تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول

يحيى بن موسى الرُّهوني

مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. الحمد لله الذي باين بين العقول, مباينة أوهمت الأكثر اختلافها بالفضول, ومنعها من القضاء في أحكامه المتعلقة بأفعال المكلفين بتحليل أو تحريم, وأرشد القدسية منها معرفة استنباط الأحكام عن الأدلة الشرعية الراجعة إلى الكلام القديم, والصلاة على من به وصل علماء هذه الأمة أنبياء بني إسرائيل, النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل, وعلى آله وصحبه الذين حفظوا شرعه, وبلغوا إلينا أصله وفرعه. أما بعد: فإن العقول السليمة متطابقة, والشرائع بأسرها متوافقة, على أن العلم من أكمل الكمالات, لا سيما علم الأحكام الشرعيات, فإنها وسائل مقاصد العباد, ومناط مصالحهم في المعاش والمعاد. ولما كان لا سبيل إلى دركها دون معرفة مدركها, تعين معرفة أصلها, وتبين أن مرتبته من العلوم مرتبة أجلها. وأعظم ما صنف فيه على الإطلاق «المختصر» , الذي عكف عليه العلماء في سائر الآفاق, المنسوب إلى الشيخ الإمام العالم السالك, أبي عمرو

عثمان بن الحاجب المالكي, فإنه مختصر وجيز النظم, كثير العلم, فقد تصدى لشرحه الفحول من [العلماء] , فذللوا منه كل صعب, كالأصفهاني, والتستري, والقطب. ولما سمع مني بعض الأصحاب بعض معاني هذا الكتاب, أشار عليّ بأن أشرحه شرحًا يكشف عن وجهه النقاب, ويذلل ما غفل عنه الشراح من الصعاب, ظنًا منه أن ليس وراء مرتبتي مضاف لطيف الخاطر, ولا فوق درجتي في معرفة هذا الكتاب مطرح لشعاع الناظر, كلا ومظان الفكر نزار القدر, والإحاطة ممتنعة على كل البشر. ولعله اعتقد من غير علم, وإن بعض الظن إثم, فاعتللت بأن للكتاب

بضعة عشر شرحًا, وإن كان بعضها مطرحًا, وإن لي في هذا العلم إصابة غرض أرميه, وإضاءة سقط أريه, واستخراج نكتب يلطف مسلكها, ومستودعات لطائف يدق سلكها, وغوامض أسرار كانت عن الشراح وراء أستار, إذا سرد ما أوردوه تحصيل الحاصل, وانتحاله فعل الغمر الجاهل. ثم قلت: لولا ما رسم لنا المتقدمون في كتبهم, ودونوا من أوضاع علمهم, لكان سبيلنا قد انقطع مما يعلمونه, وذكرت وعيد {[لتبيننه] للناس ولا تكتمونه} , فأجبته مع علمي بأن من صنف فقد استهدف, ومن ألف فقد أبدى صفحة عقله, وبين عن مقدار علمه وجهله. هذا وإنه لابد أن يقع في يد أحد رجلين: إما عالم, تعلم أن / الصواب قصدي, والحق إرادتي, فيصلح سهوًا إن وقع مني, ويغتفر زللًا إن صدر عني, لاعترافي قبل اقترافي, وإقراري قبل إيرادي وإصداري. وإما جاهل, أحب الأشياء إليه, وأقلها لديه, عيب أهل العلم, لمنافرته إياهم, وبعد شكله عن أشكالهم, إذ من جهل شيئًا عابه, ومن

حسد أمرًا اغتابه. وأرجو أن يكون شرحًا يذهب وصم العجز والافتقار عن الأصحاب, ويتبين منه أصول الفقه على مذهب إمام صاحب الكتاب, يعول المالكية في أصولهم عليه, وتنحل أغراض المؤلف إليه, وتندفع به بعض الشكوك الواردة, ويقع به التنبيه على أوهامه الشاردة. وأبو عمرو [وإن كان] من سعة الحفظ والنبل, ومن الثقات في الضبط والنقل, في المحل الذي لا يُجهل, وبحيث يقصر عنه الثناء الأحفل, لكن البشر غير معصومين من الزلل, ولا مبرئين من الوهم والخطل, والعالم من عدت هفواته, وأحصيت سقطاته, كفى بالمرء نبلًا أن تعد معايبه. والله تعالى أسأل أن يجعله علمًا باقيًا بعد الممات, ومرادًا من عموم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث».

وها أن أشرع في المقصود, مستعينًا بواجب الوجود, وأسميه: «تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول».

موضوعات الكتاب

قال: (وينحصر في: المبادئ والأدلة السمعية والترجيح والاجتهاد). أقول: ينحصر المبحوث عنه في المختصر المذكور, فيكون من قسمة الكلي إلى جزئياته. ويفسر أيضًا ضمير وينحصر بالمختصر؛ لأنه جارى به الإحكام لسيف الدين, الذي قال فيه: «رتبته على أربعة قواعد: الأولى في المبادئ ... إلى آخره»؛ ولأن المبادئ ليست جزءًا من الأصول, [وهي جزء من المختصر] , فيكون من قسمة الكل إلى الأجزاء ويفسر أيضًا بالأصول؛ لأن الضمير في قوله: «فالمبادئ حده وفائدته

واستمداده» يعود على ما عاد عليه ضمير وينحصر, وعد المبادئ [جزءًا] من الأصول إما تغليبًا, أو لأن الأدلة لما توقفت على المبادئ بوجه, وكان لها مدخل في معرفة الأحكام, صح انقسام الأصول إليها وإلى الثلاثة, على معنى الأجزاء, على تجوز فيها. أو نقول: هي جزء من الأصول, وسنده ما سيأتي. لا يقال: حق التقسيم أن يكون بعد معرفة مورده, إذ التصديق مسبوق بالتصور. لأنا نقول: لا يشترط التصور الحدي أو الرسمي, بل باعتبار ما, وهو إن كان للمختصر فهو متصور باعتبار وصفه الذي وصفه به المؤلف المصنف, وإن كان للأصول فهي متصور [باعتبار] اسمها.

ووجه الحصر في المذكور اسقرائي. ومن رام حصرًا عقليًا اعتقل دونه, ومن قصد تسهيل الاستقراء وتقليل الانتشار قال: المبحوث / عنه في المختصر, إما أن يكون بيان ما يتمكن العالم به من الاستنباط, وهو المقصود إثباته من أصول الفقه بالذات, أو ما يتوقف عليه المقصود بالذات بوجه ما, والثاني المبادئ, والأول ينحصر في الثلاثة, إذ لا يتمكن [من] الاستنباط من الأدلة بدون معرفتها, ولا بدون الاجتهاد لأنه ما لم يعلم الاجتهاد [وحكمه] وأحكامه, لا يمكنه الاستنباط, ولا بدون الترجيح؛ لكون غالب الأدلة ظنيًا قد تتعارض فلا يتمكن من

الاستنباط بدون الترجيح, والاستقراء دل على حصول التمكن بها من غير توقف على غيرها. قيل عليه: نفس الاجتهاد لا يكون جزءًا من المختصر, ومعرفته لا تكفي؛ لأن انتفاء المعارض يعلم [بنفس] الاجتهاد لا بالعلم به. وأيضًا: إن أريد بالأدلة الكلية, لم يتم الحصر؛ لتوقف الاستنباط على [الأدلة] التفصيلية. وإن أريد التفصيلية, يلزم أن يكون معرفتها والبحث عنها في الأصول, وليس كذلك. وأيضًا: التقليد والتخيير والوقف عما يبحث فيه, وليس واحدًا من الأربعة. ورد الأول: أن نختار القسم الثاني, على معنى أنه إذا حصل المذكور تمكن من الاستنباط, وعنده يعلم انتفاء المعارض.

المبادئ الكلامية

ورد الثاني أيضًا: بأنا نختار القسم الأول. قوله: (الاستنباط يتوقف على معرفة التفصيلية). قلنا: نعم, لكن لا على التفصيل, بل يتوقف [على] معرفة التفصيلية بالجملة, وذلك غير خارج عن الأربعة؛ لأن معرفة الأدلة الكلية على وجه كلي, معرفة الأدلة التفصيلية بوجوه. ورد الثالث: بأنه عبر بلفظ الترجيح عنه وعن الوقف والتخيير, وبلفظ الاجتهاد عنه وعن التقليد, إطلاقًا لاسم المقابل [الأهم] على الشيء ومقابله. قال: (فالمبادئ: حده, وفائدته, واستمداده). أقول: قدم [الكلام على] المبادئ وضعًا لتقدمها طبعًا؛ لأن من حاول علمًا لابد أن يتصوره, إذ لا يطلب ما لا يتصور فائدته؛ لأن

طلب ما لا فائدة فيه عبث, وأن يحصل ما يستمد منه أولى؛ ليستعين به على تحصيل المطلوب, والحصر في الثلاثة استقرائي. والمتقدم طبعًا: هو الذي يحتاج إليه المتأخر, ولا يكون علة له, والثلاثة كذلك. والمبادئ عند المنطقيين هي: الأشياء التي ينبني مباحث ذلك العلم عليها, وهي: إما تصورات, وهي تعريف أشياء تستعمل في ذلك العلم, وهي: موضوعه, وأجزاؤه, وأنواعه, وأعراضه الذاتية, وأنواعها. وإما تصديقات, وهي المقدمات التي يتألف منها قياسات منتجة لمسائل ذلك العلم, وهي إما بينة بنفسها, / وإما مسلمة في ذلك العلم غير مبرهن

عليها فيه, لبناء مسائل ذلك العلم عليها, سواء كانت مسلمة في نفسها أو مقبولة, على أن يبرهن عليها في علم آخر. فالحد والفائدة ليسا من المبادئ على هذا, فلا تكون أجزاءً للأصول وإن كانت أجزاءً للمختصر لأن المبادئ عندهم [من] أجزاء العلم, وإنما يسمون المذكور مقدمات العلم, ولقائل أن يقول: المذكور من أجزاء العلم. أما الاستمداد؛ فلأن العلم ينبني عليه, والمبادئ هي الأشياء التي ينبني عليها العلم, فالاستمداد من المبادئ لأصول الفقه, ومن المسائل لعلم الكلام, وعلم العربية, وعلم الفقه. وصرح سيف الدين بأن الاستمداد من المبادئ, والحد أيضًا من المبادئ, لاستلزامه تعريف الموضوع وذلك من المبادئ, [وكذا القول بعينه في الفائدة]. واعلم أن المبادئ تطلق على ما يتوقف عليه المقصود بوجه, وهو المستعمل عند أكثر الأصوليين, فإن توقف تصوره عليه فهو الحد, وإن توقف باعتبار الشروع فهو الفائدة, وإن توقف البحث عن مسائله عليه

حد أصول الفقه لقبا

فهو الاستمداد. قال: (أما حده لقبًا: فالعلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية). أقول: لما كان تقدم الحد على الاثنين أيضًا طبعًا قدمه وضعًا, وأصول الفقه مركب إضافي له معنيان: أحدهما: ما يفهم من مفرديه عن تقييدهما الأول بالثاني, وهو المعنى الإضافي. والثاني: مسماه الذي هو العلم الخاص, وهو لقب له منقول عن الأول؛ لأن معناه الإضافي: أدلة الفقه, ومعناه اللقبي: العلم بالقواعد التي يستنبط الفقه منها. قيل: فلا يصدق مفهومه الإضافي على مفهومه اللقبي. قلت: المفهوم الإضافي اصطلاحًا غير صادق على اللقبي, والمفهوم الإضافي لغة صادق على اللقبي؛ لأن مفهومه اللغوي: الأشياء التي ينبني عليها الفقه, إذ الأصل ما ينبني عليه غيره, وذلك صادق على العلم بالقواعد. وانتصب لقبًا على التمييز, ميزه ليعلم أن التعريف لمفهومه اللقبي لأنه أهم مفهوميه؛ لأن وضع الكتاب لـ[بيان] مفهومه اللقبي, مع أنه حد له باعتبار كونه مفردًا, والثاني حده باعتبار كونه مركبًا, والمفرد قبل

المركب. ومعنى الكلام: أن حد المفهوم المدلول عليه [بلفظ] أصول الفقه الذي هو لقب عليه. واحتجنا إلى هذا؛ لأن اللقب صفة للفظ, والحد للمعنى, واللقب علم دل على مدح أو ذم, وهو [هنا] دال على أعظم المدائح؛ لأنه إذا / كان علمًا على قواعد من شأنها أن يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية التي هي سبب السعادة, فهو أعظم مدح, وهم علم جنس كأسامة؛ لأن الحد للكليات لا للشخصيات. قيل عليه: هذا الاسم للمجموع من حيث هو, بحيث لا يصدق على غيره, ونفس تصوره مانع من الشركة, إذ لا يوجد أمران كل واحد منهما ذلك المجموع من حيث هو, بخلاف أسامة فيكون علم شخص لا علم جنس. قلت: لما كان العلم صفة حقيقية تلزمها إضافة, أو نفس الإضافة

على الرأيين, فالحقيقة واحدة, والأفراد ما اتصف به الأشخاص. وقيل: العلم بالقواعد؛ لأنه لابد له من متعلق, سواء قلنا: إنه إضافة, أو [قلنا]: صفة تلزمها إضافة. والمتعلق هو المعلوم, وقيده بأمر خاص؛ لأن المطلق إذا تقيد بأمور خاصة حصل نوع منه, إذ تحصل النوع يكون بخصوصية المتعلق به, ولما كان تحصل أصول الفقه بتقييد العلم بالقواعد, قيده بها. والعلم [و] إن كان يتعدى بنفسه, لكن لما كان إعمال المصدر باللام قليلًا, قواه بالباء. والقاعدة: الأمر الكلي المنطبق على الجزئيات لتعرف أحكامها منه, فخرج العلم بالجزئيات وبعض القواعد؛ لأن الألف واللام للاستغراق, ولا يصح تفسير القواعد بالأدلة الكلية [من] الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن القواعد قولنا: الكتاب حجة, السنة حجة, إذ نفس الكتاب ليس مما يتوصل به إلى الاستنباط, نعم يتوصل بغيره إلى الاستنباط عنه. وقوله: (التي يتوصل بها إلى الاستنباط) إشارة إلى أنه وسيلة, وذكر

الاستنباط إشارة إلى الاستخراج فإن فيه كلفة, وفيه إشارة إلى أن بقاء الإنسان ببقاء الأحكام, كما أن [بقاءه] ببقاء الماء المستنبط. وأيضًا: العلم حياة الروح كما أن الماء حياة البدن, ولم يخرج به شيء؛ لأن القاعدة من شأنها التوصل. وقوله: (الأحكام) فصل خرج به الصنائع. وقوله: (الشرعية) فصل خرج به اللغوية والعقلية, كقواعد الحساب والعربية. وقوله: (الفرعية عن أدلتها التفصيلية) لبيان الواقع, أو شأنها ذلك, فهو لتمام تصور المحدود, إذ لم يوجد علم بقواعد توصل بها إلى استنباط أحكام شرعية أصولية حتى يحترز بالفرعية عنه؛ لأن الأحكام الأصولية إنما استفيدت من آيات وأخبار, ولم يوجد علم بقواعد توصل به إلى استنباط أحكام شرعية فرعية عن أدلة إجمالية حتى يحترز بالتفصيلية عنه. قولهم: احترز بالفرعية عما / توصل به إلى الأصولية, ككون الإجماع حجة, والقياس دليلًا.

وعلم الكلام: علم بقواعد توصل به إلى استنباط أحكام شرعية أصولية مردود؛ لأن علم الكلام توصل به إلى إثباتها لا إثبات حجيتها. قيل عليه: قولكم: «لم يوجد علم يحترز بالتفصيلية عنه» , إن أردتم لم يوجد مدونًا مسلم. وإن أردتم في نفس الأمر فممنوع؛ لأنه إذا ثبت أن لنا أدلة إجمالية يستدل بها على الأحكام, فلابد للاستدلال بها من كيفية, وليست الكيفية ضرورية, ولابد لنا من بيان, فيوجد في نفس الأمر علم مبين لكيفية الاستدلال, وذلك العلم من شأنه أن يتوصل به إلى أحكام شرعية فرعية عن أدلة إجمالية وليس بأصول فقه, فيجب الاحتراز عنه. وفيه نظر؛ لأن ما ثبت بالإجمال كقولهم يجب بالمقتضى ولا يجب بالنافي لا يعلم أن التوصل إلى استنباطه بقواعد, لجواز أن يكون ما يتوصل به إلى استنباط أحكام شرعية فرعية عن أدلة إجمالية جزئيات وعلى التعريف شكوك. الأول: أنه يدخل علم الخلاف. ورد: بأنه علم بجزئيات, أو علم بقواعد يتوصل بها إلى حفظ

الأحكام لا إلى استنباطها. الثاني: أنه غير منعكس؛ لأن خبر الواحد والقياس ظنيان, وكذلك الأمر للوجوب, والنهي للتحريم, والألف واللام للعموم, بل أكثر قواعده أمور ظنية. ورد: بأن كون الأمر للوجوب إلى آخره من مسائله, وهو غنما قال: العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام. والجواب: أن المراد بالعلم المعنى الأعم الصادق على الظن. قال بعضهم: لا نسلم أن خبر الواحد والقياس من قواعده, بل القاعدة كون كل واحد منهما مفيد للظن, فالظن متعلق بما أفاده, والعلم متعلق بإفادته. قلت: وهذا معنى حسن أيضًا, وما قيل من أن المذكور يفيد ظنًا, لكن القطع بوجوب العمل به بصدق كونها معلومة باطل؛ لأن ذلك لا يخرجها عن إفادتها الظن, وكون الظن يجب العمل به [قطعًا] أمر آخر. الثالث: أنه اعتبر الحد إضافة العلم إلى المعلوم, والإضافة خارجة عن حقيقته, فلا يكون حدًا.

ورد: بأن العلم إن كان نفس الإضافة فلا إشكال, وإن كان صفة يلزمها إضافة, فلا نسلم أن الإضافة إلى المعلوم خارجة عن العلم المضاف إلى القواعد المذكورة, والخارج عن المطلق لا يلزم خروجه عن المقيد؛ لأن المراد من علم الأصول العلم المضاف لا المطلق, مع أن التعريف بالخارجي عند المصنف يطلق عليه [اسم] الحد. / الرابع: [أنه] لا يطرد؛ لأن الحساب يتوصل به إلى بعض مسائل الفرائض, وكذا العربية, وكذا علم الكلام. ورد: بأن ما يتوصل به من ذلك فهو مبدأ للأصول فهو منه, والحساب استنبط به بعض متعلقات الأحكام لا نفس الأحكام. الخامس: قوله: (التي يتوصل) يريد بالفعل أو بالقوة, فإن أريد الأول لم ينعكس؛ لخروج من علم تلك القواعد ولم يتوصل إلى الاستنباط بالفعل, وإن أريد الثاني لم يطرد؛ لدخول علم الله تعالى, وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا يطلق على ذلك أصول. وأجيب: نختار الثاني, وعدم الإطلاق لكون أسمائه توقيفية.

حد أصول الفقه مضافا

السادس: أصول الفقه القواعد, ويعرض لها العلم, فلا يصلح جنسًا. وأجيب: بأنه لما كان علمًا, والعلم إنما يتخصص - كما تقدم - بخصوصية المتعلق به وأضيف إلى القواعد, صار أصول الفقه العلم بالقواعد. قال: (وأما حده مضافًا: فالأصول: الأدلة). أقول: لما عرف المفهوم اللقبي, عرف بعد [ذلك] الإضافي, وتعريفه إنما يكون بتعريف المضاف والمضاف إليه. أما المضاف: فالأصول جمع أصل, وهو ما منه الشيء لغةً, أو ما يبنى عليه غيره. وأما اصطلاحًا: فالأصول: الأدلة, والألف واللام للعهد, أي أدلة الفقه؛ لأنه لما أضيف الأصل إلى الفقه وهو علم, كان بمعنى الدليل, كما يقال: الأصل في هذا الكتاب, وهو حد لفظي بعد النقل؛ لأن العلم بالقواعد مسمى الأصول, والأدلة حد لذلك المسمى بعد النقل, وأما قبله فلا؛ إذ الأدلة الكتاب والسنة لا العلم بالقواعد, وإن حمل الأصل على معناه اللغوي حتى يكون معناه ما يستند الفقه إليه, كان حدًا له لا بعد النقل. قال: (الفقه: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال). أقول: لما تكلم عن المضاف, أخذ الآن يتكلم في المضاف إليه.

والفقه لغة: الفهم, قال الله تعالى: {لا تفقهون تسبيحهم} أي لا تفهمون, وقال: {ما نفقه كثيرًا مما تقول} أي [لا نفهم]. وقيل: فهم الأشياء الدقيقة, إذ لا يقال: فقهت أن السماء فوقنا. قلت: [والأول] أصح, وكونه لا يقال: فقهت أن السماء فوقنا؛ لأنه لا يقال: فهمت أن السماء فوقنا. وفي الاصطلاح: ما ذكر فالعلم جنس, وليس المراد من العلم بالأحكام تصورها؛ لأن ذلك من مبادئ أصول الفقه. وأيضًا: التصور لا يحصل عن الدليل, وليس المراد التصديق بثبوتها؛ لأن ذلك من علم الكلام, بل التصديق بتعلقها بأفعال المكلفين. والعلم بمعنى الاعتقاد الراجح لا بمعنى اليقين, وإلا لم يدخل المقلد,

فلا يحتاج إلى إخراجه, ولم يتوجه إيراد المصنف على الحد /, ولأن الفقه من باب الظنون لأن دليله ظني, والناتج عن الظني ظني, وما يحاولونه من رده إلى العلم فباطل, ولنقرره أولًا, ثم لنجب عنه. وتقريره: أن يقول المجتهد: هذا الحكم غلب على ظني, وكلما غلب على ظني فهو حكم الله تعالى في حقي إجماعًا, فينتج: هذا حكم الله تعالى في حقي إجماعًا. الأولى وجدانية, والثانية إجماعية, فهما قطعيتان, والناتج عن [القطعي قطعي]؛ ولأنه إذا ظن الحكم, إما أن يعمل بالطرف الراجح وهو المطلوب, أو بهما وهو ج مع بين النقيضين, أو لا بهما فيرتفع النقيضان, أو بالطرف المرجوح, وترجيح المرجوح خلاف المعقول, فصدق قولنا: الحكم يجب العمل به قطعيًا, وكون الظن وقع في طريقه لا يضر؛ لأنه وقع الظن محمولًا في الصغرى, موضوعًا في الكبرى, ولا

يلزم من كون المحمول ظنيًا كون القضية ظنية إذا كانت النسبة يقينية. وأجيب عن الأول: بأنه إضمار في التعريف؛ لأن قولنا: «العلم بالأحكام» لا يدل على وجوب العمل [بها] , والمجاز يجتنب في التعريف, والحدود الناقصة والرسوم وإن كانت دلالتها على المحدود

والمرسوم مجازًا, لكن لم يرد بها المحدود والمرسوم, بل المراد المفهوم المطابقي, ودلالتها عليه بالحقيقة. وأيضًا: هذا دليل كلي يتمشى له في كل جزئية, والفقه ما كان عن أدلة تفصيلية. وأيضًا: هذا البحث مبني على تصويب كل مجتهد, ومختار المصنف خلافه, فلا يحمل كلامه على ما ينافي مختاره. وأيضًا: الظن متعلق بأنه الحكم المطلوب, والعلم بتحريم المخالفة, يصدق كون الأحكام مظنونة, وإلا اجتمع الظن والعلم. وأيضًا: يلزم أن يكون من يعلم أن العمل بمقتضى الظن بالأحكام واجب فقيه وإن لم يعلم غير هذه القضية. وأيضًا: لا يلزم من غلبة الظن بشيء العلم بتلك الغلبة, إذ لا يلزم من حصول أمر تعقله, وإلا لتسلسلت المتعقلات.

وأجيب عن الثاني: بأن نختار القسم الثالث, وعدم العمل قد يكون لعدم الجزم بأحدهما, مع أن الواقع لا يخلو عن أحدهما, والمحال ارتفاعهما في الواقع. سلمنا, ونختار الرابع. قوله: (خلاف المعقول) إنما ذلك لو كان المرجوح عنده هو المرجوح في الواقع, وهو غير لازم, إذ قد يكون الظن غير مطابق, ثم لو صح ما ذكر يلزم انحصار الفقه في الوجوب, فإن قال: المراد وجوب اعتقاد الحكم على الوجه المظنون, قلنا: لا دلالة لقولنا العلم بالأحكام على قولنا: العلم بوجوب اعتقاد العمل بالأحكام, فيكون فاسدًا. قوله: (بالأحكام) جمع حكم, والمراد به / هنا المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع تعلقًا تنجيزيًا, وهو الذي قال في النسخ: (ونعني بالحكم ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن) , ونسبتها إلى الشرع من جهة أن استفادة العلم متعلق بأفعال المكلفين من الشرع, لا أن

ثبوتها من الشرع؛ لأنها قديمة قائمة بذاته تعالى, ونسبتها إلى الفرعية من جهة تعلقها بالعمل الذي هو فرع العلم, والأدلة التفصيلية هي الأدلة الجزئية. قال بعضهم: إن متعلق العلم إما أن يكون غير مفتقر إلى محل أو لا, والأول الذات الكريمة والجواهر, والثاني إما أن يكون تأثيرًا في الغير أو لا, والأول الفعل كالتسخين والتبريد, [وإنما] قلنا: تأثيرًا في الغير ولم نقل: مبدأ التأثير؛ لأن مبدأ التأثير في الغير هو الفاعل لا الفعل, والثاني إما أن يكون مقتضيًا لنسبة مفيدة أو لا, والأول الحكم, [قلت: وفيه نظر؛ لأن الحكم قسم من الكلام, والكلام نسبة على ما ذكر المصنف, لا أنه يقتضي النسبة] , والثاني الصفة الحقيقية كالقدرة والإرادة. فقوله: (الأحكام) خرج الذوات والأفعال والصفات الحقيقية. [قلت: وهذا إنما يتمشى على رأي الحكماء والمعتزلة, وإلا فالكلام من الصفات الحقيقة عند الأشاعرة].

وبالشرعية خرج العقلية, وبالفرعية خرج الأصولية. قيل: إن أردتم بالفرعية ما تعلق بالعمل الذي هو ناشئ عن العلم, يلزم أن يكون قولنا: الكتاب حجة فرعًا, لتعلقه بالعمل؛ لأنه إذا كان حجة يجب العمل به, وإن أردتم ما تفرع عن الغير, لزم أن تكون الأصول فروعصا, لتفرعها عن الكلام, وإن أردتم ما لم يتفرع عنه غيره, لزم أن لا تكون الفروع التي يتفرع عنها غيرها فروعًا. ورد: بأنا نختار الأول, والمراد تعلق العلم بكيفية العمل لا بواسطة, بخلاف هذا, أو نختار الثاني, والكلام دل على ثبوتها لا على حجيتها. وقوله: (عن أدلتها التفصيلية) إن علق بالفرعية, فهو لبيان الواقع ولا يخرج به شيئًا, وبقيد الاستدلال يخرج علم الله تعالى, وعلم الملائكة, وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم, وما علم من دين الأمة بالضرورة, وعلم المستفتي. وإن علق بالعلم, خرج علم الله تعالى, وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم, والملائكة, وما علم من دين الأمة بالضرورة بقوله: (عن أدلتها التفصيلية). وبقيد الاستدلال يخرج المستفتي؛ لأن علم الله تبارك وتعالى لا عن دليل وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم لا عن دليل, بل بإعلام الله تعالى بالوحي, أو بخلق ذلك في قلبه, وعلم الملك ضروري, وما علم من دين الأمة بالضرورة ليس عن دليل, والكل ليس بفقه.

لا يقال: علم الله سبحانه وتعالى عن الدليل, لأن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول, لأنا نقول: الأدلة معرفات لا علل. وأيضًا: كل ما حصل عن الدليل فهو كسبي, وكل كسبي حادث. قيل: قيد الاستدلال مستغنى عنه, إذ علم المستفتي ليس عن دليل. وأجيب: لما كان علمه عن علم المفتي, وعلم المفتي عن الدليل, فعلمه عن الدليل لكن بواسطة, فقيد الاستدلال يخرجه, إذ لم يعلم بالاستدلال. قلت: وفيه نظر؛ لأنه حينئذ لا يكون متعلقًا بالعمل بل بصفة, بمعنى المعلومة عن أدلة تفصيلية؛ لأنه علم ما علمه الغير عن دليل, لا أنه هو علم عن الدليل, وأيضًا: يرد مثل ذلك في قولنا بالاستدلال؛ لأن ما علم المستفتي صدق أنه علم عن الأدلة بالاستدلال بالنسبة إلى المفتي, معأن علم المستفتي فعن دليل كلي, وهو: هذا أفتاني به المفتي, وكل ما أفتاني به فهو حكم الله تعالى في حقي. والفقه ما كان عن أدلة تفصيلية, لكن ثبت في بعض النسخ, ولأن قولنا: الاستدلال يخرجه فتغير على هذا, والحق أنه متعلق بالعلم؛ لأن الحكم قديم, فالعلم به عن الدليل, لا أن نفسه عن الدليل.

قال: (وأورد: إن كان المراد بالبعض, لم يطرد الدخول المقلد, وإن كان الجميع, لم ينعكس لثبوت لا أدري. وأجيب: بالبعض ويطرد؛ لأن المراد بالأدلة الأمارات, وبالجميع وينعكس؛ لأن المراد تهيؤه للعلم بالجميع). أقول: يجب أن يكون الحد مساويًا للمحدود في العموم والخصوص ولا يكون أعم, إذ لا دلالة للأعم على الأخص, ولا أخص لأن الأخص أخفى [ولا يعرف به] , فحينئذ هذا التعريف فاسد؛ لأن الألف واللام إن كانت لا للاستغراق, يلزم أن يكون ما علمه المقلد فقهًا, وليس كذلك فقد وجد الحد ولا محدود, وهو عدم الاطراد, وإن كانت للاستغراق, يلزم تحقيق المحدود بدون الحد؛ لأن مالكًا سئل في أربعين مسألة, فقال في ست وثلاثين: لا أدري, وما علم مالك فقه, فقد ثبت المحدود ولا حد وهو عدم للانعكاس, وأنكره بعضهم بأن الحد للحقيقة من غير تعرض

للأقسام الداخلة, كحد الإنسان, لا يقال للكل ولا للبعض. رد: بأنه لما عدل عن تقييد العلم بالحكم إلى الأحكام؟ . وأجاب المصنف: أنه نختار الأول. قوله: (لا يطرد) نمنعه؛ لأن المراد بقولنا: عن أدلتها, عن أماراتها والأمارة ليس بينها وبين مدلولها ربط عقلي, فلابد من شيء يربط بينها وبين الظن ليمكن الاستفادة, وليس ذلك إلا العلم بأنه ليس لها معارض وأنها راجحة, ولا يعلم ذلك إلا فقيه, فسمي ذلك فقهًا. أو / نختار أنها للاستغراق, والمراد ليس العلم بالفعل, بل التهيؤ للعلم [بالجميع] , تهيؤًا قريبًا من الفعل. قلت: والأول مبني على تجزي الاجتهاد, والمصنف لم يثبته بعد ولم ينفه, فلذلك ما جزم بهذا الجواب.

فائدته

قلت: ويرد عليه: أن الدليل للقدر المشترك بين البرهان والأمارة, فاستعماله لخصوص الأمارة مجاز, ولا يسوغ في الحد. وأيضًا: يلزم أن يكون ما علم عن نص أو إجماع ليس بفقه. قلت: ويرد أيضًا على اختيار القسم الثاني: من ثبت عنه لا أدري وبقي [على ذلك] إلى أن مات متوقفًا, فإنه لم يتهيأ للعلم بالجميع. واعلم أن إطلاق العلم لإرادة التهيؤ للعلم وإن كان مجازًا, إلا أنه صار حقيقة عرفية, والمقلد هنا غير العامي, واصطلاح المصنف فيما بعد على تسمية العامي بالمستفتى, ولا يلزم مما ذكر أن يكون من علم حكمًا [واحدًا] بالدليل فقيهًا, وهو مذهب شذوذ. قال بعضهم: والجمهور شرطوا في إطلاق اسم الفقيه كون الأحكام ثلاثة, وقال بعضهم: إنه خلاف المشهور. قلت: وهو الحق. قال: (وأما فائدته: فالعلم بأحكام الله تعالى). أقول: الفائدة علة في الذهن فهي سابقة, معلومة في الخارج؛ لأن العلم

استمداده

بأحكام الله تعالى نتيجة الأصول, فهو متأخر. قال: (وأما استمداده: فمن الكلام والعربية والأحكام. أما الكلام؛ فلتوقف معرفة الأدلة الكلية على معرفة الباري تعالى, وصدق المبلغ عليه السلام, وتتوقف على دلالة المعجزة. وأما العربية؛ فلأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية. وأم الأحكام؛ فالمراد تصورها, ليمكن إثباتها أو نفيها, وإلا جاء الدور). أقول: لما فرغ من الحد والفائدة, شرع في الاستمداد, والحصر في الثلاثة استقرائي. وقال بعضهم: ما يتوقف عليه البحث في مسائل أصول الفقه, إما أن يكون مما تتوقف حجية الأدلة وإفادتها الأحكام عليه أو لا, والأول الكلام. والثاني إما أن يكون مما تتوقف عليه دلالات ألفاظ الأدلة الكلية أو لا, والأول العربية, والثاني تصور الأحكام؛ لأنه مما تتوقف عليه, والأصل عدم غيره. أما الأول: فلتوقف موضوع العلم الذي هو الأدلة على تحقق كونها شرعية, لتوقف إفادتها شرعًا للأحكام عليه, والعلم بذلك يتوقف على معرفة وجود الصانع, ومعرفة صفاته, من كونه عالمًا, قادرًا, مريدًا,

متكلمًا, وعلى معرفة كونه باعثًا للرسل, وذلك يتوقف على معرفة صدقهم, ومعرفة ذلك يتوقف على دلالة المعجزة عليه, فمتى لم تعلم المعجزة لا يعلم صدق الرسول, ومتى لم يعلم صدق الرسول لا يعلم أن الكتاب [الذي جاء به] من عند / الله تعالى, ومتى لم يعلم أنه من الله تعالى, لم تعلم السنة. فلم تثبت الأدلة, وإذا لم تثبت الأدلة الشرعية, لم تثبت إفادتها الأحكام وإنما قال: (الأدلة الكلية)؛ لأن الأدلة الإجمالية التي انبنت عليها الأدلة التفصيلية والأدلة التي ثبتت بها مسائل الأحكام تتوقف على المذكور, وذلك لا يعلم في غير علم الكلام. وأما العربية: فلأن الأصولي يبحث عن عوارض الأدلة, وإذا لم يعلم دلالتها لا يمكنه البحث عن أعراضها.

والأدلة عربية؛ لأنها من الكتاب والسنة وهما عربيان, فيتوقف البحث على معرفة الأوضاع اللغوية من حيث الحقيقة والمجاز, ومعرفة ما يعرض للألفاظ من العموم والخصوص, والإطلاق والتقييد, والحذف والإضمار, إلى غير ذلك, فتتوقف إفادتها للأحكام على معرفة ذلك. وأما الأحكام؛ فلأن الأصولي يبحث عن كيفية تعلق الحكم الشرعي بفعل المكلف عن الأدلة التي هي الكتاب والسنة والإجماع, بان يبين كيفية استخراج الحكم من ذلك الدليل, وبأي جهة دل عليه, بمنطوق, أو بمفهوم, أو بدلالة اقتضاء, أو إيماء, أو إشارة, ويبين بماذا يثبت كل دليل. [مثلًا]: أن الأمر يثبت الوجوب, والنهي التحريم, فما لم يتصور

الوجوب والتحريم, لا يمكنه استخراج الوجوب من الدليل؛ لأن الحكم على الوجوب بأنه يثبت بالأمر فرع تصور الوجوب, فيكون البحث عن الأعراض الذاتية للأدلة موقوفًا على تصور الأحكام الخمسة. فالعلم بدلالة الدليل على الحكم يتوقف على تصور الحكم, وأما العلم بذات الأدلة فإنه لا يتوقف على تصور الأحكام, فإن تصور كون القرآن كذا لا يتوقف على تصور الأحكام, وليس الأصول مستمدًا من ثبوت الأحكام لأفعال المكلفين, وإلا لزم الدور؛ لأن العلم بثبوت الأحكام لأفعال المكلفين متأخر عن الأصول لاستفادته عنها, فلو كان مبدأً للأصول لكان متقدمًا, ولزم الدور. لا يقال: إنما يلزم الدور لو كان من المبادئ العامة, بأن تكون كل مسألة من الأصول تتوقف على العلم بثبوت الأحكام لأفعال المكلفين, أما إذا كان بعض مسائل الأصول موقوفًا عليه, فلا دور, لجواز أن يكون الحكم مستفادًا من غير تلك المسائل من الأصول. لأنا نقول: الحكم الواحد يتوقف على جميع الأصول, لتوقف نفس الدليل على المبادئ مما تقدم, ويتوقف الاستنباط على الاجتهاد والترجيح. وأيضًا: استقرينا فلم نجد شيئًا منها يتوقف على العلم بثبوت الأحكام. وقوله: (ليمكن إثباتها أو نفيها) , أي لأفعال المكلفين, لا

الدليل

إثباتـ[ها] نفسها, وأنها قائمة بذات الله سبحانه وتعالى, فإن ذلك من علم الكلام, والعلم به من مبادئ الأصول, فلا دور. واعلم أن التصديق بالأحكام من حيث هي محمولات مسائل الأصول, كقولنا: الأمر للوجوب, ومن حيث تعلقها بمسائل الأصول, كقولنا: العام إذا خص بمبين يكون حجة في الباقي, لا يكون من المبادئ؛ لأن المسائل تتوقف على المبادئ, فلو استمد الأصول منه لزم توقف الشيء على نفسه. قال: (الدليل لغة: المرشد, والمرشد: الناصب, والذاكر, وما به الإرشاد. وفي الاصطلاح: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. قيل: إلى العلم به, فتخرج الأمارة. وقيل: قولان فصاعدًا يكون عنهما قول آخر. وقيل: يستلزم لنفسه, فتخرج الأمارة). أقول: لما وقع [له] الدليل من حد [ي] الفقه وأصول الفقه, وكذا العلم, ووقع النظر بعد ذلك من تعريف الدليل, عرفها لتعلم.

وقال الآمدي ومن تابعه: «إن هذا من المبادئ الكلامبية». ولما كانت من المبادئ, تعرض لها أولًا. وفيه نظر؛ لأن البحث عن الدليل وأقسامه لا يختص به الكلام, مع أن ما بعد هذا منطق, فلا ينسب إلى مبادئ الكلام لكونه آلة لجميع العلوم. والدليل: فعيل بمعنى فاعل, أي دال, قال الجوهري: «يقال: دل دلالة ودلالة, بفتح الدال وكسرها, والفتح أعلى. وقيل: الفتح في الأعيان, والكسر في المعاني, يقال: دله على الطريق دلالة, ودل الدليل دلالة». قال المصنف في الأمالي: «لغة» انتصب على أنه مصدر مؤكد, أي

يدل دلالة لغة. قلت: والمصدر المؤكد لا يتقدم الجملة ولا يتوسطها إلا عند الزجاج. قيل: قدم على المرشد, لبيان أنه لدلالة الدليل, ولو أخر لصلح لكل منهما. قيل: وليس بتمييز عن النسبة, إذ لا إبهام في حمل المرشد على الدليل ولا عن المفرد وهو الدليل, إذ الإبهام غير مستقر لكونه مشتركًا. قلت: ولا عن مضاف محذوف بمعنى مدلول الدليل, إذ المميز مطلقًا موصوف في الأصل عما انتصب عنه, ولا توصف اللغة بذلك, ولا ينصب بإسقاط الخافض لالتزامهم تنكيره. وفي عرف الفقهاء: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب

خبري. فما يمكن, يشمل القول وغيره, وهو المعنى الحاصل في الذهن. وقوله: (بصحيح النظر) يخرج المقدمات الصحيحة المرتبة ترتيبًا أن ترتبها ترتيبًا صحيحًا وقد حصل, ويخرج ما يمكن التوصل به بالنظر الفاسد كالمقدمات الكاذبة, ولا تخرج المقدمات الصحيحة التي أمكن التوصل بها بنظر فاسد إلى مطلوب؛ لأن إمكان / التوصل بالنظر الفاسد فيها لا ينافي إمكانه بالنظر الصحيح فيها. وقوله: (إلى مطلوب خبري) يخرج التصوري, هذا إذا أردنا بصحيح النظر إيقاع النظر. وإن أريد بصحيح النظر الواقع فيه [أيضًا] , دخل القياس المنطقي.

وقال المتكلمون: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم به. والضمير المجرور يعود على المطلوب الخبري فتخرج الأمارة, إذ لا يمكن التوصل بصحيح النظر فيها إلى العلم بالمطلوب الخبري, بل إلى الظن به. وإنما خص المتكلمون الدليل بقيد العلم؛ لأن الدليل يتوصل به إلى المطلوب, ومطالبهم يقينية, والموصل إلى اليقين لا يكون أمارة. ولما كانت مطالب الفقهاء عملية, والعمل لا يتوقف على العلم, فلذلك كان الدليل عندهم أعم. ولما كان أصول الفقه متعلقًا بهما, احتيج فيه إلى الاصطلاححين, فلهذا عرفه بالتعريفين, لكونه مستمدًا من الكلام وأصلًا للفقه. ولما كان تعلقه بالفقه أقوى - ولهذا سمي بأصول الفقه ولم ينسب إلى الكلام مع كونه مقصودًا للفقه لا لذاته - عرفة في اصطلاح الفقهاء أولًا,

وأيضًا: موضوع أصول الفقه الأدلة السمعية وهي أعم من العلمي والظني. واعلم أن النقلي الصرف لا يفيد اليقين؛ لأنه ما لم يثبت صدقه لا يفيد, وصدقه لا يعلم إلا بالعقل, بنظره في دلالة المعجزة. وعرفه قوم بأنه: قولان فصاعدًا يكون عنهما قول آخر, أي قضيتان ولم يقل: مقدمتان؛ لأن المقدمة تعرف بأنها جزء الدليل, فلو عرف بها لدار. وقوله: (فصاعدًا) ليتناول القياس المركب.

وقوله: (لا يكون عنهما قول آخر) ليخرج قضيتان لا يكون عنهما قول آخر, مثل: زيد قائم, عمرو قاعد, وإن كان مجموعهما يستلزم إحداهما, لكن ليس ذلك بقول آخر مغاير لهما, وهذا يشمل البرهان والأمارة؛ لأن قوله: (يكون عنهما [قول آخر]) أعم من أن يكون لازمًا أو لا. ويشمل الاقتراني, والاستثنائي؛ لأن النتيجة قول يغاير كل واحدة من المقدمتين أيضًا. وبين الدليل بهذا المعنى وبينه بالأولين عموم من وجه, لصدق الأولين على المعقول دون الثالث لتقييده بالقول, وصدق الثالث دونهما على القضايا المرتبة بالفعل ترتيبًا صحيحًا, وصدقهما على الأقوال الصحيحة الغير مرتبة. وإن أريد المعنى الثاني فيما تقدم, كان أخص من الأول مطلقًا, وبينه وبين الثاني عموم من وجه, لصدق الثاني دونه على المعقول, وصدق الثالث دونه على المركب من الظنيات.

وعرفه [بعض] المنطقيين بأنه قولان فصاعدًا يستلزم لنفسه قولًا آخر. فقوله: (يستلزم) أي مجموعهما, فتخرج الأمارة؛ لأنه ليس بينهما وبين ما تفيده ربط عقلي / يقتضي لزوم ذلك القول عنهما, إذ لو استلزمت شيئًا ما تخلف؛ لامتناع تخلف اللازم عن الملزوم, لا يقال: الأمارة تستلزم لكن لا لنفسها بل مع عدم المانع, لأن المصنف قال في الذي قبله: يكون عنهما قول, ولم يقل: يستلزم, حتى يكون قيد لنفسه يخرج الأمارة. فقوله: (لنفسه) ليخرج قياس المساواة, كقولنا: (أ) مساوٍ لـ (ب) , و (ب) مساوٍ لـ (ج) [فإنه يستلزم: (أ) مساوٍ لـ (ج) , لكن لا لنفسه بل بواسطة مقدمة أجنبية, وهي مقدمة غير لازمة لشيء من مقدمتي القياس, وهو قولنا: كلما هو مساو لـ (ب) , مساو لـ (ج) , وهذا ليس بدليل عند المنطقيين؛ لأن الدليل عندهم ما يستلزم لذاته, وقول من قال: لنفسه يخرج المستلزم بواسطة عكس إحدى مقدمتيه بعكس النقيض, فاسد على رأي المصنف؛ لأنه بين الضرب الرابع من الشكل الثاني بذلك,

وهو دليل عند المنطقيين. ولو قيل: يستلزم لنفسه قيد واحد يخرج الأمارة؛ لأنها تستلزم مع عدم المانع, أو لكون المصنف لم يقل: فتخرج الأمارة وقياس المساواة, لكان أقرب إلى كلام المصنف, وهذا أعم من أن يكون الاستلزام بينًا كالشكل الأول, أو لا كالثلاثة الباقية, ويدخل الاستثنائي أيضًا. والدليل بهذا المعنى أخص منه, فالثالث مطلقًا وبينه وبين الأولـ[ين] عموم من وجه مما تقدم في الثالث معهما, هذا على التفسير الأول. وأما على الثاني فهو أخص من الأول مطلقًا, وكذا من الثاني أيضًا. قال: (ولابد من مستلزم للمطلوب, حاصل للمحكوم عليه, فمن ثم وجبت المقدمتان). أقول: يعنى أنه لابد في كل دليل من مقدمتين؛ لأن نسبة الأكبر إلى الأصغر لما كان محمولًا, [فلابد] في الدليل من أمر يوجب العلم به, وذلك هو المسمى عند المنطقيين بالحد الأوسط, لتعلقه بطرفي النسبة, فبحسب كل تعلق حصلت مقدمة, والمطلوب انتساب الأكبر إلى الأصغر. والمراد بقولنا: (حاصل للمحكوم عليه) أنه متعلق به تعلقًا إسناديًا, وعلى هذا يشمل الأقيسة الأربعة, والاستثنائي.

وإن فسر (حاصل) بمعنى ثابت, لم يتناول إلا الشكل الأول, وضربين من الثاني. وقيل: مراده الشكل الأول؛ لرجوع الباقي إليه, فيكون المعنى: ولابد من مستلزم حاصل للمحكوم عليه والمحكوم به حاصل له أو مسلوب عنه, ومن ثم أتى, من أجل أنه لابد من مستلزم للمطلوب حصلت الكبرى, حاصل للمحكوم عليه حصلت الصغرى, وهما المقدمتان. قال: (والنظر: الفكر الذي يطلب به علم أو ظن). أقول: النظر في اللغة يطلق على الانتظار, وعلى رؤية العين, وعلى الإحسان, وعلى المقابلة. ويطلق ويراد به الاعتبار, وهذا هو النظر في عرف المتكلمين. ورسمه القاضي أبو بكر: «بالفكر الذي يطلب له علم أو ظن».

تعريف النظر

فقوله: (الفكر) كالجنس, والفكر يطلق لثلاث معان: على حركة النفس [بالقوة] التي آلتها مقدم البطن الأوسط من الدماغ, إذا كانت تلك الحركة في المعقولات, فإن كانت في المحسوسات, سميت: تخيلًا, وقد يطلق على أخص وهو حركتها من المطالب إلى المبادئ, ورجوعها عن المبادئ إلى المطالب. ويرسم الفكر بهذا المعنى: بترتب أمور حاصلة في الذهن ليتوصل به إلى تحصيل غير الحاصل, ويطلق على الجزء الثاني فقط وهو [الـ] حركة [النفس] من المطالب إلى المبادئ وإن كان الغرض منها الرجوع, وهذا هو الذي يستعمل بإزائه الحدس وهو سرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب. فقوله: (الذي يطلب به علم أو ظن) هو الفكر, فالمعنى الثاني يخرج الفكر بمعنى الأول والثالث. وقوله: (الذي يطلب به) يتضمن المطلوب منه وهي المبادئ, ويتضمن

أنها معلومة؛ لأن الطلب من المجهول مطلقًا محال, ويتضمن ما به يقع الطلب وهو ترتيب تلك المبادئ. وقوله: (علم أو ظن) أي يطلب به علم أو ظن غير حاصل؛ لأن طلب ما حصل محال, فيكون بمعنى: يتوصل به إلى تحصيل ما ليس بحاصل, فيرجع إلى تعريف الحكماء؛ لأن تعريف الشيء تعريف لمرادفه. وقال الإمام في الشامل: «الفكر: انتقال النفس في المعاني انتقالًا بالقصد» , فقد يكون لطلب علم أو ظن, فيسمى: نظرًا, وقد يكون كأحاديث النفس, فلا يسمى نظرًا. واعلم أن هذا التعريف يشمل النظر الموصل إلى التصور وإلى التصديق, والنظر الصحيح والفاسد. قيل عليه: الظن مطلوب بالنظر, والمظنون قد يكون خلاف الواقع فيلزم أن يكون الجهل مطلوبًا بالنظر. ورد: بأن المطلوب مطلق الظن, لا الظن المخالف للواقع, ولا يلزم من كون العام مطلوبًا بشيء أن يكون الخاص مطلوبًا به.

تعريف العلم

قبل أيضًا: هذا تعريف بالأنواع, فهو تعريف بالأخفى؛ لأن ما يطلب به علم أخص من النظر, وكذا ما يطلب به ظن. رد: بأن انقسام النظر إلى الأمرين خاصة له, فصح تعريفه بهما. واعلم أن الحركة في قولهم: «حركة النفس في المبادئ» , إنما هي حركة في الكيف, بمعنى أنها تكيفت بكيفية بعد تكيفها بغيرها, ثم تنتقل إلى أخرى وأخرى, فحركة النفس إلى المبادئ هو تكليفها بالمعاني المخزونة عندها, وانتقال النفس فيها بانتقالها من تكيف بواحد إلى تكيف بآخر, إلى أن تجد المبادئ المؤدية إلى المطلوب, بعد تكيفها بالمطلوب بوجه ما / وتكيفها بالمعنى هو اتصافها بالحالة التي تعرضها عند ملاحظتها المعنى, فإذا حصل معنى غير ذلك, حصلت كيفية غير تلك. قال: (والعلم, قيل: لا يجد, فقال الإمام: لعسره, وقيل: لأنه ضروري من وجهين: أحدهما: أن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم, فلو علم العلم بغيره كان دورًا. وأجيب: بأن توقف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره, لا على تصوره, فلا دور. الثاني: أن كل أحد يعلم وجوده ضرورة. وأجيب: بأنه لا يلزم من حصول أمرٍ تصوره, أو تقدم تصوره).

أقول: العلم يطلق على المنقسم إلى مطلق التصور ومطلق التصديق, وهو المراد في قوله: والعلم ضربان. ويطلق على المنقسم إلى تصور خاص وتصديق خاص, وهما اللذان يوجب كل واحد منهما لمن قام به تمييز لا يحتمل النقيض, وهو المختلف فيه عند المصنف, وهو الذي حده في قوله: وأصحها. ويطلق على مطلق التصديق وهو المراد من قوله: ويسمى تصديقًا وعلمًا. ويطلق على تصديق يقينى, وهو المراد في قوله: وقيل إلى العلم به, فتخرج الأمارة. وبعضهم جعل الاختلاف في العلم بالمعنى الأول, لا فيما ذكر المصنف, وهو خطأ, يعلم ذلك من طالع كلام إمام الحرمين, ومن طالع المستصفى. قال إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما: إن لا يحد - أي حدًا حقيقيًا - لعسر تحديده, قال الغزالي: «أكثر المحسوسات مثل الروائح والطعوم يعسر تحديدها, لعسر الاطلاع على الذاتي المشترك والذاتي الأخص, فما ظنك

بالمعقولات» , وقال غيره: إن في العلم إضافة أشبهت أن تكون ذاتية له أو عارضة, ولهذا اختلف فيه أجوهر هو أم عرض؟ , وعلى أنه عرض أهو من مقولة الإضافة أم [من] مقولة الكيف أم [من] مقولة الانفعال؟ , وإذا لم تتميز ذاتياته من عرضياته, عسر تحديده, [فلا يتأتى إلا نادرًا من مؤيد يعلم ذاتياته, فيكون في حكم العدم] , فلا طريق إلا بأن نميزه عن غيره بالقسمة, بأن نأخذ المشترك بينه وبين غيره, ثم نأخذ المميز حتى يخرج لنا العلم من بينهما, فيكون ذلك رسمًا له.

والحق: أن العسر لا يوجب منع تحديده, إلا لمن لم يعلم من أي مقولة هو, يخرج من مذهب هؤلاء أنه كسبي يرسم ولا يحد, وقال الإمام فخر الدين الرازي: لا يحد - أي حقيقيًا ولا رسميًا - لأنه ضروري, واحتج على ذلك بوجهين: الأول: لو لم يكن ضروريًا, لكان كسبيًا, إذ لا واسطة, ولو كان كسبيًا لأمكن تحصيله بالمعرف, لإمكان اكتساب النظري بالمعرف, لكنه لا يكتسب من غيره, وإلا لزم الدور. بيان اللزوم؛ أن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم, لامتناع تعريف الشيء بنفسه, فلو علم العلم بغيره لزم تقدم العلم بذلك الغير, ضرورة وجوب سبق العلم بالحد على العلم بالمحدود, لكن العلم بالغير متأخر عن العلم لأنه إنما يعلم به, فيتوقف العلم على ذلك الغير المتوقف على العلم, ويلزم الدور وهو باطل بما نقرر في علم الكلام. وأجاب بعضهم: بأن غير العلم ينكشف بالعلم لا بالعلم بالعلم, والغير كاشف للعلم بالعلم, وليس بمحال أن يكون العلم كاشفًا عن غيره, وغيره كاشفًا عن العلم به. وهو حسن, لكنه يغاير كلام المصنف بوجه ما.

وجواب المصنف: أن توقف تصور غير العلم على حصول العلم بذلك الغير لا على تصور العلم, أي يتوقف تصور الغير على علم جزئي وهو تعلق العلم بذلك الغير, لا على تصور حقيقة العلم, والتوقف على الغير حقيقة العلم لا حصول جزئي منه, وإنما يلزم الدور لو توقف تصور الغير على تصور حقيقة العلم, أما على [حصول] [تصور] جزئي من العلم فلا دور. فإن قيل: تصور غير العلم هو حصول العلم بغيره فتوقف على نفسه. أجيب: بأن تصور غير العلم أخص من حصول العلم بالغير, لانقسام حصول العلم بالغير إلى التصور والتصديق, ولا ضرورة في توقف الخاص على العام. قال: إلا أن تصور العلم يتوقف على تصور الغير, لأن تصور المحدود يتوقف على تصور الحد, وتصور الغير يتوقف على حصول العلم به, لا على حقيقة العلم [به] , فلا دور. والمصنف وضع الظاهر في قوله: ([غيره) موضع المضمر, ولو قال به لكان أحسن؛ لأن وضع الظاهر في قوله: (بغيره) موضع المضمر, ولو قال به لكان أحسن؛ لأن وضع الظاهر موضع المضمر قليل في كلامهم, ووقع في المنتهى وفي بعض النسخ.

وأجيب: بأن توقف تصور العلم على حصول العلم بغيره لا على تصوره أي تصور العلم يتوقف على تلعق العلم بالغير؛ لأنه إذا توقف على تصور حده الذي هو الغير, والغير متوقف على تعلق العلم به, صدق أن العلم يتوقف على تعلق العلم بالغير, وحصول العلم بالغير لا يتوقف على تصور العلم, لجواز حصول العلم بالشيء مع الذهول عن تصور ماهية العلم. والضمير في قوله: (لا على تصوره) أي لا على تصور العلم بالغير, وإلا لتوقف على تصور العلم لأنه جزؤه, فيتوقف على نفسه. واعلم أن قول من قال: هذا الدليل بعد سلامته عن المنع لا يفيد - لأنه لا يلزم من امتناع التحديد الضرورة - ساقط يعلم من تقريرنا للدليل المذكور. الوجه الثاني: أن علمنا بوجودنا تصديق ضروري, فتكون تصوراته ضرورية؛ لأن ما يتوقف عليه الضروري أولى أن يكون ضروريًا, والعلم أحد تصورات هذا التصديق, فيكون ضروريًا. وقد تقرر على وجه آخر, وهو أن نقول: علمي بوجودي علم خاص ضروري, وإذا كان الخاص ضروريًا, كان مطلق العلم ضروريًا, لاستحالة كون المركب ضروريًا وجزؤه / كسبيًا, وإلا لتوقف عليه؛ لأن المتوقف على المتوقف متوقف. وأجيب عنه على التقرير الأول: بأنه لا يلزم من بداهة التصديق بداهة التصور؛ لأن التصديق البديهي هو الذي يكون تصور طرفيه كافيًا في الجزم بالنسبة بينهما, فقد تكون تصوراته كسبية, وقد تكون ضرورية, وقد

تكون مختلطة, مع أن التصديق لا يتوقف إلا على التصور بوجه ما, لا على تصور الحقيقة. وأجيب عنه على التقرير الثاني: أن قولكم: علمي بوجودي علم خاص ضروري, فمطلق العلم ضروري, فإن عنيتم أن ماهيته متصورة بالضرورة فممنوع, وإن عنيتم أن ذلك حاصل بالضرورة فمسلم, ولا يلزم منه تصور مطلق العلم, بل حصول العلم الخاص يستلزم حصول العلم المطلق, وتصور العلم الخاص يستلزم تصور العلم المطلق, وأما حصول العلم فلا يستلزم تصور العلم. قيل عليه: قولكم: لا يلزم من حصول أمر تصوره, لا يلزم من حصول أمر في الخارج تصوره, أما حصول أمر في الذهن, فإنه يستلزم تصوره؛ لأنه لا ينفك الحاصل في الذهن عن تصوره. رد: بأنه قد ينفك؛ لأنه ما لم تلاحظ النفس ذلك الحاصل في الذهن لا يتحقق تصوره, وملاحظة النفس له ليس لازمًا لحصوله, فإنا نجد في أنفسنا أنه قد يحصل فيها شيء تصوره عينه بالذات ومغاير له بالاعتبار, والنفس لا تلاحظه ولا تعتبره. وقوله: (ولا يقدم تصوره) إشارة إلى جواب سؤال, أي العلم يحصل باختيار صاحبه, وكلما هو كذلك فهو مسبوق بتصوره, لأن الأفعال الاختيارية مسبوقة بتصورها.

ورد: بأن حصول العلم لنا بالفيض [علينا] لا بالاختيار. قال: (ثم نقول: لو كان ضروريًا لكان بسيطًا إذ هو معناه, ويلزم أن يكون كل معنى علمًا). أقول: لما كان لا يلزم من إبطال الدليل إبطال المدلول, احتج الآن على كونه مكتسبًا بأنه مركب وكل مركب كسبي, بيان الصغرى من وجهين: الأول: أنه نوع من مقولة الكيف, أو من مقولة الانفعال على الرأيين فيكون داخلًا تحت أحد هذين الجنسين, وحينئذ لابد له من فصل. الثاني: [أنه] لو لم يكن مركبًا لكان بسيطًا؛ إذ لا واسطة, ولو كان بسيطًا لكان كل معنى علمًا. بيان اللزوم؛ أن كل علم معنى, فلو لم يكن كل معنى علمًا, لكان المعنى أعم من العلم, فكان العلم مركبًا من المعنى وأمر آخر مختص, والتقدير: البساطة. وأما بيان بطلان الثاني؛ فلأن كثيرًا من المعاني ليست بعلوم, كالجود والشجاعة, وغيرهما. وأما بيان الكبرى؛ فلأن المركب يتوقف تصوره على تصور أجزائه, وهي / غيره, وما توقف تصوره على تصور غيره فهو كسبي. وقوله: (إذ هو معناه) بيان للملازمة, أي يلزم الضرورة البساطة؛ لأن البسيط نفس الضروري؛ لأن اشتراكهما في عدم التوقف لا يستلزم اتحاد

حقيقتهما, لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد. رد الأول: بأنا لا نسلم أن العلم وجودي, سلمنا, ولا نسلم اندراجه تحت شيء من المقولات العشر, إذ لم يقم برهان على الانحصار. سلمنا, ولا نسلم أن اندراجه تحت شيء منها من حيث أنه علم بشيء, فإنه من حيث إنه يحصل صورة الشيء عند العقل, يكون آلة ينظر به في الشيء, فيصير الشيء به معلومًا. وبهذا الاعتبار لا يكون جوهرًا ولا عرضًا, ومن حيث إنه شيء حاصل عند العقل يكون عرضًا, لكن من هذه الحيثية يكون معلومًا لا علمًا. سلمنا اندراجه من حيث إنه علم لا من حيث إنه كيف أو انفعال, ولا نسلم أنه [اندرج] اندراج النوع تحت الجنس, لجواز كونه [اندرج]

اندراج الشيء تحت العرض العام. وأما رد ما ذكر في الكبرى, فلا نسلم أن ما يتوقف تصوره على تصور أجزائه يكون كسبيًا, لجواز كون الأجزاء أمورًا ذهنية متصورة بالبديهة, يلزم من تصورها تصوره بالبديهة. قلت: ولو قدر على غير هذا الوجه لاندفع أكثر هذه الاعتراضات, وهو أن يقال: لو كان ضروريًا لكان بسيطًا, أي غير مركب بوجه لا من ذاتيات ولا من عرضيات, وإلا لتوقف عليها فيعرف بها, فلا يكون ضروريًا بنفسه لكن بالمعرف, ولا نزاع فيه, وكل تصور ضروري بما ذكرنا بسيط, وضرورة الأجزاء لا تجعل المحدود ضروريًا بنفسه, إذ ضرورته بضرورة ما تركب منه, فتتوقف ضرورته على ذلك, لتوقف المجموع على أجزائه, ولو كان [العلم] بسيطًا, لكان كل معنى علمًا, والتقرير ما مر. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المعنى عرضًا عامًا؟ . قلنا: لو كان كذلك, لتركب منه والعارض لتوقفه عليه, فيحد رسميًا فلا ضرورة, ألا ترى [أن] الأجناس العالية مع عمومها وبساطتها بوجه مركبة مع أعراضها, فتحد رسميًا.

وما قيل من أنا نعلم ضرورة أن المعنى ليس بخارج عن العلم فيه نظر, ولو كان ذلك معلومًا بالضرورة ما اختلف في العلم, حتى قال قوم: هو جوهر وليس بعرض. والحق أنه متى سلمت الشرطية الأولى انتهض الدليل؛ لأن المعنى ذاتي للعلم, إذ لو رفع عن الذهن ارتفع العلم, مع أن الفرض البساطة, فلا ذاتي له غيره, فيلزم من تحققه تحقق العلم, فيلزم أن يكون كل معنى علمًا. وما قيل: لو كان خارجًا وهو عرض, لزم قيام العرض بالعرض, فباطل, وكذا قول من قال: اتفاقهم على أن بعض العلم ضروري تصورًا كان أن تصديقًا, ويكر على هذا الخلاف بالبطلان يعلم مما تقدم. قال: (وأصح الحدود: صفة توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض, فيدخل إدراك الحواس كالأشعري, وإلا زيد: في الأمور المعنوية. واعترض على عكسه: بالعلوم العادية, فإنها تستلزم جواز النقيض عقلًا. وأجيب: بأن الجبل إذا علم بالعادة أنه حجر, استحال أن يكون حينئذ ذهبًا ضرورة وهو المراد, ومعنى التجويز العقلي: أنه لو قدر لم يلزم منه محال لنفسه, لا أنه محتمل). أقول: أشار إلى أنهم حدوه بحدود كثيرة مزيفة / فقال: وأصحها

بصيغة أفعل هنا ليست للمشاركة, وقوله: (صفة) كالجنس, وقوله: (توجب تمييزًا) إسناد للفعل إلى السبب, وإلا فالموجب هو الله تعالى, ومذهب الشيخ أن العلم الحاصل عقيب النظر بالفيض لا بالتولد, فتخرج القدرة والإرادة وغيرهما, مما لا يوجب لمن قام به أن يميز الأشياء, نعم يتميز في نفسه بها. واعلم أن الفصل والخاصة يوجبان تمييز الشيء في نفسه, ويوجب حصولهما عند النفس تمييزًا للشيء عن غيره, لكن ذلك علم. والحق أن معنى الحد يوجب لمن قالت به [أن يميز الأشياء] وإلا رد. وقوله: (لا تحتمل النقيض) يخرج الاعتقاد والظن والشك والوهم, فتدخل العلوم المستفادة من الحس الظاهر أو الباطن, فإنها علوم عند الشيخ,

وإن إدراك الحواس يوجب إدراك النفس, وإدراك النفس يوجب التصديق, ومن لا يراها علومًا لاحتمالها النقيض - إذ الحد قد يدرك الشيء على غير ما هو عليه - يزيد في الحد: في الأمور المعنوية؛ لأن العلم عندهم الصورة الكلية الحاصلة في العقل, ومن لا يصف الحواس بالإدراك يكون المعنى عنده: فيدخل إدراك النفس بواسطة الحواس. واعلم أن هذا الحد للعلم المنقسم إلى تصور وتصديق خاصين, وهما اللذان يوجب كل واحد منهما لمن قام به أن يميز الأشياء على وجه لا يحتمل النقيض, فسقط ما اعترض به على المصنف, ولأن إدراك الحواس يحصل صورة الشيء, ويكون احتمال النقيض في التصور عدم كونه متصورًا على ما هو عليه, أو لأن التصور لا نقيض له يصدق عليه, أو نقول: الحد للتصديق اليقيني, ويكون المعنى: فيدخل التصديق بواسطة إدراك الحواس, فدخل تحت الحد. وما قيل من أنه غير مطرد لدخول العقل, وغير منعكس لخروج الفقه, فغير وارد؛ لأن العقل ليس صفة توجب تميزًا, والفقه ليس بعلم بهذا المعنى. واعترض على عكس هذا الحد بالعلوم العادية, فإن العقل يحكم بأن العلم العادي يجوز أن يقع نقيض متعلقه, فإن الجبل إذا علم بالعادة أنه حجر جاز أم ينقلب ذهبًا عقلًا؛ لأن ذلك ممكن لذاته, والممكن جاز أن يقع بقدرة الفاعل المختار, ولو قال المصنف بدل يستلزم جواز النقيض: لجواز

النقيض, لكان أحسن. وأجيب: بأن الجبل إذا علم بالعادة أنه حجر, استحال ألا يكون حجرًا إلا في العقل ولا في الخارج, حالة تعلق العلم بكونه حجرًا, وإلا لجاز اجتماع النقيضين, بخلاف الظن فإنه إذ ذاك يحتمل النقيض. ومعنى التجويز العقلي: لو قدر نقيضه لم يلزم منه محال لنفسه؛ لأنه ممكن لذاته, لكن الممكن لذاته قد يمتنع لغيره وهو وجود مقابله, فتدخل العلوم العادية تحت الحد, لأنها لا تحتمل وقوع النقيض عقلًا ولا خارجًا لأجل الغير. قيل: العادة تمنع من احتمال النقيض في الذهن, أما في الخارج فلا؛ لأن غايتها الجزم, ولا يلزم مطابقته. وأجيب: بأن النفس اكتفت بالعادة أن النقيض وإن كان ممكنًا لذاته, لكنه ممتنع لغيره. قلت: لقائل أن يقول: لما كانت العادة قابلة للانخراق, لم تكن مانعة من احتمال نقيض المعتاد في الخارج عند الجزم به, لاحتمال أن تكون منخرقة في تلك الحال, بل وقع؛ لأن الصحابة كانوا يرون رجلًا لا يشكون أنه دحية وكان

الظن والشك والوهم

جبريل, غايته أن النفس لتمكنها وعدم اطلاعها على الخرق لا تحتمل النقيض عندها, أما / لأنه لا يحتمل في الخارج فلا. قال بعضهم: الحكم على الحجر حالة المشاهدة أنه حجر علم, وبعد الغيبة الحكم عليه بذلك اعتقاد, لاحتمال أن لا يكون حجرًا حينئذ. قال: (واعلم أن ما عنه الذكر الحكمي, إما أن يحتمل متعلقه النقيض بوجه ما أو لا, والثاني العلم. والأول, إما أن يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدره أو لا, والثاني الاعتقاد, فإن طابق فصحيح, وإلا ففاسد. والأول, إما أن يحتمل النقيض وهو راجح أم لا. والراجح الظن, والمرجوح الوهم, والمساوي الشك, وقد علم بذلك حدودها). أقول: قال في المنتهى: «واعلم أن الذكر النفسي إما أن يحتمل متعلقه النقيض [بوجه أو لا]» , وعدل عنه هنا؛ لأن الذكر النفسي حكم, والشك والوهم اختلف في مقارنتهما الحكم. واعلم أن الحكم الذي هو إيقاع النسبة أو انتزاعها تابع لتمييز تلك

النسبة؛ لأن الحكم بوقوع الشيء فرع تميزه عن غيره؛ لأنا إذا أدركنا [أولًا] نسبة بين شيئين بنفي أو إثبات, ثم ميزنا أن الحاصل مثلًا هو الإثبات, حكمت النفس بأن الإثبات هو المطابق لما في الخارج, فما عنه الذكر الحكمي هو تمييز النسبة, والذكر الحكمي يعم النفسي واللفظي, ومتعلق ما عنه الذكر الحكمي النسبة المعينة بنفي أو إثبات لا ما في نفس الأمر, لا لما قيل بأن ما في نفس الأمر لا يحتمل النقيض, لأنه قد يحتمله بتشكيك مشكك, بل لأنه قد يتعلق بغير ما في نفس الأمر عند عدم المطابقة والعلم الذي خرج حده هنا أخص من الأول, لتعلق ذلك بالمفرد. واحتاج المصنف إلى هذا التقسيم لوقوع الظن في تعريف النظر, وأيضًا سائر الإدراكات يفهم من قوله في حد العلم: (صفة توجب تميزًا لا يحتمل النقيض) , فلذلك شرع في تعريف الجميع بالتقسيم. لا يقال: قوله: (لو قدر لم يلزم من محال لنفسه) مناف لما هنا, فإن جواز النقيض بتقدير المقدر ينافي عدم احتمال النقيض عند الذاكر لو قدره. لا لما قيل: إن التجويز العقلي من غير الذاكر فلا منافاة؛ بل لأن العلوم العادية لا تحتمل النقيض عند الذاكر لو قدر النقيض لا عقلًا ولا خارجًا [ولا عند غيره] لأجل الغير, وإلا لجاز اجتماع النقيضين, وإن جوزنا النقيض نظرًا إلى ذاته.

إذا ثبت هذا, فما عند الذكر الحكمي ولا يحتمل متعلقه النقيض بوجه لا في الخارج لمطابقته, ولا عند الذاكر لكون الحكم جزمًا, ولا بتشكيك مشكك لكونه ثابتًا, هو العلم. وإن احتمل متعلقه النقيض بوجه, فإما أن يحتمل ذلك عند الذاكر لو قدر النقيض أو لا, والثاني الاعتقاد وهو: ما عنه ذكر حكمي ولا يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر فقط, فالمعتبر فيه الجزم فقط, والصحيح منه ما عنه ذكر حكمي ولا يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر بتقديره فقط مع كونه مطابقًا, والفاسد ما عنه ذكر حكمي ولا يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر بتقديره فقط مع عدم المطابقة, والأول وهو ما يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدر النقيض يلزم منه أن يحتمل النقيض بتشكيك مشكك, ويجوز احتمال نقيضه في الخارج, فهذا انتفى فيه الجزم والثبات دون المطابقة, وهذا ثلاثة أقسام: - فما عنه الذكر الحكمي واحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر بتقديره مع كونه راجحًا هو الظن. - وما عنه ذكر حكمي واحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر بتقديره مع كونه مرجوحا هو الوهم. - وما عنه ذكر حكمي واحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر بتقديره [النقيض] مع تساوي طرفيه هو الشك.

أقسام العلم: التصور، والتصديق

وعُلم بهذا الحصر حدود سائر / الأقسام, يعني حدودًا رسمية, وهو ظاهر. قال: (والعلم ضربان: علم بمفرد, ويسمى تصورًا ومعرفةً. وعلم بنسبة, ويسمى تصديقًا وعلمًا). أقول: لما كان علم الشرع للفكر فيه مجال في اكتساب بعض تصوراته وتصديقاته, احتيج إلى قواعد من علم المنطق لكيفية اكتسابها بالحدود والدلائل, ولو أحالوها على كتب الأوائل لعسر على كثير من علماء الشرع الشروع فيما ليس شرعيًا مع عدم الاحتياج إلى كثير منها في الشرع, فانتزع منها القدر المحتاج وجعل مقدمة للأصول التي هي أدلة الفقه, صونًا للذهن عن الغلط في أصول الأحكام الشرعية, فهي [من] تتمة مبادئ هذا الكتاب, مع أنه لا بيان لها في علم شرعي مشهور, فبينها ها هنا كما فعل الغزالي. قوله: (العلم ضربان) تقسيم للعارض الذي هو العلم بالمعروض الذي هو المفرد وإيقاع النسبة, والعلم المقسم هو الصورة الحاصلة عند الذات المجردة, وهذا خير من قولهم: حصول صورة الشيء عند العقل, لخروج علم الواجب, وخير من قولهم: حصول صورة من الشيء عند العقل, لما

تقدم [ولخروج شيء من الصورة] وأيضًا [الأشياء] التي لا وجود لها في الخارج ليست [أشياء] انتزعت هذه منها, مع أن علم الله تعالى غير منتزع من شيء, والألف واللام في الشيء في الرسمين معًا ليست للعهد فلا يرد قولهم: صورة الشيء إن لم تكن مطابقة له, لم تكن صورة له. إذا عرفت هذا فالعلم بهذا المعنى يصدق على الجهل والتقابل بين المفرد, وإيقاع النسبة تقابل العدم والملكة, وإنما حملنا قوله: (وعلم بنسبة) على إيقاع نسبة؛ لأن العلم بنفس النسبة تصور, فما ليس إيقاعًا بنسبة مفرد, سواء كان مركبًا أم لا, والعلم المتعلق به في الحالين يسمى تصورًا, ولهذا كان العلم المتعلق بنفس النسبة تصورًا, والمنطقيون يسمون ما يتعلق بالمفرد تصورًا لأنه ليس إلا حصول صورته, ويسمون ما تعلق بإيقاع نسبة أو انتزاعها تصديقًا؛ لأنه ليس إلا الحكم بأن هذا مطابق لما في الخارج أو لا. وسمي تصديقًا له بأشرف عارضيه, وبعض الأصوليين يسمون الأول معرفة؛ لأن العلم يتعلق بالنسبة, فلهذا يتعدى إلى مفعولين, والمعرفة تتعلق بالمفرد, فلهذا تتعدى إلى واحد فقط, والتصديق نفس الحكم عند

الفارابي وابن سيناء, وعند الإمام فخر الدين ومن تابعه الحكم جزء التصديق, والمصنف لم يصرح بواحد من الرأيين. فقيل على الأول: الحكم من مقولة أن يفعل, والعلم من مقولة أن ينفعل, أو من مقولة الكيف, وأيًا ما كان لا يندرج الحكم تحته. وأجاب بعض أهل العصر: بأن النفس ليس لها تأثير, وإنما لها قبول وإذعان وإدراك لوقوع النسبة, فالحكم من مقولة الكيف, فدخل تحت العلم. قال: لأن الأفكار ليست موجدة للنتائج, بل معدات للنفس لقبول الفيض, فدل ذلك على أن الحكم صورة إدراكية, إذ لو كان فعل النفس كانت موجدة للنتائج, وفعل الشخص لا يحصل من غيره.

قلت: فيه نظر؛ لأن الحاصل من الله تعالى الإقدار, وهو معنى قولهم: النتيجة تفيض, وإلا لم يضف إلينا فعل؛ إذ الجميع فعل الله. والحق أن الذي يخرجنا عن هذا, أن نقسم العلم كما فعل ابن سينا إلى تصور ساذج, وإلى تصور معه تصديق. قيل عليه: الإدراك الساذج إن كان إدراك الحقيقة من حيث هي والمقسم كذلك, انقسم الشيء إلى نفسه وغيره, وإن كان الإدراك المقيد بعدم الحكم, لزم شرط الشيء بنقيضه إن جعلنا التصور / شرط التصديق, أو تقوم الشيء بالنقيضين إن جعلناه جزؤه. وجوابه: أنه الإدراك الذي لا يعتبر معه الحكم, ولا امتناع في تقوم الإدراك الذي يعتبر معه الحكم بالإدراك الذي لا يعتبر معه الحكم, كما أنه لا امتناع في تقوم الأربعة - التي يلحقها الزوج - بالثلاثة التي لا يلحقها. سلمنا, ونختار الثاني, والموجود في التصديق ما صدق عليه التصور لا مفهومه؛ لأن كثيرًا من يحكم ولا يعرف مفهوم التصور, ولا يلزم أن يكون عدم الحكم معتبرًا في التصديق, وإنما يلزم ذلك لو كان مفهومه ذاتيًا لما تحته, أما مع جواز كونه عرضيًا فلا.

تقسيم العلم إلى: ضروري، ونظري

قيل على القائل الحكم جزء التصديق: المركب إن لم تكن له صورة اجتماعية لم يكن شيئًا واحدًا, وإن كانت فحينئذ إن اعتبرت يكون التصديق مركبًا من العلم والمعلوم؛ لأن الصورة الاجتماعية لا تكون علمًا, والمركب من العلم وغيره ليس علمًا, وإن لم تعتبر كان التصديق علومًا. وأجيب: نختار الثاني, فيكون علومًا تصورية, وعلمًا واحدًا تصديقيًا. قال: (وكلاهما ضروري ومطلوب. فالتصور الضروري: ما لا يتقدمه تصور يتوقف عليه, لانتفاء التركيب في متعلقه, كالوجود والشيء. والمطلوب بخلافه, أي تطلب مفرداته بالحد). أقول: يعرف الحصر من تعريفهما, وليست التصورات والتصديقات كلها كسبية وإلا لما حصل لنا شيء بدون الكسب, ولا ضرورية وإلا لما احتجنا إلى اكتساب, بل بعضها ضروري وبعضها نظري. قيل: تقسيم كل واحد منهما إلى ضروري ونظري, بل تقسيم العلم إلى ذلك فاسد؛ لأن مورد القسمة علم, وكل علم إما ضروري وإما نظري, فمورد القسمة إن كان ضروريًا لم ينقسم إلى النظري, وإن كان نظريًا لم ينقسم إلى الضروري. وأجيب: بأن المقسم ما صدق عليه علم, وبعضه ضروري وبعضه

نظري, مع أن الوسط لم يتحد؛ لأن [محمول] مورد القسمة مفهوم, والعلم والحكم في الكبرى على الأفراد, ولو سلم, اخترنا أنه ضروري. وقوله: لا يصدق على [النظري] نمنعه؛ لأن كونه ضروريًا وصف له, ولا يلزم من صدق شيء على شيء صدق وصفه عليه, كالأبيض الذي يوصف له الحيوان, والحيوان صادق على الزنجي, ولا يصدق الأبيض عليه, وذلك لأن طبيعة الأعم يجب اتصافها بالأمور المتقابلة, لتحققها في الصور المتعددة, فالتصور الضروري ما لا يتقدمه تصور يتوقف عليه, فيشمل ما لا يتقدمه تصور أصلًا, وما يتقدمه إلا أنه لا يتوقف عليه. وقوله: [لانتفاء التركيب في متعلقه] تعليل لقوله: لا يتقدمه تصور [يتوقف عليه الاستدلال, لأن الحد لا يحصل ببرهان] كما سيأتي, أي يجب أن ينتفي التركيب مطلقًا عن متعلق التصور الضروري, إذ لو تركب بوجه ولو من الداخل والخارج, لتوقف تصوره على تصور سابق عليه, فحينئذ الضروري ما كان بسيطًا بكل اعتبار, كالوجود والشيء. قيل عليه: الكلي متفرع من الجزئي, فتصور الوجود والشيء جزئيًا غير

التصور الضرورى

بسيط, وكليًا غير ضروري, إذ [قد] يتقدمه ما يتوقف عليه. أجيب: لأن هذا التقدم شرط, وليس لانتفاء التركيب ولا لوجوده, والضروري هو ما لا يتقدمه تصور يتوقف عليه, لانتفاء التركيب في [متعلقه] , والكسبي ما يتقدمه تصور عليه, لوجود التركيب في متعلقه, فعلم أن كلامه يقتضي أن يكون متعلق التصور الضروري بسيطًا, لا أن يكون كل بسيط ضروريًا, إذ البسيط الذي يتوقف على تصور لازم خارج عن حقيقته / لا يصدق عليه الحد؛ لأن هذا يتقدمه تصور يتوقف عليه. والتصور الضروري عند الجمهور: ما لا يتوقف على كسب وإن كانت أجزاؤه ضرورية, فكل تصور ضروري بتفسير المصنف ضروري بتفسير الجمهور على ما ذكرنا, لا على ما ذكر بعض الشراح, ولا ينعكس. والتصور المطلوب بخلافه, أي ما يتقدمه تصور يتوقف عليه لوجود التركيب في متعلقه, فيدخل البسيط الذي قدمناه, ويدخل الضروري

التصديق الضروري

الأجزاء؛ لأنه يتقدمه تصور يتوقف عليه, وليس ضروريًا بنفسه لكن بضرورة الأجزاء, فكان معرفًا بها, ولا نزاع فيه. وقوله: (أي تطلب مفرداته بالحد) تفسير للتصور المطلوب اصطلاحًا وليس بحد؛ لأن الحد فهم من قوله: (بخلافه) , وكان المعنى: لا يسمى مطلوبًا إلا بطلب مفرداته, وكأنه ميل إلى مذهب القدماء في أن تصور المطلوب لا يحصل بمفرد؛ لأن المجهول يستحصل بالفكر, وهو ترتيب أمور لا أمر واحد, والباء للسببية, فيكون الحد باعثًا على طلب المفردات, وبتفسير الجمهور ما يتوقف علي كسب, فالتصور النظري بتفسيره أعم منه بتفسيرهم. ومعنى (تطلب مفرداته) تستحضر بسبب الحد, إذ لا يلزم من تصور مفرداته أن تطلب مفرداته, إذ قد تكون حاصلة من غير نظر واكتساب. قال: (والتصديق الضروري: ما لا يتوقف تصديق يتوقف عليه. والمطلوب بخلافه, أي يطلب بالدليل). أقول: فسر التصديق الضروري بما لا يتقدمه تصديق, فجاز أن يكون طرفاه كسبيين أو أحدهما, فما لا يتقدمه تصديق, أو يتقدمه تصديق إلا أنه لا يتوقف عليه ضروري وإن توقف في تصور طرفيه على الكسب. قيل عليه: التصديق بالقضايا الضرورية الكلية من التصديق بجزئياتها, إذ

التصديق بالكلي من الجزئي, فهو مما يتقدمه تصديق يتوقف عليه. وأجيب: بأنه لا معنى للجزئي إلا ما موضوعه جزئي, وتصور الكلي مشروط بتصور الجزئي لا بالحكم عليه جزئيًا, فالتصديق الكلي مشروط بتصور الجزئي لا بالحكم على الجزئي, والتصديق المطلوب بخلافه, أي بخلاف الضروري, فهو ما يتقدمه تصديق يتوقف عليه, وفسره بأن قال: (أي يطلب بالدليل) لأنه لما كان مجهولًا, والمجهول من التصديق إنما يطلب بالدليل, فلذلك التصديق الذي يتقدمه هو الدليل, وعبر عن التصديق المطلوب بلازمه كما فعل في التصور المطلوب, ليفيد من حد التصديق المطلوب حد التصديق الضروري وبالعكس, وهو ظاهر, ولهذا اجتزأ بقوله: (والمطلوب بخلافه). قال: (وأورد على التصور: إن كان حاصلًا فلا طلب, وإلا فلا شعور به, فلا طلب. وأجيب: بأنه يشعر بها وبغيرها, والمطلوب تخصيص بعضها بالتعيين. وأورد ذلك على التصديق. وأجيب: بأنه تتصور النسبة بنفي أو إثبات, ثم يطلب تعيين أحدهما, ولا يلزم من تصور النسبة حصولها, وإلا لزم النقيضان). أقول: أورد الإمام فخر الدين شكًا على امتناع طلب التصور, وهو لبعض القدماء, تقديره: أن التصور إما أن يكون حاصلًا أو لا, وعلى

التقديرين يمتنع طلبه, أما على الأول فلامتناع [طلب] تحصيل الحاصل, وأما على الثاني فلامتناع طلب النفس ما لا شعور لها به. لا يقال: إنه حاصل من وجه دون وجه؛ لأنه يعود الكلام في المطلوب من وجهيه. والجواب: أن المطلوب الماهية ذات الوجهين لا الوجهان, بمعنى أن الماهية المطلوبة وغيرها / حصل الشعور بها من جهة [ذاتي أو] عرضي شامل للماهية وغيرها, والمطلوب تصورها على وجه يعين الماهية عن تلك الأمور التي يتردد الذهن فيها بسبب الأمر المشترك, فالشعور بالشيء شرط في طلبه, وشرط الشيء لا ينافيه. لا يقال: تخصيص بعضها بالتعيين إنما يحصل بعد العلم بالمعنى المختص بها من ذاتي أو عرضي, وذلك يتوقف على العلم باختصاصه بها, والعلم باختصاصه بها يتوقف على ثبوته لها دون ما عداها, وذلك يتوقف على معرفةٍ ما, ومعرفتها تتوقف على معرفة المعنى المخصوص والعلم باختصاصه وهو دور, وعلى معرفة ما عدا ذلك الشيء مفصلًا وهو محال, لامتناع إحاطة الذهن بما لا يتناهى. لأنا نقول: العلم بها يتوقف على اختصاصه بها لا على العلم باختصاصه؛ لأنه إذا كان بين الشيء ووصفه المادي لزوم بين, كان الشعر بالوصف مستلزمًا للشعور بذلك الشيء, وإن لم يخطر لنا أن الوصف مختص.

وأورد الشك المذكور على التصديق, وتقريره كما تقدم, وتحتمل على بعد أن يكون أورد نقضًا على الشك, أي لو صح ما ذكرتم لزم في التصديق, لكن التصديق بعضه مطلوب عندكم. والجواب: أنا نختار أنه غير حاصل. قولكم: يمتنع طلبه نمنعه, وإنما يلزم ذلك لو جهل مطلقًا, أما إذا كان طرفاه متصورين, والنسبة بينهما متصورة بالنفي و [متصورة] بالإثبات, فيتوجه الذهن بسبب ذلك إلى طلب العلم, فإن الحاصل في الخارج هو الإيجاب عينًا أو السلب عينًا الذي كان مجهولًا. فالنسخ التي بالواو في قوله: (بنفي وإثبات) يكون المعنى: ثم يطلب تعيين أحدهما أي إحدى النسبتين للمطابقة؛ لأنه إذا تصور النسبتين طلب بالدليل الواقعة منها, ولابد من هذه الضميمة, إذ تعيين إحدى النسبتين ليس بتصديق فلا يطلب بالدليل, وإنما المعنى يطلب تعيين إحداهما للمطابقة أو اللامطابقة. والنسخ التي فيها (أو إثبات) بأو, أي يعلم وقوع إحدى النسبتين لا بعينها والمطلوب [بالدليل] تعينها, وهو بعيد من لفظ المصنف, لقوله: (تتصور النسبة) , ولقوله: (ولا يلزم من تصور النسبة حصولها) , وحمل أيضًا على أن النسبة الإيجابية أو السلبية متصورة ولا تكون حاصلة, فمن

الحد وأقسامه

حيث التصور يتوجه الذهن نحو الإيقاع أو الانتزاع, وهذا أيضًا بعيد, وإلا لقال: ثم يطلب حصولها, فنسخ الواو خير كما سبق في جواب شك التصور. وقوله: (ولا يلزم من تصور النسبة حصولها) , جواب عن سؤال تقديره: النسبة المذكورة إن لم تكن معلومة امتنع الطلب, وإن علمت والعلم بها يستلزم حصولها ووقوعها في الخارج, فلو طلب لزم تحصيل الحاصل؟ . أجيب: باختيار القسم الثاني, ولا يلزم من تصور النسبة حصولها في الخارج, لأنا نتصور خلاف الواقع, فلو لزم من تصور الشيء حصوله في الخارج لزم خلاف الواقع, ويلزم وقوع النقيضين, والحمل على هذا أولى من قولهم: لأنا نتصور النقيضين, فلو لزم من التصور الحصول لحصل النقيضان في الخارج؛ لأن النقيضين لا يتصوران عند المصنف. هذا على تقدير أن يكون المراد بالحصول في لفظ المورد الحصول في الخارج, إن أراد أن تصورها يستلزم حصولها أي التصديق بها, بل هو نفس حصولها في الذهن, فالطلب تحصيل الحاصل. فالجواب غير ما ذكر المصنف وهو: أنه لا نسلم أنه مطلوب حينئذ. قال: (ومادة المركب: مفرداته, وصورته: هيئته الخاصة. والحد: حقيقي, ورسمي, ولفظي. فالحقيقي: ما أنبأ عن ذاتياته الكلية المركبة. والرسمي: ما أنبأ عن الشيء بلازم له مثل: الخمر مائع يقذف بالزبد.

واللفظي: ما أنبأ بلفظ أظهر مرادف مثل: العقار: الخمر. وشرط الجميع الاطراد والانعكاس, أي إذا وُجد وُجد, وإذا انتفى انتفى). أقول: لما كانت المطالب منحصرة في التصورات والتصديقات, والمطالب التصورية إنما تكتسب من المعرفات, والمطالب التصديقية إنما تكتسب من الأدلة, جعل الكلام في القسمين, وبدأ بالمعرف لتقدم التصور على التصديق, فتكلم على مادته وصورته ومدارك الخلل فيه. واعلم أن كل مركب ذهني أو خارجي له مادة بها يتكثر, وصورة بها يتوحد, ثم تلك الهيئة قد تكون زائدة على مجموع المفردات, كالمزاج الحاصل لأجزاء المعجون, وقد لا تكون إلا بحسب التعقل كالحاصل للعشرة فالمادة ما كان المركب معه بالقوة كالخل والعسل للسكنجبين, والصورة ما كان المركب معه بالفعل كشراب السكنجبين, فمادته مفرداته التي يحصل هو من التآمها, وأقلها اثنان, ويقال لها: الأجزاء المادية. وصورته: هيئته الخاصة التي هو عليها, الحاصلة من التآم الأجزاء, وفي

بعض النسخ الحاصلة أي بالفعل من التآم الأجزاء. واعلم أن الحد عند الأصوليين: ما يميز الشيء عن غيره, بحيث يتناول [جميع] أفراد ذلك الشيء ولا يتناول غيرها, وينقسم عندهم إلى: حقيقي, ورسمي, ولفظي, وإطلاق اسم الحد على الأول حقيقة دون الباقيين, ولذلك سمي بالحقيقي, إذا لفظ الحد يعطي الإحاطة وذلك إنما يكون للحد التام وهو: ما أنبأ عن ذاتيات المحدود الكلية المركبة, فعن ذاتياته يخرج العرضيات, فإن المنبئ عنها رسم, ويفهم منه جميع الأجزاء المادية؛ لأن الجمع المضاف يعم, قلت: ولا ينعكس لخروج ما أنبأ عن ذاتيتين.

وقوله: (الكلية) يخرج [الذي له] الذاتيات الجزئية. كالشخصيات للشخص من حيث هو شخص, فإنها وإن كانت ذاتيات لكن لا يحد بها, إذ الشخص لا يحد؛ ولأن الشخصيات يمكن ارتفاعها بالنظر إلى ذاتها مع بقاء المحدود, فلا يعرف بها. وقوله: (المركبة) أي بقيد تركيب بعضها مع بعض, فاعتبر الإنباء عن الذاتيات عند وصف تركيبها على وجه [حصل] لها صورة وجدانية. فلو قال قائل: السكنجبين خل وعسل, لم يكن حدًا؛ لأنه أنبأ عنها مفردة لا مركبة. وقيل: المراد بالمركبة المرتبة بالترتيب الذي هو في نفس الأمر, من تقديم الجزء الأعم على [الجزء] الأخص, ولا يخفى ما فيه؛ لأنه حينئذ يكون [ذلك] للفظ الحد, والمعنى على خلافه. واعلم أن الماهية تتركب من الأجناس والفصول, وقد تتركب لا

منها, وهما معًا يحدان بالحد الحقيقي على الأصح, وحد المصنف يتناولهما. وظاهر كلامه أن تقديم الفصل على الجنس لا يخرجه عن كونه حدًا حقيقيًا, وهو قول بعض المتأخرين, وظاهر كلام الشيخ. فإن قلت: ظاهر كلام المصنف أن الحد الحقيقي بمجموع الأجزاء المادية والصورية, والمحققون من المنطقيين يقولون: التعريف بالمادة لا بها مع [الصورة]؛ إذ مجموعهما نفس الشيء, ولا يعرف الشيء بنفسه. ولا يرد ذلك في التعريف بالمادة, بأن / يقال: الجزء إنما يعرف إذا عرف الجميع, فيعرف نفسه, لجواز أن يكون غنيًا عن التعريف, أو معرفًا بغير ما عرف به الكل. ولا يرد أنه إنما عرف الأجزاء وهو خارج عن الأجزاء فيكون تعريفًا بالخارج؛ لأن الجزء عرف الماهية المركبة بواسطة تعريفه للأجزاء. قلت: الحق أن التعريف بجميع الأجزاء, وقولهم: هي نفسه, قلنا:

المجمل غير المنفصل؛ لأن المعرف هو مجموع التصورات, والتغاير بين مجموع التصورات وتصور المجموع ظاهر, لتقدم الأول على الثاني, وقد نصوا على أن الحد الحقيقي يدل على المحدود مطابقة, وكيف يدل لفظ الجزء على الكل مطابقة وليس اللفظ بمشترك؟ , فإذن التعريف بمجموع الأجزاء, وهي وإن كانت عينًا باعتبار, فهي غير باعتبار, فللمعنى لفظان: لفظ من حيث الإجمال وهو اللفظ المفرد الموضوع للمحدود, ولفظ مركب وهو من حيث التفصيل, وذلك لفظ الحد, وكلاهما يدل على المحدود مطابقة, وهما غير مترادفين, ضرورة أن ما دل على الشيء بطريق التفصيل غير ما دل عليه إجمالًا, فالحد إنباء عن المحدود تفصيلًا, وهو معنى قوله: (أنبأ عن ذاتياته) لأنه أنبأ عنه بإنبائه عن ذاتياته, وهو معنى قوله: (لأن الحد يدل على المفردات) , فلفظ الأجزاء المادية دل عليها وتركيبها على وجه حصل لها صورة وجدانية مطابقة للمحدود يدل على الجزء الصوري, فدل الحد على المحدود مطابقة. وقوله: (والرسمي ما أنبأ عن الشيء بلازم له) أي لا عن ذاتياته, وبلازم له يخرج المفارق, كالضحك بالفعل, واللام في قوله: (له) للاختصاص, إذ لو لم يكن مختصًا لم يكن مطردًا, ولابد وأن يكون ظاهرًا على ما يأتي, والمثال المذكور غير مطرد وغير منعكس, لكن لا اعتراض على المثال.

قيل: قوله (بلازم له) أي بما يدل عليه بالالتزام, ليدخل [الحد] الناقص بقسميه, والرسم التام, فإنها معرفات, ودلالة جميعها على المعرف بالالتزام, وقوله من قال: دلالة الالتزام مهجورة في التعريفات, ليس بصحيح, بل المعنى أن الدال بالالتزام لا يقال في جواب ما هو؟ , وإلا فدلالة ما ذكرنا بالالتزام. وقال صاحب القسطاس: الحاد والراسم لا يقصد بالحد الناقص والرسم التام والناقص ماهية المحدود والمرسوم وإلا لفسد, لاستعمال المجاز في التعريف, وإنما يقصد مدلول الحد الناقص؛ لأن القصد تمييز الماهية, والمميز هو المدلول المطابقي, فالضاحك دل مطابقة على شيء له الضحك, أو الشيء الذي له الضحك يتميز بالضحك, فلا تعتبر دلالة الالتزام في التعريف. قلت: الحق أن الحاد والراسم له قصدان, تصور المفهوم المطابقي من

الحد الناقص والرسم والآخران, وينقل الذهن من المفهوم المطابقي إلى تصور ماهية المحدود والمرسوم, إذ لو قصد الأول فقط لم يكن معرفًا, إذ لم يدل على المحدود, فثبت أن دلالتها على مدلولاتها مطابقة, وعلى ماهية المحدود التزام, فتكون دلالة الالتزام معتبرة في التعريفات, وكونها مجازات لا تمنع الاستعمال في التعريفات بقرائن. وقوله: (واللفظي ما أنبأ بلفظ أظهر مرادف) أي ما أنبأ عن الشيء بلفظ أظهر دلالة عليه, مرادف للفظ آخر أخفى دلالة عليه, وسمي لفظيًا لأنه تعريف للمعنى بلفظ للجهل بالوضع عند من كان عالمًا بذلك المعنى, من حيث هو مدلول اللفظ الذي هو أظهر دلالة, وجاهلًا به من حيث هو مدلول اللفظ الأخفى / وهو يرجع إلى الرسمي عند التحقيق, فإنا [إذا] عرفنا مدلول العقار من حيث هو مجهول لنا, بمدلول الخمر من حيث هو معلوم, ومدلول الخمر خاصة لمدلول العقار؛ لأن مدلولية هذا غير مدلولية الآخر؛ لأنهما نسبتان, فإن مدلولية الخمر إلى لفظه غير مدلولية العقار إلى لفظه, فحينئذ لا اعتراض عليه, في أن كلامه يعطى أن اللفظي ما أنبأ عن اللفظ, ولا يعترض أيضًا بأن الخمر أنبأ بنفسه؛ لأن الخمر أنبأ بلفظ الخمر. وشرط الحدود الثلاثة الاطراد, وهو: أن يوجد المحدود كلما وُجد الحد, فلا يعرف الإنسان بأنه جسم نام حساس, لوجود الحد في الفرس وغير ولا محدود. والانعكاس, وهو: كلما انتفى الحد انتفى المحدود, فلا يعرف الإنسان

الذاتي

بالكاتب بالفعل لانتفاء الحد في الأمي ولم ينتف المحدود. وهو معنى قول المنطقيين: «بشرط المساواة في العموم والخصوص»؛ لأن الأخص أخفى, والأخفى لا يعرف, والأعم يتناول الغير. ومن فسر الاطراد بأنه: كلما وُجد أحدهما وُجد الآخر, والانعكاس: بكلما انتفى أحدهما انتفى الآخر, فليس بشيء, وإلا لاستغنى بأحدهما عن الآخر. ومن فسر الاطراد بالجمع, والانعكاس بالمنع, فهو اصطلاح غير متعارف. قال: (والذاتي: ما لا يتصور فهم الذات قبل فهمه, كاللونية للسواد, والجسمية للإنسان, ومن ثم لم يكن لشيء حدان ذاتيان. وقد يعرف بأنه غير معلل, وبالترتيب العقلي). أقول: لما ذكر الذاتيات في الحد الحقيقي, أخذ الآن يعرف الذاتي. واصطلاح المنطقيين تعريف الذاتي والعرضي أولًا, ثم الكليات الخمس, ثم المعرفات.

فقوله: (ما لا يتصور) معناه: ما لا يمكن, ويتصور - بفتح الياء - يستعمل بمعنى يمكن, وهو كذلك هنا, لدخوله على فهم, فيبعد أن يكون على بابه, فيكون ما لا يعلم فهم الذات قبل فهمه, ومراد المصنف هنا جزء الماهية, والتعريف الثاني يدل على ذلك, ونفس الذات وإن كان ظاهر كلام ابن سينا إنه يطلق عليها ذاتي, لكن لفظه: (لا يتصور فهم الذات قبل فهمه) يعطي المغايرة بين الذات والذاتي. قيل: المراد بقوله: (ما لا يتصور) أي الجزء المجهول الذي لا يتصور فهم الذات قبل فهمه, لا كل ما لا يتصور فهم الذات قبل فهمه, وإلا لزم أن يكون الجدار ذاتي للبيت, وهو غير المصطلح. قلت: فيه نظر؛ لأنا قدمنا أن الحد يكون للمركب مطلقًا ولو من غير الأجناس والفصول, والحد الحقيقي لا يكون إلا بالذاتيات, فذلك ذاتي, وهو اختيار الكاتبي. وقوله: (كاللونية للسواد والجسمية للإنسان) , الأول مثال لذاتي

العرض, والثاني مثال لذاتي الجوهر. والذاتي في الحقيقة اللون والجسم, واللونية والجسمية نسبتان خارجتان ليس شيء منهما جزءًا, وكل واحد من اللون والجسم لو قدر عدمه في العقل لارتفع السواد والإنسان. قلت: ولا يرد على التعريف المتضايفان؛ لأن تعقل الذات بسبب تعقل الذاتي, وتعقل المضاف بالقياس إلى مضايفه, وفرق بين أن يعقل الشيء بالقياس إلى غيره, وبين أن يعقل به, فكلامه محمول على أنه يسبق فهم الذاتي على فهمها, ويدل على ذلك أيضًا أنه قال في المنتهى: «إن الرسم الثالث يرجع إلى الأول, وفهم المضاف لا يسبق على فهم مضايفه, فدل على ما ذكرنا». واعلم أن الحقيقة المرسومة غير متصورة بالرسم, وإنما ميزت فقط, فلا يرد عدم العكس من تصورها بدون ذاتياتها, فلا يكون متناولًا لذاتياتها. قيل: لا / يطرد لدخول رسم البسيط؛ لأنه لا يتصور فهمه قبله

فيكون ذاتيًا, ولا يرد أيضًا لأنه لا تتصور ذات البسيط بالرسم, نعم تتميز. لا يقال: لا يطرد لدخول اللازم البين للجنس؛ لأنه لا يتصور فهم النوع قبل فهمه, لا لما قيل: لا يلزم من تقدم فهم الجنس على النوع تقدم فهم لازمه؛ لأنا نقول: اللازم البين هو الذي [يكفي] في تصوره تصور ملزومه, ففهم الجنس إذا كان متقدمًا يكون فهم لازمه متقدم؛ لأن فهم الجنس يستلزم فهم لازمه ولا يستلزم فهم النوع, بل الحق أن يسبق فهم هذا بالعرض. ومعنى الحد: ما يتوقف فهم الذات على فهمه, وفهم النوع لا يتوقف على فهم لازم الجنس وإن كان فهمه قبل فهمه, لكن لا مدخل لفهمه في فهم النوع. قيل: لا يطرد لدخول مبدأ كل فصل, كالنطق والحس والنمو, إذ ليس بذاتي حتى يحمل بالاشتقاق, مع أنه لا يفهم الإنسان دون فهمها. قلت: وهو مثل ما تقدم, لأن مبدأ الفصل ذاتي, ولا يشترط أن يكون جزءًا محمولًا, بل الذاتي أعم من كونه محمولًا أو لا. وقوله: (ومن ثم) أي من أجل امتناع فهم الذات قبل فهم ما هو

ذاتي, (ولم يكن لشيء واحد حدان [ذاتيان]) لأنا لا نتعقلها إلا بتعقل جميع ذاتياتها, ولا تعدد لجميع الذاتيات, ولأنا إذا تصورنا المحدود بالحد الأول, لم يكن الثاني حدًا ذاتيًا, وإلا لما تصورنا الذات قبل فهمه, نعم يتعدد من جهة العبارة بأن تذكر بعض الذاتيات بالمطابقة تارة و [تارة] تضمنًا, وغير المصنف العبارة ولم يقل: حدان حقيقيان, إشارة إلى أن الحد الناقص الذي يجوز تعدد ليس بذاتي. وعرف بعضهم الذاتي بأنه: [ما] لا يعلل - أي ثبوته - للذات غير معلل بعلة خارجة عن علة الذات, كاللون للسواد, فإن علة السواد علة اللون, بخلاف الزوجية للأربعة, فإنها معللة بالأربعة, فليس علة الذات لها, بل الذات علة لها. وقوله: (وقد يعرف) يشعر بأن هذا الحد مزيف عنده, ولا شك أنه كذلك؛ لأنه إن أراد ما لا يعلل بوجه فسد, وإن أراد لا يعلل ثبوته للذات فقد أخذ الذات في تعريف الذاتي, وعرفه بعضهم بالترتيب العقلي, أي الذي يتقدم الماهية في الوجودين: الذهني والخارجي, ويتقدمها في العدمين, أي متى وجدت بأحد الوجودين, حكم العقل بوجود الذاتي قبلها, ومتى

الجنس والفصل والنوع

عدمت بأحد العدمين, حكم العقل بعدم الذاتي أولًا, لكن المتقدم في جانب الوجود بالنسبة إلى جميع الأجزاء؛ لأن الكل إنما يوجد إذا وجد كل جزء, وفي جانب العدم بالنسبة إلى جزء؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء جزء, وهذا يرجع إلى الأول, ونص عليه في المنتهى. واعلم أن تقدم الجزء في الخارج إنما هو إذا كان وجود الكل مغاير لوجود الجزء, أما إذا كانا موجودين بوجود واحد كالإنسان والحيوان, فلا تقدم ولا تأخر. قال: (وتمام الماهية: هو المقول في جواب ما هو؟ وجزؤها المشترك الجنس, والمميز الفصل, والمجموع منهما النوع. والجنس: ما اشتمل على مختلف بالحقيقة, وكل من المختلف النوع, ويطلق النوع على ذي آحاد متفقة الحقيقة, فالجنس الوسط نوع بالأول لا الثاني, والبسائط بالعكس). أقول: لما بين الذاتي, أشار إلى أنه وما تركب منه ينحصر في الجنس, والفصل, والنوع. واعلم أن لكل شيء حقيقة هو بها هو, وتسمى ماهية, منسوبة إلى / ما هي؟ والسؤال لما هو طلب لحقيقة الشيء, فوجب الجواب بتمام الماهية طلبًا للمطابقة, فتمام الماهية هو المقول في جواب ما هو؟ كالحيوان الناطق

في جواب السؤال بما هو الإنسان؟ وكالحيوان المقول في جواب السؤال بما هو الإنسان والفرس؟ وكالإنسان في جواب السؤال بما هو زيد؟ فإنه تمام الماهية وأما مشخصاته فلا تدخل في التعقل, وإنما يتناولها إشارة حسية أو وهمية, فالقول في جواب ما هو؟ إما حد, وإما جنس, وإما نوع. وقوله: (وجزؤها المشترك الجنس) أي تمام الجزء المشترك الجنس, لنخرج فصل الجنس كالحساس, فإنه مشترك وليس بجنس لكنه ليس بتمام المشترك, ويدخل جنس الجنس كالجسم, لأنه تمام المشترك بين الحيوان وغيره, وجزؤها المميز الفصل فيتناول الفصل, وفصل الفصل, وفصل الجنس, وإن حمل على تمام المميز لم يتناول إلا الفصل, والمجموع من الجنس والفصل نوع إضافي. وقال: المجموع منهما, ولم يقل: مجموعهما؛ لأنه حد للنوع الإضافي أي المركب منهما نوع. قيل: المراد النوع المطلق وليس بشيء؛ لأن النوعين الحقيقي والإضافي إن كان متغايرين فلا اشتراك بينهما وهو الحق, وعلى قول من قال

إن الإضافي أعم, فلا نوع مطلق أيضًا. قلت: إلا أن يحمل على المطلق الذي ينقسم على الأربعة الإضافية فيكون جنسًا, ووجه الحصر أن ما ليس بعرض إما أن يكون تمام الماهية أو لا, والأول هو المقول في جواب ما هو؟ وينقسم إلى: الحد, والجنس, والنوع. والثاني إما أن يكون تمام جزءها المشترك بين تلك الماهية وغيرها أو لا والأول هو الجنس, والثاني الفصل, اختص بها أو لا؛ لأنه لا يكون جزءًا لجميع الماهيات, وإلا لانتفت البسائط, فيميزها عن البسائط المشاركة لها في الوجود. لا يقال: الحصر باطل لجواز تركب الماهية من أمرين أو أمور متساوية, إذ ليس شيء منها جنسًا ولا فصلًا, إذ ليس شيء منهما مشتركًا ولا مميزًا؛ لأنا نقول بعد تسليم تركيبها من أمرين أو أمور متساوية: لم لا يكون كل واحد فصلًا لتلك الماهية؟ . لا يقال: تلك الماهية ممتازة بنفسها كالبسائط والمعاني التي تتركب هذه الماهية منها, لما لم تفد تعين شيء مبهم كالجنس, ولا تحصل وجودًا غير محصل كالوجود الجنسي, فلا تكون فصولًا, وأما التميز في الوجود فكما يمتاز الجزء عما يشاركه في الوجود بذاته, كذلك المركب بذاته يمتاز إذ لا مشاركة لغيره في المركب؛ لأنا نقول: لما كان تحقق مفهومها متوقفًا على

تحقق الجزء, كان الجزء علة لتقدم مفهومها, فكان على لتميزها؛ لأنه لما لم يعتبر الجزء لم تكن هناك ماهية فضلًا عن امتيازها, ثم لما ذكر الجنس والنوع أراد أن يذكر رسمهما, ولما كان الجنس تمام الماهية المشتركة كما تقدم, وتمام الماهية مقول في جواب ما هو؟ كان الجنس ما اشتمل على مختلف بالحقيقة مقولًا عليها في جواب ما هو؟ . قوله: (مختلف بالحقيقة) خرج النوع الحقيقي, وبقوله: (في جواب ما هو؟ ) خرج الفصل, والخاصة, والعرض العام. وكل من المختلف المقول عليه وعلى غيره الجنس في جواب ما هو, نوع إضافي, واللام في المختلف للعهد, فيخرج الفصل والخاصة والعرض العام؛ لأن الجنس لا يقال على شيء منها في جواب ما هو؟ , ولا يرد الصنف من الشخص, لأن قوله: (مختلف بالحقيقة) أي بالماهية من حيث هي. وقوله: (بالحقيقة) يعطي ذلك, فيخرج الصنف والشخص؛ لأن اختلافهما بالعوارض, فاختلاف / الفرس المعين وزيد بالعوارض, والاختلاف بالحقيقة إنما هو يبين نوعيهما. ويطلق النوع بالاشتراك اللفظي على ذي آحاد متفقة الحقيقة مقول عليها في جواب ما هو؟ ويسمى نوعًا حقيقيًا, لأن نوعيته [ليس] بالقياس إلى الأعلى فوقه بخلاف الإضافي, فلا يرد فصل النوع الأخير, إذ ليس بمقول

في جواب ما هو؟ والأجناس تترتب متصاعدة إلى [ما] لا جنس فوقه وهو الأعلى كالجوهر, ومتنازلة إلى ما لا جنس تحته وهو الحيوان, وما بينهما هو الوسط, وقد يكون مفرد لا جنس فوقه ولا تحته, ويمثل بالعقل إن كان جنس للعقول العشرة ولم يكن الجوهر جنسًا له, ومراتب النوع الإضافي أيضًا أربعة كما في الجنس. وقوله: (فالجنس الوسط نوع الأول) إشارة إلى أن بين النوع الحقيقي والإضافي عموم من وجه, [فالإنسان نوع] بالتفسيرين, لأنه مقول عليه وعلى الفرس الحيوان وهو جنس, وأفراد الإنسان متفقة الحقيقة, والجسم النامي نوع بالأول؛ لأنه مقول عليه وعلى الحجر الجنس وهو الجسم, وليس نوعًا بالثاني لأن أفراده مختلفة الحقيقة, والبسائط نوع بالثاني, كالنقطة مقول على أفراد متفقهة الحقيقة, وليس مقولًا عليها الجنس وإلا لتركبت. قيل عليه: إنما يمتنع لو تركبت النقطة من أجزاء مقدارية وهي غير

العرضي

متركبة منها, وذلك لا ينافي تركبها من الجنس والفصل. وقوله: (والبسائط بالعكس) قضية مهملة لا كلية, ولهذا قال في المنتهى: «وبعض البسائط بالعكس» , وهي البسائط العقلية التي لا جزء لها عقلًا كالنقطة, لا كل البسائط, فإن الأجسام البسيطة مقول عليها الجوهر. لا يقال: الإضافي أعم, لأن الإضافي لابد وأن يندرج تحت مقولة من المقولات العشرة يكون إضافيًا؛ لأنا نمنع انحصار المقولات في العشر. لا يقال: الحقيقي أ‘م؛ لأن كل كلي فهو نوع حقيقي, باعتبار حصصه الموجودة في الجزئيات الداخلة تحته, ولهذا قال الحكماء: الأجناس العالية أنواع حقيقية بالنسبة إلى حصصها؛ لأنا نقول: الجنس العالي من حيث هو جنس لا يكون نوعًا حقيقيًا, لامتناع اتصاف الشيء الواحد بصفتين متقابلتين باعتبار واحد, نعم باعتبار آخر لا يضر, لجواز كون الشيء جنسًا وفصلًا ونوعًا باعتبارات, فهو نوع حقيقي باعتبار الحصص, لكن الكلام في الأفراد الحقيقية أو المتوهمة لا حصصها, إذ الكلي إنما يصير نوعًا بالقياس إليها, فليس بحقيقي بالنسبة إلى الأنواع, ولا إلى أشخاص الأنواع. قال: (والعرضي بخلافه, وهو لازم وعارض. فاللازم: ما لا تتصور مفارقته, وهو لازم للماهية بعد فهمها,

كالفردية للثلاثة, والزوجية للأربعة. ولازم في الوجود خاصة, كالحوادث للجسم, والظل له. والعارض بخلافه, وقد لا يزول كسواد الغراب والزنجي, وقد يزول كصفرة الذهب). أقول: لما فرغ من الذاتي, شرع في الكلام في العرضي. ولما كان اللازم المختص بمادة الرسمي قسمًا من العرضي, احتاج إلى بيان العرضي وهو يخالف الذاتي, فهو ما يمكن فهم الذات قبل فهمه, ويعلل ثبوته للذات بغير علة الذات, ولا يتقدم عقلًا. وينقسم العرضي إلى: لازم, وعارض. فاللازم: ما لا يتصور مفارقته, أي ما لا يمكن مفارقته, لا أنه لا تتصور مفارقته, وإلا لم يصح قوله: (ولازم في الوجود) لأنه تُصورت مفارقته في الفهم, ولذلك قال أهل الباطل بقدمها, وكذلك اللازم الغير بين. ثم اللازم ينقسم إلى: لازم الماهية, ولازم لوجودها فقط, فالأول لازم للماهية بعد فهمها / أي [لا] بعد تصورها [مجملًا] , فيخرج لازم الماهية في الوجود, فإنه لا يلزم فهمه بعد فهمها.

