تحفة المشتاق إلى شرح أبيات المولى إسحق

السياغي

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف اعلم أن الذي بلغ إليه فهمي ووصل إليه نهاية علمي، أن مراد المولى قدس الله سره بذلك هو الروح المعبر عنه بالنفس الناطقة، ولنتعرض في هذه المقدمة لثلاثة فصول: الأول: في ذكر الاختلاف في جواز التكلم فيها وعدمه. والثاني: ما قيل في ماهيتها. والثالث: في بقاها بعد الموت واستقلالها، وأن الأرواح هل خلقت قبل الأجساد أو لا. الفصل الأول في ذكر الإختلاف في جواز التكلم فيها وعدمه. قال الله تعالى: (وَيَسأَلونَكَ عَنِ الروح قُل الرُّوحُ مِن أَمرِ رَبّي وَما أُتِيتُم مِنَ العِلمِ إِلاَّ قَليلاً) اختلف أهل التفسير في معناها، فقيل هو سؤال عن حقيقة الروح، وجوابه إنه مما استأثر الله بعلمه، وهو الذي صدى صاحب (الكشاف) ونقل عن أبي بريدة لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح، قال ابن حجر في تخريجه ذكره الواحدي في الوسيط عن عبد الله بن بريدة، ولم يسق إسناده وإليه ذهب تاج الدين السبكي في (جمع الجوامع) قال: وحقيقة الروح لم يتكلم عليها محمد صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فنمسك عنها. قال شارحه البدر الزركشي في (تشنيف المسامع) وهذه طريقة المحتاطين كالجنيد رضي الله عنه. فإنه قال: الروح شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود لقوله تعالى: (قُل الروح مِن أَمرِ رَبي) وعلى ذلك جرى خلق من أئمة التفسير كالثعالبي وابن عطية، وكذلك الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتابه (عوارف المعارف) فإنه قال: الكلام في الروح صعب المرام والإمساك عن ذلك دليل ذوي الأحلام، وقد عظم الله سبحانه شأن الروح وسجل على الخلق بقلة العلم، فقال: (وَما أُوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلا قليلاً) ثم استدل بحديث ابن عباس أنها قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا ما الروح وكيف يعذب الروح التي في الجسد وإنما الروح من أمر الله. ولم يكن نزل إليه شيء فلم يجبهم. فأتاه جبريل بهذه الآية. قال: وحيث أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإخبار عن الروح وما هيته بإذن الله ووحيه وهو صلى الله عليه وسلم معدن العلم وينبوع الحكمة، كيف يسوغ لغيره الخوض فيه والإشارة إليه لا جرم لما تقاضت النفس الإنسانية المتطلعة إلى الفضول المسفوفة إلى العقول المتحركة بوصفها إلى كل ما أمر بالسكون فيه والمتسورة بحرصها إلى كل تحقيق وتمويه، وأطلقت عنان النظر في مسارح الفكر وخاضت غمرات معرفة ماهية الروح، تاهت في التيه وتنوعت آراؤها فيه، ولم يوجد الاختلاف بين أرباب النقل والعقل في شيء كالإخلاف في ماهية الروح ولو لزمت النفوس حدّها معترفة بعجزها، كان ذلك أجدر بها وأولى كلامه وقد جنح فيه إلى أن الأولى عدم التعرض للكلام فيه لا المنع مطلقا لما سننقله عنه إن شاء الله من بيان مختارة فيه على جهة التأويل لا التفسير. فإنه قال: لا يسوغ التفسير إلا نقلا، وأما التأويل فتمد العقول إليه الباع الطويل. وحكى الطيبي عن الإمام فخر الدين بن الخطيب: أن المختار إنهم سألوه عن الروح وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أجاب على أحسن وجه بقوله: الروح من أمر ربي، أي موجود محدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره إفادة الحياة للجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء ماهيتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها. وتبعه البيضاوي فقال: إنه إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى عليه السلام في جواب وما رب العالمين بذكر بعض صفاته. قال المحقق سراج الدين بعد إيراده لكلام القاضي: ومن طلب الحق بالمجاهدة يلوح له ما يحتذيه منارا إلى عالم المشاهدة وقد أجاب المتكلمون على ماهية الروح عن الأولين المتمسكين في المنع بظاهر الآية بوجوه، أحدها: إن اليهود كانوا قد قالوا إن أجاب عنها فليس بنبي، وإن لم يجب فهو صادق، فلم يجب لأن الله لم يأذن فيه ولا أنزل عليه بيانه في وقته تأكيدا لمعجزته وتصديقا لما تقدم من وصفه في كتبهم لا لأنه لا يمكن الكلام فيه.

الفصل الثاني

ثانيها: إنهم سألوا صلى الله عليه وسلم سؤال تعجيز وتغليط إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل وملك آخر يقال له الروح، وصنف من الملائكة والقرآن وعيسى بن مريم كما أشار إليها صاحب (الكشاف) في تفسير الأية، فقصد اليهود أن يسألوه فبأي شيء أجابهم، قالوا: لسنا نريد هذا فجاء الجواب كسؤالهم مجملا، فإن أمر ربي يصدق على كل واحد من مسميات الروح، وذكر مثل هذا الوجه الزركشي في (البحر المتوسط قال: وهكذا ذكر صاحب الافتتاح في خلق الإنسان إذ قد دلت قواطع الشرع على تعيينها، فقد يحمل المستدل لفظا احتياطا لنفسه في ميدان النظر بحيث إذا توجه سؤال المعترض على أحد معنيي اللفظ تخلص عنه بتعيين كلامه بالمعنى الآخر. ثالثها: ما ذهب إليه علماء الطريقة أن المراد بقوله تعالى: (مِن أَمرِ رَبي) كون الروح من عالم الأمر، وهو عالم الغيب وعالم الملكوت ومقابله عالم الخلق الذي هو عالم الشهادة، وعالم الملك، وحملوا قوله تعالى: ألا له الخلق والأمر على العالمين المذكورين، وأراد بعالم الأمر عالم المجردات لأنها وجدت بمجرد الأمر الذي هو قول كن ومقابله الجسمانيات، وقد بالغ الشيخ العارف بالله أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في نصرة هذا الوجه. فقال: من ظن أن علم الروح وغيره مما ذكر ومما لم يذكر لم يحط به الخاصة من العلماء أهل البدء الأعلى فقد وقع في عظيمين، تجهيل أوليا الله إذ وصفهم بالقصور عن ذلك وظن بربه أنه منعهم وكيف يجوز أن يظن على مخصوص ويسري به التكذيب إلى القدرة والشرع، بقوله عن اليهود أو عن العرب على الخلاف (وَيَسأَلونَكَ عَنِ الروح قُل الروحُ مِن أَمرِ رَبي) فما الدليل لك فيها على جهل الصديقين وأهل خاصة الله العلياء والكشف عن هذا، إن السؤال يقع بهل وكيف ولم ومن فهل يقع السؤال به عن الشيء أموجود هو أو معدوم وقد عرفنا وجوده من قبل، ولولا ذلك ما قال (وَيَسأَلونَكَ عِنِ الروح) فثبت إنهم عرفوا وجوده فبطل هذا وليس فيه سؤال عن الحال كيف هو ولا سؤال عن العلة لم كذا وكذا. ولو كان سؤالهم عن هذين لما قنعوا بقوله (قُل الروحُ مِن أَمرِ رَبي) الآية المراد منه وحاصله أن المقدار الذي ينبغي أن يطلب من يتعرف الروح إنما هو عالمه ومن أين هو، فأوجب الشيخ معرفة مثل هذا عن الروح، وهي كون الحياة والحركة والعقل مثلا تابعا لها، لا معرفة حقيقتها ولكنه لا يتمشى على تقدير صحة حديث ابن عباس المتقدم، إذ هو صريح في السؤال عن الماهية لا من أين هو. الفصل الثاني في حقيقة الروح وما قيل فيها إعلم أن الخلاف في ذلك واسع جدا، كما تقدمت إشارة إليه فزعمت طائفة من قدماء الفلاسفة أن النفس التي هي عبارة عن الروح أمر كلي عام، وإنه يفيض على الأجسام فيض الشمس على ما يقع شعاعها عليه، فيعطي كل مادة قدر استحقاقها، وإنها ليست حالة بالأجسام وإنما هي مؤثرة فيها لضرب من المناسبة كما يفعل المغناطيس في الحديد وليس أحدهما حالا في الآخر، وإنها لا تزال مؤثرة في الجسم ما دام مستعدا لقبول الآثر، وإنها لا تزال مؤثرة في الجسم ما دام مستعدا لقبول الأثر، فإذا أفسد استعداده بطل فعلها فيه كما يبطل فعل المغناطيس في الحديد عند فساد الحديد وتغيره وهذا مبني على قدم النفس، وعدم تناهيها، وقد تكفل علم الكلام ببطلانه.

وحكي عنهم في ترتيب الموجودات تفصيل وهو أن الصادر الأول عن الذات الواجب الوجود عقل له اعتبارات ثلاثة: وجوده في نفسه، ووجوبه بالغير، وإمكانه لذاته فيصدر عنه بكل اعتبار أمر. فباعتبار وجوده يصدر عقل، وباعتبار وجوبه بالغير يصدر نفس، وباعتبار إمكانه يصدر جسم، وهو الفلك الأول وهو فلك الأفلاك المشتمل على جميع ما عداه من الأفلاك، وهو المسمى عند الحكماء بالفلك الأطلس، لأنه غير مكوكب ويسمى بالعرش المجيد في لسان الشرع، وتحته فلك الثوابت وهو الكرسي، ثم فلك زحل، ثم فلك المريخ، ثم فلك الشمس، ثم فلك الزهرة، ثم فلك عطارد، ثم فلك القمر وهو سماء الدنيا، لأنه أقرب إلينا من سائر الأفلاك. ويصدر من العقل الثاني، عقل ثالث، ونفس ثانية، وفلك ثان، وهكذا إلى العقل العاشر الذي هو في مرتبة التاسع من الأفلاك، وهو فلك القمر، ويسمى العقل الفعال المؤثر في هيولا العالم السفلي، المفيض للصور والأعراض على العناصر البسيطة وعلى المركبات منها بسبب ما يحصل لها من الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية، والاتصالات الكوكبية، وأوضاعها، وأسند في تلك الاعتبارات الثلاثة في كل فلك الأشرف إلى الأشرف، والأخس إلى الأخس، ولهم على ما يدعونه إمارات ظنية، لم يكن عليها إثارة من علم الشريعة. وقد جعل السيد الشريف قدس سره الأرواح تنقسم إلى ثلاثة: فقال في تعريفاته: الروح الإنساني هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الراكبة على الروح الحيواني، نازل من عالم الأمر، تعجز العقول عن إدراكها كنهها، وذلك الروح قد تكون مجردة، وقد تكون منطبعة في البدن والروح الحيواني جسم لطيف منبعه تجويف القلب الإنساني، وينتشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن، والروح الأعظم الذي هو الروح الإنساني مظهر الذات الإلهية من حيث ربوبيتها، لذلك لا يمكن أن يحوم حولها حائم، ولا يروم وصلها رايم، ولا يعلم كنهها إلا الله، ولا ينال هذه البغية سواه، وهو العقل الأول، والحقيقة المحمدية، والنفس الواحدة، والحقيقة الإسمائية، وهو أول موجود خلقه الله على صورته، وهو الخليفة الأكبر، وهو الجوهر النوراني جوهريته مظهر الذات، نورانيته مظهر علمها ويسمى باعتبار الجوهرية نفسا واحدة وباعتبار النورانية عقلا أولا، فكما أن له في العالم الكبير مظاهر وأسماء من العقل الأول والقلم الأعلى والنور والنفس الكلية واللوح المحفوظ، وغير ذلك له في العالم الصغير مظاهر وأسماء بحسب ظهوراته ومراتبه في اصطلاح أهل الله وغيرهم، وهي السر والخفي والروح والقلب، والكلمة، والروح، والفؤاد، والصدر، والعقل، والنفس وهذا ما عليه أهل الطريقة ومستندهم في أكثر ذلك هو الكشف. وذهب قوم إلى أنه عرض لأنه لو كان جوهرا، والجواهر، والجواهر متساوية الأقدام في الجوهرهية، للزم أن يكون للروح روح آخر وهو فاسد، وذلك لأن الأخبار الواردة فيه من العروج والهبوط والتردد في البرزخ ينفي كونه عرضا، لأن العرض لا يوصف بأوصاف، إذ الوصف معنى، والمعنى لا يقوم بالمعنى كما تقرر في موضعه وما ذكره من اللازم الممنوع. وذهبت طائفة إلى أنه جوهر، فرد متحيز فزعموا أنه خلاف الحياة القائمة بالجسم الحيواني وأنه حامل للصفات المعنوية وهو فاسد أيضا لأن الجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتجزأ لصغره لا كسرا ولا قطعا ولا هما ولا فرضا، وصدور المعاني الخارقة للعقول عن مثل ذلك مستحيل.

