تحقيق الآيات البينات في عدم سماع الأموات

ابن الألوسي

الآيات البينات

الآيات البينات في عدم سماع الأموات على مذهب الحنفية السادات تحقيق العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي الطبعة الرابعة

تحقيق أن الموتى لا يسمعون هذا واعلم أن كون الموتى يسمعون أو لا يسمعون إنما هو أمر غيبي من أمور البرزخ التي لا يعلمها إلا الله D فلا يجوز الخوض فيه بالأقيسة والآراء وإنما يوقف فيه مع النص إثباتا ونفيا وسترى المؤلف C تعالى ذكر في الفصل الأول كلام الحنفية في أنهم لا يسمعون وفي الفصل الثاني نقل عن غيرهم مثله وحكى عن غير هؤلاء أنهم يسمعون وليس يهمني أن هؤلاء قلة وأولئك الكثرة فالحق لا يعرف بالكثرة ولا بالقلة وإنما بدليله الثابت في الكتاب والسنة مع التفقه فيهما وهذا ما أنا بصدده إن شاء الله تعالى فأقول: استدل الأولون بقوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} (فاطر: 22) وقوله: {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} (النمل: 80 والروم 52) وأجاب الآخرون بأن الآيتين مجاز وأنه ليس المقصود ب (الموتى) وب (من في القبور) الموتى حقيقة في قبورهم وإنما المراد بهم الكفار الأحياء شبهوا بالموتى " والمعنى من هم في حال الموتى أو في حال من سكن القبر " كما قال الحافظ ابن حجر على ما يأتي في الرسالة (ص 72) فأقول: لا شك عند كل من تدبر الآيتين وسياقهما أن المعنى هو ما ذكره الحافظ C تعالى (1) وعلى ذلك جرى علماء التفسير لا خلاف

(1) وقد بين ذلك بيانا شافيا العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه " أضواء البيان " (6 / 416 - 421) [21]

بينهم في ذلك فيما علمت ولكن ذلك لا يمنع الاستدلال بهما على ما سبق لأن الموتى لما كانوا لا يسمعون حقيقة وكان ذلك معروفا عند المخاطبين شبه الله تعالى بهم الكفار الأحياء في عدم السماع فدل هذا التشبيه على أن المشبه بهم - وهم الموتى في قبورهم - لا يسمعون كما يدل مثلا تشبيه زيد في الشجاعة بالأسد على أن الأسد شجاع بل هو في ذلك أقوى من زيد ولذلك شبه به وإن كان الكلام لم يسق للتحدث عن شجاعة الأسد نفسه وإنما عن زيد وكذلك الآيتان السابقتان وإن كانتا تحدثتا عن الكفار الأحياء وشبهوا بموتى القبور فذلك لا ينفي أن موتى القبور لا يسمعون بل إن كل عربي سليم السليقة لا يفهم من تشبيه موتى الأحياء بهؤلاء إلا أن هؤلاء أقوى في عدم السماع منهم كما في المثال السابق وإذا الأمر كذلك فموتى القبور لا يسمعون. ولما لاحظ هذا بعض المخالفين لم يسعه إلا أن يسلم بالنفي المذكور ولكنه قيده بقوله: " سماع انتفاع " يعني أنهم يسمعون ولكن سماعا لا انتفاع فيه (1) وهذا في نقدي قلب للتشبيه المذكور في الآيتين حيث جعل المشبه به مشبها فإن القيد المذكور يصدق على موتى الأحياء من الكفار فإنهم يسمعون حقيقة ولكن لا ينتفعون من سماعهم كما هو مشاهد فكيف يجوز جعل المشبه بهم من موتى القبور مثلهم في أنهم يسمعون ولكنهم لا ينتفعون من سماعهم مع أن المشاهد أنهم لا يسمعون مطلقا ولذلك حسن التشبيه المذكور في الآيتين الكريمتين فبطل القيد المذكور ولقد كان من الممكن القول بنحو القيد المذكور في موتى القبور لو كان هناك نص قاطع على أن الموتى يسمعون مطلقا إذن لوجب الإيمان به

(1) انظر (ص 45 - 46) من كتاب " الروح " المنسوب لابن القيم C تعالى فإن فيه غرائب وعجائب من الروايات والآراء كما سنرى شيئا من ذلك فيما يأتي: وانظر (ص 87) [22]

والتوفيق بينه وبين ما قد يعارضه من النصوص كالآيتين مثلا ولكن مثل هذا النص مما لا وجود له بل الأدلة قائمة على خلافه وإليك البيان: الدليل الأول: قوله تعالى في تمام الآية الثانية: {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} فقد شبههم الله تعالى - أعني موتى الأحياء من الكفار بالصم أيضا فهل هذا يقتضي في المشبه بهم (الصم) أنهم يسمعون أيضا ولكن سماعا لا انتفاع فيه أيضا أم أنه يقتضي أنهم لا يسمعون مطلقا كما هو الحق الظاهر الذي لا خفاء فيه. وفي التفسير المأثور ما يؤيد هذا الذي نقول فقال ابن جرير في " تفسيره " (21 / 36) لهذه الآية: هذا مثل معناه: فإنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم فسلبهم فهم ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين سلبهم الله أسماعهم بأن تجعل لهم أسماعا وقوله: {ولا تسمع الصم الدعاء} يقول: كما لا تقدر أن تسمع الصم الذين قد سلبوا السمع إذا ولوا عنك مدبرين كذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء الذين قد سلبهم الله فهم آيات كتابه لسماع ذلك وفهمه ثم روى بإسناد الصحيح عن قتادة قال: هذا مثل ضربه الله للكافر فكما لا يسمع الميت الدعاء كذلك لا يسمع الكافر {ولا تسمع الصم الدعاء. .} يقول: لو أن أصم ولى مدبرا ثم ناديته لم يسمع كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما سمع وعزاه في " الدرر " (5 / 114) لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم دون ابن جرير وقد فسر القرطبي (13 / 232) هذه الآية بنحو ما سبق عن ابن جرير وكأنه اختصره منه [23]

فثبت من هذه النقول عن كتب التفسير المعتمدة أن الموتى في قبورهم لا يسمعون كالصم إذا ولوا مدبرين وهذا هو الذي فهمته السيدة عائشة Bها واشتهر ذلك عنها في كتب السنة وغيرها ونقله المؤلف عنها في عدة مواضع من رسالته فانظر (ص 54، 56، 58، 68، 69، 71) وفاته هو وغيره أنه هو الذي فهمه عمر Bهـ وغيره من الصحابة لما نادى النبي A أهل القليب على ما يأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى الدليل الثاني: قوله تعالى: {ذلك الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير. إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبك مثل خبير} . (فاطر 13 و 14) قلت: فهذه الآية صريحة في نفي السمع عن أولئك الذي كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى وهم موتى الأولياء والصالحين الذين كان المشركون يمثلونهم في تماثيل وأصنام لهم يعبدونهم فيها وليس لذاتها كما يدل على ذلك آية سورة (نوح) عن قومه: {وقالوا: لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ولا يعوق ونسرا} ففي التفسير المأثور عن ابن عباس وغيره من السلف: أن هؤلاء الخمسة أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم (أي علم تلك الصور بخصوصها) عبدت. رواه البخاري وغيره. ونحوه قوله تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أوليائه ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر / 3) فإنها صريحة في أن المشركين كانوا [24]

يعبدون الصالحين ولذلك اتخذوهم وسائط بينهم وبين الله تعالى قائلين: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ولاعتقادهم بصلاحهم كانوا ينادونهم ويعبدونهم من دون الله توهما منهم أنهم يسمعون ويضرون وينفعون ومثل هذا الوهم لا يمكن أن يقع فيه أي مشرك مهما كان سخيف العقل لو كان لا يعتقد فيمن يناديه الصلاح والنفع والضر كالحجر العادي مثلا وقد بين هذا العلامة ابن القيم C تعالى فقال في كتابه " إغاثة اللفهان " (2 / 222 - 223) وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام ولهذا لعن النبي A المتخذين على القبور المساجد ونهى عن الصلاة إلى القبور (1) . . فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد ولم يضرهم ذلك شيئا. وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين وأما خواصهم فإنهم اتخذوها - بزعمهم - على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجبا وقربانا ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا (ثم بين مواطن بيوت هذه الأصنام وذكر عباد الشمس والقمر وأصنامهم وما اتخذوه من الشرائع حولها ثم قال 2 / 224) : فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه وإلا

(1) انظر كتابي: " تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد " [25]

فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده " قلت: ومما يؤيد أن المقصود بقوله في الآية المتقدمة (لا يسمعوا دعاءكم} إنما هم المعبودون من دون الله أنفسهم وليست ذوات الأصنام تمام الآية: {ويوم القيامة يكفرون بشرككم} والأصنام لا تبعث لأنها جمادات غير مكلفة كما هو معلوم بخلاف العابدين والمعبودين فإنهم جميعا محشورون قال تعالى: {ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول: ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا} . (الفرقان / 17 - 18) وقال: {يوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا: سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} (سبأ / 40 - 41) وهذا كقوله تعالى: {وإذا قال الله: يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} الآية (المائدة / 116) وخير ما فسر به القرآن إنما هو القرآن والسنة وليس فيهما - فيما أعلم - ما يدل على أن الله يحشر الجمادات أيضا فوجب الوقوف عند هذه الآية الصريحة فيما ذكرنا وقد يقول قائل: إن هذا الذي بينته قوي متين ولكنه يخالف ما جرى عليه كثير من المفسرين في تفسير آية سورة (فاطر) وما في معناها من الآيات الأخرى فقالوا: إن المراد بها الأصنام نفسها وبناء على ذلك عللوا قوله تعالى فيها: {لا يسمعوا دعاءكم} بقولهم: " لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع " فأقول: لا شك أنت هذا بظاهره ينافي ما بينت ولكنه لا ينفي أن [26]

يكون لهم قول آخر يتماشى مع ما حققته فقال القرطبي (14 / 336) عقب التعليل المذكور آنفا وتبعه الشوكاني (4 / 333) وغيره ما معناه: ويجوز أن يرجع {والذين تدعون من دونه. . .} وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين والمعنى أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم كما أخبر عن عيسى عليه السلام بقوله: {ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} وقد ذكرا نحوه في تفسير آية (الزمر) المتقدمة قلت: وهو أولى من تفسيرهما السابق لأنه مدعم بالآيات المتقدمة بخلاف تفسيرهما المشار إليه فإنه يستلزم القول بحشر الأصنام ذاتها وهذا مع أنه لا دليل عليه فإنه يخالف الآيات المشار إليها ولهذا قال الشيخ عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله - في كتابه " قرة عيون الموحدين " (ص 107 - 108) في تفسير آيتي (فاطر) ما نصه: ابتدأ تعالى هذه الآيات بقوله: {ذلكم الله ربكم له الملك} يخبر الخبير أن الملك له وحده والملوك وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره ولهذا قال: {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} فإن من كانت هذه صفته فلا يجوز أن يرغب في طلب نفع أو دفع ضر إلى أحد سوى الله تعالى وتقدس بل يجب إخلاص الدعاء - الذي هو أعظم أنواع العبادة - له وأخبر تعالى أن ما يدعوه أهل الشرك لا يملك شيئا وأنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم ولو فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لداعيهم وأنهم يوم القيامة يفكرون بشركهم أي ينكرونه ويتبرؤون ممن فعله معهم. فهذا الذي أخبر به الخبير الذي {لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} وأخبر أن ذلك الدعاء شرك به وأنه لا يغفره لمن لقيه فأهل الشرك ما صدقوا [27] الخبير ولا أطاعوه فيما حكم به وشرع بل قالوا: إن الميت يسمع ومع سماعه ينفع فتركوا الإسلام والإيمان رأسا كما ترى عليه الأكثرين من جهلة هذه الأمة فتبين مما تقدم وجه الاستدلال بقوله تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} على أن الصالحين لا يسمعون بعد موتهم وغيرهم مثلهم بداهة بل ذلك من باب أولى كما لا يخفى فالموتى كلهم إذن لا يسمعون. والله الموفق الدليل الثالث: حديث قليب بدر وله روايات مختصرة ومطولة أجتزئ هنا على روايتين منها: الأولى: حديث ابن عمر قال: وقف النبي A على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول " فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي A: إنهم الآن يعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ثم قرأت: {إنك لا تسمع الموتى} حتى قرأت الآية أخرجه البخاري (7 / 242 - فتح الباري) والنسائي (1 / 693) وأحمد (2 / 31) من طريق أخرى عن ابن عمر وسيأتي بعضه في الكتاب (ص 68، 71) والأخرى: حديث أبي طلحة أن نبي الله A أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان ابن فلان: ويا فلان ابن فلان [28]

أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال رسول الله A: " والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ". قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما أخرجه الشيخان وغيرهما وقد خرجته في التعليق الآتي (ص 54) من الكتاب ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح بملاحظة أمرين: الأول: ما في الرواية الأولى منه من تقييده A سماع موتى القليب بقوله: " الآن " (1) فإن مفهومه أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت. وهو المطلوب. وهذه فائدة هامة نبه عليها العلامة الآلوسي - والد المؤلف رحمهما الله - في كتابه " روح المعاني " (6 / 455) ففيه تنبيه قوي على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي A وبإسماع الله تعالى إياهم خرقا للعادة ومعجزة للنبي A كما سيأتي في الكتاب (ص 56، 59) عن بعض العلماء الحنفية وغيرهم من المحدثين. وفي " تفسير القرطبي " (13 / 232) : قال ابن عطية (2) : فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد A في أن (1) ولها شاهد صحيح في حديث عائشة الآتي (ص 70) عند المؤلف C تعالى (2) هو عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي الغرناطي مفسر فقيه أندلسي عارف بالأحكام والحديث. توفي سنة (542) له المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز " طبع منه جزءان في المغرب ثم علمت الآن وأنا في زيارة الدوحة - قطر (أوائل ربيع الأول سنة 1401 هـ) من فضيلة الشيخ عبد الله الأنصاري أنه يقوم بطبع الكتاب طبعة جديدة وقد تم حتى اليوم. طبع أربع مجلدات منه يسر الله تمامه [29]

رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله A بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بي من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين " قلت: ولذلك أورده الخطيب التبريزي في " باب المعجزات " من " المشكاة " (ج 3 رقم 5938 - بتخريجي) والآمر الآخر: أن النبي A أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقرا في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون بعضهم أومأ إلى ذلك إيماء وبعضهم ذكر صراحة لكن الأمر بحاجة إلى توضيح فأقول: أما الإيماء فهو في مبادرة الصحابة لما سمعوا نداءه A لموتى القليب بقولهم: " ما تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ " فإن في رواية أخرى عن أنس نحوه بلفظ " قالوا " بدل: (قال عمر " كما سيأتي في الكتاب (ص 71 - 73) فلولا أنهم كانوا على علم بذلك سابق تلقوه منه A ما كان لهم أن يبادروه بذلك. وهب أنهم تسرعوا وأنكروا بغير علم سابق فواجب التبليغ حينئذ يوجب على النبي A أن يبين لهم أن اعتقادهم هذا خطأ وأنه لا أصل له في الشرع ولم نر في شيء من روايات الحديث مثل هذا البيان وغاية ما قال لهم: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ". وهذا - كما ترى - ليس فيه تأسيس قاعدة عامة بالنسبة للموتى جميعا تخالف اعتقادهم السابق وإنما هو إخبار عن أهل القليب خاصة على أنه ليس ذلك على إطلاقه بالنسبة إليهم أيضا إذا تذكرت رواية ابن عمر التي فيها " إنهم الآن يسمعون " كما تقدم شرحه فسماعهم إذن خاص بذلك الوقت وبما قال لهم النبي A فقط فهي واقعة عين لا عموم لها فلا تدل على أنهم يسمعون دائما وأبدا وكل ما يقال لهم كما لا تشمل غيرهم من الموتى مطلقا وهذا واضح إن شاء الله تعالى. ويزيده ووضوحا ما يأتي [30]

وأما الصراحة فهي فيما رواه أحمد (3 / 287) من حديث أنس Bهـ قال: ". . . . فسمع عمر صوته فقال: يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث؟ وهل يسمعون؟ يقول الله D: {إنك لا تسمع الموتى} فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع [لما أقول] منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا ". وسنده صحيح على شرط مسلم (1) . فقد صرح عمر Bهـ أن الآية المذكورة هي العمدة في تلك المبادرة وأنهم فهموا من عمومها دخول أهل القليب فيه ولذلك أشكل عليهم الأمر فصارحوا النبي A بذلك ليزيل إشكالهم؟ وكان ذلك ببيانه المتقدم ومنه يتضح أن النبي A أقر الصحابة - وفي مقدمتهم عمر - على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم ولا قال لهم: أخطأتم فالآية لا تنفي مطلقا سماع الموتى بل إنه أقرهم على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم ولا قال لهم: أخطأتم فالآية لا تنفي مطلقا سماع الموتى بل إنه أقرهم على ذلك ولكن بين لهم ما كان خافيا من شأن القليب وأنهم سمعوا كلامه حقا وأن ذلك أمر مستثنى من الآية معجزة له A كما سبق هذا وإن مما يحسن التنبيه عليه وإرشاد الأريب إليه أن استدلال عائشة المتقدم بالآية يشبه تماما استدلال عمر بها فلا وجه لتخطئتها اليوم بعد تبين إقرار النبي A لعمر عليه اللهم إلا في ردها على ابن عمر في روايته لقصة القليب بلفظ السماع وتوهيمها إياه فقد تبين من اتفاق جماعة من الصحابة على روايتها كروايته هو أنها هي الواهمة وإن كان من

(1) وأصله عنده (8 / 163 - 164) والزيادة له وهو رواية لأحمد (3 / 219 - 220) والحديث عزاه في " الدر " (5 / 157) لمسلم وابن مردويه وكأنه يعني أن أصله لمسلم وسياقه لابن مردويه ولا يخفى ما فيه من إيهام وتقصير [31]