وقوله: (لازم للماهية بعد فهمها) يتناول اللازم بوسط وبغير وسط, والمثال إنما هو للازم بغير وسط. وقد يقال: لو اكتفى بقوله لازم للماهية, لكان أحسن, إلا أن يريد أنه يلزم من فهمها فهمه, فلا يتناول على هذا الوجه إلا اللازم البين. وأما اللازم في الوجود فقط, كالحدوث لسائر الأجسام عند أهل الحق, ولبعضها عند الفلاسفة, والظل له في الضوء بشرط كونه كثيفًا. وقد يقال: الظل للجسم مفارق, وكونه لازمًا بشرطين لا يدخله في اللازم, إذ ما من عرضي مفارق إلا ويلزم بشرط, لكن قد يكون الشيء لازمًا ومفارقًا باعتبارين, فكل مفارق لزم بشرط ولم تتصور مفارقته فهو لازم, وإن تصورت وإن لم يفارق فعارض. قلت: ولو عكس فمثل لازم الوجود بسواد الزنجي, ومثل العارض بالظل للجسم بشرطين, كان أولى. وقوله: (في الوجود) أي لا في الفهم. وقوله: (خاصة) أي لا الماهية؛ لأن الحدوث لا يتصور بلا وجود, وأحد المثالين أعم من ملزومه وبلا شرط, والآخر أخص منه وبشرط.

صورة الحد ومادته

والعارض بخلاف اللازم تمكن مفارقته, وقد لا يفارق عرض مع وجوده كسواد الزنجي, أو بعده كسواد الغراب, وقد يزول بطيئًا كصفرة الذهب, وسريعًا كحمرة الخجل, وكل من العارض واللازم إن اختص بأفراد حقيقة واحدة فخاصة, وإلا فعرض عام. قال: (وصورة الحد الجنس الأقرب, ثم الفصل, وخلل ذلك نقص وخلل المادة خطأ ونقص. فالخطأ كجعل الموجود والواحد جنسًا. وكجعل العرضي الخاص بنوع فصلًا فلا ينعكس. وكترك بعض الفصول فلا يطرد. وكتعريفه بنفسه, مثل الحركة عرض نقلة, والإنسان حيوان بشر. وكجعل النوع والجزء جنسًا, مثل الشرط ظلم الناس, والعشرة خمسة وخمسة). أقول: لما كان الحد مركبًا, وكل مركب له مادة وصورة, [أشار إلى مادته وصورته]. فقال: (وصورة الحد) يعني الحقيقي المركب من الجنس والفصل, لا كل حقيقي؛ لأن الحد المركب من الأجزاء الغير محمولة ليس فيه جنس ولا فصل, ولا يكون عدمها منه خللًا ولا نقصًا.

وأفاد بقوله: (الجنس الأقرب ثم الفصل) تصور المادة والصورة, أما المادة فالجنس القريب والفصل, وأما الصورة فلدلالة «ثم» على تأخر الفصل على الجنس القريب كما هو في العقل, ولذلك خص الصورة بالذكر لاستلزامها المادة. قيل: إنما أتى بثم دون الفاء لإفادتها تأخر الفصل من غير لزوم للجنس, بخلاف الفاء فإنه لو أتى بها لأشعر بعدم تخلف الفصل عن الجنس والواقع بخلافه, والحق أن الفاء أولًا, إذ لا مدخل للمهلة في الحد, والفصل لا يجوز أن يتخلف عن الجنس في الحد, وإن كان يجوز أن يتخلف عن الجنس من حيث إنه ذكر خلل الصورة أولًا؛ لأن الصورة أقرب إلى المحدود فرُوعي الأقرب أولًا. فقال: (وخلل ذلك نقص) أي وخلل الصورة بأن يوضع الفصل أولًا ثم الجنس بعده, وظاهر هذا الكلام أن تقديم الفصل حد ناقص, وكأنه لم يحصل صورة مطابقة للمحدود, ولا يكون خطأ لكونه أفاد تمييزًا ذاتيًا, وهو مذهب الأكثرين.

وظاهر كلام المصنف في تعريف الحد الحقيقي أنه حد تام. قال الكاتبي: «وهو ظاهر كلام الشيخ لاستلزامه الإحاطة, وإليه مال بعض المتأخرين». قال: إلا أن تقديم الجنس أولًا. قلت: ويصح حمل قوله هنا: (نقص) أي لم يأت على الصورة الكاملة لكونه ترك فيه الأولى, لا أنه ناقص بالاصطلاح, ويدل عليه قوله [بعد] في الخلل اللفظي: (والنقص كاستعمال الألفاظ / الغريبة) حيث فوت المقصود من الحد والرسم, وليس المراد أنه حد ناقص أو رسم ناقص بالمصطلح, ويعني حيث يكون مع قرينة أو مفسر؛ لأنه ترك الأولى حيث طال من غير فائدة لا مطلقًا, وإلا لم يكن معرفًا وكان خطأ لا نقصًا كما نصوا عليه. على أن السمرقندي جعل تقديم الفصل على الجنس من الفسادات المعنوية, وخلل المادة معنويًا خطأ, ولفظيًا نقص, فالخطأ منه ما يرجع إلى خلل الجنس, ومنه ما يرجع إلى خلل الفصل, ومنه ما يرجع إلى خللهما.

فمن الأول: جعل الموجود والواحد جنسًا [للإنسان] , وهما ليس بذاتيين, فجعلهما في الحد الحقيقي مكان الجنس خطأ, مع أنه لا ينعكس في الثاني, إذ لا يتناول إلا الواحد. ومن الثاني: جعل الخاصة غير الشاملة مكان الفصل, كتعريف الإنسان بأنه حيوان كاتب بالفعل, فهو خطأ, حيث جعل الخاصة مكان الفصل في الذاتي, مع أنه لا ينعكس لخروج الأمي. فيكون قوله: (فلا ينعكس) راجعًا إلى الاثنين, ويكون قوله: (خاصًا بنوع) ليس على إطلاقه, بل إذا كان غير شامل, أما إذا كان شاملًا كالضحك بالقوة انعكس. ومن الثاني: ترك بعض الفصول, كتعريف الحيوان بأنه جسم نامي فلم يأت في الحقيقة بجميع الذاتيات, مع أنه لا يطرد لدخول النبات إذا كان المتروك الفصل القريب, وإلا لم يرد غير الأول. ومن الثاني: جعل نفس الشيء مكان الفصل, ففيه تعريف الشيء بنفسه, والمحدود [في] الأول عرض, والثاني جوهر, والحركة نفس النقلة, والإنسان نفس البشر, وقد جعلا مكان الفصل. ومن الثالث: جعل النوع والجزء الغير محمول مكان الجنس والفصل,

مادة الرسم

الأول: جعل ظلم جنس للشر, وإضافته إلى الناس فصل, ويدخله عدم العكس, والثاني منه: جعل الجزء المقداري جنسًا وفصلًا والخمسة جزء العشرة, ولا تحمل وحدها ولا بانضمام خمسة أخرى إليها, بل المحمول مجموع الخمستين, والعشرة لم تتركب من الجنس والفصل, وإنما تتركب من آحادها, وليس شيء منها جنسًا ولا فصلًا, ولما لم تحصل لها صورة زائدة بعد الاجتماع, لم تحد حدًا حقيقيًا, بخلاف البيت المركب من الجدار والسقف؛ لأنه وإن لم يتركب من الجنس والفصل, لكن له أجزاء مادية وجزء صوري, فيحد بها حدًا حقيقيًا, فيقال: البيت جدار مسقوف. قال: (ويختص الرسم باللازم, الظاهر لا يخفى مثله ولا أخفى. ولا بما يتوقف عقليته عليه, مثل الزوج عدد يزيد على الفرد بواحد. وبالعكس فإنهما متساويان, ومثل النار جسم كالنفس, فإن النفس أخفى, ومثل الشمس كوكب نهاري, فإن النهار يتوقف على الشمس. والنقص كاستعمال الألفاظ الغريبة والمشتركة والمجازية). أقول: لما فرغ من مادة الحد وصورته, شرع في مادة الرسم, ولم يتكلم على صورته؛ لأنه قد لا يكون مركبًا. فقال: (ويختص الرسمي باللازم) , والألف واللام للعهد, أي المختص ويكون ظاهرًا, لأنه إذا لم يكن لازمًا لم ينعكس, ولو لم يختص لم يطرد. وأما كونه ظاهرًا فلينتقل الذهن منه إلى المعرف, فمعناه: ويختص مادة الرسمي باللازم الظاهر.

وخلل مادة الرسمي خطأ, بأن يكون اللازم مساويًا للمحدود في الخفاء أو يكون أخفى منه, أو يكون مما يتوقف تعقله على المحدود, والخفي لا يعرف الخفي, لامتناع الترجيح من غير مرجح, ولا يعرف الأخفى الأظهر لامتناع ترجيح المرجوح, ولا ما تتوقف عقليته على الشيء للزوم الدور, ولا مدخل / لهذا النوع من الخلل في الحقيقي, على أنه لا يبعد ذلك أيضًا فيه. مثال الأول: تعريف الزوج بأنه عدد يزيد على الفرد بواحد, على رأي من جعل تقابلهما تقابل الضدين, أما من جعل تقابلهما تقابل العدم والملكة فيصح تعريف الفرد بأنه عدد ينقص عن الزوج بواحد؛ لأن الملكة أعرف دون العكس لأنه أخفى. قيل: المراد بقوله: (وبالعكس) أي ما يزيد على الفرد بواحد فهو زوج, ورجحه بتقديم قوله: وبالعكس, فإنهما فيه متساويان, وهذا فيه حقيقة العكس, والأول بناء على أنهم يطلقون على المقابل عكسًا, مع أن تعريف الفرد لا يصح [به] , سواء قلنا: عدد يزيد على الزوج بواحد أو قلنا: ينقص على الزوج بواحد؛ لأن الواحد فرد وليس بعدد [عند

الحد لا يحصل ببرهان

الحكماء, وإن كان عددًا عند المصنف]. ومثال التعريف بالأخفى: النار جسم كالنفس, ويعنى عنصر النار للجزء المشاهد, والنفس أخفى, إذ لا شيء من جزئياتها بمرئي بخلاف النار والمحسوس أجلى من المعقول. الثالث: تعريف الشمس بأنه كوكب نهاري, والنهار مدة طلوعها, فقد عرفها بما يتوقف تعقله عليها, وكل واحد منهما أردأ مما قبله. والنقص في المادة بحسب اللفظ, لما لم يختص بالحد, أتى به عقبهما. قلت: ويعني إذا كان مع القرينة أو مفسرًا فيكون تطويلًا بلا فائدة, فأثر نقصًا وليس حدًا ناقصًا بالمصطلح, ولا رسميًا ناقصًا, ولو كان من غير قرينة كان خطأ, لا معروفًا ناقصًا. قال: (ولا يحصل الحد ببرهان, لأنه وسط يستلزم حكمًا على المحكوم عليه, ولو قدر في الحد لكان مستلزمًا عين المحكوم عليه. ولأن الدليل يستلزم تعقلًا ما يستدل عليه, فلو دل عليه لزم الدور. فإن قيل: فمثله في التصديق. قلنا: دليل التصديق على حصول ثبوت النسبة أو نفيها, لا على تعقلها, ومن ثم لم يمنع الحد, ولكن يعارض ويبطل بخلله. أما إذا قيل: الإنسان حيوان ناطق, وقُصد مدلوله لغة أو شرعًا فدليله العقل, بخلاف تعريف الماهية).

أقول: لما فرغ من مباحث مادة الحد وصورته وخللهما, ختم ذلك بخاتمة وهي: أن الحد - يعني الحقيقي - لا يحصل ببرهان, خلافًا لبعض القدماء, وظاهر كلامه أنه يمتنع أن يبرهن عليه فقط, وإن كان ما استدل به يعطي أنه [لا] يستدل عليه لا ببرهان ولا أمارة, ولكنه لا ينفي أن يثبت له بطريق القسمة, واحتج عليه بوجهين: الأول: لو برهن عليه, لزم أن يكون حمل الشيء على نفسه مطلوبًا بالبرهان, والثاني باطل فالمقدم مثله, أما الملازمة؛ فلأن البرهان وسط بين المحكوم عليه وبه؛ لأنه مستلزم للحكم على المحكوم, وكل مستلزم واسطة لثبوت لازمه. أو نقول: البرهان ذو وسط, والوسط يستلزم حكمًا على المحكوم, فلو قدر البرهان أو الوسط في إثبات الحد [للمحدود] , لكان الوسط مستلزمًا عين المحكوم عليه إن كان الحد مجموع الأجزاء المادية أو الصورية, أو جزؤه إن كان الحد بالمادية فقط, ومحال أن يتوقف ثبوت الشيء لنفسه أو ثبوت جزؤه له على غيره. ولم يذكر المصنف غير الأول, بناءً على أن الحد مجموع الأجزاء المادية

والصورية, ولا يلزم من ذلك الترادف؛ لأن أحدهما دل من طريق الإجمال, والآخر من طريق التفصيل, مع أن الترادف من خواص اللفظ المفرد, ولفظ الحد مركب. قلت: وفي هذا الدليل نظر؛ لا لما قيل: لا نسلم أن البرهان له وسط كذلك لجواز كونه شرطيًا اقترانيًا أو استثنائيًا. لأنا نقول: أما على التقرير الأول فلا إشكال, وأما على الثاني فلابد / في البرهان مطلقًا من أمر يوجب العلم بثبوت النسبة المجهولة بين طرفي المطلوب, وهو المتكرر في الاقتراني والاستثنائي. قيل: لأن المثبت بالبرهان كون الحيوان الناطق حدًا؛ لأن إثباتنا الحيوان النطاق للإنسان هو إثبات لأمر خارج؛ لأن كونه حدًا وكون هذه أجزاؤه أمر عرضي, وفرق بين إثبات جزء الشيء للشيء وبين إثبات كون الشيء جزء الشيء, الأول لا يطلب بالدليل بخلاف الثاني, ولأن توقف ثبوت الشيء لنفسه باعتبار تفصيله على غيره لا يمتنع, إذ قد يجهل مثلًا كون الإنسان حيوان ناطق, فيبرهن له عليه. ويدل أيضًا على ذلك: أنا نحمل الحيوان الناطق على الإنسان, وذلك حكم مفيد, بخلاف قولنا: الإنسان إنسان, فيكون الدليل يستلزم هذا الحكم لمن جهل ذلك, مع أنه دعوى أن هذا حد لهذا, فيفتقر إلى ما يدل على صلاحيته للحد. وأيضًا: يتضمن دعوى أن هذا جنس وفصل لهذا, فيفتقر إلى برهان.

وقد استدلوا على كون هذا الشيء جنسًا لكذا, وعلى كون هذا الشيء فصلًا لكذا, فنشأ من ذلك برهان: أن هذا حد لهذا. فيقال: هذا جنس كذا قيد يفصله, وجنس الشيء إذا قيد بفصله كان حدًا له. قيل: الإنسان حيوان ناطق ليس بحكم وليس بدعوى, بل هو تصور شيء مفصل, ودعوى الحدية يفتقر إلى دليل, وتعريف الماهية لا يفتقر, والتعريف كون كذا كذا, والدعوى كون هذا الشيء هو كذا وكذا, وهذا لا طائل تحته. الوجه الثاني: أن الدليل يستلزم تعقل ما يستدل عليه, وهو ثبوت الحد للمحدود, فيكون الدليل متوقفًا على تعقل المحدود, والحد, وثبوت الحد له فلو دل الدليل على ثبوت الحد للمحدود, لكان ثبوت الحد للمحدود موقوفًا على الدليل, وتعقل المحدود موقوف على ثبوت الحد له؛ لأن تصوره مستفاد من إثبات الحد له على ذلك التقدير فيدور. قلت: وفيه نظر؛ لا لما قيل: إن المتوقف عليه تصور المحدود, والذي أنتجه الدليل كونه حدًا. لأنا نقول: إذا كان متصورًا بحقيقته فالاستدلال على كون هذا حدًا له إنما هو لتعلم حقيقته مع أنها معلومة, بل لأن الدليل موقوف على تصور المحدود باعتبار, وتعقل الحقيقة موقوف على الدليل, فلا دور.

وما قيل: من أن المثبت بالدليل بثبوت الحد للمحدود من حيث هو حد فيجب تصوره من هذه الحيثية, وتصوره بهذه الحيثية يوجب تصور المحدود بحقيقته, فيكون الدليل عليه موقوفًا على تصور المحدود بحقيقته فيلزم الدور فباطل, لأنا لا نسلم أن تصوره بتلك الحيثية يوجب تصور المحدود بحقيقته, لجواز أن يتصور مثلًا الإنسان باعتبار, وتتصور حقيقة الحيوان الناطق, ويتصور أن معنى كونه حدًا للإنسان أنه مشتمل على جنسه وفصله, ويجهل كون جنسه وفصله حتى يثبت بالدليل, وأنت تعلم أنه لو صح هذا لزم ألا يحصل أيضًا بأمارة, ولزم منه ألا يحصل الرسمي لا ببرهان ولا بأمارة. ثم أورد المصنف نقضًا على الدليل الثاني, وهو: أن ما ذكرتم لو صح لم يكتسب تصديقًا, والتالي باطل فالمقدم مثله؛ لأن الدليل على التصديق متوقف على تعقل النسبة, فلو اكتسبت بالدليل لتوقفت عليه ولزم الدور. والجواب: أن الذي يتوقف عليه الدليل تعقل النسبة, والمتوقف على الدليل ثبوت النسبة أو نفيها لا تعقلها, وأتى بلفظي حصول ثبوت النسبة بمعنى حصول نسبة الثبوت, أو حصول نسبة النفي. فقوله: (أو نفيها) أي حصول نفيها, فلا يكون أحدهما حشوًا. ثم قال: (ومن ثم لم يمنع الحد) لما ثبت أنه لا يطلب بالدليل لم يمنع الحد لأن معنى / المنع طلب الدليل, وهو لا يكتسب بالدليل. وإنما الحاد في مقام التفصيل, مثل من يعمد إلى جواهر في خزانة

الصور للمخاطب فينظمها قلادة بمرآى منه ولا يزيد. والراسم مثل من يعمد إلى صورة فيضع أصبعه عليها, فكيف يمنع؟ . وفيه نظر؛ لأنه ما منعه من نظمها, ولكن منع أن هذه الجواهر تساوي كذا. ثم قال: (ولكن يعارض ويبطل بخلله) أي يعارض بحدّ آخر, فإن اعترف به الخصم بطل الأول؛ لأنه لا [يكون] لشيء حدان حقيقان, إلا أن يكون من طريق العبارة. فنقول أيضًا: هذا أخصر فهو أولى. وإن لم يعترف به الخصم, فلا معارضة, ويبطله أيضًا بأنه غير مطرد, أو غير منعكس, أو [بما] تقدم, من [جعل] العرض مكان الجنس إلى آخرها. أما لو قال: الإنسان حيوان ناطق ولم يقصد به تعريف حقيقة الإنسان, وإنما قصد أنه مدلوله لغةً أو شرعًا, فهو حكم بأن المسمى بهذا اللفظ في اللغة أو في الشرع هو كذا, فهو حكم على اللفظ بالمعنى, فيفتقر إلى نقل عن اللغة أو الشرع. بخلاف تعريف الماهية؛ لأن معناه: أن ماهية الإنسان متصورة من الحيوان الناطق, فلا يستدل عليه.

وأيضًا: في اللفظي اشتمل على دعوى الوضع, بخلاف الحقيقي فإنه يعود إلى إشارة العقل ولا حكم عليها, وفيه ما تقدم.

القضايا وأنواعها

قال: (ويسمى كل تصديق قضية, ويسمى في البرهان مقدمة. والمحكوم عليه فيها إما جزئي معين أو لا, والثاني إما مبين جزئيته أو كليته أو لا صارت أربعة: شخصية, وجزئية محصورة, وكلية, ومهملة كل منها موجبة أو سالبة, والمتحقق في المهملة الجزئية فأهملت). أقول: لما فرغ من التصور, شرع في التصديق, والقضية مأخوذة من القضاء بأمر على أمر, ويرادفها التصديق, ويسمى بذلك تسمية له بأشرف عارضيه, ويسمى خبرًا, وعلمًا, وكلامًا, فإن كانت ملفوظًا بها سميت بذلك وبالقول الجازم, فإن جعلت جزء قياس سميت مقدمة بفتح الدال وكسرها, وظاهر كلام المصنف أنها لا تسمى مقدمة حتى يكون في البرهان, فإن وضعت ليستدل عليها سميت دعوى ومطلوبًا, فإن استنتجت بالعقل سميت نتيجة ولازمًا. ثم المحكوم عليه في القضية إن كان جزئيًا معينًا أي حقيقًا فهي الشخصية, وترادفها المخصوصة. وإن لم يكن جزئيًا معينًا فهو كلي, فإن بين كمية أفراده كانت محصورة ومسورة, وإلا فهي مهملة.

ثم المحصورة إما بلفظ يدل على جميع أفراد الموضوع فهي الكلية, أو على بعضها فهي الجزئية, وكان الأولى أن يقول: إما مبين كمية أفراده بالكلية والجزئية أو لا, ولا يعطي هذا المعنى قوله: (إما مبين كليته)؛ لأنه كلي ولابد عند كونه ليس جزئيًا حقيقًا, لكنه لا يريد بالكلي امتناع الشركة أو جوازها, ولا كل الأجزاء ولا بعضها. واللفظ الدال على كمية الأفراد يسمى سورًا, وحاصرًا, لإحاطته بتلك الأفراد. فسور الإيجاب الكلي «كل» , وسور الإيجاب الجزئي «بعض» و «واحد» ولم يستعمل المصنف إلا الأول. وسور السلب الكلي «لا شيء» , و «لا واحد» , وذكر المصنف «كل شيء» وحكاه الخنجي عن الشيخ. وسور السلب الجزئي «ليس بعض» , و «بعض ليس» , و «ليس كل».

مقدمات البرهان

وقيل: إن هذا التقسيم غير حاصر, لخروج الطبيعية, وهي ما كان الحكم فيها على مفهوم الكلي, لا على ما صدق عليه من الأفراد. أما ما يقيد العموم وهي الطبيعية العامة, كقولنا: الحيوان جنس؛ لأنه إنما يكون جنس يقيد العموم أو لا يقيد العموم, كقولنا: الإنسان جوهر. وقيل: / إن الطبيعية مهملة. وقيل: شخصية. ولما كانت الجزئية مساوية للمهملة في الصدق, استغنى بالجزئية عنها فأهملت؛ لأنه مهما صدقت المهملة صدقت الجزئية, ومهما صدقت الجزئية صدقت المهملة, إذ الجزئية لا يعتبر فيها عدم الكلية, بل ألا يتعرض لها. وقيل: المهملة يحتمل صدقها كليًا وجزئيًا, فالجزئية محققة, والكلية مشكوكة, فطرح المشكوك وبقي المتقين, فأهملت استغناء عنها بالجزئية. وقيل: أهملت من الحاصر, وفيه بعد. قال: (ومقدمات البرهان قطعية, تنتج قطعيًا؛ لأن لازم الحق حق, وتنتهي إلى ضرورته, وإلا لزم التسلسل. وأما الأمارات فظنية أو اعتقادية, إن لم يمنع مانع؛ إذ ليس بين الظن

والاعتقاد وبين أمر ربط عقلي, لزوالهما مع قيام موجبها). أقول: البرهان يجب أن تكون مقدماته يقينية, إذ الغرض منه إنتاج نتيجة قطعية, فلو لم تكن حقًا لم يلزم كون النتيجة اللازمة لها حقًا, وعلى هذا سقط الاعتراض بأن الكاذب حقًا لم يلزم كون النتيجة اللازمة لها حقًا, وعلى هذا سقط الاعتراض بأن الكاذب قد يستلزم الصادق. واليقينية: هي التي يجزم العقل بها مع المطابقة وامتناع التغيير. وقد يحمل على أن المقدمات في البرهان لما كانت قطعية فنتائجها قطعية؛ لأن النتيجة لازم المقدمات, ولازم الحق حق, إذ لو كذب اللازم كذب الملزوم, والأولى أولى؛ لأنه ظاهر في الاستدلال على حقيقة المقدمات لا حقيقة النتيجة. وقيل: مقدمات البرهان يجب أن تكون قطعية؛ لأنها لازمة للبرهان الذي هو قطعي, ضرورة أنها أجزاؤه, ولازم الحق حق. قلت: وهو أبعدها؛ لأن قوله: (تنتج قطعيًا) يكون على هذا اعتراض ولا يجب كون مقدمات البرهان ضرورية أي بينة بنفسها, لجواز كون بعضها أو كلها مطلوبًا [قطعيًا ينتج قطعيًا] , نعم يجب الانتهاء إلى بينة بنفسها وإلا لزم التسلسل المانع من الاكتساب؛ لأن المقدمات حينئذ تكتسب من مقدمات أخر, وتلك من غيرها وهلم جرا. ولما كان الدور تسلسلًا في موضوعات متناهية, استغني بالتسلسل عنه.

وجه الدلالة من المقدمتين

وأما الأمارات فتنتج ظنًا أو اعتقادًا, إن لم يمنع مانع من معارض حسي أو علقي. وقوله: (لزوالهما) أي لزوال الظن والاعتقاد بالمانع, مع قيام موجبهما وهي الأمارة, إذ ليس بين الظن والاعتقاد وبين الأمارة ربط عقلي, ولا كذلك البرهان؛ لأن العلم به يستلزم العلم بالنتيجة, فبينه وبينها ربط عقلي إذ لا يقبل معارضًا, والحق أن الموجب هو المقتضي مع عدم المانع, فلو قال: لزوالهما مع قيام المقتضي, كان أولى. وقيل: المعنى: وأما الأمارات أنفسها فظنية أو اعتقادية, تفيد ظنًا أو اعتقادًا إن لم يمنع مانع, ورجح بأنه يكون معادلًا للأول, ورجح الأول بأن في هذا إضمار جملة وليس في ذلك الإضمار مفرد, وأيضًا يكون معناه: مقدمات الأمارات ظنية, وهو لا يسمى قضايا الأمارات مقدمات. وأيضًا: قد يكون بعض قضايا الأمارة قطعي ولا يردان, لأنا قلنا: نفس الأمارات ظنية لا مقدماتها, وإذا كانت ظنية فالأمارة ظنية. قال: (ووجه الدلالة في المقدمتين: أن الصغرى خصوص والكبرى عموم, فيجب الاندراج, فيلتقي موضوع الصغرى ومحمول الكبرى. وقد تحذف إحدى المقدمتين للعلم بها). أقول: السبب لحصول النتيجة في الذهن هو التفطن / لوجودها بالقوة في الدليل, والوجه الذي لأجله لزمت النتيجة عن المقدمتين: أن الصغرى خصوص والكبرى عموم؛ [إذ الدلالة في المقدمتين لكونهما بحيث يلزم من

العلم بهما العلم بالنتيجة, وذلك أن الصغرى خصوص والكبرى عموم]. وعموم الكبرى لأن موضوعها محمول الصغرى, أو طبيعة المحمول بما هو محمول أعم, فيجب اندراج الأخص تحت الأعم, ولا يرد المساوي لما قلنا, فإذن الحكم في الكبرى على ما صدق عليه الأوسط, فيتناول الأصغر وغيره فيندرج تحته ويثبت له ما ثبت له, وهو محمول الكبرى نفيًا أو إثباتًا, فيلتقي موضوع الصغرى ومحمول الكبرى وهو النتيجة, وخص البيان بالشكل الأول لرجوع الباقي إليه, والمصنف لم يتعرض لوجه الدلالة هل هو سبب لحصول النتيجة عن المقدمتين على سبيل التولد, بأن تكون العلة القريبة للعلم بالنتيجة هو مجرد التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة, أو استعداد الذهن بسبب حصول المقدمات مع التفطن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة وهو العقل الفعال, أو الحصول بقدرة الله تعالى عقب حضور المقدمتين في الذهن, والتفطن لوجه صدور النتيجة عنهما بطريق إجراء العادة على وجه يقبل الخرق, بأن لا يخلق العلم بها عقب ذلك, أو

حذف إحدى المقدمتين

على سبيل [تضمن] المقدمات النتيجة بطريق اللزوم الذي لابد منه المخالف للتولد, بحيث يكون الفيض من الله تعالى لكن بطريق الوجوب الذي لا يتخلف. والأول: مذهب المعتزلة. والثاني: مذهب قدماء الفلاسفة. والثالث: مذهب الأشعري. والرابع: مذهب فلاسفة الإسلام. وإنما لم يتعرض لذلك, لأنها من مسائل الكلام. قال: (وقد تحذف إحدى المقدمتين للعلم بها). أقول: أما حذف الصغرى فكقولنا: هذا يحد لأن كل زان يحد, حذف: هذا زان. وحذف الكبرى كقولنا: هذا يحد لأنه زان, حذف: وكل زان يحد.

الضروريات

وكذلك تحذف أيضًا الاستثنائية وهي كالصغرى, ولم يقع الاستثنائي في القرآن إلا وهي محذوفة, وقد تحذف للإبهام, وتسمى ما حذفت فيه إحداهما: بقياس الضمي. قال: (والضروريات: منها المشاهدات الباطنة, وهي: ما لا يفتقر إلى عقل كالجوع والألم. ومنها الأوليات, وهي: ما يحصل بمجرد العقل, كعلمك بوجودك, وأن النقيضين يصدق أحدهما. ومنها المحسوسات, وهي: ما يحصل بمجرد الحس. ومنها التجريبيات, وهي: ما يحصل بالعادة, كإسهال المسهل, والإسكار. ومنها المتواترات, وهي: ما يحصل بالأخبار تواترًا, كبغداد ومكة). أقول: لما ذكر أن مقدمات البرهان تنتهي إلى ضرورية, أشار إلى الضروريات وهي خمس, على أن قوله: (منها) لا يعطي الحصر. الأول: المشاهدات الباطنة: أي القضايا التي يستفاد التصديق بها من القوى الباطنة, وهي ما يفتقر إلى عقل, أي في حصول طرفيها عند مشاهدها كالجوع والألم, فإذا حصولهما عند مشاهدهما لا يفتقر إلى عقل, ولذلك تحصل للبهائم, وأما الحكم فيها فيفتقر إلى عقل كالمحسوسات الظاهرة, لا يفتقر في حصول طرفيها عند مشاهدها إلى عقل, والحكم فيها

يفتقر إلى العقل؛ لأن الحكم بإيقاع النسبة وأن ذلك مطابق لما في الخارج أو لا مطابق أمر العقل. فإن توقف حكم / في القضية على الحس الباطن فهي الوجدانيات, وإن توقف على الحس الظاهر فهي المحسوسات, ومنها الأوليات, وهي التي لا يتوقف الحكم فيها إلا على تصور طرفيها والنسبة, سواء كان تصور طرفيها جزئيًا كعلمك بوجودك, أو كليًا كعلمك أن النقيضين لا يصدق إلا أحدهما, بخلاف غيرهما فإنها بانضمام الحواس أو العادة أو التواتر. ومنها المحسوسات: وهي القضايا التي يستفاد التصديق بها من الحواس الظاهرة, أعني [الحواس الخمسة] , ويكفي في حصول طرفيها مجرد الحس, كالعلم بأن النار حارة, والشمس مضيئة. ومنها التجريبيات: وهي ما تحصل بتكرر المشاهدة على وجه يتأكد منها عقد قوي لا شك فيه من غير علاقة عقلية, وهي لا تخلو مع ذلك عن قياس خفي, وهو أن الوقوع المتكرر على نهج واحد لو كان اتفاقيًا ما كثر ولا دام, وقد تختص كعلم الطبيب بإسهال المسهلات, وقد تعم كعلم العامة أن الخمر مسكر. قيل: عبر عنها بقوله: وهي ما يحصل بالعادة, كحصول الشبع عقب الأكل كمذهب الأشعري, وليس كذلك, بل المراد بالعادة التكرر

صورة البرهان: اقتراني، واستثنائي

وما ذكر فغير مختص بهذا المكان, بل في الجميع, إذ العلم في جميع المذكور بالعادة عند الأشعري, مع أنه لا يعلم موافقة المصنف له في ذلك. ومنها المتواترات: وهي قضايا يحكم العقل بها بسبب توالي الأخبار الموجب لسكون النفس, بحيث لا يبقى شك بسبب كثرتها بحيث يحيل العقل تواطؤ المخبرين على الكذب, ولا دور في تعريف أمر اصطلاحي [بأمر] أقوى. وأما الحدسيات: وهي التي يجزم العقل بها بسبب حدس النفس لسبب شهادة القرائن دون الأثر, كما يقال: نور القمر مستفاد من نور الشمس, لاختلاف أحواله بسبب قربه وبعده منها. فقيل: إنها من الضروريات. وقيل: إنها من الظنيات. وأما القضايا التي قياساتها معها فهي من الضروريات, وعدها بعضهم من النظريات. ط قال: (وصورة البرهان: اقتراني واستثنائي. فالاقتراني: ما لا يذكر اللازم ولا نقيضه فيه بالفعل.

والاستثنائي: نقيضه. فالأول بغير شرط ولا تقسيم ويسمى المبتدأ فيه موضوعًا, والخبر محمولًا, وهي الحدود, فالوسط: الحد المتكرر, وموضوعه: الأصغر, ومحمولة: الأكبر, وذات الأصغر: الصغرى, وذات الأكبر: الكبرى). أقول: لما ذكر مادة القياس وهي القضايا, شرع في صورته وهي الهيئة الحاصلة من تركيب مواده, أي لابد وأن يكون على إحدى هاتين الصورتين: إما اقتران وسط بجزئين وهو الاقتراني, وذكره إما بتقدير قياس, أو لأنه صفة للاجتماع المفهوم من الصورة. وإما باستثناء أحد جزئي شرط أو تقسيم, والاستثناء بمعنى التثني, وهو التكرير. فالاقتراني: ما لا يذكر اللازم فيه - وهو النتيجة - بالفعل, بل بالقوة. والاستثنائي: ما يذكر اللازم فيه أو نقيضه بالفعل, كقولنا: إن كان هذا إنسانًا فهو حيوان, لكنه إنسان فهو حيوان, أو لكنه ليس بإنسان فليس بحيوان, والنتيجة مذكورة بالفعل في الأول, ونقيضها مذكور بالفعل في الثاني, وكذا في المنفصل. ولو قال: والاستثنائي بخلافه, كان أولى, إذ ليس الاستثنائي بنقيض للاقتراني, لكن أراد خاصة هذا نقيض خاصة هذا, فالأول يعني الاقتراني

بغير شرط ولا تقسيم, أي يكون بغير شرط ولا تقسيم, ولا يكون الاستثنائي إلا على أحد الوجهين, فلا يرد الاقتراني الشرطي / إذ يعتبرها المصنف بأن الأقدمين لم يذكروها لكونها غير يقينية الإنتاج, ولكثرة شغبها وقلة جدواها, وبعد أكثرها عن الطبع. وقوله: (ويسمى المبتدأ فيه موضوعًا) , قيل: في الاقتراني, وقيل: في التصديق. قيل عليه: كل إنسان حيوان, المبتدأ كل وليس بموضوع؛ إذ الموضوع إنسان, وكل سور, وكذا قائم زيد, فإن زيدًا مبتدأ عند النحاة, وقائم خبر مقدم, وزيد هو المحمول عند المنطقيين. ورد: بأن المراد المبتدأ في التصديق من حيث هو تصديق, ولا مدخل للسور فيه, وفي الثاني: لا نسلم أنه ليس بموضوع, إذ الموضوع أعلم أن يُسبق في الذكر أو لا, وهي الحدود, ولما كانت ثلاثة أنثها, سميت بذلك لأنها نهاية الاقتراني, إذ حد الشيء نهايته, ولابد من حد متكرر باعتبار نسبته إلى طرفي المطلوب ويسمى الأوسط, وموضوع الأوسط هو الحد الأصغر, ومحموله هو الحد الأكبر, وعلى هذا لا يتناول إلا الشكل

النقيضان وشرطهما

الأول, ويحتمل أن يكون موضوعه أي موضوع اللازم الحد الأصغر, ومحموله الحد الأكبر, فيشمل جميع الأشكال, والمقدمة المشتملة على الحد الأصغر تسمى «الصغرى» , والمشتملة على الحد الأكبر تسمى «الكبرى». قال: (ولما كان الدليل قد يقوم على إبطال النقيض والمطلوب نقيضه, وقد يقوم على الشيء والمطلوب عكسه, احتيج إلى تعريفهما. فالنقيضان: كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى وبالعكس. فإن كانت شخصية فشرطها أن لا يكون بينهما اختلاف في المعنى إلا النفي والإثبات, فيتحد الجزءان بالذات والإضافة, والجزء أو الكل, والقوة أو الفعل, والزمان والمكان والشرط, وإلا لزم اختلاف الموضوع في الكمية؛ لأنه إن اتحد جاز أن يكذبا في الكلية, مثل: كل إنسان كاتب لأن الحكم بعرضي خاص بنوع, ويصدقا في الجزئية لأنه غير متعين. فنقيض الكلية المثبتة جزئية سالبة, ونقيض الجزئية الموجبة كلية سالبة). أقول: لما كان الدليل قد لا يقوم [على] صدق المطلوب ابتداءً, بل على إبطال نقيض المطلوب, فيلزم ثبوت المطلوب, إذا لا خروج عن أحد النقيضين, وهذا كقياس الخلف, وقد يقوم على تحقق ملزوم المطلوب, ولا يقوم على نفس المطلوب, فيستفاد من إقامة الدليل عليه ثبوت عكسه, كالأشكال الثلاثة غير الأول, فإنها عند ردها إليه ربما قام الدليل على قضية

والمطلوب عكسها, فلذلك احتيج إلى معرفتهما, وبيان شرائطهما وأحكامهما, ولما كان بيان العكس موقوفًا على التناقض من غير عكس, بدأ بالتناقض, فقال: النقيضان: كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى وبالعكس, وبالقيد الآخر يخرج الضدان, والمتضايفان, والعدم, والملكة, فإن كذب أحدهما لا يستلزم صدق الآخر, لجواز كذبهما. وقوله: (إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى وبالعكس) أي يلزم من صدق أيهما كان كذب الأخرى, ومن كذب أيهما كان صدق الأخرى, فلا يرد النقض بقولنا: هذا إنسان, هذا ليس بناطق, فإن كذب كل واحدة لا يلزم من صدق الأخرى, بل من صدقها واستلزامها نقيض الأخرى. وهكذا قولنا: هذا واجب هذا ممكن, فلا حاجة إلى زيادة قولنا: لذاته. ثم القضية [لذات] إما شخصية وإما محصورة, ولما كانت شرائط الشخصية شرائط المحصورة من غير عكس, بدأ بها, فإن كانت / شخصية فشرطها أن لا يكون بينهما اختلاف في المعنى إلا بالنفي والإثبات. وقال: (في المعنى) ليدخل الاختلاف في اللفظ كقولنا: هذا إنسان, هذا ليس ببشر, ولا حاجة إلى الاختلاف في الجهة؛ لأنها غير مستعملة في الشخصية, وإن جاز صدق المكنتين وكذب الضروريتين في مادة الإمكان, وإذا لم يكن بينهما اختلاف في المعنى إلا النفي والإثبات, لزم اتحاد الموضوع والمحمول بالذات, أي بالمعنى وهما الجزءان, وبالإضافة, والجزء أو الكل,

والقوة أو الفعل, والزمان والمكان والشرط, إذا لولا الاتحاد فيما ذكر لكان بينهما اختلاف بغير النفي والإثبات, فلم يتحقق التناقض, فزيد كاتب مع عمرو ليس بكاتب, لم يتحدا في الموضوع, وزيد كاتب مع زيد ليس بنجار لم يتحدا في المحمول, زيد أب لعمرو مع زيد ليس بأب لبكر لم يتحدا بالإضافة, والزنجي أسود جزؤه الزنجي ليس بأسود جميعه لم يتحدا بالجزء أو بالكل, إذا المراد بالأول الجزء, والثاني المراد ليس كله أسود, ولا يلزم أن يكون لا شيء منه أسود وهما صادقان, وكذا الخمر مسكرة في الدن, الخمر ليست بمسكرة فيها, لا تناقض [فيها] إذا كان الأول بالقوة والثاني بالفعل, وكذا زيدٌ جالس أول النهار زيد ليس بجالس آخره للاختلاف بالزمان, وكذا زيد جالس على السرير زيد ليس بجالس على الأرض للاختلاف بالمكان, وكذا الكاتب متحرك الأصابع بشرط الكتابة, الكاتب ليس بمتحرك الأصابع بشرط عدم الكتابة. أما لو لم تكن شخصية بأن تكون محصورة, يلزم مع ما ذكر اختلاف الموضوع في النقيضين بالكم أي بالكلية والجزئية؛ لأنه إن اتحد جاز أن يكذب في الكلية إذا كان الحكم بعرضي خاص نوع, وكان غير شامل, كقولنا: كل إنسان كاتب بالفعل, فإنه كاذب, وكذا لا شيء من الإنسان بكاتب, لا يصدق السلب عن الجميع ولا الثبوت للجميع, ضرورة ثبوته

العكس المستوي

للبعض, سلبه عن البعض. قيل: فيه نظر؛ إذ لو كان شاملًا لما كذبت الموجبة, فينبغي إلا يشترط الاختلاف إلا فيما هذا شأنه, وجاز صدقهما في الجزئية لأنه غير معين, مثل: بعض الإنسان كاتب, بعض الإنسان ليس بكاتب, إذ لم يتعين أن المحكوم عليه بالثبوت هو المنفي عنه. قيل: إن اتحد الموضوع فيهما تناقضا, وإلا فعدم تناقضهما لعدم اتحاد الموضوع لا لغيره, فنقيض الكلية المثبتة جزئية سالبة, أي إذا كان الاختلاف بالكم شرطًا, فنقيض الكلي المثبت جزئي سالب وبالعكس, إذ التناقض إنما يتحقق من الجانبين, ونقيض الجزئي الموجب كلي سالب وبالعكس, ولابد في تحقيق التناقض من الاختلاف بحسب الجهة, لصدق الممكنتين وكذب الضروريتين في مادة الإمكان, لكن المصنف إنما تكلم على المحصورات الغير موجبة. قال: (وعكس كل قضية: تحويل مفرديها على وجه يصدق. فعكس الكلية الموجبة جزئية موجبة. وعكس الكلية السالبة مثلها. وعكس الجزئية الموجبة مثلها. ولا عكس للجزئية السالبة). أقول: لما فرغ من التناقض, شرع في العكس, وبدأ بالعكس المستوي. واعلم أن العكس يستعمل ويراد به القضية اللازمة, ويطلق ويراد به نفس التحويل, وكثيرًا ما يطلقونه لإرادة الأول, والشيخ قال: «العكس

تبديل الموضوع بالمحمول» , فأطلق العكس على نفس التبديل. وقوله: (تحويل مفرديها) يتناول الحملي والشرطي؛ لأن جزء الشرطية وإن كان قضية, لكنه مفرد / بالنسبة إليها, فهو أحد مفرديها. وقوله: (على وجه يصدق) أي على وجه يلزم من صدق الأصل صدقه, فلا نقض بقولنا: بعض الإنسان حيوان, بعض الحيوان ليس بإنسان؛ لأنه يلزم من صدق إحداهما صدق الأخرى, والمعنى: على وجه يلزم على تقدير صدق الأصل صدقه؛ إذ كل إنسان فرس, عكسه بعض الفرس إنسان, وهما كاذبان, لكن لو صدق الملزوم صدق اللازم لامتناع استلزام الصادق الكاذب. فعكس الكلية الموجبة جزئية موجبة؛ لأنه إذا صدق كل (ج) (ب) , صدق بعض (ب) (ج) , ولا صدق نقيضه وهي: لا شيء من (ب) (ج) , نجعله كبرى للأصل, ينتج سلب الشيء عن نفسه, ولا تنعكس كنفسها, لجواز كون المحمول أعم, فيحمل على أفراد الخاص ولا يحمل الخاص على جميع أفراد العام. وأما السالبة الكلية فتنعكس كنفسها؛ لأنه إذا صدق: لا شيء من (ج)

عكس النقيض

(ب) , صدق: لا شيء من (ب) (ج) , وإلا لصدق نقيضه وهو: بعض (ب) (ج) فجعله صغرى للأصل ينتج: بعض (ب) ليس (ب) وإنه محال, ولا تنعكس السالبة الجزئية لصدق: بعض الحيوان ليس بإنسان, ولا يصدق بعض الإنسان ليس بحيوان, إذ لا يسلب الأعم عن الأخص, ولابد أيضًا من اعتبار الجهة, وإلا منع الاستحالة في المذكور لجواز كونهما مطلقتين. فالسوالب الكلية سبع منها لا تنعكس, والدائمتان والوصفيات الأربع منعكسة, لكن لا ينعكس كنفسه منها إلا الدائمة والعرفية العامة. وأما الجزئية السالبة فلا ينعكس منها إلا الخاصتين, وعكس المتصلات على قياس عكس الحمليات, والمنفصلات لا تنعكس, إذ لا يتميز مقدمها عن تاليها طبعًا. قال: (وإذا عكس الكلية الموجبة بنقيض مفرديها صدقت, ومن ثمة انعكس السالبة سالبة). أقول: عكس النقيض: عبارة عن قضية بدل فيها كل واحد من طرفيها بنقيض الآخر مع بقاء الكيف والصدق, وهو بناء على رأي القدماء. فالموجبة الكلية ونعني الدائمتين والوصفيات الأربع تنعكس كليًا, وبرهانه: أن محمول هذه إما مساوٍ لموضعها أو أعلم, وأيًا ما كان يلزم من نفي المساوي الأعم نفي مساويه الأخص, ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء اللازم, أو نقول: موضوعها ملزوم لمحمولها وإذا انتفى اللازم ينتفي الملزوم.

الأشكال الأربعة

ولا تنعكس الموجبة الجزئية؛ لأنه يصدق بعض الحيوان هو لا إنسان, ولا يصدق بعض الإنسان هو لا حيوان, ونعنى غير الخاصتين, فإنهما ينعكسان عرفية خاصة, وليس هذا موضع استقصائه, ومن ثم انعكست السالبة سالبة, أي ومن أجل أن الكليتين الموجبتين متلازمتان, انعكست السالبة كلية كانت أو جزئية بعكس النقيض, أما السالبة الجزئية فلأنها وما فرضناه عكسًا لها نقيض الكليتين, والتلازم بين شيئين يوجب التلازم بين نقيضيهما, وأما الكلية فلأنها تستلزم الجزئية المستلزمة للعكس المذكور, ومستلزم المستلزم مستلزم, ولا تنعكس الكلية كنفسها به؛ لأنه يصدق لا شيء من الإنسان بلا حيوان, ولا يصدق لا شيء من الحيوان بلا إنسان, لصدق بعض الحيوان لا إنسان, أو نقول: ومن ثم انعكست السالبة سالبة أي لما كان عكس السالبة يتوقف على عكس الموجبة بعكس النقيض, لأنه إذا صدق بعض (ج) ليس (ب) , صدق ليس بعض ما ليس (ب) ليس (ج) , وإلا لصدق نقيضه وهو: كل ما ليس (ب) ليس (ج) , وينعكس موجبًا بعكس النقيض: كل (ج) (ب) المناقض للأصل, فلولا انعكاس الموجبة تم / برهان انعكاس السالبة. قال: (وللمقدمتين باعتبار الوسط أربعة أشكال. فالأول: محمول لموضوع النتيجة موضوع لمحمولها. والثاني: محمول لهما. والثالث: موضوع لهما. والرابع: عكس الأول.

الشكل الأول وشرط إنتاجه

فإذا ركب كل شيء باعتبار الكلية والجزئية, والموجبة والسالبة, صارت مقدراته ستة عشر ضربًا). أقول: الشكل الهيئة الحاصلة [بسبب] وضع الأوسط عند الحدين الآخرين, واقتران الصغرى بالكبرى قرينة وضربًا, فللمقدمتين باعتبار وضع الأوسط أربعة أشكال؛ لأن الأوسط إن كان محمولًا في الصغرى موضوعًا في الكبرى فهو الأول, وبالعكس هو الرابع, ولم يتعرض له القدماء إلى زمان جالينوس, وإن كان محمولًا فيهما فهو الثاني, وإن كان موضوعًا فيهما فهو الثالث, ثم الضروب المنعقدة في كل شكل ستة عشر ضربًا؛ لأن الصغرى إما موجبة وإما سالبة كلية أو جزئية فأربع, والكبرى كذلك, وأربعة في أربعة بستة عشر, وهو معنى قوله: (صارت مقدراته) أي الذي يقدر العقل فيه للذي به منه؛ لسقوط أكثرها لعدم شرط الإنتاج. قال: (الشكل الأول أبينها, ولذلك يتوقف غيره على معرفة رجوعه إليه, وينتج المطالب الأربعة.

وشرط إنتاجه إيجاب الصغرى أو في حكمه, ليتوافق الوسط وكلية الكبرى, ليندرج فينتج. يبقى أربعة: موجبة كلية أو جزئية, وكلية موجبة أو سالبة. الأول: كل وضوء عبادة, وكل عبادة بنية. الثاني: كل وضوء عبادة, وكل عبادة لا تصح بدون النية. الثالث: بعض الوضوء عبادة, وكل عبادة بنية. الرابع: بعض الوضوء عبادة, وكل عبادة لا تصح بدون النية). أقول: الشكل الأول أبين الأشكال؛ لأن إنتاجه بديهي لأنه بالالتفاء والاندراج, بخلاف سائر الأشكال فإنها غير بديهية الأشكال والإنتاج, ولبيانه توقف معرفة إنتاج غيره على معرفة رجوعه إليه؛ لأن بيان باقي الأشكال إما بالعكس أو بالخلف على ما ذكر, وعلى التقديرين تتوقف على رجوعها إلى الأول؛ لأن برهان الخلف من الأول, وهذا الشكل أشرف الأشكال لذلك, ولأنه ينتج المطالب الأربعة, وليس في الأشكال الباقية ما ينتج الإيجاب الكلي. ويشترط لإنتاج الشكل الأول بحسب الكيف والكم شرطان: الأول: إيجاب الصغرى, أو ما في حكم الإيجاب, وإنما اشترط إيجاب الصغرى ليتوافق الأوسط مع الأصغر, فيتعدى الحكم من الأوسط إلى الأصغر إذ لو كانت سالبة, حصل التباين فلا يتعدى الحكم؛ لأن الحكم على الشيء لا يستلزم الحكم على مباينه, والاختلاف الموجب للعقم يحققه, وكذا في

حكم الإيجاب وهي السالبة المركبة العقلية عند المتأخرين, أعني الوجوديتين, والوقتيتين, والخاصتين, وإنما أنتجت صغرى لتضمنها الموجبة. قلت: والحق أن نتائج الأقيسة التي صغراها سالبة مركبة ما لزمت عن مجموع ما وضع في القياس, بل الموضوع فيه مستلزم لقياسات تلك النتائج؛ إذ الكلام فيما استلزم لذاته, وإلا فبرهان الخلف يدل على إنتاج السالبة الكلية صغرى في الأول مع الموجبة الكلية السالبة الموضوع, ومع السالبة الكلية السالبة الموضوع, وكذا السالبة الجزئية صغرى معهما, لكن هذه الضروب الأربعة إنما أنتجت بحسب ما استلزمته؛ لأن الصغرى لما كانت سالبة بسيطة استلزمت موجبة سالبة المحمول, نعم المنتج بالذات موجبة سالبة المحمول مع سالبة الموضوع, أو معدولة المحمول مع معدولة الموضوع, فلو قال: إيجاب الصغرى / فقط, لكن أحسن, إذا ليس إنتاج المذكور بالذات لكن المصنف تابع سيف الدين حيث قال في الإحكام: «شرط الأول إيجاب الصغرى أو في حكمه» , وفسرها في غير الإحكام بما ذكرنا, وكذا اشترطه الشيخ قبله, فلا دخل على المصنف. وقولهم: إذا تكرر السلب أنتج في الأولى, إنما ذلك للاستلزام المذكور. الشرط الثاني: كلية الكبرى, ليعلم اندراج الأصغر فيه, إذ لو كانت

الشكل الثاني وشرط إنتاجه

جزئية جاز كون الأوسط أعم من الأصغر, وكون المحكوم عليه في الكبرى بعضًا منه غير الأصغر فلا يندرج, والاختلاف الموجب للعقم يحققه, فيسقط بحسب الشرط الأول ثمانية أضرب, من ضرب السالبتين صغريين في الكبريات الأربع, وبحسب الشرط الثاني أربعة, من ضرب الموجبتين صغريين في الجزئيتين كبريين, تبقى النتيجة أربعة من الستة عشرة: موجبة كلية أو جزئية, كل واحدة مع كلية موجبة أو سالبة. وقدم الموجبة على الكلية أولًا, وقدم الكلية ثانيًا, إشارة أولًا إلى اشتراط الموجبة صغرى, وثانيًا إلى اشتراط الكلية كبرى. واعلم أنه إذا كانت إحدى المقدمتين سالبة أو جزئية, فالنتيجة سالبة أو جزئية؛ لأن السلب والجزئي لازم, بخلاف الإيجاب والكلي. وقدم ما أنتج السلب الكلي على منتج الإيجاب الجزئي؛ لأن المطالب الكلية أشرف ولو كانت سلبًا, ولذلك قدم الشكل الثاني على الثالث. واعلم أن اشتراط ما ذكر في المحصورات لا المخصوصات. قال: (الشكل الثاني شرطه اختلاف مقدمتيه في الإيجاب والسلب وكليه كبراه, تبقى أربعة, ولا ينتج إلا سالبة. أما الأول, فلوجوب عكس إحداهما وجعلها الكبرى فموجبتان باطل وسالبتان لا تتلاقيان. وأما كلية الكبرى؛ فلأنها إن كانت التي تنعكس فواضح. وإن عكست الصغرى, فلابد وأن تكون سالبة ليتلاقيا. ويجب عكس النتيجة ولا تنعكس, لأنها تكون جزئية سالبة).

أقول: شرط هذا الشكل لإنتاجه بحسب الكيف والكم شرطان: الأول: اختلاف مقدمتيه بالسلب والإيجاب. الثاني: كلية كبراه. فيسقط بحسب ذلك اثنا عشر ضربًا, تسقط بحسب الأول ثمانية, من ضرب الموجبتين في الموجبتين والسالبتين في السالبتين, وأربعة بحسب الشرط الثاني, من الموجبتين صغريين مع السالبتين الجزئية كبرى, ومن السالبتين صغريين مع الموجبة الجزئية كبرى, تبقى المنتجة أربع: الكلية الموجبة الكبرى مع السالبتين صغريين, والكلية السالبة كبرى مع الموجبتين صغريين, ولما كانت إحدى مقدمتيه سالبة, لم ينتج إلا سالبة. أما بيان اشتراط الأول؛ فلأن هذا الشكل إنما يتبين إنتاجه بالرد إلى الشكل الأول, وذلك لا يكون إلا بعكس إحدى مقدمتيه وإبقائها إن عكسنا الكبرى, أو جعلها كبرى إن كانت التي عكست الصغرى, فلو كانت موجبتين لم يصح؛ لأن الموجبة لا تنعكس إلا جزئية, ولا تصلح الجزئية كبرى, وإن كانت سالبتين لم يتلاق الأوسط مع الأصغر فلم ينتج. لا يقال: لو كانت الصغرى موجبة سالبة المحمول, والكبرى موجبة محصلة الطرفين, لأنتج بعكس الكبرى بعكس النقيض. لأنا نقول: الموجبة السالبة المحمول مع السالبة البسيطة متلازمتان, فأنتجت السالبة البسيطة صغرى في الأول مع الموجبة السالبة الطرفين, بواسطة استلزام السالبة المذكورة للموجبة السالبة المحمول, وأنتجت الموجبة

الضروب المنتجة في الشكل الثاني

السالبة المحمول صغرى في الثاني مع الموجبة المحصلة الطرفين / لاستلزام الموجبة المذكورة السالبة البسيطة. قيل: الواجب رد الثلاثة إلى الأول, ولا يجب في البيان تعين العكس كما ذكر هنا؛ لجواز البيان بالخلف, فلا يجب اشتراط ما ذكر. والأولى أن يقال: لو اتفقا في الكيف لحصل الاختلاف الموجب للعقم, وهو صدق القياس مع توافق الطرفين تارة, ومع تباينهما أخرى. وأما بيان اشتراط الأمر الثاني وهو كلية الكبرى؛ فلأنها إن كانت التي تنعكس فواضح اشتراط كليتها؛ لأن الجزئية لا تنعكس كليًا, فلا تصلح كبرى للأول, وإن عكست الصغرى فلابد وأن تكون سالبة كلية لتحفظ العكس, وترجع الكبرى الموجبة صغرى حتى يقع الاندراج والتلاقي؛ لأن الكبرى إذا كانت جزئية لم يتحقق التلاقي بين الأوسط والأصغر, فلو كانت كبراه في الأصل موجبة جزئية, وعكسنا السالبة الكلية الصغرى ورددناها كبرى, احتجنا إلى عكس النتيجة؛ إذ كل قياس يدل فيه الترتيب لابد فيه من عكس النتيجة, وهي لا تنعكس لأنها جزئية سالبة. ولو بّين اشتراط هذا الشرط, فإن الكبرى لو كانت جزئية, لحصل الاختلاف الموجب للعقم, لكان أولى. قال: (الأول: كليتان الكبرى سالبة: الغائب مجهول الصفة, وكل ما يصح بيعه ليس بمجهول, فلازمه: كل غائب لا يصح بيعه, ويتبين بعكس الكبرى. الثاني: كلية سالبة وكلية موجبة: الغائب ليس بمعلوم الصفة, وكل

ما يصح بيعه معلوم, فلازمه: كل غائب لا يصح بيعه, ويتبين بعكس الصغرى وجعلها الكبرى, وعكس النتيجة. الثالث: جزئية موجبة وكلية سالبة: بعض الغائب مجهول الصفة, وكل ما يصح بيعه ليس بمجهول, فلازمه: بعض الغائب لا يصح بيعه. الرابع: جزئية سالبة وكلية موجبة: بعض الغائب ليس بمعلوم الصفة وكلما يصح بيعه معلوم الصفة, ينتج: بعض الغائب لا يصح بيعه, ويتبين بعكس الكبرى بنقيض مفرديها, ويتبين أيضًا فيه وفي جميع ضروبه بالخلف فتأخذ نقيض النتيجة وهو: كل غائب يصح بيعه, فتجعله صغرى, فينتج نقيض الصغرى الصادقة, ولا خلل إلا من نقيض المطلوب, فالمطلوب صدق). أقول: الضرب الأول من الشكل الثاني: من كلية موجبة صغرى, وكلية سالبة كبرى, ينتج سالبة كلية, بيانه بعكس الكبرى, وهي سالبة كلية تحفظ العكس فيرتد إلى الضرب الثاني من الأول, ولا يمكن بيانه بعكس الصغرى وجعلها كبرى, وإلا لرجع إلى الأول, وقد فقد شرطاه معًا. مثاله: كل غائب مجهول الصفة, وكل ما يصح بيعه ليس بمجهول الصفة, [بيانه] بعكس الكبرى إلى: كل مجهول الصفة لا يصح بيعه, ينتج: كل غائب لا يصح بيعه. الثاني: من كلية سالبة صغرى؛ وموجبة كلية كبرى, ينتج سالبة كلية كالأول, بيانه بعكس الصغرى وجعلها كبرى وعكس النتيجة, فيرجع أيضًا

إلى الضرب الثاني من الأول, ولا يرتد بعكس الكبرى؛ لأنها موجبة لا تحفظ العكس, فيرجع إلى الأول وقد فقد شرطاه. مثاله: كل غائب ليس بمعلوم الصفة, وكل ما يصح بيعه معلوم, ينتج: كل غائب لا يصح بيعه, بعكس صغراه إلى: كل معلوم الصفة ليس بغائب, نجعلها كبرى, لقولنا: كل ما يصح بيعه معلوم الصفة, ينتج: كل ما يصح بيعه ليس بغائب, فعكسها إلى: كل غائب لا يصح بيعه وهو المطلوب. الضرب الثالث: من موجبة جزئية صغرى, وسالبة كلية كبرى, ينتج سالبة جزئية, بيانه بعكس الكبرى وهي سالبة كلية تحفظ العكس, فيرجع إلى الضرب الرابع من الأول. مثالة: بعض الغائب مجهول الصفة, وكل ما يصح بيعه ليس بمجهول الصفة, ينتج: بعض الغائب لا يصح بيعه, بيانه بأن تعكس كبراه إلى: كل مجهول / الصفة لا يصح بيعه, ينتج: بعض الغائب لا يصح بيعه وهو المطلوب. الضرب الرابع: من سالبة جزئية صغرى, وموجبة كلية كبرى, ينتج سالبة جزئية, لا يمكن بيانه بعكس الكبرى بالمستوي؛ لأنها لا تحفظ العكس فيرجع إلى الأول وقد فقد شرطاه معًا, وبينه المصنف بعكس الكبرى بنقيض مفرديها, فتصير سالبة الطرفين لا معدولة الطرفين, والصغرى السالبة البسيطة تستلزم موجبة سالبة المحمول, والموجبة السالبة المحمول لشبهها بالسالبة لا تستدعي وجود موضوع, فيرجع إلى الضرب الثالث من الأول.

مثاله: بعض الغائب ليس معلوم الصفة, وكل ما يصح بيعه معلوم, ينتج: بعض الغائب لا يصح بيعه, بأن تعكس كبراه إلى: كل ما ليس بمعلوم الصفة لا يصح بيعه, لينتج مع الصغرى المطلوب. ولا يشترط في صغرى الشكل الأول أن يكون موضوعها خارجيًا أو حقيقيًا بل قد يكون ذهنيًا؛ لأن الشيخ لما اشترط في الموجبة وجود الموضوع, واعترف بإنتاج ما يكون صغراه لا وجود لموضوعها إلا في الذهن. مثل قولهم: الخلاء ليس بموجود, وكلما ليس بموجود ليس بمحسوس, مع أن الخلاء عنده ممتنع في الخارج, دل على أن الموجبة الشرطية لصغرى الأول أعم. على أن بعضهم يقول: السالبة أيضًا تستدعي وجود الموضوع, وإلا لم تتناقض الموجبة للاختلاف في الموضوع, فحينئذ تستلزم السالبة موجبة معدولة المحمول وتنتج مع سالبة الطرفين, لكن المنتج في الحقيقة مع الكبرى حينئذ لازم الصغرى وهي السالبة المحمول الموجبة, أو الموجبة المعدولة المحمول على هذا القول الأخير. ويتبين هذا الضرب أيضًا وباقي الضروب بالخلف, بأن نأخذ نقيض النتيجة؛ لأنها إن لم تصدق فلابد وأن يصدق نقيضها, وإلا لكذب النقيضان ونقيضها موجب لكون النتيجة سالبة, فنجعل ذلك النقيض صغرى ونضمها إلى الكبرى من أصل القياس, فينتج نقيض الصغرى الصادقة, مثلًا في هذا الضرب لو لم يصدق: بعض الغائب لا يصح بيعه, لصدق نقيضه وهو: كل غائب يصح بيعه, وكل ما يصح بيعه معلوم, ينتج: كل غائب معلوم

الشكل الثالث وشرط إنتاجه

[الصفة] , وهو يناقض الصغرى الصادقة, وهي: بعض الغائب ليس معلوم, ولا خلل في صورة القياس لأنه على نهج الشكل الأول, ولا خلل في الكبرى لأنها صادقة, فالخلل من نقيض الصغرى الصادقة فتنتفي لانتفاء لازمها, فيثبت المطلوب, وبطل قول من يقول: لم لا يجوز أن يكون الخلل من ضم إحداهما إلى الأخرى؟ إذ المجموع هو المستلزم للنتيجة, ومثل هذا العمل يعمل في سائر الضروب. وقوله: لابد من عكس إحداهما وجعلها كبرى, معارض لقوه: ويتبين فيه وفي جميع ضروبه بالخلف. قال: (الشكل الثالث شرطه إيجاب الصغرى أو في حكمه, وكلية إحداهما, تبقى ستة, ولا ينتج إلا جزئية. أما الأول: فلوجوب عكس إحداهما وجعلها الصغرى. فإن قدرت الصغرى سالبة وعكستها, لم يتلاقيا. وإن كان العكس في الكبرى وهي سالبة, لم يتلاقيا مطلقًا. وإن كانت موجبة, وجب عكس النتيجة ولا تنعكس؛ لأنها جزئية سالبة. وأما كلية إحداهما؛ فلتكون هي الكبرى أخرى بنفسها أو بعكسها. وإما إنتاجه جزئية؛ فلأن الصغرى عكس موجبة أبدًا وفي حكمها). أقول: الشكل الثالث يشترط لإنتاجه بحسب الكيف والكم شرطان:

إيجاب الصغرى أو في حكمه, بأن تكون سالبة مركبة كما تقدم في الأول. الشرط الثاني: كلية إحدى مقدمتيه, تبقى المنتجة بحسب ذلك ستة أضرب, لسقوط / ثمانية بشرط الأول, من ضرب السالبتين صغريين في المحصورات الأربعة, ولسقوط الجزئية الموجبة صغرى مع الجزئيتين كبريين للشرط الثاني, تبقى ستة: الموجبة الكلية مع المحصورات الأربع, والموجبة الجزئية مع الكليتين, وهذا الشكل لا ينتج إلا جزئية. أما الشرط الأول: فلأن هذا الشكل إنما يتبين بالرد إلى الأول, إما بعكس الكبرى وجعلها صغرى ثم عكس النتيجة, أو بعكس الصغرى وإبقائها, فلو كانت الصغرى سالبة وعكستها, رجع إلى الأول وصغراه سالبة, وإن عكست الكبرى وهي سالبة - والفرض أن الصغرى سالبة - لم يتلاقيا مطلقًا أي في شكل من الأشكال, إذ لا قياس عن سالبتين بوجه. ولم يقيد الأول [بقوله]: مطلقًا؛ لأنه قد يتلاقيا الأوسط والأصغر والصغرى سالبة في الشكل الرابع, وإن عكست الكبرى وهي موجبة فهي لا تنعكس إلا جزئية, وكل قياس يدل فيه الترتيب لابد فيه من عكس النتيجة وهي لا تنعكس؛ لأنها تكون جزئية سالبة. وأما الشرط الثاني: فلتكون هي الكبرى بعد رده إلى الأول, إما بنفسها أو بعكسها, أعني بنفسها إذا عكسنا الصغرى, أو بعكسها أي بسبب عكس الكبرى؛ لأنا إذا عكسنا الكبرى جعلناها صغرى, عادت

الضروب المنتجة في الشكل الثالث

الصغرى كبرى, وذلك بسبب عكس الكبرى إذ لا تنعكس وتبقى مكانها, وإلا عاد إلى الشكل الرابع وبعد من الأول. وأما أنه لا ينتج إلا جزئية؛ فلأن الصغرى بعد الرد عكس موجبة أبدًا أو في حكمها, وعكس الموجبة لا يكون إلا جزئية, وهذا الذي ذكر إنما يتم لو لم يكن طريق للبيان إلا العكس, والأولى أن يقال: لو كانت صغراه سالبة لحصل الاختلاف الموجب للعقم, وهو صدق القياس تارة مع الإيجاب وتارة مع السلب, وكذا نقول في الشرط الثاني بعينه. وأما أنه لا ينتج إلا جزئية؛ فلأن الضرب الأول والرابع من هذا الشكل أخص ضروبه, وهما لا ينتجان الكلي, لجواز كون الأصغر أعم من الأكبر, ولا يثبت الأخص لجميع أفراد الأعم, ولا يسلب الأخص عن جميع أفراد الأعم, ومهما لم ينتج الأخص ذلك, لم ينتج الأعم. قال: (الأول: كلتاهما كلية موجبة: كل بر مقتات, وكل بر ربوي فينتج: بعض المقتات ربوي, ويتبين بعكس الصغرى. الثاني: جزئية موجبة وكلية موجبة: بعض البر مقتات, وكل بر ربوي, فينتج مثله, ويتبين كالأول. الثالث: كلية موجبة وجزئية موجبة, كل بر مقتات, وبعض البر ربوي فينتج مثله, ويتبين بعكس الكبرى وجعلها صغرى وعكس النتيجة. الرابع: كلية موجبة وكلية سالبة: كل بر مقتات, وكل بر لا يباع بجنسه متفاضلًا, ينتج: بعض المقتات لا يباع بجنسه متفاضلًا, ويتبين بعكس الصغرى.

الخامس: جزئية موجبة وكلية سالبة: بعض البر مقتات, وكل بر لا يباع بجنسه متفاضلًا, ينتج ويتبين مثله. السادس: كلية موجبة وجزئية سالبة: كل بر مقتات, وبعض البر لا يباع بجنسه متفاضلًا, ينتج مثله, ويتبين بعكس الكبرى على حكم الموجبة وجعلها صغرى وعكس النتيجة, ويتبين مع جميعه بالخلف, فتأخذ نقيض النتيجة كما تقدم, إلا أنك تجعلها الكبرى). أقول: الضرب الأول من الشكل الثالث: من موجبتين كليتين, ينتج [موجبة] جزئية, بيانه بعكس الصغرى ليرتد إلى الضرب الثالث من الشكل الأول, ويمكن بيانه بعكس الكبرى وجعلها صغرى وعكس النتيجة. مثاله: كل بر مقتات, وكل بر ربوي, فينتج: بعض المقتات ربوي بيانه بأن نعكس كل بر مقتات إلى: بعض المقتات بر, وينتج مع كبرى الأصل المطلوب, أو بعكس الكبرى إلى: بعض الربوي [بر] ونجعلها صغرى, والصغرى / كبرى, ينتج: بعض الربوي مقتات, تنعكس: بعض المقتات ربوي, وهو المطلوب. الثاني: من موجبتين والصغرى جزئية, ينتج كالذي قبله, ولا يمكن بيانه بعكس الكبرى, وإلا عاد إلى الأول عن جزئيتين, بل بيانه بعكس

الصغرى كما تقدم في الذي قبله. الضرب الثالث: من موجبتين والكبرى جزئية, بيانه بعكس الكبرى وجعلها صغرى ثم عكس النتيجة, ولا يمكن بيانه بعكس الصغرى وإلا لرجع إلى الأول وكبراه جزئية, والمثال والبيان كما سبق في الضرب الأول. الضرب [الرابع]: من كليتين والكبرى سالبة, ينتج سالبة جزئية بيانه بعكس الصغرى. مثاله: كل بر مقتات, وكل بر لا يباع بجنسه متفاضلًا, [بأن نعكس صغراه إلى: بعض المقتات بر, ونضمه إلى الكبرى] لينتج: بعض البر لا يباع بجنسه متفاضلًا, وهو المطلوب. ولا يمكن بيانه بعكس الكبرى وجعلها صغرى, وإلا عاد إلى الأول وصغراه سالبة. الضرب الخامس: من موجبة جزئية صغرى, وسالبة كبرى, ينتج سالبة جزئية, بيانه بعكس الصغرى كما تقدم, ولا يمكن بيانه بعكس الكبرى وجعلها صغرى [وإلا كانت صغرى الأول سالبة. السادس: من موجبة كلية صغرى وسالبة جزئية كبرى, ينتج سالبة جزئية, لا يمكن بيانه بعكس الصغرى] وإلا عاد إلى الأول وكبراه جزئية

ولا بعكس الكبرى وجعلها صغرى؛ لأنها لا تنعكس, وبتقدير انعكاسها تصير صغرى الأول سالبة. وبينه المصنف بأن عكس الكبرى على حكم الموجب وسماه عكسًا لها على طريق التجوز, وإنما هو عكس لازمها, ولا شك أن لازم اللازم لازم؛ لأن الكبرى الجزئية السالبة البسيطة تستلزم موجبة سالبة المحمول, والموجبة السالبة المحمول تنعكس إلى الموجبة السالبة الموضوع, وينتج صغرى [مع صغرى] الأصل ما ينعكس إلى ما يستلزم المطلوب. مثاله: كل بر مقتات, وبعض البر لا يباع بجنسه متفاضلًا, ينتج: بعض المقتات لا يباع بجنسه متفاضلًا, ولا شك أن بعض المقتات لا يباع بجنسه متفاضلًا يستلزم: بعض المقتات هو لا يباع بجنسه متفاضلًا [مقتاتًا] وينعكس إلى: ما لا يباع بجنسه متفاضلًا بر, وكل بر مقتات, ينتج: ما لا يباع بجنسه متفاضلًا مقتات, وينعكس إلى: بعض المقتات هو لا يباع بجنسه متفاضلًا, وهو مستلزم: [لبعض] المقتات هو لا يباع بجنسه متفاضلًا, وهو المطلوب. ويتبين هذا الضرب وسائر الضروب التي قبله بالخلف, بأن نأخذ نقيض

الشكل الرابع وشرط إنتاجه

النتيجة ونجعله كبرى لكليته, مثلًا في هذا الضرب: لو لم يصدق: بعض المقتات لا يباع بجنسه متفاضلًا, لصدق: كل مقتات يباع بجنسه متفاضلًا, نجعله كبرى لقولنا: كل بر مقتات, ينتج: كل بر يباع بجنسه متفاضلًا, وقد كانت الكبرى: بعض البر لا يباع بجنسه متفاضلًا, هذا خلف. قال: (الشكل الرابع: وليس تقديمًا وتأخيرًا للأول؛ لأن هذا نتيجة عكسه. والجزئية السالبة ساقطة لأنها لا تنعكس, وإن بقيتا وقلبتا, فإن كانت الثانية لم تتلاقيا, وإن كانت الأولى لم تصلح للكبرى, وإذا كانت الصغرى موجبة كلية فالكبرى على الثلاث, وإن كانت سالبة كلية فالكبرى موجبة كلية؛ لأنها إن كانت موجبة جزئية وقلبت وجب جعلها الصغرى وعكس النتيجة, وإن عكست وبقيت لم تصلح للكبرى, وإن كانت سالبة كلية لم تتلاقيا بوجه, وإن كانت موجبة جزئية فالكبرى سالبة كلية؛ لأنها إن كانت موجبة كلية وفعلت الأول لم تصلح الصغرى للكبرى, وإن فعلت الثاني صارت الكبرى جزئية, وإن كانت موجبة جزئية فأبعد, فينتج منه خمسة: الأول: كل عبادة مفتقرة إلى النية, وكل وضوء عبادة, نتج: بعض المفتقر وضوء, ويتبين بالقلب فيها وعكس النتيجة. الثاني: مثله, والثانية جزئية. الثالث: كل عبادة لا تستغني, وكل وضوء عبادة, فنتج: كل

مستغن ليس بوضوء, ويتبين بالقلب وعكس النتيجة. الرابع: كل مباح مستغن, وكل وضوء ليس بمباح, فنتج: بعض المستغني ليس بوضوء, ويتبين بعكسهما. الخامس: بعض المباح مستغن, وكل وضوء ليس بمباح, وهو مثله). أقول: ظن بعض الناس أن الشكل الرابع هو الأول [إلا أنه] قدم كبراه وأخر صغراه, وليس كذلك, [لأن] نتيجة هذا الشكل عكس نتيجة الأول, فلو كان هو الأول لعكست نتيجته لتصير كنتيجة الشكل الأول, إذ الأشكال إنما تتعين باعتبار موضوع النتيجة ومحمولها, ولا يتعين ذلك إلا بتعيين النتيجة, فإذن إنما يكون أول بكون نتيجته نتيجة الأول, وهذا نتيجته عكس نتيجة الأول, ثم الجزئية السالبة لا تستعمل في هذا الشكل؛ لأن هذا الشكل إنما يتبين بالرد إلى الأول, وذلك إما بعكس المقدمتين أو بقلبهما وعكس النتيجة وهي لا تنعكس, ولا تصلح صغرى للأول ولا كبرى له, فتسقط بحسب ذلك سبعة أضرب, فإن كانت صغراه

موجبة كلية, أنتج مع الموجبتين ومع السالبة الكلية, وإن كانت الصغرى سالبة كلية, أنتج مع الموجبة الكلية فقط, إذ لو كانت الكبرى موجبة جزئية وقلنا, وجب عكس النتيجة وهي جزئية سالبة لا تنعكس, وإن [عكستا وبقيتا] لم تصلح كبرى الأول لجزئيتها, يعنى ولم تصلح الصغرى أيضًا لأنها سالبة ولا تكون صغرى الأول سالبة, ولو كانت سالبة كلية لم يتلاقيا بوجه, إذ لا قياس عن سالبتين فتسقط ضربان آخران, وإن كانت الصغرى موجبة جزئية, فالكبرى سالبة كلية؛ لأنها إن كانت موجبة كلية وقلبتا, لم تصلح الصغرى كبرى الأول, وإن عكستا صار عن جزئيتين, وإن كانت موجبة جزئية فأبعد, فتسقط اثنان آخران, والبيان بالاختلاف الموجب للعقم أولى لما تقدم. الضرب الأول: من كليتين موجبتين, ينتج موجبة جزئية. مثاله: كل عبادة مفتقرة إلى النية, وكل وضوء عبادة, ينتج: بعض المفتقر وضوء, بأن تقلب المقدمتين وتعكس النتيجة, ولا يمكن بيانه بعكسهما وإلا لصار عن جزئيتين وأنتج الجزئي؛ لأن ما يبدل فيه الترتيب لابد فيه من عكس النتيجة, وهي موجبة كلية, وعكسها إيجاب جزئي. والأولى في البيان أن يقال: هذا الضرب قد يكون الأكبر فيه أخص من الأصغر, ولا يثبت الأخص لجميع أفراد الأعم, وهذا الضرب أخص ضربي الأيجاب, وهو لا ينتج إيجابًا كليًا, فالأعم أولى. الضرب الثاني: من موجبة كلية صغرى, وموجبة جزئية كبرى, ينتج

موجبة جزئية, بيانه بالقلب كما تقدم. الثالث: من سالبة كلية صغرى, وموجبة كلية كبرى, نتج: سالبة كلية, بيانه بقلب المقدمتين وعكس النتيجة. مثاله: كل عبادة لا تستغني عن النية, وكل وضوء عبادة, نتج: كل مستغن ليس بوضوء, بأن نجعل الكبرى صغرى والصغرى كبرى, نتج: كل وضوء ليس بمستغن عن النية, ينعكس: كل مستغن عن النية ليس بوضوء, وهو المطلوب. ولا يمكن البيان بعكسهما, وإلا رجع إلى الأول وقد فقد شرطاه. الرابع: من موجبة كلية صغرى, وسالبة كلية كبرى, ينتج: سالبة جزئية, بيانه بعكس المقدمتين, ولما كان عكس الصغرى جزئيًا لم ينتج إلا الجزئي, ولا يمكن بيانه بالقلب, وإلا رجع إلى الأول وقد فقد شرطاه, والأولى أن يبين أيضًا بأن الأكبر قد يكون فيه أخص من الأصغر, والأخص لا ينفى عن جميع أفراد الأعم, وهذا الضرب أخص من الخامس, [ومتى لم ينتج الأخص الكلي, لم ينتجه الأعم]. وأما الضرب الخامس: فإن إنتاجه وبيانه كالذي قبله, ويمكن بيان جميع ضروب هذا الشكل بالخلف, بأن نأخذ نقيض / النتيجة في الضربين الأولين ونجعله كبرى, لينتج نقيض الكبرى الصادقة, والثلاث الأخيرة تأخذ نقيض النتيجة ونجعله صغرى, لينتج نقيضها أيضًا.

القياس الاستثنائي المتصل

قال: (والاستثنائي ضربان: ضرب بالشرط ويسمى المتصل, والشرط مقدمًا, والجزاء تاليًا, والمقدمة الثانية استثنائية. وشرط إنتاجه: أن يكون الاستثناء بعين المقدم, فلازمه عين التالي أو بنقيض التالي, فلازمه نقيض المقدم. وهذا حكم كل لازم مع ملزومه, وإلا لم يكن لازمًا, مثل: إن كان هذا إنسانًا فهو حيوان, وأكثر الأول «بأن» , والثاني «بلو». ويسمى بلو قياس الخلف, وهو إثبات المطلوب بإبطال نقيضه). أقول: لما فرغ من القياس الاقتراني, شرع الآن في الاستثنائي, وهو قياس مركب من مقدمتين, إحداهما شرطية, والأخرى [استثنائية] , وضع أحد طرفي الشرطية ليلزم الآخر, أو رفعه ليرتفع الآخر أو يثبت, فإن كانت الشرطية من حمليتين فالموضوعة أو المرفوعة حملية, وإن كانت من شرطيتين فالموضوعة أو المرفوعة شرطية؛ وهو على ضربين؛ لأن الشرطية فيه إما متصلة, وهي التي حكم فيها بلزوم شيء على تقدير شيء آخر, وإما منفصلة, وهي التي حكم فيها بالتنافي بين قضيتين. والشرطية بحكم وضع اللغة هي الأولى, وإنما سمى المنطقيون المنفصلة شرطية, لمشاركتها الأولى في التركيب من قضيتين. القسم الأول: ما كان بالشرط؛ ويسمى الاستثنائي المتصل, وما دخل عليه حرف الشرط يسمى المقدم لتقدمه, والجزء الثاني الذي دخل عليه

قياس الخلف

حرف الجزاء يسمى التالي لتأخره, والمقدمة الثانية استثنائية لاشتمالها على حرف الاستثناء الذي هو لكن, وهذه التسمية لا يختص بها حين كونها جزء القياس المتصل؛ لأنها تسمى كذلك في المنفصل. وشرط إنتاج المتصل أن يكون الاستثناء بعين المقدم ليلزم عين التالي, أو بنقيض التالي ليلزم نقيض المقدم, [لأنه يلزم] من ثبوت الملزوم ثبوت اللازم وإلا لم يكن ملزومًا, ومن رفع اللازم رفع الملزوم وإلا لم يكن لازمًا, ولا يلزم من ثبوت اللازم ثبوت الملزوم لجواز كون اللازم أعم, ولا يلزم من وجود العام وجود الخاص, ولا يلزم من رفع الملزوم رفع اللازم, إذ لا يلزم من رفع الخاص رفع العام, فإن كان اللازم مساويًا لزم من وضع أيهما كان وضع الآخر, ومن رفعه رفع الآخر, لكن ذلك للزوم المقدم أيضًا للتالي فهو اتصال آخر. وقوله: (وهذا حكم كل لازم مع ملزومه) يعنى من حيث هو لازم وملزوم, إذ اللازم يجب صدقه على تقدير صدق ملزومه, فيكون متضمنًا للشروط الثلاثة التي هي إيجاب المتصلة, وكونها لزومية, وكون الملازمة كلية, أو كلية الاستثناء إن كانت جزئية, وإلا لما حصل إنتاج لجواز أن يكون حال الاتصال غير حال الاستثناء. وأكثر استعمال ما يستثنى فيه عين المقدم «بأن» , فإنها وضعت لتعلق الوجود بالوجود, واستعمال ما يستثنى فيه نقيض التالي, فهي وضعت لتعلق العدم بالعدم. قال: (ويسمى «بلو» قياس الخلف» يعنى يسمى المتصل الذي استثني

فيه نقيض التالي قياس الخلف, هذا يحتمل أنه يريد بقياس الخلف برهان الخلف الذي تقدم له, كما لو قال: لو ثبت نقيض النتيجة لثبت منضمًا إلى مقدمة من مقدمتي القياس ولزم المحال, أو يكون اختار من مذهب الكاتبي في أن قياس الخلف قياس بسيط استثنائي مركب من متصلة مقدمها نقيض المطلوب وتاليها أمر محال, ومن استثناء نقيض التالي ليلزم / نقيض المقدم. وهو عند الجمهور مركب من قياسين, أحدهما اقتراني, والآخر استثنائي. فالاقتراني: مركب من متصلة مقدمها فرض المطلوب غير صادق, وتاليها وضع نقيضه صادقًا, ومن حملية صادقة في نفس الأمر مشاركة للتالي. والاستثنائي: من نتيجة التأليف, أعني نتيجة القياس الشرطي الاقتراني ومن حملية هي رفع التالي. مثاله: إذا كان المطلوب: ليس كل (ج) (ب) , فلو لم يصدق: ليس كل (ج) (ب) , صدق: كل (ج) (ب) , وكل (ب) (أ) صادق في نفس الأمر, نضمه إليه فينتج: لو لم يصدق ليس كل (ج) (ب) , صدق: كل (ج) (أ) , لكن لا يصدق: كل (ج) (أ) على أنه قول محال, ينتج: ليس يصدق ليس كل (ج) (ب) , فيصدق: ليس كل (ج) (ب) , إذ سلب السلب إيجاب وهو المطلوب.

الاستثنائي المنفصل

فقد قام الدليل على إثبات المطلوب بواسطة إبطال النقيض. قال: (وضرب بغير شرط ويسمى المنفصل, ويلزمه تعدد اللازم مع التنافي. فإن تنافيا إثباتًا ونفيًا, لزم من إثبات كل نقيض الآخر, ومن نقيضه عينه, فيجئ أربعة, مثاله: العدد إما زوج أو فرد, لكنه ... إلى آخرها. وإن تنافيا إثباتًا لا نفيًا, لزم الأولان, مثاله: الجسم إما جماد أو حيوان. وإن تنافيا نفيًا لا إثباتًا, لزم الآخران, مثاله: الخنثى إما لا رجل أو إما لا امرأة). أقول: لما فرغ من المتصل, شرع في المنفصل, وهو ما كان بغير شرط ويسمى استثنائيًا منفصلًا, والأولى تسمى منفصلة, ويلزم هذا القسم تعدد اللازم, أي تعدد أجزاء المنفصلة مع التنافي بين تلك الأجزاء, وتسمى الأجزاء لوازم؛ لأنها على صور النتائج, أو يكون المراد يلزمه تعدد النتائج مع التنافي بينها, إذ لا يجتمع بعض النتائج مع بعض, وذلك أن أجزاء المنفصلة إن تنافيا في الإثبات والنفي, يلزم أربع نتائج؛ لأنهما لما تنافيا في الإثبات لزم من وضع أحدهما وضع الآخر, ولما تنافيا نفيًا لزم من رفع أحدهما رفع الآخر؛ لأنها مركبة من الشيء ونقيضه, والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان, وهذه المنفصلة تسمى الحقيقية, وإلى النتائج الأربع أشار المصنف بقوله: (لكنه ... إلى آخرها).

وإن تنافا جزءآها إثباتًا فقط, لزم من وضع أحدهما رفع الآخر لامتناع اجتماعهما, ولا يلزم من رفع أحدهما وضع الآخر لجواز رفعهما؛ لأنها مركبة من الشيء والأخص من نقيضه, ولو اجتمع الشيء والأخص من نقيضه لاجتمع الشيء ونقيضه, ويجوز رفعهما إذ لا يلزم من رفع الأخص رفع الأعم, وإلى هذا أشار بقوله: (لزم الأولان) , أي يلزم من إثبات كل واحد نقيض الآخر, فإنه يلزم من إثبات الحيوان انتفاء الجماد, ومن إثبات الجماد انتفاء الحيوان, وقد انتفيا عن النبات, وتسمى مانعة جمع. وإن تنافيا نفيًا لا إثباتًا لزم الآخران, أي يلزم من نقيض كل واحد عين الآخر, ولا يلزم من عين أحدهما نقيض الآخر لجواز اجتماعهما, لأنها لما تركبت من الشيء والأعم من نقيضه, لم يجز رفعهما؛ لأنه متى ارتفع الأعم ارتفع الأخص, فلو ارتفعا ارتفع النقيضان, ويجوز اجتماعهما, إذ لا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص. مثاله: المثنى إما لا رجل وإما لا امرأة, لكنه رجل فليس بامرأة, لكنه امرأة فليس برجل, ولو استثنيت عين أحدهما لم يلزم نقيض الآخر لاجتماعهما في الحجر, وتسمى مانعة الخلو, ويشترط في المنفصلة أن تكون موجبة كلية عنادية, أو كلية الاستثناء إن كانت جزئية, وهذا إذا استثنى عين المقدم, وإلا لم ينتج الجزئية سوى الكلية الموجبة / دائمًا, والإهمال بالاقتصار على إما, والجزئية سوى الكلية الموجبة / دائمًا, والإهمال بالاقتصار على إما, والجزئية قد تكون إما أن يكون العدد زوجًا وإما أن يكون فردًا, والمصنف وسط حرف الانفصال, والاصطلاح تقديمه.

رد الاستثنائي إلى الاقتراني

قال: (ويرد الاستثنائي إلى الاقتراني, بأن يجعل الملزوم وسطًا, والاقتراني إلى المنفصل بذكر منافيه معه). أقول: أما رد المتصل فبأن يجعل الملزوم وسطًا, مثاله: إن كان هذا إنسانًا فهو حيوان, بأن نقول: هذا إنسان, وكل إنسان حيوان, وكذا إذا استثنى نقيض التالي, مثاله: لو كان هذا فرسًا لكان غير ناطق, فنقول: هذا ناطق, وكل ناطق ليس بفرس, فالاستثنائية أبدًا صغرى, والحملية التي هي تالي الشرطية كبرى, ورد المنفصل إلى الاقتراني بأن ننفي الموضوع ونجعل أحد الجزئين وسطًا ونقيضه أكبر, مثاله: العدد إما زوج وإما فرد, لكنه زوج فليس بفرد, بأن نقول: هذا العدد زوج, وكل زوج ليس بفرد, فهذا العدد ليس بفرد, وكذا البواقي. وينبغي حمل الملزوم في كلام المصنف على ملزوم النتيجة ليتناول سائر الأقسام, ونعني المحكوم به في الاستثنائية, أو نفس الاستثنائية لكونها ملزومة للنتيجة كما قال في المنتهى. يرد بأن تجعل الاستثنائية صغرى والأولى كبرى, ويجوز في جعلها وسطًا حيث جعل بعضها كذلك, أو يكون المصنف أراد القسم الأول وهو ما استثني فيه عين المقدم, يدل عليه قوله: (والأولى كبرى) , وإنما ذلك في ما استثني فيه عين المقدم, على أنه ليس الأولى كبرى بل تاليها فقط. واعلم أن هذا إذا كانت الشرطية تشارك مقدمها وتاليها في الموضوع, وإلا فلا, كما لو قلنا: إما أن تكون الشمس طالعة أو يكون الليل موجودًا.

الخطأ في البرهان

ويرد الاقتراني إلى المنفصل بأن يذكر منافي الوسط معه, مثاله: الاثنان زوج, وكل زوج ليس بفرد, فمنافي الزوج الذي هو الوسط إنما هو الفرد, فنقول: الإنسان إما زوج أو فرد, لكنه زوج, فليس بفرد. ويرد إلى المتصل بجعل الوسط ملزومًا, وهو بين. قال: (والخطأ في البرهان لمادته وصورته. فالأول: يكون في اللفظ للاشتراك, أو في حروف العطف, نحو: الخمسة زوج وفرد, ونحو: حلو حامض, وعكسه: طبيب ماهر. ولاستعمال المتباينة كالمترادفة, كالسيف والصارم. ويكون في المعنى لالتباسها بالصادقة كالحكم على الجنس بحكم النوع وجميع ما ذكر في النقيضين. وكجعل غير القطعي كالقطعي. وكجعل العرضي كالذاتي. وكجعل النتيجة مقدمة بتغير ما, ويسمى المصادرة. ومنه المتضايفة, وكل قياس دوري. والثاني أن يخرج عن الأشكال). أقول: لما فرغ من مادة البرهان وصورته, ذكر الآن الخلل الواقع فيه, وهو إما في مادته أو صورته, والأول يكون لفظيًا, ويكون معنويًا. فاللفظي: إما أن يكون في المفردات, أو في التركيب, والذي في المفرد قد يكون في جوهر اللفظ, وقد يكون في تصاريفه.

الأول: بسبب اشتباه دلالته, إما لاشتراك في أحد جزئي القول, كقولنا: هذا عين, وكل عين ربوي, ومنه استعمال اللفظ الذي له حقيقة ومجاز. والثاني: كالمختار مشترك بين الفاعل والمفعول بحسب الصيغة لا بحسب الجوهرية. وأما الذي بحسب التركيب, فقد يكون بسبب حرف العطف, وقد لا [يكون]. فالأول: الخمسة زوج وفرد, وكل ما هو زوج وفرد فهو زوج, ينتج: الخمسة زوج, فإن أريد أن الخمسة تحصل منهما فالصغرى صادقة / ولا يلزم من تركيب شيء من شيئين صدق كل واحد منهما عليه, لأن ذلك إنما يكون في الأجزاء المحمولة, وإن أريد أن الخمسة يصدق عليها كل منهما كذبت الصغرى, وكذا بغير حرف العطف, كقولنا في المر: إنه حلو حامض, وهذان من ظن التركيب الموجود معدومًا, وعكسه وهو ظن التركيب المعدوم موجودًا, كما إذا كان زيد طبيبًا وماهرًا في الشعر؛ فإنه يصدق أنه طبيب وماهر حالة الإفراد, ولا يصدق في حالة التركيب لإيهامه أنه ماهر في الطب, وهو غلط من تركيب المفصل, والذي قبله غلط من تفصيل المركب. وقد يحصل الغلط باستعمال المباين مكان المرادف, كالسيف والصارم فيوهم اتحاد الوسط, فإن السيف اسم للذات, والصارم اسم له باعتبار

القطع, وهذا من الأول, ولذلك أعاد المصنف الجار, ولو أتى به عقب قوله: للاشتراك, لكان أولى. وأما المعنوي: فيكون لالتباس المادة [الصادقة بالصادقة] أيضًا. فقوله: (لالتباسها بالدقة) راجع إلى اللفظي والمعنوي كما هو في المنتهى, كالحكم على الجنس بما يحكم به على النوع, كما يقال: الفرس حيوان, والحيوان ناطق, وهذا من سوء اعتبار الحمل, ويسمى أيضًا إيهام العكس, ومن هذا القبيل الغلط في جميع ما ذكر في النقيضين, مثل أخذ ما بالقوة مكان ما بالفعل, وكأخذ الجزء مكان الكل فيهما, وكأخذ المطلق مكان المقيد وبالعكس, وكذا جميع ما اشترط في النقيضين, فإنه إن لم يراع التبست الكاذبة بالصادقة. ومنه جعل ما ليس بقطعي من الحدسي, والاعتقادي, والتجريبي [الناقص] , والظن, والوهم مكان القطعي. ومنه جعل العرضي كالذاتي, مثل: السقمونيا مبرد, وكل مبرد بارد, فإن السمونيا مبرد لا بالذات, بل لأن السقمونيا تسهل الصفراء, وانتفائها عن البدن يوجب برده, وإنما البارد هو المبرد بالذات, وهذا غير

القياس الدوري

الذاتي والعرضي بالتفسير المتقدم, أو بجعل الماشي جنسًا للإنسان مكان الحيوان, فيكون موافقًا لما تقدم. ومنه جعل النتيجة مقدمة بتغير في اللفظ, ويسمى هذا النوع مصادرة على المطلوب, مثل: كل إنسان بشر, وكل بشر ناطق, فإن النتيجة عين الكبرى. ومن جعل النتيجة مقدمة بتغيير في اللفظ المتضايفة, مثل: هذا ابن, وكل ابن ذي أب, ينتج: هذا ذو أب, وهي عين الصغرى. ومن جعل النتيجة مقدمة بتغيير ما القياس الدوري, وهو ما يتوقف ثبوت إحدى مقدمتيه على النتيجة, أي تثبت إحدى مقدمتيه بقياس مركب من نتيجة القياس الأول وعكس الآخر كليًا, مثل: كل إنسان حيوان, وكل حيوان حساس, تُضم نتيجته إلى: كل حساس حيوان, لينتج صغرى الأول, وهو لا يتمشى إلا في الحدود المتعاكسة.

قيل عليه: المصادرة لا ترجع إلى خلل المادة, بل إلى الصورة. وقيل: ليس الخلل من جهة مادته لأنها صحيحة, ولا من جهة صورته لأنها على نظم الشكل الأول, بل لكون اللازم ليس قولًا آخر, ويجب كونه [قولًا آخر]. وأيضًا: ليس كل ما استعمل فيه أحد المتضايفين يكون مصادرة, إلا إذا كان سببًا لإنتاج إحدى المقدمتين كمثال المذكور. القسم الثاني: خطأ الصورة, بأن لا يكون على تأليف الأشكال المذكورة, ونعني بالفعل أو بالقوة, وإلا لكان الاستثنائي فاسدًا. أو بفقد شرط من شروط الإنتاج.

مبادئ اللغة

قال: (مبادئ اللغة, ومن لطف الله تعالى / إحداث الموضوعات اللغوية). أقول: إضافة المبادئ إلى اللغة من إضافة الشيء إلى جنسه, فهي بمعنى [خاتم من فضة] , ولما فرغ مما تمس الحاجة إليه من القواعد المنطقية, التي هي من تتمة مبادئ هذا الكتاب, شرع الآن فيما تستمد منه أصول الفقه من المباحث اللغوية, ولما كان المستمد منه على ما تقدم من المبادئ لهذا العلم, قال: (مبادئ اللغة). ولم يظهر لتغير عبارته وجه حيث قال أولًا: (من الكلام والعربية والأحكام) , وقال الآن: (مبادئ اللغة) , ولم يقل: مبادئ العربية, ولم يذكر المصنف شيئًا من مباحث المبادئ الكلامية؛ لأن المبادئ الكلامية على ما سبق: معرفة الباري, وصدق المبلغ, ودلالة المعجزة على صدقه, وقد جرت عادة العلماء أن يبحثوا عن ذلك في تصانيف علم الكلام خوفا من الانتشار وخلط العلوم. والمبحوث عنه في المبادئ اللغوية هنا, ولما لم يكن مبحوثًا عنه في تصانيف علوم العربية, لم يمكنه أن يحيل الكلام فيه على فن آخر, بخلاف مبادئ الكلام, ولذلك أيضًا ذكر مبادئ الأحكام, وقدم المصنف مقدمة على المباحث اللغوية. واعلم أن الإنسان لما كان شريفًا لكونه خلق الله تعالى, كما قال عليه السلام حاكيًا عن الله تعالى: «كنت كنزًا مخفيًا, فأحببت أن أعرف,

فخلفت خلقًا لأعرف به» ولا يتم ذلك للخلق بدون الاطلاع على المقدمات النظرية, والخلق متفاوتون في مقتضى أفكارهم, فمست الحاجة إلى إعلام بعضهم بما في ضمير بعض, لتكمل المعارف بتشارك الأفكار, وأيضًا للإنسان قوة حسية ترتسم فيها صور الأشياء الخارجية وتتأدى عنها إلى النفس فترتسم ارتسامًا ثانيًا في النفس, وقد ترتسم في النفس لا من جهة الحس, فللأشياء وجود في الخارج ووجود في النفس, وكما أن الحاجة ماسة إلى التحصيل في العقل لما ليس بحاصل فيه, مست إلى إبراز ما حصل في النفس لمن لم يحصل عنده, إذ الإنسان لا يستقل بأمر نفسه في تحصيل معارفه وتسهيل معايشه, بل يحتاج إلى معاون, ولا يتيسر ذلك له إلا بإبراز ما في ضميره, ولما لم يكن ما يتوصل به إلى ذلك أخف من أن يكون فعلًا, ولم يكن أخف من أن يكون صوتًا لعدم ثباته وازدحامه, ولأنه كيفية للنفس الضروري فخفت المؤونة وعمت الفائدة, لتناوله الموجود والمعدوم والمحسوس والمعقول, ولأنه مقدر بقدر الحاجة وينقضي عند انقضائها, إذ لو بقي بعد الحاجة ربما اطلع عليه من لا يريد اطلاعه عليه, قاده الإلهام الإلهي إلى استعمال الصوت وتقطيع الحروف بالآلة المعدة له, ليدل غيره على ما عنده من المدركات بحسب تركيباتها على وجوه شتى موضوعة لها, فالعبارة دالة على الصور الذهنية وهي على الأمور الخارجية, لكن الأولى لما كانت وضعية اختلف الدال بحسب الواضعين دون المدلول, [ولما كانت الثانية طبيعية, لم

يختلف الدال ولا المدلول] وأيضًا [وضع] الذهن لأن اللفظ دائر معه أما في المفردات فلأن من رأى شبحًا فظنه إنسانًا يسميه إنسانًا, ثم إذا تبين له أنه حجر سماه حجرًا, فقد دار الاسم مع الذهن وجودًا وعدمًا, فالواضع له إذ لو كان الواضع للخارجي ما تبدل بتبدل الظن, وكان يلزم تغير الأمر الخارجي. وأما المركب فلأنه لو دل زيد قائم على الخارجي, كان كل حكم صدقًا / بل على الذهني, فإن طابق الخارجي فصدق, وإلا فكذب, ولقوة العلاقة بين اللفظ والمعنى, قلما ينفك تعقل الشيء عن تخيل اللفظ, وكأن المفكر يناجي نفسه بألفاظ متخيلة, وسبب القوة كثرة الاحتياج وتوقف الاستفادة عليه. قيل: قوله (ومن لطف الله) إشارة إلى أن اللغة عنده توقيفية.

أقسام الموضوعات اللغوية

قلت: وفيه نظر؛ إذ التوقيف والإقدار في كونه لطفًا سواء. قال: (فلنتكلم على حدها, وأقسامها, وابتداء وضعها, وطريق معرفتها. الحد: كل لفظ وضع لمعنى. أقسامها: مفرد, ومركب). أقول: أمر المتكلم نفسه قليل, ومنه قوله تعالى: {ولنحمل خطاياكم} وحصر المصنف النظر في الموضوعات اللغوية في أربعة أقسام: الأول: الحد, إذ هو طريق معرفة الماهية. الثاني: أقسامها, من كونها مفردة ومركبة. الثالث: في ابتداء الوضع, أهي توقيفية أو اصطلاحية, ليتفرع على ذلك التغير والنقل. الرابع: طريق معرفتها أهو النقل, أو العقل, أو المركب منهما. أما الحد: فكل لفظ وضع لمعنى. (كل) لا تدخل في الحد؛ لأنه للماهية من حيث هي, ولا يدخل فيها عموم؛ ولأنه يجب صدقه على كل فرد, ولا يصدق بصفة العموم, فذكرها إما للإشعار بأنه لا يختص بقوم دون قوم, أو لأنه يحد الموضوعات

بصفة العموم, فوجب اعتبارها فيه, فيكون للكل المجموعي؛ لأن الموضوعات مجموع الألفاظ لا كل واحد. فلفظ ومعنى, مصدران يدل كل منهما على القليل الكثير. فكأنه قال: مجموع ألفاظ وضعت لمعانٍ. قيل: إن أريد كل واحد لم يتناول المركب, ويلزم أن يكون العارف بكلمة لغويًا, وإن أريد الكل المجموعي لزم أن لا يوجد لغوي أصلًا. وفيه نظر؛ لأن المعنى ما صدق عليه أنه لفظ موضوع, [والمركب صدق عليه أنه لفظ موضوع] لمعنى, ضرورة أن أجزاءه وضعت لأجزاء المعنى, أو نختار الثاني, ويكون اللغوي المستعد للعلم بالجميع. والوضع: اختصاص شيء بشيء, بحيث إذا أطلق الأول فهم الثاني من علم الاختصاص. وبقوله: (وضع لمعنى) خرج المهمل, وهذا يشمل ما مدلوله لفظ كالاسم والفعل والحرف؛ لأنه معنى أيضًا, إذ المعنى هو المقصود بشيء, وهو أعم من كل منهما, وظهر أن مذهبه أن المركبات موضوعة أيضًا, إذ المعنى بالوضعي ما للوضع فيه مدخل وأجزاء اللفظ موضوعة لأجزاء المعنى,

وليس المراد بالوضعي ما وضع اللفظ له, وإلا لم يكن الدال بالتضمن والالتزام وضعيًا. قيل: أن أريد أن المركب وضع وضعًا شخصيًا, لم تنحصر الوضعية في الدلالات الثلاث لعدم وضع المركب بالشخص؛ لأن المشخصات لا تدخل في الوضع المذكور, وإن أريد الوضع النوعي, يلزم انحصار الموضوع في الدال بالمطابقة؛ لأن المدلول التضمني والالتزامي مجازي, واللفظ موضوع بإزاء المعنى المجازي وضعًا نوعيًا. قلت: نمنع الوضع للمجاز, وإنما استعمل اللفظ في المدلول فقط, ولا يلزم من كون دلالة اللفظ عليه بسبب الوضع أن يكون اللفظ موضوعًا له, ودلالة المركب لا تخرج عن الدلالات الثلاث؛ لأن دلالة المركب إما على مدلول مفرديه, أو على مدلول أحد مفرديه, أو على لازم مجموعهما, لا يكون مدلول واحد منهما, والأول إما أن يدل على مدلول مفرديه, أو على مدلول واحد لمفرديه, والأول من هذين ينحصر في ستة أقسام, لأن دلالتي المفردين على مدلوليهما إما بالمطابقة, أو بالتضمن, أو بالالتزام, أو دلالة أحدهما بالمطابقة, والآخر بالتضمن, أو دلالة أحدهما مطابقة /

والآخر التزام, أو دلالة أحدهما بالتضمن والآخر بالالتزام, والأول مطابقي. والثاني والرابع تضمني؛ لأن مجموع الجزء وجزء الجزء جزء. والثالث والخامس والسادس التزامي؛ لأن مجموع الجزء والخارج خارج. والثاني منهما ينحصر في خمسة أقسام؛ لأن ذلك المدلول الذي دل عليه المركب, إن كان خارجًا عن كل واحد منهما فدلالته عليه التزام إلا فتضمن وهو أربعة أقسام: تضمن لهما, ومطابقي لأحدهما وتضمني للآخر, ومطابقي لأحدهما والتزامي للآخر, وتضمني لأحدهما والتزامي للآخر. والثاني ينحصر في ثلاثة أقسام: قسمان تضمن, وقسم التزام, فإن كانت دلالة المفرد بالمطابقة فتضمن, وإن كانت بالتضمن فتضمن, وإن كانت بالالتزام فالتزام, والثالث لا يكون إلا التزامًا؛ لأن مدلوله المطابقي هو من مدلولات مفرداته المطابقية, ومدلوله التضمني إنما هو جزء من مدلولات مفرداته, فالأقسام تنحصر في خمسة عشر, لا تخلو كلها عن الدلالات الثلاث, وعليك استخراج الأمثلة. قيل: لم يوضع عين اللفظ لعين المعنى في المركب, ولم توضع أجزاؤه لأجزاء المعنى؛ لأن منها الجزء الصوري وليس موضوعًا لمعنى, وإلا لتوقف كل تركيب على معرفة وضعه, فلا يكون المركب موضوعًا. وجوابه: أن الأجزاء المادية موضوعة للأجزاء المادية, والجزء الصوري موضوع للجزء الصوري؛ لأن المعنى أيضًا مركب من مادة وصورة, غير أنها ليست موضوعة بالشخص لكنها موضوعة بالنوع, ولذلك تختلف

المفرد والمركب

هيئات التراكيب بحسب اللغات. أو نقول: الهيئة التركيبية ليست جزءًا لفظيًا. قال: (المفرد: اللفظ بكلمة واحدة. وقيل: ما وضع لمعنى ولا جزء له يدل فيه. والمركب بخلافه فيهما, فنحو بعلبك, مركب على الأول لا على الثاني, ونحو يضرب بالعكس. ويلزمهم أن نحو: ضارب, ومخرج, مما لا ينحصر مركب). أقول: رسم النحاة المفرد بأنه اللفظ بكلمة واحدة, والألف واللام للعهد, فكأنه قال: المفرد لفظ وضع لمعنى بشرط كونه كلمة واحدة. اللفظ بمعنى الملفوظ, أي الذي لفظ بكلمة واحدة, لا بمعنى التلفظ, فإن المفرد نفس الكلمة لا التلفظ بها. وما قيل: إن الكلمة ترادف المفرد فلا يعرف بها ويلزم أيضًا التكرار إذ الكلمة هي اللفظ الموضوع لمعنى, ساقط, إذ الكلمة تتناول المفرد والمركب الناقص, ولا تكرار لأن اللفظ الموضوع لمعنى أعم من الكلمة وغيرها, فقيده ليخرج الكلام, فـ (اللفظ) جنس, وقوله: بـ (كلمة) ليخرج الكلام, وقوله: (واحدة) ليخرج المركب الناقص, وحيوان ناطق علمًا, إذ المراد ما لا يشتمل على لفظين موضوعين. لا يقال: الكلمة النحوية يؤخذ في حدها المفرد, فلا تؤخذ في حده, لأن المأخوذ في حدها اللغوي, والمحدود بها الاصطلاحي. لا يقال: الحد غير منعكس, لخروج أسماء الحروف وهي مفردة.

لأنا نقول: حروف زيد ليست [موضوعة] لشيء, بل هي مسميات الزاي والياء والدال, وهذه الأسماء داخلة تحت الحد. ورسمه المنطقيون بأنه: ما وضع لمعنى ولا جزء له يدل فيه, أي حين هو داخل فيه, فيتناول ما لا جزء له مثل (ب) الجر, وما له جزء لكن لا يدل على معنى مثل زيد, وما له جزء يدل على معنى لكن لا يدل حين هو داخل فيه مثل عبد الله علمًا, ولا يرد حيوان ناطق؛ لأنه لا يدل حين هو جزء لفظ العلم وإن كان جزؤه يدل على جزء معناه في الوضع الأول, ويجب أن يفسر ما بلفظ, وإلا اختل طرده بالإشارة وعقد الحساب, وعود ضمير المجرور على ما ذكرناه أولى من عوده على المعنى وعلى الوضع. قيل: لا ينعكس لخروج الفعل / فإنه يدل على الحدث بمادته, وعلى الزمان بصيغته. رد: بأن المراد بالجزء ما له ترتب في المسموع, ولم يتميز ها هنا لسماعهما معًا, فلم يكن مركبًا, والمركب بخلاف المفرد في التعريفين, فنحو: بعلبك مركب على التعريف [الأول] وإن كان كلمة نحوية؛ لأنه مركب نظرًا إلى الوضع الأول, وإن كان مفردًا نظرًا إلى الوضع الثاني, لأن العلمية لا تخرج الكلمتين إلا عن الدلالة. قلت: ويلزم أن يكون إنسان مركبًا على الأول بعين ما ذكروه, ونحو

يضرب مفرد على الأول؛ لأنه لفظ بكلمة واحدة, مركب على الثاني؛ لدلالة الياء على المذكر الغائب, والباقي على المصدر, وذكر غير الغائب أولًا؛ لأن يضرب عندهم مفرد, وتضرب عندكم مركب, لاحتماله الصدق والكذب, وإنما ألزموا الغائب لما قالوا: إن المتكلم والمخاطب مركب وفرقوا بأن الغائب معناه أن شيئًا معينًا في نفسه وعند القائل, مجهولًا عند السامع ووجد منه الضرب, فلا يتمكن السامع من التصديق والتكذيب, لكن لا فرق بينهما من حيث أن جزء كل واحد دل على جزء معناه, وأيضًا احتمال الصدق والكذب إنما هو في نفس الأمر لا إلى السامع, وإلا لم يحتمل جاء واحد صدقًا ولا كذبًا وهو باطل. ولما فهم من التعريف أن المركب ما له جزء يدل على جزء معناه, أعم من أن يدل عن الانفراد أو عند الاجتماع, وإن كان ما بعد الحرف لا يدل عند الانفراد أورد أسماء الفاعلين, لكونهما مركبة من المصدر والصيغة. قيل: لا يلزمهم؛ لأن المراد بالجزء ما له ترتب في المسموع, والحد لا يشعر بذلك, وجماعة من المنطقيين جعلوا المقسم إلى المفرد والمركب الدال مطابقة, وعلل بأن الدلالة الالتزامية مهجورة في العلوم, واللفظ الواحد قد يكون بالنسبة إلى التضمن مفردًا ومركبًا معًا, كالحيوان الماشي, فإن المجموع يدل على الحيوان بالتضمن, ولا تدل أجزاؤه على أجزاء المعنى بالمطابقة أو التضمن المعتبرين, فيكون مفردًا, ويدل على الجسم الماشي بالتضمن مع دلالة الأجزاء فيكون مركبًا.

