... وآفَتُهُ (¬5) مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ (¬6) ولاستحبابِ التَّنَاسُب، أي: ولتحسين الوصلِ استحبَّ أن تكونَ ¬
الجُملتانِ متناسبتين؛ ككونهما: اسميّتين (¬1)، أو فعليّتين. فإذا كانَ المرادُ من الإخبار مجرّد نسبةِ الخبر إلى المخبرِ عنه من غير التّعرّضِ (¬2) لقيدٍ زائد عليه؛ كالتَّجدّدِ والثُّبوتِ لا يُخالفُ بينهما، ويُراعى ذلك؛ تقول: (قامَ زيدٌ وقعد عمرو) إلَّا لغرضٍ؛ كملاحظةِ تجدُّدٍ وثباتٍ، فيُخالف؛ كما إذا كان زيدٌ وعمرو قاعدين؛ فقامَ زيدٌ دون عمرو، تقول: (قامَ زيدٌ وعمرو قاعدٌ بعدُ) إذ مُراعاةُ المعنى أَوْلَى من المناسبةِ اللّفظيّةِ؛ نحو قوله - تعالى -: {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} (¬3)؛ أي: سواء عليكم (¬4) أَأَحدثتم الدَّعوةَ لهم أم أستمرَّ عليكُم صمتكُم عن دعائهم (¬5)؛ لأنّهم كانوا إذا حزَبهم أمرٌ دعوا اللهَ دون أصنامهم؛ فكانتْ حالُهم المستمرّةُ أن يكونوا عن دعوقم صامتين. ونحوَ قوله - تعالى -: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} (¬6)؛ أي: ¬
أجدَّدْت (¬1) عندنا تعاطي (¬2) الحقِّ فيما نسمعه منك أم اللِّعب؛ أي: أحوال الصِّبا بعدُ (¬3) على استمرارها عليك، استبعادًا منهم أن تكون عبادةُ الأصنامِ من الضّلالِ. ثم قد يُصارُ إلى الفصل (¬4)؛ و (قد) للتَّحقيق. في هذا الحال؛ أي: حالِ عدمِ الاختلافِ ووجودِ التَّناسُب لوجهين: الأوّلُ: وجودُ سابقٍ يُحْذَرُ التَّشريك، أي: تشريكِ الثَّاني معه فيه؛ في ذلك الحكم فإنْ سبق آخرِ؛ أي: كلام آخر يُسْتحسنُ التَّشريك، أي: تشريك الثَّاني معه فيه؛ أي (¬5): في حكمه، فاحتياطًا؛ أي: فيُفصلُ ويقطع احتياطًا، نحو: وَتَظُنُّ سَلْمى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ... بَدَلًا أُرَاهَا في الضّلالِ تَهيمُ (¬6) لمْ يعطفْ (أُراها) كي لا يحسبَ السّامعُ العطفَ على (أبغي) ¬
دُون (تَظُنُّ)، ويَعُدّ (أراها) من مظنوناتِ سَلْمى في حقِّ الشّاعر (¬1)، وليس هو بِمُرادٍ؛ إنّما المرادُ: أنّه حُكْمُ الشّاعرِ بذلك عليها (¬2). وإلَّا فوجوبًا؛ أي: وإن لم يَسْبِق كلامٌ آخر يُسْتحسنُ التَّشريك فيه -فيقطع وجوبًا؛ نحو: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (¬3) للمانع عن العطف؛ لأنَّه لو عُطِفَ على {إِنَّمَا نَحْنُ مُستهْزِءُونَ} (¬4) لشاركه في حكمه؛ وهو كونه من قولهم، وهو (¬5) ظاهرُ البطلان. ولو عُطِفَ على {قَالُوا} (¬6) لشاركه في اختصاصه بالظَّرف (¬7) المُقَدّم، وهو {إِذَا خَلَوا} (¬8)، لكنَّ استهزاءَ اللهِ بهم لا ينقطعُ مُتَّصلٌ في كلِّ حال؛ خلوا إلى شياطينهم أو لم يخلوا. وهذا؛ أي: هذا النَّوع من الفصلِ -وهو ترك العطفِ- حذرًا من التشريك يُسَمّى قطعًا. ¬
الثَّاني (¬1): أن يُنوى الجوابُ عن سُؤالٍ مقدَّرٍ، وذلك فيما إذا كانَ الكلامُ السّابقُ لفحواه كالموردِ للسُّؤالِ؛ فينَزّل ذلك منْزلة الواقع ويُطلب بهذا الثَّاني وُقوعه جوابًا له؛ فيُقطع عن الكلامِ السّابقِ لذلك. للتَّنبيه عليه؛ أي: جعله جوابًا عن سُؤالٍ مقدَّرٍ للَطِيفة، إمّا لتنبيهِ السّامع على موقع السُّؤال، أو ليُغني السَّامعُ عنه؛ عن السُّؤالِ، أو لئلّا يُسمع منه؛ من السّامع شيئًا تحقيرًا له، أو لئلّا يَنْقطع كلامُك بكلامه، أو للاختصار (¬2)، والقصدِ (¬3) بتقليلِ اللّفظِ إلى تكثيرِ المعنى وهو تقديرُ السُّؤالِ وتركُ العطفِ (¬4). وهذا؛ أي: هذا النَّوعُ من الفصْل، يُسمّى: استينافًا؛ نحو: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (¬5) بأن تُقدِّر تمامَ الكلام هو: (المُتَّقِيْنَ) (¬6)، ¬
ولا تجعلَ {الَّذِينَ} صفته فتقدِّر السُّؤال عنده (¬1) وتستأنف {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيبِ} إلى ساقةِ الكلامِ (¬2)، أو {أُلَئكَ}، أي: أو تقول: الاستينافُ في قوله: {أُلَئكَ عَلَى هُدًى} (¬3) كأنَّه قيل: ما للمتّقين الجامعين بين الإيمانِ بالغيبِ -في ضمن إقامةِ الصَّلاةِ والإنفاقِ ممّا رزقهم الله- وبين الإيمان بالكتب المنَزّلة؛ في ضمنِ الإيقانِ (¬4) بالآخرة، اختُصُّوا بهدًى لا يُكتنه كُنْهه ولا يُقادرُ قدرُه، مقولًا في حقّهم {هُدًى للْمُتَّقِينَ ... الَّذِينَ ... وَالَّذِينَ ...} بتنكير (هُدًى) (¬5)؟، فأُجيبَ بأنّ: أولئك الموصوفين غير مستبعدٍ أن يفوزوا دون مَنْ عداهم بالهدى عاجلًا، وبالفلاح آجلًا. والفرْقُ بينهما: أنّ (المُتَّقِينَ) ¬
الفصل
في الوجهِ الأوّلِ ليسَ موصوفًا، وفي الثاني موصوفٌ (¬1) بالموصولين. والفصلُ؛ هذا بيانُ مقام الفصْلِ لعدمِ إمكانِ الوصل (¬2)؛ بخلافِ الفصلِ للوجهين المذكورين؛ فإنَّه (¬3) فيهما بالنّظرِ إلى وُجودِ التَّناسُبِ وعدم التَّخالُفِ صالح للوصلِ (¬4)؛ لكن بواسطة محذورٍ قد يُصارُ إلى الفصلِ. إمَّا للاتِّحادِ؛ أي: لاتِّحادِ لجملتين، بأن يُقْصدَ البَدلُ؛ أي: بأن يُقصدَ بالثّانية أن تكونَ بدلًا عن الأولى (¬5)؛ لأنّ نَظْمَه أوفى بالمقصودِ تأديةً، وذلك فيما يكون الكلامُ السّابقُ غيرَ وافٍ بتمام المراد، أو كغيرِ الوافي، والمقامُ مقامُ اعتناء بشأنه؛ إمّا لكونه مطلُوبًا في نَفْسه، أو غيرَ ذلك؛ [من كونه: لطيفًا، أو فظيعًا، أو عجيبًا، أو غريبًا؛ فيعيده المتكلّم بنظم أوفى منه ليظهر بمجموع القصدين مزيدُ اعتناءٍ بالشّأن] (¬6) كقوله - تعالى -: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَال الأَوَّلُونَ * قَالُوَا ¬
أإذَا مِتْنَا} (¬1) فَصلَ (¬2) {قَالُوا أإذَا مِتْنَا} عمَّا قبله لقصد البدل (¬3)، وكونه أوفى بتأديةِ (¬4) المقصود للتّصريح (¬5) بالمقولِ (¬6) واضحٌ. وفي أنّ (¬7) الفصلَ في البدلِ (¬8) من بابِ الاتِّحادِ نظرٌ؛ لأنّه فيه ليس للاتِّحاد؛ بل لأنّه في حُكمِ الجملةِ العارية عن المعطوفِ عليه -كما مرّ (¬9) -؛ اللَّهمَّ إلّا أنْ يقال: ذلك الحكمُ في المفرداتِ والتّوابعِ الحقيقيّة (¬10)؛ بخلافِ هذه؛ فإنّها كالتّوابع. أو البيانُ؛ أي: [أو بأن] (¬11) يُقصدَ بالثّانية أن تكون بيانًا، وذلك فيما يكونُ في الكلامِ السّابقِ نوعُ خفاءٍ، والمقامُ مقامُ ¬
إزالته، نحو: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَال يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} (¬1) لم يعطفْ، (قال) على (وَسْوَسَ)، لكونه تفسيرًا أو تبيينًا له. أو التَّأكيدُ؛ أي: [أو] (¬2) بأن يقصدَ بالثّانية التَّأكيدُ، وذلك إذا أُريدَ تقريرُ الأولى (¬3) مع دفع توهّمِ التَّجوّز، نحو: {ذَالِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيه هُدًى لِّلْمُتًقِيْنَ} (¬4) لم يعطف {لَا رَيْبَ فِيهِ} على {ذَلِكَ} (¬5) حين كان وزانه في الآية وزان (نفسه) في: (جاءَ الخليفةُ نفسُه)، لأنه حين بولغ في وصفِ الكتاب ببلوغه الدَّرجةِ القصيا (¬6) من الكمال؛ حيث جُعلَ المبتدأُ لفظةَ {ذَلِكَ}، وأُدْخِل على الخبرِ حرفُ ¬
التَّعريف أُتبع بقوله: {لَا رَيْبَ} تقريرًا له ونفيًا للتَّجوّز وعدمِ التَّحقُّق؛ وكذلك فُصِل {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} لمعنى (¬1): التّقرير فيه للّذي قبله؛ لأنَّ قوله: {ذَالِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهَ} مَسُوقٌ لوصفِ التَّنْزيلِ بكمالِ كونه هاديًا؛ لأنَّ شأنَ الكمّبِ السَّماويّةِ الهدايةُ لا غير، وبحسبها تتفاوتُ في درجاتِ الكمال. و {هُدًى} أي: هو هدىً، ومعناه: نفسُه هدايةٌ محضةٌ بالغةٌ درجةً لا يكتنه كنهها. هذا؛ وإنّما (¬2) لم يذكر الصِّفةَ لأنّ الجملة لا تقعُ صفةً لجملةٍ أُخرى؛ لأنَّ الموصوف لا يكونُ إلّا ذاتًا، وما يقعُ موصوفًا في الجملةِ ليست بذات، بل نسبة؛ ولهذا لم يقع - أيضًا - محكومًا عليه. وإمّا للتَّبايُنِ؛ أي: الفصلُ إمّا للاتِّحادِ، وإمّا للتّبايُن وكمال الانقطاع بينهما. فتارةً يكونُ ذلك لاختلافهما؛ أي: الجملتين، خبرًا وطلبًا، وتارة يكونُ لعدمِ (¬3) الرّبط بينهما. فالأَوَّل، كقوله (¬4): ¬
وَقَال (¬1): إِنِّي في الهَوَى كَاذِبٌ ... انْتَقَمَ الله مِنَ الكَاذِبِ. لم يعطفْ (انتقم) على ما قبله، لأنّه دعاءٌ وما قبله خبَرٌ، إلَّا أن تُضمّن إحداهما، أي: إحدى الجملتين المختلفتين، معنى الأُخرى بأن ضُمِّنَ الخبرُ معنى الطّلب (¬2) أوْ بالعكس، فإنّه مع ذلك الاختلافِ لا يُفْصَل، إذ يصيرُ حينئذٍ -لاشتماله على ما يُزيلُ الاختلافَ- متوسِّطًا بين كمالِ الاتِّصالِ وبين (¬3) كمالِ الانقطاع، نحو قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (¬4) عطفًا (¬5) على {لَا تَعْبُدُونَ}، المُضَمَّنة معنى: (لا ¬
تعبدوا) (¬1)؛ في قوله - تعالى - (¬2): {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}. وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬3) بعد قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (¬4)؛ فإنّ قوله {بَشِّرِ} ضُمِّنَ معنى الخبر؛ فكأنّه قال: أُعدّت وبُشِّر؛ بلفظ المبني للمفعول؛ كما هو قراءة (¬5) زيدِ (¬6) بن عليٍّ - رضي الله عنهما (¬7). وهذا ¬
الوجهُ (¬1) ما قال (¬2) في "المفتاح"، وقال: وعُدَّ عطفًا عَلى {فَاتَّقُوا} (¬3)؛ وهو إشارةٌ إلى قولِ الزَّمخشريِّ في "الكشّافِ" (¬4): "ولكَ أن تقولَ: هو معطوفٌ على {فَاتَّقُوا}؛ كما تقول: (يا بنِي تميمٍ احذروا عقوبةَ ما جنيتم، وبَشِّر -يا فلان- بني أسدٍ بإحساني إليهم!) ". والأظهرُ؛ أي: عند السَّكّاكيِّ (¬5)، أنَّه على (قُلْ)؛ أي: أنّه معطوفٌ على (قُل) مُقَدّرًا ومُرادًا قبل: {يَا أَيُّهُا النَّاسُ اعْبُدُوا} (¬6)؛ لكون إرادةُ القولِ بواسطةِ انصبابِ الكلام إلى معناه غير ¬
عزيزةٍ في القرآن؛ كما قال (¬1). وتقديرُ القولِ كثيرٌ، أي: في القرآن وغيرِه، منه، أي: ممّا قُدِّرَ فيه القول قوله -تعالى-: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا} (¬2)، أي: قلنا أو قائلًا أنتَ يا موسى: كُلُوا. وقوله (¬3): {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الْطُّور خُذُوا} (¬4)، أي: قلنا أو قائلين: خذوا. وتارةً بأن لا ربط، هذا هو الثَّاني من قسمي التَّباين (¬5). إمّا معنًى، أي عدمِ الرَّبطِ بينهما على نوعين -أيضًا-: إمّا بحسبِ المعنى، وإمّا بحسبِ سياقِ الكلامِ. فالأوّلُ ما لا يكونُ بينهما جهةٌ جامعة، كما تقولُ لجوهريٍّ: فلانٌ يقرأ ثمَّ تتذكّرُ أنَّ لك خاتمًا، أي: يخطُرُ ببالك أنّ صاحبَ حديثك جوهريٌّ ولك خاتم (¬6) لا تعرفُ قيمَته تريد تقويمه؛ تقولُ: لي خاتمٌ، أي: تُعْقِبُ كلامكَ بأنّ لي خاتمًا لا أعرف قيمتَه، فهلْ أُرِيكَهُ لتُقَوِّمَ؟، فتَفْصلُ عمّا قبلَه. ¬
وإمّا سياقًا (¬1) إشارةٌ إلى القسم الثاني من القسم الثَّاني؛ نحو: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} (¬2) قطع {إِنَّ الَّذِيْنَ} عمّا قبلَه؛ لأنَّه لبيانِ حالِ الكفّار، وما قبله لبيانِ حال الكتاب دُون المؤمنين. إنّما ذكَرَ قوله: (دونَ المؤمنين) دفعًا لتوهُّم من يتوهّمُ (¬3) أنّ بينهما جامعًا هو التَّضادُّ؛ إذْ ما قبله لبيانِ حالِ المؤمنين. والقسمُ السِّياقيّ هو الَّذي عَبَّرَ عنه السَّكاكيُّ بقوله (¬4): "أو يكونُ بينهما جامعٌ، لكن غير مُلتفتٍ إليه لبُعدِ مقامِك عنه". ¬
النوع الثاني: في الإيجاز والإطناب
النوعُ الثَّاني (*): في الإيجاز والإطناب؛ وهما نسبيّان؛ إذ لا يُعقلُ معناهما إلَّا بالإضافة [إلى غيره] (¬1) ولهذا يختلفان؛ فكمْ من وجيزٍ بالنِّسبةِ إلى شيءٍ؛ طويلٌ (¬2) بالنِّسبة إلى آخر!. فَلِنَنْسِبُهُما إلى متعارفِ الأوساطِ؛ أي: كلامهم في مجرى عرفهم في تأَديةِ المعنى. وإِنَّه؛ أي: متعارف الأَوساطِ. لا يُمدحُ منهم، ولا يُذمّ. لَهُما؛ للإيجازِ والإطنابِ مراتبُ لا تُحصى من وجيزٍ، وأَوْجز، وأَوْجز، ومطنبٍ، وأَطْنبَ، وأطنبَ. وإذا صادفا المقامَ حَسَّنا الكلامَ وصيَّراه محمودًا ممدوحًا، وإلّا؛ أي: وإن لم يصادفا [المقام] (¬3) صارَ الإيجازُ عيًّا (¬4) مَذْمومًا وتَقْصيرًا، والإطنابُ إِكْثَارًا مَلُومًا وتَطويلًا. ¬
الإيجاز
فعلى هذا: الإيجازُ هو: أداءُ المقصودِ بأقلِّ من عباراتِ متعارفِ الأوساطِ، والإطنابُ أداؤه بأكثرَ من عباراتِه. فالإيجازُ؛ أي: مثالُ الإيجاز؛ كقوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬1) كان أوجزُ كلامٍ عندهم [أي: العرب] (¬2) في هذا المعنى قولهم (¬3): (القتلُ أَنفَى للقَتْلِ). وهذا؛ أي: قوله - تعالى -. أَوْجزُ منه؛ أي: مِمّا عندهم وأفضلُ لوجوهٍ عشرةٍ: الأوّلُ: لقلّةِ حروفه بالنِّسبةِ إلى ما يناظرُه، لأنَّ حروفَه عشرةٌ (¬4)، وحروفَ مناظره أربعة عشر. الثَّاني: لأنَّ (¬5) حصولَ الحياةِ -وهو الْمَقْصُود (¬6) الأصليّ- مَنصوصٌ عليه. الثّالثُ: لاطِّرادِ قولهِ دُون قولهم، فإنَّ القتلَ الَّذي يُنْفي به القتلُ هو ¬
ما كان على وجه القصاصِ لا غيره، كالَّذي يقتصّ (¬1) به. الرَّابعُ: لخلَوّهِ عن التَّكرارِ الَّذي هُو عَيْبٌ. الخامسُ: فيه صَنْعةُ الطِّباقِ الَّتي من محسِّناتِ الكلامِ (¬2)؛ فإنَّ القصاصَ ضدُّ الحياةِ معنًى؛ بخلافِ قولهم. السَّادسُ: لسلامةِ أَلْفاظِه عمّا يوحشُ السّامعَ، بخلافِ لفظ (القتل). السَّابعُ: لبُعدِه عن تكرارِ قَلْقَلة القافِ الوجبِ للضَّغطِ والشِّدَّةِ. الثَّامنُ: لاشْتمالِه لحُكمِ الجرحِ والأطرافِ -أيضًا-. التَّاسعُ: لجَعلِ القصاصِ ظَرْفًا للحياةِ الموجب للمبالغةِ. العاشر: لدلالةِ تنكيرِ {حَيَاةٌ} على التَّعظيمِ؛ لمنعهِ عمّا كانوا عليه من قتلِ جماعةٍ بواحدٍ. وكقوله (¬3): {هدًى لِلْمُتَّقِيْنَ} (¬4)؛ إذ المعنى: هُدًى للضَّالّين الصّائرين إلى التَّقوى؛ لأنَّ الهدايةَ إِنَّما تكون للضّالِّ لا للمُهْتدي (¬5). وعندَ مَن يَرى القُدْرة مع الفعل (¬6)؛ فالهدى إنّما هو حال الاهتداءِ، فتقول الهدايةُ ¬
للمُهتدي (¬1)؛ لكن لا بهدايةٍ قَبْل هذه؛ بل المُهْتدي بهذه الهدايةِ، كما قيلَ في علمِ الكلامِ على سبيل المغلطةِ (¬2) لا يمكنُ أَنْ يُوجِدَ موجود؛ لأنَّ الموجدَ إمّا أن يوجده حال الوجودِ، وإيجادُ الموجودِ محالٌ، وإمّا حال العدمِ، فيلزمُ اجتماع النَّقيضين؟. وأُجيبَ: بأنَّ المحال: إيجادُ ما هو موجودٌ بوجودٍ قبل؛ لا بهذا الوجودِ ولا يلزمُ محالُ. وفيه؛ أي: في قوله - تعالى -: {هُدًى لِلْمُتَّقَينَ} نوعان آخران من الحُسن (¬3): تسميةُ الشَّيءِ باسم ما يَؤُول إليه مجازًا؛ أي: على ¬
الإطناب
سبيلِ المجازِ. والمجازُ أبلغُ من التَّصريح. وتصديرُ أُولى الزَّهراوين (¬1) وهُما سورتا البقرةِ وآلِ عمران بذكرِ الأولياءِ المتّقين (¬2). والإطنابُ كقوله - تعالى -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬3) بدلًا مِنْ أَنْ يُقَال: إنَّ في (¬4) وقوع كلِّ ممكنٍ مع تساوي طَرفيه لآياتٍ للعقلاء؛ إذ الخطابُ؛ أي: التخاطُب. مع الكافّةِ؛ أي: كافّة الخلائق. وفيهم الذَّكيُّ والغَيُّ والمُقَصِّرُ في باب النّظرِ والاستدلال، والقويُّ الكاملُ فيه؛ فلا يكون مقام أَدعى إِلى الإِطنابِ منه. ¬
ومنه؛ أي: [من] (¬1) الإطنابِ بابُ نعم وبئس؛ نحو: (نعم الرّجل زيد) وإلّا لكفى: (نعم زيد). وفيه؛ أي: في هذَا البابِ. اختصارٌ بحذف المبتدأ على قولِ من يرى أصله: (نعمَ الرّجلُ هو زيدٌ)؛ فيحصل التَّعادُلُ الموجبُ لحُسْنه؛ ولا يخفى حُسنُ موقعه مع ما فيهِ من لطائف أُخرى، ولو لم يكن فيه شيءٌ سوى أنَّه يُبرِزُ الكلامَ في معرض الاعتدالِ؛ نظرًا إلى إطنابهِ من وجه، وإلى اختصاره من وجهٍ آخر - لكفى. ومنه؛ أي: من [باب] (¬2) الإطنابِ بابُ التَّمييزِ. ولم يتعرّض في "المفتاح" أنَّه من قبيل الإطناب، ولعلَّه (¬3) لأنّه لا إطناب في بعض أمثلته؛ وعبارته هكذا (¬4): "اعلم: أنَّ باب التّمييز كلّه سواء كان (¬5) عن مُفردٍ أو جملة (¬6) بابٌ مزالٌ عن أصله لتوخِّي الإجمال والتَّفصيل؛ ألا تراك تجد الأَمثلة الواردةَ من نحو: (عندي منوان سمنًا)، و (عشرون درهمًا)، و (ملء الإناء عسلًا)، و (طابَ زيدٌ نفسًا) (¬7)، و (طارَ عمرو فرحًا)، و (امتلأ ¬
الإناءُ ماءً) - مناديةً على أنَّ الأصل:؛ (عندي عن منوان)، و (دراهم عشرون)، و (عسل ملء الإناء)، و (طابت نفسُ زيدٍ)، و (طيّر الفرح عمْرًا)، و (ملأ الإناء ماء) " (¬1). وفيهما (¬2)؛ أي: في بابِ نعمَ وبئسَ وباب التَّمييزِ تفصيلٌ بعد إجمال ألا تراك إذا قلتَ: (نعم الرَّجلُ) مُريدًا باللَّام الجنسَ دون العهدِ كيف تُوجِّه المدحَ إلى زيدٍ أوّلًا على سبيل الإجمال، لكونه من أفرادِ ذلك الجنسِ، ثمَّ إذا قلتَ: (زيدٌ) كيفَ تُوجّهه إليه (¬3) ثانيًا على سبيل التَّفصيل. وفي التَّمييز كما إذا قلتَ: (طابَ زيدٌ)؛ فإن فيه إجمالًا لطيبه، ثمَّ إذا قلتَ: (نفسًا) صارَ مُفصّلًا. قال [تعالى] (¬4): {قَال رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (¬5) مقامَ شِخْتُ، وفيه انتقالاتٌ لطيفةٌ، لأنَّ أصلَ معنى الكلامِ ومرتبته الأُولى: (قدْ شِخْت)، فإنَّ الشَّيخُوخةَ مُشتملةً على ضعف البدنِ وشيبِ الرأسِ المتعرَّض لهما في الآية - تُركتْ لتوخِّي مزيدِ ¬
التَّقريرِ إِلى تَفْصيلها؛ في: ضَعُف بَدَني، وشابَ رأسي، ثم لاشْتماله على التَّصريح تُركتْ إلى ثالثةٍ أبلغ؛ وهي الكناية في: (وهنتْ عظامُ بدني)، ثم لقصدِ مرتبةٍ رابعةٍ أبلغ في التَّقرير بُنيت الكنايةُ على المبتدأ؛ لإِفادتها تقوِّي الحكمِ؛ فحصلَ: (أنا وهنتْ عظامُ بدني)، ثمَّ لقصدِ خامسةٍ أَبْلغ أدخلت (إِنَّ) على المبتدأ؛ فحصلَ: (إِنِّي وهنتْ عظامُ بدني)، ثم لسُلوكِ (¬1) طريقي الإجْمال والتَّفصيلِ قُصدت سادسةٌ وهي: (إِنِّي وهنت العظامُ من بدني)؛ ثمَّ لمزيدِ اختصاصِ العظامِ به قُصِدتْ سابعةٌ؛ وهي تركُ تَوْسيطِ البدنِ؛ فَحَصَل: (إنِّي وهنتْ العظامُ مني) ثم لشمولِ الوهنِ العظامَ فردًا فردًا قصدتْ ثامنةٌ؛ وهي: تركُ جمع العظم (¬2) إلى الإفرادِ لصحّةِ حصولِ وهنِ المجموع بالبعضِ دُون كلِّ فرد (¬3) فرد؛ فحصلَ {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}. وهكذا تُركت الحقيقةُ في (شابَ رأسي) إلى أبلغ؛ وهي: الاستعارةُ؛ فحصلَ: (اشتعل شيبُ رأسي)، ثم تُركت إلى أبلغ؛ وهي: (اشتعلَ رأسي شيبًا)؛ للإجمالِ والتَّفصيل، ثم تُركت لتوخِّي مزيد التَّقرير؛ إلى: (اشتعلَ الرأسُ مِنِّي شيبًا)، ثم تُركت لفظةُ: (منِّي) بقرينةِ (¬4) ¬
عطفِه على {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} لمزيدِ مزيدِ التَّقرير؛ وهي إيهامُ حوالةِ تأديةِ مفهومه على العقل دون اللّفظِ. وفي اختصارِ (ربِّ) بحذفِ حرف النِّداءِ وياءِ المتكلِّم (¬1). وهو كالأساسِ للكلامِ ومن حقِّه؛ أي: الأساسِ. أن يُقَدرَ بقدر ما يُنْوَى من البناءِ عليه- تحسينٌ له. قوله: (تحسينٌ) مبتدأ، وخبرُه الظّرفُ المقدَّمُ عليه؛ وهو قوله: (وفي اخْتصار). والإيجازُ قد يُعتبرُ بما هو خَليقٌ بمقامِ (¬2) الإطناب (¬3)؛ وهذا شأنُ القولِ في انقراضِ الشبابِ وإلمامِ الشَّيبِ المرِّ الأمَرّ المُغَيّبِ؛ لأن مغيبَ المشيبِ الموتُ؛ أي: لبيانِ شأنِ انقطاع الشَّباب، ونزول الشّيبِ مقامٌ خليقٌ إطنابُه. وعبارةُ المفتاح -في هذا المقامِ- تنقله بعينه؛ لأنه أبسط وأدلُّ على المرادِ؛ قال (¬4): ¬
"اعلم: أنَّ الّذي فَتَّقَ أكمامَ هذِه الجهاتِ عن (¬1) أزاهير القبولِ في القلوبِ؛ هو أن مقدِّمة هاتين الجملتين وهي: (ربِّ) اختُصرت ذلك الاختصارُ؛ بأن حُذِفت كلمةُ النِّداءِ وهي: (يا) وحُذفت كلمةُ المضافِ إليه، وهي: ياءُ المتكلِّم، واقتُصر من مجموع الكلماتِ على كلمةٍ واحدةٍ [فحسب] (¬2) وهي: المنادى. والمقدِّمةُ للكلامِ -كما لا يخفى على من له قدمُ صدقٍ في نهج البلاغةِ- نازلةٌ منْزلة الأساسِ للبناءِ؛ فكما أن البنّاءَ الحاذقَ لا يرى الأساسَ إلّا بقدر ما يُقدِّرُ من البناء عليه، كذلكَ البليغ يَصنعُ بمبدأ كلامه، فمتى رأيته اختصر المبدأ فقد آذنك باختصارِ ما يُورد (¬3). ثُمَّ إنّ الاختصار -لكونه من الأمور النِّسبيّة- يُرجَعُ في بيانِ دعواه إلى ما سبق تارةً (¬4)، وإلى كونِ المقامِ خليقًا (¬5) بأبسطِ ممّا ذُكر أُخرى. والذي نحنُ بصددِه من القَبِيل الثاني؛ إذْ هُو كلامٌ في معنى انقراضِ الشّبابِ و (¬6) إلمامِ المشيبِ، وهلْ معنى أحقُّ بأن يَمتري (¬7) القائلُ ¬
فيه (¬1) أفاويقَ (¬2) المجهودِ، ويستغرقَ في الإنباءِ عنه كل حدٍّ معهود؛ من انقراضِ أيامٍ ما أَصدق مَنْ يَقُول فِيها (¬3): وقد تَعَوَّضْتُ من (¬4) كُلٍّ بِمُشبهه ... فما وَجدتُ لأيامِ الصِّبا عِوضًا! ومن إلمامِ المشيبِ المعيبِ المرِّ الطّلوع الأمرِّ المَغيب؟!. [تَعِيبُ الغَانِيَاتُ عليَّ شَيْي ... ومَن لِي (¬5) أَنْ أمتِّعَ بالمعِيبِ!!] (¬6) ". ¬
النوع الثالث: في جعل إحدى الجملتين حالا
النوعُ الثّالثُ (*): في جعلِ إِحدى الجُملتين حالًا. الحالُ (¬1): إما مُؤكِّدة، نحو (زيدٌ أبوك شفيقًا) أي: أَحقه. وأحكامُها وحالُها عُلمت من النَّحو، [فلا واو] (¬2) لأنها إنّما هي (¬3) للرّبطِ، والمُؤكّدةُ لا تحتاجُ إلى الرّبطِ، للّاتحاد (¬4) بينها وبين ذِي الحالِ، وارتباطها به بحسبِ المعنى؛ لأنها هي المقررّة لمضمونِ الجُملةِ المذكورة (¬5) وإمّا مُنْتقلةٌ؛ وهي ما يُقابِلُها، وإذا أُطلقَ الحالُ فهي المرادُ. فالمفردة؛ أي: في الحالِ المنتقلةِ المفردةِ. صفةٌ في المعنى لِذي الحال، وحكمٌ عليه، كالخبر. فلا واو؛ أي: فلا يجوزُ الواوُ، لأنها للرّبطِ وللدّلالة على الحاليَّة. والتَّعلُّقُ المعنويُّ والإعرابُ مغنٍ عنها. ¬
والجملةُ (¬1) أصلُها التَّجدُّدُ حال النّسبةِ الحاصلةِ بين ذي الحال وعامله؛ وذلك لتُشابه الحال المفردةَ التي هي الأصلُ؛ لأن المفردةَ تدلَّ على حصولِ صفةٍ غير ثابتةٍ مُقارنة لما جُعلت قيدًا له. فمُضارعٌ مُثبتٌ؛ أي: فأصلُها (¬2) مضارعٌ مُثْبتٌ (¬3)؛ لأنه -أيضًا- (¬4) يدل على حصولِ صفةٍ غير ثابتةٍ؛ أي: مُتجدِّدة مقارنةٍ لما جُعلت قيدًا له. وهذا مرتبطٌ معنًى؛ لما ذكرَنا. فلا واوَ؛ أي: فلا حاجةَ إلى الرابطةِ اللّفظيَّة التي هي الواوُ؛ نحو: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)} (¬5). وإلا؛ أي: وإِنْ لم يرتبط معنًى؛ بأن لا يكون مضارعًا مُثْبتًا (¬6) -مثلًا-. أُتِيَ بها للرّبطِ؛ أي: بالواو؛ لتربطها بذِي الحالِ، وذلك؛ أي: الإتيانُ بها (¬7) بحسَبِ قُوَّة البُعدِ عن الرّبطِ المعنويِّ؛ فتختلف وُجُوبًا، وجوازًا، ورُجحانًا؛ بحسبِها. وأبعدُها الاسميَّةُ؛ فإن دلالتها على الثُّبوتِ وحُصولِ الصِّفةِ الثابتة ¬
فقط؛ لا على التَّجدُّدِ، ولا على المقارنةِ؛ فهي أكثرُ مخالفةً للمُفْردة من غيرها. فالتُزِمتْ الواوُ فيها؛ أي: في الاسميَّة (¬1)، إلا نادرًا نحو: (كَلِّمتُه فُوْهُ إلى فِيّ) بأن يكون (فوه) مبتدأً، و (إلى فيّ) خَبَرَه، والجملةُ حالٌ بلا واوٍ نادرًا. ومعناه: كلمته مُشافهًا. و (رجعَ عَوْدُه على بدئهِ)؛ بالرَّفع على أنهُ مُبتدأ و (على بدئه) خبرُه؛ ليصحَّ مثالا؛ لا بالنَّصب على الظّرف -كما ذكره الجوهريُّ (¬2) في الصِّحاح (¬3) -؛ أي: رجع في عوده، ولا على الحالِ؛ كأنه ¬
قيل: يرجعُ (¬1) عائدًا، ومعناه: رجع والحالُ أن عودَه في الطّريقِ الذي جاءَ منه (¬2). ثم الماضي؛ أي: أبعدُها بعدَ الاسميَّة الماضي. للتجدُّدِ في غيرِ حالِ النِّسبةِ، أي: أنه (¬3) يدلّ على حُصولِ صفة غير ثابتة، لكنَّه ليس حال النِّسبةِ ومقارنًا لِمَا جُعلت قيدًا له. فالتُزم فِيها [أي] (¬4) في الجملة الماضية (قد) تحقيقًا، نحو: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} (¬5)، أو تقديرًا؛ نحو: {جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (¬6)؛ أي: قد حَصِرت. لتُقربه؛ أي: الماضي من الحالِ، حتَّى يصحَّ وقوعُه حالًا، فَتُنَزَّل المُقاربة الحاصلة من لفظِ (قد) منْزلةَ المقارنةِ، أي: مُقَارنتها (¬7) لما جُعَلتْ قيدًا له. ¬
أوْ تُجعلَ (¬1) مقاربَةُ الفعلِ (¬2) هيئةً للفعل الذي جُعلت هي حالًا له؛ وحينئذ (¬3) يُسْتحبُّ (¬4) الواو، ويكونُ أَوْلَى وأرجحَ لعدمِ المقارنةِ؛ لكن (¬5) يجوزُ تركها -أيضًا- نظرًا إلى التَّنْزيل والجَعل (¬6). قوله (¬7): (هيئةً للفعلِ)؛ أي: لمعمولِ الفعلِ الذي هو ذو الحالِ، وإنّما قال: (هيئةً للفعل) ولم يقل: (هيئة (¬8) لمعموله) تنبيهًا على أن الحال وإن كان بيان هيئة المعمولِ لكنّه باعتبارِ الفعلِ ونسبته إليه؛ فلملاحظةِ ذلك الاعتبار اختار هذه العِبارة، وهو -كما قيل-: الحالُ قيدُ العاملِ، أو تقول: عرّفَ السَّكاكيُّ الحال -في قسم النَّحو بأنَّه (¬9) -: "بيانُ هيئةِ وقوع الفعل"؛ فهو جارٍ على اصطلاحِه. ¬
ثم النّفيُ، أي: بعد الجملةِ الماضية أبعدُها المنفيّة؛ ماضيةً كانت أو مضارعة؛ لأن له (¬1) الدّلالة على المقارنة؛ أما في المضارع [فظاهر] (¬2) وأمّا في الماضي فهو لأن (¬3) النَّفي مُسْتَمرٌّ غالبًا إلى وقتِ التَّكلّم؛ فيكون مقارنًا قوله، وليس هيئةً للفعلِ إلّا بالعرضِ؛ إشارةٌ إلى أن النَّفي هيئةٌ -أيضًا- لكن بالعرض؛ لأن (جاءني زيدٌ ليسَ راكبًا) في قُوّةِ (جاءني زيدٌ ماشيًا) (¬4)؛ فيدلُّ على نوع من الحُصولِ والتَّجدُّدِ، فجاز فيه تركُ الواو للمقارنةِ والتَّجدُّد، وجازَ دخولها لأن المقارنةَ بحسبِ الغالبِ لا على سبيلِ القطع، والتَّجدُّد بالعرضِ لا بالذّاتِ، وكأنهما لا يتحقّقان، والتَّركُ أَوْلَى لوُجود الأمرين (¬5) في الجملةِ (¬6)؛ كما قال في المفتاح: إنّ ترك الواو أرجح (¬7). والمصنِّفُ قال: فيجوز من غيرِ تعرّضٍ لرُجحان جانبِ التَّرك؛ لكن بالنَّظر إلى التَّعليلِ يُفْهم رُجحانُه. فإن قيلَ: الجملةُ الاسميّةُ -أيضًا- تستمرّ (¬8) غالبًا؛ لأن الشَّيءَ إذا ¬
ثبتَ فأصلُه بقاؤه على ما كان استصحابًا؛ فيدلُّ على المقارنة -أيضًا-. قلنا: استمرارُ العدمِ لا يفتقرُ إلى سببٍ، بخلافِ استمرارِ الوجود فلا يدلُّ بلا تجدُّد سبب الوجود على بقائه. وكذا في الظّرف؛ [أي] (¬1): يجوزُ دخولُ (¬2) الواو في الظّرفِ إذا وقعَ حالًا لجواز الأمرين (¬3)؛ يُقدّرُ (¬4) الاسمُ المفردُ؛ فلا تدخل الواو؛ نحو: (رأيته على كَتفه سَيف)؛ أي: حاصلًا (¬5) على كتفه، ويُقَدّرُ الفعلُ الماضي فيكونُ حكمُه حُكمَه؛ فيدخل الواوُ؛ نحو: (رأيته وعلى كتِفه سيف)؛ أي: وحصلَ على كتفِه سيف (¬6)، ولم يُقَدَّر بالمضارع؛ لأنه لو قُدِّرَ به لامتَنَعَ مجيئُها بالواو. نعم بين الظرفِ وبين النَّفي (¬7) فرق؛ وهو أن في النَّفي (¬8) التَّركَ أَوْلَى، وفي الظّرفِ لا أولويَّة؛ بل الظَّرفان متساويان. ¬
فعُلم أن الجملةَ بالنِّسبةِ إلى الواو لها الأحكامُ الخمسة: ما يجبُ دخولها فيها كالجُملةِ الاسميّةِ، وما يُستحبُّ كالماضِية، وما يَحرُمُ ويمتنعُ كالمُضَارع المثبَتِ، وما يكره دخولُها ويكونُ تركُها أَولى كالجملة المنفيَّةِ، وما يَسْتوي الأمران فيها كَمَا في الظرفيَّةِ. ويجبُ دخولُ الواو على الجملةِ الّتي وقعتْ حالًا في النَّكرةِ؛ أي: إذا كانَ ذو الحالِ نكرةً، تمييزًا للحالِ عن الصِّفةِ، ودفعًا لالتباسها بالصِّفة (¬1)؛ نحو: (جاءني رجلٌ ويَسْعى)؛ هذا في الجملةِ؛ لأنّ الحال المفردة عند تنكيرِ ذي الحالِ واجبُ التَّقديمِ، وإنّما أَتَى بالجملةِ المُضَارعةِ لأنه إذا عُلم وُجوبُ الواو فيما يمتنعُ دخولُها عليه يلزمُ في سائرِ الجملِ بالطّريقِ الأَوْلَى. ¬
القانون الثاني: في الطلب
القانونُ الثاني (*): في الطّلبِ قد سبقَ أن حقيقةَ الطلبِ حقيقةٌ معلومةٌ مستغنيةٌ عن التَّحديدِ (¬1)؛ فالكلامُ في مقدّمةٍ يَسْتدعيها المقامُ؛ من بيانِ ما لا بدَّ للطّلبِ منه، ومن تَنوُّعِه؛ والتَّنبيهِ على أبوابِه في الكلامِ (¬2). وكَيْفِيَّةِ توليدِها لِمَا سِوى أصلِها. وهو لِمُتصوَّرٍ، أي: لمطلوبٍ مُتصوّرٍ، غيرِ حاصلٍ؛ في الخارج، حينئذ؛ حينَ الطلبِ. أمَّا أنه لمطلوبٍ؛ فلأن الطّلبَ بدونِ المطلوب لا يُتَصَوَّرُ. وأمّا أنه لمتصوّر؛ فلأن الطلبَ من غير تَصَوُّرٍ -إمّا إجمالِيّ كشيءٍ مَا، أو تفصيليّ بالنِّسبةِ إلى شيءٍ ما، كإنسانٍ (¬3) -لا يصحّ (¬4) وإلا يلزم منه طَلب المجهولِ المطلَق؛ وهو مُمتنع. وأمّا أنه غيرُ حاصلٍ؛ فلامتناع تحصيلِ الحاصلِ وطلبِه عقلًا (¬5). ¬
فإمّا أن لا يستدعي الإمكان (¬1)؛ أي: لا يَسْتدعي في مطلُوبِه إمكانَ الحصولِ؛ لا أنه يستدعي أن لا يمكن. والأَوَّلُ أعمُّ؛ لأنّه كُلّما صدقَ: (يستدعي أنْ لا يُمكن) صدق: (لا يَسْتدعي أن يُمكن) وإلّا لصدقَ (¬2): (يستدعي أن يُمكن)، فيجتمعُ النَّقيضان. وليسَ كلّما صدق (¬3): (لا يستدعي أن يُمكن) صدق: (يستدعي (¬4) أن لا يُمكن)؛ لأن الأَوَّلَ يحتملُ أن يُجامع الإمكانَ وعدمه؛ لاحتمالِه منهما، بخلافِ الثاني فإِنَّه لا يُجامعُ الإمكانَ لاستلزامه عَدَمه (¬5). وهو التَّمنِّي يقولُ: (ليتَ الشّبابَ يعُود) فيما لا يُمكن؛ لامتناع عودِ الشّبابِ. و (ليت لي مالًا أنفقه) فيما يمكن. أو يَسْتدعيه؛ أي: إِمكان حُصولِ المطلوب. ¬
وهو إمَّا للحصولِ في الخارج (¬1) فلإثباتِ؛ أي: فلحُصولِ إثباتِ أيَّ تَصورٍ؛ لأن التَّصديقَ لا يُطلَبُ كَونه في الخارج؛ لأن النِّسبةَ لا تكون خَارجيّة. أمرٍ؛ نحو (قُم)، أو نِداءٍ؛ نحو: (يا زيدُ)؛ فإنّك تطلُبُ بهذين الكلامين حُصُولَ قيامِ صاحبك، وإِقْباله عليك في الخَارج. ولنفي؛ أي: لحصولِ نَفْي أيِّ تصوُّر في الخارج (¬2). نَهْي؛ نحو: (لا تتحرّك)؛ للمُتحرّك؛ فإنّك تطلُبُ به (¬3) انتفاءَ الحركةِ في الخارج. أو في الذِّهنِ فاستفهام؛ أي: وإمّا للحُصولِ في الذِّهنِ؛ وهو الاستفهام. وهو (¬4) إما لطلبِ حصولِ ثُبوتٍ أو نفي؛ للتَّصوّر (¬5) أو للتَّصديق (¬6)؛ فأقسامُه ستّةٌ: لأنَّ الطلب إمّا: لحصولِ ثبوتٍ متصوّرٍ (¬7)، أو انتفاءٍ مُتَصوَّرٍ؛ وكلاهُما إِمَّا: ذهنيٌّ أو خارجيٌّ، ثم في الذّهنيِّ يزيد قسمان ¬
آخران: حصولُ ثبوتِ تصديقٍ، وحصولُ (¬1) انتفاءِ تصديق. قال الأستاذُ: ولعل مخالفةَ السَّكاكيِّ للقوم (¬2) فيما جعل التَّمَنِّي والنِّداء من الطلب، وهم جعلوهما من أقسامِ التَّنبيه- فرعٌ على أن عند المعتزلةِ (¬3) لا تغايرَ بين الإِرادةِ والطّلبِ (¬4)، وعندَ غيرهم مُتَغايران؛ فالتَّمنيِ عند غيره (¬5) الإرادةُ؛ وفيه تنبيهٌ على الطلبِ؛ لا أن الطلبَ مدلُوله وذاتِيَّه [وعنده الطّلبُ مدلوله وذاتيّته] (¬6)؛ كالإرادة، وكذا في النِّداء. فإنّ عند غيره (¬7): الطّلبُ فيه بالعرضِ؛ لأنه غرضٌ منه ومُرادٌ عنه، ويلزم منه عَقْلًا لا وضعًا؛ لأنه قيلَ: معنى (يا): "صوتٌ يَهتفُ به الرّجلُ". قال [به] (¬8) الزّمخشريُّ في الكشّافِ (¬9). ويلزمُ منه طلب الإقبالِ، ¬
تنبيه
والفعل وهو: (أدعوا) و (أنادي) من لوازمه، كما أن الحركةَ من لوازمها التّحركُ (¬1) بخلافِ ما عنده (¬2)؛ وقد مرّ (¬3) ما يقرُب منهُ في صدرِ الكتابِ (¬4). تنبيهٌ: الاستفهام ليحصلَ في الذِّهنِ نقشُ الخارج، والبواقي ليحصلَ في الخارج ما نقشُه في الذِّهن. قال في المفتاح (¬5): "الفرقُ بين الطّلبِ في الاستفهامِ، والطّلبِ في الأمرِ والنَّهي والنِّداءِ واضحٌ؛ فإنّك في الاستفهام تطلُبُ ما هو في الخارج ليحصلَ في ذهنك [نقشٌ] (¬6) له مُطَابق، وفيما سواه تنقشُ في ذهنك، ثم تطلبُ أن يحصلَ له في الخارج مطابقٌ؛ فنقشُ (¬7) الذّهنِ في الأَوَّلِ تابعٌ، وفي الثاني متبوعٌ". ومن عبارةِ المختصر يُعرفُ حُكمُ التَّمني -أيضًا-؛ لشمول ¬
قوله: (البواقي) إيّاه، بخلافِ عبارةِ (¬1) أصلِه (¬2) فإنّه لا يُعرَفُ منه حُكْمه (¬3). ثم هذه؛ أي: الأبواب الخمسة، قد تُزالُ عن مواضعها لمانعٍ يمنع من (¬4) إجرائها على الأصلِ إلى غيرها بحسب ما يُناسبُ المقام؛ فتقول لمن همّكَ همّه (¬5): (ليتك تحدّثني)؛ سؤالا؛ أي: على سبيل السُّؤال؛ لأنّ هذه الحالةَ -أي: الاشتراك [في الهمَّيْن] (¬6) - تقتضي المحادثةَ لإزالةِ الشّكوى (¬7) لا على سبيلِ التَّمنّي، لامتناع إجراءِ التَّمنّي على أصله؛ وهو كونُه غيرَ مطموعٍ في حُصوله؛ فتولّد بمعونةِ قرينةِ الحالِ منه معنى السّؤالِ (¬8). وإنّما استعمل فيه (ليت)؛ لأنه لَمّا استبطأَ حديثَ صاحبه شَبَّه (¬9) حاله بحالةِ (¬10) من لا يُطْمع في حديثه (¬11). ¬
هكذا قالوا، لكن في كوْن أصلِه ما ذكر (¬1) حزازةٌ. [و] (¬2) {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} (¬3) حيثُ يمتنعُ التصديقُ؛ أي: في مقامٍ لا يسع إمكانَ التَّصديقِ بوجودِ الشَّفيع. تمنّيًا؛ أي: يقول (¬4) على سبيل التَّمني؛ إذْ يمتنعُ إجراءُ الاستفهامِ على أصله؛ فيتولّدُ (¬5) بمعونةِ (¬6) قرائنِ الأحوالِ معنى التَّمنّي (¬7). ¬
وكذا تقول تمنّيًا: (لو تأتيني فَتحَدِّثَنِي) بالنَّصب؛ لأن نصبَه بإضمار (أَنْ)، و (أن) لا تُضْمر إلّا بعدَ الأشياءِ الستة (¬1). وتَقْديرُ غير التَّمنّي مُتعذّرٌ. فيقدّر (لو) مُولّدًا للتّمنِّي وإلا امتنع (¬2) النّصبُ. فإنّ (لو) تُقَدِّرُ غيرَ الواقع واقعًا في الشَّرط؛ وكذلكَ التَّمنّي؛ [لأنّ الطّلبَ وقوع ما لم يقع فإذا شارك التَّمني] (¬3) في هذا المعنى ناسبَ أن يُضَمَّن معناه. وكذا تقولُ لعل تمنيًا كَمَا في قولهم: (لعلِّي أَحُجّ فأَزُورَكَ) بالنّصب؛ لأنّه لو لم يكن للتّمنِّي لما جازَ النّصبُ. وعليه قراءةُ عاصمٍ (¬4): {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} (¬5) بالنَّصب (¬6) لبُعدِ المرجوِّ؛ أي: سبب توليده للتَّمنِّي بُعد المرجوِّ ¬
عن الحصول؛ وذلك يُشبه معنى التَّمنّي. وصَدَّرَ الكلامَ بقوله: (وكذا) إشارةً إلى تشبيهِ غيرِ الأبوابِ الخمسة بها في التَّوليدِ وعدم اختصاصِه بها. وأَلا تَنْزلُ (¬1)؟!، أي: وتقولُ لمن تراه لا ينْزلُ: (ألا تنْزلُ) (¬2)، أي: ألا تُجِبّ (¬3) عَرضًا؛ فإنَّه لَمَّا امتنع أن يكون المطلوبُ بالاستفهامِ التَّصديقِ بحالِ نُزولِ صَاحبك؛ لكونِ عدمِ نزوله مَعلومًا لظهورِ أماراتِ أنَّه لا ينْزلُ -توجَّه بمعونةِ قرينةِ الحالِ إلى نحو ألا تُجبّ النّزول مع محبّتنا إيّاه؛ فولَّدَ (¬4) معنى العَرضِ؛ أي: كأنك تعرض عليه محبّتك نزوله. وأَتَشْتِمُ أباك؟!، أي: تقول: (أتشتمُ أباكَ)؛ لمن تراه يشتمُ أباه (¬5)؛ فإِنَّه لَمَّا امتنع توجّهُ الاسْتفهامِ إلى فعل الشَّتمِ لعِلْمك بحاله- توجَّه إلى ما لا يُعلم ممّا (¬6) يُلابسُه، أي: أتَسْتَحسِنُ (¬7) الشَّتمَ، لأن الغالبَ من أحوال الفاعلين أَنْ يَسْتحسنوا أفعالهم، فولدَ استهجانًا وزجرًا، أي: أستَهْجِنُ شَتْمك، وأزجرُكَ عن الشَّتْم!، وتقول لمن يهجو أباه مع ¬
حكمك (¬1) بأن هجو الأبِ ليسَ شيئًا غير هجو نفسه: (أتهجو نفسك؟!) امتنعَ منك إجراءُ الاستفهامِ عَلَى ظَاهره؛ لأنه معلومٌ أنه لا يهجو إلا نفسة بحكمك به فولّد تقريعًا، [وتوبيخًا] (¬2). و (ألم أؤدِّب فلانًا بإزائك ومقابلتك)؛ لمن يُسيءُ الأَدبَ، امتنعَ أن تطلبَ العلمَ بتأديبك فلانًا وهو حاصلٌ؛ فولّد وعيدًا. وتقولُ: (أما ذهبتَ بعدُ)، لمن بَعَثْتَه إلى مُهمّ (¬3) وتراه عندك؛ امتنع توجُّه الاستفهام إلى الذهاب لكونه معلومَ الحال؛ فاسْتدعى شَيئًا مَجْهُولًا ممّا يُلابسُ الذهابَ؛ مثل: ([أي] (¬4) أما تيسّر (¬5) لك الذّهابُ)؛ فولَّد استبطاءً وتَحضيضًا (¬6). وتقولُ: (أما أعرفُك)؛ لمن يَتَصلَّفُ (¬7) عندك وتعرفه (¬8)؛ فلامتناع ¬
الاستفهام عن المعرفة توجّه إلى مثل: (أتظُنّني لا أعرفك)؛ فولد إنكارًا على تصلُّفِه وتعجّبًا منه (¬1)، وتعجيبًا للسّامعين. وتقول: (أجئتني)، لمن جاءك؛ فلامتناع الاستفهام عن المجيءِ ولّد مع القرينةِ تقريرًا للمجئ. وكذا تقول: (اشتم (¬2) مولاك)؛ لمن أدَّبته، أي: لعبدٍ (¬3) شتم مولاه وأدّبته حقَّ التَّأديب امتنعَ أن يكون الأمرُ (¬4) بالشَّتمِ والحالُ ما ذُكرَ؛ فتوجّه بمعونةِ قرينةِ الحالِ إلى مناسبٍ؛ أي: اعرفِ (¬5) لازمَ الشّتمِ -مثلًا ¬
أنواع الطلب