الممكن الجمع بين روايتهم وروايتها كما سيأتي بيانه في التعليق على " الرسالة " (ص 7 - 8) فخطؤها ليس في الاستدلال بالآية وإنما في خفاء القصة عليها على حقيقتها ولولا ذلك لكان موقفها موقف سائر الصحابة منها ألا وهو الموقف الجازم بها على ما أخبر به النبي A واعتبارها مستثناة من الآية فتنبه لهذا واعلم أن من الفقه الدقيق الاعتناء بتتبع ما أقره النبي A من الأمور والاحتجاج به لأن إقراره A حق كما هو معلوم وإلا فبدون ذلك قد يضل الفهم عن الصواب في كثير من النصوص. ولا نذهب بك بعيدا فهذا هو الشاهد بين يديك فقد اعتاد كثير من المؤلفين وغيرهم أن يستدلوا بهذا الحديث - حديث القليب - على أن الموتى يسمعون متمسكين بظاهر قوله A: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " غير منتبهين لإقراره A الصحابة على اعتقادهم بأن الموتى لا يسمعون وأنه لم يرده عليهم إلا باستثناء أهل القليب منه معجزة له A فعاد الحديث بالتنبه لما ذكرنا حجة على أن الموتى لا يسمعون وأن هذا هو الأصل فلا يجوز الخروج عنه إلا بنص كما هو الشأن في كل نص عام. والله تعالى الموفق وقد يجد الباحث من هذا النوع أمثلة كثيرة ولعله من المفيد أن أذكر هنا ما يحضرني الآن من ذلك وهما مثالان: الأول: حديث جابر عن أم مبشر Bهما أنها سمعت النبي A يقول عنه حفصة: " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها ". قالت: بلى يا رسول الله فانتهرها. فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها} فقال النبي A: " قد قال الله D: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} " [32]

رواه مسلم وغيره وهو مخرج في " الصحيحة " (2160) و " تخريج السنة " (860 - طبع المكتب الإسلامي) أقول: ففي استدلال السيدة حفصة Bها بآية الورود دليل على أنها فهمت (الورود) بمعنى الدخول وأنه عام لجميع الناس الصالح والطالح منهم ولذلك أشكل عليها نفي النبي A دخول النار في حق أصحاب الشجرة فأزال A إشكالها بأن ذكرها بتمام الآية: {ثم ننجي الذين اتقوا} ففيه أنه A أقرها على فهمها المذكور وأنه على ذلك أجابها بما خلاصته أن الدخول المنفي في الحديث هو غير الدخول المثبت في الآية وأن الأول خاص بالصالحين ومنهم أهل الشجرة والمراد به نفي العذاب أي أنهم يدخلونها مرورا إلى الجنة دون أن تمسهم بعذاب. والدخول الآخر عام لجميع الناس ثم هم فريقان: منهم من تمسه بعذاب ومنهم على خلاف ذلك وهذا ما وضحته الآية نفسها في تمامها وراجع لهذا " مبارق الأزهار " (1 / 250) و " مرقاة المفاتيح " (5 / 621 - 632) قلت: فاستفدنا من الإقرار المذكور حكما لولاه لم نهتد إلى وجه الصواب في الآية وهو أن الورود فيها بمعنى الدخول وأنه لجميع الناس ولكنها بالنسبة للصالحين لا تضرهم بل تكون عليهم بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم وقد روي هذا صراحة مرفوعا في حديث آخر لجابر لكن استغربه الحافظ ابن كثير وبينت علته في " الأحاديث الضعيفة " (4761) . لكن حديثه هذا عن أم مبشر يدل على صحة معناه وقد مال إليه العلامة الشوكاني في تفسيره للآية (3 / 333) واستظهره من قبله القرطبي (11 / 138 - 139) وهو المعتمد والآخر: حديث " الصحيحين " والسياق للبخاري نقلا من " مختصر [33]

البخاري " بقلمي لأنه أتم جمعت فيه فوائده وزوائده من مختلف مواضعه قالت عائشة: دخل علي رسول الله A وعندي جاريتان [من جواري الأنصار 3 / 3] (وفي رواية: قينتان 4 / 266] [في أيام منى تدففان وتضربان 4 / 161] تغنيان بغناء (وفي رواية: بما تقاولت (وفي أخرى تقاذفت) الأنصار يوم) بعاث (1) . [وليستا بمغنيتين] فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر [والنبي A متغش بثوبه 2 / 11] فانتهرني) وفي رواية: فانتهرهما) وقال: مزمارة (وفي رواية: مزمار) الشيطان عند (وفي رواية: أمزامير الشيطان في بيت) رسول الله A [ (مرتين) ] ؟ فأقبل عليه رسول الله A (وفي رواية: فكشف النبي A عن وجهه) فقال: دعهما [يا أبا بكر [ف] إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا] ". فلما غفل غمزتهما فخرجتا ". (رقم 508 من المختصر ") قلت: فنجد في هذا الحديث أن النبي A لم ينكر قول أبي بكر الصديق في الغناء بالدف أنه " مزمار الشيطان " ولا نهره لابنته أو للجاريتين بل أقره على ذلك فدل إقراره إياه على أن ذلك معروف وليس بمنكر فمن أين جاء أبو بكر بذلك؟ الجواب: جاء به من تعاليم النبي A وأحاديثه الكثيرة في تحريم الغناء وآلات الطرب وقد ذكر طائفة منها العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان " (1 / 258 - 267) وخرجت بعضها في " الصحيحة " (91) و " المشكاة " (3652) ولولا علم أبي بكر بذلك وكونه على بينة من الأمر ما كان له أن

(1) بالصرف وعدمه وهو اسم حصن وقعت الحرب عنده بين الأوس والخزرج قبل الهجرة بثلاث سنين [34]

يتقدم بين يدي النبي A وفي بيته بمثل هذا الإنكار الشديد غير أنه كان خافيا عليه أن هذا الذي أنكره يجوز في يوم عيد فبينه له النبي A بقوله: " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا " فبقي إنكار أبي بكر العام مسلما به لإقراره A إياه ولكنه استثنى منه الغناء في العيد فهو مباح بالمواصفات الواردة في هذا الحديث فتبين أنه A كما أقر عمر على استنكاره سماع الموتى كذلك أقر أبا بكر على استنكاره مزمار الشيطان وكما أنه أدخل على الأول تخصيصا كذلك أدخل على قول أبي بكر هذا تخصيصا اقتضى إباحة الغناء المذكور في يوم العيد ومن غفل عن ملاحظة الإقرار الذي بينا أخذ من الحديث الإباحة في كل الأيام كما يحلو ذلك لبعض الكتاب المعاصرين وسلفهم فيه ابن حزم فإنه استدل به على الإباحة مطلقا جمودا منه على الظاهر فإنه قال في رسالته في الملاهي (ص 98 - 99) : وقد سمع رسول الله A قول أبي بكر: مزمار الشيطان " فأنكر عليه ولم ينكر على الجاريتين غناءهما " والواقع أنه ليس في كل روايات الحديث الإنكار المذكور وإنما فيه قوله A لأبي بكر: " دعهما. . . " وفرق كبير بين الأمرين فإن الإنكار الأول لو وقع لشمل الآخر ولا عكس كما هو ظاهر بل نقول زيادة على ذلك: إن النبي A أقر قول أبي بكر المذكور كما سبق بيانه وقد قال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " بعد أن ذكر الحديث (1 / 257) : فلم ينكر رسول الله A على أبي بكر تسميته الغناء مزمار الشيطان وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم يوم عيد [35]

وأما أنه A لم ينكر على الجاريتين فحق ولكن كان ذلك في يوم عيد فلا يشمل غيره أولا. وثانيا: لما أمر A أبا بكر بأن لا ينكر عليهما بقوله: " دعهما " أتبع ذلك بقوله: " فإن لكل قوم عبدا. . . " فهذه جملة تعليلية تدل على أن علة الإباحة هي العيدية إذا صح التعبير ومن المعلوم أن العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما فإذا انتفت هذه العلة بأن لم يكن يوم عيد لم يبح الغناء فيه كما هو ظاهر ولكن ابن حزم لعله لا يقول بدليل العلة كما عرف عنه أنه لا يقول بدليل الخطاب وقد رد عليه العلماء ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية في غير ما موضع من " مجموع الفتاوى " فراجع المجلد الثاني من " فهرسه " لقد طال الكلام على حديث عائشة في سماع الغناء ولا بأس من ذلك إن شاء الله تعالى فإن الشاهد منه واضح ومهم وهو أن ملاحظة طالب العلم إقرار النبي A لأمر ما يفتح عليه بابا من الفقه والفهم ما كان ليصل إليه بدونها. وهكذا كان الأمر في حديث القليب فقد تبين بما سبق أنه دليل صريح على أن الموتى لا يسمعون وذلك من ملاحظتنا إقرار النبي A لاستنكار عمر سماعهم واستدلاله عليه بالآية {إنك لا تسمع الموتى} فلا يجوز لأحد بعد هذا أن يلتفت إلى أقوال المخالفين القائلين بأن الموتى يسمعون فإنه خلاف القرآن الذي بينه الرسول A الدليل الرابع: قول النبي A: " إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام " (1)

(1) وهو حديث صحيح انظر التعليق الآتي ص (80) [36]

أقول: ووجه الاستدلال به أنه صريح في أن النبي A لا يسمع سلام المسلمين عليه إذ لو كان يسمعه بنفسه لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه كما هو ظاهر لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك فبالأولى أنه A لا يسمع غير السلام من الكلام وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيره من الموتى أولى وأحرى ثم إن الحديث مطلق يشمل حتى من سلم عليه A عند قبره ولا دليل يصرح بالتفريق بينه وبين من صلى عليه بعيدا عنه والحديث المروي في ذلك موضوع كما سيأتي بيانه في التعليق (ص 80) وهذا الاستدلال لم أره لأحد قبلي فإذا كان صوابا - كما أرجو - فهو فضل من الله ونعمة وإن كان خطأ فهو من نفسي والله تعالى أسأل أن يغفره لي وسائر ذنوبي أدلة المخالفين: فإن قيل: يظهر من النقول التي ستأتي في الرسالة عن العلماء أن المسألة خلافية فلا بد أن المخالفين فيها أدلة استندوا إليها فأقول: لم أر فيها من صرح بأن الميت يسمع سماعا مطلقا عاما كما كان شأنه في حياته ولا أظن عالما يقول به وإنما رأيت بعضهم يستدل بأدلة يثبت بها سماعا لهم في الجملة وأقوى ما استدلوا به سندا حديثان: الأول: حديث قليب بدر المتقدم وقد عرفت مما سبق بيانه أنه خاص بأهل القليب من جهة وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى وأن سماعهم كان خرقا للعادة فلا داعي للإعادة والآخر: حديث: " إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا ". وفي رواية " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع [37]

نعالهم أتاه ملكان. . . " الحديث (انظر ص 55، 56، 57، 82) من " الآيات " وهذا كما ترى خاص بوقت وضعه في قبره ومجيء الملكين إليه لسؤاله " فلا عموم فيه وعلى ذلك حمله العلماء كابن الهمام وغيره كما سيأتي في " الآيات " (ص 56، 59، 73) ولهم من هذا النوع أدلة أخرى ولكن لا تصح أسانيدها وفي أحدها التصريح بأن الموتى يسمعون السلام عليهم من الزائر وسائرها ليس في السماع وبعضها خاص بشهداء أحد وكلها ضعيفة وبعضها أشد ضعفا من بعض كما ستراه في التعليق (ص 69) وأغرب ما رأيت لهم من الأدلة قول ابن القيم C في " الروح " (ص 8) تحت المسألة الأولى: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟ فأجاب بكلام طويل جاء فيه ما نصه: ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره () هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم وكذلك السلام عليهم أيضا فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال () وقد علم النبي A أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: سلام عليكم أهل الديار وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد وإن لم يسمع المسلم الرد " أقول وبالله تعالى التوفيق: رحم الله ابن القيم فما كان أغناه من الدخول في مثل هذا الاستدلال العقلي الذي لا مجال له في أمر غيبي كهذا فوالله لو أن ناقلا نقل هذا [38]

الكلام عنه ولم أقف أنا بنفسي عليه لما صدقته لغرابته وبعده عن الأصول العلمية والقواعد السلفية التي تعلمناها منه ومن شيخه الإمام ابن تيمية فهو أشبه شيء بكلام الآرائيين والقياسيين الذين يقيسون الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق وهو قياس باطل فاسد طالما رد ابن القيم أمثاله على أهل الكلام والبدع ولهذا وغيره فإني في شك كبير من صحة نسبة " الروح " إليه أو لعله ألفه في أول طلبه للعلم. والله أعلم ثم إن كلامه مردود في شطريه بأمرين: الأول: ما ثبت في " الصحيح " أن النبي A كان يزور البيت في الحج وأنه كان وهو في المدينة يزور قباء راكبا وماشيا ومن المعلوم تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة. فهل من أحد يقول: بأن البيت وقباء يشعر كل منهما بزيارة الزائر أو أنه يعلم بزيارته؟ وأما الآخر: فهو مخاطبة الصحابة للنبي A في تشهد الصلاة بقولهم: " السلام عليكم أيها النبي. . . . " وهم خلفه قريبا منه وبعيدا عنه في مسجده وفي غير مسجده أفيقال: إنه كان يسمعهم ويشعر بهم حين يخاطبونه به وإلا فالسلام عليه محال؟ اللهم غفرا. وانظر التعليق الآتي على الصفحة (95 - 96) وإذا كان لا يسمع هذا الخطاب في قيد حياته أفيسمعه بعد وفاته وهو في الرفيق الأعلى لا سيما وقد ثبت أنه يبلغه ولا يسمعه كما سبق بيانه في الدليل الرابع (ص 36) ؟ ويكفي في رد ذلك أن يقال: إنه استدلال مبني على الاستنباط والنظر فمثله قد يمكن الاعتداد به إذا لم يكن مخالفا للنص والأثر فكيف وهو مخالف لنصوص عدة واحد منها فقط فيه كفاية وغنية كما [39]

سلف وبخاصة منها حديث قليب بدر وفيه إقرار النبي A لعمر أن الموتى لا يسمعون فلا قيمة إذن للاستنباط المذكور فإن الأمر كما قيل: " إذا جاء الأثر بطل النظر وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل " وقد يتساءل القارئ - بعد هذا - عن وجه مخاطبة الموتى بالسلام وهم لا يسمعونه؟ وفي الإجابة عنه أحيل القارئ إلى ما ذكر المؤلف C تعالى فيما يأتي من الرسالة وما علقته عليها (ص 95 - 96) فإن في ذلك كفاية وغنية عن الإعادة وخلاصة البحث والتحقيق: أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم - كما ستراه في الكتاب مبسوطا - على أن الموتى لا يسمعون وأن هذا هو الأصل فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال كما في حديث خفق النعال أو أن بعضهم سمع في وقت ما كما في حديث القليب فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلا فيقال إن الموتى يسمعون كما فعل بعضهم (1) كلا فإنها قضايا جزئية لا تشكل قاعدة كلية يعارض بها الأصل المذكور بل الحق أنه يجب أن تستثني منه على قاعدة استثناء الأقل من الأثر أو الخاص من العام كما هو المقرر في علم أصول الفقه ولذلك قال العلامة الآلوسي في " روح المعاني " بعد بحث مستفيض في هذه المسألة (6 / 455) : والحق أن الموتى يسمعون في الجملة فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه وهذا مذهب طوائف من أهل العلم كما قال الحافظ ابن جرب الحنبلي على ما سيأتي في الرسالة (ص 70) وما أحسن ما قاله ابن التين C:

(1) انظر " الأضواء " (6 / 425) [40]

" إن الموتى لا يسمعون بلا شك لكن إذا أراد الله تعالى إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع لقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} الآية وقوله: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} الآية. كما نقله المؤلف فيما يأتي (ص 72) فإذا علمت أيها القارئ الكريم أن الموتى لا يسمعون فقد تبين أنه لم يبق هناك مجال لمناداتهم من دون الله تعالى ولو بطلب ما كانوا قادرين عليه وهم أحياء كما تقدم بيانه في (ص 16 - 21) بحكم كونهم لا يسمعون النداء وأن مناداة من كان كذلك والطلب منه سخافة في العقل وضلال في الدين وصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: {ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} . (الأحقاف 5 - 6) هذا ولما كان الواقع يشهد أنه لا يزال في هؤلاء المبتلين بنداء الموتى والاستغاثة بهم من دون الله تعالى من يرجو الدار الآخرة ويحرص على معرفة الحق واتباعه إذا تبين له اقتطعت من وقتي الضيق ما مكنني من التعليق على هذه الرسالة النافعة إن شاء الله تعالى وتحقيقها وتخريج أحاديثها ووضع هذه المقدمة بين يديها راجيا من المولى سبحانه وتعالى أن ينفع بها المخلصين من المسلمين ويجعلنا وإياهم من {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} . (الزمر 18) دمشق 15 جمادى الأولى سنة 1398 هـ وكتب محمد ناصر الدين الألباني [41]

الحمد لله محيي الأموات ومعيد الرفات ومجازيهم على المعاصي ومثيبهم على الطاعات والسامع من الداعين خفي الأصوات الذي لا يخفى عليه شيء في الأرضين والسموات والصلاة والسلام على من كان تكليم الجماد له إحدى المعجزات وعلى آله وصحبه أصحاب الكرامات الباهرات أما بعد: فإني في شهر رمضان عام خمس وثلثمائة وألف من هجرة من أنزل عليه القرآن تفصيلا لكل شئ وتبيانا ذكرت في مجلس درسي العام ما قالته الأئمة الأحناف الأعلام في كتبهم الفقهية وأحكامهم الشرعية من عدم سماع الموتى كلام الأحياء وأن من خلف لا يكلم زيدا فكلمه وهو ميت لا يحنث وعليه فتوى العلماء فأشاع بعض من انتسب إلى العلم من غير إدراك لما حرروه ولا فهم أن هذا العزو غير صحيح وأنه قول منكر مغاير للشرع الرجيح وأنه لم يعتقد ذلك أحد من أصحاب الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فاتبعه أتباع كل ناعق من أفراد الجهلة والعوام والمرجفون في مدينة السلام فأحببت للنصيحة في الدين ولتبيان ما أتى في الكتاب المبين وتعليم إخواني المسلمين أن أجمع في هذه الرسالة [49]

أقوال أصحابنا الأحناف وما قاله غيرهم من الأئمة والفقهاء الأشراف وأن أحرر ما قالوه وأنقل من كتبهم ما سطروه بعباراتهم المفصلة ونصوصهم المطولة وأدلتهم المحبرة وأجوبتهم المحررة ليتضح للعامة ما جهلوه ويظهر للمعاندين صواب ما أخطأوه ورتبتها على ثلاثة فصول وخاتمة جامعة إن شاء الله تعالى: للمعقول والمنقول وللنزاع حاسمة وسميتها: الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات والله سبحانه المسئول أن يوفقنا للصواب ويرزقنا استماع الحق واتباعه في المبدأ والمآب. أمين [50]

