تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر

محمد بن العقباني

[مقدمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وسلم يقول العبد المفتقر إلى عفو ربه بتقصيره وعيبه راجي رحمته عبيده سبحانه محمد بن الحسن بن قاسم بن سعيد العقباني غفر الله له ورحمه بمنه وكرمه آمين: الحمد لله الذي قمع بزاجر عقابه وحده من ارتكب مخالفة نهيه وأمره * وصدع بأليم عذابه وصده * قلب من نازع الحق في ملموس سره أو وضوح جهره * وردع الكآبة بحماية الخاصة لبيضة الإسلام وما احتوت عليه من مصالح الأنام في طي الإبلاغ ونشره حلوه ومره * وشرع في خلقه الاستنان بتغيير المناكر وجوبًا مؤكدًا وفرضًا مؤبدًا ما تعاقبت الملوان في أزمنته ودهره * وجعلهم في هذه الملة السمحاء * والشرعة الغراء * بهذا السبب المكين * والحبل المتين * من خير أمة وأكمل لهم دينهم الذي ارتضى لهم وأئمة فسطع نوره على الأديان بعناية الملك الديان تكريمًا لشأنه وتعظيما لقدره نحمده على ما أسدى عليا من نعمه المتظافرة * ونشكره على ما أبدى لدينا من آلائه المتواترة * ونصلي على سيدنا ومولانا محمد خير من أطلعه الله على مكنونات غيبه * وألقي عليه من نباه الكريم قولا ثقيلا فتلقاه بسامي جأشه * وحاضر ذكره وأمره * أن يصدع بما أتاه * ويعرض عمن ناداه * ببادي جحده وعناد كفره * فلم يزل دينه القويم وهديه المستقيم يظهر ويبدو * ويسمو ويعلو * حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا * وأولج المكذبون له أنفسهم إيلاجًا * بمرهقات هذا النبي الكريم * وأسنة قهره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعثرته الكرام وحزبه ما دام المسبح لله من حي ونبات وصلد وجماد ويسبحه في بره أو بحره. أما بعد فإنك سألتني أن أقيد لك ما حضرني إملاؤه * وأنهى للمسترجي والناظر والقارى ما وسعني إنهاؤه * في شأن الواجب من تغير المنكر وعلى من وجوبه * وفي أي وقت يجب وما يسقط وجوبه * بحدوث ما يتقى أو يحذر وما يفترق به المنكر من غيره مما لا يسوغ أن يبدو في وقت من الأوقات أو يظهر وهل التغيير مخصوص بأهل هذا الدين من المسلمين طوائف أو يشمل من آمن ومن كفر فاعلم وفقنا الله وإياك لجادة الصواب * ومن علينا بالعصمة من زلة القدم وعبث القول في الخطاب أو الكتاب * أن علماء الأمة رضي الله عنهم بسطوا القول فيما سألت عنه من تغيير المناكر * وإقامة الحدود والزواجر الشرعية لحفظ الشعائر * في كتبهم المبسوطة المشهورة *

وأقاويلهم المنثورة المأثورة * بحيث تكون مراجعتها مغنية عن السؤال وتلخيص ما طلبته مني في ذلك من جامع الجواب وتهذيب المقال * إذ لم نستحصل من فايض بحورهم العذبة الرايقة * ومعاني أوصافهم وتهذيب المقال * إذ لم نستحصل من فايض بحورهم العذبة الرايقة * ومعاني أوصافهم الجمة الفائقة * إلا اشتمام الرائحة بالأنوف المغلقة * وإعمال الفكرة المشوشة * بالصوارف المحدقة * بما لا يصل إلا وصولًا ضعيفًا لهذه الأفئدة المعلقة * ولكني أستمد من قهر كلامهم ما أضعه لك في هذا الكتاب على شكل التذكرة فلعلك إن راجعت في كتبهم المسطورة * ورواياتهم المشهورة * حصلت على طايل من الاستفادة والتبصرة فقيدت لذلك فيه لك ما حضرني تقييدًا يتبين معه قصوري أو قلة شعوري ولكن الذي سهل علي طريق الأخذ فيه ما زكنته من سماحة الفضلاء وتجاوز السادة النبلاء * فإن تجد عيبًا فسد الخللا * فجل من لا عيب فيه وعلا * وسميته بتحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر * فإن نظره الناظر فيه بعين الصفح بعد التصفح فأقول قطني وحسبي * وإن نظره بعين القدح ولو مع التلمح فلا أزل قائلًا إن ذلك من لازم عيبي وسجية النقص التي هي دائمًا من دأبي * والله يغفر لي من هفوت تعلق بها لساني * أو جفوة خطتها أناملي وبناني * فقلما يخلو من ذلك مؤلف * أو يسلم منه مصنف * ومنه سبحانه أرتجى التوفيق للظفر بمسالك الصواب * وأسأله السداد والعون لما يرضاه ويحبه في البداية وحسن المئاب وقسمته على ثمانية أبواب وخاتمة الكتاب. الباب الأول في دليل مشروعيته الباب الثاني في محال فرضه وندبه وحرمته الباب الثالث في المغير وشروحه الباب الرابع في كيفية التغيير ووجه تناوله الباب الخامس في وجوه مراتبه الباب السادس في معرفة طريق الكشف عنه الباب السابع في أعيان صوره واختلاف محاله الباب الثامن فيما يختص به من ذلك من سألت عنه من أهل الأمة ومن كان في شكلهم من المعاهدين الخاتمة في الأصل في ولاية المتولي لذلك بم تفترق من غيرها من الولايات الشرعية.

1 - الباب الأول في دليل مشروعيته

الباب الأول في دليل مشروعيته قال مولانا جل جلاله في محكم تنزيله * {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن النكر أولئك هم المفلحون} * وقال تعالى * {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} فقرن تعالى بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيمان بالله الذي هو أصل السعادة وسبب النجاة والسلامة لعظيم خطره وجلاله قدره وسبب ذلك كانوا خير أمة أخرجت للناس واستحقوا مدحة الله التي هي أكبر نعمة وقال تعالى * {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر} * فقرنه أيضا مع الصلاة والزكاة التي هي عماد الدين وشعار المسلمين وبترك ذلك عاب على بني إسرائيل وأوجب عليهم اللعنة وقال تعالى * {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصو وكانوا معتدين كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} * وقال تعالى * {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} * وقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتطرنه على الحق أطرا أو ليصرفن قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعن بني إسرائيل كان إذا عمل العامل منهم بالخطيئة نهاهم الناهي فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه وكأنه لم يره على خطيئة بالأمس فلما رأى الله منهم ذلك صرف قلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داوود وعيسى صلى الله عليهما ذلك بما عصوا وكانوا معتدين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة ولكن إذا عملوا المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلهم وقالت عائشة رضها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عذب الله أهل قرية فيها ثمانية عشر ألفا أعمالهم كأعمال الأنبياء. قالوا يا رسول الله: كيف ذلك. قال: لم يكونوا يغضبون لله عز وجل ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر.

2 - الباب الثاني في محال فرصة وندبة وحرمته

الباب الثاني في محال فرصة وندبة وحرمته أما حكمه ففرض متأكد وواجب متعين فلا أحد من المخاطبين إلا وقد تعين عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو في نفسه وأهله وعياله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. الحديث في هذا عام الأعيان وكذلك فيما حضر أحد مواقعة أحد المنكر أو علمه فأمكنه القيام مع وجود الشروط وانتفاء الموانع وجب ذلك عليه. قال صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده * فإن لم يستطع فبلسانه * فإن لم يستطع فبقلبه * وذلك أضعف الإيمان. فلا يسقط جرحه من رأى منكرًا وعلمه ولا القيام بتغييره على الفورية بحيث لا يمر عليه زمن تفريط لأن كون القيام بذلك من الإيمان يدل على أن تركه من الضلال والخسران وإذا كان ذلك واجبًا متأكدًا على كل من علمه بحسب وسعه فهو على الأئمة والولاة والقضاة وسائر الحكام أوجب وآكد إنهم متمكنون من التغيير بعلو اليد وامتثال الأمر ووجوب الطاعة وانبساط الولاية. يدل عليه قله سبحانه * {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا لزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} * فإن من أنواع القيام بذلك ما يدعو إلى الاستيلاء وإقامة الحدود والعقوبات مما لا يفعله إلا الولاة والحكام. فلا عذر لمن قصر منهم عند الله تعالى لأنه إذا أهمل هؤلاء القيام بذلك فجدير ألا يقدر عليه من هو دونهم من رعيتهم فيشك أن تضيع حرمات الدين ويستباح حمى الشرع والمسلمين. فحكمه على الجمة الفرض المتأكد لكن قد ينقلب إلى الامتناع والحرمة وذلك في حق شخصين أحدهما الجاهل بالمعروف وبالمنكر بحيث لا يميز موضوع أحدهما من الآخر فهذا ايحرم في حقه فإذا كان عالمًا بالمعروف والمنكر وأمن من التسبب بمنكر أعظم وعلم أو غلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع وجب عليه التغيير وإذا لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه لم يجب عليه أمر ولا نهي ولهذا قال الشيخ ابن رشد "في مقدماته" وفي بيانه فالشرطان الأولان مشروطان في الجواز والشرط الثالث مشترط في الوجوب فإذا عدم الشرط الأول والثاني

لم يجز أن يأمر ولا ينهى وإذا عدم الشرط الثالث ووجد الشرطان الأولان جاز له أن يأمر وينهى ولم يجب ذلك إلا أنه يستحب له وإن غلب على ظنه أنه لا يطيعه إذ لعله سيطيعه. تنبيه: قال الإمام أبو حامد الغزالي رضه في كتابه الذي سماه " بالأربعين" كل من شاهد منكرا ولم ينكر" وسكت عنه فهو شريكه: فالمستمع شريك المغتاب: ويجري هذا في جميع العاصي حتى في مجالسة من يلبس الحرير والديباج ويتختم بالذهب ويجلس على الحرير والجلوس في دار أو حمام على حيطانها صور أو فيها صور أو أوان من ذهب أو فضة أو الجلوس في مجلس وعظ يجري فيه ذكر البدعة أو في مجلس مناظرة أو مجادلة يجري فيها الإيذاء والإفحاش بالسفه والشتم. وبالجملة من خالط الناس كثرت معاصيه وإن كان تقيًا في نفسه إلا أن يترك المداهنة ولا يخاف في الله لومة لائم. وإنما يسقط عنه الوجوب في أمرين: أحدهما أن يعلم أنه إذا أنكر لم يلتفت إليه ولم يترك المنكر ونظر إليه بعين الاستهزاء. قال الغزالي: وهذا هو الغالب في منكرات يرتكبها الفقهاء ومن يزعم أنه من أهل العلم والصلاح فها هنا يجوز السكوت ولكن يستحب الزجر باللسان إظهارا لشعائر الدين مهما لم يصدر على الزجر باللسان ويجب أن يفارق ذلك الموضع فليس يجوز مشاهدة المعصية بالاختيار فمن جلس مجلس الشراب فهو فاسق وإن لم يشرب وإن جالس مغتابًا أو لابس حرير أو آكل ربا أو حرام فهو فاسق إن لم يقم من موضعه وقوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} معناه في الزمان الذي لا ينتفع فيه بالأمر بالمعروف ولا بالنهي عن المنكر ولا يقوم من ينكره على القيام بالواجب في ذلك فيسقط الفرض فيه ويرجع أمره إلى خاصة نفسه ولا يكون عليه سوى الإنكار ولا يضره مع ذلك من ضل. يبين هذا ما روي عن أنس بن مالك رضه قال: قيل يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، قيل: وما إلى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهر الإدمان في خياركم والفاحشة في صغاركم وتحول الملك والفقه في أرذالكم وشراركم. وما روي عن أبي أمية قال: سألت أبا ثعلبة الخشنى: قلت كيف نصنع في هذه الآية؟ قال أية آية؟ قلت: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} فقال لي: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال لي ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرةً وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرًا لا بد لك منه فعليك بنفسك وإياك وأمر العوام فإن من ورائكم أيامًا

الصبر فيهن صبر على مثل قبس على الجمر للعامل الواحد منهم كأجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله. قال الشيخ بن رشد رحه ورضه: وما أشبه زماننا بهذا الزمان تغمدنا الله منه بعفو وغفران وأقول إذا حقق الشبه في زمانه بما أنار به عليه السلام الذي كان زمانه المائة الخامسة وهي من خير الأزمنة التي تكاملت فيها مواد العلم ولاحت أنواره بوجود وذويه كالإمام أبي عبد الله محمد المازري وأبي حامد الغزالي ونظرائهما فكيف بزماننا هذا الذي هو على ما هو عليه! قال ابن رشد: ولكن مهما كان الزمان زمانًا يوجد على الحق فيه معين لله فلا يسع أحدًا فيه السكوت على المنكر وترك تغييره. قال عمر بن الخطاب رضه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم بعقاب من عنده. الثاني من الأمرين اللذين يسقط بهما الوجوب أن يعلم أنه يقدر على المنع من المنكر بأن يرى زجاجة فيها خمر فيكسرها أو يسلب آلة الملهى من يد صاحبها ويضربها على الأرض ولكن يعلم أنه يضرب أو يصاب بمكروه فهاهنا يستحب له التغيير لقول الله عز وجل {واصبر على أصابك} ولا يجب تركه لأجل ذلك. قلت: والظاهر ممن كلام ابن رشد وجوب الترك مع تيقن الإذاية لا سقوط الوجوب خاصة وبقاء الاستحباب. فتلك طريقة عز الدين بن عبد السلام. وعين ما قاله الإمام أبو حامد الطوسي رضه ولكن ما قاله ابن رشد أظهر من جانب النظر وأرجح من طريق المعنى بعموم قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} ويكون قوله سبحانه: {واصبر على ما أصابك} مخصوصًا بشأن المخاطب هذا وهو ابن لقمان الحكم بوصية أبيه له بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا وعلى نفسه فلا عموم ولا خصوص هذا إن كانت الوصية منه تقرير شريعة وإنك انت مجرد وصية بالورع فليس مما نحن فيه. ثم كمل الغزالي هذا الفصل بفائدة قوله: " وعلى الجملة فلا يسقط الوجوب إلا بمكروه في بدنه بالضرب أو في ماله بالاستهلاك أو في جاهه بالاستخفاف به بوجه يقدح في مروءته. فأما خوف استيحاش المنكر عليه وخوف تعرضه له باللسان وعداوته أو توهم سعيه في المستقبل بالسوء أو يحول بينه وبين زيادة في الخيرات بتوقعها فكل ذلك موهومات وأمور ضعيفة لا يسقط بها الوجوب".

3 - الباب الثالث في المغير وشروطه

الباب الثالث في المغير وشروطه يعتبر في مغير المنكر أربعة شروط: أن يكون مسلمًا مكلفًا عالمًا بذلك المنكر. وصفة التغيير والقدرة على القيام به. فأما الإسلام والعلم فهما شرطان في صحة القيام فلا يتوجه مع عدمهما إذ لا يصح تغيير الكافر إذ التغيير انتصار لدين الله سبحانه وجحد الكافر يأتي انتصاره لما جحد وكابد عليه لأنه استخفاف بالإسلام فلعله لا يقصد بذلك إلا الوصول إلى احتقارهم والشين بالاستطالة عليهم فلا يسوغ تمكينه منه لقول الله سبحانه: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} وقال صلى الله عليه وسلم لن أستعين بمشرك ومثله في الحكم الجاهل بموجب القيام لأنه يحرم في حقه كما تقدم في الباب الثاني قبل إذ لا يحل قياه فيما جهل حقيقته من المنكرات أو طريق الإنكار فيها فإن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فلا يستوي إنكار الولد على أبيه والعبد على سيده والرعية على أميرها ومن شاكلهم من سواهم ونحو ذلك مما يؤول أمره إلى ما هو أنكر منه فمن كان يجهل شيئًا من هذه الأمور فلا يباح قيامه فيما لم يعلم منها ويباح فيما علم لوجود الشرط فيه. وأما الشرطان الباقيان وهما التكليف والقدرة على التغيير فهما شرطًا وجوب على من حصلا فيه مع شرطي الصحة المتقدمين لأن غير المكلف لصباه أو جنونه غير مخاطب فلا يلزمه قيام إلا أن الصبي إذا عقل القربة وعرف المناكر وطريق التغيير فتبرع به كان منه صحيحًا سائغًا وأثيب عليه في القيامة ولا إثم عليه في الترك بخلاف المكلف ومثله من لا يقدر على التغيير حسبما تقدم إما لعلمه عدم الجدوى في قيامه وإما لتقيته على نفسه. فوجوب القيام عنه ساقط وإنما يجب عليه الإنكار بقلبه ولكن يستحب له على ما تقدم نقله عن الإمام الغزالي وعلل بعض الشيوخ هذا الاستحباب مع وجود التقية بتحصيل فائدة أخرى غير تغيير المنكر وهي التنبيه على حدود الله والإظهار لشعائره وحرماته فإنها كما قال مولانا الكريم من تقوى القلوب إذ التمالك في مثلها على السكوت قد يوهم الرضى أو التساهل فيوقع اعتقادًا عند ضعيف الإيمان أن ذلك من قبيل الجائز فإذا تبرع أحد بذلك مع قيام مانع التقية عظمت مثوبته عند الله وهو في سعة من الترك بخلاف انخرام شرطي الصحة المتقدمين فإن القيام مع عدمهما أو عدم أحدهما باطل. وتقدير ما في هذا اباب من المعنى قريب من معنى ما في الباب الذي قبله. لكن افترقا في ذلك فالأول في حكم التغيير

وهذا في حكم المغير وإن كان بينهما تداخل بحسب ما اجتنباه من نقل الأئمة رضي الله عنهم. واختلف في العدالة هل هي شرط في صفة المغير أو لا. فاعتبر قوم شرطيتها ورأوا أن الفاسق لا يغير وأبى من اعتبارها آخرون. وذلك الصحيح المشهور عند أهل العلم لأن ذلك من الشروط الواجبة على الشخص في رقبته كالصلاة فلا يسقطه الفسق كما لا يسقط وجوب الصلاة التعلق التكليف بأمر الشرع قال عليه السلام: من رأى منكرًا فلغيره وليس كونه فاسقًا أو ممن يفعل ذلك المنكر بعينه يخرجه عن خطاب التغيير لأن طريق الفرضية متغاير. قال أنس بن مال رضه: قلت يا رسول الله لا تأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى نعمل به كله. قال بلى مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله. وقال الحسن البصري رضه: يريد أن لا يظفر الشيطان منكم بهذه الخصلة وهي لا تأمروا بالمعروف حتى تأتوا به كله. قال الغزالي رضه: يعني أن هذا يؤدي إلى حسم باب الحسبة فمن ذلك يعصم عن المعاصي. ويروى عن سعيد ابن جبير رضه أنه قال: إن لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر إلا من لم يكن فيه شيء لم يأمر أحد بشيء. وأعجب ذلك مالكًا من قول سعيد وإنما ينبغي لمن يغير منكرا على غيره أن يفتتح أولا بنفسه ويكون أمرها في ذلك من أهم أموره وبداية نظره. وكذلك جميع من لزم تعلقه به من أهله ورفيقه وحاشيته. فإن أوجب الناس حقًا على المكلف العاقل نفسه ثم حاشيته لتنبيهه صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: إبدأ بنفسك ثم بمن تقول وكذلك أمره تعالى له عليه السلام في قراءته خصوصا وتوكيدا بقوله: {وانظر عشيرتك الأقربين} فالعاقل من ابتدأ بالنظر لنفسه وعم أهل حبه وأنسه فلا يأمر يمعروف إلا أتاه ولايته عن منكر إلا تجنبه ووقاه وليتنح عن أن يكون طالبا في صلاح غيره باخلا بالخير على نفسه فتلك تجارة خاسرة * وقدم في محل الحق عاثرة * فحيثما نكد عن حساب قلبه واشتغل بالأخذ على غيره فقد استحق وصف المقت عند الله إذ يقول جل من قائل {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} وقال سبحانه {أتأمرن الناس بالبر وتنسون أنفسكم} وقال أسامة بن زيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق فيها أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدرو الحمار برحاه فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك لم تكن تأمر بالمعروف وتنهى المنكر فيقول كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه فناهيك بهذا تبابا وإبعادا حتى أظهر قباحة هذا النوع شاعر القوم حيث يقول:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم فالكيس من اقتص من جوده لحفظ وجوده وأفرغ من اهتمامه وقيامه في استحصال مصلحته وقوامه فكما لا يليق به الاشتغال عن نفسه والاقتصار على فائدة غيره فكذلك لا ينبغي له أيضا الاقتصار على صالحة نفسه والاعتراض عما باشر من أحوال غيره فإنهما فرضان متغايران لا ينوب أحدهما عن الآخر صدع بوجوبه الكتاب والسنة كما قدمنا نصوص أدلته في الباب الأول. فمن لم يفعل ذلك على حقيقته وأتى الأمر فيه من غير بابه وطريقته استحق الرمي بمهام الوعيد الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر وليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم فأي أمر أكبر شرا وأعظم مصابا مما تتعدى إلى الغير تبعته وتتجاوز الفاعل عقوبته كما قال صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يعذب العامة بذنوب الخاصة حتى يرى المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه. وكما روي: أن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث. فكل شخص لزمه خطاب التكليف لا يسعه في الأمرين شيء ما في التسويف وذلك استقامة في نفسه والضرب على يد غيره بالتغيير فأيهما امتثل أمر الله فيه سقط إثمه وأثيب على فعله وإن تركهما كليهما فقد تعاظم عليه الوزر وتضاعف الفساد والشر فلا ينبغي لمن ترك أحد الجانبين وعليه شيطانه على إهماله أن ينسى حق الله وخطاب أمره في الجانب الآخر فيكون من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أعاذنا الله من شدد البلاء بحصول الأمل. قال مالك: في جامع المستخرجة: أنهم يحسنون صنعا أعاذنا الله من شديد البلاء بحصول الأمل. قال مالك في جامع المستخرجة: كان يقال من أشد البلاء الإملاء في المعاصي. قال ابن رشد رحه: وهذا بين يشهد له قول الله عز وجل {إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} ولا شيء في الإملاء أكبر من كون الإنسان يفعل المعصية في نفسه ولا ينكرها على غيره. واختلف أيضًا: هل من شرط مغير المنكر أن يكون مأذونًا من الإمام أو أحد من الحكام فرآه بعضهم ومنع آحاد الناس من ذلك ومنعه آخرون. وذلك الصحيح المشهور الذي عليه الكافة والجمهور لوضوح فساد الأول بمصادقة عموم أي القرآن وصحيح الآثار قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ .... }. وقال صلى الله عليه وسلم: من رأى منكرًا فليغيره: إلا أنه يتأكد على الإمام الأعظم جعل الله نصره بالتأييد على إقامة الحق داعيا وبأعباء معالم الشرع في كل

4 - الباب الرابع في كيفية التغيير ووجه تناوله

مواطنه وأحيانه قائمًا. لأنه الناظر في دثار الدين وشعاره أمد له نظر العموم والشمول. وكل من سواه لا يقوى قوته في الاستيلاء. لما يتخلل كلمته من القواطع والفلول لاسيما في نوع يؤدي إلى كثر أعوان وتحصيل لما يخشى من مكابدة وقال فظهور رادع الإمام العدل في ذلك واجب * وسعيه في ذلك بكله وبعضه لازب * ما لم تدع الضرورة لترك النصرة به * لما يخشى من قوات التغيير برعايته * كالقوم يكونون في البادية أو في محجة المسلمين يحدث بينهم ألقتك والغضب أو القتل وما أشبه ذلك من كل ما لا يحل إهماله فواجب القيام به ودفعه بما أمكن ودعت الحاجة إليه في كل حال. الباب الرابع في كيفية التغيير ووجه تناوله أما كيفية التغيير في شروعيته على الجملة تحسين المأخذ والبداية بالترفق والتلطف حتى يستوي من زل * ويهتدي من ضل * قال الله عز وجل: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} وقال جل وعلا: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} وقال صلى الله عليه وسلم: من كان آمرًا بمعروف فليكن أمره ذلك بمعروف. وقال عليه السلام: إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. وكذلك كان فعله صلى الله عليه وسلم في مواطن عديدة. فمنها ما وقع في حكاية الأعرابي إذ جاءه فقام ليبول في المسجد. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه! مه! فأصابهم عليه السلام بقوله لهم: دعوه! فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه. فقال: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن. ثم أمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فصبه عليه. وروى أبو إمامة الباهلي (الباهيلي) أن غلامًا شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتأذن لي في الزاج الزنى؟ فصاح الناس به. فقال صلى الله عليه وسلم: أقروه أقروه أدن مني. فدنا منه. فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ قال: لا! جعلني الله فداءك قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. فقال صلى الله عليه وسلم أتحبه لاينتك؟ قال: لا! قال: فكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم ثم ذكر الأخت والعمة والخالة وكذلك الناس لا يحبونه

5 - الباب الخامس في مراتب التغيير

لبناتهم ثم ضع يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك شيء أبغض إليه من الزنى. ووعظ المأمون واعظ فعنف عليه. فقال يا رجل ارفق. قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمره بالرفق فقال جل من قائل: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} وحكى حماد بن سلمة أن صلة بن أشيم مر عليه رجل قد أسبل عليه إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة فقال: دعوني أنا أكفيكم إياه. فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة. فقال لأصحابه لو أخذتموه بشدة لقال لا ولا كرامة ولشتمكم. هذا إذا لم يخف مع سلوك الترفق فوات التغيير أو طهور الإهانة والإزدراء بالمقدم على ذلك ويكون رفقه غير مانع لذلك فهذا يلزم المغير تغييره بما أمكن من العنف المقيد للإزالة أما إن كان غير مقيد لإثارة منكر أعظم من المنكر المغير فحكمه على ما سلف في الباب الثاني. الباب الخامس في مراتب التغيير وأما مراتب التغيير فعلى خمسة أنواع: النوع الأول: مجرد التنبيه والتذكير وذلك فيمن يعلم أنه يزيل فساد ما وقع لصدور ذلك على غرة وجهالة كما قع من العاصي الجاهل بدقائق الفساد في البيوع ومسالك الربى التي يعلم خفاؤها عنه وكذلك ما يصدر منه من عدم القيام بأركان الصلوات وشروط العبادات فهذا ومن شاكله ممن له معذرة في الغفلة والجهالة ينبهون بطريق التلطف ويعلمون بمسالك الرفق والاستمالة ليتم قبولهم لذلك بنشاط واستبشار فيلقونه بألفهم الحلي عن الكلفة المسرع بحصول الفائدة كما ذكر في "كتاب تنبيه الحكام" على مئاخذ الأحكام حكاية في المعنى. قال: أخبرني شيخنا الفقيه القاضي أبو عبد الله المشتهر بابن أبي درقة رحمه الله قال: كنت مرة في غرة الشباب ومبادي الطلب تشاغلت عن إحدى صلاتي النهار إلى أن شارفت الفوات فأتيت عجلًا إلى بعض المساجد واعتمدت بعض زواياه فصليتها مبادرًا ومتجاوزًا في بعض أركانها وإذا بعض الشيوخ الفضلاء يسارقني النظر بحيث لم أشعر به فلما أتممت صلاتي وهممت بالانصراف استدعاني فأتيته

فقال يا بني رجلًا تسلف دراهم إلى وقت فلما حل الأجل والغريم موسر قادر على الأداء تهاون بذلك واستخف ولم يزل يتراخى به حتى استحق ذم التأخير ثم أتاه بعد ذلك بها ناقصة زيوفًا فجميع جنسي الإساءة في القضاء فهل يكون لهذا حظ في القبول قال فما أتم كلامه حتى فهمت مقصده وتعريضه بما فعلت في صلاتي. فخجلت ثم قلت له: نعم فما زاد على أن قال يا بني قم بارك الله فيك فعدت لإتمام صلاتي وأثر ذلك عندي خير تأثير. فهذا النوع من الرفق والتلطف في التعليم بحسب فهم صاحب النازلة وما يليق به أوقع في النفوس وأقرب للإجابة من كثير من العنف والشدة النوع الثاني الوعظ بما يهز النفوس ويمليها لتصفيه الباطن والبعد من الإثم ومواقع الجرائم بالتخويف من عقاب الله والتحذير من أليم عذابه واستحقاق وعيده. وذلك في سائر من علم أن وقوعه في المناكر على علم منه بها كمدمن شرب الخمر والمواظب على الغيبة والنميمة وأمثال ذلك من أنواع المعاصي التي لا يجوز على مسلم مكلف أن يجهل تحريمها. فاللازم في شأن هذا أن يتعاهد المتصف به بالعظة والإخافة من ربه جل وعلا ويتلطف معه في إيصال ذلك لجأشه وليه فلعل مصرف القلوب سيجعل ذل صارفا قلبه عن مواقعه الزلل ويلهمه رشده في محو آثار كل خلل. قال مولانا في حكم تنزيله المبين {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}. النوع الثالث الزجر والتأنيب والإغلاظ بالقول والتقريع باللسان والشدة في التهديد وهجن الخطاب في الإنكار. وذلك فيمن لا ينفع فيه وعظ ولا ينجع في شأنه تحذير برفق ولا تكره لطف فردعه إنما يكون بالتخويف الصارف له والمرهب القامع لأمثاله كقوله: لئن لم تنته لأقعن بك كذا وما أشبه هذا من التقريع والوعيد الذي هو أهله. ولا ينبغي أن يتعدى إلى السب الفاحش والذم الذي ليس من صفة ذلك المخاطب فإن فعل ذلك في غير محله ومع من ليس من أهله فذلك منكر واقعه مغير المنكر يجب الاحتساب فيه عليه. النوع الرابع التغيير بملاقاة اليد بإزالة ذلك المنكر وإذهاب وجوده وذلك فيمن كان حاملًا الخمر أو لابسًا ثوب حرير أو خاتم ذهب أو ماسكًا لمال مغصوب وعينه قائمة بيده وربه متظلم من بقاء ذلك بيده طالب رفع المنكر في بقائه تحت حوزه وتصرفه فأمثال هذا لابد فيه مع الرجز والإغلاظ من المباشرة للإزالة باليد أو ما يقوم مقام اليد كأمر الأعوان الممتثلين أم المغير في إزالتهم له بوازع الطاعة وأعمال المسارعة فيريقون الخمر وينزعون ثوب الحرير وخاتم الذهب ويختطفون المغصوب من يد الغاصب ويردونه لمالكه وما شاكل ذلك من أساب البيع في زوال ذلك المنكر ومحو آثاره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. تنبيه إذا لم يقع التمكن من إراقة الخمر ولا بكسر أنابيبها

فصل

وتحريق عائها فلا ضمان على من فعل ذلك على الوجه المتقدم في هذا النوع وإن أمكن زوال عينها مع بقاء الوعاء سليما ولم يخف الفاعل مضايقة في الزمان ولا في المكان بثغلب أو أبنيات فأتلفه مع انتفاء هذه الموانع ضمن قيمته إن كان لأمثاله قيمة وإلا وهو مما ينتفع به في غير الخمر النوع الخامس إيقاع العقوبة بالنكال والضرب بالأيدي والجلد بالسوط وذلك فيمن تجاهر بالمنكر وتلبس بإظهاره وإبداء صفحة خده في استلذاذه وعدم إفادة العدل واللوم على مواقعته ولم يقدر على دفعه إلا بذلك فإن كابد وعائد ودعت الضرورة إلى مقاتلته بالسلاح ومكافحته بالتناصر والتعاون وجب على كل من حضر وباشر إذا لم يقلع عن ذلك المنكر ولا بمثل ذلك لكن قد تقدم من الأولوية في هذا النوع عند آخر الباب الثالث أو يدفع إلى الإمام أو إلى أحد من الحكام القائمين به عن إذنه لأن ذلك ادعى إلى النجح وأقرب لتسهيل المأخذ ونيل المقصد وأرفع لما يخشى من أثارة الفتنة مع من ليس معه رائحة من الأمر السلطان لما جعل الله في السلطان من الحكمة النيرة والسير الإلاهي فقد وقع في بعض الآثار: السلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه كل مظلوم. هذا إن لم يكن استيذانه يؤدي إلى فوات المطلوب من إزالة المنكر أو ما تحصل فائدة استيذانه إلا وقد وقع ذلك المنكر فيجب المبادرة إليه بما أمكن ولو مع قيام هرج أو غيره. فصل ومما يجب الأخذ بمقتضاه * والعمل على ما يضمنه هذا الفصل المخصوص وحواه * أن يكون المباشر لتغيير المناكر * مع ما يجب في وصفه عند الباري جل وعلا من صلاح البواطن والظواهر * بعيدًا بكليته * منافرًا بطبعه وسليقته * لإعمال شيء من العقوبة بالأموال * ولو بدانق واحد يزداد على النكال * فقد أرعد العلماء في ذلك وأبرقوا على من أباحة ببنت شفة * وجعلوا ذلك من شبه الضلال * وتأولوا ما وقع في مسائل المذهب مما ينجح

لذلك بوجوه من التأويلات للانفصال * واجتلاب ذلك لهذا الإملاء المقصود به إعمال الاختصار ما أمكن يوسع دائرة النطاق * ويكثر بتعديده تعداد أشخاص الأوراق * ولكن نكتفي من ذلك بأهم المنقول * وعلى مولانا سبحانه الاعتماد والتكلان في التوفيق لصلاح المقول. قال الشيخ أبو الوليد بن رشد رضي الله عنه في كتاب السلطان من العتبية لما تكلم على مسأل غش الزغفران واللبن: إن العقوبة بالمال أمر كان في أول الإسلام. من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة أن خذوها منه وشطر ماله غرومة عن غرمات ربنا. وما روي عنه عليه السلام في حرميته الجبل فيها غرامة مثليها وجلدات نكالًا. وما روي عنه عليه السلام إن من أخذ يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن أخذه سلبه. ومن مثل هذا كثير. قال: ثم نسخ ذلك كله بالإجماع على أن ذلك لا يسوغ وعادت العقوبة في الأبدان خاصة * ومن ذلك ما وقع في كتاب الجامع من العتبية أيضًا في حكاية عن مروان بن الحكم في شدته في الحدود قال: قال مالك حدثنا يحيى بن سعيد. أن امرأة خرجت إلى بعض الحرار فلما نزلت قرقرة عرض لها رجل من أصحاب الحمر فنزل إليها ثم أرادها عن نفسها فكشف ثيابها فامتنعت منه بحجر فشجته ثم صاحب فذهب فأتت مروان بن الحكم. وكانت فيه شدة في الحدود. فذكرت ذلك له فسألها عن اسمه فلم يعرفه (تعرفه) وقال: أتعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم فأدخلت بيتًا ثم قال: إيتوني بالمكارين الذين يكرون الحمر. وقال: لا يبقى أحد أكريتموه إلا جئتموني به. فأتوه بهم. فجعل يدخل عليها رجلًا رجلًا. فتقول: ليس هو حتى دخل عليها به مشجوجًا فقالت هو هذا. فأمر به مروان فحبس في السجن فأتى أبوه فكلمه فيه فقال مروان جانيك من يجني عليك وقد * تعدي الصحاح مبارك الجرب فلرب مأخوذ بذنب عشيره * ونجا المقارف صاحب الذنب قال أبوه ليس كذلك إنما قال الله عز وجل: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فقال مروان: لا. ها الله إذا لا يخرج منها حتى ينقدها أف درهم بما كشف عليها. فقال أبو هي علي فأمر به مروان فأخرج فقيل لمالك: أترى هذا من القضاء الذي يؤخذ به؟ فقال: ليس من القضاء ولكنه على غلطة من مروان ولقد كان مروان يؤتى إليه بالرجل وقد قبل المرأة فينزع ثنيته. قال الشيخ ابن رشد رضه: ما تضمنته الحكاية عن مروان بأنه قضى المرأة بدعواها على المكاري الذي ادعت عليه من كشفه إياها مع الشبهة التي ألحقت التهمة

به وحققته الظنة عله لا يأخذ به مالك ولا يرى القضاء به إذ لا يرى العقوبات بالأموال وإنما ذلك أمر كان في أول الإسلام ثم انعقد الإجماع بأن ذلك لا يجب على سبيل الإنكار عليه إن كان يؤتى بالرجل يقبل المرأة فينزع ثنيته. وهذه نهاية في الإنكار والعقوبات على الجرائم عند مالك على قدر اجتهاد الوالي وعظم جرم الجاني وإن تجاوز الحدود. وقد أمر صاحب الشرطة في الذي وجد مع صبي في سطح وقد جرده وضمه إلى صدره وغلق على نفسه معه فلم يشكوا في المكروه بعينه أن يضربه ضربًا مبرحًا ويسجنه سجنًا طويلًا حتى تظهر توبته فسجنه أيامًا فكان أبوه يختلف إلى مالك ويتردد إليه ويقول: اتق الله فما خلقت النار باطلا فيقول له مالك: أجل إن الذ ألفي عليه ابنك لمن الباطل ثم ضربه صاحب الشرطة أربع مائة سوط فانتفخ فمات. فما أكبر ذلك مالك ولا بالى به فقيل له: يا أبا عبد الله إن مثل هذا من الأدب والعقوبة لكثير. فقال: هذا بما اجترم وما رأيت أنه أمتسه من العقوبة إلا بما اجترم. وقال مطرف بن عبد الله في المبسوط: الأدب إلى الحاكم موكول إلى نظره يؤدب في ذلك باجتهاده وإن أتى الأدب على النفس وإخراج الروح وله في "الواضحة" أن أقصى ما يبلغ في الأدب المعروف بالجرم ثلاثمائة سوط فما دون ذلك. وروى عن أصبغ: أن أقصى الأدب المعروف في جرم الفاسد البين الفساد مائتان. وروي عنه: أن ذلك إلى اجتهاد الإمام وإن أتى على النفس. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس أنه قال: م بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين. وذهب إلى هذا محمد بن مسلمة. فقال: قد انتهى غضب الله في الزانية والزاني إلى مائة جلدة وقال: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} فلم يجعل عليهما أكثر من ذلك فلا يتجاوز في العقوبة ثمانون سوطًا. وقد روى عبد الله بن مسلمة بن قعنب عن مالك: أنه لا يتجاوز فيها خمسة وسبعين وإن كان يقول: الأدب عندي دون الحدود. والمشهور عنه المعلوم من مذهبه أن ذلك إلى اجتهاد الإمام وهو مذهب ابن القاسم. وقال أبو حنيفة: لا يبلغ بالضرب أكثر من ثلاثة أسواط في الأدب ولا يزاد على الثلاثة إلا في حد من حدود الله. وروي ذلك عن الليث بن سعد. وقال أبو يوسف: لا يبلغ في الأدب ثمانين. وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة لا يبلغ مائة ومن أهل العلم من رأى أنه يضرب في الأدب أكثر من عشرة أسواط. وروي مثله عن أشهب. قال لا يزيد السلطان في الأدب على عشرة أسواط ولا المكتب على ثلاثة فإن زاد على ثلاثة اقتص منه وما اجتلبنا الحكاية بطولها وكلام ابن رشد عليها بكماله إلا لما احتوت عليه من الفوائد في شأن ما نحن فيه من الزواجر والعقوبات الشرعية.

والمقصود نقل ابن رشد الإجماع على منع العقوبة بالمال كما تقدم في كتاب السلطان وأن ذلك نسخ بالإجماع. وفي سماع أشهب وابن نافع من كتاب الحدود. وسئل مالك أيحرق بيت الخمار الذي يوجد فيه الخمر؟ قال: لا. قال ابن رشد هذا صحيح على المعلوم من مذهبه أنه لا يرى العقوبات على الجرائم في الأموال إنما يراها في الأبدان. وفي كتاب الأحكام لابن العربي: لا عقوبة في المال ولكن يؤدب لجنايته بالإجماع. هذا نصه في سورة آل عمران وفي سورة الأنفال من الكتاب المذكور لا تجوز العقوبة بالمال بحال. وفي كتاب النهاية والتمام إن ما ورد من العقوبات بالأموال منسوخ كله وفي كتاب الطحاوي والعقوبة بالمال منسوخة. فهذه نصوص كلها متضافرة على نسخ ما ورد من العقوبة بالمال وأن بالإجماع انعقد على ذلك فلا يلتفت إلى قول من يريد إقامة الإباحة من مسائل وظواهر ينجح مقتضاها لذلك لاتساع مجال التأويل وفسحة القول بمنع ذلك بأدلة التوجيه والتعليل. وقول ابن قيم الجوزية الحنبلي فيما نقل عنه برهان الدين بن فرحون في "تبصرته" ومن قال إن العقوبة المالية منسوخة فقد غلا على مذهب الأئمة نقلًا واستدلالًا وليس يسهل عنه دعوى نسخها والمدعون النسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم محجوج بنقل هؤلاء الأئمة الأعلام في كتبهم المبسوطة المشهورة في الإجماع الذي نفاه هو. فمن حفظ حج على من لم يحفظ. وما ذكر من فعل الصحابة أشار به لفظًا عمر. قال ابن رشد وحكم بن عمر بن الخطاب رضه ثم انعقد الإجماع بعده على أن ذلك لا يسوغ والقضية التي قضى فيها عمر رضه هي التي ذكر في كتاب لابن عبد البر والله أعلم. قال خرج قاسم عن أصبغ أن عمر بلغه أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما يفرق بينهما وقال لا ينكحهما أبدًا. وجعل صداقها في بيت المال. وفشا ذلك في الناس. فلما بلغ ذلك عليا رضه قال: رحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال إذا جهلا ينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة قيل فما تقول أتت فيهما قال لها الصداق بما استحل من فرجها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما وتكمل عدتها من الأول ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ثم يخطبها إن شاء فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فخطب فقال: يا أيها الناس ردوا الجهلات إلى السنة وروى الثوري أن عمر جعل لها مهرها وجعلهما يجتمعان. ملخص ذلك مما قصدنا التنبيه عليه أن يجعل القائم بتغيير المنكر حرمه العقوبة بالمال بين عينيه فلا يستبيحها ولا يبيحها لأحد من أعوانه بين يديه وسبيل أرزاقهم سبيل أرزاق الأعوان الذين يوجههم الحاكم في مصالح الناس تكون لهم من بيت المال كأرزاق القضاة

وسائر العمال والولاة فقد وقع في " جامع العتبية" في الشرط يبعثون في الأمر يكون بين الناس يجعل في أموالهم. قال مالك: كان زيادة بن عبد الله يبعث شرطًا في الأمر يكون بين الناس في المناهل ويجعل لهم في أموالهم جعلًا فنهيته عن ذلك وقلت له إنما هذا على السلطان يرزقهم فقيل له إن أمير المؤمنين جعل لمن ولي عليهم شركًا معهم فيما اشتروا. قال شعرت به ولا أمرته بذلك. ثم قال إن هذه الأمور يخاف فيها ما يخاف ثم فسر فيها تفسيرًا. قال ابن رشد رحه هذا أن الواجب أن يجعل للشرطة المتصرفين بين أيدي القضاة في أمور الأحكام رزقًا من بيت المال لأن ذلك من المنافع التي تعم الناس فإن لم يفعل كان جعل الغلام المتصرف بين الخصمين على الطالب في إحضار خصمه المطلوب ويخفي ويعنت بالطالب إعناتًا فيكون الجعل في إحضاره عليه وأما أن يجعل من ولي على السوق شركًا معهم فيما اشتروا فالمكروه فيه بين. وذلك أنه إذا كان له معهم شرك فيما اشتروا سامحهم في الفساد بما له معهم فيه من النصيب ومثل ما في الجامع بنصه في كتاب السلطان. قلت إلا أن ما قال من إعطاه المدعى عليه الملدد أيجعل الذي أعطى في إحضاره المدعي لا يحسن ولا يجعل في أعوان القيم بتغيير المنكر لأنه ليس هنالك مدع ولا مدعى عليه ولا ذو حق متشخص يطلبه بعينه وإنما هو أمر مطلوب بطريق الفرض المتعين على عامة الناس ومتأكد على الولاة والحكام فقصاراه أن تكون أجرة الأعوان فيه في بيت المال كغيرهم من أعوان سائر الحكام وإن كان الأعوان في هذا كغيرهم من سائر الناس في توجه خطاب الوجوب والفرضية نحوهم لكن لما كان اشتغالهم بذلك يضيع عليهم الزمان في شأنه عن القيام بمعايشهم وطلب أقواتهم وجب أن يكون لهم ذلك في بيت المال رزقا وإعانة كما هو المشهور عند العلماء في مرتب طلبة العلم الذي يأخذونه من الأوقاف الموضوعة لذلك أنه من باب الإعانة والرزق لا من باب الأجرة لأن طلب العلم فريضة متعينة في حقه وتحصيل منفعة خدمته وحمله مقصورة عليه لا على الواقف فباين مسلك الاستيجار. فإن قلت: أليس الذي أوجبوه على الملدد المتغيب على الحضور مع خصمه من أداء جعل العون الذي أداه الطالب هو عين العقوبة بالمال على عصيانه وعدم إجابته ولو كانت العقوبة قاصرة على إيلام البدن لوقع الاكتفاء بضربه أو سجنه أو نحو ذلك. قلت إلزامه أداء الجعل ليس من باب العقوبة بذلك وإنما هو من ناحية أنه سبب في غرم المدعي ما لم يجب عليه إجابته دعواه للحاكم وقد أوجبها الله بنص الوحي في

قوله: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم} الآية. فكأنه باشر ظلمه بأداء ما لم يجب عليه المتسبب كالمباشر لمن أمسك وثيقة بحق حتى فات اقتضاؤه والتوصل إليه بما وقع من إمساك الماسك لها وغير ذلك من مسائل الصيد المشهورة. والاقتصار على فهم المسألة على ما فيف السؤال هو الذي أوجب منع أبي عبد الله الفخار من القضاء بذلك في شأن الخصمين. وقال: لا تعلم ذنبًا يوجب استباحة مال الإنسان ولا الكفر وحده. يعني كفر الردة والله أعلم. وهذا تشنيع منه على ابن العطار وغيره ن الجماهير والجم الغفير في أن ذلك لازم عن حكمهم على الملك طوق عنق وليس بلازم لما تقرر في الجواب. وأيضًا لقوله: لا تعلم ذنبًا نكرة في سياق نفي فتعم كل الذنوب. والغاضب في عدائه على الشيء من المثليات والمقومات فأتلف عينها وجب من رد المغصوبات والمتلفات إنما نشأ عن ذنب العداء فيجب أداؤه لذلك وتحرم الزيادة. ولم يقل بهذه الزيادة التي هي لمجرد العقوبة والنكال أحد فقد تعسف في إطلاق نفي إباحة المال بالذنب في محل التقييد بما هو مخصوص بالعقوبة لا بما عمرت به الذمة بطريق الضمان وذلك عين ما قالوه في الملدد الغاصب وإن كانت هذه مناقشة لفظية لا طائل تحتها مع ابن الفخار لكنها في صورة النقض عيه بدعواه العموم فيما نفى عن علمنا بقوله لا نعلم ذنبًا والحق أن هذا ليس من العقوبة بالمال فيلزم ما قاله لأن العقوبة بالمال قد وقع الإجماع على إسقاط حكمها وإلقاء طريقها كما قدمناه. ولولا الإطالة التي لسنا بسبيلها والسآمة التي نخشى وقوعها بما يثقل على الأصمخة من مديد الكلام لأوردنا كثيرًا من المسائل المذهبية التي يبدو من ظاهرها الحكم بالعقوبة المالية وباطنها على خلاف ذلك على أن الذي وقع من ذلك إنما هو فيما كان إتلافا لمحل المعصية كما في إراقة اللبن وقطع الملاحم وغير ذلك لا إغراما على عصيان أجنبي عن المال بنقد يؤديه الجاني من ذمته فينتفع به الحاكم والشرطي في شؤونه فهذه صورة لم يقل بها أحد من المسلمين فضلًا عن العلماء والمتفقهين ولذلك ترى أكثر عباراتهم بالعقوبة بالمال لا بالمال وما وقع من ذلك بالباء الموحدة فيحمل على الغالب من عباراتهم وتكون الباء ظرفية ويرجع المعنى لما سبق ويقولون أيضًا يتصدق به ولا يقولون باستنفاق الحاكم إياه كما يفعله ولاة الجور في كثير من الأقطار والأمصار لأن في إباحة ذلك مذنب أعظم الذنب وما يؤديه في غرم قيمة ما أتلف عين ماله لا مال المغصوب لأن عين مال المغصوب قد تلف وغاب وليس من استرجاعه لكن الشرع حكم بأداء العوض حياطة للأموال التي جعلها الله لنا قيما ورفعا لمادة الظلم الذي حرمه الله على نفسه وجعله بين خلقه حرامًا فها هو ذنب

الغصب أباح عين مال الغاصب كما تدعي أن الملدد في مسألتنا شكل غاصب لمال طلبه المدعى عليه بإيجابه لأداء ما لم يجب. وقد لاح لي على كلا الدعوتين تركيب قياس. وذلك أن تقول: كل اللداد فهو ذنب ولا شيء من الذنب بمبيح لمال الإنسان الملد. فلا شيء من الإلداد بمبيح لال الإنسان الملد كما نقول: كل غصب فهو ذنب ولا شيء من الذنب بمبيح لمال الإنسان الغاصب فلا شيء من الغصب بمبيح لمال الإنسان الغاصب. أما الصغرى فمسلمة وأما الكبرى فقد ادعى صحتها في شأن الملد ويلزمه صحتها في شأن الغاصب بجامع أن كلًا منهما ذنب وهو عين ما تضمنته الصغرى المسلمة لكنا نستفسر مراده بما تضمنته الكبرى من سلب إباحة الذنب للمال إن كان على وجه العقوبة بمال أجنبي كما ضمن الشرع ذمته بما أتلف بذنب جناية الغصب والإلداد فمسلم وإن كان لا على وجه العقوبة بمال آخر سوى المال الذي أتلفه بذنب الإلداد والغصب فغير مسلم إذ نصوص الشرع تأباه بقولهم: لك غاصب فهو ضامن لما غصب وكذلك قولهم كل ملدد بما أتلف بإلداده ضامن فلو قال الجمهور في اللد إنه يؤدي ما أتلف بإلداده وزيادة مال آخر في مقابلة العقوبة والنكال لكان هذا المزاد مما لا يستباح بالذنب إذ هو عين العقوبة بالمال كما كان في أول الإسلام في مانع الزكاة تؤخذ منه وزيادة شطر ماله فالعقوبة إنما هي بالزيادة وأما ما وجب أداؤه من الزكاة فلا. كما أن هد ركن عظيم من الشريعة بتبديل وضعها في طريق الزواجر والعقوبات وبمصادمة ما نهى ربنا عنه فيها من أكل المال بالباطل فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وفيما ذكرناه لم يتبع نفسه هواها وعض بالنواجذ على تزكيتها وتقواها غاية الكفاية ومنه سبحانه نرتجي التوفيق والعون والهداية. فائدة: إذا لم يطلع على المنكر حتى انقضى فعله وفات محله فسبيل النظر فيه للقضاة والحكام لأن بابه الأحكام لا التغيير لفوات دفع المنكر بفوات محله لكن على الحاكم أو السلطان القيام بموجب ما ثبت عنده من ذلك فما كان فيه حد من الحدود المقدرة في الشرع كالشرب والسرقة والزنا وما أشبه ذلك من القصاص والديات أمضى الحاكم فيه حكمه على طريقه وموجبه المستوفى وما لم يكن فيه حد من الشرع متقرر كالغصوبات وإتيان الربويات والتعرض لكشف العورات وما لا يحصى عدة من المنكرات فإنما عليه إقامة العقوبات فيه على قدر اجتهاده ونظره بحسب كل نوع وكل شخص إذ المشهور عن مالك رضه أن ذلك موكول إلى اجتهاد الحاكم حسبما أسلفناه نقلًا من كلام ابن رشد رضه في الفصل الذي أوردناه متصلًا بهذه الفائدة غير أن الحاكم أيضًا في نفسه لا يهمل طريق الترتيب الذي تقدم في الأنواع الخمسة التي سطرنا قبل الفصل في الباب الخامس فرب رجل من ذي الهيئات لم

6 - الباب السادس في معرفة وجوه الكشف عنه

تقع منه إلا فلتة أو فلتات يكون مختصًا بخفة العقاب عمن لا يردعه إلا شدته كالمتجاهر بكبائر المعاصي والمنكرات وعلى ذلك وقع التنبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم الباب السادس في معرفة وجوه الكشف عنه وتعرف وجوه الكشف عما يقع من المناكر يتبقى إلى استدلال ونظر سيأتي على وجه ما يبدو من القرائن القائمة والظواهر اللائحة بعد نبذ القائم بذلك طريق التجسس المحظور وابتداء المباحثة التي ليس لها سبب يبدو ولا تكرر ريبة تظهر كما يقع من بعض من يتطلع العورات بطبعه الردي وشهواته الخبيثة من استراق السمع وطلب التعرف لما عليه الناس وخصوصًا ألوا الستر والتخفي ولو أوصله تعرف لدليل من أدل السوء كنغمات الملاهي وأصوات السكارى وانتشار رائحة الخمر فما كان من ذلك على وجه التجسس فهو في نفسه يجب تغييره لأنه منكر في نفسه قال الله سبحانه {ولا تجسسوا}. وقع محاشاة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضه عن مسلك التجسس في مسالك تغييره ومراد ذلك لا يسوغ من فعل نفسه مع أهل السر والتخفي مما روى ابن حبيب عنه: أنه كان ماشيًا ذات ليلة في ظلمتها فإذا به قد رأى نارًا فأتى إليها فإّذا بقوم يشربون وبشيخ يغنيهم فاقتحم عليهم وقال: " يا أعداء الله قد أمكن الله منكم. فقال الشيخ: ما نحن بأعظم منك ذنبا تعديت ودخلت بغير إذن والله تعالى يقول: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم} فاحتشم عمر وقال: ذروا هذه بهذه ومن ذلك استخراج ما أخفاه المختفى ولو كان معلنًا بالفسق فلا يجوز كشفه لتعرف حقيقة ما هو هل آلة لهو أو خمر لمجرد ظن ذلك به لفسقه لأن تلك إذاية للظنون به. ومولانا يقول في كتابه: {إن بعض الظن إثم} وكذلك طلب تقرير المأخوذ في عمل ذنب بأكثر مما وجد عليه لا ينبغي أيضا قال في "كتاب الحدود" لأحمد بن هارون بن عات: إذا مشت المرأة في الشهر مع أهل الفساد ثم تأتي أو

تساق لم ينبغ للإمام أن يكشفها عما كانت فيه هل زنت أو خرجت عن طوع منها أو إكراه ولكن يؤدبها ولا يكشفها عن شيء لأن قصد الشريعة الستر في هذا لقوله عليه السلام: هل سترته بردائك؟ قلت ويشهد لمقول هذا الشيخ ما ذكر عياض في " أماليه" في حديث ماعز والقادمية حين قال كل واحد منهما للنبي عليه السلام: يا رسول الله طهرني. فأجاب النبي عليه السلام بقوله: ارجع فاستغفر الله. وذلك دليل على وجوب الستر على المسلم وإن السؤال والاستفسار عن اللفظ المبهم في مثل هذا غير واجب بل وقال بعضهم إنه لا يحل لأنه من باب التجسس وكشف المسلم والنبي عليه السلام قد ردهما ولم يستفسرهما حتى ألحا وصرحت القادمية. وأما ما كان على وجه التجسس وتطلع العورات بل بما قامت أدلته لنفسها ولاحت ظواهره بقرائنها كما لو وقع المرور على دار فسمع المارة آلة الملاهي ونغمات السكارى ونحو ذلك مما يقع الاطلاع عليه عن غير قصد فالقيام بذلك واجب غير أنه يختلف بحسب صفات الأشخاص فمن كان من أهل الستر فلا ينبغي تعريف الحكام بما سمع عنه ولا بما رئي منه. نقل ابن زيد في نوادره عن مالك بن أنس رضه قال: قيل له فيمن له جار سوء يفعل ما لا ينبغي فعله في الإسلام هل أدل عليه أقدم إليه وانهه فإن لم ينته دل عليه وسئل ابن أبي زيد أيضًا في بعض أسئلته عمن يرى أخاه على بعض معصيته زنى أو لواط أو غيرهما هل ينكر ذلك عليه من أول مرة وكيف إن كانت ثانية أو ثالثة منه ما حكمه؟ فأجاب: من عمل المعاصي فلا ينبغي هتك ستره وإن رجا موعظته يرفق قال عليه السلام لبعض أصحابه هل سترته بردائك. وقال من أصاب شيئًا من هذه القاذورات فليستتر عنا بستر الله فإنه إن أبدى لنا صفحة وجهه أقمنا عليه كتاب الله ولهذا أعظم الله الشهادة في الزنى حيث لا يقبل فيه إلا أربعة عدول في موضع واحد ورؤية واحدة فمتى اختل شرطها وجب الحد ولم يثبت في الإسلام زنى بشهادة ولم يقع إلا قضية المغيرة ولم تتم انتهى جواب الشيخ رضه. إذا رفع للحاكم أن في بيت فلان خمرا فليكف عنه ولا يهتك بذلك ستره فإذا رفع هذا الرائي أو المستمع لحقيقة المنكر ما رآه أو سمعه دون تقدم نهي ولا موعظة فسئل الحاكم الذي وقع الدفع إليه في الكشف عن المتجاهر دون المستتر نقل في "مفيد الأحكام" عن عيسى بن دينار في الحاكم يرفع إليه بأن في بيت فلان خمرًا أو أخبره بذلك واحد أو من لا تجوز شهادته فليكف عن ذلك ولا يهتك بهذا ستر المسلم وإن شهد شهود على البيوت كشف عن ذلك فأراقها وضرب ضربًا دون الحد وإن قالوا للحاكم بلغنا

ذلك فإن لم يكن مشهورًا وله حرمة تركه ويعلمه بما قيل عنه ويحذره أن يبلغ عنه مثل ذلك وإن كان متهمًا كشف عنه فإن وجد ذلك كما قيل أدبه وإن لم يوجد كذلك زجره وتوعده وفي نوادر ابن زيد" نقلا عن " كتاب ابن حبيب" قلت لمطرف: فإذا رفع للإمام أن في بيت فلان خمرًا أيكشف عن ذلك؟ قال: أما المشهور بذلك فأرى له تعاهده وليكشف عن بيته ذكر له عنه شيء أو لم يذكر وأما غير المعروف فلا يكشفه وإن شهدوا على البيت. وقاله أصبغ. وعن مالك: وأرى السلطان والشرطيين إذا دعي إلى بيت فيه فسق أو على شراب فأما البيت الذي لا يعرف بذلك فيه فلا أرى أن يتبعه. وأما المعلن بالفسق وقد تقدم إليه فليتبعه. ومن "كتاب ابن المواز" قبل فإن انتهى إلى الإمام أن فلانًا سكران أو على حد أيرسل في أخذه؟ قال أما ما لم يكن يصح عنده أو يحضره فلا إلا المعلن بالفسق بالشراب أو غيره. قال برهان الدين بن فرحون في " تبصرته" تنبيه. وهل للقاضي أن يتعاطى هذا الكشف وظاهر كلامهم أن ذلك للوالي والشرطي دون القاضي. وقد تقدم أن للمحتسب أن يفعل ذلك لأن أصل ولايته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هـ. فقف على ما تضمنه هذا التنبيه فإنه مفيد حسن. ومسلك فعل مغير المنكر مع من هو متجاهر بالمعاصي مرتكب أنواع الفسوق إعلانًا ما قال في " تنبيه الحكام" على مآخذ الأحكام ينبغي البحث والكشف عما اشتهر ذكره من المناكر وعرف بالجملة ظهوره وانتشاره وأنس الناس به كاتخاذ المناكر والملاهي في الديار والمحلات وبعض الشوارع والحمامات وكذلك الفحص عمن شهر بالفساد من بيع الخمر واتخاذ الديار المعدة لذلك ومن هو كالآلة لوقوع المنكر على يديه. ففي مثل هؤلاء يجب اجتهاد الإمام وولاته بالبحث عنهم وتفقد مكان ذلك منهم واستعمال الجد في ردعهم واستيلاء القهر والإخافة عليهم. فإذا ظهر من ذلك ما يوجب العقوبة والتنكيل فعلوه بهم على أعين الناس ففي ذلك إن شاء الله ردع لظهور المنكر وتطهير لموانع الفساد وإظهار لشعائر الإسلام فواجب على الحكام الابتداء بالكشف والبحث في هؤلاء لأن الشر والفساد قد كثر جدًا وانتشر وظهر وتحقق كون ذلك منتشرًا في المواضع فلا ينبغي للحاكم التهاون به وترك القيام فيه. وليس ابتداء البحث في مثل هذا حتى يدفع إليه إذ قد لا يكاد أحد ينكره. فإهمال البحث عن ذلك مؤد إلى استمراره واستدامته مع قلة القيام به. وليس ابتداء البحث في مثل هذا محظورًا من جهة أنه من قبيل التجسس بل هذا هو الواجب إن شاء الله تعالى ها هنا لأن