-؛ فولّدَ منه تهديدًا. وتقول: (لا تمتثل أمري) (¬1)؛ لمن لا يمتثل. امتنع طلبُ تَرك الامتثالِ بحصولِه (¬2)؛ فتوجّه النّهيُ إلى غير حاصلٍ مُناسبٍ له؛ نحو: لا تبالِ به ولا تلتفت إليه؛ فإنّه مُوجب للعقابِ؛ فولّدَ تهديدًا. وكذا تقولُ: (يا مظلوم) لمقبلٍ عليك يتظلمُ (¬3)، فامتنعَ توجُّهُ النِّداءِ إلى طلبِ الإقبال لحصوله؛ فتوجَّه إلى غيرِ حاصلٍ؛ مثل: زيادة الشَّكوى بمعونةِ قرينةِ الحالِ -وهي التَّظلُّمُ-، فولّدَ (¬4) إغراءَ المتظلِّم وتحريضه. ثم أنواعُه؛ أي: الطلب. خمسةٌ بحسبِ الاسْتقراءِ: الأَولُ: التمنِّي. ولفظه (لَيْتَ)؛ أي: اللفظة الموضوعةُ له (ليت) وحدَها. وأما (لَوْ) و (هلْ) فَلِمَا مرّ؛ أي: فإفادتهما (¬5) معنى التَّمنِّي لما مرَّ في باب التّوليدِ (¬6). وأما (لولا) و (لوما) و (هلَّا) و (ألا) أي: حُرُوف التَّنديم ¬
الاستفهام
والتَّحضيضِ؛ فهي: (لو)، و (هل)، أو معَ قلبِ الهاءِ؛ أي: من هلْ همزة، بزيادةِ (ما) في نحو (¬1) (لوما)، و (لا)؛ أي: بزيادة (لا) [في لو؛ نحو: لولا أو] (¬2) في (هل)؛ نحو: (هلَّا)، و (ألّا) بقلب (¬3) الهاء همزة- لتَعيين التمنّي الذي يتولّدُ من (لَوْ) و (هلْ)؛ أي: زيادتهما ليتعيّنا في معنى التَّمني بلا احتمال بقاءِ معنى (¬4) الشَّرطِ والاستفهام. ففي الماضي للتنديم نحو: (هلا أكرمتَ زيدًا)؛ أي: لَيْتكَ أَكْرمتَه. وفي الْمُسْتقبلِ للتحضيضِ؛ نحو: (هلَّا تَقُومُ)؛ أي: لَيْتكَ تَقُوم. الثاني: الاسْتِفْهام. وكَلِمَاتُه؛ وهي: (الهمزةُ)، و (أم)، و (هلْ)، و (مَا)، و (مَنْ)، و (أَيْ)، و (كَم)، و (كَيْفَ)، و (أينَ)، و (أنَّى)، و (مَتَى)، و (أيَّان) تختصُّ بالتَّصوّرِ أو بالتصديقِ أَوْ لا؛ أي: ثلاثة أنواع: أحدها: يختصُّ بطلبِ حصولِ التَّصوّر (¬5)، وثانيها: يَخْتصُّ بطلبِ حُصولِ التَّصديق، وثالثها: لا يختصُّ بواحدٍ منهما؛ بل يعمّهما. ¬
فالمطلوبُ في التصوّرِ: تفصيلُ مُجملٍ؛ كما تَقُول (¬1): (ما الشَّيء؟) -مثلًا-. أو مُفَصَّلٍ؛ أي: أو تفصيل مُفَصَّلٍ بالنِّسبةِ إلى شيء مّا (¬2)؛ كما تقولُ: (ما الإنسانُ؟)؛ فإن الإنسانَ مُفَصَّلٌ بالنِّسبةِ إلى (¬3) الجسمِ -مثلًا- (¬4). وفي التَّصديقِ: تفصيلُ مُجْمل؛ وهو (¬5) الحُكْم؛ أنفيٌ هو أم إثباتٌ؛ فهو لطلبِ تفصيلِ الحكم وتعيِين أَحدِهما. فمنَ الْمُشْتركِ (¬6) بين [طلب] (¬7) التَّصوُّرِ والتَّصديقِ: الهمْزةُ؛ نحو: (أَقامَ زيدٌ؟)، و (أزيدٌ منطلقٌ؟) في طلبِ التَّصديق؛ فإن السُّؤال فيهما عن ثُبوتِ النِّسبةِ لا غير. و (أزيدٌ قائمٌ أم عمرو)، في طلب التَّصوّر في طرف المسند إليه، فإِنَّك (¬8) تطلُب فيه تفصيل المسند إليه. [وأقائم زيد ¬
أم قاعد، في طلب التَّصوُّر في المسند؛ فإنّك تطلب فيه تفصيل المسند] (¬1). ومما يختصُّ بالتَّصديقِ (هلْ)؛ فلا (¬2) تقولُ: (هل زيدٌ عندك أم عمرو)، أي: باتّصال (أَم)؛ لأَنَّ (أم) إذا كانت مُتّصلة فلطلبِ التعيين؛ فيجبُ أن تكونَ النِّسبةُ حاصلةً لتأخير طلبِ التَّعيينِ عن وجودِ النِّسبةِ، و (هل) لطلبِ التَّصديق، فلا تكون النِّسبةُ حاصلةً؛ لاستدعاءِ الطّلبِ عدم (¬3) حصولِ المطلوب؛ فالجمعُ بينهما كالجمع بين المتنافيين. ويصحُّ (أم عندك عمرو)؛ بانقطاع (¬4) (أمْ)؛ فإن المنقطعةَ ليست لطلبِ التَّصوّر؛ بل لطلبِ الوجودِ الموافق لطلبِ (¬5) (هلْ) (¬6) فتصحّ، ولكن (¬7) بتكرارِ لفظة (عِنْدك) حتَّى تصيرَ جملةً؛ لأن محلَّها بينَ الجملتين؛ فتقولُ: (هلْ زيدٌ عندك أم عندك عمرو) أو (أم عمرو عندك)؛ وإنّما مثّلَ بالأوَّلِ؛ لأنه أظهر في كونها منقطعة؛ لأنّه لَمْ يلها المستويان، بخلافِ ¬
الثاني فإنَّه يليانها (¬1)؛ لكن إِنَّما أُخرجت (¬2) عن المتَّصلة لكونِ ما بعدها جملةً؛ هكذا قال شارحُ المفتاح (¬3). وإنّما لم يقيّد بقوله: باتّصالِ (أَمْ) كما في المفتاح (¬4) لعدمِ الاحتياج إليه؛ فإنَّ المنقطعةَ لا تقع عند عدم الهمزةِ إلَّا بين الجملتين؛ وهذه وقعت بين المفردين فلم تكنْ إلّا مُتّصلة. قال في شرح المفتاح (¬5): "فإن قلتَ: شرطُ كونِ (أَمْ) مُتّصلةً أن يَليها أحدُ المسْتويين والآخر الهمزة أو ما يقوم مقامها؛ وعلى هذا لا يكون (هلْ (¬6) عندك زيدٌ أمْ عمرو) من صور اتّصالِ (أَمْ)؟. قلتُ: لا نسلِّمُ أن الشّرطَ أن يلي الآخر ما يقومُ مقامَ الهمزة، بل الشّرطُ في كون (أَمْ) متّصلةً من حيثُ اللّفظ إذا لم يكن همزةٌ أن يَكون ما بعدها مفردًا (¬7) وهو أحدُ المستويين؛ سواء وَلِي الآخر ما قامَ مقام الهمزةِ أم لا، ولانحصارِ الفرْقِ اللّفظي بينهما عند عدمِ الهمزةِ في كون ما بعد المتّصلةِ مفردًا وما ¬
بعد المنقطعةِ جُملة فرّقَ بينهما بذلك؛ وقال (¬1): (أمْ عمرو)؛ باتّصالها دون (أم عندك عمرو)؛ بانقطاعها". وإنّما عدلَ المصنِّف عن المثالِ الذي أورده السَّكاكيُّ وهو: (هل عندك زيدٌ أَمْ عمرو) (¬2) لإمكان أن يُقال -كما ذكرنا-: إن امتناعه لعدمِ شرط الاتّصال وهو الدّخولُ على أحد المستويين لا لما ذُكر؛ بخلافِ هذا المثال؛ فإنّ امتناعه متعيِّنٌ (¬3) لذلك. ويقبُحُ (هل زيدًا عَرَفت) لإشعارِه، أي: التَّقديم بثبوتِ التَّصديق بنفس الفعلِ، وإِشْعار (هلْ) بعدمِ ثبوتِ التّصديقِ؛ لأنّه لطلبِ التَّصديق. وإنّما قال: (يقْبُحُ) ولم يقل: (يمتنِع) لأنَّه كان احتملَ التَّقديمَ المنافي؛ كذلك يحتملُ عدمَ التَّقديمِ؛ وإنْ كان مَرجوحًا بالنِّسبةِ إلى احتمال التَّقديم؛ وذلك بأن يُقدّر: عرفتَ آخر قبل زيدٍ، أو تجعل مفعول (عرفت) المذكورَ مَحْذوفًا؛ والتَّقدير: (هل عرفت زَيْدًا عرفته). بخلاف عرفته؛ أي: بخلافِ (زيدًا عرفته) فإنّه لا يَقْبُح؛ لأنَّ زيدًا ¬
لا يحتملُ التَّقديم، لأَن (عرفته) قد أخذَ مفعوله، وإذا لم يحتمل التَّقديم لا يستدعي ثُبوتَ التَّصديق بنفسِ الفعل، فلا يُنَافي (هل). هذا على ما هو كذلك (¬1) لفظ المختصرِ وأَصله، وعلى ما شرحه الشَّارح للأَصل، لكن الحقَّ: أن (زيدًا عرفته) -أيضًا- يحتملُ التَّقديم؛ بأن يُقدَّرُ المُفَسَّرُ بَعْد (زيدًا)، نحو: (هل زيدًا عرفت عرفته) [-كما مرّ-] (¬2) فلا يخرُج عن بابِ القُبح. ويختصّ (هلْ) بالاستقبالِ، أي: يدخُلُ المضارِعَ ويُخَصِّصُه بالاستقبالِ، لأنها لطلبِ التَّصديقِ؛ وهو (¬3) يستدعي عدمَ الحصولِ في الحال؛ لأن الطلبَ إِنَّما يتوجَّهُ إلى غيرِ الحاصلِ فلا تقلْ لمن يباشرُ الضرب: (هل تضرب)، بل: (أَتَضرب). فلاستدعائه (¬4) الإثبات والنفي، لكونه لطلبِ التَّصديقِ، والتَّصديقُ حُكمٌ بالثّبوتِ والنَّفي، وهما يتوجّهانِ إلى الصّفاتِ لا إلى الذّواتِ؛ لأنَّ الذَّواتِ من حيثُ هي ذواتٌ؛ فيما مضى، وفي الحالِ، وفي الاستقبالِ؛ فلا تُثبت ولا تُنفى؛ اللهمَّ إلّا باعتبار الوُجودِ والعدمِ؛ وهما -أيضًا ¬
- صِفَتان (¬1) [ولهذا] (¬2) اختصَّ بالصفات. ولاقتضائِه الاستقبال اختصَّ بالزمانيّة؛ لأَنَّه لا يُتصوّر إلا فيها فاقْتَضى الفِعل؛ قال في المفتاح (¬3): "اختصَّ بما يكونُ كونُه زمانيًّا أظهر". وقيل: قال ذلك احترازًا عن اسم الفاعلِ لأنه -أيضًا- زماني (¬4)؛ لكن فيه (¬5) أظهر لأنه موضوعٌ لزمانٍ مُعيّنٍ، بخلاف اسم الفَاعلِ فلا وَجْه (¬6) له؛ لأنّ كونَ اسم الفاعل موضوعًا للزّمانِ ممنوعٌ؛ فإن المرادَ ما كان زمانيًّا بالوضع. فعبارة المختصرِ أسدُّ وأَخْصر؛ على أن اقتضاءه الاستقبال لا يوجِب الاختصاص بما زمانيّته أظهر، نعم يُوجبُ الاختصاص بما هو زمانيّ فقط. فإذا عدل عنه عن الفعلِ، كان أدخل في الثّباتِ، لأنه لمّا كان أدعى للفعلِ من الهمزة يكون تركُ الفعل معها لغرضٍ أقوى، فيكون أدخل في الثباتِ؛ كما قيل في قوله -تعالى-: {فَهل أَنتُم شَاكِرُونَ} (¬7)، فإنَّه أدخلُ في الإنباءِ عن (¬8) طلب الشُّكرِ من: (فهل تَشْكُرون؟)؛ لأنّه مُفيدٌ ¬
للتَّجدّد، وكذا من: (فهلْ أنتم تشكرون؟!) (¬1)، أو (أفأنتم شاكرون؟!)؛ لأن الأَوَّلَ مفيدٌ للتّجدّد، لأنّ تقديرَه: (هل تشكرون أنتم؟!). والثاني: وإن كان يُنبئ عن عدمِ التَّجّددِ لكنّه دون: (فهل أنتم شاكرون؟)، لأنّ (هل) لمّا كان أدعى للفعل من الهمزة، فتَرْكُ الفعل معه يكونُ أدخل في الإنباءِ عن استدعاءِ المقام عدم التجدّدِ. ولا يحسُن العُدولُ عن الفعل بأَنْ يُقَال: (هلْ زيدٌ منطلقٌ)، إلا من البليغ، لأنَّه لا يستعمل إلّا إذا عرف أنّ تركه معها أدخلُ في الثبات؛ كقوله، كما لا يحسُن نظير قول الشَّاعر (¬2): ¬
لِيُبْكَ (¬1) يَزيدُ ضِارِعٌ (¬2) لِخُصُومَةٍ وَمُختبِطٌ (¬3) مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ (¬4) إلَّا من البليغ؛ لأنّه يعرفُ أن ارتفاعَ مثل (ضارعٌ) مبنيٌّ على أنه جوابُ سؤالٍ (¬5)، وأَن بناء (لِيُبْك) للمفعول، ورفع (يزيد) أبلغ من بنائه للفاعلِ ونَصبه على ما سبق. ومما يختصُّ بالتَّصوُّر تِسعة: الأَوَّلُ: ما للجنس، أي: للسُّؤالِ عنه، نحو: {مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي} (¬6)، أي: أيّ جنسٍ من الموجُودَاتِ تُؤثرونه في العبادةِ من بعدي. وسلكَ المصنِّفُ مسلكَ السَّكاكيِّ في تفسير (ما) بـ (أيّ)، وفيه ما فيه؛ لأن (أيا) للسّؤال عمّا يُميّز أحد الْمُتَشاركين عن الآخر، و (ما)؛ للسُّؤالِ عن الجِنْس؛ فكيف يصحُّ تفسير أحدهما بالآخر؟! (¬7). ¬
أو للوصفِ؛ أي: أو للسُّؤالِ عن الوصفِ؛ نحو: (ما زيدٌ؛ أكريم، أم شجاعٌ، أم عالمٌ)، ونحوها؛ مثل: (أم فاضل أم عدل) (¬1). ولتردُّدها بين الأَمرين؛ أَي: الجنس والوَصْفِ لَمَّا قال فِرعونُ: {وَمَا رَبُّ الْعَالمِينَ} (¬2)؛ أَي: أَيّ جنسٍ (¬3) من الأَجْسامِ لاعتقادِ الْجُهّالِ (¬4): أن كُلَّ موجودٍ قائمٍ بنَفْسهِ جِسْمٌ ولا موجودَ مستقلا بِنَفْسِه سِوى أَجْناس الأَجْسام. أَجَابَ موسَى بالوصفِ (¬5)؛ لأَنَّه كانَ عالمًا بأن السُّؤال عن حقيقتِه (¬6) الخاصَّةِ التي هي فوق العقول سُؤالٌ عمَّا لا سبيل إِليه؛ لامتناع تعريفِ البسائطِ بالحدودِ تَنْبيهًا على النَّظرِ المؤدِّي إلى معرفته. تعريضًا بتغليطه (¬7)، وتخطئَته في السُّؤالِ عن الحقيقةِ؛ ¬
لأنَّه مِمَّا لا يعقل؛ وهذا قَريبٌ مِمَّا يُسَمَّى بأسلوبِ الحكيمِ (¬1). فَلَم (¬2) يتفطَّنْ فرعونُ له وعجَّب من حَولَه من جماعة الجهلَةِ (¬3)، فقال لهم: ألا تَسْمعون!، سألتُه عن حقيقته، وهو يذكر أوصافَه، ثم لمّا وجده (¬4) مُصِرًّا على الجوابِ؛ إذْ قال في المرَّة (¬5) الثانية: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (¬6) استهزاءً بموسى وجَنَنه (¬7)؛ فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (¬8). فغلظ بقوله: {إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (¬9) حين لم يرهم يَفْطُون لما نبَّههم عليه (¬10) في الكرَّتين من فسادِ مسألتهم ¬
[الحمقاء] (¬1)، واستماع جوابه الحكيم، وقال: {قَال رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (¬2). هذا: [على] (¬3) ما هو في المفتاح، لكن يُمكنُ أن يُقال: فيه مقدّمةٌ زائدة لتمامِ الكلام؛ بأن يُقال: ولتردُّدها بين الأمرين؛ لمّا قال فِرعون: {وَمَا رَبُّ العالميْنَ} (¬4) سائِلًا عن الحقِيقة -أجابَ موسى بالوصفِ تعريضًا .. إلى آخره، فلا حاجةَ إلى قوله: (أي: [أيّ] (¬5) جنس من الأجسامِ لاعتقادِ الجُهَّال أنَّ كُل موجودٍ قائم بنفسه جسمٌ)؛ اللَّهمَّ إلَّا أن يُقال: لَمَّا علم اعتقاد فرعون أن لا موجود [مستقلًا] (¬6) بنفسه سوى أجناس الأجسام اعتقاد كلِّ جاهلٍ لا نظرَ له- علم أَن سُؤاله من أجناس الأجسامِ، فلهذا بَنَى عليه ما بني (¬7). ¬
و (مَنْ) لِذَوي العلم؛ أي: للسُّؤالِ عن الجنسِ من ذويه؛ نحو قولِ الله -تعالى- حكايةً عن فرعون: {فَمَن ربكمَا} (¬1)، أملكٌ هُو، أم جنّيٌّ، أم بشرٌ. منكِرًا لأَن (¬2) يكون بها ربٌّ سِواه، لادِّعائه الربوبيّةَ لنفسِه؛ فقال في الجوابِ: {ربُّنا الذي أَعطَى كُل شَيْءٍ خَلْقَهُ}، أي: صورَته وشَكْلَه الذي يُطابق كماله، {ثُمَّ هدَى} (¬3)؛ كأنه قال: لنا ربٌّ سِواك، وهُو الذي إذا سلكتَ طريقَ العقلِ لزمك الاعترافُ بكونه ربًّا، وأن لا ربَّ سواه؛ وهو معنى قوله؛ لَأنه يُوجبُ للعاقلِ الاعترافَ. و (أيّ) لما يُميِّزُ أحدَ المتشاركَينِ في أمرٍ عام لهما عن الآخر، سواء كان ذلك ذاتيًّا أو عرضيًّا، كقوله -تعالى- حكايةً عن سليمانَ: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} (¬4) أيُّها الحاضرون في مجلسي المنقادون لأمري أيّكم؛ أي: ¬
الإنسيّ أَم الجنِّيّ يأتيني بعرشها. و (كَم) للعددِ [أي: للسُّؤال عنه؛ فإذا قلتَ: كَمْ درْهمًا لك؟، فكأنك قلتَ: أعشرونَ أمْ ثلاثون] (¬1) قال [الله تعالى] (¬2): {قَال كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} (¬3). و (كيفَ) للحالِ؛ أي: للسّوالِ عنه إذا قيل: (كيفَ زيدٌ؟)؛ فجوابُه: صحيحٌ أو (¬4) سَقيمٌ. و (أين) للمَكان؛ أي: للسُّؤالِ عنه (¬5) إذا قيلَ: (أينَ زيدٌ؛) فجوابُه: في الدَّارِ، أَوْ في المسجد. و (أنَّى) تستعملُ تارةً (¬6) بمعنى: (كيفَ)؛ قال الله -تعالى-: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬7)؛ أي: كيفَ شئتُم وأُخرى بمعنى: (من ¬
أين)؟، قال الله -تعالى-: {أَنَّى لَكِ هَذَا} (¬1) أي: منْ أينَ لك؟. و (مَتى) للزمانِ؛ أي: السُّؤالِ عنه (¬2) إذا قيلَ: (متى جئت؟) قيل: يومَ الجمعة، أو يومَ (¬3) الخميسِ، أو شهرَ كذا، أو سنة كذا. ولو اختلجَ في وهمكَ أن في بيان معاني بعضِ هذه الحروف كـ (متى) نوعَ تكرار -لِمَا مرَّ في باب الشَّرطِ (¬4) - فادفعه بأن ما مضى باعتبارِ معناها الشّرطيِّ، وهذا باعتبارِ معناها الاستفهاميِّ. والحقُّ: أن بيان الأمورِ الوَضْعيّةِ من حيثُ هي وضعيةٌ لا تَعلُّقَ لها أصلًا بالفنِّ؛ فينبغي أن لا تُذكر في هذا الوضع، ولا في غيره من الكتاب، ولا شيء (¬5) منه على المصنِّفِ؛ لأنه يحذو حَذو السَّكَّاكيِّ. وكذا (أيّان)؛ فإنه -أيضًا- للسّؤال عن الزَّمانِ؛ كـ (متى). قال عليُّ (¬6) بنُ عيسى الربعي: وفيها، أي: (أيان) تعظيم، ولا تُستعملُ إلا في مواضع التَّفْخيم (¬7)؛ هو قوله -تعالى-: {يسْئلُ ¬
أيَّانَ يوم القِيَامة} (¬1)، {يسئلونَ أيَّانَ يَومُ الدِّينِ} (¬2). و (أيَّان) جاء بفتح الهمزةِ، وبكسرِها (¬3). قال (¬4) السَّكاكي: وكسرُ (¬5) همزتها يمنعُ أن يكونَ أصلها (أَيُّ أَوانٍ) (¬6)؛ كما قال بعضهم: حُذفت الهمزةُ من (أوان)، والياءُ الثانيةُ من (أيّ)؛ فبعد قلبِ الواو اللَّازم (¬7) ياءً أُدْغِمت (¬8) الياءُ السّاكنةُ فيها (¬9). وقال في الكشَّافِ -أُفيض (¬10) على مُصَنِّفه سجال (¬11) الألطافِ- في ¬
أواخر سُورَة الأعرافِ (¬1): "وقيلَ: اشْتقاقُه من أي فعلان منه؛ لأن معناه: أَي وقت، وأَي فعلٍ؛ من أويتُ إليه؛ لأن البعضَ آوٍ إلى الكلِّ مُتَساندٍ إليه" (¬2)، وهو بعيد. والأقربُ أَنْ يُقال (¬3): أصله؛ (أي آن)؛ لكن ما وجَدنا عليه نقلًا، ونعما هو لَوْ ساعَده النَّقلُ. وهذه [أَيْ] (¬4) الكلمات (¬5) قد يتولَّدُ منها عند امتناع إِجْرائِها على معانيها الأصليّةِ أمثالُ ما سبق؛ من المعاني عند امتناع إجراء الأبواب الخمسة على أصولها. بالقرائن؛ بمعونةِ قرائن الأحوالِ؛ فيُقالُ: (ما هذا؟)، و (مَن هذا؟) للتحقير والاستخفافِ؛ لا للاستفهامِ لعلمهِ بالمشارِ إليه، ولا يُنافي ما مَرّ (¬6)؛ من إمكانِ كونِ الإشارةِ نفسِها للتَّحقير، واستفادته منها لعدمِ منع الجمع. ¬
و (مَا لي) للتَّعجُّبِ؛ نحو قوله -تعالى-[حكايةً عن سُليمانَ] (¬1): {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدهُدَ} (¬2)، كأنه لَمَّا لم يره ظنَّ أنَّه حاضر ولا يَراه؛ فتعجّبَ وقال: ما لي لا أراه. و (أيُّ رَجُلٍ)، و (أيُّما رَجُلٍ [هو!]) (¬3) للتَّعجّبِ؛ إذْ معناه: هو رَجُلٌ عظيمٍ من شأنه أن يُتَعَجَّبَ منه؛ فيكونُ للتَّعجّبِ؛ لا أيَّ رجلٍ من الرِّجال؟ فيكونُ استفهامًا. و (كمْ دعوتُك!) للاسْتبطاء، أي: كَثِيرًا من المرَّاتِ دعوتُك فتأَخّرتَ، وهو شكايةٌ عن البطءِ، ونهيٌ عن تأخيرِ إيجادِ الفعلِ. وليسَ للاستفهام، إذْ ليسَ معناهُ: كم مرّة دعوتُك؟. و (كَمْ تَدعوني!) للإنكارِ؛ إذْ ليس معناه: كشف مرّة تدعوني؟ ليكون للاستفهام؛ بلْ معناه: كثيرًا من المرَّات تدعوني (¬4) وتُكرِّرُ دُعائي بلا ضرورة وفائدةٍ؛ فيكون للإنكارِ. و (كَم أَحلُم!) للتَّهْديدِ؛ إذْ ليس معناه: كمْ مرّة أحلم؟؛ بل معناه: كثيرًا من المرّاتِ أحلمُ، ويزداد سخطي عليك؛ فيكون للتّهديد. ¬
و (كيف تؤذي أباك!)، ليس للسّؤالِ عن الحالِ، وهو أنك في أيَّة حالةٍ تُؤذيه؟، بلْ مَعناه: كيف يجوزُ ذلك، فيكون بحسبِ الاعتقادِ (¬1) للإنكارِ، والتَّعجُّبِ، والتوبيخ. ومنه؛ أي: من البابِ الذي (كَيْف) فيهِ للإنكارِ والتَّعجّبِ والتَّوبيخ قولُه -تعالى-: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} (¬2)؛ إذْ ليسَ معناه: السُّؤال عن الحالِ؛ بَلْ معناه: كيف يجوز ذلك، والحال أنكم كنتم كذا وكذا!. وصدورُ الكُفْر عن العاقل العالم مع أن علمَه بذلك مانعٌ قويٌّ منه -مظنّةُ التَّعجُّب [والتّعجيب] (¬3) والإنكارِ والتَّوبيخ. و (أينَ مُغِيثُكَ) للإنكارِ والتَّقْريع حال تذليلِ المُخَاطبِ، إذ ليسَ معناه السّؤال عن مكانِ المغيث. والتَّقريعُ لكونه (¬4) سُؤالًا في وقتِ الحاجةِ إلى الإغاثةِ عمَّن كان يَدَّعي أنه يغيث، وهو نحو: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (¬5) فإنَّه ليس استفهامًا عن مكانِ الشُّركاءِ؛ بلْ ¬
هو توبيخٌ للمخاطبين عن زعمهم لهُ شُركاء (¬1)؛ وكذا: {فَأَيْنَ تَذْهبونَ} (¬2)؛ فإنَّه ليس استفهامًا عن مكانِ الذاهبين (¬3)، بل هو (¬4) استضلالٌ لهم فيما يسْلُكونَه (¬5) في أَمْر الرَّسولِ، وكذا قَوْلك لتاركِ الجادَّةِ: (أين تَذهبُ؟). ¬
خاتمةٌ لا يَخْفى عليكَ مقامُ (أَأنت ضربتَ زَيدًا) بِنِيَّة التقديمِ، أَوْ بغيرها. فإنَّك في مقامِ كنتَ سائلًا عن حالِ وقوع الضَّربِ، ونويتَ التَّقديمَ لا يجوزُ هذا التَّركيبُ؛ لأن الاستفهامَ عن حالِ وقوع الضَّربِ يَسْتَلْزِمُ الشَّك فِيه، والتَّقديمُ يستلزمُ اليقين بِه. ولَوْ لَمْ تَكن سائلًا عن حالِ وقُوع الضَّربِ أو لم تَنْو التَّقديمَ جازَ. ولا يَخْفى [مَقام] (¬1) (أَزَيْدًا (¬2) ضربتَ)؛ فإنَّه يُسْتعملُ في مقامٍ يُرادُ تقرير أن زيدًا مضرُوب المخاطبِ، ولا يَجُوز استعماله في مقامٍ (¬3) يسألُ عن حالِ وقوع الضَّربِ؛ لمنافاته التَّقديم المُسْتلزِم لليَقِين (¬4). ولا يخفى مقامُ (أضربتَ زيدًا) فإنّه يُسْتعمل في حالِ تقريرِ الفعل. فلا يحملُ {أأَنتَ قُلْتَ لِلناسِ} (¬5) على التقديم، لأَنه يَستلزمُ تعيُّنَ وقوع الفعل، والاستفهام عن نفسِ الفعل يَسْتلزمُ الشَّكَّ فيه. ولا يُقال: [إنّ] (¬6) الاستفهام (¬7) فيه ليس عن نَفْس الفعل؛ بلْ ¬
الأمر
عن (¬1) أنَّ القائلَ هو أو غيره. لأنا نقولُ: المقامُ يأباهُ؛ يُعلم من سياقِ الآية وسباقها (¬2). الثالثُ (¬3): الأمرُ. ولهُ اللَّامُ؛ أي: ولهُ حرفٌ واحدٌ هو اللَّامُ الجازمةُ في قولك: (لِيَفْعَلْ) وصيغٌ مَخْصُوصةٌ؛ نحو: (اضْرب) و (اسْتخرج) وأسماءٌ؛ نحو: (نزالِ) و (صه)؛ [و] (¬4) قد تبيّنتْ كُلُّها في [علم] (¬5) النَّحو. قال السَّكاكيُّ (¬6): "وصيغٌ مخصوصةٌ سبقَ الكلامُ في ضبطِها في علمِ الصّرفِ، وعدّةُ أسماءٍ ذُكرت في علم النَّحو". والمصنّفُ جرى على اصطلاح الْمُتقدِّمين في عدمِ تَمييزِ علم الصَّرفِ عن النَّحو وإطْلاقه عليه- أَيْضًا. والأمرُ اقتضاءُ الفعلِ بالقولِ المخصوصِ من ذي اللّامِ والصّيغ والأسماءِ استعلاء. وذِكْرُه هذا القَيْد (¬7) من حيثُ متابعته السَّكاكيّ؛ وإلا فعنده -كما هو مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ (¬8) - لا دخْل للاستعلاءِ في ¬
مفهوم الأمر (¬1). وأمَّا الصِّيغُ فللاسْتعلاءِ؛ أي: موضُوعة لذلك حَقِيقة فيه، عَلَى الأَظْهر لإطباقِ النُّحاة؛ أي: لاتِّفاقِهِم [على] (¬2) أنها صيغةُ الأمر، ومثالُه؛ أي: وأَنَّها مثالُ الأمرِ لا صيغة الإباحةِ- مَثَلًا، ومثالها، والاستعلاء داخلٌ في مفهومِ الأمرِ -كما قال- فعُلمَ أَنها للاستعلاء، وكون مثل (ليَفْعل) حقيقة للاستعلاء لا يُعلمُ من عبارتِه. ¬
وقَال في المفتاح (¬1): "وإطباقُ أئمةِ اللُّغةِ على إِضافتهم نحو (¬2): ([قُمْ] (¬3) وليَقُم) إلى الأمرِ بقولهم: صيغةُ الأمر، ومثالُ الأمر، ولامُ الأمر يُمدُّ (¬4) ذلك"؛ أي: كونها حقيقة في الأَمر، كما أَن من عبارة المفتاح -أيضًا- نظرًا إلى الدَّليلِ لا يُعلم حكمُ الأسماءِ كـ (صَهْ) أَأَنها حقيقة للاستعلاءِ أم لَا (¬5). والأَشبهُ أَن ذلك؛ أي: اقْتضاء الفعلِ بالقولِ استعلاء إيجابٌ على المطلوب منه بالإتيانِ به؛ كان صدَرَ من أَعلى؛ أي: ممّن هُو أعلى مرتبة ¬
من المأمور حقيقة، أفادَ الوُجوب؛ أي (¬1): وجوب الفعل المطلوب، وإِلا (¬2) فلا يُفيدُ الوُجوبَ؛ بل لا يُفيدُ إلا الطلبَ وحينئِذٍ؛ أي (¬3): حين لَمْ يُفد إلا الطلب تولَّد بحسبِ القرائنِ ما يُلائمُ المقامَ؛ من دعاءٍ إن استعملَ (¬4) على سبيلِ التَّضَرّع؛ نحو: (اللهمَّ اغفِر)، أو سُؤالٍ إن استعملَ على سبيل التَّلطّفِ؛ كقولِ كُلِّ أحدٍ لمن يُسَاويه في المرتبة: (اسقني مَاءً)، أو إذنٍ إن استُعمل في مقامِ الإباحةِ؛ نحو: (جالِس الحسن (¬5) أو ابن سِيرين) (¬6)؛ لمن يَسْتأذن في ذلك، أو تَهْدِيدٍ إِن استعملَ في مقامِ تَسَخُّط المأمورِ به، وعدم رِضَى الآمرِ بما أمر به نحو: {اعمَلُوا مَا شِئتم} (¬7)، أو تمنٍّ إن ¬
استعملَ في مقام يقتضِي ذلك، نحو: (ألا أَيُّها الليلُ الطّويلُ ألا انْجِلي) (¬1). أو إكرامٍ، نحو: {ادخُلُوها بسَلَامٍ آمِنِينَ} (¬2)، أو إهانة، نحو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ} (¬3). وهذِه الثلاثةُ (¬4) لَمْ يذكرها السَّكاكيُّ، وقد يُولّدُ غيرُ ذلك إلى ستَّة عشَرَ وجْهًا، كما هو مذكورٌ في متون دفاترِ الأصولِ (¬5). ¬
النهي
الرّابعُ (¬1): النَّهيُ (¬2). وحرفه (لا) الجازمةُ؛ نحو: (لا تَفْعلْ)؛ وهو كالأَمر في أحكامه؛ كما في (¬3) كونِ أصلِ استعمالِ صيغتِه للاستعلاءِ, وفي إفادةِ الوجوبِ وعدمِها, وفي توليدِه بحسبِ القرائن ما يُناسبُ المقامَ؛ كالدُّعاءِ (¬4) - مثلًا - في قول الْمُبتهلِ إلى الله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} (¬5)، وغير ذلك ممّا عَرفته (¬6) في الأمرِ (¬7). ¬
وهُمَا للفَور أو التَّراخي اخْتُلف في أنَّ الأمرَ والنّهيَ لأيٍّ منهما (¬1)، اختيارُ (¬2) المصنِّف أن الحال لا يخلُو من وجودِ القرينةِ الدَّالةِ على أَحدهما أَوْ لا؛ فَإِن قامت القَرينةُ على الفَوْريّةِ أو على التَّراخِي (¬3) فيعتمدُ القَرينةَ، ويكونُ (¬4) كلُّ واحدٍ منهما لما قامت القَرينةُ عليه. وإن لم تقمْ قرينةٌ وهو المراد بقوده: ودونها؛ فالظّاهرُ أنَّهُما للفورِ؛ كالنِّداءِ والاستفهامِ؛ فإنّهُما بالاتّفاقِ يدلّان على الفورِ (¬5). وللعُرفِ (¬6)؛ أي: ولأَنَّ العرفَ يستحسن الْمُبادرة؛ أي: مبادرة ¬
المأمورِ؛ كالعبدِ إذا أَتى فعلَ المأمورِ به فيما إذا قال له سيِّدُه (¬1): (اسْقني ماءً)؛ فإنَّه يَسْتحسن العرفُ سقيَه على الفَوْرِ، ولوْ لَمْ يكن ظاهرًا للفورِ لما كان كذلك. ويذمُّ العرفُ بعدمها؛ أي: بعدمِ المبادرةِ إليه، ولهذا لو أَخَّرَ العبدُ السَّقي عُدَّ عاصيًا، ولولا أَنَّه للفورِ لَما عُدَّ. ويَسْتَهجنُ النَّهيَ قبل الفعل؛ كـ (لا تَسْقني) بعد (اسقني) قبلَ السّقي؛ فإن العرفَ يَسْتهجنه؛ وذلك لتَبادر الفهم إلى التَّنافي بين الحكمين، ولولا أنَّه للفور لا فُهم التَّنافي. ويُعَدُّ؛ أي: وَيَعُدُّ العرفُ النَّهي قبل الفعلِ إبطالًا، للأمر، ولولا أنّه للفورِ لما كان كذلك؛ لجوازِ الإِتيانِ به فيما بعدُ. قال في المفتاح (¬2): "الأمرُ والنَّهيُ حقُّهما الفور. والتَّراخي مَوْقُوفٌ على قرائن الأحوال"، ومغايرتُه لِمَا في المختصر ظاهرةٌ (¬3). ثُمَّ اعلم: أنَّ التَّعلّق بالاستحسان والاستهجانِ ممّا زادَ على المفتاح. وهُمَا؛ أي: الأَمرُ والنَّهي، للمَرَّةِ أو للاسْتِمرار (¬4)؛ اختلفَ فيه ¬
على مذاهبَ، والوجهُ أنّه [أي: الطّلب بهما] (¬1) إمّا لقطعِ الواقع؛ فللمرِّةِ، أو لاتِّصاله؛ فللاسْتمرارِ؛ أي: يُنظرُ إنْ كان الطّلبُ بهما راجعًا إلى قَطْع الواقع؛ كقَولِك في الأمرِ للسَّاكنِ: (تحرَّكْ)، وفي النَّهي للمُتحرِّك: (لا تتحرَّك)؛ فللمرَّةِ، وإِنْ كانَ راجعًا إلى اتِّصالِ الواقع واستدامته؛ كقولك في الأَمر للمتحرِّك: (تحرَّك)، وفي النَّهي للمتحرّكِ: (لا تَسْكُن)؛ فللاستمرار؛ وليس أمرًا لتحصيل الحاصل؛ لتوجّهِه إلى المستقبل؛ إشارةٌ إلى سؤالٍ وجوابٍ؛ أي: فإن قُلْتَ: قولك في الأمر للمتحرِّك: (تحرَّك)، أمرٌ بتحصيل الحاصل؛ قلتُ: ليسر كذلك؛ لأنَّ الطَّلبَ حال وقوعه يتوجّهُ إلى الاستقبالِ، ولا وُجودَ في الاستقبالِ قبلَ صَيْرورتهِ حالًا. ¬
خاتمةٌ: هذه الأربعةُ، أي: التَّمنِّي، والاسْتفهام، والأَمر، والنَّهي، تُعين (¬1) على تقدير الشَّرط بعدها؛ بعدَ كلِّ واحدٍ من هذه الأربعة؛ لكونها قرائنَ صالحةً لإضمار الشَّرطِ بعدها؛ نحو: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} (¬2) بالجزمِ (¬3) في صورة الأَمر، نحو: إنْ تهبْ لي وليًّا رثْني. والرّفع بالاستئناف، أي: قراءة رفع (¬4) {يَرِثُنِي} على الاستئناف (¬5). دون الوصف لئلَّا يلزم منه أنَّه لم يُوهب (¬6) له وليٌّ يرثه، إذْ ماتَ يحيى قبله، أي: قبلَ [موتِ] (¬7) زكريَّا (¬8). ¬
وقَال: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬1)؛ أي: إن قُلْتَ لهم أقيموا يُقيموا، ونحو: (ليتَ لِي مالًا أُنْفِقه) في التَّمنِّي؛ أي (¬2): إِنْ أُرْزَقْهُ (¬3) أُنفقه، وفي: (أين بَيْتُك أزُرك) في الاستفهام؛ أي: إن أعرفه أزركَ؛ ونحو: (لا تكفر تَدْخُل الجنَّةَ) في النَّهي؛ أي: إن لا تكفُر تدخل الجنّة. وقد يُقدَّرُ الجزاءُ؛ أي: كما يجوزُ تقديرُ الشَّرط يجوزُ تقديرُ الجزاءِ بقرائنِ الأَحوال بعد الشَّرط؛ نحو قوله - تعالى -: {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (¬4)؛ أي: ألسْتُم ظالمين، وقد تُركَ بدليلِ ذكرِ الظُّلمِ عُقيبه؛ كما قال بدليلِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬5). ¬
النداء
الخامسُ (¬1): النِّداءُ. وقد سبق ذكرُه وما يتعلَّقُ به من حُروفه، وتفصيلِ الكلامِ في إعرابه ومعانيها (¬2). في النَّحو (¬3)؛ وهنا شيءٌ يُشْبهُه؛ أي: هُنا نَوعٌ من الكلامِ صُورتُه صُورة النِّداء. وليس به؛ أي (¬4): بالنِّداء؛ نحو: (اللَّهمَّ اغفر لَنَا أيّتُها العِصَابةُ) (¬5)؛ فإنَّ صُورَته صورةُ النِّداءِ، ولكن هو للاختصاص؛ أي: اللَّهمَّ اغفر لنا مخصوصين من بين العصائبِ؛ كقولهم: (أمَّا أنَا فأفعلُ كذا أيّها الرَّجلُ)؛ أي: أنا أفعل كذا متخصّصًا بذلك مِنْ بين الرِّجالِ. والسِّرُّ فِيه: أنَّ في كلامهم ما هُو لمعْنى (¬6)؛ ثمَّ يَنْقلون إلى معنى آخر بحذفِ قيدٍ لغرضٍ؛ كما أنَّه لتخصيصِ المنادى بطلبِ الإِقبالِ؛ فنُقِل إلى مَعْنى الاخْتِصاصِ مَحْذوفًا منه قيد طلبِ الإقبالِ، وكما أَنَّ الهمزةَ للاستفهامِ عن المستويين فيُحذفُ قيدُ الاستفهام ويبقى لمستويين (¬7)؛ نحو: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} (¬8) الآية كما مَرَّ (¬9). ¬
تذنيبٌ قد يوضعُ الخبرُ مَوْضعَ الطَّلبِ (¬1) إخراجًا للكلامِ لا على مُقْتضى الظَّاهرِ؛ كما أُخرج (أيُّهَا (¬2) الرَّجلُ) من الطّلبِ إلى الخبرِ عن الاختصاصِ؛ وذلك لوُجوهٍ من الأَغْراضِ: الأَوَّل: التَّفاؤُلُ بالوقوعِ؛ كما إذا قيلَ لك في مقامِ الدُّعاء: (وفَّقك الله للتَّقوى) بدل قوله: (اللَّهمَّ وفِّقه له)، كأنَّه يتفاءلُ بلفظِ المُضيِّ على عدّه (¬3) من الأمورِ الحاصلةِ الَّتي حقُّها الإخبارُ عنها بأفعالٍ ماضيةٍ. ومنه؛ أي: من التَّفاؤُل: تسميةُ المفازةِ للفلاةِ المهْلكةِ، والنَّاهلِ -وهو الرَّيّان- للعَطْشانِ، والسَّليم -وهو ذُو السَّلامة - للَّديغِ؛ إطلاقًا للضدِّ على الضِّدِّ تفاؤُلًا به، واحْتِرازًا عن التَّلفُّظِ بالفلاةِ، والعطشانِ، واللَّديغِ. ورُوعِي التَّفاؤلُ حتَّى (¬4) لَمْ يكتب المترسّلون (¬5) للمُخَدَّراتِ (¬6) في ¬
مكاتبتهنَّ: أدِامَ اللهُ حراستها (¬1)؛ احترازًا عن لفظي (¬2) الحِر؛ وهو: الفرجُ، والاستِ؛ وهو: الدُّبُر؛ بل عن تَصْحِيفهما. وكذلك لَمْ يُكتبْ لَهُنَّ (¬3): أدام الله أيّامها إلى قيامِ السّاعة وساعة القيامِ؛ لمثل ما ذكرنا (¬4). بلْ لم يُهدِ الظُّرفاءُ السَّفَرْجَلَ إلى الأحبَّاءِ لاشْتِماله على حُروفِ سَفَرٌ جَلَّ، أي: عَظُم. وإذا راعُوا في أمثالِ [ذلك] (¬5) هذه (¬6) -ممّا هو بعيدٌ- ففي بابِ التَّفاؤلِ إلى الَّذي هو أقربُ منها بالطّريق الأَوْلَى. ومنه؛ أي: من التَّفاؤُلِ قولُ نائبِ (¬7) هارون (¬8) الخليفة وقد سأَلَه؛ أي: ¬
هارونُ إيّاه عن شيءٍ: لا وأيد الله الأميرَ؛ تاركًا عبارةً عليها الأغبياءُ؛ وهو قولهم: لا، أيَّد اللهُ؟ بتركِ الواو الموهم لانسحاب النَّفي على الفعلِ. قيل: لمّا سمع الصَّاحبُ (¬1) بن عبَّادٍ: لا وَأَيّدك (¬2) اللهُ؛ قال: هذه الواوُ أحسنُ من واواتِ الأصداغِ (¬3) في خدودِ المبردِ الملاحِ. وآخر لِغَيْره؛ أي: ومنه قولُ شَخْصٍ آخر لغيرِ. هَارون، وقد سأَلَه ¬
عن شجرةٍ رآها من بعيدٍ: (ما هذه الشَّجَرةُ؟) والحالُ أنَّها شجرةُ الخلافِ (¬1): (هي (¬2) شجرةُ الوفاقِ)؛ تفادِيًا عن التَّلفُّظِ - في حضرته - بلفظِ الخلاف. فخلعَا؛ أي: هارونُ وغيُره عليهما؛ أي: كسواهُما حُلَّة التَّشريف. حُكي (¬3) أنَّ هارونَ سأل مأمونًا (¬4) عن جَمْع المِسْوَاك؛ فَقَال: مَحاسِنُك يا أمير المؤمنين؛ فجعله وليَّ عهدِه، وقدّمَه على مُحَمِّدٍ الأمين (¬5) ¬
بهذه النُّكتةِ. الثَّاني: إظهارُ الحرصِ على وُقوعه؛ كأنّه لكثرةِ ما ناجى بهِ نفسَه (¬1) انتقشَ صورتُه؛ لأنَّ الطَّالبَ متى تبالغَ حرصُه فيما يطلُبُ ربَّما انتقشتْ في الخيال صورته - لكثرةِ ما ناجى (¬2) به نفسَه - فخاله واقعًا؛ فتخيَّلَ إليه غيرُ الحاصلِ حاصلًا. الثّالثُ: الكنايةُ. لحُسْنها؛ أي: لحُسْنٍ فيها ليس في التَّصريحِ؛ كقول العبْد للمولى إذا حوَّلَ عنه الوجه: (ينظر المولى إليَّ ساعة). أمَّا كونه كنايةٌ؛ فلأَنّ (ينظر) مُستلزمٌ لقوله: أَطلبُ أن ينظر المولى إليَّ ساعةً. أو للتَّأدبِ لاحْتِرازِه عن صُورةِ الأمرِ فيه. أو لهما؛ أي: للحسنِ والتَّأدُّب معًا. الرّابعُ: حملُ المخاطبِ على الْمَذْكور أَبْلغ حملٍ، بأَلطف وجهٍ؛ نحو: (تأتيني غدًا) إذا صَدَر. مِمَّن تَكْره أَنْت أن يُنْسبَ ذلك الصَّادر عنه إلى الكَذبِ؛ فإِنَّه إذا قال لك ذلك وأَنْت تكره نسبته إلى الكذبِ - لزمك إتيانه غَدًا وإِلَّا صار مَنْسوبًا إليه؛ بخلافِ ما لو قال: (ائتني غدًا) فإنّه لا يَلْزمُك ما لَزِمك في صورةِ الخبر. أو غيرِ ذلك المذكورِ من الوجوه الأربع حسب المقامات والمناسبات. ¬
فاعتبِره في القرآنِ وتأمّل قال- تعالى -: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلا اللَّهَ} (¬1) في موضِع (لا تعبدوا) (¬2)، وهو أبلغُ من صريح النَّهي؛ لِمَا فيه من إيهامِ أنَّ المنهيَّ مُسارعٌ إلى الانتهاءِ؛ فهو يُخبر عنه؛ كما تقول: (يذهبُ فلان يقول لزيدٍ كذا) تريدُ الأمر، وتُظْهر أَنَّه مسارعٌ إلى الامتثال؛ فأنت تُخبرُ عنه؛ وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} (¬3) في موضع (لا تسفكوا) (¬4) على نحو ما سبق. ومنه؛ أَي: من قَبيلِ وضع الخبرِ موضع الطَّلبِ قولُ البلغاءِ في الدُّعاءِ: (رَحِمَهُ اللهُ). وقد يُوضع الأمرُ موضعَ الخبر (¬5). وفي المفتاح وإن عَمَّم وضع الطَّلبِ موضع الخبرِ (¬6)، لكنَّ الأمثلة خصّصتهُ (¬7) بالأمر. للرِّضا بالواقع. إظهارًا إلى درجةِ حتَّى كأنه؛ أي: [كأنَّ] (¬8) ذلك الشَّيء المَرْضِيّ. ¬
مطلوبٌ، قال كُثَيِّر (¬1) -بضمِّ الكافِ، والثَّاءِ المثلَّثة المَفْتوحةِ، والياءِ المشدّدةِ المكسورةِ -: أَسِيئي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لا مَلُومَةٌ (¬2) ... لَدَيْنا ولا مَقْلِيّةٌ (¬3) إِنْ تَقَلَّتِ (¬4) وعليه ورد قوله - تعالى -: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ¬
إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (¬1). وهو للتّسويةِ للمخاطبِ بين أن يفعلَ الإِسَاءَة والإِحْسَان؛ لأَنَّ المرادَ بالأَمر الإيجابُ المانعُ عن التَّركِ، لكن مع مَيْلٍ [أيْ: مع ميلِ المتكلّم] (¬2) إلى كلِّ اختارَه؛ أي: لكن مع إِظْهار مزيدِ الرِّضا والْمَيلِ بأَي ما اختارَ المخاطبُ في حقِّه من الإساءةِ أو الإحسانِ، ولولا ذلك لكان مُقْتضى المقامِ أن يقول: (أنا راضٍ بما تفعلين ولا أَلُومك أحسنتِ إلينا أو أَسأتِ) على سَبيل الإخبار. وكذا في الآية الكريمة؛ المرادُ: التَّساوي بين الأَمرين في عدمِ الإفادةِ لهم؛ وكانَ حَقُّه أَنْ يُقال: (لنْ يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لم تستغفرْ). أو ميلِ المخاطبِ إليه؛ عطفٌ على قوله: (للرِّضا بالواقع)؛ أي: قد يوضعُ الأمرُ موضعَ الخبرِ لميلِ المخاطبِ إلى الوقوع؛ نحو: (إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) (¬3)؛ أي: صنعتَ ما ¬
شئت (¬1)؛ وذلك لميلِ المخاطبِ إلى صُنْعه؛ فكأَنَّه مَصْنوعٌ؛ فيُخبر (¬2) عنه؛ وهذا الوَجْهُ قد زِيدَ على المفتاح. تَمَّ علمُ المعاني بعون الله تعالى ختمَ الله عاقبة أمرنا بالخيرِ والحسنى. ¬
الفصل الثّانِي: في عِلْمِ البَيَان
الفصل الثاني: في علم البيان
الفصلُ الّثاني: في علمِ البيانِ وقدْ مَرَّ ما يحتاج إليه؛ من الحدِّ (¬1)؛ والغَرضِ؛ وغيرِ ذلك (¬2). ولَمَّا كان علمُ البيان معرفةَ مراتبِ العبارات في الجلاءِ -أرادَ أن يُبيِّن أنّ تفاوتَ العباراتِ [الدّالّة على مَعْنى واحدٍ] (¬3) واختلافَ الطُّرقِ المؤدِّية إليه (¬4) في الجلاءِ والخفاءِ لا يُمْكنُ بالدّلالة الوضعيّة (¬5)؛لأنّك إذا أردتَّ تشيبهَ الخدّ بالورد في الحُمْرة - مثلًا - وقلتَ: (خَدٌّ يُشْبهُ الورد فيها) (¬6) - لا يُمكن أنَّ يكون كلامٌ مؤد لهذا المعنى بالدّلالة الوضعيّة أكملَ منه في الوضوحِ (¬7) أو أنقص (¬8)؛ لأنه؛ أي: لأَنَّ السَّامعَ حين استعمل بإزاءِ كلِّ كلمةٍ منها ما يُرادفها. إنْ علم الوضعَ؛ أي: وضع المرادفات لتلك المفهومات المدلول عليها فهِم بلا تفاوتٍ؛ أي: كان فهمُ السّامعِ من الْمُرادفاتِ كفَهمِه من الكلماتِ الأُولى؛ من غير تفاوُتٍ في ¬
الوُضوح، وإِلَّا لَمْ يَفْهم منها شيئًا أَصْلًا (¬1). لا يُقالُ: رُبّما يُزادُ على هذه الألفاظِ [شَيءٌ] (¬2) أو يُنقصُ منها فيزدادُ الوُضُوحُ أو ينقصُ. لأَنَّا نقولُ: إن زيدَ على تلك الألفاظِ شيءٌ؛ فقد زيد في المعنى لا محالة، والكلامُ في تأدية المعنى الواحد (¬3) لا المعاني المختلفة؛ وكذا إن نَقَص نَقَص. بل بالعَقْليَّةِ؛ أي: بل التَّفاوُتُ بالدّلالة العقليّةِ (¬4)، لتفاوتِ الْمُتعلّقاتِ في جلاءِ التَّعلُّقِ. كما كان لشيءٍ تعلُّقَ بأمورٍ مختلفةٍ، وأُريد التَّوصُّل بواحد من المتعلّقات إلى المتعلّق بِهِ، وتفاوتت تلك المتعلّقات في جلاءِ التَّعلُّقِ وخفائِه (¬5) فصحَّ (¬6) في طريق إفادته الجلاءُ والخفاءُ. فدلالةُ اللَّفظِ لاحتياج صاحبِ علمِ البيانِ إلى مَعْرفةِ أَنواعِ الدّلالاتِ بَيَّنها بأن قال: دلالتُه على تمامِ مُسَمّاهُ، أي: مَعْنَاه من غير زيادةٍ ونُقْصانٍ، وضعِيّةٌ؛ لكونها لمحضِ الوضعِ؛ بخلافِ غيرها، فإِنَّها ¬