أقسام المفرد

وقال: (معًا) لأن الدال بالمطابقة قد يكون مفردًا ومركبًا لكن في حالين, كعبد الله علمًا وغير علم. وفيه نظر؛ لأن دلالة الالتزام ليست مهجورة مطلقًا لاعتبارها في الحد الناقص والرسم, وثانيًا: لا محذور في اللازم؛ لأن المفهوم التضمني فيه تعدد فيجوز أن يكون اللفظ بالنسبة إلى أحد المفهومين مفردًا وإلى الآخر مركبًا. قال: (وينقسم المفرد إلى: اسم, وفعل, وحرف). أقول: هذا تقسيم آخر للمفرد, ووجه الحصر أن اللفظ المفرد إن لم يستقل بالمفهومية فهو حرف, وإن استقل بالمفهومية, فإن دل بهيئته على أحد الأزمنة الثلاثة فهو الفعل, وإلا فهو الاسم, وقد علم بذلك حدودها, للإحاطة بالمشترك, وبما به امتياز كل واحد وهو الفصل. قال: (ودلالته اللفظية في كمال معناها دلالة مطابقة, وفي جزئه دلالة تضمن, وغير اللفظية التزام, وقيل: إذا كان ذهنيًا). أقول: الدلالة: كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. وذلك الشيء إن كان لفظًا فالدلالة لفظية, وإلا فغير لفظية, كدلالة الخطوط, وعقد الحساب, والإشارات, والنصب, ودلالة الأثر على المؤثر. واللفظية منحصرة في ثلاثة بحكم الاستقراء, وهو كاف في مباحث الألفاظ. وضعية: كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق. وطبيعة: كدلالة أح على وجع الصدر. وعقلية: كدلالة اللفظ المسموع على وجود اللافظ /.

والعقلية والطبيعية غير منضبطتين, لاختلافهما باختلاف الأفهام والطباع فاختص النظر بالوضعية وهي: كون اللفظ بحيث إذا أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه للعلم بالوضع. ثم الوضعية: إما مطابقة, أو تضمن, أو التزام؛ لأن ما يدل عليه اللفظ بطريق الوضع, إما تمام المعنى الموضوع له, أو جزؤه, أو خارج عنه. والأول: مطابقة؛ لتطابق اللفظ والمعنى. والثاني: تضمن؛ لأنه في ضمن المعنى الموضوع له. والثالث: التزام؛ لأنه خارج عن المعنى الموضوع له ولازم له. وقيد في الثلاثة بقولنا: من حيث هو كذلك؛ لأن اللفظ يكون مشتركًا بين الكل والجزء, كالإمكان المشترك بين مفهومه العام والخاص, ويكون مشتركًا بين الملزوم واللازم, كالشمس للجرم والنور, فلم يقيد حد دلالة المطابقة لانتقض بدلالة التضمن والالتزام؛ لأنه إذا أطلق الإمكان وأريد مفهومه الخاص, دل على الإمكان العام تضمنًا, مع أنه يصدق أنه دلالة اللفظ على تمام مسماه, وعند التقييد لا انتقاض؛ لأنها ليست من حيث إنه وضع له, وإذا أطلق لفظ الشمس وأريد الجرم, دل على النور التزامًا, مع أنه تمام ما وضع له, ولا انتقاض عند التقييد؛ لأن تلك الدلالة ليست من حيث هو موضوع له, بل من حيث هو لازم, وكذا لو لم يقيد في الدلالتين لانتفضتا بالمطابقة؛ لأن لفظ الإمكان إذا أريد منه الإمكان العام, دل مطابقة مع أنه جزء ما وضع له, ولا نقض عند التقييد؛ لأنها ليست من حيث هو جزؤه, وكذلك إذا أريد من لفظ الشمس الضوء الدلالة مطابقية وهو لازم

ما وضع له, لكن ليست من حيث هو لازم. قيل: لا ينفع التقييد على هذا الوجه؛ لأن اللفظ المشترك عند إرادة المعنى الكلي أو الملزوم يدل على الجزء واللازم مطابقة, غايته أنه يدل عليه دلالتين من جهتين, فيصدق عليه الحد. قلت: صدق الحد عليه باعتبارين لا يضر؛ لأن دلالته عليه مطابقة من حيث هو تمام أيضًا, ودلالته عليه تضمن لا من حيث هو تمام, والضمير في ودلالته يعود على المفرد, وفي كمال معناه مستدرك؛ لأنه احتراز عن جزء المعنى وقد خرج؛ لأن جزء المعنى غير المعنى, وتعديته بفي مستدرك, وإنما يعدى بعلى, وكذا قوله: (معناها) أضاف المعنى إلى الدلالة, وإنما يضاف إلى اللفظ, وأراد التنبيه بأن اللفظ لا ينسب إليه المعنى إلا باعتبارها, وأن الدلالة واحدة, وتختلف التسمية باعتبار ما تنسب إليه. والمصنف جعل الالتزامية غير لفظية كما فعل صاحب الإحكام, بل قال صاحب الدقائق: «من جعل الالتزامية لفظية فقد أخطأ». ووجهه: أن الدلالة الوضعية إما أن تكون على المعنى الخارج عن المسمى بواسطة المسمى, أو على المسمى الغير خارج عنه, والثانية لفظية لأن الذهن ينتقل من اللفظ إلى المعنى ابتداء, إما إلى كمال معناه وهو المطابقة, أو إلى جزئه وهو التزام, والأولى غير لفظية بل عقلية؛ لأن الذهن ينتقل من اللفظ إلى معناه, ومن معناه إلى اللازم, والتضمن غير خارج عن مسمى اللفظ

بخلاف الالتزام, وإلا فكل منهما منسوبة إلى اللفظ, وكل منهما عقلية. وشرط المنطقيون في دلالة الالتزام اللزوم الذهني بين المسمى والأمر الخارجي, وهو أن يحصل في الذهن متى حصل المسمى فيه, وإلا لم يفهم من اللفظ المعنى / الخارجي؛ لأن فهم المعنى من اللفظ إما بسبب أن اللفظ موضوع له, أو بسبب انتقال الذهن إليه من المعنى الموضوع له, والكل منتف على ذلك التقدير, فلم يكن دالًا عليه. وفيه نظر؛ إذ لا يلزم من عدم الانتقال على الوجه المخصوص عدم الانتقال مطلقًا, لجواز أن ينتقل بواسطة, أو ينتقل باعتبار تصورهما لا تصور المسمى فقط, ولا يشترط اللزوم الخارجي, أي تحقق اللازم في الخارج متى تحقق المسمى فيه, إذ لو كان شرطًا لما تحقق دلالة الالتزام بدونه, لكن العمى يدل على البصر بالالتزام, ولا لزوم خارجي بينهما, هذا معنى قوله. وقيل: إذا كان ذهنيًا, أي وإلا فلا فهم, فلا دلالة. والأصوليون لا يشترطون ذلك, بل اللزوم الأعم من الذهني والخارجي وهو أظهر, وإلا لم تنحصر الدلالات لخروج المجازات. ولأنا نفهم شيئًا من بعض الألفاظ في وقت دون وقت ولا لزوم ذهني. وأيضًا المسميات دالة على معانيها وليست لوازم ذهنية؛ لأن فهمها بعد كلفة, وكذا دلالة المنطوق على المفهوم, بل بعض دلالات الاقتضاء

تقسيم المركب

وبعض الإيماءات ودلالات الإشارات من هذا القبيل, إلا أن يقال: الدلالة في عرفنا فهم المعنى من اللفظ متى أطلق, لا فهم المعنى في الجملة, فإن ذلك عرف غيرنا. قال: (والمركب: جملة, وغير جملة. فالجملة: ما وضع لإفادة, ولا يتأتى إلا في: اسمين, أو فعل واسم. ولا يرد حيوان ناطق وكاتب, لأنها لم توضع لإفادة نسبة). أقول: لما قسم المفرد, أخذ الآن يقسم المركب, وأتى به اعتراضًا في أثناء تقاسيم المفرد, وهو ينقسم إلى: جملة, وغير جملة. فالجملة: ما وضع لإفادة نسبة, والمراد من النسبة إسناد أحد جزأي المركب إلى الآخر؛ لإفادة المخاطب معنى يصح السكوت عليه, فيخرج المركب الإضافي, والتقييدي, والجملة لا تتألف إلا من اسمين أو من فعل واسم؛ لأن الجملة تتضمن نسبة, وهي تقتضي منسوبًا ومنسوبًا إليه, والاسم يصلح لهما, والفعل يصلح لأن ينسب فقط, والحرف لا ينسب ولا ينسب إليه, فالتركيب العقلي من كلمتين لا يزيد على ستة أقسام إن لم

نعتبر التقديم والتأخير, وإلا فتسعة, والتركيب الإسنادي لا يتأتى إلا في اسمين, أو فعل واسم, إما لعدم المسند, أو لعدم المسند إليه, أو لعدمها. ونقض: بالحرف مع الاسم في النداء. ورد: بأنه ناب مناب الفعل, فهو في الحقيقة من فعل واسم. قيل عليه: لو كان كذلك, لكان خطابًا مع ثالث, ولاحتمل الصدق والكذب. رد: بأنه إنشاء لا خبر. وقوله: (ولا يرد حيوان ناطق) جواب عن سؤال مقدر, أي الحد المذكور غير مطرد لصدقه على حيوان ناطق لإفادة نسبة النطق إلى الحيوان, وكذا كاتب من: زيد كاتب؛ لأن اسم الفاعل منسوب إلى الضمير. والجواب: أنا نمنع صدق الحد عليهما؛ لأن المراد نسبة يحسن السكوت عليها, وهما لم يوضعا لها. أو نقول: شيئًا منهما لم يوضع لإفادة نسبة, بل لذات باعتبار نسبة, ولم يقل: لأنهما, إذ المراد أن أمقال هذين لم يوضع لإفادة نسبة. وغير الجملة بخلافه, أي ما لم يوضع لإفادة نسبة, ويسمي النحويون غير الجملة مفردًا أيضًا, بالاشتراك بينه وبين غير المركب. قال: (وللمفرد باعتبار وحدته ووحدة مدلوله وتعددهما أربعة أقسام: الأول: إن اشترك في مفهومه كثيرون فهو الكلي.

تقسيم آخر للمفرد

فإن تفاوت كالوجود للخالق والمخلوق فمشكك, وإلا فمتواطئ /. وإن لم يشترك فجزئي, ويقال للنوع أيضًا جزئي. والكلي: ذاتي وعرضي كما تقدم. الثاني من الأربعة: متقابلة متباينة. الثالث: إن كان حقيقة للمتعدد فمشترك, وإلا فحقيقة ومجاز. الرابع: مترادفة, وكلها مشتقة وغير مشتقة, صفة وغير صفة). أقول: هذا تقسيم آخر للفظ المفرد بالنسبة إلى مدلوله. واللفظ إما واحد أو متعدد, وعلى التقديرين فمعناه إما واحد أو متعدد فهي أربعة أقسام: الأول قسم, والثلاثة داخلة تحت تعددهما. القسم الأول: أن يتحد اللفظ والمعنى, فإن اشترك في مفهومه كثيرون يحمل اللفظ عليهم إيجابًا فهو الكلي, وهو ما لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه. والمراد بالكثير ما هو أعم من الأفراد المحققة أو المتوهمة؛ لأنه قد يكون ممتنعًا في الخارج, إما بنفس المفهوم كالجمع بين النقيضين, أو لأمر خارج عن المفهوم كشريك الإله. وقلنا: إيجابًا؛ لأن زيدًا يشترك كثيرون في سلبه عن مفهومه, وليس بكلي.

ثم الكلي إما أن تتساوى أفراده في مقوليته عليها, سواء كانت ذهنية أو خارجية أو مختلطة, أو تتفاوت. والثاني المشكك, سمي بذلك لأن الناظر في مفهومه يشك أنه من قبيل المتواطئ لتساوي الأفراد في حصول المعنى, أو هو مشترك لتفاوت الأفراد في ذلك المعنى, ومن هنا جاءت الأقوال الثلاثة فيه. ثم التفاوت يكون بالشدة والضعف, وبالأولوية وعدمها, وبالأقدمية وعدمها, والأول كبياض الثلج والعاج, والثاني والثالث كالوجود للخالق والمخلوق, فإنه في الواجب أولى وأقدم. وجعل جماعة من الشراح التفاوت في الوجود بالمعاني الثلاثة. قلت: فيه نظر؛ لأن معنى الشدة أن يكون الحال الغير القادر في المحل الثابت تتبدل نوعيته فيه, كاسوداد الجسم شيئًا فشيئًا, ويتجدد جميعها على ذلك المحل المتقدم دونها من حيث هو متوجه بتلك التجديدات إلى غايةٍ

ما, ومعنى الضعف كذلك, إلا أنه من حيث هو منصرف بها عن تلك الغاية كانسلاخ السواد شيئًا فشيئًا, فالأخذ في الشدة والضعف هو المحل لا الحال المتجدد, ومثل هذا الحال لا يكون إلا عرضًا؛ لأن المحل متقدم دونه, والوجود لما لم يكن محله متقدمًا دونه, لم يتصور الاشتداد فيه. وإن لم تتفاوت فمتواطئ, لتواطؤ الأفراد وتساويها في المعنى, كالإنسان بالنسبة إلى أفراده, وذكر السهروردي أن بعض الأصوليين اصطلح على تسمية ما لا يمنع تصوره من الشركة فيه بالعام. والأكثر على تسميته بالمطلق. وإن لم يشترك في مفهومه كثيرون, فهو الجزئي الحقيقي, كزيد. وإطلاق الكلي والجزئي على اللفظ إنما هو باعتبار معناه, فتسمية اللفظ به مجاز, ويقال للنوع أيضًا جزئي إضافي باعتبار أنه مندرج تحت جنسه. قالوا: والإضافي أعم؛ لاندراج كل شخص تحت ماهيته المعراة عن المشخصات, وليس كل جزئي إضافي حقيقيًا, لجواز كونه كليًا, كالإنسان وليس جنسًا له؛ لأنا نتصور كون الشيء مانعًا من الشركة مع الذهول عن كونه مندرجًا تحت كلي. قلت: وفي كونه أعم نظر؛ لأنه منقوض بالباري تعالى, والحقيقي

والكلي متباينان. لا يقال: الكلي محمول عليه فلا مباينة. لأنا نقول: المحمول الكلي الطبيعي لا المنطقي. ثم الكلي إن لم خارجًا عن حقيقة ما تحته فهو الذاتي كالحيوان بالنسبة / إلى الإنسان, وإلا فعرضي كالضاحك بالنسبة إلى الإنسان, وقد تقدم الكلام عليهما. القسم الثاني من الأربعة: وهو مقابل الأول, وخصه بذلك لأن بينهما غاية التقابل, وتسمى متباينة؛ لأن كلًا منهما باين الآخر في معناه ولفظه. وهذه النسخة أولى من التي فيها متقابلة, إذ ذاك اصطلاح غير معروف, وما قيل [من] أنه ترجيح من غير مرجح - إذ الرابع يقابل الثالث ولم يقل ذلك - فساقط؛ لأن ذكره هنا ليتعين به, وفي الرابع تعين بحيث لم يبق غيره. [قلت: والمناسب ما فعله المؤلف؛ لأنه نبه بقوله: (مقابله) على العلة التي لأجلها اتبعه الأول, وهي حضوره في الذهن عند ذكر مقابله, واكتفى بهذا عن ذكره في الرابع, وإن كان مقابلًا للثالث]. ثم المتباينة قد تكون متفاضلة كالإنسان والفرس, وقد تكون متواصلة كالسيف والصارم.

القسم الثالث: أن يكون اللفظ واحدًا والمعنى كثيرًا, فإن كان اللفظ حقيقة في كل واحد من تلك المعاني المختلفة, بأن يكون وضع لكل واحد منها وضعًا أوليًا, فهو المشترك, كالعين بالنسبة إلى مفهوماته. وإن لم يكن حقيقة, بأن لا يكون موضوعًا لكل واحد وضعًا أوليًا, فهو حقيقة بالنسبة إلى المعنى الذي وضع له, ومجاز بالنسبة للمعنى الثاني الذي استعمل فيه لعلاقة بينهما, كالأسد للحيوان المفترس والرجل الشجاع, وهذا بناء على أن المجاز يستلزم الحقيقة, وإلا فقد يكون لهما مجازًا. القسم الرابع: أن يتحد المعنى ويتعدد اللفظ, وتسمى هذه الألفاظ مترادفة لترادفها على المعنى, مأخوذ من رديفي الدابة, كالليث والأسد. والأقسام الأربعة تكون مشتقة إن شارك اللفظ غيره بحروفه الأصول ومعناه, وغير مشتقة إن لم يكن كذلك, وكلها صفة إن دل على معنى قائم بذات العلم, وإلا فغير صفة كالإنسان, وإليك طلب الأمثلة في سائر الأقسام. قال: (مسألة: المشترك واقع على الأصح. لنا: أن القرء مشهور للطهر والحيض معًا على البدل, من غير ترجيح). أقول: المشترك هو: اللفظ الواحد الموضوع لمعنيين فأكثر وضعًا

المشترك

أوليًا. فبالقيد الأول خرج المتباين. وبالثاني خرج المتواطئ والمشكك. وبالثالث خرج المجاز إن قلنا إنه موضوع, فإنه ليس وضعًا أوليًا. والمشترك إما ممتنع الوقوع, أو واجب, أو ممكن. والممكن إما واقع أو لا, فهذه أربع احتمالات, وقال بكل واحد منها قائل, إلا أنه لا فرق عند التحقيق بين الواجب والممكن الواقع, إذ لا وجوب ذاتي هنا, والممكن ما لم يجب صدوره عن الغير لم يقع, ومنه يعلم أنه لا فرق بين الممتنع والممكن الغير واقع, إذ لا امتناع ذاتي, ولذلك لم يتعرض المصنف إلا للوقوع وعدمه. وقد علم أن اصطلاحه, أن (لنا) للدليل الصحيح على مذهبه. وأن (واستدل) للدليل المزيف على مذهبه, وإن كان قد وقع له في ثلاث مواضع وما أجاب عنه, ولكن لا يلزم أن يكون مرضيًا عنده. وأن (قالوا) لدليل الخصوم.

والأصح عند المصنف أن المشترك واقع, وذلك يستلزم الجواز, إذ لا يمتنع أن يضع واضع لفظًا واحدًا لمعنيين على طريق البدل وضعًا [أولًا] ويوافقه عليه غيره, أو يتفق وضع إحدى القبيلتين الاسم على معنى, وتضعه قبيلة أخرى بإزاء معنى آخر, من غير شهود كل واحدة بوضع الأخرى, ثم يشتهر الوضعان, مع أن وضع اللفظ للمعنى تابع لإرادة الواضع, وكما يريد تعريف الشيء لغيره مفصلًا, فقد يريد تعريفه له مجملًا, إما لمحذور يتعلق بالتفصيل, أو لفائدة تتعلق بالإجمال. وأما الوقوع؛ فلأن القرء للطهر والحيض معًا على البدل من غير ترجيح وكلما كان كذلك, فهو مشترك بالاشتراك اللفظي. أما الصغرى؛ فلإطباق أهل اللغة عليه كما في المنتهى. وأما الكبرى؛ فلأنه إذا كان لهما معًا, لا يكون بالاشتراك المعنوي / إذ ذاك لمعنى واحد, وإذا كان على البدل لا يكون للمجموع من حيث هو, وإذا كان من غير ترجيح, لا يكون حقيقة في أحدهما مجازًا في الآخر. ولا يقال: يجوز أن يكون موضوعًا لأحدهما ونقل إلى الثاني وخفي ذلك لأن الخفاء على وجه لا يعلمه علماء اللغة بعيد, ويكفي غلبة الظن في مباحث الألفاظ. قيل: إن أراد بقوله: (القرء للطهر والحيض) أنه موضوع لهما, منعنا

الصغرى؛ لأن بعض أهل اللغة نفى الاشتراك, وبعض الحنفية قال: القرء حقيقة في الحيض مجاز في الطهر. وإن أراد أنه يستعمل لهما, فالكبرى ممنوعة, لجواز أن يكون الاستعمال على طريق المتواطئ أو الحقيقة والمجاز, وهو أولى دفعًا للاشتراك. وجوابه: أن اللفظ واحد والمعنى متعدد قطعًا, فلا يكون متواطئًا, ولا يكون مجازًا في أحدهما, لاستلزامه ترجيح الحقيقة ولا ترجيح هنا. وأيضًا تردد الذهن حالة سماع اللفظ بلا قرينة آية الاشتراك. قال: (واستدل: لو لم يكن لخلت أكثر المسميات؛ لأنها غير متناهية والألفاظ متناهية؛ لأنها ركبت من الحروف المتناهية, والمركب من المتناهي متناهي. وأجيب: بمنع ذلك في المختلفة والمتضادة, ولا يعتبر في غيرها. ولو سلم فالمتعقل متناه, وإن سلم فلا نسلم أن المركب من المتناهي متناه, وأسند بأسماء العدد, وإن سلم منعت الثانية, ويكون كأنواع الروائح). أقول: استدل على وقوع المشترك بأنه لو لم يقع لخلت أكثر المسميات عن الأسماء, واللازم باطل, فالملزوم مثله. بيان اللزوم؛ أن المعاني غير متناهية لأن من جملتها معلومات الله تعالى,

الأدلة على وقوع المشترك

والأعداد, وأنواع الروائح, وهي غير متناهية, والألفاظ متناهية لتركبها من الحروف المتناهية, وما تركب من المتناهي فمتناهي, وإذا وزعت على المعاني [بحيث] يخص كل معنى بلفظ, خلت أكثر المسميات عن الأسماء لعدم استغراق المتناهي لغير المتناهي. وأما بيان بطلان اللازم؛ فلأن الحاجة ماسة إلى التعبير عن المعاني, فلابد من الوضع لها. أجاب أولًا: بمنع الملازمة, وتقريره: أن قولكم في بيانها: المعاني غير متناهية, تريدون المعاني المتضادة, وهي الأمور الوجودية التي يمتنع اجتماعها في محل واحد في وقت واحد كالسواد والبياض, والمختلفة وهي التي حقائقها مختلفة ولا يمتنع اجتماعها في محل كالحركة والبياض, أو المتماثلة وهي الأمور المتفقة الحقائق كأفراد الأنواع. إن أردتم الأول, فلا نسلم أنها غير متناهية, وإن أردتم الثاني فلا يفيد عدم تناهيها في بيان اللزوم, إذ يكفي الوضع للمشترك فلا يلزم الخلو. سلمنا أن المختلفة والمتضادة غير متناهية, لكن المتعقل منها متناه, لامتناع إحاطة الذهن بما لا يتناهى, والوضع إنما يحتاج للمتعقل. سلمنا أن المتعقل غير متناه, ولا نسلم أن الألفاظ متناهية, وكونها ركبت من متناه لا يستلزم تناهيها, والمستند أسماء العدد, فإنها اثنا عشر

والمركب منها غير متناه, ولم يرفض الشيخ في الشفاء من هذه الأنواع الثلاثة إلا الثاني. قلت: وهو الحق؛ لأن أنواع الأعداد متضادة مع عدم تناهيها, وأما الاعتراض على هذا المنع بأن الوضع للقدر المشترك يوجب المجاز في الأفراد, بأنه سلم أن عدم تناهي المتماثلة يفيد الاشتراك, [ثم منعه في قوله: لا نسلم أن المتعقل غير متناه حتى يلزم الاشتراك] , فيكون منعًا غير موجه فساقط /؛ لأن استعمال المتواطئ في كل فرد باعتبار المعنى الموجود فيه حقيقة وإنما يكون مجازًا باعتبار خصوصيته, ثم هو أولى من الاشتراك, ولأنه إنما سلم من المتضادة, والمختلفة غير متناهية فقط. وأما المنع الثالث؛ فلأن المراد من التركيب التركيب الخاص كما هو الموجود من أن الكلمة ثلاثية ورباعية وخماسية, وأسماء الأعداد إنما لم تتناه للتكرار؛ لأنك تقول: مائة ألف ألف ألف إلى ما لا نهاية له, ولا يستقيم ذلك هنا, ثم سلم المصنف الملازمة ومنع بطلان اللازم, وإليه أشار بقوله: (منعت الثانية) فإنه يجوز خلو أكثر المسميات, إذ من المعاني المختلفة أنواع

الروائح ولم يوضع لها, ولم يختل المقصود من الوضع, إذا يمكن التعبير عنها بالإضافة إلى المحل. قال: (واستدل: لو لم يكن لكان الموجود في القديم والحادث متواطئًا لأنه حقيقة فيهما, وأما الثانية؛ فلأن الموجود إن كان الذات فلا اشتراك, وإن كان صفة فهي واجبة في القديم, فلا اشتراك. وأجيب: بأن الوجوب والإمكان لا يمنع التواطؤ كالعالم والمتكلم). أقول: استدل أيضًا على وقوع المشترك بدليل آخر مزيف, تقريره: لو لم يكن المشترك, لكان صدق الموجود على القديم والحادث متواطئًا, واللازم باطل, فالملزوم مثله. أما الملازمة, فلأنه يطلق على عليهما بطريق الحقيقة اتفاقًا, كما قال في المنتهى, وكما في الإحكام, وهو المراد من قوله: (لأنه حقيقة فيهما) إذ لا يريد أنه وضع لكل واحد منهما, وإلا لكان مصادرة, وهذا البيان أولى من قولهم: إذ لو كان مجازًا لصح نفيه؛ لأنها علاقة فاسدة عند المصنف وإذا كان حقيقة فيهما, فلو انتفى الاشتراك اللفظي لثبت المعنوي الذي هو أعم من المتواطئ والمشكك, وهو مراده على توسع.

وأما بطلان التالي وإليه أشار بقوله: (وأما الثانية)؛ فلأن المسمى بالموجود إما أن يكون عين ذات القديم وعين ذات الحادث, أو صفة زائدة عليهما, وأيًا ما كان لا اشتراك معنوي. أما الأول؛ فلمخالفة ذاته تعالى لسائر الذوات بتمام حقيقتها, إذ لو لم تخالفها في شيء لزم وجوب الكل, وإن خالفتها في البعض لزم تركيب ذاته وهو محال. وإن كان صفة, فهي واجبة في القديم وممكنة في الحادث, فلا تكون شيئًا واحدًا مشتركًا, وإلا لكان الواحد بالحقيقة واجبًا لذاته ممكنًا لذاته. أو نقول: الوجوب والإمكان متنافيان, وتنافي اللوازم ملزوم لتنافي الملزومات. وتقرير الجواب: أن نمنع بطلان الثاني, ونختار أنه صفة, والوجوب والإمكان لا ينفيان الاشتراك المعنوي إلا إذا كانت الصفة واجبة لذاتها في القديم وليس كذلك؛ لأن وجوبها لذات الموصوف, ولا ينافي الإمكان الذاتي, والمراد بوجوبها أنها ممتنعة الزوال, نظرًا إلى ذات الموصوف لا إلى ذات الوجود. ومعنى وجوبها, أن ذات القديم من حيث هي تقتضي تلك الصفة. ومعنى إمكانها: أن ذات الممكن من حيث هي لا تقتضيها. ويجوز أن تكون صفة واحدة مشتركة بين مختلفين بالحقيقة, وأحدهما يقتضي تلك الصفة لذاته فتكون واجبة, والآخر لا يقتضيها فتكون ممكنة,

مع أن تلك الصفة مشتركة من حيث المعنى [بينهما] , كالعالم والمتكلم اشترك فيهما القديم والحادث من حيث المعنى, مع كونه واجبًا / في القديم ممكنًا في الحادث بعين ما ذكرنا, وتنافي اللوازم لا يستلزم ألا يكون من الملزومات قدر مشترك, لجواز أن يكون مشككًا كما هنا. قال: (قالوا: لو وضعت لاختل المقصود من الوضع. قلنا: يعرف بالقرائن, وإن سلم فالتعريف الإجمالي مقسوم كالأجناس). أقول: احتج المانعون: بأنه لو وضع لاختل المقصود من الوضع, واللازم باطل. بيان اللزوم؛ أن المقصود من الوضع إفهام المخاطب مراد المتكلم, وفهم المراد من اللفظ المشترك ممتنع, لتساوي دلالته بالنسبة إلى معانيه. وأما بطلان التالي؛ فلأنه مهما انتفى الموجب للوضع ينتفي وضع المشترك وإلا لزم وقوع الممكن بدون سببه, فثبت أنه يلزم عدم وقوعه على تقدير وقوعه, وأنه محال. والجواب: منع الملازمة, لجواز أن يعرف مراد المتكلم بالقرائن. سلمنا الاحتلال التفصيلي إما لخفاء القرائن أو لعدمها, لكن لا نسلم أن الإفهام التفصيلي مقصود من الوضع دائمًا, إذ قد يكون المقصود الإفهام الإجمالي, كأسماء الأجناس فإنها لا تفيد تفاصيل ما تحتها, فتفيد القدر

أدلة المانعين

المشترك من غير تعيين جزئياته, فكذلك يكون المراد هنا أحد المعنيين لا بعينه وهو ما يقصد, والمخل بالمقصود من الوضع إنما هو عدم الفهم مطلقًا, مع أن من المقاصد الحمل على جميع معانيه, كما هو مذهب جماعة. وأيضًا: قد يكون من واضعين, كل منهما لا يعلم أن غيره وضعه لذلك المعنى, ثم يحصل الاشتراك باشتهار الوضعين والاستعمال, فلم يختل مقصود الواضع. قال: (مسألة: ووقع في القرآن على الأصح, لقوله تعالى: {ثلاثة قروء} , و {عسعس} , لأقبل وأدبر. قالوا: إن وقع مبينًا طال بغير فائدة, وغير مبين غير مقيد. وأجيب: بأن فائدته مثلها في الأجناس, وفي الأحكام الاستعداد للامتثال إذا بين). أقول: القائلون بوقوع المشترك في اللغة اختلفوا في وقوعه في القرآن, والأصح عند المصنف وقوعه فيه. والدليل عليه قوله تعالى: {ثلاثة قروء} , والقراء مشترك بين الطهر والحيض بما تقدم.

وقوع المشترك في القرآن

وأيضًا: {والليل إذا عسعس} , وعسعس مشترك بين إقبال الليل وإدباره، قاله الجوهري. واحتج النافي بأنه لو وقع, فإما مبينًا بأن تذكر معه قرينة, كما يقال: ثلاثة قروء وهي الأطهار, أو غير مبين. والأول تطويل بغير فائدة؛ إذ يمكن أن يعبر بلفظ مفرد وضع له. والثاني يستلزم عدم الفائدة؛ لأن الغرض من الوضع إفادة المراد, وكلاهما نقص, فينزه كلام الله تعالى عنه. وجوابه: بمنع بطلان التالي, ولا نسلم أن وقوعه غير مبين غير مفيد؛ لأن له فائدة إجمالية كما في الأجناس. وله في الأحكام فائدة أخرى وهي الاستعداد للامتثال إذا بين, وأنه يطيع بالعزم على الامتثال والاستعداد, كما بعصي بخلافه. ومن فوائده: نيل الثواب بالاجتهاد في حمله على بعض معانيه. وترجيحه على الآخرين للعمل به عند من يقول: إن المشترك ليس من قبيل المجمل ويمكن التصرف فيه بالترجيح, وإلا تعينت فائدة الاستعداد, ويمكن منع القسم الأول, وإنما يلزم ذلك إذا كان له لفظ منفرد. وأيضًا: إنما ذلك لو كان البيان وحده يدل على المراد من غير ذكر المبين. وأيضًا: قد يشتمل على فصاحة لا تكون لغيره.

الترادف

قال: (المترادف واقع على الأصح, كأسد وسبع, وجلوس وقعود. قالوا: لو وقع لعري عن الفائدة /. قلنا: فائدته التوسعة, وتيسير النظم والنثر للروي أو الزنة, وتيسير التنجنيس والمطابقة. قالوا: تعريف المعرف. قلنا: علامة ثانية). أقول: اختلف في وقوع المترادف في اللغة. [والترادف]: توارد الألفاظ الدالة على شيء واحد [باعتبار واحد] , وهو من خواص المفرد. وشذ قوم فقالوا: إنه غير واقع. والدليل عليه: أن الأسد والسبع اسمان للحيوان المفترس, والجلوس والقعود اسمان للهيئة المخصوصة, وذلك معنى الترادف. ولا معنى لما تكلف أهل الاشتقاق من بيان أن ما ظن أنه مترادف, فهو

من قبيل الأسماء المشتقة. احتج الثاني: بأنه لو وقع لعري عن الفائدة, واللازم باطل, فالملزوم مثله. بيان اللزوم؛ أن الغرض من الوضع حصول الإفهام, واللفظ الواحد كاف فيه, فالثاني عبث, وهو ممتنع على الحكيم. أجاب: بمنع الملازمة, ولا تنحصر فائدته فيما ذكرتم. ومن فوائده: التوسيع في التعبير, فتكثر الذرائع إلى المقصود, فيكون إفضاء له. ومنها: تيسير النظم للروي, وهو أن يكون أحد اللفظين يوافق الروي - وهو حرف القافية الذي تبنى عليه القصيدة - والآخر لا يوافق, كقوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل لو قال: «ذاهب» لحصل الوزن دون الروي. ولو قال: «مضمحل» لحصل الروي دون الوزن.

وفي النثر الأسجاع بمنزلة القوافي, فقد تقع موازنة بلفظ دون مرادفه, فقد يكون أحدهما موافقًا للسجع دون الآخر. وتيسير التجنيس, وهو تشابه اللفظين, كقوله تعالى: {ويوم تقم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعةٍ} , لو قال: «تقوم القيامة» فات التجنيس. وتتيسر به المطابقة, وهو الجمع بين معنيين متضادين بلفظين, كقوله تعالى: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء} , ولا مدخل للترادف في تيسيرها عند الأكثر. وشرط قوم أن يكون أحد الضدين موازنًا للآخر, أو موافقًا له في الحرف الأخير, فحينئذ يكون للترادف مدخل في تيسيرها. احتجوا ثانيًا: بأنه لو وقع لكان تعريفًا للمعروف وهو باطل؛ لأنه تحصيل الحاصل؛ لأن التعريف يحصل بالواحد, وهذا غير عين الأول بتغير عبارة. والجواب: منع الملازمة, فإن اللفظ علامة على المعنى, ويجوز أن ينصب لشيء واحد علامات ليحصل التعريف بها على البدل لا معًا. وأيضًا: قد يكون من واضعين لا يدري كل منهما بوضع الآخر, ثم اشتهر الوضعان.

ترادف الحد والمحدود

قال: (مسألة: الحد والمحدود ونحو عطشان نطشان غير مترادفين على الأصح؛ لأن الحد يدل على المفردات, ونطشان لا يفرد). أقول: زعم قوم أن لفظ الحد مرادف للفظ المحدود, وأن الأسماء التي لا تسمع إلا تابعة مرادفة للمتبوع. وليس كذلك؛ لأن الترادف من خواص اللفظ المفرد, ولفظ الحد مركب. وأيضًا: مدلولهما ليس واحدًا؛ لأن لفظ الحد يدل تفصيلًا ولفظ المحدود يدل إجمالًا, فمفهومه الماهية من حيث هي, ومفهوم الحد أجزاؤها, وإن كان كل واحد منهما يدل مطابقة على المحدود, لفظ المحدود وضع له, ولفظ الحد وضع أجزاؤه لأجزائه, لكن لفظ الحد دل على الأجزاء مطابقة, ولفظ المحدود دل عليها تضمنًا. وأما التابع والمتبوع؛ فلأن التابع لا يفرد بالذكر, وكل من المترادفين يفرد بالذكر. قال /: (مسألة: يقع كل من المترادفين مكان الآخر لأنه بمعناه, ولا حجر في التركيب. قالوا: لو جاز, لجاز خداي أكبر. وأجيب: بالتزامه. وبالفرق باختلاط اللغتين).

وقوع كل من المترادفين مكان الآخر

أقول: اختلف في جواز إيقاع كل من المترادفين مكان الآخر. فمنع مطلقًا, وأجيز مطلقًا. وقيل: إن كانا من لغة واحدة جاز, وإلا فلا. احتج: بأنه يجوز ذلك حالة الإفراد اتفاقًا. قال المنتهى: المترادفان يصح إطلاق كل منهما مكان الآخر؛ لأنه لازم معنى المترادفين. ثم لا حجر في التركيب أو صحة التركيب من عوارض المعنى دون اللفظ وإذا اتحد المعنى لا محذور. احتج المانع: بأنه لو جاز, لجاز خداي أكبر, وخداي معناه الله, واللازم باطل, فالملزوم مثله. أجاب على مذهب المجوز: بالتزامه. وعلى مذهب من فصل: بالفرق باختلاف اللغتين, المؤدي إلى استعمال المهمل مع المستعمل. وإنما قدم المنع الأول وإن كان الترتيب الطبيعي منع الملازمة أولًا ثم منع

بطلان التالي ثانيًا؛ لأن المنع موافق لمذهبه, والثاني غير موافق لمذهبه. وإنما قصد به دفع الخصم فقط.

الحقيقة والمجاز

قال: (مسألة: الحقيقة: اللفظ المستعمل في وضع أول, وهي: لغوية, وعرفية, وشرعية, كالأسد, والدابة, والصلاة. والمجاز: المستعمل في غير وضع أول على وجه يصح). أقول: الحقيقة: فعيلة من الحق, وجاء فعله لازمًا بمعنى ثبت, ومنه حقت العذاب, وجاء متعديًا, حققت الشيء أي أثبته, وفعيل أي بمعنى فاعل كعليم, وبمعنى مفعول كجريح, فمن الفعل الأول بمعنى ثابت, ومن الثاني بمعنى مثبتة, فالتاء على الأول لا إشكال في أنها للتأنيث؛ لأن فعيل يفرق فيه بين المذكر والمؤنث بتاء التأنيث, وعلى الثاني فالتاء أيضًا للتأنيث؛ لأن فعيلًا بمعنى مفعول إنما يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا كان الموصوف مذكورًا, وإلا وجب تأنيثه رفعًا للبس, والموصوف الكلمة, هذا اختيار صاحب المفتاح. وقيل: إن التاء على الوجه الأخير لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية فصار شبه التأنيث من حيث إنه ثان, كما أن المؤنث ثانٍ. قيل: إنها بمعنى الثابتة أو المثبتة ثم نقلت إلى الاعتقاد المطابق للواقع لكونه ثابتًا في نفسر الأمر, أو المثبتة ثم نقلت إلى القول المطابق لكون مدلوله ثابتًا, أو مثبتًا ثم نقلت إلى ما ذكر المصنف, وهو اللفظ المستعمل؛ لأنه ثابت في

موضعه أو مثبت فيه, فيكون منقولًا في المرتبة الثالثة. وفيه نظر؛ لأن المناسبة متحققة بين الأول والأخير, فيجوز أن ينقل من المعنى اللغوي إلى المفهوم المصطلح ابتداء من غير واسطة, وتكون كلها مجازات عن اللغوي. وأيضًا: ما ذكر إنما يقال فيه حق لا حقيقة, فلفظ الحقيقة في المعنى المحدود مجاز لغوي, وحقيقة عرفية. ورسمها المصنف: (باللفظ المستعمل في وضع أول) , فاللفظ كالجنس, والمستعمل يخرج المهمل واللفظ قبل الاستعمال. وقوله: (في وضع) أي فيما وضع له, وفيه تساهل, فتخرج الأعلام لأنها مستعملة في غير ما وضعت له. وقوله: (أول) يخرج المجاز؛ لأنه في وضع ثانٍ, إن قلنا إن المجاز موضوع, وإن قلنا ليس بموضوع وهو الحق, على أن المصنف ما جزم بواحد منهما ها هنا. وقيل: إن كلامه قبل يعطي أنه موضوع؛ لأنه أحد أقسام / المفرد الموضوع, وليس كذلك, وإنما جعله من أقسام الموضوع باعتبار كونه موضوعًا للمعنى الحقيقي فقط, فـ «أول» يكون زائدًا.

وقيل: المراد بـ «أول» أي في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب, ففائدته دخول الشرعية والعرفية وإلا خرجت؛ لأنها لم تستعمل فيما وضعت له أولًا, والحق أن اللفظ لا يدل عليه على هذا الوجه. وقيل: أن قيدًا في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب, يغني عنه ما ذكر المصنف, ولذلك ذكر فقال: (في وضع أول) , فتدخل الحقائق الثلاث, وتخرج المجازات الثلاث: اللغوي كالصلاة للركعات, والعرفي كالدابة لكل ما يدب, والشرعي كالصلاة للدعاء, ضرورة أنها من حيث كونها مجازات مسبوقة بالوضع الأول. قلت: وفي خروجها نظر؛ لأنها وإن كانت مسبوقة بوضع أول, لكن صدق أنها استعملت في وضع أول أيضًا. قال بعض الشراح: لفظ «في» ليس صلة للمستعمل, وإلا لكان المراد بوضع ما وضع له, وهو خلاف ظاهر اللفظ, وترد المجازات الثلاث, حتى يزاد في العرف الذي به التخاطب, أما إذا كان معناه المستعمل بحسب وضع أول, دخلت الحقائق الثلاث, [وخرجت المجازات الثلاث] , إذ ليست بحسب وضع أول بل بالمناسبة, أو بوضع غير أول لوحظ فيه وضع سابق, وهذا كقولهم: مستعمل في العرف ومستعمل في الشرع, وهو حسن. وحينئذ تظهر فائدة أول, وهو خروج المجازات المذكورة, ولم يستلزم

أن المجاز موضوع. قيل: «أول» من الأمور الإضافية التي لا تعقل إلا بالنسبة إلى ثان, فيكون حد الحقيقة مستلزمًا لحد المجاز, فيتوقف عليه ويدور. وجوابه بعد تسليم أن إضافي: أن يستلزم مفهوم الثاني, أو الوضع الثاني, وليس ذلك نفس المجاز ولا ملزومًا له. ولو سلم, فغايته أن تصور الحقيقة والمجاز معًا ليس بمحال, وهذا التعريف يعم الحقائق الثلاث؛ لأن الوضع المعتبر فيه إما اللغة كالأسد للمفترس أو لا, وهو إما الشرع كالصلاة للركعات وقد كانت للدعاء أو لا وهي العرفية, وهذه إما من قوم مخصوصين وتسمى عرفية خاصة أو لا, وهي العامة, وغلب اسم العرفية فيها, اسم الاصطلاحية على الخاصة. والمجاز: مفعل من الجواز بمعنى العبور, والمفعل للمصدر أو للمكان, ثم نقل إلى ما ذكره المصنف, فهو مجاز في الدرجة الأولى من جهتين: الأولى: أنه انتقال الجسم من حيز إلى حيز, فإذا اعتبر في اللفظ كان شبيهًا. الثاني: أنه اسم للمصدر أو للمكان, وقد أطلق بمعنى الفاعل؛ لأن اللفظ منتقل فكان مجازًا أيضًا, وهو مجاز لغوي, حقيقة عرفية.

ضرورة العلاقة بين المفهوم الحقيقي والمجازي

واللفظ المستعمل كما مر وفي غير وضع أول يخرج الحقائق, ويشمل المجاز على مذهب من يرى أنه موضوع, وعلى مذهب من يرى الاكتفاء بالعلاقة في الاستعمال, ومن يرى أن بعضه موضوع دون بعض. وقوله: (على وجه يصح) أي على وجه يكون بين الموضوع له أولًا والمعنى الثاني مناسبة يصح استعمال اللفظ فيه لأجلها, فيخرج استعمال لفظ الأرض في السماء / إذ لا علاقة, وتخرج الأعلام أيضًا, وفي المحصول: «أن الأعلام ليست بحقائق ولا مجازات». قال: (ولابد من العلاقة, وقد تكون بالشكل كالإنسان للصورة, أو في صفة ظاهرة كالأسد على الشجاع, لا على الأبخر لخفائها, أو لأنه كان عليها كالعبد, أو آيل كالخمر, أو للمجاورة مثل جرى الميزاب). أقول: هذا بيان لقوله: (على وجه يصح) أي يشترط أن يكون بين المفهوم الحقيقي والمجازي مناسبة اعتبرت بحسب النوع في اصطلاح التخاطب لا كل مناسبة, ولو لم تشترط لجاز استعمال كل لفظ لكل معنى بالمجاز, وهو باطل.

وأيضًا: لو لم تكن العلاقة, لكان الوضع بالنسبة إلى الثاني أولًا, فكان حقيقة فيهما. وشرط قوم اللزوم الذهني بين المعنيين وهو باطل, فإن أكثر المجازات المعتبرة عارية عن اللزوم الذهني, ولو كان شرطًا ما تحقق بدونه. والعلاقة المعتبرة: قيل تنحصر بالاستقراء في خمسة وعشرين نوعًا. والحق أن فيها تداخلًا. وقيل: اثنا ع شر, وذكر الآمدي أن جميعها ترجح إلى ما ذكر المصنف, وفيه نظر. فمنها: إطلاق اسم السبب على المسبب وعكسه. وإطلاق اسم الكل على الجزء وعكسه.

وإطلاق اسم الملزوم على اللازم وعكسه. وإطلاق اسم المطلق على المقيد وعكسه. وإطلاق اسم العام على الخاص وعكسه. وإطلاق اسم المحل على الحال وعكسه. ومجاز الزيادة وعكسه. وإطلاق اسم أحد الضدين على الآخر. وإطلاق المعرف وإرادة المنكر كقوله: {ادخلوا الباب سجدًا}.

وإطلاق النكرة لإرادة العموم, كقوله تعالى: {علمت نفس ما أحضرت}. ومنها الأربعة التي في الكتاب: الأول: إطلاق اسم المشابه كالإنسان على الصورة المنقوشة لتشابههما شكلًا, وإطلاق الأسد على الشجاع لتشابههما في الشجاعة التي هي من الصفات الظاهرة للأسد, لا على الأبخر؛ لأنهما وإن تشابها فيه لكنها من الصفات الخفية للأسد, ويسمى هذا القسم استعارة. الثاني: تسمية الشيء باسم ما كان عليه من صفة ظاهرة, كتسمية المعتق عبدًا. الثالث: تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه, كتسمية العنب خمرًا. الرابع: تسمية الشيء باسم مجاوره, مثل: جرى الميزاب. وهذا قد يتناول ما يكون أحدهما جزء الآخر, ككون الجزء في الكل, أو الحال في محله, أو الظرف في ظرفه, وما لا يكون كذلك بل هما في محل واحد أو محلين متقاربين, بل والمتلازمين في الوجود كالسبب والمسبب, وفي الخيال كالضدين, وكل قسم مما ذكر فأقوى مما قبله. وقد يتكلف لانحصار أنواع العلاقة بالأربعة المذكورة أن المعنيين إما أن

اشتراط النقل في الآحاد

يكون بين ذاتيهما اتصال أو لا. والأول المجاورة, والثاني إما أن يحصلا لذات أو لا. والأول وصفان بينهما تقدم وتأخر, فإن استعمل المتأخر للمتقدم أو بالعكس, فهو ما كان عليه, وما يؤول إليه. والثاني: أمران لا اتصال بينهما بالذات, ولا هما في محل. فإن لم يكن لهما حال يشتركان فيها, فلا علاقة قطعًا, وتلك الحال إما صورة محسوسة وهو الشكل, أو غيرها وهو الصفة الظاهرة. قال: (ولا يشترط النقل في الآحاد على الأصح. لنا: لو كان نقليًا لتوقف / أهل العربية, ولا يتوقفون. واستدل: لو كان نقليًا لما افتقر إلى النظر في العلاقة. وأجيب: بأن النظر للواضع. ولو سلم, فللاطلاع على الحكمة. قالوا: لو لم يكن, لجاز: نخلة للطويل غير إنسان, وشبكة للصيد, وابن للأب, وبالعكس. وأجيب: بالمانع. قالوا: لو جاز, لكان قياسًا أو اختراعًا. وأجيب: باستقراء أن العلاقة مصححة, كرفع الفاعل). أقول: بعد الاتفاق على وجوب العلاقة في المجاز, وعلى اشتراط النقل في نوعها, مثلًا: إذا لم ينقل عن أهل اللغة اعتبار اسم الكل في الجزء, لم يجز لنا أن نطلقه عليه مجازًا.

اختلف, هل يشترط في آحاد النوع أن ينقل إلينا عن أهل اللغة أم لا, ويكتفى بالعلاقة في جواز التجوز وهو المختار. لنا: لو كان نقليًا لتوقف أهل العربية أعني الأدباء في التجوز على النقل ومن استقرأ علم أنها لا يتوقفون ولا يخطئون المتجوز, ولذلك لم يدونوا المجازات تدوينهم الحقائق. أما الملازمة؛ فلاستحالة وجود المشروط بدون الشرط. قيل في بيان عدم التوقف: إن الخليل, وسيبويه أطلقوا رفع الفاعل, ونصب المفعول, وكذا أهل كل اصطلاح, ولم ينقل عن العرب. قلت: فيه نظر؛ لا لما قيل: إنها بالنسبة إليهم حقائق عرفية؛ لأنها بعد صارت حقائق, بل قد يقال: إنها موضوعات مبتدأة, وإلا فأين نقل أصل أنواع هذه المجازات عن العرب؟ ومتى استعمل الدوران في معناه الآن؟ . واستدل: لو كان النقل في الآحاد شرطًا في الاستعمال, لما افتقر

المستعمل إلى النظر في العلاقة عند الإطلاق, واللازم باطل, فالملزوم مثله. أما الملازمة؛ فلأن المقصود من النظر فيها جواز الإطلاق, فإذا كان النقل عنهم شرطًا في الإطلاق, فلا حاجة إلى النظر فيها لحصول النقل عنهم المستلزم لحصولها. وأما بطلان التالي؛ فلاتفاقهم على الافتقار إلى النظر فيها. أجاب أولًا: بمنع انتفاء التالي, وأن المستعمل لا يفتقر إلى نظر فيها, وأن المفتقر إلى النظر هو الواضع. سلمنا أن المستعمل مفتقر أيضًا, ونمنع الملازمة, والاستغناء عن النظر فيها في جواز الاستعمال لا يوجب الاستغناء مطلقًا, إذ قد يفتقر إليه في الاطلاع على الحكمة لا في الإطلاق, إذ الاطلاع لا يصلح شرطًا للإطلاق, لتقدير كونه نقليًا, وبالجملة النقل شرط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط. وقيل: المنع الأول راجع إلى الملازمة, والثاني منع لبطلان التالي, كأنه فهم لما افتقر بوجه, فمنع الملازمة للاتفاق على نظر الواضع فيها, لا أن المستعمل يفتقر. سلمنا أن المستعمل أيضًا يفتقر, لكن للاطلاع لا للإطلاق. واحتجوا بوجهين: الأول: لو لم يكن النقل في الآحاد شرطًا, لجاز إطلاق اسم النخلة لكل

طويل غير إنسان للمشابهة الصورية, وجاز إطلاق الشبكة على الصيد للمجاورة, واسم الأب على الابن للسببية, وبالعكس للمسببية, واللازم باطل. أما الملازمة؛ فلظهور العلاقة المعتبر نوعها في الصور المذكورة, والسببية والمسببية من المجاورة على ما تقدم, وما قيل من أنه من قبيل ما كان عليه, فيه نظر؛ لأن البنوة أمر ثابت لا يفارق إلا أن يريد بالابن الصغر, فيحسن ويترجح بعدم الإطلاق, إذ بالمعنى الأول لا يختلف في جواز الإطلاق /. وأما بطلان؛ فبالاتفاق. أجاب: بمنع الملازمة, وأن عدم جواز الاستعمال لثبوت المانع لا لعدم المقتضي, وخصوصية هذه المحال مانع من جواز استعمال اللفظ فيها, وأن أهل اللغة منعوا من الاستعمال في الصور المذكورة. وفي هذا الجواب نظر؛ لأن المنع لم يثبت عنهم, وتجويز المانع مع ثبوت المقتضي لا يرفع جواز الاستعمال, فلم يبق المانع إلا عدم النقل وهو المدعى. والأولى في الجواب: أنه لم يثبت المشابهة في الصور المذكورة في أخص الصفات وأشهرها, فلم يكن علاقة معتبرة, فيكون التخلف لعدم المقتضي. الوجه الثاني: لو جاز الإطلاق في الآحاد بمجرد وجود العلاقة من غير سماع, لكان إما بالقياس أو الاختراع, فاللازم باطل, فالملزوم مثله. أما الملازمة؛ فلأن إطلاق لفظ الحقيقة على تلك الصورة المعينة إما على جامع بينها وبين المجازات المسموعة أو لا, والأول قياس في اللغة, والثاني اختراع لغة, وكلاهما باطل.

وجوه معرفة المجاز

والجواب: منع الملازمة, إذ لا حصر, فإن الاستقراء دل على أن العلاقة المعتبر نوعها كافية في جواز الاستعمال, كما نرفع فاعلًا لم نسمع رفعه من العرب باستقراء كلامهم, أن كلما أسند الفعل إليه فهو مرفوع, فلا يكون قياسًا؛ لأنه ليس لأجل اعتبار ذلك المعنى في الصورة الجزئية لخصوصها, بل فهم من العرب جواز الإطلاق بالاستقراء, فكان كالتنصيص على جواز إطلاق اسم الحقيقة على كل ما بينها وبينه علاقة مخصوصة. قيل: تصحيح العلاقة لجواز الاستعمال إن لم يسند إلى النقل منع, وإلا لزم المدعى. وجوابه: أنه يسند إلى النقل بطريق الإجمال, لا بطريق التنصيص على كل فرد. قال: (قالوا: يعرف المجاز بوجوه: بصحة النفي, كقولك للبليد: ليس بحمار, عكس الحقيقة, لامتناع ليس بإنسان, وهو دور. وبأن يتبادر غيره لولا القرينة, عكس الحقيقة. وأورد: المشترك. فإن أجيب: بأنه يتبادر غير معين, لزم أن يكون للمعين مجاز. أو بعدم اطراده, ولا عكس. وأورد: السخي والفاضل لغير الله تعالى, والقارورة للزجاجة. فإن أجيب بالمانع, فدور.

وبجمعه على خلاف جمع الحقيقة, كأمور جمع أمر للفعل, وامتناع أوامر, ولا عكس. وبالتزام تقييده, مثل جناح الذل, ونار الحرب. وبتوقفه على المسمى الآخر, مثل: {ومكروا ومكر الله}). أقول: قال الأصوليون: إذا ورد لفظ مستعمل في شيء ولم نعلم أهو حقيقة في ذلك المعنى أو هو مجاز فيه, عُرف [ضرورة] كونه حقيقة أو مجازًا بالنقل عن أئمة اللغة, وإن لم يوجد نقل عنهم, عُرف كونه مجازًا بالنظر بوجوه أي بعلامات؛ لأن بعض المذكور لم يثبت إلا لبعض المجاز, وإن كان لفظه هنا يشعر بالمعرف, وإيراده على عكسها أيضًا [يدل] في قوله: (وأورد المشترك) يدل عليه, إذ العلاقة لا يلزم فيها الاطراد. ولفظ الإحكام: قد يعرف بوجوه, وهو خير وأتى «بقالوا» للاستبعاد إما لأن هذه الأحكام مردودة, أو لأن اللغة عنده لا تثبت إلا بالنقل. الأول: صحة النفي في نفس الأمر, كقولنا: البليد ليس بحمار, وزاد في الإحكام: «في نفس الأمر» لأنه يقال للبليد: ليس بإنسان, فقد نفيت

الحقيقة, لكن ليس في نفس الأمر /؛ لأنه إنسان في نفس الأمر, وإنما نفى بطريق المجاز, وهي زيادة حسنة, وهذا بعكس الحقيقة, فإن من علامتها صحة النفي, إذ لا يقال: البليد ليس بإنسان في [نفس الأمر]. قال: وهو دور؛ لأن المراد بصحة السلب عن المجاز سلب المعنى الحقيقي عنه؛ لأن معناه المجازي لا يسلب عنه, ولا نعرف صحة سلبه حتى نعلم أن استعماله فيه في الإثبات ليس بطريق الحقيقة, وذلك لا يعلم حتى يعلم كونه فيه بطريق المجاز, فإثبات المجاز به دور. قلت: وفيه نظر؛ لأن العلم بكونه ليس بحقيقة في الإثبات لا يستلزم كونه مجازًا, لجواز أن يكون من الأعلام. قيل: صحة السلب تتوقف على معرفة كونه مجازًا؛ لامتناع سلب شيء عن شيء بدون تصوره, فلو عرف به لزم الدور. قلنا: يكفي تصوره بوجه ما, لا من حيث كونه مجازًا. قيل في دفع الدور: المراد بصحة النفي أن يكون سمع نفي ذلك المعنى عنه من العرب. قلنا: لو كان ذلك لقال بالنفي, ولم يقل بصحة النفي. وأيضًا: يفسد في الحقيقة, إذ العلم بعدم النفي لا سبيل إليه إلا بعدم وجدان النفي عنهم, ولا يلزم عدم وجوده, أما في المجاز فيمكن وجود

السلب في موارد استعمالاتهم. الثاني: أن المجاز ما يتبادر غيره إلى الذهن عند عدم القرينة؛ لأنه عند القرينة يتبادر هو عكس الحقيقة, فإنها ما لا يتبادر غيرها عند عدم القرينة. واعترض على عكسه بالمشترك إذا استعمل في معناه المجازي, إذ لا يتبادر غيره للتردد بين معانيه, وعدم تبادر شيء منها. فإن أأجيب: بأنه يتبادر أحدهما لا بعينه, وهو غيره. قلنا: إذا تبادر غير المعين, والمجاز ما تبادر غيره, لزم أن يكون اللفظ للمعين الغير متبادر مجازًا, فلا يكون مشتركًا بل متواطئًا؛ لأن حقيقته حينئذ أحدهما لا بعينه ومجازه المعين, فلا يكون مشتركًا لفظيًا؛ لأن المشترك اللفظي الموضوع لمعنيين فأكثر وضعًا أوليًا, وهذا موضوع لأحدهما لا بعينه, وهو معنى واحد, ومن هنا تعرف أن التزام صاحب الإحكام كونه مجازًا في المعين فيه ما فيه, على أنه قال: وفيه دقة. قلت: وقد يوجه بأنه موضوع لكل واحد منهما من حيث هو واحد منهما, وذلك حقيقة, ومن حيث هو كذا معينًا يكون مجازًا, ولا كذلك المتواطئ؛ لأنه لم يوضع لأحدهما من حيث هو, بل للقدر المشترك. واعلم أن هذا ليس بمعرف وإلا لدار؛ لأنه أخذ المجاز في تعريف الحقيقة وبالعكس فهو علامة, والعلامة لا يلزم فيها الانعكاس, كالألف واللام للاسم, ليس كلما انتفى عنه الألف واللام لا يكون اسمًا.

وهذا التقرير خير من إيراده على علامة الحقيقة؛ لأنه قال: عكس الحقيقة, فالحقيقة ما لا يتبادر غيره, أعم من أن تتبادر هي أو لا. الثالث: عدم اطراده في مدلولاته, بمعنى أنه يستعمل في محل لوجود معنى, ولا يستعمل في كل محل وجد ذلك المعنى [فيه] , كالنخلة للإنسان الطويل, ولا يقال لكل طويل: نخلة, ولا عكس أي لا يكون الاطراد علامة على الحقيقة, [فإن من المجاز ما يكون] مطردًا, كإطلاق اسم الكل على الجزء. وقرر بوجه آخر: أن ما ليس بمطرد مجاز ولا عكس, أي ليس كل مجاز غير مطرد, فتكون العلاقة غير منعكسة, واحتاج إلى ذلك؛ لأن / العلاقة قد تكون منعكسة, فبين أن هذه غير منعكسة. والأول أولى؛ لأنه لما ذكر العلامتين السابقتين قال: (عكس الحقيقة) بين هنا أنه لا يكون عكس الحقيقة. وأورد على طرد هذه العلاقة: السخي والفاضل لغير الله تعالى, والقارورة للزجاجة؛ لأن السخي الكريم, والفاضل العالم, والقارورة لما يستقر فيه المائع, والله تعالى كريم عالم, ولا يقال له: سخي ولا فاضل. والكوز لا يقال له: قارورة, مع وجود المعنى: فلم تطرد هذه الحقائق فلا يكون عدم الاطراد علامة المجاز.

فإن أجيب: بأن عدم الاطراد لا يكون علامة, بل العلامة عدم الاطراد لا لمانع من لغة أو شرع, وفي المذكور عدم الاطراد لمانع شرعي في الأولين, لأن أسماء الله تعالى توقيفية, وفي الأخير المنع من أهل اللغة, فدور. وقرر من وجهين: الأول: أن عدم الاطراد إنما يكون علامة للمجاز إذا علم كون عدم الاطراد لا لمانع, وعدم الاطراد لا لمانع لا يعلم إلا بعد العلم بالمجاز. قلت: وله أن يمنع أن عدم الاطراد لا لمانع لا يعلم إلا بعد العلم بالمجاز؛ إذ المراد من عدم الاطراد [لا لمانع] , ألا نجده في مجاري كلامهم مستعملًا في موارد المعنى, ولم ينصوا على منعه. الثاني: أن العلاقة موجودة, فعدم الاطراد لا يكون لعدم المقتضي لوجودها فهو للمانع, وهو إما الشرع أو اللغة, والمقرر خلافه, ولا العقل قطعًا, فيكون عدم الاطراد لكونه مجازًا, فلو عرف المجاز بعد الاطراد لمانع هو المجاز, لزم الدور. قلت: فيه نظر؛ لا لما قيل: إن عدم اطراد المجاز قد يكون لمانع من اللغة كما تقدم في عدم اطراد المجاز في الصور الأربعة السابقة, أعني النخلة للطويل إلى آخرها. لأنا نقول: الاطراد لا لمانع علامة, لا أن كل مجاز فهو غير مطرد لا لمانع, بل منه ما يطرد, ومنه ما لا يطرد لمانع لغوي, [ومنه ما لا يطرد لا

لمانع لغوي] , فحينئذ عدم الاطراد الذي لا لمانع من شرع أو لغة لا يكون لعدم المقتضي, فيكون لكونه مجازًا ويعود الدور. ولا لما قيل: إنما يلزم ذلك لو كان عدم الاطراد معللًا بالمجاز, وليس كذلك؛ لأنه تعريف له, والتعريف لا يعلل. وأيضًا: [إنما] هو عدمي, والعدمي لا يحتاج إلى علة. لأنا نقول أولًا: ليس بتعريف بل علامة, والعلامة تعلل. سلمنا, لكن المعرف خاصة فتعلل. وقوله: العدمي لا يعلل. قلنا: كل ممكن له علة ضرورة, بل النظر أن عدم الاطراد إما أن يكون لعدم المقتضي أو لوجود المانع, وقد فرض ألا مانع من لغة أو شرع, ولا من عقل قطعًا, ولا من عرف, وكونه مجازًا أيضًا لا يمنع الاطراد, وإلا لم يطرد مجاز, فهو لعدم المقتضي. وقولهم: العلاقة المعتبر نوعها موجودة نمنعه, وسند المنع أنها لو وجدت والنقل لا يشترط في الآحاد والمنع لم يرد عنهم, لطرد أهل العربية التجوز, ومثل ذلك نقول على أصل الإيراد, وأن السخي لكريم يتصور منه البخل, والفاضل للعالم بالتعلم, وكذا في القارورة, فيسقط السؤال من أصله,

ويلزم مما ذكرنا أن لا عدم الاطراد علامة, لكن لا من الوجه الذي ذكره المصنف, ولأن القول به لا يجتمع مع القول / بعدم اشتراطه النقل في الآحاد. الرابع: أن يكون مجموعًا على خلاف جمع الحقيقة, يعني إذا استعمل لفظ في معنى واتفق على كونه حقيقة فيه, كالأمر في القول المخصوص, واستعمل في غيره, ولم ندر أهو حقيقة فيه أيضًا أم هو مجاز. فإن سمع منهم جمعه على خلاف جمع المتفق على كونه حقيقة, كأمر بمعنى الفعل, مثل: {وما أمر فرعون} , فإنهم جمعوه على أمور, ومنعوا جمعه على أوامر, واختلاف الجمعين علامة المجاز. قال: (ولا عكس) أي ولا يلزم أن تكون الحقيقة ما كان جمعه غير مختلف, ويحتمل ولا عكس لهذه العلامة, أي ليس كل مجاز يجمع على خلاف جمع الحقيقة. قيل: هذه العلامة غير مطردة, لجمعهم عودي اللهو والخشب على عيدان في الأول, وأعواد في الثاني. رد: بأن اختلاف الجمعين لاختلاف المسمى. وقولهم: الجمع للاسم لا للمسمى, فاختلافه لا يؤثر في اختلاف الجمع, نمنعه. الخامس: التزام تقييده عند استعماله في ذلك المعنى؛ لأنهم لما استعملوه

اللفظ قبل الاستعمال حقيقة أم مجاز؟

غير مقيد في معنى, فإذا استعملوه في غيره مقيدًا بذلك الغير أو بلوازمه, علم أنه مجاز, كنار الحرب, وجناح الذل؛ لأن الغرض من وضع اللفظ أن يكتفى به في الدلالة على المعنى, فإذا قيدوه عُلم أنه استعمل في غير الموضوع إذ لم يكتفوا بذلك اللفظ, فكان ما اكتفوا فيه به حقيقة إذ هو الأغلب, أو لأن عادتهم ألا يستعملوا الحقائق مقيدة, ويستعملون المجازات مقيدة. وقال: (بالتزام تقييده) لأن المشترك قد يقيد لكن لم يلتزموا تقييده [والمثال معترض بقوله تعالى: {واخفض جناحك للمؤمنين}]. السادس: أن يكون اللفظ المستعمل في موضعين يتوقف استعماله في أحدهما على استعماله في الآخر, وعبر عنه في المنتهى بأن يكون إطلاقه لأحد المسميين متوقفًا على تعلقه بالمسمى الآخر, فالمتوقف مجاز, كالمكر بالنسبة إلى الله تعالى, لما كان متوقفًا على تصور مسمى المكر من الخلق كان مجازًا, وما ذكر من الآية ليس استدلالًا على التوقف, لجواز أن لا يكون متوقفًا, بل قد وقع مثل: {أفأمنوا مكر الله} , بل الدليل النقل عن أهل اللغة أنهم لا يسندون المكر إلى الله قبل أن يسندوه إلى غيره. قال: (واللفظ قبل الاستعمال ليس بمجاز ولا حقيقة. وفي استلزام المجاز الحقيقة خلاف, بخلاف العكس. المستلزم: لو لم يستلزم لعري الوضع عن الفائدة.

النافي: لو استلزم لكان لنحو: قامت الحرب على ساق, وشابت لمة الليل حقيقة. وهو مشترك الإلزام, للزوم الوضع. والحق أن المجاز في المفرد, ولا مجاز في التركيب. وقول عبد القاهر في نحو: أحياني اكتحالي بطلعتك: «إن المجاز في الإسناد» , بعيد لاتحاد جهته. ولو قيل: لو استلزم لكان للفظ الرحمن حقيقة, ولنحو: عسى كان قويًا). أقول: اللفظ قبل الاستعمال لا يتصف بكونه حقيقة ولا مجازًا لانتفاء حديهما عنه, واتفقوا على أن الحقيقة لا تستلزم المجاز, إذ قد يستعمل اللفظ فيما وضع له ولا يستعمل في غيره البتة, واختلفوا في المجاز, هل يستلزم الحقيقة؟ . فذهب بعض الحنفية إلى أن كل لفظ استعمل في غير ما وضع له, لابد وأن يكون مستعملًا فيما وضع له أولًا. وذهب الأكثر إلى أنه لا يستلزم ذلك. احتج القائل بالاستلزام: بأنه لو لم يستلزم, لعري / الوضع عن الفائدة, واللازم باطل.

بيان اللزوم؛ أن فائدة الوضع للمعنى إفادة ذلك المعنى من ذلك اللفظ, فإذا لم يستعمل فيه, عري الوضع الأول عن الفائدة. وضعفة بين, ولذلك لم يتعرض له المصنف. وبيانه: منع الملازمة, إذ الفائدة لا تنحصر فيما ذكر, ومن فوائده أن يتجوز عنه. سلمنا, ونمنع بطلان التالي, وليس كلما يقصد به فائدة تترتب عليه. احتج النافي للاستلزام: بأنه لو استلزم المجاز الحقيقة, لكان لنحو: قامت الحرب على ساق, وشابت لمة الليل, ونحوها من المركبات حقائق, واللازم باطل. أما الملازمة؛ فلأن المذكور مجاز بالنسبة إلى ما استعمل فيه, مع أنه لم يستعمل في غيره. وأجاب عنه بنقيضين: إجمالي وتفصيلي, وهو أن المجاز مسبوق بالوضع لمعنى اتفاقًا, فيجب أن تكون هذه المركبات موضوعة لمعنى, وليس كذلك. وهو إلزامي, يعني نفس هذا الدليل يمكن به إلزام الخصم بالمعارضة, إما في المقدمة, أو في الحكم. أما أولًا: فبأن نقول: ما ذكرت ليس مجازًا, وإلا لكان موضوعًا لمعنى للزوم سبق الوضع على المجاز. أو نقول: لو لم يستلزم, لكان ما ذكرت موضوعًا لمعنى. ثم أجاب بالجواب الحق وهو: أن قولك: لكان لنحو قامت الحرب حقيقة يعني مفرداته, نسلم الملازمة ونمنع بطلان التالي, فإن «قام» وضع

أولًا للإخبار عن انتصاب قامةٍ في زمن ماض واستعمل فيه, و «الساق» للعضو المخصوص, و «شاب» للإخبار عن اختلاط سواد الشعر ببياضه, و «اللمة» للشعر المحاذي لشحمة الأذن, وهي مستعملة في ذلك. وإن عنيت لابد لها مركبة من حقائق من حيث هي مركبة, منعنا الملازمة, إذ لا مجاز في المركب, ويكون «قام» استعمل للشدة, فهو في غير ما وضع له, فيكون مجازًا لغويًا في المفرد. ثم أورد على نفسه سؤالًا وهو: أن عبد القاهر الجرجاني من أئمة البيان, قال في نحو «أحياني اكتحالي بطلعتك»: إن المجاز في الإسناد, فإن الإحياء بمعنى المسرة مجاز, والاكتحال بمعنى الرؤية مجاز, وإسناد أحدهما إلى الآخر مجاز, إذ فاعل السرور هو الله تعالى. أجاب: بأنه قول بعيد؛ لأن الإسناد المذكور لو كان مجازًا لكان له جهتان: جهة كونه مجازًا, وجهة كونه حقيقة, كالأسد للمفترس وللشجاع, لكن جهة وضعه الأول ليس إلا إسناد الإحياء إلى الاكتحال؛ لأن هذا الإسناد موضوع لذلك وضعًا أوليًا وهو ظاهر, ولو كانت تلك الجهة هي جهة كونه مجازًا لاتحدت جهة الإسناد, فيكون الإسناد الواحد من

جهة واحدة مجازًا غير مجاز, فحينئذ يكون التجوز في إضافة الفعل إلى السبب العادي. واعلم أن العلماء اختلفوا في نحو: أنبت الربيع البقل, لعدم كون الربيع فاعلًا حقيقة, فلابد من تأويل في اللفظ, أو في المعنى, أو في التركيب, فهذه أربع: الأول: التأويل في المعنى, وهو أنه أورده ليتصور, فينتقل الذهن منه إلى إنبات الله فيه فيصدق به, وهو قول الإمام فخر الدين, وأن المجاز عقلي لا لغوي. الثاني: أن التأويل في أنبت, وهو السبب العادي, وإن كان موضوعًا للسبب الحقيقي, وهو قول المصنف. الثالث: التأويل في الربيع, بأن يتصور بصورة فاعل حقيقي, فأسند إليه كما يسند إلى الفاعل الحقيقي, وهو قول السكاكي. الرابع للجرجاني: التأويل في التركيب, وهو أن كل هيئة تركيبية وضعت بإزاء تأليف معنوي, وهذه وضعت لملابسة / الفاعلية, فإذا

استعملت لملابسة الظرفية كان مجازًا, نحو: صام نهاره, وقام ليله. والحق أنها تصرفات عقلية, ولا حجر فيها, والكل ممكن, وإذ قد ظهر المقصود, فيصح حمل كلام المصنف (لا مجاز في التركيب) أي المجاز الغير عقلي, ومراد عبد القاهر المجاز العقلي, ولا محذور؛ لأن جهة إسناد المجاز العقلي هو خلاف ما عند المتكلم من الحكم, وجهة الإسناد الحقيقي العقلي هي ما عند المتكلم من الحكم, ضرورة أن المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم لضرب من التأويل, إفادة للخلاف لا بتوسط وضع, والحقيقي هو المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه, والظاهر أن النزاع في أن المجاز يستلزم الحقيقة إنما هو في المفرد لا في المركب, وظهر أن المجاز في المفرد يخالف المجاز في المركب وكذا الحقيقة, ولا يدخلان تحت حد واحد, وأن المجاز العقلي سمي مجازًا لتعدي الحكم فيه عن مكانه الأصلي, لا لكونه مستعملًا في غير ما وضع له, وسمي عقليًا لعدم رجوعه إلى الوضع, إذ صيغ الأفعال والفاعلين غير منقولة, فليس المجاز إلا في نسبته تلك الأفعال إلى أولئك الفاعلين, وذلك أمر عقلي. ثم قال: (ولو قيل: لو استلزم المجاز الحقيقة لكان للفظ الرحمن حقيقة) لأنه مجاز في الباري تعالى [لأنه من الرحمة] وهي رقة القلب, وذلك محال على الله تعالى, فيكون مجازًا, وأيضًا: فعلان وضع للمذكر حقيقة,

تردد اللفظ بين المجاز والاشتراك

فإطلاقه على الله تعالى مجاز, وعسى فعل حقيقة للحدث والزمان, فإذا أطلق للحدث مجردًا, كان من إطلاق الكل للجزء وهو مجاز. وقولهم: رحمان اليمامة, من كفرهم وتعنتهم, إذ لم يقصدوا به حقيقة ذلك, وإنما تسمى باسم الله. وأما عسى فلم يسمع مستعملًا فيما وضع له. قيل: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. قلنا: المراد العدم في الجملة, وقد ثبت. قال: (مسألة: إذا دار اللفظ بين المجاز والاشتراك, فالمجاز أقرب؛ لأن الاشتراك يخل بالتفاهم, ويؤدي إلى مستبعد من ضد أو نقيض, ويحتاج إلى قرينتين. ولأن المجاز أغلب, ويكون أبلغ وأوفق وأوجز, ويتوصل به إلى السجع, والمقابلة, والمطابقة, والمجانسة, والروي. وعورض: بترجيح الاشتراك باطراده فلا يضطرب, وبالاشتقاق فيتسع, وبصحة المجاز فيهما فتكثر الفائدة, وباستغنائه عن العلاقة, وعن الحقيقة, وعن مخالفة ظاهر, وعن الغلط فيهما عند عدم القرينة. وما ذكر من أنه أبلغ إلى آخرها, فمشترك فيهما. والحق أنه لا يقابل الأغلب شيء مما ذكر).

أقول: التعارض بين المجاز والاشتراك يُتصور إذا عُلم أن اللفظ حقيقة في شيء ثم استعمل في غيره, وخفيت العلاقة السابقة أو عدمت, وترددنا بين أن يكون وضع للآخر أيضًا فيكون مشتركًا, أو تُجوز عن الموضوع له إلى هذا المعنى فيكون مجازًا. قال المصنف: (فالحمل على المجاز أقرب) لمفاسد الاشتراك, وفوائد المجاز. لا يقال: لا يتصور هذا التعارض؛ لأنه إن تبادر الذهن إلى ذلك الموضوع فهو مجاز في الآخر, وإلا فهو مشترك. لأنا نقول: ليس بعلامة على ما سبق, أو قد يكون مفقودًا, إذ لا يلزم انعكاسها. لا يقال: إن كانت بينه وبين الأول علاقة فمجاز وإلا فمشترك؛ لأن العلاقة قد تكون بين المشتركين, فلا نعرف هل الاستعمال لأجل العلاقة أو للوضع. الأول: أن الاشتراك / يخل بالتفاهم عند عدم القرينة إذ لا يفهم منه شيء, ولا كذلك المجاز؛ لأنه مع القرينة يحمل عليه, وعند عدمها يحمل على الحقيقة.

الثاني: أن المشترك إذا فهم منه المراد يكون مؤديًا إلى مستبعد, وهو حمل الكلام على ما لا يناسب مراد المتكلم من ضد أو نقيض؛ لأنه قد يكون مشتركًا بين الضدين, كما لو قال: لا تطلق في القرء, ففهم الطهر, فطلق في الحيض, ولا كذلك المجاز, إن حمل على غير المراد لم يكن مستبعدًا, ضرورة المناسبة بين مفهوميه. وفيه نظر؛ لأنه لا يؤدي عند القرينة, وأما عند عدمها فلا نفهم شيئًا, وإلا لم يخل بالتفاهم, وأيضًا: قد يتجوز عن أحد الضدين إلى الآخر. وما قيل: إنه لما اعتبرت فيه المناسبة بين مفهوميه, فحمله على غير المراد وإن كان هذا غير مستبعد لأنه حمل على المناسب, ساقط. الثالث: أن المشترك يحتاج في استعمال كل من معنييه إلى قرينة خاصة, بخلاف المجاز فإنه تكفي فيه قرينة واحدة عند استعماله في المفهوم المجازي, وكلما كان احتياجه أكثر كان محذوره أشد. لا يقال: قد تكون له مجازات فيحتاج إلى قرائن؛ لأن المراد الأمر اللازم. ثم شرع في فوائد المجاز منها: - أنه أكثر وقوعًا في اللغة, والأكثر أرجح, ولذلك قيل: من أحب شيئًا أكثر من ذكره, حتى قيل: أكثر اللغة مجاز؛ لأنك إذا قلت:

ضربت زيدًا, إنما ضربت بعضه. - ولأنه أبلغ؛ لأن قولنا: زيد أسد, أبلغ في وصفه بالشجاعة [من قولنا: زيد شجاع] , ومن قولنا: زيد كالأسد. - ولأن المجاز قد يكون أوجز, كقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} , وقوله: {أو لامستم النساء} , وإن كان لفظ الحقيقة تارة أوجز, مثل: جدارًا مائلًا, لكن عدل عنه لفائدة في {يريد أن ينقض} مفقودة في الحقيقة. - ولأنه قد يكون أوفق, إما للطبع لثقل لفظ الحقيقة, أو عذوبة في المجاز, وإما للمقام. - إما لتعظيم يقتضيه الحال أو لتنزيه السماع, كقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} , وكذا {أو جاء أحد منكم من الغائط} , وإما لإهانة يقتضيها الحال. - ومنها أنه يتوصل به إلى السجع, كقوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} , لو قال: لفي الجنة, فات السجع. -

والمقابلة, كقولك: اتخذت للأشهب أدهمًا, ولو قلت: قيدًا, فاتت المقابلة. - والمطابقة, كقوله تعالى: {أو من كان ميتًا فأحييناه} , لو قال: فهديناه, فاتت المطابقة. - والجناس, كقولك: سبع سباع, لو قلت: شجعان, فات الجناس. والروي بأن يكون لفظ المجاز يوافق روي القصيدة دون لفظ الحقيقة وهو ظاهر. وهذه الوجوه ذكرت أسبابًا للعدول عن الحقيقة, وذكرها المصنف مرجحات. وعورض: بأن الاشتراك أولى أيضًا لفوائد فيه, وخلوه عن مفاسد يشتمل عليها المجاز. - منها: أن المشترك حقيقة ومن علاماتها الاطراد, والمجاز غير مطرد,

وما يكون مطردًا لا يكوم مضطربًا, وقد علمت أن بعض المجازات مطرد. - ومنها: أن الحقيقة من خواصها الاشتقاق, فيشتق عن كل واحد فتتسع العبارات, وذلك أمر مطلوب, بخلاف المجاز. وفيه نظر؛ لأن المجاز يجمع, وهو نوع من الاشتقاق. - ومنها أن المشترك يتجوز عن كل واحد من مفهوميه, بخلاف الآخر إذ لا يتجوز إلا عن المفهوم الحقيقي, فتكثر الفوائد فيكون أولى. - ومنها: خلو الاشتراك عن مفاسد المجاز؛ لأن المشترك يستغني عن العلاقة بين مفهوميه للوضع / لكل واحد منهما, بخلاف المجاز فإنه لا يتجوز إلا بعد ملاحظة العلاقة. - ومنها: أنه لا يفتقر إلى وضع سابق عنه, بخلاف المجاز. وكلام المصنف إنما يتم على القول بالاستلزام, بخلاف ما ذكرنا, وعن مخالفة ظاهر, فإن استعمال اللفظ في مفهومه المجازي استعمال في غير الظاهر لأن ظاهره ما وضع له, وعن الغلط لأن المشترك عند عدم القرينة لا يحمل على شيء فلا يقع غلط, ولا كذلك المجاز؛ لأنه عند عدم القرينة يحمل على الحقيقة, وقد يكون المراد المجاز. ثم قال: (وما ذكرنا من أن المجاز أبلغ ... إلى آخر الوجوه) , فقد يكون للمشترك؛ لأنها أمور تابعة للبلاغة التي تكون للحقيقة والمجاز, فيكون أبلغ إذا اقتضى المقام الإجمال وأوجز, كالعين للجاسوس, ويتوصل به أيضًا إلى المذكور.

الحقيقة الشرعية

ثم قال: والحق أن كون المجاز أغلب, لا يقابله شيء مما ذكر. قال: (مسألة: الشرعية واقعة خلافًا للقاضي, وأثبت المعتزلة الدينية أيضًا. لنا: القطع بالاستقراء أن الصلاة للركعات, والزكاة والصيام والحد كذلك, وهي في اللغة للدعاء, والنماء, والإمساك مطلقًا, والقصد مطلقًا. قولهم: باقية والزيادات شروط. رد: بأنه في الصلاة, ولا داع ولا متبع. قولهم: مجاز, إن أريد استعمال الشارع لها فهو المدعى, وإن أريد أهل اللغة فخلاف الظاهر, لأنهم لم يعرفوها, ولأنها تفهم بغير قرينة). أقول: لا نزاع في وقوع الحقيقة اللغوية والعرفية. وأما [الحقيقة] الشرعية وهي شاملة للمنقول الشرعي, وهو اللفظ الموضوع لمعنى ثم نقل في الشرع إلى معنى ثانٍ لمناسبة بينهما, وغلب استعماله في الثاني حتى صار المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق من غير قرينة, هو المعنى الشرعي, وشاملة للموضوعات المبتدأة وهي ألفاظ وضعها الشارع لمعان, إما من غير نقل من اللغة, أو معه لكن من غير اعتبار مناسبة, ولا نزاع في الإمكان, والخلاف في الوقوع.

ومختار المصنف وقوعها مطلقًا, وبه قال المعتزلة [بالمعنى] الثاني. قال الإمام فخر الدين: «زعموا أن الحقيقة الشرعية منقسمة إلى أسماء أجريت على الأفعال كالصلاة والزكاة, وإلى أسماء أجريت على الفاعلين كالمؤمن والكافر والفاسق, وهذا الضرب يسمى بالحقائق الدينية» , والمصنف لا يوافقهم على أن ما أجري على الفاعلين حقائق شرعية. ونفاها القاضي, وبعض الفقهاء. فأما القاضي فقال: «إن الواقع في الشرع من ذلك باق على حقيقته اللغوية, ولم يزد في معناها, والزيادات شروط لصحة تلك المدلولات الشرعية, والشرط خارج». وقال الفقهاء: إنا لشرع ما وضع ابتداء ولا نقل, وإنما تجوز عن المعاني اللغوية إلى المعاني الشرعية لمناسبة, فهي مجازات لغوية؛ لأنها على طريقتهم لا حقائق شرعية, ضرورة انتفاء الوضع الذي هو جزء مفهوم

الحقيقة, هذا تحقيق النقل في هذا المكان. احتج المصنف: بأن القطع حصل بالاستقراء أن الصلاة اسم للركعات بما فيها من الأقوال والهيئات, والزكاة للمقدار المخرج من النصاب, والصيام للإمساك الشرعي زمانًا مخصوصًا مقرونًا بنية, والحج لقصدٍ مخصوصٍ, وهذه المعاني متبادرة إلى الذهن عند إطلاق هذه الألفاظ بدون قرينة, بعد أن كانت في اللغة الصلاة للدعاء, والزكاة للنماء, والصيام / للإمساك مطلقًا, والحج للقصد مطلقًا, وهذا ما حصل إلا بتصرف الشرع ونقله إليها, وهو معنى الحقيقة الشرعية. قيل: قوله: (الصلاة للركعات) يبطل مذهب النافي. وقوله: (وهي في اللغة الدعاء) يبطل مذهب المعتزلة. وفيه نظر؛ لأنها عندهم أعم من أن تكون منقولة لم تعتبر فيها المناسبة, أو غير منقولة فجاز أن يكون المذكور لم يعتبر الشارع فيه مناسبة, نعم لم ضم

إلى ما ذكر قولنا: لو لم يعتبر الشرع المناسبة لزم الاشتراك, انتهض عليهم. واعترض على الدليل المذكور من وجهين: أحدهما: قولكم: الصلاة للركعات, نمنعه, بل هي باقية على معانيها اللغوية, والشارع أوجب تلك المعاني اللغوية, واعتبر في إسقاط الفرض بها شروطًا لا يسقط الفرض بدونها, فلا نقل, فكانت الصلاة المجزئة شرعًا صلاة لغوية مقترنة بالركعات, لا أن الصلاة اسم للركعات. رد: بأنها لو كانت باقية على معانيها اللغوية, لم يصح استعمالها في صورة فقدان تلك المعاني, لكن الصلاة لغةً إما الدعاء أو الاتباع, ومنه سمي المصلي وهو التالي في الحلبة, وقد فقد الأمران في صلاة الأخرس المنفرد. وفي هذا الرد نظر؛ لأن الدعاء لا يختص باللسان. وأيضًا: الاتباع موجود؛ لأنها تابعة الإيمان, وأيضًا: لا ينحصر معنى الصلاة لغة فيما ذكر, مع أنه كلام على المستند. الثاني من جانب الفقهاء: لا نسلم أن الاستعمال المذكور بطريق الحقيقة, وإنما بطريق المجاز والعلاقة متحققة, والدعاء جزء الركعات, وتسمية الكل باسم الجزء مجاز مشهور, والزكاة للنماء وهو سبب للشرعي, وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز.

وقيل: إنه من جانب القاضي, أي لو سلّم أن الزيادات داخلة في مفهومها, لزم كونها مجازًا, فلا تكون حقائق شرعية. ثم أجاب: ما تريدون بكونها مجازًا؟ . إن أردتم أن الشارع استعملها في معانيها لمناسبة للمعنى اللغوي اصطلاحًا لم يعهد من أهل اللغة ثم اشتهر حتى صار يفهم بغير قرينة, فهو الحقيقة الشرعية. وإن أريد أن أهل اللغة استعملوها في هذه المعاني والشارع تبعهم فيه, فهو خلاف الظاهر لوجهين: الأول: أنهم لا يعرفون تلك المعاني, واستعمال اللفظ في المعنى فرع معرفته. الثاني: أن هذه المعاني تفهم من هذه الألفاظ عند الإطلاق من غير قرينة فلا تكون مجازًا. قلت: وفيه نظر؛ إذ له أن يختار الأول, ولا يلزم من الاستعمال الوضع الذي هو جزء المفهوم الحقيقي, فقد يكون الشارع تجوز للعلاقة, واشتهر حتى صارت قرائن الأحوال دالة على أن مراد الشارع عند استعمالها المعنى المجازي, فلا يلزم أن يكون حقيقة, وهذا مدعانا لا مدعاكم. فقوله: (وهو المدعى) ليس كذلك. قال: (القاضي: لو كان كذلك لفهمها المكلف, ولو فهمهما لنقل

لأنا مكلفون مثلهم, والآحاد لا تفيد, ولا تواتر. وأجيب: بأنها فهمت بالتفهيم بالقرائن, كالأطفال. قالوا: لو كانت لكانت غير عربية, [لأنهم لم يضعوها, وأما الثانية فلأنه يلزم ألا يكون القرآن عربيًا. وأجيب: بأنها عربية] بوضع الشارع لها مجازًا, أو أنزلناه ضمير السورة, ويصح إطلاق / اسم القرآن عليها, كالماء والعسل, بخلاف نحو: المائة والرغيف. ولو سلم, فيصح إطلاق العربي على ما غالبه عربي كشعر فيه فارسية وعربية). أقول: قال القاضي: لا تكون هذه الأسماء حقائق شرعية, وإلا لزم أن يفهمها الشارع للمكلفين أولًا, لأن الفهم شرط التكليف, ولو فهمها لنقل إلينا, لأنا مكلفون مثلهم, والفهم شرط التكليف, ولو نقل إلينا, فإما بالتواتر ولم يوجد قطعًا, وإلا لما وقع خلاف, وإما آحاد ولا تفيد العلم. أجاب: بأنها فهمت لنا ولهم بالترديد بالقرائن, كالأطفال يتعلمون اللغات من غير أن يصرح لهم بوضع اللفظ للمعنى, لامتناعه بالنسبة إلى من لا يعلم شيئًا من الألفاظ, وهذا طريق قطعي لا ينكر, فإن عنيتم بالتفهيم والنقل ما ذكرتم منعنا الملازمة, وإن عنيتم ما هو أعم منعنا بطلان التالي, والشارع فهمهم حال الخطاب لا قبله بالقرائن. احتجوا أيضًا: بأن الأسماء المذكورة لو كانت حقائق شرعية, لكانت غير عربية, واللازم باطل.

أما الملازمة؛ فلأن نسبة الألفاظ إلى اللغات إنما كنسبة دلالتها بالوضع على المعاني في تلك اللغة, وواضعوا لغة العرب لم يضعوها على ذلك التقدير فلا تكون عربية, وأما الثانية؛ فلأنه يلزم ألا يكون القرآن عربيًا؛ لأن ما بعضه عربي وبعضه غير عربي لا يكون عربيًا كله, [لكنه عربي كله] , لقوله تعالى: {إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا}. أجاب أولًا: بمنع الملازمة, أي لا نسلم أنها تكون [غير] عربية, وإنما يلزم ذلك لو لم يضعها الشارع لشيء يكون بينه وبين المعنى اللغوي مناسبة, والشارع عربي, فهي مجازات لغوية؛ لأن معنى كون اللفظ عربيًا إفادته لمعناه على طريق العرب, إما على سبيل الحقيقة أو على سبيل المجاز, فلما نقلها واشتهرت في الثاني, صارت حقائق. سلمنا, ونمنع بطلان التالي. قولكم: «لكنه عربي كله» نمنعه, وقوله تعالى: {إنا أنزلناه} ضمير السورة, وقوله: (ويصح إطلاق اسم القرآن عليها) جواب عن سؤال تقريره: السورة بعض القرآن, والقرآن اسم للمجموع, وبعض الشيء غيره. أجاب: أن القرآن اسم جنس يطلق على القليل والكثير منه, ولذلك لو

حلف أن لا يقرأ القرآن حنث بسورة, وجزء الشيء إذا شارك غيره في معناه صح أن يقال هو كذا, وهو بعض كذا بالاعتبارين, كالماء والعسل, إذ القرآن الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه, فما وجد فيه هذا المعنى أطلق عليه قرآن, بخلاف ما إذا لم يشارك الجزء الكل في المعنى, كالمائة والرغيف. سلمنا أن الضمير للقرآن لا للسورة, لكن لم لا يجوز أن يكون بعضه غير عربي, ويطلق العربي على المجموع لكون غالبه عربيًا, كشعر فيه ألفاظ فارسية, فإنه يقال له عربي وإن كان بطريق المجاز, لكن الأصل في الإطلاق الحقيقة, فالمنع الأول أحسن, لكن بتقدير أن تكون مبتدأ من غير نقل, المنع الثاني أولى. قال: (المعتزلة: الإيمان التصديق, وفي الشرع العبادات؛ لأنها الدين المعتبر, والدين الإسلام, والإسلام الإيمان, بدليل {ومن يبتغ} فثبت أن الإيمان العبادات, وقال تعالى: {فأخرجنا من كان / فيها من المؤمنين} , وعورض بقوله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}. قالوا: لو لم يكن لكان قاطع الطريق مؤمنًا وليس بمؤمن؛ لأنه مخزي بدليل: {من تدخل النار فقد أخزيته} والمؤمن لا يخزى, بدليل: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه}. وأجيب: بأنه للصحابة, أو مستأنف). أقول: قالت المعتزلة: «الإيمان التصديق لغة, وفي الشرع العبادات

المخصوصة» , ولا مناسبة مصححة للتجوز قطعًا. أما الأول: فبالإجماع. وأما الثاني: فلأن العبادات هي الدين المعتبر, لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} أي الملة المستقيمة المعتبرة, وذلك إشارة إلى جميع ما ذكر, فثبت أن العبادات هي الدين المعتبر, والدين المعتبر هو الإسلام, لقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} , فغير المعتبر لا يكون إسلامًا, والإسلام الإيمان, لأنه لو كان غيره لم يقبل من مبتغيه, لقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه} , لكن الإيمان مقبول من مبتغيه, ينتج: العبادات إيمان, ينعكس: الإيمان هو العبادات. وأيضًا: الإسلام الإيمان لأنه استثنى المسلمين من المؤمنين, والمنقطع مجاز والمتصل يدل على دخول المستثنى في المستثنى منه فالمسلمون مؤمنون, فالإسلام إيمان. ثم قال. (وعورض بقوله تعالى: {قل لم تؤمنوا}) , وهذا يصلح أن يكون معارضة في المقدمة. وتقريره: أن ما ذكرتم من الآيتين وإن دلتا على أن الإسلام هو الإيمان, لكن عندنا ما ينفيه؛ لأنه لو كان الإسلام هو الإيمان لما ثبت الإسلام عند

سلب الإيمان, والتالي باطل لقوله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} , يصح أن يكون معارضة للدليل. وتقريره: الإيمان ليس العبادات والإ لكان إسلامًا بعين ما ذكرتم, وليس بإسلام لقوله تعالى: {قل لم تؤمنوا} , وفي هذه المقدمات نظر. أولًا: نمنع عود الإشارة إلى جميع المذكور, وظاهر أنه إلى الإخلاصفقط, سلمنا قولكم: لو كان غيره لم يقبل من مبتغيه, نمنعه, والآية دلت على أن الدين الذي هو غير الإسلام غير مقبول, لا على أن كل شيء ما عدا الإسلام غير مقبول, فجاز أن يكون غير دين فلا يلزم أن لا يكون مقوبلًا. قلت: ونلتزمه, وهو مذهب السلف وأكثر العلماء؛ لأنهم يقولون: الإيمان في الشرع التصديق والنطق بالشهادة, بحيث لو أخل بأحدهما لم يكن مؤمنًا, وأما الآية فلا تدل إلا على أن المسلم هو المؤمن, ولا يلزم من صدق شيئين على شيء اتحاد مفهوم ذينك الشيئين, إذ شرط الاستثناء صدق أحدهما على الآخر, لا اتحاد المفهومين. سلمنا, ولا ينعكس إلا بعض الإيمان عبادات, وليس المدعى. قالوا: لو لم يكن نفسها, لكان قاطع الطريق مؤمنًا؛ لأنه لو لم يكن فعل العبادات, لكان نفس تصديق النبي صلى الله عليه وسلم, إذ لا قائل بثالث إجماعًا, فحينئذ يكون قاطع الطريق مؤمنًا لوجود التصديق الخاص منه. وأما بطلان التالي؛ فلأن قاطع الطريق مخزي, ولا شيء من المؤمن

وقوع المجاز في اللغة

بمخزي, فنتج من الثاني: لا شيء من قاطع الطريق بمؤمن. أما الصغرى؛ فلأنه يدخل النار لقوله تعالى: {ولهم عذاب / عظيم} وهو النار إجماعًا, وكل من يدخل النار فهو مخزي, لقوله تعالى: {فقد أخزيته}. وأما الكبرى؛ فلقوله تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه}. والجواب: منع كلية الكبرى, وسنده أن معه ظاهر في الصحابة وهو براء من قطع الطريق, هذا إذا عطف «والذين آمنوا» على ما قبله, أما إذا جعل الواو للاستئناف, لم يثبت صدقها جزئية ولا كلية. قال: (مسألة: المجاز واقع خلافًا للأستاذ, بدليل: الأسد للشجاع والحمار للبليد, وشابت لمة الليل. المخالف: يخل بالتفاهم, وهو استبعاد). أقول: ذهب أكثر الأصوليين إلى أن المجاز واقع في اللغة. ونفاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني.

وقوع المجاز في القرآن

حجة الجمهور: أنهم أطلقوا الأسد على الشجاع, والحمار على البليد, وشابت لمة الليل لظهور ضوء الصبح, واستعمالها في المذكور لا يكون بطريق الحقيقة؛ لأنه يسبق منها عند الإطلاق خلاف ما استعملت فيه ولا تفهم هذه المعاني منها إلا بقرينة, وهو معنى المجاز. احتج الأستاذ: بأنه لو وقع لزم الإخلال بالتفاهم واللازم باطل. بيان اللزوم؛ أنه عند عدم القرينة يحمل على الحقيقة, وعند وجودها قد يغفل عنها المخاطب, أو تكون حقيقة فيفهم المعنى الحقيقي فيقع الإخلال بالتفاهم. وأجيب: بمنع الملازمة, فقد يخل بالفهم التفصيلي لا بالفهم مطلقًا, ويكون الغرض منه الفوائد السابقة, سلمنا ونمنع بطلان التالي, وما ذكرتم لا يدل على استحالة الوقوع بل على استبعاده, ولا يعتبر مع القطع بالوقوع. قال: (ووقع في القرآن خلافًا للظاهرية, بدليل: {ليس كمثله شيء} , {واسأل القرية} , {يريد أن ينقض} , {فاعتدوا} , {سيئة مثلها} , وهو كثير. قالوا: المجاز كذب لأنه ينفى, فيصدق.

قلنا: إنما يكذب إذا كانا معًا للحقيقة. قالوا: يلزم أن يكون الباري تعالى متجوزًا. قلنا: مثله يتوقف على الإذن). أقول: القائلون بوقوعه في اللغة اختلفوا, هل وقع في القرآن أم لا؟ . فنافاه الظاهرية, وأثبته الأكثرون. احتج المثبتون بآيات منها قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} وهو من مجاز الزيادة؛ لأن المراد في الآية نفي المثل, لأنها لبيان الوحدانية, إذ لو كان المراد نفي المثل الذي هو حقيقة, لم تدل على الوحدانية, إذ نفي مثل المثل لا يوجب نفي المثل, بل ظاهره ثبوت المثل؛ لأن من قال: ليس لابن فلان مثل, اقتضى ثبوت ابن لفلان. وأيضًا كان يلزم نفيه تعالى لأنه مثل لمثله؛ لأن نفي مثل المثل يستلزم تعقل مثل المثل, وتعقل مثل المثل يستلزم تعقل المثل, وتعقل المثل يستلزم أن يكون تعالى مثلًا لذلك, لأن المثلية إنما تتحقق من الجانبين, فلو كان المراد الحقيقة لزم نفيه.

لا يقال: الحكم بكونه مثلًا لمثله موقوف على ثبوت مثله الذي هو محال, فلا يكون مثلًا لمثله. لأنا نقول: الحكم لا يتوقف على ثبوت المثل في الخارج, بل على تعقل ما صدق عليه أنه مثل. والحق: أن الكاف للتشبيه فلا مجاز, ويلزم منه نفي المثل؛ لأن وجود مثل المثل لازم لوجود المثل, فلزم من نفي مثل مثله نفي مثله؛ لأنه كلما انتفى اللازم انتفى الملزوم, فهو نفي للتشبيه المستلزم لنفي الشريك, والمقصود به نفي من يشبه أن يكون مثلًا فضلًا عن المثل حقيقة, والله تعالى ليس مثلًا لمثله؛ لأن معنى مثل مثل الله, هو الشيء الثابت الذي يساويه في تمام الماهية ولوازمها, ويغايره بالعوارض فلا / يصدق هذا على الله, والمثل المتعقل إنما هو مفهوم شيء يشارك الله وهذا ليس مثلًا بالحقيقة لاختلافهما في اللوازم. وأيضًا لما ثبت بالبرهان أنه لا مثل له لم يكن مثلًا لمثله فلا يلزم نفيه. ومنها قوله: {واسأل القرية} والمراد أهلها لامتناع سؤالها, وليس القرية حقيقة في الجماعة وإلا لزم الاشتراك, ولا في القدر المشترك الذي هو المجتمع, وإلا لما تبادر الذهن إلى البناء المجتمع. لا يقال: يحمل على الحقيقة؛ لأنه يمكن نطق القرية على سبيل المعجزة لأن ذلك إنما يقع عند التحدي, ولم يتحقق التحدي حينئذ, مع أن مثل ذلك بعيد الوقوع. ومنها قوله تعالى: {يريد أن ينقض} والإرادة إنما يوصف بها الحي

فشبه إشرافه على السقوط بالإرادة لوجود الميل, وفيه استعارة. ط ومنها قوله تعالى: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} أطلق الاعتداء على القصاص مع أنه أمر جائز والآخر حرام, لكن الاعتداء سبب للقصاص أو ضد له أو مشابه له في الصورة, فالإطلاق بالاعتبار الثلاث مجاز. وكذا {وجزاء سيئة سيئة مثلها} بعين ما ذكر. وأيضًا قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيبًا} , {واخفض لهما جناح الذل} , {كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله} إلى غير ذلك. احتج الظاهرية بوجهين: الأول: المجاز كذب, وما هو كذب لا يقع في كلام الله تعالى, أما أنه كذب فلأنه ينفي ويصدق النفي فلا يصدق إثباته, وإلا لصدق النفي والإثبات معًا. وجوابه: منع الصغرى, فإن النفي باعتبار الحقيقة والإثبات باعتبار المجاز, والكذب إنما يلزم لو كان الإثبات والنفي معًا بطريق المجاز أو بطريق الحقيقة, فلا استحالة للاختلاف في المحمول. احتجوا: بأنه لو وقع, لكان الله تعالى متجوزًا, واللازم باطل.

المعرب

أما الملازمة؛ فلأن من قام به فعل فإنه يشتق له منه اسم. أجاب: بمنع الملازمة؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية. سلمنا, ونمنع بطلان التالي؛ لأن اللازم صحته لغة وعقلًا. قال: (مسألة: في القرآن معرب, وهو عن ابن عباس, وعكرمة, ونفاه الأكثرون. لنا: المشكاة هندية, وإستبرق وسجيل فارسية, وقسطاس رومية. قولهم: مما اتفق فيه اللغات كالصابون والتنور بعيد. وإجماع أهل العربية على أن نحو إبراهيم, منع من الصرف للعجمة والتعريف يوضحه. المخالف: بما ذكر في الشرعية, وبقوله تعالى: {أأعجمي وعربي} فنفى أن يكون متنوعًا. وأجيب: بأن المعنى من السياق: أكلام أعجمي ومخاطب عربي لا يفهمه, وهم يفهمونها. ولو سلم نفي التنويع فالمعنى: أعجمي لا يفهمه, وهو يفهمونها). أقول: هذه المسألة تشارك المجاز في أن كلًا منهما ليس من الموضوعات الحقيقة للغة العرب, والجمهور على عدم وقوعه في القرآن. وأثبته ابن عباس, ومولاه.

واختاره المصنف, واحتج عليه: بأن المشكاة هو الكوة في لغة الهند وإستبرق غليظ الديباج في لغة الفرس, [وسجيل من لغة الفرس] أيضًا, وقسطاس وهو الميزان في لغة الروم. قيل: المذكور مما وافق فيه وضع العرب وضع غيرهم, كالصابون والتنور, فإن اللغات متفقة فيه. أجاب: بأن هذا الاحتمال بعيد؛ لأن مثل هذا نادر, والاحتمالات البعيدة لا تدفع بالظهور. ثم قال: / ومما يوضح أن المعرب في القرآن, إجماعهم على أن نحو «إبراهيم» منع من الصرف للعجمة والتعريف, وليس مما اتفق فيه اللغات, لكن كونه عربيًا ينافي منع صرفه للعجمة, إذ ما اتفق فيه اللغات لا يمنع

من صرفه لكونه أعجميًا أيضًا. وفي هذا الاستدلال نظر؛ إذ الخلاف ليس في الأعلام, بل في أسماء الأجناس. احتج المخالف: بما تقدم في الحقيقة الشرعية فإنها لو كانت لكانت غير عربية, وأيضًا لو كانت لفهمها المكلف, وقد تقدم تقريرهما وجوابهما. احتجوا أيضًا: بأنه لو وقع المعرب في القرآن, لكان القرآن متنوعًا. أما الملازمة فبينة, لكنه غير متنوع لقوله تعالى: {أأعجمي وعربي} لأنه للإنكار. والجواب: منع بطلان التالي. قوله: «نفى أن يكون متنوعًا» , قلنا: إنما يلزم ذلك لو كان كله صفة للكلام وليس كذلك, إذ المعنى من السياق: أكلام أعجمي ومخاطب عربي لا يفهمه فيبطل الغرض من إنزاله, وهذه الألفاظ كانوا يفهمونها فلا تندرج تحت الإنكار, أو نقول: يجوز أن يكون انتفاء كونه أعجميًا بكونه ليس كله أعجميًا فلا يلزم نفي التنويع, ولو سلم أنهما صفتان للكلام, فلا نسلم أنه نفى التنويع مطلقًا, بل التنويع الذي لا يفهمونه وهم يفهمون المعرب.

المشتق

قال: (مسألة: المشتق: ما وافق أصلًا بحروفه الأصول ومعناه. وقد يزاد: بتغير ما, وقد يطرد كاسم الفاعل وغيره, وقد يختص كالقارورة والدبران). أقول: المشتق: كلمة وافقت أصلًا, أي كلمة أخرى في حروفه الأصول ومعناه, فما لم يوافق أصلًا له لا يكون مشتقًا؛ لأن المشتق فرع المشتق منه, فلو كان أصلًا في الوضع غير مأخوذ من غيره لم يكن مشتقًا فضارب ومضروب ليس أحدهما مشتق من الآخر, إذ ليس أحدهما أصلًا. وقوله: (بحروفه الأصول) , لأن المشتق فرع, والأصالة والفرعية لا تتحقق بدون الحرف الأصول, فيخرج نحو جلس بالنسبة إلى العقود؛ لأنه موافق لأصله معنى فقط, وحروف الزيادة لا عبرة بها, فيخرج نحو استرد من الاسترجاع, فإنه وافق أصلًا في معناه وحروفه لكن الزوائد لا الأصول. وقوله: (ومعناه) يخرج نحو ضرب, والضرب بمعنى السير في الأرض للاختلاف في المعنى.

وقال: (ما وافق أصلًا) حتى يعم ما كان من اسم عين أو اسم معنى, بل ويتناول مذهب البصريين القائلين إن المصدر اسم للفعل, ومذهب الكوفيين القائلين بعكس ذلك. واعلم أن الأصالة والفرعية لا تتحقق إلا بتغير ما, ولفظ الموافقة يدل عليه أيضًا, وإلا كان أحدهما عين الآخر إن اتفقا في المعنى, أو كان مشتركًا إن اختلفا فيه, فعلم من التعريف أنه لابد من مغايرة بينهما لفظًا ومعنى, فلا حاجة إلى زيادة بتغير ما, فسقط ما اعترض به على الطرد مما يوافق معنى كالثكلى والثكلى: وهي التي لا ولد لها, والجلب والجلب, والمعدول مثل: ثُلاث عن ثلاثة [ثلاثة] لاتحاد المعنى. وقيل: فائدة القيد ليعلم منه بطريق المطابقة أنه يكفي التغير الاعتباري كما في تلك مفردًا وجمعًا, فإن الضمة فيه جمعًا, غيرها مفردًا, وكذا ناقة هجان, ونوق هجان, ورجل عدل من العدل؛ لأن التغيير في الجميع اعتباري, وبعض المحققين لم يجعله قيدًا وإنما جعله تمهيدًا للقسمة, أي لابد من تغيير إما بزيادة أو نقصان أو بهما إلى آخره.

ولعل قوله المصنف: (وقد يراد) إشارة إلى / التضعيف. وأورد على الثاني: نحو طلب من الطلب لعدم التغيير. وأجيب: بأن حركة الفعل لما كانت حركة بناء كالجزء من الكلمة للزومها, وإن كان أصل البناء الوقف لكن عدل عنه لعلة, فصارت لازمة فكانت كالجزء, وحركة المصادر عارضة لنبدلها, فكان التغيير حاصلًا؛ لأن حركة الإعراب إنما عرضت له حالة التركيب, وهي تتبدل بحسب العوامل فالتغيير حاصل. واعلم أن الاشتقاق يعتبر فيه الموافقة في الحروف الأصول مع الترتيب, كضرب وضارب ويسمى الأصغر, أو بدونه نحو رمي ورام, وسمي وسام ويسمى الصغير, أو المناسبة في الحروف ويسمى الأكبر, نحو ثلم وثلب ويعتبر في الأصغر الموافقة في المعنى, وفي الآخرين مناسبته, وينبغي أن يكون مراده (بحروفه الأصول) أن تكون على ترتيبها. واعلم أن الاشتقاق يحد باعتبار العلم, كما قيل: هو أن تجد بين اللفظين تناسبًا في المعنى والتركيب, فيرد أحدهما إلى الآخر, ويحد باعتبار العمل, كما قيل: هو أن تأخذ من اللفظ ما يناسبه في التركيب فتجعله دالًا على معنى يناسب معناه, وهما معًا يخرجان من حد المصنف. واعلم أن التغيير اللفظي ينتهي إلى خمسة عشر, لأنه إما أن يكون بزيادة

حروف, أو زيادة حركة, أو زيادتهما, أو نقصانه, أو نقصانهما, أو زيادة حرف ونقصان حرف, أو بزيادة حركة ونقصان حركة, أو بزيادة حرف ونقصان حركة, أو عكسه, أو بزيادتهما ونقصان حرف, أو بزيادتهما ونقصان حركة, أو بنقصانهما وزيادة حرف, أو بنقصانهما وزيادة حركة, أو زيادتهما ونقصانهما. - الأول: كاذب من الكذب. - الثاني: ضارب من الضرب. - الثالث: ضارب من الضرب. - الرابع: خاف من الخوف. - الخامس: رجل فرح بالإسكان من الفرح. - السادس: غلا من الغليان, وفي هذا المثال نظر؛ لزيادة الألف. - السابع: مسلمة ومسلمات. - الثامن: حذر من الحذر. - التاسع: عاد بالتشديد من المعد. - العاشر: نبت من النبات. - الحادي عشر: قائل من القول. - الثاني عشر: اضرب من الضرب. - الثالث عشر: كال بالتشديد من الكلال. - الرابع عشر: استخرج من الاستخراج. -

اشتراط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة

الخامس عشر: ارم من الرامي. ثم المشتق قد يطرد كأسماء الفاعلين والمفعولين, والصفة المشبهة, واسم التفضيل, فإن الضارب شيء له الضرب يطلق على كل من له ذلك, وقد لا يطرد كالقارورة والدبران, فإنها لا تطلق على كل ما يكون مقرًا للمائعات, بل تختص بالزجاجة المخصوصة, وكذا الدبران لا يطلق على كل ذي دبور, بل يختص بمجموع كواكب خمسة من الثور, وعلته أن وجود معنى الأصل في محل التسمية قد يعتبر من حيث إنه داخل في التسمية فهذا يطرد, وقد يعتبر من حيث إنه مصحح لها مرجح لها من غير دخوله في التسمية, والمراد ذات مخصوصة فيها المعنى لا من حيث هو فيها, بل باعتبار خصوصها, فهذا لا يطرد. قال: (مسألة: اشتراط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة. ثالثها: إن كان ممكنًا اشترط. المشترط: لو كان حقيقة وقد انقضى, لم يصح نفيه. وأجيب: بأن المنفي الأخص, فلا يستلزم نفي الأعم. قالوا: لو صح بعده لصح قبله. أجيب: إذا كان الضارب من ثبت له الضرب, لم يلزم). أقول: المشتق عند وجود معنى المشتق منه كالضارب حالة الضرب

حقيقة اتفاقًا, وقبل وجوده كالضارب لمن لم يضرب / مجاز اتفاقًا, وبعد وجوده منه وانتفائه عنه كالضارب لمن قد ضرب وهو الآن غير ضارب. قيل: إطلاق الضارب عليه بطريق المجاز, وهو مذهب المتأخرين. الثاني: أنه بطريق الحقيقة, وهو مذهب ابن سينا. الثالث: إن كان المشتق مما يمكن بقاؤه كقائم وقاعد فإنه مجاز, فإن كان مما لا يمكن بقاؤه كالمتحرك والمتكلم فهو حقيقة. وهذا معنى قوله: (اشتراط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة) أي صدق المشتق حقيقة مشروط ببقاء معنى المشتق منه. وقيل: لا, وقيل: بالتفصيل. والمشترط مطلقًا لا يصدق عنده المتكلم والمخبر حقيقة إلا حالة التكلم

ولو عند آخر جزء منه, وأصحاب المذهبين الباقيين يصدق عندهما بعد ذلك. وكأن المصنف مال إلى الوقف. احتج المشترط: بأنه لو كان الإطلاق بعد انقضاء المعنى بطريق الحقيقة لم يصح نفيه واللازم باطل, أما الملازمة؛ فلأن الحقيقة لا يصح نفيها لما تقدم. وأما [بيان] بطلان التالي؛ فلأنه عند انقضاء الضرب يصدق [أنه] ليس بضارب في الحال, وإذا صدق ذلك, صدق ليس بضارب مطلقًا؛ لأن النفي في الحال أخص من النفي في الجملة, وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم, وإذا صدق ليس بضارب لا يصدق ضارب, وهو المدعى. أجيب: بمنع انتفاء التالي. قوله: إذا صدق ليس بضارب في الحال صدق ليس بضارب مطلقًا, نمنعه, فإن الضارب في الحال أخص من الضارب مطلقًا, ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم. قيل على الجواب: المراد النفي بالحال لا نفي المقيد بالحال, فيصدق على تقدير صدقه ليس بضارب مطلقًا؛ لأن النفي المطلق لازم للنفي المقيد. وجوابه حينئذ: لا نسلم حينئذ صدق قولنا: ليس بضارب في الحال؛ لأنه يكون معناه: زيد ليس في الحال بضارب, وهو عين المتنازع فيه.