ومنهم من ذهب إلى أنه جسم لطيف في البدن، سار فيه سريان ماء الورد في الورد، والنار في الفحم، قابل للزوال، عامل لصفات الكمال من العقل والفهم، وهو اختيار الإمام يحيى، وحكاه الإمام المهدي في مقدمات البحر عن النظام وابن الأخشيد من المعتزلة، وعليه اعتمد عامة المتكلمين من أهل السنة، وذهب إليه ابن الخطيب ونقحه في تفسيره الكبير، فقال ما لفظه: قالوا لا يجوز أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الهيكل المحسوس، لأن أجزاءه أبدا في النمو والذبول، والزيادة والنقصان، والاستكمال والذوبان، ولا شك أن الإنسان من حيث هو هو أمر باق من أول عمره إلى آخره، والهيكل المحسوس غير باق، فالمشار إليه عند كل أحد بقوله إنما وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل. ثم اختلفوا عند ذلك في الذي يشير إليه كل أحد بقوله: إنا وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل ثم اختلفوا عند ذلك في الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا أبشر هو، والأقوال كثيرة، إلا أن أسدها تخليصا أنها أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم، والدهن في السمسم، وماء الورد في الورد. ثم المحققون منهم قالوا: إن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخره أجسام مخالفة بالماهية. والحقيقة التي منها اتلفت هذا الهيكل وتلك الأجسام فيه مدركة لذاتها، فإذا خالطت هذا الهيكل وتلك الأجسام فيه مدركة لذاها، فإذا خالطت هذا البدن وصارت سارية في الهيكل سريان النار في الفحم، فصار هذا الهيكل أبدا في الذوبان، والتحلل، إلا أن تلك الأجزاء بحالها وإنما لا يعرض لها التحلل، لأنها مخالفة في الماهية بهذا الأجسام القابلة. فإذا فسد هذا القالب، انفصلت تلك الأجسام اللطيفة النورانية إلى عالم السموات والعرش، إن كانت من جملة الأشقياء كلامه. وقال الإمام القرطبي في تذكرته: إن الروح جسم لطيف متشابك الأجسام المحسوسة يجذب ويخرج وفي أكفانه يلف، وبه إلى السماء يعرج، لا يموت ولا يفنى، وهو مما له أول وليس له آخر، هو بعينين ويدين وإنه ذو روح طيب وخبيث، وهذه صفة الأجسام لا صفة الاعراض، وهذا غاية البيان ولا عطر بعد عروس. وقد اختلف الناس في الروح اختلافا كثيرا، أصح ما قيل فيه، ما ذكرناه لك وهو مذهب أهل السنة، إنه جسم، ثم قال: وكل من يقول عن الروح يموت ويفنى فهو ملحد، وكذا من يقول بالتناسخ كلامه.

وذهب حجة الإسلام الغزالي وغيره من المحققين، ولعله إن شاء الله أشبه بالصواب إلى أنه جوهر محدث قائم بنفسه، غير متحيز، وأنه ليس داخل الجسم، ولا خارج عنه، وليس متصلا به، ولا منفصلا عنه، وذلك لعدم التحيز الذي هو شرط الكون في الجهات. وتحقيق ذلك يتوقف على إيراد ما ذكره في الرسالة اللدنية وإن وقع إطناب فهو مغتفر في جنب ما تعرض له من نفائش الفوائد، فقال: اعلم أن الإنسان من شيئين مختلفين، أحدهما: الجسم المظلم الكثيف الداخل تحت الكون والفساد وهو المركب الترابي الذي لا يتم أمره إلا بغيره، والآخر: هو النفس وهو الجوهر الفرد المنير الفاعل المحرك المتمم للآلات والأجسام، والله تعالى ركب الجسد من أجزاء الغذاء ورباه بأجزاء الدماء، ومهد قاعدته وسوى أركانه، وعين أطرافه، وميز قواه، وأظهر جوهر النفس من أمره الواحد الكامل المكمل المقيد، ولا أعني بالنفس القوة الطالبة للغذاء ولا القوة المحركة للشهوة والغضب، ولا القوة الساكنة في القلب المولدة للحياة المنفذة للحس والحركة من القلب إلى جميع الأعضاء، فإن هذه القوة تسمى روحا حيوانيا والحس والحركة والشهوة والغضب من جنده، وتلك القوة الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد بالتصرف بالغذاء، يقال لها روحا طبيعيا، والهضم والدفع من صفاتها، والقوة المصورة والمولدة والنامية وباقي القوة المتصورة كلها خدام للنفس والجسد، والجسد خادم الروح الحيواني لأنه يقبل القوى عنه، ويعمل بحسب تحريكه، وإنما أعني بالنفس، ذلك الجوهر الكامل الفرد الذي ليس من شأنه إلا التذكر والتحفظ والتفكر والتمييز والروية، ويقبل جميع العلوم، ولا يمل عن قبول الصور المجردة المعراة عن المواد، وهذا الجوهر رئيس الأرواح وأمير القوى، والكل يخدمونه ويمتثلون أمرهن والنفس أعني هذا الجوهر عند كل قول اسم خاص، فالحكماء يسمون هذا الجوهر عند كل قول اسم خاص، فالحكماء يسمون هذا الجوهر النفس الناطقة، والقرآن يسميه النفس المطمئنة والروح الأمري، والمتصوفة تسميه الروح، وتارة تسمية القلب، والخلاف في الأسامي والمعنى واحد لا خلاف فيه، والروح عندنا والمطمئنة كلها أسامي للنفس الناطقة، والنفس الناطقة هي الجوهر الحي الفعال المدرك، وحيث ما نقول الروح المطلق، أو القلب، فإنما نعني به هذا الجوهر. والمتصوفة يسمون هذا الروح الحيواني نفسا، والشرع ورد بذلك فقال: أعدي عدو لك نفسك، وأطلق الشارع اسم النفس، بل أكدها بالإضافة فقال: نفسك التي بين جنبيك، وإنما أشار بهذه اللطيفة إلى القوة الشهوانية والغضبية فإنهما ينبعثان عن القلب الواقف الواقع بين الجندين، فإذا عرفت فرق الأسامي، فاعلم أن القائلين يعبرون عن هذا الجوهر النفيس بعبارات مختلفة، ويرون فيها آراء متفاوتة. والمتكلمون المعروفون بعلم الجدل يعدون النفس جسما، ويقولون هو جسم لطيف، بإزاء هذا الجسم الكثيف، ولا يرون الفرق بين الروح والجسد غلا باللطافة والكثافة، وبعضهم يعد الروح عرضا، وبعض الأطباء يميل إلى هذا القول، وبعضهم يرى الدم روحان وكلهم قنعوا بقصور نظرهم على تخيلهم وما طلبوا.

القسم الثالث: فاعلم أنت أن القسمة ثلاث: الجسم، والعرض، والجوهر الفرد. فالروح الحيواني جسم لطيف كأنه سراج مشتعل موضوع في زجاجة القلبن أعني الشكل الصنوبري المعلق بالصدر والحياة هو ضوء السراج، والدم دهنه، والحس والحركة نوره، والشهوة حرارته، والغضب دخانه، والقوة الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد خادمه وحارسه ووكيله. وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات لأنه مشترك بين البهائم وسائر الحيوانات. وهذا الروح لا يهتدي إلى العلم، ولا يعرف طريق المصنوع، ولا حق الصانع، وإنما هو خادم أسير يموت بموت البدن ولو يزيد دم الدهن ينطفي ذلك السراج بزيادة الحرارة أو ينقص ينطفي بزيادة البرودة، وانطفاؤه سبب موت البدن وليس خطاب الباري سبحانه ولا تكليف الشارع على هذا الروح، لأن البهائم وسائر الحيوانات غير مكلفين، ولا مخاطبين بأحكام الشرع، والإنسان إنما يكلف ويخاطب لأجل معنى آخر وجد عنده زائدا، خاصا وذلك المعنى هو النفس الناطقة والروح المطمئنة، وهذا الروح ليس بجسم ولا عرض، ولا يقبل الفساد، ولا يضمحل ولا يفنى، ولا يموت، بل يفارق البدن وينتظر العود إليه في يوم القيامة كما ورد به الشرع، وقد صح في العلوم الحكمية بالبراهين القاطعة، والدلائل الواضحة الساطعة، أن الروح الناطق ليس بجسم، ولا عرض بل هو جوهر ثابت دائم غير فاسد، ونحن نستغني عن تكرير البرهان وتعديد الدلائل لأنها مفروغة مذكورة. ومن أراد تصحيحها فليرجع إلى الكتب اللائقة بذلك الفن. فأما في طريقتنا، فلا نبالي بالبرهان، فالمعول على العيان، ونعتمد على رؤية الإيمان. ثم أورد حجة الإسلام بعض الأدلة والحجج وساق على هذا النمط العجيب حتى قال: وإذا كان الروح من أمر الباري سبحانه فيكون في البدن كالغريب، ويكون وجهه إلى أصله، وإنما يقبل على البدن رعاية لصلاحه، لا لضرورة ذاته، وإذا كان وجهه إلى أصله ينال الفوائد من جانب الأصل أكثر ما ينال من جهة الشخص، إذ هو قوي ولم يتدنس بأدناس الطبيعة، وإذا علمت أن الروح جوهر فرد، وعلمت أن الجسم لا بد له من المكان، والعرض لا يبقى إلا بالجوهر، فاعلم أن الجوهر لا يحل بمحل، ولا يسكن بمكان، وليس البدن مكان الروح، ومركب النفس، والروح بذاته غير متصل بأجزاء البدن، ولا منفصل بل هو مقبل على البدن ومقيد له، ومفيض عليه. ما أردت نقله من كلامه رحمه الله وقد تعقب من وجهين: أحدهما أن قوله غير داخل في الجسم ولا خارج عنه، ولا متصل ولا منفصل، يلزم منه خلو الشيء عن الشيء وضده، وأجيب إن الشيء يجوز أن يخلو عن الضدين إذا كان كل واحد منهما مشروطا بشرط فإنه إذا انعدم الشرط، عدم المشروط لا محالة كما يقال في الجماد إنه لا عالم ولا جاهل، لأن الشرط المصحح لقيام العلم أو ضده في لجسم هو الحياة، وقد انتفت في الجماد فكذلك شرط الدخول والخروج، والاتصال والانفصال، هو التحيز وإذا لم يكن الجوهر متحيزا لا يتصف بشيء من ذلك.

ثانيهما: لزوم التناقض بأنه جعله من عالم الأمر لا من عالم الخلق محتجا بقوله تعالى (قُل الرُوح مِن أَمرِ رَبي) وإذا لم يكن مخلوقا، لم يكن محدثا، وقد قال إنه جوهر محدث، وأجيب: إن مراده ليس نفي كونه مخلوقا بل اصطلح على تسمية كل ما صدر عن الله تعالى بلا واسطة غير الأمر العزيز بعالم الأمر وعلى تسمية كل ما صدر عنه تعالى عن سبب متقدم من غير خطابه بالأمر الذي هو الكلمة بعالم الخلق، قال الله تعالى (أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمَر) فإذا لا مشاححة في ذلك ثم إن الدليل العقلي في كونه جوهرا قائم وذلك أنه قد علم مما مر أن الإنسان يباين سائر الحيوانات، بمعنى زائد على الحيوانية يكون به إدراك المعاني الكلية المجردة عن المادة، وبه سميت النفس الناطقة، أي المدركة من غير تعلم ولا طلب بل يجدها الإنسان حاصلة في ذهنه، ومعلوم له منذ أول نشوئه، وكأنها مولودة معه ولا يدري مع ذلك كيف حصلت ولا من أين حصلت، وذلك مثل أن النقيضين لا يجمتعان والكل أعظم من جزئه ونحوهما، ولا بد لهذه المعاني من حامل لها، فإما أن يكون جسما أو عرضا أو شيئا ليس بجسم ولا عرض، ومحال كونه عرضا إذا العرض لا يحمل شيئا ومحال أيضا أن يكون جسما، لأن الجسم منقسم والمعاني الكلية غير منقسمة أصلا، إذ لو انقسمت لم تخل أن تكون لأجزائها كلها معنا أولا، ومحال أيضا أن يكون للكل معنى غير موجود في شيء من الأجزاء، أو يقول قائل: إن ذلك المعنى يكون للكل عند إجتماع الأجزاء بعد أن لم يكن لها فليس إذ المعنى الموجود منقسم ولا هو لا حق للأجزاء عند اجتماعها والله أعلم. وظاهر عبارة الشيخ شهاب الدين في (عورف المعارف) مائل إلى هذا المذهب ولفظه بعد أن ألم بشيء مما ذكره حجة الإسلام أن الروح الإنساني العلوي لما ورد على هذا الروح الحيواني باين أرواح الحيوانات واكتسب صفة أخرى، فصارت نفسا محلا للنطق والإلهام.