الفصل الأول في نقل كلام الأئمة الحنفية في ذلك قال العلامة الحصكفي (1) الحنفي في كتابه الشهير ب " الدر المختار شرح تنوير الأبصار " في " باب اليمين في الضرب والقتل وغير ذلك " (2) ما لفظه: (ما شارك الميت فيه الحي يقع اليمين فيه على الحالتين) : الموت والحياة (وما اختص بحالة الحياة) وهو كل فعل يلذ (3) ويؤلم ويغم ويسر كشتم وتقبيل (تقيد بها) ثم فرع عليه: (فلو قال: إن ضربتك أو كسوتك أو كلمتك أو دخلت عليك أو قبلتك تقيد) كل منها (بالحياة) حتى لو علق بها طلاقا أو عتقا لم يحنث بفعلها في ميت (بخلاف الغسل والحمل والمس وإلباس الثوب) كحلفه: لا يغسله أو لا يحمله لا تتقيد بالحياة انتهى

(1) بفتح الحاء والصاد المهملتين والكاف نسبة إلى (حصن كيفا) بلدة على الدجلة وهو محمد ابن علي بن محمد الحصني المعروف بعلاء الدين الحصكفي مفتي الحنفية بدمشق ولد فيها سنة (1025) وتوفي سنة (1088) (2) (ج 3 ص 179 - 180 من " رد المحتار على الدر المختار ") (3) بضم الياء وكسر اللام ليناسب ما بعده أي يحصل اللذة والألم. كذا في " حاشية الطحطاوي على الدر " [53]

وقال محشيه العلامة الطحطاوي (1) ما لفظه: (قوله: (أو كلمتك) إنما تقيد بالحياة لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه لأن الميت لا يسمع ولا يفهم. وأورد أنه E قال لأهل القليب قليب بدر: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال النبي A: " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " (2) وأجيب عنه بأنه غير ثابت يعني من جهة المعنى وإلا فهو في الصحيح (3) وذلك أن عائشة رضي الله تعالى عنها ردته بقوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} و {وإنك لا تسمع الموتى} . وقوله: " من جهة المعنى " ينظر ما المراد به؟ فإن ظاهره يقتضي ورود اللفظ من الشارع A وأن المعنى لا يستقيم وفيه ما فيه (4)

(1) يعني في " الحاشية على الدر المختار " (2 / 381 - 382) و (الطحطاوي) نسبة إلى (طحطا) وربما قيل (طهطا) قرية بالقرب من (أسيوط) بمصر وهو أحمد بن محمد بن إسماعيل فقيه حنفي من فضلاء عصره وقد اشتهر بكتابه المذكور مات سنة 1231 (2) أخرجه البخاري في " المغازي " (7 / 240 - 241 - فتح) ومسلم (8 / 164) وأحمد (4 / 29) من طريق قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله A. . فذكر الحديث بأتم مما هنا وزيادة: " قال قتادة: أحياهم الله حتى اسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما " (3) هذا الجواب مردود فإن الحديث صحيح المعنى والمبنى كما يأتي بيانه قريبا (4) قلت: وذلك أنه لا يعقل أن يقول المسلم بأن اللفظ المذكور قد قاله الرسول A ومع ذلك فمعناه لا يستقيم وإنما لعل المراد من الجواب المذكور أن الحديث صحيح الإسناد لكنه غير صحيح المعنى إذ أنه من المقرر في علم مصطلح الحديث أن صحة الإسناد لا يستلزم صحة المتن لعلة فيه خفية أو شذوذ من أحد رواته ولذلك ردته السيدة عائشة وصرحت بتوهيم راويه عبد الله بن عمر Bهـ كما سيأتي في الكتاب (ص 68، 71) وحينئذ فالتعبير العلمي الصحيح أن يعبر عن وجهة نظرها بغير ما جاء في الجواب المشار إليه كأن يقال: إن الحديث عندها شاذ متنا صحيح سندا غير أن رد عائشة لحديث ابن عمر وتوهيمها إياه مردود بمتابعة جمع من الصحابة له خرج أحاديثهم الحافظ في " الفتح " (7 / 242) ومنهم أبو طلحة الأنصاري وقد خرجت حديثه آنفا ولذلك فالجواب المذكور لا قيمة له - ولو زين لفظه - من الناحية الحديثية بل إنه لو ذهب ذاهب إلى تخطئتها هي في روايتها لكان ذلك قريبا من الصواب لمخالفتها لجماعة الأصحاب لكن الجمع بين حديثها وحديثهم تمكن بأن يقال: إنه A أتيت لأهل القليب حين ناداهم السمع والعلم معا فلا تعارض وهو الذي ذهب إليه الحافظ. والله أعلم [54]

وأجيب أيضا بأنه إنما قاله E على وجه الموعظة للأحياء لا لإفهام الموتى ) لا سند له) كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين أما نساؤكم فنكحت وأما أموالكم فقسمت وأما دوركم فقد سكنت فهذا خبركم عندنا فما خبرنا عندكم؟ " (1) ويرده أن بعض الأموات رد عليه بقوله: (معضل) " الجلود تمزقت والأحداق قد سالت ما قدمنا ما لقينا وما أكلنا ربحنا وما خلفنا خسرنا " (2) . أو كلاما هذا كما في بعض شراح " الجامع الصغير " وأيضا ورد عنه E: (صحيح) " إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا ". (3) كمال (4) وفي " النهر " (5) : أحسن ما أجيب به أنه كان معجزة له A. انتهى (6)

(1) قلت: لم أقف على إسناده وما أراه يصح ولعله في " كتاب القبور " لابن أبي الدنيا فقد عزاه إليه السيوطي في " الجامع الكبير " (8 / 123 و 125 - كنز العمال) عن عمر وعن علي Bهما بنحوه (2) هو في أثر عمر المشار إليه آنفا بنحوه وهو معضل فإنه من رواية محمد بن حمير عن عمر وبينهما مفاوز (3) متفق عليه من حديث أنس Bهـ وهو مخرج في " الصحيحة " (1344) (4) يعني الكمال ابن الهمام وسيذكر المصنف نص كلامه في الصفحات التالية (57 - 60) (5) هو " النهر الفائق " لمؤلفه الشيخ عمر بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم المصري وهو أخو الزين صاحب " البحر الرائق " وتلميذه توفي سنة (1005) (6) يعني كلام الطحطاوي في حاشيته [55]

وقال شيخ مشائخنا العلامة ابن عابدين في " حاشيته " (1) على الكتاب المذكور ما لفظه: (وأما الكلام فلأن المقصود منه الإفهام والموت ينافيه ولا يرد ما في " الصحيح " من قوله لأهل قليب بدر: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فقال عمر Bهـ: أتكلم الميت يا رسول الله؟ فقال E: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم أو من هؤلاء. فقد أجاب عنه المشايخ بأنه غير ثابت يعني من جهة المعنى. (2) وذلك لأن عائشة رضي الله تعالى عنها ردته بقوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} و {إنك لا تسمع الموتى} وأنه إنما قاله على وجه الموعظة للأحياء وبأنه مخصوص بأولئك تضعيفا للحسرة عليهم وبأنه خصوصية له E معجزة. لكن يشكل عليهم ما في " مسلم ": " إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا " إلا أن يخصوا ذلك بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال (3) جمعا بينه وبين الآيتين فإنه شبه فيهما الكفار بالموتى لإفادة بعد سماعهم وهو فرع عدم سماع الموتى. هذا حاصل ما ذكره في " الفتح " هنا وفي " الجنائز "

(1) وهي المعروفة ب " رد المحتار على الدر المختار " (3 / 180) (2) هذا الجواب مردود كما سبق بيانه (ص 54) وقد رده جماعة منهم أبو الحسن السندي الحنفي في " حاشيته على سنن النسائي " (1 / 293) (3) قلت: سيأتي مثله عن ابن الهمام (ص 58) وعن المناوي (ص 73) والتخصيص المشار إليه أمر لا بد منه للجمع المذكور ولكن ينبغي أن يعلم أن ذلك كذلك ولو لم يتعارض ظاهره بالآيتين المذكورتين فإن الحديث يدل أنه خاص بأول الوضع فإن لفظه: " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان. . . " الحديث متفق عليه وهو مخرج في " الصحيحة " كما تقدم: وسيأتي بتمامه (ص 82) [56]

ومعنى الجواب الأول أنه وإن صح سنده لكنه معلول من جهة المعنى بعلة تقتضي عدم ثبوته عنه E وهي مخالفته للقرآن فافهم) انتهى كلام ابن عابدين عليه الرحمة ولنذكر كلام إمام الحنفية ابن الهمام (1) في " فتح القدير " حاشية " الهداية " فإنه قال في " باب الجنائز " على قوله: " ولقن الشهادة لقوله E: (صحيح) " لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله " (2) والمراد: الذي قرب من الموت " ما نصه: (قوله: (والمراد: الذي قرب من الموت) مثل لفظ القتيل في قوله E: (صحيح) " من قتل قتيلا فله سلبه " (3) وأما التلقين من بعد الموت وهو في القبر: فقيل: يفعل لحقيقة ما روينا (4) ونسب لأهل السنة والجماعة وخلافه إلى المعتزلة وقيل: لا يؤمر به ولا ينهى عنه (5)

(1) هو العلامة محمد بن عبد الوهاب الاسكندري السيواسي عده ابن نجيم في " البحر الرائق " من أهل الترجيح وعده بعضهم من أهل الاجتهاد. قال أبو الحسنات اللكنوي (ص 180) : " وهو رأي نجيح تشهد بذلك تصانيفه وتآليفه " قلت: على هامش الأصل ما نصه: [قال] الإمام الحصري في شرح الجامع الكبير ": " بلغ رتبة الاجتهاد " ونقله ابن عابدين في " باب نكاح الرقيق " فليحفظ ". انظر " رد المحتار " (2 / 520) . مات سنة (861) (2) أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وهو مخرج عندي في " الروض النضير " (1114) و " الإوراء " (686) و " الصحيحة " (2151) و " أحكام الجنائز " (ص 10) (3) رواه الشيخان وهو مخرج في " الإرواء " (1221) (4) يشير إلى حديث أبي هريرة المتقدم آنفا (5) قلت: وهذا مردود لأن التلقين تذكير ليس أمرا دنيويا أو عاديا حتى يصح فيه ما ذكره وإنما هو أمر تعبدي محض فإما أن يكون مشروعا فيؤمر به حينئذ ولو أمر استحباب وإما أن يكون غير مشروع فينهى عنه لأنه يكون والحالة هذه من محدثات الأمور وهي منهي عنه. فتنبه [56]

ويقول: (ضعيف) " يا فلان بن فلان (1) اذكر دينك الذي كنت عليه في دار الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " (2) ولا شك أن اللفظ لا يجوز إخراجه عن حقيقته إلا بدليل فيجب تعيينه وما في " الكافي " من أنه " إن كان مات مسلما لم يحتج إليه من بعد الموت وإلا لم يفد " يمكن جعله الصارف يعني أن المقصود منه التذكير في وقت تعرض الشيطان وهذا لا يفيد بعد الموت (3) وقد يختار الشق الأول والاحتياج إليه في حق التذكير لتثبت الجنان للسؤال فنفي الفائدة مطلقا ممنوع. نعم الفائدة الأصلية منتفية وعندي أن مبنى ارتكاب هذا المجاز هنا عند أكثر مشايخنا رحمهم الله تعالى هو أن الميت لا يسمع عندهم على ما صرحوا به في كتاب [الإيمان] في " باب اليمين بالضرب ": " لو حلف لا يكلمه فكلمه ميتا لا يحنث لأنها تنعقد على ما بحيث يفهم والميت ليس كذلك لعدم السماع. وورد عليه قوله A في أهل القليب: " ما أنتم بأسمع منهم " وأجابوا تارة بأنه مردود من عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كيف يقول E ذلك والله تعالى يقول: {وما أنت بمسمع من في القبور} و {إنك لا تسمع الموتى} ؟ وتارة بأن تلك خصوصية له صلى الله

(1) كذا في " الفتح " أيضا والرواية " فلانة " على أنها ضعيفة كما يأتي (2) هذا القول لم يصح عنه A وهو طرف من حديث التلقين المروي عن أبي أمامة وإسناده ضعيف كما حققته في " الضعيفة " (597) من المجلد الثاني وقد تم طبعه بحمد الله وتوفيقه (3) قلت: ودليله قوله A: " إذا مات الإنسان انقطع عمله. . . " الحديث وهو مخرج في " أحكام الجنائز " (174) و " الإرواء " (1580) [58]

تعالى عليه وسلم معجزة وزيادة حسرة على الكافرين (1) وتارة بأنه من ضرب المثل كما قال علي رضي الله تعالى عنه ويشكل عليهم ما في " مسلم ": (صحيح) " إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا " (2) اللهم إلا أن يخصوا ذلك بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال (3) جمعا بينه وبين الآيتين فإنهما تفيدان تحقيق عدم سماعهم فإنه تعالى شبه الكفار بالموتى لإفادة تعذر سماعهم وهو فرع عدم سماع الموتى إلا أنه على هذا ينبغي التلقين من بعد الموت لأنه يكون حين إرجاع الروح فيكون حينئذ لفظ (موتاكم) في حقيقته وهو قول طائفة من المشايخ أو هو مجاز باعتبار ما كان نظرا إلى أنه [الآن] حي إذ ليس معنى الحديث إلا من في بدنه الروح. وعلى كل حال هو محتاج إلى دليل آخر في التلقين حالة الاحتضار (4) إذ لا يراد الحقيقي والمجازي معا ولا

(1) قلت: وهذا الجواب هو الأصح لقول قتادة المتقدم في حديث أبي طلحة (ص 54) وهو الذي اعتمده الحافظ البيهقي وغيره ويأتي في الكتاب (71) قول السهيلي في ذلك ويظهر أن مناداة الكفار بعد هلاكهم سنة قديمة من سنن الأنبياء فقد قال تعالى في قوم صالح عليه السلام: {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} (الأعراف: 78، 79) قال ابن كثير (2 / 229 - 230) : هذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه وتمردهم على الله وإبائهم الحق وإعراضهم عن الهدى قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك كما ثبت في الصحيحين ". . . فذكر الحديث القليب. لكن قوله: " وهم يسمعون ذلك " ليس في الآية ما يدل عليه. ثم ذكر الله تعالى عن شعيب عليه السلام وقومه نحو ذلك فانظر " ابن كثير " (2 / 233) (2) مضى تخريجه (ص 55) وأنه رواه البخاري أيضا (3) انظر التعليق (ص 56) (4) قلت: وهو موجود كما سيأتي في الكتاب قريبا والذي هو بحاجة إلى الدليل حقا إنما هو التلقين بعد الدفن فإنه لم يرد فيه حديث تقوم به الحجة كما سأبين نبذة منه عند إشارة المؤلف إلى حديثه (ص 63) [59]

مجازيان وليس يظهر معنى يعم الحقيقي والمجازي حتى يعتبر مستعملا فيه ليكون من عموم المجاز للتضاد وشرط إعماله فيهما أن لا يتضادا) . انتهى كلام العلامة ابن الهمام وقال أيضا العلامة الشيخ أحمد الطحطاوي في حاشيته على " مراقي الفلاح " للشرنبلالي " شرح نور الإيضاح " في " باب أحكام الجنائز " على قول الشارح: " قال المحقق ابن همام: وحمل أكثر مشايخنا إياه على المجاز أي من قرب [من] الموت مبناه على أن الميت لا يسمع عندهم " ما نصه. (1) قوله: (مبناه على أن الميت لا يسمع عندهم) على ما صرحوا به في كتاب الأيمان ": لو حلف لا يكلمه فكلمه ميتا لا يحنث لأنها تنعقد على من يفهم والميت ليس كذلك لعدم السماع قال الله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} {إنك لا تسمع الموتى} وهو يفيد تحقيق عدم سماع الموتى إذ هو فرعه ". انتهى كلام الشرنبلالي والطحطاوي وقال العلامة العيني (2) في " شرح الكنز " في " باب اليمين في الضرب والقتل وغير ذلك " بعد قول الماتن: " وكلمتك: تقيد بالحياة " ما لفظه: لأن الضرب هو الفعل المؤلم ولا يتحقق في الميت والمراد في الكلام الإفهام. وأنه يختص بالحي انتهى. (3) ومثله في " البحر " (4) ونصه:

(1) حاشية الطحطاوي على " المراقي " (ص 326) (2) وهو الشيخ العلامة محمود بن أحمد بدر الدين العيني المصري الحنفي صاحب " عمدة القاري شرح صحيح البخاري " ولد سنة (762) ومات سنة (855) (3) يعني ما في " شرح الكنز " (1 / 225) ولفظه يختلف بعض الشيء عما هنا (4) يعني " البحر الرائق شرح كنز الدقائق " (4 / 394) ومؤلفه زين الدين إبراهيم بن محمد الشهير بن نجيم المصري توفي سنة (970) . وأخوه عمر بن إبراهيم صاحب كتاب " النهر الفائق " تقدم (ص 55) [60]

" لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه " وقال العلامة ابن ملك (1) في " مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار " (2) الجامع بين " الصحيحين " (3) في قوله E: (صحيح) " إنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا ": وفيه دلالة على حياة الميت في القبر لأن الإحساس بدون الحياة ممتنع عادة وهل ذلك بإعادة الروح أو لا؟ ففيه اختلاف العلماء فمنهم من يقول بتلك وتوقف أبو حنيفة في ذلك " انتهى بلفظه فتبين من " تنوير الأبصار " وشرحه " الدر المختار " و " حاشيته " للطحطاوي ولابن عابدين ومن " فتح القدير " و " الهداية " ومن " مراقي الفلاح " و " حاشيته " و " شروح الكنز " ومن سائر المتون المبنية على المفتى به من قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه ومشايخ المذهب: أن الميت لا يسمع بعد خروج روحه كما قالت [عائشة] وتبعها طائفة من أهل العلم والمذاهب الأخرى وأن الحنفية لم يحكوا خلافا في حكمهم هذا عن أحد

(1) هو عبد اللطيف بن عبد العزيز بن فرشتا الكرماني عرف بابن مالك من فقهاء الحنفية المبرزين توفي سنة (801) (2) (ج 1 ص 123) (3) قلت: وصف " المشارق " ب " الجامع بين الصحيحين " سبق قلم من المؤلف C تعالى فإن اسمه " مشارق الأنوار في صحاح الآثار " كما سماه الشارح نفسه في مقدمته وإن كان كلام المؤلف نفسه يشعر في مقدمته هو بخلافه. فإن الواقع يشهد أنه ليس كذلك وإنما هو منتخب من " الصحيحين " فاعلمه ثم إن صاحب " المشارق " عزا الحديث لمسلم فقط وكذلك غيره كما يأتي وهو عند البخاري أيضا كما سبق مني في (ص 55) وسيأتي لفظه في الكتاب (81) [61]