قيل عليه أيضًا: إذا صدق زيد ليس بضارب في الحال, وجب أن يصدق زيد ليس بضارب مطلقًا, وإلا صدق نقيضه وهو: ضارب دائمًا, وهو ينافي ليس بضارب في الحال الذي ثبت صدقه بالاتفاق. وأجيب: بأنه إن أراد بقوله: ليس بضارب مطلقًا, أنه ليس بضارب في شيء من الأزمنة, فلا نسلم صدقه على تقدير صدق ليس بضارب في الحال. قوله: وإلا لصدق نقيضه, وهو زيد ضارب دائمًا. قلنا: لا تناقض بين الدائمتين, وإن أراد أنه ليس بضارب في الجملة فصدق مسلم على تقدير صدق المذكور, لكن لا يلزم من صدق ليس بضارب مطلقًا كذب ضارب مطلقًا؛ لأن المطلقين لا يتناقضان. قيل: يتنافيان للتكاذب بينهما عرفًا. رد: بأنه لا تناقض من حيث الوضع وإن تنافيا عرفًا من حيث أن استعمال المتخاطبين يدل على توافقهما على إرادة زمان معين, والمطلوب في التناقض الأول لا الثاني. احتج ثانيًا: بأنه لو صح إطلاق الضارب حقيقة باعتبار [ما قبله, لصح باعتبار ما بعده] واللازم باطل, أما الملازمة؛ فلأنه يصح باعتبار الحال. فقيد كونه في الحال, إما أن يعتبر في المصحح للإطلاق, فتنتفي الصحة باعتبار ما قبله لانتفائه وهو خلاف الفرض, أو يلغى فتتحقق الصحة باعتبار ما بعده, لتحقق الضرب بعده.

أجاب: بمنع الملازمة, ولا يلزم من عدم اعتبار هذا القيد / عدم اعتبار غيره, إذ المشترط بين الحال والماضي وهو كونه ثبت له الضرب. وفي نفس العبارة مناقشة؛ لأن من ثبت له الضرب الماضي لا الحال, وأيضًا الضارب من له الضرب, إذ لو كان من ثبت له الضرب, لزم دخول الزمان في مفهومه وانتقض تعريف الفعل به. قال: (النافي: أجمع أهل العربية على صحبة «ضارب أمس» , وأنه اسم فاعل. أجيب: مجاز, كما في المستقبل باتفاق. قالوا: صح مؤمن وعالم للنائم. أجيب: مجاز؛ لامتناع كافر لكفر تقدم. قالوا: يتعذر في مثل متكلم ومخبر. أجيب: بأن اللغة لم تبن على المشاحة في مثله, بدليل صحة الحال. وأيضًا: فإن يجب أن لا يكون كذلك). أقول: احتج النافي للاشتراط: بأن أهل العربية أجمعوا على صحة ضارب أمس, وأنه اسم فاعل, والأصل في الإطلاق الحقيقة. أجيب: بأنه مجاز, [بدليل إجماعهم على صحة ضارب غدًا, وعلى أنه اسم فاعل, مع أنه مجاز] اتفاقًا. وفيه نظر؛ لأن الدليل دل عليه, وفي المستقبل الإجماع منع منه, وفيه

تقليل المجاز, ولا يلزم الاشتراك لجواز كونه للمشترك بين الحال والماضي. احتج النافي أيضًا: بأنه لو لم يصح الإطلاق بعد انقضاء المعنى, لم يصح إطلاق مؤمن وعالم على النائم, لخلوه حينئذ عن الإيمان والعلم, لكنه يصح والأصل الحقيقة. أجيب: بأن إطلاقه عليه حالة النوم مجاز, إذ لو كان حقيقة لاطرد, فكأن من تقدم منه كفر كافرًا مؤمنًا حقيقة في حال واحدة, وما قيل من عدم الاطراد إنما هو لمانع من الشرع فلا يقدح في كونه حقيقة لما تقدم, ساقط بما تقدم أيضًا, وبأن اللازم اتصافه بهما معًا في حالة واحدة, والمنع إنما هو من الإطلاق فقط. احتج ثالثًا: بأنه لو اشترط بقاء المعنى لم يكن مثل: متكلم ومخبر حقيقة, واللازم حروف تنقضي أولًا فأولًا ولا تجتمع في وقت, فقبل حصولها لم تتحقق وبعده قد انقضت وليس بمجاز, لأنه لم يوضع لغير ذلك. أجيب: بمنع الملازمة, وإنما يلزم ذلك لو وجب وجود ما منه الاشتقاق بتمامه, وليس كذلك بل بقاء معنى المشتق منه شرط إذا أمكن وجود المعنى بتمامه, وبقاء الجزء الأخير منه شرط إذا تعذر اجتماع أجزاء المعنى, واللغة لم تبن على المشاحة [بدليل فعل الحال حقيقية] , بدليل صحة يتكلم ويخبر الذي هو حقيقة اتفاقًا, فلو كان ذلك شرطًا لم يكن حقيقة بعين ما ذكرتم.

اشتقاق اسم الفاعل لشيء والفعل قائم بغيره

أو نقول: وإلا لم يكن فعل الحال حقيقة؛ لأن الزمان غير قار الذات, فليس الموجود منه إلا جزء واحد, مع أنه يطلق الحال على زمان الفعل الحاضر حقيقة, هذا جواب من جانب المشترط مطلقًا. ثم أجاب من جانب من فصل, فقال: يجب, إلا أن يكون بقاء المعنى شرطًا فيما لا يمكن بقاؤه, بل يكون شرطًا فيما يمكن بقاؤه. قال: (مسألة: لا يشتق اسم فاعل لشيء والفعل قائم بغيره, خلافًا للمعتزلة. لنا: الاستقراء. قالوا: ثبت ضارب وقاتل, والضرب والفعل للمفعول. قلنا: القتل التأثير, وهو للفاعل. قالوا: أطلق الخالق على الله تعالى باعتبار المخلوق وهو اللائق؛ لأن الخلق المخلوق, وإلا لزم قدم العالم أو التسلسل. وأجيب: بأنه ليس بفعل قائم بغيره. وثانيًا: أنه للتعلق / الحاصل بين المخلوق والقدرة حال الإيجاد, فلما نسب إلى الباري صح الاشتقاق جمعًا بين الأدلة). أقول: لا يشتق اسم فاعل لشيء والصفة المشتق منها قائمة بغير ذلك الشيء, خلافًا للمعتزلة حيث قالوا: الله تعالى متكلم بكلام خلقه الله في الشجرة, ثم لا يسمون ذلك الجسم متكلمًا؛ لأن المتكلم عندهم من فعل

الكلام لا من قام به, كما لو خلق الرزق في محل, فإنه يقال للخالق رازق لا للمحل. لنا: الاستقراء, فإنا تتبعنا أوضاع العرب ولم نعثر على صورة وُحد الاشتقاق لها والفعل قائم بغيرها وذلك كاف, إذ المراد غلبة الظن؛ لأنها من مباحث الألفاظ. احتج المعتزلة: بأنه اشتق قاتل وضارب للفاعل, من القتل والضرب وهما قائمان بالمفعول لا بالفاعل؛ لأنهما أثران حاصلان في المفعول. أجاب: بأنا لا نسلم أن القتل هو الأثر بل هو التأثير, والتأثير قائم بالفاعل, والتأثر والانفعال هو القائم بالمفعول. قيل: التأثير غير التأثر, إذ لو كان غيره فإما أن يكون وجودًا أو اعتباريًا, والأول باطل, وإلا لكان أثرًا أيضًا لكونه صادرًا عن الفاعل, فيستدعي تأثيرًا سابقًا ويتسلسل, ويلزم انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين: الأثر, ومؤثره. والثاني يستلزم المطلوب؛ لأنه اشتق اسم فاعل لشيء, والصفة غير قائمة به. أجيب أولًا: بأنه تشكيك في الضروريات؛ لأنا نفرق بين التأثير والتأثر بديهة.

سلمنا, ونختار الأول, ويكون أثرًا قائمًا بالفاعل وتأثيره غير زائد عليه إذ الفرض أن بعض التأثيرات غير الأثر لا كلها. سلمنا أن تأثيره زائد عليه, ونمنع بطلان التسلسل من جانب المعلولات؛ لأن البرهان إنما قام على امتناعه في العلل. وفيه نظر؛ للزوم انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين. سلمنا, ونختار الثاني, وهو وإن كان اعتباريًا لكن نسبته بين الفاعل والمفعول, فله تعلق بالفاعل فاشتق له منه, إذ القائم بالقائم بالشيء قائم بذلك الشيء, ثم نقول: لو كان عينه افتقر الشيء إلى نفسه؛ لاحتياج الأثر إلى التأثير بديهة, وإلا لما وجدا. احتجوا ثانيًا: بأنه أطلق الخالق على الله تعالى باعتبار الخلق وهو المخلوق إذ لو كان غيره لكان هو التأثير, فإما أن يكون قديمًا أو حادثًا, والأول باطل وإلا لزم قدم العالم؛ لأنه نسبة بين الخالق والعالم, وإذا كانت النسبة قديمة يلزم قدم المنتسبين ضرورة تأخرها عنهما, وإن كان حادثًا افتقر إلى تأثير آخر ولزم التسلسل, فقد أطلق الخالق على الله تعالى باعتبار المخلوق, وهو غير قائم به. أجاب بجوابين: أحدهما: أنه غير محل النزاع؛ إذ محل النزاع فعل قائم بالغير وهذا ليس كذلك بل هو نفس الغير, فلا يلزم من جواز الاشتقاق باعتبار الخلق الذي هو نفس الغير جواز الاشتقاق مع قيام الفعل بالغير.

دلالة الأسماء المشتقة

وفيه نظر؛ لأنه قد يكون فعلًا قائمًا بالغير كضرب زيدًا مثلًا فإنه مخلوق لله تعالى, فيطلق الخالق على الله تعالى باعتبار خلقه ضرب زيد, وخلقه ضرب زيد نفس ضرب زيد بما سلمتم من أن نفس الخلق نفس المخلوق وهو قائم بغيره تعالى. وأيضًا إنما تمسكوا بالمذكور على جواز الاشتقاق, مع أن الفعل لا يكون قائمًا به, لا على جواز الاشتقاق مع أن الفعل قائم بغيره /. والجواب الثاني: أن الخلق عبارة عن التعلق الحادث, فإن للقدرة تعلقًا حادثًا, وذلك التعلق إذا نسب إلى الأثر فهو صدوره عن المؤثر, وإذا نسب إلى القدرة فهو إيجابها له, وإذا نسبت إلى المؤثر فهو فعله, فالخلق كون قدرته تعالى تعلقت وهذه النسبة قائمة بالخالق وباعتبارها اشتق له, فصح ما ذكرنا, لأنا لا نعني به كونها صفة حقيقية وسائر الإضافات قائمة بمحالها, وصح ما ذكرتم أيضًا على أنه ليس أمرًا مغايرًا للمخلوق, فيحمل عليه جمعًا بين الأدلة, إذ لو حمل على أنه إطلاق الخالق عليه باعتبار المخلوق بطل الاستقراء, ولو حمل على أنه فعل قائم به الحقيقة كما ذكرنا أولًا, يلزم إهمال دليليكم, والتعلق لما لم يكن وجوديًا لم يتصف بقدم ولا حدوث, لأنهما من أقسام الموجود, فالحلق منع الملازمة. قال: (مسألة: الأسود ونحوه من المشتقات يدل على ذات متصفة بسواد لا على خصوص من جسم أو غيره, بدليل صحة الأسود جسم). أقول: الأسود ونحوه من المشتقات كالأحمر والأبيض يدل على ذاتٍ ما

متصفة بالمشتق منه, لا على خصوصية تلك الذات من جسمية أو غيرها, فإن علم شيء من ذلك فإنما هو بدلالة الالتزام, وذلك أن العرض لا يقوم بعرض, ويدل على ذلك أن قولنا: الأسود جسم, كلام مفيد, فلو دل الأسود على خصوص الجسم, لكان المعنى: الجسم ذو السواد جسم, فيكون تكرارًا بلا فائدة, ولو دل على غير الجسم, لكان المعنى: غير الجسم الأسود جسم, فيكون تناقضًا. قيل: إنما يلزم التكرار لو دل عليه مطابقة, أما إذا دل عليه تضمنًا فلا, كما يقال: الإنسان حيوان, مع أن معناه: الحيوان الناطق حيوان, ولا يعد تكرارًا. وأيضًا: يصح أن يقال: الأسود ذات, مع أنه يدل على ذات متصفة بسواد, فيكون معناه: الذات الأسود ذات, ولا يعد تكرارًا, بل الأولى في عدم دلالته على خصوص الجسم أو غيره النقل, فإنه وضع لشيء متصف بسواد أعم من أن يكون جسمًا أو غيره. وفيه نظر؛ لأن الإنسان حيوان وإن صح الحمل, لكنه غير مفيد بخلاف المذكور. وكذا الثاني أيضًا, نمنع كونه مفيدًا من غير تكرار, على أنا نمنع دلالة الإنسان على الحيوان الناطق لغة.

اللغة لا تثبت بالقياس

وفي لفظ المصنف مناقشة, إذ الأحمر لا يدل على ذات متصفة بسواد. قال: ([مسألة]: لا تثبت اللغة قياسًا خلافًا للقاضي وابن سريج, وليس الخلاف في نحو: رجل, ورفع الفاعل. أي لا يسمى مسكوت عنه إلحاقًا بتسمية لمعين لمعنى يستلزمه وجودًا وعدمًا, كالخمر للنبيذ للتخمير, والسارق للناش للأخذ خفية, والزاني للائط للوطء المحرم, إلا بنقل أو استقراء التعميم. لنا: إثبات اللغة بالمحتمل). أقول: هذه كالخاتمة للمشتق من حيث أطلق الاسم في كل صورة وجد فيها المشترك, واختلف في جواز إثبات اللغة بالقياس. فمنعه الحنفية, وأكثر الشافعية, وجماعة / من الأدباء. [واختاره المصنف. وجوزه القاضي أبو بكر منا.

وابن سريج من الشافعية, وأكثر الفقهاء, وأكثر الأدباء]. ثم حرر المصنف محل الخلاف فقال: ليس الخلاف فيما ثبت تعميمه بالنقل كالرجل والضارب, إذ الرجل موضوع لواحد من ذكور بني آدم أي واحد كان, وكذا الضارب وما في معناه لأنه الموصوف بتلك الصفة, فهو موضوع لكل من تحقق فيه معنى المشتق منه. وليس الخلاف فيما ثبت تعميمه بالاستقراء كرفع الفاعل ونصب المفعول فإنا إذا لم نسمع رفع الفاعل مثلًا منا لعرب لا نرفعه بالقياس, بل تتبعنا أوضاعهم فوجدناهم يرفعون كل ما أسند الفعل أو شبهه إليه وقدم عليه, فعلمنا أن كل فاعل مرفوع. ثم قال: (أي لا يسمى مسكوت عنه) فأي تفسير يعني أن محل الخلاف هل يسمى مسكوت عنه باسم إلحاقًا له بمعين سمي بذلك الاسم, لمعنى تدور معه التسمية بذلك الاسم في غير المسكوت عنه وجودًا وعدمًا, فيظن أنه ملزوم للتسمية, وأنه حيث ما وجد وجدت التسمية به. فقوله: «لا يسمى مسكوت عنه» , بدل من قوله: «لا تثبت اللغة قياسًا» , و «إلحاقًا» مفعول من أجله وبه يتعلق بتسمية, ويصح أن يتعلق بلا

يسمى, و «لمعين» يتعلق بتسمية, و «لمعنى» يتعلق بلا يسمى ولا يتعلق بتسمية, إذ لم يتحقق أن التسمية لأجل المعنى, والضمير في «يستلزمه» يعود على الاسم الذي هو معنى التسمية. وهذا كتسمية النبيذ خمرًا إلحاقًا له بالعقار, لأجل التخمير الموجود فيهما الذي دارت معه التسمية, فماء العنب إذا لم توجد فيه لا يسمى خمرًا, وإذا وجدت سُمي به, وإذا زالت سُمي خلًا, وكذا تسمية النباش سارقًا للأخذ خفية, وتسمية اللائط زانيًا للإيلاج المحرم. وقوله: (إلا بنقل أو استقراء التعميم) يصح أن يكون متصلًا من قوله: لا تثبت اللغة إلا ننقل أو استقراء التعميم, فلا تثبت قياسًا. وليس الخلاف في [نحو] رجل, ورفع الفاعل؛ لأن الأول بالنقل, والثاني بالاستقراء, ويصح أن يكون استثنى من لا يسمى مسكوت عنه إلا بنقل التعميم أو استقراء التعميم, فحذف الأول لدلالة الثاني عليه؛ لأنه وإن سكت عن هذا الشخص مثلًا لكن التعميم منقول عنهم, وإن لم يظهر ذلك وحملنا النقل على التنصيص عليه عينًا لم يكن مسكوتًا عنه, فيكون الاستثناء منقطعًا. وقيل: إنه راجع إلى المثل, أي إلا أن يثبت في شيء من هذه الصور نقل أو استقراء فيخرج عن محل النزاع, ولا يكون المثال مطابقاُ ولا يضر ذلك, إذ المراد بالمثال التفهيم لا التحقيق. احتج: بأنه لو جاز القياس في اللغة, لكان إثباتًا للغة بالمحتمل واللازم

باطل, أما الملازمة؛ فلأن الواضع يجوز أن يكون الحامل له على التسمية وجود المعنى المشترك, ويجوز أن يكون الحامل له على التسمية معنى يختص بذلك المعين, ولا ترجيح لأحدهما. وأما بطلان التالي؛ فبالاتفاق. وقد يقرر بوجه آخر وهو: أنه يحتمل أن يكون الوصف الجامع الذي به التعدية دليلًا على التعدية, ويحتمل أن لا يكون لاحتمال تصريحهم بالمنع, كما منعوا طرد الأدهم, والأبلق, والأحول, والأخيل, والقارورة, فعند السكوت يبقى على احتمال المنع. وأما الثانية؛ فلأنه بمجرد احتمال وضع / اللفظ للمعنى, لا يصح الحكم بالوضع فإنه تحكم. وأيضًا: [كان] يجب الحكم بوضع اللفظ بغير قياس إذا قام الاحتمال وهو باطل اتفاقًا. والتقرير الأول أظهر؛ لقوله بالمحتمل, وإلا لقال: مع الاحتمال. قيل: فيه مصادرة, إذ الغرض أن التسمية لمعنى يستلزمه وجودًا وعدمًا فكيف يقال: يحتمل أن يكون علة للتسمية, ولا يكون علة له. وأجيب: بأن ذلك إنما يستلزم لو كان [لمعنى] يتعلق بتسمية.

لا يقال: من قال لمعنى يستلزمه التسمية وجودًا وعدمًا فلا يكون إثباتًا لها بالمحتمل. لأنا نقول: يستلزمه في غير المسكوت, فسقط الاعتراض. قال: (قالوا: دار الاسم معه وجودًا وعدمًا. قلنا: ودار مع كونه من العنب, ومال الحي, وقبلًا. قالوا: ثبت شرعًا والمعنى واحد. قلنا: لولا الإجماع لما ثبت, وقطع النباش وحد النبيذ, إما لثبوت التعميم, وإما بالقياس, لا لأنه سارق أو خمر بالقياس). أقول: احتج المثبت بوجهين: الأول: أن الاسم دار مع المعنى وجودًا وعدمًا, أما وجودًا ففي ماء العنب الذي فيه الشدة فإنه يسمى خمرًا, وأما عدمًا فلأنه قبلها يسمى عصيرًا وبعدها خلًا, فقد دار الاسم مع التخمير, وكذا اسم السارق مع الأخذ خفية, وكذا اسم الزاني مع الوطء المحرم, والدوران دليل عليه المدار الذي هو المعنى, وإلا لزم تخلف المعلول عن العلة. أجاب: بالمعارضة على سبيل القلب, أي دار أيضًا مع المحل ككونه ماء العنب, ومال الحي, ووطء في القبل, وإذا كانت العلة نفس المحل أو

جزؤه, بطل الإلحاق على ما سيأتي, وكما جاز أن تكون العلة ما ذكرتم, جاز أن تكون جزء علة, فلو أثبتنا به التسمية لكان إثباتًا بالمحتمل, مع أن الدوران لا يفيد العلية. الثاني: لو لم يثبت القياس لغة لم يثبت شرعًا, أما الملازمة؛ فلأن ما ذكرت من الاحتمال قائم فيه, فلو كان مانعًا منع من القياس الشرعي. وجوابه: المنع, وإنما يلزم ذلك لو لم يقم الإجماع على جواز الإلحاق عند الاحتمال. وله تقرير آخر وهو: أنه ثبت القياس شرعًا فيثبت لغة, إذ المعنى الموجب للإلحاق واحد وهو الاشتراك في معنى يظن اعتباره. أجاب: بأنا لا نسلم أن المعنى الموجب واحد, إذ الموجب الشرعي هو الإجماع, أو الإجماع مع ظن اعتبار المشترك المذكور. قوله: (وقطع النباش وحد النبيذ) جواب عن سؤال مقدر تقريره: لو لم يصح القياس لغة لما قطع النباش, ولما حد شارب النبيذ؛ لأن النص إنما ورد في السارق وشارب الخمر, وقد أوجب مالك والشافعي الحد فيهما. أجاب: بأن ذلك إما بتعميم اسم الخمر للنبيذ, والسارق للنباش بالنقل, على ما ذكر في نحو: رجل, لا بالقياس لغة, وإما بالقياس الشرعي للأمر الجامع بينهما, لا بالقياس اللغوي.

حروف المعاني

قال: (الحروف, معنى قوله: الحروف لا يستقل بالمفهومية: أن نحو «من» , و «إلى» مشروط في دلالتها على معناها الإفرادي ذكر متعلقها. ونحو الابتداء والانتهاء وابتدأ وانتهى, غير مشروط فيهما ذلك. وأما نحو «ذو» , و «فوق» , و «تحت» وإن لم تذكر إلا بمتعلقها / لأمر فغير مشروط فيه ذلك, لما علم من أو وضع «ذو» بمعنى صاحب ليتوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس اقتضى ذلك ذكر المضاف إليه, وأن وضع «فوق» بمعنى مكان ليتوصل به إلى علو خاص, اقتضى ذلك, وكذلك البواقي). أقول: لما كان الحرف من أقسام المفرد, وكان الأصولي مفتقرًا إلى معرفته لوقوعه في الأدلة الشرعية, ولم يكن في المبادئ اللغوية ما يختص بالفعل وكان ما يختص بالحرف, أراد تحقيق معناه أولًا ثم البحث عن بعض أقسامه. ولما كان قول النحاة: الحرف لا يستقل بالمفهومية مشكل, أراد تقرير المراد أولًا, ثم الإشارة إلى الإشكال ثانيًا, ثم حله ثالثًا. فقال: إن نحو [«من»] و «إلى» شرط الواضع في إفادتها معناها الإفرادي ذكر متعلقها الذي منه الابتداء أو الذي إليه الانتهاء, والاسم نحو الابتداء والانتهاء والفعل نحو ابتدأ وانتهى غير مشروط فيهما ذلك حالة الإفراد, وأما معاني الأسماء الذي يكون لها حالة التركيب فذلك مشروط

بذكر متعلقه وكذا الأفعال فلا يفهم معنى «في» إلا حال ذكر المتعلق أو حال اعتباره, بخلاف الابتداء والانتهاء وابتدأ وانتهى, فإن معانيها مفهومة من ألفاظها حالة الإفراد, والذي يوضحه: أن اللفظ قد يوضع لأمور مخصوصة كوضع «ذا» لكل مشار إليه مخصوص و «أنا» لكل متكلم, و «الذي» لكل معين بجملة, وليس وضع المذكور كوضع رجل, فإنه موضوع للحقيقة لا للخصوصيات, وهذه وضعت باعتبار المعنى العام للخصوصيات التي تحته, حتى إذا استعمل رجل في زيد بخصوصه كان مجازًا, وإذا أريد المعنى العام المطابق له كان حقيقة بخلاف «هذا» , و «أنا» , و «الذي» فإنه إذا أريد بها الخصوصيات كانت حقائق, ولا يراد بها العموم أصلًا, فلا يقال: «هذا» والمراد أحدٌ مما يشار إليه, ولا: «أنا» والمراد به متكلم ما, فالحرف وضع باعتبار معنى عام وهو نوع من النسبة كالابتداء والانتهاء لكل ابتداء وانتهاء معين بخصوصه, والنسبة لا تتعين إلا بالمنسوب إليه, فالابتداء الذي للبصرة يتعين بالبصرة, والانتهاء الذي إلى الكوفية يتعين بها, فما لم يذكر متعلقه لا يتحصل فرد من ذلك النوع, وهو مدلول الحرف لا في العقل ولا في الخارج وإنما يتحصل بالمنسوب ليه فيتعقل بتعقله بخلاف ما وضع للنوع نفسه كالابتداء والانتهاء, وبخلاف ما وضع لذات باعتبار نسبته نحو «ذو» و «فوق» و «على» و «عن» , و «الكاف» إذا أريد بها علو وتجاوز وتشبيه مطلقًا. ولما بين المراد, أشار إلى الإشكال وهو: أن نحو: «ذو» , و «فوق» , و «تحت» أسماء باتفاق, والخاصة المذكورة للحرف ثابتة لها؛ لأنها غير مستقلة بمعناها الإفرادي, فإنها ما لم يذكر متعلقها لا تفيد فائدة.

الواو للجمع المطلق

وجوابه: أنه وإن لم يتفق استعمالها إلا كذلك, فغير مشروط في وضعها للدلالة على معناها الإفرادي ذلك؛ لأن «ذو» يفهم منه عند الإفراد معنى صاحب, لكن لما وضع لغرض التوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس, فوضعه ليتوصل به إلى ذلك هو المقتضي لذكر المضاف إليه /؛ [لأنه] لو ذكر دونه لم يدل على معناه, ولا يلزم من توقف حصول الغرض من وضع «ذو» بمعنى صاحب على ذكر المضاف إليه توقف دلالته عليه؛ لأنها وضعت بإزاء صاحب كوضع الأسد بإزاء الحيوان المفترس, لكن ذلك لم يشترطوا فيه شيئًا, وهذا شرط في استعماله الإضافة الغرض المذكور, وكذا «فوق» وضع بإزاء مكان عال ويفهم منه عند الإفراد ذلك, لكن وضعه له ليتوصل به إلى علو خاص اقتضى ذكر المضاف إليه, وكذلك بواقي الألفاظ. قال: (مسألة: الواو للجمع المطلق لا لترتيب ولا معية عند المحققين. لنا: النقل عن الأئمة أنها ك ذلك. واستدل: لو كانت للترتيب لتناقض {وادخلوا الباب سجدًا وقولا حطة} مع الأخرى, ولما صح: تقاتل زيد وعمرو, ولكان: جاء زيد وعمرو بعده تكرارًا, وقبله تناقضًا. وأجيب: مجاز لما سيذكر). أقول: الواو العاطفة لمطلق الجمع لا لترتيب, وهو كونها في زمانين

مع تأخر ما دخلت عليه, ولا معية وهو اجتماعهما في زمان واحد, بل للجمع المشترك بينهما المحتمل في الوجود لهما من غير تعرض في الذكر لشيء منهما, ولا يلزم من عدم التعرض للمعية التعرض للترتيب. فقوله: (لا لترتيب) تنبيه على الخلاف. وقوله: (ولا معية) تنبيه على أنه لا يلزم من نفي الترتيب المعية, واحتج على ذلك بالنقل عن أئمة اللغة, والنقل عنهم حجة في المباحث اللغوية, ونقل أبو علي الفارسي إجماعهم على ذلك. قال بعضهم: نص سيبويه على أنها للجمع لا لترتيب ولا معية في سبعة عشر موضعًا من كتابه. وقول المصنف: (لنا النقل عن أئمة اللغة أنها كذلك) , يحتمل أن يكون النقل أنها وضعت لذلك, أو أنهم استعملوها في ذلك, والأصل في

الإطلاق الحقيقة, والأول أظهر. وذكر صاحب الإحكام عن الفراء أنها للترتيب, حيث يستحيل الجمع مثل {اركعوا واسجدوا}. قال: وعن بعضهم أنها للترتيب مطلقًا, ونقل ابن عبد البر عن الفراء أنها للترتيب مطلقًا. واستدل من طرف المختار: بأنها لو كانت للترتيب لتناقض {وادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة} مع قوله تعالى في الآية الأخرى: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدًا} , واللازم باطل. أما الملازمة؛ فلأن القصة واحدة أمرًا ومأمورًا وزمانًا, مع دلالة الأولى على تقدم طلب الدخول, والثانية على تأخره, والتالي باطل؛ لأن التناقض محال على كلام الله.

الثاني: لو كانت للترتيب لما صح: تقاتل زيد وعمرو, لاقتضاء باب تفاعل الشروع في الفعل معًا المنافي للترتيب. وأما بطلان اللازم؛ فلاتفاق أهل اللغة على الصحة. الثالث: لو كانت للترتيب لكان: جاء زيد وعمرو بعده تكرارًا لإفادة الواو البعدية, ولكان: جاء زيد وعمرو قبله تناقضًا لإفادتها البعدية, والتالي باطل. أجاب: بأن ما ذكرتم غايته أنه يفيد أنها استعملت في غير الترتيب, ولا يلزم كونها حقيقة فيه, لما سيذكر أنها حقيقة في الترتيب, فلا تكون حقيقة فيما ذكرتم دفعًا للاشتراك, والمجاز وإن كان على خلاف / الأصل, لكنه خير من الاشتراك. والحق أن هذا الرد ليس بشيء؛ لأن دليلهم على الترتيب لم يتم على ما سيأتي, وقد استعملت في الترتيب وبدونه, وليس جعلها حقيقة في أحدهما بأولى من العكس, فيترجح جعلها للجمع المشترك بالوجوه المذكورة. نعم لو رده: بأن منع اتحاد القصة أولًا, وقال ثانيًا: [بأنها] إنما

تكون للترتيب حين يمكن, وثالثًا: أن البعدية لدفع توهم إرادة المجاز, ورابعًا: أنها ظاهرة في المذكور, ولا تناقض بين الصريح والظاهر, لكان مسموعًا, على أن الثاني قوي. قال: (قالوا: {اركعوا واسجدوا}. قلنا: الترتيب مستفاد من غيره. قالوا: قال: {إن الصفا والمروة} وقال: «ابدؤوا بما بدأ الله به». قلنا: لو كان له, لما احتيج إلى ابدؤوا. قال: رد على قائل ومن يعصهما. قلنا: لترك إفراد اسمه بالتعظيم, بدليل أن معصيتهما لا ترتيب فيها. قالوا: إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق, وقعت واحدة, بخلاف: أنت طالق ثلاثًا. وأجيب: بالمنع وهو الصحيح, وقول مالك: والأظهر أنها مثل ثم, إنما قاله في المدخول بها, يعني تقع الثلاث ولا ينوي في التأكيد, لا أنها بمعنى ثم). أقول: احتج القائلون أنها للترتيب بوجوه: الأول: قوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} والركوع مقدم [على

السجود] إجماعًا, واستفاد تقديمه من الآية, إذ الأصل عدم الغير. الجواب: لا نسلم أنه استفيد منها, بل من فعله صلى الله عليه وسلم, وإلا لكان الركوع كله مقدمًا على جميع السجود. الثاني: قوله تعالى: {إن الصفا والمروة} ولما نزلت قالوا: بم نبدأ يا رسول الله؟ فقال: «ابدؤوا بما بدأ الله به» , فصرح بالابتداء بما بدأ الله به, فلو لم تكن للترتيب, لم يأمرهم عينًا بالابتداء بما بدأ الله به. أجاب: بالقلب, وهو إثبات نقيض دعوى الخصم بدليله, أي لو كانت للترتيب لفهموه من الآية ولم يسألوه عليه السلام, ولكان يقول لهم: ألستم أهل لسان, فدل على أن الترتيب من ابدؤوا لا من الآية, وبدأ به النبي صلى الله عليه وسلم إما لكونه أوجب, أو للتبرك ببداية الله به, لا لأنها للترتيب. قيل: بمنع الملازمة, لجواز كون بعض الصحابة غير عالمين بكونها

للترتيب, أو لتجويز كونها مستعملة في غير الترتيب بناء على الغالب. وفيه نظر؛ لأنهم أئمة اللسان, والأصل عدم المجاز. قلت: على أن لفظ الحديث في مسلم, وفي النسائي أنه عليه السلام لما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} وقال: «أبدأ بما بدأ الله به» لا كما ذكر المصنف, لكن وقع في رواية النسائي «ابدؤوا» على الجمع. احتجوا ثالثًا: بأن أعرابيًا خطب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعصهما فقد غوى, فقال عليه السلام: «بئس الخطيب أنت, قل: ومن يعص الله ورسوله» , بهذا اللفظ أخرجه مسلم ولولا أنها للترتيب لم يكن بين العبارتين فرق, فلا يصلح النص. أجاب: لا نسلم عدم الفرق, إذ الإفراد بالذكر أظهر في تعظيم الله, فرد عليه لتركه التعظيم الذي كان يحصل بالإفراد بالذكر أظهر في تعظيم الله, فرد عليه لتركه التعظيم الذي كان يحصل بالإفراد لو أفرد, ويدل على ذلك أن معصية الله ورسوله لا انفكاك / لأحدهما عن الأخرى حتى يتصور الترتيب بينهما في الزمان. قلت: وفي هذا الجواب نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» فدل على أن الذم لإيهام

التساوي ممن يجوز عليه جهل ذلك, والنبي صلى الله عليه وسلم عالم فساغ له ذلك, على أن في الترمذي من طريق صحيح «علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة الحمد لله نحمده ... الحديث» إلى أن قال: «من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه» فهذا مما علمنا أن نقوله أن فيه ومن يعصهما. قال النووي: «وإنما قال: بئس خطيب القوم أنت؛ لأنه موضع إطناب لا موضع الإيجاز والاختصار». قلت: وفيه نظر؛ لأنه على هذا لا يستحق مثل هذا الذم بتركه الإطناب. واحتجوا رابعًا: بأن الرجل إذا قال لزوجة غير مدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق, لزمته طلقة واحدة, ولولا أن الواو للترتيب وأنها بانت بالأولى وصار المحل غير قابل لطلاق آخر, لكان مثل أنت طالق ثلاثًا, حيث لا ترتيب, فلحق الجميع دفعة. أجاب: بالمنع, وأن الصحيح لزوم الثلاث. قلت: إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق, أنت طالق, أنت طالق,

ففي كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة عن ربيعة لزوم الثلاث, وهو وفاق لمذهب مالك. وقال في كتاب إرخاء الستور منها: «إذا أتبع الخلع طلاقًا نسقًا لزمته طلقتان». أما لو نسق بالواو في غير المدخول بها, فالرواية أيضًا لزوم الثلاث وهو مختار ابن أبي زيد والمصنف, وجمع من الأشياخ. وقال القاضي إسماعيل: «لا يلزمه إلا واحدة».

واختاره اللخمي, وهو ظاهر كتاب الظهار من المدونة فيمن قال لغير المدخول [بها]: أنت طالق, وأنت عليّ كظهر أمي, أنه لا يلزمه ظهار إن تزوجها, ولقوله فيمن قال للمدخول بها: أنت طالق ثلاثًا, وأنت عليّ كظهر أمي, أنه لا يلزمه ظهار. قال اللخمي: وهو حسن؛ لأن الله تعالى يقول: {الذين يظاهرون من نسائهم} وهذه ليست من نسائه؛ لأنها بانت بنفس الطلاق. قال: فكذا في نسق الطلاق, وفرق ابن أبي زيد بنيهما؛ لأن الطلاق من جنس واحد, والطلاق والظهار جنسان, يريد وإذا كان من جنسه لحقه كما له أن يستثنى نسقًا, وأن يقيد بشرط, وأي يردف بغير حرف العطف فكذا بالحرف, ولا كذلك إذا لم يكن من جنسه؛ لأنه خرج من ذلك إلى غيره, فتحققت البينونة فلا يلحق الظهار. قلت: وهذا إنما جاء من كونه حكم له بكونه واقعًا بعده, وهذا معنى

الترتيب؛ إذ لو حكم بوقوعه قبله أو معه لزما معًا. وقد قال مالك فيمن قال إن تزوجتك فأنت طالق وأنت عليّ كظهر أمي: إنه أن تزوجها طلقت, ثم إن تزوجها لزمه الظهار, قالوا: لأنه لم يقع عليه شيء بنفس اللفظ, وإنما أمره مترقب, فإذا تزوج وقعا معًا؛ لأنهما توجها جميعًا على العقد, بخلاف القائل لزوجته لأنها بنفس اللفظ حرمت, فصار الظهار واقعًا في غير زوجة. وزعم السيوري, والتونسي أن هذا كله اختلاف قول. قلت: وهو أظهر, ومسألة الطلاق تدل على / أنها عنده ليست للترتيب, ومسألتي الظهار الأوليين تدلان على الترتيب, ولا يمنع أنها للترتيب بناء على أن لزوم الواحدة فقط إنما هو لكون الإنشاءات مترتبة بترتب الألفاظ لا من أن الواو للترتيب للنقض بالنسق بغير الواو, وبمسألة الطلاق المذكورة. وقوله: (وقول مالك إلى آخره) جواب عن سؤال مقدر توجيهه: أن

ابن القاسم سئل عمن قال لزوجته: أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق؟ فقال: «قد وقف عنها مالك, وقال: في النسق بالواو إشكال». قال ابن القاسم: «رأيت الأغلب من قوله: إنها مثل ثم». فهذا الكلام يقتضي أنها للترتيب, كما أن ثم للترتيب اتفاقًا. أجاب المصنف: بأنه إنما قال ذلك في المدخول بها, يعني تقع الثلاث ولا ينوي في التأكيد؛ إذ لا يعطف الشيء على نفسه, فلا يصدق إذا قال: أردت واحدة, كما لو قال لها بعد الدخول: أنت طالق, ثم طالق, ثم طالق فإن الثلاث تلزمه ولا ينوي في التأكيد لأجل العطف, فكذا هنا, فهي مثل ثم في لزوم الثلاث والحمل على التأسيس, لا أنها بمعنى ثم في الترتيب. قال القاضي إسماعيل: «وإنما قال مالك: وفي الواو إشكال؛ لأن الرجل يقول لآخر: أنت محسن وأنت محسن, وهو يريد الإحسان الأول, والعطف يقتضي المغايرة».

ابتداء الوضع

قال: (ابتداء الوضع ليس بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية. لنا: وضع اللفظ للشيء ونقيضه, وضده, وبوقوعه كالقرء والجون. قالوا: لو تساوت لم تختص. قلنا: تختص بإرادة الواضع المختار). أقول: البحث الثالث في ابتداء الوضع, زعم عباد بن سليمان الصيمري وأهل تكسير الحروف, وبعض المعتزلة, أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية. واعلم أن اختصاص دلالة اللفظ بمعنى دون آخر أمر ممكن يحتاج إلى مؤثر مخصص, وذلك المخصص إما ذات اللفظ أو غيره, فذهب بعض السلف ومن تقدم ذكره إلى الأول. واحتج المصنف على فساده: بأنا قاطعون بجواز وضع اللفظ للشيء

ونقيضه وضده, وبوقوعه كالقرء الموضوع للطهر والحيض, والجون الموضوع للأسود والأبيض, وحينئذ يلزم أن يكون الشيء يناسب بطبعه النقيضين وما بالذات لا يتخلف, فيلزم من ثبوت اللفظ ثبوت المعنى وانتفاؤه ويلزم أن يكون لشيء واحد لازمان متنافيان, مع أنه لو كان كذلك ما اختلفت اللغات باختلاف الأمم؛ لأن ما بالذات لا يزول كحرارة النار, ويلزم امتناع نقل اللفظ إلى معنى آخر لا ينتقل الذهن عند سماعه إلى المعنى كما في المجاز المنقول والأعلام؛ لأن ما بالذات لا يتغير. وأشار صاحب المفتاح إلى أن هذا تنبيه على ما دعاه أهل الاشتقاق وأهل التكسير من أن للحروف في أنفسها خواص بها تختلف, كالجهر والهمس والشدة والرخاوة, وأن الواضع لاحظ تلك المناسبة بين اللفظ ومدلوله حين [الوضع] , فوضع للأمر الذي فيه شدة كلمة حروفها شديدة, وللأمر الذي فيه رخوة كلمة حروفها رخوة, كالفصم مثلًا بالفاء الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير بينونة, والقضم / بالقاف الذي هو حرف شديد للكسر مع البينونة, فيكون لأنفس الكلم تأثير في اختصاصها بالمعاني, وهذه المناسبة هي المرجحة لإرادة الواضع في تخصيصه بعض الألفاظ ببعض المعاني, فحينئذ لا يلزم المحال المذكور؛ لأنه يكون ببعض الحروف مناسبًا لمعنى, وببعضها مناسبًا لآخر, أو تكون جهة مناسبة اللفظ لمعنيين متعددة من غير تناف بين الجهتين, وبأن يدل مثلًا على شيء وبالوضع على آخر,

اختلاف العلماء في الوضع

ولم سلم الاتحاد أو التعدد مع التنافي, لكن لا يلزم من مناسبة الشيء بطبعه للمتنافيين حصول طبيعتهما فيه؛ لأن المناسبة الطبيعية بين نسبتين عبارة عن اتحادهما في إضافة تقتضيانهما, ولا يلزم منه حصول طبيعة أحدهما في الآخر, ولا يخفى ما فيه مما تقدم. احتج عباد وأتباعه: بأنه لو لم يكن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعية, لكان نسبة اللفظ إلى جميع المعاني على السوية فلا يختص معنى بلفظ, وإلا كان ترجيحًا من غير مرجح. أجاب: بمنع الملازمة؛ إذ لا ينحصر المخصص في المناسبة, وإرادة الواضع المختار تصلح مخصصة من غير انضمام شيء إليها, كتخصيص الله إيجاد العالم في وقت دون آخر, وكتخصيص الناس الأعلام بالأشخاص. قال: (مسألة: قال الأشعري: علمها الله بالوحي, أو بخلق الأصوات, أو بعلم ضروري. البهشمية: وضعها البشر واحد أو جماعة, وحصل التعريف بالإشارة والقرائن كالأطفال. الأستاذ: القدر المحتاج في التعريف توقيف, وغيره محتمل. وقال القاضي: الجميع محتمل ممكن, ثم الظاهر قول الأشعري. قال: {وعلم آدم الأسماء كلها}. قالوا: ألهمه أو علمه ما سبق. قلنا: خلاف الظاهر.

قالوا: الحقائق, بدليل {ثم عرضهم}. قلنا: {أنبؤني} يبين أن التعليم لها, والضمير للمسميات. واستدل: بقوله تعالى: {واختلاف ألسنتكم وألوانكم} , والمراد اللغات باتفاق. قلنا: التوقيف والإقدار في كونه آية سواء). أقول: لما كانت الدلالة وضعية, قال الأشعري, وابن فورك, وبعض الفقهاء: الواضع هو الله تعالى, والعلم به بالتوقيف الإلهامي, ولهذا سمي هذا المذهب توقيفًا, والتوقيف إما على طريق الوحي, أو بخلق الأصوات والحروف في بعض الأجسام ويسمعها لواحد أو جماعة إسماع قاصد للدلالة على المعاني, مع خلق علم ضروري في ذلك السامع بدلالة تلك الألفاظ على تلك المعاني, وأنها موضوعة لها, أو لا هذا ولا ذاك بل بأن يخلق فيهم علمًا ضروريًا أن هذا اللفظ وضع لهذا المعنى. وذهب أبو هاشم وأتباعه إلى أنها اصطلاحية وضعها البشر واحد أو جماعة, بأن انبعثت دواعيهم إلى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني للفائدة

السابقة في مبادئ اللغة, وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن, كما يحصل التعريف بذلك للأطفال. قيل: تعريف الأطفال يجوز أن يكون بعلم ضروري فيهم, والإشارة والقرائن شرطه هنا. قلنا: اعتراض على المثال, والمصنف نسب إلى أبي هاشم فقال: «بهشمية»؛ لأن النسب إلى الكناية على وجهين: ينسب إلى / الثاني فتقول في النسب إلى أبي بكر: بكري, وقد يصاغ منهما اسم فينسب إليه, كما يقال في النسب إلى امرئ القيس, مرقسي, وهنا صاغ منهما بهشمي ونسب إليه. وذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إلى أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى الوضع توقيف, وغيره يجوز أن يكون اصطلاحيًا وأن يكون توقيفيًا. وقال القاضي أبو بكر: كل واحد من المذاهب الثلاثة لو فرض لم يلزم منه محال, ولا شيء من أدلة المذاهب المذكورة بمفيد للقطع, فوجب الوقف, اللهم إلا أن يكون النزاع في الظهور لا في القطع, فالظاهر قول

الأشعري لظهور أدلته. قال الله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} والتعليم ظاهر في التفهيم بالخطاب, وأنه تعالى الواضع لا البشر, فكذا الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق, ولأن التكلم بالأسماء وحدها يعسر؛ ولأن الجميع أسماء في اللغة ومن حيث إنها ترفع المسمى إلى الأذهان والتخصيص اصطلاح نحوي, فيكون المعنى: وعلم آدم أسماء المسميات, فحذف المضاف إليه لدلالة الاسم على المسمى وعوض منه الألف واللام, مثل: {واشتعل الرأس شيبًا} والمخالف تارة تأول التعليم, وتارة تأول ما وقع فيه التعليم. أما الأول فقالوا: المراد بقوله تعالى: {وعلم آدم} أي ألهمه أن بضع, مثل: {وعلمناه صنعة لبوس لكم} , أو علمه ما سبق وضعه من خلق قبل آدم. أجاب: بأنه خلاف الظاهر, إذ المتبادر من تعليم الأسماء تعريف وضعها لمعانيها, والأصل عدم وضع سابق. وأما تأويلهم ما وقع فيه التعليم, فقالوا: المحذوف المضاف لا المضاف إليه.

والمعنى: وعلم آدم مسميات الأسماء, يدل عليه {ثم عرضهم}؛ لأن ضمير المذكر لا يصلح لأسماء, فهو للمسميات التي دل عليها الأسماء, ولما كان في المسميات العقلاء أغلبهم مذكر. أجاب: بأن التعليم متعلق بما ت علق به الإنباء, والذي تعلق به الإنباء الأسماء, لقوله: {أنبؤني بأسماء هؤلاء} , {أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم} , ويحققه أن الكلام في معرض الامتنان على آدم بأنه علمه ما لم تعلم الملائكة, وإنما يتبين ذلك إذا سأل الملائكة عما علمه آدم, أما لو سألهم عن شيء آخر, لم يتم الإلزام, لجواز أن يكونوا عالمين بما علمه آدم. وأما الضمير في {ثم عرضهم} فللمسميات وإن لم يتقدم لها ذكر؛ لأن القرينة الدالة على المسميات وهي كالأسماء مذكورة. ولو قيل: المراد بالأسماء سمات الأشياء وخصائصها, كان متجهًا. لا يقال: المراد في الجميع الحقائق. لأنا نقول: يلزم تكثر المجاز وإضافة الشيء إلى نفسه. واعلم أن ما ذكروه على الآية إن لم يقدر على أنه معارضة في المقدمة, وإلا كان الجواب كلامًا على المستند.

واستدل على أنها توقيفية بقوله تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} وليس المراد الجارحة, إذ لا كبير اختلاف في العضو, وإذ بدائع الصنع في غير اللسان من العين والأذن أكثر, بل المراد اللغات تسمية للشيء باسم محله, أي من آياته خلق اختلاف لغاتكم, وكونه فاعلًا لاختلاف الألسنة من غير واسطة أبلغ, وإلا كانت من آيات غيره /. أجاب: بأن الحقيقة التي هي الجارحة لما لم تكن مرادة, جاز أن يكون المراد من الألسنة القدرة على الوضع, وحينئذ التوقيف عليها بعد الوضع وإقدار الخلق على وضعها في كون اختلاف الألسنة آية من آيات الله سواء. لا يقال: الحمل على اللغات أولى لما ذكرنا أولًا, ولأنه مجاز مشهور ولزيادة الإضمار في الحمل على الإقدار؛ [إذ المعنى حينئذ]: ومن آياته [الإقدار على وضع لغاتكم, ولما يلزم من اختلاف الإقدار] , لقوله: {واختلاف ألسنتكم} وهو واحد؛ لأنه معارض بأن القدرة على اللغات أقرب إلى المفهوم الحقيقي؛ لأن القدرة واسطة بين المفهوم الحقيقي واللغات, والأقرب إلى الحقيقة أولى, فتتعارض وتبقى المساواة. قلت: والحق أن قوله: والمراد اللغات باتفاق لا يصح. نعم الجارحة ليست مرادة باتفاق, لكن لا يلزم إرادة اللغات؛ لأنه

أظهر في اختلاف النغمات وأجناس النطق وأشكاله, إذ لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد, أو جهارة واحدة, أو رخاوة واحدة, أو فصاحة, أو لكنة, أو نظم, أو أسلوب, يدل عليه اختلاف ألوانكم, إذ لا ترى لونين من ألوان البشر متفقين, ولا كذلك اللغات؛ لأن الخلق الكثير تكون لهم لغة واحدة, ولو كان المراد اللغات لكان التوقيف أظهر من الإقدار لكثرة وجوه ترجيحه كما تقدم. قال: (البهشمية: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} , دل على سبق اللغات, وإلا لزم الدور. قلنا: إذا كان آدم هو الذي علمها, اندفع الدور. وأما جواز أن يكون التوقيف بخلق الأصوات أو بعلم ضروري, فخلاف المعتاد. الأستاذ: إن لم يكن القدر المحتاج في التعريف توقيفًا لزم الدور, لتوقفه على اصطلاح سابق. قلنا: يعرف بالقرائن والترديد كالأطفال). أقول: احتج القائلون بأنها اصطلاحية بقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} أي بلغتهم, فدل على أن اللغة سابقة على الإرسال, فلو كانت بالتوقف, وهو متوقف على الإرسال, لزم الدور. أجاب: بمنع الملازمة؛ لأن الله تعالى علمها لآدم كما تقدم, [ولا

قوم] له, فتأخرت اللغات عن نبوته وتقدمت عن بعثة جميع الرسل, وإن صح إطلاق القوم على بنيه الذين أرسل إليهم, فالله تعالى علمه ذلك قبل نزوله إلى الأرض, ثم بعد نزوله وحدوث بنيه وإرساله إليهم, أرسل إليهم باللسان الذي علمهم آدم, فهو لسان قومه, وهو مما علم آدم قبل ذلك بالتوقيف, فلا دور. قال في المنتهى: وأما الجواب بأنه يجوز أن يكون التوقيف بغير الرسل من خلق الأصوات أو خلق علم ضروري كما تقدم فلا يلزم الدور, بخلاف المعتاد, وإن كان جائزًا لكنه خلاف الظاهر, إذ المعتاد في التعليم هو التفهيم بالخطاب, على أن الكلام في شيء غير معتاد, فيصلح ما ذكروه لدفع الدور. احتج الأستاذ: بأن القدر المحتاج إليه في التنبيه على الاصطلاح, وهو القدر الذي به يدعو الإنسان غيره إلى الوضع, لو لم يكن توفيقًا لزم الدور, أما الملازمة؛ فلأنه / لو كان الجميع اصطلاحيًا, لاحتيج في تعليمها إلى اصطلاح آخر سابق عليه, لتوقف الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر, والمفروض أنه يعرف بالاصطلاح, فيلزم توقفه على سبق الاصطلاح على معرفته, وذلك دور. قيل: المراد من قوله: على اصطلاح سابق, أي موصوف بالسبق لا

طريقة معرفة اللغة

أنه يحتاج إلى اصطلاح آخر سابق عليه بالزمان, وإلا لكان اللازم التسلسل لا الدور. وفيه نظر؛ لأن الدور لازم أيضًا, لأنا نقول: لو كان الجميع اصطلاحيًا, احتيج في تعلمها إلى اصطلاح آخر سابق, وذلك الاصطلاح يعرف باصطلاح آخر سابق, ولابد أن يعود إلى الأول, ضرورة تناهي الاصطلاحات, فيلزم الدور. أجاب: بمنع توقفه على اصطلاح سابق, لجواز أن يعرف قصدهم إرادة الوضع بالإشارة والقرائن, كما تعرف الأطفال بها لغة آبائهم. لا يقال: هو معارض بمثله, أي لو لم يكن القدر المحتاج اصطلاحيًا لزم الدور؛ لتوقف التوقيف على معرفة كون تلك الألفاظ للدلالة على المعاني, وذلك لا يعرف إلا بأمر خارج عن تلك الألفاظ, فإن كان توقيفًا فالكلام فيه كما مر, ويدور أو يتسلسل. وجوابه: أنه يجوز أن يكون بعلم ضروري, أو بالإشارة العقلية لا الحسية لاستحالتها. قال: (طريق معرفتها التواتر فيما لا يقبل التشكيك كالأرض, والسماء, والحرّ, والبرد, والآحاد في غيره). أقول: لما كان العقل لا يستقل بمعرفة الموضوعات اللغوية, كان طريق معرفتها النقل, فما لا يقبل التشكيك أي يعلم وضعه لما استعمل فيه قطعًا

كالأرض, والسماء, والحرّ, والبرد, طريقه التواتر. وما يقبل التشكيك, فما يظن وضعه لما استعمل فيه طريق الآحاد, والنقل يحتاج في إفادته العلم بالوضع إلى ضميمة عقلية, إذ صدق المخبر لابد منه, وهو أمر عقلي, فليس المراد بالنقل أن يكون مستقلًا بالدلالة من غير مدخل للعقل, فحينئذ إذا علم بالنقل [أن الجمع] المعرف باللام يدخله الاستثناء, وعلم به أيضًا أن الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله, استنبط العقل من هاتين المقدمتين أن الجمع المعرّف باللام للعموم. فهذا طريق من الطرق المثبتة للغة, وقد صرح به المصنف في قوله: (إلا بنقل أو استقراء التعميم). وفي غير ما موضع يقول: لنا الاستقراء, وقال: قلنا ثبت بالاستقراءات المتقدمة.

الأحكام: التحسين والتقبيح العقلي

قال: (الأحكام: لا يحكم العقل بأن الفعل حسن أو قبيح في حكم الله تعالى, ويطلق لثلاثة أمور إضافية: لموافقة الغرض ومخالفته, ولما أمرنا بالثناء عليه والذم, ولما لا حرج فيه ومقابله. وفعل الله تعالى حسن بالاعتبارين الأخيرين. وقالت المعتزلة والكرامية والبراهمة: الأفعال حسنة وقبيحة لذاتها, فالقدماء من غير صفة, وقو بصفة, وقوم بصفة في القبيح, والجبائية بوجوه واعتبارات. لنا: لو كان ذاتيًا لما اختلف, وقد وجب الكذب إذا كان في عصمة نبي, والقتل والضرب وغيرهما. وأيضًا: لو كان ذاتيًا لاجتماع النقيضان في صدق من قال: لأكذبن غدًا, وكذبه). أقول: هذا هو القسم الثالث / من الاستمداد, وهو مبادئ الأصول من الأحكام, والحكم يستدعي حاكمًا, ومحكومًا فيه, ومحكومًا عليه. أما الحاكم فهو الله تعالى, فلا حكم للعقل بحسن أو قبح في شيء من أفعال المكلفين المتعلقة بحكم الله تعالى الوضعي والتكليفي إذ لا حكم فوقه, فالنبي هو الموصل إلى معرفة حسن الأحكام وقبحها, ومعنى هذه العبارة على ما فيها: أن يكون الفعل متعلق المدح أو الذم عاجلًا أو آجلًا, وكونه على

وجه فيه حرج, أو لا يثبت إلا بالشرع ولا استقلال للعقل فيه. وهذه العبارة وقع للشهرستاني ما يشابهها, وهو أبين. قال: «مذهب أهل الحق أن العقل لا يدل على حسن شيء ولا على قبحه في حكم التكليف من الله تعالى شرعًا» , يريد أنه يحكم العقل بذلك بمعنى موافقة الغرض ومخالفته, ولا يحكم به بهذا المعنى الآخر. ثم حقق محل النزاع, فأشار إلى أن الحسن والقبح عند الأصحاب يطلق لإرادة ثلاثة أمور إضافية لا حقيقية. يطلق الحسن لفعل وافق الغرض والقبيح لفعل خلافه, والغرض ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل المختار, وهذا ليس بذاتي لتبدله واختلافه؛ لأن موافقة غرض شخص قد يكون مخالف غرض آخر, فهو إضافي لحسنه

بالنسبة إلى من وافق غرضه, وقبحه بالنسبة إلى من خالف غرضه. الثاني: يطلق الحسن لفعل أمر الشارع الثناء على فاعله, ويدخل فيه أفعال الله تعالى, والقبيح لفعل أمرنا الله تعالى بذم فاعله, وذلك يختلف باختلاف ورود أمر الشارع في تلك الأفعال بحسب الأشخاص والأوقات فيكون إضافيًا. الثالث: يطلق الحسن لفعل لا حرج في الإتيان به, والقبيح لفعل في الإتيان به حرج, وهذا أيضًا يختلف بالأزمان والأشخاص فيكون إضافيًا. وفعل الله تعالى لا يوصف بالحسن بالاعتبار الأول عندنا؛ لأنه منزه عن أن يفعل لغرض, ويكون حسنًا بالأخيرين, أما بالثالث فطلقًا, وأما بالثاني فبعد ورود الشرع لا قبله, وأفعال العقلاء موصوفة بالحسن والقبح بعد ورود الشرع بالاعتبارات الثلاث, وقبله بالاعتبار الأول والثالث, والحسن بالتعبير الثاني أخص منه بالثالث؛ لتناوله بالثالث المباح والمكروه. وإنما قال: «وفعل الله تعالى حسن» , ولم يقل: غير قبيح؛ لأن ذلك يقتضي عدم قبح أفعال العباد؛ لأنه هو الفاعل لأفعالهم. نعم بالنسبة إليه لا يقبح شيء, وبالنسبة إلى العبد يقبح, والفعل في نفسه موصوف بالقبح. قيل: لو قال الموافق الغرض ومخالفه لكان أولى؛ لأنه في بيان الحسن

والقبح, ولا يلزم؛ لأن اللام للتعليل, أي يطلق عليه حسن لأجل موافقة الغرض. واعلم أنه لا نزاع في أن الحسن [والقبح] بالمعنى الأول بما يستقل فيه العقل, وإنما النزاع فيه بالاعتبارين الأخيرين, فقال الأصحاب: لا استقلال للعقل فيه بهما. وقال المعتزلة, والكرامية, وبعض الخوارج, والبراهمة من الكفار: الأفعال الاختيارية حسنة وقبيحة لذاتها, أي من ذات الفعل لا

من الشرع, لكن منها ما يدرك حسنه وقبحه بضرورة العقل, كحسن الإيمان وقبح الكفر, ومنها ما يدرك حسنه بنظر العقل, كحسن الصدق المضر, وقبح الكذب النافع, ومنها ما يدرك حسنه وقبحه بالسمع, كحسن صوم آخر / يوم من رمضان, وقبح صوم أول يوم من شوال, فالشارع كاشف الحسن والقبح لا موجب لهما عندهم. ثم القائلون بالحسن والقبح الذاتيين اختلفوا, فذهب قدماء المعتزلة إلى أن الأفعال حسنة وقبيحة لذاتها, بمعنى أنه ليس في العقل صفة توجب الحسن أو القبح, بل ذات الفعل موجبة لأحدهما. وقال قوم منهم: الفعلُ يقتضي لذاته صفة, وتلك الصفة تُوجب حسن الفعل وقبحه, كالصوم المشتمل على كسر الشهوة المقتضي عدم المفسدة, وكالزنا المشتمل على اختلاط الأنساب المقتضي ترك تعهد الأولاد. وقال قوم: إن القبح لصفة تقتضيه, والحسن لذات الفعل, ووجه هذا التخصيص أن المعتزلة يرون أن الذوات متساوية والتمييز إنما هو بالصفات, فلو كانت الأفعال قبيحة لذاتها لزم قبح أفعال الله تعالى, لتساوي الأفعال عندهم في الذوات.

وقال الجبائي وأتباعه: الفعل يحسن بصفة موجبة, لكنها صفة غير حقيقة, ويقبح لصفة توجبه وليست أيضًا صفة حقيقة, وإنما هو وجوه واعتبارات, كلطم اليتيم للتأديب أو للتعذيب, والفرق بين الوجه [والاعتبار أن الوجه هو الصفة المفارق, لكنها صفة للفعل لا بالقياس إلى غيره, والاعتبار الصفة الغير اللازمة, لكن تعرض للفعل باعتبار غيره, وظاهر الإحكام أن مذهب الجبائي هو الثاني. ثم احتج على إبطال المذاهب الثلاثة الأُوَل بوجهين: الأول: لو كان الفعل يقتضي الحسن لذاته أو لصفة لازمة لذاته, لما اختلف الفعل الواحد فكان مرة حسنًا ومرة قبيحًا. أما الملازمة؛ فلاستحالة انفكاك اللازم لذات الشيء عن الشيء, أعم من أن يكون لزومه بوسط هو لازم وبغير وسط. وأما بطلان التالي؛ فإن الكذب قبيح وقد يحسن, فإنه يجب إذا كان فيه عصمة نبي من ظالم, وكذا يجب في إنقاذ برئ ممن يقصُدُ سفك دمه,

وكذلك القتل والضرب وغيرهما مما يجب تارة ويحرم أخرى. وأيضًا: لو كان كذلك لاجتمع النقيضان. بيان اللزوم؛ أن من قال: لأكذبن غدًا] فهذا خبر لا يخلو عن الصدق والكذب؛ لأنه إن وقع منه الكذب في الغد يلزم قبحه لكونه كذبًا وحسنه لاستلزامه صدق الخبر الأول, والمستلزم الحسن حسن, فيكون الكذب حسنًا وقبيحًا, وإن صدق في الغد يلزم كذب قوله: لأكذبن غدًا والمستلزم للقبيح قبيح, ويلزم حسنه لصدقه, فيجتمع النقيضان. قيل على الأول: لا نسلم بطلان التالي؛ إذ لا يتعين الكذب في الصورة المذكورة بخلاص النبي؛ لإمكان تخليصه بالمعاريض. سلمنا تعيينه, ونمنع حُسْنُه بل هو قبيح, لكّنا ارتكبناه لأن القبح الناشئ من تركه أعظم, أو نقول: الحسن خلاص النبي اللازم للكذب, وحسن اللازم لا يوجب حسن الملزوم, وأيضًا: لم لا يجوز اقتضاء الشيء الأمرين المتنافيين, أو يكون مشتملًا على صفتين إحداهما تقتضي الحسن والأخرى تقتضي القبح. وجواب الأول: أنه إن التجأ إلى حيث لا تكون المعاريض كافية, تعين الإخبار. ثم نقول: لا تجوز المعاريض.

والحديث الوارد فيه, لا يفيد إلا الظن, وهو معارض بما هو أقوى, إذ لو جازت لم / يحكم على خير بكونه كذبًا, إذ ما من كلام إلا ويمكن أن يضمن فيه ما يصير به صدقًا, مع أن ذلك يوجب عدم الجزم بفهم الحقيقة من شيء من ألفاظ لجواز أن يكون فيه مصلحة تقتضي صرفه عن ظاهره ولا سبيل إليه, أي إلى العلم بعدمها, وحينئذ يرتفع الوثوق [عن الشرع] , فلابد من صريح الأخبار. وجواب الثاني: أن ارتكابه واجب, فلو كان قبيحًا لكان حسنًا قبيحًا لذاته أو لصفة لازمة لذاته, وهو باطل قطعًا, لكن بعضهم يقول: لم يزل قبيحًا ووجوبه لكونه أخف المحذورين لا يقتضي حسنه, إذ ليس كل واجب حسنًا, وحسن اللازم يقتضي حسن الملزوم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به

واجب عقلًا عندهم. وجواب الرابع: أن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات, فحينئذ يكون ملزوم المحال محال بالضرورة. لا يقال: اتصف الفعل بصفة اقتضت حُسْنه ثم زالت, واتصف بأخرى تقتضي قُبْحه, إذ الفرض أن الصفة لازمة. قال: (واستدل: لو كان ذاتيًا لزم قيام المعنى بالمعنى؛ لأن حسن الفعل زائد على مفهومه, وإلا لزم من تعقل الفعل تعلقه ويلزم وجوده لأن نقيضه: لا حسن, وهو سلب, وإلا استلزم حصوله محلًا موجودًا ولم يكن ذاتيًا, وقد وصف الفعل به, فيلزم قيامه به. واعترض: بإجرائه في الممكن. وأجيب: بأن الإمكان أمر تقديري لا وصف وجودي. واعترض: بأن الاستدلال بصورة النفي على الوجود دور؛ لأنه قد يكون ثبوتيًا أو منقسمًا, فلا يفيد ذلك. واستدل: بأن فعل العبد غير مختار, فلا يكون حسنًا ولا قبيحًا لذاته إجماعًا؛ لأنه إن كان لازمًا فواضح, وإن كان جائزًا فإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم, وإلا فهو اتفاقي وهو ضعيف, لأنا نفرق بين الضرورية والاختيارية ضرورة, ويلزم عليه فعل الباري تعالى ولا يوصف بحسن ولا قبح شرعًا, والتحقيق أنه يترجح بالاختيارية). أقول: استدل أيضًا على إبطال مذاهبهم الثلاثة: بأن الحسن لو كان

ذاتيًا على الوجه المذكور, لزم قيام المعنى بالمعنى, واللازم باطل. أما الملازمة؛ فلأن حسن الفعل زائد على مفهومه, إذ لو كان نفسه أو جزؤه, لزم من تعقل تعقله, لكنا نتعقل الفعل ويتوقف حسنه وقبحه على النظر, كحسن الصدق الضار, فثبت أنه زائد على الفعل, وهذا مستغنى عنه, إذ لا نزاع أنه زائد على ما فسرنا به الذاتي هنا وهو وجودي والدليل عليه أن نقيضه: لا حسن, ولا حسن عدمي لوجهين: الأول: أنه لو كان وجوديًا لاستدعى محلًا موجودًا لكونه عرضًا, فلم يصدق على المعدوم, لكنه يصدق: المعدوم لا حسن. الثاني: لو لم يكن لا حسن عدميًا لكان ثبوتيًا, فيكون الحسن عدميًا لوجوب عدمية أحد النقيضين, وحينئذ لا يكون وصفًا ذاتيًا إذ العدم لا يكون صفة ذاتية للذات, لأن السلب ليس من الصفات الحقيقية للذات. [والحق أن لا يحتاج إلى إثبات كون الحسن ثبوتيًا؛ لأن المعتزلة ما عدا الجبائية يسلمون أن ثبوتي, وإذا كان نقيضه سلبًا, كان هو موجودًا, وإلا ارتفع النقيضان / , فثبت أنه زائد وجودي, وهو معنى والفعل موصوف.

لأنا نقول: الفعل حسن, فيلزم قيام الحسن بالفعل؛ لامتناع] أن يوصف الشيء بمعنى يقوم بغيره, والفعل معنى فيلزم قيام العرض بالعرض. وأما بيان بطلان التالي؛ فلأنه يلزم إثبات الحسن لمحل الفعل لأنهما معًا قائمان بالجوهر, لما تقرر في علم الكلام من امتناع قيام العرض بالعرض. واختلف الشراح في قوله: (ولم يكن ذاتيًا). فبعضهم جعله دليلًا على أن لا حسن يصدق على المعدوم, وإلا لصدق نقيضه عليه وهو الحسن, فلا يكون الحسن وصفًا ذاتيًا, إذ لا يكون الصفة الحقيقة الذاتية لما لا ذات له ولا حقيقة. وبعضهم جعله دليلًا ثانيًا على أن الحسن وجودي, إذ لو لم يكن كذلك لم يكن ذاتيًا؛ لأن السلب ليس من الصفات الذاتية. وبعضهم جعله بيانًا لكون الحسن زائدًا, أي ليس نفس الفعل ولا جزؤه ولا عدميًا.

أما الأول: فلإمكان تعقل الفعل بدون تعقل حسنه. وأما الثاني: فلأن حسن الفعل يقع صفة له, وكل ما كان صفة لشيء لا يكون جزءًا له, قال: وهذا معنى قوله: ولم يكن ذاتيًا. وأما الثالث: فلأن نقيضه لا حسن ... إلخ, وهذا أبعدها, فإنه حمل الذاتي على جزء الماهية وليس مرادًا هنا, والذي دعاه إلى ذلك أن العدمي قد يكون من الصفات الذاتية للوجودي, فإن الإنسان مقتضيًا لاتصافه بلا فرس والمصنف ما ادعى صحته, لأنه مزيف عنده, غايته أنه ذكر نقضًا إجماليًا أبطل به الدليل, وذكر نقضًا تفصيليًا على أحد الوجهين الدالين على أن لا حسن عدمي, ولم يذكر نقضًا على الوجه الآخر, إما استغناء بالإجمالي أو لظهور فساده, وما ذكرنا أسعد باللفظ؛ لأنه يكون نقضًا على قوله: وإلا استلزم حصوله محلًا موجودًا. ثم قال: (واعترض بإجرائه في الممكن) أي لو صح ما ذكرتم, لزم أن لا يكون الإمكان ذاتيًا للمكن, فلا يكون الفعل ممكنًا, وإلا لزم قيام العرض بالعرض. وتقريره: أن الإمكان زائد كما تقدم وهو وجودي؛ لأن نقيضه لا إمكان, والإمكان عدمي إذ لو كان وجوديًا, استلزم حصوله محلًا موجودًا فيمتنع حمله على المعدوم إلخ.

وأيضًا: لو كان لا إمكان وجوديًا, لكان الإمكان عدميًا, فلا يكون ذاتيًا للممكن؛ لأن العدمي لا يكون ذاتيًا للأمر الموجود, أو نقول: الدليل المذكور يجري في أن الإمكان وجودي, فإنه نقيض الإمكان ... إلخ, وليس بوجودي قطعًا وإلا وجب أو تسلسل, والتقرير الأول هو ظاهر المنتهى. وأما النقض التفصيلي, فتقريره أن نقول: ما ذكرتم لبيان كون الحُسْن ثبوتيًا ملزوم للدور؛ لأنه لما لم يثبت كون الحسن موجودًا, لم يلزم أن يكون مقابله عدميًا فيتوقف الشيء على نفسه, وذلك أن صورة النفي قد تكون ثبوتية كلا معدوم, فإن اللامعدوم صورة نفي ولا يكون إلا موجودًا, أو قد تكون صورة النفي منقسمة إلى الوجودي والعدمي كالامتناع الصادق على الممكن المعدوم والممكن الموجود, فلا يفيد الاستدلال بمجرد صورة النفي كون الحُسْن موجودًا. وبعضهم جعل الضمير في (لأنه قد يكون ثبوتيًا) عائدًا على المنفي لكونه ضميرًا مذكرًا, ومثل المنقسم بلا معلوم, فإن المعلوم منقسم إلى الوجودي والعدمي, وردّ في المنتهى النقض / الإجمالي, فإن الإمكان تقديري فنقيضه سلب التقدير وليس بعدمي, فلا يلزم من وصف الفعل به قيام العرض بالعرض, وأيضًا: الإمكان ليس عدميًا لموجود حتى يكون نقيضه الذي هو الإمكان موجودًا.

قيل: والاعتراض على الدليل المذكور أن يقال: لا نسلم أن الحسن ثبوتي. قوله: لأن لا حُسْن عدمي, يمنعه قوله: لو كان وجوديًا لم يحمل على المعدوم, مسلّم إن عنى بحسب العدول, إذ الحمل بهذا الاعتبار يقتضي وجود الموضوع, وإن عنى بحسب السلب منعناه, إذ لا يستدعي وجود الموضوع, وفيه نظر. سلمنا أن لا حسن عدمي, قوله: فيكون الحسن ثبوتيًا نمنعه, ولا يلزم أن يكون أحد النقيضين وجوديًا كالامتناع ولا امتناع فإنهما متناقضان, ولا يصدق على الممكن المعدوم إلا أحدهما ولا تحقق لشيء منهما في الخارج فيه. سلمنا, ونمنع بطلان التالي, فإن السرعة قائمة بالحركة كما تقول الحكماء [قد مرّ]. قيل: هذا الدليل يقتضي ألا يكون الحسن والقبح شرعيين, لأنه لو

كان شرعيًا, لزم قيام العرض بالعرض ... إلخ. وجوابه: أن الشارع حسنه أو قبحه أو جعله متعلق الحسن والقبح, فليس صفة لازمة للفعل حتى يلزم قيام العرض بالعرض. واستدل أيضًا للمذهب المختار: بأن فعل العبد واقع بغير اختياره, وكلما كان كذلك لا يكون حسنًا ولا قبيحًا عقلًا إجماعًا. أما عندنا, فلعدم اتصاف الفعل بهما لذاته, سواء كان الفعل مختارًا أو لا, وأما عندهم؛ فلأنه إنما يتصف به [الفعل إذا كان الفاعل قادرًا عل الفعل عالمًا به. وأما الصغرى؛ فلأن الفعل إن كان لابد من وقوعه من المكلف بحيث لا يتمكن من تركه فواضح أنه اضطرار, وإن كان جائزًا وجوده وعدمه من المكلف بحيث يسعه تركه, فإن افتقر صدوره إلى مرجح يعود التقسيم بأن يقال: الفعل مع المرجح إن كان لازم الوقوع فهو اضطراري] , وإن كان جائز الوقوع عاد التقسيم, فإما أن ينتهي إلى ما يكون لازمًا فيثبت الاضطرار أو إلى ما لا يفتقر إلى مرجح بل يصدر عنه تارة ولا يصدر عنه أخرى, مع تساوي الحالين من غير تجدد أمر من الفاعل فيكون اتفاقيًا, فلا يوصف بحسن ولا قبح إجماعًا أيضًا, أو لا ينتهي فيلزم التسلسل.

وردّه المصنف من أربعة وجوه: الأول: أنه تشكيك في الضروريات, لأنا نفرق بالضرورة بين الأفعال الضرورية والاختيارية, كالسقوط والصعود, وكحركتي الاختيار والارتعاش فلا يستحق جوابًا, وتقرر على أنه نقض تفصيلي, وهو أن نقول: إن أردتم في قولكم: إن كان لازمًا فواضح, أي أنه غير مختار كحركة المرتعش الصادرة لا عن إرادة فممنوع, لأنا ندرك بالضرورة أن أفعالنا ليست كذلك, وليس في دليلكم ما يدل على أنها كذلك, وإن أردتم به أن يكون واجب الصدور, فإن كان مع الإرادة فمسلّم, لكن لا نسلم أنه لا يقبح عقلًا بالإجماع, إذ الاتفاق إنما هو على ما كان اضطراريًا بالمعنى الأول. والثاني: لو صح ما ذكرتم, لزم ألا يكون الله تعالى مختارًا بعين ما ذكرتم, وذلك كفر. الثالث: لو صح ما ذكرتم, لزم ألا يتصف الفعل بحسن ولا قبح شرعًا لأن فعل العبد غير مختار كما ذكرتم, وغير المختار لا يتصف بالحسن والقبح شرعًا, إذ لا تكليف بغير المختار. ثم أشار المصنف إلى الجواب الحق؛ لأن الأول لا يدفع الشبهة؛ لأن المشكك يقول: / إن كان ما أوردته صحيح النظم والإنتاج, لم تكن تلك

القضية ضرورية فلابد من حل الشبهة, وكذا الثاني والثالث لأنهما إلزاميان. فأجاب بالنقض الذي هو الحق, وذلك أن فعل العبد جائز صدوره ولا صدوره, ويفتقر في صدوره إلى مرجح وهو مجرد الاختيار عندنا, أو مع القدرة عند المعتزلة, سواء قلنا: يجب به الفعل أو لا, فإن الفعل يكون اختياريًا إذ لا معنى للاختياري إلا ما يترجح بالاختيار, وإن وجب فوجوب الشيء شرط إرادته لا ينافي القدرة, والمصحح للمقدورية نسبة الإمكان الذاتي إليه, وإلا لزم نفي قدرة الله تعالى, لوجوب صدور معلوماته عنه بشرط إرادته الجازمة. قيل عليه: إذا كان ما يجب الفعل عنده من الله تعالى, بطل استقلال العبد به, فلا اختيار. قلنا: بطلان الاستقلال لا ينافي الاختيار؛ لأن فعل الواقع منه إن كان تابعًا لإرادته فهو معنى الاختيار, وما تعلقت به إرادته وقوي عليه عزمه ولم يقع, فهو لعدم إرادة الله تعالى, لا يؤاخذ بتركه. قيل على الوجه الأول: الضروري وجود القدرة لا أثرها, وعلى الثاني: إن تعلق إرادته قديم فلا يحتاج إلى مرجح مجرد فلا تسلسل, وعلى الثالث: إن الأفعال عندنا توصف بهما شرعًا وإن لم يكن العبد مختارًا, وعندهم لولا الاستقلال بالفعل لقبح التكليف عقلًا, فإذا استقل فهو مختار

الرد على الجبائية

فيتصف بهما شرعًا أيضًا. قال: (وعلى الجبائية: لو حسن الفعل أو قبح لغير الطلب, لم يكن تعلق الطلب لنفسه, لتوقفه على أمر زائد, وأيضًا: لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو لصفته, لم يكن الباري تعالى مختارًا في الحكم؛ لأن الحكم بالمرجوح على خلاف المعقول فيلزم الآخر فلا اختيار. ومن السمع: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} , لاستلزام مذهبهم خلافه). أقول: لما كان ما تقدم لا ينهض على الجبائية؛ لأنه إذا كان بوجه واعتبار اندفع الأول بجواز الاختلاف والثاني بجواز الاجتماع, احتج الآن عليهم بالعقل والنقل. أما العقل فوجهان: الأول: لو حسن الفعل أو قبح لأمر حاصل للفعل غير أمر الشارع ونهيه, لم يكن تعلق الطلب بالفعل لذات الطلب, واللازم باطل. أما الملازمة؛ فلتوقف تعلق الطلب حينئذ على الوجه والاعتبار الزائدين على الفعل. وأما بيان بطلان التالي؛ فلأن الطلب من حقيقته التعلق, لأن الطلب صفة ذات إضافة تستلزم مطلوبًا عقلًا, ولا تتعلق إلا متعلقة بمطلوب, وما هو للشيء بالذات لا يتوقف على أمر زائد, ثم التعلق نسبة بين الفعل

والطلب, والنسبة عقلًا وخارجًا لا تتوقف على غير المنتسبين. قيل عليه: تعلق الطلب يتوقف على الفعل, والطلب يتوقف على الاعتبار الحاصل للفعل الموجب للحسن أو القبح, والمتوقف على المتوقف متوقف, فحينئذ لا نسلم بطلان التالي. وردّ: بأن الوجه حادث والطلب قديم, والقديم لا يتوقف على الحادث فالتوقف إنما يكون للتعلق, على تقدير كون الجهة موجبة للحسن, لأنه ما لم تكن الحجة لم يتعلق الطلب به, فيعود السؤال. قلت: وفيه نظر؛ لأنا نريد التعلق العقلي, فحينئذ يكون أيضًا عقليًا, فلا يلزم توقيف القديم على الحادث, ويكون أحد المنتسبين الفعل الموصوف بتلك الصفة, فما لم / تحصل لا يتعلق الطلب بالفعل, واستلزم الطلب المطلوب عقلًا إنما يدل على وجوب تعلقهما معًا لكونهما إضافيين, لا عدم توقف تعلق الطلب بالمطلوب في الخارج على أمر زائد. قيل: الضمير في نفسه يعود على الفعل, والتقرير ... إلخ. وقيل: إن عاد إلى الطلب كان دليلًا على الجميع, وإن عاد على الفعل كان دليلًا على الجبائية فقط. واستدل الأصحاب أيضًا بدليل ينهض على جميعهم, تقريره: لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو لصفة لازمة أو عارضة, لم يكن الباري تعالى

مختارًا في الحكم, واللازم باطل إجماعًا. بيان اللزوم؛ أن الأفعال حينئذ غير متساوية بالنسبة إلى الأحكام؛ لأن الفعل الحسن يكون راجحًا على القبيح في كونه متعلق الوجوب, والقبيح راجح على الحسن في كون متعلق التحريم والحكم بالراجح متعين لأن الحكم بالمرجوح خلاف صريح العقل, فلا يتمكن من تحريم الحسن ولا من إيجاب القبيح فلا يكون مختارًا لوجوب حكمه بالبعض وامتناع حكمه بالبعض. قيل: إنما يتم لو كان ترك الراجح مطلقًا قبيحًا, أما لو لم يكن كذلك بل كان تركه مع الإتيان بالمرجوح قبيحًا فلا. وهو فاسد؛ لأنه قبيح مطلقًا عندهم, ثم قد لا يكون بينهما واسطة. قيل: الوجوب بالغير الذي هو الحسن لا ينافي الاختيار. قلنا: إن كان الحكم فيه لكونه على وفق الحكمة, لزم تعليل أحكامه تعالى بالحكم والأغراض وهو باطل, وإن لم يكن لذلك كان منافيًا للاختيار وهو الجواب على قول من قال: امتناع الفعل لقيام صارف القبح لا ينافي الاختيار, نعم يقال من جانب الجبائية: الحكم بالمرجوح الاعتباري غير ممتنع وبالراجح الاعتباري غير لازم. احتج الأصحاب أيضًا على إبطال مذاهب جميع المعتزلة بدليل من السمع تقريره: أن العقل لو كان مدركًا للأحكام, لزم التعذيب بمباشرة بعض الأفعال وترك بعض قبل البعثة, واللازم باطل.

أما الملازمة؛ فلتحقق الوجوب والتحريم قبل البعثة على ذلك التقدير, وهما يستلزمان التعذيب عندهم؛ لأنهم لا يجوزون العفو عن الكبائر قبل التوبة. وأما بطلان اللازم؛ فلقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} , ومعنى لاستلزام مذهبهم خلافه, أي في عدم جواز العفو؛ لأن حسن بعض الأفعال وقبح بعضها قبل البعثة مستلزم لوجوب بعضها وحرمة البعض, ومن ترك الواجب أم فعل الحرام عذب, والتعذيب قبل البعثة مناف لمقتضى الآية الثابت, فيبقى مذهبهم وهو إلزامي؛ لأن استحقاق العذاب عن الترك هو لازم الوجوب لا وقوع العذاب, والآية لم تدل على نفي استحقاق العذاب, لكن لما كان لازم الوجوب عندهم العقاب على الترك انتهض عليهم. أو نقول: وقوع العذاب وإن لم يكن لازمًا لهما, فعدم الأمن من العذاب لازم؛ لترك الواجب وفعل المحرم, وقد دلّت الآية على نفيه قبل الشرع؛ لأن الله تعالى أمنهم من العذاب قبل البعثة بإخباره بذلك, وعلى هذا يكون إلزاميًا, بل برهانيًا. قيل: المقصود من الرسول العقل, أو المقصود وما كنا معذبين بالأوامر والنواهي الشرعية, أو في الأوامر التي لا يستقل بها العقل, حتى نبعث رسولًا.

أدلة المعتزلة

قلنا: خلاف الظاهر, فلا يصار إليه لمجرد الاحتمال. قال: (قالوا: حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب الضار والكفران, معلوم بالضرورة من غير نظر إلى عرف أو شرع أو غيرهما. والجواب: المنع, بل بما ذكر. قالوا: إذا استويا في المقصود مع قطع النظر عن كل مقدر, آثر العقل الصدق. وأجيب: بأنه تقدير مستحيل, فلذلك يستبعد منع إيثار الصدق, ولو سلّم فلا يلزم في الغائب, للقطع بأنه لا يقبح من الله تعالى تمكين العبد من المعاصي, ويقبح منّا. قالوا: لو كان شرعيًا لزم إفحام الرسل, فيقول: لا أنظر في معجزتك حتى يجب النظر ويعكس, أو لا يجب حتى يثبت الشرع ويعكس. والجواب: أن وجوبه عندهم نظري, فلقوله بعينه, على أن النظر لا يتوقف على وجوبه, ولو سلّم فالوجوب بالشرع نظر أو لم ينظر, ثبت أو لم يثبت. قالوا: ولو كان كذلك لجازت المعجزة من الكاذب, ولامتنع الحكم بقبح نسبة الكذب إلى الله تعالى قبل السمع, والتثليث, وأنواع الكفر من العالم. وأجيب: بأن الأول إن امتنع فلمدرك آخر, والثاني ملزم إن أريد التحريم الشرعي).

أقول: احتج المعتزلة على إثبات حكم العقل بوجوه: قالوا: حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب الضار والكفران, معلوم بالضرورة من غير نظر إلى عرف أو شرع أو مصلحة أو مفسدة, ولذلك اتفق عليه العقلاء مع اختلاف عرفهم وشرعهم وغرضهم يدل على أنه ذاتي, وإذا كان ذاتيًا في البعض كان ذاتيًا في الجميع, إذ لا قائل بالفرق. أجاب: بمنع كونه معلومًا بالضرورة, بل بأحد ما ذكر من الشرع أو العرف أو غيرهما, أو لقول بمنع الضرورة في حسنه وقبحه بالمعنى المتنازع فيه. نعم بمعنى موافقة الغرض ومخالفته مسلّم, لأنا لو قدرنا أنفسنا خالية عن المذكور, لم يحصل لنا جزم بحسنها ولا قبحها بالمعنى المتنازع فيه. احتجوا ثانيًا: بأنه إذا استوى الصدق والكذب في جميع الأمور التي يمكن أن تكون متعلق الغرض العاقل بحيث لا يختلفان, إلا أن أحدهما صدق والآخر كذب, مع قطع النظر عن كل مقدر يصلح مرجحًا للصدق من شرع أو عرف أو مصلحة أو مفسدة, آثر العقل الصدق, ولولا أن الحسن ذاتيًا للصدق لما آثر العقل الصدق. أجاب: لا استواء في نفس الأمر؛ لأن لكل واحد منهما لوازم وهما أيضًا متنافيان, ومحال تساوي المتنافيين, فحينئذ تقدير تساويهما تقدير مستحيل, فيمتنع إيثار الصدق على ذلك التقدير استبعاد منعه في نفس الأمر وإنما يلزم لو كان ذلك التقدير واقعًا.

سلمنا أن ذلك التقدير ممكنًا, فيكون دليلًا على أن حسن الصدق في الشاهد ذاتي, ولا نسلم أنه كذلك في حق الغائب الذي النزاع فيه, إذ الكلام في الحسن والقبح بالإضافة إلى أحكام الله تعالى, إذ لا دليل عليه إلا القياس على الشاهد, والقياس متعذر لانعقاد الإجماع على الفرق بأنه لا يقبح من الله تعالى تمكين العبد من المعاصي لأنه واقع, والقبح منه تعالى لم يقع, ويقبح من السيد تمكين عبده منها, وإذا جاز ألا يكون الشيء قبيحًا منه وكان ذلك الشيء قبيحًا منا, لا يثبت قياس حسن الصدق في حقه على حسن الصدق في حقنا. قيل عليه: منع إمكان استوائهما في المقصود مكابرة. وأيضًا: اختلاف حسن الصدق بالنسبة إلى الغائب والشاهد فيه نظر؛ لأن الذاتي لا يختلف بالنسبة إلى الأشياء. قولكم: «لأنا نقطع ... إلخ». قلنا: هو واقع بقدرة العبد لا بقدرة الله, وعند النظام: الله تعالى غير قادر على منعه منها.

وأجيب عن الأول: أن إيثار العقل الصدق عند استوائهما في المقصود بمعنى الملائكة والمنافرة مسلّم, وبمعنى الثواب والعقاب ممنوع. وعن الثاني: لو ثبت أنه ذاتي لم يختلف, لكن النزاع فيه, ثم نفس التخلية بين العبد وبين المعاصي وافق جمهورهم عليه, وهو غير قبيح / منه تعالى, ويقبح من السيد التخلية مع العلم والقدرة. احتجوا ثالثًا: بأنه لو كان الحسن والقبح شرعيين, لزم إفحام الرسل أي قطعهم وعدم تمكينهم من إثبات نبوتهم, واللازم باطل. أما الملازمة؛ فلأن الرسول إذا ادّعى النبوة وأتى بالمعجزة على وفق دعواه, وقال للمعاند: انظر في معجزتي كي تعلم صدقي, فله أن يقول: لا أنظر حتى يجب عليّ النظر ويعكس, أي ويقول: لا يجب عليّ النظر حتى أنظر, لتوقف جميع الواجبات بتقدير كون الحسن والقبح شرعيين على ثبوت الشرع المتوقف على النظر في المعجزة, وذلك دور مفحم فيلزم الانقطاع, أو يقول المعاند: لا أنظر في معجزتك حتى يجب عليّ النظر, ولا يجب عليّ النظر حتى يثبت الشرع, ضرورة توقف الوجوب عليه على ذلك التقدير, ويعكس بأن يقول: ولا يثبت الشرع ما لم يجب عليّ النظر, لأنه لا يثبت إلا بنظري, وأنا لا أنظر حتى يجب النظر, وهذا القول حق ولا سبيل للرسول إلى دفعه, فهو حجة عليه, وذلك معنى الإفحام. أجاب عنه بنقيضين: إجمالي وتفصيلي: أما الإجمالي: فبأنه مشترك الإلزام, لأن وجوب النظر وإن كان عقليًا عند المعتزلة, لكنه ليس بضروري لتوقفه على إفادة النظر العلم, وعلى أن

المعرفة واجبة, وعلى أنها لا تحصل إلا بالنظر, وعلى أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, والكل مما لا يثبت إلا بأنظار دقيقة, وإذا كان وجوب النظر لا يعلم إلا بالنظر, فنقوله نحن بعينه عليهم, أي لو كان الحسن عقليًا لزم الإفحام بعين ما ذكرتم, بأن يقول للمعاند للرسول: لا أنظر حتى يجب النظر ولا يجب النظر حتى أنظر, أو يقول: لا يجب النظر ما لم يحكم العقل بوجوبه, ولا يحكم العقل بوجوبه ما لم يجب, فيلزم الإفحام أيضًا, فكلما تجعلونه جوابًا عنه فهو جواب لنا. وأما التفصيلي: فهو أن نقول: قولك: لا أنظر حتى يجب عليّ النظر غير صحيح؛ لأن النظر لا يتوقف على وجوب النظر, لجواز أن ينظر المعاند قبل وجوب النظر أو قبل العلم بوجوب النظر, بسبب خطور إمكان الوجوب بباله واستلزام ترك ذلك إمكان العقاب, أو سبب آخر. لا يقال: نحن ما ادعينا توقف حصول النظر على وجوبه حتى يدفع بأن النظر لا يتوقف على وجوبه, بل للمكلف أن يمتنع عن النظر حتى يعلم وجوبه. لأنا نقول: قوله «لا أنظر» إن كان معناه لا يقع مني النظر حتى يجب فممنوع, والسند ما مرّ, وإن كان معناه لا أتوجه إلى النظر حتى يجب عليّ النظر, فوجوب النظر لا يتوقف على التوجه إلى النظر, لجواز أن يحصل من غير توجه إليه, مع أنه لا يلزم من امتناع المكلف من النظر بقوله: «لا أنظر» عدم النظر فلا إفحام, ولو سلّم أن النظر يتوقف على وجوب النظر لكن وجوب النظر لا يتوقف على النظر, بل المتوقف على النظر العلم بوجوب النظر لا وجوب النظر.

فقوله: «لا يجب حتى أنظر, أو لا يجب حتى يثبت الشرع» غير صحيح؛ لأن الوجوب عندنا ثابت بالشرع نظر أو لم ينظر, ثبت الشرع عنده أو لم يثبت, وتحقق الوجوب لا يتوقف على العلم به, لأن العلم بالوجوب يتوقف على الوجوب ضرورة أن العلم تابع للمعلوم, فلو توقف الوجوب على العلم به لزم الدور, بل شرط الوجوب تمكن المخاطب من العلم به وهو حاصل لأنه إذا نظر في المعجزة علم صدق النبي, وبعد ذلك يعلم وجوب النظر, فليس من تكليف العاقل في شيء, لأنه يفهم التكليف وإن لم يصدق به. قال نصير الدين الطوسي: أهل السنة يقولون: [استماع] الأمر بالوجوب وإمكان العلم به يوجبان في المستمع التفحص, فإذا تفحص حصل له العلم السمعي بالوجوب, قال: وهو المراد من قولهم: وجوب المعرفة سمعي. ثم قال: والصواب إمكان العلم بصدق / الأوامر السمعية, يقتضي وجوب النظر فيها.

احتجوا رابعًا: بأنه لو كان شرعيًا, لجاز إظهار المعجزة على يد الكاذب ويلزم انسداد باب إثبات النبوة. أما الملازمة؛ فلانتفاء القبح الذاتي الموجب لامتناع إظهاره على يده, أو نقول: لو كان شرعيًا لحسن من الله تعالى كل شيء, ولو حسن منه كل شيء لجازت المعجزة من الكاذب. وأيضًا: لو كان الحسن والقبح شرعيًا, امتنع الحكم بقبح نسبة الكذب إلى الله تعالى قبل ورود السمع, واللازم باطل. أما الملازمة؛ فلما تقدم, وأما بطلان التالي؛ فلأنه يلزم ألا نجزم بصدقه أصلًا؛ لأنه مما لا يمكن إثباته بالسمع؛ لأن حجية السمع فرع صدقه تعالى, إذ لو جاز كذبه لم يكن تصديقه للنبي إلا على صدق النبي, فيستد باب إثبات النبوة وترتفع الثقة عن كلام الله تعالى. وأيضًا: لو كان شرعيًا امتنع الحكم بقبح التثليث وأنواع الكفر, كنسبة الزوجة والولد إليه تعالى وغير ذلك من العلم قبل ورود السمع, واللازم باطل. أما الملازمة؛ فلما تقدم, وأما بطلان التالي؛ فلأن العقلاء لا يحكمون بقبح ذلك, وبعضهم شرحه: وأنواع الكفر من العالم بقبح ذلك بكسر اللام, وأكثرهم شرح بفتحها, والكل صحيح. أجاب المصنف: لا نسلم امتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب امتناعًا عقليًا, ولو سلّم امتناعه فلا نسلم أن القبح العقلي استلزم انتفاء الجواز أن يمتنع لمدرك آخر, إما لأنا نعلم علمًا عاديًا امتناع المعجزة على يد الكاذب,

شكر المنعم لا يجب عقلا

أو امتنع [لالتباس النبي بالمتنبي المؤدي] إلى سدّ باب إثبات النبوة. وأما عن الملازمة الثانية, فالجواب: أنا لا نسلّم انتفاء التالي؛ لأنه إن أريد بقبح هذه الأمور التحريم الشرعي وهو المنع من الله تعالى الذي الراجح فيه التزامنا عدم قبحه, وإن أريد غيره لم يضر؛ لأنه إثبات لغير المتنازع فيه, أو نمنع اللزوم لجواز أن يحكم بقبح هذه الأشياء لكونها صفة نقص, والعقل يحكم بالقبح بهذا المعنى. قال: (مسألتان على التنزل, الأولى: شكر المنعم ليس بواجب عقلًا لأنه لو وجب لوجب الفائدة, وإلا كان عبثًا وهو قبيح, ولا فائدة الله تعالى لتعاليه عنها, وإلا للعبد في الدنيا لأنها مشقة ولا حظّ للنفس فيه ولا في الآخرة, إذ لا مجال للعقل في ذلك. قولهم: الفائدة الأمن من احتمال العقاب في الترك وذلك لازم الخطور مردود, وبمنع الخطور في الأكثر, ولو سلّم فمعارض باحتمال العقاب على الشكر؛ لأنه تصرف في ملك الغير, أو لأنه كالاستهزاء, كمن شكر ملكًا على لقمة, بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أكثر). أقول: لما بطل حكم العقل, لم يجب شكر المنعم قبل ورود الشرع, ولم يكن للأشياء حكم قبل ورود الشرع, لكن عادة كثير من متأخري

الأصحاب فرض الكلام مع المعتزلة في هاتين المسألتين, إظهارًا لما يختص بهما من المناقضة, ولسقوط كلامهم فيهما بعد تسليم الحسن والقبح. ومعنى التنزل: الانحطاط عن المذهب الأشرف. المسألة الأولى: شكر المنعم ليس بواجب عقلًا, فلا إثم على من لم تبلغه دعوى النبوة خلافًا للمعتزلة, وشكر المنعم: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من القوى الظاهرة والباطنة فيما خلقت لأجله, كصرف النظر إلى مشاهدة مصنوعاته. واحتج عليه: بأنه لو وجب عقلًا لوجب لفائدة, واللازم باطل. أما الملازمة؛ فلأنه لو وجب لا لفائدة لكان عبثًا وهو ممتنع على الحكيم. وأما الثانية؛ فلأن الفائدة إما لله وإما للعبد, والثاني إما في الدنيا أو في الآخرة, والثلاثة منتفية. أما الأول: فلتعاليه عن الفائدة. وأما الثاني: فلأنه مشقة وتعب ناجز ولا حظّ للنفس فيه؛ لأنها حرمت الشهوات واللذات.

وأما الثالث: فلأن أحوال الآخرة غيب, ولا مجال للعقل في الجزم بإيجاب الفائدة, لاحتمال العقاب على الشكر. واعترض / المعتزلة الدليل المذكور: بمنع بطلان التالي. قولكم: لا فائدة للعبد في الدنيا نمنعه؛ لأن الأمن من احتمال العقاب بتقدير ترك الشكر فائدة, والاحتمال المذكور لازم الخطور ببال كل عاقل لأنه إذا رأى النعم التي أنعم الله بها عليه التي لا تحصى, علم أنه لا يمتنع كون المنعم بها ألزمه الشكر, وأنه إن لم يشكر عاقبه. وردّه المصنف من وجهين: الأول: أنا نمنع لزوم خطوره بالبال, لأنا نعلم أن ذلك ما خطر قط لأكثر الناس ببال وإنما يخطر بالبعض, وأنتم أوجبتم الشكر على الكل. سلمنا لزوم الخطور, لكن خوف العقاب على الترك معارض لاحتمال العقاب على الشكر, إما لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن المالك وهو محتمل للعقاب عليه, وإما لأنه كالاستهزاء كمن شكر ملكًا عظيمًا على لقمة بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أعظم, بل لا نسبة بينهما, وإذا كان كالاستهزاء فلا يأمن من العقاب بفعله. وقدح بعضهم في الدليل المذكور: بأن الكلام على التنزل, وحينئذ تمنع الملازمة؛ لجواب أن يكون الشكر لنفسه, كما أن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة [مطلوب] لنفسه.

حكم الأشياء قبل الشرع

سلمنا الملازمة, ونمنع بطلان التالي؛ لأن العقل لما استقل بإدراك حسن بعض الأفعال الموجب للثناء, فالعقل مستقل بإدراك الفائدة الأخروية. سلمنا, وذلك لازم عليكم في الوجوب الشرعي؛ لأنا نقول: لو وجب لوجب لفائدة ... إلخ. وأجيب: بأن نفس الشكر ليس فائدة لما مرّ, وليس المراد لوجب لفائدة زائدة بل أعم, وحصول المنفعة ودفع المفسدة نفسه فائدة. وعن المعارضة: بأن الوجوب الشرعي لا يستدعي غرضًا, ولو سلّم فالشرع الموجب مستقل بإدراكها, وهنا العقل لا يستقل بإدراكها, ويستحيل أن يوجب العقل شيئًا لفائدة لا يعلمها. قال: (الثانية: لا حكم فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح. وثالثها لهم: الوقف عن الحظر والإباحة. وأما غيرها فانقسم عندهم إلى خمسة, لأنها لو كانت محظورة وفرضنا ضدين لكلف بالمحال. الأستاذ: إذا ملك جواد بحرًا لا ينزف, وأحب مملوكه قطرة, فكيف يدرك تحريمها عقلًا؟ . قالوا: تصرف في ملك الغير. قلنا: ينبني على السمع. ولو سلّم, ففي من يلحقه ضرر ما. ولو سلّم, فمعارض بالضرر الناجز. وإن أراد المبيح ألا حرج, فمسلّم.

وإن أراد خطاب الشارع, فلا شرع. وإن أراد حكم العقل بالتخيير, فالفرض أنه لا مجال للعقل فيه. قالوا: خلقه وخلق المنتفع به, والحكمة تقتضي الإباحة. قلنا: معارض بأنه ملك غيره, وخلقه ليصبر فيثاب, وإن أراد الواقف أنه وقف لتعارض الأدلة, ففاسد. وإن أراد أنه وقف لتوقف الحق فيه على السمع, فهو حق). أقول: الثانية في حكم أفعال العباد قبل الشرع. وقد قسّم المعتزلة الأفعال الاختيارية لا الاضطرارية - كالتنفس في الهواء فإنه مقطوع بإباحته عندهم - إلى ما لا يهتدي العقل فيه إلى حسن ولا قبح. ولهم فيه ثلاثة مذاهب: الحظر, والإباحة, والوقف. وما يقضي العقل به بحسن أو قبح ينقسم عندهم إلى الخمسة؛ لأنه إن اشتمل أحد طرفيه على مفسدة, بأن كل المشتمل فعله, فحرام. وإن كان المشتمل تركه, فواجب. وإن لم يشتمل عليها بل اشتمل على مصلحة, فإن كان المشتمل فعله

فمندوب, وإن كان المشتمل تركه فمكروه, وإن لم يشتمل على مصلحة ولا مفسدة فمباح. قلت: لم تظهر هنا فائدة للتنزل؛ لأن ما يقضي العقل فيه بحسن أو قبح لم يتكلم المصنف على إبطال مذهبهم فيه بعد تسليم الحسن والقبح, وما لا يقضى فيه بحسن ولا قبح لا أثر للتنزل أيضًا فيه, لأنهم ما بنوه على التحسين والتقبيح, ضرورة أن العقل / لا يقضي فيه بحسن ولا قبح, فلم يحكم فيه حكمًا تابعًا للحسن والقبح, وإنما حكم لأمر آخر. إما للحظر, فأخذًا بالاحتياط والأشد استبراء للنفس. ومن أباح قال: لو حرمه لنصب عليه دليل عقلي أو شرعي. والواقف لتعارض الأمرين, وهذا أمر لا شك فيه؛ لأن الفرض أنها مما لا يقضي العقل فيها بحسن ولا قبح, ولا يلزم ألا يقضي فيها بحرمة؛ لأن التحريم ليس بملزوم للقبح عندهم, وروي أيضًا الوقف عن الأشعري. ولأصحابنا المالكية الأقوال الثلاثة فيما لا مستند له من كتاب ولا سنّة ولا إجماع. أما التحريم فأخذًا بالأحوط؛ لأن الله تعالى بّين الأشياء, فإهماله حكم هذا الشيء يكون عن قصد, فاجتراؤنا على الإقدام عليه لا يقتضيه الشرع.

وأما الإباحة؛ فلأنها لو حرمت لبّين تعالى ذلك, إذ يبعد تحريم شيء من غير بيان. وأما الوقف؛ فلأن الله تعالى قال: {أحل لكم} , وقال: {حرم عليكم} , فلو كانت على الحظر ما قال: حرّم عليكم, ولو كانت على الإباحة ما قال: أُحلّ لكم. احتج المصنف على القائل بالحظر فيما لا يقضي العقل فيه: بأن الأفعال لو كانت محظور وفرضنا ضدين يمتنع الخلو عنهما كالحركة والسكون, لزم التكليف بالمحال, بيان اللزوم؛ أن العقل إذا لم يقض في الحركة ولا في السكون وقلنا بالحظر, كان كل من الحركة والسكون حرامًا, فالتكليف بتركهما تكليف بالمستحيل, إذ لا يمكن تركهما, والتكليف به قبيح لذاته, وفي إطلاق الضدين على المذكور مسامحة, ثم لهم أن يقولوا في ضدين لا واسطة بينهما بحكم العقل بإباحة أحدهما قطعًا, وأيضًا: لا يلزم من انتفاء

المجموع المركب من كونها محظورة ومن ضدين كما ذكر انتفاء كونها محظورة, لجواز أن يكون انتفاء المجموع بانتفاء الضدين, لا يقال: فرض الضدين كما ذكر ممكن, ولذلك قال: وفرضنا ضدين, فلو كانت محظورة لزم إمكان التكليف بالمحال لأنا نقول: فرضها كما ذكر ممكن ذهنًا, ولا نسلم أنه ممكن في الخارج بحيث لا يستلزم محال. سلمنا أنه ممكن في الخارج بحيث لا يستلزم محال. سلمنا, ولا نسلم إمكان التكليف بالمحال قبيح عقلًا, إذ لا استحالة في إمكان أن يقال لشخص في زمان واحد تحرك واسكن, والقبيح هو التكليف به لا إمكان التكليف به. احتج الأستاذ على القائلين بالحظر بما لا يفيد إلا استبعاده وهو: أن من ملك بحرًا لا ينزف أي لا يذهب ماؤه, وكان جوادًا, واحتاج مملوكه إلى قطرة من ذلك البحر, فكيف يتصور منع الجواد ذلك المملوك من تلك القطرة, فالجواد المطلق أولى, وهو من قياس الغايب على الشاهد. ولقائل أن يقول: لا نسلّم أنه لا يدرك عقلًا تحريمه, ولا يلزم منه القبح حتى يخرج عن محل النزاع. احتجوا: بأن مباشرة الأفعال المذكورة تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيكون حرامًا, كما في الشاهد, أو عقلًا ولا يلزم قبحه كما مرّ. أجاب: بأن التصرف في ملك الغير حرام عقلًا ممنوع, ولولا ورود السمع به ما علم, ولا يستقيم هذا المنع على التنزيه, ولا يلزم من الحرمة القبح, ولو سلم أنه حرام عقلًا / ففي من يلحقه ضرر ما بالتصرف في ملكه ولذلك لا يقبح النظر في مرآة الغير, وشم عطره, والاستظلال بجداره,

والاصطلاء بناره, والله تعالى منزه عن الضرر, ولو سلّم أنه حرام عقلًا مطلقًا لجواز تضرر المتصرف آجلًا, فمعارض بما في المنع من الضرر الناجز ودفعه عن النفس واجب عقلًا, مع أن اعتبار الحاضر أولى. لا يقال: فرض تضرره في الحال يصيرها مما يقضي العقل فيها بقبح, فيخرج عن محل النزاع. لأنا نقول: المراد بالضرر الناجز جوازه لا الجزم بتحقق الضرر الناجز؛ لأن العقل وإن لم يجزم فيها بقبح لكن لا يجزم بعدم احتمال الضرر الناجز. ثم استفسر المصنف المبيح فقال: إن أردت لا حرج في الفعل ولا حرج في الترك فمُسلّم, إذ الحرج إنما يحصل من الشرع ولا شرع, وإن أردت خطاب الشرع بذلك, فالفرض أنه مما لا يحكم العقل فيه بحسن ولا قبح في حكم الشارع, وذلك معنى عدم حكم العقل بحسنه أو قبحه, وقد فرضته كذلك فيتناقض, هذا على النسخ التي فيها «وإن أراد خطاب الشارع فالفرض أنه لا مجال للعقل فيه» , وعلى النسخ التي فيها «وإن أراد خطاب الشرع فلا شرع» , أي وإن أراد الإذن الشرعي فلا إباحة قبل الشرع, إذ لا شرع, وإن أراد بالإباحة حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك فلا إباحة أيضًا, إذ الفرض أنه من الأفعال التي لا مجال للعقل فيها.

وفيه نظر على النسختين معًا؛ إذ لا يلزم من كونه لا مجال للعقل فيه بحسن أو قبح ألا يحكم فيه بالإباحة. احتج المبيح: بأن الله تعالى خلق العبد وخلق ما ينتفع به, فالحكمة تقتضي إباحه له, تحصيلًا للمقصود من خلقهما, وإلا كان عبثًا. أجاب: بالمعارضة بأنه ملك الغير فيحرم, وأيضًا لا يلزم من عدم الإباحة عبث؛ لأنه ربما خلقها ليشتهيها فيصبر عنها فيثاب عليها. واعلم أن المعارض مرفوعة بما تقدم, مع أنها تنافي تسليم المصنف الإباحة بمعنى لا حرج, وإنما قال: فالحكمة تقتضي الإباحة, توهمًا أنه لو قال: فالفعل يقتضي الإباحة, خرج عن موضوع المسألة, ولسي كذلك لما عرفت. ثم استفسر القائل بالوقف, فقال: إن توقف على الحكم لتوقف الحكم على السمع فهو حق, وإن توقف لتعارض الأدلة ففاسد, لأنا تبينا بطلانها فلا تعارض. والحق أن الوقف لتوقف الحكم على السمع باطل, إذ الحكم قديم فلا يتوقف تعلقه على البعثة, نعم الوقف لتوقف العلم صحيح؛ إذ للواقف أن يقول: أردت أن ثمَّ حكمًا بأحدهما في نفسه, فالبعض مباح والبعض محظور ولا أدري أيهما هو الفعل المعني.

الحكم الشرعي

قال: (خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين, فورد {والله خلقكم وما تعملون} فزيد بالاقتضاء, أو التخيير. فورد كون / الشيء دليلًا وسببًا وشرطًا, فزيد أو الوضع, فستقام. وقيل: بل هو راجع إلى الاقتضاء والتخيير. وقيل: ليس بحكم وقيل: الحكم خطاب الشارع بفائدة شرعية تختص به, أي لا تفهم إلا منه؛ لأنه إنشاء فلا خارج له). أقول: لما كان الحاكم هو الشارع, فالحكم هو الشرعي, والكلام في تعريفه, وأقسامه, ومسائل تتعلق بأقسامه. أما تعريفه, فقال الغزالي: «إنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين». وعرّف المتقدمون الخطاب بأنه: الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيئ لفهمه, وعرّفه قوم: بأنه ما يقصد به الإفهام, أعم من أن يكون من قصد إفهامه متهيئًا أم لا. قيل: والأولى أن يفسد بمدلول ما يقصد به الإفهام؛ لأن الكلام عند

الأشعري هو النفسي, والنفسي لا يقصد به الإفهام. وفيه نظر؛ لأن قصد الخطاب مع النفس أو الغير, فصل الكلام النفسي عن العلم. فقوله: (خطاب) كالجنس البعيد, وبإضافته إلى الله تعالى خرج خطاب العبد, وما ثبت بالنسبة أو بالإجماع إنما وجب بإيجاب الله, والرسول صلى الله عليه وسلم والإجماع كاشفان عن ذلك ومعرفان له. وقوله: (المتعلق بأفعال المكلفين) يخرج خطابه المتعلق بذاته وصفاته, والألف واللام في المكلفين ليست للعموم, يتناول ما لا يعم من الأحكام كخواص النبي صلى الله عليه وسلم, وما هو حكم لبعض دون بعض. فورد على طره مثل: {والله خلقكم وما تعملون} فإنه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين وليس بحكم.

فزيد في الحدّ بالاقتضاء أو التخيير ليندفع النقض؛ لأن {والله خلقكم وما تعملون} ليس فيه اقتضاء ولا تخيير, وإنما هو إخبار, فورد بسبب ازدياد القيد المذكور عدم الانعكاس بخروج الأحكام الوضعية, ككون الشيء دليلًا كدلوك الشمس للصلاة, وسببًا كالزنا للحدّ, وشرطًا كالطهارة للبيع, فإنها أحكام لا اقتضاء فيها ولا تخيير. ولما اعترف بعض الأصوليين يورود هذا, زاد في الحدّ أو الوضع, فاستقام الحدّ. فالحكم المحدود هو المتعلق أحد التعلقات؛ لأن المحدود أنواع للحكم [لا يمكن] حدّها بحد واحد, فـ «أو» للتفصيل, بالاقتضاء جزء لأحد الحدّين, والتخيير جزء للآخر, والوضع جزء للآخر.