بشركةِ الوضع. وهي المطابقةُ؛ إنّما سَمَّاهُ بدلالةِ (¬1) المطابقةِ: لمطابقةِ اللَّفظِ المعنى بحسبِ الوضعِ. وعلى غيره؛ أي: دلالتُه على غير تمامِ مُسَمَّاه؛ وهذا مُتَناولٌ لدلالتي التَّضمُّن (¬2) والالتزامِ (¬3)؛ لأنَّ انتفاءَه إمَّا بانتفاءِ التَّمام، وهو التَّضمُّنُ، وإمَّا بانتفاءِ المُسَمَّى؛ وهو الالتزامُ. عَقْلِيّةٌ، لكونها بوساطة العقلِ. فعلى جُزْئِه؛ أي: فدلالتُه بواسطة العقل على ما هو داخلٌ في مفهومِه ومُسَمَّاه؛ كدلالةِ الإِنسانِ على الحيَوان (¬4) تضمّنٌ؛ لتضَمُّن مفهومِ اللَّفظِ إيَّاهُ، واشْتماله عليه. وعلى خارجه، أي: ودلالتُه على ما هو خارجٌ (¬5) من مفهوم اللَّفظ؛ كدلالة الإنسانِ على قابلِ صنعة الكتابة، التزامٌ؛ لكونه لازمَ المفهومِ الأَصْلي. هذا على ما هو في المفتاح (¬6)، لكنَّه مُخْتلفٌ فيه. ¬
فإِنَّ ابن الحاجب قال في مختصره (¬1): تكونُ دلالةُ التَّضمُّن لفظيّةً وضعيَّةً، وعبارتُه هذه (¬2): "ودلالته اللّفظيِّة في كمالِ معناها (¬3) دلالةُ مطابقةٍ، وفي جزئِه تضمّنٍ، وغير اللفظيَّة دلالةُ التزام". [و] (¬4) الحقُّ أنَّ نظرَه أَدقُّ؛ لأنَّ الدّلالةَ الوضعيّةَ هي "أن ينتقلَ الذِّهنُ من اللّفظِ إلى المعنى ابتداءً؛ وهي واحدة (¬5)، ولكن رُبّما تضمَّنَ المعنى الواحدُ جُزْئين، فيُفْهمُ الجزءآن، وهو بعينِه فَهْم الكلِّ؛ فالدّلالةُ على الكُلِّ لا تُغَاير الدّلالةَ على الجزئين مغايرةً بالذَّاتِ، بل بالاعْتبارِ والإِضافةِ. وهي بالنِّسبةِ إلى كمالِ معناها تُسمَّى: مُطابقةً، وإلى جُزْئِه: تضمُّنًا"؛ صَرَّحَ به (¬6) الأستاذُ -أيضًا- في شرحه للمختصرِ (¬7). والسَّكاكيُّ نظر إلى ظاهرِ أنَّ الدّلالةَ على الكُلِّ غيرُ الدّلالة على الجُزءِ، واللَّفظُ موضوعٌ للأوّل. ¬
والْمَنْطقيّون قالوا: تكونُ الثَّلاثةُ وضعيّةً تارةً؛ كما قال صاحبُ المطالع: الدّلالةُ الوضعيّةُ للّفظِ (¬1) على تمامِ ما وُضع له: مُطابقة, وعلى جزئه: تضمُّن؛ وعلى الخارج عنه: التزام. وتكونُ الأولى وضعيَّة؛ والأخريان عقليَّتين تارةً (¬2)؛ وذلك في [مَسْألة] (¬3) بيان مهجوريَّة دلالة الالتزام؛ حيثُ قال -أيضًا- فيه: احتجّوا عليه؛ أي: على كونها مهجورةً بأنّها عقليّةٌ؛ ونقضه الغزاليُّ (¬4) بالتَّضمُّن. والإطلاقاتُ صحيحةٌ؛ لأنَّ لكلٍّ من العقلِ والوضع مدخلًا فيهما؛ فلكلٍّ أن يصطلحَ باعتبار أيٍّ منهما على ما شاء. نعم للفارق بينهما -كابنِ الحاجبِ- لا بدّ للفرقِ (¬5) , وقد عُلِم من المذكورِ؛ مع أنَّ ذلك كُلَّه ¬
فرعُ تفسيرِ الوضعيّة يختلفُ باختلافِه. وشَرْطُه؛ أي: شَرْطُ الالتزام، اللُّزوم بينهما (¬1) ذهنًا؛ لينتقل الذِّهنُ منه إليه، وإلّا لامتنع فهمُه من اللّفظِ؛ لا خارجًا لحصولِ الفهم دونه؛ كدلالةِ لفظِ العمى على البصرِ مع عدمِ الملازمةِ بينهما في الخارج. أي: تعلّقٌ؛ أي: اللّزوم تعلُّق. يوجبُ الانتقال؛ انتقال الذّهن عن الشّيءِ إليه؛ بحسبِ اعتقادِ المخاطبِ؛ لعقلٍ؛ كانتقالِ الذّهن من الإنسانِ إلى قابل صنعةِ الكتابة. أو عُرف عامٍّ؛ كقولك: (رَعَينا الغَيْثَ)؛ والمرادُ: لازمُهُ، وهو النَّبْتُ، وليسَ عقليًّا؛ لأن النَّبتَ ليس لازمًا للغيثِ عقلًا؛ ولهذا قد يتخلَّفُ عنه؛ بل لازمًا له اعتقادًا بحسبِ العرفِ العامِّ. أو غيرهما، من اصطلاحٍ, أو ادِّعاءٍ، ونحوه. والحاصلُ: أنَّ اللُّزومَ لا يَجبُ أن يكون عقليًّا؛ بل إن كانَ اعتقاديًّا إمّا لعُرفٍ أو لغير عُرفٍ؛ صَحَّ البناء على (¬2) ذلكَ اللُّزومِ. قال: لَمَّا كان مدارُ علم البيانِ على اعتبارِ الملازماتِ بين المعاني؛ لأنّه لا يتأتّى إلّا في الدّلالاتِ العقليّةِ - قال السَّكاكيُّ: فالانتقالُ من الملزومِ إلى اللَّازمِ مجازٌ؛ نحو: (رعينا غَيْثًا)؛ والمرادُ: لازمُه؛ وهو النّبْتُ. وهو؛ أي: الانتقال المذكور. بالذّاتِ لا يُحْتاج فيه إلى الغير؛ لاستلزامِ الملزوم اللَّازم ضَرورةً. والانتقالُ من اللَّازمِ إلى الملزومِ كنايةٌ؛ نحو: ¬
(طويلُ النِّجادِ)؛ والمرادُ منه: طولُ القامةِ؛ الَّذي هو ملزومُ طولِ النّجادِ (¬1). وهو؛ أي: هذا الانتقالُ، بمعونةِ الانتقالِ الأوّلِ (¬2)، إذْ لا يمكن الانتقالُ من اللَّازمِ إلّا عند التَّساوي بين اللَّازمِ والملزوم، حتَّى يكونَ كُلٌّ منهما لازمًا وملزومًا بالحقيقة؛ فيكونُ حينئذٍ الانتقال من الملزومِ -أيضًا-، ولولا ذلكَ فلا انتقال؛ لجوازِ كون اللَّازمِ أَعمَّ (¬3). وأمّا الانتقالُ من لازمٍ إلى لازمٍ؛ أي: من أحدِ لازميِّ الشَّيءِ إلى الآخر، مثل: ما إِذا انتقلَ من بياضِ الثَّلج إلى البُرودة فيرجعُ إليهما، لأنّه ينتقلُ من البَياضِ إلى الثَّلج، ثُمَّ من الثّلجِ إلى البُرودة، لا أَنَّه نوعٌ آخر. ومِن المجازِ نوعٌ يُسَمَّى الاستعارةَ؛ وهو ما تكون العلاقةُ فيه ¬
الْمُشابهةَ؛ وهو فرعُ التَّشبيهِ؛ لأَنَّه لا بُدَّ فيها منه. فههنا أُصُولٌ أربعةٌ: المجازُ (¬1)، والكنايةُ، والاستعارةُ، والتَّشبيه. واعترفَ السَّكاكيُّ أَنَّه تَكلُّفٌ للضّبطِ؛ قال بهذه العبارة (¬2): " [و] (¬3) الْمَطْلوبُ بهذا التَّكلُّف هو (¬4) الضَّبطُ" ولعمري أَنَّه ضبط، ولكن لم يَنْضبط؛ ولهذا قال (¬5): (قال) (¬6)، لأنَّه (¬7) لم يُعْلَم [منه] (¬8) أَنَّ الانتقال من أَحدِ اللَّازمين إلى الآخر أَمجازٌ أم كنايةٌ، ثمَّ يلزمُ منه في الكِنَايةِ -لأَنَّها انتقالٌ من اللَّازمِ إلى الملزومِ، ثُمَّ من ذلك اللزوم إِلى لازمه؛ بحكمِ الْمُلازمةِ الْمُساوية- أن يكونَ مَجَازًا وكنايةً كِلَيهما معًا. ثُمَّ يلزمُ عدم الفرْقِ بين المجاز والكنايةِ؛ لأَنَّه إذا شرط التَّساوى فيها (¬9) فالانتقالُ -في الحقيقة- ¬
[فيهما] (¬1) من (¬2) الملزومِ، ثمَّ إِنَّه ما جعل التَّشبيهَ من المحسِّناتِ، ومن البيانِ بالذَّاتِ؛ بل على سبيل التَّبعيّة والعرضِ؛ مع أنَّ التَّشبيه النَّادر من أركانِ البلاغةِ؛ بالغًا في تحسين الكَلامِ الدَّرجة القصْيا، وفي الكَثْرةِ مرتبةً لْم يبلغا حدَّها (¬3)؛ بل الصَّحيحُ المندفعُ عنه الأسئلةُ ما ضبطَ أُستاذُنا؛ وهو أن يُقال (¬4): اللَّفظُ المرادُ به غير ما وضع له لا بدَّ له من العلاقةِ؛ فهي إِمَّا المشابهةُ أَوْ غيرها، وعلى التَّقديرين: إِمَّا أن يُلحظَ معناهُ الأَوَّلَ أَوْ لا؛ فهذه أَرْبعةٌ: ما يُلحظ معناه؛ والعلاقةُ (¬5) هي المشابهةُ: التَّشبيه. ما يُلحظُ؛ والعلاقةُ غيرُ المشابهة: الكنايةُ. ما لا يلحظُ؛ والعلاقةُ المشابهةُ: الاستعارةُ. ما لا يُلحظُ؛ والعلاقة غيرُها (¬6): المجازُ. ¬
الأولُ؛ نحو: (وجهٌ كالبدرِ). والثَّاني [نحو] (¬1): (طويلُ النِّجادِ). الثّالثُ؛ نحو: (أسدٌ في الحَمَّام). الرّابع؛ نحو: (فارَ القدرُ). لأنّه حَصر فانحصرَ (¬2). والمرادُ بهذا المجاز: المجازُ الَّذي يُبادرُ (¬3) إلى الذّهنِ عند إطلاقِه؛ أي: المجاز الْمُرسل، وهو غيرُ متناولٍ للاستعارةِ؛ فلا يردُ أنّها قِسْمٌ من المجازِ؛ فكيفَ تكونُ قَسِيمًا له؟!. ¬
الأصل الأول: في التشبيه
الأصلُ الأَوَّل: في التَّشْبيه. إِنَّمَا قدَّمهُ في الوضع على الأخوات؛ لأنَّ الكنايةَ بالنِّسبةِ إلى المجاز نازلةٌ منْزلةَ المركَّبِ من الفردِ؛ لتوقُّفِ المجازِ على الملزومِ واللَّازمِ فقط، وتوقّفِ الكنايةِ عليهما وعَلَى التَّساوي بينهما، ثمَّ نوعٌ من المجازِ (¬1) موقوفٌ على معرفة التَّشْبيه (¬2)؛ والموقوفُ عليه مُقَدَّمٌ على الموقُوفِ طبعًا (¬3). وعرَّفه شارحُ المفتاح بأَنَّه (¬4): "هو الدّلالةُ على اشْتراكِ شيئين فِي وصف هو من أَوْصافِ أحدهما في نفسه". وصاحبُ الإيضاح بأَنَّهُ (¬5): "الدّلالةُ على مُشاركةِ أمرٍ لأَمر في معنى". والسَّكاكيُّ وإنْ لم ¬
يصرّحْ بتعريفه لكن يلزمُ من كلامه أنّهُ: وصفٌ للشَّيءِ بمشاركته شيئًا آخر في أمرٍ (¬1). ولا بُدَّ فيه (¬2) من طرفين؛ مُشَبَّه، ومشبَّه به. مُخْتَلفين (¬3)؛ كأَنْ يشتركا في الحقيقةِ، ويختلفا في الصِّفة، أو بالعكس. ووجه شبهٍ مشتركٍ (¬4)؛ كالشَّجاعة المشتركةِ بين الشُّجاع والأَسد. وغرضٍ فِيه (¬5)؛ كبيانِ الإمكانِ، أَوْ الحَال، أَوْ مِقْداره. وحالٍ له (¬6)؛ ككونه قريبًا أَوْ غريبًا، مَقْبولًا، أو مَرْدودًا. وصيغةٍ (¬7)؛ كـ (كاف) التَّشبيه، و (كأَنَّ) المُشَبّهة (¬8). فالكلامُ في (¬9) خَمْسةِ أنواعٍ: الأَوَّلُ: في الطَّرفين. الثَّاني: في الوَجْه. ¬
النوع الأول: في طرفيه
الثَّالثُ: في الغَرَض. الرَّابعُ: في الحَال. الخَامسُ: في الصِّيغة. والسَّكاكيُّ قال (¬1): "فلننوّعه أربعةَ أنواع"؛ لأنّه لَمْ يذكرْ الصِّيغة. النَّوعُ الأَوَّل: في طرفيه؛ وهما المشبّهُ والمشبّهُ به. وهما إمَّا حسيّان (¬2)؛ كالخدِّ عند التَّشبيهِ بالورد. أَوْ عقليَّان (¬3)؛ كالعِلْمِ عند التَّشبيهِ بالحياة؛ قال (¬4): أَخُو العِلْمِ حَيٌّ خِالِدٌ بَعْدَ مَوْتِه ... وَأَوْصَالُهُ تَحْتْ التُّرَابِ رَمِيْمُ وَذُو الجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ مَاشٍ عِلى الثَّرَى ... يُظنُّ مِن الأَحْياءِ وَهُو عَدِيْمُ أوْ مُخْتلفان؛ بأَنْ يكونَ المُشبَّه مَعْقولًا، والمُشَبّه به مَحْسُوسًا؛ كالعدلِ إذا شُبِّه بالقسطاسِ، أو بالعكسِ؛ كالعِطرِ إذا شُبِّه بِخُلُق الكَريمِ؛ ¬
قال (¬1): يَا أَيُّها (¬2) القاضِي (¬3) الَّذِي (¬4) نَفْسِي لَهُ ... -مَعَ (¬5) قُرْبِ عَهْدِ لِقَائِه- مُشْتَاقَةْ أَهْديتُ عطْرًا مِثْلَ طِيبِ ثَنَائِهِ ... فَكَأنَّمَا (¬6) أُهْدِى لَهُ أَخْلاقَهْ والخياليَّاتُ (¬7)؛ أي: ما يستندُ إلى خيالٍ؛ كما في التَّشبيه بالأعلامِ ¬
الموْصوفة (¬1)؛ كما في البيت (¬2): وكَأَنَّ مُحْمَرَّ الشَّقَيْـ (¬3) ... ـــــــــقِ إذا تَصَوَّبَ (¬4) أَوْ تَصَعَّدْ (¬5) أَعْلامُ يَاقُوتٍ (¬6) نُشِر .... نَ عَلَى رِمَاحٍ مِنْ زَبَرْجَدْ (¬7) تُلحقُ بالحِسِّيَّاتِ؛ لأنَّ مبادئها حِسِّيَّةٌ؛ لأن الخيال هو (¬8): ما ¬
يحفظُ الصُّورَ الْمُرْتَسِمة في الحسِّ المُشْترك كالخزانةِ له (¬1). والْوَهْمِيَّاتُ (¬2)؛ كما إذا قدَّرنا صُوْرةً وهميّةً مَحْضةً مع المنيَّة مثلًا، ثم شبَّهناها بالمخلبِ المحقّق؛ فقُلنا: افترست المنيّةُ فُلانًا بشيءٍ هو لها شبيهٌ بالمِخْلب -تُلحقُ بالعَقْليَّاتِ. وكذا الوجْدانِيَّاتُ؛ وهي الْمُدْركةُ بالقُوى البَاطنةِ؛ كاللَّذةِ، والأَلَم؛ عِنْد تَشْبيههما (¬3) برُؤيةِ العينِ ما يلائمها وغير مَا يُلائمها- تُلحقُ بالعقليّات. وأُلحقَ الخياليُّ بالحسِّيِّ (¬4)؛ لاشْتراكِ الحسِّ والخيالِ في كونِ الحاصلِ فيهما صُورًا لا معاني، والوَهْميُّ والوجدانيُّ بالعَقْليِّ؛ لاشْتِراكهما في كون الحاصلِ [بها] (¬5) مَعَاني لا صُورًا. وهذا الإلحاقُ لتقليلِ الاعتبارِ وتَسهيلِ الاسْتِحضَارِ. ¬
النوع الثاني: في وجه التشبيه؛
النُّوعُ الثَّاني: في وجهِ التَّشبيه؛ وهو: ما يَشْتركُ المشبّهُ والمشبّهُ به فيه، وهو إِمَّا صفةٌ لحقيقَتَين؛ وذلك فيما يكونُ الاشتراكُ في الصِّفة (¬1)، والاختلافُ في الحقيقة (¬2)؛ مثل: طولين: جسم، وخطّ أو حقيقةٌ لصفتين؛ وذلك فيما يكونُ الاشتراكُ في الحقيقة، والاختلافُ في الصِّفةِ (¬3)؛ مثل: إِنسانين: أسود، وأبيض. والوصفُ إمّا: حسِّيٌّ؛ أي: مُدرَكٌ بالحسِّ [؛كالكيفيَّاتِ الجسْمَانِيَّة الَّتي تُدْركُ بإحدى الحواسِّ كالأَلوانِ، والأَشْكالِ، والطّعومِ، والرَّوائح، والحرارة والبرودة] (¬4). أَوْ عقليٌّ؛ أي: يُدركُ بالعقلِ؛ وهذا [على] (¬5) ثلاثةِ أقسامٍ: حقيقيِّ؛ أي: ما له تقرُّر (¬6) في ذات المَوْصوف [كالكيفيَّات النَّفْسَانيَّة؛ مثل: الاتِّصافِ بالذَّكاءِ، والتَّيقُّظ، والمعرفة، والعلمِ، والقدرةِ، والكرمِ] (¬7). واعتباريّ؛ أي: ما ليس له تقرُّر في ذات الموصوف؛ لكن يعتبره العقلُ؛ كاتِّصَافِ الشَّيءِ بكونِه مَطْلوبَ الوجود عند النَّفسِ. فإِنَّ مطلوبيَّته (¬8) ليست ¬
وصفًا مُتقرِّرًا في ذات المطلوبِ؛ بلْ هو وصفٌ اعتبره العقل بالنِّسبة إلى الطَّلبِ القائمِ بالنَّفْس. أَوْ وَهْمِيٌّ؛ أي: ما ليسَ له تقرّرٌ، ولم يَعْتبرْهُ العقلُ - أيضًا؛ كاتّصاف المنيَّة بالمخلبِ؛ فإنَّه وهميٌّ مَحْضٌ؛ بلا تقرّرٍ، واعتبارٍ للعقلِ لهُ. والسَّكَّاكَيُّ حصرَ العقليَّ على الحقيقيِّ والاعتباريِّ، وقسَّمه (¬1) قسمةً ثنائيّةً؛ وجعلَ اتِّصافَ الشَّيءِ بشيءٍ تصوُّريٍّ وهميٍّ محضٍ من الاعْتباريِّ (¬2). والظّاهرُ أولويّةُ التَّثْليث كَمَا فعلَ المصنّفُ. والذَّاتُ إِمَّا بسيطةٌ؛ أي: لَا تكون ذاتَ أجزاءٍ مُختلفة؛ وهي إِمَّا بأن لا جُزْء له أصلًا؛ كالنُّقطة، أَوْ لا جُزْءَ له يخالف كلَّه (¬3)؛ في الاسمِ، والرَّسمِ؛ كالعناصر. أَوْ مُركّبةٌ من أجزاء مُخْتلفةٍ. وكذا الصِّفةُ؛ إِمَّا مفردةٌ، أَوْ مركَّبةٌ؛ فتقولُ: وجهُ التَّشبيه إمّا واحدٌ؛ كالحُمْرة في تشبيه الخدِّ بالوَرْد. وإِمَّا في حُكْمه؛ أَيْ: حُكمِ الواحد؛ كذاتٍ مُرَكّبة؛ كالمشترك بين سقْط النَّارِ (¬4) وعينِ الدِّيكِ (¬5)، وهو الأمرُ الحاصلُ من الحُمْرة، والشَّكَلِ الكُرِّيِّ ¬
والمقدارِ المَخْصُوصِ. أَوْ صفاتِ يُقْصدُ بمجموعها هَيْئَةٌ واحدةٌ؛ كما في قوله (¬1): كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْع (¬2) فَوْقَ رُؤوسِنَا ... وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى (¬3) كَوَاكِبُهْ فإنَّ المرادَ تشبيهُ الهيئةِ الحَاصلةِ من النَّقع الأَسْود والسّيوفِ البيضٍ مُتفرِّقاتٍ (¬4) فيه بالهيئةِ الحَاصِلةِ من اللَّيلِ المُظْلمِ والكَواكبِ المُشْرقةِ في جَوانبَ منه. وإِمَّا كثيرٌ (¬5)؛ كاللَّونِ والطَّعمِ والرِّيحِ؛ في تشبيهِ فاكهةٍ بأُخْرى. والأَوَّلُ؛ أي: ما يكونُ أَمرًا واحدًا. إِمَّا حسيٌّ فكَذَا (¬6) طَرَفاه لا ¬
بُدَّ أَنْ يكُونا حِسِّيّين؛ إذ لا محسوسَ من غَيْر المحسوس جِهةً؛ أي: جهةً ما؛ سواء كانت وجهَ التَّشبيهِ أَوْ لم تكن؛ لأنَّه لا يدرك إِلَّا مَا كان مَحْسوسًا، ويمتنعُ قيامُ المحسوسِ بالمعقولِ؛ فيمتنعُ إدراكُ الحسِّ من المعقولِ شيئًا البَتَّة. قوله (¬1): (جهةً) منصوبًا (¬2): تمييزٌ أَوْ صفةٌ، ومرفوعًا (¬3): صفةٌ. كالخدِّ بالوردِ في الحُمْرةِ؛ فإِنَّ وجهَ الشَّبهِ وهو الحُمْرة، والطَّرَفَين وهو الوَرْدُ، والخدُّ - حِسَّيّةٌ. وإمّا عقليٌّ (¬4) [و] (¬5) يَحتملُ الأقسامَ الأربعة (¬6)؛ أي: ما يكونان (¬7) عقلييّن، أَوْ حسِّيَّين، أَوْ يكون أحدُهما حسيًّا والآخرُ عقليًّا؛ لصحّةِ إدراكِ العقلِ من المحسوسِ وجهًا. فالمعقُولُ بالمعقولِ؛ كَعَديمِ النَّفعِ بالمعدومِ؛ في العراءِ عن الفائدة. والْمَحْسوسُ بالمحسوسِ؛ كالرَّجل بالأَسدِ، في الجُرأة. ¬
والمعقولُ بالمحسوسِ؛ كالعدلِ بالقِسْطاسِ؛ في تحصيلِ ما بين الزِّيادةِ والنُّقصانِ، أي: المساواة. والمحسوسُ بالمعقولِ؛ كالعِطْرِ بخُلُقِ الكَرِيم؛ في التَّرويحِ، واستطابةِ النَّفسِ إيّاهُما. والثَّاني: وهو ما (¬1) يكونُ وجهُ الشَّبهِ (¬2) غيرَ واحدٍ؛ لكنَّه في حُكمِ الواحدِ، وهو على قسمين: إمّا مَحْسُوسٌ، كسقْطِ النَّارِ، أي: ما سَقَطَ منها عند القَدْح؛ الَّذي شُبِّه بعينِ الدِّيك في الهيئة الحاصلةِ من الحُمْرةِ، والشَّكلِ الكُرِّيِّ والمقدارِ المُعيَّن. والثُّريَّا (¬3) الَّذي شُبِّه بعُنْقُودِ الكرمِ المنوّر - على [لفْظِ] (¬4) اسمِ الفاعلِ، أي: المُظهِر للنُّور (¬5)؛ الَّذي هو الضِّياءُ، أَوْ للنَّور الَّذي هو الزَّهر؛ في الهيئةِ الحاصلةِ من تقارُبِ الصُّورِ البيض المُسْتديرة الصِّغار المَقَاديرِ في المرأى على كيفيّةٍ مُعيّنةٍ، ومِقْدارٍ مُعَيّن، وهو إِشَارةٌ إلى هذا ¬
البيت (¬1): وَقَدْ لاحَ فِي الصُّبْحِ الثُّرَيَّا -كَمَا تَرَى- ... كَعُنْقُودِ مُلّاحِيَّةٍ (¬2) حِينَ نَوَّرَا وإِمّا معقولٌ؛ كالحَسْناءِ؛ أي: كتَشبيهِ المرأَةِ الحَسْناءِ الحاصلةِ من مَنْبتِ السُّوء؛ أي: من أصل رَدِئ بخضرَاء الدِّمَنِ، كما قال - عليه السَّلامُ -: (¬3) "إيَّاكُم وخَضْراءَ الدِّمن"، والمرادُ: المرأةُ ¬
الموصوفةُ في حُسْنِ المَنْظر، وسوءِ المخبَر. والأكفَاءِ؛ وكتشبيهِ الأكفاءِ المتناسبة في الخصالِ؛ الممتنعةِ لذلك (¬1) عن تَعْيِين فاضلٍ بينهم (¬2) ومفضولٍ بالحلقةِ المفرغةِ؛ أي: المُصْمتةِ الجَوانب؛ في عدمِ تميّز (¬3) جُزْءٍ بالوسطيّة؛ أي: لا يتعيَّن بعضه طرفًا وبعضه وسطًا؛ كالدَّائرة. وهو إشارةٌ إلى قولِ فاطمة الأنماريةِ (¬4) حين سُئلت: عمَّن هُو أَفْضلُ من أولادها؟ (¬5): "هم كالحلقةِ المفَرغةِ لا يُدرى أين طرفاها"؛ هذا على ما قال به الزَّمخشريُّ (¬6). لكن الشّيخَ عبد القاهر نَسَبَهُ إلى مَنْ وصَفَ بني المُهَلَّبِ (¬7). ¬
والثَّالثُ: وهو أن لا يكونَ وجهُ الشّبه [أَمْرًا] (¬1) واحدًا، ولا منَزّلًا منزلةَ الواحدِ؛ فهو على ثلاثةِ أنواع؛ لأَنَّ تلكَ الأمور إمّا: حِسَّيّةٌ؛ كفاكهةٍ شُبهت بفاكهةٍ أُخرى في الأوصافِ الثَّلاثةِ: اللَّونِ، والطَّعمِ، والرِّيحِ (¬2). أَوْ عقليّةٌ؛ كطائرٍ شُبِّه بالغُرابِ؛ في حدَّةِ النَّظرِ، وكمالِ الحذرِ، وإخفاءِ السِّفَادِ؛ أي: نُزُوّ الذَّكرِ على الأُنثى؛ وفي المثل (¬3): "هو أخفَى سِفَادًا من الغُراب". أَوْ مُخْتلفةٌ؛ بأَن يكون البعضُ حِسِّيًّا، والبعضُ عَقْليًّا؛ كإنسانٍ شُبِّه بالشَّمسِ؛ في الحُسْنِ؛ أي: حُسْن الطَّلعةِ؛ وهو حِسِّيٌّ، والبهاءِ والعُلُوِّ؛ أي: عُلوِّ القَدْر والمرتبةِ؛ وهُمَا عقليَّان. وفي المفتاح بدل قوله (والبهاءِ) (¬4): "ونباهةِ الشَّأنِ". ¬
تَذنيباتٌ: الأَوَّلُ: قدْ يُتَسامحُ؛ أي: في وجه الشَّبه، إذا ذُكرَ وجهُ الشَّبهِ. وهو أمرٌ اعتباريٌّ لا حقيقيٌّ؛ كما يُقالُ: كلامٌ كالماءِ في السَّلاسَةِ، والعسلِ في الحلاوة، والنَّسيمِ في الرِّقَّة، فتذكر الحلاوةَ والسَّلاسةَ والرِّقةَ لوجه الشّبهِ؛ مع أن وجهَ الشّبه: لازمُ الحلاوةِ؛ وهو ميْلُ الطَّبع إليها، ومحبّةُ النَّفس ورودها عليها، ولازمُ السَّلاسةِ والرِّقَّةِ؛ وهو إفادةُ النَّفسِ نشاطًا والقلبِ رَوْحًا؛ لأَنَّ شأنَ النَّفسِ مع ذلك الكلامِ كشَأنها مع العَسلِ الشَّهيِّ في ميلِ الطَّبع إليه، ومحبّةِ ورودِه عليها، أَوْ مع الماءِ الَّذي يَنْساغُ في الحَلْقِ (¬1). وينحدر فيه أَجْلب انحدارٍ للرَّاحة، أَوْ مع النَّسيم الَّذي يَسْري في البَدَنِ؛ فيتخلّلُ السالِكَ اللَّطيفةَ منه في إفادتهما للنَّفسِ نشاطًا والقلبِ روحًا (¬2). الثَّاني: ومن التَّسامح ما قُلْنا: إِنَّ وجهَ الشَّبه منه (¬3) حسّيٌّ؛ حيثُ قلنا: وجهُ الشَّبه إِمَّا حسِّيٌّ، وإمّا عقليٌّ؛ مع أنّ المحسوسَ لا يكونُ إلّا ¬
جُزْئيًّا، وأنَّ الكُلِّيَّ (¬1) يمتنعُ إحساسُه؛ بل يمتنعُ وجودُه في الخارج؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ له تعيّنٌ. وهذا أي: وجه الشَّبهِ كلِّيٌّ لوقوعِ الشّركةِ. مُشْتركٌ بين الطَّرفين، وهو قياسٌ من الشَّكل الثَّاني. هكذا المحسوسُ ليس بكلِّيٍّ ووجهُ الشَّبه كُلِّيٌّ؛ فالمحسوسُ لا يكونُ وجه الشّبهِ، وينعكسُ بعكسِ المستوى إلى أَنَّ وجهَ الشَّبهِ لا يكونُ مَحْسُوسًا؛ فَيَكون عقليًّا؛ فالتَّقسيمُ إليهما تسامحٌ؛ لأَنَّه لا يكون إِلَّا عقليًّا (¬2). الثَّالثُ: حقُّ وجْه التَّشبيهِ أن يَشملَ (¬3) الطّرفين؛ وإلَّا فسدَ. واعتبره (¬4) في قولهم: "النَّحوُ في الكلامِ؛ كالملحِ في الطّعامِ"؛ إذْ هو باعتبارِ الصَّلاح [به] (¬5)؛ أي: بالملحِ، والفساد بعدمه؛ وذلك بهذا المعنى شاملٌ للطّرفين؛ كالنَّحو إذا استُعْمل في الكلام برفع الفاعلِ ونصبِ المفعولِ صَلُح الكلامُ للانْتفاع به في فهم المرادِ، وإن لم يُستعمل بهما فسدَ بخروجه عن الانْتفاع به (¬6)؛ لا الفَسَاد؛ أي: لَيْس وَجْه الشّبهِ (¬7) باعتبار ¬
الفسادِ بكَثْرته؛ أي: الملح، والصَّلاح بقلَّته، إذ ليس بهذا المَعْنى شَاملًا للطرّفين. إذ لا يُعقل التَّضعيفُ فيه؛ أي: لا (¬1) يُتَصوّر التَّقليل والتَّكثير (¬2) في النَّحو؛ لامتناعِ جعلِ رفع الفَاعلِ -مثلًا- مُضَاعفًا أَوْ منصفًا. ¬
النوع الثالث: في غرض التشبيه
النَّوعُ الثالثُ: في غرض التَّشبيه [و] (¬1) يعودُ غالبًا إلى المُشَبَّه؛ وهو: لبيانِ حاله؛ أَيْ: المُشبَّه؛ كسَواده أَوْ بيَاضِه؛ كما إذا قيل لك: ما لونُ عمامتك؟ [وقلتَ: كلون هذه] (¬2) وأشرتَ إلى عمامةٍ لديك (¬3). أَوْ مقْدارِ حالهِ؛ كمَا إذا قُلْتَ: هو في سَوادِه كحَلَكِ (¬4) الغُرابِ. أَوْ لإمكانِ وجُودِه، عطفٌ على قوله: (لبيانِ)؛ فهو قَسِيمٌ له. وعبارةُ المفتاح تُشعرُ بأَنّه قسمٌ من البَيان؛ لأنَّه قال (¬5): "أَوْ لبيانِ إمكانِ وجوده"؛ وذلك إِنَّما يكونُ إذا كان المدَّعِي يدَّعي شيئًا لا يكونُ إمكانُه ظاهرًا؛ فيحتاج إلى التَّشبيهِ لبيانِ إمكانه؛ كما في قوله (¬6): فإنْ تَفُقِ الأَنامَ وأَنْتَ مِنْهُم ... فإِنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِ ¬
فإنّه أرادَ أَنْ يقولَ: فُقْتَ الأنامَ بحيثُ لم يبقَ بينك وبينهم مشابهةٌ؛ بل صِرْتَ أصلًا برأسه؛ وهذا كالممتنع في الظَّاهر، فإِنَّه بَعيدٌ أَنْ يتناهى بعضُ آحادِ النَّوع في الفضائل إلى أَنْ يصيرَ كأَنَّه ليس من ذلك النَّوع (¬1)؛ فلمَّا قال: (فإِنَّ المسكَ) فقد (¬2) بيَّن إِمكانَه [و] (¬3) وجودَه، لأنَّ المسكَ قد خرجَ عن صفةِ الدَّم؛ حتَّى لا يُعدُّ من جِنْسه. أَوْ لزيادةِ تقريرِه؛، أي: المشبَّه، وتقويةِ شأنِه عند السَّامعِ؛ كما إذا كنتَ مع صاحبكَ في تقرير أنّه لا يَحْصُل من سعيه على طايلٍ، ثُمَّ أخذت تَرْقُم على الماءِ؛ وقُلْتَ: هلْ أفاد رقمي على الماء نَقْشًا ما؟ إِنَّكَ في سَعْيك هذا كَرَقمي عَلَى الماءِ؛ فإنّك تَجِدُ لتمثيلكَ هذا زيادةَ تقرير. أَوْ لتَزْيينِ المُشَبَّهِ؛ كما إذا شَبَّهْتَ وجْهًا أسودَ بمقلةِ الظَّبي؛ إِفراغًا له في قالب الحُسْن؛ طلبًا (¬4) لتزيينِه. أَوْ تَشْويةِ المشبَّه؛ كما إذا شبَّهتَ وجْهًا مَجْدورًا بعذرةٍ جامدةٍ قد نقرتها الدِّيكةُ؛ إظهارًا [له] (¬5) في صورةٍ أَشْوه؛ إرادة ازْديادِ (¬6) القُبْح. ¬
أَوْ لاسْتِطرافٍ؛ وهو عدُّ الشَّيء طريفًا؛ أَيْ: حَديثًا، وهو إِمَّا لبُعدِه في الواقع؛ بحيثُ يُتصوّرُ امتناعُه عادةً؛ كقولك في الجمرةِ: بَحْرٌ من المِسْكِ مَوْجُهُ الذَّهبِ. وقال في المفتاح (¬1): "كما إذا شبَّهتَ الفحمَ فيه جَمْرٌ موقدٌ ببحرٍ من المسكِ موجُه الذَّهب" (¬2). أَوْ في الذّهن؛ أي: وإمّا لبُعدِه في الذِّهنِ؛ أَيْ: يكونُ المشبّهُ به نادرَ الحضورِ في الذِّهنِ. وهو إِمَّا مُطلَقًا، أَوْ حين التَّشبيهِ. الأَوَّلُ: كالمثالِ المذكورِ من الجَمرةِ والبحرِ. والاستطرافُ -كاستطراف النَّوادر عندَ مُشاهدتها- موجِبٌ للاسْتِلْذَاذ؛ لِجِدَّتِها كما قيل: (ولِكُلِّ جديدٍ لذّةٌ (¬3)؛ كما أنَّ لكلِّ عتيق حُرمة). ¬
والثّاني؛ أي: أَوْ حينئذٍ؛ كنُدْرةِ حُضُورِ النَّار والكبريتِ عندَ ذِكْرِ البَنَفْسج وحديثِ الرِّياض؛ كقوله في البَنَفْسَج (¬1): ¬
ولا زَوَرْديَّة (¬1) تَزْهو (¬2) بِزُرْقَتِها ... بَيْنَ الرِّياضِ عَلَى حُمْرِ اليَواقِيتِ (¬3) كَأنهَا (¬4) فَوْقَ قَاماتٍ ضَعُفْنَ بِهَا ... أَوائلُ النَّارِ في أَطْرافِ كِبْريتِ لأن صورةَ اتِّصالِ النَّارِ بالكِبْريتِ ليست ممّا يُمْكن أَنْ يُقال: إنَّها نادرةُ الحضورِ في الذِّهنِ؟ نُدْرةَ صورةِ البحرِ من المسكِ مُوْجُه الذّهب، وإنّما النّادرُ حضورُها مع حديثِ البَنَفْسَج. ومنه، أي: ومن هَذَا البابِ (¬5)، قولُ عديِّ (¬6) ¬
ابن الرَّقَاع (¬1): تُزْجِي أَغَنَّ كَأَنَّ إِبْرَةَ رَوْقِهِ ... قَلَمٌ أَصَابَ مِن الدَّواةِ مِدَادَها يُحْكى أن جريرًا قال: أَنْشَدني عديٌّ هذه القصيدة، فلمَّا بلغَ إلى قوله: (كأنَّ إبرةَ رَوْقهِ) رَحِمتُه، وقلتُ: قد وقع في مُعْضِلةٍ، ما عساهُ يَقُول وهو أَعرابيٌّ جِلْف جافٍ؛! فلمَّا قال: (قلمٌ أَصَابَ من الدَّواةِ مدَادَها) اسْتَحالت الرَّحمةُ حَسَدًا (¬2). وذلك لأن جريرًا ما كانَ يحسبُ أنَّ عديًّا يَحضرُ في ذهنه المشبَّه به مع المشبّه؛ لكَونه نادرَ الحضورِ مَعَه، لكونِ عديٍّ جِلْفًا؛ فلَمَّا حضر حَسَدَه بعدما كانَ رحمَه. تُزْجِي؛ أي: تَسُوق. وأغنَّ: هو الذي يَتَكلّمُ من قبَل (¬3) خياشيمه؛ من الغُنّة؛ وهي: صوتٌ في الخيشوم؛ يقالُ: (طَيْرٌ (¬4) أغَنٌّ). والمرادُ هنا: ولدُ ظَبْي أغنّ ¬
له صوتٌ ضعيفٌ. وإِبرةُ رَوْقه: طرفُ قَرْنِه وحدَّتُه. الجِلْفُ: الدنّ الفارغ. وأجلافُ الشّاةِ؛ هي: المَسْلُوخةُ بلا رأسٍ ولا قوائمَ ولا بطنٍ. والجافي: الغليظُ. وإنّما فَصَله ممّا (¬1) قبلَه بلفظ: (مِنْه)؛ لأن بُعْدَه بالنِّسبةِ إلى القائلِ الخاصِّ بخلافِ غيرِه. وقدْ يعودُ؛ أي: غرضُ التَّشبيه إلى المشبَّهِ به. إمَّا لإيهامِ أَنَّه؛ أي: المُشبّه به أتمُّ من المُشَبَّه في ذلك؛ أي: وجه التَّشْبيه؛ إذْ حقُّ المشبّهِ به أن يكونَ كَذَلك؛ أيْ: أعرفُ بجهة (¬2) التَّشبيهِ من المشبَّهِ، وأَخصُّ وأقوى حالًا معها؛ ليُفيدَ ما ذكرنا من الأَغْراضِ؛ من بيانِ مقدارِ المُشبّه، وإمكانِ وجودِه، وزيادةِ تقريرِه، وإيرادِهِ (¬3) في مَعْرض (¬4) التَّزين، والتَّشْويه، والاستطرافِ؛ كقوله (¬5): ¬
وبَدَا الصَّباحُ كَأن غُرَّتَهُ (¬1) ... وَجْهُ الخَلِيفةِ حِينَ يُمْتَدحُ فإنّه تعمُّدَ (¬2) إيهامَ أن وجهَ الخليفةِ في الوضوح أتم من الصّباح، ويُسمّى بالتَّشبيهِ المقلوبِ (¬3). ومنه؛ أي: ممّا يعودُ الغرضُ إلى المشبّه به: {إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (¬4)؛ في مقام إنّمَا الرِّبا مثلُ البيع؛ لأنَّ الكلامَ في الرِّبا لا في البَيْع؛ ذهابًا منهم (¬5) إلى جعل -الرَّبا في بابِ الحلِّ- أَقْوى حالًا، وأعرفَ من البيع. و {أَفَمَنْ يَخْلُقُ} (¬6)؛ أي: ومنه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ}؛ دون أن يقولَ بعَكْسه (¬7) مع اقْتِضاءِ المقامِ بظَاهره إِيَّاه؛ لأنَّ عَبَدةَ الأصنامِ ¬
لَمَّا جعلوها كالخالق؛ فاقتضى المقامُ أَنْ يُجعلَ الخالقُ مُشَبَّهًا به، وغيرُ الخالقِ مُشَبّهًا؛ لكنّ في عكسِه مزيدَ توبيخٍ؛ إذ المعنى يصيرُ: أن غيرَ الخالِق عندهم في وجه الشَّبهِ أقوى من الخالقِ وأَوْلَى باسمِ الألُوهيَّةِ (¬1). ¬
وإمّا لإِظْهارِ الاهتمامِ؛ عَطْفٌ على قوله: (إِمَّا لإيهامِ)، وذلك كما إذا أُشير لكَ إلى وجهٍ كالقمرِ في الإشْراقِ والاسْتدارةِ؛ وقيلَ: هذا الوجهُ يُشبهُ ماذا؟؛ فقلتَ: الرَّغيفَ!، إظهارًا لاهتمامكَ بشأنِ الرَّغيف؛ وهذا يُسمَّى بإظهارِ المطلوب، ولا يُصارُ إليه إلّا في مقامِ الطَّمع بحصولِ المطلوبِ؛ وذلكَ كما أمرَ الصَّاحبُ (¬1) ابنُ عبّادٍ نُدَماءَه أن يُجيزُوا قولَه (¬2): وعَالِمٌ يُعْرَفُ بالسِّجْزِيّ (¬3)؛ مِمَّا مدحَ (¬4) به قاضي سجستان (¬5) حِين دخلَ عليه فوجدَه عالمًا مُتَفنِّنًا؛ فقال شريفٌ بينهم انتهت النَّوبةُ إليه بعدما نَظَمُوا على أُسلُوبِه واحدًا بَعْد واحدٍ: .................... ... أَشْهَى إلى النّفْسِ من الخُبْزِ؛ ففَهمَ الصّاحبُ اهتمامَه بشأنِ الخُبْزِ؛ فأمرَ أن تُقدَّمَ له مائدة. ¬
والإجازةُ [تتميمُ] (¬1) مصراع الغيرِ. وإذا تساوى الطرفانِ؛ أي (¬2): المُشبَّه والمشبَّه به في جهةِ التَّشبيه، ولَمْ يَخْتلفا بكون أَحدِهما ناقصًا والآخر كاملًا. فتشابه؛ ليكونَ كلُّ واحدٍ من الطرفين مُشبَّهًا ومشبَّهًا به، لا تَشْبيه؛ حتَّى يكونَ أحدُهما مشبّهًا، والآخر مشبَّهًا به؛ احْتِرازًا عن تَرجِيع أحدِ المتساويين (¬3)؛ قال الشّاعرُ (¬4): رَقَّ الزُّجُاجُ ورقَّت الخمْرُ ... فَتَشابَهَا فَتَشاكَلَ الأَمْرُ فَكَأنَّهُ خَمْرٌ ولا قَدَحٌ ... وَكَأنَّهُ قَدَحٌ ولا خَمْرُ ¬
تنبيهان: الأَوَّلُ: إذا كان وجْهُ التَّشبيه وصْفًا غيرَ حقيقيّ؛ أي: اعتباريًّا مُنْتزعًا من أمورٍ متعدِّدَةٍ -سُمِّي [أي] (¬1) التَّشبيه: تَمْثيلًا، وخُصَّ بذلك الاسم (¬2)، قال -تعالى-: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} (¬3)، فإن وجهَ تَشبيهِ المنافقين بالذين شُبِّهوا بهم فِي الآيَة، هو: تَوَجُّه الطلبِ إلى تَيْسِير مطلوبِ بسبب مُباشرةِ أسبابِه القريبةِ مع تعقُّبِ الحِرْمانِ والخَيْبَةِ لانقلابِ الأَسبَابِ، وأَنَّه أمرٌ اعتباريٌّ لا وصفٌ حقيقيٌّ منتزعٌ من أمورٍ كثيرةٍ. ومنه وإنما فصل بلفظ (¬4): (منْه) عمَّا قبلَه؛ لأن كُل واحدٍ من الشبَّه والمشبَّه به مذكورٌ صريحًا في الآية الأُولَى؛ دون هذه: قوله -تعالى-: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬5)، شَبَّه كون المؤمنين أنصار الله بقولِ عيسى لهم: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه} من حيثُ الظاهرِ، لكنّ المراد: كونُوا أنصار الله مثل كون الحواريِّين أَنصاره وقْت قول عيسى -عليه ¬
السَّلام (¬1) -: {مَنْ أَنْصَارِي}؛ لعدم صِحَّةِ تشبيه الكون بالقولِ، ولجوازِ حذفِ المضافاتِ. وإِنَّما جاز ذكرُ مستلزمِ المُشَبَّه به مَكانه (¬2)؛ كما جازَ ذكرُ مستلزمِ وجهِ الشَّبه مكانه؛ إذْ كما أنَّه ليس بمستلزم التَّصريح بوجهِ الشّبهِ؛ بل قد يُذْكرَ ما إذا أَمْعَنْتَ فِيه النَّظر لَمْ تجده إلّا شيئًا مُسْتتبعًا لما يكون وجهُ الشّبه (¬3) في المآل؛ كذلك ليس (¬4). بمستلزم التَّصريح بالمشبَّه به؛ بلْ قد يُذْكر ما إذا أمعنت في النَّظر لم تجده إِلَّا شيئًا مُسْتتبعًا (¬5) لما يكونُ المشبّهُ به في المآلِ ثم التّقريب ظاهر. الثاني: لا تَغلَطْ في مثلِ قَوْلِ الشَّاعرِ (¬6): ¬
النوع الرابع: في حال التشبيه
كَمَا أبْرَقَتْ؛ -أي: صَارت داتَ بَرْقٍ- قَوْمًا عِطَاشًا غَمَامةٌ فلمَّا رأوها أقْشَعَتْ؛ -انْكَشَفت. وقشَعتُه: كَشَفْتُه وهو مثل: أكبَّ، وكبّ؛ لزُومًا وتعدِّيًا -وتَجَلَّت؛ أي: ظهرت (¬1). لكَثْرةِ التباسِ الوَصْفِ الحَقِيقيِّ بالاعْتِباريّ، وانْتزاعه من أَمْرين -مثلًا- مع وجوب الانْتزاع من أكثر؛ فتنْزع الوَصْفَ؛ الذي هو وجهُ التَّمثيل، مما لا يتمُّ المرادُ به؛ كالمصراع الأوّل، فتَقع عن غَرضِ الشَّاعر بمَعْزلٍ؛ لوجُوبِ (¬2) انْتزاع وجهِ الشَّبهِ من مَجْموع البيتِ؛ وهو وصْلُ الابتداءِ المُطْمع بالانْتهاءِ المؤيسِ؛ لا الإطماع فقط. النَّوعُ الرَّابعُ: في حالِ التَّشبيهِ؛ من كونهِ قَريبًا أَوْ غَريبًا، مَقْبولًا أَوْ مَرْدُودا. مُقدِّماتٌ لا بدَّ مِن ذِكْرِها لتُرْشدك (¬3) إلى كَيْفِيَّةِ سُلوكِ الطريقِ هُنَالك (¬4): ¬
الأُوْلى: إِدراكُ الشَّيءِ مُجْمَلًا، كإدراكِ الإنسانِ من حيثُ إنَّه: شيءٌ، أَوْ جسمٌ أسهلُ من إدراكه مُفَصّلًا، كإداركه من حيثُ إِنَّه: جسمٌ نامٍ حسَّاسٌ مُتحرِّكٌ بالإرادةِ ناطقٌ. الثَّانية: المتكرِّرُ على الحسِّ الحاضِرُ صورَتُه مرّةً بعد أُخرى، كحضورِ صُورةِ القَمر غير مُنْخَسفٍ. أقربُ حُضُورًا من شيءٍ يقل حضورُه (¬1) على الحسِّ، كحضورِ صورته مُنْخَسِفًا. الثالثُ: الشَّيءُ مع ما يُنَاسبُه (¬2) أقربُ حُضُورًا منه مع ما لا يُناسبه، كالحمَّامِ والسَّطل دُونَ السَّخْلِ (¬3)، فإن الحمَّامَ معَ السَّطلِ أقربُ حُضُورًا منه مع السَّخْلِ. الرّابعةُ: اسْتِحضارُ الواحدِ أيسرُ من اسْتِحضارِ غيرِ الواحدِ، كاسْتحضارِ القَمرِ في الذِّهنِ؛ فإِنَّه أيسرُ من اسْتِحضاره والمشترِي على تَثْلِيثه، والمرِّيخ على مُقابلته. الخامسة: ميلُ النَّفْسِ إلى الحسِّيَّاتِ أتمُّ من مَيْلها إلى العَقْليَّات، بناءً على أنَّها -أي: الحسِّيَّات- مجعُولةٌ لها (¬4)، أي: للنَّفسِ (¬5)، بالتَّجريدِ ¬
بسببِ تَجْريدِها إِيَّاها، أي: حذفها التَّعيّناتِ والتَّشَخّصاتِ الخارجيّةِ عن الحسِّيَّاتِ؛ فلها زيادةُ تعلُّقٍ بها، هذا على مذهب مَنْ يقولُ: النَّفسُ لا تُدْرِك الجُزْئيّات؛ بل المشتركَ المنتزعَ عنها التَّشَخُّصات (¬1). ولوَ قُلْنا: بأَن مُدْرِكَ الكُلِّيَّات وَالجُزئيّاتِ هو النَّفسُ -كما هو مذهبُ الحكيم-؛ لكنَّها تُدْرِكُ الكليَّات بذاتها، وهي المُسَمَّاةُ بالعقلِيَّات، والجزئيَّاتِ بالآلاتِ، أي: بواسطةِ الحواسِّ؛ وهي المسمَّاةُ: بالحسِّيَّاتِ، لَمَّا كان مَيْلُها إلى إحداهما أتم منه إلى الأخرى؛ ولهذا قال: "ميلُ النّفسِ إلى الحسِّيَّات أتمّ بناءً على أنَّها ... " إلى آخره. ولإِلْفِها، عطفٌ على قوله "بناءً"، أي: مَيْلُها إليها أتمُّ لزيادةِ إِلْفِها (¬2)، أَيْ (¬3): إِلف النَّفسِ بها، بالحسِّيّاتِ؛ لكثرةِ وُرُودها، أي: الحسِّيَّات بِحَسَبِ جِنْسها عليها (¬4)، لاختلافِ الطُّرق، طُرُقِ الوُرُود، أَعْني: الحواسَّ المُختلفةَ المؤدِّية لها، بخلافِ العقليّاتِ؛ فإن طريقها واحدٌ. السادسةُ: النفسُ لما تعرفُ أَقْبلُ مِنها لما لا تعرف، لمحبَّةِ النَّفسِ العِلْم طبعًا؛ ولهذا أكثرَ النُّاسِ يُقبلون على استماع الحكاياتِ، ولا ¬
يُقبلون على المسائلِ العويصةِ (¬1). وقد سقطت (¬2) هذه المقدِّمةُ في بعضِ النّسخ عن القَلَمِ. السابعةُ: الجديدُ أحبُّ إلى النَّفسِ وألذُّ لديها من المُعَاد؛ لاستكراهِ النَّفس التّكرار بالذاتِ؛ كما قيل (¬3): (أَكْره من مُعَاد) واسْتِحبابه الجِدَّة، كما قيل (¬4): (لكلِّ جديد لذةٌ). وههنا نظرٌ؛ كَمَا قَال السَّكاكيُّ (¬5): "التَّوفيقُ بين حكم الإلف وبينَ [حكم] (¬6) التّكرارِ أحوَجُ شيءٍ إلى التَّأمُّل"، فإن الإلف بالتّكرارِ يَحْصُلُ فكيف يَتَنافَى حُكْمُهمما؟!؛ أي: حكمُ الإلف والتّكرارِ، حتَّى يكونَ ¬
المأَلوفُ غيرَ مُسْتكره، والمكرَّرُ مُسْتَكرَهًا؛ بل يجبُ على هذا أن يكون المألوفُ أكرهَ شيءٍ عند النَّفس!. والمصنّفُ ينقلُ كلامَ السَّكاكيَّ، وإلَّا (¬1) فالحقُّ عنده على طرفِ التَّمامِ؛ وهو: أن كل تَكْرارِ لا يورثُ الكراهة؛ بل الذي يُورثُها تكرارُ شيءٍ منه بدٌّ؛ وهو مُنافٍ للإِلف؛ وأمَّا تكرارُ شيء لا بدَّ منه؛ كتكرارِ الشَّبه الضُّروريّة (¬2) عند الطيبِ؛ فهو غيرُ مُنافٍ للإِلفِ؛ بل موجبٌ لهُ (¬3). فالحاصلُ: أن الجديدَ ألذُّ من المعاد الغيرِ المألوف. ثم قربُ التَّشْبيه، وسقوطُه عن درجةِ الاعتبارِ؛ لوحدةِ الجهةِ؛ أي: جهة التَّشبيه بأن يكونَ أمرًا واحدًا؛ كالسَّوادِ في نحو: (زِنجيٌّ كالفَحْمِ)، أَوْ (¬4) لتَجانُسِ الطرفين وقُرب المناسبة بَيْنهما؛ نحْو: تشبيه عنَبة كبيرة سودَاء بأنَّها (¬5)؛ كإجَّاصَة (¬6)، أَوْ كونه؛ أَي: المشتبه أَكْثريُّ الحضورِ لجهةٍ من الجهاتِ؛ كتكرُّرِه على الحسِّ، أَوْ غيره؛ كالبَدْرِ [في] (¬7) نحو: (وجهٌ كالبدرِ). ¬
وبُعدُه؛ أي: بُعدُ التَّشبيه وعدمُ سُقُوطِه؛ أي: غرابتُه وحُسنه. بحلافه؛ أي: ما ذكرنا في قُرْبه بأَنْ لا يكونَ واحدًا بل كثيرًا (¬1)؛ إِمَّا في حُكمِ الواحدِ أَوْ لا، أَوْ (¬2) لا يكونُ المشبّهُ به مُجَانسًا ومُشَابِهًا للمُشَبّهِ (¬3)، أَوْ لا يَكُون كثيرَ الحضورِ مَشْهورًا؛ كقوله (¬4): نَارِنجُها بين الغُصُون كأَنَّها ... شُمُوسُ عَقيقٍ (¬5) في سَمَاءِ زَبَرْجدِ فإنّه شبَّه النَّارنجَ -في الهيئةِ الحاصلةِ من اجْتَماع صورٍ حُمْرٍ وخُضْرٍ- بشُمُوسِ عقيقٍ في حماءِ زَبَرْجَدٍ؛ وهي لَيْست مُجَانسةً ولا قريبةَ المناسبة للمشبَّهِ، مع أَنَّها نادرةُ الحضور؛ ولهذا جاء تَشْبيهًا نادرًا في غايةِ الحُسنِ والبُعدِ. وكُلَّما كان التَّركيبُ، أي: في وجه الشَّبهِ أكثرَ فهو؛ أي: التَّشبيه (¬6) أَغْرب؛ كما أَنَّه إذا كان المُشَبّهُ به أَبعد من التَّجانُسِ والتَّناسبِ ¬
أَوْ أَنْدرَ في الحُضُورِ في الذِّهْن (¬1) كان أغرب، فتأَمل قوله -تعالى-: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬2)؛ "أي: حالها العَجِيبة، في سُرْعة تَقَضِّيها، وانقراضِ نعيمها (¬3) بعد إِقْبالها واغْترارِ النَّاسِ بها. {كَمَاءٍ} ليس لفظُ (¬4) الماءِ المشبَّه بهِ، وإِنْ وَلِيَه حرفُ التّشبيه، لأَنَّه من التَّشْبيه المُرَكب؛ وإِنَّما المُشَبَّهُ به مَضْمُونُ الحكايةِ، وهو زَوالُ خُضرةِ النَّباتِ فجأة، وذهابُه حُطَامًا بَعْدما كان غَضًّا والْتَفّ وزيَّنَ الأرض بخُضْرَته، حتَّى طَمِع فيه أهلُه، وظنُّوا (¬5) أنَّه سَلمَ من الجَوائِح" (¬6). وتمامُ الآية {أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24] (¬7). - تَعْرِف حُسنه لِمَا ذَكَرْنَا. ¬