من علماء المذهب ولم يحنثوا الحالف كما فصلنا. وهو المطلوب ولله الحمد وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد هذه الأقوال في الفصل الثاني والثالث فانتظرهما ولا تغفل. (1) تتمة في [التلقين بعد الدفن] اعلم أن مسألة التلقين قبل الموت لم نعلم فيها خلافا (2) وأما بعد الموت وهي التي تقدم ذكرها في " الهداية " وغيرها فاختلف الأئمة والعلماء فيها فالحنفية لهم فيها ثلاثة أقوال: الأول: أنه يلقن بعد الموت لعود الروح للسؤال والثاني: لا يلقن والثالث: لا يؤمر به ولا ينهى عنه. (3)

(1) على هامش الأصل بخط فارسي مخالف لخط الأصل ما نصه: ومن الغريب أن بعض من يدعي طلب العلم يزعم أن رأى ما حررته من عبارات الأئمة الحنفية وغيرهم ويشيع عند أمثاله الجهلة العوام أن ملا علي القاري قال في شرحه للمشكاة أن هذه الأيمان مبنية على العرف فلذا قالوا بعدم السماع وعدم الحنث وأنت تعلم أن قول عالم مقلد غير مجتهد ولا من أهل الترجيح ولم يبلغ رتبة الاجتهاد لا يؤخذ بتأويله المصادم لصريح أقوال الأئمة إذ هو رجل من أهل العلم والتقليد قلنا: فكيف تترك أقوال أئمة المذهب وغيرهم المصرحين بعدم السماع ليقول مقلد واحد متأخر جاء إلى ذهنه شيء مخالف لجميع أقوال أئمته كما لا يخفى على من شم رائحة العلم وذاق شهد الفهم فافهم والله تعالى أعلم (2) قلت: وفيه أحاديث قولية وفعلية تجد بعضها في " أحكام الجنائز " (ص 10 - 11) ومضى أحدهما قريبا (ص 58) (3) قلت: سبق هذا (ص 57) مع رده هنا [62]

وعند الشافعية يلقن كما قال ابن حجر (1) في " التحفة " (2) ويستحب تلقين بالغ عاقل أو مجنون سبق له تكليف ولو شهيدا كما اقتضاه إطلاقهم بعد تمام الدفن لخبر فيه وضعفه اعتضد بشواهد (3) على أنه من الفضائل فاندفع قول ابن عبد السلام: أنه بدعة (4) انتهى وأما عند الإمام مالك نفسه فمكروه قال الشيخ علي المالكي في كتابه " كفاية الطالب الرباني لختم رسالة ابن أبي زيد القيرواني " ما لفظه: وأرخص (بمعنى استحب) بعض العلماء (هو ابن حبيب) في القراءة عند رأسه أو رجليه أو غيرهما ذلك بسورة (يس) لما روي أنه A قال: (ضعيف) (ما من ميت يقرأ عند رأسه سورة {يس} إلا هون الله تعالى عليه) (5) ولم يكن ذلك أي ما ذكر من القراءة عند المحتضر عند مالك رحمه (1) يعني أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي - بالمثناة الفوقية نسبة إلى محلة أبي الهيتم من إقليم الغربية بمصر - من كبار علماء الشافعية وله مصنفات كبيرة ولكنه كان منحرفا عن شيخ الإسلام ابن تيمية C تعالى متحاملا عليه وكلامه عليه في كتابه الفتاوى الحديثية " معروف وهو عمدة من جاء بعده من المبتدعة الطاعنين فيه وقد رد عليه المؤلف في كتابه " جلاء العينين) أحسن الرد وقد مضى ذكره في المقدمة (ص 43) ولد سنة (909) وتوفي بمكة سنة (973) وقيل: (974) (2) (ج 3 / 207 - بالحواشي) (3) قلت: كلا فإن الشواهد المشار إليها لا تصلح للشهادة لأنها موقوفات ومقطوعات ولذلك جزم ابن القيم بأنه لا يصح والنووي وغيره بأنه ضعيف وقد حققت ذلك " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (599) (4) قلت: بل قوله هو الصواب لأن التلقين مع ضعف حديثه مخالف لهديه A فإنه ثبت أنه كان إذا دفن الميت وقف على قبره يدعو له بالتثبيت ويستغفر له ويأمر الحاضرين بذلك فما خالفه فهو بدعة دون شك وقد جزم بذلك الإمام الصنعاني وقد فصلت هذا بعض الشيء في " أحكام الجنائز " (ص 155 - 156) فراجعه إن شئت (5) قلت: في إسناده من يضع الحديث وقد روي عن مشيخة من التابعين موقوفا عليه وقد فصلت القول في ذلك في " الضعيفة " (5219) [63]

الله تعالى أمرا معمولا وإنما هو مكروه عنده وكذا يكره عند تلقينه بعد وضعه في قبره ". انتهى وأما الحنبلية فعند أكثرهم يستحب قال الشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني الحنبلي (1) في " شرح دليل الطالب ما لفظه ": واستحب الأكثر تلقينه بعد الدفن انتهى واستفيد منه أن غير الأكثر من الحنابلة يقول: بعدم التلقين بعد الموت أيضا (2) وأما الظاهرية فالظاهر من كلام أبي محمد (3) بن حزم الذي هو من أجل العلماء الظاهرية: عدم التلقين أيضا كما سيأتي في الفصل الثالث فلا تغفل

(1) من فقهاء الحنابلة في دمشق. توفي سنة (1135) (2) قلت: وهو الذي رجحه الشيح المرادي منهم فقال في " الإنصاف " (2 / 549) : " والنفس تميل إلى عدمه والعمل عليه ". قلت: وهو الذي نرجحه كما تقدم (ص 58) (3) اسمه علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي من كبار حفاظ الحديث وأئمة الظاهرية ولكنه في الأسماء والصفات جهمي جلد وله أوهام كثيرة في الرواة وتجهيلهم. توفي سنة (456) [64]

الفصل الثاني في النقل عمن وافق الأئمة الحنفية في عدم السماع من علماء المذاهب الثلاثة وغيرهم قال الإمام النووي (1) الشافعي C تعالى في شرحه ل " صحيح مسلم " في " باب عرض مقعد الميت من الجنة " في الكلام على قوله A في قتلى بدر: (صحيح) " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " ما عبارته (2) : قال المازري (3) : قال بعض الناس: الميت يسمع عملا بظاهر هذا الحديث. ثم أنكره المازري وادعى أن هذا خاص في هؤلاء ". انتهى المقصود منه بلفظه وأنت تعلم أن المازري من أجل العلماء المالكية المتقدمين وسيأتي إن

(1) هو يحيى بن شرف بن مري النووي الحوراني من كبار حفاظ الحديث وفقهائه مع ملازمته التصنيف ونشر العلم والعبادة والصيام والذكر والصبر على المعيشة الخشنة في المأكل والملبس وكتابه " المجموع شرح المذهب " من أنفع الكتب المطولة في الفقه المقارن عندي مع تخريج الأحاديث وتمييز صحيحها من سقيمها توفي C سنة (676) (2) (ج 17 ص 206) (3) نسبة إلى (مازر) بفتح الزاي وكسرها بلدة بجزيرة (صقلية) وهو محمد بن علي بن عمر أبو عبد الله المالكي المحدث مؤلف " المعلم في شرح مسلم " ومنه أخذ القاضي عياض شرحه " الإكمال " وكان من كبار أئمة زمانه وكان ذا فنون من أئمة المالكية مؤلفاته " الكشف والإنباء في الرد على الإحياء - للغزالي ". توفي ب (المهدية) سنة (536) عن ثلاث وثمانين [76]

شاء الله تعالى في الفصل الثالث نقل الزرقاني المالكي عن الباجي والقاضي عياض الإمامين المالكيين القول أيضا بعدم السماع فليحفظ. وقال الشيخ محمد السفاريني (1) الحنبلي في كتابه " البحور الزاخرة في أحوال الآخرة " ما عبارته: وأنكرت عائشة رضي الله تعالى عنها سماع الموتى. وقالت: ما قال رسول الله A: إنهم ليسمعون الآن ما أقول " إنما قال: " ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم أنه حق " ثم قرأت قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى} {وما أنت بمسمع من في القبور} (2) قال الحافظ ابن رجب (3) : وقد وافق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء ورجحه القاضي أبو يعلى (4) من أكابر أصحابنا في كتابه الجامع الكبير " واحتجوا بما احتجت به وأجابوا عن حديث قليب بدر بما أجابت [به] عائشة رضي الله تعالى عنها وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي A دون غيره [وهو سماع الموتى لكلامه] وفي " صحيح البخاري ": " قال قتادة: " أحياهم الله تعالى - يعني أهل القليب - حتى أسمعهم قوله A توبيخا

(1) بتشديد الفاء نسبة إلى (سفارين) قرية في نابلس وهو العلامة محمد بن أحمد السفاريني شمس الدين أبو العون عالم بالحديث والأصول والأدب محقق توفي سنة (1188) (2) أخرجه البخاري (7 / 242 - 243) ومسلم (3 / 44) والنسائي (1 / 293) وأحمد (2 / 31 و 38 و 6 / 276) من طرق عن عائشة Bها (3) في " أهوال القبور " (ق 76 / 1 - 2 مخطوطة الظاهرية) والزيادة الآتية منه (4) هو محمد بن الحسين بن محمد البغدادي أبو يعلى القاضي ابن الفراء صاحب التصانيف وفقيه العصر عالم في الأصول وأنواع الفنون عاش (78) سنة وتوفي سنة (458 هـ) [68]

وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما ". وذهب طوائف من أهل العلم إلى سماع الموتى كلام الأحياء في الجملة ". انتهى ما هو المقصود منه فتبين منه أن طائفة من العلماء وافقوا عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا على عدم السماع وأن منهم القاضي أبو يعلى الذي هو من أكابر العلماء الحنبلية كما هو مذهب أئمتنا الحنفية رحمهم الله تعالى وفي " روح المعاني ": (1) واحتج من أجاز السماع في الجملة بما رواه البيهقي (2) والحاكم - وصححه - وغيرهما (منكر) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال: أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى فزوروهم. وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم أحد عليهم إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة " وأجاب المانعون أن تصحيح الحاكم غير معتبر (3) وأنا إن سلمنا صحته نلتزم القول بأن الموتى الذين لا يسمعون هم من عدا الشهداء لأن الشهداء يسمعون في الجملة لامتيازهم على سائر الموتى بما أخبر عنهم من أنهم أحياء عند الله D واحتجوا أيضا بحديث: " ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه "

(1) (6 / 454 - 456) لمؤلفه العلامة محمود الآلوسي والد المؤلف رحمهما الله تعالى (2) أي في " دلائل النبوة " كما قيده السيوطي في " الدر المنثور " (5 / 191) (3) ولذلك مال الذهبي إلى أنه موضوع وهو غلو وأعله الحافظ ابن رجب بالاضطراب والإرسال وقد بينت ذلك في " الضعيفة " (5220) . ومثله حديث أبي رزين أن أهل القبور يسمعون السلام عليهم ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا. فهو منكر كما بينته في المصدر المذكور رقم (5225) [69]

وأجاب المانعون: إن الحافظ ابن رجب تعقبه وقال: " إنه ضعيف بل منكر " (1) انتهى. (2) باقتصار من تفسير سورة (الروم) وفي " صحيح البخاري " (3) في " باب دعاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على كفار قريش وهلاكهم يوم بدر " من (4) حديث هشام عن أبيه قال: (ذكر عند عائشة رضي الله تعالى عنها أن ابن عمر رفع إلى النبي A: " إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله " فقالت: وهل إنما قال رسول الله A: " إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن ". قالت: وذلك مثل قوله: إن رسول الله A قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم ليسمعون ما أقول إنما قال: إنهم الآن (5) ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ثم قرأت {إنك لا تسمع الموتى} و {ما أنت بمسمع من في القبور} يقول: حين تبوأوا مقاعدهم من النار) انتهى. ما في " صحيح البخاري " فقال الحافظ ابن حجر في " شرحه " (6)

(1) قلت: ذكر ذلك في " الأهوال " (ق 83 / 2) وهو كما قال وقد بينت ذلك في " الضعيفة " (4493) وأشد ضعفا منه ما أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (6723) عن زيد بن أسلم قال: مر أبو هريرة وصاحب له على قبر فقال أبو هريرة: سلم. فقال الرجل أسلم على القبر؟ فقال أبو هريرة: إن كان رآك في الدنيا يوما قط إنه ليعرفك الآن. قلت: ففيه يحيى بن العلاء وهو وضاع (2) أي كلام الآلوسي في " روح المعاني " (3) (ج 7 / 242 - فتح الباري) وكذا مسلم وقد مر تخريجه قريبا (4) الأصل: " في الكلام على " ولعل الصواب ما أثبتنا (5) يلاحظ القارئ أن كلا من ابن عمر وعائشة Bهما قد حفظ عنه A في هذه القصة قوله: (الآن) على ما بينهما من الاختلاف في ضبط تمام قوله A مع إمكان الجمع كما تقدم بيانه (ص 29) وقد مضى حديث ابن عمر مع تخريجه (ص 28) (6) أي " فتح الباري " (7 / 243) [70]

" وقال السهيلي ما محصله: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي A لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا؟ فأجابهم (1) قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين [جاز] أن يكونوا سامعين وذلك إما بآذان رؤوسهم على قول الأكثر أو بآذان قلوبهم. قال: وقد تمسك بهذا الحديث من يقول: إن السؤال يتوجه على الروح والبدن. ورده من قال: إنما يتوجه على الروح فقط بأن الإسماع يحتمل أن يكون لأذن الرأس ولأذن القلب فلم يبق فيه حجة قلت (2) : إذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي A لم يحسن التمسك به في مسألة السؤال أصلا وقد اختلف أهل التأويل في المراد ب {الموتى} في قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى} وكذلك المراد ب {من في القبور} فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته أصلا احتاجت معه إلى تأويل قوله E: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " وهذا قول الأكثر. وقيل هو مجاز والمراد ب {الموتى} وب {من في القبور} الكفار شبهوا بالموتى وهم أحياء والمعنى من هم في حال الموتى [أو في حال] من سكن القبر. وعلى هذا لا يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة رضي الله تعالى عنها والله تعالى أعلم ". انتهى ما قاله الحافظ ابن حجر بلفظه (3)

(1) أي بقوله المتقدم: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " وهو بهذا السياق عند النسائي (1 / 293) ورواية لأحمد (3 / 104) من طريق حميد عن أنس. وأخرج أحمد (6 / 170) القدر المذكور منه في الكتاب من حديث إبراهيم عن عائشة Bها (2) القائل " قلت " هو الحافظ ابن حجر (3) قلت: ليس هناك دليل على أن عائشة حملت الآية على الحقيقة - وهي أسمى من ذلك - فالسياق يدل على أنها على المجاز ولكن هذا لا ينفي صحة فهمها لأنه مبني على التأمل في المشبه بهم: " الموتى في القبور " كما بينته في المقدمة مفصلا فراجعها فإنها مهمة جدا [71]

وقال أيضا في " شرح البخاري " في " باب ما جاء في عذاب القبر (1 ") من كلام طويل ما نصه: وقال ابن التين: لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية لأن الموتى لا يسمعون بلا شك لكن إذا أراد الله تعالى إسماع ما ليس من شانه السماع لم يمتنع كقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} الآية وقوله تعالى: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} الآية وسيأتي في المغازي " قول قتادة: إن الله تعالى أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه E توبيخا ونقمة. انتهى. وقد أخذ ابن جرير (2) وجماعة من الكرامية (3) من هذه القصة أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط وأن الله تعالى يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم وذهب ابن حزم وابن هبيرة (4) إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد وخالفهم الجمهور فقال: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث ". (5) إلى أن قال ابن حجر:

(1) " فتح الباري " (3 / 182) (2) هو الإمام محمد بن جرير الطبري المفسر المشهور صاحب التصانيف الباهرة مات سنة (310 هـ) (3) طائفة من المبتدعة تقول بالتجسيم وغيره ينتسبون إلى محمد بن كرام السجستاني العابد المتكلم قال الذهبي: " شيخ الكرامية ساقط الحديث على بدعته مات سنة (255 ") (4) هو يحيى بن هبيرة بن محمد بن هبيرة الذهلي الوزير عون الدين ولد سنة 499، وتوفي سنة 560، تفقه على مذهب أحمد وكان عالما أديبا عادلا في وزارته له " الإفصاح عن معاني الصحاح " (5) يشير إلى حديث البراء الطويل في قبض الملائكة للروح وصعودهم بها إلى السماء ثم تعاد إلى الجسد فيأتيه ملكان فيجلسانه ويسألانه: من ربك؟ الحديث وهو حديث صحيح قد سقته بطوله وضمت إليه الزيادات الواردة في مختلف طرقه وخرجته وذكرت من صححه في " أحكام الجنائز " (ص 156 - 159) وقد أخرجه الآجري أيضا (ص 367 - 370) [72]

" إن المصنف (يعني البخاري) أشار إلى طريق من طرق الجمع بين حديثي ابن عمر وعائشة بحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسالة (1) وحينئذ كانت الروح قد أعيدت إلى الجسد وقد تبين من الأحاديث الأخرى أن الكافر المسؤول يعذب وأما إنكار عائشة فمحمول على غير وقت المسألة فيتفق الخبران " انتهى بلفظه وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي الشافعي في " شرحه الكبير للجامع الصغير " (2) في الكلام على قوله E: " إن الميت إذا دفن يسمع خفق نعالهم إذا ولوا منصرفين " (3) ما نصه: وعورض بقوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} وأجيب بأن (1) قلت: وكذا قال الطحطاوي (ص 546) . وهذا باطل فقد ثبت في بعض طرق القصة عن أنس أن رسول الله A ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فناداهم. . . وفيه أن عمر قال: يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا؟ الحديث. أخرجه مسلم (8 / 163) وأحمد (3 / 286) من رواية ثابت عنه. ورواه حميد عنه بلفظ قالوا " بدل " قال عمر " كما تقدم قريبا. ومعناه في طريق قتادة الذي سبق تخريجه (ص 54) فالعجب من الحافظ كيف فاته هذا وهو الذي نقل في شرحه لهذا الحديث قول السهيلي المتقدم وفيه قول الصحابة: " أتخاطب أقواما قد جيفوا " بل وذكر قبل ذلك حديث أنس هذا من طريق مسلم؟ إلا أن يقال: إن الروح تبقى مدة في جسدها بعد إعادتها إليه وهو بعيد جدا لعدم ورود نص بذلك. والله أعلم (2) وهو المسمى ب " فيض القدير " وهو خير شروح " الجامع " وأغزرها فائدة وعلما ومؤلفه هو العلامة المحقق محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي القاهري من كبار العلماء بالدين والفنون توفي سنة (1031) (3) هو بهذا اللفظ شاهد قوي لحديث أنس المتقدم (ص 56) وهو من حديث ابن عباس قال الهيثمي (3 / 54) : " رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات ". وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2 / 347 و 445) من طريقين عنه صحح أحدهما الحاكم (1 / 379) ووافقه الذهبي [73]