البحث والكشف إنما يكون تجسسًا محظورًا فيمن استتر ولم يشتهر عنه ذلك المنكر كسبًا ودأبًا حتى أصبح أمره بذلك معلومًا. فالإغضاء عن مشهرات المناكر وترك البحث عن قطع مرادها مؤد إلى قوله صلعم. لما سألته زينب: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث هـ. قلت: وظاهر كلامه هذا بل دلالته نص وصيته على ابتداء كشف الوالي والمغير عن المشتهر بالفسق والفجور قبل أن يرفع إليه أمره وذلك مخالف لما نقله من روايات أصحاب مالك عنه. فلعله يرى ذلك من رأيه أو من نظر المحققين من علماء وقته أو من تقدمهم لدفع دواعي المنكرات بحسب فساد الأزمنة والأوقات أو لعله يؤخذ من قول مطرف المتقدم فيما حكى ابن حبيب عنه. أما المشهور بذلك فأرى له تعاهده وليكشف عن بيته ذكر له عنه شيء أو لم يذكر ولم يذكر الحكم في الدار المعدة لذلك. حكم الفاسق الذي يأوي إليه أهل الفساد وقد وقع في سماع أبي زيد من ابن القاسم قال: سئل مالك عن فاسق يأوي إليه أهل الفسق والخمر ما يصنع به؟ قال: يخرج من منزله ويحاز عنه الدار والبيوت. فقال: قلت لا تباع عليه؟ قال: لا لعله يتوب فيرجع إلى منزله. قال ابن القاسم: يتقدم إليه مرة أو مرتين أو ثلاثًا فإن لم ينته أخرج وأكري عليه. قال ابن رشد رحه "قد قال مالك: "في الواضحة" إنها تباع عليه خلاف قوله في هذه الرواية. وقوله فيها أصح لما ذكره من أنه قد يتوب فيرجع إلى منزله. ولو لم تكن الدار له وكان فيها بكراء أخرج منها وأكريت ولم يفسخ كراؤه فيها. قاله في كراء الدور من "المدونة" وقد روى يحيى بن يحيى أنه قال: أرى أنه يحرق بيت الخمار. قال وقد أخبرني بعض أصحابنا أن مالكا كان يستحب أن يحرق بيت المسلم الذي يبيع الخمر. قيل له فالنصراني يبيع الخمر من المسلمين قال: إذا تقدم إليه فلم ينته فأرى أن يحرق عليه بيته بالنار. قال وحدثني الليث أن عمر بن الخطاب رضه: أحرق بيت رويشد الثقفي لأنه كان يبيع فيه الخمر. وقال له أتت فويسق ولست رويشد هـ. قلت: وقد وقع في سماع الشريف وابن نافع سؤال مالك أيحرق بيت الخمار؟ قال: لا. وقال ابن رشد: إنما قال ذك مالك لأجل ما وقع لعمر بن الخطاب مع رويشد الثقفي ومذهبه المعلوم منه أن لا يقع ذلك في عقوبة لأنه من العقوبة في المال وإنما يرى العقوبة في الأبدان، قال وما ذكر ابن لبابه عن يحيى بن يحيى من إحراق بيته وأنه أخبره بذلك بعض أصحابه عن

مالك رواية شاذة لا عمل عليها لأن العقوبة في الأموال أمر كان في أول الإسلام ثم نسخ بالإجماع. لا يجوز للولاة أن يختلوا بالمحبوس في تهمه ويقولون له أخبرنا ولك الأمان ولا يسوغ للحاكم أو الوالي أو المغير للمناكر في محبوس بتهمة المواقعة لجناية حد أو عقوبة إذا لم تقم عليه بينة بمعاينة أو بإقرار أن يقول له في خلوته به أخبرني ولك الأمان فيخبره. فقد سئل مالك عن ذلك فقال: والله إني أكره أن يقول ذلك لهم ويغرهم وهو وجه الخديعة. قال ابن رشد رحه وجه الكراهة في ذلك لأنه إذا قال له لك الأمان فأخبرني فقد حصل مكرهًا له على الإخبار فلعله يخبره بالباطل لينجو منه ومن عقابه. فإذا فعل ذلك الحاكم كان فيما أخبره وأقر له على نفسه كمن أقر تحت الوعيد والتهديد لم يلزمه إقراره. فصل: مسألة ما إذا انقضى زمن المنكر ولم يبق إلا ما لزم فاعله فما الحكم الشرعي وما فيه من التفصيل فإن كان صدور المنكر قد انقضى زمانه وقات وقوعه ولم يبق إلا ما لزم فاعله فما الحكم الشرعي من حد أو عقوبة؟ فأما فيما لا يستدام فيه التحريم فإن كان الذي واقع ذلك من المتسترين فلا إثم على تارك الشهادة عليه. بما علم من فعله بل الستر عليه وعدم أداء الشهادة بما شاهد من فعله أولى وأحق بالندب والقربة. لكن ينبغي له أن يتقدم له بالحكمة والموعظة الحسنة لعله يقوده بذلك إلى سبيل التوبة وعدم العودة. وإن كان الذي واقع ذلك من المتجاهرين المنتهكين الحرم بعدم المبالاة بالافتضاح وسقوط مائية الوجه بفقد الاحتشام والاستخفاف بالاطلاع عليه والازدراء بمن شاهده فأداء الشهادة وإقامتها لله في حقه أولى وآكد علينا له من حدود الله وزواجره ما يوقظه لحفظ شعائره وتعظيم نواهيه وأوامره فيرتدع عن الاستهانة بمحارمه وينصرف عن الاستظهار بما لابس من فسقه وجرائمه. والفرق بين هذا والأول أن من استخف باطلاع الناس على جنايته وفواحشه قد خرق حجاب الهيبة بينة وبين ربه وهدم حمى الشريعة القائم بينه وبين خلقه وذلك أعظم تتكرًا

ممن واقع خطيئةً وأفحش مما لابس فلزم فيه حكم قوله صلعم: من أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحة وجهه تقم عليه كتاب الله. فدل أمره عليه السلام بالاستخفاء والاستتار. على أن التظاهر بالفجور والتجاهر بالمعاصي معصية أخرى ودل قوله "من يبد لنا صفحة وجهه تقم عليه كتاب الله" أنه لا ينبغي تركه عن إقامة الحد أو العقاب لما لابس من الانتهاك والاستظهار بمسالك الارتياب من عدم المبالاة بوعيد الخطاب. فيخشى أن يكون تركه رضى بأفعاله واستهانةً بما غضب له ربنا في كثير من آي قرآنه وتنزيله فيكون التارك شريكًا في الإثم وتنزل منزلته في الفعل لأن الرضى فعل وقد قال صلعم: فإذا عملوا النمكر جهارًا استحقوا العقوبة كلهم. من حضر مواضع المجان والفساد ثم اعلم أن من حضر مواطن المجان ومواضع الشراب والفساق ولم يفعل فعلهم لا يسلم من العقوبة إن ظهر عليه معهم إذ هو كالآلة لهم. ومن كثر سواد قوم فهو منهم. فقد وقع في سماع أبي زيد من ابن القاسم: وسئل عن الرجل يوجد مع المرأة في بيت واحد وهما يتهمان قال يضربان ضربًا رجيمًا: قيل: أبثيابهما؟ قال: بل على حل ما تضرب الحدود. قال ابن رشد -رحه تع- هذا بين على ما قاله. وكذلك قال مالك في الذي يؤخذ في بيت مع قوم يشربون الخمر وهو لا يشرب إنه يؤدب وإن قال إني صائم. ولا يلتفت إلى قوله فإنه لا غناء بأنه يؤدب وإن ادعى الصيام في قول مالك رضه هل هو إلا نفس ما أعلمناك به. تنبيه: قال في "تنبيه الحكام" وكل ما تقدم تقريره في أولوية الرفع في شأن المتجاهر وعدمها في شأن المستتر إنما هو فيمن يبلغ أمره للحكام بطريق الثبوت عنده لا سيما فيما لزم فيه حد من حدود الله. فلا يسوغ تركه بوجه ولا يجوز العفو عنه بحال ولو كان الذي واقع ذلك أفضل الناس وأعلاهم قدرًا ولم يرد منه إلا مورد الفلتة والفترة وأعقبه بالتوبة والإنابة. كل ذلك لا ينجيه من إقامة حد الله فيما بعد ثبوته بما لا يدفع له فيه لدى الحاكم إذ الشاهد يفارق الحاكم في ذلك بقوله عليه السلام: من يبد لنا صفحة وجهه نقم عليه كتاب الله. وقوله عليه السلام في أمر المخزومية التي سرقت في غزوة الفتح "والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها" كان ذلك منه عليه السلام تشريعًا لمنح العفو بعد الوصول للإمام فيما وجب فيه حد من حدود الله.

قلت قوله لا يسوغ ترك المستتر بوجه إذا بلغ أمره الحاكم خلاف ما تقدم من نقل ابن أبي زيد في "نوادره" عن أصبغ أن غير المعروف بذلك لا يكشفه وإن شهدوا على البيت فانظره وقوله يمتنع العفو بعد الوصول إلى الإمام فيما وجب فيه حد من حدود الله أقول بل قال العلماء تجب المسارعة من الحاكم لإقامتها بتشره واشتداد دون ترحم وإشفاق. قال مولانا جل جلاله {لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} وفي الحديث: يؤتى بوال نقص من الحد سوطًا فيقول رحمة لعبادك فيقال له أنت أرحم به مني؟ فيؤمر به إلى النار. لحد يقام بأرض خير له من مطر أربعين صباحًا ووقع في نوادر ابن أبي زيد قال ابن حبيب: كان مالك إذا سئل في شيء من الحدود أسرع الجرب وأظهر السرور بإقامته الحد. وقال: بلغني أنه يقال لحد يقام بأرض خير لها من مطر أربعين صباحا هـ. قلت ونقه الزمخشري في كشافه موقوفًا عن أبي هريرة –رضه- ولعله يكون مسندًا عند حفاظ الحديث. فكثيرًا ما يقول مالك بلغني بما يسنده غيره حدثنا عن رسول صلعم. وقد شاهدت من شيخنا وسيدنا الجد الأقرب –رضه- وأسكنه فسبح الجنان من تصلب النفس وغلظة القلب ما لم نعهد منه عن الترحم والشفقة لعامة الناس وخاصتهم لما ثبتت زندقة إنسان بسبه من وجب تعزيزه وتوقيره. أنا لنا الله يوم الجزاء شفاعته بأن قال لي: "لا سبيل إلا التعجيل به إلى سقر" أعاذنا الله في قائم حياتنا من زلة القدم * وعصمنا من الزيغ بأقوى العصم * وجاد علينا بتوقيفه وهدايته * ومن علينا بعفوه وكرامته * وغير الحاكم ممن شاهد منكرًا أو علمه يقينا يفارق الحاكم في فسحة مجال العفو والستر بدليل قوله صلعم لهزال "لو سترته بردائك لكان خيرا لك" فالستر على السلم حيث يكون مستترًا غير مجاهر أولى من فضيحته. هذا كله في المناكر التي لا يستدام فيها التحريم وأما ما يستدام فيه التحريم بتكرر ذلك المنكر ما دام لم يرفع به من علمه إلى الإمام كمن طلق زوجه طلاقا بابنا ثم بقي معها وأعتق عبده ثم يتصدق برقه. فالمبادرة لأداء الشهادة بذلك لدى لحاكم واجبة كان فاعل ذلك مستترا أو متجاهرا لأن في ترك ذلك

وإهماله معونة على الازدياد من الحضور فترك الشاهد له الرفع إلى الحاكم وإيقاع الأداء لديه مع القدرة جرمة تسقط بها عدالته فتطرح شهادته. الشهادة في الحقوق على خمسة أقسام فلو كان ما تخلد في ذمة الشاهد من الشهادة حقًا (لا دينا) فترك إعلامه به حتى ضاع ذلك الحق فهل يكون جرحه فيه كتركه الرفع فيما يستدام فيه التحريم أو لا؟ وقع اختلاف بين العلماء في مثل ذك وقد أجاد الشيخ ابن رشد –رضه- تحصيلًا في المسألة بقوله الشهادة في الحقوق تنقسم على خمسة أقسام: - شهادة لا يصح القيام بها إلا بعد الدعاء إليها وهي الشهادة بالمال الحاضر. فهذه الشهادة تبطل شهادة الشاهد فيها على ما في الرواية بترك الإعلام المشهود له لا يترك رفعه شهادته إلى السلطان. - وشهادة يلزم الشاهد القيام بها وإن لم يدع إليها وهي الشهادة بما يستدام في التحريم من الطلاق والعتق وشبهه. فهذه تبطل شهادة الشاهد فيها بترك الرفع بشهادته إلى السلطان إلا على ظاهر قول أشهب. - وشهادة يختلف في وجوب القيام بها وفي صحتها إذا لم يدع إليها وهي الشهادة بالمال الغائب فهذه الشهادة في بطلان شهادة فيها بترك الرفع إلى السلطان على القول بوجوب الرفع وصحته قولان. - وشهادة لا يلزم القيام بها إذا لم يدع إليها وهي الشهادة على ما مضى من الحدود التي لا يتعلق بها حق لمخلوق كالزنى وشرب الخمر وما أشبه ذلك فهذا لا يلزم القيام فيه ويسحب الستر فيه إلا في المشتهر فلا تبطل شهادة الشاهد في ذلك بترك رفع شهادته إلى السلطان وإن كان المشهور عليه مشتهرًا. - وشهادة لا يجوز للشاهد القيام بها وإن دعي إليها وهي الشهادة التي يعلم الشاهد من باطنها خلاف ما يوجب ظاهرها وذلك مثل أن يأتي الرجل إلى الحاكم فيقول حلفت بالطلاق ألا أكلم فلانًا فكلمته بعد ذلك بشهر إلا أني كنت نويت في يميني ألا أكلمه شهرا. فهذا إن دعته امرأته إلى أن يشهد لها فيما أخر به عنده في أنه حلف بالطلاق وأنه كلمه بعد شهر لم يجز له أن يشهد عله بذلك.

فرعان الأول: إنما يكون ترك الشاهد الرفع للحاكم بما يستدام فيه التحريم جرحة فيه إذا لم يبد عذرًا لسكوته يحسن قبوله كتقية ممن يخشى أو فقد من يرفع إليه في مسكنه ومقره من ولاة المسلمين وحكامهم. فلو لم يبد من العذر إلا جهله بحكم الوجوب والفرضية عليه في الرفع فحكى الشيخ ابن رشد في "مقدماته" وفي "كتاب الشفعة منها" الاتفاق على أنه لا يعذر في ذلك بالجهل وحكى في كتاب الشهادات من المقدمات نفسها قولين في قبول عذره بالجهل وعدم قبوله. ولعله اختلاف طريقة بالنسبة إلى نقليه في ذلك الكتاب. الثاني: إذا رفع الشهود بالزنى أو غيره مما فيه حد أو عقوبة المشهود عليه للحاكم متعلقين به لم تجز شهادتهم عليه قال في " التعيبية" وأراهم قذفة. قال الشيخ ابن رشد -رضه تع- إنه لم تجز شهادتهم عليه لأن ما يؤخذ في ما فعلوا من أخذه وتعلقهم به ورفعهم إياه إلى السلطان لا يلزمهم ولا يجب عليهم بل هو مكروه لهم لأن الإنسان مأمور بالستر على نفسه وعلى غيره قال عليه السلام من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله. وقال لهزال: يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك. فلما فعلوا ذلك صاروا طالبين له ومدعين عليه وقذفة فوجب عليهم الحد له إلا أن يأتوا بشهود آخرين غيرهم. ولو كانوا أصحاب شرط موكلين بتغيير المنكر ورفعوه أو أحدهم فأخذوه أو أخذه فجاءوا به وشهدوا عليه لقبلت شهادتهم لأنهم فعلوا في أخذه ورفعه ما يلزمهم. وفي " الواضحة" لمطرف وابن الماجشون وأصبغ: أنه إذا شهد أربعة بالزنى على رجل جازت شهادتهم وإن كانوا هم القائمين بذلك مجتمعين جاءوا أو مفترقين إذا كان افتراقهم قريبا بعضهم من بعض وما في الواضحة مخالف لقول ابن القاسم في " العتبية" فلو كانت الشهادة مما يستدام فيها التحريم من حقوق الله كالطلاق والعتق لجازت شهادتهما وإن كانا هما القائمين بذلك لأن القيام بذلك متعين. وقد قال بعض المتأخرين إن ذلك لا يجوز على مذهب ابن القاسم. ووجد ذلك فإن من قام في حق يريد تمامه فهو متهم أن يزيد في شهادته ليم ما قام فيه وهو عنده بعيد هـ.

تكملة في هذا الباب تمس الحاجة إليهما قال في "تنبيه الحكام" ينبغي للحاكم إذا خاف أن تتعذر عليه الإحاطة بحفظ الحوائم والأسواق وشوارع المسلمين ومجتمعاتهم من وقوع المناكر وتعرف ما يعرض في ذلك من النوازل أو خشي أن يتشاغل عن البحث والكشف والنظر في ذلك بما يشغله من أمور المسلمين والنظر في مصالحهم أن يختار أمينًا عدلًا أو أمناء عدولًا عارفين بذلك يتفقدون ما حمل إليهم من حفظ الحوائم ويرفعون إليه ما يتعذر عليه النظر فيه من ذلك وأن أفرد لكل سوق وحومة أمينا ينظر في ذلك فعل بحسب اجتهاده وحاجة الناس إلى ذلك بوجود القائم به فإن ذلك من التعاون على الخير الواجب على كل مسلم لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}. الباب السابع في أعيان صوره واختلاف محاله وكان هذا الباب هو المقصود بالذات وكل ما تقدمه من الأبواب كالوسيلة إليه * والطليعة بين يديه * لما تكفل من تفصيل ما وقع إجماله * فيما سلف من ذكر المنكر وتفسير ما تقدم إبهامه * فيما يعامل به من تجاهر أو تستر وإن كانت مناكر الوجود لا يستطاع حصرها بعد * ولا يمكن تعريفها برسم ولا حد * ولكنا نذكر من ذلك ما تكلفه الوسع على قدر الطاقة * ومنه سبحانه أسأل التوفيق والعون على حمل هذه العلاقة * فنقول لما كان المقصود برفع المناكر إزالة ما تنكره النفوس السليمة وتتأذى به مما حرمه الشرع ونافره الطبع لقوله صلعم: الإثم ما حاك في صدرك. تعاظم استكباره وقبح غاية القبح استظهاره في محل الملإ فكان السعي في إزالته ومحق أثره من كل القرب أحق وأولى لأن المواطن الاجتماعية لإقامة حدود الله على عباده وحقوق خلقه فيما بينهم على الأوضاع الشرعية والنصوص ثم تكون الأحقية بالقيام بذلك على الإمام ثم على من دونه من سائر الحكام ليدين بذلك في طهارة باطنه وظاهره جميع الخاص والعام. فمن ذلك ما ينكر اعتياده في معاهد الصلوات ومساجد الجمع والجماعات إذ الصلاة عماد

الدين وشعار المسلمين وفصل بين الكفرة والمؤمنين. قال صلعم: بين الرجل وبين الشرك والكفر الصلاة. وقال عمر الفاروق: الصلاة! الصلاة! ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. وإذا كانت الصلاة كما قال ربنا {تنهى عن الفحشاء والمنكر} * فلا شيء أوجب على مغير المنكر من البداية بالنظر في إيقاعها وتطهير محل الإيقاع لأن تكلفها بالدين عن المنكر يكفيه وظيفة ذلك فيكون اهتمامه بها وبأركانها أهم أموره في مدة البحث والإطلاع بل وعلى سائر الحكام وآحاد المسلمين ومن له مسكة علاقة بالدين ولذلك كتب عمر بن الخطاب رضه إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع حكاية لطيفة واذكر هنا حكاية ظريفة المعنى مؤنسة للمقصد: أخبرني شيخنا وسيدنا الجد الأقرب عن والده سيدنا الإمام الجد الأعلى قال: "قد حضرت ذات يوم مجلس قضاء القاضي الفشتالي وكان مع غزارة علمه وحسن سمته فيه رقة نفس وفكاهة طبع فتداعى إليه إثنان. فقال المدعي: تركت عند المدعى عليه حمارًا يرقبه لي ويحفظه عن الانفلات والضياع حتى أقضي أربي من السوق فأهمل النظر في صيانته وأضاعه بتفريطه. فقال المدعى عليه: لم أضيع ولم أفرط. فقال القاضي: القول قول المدعى عليه الأمين إنه لم يفرط ولم يضيع مع يمينه إن كان متهما وإلا فلا يمين عليه. فقال المدعي: بل هو أقوى الناس اتهاما. فقال له المدعى عليه: إني لحقيق أن تقول في أكثر من ذلك لما تركت صلاة العصر حتى فات وقتها في رفقة حمارك. فقال القاضي: قم أد له قيمة حماره فإنك مضيع له لما ذكرت تضييعك الصلاة. قال عمر بن الخطاب رضه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. انتهت. والحكاية من سيدنا الشيخ. وقد رأيتها بنصها محكية عن القاضي أبي زيد عبيد الرحمان بن علي الدكالي في " كتاب النور البدري في التعريف بالفقه المغربي" شيخنا وسيدنا أبي عبد الله محمد بن مرزوق ولعل أحد القاضين في ذلك متأس بالآخر أو اتفق النظر منهما في وقوع النازلة عند كل واحد من غير شعور أحدهما بالآخر فإن نازلة الدكالي في تأمين شاة ونازلة الفشتالي في تأمين حمار.

وقد شدد الشرع في شأن الصلاة بقتل الممتنع من إيقاعها إن مضى عليه وقت صلاة واحدة ولم يزل على الإيباء والامتناع حدا في المشهور وقال ابن حبيب كفرًا ولذلك خرج سند على قوله عدم لزوم الإعادة والقضاء على تاركها عمدًا. قال لأنه كمرتد تاب. ونسبة ذلك لمالك قول شاذة أنكرها عياض وقال: لا يصح عنه. وكذلك نسبة ذلك لابن المواز أنكره اللخمي في أجوبته قال الشيخ ابن أبي زيد رضه: ولا يصح هذا القول ولا يدخل في حشو دائرة السنة لأن غاية ترك الصلاة أن تكون كبيرة ومن واقع الكبيرة فهو عاص لا كافر بدليل قوله صلعم في متعمد تركها: ليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة. فلو كان كافرا ما كان في المشيئة إذ أهل السنة قائلون بأن من لم يتب من الكبائر في المشيئة خلافًا للمعتزلة. ثم لابد للحكم فيمن علم منه الجفاء والبداوة وتفرس فيه ترك الصلاة والجهل بإقامتها أن يباحثه ويتنزل معه في السؤال عنها بالترفق والاستكانة حتى يحصل على طائل من معرفته منه ما لابد منه أم لا ولا يتعمق معه في السؤال عن غوامض الصور في السهو والإعادة والبناء والقضاء ونحو ذلك مما تردد أشكاله بين زعماء الفقهاء بل يقتصر على مساءلته على ما اشتملت عليه من عدد الركعات وما حوته كل ركعة من قول أو فعل وما وقع به الافتتاح والاختتام من إحرام وتسليم. فإن خلص له منه علم ذلك على إقامته الصلوات وإن حقق منه عند اختباره وجهله بها فإن تحقق عذره في ذلك بكونه حديث عهد بالبلوغ وهو من جفاة البادية المظنون بهم عدم التعلم في الصغر علمه أو أمر بتعليمه فإن الحاضر يفوق البادي في هذا الفصل وغيره. وقع في جامع المستخرجة قال وحدثني أنه بلغه أن ابن مسعود كان يقول إذا لم يحكم أحدكم الفرائض وسنة الحج والطلاق فما فضله على أهل البادية قال ابن رشد رحه المعنى المعنى في هذا كله بين لأن أهل البادية أهل جهالة فإنما فضلهم أهل الحاضرة بمعرفتهم بأمور الدين قال الله عز وجل {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وقال {وقل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} هـ. وإن تحقق أن جهله في الحاضرة ومقر العلم وتصدير العلماء إنما هو لتركه الصلاة وتشاغله عنها في أوقاتها بسواها أدبه وأحسن تأديبه وأجهد في تعليمه وكذلك يجب تعليم من رأى صلاته غير مؤداة حق الأداء في إقامة أركانها من ركوع وسجود كل ذلك يتأكد النظر فيه على الحكام وولاة الأمور.

وكذلك ما يخص الرجل في عياله وبنيه الأصاغر قرب السبع سنين فما فوق وسائر أهل منزله ومحلته يتوجه نحوه الخطاب الشرعي في ذلك كما توجه إلى الحكام في سائر الناس عموما بتعليمهم ما يجهلونه من كل لازم في خاصة أنفسهم من وضوء وغسل وما يوجبهما ودخول الوقت وإثم الفوات وما يتعلق به صحة الصلاة وفسادها وما يتجبر مما (لا) ينجبر قال صلعم: كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته. الحديث. قال في "تنبيه الحكام" فينبغي الآن للقضاة والحكام والولاة تنبيه الناس على ذلك ووعظهم فيه وتذكيرهم به فإنه قد علم وتحقق إغفال الجمهور بل الكافة تفقد هذا من أحوال أهلهم وعامة عيالهم وصار أعلى رتبة أهل الدين والفضل مراعاة أنفسهم وحفظ ذواتهم فضاع الأهل والعيال. فقلما توجد اليوم امرأة أو عبد أو وليد فوق السبع يصلي إلا نادرًا فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومن ذلك إهمال كثير من الناس وأهل الأسواق والحرف والأجراء شهود صلاة الجمعة. وهي من فروض الأعيان على كل رجل مكلف غير مريض ولا مسافر لا يسع أحد من أهلها التخلف عنها من غير عذر وقد تمادى كثير من أهل الصنائع على تركها واطراح حضورها. وقد ساعدهم على ذلك كثير من الخاصة والأعيان الذين يستعملونهم استكثارا لعملهم في الوقت المستحق لحضور الصلاة وربما كان في هذا النوع من لا يصلي أصلًا جمعة ولا غيرها ما دام على شغله. فيجب على الولاة البحث عن هؤلاء والتنقيب عمن عرف منه ذلك والاشتداد على فاعله والمساعد عليه واضطرار الكافة إلى شهود الجمعة بما يؤديه الاجتهاد ويقتضيه الحال. قلت: إنما تصح الحسبة بالتأديب والتقريع والتأنيب على تارك الجمعة إذا قام الثبوت على تركه إياها ثلاث مرات تهاونا أما المرة والمرتين فلا على قول سحنون واختبار ابن رشد له قال سحنون في "نوازله" في تارك الجمعة في قرية يجمع فيها من غير مرض ولا علة قال: أرى أن تقبل شهادته. قال سحنون: إذا تركها ثلاثا متواليات. للحديث الذي جاء قال أصبغ: قال ابن القاسم في الذي يترك الجمعة: نرى أن ترد شهادته إلا أن يعرف له عذر

وسئل عن ذلك ويكشف. فإن علم له عذر من وجع أو أمر أو اختفى من دين أو ما أشبه ذلك فأرى لا ترد شهادته فإن كان على غير ذلك أرى أن ترد شهادته إلا أن يكون ممن لا يتهم على الدين ولا على الجمعة لبروزه في الصلاح والعلم فهو أعلم بنفسه. قال أصبغ والمرة الواحدة في ذلك إذا تركها متعمدًا من غير عذر تهاونًا بها ترد بها شهادته ولا ينتظر بها ثلاثا لأن تركه الفريضة مرة وثلاثا وأقل وأكثر سواء. وهي فريضة مفترض إتيانها التارك أصلا (للصلاة) لأنه عاص لله قليل فعله دون كثيره ومتعمد لحدوده وقد قال الله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله نارا خالدا فيها} والذي قيل فيمن ترك الجمعة ثلاثًا طبع الله على قلبه إنما هو في الإثم والنفاق وينتظر به في الثلاثة التوبة فإن فعل وإلا طبع على قلبه إنما هو في الإثم والنفاق وينتظر به في الثلاثة التوبة فإن فعل وإلا طبع على قلبه. وليس ذلك في الترك له هملا ولا في الإبطال لشهادته لا بل تطرح شهادته ويوقف ويعاقب إن شاء الله. وقد بلغني عن بعض الأمراء ممن قضى من أئمة الدين أنه كان يأمر إذا فرغ من الجمعة أن من وجد لم يشهد الجمعة ربط في عمود وعوقب إن شاء الله. وأراه عمر بن عبد العزيز وقد قال الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} قال الشيخ ابن رشد –رحه- قول سحنون: إن شهادة التارك للجمعة بقرية تجمع فيها الجمعة لا ترد إلا أن يفعل ذلك ثلاث مرات متواليات أظهر مما ذهب إليه أصبغ من أنها ترد بالمرة الواحدة. ومعنى ما ذهب إليه سحنون في ذلك أنه لم يعلم له عذر. ولم يكن معلومًا بالصلاح والفضل على ما قال ما قاله ابن القاسم لأن من لم يعلم بالصلاح والفضل إذا ترك الجمعة ثلاثًا متواليات لا يصدق فيما يدعيه من العذر بخلاف من علم بالصلاح والفضل فليس قول ابن القاسم وسحنون بخلاف لقول ابن وهب والله أعلم. وإنما قلنا إن قول سحنون أظهر من قول أصبغ من أجل أن المسلم لا يسلم من مواقعة الذنوب فإذا ثبت هذا وجب ألا يجرح الشاهد العدل بما دون الكبائر من الذنوب التي يقال فيها إنها صغائر بإضافتها إلى الكبائر إلا أن يكثر منها فيعلم أنه متهاون بها وغير متوق منها لأن من كانت هذه صفته فهو خارج عن حد العدالة. ومما قال صلعم: من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه بطابع النفاق. ودل على أن ما

دون الثلاث بخلاف ذلك في عظم الإثم وشدة الوعيد. فوجب أن يلحق ذلك بالصغائر ولا ترد شهادة من ترك الجمعة مرة واحدة اشتغالًا بما سواه من أمور الدنيا حتى يفعل ذلك ثلاثًا متواليات فيتبين بذلك أنه متهاون بدينه غير متوق فيه وكذلك القول في تارك الصلاة من الصلوات حتى يخرج وقته بغير عذر ولا يجب أن ترد بذلك شهادته حتى يكثر ذلك من فعله. واحتجاج أصبغ لرد شهادته بذلك بقول الله عز وجل: {ومن يعص الله ورسوله ويتحد حدوده ندخله نارا خالد فيها وله عذاب مهين} غير صحيح لأن المعنى في ذلك إنما هو فيمن عصى الله ورسوله بترك الإيمان وترك حدود الإسلام لأن الخلود في النار إنما هو من صفة الكفار هـ. قلت: ولقائل أن يقول ليس تأويل المعصية بمعصية الكفر لما وقع من وعيد الخلود المخصوص بالكفار بأولى من تأويل الخلود على غير التأبيد كما ذكر في وعيد قاتل النفس مع القطع بإيمانه حالة القتل والخلود ليس من وعيد المؤمن فتعين أن يكون المراد به خلودًا غير مؤبد. ومثله يتعين هنا. وتكون المعصية على وجهها من إتيان الكبائر غير الكفر فيكون احتجاج أصبغ بالآية صحيحا لعدم لزوم تأويل ابن رشد فيها الذي نفى الصحة من أجله عن احتجاج أصبغ. ثم قال في هذه الرواية مما كان يأمر به عمر بن عبد العزيز إذا فرغ من الجمعة بربط من لم يشهدها في عمود ويعاقبه لم يقل فيها هل هو صحيح متبع أم لا وقد ذكر في الجامع من المستخرجة إنكار ذلك قال: وسئل مالك عن إمام بلد يأمر إذا فرغ من صلاة الجمعة من يخرج فمن وجد ممن لم يحضر الجمعة ربطه بعمد المسجد فأنكر ذلك مالك. قال ابن رشد رحه إمام البلد الذي سئل مالك فعله خطأ وأنكره لوجهين: أحدهما أن يكون لم ير أن يعاقب من وجد لم يشهد الجمعة إذ لعله قد كان له عذر منعه من شهودها حتى يتوالى ذلك من فعله ويتكرر فيتبين أنه قصد إلى ترك شهودها بدليل قول النبي صلعم "من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه بطابع النفاق". والثاني معاقبته على ذلك بربطه إلى سارية المسجد إذ لم يتخذ المسجد لذلك وإنما ينبغي أن يؤدب بالضرب والسجن هـ.

من المناكر تقديم العوام والجهال للإمامة بالمساجد ومن ذلك تقديم العوام والجهال للإمامة بالمساجد فإنهم لا يعرفون شروط الإمامة ولا ما تصح به الصلاة ولا ما به تبطل. وقد لا يوجد فيهم إلا من يكثر اللحن ويحرف الكلم عن مواضعه بسوء مخارج الحروف فيجب منعهم من ذلك إلا أن يتعلموا ويكمل تعليمهم منع اللحان من التلاوة ولو في غير الصلاة لازم ويشدد عليه ويشدد النكير فيما واقع ويغلظ عليه في الاشتغال بتعلم الأداء والحفظ على وجه الصواب لأن تغيير ألفاظ القرآن باللحن والخطأ خطيئة ومنكر يجب تغييره ولا يحل تقريره وإن كان لا يحسن القراءة لعجمة في لسانه فليوقع المحاولة ما أمكنه في تجويد أم القرآن وسورة ليقتصر بذلك على إقامة صلواته وأكثر حظوظه في غالب أوقاته أن يصلي مأمومًا أولى به وأسعد وأفضل له وأسد. من المناكر قراءة القرآن بالألحان المشبهة للغناء ومن ذلك قراءة القرآن بالألحان المشاكلة في الترجيع وتقطيع الصوت بالحنك للغناء المطرب قلت إنما يكون ذلك من المناكر عند من لا يجيزها أو يكرهها والأكثر على تصحيح الإباحة. فأما إيراده على التجويد والصوت الحسن فمتفق على الترغيب فيه لما فيه من التشويق للخير. وتحسين الأصوات بما فيه تذكير بالله سبحانه أفضل جاذب للقلوب الخالصة. فقد قال عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري: ذكرنا ربنا لتحسين صوته بقراءة القرآن. وفي الحديث: زينوا القرآن بأصواتكم. ووقع في جامع " العتبية" قال مالك: وكان عمر بن عبد العزيز حسن الصوت بالقرآن فصلى بهم يوما فأصابته العين حين قدم من الشام فقال الشيخ ابن رشد –رضه-حسن الصوت بالقرآن موهبة من الله وعطية لصاحبه لأن حسن الصوت به مما يوجب الخشوع ورقة القلب ويدعو إلى الخير. وقد قيل في قول الله عز وجل {يزيد في الخلق ما يشاء} إنه حسن الصوت وما يصيب المعين بقول العائن إذا لم يبر أمر أجرى الله به العادة في العالم مع القدر السابق وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام يقتل أحدكم أخاه ألا بر شر العين حق. يريد أن الله قد أجرى العادة به لا أن أقول العائن هو المحدث لما أصاب المعين هـ. قلت ما يصيب المعين إلا ما تعجب النفوس من استحسانه وتستكبر قدره وتعظم شأنه.

كما قال قائلهم: عين أصابتك إن العين صائبة ... والعين أسرع ما تجري إلى الحسن ولو اجتلبنا ما في ذلك من القول وما للعلماء –رضهم- في ذلك من الترغيب أكثر مما لهم من الترهيب لما وسعنا دفتر مجلد لذلك وحده دون ما نحن بسبيله. احترام المساجد وقد آن لنا أن نذكر ما للمساجد من الاحترام وما وجب توقيه فيها لو ساغ استعماله وتعاطيه بها على وجه من الإجلال والإعظام. فمن ذلك منع شواب النساء الممتليات لحمًا للواتي تخشى منهن الفتنة من مساجد الجمع والجماعات لأن ذلك مؤد إلى منكر يعظم خطره ويهيج شره فيحب قطعه بما أمكن. فقد منعتهن عائشة –رضها- من دون هذا. فقيل لها: إن رسول الله صلعم ما منعهن من ذلك. فقالت: لو علم رسول الله صلعم ما أحدث النساء بعده لمنعهن. فأين زمانها رضها من هذا الزمان * وانتشار طوارى البدع وطوارق الحدثان * وقع في سماع أشهب من المستخرجة. وسئل عن شهود النساء الصلوات في المساجد. فقال ذلك يختلف في المرأة المتجالة والشابة. فالمتجالة تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد. والمرأة الشابة تخرج إلى المسجد المرة بعد المرة ولا تكثر وهي كذلك في الجنائز وذلك مختلف من العجوز والشابة. وإنما تخرج الشابة في جنائز أهلها وقرابتها. قال الشيخ ابن رشد –رحه- أما النساء المتجالات فلا خلاف في جواز خروجهن إلى المساجد والجنائز والعيدين والاستسقاء وشبه ذلك. وأما النساء الثواب فلا يخرجن إلى الاستسقاء وللعيدين ولا إلى المساجد ولا في الفرض ولا في الجنائز ولا في جنائز أهلهن وقرابتهن. هذا الذي يأتي على هذه الرواية وعلى ما في المدونة. فيجب على الإمام في مذهب مالك أن يمنع النساء الشواب من الخروج إلى العيدين والاستسقاء ولا يمنعهن من الخروج إلى المسجد لجواز خروجهن إليه في الفرض فهذا دليل قوله في المدونة وفي تفسير ابن مزيز أن المرأة الشابة إذا استأذنت على زوجها في الخروج

إلى المسجد لم يقض لها عليه بالخروج. وكان له أن يؤدبها ويمسكها وليس ذلك بخلاف لما في المدونة لأن معنى ما في المدونة إنما هو في المنع العام. وأما المرأة الشابة في خاصتها فيكره لها الإكثار من الخروج إلى السجد فتؤمر ألا تخرج إليه إلا في الفرض بإذن زوجها إن كان لها زوج. فقد كانت عاتكة بنت زيد بن عمر بن نفيل تستأذن عمر بن الخطاب –رضه- في الخروج إلى المسجد وهو زوجها فيسكت فتقول والله لأخرجن إلا أن تمنعني. فلا يمنعها ولا تخرج إلا ثفلة. فقد قال رسول الله –صلعم- إذا شهدت إحداكم العشاء فلا تمسن طيبًا. ووجه قول مالك –رحه- أن النساء الشواب لا يمنعن من الخروج إلى المساجد عموم قول النبي صلعم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. وجه كراهيته لهذا الإكثار من الخروج ما خشي على الخروج للرجل من الفتنة بهن. فقد قال رسول الله صلعم: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجل من النساء. ووجه قوله إنهن يمنعن من الخروج إلى العيدين ما أحدثته من الخروج على غير الصفة التي أذن لهن في الخروج وهي أن يكن ثفلات غير متطيبات ولا يبدين لشيء من زينتهن وقد قالت عائشة رضها لو أدرك رسول الله صلعم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعه نساء بني إسرائيل. وتلخيص هذا الباب على تحقيق القول فيه: أن النساء أربع عجوز قد انقطعت حاجة الرجال منها وهي كالرجال في ذلك. ومتجالة لم تنقطع حاجة الرجال منها بالجملة فهذه تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد إليه كما قال في الرواية. وشابة من الشواب فهذه تخرج إلى المسجد في الفرض وفي الجنائز جنائز أهلها وقرابتها. وفاذة شابة في الشباب والثخانة فهذه الأخير لها أن لا تخرج أصلا هـ. فإن حضر المسجد منهن من يسوغ حضورها فلابد من ضرب حائط فاصل بينهن وبين الرجال. قلت: في قوله ولا تخرج إلا ثفلة قال عياض في أحكامه غير متزينة ولا متطيبة ولا مزاحمة للرجال. زاد محيي الدين النووي ولا يكون بالطريق ما تتقى مفسدته. قال بعض الشيوخ في معنى الطيب اشتمالهن الملاحق ومليح الأكسية. قال عياض: إذا منعن من المسجد فمن غيره أولى. قلت: ويعارضه ما نورد نقله في صفات المتصرفين والمتصرفات عن مالك في المجموعة: أن الرجل لا يمنع زوجه من الخروج للتجر وأفتى الشيخ ابن عرفة بمنع خروجهن لمجالس العلم والذكر والوعظ وإن كن منعزلات عن الرجال. قال وإنما جاز ذلك في الصلاة. وذكر الأبي في "إكمال الإكمال" أنه لا يختلف اليوم في منع خروجهن للصلاة لأنهن لا يخرجن لذلك

أصلًا ويتأكد على الرجل منع زوجته من الخروج لا يكون جرحة أو تركها لأنها لا تعرف عينها ويتأكد المنع إذا كانت الزوجة تسرع إليها العيون. ورأى الماجمي قاضي الأنكحة بتونس امرأة بالشارع على هذه الصفة فأرسل إلى زوجها وقدم إليه أنه إن رآها بعد اليوم أدبه وأدبها. وهذه نهاية القول في خروجهن للمسجد وما في معناه وأما خروجهن لغيره فسنذكره بعد إن شاء الله في التكلم على منكرات الأسواق والشوارع. لا يدخل المسجد من فيه رائحة ثوم ولا يدخل المسجد من فيه رائحة ثوم. وقع في سماع ابن القاسم كراهة ذلك قيل له: والبصل والكراث. قال: ما سمعت. وما حب أن أوذي الناس. وفي سماع عيسى مثله. وعليه قول مالك لوجود علة النهي ولفظة لا أحب يحتمل أن تكون بمعنى الوجوب لأن الإذاية لا تجوز وفي كتاب ابن الحران وكذلك الفجل إن آذى. لا ينشد بالمسجد شعر ابن رشد ولا ينشد به شعر ولا ضالة لقوله –صلعم- فإن المساجد لم تبن لمثل هذا. وذكر عياض في الإكمال عن ابن وهب لا بأس بإنشاد شعر به غير الهجاء والغناء به وكان ابن الماجشون ينشده فه ويذكر أيام العرب. قلت: وينبغي أن يكون ما فيه مدح النبي –صلعم- وأصحابه محل وفاق. وقد أنشد كعب بن زهير قصيدته البردة التي مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم ... متيم إثرها لم يفد مكبول بين يدي رسول الله –صلعم- في المسجد وبأمره له بذلك وصحبه رضوان الله عليهم حاضرون. وفي المدونة ومثله في سماع ابن القاسم لا يترك به صبي إن كان يعبث ولا يكف إذا نهي اللخمي ومثله المجنون. قلت: ويدخل منع السكير والخمير فه بالأحروية.

وفي "النوادر" عن ابن وهب لا يوقد به نار ولا ينادى به لجنازة وحكى ابن رشد في كراهة النداء بما فيه قولين عن ابن القاسم قلت وما وقع عن ابن وهب من منع إيقاد النار به يعني غير المصابيح والله أعلم لأن إيقادها في المساجد جائز. نصب الشموع والقناديل في المساجد فقد سئل عز الدين بن عبد السلام عن نصب الشموع والقناديل في المسجد للزينة لا لوقود وفي تعليق الستور فيها: هل هو جائز أم لا. وكذلك فعل مثله في مشاهد العلماء وأهل الصلاح وما حكم ما يهدى للمساجد من الزيت والشمع الزائد عن الحاجة؟ هل يجوز بيعه من الذي يتولى ذلك؟ أو لا يجوز بيعه؟ وهل يجوز إيقاد السراج ليلًا في المسجد مع خلوه من المصلين؟ وإذا جاز فهل يجوز نهارًا أو يمنع لما فيه من مشابهة النصارى في إيقاد الكنائس نهارا؟ وهل يجوز تعليق الستر في المسجد وإذا لم يعرف مالكها فهل يجوز الانتفاع بكتابة العلم فيها. كما نقل عن بعض المحدثين أنه كان يكتب فيها الحديث. فأجاب بأن قال: أما تزين المساجد بالشمع والقناديل فلا بأس به لأنه نوع من الاحترام والإكرام. وكذلك الستور وإن كانت من غير الحرير وإن كانت من الحرير احتمل أن تلحق بالتزيين بقناديل الذهب والفضة. وكذلك يجوز استعمال النسوج من الحرير وغيره إذا كان الحرير مطلوبا ولا يجوز مثل ذلك في الذهب والفضة إلا أن الكعبة لم تزل تستر إكرامًا لها واحترامًا ولا يبعد إلحاق غيرها من المساجد بها وإن كانت الكعبة أشد حرمة من المساجد. وأما ما يهدى إلى المساجد من شمع وزيت فله أحوال: الأولى أن يقول المهدي هو منذور فهذا لا يجوز بيعه ولا التصرف فيه ويجب صرفه في جهة النذر فإن أفرط في الكثرة لم يجز بيعه كما لا يجوز التصرف في ربع الوقف على الثغر إذا اتسعت خطط الإسلام وخرج عن كونه ثغرًا. وإن ظهر من المهدي أنه تبرع وهي الحالة الثانية لم يجز التصرف فيه إلا على وفق إذنه وهو باق على ملكه إلا أن يعين الاستعمال في جهة النذر فإن طالت المدة وعلم أن باذله قد مات فقد بطل إذنه كما لو أباح طعاما وغيره ثم مات قبل تناوله ونفاده فيما أذن فيه فإن عرف ورثته وجهوا في ذلك وإن جهلوا بحيث يئس منهم فقد صار لمصالح المسلمين العامة يصرفه من هو بيده مبتديا بما تحب البداية به في مثله ويتنزل فيه منزلة الإمام العادل فيصرفه في أهم المصالح التي يصرفها الإمام في مثلها أهمها فأهمها لا يحل له غر ذلك إلا أن يكون متولي

أمور المؤمنين عادلًا عاملًا بكتاب الله وسنة رسوله فيلزمه أن يدفعه إليه ليقوم الإمام بما وضعه الله تعالى عليه فيه وإن توقع معرفة الوارث ومراجعته وجب حفظه إلى أن يظهر فيراجع فيه أو ييأس من ظهوره فيرجع إلى المصالح العامة إن دفع المهدي ذلك إلى متولي المسجد وهي الحالة الثالثة وهي من المشكلات إذ من الجائز أن يكون منذورًا وهو الغالب فيما يهدى فتجري عليه أحكام الحالة الثانية. وأما إيقاد اليسير من المصابيح ليلًا مع خلو المساجد من الناس فهو جائز لما فيه من احترام المساجد وتزيينها عن وحشة الظلمة ولا يجوز ذلك نهارًا لما فيه من السرف وإضاعة المال فضلا عن التشبه بالنصارى. وأما تعليق الستر في المساجد فإن علقت بحيث تشغل المصلي ويتشوش عليه فلا شك في كراهة ذلك لما فيه من تفويت الغرض الذي بنيت المساجد لأجله وإن علقت في جهة لا تشغل المصلي فلا بأس به ولا يحل الانتفاع بها إلا بإذن مالكها لأنها باقية على ملكه ولم يأذن في الانتفاع بها بلفظ ولا قرينة حال بل قرينة حاله تقتضي النهي عن التعرض لها. وإذا لم تتحقق الإباحة بلفظ ولا عرف لم يجز الإقدام على مال محرم. اللهم إلا أن تبلى بحيث لا يعلق مثلها في المساجد فإن سقطت جاز لكل أحد أخذها كما يجوز التقاط التمرة والزبيبة لقضاء العرف بإباحة ذلك والمسامحة فيه. وأكثر المحدثين بعيدون عن قواعد الشرع ومعرفة الأحكام فلا عبرة بأفعالهم بل ينكر عليهم ذلك لأنهم ليسوا أهلًا للاجتهاد هـ. وإنما استوفينا نقل هذا الجواب بطوله لما احتوى عليه من الفوائد. قال: الشيخ أبو القاسم البرزلي ظاهر كلام عز الدين لما خصص المصابيح بالقلة أن إيقاد الكثير منها ليلًا من البدع وعليه رأيت شيخنا الشيخ الفقيه الصالح أبا عبدالله البطريني –رحه- كان يعمر مسجده بالقناديل غير الموقودة إلا ما لا بد منه. وشاهدنا اليوم في إفريقية وقود الثريات والقناديل الكثيرة في جامع الزيتونة وغيره وينفق في ذلك أموال ولا مغير ولا منكر فيحتمل أن يكونوا عثروا على شيء بالجواز. وأقول لا يلزم من جواب عز الدين في تخصيصه المصابيح بالقلة أن يكون الكثير ممنوعًا على الإطلاق وإنما هو ممنوع في صورة السؤال والسائل إنما سأل عن إيقاد المصابيح ليلًا مع خلو المسجد عن المصلين فحسن جوابه بإجازة القليل منها دون الكثير لأن ذلك مع فقد

المستضيء بها من الناس محض سرف إذ لا فائدة له إلا إعظام المسجد وتزيينه كما قال من وحشة الظلمة وذلك يحصل بما لا سرف فيه من قليلها دون الكثير. فلو وقع السؤال عن إيقادها مع وجود المصلين أو في وقت تنتظر فيه الصلاة كما بين العشائين لما كان يجيب إلا بالجواز لإيقاد الكثير. وقول هذا الشيخ إن ذلك من البدع نقول بموجبه ولكنها بدعة مستحسنة أو واجبة. كما وقع استمرار العمل في جامع الزيتونة وفي جامعنا الأعظم بتلمسان الذي يه ثرية لم تشاهد أبصارنا مثلها في عظم الهيئة وشرف القيمة في كثير من الأمصار المشرقية ولم نسمع بمثلها هنالك ولا بالمغرب. وإنما قلنا بوجوب هذه البدعة على ما قرره العلماء في البدع إنما تجري فيها الأحكام الخمسة لما تبين في ذلك من المصلحة العظيمة في المسجد الأعظم لإنارة زواياه وأقطاره المتباعدة وأسافله المتباينة لما يخشى من حلول مفاسد أو إيقاع ضروريات هنالك بملاقاة الأحداث لأولى الفسق والخنا ومن شاكلهم هنالك لما تحصله الظلمة من الأمان لهم بفقد رؤية الراثي. وكذلك العداء على مال يسلب من صاحبه بعدوان أو اختلاس ومع الإضاءة بالمصابيح تندفع الخشية من مثل هذه المفاسد. وما ذكر من فعل الشيخ الصالح أبي عبد الله البطريني في مسجده من تقليل الإيقاد لا حجة فيه لأنه ليس من المساجد العظام فالقليل يضيئها وتستنير فتأمله. اتخاذ البوقات في رمضان بالمساجد ثم قال وكذلك البوقات في رمضان في جوامع إفريقية حتى في جامع الزيتونة وعلى ظني إني وقفت عليه لابن الحاج المتأخر وأنه أنكرها في جملة ما أنكر وسألت عنها شيخنا المفتي أبا القاسم الغبريني فاحتج علي بما وقع في جامع الزيتونة فقلت له ليس بحجة لأن الفقهاء لم يجيزوها إلا في الأعراس خاصة أجازها ابن كنانة فسكت عني فسألت عنها شيخنا الإمام الفقيه يعني ابن عرفة فأجاب بالجواز. وإن البوقات المذكورة في الأعراس بوقات تميل النفوس إليها كما هي في الأندلس وأما بوقات بلادنا فإنها مفزعة ولذا ينفر منها الحمار لهذا جرى عليها العمل إنها تستعمل في المساجد والجوامع في شهر رمضان ليستيقظ النائم للسحور وقد كان غيرها بعض من ينتمي إلى

الصلاح في القيروان وقال أول قبلة رسمت في المغرب في أفضل الأزمنة رمضان تستعمل فيها مثل هذه الآلات وأنكرها إنكارًا شديدًا لما ثبت فيها من نصوص المتقدمين فبعث قاضيها لقاضي الجماعة ابن عبد السلام فبعث إليه وقال: إن عاد إلى مثل هذا أدبه هـ. من منكرات المسجد سؤال الضعفاء به ومما يمتنع في المسجد وهو من منكراته سؤال الضعفاء به ورفع أصواتهم بالمسألة لأجل أن الناس يجتمعون فيها فيعطون فيها دون غيرها فوقع في رواية ابن القاسم النهي عن ذلك قال ابن عبد الحكم ولا يعطى فيه سائل. زاد اللخمى عن مالك لا يحرمون ويضامون من المساجد. قال بعض الشيوخ المتأخرين ومن هذا ما يقع اليوم في المساجد يقع رفع الصوت في المساجد العظام لرفع الحوائج على السلاطين والأمراء والعمال ونحوهم من هذا المعنى ولا يتركون وليفرق مظالمهم خارج المسجد. والأصل في ذلك النهي عن إنشاد الضالة. وقوله لا ردها الله عليك "عياض" وقول ذلك للناشد عقوبة له على عصيانه لمخالفته النهي "القرطبي" ولذلك يدعى على كل من فعل فيه ما لا يليق بنقيض مقصوده. قال الفقيه الأبي في "إكمال الإكمال" قيل النهي عن إنشاد الضالة نهي كراهة واختلف في قول ذلك له هل هو على الوجوب أو على الندب على الخلاف في حمل أوامره –صلعم-. وقول بعض السلف في البيع إن هذا من أسواق الآخرة فمعناه أنه لا يشاب بشيء من الدنيا وهو من باب تنزيه المساجد. ومن ذلك رفع الصوت في المسجد ولو بالعلم وقع في "النوادر" عن مالك لا ينبغي وكان الناس ينهون عنه وفي " الإكمال" عن ابن مسلمة جواز رفع الصوت فيه بالعلم. ومن ذلك قص الشعر وتقليم الأظافر والفصد وغير ذلك. قال في "الرسالة" ولا يقص فيه شاربه ولا يقلم أظفاره وإن أخذه في ثوبه. ومن ذلك إدخال الحيوان لرفع الأثقال غير ما فيه مصلحة له: أما ما كان لمصالحه فعن مالك " أكره إدخاله الخيل والبغال والحمير لنقل ما يحتاج لمصلحته ولينقل على الإبل والبقر": ومن ذلك أكل الطعام به. فوقع في سماع ابن القاسم كراهة أكل الطعام فيه كما يفعل

في رمضان وخفف أكل الضيف يبيت به "ابن رشد" يريد مثل التمر وشبهه من خفيف الطعام كما قال في الرسالة ولا يأكل إلا مثل الشيء الخفيف كالسويق ونحوه. وما له نوى كالتمر يجب طرح نواه خارج المسجد. وكذلك القشور والعظام وفي سماع ابن القاسم لا أحب لصاحب منزل أن يبيت فيه وسهل فيه للضيف ولمن لا منزل له. قال عز الدين إنما يرخص في ذلك لمن لا ينتهك حرمته من الضعفاء فقد كان أصحاب الصفة يبيتون مع القيام بحرمته. وفي "النوادر" وروى علي بن زياد: لا أحب به فراشا ... مجلوسًا أو وسادة ولا بأس أن يضطجع فيه للنوم وفي سماع ابن القاسم خفف مالك لصاحبه المنزل أن يبيت فيه وسهل طلب الحق فيه ما لم تطل المراجعة في الطلب وكذلك أجاز قضاء الحق واقتضاءه على غير وجه التجر. وفي السماع المذكور ولا بأس بوضوء الطاهر بصحن المسجد وتركه أحب إلي. وعن سحنون لا يجوز وهو أحسن لما يسقط من غسالة الأعضاء وكرهه مالك وإن جعله في طست. وذكر أن هشامًا فعله فأنكر عليه الناس وجعل المازري الكراهة لأجل المضمضة قال: فإذا ابتلعها جاز على القولين وفي خروج من ظهر بثوبه دم كبير من المسجد ولو كان في صلاة وتركه بين يديه ساترًا نجاسته ببعضه قولان حكاهما اللخمي عن ابن شعبان وغيره. ولا تسل فيه سيوف ولا أسلحة وما في الصحيح أن الحبشة كانوا يلعبون بها في المسجد فمنهم من قال إن ذلك نسخ ولا يبتذل بكثرة الاستطراق. وفي المدونة لا بأس أن يمر به ويقعد من كان على غير وضوء وكره زيد بن ثابت أن يمر به من لا يصلي ولم يره مالك إلا في "إكمال الإكمال" أفتى ابن عرفة بجواز اتخاذه طريقا إذا دعت إلى ذلك ضرورة. الحكاية التونسية وكان البرزلي من متأخري التونسيين وأحد شيوخ ابن عبد السلام مدرسًا بمدرسة التوفيق وكانت داره قبلي جامع الزيتونة بل جامع التوفيق فكان إذا أتى المدرسة دخل من باب الجامع القبلي ويخرج من الباب الجوفي فعيب عليه ذلك لما فيه من اتخاذ المسجد طريقًا فاحتج بأن مالكًا أجازه في المدونة بقوله: ولا بأس أن يمر به ويقعد من كان على

غير وضوء. قال الفقيه الأبي وحين ذكر لنا الشيخ ابن عرفة ذلك عنه قلت لا متمسك له فيه لأن الكلام إنما خرج مخرج بيان أنه ليس من شرط الكون في المسجد الطهارة إلا مخرج بيان حكم المرور. وأما البصاق فقال في المدونة لا يبصق في حائط قبلة المسجد ولا على ظهر حصيره ويدلك وهو غير محصب فإن كان محصبًا فلا بأس أن يبصق تحت قدمه وأمامه أو يمينه وشماله ويدفنه. الباجي وفي سماع ابن القاسم لا بأس بالتنخم تحت الحصير. وأما ما يدب عليه من القمل فقال في المدونة يخرج ويطرحها خارج المسجد ابن بشير واستشكله الأشياخ لما فيه من تعذيب الحيوان ولهذا تأوله عبد الوهاب بأنه يلقيها بعد قتلها فيزول. فائدة: وذكر الشيخ أبو الحسن الزرويلي المشتهر بالصغير في تقييده الكبير على التهذيب عن بعضهم أن القملة إذا ألقيت حية تنقلب عقربًا قل من لدغته إلا مات فعلى هذا يحرم إلقاؤها حية من باب تحصيل أسباب المهالك مع القدرة على نفيه. واتفق هؤلاء على عدم إلقائها في المسجد لأنه إما تلويث أو إلقاء نجاسة وإذاية للغير وكلها لا تنبغي إلا على القول بعدم نجاستها ويكون المسجد محصبًا فتكون كالبصاق. ابن رشد قتل البرغوث به أخف اللخمي لأنه من دواب الأرض قال واستخف مرة ما قتل من القمل والبراغيث به وتقتل به العقرب والفارة. الفتوى بمنع قراءة المقامات وأفتى جماعة من فقهاء الأندلس بعدم منع المتحلقين بالمساجد للخوض في العلم وضروبه. قال ابن سهل وإطلاقه غير صحيح إنما ذلك لمن يوثق بعلمه ودينه ويقتصر على ما يعلمه في غير أوقات الصلوات. حين لا يضر بالمصلين قلت وذكر الأبى في "إكمال الإكمال" إجازة الشيوخ قراء الحساب به إذا لم يلوث وإعراب الأشعار الستة بخلاف قراءة المقامات لما فيها من الكذب والفحش وكان ابن البراء إمام الجامع بتونس لا يرويها إلا بالدوبرة منه إذ ليس للدوبرة حكم الجامع. وذكر عن بعض الشيوخ كراهة إدخال الأنعلة به غير مستورة وأفتى بعضهم فيمن أزال

نعلًا من موضعه ووضعه بموضع آخر أنه يضمنه لأنه إنما نقله وجب عليه حفظه وصوبت هذه الفتيا. غرس الأشجار في المسجد ابن هشام في "مفيده" خالف أهل الأندلس مذهب مالك بإجازتهم غرس الأشجار بالمسجد أخذ منهم بمذهب الأوزاعي قال بعضهم وعليها أفتى في أحكام الشعبي إذا نبتت شجرة في صحن المسجد والمقبرة أو طريق المسلمين فهي لله تؤكل ثمرتها فيحتمل أن تكون نبتت بنفسها أو مستنبتة وكذا من أراد قلعها فيغرسها في ملكه فعلى قول مالك يجوز له ذلك إذ لا يجوز له غرسه. وعلى فتوى الأندلس لا يجوز. إرسال حدث الريح في المسجد اللخمي ولا يطلق به حدث الريح. قال بعض الشيوخ أخبر بعضهم جواز خروج الريح في المسجد مما في الصحيح أن الملائكة تستغفر للمصلي ما دام في مصلاه ما لم يحدث. وفسره أبو هريرة بأنه قساء أو ضراط وبوب البخاري عليه باب الحدث في المسجد. وذكر المازري في تعليقه على أحاديث الجور في فقال إن ما أدخله البخاري ردًا على من يقول إن المحدث حدثًا أصغر يجوز دخوله المسجد والأظهر عندي أنه كرائحة الثوم فتظهر الرخصة يريد اضطر إليه سكنى أو مبيتًا بمنزلة صلاة الآكل للثوم وإن كان لغير ضرورة فتنزه المساجد عنه بل إذا كثر ذلك منه يخرج لإذاية الناس كما لو آذى الناس بلسانه. اعرف الفتوى بإخراج من يكثر إذاية الناس بلسانه من المسجد وقد أفتى فقهاء الأندلس بذلك فيمن كثرت إذاية لسانه أنه يخرج من المسجد قياسًا على آكل الثوم قلت: فكيف بالإذاية الكبرى والداهية العظمى والمنكر الفظيع والعصيان الشنيع الذي استقبحته الشريعة ونافرته الطبيعة وقد اتخذ في جامع بلدنا الأعظم ديدنا ودأبا حتى عمي منتحلوه بينهم عن تحريمه عينًا وقلبًا وذلك منكر الغيبة التي هي أخبث الكبائر وأشر تباعات الدنيا والآخرة ولو يذكرهم الحق الظاهر قال مولانا جل جلاله {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} وقال صلعم: الغيبة أشد من الزنى.