وتأمَّل قوله -تعالى- (¬1): {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ} (¬2) الآية؛ فإن وجهَ الشّبهِ (¬3) بين المُنَافقين وبين ذوي الصَّيِّب؛ هو (¬4) أنهم في المقامِ المُطْمع في حصولِ الْمطَالبِ لا يَحْظونَ إلا بضدِّ المطموع فيه؛ من مجرّد مُقَاساةِ الأَهْوال؛ حتَّى تَرَى أنَّه لتَركيب فيه وقع تشبيهًا حَسنًا. وقبوله؛ أي: التَّشبيه بأَن يكونَ وجهُ الشبه -كمَا مَرَّ- (¬5)؛ حيث قال: حقُّ وجه التَّشْبيه أن يشملَ (¬6) الطرفين صحِيحًا؛ أي: يَكُونُ شاملًا للطرفين مُتناولًا لهما. مُعْطيًا للغرضِ؛ أَيْ: لغرضِ التَّشبيهِ كَمْلًا؛ أي: تَمَامًا (¬7)؛ والمرادُ: أَن يكونَ وجهُ الشّبهِ (¬8) كاملًا في تحصيل ما عُلِّق به من الغرضِ (¬9)؛ من بيانِ حالِ المُشَبَّه، أَوْ بيانِ مِقْدارِ ¬
النوع الخامس: في صيغة التشبيه
حاله، أَوْ إِمْكانِ وجُوده، إلى غيرِ ذلك. غيرَ مُبْتذلٍ؛ أي: غيرَ مُمْتَهنٍ مشهورٍ مُتداولٍ يَسْتَعْملُه الجُمْهورُ (¬1)؛ بلْ يكونُ خاصًّا مُسْتَعمَلًا للخواصِّ. ورَدُّه بِخلافِه بأن لا يكون صحيحًا، أَوْ لا يكون مُعْطيًا (¬2)، أَوْ لا يكون غيرَ مُبْتذَلٍ (¬3). وإذا عرفتَ أسبابَ القبُول عرفتَ أَسْبابَ الرَّدّ؛ لِتُقابل أَسْبابهما، واستعلام أَسْبابِ أحدهما من أسبابِ الآخر. النّوعُ الخامسُ: في صيغةِ (¬4) التَّشبيه، وأداوتِه؛ وهي: مثل: (كأَنَّ) و (الكاف)، و (المثل). ولا يجبُ ذكرُ صيغته صريحًا؛ بل قد يُصَرحُ بالتَّشبيه بأَن تُذكر أداتُه، وقد لا يُصَرَّحُ بأَنْ لا تُذْكرَ؛ نحو: (زيدٌ أَسدٌ) (¬5)، ويتعيّنُ المرادُ وهو أوَل تَشْبيه؛ لامتناع الحَمْل؛ حمل الأسدِ على زيد؛ لأَن زيدًا ليس بعينه هُو الأسدُ؛ فَيَلزم المصيرُ إلى أَنَّه تشبيهٌ بحذفِ كَلِمتِه، وفيه (¬6) مبالغة؛ لأنَّه لَمَّا حَذَف (¬7) كلمةَ التَّشبيهِ فكأنه ادّعى أنَّه ¬
نفسُ حقيقةِ الأَسد ومن جِنْسه. وقد يتركُ (¬1) المشبّهُ لفظًا مُرادًا معنى (¬2)، إذ لَوْ لَمْ يُرد معنًى ولم يكن منويًّا فيكون استعارة (¬3)، إذ لا معنى للاستعارة إلا ذلك. وهذا فيه [أي: في الموضع الّذي يُتْرك المشبهُ لفظًا ويُرادُ مَعنى] (¬4) دعوى التعيُّن (¬5) للتَّشبيهِ والإِخبارِ عنه بذلك، كما مر (¬6) أَن المُسْندَ إليه [يحذفُ] (¬7) عند تعيّنه للخبر. فقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} (¬8) تشبيهٌ لا استعارةٌ لذكرِ (¬9) الطرفين: الخيطِ، والفجر. ¬
توضيحُه: أن الخيطَ الأَبيضَ وهو أَوّلُ ما يبدو من الفَجْرِ المُعْترضِ في الأُفق كالخيطِ الممدود، والخيطَ الأسودَ وهو ما يمتدُّ معه من غسق الليل -شُبّها بخَيْطين: أبيضَ، وأسودَ، وبُيِّنا بقوله {مِنَ الْفَجْرِ}؛ والفَجْرُ -وإنْ كان بيانًا للخيط الأبيض- لكن لَمَّا كان بيانُ أحدهما بيانَ الآخر لدلالته عليه اكتفى به عنه، ولولا البيان لكانا من باب الاستعارةِ؛ كما أن قولك: (رأيتُ أسدًا) استعارةٌ؛ فإذا زدت (¬1) من فلان صار تشبيهًا. وأمّا أنَّه لِمَ زيد (من الفجر) حتَّى صار تشبيهًا وهلَّا اقتصر به على الاستعارةِ التي هي أبلغُ؛ فلأن شرطَ الاستعارةِ أن يدُلٌ عليه الحالُ، ولو لم يذكر من الفجرِ لم يُعلم أن الخيطين مُسْتعاران فَزيدَ (الفجر) وصَارَ (¬2) تَشْبيهًا. وقد يُتركُ وجهُ التشبيه إذا عُلم بالقرائنِ؛ استغناءً (¬3) عن ذكرهِ، وفيه قُوَّةٌ ومبالغةٌ لإِفَادتِه (¬4) تعميم المُشَابهة (¬5). ¬
والمراتبُ (¬1)، أي: مراتبُ التَّشبيه باعتبارِ المُشَبّه، وكلِمةِ التشبيهِ، ووجهِهِ، ذكرًا وتَرْكًا ثمانيةٌ لا يَخْفى حُكْمُها، من تَضُمُّنها المبالغة والقوَّة، وعدم تضمَّنها إِيّاهما، بما (¬2) ذكرناه، من أنَّ تركَ المشبّه فيه مبالغةٌ، لإفادته التَّعيين، وترك كلمة التَّشبيه، لأَنَّه الحكمُ على المشبَّه بأنه نفسُ المشبَّه به، وترك وجه التّشبيه، لأن فيه قوّةً لعمومِ وجهِ التَّشبيه (¬3). أَمَّا انحصارُه في ثمانية، فلأنَّه لَمَّا امْتَنع حذفُ أَحدِ الأركانِ الأَربعة وهو المشبَّه به، فالمذكورُ إِمَّا كل الأربعة أَوْ لا. الأَوَّل: قِسْمٌ (¬4). والثاني: إمَّا أن يُذكر ثلاثةٌ أَوْ لا. الأَوَّل: ثلاثةُ أَقسامٍ، لأن (¬5) مع الشبّه به إمّا المُشبَّه وكلمة التَّشبيه (¬6)، وإمّا المشبّه والوجه (¬7)، وإمّا الكلمة ¬
والوجه (¬1). والثاني: إمَّا أن يُذكر اثنان، أَوْ لا. الأَوَّل: ثلاثةٌ -أيضًا؛ لأَنَّ مع المشبَّه به إِمَّا المشبَّه (¬2)، وإِمَّا الكلمة (¬3)، وإمّا الوجه (¬4). والثاني: قسمٌ واحدٌ (¬5). وأمّا التَّفاوُتُ بحسبِ القوَّةِ والمبالغة وعدمه؛ فهو بحسب ذكرِ الوجهِ والكلمة وعدمِه، فمتى (¬6) ذُكِرا فلا قُوَّة له (¬7)، ومتى يُذْكَرَا فهو أَقْوي الكُلِّ (¬8). [ومتى تُرك أحدُهما ففيه نوعٌ من القوَّة، فعليك بالأمثلة وتَطْبيقها عليه] (¬9). ¬
تنبيهٌ: قد يُعْتبرُ التشبيهُ في التَّضادِّ؛ لأنَّ الضِّدَّين مُتَشابهان؛ من حيثُ أن كل واحدٍ منهما ضدٌّ لصاحبه، فيُجعلُ التَّضادُّ وجْهًا تنْزيلًا له مَنْزلة المُشَابهة. يقال للجبانِ: "أسدٌ"، وللبخيلِ: "حاتم"، لتمليحٍ أَوْ تَهَكُّم؛ أي: استهزاء. وفي الكلام لفٌّ ونَشْرٌ (¬1)، والظاهر [أنَّه] (¬2) على غير التَّرتيبِ (¬3). والتَّمليحُ: أن يُشارَ في فَحْوى الكلامِ إلى مَثَلٍ سائرٍ، أَوْ شِعْرٍ نادرٍ، أَوْ قِصَّةٍ مشهورةٍ، على معنى أَنْ (¬4) يكون في الكلامِ ما يَنْتقلُ الذِّهنُ منه إلى شيء من ذلك، كقوله (¬5): ¬
المُسْتَجِيرُ بعمرٍو عند كُرْبَتِه ... كَالْمُسْتجيرِ مِن الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ. [وقيل: إنَّه بلفْظِ التَّلميح؛ بتقديم اللام على الميمِ. ولكل وجهة (¬1)] (¬2). ¬
الأصل الثاني: في المجاز
الأَصلُ الثاني: في المجاز. وقدَّمه السَّكاكيُّ على الكناية، لِمَا ذكرنا (¬1): أنَّه بالنِّسْبةِ إِليها بمنْزلةِ المفردِ من المركب. وعلى الاستعارةِ؛ لتقدُّمِ الجِنْسِ على النَّوع طبعًا. ويتضمّن التَّعرُّضَ للحقيقةِ، لأن النَّظر في الدَّلالةِ العقليَّةِ موقوفٌ على الدّلالة الوَضْعيّة، والكلامُ في ذلك مُفْتَقرٌ إلى بيان وجهِ دلالاتِ الكلم على مفهوماتِها، أَهي بحسبِ ذواتِ الكلمِ والألفاظِ -كما قال عَبَّادُ (¬2) بن سُلَيمان الضَّمري-، أَوْ بحسب تخصيص مُخَصِّصٍ خارج عن تلك الألفاظِ يُخَصِّصها بتلك المعاني التِي تدلُّ عليها ويضعها له (¬3). لكنَّ دلالةَ الأَلفاظ على المعاني بيِّنٌ أنها بالوضع والتَّخصيصِ، لأن الأَوَّل -وهو دلالة اللَّفظِ بالذاتِ على مسمَّى دون مُسمَّى مع استواءِ نسبتِه إليهما- ترجيحٌ بلا مُرَجِّحٍ. ¬
وقولُ عبّادٍ: إن ذاتَ اللّفظ مُخصِّصةٌ لنفسها بالمعنى، موجبةٌ لفهمه منها؛ لأنَّه لا بدّ أن يكون (¬1) بين اللّفظِ والمعنى من مُنَاسبةٍ ذاتيّةٍ وإلَّا لَزِمَ التَّخصيص بلا مُخَصّصِ (¬2): محمولٌ على ما يَدَّعيه الاشتقافيون (¬3) منْ رعايةِ الواضع (¬4) مناسبةً ما، كما يقولون: إن للحروفِ [في أنفْسها] (¬5) خواصّ بها تَختلفُ؛ كالجهر والهمسِ، والشِّدَّةِ والرَّخاوة و (الفصم) (¬6) بالفاء؛ الذي هو حرفٌ رخْوٌ؛ لكسرِ الشَّيءِ من غير أن يُبين، و (القصم) بالقاف؛ الذي هو حرفٌ شديدٌ؛ لكسرِ الشّيءِ حتَّى يُبين. [وأَن] (¬7) للتَّركيبات، -أيضًا- خَواصّ كاختصاصِ حركةِ (¬8) عين ¬
مثلِ الفعلان بحركةِ مُسمَّاهُ؛ نحو: الحيوان، والنَّزوان (¬1)، ولأَجل رعايتها خُصِّص كلٌّ: بما يناسبها؛ لا على ما هو الظاهرُ منه (¬2). وإِلَّا (¬3) لامْتَنع نقله إلى المجاز، لأَن ما بالذاتِ لا يزول بالغير، ولامْتَنع [اشتراكُ] (¬4) اللفظِ بين متنافيين (¬5)؛ لأن الشَّيءَ الواحدَ لا يقتضي أمرين بينهما تنافٍ. ثم الحقُّ؛ أي: بعد تحقُّقِ كونِ المخُصِّصِ غيرَ أَنْفسِ الكلمِ وذواتِ الألفاظ؛ الحق: إِما التَّوقيف؛ وذلك بأَنْ يضعها الله -عزّ وجلّ- (¬6)، ويُوقفَ عباده عليها بالوحي- مثل أ. أَوْ الإلهام (¬7)؛ وذلك بأن يُلْهمَ عبادَه بالتَّخْصِيص؛ حتَّى يضَعُوها ويَصْطَلحوا عليها. ¬
والأَوَّل مذهبُ الأَشْعريَّة (¬1). والثاني: مذهبُ البهشميَّهّ (¬2). ¬
ولفظُ المختصرِ وإن كان مُشْعرًا بمخالفةِ (¬1) السَّكاكيّ، لكن من جهة المعنى لا مُخَالفة، قال السَّكاكيُّ (¬2): "والحقُّ بعدُ: إِمَّا التَّوقيفُ والإلهام، قولًا بأنّ المخصّصَ هو اللهُ - تعالى، وإمَّا الوضعُ والاصطلاحُ؛ قولًا بإسنادِ التَّخْصيصِ إلى العُقلاءِ". ومرجعهما؛ أي: المذهبين: الوضعُ (¬3)، والتَّخْصِيصُ من الخَارج من ذَوات [اللفْظِ] (¬4). وهو، أَيْ: الوضعُ، تعيينُ لفظة بإزاءِ معنى بنفسها، ويُحْتَرز بـ (نفسها) عن المجازِ إذا عَيَّنته بإزاءِ ما أردته بقرينةٍ؛ فإن ذلك التَّعيين لا يُسمّى وضعًا. وقد يُطلبُ بها، باللفظة معناهَا الموضوع لها، كما أريد بالإِنْسان الحيوان النَّاطق، وبالعَشرةِ مجموع آحادها، وهي الحقيقة. أَوْ يُطلب (¬5) معنى معناها كما أريدَ بالإنسانِ معنى لازم [لمعناه] (¬6)، كمعنى الحيوانِ اللازمِ له، أَوْ معنى الخمسة اللازم لمعنى العشرة، وهو المجاز وأنت تعلمُ أن دلالة معنى على معنى (¬7) [ليس] (¬8) من الممتنعاتِ. ¬
وقد يُقْصَد للمعنى معنىً، كما أريدَ بطولِ النَّجاد طُول القامةِ، وهو الكنايةُ. والفرقُ بين المجازِ المعبَّر عنه بقوله: (يُطْلَبُ بها معنى معناها) وبين الكناية المُعبَّرِ عنها بقوله: (يُقْصَد (¬1) للمعنى [معنى]) (¬2): أنَّ المطلوبَ في الأَوَّل معنى معناها لا معناها، أي: مع عدم كون المعنى الأَوَّل مَقْصودًا، وفي الثاني يُقْصدُ معنى المعنى لا مع عدم كونِ (¬3) المعنى الأَوَّل مَقصُودًا، كما أن العبارةَ مُشعرةٌ بالفرقِ. وأقربُ الحدودِ على كثرتها، للحقيقةِ والمجاز حدودٌ كثيرةٌ -كما ذكرَ ثلاثة منها في المفتاح- (¬4)، لكنَّ أقربها إلى الحقِّ ما ذكره المصنّف؛ مخترعًا له (¬5): ¬
أن الحقيقة: لفظٌ أُفيد به معناه (¬1) في اصطلاح التَّخاطبِ؛ أَيّ اصطلاحٍ كان؛ لُغة، أَوْ شرعًا، أَوْ عُرفًا عامًّا، أَوْ خاصًّا، وهو ما يُسَمَّى اصْطلاحًا. بمجرَّدِ وضع أَوَّل؛ أي: بلا مَعُونة قرينةٍ وعلاقةٍ واحتياجٍ إلى وضع آخر، فخرج عنه: المجاز، والاستعارةُ، والمنقولُ. والمجازُ بخلافِ الحقيقةِ فهو: لفط أفيد به في اصطلاح التَّخاطبِ لا بمجرّدِ وضع أوَّل؛ وذلك ظاهر. والحدَّانِ قريبان ممّا قال ابنُ الحاجبِ في مختصره (¬2): الحقيقة هو: "اللّفظُ المستعملُ في وَضْح أوّل"؛ إذ المراد: "بحسبِ وضع أوّل"، كما بيّنه في شرحه له (¬3). والمجاز هو (¬4): (اللفظُ المستعملُ في غير وضع أوّل على وجهٍ يَصِحُّ). ولا حاجة؛ أي: في التَّعريف (¬5) إلى ذكر العلاقةِ؛ وهي اتِّصال ما للمعنى المستعمَل فيه بالمعنى الموضوع له؛ كالسَّببية، والمجاورة، والجُزْئيّةِ، وغيرها؛ ممّا ذُكِر في الأصول (¬6). والقرينةِ؛ وهي: ما تدل على المراد ¬
وعلى امتناع إِرادة معناها الحَقِيقيّ؛ إذْ لا إفادة (¬1) فيه (¬2)؛ في المجازِ دونهما؛ أي العلاقة والقرينة (¬3). وكلاهما؛ أَيْ: الحقيقةُ والمجازُ، لُغويٌّ؛ كـ (الصَّلاة) في الدُّعاءِ (¬4). والأَركانِ المَخْصُوصة (¬5)؛ إذا استعملها اللُّغويُّ. وشرعيّ؛ كـ (الصَّلاة) في الأَركانِ المَخْصوصة (¬6)، والدُّعاء (¬7)؛ إذا استعملها المتشرِّع. وعُرفي؛ كـ (الدَّابة) في ذوات الحوافِر (¬8)، والفرسِ خاصَّة (¬9)؛ إذا استعملها أَهْلُ العُرفِ العامِّ. واصطلاحيٌّ؛ كلَفْظِ (المجازِ) فيما هو مُصْطلحٌ عليه عِنْد ¬
عُلَماءِ البيانِ (¬1)، والمَعْبَر (¬2)؛ إذا اسْتعمله البَيانيُّ؛ بحسبِ الناقل إلى ذلك المعنى من المعنى الأَوَّل؛ فإنْ كان [الناقل] (¬3) أهلَ اللغةِ فمجازٌ لغويٌّ، وإنْ [كان] (¬4) شَرْعًا فَشرعيٌّ، وإن [كان] (¬5) عُرفًا فعُرفيٌّ، وإِنْ [كان] (¬6) اصطلاحًا فاصطلاحيٌّ. وكذا في الحقيقة، لكن بحسبِ الواضع. ولظهوره لم يتعرّض له. قال في المفتاح (¬7): "الحقيقةُ تنقسمُ عند العلماءِ إلى: لغويَّةٍ، وشرعيَّةٍ، وعُرفيَّة". والانتهاءُ عن التَّثليث، والقصدُ إلى التَّربيع خيرٌ، لأن إطلاقَ العُرْفيِّ على العامِّي: عرفيّ عامِّيّ، وكُلَّما يُرادُ الخاصيُّ يقالُ: اصطلاحيّ. قيل (¬8): والمرادُ به قولُ السَّكاكيِّ: تَدُلُّ (¬9) الحقيقةُ التي ليست بكناية (¬10) بنفسها، وقوله: (بنفسها) مُتَعلِّقةٌ بقوله: (تدلّ)، أي: ¬
يُسْتغني في الدّلالةِ على المراد منها بنفسها عن الغير؛ أي: القرينة، لتعيُّنها له بجهة الوضع، والمجازُ، أي: يدلّ المجازُ بقرينةٍ، لعدمِ استغنائه عن الغير في الدّلالةِ على ما يراد منه. وأَمّا المشتركُ فهو موضوع (¬1) لأحدهما (¬2)؛ جوابٌ لقائل (¬3) يقول: المشتركُ حقيقةٌ ليست بكنايةٍ، ومع ذلك لا يَدُل بنفسه، [بَلْ هُوَ مُحْتاجٌ إِلَى القَرينة في دلالته على ما هو مَعْناه] (¬4) وتوجيهه: أنَّه موضوعٌ [لأحدهما] (¬5) غير مَعيَّن، كـ (القُرء) -مثلًا- فإنّه لا يتجاوز الطهر والحَيْضَ، غير مجموعِ بينهُما، وفي ذلك لا يحتاج إلى القرينةِ، بل يدلّ بنفسه. وفيه (¬6) حزازةٌ، أي: ما يُدَغْدُغُ في القلْب، ويحكّ في الصّدرِ -[-بالحاء المهملة-] (¬7)، وهي أنه لو كان موضوعًا لأحدهما غير مُعيّن- لكان استعماله في مُعيّن منهما مجازًا؛ وذلك باطل؛ هكذا سمعتُ من الأستاذ. ¬
ولأجل هذه الحَزازةِ قال: (قيل). فإن قُلت: استعمالُه في مُعيَّن منهما مجازٌ (¬1) يحتاجُ إلى القرينةِ، ولا يعنِي بكونه مجازًا [إلّا ذلك. قُلْتُ: ليس كل ما احتاج إليها مجازًا، بل المحتاجُ إلى قرينةٍ تكونُ صارفة] (¬2) عن الظّاهر، أي: المعنى الحقيقيّ، وهذه القرينة ليست صارفةً بل معيّنةٌ للمُراد. وحاصلُ (¬3) الفرقِ بين القرينتين: أن قرينةَ المجازِ قرينةٌ للدّلالةِ، وقرينةُ المُشْترك قرينةٌ لتعيين الدّلالة؛ لأن له دلالةً إجماليّةً، وبالقرينة يتبيّن المرادُ. وها هنا تنبيهٌ: وهو أَن حاله بحسب الوضع: أَنَّه موضوعٌ لهذا مُعيّنًا، ولذلك (¬4) مُعيّنًا. وبحسبِ الاسْتعمال: أنّه مختلفٌ فيه أيجوزُ استعماله في مَعْنييه أَمْ لا؟. وبحْسب الفهمِ: أن المتبادرَ إلى الذهن مفهومُ أحدِهما غير مُتعيِّن (¬5)؛ كما تَصوّرَه السَّكاكيُّ في الوضع -أَيْضًا (¬6). واللفظان، أي: لفظ (الحقيقةِ) ولفظ (المجاز)، في مَعْنَييهما (¬7) ¬
المذْكورين مجازان لُغويَّان لمكان التَّناسُب، إذ الحقيقةُ فعيلة من الحقِّ، بمعنى الفاعل، من حقَّ الشَّيءُ (¬1) يَحِقُّ، إذا وجبَ وثبتَ، أي: الثابتِ لثباتها في مَوْضعها الأَصلي، والموضوع له الأَوَّلي. أَوْ بمعنى المفعولِ من حقِّقتُ [الشّيء] (¬2) أُحِقّه، إذا أثبتّه، أي: المثبتِ، لكونها مُثبتةً في موضعها الأَصلي؛ غير منقولةٍ عنه إلى غيره. ولَمَّا كانَ الفعيلُ الذي بمعنى المفعول مستويًا فيه المُذكرُ والمؤنّثُ؛ مُسْتغنيًا عن التَّاءِ- قال: والتَّاءُ لتقديرها، أي: لفظة الحقيقة. و (التَّاءُ لتقديرها) مُبتدأ وخبرٌ، قَبْل، أي: قبل التَّسْمِية، وإطلاقها على المَعنى الاصطلاحيِّ غير مُجْراةٍ على موصوفٍ، أي: غير مذكُور مَوْصُوفها، وهو: (الكَلِمة)، لأن الفعيلَ المفعُوليّ لا يستوي فيه المُذكّرُ والمؤنّثُ، إِلَّا إذا كان موصوفُه مذكورًا معه، نحو: (رجلٌ قتيلٌ، وامرأةٌ قتيلٌ). أمَّا إذا كان غير مذكورٍ فلا يستوي؛ بل يُذكّرُ للمُذكرِ، ويؤنّثُ للمؤنّثِ؛ نحو: (مررتُ بقتيلِ بني فُلان، وقتيلة بني فلانٍ)، وإذًا (¬3) هذا على تقديرِ كَوْنها بمعنى المفعولِ؛ فكأنه (¬4) قال: والتَّاءُ على هذا الوجهِ الأخيرِ المتّصلِ بحث التّاء به (¬5)؛ لأن على الوجه الأَوَّل لا حاجة إلى هذا التَّوجيه للزومُ كونها ¬
مؤنّثة مُطْلقًا؛ لعدمِ استوائهما فيه، وإن كان لفظُ (¬1) المفتاح مُشْعرًا بكونه علّة للوجهين (¬2). وقال الأصوليّون: التَّاء لنقلِ اللّفظِ من الوصفيّة إلى الاسميّة (¬3). والمجازُ مَفْعَلٌ من الجوازِ؛ أي: العُبُور (¬4)؛ لأنّه [أي: اللفظ المجازيّ] (¬5) عَبَر عن معناه إلى غيره؛ فالمناسبةُ (¬6) مرعيّةٌ. ولفظه (¬7) مُشعرٌ بأنَّهما مجازان بمرتبة. ¬
لكن ذكر أهلُ الأصولِ: أن الحقيقةَ مجازٌ بثلاث مراتب؛ لأنّهم قالوا: الحقيقةُ بمعنى: الثابت، أَوْ المثبت، ثم نُقلَ إلى العَقْدِ المطابق، ثُمَّ إلى القولِ المطابق، ثمَّ إلى المعنى الاصطلاحيِّ. والمجازُ مجاز (¬1) بمرتبتين؛ لأَنَّه مَفْعَلٌ من الجواز؛ بمعنى المصدرِ، أَوْ المكان، ثم نُقِل (¬2) إلى الفاعل؛ أي: الجَائِز، ثُمَّ نُقل إلى المَعْنى الاصطلاحيِّ. واعلم: لَمَّا بَيَّن المناسبة بين اللفظين (¬3) ومَعْنييهما، وكان محل أن تَلتبس المناسبة بالوصفِ؛ أَراد أن يبيّنَ أن المناسبةَ غيرُ الوصفِ؛ أي: الاسم الموضوع للشَّيءِ لمناسبة؛ كالأحمر [إذا سُمِّي به إنسانٌ لحمرته غير الاسم الّذي هو الوصفْ كالأحمر] (¬4) الذي يُوصف به ذو الحُمرةِ. فالمناسبةُ تصحّحُ الوَضْع؛ أي: اعتبار المعنى في التَّسميةِ لتَصْحيح الوضع، وتَرْجيح ذَلك الاسْم على غيره (¬5) حال الوضع. والوَصْفُ يصحِّحُ الإِطْلاقَ؛ أَيْ: اعتبار المَعْنى في (¬6) الوصفِ لصحّة إطلاقه عليه. وَلهذا يُشترطُ بقاءُ المعنى في الوَصف دون التَّسمية؛ فإذا (¬7) زالتِ ¬
الحُمْرة زال وصْفُه بها، ولَمْ تزل تَسْمِيتُه (¬1) بـ"أَحمر". والغرضُ أَنَّ اعْتبار المعنيين المَذْكورين في اللفْظَين ليس لصحَّة تسمِيتهما بِهما، وإطلاقِهما عليهما؛ بل لترجيح تَسْميتهما (¬2) [على تسميتهما] (¬3) بغيرِهما (¬4) من الأَسماء. فاعتبر ما قُلنا بالقارُورةِ؛ فإنَّها لمناسبة اسْتقرارِ الشَّيء فيها وضعت لتلك الزُّجاجةِ المخصُوصة (¬5)، ورُجِّح ذلك الاسمُ إطلاقًا عليها لأَجْلها؛ ولهذا لم يُزل عنها اسمُها لو لم يكن شيءٌ فيها مُسْتقرًّا، ولم يصِحّ إطلاقُها على الدَّنِّ (¬6) -مثلًا، وإِن استقرَّ فيه الشَّيءُ؛ بخلافِ ما لو كانت وصْفًا. وبالجنِّ؛ فإنّه لاسْتِتاره واجتنانه عن النَّظرِ وُضع لذلك النَّوع؛ ولهذا لم يُزل عنه ذلك الاسمُ، على تقديرِ عدم الاجتنانِ، ولم يصحّ إطلاقُه على الملَك؛ وإن كان مُجْتنًّا عن النَّظرِ (¬7). ¬
ونحوهما؛ كالْمُرعَّثِ (¬1)، وتأبَّطَ شَرًّا (¬2)، والدَّبَران (¬3)، والعيُّوق (¬4). ولقد عبّرَ الأستاذُ عن المسألةِ، بعبارةٍ في غاية الحسنِ (¬5)؛ في شرحه ¬
لمختصرِ (¬1) ابن الحاجبِ (¬2)؛ وهي: أن وُجود المعنى [في] (¬3) محلِّ التّسميةِ قد يُعْتبر من حيثُ إنَّه مُصَحِّحٌ للتَّسميةِ مُرجِّحٌ لها من بين الأسماء؛ من غير دخُوله في التَّسميةِ. والمراد: ذاتٌ مخصوصةٌ فيها المعنى؛ لا من حيث هو فيه؛ بل باعتبار خصوصها؛ وهذا لا يطردُ، وقد يعتبر من حيثُ إنّه داخلٌ في التَّسمية؛ والمرادُ: ذاتٌ ما باعتبار نسبة له إليها؛ وهذا يطرد في كلِّ ذاتٍ كذلك. وحاصلُه: الفرْقُ بين تسمية الغيرِ لوجوده فيه، أَوْ بوجوده فيه (¬4). لا تَزِلَّ (¬5)، فإنَّه مزلةٌ للأقدام، مضلَّةٌ للأفهام، فإن (¬6) كثيرًا إذا سمعوا قولَ القائل: وُضِع هذا الاسمُ لهذا المعنى بهذه المُناسبةِ، ظنَّ أنَّه قال: إن هذا الاسمَ (¬7) صفةٌ. ¬
وجوه التصرف في اللفظ
ثُمَّ اللّفظُ بعد الوضع، وقبل الاستعمالِ ليس حقيقةً، ولا مجازًا (¬1). ولا بُدَّ في المجاز من تصَرُّفٍ، إذ ما لم يتصرَّفْ نوع تصرُّفٍ؛ بل يُستعمل كما يقتضيه وضع اللّغةِ والعقل لا يكون مجازًا؛ بل حقيقةً. وذلك التَّصرف [إمَّا] (¬2) في لفظ أَوْ معنى؛ وكلُّ واحدٍ منهما إِمَّا بزيادةٍ أَوْ نقصانٍ أَوْ نقلٍ؛ والنَّقلُ لمفردٍ (¬3) أَوْ لتركيب؛ فهذه ثمانيةُ أقسام، الحاصلة من مسطح ضرب الإِثنين؛ أي: التَّصرّف اللفظي، والتصّرُّف المعنويّ؛ في الأربعةِ: الزِّيادة، والنُّقصان، والنَّقلِ الإفراديِّ، والنَّقل التَّركيبيِّ؛ فتكونُ أربعةً في اللفظِ، وأربعةً في المعنى، والمصنِّفُ غَيَّر وضع المفتاح في هذا البابِ تقريبًا إلى الضَّبط (¬4)؛ ولعمري إنَّه انضبط كما ضبط. أمّا وجوهُ التصرُّفِ في اللّفظِ فأربعةٌ: الأَول: تصرُّفٌ بالنُقصانِ، نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬5)؛ أي: أهلها. ¬
الثاني: مجازٌ بالزِّيادة؛ نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬1)؛ فإن الأَصلَ: ليسَ مثْله شيء؛ بزيادة الكاف، ونُقل في لبابِ الإعرابِ القولَ بزيادةِ المثل (¬2)؛ وعلى القَوْلين يصحُّ (¬3) مثالًا للمجازِ بالزِّيادة. على أَنَّ الأَشبه بالحقِّ: عدمُ كون الزِّيادة، وجَعْلَه؛ أي: الكلام مَسُوقًا لنفي مَنْ يُشبه أَنْ يكون مثلًا فضلًا عن المثل حقيقةً؛ وهذا مِمَّا زاد [المصنِّف] (¬4) على المفتاح، مخترعًا من تِلقاءِ نَفْسِه. وقال الزَّمخشريُّ في الكشَّافِ (¬5): "قالوا: مثْلُك لا يبخل؛ فَنَفوا البُخْلَ عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته؛ قصدوا المبالغةَ في ذلك؛ فسلكوا به طريق الكنايةِ؛ لأنّهم إذا نفوه عمّن يسدُّ مسدَّه، وعمّن هو على أخّصِّ أوصافه؛ فقد نفوه عنه؛ ... فإذا عُلم أنه من بابِ الكناية لم يَقَعْ فرقٌ بين قوله: (ليس كاللهِ شيءٌ) وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إلَّا ما تُعطيه الكنايةُ من فَائِدتها؛ وكأنهما عبارتان مُعْتقِبتان (¬6) على معنى واحد؛ وهو نفي المماثلةِ عن ذاتِه". قال ابنُ الحاجبِ في المُنْتهى: قولهم: أُتي بالكافِ لنفي التَّشبيه؛ أي: ¬
أتى بها لأن الآية مسوقةٌ لنفي التَّشبيه، أي: إثبات التَّتريه لا لنفي الشّريكِ، أي: إثبات التَّوحيد كما هو المتبادرُ إلى الذِّهن -غلطٌ؛ إذْ يصير المعنى: ليس مِثْلَ مثله شيءٌ؛ فَيَتناقض؛ لأنَّه -تعالى- مثل مثله؛ فيلزم نفي ذاتِه مع ظهور إثبات مثله؛ المُسْتلزم لإثبات ذاتِه (¬1). والمغلّطُ غالطٌ؛ لأن نفي مثل المثل إِنَّما هو بِنَفْي المِثْل؛ لا بنفي مِثل المِثل (¬2)، لئلّا يلزم التَّناقض؛ فهو تصريحٌ ينفي التَّشبيه؛ مستلزمٌ لنفي الشَّريك. ولا نُسلِّمُ ظهورَه في إثبات مثله، بل قاطعٌ في نفيه لدفع لزوم التَّناقُض -كما ذكرنا. والأشبهُ بالحقِّ من بين الثلاثِ ما قال الأستاذُ: أنَّه أشبه بالحقِّ؛ وهو أنَّه للتَّوحيد، والتَّوجيهُ التَّوجيهُ: إِذَا قَالتْ حَذَامِ (¬3) فَصَدِّقُوهَا ... فَإِن القَوْلَ مَا قَالتْ حَذَامِ (¬4). ¬
وقد جَعَلهُما؛ أي: المجاز بالزِّيادة والمجازَ بالنُّقصان، القدماءُ مجازًا في حكمِ الكلمةِ؛ أي: إعرابها (¬1)؛ وهو فيما يَكْتسي الكلمة حركة لأجل حذفِ كلمةٍ لا بدَّ من معناها، أَوْ لأَجل إثباتِ كلمةٍ مُسْتغنى عنها استغناءً واضحًا، إذ الأصل جَرُّ {الْقَريةَ} (¬2) بإضافة (الأَهل) إليها، ¬
والنَّصبُ مجازٌ، وإذ الأصل نصبُ (المثل) (¬1) بحذف (الكاف)، والجرُّ مجازٌ. وقد جعلَ السَّكاكيُّ هذا النَّوعَ من المُلحق بالمجازِ، لِمَا بَيْنَهما من المُشَابهة، وهو اشتراكها في التَّعدِّي عن الأَصْل إلى غيرِ أَصل، فكما (¬2) أن الأصلَ في الأسد الحيوانُ المفترس، وقد عُدِّي به عنه إلى غيره، وهو [الشّجاعُ؛ كذلك الأصلُ في {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وقد عُدِّي به عنه إلى غيره، وهو] (¬3) النّصب. لا منه، أي: من [الملحق بالمجاز] (¬4) لا من المجاز (¬5). وأنتَ تعلمُ (¬6) الحال إذا قُلْتَ: (عليك بسؤالِ القَريةِ) فإِنَّه لا يُعتبرُ التَّعدِّي في حكمِ الكَلمةِ وإِعرابها، إذ القريةُ على تقدير ذكرِ الأهل على هذا الوجه -أيضًا- مجرورٌ. أَوْ إذا قلتَ (¬7): (ما من شيء كمثله)، على أن تكون (كمثله) صفةً لشيءٍ، وخبرُ (ما) محذوفًا (¬8)، أي: ¬
موجودًا (¬1)، فإنَّه لا يُعتبر التَّعدّي في إعراب مثله على تقديري (¬2) وجودِ الكافِ وعدمِه. ثم النقلُ فِيهما بِيِّنٌ ظاهرٌ، من سؤالِ القَرية إلى سُؤال أَهْلها، فإنَّه أطلق اللَّفظَ الدَّالَّ على سؤالِ القريةِ وأرادَ سؤال أهلِها. ومن نَفْي مِثْل المِثْل إلى نفي المِثْل؛ فَهُما مجازان؛ ولا فرْق بينهما وبين ما غَيَّر الإعرابُ فيهما في المعنى، وأنَّهما من نوع واحدٍ بحسب التَّصرّفِ، فكيف يكون (¬3) أحدُهما مجازًا في الإعراب، أَوْ مُلْحقًا به دون الآخر؟!. وهذا ردٌّ أورده المصنِّفُ عليهم (¬4) وتحكمهم (¬5) إلزامًا لهم. الثّالثُ من وجوهِ التَّصرُّفِ، وهو: ما يسمِّيه السَّكاكي بـ: "المجاز (¬6) اللّغويِّ الرَّاجع إلى المعنى، المفيدِ الخالي عن المبالغةِ فِي التَّشبيه": التَّصرّفُ بالنَّقل لمفردٍ (¬7)، وهو: إطلاقُ لفظِ الشّيءِ لمتعلّقه، أي: لما يتعلّقُ بذلك الشّيء بوجهٍ من الوجوه. ¬
كاليد، وهي موضوعةٌ للجارحة المخصوصة، تطلقُ: للقدرةِ أَوْ النِّعمةِ، لأنها -أي: اليد- مَظْهَرَهُما (¬1) -أي: القدرة، والنِّعمة-؛ فإن القُدْرة أكثرُ ما يَظْهرُ سلطانُها في اليدِ، وبها يكونُ (¬2) البطْش، والضَّرب، والوضع، والرَّفع، وأنَّ النِّعمة (¬3) تصدر عن اليدِ، ومن اليد تصلُ إلى المُنْعَمِ عليه. والراوية، وهي: اسمٌ للبعير الذي (¬4) يحملُ المزادة، أي: الطرف الذي يُجْعَل فيه الزّادُ (¬5)، للمزادة، لأنها، أي: الرَّاوية، حاملها؛ أي: المزادة، وهو التَّعلُّق الحاصلُ بَيْنهما (¬6). ¬
والحَفض -بالحاء المهملة وتحريكِ الفاء-: متاعُ البيتِ إذا هُيِّءَ ليُحمل [يطلَق] (¬1) للبعير لمثله؛ أي: لمِثل المذكورِ، وهو أنها (¬2) حاملُها (¬3)؛ فالعلاقَةُ في الصُورتين الحَمْل؛ لكن هذا في الإطلاق بعكس ذلك، لأنَّه إطلاقٌ لاسم المحمولِ على الحاملِ (¬4). وليْت شعري كيفَ جعله السَّكاكيُّ من المجازِ؛ والحفضُ جاء -أيضًا- حقيقةً للبعير الحاملِ للمتاع (¬5)؟!، قال [في] الصِّحاح (¬6): "الحفضُ -بالتَّحريكِ-: البعيرُ الذي يحمل خُرْثِيَّ (¬7) البيتِ". والعين للرَّبِيئةِ؛ أي: الطَّلِيعة، وهي الذي يَرْبَأ القومَ؛ أي: يَرْقُبُهم. لأَنَّها؛ أي: العين المقصودُ منه؛ من الرَّبيئة؛ فصارت كأنَّها الشَّخص كُلّه (¬8). ¬
ورَعَينا غَيثًا؛ أي: نبْتًا، لأَنَّه؛ أي: النَّبت مُسَبِّبه؛ أي: الغَيث (¬1). وأَصابتنا السَّماءُ، أي: الغيث؛ لكونِه؛ أي: الغيث من جِهَتِها؛ أي: السَّمَاء (¬2). وأَمْطرت السَّماءُ نباتًا؛ أي: غيثًا، لأنَّه؛ الغيثَ سَببُه، أي: النَّبات؛ إِطْلاقًا لاسم المُسبَّبِ للسَّبب (¬3)؛ عَكْس الأولى (¬4). ومنه؛ أي: من إطلاق المُسبَّب للسَّبب؛ لكن بمرتبتين؛ قولهم (¬5): أَسنِمةُ -جمعُ: السَّنام- الآبالِ (¬6) في سَحَابةٌ. لأن السَّنام مُسبَّبُ النَّباتِ (¬7)، والنَّبات مُسبَّبُ الغيث (¬8). ¬
وأوله: أقبلَ في المسْتَنِّ (¬1) من رَبَابِه (¬2). وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (¬3)؛ أي: يملأونها (¬4)؛ يقالُ: أَكل في بطنه؛ إِذا ملأَه نارًا؛ لأنَّ أكلَ أموالِ اليتامى سببٌ للنَّار. وقوله -تعالى-: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} (¬5)؛ أي: أردت قراءة القرآن لكون القراءةِ مُسبّبةً عن إرداتها. وحُمِل على المجازِ؛ لأن الفاءَ تدلّ على تعقُّب الاستعاذة عنها؛ لكنّها مُتقدِّمةٌ عليها؛ كما عليه العملُ والسُّنَّةُ المستفيضةُ، وإذا حُمل على الإرادة فتعقّب الاستعاذةِ عنها ظاهرٌ. وقوله (¬6): {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَال رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (¬7)؛ أي ¬
: أرادَ نداء ربِّه بقرينة: {فَقَال}، فإن قوله: {رَبِّ} هو النِّداءُ؛ فلو لَمْ يُحمل على (أراد) لزِم تأخُّرُ الشَّيءِ عن نفسه. وقوله: {وَكَم مِّن قَريةٍ أَهْلَكْنَاها فَجَآَءها بَأْسُنَا} (¬1)؛ أي: الإهلاك؛ أي: أردنا إهلاكها؛ وإلَّا يلزمُ تأخيرُ الإهلاك (¬2) عن الإِهْلاك (¬3). وقوله -تعالى-: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} (¬4)؛ أي: ما دعاك إلى أن لا تسجُد؛ لأَن الصَّارفَ عن الشَّيءِ داعٍ إلى تَركهِ، فمشتركان في كونهما من أسبابِ عدمِ الفعل، فتكون (لا) على هذا الوجه غيرَ زائدةٍ؛ كما قال في الكَشَّاف: إِنَّها زائدةٌ (¬5). وقال الأُسْتاذُ: الحملُ على أن التَّقديرَ: ما منعك في أن لا تسجد؛ ¬
مع إبقاءِ المنع على أَصلِه وعدم زيادتها أَوْلَى؛ لأَن حذفَ حرفِ الجرّ مع (أن) كثيرٌ مستمرٌّ كثرة لا يصلُ المجازُ والزِّيادةُ (¬1) درجتَها (¬2). والقرآنُ مملوء منه؛ من المجاز؛ كما تشهد بذلك (¬3) الآياتُ المذكورة؛ فلا تَلْتَفت إلى قول من يَنْفيه؛ أي: المجاز، فيه؛ في القرآن؛ وهم الظاهريَّة، كان مَبْنى وهمه، أي: وهمِ النّافي: إمَّا عدمُ جوازِ إطلاقِ اسمِ المتجوِّز على الله -تعالى-. ولكن (¬4) ذلك، أي: عدم الإطلاق لِوَجْهين: لعدم التوقف، فإنّ أسماءَ الله -تعالى-[الحسنى] (¬5) توقيفيّة. أَوْ لإيهامه، أَيْ: إطلاق التَّجوّز عليه -تعالى- التَّوسُّعَ فيما لا ينبغي، يقالُ: فلانٌ متجوِّز، أي: متوسِّع فيما لا ينبغي. وإمّا؛ قسيمٌ لقوله: (إِمَّا عدم)، كونه -المجاز- يوجبُ الإلباسَ؛ إذ لا يُعلمُ المرادُ عنه بالوضع وبذاتِه؛ ولكن (¬6) لا التباسَ (¬7) مع القرينةِ ¬
الدَّالّةِ على المرادِ. وهذا من المزيداتِ على الأصلِ (¬1). ومنه؛ من المجازِ بالنَّقل لمفردٍ: قولك للحَفَّارِ: (ضيِّق فمَ الركِيَّة)؛ وهي البئرُ، أي: توسعته (¬2)، المُتَوهم لك (¬3)؛ لأَنَّه إِنَّما يُقال ذلك للحفارِ ولَم يَشْرع بَعدُ في الحَفْر؛ فكان مُجرَّد مجوّز إرادة الحفّارِ التَّوسعةَ يُنَزله (¬4) منْزلةَ الواقع؛ فيأمره بتغْييره إلى الضّيق. وإنّما فُصل عمَّا سبقه بلفظ (منه) لأنّه نوعٌ آخر منه. وعشرةٌ إلّا ثلاثة؛ فإنها تُطلق للباقي من العشرةِ بعدَ الثلاثة، أي: للسَّبعة. قال السَّكاكيُّ في [باب] (¬5) الاستدلالِ (¬6): "ولْنتكلم في فصلٍ كنّا أَخَّرناه لهذا الموضع، وهو بيان [حال] (¬7) المستثى منه؛ في كونه حقيقةً أَوْ مجازًا، فنقول: إِن أصحابنا في علم النَّحو حيث يصلّون الاستثناءَ بأنه: إخراجُ الشَّيءِ عن حُكْم دخل فيه غيرُه، ويعنون أنّ ذلك الإخراجَ يكونُ ¬
بكلماتٍ مخصوصة يُعَيِّنونها، وأنك لتَعلم (¬1) أَن إخراج ما ليس بداخلٍ غيرُ صحيح؛ فيظهر لك من هذا (¬2) أنّ حقَّ المستثنى عندهم كونه داخلًا في حكم المستثنى منه، وأن قولهم: (لفلانٍ عليَّ عشرة دراهم إلّا واحدًا) يستدعي دخولَ الواحدِ في حكمِ العشرة قبل (إلّا)؛ لكن دخُول الواحدِ في حكم العشرة متى قُدِّر من قبَل المتكَلِّم ناقضَ آخرُ الكلامِ أوّله؛ كما يشهد له (¬3) الحالُ، وقد سبق الكلامُ في التَّناقض؛ فيلزمُ تقدرُه من قبل السّامِع، وأَنْ يكونَ استعمالُ المُتكلم للعشرةِ مجازًا في التِّسْعةِ، وأن يكونَ قوله: (إلا واحدًا) قرينة المجازِ". وفي هذه المسألةِ مذاهبُ، ولها حُجَجٌ ومعارضاتٌ، نقَّحَها الأستاذُ في شرح مختصر المنتهى (¬4). الرّابع (¬5): بالنَّقل؛ أي: التَّصرّف بالنّقل لتركيبٍ نحو: (أنبتَ الرّبيعُ البقلَ)؛ أي: أنبت الله البقلَ في الرَّبيع، و (ليصنَع الدهرُ بي ما شاء مُجْتهدًا)؛ أي: ليصنَع الله بي (¬6) في الدَّهْر؛ إذا صدَر الكلامُ ممن لا ¬
يعتقده (¬1)؛ أي: ذلك القول كما قال؛ أي: حقيقةً واقعًا في نفس الأمر؛ حسبما أسند إلى ما أسند؛ أي: لا يعتقد أنَّ المنبتَ هو الرَّبيعُ، والصَّانع هو الدَّهرُ، وإِلَّا كان حقيقةً لا مَجَازًا. ولا يَدَّعِيه مبالغةً في التَّشبيه (¬2)، وإلّا صارَ حينئذٍ من الاستعارة بالكناية. وهذا يُسَمّى: مجازًا في التَّركيب لأن مُفْرداتِه (¬3)؛ كلها مُبْقَاةٌ على حقيقتها، ومجازًا حُكميًّا؛ لتَعَلّقه بالحكمِ والإسنادِ. وتَحقيقُه: إِن دلالةَ هيْئةِ التَّركيباتِ بالوضعِ؛ لا بالعقلِ؛ لاختلافها باللُّغاتِ؛ أي: بحسبِ اختلافِ اللُّغاتِ في تقدُّمِ الفاعل في بعض دون بعضٍ؛ كرامي الحجارة (وسنك اذراز) (¬4). وهذه الهيئة (¬5) وضعت لملابسةِ الفاعلِ؛ وإذا أُفيدَ بها ملابسةً غيرها (¬6)؛ أي: غير مُلابسةِ الفاعل كان مَجَازًا لُغَة؛ كما قاله الإمامُ عبد القاهرِ (¬7)؛ وأنه قال ¬
في موضع من دلائل الإعجازِ بكونه عقليًّا (¬1). وملابسةُ غير الفاعلِ في الفعول؛ كقولهم: عيشةٌ راضيةٌ (¬2)؛ لأنها مرضيّة، وفي المصدر؛ نحو: (شِعرٌ شَاعرٍ)، وفي الزّمان، نحو: (نهارُهُ صائمٌ)، وفي المكان؛ نحو: (نهر جارٍ)، وفي السَّبب؛ نحو: (بن الأميرُ المدينة). ومَن ظنَّ أن مثل: أنبتَ، وخَلَقَ، وأَحيَا، وأشاب، موضوعٌ للصُّدور عن القادر، واستعماله فيما له اختيارٌ وقدرةٌ؛ حتَّى إذا استعمل في غير القادرِ؛ هو: (أنبتَ الرَّبيعُ) يكون مجازًا- كذبة غيرُ وجه واحد؛ بل وجوهٌ كثيرةٌ (¬3)؛ كلزومِ النَّقلِ عن أحدٍ من رُواة اللّغة تقييده بأن وضعه لاستعماله في القادر له؛ لكن اللّازمَ مُنْتفٍ؛ وذلك دليلٌ في العُرفِ على الإطلاق. ولُزومِ كون المصادر- كقولنا: (فعلُ النَّارِ في كذا وكذا) - مجازًا؛ لأن التَّفاوُت بين الفعلِ والمصدَرِ ليس إلا بمجرّدِ الاقتران بالزَّمان (¬4). ولُزُوم كونِ (شغل الحيّز)؛ و (قبل العرض) موضوعًا ¬
لاستعماله في غير القادر، لأنَّه ليس بالاختيار؛ كما أن نحو: (أنبت) ليس إلَّا بالاختيار، لكن ادِّعاء وجودِ اللازمين بمعزلٍ عن الإنصافِ. وقيل (¬1)، والقائلُ الإمام الرّازيُّ (¬2): إنَّه (¬3) مجازٌ عَقْليٌّ لا لغويٌّ، إذْ أَثْبَتَ المتكلِّمُ حُكْمًا غير ما عنده، ليتصوّرَ فيُفهم عنه، عن غير ما عنده. ما عنده، أي: ينتقل الذِّهنُ من غير ما عنده (¬4) -أي: المجاز- إلى ما ¬
عنده -أي: الحقيقة-. ويتميّزُ هذا المجازُ عن الكذبِ بالقرينةِ؛ إذ الكاذبُ لا ينصبُ قرينةً على أنه ليس كذلك عنده. [و] (¬1) قال، أي: السَّكاكيُّ، إنه استعارة بالكناية؛ كأنَّه، أي؛ المُتكلم، ادَّعى الرَّبيعَ فاعلًا حقيقيًّا، وتصوَّره بصورته، والقرينةُ إسنادُ ما هو من لوازم الفاعل الحقيقيِّ؛ أي: الإِنْبات إليه؛ وذلك للمبالغةِ في التَّشبيه (¬2). ¬
وابنُ الحاجبِ جعلَ المجازَ في (أَنْبت)، وقال: معناه: تَسبّب الرَّبيع عادة لإنبات البَقْل. والمصنِّفُ ضَبَطَ المذاهبَ في شرح المختصر بقوله (¬1): "واعلم (¬2): أنَّهم قد اختلفوا في نحو: (أنبتَ الرَّبيعُ البقلَ)؛ لعدمِ كونِ الرَّبيع هُو الفاعلُ حقيقةً، فلا بُدَّ (¬3) من تأويلٍ في اللَّفظِ، أَوْ في المعنى؛ وإِلَّا لكانَ كذبًا. والتَّأويلُ في اللفظ إِمَّا في الإنباتِ، أَوْ في الرّبيع، أَوْ فِي التَّركيبِ؛ فهذه احتمالات أَرْبعة: الأَوَّل: التَّأَويلُ في المعنى؛ وهو أنَّه أورده ليتصوّرَ فينتقل الذِّهنُ منه إلى إنبات الله -تعالى- فيه؛ فيصدق به، وهو قولُ الإمام الرَّازيِّ: إِن ¬
المجازَ عقليٌّ لا لغويّ. الثاني: أن التَّأويلَ في (أَنْبت)، وهو للتسبّب (¬1) العادي؛ وإنْ كان وضعه للتَّسبّب (4) الحقيقي، وهو قول ابنُ الحاجب؛ صرَّح به في المنتهى. الثّالثُ: أن التَّأويل في (الرَّبيع)، فإنَّه تُصُوِّر بصورة فاعل حقيقي؛ فأسند إليه ما يُسند إلى الفاعل الحقيقيّ، مثل فِعْلهم في قوله (¬2): صبحنا الخَزْرَجيَّة مُرهفَاتٍ ... أَباد ذَوي أَرُومَتِها ذَوُوها. حيثُ جعلوا (¬3) (المُرْهَفَات) شَرَابًا، وهو قولُ السَّكاكيِّ: إِنَّه من الاستعارة بالكنايةِ (¬4). الرّابعُ: أن التأويلَ في التَّركيب، وهو أنَّ (¬5) كل هيئة تركيبيّةٍ وُضِعت بإزاءِ تأليفٍ معنويٍّ؛ وهذه وُضعت لملابسة (¬6) الفاعليّة، فإذا ¬
استُعملت لملابسةِ (¬1) الظَّرفيَّة أَوْ نحوها كان مجازًا؛ وذلك نحو: (صامَ نهارُه) (¬2) و (قامَ ليلُه)؛ وهذا مختارُ عبد القاهر". وتوهّمَ صاحب الإيضاح ذهابَ السَّكاكيِّ إلى أنّ المراد بـ (الرّبيع) الفاعلُ الحقيقيُّ حقيقةً؛ لا أنه متصوّرٌ بصورة فاعل حقيقيّ؛ فأوردَ عليه اعتراضات؛ حاصلُها: أنَّه يَسْتلزم أن يكونَ المرادُ (بعيشةٍ) في قوله: {فَهُو فِي عِيشَةٍ رَّاضيَة} (¬3): صاحبَها -كما سيأتي- (¬4). وأن لا تصحّ الإضافةُ في نحو: (نهارُه صائمٌ)؛ لبُطلانِ إضافةِ الشيءِ إلى نفسه (¬5). وأن لا يكونَ الأمرُ بالبناءِ لهامان (¬6). ¬