وبعضهم صحح الحدّ بدون هذه الزيادة, فمنهم من منع خروجها عن الحدّ, ومنهم من منع كونها من المحدود, أما من منع خروجها؛ فلأن كون الدلوك دليل على دخول وقت الصلاة يرجع إلى الوجوب؛ إذ معناه أن الله تعالى أوجب الصلاة عنده؛ لأنه جعله دليل اقتضاء للعمل به, وجعل الزنا سببًا لوجوب الحدّ هو إيجاب الحد عنده, وجعل الطهارة شرطًا لصحة البيع جواز الانتفاع بالمبيع عندها وحرمته / دونها, فيرجع إلى الإباحة. والمراد بالاقتضاء أو التخيير ما هو أعم من الصريح والضمني, والوضعي من الضمني, ومن منع كونها من المحدود قال: إنها علامات للحكم, أي يكون الحكم عندها, فلو زيد في الحدّ ما ذكر لاختل الطرد. واعلم أن المراد من الخطاب هنا هو القديم؛ لأنه عرّف به الحكم, والحكم ليس بلفظ. قيل: منع كون هذه الأشياء من المحدود أولى من ادعاء رجوعها إليه؛ لأن كون سببية الدلوك عبارة عن وجوب الصلاة عنده؛ وكون البيع صحيحًا عبارة عن الانتفاع بالمبيع بعيد, مع أن إباحة الانتفاع قد تختلف عن البيع الصحيح, كالبيع بشرط الخيار لهما, فإنه صحيح ولا يباح الانتفاع. قلت: وفيه نظر؛ لأن ما يجب المسبب به أو عنده, فتفسير سببية الدلوك للصلاة بوجوب الصلاة عنده لا بُعْدَ فيه.

والصحة عبارة عن استنباع الغاية من البيع بإباحة الانتفاع بالمبيع في الحال أو بعده, فلا بُعْدَ أن يراد بصحة البيع إباحة الانتفاع, ولا يرد بيع الخيار نقضًا؛ لأن فيه إباحة الانتفاع في ثاني حال. قيل: الحكم الشرعي ما استفيد من الخطاب لا نفس الخطاب, فلا يعرف به, وفيه نظر؛ لأن الأحكام الخمسة أعني: الإيجاب والتحريم وباقيها هي كلماته النفسية, وليس الخطاب إلا ذلك, والوجوب والحرمة ليس بحكم, وإن أطلقوه عليه فهو على تساهل منهم. واعترض المعتزلة الحدّ المذكور: بأن خطاب الله عندكم قديم والحكم حادث, فلا يعرف به, وإنما قلنا إنه حادث؛ لأنه يوصف بالحادث, فإنّا نقول: حلت بعد أن لم تحل, فالحكم الذي هو الحل موصوف بأنه حاصل بعد أن لم يكن حاصلًا, وهو معنى الحادث, والقديم لا يوصف بالحادث. [وأيضًا]: يوصف به فعل العبد, فيقال: هذا وطء حلال, أي ذو حلٍ, وفعل العبد حادث, فالصفة أولى. وأيضًا: الحكم يعلل بفعل العبد, كقولنا: حلّت بالنكاح وحرمت بالطلاق, ما كان معللًا بالحادث الذي هو النكاح والطلاق اللذان هما فعل

العبد, أولى أن يكون حادثًا. وأيضًا: لا ينعكس بخروج الحكم بضمان الصبي لكونه غير مكلف. والجواب: لا نسلم أن الحكم يوصف بالحادث, بل الحادث تعلق الحكم إذ معنى حلّت بعد أن لم تحل: تعلق الحلّ بعد أن لم يتعلق, ولا يلزم من حدوث لا تعلق حدوث المتعلق الذي هو الحكم. ولا نسلم أن الحكم في قولنا: وطء حلال, صفة لفعل العبد, بل الحكم متعلق به؛ إذ معناه: هذا وطء تعلق الحلّ به, ولا يلزم من تعلق الشيء بالشيء كونه صفة له, ومعنى كونه حلالًا: كونه مقولًا فيه إني رفعت الحرج / عن فاعله. فالمتعلق قديم وتعلقه ومتعلقه حادثان, كالقول المتعلق بالمعدوم, كما يقال: شريك الإله ممتنع, فإن هذا القول متعلق بمعناه الممتنع في الخارج, وليس صفة لمعناه, وإلا لزم قيام الصفة الوجودية بالممتنع مع أن ما يقع صفة للحادث بواسطة ذو لا يجب أن يكون حادثًا, إذ يقال: العبد ذو ربّ, ولا نسلم أن الحكم معلل بفعل العبد, بل هو معرّف له, كالعلم الحادث المعرَّف للصانع القديم. قال بعض الشراح: هذا تسليم أن قدم الخطاب يستلزم قدم الحكم وهو ممنوع؛ لأن الحكم هو الخطاب المقيدة بهذه القيود لا الخطاب وحده,

ولا يلزم من قدم الجزء قدم الكل؛ لأن المراد بقولنا المتعلق بأفعال المكلفين: أنه خطاب من شأنه أن يتعلق بأفعال المكلفين؛ لأنه متعلق بالفعل بجميع أفعالهم, وإلا لم يوجد حكم أصلًا. وإذا كان المراد كذلك لم يكن حادثًا وإلا لزم حدوث قدرة الله تعالى وعلمه, إذ من شأنهما التعلق بالمقدور والمعلوم الحادثين, ولا نسلم أيضًا أن معنى تعلق الضمان بالصبي أنه مطلوب به, بل معناه تكليف الولي بالأداء من مال الصبي. قيل: جعل الشيء ونحوه سببًا إنما يثبت بالإخبار, كقوله: جعلت الدلوك سببًا, والوضوء شرطًا فحينئذ يكون سابقًا على الإخبار؛ لأن شرط صحة الإخبار عن الشيء كونه سابقًا, يريد فلا يدخل تحت الحكم الذي هو قديم. وردّ: بأن الصيغة وإن كانت صيغة إخبار لكن المعنى إنشاء, فلا يتوقف على السبق كصيغ العقود, وقول بعض الشراح: يجوز أن يجعله الشارع سببًا ثم يخبر عنه فاسد؛ لأن خبره تعالى قديم. قال الآمدي: «والأولى أن يقال في حدّ الحكم الشرعي: إنه خطاب الشارع بفائدة شرعية» , فخطاب الشارع احتراز من خطاب غيره, والقيد الثاني احتراز من خطابه بفائدة عقلية. وأورد عليه المصنف في المنتهى: أن الفائدة إن فسرت بمتعلق الحكم

فدور وإضمار لا دليل في اللفظ عليه, وإلا ورد على طرده الإخبار بما لا يحصى من المغيبات, مثل: {ألم غلبت الروم} , فزيد تختص به, أي لا تحصل إلا منه ولا دور؛ لأن حصول الشيء غير تصوره. فتصور الفائدة سابق, وحصولها متأخر عن الحكم, والخبر لما كان له معنى ثابت في النفس, ولفظ يدل عليه, ومتعلق لذلك المعنى يشعر بوقوعه في الخارج, فإن كان مطابقًا فصدق وإلا فكذب, فهو إذًا مما يمكن علم وقوع متعلقه بغير الخبر؛ لأنه لما كان شرط صحة الإخبار عن شيء كونه سابقًا, على أن الإخبار كان بكل خبر خارجي سابق تحقيقًا أو تقديرًا, ولهذا احتمل الصدق والكذب بمطابقته للخارجي وعدم مطابقته له, على أن الخبر / الكاذب يجوز ألا يكون مسبوقًا بخارجي, وأما الإنشاء نحو: (فعل) فلا خارج له عن النفس يراد إعلامه, إنما يراد به إعلام النفس الذي هو الطلب, لأن الإنشاء هو المقتضي لوجود معناه بخلاف الخبر, فالإنشاء لا يعلم إلا بالتلفظ باللفظ الدال عليه توقيفًا فمثل: {ولله على الناس حج البيت} , {كتب عليكم الصيام} متردد بين كونه حكمًا أو خبرًا. قيل: قيد يختص به مستغنى عنه؛ لأن وصف الفائدة بالشرعية يشعر بأنه إلا تحصل إلا من الشرع, وفيه نظر.

أقسام الحكم

قال في المنتهى: ويرد عليه: {نعم العبد} , {فنعم الماهدون}. ويمكن أن يقال: يمكن أن تعلم الفائدة التي دلّت عليها الآتيان من غير الخبر. قيل: يرد عليه مثل «صلوا كما رأيتموني أصلي»؛ لأنه يتحصل من فعله, فلا يكون حكمًا. ردّ: بأن الحكم الذي هو الإيجاب لا يفهم إلا من صلّوا, والمفهوم من فعله كيفية الصلاة الواجبة, أو نقول: هو كاشف للحكم؛ لأنه حكم, على أن الفائدة ليست هي الحكم وإلا لزم الدور, بل هي ما يكون الشيء به أحسن حالا. قال: (فإن كان طلبًا لفعل غير كف, ينتهض تركه في جميع وقته سببًا للعقاب, فوجوب. وإن انتهض فعله خاصة للثواب, فندب. وإن كان طلبًا لكف عن فعل, ينتهض فعله سببًا للعقاب, فتحريم.

ومن يسقط غير كفّ في الوجوب يقول: طلبًا لنفي فعل في التحريم. وإن انتهض تركه خاصة للثواب, فكراهة. وإن كان تخييرًا, فإباحة. وإلا, فوضعي. وفي تسمية الكلام في الأزل خطابًا خلاف). أقول: لما فرغ من تعريف الحكم شرع في تقسيمه. والحكم إما طلب أو لا, والطلب لا يكون إلا بفعل؛ لأن العدم غير مقدور, والفعل إما كف أو لا, وعلى التقديرين فالإتيان به يكون سببًا للثواب لأنه طاعة, وأما تركه في جميع وقته فقد يكون سببًا للعقاب وقد لا, فهذه أربعة أقسام: - فإن كان طلب الفعل غير كف ينتهض تركه في جميع وقته سببًا للعقاب فوجوب, بالطلب يخرج التخيير والوضعي, وغير كف يخرج الحرمة والكراهة؛ لأنهما فعل هو كف على رأي من يقول الكف فعل؛ لأن الطلب عنده لا يكون إلا بفعل وقوله: (ينتهض تركه سببا للعقاب) أي يصير تركه سببًا لاستحقاق العقاب, لا لثبوت العقاب, لجواز العفو, فيخرج الندب. وقال: (في جميع وقته) ليدخل الواجب الموسع؛ لأن تركه في الوقت

لا ينتهض سببًا للعقاب, نعم تركه في جميع الوقت ينهض سببًا للعقاب, ولا يرد الصوم لأن جزءه النية وهو فعل, ولا يكون طلب كف. (واعلم أن الحكم خطاب الله, فالإيجاب نفس قوله: [افعل] , وليس للفعل منه صفة [حقيقية] , فإن القول ليس لمتعلقة منه صفة لتعلقه بالمعدوم, فإذا نسب إلى الحاكم سمي إيجابًا, وإذا نسب إلى ما فيه الحكم [وهو الفعل] سمي وجوبًا, وهما متحدان بالذات متغايران / بالاعتبار, فلذلك يجعلون مرة أقسام الحكم الإيجاب والتحريم, وتارة الوجوب والحرمة, وتارة الوجوب والتحريم كما فعل المصنف) - وإن كان الحكم طلبًا للفعل غير كف ينتهض خاصة سببًا للثواب, أي لاستحقاق الثواب, فندب. وقال: (خاصة) ليعلم أنه لا يترتب على تركه شيء, فيخرج الوجوب. - وإن كان الحكم طلبًا لكف عن فعل ينتهض فعل ذلك الشيء سببًا لاستحقاق العقاب, فتحريم. فقوله: (طلب) يخرج التخيير والوضعي, وقوله: (غير كف) يدخل التحريم والكراهة.

[وقوله]: (ينتهض فعله سببًا للعقاب) أي لاستحقاق العقاب, يخرج الكراهة, ومن يسقط غير كف في الوجوب ويرى أن يكون لفعل ويكون لعدم الفعل, يقول في التحريم: طلب نفي الفعل, ويريد بنفي الفعل عدمه ليخرج الكف. - وإن انتهض الكف خاصة للثواب, فكراهة. وقال: (خاصة) ليخرج التحريم؛ لأن فعله ينتهض سببًا للعقاب, فعلم أن فعل المكروه لا يترتب عليه شيء. - أما غير الطلب, فإن كان تخييرًا بين الفعل والترك فإباحة, وإلا فخطاب وضع, وبهذا التقسيم يعرف رسم كل قسم منها. واعلم أن وجوب الكف في كف نفسك يرد على حد الوجوب ويرد على حد التحريم, والحق أن إيجاب الكف تحريم للفعل, فلابد من اعتبار الإضافة فيها بأن يقال: الطلب إما أن يعتبر من حيث تعلق بالفعل, أو من حيث تعلق بالكف عنه, بأن حمل عليه كلامه, بقي قوله: غير كف غير محتاج إليه. واختلف الأصوليون في تسمية الكلام في الأزل خطابًا, وهو لفظي ينبني على تفسير الخطاب؛ فمن قال: الخطاب الكلام الذي يقصد به

الوجوب

الإفهام سمى الكلام في الأزل خطابًا؛ لأنه يقصد به الإفهام في الجملة, ومن قال: هو الكلام الذي يقصد به إفهام من هو متهيء للفهم لا يسميه في الأزل خطابًا, وينبني عليه أن الكلام حكم في الأزل, أو يصير حكمًا. قيل: وعلى هذا يجب أن يحمل الكلام على اللفظي لا النفسي؛ لأن الكلام النفسي لا يقصد به الإفهام, ولا يقع به التخاطب, وفساده ظاهر ويجب أن يفسر الخطاب لمدلول يقصد به الإفهام, إذ الكلام عند الأشعري النفسي لا اللفظي, وفيه ما مرّ, وكل من عرّف الحكم بخطاب الله, وقال: إن الحكم قديم, يلزمه أن يكون في الأزل خطابًا. قال: (الوجوب الثبوت والسقوط. وفي الاصطلاح: ما تقدم, والواجب الفعل المتعلق للوجوب, وما يعاقب تاركه مردود بصدق إيعاد الله, وما يخاف مردود بما يشك فيه. وقال القاضي: ما يذم تاركه شرعًا بوجه ما, وقال: بوجه ما, ليدخل الواجب الموسع والكفاية, حافظ على عكسه فأخل بطرده, إذ يرد الناسي والنائم والمسافر, فإن قال: يسقط الوجوب بذلك, قلنا: ويسقط بفعل البعض. والفرض والواجب مترادفان. الحنفية: الفرض / المقطوع به, والواجب المظنون).

أقول: الوجوب لغة: الثبوت, ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا وجب المريض فلا تبكين باكية» , أي: إذا ثبت وزال عنه الاضطراب, والوجوب أيضًا السقوط, قال الله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت. وفي الاصطلاح ما تقدم, وهو: خطاب بطلب فعل غير كف ينتهض

تركه في جميع وقته سببًا للعقاب, والواجب هو الفعل الذي تعلق به الوجوب, فهو فعل غير كف, فينتهض تركه في جميع وقته سببًا للعقاب, ومنه تعلم حدّ الأقسام الأخر ومتعلقاتها. ثم ذكر للواجب رسوما مزيفة, على أن الامدي إنما ذكرها رسوما للوجوب, ثم اعترضها بأنها تصلح رسوما للفعل الذي هو الواجب, لا الحكم الذي هو الوجوب. الأول: ما يعاقب تاركه, وهو غير منعكس, لخروج الواجب الذي عفي عنه تاركه. ونقل الآمدي هذا الرسم: ما يستحق تاركه العقاب على تركه وهو على هذا منعكس؛ لأن متروك من عفي عنه يستحق على تركه العقاب؛ إذ لو عوقب كان ذلك ملائمًا لنظر الشارع, وهو معنى الاستحقاق على الترك, ولا يرد هذا على الحدّ المختار؛ لأن الترك وإن كان سببًا, لكن يجوز تخلف العقاب لمانع. الثاني: ما أوعد بالعقاب على تركه ليندفع الإيراد, وردًّ: بأن إيعاد الله خبره, وخبره صدق فيستلزم العقاب على الترك ويعود [الإيراد]. لا يقال: لا نزاع في أن الواجب أوعد بالعقاب على تركه, فهذا الرد إنما يجيء على مذهب المعتزلة في عدم جواز العفو؛ لأنّا نقول: ما جاء من

الظواهر في الوعيد فهي عمومات مخصوصة, فالمراد من العموم هو الذي أوعد من العقاب ولا يجوز العفو عنه لاستحالة الخلف في الخبر, ومن عفي عنه غير مراد من العموم, فليس وعدًا بالعقاب, فمتروك العفو عنه واجب وهو غير متواعد بالعقاب على تركه. الثالث: ما يخاف العقاب على [تركه]. وردّ: بأنه غير مطرد؛ لأن ما يشك في وجوبه ولا يكون واجبًا في نفس الأمر, يخاف العقاب على تركه. قيل: لا يتصور ما يشك في وجوبه؛ لأن المجتهد إن شك لعدم الدليل كان الحكم عدم الوجوب جزمًا, فينتفي الشك, وإن كان لتعارض الدليلين فعند من قال يتخير ينتفي الشك, وعلى الآخر تساقطا ويرجع إلى البراءة الأصلية, وجوابه: إن ذلك يتصور إذا قدم على الترك قبل بذل وسعه في طلب الحكم, ويكون مباحًا في الواقع. وقال القاضي أبو بكر: ما يذم تاركه شرعًا بوجه ما, [والمراد بالذم شرعًا نص الشارع به أو بدليله؛ إذ لا وجوب إلا بالشرع].

وقال: «بوجه ما» ليدخل الواجب الموسع وفرض الكفاية, إذ لا يذم تاركهما مطلقًا بل بوجه, أما الموسع فيذم إذا تركه في جميع وقته, وأما الكفاية فإنما يذم إذا تركه جميع المكلفين. قيل: تارك الظهر في جزء معين من الوقت ما ترك واجبًا, إذ ليست بواجبة به على الصحيح, فلا يحتاج إلى دخول الموسع. وأجيب: بأن القاضي يرى في الموسع أن الواجب الفعل أو العزم, فقال: يذم تاركه بوجه ما, إذا ترك الفعل والعزم. قال السهروردي: الذام إما أن يكون صاحب الشرع أو أهل الشرع, أما الأول فباطل؛ لأن الشرع ما نص على ذم كل تارك, وأما أهل الشرع فإنما يذمون من عملوا أنه ترك واجبًا, فذمهم موقوف على معرفتهم بالواجب, فلو عرّف به لدار, أجيب: بأن الذام الشارع بصيغ العموم, نحو: {فأولئك هم الظالمون} , {فأولئك هم الفاسقون} , ولأن التارك عاص, وكل عاص مذموم للأدلة العامة. سلمنا, ولا دور؛ لأن تصور الواجب موقوف على تصور الذم, [وتصور الذم من أهل الشرع] ليس موقوفًا على تصور الواجب, بل

حصوله هو المتوقف على تصور الواجب, فلا دور. قيل: إن أريد بيذم الذم بالفعل لم ينعكس؛ لتخلفه عن ما لم يشعر بالواجب ولم يمكنه ذلك, وإن أريد به على تقدير العلم به, فكذا ما يعاقب تاركه أي بتقدير عدم العفو, وإن أريد استحقاق الذم فكذا يجري فيما يعاقب تاركه, وأجيب: بأن المعنى أن الشارع يذمه, واستصحاب الشريعة يعطي أنه مذموم الآن فلهذا أتى بلفظ المضارع, أو أن أهل الشرع يذمونه. قال المصنف: (حافظ على عكسه فأخل بطرده) لدخول الصلاة التي تركها بالنوم أو بالنسيان, والصوم الذي تركه المسافر لأجل السفر, فإنه ليس بواجب مع أنه يذم بوجه ما, وهو ما إذا تمكن من القضاء ولم يقض إلى أن مات. لا يقال: لا يلزم من عدم وجوبها عليهم عدم وجوبها مطلقا؛ لأن المراد حدّ الواجب على المكلف. فإن قال القاضي: لا نسلم أن هذه الصلاة غير واجبة عليهم, إذ لا يلزم من عدم وجوب الأداء عليهم لسقوطه بالعذر عدم وجوبها مطلقًا. قلنا: وكذا في الكفاية يقال: يذم بتركه مطلقًا شرعًا أي يجب الذم إلا أنه يسقط [الذم] بفعل البعض الآخر, وإذا اعتددت بالوجوب الساقط في الفعل فلم لا تعتد بالوجوب الساقط في الذم, فلا حاجة إلى: بوجه ما. واعلم أن الحد يعطي أن الذم إنما هو سبب تركه, والذم للناسي والنائم

والمسافر إنما هو لترك الصلاة المذكورة الواجبة عليهم, لا على الترك مطلقًا, فلا يصدق الحد على متروكهم؛ لأن الذم من ترك القضاء لا الأداء, فهو سبب واجب آخر, فلا يرد عدم الطرد. قيل: يرد [المندوب] والمباح, والمكروه والمحظور؛ إذا تركه المكلف وارتكب محظورًا آخر, وكذا السنة إذا أصرّ على تركها, إلا أن يزاد: ما يذم تاركه من حيث هو تاركه. واختلف في الفرض والواجب, هل هما مترادفان أو متباينان؟ . فأما في اللغة فمتباينان؛ لأن الفرض التقدير {فنصف ما فرضتم} / والإنزال {إن الذي فرض عليك القرآن} , والإحلال {ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له} , والواجب: الثابت والساقط. وأما في الشرع, فعند الشافعية متردافان, إلا ما وقع لهم في كتاب الحج من التفرقة, وعند الحنفية, ووقع في المدونة ما يدل على أنهما

متباينان, قال فيها: فإن احتقن في فرض أو واجب. أما الشافعية فقالوا: لما كان الواجب ينتهض تركه في جميع وقته سببًا للعقاب, وهذا المعنى موجود في الفرض الشرعي, فهما متردافان. وقال الآخرون: اسم الفرض يخص ما كان مقطوعًا, واسم الواجب ما كان مظنونًا, إذ الفرض التقدير, والمظنون لا يعلم كونه مقدرًا علينا بخلاف المقطوع. قال الإمام: وهو تحكم, إذ الفرض هو المقدر, سواء مقطوعًا أو مظنونًا. وفيه نظر؛ فإن الوتر مثلًا لما لم يعلم تقديره, كيف يقال: إنه فرض مقدر؟ , والصلوات الخمس لما علم تقديرها علينا, كيف يقال: إنها ساقطة؟ , واتفاق أمرين في شيء لا يكفي في إطلاق اسم أحدهما على الآخر, والاستدلال على الترادف بقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج}

الأداء والقضاء والإعادة

أي أوجب ضعيف, والبحث لفظي. قال: (الأداء ما فعل في وقته المقدر له أولًا شرعًا. والقضاء: ما فعل بعد وقت الأداء استدراكًا لما سبق به وجوبه مطلقًا, أخَّره عمدًا أو سهوًا, تمكن من فعله كالمسافر, أو لم يتمكن لمانع شرعًا كالحائص, أو عقلًا كالنائم. وقيل: لما سبق وجوبه على المستدرك, ففعل الحائض والنائم قضاء على الأول لا الثاني, إلا في قول ضعيف. والإعادة: ما فعل في وقت الأداء ثانيًا لخلل, وقيل: لعذر). أقول: هذا تقسيم آخر للحكم؛ لأنه وإن كان تقسيمًا للفعل الذي هو الواجب, فهو في قوة قولنا: الوجوب إما أن يكون متعلقه قضاء, أو أداء, أو إعادة. واعلم أن الواجب ينقسم انقسامات باعتبار نفسه إلى: معين أو مخير, وباعتبار فاعله إلى: فرض عين وفرض كفاية, وباعتبار وقته إلى: مضيق وموسع, وإلى: أداء وقضاء, والمصنف ذكر أحكامها في مسائل:

الأولى: ويقع في بعض النسخ: مسألة الأداء, وكذلك في المنتهى في الأداء, والقضاء, والإعادة. واعلم أن العبادة إن لم يكن لها وقت معين, لم توصف بالأداء ولا بالقضاء كالأذكار, وإن كان لها وقت معين, فإن لم يكن [لها] وقت محدود, أو لا توصف بالأداء ولا توصف بالقضاء كالحج, وإطلاق القضاء على الحج المستدرك مجاز, من حيث إنه يشبه القضاء وإن كان محدودًا, وصفت بالأداء, والقضاء, والإعادة. فالأداء: ما فعل في وقته المقدر له [أولًا] شرعًا. فخرج ما لم يقدر له وقت كالنوافل, أو قدّر لا شرعًا كالزكاة يعين لها الإمام شهرًا, وما فعل في وقته المقدر له شرعًا ولكن غير الوقت الذي قدّر له أولًا كصلاة الظهر, فإن وقته الأول الظهر والثاني زمان ذكرها بعد النسيان, وأولًا معمول للمقدر لا الفعل, وإلا لزم خروج الإعادة عن الأداء.

والقضاء: ما فعل بعد وقت الأداء / استدراكًا لما سبق له وجوب مطلقًا, فما فعل بعد وقت الأداء يُخرج الأداء. قوله: (استدراكًا) يخرج ما أوتي به بعد وقت الأداء لا لقصد الاستدراك. وقوله: (لما سبق له وجوب) يخرج النوافل. وقوله: (مطلقًا) تنبيه على أنه لا يشترط الوجوب عليه, بل ما هو أعم من الوجوب عليه أو على غيره؛ لأن وجوب القضاء إنما يتوقف على وجود سبب وجوب الأداء, وهو الخطاب الموجب له في الجملة, فيخرج مذهب من يشترط وجوب القضاء على المستدرك, ثم لا فرق بين أن يكون أخَّره عن وقت الأداء سهوًا أو عمدًا, وسواء تمكن من فعله كالصوم للمسافر أو لم يتمكن من الفعل لمانع, إما شرعًا كصوم الحايض, أو عقلا كصلاة النائم. قلت: والظاهر أن قوله: (من الوجوب) زيادة, مع أن مانع الوجوب لا ينفي التمكن من الأداء كالصيام, وإنما دعاه إلى ذلك التنبيه على المذهب المختار, وهو أن الحيض مانع من الوجوب لا أنه مانع من الأداء, والأولى أن يقال: ما انعقد بسبب وجوبه ولم يجب لمانع عقلي أو شرعي, سواء تأخر

عمدًا أو سهوًا, وسواء كان قادرًا على فعله في وقته كالصوم للمسافر, أو غير قادر عليه إما شرعًا كصوم الحايض, أو عقلًا كصلاة النائم, فإنه إذا فعل بعد ذلك وقع قضاء. أو قيل: ما فعل بعد الأداء استدراكًا لما سبق وجوبه على المستدرك, والفرق بين التعريفين, أن فعل الحايض والنائم على هذا لا يسمى قضاء إلا مجازًا؛ لأنه لا يجب عليهما؛ لأن الوجوب وإن كان قائمًا إلا أن الإثم تخلف عنه لمانع, وهو قضاء على التعريف الأول إذ سبق له وجوب في الجملة. وقول المصنف: (إلا في قول ضعيف) هو لبعض المالكية, ولبعض

الشافعية, قالوا: الحائض مثلا يجب عليها الصوم, فهي ممن سبق الوجوب عليها, وإنما الحيض مانع من الأداء لقيام الموجب, وقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهو ضعيف؛ لأن جواز الترك مجمع عليه, وهو ينافي الوجوب عليها, وأيضًا: لو وجب مع المنع من الأداء, لزم تكليف ما لا يطاق. ولما كانت النوافل على مذهب المصنف لا تقضى, لم يصح إيراد قضاء النوافل المؤقتة عليه. واعلم أنه يرد عليه من صلَّى خارج الوقت يظن أن الوقت باق, فإنها ليست أداء ولا قضاء؛ لأنها ما أتى بها استدراكًا ولا إعادةً وهو ظاهر. والإعادة: ما فعل في وقت الأداء ثانيًا لخلل, وقيل: لعذر, فمن صلّى منفردًا ثم صلى مع جماعة, فصلاته إعادة على الثاني لا على الأول؛ إذ لا خلل فيها, وطلب الفضيلة عذر, قلت: ولو فسد القضاء فأعاده, أو صلًّى منفردًا صلاة خارج وقتها, ثم وجد جماعة فاتتهم تلك الصلاة وجمعوها

الواجب الكفائي

أعادها معهم, كان إعادة, ولا يتناوله الرسمان. قال: (الواجب على الكفاية على الجميع ويسقط بالبعض. لنا: أثم الجميع بالترك باتفاق. قالوا: سقط بالبعض. قلنا: استبعاد. قالوا: كما أمر بواحد مبهم أمر ببعض مبهم. قلنا: إثم واحد مبهم لا يعقل. قالوا: {فلولا نفر}. قلنا: يجب تأويله على المسقط جمعًا بين الأدلة). أقول: اختلفوا في الواجب على الكفاية, وهو ما كان مطلوبًا حصوله في / الواقع, وأمكن حصول الفرض منه بفعل البعض, هل هو واجب على جميع المكلفين أو على البعض؟ , واختلف القائلون بأنه

يجب على البعض, فقال بعض: يجب على بعضٍ أيَّ بعض كان. وقال بعضهم: إّنه واجب على البعض الذي يشهد ذلك الشيء, كصلاة الجنازة مثلًا. وقال بعضهم: هو واجب على بعض معين عند الله منكر عندنا. واختار المصنف المذهب الأول, واحتج عليه: بأنه لو كان واجبًا على بعض المكلفين, لما أثم جميع المكلفين بتركهم إياه, واللازم باطل, أما الملازمة: فلاستحالة تأثم المكلف بترك ما لا يكون واجبًا عليه, وأما بطلان التالي: فبالاتفاق. وقيل في تقرير المذهب المختار: الإيجاب على الجميع من حيث هو جميع لا على كل واحد, فإن الوجوب إذا تعين على كل واحد, فإسقاطه عن الباقي يكون رفعًا للطلب بعد تحققه, وذلك لا يكون إلا بالناسخ, ولا يلزم ذلك إذا قلنا: يجب على الجيمع من حيث هو جميع, إذ يلزم من إيجاب الحكم على جملة إيجابه على كل واحد, ويكون تأثيم الجملة من حيث هي جملة بالذات, وتأثيم كل واحد بالعرض.

وفيه نظر؛ فإن سقوط الأمر قبل الأداء كما يكون بالنسخ يكون بانتفاء علة الوجوب؛ لأنه وجب لمعنى, فإذا حصل ذلك المعنى انتفى الوجوب, فالسقوط ليس لفعل البعض, وإنما هو لانتفاء علة الوجوب, إلا أنه لما كان فعل البعض سببًا لانتفاء علة الوجوب, نسب السقوط إليه مجازًا. أو نقول على أصل أهل السنة: لا نسلم أن الرفع لا يكون إلا بخطاب جديد, لم لا يجوز أن ينصب الله عليه أمارة, وهنا قد جعل أداء بعضهم أمارة على سقوط الفرض عن الباقين؛ لأنه لو بقي التكليف به لكان تكليفًا بتحصيل الحاصل. احتج الآخرون بوجوه ثلاثة: الأول: أنه يسقط بفعل البعض, فلو وجب على الجميع لما سقط بفعل البعض, أما الملازمة: فإنه من المستبعد سقوط الواجب عن المكلف بفعل غيره. الجواب: أن دليل الملازمة استبعاد وهو لا يكون حجة, مع أنه لا استبعاد في الحقيقة, فإن السقوط لانتفاء علة الوجوب, ولو قال في بيان الملازمة: الواجب ما لا يسقط عن المكلف بفعل غيره كفرض العين وإلا لم يكن واجبًا, منع أن ما يسقط بفعل الغير لا يكون واجبًا, فإن الاختلاف في طريق السقوط لا يوجب الاختلاف في الحقيقة, فإن القتل الواجب بسبب الردة لا يخالف القتل الواجب بسبب القصاص في الحقيقة, مع أن أحدهما

يسقط بالعفو, ولا يسقط بالتوبة, والآخر بالعكس. قالوا ثانيًا: لو امتنع أمر بعض مبهم, لامتنع الأمر بواحد منهم, واللازم باطل, أما الملازمة: فلأنه لا مانع إلا الإبهام, وهو ملغى. أجاب: بالفرق, وهو أن إثم واحد غير معين لا يعقل, بخلاف الإثم بواحد غير معين فإنه معقول, فيصح أن يكون متعلقًا للوجوب, فليس المانع كونه غير معين فقط, بل المانع لزوم كون الإثم غير معين وهو غير معقول. وهذا الجواب إنما يتم لو كان مذهبهم إثم واحد بالترك, أما إذا كان مذهبهم أثم الجميع بالترك فلا, وهو كذلك, ويدل عليه قوله: (لنا: أثم الجميع بالترك باتفاق) , فحينئذ إن أراد تأثيمه بانفراده غير معقول فمُسلّم, وليس كذلك, وإن أراد تأثيمه / على تقدير تأثيم الجميع غير معقول, فممنوع. قالوا ثالثًا: قوله تعالى: {فلولا نفر} إلى آخرها, يدل على كون البعض مأمور بالتفقه في الدين الذي هو من فروض الكفاية, والبعض غير معين, وهو المطلوب. أجيب: بأن الدليل دلَّ على الوجوب على الجميع, والآية وإن كانت ظاهرة في الوجوب على البعض, لكن الظاهر يجب تأويله لأجل الدليل, فتحمل على غير ظاهرها جمعًا بين الأدلة, فتؤول بأنّ فعل الطائفة من الفرقة مسقط للوجوب عن الجميع, فيحمل النافر على المسقط.

الواجب المخير

قال: (مسألة: الأمر بواحد من الأشياء كخصال الكفارة مستقيم. وقال بعض المعتزلة: الجميع واجب. وبعضهم: الواجب ما يفعل. وبعضهم: الواجب واحد معين ويسقط به وبالآخر. لنا: القطع بالجواز, والنص دلَّ عليه. وأيضًا: وجوب تزويج أحد الخاطبين, واعتاق واحد من الجنس, فلو كان التخيير يوجب الجميع, لوجب تزويج الجميع, ولو كان معينًا بخصوص أحدهما امتنع التخيير). أقول: اختلفوا في الأمر بواحد مبهم من أمور معينة, هل هو مستقيم أم لا؟ , وإنما قلنا: من أمور معينة؛ لأن الأمر بمبهم من أمور مبهمة تكليف ما لا يطاق؛ ولهذا قال: (كخصال الكفارة)؛ لأنها أمور معينة. وأتى المصنف بهذه العبارة؛ لأنه لا يرى دخول الكلي الطبيعي في الوجود؛ فلهذا لم يقل: المأمور به في الواجب المخير واحد من الأشياء. واعلم أن الفقهاء ذهبوا إلى أن الواجب واحد من حيث هو أحدها, وهو المشترك المنكر في الأفراد, وإنما سقط الوجوب بالمعين لاشتماله على

الواجب, لا لأنه واجب, وهو مختار المصنف هنا, فقد وقع فيما فرَّ منه. وأطلق الجبائي, وابنه, وعبد الجبار, وجماهير المعتزلة, القول باقتضاء وجوب الجميع على التخيير. وقال أبو الحسن البصري: في هذا الخلاف بين من ذُكِرَ لفظي, وتابعه الإمام على ذلك, قال: «لأنهم يعنون بوجوب الجميع على التخيير: أنه لا يجوز الإخلال بجميعها, ولا يجب الإتيان بجميعها, وللمكلف اختيار أي واحد كان, وهذا مذهب الفقهاء». وفي كون هذه العناية رافعة للخلاف نظر؛ لأن منهم من يرى أنه إن ترك الجميع عوقب على كل واحد, وإن فعل الجميع أثيب على كل واحد, وإن فعل البعض سقط الفرض, وهذا غير مذهب الفقهاء؛ لأنه عندهم إنما يعاقب إذا ترك الجميع على ترك واحد, وكذا إذا أتى بالجميع إنما يثاب على

فعل واحد, إلا أن يقال: لما كان المعتبرون منهم كأبي هاشم, وابنه, وعبد الجبار قائلين بأنه إنما يثاب إذا فعل الجميع ثواب من أتى بواحد, ويعاقب عقاب من ترك واحدًا, حكم بأنه لا خلاف بين المعتزلة وبين الفقهاء في المعنى؛ إذ ذلك المذهب المخالف هو مذهب غير المعتزلة منهم, وإلى هذا المذهب أشار بقوله: (الجميع واجب) وهو محتمل لكل واحد من مذهبي المعتزلة. وذكر الباجي أن قول معظم أصحابنا: «إن الواجب واحد غير معين وللمكلف تعيينه بفعله». وقال ابن خويز منداد: «الجميع واجب». وذهب بعض المعتزلة إلى أن الواجب واحد معين عند الله, غير معين عندنا, والمكلف / لا يفعل إلا ذلك, فالواجب ما يفعله المكلف, وهذا تنسبه المعتزلة إلى أصحابنا, وأصحابنا ينسبونه إليهم.

وذهب بعضهم: إلى أن الواجب واحد معين عند الله تعالى غير معين عندنا, فإن فعله المكلف سقط الفرض, وإن فعل غيره وقع نفلًا يسقط الفرض, واحتج على مختاره بجوازه عقلًا, وبدلالة النص على وقوعه. أما الأول: فللقطع بأنه لا يمتنع أن يقول السيد لعبده: أوجبت عليك خياطة هذا الثوب, أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم, أيهما فعلت اكتفيت به, وإن تركت عاقبتك, فلا يتأتى دعوى إيجاب الجميع للتصريح بالتخيير والاكتفاء بالبعض, ولا عدم وجوب شيء منها للتصريح بالعقاب على ترك الجميع, ولا تعيين واحد لأجل التخيير. وأم الثاني: فلأن قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} يدل على كون المأمور به واحدًا لا بعينه. قيل: للخصم أن يمنع دلالة النص على كون الواجب أحدها لا بعينه, غاية ما في الباب أنه يدل على جواز الأمر بواحد من الأشياء, وبينهما فرق, فلا يقال: المطلوب هو ذلك؛ لأنه المذكور في صدر المسألة؛ لأنّا نقول: اتفق الكل على جواز الأمر بواحد من أشياء, وإنما اختلفوا في مقتضاه, فعند الفقهاء أنه يقتضي وجوب أحدها لا بعينه من حيث هو أحدها, وعند المعتزلة يقتضي وجوب الجميع.

والحاصل أن كلام المصنف إن حمل على ظاهره, كان التمثيل بخصال الكفارة ودعوى دلالة النص على المطلوب صحيحين, لكن يكون ما اختاره من مذهب الفقهاء غير مذكور, وإن حمل على أن الأمر بواحد من الأشياء يقتضي وجوب واحد لا بعينه من حيث هو أحدها, كان ما اختاره من مذهب الفقهاء مذكور, لكن تمثيله بخصال الكفارة وادعاؤه النص على الجواز غير صحيحين. واحتج أيضًا: بالحكم, وهو أن الإجماع على وجوب تزويج أحد الكفؤين الخاطبين بالتخيير, وعلى إعتاق واحد من الأرقاء بالتخيير في الكفارة, فلو كان التخيير يوجب الجميع, لوجب تزويجها منهما إذا خيرته أن ينكحها من أحدهما, ولوجب إعتاق جميع الرقاب في صورة الأمر بإعتاق واحد من العبيد على التخيير. قيل: لِمَ لا يجوز أن يتخلف المقتضي عن المقتضى لمانع عقلي أو شرعي. ثم قال: (ولو كان معينًا لخصوص أحدهما امتنع التخيير) لأن الواجب عينًا لا يجوز تركه, والتخيير يقتضي جوازه, ولأنه كان يلزم ألا يحصل الإجزاء بغيره مع القدرة عليه كسائر الأفعال. قيل: نمنع امتناع التخيير, بناء على سقوط الوجوب بالآخر, أو يكون الواجب ما يفعل.

أجيب: بأن التخيير بين شيئين يقتضي مساواتهما, والواجب وغيره لا يستويان. وردِّ: بأن المساواة في الحكم حاصلة على ذلك المذهب, لسقوط الوجوب بكل واحد منهما, والتخيير لا يستدعي المساواة في الحقيقة. والحق أنه لو كانا متساويين في سقوط الوجوب بكل واحد منهما, لم يكن لكون أحدهما واجبًا عينًا والآخر غير واجب معنى وكان مذهبًا ساقطًا. (قال المعتزلة: غير المعين مجهول ويستحيل / وقوعه, فلا يكلف به. والجواب: أنه معين من حيث هو واجب, وهو واحد من الثلاثة, فينتفي الخصوص, فيصح إطلاق اسم غير المعين عليه). أقول: احتج المعتزلة بوجوه: الأول: لو كان الواجب أحدها لا بعينه من حيث هو أحدها, لزم تكليف ما لا يطاق, واللازم باطل على ما سيأتي, أما الملازمة: فلأن غير المعين مجهول, وكل مجهول لا يكلف به؛ لأن شرط إمكان التكليف كون المكلف به معلومًا, وأيضًا: غير المعين يستحيل وقوعه؛ لأن كل ما وقع فهو معين, وما يستحيل وقوعه لا يكلف به, وإذا ثبت ذلك لزم وجوب الجميع, أو وجوب واحد معين. الجواب: لا نسلم أن غير المعين مجهول وأنه يستحيل وقوعه, إنما ذلك في غير المعين من كل وجه, أما في المعين في وجه دون وجه فلا؛ لأنه معين من حيث هو واجب, وهو مفهوم واحد من الثلاثة الحاصل في ضمن كل

واحد منها, فهو معين باعتبار كونه واجبًا, وبهذا الاعتبار يصح أن يكون معلومًا ويصح وقوعه, فيجوز التكليف به, وصح إطلاق اسم غير المعين عليه لأن كونه واحدًا من الثلاثة منع أن يكون معينًا, فانتفى عنه خصوصية كل واحد من الثلاثة, فصح إطلاق غير المعين عليه لانتفاء التعيين الشخصي, ولا يلزم كون الواجب غير معين [ولا أنه كلف بإيقاع غير المعين. وقد يقال في الجواب: إن أردتم أنه غير معين مطلقًا منع؛ لكونه معينًا] تعينًا جنسيا, [وإن أردتم غير معين تعينا شخصيًا سلّم, ولا نسلم امتناع التكليف بما هذا شأنه]. قيل عليه: المعين بالتعين الجنسي لا يتصور إلا في الأذهان, فيستحيل طلبه. وردّ: بأن المطلوب هو الواحد الوجودي الجزئي باعتبار مطابقته للحقيقة الذهنية, لا باعتبار ما كان به جزئيًا. وفيه نظر؛ لأنه ينافي كون الواجب المشترك, بل يقال: متى يستحيل طلبه دون الأفراد, وفي ضمنها الأول مُسلّم, والثاني ممنوع. قيل: الذي أوقعه معين, والواجب غير معين, فلا امتثال. ردّ: بأنه أوقع الواجب, وزيادة التعيين باختياره ذلك المعين.

[قال]: قالوا: لو كان الواجب أحدها لا بعينه مبهما, لوجب أن يكون المخير فيه واحدًا لا بعينه من حيث هو أحدها, فإن تعددا, لزم التخيير بين واجب وغيره, وإن اتحدا, لزم اجتماع التخيير والوجوب. وأجيب: بلزومه في الجنس, وفي الخاطبين, والحق أن الذي وجب لم يخير, والمخير فيه لم يجب لعدم التعيين, والتعدد يأبى كون المتعلقين واحدا, كما لو حرم واحدا وأوجب واحدا. أقول: قالوا ثانيًا: لو كان الواجب أحدها لا بعينه من حيث هو أحدها مبهمًا, لكان المخير فيه الجائز تركه واحدًا لا بعينه من حيث هو أحدها مبهما واللازم باطل, أما الملازمة: فلأن الكلام في الواجب المخير, فالواجب هو المخير فيه, وأما بطلان التالي: فلأن الواجب والمخير فيه إن تعددا لزم التخيير بين واجب وغيره, وذلك يرفع حقيقة الوجوب, وإن اتحدا, لزم اجتماع التخيير والوجوب, وهما متنافيان, وهذا الترديد مع تقرير الملازمة فيه قلق. أجاب أولًا: بالنقض, بأن ما ذكرتم لازم عليكم في تزويج البكر البالغة الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين, ولازم عليكم في إعتاق واحد من جنس أرقائه, فإن دليلكم بعينه يجري فيهما؛ لأن الواجب تزويجها من أحدها / لا بعينه, والواجب إعتاق أحدهما لا بعينه, ولما كان هذا الجواب إلزاميًا, مع أنه يمكنهم أن يقولوا: خص المذكور بالإجماع, فيبقى الدليل

معملا به فيما سواه, أشار إلى ما هو الحق عنده, وهو يصلح منعًا للملازمة, ويصلح منعا لبطلان التالي, بأن نقول: لا نسلم أنه لو كان الواجب أحدها لا بعينه, لكان المخبر فيه أحدها لا بعينه. قوله: لأن الكلام في الواجب المخير فيه, فالذي وجب هو الذي خير فيه نمنعه؛ لأن معناه: الواجب الذي خير المكلف في أفراده, لا الواجب الذي خير فيه, فإن أطلق ذلك كان مجازًا, إذ الواجب وهو المشترك لم يخير فيه لامتناع تركه, والمخير فيه وهي المعينات لم يجب واحد منها لعدم تعيين الشارع واحدًا منها للوجوب, وإن كان يتأدى به الواجب فما ذاك إلا لكونه في ضمنه, فيكون لعدم التعيين يتعلق بالمخير فيه, فظهر التعدد بين الواجب والمخير فيه, وذلك ينفي كون متعلق أحدهما هو متعلق الآخر, كما لو حرّم الشارع واحدًا وأوجب واحدًا, فإنَّ تعدد المتعلقين ينفي الاتحاد, إذ معناه أيهما فعلت حرم الآخر, وأيهما تركت وجب الآخر, والتخيير بين واجب وغير واجب بهذا المعنى جائز, إنما الممتنع التخيير بين واجب بعينه وغير واجب بعينه. أو نقول: نختار تعدد الواجب والمخير فيه؛ لأن الذي وجب لم يخير فيه, والمخير فيه لم يجب, وتعدد المتعلقان, وهما: الوجوب والتخيير, يأبى كون متعلقاهما وهو الواجب والمخير فيه واحدا, كما لو حرّم واحدا وأوجب واحدا, فإنَّ تعدد الوجوب والحرمة يأبى أن يكون الواجب والحرام واحدا, وحينئذ لا يلزم التخيير بين واجب بعينه وغير واجب بعينه؛ إذ التخيير بين

كل واحد من الثلاثة, وكل منها عينا غير واجب, والواجب واحد لا بعينه, ويصح على التقديرين تعلق لعدم التعيين بقوله وجب. قال: (يعم ويسقط, وإن كان بلفظ التخيير كالكفاية. قلنا: الإجماع ثمة على تأثيم الجميع, وهنا بترك واحد. وأيضًا: فتأثيم واحد لا بعينه غير معقول, بخلاف التأثيم بترك واحد من الثلاثة). أقول: احتجوا ثالثًا لإثبات المذهب الأول: بأنه يجوز أن يعم الوجوب عدد من العبادات كالمذكور, ويسقط الوجوب بأداء واحدة منها كالكفاية, فإن الوجوب عم الكل وسقط عنهم بفعل البعض, والجامع العموم لمتعدد مع السقوط بالبعض, وورود النص بالتخيير لا ينافي عموم وجوب الجميع والسقوط بالبعض, فلا يصلح فارقًا, كما قرر بعضهم: أن فرض الكفاية عمّ فيه الوجوب بلفظ التخيير فكان جامعًا, على أنه ظاهر المنتهى. أجاب بالفرق من وجهين: الأول: أنّا إنما قلنا بالوجوب على الجميع في الكفاية للإجماع على تأثيم الجميع إن تركوه, ولا يأثم أحد بترك غير الواجب, فلذلك قلنا: بالوجوب على الكل, وها هنا إنما يأثم المكلف إذا ترك الجميع إثم من ترك واجبًا واحدًا لا من ترك واجبات, فلا يكون الكل واجبًا, وهذا إنما ينهض على مذهب الجمهور منهم كما تقدم, فيكون إجماع الخصمين ويبعد جعله استئنافًا؛ لأنه صرح في المنتهى بخلافه.

الفرق الثاني: أنّا إنما قلنا: ثمّ بالوجوب على الجميع؛ لأنه لو وجب ثمّ على بعض غير معين, لكان الإثم بعضا غير معين, وإثم واحد غير معين لا يعقل, بخلاف التأثيم بترك واحد غير معين فإنه معقول. قيل على الفرق الأول: التأثم بترك الجميع؛ لأن من ترك الجميع أثم, ومن ترك واحدا من الثلاثة لم يأثم. قلت: وفيه نظر؛ لأنه إن ترك أحدها فيأثم, لا لكونه ترك الجميع, بل لاستلزامه ترك أحدها. قال: (قالوا: يجب أن يعلم الأمر الواجب. قلنا: يعلم حسب ما أوجبه, وإذا أوجبه غير معين, وجب أن يعلمه غير معين. قالوا: علم ما يفعل, فكان الواجب. قلنا: فكان الواجب لكونه واحدا منها لخصوصه, للقطع بأن الخلق فيه سواء). أقول: احتجوا رابعًا: وهو يصلح لمذهب الجمهور منهم, ويصلح لمن قال: الواجب واحد معين عند الله تعالى - وتقريره: لو كان الواجب أحدها لا بعينه, لزم أن يعلمه الآمر, لامتناع إيجاب شيء مع الجهل به, واللازم باطل؛ لأن ما ليس بمتعين غير معلوم, ضرورة أن كل معلوم متعين. أجاب: بمنع بطلان التالي.

قوله: ما ليس بمتعين غير معلوم, ممنوع إن أراد أنه غير معلوم بوجه؛ لأنه متعين من حيث هو واجب فيعلمه كذلك؛ لأنه إذا أوجبه غير معين وجب أن يعلمه غير معين, وإلا لم يكن عالمًا بما أوجب, فهو متعين بحسب النوع دون الشخص, أو يقرر المذهب الثاني بأن يقال: الواجب واحد معين عند الله لأنه الآمر, ويجب أن يعلم الآمر الواجب لامتناع طلب المجهول. قيل على هذا التقدير: لا يلزم من علم الآمر الواجب وجوب واحد معين عند الله تعالى؛ لأنه يجوز أن يكون الواجب الكل وهو معين. قلت: وفيه نظر؛ لأنه استدلال على الأشاعرة, ولا يقولون بوجوب الكل, قصاراه أنه لا ينهض على جميع المذاهب. قالوا خامسا - وهو من جانب من قال الواجب ما يفعله المكلف -: الله تعالى علم بما يفعله المكلف لشمول علمه, فكان هو الواجب؛ لاستحالة إيجاب غيره مع العلم بامتناع وقوعه. أجاب: بأن ما يفعله هو الواجب, لكونه واحدا من الثلاثة, لا لخصوص كونه إطعامًا أو عتقًا أو كسوةً, وإلا لزم تفاوت المكلفين, ونحن نقطع أن الواجب على زيد هو الواجب على عمرو, فلا تفاوت بين المكلفين إلا في الاختيار, أما في التكليف لا. فإن منعوا عدم تفاوت المكلفين على مذهبهم, أن الواجب تابع لاختيار

الواجب الموسع

المكلف. ردّ: بالإجماع على تساويهم, وأن الوجوب قديم لا يتوقف على الاختيار الحادث, مع أنه يكون كلامًا على المستند. قال: (الموسع: الجمهور أن جميع وقت الظهر ونحوه وقت لأدائه. وقال القاضي: الواجب الفعل أو العزم, ويتعين آخرًا. وقيل: وقته أوله, فإن أخَّره فقضاء. بعض الحنفية: آخره, فإن قدّمه فنفل يسقط الفرض. الكرخي: إلا أن يبقى بصفة المكلف, فما قدّمه واجب. لنا: أن الأمر قيد بجميع الوقت, فالتخيير تحكم, والتعيين تحكم, وأيضًا: لو كان معينًا لكان المصلي في غيره مقدّما فلا يصح, وقاضيًا فيعصي, وهو خلاف الإجماع. القاضي: ثبت في العقل والعزم حكم خصال الكفارة. وأجيب: بأن الفاعل ممتثل لكونه صلاة قطعًا لا لأحد الأمرين, ووجوب العزم في كل واجب من أحكام الإيمان. الحنفية: لو كان واجبًا أولًا عصى بتأخيره؛ لأنه ترك. قلنا: التأخير والتعجيل فيه كخصال الكفارة). أقول: لما فرغ من الكلام على الواجب المخير, شرع في الواجب الموسع, وهو عند التحقيق يرجع إلى الواجب المخير, إذ الصلاة المؤداة في جزء من أجزاء الوقت غير المؤداة في غيره بحسب الشخص, والواجب هو

أحد الأشخاص المتمايزة بالأوقات من حيث هو أحدها, ولذلك لم يفرد له مسألة. واعلم أن الفعل بالنسبة إلى وقته إما زائد على وقته, ولا يصح التكليف به عند من لا يجوَّز تكليف ما لا يطاق إلا لفرض القضاء, كما إذا بلغ الصبي وقد بقي من النهار قدر ركعة فإنه يخاطب بالصلاة, وإما مساوٍ لوقته كصوم رمضان, وإما أقل من وقته وهو الواجب الموسع عند أصحابنا, وأكثر الفقهاء, والجبائي وابنه, ففي أي جزء أوقعه فقد أوقعه في وقته. قال عياض: «وهو مذهب مالك» , وقال بعض المالكية: «إن وقت الوجوب واحد غير متعين, والمكلف يعينه بفعله». وقال القاضي ومتابعوه: «الواجب في كل جزء من الوقت إيقاع الفعل فيه, أو إيقاع العزم على الفعل في ثاني حال, إلى أن يبقى قدر ما يسع الفعل فقط فحينئذ يتعين الفعل, فالعزم بدل عن تقديم الفعل لا عن الفعل».

وقال بعض الشافعية: وقته أوله, فإن أخَّره فقضاء, لقوله صلى الله عليه وسلم: «أول الوقت رضوان الله, وآخره عفو الله» , والعفو إنما يكون للمقضي. وقال بعض الحنفية: وقت الوجوب آخره, ثم اختلفوا فيما إذا فعله قبل, فمنهم من قال نفل يسقط الفرض, وقال الكرخي منهم: إذا بقي بصفة المكلفين إلى آخر الوقت كان ما فعله واجبًا وهذا مشكل؛ لأنه إذا كان وقت الوجوب هو آخر الوقت لا يكون ما قدّمه [واجبًا]؛ لكنه حكي عنه أن الواجب يتعين بالفعل في أي وقت كان, فكأنه عنده لا يتحقق

الوجوب إلا آخر الوقت. احتج للجمهور بوجهين: الأول: أن الأمر بالظهر مثلًا كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} عام لجميع أجزاء الوقت, فالتخيير بين الفعل والعزم بدلا عنه تحكم, ولا دلالة للفظ عليه, وكذا تعين جزء من الوقت لوقوع الواجب فيه تحكم أيضا بما ذكرنا, فيتعين المطلوب, إذ لا قائل بإيقاعها في كل جزء, وأيضًا: لو كان وقت الوجوب معينًا, فإن كان آخر الوقت كان المصلي في غيره مقدّما لصلاته قبل الوقت فلا تصح, كما لو صلاها قبل الزوال, وإن كان وقت الوجوب أوله كان المصلي في آخر الوقت قاضايًا, فيكون بالتأخير عاصيًا, كما لو أخّر إلى [آخر] العصر, وكلاهما خلاف الإجماع. قيل: المقدّم لا تصح صلاته إذا كان التقديم لا يجوز, أما إذا كان التقديم جائزًا فإنها تكون فعلًا يسقط الفرض, كأداء الزكاة قبل الحول يسيرًا. احتج القاضي: بأن الفعل والعزم ثبت فيهما حكم خصال الكفارة من حيث إن الواجب أحدهما لا بعينه؛ لأنه إذا حصل أحدهما اكتفى به, وإن تركهما عصى, فلو لم يجب العزم بدلا لم يكن الفعل واجبًا مطلقًا؛ لأن ما

جاز تركه بالقول لا يكون واجبا. أجيب: بأنه إن كان الواجب أحدهما لا بعينه, كان الفاعل للصلاة في أول الوقت ممتثلًا لكونه أتى بأحد الأمرين, ونحن نقطع أنه إنما امتثل لكونها صلاة بخصوصها لا لكونها أحد الأمرين, وإلا لجاز الإتيان بالعزم دون الصلاة كخصال الكفارة, وللقاضي أن يقول: فاعلها في آخر الوقت / ممتثل بكونه صلّاة, لأن الواجب حينئذ الفعل عينًا, وفاعلها قبل ذلك ممتثل لكونها أحد الأمرين. قوله: فيجوز الإتيان بالعزم دون الصلاة. قلنا: وأنه كذلك لا يقال: فإذن يكفي في سقوط الفرض؛ لأنا نقول: بالنسبة إلى ذلك الجزء لا مطالبة, ونحن لم نجعله بدلًا مطلقًا, بل هو بدل عن التقديم لا عن الفعل, ولذلك قلنا: يتعين الفعل آخرًا, فصار في الجزء الثاني الواجب الفعل, أو العزم في الثالث؛ لأنه لما اختار العزم بقي الواجب في ذمته, وهو ما عزم عليه. لا يقال: لو كان العزم بدلًا وفعله أولًا, ثم جاء الجزء الثاني فإن لم يجب فعل العزم جاز ترك الواجب بلا بدل, وإن لزم تعدد البدل مع اتحاد المبدل وهو باطل؛ إذ البدل هو الذي يقوم مقام المبدل. لأنّا نقول: العزم على الإتيان به في ثاني حال بدلا عن الإتيان به أول الوقت, والعزم على الإتيان به في ثالث حال بدلا عن الإتيان به في ثاني حال. ثم قال: لا يلزم من الإثم على ترك العزم أن يكون الواجب أحدها لا

بعينه, بل لأن العزم على فعل كل واجب عند ت ذكره من أحكام لإيمان يثبت عند ثبوته, سواء دخل وقت الواجب أم لا, فلو عزم على ترك واجب بعد عشرين سنة لأثم وإن لم يجب إلى الآن ولم يدخل وقته, وفيه نظر؛ فإن للمانع أن يمنع وجوب القصد إلى الفعل في ثاني حال. احتج الحنفية: بإن الفعل لو وجب أول الوقت لعصى المكلف بتأخيره؛ لأنه ترك الواجب بلا بدل, ومن ترك الواجب فهو عاص. أجاب: بمنع الملازمة, وهو أنه إنما يعصي لو كان الواجب الفعل أولًا عينًا, أما إذا كان التعجيل والتأخير خير فيهما كخصال الكفارة [فلا]. قال: (مسألة: مَنْ أخَّر مع ظن الموت قبل الفعل عصى اتفاقًا. فإن لم يمت, ثم فعله في وقته, فالجمهور أداء. وقال القاضي: قضاء, فإن أراد وجوب نية القضاء فبعيد, ويلزمه لو اعتقد انقضاء الوقت قبل الموت يعصي بالتأخير. وأما مَنْ أخَّر مع ظن السلامة, فمات فجأة, فالتحقيق لا يعصي, بخلاف ما وقته العمر). أقول: هذه فرع على ثبوت الواجب الموسع, واتفق القائلون به على أن من أدرك الوقت وظن الموت في جزء منه, وأخّر الفعل عنه أنه يعصى, لتضيّق الوقت بناء على ظنه, فإن لم يمت, ثم فعله في وقته المقدر له شرعًا,

فقال الجمهور: هو أداء لصدق حدّه عليه. وقال القاضي: إنه قضاء؛ لأن وقته بحسب ظنه ما قبل ذلك الوقت فلا خلاف في المعنى, إلا أن يريد وجوب نية القضاء وهو بعيد, إذ لم يقل به أحد, والنزاع في التسمية وتسميته أداء أوْ لا؛ لأنه فعل في وقته المقدر له أولًا شرعًا وإن عصى بالتأخير, كما لو اعتقد انقضاء الوقت قبل الوقت فعصى بالتأخير ثم فعل, فإنه أداء اتفاقًا, ولا أثر للاعتقاد البين خطأه, حتى يقال: صار وقته بحسب ظنه ما قبل ذلك فيكون قضاء؛ لأنه لا يلزم من جعل ظن المكلف موجبًا للعصيان بالتأخير أن يخرج ما هو وقت في نفس الأمر عن كونه وقتًا, وللقاضي أن يفرق بأنه لا يلزم من إطلاق اسم القضاء على ما ذكر إطلاقه على ما ذكرتم؛ لأن الأول أخَّره عن الوقت المظنون في الوقت المشروع, والآخر أخّره عن الوقت المظنون قبل الوقت المشروع. قلت: ويلزم القاضي أنه لو اعتقد استمرار الوقت فأخّر, ثم فعل في آخر الوقت في ظنه فإذا هو بعد الوقت, أن يكون أداء بناء على ظنه. أما من أخَر مع ظن السلامة, فمات في أثناء الوقت فجأة, فالتحقيق لا يعصي لأن التأخير جائز له, ولا إثم مع جواز الترك. لا يقال: شرط جواز الترك سلامة العاقبة إذ لا يمكن العلم بها, فيؤدي

ما لا يتم الواجب إلا به

إلى التكليف بالمحال, وهذا بخلاف ما وقته العمر, فإنه لو أخّره ومات عصى وإلا لم يتحقق الوجوب؛ لأن البقاء إلى سنة أخرى ليس بغالب على الظن, ولهذا قال أبو حنيفة: لا يجوز تأخير الحج إلى سنة أخرى, وهو أحد قولي المالكية. قلت: وفي هذا الاستثناء نظر؛ لأن مَنْ عصّاه مما أخّر عنده مع ظن السلامة, والشافعي الذي لم يعص الشاب لكونه أخّر مع ظن السلامة. قال: (مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به مقدورًا شرطًا واجب. والأكثر: وغير الشرط, كترك الأضداد في الواجب, وفعل ضد في المحرم, وغسل جزء الرأس. وقيل: لا فيهما. لنا: لأو لو يجب الشرط لم يكن شرطًا, وفي غيره: لو استلزم الواجب وجوبه لزم تعلق الموجب له, ولم يكن معلق الوجوب لنفسه, ولامتنع التصريح بغيره, ولعصى بتركه, ولصح قول الكعبي في نفي المباح,

ولوجبت نيته. قالوا: لو لم يجب لصح دونه, ولما وجب التوصل إلى الواجب, والتواصل واجب بالإجماع. وأجيب: إن أريد بـ «لا يصح» و «واجب» لابد منه, فمُسلَّم. وإن أريد مأمور به, فأين دليله؟ . وإن سُلّم الإجماع, ففي الأسباب بدليل خارجي). أقول: ما لا يتم الواجب إلا به, إما أن يكون وجوبه مشروطًا بذلك الشيء أو لا. والأول: لا خلاف في أن تحصيل الشرط ليس بواجب, وإنما الواجب المشروط إذا حصل الشرط, وهذا كإيجاب الحج مشروطًا بالاستطاعة. والثاني: وهو ما كان وجوبه مطلقًا غير مشروط وجوبه بذلك الغير, بل مشروط وقوعه فقط به, فهذا إن كان غير مقدور للمكلف كحضور الإمام الجمعة, وتمام العدد فيها, فإن ذلك غير مقدور لآحاد المكلفين, فلا خلاف أنه ليس بواجب إلا عند من يجوز تكليف ما لا يطاق. أما إن كان مقدورًا للمكلف, يتأتى الفعل دونه عقلًا وعادة, لكن الشارع جعله شرطًا للفعل, كما إذا قال: أوجبت الصلاة وشرط في صحتها

الطهارة, فهو عند المصنف واجب وإلا فلا. وقال أكثر الأصوليين: ما لا يتم الواجب إلا به مطلقًا واجب, سواء كان الشرط سببًا كالنار للإحراق, أو غير سبب إلا أنه مشروط الوقوع عقلا بذلك الشيء, كترك ضد الواجب الذي لا يتم الواجب إلا به, أو فعل ضد المحرم الذي لا يتم ترك الحرام إلا به, أو كان الإتيان به طريقًا إلى الإتيان بالواجب عادة, كغسل جزء الرأس لغسل الوجه, فإنه لا يمكن عادة غسل الوجه بدون جزء من الرأس, أو كان الإتيان به طريقًا إلى العلم بالإتيان بالواجب, كالإتيان بخمس صلوات إذا ترك واحدة منها لم يعرفها. وقيل: وجوب الشيء مطلقًا لا يوجب وجوب شيء من شرط أو غيره. وقيل: إن كان ما لا يتم الواجب إلا به سببًا بإيجاب الشيء يوجب سببه, وإن كان شرطًا / فلا, وهو مذهب الواقفية.

احتج لمختاره: بإنه لو لم يجب الشرط بوجوب المشروط, لزم ألا يكون الشرط شرطًا, واللازم باطل, أما الملازمة: فلأنه إذا لم يجب جاز تركه, فإذا تركه فالفعل إما أن يكون حنيئذ مأمورًا به أوْ لا, والثاني باطل, وإلا لكان وجوبه مقيدًا بوقت وجود الشرط وهو خلاف الفرض. والأول: إما أن يكون الفعل ممكن الحصول عند عدم الشرط أو لا, والثاني باطل؛ لأنه تكليف بما لا يطاق فيلزم الأول, فلا يكون الشرط شرطًا إذ الشرط ما يمتنع المشروط عند عدمه. قيل عليه: إن هذا الدليل يطرد في غير الشرط الشرعي, وأيضًا: إن عنى أن الأمر بالمشرط دال على الأمر بالشرط, فدليل لا يفيده, وجاز أن يكون الشرط واجبًا بأمر آخر, وإن عنى غيره فليس محل النزاع, وأيضًا: يرد عليه ما أورده هو على الخصوم. وجوابه: إن أريد بوجوبه أنه لابد منه في الإتيان بالمشروط فمُسلّم, وإن أريد بالإيجاب الشرعي فالملازمة ممنوعة. واحتج على الجزء الثاني بوجوه: الأول: لو استلزم الواجب المطلق وجوب غير الشرط مما لا يتم الواجب إلا به, لزم تعقل لموجب له, لاستحالة طلب ما لا شعور له به, واللازم باطل, لأنّا نقطع بإيجاب الفعل مع الذهول عما يتوقف عليه. الثاني: لو استلزم الواجب المطلق وجوب غير الشرط ما لا يتم الواجب

إلا به, لم يكن تعلق الوجوب داخلا في حقيقة الوجوب, أما الملازمة: فلأنه لو وجب ما توقف عليه الشيء ولم يتعلق به خطاب طلب, لم يكن التعلق داخلًا في حقيقة الوجوب. وأما بيان بطلان التالي: فلأن التعلق جزء حقيقة الوجوب, فكلما تعلق به خطاب طلب, مع المنع من النقيض فهو واجب, وما لم يتعلق به كذلك فهو غير واجب. وله تقرير آخر وهو يرجع إلى معنى ما احتج به في الحسن والقبح على الجبائية, بأن يقال: استلزم الواجب وجوبه لم يكن تعلق الوجوب بغير الشرط لنفس الوجوب أو لنفس ذلك الغير؛ لتوقف تعلق الوجوب به على تعلقه بملزومه, واللازم باطل؛ لأن الوجوب طلب وتعلق الطلب بالمطلوب لا يتوقف على غيرهما لأنه نسبة, والنسبة لا تتوقف على غير المنتسبين. الثالث: لو استلزم الواجب وجوبه لامتنع التصريح بغير الوجوب؛ لأنه يناقض الحكم بكون الواجب مستلزمًا لوجوبه, والتالي باطل؛ للقطع بأنه يصح أن يقول الشارع: أوجبت عليك غسل الوجه, وما أوجبت عليك غسل شيء من الرأس. الرابع: لو استلزم الواجب وجوبه لعصى المكلف بتركه, واللازم باطل, أما الملازمة: فواضحة, وأما بطلان التالي: فلأن تارك غسل الوجه يعصي بتركه غسل الوجه, لا بترك غسل جزء الرأس. الخامس: لو استلزم الواجب وجوبه لزم نفي المباح, واللازم باطل, أما الملازمة: فلأن فعل الواجب الذي هو ترك الحرام لا يتم إلا به فيجب, وأنه

باطل إجماعًا. السادس: لو استلزم الواجب وجوبه لوجبت نيته؛ لأنه عبادة شرعية فيفتقر إلى نية, واللازم باطل إجماعًا. وهذه الوجوه كلها ضعيفة. أما الأول: فإنما يلزم تعقل الموجب له أن لو كان الوجوب بالأصالة, أما إذا كان بالتبعية فلا. سلمنا: لكن إن أردت بتعقل الموجب له تعقله مجملا منعنا بطلان التالي؛ فإنه يعلمه حسب ما أوجبه, وإن أردت أنه يلزم تعقله مفصلا / الملازمة. سلمنا: لكنه منقوض بوجوب الشرط. وعلى الثاني: إن أراد بالتعلق لنفسه التعلق بالأصالة, منعنا انتفاء التالي. قوله: لأن تعلق الطلب بالمطلوب لا يتوقف على غيرهما. قلنا: في التعلق بالأصالة, أما في التعلق بالفرعية فلا, وتعلق الوجوب بالمقدمة بالفرعية, فإنه إنما يتعلق الوجوب بها بواسطة تعلقه بملزومه, وإن أراد أن تعلق الوجوب الفرعي بالمقدمات ليس من مقتضى الوجوب منعناه, فإن الوجوب الأول تعلق بالشيء ثم نشأ منه الوجوب فتعلق [الوجوب] الثاني الفرعي بالمقدمات بلا واسطة غير الوجوب, فظهر ضعفه على التقريرين مع أنه منقوض بالشرط. وعلى الثالث: أن غسل جزء الرأس ليس واجبًا على كل أحد؛ إذ الوجوب عندهم إنما يتحقق على العاجز عن الإتيان بالوجه دون جزء الرأس لا

القادر, فإذن الملازمة ممنوعة في القادر, ونفي التالي في العاجز, ثم هو منقوض بوجوب الشرط. وعلى الرابع: أن تركه يوجب ترك الواجب بالذات فيكون سببًا للعصيان, مع أنه منقوض بوجوب الشرط, [ولا يخفى فساده, إذ المصنف قائلًا بوجوب الشرط]. وعلى الخامس: أنه إنما يلزم نفي المباح لو لم يحصل ترك الحرام إلا به, أما إذا حصل بغيره فلا. سلمنا: ونمنع بطلان التالي, فإن المباح يحصل بترك الحرام, فيكون من هذا الوجه واجبًا. وعلى السادس: نمنع الملازمة إن أراد بوجوب النية القصد إليه بخصوصه, ونمنع نفي التالي إن أراد وجوب النية في الجملة. احتج الأكثرون بوجهين: الأول: لو لم يجب ما يتوقف عليه الواجب شرطًا كان أو غيره, لصح الفعل الواجب دونه, والتالي باطل, أما الملازمة: فلأن الآتي به حينئذ يكون آتيًا بجميع الواجب, والإتيان بجميع الواجب يوجب الصحة, وبطلان التالي باتفاق. الوجه الثاني: لو لم يجب ما يتوقف عليه الواجب شرطًا كان أو غيره, لما وجب التوصل إلى الواجب, لكن التوصل إلى الواجب واجب بالإجماع, والتوصل إلى الواجب به.

وأجاب المصنف عنهما: بأنكم إن أردتم بقولكم في الاستثنائية الأولى: «لا يصح دونه» أنه لابد منه في الإتيان بالمأمور به, فنفي التالي مُسلّم والملازمة ممنوعة؛ لأنّا لا نسلم أن ذلك لو لم يكن مأمورًا به لصح الفعل دونه. وإن أردتم بقولكم: «لا يصح دونه» , أنه مأمور به فهو ممنوع, إذ لا دليل عليه, والترديد في المقدم أو لا؛ لأن إرادة ما لابد منه والمأمور به من لا يصح بعيد, مع أن الاستفسار إنما يكون فيه إجمال, ولا إجمال في «لا يصح دونه» , والأولى أن يقال: إن أريد «بلا يصح دونه» أنه لا يسقط القضاء دونه, فالملازمة ممنوعة, ونفي التالي مُسلّم. وإن أريد به أنه لا يوافق الأمر, لكون هذه الأشياء أيضًا مأمورًا بها, فالملازمة مسلمة ونفي التالي ممنوع. وتقرير جواب الثاني: أن يقول: إن أردتم بقولكم في الاستثنائية التوصل واجب, كان لابد منه في التوصل إلى الواجب. سلمنا بطلان التالي, ومنعنا الملازمة. وإن أردتم أن التوصل بهذه الأشياء مأمور به فهو ممنوع, وأين دليلكم عليه؟ . فإن قيل: الإجماع على وجوب التوصل بهذه الأشياء, يدل على كونها مأمورًا بها. قلنا: لا نسلّم صحة الإجماع, ولن سلّم ففي الأسباب وحدها, بدليل خارجي لا لنفس وجوب الفعل, والدليل الخارجي إما الإجماع, أو أن الأمر

تحريم واحد لا بعينه

بالشيء أمر بأسبابه. قال: (مسألة: يجوز أن يحَّرم واحدًا لا بعينه, خلافا للمعتزلة, وهي كالمخير). أقول: لما فرغ من أحكام الوجوب, شرع في أحكام الحرام, وذكر فيه مسألتين: الأولى: هل يجوز أن يحرم واحد لا بعينه من أشياء؟ . قال الأشاعرة بأنه جائز, ومنع المعتزلة. احتج الأشاعرة: بأنه لا يمتنع عقلًا أن يقول السيد لعبده: لا تُكلم زيدًا أو عمرًا, فقد حرّمت عليك كلام أحدهما لا بعينه. والحاصل أن له ترك كلام أيهما شاء جميعا وبدلا, وليس له أن يجمع بينهما, فلم يحرم عليه كلام كل واحد, ولا كلام واحد بعينه. وطريقهم في الاعتراض وطريق الأصحاب في الجواب كما سبق في الواجب المخير. قلت: والأقرب ما ذهبوا إليه هنا؛ لأنه لو حرم واحد لا بعينه, وهو القدر المشترك الموجود في كل واحد من المعينات, حرم كل واحد ولا كذلك في الواجب المخير.

استحالة كون الشئ واجبا حراما

قال: (مسألة: يستحيل كون الشيء الواحد واجبًا حرامًا منه جهة واحدة, إلا عند بعض من يجوز تكليف المحال. وأما الشيء الواحد له جهتان, كالصلاة في الدار المغصوبة. فالجمهور: تصح. والقاضي: لا تصح, ويسقط الطلب عندها. وأحمد وأكثر المتكلمين: لا تصح ولا يسقط. لنا: القطع بطاعة العبد وعصيانه, فأمره بالخياطة ونهيه عن مكان مخصوص للجهتين. وأيضًا: لأو كان لكان لاتحاد المتعلقين؛ إذ لا مانع سواه اتفاقا, ولا اتحاد كان, الأمر للصلاة والنهي للغصب, واختيار المكلف جمعهما لا يخرجهما عن حقيقتهما). أقول: المسألة الثانية: هل يجوز أن يكون الشيء الواحد واجبًا حرامًا معا؟ . واعلم أنه إن كان واحدًا بالشخص, فإن اتحدت فيه الجهة, لم تكن من الجهة الواحدة واجبًا حرامًا معًا؛ لأنه محال قطعًا لتقابل حديهما, إلا على رأي بعض من جوز التكليف بالمحال, وهم الذين يجوزونه عقلًا وشرعًا.

وأم الذين يمنعونه شرعًا تمسكًا بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} , فلا. أما الواحد بالجنس فجائز فيه ذلك, بأن يجب فرد ويحرم فرد, كالسجود لله واللصنم, ومنعه بعض المعتزلة, وقالوا: المنهي عنه قصد تعظيم الصنم, لا السجود من حيث هو سجود؛ لأنه مأمور به. أما الواحد بالشخص له جهتان, يجب بأحدهما ويحرم بالآخر, وذلك كالصلاة في الدار المغصوبة, تجب لكونها صلاة, وتحرم لكونها غصبًا, وكل من الجهتين معقولة بدون الأخرى. فمذهب أكثر الفقهاء وأكثر الأشاعرة: جواز كونها واجبة حراما للجهتين, وتصح الصلاة إذا أتى المكلف بها فيها وهو مختار المصنف. وذهب القاضي إلى أنه لا يجوز ذلك, لكن قال: يسقط الطلب حذارًا

من مخالفة الجميع في سقوط القضاء, وقال: «عندها» لا بها؛ لجواز سقوط الفرض عندما ليس بفرض وإن كان حرامًا, كن شرب شيئًا يحدث الجنون فجُنَّ, فإنه تسقط عنه العبادة عند هذه المعصية لا بها؛ إذ الإتيان بما يكون نفسه سببًا لإسقاط الواجب يكون إتيانًا بالمأمور به, فما لا يكون مأمورًا به كالمعصية لا يسقط بنفسه الفرض, وقد يقال: يسقط الفرض بغير المأمور به كما قيل في الموسع. والحق إنه قول ضعيف. قال الإمام في البرهان: «الأعذار التي ينقطع الخطاب بها محصورة, والمصير إلى سقوط الأمر عن متمكن من الامتثال ابتداء ودوامًا بسبب معصية لابسها, لا أصل له في الشريعة». ذهب أحمد, وحكاه ابن العربي في رواية عن مالك, والجبائي

وابنه, وأهل الظاهر, والزيدية إلى / أنه لا يجوز ذلك, ولا تصح الصلاة المأتي بها في دار الغصب, ولا يسقط الطلب بها ولا عندها. احتج المصنف لمختاره بوجهين: الأول: أنّا نقطع بجواز ذلك عقلا, فإنّ السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الجلوس في مكان مخصوص, فخاط العبد ذلك الثوب في نفس المكان المنهي عنه, قطعنا بأنه مطيع بالخياطة عاص بالجلوس في المكان, فكذا الصلاة المأتي بها في الدار المغصوبة, يكون ممتثلًا بها من حيث كونها صلاة, منهيًا عنها من حيث هي في دار مغصوبة, فيحسن ثوابه لأجل الصلاة, وعقابه لأجل الغصب. ولما استبعد بعض الشافعية هذا, قال: يسقط الفرض ولا يترتب عليها ثواب. الوجه الثاني: لو لم تصح لكان عدم صحتها لاتحاد متعلقي الأمر والنهي, واللازم باطل, أما الملازمة: فلأنه لا مانع سواه اتفاقا, وأما بيان بطلان التالي: فلأنه لا اتحاد, فإن متعلق الأمر الصلاة, ومتعلق النهي الغصب, وكل منهما يتعقل انفكاكه عن الآخر, وقد اختار المكلف جمعهما مع إمكان عدمه, وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما اللتين هما متعلقا الأمر والنهي, حتى لا يبقيا حقيقتين مختلفتين فيتحد المتعلق.

قيل: إن أردتم بالاتحاد كون الشيء الواحد متعلق الأمر والنهي من جهة واحدة, فالملازمة ممنوعة. قولكم: إذ لا مانع سواه نمنعه؛ لأن من الموانع عندنا كون النهي الواحد متعلقهما باعتبار جهتين: إحداهما مأمور بها لذاتها, والأخرى منهيا عنها لذاتها, وإن أردتم ما يشمل الأمرين, منعنا بطلان التالي. قيل أيضًا: الجهتان وإن كانتا متغايرتين لكنهما في مسألة النزاع متلازمتان؛ لأن شغل الحيز جزء الحركات والسكنات المخصوصتين, وهي أجزاء ماهية الصلاة, فيكون فعل الصلاة متوقفًا عليها, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, فيكون المحرم واجبًا ويلزم التكليف بالمحال, وأنتم لا تقولون به. وردَّ: بأن ذلك وارد في أمر السيد لعبده بالخياطة ونهيه عن مكان مخصوص, فما كان جوابكم هنالك هو جوابنا هنا, ثم إنه لا يتوجه على من قال بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به إذا كان شرطًا شرعيًا دون غيره؛ لأن الموقوف عليه غير شرعي. سلمنا: ولا نسلم أن كل من قال بصحة هذه الصلاة لا يقول بالتكليف بالمحال, وأيضًا: شغل الحيز على وجه العدوان ليس جزءًا من الحركات والسكنات التي هي أجزاء الصلاة, وجزء الصلاة ما هو أعم من ذاك, وما ذكرتموه [هو جزء الغصب المحرم, فما هو جزء الواجب لا يكون محرمًا,

وما هو محرم لا جزءًا من الواجب, وأيضًا: الصلاة] من مقولة الوضع, والغصب من مقولة الأين, فلا اتحاد ولا تلازم. قيل أيضًا: لا نسلم أن الصلاة المذكورة مأمور بها؛ لأنها بعد الجمع بينها وبين كونها في الدار المغصوبة, صارت هذه الصلاة منهيًا عنها, ولا يمكن حصول الصلاة بدون تلك الهيئة, فتكون الصلاة منهيًا عنها, فلم يأت بالمأمور به, وأيضًا: الخياطة إن أمر بها سواء كان في الحيز الممنوع منه أو لا, فلا يكون شغل الحيز ممنوعًا منه فافترقا, وإن أمر بها في الجملة ومنع عن شغل المكان المخصوص وشغله بالخياطة, فهذه الخياطة ممنوع منها, ولكن يعد ممتثلا؛ لأنها فعل حقيقي لا يبطل بالمنع منه بخلاف الصلاة. وردَّ: بأن الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة مأمور بها من حيث هي صلاة, لا مع قيد كونها في الدار المغصوبة, ومنهي عنها / مع ذلك القيد, فتكون الهيئة الحاصلة بعد الجمع مأمورًا بها من حيث هي هيئة الصلاة المطلقة, منهيًا عنها من حيث هي هيئة لهذه الصلاة, فالنهي عن الصلاة لأجل خصوصية لها, لا يوجب النهي عنها نفسها من حيث هي؛ لأن تلك الخصوصية ليست جزءًا للصلاة من حيث هي [لازمة لها لجواز تحقق الصلاة من حيث هي دون تلك الخصوصية, وإذا كانت الصلاة من حيث] هي مأمور بها غير منهي عنها وقد أتى المكلف بها, كان آتيًا بالمأمور به,

ضرورة أنه أتى بالمقيد, ومن أتى بالمقيد فقد أتى بالمطلق. وعن الثاني: بأنه لا فرق بين الخياطة في المكان المخصوص والصلاة في دار الغصب, وما ذكر من الفرق فضعيف؛ لأن المنع ليس عن الصلاة حتى يلزم أن لا يكون الآتي بها ممتثلًا, بل المنع عن الكون في الدار المغصوبة وهو أعم, وورود المنع من هذه الجملة لا يخلوا من أن يكون موجبًا لعدم وقوع الفعل على وجه الامتثال أو لا, وأيًّا ما كان لا فرق. قال: (واستدل: لو لم تصح, لما ثبتت صلاة مكروهة, ولا صيام مكروه, لتضاد الأحكام. وأجيب: بأنه إن اتحد الكون منع, وإلا لم يفد, لرجوع النهي إلى وصف منفك. واستدل: لو لم تصح لما سقط التكليف. قال القاضي: وقد سقط بالإجماع؛ لأنهم لم يأمروهم بقضاء الصلوات. وردَّ: بمنع الإجماع مع مخالفة أحمد, وهو أقعد بمعرفة الإجماع). أقول: هذان دليلان على صحة المذهب المختار, لأنهما مزيفان عند المصنف. تقرير الأول: لو لم تصح الصلاة في الدار المغصوبة, لما ثبت صحة صلاة مكروهة ولا صيام مكروه, واللازم باطل, أما الملازمة: فلأنه كما يضاد الوجوب التحريم, كذلك يضاد الكراهة, بيان بطلان التالي: أن

الصلاة في معاطن الإبل, وفي الحمام, وفي المقبرة مكروهة, وكذا صوم يوم الشك. الجواب: إن متعلق الوجوب والكراهة وإليه أشار بالكون من باب إطلاق اسم اللازم على الملزوم؛ لأن فعل العبد يستلزم الكون, إن اتحدا منعنا صحة صلاة مكروهة وصيام مكروه, فلا يتحقق في التالي, وإن تعددا منعنا الملازمة, وما ذكروه في بيانها غير مفيد للفرق, وهو أن النهي يرجع إلى وصف منفك عن الصلاة وعن الصوم, كالتعرض لنفار الإبل, ولخوف الرشاش في الحمام, ولأجزاء الموتى في المقبرة, ولعدم تمييز النفل عن الفرض في الصوم, فلا يلزم من اجتماع الكراهة والوجوب فيما له جهتان يمكن انفكاك إحداهما عن الأخرى, فيما اجتماع الوجوب والتحريم فيما له جهتان متلازمتان, لأن النهي عن الشيء لذاته يضاد وجوب أصله, والنهي عن الشيء لوصفه المفارق لا يضاد وجوب أصله.

قيل: جهة الوجوب في الصلاة في دار الغصب [هي] الصلاة المطلقة, والكون في الدار المغصوبة الذي هو الوصف المنهي عنه جائز الانفكاك عن الصلاة المطلقة, وإن كانت الصلاة المشخصة غير منفكة عنه, وإذن لا فرق بين الصلاة المكروهة والصلاة في دار الغصب. وردَّ: بأن الوصف المنهي عنه في الصلاة المكروهة وصف منفك عن الصلاة المشخصة؛ لجواز وجود الصلاة في تلك الأمكنة مع عدم ما نهي لأجله, بخلاف الوصف المنهي عنه في الصلاة في الدار المغصوبة, فإن الصلاة المشخصة لا تنفك عنه, وفيه نظر؛ لأن الفرق من هذه الجهة لا يفيد؛ لأن متعلق الوجوب في الدار المغصوبة هو الصلاة المطلقة لا المشخصة, والوصف المنهي عنه منفك عنها. تقرير الثاني: لو لم تصح لما سقط التكليف بها, واللازم باطل, أما الملازمة: فلأنها إذا لم تصح لا يكون الآتي بها آت بالمأمور به, فلا يسقط التكليف بالمأمور به بالإتيان بالمأمور به. وأما بطلان التالي: لإلما حكاه القاضي من الإجماع على سقوط التكليف بها, والذي يحقق الإجماع أن السلف لم / يأمروا بالطلب بقضاء صلواتهم المؤداة في الأماكن المغصوبة. الجواب: منع التالي, وما احتج به على الإجماع بعيد لمخالفة أحمد

وهو أقعد بمعرفة الإجماع, فلو كان هناك إجماع لاطلع عليه ولم يخالفه, لا كما قيل: لا ينعقد دونه؛ إجماع عصر قبله أو بعده, وللقاضي منع الملازمة, والسند ما تقدم. قال: (قال القاضي والمتكلمون: لو صحت لاتحد المتعلقات؛ لأن الكون واحد, وهو غصب. وأجيب: باعتبار الجهتين كما سبق. قالوا: لو صحت لصح يوم النحر بالجهتين. وأجيب: بأن صوم يوم النحر غير منفك عن الصوم بوجه, فلا يتحقق فيه جهتان, وبأن نهي التحريم لا يعتبر فيه تعدد إلا بدليل خاص فيه). أقول: احتج القاضي والمتكلمون: بأنها لو صحت لاتحد متعلقا الأمر والنهي, واللازم باطل, أما الملازمة: فلأن كون جزآ الحركة والسكون وهما جزآ الصلاة, فهذا الكون جزء هذه الصلاة فيكون مأمورًا به, ثم إنه بعينه الكون في الدار المغصوبة فيكون منهيًا عنه, فلو كانت صحيحة لكان مأمورًا بها, لأن الصحة موافقة الأمر, فيكون ذلك الكون مأمورًا به فيتحد الأمر والنهي, وأما بطلان التالي: فلامتناع التكليف بالمحال. الجواب: منع الملازمة؛ لأن متعلق الوجوب الكون باعتبار كونه صلاة ومتعلق الحرمة الكون باعتبار كونه غصبًا, والتغاير بين الشيئين كما يقع بتعدد النوع كالإنسان والفرس, وبتعدد الشخص كزيد وعمرو, يقع بسبب

اختلاف صفات الشخص المحكوم عليه بالمتعاملين, والمحكوم عليه بأحد الحكمين هو الذات مع إحدى صفتيها, والمحكوم عليه بالحكم الآخر الذات مع الصفة الأخرى, كالمحكم بمدح زيد لكرمه وذمه لشحه. احتجوا أيضًا: بأنها لو صحت لصح [صوم] يوم النحر, واللازم باطل, أما الملازمة: فلأنه لا مانع إلا اتحاد المتعلقين, واعتبار الجهتين يدفعه؛ إذ الصوم من حيث هو متعلق الأمر, والصوم المضاف متعلق النهي, وأما بطلان التالي: فبالاتفاق. وأجاب المصنف عنه من وجهين: الأول: منع الملازمة, بأن نقول: صوم يوم النحر لا ينفك عن الصوم لأن المضاف يستلزم المطلق, بخلاف الصلاة والغصب يمكن انفكاك كل منهما عن الآخر, وحاصلة تخصيص الدعوى بما يجوز انفكاك الجهتين فيه كما في الصلاة في دار الغصب, بخلاف ما ذكرتم, وإنما يكون نظيره لو ثبت النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة. الوجه الثاني: أن نمنع الملازمة أيضًا, فإن نهي التحريم لا يعتبر فيه تعدد إلا بدليل خاص فيه؛ لأن نهي التحريم يقتضي الانتهاء عن المنهي عنه, واعتبار تعدد الجهتين يقتضي جواز الإتيان به وهما متنافيان, فإذن لا يجوز اعتبارهما في نهي التحريم إلا بدليل خاص, وقد قام في الصلاة في الدار المغصوبة على اعتبار الجهتين, حيث لم يأمروهم بقضاء الصلوات بخلاف ما ذكرتم.

قيل: الأمر ورد بالصوم المطلق, والنهي عن الصوم المقيد فاستويا. قلنا: الأمر ورد بالصلاة منفردة, [والنهي عن الغصب منفردًا] بخلاف هنا, فإن الأمر وإن ورد بالمطلق والنهي عن المضاف, لكن لا ينفك المأمور به عن المنهي عنه في هذه الصورة. قال: (وأما من توسط أرضًا مغصوبة, فحظ الأصولي بيان استحالة تعلق الأمر والنهي معًا بالخروج, وخطأ أبي هاشم. وإذا تعين الخروج للأمر, قطع بنفي المعصية به. وقول الإمام باستصحاب حكم المعصية ولا نهي, بعيد. ولا جهتين لتعذر الامتثال). أقول: لما فرغ بما له جهتان يمكن انفكاك إحداهما / عن الأخرى, شرع فيما له جهتان لا يمكن انفكاك إحداهما عن الأخرى, كخروج من توسط أرضًا مغصوبة. واعلم أن حظ الأصولي بيان استحالة تعلق الأمر والنهي معًا بالخروج, فإنه تكليف بالمحال. أما كون الشيء الواحد مأمورًا به عينًا, أو منهيًا عنه عينًا فلا حظ للأصولي فيه, بل هو حظ الفقه, فمن توسط أرضًا مغصوبة, فليس من حظ الأصولي أن يقول: يجب عليك الخروج, أو يحرم عليك, فإن ذلك حظ الفقيه, وحظ الأصولي أن يبين استحالة تعلق الأمر والنهي معًا بالخروج عنهما, لاستلزامه التكيف بالممتنع.

وحظ الأصولي أيضًا بيان خطأ أبي هاشم في قوله بتعلقهما معًا بالخروج, حيث قال: «يكون عاصيًا بالإقامة والخروج معًا» , فإذن يكون الخروج مأمورًا به؛ [لأن الإقامة إذا كانت عصيانًا يكون منهيًا, فيكون الخروج مأمورًا به, لكنه] معصية, فهو منهي عنه, وبيان خطأ هذا المذهب: أولًا: أنه يخالف أصول المعتزلة في وجوب رعاية الأصلح للعباد على الله تعالى, ومن الأصلح ألا يسدّ عليهم باب التوبة, وما ذكره يفضي إلى سدّه, وكل واحد من المكث والخروج وإن كان غصبًا, لكن يتعين التكليف بالخروج لما فيه من تعليل الضرر, كالنزع من الفرج الحرام, وكشرب الخمر لمن غص بلقمة, لأن ارتكاب أدنى الضررين يصير واجبًا نظرًا إلى دفع أعلاهما, ووجوب ضمان ما أفسد عند خروجه لا يدل على حرمة الخروج, وإذا تعين الخروج للأمر يجب القطع بنفي المعصية بسبب الأمر, لكونه ممتثلًا مطيعًا, والمطيع لا إثم عليه فلا عصيان, وأيضًا: هو في الخروج غير مختار لكونه متبعا للأمر, لكن إذا خرج بما هو شرط في الخروج من السرعة, وسلوك أقرب الطرق وأقلها ضررا, وأن يقصد بالخروج مفارقة الغصب؛ لأنه لو قصد بالخروج التصرف في ملك الغير لم تنتف المعصية, كما إذا قصد بالنزع من الفرج الالتذاذ. وقال إمام الحرمين: «هو مأمور بالخروج وليس خارجًا عن العدوان؛

المندوب

لأنه كائن في المكان المغصوب والمعصية مستمرة, وإن كان في حركاته حالة الخروج ممتثلًا للأمر, كالصلاة في الدار المغصوبة, يمتثل بها من وجه, ويعصي من آخر». واستبعده المصنف؛ لأن المعصية لا تكون إلا بفعل منهي عنه أو ترك مأمور به, وإذا سلم أنه مأمور بالخروج مع انقطاع النهي عنه, فلا يبقى للحكم بالمعصية وجه. وللإمام أن يمنع كون المعصية لا تكون إلا بأحد الوجهين المذكورين؛ لأن عصيانه عنده بارتباكه في المعصية, مع أنه انقطع النهي عنه. فإن قيل: يتعلق الأمر بتخليص ملك الغير والنهي [بالغصب] , كما قال في الصلاة في دار الغصب. قلنا: يلزم التكليف بالمحال هنا, بخلاف ثم, فإنه يمكن الامتثال, وإنما جاء ذلك في اختيار المكلف الجمع, وهنا يتعذر الإمساك بالخروج لو كان منهيًا عنه. قال: (مسألة: المندوب مأمور به, خلافًا للكرخي والرازي. لنا: أنه طاعة, وأنهم قسموا الأمر إلى إيجاب وندب. قالوا: لو كان لكان تركه معصية, ولما صح: «لأمرتهم بالسواك». قلنا: المعني بالأمر الإيجاب فيهما). أقول: لما فرغ من مسألتي الحرام, شرع في أحكام المندوب وذكرها

في مسألتين, والمندوب لغة: المدعو لمهم. وفي الشرع: الفعل الذي تعلق به الندب, كما تقدم. واعلم أن العلماء اختلفوا في المندوب, وهل هو مأمور به أم لا؟ . فذهب القاضي أبو بكر, وجماعة من أصحابنا إلى أنه مأمور به. وحكى المازري عن الأِشعري أنه غير مأمور به. وحكى القاضي عياض القولان عن المالكية. والبحث لفظي؛ لأن الأمر إن كان طلب الفعل, فهو مأمور به, وإن كان مع الجزم فلا, ولا منافاة بين مختاره هنا واختياره مذهب الجمهور,

حيث قال: إن صيغة افعل للوجوب فليتأمل. واحتج المصنف على الكرخي والرازي: بأن المندوب طاعة, وكل طاعة مأمور بها؛ لأن الطاعة تقابل المعصية التي هي مخالفة لها. قال المازري: الطاعة عندنا موافقة الأمر, وقد يكون الشخص مطيعًا [غير متقرب] , كنظر الكافر في الإيمان, فإنه مطيع فيه من حيث كان موافقًا للأمر, غير متقرب؛ لأن شرط المتقرب أن يكون عازمًا بالتقرب إليه, وهو حين نظره لم يحصل له العلم بالله تعالى. الثاني: أن العلماء قسّموا الأمر إلى: إيجاب, وندب, ومورد القسمة مشترك بين القسمين بالضرورة, فيكون المندوب مأمورًا به. لا يقال: اللازم عن الدليل: بعض المأمور به مندوب, وينعكس: بعض المندوب مأمور به, والمدعى: كل مندوب مأمور به. لأنّا نقول: لا قائل بالفرق, وأيضًا: مورد القسمة مشترك بين جميع أفراد أقسامه, فيكون كل مندوب كذلك؛ لاستلزام الأخص الأعم, والنقض بانقسام الإنسان إلى أسود وغيره, مع أنه ليس كل أسود حيوان غير

وارد الصدق على جميع أفراد أقسامه, والجماد الأسود ليس من أفراد أقسامه فلا يضر عدم صدقه عليه. قيل على الأول: إن أردتم بالطاعة ما يتوقع الثواب على فعله, سلمنا الصغرى ونمنع الكبرى؛ لأن الطاعة بهذا المعنى لا تقابل المعصية, لأن تاركها لا يستحق الذم, وإن أريد بالطاعة فعل المأمور به فالكبرى مسلمة, لكن الصغرى مصادرة. وعلى الثاني: إن الأمر حقيقة للوجوب, فإذا أطلق الندب كان مجازًا, ونحن نمنع إطلاق اسم المأمور به على المندوب بطريق الحقيقة. احتج الكرخي والرازي بوجهين: الأول: لو كان المندوب مأمورًا به, لكان تركه معصية؛ إذ لا معنى للمعصية إلا مخالفة الأمر وترك المأمور به, محققًا لقوله تعالى: {أفعصيت أمري} , والتالي باطل إجماعًا. الثاني: لو كان مأمورا به, لما صح قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» , بيان الملازمة: أن الحديث دلّ على

المندوب ليس بتكليف

سلب الأمر عن السواك, فلو كان المندوب مأمورًا به, كان السواك لكونه مندوبًا بالاتفاق مأمورًا به, فلا يصح سلب الأمر عنه, ولأن الوجوب هو الذي يتضمن المشقة دون المندوب. والجواب عن الأول: أن المعصية مخالفة أمر الإيجاب. وقوله في الثاني: «لأمرتهم» أي أمر إيجاب, كلاهما وإن كان على سبيل المجاز, لكن يجب المصير إليه جمعًا بين الأدلة, مع أن الدلالة بالحديث إنما تتم لو كان السواك مندوبًا زمان قوله عليه السلام: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك» وهو ممنوع؛ لجواز أن يكون الندب بعد. لا يقال: الحكم بالندبية ثابت / أزلًا, فهو مندوب إليه عند تلفظه عليه السلام؛ لأنا نقول: المندوب ليس حكمًا شرعيًا, بل متعلق الحكم مع أنه لا منافاة بين كونه مندوبًا في الأمر إذ ذاك وغير مندوب بأمره عليه السلام. لا يقال: السياق يدل على ندبيته حينئذ, لأنّا نقول: لا يدل على ندبيته قبل التلفظ. قال: (مسألة: المندوب ليس بتكليف خلافًا للأستاذ وهي لفظية). أقول: ذهب الأكثرون إلى أن المندوب ليس بتكليف. وذهب أبو إسحاق الإسفرائيني إلى أنه تكليف. حجة الأكثرين: أن التكليف يشعر بإلزام ما فيه كلفة ومشقة, وذلك

المكروه منهي عنه

منتف عن المندوب, لأنه مساو للمباح في التخيير بين الفعل والترك من غير حرج, مع زيادة الثواب على الفعل. فإن قال: تكليف باعتبار وجوب اعتقاد كونه مندوبًا فمُسَلّم, لكنه حكم آخر, والمباح تكليف أيضًا بهذا الاعتبار, وهو مراده والله أعلم؛ لأنه قال: الإباحة تتكليف, فلا نزاع إذن, فإن قال: فعله لما كان سببًا للثواب, كان الإتيان به رغبة في ذلك كلفة ومشقة, فأشبه الواجب. قلنا: يلزم أن يكون حكم الشارع على الفعل بكونه سببًا للثواب تكليفًا؛ لأنه إن أتى بالفعل رغبة في الثواب الذي هو مسببه فهو شاق, وإن تركه شق عليه ما فاته من الثواب, وهو خلاف الإجماع؛ لأنه من أحكام الوضع, والنزاع لفظي؛ لأن مراد الأكثرين أنه ليس بلازم الإتيان به, ومراد الأستاذ وجوب اعتقاد ندبيته, فلم يتوارد النفي والإثبات على شيء واحد, لا كما قيل: مراد الأستاذ طلب ما فيه مشقة ما؛ لأنه يقول: الإباحة تكليف, فلا يصح له تفسير التكليف بالطلب. قال: (مسألة: المكروه منهي عنه غير مكلف به كالمندوب, ويطلق أيضًا على الحرام, وعلى ترك الأولى). أقول: المكروه لغة: ضد المحبوب, مأخوذ من الكريهة وهي الشدة في الحرب, وفي الشرع: يطلق بالإشتراك ويراد به الحرام, ويطلق ويراد

به ترك ما مصلحته راجحة وإن لم يكن منهيا عنه, كترك المندوبات, وقد يراد به ما نهي عنه نهي تنزيه لا تحريم, كالصلاة في الأوقات المكروهة, وقد يراد به ما في القلب من حزازة وإن كان غالب الظن الحل كأكل لحم الضبع. فمن نظر إلى الاعتبار الأول, حدّه بحد الحرام. ومن نظر إلى الثاني, حدّه بحدّ ترك الأولى. ومن نظر إلى الثالث, حدّه بالمنهي الذي لا ذمَّ على فاعله. ومن نظر إلى الرابع, حدّه بالذي فيه شبهة. ولما كان نظر المصنف إلى الاعتبار الثالث, حكم بأنه منهي عنه غير مكلف بتركه. ومن أراد الاعتبار الأول, حكم بأنه منهي عنه مكلف بتركه. ومن أراد الاعتبار الثاني, حكم بأنه غير منهي عنه ولا مكلف بتركه

إطلاق الجائز على المباح

فالنزاع لفظي, والخلاف في أنه بالاعتبار الثاني والثالث من أحكام التكليف على نحو ما سبق في المندوب اختيارًا وتزييفًا. قال: (مسألة: يطلق الجائز على المباح, وعلى ما لا يمتنع من عقلي أو شرعي, وعلى ما استوى الأمران فيه, وعلى المشكوك فيه فيهما بالاعتبارين). أقول: لما فرغ من المكروه, شرع في أحكام المباح, وذكره في أربعة مسائل: الأولى في مفهومه: المباح لغة: المعلن والمأذون فيه. وفي الشرع: متعلق الإباحة / ومن أسمائه الجائز, ويطلق الجائز على ما لا يمتنع شرعًا, فيتناول الواجب, والمندوب, والمكروه, والمباح. ويطلق أيضًا على ما لا يمتنع عقلا, وهو المسمى في عرف المنطقيين بالممكن العام, ويدخل فيه الواجب والممكن الخاص. ويطلق أيضًا على ما استوى الأمران فيه, سواء استويا شرعًا كالمباح

الإباحة حكم شرعي

وكفعل الصبي فإنه لا يوصف بالإباحة, أو عقلًا كالممكن الخاص الذي لا يمتنع وجوده ولا عدمه. فعلى هذا, النُسخ التي فيها مما استوى الأمران فيه مع لفظة فيهما موجهة ولا تكرار؛ لأن ما استوى طرفاه شرعًا أعم من المباح, لأن فعل الصبي كذلك وليس بمباح, ومع إسقاطهما ما استوى الآمران فيه أعم من كونه شرعًا أو عقلًا, والأعم لا إشعار له بالأخص, فلا يحمل على أحدهما عينًا, فالنُسخ التي فيها فيهما أوضح, ويتناول ما لا يمتنع وجوده ولا عدمه وهو الممكن الخاص. ويطلق الجائز على ما يشك فيه في الشرع والعقل باعتبار الاستواء وباعتبار الامتناع, فيطلق على ما يشك أنه لا يمتنع شرعًا, وعلى ما يشك استواء الأمرين فيه عقلًا. فالجائز للمباح بالتفسير الأول, وأعم منه بالثاني والثالث, ومباين له بالتفسير الأخير, والثالث أخص من الثاني, وهما مباينان للأخير. قال: (مسألة: الإباحة حكم شرعي, خلافًا لبعض المعتزلة. لنا: أنه خطاب الشارع. قالوا: انتفاء الحرج, وهو قبل الشرع). أقول: الإباحة حكم شرعي خلافًا لبعض المعتزلة, فإنهم يقولون:

المباح غير مأمور به

المباح ما لا حرج في فعله وتركه, وذلك ثابت قبل الشرع. ونحن ننكر ذلك ونقول: الإباحة خطاب الشارع بالتخيير, فالنزاع لفظي؛ لأنها إن فسرت بإذن الشارع, كانت حكمًا شرعيًا, وإن فسرت بانتفاء الحرج, كانت حكمًا عقليًا. قال: (المباح غير مأمور به خلافًا للكعبي. لنا: أن الأمر طلب يستلزم الترجيح ولا ترجيح. قال: كل مباح ترك حرام, وترك الحرام واجب, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, وتأول الإجماع على ذات الفعل, لا بالنظر إلى ما يستلزمه جمعًا بين الأدلة. وأجيب بجوابين: أحدهما: أنه غير متعين لذلك, فليس بواجب, وفيه تسليم أن الواجب واحد, فما فعله فهو واجب قطعًا. الثاني: إلزامه أن الصلاة حرام إذا ترك بها واجبًا, وهو يلتزمه باعتبار الجهتين, ولا مخلص إلا بأن ما لا يتم الواجب إلا به من عقلي أو عادي فليس بواجب, وقول الأستاذ: تكليف, بعيد). أقول: المباح غير مأمور به عند الجمهور.

وقال الكعبي وأتباعه من المعتزلة: لا مباح في الشرع, بل كل ما يفرض مباحًا, فهو واجب مأمور به. قال أيضًا: المباح مأمور به ولكن دون المندوب, كما أن المندوب دون الواجب. حجة الجمهور: أنه لو كان مأمورًا به, لترجح فعله على تركه, أما الملازمة: فلأن الأمر طلب يستلزم ترجيح الفعل على الترك, وأما بطلان التالي: فلأن المباح لا ترجيح فيه على ما سبق من تعريفه, وللكعبي منع عدم الترجيح تفريعًا على القول بوجوبه. والحق أن النزاع لفظي؛ لأنه إن أريد أنه مأمور به باعتبار ذاته فليس كذلك, ودليله لا ينهض عليه, ودليل الجمهور ينفيه, وإن أريد أنه مأمور به بالتبعية, باعتبار توقف الواجب عليه فهو مأمور به, وإن كان المصنف منعه, لكن فيه ما تقدم. احتج الكعبي: بأن كل مباح هو ترك حرام, إذ ما من شيء يوصف

بالإباحة إلا ويتحقق بمباشرة ترك حرام ما, وكل ما هو ترك حرام واجبًا إجماعًا, فالمباح واجب, وهنا تم دليله. وقوله: «وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» جواب عن سؤال مقدر وهو: أنه ليس ترك الحرام نفس فعل المباح, إايته أنه يحصل بفعل المباح. وأجاب: بأنه لا يضر, فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, وألزم أن الدليل والدعوى في مصادمة الإجماع فلا تسمع؛ لأن الاجماع على أن فعل المكلف ينقسم إلى مباح وواجب, ولا شيء من المباح بواجب, واعتذر عن الإجماع بأن ما ذكرنا من الدليل قطعي, فيجب تأويل الإجماع بذات الفعل, فيخص الإجماع بذلك جمعًا بين الأدلة؛ إذ الإجماع على انقسام الفعل إلى الأحكام الخمسة بالنظر إلى ذاته لا بالنظر إلى ما يستلزمه من ترك الحرام, فيكون بحسب ذاته مباحًا, وبحسب ما يستلزمه واجبًا, والتخيير باعتبار الذات لا ينافي الترجيح باعتبار, فلا خرق للإجماع. وأجيب بجوابين غير مرضيين عند المصنف: الأول: لا نسلم أن فعل المباح لا يتم ترك الحرام إلا به, وسند المنع أنه غير متعين لذلك, لإمكان ترك الحرام بفعل غير المباح من واجب أو مندوب, فلا يكون المباح واجبًا عينًا, وضعّفه بأن فيه تسليم أن الواجب أحدهما لا بعينه, فما فعل فهو واجب قطعًا, غاية ما في الباب أنه واجب مخير لا معين, وهو لم يدع إلا أصل الوجوب. لا يقال: قوله: «فما فعله فهو واجب قطعا» إن أراد أنه واجب بخصوصه فممنوع, وإن أراد أنه واجب لاشتماله على الواجب الذي هو

مسمى الضد فمُسلَّم, ولا يفيد الكعبي, لأن مدعاه وجوب كل معين لا وجوب مسمى الضد. لأنّا نقول: كل واحد من المعينات من أفراد المباح ومن أفراد الواجب والمندوب والمكروه, تصير لترك الحرام كخصال الكفارة, فيكون فردًا من أفراد الواجب, وأيضًا: إذا وجب ذلك الفرد الذي حصل به ترك الحرام لا قائل بالفرق. الجواب الثاني: النقض, وهو أنه لو صح الدليل المذكور, لزم كون الصلاة حرامًا إذا ترك بها واجبًا, كالزكاة الواجبة على الفور, أما الملازمة: فلأن الزكاة التي تجب على الفور لا تتم إلا بترك الصلاة, فيكون ترك الصلاة واجبًا, فتكون الصلاة حرامًا, وهو باطل, وضعّفه بأن للكعبي أن يلتزم كون الصلاة واجبة بالنظر إلى ذاتها, حرامًا باعتبار تركه الزكاة بسببها, كالصلاة في الدار المغصوبة. ثم لم رأى المصنف ضعف ما ردَّ به قول الكعبي, قال: لا مخلص من دليله إلا بمنع أن ما لا يتم الواجب إلا به إن كان عقليًا أو عاديًا واجب. والمصنف إنما خالف الجمهور فيما لا يتم الواجب إلا به لهذا الغرض, ولا حاجة إلى شيء من هذا؛ لأن مراد الكعبي إن كان أن المباح واجب على البدل كالمخير فهو حق, وإن أراد أنه واجب عينًا فباطل. ثم قال: (وقول الأستاذ: الإباحة تكليف, بعيد) , لما كان هذا

المباح ليس بجنس الواجب

القول يشارك قول الكعبي, لاستلزام قول الكعبي أنه تكليف, قال: إنه بعيد؛ لأن التكليف طلب ما فيه كلفة, ولا طلب في المباح. والنزاع لفظي؛ لأن من قال: الإباحة تكليف, لا بالنظر إلى أصل الفعل, بل بالنظر إلى وجوب اعتقاد / كونه مباحًا. والعجب من المصنف, حَكَمَ بالبُعْد هنا وجعله خلافًا, وجعله لفظيًا في قوله: (المندوب ليس بتكليف). قال: (المباح ليس بجنس للواجب, بل هما نوعان للحكم. لنا: لو كان جنسًا له لاستلزام النوع التخيير. قالوا: مأذون فيهما, واختص الواجب. قلنا: تركتم فصل المباح). أقول: المحققون على أن المباح ليس بجنس للواجب, بل هما نوعان للفعل الذي هو متعلق الحكم الشرعي. وقوله: (نوعان للحكم) مجاز, وظن قوم أنه جنس للواجب. واحتج عليهم: بأنه لو كان المباح جنسًا للواجب, لاستلزام النوع التخيير بين الفعل والترك, لاستلزام الخاص مما يستلزمه العام, واللازم باطل؛ لأن ذلك ينافي حقيقة الوجوب.

احتج الآخرون: بأنهما اشتركا في الإذن؛ إذ كل واحد منهما مأذون فيه, واختص الواجب بفصل المنع من الترك, فالمأذون الذي هو حقيقة المباح مشترك بين الواجب وغيره, فيكون جنسًا له. أجاب: بأنكم تركتم فصل المباح, إذ ليس هو المأذون في فعله فقط, بل وفي تركه, وبهذا القيد لا يكون مشتركًا, بل مباينًا. والحق أن البحث لفظي؛ لأن من فسّر المباح بالمأذون في فعله فقط, فلا نزاع في أنه جنس, ومن فسره بأنه المأذون في فعله وفي تركه, فلا شك أنه مباين للواجب. ويصح أن يحمل على بعد: (تركتم فصل المباح) على الفصل في اصطلاح الفقهاء لا المنطقيين, أي قسم المباح, لامتناع وجود الجنس في الخارج دون الفصل, فيجيء قول الكعبي. ومن هنا نشأ الخلاف في الوجوب إذا نسخ, هل يبقى الجواز؟ . فقال الحنفية: لا يبقى, وهو قول الغزالي. وقال غيره من الشافعية: يبقى الجواز.