قلت في هذه الأشدية أن الزاني لم يجن إلا على نفسه بذنب بينه وبين ربه ومنتهب الأعراض جان على من آذاه في عرضه. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام من مات تائبًا من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة ومن مات وهو مصر على الغيبة فهو أول من يدخل النار. وقال صلعم: إن الغيبة لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب اليابس وقال صلعم: مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظفارهم فقيل لي هؤلاء الذين يغتابون الناس. وهي على ما بين صلعم ورسم أن تذكر أخاك بما يكرهه. قال إن ذكرته بما فيه فقد اغتبته وإن ذكرته بما ليس فيه فقد بهته. وفي بعض الطرق فقيل له يا رسول الله وإن كان حقًا قال: إن قلت باطلًا فذك البهتان. ثم المستمع أحد المغتابين كذلك قال رسول الله صلعم قال الإمام الغزالي –رضه- فكيف إذا حرك نشاطه بالتعجب وكذلك قد يقول دع غيبة الناس وهو بقلبه غير كاره إنما غرضه أن يعرف بالورع وذلك لا يخرجه عن إثم الغيبة ما لم يكرهها بقلبه وتورطه في إثم الرياء بل يخرج من الإثم بأن يكره ذلك ويكذب المغتاب ولا يصدقه بقلبه لأنه فاسق يستحق التكذيب والمسلم المذكور بالغيبة يستحق إحسان الظن به. قال رسول الله صلعم إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وماله وأن يظن به السوء فالغيبة بالقلب حرام كما أنها باللسان حرام ثم قال –رضه- واعلم أن أخبث الغيبة غيبة الفراء يقول أحدهم مثلا الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان لطلب الدنيا ونعوذ بالله من قلة الحياء وهم يفهمون من المقصود بذلك ويقولون ما أحسن أحوال فلان لولا أنه ابتلي بما بلي به أمثالنا وهو قلة الصبر على الدنيا فنسأل الله أن يعاقبنا. وغرضهم في ذلك الغيبة فيجمعون الغيبة والرياء وإظهار التشبه بأهل الصلاح في الحذر من الغيبة وهذه خبائث يغترون بها ويظنون أنهم تركوا الغيبة وكذلك يغتاب واحد فيشتغل عنه الحاضرون فيقول سبحان الله ما أعجب هذا حتى ينبه القوم للإصغاء فيستعمل ذكر الله في تحقيق غيبته أو يقول قلبي مشغول بفلان تاب الله علينا وعليه. وليس غرضه الدعاء بل التعريف ولو قصد الدعاء لأخفاه ولو اغتم قلبه لأجله لكتم عيبه ومعصيته وكذلك قد يظهر تعجبًا من كلام المغتاب حتى يزيد في نشاطه في الغيبة. قلت: فإذا كانت هذه المعصية من أعظم الكبائر ومن أشنع المناكر التي يجب

الاحتساب في تغييرها ومحل تغييرها في أي محل ارتكبت وفي أي زمان ابتدعت ففي مساجد الله وأوقات دواعي أمره أحق وأولى بالتغيير وأجدر بالإغلاظ والتشديد بالنكير. فقد قال العلماء ليس التلبس بمعصية الله في حرمة الذي بمكة مباركًا وهدى للعالمين في العشر الأواخر من رمضان أو عشر ذي الحجة أو يوم عرفة أو يوم عاشوراء كالتلبس بها في محل آخر في سائر الأوقات وليس مساجد الله من الحرمة ما للبيت العتيق بطريقة الإلحاق وإن كانت الكعبة أشد حرمة لكن على حكم أفضلية التابع متبوعه فعلى من ولاه الله شيئا من أمر أمة محمد عليه السلام السعي بما أمكنه في إزالة هذا المنكر الخبيث المستسمج الرثيث. والمسارعة لزواله على الفورية وترك الفتور لأن ذلك الواجب عليه شرعًا في مثل هذا المحذور فكل من أدركه أذى في عرضه طالب حق يستوفيه يوم الجزاء من القادر على إزالته فلم يفعل لأن الناس يسمحون في أمولاهم دون أعراضهم كما قال قائلهم: أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال أحتال للمال أودى فأجمعه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال وقد اتفق العلماء على جواز أخذ العرض صلحا عما وجب من الحقوق البدنية جراحا كانت أو نفسا وكذلك المالية وشددوا الكراهة في أخذ العرض صلحًا عما واقع منتهب العرض في عرض الأخذ لعناية الشرع بحمايتها كل الحماية بما وقع من التشديد وكبر الوعيد في منكر الغيبة. قال الشيخ شهاب الدين –رضه- قال العلماء: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الفور إجماعًا فمن أمكنه أن يأمر بالمعروف وجب. وحظنا فيه من مراتب التغيير الثلاث إنكار أفئدتنا والتغيير بقلوبنا لا نستطيع أكثر من ذلك لما نخشى من تأديته لمنكر أعظم منه حسبما تقدم سقوط ذلك بهذه الخشية. اللهم إنا نبرأ إليك مما فعلوه في محل مناجاتك وإيقاع صلواتك فأنت العليم بما تكنه الصدور وتخفيه الضمائر من سائر خلقك أجمعين. فلا تهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.

المسائل الثمان المستثنيات من منع الغيبة ثم اعلم أن للغيبة محالًا مستثنيات من المتع برخصة الجواز. الأول- المتظلم يذكر ظلم ظالمه عند ذي سلطان ليدفع ظلمه فأما عند غير ذي سلطان وعند من لا يقدر على الدفع فلا: اغتيب الحجاج عند بعض السلف فقال إن الله ينتقم للحجاج ممن اغتابه كما ينتقم من الحجاج لمن ظلمه. الثانية- الجرح والتعديل في الشهود عند الحكام فلا يحرم وكذلك رواة الحديث يجوز وضع الكتب في ذلك والإخبار به. قال الشيخ شهاب الدين القرافي ويشترط في ذلك أن تكون النية خالصة لله سبحانه في نصيحة المسلمين وعند حكامهم وفي ضبط شرائعهم وأما إذا كان ذلك للهوى فهو حرام وإن حصلت به المصالح عند الحكام والرواة ويشترط أيضًا في ذلك الاقتصار على القوادح المخلة بالشهادة أو الرواية. الثالثة – المستفتي إذا افتقر إلى ذكر السؤال كما قالت هند إن أبا سفيان رجل شيخ لا يعطيني ما يكفيني ينهها رسول الله صلعم قال الغزالي: وهذا كله شكاية ولكن إنما تحل إذا كانت فيها فائدة. الرابعة – الاستشارة في مصاهرة أو مشاركة أو معاملة يجب على المستشار أن يذكر ما يعلم من حال المستشار فيه لقوله عليه السلام: المستشار مؤتمر. قال بعض الشيوخ: فإن حصل الغرض بمجرد قول المشير على المستشير لا يصلح لك لم تجز الشهادة. قال شهاب الدين القرافي يشترط في ذلك الاقتصار على ما يخل بتلك المصلحة التي حصلت المشاورة من أجلها خاصة والزيادة على العيوب المخلة. بما وقعت المشاورة فيه حرام. الخامسة – ذكر ما عليه ذي المنكر من المناكر متجاهرًا بها للقائم بتغييرها إذا ذلك مما يتم الواجب إلا به فهو واجب. السادسة – أن يكون معروفا باسم فيه عيب كالأعمش والأعرج والأعمى والأصم وغير ذلك فإن كان كذلك جاز تعريفه بذلك على نية التعريف ويحرم إطلاقه على جهة التنغيص قال أبو حامد رضه والعدول إلى اسم آخر أولى.

السابعة- أن يكون مجاهرًا بذلك العيب كالمخنث وصاحب الماخور وكذلك الفاسق المعلن بالفسق فلا يضر أن يحكى ذلك عنه لأنه لا يتألم إذا سمعه وكذلك من أعلن بالمعاصي وهكذا كل من لا يتألم بمعصية قال الغزالي: والصحيح أن ذكر الفاسق بمعصية يخفيها لا يجوز من غير عذر. قال شهاب الدين القرافي: سألت جماعة من المحدثين والعلماء الراسخين عما يرى من قوله صعلم لا غيبة في فاسق فقالوا لم يصح فلا يجوز التفكه بعرض الفاسق فاعلم ذلك. الثامنة- أرباب البدع والتصانيف المضلة فينبغي أن يشهر في الناس فسادها وعيبها وأنهم على غير الصواب ليحذرها الضعفاء وينهى عن تلك المفاسد التي فيها شرط ألا يتعدى فيها الصدق ولا يفتري على أهلها من الفسوق ما لم يفعلوه بل يقتصر على ما فيه من المنفرات خاصة. قال الشيخ محي الدين النووي –رضه- فيجب على المغتاب التوبة وطلب العفو من صاحبها ولابد من استحلاله. قال: وهل يكفيه أن يقول قد اغتبتك فاجعلني في حل أم لابد له من ذكر ما اغتابه فيه؟ وجهان لأصحاب الشافعي: أحدهما يشترط بيانه فإن أبراه من غير بيانه لم يصح كما لو أبراه عن مال مجهول والثاني لا يشترط لأن هذا ما يتسامح به فلا يشترط علمه بخلاف المال قال رحه والأول أظهر لأن الإنسان قد يعفو عن عيب دون عيب. ما يعالج به داء الغيبة فإن قلت وما وجه العلاج لهذه النفس المسكينة التي واقعت هذه المعصية حتى تبرأ من عيب الانقياد لذلك فيما يرد من الزمان وتبرأ مما صدر منها من ماضيه من الغيبة والبهتان وتعلن بالتوبة من ذلك أي إعلان. قلت: قال الإمام أبو حامد الغزالي –رضه- هو أن يتفكر المغتاب في الوعيد الوارد فيها في قوله عليه السلام: إن الغيبة أسرع أكلًا في حسنات العبد من النار في اليبس. وورد أن حسنات المغتاب تنتقل إلى ديوان المظلوم بالغيبة فينظر إلى قلة حسناته وكثرة غيبته وأنه ينتهي إلى إفلاسه على الغرة ثم يتفكر في عيوب نفسه فإن كان فيه عيب فيشتغل بنفسه من غيره وإن كان قد ارتكب صغيرة فيعلم أن ضرره

من صغيرة نفسه أكثر من ضرره من كبيرة غيره وإن لم يكن فيه عيب فيعلم أن جهله بعيوب نفسه أعظم عيب ومتى يخلو الإنسان عن عيب ثم إن خلا عنه فليكثر الله تعالى بدلًا من الغيبة فإن القول في الأعراض كأكل لحوم الميتة وأكل لحوم الميتة من أعظم الذنوب فليحذر منه هـ. شروط التوبة من الغيبة ووقع للشيخ أبي محمد بن أبي زيد أن من شروط التوبة من الغيبة أن يعين لصاحبها ما قاله فيما كما تقدم للنووي في أحد الوجهين نقلا عن بعض الشافعية. زاد الإمام أبو حامد ويكذب نفسه بين يدي من قال ذلك عنه. لكنه استدرك قيدًا في إعلام المغتاب من اغتابه أن يكون آمنًا من زيادة غيظه أو تهييج وفتنة تصدر منه أو من أحد بسببه. فإن خشي من ذلك فعليه الركون إلى الله تعالى ليرضيه عنه وليكثر من الاستغفار لصاحبه. قال الشيخ محيي الدين النووي: فإن كان صاحب الغيبة ميتا أو غائبا فقد تعذر تحصيل البراءة منها. لكن قال العلماء رحمهم الله تعالى ينبغي أن يكثر الاستغفار له والدعاء ويكثر من الحسنات. قال بعض الشيوخ أما إذا مات فقد تعذر الخلاص من البراءة كما قاله وأما مع غيبته فلا تعذر في استحلاله من ذلك لأنها ممكنة بالكتب إليه. وقد اقتصر الإمام أبو حامد الغزالي على الاكتفاء بالاستغفار له والثناء عليه. ونقل عن الحسن البصري أنه قال: يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار دون الاستحلال. قال بعض الشيوخ: وهذا المذهب مرجوح والحق ما عليه الجماعة من وجوب طلب الاستحلال والعفو من صاحبها. والدليل لهم ما خرجه البخاري عن أبي هريرة رضه عن النبي صلعم قال: من كانت له مظلمة لأخيه من غرض أو شيء فليتحللها منه اليوم قبل أن لا يكون دينار له ولا درهم. فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. اغتياب العلماء ليس كاغتياب الجهال ثم اعلم أن اغتياب العلماء ليس كاغتياب الجهال لشرف وصف العلم القائم بالعلماء على الجهل القائم بالجهال لأن فضل العلم على الجهل من الضروري الذي لا يكابر فيه ذو عقل سليم. كما أن فضل المساجد على غيرها من سائر البقاع كذلك. ولذا قال الشيخ ابن

معلى في منسكه ويرحم الله الشيخ الإمام المحدث الراوي الحافظ أبا القاسم بن عساكر فلقد أحسن من أنشأ في كلماته في هذا المعنى ونصه: اعلم يا أخي أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصهم مشهورة معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب. فإذا أتى المغتاب لمن اغتابه متحللًا منه وتائبًا مما وقع في عرضه فينبغي أن يحله. قال الشيخ محيي الدين النووي: يستحب لصاحب الغيبة أن يبرئه منها ولا يجب عليه لأنه تبرع وإسقاط حق فكان إلى خيرته ولكن يستحب له الإبراء استحبابًا مؤكدًا الله سبحانه قال مولانا جل جلاله {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} وقال تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلعم قال والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. حكم النميمة والنميمة أخت الغيبة في التحرير وهي أن ينقل إليه من غير أن يتعرض لأذاه. قال عليه السلام: لا يدخل الجنة نمام قتات. وفي بعض الطرق قتات ولما فيها من إلقاء البغضة بين الناس. فائدة- النميمة والغيبة تفارقان النصيحة كما تفرق المداهنة من المداراة. فالفرق بين النصيحة والأخريين أنهما يردان من قائلهما في غيبة المنقول عنه دون سؤال يسأل أو استعلام منه يستعلم بخلاف النصيحة فإنها لا ترد من الناصح إلا بعد استنصاح الناصح المستنصح فلم يقل رسول الله صلعم لفاطمة بنت قيس "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عاتقه. وأما معاوية فصعلوك. انكحي أسامة" إلا بعد استنصاحها بنصحه. ويحاشى سيد المرسلين أن يقول ذلك فيهما في غير جواب المستنصحة برءًا مما من عند نفسه لأن ذلك عين الغيبة. ومثله في طريق النميمة بطريق إفراغها في قالب النصيحة كما يرد من بعض أولى بعض المشتهرين بكراهة الشخص في إتيانهم له بإظهار النصح يقولون له أو أحدهم إني أنصحك سمعت فلانا يقول فيك كذا من خبائث القول فتوق لنفسك وارحم عرضك

أو يقول سمعت فيك كذا ولم يعين قائله وليس لقوله ذلك أصل في النصيحة وإنما يريد إدخال مكرب على المقول له بنميمة لا حقيقة لها وغيبة قلبية قد تخرصها فبهته بإعلامه بها. وذلك لا يرد إلا من متفجر قبيح خبيث الباطن وهو محرم باتفاق وإنما هو رهين فيها قال إن لم يبين القول من زعم أنه قال هو مأخوذ بما يلزم عنه إن حدا فحدا وإن عقوبة فعقوبة. قلت وقد وقع لي مثل ذلك ذات يوم حضر محاورة فاضل مع فاسق اتحقق أنا وغيره سوء باطنه في شأنه وأنه يريده بما يكافئه عليه الله الذي ينصر المظلوم ويرد بأس الغشوم وهو ممن ينتمي لطلب العلم وهو بطلب الشر أولى به من طلب الخير قال سمعت فيك قول كذا وكذا وأنا جئت ناصحًا. فقلت مجيبًا له: لم ينته لفؤادك والله أعلم حكم ما يلزم القائل مثل قولك على طريق الإخبار عن مقول الغر فأطلعته على ما في المدونة في كتاب الرجم وما حكى اللخمي عن ابن القاسم في تبصرته وابن أبي زيد في نوادره وابن رشد في بيانه. أنه إن لم يثبت المقالة على قائلها. فلا اختلاف أنه يحد حد الفرية. فإن أثبتها على وجه الرسالة بها فقل يحدان جميعا. وقيل لا يحد إلا المرسل وأعلمته بحقيقة النصيحة وخروجها عن خبث طريقته. فبهت الفاجر ولكن أمن مكر الله في نيل العقوبة ذلك الخاسر. قال الشيخ شهاب الدين القرافي: إلا أنه يستثني من ذلك سلامة الباطن ما كان تحذيرا من قتل أو أخذ مال تقوم قرائنه على المبلغ عنه فيكون سبيله سبيل النصيحة ولو لم يكن باسترشاد من أديت إليه النصيحة لأن حماية مال الإنسان ودمه بما أمكن واجب. اعرف الفرق بين المداهنة والمداراة ثم الفرق بين المداهنة والمداراة أن المداهنة حقيقتها بذل الدين بالدنيا والمداراة حقيقتها بذل الدنيا بالدنيا. فالأولى كما يقع من إطراء الظلمة بمدحهم بوجوه المدح وتحسين أفعالهم وأقوالهم بالتماس المخارج الحسنة لهم والتأويلات البعيدة مع تحقيق المداهن لاستقباح ما لهم عليه. بواجب الإنصاف وطريق الحق وليس له ما يحمله على ذلك سوى ما يناله من دنياهم فقد باع دينه بتغريرهم على مسالك الباطل بدنياه السمحة الركيكة في سبيل المعارضة الردية مع ما ينضاف

لذلك من إثم إغرائهم على الازدياد ما انتحلوه في مساعي هواهم وسد باب تقواهم فهذا عين الادهان وما كان في معناه مداهنة واستعمال الناس له كثير. وأما الثانية التي هي المداراة فإنما هي أن ينيل بالمداراة عرضًا من دنيا يجتلب به مودة ما يستكفي شره ويستدفع ضره أو يستحصل فائدة منه ألجأه الوقت إليها من غير أن يكون وراء ذلك شيء مما في طريق المداهنة من الاختلاف بقوله لهم ما يحبون وحقيقة الأمر على خلافه. قال عياض في إكماله فما فعله رسول الله صلعم من بسط ردائه للذي قال عند وروده وقبل اللحاق به بئس أخو العشيرة من المداراة لا من المداهنة لأنه لم يقع في دفع تقية ما يتقى منه إلا بسط الرداء والجلوس في محل القرب ولهذا أجاب صلعم عائشة عن تعجبها مما فعله عليه السلام بعد أن قال ما قال بقوله إن أخبث الناس من يكرمه الناس اتقاء فحشه أي إكراما كإكرامي هذا. فالمدارة جائزة والمداهنة حرام. يجب تطهير المساجد من المراء والمجادلة ومما يجب تطهير المساجد منه كتطهيرها من الغيبة والنميمة ما يقع بين متكلمين في بحث من المراء والمجادلة. وحقيقة المراء الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ أو في المعنى. قال الإمام أبو حامد الغزالي رضه والباعث عليه إثارة الترفع بإظهار الفضل وسببه إما خبث الرعونة وإما إثارة الشمعية التي في الطبع المتشوفة إلى نغص الغير وقهره بالمراء والمجادلة بل الواجب أن يصدق ما سمعه من الحق ويسكت عما سمعه من الخطا إلا إذا كان في ذكره فائدة دينية وكان ممن يسمع منه فيذكره برفق لا بعنف هـ. وفي الخبر النبوي عنه صلعم من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة ومن تركه وهو مبطل بني له بيت في رفض الجنة. قال أبو حامد لأن الترك للمحق أشد وقال لا يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وهو محق. قلت: لأن تعاطي الجدال والمراء ذريعة للعجب والتشميع وكلها محرمة وما أدى إلى الحرام فهو حرام. شكل بناء المساجد وطريق وضعها تتميم بما بقي ذكره من أحكام المساجد. وذلك في شكل بنائها وطريق وضعها. قال اللخمي: بناء المساجد للجماعة والجمعة واجب في كل قرية وأما إقامة الجماعات فيندب في محلة بعيدة عن جامع بلدها. قال الأبي في "إكمال الإكمال" المخاطب بنصب المسجد

الإمام وعليه يدل الحديث وإلا فعلى الجماعة. وإقامة مسجد ثان مندوب إليه لأن فرض إقامة السنة سقط بالأول وهو في ذلك كالأذان فرض على أهل المصر سنة في مساجد الجماعات. وفي سماع أشهب وابن نافع المسجد الذي أسس على التقوى مسجده عليه السلام قال ابن رشد رضه هذا هو الصحيح لا قول بعضهم إنه مسجد (قبلة). وفي السماع المذكور: لا خير في بناء مسجد قرب آخر ضرارً فأما لخير فلا بأس به. سحنون. لا بأس بإحداث مسجد ثان بقربة لكثرة أهلها وعمارتهم إياهما وإن قل أهلها وخيف تعطيل الأول منعوا لأنه ضرار. ابن رشد: إن كان الثاني يفرق جماعة الأول فإن ثبت قصد بانيه الضرار هدم وترك مزبلة وإن لم يثبت ترك خاليا ما لم يحتج إليه بكثرة الناس وانهدام الأول. كراهة الكتب والتزويق بالذهب في قبلة المساجد وفي المدونة: كراهة الكتب والتزويق في قبلة المسجد حين جعل بالذهب لأنه يشغل المصلين ابن رشد لابن نافع وابن وهب جواز تزويق المساجد والكتب في قبلتها. وحكى القرطبي في تفسير قوله تسع في بيوت أذن الله أن ترفع عن عثمان بن عفان رضه: أنه بني مسجد النبي صلعم بالساج وحسنه. وعن أبي حنيفة: لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب. وعن عمر بن عبد العزيز: أنه نقش مسجد النبي صلعم وبالغ في عمارته وتزيينه ونقشه. قلت: وذكر لي بعض ساكني المدينة المشرفة لما رأيت بها توشية كثيرة بالذهب مستجدة أن سلطان الوقت الظاهر جقمق هو الذي أحدثه وأكثر في زيادته. فلما وصلت القاهرة آتيًا من الحج واجتمعت به في قلعته التي بأعلى الرميلة ذكرت له ما أخبرت به بمدينة الرسول عليه السلام من إعظامه وإكباره لمسجده صلعم بما رأيناه من التشييد والتوشية بكثير الذهب والأزورد الخراساني وأكثرنا في شكره والثناء عليه لذلك فطلب منا الدعاء بحسن الخاتمة ونيل شفاعته. فدعونا له ولأنفسنا. وانصرفت حتى أتيت محل مسقط الرأس واستيطان السلف بلدنا تلمسان أجرى الله أحوالنا بها على ما عود ما ألطافه الجميلة ذكرت الحكاية لسيدنا الجد الأقرب وهو في مرضه الذي توفى منه فقال لو لكان بحضرته صلعم ما أناله شكرا ولم يرض بفعله قليلا ولا كثيرا فذكرت له ما سطرته من نقل ابن رشد الجواز عن ابن نافع وابن وهب

فقال لي قررنا على القول بالجواز فكم من مباح تركه صلعم ورعا واستقلالا من الدنيا في مأكله وملبسه ومسكنه ومصلاه الذي به يصلي. وقد ورد عليه مال البحرين الذي لم ير المسلمون حينئذ أكثر منه ورددت في بعض ذخائر كسرى وقيصر وحمل منه العباس رضه عدته التي وعده الله بها في قوله {يؤتكم خيرا مما أخذ منكم} فحمل من المال ما قويت طاقته على حمله وحمل من التوسع في الدنيا هذا الذي حصل ولم يجعل من ذلك صلعم من تزويق المسجد ولا توشيته فلو كان ذلك من القربة المرغب في فعلها تعظيما لما تركه حتى توفاه الله صلعم فأمسكت عن مراجعته خشية من تحريك داعية المرض وزيادته بإثارة البحث ومناولة الكلام. وإلا فالظاهر من فعل أمر المؤمنين عثمان بن عفان رضه وعمر بن عبد العزيز ذلك ولا نكير من الصحابة والتابعين أن ذلك جائز. ولو ادعى مدع أن ذلك إجماع سكوتي لم يفند. وثبت عن سليمان عليه السلام أنه بنى بيت المقدس وبالغ في تزيينه ولم يزل كذلك حتى الآن وذكر بعض ساكنيه أن ما به من التزيين في هذه الملة من فعل عمر بن الخطاب رضه وعلى القول بالجواز اعتمد الناس في تزخرف المساجد وتزويقها. الحصباء بالمسجد وفي المدونة يكره له أن يحمل حصباء من موضع الظل لموضع الشمس يسجد عليها لأنه يحفر المسجد وأما لو خرج به ففي سماع أشهب وابن نافع من خرج منه بحصباء بيده نسيها أو تعلقت بنعله إن ردها فحسن وما ذاك عليه. ابن رشد لأنه أمر غالب لا ضرر فيه على المسجد فلم يلزم رده إليه كما أن ما يبقى بين أسنان الصائم من الطعام إذا ابتلعه بالنهار مع ريقه لم يجب عليه قضاء لأنه أمر غالب هـ. وأما لو حملها قصدا فلا يجوز لأنه نقل الحبس عن محله. وفي شرح التهذيب للزناتي أن رجلا حمل حصباء من مكة وأتى بها للمغرب فكانت بالليل تصوت حتى منعت النوم فقيل له ردها إلى موضعها وحينئذ تنام فردها إلى موضعها أو بعثها فحينئذ نام. قلت وكان يتقدم لنا في مجلس شيخنا أن من حمل حصباء من الأماكن المشرفة ورد إلى محلها في الوقت أخرى فإنه لا حرج عليه في نقل التي حمل لوجود العوض كما أن من استهلك وقفا فإنما مثله ولو كان من المقومات كالبناء ونحوه ما لم يكن مما لا عوض له لتعلق الفضل بعينه كالحجر الأسود وكقواعد البيت فلا يسوغ ذلك.

ورأيت حكاية لابن سعدون القروي أن الركن الأسود أرسله اللعين الجبائي إلى عبيد الله الشيعي رأس الشيعة للمهدية فلم يلبث أياما حتى مات عبيد الله فلما دفن طرحته الأرض ثم دفن فطرحته ثلاثًا فقيل إن هذا لأجل هذا الحجر فردوه وعند ذلك استقر عبيد الله في الأرض لعن جميعهم وأما تعليق أستار الحرير فيه فظاهر كلام عز الدين المتقدم الجواز. تجمير المسجد وأما تجميره ففي المدونة ويتصدق بثمن ما يجمر به المسجد أو يخلق أحب إلي. عياض يعني أنه أعظم للأجر لأنه يكره تجمير المسجد وتخليقه بل هذا كله مما يندب إليه وفعله الصدر الأول ولكن رأى مالك أن الصدقة أفضل وتجميره هو تبخيره بالبخور وتخليقه جعل الخلوق في حيطانه وهو الطيب المعجون بالزعفران. قال أبو عمران ومعنى قوله ويتصدق بثمن ما يجمر به المسجد أو يخلق أحب إلي يريد أفضل من تجميره وتخليقه وفي تجميره أجر كثير ولم يرد بقوله نفي الأجر في التجمير ولكن رأى غيره أفضل منه كما تقول كذا أفضل من كذا وإن كان لكل واحد منها فضل. تنبيهان الأول منهما إن قلت ما الذي يكون بناء شكل هذا المسجد الذي له هذه الحقوق في الاحترام والإعظام وقفًا وحبسًا وهل لظهره ولما تحته من الحرمة. مالك قلت يثبت التحبيس فيه بتنصيص المحبس دون إشكال أو بإباحته للناس الإباحة الدالة على التنصيص. قال في المدونة والمسجد حبس لا يورث إذا كان صاحبه قد أباحه للناس قلت: قوله إذا كان صاحبه قد أباحه للناس مفهومه أنه لو لم يبحه وكان محجورًا فإنه لا تكون له حرمة المسجد. ووقع في العتبية عن ابن القاسم وسحنون لا بأس أن يجعل الرجل في بيته محرابًا يصلي فيه ابن رشد: ويحترم باحترام المسجد. قال الفقيه أبو عبد الله الأبي وكان الشيخ بن عرفة يقول إنه لا يحترم باحترام المسجد وما نقله ابن عرفة مخالف لما قال ابن رشد وموافق لمفهوم الكتاب قال أبو الطاهر بن بشير في تنبيهه أجمعت الأمة على جواز تحبيس السقايات والمساجد فمن بنى مسجدا فلا يخرج عن ملكه بنفس البناء إلا أن يظهر منه قول أو فعل

يدل أنه قصد إخراجه عن ملكه وتحبيسه ولهذا لا يحل أن يملك بعد الإباحة ما فوقه دون ما تحته. ولا يبني فوق ظهر المسجد بيتًا ليسكن فيه لأنه يصير مسكنًا يجامع فيه ويأكل ويشرب. وقد كان عمر بن عبد العزيز إمام هدى فكان يبيت فوق ظهر مسجد النبي عليه السلام فلا تقربه فيه امرأة. قلت: ما ذكر عن عمر بن عبد العزيز ذكر مثله في جامع العتبية قال: قال مالك كان عمر بن عبد العزيز يفرش له على ظهر المسجد في الصيف فيبيت فيه. ولا تأتيه فيه إمرأته ولا تقربه وكان فقيهًا. قال ابن رشد رحه: لا اختلاف في أن لظهر المسجد من الحرمة ما للمسجد ألا ترى أنه لم يجز في المدونة للرجل أن يبني مسجدًا ويبني فوقه بيتًا يرتفق به: واحتج للمنع من ذلك بفعل عمر بن عبد العزيز هذا. وقال إنه لا يورث المسجد ولا البنيان الذي يكون على ظهره ويورث البنيان الذي تحته وإنما اختلف هل لما فوق المسجد من ظهره حكم المسجد في جواز صلاة الجمعة فيه على قولين: أحدهما قوله في المدونة أنه يعيد من يفعل ذلك ظهرًا أربعًا. وأشهب يكره ذلك ابتداء ولا يرى عليه إعادة إن فعل في وقت ولا غيره وهو اختيار أصبغ وفي كتاب السرقة من المدونة دليل على هذا القول وهو قوله في الذي ينشر ثيابه على ظهر بيته وهو محجور عن الناس فسرقها سارق أنه يقطع وفي المبسوطة لأنس بن مالك وعروة بن الزبير أنهما كانا يصليان الجمعة بصلاة الإمام في بيوت حميد بن عبد الرحمن وبينهما وبين المسجد الطريق وذلك خلاف مذهب مالك وأصحابه وبالله التوفيق. الثاني إن قلت: ما وقع اختلاف نقله بما تنزه المساجد إيقاعه بها منه ما هو محرم ومنه ما هو مكروه وما للمكروهات والمناكر التي تغير. قلت: وإن كانت المناكر التي يجب تغييرها ويضرب المغير على أيدي فاعليها جبرا وقهرا هي المحرم فعلها لكن المكروهات والمندوبات يدخلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سبيل الإرشاد لما هو أولى من غير تعنيف ولا توبيخ بل يكون ذلك من باب التعاون على البر والتقوى قاله القرافي في قواعده.

من أعظم المناكر الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته وإذ قد أتينا على ما استطعنا نقله من حقوق المساجد وما يجب تغييره من مناكرها فلنرجع إلى التكلم في منكرات غير المساجد. فمن أعظمها ما يتكرر ترداده في الألسنة ويشيع التخاطب به إما في معذرة أو موجدة من الحلف بغير أسماء الله تعالى لأن الله سبحانه لم يأذن للحالف في الحلف إلا باسمه الكريم فقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} وقال: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} وقال: {فيقسمان بالله} وقال لنبيه عليه السلام على جهة التعليم والتشريع {قل أي وربي إنه لحق} وقال: {قل بلى وربي لتأتينكم} وفي الآية الأخرى: {قل بلى وربي لتبعثن} وكان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول: والذي نفسي بيده لا ومقلب القلوب. فالحلف بالله وبأسمائه وصفاته ينحل بالمشيئة وبالكفارة بعد الحنث لكونه مأذونا فيه ما لم يكن غموسا وإن كان لغوا فلا شيء فيه والحلف بغير أسماء الله تعالى لا ينحل بكفارة ولا مشيئة بالله ما لم يحلف بمشيئة مخلوق لأنه غير مأذون فيه والوقوع فيه ابتداء محظور. قال صلعم: لا تحلفوا بالطلاق ولا بالعتاق فإنها من أيمان الفساق. وقال: من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت. فإن وقع ونزل لزم اتفاقًا لقوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}. والحالف بالطلاق قد عقد على نفسه طلاقا بشرط فيلزم مع وجود ذلك الشرط لكنه محظور الإيقاع ابتداء لما ينشأ عنه من مفسدة الحنث نفسه فإنه قد يقع فيه من اعتاد الحلف بذلك من غير شعور به فيكون في سخط الله وشديد مقته في حل عصمة أهله وما ينشأ معها من ذريته ونسله ومن مفسدة لازم الحنث مع تحققه إذ قد تكون المرأة حينئذ حائضا أو نفساء فيقع في محذور آخر فكان أن حسم هذا الباب بتغيير منكرها بالأدب والزجر من اللازم للحكام على حسب ما يقع منه من الإكثار والإقلال أو ما يعرف منه من توق أو إجلال. قال الشيخ في رسالته ويؤدب من حلف بطلاق أو عتاق ويلزمه ووقع في العتبية من سماع ابن القاسم قال وسئل مالك عن الأدب للناس في (حلفهم) بالطلاق فقال لقد سألني

زياد عن الذي سألتني عنه فقلت له إنه الناس عن ذلك فقال لي إنهم لم ينتهوا إلا أن أضربهم فقلت له فأفعل فضربهم. قال الشيخ ابن رشد –رضه- الأدب في ذلك واجب لوجهين أحدهما ما ثبت من قول النبي صلعم: لا تحلفوا بالطلاق والعتاق لأنها من أيمان الفساق ذكره ابن حبيب في واضحته وما روي من قوله: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. الثاني أنه من اعتاد الحلف بالطلاق لم يكد يخلص من الحنث فتكون زوجته تحته مطلقة من حيث لا يشعر وقد قال مطرف وابن الماجشون: إن من لزم ذلك واعتاده فهو جرحة فيه وإن لم يعرف حنثة. وقد قيل لذلك لمالك إن هشام ابن عبد الملك كتب أن يضرب في ذلك عشرة أسواط وقال قد أحسن إذ أمره فيه بالضرب. وروي أن عمر كتب أن يضرب في ذلك أربعين سوطا قلت وينبغي أن يقيد إطلاق المنع بما ورد من هذا النهي وما صدر من تحديد الأدب بأن يكون الحالف بذلك قد قام به وصف الطوع. أما إن كان مكرها على الحلف بذلك أو كالمكره كما لا يحصى كثرة من مثل سؤال الجباري لشخص على وقوعه في أمر يوجب قبل العقوبة منه أو التلف أن أقره فيسارع للحلف بالطلاق أو الأيمان اللازمة على عدم الوقوع لنجاة نفسه. فهذه الصورة وإن كان لفظ تلك الأيمان فيها محرما بالأصالة لكنه مباح فيها أو واجب كإباحة الخمر للمغتص مع أنه لا خلاف في تحريمه على أهل هذه الملة. من المناكر إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة ومن ذلك أن يوقع الرجل طلاق امرأته ثلاثا في كلمة واحدة لأن فيه مخالفة أمر مولانا جل جلاله في كيفية إرسال الطلاق حيث يقول في كتابه {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ... } [الطلاق: 1]، إلى قوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] أي الرجعة فدلت الآية الكريمة على أن من خالف أمر الله في إيقاع أكثر من واحدة فقد تعدى حدوده وظلم نفسه. ثم قوله لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا تنبيه على أن المتعدي أفسد على نفسه

طريق الارتجاع وسد بابه إن حدث له الإياب إليه ولا يقع الانسداد إلا بلزوم ما عقد على نفسه من الطلاق. الزائد على الواحد وإلا لم يقع إفساد ولا انسداد ولم يخالف في اللزوم أحد إلا من شد خلافه. ولأجل مخالفة السنة في إيقاع أكثر من واحدة كان من صدر عنه حقيقا بالأدب المؤلم. فعن عمر بن الخطاب –رضه- أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربًا وأجاز ذلك عليه. وحكي مثله عن علي بن أبي طالب رضه وقد روي عن رسول الله صلعم أنه أخبر أن رجلا طلق امرأته ثلاثا وفي طريق آخر أوقع ذلك بين يديه فقال: أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم وفي حديث ابن عمر أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا فقال له إذا عصيت وبانت منك امرأتك. قال في تنبيه الحكام وكثيرا ما يقع اليوم الناس في التساهل في ذلك وتطلب الفتوى بأن لا تلزمه إلا واحدة وهذا من أمرهم أنكر وأشد بلاء من الأول. فينبغي للحاكم حسم ذلك كله وقطعه بمنع الناس ابتداء من استعمال لفظ الثلاث والاشتداد عمن صدر منه بالأدب الرادع لأمثاله. كما قال الشيخ في رسالته ويؤدب من حلف بطلاق أو عتاق يلزمه ثم قال صاحب تنبيه الحكام وكذلك ينبغي عقوبة من أفتى في ذلك بأنها واحدة أشد وأبلغ في التنكيل والردع الزاجر لأمثاله لأن هؤلاء أهل الوسوسة والتشغيب على الضعفاء فواجب تفقد مثل هؤلاء وإزالته من نفوس العوام فهو اليوم فاش. قلت إنما يحسن هذا التغليظ والإرهاب بالوعيد على من أفتى بالواحدة. في حكاية ابن رشد الإجماع على أن الثلاث في كلمة واحدة لا ترد إلى الواحدة وأن من أفتى بأنها واحدة خالف إجماع فقهاء الأمصار فيجب نهيه وأدبه إن لم ينته وترد شهادته ولا تصح إمامته. هذا نص قوله في أجوبته ومثله نقل ابن عبد البر وغيره. وأما على إثبات الخلاف في ذلك وسند المخالف في احتجاجه فإكثار التشديد بالوعيد وضروب التهديد على من أفتى بذلك يوما ما أو لأفذاذ الرجال وخصوصا من تورط في يمين يؤديه الحنث بها إلى ما يشاكل التلف من إضاعة مال ومخصصة بنين من باب التعسف والإغراق والجموح في محل التقييد بالإطلاق. فقد ذكر القرافي إباحة الفتيا بشذوذ القول لغير الجبابرة من المستضعفين لما يدركهم من التورط باليمين والذي حكى الخلاف صاحب المقنع عن الصحابة فنقل عن علي بن أبي طالب رضه وابن مسعود أنه لا تلزمه إلا واحدة فيكون لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضه قولان فقد تقدم عنه مثل قول الجماعة ونقل عن ابن عباس أنها واحدة

وقال قوله ثلاث لا معنى له لأنه لم يطلق ثلاث مرات وإنما يصح في قوله ثلاثا إذا كان مخبرا عما مضى فيقول طلقت ثلاثا يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات كرجل قال قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات فذلك يصح ولو قرأها مرة واحدة فقال قرأتها ثلاثا كان كذبا وكذلك لو حلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة والطلاق مثله. قلت: ورأيت مثل هذا الاحتجاج المنقول عن ابن عباس لأثير الدين أبي حيان وعلى ظني أنه لم يعثر على ما تقدم ذلك لأحد قبله لأنه قال ما زال يختلج في خاطري أنه لو قال أنت طالق مرتين أو ثلاثا أنه لا يقع إلا واحدة لأنه مصدر لا طلاق ويقتضي العدد فلابد أن يكون الفعل الذي هو عامل فيه يتكرر وجودا كما تقول ضربت ضربتين أو ثلاث ضربات لأن المصدر مبين لعدد الفعل فمتى لم يتكرر وجودا استحال أن يتكرر مصدره دون تبيين رتب العدد. فإذا قال أنت طالق ثلاثا فهنا اللفظ واحد والواحد يستحيل أن يكون ثلاثا أو اثنين ونظيره أن ينشئ الإنسان بيعا بينه وبين رجل في شيء ثم يقول له عند التخاطب بعتك هذا ثلاثا فقوله ثلاثا لغو غير مطابق لما قبله والإنشاءات يستحيل فيها التكرار حتى يصير المحل قابلا لذلك الإنشاء انتهى كلام أبي حيان. ثم قال صاحب المقنع بعد نقل كلام ابن عباس وقال مثله الزبير بن العوام وعبد الرحمن ابن عوف روينا ذلك كله عن ابن وضاح وبه قال ن شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى ومد بن بقي بن مخلد ومجد بن عبد السلام الخشني فقيه عصره وأصبغ بن الحباب وجماعة من فقهاء قرطبة سواهم. وكان من حجة ابن عباس أن الله تعالى قرن في كتابه العزيز لفظ الطلاق فقال عز وجهه {الطلاق مرتان} يريد أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة ومعنى قوله: {أو تسريح بإحسان} يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها. وفي ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما قال الله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} يريد الندم على الفرقة والرغبة في الرجعة. وموقع الثالثة غير محسن لأنه ترك المندوحة التي وسع الله بها ونبه عليها فذكر الله تعالى للطلاق معرفا يدل أنه إذا جمع أنه لفظ واحد فتدبره فتأمل بنظرك وأجد استعمال فكرك هل يحسن أو يجمل أن يكون من

نسبت إليه هذه المقالة من هؤلاء الأشياخ الأكابر أولى النظر والاستدلال والترجيح والقياس حقيقا بالعقاب والأدب المبرح على اختيارها والإفتاء بها. ولو كان لنقل الاحتساب عليهم في التغيير والتقريع بتشديد مع أنه قد نقلها ابن التلمساني في نقل خليل عنه في توضيحه قوله في المذهب عن الشيخ أبي محمد بن زيد رضه في نوادره لكن اللائق أن يقال لا يصح إطلاق الأعنة وخلع القيود لكل مفت مع كل مستفت لكن لمن علا قدره علما وورعا مع من يبدو له وجه المصلحة القائمة في إفتائه بذلك هيئة وصفة كما قدمناه ومولانا سبحانه هو الملهم لنا رشد أنفسنا بفضله. منكرات الشوارع والطرقات وأما منكرات الشوارع والطرقات فمن ذلك ما كان في الأبنية ومنه ما كان في الطرق والأبنية ومنه ما كان في صفة المتصرفين والمتصرفات. فأما ما كان في الأبنية فكل ضرر عام تنال ضرورته الكافة والدهماء كالحائط المائل فإنه إذا ترك على الإهمال ولم يقع في شأنه إنذار لمالكه ولا مسارعة بالزوال أدرك من وقوعه بغتة إتلاف الأنفس والأموال إلا أنه مقيد بضمان مالكه لما أتلف بمجرد إنذاره في المشهور. وقيل من زيادة حكم الحاكم بعد الإنذار وقيل به مطلقا مع عدمهما. فأما الأول فهو نص ما في المدونة في كتاب الديات قال فيه والحائط المخوف إذا أشهد على ربه ثم عطب فيه أحد فربه ضامن وإن لم يشهد عليهم يضمن وإن كان مخوفا. ومثل الحائط في الحكم الكلب العقور والجمل الصؤول. قال فيها قال مالك ومن اتخذ كلبا عقورا فهو ضامن لما أصاب إن تقدم إليه فيه. وأما القول الثاني والثالث فنقلهما ابن رشد في سماع يحي قال في المدونة وسألت ابن القاسم عن جدار رجل بين داره وغيره مال ميلًا شديدًا حتى خيف انهدامه أترى للسلطان إذا شكا ذلك من يخاف من أذاه وضرره أن يأمر صاحبه بهدمه. فقال نعم ذلك واجب عليه أون يأمره بهدمه. قيل فإن شكا إليه ما يخاف من انهدام الجدار فلم يهدمه حتى انهدم على إنسان أو دابة أو بيت فقتل أو هدم ما سقط عليه أيضمن ذلك صاحب الدار؟ قال نعم يضمن كل ما أصاب الجدار بعد الشكية إليه فقال يحيى وإن لم يكن ذلك بسلطان فإنه ضامن إذا انهدم بعد أن أشهد عليه. قال الشيخ ابن رشد رحه تع قول يحيى إنه ضامن لمن أفسد الحائط إن انهدم بعد التلوم إليه والإشهاد عليه وإن لم يكن ذلك بسلطان مفسر لقول ابن القاسم ومثل

ما في المدونة وقد قيل إنه لا ضمان عليه إلا ما أفسد بانهدامه بعد أن قضى عليه السلطان بهدمه ففرط في ذلك وهو قول عبد الملك وقد قيل إنه ضامن لما أصاب إذا تركه بعد أن بلغ حدا كان يجب عليه هدمه وإن لم يتقدم إليه ذلك ولا أشهد عليه وهو قول أشهب وسحنون. وما أصاب الجمل الصوول والكلب العقور في الموضع الذي يجوز اتخاذه فيه يجري على هذا الاختلاف قلت ما ذكر في العقور والجمل الصؤول من تقييد ذلك بموضع يجوز اتخاذه فيه هو نص قوله في المدونة قال فيها قال ابن القاسم وذلك إذا اتخذه حيث يجوز له اتخاذه فلا يضمن ما أصاب حتى يتقدم إليه فيه وإن اتخذه بموضع لا يجوز له اتخاذه فيه كالدور وشبهها وقد علم أنه عقور ضمن ما أصاب قال ابن رشد في كتاب الديات من العتبية اتفاقا واختلف في الدية فقيل لا يكون على العاقلة شيء وهو قول ابن القاسم وقيل على العاقلة الثلث فأكثر وهو قول ابن وهب قال ابن رشد وقول ابن القاسم يلزم المحتسب أن يؤدب مقتني الكلب في غير محل اتخاذه أظهر لأن العاقلة لا تحمل إلا عمدا منها وفيها شبه من العمد لأنه متعمد في حبس هذا الحيوان المؤذي حيث لا يجوز له. قلت وكذلك يلزم المحتسب بتغيير المنكر أن يؤدب مقتني الكلب ومتخذه في غير محل اتخاذه كما قالوا لزرع أو ضرع قال الشيخ في رسالته ولا يتخذ كلب في الدور في الحضر ولا في دور البادية إلا لزرع أو ماشية يصحبها في الصحراء ثم يروح معها أو لصيد يصطاده لعيشه أو للهو. ومن ذلك إخراج روشن وساباط لاتخاذه مسكنا فوق قضاء الطريق فيجعله صاحبه منخفضا بحيث يضر بركبان المارة فيتقدم إليه برفعه أو إزالته. قال في نوازل سحنون في الذي تكون له الدار على يمين الطريق ويساره فيريد أن يرفع على السكة غرفة أو يتخذ عليها مجلسا على جداري داره فقال ذلك له وهذا مما لا يمنع منه أحد أن يتخذه إنما يمنع من الإضرار في التضييق بالسكة إذا دخل عليها ما أضر بها أو يضيقها. فأما ما لا ضرر فيه على السكة ولا على أحد من المسلمين فلا يمنع. قال ابن رشد رحه تع هذا كما قال إن ذلك له ولا يمنع منه إذ لا ضرر فيه من الركبان ذلك على الطريق ولا على المارين فيها إذا رفع البناء رفعا يتجاوز رؤوس المارة فيه من الركبان ونحو هذا في الزاهي لابن شعبان قال والأجنحة الشارعة ترفع على رؤوس الركبان رفعا بينا. وإذا اختلف البانيان المتقابلان في الفحص فيما يجعل للطريق أو تشاحا فأراد واحد منهما أن يرفع جداره من جدار صاحبه جعل الطريق سبع أذرع بذراع البنيان.

ميزاب المطر فإن ابتنى كل واحد منهما ميزابا للمطر على الطريق لم يمنع. قلت هذا الذي ذكره من إباحة عمل الميزاب على الطريق تأباه نصوصهم في أن الضرر العام لا يمنع باتفاق. فمن ذلك ميزاب الطريق ونحوه إلا أن يقال إن كلامه في طريق الفحص فليس في الفرق بينه وبين طريق شوارع البلد وجه مناسبة إذ الضرر حاصل بذلك للمارة في كليهما. وأما ما كان في الطريق والأفنية فمن ذلك اقتطاع شيء في محجة المسلمين وجادة طريقهم يزيدها المقتطع في ملكه جنانا أو دارا أو غيرهما فوقع في سماع ( .... ) المنع من ذلك وهدم ما بني في محل الاقتطاع والازدياد من الطريق واختلف المذهب هل ذلك على الإطلاق سواء أضر بالطريق وأحدث فيها ضيقا ينقص عن ثمانية أذرع أم لا وإنما ذلك مخصوص بما تبين الإضرار فيه بالنقص عن العدد المذكور فالقول الأول هو الذي عليه الأكثر والقول الثاني قال الشيخ ابن رشد أظهر. قال رحه وكل مجتهد مصيب وقد نزلت بقرطبة قديما واختلف العلماء فيها فأفتى ابن لبابة وأبو صالح وأيوب بن سلمان ومجد بن وليد بالقول الثاني وهو أن يهدم المستزاد من الطريق إذا كان ذلك يضر بها وأفتى عبيد الله بن يحيى وأبوه يحيى ويحيى بن عبد العزيز وسعد ابن معاذ بالقول الأول وهو أن يهدم ما يزيده منها على كل حال. قلت فإذا الواجب على الناظر في مناكر الشارع تفقد مثل ذلك إما لهدمه مطلقا أو لهدم ما أضر بالتضييق. الأبواب التي بأفواه السكك ومن ذلك المنع من جعل باب على الرحبة والفناء الذي لأرباب الدور ملكه بل الانتفاع به لما للمسلمين في ذلك من الارتفاق إذا ضاق الطريق بهم ففي سماع ابن القاسم وسئل عن رجل له دوران وهما في رحبة وأهل الطريق ربما ارتفقوا بذلك الفناء إذا ضاق الطريق من الأحمال وما أشبهها يدخلون فيه فأراد أن يجعل عليه لحاقا وبابا حتى تكون الرحبة فناء له وحده ولم يكن على الرحبة باب ولا لحاف قال ليس ذلك له. قال الشيخ ابن رشد رحه تع هذا كما قال ليس له أن يجعل على الرحبة لحاقا ولا بابا

ليختص بمنفعتها ويقطع ما للناس من الحق في الارتفاق بها لأن الأفنية لا تحجر وإنما لأربابها الانتفاع بها وكراؤها فيما لا يضيقها على المار فيها من الناس قلت ففي مقتضى هذا الفقه منع عمل هذه الأبواب التي بأفواه السكك لكن قد يقيد المنع بما لم تعلم له أصالة وضع باب فلا يترك لذلك يريد الإحداث يدل عليه آخر الكلام في الرواية حيث قال ولم يكن على الرحبة باب ولا لحاف أو يكون مقيدا بما جعلت الباب عليه للتحجير الذي يشبه تحجير الدور لأن الباب في الغالب إنما هي آلة للتحجير فمتى فقد كونها آلة لذلك ساغ عملها كما في أدراب بلدنا فإنها لا توجب حجرا بالنهار على مصالح العامة وسائر المارة وإنما مصلحة أبوابها لسدها ليلا. وفائدة ذلك لدفع ضرر الاختلاس والتحبس للفسق والسرقة معلومة أو يقال إنما ذلك في الشارع المتسع النافذ وأما الضيق وما كان من السكك غير نافذ فلا فناء له فلا يتناوله المنع من التحجير باب ولا غيره لأنهم قالوا إن غير النافذة كالملك لأهلها. إلقاء الأزبال بالأفنية والطرق ومن ذلك إلقاء الأزبال بالأفنية والطريق فتتأذى المارة إما بالتضييق أو اللوث والتنجيس فما كان فيه بلل منها ورمي ذلك على ملقيه إن علم وإلا فعلى المجاورين للمكان كنسه ورميه يؤخذ به الأقرب فالأقرب وعلى هذا القول العمل. ومن ذلك ما يجمع بالطرق من تكديس الرحاضات وطين المطر ونحوه قال في "تنبيه الحكام" لا يتخذ بعض الناس مما يؤدي إلى أذى المسلمين والتضييق في الشوارع عليهم كتكديس الرحاضات المستخرجة من سروب المحلة وقنوات تلك الحارة وتركها كذلك في المواضع الضيقة بحيث يتنجس المار وقد (يقع) فيها الصبيان والماشي ليلا وربما كان المطر وسال بعض ذلك مع الماء وخالط كثيرا من طرقات المسلمين فعظمت المضرة به واشتدت المصيبة. قلت ولم يذكر على من كنسه وفي "أحكام السوق" للشيخ يحيى بن عمر قال في طين المطر يكثر بالأسواق وربما أضر بالمارة والحمولة ليس على أرباب الحوانيت كنسه لأنه ليس من فعلهم فلو جمعه أصحاب الحوانيب وسط السوق أكداسًا فأضر بالمارة والحمولة وجب عليهم كنسه قال بعض الشيوخ من المتأخرين وعلى الأول فهل هو على المكترين أو على أرباب الأملاك وعندي أنه يتخرج على كنس المراحيظ وما فيها من الخلاف

والتأويل من الفرق بين ما كان فيها أو ما يكون والفرق بين دور الفلاة المعدة لذلك كالفناديق وبين غيرها. قال وأما لو اجتمع طين المطر من كناسات وأنقاض فلا خلاف عندي أنه على صاحب الكناسات أو الأنقاض إن كان ذلك باختياره وأما لو نقله السيل إلى محلة قوم أو وسط الطريق فيأتي على مسألة إذا نقل السيل ثمرات فدان أو زرعه إلى فدان آخر وهي في آخر كتاب الدور من المدونة. قلت ما ذكر هذا الشيخ في حكم ما نقله السيل من تراب أو أنقاض ونحوها مخرجا هو نص ما نقل ابن يونس عن سحنون في كتاب ابنه ومثله في النوادر. قال إذا قلع السيل تراب أرض وأوصله إلى أرض أخرى فليس على رب الأول إزالته لأنه ليس من فعله ووقع في جامع " الأحكام" ما نزل بالمفتيين والحكام الجواب عن طين الأسواق والحارات وعن الماء النجس ينزع من الآبار فيضر بالمارة إذا كان زوال ذلك لمصلحة أجبروا على زواله ويزيل كل قوم ما يقابلهم ويمنع إجراء النجاسات في الطرق وفاعل ذلك مأثوم هـ. إلقاء الجيف بالطرقات ومن ذلك جيف الحيوان غير الآدمي إن كانت في الشوارع فحكمها في حملها على ما تقدم في الكناسات والرحاضات وإن كانت ميتتها في دار شخص وهي لغيره فقيل حملها على مالكها وقيل على رب الدار نقلهما صاحب الطرر ورجح الأول بأن مالكها لما كان من حقه أن يطعمها لكلابه إن شاء كان عليه طرحها دون من ماتت عنده. الميازيب التي تقطر بالنجاسة واتخاذ مرابط الدواب على الطرق ومن ذلك قال في " تنبيه الحكام" ما يكون من قطر الميازيب التي تجري بالغسالة والنجاسة في موضع لا يكاد المار يسلم من لوثها وكذلك اتخاذ مرابط الدواب على الطرق بحيث ينال المارين من ضيق المواضع بها وتعذر الجواز بروع كثير من الناس مضرة ظاهرة وربما أدركهم شيء من تلويث ثيابهم وتنجيسها بما يكون من أرواثها وأبوالها. قلت ظاهر قصره هذا الحكم بالمنع على ما يقطر من الميازيب بالغسالة والنجاسة أن ما كان بالماء الطاهر فلا يمنع والحد أنه على أصل المنع كما قدمناه لحصول الضرر العام

للمارة لا سيما بما يحدث عنه من رطوبة التراب وبلته فتؤدي لزلق المار وسقوطه. وقد قالوا بمنع ما أدى لمثل ذلك في طريق الفدادين والفحوص فكيف بشوارع الحواضر وطرق المسلمين. ذكر في "جامع الأحكام" عن الإمام المازري لما سئل عن قصرين متجاورين وبينهما طريق واسعة فعمد قوم فبنوا ساقية في الطريق تخرج إلى فدان لهم فأضرت بالمارة فلا يقطعونها إلا تكلفا وإذا نزل الشتاء تزلق الطريق فقام محتسب في ذلك بعد أعوام كثيرة فهل لهم حق في ذلك أم لا؟ أجاب بأن قال صلعم لا ضرر ولا ضرار ولا يجوز لأحد أن يحدث في طريق المسلمين ما يضرهم في تصرفهم وممرهم وعليهم فيه حرج ومشقة وينتهي عنه أشد النهي. ويجب على من بسط الله يده من حكام المسلمين زجره عن ذلك فإن لم ينته عاقبه عقوبة يرجع به عن فعله ولا يتسامح بمثل هذا لأنه يؤدي إلى تسامح الناس فيه ومن لا قائم له فالحاكم هو النائب عن المسلمين فيه وما ذكر من إحداث الضرر والحال بالطريق فلا خلاف في منعه ولم يزل الشيوخ يذكرون ضرر المساقي المحفورة في الطريق أو يجعل لها جسر ويضر بالمارة لا سيما زمن الشتاء أنه يتقدم في ذلك لصاحبها حتى يصلحها ويعاقب عليه إن لم يفعل وتكرر منه هـ. وقد حكى الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عرفة رحه أن بعض عدول تونس يعرف بابن عبد العظيم كان له موضع بالقبلة فجعل له مسقي في الطريق فبلغ ذلك قاضي الجماعة فأمر بالخروج إليه وأنه إن فعل فهو جرحة في حقه فأنهي إليه قبل خروج العرفاء هذا الكلام فقدم إليه من أصلحه وأعفى أثره فلم يجدوا شيئا فسلم من العزلة. بسط الخرازين قلت ومن أشد ما قامت به مظنة التزليق والعثار ما يفعله الخرازون عندنا من بسط جلود البقر بمحجة الطريق لتنالها أقدام المارة فيحصل فيها ذلك قريب مما يحصل بالدبغ. إيقاف الدواب ومن ذلك إيقاف الدواب بالخشب والحطب بحيث يقع التضييق بذلك على المارة وكذلك احتيازها بالشوك لما يؤدي إليه من تمزيق الثياب وكذلك ذبح الجزور بالطريق كل ذلك

من منكرات الشوارع الممنوعة قاله ابن الحاج في نوازله. وكذلك الميازيب الجارية من الدور على الطرق حسبما قدمنا ذكره ولم يقيد هنا بغسالة ولا غيرها. تنبيه: قال في "تنبيه الحكام" وأما إن أمن الأذى وخف كما لو جمعت الرحاضة بقدر ما تنقل من غير تراخ يكثر أو وقف رجل دابته على الطريق بقدر ما يركب أو ينزل أو يشد عليها حمله أو الرحل يباح له اتخاذ الكلاب بكلب موثوق في يده أو وضع صاحب الحطب والشوك أطرافه وشدها بحيث لا تؤذي في الغالب أو مر بها في المواضع الواسعة التي يمكن التحرز منها: ولا يتعذر العدول عنها: فكل ذلك على هذه الصفة مباح لأن بالناس ضرورة إلى مثل ذلك فلا يصح منعه على الإطلاق إلا بشرط وجود الأذى وغلبة وقوعه بعرف العادة. بناء الدكاكين بين أيدي الحوانيت ومن ذلك بناء الدكاكين بين أيدي الحوانيت في بعض الأسواق وربما يضر بالمارين ويضيق عليهم عند اصطدام الأحمال وكثرة الناس فقال في "جامع الأحكام" لا خلاف في هدمه إذا أضر بالمارة وزواله إذا ضيق حتى لا يبقى له رسم وغلته مردودة لا تترك للمغتل وتصرف للفقراء ولا تنفع الحيازة في ذلك على العامة ومن ليس له ملك معلوم وما لا يضر والطريق واسعة فاختلف هل يمنع أو يباح. وقد هدم عمر كير حداد وقال تضيقون على الناس الطريق وقال مطرف يمنع ولو كانت مثل البيداء وهو الصواب وإنما يكون ذلك سائغا بالفناء للقاعد للبيع مع قوة الحاجة وعن بعض أهل العلم إن طال جلوسه فيه للبيع أزيل والطريق كالمسجد من حبس فهو أحق ومن قام سقط حقه. وفي النوادر الاختلاف في الطرق هل يملك منها شيء أم لا والصواب المنع ولو كان أوسع من البيداء. باب السويقة بتونس قال الشيخ أبو القاسم البرزلي قد نزلت هذه المسألة بباب السويقة وغيرها من أسواقها ولم يزل القضاة بتونس يوقفون ويحتسبون عليهم لكن العامة تغلب والصواب مراعاة الضرر

حيثما ثبت في حق العامة قطع لأنه أكبر وإذا لم يثبت في حق العامة روعي الضرر الأصغر كما اختاره المازري وأفتى به ونقله عن شيخه في فتح الأبواب وتحويلها وغير ذلك من الضرر إذ المفتي عنده أخف الضررين وإنه يفتي به منذ خمسين سنة. ما للبهائم الحاملة ومن ذلك ما للبهائم الحاملة للثقل على ظهرها من الحق في الترفق والتوسط في قدر المحمول فخير الأمور أوسطها قال في "تنبيه الحكام" وقد يستحق بعض الناس من أذى البهائم والعنف على بعض الدواب كإثقالها بالأحمال التي لا تستقل بها وإرهاقها في سرعة المشي بالضرب والزجر الشديد حتى يستخرج منها فوق وسعها مثل ما اعتيد فعله الآن من الحمالين للزرع والنقالين للحجارة والجص والخدمة من الرمالين ونحوهم فهذا من المناكير التي يجب الاحتساب فيها ومنعهم منها وصرفهم على كل حال عنها. وسواء كانت الدابة لمثقلها أو لغيره ولا حجة في كونها ملكه فإن تعذيب الحيوان محرم وحفظ النفوس واجب حتى لو اتفق أن يرى أحد وقد حمل نفسه فوق ما يطيق مثل لك وعنف عليه عنفا يظهر منه سوء نظره لها لمنع من ذلك وقهر على إزالته وجوهد عليه إن أباه. قلت والأصل في ذلك ما وقع في جامع الموطأ أن عمر بن الخطاب رضه كان يذهب إلى العوالي كل يوم سبت فإذا وجد العبد في عمل ثقيل لا يطيقه وضع عند منه بقدر ما يظهر له فإذا كان التغيير في حق العاقل الذي يخبر عن مضرته ويعلم بشكيته فكيف بالعجماء الذي لا يعلم ضرره وما به غير ربه أو من ألهمه الله الاحتساب بمصلحته. المناكر المتعلقة بصفات المتصرفين وأما ما كان من صفات المتصرفين والمتصرفات فمن ذلك تحرك السكارى المتجاهرين بسكرهم وبما ينشأ عنه من العرابد وعبث القول وما أشبه ذلك من منكر أحوالهم فواجب على مغير المنكر كف أذيتهم المصاحبة للتظاهر منهم بهذا المنكر الذي هو على ما قال بعضهم أشر من غيره لقول الحكيم في حكمته جعلت المعاصي كلها في بيت وجعل الخمر مفتاحها. فيسارع بالسكران إلى السجن حتى يضيق ثم يجلد ثمانين سوطا حدا من حدود الله تع.