الفصل الثالث

قال الله تعالى: (وَنَفسٍ وَما سَوَاها فَأَلهَمَها فُجورَها وَتَقواها) فتسويتها بورود الروح الإنساني عليها، واقتطاعها من جنس أرواح الحيوانات وتكونت النفس بتكوين الله من الروح العلوي وصار تكون النفس التي هي الروح الحيواني من الآدمي من الروح العلوي في عالم الأمر، كتكوين جواء من آدم في عالم الخلق إذ صار بينهما من التألف والتعاشق كما بين آدم وحواء، وصار كل واحد منهما يذوق الموت بمفارقة صاحبه. قال الله تعالى: (وَجعَلَ مِنها زَوجَها لِيَسكُنَ إِليها) فسكن آدم إلى حواء وسكن الروح الحيواني الإنساني العلوي إلى الروح الحيواني وصيره نفسا وتكون من سكون الروح إلى النفس القلب وأعني بهذا القلب، اللطيفة التي محلها المضغة اللحمية من عالم الخلق، وهذه اللطيفة من عالم الأمر وكان تكون القلب من الروح والنفس في عالم الأمر، كتكون الذرية من أدم وحواء في عالم الخلق، ولولا المساكنة بين الزوجين اللذين أحدهما النفس ما تكون القلب، فمن القلوب قلب متطلع إلى الأب الذي هو الروح العلوي ميال إليه وهو القلب المؤيد الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن،، وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر، وقلب مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه مثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق كمثل القرحة يمدها القيح الصديد، فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها، والقلب المنكوس ميال إلى الأم التي هي النفس الأمارة بالسوء، ومن القلوب، قلب متردد من ميله إليهما ويحسب ماجا القلب يكون حكمه من السعادة أو الشقاوة، والعقل جوهر الروح العلوي ولسانه والدال عليه وتدبيره للقلب المؤيد والنفس المطمئنة، تدبير الوالد للولد البار، والزوجة الصالحة، وتدبيره للقلب المنكوس تدربير الوالد للولد العاق، والزوجة السيئة الخلق، فالروح العلوي يهم بالارتقاء إلى مولاه شوقا وحلوا وتنزها عن الأكوان التي منها القلب والنفس. فإذا التقى الروح يحنو القلب إليه حنو الولد الحسن البار إلى الوالد، وتحنو النفس إلى القلب الذي هو الولد حنو الوالدة الحنية إلى ولدها، وإذا حنت النفس ارتقت من الأرض وانزوت عروقها الضاربة في العالم السفلي وانطوى هواها وانحسمت مادته، وزهدت في الدنيا، وتجافت عن دار الغرور، وأنابت إلى دار الخلود، وقد تخلد النفس التي هي الأم إلى الأرض بوضعها الجبلي لكونها من الروح الحيواني المحبس ومستندها في كونها إلى الطبايع التي هي أركان العالم السفلي. قال تعالى: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) فإذا سكنت النفس التي هي الأم إلى الأرض انجذب إليها القلب المنكوس انجذاب الولد الميال إلى الوالدة المعوج الناقصة، وينجذب الروح إلى الولد الذي هو القلب بما حمل عليه انجذاب الوالد إلى والده، فعند ذلك يتخلف عن حقيقة القيام بحق مولاه وفي هذين الانجذابين تظهر حكم السعادة والشقاوة، ذلك تقدير العزيز العليم، كلامه قدس روحه. وقد وصف الله عزوجل النفس في كتابه العزيز بثلاثة أوصاف: الأمارة وهي التي تميل إلى الطبيعة البدنية تأمر باللذات والشهوات الحسية وتجذب القلب إلى الجهة السفلية فهي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة. واللوامة: وهي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت به من سنة الغفلة كل ما صدرت منها سنة بحكم جبلتها الطمأنينة أخذت تلوم نفسها وتنوب عنها. والمطمئنة: وهي التي يمر تنورها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة. الفصل الثالث في بقائها بعد الموت وتجردها مستقلة وما في ذلك من الخلاف زعمت طائفة أن لا وجود للنفس بعد الموت، ولا للبدن، وهؤلاء هم الملحدة وليس لهم على ما يدعون برهان متبع، ولا قول مستمع، غلا ما نقلوه عن ابن عباس أنه سئل فقيل له: أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان؟ فقال: أين يذهب ضوء المصباح عند فني الأدهان؟ قيل له: فأين تذهب الجسوم إذا بليت؟ قال: أين يذهب لحمها إذا مرضت؟ وفي إقامة البراهين القاطعة على صحة ما ذهب إليه طوائف المسلمين بيان لفساد دعواه؟ وذهب الجمهور إلى أنها باقية وأن موتها عبارة عن انتقالها من الجسد إلى عالم الملكوت.

قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى عليه السلام في كتابه (غايات الأفكار) ويدل على هذا القول ظاهر سمعية كثيرة، وأن النفوس تخرج بالموت وأنها مقبوضة وأنه يصعد أو يهبط بها، قال تعالى: (وَلا تَحسَبنَّ الَّذينَ قُتِلوا في سَبيلَ اللَهِ أَمواتاً بَل أَحياء) وأخباره صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأوي إلى سدرة المنتهى. وقوله صلى الله عليه وسلم في ما أخرجه الشريف السيلقي: رفرف روحه فوق النعش وهو ينادي: يا أهلي ويا ولدي. وقوله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في أهل ليب: ما أنتم بأسمع منهم. قال عليه السلام وهكذا الصور الموجودة من الأنبياء ليلة المعراج، لكن قال هل ملك الموت يقبض تلك الجملة حية أم ميتة ويحتمل والأقرب الأول ومن الأدلة القرآنية قوله تعالى: (ياأَيَتُها النَفسُ المُطمَئِنَة اِرجِعي إِلى رَبِكِ) الآية، وقوله تعالى: (كُلُ نَفسٍ ذائِقَةُ المَوت) والذائق لا بد أن يبقى بعد المذق. وقوله تعالى: (كَلا إِذا بَلَغَتِ التَراقي وَقيلَ مَن راق) الآية وهو نص في بقاء الأرواح وشوقها إلى الله يومئذ. وقوله تعالى: (فَلولا إذا بَلغَتِ الحُلقوم) وقوله تعالى: (يا ليتَ قومي يَعلَمون بِما غَفَرَ لي رَبي) والقول لا يصح إلا من حي. ومن السنة النبوية ما جاء من أنه إذا ورد على الأموات ميت من الأحياء التقوا وتحدثوا وتساءلوا وأن الله تعالى وكل بها ملائكة تعرض عليها أعمال الأحياء حتى عرضوا على الأموات ما يعاقب به الأحياء في الدنيا من أجل الذنوب كان عذرا لله ظاهرا عند الأموات فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى. وفي الخبر عنه صلى الله عليه وآله تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله وعلى الأنبياء والآباء والأمهات، ويوم الجمعة فيفرحون بحسناتهم وتزداد وجوههم وتشرف به فاتقوا الله ولا تؤذوا موتاكم. وفي خبر آخر إن أعمالكم تعرض على عشائركم وأقاربكم من الموتى فإن كان حسنا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا. قال بدر الدين الزركشي في (تشنيف السامع) وقد دل من جهة العقل أن النفس بمثابة الساكن في دار، وإذا خرجت الدار لم يلزم موت الساكن فيها وهذا معلوم بالضرورة وإنما جاءت الشبهة من الاعتقاد أنها سارية في البدن، فسبق حينئذ الوهم إلى موتها بموت البدن. ونحن نقول: إنما هي جوهر مجرد ليس بينها وبين الجسد مناسبة إلا من جهة الخير وذلك لا يقتضي عدم الجوهر ولا تغير حاله، ولأنها لو ماتت بموت البدن لضعفت بضعفه واختلت باختلاله، واللازم منتف والملزوم مثله ولم يخالف فيه إلا الفلاسفة بناء على إنكارهم المعاد الجسماني، ومن اعترف بالمعاد لزمه القول ببقاء النفس. قال الإمام في (المعالم) : وطريقنا فيه إطباق الأنبياء عليه ونجري معهم بالإقناعات العقلية، فإن عندهم الرياضة الشديدة تلوح للنفس الأنوار وينكشف لهم بالعيان مع أنه يضعف البدن جدا، وكل ما كان ضعف البدن أكد كانت قوة النفس أكمل فوجب عقلا بقاؤها بعد فناء البدن انتهى. قلت: وإلى ذلك أشار البختي بقوله: مااِستَقامَت قَناتُ رأيي إِلاَّ ... بَعدَ أَن قَوسَ المَشيبُ قَناتَي ومن الأدلة العقلية أيضا على قيام النفس بذاتها، أنها تنتقل من تصور صورة ما معقولة إلى أخرى، فلا يخلو فيه أن يكون ذلك للنفس أو للجسم أو لهما جميعا، ولا يجوز أن يكون ذلك للجسم لأن الصورة إذا حلت في الجسم انفعل بحلولها فيه وقد بين أن الجسم بذاته لا يلبس صورة ويخلع أخرى، إذ الشيء الواحد لا يكون فاعلا ومنفعلا في حال واحد، ولا اتصاله أيضا بالشركة مع غيره لتلك العلة، فإذا بقي القسم الثالث وهو أنه فعل للنفس فقط، فإذا كانت النفس تستغني في إدراك مدركاتها عن الجسد فهي إذا قائمة بذاتها والله أعلم.