وأن يتوقّفَ؛ نحو: (أنبتَ الرّبيعُ البقل) على السَّمع (¬1). واللّوازمُ كلّها مُنْتَفية. ولأنَّه يَنْتَقِضُ بنحو: (نهارُه صائم)، لاشتماله على ذكر طرفيَ التَّشبيه (¬2). لكن لا ترِد (¬3) بعد تصوُّر كلامه (¬4): أنّ المراد بالرَّبيع: المُتَخيَّلُ بصورةِ فاعلٍ حقيقي حتَّى كأَنه فرد من جنس الفاعلين؛ لا أنه هو الفاعلُ ¬
الحقيقيُّ بعينه؛ أي: الله -تعالى-. ولفظه -حيثُ قال (¬1): "المنيَّة تدخل في جنس السِّباع لأجل المبالغة في التَّشبيه"- صريحٌ به. والحاصلُ منه: الفرقُ بين المفهومِ وما صدقَ عليه؛ فتقول: المرادُ (بعيشة): أمر متخيّل (¬2) بصورة من يصحّ له الرِّضا وعدمه؛ لا صاحبها؛ حتَّى لا يصحّ. و (النَّهار) مُتخيّل بصورة صوّامٍ، مبالغةً في التَّشبيه، وهو المراد منه، لا زيدٌ بعينه، حتَّى يكون إضافة الشَّيءِ إلى نفسه. و (هامان) متصوّرٌ بصورة فردٍ من جنس البُناةِ، فيكون الأمرُ له لا لغيره. والمراد بـ (الرّبيع) مُتصوّر (¬3) بفاعل حقيقيّ لا الفاعلِ الحقيقيّ الذي هو الله- تعالى، وإن لم يكن في الواقع إلّا هو، حتَّى يُتوقّف على السّمع. والمرادُ بـ (النّهار) إذا كان أمرًا يُتخيّل بصورة صَوَّام؛ فلا يكونُ المشبَّه مذكورًا [و] (¬4) لا ينتقض به. ¬
وجوه التصرف في المعنى
وقلت (¬1): لها أجوبة أُخرى؛ لكن في كل منها حزازةٌ. وأمّا وجوهُ التَّصرّفِ في المعنى فأربعةٌ -أيضًا-: الأَول: بالنُّقصان؛ أي: التَّصرُّف بالنُّقصان، وهو: أن تكونَ الكلمةُ موضوعةً لحقيقةٍ مع قيدٍ؛ فتستعملها لتلك الحقيقةِ لا مع ذلكَ القيْد بمعونة القرينة (¬2)؛ كالمسفر؛ أي: كاستعمال المشفر -وهو موضوعٌ للشَّفةِ مع قيْد أن يكون شفةَ بعيرٍ-: للشّفةِ مُطلَقًا؛ أي: بلا قيْدِ كونها للبعيرِ (¬3). والمرسِنُ -وهو موضوعٌ للأنف مع قيد أن يكون أنفَ مرسون-: للأنف بلا قيد كونه للمَرسُون (¬4). المرسِنُ مكانُ الرَّسنِ من أنف البعيرِ. وهو (¬5) من باب إطلاق اسم العام للعامِّ. وسَمَّوه [أي] (¬6) الأصحابُ (¬7) مجازًا لغويًّا؛ فإنّه هُجِر فيه وضعُ اللّغة؛ لا حكمُ العقل. ¬
غير مفيدٍ؛ لقيامِه مبهام أحدِ المترادفين؛ نحو: (ليثٌ وأسدٌ) عند المصير إلى المراد منه (¬1). الثاني: التَّصرُّف بالزِّيادة؛ نحو: {وَأُوتِيَتْ مِن كُل شَىْءٍ} (¬2)؛ أي: مما يُؤتى مثلها؛ لأنه عُلِم بالضَّرُورة أنها لم تؤت كُلّ ما يَصدُق عليه اسم الشَّيء، فأطلق الكُل وأراد البعض. وهو؛ أي: هذا النّوعُ من المجاز عكسُ ما قبله؛ لأنّه إطلاقُ اسم العامّ للخاصِّ، وما قبله إطلاقُ اسم الخاصِّ للعامِّ. ومنه (¬3) بابُ التَّخصيص بأسره؛ لأَنَّه كلّه (¬4) كما عُرف في علمِ الأصول من إطلاقِ العامِّ وإرادة الخاصِّ. وفي كون التَّصرُّفِ فيهما بحسب المعنى لا مساس للبيان حاجة إليه. الثّالثُ: التَّصرُّفُ بالنّقل لمفرد؛ نحو (¬5): (في الحمَّام أسدٌ)؛ فإِنَّه ¬
نقل معنى الأَسدِ إلى الشُّجاع، لا أنَّه تصرّفَ في اللفظ؛ بأن أَطْلق لفظة. (الأسد) وأراد: (الرَّجل الشُّجاع)؛ كان احتمل ذلك التصرّف -أيضًا- كما مرَّ (¬1). وقوله في: (الحمَّام) قرينةٌ للنّقل (¬2). الرّابعُ: التصرُّفُ بالنقل لتركيبٍ؛ نحو: (أنبت الربيعُ البقلَ) (¬3) مِمّن يدّعيه مبالغةً في التَّشبيه، وإلّا كان (¬4) من المجازِ الحُكميّ؛ إذ (¬5) كان حينئذٍ التَّصرُّف في اللّفظ (¬6). واعلم: أن في جميع الاستعارات يأتي هذان الاحتمالان: أن يكونَ النَّقلُ في المعنى؛ كأَن يتصرّفَ في معنى الأسد؛ بأن يقول: إن له صورتين: مُتعارفةً؛ كالحيوانِ المفترسِ، وغيرَ متعارفةٍ؛ كالرّجلِ الشُّجاع؛ ¬
فكأنه (¬1) يَدَّعى أن الرّجلَ الشُّجَاعَ أَسدٌ - أيضًا؛ وعلى هذا فلفظُ الأسدِ فيه حقيقةٌ. وأن يكونَ النَّقلُ في اللّفظ، كأَن يتصرّف في لفظ الأسد، بأَن ينتقلَ من معناه إلى الرّجلِ الشُّجاع، وعلى هذا فلفظُ الأسدِ فيه (¬2) مجازٌ. وهكذا في (أنبت الرّبيعُ)، بأن يُقال: إِمَّا أن يدَّعي أنَّه من جِنْسِ الفاعلين بالحقيقة (¬3)، أَوْ يُنْتقل منه إلى الفاعلِ الحقيقيِّ. وكذا في (فارَ القِدرُ)، فإِنَّه إِمَّا أن يدَّعِي أنَّه الفائرُ؛ من جِنْس الفورةِ، أَوْ ينتقل منه إلى ما في القدر (¬4). وهذا؛ أي: النَّقلُ للتَّركيبِ بحسبِ المعنى؛ أي: الاستعارة في التّركيب، لم يُذكر في كتب القوم، نعم ذُكرَ المجازُ في التَّركيب، كما مرَّ، وهو بصدد الحلافِ المتقدِّم في النَّقل التَّركيبيِّ اللفظيّ، أمجازٌ (¬5) لُغويٌّ؛ كما نقل (¬6) عن الشَّيخ عبدِ القاهر، أَوْ مجازٌ عقليٌّ، كما عن الإمامِ الرّازيّ، أَوْ استعارة بالكناية؛ كما هو مذهبُ السَّكاكيِّ؟ هذا مضى. ¬
وقال الأستاذُ: الأَوجهُ (¬1) في تَوْجيه تسمية (¬2) الاستعارةِ بالكنايةِ ما قال (¬3) البحرانيُّ (¬4) في رسالته في هذا الفنِّ، المُسمَّاة: بـ "التَّجريد" (¬5)؛ وهو أن يقال: إذا أراد المتكَلِّمُ أن يستعير الفاعلَ الحقيقيَّ للرّبيع؛ فلو أطلق الفاعلَ وأراد به الرَّبيعَ لكان استعارةً مُصرّحة؛ فلمّا لم يتلفّظ به، بل كنَّى عنه بأن أطلق لازمًا من لوازمه الذي هو الإنباتُ؛ لينتقلَ الذِّهنُ منه إلى ملزومه الذي هو الفاعلُ الحقيقي، المرادُ به الرَّبيعُ [المشبّهُ] (¬6) كانت بالكناية، فهي -بالحقيقة- كنايةٌ صريحةٌ عن استعارةٍ مُقدَّرةٍ غير مذكورةٍ لا ما ذكره السَّكاكيُّ، وهو أنَّه لَمَّا كان ¬
المنيةُ بحسب الادِّعاءِ من جنس السِّباع كان استعارةً، ولَمَّا لم يُطْلق عليه لفظ السَّبع صريحًا؛ بل اسم المنيّة التي هي مُرادفة للسَّبع بحسب دعواه [تكون] (¬1) بالكناية، وكذا في الرَّبيع والفاعلِ الحقيقيِّ؛ لعدم كنايةٍ فيه، ووجودِ تكلُّفاتٍ -كما ترى-. وأَمَّا من يعتقده؛ أي: نحو (الرَّبيعُ) فاعل حقيقةً؛ فهو منه حقيقةٌ كاذبةٌ؛ لعدم مُطَابَقته للواقع (¬2). ولذلك لَا يُحكمُ فيه؛ في نحو (¬3): (أنبت الرَّبيعُ البقلَ)، بحكمٍ؛ من نحو: كونه مجازًا، أَوْ حقيقةً إلا بثبتٍ؛ أي: بِحُجَّةٍ يُعلم منها اعتقادُ المُتكلِّم؛ حتَّى إنْ كان ما أَدَّاه في الظّاهر معتقدًا له كان حقيقةً كاذبةً، وإِلَّا كان مجازًا؛ فلم (¬4) يُحمل على المجازِ قولُ أبي النّجم (¬5): ¬
قَدْ أصبَحَتْ أُمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي عَلَيَّ ذَنْبًا كُلّهُ لَمْ أصنَع مِنْ أَنْ رَأَتْ رَأسِي كَرَأسِ الأَصلَع مَيَّزَ عَنْهُ قُنْزُعًا عَنْ قُنْزُعِ جَذْبُ الليالِي أَبْطِئِي أَوْ أَسْرِعِي حينَ أسندَ تَمييز القنازع إلى الجذْب -أي: انحسار الشَّعر عن الرأس- إلى الزمان؛ حتَّى قال: أَفْنَاهُ قِيلُ اللهِ للشَّمسِ: اطْلُعِي. فإنّه الشَّاهدُ؛ لنَزاهته أَنْ يعتقد: أن الذي مَيَّز هو جذْبُ اللّيالي؛ بل الإسناد إليه على (¬1) خلافِ مُعتقده: حتَّى إذا واراكِ أُفقٌ فارجعي. و (كلُّه) مرفوعٌ بالابتداءِ. و (لَمْ أصنع) خبرُه؛ حتَّى كانَ النَّفي عامًّا، واستقام غرضُ الشَّاعرِ في تَنْزيه نَفْسه عن (¬2) جُملة الذّنوبِ. ¬
و (القُنْزعةُ): شعرٌ حوالي الرَّأسِ. و (أَبْطئي): صفةُ الليالي، أي: المَقُول لها: أَبطئِي؛ أَوْ حال عنها، أي: اللَّيالي مقولًا في حقِّها: أبطئي. (قيل الله)، أي: حُكْمُه.
الأصل الثالث: في الاستعارة
الأصلُ الثالثُ: في الاستعارة إِنَّما عَنْوَنَ باب الاستعارةِ بـ (الأَصل) لا بـ الفَصْل) -كما في المفتاح- (¬1) بناءً على ما عنده من كونها أصلًا مُستقلا من الأصولِ، وركنًا مُعتبرًا من الأَركان البَيانِيَّة -كما عُلِم منَ التَّقْسيم (¬2) صدر الفصل البيانيِّ- (¬3). وفيه مقدِّمة، وتقسيماتٌ، وخاتمةٌ؛ أي: هذا الأصلُ مُنكسرٌ عَلَى هذه. المُقدِّمة: وإنّما جعل لهذه المباحا مقدِّمةً؛ لتوقّفِ الأبحاثِ الآتيةِ عليها. قيل والمرادُ به: قول السَّلفِ؛ لأَنّها عند السَّكاكيِّ: عبارةٌ عن (¬4) "أن تذكر أحدَ طرفي التَّشبيه وتُريد به الطرف الآَخر؛ مُدَّعيًا دخولَ المُشبَّه في جنسِ المشبَّهِ به؛ دالًّا على ذلك بإِثباتك للمُشَبّهِ ما يَخُصُّ المشبّه به"-: الاستعارةُ: جعلُ (¬5) الشَّيءِ الشيءَ، أَوْ للشيء؛ مبالغةً ¬
في التشبيه؛ كأنه من ذلك الجنسِ. وقوله: (مبالغةً) يتعلقُ بالقسمين؛ نحو: (في الحمام أسدٌ)؛ مثالٌ للأوّلِ (¬1)؛ فإنّه جعل الشُّجاعَ نفسَ الأسد. و (إِذَا المنيّةُ أنشَبَتْ أَظْفارَها) ... أَلْفَيْتَ كُل تَمِيمة لَا تَنْفَعُ (¬2). مثالٌ للثاني (¬3)؛ فإنَّه جعلَ الأَظفارَ والأَنْشابَ للمنيَّة. يقالُ: قرأَ الحسن (¬4) بن علي - رضي الله عنهما - البيتَ حين عادَ معاوية (¬5)؛ ¬
فتجلَّدَ، وقرأ (¬1): (¬2) وَتَجَلُّدِي للشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ ... أنِّي لِرَيْبِ الدَّهْر لا أَتَضَعْضَعُ. وظاهرُ اللَّفظِ أن المرادَ بالأَوَّل: الاستعارةُ المُصرّحةُ، وبالثاني: الاستعارةُ بالكنايةِ؛ لكنَّ شارحَ المفتاح عَكَسَ القضيَّة (¬3). ¬
ويُسَمّى هذا الجَعل (¬1): استعارةً؛ لمكان المُناسبة؛ أي: لوجودها وثُبُوتها بينها وبَيْن معنى الاستعارةِ اللغويَّة، إذْ (¬2) كان المشبِّهُ استعارَ حقيقةَ المشبَّه به للمشبَّه؛ حيثُ أدخلَ المشبِّهُ المشبَّه فيه، في جنسِ المشبَّهِ به وحقيقته، ادِّعاءً بأنَّه فردٌ من أَفْراده؛ كما يُستعارُ الثوبُ فإن المستعيرَ يُدخِل نَفْسَه في زِيِّ المستعار منه، لا يتفاوتان إلا في أن أحدهما -إذا فُتّش عنه- (¬3) مالكٌ، والآخر ليس كذلك. ولذلك؛ أي: ولما (¬4) أنَّ الاستعارةَ إدخالٌ للمُشبَّه في جنس المُشَبَّه به وحقيقتِه وجعله فردًا من أفراده لا يَتَأتَّى؛ لا يصحُّ فِي العلمِ؛ لأنَّه لَمْ يوضع لمعنًى جنْسيّ، إلا بتضْمِين لفْظِ العَلَم وصفيّة؛ حتَّى يُتصوّرَ الإدخال والجعل؛ كـ (حاتِم) (¬5)، لتضمين لفظ حاتم معنى الجُودِ، ولَفْظ (مَادِر) (¬6) ¬
معنى: البخلِ. ثُمَّ قيلَ (¬1): هذا مجازٌ لُغويٌّ، لأن الأسدَ موضوعٌ للحيوانِ المُفْترسِ دُونَ الشجاع، وإلَّا؛ أَيْ: وإن لم يكن هذا؛ أي لفظ الأَسدِ المستعملِ في الشُّجاع مجازًا لُغويًّا كان صفةً لا اسمًا. وكان حقيقةً لا مجازًا، كاستعمالِ الألفاظِ المُتواطئةِ في الأَفراد. ولم يُفِد (¬2) تشبيهًا، لأَن استعماله فيه حينئذٍ من جهة التّحقيق، فَلَم يكن استعارة لابتنائِها على التَّشْبِيه. ولا احتاج إلى قرينةٍ، لعدمِ احتياج الحقيقةِ إليها. والتَّالِيانِ الثاني (¬3) والرَّابع (¬4)، لم يُذْكرا في المفتاح (¬5). وقيلَ: لا، أي: ليس مَجَازًا لُغَويًّا، بل هو مجازٌ عَقليٌّ وإِلَّا، أي: لو كان مجازًا لغويًّا، لم يكن ذلك -ادّعاءَ الأَسديّة- له (¬6) للمُشَبَّه؛ إذ مع ادّعاء الأَسديّة، ودُخُوله في جِنْس الأسود يَمتَنع إطلاق اسم الأَسدِ مع ¬
الاعترافِ بأنَّه رَجُلٌ. ولم يكن ذلكَ في قوَّة قولنا: إِنَّه ليس بآدميّ، إِنَّما هو أسدٌ، لكنَّه في قوَّته بالاتِّفاقِ. ولم يكن (¬1) للتَّعجُّب في قوله (¬2): قَامَتْ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمس ... نَفْسٌ أَعَزُّ عَليَّ مِنْ نَفْسي! قَامَتْ تُظَلِّلُنِي، وَمِنْ عَجَبٍ ... شَمسٌ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمسِ! ولا لإِنكاره، ولم يكن لإنكارِ التَّعجّب (¬3)، أَوْ إِنكارِ الشَّاعر في قوله: (فكيف) (¬4)؛ في قوله (¬5): ¬
تَرَى الثيابَ مِنَ الكتّان يَلْمَحُها ... نُورٌ مِنَ البدرِ أَحيانًا فيُبْلِيها فَكَيفَ تَعجب أَن تَبْلَى مَعَاجِرها [وهو جمع: المعجر؛ وهي: المقنعة] (¬1) والْبَدرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ طالع فِيها وَجْهٌ؛ وهو اسم لم يكن، وذلك للاعترافِ بأَنه غيرُ جِنسِ المشبَّه به خارج عنه على ذلك التَّقدير. والجوابُ عن القائلين بأنه ليس مجازًا لغويًّا: إِن الموضوعَ له، للفظِ الأسد هو الأسدُ حقيقةً، أي: الأسد الحقيقيّ، لا ادّعاء؛ وهما غيران، فلا يلزمُ من استِعماله في غير الموضوع له الحقيقيِّ اسْتعماله في غير الموضوع له الادّعائيّ. وكلُّ ما ذكرتم من التَّوالي (¬2) الأربع فهو للادّعاءِ، فلا يلزم عدمُ ادِّعاء الأسديّة له؛ لأنه (أسدٌ) ادّعاءً؛ ولا عدمُ كونه في قُوَّة إِنَّه ليس بآدميّ إِنَّما هو أَسَدٌ؛ لأنَّه (أسدٌ) ادِّعاءً، و [لا] (¬3) أن لا يكوَنَ للتعجُّب ¬
وجهٌ؛ لأنه (شمسٌ) ادّعاءً، فيكون للتعجُّبِ وجهٌ. ولا أن لا يكون للإنكار وجه؛ لأنَّه (بدرٌ) ادّعاءً فيكون له وجهٌ. وقد تردَّد الإمامُ الباهرُ الشَّيخُ عبد القاهر فيهما في المذهبين؛ فقال: تارةً بكونه لغويًّا، وأخرى بكونه عقليًّا (¬1). فإن قلتَ: فكيفَ الجمعُ بين ادّعاء الأسديّة للرَّجل، وبينَ نصب القرينة على عدمِ إرادتها؛ أي: إرادة الأسديّة؛ وما هذا إلا تناقضٌ؟. قَلتُ: إنه يدّعي أن للأسد صورتين، متعارفةً، وهي التي لها جرأةُ الإقدام، ونهاية قوّةُ البَطْش مع الصُّورة المخصوصة، وغيرها؛ غير متعارفةٍ، وهي التي لها تلك الجرأة وتلك القُوَّة، ولكن (¬2) لا مع تلكَ الصُّورة المَخْصُوصةِ؛ بل مع صُورة أخرى؛ كما قال المتنبِّي (¬3): نحنُ قَوْمٌ ملْجِنِّ (¬4)؛ أي: من الجِنّ؛ نحذفَ النُّونَ لالتقاءِ السّاكنين، في زيِّ (¬5) ناسٍ ... فَوْقَ طيرٍ لها شُخُوص الجِمَالِ. ¬
مُرتكبًا هذا الادّعاء؛ في عدِّ نَفْسِه وجماعتِهِ من جِنْس الجنِّ، وعدِّ جِمَاله من جنسِ الطير (¬1). ويُؤَيِّدُه؛ أي: المذكور من ادِّعاء: أنّ للأسدِ صورتين، المخيّلاتُ العُرفيةُ؛ أي: ما تخيّلَ في العرف بإخراج شيء من جِنْسٍ وإِدخاله في آخر؛ نحو: هذا ليس بأسدٍ؛ إنَّما هو هِرٌّ اكْتسى إهابَ أسدٍ، وهذا ليس بإنسان؛ كما هو أسد في صورة إنسانٍ. وذُكِرَت القرينةُ الدّالةُ على أن المرادَ غيرُ المتعارفِ لئلّا يُحمل على المتعارفِ السّابقِ إلى الفهمِ لولا القرينة. وعليه، أي: على جعل أفرادِ الجنس قِسْمين: متعارفًا، وغير متعارف، ورد قول الشّاعر (¬2): ¬
........... ... تَحيَّةُ بَيْنِهم ضَربٌ وَجيعُ. كأنَّه جعل بالادّعاءِ أَفرادَ (¬1) جنسِ التَّحيّةِ قسمين: متعارفًا؛ وهي المشهورةُ، وغير متعارف؛ وهو الضَّرب. وأوّله: وَخيلٍ (¬2) قَدْ دَلَفْتُ (¬3) لَها بِخَيْلٍ. وقوله -تعالى-: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬4)، كأنه جعل أَفراد جنسِ المال والبنينِ قسمين -على سبيل الادّعاءِ والتَّأويل-: مُتعارفًا؛ وهو المالُ والبنون المشهوران، وغير متعارفٍ؛ وهو سلامةُ القلب. ولا بُدَّ (¬5) في صحّةِ الكلامِ من تقديرها: مضافًا، محذوفًا (¬6)، مدلولًا عليها بالقرائن؛ أي: إلا سلامة من أتى الله بقلبٍ سليم. ¬
التقسيمات
وللآيةِ المباركةِ توجيهاتٌ أخر؛ كما ذكرها صاحب المفتاح (¬1) وغيرُه (¬2). التَّقسيماتُ وإذْ لا بدَّ من مستعارٍ منه؛ هو المشبَّه به، ومستعارٍ له؛ هو المشبّهُ، ومستعارٍ؛ هو اللفظُ، ثم قد (¬3) يتبعُه حُكْم؛ إمَّا مناسبٌ للمُشبَّه. وإِمَّا للمُشبَّه به؛ فهي أربعةُ مباحثٍ: الأوّل (¬4): في المشبَّه به. حقيقةُ الاستعارة لَمَّا كانت ذكرُ أحدِ الطّرفينِ وإرادة الآخر. فالمشبَّهُ (¬5) به إن ذكر فمُصرَّحٌ بها؛ نحو: تَبسَّمَ بدرٌ. وإِنْ لم ¬
يُذْكر هو؛ أَيْ: المشبَّه به، بلْ حكمٌ يختص به، بالمشَّبهِ به، مع المشبّهِ فمكنيٌّ عنها، نحو: لسانُ الحالِ أفصحُ من لساني. فذُكر المشَبَّهُ وهو (الحالُ)، وذُكِرَ معه حكمٌ يختصُّ بالمشبَّه به، أي: (اللِّسان) المختصُّ بالمتكلِّم، الذي هو المشبَّه به، كما قال الشّاعرُ (¬1): وَلَقَدْ نَطَقْتُ بِشُكْرِ (¬2) بِرِّكَ مُفْصِحًا ... وَلِسَانُ حَالِي بالشّكايةِ أَنطَقُ والاستعارةُ بالكنايةِ -في الحقيقةِ- كنايةٌ عن الاستعارة، فإِنَّك تصوَّرتَ الحال بصورة المتكلِّم، وأثبتَّ له ما هو خاصَّة له لازمة له؛ وهو اللّسان؛ فكأنَّكَ شَبَّهته بالكناية بالمتكلِّم؛ لذكر لازمِه النتقل الذِّهنُ منه إليه؛ كما مرَّ تحقيقها. الثاني (¬3): في المُشبّه. والمقصودُ منه بيانُ أقسامِ المصرّحةِ بها. المشبّهُ؛ [أي المشبّه] (¬4) المتروك في الاستعارة ¬
المصرّحةِ (¬1). إمّا موجودٌ متحققٌ حِسًّا أو عقلًا، فتحقيقيّةٌ؛ أي: فالاستعارة تسمَّى تحقيقيَّة. أَوْ لا موجود، بل وَهْميٌّ مَحْض؛ لا تحقّقَ له إلّا في مُجَرَّدِ الوهم؛ فتخييليَّةٌ. هذا على ما في المفتاح (¬2)؛ لكنّ لفظَ المختصرِ شاملٌ للمَتْروكِ والمَذْكورِ (¬3)، ونِعما هو لو صحّ التَّقسيم (¬4) في نوعَي الاستعارةِ في المصرّحةِ والمكنيّة. وفي بعضِ النُّسخ: المُشبَّه موجودٌ يُرادُ بيان حاله، فالمشبّهُ به إمّا موجودٌ، وعُرِضَت على الأستاذ فغَيَّرَها إلى ما ترى. فالتَّحقيقيَّةُ إطلاقُ اسمِ الأقوى في صفة -كالأسدِ في الشجاعة، للأضعف فيها؛ في تلكَ الصِّفة؛ بادّعاءِ أن الملْزُومَ الأضعفَ للصفة من (¬5) جنسِ الملزوم الأقوى لها؛ ليدل بتساوي الملزومات؛ كالأسدِ والرّجلِ الشُّجاع -مثلًا- على تساوي اللّوازم؛ كالشَّجاعتين؛ كالأسدِ للشُّجاع. والبدر الأقوى للوجه الأضعفِ؛ في صفة الوضوح، والإشراقِ، ¬
والاستدارةِ. ومِنه هذا (¬1) البابِ الاستعارةُ بالضِّدِّ، وهي استعارةُ اسمِ أحدِ الضِّدَّين أو النَّقيضين للآخر؛ بواسطةِ انتزاع شبه التَّضادِّ؛ أي: اتِّصافِ كُلٍّ بمُضادِّه الآخر، وإلحاقِه بشِبْه التَّناسُب تهكُّمًا، أي: استهزاءً، أو تَمليحًا -كما مرَّ، ثمّ (¬2) ادِّعاء أحدهما من جنسِ الآخر، والإِفراد بالذِّكْر، نحو: {فَبَشرْهُم بَعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬3) مكان أَنْذرهم؛ في الاستعارةِ التَّهكُّميَّة، ونحو: (رأيت حاتمًا) عِنْد رؤية بخيلٍ، في الاستعارةِ التَّمليحيّة. وإذا كانَ وجهُ الشَّبه أمرًا منتزعًا من عدَّةِ أُمُور، نحو قَوْلك (¬4): (تُقَدِّمُ رِجْلًا -أي: لإرادة الذّهاب- وتؤخِّر أُخرى لإرادةِ عدمه؛ للمُتردِّدِ في الأَمر (¬5)؛ كالمفتي المتردِّد في جوابِ الاسْتِفتاء؛ وذلك بإدخالِ صورةِ المشبَّه -أي (¬6) المفتى المتردِّد- في جنس صُورةِ المشبَّهِ به؛ أي: (الماشي ¬
المتردّد) رَوْمًا للمبالغة في التَّشبيه؛ فتَكْسُوها وصفَ المشبَّه به من غيرِ تغييرِ فيه بوجهٍ من الوجوه على سَبيل الاسْتعارةِ- سُمِّي تمتيلًا على سبيل الاستعارة. ولكون الأمثالِ كلِّها تمثيلاتٍ على سبيل الاستعارةِ لا يجد التّغيير إليها سبيلًا. والتَّخييليّةُ إطلاقُ اسم الموجودِ -وهو الأظفارُ المتحقّقةُ للسَّبع- على الموهوم؛ أي: الأظفار المُتَخيّلة للمَنيّة؛ ولهذا سُمِّيت: تخييليّة؛ وذلك بعد تشبيه المنيّة بالسَّبع (¬1)؛ في اغتيالِ النُّفوسِ، وانتزاع الأَرواح؛ مثل: وإِذَا الْمَنِيَّةُ أنْشَبتْ أَظْفَارَها واعلم: أن الاستعارة التَّخييليّة في الأظفار، والقرينةُ المنيّةُ، وأمّا المنيّة فاستعارةٌ بالكناية، وقرينتها الأظفار. فالتَّخيليّة قرينةُ المكنيّة، والمكنيّة قرينةُ التَّخيليّة. وأمّا إذا قيلَ: أظفارُ المنيَّة الشَّبيهة بالسَّبع تكون تخييليّة ولا مكنيّة، وأما عكسه فلا يجوز. وما يلزم من كلام السَّكاكيّ؛ وهو أنّ الاستعارتين المكنيّة والتخيليّة في لفظ المنيَّة- لا يبعد؛ فإنّها هو أقرب إلى الصّواب دافعًا لاعتراض صاحب الإيضاح حيث التزم لزوم انفكاك الاستعارة بالكناية عن التخيليّة. ¬
وإن قلتَ: ما الفرقُ بين التَّخييليَّة والتَّرشيح؛ فإنّ في كُلٍّ منهما يُذكر ما يلائمُ المُشَبَّه به ويُلازمه؟. قلتُ: لا فرق؛ فإن ما هو القرينةُ هو التَّرشيح بعينه، وما المحذور لو كان التَّرشيح ضربًا من التَّخييليَّة؟!. سؤالٌ؛ هذا سؤالٌ يردُ على الاستعارة المَكْنيّة، ولمَّا اشتملت التَّخييليّة في المثال عليها؛ فكأنَّها مذكورةٌ (¬1): أَوجبتَ في الاستعارة إنكار كونه؛ أي: المشبّه، من جنس المُشَبَّه (¬2)؛ بل أوجبتَ ادّعاء أن المُشَبَّه من جنسِ المُشَبَّه به ادِّعاء إصرارٍ؛ فهذا تصريحٌ بخلافه؛ حيثُ ذكرتَ المُشَبّه باسم جنسه، ولا نرى اعترافًا بحقيقة الشَّيءِ أكمل من التَّصريح باسم جِنسه؛ فلزمكم في الاستعارةِ بالكناية الجمعُ بين إنكار المشبّه من جنسه، وبين الاعترافِ بكونه من جنسه؛ وهل هذا إلّا تناقضٌ؟. جوابٌ: أليس هُناك؛ أي: في الاستعارةِ المُصرّحة، نقل معنى المشبَّه به ادِّعاءً؛ كما ادّعينا هناك أن الشّجاعَ مُسَمَّى للفظِ الأسدِ بارتكابِ تَأويل أن أفراده قسمان؛ حتَّى يتهيّأ التَّقصي عن التَّناقُضِ في ¬
تنبيه
الجمع بين ادِّعاءِ الأَسديّة، وبين نصبِ القرينةِ المانعةِ عن إرادةِ الهيكلِ المخصوصِ. فهنا (¬1) نقل اسم المُشَبَّهِ؛ بأن يدَّعي ها هنا أنّ (¬2) اسم المنيّةِ اسمٌ للسّبع مُرَادِفٌ له؛ كأن المنيّةَ سَبْعٌ؛ أي: داخلٌ في جنسِ السِّباع لأجل المبالغةِ في التَّشبيه بالطريق المذكورِ؛ فكيفَ لا يُسمّى السبعُ باسمه، والحالُ أنهما اسمان لحقيقةٍ واحدة؛ كالمترادفين؛ فتهيّأَ لنا دعوى السَّبعيّة للمنيّة مع التَّصريح بلفظ المنيَّةِ. تنبيهٌ: وقد (¬3) تحتملُ الاستعارةُ التحقيقَ والتَّخييلَ، وهي فيما يكون المشبهُ (¬4) المتروكُ صالحَ الحمْل من وجهٍ على ماله تحقّقٌ، ومن وجهٍ على ما لا تحقُّقَ له؛ بخلاف النَّوعين المذكورين؛ فإنَّهما إِمَّا محمولٌ على ماله تحقّق قطعًا، أو على ما ليس له تحقّق قطعًا. وتسمَّى هذه الاسْتعارة: ذاتَ الجناحين؛ كما قال (¬5): ¬
صَحَا (¬1) القَلْبُ عَنْ سَلْمَى وَأقْصَرَ (¬2) بَاطلُه ... وَعُرِّيَ (¬3) أَفْرَاسُ الصِّبَا وَرَواحِلُهْ فإنَّه يحتملُ (¬4) أن يكُون من التَّخييليّةِ؛ بأن يخيّل للصِّبا آلات وأَدوات تُشبه الأَفْراس والرَّواحِل فأَطلقا، والمرادُ بهما: آلاتُ الصِّبا، فقوله (¬5): (عُرِّي أَفْراس الصّبا)، يكونُ في معنى (عُرِّي آلات الصِّبا)، أي: عُرِّيتْ (¬6) آلاتُها تَخْييلًا، أي: الآلاتُ المتخيَّلة، ويُحتمل أن يكون من التَّحقيقيّة؛ بأَنْ يجعل الأَفراس والرَّواحل عِبَارة عن دواعي النَّفْس والقُوى الحاصلة لها ¬
في استيفاء اللّذاتِ؛ فأطلقَ الأفراسَ والرَّواحلَ ويُرادُ بها دواعي النّفسِ تحقيقًا، أي: الدَّواعي المُتحقِّقة في الخارج. والمفهومُ من الإيضاح: أن (الصِّبا) على التَّقدير الأَوَّل من الصَّبْوة، بمعنى: الميلِ إلى الجهلِ والفتوّة (¬1)، أي: الانهماك في التَّهتُّك. وعلى التَّقدير الثاني: من الصّباوة بالمعنى المَشْهور (¬2). الثّالثُ (¬3): المستعارُ إمّا اسم جنس -كرجلٍ وأسدٍ (¬4) - فأَصليّةٌ، أي: فالاستعارة أصليَّة؛ لأن التَّشبيه وصفٌ، والأصلُ في الوصف للذّات (¬5). أو غيرُه؛ أي: غير اسم جنسٍ فتبعيّةٌ، كالفعل (¬6)؛ لأَنَّه، أَي (¬7): لأَنَّ الفعلَ يُستعار بواسطةِ المَصدرِ وتبعيَّة استعارته، فلا تقول: (نطقت الحالُ) بدل (دلَّت) إلّا بعد استعارة نُطق النَّاطقِ؛ لدلالة الحال على الوجه الذي عرفت من إدخالِ دلالة الحالِ في جنس نُطق النَّاطقِ لقصدِ المبالغة في التَّشبيه. ¬
وتجيءُ الاستعارةُ التَّبعيَّة في نسبته؛ أي: الفعل إلى المتعلّقاتِ؛ إلى الفاعل؛ نحو: (نطقت الحالُ) أو إلى المفعول الأَوَّل؛ نحو: (جُمِعَ الحَقُّ لَنَا في إِمامٍ ... قَتَلَ البُخْلَ وَأَحيَا السَّمَاحَا (¬1). أي: أزال البخلَ وَأظهر السَّماح. وإلى الجمع (¬2) من المتعلقات؛ نحو: تُقْرِي الرِّياحُ رِيَاضَ الحَزْن؛ أي: ما غلظ من الأَرض مُزْهرةً. إِذَا سَرَى النَّومُ في الأَجْفانِ إِيقاظًا (¬3)؛ فإِنَّه استعارةٌ في نسبةِ الفعلِ إلى الفاعلِ؛ أي: (الرِّياح)، وإلى المفعول الأَوَّلِ؛ أي: (رياض)، وإِلى الثاني؛ أي: (إيقاظًا) في المجرور، والعامل فيه (سرى)؛ لأنّ (السُّرى) (¬4) -في الحقيقة- السّيرُ باللّيلِ (¬5). ¬
وكالحروفِ فإنَّها؛ فإِن استعارتها بواسطةِ مُتَعلِّقات معانيها؛ مثل: الظرفيَّة؛ والابتدائيَّة؛ إذْ ليست هي معانيها؛ بل هي لوازم لها؛ أي: لمعانيها؛ أي: إذا أفادت هذه الحروفُ معاني، رجعت إلى هذه بنوع استلزام. ومتعلّقاتُ معاني الحروف ما يُعَبَّرُ عَنْها عند تفسيرها؛ كالابتداء؛ كـ (من) [في] (¬1) قولك: من البَصرةِ، وفسَّرها صاحبُ الإيضاح ¬
بالمجرورِ (¬1)؛ كالبَصرة. وإلّا؛ أي: لو كانت هي معانيها -وهي أسماء- كانت؛ أي: الحروف -أَيضًا- أسماء؛ إذْ تمايز الحرفِ (¬2) والاسم إنَّما هو بالمعنى، فحيثُ حصل معنى الاسم يكون اسمًا؛ فلا يُستعار (في) إلا بعد الاستعارة في الظرفيَّة (¬3)، نحو: {لَعلهُم يَتَّقُونَ} (¬4) فإِنَّه لا استعارة في (لعلَّ) إِلَّا بعد الاستعارة في التَّرجِّي. وكيفيّةُ ذَلك: أن مثل هذا التَّرجِّي الواقع غاية لفعل (¬5)؛ معناه كونه غاية متوقّعة متردّدة بين الوجود والعدم مع الجهلِ بالعاقبة، فشبّه كونه غايةً متوقّعةً مُتَردّدةً بينهما لا مع الجهل بالعاقبة به؛ أي: بَكونه كذلك مع قيدِ الجهلِ بالعاقبةِ استعارة والقرينةُ إسنادهُ إلى الله -تعالى- لتعذُّر الجهل بالنِّسبة إليه [تعالى] (¬6) عن ذلك. هكذا قال السَّكاكيُّ بناءً على أصول العدلِ (¬7). ¬
وأمّا عند الأصحابِ فشبّه كونه غاية متوقّعة بمعناه المذكور ثم بعد الاستعارةِ فيه استعير لفظة (لعلّ) له فأطلقت عليه. هذا على تقدير الجَهل (¬1) على التَّشبيه أَمَّا لو نقول (¬2): إنّه للغاية المتوقّعة المتردِّدة بينهما مع الجهل بها؛ فحُذِفَ القيدُ الأخيرُ كما هو المفهوم من كلامِ السَّكاكيّ؛ والقيدان الأخيران كما يُفهم من قول (¬3) الأصحاب، وأُطلقَ على الباقي المطلَق بالنِّسبة إليه؛ فيصير من المجاز الذي سمّاه السَّكاكيّ المجازَ الغيرَ المُفيد (¬4)، وجعلَه المصنِّفُ من بابِ وجوهِ التَّصرّفِ في المعنى بحسبِ النُّقصان كالمشفر والمرسن (¬5). ¬
واعلم: أن الأَمرينِ متباينان في كلِّ استعارة كـ (الأسد) مثلًا، فإِنَّه يُحتمل أَنْ يقال: شبَّه الرَّجلَ الشجاعَ بالأسدِ فاستعير له مبالغة في التَّشبيه، ويُحتمل أَنْ يقال: إِنّه من المجازِ الغير المفيد؛ لأنه موضوع للشُّجاع مع تلك الصُّورةِ المخصوصة؛ فحُذف قيدُ [الصّورة] (¬1) المخصوصةِ بقي كونه للشُّجاع، وهلّم جرّا. وهذه فائدةٌ شريفةٌ فاحفظها. ونحو: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (¬2) فإنّ في اللّام استعارة؛ لأن الالتقاط لم يكن لغرضِ أن يكون لهم عدوًّا، فتقدّر (¬3) الاستعارة أوّلا في معنى الغَرَضِ، ثمَّ تستعمل لامه، فيُستعار أوّلًا ترتّبُ وجودِ أمرٍ على أمر من غير أن يكون الثاني غرضًا للأوّل؛ [لترتّب وجودِ أمر على أمر يكون الثاني غرضًا للأوّل] (¬4)، ثم يُستعارُ ثانيا لفظةُ اللام له، واحتمالُ كونه من المجازِ الغير الفيد ممّا لا يَخفى. ونحو: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬5) من التَّهكّم فاستُعير أَوَّلًا مُتعلّق معنى: (رُبَّ) الذي هو التَّقليلُ للتَّكثير؛ على سبيلِ الاستهزاءِ؛ لأنّ ¬
ودادتهم للإِيمان (¬1) يومئذ كثيرةٍ، وثانيًا: لفظته (¬2). والشّيخُ، أي: السَّكاكيّ، واصطلاحُ المصنِّف في هذا الكتابِ على إطلاقِ (الشّيخ) عليه، و (الإمامِ) على عبد القاهر؛ يجعلُ الاستعارة التَّبعيَّة من المكنّى عنها (¬3). قال: كما تَجعلُ المنيَّة سبعًا وإثبات الأظفارِ قرينة. والحال ناطقًا، ونسبة النُّطق إليه قرينة اجعلْ (اللهذميات) في قوله (¬4): نَقْريهم لَهْذميَّاتٍ نَقُدُّ بها ... مَا كان خاط عَليهِم كلُّ زَرَّاد (¬5). أطعمةً بالنَّصب مفعولًا ثانيًا لـ (جعل)؛ أي: استعارة بالكناية عنها على سبيل التَّهكّم. اللهذميّاتُ: الأسنَّةُ القاطعةُ. ¬
واجعل (المرهفات) في قوله (¬1): صَبَحنَا الخَزرجيَّة مُرْهفَاتٍ ... أبان ذوي أرومتها ذوُوها. صبوحًا على سبيل الاستعارة بالكناية تهكّمًا واستهزاءً. وقوله: (نَقريهم) (¬2) قرينةٌ للأولى، و (صبَّحنا) للثّانية، فما كانَ قرينةً صار مستعارًا وبالعكس. الخزرجيّةُ: قبيلةٌ من الأنصار. مرهفات، أي: سيوف مرقَّقات (¬3). أبان، أي: فصل. ويروى: أبار، وأباد -بالرَّاء والدَّال المهملتين- ومعناهما واحد هو: أَهْلك. وردَّهُ صاحبُ الإيضاح بأنَّه: إن قُدِّرَ التَّبعيّةُ حقيقةً لم (¬4) يكن تَخْييليّة، لأنَّها مجازٌ عنده، فلم تكن المكنِيّ عنها مستلزمةً للتخييليّة (¬5)؛ وذلك باطلٌ باللاتّفاقِ (¬6). والرَّدُّ مردود لوجود التَّخييليَّة -أيضًا- في نَفْس مَا فيه الاسْتِعارة بالكِنَاية، لتَخَيُّله المرهفات بصورة الصَّبوح؛ كتخيُّل الرَّبيع ¬
تنبيه
بصُورةِ فاعل حقيقيٍّ مع جواز الانفكاكِ عند السَّكاكيِّ. تَنبيه: وفَوائده مِمَّا زادَ على المفتاح. وحاصِلُ التَّنبيهِ: بيانُ أن الاستعارة في الأَفعالِ والحُروفِ يُمكن بالأَصالة. أَمَّا الفعل فيدلُّ على النِّسبةِ المحصَّلة؛ لأنَّها ذاتيّةٌ ويستدعي حدثًا وزمانًا في الأكثر، وإنْ كان قد يُعرّى عن الحدثِ؛ كالأفعال الوجوديّة المسمّاة بالأفعال النَّاقصة كـ (كان) وشقائقها، أو يعرَّى عن الزمان؛ كـ (نعم)، و (بئس)، و (بعت) (¬1)، و (عسى)؛ من أَفْعال المدح، والذمِّ، والمقاربة؛ إذا استحدِثَ به الحُكْم؛ أَيْ: إذا أنْشِئ به حكمٌ، ولم يكن المرادُ الإخبارَ. والاسْتعارة متصوَرة في كل من الثلاثة: النِّسبة، والحدثِ، والزَّمانِ؛ ففي النِّسبة؛ كـ (هزمَ الأمير الجيش)؛ فإن لفظَ (هزَم) باق على زمانه الماضي، وعلى الحدث الذي هو الهزيمة؛ لكن تُصرِّفَ في نسبته إلى الأمير استعارة؛ لأن جند (¬2) الأمير هو الهازمُ لا هو نفسه. وفي الزمان كـ (ونادى أصحَابُ الْجَنَّة} (¬3) فإن نادى مُجرى على حقيقته في الحدثِ والنِّسبة؛ لكن استعير في زمانه؛ لأَن النِّداء ¬
في يومِ القيامةِ. وفي الحدث: {فَبَشّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1)؛ فإِنَّه استعير (¬2) البشارة فيه للإِنْذارِ، وفي الآخرين باقٍ على أَصْله. وأَمَّا الحروفُ (¬3) فـ (في) -مثلًا- وُضعت لكلِّ ظرفيّةٍ خاصّةٍ؛ كان كان الوضْع بأمرٍ عامٍّ؛ أي: باعتبار معنى عَامٍّ؛ كالظرفيّةِ المطلَقةِ عُقلَت الظرفيّةَ الخاصّة به؛ بذلك الأمر العامّ؛ وأَنها؛ أي: تلك الظّرفيّة الخاصَّة الّتي هي فردٌ من ذلك العامِّ لا تُتحصّلُ إلّا بذكر المتعلّق الذي لذلك الحرفِ؛ كـ (الدّار) للفظة (في)؛ لأنّ النَّسبة لا تتعيّن ولا تتحصّل (¬4) إلّا بالمنسوب إليه. والحاصل: أن وضعَ الحرفِ عامٌّ، والموضوع له خاصٌّ، ولأنّه نسبة خاصّة لا تحصل إلّا بذكر المنسوب إليه؛ فإذا أُريدَ بها؛ بالظّرفيّة استعلاءٌ؛ كما في قوله -تعالى-: {وَلأصَلِّبَنكم فِي جُذُوع النَّخْلِ} (¬5) فإن المرادَ في الآيةِ الاستعلاءُ لا الظرفيّةُ. فقد نقل؛ أي: لفظ ¬
(في) عن الموضوع له؛ أي: الظّرفيّة إلى الاستعلاء. أَوْ نُقِل الموضوعُ له؛ وهو الظرّفيّة إلى الاستعلاء؛ بمعني أنه شَبَّه الاستعلاءَ بالظرفيّة؛ في شدّة تمكّن المصلوبِ على الجذع؛ تمكّن المظروف في الظرف مبالغةً، ثم تُرك المشبّهُ وذُكر المشبّهُ به استعارة. وعلى الأَوَّل النّقل والتَّصرُّف في اللفظ؛ فهو مجازٌ. وعلى الثاني- التَّصرّف في المعنى؛ لأنّه استعارةٌ مصرّحة تحقيقيَّةٌ كان الاستعلاء؛ أيضًا؛ موضوعٌ له على سبيل الادِّعاء-؛ فاللفظُ: حقيقيةٌ. والمدخولُ عليه وهو جذوع النَّخل قرينةٌ للنَّقل على التَّقديرين؛ لتعذُّر الظرفيّة الحقيقيّةِ فيها؛ وكلُّ ذلك من التَّصرُّفات التي في الفعل أو في الحرف. بالأصالة؛ لا بالتَّبعيّةِ؛ وهذا هو المقصودُ من [هذا] (¬1) التَّنبيه. لَكنَّكَ بعد التَّحقيقِ لا تُشاح بصيغةِ فعل النَّهي، في التَّسمية إذْ لا مُشاحة في الاصطلاحاتِ. وللأستاذِ (¬2) في بيان (¬3) اختلاف الوضع والموضوع له؛ عمومًا وخصوصًا؛ في شرحه المختصر [تحقيق] (¬4)، قال (¬5): "وإن كنتَ تريدُ حقيقة الحالِ في ذلك فاعلم أوّلًا مقدِّمة؛ وهي: أن اللّفظَ قد يوضع ¬
وضعًا عامًّا لأمور مخصوصةٍ؛ كسائرِ صيغ المشتقاتِ والمُبْهمات؛ فإن الواضعَ لَمَّا قال: صيغة فاعل من كلِّ مصدرٍ لمن قامَ به مدلوله، وصيغة مفعول منه (¬1) لمن وقع عليه- علم منه حالُ؛ نحو: (ضارب)، و (مضروب) من غيرِ التَّعرّض (¬2) بخُصُوصهما، وكَذَلك إذا قال: (هذا) لكلِّ مشارٍ إليه مخصوص، و (أنا) لكَلِّ متكلِّمٍ، و (الذي) لكلِّ معيَّن تحمله. وليس وضع (هذا) كوضع (رجل)؛ فإن الموضوع له فيه عامٌّ؛ وهذه وضعت باعتبارِ المعني العامِّ للخصوصيّاتِ التي تحته؛ حتَّى [إذا] (¬3) استُعمِل (رجلٌ) في (زيدٍ) بخصوصه كانَ مجازًا، وإذا أُريد به العامّ المُطابق له كان حقيقة. بخلاف: (هذا)، و (أَنا)، و (الذي)؛ فإِنَّه إذا أُريدَ به الخصوصِيَّات كانت حقائق ولا يُراد بها العموم أصلًا؛ فلا يُقال: (هذا) والمرادُ أحدٌ (¬4) مما يُشارُ إليه، ولا (أنا) والمرادُ به متكلّمٌ ما. وإذ قد (¬5) تحقّق ذلك؛ فنقول: الحرفُ وضع باعتبارِ معني عام وهو نوعٌ من النِّسبة كالابتداءِ والانتهاءِ لكلِّ ابتداء وانتهاءِ معني بخصوصه، والنِّسبة لا تتعيَّنُ إلّا بالمنسوب إليه؛ فالابتداءُ الذي للبصرة يتعيّن بالبصرة، والانتهاءُ الذي للكوفة يتعيّنُ بالكوفة؛ فما لم يُذْكر متعلّقه لا يُتَحصَّل ¬
فردٌ من ذلك النَّوع هو مدلول الحرف لا في النّقل ولا في الخارج، وإنّما يُتحصّلُ بالمنسوبِ إليه، فيتعقّل بتعقّله، بخلافِ ما وُضع للنّوع بعينه؛ كالابتداءِ والانتهاء؛ بخلاف ما وضع لذاتٍ ما باعتبارِ نسبة، نحو: (ذو)، و (فوق)، و (عن)، و (على)، و (الكاف)؛ إذا أُريدَ به عُلوّ وتجاوز وشبه مُطلقًا؛ فهو كالابتداءِ والانتهاء". الرَّابعُ: الحكمُ، التَّابعُ (¬1): للاستعارةِ، من وصفٍ؛ أو تَفْريع كلامٍ (¬2) أو غيره، إن ناسبَ المُشبَّه، أي: المُسْتعار له، لا المُشبَّه به والتَّشبيهِ (¬3) فمجرّدةٌ، أي: فتُسمَّى تلك الاسْتعارة مجرّدة، لتجرُّدها عمَّا يناسبُ المشبَّه به والتَّشبيه. وإن ناسبَ (¬4) المشبّه به؛ أي: المستعار منه، فمرشّحة؛ أي: فتُسمَّى: استعارة مرشحة، لأن التَّرشِيح هو التَّربية، وإيرادُ ما يُناسب المُشَبَّه به تقويةً لأمر الاستعارةِ وتربيةً له. وإن عُدم الحكمُ، وذَلك بأَن لا (¬5) يُقْرن به مَا يُنَاسب أحدهما؛ لا وصفًا (¬6)، ولا تفريعًا، ولا غَيْره. فَمُطْلقة؛ أي: فتُسمَّى: مطلقةً؛ ¬
لعدمِ اقترانِ حكمٍ بها. فـ (رأيتُ أسدًا) إطلاقٌ. وقولك بَعْده: (شاكيَ السِّلاح)؛ أي: تامَّ (¬1) السلاح، أو ذا شوكةٍ في سلاحه، وهو مقلوب (شائك). (يجرُّ رُمْحه): تجريدٌ؛ لأن التَّسلُّح، وجر الرُّمح، مِمَّا يلائمُ المشبَّه. و (حادّ المخالبِ)؛ المخلب: ظُفُرُ البُرْثُنِ، والبُرْثُنُ للسِّباع بمنْزلةِ الأَنامل [للإنسان] (¬2). (دامي البراثن): ترشيحٌ؛ لأن المخلبَ، والبُرْثُن؛ ممّا يُلائم المشبَّه به. وقوله: (بعده) يُشعر بأن ذكرَ الحكم المناسبِ يجب أن يكون بعد ذكر الاستعارةِ؛ لكن لا يجبُ. فالمرادُ به ما هو المراد من قولِ السَّكاكيِّ: بالتَّعقيبِ، في قوله (¬3): "إنّما يلحقُها بالتَّجريد أو التَّرشيح إذا عقّبت بذلك". وقال الشّارحُ (¬4): "المرادُ من التَّعقيب: الزيادةُ على معنى الاستعارةِ؛ سواءٌ كان المعقّبُ قبل الاستعارة أو بعدها، أو كان بعضُه قبل وبعضُه بعد". ¬
وقد يجتمعان [أي: التَّرشيح والتَّجريد] (¬1) كما في قوله (¬2): لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلاح مُقَذَّفٍ. أي: كثير القذفِ لنفسِه إلى الوقائع، وهما صفتان للمستعار له. لَهُ لِبَدٌ .................. جمع لبدة؛ وهي الشَّعر المُتراكب بين كتفي الأسد. .......... أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ وهاتان للمستعار منه. ومبنى التَّرشيح (¬3): تناسي التَّشْبيه، وصَرْفُ النَّفسِ عن توهُّمه؛ كما قال أبو تَمّامٍ (¬4): ¬
ويَصْعَدُ حتَّى يَظُنَّ الجَهولُ ... بأَن له حاجةً في السَّمَاءِ. ناسيًا حديثَ الاستعارة؛ نابذًا (¬1) أَمرَها وراءَ الظُّهورِ؛ حتَّى لم يُبالِ أن يبني (¬2) على علوّ القدر وسموّ المنْزلة ما بنَي على العُلُوِّ المكاني. يفعلون؛ أي: أصحاب التَّشبيهاتِ. ذلك؛ أي: التَّرشيح، ونسيانِ التَّشبيه معَ التَّصريحِ بالتَّشبيه؛ كما في قوله (¬3): ¬
هِيَ الشَّمْسُ مَسْكَنُهَا فِي السَّمَاءِ ... فَعَزّ الفُؤادَ عَزَاءً جَمِيلا فَلنْ تَستطيعَ إِلَيْهَا الصُّعُودَ ... وَلَنْ تَستطِيعَ إِليْكَ النُّزُولا فمع ترْكِ التَّصريح به؛ بل مع جحدِ التَّشبيه؛ كما في الاستعارة بالطريق الأَوْلى.