خطاب الوضع

حجة الحنفية: أنهما متباينان, ولو سلّم فما هو جزاء لواجب منتف بانتفائه, لاستحالة بقاء حصة النوع من الجنس بعد عدم النوع, ولا وجود للأعم إلا مشخصا, فالجواز الباقي ليس جزء الوجوب قطعًا, بل هو حكم آخر يثبت منفصل. قال الآخرون: الدال على الوجوب دال على الجواز تضمنًا, فالوجوب مركب, وارتفاعه يكفي فيه ارتفاع جزءه, فالدليل الدال على الجواز سالم عن المعارض, فيثبته عملًا به, والأول أصح. قال: (خطاب الوضع, كالحكم على الوصف بالسببية الوقتية كالزوال, والمعنوية كالإسكار, والملك, والضمان, والعقوبات. وبالمانع للحكم لحكمة تقتضي نقيض الحكم, كالأبوة في القصاص. وبالمانع للسبب لحكمة تخل بحكمة السبب كالدين في الزكاة, فإن كان المستلزم عدمه فهو الشرط فيهما كالقدرة على التسليم والطهارة). أقول: لما فرغ من بيان الأحكام الثابتة بخطاب الاقتضاء والتخيير, شرع في الأحكام الثابتة بخطاب الوضع, وهي أصناف:

الأول: الحكم [على] الوصف المعين بكونه سببًا. والسبب: عبارة عما يتوصل به إلى مقصود ما, ومنه سمي الحبل سببًا. وأطلق شرعا على بعض مسمياته لغة: وهو كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفًا لإثبات حكم شرعي, فلله تعالى في الزاني حكمان: وجوب / الحدّ, وسببية الزنا, وينقسم بحكم الاستقراء إلى: وقتي, ومعنوي. فالوقتي: ما لا يستلزم في تعريفه للحكم حكمة باعثة عليه, كجعل زوال الشمس أمارة معرفة لوجوب الصلاة في قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس}. والمعنوي: ما يستلزم حكمة باعثة للشرع على شرع الحكم المسبب, كالشدة المطرية المعرفة لتحريم شرب النبيذ, لا لتحريم شرب الخمر, فإن ذلك معروف بالنص والإجماع لا بالشدة, فإذن الحكم الشرعي ليس نفس الوصف, بل حكم الشرع عليه بالسببية, وكأسباب الملك من الإرث والبيع

والهبة وغير ذلك, وأسباب الضمان كالإتلاف والغصب, وأسباب العقوبات وهي الجناية, فإنها سبب في القصاص أو الدية, بهذا صرح في المنتهى, فليس الملك والضمان والعقوبة أسبابًا, وإن صح في الأولين فهو ممتنع في الثالث؛ لأن العقوبات ليست سببًا للقصاص, بل الجناية هي السبب. لا يقال: لو كانت السببية حكمًا شرعيًا لاستدعت سببًا آخر يعرفها ويلزم الدور أو التسلسل, وأيضًا: الوصف المعرف للحكم, إن عرّفه بنفسه, لزم كونه معرفًا قبل ورود الشرع, وإن عرّفه بصفة زائدة, فالكلام فيها كما في الأول, ويعود الكلام فيدور أو يتسلسل. وأيضًا: الطريق إلى معرفة كون الوصف سببًا للحكم, ما يستلزمه من الحكمة المستدعية للحكم من جلب مصلحة أو دفع مفسدة وذلك ممتنع؛ لأنه لو كانت الحكمة معرفة للسببية لأمكن تعريف الحكم بها من غير حاجة إلى توسيط الوصف, وليس كذلك إجماعًا, ولكانت معرفة لها قبل ورود الشرع إن كانت الحكمة قديمة, وتحتاج إلى معرف آخر إن كانت حادثة لخفائها, ويعود الكلام ويتسلسل؛ لأنا نقول: معرفة السببية مستندة إلى الخطاب, أو إلى الحكمة الملازمة للوصف, مع اقتران الحكم بها في صورة, فلا يستدعي سببًا آخر يعرفها, ومنه يعلم جواب الثاني. وجواب الثالث: أن الحكمة المعرفة للسببية ليست مطلق الحكمة, بل الحكمة المضبوطة بالوصف المقترن بالحكم, فلا تكون بمجردها معرفة للحكم؛ لأنها إذا كانت خفية غير منضبطة بنفسها ولا بلزومها الذي هو

الوصف, لم تعرف الحكم لخفائها وعدم انضباطها؛ لاختلافها بحسب الأشخاص والأزمان والأحوال, ودأب الشرع فيما هذا شأنه, ردّ الناس إلى الأوصاف الظاهرة المنضبطة دفعًا للحرج عنهم. وجواب الرابع: أن الحكمة إذا كانت منوطة بالوصف, فهي معروفة بنفسها غير مفتقرة إلى معرف, ولا يلزم من تقديمها على الشرع أن تكون معرفة, لتوقف ذلك على اعتبارها في الشرع. الصنف الثاني: الحكم على الوصف بكونه مانعًا. إما للحكم وهو: وصف وجودي ظاهر منضبط, مستلزم لحكمة تقتضي نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب, كالأبوة في القصاص, فإنها وصف وجودي ظاهر منضبط مانع لحكم القصاص؛ لاشتمال الأبوة على ما تقتضي عدم القصاص الذي هو حكم القتل المذكور, والذي اشتملت عليه كون الأب سببًا في وجود الابن, فلا يصلح الابن سببًا لإعدامه مع بقاء حكمة السبب, وهي حفظ النفس, ووجود السبب وهو / القتل العمد العدوان. وإما مانعا لسبب الحكم: وهو كل وصف يخل وجوده بحكمة السبب, كالدين على من ملك نصابًا, فإنه وصف وجودي مقتض لإخلال حكمة سبب وجوب الزكاة, فإن حكمة السبب الذي هو ملك النصاب مواساة الفقراء من فضل ماله, ولم يدع الدَّين في المال فضلا, فحكمة المانع تخل

بحكمة السبب؛ لأن ملك النصاب إنما جعل سببًا إرفادا للفقراء, وهو إذا أدى يبقى فقيرًا محتاجًا إلى ما دفع ليخلص ذمته من الدين, فاستلزم الدين الإخلال بحكمة السبب. الصف الثالث: الحكم على الوصف بكونه شرطًا للحكم, وحقيقته أن عدمه مستلزم لعدم الحكم, كما أن المانع وجوده مستلزم لعدم الحكم, فهذا عدمه مستلزم لعدم الحكم, وذلك لحكمة في عدمه تقتضي نقيض الحكم أو تخل بحكمة السبب, فلهذا انقسم إلى شرط السبب, وإلى شرط الحكم, ويصح في المستلزم الرفع والنصب على الخبر المقدم, وأشار بقوله: (فيهما) إلى شرط الحكم, وشرط السبب. مثال شرط السبب: القدرة على التسليم في باب البيع, فإنه شرط صحة البيع الذي هو سبب الحكم بانتقال الملك, وحكمة صحة البيع هي إباحة الانتفاع بالمبيع, المتوقف على القدرة على الانتفاع, المتوقف على القدرة على التسليم, فعدمها يخل بحكمة السبب. مثال شرط الحكم: الطهارة للصلاة, لاشتمال عدم الطهارة مع الإتيان بمسمى الصلاة على ما يقتضي نقيض الحكم, فإن عدمها يستلزم الحدث المنافي للتعظيم, وذلك يقضي نقيض الحكم الذي هو الثواب, مع وجود سبب الحكم وهو الصلاة, وبقاء حكمة السبب وهو التوجه إلى جناب الحق, فعلى هذا يكون أعطى الأول للثاني, والثاني للأول, وكذا هو في الأحكام.

الصحة والبطلان

وجعل بعض الشراح القدرة على التسليم شرط حكمة الحكم, فإن عدمه ينافي حكمة صحة البيع التي هي إباحة الانتفاع, وجعل شرط السبب الطهارة للصلاة, فإن عدمها ينافي تعظيم الباري وهو السبب لوجوب الصلاة, فأعطى الأول للأول, ويكون على هذا ضمير فيهما راجع إلى حكمة الحكم وحكمة السبب, والأول لولا ما فيه من جعل الثواب حكمًا أولى؛ لأن الصحة ليست حكمًا شرعيًا على ما سيذكر. قال: [(وأما الصحة والبطلان, أو الحكم بهما بأمر عقلي؛ لأنهما إما كون الفعل مسقطًا للقضاء, أو موافقة أمر الشارع. والبطلان والفساد نقيضها. الحنفية: الفاسد المشروع بأصله, الممنوع بوصفه. وأما الرخصة: فالمشروع لعذر مع قيام المحرم لولا العذر, كأكل الميتة للمضطر, والقصر والفطر في السفر, واجبًا, ومندوبًا, ومباحًا). أقول: أما الصحة والبطلان, فقال صاحب الإحكام: (إنهما من أحكام الوضع والإخبار»؛ لأن الحكم بصحة العبادة وبطلانها لا يفهم منه اقتضاء ولا تخيير. وقال قوم: الصحة معناها الإباحة, والبطلان معناه الحرمة.

وذهب المصنف إلى أن الصحة والبطلان, أو الحكم بالصحة والبطلان] أمر عقلي لا يحتاج إلى توقيف من الشرع؛ لأن الصحة في العبادات موافقة الأمر عند المتكلمين, وإن وجب القضاء كالصلاة بظن الطهارة, وعند الفقهاء كون الفعل مسقطًا للقضاء. لا يقال: القضاء لم يجب, فكيف يسقط؟ . لأنّا نقول: المعنى رفع وجوبه, وهو مناقشة لفظية. وأما في المعاملات: فترتب الأثر المطلوب منها عليها شرعا. ولو قيل: العبادة صحيحة بهذا التفسير, لكان حسنًا. لا يقال: فإذن يلزم ترتب الثواب على الصلاة الصحيحة, وهو غير لازم؛ لجواز إحباط العمل. لأنّا نقول: المراد جواز ترتب الثمرة لا وجوبه. واستبعد المصنف كون الصحة أو الحكم بها أمر شرعي, صرح به في المنتهى؛ لأن العبادة إذا اشتملت على أركانها وشرائطها, حكم العقل بصحتها بكل واحد من التفسيرين, سواء حكم الشارع بالصحة أم لا. قيل: إن أراد بكونه أمرًا عقليًا, أنه لا مدخل للشرع فيه فممنوع؛

لتوقف الحكم على الشيء بكونه موافقًا لأمر الشارع على تصور أمره, وإن لم يرد ذلك, بل أراد وهو الأقرب أن الفعل له مدخل في الحكم لا أنه يستقل بكونه صحيحا, فلا نسلم بعده, والحق ما ذهب إليه المصنف؛ لأنهما صفتان للفعل الحادث, وحدوث الصفة توجب حدوث الموصوف, فلا يكونان حكمين شرعيين وإن توقفا على الشرع. وأما الصحة في المعاملات, فقيل: لم يتعرض لها المصنف, والأظهر أيضًا: أنها أمر عقلي؛ لأنه إذا كان الشيء مشتملا على الأسباب والشرائط وارتفاع الموانع, حكم العقل بترتب أثره عليه شرعًا, سواء حكم الشرع بالصحة أم لا. قلت: صرح بأنها في المعاملات حكم شرعي, حيث قال في الإيماء: فإن ذكر الوصف صريحًا والحكم مستنبط, مثل: {وأحل الله البيع} , ثم قال: والحل يستلزم الصحة, والبطلان والفساد نقيضا الصحة بكل من الاعتبارين, فهما مترادفان. وقال الحنفية: الباطل الذي لم يشرع بأصله, كبيع الملاقيح.

الرخصة

والفاسد: ما شرع بأصله دون وصفه, كبيع الدرهم بالدرهمين, فإنه مشروع من حيث إنه بيع, فإذا طرح الزيادة عندهم صح, ولم يحتج إلى تجديد عقد, فإن ثبت لهم ذلك فلا مشاحة في التسمية, وهو أيضًا أمر يدركه العقل؛ لأنه متى لم تكن موافقة لأمر الشارع, أو غير مسقطة للقضاء, أو لم يترتب الأمر عليها, حكم العقل بالبطلان والفساد. وأما الرخصة: فالمشروع [لعذر] مع قيام المحرم لولا العذر. وقال: (المشروع) ولم يقل: ما جاز فعله؛ ليتناول الفعل والترك؛ لأن الترك وإن كان فعلا لكن على قول؛ لأن الترخص قد يكون بالترك, كإسقاط لركعتين من الرباعية في السفر. وقال: (لعذر) ليخرج ما شرع لا لعذر, كوجوب الصلاة. وقوله: (مع قيام المحرم) احترازًا من المشروع لعذر لا مع قيام المحرم, كالإطعام في الظهار؛ لأن عند فقدان الرقية لا يكون الإعتاق واجبًا, وإلا لزم التكليف بالمحال. وقال: (لولا العذر) لأنه عند وجوده لا يكون المحرم قائمًا, وإلا لزم اجتماع الجواز والتحريم. وحاصله: أن دليل الحرمة إذا بقي معمولا به, وكان التخلف به لمانع

العزيمة

كان في حق المكلف لولاه ثبتت الحرمة في حقه, فهو الرخصة, وإلا فهو العزيمة, ويلزم عليه أن يكون الإطعام في الظهار رخصة, ثم الرخصة قد تكون واجبة كأكل الميتة للمضطر, وقد تكون مندوبًا كقصر المسافر الصلاة, وقد تكون مباحة كفطر المسافر في رمضان, واستعمل المصنف اللف والنشر. والعزيمة: ما لزم العباد بإلزام الله تعالى, صرح به في المنتهى, فيختص حسب الاقتضاء بالواجب, ولا يتوهم من تركها هنا أنها تقابل الرخصة. وعُلم مما ذكر أنهما من خطاب الاقتضاء والتخيير لا من خطاب الوضع. قال: (المحكوم فيه: الأفعال. مسألة: شرط المطلوب الإمكان, ونسب خلافه إلى الأشعري, والإجماع على صحة التكليف مما علم الله تعالى أنه لا يقع. لنا: لو صح التكليف بالمستحيل, لكان مستدعى حصوله, ولا يصح أنه لا يتصور وقوعه, واستدعاء حصوله فرعه؛ لأنه لو تصور مثبتًا, لزم تصور الأمر على خلاف ماهيته, وهو محال. فإن قيل: لو لم يتصور, لم تعلم إحالة الجمع بين الضدين؛ لأن العلم بصفة الشيء فرع تصوره.

قلنا: الجمع المتصور جمع المختلفات, وهو المحكوم بنفيه عن الضدين, ولا يلزم من تصوره منفيًا تصوره مثبتًا. فإن قيل: يتصور ذهنًا للحكم عليه, ولا في الخارج. قلنا: لإيكون الخارج مستحيلا, والذهني بخلافه, وأيضًا: يكون حكمًا بالاستحالة على ما ليس بمستحيل, وأيضًا: الحكم على الخارج يستدعي تصور الخارج). أقول: لما فرغ من الحكم وأبحاثه, شرع في المحكوم فيه, وهي أفعال المكلفين. واعلم أن الأفعال إن كانت ممتنعة لذاتها, فلا يجوز طلبها والتكليف بها عند المحققين, ونسب خلافه إلى الأشعري, ونقله صاحب الإحكام عنه قولًا, أما إن كانت الأفعال ممكنة لذاتها, سواء كانت ممتنعة للغير وهو الذي عَلِم الله أنه لا يقع أولا, فالإجماع على صحة التكليف بها. واحتاج على مختاره: بأنه لو صح التكليف بالمستحيل لكان المستحيل مستدعى حصوله في الخارج, أما الملازمة: فلأن التكليف به هو طلبه, وهو استدعاء حصوله, وأما بطلان التالي: فلأن المحال لذاته غير متصور الوقوع

وكلما هو غير متصور الوقوع يمتنع طلبه. أما الأولى: فلأنه لو تحقق تصور وقوعه خارجًا في نفس الطالب, لزم تصور الشيء على خلاف ماهيته؛ لأنها لما كانت مستلزمة للوقوع في الخارج يكون تصور وقوعها في الخارج مخالفها لها؛ لأن التصور حصول صورة الشيء في الذهن, فيكون تصور وقوعها في الخارج حصول صورتها في الخارج في الذهن, وإذا لم يكن لوقوعها في الخارج تحقق, لاستحالة تكون صورته الحاصلة في الذهن غير مطابقة له, ويستحيل على الله تصور الأمر على خلاف ماهيته؛ لأنه جهل متصور ذاته مع عدم ما يلزم فإنه يقتضي أن تكون ذاته غير ذاته, وإنا لو تصورنا أربعة ليست بزوج, وكلّ ما ليس بزوج ليس بأربعة, فقد تصورنا أربعة ليست بأربعة, وأما الكبرى؛ فلأن استدعاء الحصول [فرع تصوره, فإذا انتفى انتفى, وقرر أيضًا ببطلان اللازم بوجه آخر وهو: لو كان المستدعي الحصول] لكان متصور الوقوع لكنه محال؛ لأنه لو تصور صبوته فيه لزم تصور المحال على خلاف ماهيته؛ لأن ماهيته هي ما يمتنع في الخارج, فما أمكن فيه لا يكون مستحيلا, فلا يكون المستحيل مستحيلا, فيكون قوله: وهو محال لكونه خلاف المقدر, لا أنه محال لذاته. وما قيل من أنه منقوض بما علم الله أنه لا يقع فباطل؛ لأنه يتصور وقوعه نظرًا إلى ذاته؛ لأنها لا تنافي الوقوع. قلت: وفي هذا الدليل نظر, أما أولًا: فإنا نمنع, إذ لا يلزم من

التكليف استدعاء الحصول؛ لجواز أن يكون للابتلاء, حتى يثاب بسبب البِشْر ويعذب بسبب الكراهة, كما صرح به المصنف في غير موضع. سلمنا: ونمنع بطلان التالي, ولا يلزم من استدعاء الحصول تصور كونه ثابتا في الخارج الذي هو محال, واللازم من استدعاء الحصول تصور المحال فقط, ولا يلزم من تصوره تصور كونه ثابتًا في الخارج, حتى يلزم تصور الأمر على خلاف ماهيته, ويكفي في الحكم تصور المحكوم عليه بوجه. ثم أورد المصنف معارضة في المقدمة الصغرى من بطلان اللازم, وتوجيهها: لو لم يتصور وقوع المحال, امتنع التصديق بإحالة وقوع الجمع بين الضدين؛ لأن التصديق بثبوت الشيء للشيء فرع تصور ثبوت ذلك الشيء, فالحكم بإحالة وقوع الجمع بين الضدين فرع تصور وقوع الجمع بين الضدين, والمراد بالعلم في الموضعين التصديق؛ لأن العلم قد يخص به. أجاب: بأنّا لا ندعي انتفاء تصور المستحيل مطلقًا, بل انتفاء تصوره مثبتًا وهو أخص, ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم, وما ذكرتم يستدعي تصوره مطلقًا لا تصوره مثبتًا. وبيانه: أن المتصور هو الجمع بين المختلفات كالسواد والحلاوة, وهو المحكوم بنفيه عن الضدين, فنحن لا نتصور الضدين أولًا ثم نحكم على اجتماعهما بالاستحالة, بل العقل يحكم سلب الاجتماع المتصور بين المختلفات, كالاجتماع المتصور بين السواد والحركة في الجسم المتحرك عن الضدين, وسلب الاجتماع عن الضدين لا يتوقف على تصورهما مجتمعين. وقوله: (العلم بصفة الشيء فرع تصوره) ممنوع؛ لأن النسب

والإضافات لا تفعل في أنفسها ويصدق ثبوتها لغيرها. سلمنا: ولا يلزم من سلب الشيء عن الغير ثبوت ذلك الغير؛ لأن السالبة لا تستدعي وجود موضوع. سلمنا: والإحالة صفة للاجتماع المطلق المتصور بين المختلفات, والمراد أن مثل ذلك الاجتماع يستحيل في الضدين. وقوله: (لا يلزم من تصوره منفيا تصوره مثبتا) لدفع قول من قال: تصور السلب يتوقف على تصور الإيجاب, كما في العدم والملكة, إذ سلب الشيء عن الشيء لا يتوقف على ثبوته له, بل يتوقف على تصور ثبوته فقط, وتصور العام لا يستلزم تصور الخاص, ويلزم من انتفاء الجمع بين المختلفات عن الضدين انتفاء الجمع المطلق عنهما؛ لأنه إذا لم يكن للمطلق وجود إلا في اجتماع الأمور المختلفة, لزم من انتفاء اجتماعهما انتفاء الجمع المطلق. ثم قوله: (العلم بصفة [الشيء فرع تصوره) إنما يصح إذا اعتبر في الصفة إضافتها إلى الشيء, كإحالة الجمع بين الضدين في مثالنا, إذ العلم بصفة] الشيء مطلقًا, كالعلم بالزوجية مثلا التي هي صفة الأربعة لا تتوقف على تصور الأربعة, بخلاف الحكم بزوجية الأربعة فإنه يتوقف على تصورها. لا يقال: فعلي هذا لا يناقض قولنا: الضدان لا يجتمعان, قولنا: الضدان يجتمعان, لعدم اتحاد الموضوع؛ لأن الحكم عليه نفيًا جمع المختلفات

الغير / متضادة, والمحكوم بثبوته جمع المتضادة, لأنّا نقول: أعم كما تقدم, ويلزم من نفي الأعم نفي الأخص. واعلم أن بحث المصنف يستلزم عدم عموم تعلق علم الله تعالى, والحق العموم. ثم أورد المصنف أيضًا معارضة أخرى في المقدمة, وتوجيهها أن يقول: اجتماع الضدين مقصود هـ نا, لأنا نحكم عليه بالحكم الثبوتي بأنه معدوم ومستحيل, وثبوت الشيء لغيره فرع ثبوته في نفسه فهو ثابت, وإذ ليس في الخارج فهو في الذهن, وذلك كاف في طلبه, ولا يلزم تصور الشيء على خلاف ماهيته. ثم أجاب عنه من ثلاثة أوجه: الأول: أن الذهني يكون ممكنًا إذ المقدر وقوع الجمع فيه, والخارج يكون مستحيلا, ولا نزاع في التكليف بالأول, إنما النزاع في التكليف بالممتنع لذاته في الخارج, فلا يكون المستحيل هو المتصور. الثاني: أن الحكم بالاستحالة يكون على المتصور, وقد ذكرتم أن ذلك هو الذهني وهو غير مستحيل, ضرورة أن المحال ممكن الوقوع في الذهن وإن كان ممتنعًا في الخارج, فقد حكمتم بالاستحالة على ما ليس بمستحيل. الثالث: أن تصوره ذهنًا لا يكفيكم ولا يضرنا؛ لأن حكم الذهن على الخارج بالامتناع يستدعي تصوره للخارج؛ لأنه لو لم يتصور وقوعه في الخارج استحال الحكم باستحالته فيه, وقد بينّا أنه لا يتصور؛ لأنه تصور

للأمر على خلاف ماهيته. قيل: في الأجوبة نظر: أما الأول: فلأن معنى قولنا: اجتماع الضدين محال في الخارج, ليس هو أن ما يصدق عليه اجتماع الضدين في الخارج فهو محال في الخارج, كما في قولنا: كل إنسان حيوان في الخارج, بل معناه: أن اتصاف الضدين بالاجتماع المطلق في الخارج م حال, وهذ لا يقتضي وجود الموضوع في الخارج, فإنه من القضايا الذهنية لا الخارجية. وأما الثاني: فلأن الخصم لا يسلم أن المستحيل لذاته هو يمتنع تصوره. وأما الثالث: فلأن الحكم على المستحيل الخارجي بما ذكرنا من التغير لا يستدعي تصوره في الخارج. قال: والجواب الحق أن يقال: الجمع المتصور جمع المختلفات ... إلى آخره. قلت: الأول والثاني غير موجهين؛ لأن ما ادعى وجود الموضوع في الخارج, ولا قال في الجواب: إن المستحيل لذاته هو ما يمتنع تصوره. قال: (المخالف: لأولم يصح لم يقع؛ لأن المعاصي مأمور, وقد علم الله أنه لا يقع, وأخبر أنه لا يؤمن, وكذلك من علم بموته, ومن نسخ عنه قبل تمكنه؛ ولأن المكلف لا قدرة له إلا حال الفعل, فقد كلف غير مستطيع؛ ولأن الأفعال مخلوقة لله تعالى, ومن هذين نسب تكليف المحال للأشعري.

وأجيب: بأن ذلك لا يمنع تصور الوقوع؛ لجوازه منه, فهو غير محل النزاع, وبأن ذلك يستلزم أن التكاليف ك لها تكليف بالمستحيل. قالوا: كلّف أبا جهل تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به ومنه ألا يصدقه, فقد كلّفه بأن يصدقه في أن لا يصدقه, وهو مستلزم أن لا يصدقه. والجواب: أنهم كلّفوا تصديقه, وإخبار رسوله صلى الله عليه وسلم كإخبار نوح, ولا يخرج الممكن عن الإمكان بخبر أو علم. نعم, كلّفوا بعد علمهم لانتفت فائدة التكليف ومثله غير واقع). أقول: احتج المجوز بوجهين: الأول: لو لم يصح لم يقع واللازم باطل, أما الملازمة: فلانعكاس كل ما وقع فهو ممكن بعكس النقيض إلى الملازمة, وأما بطلان التالي فمن وجوه: الأول: أن العاصي بترك الفعل مأمور علم أنه لا يقع, وخلاف معلوم الله تعالى محال, وإلا لزم جهله تعالى عن ذلك, فيكون الممتنع مأمورًا به. وأيضًا: الكافر مكلف بالإيمان, وقد أخبر الله تعالى أنه لا يؤمن, لقوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} , فوقوع الإيمان فيهم محال, وإلا لزم كذب خبره تعالى, فيكون التكليف بالممتنع واقعًا. ومنها: أنه تعالى كلف من علم بموته قبل تمكنه من الفعل [المأمور به, وهو حينئذ يمتنع منه الفعل, وكذلك كلف من نسخ عنه قبل تمكنه من الفعل

مع أنه يمكنه] الإتيان بالفعل امتثالًا. ومنها: أن المكلف لا قدرة له على الفعل إلا حال صدور الفعل, إذ لو وجدت القدرة قبل الفعل لكان لها متعلق موجود, لاستحالة كون المعدوم مقدورًا, فيكون الفعل قبل صدوره ممتنعًا, ضرورة عدم قدرته عليه وهو مكلف إذ ذاك؛ لأن استدعاء الفعل مقدم عليه, إذ لا يتصور إلا في المستقبل ضرورة امتناع إيجاد الموجود, فهو حال التكليف غير مستطيع. ومنها: أن أفعال العبادة مخلوقة لله تعالى بدليل: {والله خلقكم وما تعملون} , ولأنها لو كانت مخلوقة للعبد لكان خالقا لها بالطبع وهو باطل إجماعا, أو بالاختيار فيكون عالما بتفاصيل الحركات والسكنات الصادرة منه, لأنه لابد وأن يكون مريدًا لتفاصيل ما صدر عنه وإلا لم تكن بالاختيار ويلزم من كونه مريدًا لها أن يكون عالما بها وليس كذلك, فلا تكون مخلوقة [له] , فتكون مخلوقة لله تعالى, فيكون التكليف بها تكليف بما لا قدرة للعبد عليه؛ لامتناع وقوع ما وقع بقدرة الله بقدرة العبد. ومن قول الأشعري: إن المكلف لا قدرة له إلا حال الفعل, وإن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى, فنسب إليه القول بالتكليف بالمحال, وإلا فهو لم يصرح به.

والجواب: إن علم الله تعالى وإخباره بعدم وقوع الفعل, وكون الفعل مع القدرة, وكون الأفعال مخلوقة لله تعالى, لا يمتنع تصور وقوع الفعل من المكلف؛ لجواز تصور الوقوع منه فهو غير محل النزاع, إذ النزاع فيما يمنع تصور وقوعه لا فيما يمتنع وقوعه لخبر أو علم أو غيرهما, فهي تجوز صدورها بحسب الذات من المكلف وإن امتنعت لأمر خارجي, ولا نزاع فيه. الثاني: أن ما ذكرتم يبطل المجمع عليه فيكون باطلا؛ لأنه يستلزم أن تكون التكاليف كلها تكليف بالمستحيل, أما كون القدرة مع الفعل وكون الأفعال مخلوقة لله تعالى تستلزم كل واحد منها ذلك فواضح, وأما استلزام العلم ذلك, فلوجوب وجود الفعل أو عدمه لوجوب تعلق العلم بأحدهما, وأيًّا ما كان يتعين ويمتنع الآخر, فالتكليف إما بالواجب أو بالممتنع, وكلاهما تكليف بالمحال, وأما الأخبار والموت والنسخ فلا يعم, وكون كل تكليف تكليف بالمستحيل باطل؛ لأن بعض من جوز التكليف بالمحال لم يقل بوقوعه, ومن قال بالوقوع لم يعمم, وغير المجوز أوضح. قيل: لا يصح منع الإجماع [مسندًا] , إذ القائل بهذين - ويكون ما علم الله وقوعه أو أخبر عنه واجبًا, ويكون ما علم عدمه أو أخبر عنه ممتنعًا - يقول: إن التكاليف كلها تكليف بالمحال, [أما عندنا؛ فلأن شرط المطلوب الإمكان, وأما عندهم؛ فلأن إيمان من علم الله أنه لا يؤمن ممكن بحسب ذاته, ودعوى امتناعه لذاته عناد.

قلنا: وفيه نظر؛ لأن المستدر يهم أن المجيب ألزمه أن التكاليف كلها تكليف بالمحال لذاته يمنع الاستلزام, ولا يبقى غير الجواب الأول]. [سلمنا الإجماع؛ لكن ظني لا يعارض القواطع. قلت: وفيه نظر؛ لأن الأشعري قائل بهذين, ومجوز للتكليف بالمحال, ومانع للتكليف به في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به, وفي مسألة تكليف الغافل, وقوله: «الإجماع ظني» نمنعه]. فإن قيل: في الثالث والرابع نظر؛ لأن التكليف عند الأشاعرة إنما يتوجه حال المباشرة على ما حكى الإمام في المحصول, وقبل ذلك لا لأمر بل هو إعلام, فإنه في الزمان الثاني يصير مأمورا به بالمباشرة, فلم يكلف من علم بموته ومن نسخ عنه قبل تمكنه. قلت: لو صح ذلك لم يعص أحد لعدم التكليف. قيل على الخامس: لا نسلم أنها لو كانت قبله لوجد لها متعلق. سلمنا, لكن التكليف مع عدم الاستطاعة إنما يلزم لو كلف حال عدم القدرة بالإتيان بالمأمور به إذ ذاك, أما إذا كلف حال عدم القدرة بالإتيان به حال القدرة فلا؛ ولأنه يلزم كون قدرة الباري تعالى مع الفعل لا قبله فتكون حادثة.

وردَّ: بأن القدرة حاصلة قبل صدور الفعل, وشرط تأثيرها في الفعل الإرادة والداعية, وإذا انتفى الشرط المشروط, فلا تكون القدرة على وجه تؤثر حاصله, وهو المراد بنفي حصول القدرة, ولا يلزم حدوث قدرته تعالى؛ لأن القدرة الأزلية تحدث كل شيء أراده الله تعالى بالإرادة الأزلية في زمان اقتضت الحكمة البالغة حصوله فيه. وقوله: «إنما كلف بالمحال بالإيقاع في ثاني حال» [باطل]؛ لأن الإيقاع المكلف به في ثاني حال, إن كان نفس الفعل, فالتكليف به محال كالتكليف بالفعل, وإن كان غيره عاد الكلام إليه, بأن نقول: التكليف به إنما يتوجه عند الشروع فيه, على أن المسألة مشكلة؛ لأن الفعل قبل القدرة المستجمعة لشرائط التأثير يمتنع صدوره, وعندها يجب صدوره, فيلزم على مذهب المعتزلة كون الممتنع مكلفًا به, وعلى مذهب الأشاعرة كون الواجب مكلفًا به, وأنه لا يعصي أحد. احتجوا ثانيا: بأنه لو لم يخير لم يقع, بيان بطلان التالي: أن الله تعالى كلف أبا جهل بالإيمان, وهو تصديق الرسول في جميع ما جاء به, ومما جاء به أنّ أبا جهل لا يصدقه, فقد كلفه بأن يصدقه في أن لا يصدقه, وتكليفه أن يصدقه في هذا الخبر المستلزم ألا يصدقه وإلا لزم كذب خبر الله تعالى, فيكون تكليفًا بالتصديق حالة امتناع التصديق, وهو تكليف [بالجمع بين الضدين] , لكونه مكلفًا بتصديق هذا الخبر لأنه مما جاء به, وهذا الخبر

يستلزم ألا يؤمن لاستحالة خلف خير الله تعالى. والجواب: أنهم لم يكلفوا إلا تصديقه وهو ممكن في نفسه متصور وقوعه, لكنه مما علم الله أنه لا يقع, وإخبار الله لرسوله كإخباره لنوح في قوله: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} , لا أنه عليه السلام أخبر أبا جهل بذلك, ولا يخرج الممكن عن الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي بخبر أو علم, فهو غير محل النزاع, ويصح أن يضاف إلى الفاعل, أي إخبار الرسول الأمة كإخبار الله نوحًا, مع أنهم كانوا مكلفين بالإيمان, ووجه التشبيه أنه إذا كان إخبار نوح المؤكد بأن لم يخرج الممكن عن إمكانه بعدم إخراج خبر الرسول مع عدم تأكيده أولا, ولو تركه لكان أحسن؛ لأن قضية إخبار نوح كقضية أبي جهل, والخصم استدل بكل منهما, فله أن يمنع في كل منهما. ومما أجيب به عن هذا السؤال: أنّا لا نسلم أن من الإيمان تصديقه في كل ما أخبر عنه, بل في كل ما علم أنه خبر عنه, فلا يلزم بالتكليف بصدق هذا الخبر إلا إذا علم أنه خبر الله تعالى, ولو علم ذلك لعلم صدق الرسول, ولو علم صدقه لم يوجد هذا الخبر منه تعالى لاستلازمه الكذب, وإذا لم يوجد لم يكلف بتصديقه, فالتكليف بهذا الخبر يستلزم عدم التكليف به, فلا يكون مكلفا به, وأيضًا: من الإيمان تصديقه في كل ما أخبر به تصديقا إجماليًا, أي يعتقد على سبيل الإجمال أن كل خبر من أخباره تعالى صدق, ويلزم منه التكليف بصدق هذا الخبر تصديقًا إجماليًا, وهو لا يستلزم

اشتراط حصول الشرط حال التكليف (تكليف الكفار)

مشروط بوجود العلم بهذا الخبر وهو غير مكلف [به] لما تقدم, وأيضًا: لا نسلم أن أبا جهل مأمور بالإفيمان بعد نزول أنه لا يؤمن؛ لجواز أن يكون الإخبار بأنه لا يؤمن لتضمنه التكليف ناسخًا في حقه التكليف الأول. ثم قال المصنف: «نعم لو كلفوا بعد علمهم» , وهو جواب عن سؤال مقدر تقريره: لو صح التكليف بما علم وقوعه, لصح التكليف بما علم المكلف انتفاء وقوعه, وأنت لا تقول به. وأجاب: بالفرق, وهو أن الذي لا أقول به في التكليف بالممتنع للغير, هو ما لو كلفوا بعد علمهم بامتناع الوقوع منهم, لكن لا استحالة التكليف به لينهض نقضًا, بل لانتفاء فائدة التكليف التي هي الامتثال والابتلاء, ومثل هذا التكليف الذي لا يشتمل على فائدة غير واقع, بل غير جائز شرعًا, وقد منع المصنف جوازه في قوله: (وأجيب بانتفاء فائدة التكليف). قال: (مسألة: حصول الشرط الشرعي ليس شرطًا في التكليف قطعا, خلافا لأصحاب الرأي. وهي مفروضة في تكليف الكفار بالفرع. والظاهر الوقوع. لنا: لو كان شرطًا لم تجب صلاة على محدث وجنب, ولا قبل النية, ولا الله أكبر قبل النية, ولا اللام قبل الهمزة, وذلك باطل قطعًا). أقول: لا يشترط في التكليف بالفعل أن يكون شرطه حاصلا حالة

التكليف, بل يجوز التكليف بالفعل وإن لم يحصل شرطه شرعًا, خلافا للحنفية, وأبي حامد الإسفرائيني من الشافعية, ولأحد قولي المالكية. والمسألة [مفروضة في بعض جزئيات محل النزاع, وهو تكليف الكفار بالفروع, مع انتفاء شرطها وهو الإيمان, حتى يعذب بالفروع كما يعذب بالإيمان]. وهذه مسألة مترجمة في أكثر الكتب بالكفار مخاطبون بفروع الإسلام, وهو أحسن, وإن كان ابن برهان قد خطأهم أيضًا محتجًا بأن الكافر

منهي عن الصلاة, فلا يكون مخاطبًا بها. قال: وإنما كلف بالتوصل إلى فروع الإيمان, وهذا مقتضب من البرهان. وإنما قلنا: إنه أحسن؛ إذ لا خلاف أن المسلم لو بقي محدثًا إلى آخر عمره, عُوقب على ترك الصلاة إجماعًا. وقيل: إن الكفار مخاطبون بالنواهي دون الأوامر؛ إذ الانتهاء ممكن الشيء شرعًا لا وجوده, فخرج عنه الممكن من الأداء الزائل بالنوم, فإنه شرط في التكليف بأدائه وليس شرطا في التكليف بوجوبه, فإنه يجب عليه الصلاة بدخول الوقت, ولذلك وجب القضاء ولا يجب الأداء, وخرج التمكن من الفهم الذي ليس حاصلا للصبي والمجنون, ولهذا لم يكلفا بأداء الصلاة بعد دخول الوقت, فهما وإن كانا شرطين شرعيين لكن مما يتوقف / وجود الشيء عليهما, ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى التفصيل؛ لأن المذكور شرطان عقليان لا شرعيان. واعلم أن ما ذكر يشكل بالنقاء من الحيض والنفاس, فإنه شرط شرعي

وحصوله شرط في التكليف بالصلاة, وهذا إنما جاء من تعميمه, والكلام معمم في الجواز والوقوع, أما الجواز فقطعي, وأما الوقوع فالظاهر الوقوع. احتج المصنف: بأنه لو كان حصول الشرط الشرعي شرطًا في التكليف بالمشروط لم تجب صلاة على محدث وجنب؛ لانتفاء شرطها وهو الطهارة, ولم تجب الصلاة قبل النية لأنها شرطها وقد انتفت, ولا الله أكبر قبل النية, ولا اللام من الله أكبر قبل الهمزة؛ لأنها شرط في وجوب اللام؛ لأن الشرع راعى الترتيب في الحروف كما روعي في اللغة, واللازم باطل. لا يقال: نمنع بطلان التالي, وسنده أنّ أبا هاشم يقول: لو بقي المسلم محدثًا إلى آخر عمره, لقي الله تعالى وهو غير مخاطب بالصلاة؛ لأّنا نقول: معناه أنه غير مخاطب بالأداء لا أنها غير واجبة, بحيث لا يعاقب بتركها؛ لأن ذلك خرق للإجماع, فهو مخاطب في الزمان الأول بفعل فيه الإيمان, والعبادات في الثاني. واعلم أن هذا لا يعيد إلا إذا ادعى الخصم العموم, أما في المسألة المفروضة فلا, إلا أن يكون بالقياس عليه. قال: (قالوا: لو كلّف بها لصحت منه. قلنا: غير محل النزاع. قالوا: لو صح لأمكن الامتثال, وفي الكفر لا يمكن, وبعده يسقط.

قلنا: يسلم, ويفعل كالمحدث). أقول: احتج الخصوم بوجهين: الأول: لو كلف الكافر بالفروع لصحت منه, واللازم باطل, أما الملازمة: فلأن الصحة موافقة الأمر, وأما بطلان اللازم: فبالاتفاق. أجاب: بمنع اللزوم, وما ذكرتم ليس محل النزاع, إذ لا نقول: إنه مأمور به حالة كفره, نعم يصح منه أن يؤمن ويفعل كالمحدث, فهو مكلف بها حالة الكفر, وبأدائها بعد شرطها, أو نقول: معنى صحة تكليفهم أنهم يعاقبون بترك الفروع كما يعاقبون بترك الإيمان, وإنما يلزم ما ذكرتم لو كلف بأدائها حالة الكفر, وهذا أولى من الأول؛ لأن المصنف ذكر الأول جوابًا عن شبهتهم الثانية, وفي بعض النسخ (غير محل النزاع) , أي نمنع الملازمة فإنه يجوز التكليف عقلا مع عدم الصحة شرعًا, وبه صرح في المنتهى. الثاني: لو كلف بها لأمكن الامتثال, أما الملازمة: فلأن الإمكان شرط التكليف, وأما بطلان التالي؛ فلأن الامتثال حالة الكفر مستحيل لعدم شرطه, وأما بعده فلا يمكن لسقوط الأمر عنه, والامتثال فرعه. والجواب: أنه في الكفر ممكن لذاته, بأن يسلم ويفعل كالمحدث, غايته أنه مع الكفر لا يمكن وذلك ضرورة بشرط المحمول, ولأننا في الإمكان الذاتي كقيام زيد وقت عدم قيامه فإنه ممكن, وإن امتنع بشرط عدم قيامه, ثم

الامتثال بعد الكفر لا يمتنع لذاته, وإنما [امتنع] بسبب إخبار الشرع بسقوطها عنهم ترغيبًا لهم في الإسلام بخلاف المرتد, ثم شرع يحتج للوقوع. قال: (الوقوع: {ومن يفعل ذلك} , {ولم نك من المصلين}. قالوا: لو وقع لوجب القضاء. قلنا: القضاء بأمر جديد, فليس بينه وبين وقوع التكليف ولا صحته ربط عقلي). أقول: مما يدل على وقوع تكليف الكفار بالفروع قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} إلى قوله: {يضاعف له العذاب يوم القيامة} , ووجه التمسك بها, أن الله تعالى حكم بتضعيف العذاب بفعل ذلك أي بجميع ما تقدم, ومنه الزنا, وقتل النفس, ولولا أنه محرّم عليه ومنهي عنه لما أثم بفعله, وهذا لا ينهض على جواز التكليف بالنواهي دون الأوامر, لا يقال: استحقاق العذاب بالترك وحده وتحقيقه ذلك, وهي إشارة إلى البعيد. سلمنا: ويكون العذاب بفعل الكل, ولا يلزم من حرمة الكل حرمة كل واحد. سلمنا: لكن المراد المؤمنون؛ لأنَّا نقول: لو لم يكن للباقي مدخل في العذاب, لكان ذكره معه قبيحًا, ولو لم يكن كل واحد حرامًا, لكان غير الحرام منضما إلى الحرام في الوعيد, وهو باطل.

فإن قيل: تضاعف العذاب بسبب الترك, والمباح شرط لاستحقاق العقاب. قلنا: بعيد, وأيضًا: إذا كان له مدخل في استحقاق العقاب لا يكون مباحا, ولفظ {من} ظاهر في عموم الآية الثانية, قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} , صرح بتعذيبهم بترك الصلاة ولم يكذبهم, وحمل المصلين على المعتقدين خلاف الظاهر, وحمل المصلين على المسلمين بدليل «نهيت عن قتل المصلين» , يردّه {ولم نك نطعم المسكين} , ويرده {وكنا نكذب بيوم الدين}. احتجوا على عدم الوقوع: بأنه لو وقع التكليف بها لوجب قضاؤها؛ لأن ما يقتضي وجوب الشيء يقتضي وجوبه قضائه. والجواب: منع الملازمة؛ لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد, فليس بين

لا تكليف إلا بفعل

القضاء وبين وقوع التكليف بالشيء ولا صحة التكليف به ربط عقلي حتى يلزم من التكليف وجوب القضاء, ولهذا قد يجب الأداء دون القضاء كالجمعة, وبالعكس كصوم الحائض. قال: (مسألة: لا تكليف إلا بفعل, فالمكلف به في النهي كف النفس, وعن أبي هاشم وكثير نفي الفعل. لنا: لو كان لكان مستدعى حصوله ولا يصح؛ لأنه غير مقدور له. وأجيب: بمنع أنه غير مقدور له, كأحد قولي القاضي. وردّ: بأنه كان معدومًا واستمر, والقدرة تقتضي أثرا عقلًا, وفيه نظر). أقول: ذهب أبو هاشم وأتباعه إلى أن متعلق النهي نفي الفعل, أي ألا يفعل, وذهب أكثر المتكلمين إلى أن كل مكلف به فعل, فالمكلف به في النهي فعل أيضًا, وهو كف النفس عن الفعل, وهو مختار المصنف. واحتج عليه: بأن نفي الفعل لو كان مكلفًا به, لكان مستدعى حصوله من المكلف, واستدعاء حصوله منه فرع تصور وقوعه منه لما مرّ, ولا يتصور وقوع نفي الفعل منه لأنه غير مقدور له؛ لأنه نفي محض, والنفي

المحض لا يكون مقدورًا, فإذن لا يتصور وقوعه منه, فلا يكلف به؛ لأن شرط المطلوب إمكانه. واعترض: بأنّا لا نسلم أنه غير مقدور؛ لأن القدرة نسبتها إلى الطرفين على السواء, فلو لم يكن نفي الفعل مقدورا لم يكن الفعل مقدورا, وإنما يلزم ما ذكرتم لو كان عدما محضا وليس كذلك؛ لأنه عدم مضاف, ولهذا يمدح العقلاء من ترك الزنا وإن لم يخطر ببالهم كف النفس, وهذا أحد قولي القاضي. وردّ بوجهين: الأول: أنه كان معدومًا قبل واستمر, وما ثبت قبل القدرة لا يكون أثرًا للقدرة المتأخرة عنه. الثاني: أن القدرة لابد لها من أثر عقلا, والعدم لا يصلح أثرًا؛ لأنه نفي محض وعدم صرف, وإنما مدح من ترك الزنا لكف النفس وهو وجودي, ونمنع المدح مع عدم الخطران. ثم قال: وفيه نظر؛ وهو أنّا لا نسلم أن استمراره لا يصلح أثرًا للقدرة إذ يمكنه أن لا يفعل فيستمر, وإن فعل فلا يستمر, وأيضًا: يكفي في / طرف النفي أثرًا أنه لم يشأه فلم يفعل؛ لأن البقاء على العدم من قدرة المكلف, والعدم الأول غير العدم المقارن للقدرة, فيكون المقارن لها أثرًا لها. قيل على الملازمة: إن أردت بكونه مستدعى حصوله, مطلوب إيجاده من المكلف فلا ملازمة ممنوعة, وإن أردت مطلوب إبقاءه, فنفي التالي

انقطاع التكليف بالفعل

ممنوع, والمصنف استعمل هنا وأجيب مكان واعترض. قال: (مسألة: قال الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعل حال حدوثه, ومنع الإمام والمعتزلة له. فإن أراد الشيخ: أن تعلقه لنفسه فلا ينقطع بعده أيضًا, وإن أراد أن تنجيز التكليف باق فتكليف بإيجاد الموجود وهو محال, ولعدم صحة الابتلاء, فتنتفي فائدة التكليف. قالوا: مقدور حينئذ باتفاق, فيصح التكليف. قلنا: بل يمتنع بما ذكرناه). أقول: اختلفوا في تعلق التكليف بالفعل هل حال وجوده أو قبله؟ . فقال الأشعري بالأول, وقال إمام الحرمين والمعتزلة بالثاني. وكلام المصنف يشعر بأن الشيخ يقول بالتكليف قبل الشروع في الفعل؛ لأن عدم الانقطاع يستلزمه وهو لا يقول به على ما ذكر الإمام عنه, من أن التكليف لا يتوجه عنده إلا عند المباشرة, والثابت قبلها الإعلام بأنه سيصير مكلفا, على أن قول المصنف قبل هذا: ولأن المكلف لا قدرة له إلا حال الفعل, وهو حينئذ غير مكلف, فقد كلف غير مستطيع, يقتضي أنه يقول بالتكليف قبل الفعل, وبانقطاعه حال حدوث الفعل, فليتأمل. ثم قال المصنف مستفسرًا: إن أراد الشيخ بعدم انقطاع التكليف أنّ

الخطاب متعلق بالفعل لنفس الخطاب, لزم ألا ينقطع التكليف بالفعل بعد الفراغ وهو خلاف الإجماع؛ لأن المتعلق بالشيء لنفسه لا ينقطع لبقاء المقتضي للتعلق وهو الخطاب القديم الممتنع العدم, وإن أراد الشيخ أن تنجيز التكليف بالفعل باق حال حدوث الفعل, لزم أن يكون المكلف مطلوبًا بإيجاد الموجود وهو محال. وأيضًا: يلزم أن تنتفي فائدة التكليف وهو اختبار العبد بالبشر والكراهة, إذ لا اختبار حال الشروع, وإنما يتصور حالة التردد في الفعل والترك, أما عند تحقق الفعل فلا, ولا فائدة للتكليف إلا الامتثال أو الابتلاء, وقد انتفيا. ولقائل أن يقول: مراد الشيخ أن المكلف حال حدوث الفعل مكلف بالإتيان بالكل المجموعي, لا بإيجاد كل واحد من أجزاء الفعل, فلا يكون التكليف حال حدوث الفعل تكليفًا بإيجاد الموجود؛ لأن كل المجموعي لم يوجد حال حدوث الفعل, والابتلاء صحيح؛ لأن المكلف لم يأت بتمام الفعل بعد؛ لجواز أن يبدو له, وأيضًا: نمنع انحصار فائدة التكليف في الأمرين. لا يقال: ما وجد من الفعل قد انقطع التكليف به, فيكون تعلق التكليف بالباقي لا بالمجموع, لأنّا نقول: التكليف بالذات تعلق بالمجموع من حيث هو, وبأجزائه بالعرض, فما لم يوجد المجموع لا ينقطع التكليف؛ لأن المأتي به من الأجزاء مشروطا في الامتثال به الإتيان بالباقي. سلمنا أنه تكليف بإيجاد الموجود, ولا نسلم استحالته؛ لأن وجوبه

المحكوم عليه (المكلف): الفهم شرط التكليف

بالغير لا يخرجه عن التكليف به. احتج الأشعري: بأن الفعل حال حدوثه مقدور بالاتفاق, سواء قلنا: متقدم القدرة على الفعل كما هو مذهب المعتزلة, أو وجودها مع وجوده كما هو مذهب الشيخ, وكل ما هو مقدور يصح / التكليف به. أو نقول: الفعل أثر القدرة فيوجد معها, وإذا كان مقدورًا يصح التكليف به, إذ لا مانع إلا عدم القدرة, وقد انتفى. أجاب: بأنّا لا نسلم أن المقدور يصح التكليف به, وأنه لا مانع إلا عدم القدرة, بل ما ذكرنا من لزوم التكليف بإيجاد الموجود وانتفاء الابتلاء مانع. قال بعض فضلاء الشارحين: وهذه المسألة موضع نظر وبحث, فعليك بالتأمل. قلت: وهو حق, والنظر أولا في موضوعها, وفي معارضتها لما تقدم, وفي اضطراب النقل عن الشيخ, واستلزام ما نقل الإمام عنه ألا يعصى أحد أبدا, وفي أدلتها. قال: (المحكوم عليه: المكلف. مسألة: الفهم شرط التكليف. وقال به بعض من جوز المستحيل لعدم الابتلاء.

لنا: لو صح لكان مستدعًا حصوله منه طاعة كما تقدم, ولصح تكليف البهيمة, لأنهما في عدم الفهم سواء. قالوا: لو لم يصح لم يقع, وقد اعتبر طلاق السكران, وقتله, وإتلافه. وأجيب: بأن ذلك ليس بتكليف, بل من قبيل الأسباب, كقتل الطفل, وإتلافه. قالوا: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}. قلنا: يجب تأويلها, إما بمثل: «لا تمت وأنت ظالم» , وإما على أن المراد الثمل؛ لمنعه التثبت كالغضب). أقول: لما فرغ من المحكوم فيه, شرع في الأصل الرابع وهو المحكوم عليه, وذكر أحكامه في ثلاث مسائل: الأولى: فهم المكلف للتكليف شرط في صحة تكليفه عند المحققين, وكل من منع تكليف المحال اشترطه؛ لأن الامتثال بدون الفهم محال, واشترطه أيضًا بعض من جوز التكليف بالمحال؛ لأن التكليف بالمحال قد يكون للابتلاء وهو معدوم عند عدم الفهم, وبعض من جوز التكليف بالمحال جوز تكليف الصبي والمجنون.

احتج المصنف لمختاره بوجهين: الأول: لو صح تكليف من لا فهم له, لكان مستدعى حصول الفعل منه على سبيل الطاعة والامتثال كما تقدم, ومجرد الحصول بدون الامتثال لا يكفي؛ لأنه يكون اتفاقيًا؛ ولأن كل مكلف مأمور بالطاعة وهي موافقة الأمر, وذلك يتوقف على الفهم, ولقوله عليه السلام: «الأعمال بالنيات» , ولا يتصور ممن لا شعور له بالأمر قصد الفعل امتثالا للأمر. فقوله: (طاعة) تنبيه على أن الفعل يجوز أن يصدر عن الصبي والمجنون, لكن ذلك غير كاف في سقوط التكليف, بل لابد من قصد الامتثال؛ لئلا يتوهم أن ذلك إذا جاز فربما علم الله تعالى وقوعه منه فكلف به, ولا يكون تكليف المحال, فلابد من قصد إيقاعه طاعة إلا في الواجب الأول, وهو النظر المعرف لوجوب معرفة الله, فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة, مع أن فاعله لا يعرف وجوبه عليه إلا بعد إتيانه به, ولا إرادة الطاعة لأنها لو افتقرت إلى إرادة أخرى لزم التسلسل. لا يقال: الدليل العقلي إن لم يصح لا اعتداد به, وإن صح لم يصح استثناء بعض الصور.

لأنا نقول: ما كلف به إن كان مما يجوز أن يعلم قبل الإتيان به, كان العلم به شرطا في الامتثال وإلا فلا, والحاصل أن العلم بالمكلف به شرط في التكليف به, إذا لم يكن العلم به منافيًا للتكليف به كما في المعرفة. واعلم أن هذا الدليل لا ينهض إلا على منع التكليف بالمحال, ولهذا قيل: هذه المسألأة من تفاريع التكليف بالمحال. الثاني: لو صح تكليف من لا فهم له, لصح تكليف البهيمة, أما الملازمة: فلأنه لا مانع في البهيمة إلا عدم الفهم, وليس بمانع لتحققه في صورة النزاع, وفيه نظر؛ لجواز أن تكون الإنسانية التي بها يتهيأ الصبي والمجنون لفهم الخطاب إذا بلغ الصبي وأفاق المجنون شرط في التكليف. احتج الآخرون بوجهين: الأول: لو لم يصح لم يقع, أما الملازمة: فواضحة, وأما بطلان التالي: فلأن السكران لا فهم له, وقد اعتبر طلاقه, وقتله, وإتلافه. أجاب: بأن ذلك ليس من باب التكليف, بل من قبيل ربط الأحكام بالأسباب وهو من خطاب الوضع والإخبار, يجعل تلفظه بالطلاق علامة على نفوذه عند من يراه, كما جعل زوال الشمس علامة على دخول وقت الصلاة, كقتل الطفل وإتلافه, فإن وجوب الضمان ليس مما يتعلق بفعل الصبي بل بماله وذمته, فإنها أهل لذلك, والإنسانية المتهيأ بها لقبول فهم الخطاب عند البلوغ بخلاف البهيمة, كما أن وجوب الدية على العاقلة ليس من باب التكليف, إذ ليسوا مكلفين بفعل الغير لاستحالته, بل فعل الغير

سبب لثبوت الفهم عليهم, فكذا فعل الصبي سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمته, بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في الحال, أو لخطابه بعد البلوغ ولا استحالة فيه, وإنما المستحيل أن يقال لمن لا فهم له: افهم. فإن قيل: قتله قصاصًا إذا قتل لا يكون من خطاب الوضع, بل من خطاب التكليف. قلت: إذا صدر منه الفعل المقتضي عليه عرفًا بالعمد, علم أنه عاقل, إذ لا يتصور القصد إلا من عاقل, فلهذا قتل, وإلا فنمنع قتله. وقول من قال من العلماء: إذا كان السكران لا يفرق بين الأرض والسماء, لم يلزمه من الأحكام إلا القتل قصاصًا, محمول على ما ذكرنا [لقول غيره: إذا كان لا يميز بين الأرض والسماء, لا يكلف إلا بقضاء الصلاة]. الثاني: لو لم يصح لم يقع, أما الوقوع فلقوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} , فقد نهى من لا عقل له وهو السكران عن الصلاة حالة السكر. أجاب: بان الآية يجب تأويلها لأجل القاطع المتقدم, ولها تأويلان: أحدهما: أن المراد النهي عن السكر عند إرادة الصلاة؛ لأن ذلك كان قبل نزول تحريم الخمر, مثل أن يقال: لا تمت وأنت ظالم, فإن المنهي عنه

تعلق الأمر بالمعدوم

الظلم عند الموت, لا الموت حالة الظلم, أو يحمل السكران على الذي أخذ في مباديء النشاط وزال عنه غلبة الخمر, وسمي سكرانًا تسمية للشيء باسم ما كان عليه, يدل عليه {حتى تعلموا ما تقولون} أي حتى يتكامل العقل فيكم, وإنما نهى عن الصلاة في تلك الحالة وإن فهم الخطاب لعدم تثبته في تلك الحالة, وعدم محافظته على أركان الصلاة والخشوع فيها, كالغضبان يقال له: اسكت حتى تعلم ما تقول, أي حتى يتكامل علمك, وليس الغرض نفي العلم عنه بالكلية. قلت: وقول المصنف: (المراد الثمل) فيه نظر؛ لأن الثمل عند أهل اللغة هو الذي بلغ نهاية السكر, ولا يصح حمله على المنشي أيضًا؛ لأن قوله تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون} يرده, إذ المنتشي آيل إلى إتلاف العقل لا إلى تكامله. قال: (قولهم: الأمر يتعلق بالمعدوم, لم يرد تنجيز المكلف, وإنما أريد التعلق العقلي. لنا: لو لم يتعلق به لم يكن أزليا؛ لأن من حقيقه التعلق وهو أزلي. قالوا: أمر ونهي وخبر من غير محل موجود محال. قلنا: محل النزاع, وهو استبعاد, ومن ثم قال ابن سعيد: إنما يتصف

بذلك فيما لا يزال. وقال: القديم الأمر المشترك. وأورد: أنها أنواعه, فيستحيل وجوده. قالوا: يلزم التعدد. قلنا: التعدد باعتبار المتعلقات لا يوجب تعددًا وجوديًا). أقول: اختص أصحابنا بأن الأمر يتعلق بالمعدوم, وأنكر عليهم ذلك سائر الفرق. وقالوا: إذا امتنع في النائم والغافل فالمعدوم أجدر, وإنما يلزم ذلك لو أراد أصحابنا تنجيز التكليف حال العدم, ولا يريدونه, لتوقفه على الفهم المتوقف على وجود المكلف, بل أرادوا التعلق العقلي, وهو أن المعدوم الذي علم الله أنه سيوجد بشرائط التكليف, توجه عليه حكم في الأزل بما يفهمه ويعقله فيما لا يزال, من غير تجدد طلب ولا استحالة فيه بعد تحقق كلام النفس, كما يكون الولد بعد وجوده وبلوغه مكلفًا بتوصيه أبيه التي كان أوصى إليه بها قبل ولادته, ويحقق كلام النفس أن من يريد أن يأمر أو ينهى

أو يخبر يجد في نفسه قبل التلفظ معناها, ثم يعبر عنه بلفظ أو إشارة أو كتابة, فذلك المعنى هو كلام النفس, وما عبر عنه به من لفظ هو الكلام الحسي ومغايرتهما بينة, إذا المعبر قد يختلف باختلاف الأشخاص والبلاد والأزمان دون المعنى, وغير العلم, إذ الكلام النفسي مع قصد الخطاب دون العلم, وأيضًا: ليس في العلم اقتضاء ولا إخبار ولا نداء ولا استخبار, وغير الإرادة لأن الأمر قد يوجد بدون الإرادة كما سيأتي, والكلام بالحقيقة هو النفسي الذي لا يتغير, وأما اللفظي فيتغير, وقد أخبر الله عن مقالات الأمم بغير لغاتها. احتج المصنف: بأنه لو لم يتعلق الأمر بالمعدوم بالمعنى المذكور, لم يكن الأمر أزليًا, أما الملازمة: فلأن التعلق بالغير جزء حقيقة الأمر أو لازمه؛ لأنه طلب وهو يستدعي مطلوبًا عقلًا, فلو انتفى التعلق بالمعدوم انتفى الأمر أزلا لانتفاء الكل, أو الملزوم بانتفاء الجزء اللازم, وأما بطلان اللازم: فلما تقرر في علم الكلام من أزلية كلامه تعالى. ثم أورد للمعتزلة نقضًا على الاستثنائية بأن قول: لا نسلم أنه أزلي لاستحالة وجود الأمر والنهي والخبر بدون متعلق موجود, ويصح أن يورد معارضة, أي لو كان كل من الأمر والنهي والخبر أزليًا, لكانا له متعلق موجود, لاستحالة كل منهما بدون متعلق موجود, واللازم باطل, إذ لا موجود في الأزل إلا الله تعالى. ثم أجاب: بأنّا لا نسلم أن وجود كل منها بدون متعلق موجود خارجي

محال؛ لأن هذا محل النزاع, غاية ما في الباب أن ذلك مستبعد, والاستبعاد لا يدل على الاستحالة, ولئن سلمنا أن هذه الأشياء تقتضي متعلقا موجودًا في الأعيان, لم لا يكون المتعلق ذاته تعالى, وحينئذ يزول الاستبعاد. قولهم: إخباره تعالى لنفسه أزلًا عبث, على [أن] الحكم مبني على التحسين العقلي وقد أبطلناه, ولو سلم فأمر الله تعالى أزلا ليس عبارة عن التكلم بصيغة افعل حتى يعد الأمر بدون المأمور سفهًا, بل عن الطلب القائم بذاته تعالى كما هو مذهب أهل السنة, أي يكون طالبًا من العباد إذا صاروا موجودين بالغين عاقلين الإتيان بالمأمور به, وإذا كان كذلك لا يلزم من الأمر / عند عدم المأمور سفه, كما لا يلزم من طلب التعلم في نفس الوالد من ابن سيولد سفه, وتحقيقه: أنه قد تقرر في علم الكلام أنه تعالى منزه عن الزمان, فلا يكون له ماض ولا مستقبل ولا حال, بل نسبه سائر الأزمنة إليه على السواء, [فجميع الأزمنة] من الأزل إلى الأبد بالقياس إليه كامتداد واحد, وكل قوم في زمانهم بالنسبة إليه كالحاضر في زمانهم, وإن كان بعضهم إلى بعض سابقًا, ألا ترى إلى قوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس} الآية, فأخبر عما سيوجد في القيامة بأنه موجود لما كان لا مستقبل بالنسبة إليه. والكلام النفسي إنما يكون مع مخاطب نفسي, وإذا صار المخاطب حسيًا

نزل الكلام حسيا, ولما كان الكلام النفسي ليس إلا المعاني المعقولة, لم يقع الخطاب بها إلا مع مخاطب معقول ضرورة, فجاز أن يكون الخطاب به مع مخاطب معقول يوجد في زمان آخر قبل أو بعد, ويكون ذلك الخطاب بحسب وقته وحاله, وإنما يستقبح ذلك في الكلام الحسي, إذ يجب فيه المخاطب الحسي. ثم قال المصنف: ومن ثم قال ابن سعيد: إنما يتصف بذلك فيما لا يزال, يعني ولأجل أنه مستبعد, أو لأجل لزومها من غير متعلق. قال عبد الله بن سعيد الكلابي من أهل السنة: كلام الله تعالى لا يتصف بأنه أمر أو نهي أو خبر إلا فيما لا يزال, وهو نقيض الأزل عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط التكليف, فهي عنده من صفات الأفعال بمثابة اتصافه فيما لا يزال بكونه خالقًا ورازقًا, فهو في نفسه كلام لنفسه أمر ونهي وخير وخطاب وتكليم لا لنفسه, بل بالنسبة إلى المخاطب وحال تعلقه به. أورد عليه: لا يعقل من الكلام إلا المذكور, وإذا كان حادثًا لزم حدوث الكلام. أجاب ابن سعيد: بأن القديم هو المشترك بين هذه الأقسام. وأورد عليه: أن الجنس لا وجود له إلا في نوع, وإذا لم تكن الأنواع

أزلًا لا يكون المشترك أزلًا. وكأن المصنف ما ارتضاه ولهذا قال: (وأورد). قيل في دفعه: لا نسلم حدوث المشترك؛ لجواز أن يوجد في ضمن فرد قديم لا يقتضي متعلقًا سوى ذاته. وفيه نظر؛ لأن الفرد القائم بذاته لا يخلو عن أحد المذكورات, إذ المطلق لا وجود له استقلالا, ثم هذا المعنى غير متصور؛ إذ لا يعقل معنى أزلي لا يكون من هذه الأقسام, وأيضًا: الكلام لا يمكن بدون الخطاب, ففيه خطاب المعدوم والشبهة باقية. قيل: يمنع ابن سعيد كونها أنواعه, بل عوارضه بحسب التعلق, ويجوز خلوه عن التعلق, ولا يحصل التعلق من حقيقته. وفيه نظر؛ لأنه لا يعقل إلا متعلقًا, فإن قال: من حقيقة الأمر التعلق, ولا يكون من حقيقة الكلام المشترك, حتى يكون موافقًا لما تقدم. قيل: المطلق لا وجود له استقلالًا. قال المعتزلة أيضًا: تعلق الأمر بالمعدوم فرع قدم الكلام بأقسامه وأنه محال, لاستلزامه تعدد القديم باعتبار أنواعه, وأنه باطل, إذ كلام الله تعالى واحد, كما أن علمه واحد. أجاب: بأن التعدد هنا بحسب المتعلقات, وهو تعدد اعتباري لا يوجب

تعددًا وجوديًا, كالإبصار وصف واحد لا يتعدد في الوجود بكثرة المبصرات, إنما يتعدد تعلقه والوصف واحد, فهو في نفسه خبر, إذ الأمر تعريف الغير أنه لو فعل استحق المدح ولو ترك استحق الذم, والنهي بالعكس, فالخبر إن تعلق بالشيء الذي وجب فعله سمي أمرا, وإن تعلق بما حرم فعله سمي نهيا, وإن تعلق بما لا طلب فيه سمي خبرا, فهي أسماء من جهة متعلقاته, كأسماء الرب من جهة أفعاله, فكما أنها لا توجب تعدد في ذاته, كذلك هذه لا توجب تعددا في كلامه. قلت: واعلم أن هذا الرأي وإن كان مختار الأشعري, حيث قال: الكلام صفة واحد, وكونه أمرًا أو نهيًا أو خبرًا خصائص لتلك الصفة, وأن حقيقة الكلام عنده أنه خبر عن المعلوم, فعندي فيه نظر؛ لأن اعتبار الكلام لغة وعرفا وعقلا بالنسبة إلى ما وضع له لا إلى ما يفضي [إليه] مدلوله باعتبار, ولو اعتبر مثل ذلك لجاز أن يقال: الخبر نهي عن الغفلة وأمر يفهم [معناه] , وحينئذ يرتفع الوقوف عن الوعد والوعيد, لاحتمال معنى آخر غير ما يفهم؛ ولأن الخبر يحتمل الصدق والكذب, ويقترن بأحد الأزمنة, وله متعلق في الخارج دون الأمر والنهي. وأيضًا: كون كلامه ليس واحدا منها, ثم يصير واحدًا منها أبعد؛ لأن الأمر مثلا الذي هو طلب الفعل, كيف يقال: إنه كان معنى آخر ثم انقلب

صحة التكليف بما علم الآمر انتفاء شرطه

إلى الأمر, وكون المشترك هو ذلك الشيء الذي يصير تارة هذا وتارة هذا يمتنع أن يوجد بدون واحد من أقسامه, فالأولى التزام التعدد, وهو قول جماعة من الأشاعرة, قالوا: هي خمس صفات: الخبر, والأمر, والنهي والاستخبار, والنداء. قال: (مسألة: يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرطه عند وقته, فلذلك يعلم قبل الوقت. وخالف الإمام والمعتزلة, ويصح مع جهل الآمر تفاقًا. لنا: لو لم يصح لم يعص أحد أبدًا؛ لأنه لم يحصل شرط وقوعه من إرادة قديمة, أو أحادثة. وأيضًا: لو لم يصح لم يعلم تكليف؛ لأنه معه وبعده ينقطع, وقبله لا يعلم, فإن فرضه موسعًا فرضناه زمنًا زمنًا, فلا يعلم أبدا وذلك باطل. وأيضًا: لو لم يصح لم يعلم إبراهيم وجوب الذبح, والمنكر معاند. قال القاضي: والإجماع على تحقق الوجوب والتحريم قبل التمكن. المعتزلة: لو صح لم يكن الإمكان شرطًا فيه. وأجيب: بأن الإمكان المشروط أن يكون مما يتأتى فعله عادة عند وقته واستجماع شرائطه, والإمكان الذي هو شرط الوقوع محل النزاع, وبأنه يلزم أن لا يصح معه جهل الآمر. قالوا: لو صح لصح مع علم المأمور.

وأجيب: بانتفاء فائدة التكليف, وهذا يطيع ويعصي بالعزم, والبشر, والكراهة). أقول: إذا كان الآمر عالما بفوات شرط وقوع الفعل عند دخول وقته, كأمر الله تعالى لزيد بالصوم غدًا مع علمه أنه يموت في الغد, فالجمهور على صحة التكليف به خلافا للمعتزلة, هكذا حكى سيف الدين ولم يذكر موافقة الإمام للمعتزلة. وقول المصنف قبل هذا: والإجماع على صحة التكليف بما علم الله أنه لا يقع, ينفي هذا الخلاف فانظره. ويحقق مذهب الجمهور: أن التكليف يعلم قبل دخول الوقت, وإن لم يعلم وجود شرطه وتمكنه من الفعل في الوقت, ولو كان تحقق انتفاء الشرط مناف للتكليف, لم يعلم التكليف قبل وقته؛ لجواز أن يكون مما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته, فلولا أنه يصح التكليف على ذلك التقدير, لما علم المكلف قبل الوقت أنه مكلف مع تجويزه ذلك. قيل في تقريره: ضرورة توقف العلم قبل الوقت بكونه مكلفًا به على

العلم بتحقق شرط وقوع الفعل عند الوقت, وفيه نظر؛ إذ لا يتوقف التكليف عليه, لجوازه مع جهل الأمر عند الكل, ومدار هذا الخلاف على أن فائدة التكليف الامتثال فقط فلا يصح, أو هو مع الابتلاء فيصح التكليف وينبني عليه: لو أفسد الصوم عمدًا ثم مات في يومه أو جن فعليه الكفارة على مذهب الجمهور, إذ ليس الغرض الامتثال فقط, وعلى مذهب المعتزلة لم يكن مأمورًا فلا كفارة, أما إن جهل الآمر تحقق الشرط عند الوقت صح اتفاقًا, وإن تحقق المأمور انتفاء عند الوقت امتنع اتفاقًا. واعلم أن المخالف يمنع علم المكلف بالتكليف قبل الوقت, وقد صرحوا بذلك, والوجه الذي أورد المسألة عليه في المنتهى أحسن, حيث قال: «يعلم التكليف قبل وقت الامتثال وإن لم يعلم تمكنه منه عنده, وحاصله صحة التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقته عند وقته». احتج لمختاره بثلاث أوجه: الأول: لو لم يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته, لم يعص أحد من المكلفين بترك فعلٍ أبدًا, والتالي باطل إجماعًا, بيان اللزوم: أن وقوع كل فعل مشروط بإرادة قديمة, وهي الإرادة العامة بذاته تعالى عند أهل الحق, أو بإرادة حادثة, وهي إرادة العبد عند المعتزلة, فإذا ترك الفاعل

الفعل إما لعدم إرادة الله تعالى له, أو لعدم إرادة العبد, فقد علم الله تعالى عدم إرادة وقوع ذلك الفعل منه, فيكون عالما بانتفاء شرط وقوع ذلك الفعل, فلا يكون مكلفا به, فلا يعص بتركه, مع أن علم الله تعالى بوقوعه منه من الشرائط, فتارك الفعل يكون غير مكلف به لانتفاء شرط وقوعه منه وهو علمه تعالى بوقوع منه. الثاني: لو لم يصح التكليف به, لم يعلم تكليف به, واللازم باطل اتفاقا, بيان اللزوم: أن التكليف ينقطع مع الفعل عند الإمام والمعتزلة, وينقطع بعده اتفاقًا, سواء فعل أو عصى, فلا يعلم [التكليف]؛ لأن العلم بالشيء الموجود يتوقف على وجوده. وقيل: الفعل لا يعلم لجواز أن يكون مما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه, فلا يكون مكلفًا به. قيل: لا يلزم من انقطاع التكليف بعد حدوث الفعل ألا يعلم تكليف؛ لجواز أن يعلم بعد الإتيان بالفعل أنه / كان مكلفًا به قبل. قلت: [وأيضًا] وجوب الشروع في العبادة بنية الفرض إجماعًا, ينفي عدم علمه بالتكليف إلا بعد الفراغ. قوله: (فإن فرضه متسعًا) اعتراض على الملازمة؛ أي يعلمه قبل الفعل

إذا كان الوقت متسعًا, فإنه إذا انقضى من الوقت المقدر الذي يتمكن المكلف من الإتيان بالفعل الواجب ولم يأت به, فقد علم المكلف التكليف بالفعل؛ لأن ذلك كاف في تحقق التكليف. أجاب: بأنا نردد في كل جزء, فمع الفعل في ذلك الجزء أو بعد الفعل ينقطع التكليف قبل الفعل أيضًا؛ لجواز ألا يبقى بصفة التكليف في الجزء الآخر, فلا يأثم بالترك, فلا تكليف. وقرر أيضًا على وجه يكون إبطال الحجة مطلقًا, لا بالنسبة إلى الواجب الموسع بأن نقول: لا نسلم أنه إذا لم يعلم التكليف مع الفعل وقبله وبعده لا يعلم؛ لجواز أن يعلم في الجملة غير مقيد بالقبل والبعد والمع, وهو معنى قوله: (فإن فرضه متسعًا) يعني تكليفًا في الجملة. أجاب: بأنه محال؛ لامتناع التكليف في شيء من الأزمنة المعينة, ويستحيل وجود المطلق في الخارج بدون معين من المعينات, والأول أقرب إلى لفظه, وإن كان الثاني أولا؛ إذ لا يضر المستدل لبطلان مذهبهم في المضيق. الثالث: لو لم يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته, لم يعلم إبراهيم عليه السلام وجوب الذبح, أما الملازمة: فلانتفاء شرط وقوعه, وهو علم الله تعالى بوقوعه وعدم النسخ, والله تعالى علم انتفاء شرط وقوع الذبح من إبراهيم لولده, فلو لم يكن مكلفًا بالذبح لم يكن عالمًا به؛ لأن العلم لا يكون على خلاف الواقع, وقد علم قطعا, وإلا لم يقدر على الذبح, ولم يحتج إلى فداء, ومن أنكر علم إبراهيم بوجوب ذبح ولده فهو معاند.

ويقرر بوجه آخر وهو: [أنه] لو لم يصح لم يقع, ولو لم يقع, لم يعلم إبراهيم وجوب الذبح. احتج القاضي على المختار: بأن الإجماع منعقد قبل ظهور المخالف على تحقق الوجوب والتحريم قبل التمكن من الفعل؛ لأنهم أجمعوا أن كل عاقل بالغ مأمور بالطاعة منهي عن المعصية, قبل التمكن بما أمر به ونهى عنه, وأنه متقرب بالعزم على فعل الطاعة, وأنه يجب عليه الشروع في العبادات الخمس بنية الفرض, وأن الصاد له عن ذلك [الفرض] عاص, وهذا كله مع عدم الأمر والنهي محال, فلو لم يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه, لم يتحقق الوجوب والتحريم قبل التمكن من الفعل؛ لجواز ظهور انتفاء شرط الوقوع. وقولهم: لم لا يجوز أن يكون الإجماع إنما هو بتقدير بقاء المكلف إلى وقت الوقوع خلاف الظاهر, وكذا قول الإمام: يجوز أن يكون الإجماع على ظن الآمر, بناء على أن الغالب بقاء المكلف وتمكنه, لا على تيقن الأمر, بل هو أبعد. قلت: واعلم أن مذهب المعتزلة يستلزم تكليف ما لا يطاق؛ لأن التكليف عندهم قبل الفعل, وهم صرحوا أنه لا يعلم التكليف إلا بعد الفعل, فيكون تكليفًا للغافل وهم منعوه, ويلزمهم عدم الدخول في العبادة

بنية الفرض, إذ لا يعلم التكليف حينئذ / وهو خلاف الإجماع, على أن السهروردي حكى في وجوب نية الفرض في الصلاة خلافًا. احتج المعتزلة بوجهين: الأول: لو صح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه, لم يكن إمكان المكلف شرطًا في التكليف, أما الملازمة: فلأن الفعل الذي علم الآمر انتفاء شرط وقوعه ليس بممكن؛ لأن العلم بعدم الشرط يستلزم العلم بعدم المشروط, فما علم عدم شرط وقوعه غير ممكن الوقوع, وشرط المطلوب إمكانه لما مرّ. ثم أجاب عنه بجواب تفصيلي بالنقض, تقرير الجواب: أن الإمكان الذي هو شرط في التكليف, أن يكون الفعل مما يتأتى عادة عند حضور وقته واستجماع شرائطه, وهو الإمكان الذاتي, وهو غير الإمكان الذي هو شرط الامتثال, وهو استجماع شرائط المكلف به بالفعل, فإن ذلك شرط في الامتثال لا في التكليف, وليس الغرض من هذا التكليف الامتثال بل الابتلاء, فأن عنيت بقولك: لم يكن الإمكان شرطًا فيه الإمكان الأول, منعنا الملازمة, وعدم الشرط لا ينافي الإمكان الذاتي, وإن أردت الإمكان الثاني سلمنا الملازمة, ونمنع بطلان التالي, فإنه غير محل النزاع, فإن الإمكان الذي هو شرط الوقوع أي الامتثال ليس شرطا في التكليف عندنا.

وأما النقض فتوجيهه: لو صح ما ذكرتم, يلزم ألا يصح التكليف مع جهل الآمر بانتفاء الشرط عند الوقت, والتالي باطل إجماعًا, أما الملازمة: فلأن الفعل إذا كان شرط وقوعه منتفيًا عند وقته يكون ممتنعًا, لوقوع علم الآمر انتفاء الشرط أو جهله, وإذا كان ممتنع الوقوع لا يكلف به. وفيه نظر؛ لأنه مع جهل الأمر قد يصد الآمر امتثال المكلف بالمكلف به, بخلاف ما إذا علم انتفاء شرط الوقوع, فإنه لا يقصد ذلك فافترقا. أو يقول الخصم: هذه خصت بالإجماع, فيبقى الدليل متناولًا سواها. احتجوا ثانيا: بأنه لو صح مع علم الآمر بعدم الشرط, لصح مع علم المأمور بذلك, واللازم باطل إجماعًا, أما الملازمة: فلأنه لا مانع إلا كونه غير متصور حصوله منه, ولا يصلح مانعًا كما في صورة النزاع. أجاب: بالفرق, وهو انتفاء فائدة التكليف في محل الوفاق, إذ فائدة التكليف إما الامتثال أو الابتلاء, وإذا علم المأمور انتفاء الشرط يمتنع الفعل ولا يصح منه العزم, فلا يطيع ولا يعصي, بخلاف ما إذا جهل صور علم الآمر فإنه يمكنه الفعل لو وجد الشرط, فيصير مطيعًا بالعزم على الفعل, وعاصيًا بالعزم على الترك, ومطيعًا بالبشر, وعاصيا بالكراهة. لا يقال: يجوز أن يشتغل العالم بالممتنع قصد امتثال الأمر فقط, لا إلى إيجاد المأمور به فلا فرق؛ لأنّا نقول: وإن جاز فهو من الممكن الأقلي, فلذلك هجر, [واتفق على عدم الصحة].

الأدلة الشرعية

قال: (الأدلة الشرعية: الكتاب, والسنة, والإجماع, والقياس, والاستدلال, وهي راجعة إلى الكلام النفسي, وهو نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم, والعلم بالنسبة ضروري. ولو لم يقم به, لكانت / النسبة الخارجية؛ إذ لا غيرهما. والخارجية لا يتوقف حصولها على تعقل المفردين, وهذه متوافقة). أقول: لأما فرغ من المبادئ, شرع في الأدلة الشرعية, وقدّمها على الاجتهاد والترجيح؛ لأنه ما لم تعرف الأدلة وأقسامها وأحكامها, لا يعرف كيفية استثمارها, ولا معرفة ترجيح بعضها على بعض, والمراد بالشرعية ما استفيد معرفة دلالتها من الشرع, وقَيّد الأدلة بالسمعية في صدر الكتاب وهنا بالشرعية, ولا تظهر فائدة لتغيير العبارة, على أنهما مترادفان عند الفقهاء والأصوليين, وإن كان السمعي أخص عند

المتكلمين, ووجه الحصر في الخمسة استقرائي. وقيل في بيان الحصر: إن الدليل الشرعي إما أن يكون واردًا من جهة الرسول أوْ لا. والأول: إما أن يكون متلوًا وهو القرآن, أو لا وهو السنة, فعلًا, أو قولًا, أو تقريرًا. والثاني: إما أن يشترط فيه عصمة من صدر عنه أو لا. والأول: الإجماع. والثاني: إما أن يكون مشاركة فرع لأصل في علة حكمه أو لا. والأول: القياس. والثاني: الاستدلال. وفيه نظر؛ إذا لم يقم برهان على انحصار الآخر في الاستدلال. ثم الخمسة راجعة إلى الكلام النفسي, إذ لولا دلالتها عليه ما كان فيها حجة, أما الكتاب فظاهر, وأما السنة؛ فلأنها مخبرة عن قوله تعالى, وعن حكمه بدليل: {وما ينطق عن الهوى} , وأما الإجماع؛ فلأن مستنده الكتاب أو السنة, وأما القياس؛ فلأنه راجع إلى معقول النص أو الإجماع, وأما الاستدلال فكذلك؛ لأنه أيضًا راجع إلى معقول النص أو الإجماع, ولا

يضر عدم تعيين العلة في النوع الأول منه, ويصعب رجوع أحد نوعي الاستصحاب إليه. ثم قال: (إن الكلام النفسي نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم) وادعى في الأول الضرورة, واحتج على الثاني. واعلم أن جماعة من المتكلمين قالوا: كلام النفس هو الكلام الذي يدور في الخلد. وقال المنبجي: «متعلق العلم إما أن يكون قائمًا بذاته أوْ لا, والأول الجواهر, والثاني إما أن يكون مبدأ للتأثير في الغير أو لا, والأول الفعل - وفيه ما قدمناه أول الكتاب -. والثاني إما أن يكون مقتضيًا لنسبة مفيدة أوْ لا, والأول الحكم, والثاني الصفة الحقيقية, فخرج من هذا أن الحكم يقتضي نسبة, لا أنه نفس النسبة, على أن الحكم أخص من الكلام».

وفيه نظر؛ لأن متعلق العلم وإن اقتضى نسبة, [لا يلزم أن يكون حكما في أن] قيام زيد في الخارج يقتضي جزم الذهن به عند من علمه, لكن قيام زيد في الخارج ليس حكمًا بوجه, على أن المقتضي في الحقيقة لجزم النفس بالثبوت العلمُ بقيامه, لا نفس قيامه الذي هو المتعلق. وقد كنت بحثت مع بعض فضلاء المغرب في كلام المصنف, فقلت: لا يصح أن يكون نسبة بين مفردين؛ لأن النسبة متأخرة عن المنتسبين, وأحد المنتسبين الذي هو المحكوم عليه حادث, والمتأخر عن الحادث أولى بالحدوث, هذا إن كانت النسبة موجودة في الخارج, وإن قلنا بمذهب الأشاعرة إنها معدومة فكذلك؛ لأن الكلام النفسي موجود في الأعيان, وهو صفة من صفاته تعالى, ولا شيء من النسب بموجود في الأعيان, فلا شيء من الكلام النفسي نسبة. ثم أجيب عنه: بأن النسبة المتأخرة عن المنتسبين بالذات لا بالزمان, والصفة متأخرة بالذات, فهي متأخرة عن تعقل الحادث, وتعقله قديم تأخرا ذاتيًا لا زمانيًا, كتأخر العلم عن الحياة, وكون النسب لا وجود لها / في الخارج قد لا يسلمه المصنف, ويشعر بذلك قوله: (قائمة بالمتكلم). أو نقول: لم يرد المصنف بكونه نسبة أنه من الأعراض النسبية التي يقول الأشاعرة إنها عدمية, بل أطلق عليه نسبة, كما يقال: العلم نسبة بين العالم والمعلوم, لما كان لا وجود له قائما بنفسه, وإن كان له وجود في الخارج

قائما بالعالم, ثم كتب إليّ: السؤال حق [إذا كان] الكلام ليس نفس النسبة حسب ما ثبت في علمه, بل هو صفة تتبع العلم, ولذلك يقولون: كل من علم شيئًا فهو مخبر عنه في نفسه خبرًا صدقًا, فالعلم والكلام صفتان مختلفتان في الماهية متحدتان في المتعلق, ومتعلقهما هو النسبة, وهي موجودة في العلم, وإن كانت معروضة في الخارج, لكن قد يطلق الوجود على مطابقة ما في الذهن لما في الخارج, وقد يطلق لمطابقة ما في الذهن لما في نفس الأمر, وفيما قال نظر. أما أنه صفة تتبع العلم فحق, وأما أن كل من علم شيئا فهو مخبر عنه في نفسه خبرًا صدقًا فنمنعه؛ إذ فصل الخبر قصر الخطاب مع النفس أو الغير, ولا يلزم من حصول العلم حصول قصر الخطاب, مع أن العلم انفعال, والكلام فعل النفس, [فلا يلزم من حصول أحدهما حصول الآخر]. وقوله: «مختلفتان في الماهية» حق, وقوله «متحدتان في المتعلق» لا يصح؛ لأن متعلق علم الله تعالى عدم إيمان أبي لهب, ومتعلق طلبه إيمانه, وأحدهما غير الآخر ضرورة, وقوله: «متعلقهما هو [نفس] النسبة» حق في العلم, وأما الكلام فنسبة النسبة. واعلم أن قولهم: الحكم إيقاع النسبة أو انتزاعها, لا يقتضي أن الكلام ليس بنسبة؛ إذ الكلام نسبة بين المحكوم عليه بثبوت المحكوم به أو بسلبه,

الكتاب

فهما نسبتان بهذا الاعتبار, يقال: إنه نسبة, ويقال: إنه يقتضي نسبة. فقول المصنف: (والعلم بانه نسبة ضروري (حق, نعم قد يتوهم على قول من قال: التصديق مجموع تصورات, أن الكلام ليس نفس النسبة, بل يقتضي نسبة, بمعنى أنه يستلزم نسبة, ضرورة استلزام المجموع لجزئه. لا يقال: قوله: (بين مفردين) لا ينعكس للشرطية؛ لأنّا نقول: صيرتهما الأداة في حكم المفردين. واحتج المصنف على قيامها بالمتكلم: بأن النسبة بين المفردين لو لم تكن قائمة بالمتكلم, لكانت النسبة بينهما خارجة عن المتكلم, أما الملازمة: فلأنه لا ثالث لهما, فإن الثابت إما في النفس وإما في الخارج, فإذا انتفى أحدهما تعين الآخر, وأما بطلان التالي: فلأن الخارجية لا يتوقف حصولها على تعقل المفردين, فإن نسبة القيام إلى زيد إذا حصل في الخارج حصل, سواء غفل عن زيد والقيام أو لا, وهذا يتوقف حصولها على تعقلها. لا يقال: النسبة لا تقوم بغير المنتسبين, فكيف جعلها قائمة بالمتكلم؟ . لأنّا نقول: المنتسبان في النسبة العقلية هما الصورتان العقليتان, وهما قائمتان بالمتكلم, والنسبة قائمة بهما, والقائم بالقائم بالشيء قائم بذلك الشيء, وإن كان على توسع. قال: (الكتاب: القرآن, وهو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه. وقولهم: ما نقل بين دفتي المصحف تواترا, حدُّ للشيء بما يتوقف عليه؛ لأن وجود المصحف ونقله فرع تصور القرآن). أقول: الكتاب اسم للقرآن / غلب عليه من بين سائر الكتب في عرف

الشرع, ورسم القرآن: بأنه الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه. واعلم أن الكلام يطلق على الألفاظ الدالة على ما في النفس, ومنه {حتى يسمع كلام الله} , {يسمعون كلام الله ثم يحرفونه} , ويطلق على مدلول الألفاظ, وهي المعاني التي في النفس, ومنه: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا فقيل: مشترك, وقيل: حقيقة في الأول دون الثاني, وقيل: بالعكس, وهو الحق.

والأصولي يبحث في الكلام بالمعنى الأول, والمتكلم يبحث فيه بالمعنى الثاني, ولذلك أعرض المصنف عن النفساني, فخرج الكلام الذي لم ينزل, والمنزل لا للإعجاز, كسائر الكتب السماوية والسنة. والمراد بالسورة: البعض المترجم أوله وآخره توقيفًا. فقوله: (بسورة منه) يخرج بعض القرآن, ويخرج الكتب المنزلة إن قلنا: إن فيها معجزًا, وإن قلنا: إن بعض القرآن قرآن حقيقة, حملنا بسورة منه على قدر مخصوص من جنسه في البلاغة والعلو, فتخرج بعض الآية, أما الآية فيطلق عليها اسم القرآن, ولهذا يمنع الجنب من قراءة آية, إلا أن يكون متعوذًا, ولا يمنع من بعض آية. والمصنف ما صرح بواحد منهما, حيث قال: وأنزلناه ضمير السورة ... إلى آخره, وحمل السورة على قطعة منه أولى؛ لأن معرفة السورة بالمعنى الأول يتوقف على معرفة القرآن, فيلزم الدور, على أن كونه للإعجاز ليس لازمًا بينًا, فلا يعرف به. وقال قوم منهم الغزالي: «ما نقل بين دفتي المصحف تواترًا». قال المصنف: وهو حدّ للشيء بما يتوقف معرفته على معرفته؛ لأن المصحف ليس إلا ما كتب فيه القرآن, ولا يتميز عن سائر الصحف إلا بما يكتب فيه, فالعلم بأن هذا مصحف, وبأن هذا نقل بين دفتيه تواترًا فرع

تصور القرآن, فتعريفه به دور, هذا إن حمل وجود المصحف على الوجود الذهني, والأقرب إلى لفظ المصنف أن نقول: النقل على الوجه المذكور لا يتصور إلا بعد وجود المصحف والنقل, ووجود المصحف ونقله فرع تصور القرآن؛ لأن وجود المصحف فرع إثبات السور والآيات بين الدفتين, وإثباتهما فرع تصورها, وكذا النقل المضاف إلى ما بين الدفتين, لا يتصور إلا بعد تصور القرآن, فتكون معرفة القرآن موقوفة على النقل المضاف, الموقوف على وجود المصحف ونقله, الموقوفين على تصور القرآن. قيل: النقل لا يتفرع على تصور القرآن من حيث هو قرآن, بل من حيث هو منقول, لتحقق النقل بين الدفتين بدون القرآن, والإثبات لا يستدعي تصور القرآن إلا بالنسبة إلى المثبت, وهو فاسد؛ لأن تفرع النقل على تصور القرآن بالنسبة إلى الناقل ظاهر؛ لأنه إنما نقله من حيث إنه قرآن لا من حيث إنه منقول, نعم بالنسبة إلى غيره هو غير متفرع عليه, لكن يلزم اختصاص صحة التعريف بالنسبة إلى غير الناقل والمثبت, وهو فاسد. قال بعض فضلاء الشارحين: «قد يقال في تصحيح الرسم: نحن بعدما علمنا أنها هنا ما نقل بين الدفتين, وما لم ينقل كالمنسوخ تلاوته, وما نقل ولم يتواتر نحو: ثلاثة أيام متتابعات, أردنا تخصيص الاسم بالقسم الأول دون الأخيرين, ليعلم أن ذلك هو الدليل, وعليه الأحكام من منع التلاوة

ما نقل آحادا ليس بقرآن

جنبًا والمس محدثًا, وإلا فهو اسم على شخصي, والتعريف لا يكون إلا للحقائق الكلية, بل قد نبهنا على أن ضابط معرفة التواتر في متون الصحف وصدور الحفاظ, دون التحديد والتعريف». قال: (مسألة: ما نقل آحادًا فليس بقرآن, للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله, وقوة الشبهة في {بسم الله الرحمن الرحيم} منعت من التكفير من الجانبي, والقطع أنها لم تتواتر في أوائل السور قرآنًا, فليست قرآنًا فيها قطعا كغيرها, وتواترت بعض آية في النمل, فلا مخالف. قولهم: مكتوبة بخط المصحف, وقول ابن عباس رضي الله عنهما: «سرق الشيطان من الناس آية» لا يفيد؛ لأن القاطع يقابله. قولهم: لا يشترط التواتر في المحل بعد ثبوت مثله, ضعيف يستلزم جواز سقوط كثير من القرآن المكرر, وجواز إثبات ما ليس منه, مثل: {ويل} , و {فبأي} , لا يقال: يجوز, ولكنه اتفق تواتر ذلك. لأنّا نقول: لو قطع النظر عن ذلك الأصل, لم يقطع بانتفاء ذلك السقوط, ونحن نقطع بأنه لا يجوز. والدليل ناهض؛ ولأنه يلزم جواز ذلك في المستقبل, وهو باطل). أقول: هذه المسألة الأولى مما يتعلق بالكتاب, وهي: أن ما نقل آحادًا فليس بقرآن؛ لأن القرآن مما تتوفر الدواعي على نقله, لما تضمنه من

التحدي والإعجاز؛ ولأنه أصل الأدلة التي هي أصول الأحكام, والعادة تقضي بالتواتر في تفاصيل ما هو كذلك أصلًا وترتيبًا, فما لم ينقل متواترًا علم أنه ليس قرآنًا قطعًا, وبهذا الطريق يعلم أن القرآن ما عورض. لا يقال: كانوا حين الجمع يأخذون بعض الآي من الآحاد. لأنّا نقول: إن سلم ذلك, فكان الآحاد يذكرونهم إياها, أو يكون المتلقى من الآحاد موضعها لا أصلها. وقوله: (وقوة الشبهة في {بسم الله الرحمن الرحيم}) , جواب عن سؤال مقدر, توجيهه: لو وجب تواتره والقطع بنفي ما لم يتواتر, لكفّر أحد الفريقين الآخر في {بسم الله الرحمن الرحيم}. أما الملازمة: فلأنه إن تواترت فإنكارها نفي لما هو من القرآن ضرورة, وإلا فإثبات لما ليس من القرآن ضرورة, كمن زاد آية غيرها أو نقضها فإنه يكفر إجماعًا, وأما بطلان التالي: فللإجماع على عدم التكفير من الجانبين. ثم أجاب: بمنع اللزوم, وإنما يلزم التكفير لو كان كل من الطرفين لم تقم فيه شبهة قوية تخرجه من حد الوضوح إلى حيز الإشكال, وأحد الفريقين لم يخالف قطعيًا في زعمه, ودليل النفي وإن كان قطعيًا عند المصنف, لكنه غير قطعي عند الخصم, وبهذا الاعتبار صح إطلاق الشبهة عليه.

واحتج المصنف على أن التسمية في أوائل السور ليست قرآنًا قطعًا: أنَّا نقطع أنها لم تتواتر في أوائل السور قرآنًا, وكلما لم يتواتر في أوائل السور فليس بقرآن, ينتج: التسمية في أوائل [السور] ليست قرآنًا. أما الصغرى فإجماعية, وأما الكبرى؛ فلأن القرآن لما كان أساس الدين, وأصل الشريعة, ومرجع الأحكام, وأكبر معجزاته عليه السلام, وجب تبليغه إلى الكل تبليغًا يقطع العذر وينفي الشك, حتى لا تبقى ريبة فيما هو قرآن أنه قرآن, وفيما ليس بقرآن [أنه ليس بقرآن] وإذا ظهر وشاع لا يجوز أن يندرس بعد ذلك, بل يدوم نقله متواترًا, وقد أخبر تعالى عن ذلك بقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. والعادة تقضي بنقل ما شأنه ذلك أن يكون على سبيل التواتر, لتوفر الدواعي على نقله, أما المنكرون فللمعارضة, وأما المقرون فلقهر الخصم وإظهار الدين, فكل ما هو قرآن متواتر, وينعكس بعكس النقيض: كل ما ليس بمتواتر لا يكون قرآنًا, والمصنف حذف الكبرى وصرح بالنتيجة, وقوى الدليل بأنها لما تواترت في النّمل لم يخالف أحد في كونها من القرآن, فلو كانت في أوائل السور قرآنًا ما خالف أحدٌ فيها, وقد قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}.

قلت: ولقائل أن يقول على الصغرى: المشترط تواتره في المحل, دون تواتر كونه قرأنًا فيه. وقد وافق المصنف على تواتره في المحل, حيث قال: القراءات السبع متواترة, وقد أثبتها جماعة من القراء السبعة في أوائل السور. واعلم أن القاضي أبا بكر ذهب إلى أن المسالة قطعية, وأن المخطئ فيها وإن لم يكفر, فلا أقل من التفسيق. وذهب جماعة إلى أنها اجتهادية ظنية, يجوز التمسك فيها بالظواهر وأخبار الآحاد, ولا يفسق المخالف. احتج الخصوم على أنها آية من أول كل سورة: بأنهم كتبوه في المصحف في أوائل السور, ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك مع علمهم به, ومع مبالغتهم في صيانته وحفظه, وتميزه عن غيره, حتى منعوا إثبات أسامي السور وآمين والنقط. وأيضًا: روى البيهقي بإسناده, عن ابن عباس: «إن الشيطان استرق

من أهل القرآن أعظم آية في القرآن {بسم الله الرحمن الرحيم}» , فدل قوله مع عدم إنكارهم عليه على أنها آية. والجواب: أنه في مقابلة القاطع والظني يضمحل إذا قابله القاطع, وليس معكم إلا الإجماع السكوتي, ولا يفيد قطعًا. لا يقال: العادة تقضي في مثله بعدم الاتفاق, فكان لا يكتبها بعض, أو ينكر على كاتبها ولو نادرًا. لأنّا نقول: إنما لم ينكروا؛ لكونها آية من القرآن في غير أوائل السور, وفهم الساكتون أنهم إنما كتبوها في أوائل السور للاستفتاح والتبرك. فإن قيل: الظاهر خلافه. قلنا: لا ينهض لمقاومة القاطع, ولو سلّم فإنما ينهض لبعض الحنفية القائلين: إنها آية أنزلت, وأمر بالفصل بها بين السور, لا أنها آية من كل سورة, ولذلك قال: «سرق الشيطان [للناس] آية» , ولم يقل: مائة وأربعة عشر.

قالوا: قولكم: العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله نمنعه, وإنما يشترط تواتر مثله في محل ما, وقد اتفق ذلك في سورة النمل, أما تواتره بعينه في المحل المخصوص, فلا نسلم أن العادة تقضي بتواتره فيه. أجاب: بأنه ضعيف؛ لأنه لو لم يشترط التواتر في المحل؛ لجاز سقوط كثير من القرآن المكرر ما ثبت في المحل ولم يتواتر, اكتفاء / بتواتره في محل عن تواتره في المحل الآخر. وأيضًا: يستلزم جواز كون بعض القرآن المكرر قد أثبت مع أنه ليس بقرآن في المحل, مثل: {ويل يومئذ للمكذبين} , ومثل {فبأي آلاء ربكما تكذبان}؛ لأنه تواتر في محل ولا يشترط في محل آخر, والآحاد يجوز عليهم الخطأ, فيزيدون في القرآن ما ليس قرآنًا, وعدم الجواز معلوم قطعًا, ثم أورد من جانبهم على جوابه. وتقريره: أن يقال: جواز العدم لا يمنع الوقوع, والوقوع لا يوجب الوجوب, فيقال: اتفق تواتر ذلك المكرر مع أنه لو لم يتواتر كان جائزا. وردّ: بأنا نقول: لو قطعنا النظر عن ذلك الأصل وهو وجوب التواتر في تفاصيله مثله, ما حصل الجزم بانتفاء السقوط, لكنّا نقطع بانتفاء السقوط بحيث لا نشك في ذلك. وأيضًا: الدليل ناهض على وجوب تواتر تفاصيل ما تتوفر الدواعي على

نقله وسيأتي, وأيضًا: لا يلزم من اتفاق تواتره أن يتواتر في المستقبل, فيلزم جواز إسقاط كثير من القرآن المكرر, وجواز إثبات ما ليس منه في المستقبل, وذلك باطل قطعًا, قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} , وقرره أكثر الشارحين, فقالوا: لو قطع النظر عن ذلك الأصل وهو اتفاق تواتر المكرر, لم نقطع بانتفاء سقوط المكرر؛ لأن الموجب للقطع بانتفاء سقوط المكرر هو اتفاق تواتر المكرر المانع عن جواز السقوط وليس كذلك؛ لأنّا نقطع بانتفاء سقوط المكرر من القرآن, سواء قطعنا النظر عن اتفاق تواتر المكرر أو لم نقطع, والدليل على انتفاء جواز السقوط وهو ما سبق من وجوب اشتراط التواتر فيما هو من القرآن ناهض. والحق أنه لو اشترط تواتره في المحل دون تواتر كونه قرآنا فيه, لم يلزم ما ذكر, وأيضًا: هذا لا ينفي قول من قال: إنها آية أنزلت وأمر بالفصل بها بين السور فتأمله, قيل: هذا كلام على المستند, ثم القطع بعدم الجواز وقيام الدليل على عدمه ممنوعان, والدليل لم يقم على تواتر المكرر وغيره, بل على تواتر ما ليس بمكرر, وعلى تواتر واحد من المكرر, والسقوط في المستقبل مدفوع, وإنما يصح لو لم ينقل في المستقبل المكررات تواترًا, ولا يخفى عدم ورود ما عدا الكلام على المستند, لا سيما على التقرير الأول.

القراءات السبع متواترة

قال: (مسألة: القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء, كالمد, والإمالة, وتخفيف الهمزة. لنا: لو لم تكن لكان بعض القرآن غير متواتر, كـ {مالك} و {ملك} ونحوهما, وتخصيص أحدهما تحكم باطل لاستوائهما). أقول: القراءات السبع المنسوبة إلى: نافع, وابن كثير, وأبي عمرو, وابن عامر, وعاصم, وحمزة.

والكسائي, ما هو منها من قبيل الأداء, كالمد, واللين, والإمالة, وتخفيف الهمزة ونحوها لا يجب تواتره, وما هو من جوهر اللفظ كـ {مالك} و {ملك} يجب تواتره, وإلا لكان غير متواتر, وهو

من القرآن, فبعض القرآن غير متواتر, وقد مرّ بطلانه. لا يقال: أحدها لا بعينه هو المتواتر وهو القرآن, لأنّا نقول: هي مستوية في صحة إسنادها إليهم, واستقامة وجهها في العربية, وموافقة لفظها خط المصحف المنسوب إلى صاحبها, فتخصيص أحدها بعينه أنه قرآن تحكم باطل. وفيه نظر؛ لجواز الترجيح بغير ما ذكر من كون {ملك} مثلًا أولى, إذ ولأن الرب هو المالك فيكون تكرارًا, أو يرجح مالكًا لكونه أعم من حيث المعنى, ولذلك يصح إضافته إلى كل شيء, كقولهم: مالك الدنيا, ولأن الله تعالى وصف نفسه به, فقال: {قل اللهم مالك الملك}.

عدم جواز العمل بالشاذ

واعلم أن ما ذكره يجري فيما هو من قبيل الأداء بعينه, وقول من قال: الذين تستند إليهم القراءات السبع لا يبلغ جميعهم عدد التواتر فضلا عن بعضهم؛ لأن عدد التواتر لا يختص بعدد, وضابطه ما حصل العلم, وقد حصل بقراءة كل واحد من المذكورين عند أهله, ولا يشترط في المتواتر أن يكون متواترًا عند سائر الناس. قال: (مسألة: العمل بالشاذ غير جائز, مثل: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} , واحتج به أبو حنيفة. لنا: ليس بقرآن, ولا خبر يعمل به. قالوا: يتعين أحدهما فيجب. قلنا: يجوز أن يكون مذهبًا, ولو سلم فالخبر المقطوع بخطئه لا يعمل به, ونقله قرآنًا خطأ). أقول: لا يجوز العمل بالشاذ عند مالك والشافعي, وقد نص مالك على أنه لا تجوز الصلاة بقراءة ابن مسعود. وقال أبو حنيفة: إنه جائز, وبنى عليه وجوب التتابع في كفارة اليمين لما روى في مصحف ابن مسعود من: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}.

المحكم والمتشابه

لنا: أنه ليس بقرآن لعدم تواتره, ولا خبر يصح العمل به؛ لأن شرط صحة العمل بالخبر أن ينقل على أنه خبر صريحًا, ولا حجية في غيرها. قالوا: لا يخلوا عن أحدهما؛ لأنه إن كان في نفس الأمر قرآنًا فذلك, وإلا فلا أقل من كونه خبر آحاد, وأيّا ما كان يجب العمل به. أجاب: بأنّا لا نسلم أنه يتعين أحدهما؛ لأن الراوي لم يروه على أنه خبر, وليس بقرآن لعدم تواتره, فيجوز أن يكون مذهبًا, سلمنا الحصر, لكن متى يثبت العمل بالخبر مطلقًا, أو إذا كان لم يكن خطأ قطعا؟ . الأول ممنوع, والثاني لا يفيد؛ لأنه نقل قرآنًا وليس بقرآن قطعا, فارتفعت الثقة. قيل: المقطوع بخطئه كونه قرآنا, لا كونه خبرًا. ردّ: بأنه لم ينقله إلا على أنه قرآن, وقد ثبت على الوجه الذي نقل عليه, فلا يعمل به. قلت: وفيه نظر؛ إذ لا يكون مذهبًا لأنه ليس بقياس, ولو كان يصرح به ن فيا للتلبيس على من اعتقد كونه حجة, فالظاهر أنه خبر إلا أنه اعتقد كونه قرآنًا ونقله على ما اعتقد, وذلك لا ينفي كونه خبرًا يعمل به. قال: (المحكم: المتضح المعنى. والمتشابه: مقابله, إما لاشتراك, أو إجمال, أو ظهور تشبيه.

والظاهر الوقف على {والراسخون في العلم}؛ لأن الخطاب بما لا يفهم بعيد). أقول: لما فرغ من المسائل, ختم بحث الكتاب بذكر المحكم والمتشابه؛ لأن القرآن يشملها. فالمحكم: هو المتضح المعنى, نصًا كان أو ظاهرًا, قال الله تعالى: {منه آيات محكمات}. السهيلي: وهو عندي من أحكمت الفرس تحكمه, أي منعته من العدول عن طريقه, ومنه قول حسان: ونحكم بالقوافي من هجانا, أي نلجمه فنمنعه.

وكذلك الآية المحكمة لا تنصرف بقارئها التأويلات, ولا تتعارض عليه الاحتمالات, إذ ليس لها معنى واحدًا, وليس من / لفظ الحكمة لأن كله حكمة. والمتشابه: ما لم يتضح معناه؛ لأنه يميل بالناظر فيه إلى وجوه مختلفة وطرق متباينة, وقوله: {كتاب أحكمت آياته} هذا من الحكمة والإتقان, فالقرآن كله محكم على هذا, وهو كله متشابه باعتبار أن بعضه يشبه بعضًا في البراعة, والإعجاز, والجزالة, وبدائع الحكمة. وعلى المعنى الأول: بعضه محكم وبعضه متشابه, ثم المتشابه بالمعنى الأول إما أن يكون اشتباهه من ناحية الاشتراك اللفظي نحو: {ثلاثة قروء} , أو لإجمال, ونعني غير الإجمال الناشئ عن الاشتراك لقرينة سبق الاشتراك, وذلك في المجازات المتكافئة عند تعذر الحمل على الحقيقة, أو يكون لظهور تشبيه مثل {يد الله فوق أيديهم} , فإن اليد ظاهر في العضو, والمراد تشبيه القدرة به, وسمي متشابهًا لاشتباهه على السامع, ولما كان {وما

يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} يوهم اشتباها في أن الواو للعطف أو للاستئناف, قال: والظاهر الوقف على والراسخون في العلم؛ لأنه لو كان الوقف على {وما يعلم تأويله إلا الله} , لزم أن يخاطبنا الله بما لا نفهم, وهو وإن كان لا يمتنع على الله؛ لأنه يفعل ما يشاء, ولا مجال للعقل, لكن هو بعيد. قيل عليه: يلزم اختصاص المعطوف وهو والراسخون في العلم بالحال وهم يقولون آمنا به, لامتناع أن يقول الله: آمنا به, والأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات. أجيب: بأن ذلك جائز حيث لا لبس, ومنه: {ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة}. وأيضًا: مخالفة الأصل أهون من الخطاب بما لا يفهم. قلت: والحق الوقف على {وما يعلم تأويله إلا الله} , وهو المروي عن ابن مسعود, وأبيّ بن كعب, وابن عباس, وعمر بن عبد العزيز,

ومالك بن أنس, ومحمد بن إسحاق, وفي مصحف أبيّ {وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به} , وفي مصحف ابن مسعود {وإن تأويله عند الله والراسخون في العلم يقولون} برفع الراسخون. قولهم: يلزم الخطاب بما لا يفهم نمنعه؛ لأن العلم اعتقاد وجزم ومطابقة, ونفي المجموع قد يكون بنفي جزء من أجزائه, فجاز انتفاؤه بانتفاء الجزم ويكون مطابقًا, ولا يلزم من نفي العلم نفي الاعتقاد أو الظن, فلا يلزم نفي الفهم.

وأيضًا: جاز أن يكون المراد لا يعلم ابتداء, بل بإلهام الرب كعلم الغيب, وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز كلامًا ينظر إلى هذا المعنى. قال: قالا: التفسير غير التأويل, فلا يعلم التأويل, يدل عليه قوله تعالى: {يوم يأتي تأويله}. وقال ابن إسحاق: الكلام تم عند {وما يعلم تأويله إلا الله} , {والراسخون} مبتدأ, ولا نقول: إنهم لا يعلمون تأويله, ولكن نقول: يعملونه برد المتشابه إلى المحكم, وبالاستدلال على الخفي بالجلي, وعلى المختلف فيه بالمتفق عليه, فتنفد بذلك الحجة, ويزيغ الباطل, وتعظم درجة العالم عند الله؛ لأنه يقول: آمنت به كل من عند ربي, فكيف يختلف. ولما كان العلمان مختلفين, علم الله تعالى, وعلم الراسخين في العلم, لم يجز أن يعطف الراسخون عليه؛ لأن الله يعلم تأويله بالعلم القديم, لا بتذكر, ولا بنظر, ولا بتدقيق نظر, ولا تفحص عن الدليل, ولا يعلم تأويله هكذا إلا الله. قلت: ويدل أيضًا عليه الحديث: «لكل حرف ظهر وبطن, وحدّ ومطلع, إلى سبعة / أبطن, إلى ما لا يعلمه إلا الله».

قال: والراسخون يعملون تأويله بالفحص عن الدليل, وبتدقيق النظر, وتسديد الغير, فهم كما قال الله في آخر الآية: {وما يذكر إلا أولوا الألباب}. قيل: مراد المؤلف بالكلام على هذه الآية, جواز التمسك بجميع ما في القرآن, إذ لا يخاطبنا الله بما لا نفهم. وقيل: مراده أن المتشابه لما كان ما لم يتضح دلالته, وهو ثابت في القرآن, وما لم تتضح دلالته قد تصدق بانتفاء الدلالة على المعنى, فيتوهم أن ما هذا شأنه ثابت في القرآن, فلذلك قال: (والظاهر الوقف ... إلى آخره).

السنة

قال: (مسألة: الأكثر على أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء عليهم السلام الروافض. وخالف الروافض. وخالف المعتزلة إلا في الصغائر. ومعتمدهم التقبيح العقلي. والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام؛ لدلالة المعجزة على الصدق. وجوَّزه القاضي غلطًا, وقال: «دلت على الصدق اعتقادًا». وأما غيره من المعاصي, فالإجماع على عصمتهم من الكبائر وصغائر الخسة, والأكثر على جواز غيرها). أقول: لما فرغ من مباحث الكتاب, شرع في مباحث السنة. والسنة لغة: الطريقة, فسنة كل واحد ما عهد منه المحافظة عليه, كان من الأمور الحميدة أو لا. قلت: وتطلق شرعًا على المشروع. ففي صحيح ابن حبان, عن عبد الرحمن بن شماسة قال: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام وعليه جلوس, فقال الناس وراءه: سبحان الله, فلم يجلس, فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين وهو جالس, فقال: «إني

سمعتكم تقولون سبحان الله كيما أجلس, وليس تلك سنة, إنما السنة الذي صنعته». وتطلق السنة في اصطلاح الفقهاء: على ما كان من العبادات نفلًا منقولًا عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الشافعية. وعند المالكية: على ما أمر به عليه السلام وواظب عليه وأظهره, ولم يوجب سواء سماه كذلك, كقوله عليه السلام: «سننت لكم خمسا» أو لا, كسنن الوضوء, وسنن الصلاة, وسنن الحج, وصوم عاشوراء, وزكاة الفطر, والعمرة. والاصطلاحان مخالفان للغوي. أما الأول: فلصدق السنة شرعًا على ما صدر منه ولم يواظب عليه. أما الثاني: فلاشتراط إظهاره والأمر به, مع أن ذلك موجود في بعض ما لم يسموه سنة, ومفقود في بعض ما سموه سنة. وتطلق السنة في اصطلاح الأصوليين: على ما صدر عنه عليه السلام من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو, وهو المراد هنا, وينحصر ذلك في أقواله عليه السلام

وأفعاله وتقاريره, أما الأقوال فسيأتي الكلام عليها وعلى جهة دلالتها فيما يشترك فيه الكتاب والسنة, والكلام هنا فيما يختص بالأفعال والتقارير, ويشتمل على مقدمة وثلاث مسائل: أما المقدمة ففي عصمة الأنبياء, ولما كان الاستدلال بالسنة يتوقف على حجيتها, وحجيتها تتوقف على عصمة النبي, لا جرم قدّم ذلك على المسائل. فنقول: ذهب أكثر الأشاعرة وطائفة كثيرة من المعتزلة إلى أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء قبل البعثة معصية, كبيرة كانت أو صغيرة. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يمتنع ذلك, وهو مختار القاضي عياض, على أنه قال: «تصور المسألة كالممتنع / فإن المعاصي إنما تكون بعد تقرر الشرع؛ إذ لا يعلم كون الشيء معصية إلا من الشرع». وقال بعض أصحابنا: «[الامتناع] سمعًا؛ إذ لا مجال للعقل, لكن دليل السمع دلّ بعد ورود الشرع على أنهم كانوا معصومين قبل البعثة».