ويبقى الكلام: في كون الأرواح هل هي مخلوقة قبل الأجسام أم مقارنة لاستعداد محلها بالقبول، فالذي ذهب إليه حجة الإسلام الغزالي وبعض المتكلمين أنها حادثة مع الجسد واحتجوا بدليل عقلي وهو أنه لو كانت النفس قبل الجسد لكانت أما واحدة أو متكثرة ومحال كثرتها، إذ الكثرة مفتقرة إلى تغاير، وإذا فرضت النفس مجردة قبل الجسد فلا عوارض لتغاريرها، ومحال أيضا أن تكون واحدة فهي متصلة بأبدان كثيرة، إذ الاتصال والانفصال من صفات سمات المقادير وقد بطل كونها جسما وثبت كونها جوهرا مجردا بالدلائل السابقة، ولأنه يلزم أيضا أن تكون معلومات الأشخاص الإنسانية واحدة لأن النفس التي يحصل بها العلوم واحدة وليس كذلك، لعلمنا ضرورة أن ما يعلمه زيد يجوز أن يجهله عمرو مثلا، فهي إذا حادثة مع الجسد عند اعتداله من واحب الصور ويمكن أن يجاب عنه أنا نختار كونها متكثرة بخلق الله عزوجل ولا محذور في افتقارها إلى التغاير، قولكم: وإذا فرضت النفس مجردة قبل الجسد فلا عوارض لتغايرها ممنوع وسنده أنه لم لا تكون متغايرة بعوارض أيسرها أن هذه غير تلك ولا يقدح في تجرها إذ المراد به التجرد عن تلبسها بالهيكل الكثيف لا عدم التعلق به تعلق التدبير وإلا لم يصح تسميتها مجردة بعد التعلق وهو خلاف المطلوب، ونقيض ما صرحوا به في تعليقها، وذهب آخرون إلى تقدم الأرواح على الأجسام واحتجوا بالظواهر السمعية منها قوله تعالى (وَإذ أَخَذَ رَبُكَ مِن بَني آدَمَ مِن ظُهورِهِم ذُرِياتِهِم) الآية. قال في (جامع البيان (: اعلم أن الأحاديث الصحاح دالة على أن الله تعالى استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة والنار، وأما الإشهاد عليهم هنالك بأنه ربهم، ففي حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما، كما حققه الثقات من المحدثين ووافقهما أكثر السلف كأُبي بن كعب ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والسدّي وغيرهم انتهى. والخطاب بقوله تعالى: (أَلَستُ بِرَبِكُم) ليس إلا لموجود والأصل الحقيقة والعدول إلى غيرها مفتقر إلى دليل، كيف والدليل قائم على الأصل، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول الأنبياء وآخرهم بعثا) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) ، وفي رواية (وآدم منحل في طينته) وقوله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) . وفي الباب أحاديث وآثار قاضية بهذا المعنى فلا تعويل على غيره. وأما الاعتضاد بدليل عقلي، فالحق ما ذكره بعض المحققين أن وجود النفس قبل البدن لم يحصل بذلك برهان عقلي، إلا أن سببها موجود قبل البدن وهي أشرف من البدن، فيكون وجودها قبل البدن وهي المخاطبة بالأمر والنهي وهي عالمة بجميع المعقولات بالقوة وتستفيض المعاني وتفيضها بمجرد الصفاء واللطافة لكن لما تسربلت بسربال الجثمان، وانحصرت في حيز البشر، واحتجبت بحجب الحواس، تعذر عليها استفاضتها إلا بالسمع، وإضافتها إلا بالقول، فجعل الله سآيات السمع والقول في البدن لئلا تنقطع مواد العلم من حول النفوس، فيعبر العالم بلسانه عن المعاني المعلومة في نفسه للمتعلم المستمع، فتلج العبارة في أذنه، فيتصل عالمها ونظمها بالفكرة وصورتها بالحافظة ومعانيها المجردة عن الموارد بالنفس حتى قال: ثم إن غالب النفوس ما دامت في هيكلها البشري لا يقدر على حفظ جميع ما يلقى إليها من القول، ولا ما تنتجه من بيانه فكرها، فألهمها الله صفة الكتابة ليكون لها عونا في حفظ ما تريد حفظه، وليكن ذخيرة للأخلاق من الأسلاف وينتقل العلم من قرن إلى قرن ومن أهل إلى أهل إلى أن يقضي الله أمرا هو فاعله. فكلما حصلت من العلوم حملتها أشكال الحروف وقيدتها بالكتابة في بطون الدفاتر، لأن الحروف أشكال وأمثلة وحقائق، فأشكالها هو المرقوم المدرك بالبصر، وأمثلتها هو القول المدرك بالسمع وحقائقها هو صورة مجردة عن تلك الأمثلة، والأشكال مخزونة في الحافظة والذاكرة، تصورها فتعين لكل حرف صورة تخصها، والأشكال والأمثلة حكاية تلك الصورة الروحانية لاعينها، انتهى كلامه. وإن تعدا سياق البحث فلا يخلو عن إفادة ولبعض علماء الطريقة في هذا المقام نفس طويل، اقتصرنا منه على ما نصه:

اعلم بأن كل روح من الأرواح الإنسانية قبل التعلق بالأجساد كان من المقربين في حضرة رب العباد، لا يزال الرب يسقيه بكاسات الشراب السلسبيلي شرابا طهورا، ويملأ صدره بالمزاج الزنجبيلي لذة وسرورا على أيدي سواقي أسمائه وصفاته في مجلس الحضرة الإلهية وذاته فطورا يسكره شراب تجليات الجمال وطورا يطربه حسن النغمات، ألست بربكم المتعال، فمرة يصبح في مشاهدة جمال الذات هائما، وأخرى يمسي لحق جواب الله قائما سالما عن الأتراح بذي سلم السلامة والأفراح مزدحما في جيرانه من الأرواح، مجتنيا ثمار روضة الوصال، ناظرا إلى نضارة رياحين الكمال، ومتشمما شمائم أزهار الحدائق، ومتنسما نسائم أنوار الدقائق، مستطلعا طوالع شوارق الهداية ومستلمعا لوامع بوارق العناية، ولما ورد الأمر الإلهي بالهبوط عن تلك الحضرة العليا إلى محل طوارق الآفات والبلايا ما كان يرضي بمفارقة الوطن المألوف، وما كان يتحمل مباعدة المشغوف وكان يقول لجيرانه: أَحِنّ وَما فارَقتُكُم غَيرَ لَيلَةٍ ... فَكَيفَ إِذا سارَ المَطِيُ بِنا شَهراً نعم إذا كان الشخص في وطنه مرفّه الحال، وفي منزله فارغ البال، لا يميل إلى المسافرة، ولا يرضى بمقاساة الشدايد والمجاهدة، سيما إذا كان ما إليه السفر فاسد الهوى غير عذب الماء إلى غير ذلك من موجبات النفرة وأسباب الدهشة، فأطلعه الله على بعض حكم هذا السفر الشاسع، وألهمه أسرار قطع ذوي هو لرسالة المراسي واسع، ثم نبأه عن سر المعية بقوله وهو معكم أينما كنتم، وأزال عنه توهم المفارقة بإشارة فأينما تولوا فثم وجه الله ومع هذا وهو متوحش عن مفارقة الوطن كارهاً وصاله إلى بلقع البدن كما أخبر عنه الرئيس بقوله: هَبَطت إِليكَ مِنَ المَحَل الأَرفَعِ ... وَرقاءَ ذاتَ تَعَزُزٍ وَتَمَنُعِ مَحجوبَةٌ عَن كُلِ مُقلَةٍ عارِفِ ... وَهيَ الَّتي سَفَرَت وَلَم تَتَبَرَقعِ وَصَلَت عَلَى كُرهٍ إِليكَ وَرُبَما ... كَرِهتُ فَراقَكَ وَهِيَ ذاتُ تَفَجُعِ وهاهنا نمسك عنان القلم لما أردنا من تقديمه ونعود إلى المقصود المرجو من فضل اله سبحانه حسن تفهمه وتفهيمه فنقول: قال المولى العلامة بل الله بوابل الرضوان زمامه: هَديُهُ وافَت إِلى صَنعاءَ اليَمَن ... تَخُصُ أَربابَ العُلومِ وَالفِطَنِ الهدية في اللغة ما يتحف به جمعها هدايا، ووافت: وافت من الموافاة بمعنى الوصول، وصنعاء اليمن: مدينة معروفة والإضافة فيها من إضافة العلم إلى صفته معنى مع بقاء تعريفه كما اختاره نجم الأئمة إذ لا منع من اجتماع تعريفين، العلمية والإضافة، كما اجتمعا في نداء الأعلام ووصفها باليمن للتوضيح إن لم يكن موجودا إلا هي كما في مضر الحمراء، وإنما الشاء، وزيد الخيل أو للتخصيص إذا شاركها غيرها كما قيل إن ثمة بلدة في أرض الشام تسمى صنعاء وجاز الإبتداء بالنكرة هنا لحصول الفائدة التي هي مناط الجواز، كما ذهب غليه المحققون من النجاة، كقولهم: كوكب انقضت ساعة والجملة من قوله وافت خبرها. ويجوز أن تكون هدية خبر. لمبتدأ محذوف أي هذه هدية والجملة صفة، وقوله تخص يحتمل أن يكون حالا من ضمير الفاعل في وافت أو صفة أخرى لهدية، وأرباب العلوم: الذين لهم اختصاص وملابسة لها حتى كأنها ملك لهم يتصرفون فيها كتصرف المالك بملكه وهي مبني على جواز إطلاق الرب على غير الله تعالى مع تقيده بالمضاف وفي القاموس: رب كل شيء مالكه ومستحقه أو صاحبه. والفطن: جمع فطنة بالكسر وهي الحذق. وَتَصطَفي مِن بَينِهِم فُلانا ... لا زالَ في عَينِ العَلى إِنساناً تصطفي: مأخوذ من الصفو وهو الخير، معطوف على تخص بكلا واجهية، وفلانا: من أسماء الكنايات عن الأناسي، وكذا فلانة يستعمل فيها مجرا عن آلة التعريف وبهما كناية عن البهائم، يقال: ركبت الفلان، وحلبت الفلانة، وقوله لا زال إلى آخره جملة دعائية لا محل لها من الإعراب: تَرفُلُ في مَطارِفَ الحَسناءِ ... قَد قَلَدَت مَنطِقَةَ الجوزاءِ

ترفل: مضارع رف، كنصر وفرح، وأرفل: جر ذيله وتبختر، وامرأة رفلة، كفرحة تجر ذيلها جرا حسنا، كذا في القاموس، ومطارف: جمع مطرف وهو رداء من خز مربع ذو أعلام، ومنطقة الجوزاء: نجوم صغار حول الجوزاء يقال لها نطاق الجوزاء، والمنطقة كمكنسة وما يتنطق به. قال في النهاية هو أن تلبس المرأة ثوبها ثم تشد وسطها بشيء وترفع وسط ثوبها وترسله على الأسفل إذ معانات الأشغال لئلا يكثر في ذيلها: يُزعِجُها الشَوقُ إِلى ذاكَ الحَمَى ... شَوقٌ أَخي الوَجدُ إِلى رَشفِ اللماءِ زعجه: كمنعه أقلعه من مكانه، كأزعجه والزعج محركة القلق كذا في القاموس، والوجد: أحد مراتب الحب. قال في (النهاية) وجدت بفلانة وجدا إذا أحببتها حبا شديدا يعني أن الوجد أقلقها إلى اشتياق موافات ذلك الحمى وهو صنعاء كاشتياق المحب أخي الوجد إلى رشف لما محبوبه، واللماء: مقصور سمرة الشفتين: تَطلُبُ لِلرَقَةِ مِن فُؤَادِها ... تَحريرُ حُكمِ الرِقِ مِن مِدادِها الرقة: مأخوذة من الرق وهو الضعف، ومنه رقة القلب كذا في التعريفات، ويطلق الرق على المملوك والكاغد، والتحرير: الاعتاق ويطلق على المصدر من الكتابة أيضا ومعناه ظاهر أن الهدية في موافاتها لذلك الحمى طالبة لأجل رقة فؤادها الذي هو عبارة عن صفاقة كاغدها تحرير حكم الرق الذي يكتب فيه من ودادها، والمراد كتابة جوابها ويحتمل البيت أيضا أنها في حال اشتياقها إلى ذلك الحمى عانية في رق العبودية، فهي لأجل رقة اشتياقها إلى ذلك الحمى عانية في رق العبودية، فهي لأجل رقة فؤادها تطلب الإعتاق لحكم الرق في ودادها الذي هو كناية عن العبودية. ومن في قوله من فؤادها للبيان، ومن الثانية متعلقة بتحرير، والمعنى في هذا الوجه على التشبيه كان المعنى المطلوب محبوس في سجن الألفاظ، مقيد بقيود الكتابة، فهي تطلب لأجل رقته تخليصه من ذلك الأسر، وتحريره من حكم الرق بإيضاح معناه وبيان مغزاه: فَإِن خلت من صفحة الرقيم ... فَقَد سَرَت شَوقاً مَعَ النَسيم الرقيم: فعيل بمعنى مفعول، يعني إذا تجردت عن صفحة الرقيم أي جانبه وهو على المعنى الأول في البيت الذي قبله خلوها عن تحرير رقها وفقدها لما طلبته من تحرير جوازها، وإنها مع ذلك قد سرت مع النسيم شوقاً إلى تحصيل مرامها وشفاء أوامها، وعلى المعنى الثاني إنها إذا انخلصت من ذلك الوثاق وانفصلت عن قود الاسترقاق، فقد ظفرت من ذلك الوثاق وانفصلت عن قود الاسترقاق، فقد ظفرت بمطلبها، وعثرت على مأربها، وقد سرت من فرط الاشتياق والارتياح مع نسيم الأرواح. واعلم أن الناظم قدس الله روحه وتابع عليه فتوحه قد أشار في ديباجة الأبيات إلى المراد من السؤال وهو على طريق براعة الإستهلال، وأتى بما يؤذن بالمقصود منها على نهج التوجيه والإجمال، وذلك أن قوله هدية وافت يصح أن يراد بها النفس الناطقة التي هي الروح الإنساني على طريقة الإستعارة المصرحة أو التشبيه البليغ، ومعنى موافاتها إلى أرباب العلوم، توجهها إليهم لكشف جلباب إبهامها وإزالة ما أشكل من إعجامها، ثم عدد أوصافا على طريقة التجريد بما يناسب المشبه هو قوله: ترفل إلى آخره، فإنها لتعلقها بالبدن أو امتزاجها به على رأي البعض، يصح أن توصف بالرفول في مطارف الحسناء والتقلد باللآلىء التي هي كمناطق الجوزاء، وقوله: يزعجها الشوق إلى آخره، معنى بطريق الإشارة وإن لم يدل عليه صريح العبارة أن الله تعالى لما خلقها قبل الأجساد بألفي عام كما وردت به الأخبار وأسكنها حظيرة قدسه وحكاها بلطائف أنسه حتى إذا شاء الله عزوجل أمضى ما سبق في علمه الشامل في اتصالها بمعالم الأبدان، وتحليلها بحلية الجثمان وفارقه وطنها الأصلي ومعهدها الأولي، اشتقات إلى الرجوع إليه، واشتد ولعها بالحنين إليه والنزوع إلى الأوطان جبلة ثابتة بطبع الإنسان، قال ابن الرومي: وَجَبَ أَوطانُ الرِجالِ إِليهِم ... مَآرِبَ قَضاها الشَبابُ هُنالِكَ إِذا ذَكَروا أَوطانُهُم ذَكَرتُهُم ... عُهودُ الصِبا فيها فَحَنوا لِذلِك