الخاتمة
الخاتمة فيها تنبيهاتٌ ثلاثةٌ (¬1): الأَول: في القَرينة. الثاني: في الحسنِ. الثالث: في الأَنْواع. الأَوَّل: لا بُد للاستعارة من قرينةٍ دالّة عليها؛ وقد تكونُ القرينةُ أمرًا واحدًا؛ نحو: (رأيت أسدًا يرمي، أو يتكلَّم، أو في الحمَّام)؛ فإن كل واحد منها يصلُح قَرِينة لها. أو [قد] (¬2) تكون القرينةُ أكثر من أمرٍ واحد؛ نحو (¬3): وَصَاعِقَةٍ مِنْ نصْلِهِ أي: نصل سيفِ الممدوح، يَنْكفِي؛ أي: يرجع وينقلب بها؛ أي: بتلك الصَّاعقة. ¬
.......... ... على (¬1) أرؤُس الأَقْرَانِ (¬2) خَمْسُ سَحَائِبِ. فإِنَّه لَمّا أَراد استعارة (السَّحائب) لأَنامل يمين الممدوح الخمس، تفريعًا على ما جرت به العادةُ من تشبيه الجوادِ بالبحر الفَيَّاضِ -تارةً، وبالسَّحاب الهاطلِ (¬3) - أخرى، - ذكر أن هناك صاعقةً، ثم قال: (من نصله)، فتبيّنَ أنّ تلك الصَّاعقةَ من نصل سيفِه؛ ثم قال: (على أرؤس الأقران)؛ ثم قال: (خمس) (¬4)، فذكر العدد الذي هو عدد جميع أناملِ اليد؛ فجعل ذلك -كله- قرينةً لِمَا أراد من استعارة (السَّحائب) للأنامل. الثاني: أنه تَحْسُن الاستعارةُ برعاية جهاتِ حسنِ التَّشبيه؛ من كون الوجه شاملًا للطرفين، وكونه بعيدَ الغوْر، لا يُدرك أوّل الوهلةِ، وكونه خاصّيًّا، غيرَ مُبتذلٍ يَعْرفه العوام، وخصوصًا الاستعارة التَّحقيقيّة وما بالكناية. ولفظة (خصوصًا) تُشعر بأن غيرهما كالتَّخييليّة -أيضًا- حُسنها برعايةِ جهاتِ حُسن التَّشبيه. ¬
لكن قال في المفتاح بعد قوله (¬1): "الاستعارة لها شروط [في الحُسن؛ إن صادفتها حسُنت، وإِلا عريت عن الحُسن وربّما اكتسبت قُبحًا] (¬2): وتلك الشُّروط (¬3) رعايةُ جهاتِ حسن التَّشْبيه التي سبق ذِكْرها في الأَصْل الأَوَّل بين المستعار له والمستعار منه في الاستعارة بالتَّصريح التَّحقيقيَّة والاستعارة بالكناية" [وأن لا تُشِمّها؛ عطف على قوله: (برعاية) أي: تحسُن الاستعارة برعايةِ جهاتِه، وبعدم إشْمام الاستعارة] (¬4) رائحة التّشبيه بأن لا يُذْكر في اللفظ شيء يدلّ على التَّشبيه. ولذلك، أي: ولعدم ما يدلّ على التَّشبيه لفظًا وجبت القرينةُ، وإلّا فلُغز. أَلْغَزَ في كلامه، أي: عمَّى مرادَه، وهو: مفردُ الأَلْغَاز، كرُطَبٍ وأَرْطاب (¬5)؛ كما لو قيل: (جاءَ أسدٌ) والمراد: رجل أبخر، لعدم ما يدلُّ على التَّشبيه في البخر. قال في المفتاح (¬6): "وأن لا تشمّها في كلامك من جانب اللّفظِ رائحة من التَّشبيه، ولذلك يوصى في الاسْتعارة بالتَّصريح أن يكون ¬
الشَّبه (¬1) بين المستعار له والمستعار منه جليًّا بنفسه، أو معروفًا سائرًا بين الأَقوام، وإِلا خرجت الاستعارةُ عن كونها استعارة؛ ودخلت في بابِ التَّعمية والإلغاز". وبينهما مخالفةٌ من حيث إنه [؛أي: الأستاذ] (¬2) أوجب بدل وجوبِ كونِ الشَّبه (¬3) جليًّا: القرينة (¬4)؛ ولهذا لم يخصّص الاستعارةَ بالتَّصريحيّة؛ كما خصّصها السَّكاكيُّ بها. ويُحتملُ أن يقال: كونُ الشَّبه (¬5) جليًّا أيضًا نوعٌ من القرينةِ؛ كما عُلم ميلُ المصنّف إليه عند الإفادة. وحينئذٍ يكونُ المراد بقوله: (وجبت (¬6) القرينة) وجوبَ القرينةِ في الاستعارةِ المحمولةِ على المصرّحةِ عند الإطلاقِ. والتَّخييليّةُ في الحُسن تبعٌ لما بالكناية؛ أي: للاستعارة بالكنايةِ؛ فإن كانت (¬7) المتبوعةُ حسنة فالتَّابعة بحسبها -أيضًا- حسنة (¬8) وإلا فلا. ¬
وهي؛ أي: التّخييليّة مع المشاكلة أحسنُ لانضمام حسن المشاكلة إليها. والمشاكلةُ -على ما هو المَشْهور-: ازدواجُ لفظين (¬1). وقيل (¬2): "أن يُذكرَ الشَّيءُ بلفظِ غيره لوقوعه في صُحبته "؛ نحو: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬3)؛ فإنّه يلزمُ من ازدواج الففظ في (يبايعونك ويبايعون الله) أن يكون هو -سبحانه- مُبايَعًا؛ وإذْ لا بُدَّ للمُبايَع من يدٍ؛ فيُتخيَّلُ له -سبحانه وتعالى- استعارة بالكناية بإدخالِ الله -سبحانه- في جنسِ المبايعين [ادّعاءً] (¬4)، وإثبات ما هو من خواصِّهم؛ وهو اليدُ له. واستلزامُها للتَّخييليّة وتضمُّنها للمشاكلة ظاهرٌ (¬5). ¬
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله} (¬1) وهذا في بعض النُّسخ؛ ولكن ما قرأتهما على المصنّف، ولعلّها حاشية لمثالِ المشاكلة؛ لعدم الاستعارةِ فيها -اللهمَّ إلّا بتكلّفٍ شديدٍ- فألحقت بالمتن. بل قلّما تُستحسنُ الاستعارةُ التَّخييليّة دونها؛ في دون المكنيَّة؛ أي: دون أن تكون تابعةً لها كما يقال: (فلان بين أنيابِ المنيّة الشَّبيهة بالسَّبع)؛ إذا لا مَكْنيّة فيها. وعند ذي الإيضاح أن الاستعارةَ التَّخييليّة لا تكونُ إلّا تابعةً للمَكْنيّة. ولذلك؛ أي: ولعدم (¬2) استحسانها دونها استُهْجِن قولُ أبي تمّام (¬3): ¬
لَا تَسْقِنِي مَاءَ المَلامِ فإنني صَبٌّ ... قَدِ اسْتَعَذَبتُ مَاءَ بُكائِي لكونِها استعارةً تخييليّةً غيرَ تابعةِ للاستعارةِ بالكناية؛ لاستحالة أن تكون الاستعارةُ في (اللام)، و (الماءُ) قرينة، إذ (الملام) لا يُشْبه شيئًا له ماء حتَّى يُتوهّم للملام مثل الماء؛ كما تُوهّم الأنياب للمنيَّة، ويُطلقُ عليه لفظُ (الماء) ويُضافُ إلى (اللام)؛ لتكون استعارةً بالكناية؛ فتعيَّن أن تكونَ استعارةُ في (الماء)، و (اللام) قرينة؛ فتكون استعارةً مصرّحة (¬1) بها تخييليّة. يُروى أن بعض أَهل (¬2) المحلَةِ (¬3) أرسل إلى أبي تَمَّامٍ قارورةً؛ وقال: ابعث لي في هذه شيئًا من ماءِ الملام!، فأرسل إليه أبو تمّام؛ وقال: إذا بعثت إليَّ ريشةً من (جناح الذّل) (¬4) بعثتُ إليك شيئًا من ماءِ اللام! (¬5). ¬
"والفرْقُ بين التَّشبيهين ظاهرٌ؛ لأنَّه ليس جعل الجناح (¬1) للذُّلِّ (¬2) كجعل الماءِ للملامِ؛ فإن الجناحَ للذُّلِّ مناسبٌ، وذلك أن الطائرَ إذا وهنَ أو تعب (¬3) بسط (¬4) جناحه وخفضه، وأَلْقى نفسَه على الأرضِ، وللإنسانِ -أيضًا- جناحٌ، فإن يديه جناحاه، وإذا خضع واستكان طأطأ من رأسه وخفض من يديه (¬5)؛ فحسُن عند ذلك جعلُ الجناح للذُّلِّ، وصارَ شبيهًا (¬6) مُنَاسبًا. وأمّا الماءُ للملام فليس كذلك في مناسبة التَّشبيه" (¬7). ولو قيل: بأن الاستعارة التَّخييليّةَ في البيت تابعةٌ للاستعارةِ بالكناية ¬
بأن يُشَبَّه الملام بظرفِ (¬1) الشَّراب؛ لاشتماله على ما يكرهُه الشّاربُ لمرارته، ثم استعار الملام له بالكناية، ثم يُخْترع فيه شيءٌ شبيهٌ بالماء فيُستعار في اسم الماء- لكان موجّهًا (¬2). الثّالثُ: أنّ (¬3) الاستعارةَ فرعُ التَّشبيه؛ فأنواعُها (¬4) كأنواعِه خمسةٌ: الأَوَّل: استعارةُ حسِّيٍّ لحسِّيٍّ [بوجه حسّيّ] (¬5)؛ نحو قوله -تعالى-: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (¬6) فالمستعار (¬7) منه هو النّارُ، والمستعارُ له هو الشّيبُ، والوجهُ هو الانْبساطُ. فالطرفان حِسِّيَّان، والوجهُ -أيضًا- حسِّيٌّ، وهو استعارةٌ بالكناية؛ لأنه ذكر المشبّهَ وترك المشبَّه به مع ذكرِ لازمٍ من لوازمِ المشبّه به؛ وهو الاشتعالُ. الثاني: استعارةُ حسِّيٍّ لحسّيٍّ بوجهٍ عقلي؛ نحو قوله -تعالى-: ¬
{إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (¬1)؛ فالمستعارُ له الرّيحُ، والمستعارُ منه المرأة (¬2)؛ وهما حِسّيّان، والوجه المنعُ من ظهورِ النَّتيجة والأثر (¬3)؛ وهو عقليٌّ؛ وهو -أيضًا- استعارةٌ بالكنايةِ. قال في الإيضاح (¬4): "وفيه نظرٌ؛ لأن العقيمَ صفةٌ للمرأة لا اسم، ولذلك جُعل صفة للرِّيح لا اسمًا" (¬5). والحقّ: أن المستعار منه: ما في المرأة من الصِّفة التي تمنع من الحمل، والمستعار له: ما في الرِّيح من الصِّفة التي تمنع من إنشاء مطرٍ وإلقاح شجر". وهو مندفعٌ بالعنايةِ؛ لأن المرادَ من قوله: المستعارَ منه المرأةُ (¬6) التي عبّرَ عنها بـ (العقيم)؛ ذكرها السَّكاكيُّ بلفظ ما صدّق عليه، والمعترضُ ¬
بالوصف العُنوانيّ. الثّالثُ: استعارةُ معقولٍ لمعقولٍ (¬1)، نحو قوله -تعالى-: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} (¬2) فالرّقادُ مستعارٌ للموتِ، وهما أمران معقولان؛ والوجهُ: عدمُ ظهور الأفعالِ، وهو عقليٌّ. والاستعارةُ تصريحيّة؛ لكونِ المشبّهِ به مذكورًا. الرَّابعُ: استعارةُ محسوسٍ لمعقولٍ؛ نحو قوله -تعالى-: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} (¬3) أصلُ المساسِ في الأجسام، فاستُعير لمقاساة الشِّدّة، وكونِ المستعار منه حسيًّا، والمستعار له عقليًّا (¬4)، وكونها تصريحيَّةٌ ظاهر. والوجه: اللّحوق؛ وهو عقليٌّ. الخامسُ: استعارةُ مَعْقولٍ لمحسوسٍ؛ نحو قوله -تعالى-: {لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} (¬5) المستعار منه التَّكبّر؛ وهو عقليّ، [والمستعارُ له كثرةُ الماء؛ وهو حسّيٌّ. والوجهُ الاسْتعلاء المفرط؛ وهو عَقْليّ] (¬6) وهي (¬7) -أيضًا- تصريحيّة. وإنّما لم يذكر الوجه، ولا كيفيّته في الثلاثة الأخيرة لتعيّن كونه ¬
الأصل الرابع: في الكناية
عقليًّا؛ إذ لا بدَّ للحسّيِّ من أن يكون طرفاه حسِّيين؛ لامتناع قيام المحسوس بالمعقول. ولا يجبُ العكسُ؛ أي: لا يجبُ إذا كان الوجهُ عقليًّا أن يكونَ طرفاه عقليّين؛ لصحّةِ إدراك العقلِ من المحسوسِ شيئًا معقولًا؛ كما في النَّوع الثاني. وفي الإيضاح سدَّسَ الأنواعَ بأن زِيدَ فيما طرفاه حسيان قسمٌ ثالثٌ، وهو ما يكونُ الوجهُ مختلطًا -أي: من الحسّيَّ والعقليّ- نحو: رأيتُ شمسًا؛ أي: إنسانًا كالشّمسِ في حُسْن الطّلعة؛ وهو حسّيّ، ونباهةُ الشَّأن؛ وهو عقليّ (¬1). ولا طائل تحتَه؛ لأَن المركبَ من الحِسّيّ والعقليِّ عقليّ [ضرورةً؛ فليسَ قسمًا مُسْتقلا] (¬2). الأَصل الرَّابعُ: في الكناية. وهي تركُ التَّصريح؛ والتَّصريحُ: أداءُ المعنى مما هو موضوعٌ له من غير مزاحمٍ، بذكر الشَّيءِ إلى ذكرِ ما يلزمه لينتقلَ من المذكورِ إلى المَتْروك؛ سواءٌ كان المذكورُ مُرادًا أو لا؛ نحو: (طويلُ النَّجادِ)؛ أي: حمائلُ السَّيفِ، لينتقل من طوله إلى ما هو ملزومه -وهو طول القامةِ؛ لأَنَّها إذا طالت؛ طال النَّجادُ. وهذا التَّعريفُ بناءً على ما ذهب السَّكاكيُّ إليه في صدر الفنِّ (¬3). ¬
سُمِّيت الكنايةُ كنايةً لخفائها؛ أي: لما فيها من إخفاءِ [وجهِ] (¬1) التَّصريح، وكذلك (¬2) جميعُ تقاليبها المركّبةِ من (كافٍ) و (نونٍ) و (ياءٍ) في العربيّة تدلُّ على الخفاءِ؛ كالكنى؛ كـ (أمِّ فلان)، و (ابن فلان)؛ بإخفاء وجهِ التَّصريحِ بأسمائهم الأعلام، وكـ (نِكَياتِ الزمّان) لحوادثها (¬3) النَّازلة على بَنِيه من حيثُ لا يَشْعرون، وكـ (الكَين) للّحَمة المستبْطنة في فرجِ المرأة، وكـ (النَّيك) (¬4) لإخفاءِ النَّاس إيّاه. ¬
ولها للكنايةِ مراتبٌ: فقريبةٌ (¬1)؛ كـ (طويل النجادِ) لطويلٍ (¬2)؛ لعدم تعدّدِ الوسائطِ واللّوازمِ. وبعيدةٌ؛ كـ (نؤومة الضُّحى) لخدومةِ (¬3)؛ لتعدّد الواسطة (¬4)؛ لأن نومها وترك السَّعي عند وقت السَّعي لازمٌ لَسعي غيرها لها، وسعي غيرها لها يلزمُ كونها مُرفَهةً مخدومةً؛ قال امرؤُ القيْس (¬5): وَتُضْحِي فَتِيتُ المِسْكِ فَوْق فِرَاشِهَا ... نَؤُومُ الضُّحى لَمْ تَنْتَطِقْ (¬6) عن تَفَضُّلِ (¬7) وأَبْعد؛ كـ (مَهْزول الفَصِيل) للمضيافِ؛ لتعدُّد وسَائِطها أكثر من تعدُّدها في (نؤومة الضُّحى)؛ لأن هُزال الفصيل يلزمُ فقد الأمِّ، ¬
أقسام الكناية
وفقدها مع كمال عناية العربِ بالنُّوق لا سيّما بالمُتَلِّيات (¬1) منها يلزمُ كمال قُوّة الدّاعي إلى نحرها، ولا داعي (¬2) إلى نحر المتلّيات أقوى من صرفها إلى الطبائخ، ومن صرف الطبائخ، إلى قرى الأضياف، فهزُال الفصيلِ لازمُ للمضيافيّة -كما ترى- بعدّةِ لوازم. وأقسامُها -أي: الكناية- ثلاثةٌ، إذ المقصودُ بها إِمَّا الموصوف، أو الصِّفةِ، أو التَّخصيص لها؛ للصَّفَة به بالموصوف، والمرادُ بالصِّفة: ما هي؛ نحو: الجودُ في الجواد؛ أي: يُرادُ (¬3) بها الوصفُ الأعمُّ من وصف النُّحاة. فالأوّلُ، أي: ما كانَ المقصودُ بها نفسَ الموصوفِ؛ قسمان: قريبةٌ، وهي أَنْ يتَّفقَ في صفة من الصِّفاتِ اختصاصٌ بموصوفٍ مُعيّنٍ عارضٌ فتذكرها؛ متوصِّلًا بها إلى ذكر ذلك الموصوف؛ كـ (جاءَ المضْيَافُ)؛ أي: الكثير الضِّيافة؛ لمن اشتهر به وعرضَ اختصاصُ المَضيافيّةِ به له. ¬
وبعيدةٌ، وهي أن تتكلّفَ اختصاصها بالموصوفِ؛ بأن يُضمَّ لازم (¬1) إلى لازمٍ آخر؛ فتلفق مجموعا وصفيًّا مانعًا من دخول ما عدا مقصودك فيه؛ وهو الذي يسمَّى في علم الاستدلال: بـ (الخاصَّةِ المركّبةِ)؛ لحصولِ الاختصاصِ بالتَّركيب؛ لكونِ كُلِّ اللّوازم أعمَّ من الملزوم، ومجموعها مُساويًا له؛ كما يقال في رسمِ الخفّاش: (طائرٌ ولود)؛ لأنّ كلا منهما أعمُّ منه، والمجموع مساو له؛ إذْ لا طائر ولودًا غيره. كـ (مُستوى القامة، بادي البشرة، عريض الأظفار)، للإنسان؛ فإن كل واحد من الثّلاثِ غيرُ مختصٍّ بالإنسان لوجوده في غيره، كفى النِّسْناسِ، والحيَّةِ، والقردةِ، والمجموعُ خاصٌّ به، وهكذا كل رسمٍ ذُكِر مجرّدًا عن المرسومِ كانت كناية. وفي المفتاح مكان قوله: (بادي البشرة) قوله: (حي) (¬2)؛ وهذا أولى. والثاني؛ أي: ما كان المقصودُ بها نفس الصِّفةِ -أيضًا- قِسْمان: قريبةٌ، وهي أن تنتقلَ إلى مطلوبكَ من أقرب لوازمه إليه؛ كـ (طويل النجاد)؛ متوصّلا به إلى طُول قامته. ¬
وبعيدةٌ؛ وهي أن تنتقل إلى مطلوبك من لازمٍ بعيدٍ بواسطة (¬1) لوازم مُتسلسلةٍ؛ كـ (كثيرِ الرَّمادِ)؛ فإنّه يُنْتقل فيه من كثرةِ الرّمادِ إلى كثرة الجمرة، ومنها إلى كثرةِ إحراق الحطبِ تحت القدر، ومنها إلى كثرة الطبائخ، ومنها إلى كثرةِ الأكلة، ومنها إلى كثرة الضِّيفان، ومنها إلى أنه مِضْيافٌ. وكذا (جبان الكلبِ)؛ فإنّه يُنتقلُ فيه من جُبن الكَلب عن الهرير في وجْه من يَدْنو من دار صاحبه (¬2) مع كونِ الهرير له في وجه من لا يعرفُ أمرًا طبيعيًّا له وهُو مشعرٌ (¬3) باستمرارِ تأديبٍ [له] (¬4)؛ لامتناع تغيُّر الطبيعة بموجبٍ لا يقوى، واستمرارِ تأديبه أن لا ينبح مُشعرٌ باستمرار مُوجب نباحه؛ وهو اتّصال مشاهدته وجوهًا إِثْر وجُوه (¬5)، والاتّصالُ مشعرٌ بكونِ ساحته مَقْصد دانٍ وقاصٍ (¬6)، وكونه كذلك مُشْعر بكمال شهرةِ صاحبها بحُسن قِري الأضياف؛ قال الشّاعر (¬7): ¬
وَمَا يَكُ فِيَّ مِنْ عَيْبٍ فَإِنِّي ... جَبَانُ الكَلْبِ مَهْزُولُ الفَصِيلِ والثالثُ؛ أي: ما يكونُ المقصود بها اختصاصَ الصِّفةِ بالموصوفِ هو (¬1) -أيضًا- قِسْمان: قريبةٌ؛ لقلّةِ الوسائطِ (¬2) وسُرعةِ انتقالِ الذِّهن إليها؛ نحو: إن السَّمَاحَةَ والمُرُوءَةَ والنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الحَشْرَجِ (¬3). ¬
وهو عَلَمُ شخصٍ. فإِنَّه أرادَ أن يُثبت اختصاص ابن الحشرج بهذه الصِّفاتِ فتركَ التَّصريحَ؛ بأن يقول: إنّه مختصٌّ بها، أَوْ نحوه، إلى الكنايةِ؛ بأن جعلها في قُبَّةٍ مضروبةٍ عليه. وبعيدةٌ؛ وهي ما بخلافها (¬1) نحو: المَجْدُ يَدْعُو أَن يَدُومَ لِجِيْدِهِ (¬2) ... عِقْدٌ، مَسَاعِي ابنِ العَمِيدِ (¬3) نِظَامه (¬4)؛ فإِنَّه لَمَّا أرادَ أن يُثبتَ المجدَ لابن العميدِ لا على سبيل التَّصريح ¬
- "أثبتَ لابن العميدِ مساعي، وجعلها نظامَ عقدٍ، وبيّنَ أن مناطَ ذلك العِقْد هو جيد المجد؛ فنبّهَ بذلك على اعتناءِ ابن العَميد بتزيين المجدِ، ونبَّه بتزيينه إِيَّاه على اعتنائه بشَأنه-؛ أعني: بشأن (¬1) المجد- وعلى محبَّتهِ (¬2) له؛ ونبَّه بذلك على أنَّه ماجدٌ، ولم يقنعه ذلك حتَّى جعل المجدَ -المعرّف تعريف (¬3) الجنس- داعيًا أن يدومَ ذلك العقدُ لجيده (¬4)، فنبّه لذلك على طلبِ حقيقة المجدِ دوامَ بقاء ابن العميدِ، ونبَّه بذلك على أَن تَزْيينه والاعتناء بِشَأنه مَقْصوران على ابن العميدِ، حتَّى أحكم تخصيص المجد بابن العميدِ، وأكَّده أبلغ تأكيد" (¬5). والأمرُ في مخالفته للمفتاح (¬6)؛ حيثُ انقسمت [؛ أي: الكنايةُ المطلوبُ بها تخصيص الصِّفة بالموصوف] (¬7) فيه إلى اللطيفة والألطف (¬8)؛ في تقسيمه (¬9) إيّاها إلى القريبة والبعيدةِ كأخويه- سهلٌ؛ إذْ كونها ألطف ¬
تذنيبات
وكونها بعيدة متساويان (¬1) في الوجود. هكذا قال المصنّف (¬2). تذنيباتٌ: الأَوَّل: الكنايةُ قد تُساقُ لغير الموصوفِ المذكورِ؛ أي: في القسم الثاني والثالثِ، كما قد تُساق لأجلِ الموصوفِ المذكور -كما مرَّ في القسمين (¬3) -، كقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (¬4) إشارةً إلى المنافقين فإنهم بخلافه، أي: لا يؤمنون [بالغيب] (¬5)، فيتوصّلَ بذلك إلى نفي الإيمان به عن المنافقين، وهو غيرُ مذكورٍ، لا إِلى إِثباته للموصوف المذكورِ، أي: المتَّقين، وهذا إذا فُسِّرَ الغيبُ بالغَيبة؛ بمعنى: يؤمنون مع الغَيبةِ عن حضْرة الرّسول - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، إذْ لو ¬
فُسِّرَ بما غاب عنك وأُريد به الخفيّ، الذي هو كالصّانع وصفاته (¬1)، واليوم الآخر، لا يكون تعريضًا بهم. والأقربُ المناسبُ أن يقال لهذا (¬2)، أي: للكنايةِ المسوقة لموصوف غير مذكورٍ: تعريضٌ؛ لِمَا فيه من الإشارةِ إلى جانب، وإيهام أن الغرضَ جانبٌ آخر. يقالُ: نَظرَ إليه بعرض وجهه، أي: بجانبه. ومنه المثلُ: (إن (¬3) فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الكَذِبِ) (¬4). ¬
وللبعيد (¬1)؛ أي: والأقربُ أن يقال للبعيدِ من الكناية، أي: لَمَّا كانت ذاتُ مسافة بينها وبين المُكَنَّى عنه متباعدة؛ لتوسّطِ لوازم، كما في (كثيرُ الرَّمادِ): تَلويحٌ؛ لمناسبته المعنى اللّغوي، وهو الإشارة إلى غيرك من بُعْد. وللقريب من الكنايةِ؛ أي: لِمَا كانتْ ذات مسافةٍ قريبةٍ مع خفاءٍ: رَمْزٌ، كـ نحو: (عريضُ الوسادةِ)، فإن كنايته (¬2) عن الأبله فيه نوعٌ من الخفاءِ. ومناسبة إطلاق اسم الرّمزِ عليها، لأن الرمزَ هو أن تُشير إلى قريب منك على سبيل الخفية، لأنه الإشارة بالشَّفتين والحاجب قال (¬3): ¬
رَمَزَتْ (¬1) إِلَيَّ مَخَافَةً مِنْ بَعْلِهَا ... مِنْ غَيْرِ أَنْ تُبْدِي هُنَاكَ كَلامَها. ولَمْ يكن في النُّسخ لفظة قوله: (وللقريب)، وقال المصنِّفُ: بعد عرضي عليه بذلك فألحقت إنابةً، ولا بُدَّ له منه. قال صاحبُ المفتاح (¬2): "وإنْ كانت ذات مسافةٍ قريبةٍ، مع نوعِ من الخفاء؛ كان إطلاقُ اسمِ الرّمزِ عليها مُناسبًا". ودونه؛ أي: والأقربُ أن يُقال للقريب منها دون الخفاء. إشارةٌ وإيماءٌ؛ كقوله (¬3): سَأَلتُ النَّدى: هل أَنت حُرّ؟ فَقَال: لا؛ ... ولكنّني عبد ليَحيى (¬4) بن خالد فقلتُ: اشْتراءً، قال: لا، بلْ وراثةً، ... توارثني من والد بعد والد ¬
فإنّه في إفادته (¬1) جُودَ ابنِ خالدٍ أظهُر من أن يَخفى. وقال بعضُهم: بين الإيماء والإشارة فرْق؛ وهو أنّ في الإيماءِ (¬2) دقّةً، وهو ألطفُ منها؛ يدلُّ عليه قولُ المجنون (¬3): أَشَارت بأطرافِ البنانِ وودَّعت ... وأَوْمت بعَيْنَيها متَى أَنت راجعُ والثّاني: التَّعريضُ قد يكونُ: كنايةً بأن يُراد به الموصوفُ -أيضًا-؛ كما إذا قُلْتَ: (آذيتني فسَتعْرف!)، وأَردتَّ المخاطبَ ومع المخاطبِ إنسان آخر؛ مُعْتمدًا على قرائنِ الأَحوال في إرادةِ الإنسانِ الآخر، إذْ لولاها لما أمكن فهم كونِ الآخر مُرادًا، وأنه ليس كناية حقيقة؛ إذْ ليس فيه تصوّر لازم ومَلْزوم، وانتقال منه إليه، إلاٌ أن له مُشابهةً بالكناية؛ وهو كونُ تاءِ الخطابِ مُسْتعملًا فيما هو موضوعٌ له، مُرادًا منه ما ليس بموضوعٍ له، وهو الإنسانُ الآخر؛ كما أن هذا المعنى موجودٌ في الكناية. ¬
ومجازًا بأن لا يُراد به المخاطَب [بَلْ] (¬1) غير المخاطبِ؛ ولا بُدَّ فيه من القرينةِ- أيضًا، وليس مجازًا حقيقةً؛ لتوقّفه على الانتقالِ من الملزومِ إلى اللّازم، ولا مَلْزوم ها هنا (¬2) ولا لازم؛ إِلّا أنه من حيث استعمال التَّاء فيما هي غير موضوعة له مشابه له. وقيلَ (¬3): "هذا التَّعريضُ نوع على حدة؛ لا كنايةً ولا مجازًا"؛ إذ لا انتقال فيه من لازمٍ وملزوم. وهذا ممّا يُؤيّدُ ضَعْفَ (¬4) قول السَّكاكيِّ وقُوَّة كلامِ الأستاذِ في بحثِ مأَخذ المجازِ والكناية صدر الفصل البياني (¬5)؛ إذْ على التَّقديرِ الأَوَّل: كنايةٌ حقيقةً، وعلى الثّاني: مجازٌ حقيقةً على ما ذهب إليه (¬6) الأستاذ بلا احتياج إلى تحمُّل تَمَحُّل (¬7)؛ من بيانِ المشابهة والقول ¬
بكونِه نوعًا آخر (¬1). هذا، ثم التَّعريضُ قد يكونُ على سبيل الكناية، وقد لا يكون. والكنايةُ قد تكون على سبيل التَّعريض، وقد لا تكون؛ فَكلٌّ منهما أعمُّ من الآخر بوجه. الثالث: لا وجه لتخصيصِ الكنايةِ بالحقيقةِ كما قيل (¬2)؛ عُلِم ¬
خروجها عن حدودِ المجاز بقوله (¬1) فيها: "مع قرينةٍ مانعة عن إرادة (¬2) معناها في ذلك النَّوع"؛ حيث قيل (¬3): "المجاز هو الكلمةً المستعملةُ في غير ما هي موضوعة له بالتَّحقيق استعمالًا في الغير (¬4) بالنِّسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينةِ مانعةٍ عن إرادة معناها في ذلك النَّوع". لا يُقال: إنها ما دخلتْ تحت الجِنْس؛ وهو الاستعمالُ في غير ما هي موضوعه [له] (¬5)؛ فكيفَ تَخرجُ بالفصلِ؟. لأنّا نقول: الكنايةُ قد تقعُ -أيضًا- مُسْتعملةً في غير ما هي موضوعة له مع أن على ذلك التَّقدير يحصُل المطلوب أيضًا، وكَذَا (¬6) في سائر الحُدودِ لها؛ لأَنه نقلٌ من مَعْنى إلى مَعْنى أعمّ من أَنْ يكون من المعني ¬
الحقيقيِّ أَوْ المجازيِّ، ولهذا قال (¬1): وقد يكون في المجاز؛ كما تقولُ: (أَنا لَسْت بِحِمار) في معناه المجازيّ، أي: ببليدٍ، ومنه ينتقلُ الذِّهنُ إلى كونِ غيركَ بَلِيدًا، وكما قال (¬2): إنّ السَّماحَةَ والمرُوءةَ والنَّدى ... فِي قُبَّةٍ ضُربت عَلى ابن الحَشْرَج فإنّ ضرب القُبَّة عليه مجاز، ومنه انتقال الذهن إلى كرمه (¬3). الرّابع: أطبق البلغاء (¬4) أن المجاز أبلغ من الحقيقة؛ لأنه إثبات الشيء بملزومه، لأنّ مبني المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللّازم، فأنت في قولك: (رعينا الغيث) ذاكرًا لملزوم النَّبت مريدًا به لازمه؛ فهو دعوى بشاهد؛ فإنّ وُجود الملزوم شاهد لوجود اللّازم؛ لامتناع انفكاك الملزوم عنه. والاستعارةُ أبلغُ من التَّشبيهِ الصَّريح لوجهين: الأَوَّل: لأنها -أي: الاستعارة- مجازٌ مخصوصٌ (¬5)، ففيها الفائدةُ كما (¬6) في المجاز، من دعوى الشَّيءِ بشاهدٍ. ¬
والثاني [و] (¬1): إذْ لا اعتراف فيها -في الاستعارة- بكونِ المشبّه به أقوى وأكمل منَ المُشبّهِ في وجهِ التَّشبيه؛ لأنك تدّعي أنه المُشبّه بهِ بعينه؛ بَلْ تجعل تلك الأَكْمليَّة من جانب المُشبَّهِ (¬2)، بخلافِ التَّشبيه الصَّريح (¬3) فإن فيه اعترافًا بكونِ المشبّه به (¬4) أقوى. والكنايةُ أبلغُ من التَّصريح والإفصاح بذكره؛ كما في المجازِ بعينه؛ فإن الانتقال في الكنايةِ عن اللّازمِ إلى الملزوم إنّما يكونُ بعد تساويهما، وحينئذٍ يكونُ انتقالًا من الملزوم إلى اللازم؛ فيصيرُ حالُ الكنايةِ كحالِ المجازِ؛ في كونِ الشَّيءِ معها مُدَّعى بشاهدٍ. ¬
تذييل للعلمين
تذييلٌ لِلْعِلْمَيْنِ: البلاغةُ: توفيةُ الكلامِ بحسبِ المقام حَقَّه، أي: حَقّ الكلامِ؛ من فوائدِ التركيب التي هي مُقْتضى الحالات؛ وهو بعلم المعاني، ومراتبِ الدّلالة؛ بإيرادِ أنواع التَّشبيه والمجازِ والكنايةِ على ما ينبغي؛ وهو بعلمِ البيانِ. ولها -أي: للبلاغةِ- طرفان: أسفلُ، به يزيد على ما يُفيدُ أَصْلُ المعنى الذي هو بمنْزلةِ أصواتِ الحيوانات. وأعلى وهو أن يقعَ التَّركيبُ بحيثُ يمتنعُ أن يوجد ما هو أشدُّ تناسُبًا منه (¬1) في إفادة ذلك المعنى؛ كما أن الأسفل هو أن يقع على وجهٍ لو صار أقلّ تناسبًا منه لخرج عن كونه مُفِيدًا لذلك المعنى، وبينهما مراتبُ تكادُ تفوت الحصر. هو المُعْجز. والإعجازُ شأنه عجيبٌ يُدركُ ولا يمكنُ التعبير عنه، كاستقامةِ الوزنِ تُدركُ ولا يمكنُ وَصْفُها، وكالملاحةِ، وكاستحسان الحيثيّةِ (¬2). نعم، للبلاغةِ وجوة يمكن الكشفُ عنها، وأمَّا نفسُ وجه الإعجازِ فلا. ويوصفُ بها بالبلاغة المتكّلمُ كما يقال: (رجلٌ بليغٌ)، والكلامُ، كما يقال: (خطبةٌ بليغةٌ) لا الكلمة. بخلاف الفصاحة، فإنّهما كما ¬
يوصفانِ بها توصفُ الكلمةُ -أيضًا- بها (¬1)؛ وهذا مِمّا لم (¬2) يتعرّضْ له في المفتاح. والفصاحةُ معنويّةٌ (¬3)، وهي: الخلوصُ عن التَّعقيد؛ بأَن يدخل الأُذن بلا إذن، فيدخُل المعنى القلْبَ قبل دُخول اللّفظِ الأذن (¬4)، ولا يقسم فِكر السّامع بِحيثُ لا يدري من أين يتوصَّل إلى معناه، وبأي طريقٍ يحصل فحواه. ولُطْف هذا المعنى بهذه العبارةِ التي أوردها المُصنِّفُ مما لا يخفى. لا (¬5) كما في قولِ الفرزدقِ في مدح إبراهيم (¬6) بن هشام المخزوميّ -خال هِشام (¬7) بن عبد الملك- وكان أميرَ المدينةِ من قِبَل هشام - (¬8): ¬
وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلأ مُمَلَّكًا ... أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أبوهُ يُقَارِبُهْ وتقديرُه: لَيْس مِثل المدوح حيٌّ يقاربُه، إلّا مملّكًا، أبو أمِّ ذلك المملّك أبو المدوح. (مثله) مبتدأٌ، و (في النَّاس) مُتعلِّق به، [و] (¬1) (حيٌّ) خبرُه، و (يُقَاربه) صفةٌ له. ويُحْتمل أن يكون (حيٌّ) مبتدأً، و (مثله) مع ما يتعلقُ به خبرًا؛ فقدَّم وأَخَّر. ومُرادُه: إنٌ الذي يُماثلُ الممدوحَ ابنُ أخته، فضميرُ (أُمِّه) للمُملك، وضميرُ (أبوه) للممدُوح، وفَصَل بين المُبتَدأ وهو (أبو أمِّه) والخبر وهو (أبوه) بأَجْنبي وهو (حيٌّ)، وكذا بَين (مثله) و (حيّ) (¬2)، وقدّم المستثنى وهو إلّا مملّكا على المستثنى منه وهو (حيَّ)، وفصَل بين (حيّ) الموصوف و (يُقَاربه) الصِّفةِ بأجنبي وهو (أبوه)، فإنَّ فيه من (¬3) ¬
التَّعقيد ما ترى. ولفظيَّة؛ عطفٌ على (معنويّة)، بأن تكون المُفْرداتُ، وأجزاءُ الكلامِ عربيّةً أصليّةً لا وَحْشيّة؛ وهي أَلا تكون على ألسنةِ الفُصحاءِ أدور ولا استعمالهم لها أكثر. ولا مُبتذلة مُستهانة، وبأن تكون على قانونِ العربيّة ما فيها فسادٌ ولا ضعفٌ. وفي بعض النُّسخ: وسليمة عن التَّنافُر، عذبة على العذبات، سلسة على الأسْلات (¬1). والتَّنافرُ إمَّا لبُعد بعيدٍ بين المخرجين، أَوْ لقُربٍ شديدٍ بينهما، لأن الأَوَّل كالطّفرة (¬2)، والثّاني كالمشي في القيدِ (¬3). وقال الأستاذُ: الحاصلُ: أنّ الفصاحةَ عدمُ النُّقصانِ، كما أن ¬
البلاغةَ وُجود المزيّة (¬1). وإذْ قدْ وقفتَ على العِلْمَين؛ أي: المعاني والبيان؛ وفي المفتاح: "وإذْ وقفت على البلاغة وعلى الفصاحةِ المعنويّة واللّفظيّة، فأنا (¬2) أذكُر على سبيل الأنموذج آية (¬3). فإن شئتَ فتأمّل قولَه -تعالى-: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬4) " تر بالجزمِ، لأنها وقعت جوابًا للأمر. ما فيه، في قوله -تعالى-. من لطائفهما، لطائفِ العلمين. وتفاصيلهما بعُجُرِهَا وبُجَرِهَا (¬5) مذكورةٌ في ¬
أقسام علم البدبع
المفتاح (¬1)، مع أن الذِّهنَ القويم والطبعَ المستقيمَ بعد استحضار ما سلف يقتدر على استنباطِ جُلِّها بل كُلِّها؛ فلا يطولُ الكتابُ بذكرها. وبالحريِّ صفة؛ كالجديرِ لفظًا ومعني، والباءُ زائدةٌ، وهو مُبتدأ، وخبرُه ما بعده؛ أي: (أن نُذيِّلَهُما). وإن جعلته مصدرًا فالباءُ غيرُ زائدةٍ، و (أن نُذيِّلهما) مبتدأٌ وهو خبرُه، وتقديره: فالتَّذييلُ ثابتٌ بالحريّ؛ أي: بالاستحقاقِ. أن نُذيِّلَهما؛ أي: العِلْمين. بشيءٍ من علمِ البديع؛ لأنه من مُتمِّماتِ البلاغة، ومُحَسِّناتِ الكلامِ. ولم يُعرِّفه السَّكاكيُّ، وقد عرَّفَ صاحب الإيضاح بأنه (¬2): "عِلْمٌ يُعرفُ به وجوهُ تحسين الكلامِ بعد رعايةِ المطابَقة ووضوح الدلالة". وهو قِسمان: معنويٌّ، وهو وظيفةُ البلاغة. ولفظيٌّ، وهو وظيفةُ الفصاحة. فالمعنويّ (¬3) أصناف: المطابقةُ: أن تجمعَ بين متنافيين؛ نحو: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} (¬4)؛ وفي المفتاح قال (¬5): "وهي: أن تَجْمع بين متضادَّين؛ وهذا ¬
المقابلة
أخصُّ (¬1). ويسمَّى بـ: الطِّباق، والتَّضادِّ، والتَّكافؤ- أيضًا. وقد تكونُ بين اسمين -كما مرَّ، وبين فعلين، نحو: {يُحْيِي ويُمِيْتُ} (¬2)، وبين حرفين نحو: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (¬3). المقابلةُ: أن تَجمع بين مُتنافيين (¬4) وتشرطهما بمتقابلين نحو: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬5)، ¬
المشاكلة
والمرادُ بـ {وَاسْتَغْنَى} أنه زهِد (¬1) فيما عند الله كأنه مستغنى عنه فلمْ يتَّق؛ فيكونُ استغنى واتَّقى مُتنافيين. وفي المفتاح (¬2): "المقابلةُ هي: أَنْ تَجْمع بين شَيْئين متوافقين أَوْ أَكثر، وبين ضِدّيهما، ثم إذا شرطتَّ هنا (¬3) شَرطًا شرطتَّ هناك ضدَّه"؛ وهذا -أيضًا- أخصُّ مِمَّا (¬4) في المختصر؛ كما أنه أخصُّ من المطابقةِ. المُشاكلةُ: أن يُذكرَ الشَّيء بلفظِ غيرِه لوقوعه في صُحْبته، أي (¬5): صحبة غيره؛ نحو قوله (¬6): قالُوا (¬7) اقترِحْ شَيْئًا نجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلتُ: اطبخُوا لِي جُبّةً وَقَمِيصا كأنَّه قيل: خِيطُوا لي؛ فذكرَ الجُبَّةَ والقميصَ بلفظِ: الطبخ لوقوعهما في صُحْبةِ: (نُجِدْ لَكَ طَبْخَه). ¬
مراعاة النظير
قوله: (اقترح) من اقْترحته؛ أي: سأَلته إِيَّاه من غير رَويَّةٍ، واقْتِراحُ الكلام: ارْتِجالُه. وقوله: "نُجِد" (¬1) -بضمَ النُّون وكسرِ الجيم- من الإجادةِ. مُراعاةُ النَّظير: الجمعُ بين المتشَابهاتِ نحو قَوْلِ المعرِّي (¬2): تجل عن الرّهط الأمائي غادة ... لها في عقيل من مماليكها رهط وحَرْف كَنُونٍ تَحْتَ رَاءٍ وَلَمْ يَكُن ... بَدالٍ، يؤم الرسم غيّره النّقط. فإنّه جَمَعَ بين المُتشَابهات من حُروفِ التَّهجِّي. الرَّهُطُ الأَوَّل: جلدٌ بقدرِ ما بين السُّرة والرُّكبة [شِبْه] (¬3) الإِزار: تَلْبَسه الإماءُ الحُيَّض. ¬
والثاني: القوم. و"حرف": مجرور عطفًا على الرَّهطِ الأَوَّلِ؛ والمرادُ به: النَّاقةُ الضّامرة. وشُبِّه بالنّونِ وهو الحوتُ لدقّتها وهُزَالِها. "تحت راء"؛ أي: رجل يضرب رئة النّاقة. قوله: "بدالٍ"؛ أي: برافقٍ، يُقال: دلوت النَّاقة؛ أي: رفقت بِها. "يؤمّ الرّسم"، يقصد: رَسْم ربع الحبيب. "غيَّره النَّقطُ"؛ أي: نقطُ المطرِ؛ أي: رسمُ ربع الحبيبِ دَرَسَتْه الأمطارُ. وفَحْوى البيتين: تَتَرفَّع عن الإِزار الذي تتّزرُ به الجواري غادة (¬1)؛ موصوفة بأنها مالكةُ رهطٍ من المماليك (¬2) في عَقيل، وعن (¬3) ناقةٍ ضامرةٍ تحتَ رجلٍ يضرب رئتها، ولا يرفق بها قاصدةً أَطلالًا غيَّرها الأمطار. ونحو قول الشّاعر (¬4): لَقَرأْتَ مِنَّا مَا تَخُطُّ يدُ (¬5) الوَعْي ... والبِيضُ تَشْكُلُ والأَسِنَّةُ تَنْقُطُ وفي رواية: تعجم. ¬
المزاوجة
وهذا البيتُ مع البيتِ المتقدِّمِ موهمٌ (¬1) أنهما من منوالٍ واحدٍ؛ لكنّ الأمر بخلافه؛ لأن الأَوَّل من بحرِ الطويل، والثاني من الكامل، وأوّله: لَوْ كنْتَ شَاهِدَنا غَدَاة لقائنا ... والخيلُ من تَحْتِ الفَوارسِ تنحط المُزاوجة: أن يُزَاوجَ بين معنيين في الشّرطِ والجزاءِ؛ كقول البُحتري (¬2): إذَا مَا نهَى النَّاهِي فَلَجَّ (¬3) بِيَ الهَوَى (¬4) أَي: اشتدَّ هواها فيّ إذ (¬5) النَّاس حريصٌ على ما منع. أَصَاخَتْ (¬6) إِلى الوَاشِي فَلَجَّ بها الهَجْرُ ¬
اللف والنشر
أي: زادت مُهاجرتُها عنِّي بسببِ إصْغَائها إلى الواشي. وأوَّله وهو من مراعاةِ النّظير (¬1): كأنَّ الثُّريَّا عُلِّقَت في جَبِينِه ... وفي نَحْرِه الشِّعْري، وفِي خَدِّه القَمَرْ. اللَّفُّ والنَّشْرُ: أن تَلفَّ بين شيئين في الذِّكر، وتنشر متعلّقهما (¬2) من غير تعيين متعلّق بواحدٍ وآخر بآخر؛ اعتمادًا على العقْل بأنّه يردُّ كلًّا من المتعلّقين إلى ما له التَّعلّق؛ نحو: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (¬3)؛ فإنّه لفَّ بين اللّيلِ والنَّهارِ، ثمَّ نشرَ (¬4) متعلّقهما (¬5) وهو السّكون والابتغاءُ؛ اعتمادًا على أن العقلَ يردُّ السُّكونَ إلى اللّيلِ، والابتغاءَ إلى النَّهار. وهذا يُسمّى: لفًّا ونشرًا؛ على ¬
الجمع
التَّرتيب؛ لأَن النَّشر على ترتيب اللَّف. وما هو على [غير] (¬1) التَّرتيب (¬2)؛ كقوله (¬3): كَيْفَ أَسْلُو (¬4) وَأَنتِ حِقْفٌ (¬5) وَغُصْنٌ ... وغَزَالٌ لَحْظًا (¬6) وَقدًّا (¬7) ورِدْفًا (¬8)، (¬9) الجَمْعُ: أَنْ يُدْخل (¬10) شَيْئين فَصَاعدًا في نوعٍ واحدٍ؛ أي: الجمعُ إدخالُ جُزْئين أَوْ أكثر تحت كُليّ واحد؛ ويُسمَّى ذلك الكلِّي الجَامعَ؛ نحو: ¬
الفرق
إن الشَّبَابَ والفَراغَ والجِدَة ... مَفْسَدةٌ لِلْمَرءِ أَيُّ مَفْسَدة (¬1) فالكُلِّيُّ هو (¬2): المفسدةُ، وجُزئيَّاتُها: الشَّبابُ، والفراغُ، والجِدَةُ. الفرقُ (¬3): عَكْسُه؛ أي: عكسُ الجمع، وهو: إيقاعُ تبايُنٍ بين أمرين من نوع واحدٍ؛ كقوله (¬4): مَا نَوالُ (¬5) الغَمَامِ وقْتَ ربيعٍ ... كَنَوالِ الأَمِيرِ يَومَ سَخَاءِ ¬
التقسيم
فَنَوالُ الأَميرِ بَدْرَةُ (¬1) عَيْنٍ (¬2) ... ونَوالُ الغَمَامِ قَطَرةُ مَاءٍ فإنَّه فرَّقَ بين نوعي النّوالِ. التَّقْسِيم: أَنْ تَذْكُرَ شيئًا ذا جُزئين أَوْ أكثر، وتُسْند إلى كلِّ واحدٍ من أَجْزائه ما هو له عنْدك، على سبيل التَّعيين، خلاف اللّفِ والنَّشر، نحو: أديبان في بَلْخ (¬3) لا يأْكُلان ... إِذَا صَحبَا المرءَ غَيْرَ الكَبدْ (¬4)؛ فَهَذَا طَويلٌ كظِلِّ القَنَاةِ ... وهَذَا قَصيرٌ كظِلِّ الوَتد (¬5). الجمعُ مع التَّفريقِ: أن تُدْخل شَيئينِ في أمَرٍ [واحدٍ] (¬6) وتُفَّرِّق جهتي الإدخال؛ نحو: ¬