وذهب الروافض إلى امتناع ذلك كله عليهم عقلا, ووافقهم أكثر المعتزلة في امتناع وقوع الكبائر منهم عقلا قبل البعثة, ومعتمد الفريقين التقبيح العقلي؛ لأن صدور المعصية منهم مما يحقرهم في النفوس, وينفر الطباع عن اتباعهم, وهو خلاف مقتضى الحكمة من بعثة الرسل, فيكون قبيحًا عقلًا, وقد تقدم الكلام على فساده. وأما بعد النبوة, فالإجماع على عصمتهم من تعمد الكذب في الأحكام؛ لأن المعجزة دلَّت على صدقهم فيما يبلغونه عن الله, فلو جاز تعمد الكذب عليهم لبطلت دلالة المعجزة على الصدق؛ إذ من دلَّ القاطع على صدقه فيما يبلغه عن المرسل, يمتنع عليه فيه الكذب. وأما جواز صدور الكذب عنهم في الأحكام غلطًا أو نسيانًا, فمنعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني وطائفة كثيرة من أصحابنا؛ لما فيه من مناقضة دلالة المعجزة القاطعة. وجوَّزه القاضي وقال: «إن المعجزة إنما دلَّت على صدقهم فيما يصدر عنهم قصدًا واعتقادًا».

قال القاضي عياض: «لا خلاف في امتناعه سهوا أو غلطا, لكن عند الأستاذ بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله صدق, وعند القاضي أبي بكر الباقلاني بدليل الشرع». وأما غير المذكور من المعاصي القولية والفعلية, فالإجماع على عصمتهم من تعمد الكبائر وصغائر الخسة, خلافًا لبعض الخوارج. وأما إتيان ذلك نسيانًا أو غلطًا, فقال الآمدي: «اتفق الكل على جوازه سوى الروافض». وهذا الذي ذكر لا يصح, بل اتفقوا على امتناعه, فقال القاضي والمحققون: «بدليل السمع». وقال الأستاذ, وطائفة كثيرة منا, ومن المعتزلة: «وبدليل العقل أيضًا». وأما الصغائر التي لا خمسة فيها فجوَّزها عمدًا أو سهوًا الأكثرون,

وبه قال أبو جعفر الطبري من أصحابنا, ومنعته طائفة من المحققين من الفقهاء والمتكلمين عمدًا وسهوًا. قالوا: لاختلاف الناس في الصغائر؛ ولأن جماعة ذهبوا إلى أن كل ما عصي الله به فهو كبيرة؛ ولأن الله تعالى أمر باتباعهم, وأفعالهم يجب الاقتداء بهم عند أكثر المالكية وبعض الشافعية والحنفية, فلو جازت منهم المعصية لكنا مأمورين باتباعها. واعلم أن الخلاف في هذا القسم في الجواز العقلي, وفي الجواز السمعي أيضا, وكثير مما وقع فيه خلاف من هذه التفاصيل هو من باب الظنون,

حكم أفعال النبى صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى أمته

فالاعتماد فيه على ما يساعده من الأدلة الظنية نفيًا أو إثباتًا, وذلك مستوفا في علم الكلام, وإنما اقتصر المصنف على الحكم ولم يذكر الدليل؛ لأن هذه المسألة من مبادئ هذا العلم. قال: (مسألة: فعله صلى الله عليه وسلم ما وضح فيه أمر الجبلة, كالقيام والقعود والأكل والشرب, أو تخصيصه كالضحى, والوتر, والتهجد, والتخيير, والمشاورة, والوصال, والزيادة على أربع فواضح. وما سواهما, إن وضح أنه بيان بقول أو قرينة, مثل: صلُّوا, وخذوا عني, وكالقطع من الكوع, والغسل إلى المرافق, اعتبر اتفاقًا. وما سواه, إن علمت صفته فأمته مثله. وقيل: في العبادات. وقيل: كما لو لم يعلم. وإن لم يعلم, فالوجوب, والندب, والإباحة, والوقف. والمختار: إن ظهر قصد القربة فندب, وإلا فمباح). أقول: لما فرغ من المقدمة, شرع في المسائل. المسألة الأولى: في أحكام أفعال النبي عليه السلام بالنسبة إلى أمته, وهذه العبارة خير من عبارة معظم الشراح حيث قالوا: الأولى في أن أفعاله هل هي كدليل شرع مثل ذلك الفعل بالنسبة إلينا؛ إذ [لا] نزاع في شرعية ما

عد الوصال, والزيادة على أربع, إنما النزاع في حكم ذلك بالنسبة إلينا. واعلم أن الفعل الصادر عن الرسول, إما أن يكون من مقتضى طبع الإنسان وجبلته أو لا, والأول: كالقيام, والقعود, والأكل, والشرب, ولا نزاع في أن حكمه وحكم أمته في هذا القسم الإباحة. والثاني: إما أن يتضح تخصصه عليه السلام بحكم ذلك الفعل أوْ لا. والأول: كوجوب الضحى, ووجوب الوتر, ووجوب المشاورة, ووجوب التخيير, ووجوب التهجد, وإباحة الوصال له, وإباحة الزيادة على أربع نسوة, أما وجوب الأولين, ففي مستدرك الحاكم على الصحيحين: «ثلاث هن علي فرائض ولكم تطوع: الوتر, والنحر, وصلاة الضحى») , وضعفه الأكثرون؛ لأن في روايته أبا جناب

يحيى بن أبي حية الكلبي. وأما وجوب المشاورة, فبقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} , ووجوب التهجد بقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} , والتخيير بقوله تعالى: {قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا} الآية. وأما الوصال ففي الصحيحين: نهى عن الوصال, قالوا: إنك تفعله, فقال: «إني لست كأحدكم». وأما الزيادة على أربع فبقوله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك} , وكنّ أكثر من أربع إجماعًا, فهذا القسم أيضًا واضح أن أمته ليست فيه مثله اتفاقًا.

والثاني من القسم الثاني: إن اتضح أن الفعل بيان لمجمل, ودلَّ قولٌ على أن ذلك الفعل بيان لذلك المجمل, فلا نزاع في أن حكم ذلك الفعل حكم ذلك المجمل؛ لأنه داخل في الأمر بذلك المجمل؛ إذ المراد من ذلك المجمل هو ما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم, فإنه قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» , يدل على أن فعله بيان لقوله تعالى: {أقيمُوا الصَّلاةَ} , وكذا «خذوا عني مناسككم» , يدل على أن أفعاله في الحج بيان لقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} , والحديث الأول خرَّجه البخاري, والثاني خرَّجه مسلم ولكن بلفظ: «لتأخذوا مناسككم فأني لا أدري لعلي لا أحد بعد حجي هذا» , وخرَّجه النسائي ولفظه: «أيها الناس خذوا عني مناسككم» الحديث. وإن اتضح أنه بيان لظاهر بقرينة لولاها لحمل على ظاهره, كالقطع من الكوع, وكغسل اليدين مع المرفقين, فأمته مثله؛ إذ البيان تابع للمبين في

الوجوب؛ لأن اليد على ما يأتي ظاهر إلى المنكب, والمغيا بإلى ظاهر في عدم دخول ما بعدها, والنبي عليه السلام لما قطع عند الحاجة إلى القطع بعد قوله تعالى: {فاقطعوا أيديهما} كانت قرينة الحال بيانا. وروى البيهقي, قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم سارقًا من المفصل, وكذا غسل / المرفق, لما غسل اليد دلّ على أنه المراد من قوله: {وأيديكم إلى المرافق}. وفي مسلم من حديث أبي هريرة: ثم غسل اليمنى حتى أشرع في العضد ثم اليسرى حتى أشرع في العضد, ثم قال: «هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ». واعلم أن هذا المثال الأخير قد يتمشى على قول من قال: إن (إلى) للاشتراك بين دخول ما بعدها وعدم دخوله, وليس بمختار المصنف.

قال في شرح المفصل: «ووجوب المرافق ليس من الآية, وإنما حمل على ذلك من السنة بدليل» , لكن في كون غسله المرافق قرينة حالية على أن ذلك هو المراد من قوله: {وأيديكم} نظر؛ لجواز أن يكون فعل ذلك إطالة للغرة كما يقول الشافعي, أو للاحتياط حتى يتحقق تعميم الواجب. ومن قال بوجوب ذلك من أصحابنا, فبناء على أصلنا الذي يأتي في أن أفعاله عليه السلام بالنسبة إلينا على الوجوب إذا ظهر قصد القربة, لا بناء على ما بنى المصنف عليه. وجماعة من أصحابنا لا يقولون بوجوب غسل المرافق, فلا يصح قوله: (اعتبر اتفاقًا). وإنما قال: والغسل إلى المرافق, ولم يقل: مع المرافق مع أنه مراده, يدل عليه قوله في المنتهى: «والغسل للمرافق اتباعًا للآية».

ومثل الآمدي بالتيمم إلى المرافق, وهو أحسن. وهنا بحث, وهو أن أفعاله عليه السلام المروية عنه في الصلاة, استدل الفقهاء بكثير منها على الوجوب لا لأن الفعل يدل على الوجوب, بل لأنهم يرون {أقيموا الصلاة} خطاب بمجمل بّين الفعل, والفعل المبين للمجمل المأمور به يدخل تحت الأمر, فيدل مجموع ذلك على الوجوب, فإذا وجدت أفعال غير واجبة, فلابد من دليل يدل على عدم الوجوب. وفيه نظر, وهو أن يقال: يتبين ذلك المجمل بأول الأفعال, فالفعل الواقع بعده إذا كان فيه زيادة لا يكون بيانًا لوقوع البيان بالأول, فيبقى الثاني فعلًا مجردًا لا يدل على الوجوب, اللهم إلا أن يدل دليل على وقوع ذلك الفعل المستدل به بيانًا, فيتوقف الاستدلال بهذه الطريقة على وجود ذلك الدليل, بل قد يقوم الدليل على أن هذا الثاني ليس ببيان, كرواية من روى فعلًا, وكان حين وجوب الصلاة غير مميز, ثم ميز بعد زمان فروى فعلًا, وكذا إذا روى متأخر الإسلام فعلا رواه بعد إسلامه, فإن هذا مقطوع بتأخره, فلا يكون بيانًا, وإلا لتأخر البيان عن وقت الحاجة. وقد يجاب عنه بجواب جدلي, وهو أن يقال: دلّ الحديث المعين على وقوع هذا الفعل, والأصل عدم غيره نوعًا, فتعين أن يكون نوعه بيانًا. وهذا قد يقوى إذا وجد فعل ليس فيه ما قام الدليل على عدم وجوبه, فأما إذا كان فيه شيء من ذلك فإذا جعلناه بيانًا بدلالة الأصل على عدم

غيره, ودلّ الدليل على عدم وجوبه, لزم النسخ لذلك الوجوب الذي ثبت به أولًا, مع أنه إذا كان نوعه بيانًا لا يلزم أن يكون الزيادة في الفعل [المتأخر] بيانًا؛ إذ لم يتعين الشخصي للبيان. وأما ما سوى الأقسام الثلاثة, فإن علمت صفة الفعل من: وجوب, أو ندب, أو إباحة في حقه, بنص أو أمارة, فأمته مثله, وهو مذهب الأكثر؛ لأنا متعبدون بالتأسي به في فعله على صفته. وقيل: إن ذلك الفعل إن كان عبادة فأمته مثله, وإلا فلا, وهو قول أبي / علي بن خلاد. وقيل: حكم ما علمت صفته, حكم ما لم تعلم صفته. وأما ما لم يعلم صفته, فاختلفوا فيه على خمسة مذاهب: الوجوب: وحكاه ابن خويز منداد, وأبو الفرج عن مالك, وقال به

الأبهري, وابن القصار, وأكثر المالكية. وابن سريج, والاصطخري, وابن خيران, وابن أبي هريرة

من الشافعية, وبعض الحنفية, وبعض الحنابلة, وجماعة من المعتزلة. الثاني الندب, وهو مختار إمام الحرمين. الثالث الإباحة, وحكاه الآمدي عن مالك. وقيل بالوقف, وهو مختار الغزالي. الخامس مختار المصنف: إن ظهر أنه فعله تقربًا فندب في حقنا, وإلا فمباح في حقنا. وقال الباجي: «إن ظهر قصد القربة فواجب, وإن لم يظهر قصد القربة فمباح». وقال بعض أصحابنا: «إن لم يظهر قصد القربة فندب».

قال: (لنا: أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته, وقوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرًا} إلى آخرها. وإذا لم تعلم, وظهر قصد القربة, ثبت الرجحان, فلزم الوقوف عنده, والوجوب زيادة لم تثبت. وإذا لم يظهر, فالجواز والوجوب والندب زيادة لم تثبت. وأيضًا: لما نفى الحرج بعد قوله تعالى: {زوجناكها} , فهمت الإباحة مع احتمال الوجوب والندب). أقول: لما فرغ من تلخيص محل النزاع وتقرير المذاهب, شرع في الاحتجاج لمختاره في القسمين الآخرين: الأول منهما: ما علمت صفته من وجوب أو ندب أو إباحة, واختار أن أمته مثله, عبادة كان أو لا, واحتج على ذلك بوجهين: الأول الإجماع: فإن الصحابة كانوا يرجعون في الحوادث إلى فعله عليه السلام, المعلوم صفته من وجوب أو ن دب أو إباحة, كرجوعهم إلى وجوب الغسل من التقاء الختانين عند قول عائشة: «فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا». وكتقبيل الحجر الأسود؛ لتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم إياه, ورجوعهم إلى جواز

تقبيل الصائم لتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم, وإلى غير ذلك من الوقائع من غير نكير, وذلك يقتضي علمهم بمساواته فيه, والأصل عدم شيء آخر علموا به غير الفعل, ولا بحثوا عنه, أو لاكتفوا به من غير بحث عن الفعل. الوجه الثاني من التمسك: قوله تعالى: {فلما قضى زيد} الآية, علل نفي الحرج في نكاح أزواج الأدعياء, بتزويج النبي صلى الله عليه وسلم زوجة دعيه, ولولا مساواتهم له في علمت صفته, لم يكن للتعليل معنى؛ لأنه حينئذ لا يلزم من نفي الحرج عنه نفيه عنهم, ودلّ أيضًا على أن الإباحة في حقهم ليس بالإباحة الأصلية, ثم الآية إنما تقوم حجة على ابن خلاد, ولا تنهض حجة على المذهب الثالث, أو لا تدل على التأسي في كل فعل علمت صفته, بل على التأسي في المباح فقط. ثم احتج لمختاره في القسم الآخر, وهو ما لم تعلم صفته. ووجهه: أنه إن ظهر قصد القربة, ثبت رجحان الفعل على الترك؛

لانتفاء الحرمة أو الكراهة وإلا لم يفعله, وانتفاء تساوي طرفيه وإلا لما قصد به القربة, فبقي للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو رجحان الفعل على الترك, فيلزم الوقوف عنده, وخاصة الوجوب وهو المنع من الترك زيادة لم تثبت والأصل عدمها, فتعين الندب / لامتناع وجود المشترك بدون فرد من أفراده. قلت: وهذا ينهض في حقه عليه السلام, وفي حقنا يكون الأمر كذلك إما بالأدلة الدالة على طلب الطاعة, أو لأنه بالدليل المذكور صار مما علمت صفته في حقه, وقد تقدم أن ما هذا شأنه فأمته مثله, واحتمال أنه من خصائصه من الأمور النادرة, فيلحق بالأعم الأغلب. لا يقال: الثابت رجحان الفعل, وهو أعم من أن يكون مع جواز الترك أو لا مع جوازه, فخصوصية الندب زيادة لم تثبت بعين ما ذكر؛ لأنا نقول: جواز الترك وإن كان زيادة لكن هي الأصل, لا أن الأصل عدمها. أما إذا لم يظهر قصد القربة فمباح؛ لانتفاء الحرمة والكراهة, وإلا لم يفعله, والوجوب والندب زيادة لم تثبت والأصل عدمها, هذا أيضًا في حقه, وأما في حقنا, فإما بالإباحة الأصلية, أو لأنه في حقه مما علمت صفته بالدليل المذكور, وأمته فيما علمت صفته مثله بالدليل المتقدم. لا يقال: ما ذكرتم من الأصل معارض بالغالب, وهو أن أفعاله التي ليست بجبلية الغالب عليها الوجوب أو الندب, لأنا نمنع الغلبة. وأيضًا: فهمت الإباحة مع احتمال الوجوب والندب عند رفع الحرج من

قوله تعالى: {لكي لا يكون على المؤمنين حرج} , ولولا رجحانها لم تفهم, وإلا لكان ترجيحًا للمساوي أو المرجوح, وهذا التقرير أسعد بما في المنتهى؛ إذ لم يجعل الآية دليلًا مستقلًا, بل قال: «ويوضحه أنه لما نفى الحرج ... » إلى آخره. وعلى هذا لا يعترض بأنه جعله أولى مما علمت صفته, وثانيًا مما لم تعلم صفته؛ لأن الآية تكون دليلًا على رجحان الإباحة في حقه عليه السلام مع احتمال الوجوب أو الندب, ثم أمته مثله كما تقدم. قال: (الموجب: {وما آتاكم الرسول فخذوه}. أجيب: بأن المعنى: «وما أمركم»؛ لمقابلة «وما نهاكم». قالوا: {فاتبعوه}. أجيب: في الفعل على الوجه الذي فعله, أو في القول, أو فيهما. قالوا: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} , أي لمن كان يرجوا الله فله فيه أسوة حسنة. قلنا: معنى التأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله. قالوا: خلع نعله فخلعوا, وأقرهم على استدلالهم, وبين العلة. قلنا: بقوله: «صلوا» , أو لفهم القربة. قالوا: لما أمرهم بالتمتع تمسكوا بفعله.

قلنا: لقوله: «خذوا» , أو لفهم القربة. قالوا: لما اختلف الصحابة في الغسل بغير إنزال, سأل عمر عائشة فقالت: «فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا». قلنا: إنما استفيد من: «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» , أو لأنه بيان {وإن كنتم جنبًا} , أو لأنه شرط الصلاة, أو لفهم الوجوب. قالوا: أحوط, كصلاة ومطلقة لم تتعينا. والحق أن الاحتياط فيما ثبت وجوبه أو كان الأصل كالثلاثين, فأما ما احتمل لغير ذلك فلا). أقول: أخذ الآن يحتج للقائلين بالوجوب فيما لم تعلم صفته, واحتج لهم بالكتاب, والسنة, والإجماع, والقياس. أما الكتاب فبثلاث آيات: الأولى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} , ووجه التمسك بها أنه أمر بأخذ ما آتاناه, وما فعله فقد آتانا, والأمر للوجوب, والأخذ الامتثال مجازًا, ومن ذلك فعله الذي لم تعلم صفته فيجب امتثاله. وإنما قلنا: إن فعله مما أعطاناه, لأن الصحابة فهموا ذلك عن / ابن مسعود, وأنه رأى محرمًا عليه قميص فقال له: انزع عنك هذا, فقال الرجل: اقرأ عليّ في ذلك آية, فقرأها. الجواب أولًا: أن الآية نزلت في الغنائم, وحمل اللفظ على الحقيقة

أولى؛ لأن ما فعله إنما يصدق عليه أنه معطي بطريق المجاز, والمعطي من الغنائم يصدق عليه {وما آتاكم الرسول} بطريق الحقيقة. سلمنا أن الحقيقة غير مرادة, لكن لا يصار إلى المجاز الأقرب, والمراد من قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} أي ما أمركم, لمقابلته لقوله: وما نهاكم رعيًا للمطابقة, والأمر لا يتناول الفعل, فلا يكون الفعل الذي لم تعلم صفته واجبًا. وأيضًا: لا نسلم وجوب جميع ما أتى به؛ لأن إيجاب ما ليس بواجب تناقض, فالمراد بعضه وهو ما كان واجبًا, فيتوقف الاستدلال بها عليه, وهل النزاع إلا فيه؟ . الآية الثانية: قوله تعالى: {فاتبعوه} والأمر ظاهر في الوجوب, فيكون امتثال متابعته واجبة؛ إذ المتابعة هي الإتيان بمثل فعله. أجاب: بأن حقيقته اتباع شخص النبي وهو غير مراد, وحينئذ احتمل أن يكون فاتبعوه في الفعل على الوجه الذي فعله, أو في القول, أو فيهما؛ لأن الآية مطلقة لا عامة, وحينئذ لا تجب متابعته في فعل لم تعلم صفته. أما على التقرير الأول والثالث؛ فلأن المتابعة في الفعل أن يفعله المتبع على الوجه الذي فعله المتبوع, إما من وجوب, أو ندب, أو إباحة, ولا يتصور ذلك فيما لم تعلم صفته. وأما على التقرير الثاني؛ فلأنه لا يلزم من وجوب المتابعة في القول وجوبها في الفعل, فضلا عن قول لم تعلم صفته, ولأنه إذا فعله على الندب

أو الإباحة ونحن لا نعلم على أي وجه فعله, فلو حكمنا بوجوبه مع كونه غير [واجب, مستلزم لاعتقاد كونه غير واجب] , لوجوب اعتقاد الشيء على ما هو عليه, لزم التناقض. الآية الثانية: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ووجه التمسك بها أن التأسي لازم لرجائنا الله واليوم الآخر؛ لأن {لمن كان يرجوا الله} يدل من لكم, فمعناها لقد كان لمن يرجوا الله واليوم الآخر الله واليوم الآخر, وملزوم الحرام حرام, ولازم الواجب واجب فهي في معنى قضية شرطية, من كان يرجوا الله فله فيه أسوة [حسنة]. وأيضًا: ظاهرة في التهديد على عدم التأسي, فيكون التأسي واجبًا. لا يقال: لا تدل على عموم المتابعة؛ إذ لا عموم للأسوة, فيحمل على المتابعة في أقواله أو أفعاله التي علمت صفتها؛ لأن نقول: لا تحمل على معين لعدم دلالة اللفظ عليه, ولا على واحد مبهم, لكونه على خلاف الغالب من خطاب الشرع, فحمله على الجميع أولى إظهارًا لشرفه عليه السلام. ثم أجاب المصنف: أن معنى التأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله, فيتوقف إثبات الوجوب علينا على العلم بالوجوب عليه, والفرض أنه لم تعلم صفته بالنسبة إليه.

وتمسكوا من السنة بدليلين: الأول: ما رواه أبو داود, وصححه ابن خزيمة, وابن حبان, والحاكم, ولفظه عن أبي سعيد الخدري, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فخلع نعله, فخلع الناس نعالهم, فلما / انصرف قال: «لما خلعتم, قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا, فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا» الحديث, قررهم النبي صلى الله عليه وسلم على استدلالهم, وبين العلة في خلعه نعله, فلولا أن فعله الذي لم تعلم صفته واجب لأنكر عليهم العمل في الصلاة, بل بين

وجه الخصوصية. وجوابه: أنهم فهموا وجوب الخلع من قوله عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي» , فجوزوا نسخ جواز الصلاة بالنعال, لا على أنهم رجعوا إلى الفعل لكونه بيانًا لـ {أقيموا الصلاة}؛ لتأخر هذا عن صلوات كثيرة وقد تقدم ما فيه. أو نقول: إنما خلعوا على طريق الندب, لفهمهم أن ذلك قربة. ولو قدم هذا المنع لمكان أولى مع كونه أيضًا أقوى, لاحتمال أن يكون «صلوا كما رأيتموني أصلي» قاله بعد قضية الخلع, وإن كان الراجح أنه قاله عند شروع الصلاة. الثاني من السنة: في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في حجة الوداع من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى أن يحل من إحرامه, وأن يجعل حجه عمرة وأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت على إحرامه, وأن الناس استعظموا ذلك, فقال: «لولا أن معي الهدي لأحللت». والمراد بالتمتع هنا فسخ الحج في العمرة. ووجه التمسك: أنهم اتبعوا فعله وإلا لعصوا, ثم لم ينكر, بل بين العلة وهي كون الهدي معه.

الجواب: أنهم إنما تمسكوا بفعله لقوله: «خذوا عني مناسككم» لا من فعله فقط, أو من فهم القربة, فرأوه ندبًا لا واجبًا. وفي الجوابين نظر؛ لأن الأول يقتضي أنهم فهموا أن الفعل بيان, والأمر بالنسخ يرده, الثاني أنه بعيد؛ إذ لا يترك واجب أو مندوب لمندوب آخر, على أن الثاني كلام على المستند. وتمسكوا بالإجماع, ووجه التمسك به: أن الصحابة لما اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين من غير إنزال, سأل عمر عائشة رضي الله عنهما فقالت: «فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا» , فرجعوا إلى وجوب الغسل, فلو لم يتقرر عندهم أن فعله واجب لما رجعوا إلى وجوب الغسل, وهذا الحديث على هذا النسق لم أره, وفي مسند أحمد عن أُبيّ بن كعب أن عمر بعث إلى عائشة يسألها عن ذلك, فقالت: «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل» , وخرجه الترمذي بإسناد صحيح عن عائشة, قالت: «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل, فعلته أنا ورسول الله

فاغتسلنا». وخرج مسلم عن أبي موسى أنه سأل عائشة عما يوجب الغسل, فقالت: على الخبير [بها] سقطت, قال صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس بين شعبها الأربع, ومس الختان الختان, فقد وجب الغسل». والجواب: أنا لا نسلم أن وجوب الغسل مستفاد من حكاية فعله عليه السلام بل من قوله عليه السلام: «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» وسؤال عمر عائشة ليعلم هل فعله موافق لهذا الخبر أو هو موافق لظاهر: «إنما الماء من الماء» , أو إنما رجعوا لأنهم رأوا فعله بيان لقوله تعالى: {وإن كنتم جنبا} , ولا نزاع في وجوب الغسل إذا كان بيانًا لمجمل, أو إنما رجعوا من حيث أن الغسل شرط الصلاة بالنسبة إليه واجب وأمته فيها مثله لقوله عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي» , أو لأنهم فهموا / من

حكاية عائشة وجوب الغسل بقرينة, فيرجع إلى ما علمت صفته. والجواب الثالث: وقع في المنتهى؛ ولأن الغسل مما يتعلق بالصلاة وأمته فيها مثله, وهو خير ما هاهنا؛ لأنه إنما يكون شرطًا بتقدير كونه جنابة, والنزاع فيه. وتمسكوا أيضًا بدليل منتزع من القياس, توجيهه: أن فعله الذي لم تعلم صفته دائر بين الوجوب والندب والإباحة, فحمله على الوجوب أحوط ليؤمن الإثم, كما لو نسي صلاة من الخمس لا يدريها فإن الخمس تجب احتياطًا, وكما لو طلق واحدة من نسائه ثم نسيها, فإنه يجب عليه الكف عن جميعهن لأنه أحوط؛ لئلا يقع في الحرام. أجاب المصنف: بأنا نمنع أن كل احتياط واجب, بل الاحتياط المأمور به فيما ثبت وجوبه كما في الصلاة المنسية, أو كان ثبوته هو الأصل كثوم ثلاثين إذا غمي هلال شوال, إذ الأصل بقاء رمضان. أما إذا احتمل لغير ما ذكر مما ثبت وجوبه أو كان الأصل فلا, كالصوم يوم الشك في هلال رمضان, ولما ثبت الوجوب في المقيس عليه عملنا بالاحتياط ولم نعمل في المقيس لعدم الوجوب. لا يقال: الاحتياط حيث يندفع به ضرر يثبت الوجوب, وهنا بتقدير أن يكون واجبًا وحمل على الإباحة وترك حمل الإثم؛ لأنا نقول: قد يكون من خصائصه, ويكون حرامًا علينا فنأثم أيضًا. قال: (الندب, الوجوب يستلزم التبليغ, والإباحة منتفية لقوله

تعالى: {لقد كان لكم} , وهو ضعيف. الإباحة: هو المتحقق, فلزم الوقوف عنده. أجيب: إذا لم يظهر قصد القربة). أقول: لما فرغ من أدلة القائلين بالوجوب, احتج لمن قال بالندب. وتوجيهه: أن فعله عليه السلام الذي لم تعلم صفته لا يكون حرامًا ولا مكروهًا, وإلا لم يأته. والوجوب باطل؛ لاستلزامه التبليغ دفعًا للتكليف بما لا يطاق, لكنه لم يبلغه وإلا لعلمت صفته, والإباحة منتفية بقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} في معرض المدح, ولا مدح على المباح, وقوله: {حسنة} , ولا حسنة في المباح فتعين الندب. قال المصنف: وهو ضعيف, ولم يبين ضعفه. ووجهه: أنا لا نسلم أنه ليس بواجب. قولكم: الواجب يستلزم التبليغ ولم يبلغ. قلنا: بلغ بالفعل, وقال تعالى: {واتبعوه}. سلمنا, لكن المندوب أيضًا يستلزم التبليغ. سلمنا, ولا نسلم أن الإباحة منتفية. وحسن التأسي في المباح أن يؤتي به على الوجه الذي فعله عليه السلام. ثم لما فرغ من الاحتجاج للقائل بالندب, احتج للقائل بالإباحة.

تقريره صلى الله عليه وسلم لشيء هل يكون دليلا على جوازه؟

وتوجيهه: الإباحة متحققة لانتفاء الحرمة والكراهة وإلا لم يفعله, والوجوب والندب لا دليل عليهما, فالوقوف عند المتحقق ونفي غيره هو الحق. والجواب: أن ذلك حق فيما لم يظهر فيه قصد القربة, أما ما ظهر فيه قصد القربة فنمنع أنه لا دليل على الندب؛ لأن ظهور قصد القربة دليل رجحان الفعل؛ لأن المباح لا يقصد به القرية. قال: (مسألة: إذا علم بفعل ولم ينكره قادرًا, فإن كان كمضي كافر إلى كنيسة, فلا أثر للسكوت اتفاقًا, وإلا دلّ على الجواز. فإن سبق تحريمه فنسخ, وإلا لزم ارتكاب محرم / وهو باطل. فإن استبشر فأوضح. وتمسك الشافعي في القيافة بالاستبشار وترك الإنكار, لقول المدلجي وقد بدت له أقدام زيد وأسامة: «إن هذه الأقدام بعضها من بعض». وأورد: أن ترك الإنكار لموافقة الحق, والاستبشار بما يلزم الخصم على أصله؛ لأن المنافقين تعرضوا لذلك. وأجيب: بأن موافقة الحق لا تمنع إذا كان الطريق منكرًا, وإلزام الخصم حصل بالقيافة, فلا يصح مانعًا). أقول: المسألة الثانية من السنة: في تقريره عليه السلام, هل يكون دليلا على جوازه أم لا؟ . اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا علم بفعل صدر عن المكلف ولم ينكر عليه مع القدرة على الإنكار, فإن كان ذلك الفعل مما بين الرسول عليه السلام تحريمه

فلا فائدة للإنكار؛ إذ فاعله غير متبع له, كمضي كافر إلى كنيسة, فلا دلالة لسكوته على الجواز اتفاقًا. وإن لم يكن كذلك, دلّ على جواز في حق فاعله, وفي حق غيره قياسًا عليه. فإن كان مما سبق تحريمه فسكوته نسخ لذلك التحريم, وإنما دلّ ذلك على الجواز؛ لأنه لو لم يكن ذلك جائزًا لأنكره عليه السلام, وإلا لزم أن يرتكب النبي صلى الله عليه وسلم المحرم؛ لأن تقرير المحرم محرم, لكن ارتكاب النبي عليه السلام [المحرم] باطل. أما لو انضم إلى ترك الإنكار الاستبشار فأوضح في الجواز, وبذلك تمسك الشافعي في القيافة في إثبات النسب بترك الإنكار والاستبشار في قضية المدلجي. وهي ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورًا تبرق أسارير وجهه, فقال: «ألم تري أن مجززًا

نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد, فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» , واعترض أبو بكر من أصحابنا هذا الاستدلال على الشافعي, وإن كان مالك يقول بالقيافة في الأمة يطؤها السيدان في طهر, وله قول في العمل بها في الحرائر أيضًا. ووجه الاعتراض: أن النبي عليه السلام إنما لم ينكر لأنهم وافقوا الحق, إذ «الولد للفراش» , فلو أنكر عليهم لتوهم أنه عليه السلام ينفيه عنه, لا

أفعاله صلى الله عليه وسلم هل تتعارض؟

أنه قرر أن النسب يثبت بالقيافة, وإنما استبشر لأن المنافقين أنكروا أن يكون ابنه, لبياض زيد وسواد أسامة, وهم يعتقدون القيافة, والنبي عليه السلام تأذى من قول المنافقين, فلما قال مجزز ما قال وهم يعتقدون حكم القيافة, لزمهم على أصلهم الذي هو القيافة أن يكون ابنه, وأن يكونوا كاذبين فيما تخرصوا, فاستبشر بما يلزمهم مما يسلمونه. وردَّ المصنف اعتراض القاضي: بأن القيافة إذا لم تكن طريقًا لإثبات النسب لم يجز للنبي ترك إنكارها وإن كانت موافقة للحق؛ لأن موافقة الحق لا تمنع الإنكار إذا كان الطريق منكرًا؛ لأنه سكوته لأجل حقية الشيء يوهم حقية طريقه, والاستبشار ليس لإلزام الخصم لأنه لو كان أصله باطلا لأنكره إذ الإنكار لا يدفع الإلزام؛ لأن الإلزام حصل بمجرد قول القائف, فلا يدفع إنكاره عليه السلام ما ألزمهم على أصلهم, فلما لم ينكر دلّ على الجواز. قال: (مسألة: الفعلان لا يتعارضان, كأكل وصوم, لجواز الأمر في وقت, والإباحة في آخر, إلا أن يدل دليل على تكرير الأول له أو لأمته, فيكون الثاني ناسخًا). أقول: المسألة الثالثة: في أن أفعاله عليه السلام هل تتعارض أم لا, وهل تتعارض مع أقواله؟ وهما بحثان, ولهذا جعلهما في المنتهى مسألتين. والتعارض بين شيئين: تقابلهما على وجه يمنع كل واحد مقتضى

الآخر, ثم الفعلان إما أن يكونا متماثلين أو لا. والثاني إما أن يمكن الجمع بينهما أو لا. والثاني إما أن تناقض أحكامهما أو لا. والأول: كصلاة الصبح في وقتين مختلفين. الثاني: كالصلاة والصوم. والثالث: كصلاة الظهر والعصر, ولم يتعرض المصنف لهذه الثلاثة لظهور حكمها. الرابع: إذا صام في وقت وأكل في مثله, ولا تعارض أيضًا في الحقيقة؛ لأن الفعل لا عموم له من حيث هو؛ إذ لا يقع في الأعيان إلا مشخصًا, فلا يكون كليًا حتى ينافي فعلًا آخر, فجاز أن يكون واجبًا في وقت ومباحًا في آخر, فلا يكون الثاني رافعًا لمقتضى الأول لعدم عمومه. وشرط التناقض اتحاد الزمان, اللهم إلا أن يدل على وجوب تكرار الأول, فالثاني ناسخ في حقه, لكن لو دلّ دليل على وجوب التأسي به في الأول ووقع الثاني قبل التأسي, ودلّ دليل على وجوب تكرار التأسي به في الثاني كان نسخًا في حق الأمة, فإن دلّ دليل على وجوب تكرار الأول للأمة كان الثاني نسخًا في حق الأمة أيضًا, أعني نسخًا لحكم الدليل الدال على التكرار, لا لحكم الفعل لعدم اقتضائه التكرار, ورفع حكم قد وقع محال, وإطلاق النسخ والتخصيص على الفعل مجاز, وهذا [إذا] دلّ

حكم تعارض أفعاله صلى الله عليه وسلم مع أقواله

دليل على وجوب تأسي الأمة به في الثاني, وإلا فلا معارضة في حقهم. لكن لو رأى النبي عليه السلام شخصًا تلبس في مثل هذا الوقت بضد ذلك الفعل وأقره عليه, كان ذلك تخصيصًا للفاعل إن لم يكن الشخص فعله قط, وإلا كان نسخًا لمقتضى الدليل الدال على تعميم الحكم على الأمة في حق ذلك الشخص. قال: (فإن كان معه قول ولا دليل على تكرار ولا تأس, والقول خاص به وتأخر, فلا تعارض. فإن تقدم, فالفعل ناسخ قبل التمكن عندنا. فإن كان خاصًا بنا, فلا تعارض تقدم أو تأخر. فإن كان عامًا لنا وله, فتقدم الفعل أو القول له ولأمته كما تقدم. إلا إن يكون العام ظاهرًا فيه, فالفعل تخصيص كما سيأتي). أقول: المبحث الثاني: في أفعاله هل تتعارض مع أقواله؟ . اعلم أن الفعل إذا كان معه قول يعارضه لا يخلو إما أن لا يدل دليل على وجوب تكرار الفعل في حقه, ولا على وجوب تأسي الأمة به فيه. أو يدل الدليل على وجوب كل واحد منهما, أو يدل الدليل على وجوب تكرره فقط, أو بالعكس. فهذه أربعة أقسام, كل منها إما أن يكون القول خاصًا به, أو بالأمة,

أو عامًا لنا وله, وعلى التقادير الثلاثة إما أن يتقدم الفعل, أو يتأخر, أو يجهل التاريخ. القسم الأول: وقد علمت أن أصنافه الأول ثلاثة. الأول منها: أن يكون القول مختصًا به, فإن تأخر القول مثل أن يقول بعد أن فعل الفعل: لا يحل لي مثل هذا الفعل في مثل ذلك الوقت, فلا تعارض أصلًا, لا في حقه ولا في حقنا, وهو ظاهر. وإن تقدم القول مثل أن يقول: لا يحل لي كذا في وقت كذا, ثم يفعله في ذلك الوقت, فهو نسخ قبل التمكن عندنا, ولا يجوز صدور مثل / هذا عند المعتزلة. وإن جهل التاريخ, فحكمه حكم ما دلّ الدليل على وجوب تكرره في حقه, ووجوب تأسي الأمة به والقول خاص به وجهل التاريخ؛ فلهذا لم يتعرض له المصنف استغناءً بذكره ثمة. أما لو كان [الفعل خاصًا بنا, فلا تعارض أصلًا, تقدم الفعل أو تأخر لعدم التوارد. أما لو كان القول عامًا نتأوله, فعمومه إن كان] بطريق النص, كما لو قال: حرم عليّ وعلى الأمة كذا, فحكم تقدم الفعل أو القول له أو للأمة كما تقدم, ففي حقه إن تأخر القول فلا تعارض, وكذا في حقنا.

وإن كان الفعل متأخرًا, فهو نسخ قبل التمكن في حقه عندنا, ولا يجوز عند المعتزلة مثل هذا, ولا تعارض في حقنا. أما لو كان العموم بطريق الظهور, مثل أن يقول: يحرم على المسلمين كذا, فبالنسبة إلينا كما تقدم, وبالنسبة إليه يكون الفعل تخصيصًا لذلك القول, كما سيأتي في العموم من أن فعله عليه السلام يخصص العموم. والضمير المجرور من قوله: (إلا أن يكون العام ظاهرًا فيه) يحتمل أن يعود على العموم, أو على النبي عليه السلام. قال: (فإن دلّ دليل على تكرر وتأس, والقول خاص به, فلا معارضة في الأمة. وفي حقه المتأخر ناسخ. فإن جهل. فثالثها المختار: الوقف للتحكم. فإن كان خاصًا بنا, فلا معارضة فيه. وفي الأمة المتأخر ناسخ. فإن جهل, فثالثها المختار يعمل بالقول؛ لأنه أقوى لوضعه كذلك, ولخصوص الفعل بالمحسوس, وللخلاف فيه, ولإبطال القول به جملة, والجمع ولو بوجه أولى. قالوا: الفعل أقوى؛ لأنه يبين به القول, مثل: صلوا, وخذوا عني, أو كخطوط الهندسة وغيرها. قلنا: القول أكثر, وإن سلّم التساوي, فيرجح بما ذكرناه, والوقف

ضعيف للتعبد بخلاف الأول. فإن كان عامًا, فالمتأخر ناسخ. فإن جهل, فالثلاثة). أقول: القسم الثاني: أن يدلّ دليل على وجوب تكرره في حقه, وعلى وجوب تأسي الأمة به فيه, والاحتمالات التسع قائمة فيه. فإن كان خاصًا به فلا معارضة في الأمة؛ لأن القول لم يتناولهم, وفي حقه إن تأخر القول فهو ناسخ للتكرار, وإن تقدم فالقول ناسخ, مثل التمكن عندنا في حقه, وبعد التمكن ناسخ عندنا [وعند المعتزلة]. وإن جهل التاريخ. فقيل: يعمل بالقول؛ لأن الفعل يحتاج إلى القول في بيان وجهه. الثاني: يجب العمل بالفعل؛ لأنه أقوى. الثالث وهو المختار: الوقف حتى يتبين المتأخر؛ إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر, فالجزم بوجوب العمل بأحدهما عينًا تحكم. أما لو كان خاصًا بنا, فلا معارضة في حقه بحال, وفي حق الأمة إن

تأخر الفعل فهو ناسخ, ونعني إذا كان دليل التأسي خاصًا بهذه الصورة, وإلا قدم القول, وكان الفعل مختصًا به عليه السلام. وإن تأخر القول كان ناسخًا في حقنا, إن كان دليل التأسي خاصًا, وإلا فالفعل مختص به - ولا معارضة - والقول لنا. وإن جهل التاريخ. فقيل: يعمل بالقول وهو المختار, وقيل: بالفعل, وقيل: بالوقف. احتج للمختار بأربعة أوجه: الأول: أن القول أقوى دلالة [على مدلوله] من الفعل؛ لأنه وضع لذلك, بخلاف الفعل فإن فهم الشيء عنه إنما يكون بقرينة. ولأن القول أعم؛ لأنه ينبئ عن المعقول والمحسوس, والفعل عن المحسوس فقط, فيكون أعم فائدة وكان أولى. وأيضًا: القول لم يختلف في كونه دالًا, والفعل مختلف فيه, فالمتفق أولى, وأيضًا: العمل بالفعل يبطل مقتضى / القول. أما في حقه فلعدم تناول القول له, وأما في حق الأمة فلوجوب العمل بالفعل حينئذ, والعمل بالقول لا يبطل الفعل؛ لأنه يبقى العمل بالفعل بالنسبة إلى الرسول, فإذا عملنا بالقول أمكن الجمع ولو من وجه, بخلاف إعمال الفعل, والجمع مهما أمكن أولى من إبطال أحد الدليلين.

واحتج القائلون بوجوب العمل بالفعل: قالوا: الفعل أقوى دلالة من القول؛ لأن القول يبين بالفعل, يدل على ذلك «صلوا كما رأيتموني أصلي» و «خذوا عني مناسككم» بيانًا لآية الحج وآية الصلاة, وكخطوط الهندسة وغيرها مما جرت به العادة للتعليم, مما لا يفي القول به, ولهذا قيل: ليس الخبر كالمعاينة. أجاب: بأن غايته أنه وجد البيان بالفعل, لكن البيان بالقول أكثر فيكون راجحًا. سلمنا التساوي, لكن البيان بالقول أرجح بما ذكرنا؛ لأن الدليلين من جنس واحد إذا تعارضا, فقيام دليل آخر على وفق أحدهما مرجح. لا يقال: يصار إلى الوقف كما في حقه عليه السلام للاحتمالين. لأنا نقول: نحن متعبدون بالعمل, والتوقف في إبطال العمل ونفي للتعبد به, بخلاف الأول وهو التوقف في حقه لعدم تعبدنا به. أما لو كان عامًا لنا وله, فإن تأخر القول فهو ناسخ للتكرار في حقه, وناسخ لوجوب التأسي في حقنا, وإن تأخر الفعل وكان قبل التمكن من مقتضى القول, فالفعل ناسخ قبل التمكن عندنا, إلا أن يتناوله القول ظاهرًا, فإن فعله عليه السلام يكون تخصيصًا. وإن جهل التاريخ, فقيل: يعمل بالفعل, وقيل: بالقول, وقيل: بالوقف, والمختار: تقديم القول.

لكن تقرير الدليل الرابع من مرجحات العمل بالقول فيه دقة, أنه يبطل حكمه في حقهم, وفي حقه يبطل الدوام فقط؛ لأنه فعل مرة. قال: (فإن دلّ دليل على تكرره في حقه لا على تأسي الأمة به, والقول خاص به أو عام, فلا معارضة في الأمة. والمتأخر ناسخ في حقه. فإن جهل فالثلاثة. فإن كان خاصًا بالأمة, فلا معارضة). أقول: القسم الثالث: أن يدل دليل على وجوب تكرره فقط. فإن كان خاصًا به فلا معارضة في حق الأمة مطلقًا؛ لعدم تناول الفعل لهم, والمتأخر ناسخ في حقه إن كان قولًا. وإن كان فعلًا وكان قبل التمكن من مقتضى القول, كان ناسخًا في حقه عندنا, وإلا فلا معارضة, إلا أن يدل دليل على تكرر مقتضى القول, فيكون أيضًا ناسخًا في حقه. وإن كان خاصًا بالأمة فلا معارضة أصلًا. وإن كان عامًا لنا وله, فلا معارضة في حق الأمة وفي حقه كما تقدم, إلا أن يكون ظاهرًا فيه, فيكون فعله المتأخر تخصيصًا. وإن جهل التاريخ فالثلاثة. والمختار: الوقف في حقه.

قال: (فإن دلّ دليل على تأسي الأمة دون تكرره في حقه, والقول خاص به وتأخر, فلا معارضة. فإن تقدم, فالفعل ناسخ في حقه. فإن جهل, فالثلاثة. فإن جهل خاصًا بالأمة فلا معارضة في حقه, والمتأخر ناسخ في الأمة. فإن جهل, فالثلاثة. فإن كان القول عامًا, فكما تقدم). أقول: القسم الرابع: أن يدل الدليل على وجوب التأسي فقط. فإن كان القول خاصًا به وتأخر, فلا معارضة. أما في حقه؛ فلعدم وجوب تكرره, وأما في حقنا؛ فلعدم تناول القول لنا. وإن تقدم القول, فالفعل ناسخ قبل التمكن عندنا في حقه. وإن جهل التاريخ, فالثلاثة, والمختار: الوقف. وفيه نظر؛ فإنه لا تعارض مع تقدم الفعل, فيعتقد مقتضى القول حكمًا بتقديم الفعل؛ لئلا يقع التعارض المستلزم للنسخ. وإن كان خاصًا بالأمة, فلا معارضة في حقه, وفي حق الأمة المتأخر ناسخ مطلقًا. فإن جهل, فالثلاثة, والمختار: العمل بالقول. فإن كان عامًا لنا وله, فكما تقدم.

أما في حقه فلا تعارض إن تقدم الفعل, وإن تأخر وكان قبل التمكن, فهو نسخ في حقه عندنا, إلا أن يكون العام ظاهرًا فيه, فالفعل تخصيص. وفي حق الأمة إن تأخر القول فهو ناسخ, وكذا إن تقدم. وإن جهل, فالثلاثة, والمختار: العمل بالقول.

الإجماع

قال: (الإجماع: العزم والاتفاق. وفي الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر. ومن يرى انقراض العصر, يزيد: إلى انقراض العصر. ومن يرى أن الإجماع لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر من ميت أو حي وجوَّز وقوعه, يزيد لم يسبقه خلاف مجتهد مستقر. الغزالي: اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر على أمر من الأمور الدينية. ويرد عليه: أنه لا يوجد ولا يطرد بتقدير عدم المجتهدين, ولا ينعكس بتقدير اتفاقهم على عقلي أو عرفي). أقول: لما فرغ من السنة, شرع في الإجماع, وقد اشتمل على مقدمة مسائل. أما المقدمة: ففي تعريف الإجماع, وإمكانه, وإمكان العلم به, وإمكان نقله عنهم إلينا, وفي كونه حجة. أما تعريفه: فهو في اللغة العزم, يقال: أجمع فلان على كذا, إذا عزم عليه, ومنه قوله تعالى: {فأجمعوا أمركم}. وهو أيضًا: الاتفاق, يقال: أجمعوا على كذا, إذا اتفقوا عليه. وفي اصطلاح الأصوليين: اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على

أمر [من الأمور الدينية]. فـ (اتفاق) كالجنس. وقوله: (المجتهدين) يخرج اتفاق العامة, أو اتفاق بعض المجتهدين, فلا [يعتبر العامي دخولًا وخروجًا] , ويشمل اتفاقهم قولًا أوفعلًا, أو بعضهم قولًا أو فعلًا, وبعضهم اعتقادًا. وقوله: (من هذه الأمة) يخرج اتفاق المجتهدين من الشرائع السالفة. وقوله: (في عصر) ليندرج فيه إجماع كل عصر أي زمان, قلّ أو ك ثر, وإلا أوهم أنه لا يحصل إجماع إلى يوم القيامة. وقوله: (على أمر) يتناول الدينية والدنيوية, والإثبات والنفي, والعقلي والعرفي والشرعي. والحق أن الإجماع الذي هو أحد الأدلة الشرعية أخص مما ذكر, وهو اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على حكم شرعي عن اعتقاد. ثم اعلم أن هذا التعريف لمن لم يشترط في الإجماع انقراض العصر, أما من اشترطه فلابد أن يزيد في التعريف: إلى انقراض العصر, ليوافق مذهبه. ومن قال: إن الإجماع لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر من ميت أو حي وجوّز وقوع هذا الاتفاق بعد استمرار الخلاف, يزيد في التعريف: لم

يسبقه خلاف مجتهد مستقر. ولما كان المصنف يجوّز هذا الاتفاق مع سبق الخلاف, لاسيما مع المخالف القليل ويراه إجماعًا, لم يحتج إلى هذه الزيادة. قال التستري: لا يحتاج إلى هذه الشروط؛ لأن الحدَّ إنما هو للماهية لا للإجماع الذي هو حجة, وإلا لم يطرد لصدق الحدّ على الإجماع الصادر في زمانه عليه السلام مع أنه ليس بحجة. قلت: الحق أنه [لا معنى للترديد, وهو حدّ لماهية الإجماع المصطلح, فيحتاج إلى الشرائط, وهو أحد] الأدلة الشرعية والذي ثبتت حجيته, فلا يرد عليه شيء؛ إذ اتفاقهم في زمانه مبني على جواز اجتهاد معاصريه وعلى جواز فإنما يكون بعد استفراغ الوسع, وذلك لا يكون إلا بعد أن يسألوه عليه السلام, فإذا أجمعوا بعد ذلك منعنا عدم حجيته, نعم يرد ما قدمنا. وعرَّفه الغزالي: بأنه اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور الدينية. وزيَّفه المصنف: بأنه لا يوجد إجماع, فإنه اعتبر أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك يتناول المسلمين إلى يوم القيامة فحقيقته جميعهم ولا يتصور اجتماعهم, وعلى تقدير تخصيصه ببعض فلا يطرد بتقدير اتفاق الأمة مع عدم المجتهدين, وأيضًا لا ينعكس بتقدير اتفاقهم على عقلي أو عرفي ضرورة اعتبار قيد الدينية.

ثبوت الإجماع

قلت: ومع ظهور ورودها, فهو خير من تعريفه؛ لأنها تدفع بالعناية بأن يكون أراد اتفاق المجتهدين في عصر, وسبق ذلك إلى فهم أهل الشرع, وكذا فُهم من «لا تجتمع أمتي على الضلالة»؛ إذ المراد المجتهدون, فكأنه حافظ على لفظ الحديث. وأما الاعتراض الأخير, فالاتفاق إن تعلق به عمل أو اعتقاد فهو أمر ديني, وإلا فلا يتصور حجيته, والغزالي إنما عرّف الإجماع الشرعي. قال: (وخالف النظَّام وبعض الروافض في ثبوته, قالوا: انتشارهم يمنع نقل الحكم إليهم عادة. وأجيب: بالمنع؛ لجدهم وبحثهم. قالوا: إن كان عن قاطع, فالعادة تحيل عدم نقله, والظني يمتنع الاتفاق فيه عادة لاختلاف القرائح. وأجيب: بالمنع فيهما, فقد يستغنى عن ن قل القاطع بحصول الإجماع وقد يكون الطني جليًا. قالوا: يستحيل حصوله عنهم عادة؛ لخفاء بعضهم, أو انقطاعه, أو خموله, أو أسره, أو كذبه, أو رجوعه قبل قول الآخر, ولو سُلّم فنقله مستحيل عادة؛ لأن الآحاد لا يفيد, والتواتر بعيد. وأجيب عنهما: بالوقوع, فإنّا قاطعون بتواتر النقل بتقديم النص

القاطع على المظنون). أقول: لما فرغ من تعريفه, شرع في ثبوته؛ لأن حجيته فرع ثبوته. ذهب الجمهور إلى مكان ثبوته, وخالف النظام وبعض الروافض في إمكان ثبوته, والمصنف يظهر من كلامه أن الخلاف في وقوعه, وأن النظام استحال وقوعه عادة, والذي في الإحكام والمحصول هو ما ذكرنا. واحتجوا بوجهين: الأول: اتفاقهم فرع تساويهم في نقل الحكم إليهم, لكن انتشارهم في أقطار الأرض يمنع نقل الحكم إليهم, والعادة تقضي بذلك. أجاب: أنّا نمنع أن انتشارهم يمنع عادة نقل الحكم إليهم مع جدهم وبحثهم عن الأحكام وعن الأدلة, وإنما يمتنع فيمن قعد في بيته لا يطلب ولا يبحث, أما الباحث فيمكن قطعًا نقل الحكم إليه وإن كان في أقصى الأرض. الثاني: لا يمكن اتفاقهم؛ لأن اتفاقهم لا يكون عن قطعي ولا لنقل؛ لأن العادة تحيل عدم نقل القاطع؛ لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله, فلما لم ينقل علم أنه لا يوجد, ثم لو نقل لأغنى عن الإجماع, ولا يكون عن ظني؛ لأنه يمتنع الاتفاق عنه عادة؛ لاختلاف القرائح, وتباين الأقطار, كاتفاقهم على أكل طعام واحد في ساعة / واحدة, فإنه معلوم الانتفاء بالضرورة, وما ذلك إلا لاختلاف الدواعي.

أجاب: بمنع ما ذكر في كل من القسمين, أما القاطع فلا يجب نقله عادة؛ إذ قد يستغنى بحصول الإجماع الذي يرفع الخلاف المحوج إلى نقل الأدلة, وأما الظني فإنه يكون جليًا, واختلاف القرائح والأنظار إنما هو في الخفي دون الجلي. ثم شرع في المقام الثالث وهو النظر في ثبوته عنهم, أعني العلم باتفاقهم, وفي الإحكام والمحصول: أن المجوزين لانعقاد الإجماع اختلفوا. فذهب أكثرهم إلى إمكان العلم به, وذهب الأقلون إلى امتناع العلم به, وظاهر كلام المصنف أن هذا من جهة مانعي الانعقاد, أي ولو أمكن منهم فلا يمكن العلم به عندهم عادة. وتقريره: أن العادة قاضية بأنه لا يتفق أن يثبت عن كل واحد من علماء المشرق والمغرب أنه حكم في مسألة كذا بحكم كذا؛ إذ لا يعرفون بأعيانهم فضلا عن تفاصيل أحكامهم لخفاء بعضهم, بحيث لا يعلم وجوده البتة, أو انقطاعه بعد العلم بوجوده, فصار بمعزل عن الناس, بحيث لا يسأله أحد, أو يكون خاملا لا يعرف أنه مجتهد, أو أسر فلا يقدر على علم ما عنده, أو كذبه بحيث يقول رأيي كذا وهو يعتقد خلاف ذلك, والعبرة بالاعتقاد لا باللفظ, أو بتغيير اجتهاد بعضهم فيرجع قبل قول الآخر, وإنما قيد بقوله: (قبل قول الآخر) لأنه لو رجع بعد قول الآخر لم يعتبر وكان خالقًا للإجماع والأولى ضبط الآخر بكسر الخاء, أي رجوعه قبل قول آخر المجتهدين؛ إذ لا د

الإجماع حجة شرعية يجب العمل به

يكون خارقًا إذا رجع بعد قول شخص آخر لا يكون آخرهم, إلا أن يريد بالآخر من عدا الراجح فيصح بفتح الخاء, وفيه بُعْد, ثم هذا إنما يكون خارقًا عند من لا يرى انقراض العصر. ثم شرع في المقام الرابع وهو النظر في نقل الإجماع إلى من يحتج به, أي سلمنا جواز حصوله عنهم لمن سمعه منهم, أما نقله لمن يستدل به فمستحيل عادة؛ لأن نقله إما بالآحاد ولا يفيد العلم, والإجماع أصل من الأصول فلا يثبت بما ليس بقطعي, أو نقول: ولا يجب العمل بالإجماع بنقل الواحد على ما سيأتي. وإما بالتواتر فبعيد جدًا؛ إذ يجب استواء الطرفين والوسط, ومن البعيد جدًا أن يشاهد أهل التواتر كل واحد من المجتهدين شرقًا وغربًا, ويسمعوا منهم وينقلوا عنهم إلى أهل طبقة طبقة حتى يصل إلينا. ثم أجاب المصنف: بمنع استحالة المقامين؛ لأن الوقوع فرع الجواز, ونحن قاطعون بإجماع الصحابة على تقديم النص القاطع على غيره بسبب النقل المتواتر. قال في المنتهى: «وجوب الثالث والرابع الوقوع, فإنا لا ننكر أنه تتواتر عن كل واحد من الصحابة تقديم النص المقطوع به على غيره». قال: (وهو حجة عند الجميع. ولا يعتد بالنظّام, وبعض الخوارج, والشيعة.

وقول أحمد: «من ادعى الإجماع فهو كاذب» , استبعاد لوجوده). أقول: ذهب جمهور المسلمين إلى أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم كما يجب العمل بالكتاب ونحوه, ولا عبرة بخلاف النظام وبعض الخوارج والشيعة؛ لأنهم نشأوا بعد الاتفاق؛ ولأنهم من أهل البدع, فلا يعتبرون على ما سيأتي, وما روي عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه / في إحدى الروايتين من قوله: «من ادعى الإجماع فهو كاذب» , فهو استبعاد منه أن يطلع عليه أحد, لا أنه أنكر حجيته بتقدير الاطلاع عليه, ومعنى استبعاد وجوده, أي استبعد أن يجده الشخص ولا يطلع عليه غيره, لا أنه استبعد أن يوجد في الواقع, فيرجع في الحقيقة إلى استبعاد الوجدان لا الوجود. وحمل كلام المصنف على هذا أولى, ليساعد ما نقل في الإحكام؛ ولأن الحجية فرع الوجود, فلا تثبت الحجية ما لم يثبت الوجود, وليست فرع الوجدان, وإنكار الشيعة حجيته من حيث إنه إجماع, وإلا فهو عندهم

الأدلة على حجية الإجماع

حجة لاشتمال على قول الإمام المعصوم. قال: (الأدلة منها: أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف, والعادة تحيل إجماع مثل هذا العدد الكثير من العلماء المحققين على قطع في شرعي من غير قاطع, فوجب تقدير نص فيه. وإجماع الفلاسفة, وإجماع اليهود, وإجماع النصارى غير وارد. لا يقال: أثبتم الإجماع بالإجماع؛ إذ أثبتم الإجماع بنص يتوقف عليه؛ لأن المثبت كونه حجة ثبوت نص عن وجود صورة منه بطريق عادي, لا يتوقف وجوده ولا دلالتها على ثبوت كونه حجة, فلا دور. ومنها: أجمعوا على تقديمه على القاطع, فدل على أنه قاطع, وإلا تعارض الإجماعان؛ لأن القاطع مقدم. فإن قيل: يلزم أن يكون المحتج عليه عدد التواتر, لتضمن الدليلين ذلك. قلنا: إن سلم فلا يضر). أقول: شرع الآن في الاحتجاج على حجية الإجماع, احتج على ذلك بأدلة من الكتاب, والسنة, والمعقول. وقدم ما تعلق بالعقل؛ لإفادته عنده كون الإجماع حجة قطعية, بخلاف ما تعلق بالكتاب والسنة, فإنهما لا يدلان إلا على كونه حجة ظنية.

توجيه الأول أن يقال: الإجماع دلَّ القاطع على تخطئة مخالفه, وكلما دلّ القاطع على تخطئة مخالفه فهو حجة قطعية, فالإجماع حجية قطعية, أما الكبرى فظاهرة. وأما الصغرى؛ فلأنه لو لم يدل القاطع على تخطئة مخالف الإجماع بعد انعقاده لا قبله وإلا لم يكن إجماعًا, ولما أجمع مثل هذا العدد الكثير من العلماء المحققين على القطع بتخطئة مخالف الإجماع, لكنهم أجمعوا على القطع بتخطئة مخالف الإجماع بالنقل المتواتر عنهم بذلك. بيان اللزوم: أن العادة تحيل اجتماع هذا العدد الكثير من العلماء المحققين المجتهدين على القطع في حكم شرعي من غير نص قاطع يكون سندًا لقطعهم والعادة أصل يستدل به, كما يستدل بها على بطلان دعوى وجود معارض للقرآن يوجب تقدير نص قاطع دال على الحكم المجمع على تخطئة مخالفه. قلت: وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأنا نمنع الصغرى بمنع الاستثنائية في الدليل الذي استدل به على صحتها؛ لأن أحمد قد أنكر الوجدان, ومن خالف ما لم يتحقق وجوده, كيف يكون مخطئًا فضلًا عن القطع بتخطئته, ثم جماعة من محققي الأصول كالإمام فخر الدين وغيره يرونه حجة ظنية, وهو [أقرب] , ومخالف الظني لا يقطع بخطئه.

وأيضًا على مذهب القاضي الذي يعتبر موافقة العامي في حجية الإجماع, فكيف يوجد؟ . ثم أورد المصنف على نفسه سؤالًا توجيهه: إن الفلاسفة أجمعوا على القطع بقدم العالم, واليهود أجمعوا على القطع بكون النبي عليه السلام متنبئًا وكذا النصارى على أن عيسى قد قتل, وليس إجماعهم عن قاطع؟ . ثم أجاب: بأنه غير وارد, أما أولًا: فنمنع الإجماع. وثاني: نفرق؛ لأن سند الإجماع الشرعي نص قاطع, وهو لا يحتمل الخطأ, وسند إجماع الفلاسفة العقل وهو يخطئ. واليهود والنصارى ليسوا قاطعين, بل مستندين إلى آحاد الأوائل, بل قد أخبر الله تعالى بكذب اليهود, حيث قال تعالى: {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}. ثم أورد على نفسه سؤالًا آخر توجيهه: إن ما ذكرتم ملزوم لإثبات الشيء بنفسه, أو لإثباته بما يتوقف عليه, وملزوم الفاسد فاسد, لأنكم إن قلتم: أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف فيكون الإجماع حجة, فقد أثبتم الإجماع بالإجماع, وإن قلتم: الإجماع دلّ على نص قاطع في تخطئة المخالف, فقد أثبتم الإجماع بنص يتوقف عل الإجماع؟ . ثم أجاب عنه: بأن المثبت حجية الإجماع لا نفسه, ومثبته وجود نص

قاطع دلّ عليه وجود صورة من الإجماع يمتنع عادة وجود تلك الصورة بدون ذلك النص القاطع, سواء قلنا الإجماع حجة أم لا, ثم ثبوت هذه الصورة من الإجماع ودلالتها العادية على وجود النص القاطع لا يتوقف على كون الإجماع حجة؛ لأن ثبوت تلك الصورة بالتواتر, ودلالتها على النص بالطريق العادي. فالحاصل: أن الذي جعلنا وجوده دليلًا على حجية الإجماع, لا يتوقف وجوده ولا دلالته على حجية الإجماع, بل فرد من أفراد الإجماع مثبت للنص, والنص مثبت لحجية الإجماع. قيل: إذا كان المثبت لطريق النص هو الطريق العادي, فلا حاجة إلى التمسك في حجية الإجماع بالإجماع على تخطئة المخالف, لجواز أن يقول: ابتداء الإجماع حجة؛ لأن العادة إلى آخره, وإذا تضمن كل إجماع نصًا قاطعًا, كان كل إجماع حجة. ردَّ: بأن التمسك بالعادة في كل إجماع لا يقتضي وجود القاطع, وإلا لزم أن يكون سند كل إجماع قطعيًا, وإنما احتيج إلى ما ذكر من حيث أن العادة في مثل هذا الإجماع توجب وجود قاطع؛ إذ القطع بتخطئة المخالف يحيل عدم القاطع فيه عادة, فيكون هذا الإجماع القطعي دالًا على تخطئة مخالف كل إجماع, فيكون كل إجماع قطعيًا.

الدليل الثاني من الأدلة العقلية على كون الإجماع حجة قطعية: إذا علمنا بالتواتر أن العلماء المحققين أجمعوا على تقديم الإجماع على النص القاطع, فدلّ على أنه حجة قطعية, وإلا لزم تعارض الإجماعين؛ لأنا علمنا بالتواتر عنهم أيضًا أنهم أجمعوا على تقديم القطعي على الظني, وتعارض الإجماعين يستلزم خطأ أحدهما, وخطأ الإجماع باطل لما سيأتي, مع أن العادة تقضي بامتناع التعارض بين أقوال هذا العدد من العلماء المحققين. قلت: وفي هذا الدليل نظر؛ لأنا أولًا نمنع أنهم أجمعوا على تقديمه على القاطع, وفي المنهاج وغيره إذا عارضه نص أول القائل له وإلا تساقطا, [ولو سلم عدم التساقط, فإنما يقدم الإجماع إذا كان سنده قطعيًا وإلا كان الإجماع خطأ, ولا نزاع أصلا في إجماع سنده قاطع أنه قطعي, وإنما النزاع في ما سنده ظني ولم يدل عليه دليل أنه حجة قطعية] , [فإن تمسك به على وجه آخر بأن يقول: أجمعوا أنه لا يقدم القاطع عليه, وقد أجمعوا على تقديم القاطع على الظني, فلو كان ظنيًا تعارض الإجماعان. قلنا: لا يتصور إجماع يقابله قاطع؛ لأنه يكون خطأ؛ إذ قصارى سنده أن يكون قطعيًا آخر ولا يصح, لأن تعارض القطعيين محال لاستلزامهما

النقيضين]. ثم أورد على نفسه سؤالًا على الدليلين مع الجواب عنه, توجيهه: أن مقتضى الدليلين أن الإجماع الذي يكون حجة هو ما بلغ المجمعون فيه عدد التواتر؛ لأن العادة إنما تحيل اجتماع العدد الكبير على القطع في [شرعي] من غير قاطع [إذا بلغوا عدد التواتر والعادة أيضًا إنما تقضي بامتناع التعارض بين أقوال مثل هذا العدد, وما قصر عن ذلك لا يقدم قولهم على القاطع. أجاب أولًا: بالمنع, وأن الدليل ناهض من غير تقييد ولا اشتراط لبلوغ عدد التواتر؛ لأنهم خطأوا المخالف وقدموه على القاطع مطلقًا, والعادة تحيل اجتماع العدد الكثير على القطع من غير قاطع] , بلغوا عدد التواتر أم لا وتحيل التعارض بين أقوال العدد الكثير من العلماء, بلغوا حدّ التواتر أم لا. سلمنا, ولا يضر إذ الغرض حجية الإجماع في الجملة وقد صح, لا أن كل إجماع يكون قطعيًا. أو نقول: اللازم أن القاطعين بتخطئة المخالف والذين قدموا الإجماع على النص القاطع عددهم عدد التواتر, لا كون المجمعين عدد التواتر, فما لزم عدم التواتر إلا في الإجماعين المذكورين ولا يضر, وهذا أظهرها. أو نقول: يلزم إذا كان المجمعون عدد التواتر كون الإجماع قطعي, وذلك لا ينفي حجية إجماع قصروا فيه عن عدد التواتر, على أن أكثر ما

يستدل به من الإجماع كإجماع الصحابة والتابعين قد بلغوا عدد التواتر. ولم يورد المصنف على الدليل الأخير ما أورد على الأول من إثبات الشيء بنفسه, استغنى بما تقدم من الجواب, ولو أخّره إلى أن يورد على الدليلين كما فعل في هذا الإيراد الأخير لكان أولى؛ لعموم وروده عليهما مع كون الجواب عنهما واحد. قال: (الشافعي: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} وليس بقاطع لاحتمال في متابعته, أو مناصرته, أو الاقتداء به, أو في الإيمان, فيصير دورًا؛ لأن التمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع, بخلاف التمسك بمثله في القياس. الغزالي: بقوله عليه السلام: «لا تجتمع أمتي» من وجهين: أحدهما: تواتر المعنى, كشجاعة عليّ, وجُود حاتم, وهو حسن. والثاني: تلقي الأمة لها بالقبول, وذلك لا يخرجها عن الآحاد). أقول: شرع الآن فيما تمسك به على حجية الإجماع مما يرى صحته. الأول منها: متمسك الشافعي وهو قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم}. ووجه التمسك بها: أن الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول التي هي حرام إجماعًا وبين اتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد, فيكون اتباع غير سبيل

المؤمنين حرامًا, وإلا لم يجمع بينه وبين الحرام في الوعيد, ثم الوعيد على كل واحد واحد لا على الكل؛ لأن المشاقة مستقلة بذلك, فكان اتباع سبيل المؤمنين لغوا حينئذ, وإذا حرم اتباع غير سبيلهم, وجب اتباع سبيلهم؛ إذ لا مخرج عنهما, والإجماع سبيلهم؛ إذ السبيل ما يختاره العامل قولًا أو فعلًا فيجب اتباعهم في قولهم وفتواهم, ولا نعني بكون الإجماع حجة إلا ذلك. واعترض على المتمسك بهذه الآية بقريب ثلاثين اعتراضًا, أقواها ما ذكره المصنف: أن هذا التمسك أولاً ليس بقاطع, فلا يفيد من يرى / الإجماع حجة قطعية. ثم لو احتج به من يرى الإجماع حجة ظنية ويرى أن الأصول تثبت بالظاهر, لزمه الدور, أما أنه ليس بقاطع؛ فلأن قوله: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} يحتمل وجوها من التخصيص, أي ويتبع غير سبيلهم في متابعة الرسول, أو غير سبيلهم في مناصرته, أو غير سبيلهم في الاقتداء به, أو غير سبيلهم في الإيمان به, إذ دلالة العام على فرد من أفراد عينًا ليس بقطعي لجواز إخراج, غايته أنه ظاهر في جميعها, والتمسك بالظاهر إنما تثبت بالإجماع, ولولاه لم نعمل بالظن للأدلة الدالة على منع العمل بالظن, فيكون إثباتًا لحجية الإجماع بما لا تثبت حجيته إلا بالإجماع فيصير دورًا, وإذا سلكنا في الاعتراض هذا الطريق - لا طريق من قال إنه إثبات أصل كلي بدليل ظني فلا

يجوز - لم يرد علينا نقضًا؛ لأنا [إن] أثبتنا القياس بالظاهر [إذن] فالعمل بالظاهر غير مثبت فلا دور, واعمل أن الاحتمالات الأربعة التي ذكرها المصنف ترجع إلى ثلاثة؛ إذ الثالث يغني عنه الأول. قيل: إنما يلزم الدور لو لم يدل على العمل بالظاهر غير الإجماع وهو ممنوع؛ لجواز أن يكون ثمة نص قاطع أو استدلال قاطع, كما يقال: الظاهر مظنون, وكل مظنون يجب العلم به قطعًا؛ لأنه لو لم يعمل بواحد من النقيضين يلزم رفعهما, وإن عمل بهما يلزم اجتماعهما, وإن عمل بالمرجوح يلزم خلاف صريح العقل. قلت: وهذا ضعيف, أما قوله: لجواز أن يكون ثمة قاطع, الأصل عدمه, ولو كان لاطلع عليه, وأما الاستدلال القطعي فقد تقدم أول الكتاب ما فيه؛ إذ لا يلزم من عدم العمل بهما رفعهما؛ إذ قد يكون عدم العمل لعدم الجزم بأحدهما, مع أن الواقع لا يخلوا من أحدهما, والمحال إنما هو ارتفاعهما في الواقع. سلمنا, ونختار القسم الآخر. قوله: خلاف صريح العقل, إنما يلزم ذلك لو كان المرجوح عنده هو المرجوح في الواقع, وهو غير لازم, إذ قد يكون ظنه غير مطابق, ثم هو مبني على حكم العقل, ولا مجال له في الأحكام الشرعية عندنا.

الثاني: متمسك الغزالي وهو قوله عليه السلام: «لا تجتمع أمتي» ولفظه عند أبي داود: «إن الله أجازكم من ثلاث خلال: ألا يدعوا عليكم نبيكم فتهلكوا, وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق, وأن لا تجتمعوا على ضلالة» , وفي إسناده مقال, ورواه الترمذي ولفظه: «لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة [أبدًا]» وقال: «غريب من هذا الوجه» , وفي إسناده سليمان بن سفيان وقد ضعفه الأكثرون. وخرّجه الحاكم والدارقطني وعللوه, والتمسك به من وجهين:

أحدهما: أن معناه متواتر, فقد روي عنه عليه السلام: [«لا تجتمع أمتي على ضلالة» وروي عنه]: «لا تزال طائفة من أمتي على حق» وروي عنه «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» , وروي «يد الله مع الجماعة» , وروي: «عليكم بالسواد الأعظم» , إلى غير ذلك مما دلّ على هذا المعنى من الأحاديث الكثيرة, فيكون القدر المشترك بينها وهو نفي الخطأ عنهم قطعي؛ لأن القدر المشترك تضمنته هذه الأخبار,

كقطعنا بشجاعة عليّ, وجود حاتم, ولم يتواتر إلا / القدر المشترك. واستحسن المصنف هذا المتمسك وليس بحسن, بل هو أضعف من متمسك الشافعي الذي ردّه؛ إذ لم يرد من طريق صحيح ذكر الخطأ, والذي فيه ذكر الضلالة قد سمعت ما فيه. وجميع الأحاديث الأخر لا تدل على حجية الإجماع, ولو سلّم فليس فيها نص صريح في وجوب العمل بالإجماع, والضلالة والخطأ ظاهران في مدلوليهما, فجاز أن يكون المراد من الضلالة والخطأ الكفر والبدعة إلى غير ذلك, فجاء الدور, مع أن اللازم أنهم لا يجتمعون على خطأ, ولا يلزم أن يكون قول غيرهم خطأ إلا بعد تحقق أن المصيب واحد, وفيه ما فيه. الوجه الثاني من التمسك: أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة متمسكًا بها على هذا المعنى, ولم يطعن فيها بعدم حجة, بل تلقوها كلهم بالقبول, فلولا أنها صحيحة قطعًا لقضت العادة بامتناع الاتفاق على قبولها. وزيفه المصنف: بأن تلقي الأمة لها بالقبول لا يخرجها عن كونها أخبار آحاد, فلا تفيد القطع بحجية الإجماع, أو لا تفيد حجيته أصلًا, إما لكونه أصلا من الأصول, والأصول لا تثبت بالظاهر, أو للزوم الدور, وقد زعم طائفة أن ما تلقي بالقبول يفيد العلم. قال ابن الصلاح: وأحاديث البخاري ومسلم تلقتها الأمة بالقبول

فتكون قطعية, للعلم النظري بأنهم ظنوا صحتها, وظن الجميع لا يخطئ؛ لأنهم معصومون كالإجماع عن اجتهاد, وكذا ما انفرد به أحدهما, ولا فرق بينه وبين المتواتر, إلا أن إفادة المتواتر العلم ضرورية وإفادة هذا نظرية, سوى ما أخذ فيه على البخاري ومسلم وقدح فيه مُعتَمدٌ من الحفاظ, فهو مستثنى بما ذكرنا, لعدم الإجماع على ما تلقته بالقبول. وهذا الذي قال ابن الصلاح فاسد؛ لأن تلقي الأمة لها بالقبول أفادنا وجوب العمل بها من غير بحث عن صحتها, بخلاف غيرها من أخبار الآحاد إنما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها, وهذا هو المراد من قولهم: أجمعوا على صحة ما فيها, بمعنى لا يحتاج إلى نظر في صحتها, ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيها من غير بحث عن الصحة إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم, ومما يوضح فساده: أن المجتهد إذا ظن حكمًا فمظنونه هو حكم الله في حقه بالإجماع, فيقال: أجمعوا على أن مظنونه هو حكم الله في حقه, فيلزم أن يكون هو حكم الله في حقه في نفس الأمر قطعًا لأنهم معصومون, وهذا لا يتم عند المحققين وهم الذين يرون المصيب واحدًا, فهم مصيبون في عملهم بالظن وإن كان في نفس الأمر على غير ذلك, كما يكون المجتهد مصيبًا في العمل بظنه وإن كان في نفس الأمر على غير ذلك. ثم يلزم من خالف حديثًا قطعي الدلالة منها ولم يعلم به أن يكون كافرًا أو عاصيًا, وكثير منها لم يعمل على وفقه مالك, ولا الشافعي, ولا أبو

حنيفة, ولا أحمد, لا لمعارض قطعي, بل لمعارض ظني من خبر آحاد آخر لم يخرجاه, أو لقياس, ثم هذا كله إنما يتم على تقدير كون الإجماع حجة قطعية. ولقائل أن يقول: لا دليل قطعي على حجية الإجماع, ولا تثبت حجيته بالظني للزوم الدور كما سبق, فلا تثبت حجيته. ولهذا قال بعض حذاق الأصوليين المتأخرين: «الإجماع مشكل». وإنما أطنبت / في الردّ عليه لقوله: «وكنت أميل إلى أن ما اتفقا عليه مظنون وأحسبه مذهبًا قويًا, وقد بان لي أنه ليس كذلك, وأن الصواب أنه يفيد العلم النظري». قال: (واستدل: إجماعهم يدل على قاطع في الحكم؛ لأن العادة امتناع إجماع مثلهم على مظنون. وأجيب: بمنعه في الجلي وأخبار الآحاد, بعد العلم بوجوب العمل بالظاهر). أقول: احتج إمام الحرمين على حجية الإجماع بدليل, توجيهه: أن الإجماع يدل على وجود دليل قاطع في الحكم المجمع عليه؛ لأن العادة تقضي بامتناع إجماع مثلهم على مظنون؛ لاختلاف القرائح المانعة من الاتفاق على مظنون.

أجاب: بأنا نمنع أن العادة تقضي بامتناع إجماعهم على مظنون, إنما ذلك في مظنون يدق فيه النظر, أما في القياس الجلي وأخبار الآحاد بعد العلم بوجوب العمل بالظاهر فلا, قيل: صوابه بعد العلم بجواز العمل الظاهر, لا بعد العلم بوجوب العمل بالظاهر؛ لأنه إنما ثبت به الإجماع على ما تقدم له, فلا يصح سندًا لمنع الملازمة. قلت: ولا يلزم لما سنذكر, ثم للقائل أن يقول: جواز العمل بالظن مستند إلى الإجماع أيضًا وإلا لامتنع للأدلة الدالة على المنع من العمل بالظن. قيل: هذا الاستدلال قريب مما استدل به المصنف أولًا وصححه. قلت: [ظاهر, غير أنه غيره]؛ لأن الأول أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف وذلك يتضمن قاطعًا, وهنا أجمعوا على الحكم وهو لا يتضمن قاطعًا. قيل: هذا الردّ ينافي ما ردَّ به أولًا متمسك الشافعي. قلت: لا ينافيه؛ لأنهم إذا أجمعوا على وجوب العمل بالظاهر, ثم أجمعوا على ظاهر, فالإجماع مثبت لوجوب العمل بالظاهر, والظاهر مثبت لصورة من صور الإجماع لا لنفس الإجماع فلا دور, بخلاف الأول على أنه كلام على المستند. قيل: قوله: (وأخبار الآحاد) يمكن جعله نقضًا, أي ما ذكرتم

منقوض بوجوب العمل بخبر الواحد, فإن الإجماع على وجوب العمل به مع أنه مظنون. وردّ: بأنه لا يناسب أن يجعل نقضًا؛ إذ لا يلزم من انعقاد الإجماع على وجوب العمل بالظني جواز كون سند الإجماع ظنيًا. قال: (المخالف: {تبيانًا لكل شيء} , {فردوه} ونحوه, وغايته الظهور, وبحديث معاذ حيث لم يذكره. أجيب: بأنه لم يكن حينئذ حجة). أقول: احتج المخالف على أن الإجماع ليس بحجة بالكتاب والسنة. أما الكتاب فبآيات: الأولى: قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} فيكون مبينًا للأحكام الشرعية, فلو كان الإجماع مبينًا لشيء من الأحكام, لم يكن القرآن تبيانًا لكل شيء. الثانية: قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} فإنه يدل على أن الإجماع لا يكون مرجعًا للأحكام. وقوله: (ونحوه) الظاهر أنه أراد ما تمسك به لهم الآمدي من قوله

تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} , وقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} , نهى كل الأمة عن هاتين المعصيتين, وذلك يدل على تصورهما منهم, ومن يتصور منهم ذلك لا يكون قولهم موجبًا للقطع. وأشار المصنف إلى أنه لو سلم من المنع والنقض فغايته الظهور, ولا يعارض القاطع الدال على حجيته وقد قدمناه, لكنه غير سالم؛ لأن قوله: {تبيانًا لكل شيء} لا ينافي أن يكون غيره بيان, ثم هو منقوض / بالسنة مع كون الآية تقتضي أن يكون القرآن تبيانًا لكون الإجماع حجة لأنه شيء. وأما الآية الثانية فنمنع أنه نفى أن يكون الإجماع مرجعًا؛ لأن الردّ إلى الإجماع ردٌّ إليهما لأنهما أصل له, مع أن ذلك مختص بما فيه النزاع, والمجمع عليه ليس كذلك. وأيضًا: يجوز أن تكون الآية للصحابة, والإجماع لم يكن إذ ذاك حجة. وعن الآيتين: أن النهي راجع إلى كل واحد لا إلى المجموع, ولا يلزم من جواز المعصية على كل واحد واحد جوازها على الكل. سلمنا, لكن غايته الجواز, ولا يلزم منه الوقوع. احتجوا من السنة ما رواه أبو داود, والترمذي ولفظه: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ فقال: أقضي بكتاب الله, قال: فإن لم تجد في

حكم اعتبار رأي مخالفي إجماع المجمعين

كتاب الله؟ فقال: فبسنة رسول الله, قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو, قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله» , لكن قال [في] البخاري: «لا يصح هذا الحديث» , وقال الترمذي: «ليس إسناده بمتصل». ووجه الاحتجاج: أنه أهمل الإجماع عند ذكر الأدلة, وقرره النبي عليه السلام. أجاب المصنف: بأنه لم يكن حينئذ حجة لعدم تقرر المأخذ, وإنما لم يذكر المصنف لفظ الحديث لشهرته. قال: (مسألة: وفاق من سيوجد لا يعتبر اتفاقًا. والمختار: أن المقلد كذلك. وميل القاضي إلى اعتباره. وقيل: يعتبر الأصولي, وقيل: الفروعي. لنا: لو اعتبر لم يتصور, وأيضًا المخالفة عليه حرام, فغايته مجتهد

مخالف, وعلم عصيانه). أقول: القائلون بالإجماع اتفقوا على أنه لا يعتبر خلاف من سيوجد بعد انقراض عصرهم, أو من بلغ رتبة الاجتهاد بعد عصرهم وإن كان موجودًا في عصرهم, وأما من بلغ رتبة الاجتهاد في عصرهم, كان موجودًا يوم الإجماع إلا أنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد أو لم يكن موجودًا, فاعتباره مبني على الخلاف في اشتراط انقراض العصر. وأما المقلد, فلا يعتبر عند مالك والشافعي واختاره المصنف, واعتبره القاضي أبو بكر مطلقًا, وقيل: تعتبر موافقة الأصولي المقلد في الفروع وقيل: بالعكس. أما القاضي فرأى أن الأدلة كالمؤمنين والأمة تتناولهم, ولما كان المعول عند المصنف على الدليل العقلي وهو غير متناول لهم على ما عرف لم يعتبرهم. احتج المصنف لمختاره بوجهين: الأول: لو اعتبر موافقة المقلد, لم يتصور تحقق الإجماع لكثرتهم, أو انتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها وعدم انضباط كلمتهم. الثاني: المقلد يجب عليه تقليد العلماء وتحرم عليه مخالفتهم, فلا تضر

حكم اعتبار رأي المجتهد المبتدع في الإجماع

مخالفته؛ إذ غايته كمجتهد خالف أصل الإجماع وعلم عصيانه, وهو المجتهد الذي بلغ رتبة الاجتهاد بعد انقراضهم, فكما يعصي هذا ولا تضر مخالفته فكذلك العامي بل أولى؛ لأنه لا يقدر على الاستنباط بخلاف المجتهد, والجامع بينهما أن كل واحد يعصي بالمخالفة ويجب عليه العمل بقولهم. قلت: وفيهما نظر؛ أما الأول فنمنعه, وسنده ما ذكر في المجتهدين, والكثرة لا تمنع التصور, ولو سلّم ففي غير الأصولي والفروعي. وأما الثاني: فلا يلزم من كون المخالفة عليه حرام, كون قولهم حجة على غيرهم, لجواز كون العصمة للهيئة الاجتماعية, والفرق بينه وبين المجتهد أنهم ثمة كل الأمة بخلاف هنا. قال: (مسألة: المبتدع بما يتضمن كفرًا كالكافر عند المكفر, وإلا كغيره وبغيره. ثالثها: يعتبر في حق نفسه. لنا: أن الأدلة لا تنتهض دونه. قالوا: فاسق فيرد قوله كالكافر والصبي. أجيب: بأن الكافر ليس من الأمة في شيء, والصبي لقصوره. ولو سلّم, فيقبل على نفسه). أقول: المجتهد المبتدع إن كان مبتدعًا بما يتضمن الكفر, وهو المخطئ في الأصول بتأويل - لأن غير المتأول كافر - فمن كفر المتأول فلا نزاع في أنه لا يعتبره في الإجماع, ولا يثبت تكفيرهم بإجماعنا لأنه فرع تكفيرهم, بل بالدليل العقلي, ومن لم يكفره فحكمه عنده حكم المبتدع بما لا يتضمن كفرًا

كالفسق بالجوارح, وفيه ثلاثة مذاهب: اعتباره مطلقًا, وهو اختيار بعض المالكية, وإمام الحرمين, والمصنف, الثاني: عدم اعتباره مطلقًا, الثالث: تعتبر موافقته في حق نفسه, بمعنى أنه تجوز له مخالفة الإجماع الذي انعقد بدونه, ولا تجوز لغيره مخالفته, احتج لمختاره: بأن الأدلة العقلية والسمعية لا تنهض دونه, أما العقلية: فلأن النص القاطع الذي تضمنه إجماعهم على القطع بتخطئة المخالف, إنما هو على تقدير اتفاق جميع مجتهدي عصر, وأما السمعية, فلأنه من الأمة والمؤمنين, وفسقه لا يخل بأهليته. احتج القائلون بعدم اعتباره: بأنه فاسق فلا يعتبر قوله, قياسًا على الكافر والصبي بجامع عدم العدالة. الجواب: نمنع عليه الوصف؛ لأن الكافر إنما لم يعتبر لكونه ليس من الأمة, والصبي إنما لم يعتبره لقصوره عن درجة الاجتهاد, بخلاف الفاسق فإنه من الأمة وقادر على الاستنباط, ولو سلم عدم قبول قوله فبالنسبة إلى من لم يظهر صدقه عنده, أما في حق نفسه فلا ينعقد إجماعهم حجة عليه إذا أداه اجتهاده إلى غير ذلك, وهذا معنى قول الآمدي: «لا نسلم امتناع فتواه

عدم اختصاص الإجماع بالصحابة عند الجمهور

بالنسبة إلى من ظهر صدقه عنده» , ومن هنا تعلم أن مراد المصنف ردّ قول النافي بأنه لا ينهض أصلًا أو لا ينهض على أحد الفريقين, لا كما قال بعض الشراح: «إن مدعى المصنف أحد الأمرين, إما قبوله مطلقًا, أو قبوله في حق نفسه» , ولا كما قرره أكثر الشراح من أن الفسق يمنع من قبول قوله في حق الغير للتهمة, ولكن لا يمنع قبول قوله على نفسه لعدم التهمة, فإذا أجمعوا على ما يكون عليه فعدم موافقته لا تعتبر للتهمة, أما إذا أجمعوا على ما يكون له فعدم موافقته تعتبر لعدم التهمة, وقد ظهر لك ما هو الحق. ونزيده وضوحًا, قال الإمام في البرهان: في عدم اعتبار قوله نظر عندي؛ لأنه لا يلزمه أن يقلد غيره, بل يلزمه أن يرجع في وقائع نفسه إلى اجتهاده, فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه واجتهاده خالف اجتهاد غيره, وإذا لم ينعقد في حقه استحال بعض حكمه, فإن قيل: هو عام في حق نفسه باجتهاده يصدق عليه فيما بينه وبين ربه وهو مكذب في حق غيره, فلهذا انقسم حكم الإجماع في حقه, قلنا: الفاسق لا يقطع بكذبه, فهو كالعالم الغائب, فإذا تاب كان كما إذا قدم العالم الغائب. قال: (مسألة: لا يختص الإجماع بالصحابة, وعن أحمد قولان. لنا: الأدلة السمعية, قالوا: إجماع الصحابة قبل مجيء التابعين

وغيرهم على أن ما لا قطع فيه سائغ فيه الاجتهاد, فلو اعتبر غيرهم معهم خولف إجماعهم وتعارض الإجماعان. أجيب: بأنه لازم في الصحابة قبل تحقق إجماعهم / فوجب أن يكون ذلك مشروطًا بعدم الإجماع, قالوا: لو اعتبر لاعتبر مع مخالفة بعض الصحابة, أجيب: بفقد الإجماع مع تقدم المخالفة عند معتبرها). أقول: الجمهور على أن الإجماع لا يختص بالصحابة, بل إجماع مجتهدي كل عصر حجة, وذهب أهل الظاهر وأحمد في أحد القولين إلى أن الإجماع المحتج به هو إجماع الصحابة فقط, احتج المصنف بالأدلة السمعية, وهي تتناول مجتهدي كل عصر, وقد علمت أن السمعية ردها إلا ما تمسك به الغزالي على الوجه الأول, فإليه أشار والله أعلم, وأطلق لفظ الجمع نظرًا إلى أفراد تلك الأخبار, أو لأن الظاهرية لما كانت أدلة الإجماع عندهم من الكتاب والسنة, أشار إلى ما احتجوا به, فقال: (لنا: الأدلة السمعية) ولم يتعرض للأدلة العقلية؛ لأن أهل الظاهر لا يسلمونها, فانحصر عندهم دليل حجية الإجماع في الكتاب والسنة, ثم قالوا: هي كلها خطاب مع الموجودين, فلا يكون إجماع التابعين حجة؛ إذ ليسوا كل الأمة؛ إذ من تقدم لا يخرج بالموت عن كونه من المؤمنين أو من الأمة, ويلزمهم أن لا يكون من أسلم بعد نزول الآية معتبرًا في إجماع الصحابة, لأن أولئك كل

الأمة حقيقة, وكذا إن مات البعض بعد نزول الآية ثم أجمع الباقون, إلا يكون إجماعًا إذ ليسو كل الأمة, فالتابعون كل الأمة فيما لم يسبق لغيرهم فيه خلاف وبعض الأمة في ما سبق فيه خلاف, احتج أهل الظاهر بوجهين: الأول لو كان إجماع غير الصحابة حجة لزم تعارض الإجماعين واللازم باطل, أما الملازمة: ؛ فلأن الصحابة أجمعوا قبل مجيء التابعين على أن كل مسألة لا قاطع فيها يجوز فيها الاجتهاد, وأن يأخذ كل مجتهد فيها بما أداه إليه اجتهاده, فلو اعتبر إجماع التابعين وأجمعوا على مسألة لا قاطع فيها لزم تعارض الإجماعين؛ لأنه يلزم من إجماع التابعين عدم جواز الاجتهاد فيها لمن بعدهم ويلزم من إجماع الصحابة جواز الاجتهاد فيها, وتعارض إجماعين يستلزم خطأ أحد الإجماعين, والخطأ منفي عن الإجماع. الجوةاب: إن الإلزام المذكور لازم في الصحابة قبل تحقق إجماعهم؛ لأن الصحابة قبل إجماعهم في مسألة يجوز فيها قد أجمعوا على جواز الاجتهاد فيها فإذا أجمعوا فيها فبعد إجماعهم لا يجوز فيها الاجتهاد فلزم تعارض إجماعيهما, فلو صح ما ذكرتم لزم أن لا يجوز إجماعهم في شيء من المسائل الاجتهادية, ولما كان هذا الجواب إلزاميًا, أشار إلى التحقيق بأنه يجب أن يكون المجمع على جواز الاجتهاد فيه عند الصحابة المسائل الاجتهادية بشرط عدم القاطع, بمعنى أن ما لا قاطع فيه يسوغ فيه الاجتهاد ما دام كذلك, وأكثر القضايا العرفية سيما السوالب تفيد ذلك وإن لم يصرح به, فإذا قلت: لا شيء من النائم بيقظان, فهم منه ما دام نائمًا, وفيما ذكر زال الشرط فزال الحكم.

حكم انعقاد الإجماع مع شذوذ المخالف

احتجوا ثانيًا: بأنه لو اعتبر إجماع غير الصحابة, لزم اعتباره في حكم خالف فيه بعض الصحابة؛ لأنه إذا كان معتبرًا في حكم لا قول فيه لصحابي فمع موافقة بعض الصحابة أولى لكن اللازم باطل؛ إذ لا إجماع مع سبق الخلاف. الجواب: بمنع الملازمة عند من يشترط في صحة الإجماع ألا يسبقه خلاف مستقر؛ إذ القول لا يعدم بانعدام قاله فحينئذ يفرق بينهما إذ لا يلزم من اعتبار الإجماع مع احتمال المخالفة اعتباره مع تحقق المخالفة / ومن يرى أن سبق الخلاق لا يقدح في صحة إجماع العصر الثاني يمنع بطلان التالي. قال: (مسألة: لو ندر المخالف مع كثرة المجمعين, كإجماع غير ابن عباس على العول, وغير أبي موسى على أن النوم ينقض الوضوء, لم يكن إجماعًا قطعيًا؛ لأن الأدلة لا تتناوله. والظاهر: أنه حجة؛ لبعد أن يكون الراجح متمسك المخالف). أقول: اختلفوا في انعقاد الإجماع مع شذوذ المخالف وإن قلَّ كالواحد. أكثر أصحاب مالك وجمهور العلماء على أنه لا يكون إجماعًا, كإجماع من عدا ابن عباس من الصحابة على العول, وإجماع من عدا

أبي موسى الأشعري على أن النوم ينقض الوضوء. وفي بعض النسخ لم يكن إجماعً «قطعًا» , وفي بعضها «قطعيًا». والأولى أظهر, أي يقطع أنه ليس بإجماع فلا يكفر ولا يفسق مخالفه لأن الأدلة العقلية والنقلية لا تتناوله, أما العقلية: فلأن النص القاطع الذي وجب تقديره إنما هو أن المخالف لجميع مجتهدي عصر مخطئ لا المخالف لبعضها, وأن الذي أجمعوا على تقديمه على القاطع هو ما اتفق فيه كل الأمة لا أكثرها, وأما الأدلة السمعية: فلأن هؤلاء بعض المؤمنين وبعض الأمة, ثم إذا لم يكن إجماع فالظاهر أنه حجة, إذ الغالب على الظن أن الأكثر لا يخطئ الدليل ويجده الأقل, وخرّج ابن ماجه: «إذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم» ولأن الظن الناشئ منه أكثر من الظن الناشئ من إجماع أهل المدينة مع كونه حجة على ما سيأتي, ورجح بعض الشراح [النسخة] الأخيرة قال: «ليس قطعي لأنه ظني».

حكم انعقاد إجماع الصحابة إذا خالفهم تابعي مجتهد معاصر لهم

واحتج له بقوله في المنتهى: «لأن أدلة القطعي لا تتناوله». وفيه نظر؛ لأن المصنف اصطلاحه أنه لا يطلق الإجماع إلا على القطعي إلا أنه يطلقه مضافًا, كقوله: إجماع أهل المدينة, أو موصوفًا, والإجماع الظني إنما يطلق عليه اسم الحجة, وإلا لورد على تعريف الإجماع, ولا يقال التعريف للقطعي؛ لأنه يتناول السكوتي, وأما ما ذكر في المنتهى فقد عدل عنه هنا مع أنه احتج على حجية الإجماع القطعي, فلذلك قال: «أدلة القطعي لا تتناوله» , ثم أدلة الظني لا تتناوله أيضًا لأنه ليس له صورة الإجماع, والظواهر إنما دلّت على كل الأمة أو كل المؤمنين, ورجحها بعضهم بأنه لو كان حجة لا إجماعًا لزم عدم انحصار الأدلة في الكتاب, والسنة, والإجماع, والقياس, والاستدلال, وليس بمرجح لأنا نلتزمه. قال: (التابعي المجتهد معتبر مع الصحابة, فإن نشأ بعدهم فعلى انقراض العصر. لنا: ما تقدم, واستدل: لو لم يعتبر لم يسوغوا اجتهادهم معهم, كسعيد بن المسيب, وشريح, والحسن, ومسروق, وأبي وائل والشعبي, وابن جبير وغيرهم, وعن أبي سلمة: تذاكرت مع ابن عباس وأبي هريرة في عدة الحامل للوفاة, فقال ابن عباس: أبعد الأجلين, وقلت أنا: بالوضع, وقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي. أجيب: إنما سوغوه مع اختلافهم). أقول: اختلفوا في اعتبار التابعي المجتهد عند انعقاد الإجماع من الصحابة,

فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينعقد إجماعهم مع مخالفته, وذهب الأقلون إلى عدم اعتباره, أما لو بلع رتبة الاجتهاد بعد انعقاد الإجماع, فاعتباره مبني على اشتراط انقراض العصر وسيأتي. احتج بما تقدم من أن الأدلة لا تتناوله إذ ليس كل الأمة, واستدل: لو لم يعتبر قوله وكان كالعدم, لم يسوغ الصحابة للتابعين الاجتهاد معهم, أما الملازمة؛ فلأن اجتهاد / التابعين مع وجود الصحابة لو كان باطلا, لكان تسويغ الصحابة له تسويغًا للباطل, وهم لا يجتمعون على ذلك, أما بطلان التالي؛ فلأن الصحابة سوغوه لهم, كسعيد بن المسيب, وشريح, والحسن, ومسروق

وأبي وائل, والشعبي, وسعيد بن جبير. فقد روي عن الحسين بن علي أنه سئل عن مسألة, فقال: «سلوا الحسن». وسئل ابن عباس عن أخرى, فقال: «سلوا مسروقًا» , وسئل ابن عمر عن فريضة, فقال: «سلوا سعيد بن جبير».

حكم إجماع أهل المدينة

وفي صحيح مسلم أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وابن عباس اجتمعا عند أبي هريرة وهما يتذاكران أن المرأة تعتد بعد وفاة زوجها بليال, فقال ابن عباس: عدتها آخر الأجلين, وقال أبو سلمة: قد حلّت, فجعلا يتنازعان ذلك, قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي, يعني أبا سلمة. الجواب: أن محل النزاع إذا اتفق الصحابة, وهنا إنما سوغوه مع اختلافهم, ولا يلزمه من اعتباره حيث اختلفوا اعتباره حيث اتفقوا. قال: (مسألة: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة عند مالك. فقيل: محمول على أن روايتهم مقدمة, وقيل: على المنقولات المستمرة, كالأذان والإقامة, والصحيح التعميم. لنا: أن إجماع مثل هذا العدد الكثير من العلماء اللاحقين بالاجتهاد لا يجمعون إلا على راجح, فدل على أنه راجح. فإن قيل: يجوز أن يكون متمسك غيرهم راجح, ولم يطلع عليه بعضهم. قلنا: العادة تقتضي باطلاع الأكثر, والأكثر كاف فيما تقدم. واستدل بنحو: «إن المدينة طيبة تنفي خبثها» , وهو بعيد, وبتشبيه عملهم بروايتهم. وردّ: بأنه تمثيل لا دليل, مع أن الرواية ترجح بالكثرة بخلاف

الاجتهاد). أقول: اشتهر بين النظار أن إجماع أهل المدينة حجة عند مالك, وتحقيق القول في ذلك, ما بسطه القاضي أبو الفضل عياض, فإنه من محققي العلماء, وممن يرجع إليه سيما في مذهب مالك. قال: «إما نقل شرع من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل, كالصاع والمُدّ, وأنه كان يأخذ منهم به الصدقة, وزكاة الفطر, وكالأذان والإقامة وترك الجهر بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} في الصلاة, وكالأحباس». فنقلهم لهذه الأمور من قوله أو فعله, كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته, وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره, وصفة صلاته وعدد الركعات, أو نقل إقراره لما شاهده ولم ينقل عنه إنكاره, كعهده الرقيق, وشبه ذلك, أو نقل ترك أحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها

لديهم وظهورها فيهم, كتركه أخذ الزكاة من الخضروات, مع علمه أنه عندهم كثيرة. فهذا النوع من إجماعهم حجة قطعية, وإليه رجع أبو يوسف, وهو الذي تكلم عليه مالك عند أكثر شيوخنا, ووافق عليه جمع من الشافعية, وكذا نقول: لو تصور ذلك في غيرهم, لكن لا يوجد مثل هذا النقل عند غيرهم, فإن شرط المتواتر تساوي الطرفين والوسط, فالذي ينقله غيرهم آحاد, والمتواتر مقدم. فإن احتجوا بالأذان الذي نقله أهل مكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقلوه متواترًا, قلنا: آخر الفعلين ما توفي عنه عليه السلام بالمدينة. الثاني: إجماعهم على عمل من طريق الاجتهاد والاستدلال, وهذا النوع اختلف فيه أصحابنا, فذهب / معظمهم إلى أنه ليس بحجة, وهو قول أكثر البغداديين, منهم: ابن بكير, وأبو يعقوب

الرازي, وابن المنتاب, وأبو العباس الطيالسي, وأبو الفرج, والأبهري, وأبو التمام, والباقلاني, وابن القصار. قالوا: لأنهم بعض الأمة, وأنكروا أن يكون ذلك قول مالك. وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة, ولكن يرجح على اجتهاد غيرهم. وذهب بعضهم إلى أنه حجة يقدم على خبر الواحد.

قال عبد الوهاب: «وعليه يدل كلام ابن المعذل, وأبي مصعب, وقول جماعة من المغاربة». قال القاضي عياض: «عمل أهل المدينة مع خبر الواحد لا يخلو من ثلاثة أوجه: إن كان موافقًا له, فهو يؤكد صحته إن كان من طريق النقل, أو يرجحه إن كان عن اجتهاد بغير خلاف, إذ لا يعارضه إلا اجتهاد آخرين. وإن كان موافقًا لخبر يعارضه خبر آخر, كان عملهم مرجحًا لخبرهم, وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت, وإليه ذهب الإسفرئيني والمحققون من متأخري المالكية. وإن كان مخالفًا لأخبار الآحاد جملة, فإن كان إجماعهم من طريق النقل, ترك له الخبر بغير خلاف عندنا, وإن كان إجماعهم اجتهاديًا, قدم الخبر عند الجمهور, وفيه الخلاف المتقدم. أما لو لم يكن عملا, وإنما نقلوا خبرًا, ونقل غيرهم ما يعارضه, فالراجح ما نقلوه, قال الأستاذ والمحققون: لزيادة مشاهدتهم قرائن الأحوال.

فإن قيل: إذا كان من باب النقل كما ذكرتم, فما فائدة ذكر الإجماع مع أنه من باب النقل. الجواب: أن موجب ذلك مخالفة العراقيين وغيرهم لنا في مسائل طريقها النقل والعمل المستفيض, اعتمدوا فيها على أخبار الآحاد. واحتج أصحابنا بنقل أهل المدينة وعملهم المجتمع عليه المتواتر على ترك الأخبار, وعن الشافعي: إجماع المدينة أحب إليّ من القياس». انتهى كلام عياض, وهو العمدة, لا كلام المصنف. احتج: بأن العادة تقضي بأن مثل هذا الجمع الكثير من العلماء المحصورين المحققين الأحقين بالاجتهاد لمشاهدتهم التنزيل وسماعهم التأويل, لا يجمعوه إلا عن راجح, وقال: (مثل هذا الجمع) لينبه على أنه لا خصوصية للمكان, وأنه لو اتفق في غيرها مثل ذلك كان حجة. وقال: (المنحصر) لأنه لو اتفق عدتهم أو أكثر متفرقين في البلاد, أو مختلطين بمن خالفهم, أو غائبين عن بلدهم, لم يعتبر, ولم تقض العادة باطلاعهم على الراجح, بخلاف قوم مجتمعين يتناظرون ثم يتفقون, فيبعد ألا يطلع أحدهم على دليل المخالف المدعى رجحانه. واحترز (بالأحقين) عن منحصرين في موضع لا يكون مهبطًا للوحي, وأهله غير واقفين على وجوه الأدلة من قول الرسول أو فعله, أو فعل أصحابه في زمانه, ووجوه الترجيح, ولا شك أن أهل المدينة أعلم بذلك. فإن قيل: لا نسلم قضاء العادة باتفاق مثلهم عن راجح؛ لأنهم بعض

الأمة, فجاز أن يكون متمسك غيرهم أرجح. قلنا: وإن كان جائزًا إلا أنه بعيد, والاحتمال البعيد لا ينفي الظهور؛ إذ العادة تقضي باطلاع الأكثر عددًا وإجماعًا وأحقية على الراجح, والأكثر كاف في الاطلاع على الراجح, أو في تتميم دليلنا, لأنه إذا قضت العادة باطلاع الأكثر, بَعُدَ ألا يطلع عليه من أهل المدينة أحد. قال بعض الشراح: «والأكثر كاف فيما تقدم» , يريد مسألة لو ندر المخالف. وفيه نظر؛ وإلا لقال كما تقدم, مع أن تلك ندر المخالف, ولا يلزم فيما كثر فيه المخالف وإن كان أقل منه الآخرين, على أنهم قد يكونوا أكثر. واستدل بما في الصحيحين, ولفظه: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه على الإسلام, فجاء من الغد محمومًا, فقال: أقلني بيعتي فأبى, ثم جاءه فأبى, ثم جاء فقال: أقلني بيعتي فأبى, فخرج الأعرابي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما المدينة كالكير تنفي خبثها, وينصع طيبها». ولمسلم وحده: «إنها طيبة, وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة». وجه الاستدلال: أن الخطأ خبث فيكون منفيا عنها, فيكون قولهم

حجة. قال المصنف: وهو بعيد؛ لأنه ظاهر في أنها تخرج عنها خبثًا حصل فيها, ولا دلالة له على ابتغاء الخطأ عما اتفق عليه أهلها, وإلا لزم ألا يقع الخطأ من مجتهد مدني. واستدل أيضًا: بأن رواية أهل المدينة تقدم على رواية غيرهم, فيكون عملهم الاجتهادي راجحًا على اجتهاد غيرهم. أجاب أولًا: بأنه تمثيل لا دليل, يعني لا جامع فيه, ويدل عليه لفظ الإحكام: «تمثيل من غير دليل موجب للجمع». ولفظ المنتهى: «تمثيل لا دليل فيه» , ولا يحمل على أنه أراد بالتمثيل القياس الظني؛ إذ المصنف لا يقول إن إجماع أهل المدينة حجة قطعية, حتى ينفي الاستدلال على حجيته بالظني. ثم أجاب ثانيًا: بالفرق, وهو أن الرواية ترجح بمجرد الكثرة عند التساوي فيما عداها من الصفات, والاجتهاد لا يرجح بمجرد الكثرة. ولا يقال: المصنف رجح بها أولًا؛ لأنها إنما رجح بها منضمة إلى غيرها, وليس كل من كانت روايتهم مقدمة يكون اجتهادهم أرجح؛ لأن رواية عشرة مثلا من غير أهل المدينة مرجحة على رواية ثمانية من غير أهل المدينة, وليس اجتهاد عشرة من غير أهل المدينة يرجح على اجتهاد ثمانية من غيرهم.

عدم انعقاد الإجماع بأهل البيت وحدهم

قال: (مسألة: لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم خلافًا للشيعة, ولا بالأئمة الأربعة خلافًا لأحمد, ولا بأبي بكر وعمر عند الأكثرين. قالوا: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» , «اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر». قلنا: يدل على أهلية اتباع المقلد, ومعارض بمثل: «أصحابي كالنجوم» , و «خذوا شطر دينكم عن الحميراء»). أقول: لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم, وهم: عليّ والحسن والحسين وأمهما, خلافًا للشيعة فإنهم يرونه حجة لاشتماله على قول الإمام المعصوم, وإلا فالشيعة لا يرون الإجماع حجة بالذات على ما تقدم, ولا ينعقد بالأئمة الأربعة خلافًا لأحمد في أحد قوليه, وللقاضي أبي حازم من الحنفية [وهو لازم قول الشيعة؛ لأن عليًا منهم] ولا

باتفاق أبي بكر وعمر خلافًا لشذوذ من الناس. لنا في المطالب الثلاث: أن الأدلة الدالة على حجية الإجماع لا تدل إلا على حجية قول جميع الأمة, ولما تكرر هذا الاستدلال لم يكرره. احتج أبو جازم: بما رواه أبو داود, والترمذي, وصححه أبو نعيم, وخرجه الحاكم في مستدركه ولفظه, بعد أن وعظهم فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين, تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ». ووجه الدلالة: أنه أوجب عليهم اتباع سنة / الخلفاء الأربعة كما وجب عليهم اتباع سنته, فيكون قولهم حجة. احتج من قال إجماع الشيخين حجة: بما رواه الترمذي, وصححه

ابن حبان ولفظه: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر» , وإذا أوجب الاقتداء بهما, كان قولهما حجة. والجواب عن الحديثين: أنهما خطاب مع عوام الصحابة جمعًا بين الأدلة فالأربعة والاثنان أهل لأن يأخذ المقلد بقولهم, وكأنه إشارة إلى أرجحية المذكورين عند الاختلاف, وإلا فكل مجتهد أهل لأن يتبعه المقلد. ثم هو معارض بما روي عنه عليه السلام أنه قال: «سألت ربي فيما اختلف أصحابي من بعدي, فأوحى إليّ يا محمد! إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء, بعضها أضوأ من بعض, فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم, فهو عندي على هدى». وبما روى أنه قال: «خذوا شطر دينكم عن الحميراء». وتقرير المعارضة: أنه أباح الاقتداء بغير الأربعة, وبغير الشيخين عند مخالفة غيرهم, فلو كان إجماعهم حجة لم تجز مخالفتهم والاقتداء بغيرهم, ولكان قول أحد الصحابة أو قول عائشة حجة, فدلَّ على أن المراد بهذه الأحاديث أهلية اتباع المقلد.

لا يشترط في المجمعين بلوغ عدد التواتر عند الأكثرين

قلت: وفي المعارضة نظر؛ أما أولًا: فلأن الحديث الأول ضعيف, والثاني منكر لا يوقف له على سند, ثم لو صحا لكانا مخصوصين بغير ما خالف فيه الأربعة والشيخان, جمعًا بين الأدلة. قال: (مسألة: لا يشترط عدد التواتر عند الأكثر. لنا: دليل السمع, فلو لم يبق إلا واحد, فقيل: حجة لمضمون السمعي. وقيل: لا؛ لمعنى الإجماع). أقول: أكثر الأصوليين على أنه لا يشترط في المجمعين بلوغ عدد التواتر, وذهب بعض من استدل على حجية الإجماع بدليل العقل كإمام الحرمين, وبعض من استدل بالأدلة السمعية إلى اشتراطه. والدليل على المختار: أن الأدلة الدالة على حجية الإجماع عقلية كانت أو سمعية, لا تختص بما بلغ المجمعون فيه عدد التواتر, أما العقلي؛ فلما قدم المصنف. وأما السمعي؛ فلأن لفظ الأمة والمؤمنين يعم ما بلغ المجمعون فيه عدد التواتر وما قصر عنه, ولا وجه لتخصيص المصنف الاستدلال بالسمعي, ومن هنا وهم بعض الشراح, فقال: «من احتج على حجية الإجماع بدليل

إذا أفتى واحد وعرفوا به ولم ينكر أحد قبل استقرار المذهب

العقل, يلزمه الاشتراط» , وذهل عما تقدم للمصنف. واحتج من اشترط عدد التواتر: بأنهم حينئذ لا يعلم إيمانهم بقولهم فضلا عن إجماعهم على حكم, وهو ضعيف؛ لأنا نعلم صدقهم بالأدلة الدالة على عدم اجتماعهم على الخطأ, كانوا عدد التواتر أو أقل؛ لأنهم جميع مجتهدي الأمة, ولولا ذلك الدليل ما نفع كونهم عدد التواتر؛ لأن كل واحد أخبر عن اجتهاد نفسه, فلم يخبروا عن شيء واحد محسوس. فلو لم يبق من المجتهدين إلا واحد, فقيل: قوله حجة لمضمون السمعي, وهو أنه لا يخرج الحق عن هذه الأمة وإن لم يوجبه صريح السمعي لعدم صدق سبيل المؤمنين وإجماع الأمة. وقيل: ليس بحجة؛ لأن الإجماع يشعر بالاجتماع, والاجتماع وسبيل المؤمنين هو المنفي عنه الخطأ. قال: (مسألة: إذا أفتى واحد وعرفوا به, ولم ينكره أحد قبل استقرار المذاهب, فإجماع أو حجة. وقال الشافعي: ليس إجماعًا ولا حجة, وعنه خلافه. وقال الجبائي: إجماع بشرط انقراض العصر. ابن أبي هريرة: إن كان فتيا لا حكمًا.