وقوله: تطلب للرقة إلى آخره، معناه لما اتصلت بالجسم صارت أسيرة في وثاقه فهي تطلب تحريرها وفكها من قيود استرقاقه، وقوله: فإن خلت إلى آخره الضمير للنفس على جعلها كالكلمات المنقشة على صفحات الأوراق وهو اصطلاح متعارف بين أول الأذواق. قال السيد الشريف في تعريفاته: إنها سميت الأعيان كلمات تشبيها بالكلمات اللفظية الواقعة على النفس الإنساني بحسب الخارج، وأيضا كما تدل الكلمات على المعاني العقلية، كذلك تدل أعيان الموجودات على موجدها وأسمائه وصفاته وجميع كمالاته الثابتة له بحسب ذاته ومراتبه، وأيا كل منها موجود بكلمة كن، فإطلاق الكلمة عليها إطلاق إسم السبب على المسبب انتهى. وقد يعبر عن الحقائق البسيطة بالحروف أيضا عند مشايخ الصوفية، وجعلها بعض متكلميهم ثمانية أنواع، فقال: اعلم أن الحروف على ثمانية أطوار، حروف حقيقية وهي أعيان الأسماء والصفات، قلت وهي التي ذكرها صاحب التعريفات وحروف عاليات وهي ذوات معلومات العلم الإلهي المعبر عنها بالأعيان الثابتات بالعلم الإلهي، قلت وهي التي أشار إليها بعضهم بقوله: كُنا حُروف عالِياتٍ لَم نَقُل ... مُتَعَلِقاتٍ في ذرا أعلا القُلَل وحروف روحية وهي الأرواح النورية التي أخبر الله بها هذا الوجود كما أظهر الكلمات بالحروف الملفوظة، وحروف صورية، وهي جوانح هذا العلم العلوي وجوارح الإنسان بالحكم الجزئي، وحروف معنوية وهي حركات الأشياء وسكناتها، ينشا منها حروف تتركب من تلك الحروف كلمات مناسبة لحال ذلك المتحرك كالإنسان في حال قيامه، يتركب منه صورة ألف وفي حال منامه صورة الباء، إلى غير ذلك حتى أنه يتصرف صاحب هذا العلم بحركات جسمية كما يتصرف بالحروف إن كان عارفا بكيفية التصرف بها، وحروف حسية، وهي ما شوهد رقما وكتابة، وحروف لفظية وهي تتشكل في الهوى من قرع الريح الخارجة من الحلق على مخارج الحروف فَلَلنَسيمِ مَعَها اِتصالُ ... لَيسَ لَها عَن رَوضِها اِنفِصال قد عرفت مما ذكر آنفا إشارة الناظم قدّس سره في صدر السؤال إلى المقصود منه في ظن براعة الاستهلال، وإن كان ظاهر السياق في تعديد أوصاف الهدية إلى قوله: ما إسم سمي إلى آخره ونحن نمشي على طريقة توضيح المعنى المقصود من النظم فنقول: الفاء في قوله فللنسيم، للتفريع على السابق من قوله: فقد سرت إلى آخره، يعني لما شابهت النسيم في سرعة مسراها كان لها بها اتصال ومناسبة حال تعلقها بالبدن، كما يقود إليه المعنى، وذلك أن النفس التي يعبر عنها بالروح الحيواني من لازمه التنفس وهو استنشاق الهواء إلى الجوف بواسطة الرئة الممدة للقلب بالترويح، ومنه الحديث (لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن) يريد أنها تفرج الكرب وتشىء السحاب، وتنشر الغيث، وتذهب الجدب، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن) قال في النهاية: عنى به الأنصار لأن الله نفس بهم الكرب عن المؤمنين وهم ثمانون لأنهم من الأزد وهو مستعار من نفس الهوى الذي يرده التنفس إلى الجوف فيبرده من حرارته أو يعدله أو من نفس الريح الذي نتنسمه فيتروح إليه أو من الروضة وهو طيب روائحها فينقرج به عنه انتهى. وأيضا فالروح والروح مرجعهما في (الاشتقاق) إلى مادة قال في القاموس: الروح بالضم ما به حياة الأنفس وبالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح جمعه أرواح وأرياح ورياح. وهاهنا أمر ينبغي معرفته وهو أنه سبق لك مرارا أن المراد من الأبيات النفس الناطقة، ولكن الناظم قدس سره نزل الوصف تارة على الروح الإنسانية وأخرى على الروح الحيوانية كما في هذا البيت ولا حرج في ذلك بعد فهم المراد إذ مرجعهما جملة الإنسان: كَم مرَة قَد اِستَمَدَت عُرفَها ... وَخَلَفَت زَهرُ الرِياضِ خَلفَها يعني أن النسيم لما بينها وبين النفس من المناسبة والاتصال حتى صار سببا لبقائها في البدن باستنشاقها لم تزل تحمل إلى أهل الذوق والمحبة من أسرارها أطايب التحف، ونفائس الطرف، فهي تستمد من عرفها العبق مجاوزة زهر الرياض، وإن كان ذا منظر أنق. وقد أكثر الشعراء من وصف الريح بترويح المشوق وتنفيسها عل كل قلب بالجوا مطروق كقوله: أَيا جَبِلِيٌ نُعمانُ بِاللهِ خَلِيا ... نَسيمَ الصِبا يُخلِص إِليّ نَسيمُها

أَجِدُ بَردها أو تُشَفُ مِني حَرارَةً ... عَلَى كَبِدٍ لَم يَبقَ إِلاّ صَميمُها فَإِنّ الصِبا ريحٌ إذا ما تَنَفَسَت ... عَلَى قَلبٍ مَحزونٍ تَجَلَى هُمومُها وكقول الشريف الرضي رحمه الله من قصيدة: أَو ما شَمَمتُ بِذي الأَبارِقِ نَفحَةٌ ... خَلُصَت إِلى كَبَدِ الفَتى المُشتاق فَجَنى نَسيمُ الريحِ مِن نَجدٍ لَهُ ... حَرقَ الحَشا وَتَحلُبُ الآَماقِ وَعِرفُها يَدُلُ كُلُ عارِفٍ ... إِن فَقَدَت مِن مَودِعِ الصَحائِفِ العرف: الريح الطيبة، ويدل: من الدلالة بمعنى الهداية والإرشاد، ووصف روائح الطيب بالدلالة معنى شائع بين الأدباء كقول ابن حجة: وَضاعَ شَذاكُم بَينَ سِلَعٍ وَحاجِرِ ... فَكانَ دَليلَ الظاعِنِينَ إِليكُم والمراد بالعرف ها هنا ما يظهر من آثارها ويلوح من أسرارها تشبيها له بالروائح الطيبة وإطلاقه عليه من الإستعارة المصرحة وذكر الدلالة ترشيح، وقوله: إن فقدت إلى آخره يعني لا تستقل بالدلالة إلا بعد التجرد عن الأبدان الشبيهة بالصحائف المستودع فيها وأما قبله فالدلالة إنما تصدر عن الجملة الإنسانية بكمالها ومن ذلك ما ذكره بعض العلماء في سياق ذكر من يتوسل به ويتبرك من الأنبياء والأولياء ما لفظه فثبت بذلك أنهم بعد وفاتهم لا تنقطع آثارهم عن هذا العالم بل يحصل للمستمدين أتم خير وأكمل نفع، وأيضا تواترت الأخبار وتكاثرت الآثار أنهم بعد مفارقتهم للدنيا يرشدون الطالبين ويمدون المستمدين وأورد في معنى ما ذكره حكايات تدل على ذلك تركت إيرادها في هذه النبذة. وَإِن أََتَت في رَقِها مُحَرِرَةً ... فَهيَ لِما قَد خُلِقَت مَيسَرَة قوله: وإن أتت معطوف على قوله: فإن خلت أي إن أتت النفس محررة في رقها الذي هو عبارة عن بدنها، أي تعلق هذه حتى صدر عنها إثارة فهي ميسرة لما خلقت له. قال العلامة أبو السعود في تفسير قوله تعالى: (لَقَد خَلَقنا الإنسانَ في أَحسنِ تَقويم) ذكر بعض العارفين أن النفس الإنسانية مجردة ليست حالا بالبدن ولا خارجا عنه متعلقة به تعلق التدبير والتصرف يستعمله كيفما شاءت فإذا أرادت فعلا من الأفاعيل الجسمانية تلقيه إلى ما في القلب من الروح الحيواني الذي هو أعدل الأرواح وأصفاها وأقربها منه وأقواها مناسبة إلى عالم المجردات إلقاء روحانياي، وهو يلقيه بواسطة ما في الشرايين من الأرواح إلى الدماغ الذي هو منبت الأعصاب التي فيها القوى المحركة للإنسان، فعند ذلك يتحرك من الأعضاء ما يليق بذلك الفعل من مباديه القريبة والبعيدة، فيصدر عليه ذلك، فهذه الطريقة وفي البيت تضمين للحديث عند مسلم من رواية جابر رضي الله عنه قال: جاء سراقة بن جعشم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال: فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله. ومعناه على مذهب أهل العدل أن العبد ميسر لما خلق له من الطاعة والعبادة لا حائل بينه وبينها فهو بمنزلة قوله: لا عذر لكم في هذا يسقط به عليكم الأمر والنهي فأما آمركم بالعمل لتمكنكم وتيسركم منه فالحجة قائمة عليكم بذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: كل عامل بعمله معناه ما علمه الله سبحانه فهو كما هو لكن ذلك لا بدافع التمكن، بل بجامعه فلا تعلة بذلك هكذا ذكره العلم الشامخ. أولا فَإِن طَبعُها لَطيفُ ... تَسيلُ مِن رِقَتِها الحُروفُ يعني: أولا تأتي محررة في رقها ومتعلقة ببدنها، بل تجردت مستقلة بذاتها فإن طبعها حينئذ لطيف إذ هي من عالم الأمر والمراد أنها في نهاية اللطف والرقة عند كمال تجردها وكذا قال بعض العارفين في معنى النفس هي لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف من الإنسان وهو المخاطب والمطالب والمعاتب. وقوله: تسيل إلى آخره يعني أنها تكاد لرقة ذاتها ولطف طبعها وصفاء جوهرها تسيل منها الحروف الدالة عليها فهو جار مجرى التمثيل كما يقال فلان يسيل طبعه رقة.