السماع في حديثنا مخصوص بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال ". انتهى بلفظه وفي كتاب " المفاتيح في حل المصابيح " لشرف الدين الحسين بن محمد (1) : (قوله E: " إنه ليسمع قرع نعالهم " أي لو كان حيا فإن جسده قبل أن يأتيه الملك ويقعده حيث لا يحس بشيء. وقوله: (فيقعدان) الأصل فيه أن يحمل على الحقيقة على حسب ما يقتضيه الظاهر ويحتمل أن يراد بالإقعاد: التنبيه لما يسأل عنه والإيقاف عما هو عليه بإعادة الروح إليه) انتهى ومما يؤيد مذهب الحنفية والموافقين لهم بعدم السماع أن الميت لو كان يسمع مطلقا لما ورد أن الروح ترجع إليه وقت المسألة في القبر ثم تذهب فافهم والعجب من بعض من لا فهم له ممن ينتسب إلى مذهب الإمام أبي حنيفة يشيع عند العوام أن السماع مجمع عليه. وأنه أيضا مذهب ذلك الإمام الأعظم وأصحابه ممن تأخر وتقدم بزعم أنه عليه الرحمة قال: " إذا صح الحديث فهو مذهبي " (2) وأن الحديث في سماعهم قد صح ولم يعلم أن الحنفية قد تمسكوا كعائشة وغيرها بالآيتين وأولوا ما ورد بعد معرفتهم الحديثين ولعل هذا المتوهم يزعم أيضا أن النكاح بلا ولي باطل في مذهب أبي حنيفة لورود

(1) هو الإمام الطيبي الحسين بن محمد بن عبد الله ووقع اسمه في بعض مؤلفاته: الحسين بن عبد الله بن محمد ولعله الأصوب. وهو من علماء الحديث والتفسير والبيان مع حسن المعتقد والرد على المبتدعة مات وهو ينتظر الصلاة سنة (743) (2) لقد صح هذا عن أبي حنيفة وعن بقية الأئمة الأربعة فانظره في " صفة الصلاة " (ص 24 - 34) [74]

الحديث الصحيح فيه (1) وأن الصلاة بلا فاتحة الكتاب خداج لأن الحديث: الصحيح ورد أن " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " (2) وأن الوضوء بلا نية غير صحيح لورود حديث " إنما الأعمال بالنيات " (3) ونحو ذلك مما ذهب الإمام إلى خلافه مع وجود هذه الأحاديث المغايرة لمذهبه الواردة عليه ولم يعلم هذا المنتسب أن الإمام وأتباعه رأوا الأحاديث المصححة المعارضة لمذهبه في كثير من المسائل فأولوها أو حفظوا ما يعارضها من الآيات والأحاديث أو علموا نسخها أو تخصيصها فلم يعملوا بها لهذه العوارض أو نحوها مما هو مفصل في محله من الكتب الأصولية والحديثية والفقهية ككتاب " مختلف الآثار " للإمام الطحاوي (4) والإمام محمد بن الحسن (5)

(1) يشير إلى قوله A: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ". وهو مخرج في " إرواء الغليل " برقم (1896) (2) أخرجه الشيخان وغيرهما وهو مخرج في المصدر السابق (302) وفي (صحيح أبي داود) (780) (3) أخرجه الشيخان من حديث عمر بن الخطاب وهو مخرج في أول " الإرواء " (4) هو أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الطحاوي المصري من كبار أئمة الحنفية الجامعين بين الفقه والحديث وله الباع الطويل في حفظ متونه وأسانيده يجد عنده الباحث من الحديث ما لا يجد عند غيره من الحفاظ على تساهل في الاحتجاج به وتعصب لمذهبه كما شهد بهذا الثاني أبو الحسنات الليكنوي في " الفوائد البهية " (ص 33) وبالذي قبله شيخ الإسلام ابن تيمية في " منهاج السنة " وغيره توفي سنة (321) وله كتب معروفة بعضها مطبوع ومنه كتابه " مشكل الآثار " و " شرح معاني الآثار " وهو الذي يعنيه المؤلف C تعالى (5) هو الشيباني تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وهو أشهر أصحابه توفي سنة (189) وهو من أهل الصدق كما قال الشافعي لكن لينه النسائي وغيره من قبل حفظه وليس لأنه خالف المحدثين في مشاكلة التأليف وطريقته كما زعم بعض متعصبة الحنفية المتأخرين وكتابه الذي يشير إليه المؤلف معروف ب " كتاب الآثار " وهو مطبوع [75]

و " شرح الهداية " (1) وكتاب " العقود " (2) وغير ذلك وكيف يسوغ لمن شم رائحة العلم وأدرك شيئا من لوامع الفهم - بعد اطلاعه على عبارات الحنفية وغيرهم التي سردناها وأجوبتهم عن الآثار التي رويناها - أن يقول ويشيع إن مذهب الحنفية - كغيرهم - سماع الموتى لقول إمامنا الأعظم " إذا صح الحديث فهو مذهبي " ويجري ذلك على عمومه؟ (3) وهل هذا إلا مكابرة على الثابت بالعيان وإخفاء لضوء الشمس الذي تجحده العينان أو خيانة في حمل علوم الدين لمآرب خبيثة يستخف بها ضعفاء المسلمين [لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي]

والله تعالى المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل

(1) وهو " فتح القدير " لابن الهمام (2) يعني " عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة " للمرتضى الزبيدي شارح القاموس مات سنة (1205) (3) قلت: هذا كلام رصين متين وخلاصته أنه لا ينبغي أن ينسب إلى الإمام أبي حنيفة - وكذا غيره من الأئمة - كل مسألة جاء بها حديث صحيح مخالف لما ذهب إليه الإمام لاحتمال أن يكون الحديث مما اطلع الإمام عليه ولكنه خالفه لحديث آخر تثبت لديه كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية C في رسالته الهامة: " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " وهذا بخلاف ما إذا كانت المخالفة بالرأي والاجتهاد فإنه يجب والحالة هذه الأخذ بالحديث ونسبته إلى الإمام وترك الأخذ برأيه كقوله مثلا بجواز الوضوء بلا نية. وتجد تفصيل هذا في مقدمة كتابي " صفة صلاة النبي A " فراجعها فإنها هامة. وراجع المقدمة ص (23) [76]

الفصل الثالث في حياة الأنبياء عليهم السلام البرزخية وفي أن النعيم والعذاب على الروح والبدن كما هو مذهب الجمهور من أهل السنة السنة وأن زيارة القبور أمر مشروع أيضا عند أئمتنا الحنفية (1) فاعلم أرشدنا الله وإياك إلى الطريق الأسلم أن المشايخ الحنفية وإن قالوا بعدم سماع الأموات كلام الأحياء إلا أنهم قالوا بأن النعيم والعذاب للروح والبدن وأن الزيارة أمر مشروع ولننقل لك من كلام العلماء في ذلك سالكين إن شاء الله تعالى أقصر المسالك [حياة الأنبياء البرزخية]

أما حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: الحياة البرزخية - التي هي فوق حياة الشهداء الذين قال الله تعالى فيهم: {بل أحياء عند ربهم (2) يرزقون} - فأمر ثابت بالأحاديث الصحيحة قال بخاري عصره شيخ مشايخنا الشيخ

(1) قلت: وكذلك سائر الأئمة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وإمام دعوة التوحيد محمد بن عبد الوهاب وغيرهم فمن نسب إنكارهم للزيارة. فقد اعتدى وظلم وإنما هم ينكرون الزيارة التي يقترن بها بعض المخالفات الشرعية كالاستغاثة بالقبور والنذر له والحلف به ونحو ذلك كشد الرحل إليه ويسمون هذه الزيارة بالزيارة البدعية. وتجد تفصيل الكلام على الزيارة الشرعية وما جاء فيها من الأحاديث في " أحكام الجنائز وبدعها " (2) قلت: فيه إشارة إلى أن رزقهم المذكور ليس في القبر وإنما عند ربهم وذلك صريح في حديث مسروق قال: سألنا عبد الله (ابن مسعود) عن هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} ؟ قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك؟ فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل. . . " الحديث. رواه مسلم وغيره. وهو مخرج في " الصحيحة " (2633) [77]

علي السويدي البغدادي في كتابه " العقد " (1) : " أخرج أبو يعلى والبيهقي وصححه (2) عن أنس Bهـ أن النبي A قال: " الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ". وأخرج الإمام أحمد ومسلم في " صحيحه " والنسائي (3) عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي A قال: " مررت ليلة أسري بي على موسى قائما يصلي في قبره " قال المناوي (4) : " أي يدعو ويثني عليه ويذكره فالمراد الصلاة اللغوية وهي الدعاء والثناء وقيل: المراد الشرعية وعليه القرطبي. ولا تدافع بين هذا وبين رؤيته إياه تلك الليلة في السماء السادسة لأن للأنبياء عليهم والسلام مسارح أو لأن أرواح الأنبياء بعد مفارقة البدن في الرفيق الأعلى ولها إشراف على البدن وتعلق به وبهذا التعلق رآه يصلي في قبره ورآه في السماء فلا يلزم كون موسى عليه السلام عرج به من قبره [ثم رد إليه بل ذلك مقام روحه واستقرارها

(1) يعني " العقد الثمين في بيان مسائل الدين " (ص 163 - 164) . مختصر بتصرف يسير. ومؤلفه علي بن محمد بن سعيد العباسي السويدي من علماء الحديث في العراق ولد في بغداد ومات في دمشق سنة (1237) (2) قلت: لنظر أين صححه؟ فإنه لما أخرجه في " حياة الأنبياء " أعله بتفرد الحسن بن قتيبة وهو كما قال الذهبي: هالك لكنه لم يتفرد به كما حققته في " الأحاديث الصحيحة " (621) وبينت فيه صحة الحديث ووهم من طعن في أحد رواته فراجعه فإنه بحث مفيد عزيز قلما تراه في كتاب (3) قلت: وزادا لهما في رواية لهما: " عند الكثيب الأحمر ". وكذلك أخرجه أحمد وغيره وهو مخرج عندي في " الصحيحة " رقم (2627) (4) أي في " فيض القدير " باختصار يسير (5 / 519 - 520) والزيادة الآتية بين المعكوفتين منه ولا يستقيم المعنى بدونها فالظاهر أنها سقطت من الناسخ [78]

وقبره مقام بدنه] (1) واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى الأجساد كما أن روح نبينا A بالرفيق الأعلى وبدنه الشريف في ضريحه المكرم يرد السلام على من يسلم عليه (2) ومن غلظ طبعه عن إدراك هذا فلينظر إلى السماء في علوها وتعلقها وتأثيرها في الأرض وحياة النبات والحيوان وإذا تأملت في هذه الكلمات علمت أن لا حاجة إلى التكلفات البعيدة التي منها أن هذا كان رؤية منام أو تمثيلا أو اخبارا عن وحي لا رؤية عين ". وفي " المواهب اللدنية " (3) : اختلف في رؤية نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فحمل ذلك بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى عليه السلام فيحتمل أن يكون E عاين كل واحد منهم في قبره في الأرض على الصورة التي أخبر بها من الموضع الذي ذكر أنه عاينه فيه فيكون الله D قد أعطاه من القوة في البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك ويشهد له رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم الجنة والنار في عرض الحائط والقدرة صالحة لكليهما إلى آخر ما قال انتهى ما في " المواهب وشرحه " وتمام البحث فيه وأن أجسام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تأكلها الأرض كما ورد بالحديث بخلاف غيرهم. وقد روى في " المواهب " عن أبي داود بلفظ (صحيح) " إن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء (4 ")

(1) سقطت من الأصل واستدركتها من " فيض القدير " (2) كما في حديث أبي داود الآتي قلت: وبالجملة فحياة الأنبياء بعد الموت حياة برزخية ولنبينا A فيها من الخصائص ما ليس لغيره كهذه الخصوصية وغيرها مما يأتي ولكن لا يجوز التوسع في ذلك بالأقيسة والأهواء كما جاء في آخر " مراقي الفلاح " تحت " فصل زيارة النبي A " ما نصه: ومما هو مقرر عند المحققين أنه A حي يرزق بجميع الملاذ والعبادات غير أنه حجب عن أبصار القاصرين (3) الجزء الثاني المقصد الخامس ص 24 مختصرا (4) (3 / 119) لكن لفظ الحديث فيه: " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ". وعزاه للنسائي أيضا وقال: " وصححه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني ". قلت: وصححه آخرون. وهو مخرج في " صحيح أبي داود " برقم (962) [79]

ومن خصائص نبينا E أن الله تعالى وكل ملكا يبلغه صلاة المصلين والمسلمين عليه (1) . وورد أيضا: (حسن الإسناد) " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي فرددت عليه (2 ") . فلا تغفل [النعيم والعذاب في القبر للروح والبدن]

وأما كون العذاب والنعيم للروح والبدن فأمر مسلم عند الجمهور ولا ينافي عدم السماع على قول الأئمة الحنفية ومن وافقهم فهذا النائم يرى الرؤيا فتلتذ روحه وبدنه أو تغتم روحه ويتألم ويضطرب بدنه وإذا تكلم

(1) يشير إلى حديث ابن مسعود مرفوعا: " إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام " وهو صحيح الإسناد مخرج في " المصدر السابق " برقم (924) وفي " فضل الصلاة على النبي A لإسماعيل القاضي (21) وانظر " المواهب " (1 / 421) (3) أخرجه أبو داود أيضا وغيره باللفظ المذكور إلا أنه قال: ". . . روحي حتى أرد عليه السلام " وإسناده حسن كما بينته في " الصحيحة " (2266) . وأما قول مؤلف " تتمة الأضواء " (8 / 576) : " جاء في الصحيح " ما من أحد يسلم. . . " فخطأ مزدوج عند العلماء فإن الحديث إنما هو حسن فقط كما ذكرنا وقوله: " في الصحيح " يراد به في عرفهم أن الحديث في " صحيح البخاري " أو " صحيح مسلم " وليس هو عند أحدهما وإن أراد مطلق الصحة فليس الأمر كذلك فتنبه وأما حديث " من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا أبلغته " فهو موضوع كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (27 / 241) وقد خرجته في " الضعيفة " (203) . ولم أجد دليلا على سماعه A سلام من سلم عند قبره وحديث أبي داود ليس صريحا في ذلك فلا أدري من أين أخذ ابن تيمية قوله (27 / 384) : أنه A يسمع السلام من القريب وحديث ابن مسعود المتقدم مطلق. والله أعلم [80]

عنده شخص وهو في تلك الحالة لا يسمع وقد وردت به الأخبار فاعتقدته ذوو الأبصار قال ابن وهبان (1) الحنفي في منظومته الشهيرة: وحق سؤال القبر ثم عذابه وكل الذي عنه النبيون أخبروا حساب وميزان صحائف نشرت جنان ونيران صراط ومحشر وقال شارحها ابن الشحنة (2) : اشتمل البيتان على مسائل: الأولى: سؤال منكر ونكير (3) وهما ملكان يدخلان القبر فيسألان العبد عن دينه ونبيه وهو مما يجب الإيمان به لأنه أمر ممكن أخبر به الصادق المعصوم صلى الله تعالى عليه وسلم والأحاديث فيها ثابتة صحيحة أي مثل ما رواه البخاري (4) عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى

(1) هو عبد الوهاب بن أحمد بن وهبان القاضي أبو محمد الدمشقي فقيه أديب ولي قضاء حماه. وكان مشكور السيرة توفي سنة (768) في نحو الأربعين من عمره ومنظومته في ألف بيت (2) هو عبد البر بن محمد محب الدين بن محمد أبو البركات الحلبي القاهري يعرف كسلفه بابن الشحنة مؤلف " الذخائر الأشرفية في الألغاز الحنفية " تولى قضاء حلب ثم القاهرة. مات سنة (912) (3) ثبت ذكرهما باسميهما في حديث أبي هريرة مرفوعا وهو مخرج في " الجنائز " (ص 156) وله شاهد من حديث البراء المتقدم (ص 72) عند البيهقي في " الشعب " (1 / 181) وآخر موقوف على ابن عباس رواه الطبراني في " الأوسط " (1 / 82 / 1 مجمع البحرين) وحسن إسناده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (3 / 54) وفيه عبد الله بن كيسان المروزي وهو صدوق يخطئ. وآخران: عن أبي الدرداء موقوفا وعطاء بن يسار مرسلا عند الآجري (366، 367) (4) قلت: رواه مسلم أيضا كما تقدم (ص 55) وكذا الآجري في " الشريعة " ص (365) وغيره [81]

عليه وسلم قال: " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد A فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال [له] : انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة فيراهما [جميعا] وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال: لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ". انتهى الثانية: عذاب القبر للكافرين وبعض عصاة المؤمنين وتنعيم أهل الطاعة في القبر بما يعلمه الله تعالى ويريده والنصوص في ذلك صحيحة كثيرة يبلغ معناها حد التواتر قال المصنف (1) : " ومن أكلته السباع والحيتان فغاية أمره أن يكون بطن ذلك قبرا له ". باقتصار (2) نعم إن بعض العلماء ذهب إلى عدم إعادة الروح إلى البدن وقت السؤال وأن السؤال للروح فقط وكذا التعذيب أو التنعيم ومنهم أبو محمد بن حزم الظاهري الشهير فإنه قال في كتابه " الملل والنحل (3 ") من كلام طويل ما لفظه: وأيضا فإن جسد كل إنسان لا بد له من العود إلى التراب يوما كما قال D: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} فكل من ذكرنا من مصلوب أو غريق أو محرق أو أكيل سبع أو دابة بحر أو

(1) يعني ابن وهبان صاحب المنظومة المتقدم (2) كذا الأصل ولعل الصواب: " انتهى باختصار " (3) (4 / 67 - 68) ولو قال المؤلف: " وما لفظه مختصرا " لكان أقرب إلى الواقع لا سيما وفيه بعض الألفاظ التي أضافها المؤلف بيانا منه ليست في الأصل [82]

قتيل لم يقبر فإنه يعود رمادا أو رجيعا أو يتقطع فيعود إلى الأرض ولا بد وكل مكان استقرت فيه النفس إثر خروجها فهو لها قبر إلى يوم القيامة وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره [قبل] يوم القيامة فخطأ (1) لأن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا [وأحيانا ثلاثا] وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء عليهم السلام ك (2) {الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} {والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه} [ومن خصه نص] وكذلك قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} فصح نص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى وهو يوم القيامة وكذا أخبر رسول الله A أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام أرواح أهل السعادة وعن شماله أرواح أهل الشقاوة وأخبر A يوم بدر إذ خاطب الموتى وأخبر أنهم قد وجدوا ما وعدهم به حقا قبل أن يكون لهم قبور (3) فقال له المسلمون: يا رسول الله أتخاطب أقواما قد جيفوا؟ فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " ما أنتم بأسمع لما أقول