قلت ولولا أن القتل في حقه مع الإدمان شذوذ ولو قال العلماء بأن ما ورد فيه من الأحاديث منسوخ لكان حقيقا به ولكان الحكم به شرعا بادي المصلحة لأن صون العقل أفضل من صون المال إذ العقل الذي هو مناط التكليف به شرف الإنسان على سائر الحيوان. وقد جعل الشرع حدا في سرقة ربع دينار قطع أسمى أعضائه التي بها يتصرف في حفظ حياته وإقامة نمائه إلا أن يقال إن السرقة محض عداء على مال الغير الذي لا شبهة للمعتدي فيه فكان متلفه على مالكه حقيقا بإتلاف عضوه الفاعل ذلك بخلاف السكر فإن مدخله على بطنه تعدى على إتلاف قتل نفسه الذي له فيه شبهة ما من التصرف لكن هو ممنوع من التصرف فيه بالنقص كما هو ممنوع من التصرف في المال بالسفه والإتلاف المحض وكانت عقوبة الحد كافية في السكر كما هو الضرب على اليد والمنع من التصرف للسفيه كاف في عقوبته لشبهة الملك في المال وما يقم مقامه في العقل وليس كذلك السارق لفقد وجه الشبهة فيه فتأمله فلعله فرق واضح إن شاء الله تع. وما أشرنا إليه من هذا الفقه في حق السكران المدمن وقع في سماع أشهب وابن نافع قال وسألته عن المدمن على الخمر أيجلد الحد كلما أخذ قال نعم وأرى لو ألزم السجن إذا كان مؤمنا خليعا وقد سجن عامر بن عبد الله بن الزبير ابنا له ماجنا حتى جمع كتاب الله فأتي فقيل له قد جمع فيه كتاب الله فخله فقال ما من موضع خير له من موضع جمع فيه كتاب الله فأبى أن يخليه. قال الشيخ ابن رشد رحه تع قوله في المدمن على الخمر إنه يجلد كلما أخذ هو أمر متفق عليه وعليه جماعة فقهاء الأمصار وما روي عن النبي صلعم من رواية معاوية بن أبي سفيان وعبدالله ابن عمرو بن العاص وأبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي أنه يقتل في الرابعة وقول عبد الله ابن عمرو بن العاص إيتوني برجل شرب الخمر أقيم عليه الحد ثلاث مرات فإن لم أقتله فأنا كذاب وما روي عن أبي سليمان مولى أم سلمة أن أبا الزبير البلوي أخبر أن رجلا منهم شرب الخمر فأتى به رسول الله صلعم فضربه فأتي به الثانية فضربه فما أدري قال في الثالثة أو في الرابعة فأمر به فضربت عنقه تعلق به من شذ من أهل العلم. والذي عليه جماعة العلماء أن ذلك منسوخ بدليل ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صلعم من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن عاد فاجلدوه ثم إن عاد فاجلدوه ثم إن عاد فاجلدوه. فأمر في الرابعة بالحد ولم يأمر بالقتل. وروي عن محمد بن المنكر أنه حدث أنه بلغه أن رسول الله صلعم قال في شارب الخمر: إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب

فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه. فأتي ثلاث مرات برجل قد شرب خمرا فجلده ثم أتي به الرابعة فجلده ووضع القتل عن الناس. وقد دل على نسخه أيضًا قول رسول الله صلعم: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث أن يكفر بعد إيمانه أو يزني بعد إحصانه أو يقتل نفسا بغير نفس أو كما قال صلعم فقد روي هذا الحديث عن النبي صلعم بألفاظ مختلفة ومعان متفقة واستحسان مالك للخلع المدمن للخمر أن يلزم السجن كما فعل عامر بن عبد الله بن الزبير بابنه الماجن نظر صحيح. لأنه إذا كان لا يكف عن شرب الخمر ولا يقلع عنه بالحد كلما أخذ بإلزامه السجن أحوط لدينه وأبقى على جسمه. إعلان النساء بالنوح ولطم الخدود ومن ذلك ما كثرت المجاهرة به بإعلان النساء بالنوح ولطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور واجتماعهن لذلك قد يكون في مقر يستأذن بعضهن بعضًا إليه يسمينه بالزحف وربما ضربن عليه بالدف والمزمر ويخرجن في الأزقة عاليات الأصوات باديات الوجوه فذلك أعظم المناكر قال صلعم: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقدم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب. وقال صلعم ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. وفي " أحكام السوق" لابن عمر قال لا يجوز اجتماع النساء للبكاء بالصراخ العالي والنوح والنهي فيه قائم سواء ذلك عند الموت أو بعده وقبل الدفن أو بعده بقرب أو بعد وأما بكاء ليس فيه صراخ فظيع فلا ينهين عنه ولا للإجماع له وهو عندي ما روي عن عمر بن الخطاب حين قيل له في أمر خالد بن الوليد إن هنا نسوة اجتمعن للبكاء على خالد وقال دعهن يرقن من دموعهن على أبي سليمان. فإن اجتمع النساء للطم الخدود والصراخ عند موته فليأمرهن برفق وليزاول مدة فإن عدن فلينههن ويغلظ عليهن فإن أبين فليهجم عليهن بالضرب والطبع عليهن وخلع أبوابهن ويعاقبن ولا يبيح لهن أن يفعلن ما لا يحل لهن. قال في "تنبيه الحكام" وربما اجتمع إليهن الرجال للتعرض بالنظر وما فوق النظر فواجب مهما عثر عليه القبض على فاعله وإبلاغ العقوبة فيه. إلا أنه ينبغي من جميل الأخذ فيما اعتاد الناس من ذلك أن يتقدم الحاكم إلى الناس في مثله بالإعلان والإعلام بالبدار أو إشعار العقوبة ليتسامع النساء ذلك فيتجنبنه ويكن على حذر من الوقوع بهن فيزعهن وازع الخوف. فمثل هذا واجب قبل القبض عليهن لأن الناس قد اعتادوا ترك القيام فيه فإغفال الإنكار

داعٍ إلى أخذ النساء على غرة وقد يكون في ذلك بعض الفتنة وصدم كثير من الأماثل والمستترات اللاتي لو تخيلن ذلك ما قدم عليه أو لمنعهن منه أولياؤهن ولما تساهل فيه من عادته التساهل بحرمات الله تع ما لم يزعه قهر السلطان فينبغي تفقد مثل هذه الأنواع في الشوارع والمحلات وحيث يبدو أثر المجاهرة به تفقدًا كافًا لأهله ورادعًا عن مثله يعظم الله فيه الأجر ويدرأ به علائق الشر. خروج النساء متزينات بأنواع الزينة ومثله اجتماعهن للملاهي والرقص الذي ليس من طور العقلاء ومن ذلك تصرفهن بأنواع الزينة البادية وأسباب التجميل الظاهرة على اختيال في المشي وإعمال منتشر الطيب وإظهار ما يستدعي الفتنة فمثل هؤلاء ينبغي منعهن من التصرف على هذه الحالة. قلت لقوله صلعم: أيما امرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية. نقله ابن رشد في شرح الجامع من المستخرجة ومن ذلك ما قال في "تنبيه الحكام" يجب منعهن فيما بينهن من المآتم والحمامات ونحوها من الاسترسال في إظهار ما يخفى من محاسنهن ومصون أجسامهن وما يدعو إلى إطلاع بعضهن على ما لا يحل لها من الأخرى فإن المرأة أكثر محاسنها وخفايا جسمها يحكم لها بحكم العورة فيجب ستره عن النساء كما يجب ستره عن الرجال. ما يفعله شرار النساء من التفاعيل قلت: لا سيما ما يدعو إليه إطلاع بعض الفاسقات على محاسن الأخرى من تحرك شهوة التفاعل الذي يختار بعضهن لذته عن مباضعة الرجل. والحكم في أدبهما على قول ابن القاسم راجع إلى اجتهاد الحاكم وهو المشهور وعلى من أنزلت منهن الاغتسال. قال بعض المتأخرين وكثر ذكر هذه المفسدة في هذا الزمان والذي يظهر من درئها في هذا الوقت أن من علم هذا من وليته أن يمنعها من المواضع الموهمة أن يخرج إليها وإن تمادت عليه جعل عليها أمينة ذات محرم منها وإن لم ينفع ذلك فيها قيدها في داره كما وقع لحمديس في الذي قال عثرت على مرد بطالين يفسدون بالدراهم وقيدتهم في أرجلهم فصوب فعله وقال احبسهم عند آبائهم لا في السجن. وعن أشهب أيضًا في المتهم الصغير يحبس على قدر جرمه يريد يحبس حيث لا يخاف عليه.

حديث من أشراط الساعة وحكى الطرطوشي في " كتاب البدع" من طريق سلمان عنه صلعم: أن من أشراط الساعة أن يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وتركب ذات الفروج السروج فعليهم من أمتي لعنة الله وفيه ويغار على الغلام كما يغار على الجارية البكر ويخطب كما تخطب النساء فقال أويكون ذلك قال نعم يا سلمان. دخول النساء الحمام وأما دخولهن الحمام فأصله الإباحة لأنه من نعومات الأبدان غير أنه لا يقضى على الزوج به للزوجة إذا انتفعت موانع الدخول لأنه ليس من الضروري كالقوت واللباس والسكنى فإن وقع الاضطرار إليه قضى عليه به. قال ابن الحاج في "نوازله" ولا يقضى لها عليه بدخول الحمام إلا من سقم أو نفاس وقال في الرسالة ولا تدخله امرأة إلا من علة قال أبو إسحاق يريد مالك بالخروج إلى الحمام ولم يرد أجرة الحمام. قلت يريد إذا أخلي لها أما حالة الاجتماع مع غيرها فلا. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد إن خلالها فأرجو لها صحته. قيل له فإن سترت نفسها كما يفعل مع الرجال فما وجه الكراهة فقال لأن المرأة عورة ولا محل لها أن تبدي محاسنها للنساء. قال بعض الشيوخ. وهذا على أحد القولين أن المرأة مع مثلها ذات المحرم أو كمثل الرجل الأجنبي معها وهو قول عبد الوهاب في شرح الرسالة وأما على مذهب من يراها مع مثلها كالرجل فتجري على أحكامهم في الدخول وهو الذي صحح ابن رشد رحه تع وجعل القول الأول مقيد الصحة. وقد شاع في هذا الوقت وذاع أن النساء لا يستترن بحال إلا القليل وذلك القليل يرى عورة غيره فأراه مجمعا على تحريمه إلا أن يخلو لها الحمام أو تكون مع من يجوز له الاطلاع عليها. هل يجوز للنساء النظر إلى الأجانب من الرجال لغير ضرورة ومن هذا المعنى ما سئل عنه عز الدين هل يجوز للنساء النظر إلى الرجال الأجانب من غير حاجة أو لا وإذا كان في البيت طاق ينظر منها إليهم فهل يجب على الزوج سد تلك الطاق أم يكفيه أن ينهى عن النظر؟ فأجاب بأنه لا يجوز للمرأة النظر إلى من يشتهيها وتخشى الافتتان

به. وإذا نهى الزوج عن ذلك امرأته ولم تنته لزمه سد الطاق لوجوب إزالة المنكر باليد والفعل إذا لم يفد القول. ومتى قدر على الحيلولة بين العاصي وعصيانه باليد لزم ذلك هـ. قلت وما قاله ظاهر إذا خشيت الفتنة. وأما إذا لم تخش ففيه المسألة خلاف فيما يجوز للمرأة أن تراه من الأجنبي وفيما تراه ذات المحرم من ذي رحمها والعكس. قال في "جامع المستخرجة" وسمعت مالكا يحدث أن عائشة زوج النبي صعلم دخل عليها رجل أعمى وأنها استحيت منه فقيل يا أم المؤمنين إنه أعمى لا ينظر إليك قالت ولكني أنظر إليه. قال ابن رشد رحه تع قد روي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صعلم مع ميمونة فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مهتوم فدخل عليه وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال رسول الله صلعم أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه. وهذا خاص بأزواج النبي صلعم بخلاف غيرهن من النساء والله أعلم. بدليل قول النبي صلعم لفاطمة بنت قيس اعتدي عند ابن أم كلثوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك حيث شئت فيصح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما يصح للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه. وقد قيل إنه لا يصح للمرأة أن تنظر من الرجل ما لا يصح للرجل أن ينظر منها على فعل عائشة رضها تع في احتجابها من الرجل الأعمى وعلى ظاهر قول الله تع لأنه قال: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وقل للمؤمنات بغضضن من أبصارهن} عما لا يحل لهن النظر إليه وقد بينت السنة في حديث فاطمة بنت قيس أن النساء في ذلك بخلاف الرجال فتنظر من الرجل الأجنبي إلى ما ينظر إليه الرجل من الرجل وكذلك تنظر المرأة من المرأة إلى ما ينظر إليه الرجل من الرجل. إفتاء العقباني قلت ولذلك أفتيت حين ورودي من سجلماسة في ربيع الثاني عام ثمانية وخمسين وثماني مائة بجواز ما استمر ببلدنا تلمسان قديما فعله من إجماع النساء صبيحة الثاني يوم من إقبار الميت على القراء العميان لتحصل مثوبة تلك القراءة لميتهم عملًا بقول من قال ذلك لما وجدت المنع قاطعا للعميان من ذلك في خلال غيبتي فعادوا لما كانوا عليه فباحثني بعض الفضلاء من الأصحاب في ذلك فأمليت عليه ما صححه ابن رشد ما ثبتت الصحة عنه وأن فتواي صادفت الصحة وعلى ما اقتضته درجة السلف والخلف من علماء بلدنا رضهم ولا نكير فقال لي إن منهم من يذكر بالفسق مع كف بصره وإنه يحضر مع المجان في مجالسهم: فقلت له: إن كان ماجنا

فلا يتهم بالسوء إلا في مواضع التهمة أما محل اجتماع الكافة من النساء على تحزن وتفجع عند حفرة من حفر الآخرة فمقطوع بسلامته من الريب ولم يبق إلا مجرد نظر النساء إليه مع كونه لا ينظر إليهن لما قدم به من وصف العمى فقد تقررت إباحته وصحة القول بها. فإن قلت أليس قد قدمت أن أصالة الحكم في دخول الحمام الإباحة وأين ذلك من قول مالك في العتبية والله ما دخول الحمام بصواب فكيف يغتسل من ذلك الماء هل هذا الصادر من قوله ينفي الإباحة أقل محتملاته الدلالة على الكراهة. قلت أما أصل الإباحة فلا معارضة فيه إلا بتكلف المباهتة كسائر المباحات التي يربو بها بدن الإنسان وينمو وإنما جاء عارض الكراهة لأوصاف تلازمه، في الغالب ومهما عري عنها بقي على أصله من الإباحة وذلك أمران أحدهما تسخينه بالأقذار والنجاسات والثاني أنه تختلف أيدي الناس فيه لأخذ الماء فقد يكون يتناوله بيده من لا يحتفظ بدينه فينماع فيه شيء مما تعلق بيده من الأذى. وبذلك تأول في البيان ما وقع في العتبية من الكراهة وجامع القول في تفصيل ما يحل ويحرم وما يكره للرجال والنساء من دخوله فقد أحاط به قولا وتعليلا كلام الشيخ بن رشد في سماع أصبغ من جامع كلامه في فصل يخص ذلك آخر المقدمات في الجامع منها ومثل ذلك في تبصرة اللخمي فمن أراد شفاء غليله طلبه هنالك لما في جلبه إلى هنا من الإطالة التي لسنا بسبيلها في هذا المختصر. وفي كلامه هنالك مع كلام عز الدين في بعض أجوبته شكل تخالف في بعض الصور وذلك أن ابن رشد قال إن دخول المستتر الحمام عند ابن القاسم مع المستترين مكروه مخافة أن يطلع على عورة أحد بغير ظن إذ لا يكاد يسلم من ذلك من دخله مع عامة الناس وأما دخوله غير مستتر أو مع من لا يستتر فلا يحل ذلك لأن ستر العور فرض ومن فعل ذلك كان جرحة فيه وقدحا في شهادته وظاهر كلام عز الدين أنه إن ستر نفسه فلا حرج عليه من عدم ستر غيره فقد سئل عمن يدخل الحمام فيجلس بمعزل عن الناس إلا أنه يعرف بالعادة أنه يكون معه في الحمام من هو كاشف عورته هل يجوز له حضوره على هذا الحال. فأجاب بأنه يجوز حضور الحمام فإن قدر على الإنكار أنكر ويكون مأجورًا على إنكاره وإن عجز عن الإنكار كره بقلبه فيكون مأجورا على كراهيته ويحفظ بصره عن العورات ما استطاع ولا يلزمه الإنكار إلا في السوءتين خاصة لأن العلماء اختلفوا في قدر العورة فقال بعضهم

لا عورة إلا السوءتين ولا يجوز الإنكار على من قلد بعض أقوال العلماء وما زال الناس يقلدون العلماء في مسائل الخلاف فلا ينكر عليهم فلا يجوز للشافعي أن ينكر على المالكي فيما يعتقد الشافعي تحريمه والمالكي تحليله وكذا سائر مذاهب العلماء هـ. فقد قال ابن رشد لا يحل دخوله مستترًا مع غير مستتر وذلك جرحة فيه إن فعله. وقال عز الدين يجوز له الحضور إلا أنه ينكر بلسانه أو بقلبه ويكف بصره ما استطاع. وبين القولين تبيان لم يتضح معه فيهما جمع بتأويل فتأمله. ما يفعل بمن دخل الحمام غير مستتر قلت كل هذا القول وتسطير الفقه المنقول إنما هو في حكم الداخل للحمام في حق نفسه فما حكم ما يفعله مغير منكره وعلى فاعل ما لا يحل به من كشف العورة ونحوه فذلك الذي أنت بسبيله قلت حكم ما يفعله فيمن وجده مكشوف العورة فيه الأدب والإيلام بالقول والفعل وعلى قاعدة الآداب في تفاوتها فليس فعله ذلك مع ذي الهيئة وصاحب الفلتة كفعله مع المتكرر منه ذلك لعدم مبالاته بفضيحة نفسه وكذلك يجب تأديب المتقبل للحمام على إيقاع المنكر لديه كبيت الخمار ودور أهل الفسق إذ كشف العورة مثل ذلك وأشد. ففي "أحكام السوق" كتب بعض قضاة ابن طالب إليه في حمام ابن الراسود ضاق أهل المرسى منه ورأوا فيه منكرا عظيما فكتب أحضر المتقبل للحمام ومره ألا يدخل إلا مريضة أو نفسا ولا يدخل الرجل إلا بمئزر فإن ركب النهي بعد هذا فاعقل الحمام وأدخل المتقبل السجن. قال يحي بن عمر ويعاقب من يدخل الحمام بغير مئزر عقوبة موجعة وتطرح شهادته حتى تعرف توبته. قال الشيخ في رسالته ولا يدخل الرجل الحمام إلا بمئزر. قلت قوله يعقل عليه الحمام يعد ارتكابه ما نهي عنه هو مثل ما سلف من قول ابن القاسم في دار الفاسق الذي كان يأوي إليه الفساق. قال يخرج من منزله وتحاز عنه البيوت بعد التقدم إليه مرة أو مرتين فإن عاد أكري عليه.

اجتماع النساء للتويزة ومن ذلك خروج النساء لمجالس تجمعهن كما يفعل عندنا في مجتمع يسمونه التويزة يغزلن عند امرأة واحدة في منزلها ما تدعوهن لغزله من كتاب أو صوف إعانة ورفقا. قال في "جامع الأحكام" وكذا خروجهن اليوم لمجالس النساء واجتماعهن بعضهن ببعض لما ينتج عن ذلك من التعرض لأخذ مال الزوج أو فتنة الصغار منهن بهروبهن عن أزواجهن وكثرة خروجهن في الأزقة وتعرضهن للفتن. وقد كان يقال لا شيء عليهن أضر من كثرة الخروج ومن انتصبت منهن لهذه المجالس فإنما هو لجمعهن الدنيا وتخليق النساء عن أزواجهن وذكرهن في مجالس ما يخالف طرق الشريعة ويجب على من ولاه الله النظر في أمور المسلمين أن ينظر في ذلك بقطع مادة مفسدتهن. قلت وأما ما يقع في بلدنا ووطننا من اجتماعهن على احتفال أو تزين فيحلقن دائرة على رجل غير محرم يغنيهن ويطربهن فمحرم اتفاقا أعاذنا الله مما يردي فاعله في النار ويحق عليه عقاب المنتقم الجبار. قال في "جامع الأحكام" وتعليمهن من القراءة ما يصلين به حسن ويمتنع تعليمهن الشعر والرسائل وترك تعليمهن الخط أصون ومن خروجهن إلى المقابر ولا حاجة لأكثرهن في الزيادة ولا قصد إلا مجرد التعرض بأنفسهن لما لا يحل هـ. خروج النساء إلى المقابر قال في "تنبيه الحكام" ومن ذلك اجتماعهن في الجبانات والمواضع التي يتخذ منها مجالس للتنزه على من يمر منهن من شبان الرجال وقد يعارضهن بتلك الحالة كثير من الفساق وربما جلبهم إلى المرور عليهن ما اعتبر من اجتماعهن وعرف من أغراضهن. وقد يعمدن إلى نصب الأخبية على الجبانات تباهيا وزعما أن يستتر من يطيل الجلوس منهن وهذا أدعى إلى الشهرة والشر وأشد لصرف أعين الفساق وقلوبهم إلى من فيها مع ما يتوقع من جرأة من لا يتقى الله تع على مواقعة المعاصي بها لاستتار الكائن بها عن كثير من الإطلاع فهذا كله من المناكر التي يجب الاشتداد عليها والمنع منها بحول الله هـ.

جلوس النساء إلى الصناع ومن ذلك جلوسهن إلى الصناع يستصنعن عندهم شيئا من المصنوعات وكذلك الإطالة بالوقوف على حوانيب البياعين وخصوصا ذوي العطر وطيب الروائح لأن ذلك كله داعية إلى الفتنة التي تتقى قال مالك في سماع ابن القاسم أرى أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم وأرى ألا تترك المرأة الشابة تجلس إلى الصناع فأما المرأة المتجالة والخادم التي تتهم على القعود ولا يتهم من تقعد عنده فإني لا أرى بذلك بأسا. قال ابن رشد رحه وهذا كما قال لأنه يجب على السلطان تفقد مثل هذا والنظر فيه لأنه مسؤول عنه قال رسول الله صلعم: الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية وهي مسؤولة عن رعيتها والعبد راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وقد قال رسول الله صلعم: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء. وقال: باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء. وقال في "تنبيه الحكام" وكذا اجتماعهن في بعض الأسواق التي قد يضطررن إليها كسوق الغزل ونحوه وربما خالطهن الرجال وسفلة السماسرة وحادثوهن وتمازحوا بما لا يحل وذلك منكر ظاهر ومدعاة إلى الشر وارتكاب لمحارم الله تع فينبغي لاضطرارهن إلى ذلك أن يقدم هنالك أمناء ويختار ثقات السماسرة ومسنوهم ويمنع من كان متهما من التصرف لهن ويعين للنساء موضع مستتر يحضرن للجلوس في قضاة ما يحتجن إليه من ذلك بحيث لا يخالطهن من يجتاز أو يتصرف من الرجال. فإن قلت إذا كان هذا الإقصاء والإبعاد فيما بينهن وبين السماسرة والصناع إنما حكمته استصناع ما يخشى من الفتنة لقوله عليه السلام: باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء. فما بالهم قالوا بإباحة التجر للمرأة وأن الزوج له منعها من الخروج لذلك وليس التجر وتعاطي أسبابه بمقصور على المأمون عليها دون المتهم إذ لها أقشاص الربح من أي رجل كان وإلا لما كان تجر أو لقيدوه بمبايعة المأمون إذ الإطلاق في محل التقييد لا يلح مع أنهم أطلقوا. قلت لا يلزم من إباحة التجر لها أن تليه بنفسها ولعلها توكل من يقوم لها بذلك من الأمناء محرما كان أو غيره كما قال في السماسرة بسوق الغزل وإلا لكان تدافعا مع قولهم لا يسوغ لها الجلوس لدى الصناع إذ الباب واحد والاستصناع داخل في عموم التجر وعلة المنع متحدة وما ذكرناه في السؤال من أنه لا يمنعها من الخروج للتجارة نقله في الحاوي

عن "المجموعة" قال في "جامع الأحكام" ولا له أن يقفل عليها إلا برضاها كذا أخذ من المدونة". قلت: محل الأخذ منها من قوله فيها: وليس له منع زوجته من التجارة. قال بعض الشيوخ: يقوم من قوله ليس له منعها من التجارة أنه لا يغلق عليها وهو منصوص في الوثائق المجموعة في كتاب الوصايا في وثيقة وصية بقطيع. ثم قال في الكتاب بعد قوله وليس له منع زوجته من التجارة وله منعها من الخروج قال هذا الشيخ يعني للتجارة وشبهها فتكون عناية هذا الشيخ التي فسر بها مراده في المدونة خلافا لما نص عليه في المجموعة من قوله ليس له منعها من الخروج للتجارة وإن حملنا ما في الكتاب على الخروج المخصوص لا على مطلق الخروج فيكون ما في المجموعة وفاقا لما في الكتاب لا خلافا كما اقتضاه تفسير الشيخ فتأمله. تنبيه: قال في "العتبية" في سماع عيسى وسئل عن المرأة العزبة تلجأ إلى الرجل فيقوم لها بحوائجها ويناولها الحاجة هل ترى ذلك حسنا قال لا بأس به وليدخل معه غيره أحب إلي ولو تركها الناس لضاعت. قال الشيخ ابن رشد رحه وهذا كما قال إنه جائز للرجل أن يتقدم للمرأة الأجنبية ويناولها إذا غض بصره عما لا يحل له النظر إليه مما لا يظهر من زينتها لقول الله عز وجل: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} وذلك الوجه والكفان على ما قاله أهل التأويل فجائز للرجل النظر إلى ذلك من المرأة عند الحاجة والضرورة فإن اضطر إلى الدخول عليها أدخل معه غيره ليبعد سوء الظن عن نفسه. فقد روي أن رجلين من أصحاب النبي صلعم لقيا النبي صلعم ومعه زوجته صفية رضها فقال إنها صفية فقالا: سبحان الله يا رسول الله. فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما أو كما قال صلعم. خروج الوخش من الإماء ملتحفات كالحرائر ومن ذلك خروج الإماء الوخش في الأزقة والطرقات ملتحفات كالحرائر أو مكشوفات بما لا يحل كشفه منهم كالظهر والبطن لأن كلا الأمرين في حقهن محضور وكذلك

خروج الرابعات في هذا الزمان منكشفات كالوخش فإن ذلك من دواعي الفتنة فلا يصح شيء منه. قال في سماع أشهب من نكاح "العتبية" ومثله في الجامع منها وسئل مالك أيكره للجارية المملوكة أن تخرج متجردة. قال نعم وأضربها على ذلك. قال ابن رشد رحه يريد متجردة مكشوفة الظهر والبطن وأما خروجها مكشوفة الرأس فهو سنتها لئلا تشبه الحرائر اللاتي أمرهن الله بالحجاب وأن يدنين عليهن من جلابيبهن وقد رأى عمر بن الخطاب رضه أمة لابنه عبيد الله قد تهيأت بهيئة الحرائر فدخل على حفصة ابنته فقال لها: ألم أر جارية أخيك تجوس الناس وقد تهيأت بهيئة الحرائر وأنكر ذلك إنكارا شديدا. قال عبد الملك في الواضحة وما رأيت في المدينة أمة تخرج وإن كانت راعبة إلا وهي مكشوفة الرأس في صغائرها أو في شعر محجم لا تلقي على رأسها جلبابا لتعرف الأمة من الحرة: إلا أن ذلك لا ينبغي اليوم لعموم الفساد في أكثر الناس فإن خرجت اليوم جارية رابعة مكشوفة الرأس في الأزقة والأسواق لوجب على الإمام أن يمنع من ذلك ولا يلزم الإماء من الهيئة في لباسهن ما يعرفن به عن الحرائر. قلت هذا كله في شكل ما يتزين به في أشخاصهن فيغير عليهن ما خالف ذلك الشكل وأما حلولهن بمواضع التهم والريبة فيجب تغيير المنكر عليهن فيه كما يجب على الحرائر سواء. كما هو مألوف التكرر في بلدنا من اجتماع الجم الغفير والملأ الكثير نهن على السقايات والأفران لسقي الماء أو لطبخ الخبز فيطلق الوقوف هنالك لغير ما أتين له بل لاستدعاء الحديث مع فسقه العبيد وبعض الأحرار على ما ظهرت آثاره في كثير من الدور بولادة الخدم فيهن أبناء الزنى فيجب على من ولاه الله شيئا من أمر هذه الأمة تفريق مجتمعهن وتشريدهن عن محال التهم بإنالة الأدب إن لم ينفع فيهن التقريع باللسان والزجر. ما عمت به البلوى من تعاطي الجهال للعلم ومن ذلك ما قال في "تنبيه الحكام" ولفظه في ذلك أوفى بالمقصود وأجمع وأبرع في تحصيل الفوائد وأبدع قال تعاطي الجهال للعلم وانتصابهم فيه للفتوى والطب هذا أمر

قد كثرت البلوى فيه وعمت المصيبة وهلك بسببه الأديان والأبدان وذلك لما ضاع العلم وقل القائم به والمناضل عنه وذهب أهل التمرين والتحقيق فانهمك الناس وتعاطى العلم جهالهم فأفضوا إلى ما حذر منه صلعم في قوله الحق حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساء جهالا سئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا أعاذنا الله أن نكون منهم ووقانا التباعات اللاحقة عنهم. فقد آلت الحال اليوم إلى أن ينظر أحد العوام في أوراق من الفقه والكلام ويقوم على الخوض فيما يهلكه والمستمع منه أن يقف على مسائل من الخلاف فيختار منها بحسب ما يوافقه من شتى المذاهب أو يعثر به سوء نظره وظنه الكاذب ثم يتصدى للقول وتطلب الفتوى فيقول فيما ليس له به علم هذا حلال وهذا حرام ليفتري على الله الكذب. فلقد أخبرني غير واحد عن رجل من العامة أعرفه الآن ممن وقف على كلام بعض أهل الظاهر من غير تفهم لمعانيه ولا ملاقاة شيخ فيه أنه يفتي الناس مجاهرا غير مستتر ولا مستح من الله تع وغير مراقب لمن يقيم حدودها عليه بأشياء من الفواحش منكرة منها أن يمين الرجل بالطلاق والعتاق وما أشبه ذلك من متعلقات الشروط في مثل هذا والتزام العقود لا يوجب الحنث عليه فيها شيئا ويحملهم على ذلك ويريهم تسهيل سبيله بأن يحلف لهم بالطلاق على شيء وضده في مقام واحد يجرئهم بذلك على حدود الله تع. مناظرة المؤلف رحمه الله لبعض الشافعية في لزوم الحنث في الحلف بالطلاق قلت وكنا نسمع من أخبار عوام الركوبات أن أهل الديار المصرية يكثرون الحلف بالطلاق في ترداد مخاطباتهم كما يجري لفظ الجلالة بصيغة القسم في تخاطب أهل بلادنا وأنهم يزعمون عدم انعقاد اليمين على الحالف بها حتى يضع يده على رأس امرأته زعما منهم أن الشافعي يقول بذلك فنقول لقائل ذلك حاشا الله أن يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي هذه القولة المباينة لما عليه علماء هذه الملة حتى حللت بالبلاد الشرقية وأنا صاعد للحج كنت ذات يوم أساير قاضيًا من قضاة الحواري بمصر في طريق درب الحجاز ونحن نتفاوض المسائل ورأيت معه وقود ذهن ولوذعية نظر فإذا به ينصر مباحثته بالحلف بالطلاق المتكرر

السرمدي. فقلت له: الأصل في هذا اليمين الحضر فاستعمالها طوعا محرما يتقدم فيه بالزجر ثم بالأدب. وقال لي: ولم ذلك ألم ينشأ عنه من الحنث. قلت له: نعم. قال: نحن لم تنعقد علينا فكيف بالحنث. قلت: وما ذاك قال تكرر عندنا فقها وعرفا أن الرجل إذا بنى بأهله فلساعة رؤيتها يضع يده على رأسها ويقول لها إن حلفت بك صادقا فتكوني علي طالقا ثم لا يلزمه بعد ذلك إلا الطلاق الإنشائي أو اليمين التي تصدر عن عزيمة صدق وهو فقيه نفسه في ذلك فقلت له هذا شكل استرعاء في الطلاق فقال لي: قلت له: وإن كان نافعا لكن في اليمين التي يتبرع بها الحالف في غير دفاع طلب أو جريان حق على سبب إذ الاسترعاءات إنما هي نافعة في التبرعات فما كان لأجل شخص ولو في إرضائه فالظاهر اللزوم إذ المشهور في اليمين أنها على نية المستحلف فقال بلى يتعاكس المشهور في مذهب الشافعي مع المالكي هو على نية الحالف عندنا على المشهور. قلت له: فيلزم عليه ألا تندفع دعوى بيمين وتبطل حكمة الشرع في توجيه اليمين على المنكر إذ هي عوض عن المال فإذا ورد الحالف في يمينه وقلتم إن نيته نافعة لم يكن لليمين موقع في دفع الدعوى. وطال بيننا الكلام حتى زكنت أني أفحمته وفي الحقيقة أن هذا كما قال في "تنبيه الحكام" من التبهرج في دين الله بما يأباه الحق. جرأة الجهال على الفتوى وقال في هذا الفصل: جرأة هؤلاء الجهلة على الفتوى في عظيم النوازل على حسب أغراضهم بما قد نقلوه فلم يفهموه أو قاسوه فجربوه من رخصة قائل أو نظر ناظر في مذهب المذاهب الشاذة والأقوال الفاذة وربما مر بنظره الفاسد في أشباه هذه الأقوال إلى انبساط أشياء لا رأس لها ولا ذنب يخرق في بعضها الإجماع فبينما هو يفتي بأن المطلقة ثلاثا ترد إلى الواحدة وبجواز أم الولد إذ به يفتي بإباحة التيمم للصلاة والفطر في رمضان للصحيح القادر المقيم إذا شنف استعمال الماء وسئم الصير عن الغذاء وما أشبه هذا من الفواحش القاصمة للظهر مما يمنعنا الحياء من تعدادها ويزعنا وازع الدين عن ذكرها وتردادها. ولشد ما أولع ضعفاء العامة بالأخذ عنهم والاقتداء بهم واعتقاد المعرفة فيهم فإن النفوس الخبيثة تنزع إلى الشر الذي هو من جنسها وهذا النوع من أعظم المناكر التي

تؤدي لاستحقاق عموم العذاب الموجب من سخط الله تع ومقته أشد مراتب العقاب فواجب على كل من ملكه الله تع القبض على مثل هؤلاء وإرهاقهم العقوبة الشديدة والتنكيل المبرح لا يتعاطى أحد فوق قدره ولا يتعدى حدود طوره فإن فتنة هؤلاء في الأمة أشد من فتنة الجوع والخوف في تخريب البلاد ونهب النفوس والأمول وذلك أن من هلك منا فإلى رحمة الله تع وكريم عفوه ومن هلك دينه فإلى لعنة الله وعظيم سخطه ومقته أعاذنا الله تع والمسلمين أجمعين. قلت: قال الإمام المازري في "كتاب الأقضية" الذي يفتي في هذا الزمان أقل مراتبه فيما ينقل عن المذهب أن يكون مطلعا على الروايات قاصدا لمحالها وتأويل الشيوخ عليها وتوجيههم لما وقع فيها من اختلاف ظواهر واختلاف مذاهب وتشبيههم مسائل بمسائل قد يسبق إلى النفس تباعدها وتفريقهم بين مسائل ومسائل قد يقع في النفس تقاربها فهذا يقتصر على نقله عن المذهب ألحقنا الله بأقل مراتب هذه الدرجة. وذكر ابن رشد في أجوبته تقسيم جماعة أولي الإفتاء على أربعة طوائف فلا نطيل بجلبه لشهرة محله فاطلبه هنالك إن شئت والكلام في شروط المفتي والمستفتي وما يستفتى فيه تكفله علم الأصول. من يدعي علم الطب قال في "تنبيه الحكام" وكذلك ما يتعاطاه كثير ممن يدعي علم الطب ومعرفة الأدواء وصناعة اليد على جهل منهم لحقائقه إلا لمحة وقفوا عليها أو إشارة نظروا إليها وهذا الشأن من الطب مما تبطن خفاياه وتعظم زواياه فيسرعون في أجسام المسلمين بالإذاية القتالة والقطع والكي والعلاج المهلك على غير علم. فلقد سمعت أن بعضهم ركب دواء لرجل ثم سأله بعد ذلك عن فعله فلما أخبره ذلك الرجل وثب مسرورا وقال: ما كنت أظن أنه يفعل ذلك الفعل وكان هذا الطبيب المستخفي قد جربه في هذا المسكين مختبرا لصحة عمله ومبلغ فعله. وبهذا يأتون على كثير من النفوس وإتلاف الأعضاء والسمع والبصر بحسب اجتهاد الطبيب وقوة جرأته. قلت: قال الشيخ محمد بن زكريا الرازي رئيس المتطببين وفلاسفة المسلمين في مختصره المسمى بالمنصوري وفي الباب التي أفردها بذكر محنة الطبيب ينظر فيما أفنى

المتطبب ماضي زمانه وما همته إذا انفرد وخلا. فإن كان أفنى دهره في تصفح كتب الأطباء والطبيعيين وكانت همته إذا خلا النظر فيها فليحسن الظن به وإن كان إنما أفنى ماضي عمره في شيء غير ما ذكرت وإنما همته إذا خلا اللهو والشراب ونحو ذلك فليسيء الظن به. ومن كان يدمن النظر في الكتب فينبغي أن ينظر في مقدار عقله وفطنته وهل جالس المتكلمين والمتناظرين وهل له قوة في البحث والنظر أم لا فإن كان قد أطال صحبتهم واكتسب منهم حظا من القوة على البحث والنظر فينبغي أن ينظر هل شاهد المرضى وقلبهم وهل كان ذلك منهم في المواضع المشهورة بكثرة الأطباء والمرضى أم لا فمن اجتمعت له هاتان الخلتان فهو فاضل عالم. وأما من لم تكن حالته هذه الحالة لكنه صحب من حالته هذه صحبة طويلة وكان تعلمه في المواضع المشهورة بكثرة الأطباء والمرضى فليوثق أيضا به إذا كان له سمت ودين فأما إن كان متعاطيا هذه الصنعة أميا أو عاميا لا يفهم الكلام ولم يجالس أهله فلا ينبغي أن يوثق بمعرفته بل لا يبنغي أن يظن به أن عنده خيرا لأن هذه الصناعة لا يمكن الإنسان الواحد إذا لم يحتذ فيها أثر من تقدمه أن يلحق منها كبير شيء ولو أفنى جميع عمره فيها لأن مقدارها أطول من عمر الإنسان بكثير وليس هذه الصناعة فقط بل جل الصناعات كذلك. وإنما أدرك من أدرك من هذه الصناعة إلى هذه الغاية ألوف من الرجال في ألوف من السنين فإذا اقتفى المقتفي أثرها صار كأنه قد أدركهم كلهم في زمان قصير وكان كمن عمر تلك السنين وعنى تلك العنايات وإن لم ينظر في كتبهم فكم عسى تراه أن يشاهد في عمره وكم مقدار ما تبلغ تجربته واستخراجه ولو كان أذكى الناس على أن من لم ينظر في الكتب ولم يفهم صور العلل في نفسه قبل مشاهدتها فهو وإن شاهدها مرات كثيرة أغفلها ومرت به صفحا ولم يعرفها البتنة هـ. قلت: وما ذكر في قوله وليس هذه الصناعة فقط بل جل الصناعات قد رأيناه عيانا في صناعة القضاء يقوم بها قيام المعرفة والتحقيق من له فيها مزاولة وتكرار نوازل دون من لم يحصل له ذلك ولو حصل من حفظ الفقه أكثر بكثير من الآخر ولهذا تجد الشاهد (بصحة) الوثيقة العالم بفقهها يصلح للقضاء دون من دأبه الدرس والتحصيل ونصوصهم متظافرة على ذلك قال في" المدونة" قال مالك وليس علم القضاء

كغيره من العلوم ولم يكن بهذه البلد أعلم بالقضاء من أبي بكر بن عبد الرحمن وكان قد أخذ شيئا من علم القضاء عن أبان بن عثمان وأخذ ذلك أبان عن أبيه عثمان رضه عن جميعهم هـ. الفتوى في نوازل الأمصار وكذلك مزاولة الفتوى في نوازل الأعصار والأمصار تسهل مسالك القضاء على من لا سلف له فيه قال في "جامع الأحكام" أخبرنا بعض شيوخنا في تدريسه عن الشيخ أبي عبد الله ابن شعيب أنه كان ولي القضاء بالقيروان ومحل تحصيله في الفقه وأصوله شهير. فلما جلس الخصوم إليه وفصل بينهم دخل منزله مقبوضا فقالت له زوجته ما شأنك؟ فقال لها عسر علي حكم القضاء فقالت له: شاهدت سهولة أمر الفتيا عليك فاجعل الخصمين كمستفتيين فيسألاك. قال فاعتبرت ذلك فسهل علي أمر القضاء. لا تنفذ عزلة العالم بتقديم الجاهل عليه فيجب على من ولاه الله عموم النظر في أصناف الولايات وضروبها أن يتبرأ من درك المسلمين بل وبني آدم أجمعين في تقديمه عليهم واليًا لا تنعقد ولايته لجهله بكل ما قدم إليه وجريمته وكذلك إن قدم الجاهل بعزل العالم فلا ينفذ عزلته قاله الإمام المازري في شرح التلقين وعز الدين في أقوال عدة وعللا ذلك بأن إمام المسلمين الذي يعقد الولايات ويحلها بالعزل منها وظيفته النيابة عن المسلمين الموسعة الشاملة فلا يمضي إلا ما كان نظرا وولاية المفضول بعزل الفاضل لا نظر فيه للمسلمين وهو أيضا في نفسه معزول عن فعل ما لم يكن سداد المسلمين كالوكيل المفوض إليه إذا فعل بتفويض ما كان غير نظر فيه للمسلمين فلا تنفذ العزلة فيه. فمن أشراط الساعة أن يوسر الأمر غير أهله ثم لا يسلم من تباعة المطالبة بذلك في القيامة يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بنيها وبينه أمدا بعيدا فأول ما يقضي مولانا جل جلاله يوم الحساب في الدماء ثم في غيرها من مظالم العباد وذلك عين المظلم بإخبار الصادق المصدوق في قوله لا تضع الحكمة في غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.

افتيات الأطباء ومن معنى افتيات الأطباء ما ذكر في "تنبيه الحكام" عن الصرف للمعروفين بالغرباء وقد شاهدناهم في كثير من الأمصار والأقطار. وقال وهي عندهم صناعة معلومة لها مراتب من الحيل والتحيل والمدكات وإيهام العقول تنقسم على وجوه كثيرة من بعضها الطب وأنواع العلاج وبيع الحروز وادعاء القيام بالسحر وأشياء من نحو ذلك كثيرة يتوصلون بها إلى أكل الأموال وارتكاب الفواحش ويبهرجون بكثير من ذلك على الخواص والعوام ويدخلون الوهم والعلل على صحاح الأجسام. ولا حاجة بنا إلى التطويل بشرح نوازلهم وتعديد ما بلغنا من رذائلهم فيجب على كل حاكم تفقد مثل هؤلاء وقمعهم ومنع من يتعاطى علم الطب أو نحوه من الجلوس للناس حتى يحضر مع من يوثق به من الأطباء العلماء ويختبرونه بحضرته ويصح عنده أنه أهل للجلوس في ذلك الشأن فإن من اقتحم على شيء من ذلك بغير استحقاق فقتل أحدا أو أتلف له عضوا على غير منهاج الطب فهو متعد يجب ضربه وسجنه ولزوم الدية قيل في ماله وقيل على عاقلته. هذا إذا لم يؤد نظر إلى أن يقاد منه وما أظن أحدا من الحكام القادرين على إزالة هؤلاء وصرف ضررهم عن المسلمين في سعة من دم قتيلهم أو جريحهم قلت: قوله هذا إن لم يؤد نظر إلى أن يقاد منه يعني إن تبين أنه أراد قتله بما أدخل جوفه فكان عنه الموت السريع كما قال العلماء فيمن سقى رجلا شيئا أو أطعمه طعاما فتقيأ إمعاؤه ومات من حينه إذ لا يكون القود إلا مع العمد المحض ومن زعم معرفة الطب وهو جاهل به فتكون الضرر عن علاجه غايته أن يلزم الدية لأن فعله من باب الخطأ لا من باب العمد إذ لم تظهر عنه آثار لقصد القتل العمد للعدوان وإنما قيل بالدية في ماله على أحد القولين لأن ذلك وإن يكن عمدا فهو شبه العمد. طبيب عالج رجلا فأتى على يديه قال في سماع ابن القاسم وسئل مالك عن طبيب عالج رجلا فأتى على يديه فيه قال إن كان الطبيب ليس له علم ووجد بينة أنه دخل في ذلك ظلما وجرأة وأنه ليس ممن يعمل مثل هذا وليست له معرفة فأرى أن يستأذن عليه وإني لا أحب للإمام أن لو تقدم إلى هؤلاء

الأطباء في قطع العروق وما أشبه ذلك ألا يقدم أحد على عمله إلا بإذنه فإني لا أزال أسمع بطبيب عالج رجلا فقطع أو صنع به شيئا (فأعنته) فمات منه ثم إني أتى على يدي ولم أره يجعل على الذي عرف بالعلاج فيعالج بما يعرف شيئا ولكنه يستحب أن ينهوا عن الأشياء التي فيها هلاك الناس إلا بإذن الإمام قال عيسى غر من نفسه أو لم يغر ذلك خطأ وديته على عاقلته. قال ابن رشد رحه تحصيل القول في هذه المسألة أن الطبيب إذا عالج الرجل فسقاه فمات من سقيه أو كواه فمات من كيه أو قطع مه شيئا فمات من قطعه أو الحجام إذا ختن الصبي فمات من ذلك أو قلع ضرس الرجل فمات من ذلك فلا ضمان على واحد منهما في ماله ولا على عاقلته إذا لم يخطئا في فعلهما إلا أن يكون قد تقدم السلطان إلى الأطباء والحجامين ألا يقدموا على شيء مما فيه غرر إلا بإذنه فعلوا ذلك بغير إذنه فأتى على أيديهم فيه بموت أو ذهاب حاسة أو عضو فيكون عليهم الضمان في أموالهم. هذا ظاهر ما في رسم العقود من سماع وقال ابن دحون إن ذلك يكون على العاقلة إلا فيما دون الثلث وذلك خلاف الرواية المذكورة. خطأ الطبيب وأما إذا أخطئوا في فعلهم مثل أن يسقي الطبيب المريض ما لا يوافق فيموت من ذلك أو تزل يد الخاتن فيتجاوز في القطع أو يد الكاوي فيتجاوز في الكي أو يكون مما لا يوافقه الكي فيموت منه أو يقلع الحجام غير الضرس التي أمر بها وما أشبه ذلك فإن كان من أهل المعرفة ولم يغر من نفسه فذلك خطأ يكون على العاقة إلا أن يكون أقل من الثلث فيكون ذلك في ماله. وأما إن كان لا يحسن وغر من نفسه فعليه العقوبة من الإمام بالضرب والسجن. واختلف في الدية فقيل: إنها تكون عليه في ماله ولا يكون على العاقلة من ذلك شيء وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية وقيل إن ذلك خطأ يكون على العاقلة إلا أن يكون أقل من الثلث فيكون في ماله وهو قول عيسى بن دينار هاهنا. وظاهر رواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الديات لأنه قال في الطبيب يسقى النصراني أو المسلم الدواء فيموت منه إنه لا شيء عليه إلا أن يعلم أنه أراد قتله لأن تأويل ذلك أن الدية على العاقلة مثل قول عيسى والكفارة تابعة للدية حيثما لزمت الدية العاقلة لكون القتل خطأ أو في المال لما فيه من شبه العمد

لزمت الكفارة وحيثما لم تلزم الدية لم تلزم الكفارة إلا استحسانا حسبما قاله في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الديات في الصبي تسقيه أمه الدواء فيشرق به فيموت. وإذا تقدم السلطان للأطباء لا يداوي أحدهم ما يخاف منه وفيه غرر إلا بإذنه فوجه العمل في ذلك إذا استؤذن أن يجمع أهل تلك الصناعة فإذا رأوا أن يداوى العليل بذلك الدواء المخوف دواء به ولم يكن عليه شيء ولا على العاقلة إن مات منه وإن رأوا أنه يخشى عليه بذلك الدواء المخوف نهاه عن سقيه إياه فإن تعدى ضمن ماله وقيل على العاقلة. منكرات الأسواق المتعلقة بالمعاوضات وأما منكرات الأسواق الكائنة في عقود المعاوضات أو الغش في المبيعات أو غير ذلك مما يقضى به للعامة على الخاصة من الحالات أو في كل الأزمان والأوقات فمن ذلك ما يحصل في تركه وعدم المبالاة به لأهل الأسواق فساد أو انتقاص كتلقي السلع بظاهر البلد أو ببعض الأخصاص فيشتريها المتلقي بما يطلبه من الاسترخاص وليس له بها شرعا دون غيره من المسلمين اختصاص أو كبيع الحاضر للبادي لإضاعة رزق الحاضر من البدوي. وقد جعل الشرع إبقاءه على الجهالة بالسعر حكمة لحفظ المعائش من السر الخفي قال صلعم: لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض قال الشيخ ابن رشد رضه فإذا كان المعنى في أنه لا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي إنما هو ليصيب أهل الحاضرة غرة في أهل البادية كجهلهم بالأسواق وجب ألا يجوز أن يخبروا بالأسعار لما في ذلك من الضرر بأهل الحاضرة في قطع الذي جعله رسول الله صلعم لهم في الإصابة منهم لعلهم إذا لم يعلموا السعر أن يرضوا بالبيع بأقل من القيمة وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه في مذهب مالك. هـ. أهل البادية الذين لا يبيع الحضر لهم فإن قلت هل لهذا البدوي الذي لا يجوز أن يبيع الحاضر له ما أتى به من السلع بادية مخصوصة أو ذلك في كل من تبدى بسكنى البادية. قلت اختلف قول مالك في أهل البادية الذين وقع النهي عن بيع الحضري لهم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أهل العمود خاصة دون أهل القرى المسكونة التي لا يفارقها أهلها. قال ابن رشد وهي راوية أبي مرة عن موسى بن طارق عنه.

والثاني: أنهم أهل العمود وأهل القرى دون أهل المدن. والثالث: أن المراد بذلك الجالف وإن كان من أهل المدن والحواضر. قال ابن رشد: ورأى على هذه الرواية بل هذا القول أن المعنى في النهي إنما هو على أن يبيع الحاضر للجالب وأن قوله لا يبيع حاضر لباد إنما أخرج على الأعم في أن أهل البادية هم الذين يجلبون على الحاضرة. قال الشيخ الأبي في إكمال الإكمال وليس بيع الدلال من بيع الحاضر للبادي لأن الدلال إنما هو لاشهار السلعة فقط والعقد عليها إنما هو لربها وبيع الحاضر إنما هو أن يتولى الحاضر البيع أو يقف مع رب السلعة ليزهده في البيع ويعلمه أن السلعة مثلا لم تبلغ ثمنها ونحو ذلك والدلال على العكس لأنه ربما رغبه في البيع وأعلمه أن السلعة لم تبلغ أكثر. وكذلك ليس من بيع الحاضر أن يبعث البدوي سلعة ليبيعها له الحاضر. وأما التلقي قال مالك فهو من معنى بيع الحاضر للبادي في علة المع إذ لا فرق بين أن يبيع له السلعة التي أتى بها وبين أن يذهب له فيتلقاه ويشتري منه ثم يأتي فيبيع. وهل من التلقي خروج أهل المدينة إلى الحوائط والجنات فيشترون منهم الثمار هنالك ثم يدخلون إلى المدينة ويبيعونها على أيديهم قال في سماع أشهب سأل الأمير مالكا عن ذلك وأنه اختلفت عليه إشارة العلماء فبعضهم أشار عليه بالمنع وبعضهم أشار عليه بالترك فبأي ذلك يأخذ؟ فقال له خذ بقول من قال بمنعهم فقد نهى رسول الله صلعم عن تلقي السلع حتى يهبط بها إلى السوق. قال أشهب من رأيه لا بأس بذلك وليس هذا بتلقٍ وإنما التلقي أن يتلقى الجلاب قبل أن يهبط بذلك للأسواق كان ما كان ذلك الجلف طعاما أو حيوانا أو غيرهما من الأشياء كلها هـ. وأما من كان منزله على الطريق فيريد الشراء من الجلاب أو يكون بالبلد فيشتري من الأزقة قبل أن يصل إلى السوق فهو أيضا من التلقي. قال في سماع أشهب وسألته عن الذي يكون منزله على طريق الجلاب قال لا يعجبني أن يشتري منهم ما يريد بيعه فلا أرى ذلك وهو من التلقي. قلت له أفرأيت الذي يخرج من المدينة فيبيع أو يمسك قال لا خير فيه باع أو أمسك إنما كره التلقي أن يذهب الرجل من البلد قد عرف أسعارها ثم يقدم فيبيع على معرفة.