ما إسمُ سَمى عَن خاطِرِ الأَوهامِ ... وَنَدَ عَن غَيرِ ذوي الإِلمامِ هذا شرع في تركيب السؤال على وجه الألغاز والإجمال، وحقيقة اللغز لغة على ما ذكره في القاموس، ميلك بالشيء عن وجهه بالضم والألغوزة ما يعني به والغز كلامه وفيه عمى مراده، وقال الشريف في تعريفاته: اللغز مثل المعمى إلا أنه يجيء على طريقة السؤال كقول الحريري في الخمر: وَما شيءٌ إذا فَسَدا ... تَحولُ غَيهُ رُشدا وقال بعض المحققين في حواشي شرح المفتاح: الألغاز والتعمية يطلق على قصد الدلالة بالألفاظ دلالة عقلية بالغة في مراكز الخفي بحيث يصعب الانتقال منه إلى تلك المدلولات العقلية. وهذا أوان الشروع في تفسير الأبيات مستعينين بالله عزوجل، فتقول قوله سمى أي ارتفع وخاطر الأوهام يحتمل أن تكون الإضافية بيانية وأن يكون استعارة بالكناية، شبه الأوهام بذي الخاطر تشبيها مضمرا وأثبت من أمور لوازمه الخاطر والمعنى أن الأفهام قصرت عن إدراك حقيقته، ومعرفة هويته وهو كذلك كما تقدمت الإشارة غليه في المقدمة حتى تفرقت فيه المذاهب، وتباينت الآراء، ولم يعثر على فص الأمر وحقيقة الواقع إلا البعض اليسير المشار إليه بقوله: وند عن غير ذوي الإلمام، أي أهل القرب من الله والصفوة من عباده وندى من ند البعير، يند ندا إذا شرد ونفر. قَد وَسَعَ العالَمُ طَراً صَدرَهُ ... وَفاضَ في بَرٍ وَبحرٍ بَرَهُ يعني أن الروح الذي هو الحقيقة الإنسانية قد وسع صدره جميع العالم كما وسعت المرأة صور ما قابلها وهو المعنى الذي أراده الشاعر بقوله: وَتحسَبُ أَنّكَ خَلقٌ ضَعيفُ ... وَفيكَ اِنطوى العالَمُ الأَكبَرُ قال بعض العارفين: لما كان الإنسان حقيقة جامعة بحقائق العالم لطيفة وكثيفة قد جمع في تركيبه جميع معاني الموجودات من البسائط والمركبات لأنه مركب من جسد غليظ جسمان ومن نفس بسطية روحانية، فمن أجل هذا سمي الإنسان عالماً صغيراً، والعالم إنسانا كبيراً فإذا عزم على معرفة الموجودات ابتدأ بمعرفة نفسه التي أقرب الأشياء إليه، ثم بعد ذلك سائر الأشياء: قلت: وإليه يشير الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: من عرف نفسه عرف ربه، وتفصيل ذلك منوط في موضعه، ويحتمل أن يكون معنى البيت أنه لإحاطته بالعلوم والمعارف قد وسع صدره علم حقائق الموجودات، وهو معنى ما تقدم ذكره في المقدمة من أن النفس عالمة لجميع المعقولات بالقوة فتستفيض المعاني وتفيضها بمجرد الصفاء الخ. ومعنى فيضان بره في البر والبحر أنه لما كان مظهرا للخلافة الإلهية التي ذكرها الله عزوجل في كتابه الكريم بقوله: (إِني جاعِلٌ في الأَرضِ خَليفَة) ترتب على ذلك ظهور نعم الله على عباده بما أكرمهم من أنواع الإحسان وحباهم بأصناف البر والامتنان غير منقطع عنهم، في كل زمان ومكان، والإضافة في بره من إضافة المصدر إلى مفعوله ويحتمل أن الروح الإنساني لما كان من شأنه إفاضة أنواع الخيرات وطبعه الميل إلى الباقيات الصالحات وصف بكونه مفيضا لبره بالبر والبحر إذ هو لباب القشر وخلاصة السر. يَنظُر بِالعَينِ إِلى إنسانِها ... وَيُطَبَقُ الطَرفُ عَلى أَجفانِها قد علمت مما سبق أن النفس لما تعلقت بالبدن وعبر عنها كل أحد بقوله: إنا سقط عليها أنها إذا نظرت بالعين التي هي آلة تدرك بها حقائق المبصرات أدركت حينئذ من جملة ذلك إنسانها الذي هو هيكلها أو إنسان عينها على حذف مضامين أي إنسان عين جنسها، ثم وصفها بكونها تطبق الطرف الذي هو العين على أجفانها، فالضمير يعود إلى الطرف يطلق على معنى واحد وهو قوة مركبة في العصبتين اللتين تلتقيان فتفترقان إلى العينين. تَصيخُ بِالأُذنِ إِلى صَماخِها ... وَتَخرُجُ البَيضَةُ مِن فِراخِها

تصيخ من الإصاخة وهو الإستماع والإصغاء، يقال: أصاخ وأساخ بمنعى واحد ذكره في (معالم السنن) ولم يذكره الجوهري في السين، والصماخ بالكسر خرق الأذن ويطلق على الأذن نفسها، كذا في القاموس، قال في (النهاية) وقد يقال بالسين أيضا وهو آلة السمع الذي هو القوة المركبة في العصب المفروش على طاهر الصماخين يدرك بها الأصوات، والمراد أنها تميل مستمعة بأذنها إلى ما ألقي في صماخها من الكلمات المسموعة لتفرغه إلى خزانة الحس المشترك لأن الحواس الخمس الظاهرة خدم وأعوان له يرفع كل منها ما جعل آلة له آلية، والإصاخة بالأذن وغن كان حقها في الظاهر أن يكون إلى الكلمات لكنها لما كان الإدراك بواسطة السماخ الذي هو محل القوة، علق الإصاخة به، وقوله: ويخرج البيضة إلى آخره، الفرخ ولد الطائر، ومعنى إخراجها سلبها عن الفراخ وتجردها منه إذ هو أمر نسبي، فكما يقال: خرج الفرخ من البيضة، يصرح أن يقال: خرجت البيضة من الفرخ إذا خلت من الفرخ، ويحتمل أيضا أن الفرخ إذا قوي وبلغ إمكان أن يبيض صح إخراج البيضة منه وتسميته فراخا حينئذ مجازا مرسلا علاقته الكون، ويعود الضمير إلى البيضة باعتبار جنسها ويحتمل أيضا أن يكون المعنى على القلب لغرض المبالغة في حصول الأثر والأصل ويخرج الفراخ من البيضة مثل عرضت الناقة على الحوض، والوجه الأول أقرب والمعنى أن الفرخة البيضة إذا بلغ حالة الإستعداد لقبول الروح تأثر عنه الأفعال التي منها الخروج والحركة. ؟ فائدة: قال بعض الحكماء: البيضة صارت رطبة لغلبة الماء ونقصان والهواء والنار الطبيعة للأرض، فصفرة البيض تشبه طبيعة الهواء، وبياضها تشبه طبيعة الماء، ولذلك يطير الطائر، والمادة الترابية أقل ولذلك لم يخلق له الأسنان والأضراس والفرخ من البياض والصفرة غذائه. يَحولُ في الخالِ ما اِستَقبَلَ ... وَينثَني مُنخَفِضاً إِذا اِعتلَى قد علمت أن الروح هو الجوهر المجرد عن المادة، فإذا استقبل أمرا يحول إليه في حالته تلك بلا عائق يعوقه عن مراده من مكان ولا زمان، إذ لا يفتقر إلى ذلك كما في الأجسام الكثيفة المحتاجة في حركتها إلى مسافة تقطعها، وزمان تتمهل فيه، وشاهد ذلك أن الإنسان في نومه تجول نفسه بعالم الملكوت حتى تشاهد عجائبه، ويضرب لها الأمثال التي هي عبارة عن أمور تصادفها في اليقظة من خير أو شر وهي الرؤيا التي ورد بها صحيح الأخبار، ووضع لها علم التعبير، فإذا استيقظ عادت إليه كلمح البصر، وهو معنى قوله: وينثني منخفضا إذا اعتلى، ومن ذلك خروج روح المؤمن عند الموت وصعودها إلى سدرة المنتهى، ثم تعود إلى الميت فتدرج في أكفانه، وفي بعض الأخبار، ترفرف عليه وتشاهد من حضرها وتسمع كلامه حتى يدفن الميت، فيجيء بها لسؤال منكر ونكير كما حقق ذلك مبسوطا في تذكرة القرطبي، ومن ذلك النفوس المقدسة المصفاة عن شوائب الكدورة قد يحصل لها هذا المقام في اليقظة. قال الغزالي في (مشكاة الأنوار) : العقل الذي هو عبارة عن الروح يستوي عنده القريب والبعيد، بل يعرج في طرفة عين إلى أعلى السموات رقيا وينزل في لحظة إلى تخوم الأرض هويا، بل إذا حقت الحقائق انكشف أنه منزه عن أن يحوم بجنبان قدسه معاني القرب والبعد فإنه أنموذج من نور الله سُكونُهُ تَحَرَكَ لِلفِعلِ ... فَفِعلُهُ الشيءَ بِغيرِ شُغُلِ يريد أن سكونه في البدن سبب لتحركه وظهور آثاره على الوجه الذي نقلناه آنفا عن تفسير أبي السعود فراجعه، ففعله الشيء إذا رام بلا تجشم مشقة، ولا مزاولة شغل، إذ هو يلقيه إلى ما في القلب من الروح الحيواني وهو يلقيه إلى الدماغ بالوسائط وعند ذلك تتحرك الأعضاء لفعل ذلك المراد كما مر بيانه، وقوله: سكونه مبني على ما ذهب إليه جمهور المتكلمين من أهل السنة ومنهم الإمام يحيى وابن الخطيب في مفاتيح الغيب كما مر تحقيقه في المقدمات ويصح أن يراد به التعلق كما ذهب إليه الغزالي ومن معه فسمي سكونا على طريقة الإستعارة المصرحة. الجِسمُ مِنهُ الروحُ مِن سِواهُ ... لَطافَةٌ وَلَفظُهُ مَعناهُ

الجسم مبتدأ ومن للبيان، والضمير يعود إلى الإنسان المفهوم من السياق، والروح مبتدأ ثان ومن سواه خبر عنه ولطافة تمييز، والجملة من قوله الروح إلى آخره خبر عن الجسم، والمعنى أن الجسم الذي هو الشخص الروح المتعلق به حاصل من غيره، وهو عالم الأمر من حيث اللطافة والتجرد عن المواد والتمييز للمضاف، أعني سواه لعدم تعرفه بالإضافة بحسب ظاهر اللفظ، وإن كان المعنى فيه معلوما، وقوله: ولفظه معناه إشارة ما ذكر في علم اللطيف أن للعقل في إدراكه حالتين، إما أن يدرك مثال صورة الشيء، أو مثال حقيقته، فالأول ما يكون محسوساً فيرتسم في القوة الباصرة وحينئذ تعتوره المقولات كالأين والوضع والكم والكيف فيناله الحس من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة، والثاني هو المتجرد عن الشوائب المادية والمنزهة عن العوارض الجسمانية وهو المعقول لذاته ومن أمثلته الروح فإنه ليس محسوسا حتى يناله الحس بعوارضه لنميزه بها عما يشاركه، بل هو معقول محض ومعنى صرف وهو المراد بقوله ولفظه معناه. مَيتٌ وَمِنهُ تُوجَدُ الحَياةُ ... حَيٌ وَعَنهُ يَصدُرُ المَمات حقيقة الحياة كما في (الكشاف) ما يصح بوجوده الإحساس، وقيل: ما يوجب كون الشيء حيا وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر، والموت عدم ذلك فيه ومثله في التعريفات والمعتبر في حقيقة الموت، تقدم الحياة، إذ هو صفة وجودية مضادة لها، وقد يصح إطلاقه على ما لم يتصف في حياة على جهة المجاز، وعليه يحمل قوله ميت أي أنه قبل خلقه عدم محض حتى أحدثه الله فصدرت عنه الحياة في البدن. وأما ما ذكره صاحب (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: (كَيفَ تَكفرونَ بِاللَهِ وَكُنتُم أَمواتاً) الاية من صحة كونه حقيقة أو مجازا حيث قال: فإن قلت كيف لهم أموات في حال كونهم جمادا وإنما يقال ميت في ما يصح فيه الحياة من البنى، قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة كقوله (بَلدةً مَيتا) وآية لهم الأرض الميتة، أموات غير أحياء، ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس فمبني على وجود الموصوف في الخارج وهو غير ما هنا ويحتمل أيضاً أنه قبل تعلقه بالبدن وبعد خلقه ساكن لا يصدر عنه أثر فهو حينئذ ميت حقيقة كما يشعر به عبارة القاموس في قوله: ومات سكن ونام وبلي، ومعنى قوله: حي إلى آخره، أي أنه بعد ظهور حياته وتصرفه في البدن يصدر عنه بعد ذلك الممات المحتوم على العباد. فَكَم أَصابَ مَيتاً فَأحيى ... وَكَم أَماتَ مَن يُريدُ وَحيا يعين أنه كثيرا ما أصاب الميت بتعلقه به عن أمر الله فيحييه، ووصفه بالموت قبل أن ينفخ فيه الروح إما حقيقة أو استعارة كما ذكره صاحب (الكشاف) فيما نقلناه عنه آنفا، أو القضايا الواقعة كمعجزات عيسى عليه السلام، والوحي في اللغة، الإشارة والكتابة والمكتوب والرسالة والإلهام والكلام الخفي، وكلما ألقيته إلى غيرك ذكره في القاموس فالمعنى حينئذ وكم أمات من يريد أن يصدر عنه ما ناسب حاله من تلك المعاني وهو كناية عن إرادة الحياة، وكأنه قال: كم أمات من يريد الحياة بمفارقته بعد أن كان مصاحبا له. في ساعَةٍ يُفترِس الأَبطالا ... كأَنّهُ يَسرَحُ الآَجالَ الإفتراس: الاصطياد وفرس الأسد فريسته، يفرسها، دق عنقها، والأبطال جمع بطل محركة وهو الرجل الشجاع، سمي به لأنه يبطل جراحته أو لأنها تبطل عنده دماء الأقران، والمعنى أنه عند حياة الجسم به يفترس الأبطال عند مباشرته للقتال ومصابرته للنزال حتى كأنه لما يصدر عنه من إتلاف النفوس يصرف الآجال. فَإِن أَماتَ بَطلاً أَحياهُ ... كانَ عَيسى سِرُهُ حَباهُ يريد: إذا افترس بطلا فأماته أحياه بخروج روحه لأن النفس إذا اِنفصلت من البدن صادفت الحياة الأبدية، فسعدت بالاستعداد لقبول فيض العقل الفعال، وأنست بالإتصال به على الدوام، وانقطعت حاجتها عن النظر إلى البدن ومقتضى الحواس بعد أن كان يجاذبها ويشغلها ويمنعها عن الإتصال، فإذا انحط عنها شغل البدن بالموت ارتفع الحجاب، وزال المانع. وقوله: كأن عيسى إلى آخره، يشير إلى ماخصه الله تعالى من إحياء الموتى، بإذنه عزوجل، فكأن المفترس أعطاه عيسى عليه السلام سره من الأحياء حيث صار البطل بموته إلى الحياة الكاملة.