(1) قلت: بل هذا على إطلاقه هو الخطأ وسيأتي بيانه من المؤلف نقلا عن ابن القيم C (ص 87 - 88) (2) الأصل تبعا لأصله " الملل ": (و) والتصويب من " الروح " (ص 42) . والزيادة الآتية بين المعكوفتين [] منه نقلا عن " الملل " وليست في نسختنا المطبوعة منها ولعلها سقطت منها فإنها في " المحلى " لابن حزم (1 / 22 بلفظ: " وكل من جاء فيه بذلك نص " (3) قلت: نفي ابن حزم هذا يخالف قوله المتقدم آنفا: ومكان استقرت فيه النفس إثر خروجها فهو لها قبر " فتأمل [83]

منهم " فلم ينكر صلى الله تعالى عليه وسلم على المسلمين قولهم " قد جيفوا " وأعلمهم [أنهم] سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له [قال الله D: {وما أنت بمسمع من في القبور} فنفى D السمع عمن في القبور وهي الأجساد بلا شك. ولا يشك مسلم في أن الذي نفى الله D عنه السمع هو غير الذي أثبت له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم السمع فهذا هو الحق وأما ما خالف هذا فخلاف لله D ولرسوله A مكابرة للعقل وللمشاهدة] (1) ولم يأت قط عن رسول الله A في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد [إلى] أجسادهم عند المساءلة ولو صح ذلك عنه A لقلنا له فإذا لم يصح فلا يحل لأحد أن يقوله وإنما انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح في القبور إلى الأجساد المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوي (2) [تركه شعبة وغيره وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي - وهو أحد الائمة -: " ما جازت قط للمنهال بن عمرو شهادة في الإسلام على باقة بقل "] (3) وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك وهذا

(1 و 3) ما بين المعكوفتين لا وجود له في هذا الكان من " الملل " فلعله في بعض النسخ أو في مكان آخر منه نقله المؤلف إلى هنا أو هو حاشية كانت على الهامش فنقلها الناسخ إلى هنا وهما منه. وما ذكر في الزيادة الثانية عن الضبي في ثبوت عنه نظر كما في " التهذيب " والله أعلم (2) قلت: هذه دعوى مردودة بل هي من مجازفاته المعروفة فالحديث صحيح من حديث البراء بن عازب له طرق كثيرة كما قال القرطبي في " التذكرة " (ق 84 / 2) وتبعه ابن القيم في " الروح " (ص 46) والسيوطي في " شرح الصدور " (ص 22) وصححه غيرهم من أئمة الحديث المتقدمين كما تراه في " الجنائز " (ص 159) و " الصحيحة " (1391) ومنهم البيهقي في " شعب الإيمان) (1 / 281) وله عنده طريق أخرى وقد ساقه ابن القيم مع طرقه الأخرى فليرجع إليه من شاء التوسع (ص 82 - 83) وأما قوله في المنهال: " وليس بالقوي " فقد رده ابن القيم وغيره كابن القطان كما تراه في " تهذيب التهذيب " ويكفي في رد ذلك أنه من رجال البخاري [84]

الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم عنهم لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات حدثنا إسماعيل بن إسحاق البصري (1) : نا عيسى بن حبيب (2) : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ عن جده محمد بن عبد الله عن سفيان ابن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يصلب فقيل له: هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها فمال ابن عمر إليها فعزاها وقال إن هذه الجثث ليست بشيء وإن الأرواح عند الله D. فقالت أسماء: وما يمنعني (3) وقد أهدي رأس زكريا (4) إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. و: نا محمد بن سعيد بن نبات: نا أحمد بن عون الله: نا قاسم بن أصبغ: نا محمد بن عبد السلام الخشني: نا أبو موسى محمد بن المثنى الزمن: نا عبد الرحمن بن مهدي: نا سفيان الثوري عن أبي اسحاق السبيعي عن أبي

(1) انظر " الشذرات " (2 / 178) و " تذكرة الحفاظ " (2) لم أعرفه ومثله شيخه عبد الله بن عبد الرحمن وقد ذكره في " التهذيب " في الرواة عن جده محمد بن عبد الله لكن وقع فيه مقلوبا بالنسبة لما هنا فقال في ترجمة محمد هذا: " وعنه. . . ابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد " ولعله من أجل الجهالة المشار إليها أشار الحافظ ابن كثير في تاريخه " البداية " (8 / 346) إلى تضعيف هذه القصة بقوله: " وقيل: إن ابن عمر دخل. . . ". فتصحيح ابن حزم لها مردود. والله أعلم (3) قلت: تعني من الصبر وقد جاء هذا البيان في صلب الرواية في " كتاب الأهوال " (ق 180 / 1) وفي تاريخ " البداية " (4) كذا في الأصل تبعا لأصله المنقول عنه وكذا وقع في " المحلي " لابن حزم أيضا (1 / 22) وعلق عليه الشيخ أحمد شاكر C بقوله: " هنا بهامش الأصل ما نصه: المعروف في كتب التفسير والآثار أن يحيى هو الذي أهدي رأسه إلى البغي وأما زكريا فإنه نشر بالمنشار في باطن الشجرة فكأنه سقط لفظ (يحيى) وأن الأصل يحيى بن زكريا " قلت: وهكذا على الصواب وقع في " الأهوال " و " البداية " [85]

الأحوص عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قول الله D: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} [قال] : هي التي في (البقرة) : {وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} (1) . فهذا ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ولا مخالف لهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله تعالى وأن الجثث ليست بشيء ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان والوفاة كذلك وهو قولنا وبالله تعالى التوفيق. وقد صح عن النبي A انه رأى موسى عليه السلام تلك الليلة في السماء السادسة أو السابعة (2) وبلا شك أنه رأى روحه وأما الجسد فموارى في التراب بلا شك فعلى هذا إن كل موضع روح يسمى قبرا له فتعذب الأرواح حينئذ وتسأل حيث هي. وبالله تعالى التوفيق ". انتهى كلام ابن حزم بحروفه. ولا تنس توقف الإمام الأعظم في ذلك

(1) قلت: وأخرجه ابن جرير في " تفسيره " (24 / 31) : حدثنا ابن بشار: ثنا عبد الرحمن به. وأخرجه الحاكم (2 / 437) من طريق آخر عن أبي إسحاق به. وقال: " صحيح على شرط الشيخين " ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وأورده في " الدر " (5 / 374) بزيادة في آخره بلفظ: " كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ثم أخرجهم فأحياهم ثم يميتهم ثم يحييهم بعد الموت ". وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني. وقال ابن كثير عقبه: " وكذا قال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو مالك وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية ". وبه جزم في " شرح الطحاوية " (ص 446 - الطبعة الرابعة) (2) كذا على الشك وكذا قال ابن القيم في " الروح " (ص 45) وسبب الشك اختلاف الروايات ففي بعضها أن النبي A رأى موسى في السماء السادسة وفي أخرى: السابعة وقد حاول الحافظ ابن حجر التوفيق بينهما فراجع شرحه للحديث في أول " كتاب الصلاة " من " البخاري " [86]

وقد رده العلامة ابن القيم في " كتاب الروح (1 ") بعد أن نقل بعضه بقوله: قلت ما ذكره أبو محمد فيه حق وباطل أما قوله: من ظن أن الميت يحيا في قبره فخطأ " فهذا فيه إجمال إن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي يقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها [إلى] الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ " إلى أن قال ابن القيم (1) : إن الروح بالبدن لها خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام: أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض الثالث: تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه الرابع: تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن (1) (ص 43) (2) يعني في كتاب الروح " (ص 43 - 44) . ومثله في " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز (ص 451) وكأنه نقله عن ابن القيم فإنه متأخر الوفاة عنه ب (41) سنة [87]

ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا " انتهى. وأطال في البحث كما هي عادته فمن أراده فليرجع إليه وتبين أيضا مما نقلناه عن أبي محمد بن حزم أنه موافق للحنفية أيضا في مسألة عدم سماع الموتى وإن خالفهم في غيره وهو من أجل علماء مذهب داود الظاهري المجتهد المشهور تتمه: قال العلامة أبو الحسن علي سيف الدين الآمدي الأشعري (1) في كتابه " أبكار الأفكار " ما عبارته: الفصل الثالث في عذاب القبر ومسألة منكر ونكير: وقد اتفق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف وأكثرهم بعد ظهوره على إ ثبات إحياء الموتى في قبورهم ومساءلة الملكين لهم وتسمية أحدهما منكرا والآخر نكيرا وعلى إثبات عذاب القبر للمجرمين والكافرين وذهب أبو الهذيل (2) وبشر بن المعتمر (3) إلى أن من ليس بمؤمن فإنه لا يسأل ويعذب فيما بعد النفختين أيضا وذهب الصالحي (4) من المعتزلة وابن (1) هو علي بن محمد بن سالم التغلبي سيف الدين الآمدي أبو الحسن أصولي باحث له نحو عشرين مصنفا منها كتابه المعروف: الإحكام في أصول الأحكام " وقد كان نفي من دمشق لسوء اعتقاده وصح عنه أنه كان يترك الصلاة. نسأل الله العافية. مات سنة (631) (2) هو محمد الهذيل العلاف من أئمة المعتزلة له كتب كثيرة في مذهبهم وكان سريع الخاطر قوي الحجة توفي سنة (235) وقيل غير ذلك (3) كوفي ويقال: بغدادي من كبار المعتزلة وخالفهم في مسألة القدر مات سنة (210) (4) عرف بهذه النسبة قال السمعاني: " وكان يزعم أنه يجوز وجود الجوهر اليوم خاليا عن الأعراض ثم حدثت فيها الأعراض وأن العلم والقدرة والإرادة والسمع والرؤية يصح وجودها كلها في الميتة وعلى هذه يتصور أن يكون سائر الناس أمواتا " هذا كل ما ذكر في ترجمته [88]

جرير الطبري وطائفة من الكرامية إلى تجويز ذلك (1) على الموتى في قبورهم وذهب بعض المتكلمين إلى أن الآلام تجتمع في أجساد الموتى وتتضاعف من غير حس بها فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة وذهب ضرار بن عمرو (2) وبشر المريسي (3) وأكثر المتأخرين من المعتزلة إلى إنكار ذلك كله وأنكر الجبائي (4) وابنه والبلخي (5) تسمية الملكين منكرا ونكيرا مع الاعتراف بهما (6) وإنما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا

(1) يعني العذاب (على الموتى في قبورهم) يعني على أجسادهم دون إعادة الأرواح إليها كما سيوضحه جواب الآمدي نفسه الآتي (ص 90) قال الحافظ ابن رجب (ق 81 / 1) : " وممن ذكر ذلك من أصحابنا ابن عقيل في " كتاب الإرشاد " له وابن الزاغوني وحكي عن ابن جرير الطبري أيضا. . . " لكن أنكره الجمهور كما قال ابن القيم (ص 50) (2) هو القاضي. قال الذهبي: " معتزلي جلد له مقالات خبيثة قال ابن حزم: (كان ضرار ينكر عذاب القبر) قلت: ومثله اليوم كثير ممن يشككون في الأحاديث الصحيحة الصريحة في عذاب القبر ويدفعونها بزعمهم أنها أحاديث آحاد وأن القاعدة أنه لا تثبت بها عقيدة وقد بينت بطلان هذه القاعدة في رسالتين مطبوعتين: " الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام " و " وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة " (3) بفتح الميم وكسر الراء نسبة إلى (مريسة) بالصعيد والمشهور بالخفة وضبطها الصغاني بتثقيل الراء وهو فقيه معدود في فقهاء الحنفية ومن تلامذة الإمام أبي يوسف C ولكن هذا كان يذمه ويعرض عنه لضلاله مع أنه كان ذا ورع وزهد. مات سنة (228) (4) بضم الجيم نسبة إلى (جبى) قرية في البصرة واسمه محمد بن عبد الوهاب أبو علي من أئمة المعتزلة. توفي سنة (303) وله ثمان وستون سنة (5) هو عبد الله بن أحمد البلخي أبو القاسم الكعبي كان داعية إلى الاعتزال وله تصنيف يدل عليه كثرة اطلاعه وتعصبه توفي سنة (319) (6) لثبوت ذكرهما في الأحاديث الصحيحة بدون تسمية حتى بلغت مبلغ التواتر وقد ساقها السيوطي في " شرح الصدور " (ص 48 - 59) وأما التسمية فهي ثابتة في حديث أبي هريرة والبراء كما تقدم (ص 81) فمن أنكرها بعد ثبوتها فقد جهل [89]

سئل والنكير تقريع الملكين له والدليل على إحياء الموتى في قبورهم قبل الحشر قبل الحشر قوله تعالى: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} والمراد بالإماتتين ما بين الموتة التي قبل مزار القبور والموتة التي بعد مساءلة منكر ونكير والمراد بالحياتين: الحياة الأولى والحياة لأجل المساءلة على ما قاله المفسرون (1) فإن قيل: لا نسلم أن المراد بالإماتتين والحياتين ما ذكرتموه وما ذكرتموه عن المفسرين فهو معارض بما يناقضه من قول غيرهم من المفسرين أيضا فإنه قد قيل: إن المراد بالإماتتين الموتة الأولى في أطوار النطفة قبل نفخ الروح فيها والثانية: التي قبل مزار القبور والمراد بالحياتين: الحياة التي قبل مزار القبور والمراد بالحياتين: الحياة التي قبل مزار القبور والحياة لأجل الحشر وليس أحد القولين أولى من الآخر بل هذا القول أولى لأنه لو كان كذلك فيكون على وفق المفهوم من قوله تعالى: {وأحييتنا اثنتين} حيث يدل بمفهومه على نفي حياة ثالثة وما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الإحياء ثلاث مرات: الإحياء الأول قبل مزار القبور والإحياء الثاني للمسألة والإحياء [الثالث] للحشر وهو خلاف المفهوم. (2)

(1) ليس في التفسير بالمأثور شيء من ذلك بل المروي عن ابن مسعود وغيره خلافه كما سبق (ص 86) فلا تعبأ بترجيح الآمدي له كما يأتي فإنه خلاف علم أصول التفسير. انظر (ص 95 - 102) من " مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير " و " فصل في الإرشاد إلى طريق المعرفة لصحيح التفسير " (ص 156 - 158) من " إيثار الحق على الخلق " لأبي عبد الله اليماني C (2) قلت: ولذلك أبطله ابن حزم كما تقدم في كلامه المنقول في الكتاب (ص 82 - 83) لكن ذلك لا ينافي الحياة الخاصة في البرزخ كما سبق بيانه من كلام ابن القيم C (ص 87) [90]

قلنا بل ما ذكرناه أولى لوجهين: الأول: أنه الشايع المستفيض بين أرباب التفسير وما ذكرتموه نقول شذوذ لا يؤبه له الثاني: أنه حمل الإماتة على حالة أطوار النطفة مخالف للظاهر فإن الإماتة لا تطلق إلا بعد سابقة الحياة " ثم إنه أطال (1) في الأجوبة إلى أن قال في الكلام على عذاب القبر وأدلة من يقول بنفيه: ومنها قوله تعالى حكاية عن الكفار إذا حشروا: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟} فإنه دليل على أنهم لم يكونوا معذبين قبل ذلك. ومنها قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} وهي خلاف قول من قال بأن الميت يحيى للمسائلة ثم يموت إلى أن قال: والجواب: أما ما ذكروه من الشبهة الأولى فقد اختلف المتكلمون في جوابها فمنهم من قال بالتزام الثواب والعقاب في حق الموتى من غير حياة كما حكاه عن الصالحي وابن جرير الطبري وبعض الكرامية وأما أصحابنا (2) فقد اختلفوا فمنهم من قال ترد الحياة إلى بعض أجزاء البدن وأخصها منها بذلك والمسائلة والعذاب. وقال القاضي أبو بكر: لا يبعد أن ترد الحياة وان كنا نحن لا نشعر بها كما قال (صاحب السكة ) . (3) انتهى

(1) يعني الآمدي في كتابه السابق الذكر: " الأبكار " (2) يعني الأشاعرة (3) قلت: لعله يشير إلى ما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " من عاش بعد الموت " من طريق أبي أيوب اليماني عن رجل من قومه يقال له عبد الله أنه ونفرا من قومه ركبوا البحر وأن البحر أظلم عليهم أياما ثم انجلت عنهم تلك الظلمة وهم قرب قرية قال عبد الله: فخرجت ألتمس الماء فإذا أبواب مغلقة تجأجأ عنها الريح فهتفت فيها فلم يجيبني أحد فبينما أنا على ذلك إذ طلع علي فارسان تحت كل فارس منهما قطيفة بيضاء فسألاني عن أمري فأخبرتهما بالذي أصابنا في البحر وأني خرجت أطلب الماء فقالا لي: يا عبد الله اسلك في هذه السكة فإنك ستنتهي إلى بركة فيها ماء فاستق منها ولا يهولنك ما ترى فيها. قال: فسألتهما عن تلك البيوت المعلقة التي تجأجأ فيها الريح؟ فقالا: هذه بيوت فيها أرواح الموتى قال: فخرجت حتى انتهيت إلى البركة فإذا رجل معلق مقلوب على رأسه يريد أن يتناول الماء بيده وهو لا يناله فلما رآني هتف بي وقال: يا عبد الله اسقني. قال: فعرفت بالقدح لأناوله فقبضت يدي فقال لي: بل العمامة ثم ارم بها إلي قال: فبللت العمامة لأرمي بها إليه فقبضت يدي؟ فقلت يا عبد الله غرفت بالقدح لأناولك فبضت يدي ثم بللت العمامة لأرمي بها إليك فقبضت يدي فاخبروني ما أنت؟ فقال: أنا ابن آدم؟ أنا أول من سفك الدماء في الأرض نقلته من " كتاب الأهوال " لابن رجب (ق 122 / 1 - 123 / 1) وسكت عنه وهي قصة غريبة عجيبة وعبد الله هذا راويها لم أعرفه وكذا أبو أيوب اليماني الراوي عنه. ثم رأيت في النسختين البغداديتين: " السكتة " بدل " السكة " ولم أدر وجهه [91]

وأطال في الأجوبة فإن أردته فارجع إليه وتبين أيضا منه موافقة ابن جرير الطبري المجتهد وغيره للحنفية في عدم السماع لأنه لما نفى الحياة فمن الأولى أن ينفي السماع أيضا كما لا يخفى على كل ذي فهم غير متعصب فلا تغفل [زيارة القبور]