وسألته عن تلقي السلع داخل المدينة بأفواه الطرق فقال إن ذلك يفعل بالمدينة لأنهم يتلقون بأفواه الطرق فلا أرى أن يصلح ذلك وأرى أن يمنعوا منه حتى يهبط بها إلى السوق وبعض من يحدث يقول في حديثه حتى يهبط بها إلى الأسواق فلا أرى ذلك حتى يهبط بها إلى الأسواق وينالها القوي والضعيف. قال الشيخ ابن رشد رحه تع أجاز للذي يكون منزله على طريق الجلاب وبينه وبين المدينة والحاضرة الأميال أن يشتري منهم ما يأكله أو يضحي به لما عليه من المشقة في النهوض إلى الحاضرة. ولم يجز لمن كان في الحاضرة أن يشتري ما مر ببابه من ذلك إذ لا مؤنة عليه في النهوض إلى السوق لقربه ولذلك لا يجوز له أن يتلقى شيئا منها من المدينة بأفواه الطرق لأن ذلك بمنزلة أن يخرج من الحاضرة إلى الطريق فيشتري ما يأتي من الجلائب وهو التلقي المنهي عنه في الحديث. وأما ما يريد به التجارة فلا يشتريه في الطريق وإن مر به في منزله بقريته وبينه وبين الحاضرة التي توجه بالمتاع نحوها الأميال قال ابن حبيب في الواضحة أو الأيام هـ. ومن التلقي أيضا ما يأتي به الرجل من البادية النائبة إلى مداشر البلد القريبة منها ويترك ما أتى به هنالك ثم يدخل للبلد فيبيع لرجل واحد ما أتى به ويترك المبتاع ذلك هنالك حتى يدخله للبلد أي وقت شاء ويبيعه بسوقها شيئا فشيئا. قال في سماع ابن القاسم وسئل مالك عن النفر من التجار يخرجون إلى الريف فيشترون أغناما فيأتون بها قريبا من الفسطاط على قدر الميل ونحوه فيجعلونها من مراعي ترعى فيها ويتيسر لهم دخولها الفسطاط ويكون ذلك أرفق بهم فيدخل الرجل المدينة فيدعو رجلا منهم يأمنه ببيعه إياها ثم يدخلها المشتري لها قليلا قليلا فيبيعها. قال: إني أخاف أن يكون من التلقي. وعندنا رجال يفعلونه ببلدنا قلت له: أفتكرهه؟ قال: نعم لأكره أن يعمل به وأراه من تلقي السلع. قال الشيخ ابن رشد رحه تع هذا كما قال إن ذلك من تلقي السلع لأن المعنى في النهي عن تلقي السلع عن ذلك إنما أريد به نفع أهل الحاضرة كما أريد بالنهي عن أن يبيع حاضر لباد نفع أهل الحاضرة منه في السوق بما يرضى به من قليل الثمن وكثيره فإذا باع الغنم الجالب لها من رجل من أهل الحاضرة ألحق الذي جعله رسول الله صعلم لهم في ذلك. قلت: ينبغي أن يقيد المنع في هذه المسألة بما إذا كان الجالب في شكل الطائع

والمختار في الورود بما أتى به لسوق المسلمين فيختار البيع خارج البلد أما إذا كان في شكل المكره فيرتفع الخطاب بالمنع للإكراه لقوله عليه السلام: ولا ما استكرهوا عليه. وذلك في مثل بلدنا وغيرها في كثير من البلاد القائم فيها وظيف المكس أعاذنا الله من شر التباعات الظلمية فينال الغارم بعد غرمه في بعض الأحيان من الإهانة ما الله به عليم ولا يحل لامرئ مسلم أن يهين نفسه فإذا كان الجالب ممن لا يرضى ذلك لنفسه أو لا يستطيع أن يحملها عليه خصوصا إن كان من ذوي الهيئات فحقيق به وجوب البيع حيث يأمن إطالة أيدي الماكسين عليه ويرتفع خطاب المنع عنه وفاقا لحلول المانع الجبري له. مفاوضة المؤلف مع جده الأقرب وقد تفاوضت ذات يوم مع سيدنا الجد الأقرب في قوله عليه السلام: أما إنها تابت توبة لو تابها مكاس لقبلت منه. وذكرت له قول عياض في إكماله أن فيه دليلا على عظم ذنب صاحب المكس وذلك لكثرة تباعات الناس عليه وظلاماتهم قبله وأخذه أموالهم بغير حقها وسنه سنة مستمرة استمرار الحقوق ثم العلة في عدم قبول توبته لما تعلق بذمته من التباعات المجهول أربابها ومن شروط التوبة رد المظالم إلى أهلها وذلك متعذر في حقه لكثرتهم وجهل أعينهم ومنهم الميت والغائب. وكان السبب في هذه المفاوضة أنه مرض مرضا ثقيلا فأشرت عليه بأكل الكمثرى الذي هو في اصطلاحنا الاجاص وليس هو في اصطلاح الفقهاء مع الأطباء وإنما اصطلاحهم في الآجاص العبقر الذي نسمه في عرفنا بالبرقوق فوقع البحث عنه فلم يوجد إلا في عرصة للوالي ابن بو جمعة فابتاعه الباحث من هنالك وأتى به إليه فسأله من أين هذا فأخبره فاشمأز من ذلك فقلت له أما إنهم قالوا في بعض الأقوال المذهبية إن المستغرق الذمة تجوز مبايعته بالقيمة فقال لي ينادي على القائل بالمنع ذلك من قعر الثرى وأنا آكل هذا الكمثرى أكلت متاع الناس يا كذا إنما يليق يا ولدي بأهل الفضل اختيار ما كان شاقا على النفس ولو كان القول فشذوذا. وأبى من أكله بعد دفع الثمن فيه وقوة الحاجة إليه رضه ونفعنا ببركته وحشرنا في زمرته وقطع مواد رضاه في الدنيا والآخرة عن القاطع من ذريته ثم أسمعني في الحين من لفظه حديثا مرسلا عن رسول الله صلعم أنه قال من أخذ لرجل درهما ظلما فإنه يؤدي فيه بين يدي الله سبحانه ثواب سبعمائة صلاة مقبولة.

النهي عن تلقي السلع فإن قلت ما ورد من النهي عن تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي إنما هو في الابتداء وما الحكم إذا وقع ونزل هل يفسخ أو يصح؟ قلت: اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: فقيل يفسخان معا ما لم يقع الفوات بما تفوت به البياعات الفاسدة وقيل لا يفسخان وإنما تزال السلعة منهما وتعرض على أهل الأسواق وقيل الفرق بين التلقي وبيع الحاضر للبادي فتعرض في الأول ولا تفسخ وتفسخ في الثاني ولا تعرض. مسألة فقهية ولنأت بما وقع في الرواية وكلام ابن رشد عليها بما تكفل قوله من الفوائد وجمع ما شرد عن الذهن من الفرائد الأوابد. قال في سماع عيسى وسئل عن الرجل يتلقى السلعة فيشتريها قال ابن القاسم إذا أدركت في يديه وكانت من السلع التي ليس لها أهل راتبون في السوق فيشترونها في حوانيتهم ويبيعونها من الناس وإنما جل أمرها وشأنها أن يبيعها جالبها من الناس كافة فإنها تؤخذ من يده وتوقف للناس في السوق فيشترونها بما اشتراها به لا يزيدونه شيئا فإن لم يجد من يشتريها إلا بأنقص من ذلك الثمن ردت عليه وإن كانت من السلع التي لها راتبون في السوق فيشترونها ممن يجلبها ويبيعها من الناس فإنها تؤخذ منه ويشرك فيها أهل تلك السلعة الذين يشترونها من أهلها ويبيعونها من الناس إن أحبوها وإن أقرها بالثمن ردت عليه. قلت فإن فاتت بيده قال إن كان متعودا لذلك أدب وزجر وإن كان ليس بمتعود نهي وأمر ألا يعود قلت أفلا يرى أن يتصدق بربح إن كان فيها قال ما أراه بالحرام البين ولو احتاط فتصدق به لم أر به بأسًا. قال سحنون سألت ابن القاسم عن الذي يتلقى الركبان فيشتري منه قال أرى أن تعرض السلعة على أهل الأسواق بالثمن الذي اشتراها فإن أخذوها به وإلا ردوها على بائعها وأدبه ضربا وجيعا إلا أن يعذر بجهالة. وقال أبو علي بن القاسم يفسخ البيع في هذا وفي بيع الحاضر للبادي وفي الذي يسوم على سوم أخيه وفي هذه الأشياء كلها وترد السلعة على أربابها. قال أصبغ وسألت ابن القاسم عمن تلقى سلعة أو باع لباد. قال: أما الذي تلقى فأرى

أن تعرض السلعة في السوق لمن احتاج من أهل تلك السلعة وغيرهما ممن يشتري فتباع لنهي رسول الله صلعم عن تلقي السلع وأما من باع لباد فأرى أن يفسخ البيع لأن المشتري ابتاع حراما قد نهى رسول الله صلعم عنه وسئل عن البيع للبدوي هل يختلف عندك إن كان حاضرا معه أو غائبا قال: البيع مكروه حضر البادي أو غاب عنه. وروى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب البيوع والعيوب قيل لابن القاسم وببا .. وأبو صير من أهل البوادي قال لا لأنهما أهل مدائن إنما يراد بهذا أهل القرى يريد به الحديث الذي جاء عن رسول الله صلعم لا يبيع حاضر لباد وببا وأبو صير كورتان من كور أهل مصر قال عيسى: وقال ابن القاسم: إذا باع الحاضر للبادي فسخ البيع إن أدرك. قلت فإن فات قال إن كان رجلا متعودا أدب وزجر وإن كان غير متعود نهي عن ذلك ولم يكن عليه شيء. وسئل عنها سحنون فقال سألت عنه ابن القاسم فقال إذا باع حاضر لباد فأرى أن يمضي البيع أو يؤدب أهله. قال ذو خاق وسئل ابن وهب عن الحاضر يبيع للبادي عالما بمكروهه أو غير عالم هل ترى للسلطان أن يؤدبه قال لا يؤدبه ولكن يزجر عن ذلك قال الشيخ ابن رشد رحه فرق ابن القاسم في رواية عيسى وأصبغ عنه بين شراء المتلقي وبيع الحاضر للبادي فأجاز شراء المتلقي ولم يفسخه إلا أنه رأى أن تعرض السلعة على أهل تلك البلد التجارة وبالثمن الذي اشتراها به إذا أدركت في يديه أو على جميع الناس بالسوق وإن لم يكن لها أهل. وقوله إن أدركت بيده معناه إن أدركت بيده قائمة لم تفت. واختلف بماذا تفوت في ذلك فقيل: إنها تفوت فيه بما يفوت به البيع الفاسد. وقيل: إنها لا تفوت إلا بالعيوب المفسدة ولم يجز بيع الحاضر للبادي فقال إنه يفسخ ما لم تفت يريد بما يفوت به البيع الفاسد وساوى في رواية سحنون عنه بين البيعتين في أنهما لا يفخسان إذا وقعا إذ لا غرر فيهما ولا فساد في ثمن ولا مثمون إلا أنه رأى في شرائه المتلقي أن تعرض السلعة على أهل الأسواق بالثمن الذي اشتراها به. ويلزم على قياس ذلك في بيع الحاضر للبادي أن يكون للمشتري الرد إن شاء إذا لم يعلم أن حاضرا باع له وقال ظننته باديا اشترى منه رخيصا ولم ير ذلك في ظاهر قوله وذلك تعارض بين الوجهين. وساوى غير ابن القاسم بينهما في أنهما يفسخان. وقال وكذلك الذي يسوم على سوم أخيه وهو قول مالك في رواية ابن نافع وأشهب عنه. فقول ابن القاسم في سماع سحنون عنه على القول بأن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه

وقول غيره مع قول مالك في رواية أشهب وابن نافع عنه في النهي يقتضي فساد المنهي عنه. فقد قيل إنه يقتضيه من جهة وضع اللغة لأن النهي ضد الأمر فلما كان الأمر يدل على الجواز والصحة وجب أن يدل النهي على عدمهما ووجب صدهما وهو البطلان والفساد. وقيل إنما يقتضيه بدليل الشرع وذلك أن رسول الله صلعم قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فوجب أن يرد كل بيع نهى عنه رسول الله صلعم ما لم تقترن به قرينة تدل على جوازه وأما تفرقة ابن القاسم في رواية عيسى عنه فلا يجهلها القياس لأنه جعل النهي مقتضيا للفاسد في بيع الحاضر للبادي ولم يجعله مقتضيا له في المنع من التلقي فهو استحسان ووجهه أن النهي عن أن يبيع حاضر لباد متناول للبيع نصا والنهي عن تلقي الركبان لا يتناول البيع نصا وإنما يتناول بالمعنى ولا يقوى المعنى قوة النص مع أنه قد اختلف في فساد البيع بمجرد النص وكذلك قول من قال إن البيوع المطابقة للنهي دون أن يخل فيها بشرط من شروط صحتها تفسخ ما لم تفت فإن فاتت مضى بالثمن وهو استحسان على غير قياس. وتحصيل الخلاف في هذا النوع من البيوع أن نقول فيها ثلاثة أقوال. أحدها: أن البيع يفسخ فيها كلها. والثاني: أنه لا يفسخ في شيء منها. والثالث: أنه يفسخ فيما تناول النهي فيه منها البيع نصا ولا يفسخ فيما تناوله منها بالمعنى واختلف على القول بأنه لا يفسخ هل يكون فيه حق لمن كان النهي بسببه أم لا كالنهي على تلقي الركبان وأن يبيع حاضر لباد لأن المعنى في النهي عن ذلك إنما هو لرفق أهل الحاضرة عند مالك رحه تع وجميع أصحابه. فقيل إن له في ذلك حقا وتعرض السلعة في التلقي على أهل الحاضرة في السوق بالثمن فإن قبلها وإلا ردت عليه للحق الذي لهم في ذلك ويكون المشتري في بيع الحاضر للبادي بالخيار بين أخذها وردها إن لم يعلم أن حاضرا باعها منه للحق الذي له في ذلك أيضا وقيل إنه لا حق له في ذلك فلا تعرض السلعة في التلقي على أهل السوق ولا يكون للمشتري من البادي إذا باع منه حاضر ولم يعلم خيار في ردها. وقد حكى ابن حبيب في أن بيع الحاضر للبادي يفسخ لأن عقده وقع بما نهى عنه رسول

الله صلعم إلا أن يشاء المشتري أن يتمسك وقال وهو قول مالك وقوله بعيد خارج عن القياس والأصول لأن العقد إذا كان فاسدا بالنهي فلا يجوز للمشتري التمسك به وإنما الكلام إذا لم يكن فاسدا فالنهي على القول بأن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه فقيل إنه يلزم المشتري ولا خيار له وقيل إنه يكون بالخيار وإذا لم يعلم أن حاضرا باع منه على ما ذكرنا وقد ذهب بعض الشيوخ إلى أن جعل قول ابن حبيب مفسرا لرواية أصبغ وعيسى عن ابن القاسم في هذا الرسم وذلك غير صحيح لأنه قد نص فيها أنه بيع حرام لنهي النبي صلعم عنه فكيف يصح أن يقال في البيع الحرام أن المشتري فيه بالخيارز ورواية سحنون عن ابن القاسم مخالفة لرواية عيسى واصبغ عنه في ثلاثة مواضع أحدها أن يبيع الحاضر للبادي لا يفسخ. والثاني يجب الأدب فيه وفي بيع التلقي إذا لم يعذر بالجهل لأن ابن القاسم في رواية عيسى وأصبغ عنه لا يرى في ذلك الأدب إلا أن يكون معتادا بذلك وهو قول ابن وهب في رواية ذو خاقٍ عنه والثالث ما ذكرته من تعارض قوله في وجوب عرض السلعة في التلقي على أهل السوق. وأما قوله في رواية أصبغ في أهل ببا وأبو صير أنهما كورتان من كور أهل مصر فهما كأهل المدائن في جواز البيع لهم. النجش في الأسواق ومن ذلك النجش في الأسواق قال رسول الله صلعم لا تتلقوا الركبان للبيع ولا يسوم بعضكم على سوم بعض ولا تناجشوا ولا يبيع حاضر لباد وفسر في " الموطأ" بيع النجش بأن يزيد ليغر ونصه قال مالك: والنجش أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها وليس في نفسك شراؤها فيقتدى بك غيرك وتلك الزيادة هي المسماة في عرف أهل أسواقنا بالبرج. قال ابن رشد في تفسيره له هو أن يعطي الرجل العطاء في السلعة لا يريد شراءها ليغتر بذلك غيره. زاد في تنبيه الحكام في وصف الذي يزيد أن يكون تاجرا معروفا بحسن النظر ولا شك أن ذلك أقوى في داعية الغرور. قال الأبي في إكمال الإكمال وليس من النجش ما يتفق أن يأتي الدلال بالسلعة لمن يعرف قيمتها فيستفتح له بما ينادي به فهو لا يريد شراءها وإن كان لا يشتريها فهو لا يفعله للغرور.

النجش بسوق الكتيبين من تونس قال وكان الشيخ ابن عرفة يحكي أنه كان بسوق الكتبيين من تونس رجل مشهور بالصلاح عارف بقيم الكتب يستفتح للدلالين ما يبنون عليه في الدلالة ولا غرض له في الشراء وهذا الفعل جائز على ظاهر تفسير مالك بقوله أكثر من ثمنها وهو لم يسم لهم إلا نفس القيمة وعلى تفسير ابن رشد والأكثر لمجرد العطاء للغرور فهو ممتنع. ثم قال في "تنبيه الحكام" بعد قوله أقوى في داعية الغرور وهذا حرام منكر نهى عنه النبي صلعم فيجب تفقده في مظانه وقطعه بعد معاقبة من لم يزجره النهي. قلت قوله نهى عنه النبي صلعم قد رأيت حديثا مسندا بخصوصية النهي به دون التشريك به مع غيره كما أسلفنا نقله قريبا نقله في جامع العتبية. قال مالك قال نافع عن ابن عمر أن النبي صلعم نهى عن النجش وهو نص ما في الموطأ فإن فعل ذلك أحد ليس من قبل البائع ولا كان له فيه سبب لزم المشتري الشراء وباء الناجش بالإثم وإن كان البائع هو دس من زاد في السلعة ومن كان من سببه مثل عبده وأجيره وشريكه وما أشبه ذلك فالمشتري بالخيار في السلعة ما كانت قائمة إن شاء التزمها بالثمن الذي اشتراها به وإن شاء ردها وإن فات في يديه ردت إلى القيمة أقل من الثمن. قاله ابن حبيب في الواضحة واختار ابن العربي أن الناجش إذا بلغ السلعة القيمة فهو مأجور قال ابن عبد السلام وفيه بعد لأنه إن لم يرد الشراء فهو إتلاف لحال المشتري وإن كان مع إرادة الشراء فليس بناجش. ذكر المؤلف لجده الأقرب قلت وكان يتقدم لنا عند شيخنا وسيدنا الجد الأقرب من الطعن واستبعاد ابن عبد السلام بقوله إن لم يرد الشراء فهو إتلاف لمال المشتري معارضته بقولنا بل هو جبر لمال البائع ومال المشتري محفوظ ما لم يتجاوز القيمة. ذكر المؤلف لفتوى جده الأعلى في مسألة الدرهم وهي التي تنظر لمسألة الحاكة مع التجار التي وقعت لمولانا الجد الأعلى أيام قضائه ببلد سلا من أرض المغرب الأقصى في الدراهم الذي اجتمع أمناء التجار والحاكة على أن يأخذوه من كل شقة تباع فيحفظ لإعطائهم ما يجتمع منه في مظلمة تحدث

أو وظيف من الجانب المخزني يوما ما لما فيه من الإرفاق والمياسرة عن أداء ذلك يوم طلبه من الناس دفعة واحدة. فلما وقع من الجانب السلطاني رفع المظالم وقع الاختلاف في المجتمع من ذلك الدرهم هل هو من مال البائع أو من مال المبتاع وكانت عن الاختلاف المناظرة المشهورة بين مولانا الجد الأعلى والفقيه العالم المرحوم أبي العباس أحمد القباب قيدها بعض نجباء طلبتهما يعرف بابن قنفذ وسمى تفسيره بلباب اللباب في مناظرة العقباني والقباب. بيع آلات اللهو المحرمة والتماثيل المجسدة ومن ذلك بيع آلات اللهو المحرمة والتماثيل المجسدة وأواني الذهب والفضة وثياب الحرير المصمتة التي هي من شكل الرجال: كل ذلك يجب تغيير بقائه وإزالة شكله إذا كان المقصود به الاستعمال فيما لم يبح الشرع استعماله فيه. قال في سماع أشهب وابن نافع سئل مالك عن التجارة في عظام على قدر الشبر يجعل لها وجوه فقال: الذي يشتريها ما يصنع بها؟ فقال: يبيعها فقال: ما يصنع بها؟ قال: يلعب بها الجواري يتخذنها بنات. فقال لا خير في الصور ليس هذا من تجارة الناس. قال ابن رشد رحه تع قوله لا خير في الصور يدل على أنه كره ذلك ولم يحرمه لأن ما هو حرام لا يحل فلا يعبر عنه بأنه لا خير فيه لأن ما لا خير فيه تركه خير من فعله وهذا هو حد المكروه لأن المكروه ما تركه ثواب وليس في فعله عقاب فهو لا خير فيه. ومعنى ذلك إذا لم تكن صورا مصورة مخلوقة مخروطة شبه الوجوه بالتزويق فأشبه الرقم في الثوب وإلى هذا تعلل أصبغ في سماعه من كتاب الجامع قال ما أرى بأسا ما لم يكن تماثيل مصورة مخلوقة مخروطة إلا أنه علل ذلك بعلة فيها نظر فقال لأنها تبقى قال ولو كانت فخارا وعيدانا تنكسر وتبلى رجوت أن تكون خفيفة إن شاء الله تع كمثل رقوم الثياب بالصور لا بأس بها لأنها تبلى وتمتهن. والصواب ألا فرق في ذلك بين ما يبقى أو يبلى فلا يبقى مما هو تمثال مجسد له ظل قائم مشبه بالحيوان الحي لكونه على هيئته. وإنما استخفت الرقوم في الثياب من أجل أنها ليست بتماثيل مجسدة لها ظل قائم يشبه الحيوان في أنها مجسدة على هيئتها وإنما هي رسوم لا أجساد لها ولا يحيى في العادة ما كان على هيئتها فالمحظور ما كان على هيئة ما كان يحيى في العادة ويكون له روح بدليل قوله صلعم

في الحديث إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم والمستخف ما كان بخلاف ذلك مما لا يحيى في العادة وما كان على هذه الهيئة. فالمستخف من هذه اللعب المصورة للعب الجواري لما جاء عن عائشة رضها كانت تلعب بها بعلم رسول الله صلعم فلا ينكر ذلك عليها بل كان يسرب الجواري إليها ما كان مشبها بالصورة وليس بكامل التصوير وكلما قال الشبه قوي الجواز وكل ما جاز اللعب به جاز عمله وبيعه قال ذلك في سماع أصبغ. قلت: قوله وكل ما جاز اللعب به جاز عمله وبيعه يعني الصور التي ليس لها ظل قائم ولا اتخاذ شبه بما خلق الله ما حي ذي روح أما ما كان على نحو ذلك فلا يجوز اللعب به وما كان لا يجوز اللعب به فلا يسوغ عمله ولا بيعه. البنات التي يلعب بها الجواري والبنات التي يلعب بها الجواري إن صح النقل عما كان منها في ملاعب عائشة رضها وذويها قائم الظل تام التصوير فيكون محل رخصة وإن كان غير كامل التصوير فيكون محل رخصة وإن كان غير كامل التصوير حسبما يظهر من كلام هذا الشيخ فالمنع بالجواز مطرد في الباب كله. ومن ذلك ما أجاب عنه في أسئلة بما يعمل في النيروز من صور الحيوان كالزرافات وشبهها مما يعمل في بلدنا في شهر ينير قال لا يحل عمل شيء من الصور ولا بيعها ولا التجارة فيها. والواجب منعهم منه. الأشكال المتخذة على هيئة الحيوان قال في "تنبيه الحكام" وكذلك بيع التصاوير والأشكال المتخذة على هيئة الحيوان كنحو ما يستعمل لجري الماء للحمامات والديار ونحوها على أشكال الأسد وغيره من جنس الحيوان. وكالتصاوير التي تستعمل للصبيان في الأعياد والمواسم كل ذلك منكر لا يحل ويجب تغييره والمنع من جميعه وكسر أواني الذهب والفضة حتى تبطل منفعتها بذلك وتقطع أثواب الحرير أو تحال إلى زي النساء ويفسد شكل الحيوان حتى يذهب أو جله المقصود ويتقدم في ذلك لمن اعتاده بما يجب إن شاء الله.

قلت: وأما الآلات التي يلعب بها الصبيان كالدوامات ونحوها فلا بأس بعملها وبيعها وما وقع في سماع عيسى من كراهة ابن القاسم يمنعها منهم فإنما هي لأجل استخفائهم بذلك من الآباء. قال فيه وسئل ابن القاسم عن الذي يعمل الدوامات للصبيان يبيعها منهم قال أكرهه له قال ابن رشد رحه إنما كره ذلك من أجل بيعه إياها من الصبيان ولا يدري هل أذن لهم في ذلك آباؤهم أو لا. ولو علم رضى آبائهم بذلك ولم يكن للكراهية وجه لأن اللعب مباح لهم لا يمنعون منه شيئا فقال ذلك ابن شعبان وهو صحيح لقول الله عز وجل حكاية من إخوة يوسف في قولهم لأبيهم في يوسف أخيهم {أرسله معنا غدا يرتع ويلعب}. وأما آلات اللهو فلا يجوز عمل ما كان سماعه منها محرما ولا يبيعه وإنما اختلف فيما يجوز استعماله منها مما لا يجوز. والقائل بجواز الاستعمال يقول بجواز البيع ضرورة ومن لا فلا. بيع البوق والعود والكير قال في سماع سحنون وسئل ابن القاسم عن بيع البوق والعود والكير فقال أرى أن يفسخ البيع فيها وأن يؤدبا قال الشيخ ابن رشد رحه أما العود والبوق فلا اختلاف في أنه لا يجوز استعمالها في عرس ولا غيره فيفسخ فيهما باتفاق ولا يقطع من سرقهما إلا في قيمتهما مكسورين. وأما الكير فقوله إن البيع يفسخ فيه يدل على أنه لا يجوز استعماله في العرس وذلك خلاف لما في سماع عيسى من كتاب النكاح ولما في كتاب السرقة من أن من سرقه يقطع في قيمته قائما. ولم يختلف في إجارة الدف وهو الغربال في العرس واختلف في المزمر والكير فقيل إنهما يجوزان فيه وهو قول ابن حبيب وقيل إنهما لا يجوزان فيه وهو قول أصبغ في نوازله من كتاب النكاح وقيل إنه يجوز الكير ولا يجوز المزمر. قلت أما نقل الاتفاق على منع استعمال البوق والعود الذي رتب عليه الاتفاق أيضا على فسخ بيعهما فمدخول بقول ابن عبد الحكم إن سماع العود واستعماله في صنيع لا شرف فيه غير محرم. نقله ابن أبي زيد في كتاب الشهادات من نوادره وكذلك ابن يونس وقوله

هذا شهير في أكثر الدواوين. وأما قول ابن كنانة بجواز استعمال البوق في العرس فلا يظن أحد خفاه على ابن رشد مع جلالة قدره حفظا واطلاعا. من المناكر الزيادة في الوزن أو الكيل والتطفيف ومن ذلك الزيادة في الوزن أو الكيل والتطفيف بها والنقص من معتادها فيعطي البياع الذي يفعل ذلك بالناقص ويأخذ بالزائد. قال في تنبيه الحكام الذي يجب في مثل هذا أولا تفقد المكاييل والموزين وقعبتها الذرع حتى تكون موحدة متفقة القدر في جميع المصر ونواحيه المعهودة به لا يتفاوت منها شيء عن شيء وينبغي تعهدها أبدا من الزيادة والنقصان والاشتداد على من علمت خيانته في شيء من ذلك وتنكيله بالعقوبة التي يستحق مثله. وتقدم الأمناء عليه في تفقد ذلك من ينصح لله تع. قلت ظاهر ما ذكر من إقامة العقوبة لمن فعل التطفيف بالزيادة والنقص على الإطلاق سواء كان ذلك معتادا منه أو لم يكن إلا مرة واحدة وليس في سماع ابن القاسم ولا إخراجه من السوق خاصة. وأما إن كان معتادا للغش بذلك فإنه يزاد على الإخراج الأدب في قول مطرف وابن الماجشون في واضحة ابن حبيب. قال في السماع المذكور وسألني صاحب السوق عن الذي جعل بسوق المسلمين في مكياله زفتا فأمرته أن يخرجه منه ولا يتركه فيه وذلك أشد عليه من الضرب. قال ابن رشد رحه قوله وذلك أشد عليه من الضرب يريد أن ذلك أردع له لأن أهل الفجور والغش قل ما ينهاهم الضرب. وظاهر قوله أنه يخرج من السوق أدبا له وإن لم يكن معتادا لغش خلاف ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون أن من غش في أسواق المسلمين يعاقب بالسجن وبالضرب وبالإخراج من السوق إن كان معتادا للغش يريد الذي قد أدب عليه فلو لم يردعه الأدب عنه وعاد يخرج من السوق ولا يرجع إليه حتى تظهر ثوبته وتعرف صحيح إذا لم يخرج عن السوق أدبا له وإنما أخرج لقطع ضرره عن الناس إذ قد أدب فلم ينفع فيه الأدب. فأما إذا أخرج عنه أدبا له من غير أن يكون معتادا للغش على ظاهر قول مالك هذا لا يمتنع أن يرد إليه بعد مدة يرى أنه قد تأدب بها وإن لم تظهر منه توبة.

قال بعض أهل النظر وإنما يؤدب الغاش بالإخراج من السوق إذا كان لا يمكن أن يرجع إليه دون أن يعرف به. وأما إذا كان يمكن أن يرجع إليه ولا يعرف ذلك لاتساع السوق فلا لما جاء من أن عمر بن الخطاب رضه كتب إلى أمراء الأجناد لا تتركوا النصارى في أعمالهم في الأسواق جزارين ولا صيارفة لأنه يخشى من المعتاد للغش أن يغش المسلمين لما يعلم من استحلاله. وقد قال سحنون قياسا على قول عمر بن الخطاب رضه أن يمنع من السوق من لا يبصر البيع من المسلمين فإذا كان يمنع منه لا يبصر البيع من المسلمين فالذي يغش المسلمين وقد اعتاد ذلك وأدب عليه فلم يردعه الأدب أحق بذلك وأولى. قال في "جامع الأحكام" ومن معناه اليوم ما يقع أنه يجعل بعض الجص في قاع المكيال ويكون له ميزانان للدراهم يأخذ بميزان ويعطي بآخر وصنجتان يبيع بواحدة ويشتري بأخرى فهذا كله داخل تحته التطفيف المنهي عنه. وفي المدونة عن غير ابن القاسم وهو وفاق إنما يجوز أن يشتري بالمكيال الذي جعله الوالي للناس في الأسواق وهو الجاري بينهم فأما مكيال ترك ولا يعرف قدره من المكيال الجاري بين الناس فلا يجوز ويفسخ. فإن قلت هذا الحكم في المكيال والميزان إذا غش بالزيادة في صورتهما الوضيعة عن المعتاد أو بالنقص فما صورة الكيل والوزن وما يحل من الزيادة في فعله وما لا يحل. قلت لما أمر الله سبحانه بالاعتدال في فعل الوزن والكيل وحرم التطفيف وهو الخروج عن الاعتدال بنقص غير معتاد أو زيادة. كذلك قال العلماء رضي الله عنهم صورة الكيل أن يصب ما يكال في المكيال باليد حتى يعلق رأس المكيال ثم يرسل يده ولا يمسكها من غير زيادة على ذلك. قال في سماع أشهب وسئل عما يجب على الكيال في الكيل أيطفف المكيال أم يصبه عليه ويجلب ثم يكيل قال لا يطفف ولا يجلب لأن الله تع يقول: {ويل للمطففين} فلا خير في التطفيف ولكن يصب عليه حتى يجتبذه فإذا اجتبذه أرسل بمده ولم يمسك قال الشيخ ابن رشد رحه كذا وقع في الرواية حتى يجتبذه والصواب حتى يجبنذه قال بعض أهل اللغة الجبنذة ما ارتفع من كل شيء وإنما قلنا إن الصواب لأن الاجتباذ هو الجلب الذي مع منه فقال لا تطفف ولا تجلب والتطفيف في الكيل هو الزيادة فيه على الوفاء وقد يقع

التطفيف على النقصان أيضا قال الله تع: {ويل للمطففين} إلى قوله يخسرون. فسمي النقصان تطفيفا. قال في الموطأ ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف أي أن التطفيف يستعمل في النقصان وصورة الوزن أن يعتدل لسان الميزان من غير ميل وإن سأله ميله فليس من وجه المسألة إذ كثيرًا ما يسمح الناس بالرجحان. قال في السماع المذكور قيل له أرأيت ما اشتري وزنا من الزعفران أو غير ذلك من اللحم ما حد ذلك أبميل الميزان أم حتى يستوي لسان الميزان؟ قال حد ذلك أن يقوم لسان الميزان معتدلا ولا يميله فإن سأله أن يميله لم أر ذلك من وجه المسألة قال الشيخ ابن رشد رحه هذا بين على ما قال إن الوفاء في الوزن أن يقوم لسان لميزان معتدلا فلا وجه للقول فيه وأما سؤاله أن يميله فم ير ذلك من ناحية المسألة إلا أن ذلك مما مضى على فعله الناس إذ هو من التسامح في البيع الذي يندب إليه المتبايعون قال النبي صلعم رحم الله عبدا سمحا إن ابتاع سمحا إن اقتضى وكذلك سؤال الرضيعة بعد البيع. قال الإمام المازري وقد روي عن مالك أنه قال أرى يضرب السلطان الناس على الوفاء وروى ابن وهب عنه أنه كان يجيز الكيل والرزم إذا كانت عادة البلد محتجا بقوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالمعروف} وقال الوفاء عندي إذا ملاء رأس المكيال وأما الرزم والزلزلة فلا أراه من الوفاء كأنه يكرهه وحمل ابن رشد ذلك على التحرير. قال في سماع ابن القاسم وسئل مالك عن الرزم والتحريك في الكيل مثل ما يصنع أهل المغرب أترى ذلك؟ قال ما أرى ذلك وتركه أحب إلي فقيل له فكيف يكال قال يملأ الويبة من غير رزم ولا تحريك ثم يمسك الكيال على رأسها ثم يسرح يديه فهو الوفاء فقيل له فإن قال البائع للمبتاع استوف لنفسك وأبى أن يكيل له. قال إن كان لنفسه فليستوف ولا يتعد. قال الشيخ ابن رشد رحه هذا كما قال إن الرزم والتحريك في الكيل مما لا ينبغي أن يصنع فيه إذ لا حد له يعرف فمن الواجب ينهى أهل الأسواق عن فعل ذلك ولا يجري عليه سيرة وعرفا لأنه عرف مجهول فلا يباح لهم التمادي عليه وقوله وتركه أحب إلي معناه الوجوب وهذا نحو قوله في كتاب الوضوء من المدونة لا يتوضأ بشيء من الأنبذة ولا العسل الممزوج بالماء والتيمم أحب إلي من ذلك أي هو الواجب دونه.

فالوفاء في الكيل كما قال أن يملأ الكيل من غير رزم ولا تحريك ويجمع الطعام فيمسكه بيده على رأس الكيل ثم يسرح يديه فما استمسك منه على رأس الكيل فهو وفاء ولا يجوز للبائع أن ينقص من هذا ولا المبتاع إذا اؤتمن على الكيل أن يزيد عليه. قال الله عز وجل: {ويل للمطففين} وفي محل آخر وسئل مالك عن تطفيف المكيال وقيل له إنهم يستوفون في الحوائط ويكيلون للناس دون ذلك فرأيت مسح رأس الوبية لا ينحش فيه أحد قال: عليك أن تأمر الناس بالوفاء فمن ظلم نفسه ظلم وكره مرة مسح الويبة تطفيفا كراهية شديدة وطرأ التطفيف وتلا {ويل للمطففين} مرتين. وروي عنه صلعم أنه أمر بتصيير الكيل وأن يبتاع عليه وقال البركة في رأس ونهى عن التطفيف وروي أن يكل به (عرنكان) على التطفيف مسحا بالحديدة ويكره الرزم والتحريك ولكن يملأ ويسرح المكيال بيده بعد ملء الصاع فذلك الوفاء. الزمخشري في تفسير سورة المطففين: التطفيف البخس في الكيل والوزن. وروي عنه صلعم أنه قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوا الكيل وقيل قدمها وبها رجل يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالأخرى. وقيل كان أهل المدينة تجارا يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت فخرج رسول الله صلعم فقرأها عليهم وقال خمس بخمس فقيل يا رسول الله وما خمس بخمس. قال ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عهودهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عليهم القطر. وعن علي رضه تع أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له أقم الوزن بالقسط ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها. ويفصل الواجب من النقل. وعن ابن عباس إنكم معاشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والمزيان. وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعا وكانا مفرقين في الحرم كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون. وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول اتق الله وأوف الكيل فإن المطففين يرفقون يوم القيامة لعظمة الرحمان حتى أن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل له إن ابنك كيال أو وزان فقال أشهد أنه في النار وعن أبي رضه لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين.

وفي أحكام السوق ينبغي للوالي المتحري النظر في أسواق الرعية أن يأمر ثقات بلده بتعهد الأسواق وتغيير الصنجات والموازين والمكاييل كلها فمن وجده غير شيئا عاقبه بقدر جرمه وافتياته على الوالي ثم يخرجه من السوق حتى تظهر توبته وخيره. الدراهم المبهرجة وإذا ظهرت دراهم مبهرجة فليشتد فيها ويبحث عن أصلها فإن ظهر محدثها مفردا أو متعددا فليشدد في عقوبته ويطوف به الأسواق مما يكون نكالا لغيره وردعا لهم مما يرى من عظيم ما نزل به ويحبسه بعد على قدر ما يرى ويأمر من يتعاهد ذلك بالتفقد حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم ونقودهم بهذا مما يعم نفعه دينا ودنيا وترجى به الزلفى والقربى هـ. جواب المازري عمن يتولى الطبع للقاضي وسئل الإمام المازري عمن يتولى الطبع للقاضي وحضرة الأمير فوجد عنده طابع مثل طابع نقش القاضي أو الأمير وأنه يطيع به بغير حضرتهما ما حكمه وقد سجن؟ فأجاب إذا كان مأمونا غير متهم بتدليس المكاييل ولا يطبع النقود الناقصة فيضر الناس وهو ممن يجهل هذا أو يظن إباحته فقد يكفي في زجره السجن المذكور ويهدد إن عاد. وإن كان غير موثوق به فليؤب بقدر الاجتهاد. فالمجتري المتحامل يؤدب بالحبس والضرب وغيره مما يجتهد فيه والأدب في مثل هذا مما يجب النظر فيه لكونه من النظر العام بالمسلمين. فتوى ابن عرفة فيمن يتهم بضرب الدنانير المدلسة قلت قال الشيخ البرزلي ومثل هذا مما وقع فيمن يتهم بضرب الدنانير والدراهم المدلسة. وكان شيخنا الفقيه الإمام يعني ابن عرفة يشدد فيها أقوى تشديد وأفتى فيمن اتهم بذلك أن يخلد بالسجن حتى يموت وكذلك وقع فيه يعني في السجن حتى مات فيه. وقد تكلم فيه شيخنا أبو عبد الله البطريني رحه تع بالشفاعة وكنت رسوله إلى شيخنا الإمام فلم يعط فيه يدًا وقال هو أشد من قطع الدنانير والدراهم ورد النص فيها عن ابن المسيب أنه من الفساد في الأرض وهذا ينظر فيه بحسب قوة ما يترتب عليه من عموم المفسدة وضعفها.

قلت وما اعتمده الشيخ ابن عرفة من نص ابن المسيب في ذلك ومثله أنه من الفساد في الأرض به جرى عمل الأئمة وعمالهم فيمن يفعل الدلسة في النقود فإنهم يقطعون أيديهم وقد كان القطع من خلاف أحق بإتباع نص الشارع لكنهم قد يرون قصر المفسدة في هذا بخصوصيته على عمل اليد فإذا قطعت ارتفعت المفسدة بزوال آلاتها. وأقوال إن فساد سكة المسلمين وغش دراهمهم قد عم وقوعه بهذه البلاد المغربية بأسرها ولم يقع لمادة ذلك حسم ولا إزالة حتى كادت رؤوس أموال الناس تنقرض من أيديهم بغلاء الأسعار في كل شيء لطي العدد في المبيعات بالزيوف عن قيم العدل حتى في الأكرية والاستيجار فإنه لله وإنا إليه راجعون. فرعان فرعان: الأول منهما قال في سماع محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن الوالي بعد وال آخر كان قبله فيزيد في المكيال. قال إن كان في ذلك نفع للمسلمين بموافقة حق لا يكره الناس على البيع فلا أرى به بأسا. قال ابن رشد رحه: هذا بين على ما قاله إنه إذا كان في ذلك نفع للمسلمين بموافقة حق كان له أن يفعله وأما قوله لا يكره الناس على البيع به ففيه نظر لأن له أن يحمل الناس على التبايع به إذا رأى في ذلك نفعا للمسلمين فمعنى قوله لا يكره الناس على البيع أي لا يحجره جملة حتى لا يجيز لأحد بيعا إلا به. قلت: فإذا كان وجه النفع والمصلحة للمسلمين فيه من وجه ظاهره ومفسدته من وجه باطنه فالصواب منع إحداث الزيادة فيه كما ذكر لي سيدنا الجد الأقرب عن معارضته في الزيادة في صاعنا يوم أريدت الزيادة فيه عما كان قديما يعرف بالتاشفيني بهذا الذي بين أيدينا اليوم نكيل به يعرف بالوهراني محتجا على من باحثه من الأصحاب بأن أعظم المفاسد إعطاء الوظائف المخزنية للظلمية به وخصوصا ملك الجوار والثوار من العرب تشريع هذا الوطن. فكل ما يأخذون بذلك المكيال المزاد في صحيفة الذي زاد فيه أو أفتى بالزيادة فيه فانقطع الباحث قال ولم يكن لي والحمد لله في تسويغ إحداثه تلفظ ببنت شفة حتى يسألني الله في الآخرة عن ذلك. الثاني: لو وقع التبايع بين متبايعين على ذراع شخص معين عند التعاقد فذلك جائز ويقضي به على (الأبي) وإن لم تقع التسمية عند التعاقد وأراد أحدهما حمل الآخر عند التقابض على ذراع شخص معين لم يقض على (الأبي) به وكان القضاء بالذراع الوسط.

واختلف هل يوجب ذلك فسخا. قال في سماع أصبغ وسمعت ابن القاسم يقول فيمن سلف في قراطيس طولها عشرون ذراعا فلما حل الأجل قال المشتري إنما لي بذراعي. وقال البائع بل بذراعي ولم يكونا سميا قال لا ينظر إلى قول هذا ولا هذا وأرى أن يحملا على ذراع وسط. قال ونزلت فأفتيت فيها بذلك. قال أصبغ: ولم ير هذا فسخا. وهذا أحسن عندي والقياس الفسخ. قال الشيخ ابن رشد رحه تع في قوله ولم يكونا سميا دليل على أنهما لو توافقا على أن السلم وقع بينهما على ذراع أحدهما بعينه لجاز وهو مذهبه في المدونة. لأنه أجاز السلم على ذراع رجل بعينه قال ويكفي أن يسمي الذراع فقط فإن اختلفا فيه عند القبض كان له الوسط من أذرع الناس هذا إذا لم يكن القاضي قد جعل ذراعا للناس يتبايعون عليه فإن كان قد نصب ذراعا للناس يتبايعون عليه وجب الحكم به والرجوع إليه عند الإبهام. وتحصيل القول في هذه المسألة عندي أن القاضي إن كان نصب للناس ذراعا يتبايعون عليه لم يجز اشتراط ذراع رجل بعينه كما لا يجوز ترك المكيال المعروف الجاري إلى مكيال مجهول. وإن لم يكن للناس ذراع منصوب فهذا موضع الاختلاف. قيل إن موضع الذراع الوسط كالذراع المنصوب فلا يجوز السلم على ذراع رجل بعينه وإنما يجوز على الذراع الوسط أو على ذراع ولا يسميا شيئا فيحكم بينهما بذراع وسط وهو الذي ذهب إليه ابن حبيب. وقيل إنه لا يكون الذراع الوسط كالذراع المنصوب ويجوز السلم على ذراع رجل بعينه وعلى ذراع وسط كما يجوز شراء الطعام على مكيال مجهول في القرى ومن الأعراب حيث ليس لهم مكيال يتبايعون عليه وهو مذهب ابن القاسم في المدونة ودليل قوله في هذه الرواية. فإن لم يسميا شيئا حملا على ذراع وسط. وقول أصبغ استحسان والقياس الفسخ ولو اختلفا على هذا القول فقال المسلم وقع السلم على ذراعي وقال المسلم إليه بل على ذراعي كان الحكم في ذلك حكم اختلافهما في عدد المسلم فيه. وأما على القول الآخر فيفسخ السلم بينهما لاتفاقهما على أنه وقع فاسدا ولو ادعى أحدهما أن السلم وقع على ذراع وسط لكان القول قوله لأنه مدعى الصحة دون صاحبه وكذلك لو اختلفا حيث ثم ذراع منصوب فادعى أحدهما الذراع المنصوب.

الغش في المطعومات: القمح والشعير وجميع القطائن ومن ذلك الغش الذي يكون في المطعومات وغيرها. فمنه عدم غربلة القمح والشعير وجميع القطائن مما يمكن فيها من الغلث لأن بقاءها من الغش الذي يزداد للبائع في كمية المبيع مما ليس منه بحيث لو تجرد الغلث الذي وقع الغش به لم يساو شيئا ففي "أحكام السوق" وسئل عن أهل الأفران البائعين الخبز هل يغربلون القمح والشعير والفول والعدس والحمص وجميع القطائن. فقال عن مالك لا تبيعوا ذلك حتى تغربلوه ورواه ابن وهب قال ابن عمر أرى أن يلزموا ذلك وفي المدونة يغربل القمح والشعير للبيع وهو الحق الذي لا شك فيه فظاهره مثل تقييد ابن عمر. وخصص ابن رشد وجوب الغربلة بالغلث الكثير في كتاب السلطان وأما غربلة القمح والسلت عند البيع فذلك واجب إن كان التبن والغلث فيه كثيرا يقع في أكثر من الثلث لأن بيعه على ما هو عليه من الغرر. ومستحب إن كان التبن والغلث فيه يسيرا. ومنه خلط الجيد بالدني والفائق بالردي. قال مالك فيمن خلط قمحا بشعير لقوته أكره بيع ما فضل له منه وإن قل وكذلك التمر والعسل والسمن وقال رب السفينة يبتاع القمح الأسمر والمشعر ثم يشتري أبيض يصب عليه الأبيض ويخلط قال فلا خير فيه وليجعل كل شيء على حدة. الغش في الزيت والسمن وفي سماع عيسى وسألته عن الرجل يخلط الزيت الردي بالزيت الجيد والسمن الجيد بالردي والقمح الردي بالجيد هل ترى يحل من هذا شيء. قال ابن القاسم لا خير فيه ولا يحل وهذا من الشر فلا يحل وإن كان يريد أن يبين إذا باع فلا خير في ذلك ولا يحل له خلطه ولا أدري كيف سألت عن هذا قد قال لي مالك في شيء سألته عنه أنت حتى الساعة ها هنا تسأل عن مثل هذا؟ قال ابن رشد رحه هذا كما قال إن خلط الجيد بالردي للبيع من الغش الذي لا يجوز لأحد أن يفعله ولو بين عند البيع أنه مخلوط وينبغي للإمام أن يمنع منه ويضرب عليه. فإن فعل كان للمشتري أن يرد وإن بين أنه مخلوط جيد بردي إلا أن يبين مقدار الردي الذي خلطه بالجيد وصفتهما جميعا قبل الخلط حتى يستوي عليهما فيه فلا يكون للمشتري حينئذ أن يرد ويكون هذا قد باء بالإثم في خلطه إذ قد يغش به غيره لأنه ممكن أن يغش

به أو ممن لا يدري ما يصنع به ويكره أن يبيعه ممن يخشى أن يغش به ولا يجوز له أن يبيعه ممن يعلم أن يبيعه ممن يغش به. وهذا في الصنف الواحد الذي يختلط ولا يمتاز بعد الخلط جيده من رديه كالزيت والسمن والعسل وشبه ذلك وأما الصنفان اللذان يمتازان بعد الخلط إلا أنه لا يعلم مقدار كل واحد منهما من صاحبه كالقمح والشعير والسمن والعسل والغلث والطعام وما أِشبه ذلك فإن كان أحد الصنفين منهما يسيرا جدا تبعا لصاحبه جاز أن يبيع ولا يبين أن المشتري يراه ويعرفه. وإن لم يكن أحدهما يسيرًا ولا تبعًا لصاحبه فلا يخلو من أن يكون يمكن تمييزه أو لا يمكن تمييزه فإن كان يمكن تمييزه كالغلث مع الطعام واللحم السمين مع المهزول وما أشبه فلا يجوز أن يباع الكثير من ذلك على ما هو عليه حتى يميز أحدهما عن صاحبه ويجوز أن يباع القليل منه على ما هو عليه على ما قال في اللحم والسمن والمهزول وإن كان مما لا يمكن تمييز أحدهما من صاحبه كالسمن والعسل والقمح من الشعير والماء من العسل واللبن وما أشبه ذلك فقيل إنه يجوز بيعه كما هو على بيان ما فيه إذ لا يقدر على تخليص بعضه من بعض من يأكله ويؤمن أن يغش به. الغش في اللبن والعسل وقاله ابن حبيب في اللبن والعسل المغشوش بالماء وقيل إن ذلك لا يجوز وهو قول مالك في الواضحة وكتاب ابن المواز من خلط قمحًا بشعير لقوته فيكره أن يبيع ما فضل له منه يريد أن يبين مقدار الشعير فيه من القمح وقيل إن كان خلطه للبيع لم يجز له أن يبيعه وإن كان خلطه للأكل وهو قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة هذا تحصيل القول في المسألة. قلت: قوله فيما لا يمكن تمييزه مما خلط به كالماء مع اللبن يريد إذا خلط به لمجرد الغش بالزيادة في كمية اللبن بما يداخله من الماء أما إذا كان لمصلحته والتحام أجزائه كما يصنع به عند إخراج زبده فخلط الماء به إذ ذاك ليس بمحظور قال في سماع أشهب وسئل عما يخلط النساء اللبن بالماء لاستخراج زبده ما ترى به بأسا؟ قال لا بأس بذلك وذلك يصنع عندنا.

خلط العصير بالماء وأما الذي أكره من ذلك يخلط به الماء بعد ذلك فأما الذي يصلح به فلا بأس به. سحنون والعصير يراد به الخل فيجعل فيها الماء ليفسدها بذلك لئلا تصير خمرا ويكون ذلك أعجل للتخليل فلا بأس به قياسا على قول مالك في هذه المسألة. قال ابن رشد رحه هذا كما قال إن خلط الماء باللبن لاستخراج زبده وبالعصير لتعجيل تخليله لا بأس بذلك لأنه إنما يفعل للإصلاح لا للغش والإفساد وكذلك التبن يجعل تحت القمح عندما يخزن. ولما صحت عند سحنون علة مالك في جواز خلط اللبن بالماء لاستخراج زبده قاس عليها خلط الماء بالعصير لاستعجال تخليله فإنما قاس على علته لا على مجرد قوله دون الاعتبار بعلته فقوله قياسا على قول مالك معناه قياسا على قول مالك وقد وقع ذلك لمالك نصا في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع. خلط اللحم السمين بالمهزول فإن قلت هذا الذي تقدم ذكره مما خلط من اللحم السمين بالمهزول وشبه ذلك مما يكره تمييز بعضه فقال فيه لا يجوز أن يباع الكثير منه على ما هو عليه حتى يميز أحدهما من صاحبه لم يبين في قوله حد الكثرة التي يمتنع منها البيع دون تمييز من القلة التي يجوز البيع معها حالة الخلط قائمة دون تمييز فهل لذلك حد ونسبة ينضبط بها المنع والجواز؟ قلت وقع لابن القاسم تحديد ذلك بالستة الأرطال وما حولها مما يشتري بالدرهم والدرهمين ويمتنع ما فوق ذلك إلا مع التمييز. قال في سماع عيسى وسئل عن الجزار يكون عنده اللحم السمين واللحم المهزول فيخلطهما جميعا فيبعهما بوزن واحد مخلوط والمشتري يرى ما صنع من المهزول والسمين غير أنه لا يعرف وزن هذا من هذا. قال ابن القاسم إذا كانت الأرطال اليسيرة الخمسة والستة ومثل ما يشتري الناس من المجازر بالدرهم والدرهمين ونحو ذلك فلا أرى به بأسا فإن كثرت الأرطال مثل العشرين والثلاثين وما أشبه ذلك فلا خير فيه وأرى أن يمنع الجزارون من مثل هذا الخلط للسمين والمهزول وأراه من الغش ولا أرى ذلك يحل لهم.

قال الشيخ ابن رشد رحه تع هذا كما قال لأن البيوع لا تنفك عن الغرر اليسير فهو مستخف فيها مستجاز ومن الدليل على ذلك أن رسول الله صلعم نهى عن بيع الغرر والبيع لا يوصف بأنه غرر حتى يكون الغرر ظاهرا فيه وغالبا عليه وإنما يجوز شراء الأرطال اليسيرة من اللحم المخلوط السمين بالمهزول إذا اشتراه كله فرأى ما فيه من السمين والمهزول وإن لم يعرف حقيقة ما يقع هذا من هذا إلا أن الغرر فيه خفيف يسير فأما إن كان إنما اشترى منه وزنا معلوما على أن يعطيه إياه من السمين والمهزول وهو لا يدري قدر ما يعطيه من كل واحد منهما فلا يراه حين يزنه فلا يجوز قليلا كان أو كثيرا إلا أن يقع شراؤه على أنه بالخيار حين يبرزه فيزنه. شراء التين والعنب وعلى هذا المعنى صورة شراء التين الأخضر عندنا على العدد لأنه لو اشترى منه من جملة تينه في التمثيل على أن يعدها له البائع أو على أن يعدها المبتاع لنفسه يختارها ولم يجز لأن البيع إن وقع بينهما على أن يعدها البائع كان غررًا لا يدري المبتاع ما يعطيه لأنها تتفاوت تفاوتا بعيدا في الصغر والكبر والنضج والطيب وإن وقع بينهما على أن يعدها المبتاع لنفسه ويختارها دخلها التفاضل وبيع الطعام قبل استيفائه لأنه مخير بين أن يأخذ الصغير أو الكبير فكان قد باع أحدهما بالآخر لا يجوز البيع في ذلك إلا على أن يكون المبتاع بالخيار حتى يعد له ما يعد فإن رضي أخذ ولا ترك. وهذه المسألة تدل على جواز صبرتين صغيرتين مختلفتين في الجودة أو في النوع على كيل واحد فإن كثرت الجيدة غبن البائع وإن قلت غبن المشتري فإن صغرتا حتى يعلم قدر كل واحد جاز على ما قال في اللحم وهو قياسه. قلت: فلو لم يقع شراء التين من الفكاه على العد كما ذكر ابن رشد وبيعت في الأوعية والظروف المخصوصة بها بحيث يكون اختلاف تلك الظروف لا يوقع جهلًا بحوز ما في باطن كل واحدة لتكرار ذلك على المشترين والغالب على ما في حشوها من التين التفاوت. فقال في جامع الأحكام وأما ما يفعل اليوم من تعبئة التين والعنب في القراطل والسلال فأعلاه خير من أسفله ووسطه ولكنه قريب من المناسبة بعضه من بعض وأهل الأسواق يعرفون ذلك فلا بأس به فإن خرج كذلك فلا مقال له وإن كثر الاختلاف بالرداءة فله رده إذا خرج عن المعتاد وينهى عن ذلك فإن عاد تصدق به عليه.

وكان بعض المتورعين يعمل الطيب أسفل والردي فوق فإن لم يشتهر بذلك فهو حسن وإن اشتهر بذلك ثم وجد واحدا أعلاه وأسفله ففي رده نظر قال وكان يتقدم لنا ذلك في المجالس على باب البحث فإن قلت إذا كان له الرد بما يجد من الردي بالأسافل هل ذلك في كل الحالات أو في حالة دون أخرى قلت إنما يكون له الرد فيما يجد بأسفل الوعاء من الردي إن فرغه بحضرة البائع فوجده كذلك أو صدقه البائع في ذلك بعد أن غاب عليه أو قامت به بينة لم تفارق المبتاع حتى فرغه فوجد الردي أسفله أما إن لم يكن شيء من ذلك فلا يصدق المشتري بعد الغيبة عليه أن ما حضر من الردي كان من ذلك الوعاء. بيع التين والمصير والحوت في أزيار والرمان والبطيخ في قفاف قال في النوادر وكتب شجرة إلى سحنون في التين يباع في أزيار قد رزم فيها والمصير في أزيار والحوت المالح فيشتري من ذلك زيرا أو أزيارا وقد قلب أعلاه فيرضاه ثم يغيب عليه ثم يأتي بعد ذلك بأيام كثيرة أو قليلة فيزعم أنه وجد أسفله خلافا لما قلب في أعلاه من التين أو المصير في أزياره أو الحوت المالح ويقول البائع ما كان أسفله وأعلاه إلا سواء كما رأيت ويأتي بما يزعم ثم يأتي من يومه أو من بعد الغد بشيء دني يقول إنه وجده أسافل السلال فيكذبه البائع وربما اختلفا كذلك في الرمان والبطيخ يباع في قفافه ويقلب أعلاه. فقال سحنون إذا اشتروا على ما رأوا من أعلاه وكذلك تباع هذه الأشياء ثم يأتون بعد أن غابوا علها فيدعون خلافا لما رأوا فهم مدعون وعليهم البينة حتى وجدوا الخلاف وإلا حلف البائع ألا أسفل الوعاء مثل أعلاه وبرى. خلط الألبان والزبد ومنه خلط الألبان وأنواع الزبد بالسمن المختلفة بحسب اختلاف ما خرجت منه من الحيوان إذا كانت الأغراض تختلف في ذلك في بعض الأزمان أو بعض القرى والأمصار والأوطان قال في سماع أشهب وسئل عن لبن البقر والغنم يخلطان جميعًا فيضربان ويخرج زبدها ثم يباع اللبن فقال أحب إلي ألا يخلطا جميعا وأن يضرب كل واحد منهما على حدته وإن ضربا جميعا فأرى عليه إذا باع اللبن أن يبين ذلك للمبتاع فيعلمه أنه لبن بقر وغنم. قلت: أفرأيت إن باع الزبد الذي خرج منهما والسمن الذي خرج منهما أترى ذلك

عليه أيضا أن يبين ذلك للمبتاع ويقال له إنه سمن بقر وغنم فقال لي: نعم أرى ذلك عليه أن يبين ذلك للمبتاع ليس لشيء من الزبد ولا من السمن ولا من اللبن مثل زبد الغنم وسمنها أو مثل لبنها أطيب ولا أجود فأرى أن يبين ذلك إذا باع وأحب إلي ألا يخلطهما. قال ابن رشد رحه تع قوله أحب إلي ألا يخلطهما ليس على ظاهره وهو يجوز في اللفظ بل لا يحل ذلك ولا يجوز وإن بين لأنه من الغش وكذلك قال ابن القاسم في سماع عيسى وقال مالك في كتاب ابن المواز يعاقب من يخلط طعاما بطعام دونه أو قمحا بشعير ويمنع من بيعه على ظاهر ما في كتاب ابن المواز ومن أجل الذريعة فإن باع وبين مضى البيع لم يكن للمبتاع رد وقد أساء فليس في قوله مباح له أن يفعله وإنما معناه أن ذلك يلزمه من أجل حق المشتري فإن لم يفعل كان له أن يرد ويلزمه إن بين قدر ما فيه من كل واحد منهما إن علم ذلك وإن لم يعلمه أخبر باختلاطهما وإنما يكون للمبتاع أن يرد اللبن المخلوط والزبد والسمن إذا كان زبد الغنم وسمنها ولبنها هو الغالب في البلد أو كانا متساويين وأما إن كان لبن البقر وزبدها وسمنها هو الغالب بالبلد فليس له أن يرد شيئا من ذلك إذا وجده مخلوطا بلبن الغنم لأنه لو وجده كله لبن بقر لم يكن له أن يرده فكيف إذا وجده مخلوطا بلبن الغنم. وهذا على ما ذكر مما هو لا شك معلوم عندهم أن لبن الغنم وزبدها وسمنها أفضل من لبن البقر وزبدها وسمنها. وأما على ما هو معلوم عندنا من أن سمن البقر أفضل وأطيب من سمن الغنم فليس له أن يرد السمن المخلوط إذا كان الغالب في البلد سمن الغنم وإنما له أن يرده إذا كان الغالب بالبلد سمن البقر أو كانا متساويين كما لو اشتراه فوجده سمن غنم. قاعدة: قلت ذكر رضه فيما وقع الرد فيه من هذا النوع في سماع أشهب من كتاب العيوب شكل قاعدة على ما قع في الرواية فقال كل شيء يباع من جنسين متساويين في البلد فالبيع يقع على أفضلهما فإن وجد الأدنى كان له أن يرد وإن وجد الأفضل لم يكن له أن يرد إلا أن يكون اشترى على أنه من الصنف الأدنى فوجده من الصنف الأعلى فيكون له أن يرد بشرطه إذا كان لاشتراطه وجه كمن اشترى عبدا على أنه نصراني فوجده مسلما فيكون له أن يرده إن قال إنما اشترطت نصرانيًا لأزوجه لأمة لي نصرانية أو ليمين على أن أشتري مسلما أو ما أشبه ذلك مما يذكره ويكون له وجه هـ.