وَالحَرفُ مِنهُ مُنتَفٍ في الرَسمِ ... وَالفِعلُ مِنهُ ثابتٌ للإسمِ قد عرفت في تفسير قوله آنفا وغن خلت من صفحة الرقيم أنه يعبر بالحرف في اصطلاح القوم من الحقائق البسيطة، وأن بعض متكلميهم أنهى الحروف إلى ثمانية أقسام، وجعل منها الحروف الروحية، وهي الأرواح النورية، فيكون المعنى أن حقيقة الروح المعبر عنها بالحرف اصطلاحا منتف في ظاهر الرسم وهو البدن المشبه بالصحيفة فليس المدرك إلا إثارة وهو معنى قوله والفعل منه ثابت في الإسم، أي أفعاله الظاهرة ثابتة بإسمه مدركة في الحواس. إن زالَت العَينَ رأى حالِ العَمى ... حَتى يَرى في أرضِهِ ما في السَماءِ المراد بالعين هنا ذات الشيء كما هو أحد معانيها، ومعنى زوالها، فناها عن نفسها واستهلاكها في الله تعالى على ما ذكره علماء الطريقة. قال المحقق الشريف في تعريفاته: الفناء، سقوط الأوصاف المذمومة، كما أن البقاء وجود الأوصاف المحمودة، والفناء فناءان: أحدهما ما ذكرنا وهو بكثرة الرياضات، والثاني عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت، وهو الإستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق. قال الشيخ شهاب الدين السهروردي: وإشارات الشيوخ في الإستغراق والفناء كلها عايدة إلى تحقيق مقام المحبة باستيلاء بنور اليقين وخلاصة الفكر على القلب. وقوله رأى حال العمى، يريد به ما ورد في حديث الجامع عن أبي رزين قال: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء تحته هواء وفوقه هو. قال في (النهاية) هو بالفتح والمد، السحاب قال أبو عبيد: لا ندري كيف كان ذلك العماء. وفي رواية في عمى بالقصر ومعناه ليس معه شيء، وقيل: أمر لا يدركه عقول بني آدم ولا يبلغ كنهه الوصف، ولا بد من قولهس: أين كان ربنا من مضاف محذوف كما حذف في قوله تعالى (يَومَ يَأتي رَبُك) فيكون التقدير أين كان عرش ربنا ويدل عليه قوله تعالى وكان عرشه على الماء. قال الأزهري: نحن نؤمن به ولا نكيفه بصفة أي يجري اللفظ على ما جاء عليه من غير تأويل وهذه الطريفة يريدون به المرتبة الأحدية والمعنى في البيت أنه عند زوال العين بالفناء تضمحل الأكوان في شهوده حتى يتحقق قوله: كان الله ولم يكن معه شيء وهو الآن على ما كان عليه. وقوله: حتى يرى في أرضه أي يرى ويدرك وهو في أرضه ما في السماء فلا يغيب عنه شيء من الحقائق لتجرده عن جميع الأسباب والعلائق. أَفلاكُهُ تَدورُ بِالأفلاكِ ... وَفَلَكُهُ يَسيحُ بِالأَملاكِ الأفلاك: جمع فلك، محركة مدار النجوم، والفلك بالضم: السفينة. يريد أن أفلاكه التي هي عبارة عن أجساده على طريق الإستعارة تشبيها بأفلاك النجوم التي هي ظرف لما تعلق بها، تدور بدوران الأفلاك السماوية إذا الزمان كما قيل مقدار حركة الفلك، والمراد أنها لا تزال حادثة متعاقبة مدة دوران حركة الفلك، والمراد أنها لا تزال حادثة متعاقبة مدة دوران الأفلاك إلى انقطاع عمر الدنيا. وقوله: وفلكه إلى آخره استعار الفلك لهذا النوع الإنساني ورشجها بذكر السبح، ومعناه لما كانت الملائكة الكرام موكلين بحفظه كاتبين بخيره وشره كان فلكه سابحا في بحر زمانه بمصاحبة الأملاك. وَها هُنا يَحسِبُهُ الظمآن ... ماءِ فَلا يُسعِدُهُ البَيان فَإِن تَقُل ما هو فَعَذِب النَهَر ... وَغَصُ لَدرٍ سَرَهُ في البَحر يعني أن الأوصاف التي ذكرها رحمه الله من قوله: إن زالت العين إلى آخره، وقوله: وفلكه يسبح إلى آخره، ربما أشعرت بأن المراد منها الماء وهو لا يسعده البيان بسائر الأوصاف التي هي عنه بمعزل ثم عاد إلى سرد الأوصاف فقال: فإن تقل ما هو يعني إن سألت ما حقيقته فأفزع إلى النهر وعذبه حتى تعلم ما هو ذلك لأن الماء محل حياة أرواح الحيوانات البحرية كما أن الأرض محل حياة الحيوانات البرية وكذلك الكلام على قوله: وغص لدر سره إلى آخره. فَإِنّهُ وَالنّارُ قَد تَعاشَقا ... وَقَلبُهُ لِقَلبِها قَد وافَقا قال في (الكشاف) : النار جوهر لطيف مضىء بحار محرق، والنور ضؤوها وضوء كل نير، وهو نقيض الظلمة، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا والنور مشتق منها

إذا عرفت هذا فالروح الإنساني يسمى نوراً وهو أولى باسم النور كما حققه حجة الإسلام في كتابه (مشكاة الأنوار) قال فيه بعد أن ذكر ما في نور الباصرة من أنواع النقصان ما لفظه: فإن كان في الأعيان عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هي أولى باسم النور أو لا، فاعلم أن في قلب الإنسان عين هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح، وتارة بالنفس الإنساني، إلى أن قال: فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة والمجنون، ولنسميه عقلا متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول: العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الباصرة لرفعه قدره عن النقائص إلى آخر كلامه، فيكون المعنى حينئذ أن الروح الذي سبقت له هذه الأوصاف هو والنار قد تعاشقا، أي اتفقا في أشرف وصفيهما وهو النورية وإن كان الروح أولى به منها. وقوله: وقلبه لقلبها قد وافق يريد بالقلب وسط كلمتهما، وتوافقهما: اتحادهما من الإشتقاق فإن عين كل منهما واوا إذ أصل نارا نورا تحركت الواو وانفتح ما قبلها وقلبت ألفا. وَهُوَ إِذا جَنّ الظَلامُ الداجي ... شَعشَعَ شَمسُ الراحِ في الزُجاجِ وَاستَقبَلَ اللَيلُ بِصفو الراحِ ... حَتى يُنيرُ فَلقُ الصَباحِ جن الظلام واجنة إذا ستره، ودجى الليل: شدة ظلمته، وشعشع الشراب بالماء إذا خلطه، وشمس الراح من باب لجين الماء، والراح: الخمر، وفلق الصباح بالتحريك: ضؤوه وإنارته، والفلق: الصبح نفسه. والمعنى أنه حين أن يجن الظلام وتأتي على الأنفس نوبة المنام، يتجرد عن الموانع الجسمانية ويتصل بالعوالم الروحانية، فحينئذ يشعشع شمس راح الأفراح في زجاج المسرة والإرتياح بما يشاهده من عالم الأرواح. قال بعض العارفين: لما كان الإنسان أخذ شبها من الملكية والبهيمية فكان للنفس نظراً إلى عالم الخلق وبهذه اللطيفة أشرف على عالم الغيب إذا صدقت الرؤيا بأن النفس في تلك الحالة تبقى فارغة عن شغل الحواس لتستعد للإتصال بالجواهر العقلية التي فيها نفس الموجودات المعبر عنها في الشرع باللوح المحفوظ وهذا يختلف باختلاف صفاء النفس وكدورتها كالنفوس الصافية عن كدورات الذنوب يقوي إدراكها وينطبع في مرآتها جميع ما قابلته من عالم المثال بخلاف العكس. وَكَأسُهُ مِن راحِهِ مُصَوَرُ ... وَراحُهُ مِ، كأسِهِ مُتَصِرُ. لما ذكر الناظم قدس سره من أوصافه أنه إذا جن الظلام شعشع شمس الراح بالزجاج عقبه بما يصرف المعنى عن ظاهره وأنه ليس بهذا الراح المعروف في الزجاج المعهود بل هو نوع غريب ونمط عجيب، وذلك أن كاسه مصور من راحه، وراحه معتصر من كأسه، والمعنى أنه من صفاء جوهره ورقة عنصره لا يفتقر في إدراكه الأشياء إلى آلات وأدوات بل يشاهد الأمور العجيبة الشأن والمعاني التي لا يحيط بها البيان بذاته وجوهره لا غير. حَياتُهُ عِندَ حُلولِ رَمسِهِ ... وَليلُهُ وَقتَ طُلوعِ شَمسِهِ الرمس: القبر، استعير لمضجع الرجل عند نومه بجامع المشابهة، فإن النوم أخو الموت. وفي قوله تعالى: (اللَهُ يَتوفى الأنفُس حِينَ مَوتِها) الآية ما يدل على ذلك، وكذا ما جاء من الأدعية المأثورة عند النوم أن يقول الرجل: اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، وعند الإستيقاظ: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور. والمعنى أن حياته الكاملة في تجرده عن الإشتغال بالحواس وذلك عند سكون مضجعه الشبيه بحلول رمسه، وقوله: وليله إلى آخره، يعني أنه عند تطلع الشمس ويرجع الروح إلى هيكلها يحجبها الحواس بما يشغلها عن استقلالها بالتصرف في عالم الملكوت فكأنها داخلة في ظلمة كثيفة كظلمة الليل، ثم قرر هذا المعنى ورشحه بقوله: ظُلمَتُهُ تُنيرُ في غَيهِبِها ... وَشَمسُهُ تَطلُعُ مِن مَغرِبِها يعني أن ظلمته الداجية منير صاحبها ومطروقها في غيهبها على الإسناد المجازي، والمراد أن الروح تنير بتجردها وفراغها من شواغل الحواس الظاهرة والباطنة وذلك عند النوم في ظلمة الليل، ومعنى طلوع شمسه أنها بعروجها عند النوم طالعة في آفاق الملكوت من محل غروبها أي غيبتها عن جسمها واستقلالها عنه وإطلاق الشمس عليه استعارة ولفظ مغربها ترشيح.