وأما مشروعية زيارة المقابر فاسمع ما قالته الأئمة الحنفية في كتبهم المرضية قال الشرنبلالي في " مراقي الفلاح ": (فصل في زيارة القبور. ندب زيارتها) من غير أن يطأ القبور (للرجال والنساء وقيل تحرم على النساء) والأصح أن الرخصة ثابتة للرجال والنساء فتندب لهن أيضا (على الأصح) . (1) (1) نسبة إلى (شبرى بلولة) ب (المنوفية) من (مصر) وهو حسن بن عمار بن علي المصري من فقهاء الحنفية مكثر من التصنيف مات سنة (1069) (2) انظر أحكام الجنائز " (ص 180) [الصفحة 92]

والسنة زيارتها قائما والدعاء عندها (1) قائما كما كان يفعل رسول الله A في الخروج إلى البقيع ويقول السلام [عليكم] دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية ". (2) (ويستحب) للزائر (قراءة) سورة (يس) لما ورد " انتهى (3) وقال محشيه الطحطاوي (4) : (قوله للرجال " ويقصدون بزيارتها وجه الله تعالى وإصلاح القلب (5) ونفع الميت بما يتلى عنده [من القرآن ولا يمس القبر ولا يقبله (6) فإنه من عادة] (7) أهل الكتاب ولم يعهد الاستلام إلا للحجر

(1) قلت: لعله يعني الدعاء لها عندها بدليل الحديث الآتي وإلا فقصد القبر للدعاء عنده تبركا به لا يشرع بل هو من الشركيات والوثنيات التي ابتلي بها كثير من المسلمين كما شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه (2) أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة. انظر " أحكام الجنائز " (ص 190) (3) يعني كلام " المراقي " (ص 117) وتمامه: " عن أنس Bهـ أنه قال رسول الله A: " من دخل المقابر فقرأ سورة {يس} خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد ما فيها حسنات " قلت: وسكت عليه الطحطاوي في " حاشيته " (ص 610) ولم يخرجه وهو حديث موضوع كما بينته في " الضعيفة " برقم (1291) ومثله حديث " من مر بالمقابر فقرأ {قل هو الله أحد} أحد عشر مرة. . . " وبيانه في المصدر السابق (1290) (4) (ص 610) من " الحاشية " (5) يعني بتذكرة الآخرة كما في قوله A: ". . . . فزوروها فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة. ولا تقولوا هجرا ". انظر " أحكام الجنائز " (ص 180) (6) ونحوه في " حاشية الباجوري على ابن قاسم " ونصه (1 / 277) : " ويكره تقبيل القبر واستلامه ومثله التابوت الذي يجعل فوقه وكذلك الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء ". ثم استثنى مخربا بيده لما بنى فقال: " إلا إن قصد به التبرك بهم فلا يكره " قلت: وهل البلاء كله إلا من مثل هذا التبرك الموصل إلى الشرك؟ (7) سقطت من الأصل واستدركتها من " الحاشية " [الصفحة 93]

الأسود والركن اليماني خاصة. وتمامه في الحلبي " وقال الغزالي في " الإحياء ": (1) إن ذلك من عادة النصارى قوله: (وقيل: تحرم على النساء) وسئل القاضي عن جواز خروج النساء إلى المقابر؟ فقال: لا تسأل عن الجواز والفساد في مثل هذا وإنما تسأل عن مقدار ما يلحقها من اللعن فيه " وقال بعد أسطر: إن مسألة القراءة على القبر ذات خلاف قال الإمام: (2) تكره لأن أهلها جيفة ولم يصح فيها شيء عنده عنه A (3) . وقال محمد: تستحب انتهى المقصود منه بلفظه قلت: وتعبير الإمام عن الميت ب (الجيفة) مأخوذ مما رواه أبو داود مرفوعا عنه A: " لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين طهراني أهله ". فافهم. وقال أيضا: فللإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره (4) عند أهل السنة والجماعة صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة للقرآن أو الأذكار أو غير ذلك من أنواع البر ويصل ذلك إلى الميت وينفعه. قال الزيعلي (5) في (باب

(1) في آخره (4 / 419) وقال في مكان آخر منه (1 / 232) : " وليس ذلك من السنة " (2) يعني أبا حنيفة C وهو مذهب الجمهور ومنهم الإمام مالك والشافعي وأحمد كما تراه منقولا عنهم في " أحكام الجنائز " (191 - 192) وراجع لهذا رسالة العلامة البركوي في " زيارة القبور " (ص 322 - 323 - هامش شرعة الإسلام) (3) قلت: وهذا التعليل الثاني هو المعتمد بخلاف الأول فإنه مما لا دليل عليه حتى ولو صح الحديث الذي استدل به المؤلف فيما يأتي فكيف وهو غير صحيح كما هو مبين في " أحكام الجنائز " (ص 13) (4) في هذا الإطلاق نظر بينته في المصدر السابق تحت عنوان: " ما ينتفع به الميت " (ص 168 - 178) فراجعه فإن فيه تحقيقا قلما تراه في كتاب آخر (5) يعني في " شرح الكنز " (1 / 112) [الصفحة 94]

الحج عن الغير ") . انتهى (1) ومثله من أبحاث الزيارة في " رد المحتار " وغيره من كتب المذهب. وكذا مسائل القراءة ونحوها المسطورة في كتب سائر المذاهب تركناها خشية التطويل إذ كان المقصود من تحرير هذه الرسالة بيان قول الأئمة الحنفية أن الميت لا يسمع عندهم وعند جملة من علماء المذاهب الأخر فأثبتنا ولله الحمد صحة نقلنا عنهم وما تلقيناه منهم فإن قيل: إذا كان مذهب الحنفية وكثير من العلماء المحققين على عدم السماع فما فائدة السلام على الأموات وكيف صحة (2) مخاطبتهم عند السلام؟ قلت: لم أجد فيما بين يدي الآن من كتبهم جوابهم عن ذلك ولا بد أن تكون لهم أجوبة عديدة فيما هنالك والذي يخطر في الذهن ويتبادر إلى الخاطر والفهم أنهم لعلهم أجابوا بأن ذلك أمر تعبدي وبأنا نسلم سرا في آخر صلاتنا إذا كنا مقتدين وننوي بسلامنا الحفظة والإمام وسائر المقتدين مع أن هؤلاء القوم لا يسمعونه لعدم الجهر به فكذا ما نحن فيه. (3) على أن السلام هو الرحمة للموتى وننزلهم منزلة المخاطبين السامعين وذلك شائع في العربية كما لا يخفى على العارفين فهذه العرب تسلم على الديار وتخاطبها على بعد المزار (4)

(1) يعني كلام الطحطاوي (2) كذا الأصل ولعل الصواب " صحت " (3) قلت: ومن هذا القبيل قول الضرير في حديثه المشهور: " يا محمد إني توجهت بك إلى ربي. . . " الحديث وهو مخرج في رسالتي " التوسل " (ص 67 - 68) . وهذا إذا افترض أن النبي A كان بعيدا أو غائبا عنه لا يسمعه وأما إذا كان ذلك في حضوره A فلا إشكال (4) قلت: ومن ذلك مخاطبة النبي A الهلال حين يراه بقوله: ". . . ربنا وربك الله " ونحوه مما جاء في عدة أحاديث مخرجة في " المشكاة " (2428 و 2451) و " الكلم الطيب " (ص 91 / 161) و " الصحيحة " (1816) . و " الضعيفة " (1506) ومثله ما روي عن ابن عمر مرفوعا: " كان إذا سافر فأقبل الليل قال: يا ارض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك. . . " الحديث وقد صححه بعضهم لكن في إسناده جهالة كما بينته في " الكلم الطيب " (99 / 180) و " المشكاة " (3439 - التحقيق الثاني) وفي ذلك كله رد قوي على قول ابن القيم في " الروح " (ص 8) وقد ذكر السلام على الأموات -: فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال قال: " وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويرد " وكأنه C لم يستحضر خطاب الصحابة للنبي A في التشهد: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " خلفه في المدينة وبعيدا عنه في سائر البلاد بحيث لو خاطبوه بذلك جهرا لم يسمعهم A فضلا عن جمهور المسلمين اليوم وقبل اليوم الذي يخاطبونه بذلك أفيقال: إنه يسمعهم؟ أو أنه من المحال السلام عليه وهو لا يشعر بهم ولا يعلم؟ وكذلك لم يستحضر C قول شيخ الإسلام ابن تيمية في توجيه هذا السلام ونحوه فقال في " الاقتضاء " (ص 416) وقد ذكر حديث الأعمى المشار إليه آنفا: وقوله: يا محمد " هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادي في القلب فيخاطب لشهوده بالقلب كما يقول المصلي: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " والإنسان يفعل هذا كثيرا يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من سمع الخطاب " [الصفحة 95]

وبعد أن حررت هذه الكلمات رأيت في " شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك " في " فصل جامع للوضوء " (1) في الكلام على حديث أبي هريرة أن رسول الله A خرج إلى المقبرة فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " (2) ما لفظه:

(1) (ج 1 ص 63) والزرقاني نسبة إلى (زرقان) من قرى منوف بمصر وهو محمد بن عبد الباقي المصري الأزهري المالكي توفي سنة (1122) (2) أخرجه مسلم أيضا وغيره وقد سقت الحديث بتمامه وخرجته في " أحكام الجنائز " (ص 190) [الصفحة 96]

" قال الباجي (1) وعياض: (2) يحتمل أنهم أحيوا له حتى سمعوا كلامه كأهل القليب ويحتمل أن يسلم عليهم مع كونهم أمواتا لامتثال أمته ذلك بعده. قال الباجي (3) : وهو الأظهر ". (4) [ورأيت أيضا في " حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح " في " باب الصلاة على الجنائز " (5) ما عبارته:

" قوله: (وينوي بالتسليمتين الميت مع القوم) وجزم في " الظهيرية " بأنه لا ينوي الميت ومثله لقاضي خان. وفي " الجوهرة ": قال في " البحر ": وهو الظاهر لأن الميت لا يخاطب بالسلام لأنه ليس أهلا للخطاب. قال بعض الفضلاء: وفيه نظر. لأنه ورد أنه A كان يسلم على [أهل] القبور انتهى. على أن المقصود منه الدعاء لا الخطاب " انتهى بلفظه

(1) نسبة إلى (باجة) بالأندلس واسمه سليمان بن خلف أبو الوليد القرطبي فقيه مالكي كبير من رجال الحديث. مات سنة (474) (2) هو عياض بن موسى القاضي أبو الفضل عامل المغرب وإمام أهل الحديث في وقته وكان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم توفي ب (مراكش) سنة (544) (3) في " المنتفى " (1 / 69) (4) قلت: كل من الاحتمالين غير قوي عندي أما الأول فلأن النبي A كان يخاطب الموتى بالسلام المذكور كلما زار القبور كما في حديث عائشة Bها: " كان A كلما كان ليلتها من رسول الله A يخرج من آخر الليل فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين. . . " الحديث. رواه مسلم وغيره وهو مخرج في " أحكام الجنائز " (ص 189) فهل كانوا يجيبونه كلما سلم عليهم؟ وأما الآخر فهو أضعف منه لأنه يعود السؤال السابق: لماذا خاطبهم النبي A بذلك؟ اللهم إلا أن يكون مراده أن الأمر تعبدي محض. والله أعلم (5) ص 341 - الطبعة الأزهرية [الصفحة 97]

وكذلك في " حاشية ابن عابدين " على " الدر المختار " (1) . وقال في " البحر " (2) ما نصه: وفي الظهيرية ": ولا ينوي الإمام الميت في تسليمتي الجنازة بل ينوي من على يمينه في التسليمة الأولى ومن على يساره في التسليمة الثانية. انتهى. وهو الظاهر لأن الميت لا يخاطب بالسلام [عليه] حتى ينوى به إذ ليس أهلا له ". انتهى ما في " البحر "؟ بحروفه فتبين لك من كلام الفقهاء المشهورين أن الميت لا ينوي بالسلام ولا يخاطب وأن القصد بسلامه الدعاء. وهذا كله مطابق لما قدمناه. والحمد لله رب العالمين إذا علمت ما مضى من النقول الصحيحة وأقوال أهل المذهب الحنفي وغيرهم الرجيحة تبين لك ما في الرسالة المسماة ب " المحنة الوهبية " من الخبط والخلط والكذب وسوء الفهم والتلبيس وإطالة اللسان على القائلين بعدم السماع بما لفظ بعضه: " فيلزم من قوله هذا أن الذي ينكر سماع الكفار يكفر لأن جاحد المعلوم من الدين بالضرورة يكفر ". انتهى فنعوذ بالله من الخذلان وتكفير المسلمين والجدال الباطل في الدين (3) ] فافهم ما قلناه وكن من الشاكرين

(1) (ج 1 / 817) (2) (ج 2 / 197) (3) ما بين المعكوفتين من الصفحة (97) إلى هنا زيادة استدركناها من النسختين البغداديتين [الصفحة 98]

الخاتمة ونسأل الله تعالى حسنها إذا بلغت الروح المنتهى - في بيان الخلاف في مستقر الأرواح بعد مفارقتها البدن إلى يوم القيامة والبعث [ونتبعها بمسائل] قال الحافط ابن القيم في كتاب الروح ": (1) هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها وهي إنما تتلقى من السمع فقط واختلف في ذلك فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين ويلقاهم ربهم بالعفو عنهم وهذا مذهب أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما. (2) (1) (ص 90 - 117) (2) قلت: وهو الصحيح من الأقوال الآتية لأن غيره مما لا دليل عليه في السنة أو في أثر صحيح تقوم به الحجة كما سترى وهو الذي جزم به شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى " (24 / 365) وقال: " ومع ذلك فتتصل بالبدن متى شاء الله وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم " وللحافظ ابن رجب تفصيل جيد في ذلك في كتابه " الأهوال " (ق 95 - 113 / 3) ولولا خشية الإطالة لنقلته برمته فاكتفيت بالإشارة [الصفحة 99]

[وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها] وقالت: طائفة الأرواح على أفنية القبور وقال الإمام مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة (1) وقال أبو عبد الله بن منده: قال طائفة من الصحابة والتابعين: إن أرواح المؤمنين ب (الجابية) (2) وأرواح الكفار ب (برهوت) : بئر ب (حضرموت) وقال صفوان بن عمرو (3) : سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: إن الأرض التي يقول الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث. وقال: هي الأرض التي

(1) قلت: الذي في " مسائل عبد الله لوالده أحمد) (ص 129 - مخطوطة الظاهرية) : " سألت أبي عن أرواح الموتى أتكون في أفنية قبورها أم في حواصل طير أم تموت كما تموت الأجساد؟ فقال: (فذكر حديث مالك الآتي قريبا (ص 104) ثم قال: وقد روي عن عبد الله بن عمرو قال: إن أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزاير (كذا) يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها. وقال بعض الناس: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش " (2) قرية من ناحية الجولان شمالي حوران وباب الجابية بدمشق منسوب إلى هذا الموضع قلت: وهذا الأثر خرجه ابن القيم (106 - 107) عن جمع وليس فيها ما يثبت إسناده (3) في النسخ الثلاث " عمر " بدون الواو " والتصويب من كتب الرجال ومن " الأهوال " (ق 122 / 1) [الصفحة 100]

يورثها الله المؤمنين في الدنيا. (1) وقال كعب: (2) أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر (زمزم) (3) وأرواح الكفار ببئر (برهوت) وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض (4) تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين. وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن (أي روحه) تذهب في الأرض حيث شاءت (5)

(1) قال الحافظ ابن رجب: " خرجه ابن منده وهو غريب جدا وتفسير الآية بذلك ضعيف ". والصحيح في تفسيرها قول ابن عباس: أنها الدنيا التي فتحها الله على أمة محمد A كما قال ابن القيم في " الروح " (ص 107) ونحوه في كتابه " شفاء العليل " (ص 39) (2) كعب هذا هو ابن ماتع الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار وهو ثقة مخضرم كان من أهل اليمن فسكن الشام مات في خلافه عثمان وقد زاد على المائة له في مسلم رواية لأبي هريرة عنه كما قال الحافظ ابن حجر في " التقريب " وهو بالنظر لكونه كان قبل إسلامه حبرا من أحبار اليهود فهو كثير الرواية للإسرائيليات لكن قسم كبير منها لا يصح السند به إليه ومنها هذا الأثر فلا قيمة له أخرجه المروزي في زوائد " الزهد " لابن المبارك (1223) . وراجع لإسرائيلياته كتاب " فضائل دمشق للربعي " بتخريجي إياه (3) هذا رده ابن القيم بنفسه بقوله (ص 108) : بأنه لا دليل عليه في الكتاب والسنة ولا في قول صاحب يوثق به. وأما فقرة أرواح الكفار فلم ترد في حديث مرفوع وإنما هي آثار موقوفة ساقها ابن القيم (106 - 1079 وكلها ضعيفة الإسناد نعم وقع مرفوعا في مؤلف لأبي سعيد الخراز كما في " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (4 / 221) لكن الخراز هذا صوفي مشهور بيد أنه في الرواية غير معروف أنظر " الضعيفة " (2 / 209) (4) قال ابن القيم: " كأنه أراد بها أرضا بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث تشاء " (5) علقه ابن القيم (91) عن سلمان فلم يسق إسناده وما أراه يصح لكن قوله: " إن أرواح الكفار في سجين " فيه روايات كثيرة مرفوعة وموقوفة تراها في " الدر المنثور " (6 / 324 - 325) وذكر في " شرح الصدور " (ص 26 - 27) حديثا مرفوعا عن أبي هريرة من رواية البزار وابن مردويه ورأيته أنا في " مصنف عبد الرزاق " (3 / 569) موقوفا عليه وسنده حسن. وفي " الروح " (ص 99) حديث آخر عن ضمرة بن حبيب مرسلا [الصفحة 101]

وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن شماله (1) وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها. (2) وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين على أفنية القبور (3) وروى عبد الله ابن أبي يزيد أنه سمع [ابن] عباس يقول: أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمر الجنة (4) وعن عبد الله ابن عمرو: أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة (5) . وفي " مسلم ": " في أجواف طير