وقد ذكر في هذا الوجه اشتراط الأدنى لغرض من الأغراض ثلاثة أقوال يرد به لا يرد به الفرق بين أن يبدو لقوله وجه يدل على صدقه فيرد أو لا يرد فانظره في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب العيوب وقد قال ابن حبيب في الواضحة لا رد له بالعثور على الأدنى من الجنسين إلا إذا اشترط الأفضل ويكون البائع نسب المبيع إلى جنس فألفاه المبتاع من جنس غيره أدنى عند الناس فله أن يرد وذلك خرم في القاعدة المطلقة في الرواية. فإن قلت فما يفعل بما وقع فيه خلط الدني بالجيد من سمن ولبن وزبد وعسل ولحم وزيت وحبوب إن عثر المبتاع على الخلط فيه بنفسه أو يتبين البائع له فأبى من قبوله قلت إن عذر البائع بجهالة باعه بعد ذلك على البيان والتبري مما فيه من الغش ويتقدم إليه ألا يعود فإن عاد تصدق على المساكين به بعد الأدب والتنكيل قال يحيى بن عمر في "أحكام السوق" في الذي يخلط الجيد بدونه لينفقه قد أفسده لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} فهو يظن الربح وقد أهلك نفسه بهلاك دينه فإن رده المبتاع على البائع أخذ ثمنه منه وتقدم إليه ألا يبيع هذا فإن نهي فباع أخرج من السوق. منع الجزارين من الخلط ولا يخلط الضأن بغيره وليجعل كل صنف على حدته على وضم ويبيع كل واحد بسعر يخصه وكذلك غير اللحم من الطعام وغيره فإن عاد بعد التقدم والإخراج نكل وتصدق به على المساكين قلت ظاهره سواء كان قليلا أو كثيرا وفيه خلاف سيأتي تحصيله إن شاء الله تعالى. ثم قال وإن خلط السمين بالهزيل والضأن بالمعز فاطلع عليه فهرب من الحانوت والخباز يبيع الخبز الناقص فيهرب من الحانوت أيضًا فليقفل عليه فإذا خيف على ما فيه الفساد من لحم وخبز بيع وأوقف ثمنه. ويمنع الجزارون من خلط اللحم ببطونه ومصران وكرش وشحم البطن والدوارة والفؤاد وألا يسعر عليهم إلا اللحم وحده. وهم بمصر يبيعون اللحم وحده رطلين بدرهم والبطون ستة أرطال بدرهم فلذلك قلنا لا يجوز خلط اللحم ببطونه. قال الشيخ الإمام أبو القاسم البرزلي: هذا إذا تقررت عادة فواضح وأما إذا لم تقرر

أو تقررت ويعلم قدر اللحم من البطون فهو مدخول عليه جائز قلت وكذلك قال الشيخ أبو عمر بن الخاجب في مختصره الفقهي ولا يأخذ من البطن إلا بعادة وقال ابن القاسم أيكون لحم بلا بطن فما مقداره قال قد جعل الله لكل شيء قدرًا لأنها كانت عادتهم. فعل الجزارين بتونس والقيروان وتلمسان ثم قال البرزلي: وهم اليوم بتونس يبيعون اللحم ويعطون شيئًا من بعض البطون في الميزان على قدر الثمن في لحم البقر والغنم وهذا إذا باعه الجزارون وفي القيروان يفعلون ذلك في البقر دون الغنم وكذلك في القرى فيما يبيعونه جزافًا مكدسًا من لحوم البقر فإن تقررت هذه العادة وكان قدر كل صنف معلوما غالبا فهو جائز. قلت وكذا تقررت العادة ببلدنا تلمسان أن ما يبيعه الجزار من اللحم يدخل في وزنه شيئا من الكرش والمصير على قدر شدة الثمن وقلته إلا أن ذلك لا ينضبط تساويه بين جميع الناس على نسبة محفوظة من كل ثمن ومثمون وإنما يختلف بحسب اختلاف من يتقى بأسه من المستضعف الذي لا ناصر له إلا الله. فالأول يحمل القليل من الكرش وقد لا يحمل شيئا بحسب اختلاف درجاتهم والآخر يحمل الكثير في مصابته كرشا ومصرانا وما ذلك إلا من سوء دينهم وضعف يقينهم وأمنهم العقوبة بولاية من لا يتقي الله ولا يخافه عليهم فيضيع حقوق المسلمين بما يناله ينيلونه من رشوة سحت لا يسمن ولا يغني من جوع. وقد كانت هذه الولاية من أصفى الولايات الشرعية ظاهرًا وباطنًا إذ هي داخلة في عموم ولاية القضاء بحيث إنهم قالوا لا يحتاج في عقد الولاية للقاضي إلى تنصيص عليها فلما أخرجت من دائرة الحق وانفرد بها ضعيف الدين من لا يرقب إلًا ولا ذمة في أحد من المؤمنين أدركتها كدورة الباطن والظاهر. قال الفاضل بن الأكفاني في كتابه الذي وضعه في العلوم إن علم الطب من أشرف علوم الإسلام إذ العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان ولم يزل على ذلك الشرف حتى تعاطاه محشفة اليهود فلم يشرفها له ولكن رذل بهم وكذلك قال الشيخ ابن عبد السلام التونسي رضه إن أكثر الخطط الشرعية في زماننا أسماء شريفة على

مسميات خسيسة ثم قال وكذلك لو استوى سوم القمحين في الثمن والقرص منهما واحد فهو جائز وإن كان يختلف فهو بمنزلة الصرتين المختلفتين على الكيل فيفرق بين الكثير والقليل كما تقدم. خلط السلع وأما ما يبيعونه من السلع وفيها الجيد والردي والمتوسط فإن كان يختلف اختلافًا بينًا فقد تقدم أن ذلك لا يجوز وإن كان اختلافه متوسطًا وجرت العادة ببيعه جملة مثل اللد بالبلاد الشرقية ومثل مكة المشرفة زادها الله تعظيمًا وتشريفًا وكذلك عود الطيب والزنجبيل والجوزة وغير ذلك مما شاهدناه فإن كان أجزاء ما فيه من الطيب والمتوسط والردي يفرق بالتقدير غالبًا فيبيعه بذلك جائز وما خرج عن المعتاد حتى يحدث جهالة في التقدير فلا يجوز بيعه إلا بعد التصفية كما قالوا في القمح المغلوث وإن كانوا في بلدنا يبيعونه إلا مميزا غالبا مثل ما شاهدنا بتونس في اللد والمصطكى فلا يباع إلا كذلك قال ابن محرز ويتقدم للقران ألا يخلط الجيد بالردي من القمح ويجعله خبزا ويبيعه لأهل السوق فإن عاد بعد النهي أدب وأخرج من السوق قال في "جامع الأحكام" ويلزم ما تقدم به في اللحم والبطون أن يبيع خبز السميد على حدة والدقاق على حدة والخشكار على حدة وهذا أيضا في قوم يميزونه مثل الحواضر وأما ما شاهدناه من قرى الشام ومصر فإنهم يعملون الخبز بمجموع ما يخرج من القمح وما يسقطون منه إلا النخالة الكبيرة خاصة فهو جائز لأنه معلوم أنه من جملة أجزاء القمح وكذا بيع دقيق القمح على هذا النمط. من الغش نفخ اللحم ومنه نفخ اللحم قال في سماع ابن القاسم وسئل مالك عن نفخ اللحم كما يفعل الجزارون وقال إني لا أكرهه وأرى أن يمنعوا وهو يغير طعمه وقال أشهب في كتاب العتق سمعت مالكًا يقول أرى أن يؤدب الجزارون والذين ينفخون اللحم وأرى أن يمنعوا من ذلك. قال ابن رشد رحه يعني بهذا النفخ بعد السلخ الذي إنما يفعلونه ليظهر اللحم به

سمينا فهو يكره لوجهين: أحدهما ما ذكره من أنه يغير طعم اللحم والثاني أنه من الغش المنهي عنه في البيوع قال رسول الله صلعم: من غشنا فليس منا. أي على مثل هدينا وطريقنا. ولو اشترى المشتري اللحم المنفوخ ولم يعلم أنه منفوخ لكان له أن يرده من ناحية الغش ومن وجه تغيير رائحته أيضا ورده من جهة الغش أبين، وأما نفخ الذبيحة قبل السلخ فلا كراهة فيه لأنه يحتاج إليه وفيه صلاح ومنفعة. قلت لأنه مما لا يتوصل لكشف الجلد عن اللحم إلا به كما تقدم في خلط اللبن عند الضرب بالصل لإخراج زبده. الغش في الخبز ومنه ما يوجد في الخبز بعد طحنه من نقص في وزنه أو في طبخه أو في رداءة دقيقه فقد سئل الإمام المازري رحه عمن يوجد خبزه ناقصا أو في دقيقه النخالة هل يخرج من السوق أو يتصدق به. فأجاب إن تكرر هذا الفعل من الخباز أخرج من السوق وكذلك من تكررت منه الخيانة والسرقة. أما الصدقة بالخبز فإن كان فقيرا ترك والصدقة ببعضه أحسن ويتصدق به على الموسع لوجهين أحدهما أن من هذا شأنه فالغالب عليه أن يتعلق بذمته للفقراء مثله أو أكثر. والثاني الجهل بالمسروق منهم يوجب كونها ظلامة لغير معين وهذا من تكرر منه مثل هذا في الدقيق يخرج من السوق على نحو ما مر. قلت هذا الذي ذكره من حكمة الصدقة بما وقع الغش به هو المناسب للطريق الفقهي لأنه لما وقع استشعار أن الغاش مغترق الذمة بما أخذ من الأعراض في مقابلة ما غش به إذ ليس هو إلا عين أكل المال بالباطل سلك به مسلك من كان ماله كله حراما أو غلب عليه الحرام بالتباعات والظلامات. وفي صرفه قولان أحدهما أن يصرف بصرف الفيء والثاني أن يصرف بصرف الصدقة وكان يتقدم لنا عن شيخنا أن صرفه مصرف الصدقة في هذا الزمان متعين لفقد العدل في بيوت الأموال كما وقع لابن القاسم في عصوبة بيت المال إن كان كعمر بن عبد العزيز صحت وإلا صرف نصيب العاصب مصرف الصدقة لأنه مال جهل ربه بعدم اطلاعنا خاصة وإلا فهو في علم الله موجود وإنما جهلنا تحقيق شعب الأنساب بمضي السنين والأحقاب لأن بيت المال في صحيح القولين حافظ لا وارث.

وبهذا تبين فساد القول بأن مشرع هذه الصدقة من العقوبة في المال أو بالمال فإن قالوا قد تكفل ذلك قوله في المدونة يتصدق به أدبا لصاحبه قلنا إنما قال أدبا لما وقع استحسانه من الصدقة بعين ذلك المال الذي وقع الغش به وإلا فلا خصوصية له عن سائر مال من اغتره والحرام ذمته بالغش أو بالربا أو بالمكس أو غيرها من سائر المظالم فقال أدبا له أي بإيلام قلبه بإتلاف ما أوقع المعصية فيه. لأن الغالب أن الآداب الحالة بمن ارتكب محظورا إنما تكون في النفس أوقع وفي الزمان أردع عند العثور عليه متلبسا بذلك المحظور فحسن لذلك قوله أدبا له لأن العقوبة والأدب إنما حصلا له بإيلام قلبه بإزالة المال الذي انتهك فيه حرمة الحق لا بالمال نفسه لأنه لا ما كله عليه وإنما هو للمساكين بسنة العلماء به سنة المغترق الذمة استحسانا. فقد قال الإمام تسعة أعشار الفقه استحسان عشر واحد في القياس. ولأجل باب الاستحسان وقع اختلافهم في القدر الذي يتصدق به. فمنهم من رأى الاقتصار على القليل ومنهم من رأى عموم الصدقة به قليلا كان أو كثيرا واختار بعضهم التحرير. قال في "تنبيه الحكام" لما حكى قول ابن القاسم بالاقتصار على القليل والذي اختاره من جهة النظر والاستدلال بلا أصول وأظن أني سمعته من بعض أشياخنا أن ما كان من ذلك كالخبز الناقص والشيء المغشوش بغيره مما ينتقص بالغش استيفاء الحق فيه وكنقص الذرع والوزن والكيل وما في معنى ذلك مما لا يستوفي منه المشتري حقه مما علم من ذلك أن الغاش قد فوته أو شيئا منه بالبيع على تلك الحال من قوم لا يعرفون ولا يمكن استرجاعهم فواسع أن يخرج من مال الغاش القدر الذي يعلم إن تحرى أنه احتبس لأولئك المشترين ويتصدق به على أربابه المستحقين له في علم الله تع لأن ذلك حق بقي في يديه لغيره ممن لا يتمنى على شبه الاختلاس والغصب فكان للحاكم أن يتصدق به على مستحقه ولا يترك في يد غاصبه فيتم له غرضه من الحرام بل يستحق الغاش مع ذلك الأدب الزائد على إيلام نفسه بنزع المال فإن الحكم فيمن غصب حقا لأحد أن يكون عليه بعد الأعداد الأدب والسجن على قدر اجتهاد الحاكم حقا لله لا يسقطه عنه عفو المغصوب منه لأنه ظالم وعقوبة الظالم واجبة ليتناهي الناس عن حرمات الله. وكذلك يكون احتباس الناس لحقوق في نقل الكيل والوزن والذرع من نوع الغصب والعداء فهذا المسلك في الحكم بعقوبة الغاش في الأموال ظاهر التوجيه والاستدلال وعدل فيما تقدم من الأقوال هـ.

الغش في الخبز وفي " أحكام السوق" أن من اشترى خبزة فكسرها أو أكل اليسير منها فوجد فيها حجارة فليردها مع قدر ما أكل منها على البائع ويأخذ ثمنه ويرجع البائع على الفران بثمنها المدفوع وتلزمه قيمتها على أن فيها الحجارة وينهى صاحب الفرن عن هذا ويؤمر بأن لا يطحن القمح حتى يغربله وينقيه من الحجارة والغلث ولا يرخص لهم فيه فإن علمه بالحجارة بعد التقدم إليه تصدق به عليه أدبا له. وسئل المازري هل يحبس مع الصدقة بالخبز قال نعم أرى أن ينهى أن يعمل خبزا يبيعه في الأسواق كذلك فإن وجد الخبز عند أصحاب الحوانيت ناقصًا فإنه يؤدب الفران والبائع وصاحب الحانوت إن علم بنقصه ويخرج من السوق لأنه قديحة فيه. ولابن طالب عن ابن عبد الحكم إذا وجده ناقصًا عن المعلوم في السوق يكسره على صاحبه ويأمر ببيعه وزنًا أو جزافًا وإن وجده كثير الحصا كسره أيضا ويمنع بيعه إلا من رجل صالح يؤمن من أن يغش به. وكذلك وقع الجواب لصاحب السوق عن الخبز يصيبه عند أصحاب الحوانيت عجينا لم ينضج بأن لا يباع في السوق أصلا ويؤدب الفران وصاحب الحانوت إن علم بعيبه فلا رد له ويؤدب ويلزمه الثمن وإن لم يعلم فلا أدب عليه ويرجع بالثمن على الفران بعد رده قال في جامع الأحكام وسمعت اليوم أنهم يؤدبون صاحب الحانوت خاصة وعليه يقع التكليف بجميع ما وجد بالخبز من عيب لأن التقدم إنما هو إليهم ألا يدخلوا في الأسواق ما هو غش وأيضًا فإنهم يعرضون عن أصحاب الأفران لأن عليهم وظائف لعمالهم فلا يقدرون على الانتقام منهم. قلت ما ذكر من إعراض ولاة الأسواق عن أصحاب الأفران بالأدب والانتقام لما يؤدون لهم من الوظائف كذلك هو عندنا وليس لذلك الوظيف سبب وإلا أن يعاضوا عنه بتركهم على عمل ما يبتغونه من الغش الذي يستفضلون به كثيرا من الربح السحتي لعدم مبالاتهم بخسارة دينهم في صلاح دنياهم فالواجب إذا أن يحتسب على الوالي عليهم قبلهم ويكون الضمن بالأدب المبرح دونهم لأنه الآخذ منهم العوض على عمل الغش وآكل السحت وربما باشره من أكل ذلك السحت بنفسه ما قد يحتاج له من أخذ دقيق ونحوه فلا يمكن أحدهم أخذ ثمن فيه والله يعلم المفسد من المصلح.

ينهى صاحب الرحا أن يطحن القمح في الرحا بقرب نقشها ثم قال وينهى الفران أن يطحن القمح في الرحا بقرب نقشها فإن فعل غرم قمحا مثله وأدب ونحوه لأشهب ولأبي حفص العطار أن الطحان يطحن دقيقا لأنه يضمن المثل فمثله دقيق والخباز في الجدق يضمنه قيمة العجن لأن الدقيق مكيل محصور ليس له وزن ولا كيل قال الشيخ البرزلي والصواب ألا يغرم إلا قمحًا لأن الريع مختلف فليس بمحصور فهو كالعجين الذي لا يتأتى فيه المثل على ما هو عليه. قلت قال في النوادر: ومن ابتاع ما ذكرنا من المغشوش أو قمحا مبلولا وفات عنده أو أكله فليرجع بما بين الصحة والداء لأنه لا يوجد مثله. وقال سواء دلس أو لم يدلس وقال ابن القاسم إلا أن يوجد مثله ويحاط به فليرد مثله ويرجع بالثمن قال أشهب إن وجد مثله سواء فهو يخير في رد مثله أو أخذ قيمة الغش وقال سحنون لا يرد مثله وأن وجد مثله فلا يبعد جريان هذا الخلاف في المسألة فوقه تليه. وقد أفاد الشيخ ابن رشد رضه تحقيقا في المسألة جريا على عادته وسنته في تكثير الفوائد وقع في سماع أصبغ سمعت أشهب وسئل عن الذي يدفع قمحه إلى رجل فيطحن على إثر النقش يفسده بالحجارة وقال يضمنه مثل قمحه وقال أصبغ إلا أن يكون علم بالصب بالإثر ورضي وسئل عنه ابن القاسم إذا نقص الدقيق فقال على الطحان ضمان ما نقص ما يخرج مثل قمحه من الدقيق إذا عرف قال ابن رشد رحه تع أما قول أشهب إنه يضمنه مثل قمحه إذا طحنه إثر النقش فأفسده بالحجارة فهو بين لا إشكال فيه لأنه لما أفسد عليه قمحه في الطحين كان مجبرا بين أن يسقط عنه حكم العداء فيأخذ مفسدا يؤدي إليه أجره على طحينه وبين أن يغرمه مثل القمح الذي أفسد عليه فإن أغرمه مثل القمح كان عليه أن يطحنه له على ما استأجره عليه لأن مثله يعينه وليس أن يغرمه مثل الدقيق سالما من الحجارة ولو رضي الطحان بذلك لم يجز له لأنه إذا فعل ذلك كان صاحب الطعام قد اشترى الدقيق الذي أخذ من الطحان بالقمح الذي وجب له عليه وبالأجرة التي يدفعها إليه فدخله القمح بالدقيق متفاضلا ويجوز ذلك على مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره ممن يرى الطحين صنعةً إذا قبض الدقيق مكانه ولم يؤخره. قلت: فلا يصح ما قاله أبو حفص إلا على مذهب ابن أبي سلمة ومن قال بقوله إن الطحن (ناقل ... ) وروى حمديس عن سحنون أنه نهى الخبازين أن يجعلوا العجين على الكساء وأمرهم أن يصفوه على الحصير وأمر سحنون ابن فطيس أن يطحن قفيزين قمحا ويعجنها ويخبزها فيعرف ما خرج منها ويحسب أجر الطحن والعجن والخبز والطبخ ثم يجعل له بعد ذلك ربحًا. قلت: هذا الذي يقال له اليوم عندنا عمل القيمة وابن فطيس الذي ذكر

رأيت حفدته في قرية تسمى بهم فيما بين طرابلس ومسراتة وهم أهل خير وصلاح يكثرون إطعام الطعام لأبناء السبيل ومن بهم حاجة ماسة من الفقراء نفع الله بهم وبأمثالهم من أهل الخير آمين آمين آمين. غش الزغفران ونحوه من الأبزار ومنه إيقاع الغش في الزعفران ونحوه من الأبراز والتوابل أو في المسك وما ضارعه من الطيوب قال في سماع ابن القاسم وسئل مالك عن الرجل يشتري الزعفران فيجده مغشوشًا أيرده؟ قال نعم أرى أن يرده وليس عن هذا سألني صاحب السوق وإنما سألني أنه أراد أن يحرق المغشوش بالنار لما فيه من الغش فنهيته عن ذلك وسئل مالك عما يغش من اللبن أترى أن يهراق قال: لا. ولكن أرى أن يتصدق به على المساكين بغير ثمن إذا كان هو الذي غشه فأراه مثل اللبن وسئل ابن القاسم عن هذا فقال أما الشيء الخفيف من ذلك فلا أرى به بأسا وأما ما كثر ثمنه فلا أرى على صاحبه ذلك لأنه تذهب في ذلك أموال عظام. قال ابن رشد رحه تع لم ير مالك رحه أن يحرق الزعفران المغشوش إلا أن يهراق اللبن المغشوش بالماء على الذي غشه قال في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب وأرى أن يضرب من نهب ومن انتهب وأرى أن يتصدق بذلك على المساكين أدبا له وسواء على مذهبه كان ذلك يسيرا أو كثيرا لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران وغيره من اللبن والمسك قليله وكثيره وخالفه ابن القاسم فلم أر أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا وذلك إن كان هو الذي غشه. وأما إن وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه فلا اختلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك والواجب أن يباع ممن يؤمن أن يبيعه من غيره مدلسا بذلك وكذلك ما وجب أن يتصدق به من المسك والزعفران على الذي غشه يباع ممن يؤمن أن يغش به ويتصدق بالثمن أدبا للغاش الذي غشه. وقول ابن القاسم في أنه لا يتصدق من ذلك على الغاش إلا بالشيء اليسير أحسن من قول مالك إذ هو أولى بالصواب استحسانا والقياس أن لا يتصدق من ذلك بقليل ولا بكثير. وفي الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وجه الصواب فيمن غش أو نقص من الوزن أن يعاقبه الإمام بالضرب والسجن والإخراج من السوق ولا أرى ينهب متاعه ولو عرف بالغش

والفجور في علمه ولا يهراق ما خف قدره من اللبن يشوبه بالماء وأما الخبز ينقص من وزنه فلا بأس بتفريقه على المساكين مع الأدب من ضرب وسجن وإخراج من السوق إذا اعتاد الفجور فيه والغش. وأما ما كثر من الخبز واللبن والمسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب ولكن يؤمن ببيعه ممن يؤمن ألا يغش به أحدا ولكن يصرفه في وجوه مصارفه من الطيب لأنه إن أسلم لربه أو بيع لمستحل الغش فقد أبيح لهم العمل به ويكسر الخبز ويدفع إليه ويباع عليه العسل والسمن المغشوشان بعد بيان غشه ممن لا يأكله ويؤمن منه أن يبيعه مغشوشًا ولا يسلم لربه ولا لمن يغش به فيؤدي إلى أن يغش به المسلمين وهكذا العمل في كل ما غش به من تجارات السوق وهكذا أوضحه لي من سألت عنه من أصحاب مالك وغيرهم. حكم الغاش قلت فلتحصل من جميع ما تقدم من الخلاف في حكم من اطلع على غشه فيما عرضه للبيع في أسواق المسلمين أن في إخراج الغاش من السوق غير المعتاد فيه قولان وإذا أخرج فهل يضاف إلى ذلك عقوبة في البدن قولان. وهل يتصدق بما غاش به وإن كثر ويباع ما لا يتصدق بعينه ويتصدق بثمنه أو يبقى ذلك كله له أو يتصدق بالقليل دون الكثير أو يتحرى مقدار ما يكون أخذ عوض الغش فيه ممن جهلت عينه فيتصدق بذلك القدر أربعة أقوال وفي إراقة اليسير قولان. نقش الثمرة وتغميمها ومنه نقش الثمرة وتغميمها قبل استحكام نضجها لتعجيل طيبها بذلك. قال في سماع ابن القاسم وسئل مالك وكلم صاحب السوق في رطب يبيعونه مغممًا أن يتقدم إليهم أن لا يبيعوه وأن يضرب الذي استعمله وأنا أكره أن ينقش البسر بالمدينة حتى يكون رطبا وإنما كره لموضع الفساد للثمرة وقوله ينقش النقش تعجيلها عن إبلاغ طيبها من غير رش وقوله مغمما يربونه بالخل ويغمسونه ليسرع طيبها. قال ابن رشد رح تع وقع في بعض الكتب هذا التفسير وهو صحيح لأن الغش بل النقش يؤثر في البسرة أثرا كالجراح فيسرع إليها الترطيب أيضا وهذا كله فساد للثمرة وغش في الموضع الذي يرطب فيه البسر إذا ترك وأما في مثل الأندلس الذي لا يرطب فيه البسر ويفسد إن

ترك فجائز أن يجد بسرا ويغمم بهذا الرش بالخل وأن ينقش لأن ذلك صلاح له وليس بغش فيه لاستواء معرفة الناس في ذلك وهذا نحو ما قال في سماع أشهب من أن الموز الذي لا يطيب حتى يقطع جائز أن يباع قبل أن يطيب هـ. وفي أحكام السوق وكره مالك غير مرة نقش التمر ليرطب بالنقش ويباع بالأسواق ليبادر به الغلا وأرى أن ينهو عن دهن التين بالزيت فإن فعلوا ذلك بعد النهي فأرى أن يتصدق به على المساكين. وأما التفاح والتين والعنب وغيرها من الفواكه تباع قبل طيبها وتباع في السوق قال في سماع ابن القاسم رح تع إن كان كثيرًا ببلدهم فلا بأس بذلك وإن كان قليلًا فلينه عن قطعه حصرمًا لأنه يضر بالعامة إذا طاب فقطعه قبل الطيب يضر بهم وأمر مالك صاحب السوق أن يتقدم إليهم ألا يبيعوا الرطب مغموما ويضرب الذي يستعمله كذلك لأنه يضر بالبطن إذا أكل. الغش في الملبوس ومنه ما يكون بالملبوس من ثياب صوف وكتان وقطن. فأما ما كان في الصوف فكما فعله الفراؤون من تتريب ألباس الفراء لتحسن وجوهها بالتراب وستر بعض عيوبها. قال في سماع عيسى وسئل مالك عن الفرائين يعملون الفراء فإذا فرغوا منها تربوا وجوهها بالتراب لتحسن وتزيد في أثمانها وربما غيب ذلك بعض ما فيها من العيوب والمشتري يعلم أو لا يعلم هل ترى بذلك بأسا. قال ابن القاسم لا يعجبني أن تترب وجوهها ولا أراه يحل ولا يصلح وأراه من الغش إذا كان على ما وصفت. وأرى أن يزجروا عن ذلك ويؤدبوا إن لم ينتهوا وإن اشترى منهم أحد منهم على ما وصفت فإن كان ممن يعلم ذلك كما ذكرت أنها تترب وأن ذلك ربما عيب بعض ما بها من العيوب فليس له أن يرد وإن اشترى منها من لا يعلم ذلك ولا يعرفه رأيت له أن يرد إن يشاء وجد عيبا أو لم يجد علم أنه كان فيها قبل (التتريب) عيب أو لم يعلم إذا كان (التتريب) يغيب بعض عيوبها كما ذكرت. قال الشيخ ابن رشد رح هذا ما قال إن ذلك من الغش الذي لا يحل ولا يجوز. قال رسول الله صلعم: من غشنا فليس منا.

فإن لم يعلم المشتري بذلك كان بالخيار بين أن يمسك أو يرد فإن فاتت قبل أن يعلم كان عليه فيها الأقل من القيمة أو الثمن على حكم الغش في البيع وإن علم المشتري بذلك ودخل عليه لم يكن عليه أن يردهما قال معناه بحكم الغش إذ قد علمه ودخل عليه فإن وجد عيبا كان له الرد وكذلك قال ابن القاسم في الواضحة وذلك بين لا إشكال فيه. الغش في الفرو ومنه التحيل على إظهار الدني منها عليا كما قال أصبغ في الفرو والطويل يقص بالمقراض ويضرب بالقضيب ليرى أنه من الخرفان وهو من الكباش. قال فله الرد وهذا من الغش وقال في الفرو وتكون فيه رقعة منتوفة فتجعل عليها مصرفة أو تكون مصرفة لا وجه لها فيجعل عليها جلدا حسما لا صرف له فهذا غش رد به ولم تكن إلا رقعة واحدة إذا كان خرق له قدر إلا في شيء يسير جدا كالثقب ونحوه وكذلك لو فعل في مثل هذا من الخروق في فرو القلنسوات يستر خفة صوف أو قباحة جلد ولا بأس أن يجعل في خواص الفرو وكميه جلودا سودا لأنها ترا وأما ثياب الكتان والقطن فيكون الغش فيها بما أذاكره. فمنه التمويه بإدخال ما يظهر الشدة والثخانة فيما أصله الخفة والصفاقة قال في سماع ابن القاسم وسئل عن الخمر يبل لها الخبر فيرش عليها لتشتد. قال: لا خير في هذا. هذا غش ولا يعجبني قال الشيخ ابن رشد رح تع هذا بين على ما قال إن ذلك من الغش لأن المشتري يظن أن شدتها إنما هي من ذاتها وصفاقة نسجها فإن علم أنها مرشوشة بماء الخبز وأن ذلك يشدها ويصفقها لم يكن له كلام وإن لم يعلم أنها مرشوشة بذلك كان بالخيار بين أن يرد أو يمسك فإن فاتت ردت إلى القيمة إن كانت القيمة أقل من الثمن وكذلك إن علم أنها مرشوشة بذلك ولم يعلم أن ذلك يشهدها ويصفقها وهذا على ما قاله ابن حبيب م أن ما يصنعه حاكة الديباج من تصميغها غش لأنه وإن كان التصميغ لا يخفى على المشتري فقد يخفى عليه قدر ما أحدث فيه من الشدة والتصفيق.

الغش في النعال ومما يشبه هذا ما قاله ابن حبيب إن من الغش ما يفعل بالنعال من تغليظهم حواشيها قبل أن تحذا والمراد بذلك رقتها والمزيد في تحسينها. قال وعلى الإمام العدل تأديب من فعله وللمشتري أن يرد ما اشترى منها قبل حذوها وبعد حذوها. الغش في القلنسوة ومنه حشو القلنسوة بصوف أو قطن بال غير معتاد. قال في سماع ابن القاسم وسئل عن أصحاب الفلانس يجعلون مع القطن أو القطن الخلق مع الجديد أو جعله من تحته في القلانس وغيرها فلا إشكال في أن ذلك من الغش الذي لا يحل ولا يجوز ولو اشترى رجل قلنسوة فوجد حشوها صوفا لكان له أن يردها وكذلك لو وجد حشوها قطنا باليا ولا أن تكون من القلانس التي العرف فيها ألا تحشى إلا بالقطن البالي فلا يكون له أن يردها على قياس ما قال في أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب في الذي يشتري القلنسوة السوداء فيجدها من ثوب ملبوس ومنه إخفاء العيوب. قال في "تنبيه الحكام" مثل ما يُفعل على طريق التورية والتحييل وإحالة العين كمعالجة الثوب القديم بالقصارة وصقالة الكحل فيوهم بذلك أنه جديد كالصبغ في بعض الأكسية البالية وتشويكها لاستخراج الوفير وخياطها أثوابا يزعم أنها جديدة وما أشبه ذلك من رفو الثواب المحرق ومشط قنع الحرير الواهية وعصابته ونحو ذلك مما يستعمل الآن كثيرا في الأسواق ويقصد به خديعة المشتري. تحيل أصحاب السلع ومن هذا النوع ما يوجهه أصحاب السلع بنوع من جيد أنواع المبيع يكون أفضل مما يليه كصبرة حنظة أو شعير أو تمر أو زبيب وما كان في معناه فإن هذا كثير يتعامل به في الأسواق وقد يتعرف من أشباه ذلك بالمباحثة ما لا تسع الإحاطة به ولا التشبيه عليه فما علم من ذلك وجب قطعه ومنع الناس من فعله والاجتهاد في عقوبة من عرف به وتفقد الأسواق من مثله هـ.

قلت وأصل ذلك في سماع أشهب وابن نافع قال وسئل مالك عن الذي يشتري المتاع فيه الخلل والسقط فيستأجر عليه كمادين فيكمدونه حتى يصفق ويسد منها كل خلل أو سقط ثم يبيعونها أترى بذلك بأسًا لا خير في الغش وأنا أكره مثل هذا. قيل له أرأيت الرجل يأتي بطعامه التمر وما أشبهه فيصيره صبرة فيكون حشفه داخله وظاهره فيجمع على ما بوجه الصبرة فيلقيه ناحية لا يدخله في جوف الصبرة فقال لا يفعل هذا، هذا وجه التزيين ولا يعجبني ذلك قلت له أرأيت الذي يصيب صبرته فيها الحشف فيكون في داخلها وعلى وجهها قال لا بأس بذلك إذا لم يزين أعلاها فيكون داخلها مخالفا لخارجها. قال ابن رشد رحه تع هذا بين على ما قال إن كان المبتاع ينصفق وينسد ما فيه من سقط وخلل من الغش الذي لا ينبغي فيكون للمشتري أن يردها إن لم يعلم أن الكمد يصفقه ويسد خلله وسقطه ما كان المتاع قائما فإن فات رد إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن على ما مضى خمر الخز ترش بالخبز لتصفق وتشتد وكذلك تنقية ظاهر الصبرة من الحشف لأن المشتري يظن أن باطنها في النقاء من الحشف مثل ظاهرها وإذا لم ينق أعلى الصبرة من الحشف فلا كلام للمشتري لأنه يستدل بظاهرها على باطنها فإن قلت مقتضى قوله في الرواية هذا وجه التزيين ولا يعجبني ذلك أن التزيين محضور لكونه من أنواع الغش. وقد ذكر في "كتاب جامع الأحكام" جواز تشريح الجزارين اللحم للزينة وأخذ من المدونة من قوله لا بأس أن يزينوها للبيع فهل ذلك إلا خلاف لما في الرواية؟ قلت بل يحمل ما في الرواية على التزيين الذي هو لمجرد التمويه بما لا حقيقة له على جنس البيع. وما وقع في الكتاب إنما هو في التزيين بما يكشف خباياه من حقيقة باطنه لتشريح اللحم فإنه يبرز ما في باطنه من الشحم الدال على السمن الفائق بخلاف ما في الصبرة من حشف يزال عن ظاهرها ويترك بباطنها فهذا تزيين بما في باطنه أردى مما بالظاهر والآخر تزيين بما في باطنه أفضل مما بالظاهر فكان الأول غشا والثاني كمالًا فلا يكون ما في الرواية مناقضًا لما في المدونة لتباين الصور بمحامل التأويل التي يعينها الطريق القياسي. ومنه جعل بعض الأجزاء المجموع منها الثوب مخالفًا لبقيتها. قال أصبغ ومن ابتاع قميصًا فأصاب بنائقه أردى رقعة من بدنه وكميه أو وجد مقعدة السراويل كذلك فإن كان متفاوتًا غير متقارب فله الرد وإن كان متقاربا فلا رد.

تنبيه: لا يجوز أن يباع لأحد من المسلمين ما كان الغش فيه قائما مما لا وجه له إلا الغش بخلاف ما كان فيه منفعة غير ذلك قال في سماع عيسى وسئل ابن القاسم عن بيع أشياء يغش بها المسلمون قال ما كان من ذلك ليس له وجه إلا الغش فلا أحب لأحد أن يبيعه وما كان من ذلك فيه منفعة فمن أراد أن يغش به أحدًا فعلًا فلا بأس أن يبيعه ممن لا يدري ما يصنع به فإذا علم أنه يريد به الغش فلا يبيعه منه. الغش في الدراهم والدنانير قال الشيخ ابن رشد رحه هذا كما قال إن ما كان لا منفعة فيه إلا الغش به فلا يجوز بيعه على حال وذلك بخلاف الدرهم المغشوش بالنحاس لأنه يمكن أن تجعل فضته على حدة فيجوز أن يبيعه ممن يكسوه ويكره أن يبيعه ممن لا يأمن أن يغش به ويختلف هل يجوز أن يبيعه ممن لا يدري ما يصنع به فأجاز ذلك ابن وهب وجماعة من السلف ولم يجزه ابن القاسم. قلت ولم يذكر ابن رشد هنا صورة بيعه ممن يعلم أنه يغش وقد تقدم له أن ذلك لا يجوز في مسألة خلط الردي بالطيب وقال هنا في الرواية فإذا علم أنه يريد به الغش فلا يبيعه منه ولم يذكر هنا أيضًا ما يفعل إذا باعه ممن يعلم أنه يغش به ولم يقدر على استرجاعه. وقد حصل القول على ذلك في محل آخر فقال وتحصيل القول في ذلك أن الدراهم والدنانير المغشوشة بالنحاس لا يحل لأحد أن يغش بها فيعطيها على أنها طيبة ولا أن يبيعها ممن يعلم أنه يغش بها ويكره له أن يبيعها ممن لا يأمن أن يغش بها مثل الصيارفة وغيرهم من أشباههم واختلف هل يجوز له أن يبيعها ممن لا يدري ما يصنع بها فأجاز ذلك ابن وهب وروى إجازة ذلك عن جماعة من السلف رضهم وعن عمر بن الخطاب رضه أنه قال: الفضة بالفضة وزنا بوزن والذهب بالذهب وزنا بوزن وأيما رجل ردت عليه ورقة فلا يخرج يحالف الناس على أنها طيور ولكن ليقل من يبيعني بهذه الزيوف سحق ثوب رثيثا. وكرهه ابن القاسم ورواه عن مالك في المدونة وإنما أجاز ابن وهب أن يباع ممن لا يدري ما يصنع بها ما كان فيه منفعة ويمكن الغش به لمن أراد ذلك ويجوز أن تباع باتفاق ممن يهزها أو ممن يعلم أنه لا يغش بها إلا على قياس قول سحنون في نوازله من كتاب السلم فإن باعها ممن يخشى أن يغش بها لم يكن عليه إلا الاستغفار وإن باعها ممن يعلم أنه يغش بها فواجب عليه أن يستصرفها منه إن قدر على ذلك.

وقد اختلف إذا لم يقدر على استصرافها فيما يجب عليه بعد التوبة فيما بينه وبين خالقه على ثلاثة أقوال: أحدها إنه يجب عليه أن يتصدق بجميع الثمن والثاني إنه لا يجب عليه أن يتصدق إلا بالزائد على قيمتها ولو باعها ممن لا يغش بها إن كان تزيد فيها شيئا. والثالث إنه لا يجب عليه أن يتصدق بشيء منه إلا على وجه الاستحباب مراعاة للاختلاف هـ. حكم بيع السلاح للعدو قلت ومثله القول فيمن باع سلاحا للعدو أو ممن يحمله إلى العدو وكذلك في حين الفتن التي تكون من المسلمين إذا خشي عليها أن تصل إليهم من مبتاعها وقد أوضح هذا الخلاف هناك وما يبنى عليه الخلاف فقال فإن باع السلاح من العدوان ممن يناوى من المسلمين ويخرج به عليهم أو ممن يحمل ذلك إليهم وهو عالم بذلك ومضى ذلك وفات ولم يعلم من باعه أو ممن لا يقدر على رده فقد اختلف فيما يلزمه بينه وبين الله في التوبة من ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يلزمه التصدق بجميع الثمن وهذا على القول بأن البيع فيها غير منعقد وأنها باقية على ملكه لوجوب رد الثمن على هذا القول على المبتاع إن علمه والصدقة به عنه إن جهله كالدني. والثاني إنه لا يلزمه أن يتصدق إلا بالزائد على قيمته لو بيع على وجه جائز وهذا على القول بوجوب فسخ البيع في القيام وتصحيحه بالقيمة في الفوات والثالث أنه لا يجب عليه أن يتصدق بشيء منه إلا على وجه الاحتساب مراعاة للاختلاف وهذا على القول بأن البيع إن عثر عليه لم يفسخ ويباع على المبتاع. الاحتكار لزمن مسغبة أو مخمصة ومن أعظم ما يجب تغييره والاحتساب في القيام به إخراج الزرع المختزن بيد أربابه فاضلًا عن قوتهم زمن احتياج الناس إليه في مسغبة أو مخمصة. قال في سماع ابن القاسم قال مالك إذا غلا الطعام واحتيج إليه وكان بالبلد طعام فأرى أن يؤمر أهله فيخرجونه إلى السوق فيباع إذا احتاج الناس إليه وإنما يكون ذلك عن حاجة الناس وليس هذا في كل زمان. قال ابن رشد رحه هذا كما قال ومثله في كتاب ابن المواز وهو أمر لا أعلم فيه خلافا لأن هذا وشبهه مما يجب فيه الحكم للعامة على الخاصة إذ لا يصح أن يترك الناس يجوعون وفي البلد طعام عند من يريده للبيع. وما يشبه هذا من مصلحة العامة قول النبي صلعم لا

يبيع حاضر لباد ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق. فلما رأى النبي صعلم أن ذلك يصلح للعامة أمر فيه بذلك ولما حكم النبي صلعم بالشفعة للشريك على المشتري ووجب أن يؤخذ منه الشقص الذي اشترى بالثمن شاء أو أبى لمنفعة الشريك بذلك وإزاحة ضرر الشركة عنه كانوا أحق أن يؤخذ الطعام من الذي هو عنده بالثمن لمنفعة عامة الناس بذلك وإزاحة الضرر عنهم ولا ضرر في ذلك على البائع وإذا لم يؤخذ منه إلا بالثمن الذي يسوى في السوق. وفي أحكام السوق سئل ابن القاسم عن قول مالك ينبغي للإمام أن يأمر من كان عنه فضل طعام أن يبيعه إنما يريد الطعام الذي اختزنوه لذلك لا طعام جميع الناس لكن إذا اشتدت السنة يؤمرون بإخراجه وإظهاره للناس ليبيعوا ما كان عندهم من فضل قوتهم وقوت عيالهم كيف شاءوا ولا يسعر عليهم. قيل وكيف إن سألوا ما لا يحمل من الثمن ولم يبع به الناس فقال هو مالهم يفعلون ما أحبوا ولا يجبرون على بيعه يسعر عليهم ولكن إذا أعطوا ما كانوا ينتظرون من الغلاء ما أراهم لا يبيعون وأما إذا اختزنوا وأضروا بالسوق فإنه يباع عليهم فيكون لهم رؤوس أموالهم والربح يؤخذ منهم فيتصدق به أدبا لهم وينهون عن ذلك فإن عادوا كان الضرب والطواف بهم والسجن. وإذا جلب البادية الطعام ونزلوا به في الفنادق والدور أمرهم صاحب السوق بإخراجه لسوق المسلمين حيث يدركه الضعيف والعجوز ولا يبيعونه في ذلك الموضع فإن تضرر البدوي بطول إقامته إذا باعه في السوق بالنصف والربع وربما قال ليس معي إلا زاد يوم أو يومين خاصة فيقال له زد في السعر نصف ثمن أو ثمنا فتخفف عن نفسك وترجع سريعا وأما استقصاؤك الثمن ورجوعك سريعا فتضر المسلمين. ومن أراد في الغلاء أن يشتري عولة سنة لم يمكن من ذلك ومن نقل من داره بمنزله طعاما فعرض عرضه ليبيعه لحاجته لثمنه فاشتراه الطحانون على الصفة ليكتالوه من داره وينقلوه لحوانيتهم فلا يمكن البائع من بيعه في داره وليبلغه لسوق المسلمين ويمنع الحناطون من شرائه في الدور في غلاء السعر ومضرة الأسواق ولتكن لهم حوانيت في السوق ليباع فيها ولو رخص السعر ولم يضر بالسوق خلي بين الناس والشراء ويدخرون ويشترون من الفنادق والدور حيث أحبوا ولو جهل رجل فحط في السوق طعامه ولا يعرف باختزان. وإنما أتى بطعامه ليأكله فإذا صح هذا خلي بينه وبين طعامه ينقله لداره. قلت قوله

ويمنع الحناطون من شرائه في الدور في غلاء السعر ومضرة الأسواق مثله في سماع ابن القاسم في الطحانين قال وسئل مالك عن الطحانين يشترون الطعام يغلون بذلك أسعار الناس قال أرى أن كل ما أضر بالناس في أسعارهم أن يمنعه الناس فإن أضر ذلك بالناس منعوا منه. قال ابن رشد رحه في شراء الطحانين الطعام جملة من الجلاب وبيعه على أيديهم دقيقا مرفق لعامة الناس بمشقة الطحن عليهم إذا اشتروا القمح فإن ذلك يغلي عليهم الأسعار فالواجب أن ينظر السلطان في ذلك فإن كان لا يفي بالمرفق الذي للعامة في ذلك بما يغليه في أسعارهم منع من ذلك إن كان يفي به أو يزيد عليه فيما يراه باجتهاده لم يمنع من ذلك. وأما شراء أهل الحوانيت الدقيق من الجلاب وبيعه على أيديهم من الناس وشراء الطعام وبيعه على أيديهم غير مطحون فلا وجه من الفرق في ذلك لعامة الناس فينبغي أن يمنع من ذلك إذا كان فيه تغلية للأسعار ويباح إذا لم يضر ذلك بالأسعار. وأما قوله المتقدم في أحكام السوق وأما إذا اختزنوا وأضروا بالسوق فإنه يباع عليهم وتكون لهم رؤوس أموالهم والربح يؤخذ من أيديهم فيتصدق به أدبا لهم فليس على إطلاقه وإنما هو مخصوص بوقت الغلاء في السعر فإن الاحتكار في أيام الرخاء جائز في المشهور وإن كانت الأخبار الواردة في التحذير من ذلك في هذا الباب كثيرة ومن أجلها صحح كثير من الشيوخ القول الآخر لكن مذهب المدونة الجواز. وقد حصل ابن رشد في ذلك من الخلاف أربعة أقوال ففي جامع المستخرجة قال: وسمعت أن رجلا كان عنده طعام كثير فغلا الطعام فأتى الناس يغبطونه بذلك قال أشهدكم أنه للناس بما أخذته فقال أبجوع الناس تغبطونني. قال ابن رشد رحه في قوله هو للناس بما أخذته به دليل على أنه اشتراه في وقت لا يضر شراؤه الناس إذ لو اشتراه في وقت يضر شراؤه الناس لكان ما فعل من إعطائه لهم بما اشتراه به هو الواجب عليه إذ الاختلاف في أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة في وقت يضر احتكارها فيه بالناس ففيه أربعة أقوال: أحدها- إجازة احتكارها في وقت لا يضر كلها القمح والشعير وسائر الأطعمة وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني المنع من احتكارها كلها جملة من غير تفصيل للآثار الواردة في ذلك عن النبي صلعم فقد روي عنه أنه قال لا يحتكر إلا خاطئ وهو مذهب مطرف وابن الماجشون.

والثالث إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير وهو دليل رواية أشهب عن مالك في جامع البيوع. والرابع المنع من احتكارها كلها ما عدا الأدم والفواكه والسمن والعسل والتبين والزبيب وشبه ذلك وقد قال ابن أوبيس فيما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون من أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة معناه في المدونة إذ لا يكون الاحتكار أبدا إلا مضرا بأهله لقلة الطعام بها فعلى قولهم متفقون على أن علة المنع من الاحتكار تغلية الأسعار وإنما اختلفوا في جوازه لاختلافهم باجتهادهم في وجود العلة وعدمها والاختلاف بينهم في أن ما عدا الأطعمة من العصفر والكتان والحناء وشبهها من السلع يجوز احتكارها إذا لم يضر ذلك بالناس. قلت ومثل هذا التحصيل الذي هنا وقع له في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع البيوت والآثار التي أشار إليها القصد الأول بالمنع منها ما ذكر من قوله صلعم لا يحتكر إلا خاطى ومنها قوله صعلم المحتكر ملعون والجالب مرزوق وقال صلعم من اشترى طعاما يتربص به أربعين يوما فقد برئت منه ذمة الله * وأيما قوم ظل في ناديهم امرؤ من المسلمين جائعا فقد برئت منهم ذمة الله. وعنه صلعم من احتكر للمسلمين طعاما ضربه الله بفقر وإفلاس. وعن معاذ أن رسول الله صلعم قال بئس العبد المحتكر إن أرخص الله الأسعار حزن وإن أغلاها فرح وفي الأخرى إن يسمع برخص ساءه وإن سمع بغلاء فرح. وعن أبي هريرة ومعقل بن يسار أن رسول الله صلعم قال: يحشر الحكارون وقتلة النفس في درجة واحدة وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص إذا لم يكن للرجل تجارة غير الطعام طغى وبغى. وفي "أحكام السوق" الواجب على المسلمين الاعتصام بالسنة وإتباع نبينا صلعم قال تع: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} الآية ثم قال سبحانه: {لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} الآية معناه لأسبغ عليهم الدنيا إسباغا. وذكر الشيخ البرزلي أنه شاهد أقواما كانوا يخزنون الطعام للشدائد فدثرت أموالهم ولم يبق لها بكرة ومحقت إما في حياتهم أو بعد وفاتهم بأيدي ورثتهم ومن معنى الاحتكار

نقل الطعام من بلد إلى آخر يمنع منه إذا أضر ويسوغ إذا لم يضر في المشهور وتجري في ذلك بقية الأربعة أقوال المتقدمة في نفس الحركة. حكم التسعير على الناس فيما يبيعونه وأما التسعير على الناس فيما يبيعونه فقد أنكره مالك وشدد النكير فيه ورآه من التحكم وقال أيضا إنه من الظلم ودليله ما روى غير واحد عن سحنون وغيره بسندهم إلى أنس أن أناسا أتوا النبي صلعم فقالوا له سعر لنا يا رسول الله فقال يا أيها الناس إن غلاء أسعاركم ورخصها بيد الله وأنا أرجو الله أن ألقاه وليس لأحد منكم عندي مظلمة في مال ولا دم. ومن طريق ابن وهب أنه غضب يومئذ حتى عرف الغضب في وجهه وقال: السوق بيد الله يحفظها ويرفعها ولكن مروهم فليخرجوا متاعهم إلى البراز وليبيعوا كيف أحبوا. وقال لا يسألني الله عن سنة أحدثتها فيكم لم يأمرني بها ولكن سلوا الله من فضله. قال في تنبيه الحكام التسعير على الناس تحكيم بغير الحق في أموالهم وإجبارهم على بيعها بما لا يرضيهم حرام ومنكر يجب القيام بتغييره لأنه كالغضب وقد قال النبي صلعم لما سئل التسعير إن الله هو القابض الناس والمغلي والمرخص وإني لأرجوا الله أن ألقاه وليس لأحد عندي مظلمة ظلمته إياها في عرض ولا مال فامتنع صلعم من ذلك وبين أنها مظلمة. قلت جعله التسعير هو المنكر الذي يحتسب في تغييره على فاعله دليل على أنه لم يعتد بقول من أجازه في حق أهل الأسواق فقد نقل ابن أبي زيد في نوادره عن سعيد بن المسيب وربيعة ويحيى بن سعيد إجازته إذا كان الإمام عدلا وكان ذلك صلاحا للمسلمين ونفعا لهم وإنما لم يعتد بخلافهم والله أعلم لما أبانه قول النبي صلعم بطريق التفهيم أن ذلك من المظالم لما قال إني ألقاه وليس لأحد عندي مظلمة في جواب السائل منه التسعير فكان ذلك من العام الوارد على سبب ويدخل السبب في عديد أفراده عند المحققين ولا يقصر على سببه وإذا كان التسعير من هذا الوجه مظلمة من المظالم فهو لا محالة من المناكر التي تغير على فاعلها. وذلك نص على ما نقل عن مالك حيث قال لا يسعر على أهل السوق لأن ذلك ظلم فلم يختلف إذن أن التسعير ممنوع في حق الجالب واختلف هل هو ممنوع في حق سوقي البلد أو ليس بممنوع على قولين قال في سماع ابن القاسم وسئل مالك عن صحاب السوق يريد

أن يسعر على الناس السوق فيقول لهم إما بعتم بكذا بسعر يسميه لهم وإلا قمتم. قال لا خير في هذا قيل له إنه يأتي الرجل يكون طعامه ليس بالجيد وقد بدل سعرا فيقول لغيره إما بعتم مثله وإلا رفعتم قال لا خير في ذلك. ولكن لو أن رجلا أراد بذلك فساد السوق فحط من سعر الناس أرأيت أن يقال له إما لحقت بسعر الناس وإما رفعت فأما أن يقول للناس كلهم فليس ذلك بصواب وذكر حديث عمر بن عبد العزيز رضه في أهل إيلية حين حط سعرهم لمنع البحر أن خل بينهم وبين ذلك فإنما السعر بيد الله قال ابن رشد رضه تع أما الجلاب فلا اختلاف في أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوه للبيع وإنما يقال لمرشد منهم فحط من السعر وباع بأعلى ما يبيع به عامتهم إما أن تبيع بما تبيع به العامة وإما أن ترفع من السوق كما فعل عمر بن الخطاب رضه تع يخاطب ابن أبي بلقعة إذ ضربه وهو يبيع زبيبا له بالسوق فقال له إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا لأنه كان يبيع بالدرهم الواحد أقل مما كان يبيع به أهل السوق. التسعير بالحوانيت والأسواق وأما أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملا ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعا مثل اللحم والأدم والفواكه فقيل إنهم كالجلاب لا يسعر عليهم شيء من بياعاتهم وإنما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور إما تبيع كما يبيع الناس وإما أن ترفع من السوق. وهو قول مالك في هذه الرواية. وممن روى ذلك عنه من السلف عبد الله بن عمر والقاسم ابن محمد وسالم بن عبدالله وقيل أنتم في هذا بخلاف الجلاب لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلوا على الناس ولم يقنعوا من الربح بما يشبه وأن على صاحب السوق الموكل على مصلحته أن يعرف بما يشترون فيجعل لهم من الربح ما يشبه وينهاهم أن يزيدوا على ذلك ويتفقد السوق أبدا فيمنعهم من الزيادة على الربح الذي جعل لهم كيفما تقلب السعر من زيادة أو نقصان فمن خالف أمره عاقبه بما يراه من الأدب وبالإخراج من السوق إن كان معتادا لذلك مشتهرا به وهو قول مالك في سماع أشهب وإليه ذهب ابن حبيب وقاله من السلف رضهم جماعة منهم سعيد بن المسيب ويحيى بن سعيد وهو مذهب الليث بن سعد وربيعة بن أبي عبد الرحمان.

ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم لا تبيعوا إلا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم من غير أن ينظر إلى ما يشترون به إلا أن يقول لهم فيما قد اشتروه لا تبيعوا إلا بكذا وكذا مما هو مثل الثمن الذي اشتروه به أو أقل إذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون مثل أن يقول لهم تربحون في المدى كذا وكذا فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء وإن لم يزيدوا في الربح إذ قد يفعلون ذلك ويتساهلون فيه إذ لا ينتقصهم ذلك من ربحهم شيئا وإذا علم ذلك منهم ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون مثل أن يقول لهم تربحون ويعلي من مبلغ السعر ويقول لهم لا سبيل لكم أن تبيعوا إلا بكذا فلا تشترون إلا عليه. وهو معنى قول مالك في سماع أشهب ليس بأيديهم شيء تعلمون به اشتروا به على ثلث رطل نسعره عليكم من الضأن وعلى نصف رطل نسعره عليكم من الإبل لأن ذلك إنما يجوز له أن يفعله إذا علم أنهم يتساهلون في الشراء ويزيدون على أنفسهم ويقولون له لا حاجة لك علينا إذ لا نربح أكثر مما سميت لنا فهذا تأويل الرواية. قلت ظاهر قوله أنه يسعر على أهل الحوانيت والأسواق دون الجلاب الإطلاق عند القائل به في كل شيء من الأقوات وهو نص نقل ابن الحاجب في نوازله عن ربيعة وذويه القائلين بالتسعير. قال يمنع القاضي جري الماء والأوساخ في الأزقة ويأمر بتسعير الخبز والطعام ويحصل لهم من الربح بقدر ما يرى وهو قول ربيعة وكان الليث يأمر يضربهم إذا تعدوا قيمة السلطان ويكسر الخبز إذا وجده ناقصا عنها ونقل ابن أبي زيد في نوادره عن ابن حبيب تخصيص ذلك بما سوى القمح والشعير وشبهه من الحيوانات قال عنه فيها وليس ما أجازوه من ذلك من القمح والشعير وشبهه لأنه روي أن النبي صلعم نهى عنه لأن الجالب يبيعه ولا يترك التجار يشترونه ليبيعوه على أيديهم. وأما مثل الزيت والسمن والعسل واللحم والبقل والفواكه وشبه ذلك مما يشتريه أهل السوق للبيع على أيديهم فلا فإن قلت لعل تخصيص ابن حبيب ذلك بما سوى حبوب القوت جار على أصله في منع احتكاره لأن التسعير على أهل الأسواق فيها لتبىقى عندهم حتى يبيعوها شيئا فشيئا ضرب من الأذن في الحركة الممنوع عندهم ويدل عليه إبداء التعليل بذلك في قوله السابق لأن الجالب يبيعه ولا يترك التجار يشترونه ليبيعوه على أيديهم. قلت لو كان ذلك جريا على أصله في المنع من احتكارها لقال يمنع التسعير في مائعات الأدم وشبهها لأنه يقول بمنع الاحتكار في الجميع نقله عنه ابن رشد في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع فقصره التسعير عليها دون الحبوب مع أنه يمنع

الاحتكار في جميعها تخصيص من غير مخصوص فلم يبق إلا أن يكون ناقلا لتقييد فقه ذلك عن القائلين بالتسعير فيما سوى الحبوب لأنه جرى منه على أصله. والصواب الإطلاق في الحبوب وغيرها لموافقة المشهور في جواز احتكارها حيث لا مضرة فيه ولأنه نص ما تقدم نقله عن سحنون في أمره لابن فطيس بما يشاكل عمل القيمة عندنا وهو غير التسعير فيها صورة التسعير ثم قال في النوادر في صورته فينبغي للعدل إذا أراد أن يسعر شيئا من ذلك أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون فإن رأى شططا نازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا به ثم يتعاهدهم فمن حط من ذلك قيل له إما بعت بسعر الناس وإلا رفعت. ويؤدب المعتاد ويخرجه من السوق فإن قلت قول الشيخ ابن رشد في صفة التسعير على أهل السوق بعد معرفة ما يربحونه على الثمن الذي اشتروا به أن يقال لهم لا سبيل لكم أن تبيعوا إلا بكذا فلا تشتروا إلا عليه هل هو إلا نفس التسعير على الجلاب لأنه إذا ألجئ الجالب للبيع بشيء مسمى لا يتعداه كان تسعيرا عليه إلا أنه ليس من خطاب صاحب السوق له بالتسعير ولا من خطابه للمشتري منه أن يلجئه للتحديد فيكون نائبا في ذلك ويد الوكيل كيد الموكل وذلك ممنوع بنقله الإنفاق على عدم التسعير على الجلاب وإلا لم يكن لرفع الخلاف فائدة. قلت إما أن يحمل قوله لا تشتروا إلا عليه حملا موسعا عن التحديد فيكون المعنى لا تشتروا إلا على نسبته ومنهما لم يكن تحديد ولا مساواة في قدر ما يبيعون به لما يشترون عليه فلا تسعير ويدل على هذا الحمل قوله قبل فلا يتركهم أن يغلو في الشراء قد يفعلون ذلك ويتساهلون فيه. وقوله أيضا بعد لأن ذلك إنما يجوز له أن يفعله إذ علم أنه يتساهلون في الشراء ويزيدون على أنفسهم فيتعين أن يكون معنى الخطاب لهم بأنهم لا يشترون إلا على كذا أن يرهقوا أنفسهم في شرية الغلاء وليس في ذلك تسعير على الجالب وأما أن يحمل على تقييد منع التسعير على الجالب وفاقا إذا لم يبغ على المسلمين في طلب الزيادة على ما يجد سعر

الوقت عليه فإن بقي أو اعتدى بإرادة الغلاء منع من ذلك ومنع المشتري منه من إجابته لذلك. وذلك الذي قيد به ابن أبي زيد في نوادره هذا الفقه فقال ولا يسعر على الجالب شيئا ما لم يزيدوا أرفع من السعر الذي رضي به أهل الحوانيت فليس لهم الزيادة عليه فإما باعوا عليه وإلا رفعوا. الجد الأقرب للمؤلف يفتي في التسعير قلت كان سيدنا وشيخنا الجد الأقرب يقول يتعين أن يكون التسعير على أهل الأسواق في هذا الزمان متفقا عليه وتفقدهم في كل لحظة فضلا عن كل يوم لازم بما دانوا به من جميع المحظورات في البيع والابتياع ومن أخبث شرورهم وأشنع مرتكبات محذورهم أن الجالب إن أدركه سبب التعذر ولو من وابل مطر أو شدة وحل فإنهم يعدون ذلك عذرا لخلاء السوق من المطعومات وغيرها إظهارا منهم لفراغ ما بأيديهم من ذلك لتعذر جلب الجالبين ومخازنهم به ملأى وما ذلك إلا من ترصدهم الحطيطة في السعر لا من إخلائهم الأسواق فإذا حط لهم منه أوقية أخرجوا مختزنهم وباعوا منه الكثير مبادرة على إتيان المجلوب فيرخص ما بأيديهم. وهذه مكيدة من مكائد الخدع ومضرة سافرة من حبائل الطمع كل ذلك في أموال المسلمين بغير حق والله يقضي بالحق على هذا الأسلوب مستحقون بالأدب الزاجر لهم بعد الحمل عليهم أن يخرجوا ما لدهم ليبيعوه بسعر السوق دون ضرر يلحقهم في ذلك ولا يلحق المسلمين منهم. تواطؤ الناس بالسوق قال في تنبيه الحكام فإذا تواطأ الناس وتراضوا على سعر واحد من غير قصد إضرار الكافة لم يعرض لهم ولم يجبروا على غيره وإن تضرر الكافة بشيء قصدهم به أهل الأسواق مثل أن يتمالئوا ويتظافروا على فعل يضطرهم إلى الزيادة من غير سبب أوجبه من عدم ذلك الشيء أو من حوالة أسواقه كما يفعل الآن الدقاقون والجزارون ومن أشبههم ممن تدعو الحاجة إلى ما في أيديهم لأنهم يتواطئون على إخلاء السوق من ذلك الصنف ويرفعون أيديهم عن الأعمال حتى تضيق أحوال الناس ويضطروهم إلى الإذعان لما يريدون فمعالجة دفع هذا الضرر عن المسلمين واجب.