الجمع مع التقسيم
قَدِ اسْودَّ كالمِسْكِ صُدْغًا (¬1) ... وقَدْ طابَ كالمسْكِ خُلقَا (¬2) فإنّه أدخلَ الصُّدغ والخُلق في مُشابهة؛ المسك، ثمَّ فرّقَ بين جِهَتي المشابهة. الجمعُ مع التَّقسيم: أن تَجمع أمورًا كثيرة تحت حكم، ثم تقسّم؛ نحو قول المتنبِّي (¬3): الدَّهرُ مُعْتذرٌ والنَّصرُ مُنْتَظِرٌ، ... وأرْضُهُم لَكَ مُصْطافٌ ومُرْتَبَعُ اصْطَاف (¬4) بالمكان أَيْ: أقام به الصَّيف، والموضع: مصطاف. وكذا المرتبع. ¬
التقسيم مع الجمع
للسَّبْي مَا نَكَحُوا، والقَتلِ ما وَلَدُوا، ... والنَّهب ما جَمَعُوا، والنَّارِ مَا زَرَعُوا فإنّه جمع في البيت الأَوَّل أرضَ العدوِّ وما فيها، في كونها خَالِصةً للمَمْدوح، ثمَّ قسم في الثَّاني. التَّقسيمُ مع الجمع: عكسُ ما تَقَدّمَ، أي تقسم أوّلًا، ثم تجمَع، نحو قول حَسَّان (¬1): قومٌ إذا حَارَبُوا (¬2) ضَرُّوا عَدُوَّهُم ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفعَ في أَشْيَاعِهِم نَفَعُوا ¬
الجمع مع التفريق والتقسيم
الأشياعُ: الأصحابُ والأتباع. سَجيّةٌ تلك مِنهُمْ غيرُ مُحدَثَةٍ ... إِنَّ الخلائَقَ فاعْلَمْ! شَرُّهَا البِدَعُ! السَّجيةُ: الخُلُق. الخلائقُ: جمعُ الخليقةِ، وهي الطّبيعةُ. والبدعُ: جمع للبدعةِ؛ وهي: الأمرُ المستحدثُ. الجمعُ مع التَّفريق والتَّقسيم؛ نحو (¬1): فكالنَّارِ ضَوءًا وكالنَّارِ حرًّا ... مُحَيّا حَبِيبي وحُرقة بالي فذلكَ مِنْ ضَوئِه في اخْتِيالٍ ... وهَذا لحُرقَتِه في اخْتلالِ فإِنَّكَ جَمَعْت (محيَّا حبيي) و (حرقة بالي) تَحْت حُكم؛ هو تَشْبيههما (¬2) بالنّارِ؛ ثم فرَّقتَ بين وجْهَي المُشَابهة في الضَّوءِ والحرِّ، ثمَّ قَسَّمته في (اخْتِيالٍ) و (اخْتِلال). ¬
الإيهام
الإيهامُ: أن تَذْكرَ لفظًا له استعمالان قريبٌ وبعيدٌ فتريدُ أبعدهما مع توهُّم إرادةِ القَريب؛ نحو: حَمَلْناهُم طرًّا عَلَى الدّهم بَعْدَما ... خَلَعْنا عَليهم بالطِّعَانِ مَلابسَا (¬1) أراد بالحملِ على الدُّهم: تقييدَهم؛ باعتبارِ كونِ الدُّهمِ جمع: أَدهم: القَيْد، الَّذي هو معناه البعيد؛ لا أدهم الفرس الذي هو القريب؛ ولكن أوْهم أنّ المرادَ إركابُهم الخيل الدُّهم. والإيهامُ يُسمَّى بالتَّورية -أَيضًا-. التَّوجيه: أن تذكر ذا وجهين؛ أي: كلامًا محتملًا لوجهين مختلفين كقوله (¬2): خاطَ لِي عَمْرو قبَاء ... لَيْتَ عَيْنَيهِ لسَوَاء قلتُ شعرًا ليس يُدرى ... أَمَديح أمْ هجاء للأعورِ الخيّاط. الاعتراض، ويُسمَّى الحشْو: أنْ يتخلَّل الكلامَ كلامٌ آخر؛ أي: ¬
بحيث يتمّ بدُونه المعنى؛ نحو: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} (¬1)، فإن قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} اعتراضٌ، ولفظه بَلْ لفظ المفتاح أَيضًا وهو قوله (¬2): "وهو: أن تُدرج في الكَلام ما يتمُّ المعنى بدونه" يُشعر أنَّ ما وقع آخر الكلام لا يكون اعتراضًا لكنَّ القوم صرَّحوا بأَنَّه اعتراض، والأمر [فيه] (¬3) راجعٌ إلى الاصْطِلاح. وتَعْريفُ المفتاح أعمُّ لعمومِه الكَلِمة والكَلام. وهو على ثلاثةِ أضرُبٍ: مذمومٍ؛ وهو ما لا يُفيد شيئًا كقوله (¬4): [وَمَا] (¬5) يَشْفِي صُداعَ الرَّ ... أسِ مثلَ الصَّارمِ العَضْبِ (¬6) فإنَّ لفظَ الرَّأسِ حشو لا حاجة إليه. ومتوسّطٍ؛ وهو ما يُفيدُ تأكيدًا كقوله (¬7): ¬
أَلَا هَل أَتاها -والحوادثُ جَمَّةٌ- ... بِأَنَّ امرأَ القَيْسِ بن (¬1) تَمْلك (¬2) بَيْقَرا يُقَالُ: بَيْقر الرَّجلُ؛ إذا قامَ بالحضرِ وتركَ قَوْمه بالبَاديةِ؛ فقَوْلُه: (والحوادثُ جَمَّةٌ) أفاد تأكيدًا؛ لأَنَّه بيقر وأَنَّه من الحوادث. ومليح؛ ويُسمَّى حشو اللُّوزينج، وهو ما يُفيدُ المعنى جمالًا؛ إمَّا لإفادته رفعَ الشَّكِّ والإغناء من (¬3) تقدير السُّؤال أَوْ غَيْرهما كقوله (¬4): إنَّ الثَّمانين -وبُلِّغتها- ... قَدْ أَحْوجت سَمْعِي إِلى ترجمان (¬5) ¬
التجاهل
وقوله (¬1): لَوْ أَنَّ البَاخِلينَ -وأنتَ منهم- ... رَأَوْكَ تعلَّمُوا مِنْك المطَالا (¬2) التَّجاهُل؛ وهو أن يدلَّ كلامه على جهلهِ بالشَّيءِ مع كونه عالمًا به، وقد مرَّ بحثُ التَّجاهل في آخرِ النَّوع الثَّاني من مَبَاحثِ الرَّبطِ (¬3)، وسمَّاهُ السَّكاكيّ: "سوق المعلوم مساق غيره"، احترازًا عن تسميتهِ بالتَّجاهُل (¬4) لورودِه في كلام الله -تعالى-؛ نحو (¬5): أَهذه جَنَّةُ الفِرْدَوسِ أَمْ إِرمٌ ... أَمْ حَضْرة حَفْتها (¬6) العَلْيا والكَرمُ الاستتباع وهو: مدحٌ يَسْتتْبعُ مدحًا آخر، نحو (¬7): ¬
نَهَبْتَ (¬1) من الأَعْمَارِ مَا لَوْ حَوَيْتَه ... لهُنِّئَتِ الدُّنيا بأَنَّكَ خَالِدٌ فإِنَّه "مدحه بالشَّجاعةِ على وجهٍ اسْتَتْبع مدحه بكمالِ السَّخاءِ وجلالِ القدْر"؛ هكذا قال السَّكَّاكيُّ (¬2)؛ لكن في استتباعه كمال السَّخاءِ نظر، اللهمَّ إلّا بتكلُّف شديدٍ (¬3). وقال صاحِبُ الإيضاح: مدحه بالنِّهاية في الشَّجاعة على وجهٍ استتبع مدحه بكونِه سَبَبًا لصلاح الدُّنيا ونظامِها، وفيه أنَّه نهبَ الأَعْمار دونَ (¬4) الأَموالِ؛ وأنَّه (¬5) لم يكن ظالمًا في قَتْلهم (¬6). وها هنا: أقسامٌ أخر كالالتفاتِ والإيجازِ، وقد مرَّ ذكرهما (¬7) وغيرهما كتأكيدِ المدحِ بما يُشبهُ الذّم (¬8)، وكالقولِ بالموجب ¬
المحسنات اللفظية
كقوله (¬1): قُلْتُ: ثَقَّلتُ إذ أَتَيْتُ مِرَارًا ... قال: ثقَّلت كَاهلي بالأَيادي (¬2) قُلْتُ: طَوَّلت، قَال: لا؛ بَلْ تَطَوَّلـ ... ـت (¬3) [و] (¬4) أَبْرَمتُ، قَال: حَبْلَ ودَادِي واللَّفظيُّ -أَيْضًا- أَصْنَافٌ (¬5): التَّجنيسُ: وهو تشابهُ الكلمتين في اللّفظ. فمنه تجنيس تامٌّ وهو أَنْ لا يتفاوتا في اللَّفظِ لا في أَنْواعِ الحروفِ ولا في أَعْدَادِها وهيئاتِها (¬6)؛ نحو: رَحْبةٌ رَحْبة؛ أي: ساحة واسعة، ¬
قال -تعالى-: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (¬1). ومنه تجنيس ناقصٌ؛ وقال السَّكاكيُّ: وهو أَنْ يَخْتلفا في هيئةِ الحركةِ والسّكون دون صورةِ اللَّفظِ (¬2)، يعني: حُروفه المكتوبة لا الملفوظة، نحو: البُرد مع (¬3) البَرْد، قيل: جُنةُ البرد جُبَّةُ البرد (¬4). وفي الإيضاح وغيرهِ (¬5) اختلفَ في أسماء بعضِ هذه التَّجانِيس كما سُمّى هذا النّوعُ بالتَّجنيس المحرّفِ (¬6). والنّاقصُ: ما اختلف أعدادُ الحروفِ فيهما؛ نحو: (جدِّي جَهْدي) و (السّاق والمساق) في قوله -تعالى-: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ} الآية (¬7). ¬
ومنه تجنيسٌ مُذيَّل، وهُو: أن يَخْتَلفا بزيادةِ (¬1) حرفٍ؛ نحو: (كاسٍ (¬2) كاسب) (¬3) , و (مالي كمالي). ومنه تجنيسٌ مضارع ومطرّف، وهو: أن يختلف المتجانسان بحرفٍ أَوْ حرفين مع تقاربِ المخرج؛ نحو: (دامس (¬4) وطامس) (¬5). وقيل (¬6): المضارعُ ما اختلفا بحرفٍ، والمطرّفُ ما اختلفا بحرفين؛ نحو: (ما خصّصتني؛ ولكن خسّستني)؛ كما حمل شارحُ المفتاح لفظه عليه (¬7). و [منه] (¬8) تجنيسٌ لاحق، وهو أَنْ يختلفا في حرفٍ أَوْ حرفين لا مع التَّقارب؛ نحو: (سعيدٌ بعيدٌ)، و (المكارمُ بالمكارِه) (¬9). ومنه مزدوجٌ، ويُسمّى مكرّرًا ومُردّدًا - أَيْضًا، وهو: أَنْ ¬
يلي أحد المُتَجانسين الآخر؛ نحو قولهم: (من طلب وجدَّ وجدَ)، و (النّبيذُ بغر النَّغم غمٌّ، وبغير الدَّسم سمٌّ). ومنه تجنيسُ تَصْحيفٍ، وهو: التَّجنيسُ اللَّاحقُ الَّذي اتّفقَ الحرفان المختلفان فيه كَتْبة؛ نحو: (عائب عابث)، ويُسمَّى بتجنيس الخَطِّ- أَيضًا؛ قال عليٌّ -رَضِيَ الله عَنْهُ-: (قصِّر ثيابَك فإنَّه أَتْقى وأَنْقى وأَبْقى)، ومنه المثلُ: "المجالسُ أَحْلاها أَخْلاها" (¬1). وقال الوَطْواطُ (¬2): (رُبَّ ربٍّ غنيٍّ غبيٍ، سرته شرته؛ فجاءَه فجأة بَعْد بُعْد عشرتِه عُسرته). ومنه متشابه، وهو: ما يكونُ أحدُ المُتَجانسين في التَّامِّ مركّبًا، ولم يكن مخالفًا في الخطِّ؛ نحو قول البستيّ (¬3): ¬
إِذَا مَلِك لَمْ يَكُن ذَا هِبة ... فَدَعْه فَدَوْلتُه ذَاهِبة. ومنه مفْرُوق، وهو: ما يكون أحدُ المتجانسين في التّامِّ مُركّبًا، وكان مخالفًا في الخطّ؛ نحو: كُلُّكُم قَدْ أَخذَ الجَا ... مَ (¬1) ولا جَامَ لَنَا ما الذي ضَرَّ مديرَ الـ ... ـجَامِ لوْ جَامَلَنا (¬2). وفي بعض النّسخ مكان قوله: (مَفْروق) قوله: (مُشوّش)، وهو سهوٌ من النَّاسخ. والبيتُ شاهدٌ عليه لأَنَّه لا يصحُّ مثالًا للمشوّش؛ لأنَّه تجنيسٌ يتجاذبهُ طرفان (¬3) من الصِّيغة؛ نحو: (بلاغة براعة)؛ فإنّه لو كانتْ عينَا الكَلِمتين مُتَّحدّتين لكان تجنيس تصحيفٍ، أَوْ لامُهما ¬
كانتْ عينَا الكَلِمتين مُتَّحدّتين لكان تجنيس تصحيفٍ، أَوْ لامُهما متّفقتين (¬1) لكانَ التَّجنيس المضارع، ولَمَّا بقي مُذَبْذَبًا بينهما سُمّس مُشَوَّشًا. والبيتُ ليس كذلك، ولا عليه إن تركه كما تركَ كثيرًا من أقسامه؛ كالمرفوّ (¬2)، و (¬3) هو ما كان المركّبُ منها بعضًا من كلمة أخرى؛ نحو: (فهمتُ كتابكَ يَا سيّدي فهمتُ، ولا عجيب أنْ أهيما) (¬4) وكغيره ممّا هو مذكورٌ في الكتب المعمولة في الفنِّ (¬5). ويُعدُّ منه، من التَّجنيس، ويلحقُ به شَيْئان ما يجمع الكلمتين (¬6) الاشْتِقاق، وهو: أن يجئَ بلفظين يَجْمَعُهما أصلٌ واحدٌ في اللغة، وما يجمعه المشابهة؛ أي: يشبه (¬7) الاشتقاق؛ نحو: {قَال إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} (¬8)، فإنَّ قوله: {الْقَالِينَ} لم يُشْتق مما اشتقَّ منه، قال: لكن ¬
يشابه ذلك. والأَوَّل؛ كقوله -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ} (¬1) فإن (القيِّم) و (أقم) مُشْتقّانِ من أصلٍ واحدٍ وهو القيام، وكذا قوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} (¬2). وردّ العجز على الصّدر؛ هذا مردود على قوله: (التَّجنيس)؛ فيكون صنفًا من أَصْناف اللَّفظي. قال في المفتاح (¬3): "ومن جهاتِ الحُسْنِ ردُّ العجزِ على الصَّدر"، وذلك يحتملُ أن يكون (¬4) أَيضًا من أقسام اللّفظي. مجانسة آخر البيت للفظ فيه؛ في البيت؛ أعمّ من أن يكون في صدره، أَوْ حشوه، أَوْ آخره من المصراع الأَوَّل، أَو (¬5) الأَوَّلين من الثَّاني؛ نحو: مُشْتَهرٌ في زُهْدِه وعِلْمه ... وحِلْمِه وعَهْدِه مُشْتَهرٌ أينما وقع (مشتهر) الأَوَّل من المواضع الخمسة (¬6)، وأمثلته نحو: ¬
سُكْرانِ سُكرُ هوًى وسُكْرُ / مُدامةِ ... أَنَّى يُفيقُ فَتًى به سُكْران؟! (¬1) ونحوه: ولَمْ يَحْفَظْ مُضاعَ المجدِ شَيءٌ ... مِن الأشياءِ كالمالِ المضاع (¬2) ونحو: ففِعْلُكَ إِنْ سُئِلتَ لَنَا مُطِيعٌ (¬3) ... وَقَوْلُكَ: إِنْ سَأَلتَ لنا مُطَاعُ (¬4). ونحو: ¬
القلب
وإِن لَم (¬1) يكُن إِلا مُعرَّجَ ساعة ... قليلًا فإنِّي نافعٌ لي قليلُها (¬2). وأما الخامسُ: فَمَا وجدتُ له نَظِيرًا، وأحسنه ما لا تكرارَ فيه بحسب المعنى؛ نحو: سائلُ اللَّئيم يرجعُ ومعه دَمْع سائل. القلبُ: وحكمُه في احتمالِ (¬3) وجهي العطف، وفي احتمال عدمه من اللّفظي -كما هو في المفتاح (¬4) - حكمُ ردِّ العجز؛ حذوَ النَّعلِ بالنَّعلِ. وهو أربعةُ أنواع؛ قلبٌ للكلِّ (¬5)؛ نحو: (حُسامُه فَتْحٌ لأوليائه حَتْفٌ لأعدائه) (¬6)، وقلبٌ للبعض (¬7) نحو: (اللَّهمَّ استر عوراتنا وآمن رَوْعَاتنا) (¬8)؛ وإذا وقع أحدُ وما وقع في بعض النّسخ بدله (أوّل) فسهوُ ¬
القلم، مَقْلوبي الكلِّ في أَوَّل البيتِ، والآخر [في] (¬1) آخرِه سُمّى (¬2) مقلوبًا مُجنّحًا؛ نحو: لاحَ أنوارُ الهُدَى ... من كَفِّه في كلِّ حَال (¬3). وإِذَا وَقَعَ أَحدُ مقلوبي الكلِّ في كَلِمَتين أَوْ أَكْثر شعرًا أَوْ غَيرَ شعر سُمِّي مُسْتويًا؛ لاستواء قراءته طرْدًا وعكسًا؛ نحو قول الحريريّ (¬4): أُسْ أرْمِلًا إِذَا عَرَا ... وارْعَ إِذَا الْمرءُ أَسَا. ¬
السجع
ونحو قوله -تعالى-: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (¬1)، {كُلٌّ في فَلَكٍ} (¬2)، وقولُ العماد الكاتب (¬3) للقاضي الفاضل (¬4): (سِرْ فلا كبا بِكَ الفرسُ)، وقول (¬5) القاضي في جوابه: (دام علا العماد)؛ وهكذا (¬6) كلّ كلامٍ إذا قلّبته كان إيّاه. السَّجْعُ، وهو: عطفٌ على قوله: (التَّجْنيس)، وإِن احتمل عطفه ¬
الترصيع
-أَيضًا- على قوله: (تامٌّ)، ويكون المراد من تعريفه بقوله: (تشابه الكلمتين) في اللفظ عامًّا حتَّى يتناول التَّشابه بحسبِ الوزنِ -أَيضًا- لكن (¬1) كلفَ الكلفةِ فيه ظاهر؛ وهو (¬2) في النَّثر كالقافيةِ في الشِّعر. وقيل في تعريفه (¬3): "هو تواطؤ الفاصلتين من النَّثر على حرفٍ واحدٍ". التَّرصِيعُ، والموافقُ للمفتاح أَنْ يؤخذ قسمًا مستقلًّا من أقسامِ المُحسنات؛ لكنَّ القومَ أخذوه من أقسام السَّجع (¬4)، وهو: توازنُ الأَلفاظ مع توافق الأَعجازِ أَوْ (¬5) تقاربها (¬6)، أي (¬7): الأَعجاز. وعند القومِ: التَّرصيعُ: "ما كانَ في إحدى القَرِينتين أَوْ أَكْثر مِثْل ما يقابله من الأخرى" (¬8)؛ نحو: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (¬9). ¬
"وهو مأخوذ من ترصيع العقدِ؛ وهو أن يكون في أحد جانبي العقد من اللآلئِ مثل ما في الجانب (¬1) الآخر" (¬2). وقيل: إِنَّه قريبٌ من التَّرصيع لا أَنَّه منه؛ فإن لفظة: (لفي) قد وردت في الفقرتين معًا (¬3). ويورد ها هنا أنواعٌ أخر لكون الحروف (¬4) منقوطة؛ نحو: (جنّنتنِي وفتنتنِي) (¬5)، وغير منقوطةٍ؛ نحو قول الحريري (¬6): (الحمدُ للهِ الملكِ المحمودِ المالكِ المودود)، ومُختَلِطةٍ منهما على السّواء؛ وذلك إمّا بأن: تكون حروف إحدى كلمتيها منقوطةً بأجمعها، والأخرى غير ¬
منقوطة بأسرها؛ نحو قول الحريري (¬1): (الكرمُ -ثَبَّتَ الله جيش سُعُودكَ- يَزين، واللُّومُ -عَضَّ الدَّهرُ جَفْنَ حَسُودِك- يَشينُ)، ويُسمّى مثلُها خَيْفاء، وهي لُغةً: الفَرسُ التي بها (¬2) خيفٌ؛ وهي أن تكون إحدى عينيها سوداء، والأخرى زَرْقاء. وإمّا بأَنْ تكون: حروفُ كلمةٍ مترتّبةً في النُّقط وعدمه؛ نحو: (أخلاقُ سَيِّدنا تُحَبُّ) (¬3)، ويُسمّى مثلُها رَقْطاء، وهي الفرسُ الَّذي به نقطٌ سودٌ وبيضٌ. ولك أن تَسْتَخرج لك منها ما شئت كصنعة الموصل وهو أن يجيءَ بكلماتٍ ليس فيها كلمة إلا وحروفها يتّصل بعضُها ببعض في الخطِّ؛ نحو: (فتنتنِي). ويجوز عودُ الضّمير (¬4) إلى المذكوراتِ (¬5) من المعنويّات واللّفظيَّاتِ من جميع جهات الْحُسن كالتَّجنيس المعكوس مثل (¬6): (عاداتُ السّاداتِ ساداتُ العاداتِ)، وكالتَّعديل (¬7)؛ وهو إيقاعُ أسماءٍ مفردةٍ على سياقٍ ¬
واحدٍ؛ نحو قولِ المتنبِّي (¬1): الخيْلُ واللّيلُ والبَيْدَاءُ تَعْرفُني ... والحربُ والضَّربُ والقرطاسُ والقلَمُ وكتنسيق الصِّفات؛ وهو أن يذكر الشَّيءُ بصفات متوالية، كقول حسّان (¬2): بيضُ الوُجُوهِ كَريمَةٌ أَحْسَابُهم ... شُمُّ الأنوفِ من الطِّرازِ الأَوَّلِ وهلّم جرّا؛ كما صُنِّفَ فيه كتبٌ مطوّلة (¬3). ¬
وأصلُ الحُسنِ في الكُلِّ من المحسّنات بنوعيها، أَن تُتْبعَ اللفظ المعنى لا المعنى اللفظ وإلا كان كظاهر مموَّه على باطن مشوَّه، ويكون مثاله (¬1) كمثال غمدٍ من ذهبٍ على نَصْلٍ من خَضبٍ، وإِنَّما هو بترك التَّكلف (¬2) والتزام تزيّن (¬3) الأَلفاظ؛ فتَأَمَّل أَبيات البُحتري (¬4): بَلَونا؛ أي: امتحنّا. ضرائبَ، جمع ضربة، وهي الطّبيعة والسجيّة. مَن قَد نَرَى ... فَمَا أن رَأيْنَا "لفتح" (¬5) ضَريبًا. ¬
لفظ "أنْ" زائدة (¬1)، و"فتح" عَلَم؛ ممدوح الشَّاعر. والضَّريب المِثْل والندّ. تردّد في خُلُقَي سُؤددٍ. أي: سيادة. سماحًا مُرَجّى وبَأْسا مهيبا وصفه بالكرم والشّجاعة (¬2). فكاللّيثِ إن جئتَهُ صارِخًا مُسْتغيثًا (¬3)، وكالغيثِ إن جئتَهُ مُسْتثيبًا. اسْتثابه؛ أي: سأله أن يُثيبه. وأنَّه تركَ التَّكلُّف (¬4) في اللَّفظ وأتبعه للمعنى؛ ولهذا جاءَ كمَا ترى في غايةِ الحسن؛ وكأَنَّه (¬5) البُحتريّ عنى هذه الأبيات المُصنَّفَ له؛ أي: الذي نسب إليه هذا المختصر، وهو الوزيرُ غياث الدِّين حيثُ قال: (وسَمَّيته بالفوائدِ الغياثيّة). ¬
لا زالت (¬1) أمورُ العالمين منتظمَةً برأيه، وأقطارُ المشارقِ والمغاربِ منوّرة برُوائه، والرّواء -بالضمّ- المنظر. والحمدُ للهِ حقَّ حمْده، والصَّلاةُ على من لا نبيّ بعده، والرّضوانُ على عِترته والغُفران لأصحابِه (¬2). تمَّ نسخُ الكتابِ في الثُّلثِ الأَخير من شهرِ المبارك جمادى الأَوَّل من سنة أربع وستّين وسبع مائة هجريّة؛ على يدِ المغترقِ في الذُّنوبِ والمعترف بالعيوبِ: الحسن بن عليِّ بن مباركِ بن القوّامِ الموصليّ؛ غفر الله ذنوبهم وسَتر في الدَّارين عُيُوبهم؛ مُصلّيًا ومُسَلِّمًا على نبيّه وآله الطَّيِّبين وأصحابه الطّاهرين آمين يَا ربّ العالمين. ¬
فهرس المصادر والمراجع
فهرس المصادر والمراجع 1 - آثار البلاد وأخبار العباد: لزكريّا بن محمود بن محمود القزوينِي. دار صادر. بيروت. 2 - أبو العتاهية، أشعاره، وأخباره. عنِي بتحقيقها د. شكري فيصل. دار الملَاح للطّباعة والنّشر. دمشق (د. ط) (د. ت). 3 - أبو الفتح البستِي، حياته وشعره. تحقيق: د. محمّد مرسي الخولي. دار الأندلس, 1980 م. 4 - الإحكام في أصول الأحكام. لسيف الدِّين أبِي الحسن على بن مُحَمَّد الآمدي (ت 631 هـ). تحقيق: أحد الأفاضل. دار الفكر العربِي. (د. ط). (د. ت). 5 - أخبار أبِي تمام. لأبي بكر مُحَمَّد بن يَحيَى الصولي. حققه وعلق عليه: خليل محمود عساكر وآخرون. قدّم له د. أَحْمد أمين. نشر المكتب التّجاري للطّباعة والتّوزيع والنّشر. بيروت. 6 - أخبار النّحويّين البصريّين. لأبي سعيد الحسن بن عبد الله السّيرافي، (ت 368 هـ). تحقيق: طه محمَد الزّينِي. محمّد عبد المنعم خفاجِي. نشر وطبع: مكتبة مصطفى البابِي الحلبِي وأولاده. مصر. 7 - الأدب في العصر المملوكِي. د. محمّد زغلول سلّام. دار المعارف، مصر، ط 3، 1994 م. 8 - الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الاعتقاد. لإمام الحرمين أبِي المعالي الجونِي (ت 478 هـ)، تحقيق: أسعد تميم. مؤسّسة الكتب الثّقافية.
9 - أساس البلاغة. لأبي القاسم، محمود بن عمر الزّمخشري (ت 538 هـ)، تحقيق: محمّد باسل عيون السّود، دار الكتب العلمية، بيروت. ط 1، 1419 هـ. 10 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب. لأبي عمر يوسف بن عبد البَرّ (ت 463 هـ). تحقيق: عليّ محمّد البجاوي، دار نهضة مصر. (د. ط)، (د. ت). 11 - أسد الغابة في معرفة الصّحابة. لعزّ الدِّين ابن الأثير (ت 630 هـ). اعتنَى بتصحيحه: عادل أَحْمد الرّفاعي، دار إحياء التّراث العربِيّ، بيروت، ط 1، 1417 هـ. 12 - أسرار البلاغة. للشّيخ الإِمام أبي بكر، عبد القاهر بن عبد الرّحمن الجرجانِي (ت 471 هـ). تحقيق: هـ. ريتر. مكتبة المتَنَبِّيّ. القاهرة، ط 2، 1399 هـ. 13 - أسرار البلاغة .. للشّيخ الإمام أبي بكر؛ عبد القاهر بن عبد الرّحمن الجرجانِي (ت 471 هـ). قرأه وعلّق عليه: أبو فهو محمود محمّد شاكر. دار المدنِي، جدّة، ط 1، 1412 هـ. 14 - الأشباه والنّظائر للخالديّين. أبِي بكر محمّد (ت 380 هـ). حقّقه: محمّد يوسف. مطبعة لجنة التّأليف والتّرجمة والنّشر، القاهرة (د. ط)، 1378 هـ. 15 - الإصابة في تمييز الصّحابة. لأبِي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانِي (ت 852 هـ)، تحقيق وتعليق: عليّ مُحَمَّد البجاويّ، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 هـ. 16 - الأصمعيّات. اخيتار الأصمعِيّ، أبِي سعيد عبد الملك بن قريب (ت 216 هـ). تحقيق وشرح: أَحْمد محمّد شاكر، عبد السّلام هارون. دار المعارف. ط 5، (د. ت).
17 - الأصول في النحو. لأبي بكر، محمّد بن سهل بن السّراج البغدادي (ت 316 هـ). تحقيق: د. عبد الحسين الفتليّ، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، ط 2، 1417 هـ. 18 - الاعتماد في نظائر الظّاء والضّاد. لابن مالك. تحقيق: د. حاتم صالح الضّامن. مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 1404 هـ. 19 - الإعجاز والإيجاز. لأبِي مقصود عبد الملك الثّعالبِي (ت 429 هـ). دار بيان، بغداد، ودار صعب، بيروت. 20 - إعراب القراءات الشّواذ. لأبِي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري، (ت: 616 هـ). دراءسة وتحقيق: مُحَمَّد السّيّد أَحْمد غزوز. عالم الكتب، بيروت. 21 - الأعلام. لخير الدِّين الزّركِليّ. دار العلم للملايّين، بيروت، ط 11، 1995 م. 22 - أعلام النّساء في عالمَي العرب والإِسلام. عمر رضا كحّالة. مؤسّسة الرّسالة، بيروت. ط 3، 1397 هـ. 23 - الأغاني لأبي الفرج؛ عليّ بن الحسين الأصفهانِي (ت 356 هـ). إعداد: مكتب تحقيق دار إحياء التّراث العربِيّ، دار إحياء التّراث العربِي، بيروت، ط 2، 1418 هـ. 24 - الاقتصاد في الاعتقاد. لأبي حامد محمّد بن محمّد الغزاليّ (ت 505 هـ). دار الكتب العلمية، بيروت. 25 - ألفيّة ابن مالك في النّحو والصّرف. لمحمّد بن عبد الله الأندلسيّ (ت 672 هـ). مكتبة السّنّة، القاهرة، ط 1، 1419 هـ.
26 - أمالي ابن الشّجريّ. لهبة الله بن عليّ العلويّ (ت 542 هـ). تحقيق ودراسة: محمود محمّد الطناحي. مكتبة الخانجِي للطّبع والنّشر والتّوزيع، القاهرة، ط 1، 1413 هـ. 27 - أمالِي المرتضى: غرر الفوائد ودرر القلائد. للشّريف المرتضى، عليّ بن الحسين العلويّ (ت 436 هـ). تحقيق: محمّد أبو الفضل. دار إحياء الكتب العربيّة، القاهرة، ط 1، 1373 هـ. 28 - الأمالي في لغة العرب. لأبِي عليّ إسماعيل بن القاسم القالي (ت 356 هـ). دار الكتب العلميّة، بيروت. (د. ط) 1398 هـ. 29 - الإمتاع والمؤانسة. لأبِي حيّان، عليّ بن محمّد التّوحيدي (ت 400 هـ)، تحقيق: أَحْمد أمين. دار مكتبة الحياة، بيروت. (د. ط)، (د. ت). 30 - إملاء ما مَنَّ به الرّحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن. لأبِي البقاء؛ عبد الله بن الحسين العكبري (ت 616 هـ). دار الكتب العلميّة، بيروت ط 1، 1399 هـ. 31 - إنباء الغمر بأنباء العمر. لشهاب الدِّين أبي الفضل أَحْمد بن عليّ بن حجر العسقلانِي (ت: 852 هـ). دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، الدّكن، الهند. ط 1، 1388 هـ. 32 - الأنساب. لأبي سعد عبد الكريم بن محمّد بن منصور السّمعانِي، (ت 562 هـ). اعتَنَى بتصحيحه والتّعليق عليه: الشّيخ عبد الرّحمن بن يَحيَى المعلمي. مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية. حيدر آباد، الدّكن. ط 1، 1386 هـ. 33 - الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويّين: البصريّين والكوفيّين. لأبِي البركات، عبد الرّحمن بن محمّد الأنباري (ت 577 هـ). دار
الجيل، (د. ط) 1982 م. 34 - الأنموذج في النّحو. لأبي القاسم؛ جار الله: محمود بن عمر الزّمحشريّ (ت 538 هـ). اعتَنَى به وطبعه: سامى بن حمد المنصور. ط 1. 1420 هـ. 35 - أنوار الرَّبيع في أنواع البديع. لابن معصوم عليّ بن أَحْمد (ت 1119 هـ). تحقيق: شاكر هادي شكر. مطبعة النّعمان، النّجف، العراق، ط 1، 1388 هـ. 36 - أوربا في العصور الوسطى. د. سعد عاشور. مكتبة الأنجلو المصرية. القاهرة. ط 6، 1975 م. 37 - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك. لأبي محمّد؛ عبد الله: جمال الدِّين بن هشام الأَنْصاريّ (ت 761 هـ)، ومعه كتاب: عدّة السّالك إلى تحقيق أوضح المسالك. لمحمّد محيي الدِّين عبد الحميد. المكتبة العصريّة، بيروت. طبعة جديدة منقّحة، 1419 هـ. 38 - إيران ماضيها وحاضرهما. دونالدو لبر، ترجمة: د. عبد المنعم محمّد حسنين. مكتبة مصر، القاهرة، 1377 هـ. 39 - إيضاح شواهد الإيضاح. لأبِي عليّ الحسن بن عبد الله القيسيّ (من علماء القرن السّادس). دراسة وتحقيق: د. محمّد بن حمود الدّعجانِيّ. دار الغرب الإِسلاميّ، بيروت. ط 1، 1408 هـ. 40 - الإيضاح العضديّ. لأبِي عليّ بن الحسن بن أَحْمد الفارسيّ (ت 377 هـ). تحقيق: د. حسن شاذليّ فرهود. دار العلوم، ط 2، 1408 هـ. 41 - الإيضاح في شرح المفصّل. لأبي عمرو، عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب النَّحويّ (ت 646 هـ). تحقيق وتقديم: د. موسى
بناي العليليّ. إحياء التّراث الإِسلامي بوزارة الأوقاف والشّؤون الدِّينية (د. ط)، (د. ت). 42 - الإيضاح في علوم البلاغة. للخطيب القزويني (ت 739 هـ). شرح وتعليق وتنقيح: د. محمّد عبد المنعم خفاجي. مكتبة الكلّيّات الأَزْهَريّة. القاهرة. ط 2. 43 - الأيوبيّون والمماليك في مصر والشّام. د. سعيد عاشور. دار النّهضة العربيّة، القاهرة، 1998 م. 44 - البحر المحيط. لأبِي حيّان الأندلسيّ. طبعة دار الفكر للطّباعة والنّشر، بيروت. ط 2، 1403 هـ. 45 - بدائع الزّهور في وقائع الدّهور. لمحمّد بن أحمد بن إياس الحنفي المصريّ (ت 930 هـ). مطابع الشّعب، 1960 م. 46 - البداية والنّهاية. لأبي الفداء الحافظ ابن كثير الدّمشقي (ت 774 هـ). تحقيق: أَحْمد عبد الوهّاب فتيح. دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1414 هـ. 47 - البدر الطّالع بمحاسن مَن بعد القرن السّابع. لشيخ الإِسلام محمّد بن عليّ الشّوكانِي (ت 1250 هـ). نشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة، (د. ط)، (د. ت). 48 - البديع في نقد الشّعر. لأسامة؛ بن منقذ (ت 584 هـ). تحقيق: د. أَحْمد محمّد بدوي ود. حامد عبد الحميد. مطبعة البابِيّ الحلبِيّ، القاهرة، 1380 هـ. 49 - البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن. لكمال الدِّين عبد الواحد بن عبد الكريم الزّملكانِيّ (ت 651 هـ). تحقيق: أَحْمد مطلوب ود. خديجة الحديثِي. مطبعة العاني، بغداد. ط 1، 1394 هـ.
50 - البرهان في علوم القرآن. لبدر الدِّين محمّد بن عبد الله الزّركشي. تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم. دار المعرفة، بيروت. 51 - البقال. لأبِي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 355 هـ). قدّم له وبوّبه وشرحه: د. عليّ بو ملحم. دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط 1، 1991 م. 52 - بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة. للشّيخ عبد المتعال الصّعيديّ. مكتبة المعارف للنّشر والتّوزيع، الرّياض، طبعة نهاية القرن، 1420 هـ. 53 - بغية الوعاة في طبقات اللّغويّين والنّحاة. لجلال الدِّين عبد الرّحمن السّيوطيّ (ت 911 هـ). تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم. طبعة عيسى البابِيّ وشركاه، ط 1، 1384 هـ. 54 - البلاغةُ القرآنية في تفسر الزّمخشري وأثرها في الدِّراسات البلاغيّة. د. محمّد محمّد أبو موسى. مكتبة وهبة، القاهرة، ط 2، 1408 هـ. 55 - البلاغة المفترى عليها بين الأصالة والتّبعيّة. أ. د فضل حسن عبّاس. دار الفرقان للنّشر والتّوزيع، عمّان، الأردن، ط 2، 1420 هـ. 56 - بهجة المجالس وأنس المجالس. ليوسف بن عبد الله بن عبد البَرّ القرطبِيّ (ت 463 هـ). تحقيق: محمّد موسى الخولي، ود. عبد القادر القط. طبع: الدّار المصريّة للتأليف والتّرجمة. 57 - بيان المختصر، شرح مختصر ابن الحاجب. لشمس الدِّين محمود بن عبد الرّحمن الأَصبهانِيّ (ت 749 هـ). تحقيق: د. محمّد مظهر بقا. مركز البحث العلمي وإحياء التّراث الإِسلامي في جامعة أمّ القرى. ط 1، 1406 هـ.
58 - البيان والتّبيين. لأبِي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ). تحقيق وشرح: عبد السّلام محمّد هارون. مؤسسّمة الخانجيّ. القاهرة، ط 3، (د. ت). 59 - تاج العروس من جواهر القاموس. للسّيّد مرتضى الحسينِي الزّبيديّ (ت 1205 هـ). تحقيق: عبد العليم الطّحاويّ. مراجعة محمّد بهجت الأثري وعبد السّتّار أَحْمد فرّاج. مطبعة حكومة الكويت 1387 هـ. 60 - تاريخ آداب اللّغة العربيّة. جرجي زيدان. مراجعة د. شوقي ضيف. دار الهلال (د. ط) (د. ت). 61 - تاريخ أدبيّات إيران (بالفارسية). د. ذبيح الله صفا. طبعة: طهران، 1353 هـ. 62 - تاريخ الأمم واللوك. لأبي جعفر، محمّد بن جرير الطّبري (ت 310 هـ). تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم. دار سويدان، بيروت (د. ط)، (د. ت). 63 - تاريخ بغداد. لأبي بكر أَحْمد البغدادي (ت 463 هـ). دار الكتاب العربيّ، بيروت (د. ط)، (د. ت). 64 - تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس. لحسين بن محمّد الدّيار بكري. طبع في مصر 1283 هـ. 65 - تاريخ الطّبري = تاريخ الأمم والملوك. 66 - تاريخ وصاف. المعروف - أيضًا بـ: [كتاب تجزية الأمصار وتزجية]. لشرف الدِّين عبد الإله الشيرازيّ، الملقَّب بـ: (وصاف). تحقيق: عبد المجيد آيتِي. طهران. 1346 هـ. فارسي اللّغة.
67 - التّاريخ. خليفة بن خياط (ت 240 هـ). تحقيق: د. أكرم ضياء العمري. دمشق، 1977 م. 68 - التّاريخ. لأحمد بن أبي يعقوب بن جعفر المعروف باليعقوبِيّ (ت 284 هـ). دار صادر، بيروت (د. ط)، 1379 هـ. 69 - التّبيان في البيان. للإمام شرف الدِّين الطّيبِي (ت 743 هـ). تحقيق ودراسة: أ. د. عبد السّتّار زموط. دار الجيل، بيروت، ط 1، 1416 هـ. 70 - تبيين الحقائق شرح كنز الدّقائق. للعلّامة فخر الدِّين عثمان بن عليّ الزّيلَعي الحنفي. دار المعرفة، بيروت، الطّبعة الثّانية (د. ت). 71 - تحرير التّحبير في صناعة الشِّعر والنثر وبيان إعجاز القرآن. لابن أبِي الإِصبع؛ عبد العظيم العدوانِي (ت 654 هـ). د. حفنِي شرف. طبع: المجلس الأعلَى للشّؤون الإِسلامية، القاهرة. 72 - تحفة المريد (شرح جهورة التّوحيد). لإبراهيم بن محمّد البيجوري، (ت 1277 هـ). طبعة دار الكتب العلمية، بيروت. ط 1، 1403 هـ. 73 - تذكرة الحفّاظ. لأبي عبد الله؛ شمس الدِّين محمّد الذّهبِيّ (748 هـ). دار الكتب العلميّة، بيروت، (د. ط)، (د. ت). 74 - تسهيل المنطق. عبد الكريم مراد الأثريّ. مطابع سجل العرب. (ط. د)، (د. ت). 75 - التّعريفات. لعليّ بن محمّد الجرجانِي (ت 816 هـ). حقّقه وقدّم له ووضع فهارسه: إبراهيم الأبياري. دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1413 هـ. 76 - تفسير ابن كثير = تفسر القرآن العظيم. 77 - تفسير الطّبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
78 - تفسير القرآن العظيم. لأبي الفداء، إسماعيل بن كثير القرشيّ الدّمشقيّ (ت 774 هـ). دار المعرفة، بيروت، ط 2، (د. ت). 79 - التّفسير الكبير. للإمام الفخر الرّازيّ (ت 606 هـ). إعداد مكتب تحقيق دار إحياء التّراث العربيّ، دار إحياء التّراث العربِيّ، بيروت، ط 2، 1417 هـ. 80 - تقويم البلدان. لعماد الدِّين بن الملك الأفضل، المعروف بأبِي الفداء، (ت 734 هـ). اعتَنَى بتصحيحه البارون ماك بحوكيه ديسلان. طبع في باريس، سنة 1840 م. 81 - تمهيد الأوائل وتلخيص الدّلائل. للقاضي أبي بكر محمّد بن الطّيّب الباقلانِي (ت 304 هـ). تحقيق: عماد الدِّين أَحْمد حيدر. مؤسسّة الكتب الثّقافية، ط 1، 1407 هـ. 82 - تهذيب تاريخ دمشق. لثقة الدِّين أبو القاسم عليّ بن الحسن المعروف بابن عساكر (ت 571 هـ). هذّبه ورتّبه: الشّيخ عبد القادر بدران. دار المسيرة، بيروت، ط 2، 1399 هـ. 83 - توضيح النّحو؛ شرح ابن عقيل وربطه بالأساليب الحديثة والتّطبيق. أ. د. عبد العزيز محمّد فاخر. مطابع الدّار الهندسية. (د. ط)، 1417 هـ. 84 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن. لأبِي جعفر محمّد بن جرير الطّبريّ (ت 310 هـ). تجقيق: محمود محمّد شاكر، ومراجعة أحاديثه: أَحْمد محمّد شاكر. دار المعارف ومكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط 2، (د. ت). 85 - جامع التّواريخ. رشد الدِّين: فضل الله بن عماد الدّولة (ت 718 هـ). نقله من الفارسية الأستاذ محمّد صادق نشأت وآخرون. القاهرة، 1960 م.
86 - الجامع الصّحيح. للإمام الحافظ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إسماعيل البُخَارِيّ (ت 256 هـ). عالم الكتب، بيروت، ط 2، 1402 هـ. 87 - الجامع الصّحيح (سنن التّرمذي). لأبي عيسى محمّد بن عيسى التّرمذي (ت 279 هـ). تحقيق وشرح: أَحْمد شاكر وغيره. طبع: مصطفى البابِيّ الحلبِيّ، القاهرة، ط 2، 1398 هـ. 88 - الجامع لأحكام القرآن. لأبي عبد الله محمّد بن أَحْمد القرطُبِيُّ (ت: 671 هـ). اعتَنَى به وصحّحه: هشام البخاريّ. دار إحياء التّراث العربِيّ، بيروت، ط 1، 1416 هـ. 89 - الجرح والتّعديل. لعبد الرّحمن بن أبي حاتم الرّازيّ (ت 327 هـ). تحقيق: عبد الرّحمن المعلّمي اليماني. حيد آباد، 1373 هـ. 90 - جمهرة الأمثال. لأبي هلال الحسن بن عبد الله العسكري (ت 395 هـ). ضبطه وكتب هوامشه ونسّقه: د. أَحْمد عبد السّلام. خرّج أحاديث: أبو هاجر محمّد زغلول. دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1408 هـ. 91 - جمهرة أنساب العرب. لأبي محمّد عليّ بن أحمد الأندلسيّ (ت 456 هـ). تحقيق: عبد السّلام هارون، دار المعارف، القاهرة، ط 5، (د. ت). 92 - الجنيّ الدّانِيّ في حروف المعانِيّ. صنعة الحسن بن قاسم المراديّ (ت 749 هـ). تحقيق: د. فخر الدِّين قبادة، والأستاذ محمّد نديم. نشر: دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 2، 1403 هـ. 93 - الجوهر الثّمين في سير الخلفاء والملوك والسّلاطين. لإبراهيم بن محمّد، المعروف بابن دقمان (ت 809 هـ). تحقيق: سعيد عاشور، ومراجعة: د. أَحْمد السّيّد دراج. طبع: مركز البحث العلمي وإحياء التّراث بجامعة أمّ القرى (د. ط)، (د. ت).