البَدرُ مِنهُ غالِبُ في الشَمسِ ... وَيومُهُ الحاضِرُ عَينُ الأَمسِ لما وصف الناظم قدس سره أن نهاره التي تطلع فيه شمسه ويظهر فيه إنارته هو الليل الذي جعله الله وقتا للمنام رشحه ووصفه بأن بدره الذي هو عبارة عن هيكله وشخصه غارب في الشمس، ومعنى غروبه بها، سكون حركاته وسقوط قواه بعارض النوم، فقد استعار البدر للشخص كما استعار الشمس للروح ورشحها بقوله غارب على طريقة الإستعارة أيضا، إذ فيه تشبيه جمود الجوارح وعدم إحساسها عند النوم مع كمال تجرد الروح باستهلاك ضوء البدر في نور الشمس وفي قوله: يومه الحاضر إشارة إلى أنه غير مختلف باختلاف الزمان كما في الأبدان المعتورة بالزيادة والنقصان وما يشاهد من تفاوت الأشخاص في مراتب الإدراك فلكمال الإستعناد ونقصانه والله سبحانه أعلم. إِذا رَأى مُستَبِصراً فَقَد عَشى ... أو حارَ في طَريقِهِ فَقَد مَشى يريد أنه حين تعلقه بالبدن وافتقاره في إدراك الحقائق إلى الحواس إذا رأى في حال طلبه الإستبصار بأمر فقد عشي أي ضعف إدراكه لأنه لا يتوصل إلى مطلوبه إلا في استعانة الحاسة البصرية وقد تخونه في إدراكها، كما يقال: البصر كالظن يخطىء ويصيب ثم غنه لا يدرك إلا الأمور الظاهرية القريبة مع انتفاء الموانع وسلامة الآلات. وقوله: أو حار أي أو تحير في طريقه بأن تعلق بالبدن وفارق ما كان عليه من التجرد فقد ظهرت آثاره ومشى حينئذ. إِن أَدرَكَ الأَشياءَ بِالنّهارِ ... ظاهِرَةً بيّنةَ الآَثارِ شَكى إلى اللَهِ ذهابَ النورِ ... مِن عينهِ شِكايةَ الضَرير قد تقدم في تفسير البيت السابق ما يرشد إلى معنى ما أراده الناظم ها هنا، فهو أن الروح إذا بالبدن وظهرت فيه أفعاله واحتجب بحجب الحواس، وأدرك بها الأشياء في النهار ظاهرة منارها بيِّنة آثارها على مقتضى ما تعطيه قواها ويبلغ إليه مداها فزع إلى الله سبحانه بالشكوى لذهاب نور بصره باستيلاء النوم عليه، وقوله شكاية الضرير قد تقدم في تفسير البيت السابق ما يرشد إلى معنى ما أراده الناظم ها هنا، فهو أن الروح إذا تعلق بالبدن وظهرت فيه أفعاله واحتجب بحجب الحواس، وأدرك بها الأشياء في النهار ظاهرة منارها بينة آثارها على مقتضى ما تعطيه قواها ويبلغ إليه مداها فزع إلى الله سبحانه بالشكوة لذهاب نور بصره باستيلاء النوم عليه، وقوله شكاية الضرير: أي شكاية الأعمى لفقدان نور بصره. عَكسَ شُهورَ غَيرِهِ شُهورُهُ ... تَكمِلُ في أَولِها بِدورِه قوله: عكس شهور غيره خبر مقدم عن مبتدأ مؤخر هو قوله شهوره، والمعنى أن شهوره معاكسة لشهور غيره في أن بدوره تكمل في أولها وكمال غيرها في أواسطها كما جرت به العادة المألوفة، وقد عرفت مما تقدم أن المراد بالبدور هياكل الأرواح، ونعني بالشهور هنا مدة العمر، والمعنى أن الجسم في حال استكمال قوته وريعان شبابه وهو ابتداء عمره المعتد به إذ نفوس الأطفال ومن لم يبلغ سن التمييز غير متأهلة لقبول الفيض الإلهي قد عاكس شهور غيره من حيث أن كمالها في أوساطها وهو في أولها، والأولية في هذا المقام إضافية بالنسبة إلى ما بعده من الانتقال إلى ضعف الكبر والشيخوخة ثم رشح هذا البيت بقوله: وَنَقُصُها لِتَمهِ عَلامة ... حَتى يَرى أَحقَرَ مِن قُلامَة يعني أن نقصان بدوره التي هي عبارة عن هياكله علامة بتمامه وبلوغه الغاية في الكمال والإستقامة، كما قيل ما استقامت قناة رأي البيت ولا تزال بدوره في نقصان حتى ترى أحقر من قلامه مبالغة في شدة الهرم والبلوغ إلى أرذل العمر وهو استعمال متداول في ألسنة البلغاء عند المبالغة بالتشبيه، وليس المراد بتمامه أنه كان ناقصا لما عرفت في المقدمة أن كماله بكمال الإستعداد لقبوله. يَمشي إلى قُدامِهِ إِذا نَكَصَ ... وَيستَبينُ زائداً إِذا نَقُص يريد أن من شأنه إذا نكص راجعا إلى وطنه الأول أن يمشي إلى قدامه لتوجهه نحوه، وقوله: ويستبين إلى آخره، أي يظهر كمال قوته وزيادة استدراكه إذا نقص بعدم تعلقه بالبدن. يَسبِقُ في مَسيرِه كُلُ الوَرى ... إِذا مَشى مُقهقراً إِلى الورَى

قوله: إذا مشى ظرف ليسبق والمراد أنه إذا انفصل من عالم الأرواح واتصل بعالم الأشباح كان في سرعة المصير إليها بحيث لا يسبقه أحد من الورى لأنه للطاقة جوهره وحدوثه من عالم أمره، لا يحتاج إلى مسافة يقطعها ولا زمن يمر عليه وإنما جعله مقهقرا إلى الورى لأنه حال انفصاله ووجهه نحو ما انفصل عنه وهو معنى ما أشار إليه الغزالي كما سبق في المقدمة حيث قال: فيكون وجهه إلى أصله وإنما يقبل على البدن رعاية لصلاحه لا لضرورة ذاته، وإذا كان وجهه إلى أصله ينال الفوائد من جانب الأصل أكثر مما ينال من جهة الشخص فكان عند اتصاله بمتعلقه راجعها إلى الورى ثم أوضح ذلك بقوله: فأعجَبَ لَهُ يَأتي كَلَمحِ الطَرف ... مُستَبِقاً وَمشيُهُ لِلخَلفِ يريد أنه مما يتعجب من أمره إذ يأتي إلى هيكله كلمح البصر مستبقا أي سابقا غيره والحال أنه في سبقه يمشي إلى خلفه واستبق ها هنا بمعنى سبق. إن رامَ أَن يَرقى إِلى العُلوِ ... فَإِنّهُ يَسمو إِلى الدُنو يحتمل وجهين: أحدهما أنه إذا أراد الرجوع إلى ما كان عليه قبل التعلق وهو جهة العلو ومستقر عالم الملكوت، فقد سما إلى الدنو من حيث أن الغالب على النفوس البشرية بعد تلبسها بهياكلها الكثيفة يتكدر صفاها بسبب ما تلوثت به من دواعي الشهوات والإخلاد إلى اللذات فإذا انفصلت من التعلق راجعة إلى العلو فقد سمت إلى الدنو، أي دنو حالها عما كانت عليه، ثانيهما أنه إذا رام أن يبقى إلى العلو بما يحصل له من الصفاء كما في نفوس الخاصة، فإنه يسمو إلى الدنو من عالم المجردات أي القرب منها والله أعلم. وِإن رَقى وَاجتنب التَنكيسا ... صادَفَ في طَريقَها اِنكيسا يعني وَإن رقى إِلى ذلك العالم، وَاجتنبَ ما يوجِب تنكيسه، أي إرجاعه إلى ما كان عليه من المشاق عند تعلقه بهيكله، ومعنى إرجاعه بقاه على الحالة التي صادفها من المحن وتعب الحياة بسبب تفريطها بالقيام بالواجبات، وعدم تجنب المنهيات، فقد صادف انكيسا في طريقها، والانكيس كما جاء في القاموس، شكل من أشكال الرمل على صورة وهم يعبرون به عن النحوس، والمراد هنا نحوسه بما يحمله من أعباء التكاليف وتجشم مشاق الدنيا، وإن كانت عند المخلصين من أجل السعادات إذ بها يتوصلون إلى ما يزلفهم إلى الله وينيلهم النعيم السرمد. قَد أَحكَمَ الرَميُ فَما يُخطي الشِعرُ ... لَكِن يَعودُ سَهمُهُ إِلى الوِترِ وَقوسُهُ الحاجِب لا المُسمى ... وَالعَينَ مِنهُ سَهمُهُ المَعمَى يعني أنه بعد تلبسه بالبدن قد أحكم الرمي بسهم عينيه وهو معنى شائع الإستعمال بين الأدباء في تشبيههم نظر الأعين برمي السهام، فقد استعار هنا الرمي للنظر ورشحها بقوله: فما تخطى الشعر، وهو كناية عن الإصابة في الإدراك، وبقوله: لكن يعود سهمه إلى الوتر، وفي لفظ السهم استعارة أيضا عن العين كما فسره بها فيما بعد، ومعنى عوده إلى الوتر، رجوع الطرف بعد حصول الإدراك وأوضح الاستعارة بذكر المشبه به في تركيب آخر بأن قوسه هو الحاجب لا المسى المعروف حقيقة وأن سهمه المعمى باستعارته هو عينه. سَوادِه يُخجَلُ وَجهُ النورِ ... وَنورِهِ أخفى مِنَ الديجورِ قال في (القاموس) : السواد: الشخص ومن القلب حبته فإذا كان معناه شخصه فالمراد أن ذاته وحقيقته تخجل وجه النور لما عرفت أنه النور الكامل وأن سائر الأنوار بالنسبة غليه ناقصة بمراتب كما أوضحه الغزالي في (مشكاة الأنوار) ومع ذلك فنوره أخفى من الديجور إما لعدم تشكله للناظرين حتى يعرفوه بأوضافه الظاهرة، أو لأنها حارت الأفكار في إدراك ماهيته كما أشير إليه بالمقدمة، وإذا كان معناه حبة القلب، فهو اللطيفة النورية المتعلقة بها ويكون معناه كما ذكر. يَطيرُ مِن غَيرَ جِناحٍ في السَماءِ ... يَسبَحُ كُلَ ساعَةٍ في غَيرِ ماءِ أي أنه يجول طائرا في ملكوت الله تعالى كما يجول الطائر، لكن بلا جناح، ومعناه أنه يدرك العوالم العلوية إما بطريقة الكشف، أو بتوقيفه م العلوم الشرعية، وكذلك معنى قوله يسبح إلى آخره. يَمُدُ ثوبَ سِترِهِ عَلى المُلا ... وَشَأنُهُ كَشفُ السُتورِ وَالمُلا

الملاء الأول بفتح الميم يطلق على معان شتى، والمراد منها جماعة الناس، والثاني بالضم جمع ملائه وهي الريطة من الثياب، والمعنى أن من أوصافه أن يمد على الملأ ثوب ستره أي الأبدان الساترة له حتى لا يظهر منه إلا آثاره فيها تشبيها لها بالثياب الساترة لما فيها. ثم قال: وشأنه أي حاله بعد انبساط ثوب ستره كشف الستور والملا لأنه من جملة أفعاله وتأثيراته وفي البيت الجناس المحرف. وَيُكتَسي الثَوبُ اليَماني جِسمُهُ ... في كُلِ حِينٍ وَالتَعَري حُكمُه يعني أنه بعد تلبسه بالبدن، يصدق عليه أن جسمه يكتسي الثوب اليماني في كل حين إذ جعله الله ريشا لمواراة سوأته ولباس التقوى، وحينئذ فالتعري حكمه أي شأنه إذ لا بد من التعري عند أن تدعو إليه الحاجة. إِنّ لِبسَ السِترِ تَبدَت عورَتُهُ ... وَإن تَعرى تَتوارى سُوأَتُهُ هذا المعنى راجع إلى قوله: يمد ثوب ستره على الملأ، والمعنى أنه بعد تعلقه بالجسم وتستره به يصدق عليه أنه ذو عورة باعتبار متعلقه وإن تعرى عن لبس الستر الذي هو الجسم بأن تجرد عنه، تتوارى سوأته أي عورته إذ لم يتصف بعورة ولا عدمها لعدم تعلقه بما يستلزم ذلك. هَذا فَمَن طابَقَ كُلَ مَعنى ... حَتى رآهُ خارِجاً وَذِهناً فَحَسبُهُ قَد أَدرَك العَلومَ ... وَحَصَلَ المَنطوقُ وَالمَفهُومُ وَحازَ بِالعَلامَة الشيرازي ... وَحازَ مَحصولَ الإِمامِ الرازي وَفاق في الحِكمَةِ جالينوسا ... وَفي عُلومِ الفِقهِ بِطليموسا وَكانَ في مَعرِفَةِ اليونانِ ... مَرجِحاً في كَفَةِ الميزانِ وَيَغفِرُ الله لَنا ما كُتِب ... مِن كُلِ ما خالَف نَهجَ الأَدَبا هذا آخر ما أورده الناظم قدس سره، والمعنى من هذه الأبيات واضح لا يفتقر إلى بيان، والله المستعان، وعليه الإعتماد، وبه التكلان، والحمد لله رب العالمين.

§1/1