ومعانات مثل هذا تكون بالبحث عن شرار هؤلاء المتشغبين وأهل الاستطالة فيهم وبمن يتهم بتقديمهم إليه وتأليفهم عليه فإن لهم شياطين يتبعونهم في ذلك ويقررون عن رأيهم وربما ألجأوا بعض الضعفاء منهم إلى التعطيل ليكونوا إلفا واحدا فيما يريدون فيتضرر ضعيفهم مع ذلك قهرا بائتلافهم عليه فمن علم منهم حالة ما ذكرناه فواجب إزالته من بينهم وإخراجه من جملتهم وإن أدى إلى تأديبه وجه نظري بحسب ما يعرف في ذلك من تكرر فعله واستيلاء حكمه أدب واستصلح من بعده بالموعظة والزجر وإن كان ممن عظمت في هذا النوع أذيته وجب إخراجه من السوق وإراحة المسلمين من شره ويؤخذ الناس بهذا المأخذ ونحوه مما يعود لمصلحة الكافة في غير اعتداء على أحد في مال أو عقوبة بغير استحقاق. تنبيه تنبيه: إذا كان سعر أهل السوق متحدا غير متفاوت فقام واحد منهم يبيع بأغلى مما يبيع به الباقون فإن كان لجودة ما لديه دونهم لم يمنع وإن لم تكن له جودة عما بأيديهم منع فإن حط عن سعرهم وباع بأرخص مما يبيعون به ترك وبيعته ولم يؤمر الباقي باللحاق به. وكذلك لا يؤمر الكثير منهم أن يلتحقوا بالأقل ولكن يؤمر القليل أن يلتحقوا بالأكثر ويساوونهم في ثمن المبيعات قال ابن رشد رحه لا يجوز للرجل أن يبيع الطعام في السوق بدون بيع الناس في المثمون لا في الثمن وذلك مثل أن يكون الناس يبيعون مثل ذلك الطعام أربعة بدرهم فلا يجوز له أن يبيع ثلاثة بدرهم. وقد بين ذلك في سماع عيسى وهو بين أيضا من نفسي سحنون بقوله يريد ما يباع من صنف سلعته في جودتها وليس عليه أن يبيع الجيد بسعر الردي يقول إنه إذا كان الناس يبيعون أربعة بدرهم وكان طعامه أجود من طعامه فليس عليه أن يبيع طعامه الجيد بما يبيعون به طعامهم الردي. وكذلك قال ابن حبيب إنما ذلك إذا استوى الطعام أو تفاوت وأما إن اختلف فزاد صاحب الجيد على صاحب الدني الدرهم والدرهمين في المدى مما بين الجيد والردي إنما هو على ما يعرف بالأندلس من أنه ليس بين قمحها تفاوت مثل ما بإفريقية ولا مثل ما بمكة حيث يجتمع سمراء الشام والمحمولة قاله الفضل وهو صحيح.

وإذا كان الذين يبيعون برخص العدد اليسير الواحد والاثنين والثلاثة ونحو ذلك أقر الأكثر على ما يبيعون ولم يردوا إليهم حتى يكونوا كثيرا قيل للباقين وإن كانوا أكثر منهم إما أن تبيعوا ببيع هؤلاء وإما أن ترفعوا من السوق. فلا يرد الكثير إلى القليل ويرد إلى (الأكثر) القليل والكثير وإذا كان الكل قليلا فالأقل منهم تبع للأكثر إذا كان الأكثر يبيعون أرخص وإن كان الأكثر هم الذين يبيعون أغلى ترك كل واحد منهم على ما يبيع. وقد ذهب بعض الناس تأويلا على رواية ابن القاسم وكان مثلها إلى أن الواحد والاثنين من أهل السوق ليس لهم أن يبيعوا بأرخص مما يبيع أهل الأسواق لأن ذلك ضرر بهم وممن ذهب إلى ذلك عبد الوهاب بن محمد بن نصر البغدادي وهو غلط ظاهر إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه بل يشكر على ذلك إن فعله لوجوه الناس ويؤجر إذا فعله لوجه الله. قلت هذا الذي ذكره ابن رشد رحه هو عين ما وقع في سماع عيسى في رسم باع شاة منه في الرسم المذكور قلت له أرأيت لو واحدا أقام واللحم ثلاثة أرطال فيباع أربعة هل يقام له الناس قال لا يقام الناس لواحد ولا لاثنين ولا لثلاثة ولا لأربعة ولا لخمسة ولو رفع لواحد لاشترى سلعا بحكمه إذ لا يبيع معه أحد فيدخل على الناس في ذلك ضررا ولكن يبيع هو ويبيع الناس معه ولا يقام لواحد وإنما يقام الواحد والإثنان إذا كان جل الناس على سعر فقام الواحد والإثنان فحطوا من السعر فأدخلوا الفساد فأولائك يقامون من السوق أو يلحقون بسعر الناس هـ. منكرات الربا ومن أكبر ما بقي ذكره من مناكر الأسواق التي يشتد الحكام في تغييرها ويتقدموا بالتغليظ القوي في زجر من أذعن ببقائها وتقريرها منكرات الربا فتلك المعصية التي أذن الله فيها بالحرب وبما وقع في محكم التنزيل من الوعيد في شأنها تأكد انقباض أفئدة العقلاء من الكرب قال مولانا الكريم في قرآنه العظيم: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وقال: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} وقال: {وما أتيتم

من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله} ونظيره في الآي القرآنية والأحاديث النبوية كثير. وفي سماع أشهب وسئل مالك عمن قال امرأتي طالق إن كان يدخل بطون العباد أخبث من الشراب المسكر فقال مالك الدم والميتة ولحم الخنزير وما هذا عندي بالبين ثم تفكر فيها طويلا ثم قال لو طلقها واحدة ثم ارتجعها فقيل له إنها ليست عنده إلا على واحدة فقال قال الله عز وجل في الربا: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وليس هذا في الخمر يأخذ دينارا بدينارين يأكله إذا أخذ يشرب الخمر جلد وخلي وإذا أخذ الذي يأكل الميتة عذب عذابا أليما فأرى أن يفارق أصواته قال إذن أترى أن يفارقها قال نعم. قال ابن رشد رحه حمل مالك يمين الحالف بالطلاق على أنه لا يدخل بطون العباد شيء أخبث من الشراب المسكر على أن المعنى فيه لا يدخل بطونهم شيء هو أشد في التحريم وأعظم في الإثم وأكبر في الجرم من الشراب المسكر ولذلك رأى الطلاق قد لزمه قيل له من أجل أنه رأى الربا أشد تحريما وأعظم إثما وأكبر جرما بدليل ما توعد الله به في الربا ولم يذكر في الخمر مثله فعلى هذا لو حلف أنه لا يدخل بطون العباد شيء أخبث من الربا لم يحنث. قلت وقد كثر وقوع هذا المنكر الذي هو أخبث المناكر جهارا بين الناس بحيث لا يستخفي به أحد علمه أو جهله حتى أن زماننا هذا لهو الزمان الذي أخبر به الصادق الأمين صلعم من حديث أبي هريرة ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد فيه إلا أكل الربا فإن لم يأكله أصابه من تجارة فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال ابن المناصف في "تنبيه الحكام" فمنها من لا يكاد يخفى على أحد فلا يحتاج إلى التنبيه عليه كإعطاء درهم في اثنين والزيادة في دين على النظرة به واستعمال قبض بعض عن كل ما لم يحل وما أشبه ذلك من ظواهر الربا التي تعارفها الناس. ومنها دقائق تخفى على الأكثر ويقل مع ذلك وقوعها مثل أن يبيعه ثوبا بعشرة إلى شهر ثم يشتريه منه بثمانية نقدا أو إلى نصف شهر أو باثني عشر إلى شهرين وما أشبه هذا مما يطلع المتشوق منه على غرضه في مواضعه من كتب الفقهاء فليس هذا موضع ذكره. ومنها ما هو في الحقيقة ظاهر معلوم وقد يخفى على آحاد من العوام وهو مما يكثر وقوعه فمنه ما يقع من بيع وصرف كما لو اشترى منه سلعة بخمسي دينار ورد عليه صرف الباقي

دراهم واستخف إذا كانت الدراهم أقل من دينار وقد أجازه ابن حبيب. قلت أو كثرت وكل ذلك مع النسيئة فاسد كعرض وفضة مثل أن يشتري منه شيئا بربع درهم فرد عليه ثلاثة أرباع درهم واستخف ذلك في النصف بدون وكصرف وإحالة فيه مثل أن يصرف منه دينارا فيحيل عليه من يقبضها ويفارقه المحيل قبل قبض المحال باتفاق وإن كان بحضرته فعلى اختلاف. وكفسخ الدين في الدين مثل أن يكون لكل واحد منهما على صاحبه حق إلى أجل فيتفق أو يختلف فيتصارفانه قبل المحل أو يكون دينا حل أو لم يحل في سلم وما أشبه ذلك كالتعامل على اصطراف ما في الذمة قبل محله أو بعد ذلك ويتراخى القبض مثل أن يبيعه بدنانير ذهبا على أن يقبض فيها دراهم عن كل دينار كذا أو يبيعه بدراهم على أن يقبض فيها دراهم عن كل دينار كذا لرجل له عليه ذهب فيتصارفانه الآن على دراهم معلومة ثم فارقه قبل القبض للدراهم كل ذلك لا يجوز. بيع الجواهر ومنه ما قد انتشر ووقعت المجاهرة به في الأسواق من غير نكير كبيع القلائد وبيع الجواهر المشتملة على شذور الذهب والفضة والمنظومة على غيرها من الجواهر واليواقيت ونحو ذلك فيبيع هذه الأصناف وما في معناها منظومة صفقة واحدة بدنانير أو دراهم فاسد لا يصلح كان الثمن من جنس ما في المنظوم أو من غير جنسه من الذهب والفضة لأنه إن كان من جنسها ففساده من حيث أنه بيع وصرف إلا أن يقل ما كان من غير الجنس مع السلعة حتى تكون كالتبع أو تقل السلعة قلة بينة مستخف نقدا. والوجه في بيع مثل هذا أن ينقص ويباع كل على حدة مما يصح بيعه أو يباع منظوما بعرض غير الذهب والفضة كالبر والشعير وأنواع العرض لأنه بيع خالص فلا اعتراض فيه إذا سلم من الجهالة ببعض المنظوم وعظيم الخطر والغرر. بيع الركب واللحم وقوائم السيوف ومن هذا ما تواطأ الناس عليه اليوم وأعلن بالنداء عليه في الأسواق وبمحضر الخواص والكافة من بيع الركب واللحم وقوائم السيوف ونحو ذلك مما هو محلى بأنواع الذهب والفضة التي له قدر عظيم بالدنانير والدراهم وذلك فاسد إن كان الثمن من جنس تلك

الحلية تبعا كالثلث فدون وإن كان بغير جنسه استخف قلت الحلية أو كثرت وكل ذلك نقدا ولا يصلح في شيء منه نسيئة فإن اجتمع في الحلية الصنفان لم يجز البيع بهما أو بأحدهما قلت أو كثرت ويباع كل ذلك بعرض سواء الذهب والفضة نقدا أو إلى أجل فلا يمكن انفصال الحلية من هذه كما كان كذلك في المنظوم. وفي استعمال الركب واللجم بتحلية الفضة والذهب نظر قبل كل شيء لأن الذي أبيح من ذلك ما كان في المصحف والخاتم والسيف من الفضة خاصة قلت وفي نظره نظر لأنه إن توقف نظره على الإباحة تبعا للمشهور فمسلم ولا تساعده عبارة النظر إن كان ذاكرا بالخلاف في المسألة ومن له أدنى مسكة في الفقه المالكي مطلع على الخلاف في ذلك فقد جمع ابن الحاجب على اصطلاحه في كتاب الزكاة ثلاثة أقال في آلة الحرب حيث قال "وفي حلية باقي آلة الحرب ثالثها يجوز فيما يطاعن به ويضارب لا فيما يتقى به ويتحزم. فالأول يقول بالجواز مطلقا في كل ما هو آلة للحرب سواء كان من آلة الراكب والمركوب وهذا القول هو قول ابن وهب في المذهب وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وصححه الشيوخ إلزاما للمشهور بطريق الإلحاق بالسيف لمناسبة وصف الإرهاب للعدو في الجميع وتخصيصه بالسيف تحكم مع انضباط العلة بالإرهاب فلا يكون فرق بين السلاح والمنطقة والسرج واللجام والمهامين. فتوى الجد الأعلى للمؤلف وقد وقع في فتوى الشيخ الإمام العلامة الحبر المحقق شيخ مولانا الجد الأعلى أبي عثمان سعيد القباني الذي أخذ عنه تحقيق المسائل الفقهية حفظا وتعليلا السيد المنعم المرحوم أبي عمران موسى ابن موسى المسترالي رضه جواز اتخاذ الركاب من خالص الذهب والفضة بما نصه بعد كلام طويل وتفريع حسن وتوجيه وتعليل وعلى تحلية آلة الحرب عموما بالفضة خاصة أو بها وبالذهب فلا فرق بين كون الركاب خالصا من أحد النوعين فيه إلى غيرهما فالركاب ونحوه مما لابد للسرج منه كالقبضة والرأس وما صيغ للسيف والنعال والأزناد للجفن فإذا جاز صوغ ما ذكر للسيف من خالص الذهب أو الفضة أو من خالص الفضة خاصة على اختلاف الرأيين جاز تفريعا على التعدية اتخاذ الركاب خالصا من أحد النوعين أو من خالص الفضة خاصة. ثم قال في أثناء كلامه قولا يترجح به قول ابن وهب وذويه ما نصه: وإباحة حلية السيوف أيضا لابد له من علة ظاهرة لما تقدم

وليست كونه سيفا لعدم ظهور مناسبته فتكون إما لما في تحليته من إرهاب العدو أو التهيئ للإرهاب غالبا وإما لأن ذلك مما يزيد في قوة نفس متقلدة غالبا فلا ينزل نفسه منزلة من لا يؤبه له فيكون ذلك سببا في الثبات والبعد من مذموم الجبن والفرار. ولما رأى ابن وهب وأبو حنيفة وبعض الشافعية استواء آلة الحرب في هذا المعنى إذ الإرهاب في السيف ليس بمجرد وضع الحلية فيه على ما لا يخفى بل لأن ذلك شعار أهل النجدة والشجاعة وعلامتهم فيظن كون ذي المحلى كذلك. وهذا أمر لا يختص بتحلية السيف بل كما تشعر تحلية السيف بذلك يشعر به تحلية غيره أيضا إذ الحلية في آلة الحرب أيضا سرجا أو غيره إنما يتخذها غالبا المبرزون في النجدة والجرأة الموهوب منهم صاروا إلى التسوية بين السيف وبين آلة الحرب في مشروعية التحلية لاشتراك الجميع فيما هو العلة. انتهى ما مست الحاجة لنقله من جواب هذا الشيخ رضه فيما يمسنا من المسألة. وقد أفاد فيه وأجاد حفظا ولفظا رضه وشكر في العلماء المحققين مسعاه. وقد ذكرني مولانا الجد الأقرب السيد أبو الفضل قاسم من مناقب علمه وسيرته ما أطيل بتقييده هنا طولا يثبطني عن استيفاء المقصود الأهم وكان ذلك يوم وجدته بورق في يده ينسخ فيه من ورق آخر الجواب المذكور بعد كبر سنه فأشفقت من تكلفه النسخ لما أعلم فيه من كبر المشقة فتناولته منه وقلت إني أحق بهذا منك فأخذ في الإملاء علي وأنا أكتب ثم يدرج في أثناء الإملاء قصدا للاستراحة بعض ما حفظ من والده من مناقب الشيخ وغزارة علمه ولما أكملته بالكتب تلقيته منه رواية ودراية رضهم وحشرنا في زمرتهم, فانظر أنت بسديد نظرك في المناصف في تنبيهه بقوله فيه نظر هل هو إلا من قلة الاطلاع على ما لا يخفى نقله نصا وتوجيها. إرباء التجار في أثمان السلع ثم قال ومن ذلك إرباء بعض التجار في أثمان السلع مثل أن يشتري بعشرة فيعرف بإحدى عشر وقد يكون من بعض ذلك ما يخفى على فاعله أو يغالط في معرفة وجه فساده مثل أن يشتري بعشرة نسيئة فيعرف بعشرة نقدا الشراء ويكتم النسيئة. ومعلوم أن بيع النسيئة مما يرفع في الثمن فهذا إن لم يعلم به البائع وتعيين له قدرا من النسيئة حرام ونوع من الربا والتدليس وللمشتري الرد إذا علم بذلك وهذه الوجوه من الإرباء وفساد المعارضة كثيرة جدًا فيجب على الحكام البحث عنها والاجتهاد على قدر الطاقة والاشتداد وأن يقدموا في

الأسواق التي يكثر ذلك فيها أمناء ثقات علماء ليردعوا عن مواقعته من يتعاطاه من أهل الشر والفساد ويعلموا جهلة الناس بقوة وعزيمة وجلاء وعلى فاعل الربا العقوبة الموجعة إن لم يغدر بجهل والله المؤيد للنصرة على الحق وإذعان الكافة له من الخلق. فصل "ما يمتنع من البيوعات وما لا يصح العقد عليه" ولما كان مغير المنكر يفارق القاضي كما قال العلماء رضي الله عنهم في كونه يتعرض للفحص عن المحرمات فيجد في إزالتها ويحذر من الوقوع فيها وإن لم ينه إليه والقاضي لا يحكم إلا فيما رفع إليه قالوا فموضوع الحسبة الرهبة وموضوع القضاء النصفة وتقدم من كلام شهاب الدين أنه لا يقتصر على المنع من المحظورات بل ويرشد لإتيان المندوبات والتحفظ من الوقوع في المكروهات حسن مني أن نلحق في هذا الفصل لختام الباب السابع تقييد ما يمتنع من البيوعات وما لا يصح العقد عليه في ضروب المعاوضات على حسب اختصار بعض الفضلاء وجمعه ليعم فائدة نفعه. فلا يجوز بيع الحز والخنزير والقردة والخمر والميتة والدم والنجاسات وما لا منفعة فيه كخشاش الأرض والحيات والكلاب التي لم يؤذن في اتخاذها وتزاد الصواغين والصور وآلات الملاهي والأحباس ولحوم الضحايا والمربد والمكاتب والحيوان المريض مرضا مخوفا والأمة الحامل بعد ستة أشهر والحيوان بشرط الحمل وما في بطون الحيوان واستثناؤه والطير في الهواء والسمك في الماء والعبد الآبق الذي لا يعرف موضعه والجمل الشارد والغايب على غير الصفة والبيع بغير تقليب وبدنانير غير مسماة في بلد نقده مختلف وملك غيره والمغصوب وكل ما فيه خصومة والدين على الميت والغائب وما لم يبد صلاحه من زرع أو ثمر على التبعية ولا الجارية على الرقيق بالبراءة من الحمل وسلعة بعينها على أن تقبض إلى أكثر من ثلاثة أيام والدار بشرط سكناه أكثر من سنة والدابة بشرط ركوبها أياما كثيرة والبيع بثمن مجهول ويكيل مجهول. وفي وقت الجمعة وبيع حاضر لباد وبيع الرجل على بيع أخيه. وقد ركن إليه وبيع التفرقة وعقارا لا مدخل له وبيع الفصيل والقصب على أن يزيد في نباته أو يطيب وسلعة بحكمه وبحكم غيره ونيل المعادن وغيرها. والبيع على شرط حميد بعد الغيبة وبيع سلعة بجزاف من العين وبيع حائط فيه أنواع ويستثني البائع شجرا يختارها وشراء ثمر شجرات يختارها وبيع شاة ويستثني عضوا منها كالفخذ والبطن أو يستثنى الكبد وأرطالا أكثر من الثلث وبيع لبن غنم معينة مدة معلومة وهي دون العشرة وبيع قمح أو زيتون على أن على البائع حصاده أو عصره وبيع لحم شاة وهي حبة وطعام الطعام إلى أجل

ونقد بنقد إلى أجل ولا شيء بجنسه إلى أجل متفاضلا إلا أن يختلف منافعهما وبيع الطعام بالطعام قبل قبضه إذا ابتيع على الكيل أو الوزن أو العدد. ولا يجوز التفاضل في الصنف الواحد من الطعام والنقد وكل جنس فيه الربا إذا بيع بمثله فلا يجوز أن يكون غيره مع أحد الجنسين أو معهما ولا يجوز بيع الجزاف فيما تقعد أعيانه وآحاد جماعاته كالحيوان والثياب والجواهر ولا يجوز بيع الثنيا كبيع سلعة على أن لا يبيعها أو لا يهبها وأن لا يخرجها من البلد وأن لا يجيزها البحر أو على أن يتخذها أم ولد أو على أن لا ينزل عنها أو على أن يدبرها أو يكاتبها أو يعتق إلى أجل أو على أنه إن باعها فبائعها أحق بها الثمن الذي يبيعها به أو على أنه بالخيار إلى أجل بعيد لا يجوز الخير له أو على أنه متى جاءه بالثمن فهو أحق بها. ولا يجوز بيع رطب بيابس من جنسه كالرطب بالتمر والعنب بالزبيب أو بعصيره والعجين بالدقيق أو بالحنطة واللحم التي بالقديد أو بالمشوي والسمن بالزبد أو باللبن والزبد بالجبن والتمر بربه والجلجلان بزيته والحنطة المبلولة باليابسة والشاة اللبون باللبن إلى أجل ويجوز ضده. ولا يجوز بيع الطعام جزافا مع العقار والعروض كما لا يجوز العقار والعروض بعضها جزافا وبعضها كيلا ولا يجمع الرجلان سلعتيهما في البيع في صفقة واحدة لأنه لا يدري بم باع ولا بم يرجع عليه إن استخفت إحداهما فهذه كلها وإن كان في بعضها خلاف لكن الجادة المنع وعليه يعتمد مغير المنكر إن وقع اطلاعه على شيء من ذلك. وهنا أناخت لي في هذا الباب ركاب الاطلاع وفيما ذكرته من ذلك إن شاء الله كفاية وإقناع والله سبحانه ولي التوفيق والمرشد للعثور على جادة الطريق. الباب الثامن فيما يختص به من ذلك أهل الذمة ومن كان في حكمهم من المعاهدين فأما ما يجب تغييره والاحتساب فيه على أهل الذمة فينقسم على قسمين: أحدهما ما إن أعلنوه قولا أو فعلا كان نقضا للعهد ووجب قتلهم إلا أن يسلموا أو فهم فيء والثاني ما إن أعلنوه لم يكن نقضا للعهد ووجب تأديبهم عليه وردعهم عن الوقوع فيه. فأما القسم الأول وهو ما إن أعلنوه قولا أو فعلا كان نقضا للعهد فمنه أن يخرجوا على

المسلمين متلصصين أو متعصبين من غير ظلم لحقهم ولا أذى في أنفسهم وكذلك إن فروا بأنفسهم على وجه النكت والخروج من ذمة الإسلام أو قاتلوا على شيء من ذلك أو منعوا أداء الجزية عنادا أو بعد الفرار على ذلك نقض للعهد يستباحون به كالحربيين. قال في المدونة وإذا خرج قوم من أهل الذمة محاربين أو متلصصين فأخافوا السبيل وقتلوا حكم فيهم بحكم الإسلام إذا حاربوا وإن خرجوا نقضا للعهد ومنعا للجزية وامتنعوا من أهل الإسلام من غير أن يظلموا والإمام عدل فهم فيء ومن هرب منه إلى بلاد الحرب نقضا للعهد فحارب ثم أسر فهو فيء لا يرد إلى ذمته إذا نقض العهد لغير ظلم ركبوا به وإن كان لظلم ردوا إلى ذمتهم ولا يكونون فيئا وقال غيره ولا يرد الحر إلى الرق أبدا ويردون إلى ذمتهم ولا يكونون فيئا. قلت المعبر عنه بالغير في هذه المسألة في الكتاب هو أشهب كذلك في كتاب ابن المواز قال قال ابن القاسم في قوم من أهل الذمة إذا قطعوا الطريق وقاتلوا على العصبية وظفر بهم فليحكم فيهم بحكم المحاربين من المسلمين وأما إن خرجوا نقضا للعهد ومنعا من الجزية من غير ظلم ظلموا به فإن كان الإمام عدلا قوتلوا أو يكونون فيئا. وقال أشهب لا يكونون فيئا ويردون إلى ذمتهم قال ابن الحاجب بناء على أن الذمة تقتضي الجزية بدوام العهد أو أبدا. قال ابن عبد السلام في شرحه لا يعني أن هذين القولين يجريان على أن الذمة المطلقة هل معناها الدوام بدوام العهد. أو أبدا يعني فإذا أنقضه الذمي عاد إلى ما كان عليه أولا واسترقاقه في الأول جائز وهذا رأي ابن القاسم، أو معناه الدوام الأبدي، والجزية ومن ثبتت له الجزية لم يرجع إلى الرق أبدًا، وهذا رأي أشهب هـ. ومن تمام ما في الموازية، قال أشهب ويقتل منهم من قتل ويخرج من خرج قال ابن المواز وقف ابن القاسم عن القتل فيما كانوا قتلوا أن يستفاد منهم، وقال فيهم لا أدري قال أحمد بن ميسر لا يؤخذ أحد منهم بما قتل في مصاف ولا في غيرها. قلت إنما لم يقل ابن القاسم بن قاله أشهب من قتلهم على وجه القود بمن قتلوا في هذه الصورة مرورا مع أصله في أنهم بنقضهم العهد عادوا حربا والحربي إذا قاتل المسلمين على دينه لا يقتل قودا بمن قتل. وأشهب الذي يقول إنهم لا يزالون على حكم الذمة بعدم إباحته لاسترقاقهم وأنهم أحرار لم يزالوا يقول بالقود منهم ضربة لازم كما إذا لم يقاتلوا عمدا عدوانا.

وفي سماع عيسى وسألته عن القوم من أهل الذمة يخرج رجالهم ويحاربون فيظفر بهم هل تستحل بذلك ذراريهم ونساؤهم، ومن يزعم من ضعفاء رجالهم أنه استكره ومن يرى أنه مغلوب على أمره، ولا يملك من أمره شيئا دخلوا أرض الحرب أو لم يدخلوا. قال ابن القاسم: إن كان الإمام عدلا قوتلوا وقتلوا واستحلت نساؤهم وذراريهم وأولادهم المراهقون والأبكار تبعا لهم يستحلون ويسبون وهم من النساء والذرية، (وأما من يرى) أنه مغلوب على أمره وأنه لم يغن شيئا مثل الضعيف والشيخ الكبير، الزمن فلا أرى أن يستحلوا ولا يقتلوا ولا يسترقوا على حال قال: وإن نقضوا وقاتلوا وظهر على الذرية قبل أن يظهر عليهم استحلوا أيضا وسبوا، وكانوا كسبيل ما فسرت. وذلك إذا كان الإمام عدلا لم ينقموا منه شيئا، وإن نقضوا وخرجوا إلى دار الحرب وبقيت الذرية بين أظهر المسلمين لم تستحل الذرية، ولم يكن إلى الذرية سبيل بوجه من الوجوه، وإن تحملوا الذرية معهم فظفر بهم قبل أن يصلوا إلى دار الحرب فهم كلهم فيء بحال ما فسرت لك إذا كانوا قد نقضوا وامتنعوا وكان الإمام عدلا كما أخبرتك، وإن كان الإمام غير عدل ويقيمون شيئا يعرف به ما قاموا به لم يقاتلوا ولم يقتلوا. قال: فإن ظهر عليهم في تلك الحال لم يستحلوا ولم يسترقوا ولا يسبى شيء من نسائهم ولا ذراريهم وتركوا على حالهم وذمتهم، وإن تحملوا إلى أرض الحرب بذريتهم ثم ظهر عليهم لم يستحل منهم شيء من الأشياء كما فسرت لك إذا كان الإمام غير عدل إلا أن يعينوا على المسلمين بعد دخولهم إلى العدو، ويقاتلوا مع العدو فيستحلون بفعلهم ذلك وليس بهم وبذراريهم عند ذلك سنة أهل الحرب لأنهم قد صاروا حينئذ حربا وعدوا. قال ابن رشد رحه تع اتفق أصحاب مالك على إتباع قول مالك في أن أهل الذمة إذا نقضوا العهد ومنعوا الجزية، وخرجوا من غير عذر أنهم يصيرون حربا وعدوا ويسبون ويقتلون، إلا أشهب في المدونة فإنه قال لا يعود الحر إلى الرق وما اتفق عليه مالك وأصحابه أصح في النظر من قول أشهب، لأن الجزية لم تثبت لهم بعتاقة من رق متقدم فلا ينتقض وإنما تركوا على حالهم من الحرية التي كانوا عليها آمنين على أنفسهم ودمائهم بين أظهر المسلمين بما بذلوه من الجزية عن يد وهم صاغرون لقول الله عز وجل: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} الآية: فإذا منعوا الجزية لم يصح لهم العوض وكان للمسلمين الرجوع فيه، وذلك أيضا كالصلح ينعقد بين أهل الحرب وبين المسلمين على شروط فإذا لم يوفوا

بها انتقض الصلح لقول الله عز وجل: {فإنما ينكث على نفسه} وكمن اكترى دارا مشاهرة فإذا منع الكراء أخرج من الدار. وقد احتج لذلك ابن الماجشون في كتاب ابن المواز قال وكذلك فعل النبي صلعم في بني قريضة الكافرين وغيرهم من اليهود وإنما كانت مهادنة ومعاهدة وهم في بلادهم ولم يكونوا كأهل الذمة الذين غلبوا فأقروا تحت ملك المسلمين على أداء الجزية. ومما يدل على هذا أن ابن القاسم لم يحتج به في المدونة، وإنما قال فيها قد مضت في ذلك السنة من الماضين فذكر قتال عمرو بن العاص الإسكندرية فلو كانت عنده في ذلك سنة لذكرها والله أعلم، وفرق في الرواية بين النساء والذرية وبين الشيوخ وساوى بين ذلك ابن الماجشون وأصبغ وجعلا نقض كبارهم نقضا عليهم كما أن صلحهم صلح عليهم. واختاره ابن حبيب ولا ينبغي أن يختلف فيهم إذا علموا أنهم مكرهون غير راضين لقول الله عز وجل: {ولا تزروا وازرة وزر أخرى} ويحمل الخلاف على أنه إنما هو إذا جهل أمرهم وادعوا الإكراه والغلبة على ما يحملون عليه فلا يستباحون على مذهب ابن القاسم إلا بيقين ولا يمتنع من سبهم وقتلهم على ما ذهب إليه ابن حبيب إلا بيقين. فإن قلت ما وقع في المدونة والعتيبة والموازية من تقييد حكم استرقاقهم وذريتهم إذا نقضوا العهد بما إذا لم يظلموا والإمام مع ذلك عدل غير جائز مقتضاه أنهم إذا نقضوا العهد من أجل ظلم لحقهم أو من تقية جور الإمام الموصوف بذلك أنهم يعودا إلى ذمتهم ولا يسترقون بذلك فهل ذلك متفق عليه أو مختلف فيه. قلت بل هو مختلف فيه على قولين حكاهما ابن الحاجب في مختصره وغيره. قال فيه فإن نقضوا لظلم لم يسترقوا على المشهور وهو الواقع في المدونة وغيرها عن ابن القاسم، وأما الشاذ فهو قول أحمد بن نصر الداودي وعلله بأنهم ناقضون للعهد ولو كانوا مظلومين لأنهم لم يعاهدوا على أنهم يظلمون المسلمين إذا ظلموهم وهو ضعيف لأن من فر ممن ظلمه لا يكون ظالما. وجعل الشيخ ابن عبد السلام التونسي شارح مختصر ابن الحاجب إطلاق هذا النقض للعهد في حق المسلمين إذا ظلموهم أولى بالحقيقة من إطلاقه في حق أهل الذمة إذا نابذوا ذمة

الإسلام لأجل ذلك التعيين إطلاق النقض عليهم إذ ذاك مجاز (وإنما صحح هذا التجوز في إطلاق النقض عليهم إذ ذاك مجازا) وإنما صحح هذا التجوز في إطلاق النقض عليهم خروجهم لبلاد الحرب ونحوها فصار في صورة النقض لأنه نقض لأنه لم يصدر ذلك منهم في حالة ظلمهم لكراهتهم ما أعطوا أولا من العهد ولا عدم رضى بدوامه بل المسلمون هم الذين لم يوفوا لهم بما عاهدوهم عليه فكانوا أولى بنقض العهد منهم. أضل ضرب الجزية وحكمة مشروعيتها تنبيه: هذه الجزية أصل ضربها وحكمة مشروعيتها إذلال الكفر وإعزاز الإيمان إذ لو شاء ربنا لجعل الناس أمة واحدة لكنه خلقهم فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير، وإنما أعد الجنة لمن آمن به وصدق بما بعث به خاتم أنبيائه ورسله وأعد النار لمن كفر به وكذب بما جاء به رسوله وخيرة خلقه ببقاء الكفر ما دامت الدنيا تحت الإذلال به والهوان به يظهر إعزاز كلمة الإيمان. فأول ما بعث الله نبيه صلعم بالدعاء إلى الإسلام من غير قتال أمره به ولا قتل ولا أذن له في شيء من ذلك ولا أصل له ضرب جزية ولا أخذها فأقام عليه السلام على ذلك عشر سنين وهي التي أقام بمكة أو ثلاث عشرة سنة وحينئذ أنزل عليه {فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} وقوله: {لا إكراه في الدين} وقوله: {فاعف عنهم واصفح} وما أشبه ذلك من الآيات. فلما هاجر إلى المدينة أذن الله تع له والمؤمنين بقتال من قاتله وأمرهم بالكف عمن لم يقاتلهم، فقال تع {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} وقال تعالى: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} وقال تع: {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا}. فأقام على ذلك صلعم والمسلمون حتى نزلت براءة لثمان سنين من الهجرة فأمره بقتال جميع من لم يسلم من العرب من قاتله أو من كف عن قتاله إلا من عاهد فقال: {واقتلوهم حيث وجدتموهم إلى قوله فإن تابوا وأقاموا الصلاة} الآية فلم يستثن على العرب إلا

الإسلام، ولم يقبل منهم غيره، وأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية فقال: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعقلوا الجزية عن يد وهم صاغرون} يدخل في ذلك من تعلق من العرب بدين أهل الكتاب وألحق النبي صلعم بهم مجوس العجم بقوله في حديث عبد الرحمن ابن عوف سنوا بهم سنة أهل الكتاب. أصناف الكفار في أخذ الجزية فالكفار في أخذ الجزية على تحصيل الشيخ ابن رشد رحه أربعة أصناف: صنف تؤخذ منهم الجزية باتفاق وصنف لا تؤخذ منهم الجزية باتفاق، وصنف تؤخذ منهم الجزية على اختلاف، وصنف يختلفون فيما يؤخذ منهم. فأما الذين تؤخذ منهم الجزية باتفاق فأهل الكتاب والمجوس من العجم تؤخذ من أهل الكتاب بنص القرآن قال الله تع: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}. وتؤخذ من مجوس العجم وهم ما عدا العرب بالسنة والقياس أما السنة فقوله في الحديث سنوا بهم سنة أهل الكتاب يريد في الجزية وأخذه صلعم من مجوس البحرين، وأما القياس فهو أن الجزية إذا كانت تؤخذ من أهل الكتاب إذلالا وصغارا مع أنهم أقرب إلى الحق لإقرارهم بالنبوءة والشريعة المتقدمة فالمجوس أحرى بذلك منهم إذا لا يقرون بشيء من ذلك وقد قيل في أنهم أهل الكتاب روي ذلك عن الشافعي رضه وقول النبي عليه السلام: سنوا بهم سنة أهل الكتاب. معناه على قوله الذين يعلم كتابهم على ظهور واستفاضة. وأما الذين لا تؤخذ منهم الجزية باتفاق فكفار قريش والمرتدون، أما المرتدون، فلأنهم ليس هم على دين يقرون عليه لقول النبي صلعم: من بدل دينه فاضربوا عنقه. وأما كفار قريش فقيل إنه إنما لم تؤخذ الجزية منهم لأنه لا يجوز أن تجرى عليهم ذلة صغار لمكانهم من النبي صلعم فإن كانوا من أهل الكتاب تخصصوا من عموم الآية بالإجماع

ولم يجز في أمرهم إلا الإسلام أو السيف وهذا الإجماع حكاه ابن الجهم، وقال القزويني إنما لم تؤخذ الجزية من كفار قريش لأن جميعهم أسلم يوم الفتح فلا يكون قرشي كافرا إلا مرتد والمرتد لا تؤخذ منه الجزية لأنه ليس على دين يقر عليه ولا يسترق. وأما الذين تؤخذ منهم الجزية على اختلاف فمشركوا العرب ومن دان بغير الإسلام من العرب وليس من أهل الكتاب ولا المجوس. أما مشركوا العرب فذهب مالك إلى أن الجزية تؤخذ منهم وقال الشافعي وأبو حنيفة لاتؤخذ منهم الجزية وإلى هذا ذهب ابن حبيب وهو قول ابن وهب من أصحابنا. وقال ابن حبيب إكراما لهم فعلى قوله تؤخذ الجزية من غير المجوس إذا لم يكن من العرب ودان بغير الإسلام وقيل إن ذلك ليس من جهة الإكرام لهم وإنما ذلك من جهة التغليظ عليهم من الحق إذ ليسوا بأهل كتاب. وهذا يأتي على مذهب الشافعي لأن المجوس عنده أهل الكتاب ولا تؤخذ الجزية عنده إلا من أهل الكتاب فعلى قوله لا تؤخذ الجزية من غير المجوس وأهل الكتاب وإن لم يكونوا من العرب. وأما الذين يختلف فيما يؤخذ منهم في الجزية فنصارى العرب ذهب مالك إلى أن الجزية تؤخذ منهم وحجته قول الله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وروي عن عمر بن الخطاب رضه أنه كان يأخذ منهم في جزيتهم الصدقة مضاعفة إكراما لهم، وقيل بل كان يأخذ منهم باسم الجزية. فالذي يتحصل في الجزية ثلاثة أقوال: أحدها أن لجزية تؤخذ ممن دان بغير الإسلام بدين يقر عليه من جميع الأمم حاشا كفار قريش والثاني تؤخذ ممن دان بغير الإسلام يدين يقر عليه حاشا كفار قريش ومشركي العرب، والثالث أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس وهذا قول الشافعي والقولان الأولان في المذهب. قلت وقد ذكر الشيخ أبو عمرو بن الحاجب الإجماع على أخذ الجزية من أهل الكتاب خاصة وفي من سواهم أربعة أقوال غير أن شارح مختصره الشيخ بن عبد السلام تأول بعض تلك الأقوال. فقال ذكر المؤلف في الكفار من غير أهل الكتاب أربعة أقوال المشهور أخذها من كل كافر عموما ويعني به من عدا المرتد وهذا هو المنصوص في "المدونة" ومقابله أنها لا تؤخذ

منهم عموما ولا خصوصا وهو مذهب ابن الماجشون وهذا القول لا ينبغي أن يفهم على عمومه في الكفار لما يعطيه كلام المؤلف أنها لا تؤخذ من المجوس فما أظن ابن الماجشون ولا أحدا من أهل العلم يمنع أخذها من مجوس العجم. قلت فالذي نقل ابن رشد من الاتفاق على أخذها من مجوس العجم مثل الكتابين ليس بمدخول بنقل ابن الحاجب عن ابن الماجشون عموم منع الأخذ من سائر الكفار ولعدم صحة نقل ذلك عنه في شأن مجوس العرب وهذا ينسب إلى ابن وهب غير أن عبارة بعض المحققين في نقل هذا القول هكذا. وذهب ابن وهب إلى قبولها من سائر الأمم إلا العرب إلا أن يكفر العربي كفرا يدخل به في ملة من الملل ومثل هذا اللفظ لا يبعد إدخال المجوسي فيه، وإنما يمتنع إدخال الوثني والله أعلم. الجزية الصلحية وفائدة أخدها منهم الجزاء على تأمينهم مع إقرارهم على كفرهم وهي على وجهين عنوية وصلحية. فأما الصلحية فلا حد لها إذ لا يجبرون عليها ولأنهم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى صالحوا عليه فإنما هي على ما يراضيهم عليه الإمام من قليل أو كثير وعلى أن يقروا في بلادهم على دينهم إذا كانوا بحيث تجري عليهم أحكام المسلمين وتؤخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون. كذا نص ابن حبيب في الواضحة وغيره أن الجزية الصلحية لا حد لها إلا ما صالحوا عليه من قليل أو كثير. قال ابن رشد رحمه الله وهو كلام فيه نظر والصحيح أنه لا حد لأقلها يلزم أهل الحرب الرضى به لأنهم مالكون لأمرهم وأن لأقلها حدا إذا بدلوه لزم الإمام قبوله وحرم عليه قتالهم لقول الله عز وجل: {حتى يعطوا الجزية عند يد وهم صاغرون} ولم أر لأحد من أهل المذاهب في ذلك حدا. والذي يأتي على ذلك المذهب عندي أن أقلها ما فرض عمر على أهل العنوة فإذا بدل ذلك أهل الحرب في الصلح على أن يؤدوه عن يد وهم صاغرون لزم الإمام قبوله وحرم عليه قتالهم وله أن يقبل منهم في الصلح أقل وإن كانوا أغنياء. وقال الشافعي أقل

الجزية دينار ولا يقدر أكثرها لأنه إذا بذل الأغنياء دينارا حرم قتالهم وهذا نص منه على أن أقل الجزية دينار بقوله ولا بقدر أكثرها فقوله ولا يقدر أكثرها معناه أنه ليس لكثرة ما يبذلونه من الصلح حد لا يجوز للإمام أن يتجاوزوه بخلاف أهل الغنوة الذي لا يجوز للإمام أن يتجاوز فرض عمر فيهم. انقسام الجزية الصلحية إلى ثلاثة أوجه ثم هذه الجزية المصالح بها على ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون الجزية مجملة عليهم. والثاني أن تكون مفرقة على رقابهم دون الأرض. والثالث أن تكون مفرقة على رقابهم وأرضهم أو على أراضيهم دون رقابهم مثل أن يقول على كل رأس كذا وكذا وعلى كل زيتونة كذا وكذا وعلى مبذر كل قفيز من الأرض كذا وكذا ولكل وجه من هذه الوجوه أحكام تختص به. فأما إذا كانت الجزية مجملة عليهم فذهب ابن حبيب إلى أن الأرض موقوفة للجزية لا تباع ولا تورث ولا تقسم ولا تكون لهم إن أسلموا عليها وأن مال من مات منهم لوارثه من أهل دينه إلا أن لا يكون له ورثة من أهل دينه فيكون للمسلمين. وذهب ابن القاسم إلى أن أرضهم بمنزلة مالهم يبيعونها ويرثونها ويقتسمونها وتكون لهم إن أسلموا عليها وإن مات منهم ميت ولا وارث له من أهل دينه فأرضه وماله لأهل مودته ولا يمنعون من الوصايا وإن أحاطت بأموالهم ولا ينقصون من الجزية شيئا لموت من مات منهم. وأما إن كانت الجزية مفرقة على رقابهم فلا اختلاف أن لهم أرضهم ومالهم يبيعون وتكون لهم إن أسلموا عليها ومن مات ولا وارث له من أهل دينه فأرضه وماله للمسلمين ولا تجوز وصيته إلا في ثلث ماله. وأما إن كانت الجزية مفرقة على الجماجم والأرض أو على الأرض دون الجماجم فاختلفوا في جواز بيع الأرض على ثلاثة أقوال. أحدها- أن البيع لا يجوز وهي رواية ابن نافع عن مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة والثاني- أن البيع جائز ويكون الخراج على المبتاع ما لم يسلم البائع وهو مذهب أشهب وقوله في المدونة ولا اختلاف أنها تكون لهم إن أسلموا عليها وأنهم يورثونها قرابتهم من أهل دينهم بمنزلة سائر أموالهم أو المسلمين إن لم تكن له قرابة من أهل دينهم.

فإن قلت هذا الذي ذكرته في أرض الصلح هل حكم أرض العنوة مثله أم لا وبماذا تفترق أرض العنوة من أرض الصلح قلت أرض الصلح قال في المدونة هي التي منع أهلها أنفسهم حتى صالحوا فهي لهم كما صالحوا عليه من جزية الجماجم وخراج الأرض وأرض الغنوة قال فيها: هي التي غلبهم المسلمون عليها فأقروها بأيديهم وضربت عليهم الجزية. وحكمهم الوقفية كما رسم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فيها فلا تباع ولا تقسم ولا تقطع إقطاع تمليك. قال في المدونة فليس لهم بيعها ولا لأحد أن يشتريها منهم، وذكر الشيخ أبو الحسن اللخمي أن إقطاعها إقطاع تمليك على مذهب مالك جائز قال ابن رشد في كتاب السداد والأنهار وفي كتاب كراء الدور والأرضين منه "العتبية" وليس قوله بصحيح على مذهب مالك. نظرية الجد الأقرب للمؤلف قلت: وكان يتقدم لنا عند شيخنا وسيدنا الجد الأقرب على ما جرى به عمل الأئمة اليوم من إقطاعها وبيعها أنه ليس فيه تعقب لمجرد استناده لاختيار اللخمي ومخالفة الجادة من أهل المذهب بل هو ماض اتفاقا لأن فعل الإمام ذلك ينزل منزلة الحكم به وحكم الحاكم يرفع الخلاف. ثم بعد أن تلقيت ذلك من لفظه اختيارا منه وجدته منصوصا كذلك في كتاب جامع الأحكام وأتيته به فلما قرأه قال: الحمد لله الذي صادف رأينا رأى العلماء وكان رضى الله عنه نظارا في الفقهيات مسدد النظر فيها. وقد حكى لي ذات يوم عن والده سيدنا الجد الأعلى رضهما أنه قال له إن لم تجد نصا في المسألة فابن على نظرك نفع الله ببركتهما وحشرنا في زمرتهما. تحصيل أصيل في حكم أرض الصلح والعنوة وقد حصل بعض الشيوخ في حكم أرض الصلح والعنوة تحصيلا مفيدا. فقال: الأرض على قسمين عنوية وصلحية. فالصلحية جزيتها على قسمين مجملة ومفصلة فالمجملة التي جعلت عليها الجزية وعلى الجماجم والمفصلة على كل إنسان جزية نفسه وخراج أرضه. وأما العنوية فلا تباع وإن مات لا يرثها ورثته إلا ما اكتسب بعد الفتح وإن أسلم لم

تكن له ويكون له ما اكتسب بعد الفتح والصلحية مجملة لا تباع ولا تورث إن مات ولا تقسم ولا يملكها إن أسلم وتكون لأهل جزيته. وأما المفضلة إن أسلم كان ذلك له وإن مات فهو لورثته الذين على دينه، وإن لم يكن له ورثة فذلك للمسلمين وفي بيعها قولان قيل يجوز بيعها وهو قول ابن القاس وأشهب في الكتاب وقيل لا يجوز وهو قول ابن نافع في الكتاب واختلف ابن القاسم وأشهب على من يكون خراجها بعد البيع فقال ابن القاسم على البائع وقال أشهب على المبتاع. قلت: وأما الأرض التي جلي عنها أهلها بغير قتال فهي للمسلمين يقطعها الإمام إقطاع تمليك إن ظهر له وجه للمصلحة في ذلك كذلك قال الداودي في كتاب الأموال قال فقد كان النبي صلعم والخلفاء بعده يقطعون الأراضي التي جلي عنها أهلها بغير قتال. وأما الأرض التي أسلم عليها أهلها بغير قتال ولا أخذ عنوة فهي لهم يبيعون ويتصرفون بما شاؤوا وليس لأئمة المسلمين عليهم نظر ولا تصرف. حكم أرض المغرب فالأرضون إذن أربع صلحية وعنوية والتي جلي عنها أهلها والتي أسلم عليها أهلها قلت ما حكم أرض المغرب التي نحن بها وتمس الحاجة لمعرفة حكمها الحكم أرض العنوة أو الصلح أو غيرهما قلت: ذكر الشيخ أبو الحسن الزرويلي في تقييده على المدونة في كتاب البيوع الفاسدة لما تكلم على قوله في الكتاب وما ظهر من المعادن في أرض المغرب التي أسلم عليها أهلها أو بأرض المغرب أنه اختلف في أرض المغرب. فقيل: إنها عنوية وقيل إنها صلحية وقيل إن فحوصها عنوية وجبالها صلحية لأن الجبال مظنة الامتناع وذكر الداودي في كتاب الأموال أنه ينظر إلى ما توالت عليه القرون من بيع الأرض وشرائها وتحديدها فتحمل تلك الأرض عليه. وحكي عن التادلي أنه قال إن أرض المغرب أسلم عليها أهلها واستقراه من هذا المحل من المدونة. وتوقف سحنون في أرض المغرب. قلت كان يتقدم لنا أن ما ذكره الداودي يتفق على تقييد الخلاف به فيرجع إلى وفاق لقيام شاهد الحوز ودليل الاستصحاب، وإنما يحسن الخلاف فيما أشكلت معرفة ما مضى عليه عمل أهله.

غير أن أرض مغربنا وخصوصا السهل منها استمرت القرون السالفة والأمم الغابرة على تصرف الأئمة منها لبيت المال وحده على استبدادهم بالخراج دون أن يكون لقبائل العمران فيها شبهة مالك يسندون إليها سوى التغلب وإظهار الفساد بحماية بعضهم لبعض بطريق التعصب جعل الله المسلمين عن أسباب ذلك فرجا ومن يتق الله يجعل له مخرجا. فقد كان بعض فضلاء الصحابة لما طلبوا أمير المؤمنين عمر في قسمة الأرض العنوة واشتدوا عليه في الطلب أتى من ذلك ودعا أن يكفيه الله إياهم فماتوا من عند آخرهم، وما ذلك إلا لحمايته بقاء الأرض لمصالح المسلمين وعدم سخائه بالسلوك بها سبيلا غير ذلك. وأقول ما تجد قوما قطعوا أراضيهم وبردوا خراجها عن جمعه لبيت المال إلا ضعفوا وبانت مقاتلهم وحماتهم وصاروا هدفا لسهام أهل الفساد وطاغية أولي البغي والعناد. ولنأت بما وقع في العتبية من حكاية عمر بن الخطاب رضه التي أشرنا إليه ونجتلب كلام الشيخ ابن رشد عليها إلى هنا لما حوى من الفوائد ولوامع الدرر الفرائد. قال في سماع ابن القاسم قال مالك وبلغني أن بلالا كلم عمر بن الخطاب في هذا المال بالشام في قسمه وكان من أشد الناس عليه كلاما فزعم من ذكر أن عمر دعا عليهم فقال اللهم اكفنيهم قال مالك فبلغني أن ما حال الحول وواحد منهم حي. قال ابن القاسم: وإنما كان بلال وأصحابه سألوا عمر أن يقسم الأرض التي أخذت عنوة بين الناس فأبى ذلك عليهم عمر قال ابن القاسم وبلغني عن مالك أنه قال: ليس من الشأن قسم الأرض التي أخذت عنوة بين الناس ولكن تترك بحالها وكل ما افتتح بعد عمر من العنوة فالشأن به أن يترك كما فعل عمر. قال سحنون وحدثني ابن القاسم عن ابن كنانة أنه كان يقول ذلك قال سحنون وأخبرني به ابن نافع عن مالك، قال ابن رشد رحه ثبت أن رسول الله صلعم خمس أرض خيبر وقسمها بين المرجفين عليها بالسواء وأن عمر بن الخطاب رضه أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الشام ليكون ذلك في أعطية المقاتلة وأرزاق المسلمين ومنافعهم وقيل إنه استطاب أنفس المفتتحين لها فمن شح وترك حقه منها أعطاه بقية الثمن فعلى هذا لا يخرج فعله عما فعله النبي صلعم في أرض خيبر.

وإلى هذا ذهب بعض أهل العراق وقال إن أقر فيها لعمارتها كانت ملكا بدليل ما روي أن عمر وضع الخراج على بياضها وسوادها إذا لو كانت للمسلمين لكان وضع الخراج على سوادها بيعا للثمن قبل أن يخلق. وقيل إنه أبقاها بغير شيء أعطي للموجفين عليها، وإنما تأول في ذلك قول الله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} الآية وإلى هذا ذهب مالك رحه، وجميع أصحابه خلافا للشافعي في قوله إنها تقسم كما فعل رسول الله صلعم في أرض خيبر. وقد اختلف على هذا في آية الفيء هذه وآية الغنيمة التي في سورة الأنفال فقيل إنهما محكمتان على سبيل التخيير في أرض العنوة بين أن تقسم على ما فعل رسول الله صلعم في أرض خيبر مبينا لآية الأنفال أنها على عمومها وبين أن تبقى كما أبقاها عمر بدليل آية الحشر وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وهو قول أكثر الكوفيين إن الإمام مخير بين أن يقسمها كما فعل رسول الله صلعم في أرض خيبر وكما فعل عمر في سواد العراق. وقيل إن آية الحشر ناسخة لآية الأنفال لأن النبي صلعم بين فعله في أرض خيبر على عمومها في جميع الغنائم من الأرض وغيرها وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي. وقيل إن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال ومفسرة لها ومبينة أن المراد بها ما عدا الأرض من الغنائم وأن رسول الله صلعم إنما قسم الأرض بخيبر لأن الله وعد بها أهل بيعة الرضوان فقال وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فجعل لكم هذه فهي مخصوصة بهذا الحكم دون سائر الأرضين المغنومة. وإذا أبقى الإمام أرض العنوة وأقر بها أهلها لعمارتها ضربت عليهم الجزية على ما فرض عمر وسوقوا في السواد ووضع عليهم الخراج في الأرض بقدر اجتهاد الإمام وهو وجه قول مالك في المدونة لا علم لي بجزية الأرض وأرى أن يجتهد الإمام في ذلك ومن حضره إن لم يجد علما يشفيه أي إن لم يثبت عنده مقدار ما وضع عمر رضي الله عنه عليها من الخراج لأنه إنما توقف في مقدار ذلك وقيل إنه إنما توقف هل عليها خراج أو لا خراج عليها وتترك لهم يستعينون على أداء الجزية دون خراج وقيل إنما توقف فيما يوضع عليها من الخراج هل يسلك به مسلك الفيء. وهذا التأويل أبعد التأويلات عندي وذهب ابن لبابة إلى أن جزية الأرض توضع فيما أوقف الأرض له الإمام فقال إنما توقف مالك فيما يصنع بها إذا لم يدر لماذا أوقفها الإمام

ولا إن كانت افتتحت عنوة بقتال أو عنوة بغير قتال واختار هو إذا جهل ذلك أن يحمل على أنها افتتحت عنوة بقتال فيكون أربعة أخماس ذلك لورثة من افتتحه إن عرفوا وإلا كان سبيل ذلك سبيل الخمس هـ. والكلام في ذلك وفي تقاسيمه وتفاصيله أوسع مما نستطيع نقله إلى هنا وإنما ترامى بنا نسق القول لاجتناب ما قيل في حكم الأراضي على سبيل الاستطراد من جزية الصلح الموضوعة على الجماجم والأرض أو على أحدهما. الجزية العنوية وأما الجزية العنوية وهي التي توضع على المغلوبين على بلادهم المضررين فيها على عمارتها فإنها التي تمس مقصودنا بهذا الباب لكونها المضروبة على أهل الذمة والمستأمنين والمعاهدين ومن كان في معناهم من المعاهدين. فأول من فرض الجزية على أهل العنوة عمر حين فتح مصر إذ بعث عمرو بن العاص ثم أتبعه الزبير في اثني عشر ألفا فافتتحها عنوة وشاور عمر في قسم الأرض فكتب إليه أن أقسم ما سواها وتبقى الأرض وتأول قول الله تع: {والذين جاؤوا من بعدهم} فأبقى خراجها نفعا لمن يأتي من بعدهم وجعل عمر على علج منهم أربعة دنانير من خراج أرضهم. الجزية العنوية عند مالك فهي عن مالك رح تع على ما فرضها عمر رضه أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق أعني بالوزن الشرعي لا بوزن وقتنا ولا غيره مع ما فرض عليهم من أرزاق المسلمين وضياقة ثلاثة أيام والذي كان فرض عمر عليهم في أرزاق المسلمين على ما ذكر ابن أبي زيد في نوادره من كتاب ابن سحنون عن أبيه وكتاب ابن حبيب من الحنطة مدان على كل نفس في الشهر مع ثلاثة أقساط من زيت ممن كان من أهل الشام والجزيرة وأما أهل مصر فإردب من حنظة كل شهر.