94 - حاشية ابن عابدين = ردّ المحتار على الدّر المختار. 95 - حدائق السِّحر في دقائق الشّعر. لرشيد الدِّين الوطواط (ت 573 هـ). تعريب: إبراهيم الشّواربِيّ. طبع: لجنة التّأليف والترجمة، والنّشر 1364 هـ. 96 - الحركة الصّليبيّة. د. سعد عاشور. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة. ط 2، 1971 م. 97 - حسن التّوسّل إلى صناعة التّرسّل. لشهاب الدِّين محمود الحلبِي (ت 725 هـ). تحقيق ودراسة: د. أكرم عثمان يوسف. دار الحريّة، 1980 م. 98 - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة. لجلال الدِّين السّيوطي. تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة، الحلبِيّ، ط 1، 1967 م. 99 - الحماسة. أبو تمام؛ حبيب بن أوس الطّائيّ (ت 231 هـ). تحقيق: د. عبد الله بن عبد الرّحيم عسيلان. طبع: إدارة الثّقافة والنّشر، جامعة الإِمام محمّد بن سعود الإِسلامية، الرّياض (د. ط)، 1401 هـ. 100 - الحماسة. لأبي عبادة البحتُريّ. اعتَنَى بضبطه وتدوينه: الأب لويس شيخو. دار الكتاب العربِيّ، بيروت، ط 2، 1387 هـ. 101 - الحماسة البصريّة. لصدر الدِّين عليّ بن أبي الفرج بن الحسن البَصْرِيّ (ت 659 هـ). تحقيق: مختار الدِّين أَحْمد. عالم الكتب، بيروت، ط 3، 1403 هـ. 102 - الحيوان. لأبِي عثمان؛ عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ). تحقيق: عبد السّلام هارون. المجمع العلميّ العربِيّ الإسلامِيّ، بيروت، ط 3، 1388 هـ.
103 - خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب. لعبد القادر عمر البغدادي، (ت 1093 هـ). تحقيق: عبد السّلام هارون. الهيئة المصرية العامّة للكتاب. مصر. ط 2، 1979 م. 104 - الخصائص. لأبي الفتح؛ عثمان بن جنّيّ (ت 393 هـ). تحقيق: محمّد عليّ النّجار. عالم الكتب، بيروت، ط 3، 1402 هـ. 105 - خصائص التّراكيب. دراسة تحليليّة لمسائل علم المعانِي. د. محمّد محمّد أبو موسى. نشر: مكتبة وهبة، القاهرة، ط 4، 1416 هـ. 106 - الخطط. لتقيّ الدِّين أَحْمد بن عليّ بن عبد القادر، المعروف بالقزوينِي، (ت 845 هـ). نشر: دار الكتاب اللّبنانِيّ، بيروت، مصوّرة طبعة بولاق، مصر. 1270 هـ. 107 - دراسات منهجيّة في علم البديع. أ. د الشّحّات محمّد أبو ستيت. دار خفاجي للطّباعة والنّشر. كفر شبين- قليوبية، ط 1، 1414 هـ. 108 - الدّرر الكامنة في أعيان المائة الثّامنة. لشيخ الإِسلام؛ شهاب الدِّين أَحْمد بن عليّ الشّهير بابن حجر العسقلانِي (852 هـ). دار الجيل، بيروت، (د. ط)، (د. ت). 109 - دلائل الإعجاز. لعبد القاهر بن عبد الرّحمن الجرجانِيّ (ت 471 هـ). قرأه وعلّق عليه محمود محمّد شاكر. مطبعة المدنِيّ، القاهرة، ط 3، 1413 هـ. 110 - دلائل الإعجاز. للإمام عبد القاهر الجرجانِي (ت 471 هـ). تعليق وشرح: محمّد عبد المنعم خفاجي. نشر: مكتبة القاهرة، مصر. 1396 هـ.
111 - الدّليل الشّافي على المنهل الصّافي. لجمال الدِّين بن تغري بردي (ت 874 هـ). تحقيق وتقديم: فهيم محمّد سلتوت. مكتبة الخانجي، القاهرة. 112 - دمية القصر وعصرة أهل العصر. لأبِي الحسن، عليّ بن الحسن الباخرزيّ (ت 467 هـ). تحقيق: محمّد التونجيّ، حلب، 1349 هـ. 113 - الدّول الإِسلامية. ستانلي لين بول. نقل من التّركية إلى العربية مُحَمَّد صبيحي مرزات. أشرف على التّرجمة محمَد أَحْمد دهمان. نشر: مكتب الدّراسات الإِسلامية، بدمشق، مطبعة الفلاح، دمشق 1394 هـ. 114 - ديوان ابن الدُّمينة. أبو السّريّ؛ عبد الله بن عبد الله (ت 130 هـ). تحقيق: أَحْمد راتب النّفاح. مطبعة المدنِي، مصر. (د. ط)، 1378 هـ. 115 - ديوان ابن الرّومِيّ. تحقيق: د. حسين نصّار. مطبعة دار الكتب المصريّة، القاهرة. (د. ط)، 1977 م. 116 - ديوان أبِي تمام. بشرح الخَطيب التّبريزِي. تحقيق: محمَد عبده عزّام. دار المعارف. (د. ط) 1964 م. 117 - ديوان أبِي النّجم العجليّ. صنعه وشرحه: علاء الدِّين أغا. طبع: النّاديّ الأدبِيّ بالرّياض، (د. ط)، 1401 هـ. 118 - ديوان امرؤ القيس. تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم. دار المعارف، القاهرة، ط 5، (د. ت). 119 - ديوان البحتُريّ. عُنِي بتحقيقه وشرحه والتّعليق عليه: حسن كامل الصّيرفيّ. دار المعارف، القاهرة، ط 3، (د. ت). 120 - ديوان بشّار بن برد. جمع وتحقيق: مُحَمَّد الطّاهر عاشور. الشرّكة التّونسيّة للتّوزيع، الشّركة الوطنيّة للنّشر والتّوزيع، الجزائر، 1396 هـ.
121 - ديوان حسّان بن ثابت. تحقيق: د. سيد حفنِي حسنين. الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة. (د. ط)، 1394 هـ. 122 - ديوان الحماسة: لأبي تمام حبيب بن أوس الكافي. شرح العلّامة التّبريزيّ. مكتبة النّوريّ، دمشق. 123 - ديوان الخوارج. جمعه وحقّقه: د. نايف محمّد معروف. دار. 124 - المسيرة (د. ط)، 1403 هـ. 125 - ديوان ديك الجنّ. عبد السّلام بن رغيان الكلبِيّ (ت 235 هـ). جمع: عبد المعين الملوحيّ، ومحيّي الدِّين الدّرويش. مطبعة سوريا 1950 م. 126 - ديوان الصّاحب بن عبّاد. تحقيق: محمّد حسن آل ياسين. طبع بغداد، ط 1، 1384 هـ. 127 - ديوان الصَّنَوبَرِيّ (ت 334 هـ). تحقيق: د. إحسان عبّاس. دار الثّقافة، بيروت، 1970 م. 128 - ديوان عبد الله بن المعتَزّ. طبعه وحلّ غريبَه: الشّيخ محيّي الدِّين الخيّاط. المكتَبة العربيّة، دمشق. (د. ط)، 1371 هـ. 129 - ديوان عبيد الله بن قيس الرّقيات. تحقيق وشرح: د. محمّد يوسف نجم. دار صادر، بيروت. 1958 م. 130 - ديوان العجّاج. رواية عبد الملك بن قريب الأصمعيّ وشرحه. تحقيق: عبد الحفيظ السّلطيّ. توزيع ونشر: مكتبة أطلس، دمشق، 1971 م. 131 - ديوان عديّ بن الرّقاع العامليّ. جمع وتحقيق ودراسة: د. الشرّيف عبد السّلام البركانِيّ. المكتبة الفيصليّة، مكّة المكرّمة، 1406 هـ. 132 - ديوان عليّ بن الجهم. عُنِيَ بتحقيقه: خليل مردم بك. منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت. ط 2، 1400 هـ.
133 - ديوان الفرزدق. قدّم له وشرحه محيد طراد. دار الكتاب العربيّ، بيروت. ط 1، 1412 هـ. 134 - ديوان القتّال الكلابِي. تحقيق: إحسان عبّاس. دار الثّقافة، بروت، ط 1، 1381 هـ. 135 - ديوان القطامِيّ. تحقيق: د. إبراهيم السّامرّائي، ود. أَحْمد مطلوب. دار الثّقافة، بيروت، 1960 م. 136 - ديوان قيس بن الخطيم. حقّقه وعلق عليه: ناصر الدِّين الأسد. مكتبة دار العروبة، القاهرة، ط 1، 1381 هـ. 137 - ديوان قيس بن الملوّح. شرح الشيخ عبد المتعال الصّعيديّ. مكتبة القاهرة، القاهرة، ط 2، (د. ت). 138 - ديوان كثير عزّة. تحقيق: إحسان عبّاس. نشر وتوزيع: دار الثّقافة، بيروت. (د. ط)، 1971 م. 139 - ديوان لبيد بن ربيعة العامريّ. دار صادر، بيروت، (د. ط)، و (د. ت). 140 - ديوان المتَنَبِّيّ. بشرح عبد الرّحمن البرقوقيّ. دار الكتاب العربيّ، بيروت، (د. ط)، 1407 هـ. 141 - ديوان المعانِي. لأبي هلال العسكريّ. مكتبه القدس، مصر، (د. ط)، 1352 هـ. 142 - ديوان الهذليّين. نشر: الدّار القوميّة للطباعة والنّشر. المكتبة السّلفية، المدينة المنوّرة. (د. ط)، 1385 هـ. 143 - الذّيل على الرّوضتين. (تراجم رجال القرنين: السّادس والسّابع). لشهاب الدِّين؛ أبِي مُحَمَّد، عبد الرّحمن بن إسماعيل، المعروف بأبِي
شامة المقدسيّ (ت 665 هـ). تصحيح: محمّد زاهد الكوثريّ. دار الجليل، بيروت، ط 2، 1974 م. 144 - الذّيل على العبر في خبر مَن عبر. لوليّ الدِّين أبي زرعة أَحْمد بن عبد الرّحمن بن الحسين بن العراقي (ت 826 هـ). حقّقه وعلّق عليه: صالح مهدي عباس. مؤسّسة الرّسالة، بيروت، ط 1، 1409 هـ. 145 - ردّ الحتار. لخاتمة المحقّقين محمّد أمين الشّهير بابن عابدين على الدّر المحتار. شرح تنوير الأبصار. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابِيّ الحلبِيّ وأولاده، مصر، ط 2، 1386 هـ. 146 - الرّدود والنّقود. لشمس الدِّين محمّد بن يوسف الكرمانِي. مخطوط بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإِسلامية تحت رقم: (8887). 147 - رسائل الجاحظ. لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 355 هـ). تحقيق وشرح: عبد السّلام هارون. دار الجيل، بروت، ط 1، 1411 هـ. 148 - روضة الطّالبين. للإمام أبي زكريا؛ يحيَى بن شرف النّوويّ الدّمشقيّ (ت 676 هـ). المكتب الإِسلاميّ، (د. ط)، (د. ت). 149 - روضة النّاظر وجُنّة المناظر. لشيخ الإِسلام موفّق الدِّين ابن قدامة المقدسيّ (ت 620 هـ). تحقيق: د. عبد الكريم بن عليّ النّملة. مكتبة الرّشيد، الرّياض، ط 5، 1417 هـ. 150 - زهر الآداب وثمر الألباب. لأبِي إسحاق الحصريّ (ت 453 هـ). تحقيق: عليّ محمّد البجاويّ، عيسى البابِيّ الحلبِيّ وأولاده، ط 2، (د. ت). 151 - سرُّ الفصاحة. للأمير أبِي محمّد عبد الله بن سنان الخفاجِيّ (ت 466 هـ). دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 1، 1402 هـ.
152 - سرج العيون في شرح رسالة ابن زيدون. لجمال بن نيابة المصري، (ت 768 هـ). تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، نشر: دار الفكر. 1383 هـ. 153 - سلّم الوصول لشرح نهايه السّؤل. لمحمّد بخيت المطيعي. عالم الكتب، بيروت. 154 - السّلوك لِمعرفة دول الملوك. أَحْمد بن عليّ المقريزيّ (ت 845 هـ). صحّحه ووضع حواشيه: محمّد مصطفى زيادة. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنّشر، القاهرة، ط 2، 1957 م. 155 - سقط الزّند. لأبي العلاء المعرّي (ت 449 هـ). دار صادر للطّباعة والنّشر، دار بيروت للطّباعة والنّشر، بيروت، 1383 هـ. 156 - سمط اللآلئ في شرح آمالي القالي. للوزير أبي عبيد البكريّ، تحقيق: عبد العزيز الميمنِيّ. دار الحديث، بيروت، ط 1404، 2 هـ. 157 - السّنن. لأبي داود سليمان بن الأشعث السّجستانِي (ت 275 هـ). إعداد وتعليق: عزت عبيد الدّعّاس، وعادل السّيّد. دار الحديث، بيروت، ط 1، 1388 هـ. 158 - السّنن. لأبي عبد الله محمّد بن يزيد القزوينِي (ت هـ 27 هـ). تحقيق وتعليق: محمّد مدّاد عبد الباقي. المكتبة العلميّة، بيروت، (د. ط) (د. ت). 159 - السّنن. لأبي عبد الرّحمن أَحْمد بن شعيب النّسائي (ت 303 هـ)، مع شرح جلال الدِّين السّيوطيّ، وحاشية الإِمام السّندي. اعتَنَى به ورقّمه ووضع فهارسَهُ: عبد الفتّاح أبو غدّة. مكتب المطبوعات الإسلاميّة، حلب، بيروت، ط 2، 1409 هـ. 160 - سنن التّرمذيّ = الجامع الصّحيح.
161 - سنن الدّارميّ. للإمام الحافظ عبد الله بن عبد الرّحمن السّمرقنديّ الدّارمِيّ (ت 255 هـ)، حقّقه وخرّج أحاديثه وفهرسه: فوّاز أَحْمد زمزلي وخالد القلمِيّ. دار الرّيّان للتّراث، القاهرة، ط 1، 1407 هـ. 162 - سير أعلام النّبلاء. للإمام شمس الدِّين محمّد بن أَحْمد بن عثمان الذّهبِيّ (ت 748 هـ). تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون. مؤسّسة الرّسالة، بيروت، ط 9، 1413 هـ. 163 - شذور الذّهب في معرفة كلام العرب. لابن هشام الأَنْصَارِيّ (ت 761 هـ) مع الشّرح. المكتبة العصريّة، صيدا، بيروت، ط 1416 هـ. 164 - شذرات الذّهب في أخبار مَن ذهب. لأبي الفلاح عبد الحيّ العماد الحنبلي (ت 1089 هـ). المكتب التّجاري للطّباعة والنّشر والتّوزيع، بروت، (د. ط)، (د. ت). 165 - شرح ابن عقيل. لقاضي القضاة بهاء الدِّين عبد الله بن عقيل العقيلي (ت 769 هـ). المكتبة العصريّة، صيدا، بيروت، (د. ط)، 1419 هـ. 166 - شرح الأشمونِيّ على ألفية ابن مالك المُسَمَّى: منهج السّالك إلى ألفية ابن مالك. حقّقه: محمّد محيّي الدِّين عبد الحميد. دار الكتاب العربيّ، بروت، ط 1، 1375 هـ. 167 - شرح التّنوير على سقط الزّند. لأبي يعقوب يوسف بن طاهر (549 هـ). المطبعة الاعلاميّة، مصر، (د. ط)، 1303 هـ. 168 - شرح جمل الزّجَاجِيّ. لابن عصفور الإشبيليّ (ت 669 هـ). تحقيق: صاحب أبو جناح. الجمهورية العراقية، وزارة الأوقاف والشّؤون الدِّينية، إحياء التّراث الاسلاميّ. (د. ط)، 1402 هـ. 169 - شرح ديوان أبِي العتاهية. دار التّراث، بيروت، (د. ط)، 1389 هـ.
170 - شرح ديوان الحماسة. الخَطيب التّبريزيّ. عالم الكتب، بيروت، (د. ط)، (د. ت). 171 - شرح ديوان الحماسة. لأبِي عليّ أَحْمد بن مُحَمَّد المرزوقيّ (ت 421 هـ). نشره: أَحْمد أمين، عبد السّلام هارون. لجنة التّأليف والتّرجمة والنشر، القاهرة، ط 2، 1388 هـ. 172 - شرح ديوان زهير. للإمام أبي العباس أَحْمد بن يَحيَى بن زيد الشّيبانِي ثعلب. الدّار القومية للطّباعة والنّشر، القاهرة، (د. ط)، 1384 هـ. 173 - شرح شذور الذّهب في معرفة كلام العرب. لابن هشام الأَنْصَارِيّ (ت 761 هـ). ومعه كتاب: (منتهى الأرب بتحقيق شرح شذور الذّهب)؛ لمحيّي الدِّين عبد الحميد. المكتبة العصرية، بيروت، ط 1، 1416 هـ. 174 - شرح شواهد المغنِي. لجلال الدّين عبد الرّحمن بن أبي بكر السّيوطيّ (ت 911 هـ). اعتَنَى بتصحيحه: محمّد محمود الشّنقيطي. المطبعة البهية، مصر. 175 - شرح الصّوليّ لديوان أبي تمام. دراسة وتحقيق: د. خلف رشيد نعمان. منشورات وزارة الأعلام، 1977 م. 176 - شرح العضد الإيجِيّ على مختصر ابن الحاجب (ضمن عدّة حواشي على شرح العضد). مراجعة وتصحيح: د. شعبان محمّد إسماعيل. مكتبة الكلّيّات الأزهريّة، القاهرة، (د. ط)، 1403 هـ. 177 - شرح القعيدة الطّحاوية. للعلّامة ابن أبِي العزّ الحنفيّ. حقّقها وراجعها: جماعةٌ من العلماء، خرّج أحاديثَها: محمّد ناصر الدِّين الألبانِي. المكتب الإِسلامي، بيروت، ط 5، 1399 هـ.
178 - شرح العقيدة الواسطيّة. د. صالح بن فوزان الفوزان. مكتبة المعارف للنّشر والتّوزيع. الرّياض، 6، 1413 هـ. 179 - شرح الفوائد الغياثيّة (مخطوط). مجهولُ المؤلِّف. تركيا. 180 - شرح الفوائد الغياثيّة من علمِي المعانِي والبيان. للمولى أبي الخير. عصام الدِّين طاشكبرى زاده. (د. ط)، (د. ت). 181 - شرح قطر النَّدَى وبلّ الصّدى. لأبي عبد الله جمال الدِّين بن هشام (ت 761 هـ). حققه وشرحه وأعرب شواهده: محمّد خير طعمه حلبِيّ. دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1418 هـ. 182 - شرح الكافية الشّافية. للعلّامة جال الدِّين أبِي عبد الله محمّد بن عبد الله بن مالك (ت 672 هـ). حقّقه وقدّم له: د. عبد المنعم أَحْمد هريري. نشر: دار المأمون للتّراث، (د. ط)، (د. ت). 183 - شرح الكافية في النّحو. لجمال الدِّين بن عمر عثمان بن عمر، المعروف بابن الحاجب (ت 646 هـ). دار الكتب العلميّة، لبنان، بيروت (د. ط)، 1415 هـ. 184 - شرح المعلّقات السّبع. للقاضي حسين بن أَحْمد الزّوزنِيّ. تحقيق وتعليق: يوسف عليّ بديويّ. دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 1، 1410 هـ. 185 - شرح المفصّل. لموفّق الدِّين بن يعيش النّحويّ (ت 643 هـ). مكتبة المثَنَّى، القاهرة، (د. ط)، (د. ت). 186 - شرح منهاج الطّالبين. لجلال الدّين محمّد بن أَحْمد المحلّى (ت 864 هـ) شركة ومطبعة أَحْمد سعد نبهان وأولاده، ط 4، 1394 هـ.
187 - شعر تأبّط شرًّا. دراسة وتحقيق: سلمان داود القرّة غولي، ورجب شعبان جاسم. مطبعة الآداب، النّجف، ط 1، 1393 هـ. 188 - شعر عبده بن الطّبيب. د. يحيَى الجبوريّ. دار التّربية (د. ط) 1391 هـ. 189 - شعر عليّ بن جبلة. تحقيق: حسين عطوان. طبع: دار المعارف، القاهرة. 195 - شعر مروان بن أبي حفصة. تحقيق: حسين عطوان. دار المعارف، مصر، 1973 م. 191 - شعر اليزيديّين. جمع وتحقيق: د. محسن غياض. مطبعة النّعمان، النّجف. (د. ط)، (د. ت). 192 - الشّعر الشّعراء. لأبي محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ). تحقيق وشرح: أَحْمد محمّد شاكر. دار المعارف، القاهرة (د. ط)، (د. ت). 193 - الشّعر والشّعراء. لأبي محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ). عالم الكتب، بيروت، ط 3، 1404 هـ. 194 - شهاب الدِّين الخفاجِيّ وجهوده في اللّغة. إعداد الطّالب: عبد الرّزّاق فراج دخيل الحربيّ. رسالة أعدّت لنيل درجة الماجستير. ونوقشت بالجامعة الإِسلامية عام 1412 هـ. 195 - الصّاحبِيّ في فقه اللّغة وسنن العرب في كلامها. لأبي الحسن أَحْمد بن فارس. تحقيق: أَحْمد صقر. مطبعة عيسى البابِيّ. 196 - صبح الأَعمش في صناعة الإنشا. لأبي العبّاس؛ أَحْمد بن عليّ القلقشندي (ت 821 هـ) الهيئة المصرية العامّة للكتاب (د. ط) 1405 هـ. 197 - الصّحاح (تاج اللّغة وصحاح العربية). لأبي نصر؛ إسماعيل بن حمّاد الجوهريّ (ت 398 هـ). دار إحياء التّراث العربِيّ، بيروت. 198 - صحيح البُخَارِيّ = الجامع الصّحيح.
199 - صحيح مسلم. لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيريّ (ت 261 هـ). تحقيق وتعليق: محمّد فؤاد عبد الباقي. مطبعة دار إحياء الكتب العربية، بيروت، (د. ط)، (د. ت). 200 - الصّناعتين: الكتابة والشّعر. لأبي هلال الحسن بن عليّ بن سهل العسكريّ (ت 395 هـ). حقّقه وضبط نصَّه: د. مفيد قميجة. دار الكتب العلمية، لبنان، ط 2، 1404 هـ. 201 - الضّوء اللامع لأهل القرن التاسع. لشمس الدِّين محمّد بن عبد الرّحمن السّخاوي. منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت. 202 - الطّبقات. لأبي عمرو؛ خليفة بن خياط العصفريّ (ت: 240 هـ). تحقيق وتقديم: د. أكرم ضياء العُمريّ. دار طيبة للنّشر والتّوزيع، الرّياض، ط 2، 1402 هـ. 203 - طبقات الشّافعية. لجمال الدِّين؛ عبد الرّحيم الأسنويّ (772 هـ). تحقيق: عبد الله الجبوريّ. دار العلوم للطّباعة والنّشر، الرّياض، المملكة العربيّة السّعوديّة، (د. ط) 1400 هـ. 204 - طبقات الشافعية. لأبي بكر بن أحمد بن تقيّ الدِّين ابن قاضي شهبة الدِّمشقي (ت 851 هـ). اعتَنَى بتصحيحه وعلّق عليه: د. الحافظ عبد العليم خان، ورتّب فهارسَه: د. عبد الله أنيس الطّبّاع. عالم الكتب، ط 1، 1407 هـ. 205 - طبقات الشّافعية الكبرى. لتاج الدِّين أبي نصر عبد الوهّاب السّبكيّ (ت 771 هـ). تحقيق: عبد الفتّاح محمّد الحلو، ومحمود محمّد الطّناحيّ. مطبعة عيسى البابِيّ الحلبِيّ وشركاه. (د. ط)، (د. ت).
206 - طبقات الشّعراء. لعبد الله بن المعتزّ (ت 296 هـ). تحقيق: عبد السّتّار أحمد فرّاج. دار المعارف، القاهرة، ط 4، (د. ت). 207 - طبقات فحول الشّعراء. لمحمّد بن سلّام الجمحيّ (ت 231 هـ). قرأه وشرحه: أبو فهر محمود محمّد شاكر. مطبعة المدنِيّ، القاهرة، (د. ط)، (د. ت). 208 - الطّبقات الكبرى. لمحمّد بن سعد البصريّ (ت 230 هـ). دار صادر، بيروت، (د. ط)، 1405 هـ. 209 - طبقات المفسّرين. للحافظ شمس الدِّين محمّد بن عليّ الدّاوديّ (ت 945 هـ). تحقيق: عليّ محمّد عمر. نشر: مكتبة وهبه. مصر. ط 1، 1392 هـ ـ 210 - طبقات النّحويّين واللّغويّين. لأبِي بكر محمّد بن الحسن الزّبيدي الأندلسي. تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم. دار المعارف. ط 3، (د. ت). 211 - العبر في خبر مَن غَبر. لشمس الدِّين محمّد بن أحمد الذّهبِي (748 هـ). تحقيق: أبو هاجر محمّد السّعيد زغلول. دار الكتب العلمية. بيروت. ط 1، 1405 هـ. 212 - العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر ومَن عاصرهم مِن ذوي السّلطان الأكبر. لعبد الرّحمن بن محمّد بن خلدون (ت 808 هـ). دار الكتاب اللّبنانِيّ، لبنان. 213 - عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح. لبهاء الدِّين السّبكيّ (ت 773 هـ). ضمن شروح (التّلخيص). دار الكتب العلميّة، بيروت، (د. ط)، (د. ت).
214 - العقد الفريد. لأبِي عمر؛ أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسيّ (ت 327 هـ). شرحه وضبطه: أحمد أمين وآخرون. مطبعة لجنة التّأليف والترحمة والنشر، القاهرة، ط 3، 1384 هـ. 215 - عقود الجمان في المعانِي والبيان. لجلال الدِّين عبد الرحمن محمّد السّيوطيّ (ت 911 هـ). بشرح العلّامة عبد الرّحمن بن عيسى بن مرشد العمري المعروف بالمرشديّ. مطبعة مصطفى البابِي الحلبِي وأولاده. مصر، ط 2، 1374 هـ. 216 - العقيدة الواسطية. لشيخ الاسلام أحمد بن تيمية (728 هـ). (مع شرح الفوزان). مكتبة المعارف للنّشر والتّوزيع، الرّياض، ط 6، 1413 هـ. 217 - علم المعانِي. د. عبد العزيز عتيق. دار النّهضة العربيّة للطّباعة والنّشر، بيروت، (د. ط)، 1405 هـ. 218 - العمدة في صناعة الشِّعر ونقده. لأبي على الحسن بن رشيق القيروانِيّ (ت 463 هـ)، تحقيق وشرح: د. مفيد محمّد قميحة. دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ. 219 - عيار الشّعر. لمحمّد بن أحمد بن طباطبا العلويّ (ت 322 هـ). تحقيق: عبّاس عبد السّتّار. دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 1، 1402 هـ. 220 - عيون الأخبار. لأبي محمّد؛ عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينوري (ت 276 هـ). نسخة مصوّرة عن طبعة دار الكتب، المؤسّسة المصريّة العامّة، القاهرة، (د. ط)، 1383 هـ. 221 - غريب الحديث. لشيخ الإسلام أبي الفرج عبد الرّحمن بن الجوزيّ (ت 597 هـ) وثّق أصولَهُ، وخرّج أحاديثَهُ، وعلّق عليه: د. عبد المعطي أمين قلعجي. دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 1، 1405 هـ.
222 - غريب القرآن وتفسيره. لأبي عبد الرّحمن؛ عبد الله بن يَحيَى اليزيديّ (ت 237 هـ). حقّقه وعلّق عليه: محمّد سليم الحاج. عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 223 - الفائق في غريب الحديث. لأبي القاسم محمود بن عمر الزّمخشري (ت 538 هـ). تحقيق: عليّ البجاويّ ومحمّد أبو الفضل إبراهيم. دار إحياء الكتب العربيّة، القاهرة، ط 1، 1364 هـ. 224 - الفاضل في اللّغة والأدب: لأبي العبّاس محمّد بن يزيد المبرّد. تحقيق: عبد العزيز المَيمَنِيّ. مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1956 م. 225 - فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانِي (ت 852 هـ). تصحيح: عبد العزيز بن باز، ومحبّ الدِّين الخطيب. دار الرّيّان للتّراث، ط 1، 1407 هـ. 226 - فتح القدير الجامع بين فَنَّيِ الرّواية والدّراية من علم التّفسير. لمحمّد بن عليّ الشّوكانِي (ت 1250 هـ). شركة مكتبة ومطبعة البابِي الحلبِيّ وأولاده، مصر، ط 2، 1383 هـ. 227 - فتوح الغيب في الكشف عن قناع الرّيب. للطّيبِيّ (ت 743 هـ). دراسة وتحقيق: من أوّله إلى الآية (117)، من سورة البقرة، رسالة علميّة، تقدّم بها الطّالب / صالح عبد الرّحمن الفائز، إشراف: د. حكمت بشير، ونوقشت عام 1413 هـ. قسم التّفسير، كلّيّة القرآن الكريم، الجامعة الإسلامية. 228 - الفَرق بين الفِرَق. عبد القاهر البغداديّ. نشر وطبع: مؤسّسة نشر الثّقافة الإسلاميّة. القاهرة، 1948 م.
229 - فصل المقال في شرح كتاب الأمثال. لأبي عبيد البكريّ (ت 487 هـ). حقّقه وقدّم له وعلّق عليه: د. إحسان عبّاس، ود. عبد المجيد عابدين. نشر: دار الأمانة ومؤسّسة الرّسالة، بيروت، (د. ط)، 1391 هـ. 230 - فقه اللّغة وأسرار العربيّة. لأبي منصور عبد الملك بن إسماعيل الثّعالبِيّ (ت 430 هـ). منشورات: دار مكتبة الحياة، بيروت، (د. ط)، (د. ت). 231 - الفوائد الغياثيّة في علوم البلاغة. للعلّامة عضد الدِّين الإيجِيّ (ت 756 هـ). دراسة وتحقيق: د. عاشق حسين. دار الكتاب المصريّ، القاهرة، دار الكتاب اللّبنانِيّ، بيروت، ط 1، 1412 هـ. 232 - فوات الوفيات. لمحمّد بن شاكر الكتبِيّ (ت 764 هـ). تحقيق: د. إحسان عبّاس. دار الثّقافة، بيروت، (د. ط)، (د. ت). 233 - فواتح الرّحموت في شرح مسلم الثّبوت. لعبد العليّ محمّد بن نظام الدِّين الأنصاري. طبع: المطبعة الأميريّة ببولاق. مصر، ط 1، 1324 هـ. 234 - الفهرست. لأبي الفرج محمّد بن أبي يعقوب بن النّديم (ت 380 هـ). نشر: دار المعرفة. بيروت، لبنان. 235 - القاموس المحيط. لمجد الدِّين محمّد بن يعقوب الفيروز آباديّ (ت 817 هـ). تحقيق: مكتب تحقيق التّراث في مؤسّسة الرّسالة. دار الرّيّان، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، ط 2، 1407 هـ. 236 - القول البديع في علم البديع: للشّيخ الإمام مرعى بن يوسف الكرمي المقدسي الحنبلي (ت 1033 هـ). دراسة وتحقيق: د. عوض بن معيوض الجميعيّ. دار البشر للطّباعة والنّشر، القاهرة، وتوزيع مكتبة دار التّراث مكّة. 1420 هـ.
237 - الكافي. لموفّق الدِّين أبي محمّد؛ عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي (ت 620 هـ). تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التّركي بالتّعاون مع مركز البحوث والدّراسات الإسلامية، بدار هجر، نشر: هجر للطّباعة والتّوزيع، ط 1، 1418 هـ. 238 - الكافي الشّافي في تخريج أحاديث الكشّاف. للإمام الحافظ أحمد بن حجر العسقلانِي (ت 852 هـ). طبع مستقلّا مع (الكشاف) واليًا له. دار المعرفة، بيروت، (د. ط)، (د. ت). 239 - الكامل. لأبي العبّاس محمّد بن يزيد المبرّد (ت 286 هـ). عارضه بأصوله وعلّق عليه: محمّد أبو الفضل إبراهيم. دار نهضة مصر، القاهرة، (د. ط)، (د. ت). 240 - الكامل في التّاريخ. لأبي الحسن عليّ بن أبي بكر بن الأثير (ت 630 هـ). تحقيق: أبي الفداء عبد الله القاضي. دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 2، 1407 هـ. 241 - كتاب سيبويه: لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (ت 180 هـ). تحقيق وشرح: عبد السّلام محمّد هارون. عالم الكتب، بيروت، ط 3، 140 هـ. 242 - الكشّاف عن حقائق التّنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التّأويل. لأبي القاسم محمود بن عمر الزّمخشري (ت 538 هـ). تحقيق وتخريج: عبد الرّزّاق المهديّ. دار إحياء التّراث العربيّ، ومؤسّسة التّاريخ العربيّ، بيروت، لبنان، ط 1، 1417 هـ. 242 - لسان العرب. لأبِي الفضل، جمال الدِّين ابن منظور الأفريقي (ت 711 هـ). دار صادر، بيروت، ط 1، 1410 هـ.
244 - لطائف اللّطف. للثّعالبِيّ. تحقيق: عمر الأسعد. دار المسيرة، بيروت، ط 1، 1400 هـ. 245 - اللّباب في تهذيب الأنساب: لعز الدِّين بن الأثير الجزريّ (ت 630 هـ). دار صادر، بيروت. 246 - اللّباب في علم الإعراب: لتاج الدِّين محمّد بن أحمد الإسفرائينِي. تحقيق: د. شوقي المصري. مكتبة لبنان ناشرون، ط 1، 1996 م. 247 - اللّمع في الرّدّ على أهل الزّيغ والبدع: لأبِي الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعري (ت 324 هـ). نشر: رتشارد يسوف مكارثي. المطبعة الكاثوليكية. بيروت. 1952 م. 248 - المؤتَلف والمختلف: لأبي القاسم؛ الحسن بن بشر بن يَحيَى (ت 370 هـ). تحقيق: عبد السّتّار أحمد فرّاج. دار إحياء الكتب العربيّة، القاهرة، (د. ط)، 1381 هـ. 249 - المبهج في تفسير أسماء شعراء الحماسة: صنعة: أبِي الفتح بن جنِّيّ (ت 392 هـ). مطبعة التّرقّي، دمشق، 1348 هـ. 250 - المثل السّائر في أدب الكاتب والشّاعر: لضياء الدِّين ابن الأثير. قدّمه وعلّق عليه: د. أحمد الحوفِيّ. ود. بدري طيانة. طبع: نهضة مصر، ط 2، (د. ت). 251 - مجمع الأمثال: لأبي الفضل أحمد بن محمّد الميدانِيّ (ت 518 هـ). تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم. نشر: عيسى الحلبِي وشركاه. القاهرة، (د. ط)، (د. ت). 252 - مجمع البحرين وجوهر الخبرين في شرح البخاري: لتقيّ الدِّين يَحيَى بن محمّد بن يوسف الكرمانِي، المعروف بابن الكرمانِي (ت
833 هـ). مخطوط بمكتبة المخطوطات بمركز البحث العليّ في جامعة أم القرى في مكّة المكرّمة تحت رقم: (128) حديث. 253 - المجموع شرح المهذّب: للنّووي. لكتب الإرشاد، جدّة، المملكة العربيّة السّعوديّة. 254 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: جمع وترتيب عبد الرّحمن بن محمّد بن محمّد بن قاسم النّجديّ. طبع بإشراف الرّئاسة العامّة لشؤون الحرمين الشّريفين. 255 - محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية (الدّول العبّاسية): تأليف: الشّيخ محمّد الخضريّ بك. دار الفكر العربِيّ (د. ط)، (د. ت). 256 - المحصول في علم أصول الفقه: لمحمّد بن عمر بن الحسين الرّازيّ (ت 606 هـ). دار الكتب العلميّة، بيروت. ط 1، 1408 هـ. 257 - مختار الصّحاح. للإمام محمّد بن أبي بكر الرّازيّ (ت 666 هـ). إخراج: دائرة المعاجم في مكتبة لبنان، مكتبة لبنان، بيروت (د. ط)، 1988 م. 258 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية المعطّلة: لمحمّد بن أبي بكر الجوزية. اختصره: محمّد الموصلي. دار الفكر، بيروت. 259 - مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع: لابن خالدين. عني بنشره: بر جشتراسر. المطبعة الرّحمانية. 1934 م. 260 - مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزّمان: لأبِي محمّد عبد الله بن أسعد اليافعِيّ اليَمَنِيّ (ت 768 هـ). نشر: مؤسسّة الأعلمِيّ للمطبوعات، بيروت، ط 2، 1390 هـ.
261 - مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يُعتبر من حوادث الزّمان: لأبي محمّد؛ عبد الله اليافعيّ (ت 768 هـ). دار المعارف النّظاميّة، حيدر آباد الدّكن، الهند، ط 1، 1339 هـ. 262 - مروج الذهب ومعادن الجوهر: لأبي الحسن عليّ بن الحسين المسعودي (ت 346 هـ). تحقيق: محمّد محيّي الدِّين عبد الحميد. نشر: المكتبة التّجاريّة الكبرى، القاهرة، ط 4، 1385 هـ. 263 - المزهر في علوم اللّغة وأنواعها: لجلال الدِّين عبد الرّحمن السّيوطيّ (ت 911 هـ). شرح وضبط وتصحيح: محمّد أحمد جاد المولى، ومحمّد أبو الفضل، وعليّ البجاويّ. دار إحياء الكتب العربيّة، ط 4، 1378 هـ. 264 - المسائل البصريّات: لأبي عليّ الفارسيّ. تحقيق: الدّكتور حسن هنداوي. دار العلم بدمشق، ودار المنارة ببيروت. 1407 هـ. 265 - المستصفى من علم الأصول: لأبي حامد محمّد بن محمّد الغزاليّ الطّوسيّ (ت 505 هـ). تحقيق وتعليق: د. محمّد سليمان الأشقر. مؤسّسة الرّسالة، بيروت، ط 1، 1417 هـ. 266 - المستقصى في أمثال العرب: لأبي القاسم جار الله محمود الزّمخشري (ت 538 هـ). دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 2، 1408 هـ. 267 - مسند الإمام أحمد (ت 241 هـ): أشرف على إصداره: د. عبد المحسن التّركيّ، وشارك في التّحقيق: شعيب الأرنؤط وجماعة. مؤسّسة الرّسالة، بيروت، ط 1، 1414 هـ. 268 - مصابيح المعانِي في حروف المعانِي: لمحمّد بن عليّ الموزعي، المعروف بابن نور الدِّين (ت 825 هـ). دراسة وتحقيق: د. عايض بن نافع بن ضيف الله العمري. دار المنار للطّبع والنشر والتّوزيع. مصر. ط 1، 1414 هـ.
269 - المصباح: للسّيّد الشّريف الجرجانِي. رسالة دكتوراه تقدّم بها الباحث: فريد النّكلاوي لنيل درجة الدّكتوراه في البلاغة والنّقد، مخطوط بكلّيّة اللّغة العربية، جامعة الأزهر. 270 - المطوّل؛ شرح تلخيص المفتاح: لسعد الدِّين مسعود التّفتازانِي الهرويّ. نشر: المكتبة الأزهريّة للتّراث. القاهرة 1330 هـ. 271 - المعارف: لأبي محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ). حقّقه وقدّم له: ثروت عكاشة. مطبعة دار الكتب (د. ط)، (د. ت). 272 - معالم السّنن: للخطابِيّ (ت 388 هـ). [مع كتاب سنن أبي داود]. دار الحديث. بيروت، ط 1، 1388 هـ. 273 - معانِي الحروف: لأبِي الحسن عليّ بن عيسى الرّمانِي (ت 384 هـ). حقّقه وخرّج شواهدَه وعلّق عليه وقدّم له: د. عبد الفتّاح إسماعيل شلبِيّ. دار نهضة مصر للطّبع والنّشّر، القاهرة. 274 - معانِي القرآن: لأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط. تحقيق: د. هدى محمود (ت 215 هـ). مكتبة الخانجيّ بالقاهرة. ط 1، 1411 هـ. 275 - المعانِي الكبير في أبيات الحماسة: لأبي محمّد بن قتيبة. مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدّكن، الهند، ط 1، 1368 هـ. 276 - معاهد التّنصيص على شواهد التّلخيص: لعبد الرّحيم بن أحمد العبّاسي (ت: 963 هـ). تحقيق: محمّد محيّي الدِّين عبد الحميد. عالم الكتب، بيروت (د. ط) 1367 هـ.
277 - المعتمد في أصول الفقه: لمحمّد بن عليّ بن الطّيّب المعتزلِيّ، (ت 436 هـ). تقديم: خليل الميس. دار الكتب العلميّة، بيروت. ط 1، 1403 هـ. 278 - معجم البلاغة العربيه: صنعة: د. بدري طبانة. دار المنارة للنّشر والتّوزيع، جدّة، دار ابن حزم، بيروت، ط 4، 1418 هـ. 279 - معجم البلدان: لأبي عبد الله شهاب الدِّين ياقوت الحمويّ (ت 626 هـ). دار المأمون، دار إحياء التّراث العربِيّ، بيروت، الطّبعة الأخيرة، (د. ت). 280 - معجم الشّعراء: لأبي عبد الله محمّد بن عمران المرزبانِي (ت 384 هـ). صحّحه وعلّق عليه: أ. د. ف. كرنكو. دار الجيل، بيروت، ط 1، 1411 هـ. 281 - معجم ما استُعجم مِن أسماء البلاد والمواضع: لأبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسيّ (ت 487 هـ). تحقيق وضبط: مصطفى السّقا. عالم الكتب، بيروت، ط 3، 1403 هـ. 282 - معجم المؤلّفين، تراجم مصنِّفيِ الكتب العربيّة: لعمر رضا كحّالة. نشر: مكتبة المثنّى، ودار إحياء التّراث العربِيّ، بيروت. 283 - معجم المطبوعات: يوسف إلياس سركيس. مطبعة سركيس، بمصر، 1929 م. 284 - معجم مقاييس اللّغة: لأبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395 هـ). تحقيق وضبط: عبد السّلام محمّد هارون. دار الجيل، بيروت، (د. ط)، (د. ت).
285 - المعرب من الكلام الأعجمِيّ على حروف المعجم: لأبي منصور؛ موهوب بن أحمد بن محمّد الجواليقيّ (ت 540 هـ). حقّق كلماته بإرجاعها إلى أصولها، وذكر معانيها الأصلية، وتتبّع التّغييرات التي طرأت عليها: د. ف. عبد الرّحيم. دار القلم، دمشق، ط 1، 1410 هـ. 286 - معين النّعم ومبيد النّقم: لتاج الدِّين عبد الوهّاب السّبكي (ت 771 هـ). حقّقه وضبطه وعلّق عليه: محمّد عليّ النّجار وآخرون. نشر: مكتبة الخانجيّ بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، طبع دار الكتاب العربي، بمصر. القاهرة، ط 1، 1367 هـ. 287 - مغنِي اللّبيب عن كتب الأعاريب: لجمال الدِّين بن هشام الأنصاري (ت 761 هـ). حقّقه وعلّق عليه: د. مازن المبارك محمّد عليّ حمد الله. دار الفكر، بيروت، ط 5، 1979 م. 288 - المغوّل في التّاريخ: د. فؤاد عبد المعطي الصّيّاد. دار النّهضة العربيّة للطّباعة والنّشر، بيروت، (د. ط)، (د. ت). 289 - مفتاح السّعادة ومصباح السِّيادة في موضوعات العلوم: لأحمد بن مصطفى الشّهيربطاش كبرى زادة. مراجعة وتحقيق: كامل كامل بكري، عبد الوهّاب أبو النّور. دار الكتب الحديثة، القاهرة، (د. ط)، (د. ت). 290 - مفتاح العلوم: للإمام أبي يعقوب، يوسف بن أبي بكر السّكّاكِيّ (ت 626 هـ). ضبط وتعليق: نعيم زرزور. دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 2، 1407 هـ. 291 - مفتاح المفتاح: للعلّامة الشّيرازِيّ. تحقيق ودراسة ونقدًا رسالة دكتوراه مقدّمة إلى كلّيّة اللّغة العربيّة (جامعة الأزهر). إعداد: نزيه عبد الحميد السّيّد فراج، إشراف: د. كامل إمام الخوليّ، 1397 هـ.
292 - المفصّل في صنعة الإعراب: لأبي القاسم محمود بن عمر الزّمخشري (ت 538 هـ). تقديم وتبويب: د. عليّ بو ملحم. دار ومكتبة الهلال، ط 1، 1993 م. 293 - المفضّليّات: للمفضّل الضّبّيّ (ت 178 هـ تقريبًا). تحقيق وشرح: أحمد شاكر، وعبد السّلام هارون. دار المعارف، ط 7، 1983 م. 294 - مقاتل الطّالبيّين: لأبي الفرج؛ عليّ بن الحسين الأصبهانِي (ت 356 هـ) شرح وتحقيق السّيّد أحمد صقر. وهناك طبعة أخرى 1949 م. 295 - المقاصد النّحويّة: للعينِي، بهامش الخزانة. الهيئة المصرية العامّة للكتاب. مصر، ط 2، 1979 م. 296 - مقامات الحريري: لأبي محمّد؛ القاسم بن عليّ الحريري البصري (ت 516 هـ). المكتبة الشّعبية. بيروت. 297 - المقرّب: لعليّ بن مؤمن المعروف بابن عصفور (ت 669 هـ). تحقيق: أحمد عبد السّتّار عبد الله الجبوريّ. مطبعة العانِي، بغداد، (د. ط)، 1972 م. 298 - الملل والنّحل: لأبي الفتح محمّد بن عبد الكريم الشّهرستانِيّ (ت 548 هـ). تحقيق: محمّد سيّد كيلانِيّ. دار المعرفة، بيروت، (د. ط)، (د. ت). 299 - من سمات التّراكيب؛ دراسة تحليلية لمسائل علم المعانِي: أ. د. عبد السّتّار حسين زموط. مطبعة الحسين الإسلاميّة، القاهرة، ط 1، 1413 هـ. 300 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: لأبي الفرج؛ عبد الرّحمن بن محمّد الجوزيّ (ت 597 هـ). طبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدّكن، ط 1، 1358 هـ.
301 - منتهى الوصول والأمل في عِلمِي الأصول والجدل: للإمام جمال الدِّين أبي عمر عثمان بن الحاجب (ت 646 هـ). دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 302 - المنهل الصّافي والمستوفى بعد الوافي: ليوسف بن تغري بردي الأتابكيّ (ت 874 هـ). حقّقه ووضع حواشيه: د. محمّد أمين. 303 - الموازنة بين أبِي تَمّام والبُحتُرِيّ: لأبي القاسم الحسن بن بشير الآمدي، (ت 370 هـ). تحقيق: أحمد صقر. دار المعارف. ط 2، 1392 هـ. 304 - الموازنة بين أبِي تَمّام والبُحتُرِيّ: لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، (ت 370 هـ). تحقيق: السّيّد أحمد صقر. دار المعارف، القاهرة، ط 4، 1402 هـ. 305 - الموازنة بين أبِي تَمّام والبُحتُرِيّ: لأبي القاسم الحسن بن بشير الآمدي، (ت 370 هـ). تحقيق: محمّد محيّي الدِّين عبد الحميد. مطبعة السّعادة 1378 هـ. 306 - الموسوعة الميسّرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصر: إشراف وتخطيط ومراجعة: د. مانع بن حمّاد الجُهَنِي. نشر: دار النّدوة العالميّة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الرّياض، ط 3، عام 1418 هـ. 307 - الموشّح في مآخذ العلماء على الشّعراء في عِدّة أنواع من صناعة الشّعر: لأبِي عبد الله محمّد المرزبانِيّ (ت 384 هـ). تحقيق: عليّ محمّد البجاويّ. دار نهضة مصر، (د. ط)، 1965 م.
308 - نتائج التّحصيل في شرح كتاب التّسهيل: لمحمّد المرابط الدّلانِيّ. تحقيق: مصطفى الصّادق العربِيّ. 309 - النجوم الزّاهرة في ملوك مصر والقاهرة: لجمال الدِّين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردِي الأتابكيّ (ت 874 هـ). نسخة مصوّرة عن طبعة دار الكتب. وزارة الثقافة والإرشاد القومِيّ، المؤسّسة المصريّة العامّة، (د. ط)، (د. ت). 310 - النّحو الوافي، مع ربطه بالأساليب الرّفيعة، والحياة اللّغويّة المتجدّدة: لعبّاس حسن. دار المعارف، مصر، ط 5، (د. ت). 311 - نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزّمان: للخطيب الجوهريّ، عليّ بن داود الصّيرفّي. تحقيق: د. حسن حبش. دار الكتب، (د. ط)، 1970 م. 312 - نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء: لأبي البركات؛ كمال الدِّين الأنباريّ (ت 577 هـ). تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم. دار نهضة مصر للطّبع والنشر، القاهرة، (د. ط)، (د. ت). 313 - النشر في القراءات العشر: لأبِي الخير، محمّد الدّمشقيّ، الشّهير بابن الجزريّ (ت 833 هـ). قدّم له: عليّ الصّبّاغ، وخرّج آياته: زكريا عميرات. دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 1، 1418 هـ. 314 - النقائض. نقائض جرير والفرزدق. نشر: دار الكتاب العربِيّ، بيروت. مطبعة بريل، ليدن، (د. ط)، 1908 - 1909 م. 315 - النّكت في إعجاز القرآن: لأبي الحسن عليّ بن عيسى الرّمّانِيّ (ت 384 هـ) (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن). حقّقها وعلّق عليها: محمّد خلف الله أحمد، ود. محمّد زغلول سلّام. دار المعارف، القاهرة، ط 4، (د. ت).
316 - النّوادر في اللّغة: لأبي زيد الأنصاريّ. تحقيق ودراسة: محمّد عبد القادر أحمد. دار الشّروق، بيروت، القاهرة. ط 1، 1401 هـ. 317 - نهاية الأرب في فنون الأدب: لشهاب الدِّين أحمد بن عبد الوهّاب الّنويريّ (ت 733 هـ). دار الكتب العربيّة، القاهرة (د. ط) 1342 هـ. 318 - نهاية الإيجاز في دارية الإعجاز: للإمام فخر الدِّين محمّد بن عمر بن الحسين الرّازِيّ (ت 606 هـ). تحقيق ودراسة: د. بكري شيخ أمين. دار العلم للملايّين، ط 1، 1985 م. 319 - النّهاية في غريب الحديث والأثر: لمجد الدِّين المبارك بن محمّد الجزريّ بن الأثير (ت 606 هـ). تحقيق: طاهر أحمد الزّاويّ، ومحمود محمّد الطّناحيّ. دار الفكر، بيروت، (د. ط)، (د. ت). 320 - هدية العارفين، أسماء المؤلفين وآثار المصنّفين: لإسماعيل باشا البغداديّ. نشر: مكتبة المتنَبِيّ، بيروت، (د. ط)، 1955 م. 321 - همع الهوامع في شرح جمع الجوامع: للإمام جلال الدِّين السّيوطيّ (ت 911 هـ). تحقيق وشرح: عبد السّلام هارون، د. عبد العال سالم مكرم. دار البحوث العلميّة، الكويت، (د. ط) 1394 هـ. 322 - الوافي بالوفيات: لصلاح الدِّين، خليل بن أبيك الصّفدي. (ت 764 هـ). اعتَنَى به هلموت ريتر. دار النّشر فرانز شتايز بتيسبادن. 381 هـ. 323 - الوساطة بين المُتَنَبِّيّ وخصومه: لعليّ بن عبد العزيز الجرجانِي (ت 392 هـ). تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، عليّ محمّد البجاوي. نشر وطبع: عيسى البابِي الحلبِي وشركاه، مصر، القاهرة، (د. ط)، (د. ت).
324 - وفيّات الأعيان وأنباء الزّمان: لأبي العبّاس، أحمد بن محمّد بن خلّكان (ت 681 هـ). حقّق أصولَهُ وكتب هوامشَهُ: د. يوسف عليّ طويل، د. مريم قاسم طويل. دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 1، 1419 هـ. 325 - يتيمة الدّهر في محاسن أهل العصر: لأبي منصور؛ عبد الملك بن إسماعيل الثّعالبِيّ (ت 429 هـ). تحقيق: محمّد محيّي الدِّين عبد الحميد. دار الفكر، بيروت، ط 2، 1392 م.