(1) قلت: هذا معنى طرف من حديث أبي ذر الطويل في الإسراء عند الشيخين ولكن لا يدل ذلك على تعادلهم في اليمين والشمال بل يكون هؤلاء عن يمينه في العلو والسمعة وهؤلاء عن يساره في السفل والسجن كما قال ابن القيم (ص 108) (2) قلت: وهذا مما لا دليل عليه وقد رده ابن القيم في فصل خاص عقده لذلك (ص 109 - 110) وتبعه الحافظ ابن رجب (ق 127 / 1) باختصار (3) وهذا على إطلاقه خطأ فإن أرواح المؤمنين أيضا في الجنة كما في حديث مالك الآتي فإذا بأن ذلك في بعض الأوقات أو بأن لها إشرافا على القبور استقام الكلام. راجع " الروح " (ص 100) (4) رواه بقي بن مخلد وفي إسناده يحيى بن عبد الحميد كما في " الروح " (ص 96) وهو الحماني. وفيه ضعف لكن يقويه أنه صح ذلك عنه مرفوعا في حديث له في " المشكاة " (3853) و " صحيح الجامع " رقم 5081) (5) أخرجه عبد الله بن المبارك في " الزهد " (446) وإسناد صحيح [الصفحة 102]

خضر " (1) وقال قتادة: بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل من ثمار الجنة. وقال ابن المبارك: عن ابن جريح فيما قرىء عليه: عن مجاهد: ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها (2) . وذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد (3) أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين؟ فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة تأتي ربها كل يوم تسلم عليه. وعن مجاهد: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك. (قال ابن القيم) : (4) ولا تنافي بين هذه الأقوال الشرعية والأحاديث النبوية لأن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت فمنها في أعلى عليين وهي أرواح الأنبياء عليهم السلام وهم متفاوتون في منازلهم ومنها في حواصل طير ومنها من يكون محبوسا على باب الجنة ومنها من يكون مقره بباب الجنة ومنها من يكون محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى

(1) في " مسلم " كما تقدم (ص 39 - 40) بلفظ " جوف " وكذا في حديث ابن عباس المشار إليه آنفا (2) ذكره هكذا ابن رجب في " الأهوال " (100 / 1) وسنده صحيح وهو في " تفسير مجاهد " (ص 92) وعنه ابن جرير في " تفسيره " (2317 و 2318) من طرق أخرى عن ابن أبي نجيح به نحوه (3) هو الكلبي روى عن العرباض بن سارية وعمير بن سعد صاحب رسول الله A وعمر بن عبد العزيز وعبد الأعلى بن هلال. روى عنه أبو بكر ابن أبي مريم أيضا كما في " الجرح والتعديل " (2 / 1 / 29) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وذكره ابن حبان في " الثقات " فهو مجهول الحال. وهذا الأثر في " كتاب الروح " (ص 92) كما نقله المؤلف لم يتكلم على إسناده بشيء. وفيه بعده أثر مجاهد الآتي معلقا بغير إسناد (4) أي ملخصا وإلا فليس هو لفظ ابن القيم C ولا سياقه وهو في (ص 115 - 116) منه [الصفحة 103]

فإنها كانت روحا سفلية ومنها أرواح تكون في تنور الزناة وأرواح تكون في نهر الدم تسبح. وليس للأرواح شقيها وسعيدها مستقر واحد بل روح في أعلى عليين وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض. وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك فضل اعتناء عرفت حجة ذلك. ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا ". إلى آخر ما قال والمفهوم منه أن مستقرها يتفاوت بتفاوت حال صاحبها إيمانا وكفرا وصلاحا وفسقا وأنت تعلم اختلاف العلماء فيما قال وما رواه الإمام مالك في " الموطأ ": " إنما نسمة المؤمن (1) طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه ". (2) والله تعالى أعلم

(1) أي روحه (طير) أي كطير (يعلق) أي يأكل. وكان الأصل (معلق) فصححته من " الموطأ " (1 / 238) وغيره. قال ابن القيم في شرح الحديث (ص 112) : يحتمل أن يكون هذا الطائر مركبا للروح كالبدن لها ويكون لبعض المؤمنين والشهداء ويحتمل أن يكون الروح في صورة طائر وهذا اختيار ابن حزم وابن عبد البر قلت: ومن الملاحظ أن لفظ الحديث هنا (المؤمن طير) وفي الشهداء " في أجواف طير " كما تقدم قريبا فمن العلماء من جعلهما حديثا واحدا وحمل حديث مالك على هذا ومنهم من جعلهما حديثين كان القيم وغيره فقال ابن كثير في " تفسيره " (1 / 427) : " وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة " وأما أرواح الشهداء فكما تقدم " في حواصل طير خضر " فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها " ونحوه في " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز (ص 455 - 456) . طبع المكتب الإسلامي (2) قال ابن كثير: " إسناده صحيح عزيز عظيم اجتمع في ثلاثة من الأئمة الأربعة فإن الإمام أحمد رواه عن الإمام الشافعي وعن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعا قلت: وهو مخرج في " الصحيحة " (995) [الصفحة 104]

وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض. وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين (1) والمقصود أن عند هذا الفرقة المبطلة مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع والكلبية إلى أبدان الكلاب والبهيمية إلى أبدان البهائم والدنية السفلية إلى أبدان الحشرات. وهذا قول التناسخية منكري المعاد وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلهم قلت: وإن ما تقوله اليهود الآن قريب من هذا فإن عندهم أن الميت تنتقل روحه إلى غيره إلى ثلاث مرات أي تنتقل من شخص إلى آخر ثم إذا مات تنتقل إلى آخر ثم إلى ثالث ثم إلى ما شاء الله تعالى من الأماكن على ما ذكر لي أحد علمائهم مسائل: الأولى: هل أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا؟ وجوابها على ما في " كتاب الروح ": (2)

(1) وقد بين ذلك وشرحه شرحا مبسطا في " مجموع الفتاوى " (4 / 262 - 270) وصرح في مكان آخر (4 / 292) : " أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن خلافا لضلال المتكلمين وأنها تصعد وتنزل خلافا لضلال الفلاسفة " (2) (ص 17) وقد ساق لها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والتابعية لكن الأحاديث التي أوردها ليس فيها ما يحتج به من قبل إسناده وقد فاته حديث أبي هريرة وفيه: ". . . وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفهم من أهل الأرض. . . " الحديث. وسنده حسن وصححه السيوطي عن معارفهم من أهل الأرض. . . " الحديث. وسنده حسن وصححه السيوطي وقد خرجته في " الصحيحة " (2628) [الصفحة 105]

" إن الأرواح قسمان: أرواح معذبة وأرواح منعمة فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها الثانية: هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات؟ وجوابها: نعم قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} روى أبو عبد الله بن منده بسنده (1) إلى ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله تعالى أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها والقول الثاني في الآية: أن الممسك والمرسل في الآية كلاهما توفي وفاة النوم فمن استكملت أجلها أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكمله (2)

(1) قلت: فيه جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي وهو صدوق يهم كما قال الحافظ ابن حجر (2) قلت: وقد واجه ابن القيم (ص 20 - 21) كلا من القولين: وذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية اختار القول الثاني. . ثم رجح هو القول الأول ثم أفاد من التحقيق أن الآية تتناول النوعين: الوفاة الكبرى وهي الموت والوفاة الصغرى وهي النوم فراجع كلامه إن شئت التفصيل وبذلك فسر الآية ابن كثير ثم قال (4 / 55) : فيه دلالة على أنها تتجمع في الملأ الأعلى كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده وغيره [الصفحة 106]

الثالثة: هل الروح تموت أم الموت للبدن وحده؟ وجوابها: أن الناس اختلفوا في ذلك فقالت طائفة: تموت وتذوق الموت لأنها نفس والنفس ذائقة الموت. قالوا وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا الله وحده قال الله تعالى: {كل من عليها فان} وقال تعالى: {كل شئ هالك إلا وجهه} قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت. (1) وقال آخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان. قالوا: وقد دل على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى في أجسادها ولو ماتت الأرواح لا نقطع عنها النعيم والعذاب وقال الله تعالى: {ولا تحسبن الذي قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت. وقد نظم أحمد بن الحسين

(1) قال ابن رجب (31 / 2) : " وقد احتج بعضهم على فناء الأرواح وموتها بما روي عن النبي A أنه كان إذا دخل المقابر قال: السلام عليكم أيتها الأرواح الفانية والأبدان البالية. . . الحديث خرجه ابن السني ولا يثبت وعبد الوهاب ابن جابر التيمي لا يعرف وشيخه حبان بن علي ضعيف " قلت: وهو مخرج في (الضعيفة) (4186) ومن المؤسف أن يورده في جزء صغير انتخبه من (الجامع الصغير) كأنه لم يجد فيه من الأحاديث الصحيحة ما يملأ فراغ جزئه متى لجأ إلى مثله ولكنه الجهل بهذا العلم الشريف. والله المستعان قلت: والمراد بالفناء والهلاك المذكورين في الآيتين بالنسبة للأرواح إنما هو خروجها من أبدانها. وليس عدمها مطلقا فإنها لا تفنى كالجنة والنار ونحوهما. وقد جمعها ابن القيم فقال في " الكافية الشافية " (1 / 97 - شرح ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم هي العرض والكرسي ونار وجنة وشجب وأرواح كذا اللوح والقلم وذكره النار فيها وأنها باقية لا تفنى هو الصواب من قوله كما بينته في مقدمتي لكتاب " رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار " للعلامة الصنعاني وسيقدم للطبع قريبا [الصفحة 107]

الكندي (1) ذلك في قوله: تنازع (2) الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب والخلف في الشجب فقيل تخلص نفس المرء سالمة وقيل تشرك جسم المرء في العطب الرابعة: اختلف الناس في حقيقة الروح من سائر الطوائف وكذا اختلفوا في أنها هل هي النفس أو غيرها؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم [هي] ثلاث أنفس؟ وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل هي مخلوقة قبل الأجساد أم بعدها؟ أما مسألة تقدم خلق الأرواح على الأجساد وتأخرها عنها فللعلماء فيها قولان معروفان وممن ذهب إلى من تقدم خلقها محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم وحكاه إجماعا؟ (3) و [من] أدلتهم (4) قوله تعالى في سورة

(1) نسبة إلى " كندة " محلة بالكوفة ولد فيها وهو أبو الطيب المتنبي الشاعر المشهور. توفي سنة (354) (2) كذا في النسخ الثلاثة وفي " ديوان المتنبي) : (تخالف) . وقال شارحه العكبري (1 / 59) ما ملخصه: " (الشجب) : الهلاك والحزن. والمعنى: أن الناس يتخالفون في كل شيء والإجماع على الهلاك فكلهم يقولون: إن منتهى الناس الموت فيهلكون ثم تخالفوا في الموت فقال قوم: هل تموت النفس بموت الجسم أم تبقى حية لقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} ؟ وقال قوم: هل نبعث إذا متنا؟ والخلف في الموت كثير وهم قد أجمعوا عليه بغير خلاف والخلاف فيه كثير وقد بينه فيما بعده بقوله: فقيل تخلص نفس المرء. . . ويعني بالنفس: الروح ويشير إلى قول المؤمنين: إن الروح تسلم من العطب وهو الهلاك بخلاف الدهريين الذين يقولون بأن الروح تفنى كالجسد (3) في " الملل " (4 / 70 - 71) (4) الأصل (أدلتهم) والتصويب من النسخة الثالثة [الصفحة 108]

الأعراف: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} . قالوا: وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا ولم تكن الأبدان حينئذ موجودة وقوله A: " إن الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " (1) وأجاب عن ذلك من يقول بتأخر خلق الروح عن البدن بأجوبة مطولة والعلامة البيضاوي (2) حمل الآية على التمثيل في " تفسيره " (3) وفي

(1) رواه ابن منده بإسناده عن عمرو بن عنبسة مرفوعا كما في " الروح " (ص 160) ثم قال (ص 172) " لا يصح إسناده فيه عتبة بن السكن قال الدارقطني: متروك. وأرطأة ابن المنذر قال ابن عدي: بعض أحاديثه غلط " قلت: وهو البصري وأما أرطأة بن المنذر الحمصي فثقة. لكن فوقهما عطاء بن عجلان وهو متروك أيضا فهو حديث ضعيف جدا إن لم يكن موضوعا اللهم إلا قوله: " فما تعارف. . . . " فهو طرف من حديث صحيح معروف. لكن في المسألة أحاديث أخرى كثيرة تغني عن هذا الحديث من أصرحها حديث ابن عباس مرفوعا: " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم ب (نعمان) يوم عرفة وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال: {ألست بربكم قالوا: بلى} " وهو حديث صحيح بل هو متواتر المعنى كما بينته في " الصحيحة " (1623) (2) نسبة إلى (بيضاء) : بلدة من بلاد فارس - قرب شيراز. وهو العلامة عبد الله بن محمد الشيرازي أبو سعيد أو أبو الخير ناصر الدين وهو قاض مفسر مشهور مات سنة (685) . C تعالى (3) وهو المعروف ب " أنوار التنزيل وأسرار التأويل " (3 / 33) قال في معنى الآية: " نزل تمكين بني آدم من العلم بربوبيته بنصب الدلائل وخلق الاستعداد فيهم وتمكنهم من معرفتها والإقرار بها منزلة الإشهاد والاعتراف تمثيلا وتخييلا فلا قول ثم ولا شهادة حقيقة ". وقد تعقبه جماعة منهم العلامة علي القاري في " المرقاة " فقال (1 / 140) : وفيه أن هذا يرجع إلى مذهب المعتزلة ومنهم الخطيب الكازروني في حاشيته عليه رد عليه تأويله المذكور بكلام قوي. ومما قاله: " إن الواجب على المفسر المحقق أن لا يفسر القرآن برأيه إذا وجد نقلا معتمدا عن السلف فكيف بالنص القاطع من النبي A؟ ". فراجعه فإنه منهم ومنهم الإمام الشوكاني في " فتح القدير " (2 / 250 - 252) . وصديق حسن خان في " فتح البيان " (3 / 404 - 409) وكتابه " الدين الخالص " (1 / 391) . و " أضواء البيان " (2 / 335 - 338) للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمهم الله تعالى [الصفحة 109]

" شرحه للمصابيح " على تأخر خلقها بأدلة مفصلة منها قوله E: " إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ". (1) واستدلوا أيضا بغير هذا مما هو مفصل في كتاب الروحين " روح المعاني " لوالدنا المبرور (2) [نور الله تعالى روضته] (3) و " الروح " (4) لابن القيم فراجعهما إن شئت أما [الكلام على] بقية المسائل فقد قال ابن القيم: (5) والذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدله العقل والفطرة (1) أخرجه الشيخان والأربعة وغيرهم من حديث ابن مسعود Bهـ مرفوعا وهو مخرج عندي في تخريج السنة " لابن أبي عاصم (175 - 176) ولا حجة فيه لما استدلوا به عليه كما هو ظاهر (2) قلت: وقد أطال النفس فيه جدا (ص 155 - 160 ج 3) ورد فيه تأويل البيضاوي المذكور وقال: " يأبى عنه كل الإباء حديث ابن عباس " (يعني الذي ذكرته آنفا) . ثم ذكر أن المعتزلة ينكرون أخذ الميثاق التالي المشار إليه في الأخبار ويقولون: إنه من جملة الآحاد فلا يلمنا أن نترك ظاهر الكتاب وطعنوا في صحتها بمقدمات عقلية مبنية على قواعد فلسفية على ما هو دأبهم في أمثال هذه المطالب. ثم سرد كلماتهم في ذلك وردها كلها (3) زيادة في النسخة الأولى (4) (ص 156 - 175) (5) في كتابه " الروح " (ص 178 - 179) ومثله في " شرح العقيدة الطحاوية " [الصفحة 110]

أنه جسم حادث مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي هذا الجسم اللطيف متشابكا لهذه (1) الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإدارة وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول الآثار فارق الروح البدن وانفصل بأمر الله تعالى إلى عالم الأرواح قال الله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي} " وإن أردت استقصاء أبحاثها فعليك بكتاب " الروح " فإنه يهب لك روحا وينيلك فيما ترجوا نجحا وإن شئت أن ترد قالا وقيلا فتذكر قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [هذا] وأصخ بفكرك نحو ما قلته وتدبر جميع ما زبرته وتأمله تأمل طالب للحق غير كاتم للقول الصدق ولا تنظر بعين الحاسد فتلفى لضوء الشمس جاحد (2) إذ لم يبق والفضل لله سبحانه مجال لإنكار المكابرين ولا حجة بعد هذا للمعاندين وغير المطلعين فلنكتف بهذا المقدار لئلا يطول الكتاب على ذوي الأنظار ويكفي لكل ذي رأي سديد من القلادة ما أحاط بالجيد ولا سيما وقد تكفلت

(1) في " شرح الطحاوية " " ساريا في هذه الأعضاء " وسواء كان هذا أو ذاك فإن تعليل الموت بهذا السبب يشبه الفلسفة عندي لأنه لا دليل عليه من نقل أو عقل بل كم من شخص مات فجأة وأعضاؤه سليمة قوية في عز المنعة والقوة (2) كذا في النسخ الثلاثة ومحله النصب وسكن على لغة طيء. والله أعلم [الصفحة 111]

بتفصيل هذه المسائل كتب العلماء المتقدمين والأئمة المحققين الأفاضل والله سبحانه الهادي إلى صوب الصواب والمسمع للجماد كلام الأحياء إذا شاء كما أسمع سارية كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. (1) والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على جميع الأنبياء والمرسلين وعلى أشرفهم نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين الطيبين الطاهرين قلت: جاء في آخر الأصل المطبوع عنه ما نصه: وقد كملت هذه الرسالة تأليف شيخنا العلامة الحبر البحر الفهامة فريد عصره ووحيد مصره مؤيد سنة سيد المرسلين وقامع المبتدعين خاتمة المحققين مولانا السيد نعمان خير الدين أفندي آلوسي زاده رئيس المدرسين ببغداد حماه الله تعالى من كيد الحساد وأدام به نفع العباد آمين في 8 ربيع الثاني سنة 1329 وهو يشعر بأنه منقول عن أصل نسخ في حياة المؤلف C تعالى

(1) يشير إلى ما رواه عبد الله بن وهب عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أن عمر وجه جيشا ورأس عليهم رجلا يقال له: (سارية) قال: فبينما عمر يخطب فجعل ينادي: يا سارية الجبل يا سارية الجبل (ثلاثا) ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر؟ فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مناديا: يا سارية الجبل (ثلاثا) فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله. قال: فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك. وهذا إسناد جيد حسن كما قال ابن كثير في " البداية " (7 / 131) ومن هذا الوجه رواه البيهقي في " الدلائل " (3 / 181 / 1) . وكل ما يروى عن عمر في هذه القصة سوى هذا فلا يثبت مثل ما جاء في " روض الرياحين " (ص 25) أنه كشف لعمر عن حال سارية وأصحابه من المسلمين وحال العدو فإنه لا أصل له وإنما هو من ترهات الصوفية لدعم كشوفاتهم المزعومة. نسأل الله السلامة. وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك دمشق / 20 ربيع الأول سنة 1398 محمد ناصر الدين الألباني [112]

§1/1