قال ولا أدري كم من الودك والعسل وعليهم من الكسوة التي كان عمر يكسوها للناس قال ابن حبيب والخمسة عشر صاعا أكثر من قفيز قرطبة ومع ذلك على أهل كل أرض ضيافة ثلاثة أيام لمن مر بهم من المسلمين. قال وهي على قدر ما استيسر بالرجل منهم مما ينفق على نفسه وعياله على قدر وسعه وحاله ليس عليه ذبح الغنم أو الدجاج إن لم يستطع ذلك ولا يكلف إلا ما طاق عليه وتيسر له. ورأى مالك أن يوضع اليوم عنهم ما جعل عمر عليهم من الأرزاق والضيافة لما حدث عليهم من الجور وقاله النخعي وقال الثوري أوفوا لهم يوفوا لكم. في سماع عيسى قال ابن القاسم وبلغني عن مالك أنه قال تطرح الضيافة على أهل الذمة ضيافة الثلاثة الأيام إذا لم يوف لهم بشرط قال ابن رشد رحه قول مالك في طرح الضيافة عنهم هو ما فسر به عيسى بن دينار في تقسيم ابن مزيز قال يقول إذا تعدى عليهم الإمام وأخذ منهم أكثر من فرض عمر فلا يحل لأحد من المسلمين أن يستضيفهم ولا يأكل لهم شيئا وهو تفسير صحيح لأن عمر إنما أوجب عليهم من مر بهم من المسلمين ثلاثا على أن يؤدوا المقدار الذي فرضه عليهم فصار ذلك المقدار شرطا في وجوب الضيافة عليهم لمن مر بهم فإذا لم يوف لهم بالشرط وأخذ منهم أكثر من ذلك سقطت عنهم الضيافة فلا يحل لأحد أن يستضيفهم. فتوة الجد الأقرب للمؤلف في يهود البلاد التواتية قلت مفهومه أن الضيافة والأرزاق لازمتان لهم إن وقعت التوفية لهم. وكذا ذكر الشيخ ابن عبد السلام في شرحه ومثله فيه "كتاب جامع الأحكام" وهو مقتضي قول الثوري لهم حتى قاربوا الخروج عن إذلال الذميين بأنهم يعطون الأرزاق والضيافة الزائدتين عن الجزية ولمانعيهم من الظلم هنالك مؤاخذة عظيمة يوم الحشر والجزاء بمنعهم من أداء الحق الواجب عليهم لكافة الخلق فقد خالفوا أمر الله فيهم من أداء الجزية وهم صاغرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ومثله ما عهدناه في مقرنا موطأة للعمال لبعض يهود الكبوس على اعتزازهم بأن لا يؤدوا الجزية استقباحا عندهم لمساواتهم الذين يؤدونها واستكبارا ومخادعة لخروج من دائرة من

رسم الله فيهم أداءها مذلة وصغارا وما سومحوا في ذلك إلا لخدمتهم العامل استخفاء من الإمام. وهذا والعياذ بالله شكل مروق من الدين ورضى بمساواة أهل الذمة لأهل الإسلام وخرقًا لحجاب هيبة الله على أهل الدين بإظهار عزمهم على من سواهم من الكافرين ففي بعض الآثار سموهم ولا تكنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم وعنه صلعم لا تبدؤوهم بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فألجؤوهم إلى أضيقها. وسمعت من شيخنا ذات يوم في مجلسه ولم أحفظه إلا من لفظه نقلا عن أبي حنيفة أنه يرى من تأدية حق الصغار في قوله سبحانه وهم صاغرون أن الذمي إذا أخذت منه الجزية يصحب تناولها منه جزة في رقبته فالحق الذي لا تسوغ مخالفته أداء جميعهم الجزية كما قال ربنا عن يد وهم صاغرون. ولا يفترق في ذلك الكبوسي من غير الكبوسي ولا التاجر الرفيع القدر عندهم من الدني قال ابن رشد رحه ولا اختلاف أعلمه في أنه لا يزاد عيهم فيما فرضه عمر وإن أيسروا ولا ينقصون منه ما كان فيهم محتمل لحمل المفروض عليهم في الأرزاق مع الذهب والورق ولم يكن عليهم إلا الذهب والورق. واختلف إن ضعفوا عن حمل الأربعة دنانير أو الأربعين درهما فقيل إنه يسقط عنهم الجميع وهو الظاهر من مذهب ابن القاسم وقيل إنهم يلزمون في ذلك بقدر احتمالهم ولا حد في ذلك قاله القاضي أبو الحسن. وقيل إن حد أقل الجزية دينار أو عشرة دراهم. قلت هذا في الفقير لا من حكمه التخفيف وهو من دون الملي وهو القادر على أداء بعض الأربعة دون البعض فمن كان بصفة الفقر والإملاق ففيه قولان حكاهما ابن الحاجب في قوله: وفي أخذها من الفقير قولان كما حكى في التخفيف قولين مثل نقل ابن رشد السابق ولا يطلب بالجزية التي أسقطها الفقر عنه بعض غناه بخلاف من فر بها سنين وهو قادر على أدائها فإنها تؤخذ منه لما مضى وشروط أدائها خمسة العقل والحرية والذكورة والبلوغ والمخالطة. أما الجنون فلسقوط التكليف بوجوده وأما الحرية فقال ابن رشد لأن العبد مال من الأموال واختلف فيه إذا عتق على ثلاثة أقوال: أحدها أن عليه الجزية لأنه حر له

ذمة المسلمين فوجبت عليه الجزية. والثاني أنه لا جزية عليه لأنه كان مؤمنا محقون الدم والجزية إنما هي ثمن لحقن الدم. والثالث الفرق بين أن يعتقه مسلم أو كافر وهذا قول ابن القاسم وروايته عن مالك وهذا الاختلاف إنماهو إذا عتق في بلد الإسلام وأما إن عتق في دار الحرب فعليه الجزية على كل حال. قال ابن عبد السالم في قول ابن الحاجب ولا عبد ظاهر كلامه جواز بقاء العبيد منهم بين المسلمين وهو الأصل. وكان عمر رضه نهى أن يخلف في بلاد المسلمين شيء من أعلاجهم وأمر بإخراجهم من المدينة وإنما ترك أبو لؤلؤة قاتل عمر رضه ولعن قاتله لأن جماعة من أصحابه كلموه فيه لاحتياج الناس إلى صنعته قال مالك في المدونة ويقتل من الأسرى من لا يؤمن ألاترى ما كان من أبى لؤلؤة. وأما الذكورة والبلوغ فقال ابن رشد رحه لأن الجزية ثمن لتأمينهم وحقن دمائهم والصبي والمرأة لا يقتلان. وأما المخالطة فلأن من لم يخالط من الكفار كالحبر والراهب محقون الدم مثل الصبي والمرأة بالإصالة فلماذا تضرب عليه الجزية. قال ابن عبد السلام وهذا فيمن صادفه ضرب على حال الرهبانية. وأما من ترهب بعد ذلك فقال مطرف وابن الماجشون يستصحب في حقه وجوب الجزية ولا تسقط عنه بفعل يقع منه اختيارا وقال غيره بل تسقط لأن الحكم في الأصل دار مع الرهبانية وجودا وعدما. حكم رهبان الكنائس قلت زاد في النوادر بعد نقل كلام مطرف وابن الماجشون عنهما ناقلين عن مالك وأما رهبان الكنائس فلا ينهى عن قتلهم ولا توضع عنهم الجزية وهم الشمامسة وهم الذين قال فيهم الصديق وستجد قوما فحصوا عن أوساط رؤوسهم فاضربوا ما فحصوا عنه بالسيف. وفروع هذا التنبيه أوسع من أن يسعها هذا التأليف برمته بل وأكثر منه ولكنا نقتصر على ما كلت عنده الكتابة أسأله سبحانه ألا يردها عند البسط بالدعاء بمغفرته ورحمته خائبة.

اغتصاب الحرة المسلمة ومما يعد من فعلهم نقضا للعهد فيقتل فاعله إلا أن يسلم فيسقط عنه القتل اغتصاب الحرة المسلمة في نفسها. قال في النوادر من كتاب ابن حبيب روي عن عمر في ذمي اغتصب مسلمة إنه يقتل وهو كنقض العهد. قلت بخلاف لو طاوعته في الزنى بها فعند أهل المذهب لا يكون ذلك نقضا ما عدا أشهب فإنه قال إذا لم يوف لهم بالعهد فليس بنقض وإن وفي لهم بالعهد كان نقضا. وقال ربيعة بل هو نقض مطلقا غير أنه لا يثبت عليه ذلك إلا بالطريق الذي يثبت به على المسلم من شهادة أربعة على شرطها قال في سماع سحنون وسئل ابن القاسم عن النصراني يغتصب الحرة المسلمة فيطأها فيجب عليه بذلك القتل أيجزي في ذلك شهادة رجلين فقال ابن القاسم لا يقتل حتى يشهد عليه بذلك الفعل أربعة شهود أنهم رأواه كالمرود في المكحلة مثل الزنى سواء لأنه لا يستوجب القتل إلا بالوطء والوطء لا يثبت إلا بأربعة شهود. قال سحنون وقد كان ابن القاسم يقول يجزي في ذلك شهادة رجلين ثم رجع إلى هذا قال ابن رشد رحه وجه ما كان ابن القاسم يقوله من أنه يجزي في ذلك شهادة رجلين هو أنه كان يرى اغتصابه إياها وغيبته عليه نقضا لعهده يوجب عليه نقضا لما جاء من أن امرأة مرت تسير على بغل فنخس بها علج فوقعت من أعلى البغل فبدا بعض عورتها فكتب بذلك أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضه فكتب إليه عمر رضه أن أصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا وإنما عاهدناهم على أن يعطونا الجزية عن يد وهم صاغرون. ووجه القول الذي رجع إليه أنه لا يراه نقضا لعهده بغصبه إياها حتى يطأها على ما روي من أن عمر بن الخطاب رضه قال إذا اغتصب النصراني المسلمة نفسها فليقتل إن ذلك ليس مما صولح عليه فإنما يقتل إذا اغتصبها فوطئها لنقض العهد لا على حد الزنى ولا يلحق به الولد وهو على دينه فإن أسلم هدر عنه القتل وإن رأى أن ذلك كان خوفا من القتل إذا ثبتت صحة إسلامه وعليه صداق مثلها أسلم أو لم يسلم لأنه حق للمرأة قال ذلك ابن حبيب وحكاة عن أصبغ فلا خلاف إذا غصبها نفسها فوطئها أن ذلك نقض لعهده.

حكم الذمي إذا زنى بالمسلمة طائعة واختلف إذا زنى بها وهي طائعة فقال ربيعة هو نقض لعهده وقال في سماع عبد الملك بعد هذا إنه يضرب ضربا يموت منه وقال أشهب إنه يضرب الضرب الموجع لما لم يوف لهم بالعهد ولو وفى لهم بالعهد كان هذا منهم نقضا للعهد. وقال محمد بن عبد الحكم لا يكون نقضا للعهد وإن وفى لهم بالعهد وإذا كان على الطوع وأما جرح النصراني المسلم وقذفه إياه فلم يروه نقضا وللعهد فإن قلت هذا الحكم فيما إذا أتاها الكافر بمحض السفاح فلو أتاها بملك أو نكاح هل يكون الحكم واحدا أو لذلك حكم يخصه. قلت أما إن أتاها بملك فلا يكون نقضا وكذلك إن أتاها بنكاح عالمة بكفره. قال في المدونة ولا يطأ الكافر مسلمة بنكاح أو ملك ويتقدم في ذلك إلى أهل الذمة ويعاقب فاعله بعد التقدم ولا يحد ومن عذر بجهل فلا يعاقب هـ. وأما إن كانت غير عالمة بكفره وغرها بإسلامه فقال ابن نافع في كتاب المدنيين إن غرها بإسلامه كان نقضا وضربت عنقه. حكم إصابة النصراني المسلمة ولقد أحسن اللخمي في تبصرته جمع هذه المسائل فقال: إصابة النصراني المسلمة لا تخلو من سبعة أجه: إما أن تكون حرة أصابها على وجه الغصب أو زنى بها بطوعها أو تزوجها وهي عالمة أنه نصراني أو غرها وزعم أنه مسلم أو كانت أمة فوطأها بملك أو زنى أو اغتصاب. فإن كانت حرة فاغتصبها كان ناقضا للعهد واختلف إن طاوعته فقال مالك ليس بنقض وقال ربيعة ذلك نقض. وإن أصابها بنكاح وهي عالمة أنه نصراني لم يكن نقضا للعهد وقال ابن نافع في كتاب المدنيين إن غرها وزعم أنه مسلم كان نقضا وضربت عنقه. وإن كانت أمة ووطأها بملك اليمين أو بزنى طائعة لم يكن نقضا واختلف إذا اغتصبها

فقال محمد لا يقتل وفيه اختلاف قلت: نقل ابن رشد عن ابن عبد الحكم خلاف ما نقل اللخمي عن محمد. قال في سماع يحيى وسئل عن النصراني يغتصب الأمة المسلمة قال إذا أشهدوا على ذلك أربعة شهود وجب عليه القتل قال ابن رشد رحه هذا كما قال وهو قول الليث ومحمد بن عبد الحكم لأن لها حرمة الإسلام وإن كانت أمة ويكون في ماله ما نقض من ثمنها بكرا كانت أو ثيبا روى ذلك ابن وهب عن مالك رضه في أصل سماعه. فإن كانوا عهدوا أنه إن أتى شيئا من ذلك فلا عهد له كان كل ذلك نقضا وإن كان العهد أن يعاقب ويبقى في عهده فهو على ما عوهد عليه وإن كان على أن لا عهد له إن اغتصب فإن طاوعته فهو عهده كان على ما عوهد عليه ولا حد على الأمة ولا عقوبة إن وطئت بالملك لأنها مكرهة بالرق إلا أن تكون قادرة على الامتناع وتحد الحرة إن طاوعت بالزنى ولا تحد إذا تزوجته ولم تعلم بكفره أو علمت وجهلت تحريم ذلك ويختلف إذا لم تجهل هل تحد لأنه محرم بالقرآن. حكم من تطلع على عورات المسلمين وتمرد على أحكامهم من أهل الذمة ومن ذلك تطلعهم على عورات المسلمين وتمردهم على أحكامهم يقتلون به لأنه مصادم لما عوهدوا عليه ففي النوادر من كتاب ابن سحنون عن أبيه وإذا وجدنا بأرض الإسلام عينا لأهل الشرك وهو حربي دخل بغير أمان أو كان ذميا أو مسلما يتطلع عورات المسلمين ويكاتبهم بها. قال أما الحربي فللإمام قتله وله استحياؤه كمحارب ظفرنا به وللإمام أخذ ماله ولا خمس فيه وهو فيء فإن أسلم قبل أن يقتل فإنه لا يقتل ويبقى رقيقا كأسير أسلم. وأما المسلم فإنه يقتل ولا يستتاب وماله لورثته وهو كالمحارب والساعي في الأرض فسادا وأما إن كان ذميا قتل ليكون نكالا لغيره. وأام ما كان نقضا للعهد من أقوالهم فكوقوعهم في جانب الرسول عليه السلام بالتنقيص أو في دين الإسلام بالمعائب والتخسيس فلا ينجي قائل ذلك منهم إن ثبت عليه من القتل إلا الإسلام أما قتله بذلك فلقوله سبحانه: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم} الآية وما نجاته بالإسلام فلقوله سبحانه: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم

ما قد سلف} فمن ذلك ما وقع في رواية عيسى عن ابن القاسم في كتابي أو مجوسي قال في النبي عليه السلا إنه ليس بنبي أو إنه لم يرسل أو إنه لم ينزل عليه قرآن وإنما هو شيء تقوله ونحو هذا فهذا يقتل. قال فلو قال إنه لم يرسل إلنيا وإنما أرسل إليكم وإنما نبينا موسى أو عيسى أرسل إلينا ونحو هذا فلا شيء عليهم لأن الله أمرهم على مثل ذلك على أخذ الجزية قلت ولم يذكر تأديبه في هذا القول والظاهر أنه يؤدب عليه الأدب الوجيع إذا أعلنه ولم يستمر به وإن كان من دينه الذي يؤدي عليه الجزية لأن ما كان في دينهم إباحته مما هو محرم عندنا كالخمر والزنى فإنهم إن أعلنوه أدبوا عليه ولا أشد في الحرمة من إنكار بعثة النبي صلعم لهم وقد بعثه للأحمر والأسود فقال جل من قائل: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}. ومن ذلك ما وقع في سماع عيسى قال وسئل عن رجل من النصارى يقول للمسلمين دنينا خير من دينكم وإنما دينكم دين الحمر أو نحو هذا من القول القبيح ومثل قول النصارى للمؤذنين حين قولهم أشهد أن محمدا رسول الله كذلك يعطيكم الله وإذا شتموا النبي عليه السلام ماذا يجب عليهم في ذلك كله وكيف لو أن رجلا من المسلمين سمع بعض النصارى أو اليهود يشتمون النبي عليه السلام بشتم يجب عليهم فيه القتل فغاظ ذلك المسلم فقتله ماذا عليه في ذلك. قال ابن القاسم أما إذا قال ديننا خير من دينكم وما قال للمؤذنين فأرى أن يعاقبوا عقوبة موجعة ولا يقصر فيها مع السجن الطويل وأما شتمه النبي عليه السلام إذا شتمه شتما يعرف قال: قال مالك أرى أن تضرب عنقه قال ذلك لي غير مرة إلا أن يسلم ولم يقل لي يستتاب إلا أن محمل قوله عندي إن أسلم طائعا من غير تقية فإن الله تع يقول: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}. قال ابن القاسم ولقد سألنا مالكا عن نصراني كان بمصر فشهد عليه أنه قال مسكين محمد يخبركم أنه في الجنة هو الآن في الجنة ماله لم ينفع نفسه إذا كانت الكلاب تأكل ساقيه لو كانوا قتلوه استراح الناس منه. فسألناه عن ذلك وكتب إلينا به من مصر ونحن بالمدينة. فلما قرأته عليه صمت وقال حتى أنظر فيها فلما كان بعد ذلك المجلس قال لنا أين كتاب الرجل فقلنا له هو في المنزل ونحن نحفظ المسألة فقال لقد

كنت حين قرأتم علي المسألة هممت ألا أتكلم فيه بشيء ثم تفكرت في ذلك فإذا أنا لا يسعني الصمت عنه اكتبوا إليهم يضربوا عنقه. قال ابن القاسم قال مالك وإذا شتم المسلم النبي صلعم ضربت عنقه ولم يستتب قال وقال عيسى في الذي اغتاظ فقتل النصراني الذي شتم النبي أنه إن كان شتما يجب فيه القتل وثبت ذلك ببينة فلا شيء عليه وإن لم يثبت ذلك وشتم شتما لا يجب به عليه القتل فأرى عليه ديته ويضرب مائة ويسجن عاما. قال ابن رشد رحه هذا كله بين لا إشكال فيه إذ لا اختلاف في أن من سب النبي عليه السلام أو عابه أو تنقصه بشيء من الأشياء يقتل ولا يستتاب مسلما كان أو ذميا إلا أن الذمي يسلم من قبل أن يقتل من غير أن يستتاب فلا يقتل لقول الله عز وجل: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}. وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: من قال إن زر النبي صلعم وسخ أراد به عيبه قتل. وروي عنه فيمن غير رجلا بالفقر فقال تعيرني بالفقر وقد رعى النبي صلعم الغنم إنه يؤدب لأنه عرض بذكر النبي صلعم في غير موضعه وروي أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل انظر لنا كاتبا يكون أبوه عربيا فقال كاتب له قد كان أبو النبي كافرا فقال له جعلت هذا مثلا فعزله وقال لا تكتب له أبدا. وهذا لأن الله عز وجل أمر بتعزيزه وتوقيره فمن ضرب به المثل في مثل هذا فقد خالف حد الله فيما أمر به من تعزيزه فوجب عليه في ذلك الأدب. وكذلك حكم سائر الأنبياء فيمن شتم أحدا منهم أو تنقصه لقول الله عز وجل: {لا نفرق بين أحد من رسله} وكذلك من شتم ملكا من الملائكة. وحكم ميراث من قتل من المسلمين على سب النبي صلعم أو أحد من النبيين أو الملائكة حكم ميراث الزنديق يكون لورثته على قول مالك في رواية ابن القاسم عنه. ومذهب ابن القاسم لجماعة المسلمين على قوله في رواية ابن نافع عنه وهو اختيار ابن عبد الحكم وكذلك من شتم الله عز وجل من المعاهدين بغير ما تدين به وتؤخذ منه الجزية على أن يقر عليه فإنه يقتل ولا يستتاب لكنه إن أسلم قبل أن يقتل لم يقتل لقول الله عز وجل: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}.

من المناكر ما يعلنه أهل الذمة القسم الثاني وهو إن أعلنوه لم يكن نقضا للعهد ووجب تأديبهم عليه وردعهم عن الوقوع فيه فمن ذلك إعلانهم بما يزعمون حليه عندهم مما هو محرم عندنا كالزنى وشرب الخمر قال في كتاب الرجم من المدونة وإن أعلنوا الزنى وشرب الخمر فلينكلوا فأما إن وجدوا على ذلك ولم يعلنوه فلا. وقال في النوادر عن كتاب ابن حبب ويمنع أهل الذمة الذين يسكنون مع المسلمين من إظهار الخمر وحملها إليهم من قرية إلى قرية وتكسر إن ظهرنا عليها وإن قالوا لا نبيعها من مسلم وكذلك لا تدخل الخنازير إليهم من قرية إلى قرية وتكسر ويضرب من فعل ذلك منهم ومن أخذ سكرانا أدب. وكذلك لا تظهر صلبهم في أعيادهم واستسقائهم وتكسر إن فعلوا ويؤدبوا وقال مثله مطرف وأصبغ وغيره وكتب به عمر وفي سماع ابن القاسم قال سحنون وحدثنا ابن القاسم قال حدثنا مالك أن أبا أيوب الأنصاري رضه نزل منزلا من قرى الشام وكان فيه مواليه وكان ينهى عن الخمر فمرت به قطار تحمل خمرا فقام إليها برمحه فبعج تلك الزقاق التي فيها الخمر فذهب ما فيها فقال صاحب تلك الأرض يا أبا أيوب إن هذا يكسر خراجها فقال أبو أيوب لن أسكنها وخرج منها. قال ابن رشد رحه كانت القطار التي مرت بأبي أيوب لأهل ذمة تلك القرية والله أعلم. وإنما بعجها لإظهارهم الخمر في قرية يسكنها المسلمون معهم. وهذا هو الواجب ألا يباح لهم أن يحملوها من قرية من قراهم إلى قرية من قراهم إلا بعد أن يسلكوا بها على شيء من حواضر الإسلام وقراهم وما ظهر إلى الإمام من خمرهم فعليه أن يهريقها ويضرب حاملها كان منهم أو من غيرهم وإن خرج منهم رجل سكران في جماعة المسلمين كان عليه أن يضربه على ذلك. وكذلك يمنعون من إظهار صلبهم في أعيادهم وفي استسقائهم في جماعة المسلمين فإن فعلوا كسرها وضربهم قاله ابن حبيب وغيره وقول صاحب الأرض لأبي أيوب إن هذا يكسر خراجها يقول إذا فعل هذا بأهل ذمة القرية ضعفوا عن أداء ما يلزمهم من الخراج فأحفظه

قوله غضبا لله وحلف ألا يسكنها تنزها عن سكنى موضع يظهر فيه الخمر وتورعا عن ذلك رحمة الله عليه ورضوانه. وأما بيعهم إياها فلا يسمح لهم فيه ولو فيما بينهم إلا في قرى تخصهم وفي سماع أصبغ قال أصبغ سمعته يقول ألا يترك النصارى يبيعون الخمر بالجزيرة لأنها من الفسطاط. قلت ولا القنطرة قال ولا القنطرة قلت فيتركون في قراهم يبيعونها قال نعم قلت وإن كان فيها مسلمون قال نعم ومتى علم أنه يبعها منهم منع. أصبغ إنما هذا في غير المدن من القرى التي هي مساكنهم وهم غابون عليها وليس فيها من المسلمين إلا القليل فلا يعرض لهم. ابن رشد قول أصبغ تفسير لقول ابن القاسم وما بعد من قراهم من الفسطاط بنحو الميل من دن الفرسخ فلا يمنعون من أدخالها وبيعها وشراء بعضهم لبعض وشربها إن كان بقرب منهم أو بين أظهرهم مسلمون وهو قول أصبغ. وقال أيضًا لا يباح لهم ذلك إلا ألا يسكن معهم أحد من المسلمين قلت قوله فلا يمنعون من إدخالها إن لم يتأول على تسترهم بها أو على أنهم لا يمرون بها على مساكن المسلمين وإلا كان خلافا لما مضى نقله قريبا عن النوادر وسماع ابن القاسم وفعل أبي أيوب رضه ونفع به. وروي عن يحيى بن يحيى أنه قال أرى أن يحرق بيت الخمار قال وقد أخبرني بعض أصحابنا أن مالكًا كان يستحب أن يحرق بيت المسلم الذي يبيع الخمر قيل له فالنصراني يبيع الخمر من المسلمين قال إذا تقدم إليه فلم ينته فأرى أن يحرق عليه بيته بالنار قلت قد تقدم ذلك وأنه من العقوبة بالمال وما فيه من التأويل قد سلف تقريره بما فيه من الكفاية. وفي المدونة ولو باع منه الذمي خمرا وهو يعلم أنه مسلم أدب الذمي على ذلك ويتصدق بالثمن على المساكين أدبا للذمي وتكسر الخمر في يد المسلم. قال الشيخ أبو الحسن الزرويلي قوله أدب الذمي يعني بالضرب والسجن ولو لم يعلم لم يؤدب وانظر من باع حرا وهو عالم به والمشتري كذلك قالوا يؤخذ الثمن على كل حال من البائع واختلف هل يتصدق به أو يرد إلى المشتري وانظر من اشترى من غاصب يعلم بغصبه فقيل لا يرد عليه الثمن كالواهب للثمن وقيل يرد عليه لأنه لم يقصد الهبة ولا دخل عليها. وفي الحاوي لا تجوز معاملة النصارى البائعين للخمر من المسلمين قيل أو ليس بيع الخمر جائزا عندهم قال بين بعضهم لبعض وبيعه للمسلمين لم يوجد في كتاب ولا سنة وهو نقض

للعهد إذ لم نعاهدهم على بيع الخمر من المسلمين قلت قوله هو نقض للعهد إنما يتمشى على قول ربيعة الذي يقول إن زنى الذمي بالمسلمة الحرة طائعة فهو نقض للعهد وأما على قول مالك الذي لا يرى فيه إلا الأدب فلا. خبر استرقاق أهل فاس قديما بعض أهل الذمة وبيعهم إياهم في أسواق المزايدة ولعل هذا الذي وقع في الحاوي من أن بيعهم الخمر للمسلمين نقض للعهد هو الذي استند إليه أهل فاس فيما كنا سمعنا عنهم في القريب من السنين الماضية أنهم استرقوا بعض أهل الذمة وأدخلوهم أسواق المزايدة وعقدوا فيهم البيع والله أعلم على أي سبيل كان ذلك إلا أني لما عثرت على هذا النص خلته مساعدا لهم في التأويل الذي ملكوهم به إلا أن الأخذ به ضعيف لإقامته من قول ضعيف لكن قد تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور كما قال عمر بن عبد العزيز رضه تع. من المناكر تظاهر أهل الذمة بمشاكلة المسلمين في زي الملبس والمركوب ومن ذلك تظاهرهم بمشاكلة المسلمين في زي الملبس والمركوب كتركهم الزنار أو غيره من علامة في اللباس الذي يميزهم عن المسلمين أو ركوب الخيل المسرجة ونحو ذلك مما يؤدبون على فعله وينكلون على صنيعه ففي سماع ابن القاسم وسئل مالك عن الحزم للأنباط أترى أن يلزموا ذلك قال: إني لأحب لهم الذلة والصغار وقد كانوا يلزمون ذلك فيما مضى قيل له أفيكنون قال إني لأكره أن يرفع بهم وقد كان قبل ذلك يرخص فيه قال ابن القاسم وأنا أرجو أن يكون خفيفا. وحدثني مالك عن هشام بن حكم بن حزام مثل ما حدثني به أولا قال كان عمر بن الخطاب رضه إذا سئل الأمر الذي لا ينبغي يقول: أما ما بقيت أنا وهشام فلا يكون ذلك. وقال هشام لبعض أمراء الشام وأرى نبطا قد أقيموا في الشمس بخراجهم فقال لهم أشهد سمعت رسول الله صلعم يقول إن الله ليعذب في الآخرة الذين يعذبون الناس في الدنيا. وكان هشام قد تبتل وترك نكاح النساء وكان في حاله شبيها بالسياحة لا أهل له ولا مال. قال ابن رشد رحه ما رأى مالك رحه من أن يلزم الأنباط الحزم صحيح لوجهين: أحدهما ما ذكره من استحباب الذلة والصغار لهم لقول الله عز وجل: {قاتل الذين لا يؤمنون بالله ولا

باليوم الآخر} إلى قوله: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} والثاني أن يعرفوا بذلك من المسلمين حتى لا يبدؤوا بالسلام لنهي النبي صلعم عن ذلك على ما جاء عنه عليه السلام قال: إنا راكبون غدًا إلى يهود إن شاء الله فلا تبدؤوهم بالسلام وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم وروي عن النبي صلعم أنه قال لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها. وقال إبراهيم النخعي لا بأس إذا كانت لك حاجة إلى النصراني الكحال فأتيته أن تبدأه بالسلام قال عبد الملك فهو رخصة عند الاضطرار. وكذلك ينبغي في سائر أهل الذمة من اليهود والنصارى أن يلزم النصارى منهم واليهود علامة يعرفون بها إذلالًا لهم وحرزا للمسلمين أن يظنوهم من المسلمين فيبدؤوهم بالسلام. وروي أن عمر بن الخطاب رضه كتب إلى أمراء الأجناد يأمرهم أن يختموا في رقاب أهل الجزية بالرصاص ويظهروا مناطقهم ويحزوا نواصيهم ويركبوا على الآكاف عرضا ولا يدعونهم يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم وكراهية تكنيهم صحيح أيضا لأن تكنيهم إكرام لهم وترفيع بهم وذلك خلاف ما يستحب من إذلالهم وصغارهم لمحادة الله ورسوله قال الله عز وجل: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}. وترخيصه قبل ذلك في ذلك قريب من كراهيته لذلك لأن الترخيص إنما يكون في المكروه لا في المباح وكذلك قول ابن القاسم وأنا أرجو أن يكون خفيفا. هو نحو قول مالك من أجل أن المكروه لا إثم في فعله ويزجر تاركه على تركه ولا حجة لأحد في إباحة ذلك دون كراهة لقول النبي عليه السلام لصفوان بن أمية: أنزل أبا وهب لأنه إنما قال له ذلك استيلافًا له رجاء إسلامه وإسلام من وراءه بإسلامه. وإنما كون تكنية الكافر مباحة إذا لم يقصد بذلك ترفيعه وكانت كنيته كالاسم الذي يعرف به وقد قال الله تع في كتابه: {تبت يد أبي لهب} فذكره بكنيته ولم يكن ذلك ثناء من الله تعالى عليه بذلك ولا ترفيعا له بل مقته بذلك وواعده بما أوعد به. فإن قلت ما ذكر من أنه ينبغي أن يلزموا علامة يعرفون بها إذلالا لهم وتمييزا عن

المسلمين وأن عمر أمر أن تختم رقابهم بالرصاص هل عليهم حرج إن خالفوا في ذلك ولم يجعلوا من لباسهم ما يميزهم وهل ذلك مخصوص بذكورهم دون إناثهم أو هو شامل للإناث مع الذكور وهل في قوله إنهم لا يركبون على الآكاف إلا عرضا إباحة ذلك لهم في كل مركوب من الدواب أو مخصوص ببعض دون بعض. قلت أما إذا تركوا سمة تميزهم عن المسلمين وأبقوا أنفسهم على الاختلاط معهم والتشبه بزيهم فإنهم يؤدبون على ذلك الأدب الموجع قاله في الجواهر وفي أحكام السوق في يهودي تشبه بزي المسلمين وأسقط حليته التي يعرف بها وهو يحمل ما يعصى به المسكر فليعاقب بالضرب والحبس ويطاف به في مواضع اليهود والنصارى ردعا لأمثاله وتحذيرا لهم بسبب ما حل به. وكتب ابن طالب على بعض قضاته أن يلزم اليهود والنصارى أن تكون زنانيرهم عريضة في وجه الثوب ليعرف بها فمن ركب النهي بعده ضرب عشرين سوطا مجردا ثم صير للحبس فإن عاد ضرب ضربا موجعا وبولغ وأطيل حبسه وبه قال يحيى بن عمر وأما كون نسائهم يلزمن شكلا يظهر معه تمييزهن عن المسلمات فليس للمتقدمين فيه نص. وذكر في كتاب جامع الأحكام لزوم ذلك لهن أخذا مما وقع في العتبية عن عمر رضه أنه كان يضرب الإماء ويلزمهن كشف رؤوسهن لتمييزهن فإذا كان الأمر بالتأديب للإماء مع إسلامهن على عدم تمييزهن من الحرائر فكيف بالكوافر على المسلمات. وسئل الإمام المازري عن تغيير حال اليهود بما يظهرون به عن المسلمين وهل يلزمهم القاضي بصيغ أطرافهم ولو لم يفعله القاضي هل لمن قام به من المسلمين ممن هو ظاهر حاله التستر والتصدق القيام بذلك فأجاب بل كون اليهود يكلفون تغيير أطرافهم واتخاذ علم يتميزون به فهذا مما فعل قديما وحديثا وفعل قديما في الأمصار الكبار وفيه تفصيل يطيل القول فيه هـ. قال الشيخ البرزلي رحه فظاهر هذا أنه عام في الذكور والإناث والصواب إن كانت تكثر مخالطتهن لنساء المسلمين ويكثر خروجهن أن يلزمن ذلك وإلا فلا والعادة عندنا بتونس أن نساء النصارى يستترن كالمسلمات غالبا من غير علامة ومنهن من يلتزم زي النصارى. واليهوديات لهن علامة المشي بالقرق أو حافية. وعلامة الذكور من اليهود الشكلة الصفراء فوق الإحرام لا تحته لأنه قد يشكل إذا أعطا بظهره وأما النصارى فلهم زي على رؤوسهم يلزمونه وقد كان بعضهم تزي على رأسه بزي المسلمين فألزمهم السلطان زواله ويتزي بزيهم وزي النبط في البلاد المشرقية لبس العمائم السود الزرق والسامرية لبس العمائم الحمر.

وقوله في الأمصار الكبار معناه حيث يكثر اللبس وأما الصغار حيث تكون القرية لهم فظاهر كلامه أنه لا يحتاج إليه كما هو في قرية صغيرة من قرى طرابلس يقال لها صرمان فإن أكثر ما فيها اليهود وإنما زيهم زي قبائل ذلك القطر والصواب لابد من تمييزهم مطلقا إذ لابد من مخالطتهم المسلمين لأنهم بين أظهرههم. قلت وزي اليهود عندنا من كان أصله وأصل سلفه من البلد نفسه فالشكلة الصفراء فوق الأحرام كما ذكر في إفريقية وزي النساء منهم الالتحاف في الكساء الفيلالي دون نقاب من كتان ولا غيره وإنما يسترن وجوههن بطرف من الكساء نفسه بأيديهن. ومن كان أصله أو أصل سلفه من أرض النصارى فكبوس من ملف له ذوابة من وراء القفا وزنار من ملف أيضا في الغالب. وأما ركوب اليهود على الآكاف عرضا حسبما رسم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضه فمخصوص بركوب الحمير والإبل ويمتنع ركوبهم الخيل والبغال بآكاف وغيره قاله في الجواهر. قلت وما يفعلونه في الأسفار من ركوب الخيل بالسروج الثمينة وفاخر اللباس والتحلي بحلية المسلمين في لباس التماق والمهاميز والتعمم بعمائم العرب فحظور شنيع ومنكر فظيع يتقدم في إزالته بما أمكن وربما يجعلون لذلك محللا زعمهم أنهم يخافون على أنفسهم وأموالهم إن ظهر عليهم زيهم الذين يعرفون به وهم في ذلك كاذبون بما شاهدنا من حصول الأمن القوي لهم عند العرب والحظوة الكبيرة أعاذنا الله من ضعف اليقين وسهولة الدين لما يرجون منهم من حصول النفع أكثر مما يحصل من المسلمين فيرضى العربي أن يسلب ماله ويستأصل ولده وأهله في نجاة اليهودي الذي يحمل معه في سفره فلم يبق إلا أنهم لما وجدوا السعة عند من لا ينكر عليهم من حفاة العرب وطغاتهم تزيوا بأفخر زي المسلمين تلذذا به وتعنتا على ما مضى من وقت إذلالهم في الحواضر أخمد الله ظهورهم وأعز كلمة الإسلام بذلهم وصغارهم.

من المناكر بناء أهل الذمة الكنائس في بلاد المسلمين ومن ذلك بناؤهم الكنائس والبيع في بلاد المسلمين قال في المدونة ليس لأهل الذمة أن يحدثوا ببلد الإسلام كنائس إلا أن يكون لهم أمر أعطوه. قال ابن القاسم ولهم أن يحدثوها في بلد صالحوا عليها وليس لهم ذلك في بلد العنوة لأنها فيء وليست لهم ولا تورث عنهم ولو أسلموا لم يكن لهم فيها شيء وما اختطه المسلمون عند فتحهم كالبصرة والكوفة والفسطاط وإفريقية وشبهها من مدائن الشام. قال أبو إسحاق التونسي يريد بإفريقية القيروان فليس لهم إحداث شيء فيها إلا أن يكون لهم عهد فيوفى به لأن تلك المدائن صارت لأهل الإسلام دون أهل الصلح يبيعونها قال غيره كل بلدة افتتحت عنوة وأقروا فيها ووقعت الأرض لأعطيات المسلمين ونوائبهم فلا يمنعون من كنائسهم التي فيها ولا بأس أن يتخذوا فيها كنائس لأنهم أقروا فيها على ما يجوز لأهل الذمة ولا خراج عليهم في قراهم وإنما الخراج على الأرض. قلت قوله في الكتاب ليس لهم أن يحدثوا ببلد الإسلام كنيسة يريد بلد العنوة بدليل قوله متصلا به ولهم أن يحدثوا في بلد صالحوا عليه كذا فسره الشيوخ وقوله إلا أن يكون لهم أمر أعطوه قال الشيخ أبو الحسن الزرويلي في تقييده أنظر ما الذي أعطوه وهل يجوز ذلك للإمام قالوا يجوز إذا كان هذا الأمر مصلحته أعظم لهم من مفسدته. قال أبو حفص العطار معنى قوله إلا أن يكون لهم أمر أعطوه يريد أن يكون قيل لهم أول الفتح نعطيكم هذه الأرض على أن تسكنوها وتتخذوا فيها كنيسة فأما أن يقال لهم على أن تتخذوا ما شئتم من الكنائس متى شئتم فلا. وفي نوازل ابن الحاج ما طلبه النصارى الواصلون من العنوة من بناء بيع وكنائس في موضع استقرارهم وكيف إذا حبسوا شيئا عليها فأجاب هؤلاء النصارى وصفوا بالمعاهدين وذلك يتقضى ثبوتهم على ما سلب لهم من العهد والعقد من الذمة والولاء لهم واجب فيباح لكل طائفة بناء بيعة واحدة لإقامة شريعتهم ويمنعون من إظهار الصلب وضرب النواقيس ورأيت لبعص المالكيين نحوه وهو الصحيح عندي. قلت إن لم يؤخذ بمقتصى هذا التفسير الذي وقع لهم في قوله إلا أن يكون لهم أمر أعطوه وما أجاب به ابن الحاج وما وقع لأبي حفص في البيعة التي في مقر اليهود عندنا وإلا فظاهر المدونة إطلاق المنع في أرض العنوة في قول ابن القاسم وإنما يتم إطلاق القول بجواز اتخاذها فيها على قول الغير.

قال الشيخ أبو محمد صالح الأراضي ثلاث أرض إسلام فليس لهم إحداث كنائس فيها وأرض صلح لهم الإحداث فيها. وقال عبد الملك ليس لهم ذلك، وأرض عنوة إن شرطوا ذلك اتفق ابن القاسم والغير أن لهم ذلك وإن لم يكن هنالك شرط اختلف قول ابن القاسم والغير فابن القاسم حبذها الأرض الإسلام والغير لأرض الصلح. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي في تبصرته اختلف في الكنائس في بلاد المسلمين في العنوة إذا أقر فيها أهلها وفيما اختطه المسلمون فسكنه أهل الذمة على ثلاثة أقوال فقال ابن القاسم ليس لهم ذلك. وقال غيره لهم أن يحدثوا ذلك في أرض العنوة إذا أقروا فيها وظاهر قولهما أن القديم فيها يترك قال ابن القاسم وأما أهل الصلح فلا يمنعوا أن يحدثوا الكنائس لأنها بلادهم وقال ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب أما أهل العنوة فلا يترك لهم عند ضرب الجزية عليهم كنيسة إلا هدمت ثم لا يحدثون كنيسة وإن كانوا معتزلين عن بلاد الإسلام. قال: وأما أهل الصلح فلا يحدثوا كنيسة في بلاد المسلمين وإن شرط لهم ذلك لم يجز ويمنعون من رم كنائسهم القديمة إلا أن يشترط لهم ذلك وإن كانوا منقطعين عن بلاد الإسلام وليس بينهم مسلمون كان لهم أن يحدثوا الكنائس. وقال الشيخ أبو حفص العطار يمنع النصارى من أن يرفعوا في بناء الكنائس أن يبدلوا بناءها إن كانت بالطوب فلا يبدلونها بالحجر ويمنعون من جمال ظاهرها على كل حال وذكر أن أبا الحسن القابسي كان تكلم على هذه المسألة حين أراد بعض اليهود أن يفعل ذلك بالقيروان لمكنته من السلطان فلما تكلم الشيخ امتنع اليهودي ولا يمنعون من إتقان الأسوس ومن رفع الباب إذا طلعت عليه الأرض ولا ما جملوها به من داخلها. بناء أهل الذمة دورهم مع المسلمين وحكاية البزرلي عن تونس وأما بناء دورهم مع المسلمين فلا خلاف أنهم لا يرفعون أكثر من المسلمين لقوله عليه السلام الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. وفي مساواتهم لهم قولان حكى ذلك الطرطوشي في سراج الملوك عن الشافعي قال الشيخ أبو القاسم البرزلي وقعت مسألتان بتونس إحداهما بناء النصارى

منزلها حتى علا على بعض أجزاء مدرسة التوفيق فكلمت في ذلك شيخنا الفقيه الإمام رحه تع يعني ابن عرفة وذكرت له ما وقع للطرطوشي فقال ذكره عن الشافعية فقلت له ليس في المذهب ما يخالفه فتغافل عن ذلك فيحتمل أنه رأى أنه لا يسعف بهدمه أو رآه محتملا فترك تغييره وأقر بهما الأول. ومنه أيضا أنهم زادوا في كنيسة وعلوها كثيرا وذلك محدث فأما أن يكون أيضا في عهودهم أو بنوها حصنا لاختلاف الدول خشية العامة أو وقع التغافل عنهم. والمسألة الأخرى جدد بعض النصارى كنيسة في فندقهم وعلى عليها شيئا يشبه الصومعة فطلبوا بذلك فأتوا بكتاب العهد فوجد فيه أنهم لا يحال بينهم وبين أن يبنوا فيه بيتا لمتعبداتهم واعتذروا عن رفع البناء الذي يشبه الصومعة أنه للضوء فبعث القاضي إليه من نظره فإن كان فيه ناقوس غره فوجده للضوء كما ذكروه لأن إظهاره كإظهار شرب الخمر والزنى فيؤدبون كما قال في المدونة. ومن هذا مسألة أخرى وهي إذا اكترى الذمي علويًا أو اشتراه والأسفل للمسلم فأجازه شيخنا الفقيه يعني ابن عرفة واحتج بسكنى أبي أيوب فوق والنبي صلعم أسفل وعورض بأنه عليه السلام طلب ذلك لتيسره على أصحابه في غشيانهم مجلسه ولأن أبا أيوب من خيار الصحابة وفضلائهم وأقر له ذلك عليه السلام بخلاف هذا إذ قد ورد فيه حين علت خيل على جبل أحد فقال: اللهم إنهم قد علونا ولا يبنغي أن يعلونا ثم نهض إليهم وقاتلهم حتى أنزلهم من الجبل وعموم الحديث السابق وهو قوله عليه السلام الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ولم يجب رحه عن هذا الاعتراض بشيء هـ. استهانة أهل الذمة بأحد من المسلمين ومن ذلك استهانتهم بأحد من المسلمين في استعمالهم إياه في شيء من مصالحهم المباحة عندنا فكيف بما هو محرم ولو باستيجار ومعارضة فكيف بغير استيجار قال في المدونة وأكره لمسلم أن يؤاجر نفسه من ذمي لحرث أو بناء أو حراسة أو غير ذلك ويأخذ منه قراضا ولا يجوز لمسلم أن يؤاجر نفسه أو عبده أو دابته في حمل الخمر أو داره أو حانوته أو شيئا مما يملكه في أمر الخمر ولا يعطى من الإجارة شيئا لا ما سميا ولا أجر مثله كمسلم باع خمرا فلا يعطى من ثمنها شيئا وإن أجر نفسه من ذمي يرعى له الخنازير أدب إلا أن يعذر بجهل وتؤخذ الإجارة من الذمي ولا تترك له مثل قول مالك في الخمر ويتصدق بها على المساكين ولا يحل أخذها أدبا له.

إجارة المسلم نفسه من كافر قال الشيخ أبو محمد عبد الحق الغروي: إجارة المسلم نفسه من نصراني على ثلاثة أوجه فإن استأجر نفسه في مثل رعاية الخنازير وحمل الخمر وشبه ذلك فهذا تفسخ إجارته متى عثر عليها وإن فات ذلك وقبض الأجرة تصدق به عليه فهذا وجه والوجه الثاني أن يستأجر نفسه يمتهنه النصراني فيه ويكون تحت يده من خدمة ونحوها فهذا يفسخ ما عثر عليه فإن فات ذلك لم يتصدق عليه بالأجرة وساغت له قال الشيخ أبو محمد صالح كالزمال والثالث إذا استأجره في شيء لا يكون فيه تحت يده وامتهانه مثل حراسة وقراض يأخذه منه يعمل به فهذا إن نزل مضى بالثمن وساغت له الأجرة. قال ابن رشد رحه إجارة المسلم نفسه من النصراني أو اليهودي على أربعة أقسام جائزة ومكروهة ومحظورة وحرام فالجائزة أن يعمل له عملا في بيت نفسه أو حانوته كالصانع يعمل للناس فلا بأس أن يعمل له كما يعمل للناس من غير أن يستبد بعمله والمكروهة أن يستبد بجميع عمله من غير أن يكون تحت يده مقارضا أو مساقيا. والمحظور أن يؤاجر نفسه منه في عمل يكون فيه تحت يده كأجير الخدمة في بيته وإجارة المرأة نفسها منه أن ترضع له ابنه في بيته وما أِشبه ذلك فهذه تفسخ وإن عثر عليها فإن فاتت مضت وكانت له الأجرة والحرام أن يؤاجر نفسه منه لما لا يحل من عمل الخمر أو رعي الخنازير وما أشبه ذلك فهذه تفسخ إن عثر عليها قبل العمل وإن فاتت بالعمل تصدق بالأجرة على المساكين. قلت فزاد ابن رشد المباح قسما رابعا على أقسام عبد الحق مثل خياطة الخياط له ثوبا في حانوته وكاتب الوثيقة له وثيقة بدكته كل ذلك وأشباهه من نوع ما لا يظهر في استعمال المسلم نفسه في عمل الكافر إذلال ولا قوة لحل إذ علة الكراهة في هذا الباب استعلاء يد الكافر على المسلم وعلة المنع الاستعلاء مضافا إلى الاستعمال في المحرمات كعصر الخمر ورعي الخنازير والنبي صلعم يقول: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. وسمى ابن رشد رحه الوجه الأول من تقسيم عبد الحق حراما وأنه لكذلك وسمى الوجه الثاني عنده محظورا وفي نسخة فاسدا وسمى الوجه الثالث مكروها.

حكم بيع الذمي خمرا من مسلم تنبيه: ما تقدم من تأديب الذمي على بيع الخمر من المسلم والتصدق بالثمن على المساكين أدبا له مثله في بيع المسلم إياها من مسلم أو كافر والمسلم في ذلك أشد نكالا لأنه أقوى جرأة ثم النظر فيما يرجع لفروع المسألة بالنسبة إلى القيام والفوات في المثمون والثمن كان الابتياع من المسلم أو من الكافر قد حققه الشيوخ على طريق تقاسيمه وتفاصيله كشيخ المحققين أبي الوليد بن رشد وذويه فقالوا إذا باع النصراني أو اليهودي خمرا من مسلم فذلك على ثلاثة أوجه إما أن تكون الخمر قائمة بيد البائع أو قائمة بيد المبتاع أو أفاتها. أما إن كانت قائمة بيد البائع الكافر فإنها تكسر على البائع ويفسخ البيع ويسقط الثمن عن المبتاع إن كان لم يدفعه إلى البائع وإن كان قد دفعه إليه فقيل إنه يرد إلى المبتاع وهو قول ابن حبيب وقيل إنه لا يريد إليه ويتصدق به عليه أدبا له وهو الذي يأتي على ما في المدونة. وأما إن كانت قائمة بيد المبتاع فقيل إنها تكسر على البائع ويرد الثمن إلى المبتاع إن قد دفعه ويسقط عنه إن كان لم يدفعه. وروى ذلك عن مالك إسماعيل ابن أبي أويس وغيره وقيل إنها تكسر على المبتاع ويتصدق بالثمن إن لم يقبضه البائع أدبا له وإن قبضه ترك له عند ابن القاسم وعند سحنون يتصدق به قبضه أو لم يقبضه أدبا له وقيل إنها تكسر على البائع ويفسخ البيع ويسقط الثمن على المبتاع إن كان لم ينقده وإن كان قدنقده كسرت على المبتاع ومضى الثمن للبائع ولم يؤخذ منه وهو قول ابن حبيب. وأما إن لم يعثر على ذلك حتى قبض المسلم الخمر وفاتت بيده فإنه يؤخذ منه الثمن ويتصدق به على المساكين إن لم يدفعه إلى الكافر أدبا له وإن كان قد دفعه إليه ترك له ولم يؤخذ منه عند ابن القاسم وابن حبيب وعند سحنون يتصدق به على كل حال أدبا له وإذا باع المسلم خمرا من مسلم أو من كافر فعثر عليه والخمر بيد البائع كسرت عليه وأنقض البيع وسقط الثمن عن المشتري إن كان لم يدفعه وإن كان قد دفعه رد إليه في قول وتصدق به في قول وإن لم يعثر على ذلك حتى قبضه المبتاع فقيل إنها تكسر على البائع ويكون الحكم في الثمن على ما تقدم من الاختلاف وقيل إنها تكسر على المبتاع ويمضي البيع ويتصدق بالثمن قبض أو لم يقبض إذ لا يحل للبائع ولا يصح تركه للمشتري.

وأما إن لم يعثر على ذلك حتى استهلك المبتاع الخمر فهاهنا يفترق الحكم بين أن يكون المبتاع مسلما أو نصرانيا فإن كان مسلما تصدق بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض قولا واحدا إذ لا سبيل إلى نقض البيع بإغرام المسلم مثل الخمر التي استهلك وكسرها على البائع وإن كان نصرانيا فقيل إنه يقدم مثل الخمر وتكسر فينتقض البيع ويسقط الثمن عنه إن كان لم يدفعه وإن كان قد دفعه رد إليه أو تصدق به على المساكين أدبا له على الاختلاف المذكور وقيل إنه يمضي البيع ويتصدق بالثمن على المساكين قبض أو لم يقبض. وهذا آخر ما استطعنا حفظه ونقله من مسائل هذا الباب * وإذ قد أتينا على تمام الأبواب الثمانية * أدخلنا الله من أحد الأبواب الثمانية * بجاه من أنزل عليه ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية * خاتمة الكتاب في أصل ولاية الحسبة وهي ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما تفترق به من غيرها من الولايات اعلم أن ولاية الحسبة تنعقد بما ينعقد غيرها من الولايات الشرعية بتقديم الإمام من يرتضيه لذلك متوفرة فيه شروط الولاية إذ هي من أشرف الولايات في الإسلام قدرا وأعظمها في هذه الملة المحمدية مكانة وفخرا تقدم اعتياد الفضلاء لتوليها وصدر اختيار الصلحاء للتحلي بها منزلة بادية لتبيين حقوق الشريعة وتجليها فلا يصح أن يليها إلا من طالت يده في الكمالات وبرز في الخير وأحرز أوصافه المرضية ولا تنعقد لمن لم تتوفر فيه الشروط ولم يك بها في رسمه ووسمه المنوط المحوط فمن شرف منزلة من تولاها أن يحتسب على أئمة المساجد وعلى قضاة المسلمين في أكثر ما لهم من المواطن والمعاهد. من وظائف الحسبة منع أئمة المساجد من تطويل الصلاة قال الشيخ نور الدين الماوردي وإذا كان من أئمة المساجد السابلة والجوامع الحفلة من يطيل الصلاة حتى يعجز عنها الضعفاء وينقطع عنها ذو الحاجات أنكر ذلك عليه كما أنكر رسول الله صلعم على معاذ حين أطال الصلاة بقومه فقال: أفتان أنت يا معاذ. فإن أقام الإمام على الإطالة استبدل بمن يخففها قال عليه السلام إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وذا الحاجة وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء.

احتجاب القضاة على الخصوم وإذا كان في القضاة من يحتجب عن الخصوم إذا قصدوه ويمتنع من النظر بينهم إذا تحاكموا إليه فللمحتسب أن يأخذه مع ارتفاع الأعذار بما وجب عليه النظر بين المتحاكمين وفصل القضاء بين المتنازعين ولا يمنع علو رتبته من إنكار ما قصر فيه وقد مر إبراهيم بن بطحاء وإليه الحسبة بجانبي بغداد بباب أبيع مر بن حماد وهو يؤمئذ قاضي القضاة فرأى الخصوم جلوسا على بابه وقد أضرتهم الشمس فوقف واشتد على حاجبيه وقال له: تقول لقاضي القضاة الخصوم جلوس بالباب قد بلغتهم الشمس وتأذوا بالانتظار فإما جلست لهم أو عرفتهم عذرك ينصرفوا ويعودوا هـ. فكيف لا يكون صاحب هذه الخطة التي ينظر فيها على أئمة المساجد وقضاة المسلمين من أكمل الناس دينا ومروءة وعلما ودراية وبروزا في الخير وعدالة وإلا لم يكن له لولايته الحسبة على أمور الخلق سبيل إذ لا يصح أن يلي من شأنها الكثير ولا القليل. شروط والي الحسبة ثم قال الشيخ تقي الدين أبو الحسن علي ابن حبيب الماوردي فمن شرط والي الحسبة أن يكون حرا عدلا ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين وعلم بالمنكرات الظاهرة فإن قلت أين اشتراط العدالة التي ذكر هذا الشيخ هنا مما أسلفت أول الكتاب من عدم اشتراطها وأن مغير المنكر يجب عليه التغيير على غيره ولو كان متلبسا بعين ذلك المنكر قلت إنما ذلك فيمن وجب عليه بعموم الأمر الشرعي في قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} الآية فكان ذلك من خطاب الوجوب الذي يلزم القيام به للصالح والطالح. أما هنا فسبيله سبيل عقد الولاية الشرعية التي لا يصح لمن قام بها وصف فسق وفقد عدالة إذ العدالة مشترطة في سائر الولايات الشرعية كالإمامة الكبرى فما دونها لأن من انعقدت له الولاية في القيام بحق من الحقوق المهمة في الدين صار مفوضا له فيما قدم إليه النيابة عن المسلمين فلابد أن يكون أمينا أي أمين ولا أمانة مع من لم يقم به وصف العدالة ولذلك كان الفرق بين والي الحسبة الذي انعقدت له الولاية وبين المتطوع بها على ما قال الماوردي من تسعة أوجه.

الفرق بين والي الحسبة وبين غيره ممن يتطوع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من تسعة أوجه الأول- أن قرضه بحكم الولاية صار متعينا في رقبته باختصاصه وبقي من سواه على حكم وجوب الأمر العام. الثاني- أن قيام المحتسب بالولاية صار من الحقوق التي لا يسوغ أن يشتغل عنها بغيرها وقيام المتطوع بها يجوز أن يشتغل عنها بغيرها. الثالث- أنه منصوب للاستعداد فيما يجب إنكاره وليس المتطوع منصوبا للاستعداد. الرابع- أن على المحتسب بالولاية إجابة من استعداه وليس على المتطوع إجابته. الخامس- أن عليه أن يبحث على المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص. السادس- أن له أن يتخذ على الإنكار أعوانا لأنه عمل هو له منصوب وإليه مندوب ليكون له أقهر وعليه أقدر وليس للمتطوع أن يندب لذلك عونا. السابع- أن له أن يعذر في المنكرات الظاهرة وليس للمتطوع أن يعذر على المنكر. الثامن- أن يرتزق على حسبته من بيت المال ولا يجوز لمتطوع أن يرتزق على إنكار منكر. التاسع- أن له اجتهاد رأيه فيما تعلق به العرف دون الشرع كمثل ما في الأفنية. والطرق وليس هذا للمتطوع فيكون الفرق بين والي الحسبة وإن كانت أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وبين غيره من المتطوعة وإن جاز أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من هذه الوجوه التسعة. فولاية الحسبة هذه واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم فأما ما بينها وبين القضاء فهي موافقة لأحكام القضاء من وجهين ومقصرة عنه من وجهين فأما الوجهان في موافقتها لأحكام القضاء فأحدهما جواز الاستعداء إليه وسماعه دعوى المستعدى عليه في حقوق الآدميين. وليس هذا على عموم الدعاوي وإنما يختص بثلاثة أنواع من الدعاوي. أحدها أن يكون فيما تعلق بجنس أو تطفيف في كيل ووزن. والثاني- فيما تعلق بغش أو تدليس في مبيع أو ثمن. والثالث- ما تعلق بمطل وتأخير لدين مستحق مع القدرة على أدائه وإنما جاز نظره في هذه الأنواع الثلاثة من الدعاوي دون ما عداها من سائر الدعاوي لتعلقها بمنكر ظاهر هو منصوب لإزالته واختصاصها بمعروف بين هو مندوب إلى إقامته لأن موضع الحسبة إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها وليس للنظر فيها أن يتجاوز في الحكم الناجز والفصل البات. فهو أحد وجهي الموافقة.

والوجه الثاني أن له إلزام المدعى عليه الخروج منها ودفعها إلى مستحقيها لأن في تأخيره لها منكرا هو منصوب لإزالته. وأما الوجهان في قصورها عن سماع عموم الدعاوي الخارجة عن ظواهر المنكرات من الدعاوي في العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات فلا يجوز أن يبتدي بسماع الدعوى لها ولا يتعارض للحكم فيها لا في كثير من الحقوق ولا في قليلها من درهم فما دونه إلا أن يرد إليه ذلك بنص صريح يزيد على إطلاق الحسبة فيجوز ويصير بهذه الزيادة جامعا بين قضاء وحسبة فيراعى فيه أن يكون من أهل الاجتهاد وإن اقتصر به على مطلق الحسبة فالقضاة والحكام بالنظر في قليل ذلك وكثيره أحق فهذا وجه. والوجه الثاني أنها مقصورة على الحقوق المعترف بها فأما ما يدخله التجاحد والتناكر فلا يجوز له النظر فيها لأن الحكم فيها يقف على سماع بينة وإحلاف يمين ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بينة على إثبات حق ولا أن يحلف يمينا على نفي حق والقضاة والحكام في سماع البينات وإحلاف الخصوم أحق وأما الوجهان في زيادتها على أحكام القضاء فأحدهما أنه يجوز للناظر فيها أن يتعرض لتصفح ما يأمر به من المعروف وينهى عنه من المنكر وإن لم يحضره خصم مستعد وليس للقاضي أن يتعرض لذلك إلا بحضور خصم يجوز له سماع الدعوى منه فإن تعرض القاضي لذلك خرج عن منصب ولايته وصار متجوزا به في قاعدة نظره والثاني أن للناظر في الحسبة من سلاطة السلطنة واستلاطة الحماة فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة لأن الحسبة موضوعة على الرهبة فلا يكون خروج المحتسب إليها إلا بالسلاطة والغلظة تجوزا فيها ولا خرقا والقضاء موضوع للمناصفة فهو بالأناة والوقار أخص وخروجه عنها إلى سلاطة الحسبة تجوز وخرق ولأن موضوع كل واحد من المنصبين مختلف فالتجاوز فيه خروج عن حده. ما بين ولاية الحبسة والمظالم من الاجتماع والافتراق وأما ما بين الحسبة والمظالم فبينهما شبه مؤتلف وفرق مختلف فأما الجامع بينهما فمن وجهين أحدهما أن موضوعها مستقر على الرهبة بسلاطة السلطنة وقوة الصرامة والثاني جواز التعرض فيها لأسباب المصالح والتطلع على إنكرا العدوان الظاهر وأما الفرق بينهما فمن وجهين أحدهما أن النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة والنظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه القضاة ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى ورتبة الحسبة أخفض وجاز

لوالي المظالم أن يوقع إلى القضاة والمحتسبة ولم يجز للقاضي أن يوقع إلى والي المظالم وجاز له أن يوقع إلى المحتسب ولم يجز للمحتسب أن يوقع إلى واحد منهما فهذا فرق والثاني أنه يجوز لوالي المظالم أن يحكم ولا يجوز لوالي الحسبة أن يحكم. وقد تم تأليفنا المبارك هذا بنجاح هذه الخاتمة ختم الله لنا بحسن الخاتمة بجاه من لم تزل صلاتنا عليه دائمة وحسبنا الله وكفى والصلاة على سيدنا ومولانا محمد النبي المختار المصطفى وعلى آله وصحبه الخلفاء والحمد لله وسلام عباده الذين اصطفى اللهم اجعله خالصا لوجهك الكريم وانفع به القارئ والناظر والمستعين بجاه مولانا محمد النبي الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين. انتهى كتاب "تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر" تأليف الإمام الشهير العلامة النحرير خاتمة المحققين وسند المدققين القدوة البركة الهمام الرباني أبي عبد الله سيدي محمد بن أحمد بن قاسم بن سعيد العقباني التلمساني تغمد الله جميعم برحمته وأسكنهم فسيح جنته وصلى الله على مولانا محمد نبيه الكريم وصفوته وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وسلم تسليما كثيرا. ووافق الفراغ منه عشية الخميس 20 من شعبان المكرم 1198.

§1/1