لنا: سكوتهم ظاهر في موافقتهم, فكان كقولهم الظاهر, فينهض دليل السمع. المخالف: يحتمل أنه لم يجتهد, أو وقف, أو خالف فتروّى, أو وقّر, أو هاب. فلا إجماع ولا حجة. قلنا: خلاف الظاهر؛ لأن عادتهم ترك السكوت. الآخر: دليل ظاهر لما ذكرناه. الجبائي: انقراض العصر يضعف الاحتمال. ابن أبي هريرة: العادة في الفتيا لا في الحكم. أجيب: بأن الفرض قبل استقرار المذاهب. وأما إذا لم ينتشر فليس بحجة عند الأكثر). أقول: إذا ذهب واحد من المجتهدين إلى حكم في مسألة, وعرف الباقون ولم ينكر أحد, فإن كان بعد استقرار المذاهب فيها, لم يدل السكوت على الموافقة قطعًا؛ إذ لا عادة بإنكاره, وقصاراه أنه وافق بعض من ذهب فيها إلى مذهب, وإن كان قبل استقرارها حالة البحث عن المذاهب والنظر فيها, فإجماع إن علم أن سكوتهم رضا, وإلا فهو حجة. ولما كان العلم برضاهم غير معلوم, جزم في المنتهى فقال: «حجة وليس بإجماع قطعي».

وهذا مذهب أبي هاشم, ومختار المصنف. وعن الشافعي: ليس إجماعًا ولا حجة, وعنه خلافه, بمعنى أنه إجماع. وهذا منقول عن بعض أصحابه, إذ لم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه أنه حجة وليس بإجماع, وعكسه لا يصح. وقال الجبائي: «إجماع بشرط انقراض عصرهم من غير نكير». وقال ابن أبي هريرة: «إن كان القول فتيا فإجماع, وإن كان حكمًا فلا إجماع ولا حجة». لا يقال: موضوع المسألة إذا أفتى واحد, فهذا ترديد في الواقع؛ لأنا بيّنا أن المراد هناك إذا ذهب واحد. احتج المصنف لمختاره: بأن سكوت أهل عصره عن الإنكار عنه والبحث معه في مأخذه على عادة النظار, يدل ظاهرًا على موافقتهم وإلا لما

ستكوا عادة, فتيا كان ذلك أو حكمًا؛ إذ الكلام قبل استقرار المذاهب, فحينئذ يكون كقولهم الظاهر غير القطعي الدلالة, فينتهض دليل السمع فإنه سبيل المؤمنين, وقول كل الأمة ظاهرًا, فإن علم رضاهم بقرائن كان إجماعًا وإلا فهو حجة؛ لأن العمل بالظاهر واجب. احتج المخالف, وهو القائل ليس إجماعًا ولا حجة. أما أنه ليس بإجماع؛ فلأن رضاهم لا يعلم إلا بقولهم, فيكون على هذا خلاف في حال, أو يكون عدم الإنكار لكون المجتهد تعارضت عنده الأدلة ويرى التخيير عند تعادلها كما يقول الشافعي وأحمد, فلا يكون إجماعًا تحرم مخالفته؛ إذ لا يلزم حينئذ من العلم برضاهم حرمة المخالفة؛ لأن سكوته لموافقة ما خُير فيه, ويكون على هذا خلاف. وأما أنه ليس بحجة؛ فلأن من سكت قد يكون لكونه يرى أن كل مجتهد مصيب, وقد يكون لم يجتهد بعد, أو اجتهد فتوقف, أو خالف رأيه رأي المفتي لكنه تروى في إظهار المخالفة لاحتمال رجحان مأخذ مخالفه, أو وقّره فلم يخالفه تعظيما له, أو هابه كما حكي عن ابن عباس في مسألة العول لأنه سكت أولًا ثم أظهر الإنكار, فقيل له في ذلك, فقال: «إنه - يعني عمر - كان رجلًا مهيبًا» , ومع [قيام] هذه الاحتمالات لا يدل السكوت على الموافقة.

أجاب المصنف: بإن هذه الاحتمالات خلاف الظاهر, لما علم من عادتهم من ترك السكوت في مثله, كقول معاذ لعمر حين أراد أن يجلد الحامل: «ما جعل الله لك على ما في بطنها سبيلا, فقال: لولا معاذ لهلك عمر». ولم يتعرض المصنف للشق الآخر؛ لأن تصور وقوعه ظاهر, وإثبات الوقوع عسير. والحق أن عادتهم ترك السكوت حيث يعلم أو يظن بطلان مذهب المخالف, أما مع هذه الاحتمالات فلا. ولو سكت المصنف عن قوله: (لأن عادتهم ترك السكوت) , واجتزأ بقوله: (قلنا: خلاف الظاهر) كان أحسن؛ لأن هذه الاحتمالات لا تنفي الظهور؛ لأن السكوت أظهر في الموافقة, ونحن لم ندع القطع. احتج للمخالف الآخر, وهو القائل بأنه إجماع, ولهذا قال: (الآخر) لأنه قدم حجة المخالف الأول. وتوجيهه: سكوتهم دليل ظاهر في موافقتهم, فكان إجماعًا. وجوابه: أن الظهور لا يكفي في كونه إجماعًا, نعم يكفي في حجيته, وإنما سكت المصنف عن الجواب لظهوره, ومن جعل هذا حجة للقائل بأنه حجة لا إجماعًا وحمل قوله أول المسألة على ذلك, يلزمه التكرار؛ لأنه غير مذهبه وعين ما استدل به.

عدم اشتراط انقراض العصر في الإجماع

ومن جعله دليلًا على أحد شقي المنفصلة, كأنه قال: لنا في أنه إجماع سكوتهم, ولنا في كونه حجة كذا, وفصل بينهما بشبه المخالف لكونها واردة على كونه إجماعًا, لا على كونه حجة, فأظهر فسادًا, مع أن غير المصنف احتج للقائل بأنه إجماع بما ذكر المصنف, فتعين الحمل عليه مع قربه. احتج الجبائي: بأن الاحتمالات قبل انقراض العصر قوية فلا إجماع, وأما بعده فضعيفة فلا يكون إجماعًا, وسكت المصنف عن جوابه لظهوره؛ لأن ضعفها لا يوجب القطع بينها, مع أنه لا يضعف كل احتمال سبق. نعم لو كان المدعى أنه حجة بشرط انقراض العصر, تَمَّ له. احتج لابن أبي هريرة: العادة في الفتيا أنها تخالف ويبحث عليها بخلاف الحكم, فإن كل حاكم يحكم بما يراه فيتبع ولا يخالف, ويلزم المصير إليه كما في عصرنا, وأيضًا الحاكم يهاب بخلاف المفتي. أجاب: بأن ذلك بعد استقرار المذاهب, أما قَبْلُ فالفتيا والحكم سواء, عادتهم الإنكار كقضية معاذ مع عمر وغيرها. أما لو لم ينتشر وهو فيهم وعرفوا به في صدر المسألة, فعدم الإنكار لا يدل على الموافقة, وبه قال الأكثر؛ لاحتمال أن لا يكون للباقين قول فيها لعدم خطور المسألة ببالهم, أو يكون لهم قول مخالف ولم ينقل لعدم اشتهار المسألة, أو لهم قول موافق, وهذه الاحتمالات متساوية لا ترجيح, لاحتمال الموافقة على الآخرين. قال: (مسألة: انقراض العصر غير مشروط عند المحققين.

وقال أحمد وابن فورك: يشترط. وقيل: في السكوتي. وقال الإمام: إن كان عن قياس. لنا: دليل السمع. واستدل: بأنه يؤدي إلى عدم الإجماع للتلاحق. وأجيب: بأن المراد عصر المجمعين الأولين؛ إذ لا مدخل للاحق). أقول: انقراض عصر المجمعين غير مشترط في انعقاد إجماعهم, بل إذا حصل اتفاقهم ولو في لحظة انعقد الإجماع, انقرضوا أم لا, وحرمت مخالفته عليهم وعلى من نشأ بعدهم, وهذا [هو] مذهب المحققين. وقال أحمد وابن فورك باشتراطه. وقيل: إن كان الإجماع سكوتيًا اشترط انقراض العصر, وإلا فلا. [ولو لم يذكر هذا القول لكان معروفًا من المسألة السابقة. وقال إمام الحرمين: إن كان سند لإجماع قياسًا اشترط وإلا فلا]. احتج للمختار: بأن الأدلة السمعية الدالة على حجية الإجماع تدل على

أنه لو اتفقت كلمة المجتهدين ولو في / لحظة, انعقد الإجماع لوجوب عصمتهم؛ إذ الحجة في اتفاقهم لا في موتهم. واستدل لمختاره: بأنه لو يشترط انقراض العصر لما تحقق إجماع؛ لتلاحق المجتهدين, فلا ينقرض أهل العصر الأول إلا وقد نشأ آخرون يعتبر وفاقهم وانقراض عصرهم, ثم لا ينقرض عصرهم إلا وقد نشأ آخرون كذلك, وهلمَّ جرًا. والجواب: أما على مذهب من يرى من المشترطين أن فائدة اعتباره موافقة من أدرك عصر المجمعين الأولين, فالمراد من انقراض العصر عند هؤلاء انقراض عصر المجمعين الأولين المتفقين عند نزول الحادثة, لا انقراض عصر من يتجدد بعدهم, فإذا انقرض عصرهم ولم يظهر خلاف منهم ولا من التابعين المدركين عصرهم, انعقد الإجماع. وأما على مذهب أحمد الذي يرى أن فائدة الاشتراط جواز رجوع بعضهم لا اعتبار موافقة من أدرك عصرهم, فواضح. وإليه أشار المصنف بقوله: (إذ لا مدخل للاحق) , فبموتهم من غير رجوع تحقق الإجماع, ثم المخالف في عصر المجمعين على مذهب المشترطين لا يكون خارقًا, أما على مذهب أحمد؛ فلأن الإجماع لم ينعقد؛ إذ الأمر موقوف, وعلى مذهب الآخرين تجوز له المخالفة. قال: (قالوا: يستلزم إلغاء الخبر الصحيح بتقدير الاطلاع عليه. قلنا: بعيد, وبتقديره, فلا أثر له مع القاطع كما لو انقرضوا. قالوا: لو لم يشترط لمنع المجتهد من الرجوع عن الاجتهاد.

قلنا: واجب لقيام الإجماع. قالوا: لو لم تعتبر مخالفته لم تعتبر مخالفة من مات لأن الباقي كل الأمة. قلنا: قد التزمه بعض, والفرق أن هذا قول من وجد من الأمة, فلا إجماع). أقول: احتج المشترطون بوجوه: تقرير الأول: أن عدم اشتراطه يؤدي إلى إلغاء الخبر الصحيح بتقدير الاطلاع عليه, وذلك يؤدي إلى إبطال النص بالاجتهاد. أجيب: بأن وجوده بعد البحث من جميعهم وعدم الاطلاع عليه حالة الإجماع بعيد, ولو قدر فلا يعمل به؛ لأن القاطع وهو الإجماع خالفه, كما لو اطلع عليه بعد الانقراض, فما هو جواب لكم جواب لنا. لا يقال: تالي الشرطية ملازمة, وهي لزوم الإلغاء على تقدير الاطلاع وهو ضروري, فلا تمتنع الملازمة ويتعين منع بطلان التالي. لأنا نقول: الاطلاع على نص كذلك محال, والمحال جاز أن يستلزم المحال, فكأنه يقول: لا نسلم لزوم الانتفاء لتوقفه على تقدير بعيد أو ممتنع. قالوا ثانيًا: لو لم يشترط انقراض العصر, لمنع المجتهد عن الرجوع عن اجتهاده؛ لأنه إذ تغير اجتهاده وقد انعقد الإجماع باجتهاده الأول, فلا يُمَكّن من العمل باجتهاده الثاني لأنه مخالفة للإجماع, لكن المجتهد غير ممنوع من الرجوع عن الاجتهاد إجماعًا, فيلزم بطلان المقدم. أجيب: بمنع بطلان التالي, فإن الرجوع عن الاجتهاد إنما هو عند عدم

لا إجماع إلا عن مستند

الإجماع, أما عند وجود الإجماع فالمنع عن الرجوع عن الاجتهاد واجب؛ إذ يمتنع الرجوع عن القطعي إلى الظني, بخلاف الرجوع عن الاجتهاد الظني إلى اجتهاد ظني. قالوا ثالثًا: لو لم تعتبر مخالفته إذا رجع بناء على أنهم حين الإجماع كل الأمة, لم يعتبر مخالفة من مات؛ لأن الباقين المجمعين كل الأمة, فيكون إجماعًا, واللازم باطل. أجاب: بأن عدم اعتبار / مخالفة من مات مختلف فيه, فمن قال به منع بطلان التالي, ومن لم يقل به يمنع الملازمة ويفرق بأن القول لا ينعدم بانعدام قائله, فقول المخالف الميت يتحقق حالة الإجماع, فلا ينعقد إجماع على وجود المخالف بخلاف ما نحن فيه, قد وجد فيه قول كل الأمة حين لم يوجد قول يخالفه, وإذا انعقد فلا عبرة بما يحدث بعده من قول بعضهم أو غيرهم. قال: (مسألة: لا إجماع إلا عند مستند؛ لأنه يستلزم الخطأ؛ ولأنه يستحيل عادة. قالوا: لو كان عن دليل لم تكن له فائدة. قلنا: فائدته سقوط البحث, وحرمة المخالفة. وأيضًا: فإنه يجب أن يكون عن غير دليل, ولا قائل به). أقول: الجمهور على أنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند, دليلًا كان أو أمارة. وشذَّ قوم فقالوا: يجوز انعقاده عن توفيق لا توقيف, بأن يوفقهم الله

جواز انعقاد إجماع عن قياس

تعالى لاختيار الصواب من غير مستند. حجة الجمهور: أن الفتوى في الدين من غير دليل أو أمارة خطأ؛ لكونه قولا بالتشهي, فلو اتفقوا على حكم بغير سند كانوا مجمعين على الخطأ؛ لأن كل واحد مخطئ, والمجتمع من المخطئ مخطئ؛ ولأن اتفاق الكل لا عن مستند مستحيل عادة, كالاجتماع على أكل طعام واحد. احتجوا: بأنه لو وجب كونه عن مستند, لم يكن لإثبات حجية الإجماع فائدة, هكذا صرح به في المنتهى؛ إذ الغرض من إثبات حجيته إثبات الحكم وهو ثابت بالمستند. أو نقول: لم يكن لفعله فائدة ... إلى آخره. أجاب أولًا: بمنع الملازمة, وأن فائدته سقوط البحث عن ذلك الدليل ووجه دلالته على الحكم, وحرمة المخالفة لانعقاد الإجماع, وقد كانت قبله جائزة وفاقًا. وثانيًا: أنه يقتضي أنه يجب أن يكون لا عن دليل, لعدم الفائدة بعين ما ذكر, ولم يقل أحد أن عدمه شرطه, بل قالوا: وجود ليس بشرط. قال: (مسألة: يجوز أن يجمع عن قياس. ومنعت الظاهرية الجواز, وبعضهم الوقوع. لنا: القطع بالجواز, والظاهر الوقوع, كإمامة أبي بكر, وتحريم شحم الخنزير, وإراقة نحو الشيرج).

إذا أجمعوا على قولين فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث

أقول: مذهب مالك وجمهور العلماء جواز انعقاد الإجماع عن قياس. ومنعه ابن جرير, والظاهرية. واختلف القائلون بالجواز في وقوعه, والظاهر الوقوع. لنا: القطع بجوازه؛ لأنه لو فرض لم يلزم منه محال لذاته كغيره من الأمارات, كخبر الواحد, والمتواتر, والظني الدلالة؛ إذ لا مانع يقدر إلا كونه مظنونًا. وأما الوقوع, فكإمامة أبي بكر, أجمع عليها قياسًا على تقديم النبي عليه السلام له في الصلاة, وكتحريم شحم الخنزير قياسًا على لحمه, وكإراقة نحو الشيرج إذا وقعت فيه فأرة قياسًا على السمن. وإذا ثبت الجواز والوقوع, كان حجة يحرم مخالفته, خلافًا لمن قال لا يحرم مخالفته. وإنما قال المصنف: (والظاهر الوقوع) لاحتمال أن تكون الإجماعات المذكورة عن نصوص لم تنقل إلينا. قال: (مسألة: إذا أجمعوا على قولين, وأحدث قول ثالث, منعه

الأكثر, كوطء البكر. قيل: يمنع الرد, وقيل: مع الأرش, فالقول مجانًا ثالث. وكالجد مع الأخ, قيل: المقاسمة, وقيل: المال كله, فالحرمان ثالث. وكالنية في الطهارة, قيل: تعتبر, وقيل: في البعض, فالتعميم بالنفي ثالث. وكالفسخ بالعيوب الخمسة, قيل: يفسخ بها, وقيل: لا, فالفرق ثالث. وكأم مع زوج أو زوجة وأب, قيل: ثلث المال, وقيل: ثلث ما بقي, فالفرق ثالث. والصحيح التفصيل: إن كان الثالث / يرفع ما اتفقا عليه فممنوع, كالبكر وكالجد وكالطهارات, وإلا فجائز كفسخ النكاح ببعض, وكالأم فإنه يوافق في كل صورة مذهبًا. لنا: أن الأول مخالفة الإجماع بخلاف الثاني, كما لو قيل: لا يقتل مسلم بذمي, ولا يصح بيع الغائب, وقيل: يقتل ويصح, لم يمنع: يقتل ولا يصح وعكسه باتفاق). أقول: إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين, واستقر رأيهم فيها على القولين فقط, فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث أم لا؟ . منعه الأكثر.

قال في الإحكام: كما لو قال بعض أهل العصر: إن الجارية البكر إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيبًا, أن ذلك يمنع الرد, وقال البعض: يردها مع الأرش, فالقول بالرد مجانًا ثالث. وكما لو قيل في الجد مع الأخ: المال كله للجد, وقال البعض بالمقاسمة, فالقول بحرمان الجد ثالث. وكما إذا قال بعضهم بوجوب النية في الطهارات, وقال بعضهم في التيمم فقط, فالقول بعدم اعتبارها مطلقًا ثالث. وكذا لو قال بعضهم: يجوز فسخ النكاح بالعيوب الخمسة, وهي: الجنون, والجذام, والبصر, والجب في الرجل, والقرن والرتق في المرأة, وقال البعض: لا يفسخ بشيء منها, فالقول بالفسخ

ببعضها دون البعض ثالث. وكذا لو قال بعضهم في زوج وأبوين, أو زوجة وأبوين: للأم ثلث الأصل في المسألتين, وقال البعض: ثلث ما بقي فيها, فالقول بأن لها ثلث الأصل في مسألة, وثلث ما بقي في الأخرى, ثالث. واختار صاحب الإحكام والإمام فخر الدين والمصنف التفصيل, وهو أن القول الثالث إن كان رافعًا لما اتفق عليه القولان فممنوع, كمسألة البكر فإن الردّ مجانًا اتفقا على منعه, وكمسألة الجد مع الأخ, فإنهما اتفقا على عدم حرمان الجد, وكعدم النية في التيمم, فإنهما اتفقا على اعتبارها فيه. أما لو كان القول الثالث لا يرفع ما اتفقا عليه جاز, كفسخ النكاح ببعض العيوب دون بعض؛ فإنه يوافق قولا في صورة والقول الآخر في أخرى, وكالأم؛ فإنه يوافق أيضًا في كل صورة مذهبًا. احتج المصنف: بأن التفصيل في القسم الأول يستلزم مخالفة الإجماع على امتناع الرد مجانًا المعلوم من منع الرد مطلقًا, ومن منع الرد بدون الأرش, ومخالفة الإجماع حرام, بخلاف القسم الثاني؛ فإنه لا يخالف مجمعًا عليه ولا مانع سواه.

ويوضحه مثال وهو: أنه إذا قال بعضهم: لا يقتل مسلم بذمي, ولا يصح بيع الغائب, وقال البعض الآخر: يقتل المسلم بالذمي, ويصح بيع الغائب. فلو قال ثالث حدث بعدهما: يصح بيع الغائب, ولا يقتل مسلم بذمي, أو يقتل المسلم بالذمي, ولا يصح بيع الغائب, لم يمتنع اتفاقًا. وهذا الاتفاق ذكره الآمدي, وظاهر المحصول خلافه؛ لأنهما مسألتان خالف في إحداهما بعضًا وفي الأخرى بعضًا, وإنما الممنوع مخالفة الكل فيما اتفقوا عليه. وإذا وضح في مسألتين فكذا في الواحدة, والسر فيه أن العمل بـ «يقتل ولا يصح» لا يستلزم خطأ الأمة في شيء من المسألتين, بخلاف الردّ مجانًا فإنه يستلزم خطأ الأمة فيه ضرورة. والتفصيل في المسألتين وإن كان يستلزم بطلان كل واحد من المجوعين, لكنه لا يترتب عليه عمل, ولهذا قيل: يجوز إجماع الأمة على الخطأ / بحيث لا يضيع الحق في البين, كما لو قال شطر الأمة: القياس ليس بحجة والقدرية كفار, وقال الباقون: حجة وليسوا كفارًا, فإن الحق لم يضع في الأمة في كل واحد من القولين مع أن الخطأ يشملهم, بخلاف جواز إجماعهم بحيث يضيع الحق من البين لا يجوز, وهذا بخلاف اتفاقهم على الشيء الواحد لو جوزنا مخالفته.

قال: (قالوا: فصل ولم يفصل أحد, فقد خالف الإجماع. قلنا: عدم القول به ليس قولا ينفيه, وإلا امتنع القول في واقعة تتجدد, ويتحقق بمسألة الذمي والغائب. قالوا: يستلزم تخطئة كل فريق وهم كل الأمة. قلنا: الممتنع تخطئة كل الأمة فيما اتفقوا عليه). أقول: احتج المانعون مطلقًا: بأن التفصيل في القسم الثاني خرق للإجماع فلا يجوز كما في القسم الأول؛ لأنه فصل بين العيوب الخمسة ولم يفصل أحد من الفريقين, وكذلك في مسألتي الأم. أجاب: لا نسلم اتفاقهم على عدم التفصيل؛ لأن عدم القول بالتفصيل ليس قولًا بعد التفصيل, وإنما يمتنع القول بما قالوا بنفيه لا بما لم يقولوا بثبوته؛ إذ لو كان عدم القول بالشيء قولا بنفيه, لامتنع القول في كل واقعة تتجدد إذا لم يقولوا فيها بحكم, وهو باطل اتفاقًا. ويتحقق ما ذكرنا من أن عدم القول بالفصل ليس قولًا بعد الفصل بمسألتي الذمي والغائب, حيث جوزوا الفصل وإن لم يقل أحد من الفريقين به. قالوا ثانيًا: القول بالتفصيل يستلزم تخطئة كل فريق في مسألة وهم كل الأمة, والأدلة السمعية تأباه. الجواب: أن المنفي تخطئة كل الأمة فيما اتفقوا عليه, وأما فيما لم يتفقوا

عليه, بأن يخطئ فقط في مسألة والبعض الآخر في غيرهما مما لم يخطئ فيه الأول فلا يمتنع, وإلا لامتنع أيضًا في مسألتي الذمي والغائب بعين ما ذكر, وهو باطل اتفاقًا, فتكون الأدلة على أن الأمة لا تجتمع على الخطأ مخصوصة بما ذكر. قال: (الآخر: اختلافهم دليل على أنها اجتهادية. قلنا: ما منعناه لم يختلفوا فيه, ولو سلم فهو دليل قبل تقرر إجماع مانع منه. قالوا: لو كان لأنكر لما وقع, وقد قال ابن سيرين في مسألة الأم مع زوج وأب بقول ابن عباس, وعكس آخر. قلنا: لأنها كالعيوب الخمسة, فلا مخالفة لإجماع). أقول: احتج الآخر أي المخالف وهو القائل بجواز التفصيل مطلقًا: بأن اختلافهم في المسألة دليل على أنها اجتهادية يسوغ فيها العمل بكل ما أدى إليه الاجتهاد, فكيف يجعل الخلاف مانعًا منه؟ , والقول الثالث نشأ عن الاجتهاد فيجوز. الجواب: متى يكون الاختلاف دليلًا على جواز الاجتهاد, إذ أدى الاجتهاد إلى أحد القولين, أو أدى إلى غيرهما؟ . الثاني ممنوع والأول مسلّم, وما منعناه من الرد مجانًا لم يختلفوا في منعه, ولو سلّم أن الاختلاف دليل على جواز الاجتهاد مطلقًا, فهو دليل على جواز الاجتهاد ما لم يتقرر إجماع مانع منه, كما لو اختلفوا هم ثم أجمعوا

وهكذا هنا؛ لأن تقرر القولين منهم فيها إجماع منهم على أنه لا يجوز فيها الاجتهاد لغيرهم. وقد يقال: كون هذا الإجماع مانعًا عين المتنازع فيه. والأظهر أنه أجاب على كل من المذهبين, وأن هذا من جانب الأكثر لاقتضائه عدم التفصيل في القسم الثاني وأن فيه مخالفة الإجماع - وقد تقدم جوازه, وأنه لا مخالفة فيه للإجماع. احتجوا ثانيًا: بأنه لو لم يجز لأنكر لما وقع, وقد وقع ولم ينكر. أما الملازمة؛ فلما عرف من عادة السلف من عدم ترك السكوت عن الباطل, وأما بطلان التالي, فلأن الصحابة اختلفوا في مسألة زوج وأبوين, وفي مسألة زوجة وأبوين, وقال ابن عباس: «للأم ثلث الأصل في المسألتين» , وقال غيره من الصحابة: «للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوج أو الزوجة» , ثم أحدث التابعون قولًا آخر, فقال ابن سيرين بقول ابن عباس في مسألة الزوج, وبقول الجماعة في مسألة الزوجة, وعكس تابعي

إذا استدل أهل العصر بدليل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل آخر

أجاب: بأنه إنما لم ينكر لأنه كالعيوب الخمسة, فالقول الثالث فيهما لم يرفع ما اتفقا عليه, بل وافق في كل صورة مذهبًا. قال: (مسألة: يجوز إحداث قول آخر أو دليل آخر عند الأكثر. لنا: لا مخالفة لهم فجاز. وأيضًا: لو لم يجز لأنكر, ولم يزل المتأخرون يستخرجون الأدلة والتأويلات. قالوا: {ويتبع غير سبيل المؤمنين}. قلنا: مؤل فيما اتفقوا عليه, وإلا لزم المنع في كل متجدد. قالوا: {يأمرون بالمعروف}. قلنا: معارض بقوله: {وينهون عن المنكر} , فلو كان منكرًا لنهوا عنه). أقول: إذا استدل أهل العصر بدليل أو تأولوا تأويلًا, فهل لمن بعدهم

إحداث دليل آخر أو تأويل آخر لم ينص عليه الأولون؟ . لا يخلوا أن يكون الدليل الآخر أو التأويل الآخر قادحًا في الأول أو لا فإن كان قادحًا لم يجز اتفاقًا, وإن لم يكن قادحًا فالأكثر على جوازه. لنا: أنه قول بالاجتهاد ولا مخالفة فيه للإجماع؛ لأن عدم القول ليس قولًا بالعدم فجاز. وأيضَا: لو لم يجز لأُنكر لّما وقع؛ لأن عادتهم إنكار ما لا يجوز, ولم يزل المتأخرون يستخرجون الأدلة والتأويلات المغايرة لما تقدم, شائعًا ذائعًا ولم ينكر عليهم وإلا لنقل, بل يمدحون به ويعدون ذلك فضلا. احتج المانع بحجتين, تقريره: الأولى: أنهم اتبعوا غير سبيل المؤمنين؛ لأن سبيلهم ما تقدم وهذا غيره فلا يجوز؛ لقوله تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم}. أجاب: بأنه وإن كان ظاهرًا فيما ذكرتموه لكنه تأول وأن المراد, ويتبع غير سبيل المؤمنين فيما اتفقوا عليه لا ما لم يتعرضوا له, وهم هنا لم يتركوا التأويل الأول ولا الدليل الأول, بل ضموا إليه غيره, وإنما تأولناها للزوم

حكم اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول

المنع في كل واقعة تتجدد بعين ما ذكر, وهو باطل. وفيه نظر؛ لأن ما نحن فيه سبيل لهم, ولا سبيل لهم هناك. لا يقال: كلام المجيب تأويل آخر غير ما لأهل العصر الأول وهو عين المتنازع فيه. لأنا نمنع أنه ليس تأويلًا لأهل العصر الأول, مع أنه كلام على المستند. قالوا ثانيًا: {تأمرون بالمعروف} خطاب مشافهة, والمعروف مفرد محلى بالألف واللام فيعم, فيأمرون بكل معروف, فلو كان هذا الدليل الثاني أو التأويل الثاني معروفًا لأمروا به, وإذا لم يكن معروفًا لا يجوز المصير إليه. الجواب: المعارضة بقوله تعالى: {وتنهون عن المنكر} , فلو كان منكرًا لنهوا عنه بغير ما ذكر, والحق أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر يعلمون بهما. قال: (مسألة: اتفاق العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول بعد أن استقر خلافهم, قال الأشعري, وأحمد, والإمام, والغزالي: ممتنع. وقال بعض المجوزين: حجة. والحق: أنه بعيد إلا في القليل, كالاختلاف في أم الولد. ثم قال: وفي الصحيح أن عثمان كان ينهى عن المتعة. قال البغوي: ثم / صار إجماعًا).

[أقول]: إذا اختلف أهل العصر الأول في مسألة على قولين, واستقرَّ خلافهم وبقاؤهم علينا إلى أن انقرضوا. فقال أحمد, والأشعري, وجمع من المالكية, وجمع من الشافعية, وجمع من الحنفية: يمتنع اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول. وقال جمع من المالكية, والشافعية, والحنفية: إنه جائز. ثم اختلف المجوزون, فقال بعضهم: إنه حجة.

وقال البعض: لا يكون حجة. ثم قال المصنف: الحق أن الاتفاق من العصر الثاني بعيد بعد استقرار خلاف العصر الأول؛ لأنه لا يكون إلا عن جلي, وبعيد غفلة المخالف عنه إلا أن يكون المخالف قليلًا فإنه لا يبعد, وهذا كمخالفة علي رضي الله للصحابة في بيع أمهات الأولاد, ثم أجمع من بعدهم على المنع, لكن حكى البغوي في شرح السنة [أن عليًا رجع. وأيضًا: لا إجماع؛ لأن للشافعي قولا بالجواز. قال: وفي الصحيح أن عثمان كان ينهى عن المتعة - يريد التمتع - في الحج, وفي كتاب الحج من صحيح مسلم: «كان عثمان ينهى عن المتعة وكان عليّ يأمر بها, فقال عثمان لعليّ كلمة, ثم قال عليّ: لقد علمت أنا

نهينا على عهد النبي عليه السلام, فقال: أجل ولكنا كنا خائفين». ثم أجمع أهل العصر الثاني على جواز التمتع على ما ذكر البغوي, قال في شرح السنة] بعد أن ذكر النهي عن عثمان ومعاوية: «وروي عن عمر أيضًا, وهذا اختلاف محكي, وأكثر الصحابة على جوازها, واتفقت الأملة عليه» , هذا لفظه فيه, وجل الشراح قالوا: «متعة النكاح» , وليس في الصحيح عن عثمان نهي عنها, وإنما هو عن عمر, وبعض الشراح قال: «إلا في القليل» , أي في المسائل القليلة. قال: (الأشعري: العادة تقضي بامتناعه. وأجيب: بمنع العادة, والوقوع. قالوا: لو وقع لكان حجة فيتعارض الإجماعان؛ لأن استقرار اختلافهم دليل إجماعهم على تسويغ كل منهما. وأجيب: بمنع الإجماع الأول, ولو سلّم فمشروط بانتفاء القاطع, كما لو لم يستقر خلافهم).

أقول: احتج الشافعي ومن قال بقوله بحجتين: الأولى: أن العادة تقضي بامتناع اتفاق العصر الثاني على ما استقر فيه خلاف العصر الأول؛ إذ اتفاق جميع مجتهدي العصر الثاني على أحد القولين مع أن لكل من القولين دليلًا ممتنع عادة. الجواب: منع قضاء العادة؛ لجواز أن يكون مأخذ أحد القولين جليًا فصار أهل العصر الثاني إليه, وأيضًا: لو امتنع لم يقع, وقد وقع لما مرّ. قالوا ثانيًا: لو كان ممكنًا لم يلزم من فرض وقوعه محال, أما الملازمة فبينة, وأما بطلان التالي؛ فلأنه لو وقع لكان حجة لتناول الأدلة له فيتعارض الإجماعان؛ إجماع هؤلاء على عدم تسويغ القول الآخر, وإجماع الأولين على تسويغ كل منهما, وتعارضهما يستلزم تخطئة أحدهما وهو ممتنع سمعًا. الجواب: لا نسلم الإجماع الأول؛ إذ كل فرقة تجوز ما تقول به وتنفي الآخر, لا سيما إن قلنا المصيب واحد, فلا يجمعون على الخطأ, ولو سلم إجماعهم على تسويغ كل منهما فذلك مشروط بعدم قاطع يمنع منه, وقد وجد وهو الإجماع, فلا تعارض, وهذا كما لو لم يستقر خلاف أهل العصر الأول, فإن إجماعهم على جواز الأخذ بكل من القولين قبل استقرار خلافهم مشروط بانتفاء الإجماع القطعي على أحد القولين, فإذا حصل الإجماع زال شرط الإجماع الأول, وزوال الشرط موجب لزوال المشروط, فما هو جوابكم هناك فهو جوابنا هنا, ولهم أن يفرقوا بأن ذلك تجويز ذهني؛

بأنه يمكن أن يكون ما يجب العمل به هـ ذا وذاك مع تجويز وجودي, بمعنى أنه يجوز العمل بهما جميعًا معًا. لا يقال: لو جاز أن يكون مشروطًا بعدم الإجماع, لجاز أن ينعقد الإجماع على خلاف الإجماع الأول, ويقال: إن ذلك كان مشروطًا بعدم إجماع ثان. لأنا نقول: ذلك يؤدي إلى بطلان أصل الإجماع. ثم أهل الإجماع شرطوا ذلك في الإجماع على قولين, ومنعوا منه في الإجماع على قول واحد لأنهم انتقوا عن ظني إلى قطعي, وليس فوق القطعي شيء ينتقلون إليه, على أن للسائل أن يمنع انعقاد الإجماع على المنع فيما ذكر؛ لأنه إنما انعقد عليه في نفس الأمر, لا على تقدير جواز الاشتراط المتنازع فيه, الذي هو محال عنده. قال: (المجوز: وليس بحجة, لو كان حجة لتعارض الإجماعان, وقد تقدم. قالوا: لم يحصل الاتفاق. وأجيب: بأنه يلزم إذا لم يستقر خلافهم. قالوا: لو كان حجة لكان موت الصحابي المخالف يوجب ذلك؛ لأن الباقي كل الأمة الأحياء. أجيب: بالالتزام, والأكثر على خلافه). أقول: احتج المجوز لوقوعه المانع لحجيته بثلاثة أوجه:

الأول: لو كان حجة لتعارض الإجماعان, وقد تقدم تقريرًا أو جوابًا وإنما لم يستدل على الجواز ابتداء لظهوره. قالوا ثانيًا: لم يحصل اتفاق الأمة لأن فيه قولًا مخالفًا؛ إذ القول لا ينعدم بموت قائله, فلا إجماع. أجاب: بأنه منقوض باتفاق العصر الثاني؛ إذ لم يستقر خلاف أهل العصر الأول مع أنه حجة, وما ذكرتم مطرد فيه. وقد يفرق بأن ما لم يستقر عليه رأي, ليس قولًا لأحد عرفًا. قالوا ثالثًا: لو كان حجة لكان موت بعض الصحابة المخالفين للباقين يوجب أن يكون قول الباقين؛ لأن الباقين كل الأمة الأحياء في ذلك العصر وهو المعتبر؛ إذ لا عبرة بالميت. الجواب: منع بطلان اللازم كما سبق في مسألة انقراض العصر وإن كان مخالفًا لمذهب الأكثر, وعلى رأي الأكثرين الفرق بأن قول المخالف الذي مات قول من وجد في العصر الأول, فوجب اعتباره في إجماعهم, وقول المخالف من أهل العصر الأول ليس قولَ مَنْ وجد العصر الثاني, فلا يعتبر إجماعهم. قال: (الآخر: لو لم يكن حجة لأدى إلى أن تجتمع الأمة الأحياء على الخطأ, والسمعي يأباه. أجيب: بالمنع, والماضي ظاهر الدخول, فتحقق قوله بخلاف من لم يأت).

اتفاق أهل العصر عقب اختلافهم يعد إجماعا

أقول: احتج المخالف الآخر, وهو المجوز لوقوعه القائل بحجيته: لو لم يكن حجة لأدى إلى أن تجتمع كل الأمة الأحياء في عصر على الخطأ, والأدلة السمعية تأباه. الجواب: منع بطلان اللازم؛ لأن الأحياء ليسوا كل الأمة, ومن مات ظاهر الدخول في الأمة لأن له قولًا محققًا لا يموت بموته. فإن قيل: فليعتبر من لم يأت أيضًا. قلنا: من لم يأت لا هو محقق ولا قوله, فلا عبرة به. قال: (مسألة: اتفاق العصر عقيب الاختلاف إجماع وحجة وليس ببعيد, وأما بعد استقراره, فقيل: ممتنع. وقال بعض المجوزين: حجة, وكل من اشترط انقراض العصر. قال: إجماع, وهي كالتي قبلها, إلا أن كونه حجة أظهر؛ لأنه لا قول لغيرهم على خلافه). أقول: إذا اختلف أهل عصر ثم اتفقوا عقب الاختلاف فإجماع وليس ببعيد؛ لجواز وقوعهم على سند جلي بعد اختلافهم, وأما اتفاقهم بعد استقرار خلافهم, فقيل: ممتنع, وإليه ذهب الصيرفي, والأكثر على

عدم علم الأمة بخبر أو دليل راجح إذا عمل على وفقه

جوازه. واختلف المجوزون في حجيته, وكل من اشترط في الإجماع انقراض العصر قال هنا: إنه إجماع إذا انقرض عصرهم؛ لأن هذا الاتفاق لا يكون رافعًا لتسويغ الخلاف المجمع عليه, إلا بشرط انقراض العصر عندهم. وهذه المسألة كالتي قبلها استدلالًا وجوابًا, إلا أن كونه / حجة هنا أظهر؛ لأنه لا قول لغيرهم مخالفًا لهم, وقولهم المرجوع عن لم يبق معتبرًا فهم كل الأمة, والتي قبلها إذا اعتبر من خالفهم من الموتى فهؤلاء بعض الأمة, ولا معنى لقول المصنف في صدر المسألة: (فإجماع وحجة)؛ لأن الإجماع يستلزم الحجية. قال: (اختلفوا في جواز عدم علم الأمة بخبر أو دليل راجح إذا عمل على وفقه. المجوز: ليس إجماعًا, كما لو لم يحكموا في واقعة. النافي: اتبعوا غير سبيل المؤمنين). أقول: إذا كان في الواقع دليل أو خبر يقتضي حكمًا ما, وليس لذلك الحكم دليل آخر, لم يجز عدم الأمة به لأنهم إن عملوا بما يقتضيه كان حكمًا بالتشهي وإلا كان تركًا للحكم المتوجه عليهم, أما إن كان في الواقع دليل أو خبر راجح لكنهم لم يعملوا على وفقه لمعارض, فلا يجوز عدم علمهم

امتناع ارتداد كل الأمة في عصر من العصور

به؛ لأنه إجماع على الخطأ, وأما إذا عملوا على وفقه مصيبين في الحكم, غير أنهم أسندوا الحكم إلى الدليل الأضعف, فقد اختلف في جواز مثل هذا. فقال المجوز: ليس إجماعًا على عدمه حتى يكون إجماعًا على الخطأ؛ لأن عد القول ليس قولًا بالعدم, كما لو لم يحكـ[موا في واقـ]ـعة. وقال النافي: الدليل الراجح هو سبيل المؤمنين, وقد عملوا بغيره. وجوابه: تأويله بما اتفقوا فيه. وقد يقال: ليس هو سبيلهم, بل من شأنه أن يكون سبيلهم. قال: (مسألة: المختار امتناع ارتداد كل الأمة سمعًا. لنا: دليل السمع. قالوا: الارتداد يخرجهم. ردّ: بأنه يصدق أن الأمة ارتدت وهو أعظم الخطأ). أقول: يمتنع ارتداد كل الأمة في عصر من الأعصار سمعًا وإن جاز عقلًا, وقيل: لا يمتنع سمعًا. لنا: أدلة الإجماع السمعية الدالة على أن الأمة لا تجتمع على ضلالة, وأي ضلالة أعظم من الكفر. واعترض: بأن الردة تخرجهم عن تناول اسم الأمة, فلا تناولهم الأدلة.

حكم اختلافهم في ثبوت الأقل والأكثر في مسألة

والجواب: أنه يصدق قطعًا أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ارتدت, وهو أعظم الخطأ فيمتنع؛ إذ عند حصول الارتداد يصدق عليهم اسم الأمة حقيقة, وإنما يسلب عنهم الاسم بعد حصول الارتداد؛ لأن المعلول بعد العلة بالذات. قال: (مسألة: مثل قول الشافعي رضي الله عنه: إن دية اليهودي الثلث, لا يصح التمسك بالإجماع فيه. قالوا: اجتمع الكامل والنصف عليه. قلنا: فأين نفي الزيادة, فإن أبدى مانع, أو نفى شرط, أو استصحاب, فليس من الإجماع في شيء). أقول: إذا اختلفوا في ثبوت الأقل والأكثر في مسألة, [مثل] قول الشافعي: «إن دية اليهودي ثلث دية المسلم» , وقال غيره: «النصف» , وقال آخرون: «مثل دية المسلم». فلو تمسك على قول الشافعي بالإجماع بأن الأمة لا تخرج عن القول بالكل وبالنصف وبالثلث والكل قائلون بالثلث, لم يصح؛ لأن قول الشافعي يشتمل على وجوب الثالث ونفي الزائد, والإجماع لا يدل على نفي الزائد بل على وجوب الثالث فقط, فلا [بد] في نفي الزائد من دليل, فإن أبدى

وجوب العمل بالإجماع المنقول بخبر الواحد

وجود مانع من الزيادة على الثلث, أو انتفاء وجوب النصف أو الكل, أو عدم الأدلة, فيستصحب الأصل وهو عدم الزيادة على الثلث, لم يكن نفي الزيادة مثبتًا بالإجماع. قال: (مسألة: يجب العمل بالإجماع بنقل الواحد, وأنكره الغزالي. لنا: نقل الظني موجب, فالقطعي أولى. وأيضًا: نحن نحكم بالظاهر. قالوا: إثبات أصل بالظاهر. قلنا: المتمسك الأول قاطع, والثاني يبتني على اشتراط القطع. والمعترض: مستظهر من الجانبين). أقول: الإجماع المنقول بخبر الواحد يجب العمل به, خلافًا للغزالي وبعض الحنفية. لنا: نقل الدليل الظني كخبر الواحد غير النص يجب العمل به, ونقل الدليل القطعي الدلالة / أولى. وأيضًا: قال عليه السلام: «نحن نحكم بالظاهر» , والإجماع المنقول بالآحاد ظاهر, فوجب الحكم به؛ لأن الحديث خرج مخرج التعليم. وهذا الحديث لا أعرفه بهذا اللفظ, نعم بوب بعض المحدثين كالترمذي

باب وجوب العمل بالظاهر, وساق حديث: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ... » الحديث. قال الآخرون: هذا الدليلان من قبيل الظواهر؛ إذ الأول قياس على خبر الواحد والثاني ظاهر, وقد أردتم إثبات أصل كلي به وهو العمل بالإجماع المظنون ثبوته, والأصول لا تثبت بالظواهر إذ المقصود العلم, والظاهر لا يفيده. والجواب: [إنا] إن تمسكنا بالمسلك الأول فهو قاطع؛ لأنه إثبات له بطريق الأولى وهو قطعي, لوجوب العمل بخبر الواحد قطعًا. وإن تمسكنا بالثاني فلا شك أنه ظاهر, فتبني صحته على أنه فعل يشترط القطع في مسائل الأصول, وعليه دلائل واعتراضات من الجانبين وسواء استدل المستدل على عدم اشتراطه أو على اشتراطه, فالقوة للمعترض لضعف الأدلة, وهو معنى قوله: (والمعترض: مستظهر من الجانبين). بأن نقول: لا نسلم أن كل دليل ظني موجب, ومن الجانب الآخر لا نسلم امتناع إثبات الأصول بالظواهر, وإنما يمتنع لو كان المراد من الأصول الاعتقاد لا العمل.

إنكار حكم الإجماع القطعي

وقال بعضهم: التمسك الأول إشارة إلى أدلة الإجماع القطعية, والثاني إشارة إلى هذين الدليلين, وظاهر الإحكام والمنتهى هو الأول. قال: (مسألة: إنكار حكم الإجماع القطعي. ثالثها: المختار أن نحو العبادات الخمس يكفر). أقول: إنكار حكم الإجماع الظني ليس بكفر, وذلك كإنكار حكم السكوتي والمنقول بالآحاد. وأما إنكار الإجماع القطعي, فقيل: كفر؛ لأنه يتضمن إنكار سنده القطعي, وإنكار ذلك تكذيب للرسول عليه السلام. وقيل: لا يكفر؛ لأن الإجماع من حيث هو لم تثبت حجيته بدليل قطعي, فتكون حجيته ظنية, فلا نكفر منكر حكمه. والمختار: أن نحو العبادات الخمس بما ع لم بالضرورة من الدين موجب

للكفر اتفاقًا, وإنما الخلاف في غيره. والحق أنه لا يكفر, هذا معنى ما في المنتهى, فليس على هذا قول بأنه لا يكفر مطلقًا وإن أنكر وجوب الصلاة اختلف في كفره, والذي حكاه جمهور العلماء أن الإجماع منعقد على تكفير جاحد وجوبها. لكن ذكر المازري في كتاب الأقضية من شرح التلقين ما يساعد ظاهر كلام المصنف هنا, ولفظه: «أما العلوم الفقهية, فإن القطعي منها كالأركان التي بني عليها الإسلام كالصلاة والزكاة والحج وصوم رمضان, فالمخالف كافر إن كذَّب فيها من جاء بها عن الله؛ لأنه إنكار لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والمنكر لها كافر, وإن صدق من جاء بها لكنه نازع في وجوبها, فقد أنكر العلوم الضرورية وباهت في ذلك وهو آثم, كالحال في مانعي الزكاة فلا خلافة الصديق, وتأويل من تأول منهم أن وجوبها سقط, لقوله تعالى {خذ من أموالهم} , فلم يأمر غيره بالأخذ. وما سواه من الفقه, الكفر والإثم ساقطان فيه, هذا مذهب أهل السنة

التمسك بالإجماع فيما تتوقف حجية الإجماع عليه

من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين». انتهى كلامه. قال: (مسألة: التمسك بالإجماع فيما لا تتوقف صحته عليه صحيح, كتنزيه الباري عزّ وجلّ, ونفي الشريك. ولعبد الجبار في الدنيوية قولان. لنا: دليل السمع). أقول: لا يصح التمسك بالإجماع فيما تتوقف حجية الإجماع عليه كوجود الباري وصحة الرسالة ودلالة المعجزة لأنه دور؛ لأنه ما لم تعلم عصمة الأمة عن الخطأ, لم يعلم كونه حجة, والعلم بعصمتهم يتوقف على العلم بوجوده تعالى, وبصحة الرسالة, لتوقف الأدلة السمعية عليه, والعلم بعصمتهم مستفاد من العلم بهما, فلو توقف العلم بهما على العلم بكون الإجماع حجة لزم الدور. أما ما لا تتوقف حجية الإجماع عليه, فيجوز التمسك بالإجماع عليه إن كان دينيًا اتفاقًا كرؤية الباري ونفي الشريك, أو شرعيًا كوجوب الصلاة؛ لأنه لما كان قاطعًا صح التمسك به في الأمور العلمية والعملية. وإن كان دنيويًا كالآراء والحروب صح, خلافًا لأحد قولي عبد الجبار من المعتزلة.

لنا: دليل السمع وهو عام في الديني والدنيوي. لا يقال: صحة الإجماع متوقفة على علمنا بصدقه في جميع ما قاله, فيتوقف على علمنا بأنه يُرى, وأنه لا شريك له؛ لأنه مما جاء به, فلو توقف علمنا بما ذكرنا على الإجماع لزم الدور. لأنا نقول: صحة الإجماع تتوقف على ثبوتهما إجمالًا, والعلم بثبوتهما تفصيلًا يتوقف على الإجماع فلا دور.

الأخبار: ما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع

قال: (ويشترك الكتاب والسنة والإجماع في السند والمتن. فالسند: الإخبار عن طريق المتن). أقول: لما فرغ من المباحث المختصة بكل واحد من الكتاب والسنة والإجماع, شرع فيما يشترك فيه الثلاثة في السند والمتن. فالمتن: ما تضمنه الثلاثة من أمر ونهي, وعام وخاص, ومطلق ومقيد, ومجمل ومبين, وظاهر ومؤول, ومنطوق ومفهوم. والسند: هو الإخبار عن طريق المتن, أي عن طريق ثبوته من متواتر أو آحاد, مقبول أو مردود. قلت: الأظهر أن السند هو طريق المتن لا الإخبار عن طريقه؛ لأن السامع من النبي عليه السلام أو من المجمعين, سماعه سنده, ولا يستلزم الإخبار, إلا أن يريد السند في اصطلاح المحدثين. ولما كان الطريق إلى النبي مقدم عليه طبعًا, قدمه وضعًا. قال: (والخبر: قول مخصوص للصيغة والمعنى. فقيل: لا يحد لعسره. وقيل: لأنه ضروري من وجهين: أن كل واحد يعلم أنه موجود ضرورة, فالمطلق أولى, والاستدلال على أن العلم ضروري لا ينافي كونه

ضروريًا, بخلاف الاستدلال على حصوله ضرورة. ردَّ: بأنه يجوز أن يحصل ضرورة ولا يتصور, ولا يلزم من حصول أمر تصوره أو تقدم تصوره, والمعلوم ضرورة ثبوتها أو نفيها, وثبوتها غير تصورها. الثاني: التفرقة بينه وبين غيره ضرورة, وقد تقدم مثله). أقول: الخبر: نوع مخصوص من القول. ويقال للصيغة: الخبر, وهو قسم من أقسام الكلام اللساني, [وللمعنى وهو قسم من أقسام الكلام النفساني]. قال في الإحكام: «ويطلق على الصيغة, كقوله: قام زيد, وقد يطلق على المعنى». وهو حقيقة فيهما عند قوم, وهو ظاهر كلام المصنف, وعند الأشعري في الباقي فقط, وعند قوم بالعكس. ثم اختلف في تحديده, فقيل: لا يحدّ لعسره, وقد تقدم تقريره في العلم.

وقيل: لأنه ضروري من وجهين: أحدهما: أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه موجود, ومطلق الخبر جزء من معنى هذا الخبر, وإذا كان الخبر المفيد ضروريًا, فالمطلق الذي هو جزؤه أولى؛ لأن ما يتوقف عليه الضروري أولى أن يكون ضروريًا. قيل: الاستدلال على أن العلم بمطلق الخبر ضروري ينافي كونه ضروريًا؛ لأن الضروري لا يقبل الاستدلال. ردّ: بأن كون العلم ضروريًا صفة لحصوله وذلك يقبل الاستدلال, والذي لا يقبله / نفس الحصول الذي هو معروض الضرورة؛ إذ يمتنع أن يكون حاصلًا بالضرورة وبالكسب لتنافيهما, فإذًا لا يلزم من كون الشيء ضروريًا أن يكون العلم بضروريته ضروريًا؛ إذ لو كان ضروريًا لما احتاج في الجزم به إلى غير تصور طرفيه. وقال المصنف: (والاستدلال على أن العلم ضروري) ولم يقل على أن الخبر مع أنه أنسب؛ لكونه جوابًا عامًا يرفع الشبهة حيث أوردت. ثم أجاب المصنف: بأنه لا يلزم من حصول أمر تصوره, لجواز أن يحصل ولا يتصور, فالمعلوم نسبة الوجود إليه إثباتًا وهو غير تصور النسبة التي هي ماهية الخبر, فلا يلزم أن يكون ماهية الخبر ضرورية. قيل: في الجواب الذي ذكر المصنف نظر؛ لأن المعترض ما قال إن حصول الخبر هو تصوره, حتى يقال له: لا يلزم من حصول أمر تصوره,

بل قال: العلم بحصول الخبر هو تصوره, ولا يمكن أن يقال: العلم بحصول الخبر غير تصوره. وفيه نظر؛ لأن العلم بحصول الخبر أعم من تصور الخبر, على أنه لو لم يكن قائلًا ذلك, لما لزم مدعاه. الوجه الثاني: التفرقة بين الخبر وغيره من الطلب بأقسامه ضرورة, والتفرقة الضرورية بين شيئين مسبوقة بتصورهما ضرورة. والجواب: قد تقدم, وهو أن المتميز حصول النسبة لا تصورها, فاللازم أن الحصول ضروري لا أن التصور ضروري, فإن كل أحد يفرق بين حصول الألم واللذة له ضرورة مع عدم تصورهما, هذا معنى قول المصنف: (وقد تقدم مثله) , ولو كان كما ظن من زعم أنه إشارة إلى ما تقدم في الحسن من قوله: نفرق بين الضرورية والاختيارية, أو كما زعم من قال: إنه تقدم مثل هذا البحث في العلم في المنتهى, فتوهم أنه ت قدم له في هذا المختصر - لقال: وقد تقدم. قال (القاضي والمعتزلة: الخبر الكلام الذي يدخله الصدق والكذب. واعترض: بأنه يستلزم اجتماعهما وهو محال, لا سيما في خبر الله

تعالى. أجاب القاضي: بصحة دخوله لغة, فورد: أن الصدق الموافق للخبر والكذب نقيضه, فتعريفه به دور, ولا جواب عنه. وقيل: التصديق أو التكذيب, فيرد الدور, وأن الحدّ يأبى «أو». وأجيب: بأن المراد قبول أحدهما. وأقربها قول أبي الحسين: كلام يفيد بنفسه نسبة. قال: بنفسه ليخرج نحو قائم؛ لأن الكلمة عنده كلام وهي تفيد نسبة مع الموضوع, ويرد عليه باب قم ونحوه, فإنه ك لام يفيد بنفسه نسبة, إما لأن القيام منسوب, وإما لأن الطلب منسوب. والأولى: الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية, ونعني الخارج عن كلام النفس, فنحو طلبت القيام حكم بنسبة لها خارجي, بخلاف قم). أقول: أما القائلون بأن الخبر لا يعرف [إلا] بالحدّ, فقد اختلفوا فيه. فقال الجبائي وابنه, وأبو عبد الله البصري, والقاضي عبد الجبار وغيرهم من المعتزلة: «الخبر: الكلام الذي يدخله الصدق والكذب». فبقوله: «يدخله الصدق والكذب» خرج الإنشاء.

اعترض: بأن الواو للجمع, فيلزم اجتماع الصدق والكذب معًا فيه وذلك محال, ويلزم ألا يوجد خبر, أو يوجد المحدود بدون الحدّ فلا ينعكس, واجتماعهما فيه محال لا سيما خبر الله تعالى. لا يقال: هذا يشعر بأن اجتماع المتقابلين في خبر الله تعالى أشد استحالة منه في غيره وليس كذلك؛ لأن استحالته بالنسبة إلى / جميع الأخبار واحدة. لأنا نقول: استحالته بالنسبة إلى الكل كذلك, إلا أن هذا الإجماع لخصوص المادة أشد استحالة؛ لأن اجتماعهما لا يتصور في خبره ولا احتمال الكذب, بخلاف خبر غيره لإمكان الكذب فيه. قيل في تقريره: اجتماعهما محال؛ لأن الخبر قد يكون كاذبًا لا يحتمل الصدق, كقولنا: الجزء أعظم من الكل وبالعكس كالبديهيات, لا سيما خبر الله تعالى. وما قيل في تقريره: من أن الصدق والكذب متقابلان لا يجوز اجتماعهما, فيه نظر؛ لأن المتقابلين في زمان واحد, بل تقتضي الاجتماع مطلقًا. قلت: والتقرير الأول هو الذي حكاه صاحب الإحكام, وهو أسعد بقوله: (لا سيما).

ثم ذكر جواب القاضي عبد الجبار - وإن كان عادة المصنف إذا أطلق القاضي إنما يريد الباقلاني: المراد دخوله لغة, أي لو قيل: صدق أو كذب أم يخطأ لغة, وكل خبر كذلك, وإن امتنع صدق البعض أو كذبه عقلًا فهو من حيث اللغة يحتملها نظرًا إلى ذاته, من غير نظر إلى خصوص المادة, لأنه لو قال شخص: قام زيد, فقال شخص: صدق, وقال آخر: كذب, صح الجميع لغة, ولما فسر عبد الجبار الدخول بهذا المعنى وأنه في اللغة لا في الواقع, سقط الاعتراض. وورد: أن الصدق لغة الخبر الموافق للمخبر به, والكذب الخبر المخالف للمخبر به, بهذا عرفهما أهل اللغة, فهما معرفان بالخبر, فتعريفه بهما دور, واتضاه المصنف وقال: (لا جواب عنه) من حيث إنه إلزام لكونهم عرفوه بذلك, ولذلك قال: (فورد) بالفاء, وإلا فللقائل إن يقول: هما ضروريان, أو هما المطابق لمتعلقه وخلافه, وإمكان ذكرهما في تعريفهما لا يضر. وأما دفع الدور: بأنه إنما يلزم لو عرفنا الخبر بالصدق والكذب المصطلحين وهما بالخبر المصطلح, أما لو عرفناه باللغويين أو بالمصطلحين, ثم عرفناهما باللغوي لم يرد الدور ففاسد؛ إذ مفهومهما اللغوي هو م فهومهما الاصطلاحي, وتعريف الصدق بأنه الموافق للخبر فيه تساهل, والمراد الموافق

للخبر, أو موافقة الخبر للواقع. وقيل في حدّ الخبر أيضًا: هو الكلام الذي يدخله التصديق أو التكذيب, فاندفع الاعتراض باستلزام إجماعهما, لكن لم يندفع الدور؛ لأنهما الحكم بالصدق والكذب, وإن فسرنا الحكم بالصدق, فالإخبار عن كون المتكلم صادقًا انضم إلى ذلك تعريف الشيء بنفسه. ويرد أيضًا: أن الحدّ للإيضاح و «أو» للإبهام, فلا يدخل في الحدّ. وجوابه: أن المراد بـ «أو» ليس أن أحدهما واقع ولا يعلمه, بل قبوله لأحدهما, فأيهما وقع فهو الخبر ولا إبهام, فالخبر يدخله أحدهما لا على التعيين, ولا تردد فيه, وإنما التردد في دخول أحدهما عينًا, وهو غير داخل في التحديد. ثم قال: وأقرب الحدود إلى الصواب قول أبي الحسين البصري من المعتزلة: «كلام يفيد بنفسه نسبة». وفسّر أبو الحسين النسبة بأنه: إضافة أمر إلى أمر بنفي أو إثبات, والظاهر أنه يريد مع حسن السكوت عليهما, وإلا ورد المركب التقييدي. وقال: (بنفسه) ليخرج نحو قائم أو عالم, فإنه كلام عنده لأنه عرف الكلام بأنه: المنتظم من الحروف المتميزة المتواضع عليها, فتبين أنه ليس كل كلمة عند أبي الحسن كلامًا, بل ما كان من حرفين فأكثر, وقائم ونحوه يفيد نسبة لكن لا بنفسها بل مع الموضوع.

ويرد عليه: باب قم ونحوه من الطلب, فأنه كلام بالاصطلاحات كلها ويفيد نسبة بنفسه بأحد اعتبارين, إما لأن القيام منسوب إلى زيد؛ لأن المطلوب هو القيام المنسوب / إلى زيد لا مطلق القيام, وإما لأن الطلب منسوب إلى القائل؛ لأنه يدل على طلب منسوب إليه لا مطلق الطلب. قيل: «ولأبي الحسين أن يقول: أردت بإفادة النسبة أن يعلم منه وقوع النسبة, وبنفسه أن يكون هو مدلوله الذي وضع له, لأن أن يلزم عقلًا, وقد صرح بالثاني في المعتمد, فخرج نحو قم, إما باعتبار نسبة القيام إلى زيد, فإنه لم يعلم منه وقوعها, وإما باعتبار نسبة الطلب إلى المتكلم فلأنه عقلي». وفيه نظر؛ لأنه علم أنه منسوب إلى رجل, وإلا لزم ألا يكون رجل خبرًا. ثم قال المصنف: أولى ما حدّ به أن يقال: (الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية). ونعني أن تلك النسبة لها أمر خارجي, بحيث يحكم بصدقها إن طابقته, أو كذبها إن خالفته, فلا يرد قم؛ لأن مدلوله نفس الطلب, وهو المعنى القائم بالنفس من غير أن يشعر أن له متعلقًا واقعًا في الخارج, بخلاف طلبت القيام, فإنه يدل على الحكم بنسبة الطلب إلى المتكلم وله مطابق خارجي

الإنشاء

وهو قيام الطلب بالمتكلم قبل التلفظ, فزيدٌ قائمٌ يدل على الحكم الموجود في الذهن وهو إسناد القيام إلى زيد بالإثبات, ويسمى هذا الحكم كلام النفس, وهو متعلق بأمر آخر من حيث المطابقة واللامطابقة, ويسمى ذلك الأمر النسبة الخارجية, وكذا طلب القيام حكم فيه بنسبة لها خارجي وهو نسبة طلب القيام إلى المتكلم في الزمان الماضي, وهذه النسبة خارجة عن الحكم النفسي, تعلق بها النفسي بالمطابقة واللامطابقة, بخلاف قم فإنه متعلق بالنفسي ولا متعلق له خارجي. قال: (ويسمى غير الخبر إنشاء وتنبيهًا, ومنه: الأمر, والنهي, والاستفهام, والترجي, والتمني, والقسم, والنداء). أقول: يسمى عند المصنف غير الخبر من الكلام: إنشاء وتنبيهًا. والمنطقيون يقسمون الإنشاء إلى: ما دلَّ على الطلب لذاته, إما للفهم وهو الاستفهام, أو لغيره الإنشاء إلى: ما دلَّ على الطلب لذاته, إما للفهم وهو الاستفهام, أو لغيره كالأمر والنهي, وإلى غيره, ويعدون منه التمني والترجي, والقسم والنداء, ويسمعون هذا القسم بالتنبيه, وبعضهم يجعل التمني والنداء من الطلب. قال: (والصحيح أن بعت واشتريت وطلّقت التي يقصد بها الوقوع إنشاء؛ لأنها لا خارج لها؛ ولأنها لا تقبل صدقًا ولا كذبًا.

ولو كان خبرًا لكان قاضيًا ولم يقبل التعليق؛ ولأنا نفرق بينه وبين غيره ضرورة, ولذلك لو قال للرجعية: طلقتك, سئل). أقول: لما أشار إلى حقيقة الخبر والإنشاء, تعرض لصيغ العقود, نعنى إذا قصد بها إحداث الحكم؛ إذ لا نزاع أنها في اللغة إخبار, وفي الشرع تستعمل أيضًا إخبارًا, وإنما النزاع إذا قصد بها إيقاع الشيء. قال قوم: هي إخبار ولم تنقل. والصحيح عند المصنف: أنها نقلت إلى الإنشاء لوجوه أربعة: الأول: أنها غير محكوم فيها بنسبة خارجية, فإنَّ «بعت» لا يدل على بيع آخر غير الذي يقع بهذا اللفظ, فلا يكون إخبارًا. الثاني: أن خاصة الخبر هو احتمال الصدق والكذب غير موجود فيه؛ إذ لو حكم بأحدهما كان خطأ قطعًا, واحتمال الصدق والكذب وإن لم يصح تعريف الخبر به عنده, لكنه خاصة مساوية. لا يقال: ليست بمساوية؛ لأنه يقال: قسم كاذب, وقسم صادق,

والقسم إنشاء, لأن إطلاق الصدق والكذب عليه بطريق المجاز. الثالث: لو كان خبرًا لكان ماضيًا, أما الملازمة؛ فلوضع الصيغة له من غير ورود معنى عليه, ولأنه لا يكون مستقبلا وإلا لم تقع, كما لو قال: سأطلقك. وأما بطلان التالي؛ فلأنه لو كان ماضيًا لم يقبل التعليق؛ لأن التعليق توقيف دخول الشيء في الوجود على دخول غيره فيه, وما دخل في الوجود لا يمكن توقيف دخوله فيه على دخول غيره فيه, لكنها قابلة للتعليق لاعتبار القائل: طلقتك إن فعلت, كذا في الشرع اتفاقًا. لا يقال: بالشرط انقلب إلى الاستقبال, فصار مثل: إن جاء زيد أكرمتك, فلا يكون إنشاء. لأنا نقول: لو كان كذلك لما وقع الطلاق, وكما لو قال: سأطلقك, ولاحتمل الصدق والكذب. الرابع: إنا نقطع بالفرق بينه خبرًا وإنشاء, وكذلك لو قال للرجعية: طلقتك, سئل, فإن أراد الإخبار لم يقع, وإن أراد الإنشاء وقع, فلو لم يكن اللفظ محتملا لهما لما سئل؛ لأنها إذا تعينت للإخبار [ينبغي كان أن لا يقع]. قال بعض الفضلاء: واعلم أن من قال إنها إخبار, لم يقل إنها إخبار عن خارج, بل عما في الذهن, فارجع النظر فيما استدل به, هل ثبت المتنازع فيه أم لا؟ .

تقسيم الخبر إلى صدق وكذب

قال: (الخبر: صدق وكذب؛ لأن الحكم إما مطابق للخارج أو لا. الجاحظ: إما مطابق مع الاعتقاد ونفيه, أو لا مطابق مع الاعتقاد ونفيه, والثاني فيهما ليس بصدق ولا كذب, لقوله تعالى {أفترى على الله كذبًا أم به جنة} , فيكون مجنونًا؛ لأن المجنون لا افتراء له, سواء قصد أم لم يقصد الجنون. قالوا: قالت عائشة: «ما كذب ولكنه وهم». وأجيب: بتأويل ما كذب عمدًا. وقيل: إن كان معتقدًا فصدق وإلا فكذب, لقوله: {إن المنافقين لكاذبون}. وأجيب: لكاذبون في شهادتهم وهي لفظية). أقول: لما فرغ من تعريف الخبر, شرع في تقسيمه, وهو مقسم أولًا إلى صدق وكذب, ولا واسطة بينهما عند الجمهور؛ لأن الحكم إما مطابق للخارج أو لا, والأول الصدق, والثاني الكذب. وقال الجاحظ: الخبر إما مطابق للخارج أو لا مطابق, والمطبق إما مع اعتقاد أنه مطابق أو لا, سواء اعتقد عدم المطابقة أو لم يعتقد شيئًا,

والأول صدق, والثاني بقسيمه واسطة, وألا مطابق إما مع اعتقاد اللامطابقة أو لا, سواء اعتقد المطابقة أو لم يعتقد بها, والأول الكذب, والثاني بقسيمه واسطة. وإليه أشار المصنف بقوله: (والثاني فيهما ليس بصدق ولا كذب). احتج الجاحظ بقوله تعالى: {أفترى على الله كذبًا أم به جنة} , ووجه الاستدلال: أن المراد الحصر فيهما, أي في كونه افتراء أو كلام مجنون فعلى تقدير كونه كلام مجنون لا يكون صدقًا؛ لأنهم لا يعتقدون كونه صدقًا وقد صرحوا بنفي الكذب عنه حيث جعلوه قسيمه, وما ذاك إلا لأن المجنون لا يقول عن قصد واعتقاد. والجواب: أن المراد افترى أو لم يفتر فيكون مجنونًا؛ لأن المجنون لا افتراء له, والكاذب عن غير قصد يكون مجنونًا, أو المراد: أقصد فيكون كاذبًا, أو لم يقصد فلا يكون خبرًا؛ لاشتراط القصد في الخبر عند قوم. والحاصل أن الافتراء أخص من الكذب, ومقابله قد يكون كذبًا, وإن سلّم فلا يكون خبرًا. احتجوا ثانيًا: بما في الصحيحين, أن عائشة لما سمعت حديث ابن عمر أن الميت ليعذب ببكاء أهله, قالت: «ما كذب ولكنه وهم, إنما قال عليه السلام: إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه».

وجه الاستدلال: أن غير المطابق إذا لم يعتقد عدم مطابقته لا يكون كذبًا لنفيها الكذب عنه, وليس صدقًا اتفاقًا, فثبتت الواسطة. الجواب: أنها ما نفت الكذب, إنما نفت كذبًا خاصًا, وهو الكذب المتعمد. وقال بعض من حصر الخبر في الصدق والكذب: إن كان المخبر معتقدًا لم يخبر به فصدق, وإلا فكذب, ولا عبرة فيهما بمطابقة الواقع ولا بعدمها. هذا ظاهر كلام المصنف, وهو قول معروف من خارج. وحمل جل الشراح كلام المصنف على قول آخر, وهو وإن كان موجودًا أيضًا لبعضهم, لكن بعيد من كلام المصنف. فقالوا: إن كان مطابقًا والمخبر معتقد مطابقته فصدق, وإلا فكذب. وهذا القول الأخير يوافق قول الجاحظ في تفسير الصدق, وأما الكذب فهو بهذا التفسير أعم, لصدق الكذب عند هؤلاء على ما هو واسطة عند الجاحظ. واحتج صاحب هذا القول بقوله تعالى: {إن المنافقين لكاذبون}.

تقسيم الخبر إلى ما لا يعلم صدقه ولا كذبه

كذبهم في قولهم: {إنك لرسول الله} مع مطابقته للخارج, وما ذاك إلا لكونه لم يطابق اعتقادهم. الجواب: لا نسلم أنه كذبهم في إخبارهم عن الرسالة, بل كذبهم في شهادتهم؛ لأن الشهادة عرفًا أن يشهد الشاهد بالمطابق معتقدًا, وشهادتهم عبارة عن تصديقهم رسالته, ولا خلاف في اعتبار الاعتقاد في صحة التصديق, فكأنهم قالوا: نعتقد أنك رسول الله, فأخبر الله بكذبهم, أو لأنهم زعموا أن شهادتهم مستمرة غيبة وحضورًا, فكذبهم الله. وهذه المسألة لفظية لا يجدي البحث فيها كبير نفع؛ لأنه راجع إلى اصطلاح. قال: (وينقسم إلى ما يعلم صدقه, وإلى ما يعلم كذبه, وإلى ما لا يعلم واحد منهما. فالأول: ضروري بنفسه كالمتواتر, وبغيره كالموافق للضروري, ونظري كخبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, والموافق للنظر. والثاني: المخالف لما علم صدقه. والثالث: قد يظن صدقه كخبر العدل, وقد يظن كذبه كخبر الكذاب, وقد يشك كخبر المجهول, ومن قال: كل خبر لم يعلم صدقه فكذب؛ لأنه لو كان صدقًا لنصب عليه دليلًا, كخبر مدعي الرسالة, فاسد بمثله في النقيض, ولزوم كذب كل شاهد, وكفر كل مسلم, وإنما كذب المدعي كالعادة).

أقول: هذا تقسيم آخر للخبر, وهو ينقسم إلى ما يعلم صدقه, وإلى ما يعلم كذبه, وإلى ما لا يعلم واحد منهما. الأول: قسمان: ضروري, ونظري. والضروري: إما ضروري بنفسه, أي بنفس الخبر وهو المتواتر, وإما أن يكون استفيد العلم الضروري بمضمونه من غير الخبر, ومثّله في المنتهى بخبر يوافق قضية ضرورية. والنظري: كخبر الله, وخبر رسوله, وخبر أهل الإجماع, والخبر الموافق للنظر الصحيح في القطعيات, كقولنا: العالم حادث, فإن هذا كله قد علم صدقه بالنظر. القسم الثاني: ما علم كذبه, وهو كل خبر مخالف لما علم صدقه, أي مناف بالاعتبارات السابقة, فلا يرد. القسم الثالث: ما لا يعلم واحد منهما, وهذا قد يظن صدقه كخبر العدل, وقد يظن كذبه كخبر الكذاب, وقد يشك في صدقه وكذبه كخبر مجهول الحال. وقال بعض الظاهرية: كل خبر لا يعلم صدقه فهو كذب قطعًا؛ لأنه لو كان صدقًا لنصب عليه دليلًا, كخبر مدعي الرسالة, فإنه إذا كان صدقًا أيَّد صدقه بدلالة المعجزة, وهو فاسد, لجريان مثل هذا الدليل في نقيض ما أخبر به إذا أخبر آخر, فيلزم اجتماع النقيضين.

تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد

وقرر بوجه آخر, وهو أن يقال: هو صادق, لأنه لو كان كاذبًا لنصب دليلًا على كذبه, كخبر مدعي الرسالة, فإنه إذا كان كاذبًا لا ينصب عليه معجزة, فعدم نصبها دليل على كذبه. وأيضًا: يلزم العلم بكذب كل شاهد إذا لم يقم دليل قاطع على صدقه, والعلم بكذب كل مسلم في دعوى إسلامه إذ لا دليل على ما يقبله, وذلك باطل إجماعًا؛ للحكم على وفق الشهادة, وللحكم بالإسلام. وأما القياس على خبر مدعي الرسالة فلا يصح؛ لأنه ما كذب لعدم العلم بصدقه, بل للعلم بكذبه؛ لأنه الرسالة بخلاف العادة, والعادة تقضي بكذب المخالف لها من غير دليل. قال: (وينقسم إلى: متواتر, وآحاد. فالمتواتر: خبر / جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه. وقال: «بنفسه» ليخرج ما علم صدقهم فيه بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك عنه عادة وغيرها. وخالف السمنية في إفادة المتواتر العلم, وهو بهت. فإنا نجد العلم ضرورة بالبلاد النائية, والأمم السابقة, والأنبياء, والخلفاء بمجرد الإخبار, وما يوردونه من أنه كأكل طعام واحد, وأن الجملة مركبة من الواحد, ويؤدي إلى تناقض المعلومين, وإلى تصديق اليهود والنصارى في لا نبي بعدي, ولأنا نفرق بين ضروري وبينه ضرورة, وبأن الضروري يستلزم الوفاق, مردود).

أقول: هذا تقسيم آخر للخبر إلى: متواتر, وآحاد. فالمتواتر: خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه. وقال: (بنفسه) ليخرج خبر جماعة علم صدقهم لا بنفس الخبر, بل إما بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك الخبر عنه عادة, فإن من القرائن ما لا يلزم الخبر من أحوال في الخبر والمخبر والمخبر عنه, ولذلك يتفاوت عدد التواتر, وإما بغير القرائن كالعلم بمخبره ضرورة أو نظرًا. وقال جل الشراح: بالقرائن الزائدة على الأمور اللازمة للمتواتر عادة, وعقلًا, وحسًا. فالعادية, كالتي يكون على المخبر بموت والده من البكاء والتفجع. وقد تكون عقلية, كخبر جماعة تقضي البديهة أو الاستدلال صدقه. وقد تكون حسية, كالتي تكون على من يخبر بعطشه. ثم الجمهور على أن المتواتر بشرائطه يفيد العلم بصدقه.

وخالف السمنية في ذلك, وهم قوم من الهند. قال: (وهو بهت) أي مكابرة, فإنا نجد العلم الضروري بالبلاد النائية كمكة وبغداد, والأمم الخالية كالصحابة, وما ذاك إلا بالأخبار قطعًا. وقد أوردوا عليه شكوكًا منها: أن اجتماعهم على نقل الخبر كاجتماع الخلق الكثير على طعام واحد, وأنه ممتنع عادة. ومنها: أنه يجوز الكذب على كل واحد, فيجوز على الجملة؛ إذ لا ينافي كذب الواحد كذب الآخرين قطعًا, ولأنها مركبة من الآحاد, فإذا فرض كذب كل واحد, فقد كذب الجميع قطعًا, فلا يحصل العلم. ومنها: أنه لو أفاد العلم لأدى إلى تناقض المعلومين, إذا أخبر جمع كثير بشيء وجمع كثير بنقيضه. ومنها: أنه يلزم تصديق اليهود والنصارى فيما نقلوه عن موسى وعيسى أنه قال: لا نبي بعدي, وذلك ينافي نبوة محمد عليه السلام. ومنها: أنه لو أفاد العلم الضروري, لما حصل لنا الفرق بين الضروري وبينه؛ إذ لا تفاوت في الضروريات. ومنها: أن الضروري يستلزم الوفاق, وهو منتف لمخالفتنا. والكل مردود إجمالًا وتفصيلًا. أما إجمالًا: فلأنه تشكيك في الضروريات, فلا يسمع.

العلم الحاصل من المتواتر ضروري أم نظري؟

وأما تفصيلًا: فالجواب عن الأول: أنه قد علم وقوعه والفرق وجود الداعي, وأيضًا: وجود العادة هنا وعدمها ثمة ظاهر. وعن الثاني: أن حكم الجملة يخالف حكم الواحد, فإن الواحد جزء العشرة بخلاف العشرة, والعسكر يجتمع من الأشخاص وهو يفتح البلاد دون آحاد الأشخاص. وعن الثالث: تواتر النقيضين محال عادة. وعن الرابع: أن نقل اليهود والنصارى لو حصل شرائط التواتر لحصل العلم. وعن الخامس: أن الضروريات تتفاوت في الجلاء بحسب الإلف والاستئناس, لا لاحتمال النقيضين. وعن السادس: أن الضروري لا يستلزم الوفاق لجواز العناد, وإلا ورد عليكم خلاف السوفسطائية, على أن بعضها إنما يرد على من يقول: يفيد العلم الضروري. قال: (والجمهور على أنه ضروري. والكعبي والبصري على أنه نظري.

وقيل: بالوقف. لنا: لو كان نظريًا لافتقر إلى توسط المقدمتين, ولساغ الخلاف فيه عقلًا. أبو الحسين: لو كان ضروريًا لما / افتقر, ولا يحصل إلا بعد علم أنه من المحسوسات, وأنهم عدد لا حامل لهم, وأن ما كان كذلك ليس بكذب, فيلزم النقيض. وأجيب: بالمنع, بل إذا حصل علم أنهم لا حامل لهم, لا أنه مفتقر إلى سبق علم ذلك, فالعلم بالصدق ضروري, وصورة الترتيب ممكنة في كل ضروري. قالوا: لو كان ضروريًا لعلم أنه ضروري ضرورة. قلنا: معارض بمثله, ولا يلزم من الشعور بالعلم ضرورة الشعور بصفته). أقول: القائلون بأن المتواتر يفيد العلم اختلفوا, هل العلم الحاصل منه ضروري أو نظري؟ . فجمهورهم على أنه ضروري. وذهب الكعبي, وأبو الحسين البصري, والدقاق, وإمام الحرمين إلى

أنه نظري, ومال الغزالي إلى أنه قسم ثالث, فقال: «ليس ضروريًا, بمعنى أنه حاصل من غير واسطة, كقولنا: الواحد نصف الاثنين, بل يحتاج إلى واسطة لكنها حاضرة في الذهن, ولا يفتقر إلى ترتيبها ولا إلى الشعور بها, كما هو شأن القضايا الفطرية القياس». وتوقف الشريف المرتضى من الشيعة, والآمدي. احتج الجمهور: بأنه لو كان نظريًا لافتقر إلى توسط المقدمتين؛ لأن النظري يفتقر إلى النظر وهو ترتيب قضايا, واللازم باطل, لأنا نعلم قطعًا علمنا بما ذكرنا من المتواترات مع انتفاء ذلك. وأيضًا: لو كان نظريًا لساغ الخلاف فيه, ولو ادعى ذلك مدع لم يعد بهتًا ومكابرة كغيره من النظريات.

قيل على الأول: إن أردت بتوسط المقدمتين بالفعل على فهم مخصوص متخيل أو ملفوظ, منعنا الملازمة, وإن أردت توسطهما بالقوة, منعنا بطلان التالي. وردَّ: بأنا نريد الأول, وكل نظري فحصوله بالفعل يتوقف على وسط بالفعل. قيل على الثاني: إنما يسوغ الخلاف في العلوم النظرية التي لا تكون مقدماتها ضرورية, وليس للمحيب أن يقول إنها نظرية؛ لأنه كلام على المستند, مع أنه يلزم أن يكون العلم نظريًا, وهو مردود بما سيأتي من أنه إنما يكون نظريًا لو توقف على العلم بالمقدمتين, بل العلم بهما يحصل من العلم بالخير. احتج أبو الحسين, وصرح المصنف باسمه لفائدتين: إحداهما: أنه إذا أطلق البصري فإنه يريد أبا عبد الله, فتبين هنا أن المراد أبو الحسين. الثانية: أنه مخترع هذه الحجة, وتقريرها: لو كان ضروريًا لما احتاج إلى توسط المقدمتين, واللازم باطل؛ لأن العلم لا يحصل إلا بعد العلم أن المخبر عنه محسوس فلا يشتبه, وأن المخبرين جماعة لا داعي لهم إلى الكذب, فإن كل ما كان كذلك فليس بكذب, فيلزم النقيض وهو كونه صدقًا. الجواب: نمنع أن العلم بصدق الخبر المتواتر متوقف على العلم بهذه

شروط المتواتر

الأمور, بل إذا حصل العلم بصدقه, علم بعده أنهم عدد لا حاصل لهم, فالعلم بالصدق ضروري يحصل بالعادة لا بالمقدمتين فاستغنى عن الترتيب, ولا ينافيه صورة الترتيب, فإن وجوده يوجب الاحتياج إليه فإنها ممكنة في كل ضروري؛ لأنك إذا قلت: الأربعة زوج, فلك أن تقول: إنها منقسمة بمتساويين, وكل منقسم بمتساويين زوج, وكذا الكل أعظم من الجزء, لك أن تقول: لأن الكل فيه جزء آخر, وكل ما كان كذلك فهو أعظم. قالوا: لو كان ضروريًا لعلم بالضرورة أنه ضروري كغيره من الضروريات. الجواب أولًا: بالمعارضة, وهو أنه لو كان نظريًا, لعلم كونه نظريًا بالضرورة كغيره من النظريات. وثانيًا: نمنع الملازمة, وأن كون العلم ضروريًا ونظريًا صفتان له, ولا يلزم من الشعور بالعلم ضرورة الشعور بصفته من كونه ضروريًا أو نظريًا. قال: (وشرط المتواتر تعدد / المخبرين تعددًا يمنع الاتفاق والتواطؤ, مستندين إلى الحس, مستوين في الطرفين والوسط, وفيه عالمين غير محتاج إليه؛ لأنه إن أريد الجميع فباطل, وإن أريد البعض فلازم مما قيل, وضابط العلم بحصولها حصول العلم, لا أن ضابط حصول العلم سبق العلم بها. وقطع القاضي بنقص الأربعة, وتردد في الخمسة. وقيل: اثنا عشر. وقيل: عشرون.

وقيل: أربعون. وقيل: سبعون. والصحيح: يختلف. وضابطه: ما حصل العلم عنده, لأنا نقطع بالعلم من غير علم بعدد مخصوص لا متقدمًا ولا متأخرًا, ويختلف باختلاف قرائن التعريف وأحوال المخبرين في الاطلاع عليها, وإدراك المستمعين والوقائع. وشرط قوم الإسلام, والعدالة, لإخبار النصارى بقتل المسيح. وجوابه: اختلال في الأصل والوسط. وشرط قوم ألا يحويهم بلد. وشرط قوم اختلاف النسب, والدين, والوطن. والشيعة: المعصوم دفعًا للكذب. واليهود: أهل الذلة فيهم دفعًا للتواطؤ لخوفهم, وهو فاسد. وقول القاضي وأبي الحسين: كل عدد أفاد خبرهم علمًا بواقعة لشخص, فمثله يفيد بغيرها لشخص صحيح أن يتساويا من كل وجه, وذلك بعيد عادة). أقول: ذكر العلماء في المتواتر شروطًا صحيحة وشروطًا فاسدة. أما الصحيحة فثلاثة, كلها في المخبرين لنا:

الأول: تعددهم تعددًا يبلغ في الكثرة إلى أن يمنع اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب عادة. الثاني: كونهم مستندين في أخبارهم إلى الحس لا إلى دليل العقل, فإنه في مثل حدوث العالم لا يفيد قطعًا. الثالث: استواء الطرفين والوسط في ذين الأمرين. وشرط قوم كونهم عالمين بما أخبروا به, وهو غير محتاج, لأنه إن أريد جميعهم فباطل, لأنه قد يكون بعضهم ظانًا ومع هذا يحصل العلم, وإن أريد علم البعض فلازم من قولنا: مستندين إلى الحس. ثم من زعم أن العلم الحاصل منه نظري يشترط تقدم العلم بهذه الشروط, وأما من يقول إنه ضروري, فالضابط عنده في حصولها حصول العلم بصدقه, فإذا علم ذلك علم وجود الشرائط, لا أن ضابط حصول العلم بصدقه سبق العلم بها كما يقول من يرى أنه نظري. قيل: في كونها شروط نظر؛ لأنه يحصل العلم بخبر الواحد وإن لم يخبر عن محسوس.

ردّ: بأن ذلك حصل بالقرائن, وقد احترز عنه في تعريف المتواتر, فكان المعنى: ضابط العلم بحصولها حصول العلم من نفس الخبر. ثم اختلفوا في أقل عدد يحصّل العلم. فقطع القاضي أبو بكر بنقص الأربعة, وإلا لما احتيج إلى تزكيتهم في شهادة الزنا, وتردد في الخمسة. ويرد عليه: أن وجوب التزكية مشترك, إلا أن يقول: قد يفيد العلم فلا تزكية وقد لا يفيد فيعلم كذب واحد, فالتزكية ليعلم عدالة الأربعة, وقد يفرق بين الخبر والشهادة؛ إذ الاجتماع في الشهادة مظنة التواطؤ. وقيل: اثنا عشر, عدد نقباء موسى؛ لأنهم جعلوا كذلك ليحصل العلم بخبرهم. وقيل: عشرون لقوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون} وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به عن إسلامهم أو عن جهادهم. وقيل: أربعون من قوله تعالى: {حسبك الله ومن اتبعك من

المؤمنين} وكانوا أربعين, فلو لم يحصّل قولهم العلم لما اقتصر عليهم. وقيل: سبعون؛ لاختيار موسى لهم للعلم بخبرهم إذا رجعوا. وقيل: غير منحصر في عدد مخصوص, لا متقدمًا كما يقول من رأى أنه نظري, ولا متأخرًا كما رأى من قال إنه ضروري. ولا سبيل إلى العلم به عادة؛ لأنه يتقوى الاعتقاد بتدريج كما يحصل كمال العقل بتدريج / خفي, والقوة البشرية قاصرة عن ضبط ذلك, ويقطع أيضًا أنه يختلف بالقرائن التي تتفق في التعريف غير زائدة على المحتاج إليها في ذلك عادة من الجزم, وبغرس آثار الصدق باختلاف اطلاع المخبرين على مثلها عادة, وباختلاف إدراك المستمعين وفطنتهم, وباختلاف الوقائع في عظمها وحقارتها, وتفاوت كل واحد منها يوجب العلم بخبر عدد أقل أو أكثر لا يمكن ضبطه, فكيف إذا تركبت الأسباب, فإذن نمنع الاستدلال بالتواتر على من لم يحصل له العلم به؛ إذ المرجوع فيه إلى الوجدان. ومن الناس من شرط في المخبرين الإسلام, والعدالة وإلا لأفاد إخبار

النصارى بقتل المسيح العلم. وجوابه: عدم حصول شرط التواتر, لقصورهم عن عدد التواتر في المرتبة الأولى والوسطى, ولو أخبر أهل قسطنطينية بموت حاكمهم لحصل لنا العلم. وشرط قوم ألا يحويهم بلد خشية التواطؤ, وهو فاسد؛ إذ لو أخبر أهل جامع بسقوط الإمام عن المنبر, حصل العلم بذلك. وشرط قوم اختلاف النسب والوطن والدين خوف التواطؤ أيضًا, وهو فاسد؛ لأنهم إن وصلوا إلى رتبة لا يمكن اتفاقهم على الكذب, لم يحتج ما ذكرتم, وإلا لم يفد لعدم شرطه. وشرط الشيعة أن يكون فيه قول الإمام المعصوم, وإلا لم يمتنع الكذب, وهو فاسد؛ لأن المفيد حينئذ قوله لا قولهم. وشرط اليهود أن يكون أهل الذلة في المخبرين, فإنه يمتنع تواطؤهم عادة, لخوفهم أن يعاقبوا على الكذب, بخلاف أهل العزة فإنهم لا يخافون فجاز أن يتجرؤوا على الكذب, وهو فاسد, ولو صحَّ لهم هذا الشرط لثبت غرضهم من إبطال العلم بالخبر المتواتر بمعجزات محمد وعيسى عليهما السلام حيث لم يدخلوا في الإخبار بها مع أنهم هم أهل الذلة, والقطع بحصول العلم بخبر العظماء والأشراف أسرع لشرفهم عن رذيلة الكذب, وقلة مبالاة أهل

التواتر المعنوي

الذلة به لخبثهم. وقال القاضي أبو بكر, وأبو الحسين البصري: «كل خبر أفاد علمًا بواقعة لشخص, فمثله يفيد العلم بغير تلك الواقعة لشخص آخر». قال المصنف: وهذا صحيح بشرط تساوي الخبرين والواقعة, لما علمت من تفاوت إفادته للعم بتفاوت تلك الأمور, وذلك بعيد جدًا لتفاوتهما عادة. قال: (مسألة: إذا اختلف المتواتر في الوقائع, فالمعلوم ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام, كوقائع حاتم, وعليّ كرم الله وجهه). أقول: لو اشتركت أخبار كثيرة بلغت رواتها مبلغ التواتر في معنى داخل أو لازم, كسخاوة حاتم, وشجاعة عليّ, حصل لنا العلم بالمشترك؛ لأن راوي الجزئي بالمطابقة راو للكل بالتضمن أو الالتزام, وهذا النوع يسمى بالتواتر المعنوي. فإذا حكى شخص أن حاتمًا أعطى فرسًا, وحكى آخر أن أعطى جملًا, وحكى آخر أنه أعطى ثوبًا, وآخر دينارًا, فإنا وإن لم نعلم شيئًا من تلك القضايا بعينه, فهو لم يختلفوا في ما تضمنته تلك القضايا من جود حاتم, وكذلك نقول في شجاعة عليّ. وإسناد الاختلاف إلى المتواتر مجاز, بل الاختلاف مستند إلى الوقائع المتضمنة أو المستلزمة للقدر المشترك.

تعريف خبر الواحد

قال: (خبر الواحد: ما لم ينته إلى التواتر. وقيل: ما أفاد الظن, ويبطل عكسه بخبر لا يفيد الظن. والمستفيض: ما زاد نقلته على الثلاثة). أقول: عرّف خبر الواحد لما لم ينته إلى حدَّ التواتر, إما بأن لا يكون جماعة, أو جماعة لم يفد خبرهم علمًا, أو أفاد لكن / لا بنفسه بل بالقرائن الزائدة. وقيل في تعريفه: إنه خبر أفاد الظن ويبطل عكسه بخبر لا يفيد الظن. والمستفيض من أخبار الأحاد: ما زاد نقلته على الثلاثة. قال: (مسألة: قد يحصل العلم بخبر الواحد العدل بالقرائن لغير التعريف. وقيل: بغير قرينة. وقال أحمد: ويطرد, والأكثر لا بقرينة ولا بغيرها. لنا: لو كان بغير قرينة لكان عاديًا فيطرد, ولأدى إلى تناقض المعلومين, ولوجب تخطئة المخالف. وأما حصوله بقرينة, فلو أخبر ملك بموت ولد مشرف مع صراخ

وجنازة وانتهاك حريم ونحوه, لقطعنا بصحته. قالوا: أدلتكم تأباه. قلنا: انتفى الأول لأنه مطرد في مثله, وانتفى الثاني لأنه يستحيل حصول مثله في النقيض, وانتفى الثالث لأنا نخطئ المخالف لو وقع. قالوا: قال: {ولا تقف} , {إن يتبعون إلا الظن} , فنهى وذم فدل على أنه ممنوع. قلنا: المتبع الإجماع, وبأنه مؤول فيما المطلوب فيه العلم من الدين). أقول: اختلفوا في إفادة خبر الواحد العدل العلم, فالأكثرون على أنه لا يفيد العلم لا بقرينة ولا بغيرها, وقال قوم: إنه يحصل به العلم. ثم اختلفوا, فذهب النَّظام إلى أنه إنما يفيد إذا احتفت به القرائن, وقال غيره: يفيد من غير قرينة. ثم اختلف هؤلاء, فقال بعضهم: إن ذلك مطرد في كل خبر عدل, وهو أحد قولي أحمد.

ومنهم من قال: إن ذلك يوجد في بعض الأخبار, وهو مذهب بعض أهل الحديث. ومختار المصنف: أنه قد يحصل العلم بخبر الواحد العدل إذا احتفت به القرائن الزائدة على ما لا ينفك التعريف عنه, وهي الأمارة الدالة على صدق الخبر كالبكاء والتفجع وانتهاك الحريم في المثال الآتي, لا بالقرائن التي للتعريف كموافقته لدليل العقل أو لقول الصادق, فإنه لا خلاف في حصول العلم وإن لم يكن من خبر الواحد. ثم هاهنا مقامان: الأول: أنه لا يحصل العلم بغير قرينة. والثاني: أنه يحصل بقرينة, ولا معنى لقول المصنف في صدر المسألة: (قد) , وهو يقول بعد: (قلنا: مطرد في مثله). احتج على المقام الأول بثلاثة أوجه: الأول: لو أفاد العلم بغير قرينة لكان العلم عاديًا؛ إذ العقل لا يستقل بإدراك ما لأجله أفاد ذلك الخبر العلم, بل يكون بإجراء الله عادته بخلق العلم عقب الإخبار. ولو كان عاديًا لاطرد في كل خبر عدل فأفاد العلم؛ إذ الموجب لحصول العلم متحقق كما في المتواتر, فإنه لما كان عاديًا كان مطردًا, وأما بطلان اللازم؛ فلأن الواقع بخلافه.

الثاني: لو حصل العلم به بغير قرينة لأدى إلى تناقض المعلومين إذا أخبر عدلان بأمرين متناقضين, ومثل ذلك واقع قطعًا, [واللازم باطل قطعًا]. الثالث: لو حصل العلم به لوجب تخطئة من خالفه بالاجتهاد, لوجوب تخطئة مخالف القاطع بالظن إجماعًا, واللازم باطل اتفاقًا. قلت: إنما تتوجه على من قال يطرد, وأما الآخر فله أن يقول في الأول: خبر الواحد ليس بموجب للعلم, بل الله تعالى يوجد العلم عند سماع بعض الأخبار فلا يجب اطراده؛ لأنه فاعل مختار, وأما المتواتر فلولا اطراد عادة الله تعالى بإفادته العلم لما كان كذلك. ويقول في الثاني: إنه إذا خلق الله العلم عند إخبار واحد, نمنع خلق الله العلم عند الإخبار بنقيضه, وله أن يقول في الثالث: من حصل له العلم به ثم خالف بالاجتهاد تجب تخطئته. وأما المقام الثالث: فاحتج عليه بأنه لو أخبر ملك بموت ولد له مشرف على / الموت, وانضم إلى خبره القرائن من صراخ, وجنازة, وخروج المخدرات على حالة منكرة غير معتادة دون موت مثله, وخرج الملك وكبار أهل مملكته, فإنا نقطع بصحة ذلك الخبر, ونعلم به موته علمًا ضروريًا. واعترض: بأن العلم والحالة هذه حصل بالقرائن لا بالخبر, كالعلم

بخجل الخجل. والجواب: أنه حصل بالقرائن مع الخبر إذ لولا الخبر لجوزنا موت آخر. واعلم أن العدالة ليست شرطًا في إفادة مثله العلم, وإنما ذكره لأن المذاهب مقيدة به. أما المخالفون فهم فريقان: فرقة تنكر إفادته العلم مع القرينة وهم الأكثرون, وفرقة تقول بإفادته له بلا قرينة. أما المنكرون مطلقًا, فقالوا: أدلتكم على امتناع إفادته للعلم بلا قرينة تأبى كونه مفيدًا له بقرينة؛ [للزوم] الاطراد وتناقض المعلومين, وتخطئة مخالفه بعين ما قررتم. والجواب: أما لزوم الاطراد؛ فلأنه ملتزم في مثله فإنه لا يخلو عن العلم وأما تناقض المعلومين؛ فلأن ذلك إذا حصل في قضية امتنع أن يحصل مثله في نقيضها, وأما تخطئة المخالف؛ فهو ملتزم, ولو وقع لم تجز مخالفته بالاجتهاد إلا أنه لم يقع في الشرعيات. أما القائلون بإفادته العلم مطلقًا فاحتجوا: بأنه يجب العمل به إجماعًا, ولو لم يفد الظن لما وجب العمل به, ولما جاز لقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن} , وقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}؛ لأن الأول في معرض الذم, والثاني نهي وهو يدل على التحريم.

عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على مخبر لا يدل على قطعيته

الجواب من وجهين: أحدهما: أن المتبع هو الإجماع على وجوب العمل بالظاهر, لا أنا اتبعنا خبر الواحد, فالمتبع القطع. وثانيهما: أن ظاهرها في العموم مؤول بتخصيصه بما طلب فيه العلم من أصول الدين, لا بما يطلب فيه العمل, والمخصص الإجماع الدال على وجوب العمل بالظن في الفروع. قيل على الجواب الأول: اتباع الإجماع لم يوجب كون خبر الواحد مفيدًا للعلم, فإن كان مفيدًا له بدون الإجماع فالجواب لم يدفع ما تمسك به, وإن لم يفده لم يجز اتباعه, فثبتت الملازمة. وردَّ: بأن المصنف إنما منع بطلان التالي في قوله: (لو لم يفد العلم لم يجب اتباعه) فإنه بتقدير وجوب العمل بخبر الواحد لا يكون متبعًا, بل المتبع ما دلّ على وجوب العمل به وهو الإجماع. قال: (مسألة: إذا أخبر بحضرته لم يدل على صدقه قطعًا. لنا: أنه يحتمل أنه ما سمعه, أو ما فهمه, أو كان بيّنه, أو رأى تأخيره, أو ما علمه, أو صغيرة). أقول: إذا أخبر واحد بحضرته عليه السلام ولم ينكر, لم يدل عدم إنكار عليه على صدق الخبر دلالة قطعية, وإن دلّ ظنًا.

حكم خبر الواحد بحضرة كثيرين لم يكذبوه

لنا: أنه لا يتعين السكوت لتصديقه؛ لأنه يحتمل أنه ما سمعه, أو ما فهمه, أو كان بيّنه وعلم أنه لا يفيد إنكاره ثانيًا, أو ما علمه لكون دنيويًا, أو رأى تأخير الإنكار إلى وقت لمصلحة, وبتقدير عدم الجميع فقد يكون كذبه صغيرة, وقصارى ترك الإنكار أن يكون صغيرة, وهي إن كانت منتفية عنه, لكن غير مقطوع بنفيها. قال: (مسألة: إذا أخبر واحد بحضرة خلق كثير ولم يكذبوه, وعلم أنه لو كان كذبًا لعلموه, ولا حامل على السكوت, فهو صادق قطعًا للعادة). أقول: إذا أخبر واحد بحضرة خلق كثير عن أمر محسوس وسكتوا عن تكذيبه. فإن كان مما يحتمل ألا يعلمون كخبر غريب, لم يدل على صدقه, وإن كان مما لو كان كذبًا لعلموه / فإن كان لهم حامل على السكوت لم يدل أيضًا, وإن علم أنه لا حامل لهم على السكوت, دلّ على صدقه دلالة قطعية عند المصنف, وعند غيره ظنًا. لنا: أن سكوتهم وعدم تكذيبهم مع علمهم بالكذب في مثله ممتنع عادة. لا يقال: لعلهم ما علموا, أو علمه بعضهم أو جميعهم وسكتوا لمانع. لأنا نقول: أحدهما منفي بالعادة, والآخر بالفرض.

حكم انفراد الواحد بالأخبار عما تتوفو الدواعي على نقل مثله

قال: (مسألة: إذا انفرد واحد فيما تتوفر الدواعي على نقله, وقد شاركه خلق كثير, كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر, فهو كاذب قطعًا. لنا: العلم بكذبه عادة, ولذلك نقطع بكذب من ادعى أن القرآن عورض. قالوا: الحوامل المقدرة كثيرة, ولذلك لم ينقل النصارى كلام المسيح في المهد, ونقل انشقاق القمر, وتسبيح الحصى, وحنين الجذع, وتسليم الغزالة, وإفراد الحج, وإفراد الإقامة, وترك البسملة, آحادًا. وأجيب: بأن كلام عيسى إن كان بحضرة خلق كثيرة فقد نقل قطعًا, وكذلك غيره مما ذكر, واستغنى عن الاستمرار بالقرائن الذي هو أشهرها وأما الفروع فليس من ذلك, ولو سلّم فاستغنى لكونه مستمرًا, أو كان الأمران شائعين). أقول: إذا انفرد واحد بالإخبار عن شيء تتوفر الدواعي على نقل مثله, وقد شاركه خلق كثير فيما يدعيه سببًا للعلم, كما لو انفرد واحد بالإخبار عن قتل خطيب على المنبر يوم الجمعة بمشهد من أهل المدينة, فهو كاذب قطعًا. لنا: أنا نجد من أنفسنا العلم بكذبه, ولولا أن هذا الأصل مركوز في العقول لما قطعنا بكذب من ادّعى أن القرآن عورض؛ لأنه مما تتوفر الدواعي

على نقله فلو عورض لنقل؛ لأن الله تعالى ركز في طباع الخلائق توفر الدواعي على نقل ما علموه والتحدث به, حتى أن العادة تحيل كتمه. أورد الشيعة ما هو أشبه بالمعارضة منه بالمنع, حتى لا يكون الجواب كلامًا على المستند, تقريره: ما ذكرتم وإن دلّ على كذبه, فعندما يد ل على عدمه لاحتمال صدقه؛ لأن الحوامل المقدرة على كتمان الإخبار كثيرة, منها ما هو غرض للكل لمصلحتهم من أمر الولاية وإصلاح المعاش, أو خوف عدو أو ملك ظالم, أو أغراض مختلفة عائدة إلى الآحاد لا يمكن ضبطها, فكيف يجزم بعدمها؛ إذ مع جوازها لا يحصل الجزم والوقوع. دليل الجواز: فإن النصارى لم ينقلوا كلام عيسى في المهد مع أنه من الأمور الغريبة التي تتوفر الدواعي على نقلها, ومنه أن معجزات النبي عليه السلام كانشاق القمر, وتسبيح الحصى في كفه, وحنين الجذع الذي كان يستند إليه حين استند إلى غيره, وتسليم الغزالة عليه لم تتواتر, وكلها مما تتوفر الدواعي على نقله. وحديث انشقاق القمر في الصحيحين من طرق, وهو متواتر عند المحدّثين, ولفظه عند مسلم, قال عبد الله بن عمر: «انشق فلقتين: فلقة

من دون الجبل وفلقة من خلف الجبل, فقال عليه السلام: اللهم اشهد». وحديث حنين الجذع متواتر عند بعضهم, ولفظه عند البخاري: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع, فلما اتخذ المنبر تحول إليه, فحنّ الجذع, فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسحه» , وفي لفظ: «فالتزمه» , وفي طريق آخر: «فاحتضنه وسارّه بشيء». وأما تسليم الغزالة, فليس في الكتب الستة, لكن خرّجه الحافظ أبو نعيم, من حديث عمرو بن علي الفلاس, عن يعلى بن إبراهيم الغزال, عن الهيثم بن جماز, عن أبي كثير, عن زيد / بن أرقم

قال: «كنت مع النبي في بعض سكك المدينة, فمررنا بخباء أعرابي, فإذا ظبية مشدودة إلى الخباء, فقالت: يا رسول الله! إن هذا الأعرابي صادني ولي خشفان في البرية, وقد تعقد هذا اللبن في أخلافي, فلا هو يذبحني فأستريح, ولا هو يدعني أرجع إلى خشفي, قال لها: إن تركتك ترجعين؟ قالت: نعم, وإلا عذبني الله عذاب العشار, فأطلقها فلم تلبث أن جاءت تلمظ فشدها إلى الخباء, وأقبل الأعرابي ومعه قربة, فقال عليه السلام: أتبيعها مني؟ , قال: [هي لك, فأطلقها]. قال ابن أرقم: أنا والله رأيتها في البرية تسبح وهي تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

لكن الغزال لا يعرف, والهيثم ضعفوه. وأما حديث تسبيح الحصى, فليس أيضًا في شيء من الستة, لكن روى الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة, من حديث صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري, عن رجل قال: سمعت أبا ذرّ يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته, كنت رجلا أتتبع خلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته وحده فجلست, فجاء أبو بكر فسلم وجلس, ثم جاء عمر, ثم عثمان وبين يدي النبي حصيات, فأخذهن فوضعهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل, ثم وضعهن فخرسن, ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر فسبحن, ثم وضعهن فخرسن, ثم وضعهن في يد عمر فسبحن, ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن, ثم وضعهن فخرسن, فقال عليه

السلام: «هذه خلافة النبوة». وابن أبي الأخضر تكلموا فيه, وشيخ الزهري مجهول. ومنها: أن كثيرًا مما تعم به البلوى وتمس الحاجة إليه لم يتواتر, بل نقل آحادًا, ولذلك اختلفوا فيه, فإفراد الإقامة, وإفراد الحج, وترك قراءة البسملة في الصلاة, أما حديث الإقامة, ففي الصحيحين: «أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة». وحديث إفراد الحج, لمسلم من حديث ابن عمر, أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا. وحديث ترك البسملة, عن أنس: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر, فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين, لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة, ولا في آخرها». خرّجه مسلم.

الجواب: أن بينا أن العادة تحيل اتفاق إجماع الكثير على عدم نقل ما [جرى] بحضرتهم من الأمور العظيمة, سواء وجدت الحوامل المقدرة أو لم توجد, أما إذا لم توجد فظاهر, وأما إذا وجدت [فكذلك, إذ العادة تحيل اشتراك الخلق الكثير في الدواعي إلى عدم نقل ما جرى بينهم من الوقائع القديمة] كما تحيل اشتراكهم في الدواعي إلى الكذب, [وما ذكروه] من صور الاستشهاد لا يدل على صحة ما ذكروا؛ لأن كلام عيسى إن كان بحضرة / خلق كثير فقد نقل قطعًا, فإن ثبت أنه لم ينقل فلقلة المشاهدين, فليس مما نحن فيه. وأما ما ذكروه من المعجزات فكذلك, لو كثر مشاهدوها لنقلت متواترًا وإلا فغير محل النزاع, ولو سلّم يجوز أن تكون نقلت متواترًا ثم استغنى عن استمرار نقلها متواترًا بنقل القرآن الذي هو أشهر معجزاته؛ لأن المقصود من نقل معجزاته الدلالة علة رسالته, والقرآن هو أكبر دليل عليها. والفروع ليس مما ذكر, لعدم توفر الدواعي على نقلها, ولو سلم فإنما ينقل مثله ليعلم من لم يعلم, وذلك فيما هو مستمر مستغنى عنه, ولو سلم فقد نقل إلا أنه نقل الآخر أيضًا لكونهما شائعين, وهو الذي ضعف الدواعي عن نقله متواترًا.

جواز التعبد بخبر الواحد عقلا

قيل: لا معنى لكون النقل متواترًا على تقدير وآحادًا على تقدير؛ لأن النقل إن ثبت في الواقع اتصف بأحدهما, وإن لم يثبت فلا معنى لتسليم كونه متواترًا على تقدير. قلت: النقل ثابت في الواقع, وهو متصف بأحدهما, ولا نعرفه لعدم معرفتنا بالجمع أَهُم كثير فيكون الثابت من النقل تواترًا لكنه استغنى عن الاستمرار بالقرآن؟ أو هم يسير فيكون آحادًا؟ . والمصنف إنما سلم في الفروع فقط, وهو لم يردد فيها. قيل في الجواب: تخصيص الدعوى؛ إذ المعنى ما وجد بمحضر جمع عظيم وكان مما تتوفر الدواعي على نقله يجب [نقله متواترًا, إذا لم ينقل متواترًا فما هو أقوى منه] , وكذلك يلزم تخصيص الدعوى على جوابيه وهما: (استغنى لكونه مستمرًا) , (أو كان الأمران شائعين). قال: (مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائز خلافًا للجبائي. لنا: القطع بذلك. قالوا: يؤدي إلى تحليل الحرام وعكسه. قلنا: إن كان المصيب واحدًا فالمخالف ساقط, وإلا فلا يرد, وإن تساويا بالوقف والتخيير يدفعا. قالوا: لو جاز لجاز التعبد به في الإخبار عن الله تعالى.

قلنا: للعلم بالعادة أنه كاذب). أقول: التعبد بخبر الواحد العدل, وهو أن يوجب الشارع العمل بمقتضاه على المكلفين جائز عقلًا, خلفاًا للجبائي وبعض المتكلمين. لنا: القطع بذلك بأنا لو فرضنا أن الشارع قال: إذا أخبركم عدل بشيء فاعملوا بموجبه, فإنا إذا عرضنا ذلك على عقولنا لا يلزم منه محال لذاته, ولا معنى للجواز العقلي إلا ذلك, غاية ما يقدر في امتناعه احتمال كذبه, وهو غير مانع لورود التعبد بالمفتي والشهادة مع قيام الاحتمال. قالوا: إن لم يكن ممتنعًا / لذاته فهو ممتنع لغيره؛ لأنه يؤدي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال بتقدير الكذب وكونه ممكنًا قطعًا وذلك مفسدة؛ إذ التكاليف مبنية على رعاية المصالح ودفع المفاسد, والعمل بمقتضاه بتقدير كذبه مفسدة, وما يؤدي إلى المفاسد لا يجوز عقلًا. الجواب: إن قلنا: كل مجتهد مصيب فلا يرد أصلًا؛ إذ لا حلال ولا حرام في نفس الأمر, وإنما هما تابعان لظن المجتهد, ويختلف بالنسبة إلى المجتهدين, فيكون حلالًا لواحد حرامًا لآخر. وإن قلنا: المصيب واحد, فالحكم المخالف للصواب ساقط وإن تعبد به المجتهد الذي ظنه, وليس بحكم الله, وما هو إلا كالتعبد بقول المفتي

والشاهدين إذا خالفا ما في الواقع, وهذا يصلح مستندًا ويصلح نقضًا. لا يقال: هذا بالنسبة إلى مجتهدين, لكنه يؤدي إلى تناقض عند تساوي الخبرين بالنسبة إلى مجتهد واحد, لتعارضهما من غير ترجيح. لأنا نقول: التوقف, وهو عدم العمل بهما؛ إذ شرط العمل عدم المعارض. أو التخيير, وهو تجويز العمل بأيهما شاء يدفع وروده. فقوله: (وإن تساويا) جواب عن سؤال مقدر, وهو في المنتهى دليل [برأسه للجبائي]. وجل الشراح قرروا هذا المكان على وجه آخر بعيد عن كلام المصنف, فليتأمل. قالوا ثالثًا: لو جاز التعبد به لجاز التعبد به في الإخبار عن الله تعالى بأنه أرسله, وهو باطل بغير معجزة إجماعًا. الجواب: إن العادة ثمة أفادت أن من ادعى النبوة بغير معجزة كاذب؛ لأنه يطمع في نيل الدرجة العظمى بمجرد دعوه, وهو يفضي إلى أن يدعي كل واحد نسخ شريعة الآخر, ولا يخفى ما فيه من المفاسد, فافترق من قطع بكذبه ممن ظن صدقه.

حكم العمل بخبر الواحد

قال: (مسألة: يجب العمل بخبر الواحد, خلافًا للقاساني, وابن داود, والرافضة. والجمهور: بالسمع, وقال أحمد, والقفال, وابن سريج, والبصري: بالعقل. لنا: تكرر العمل به في الصحابة والتابعين شائعًا ذائعًا متكررًا من غير نكير, وذلك يقضي بالاتفاق عادة كالقول قطعًا. قولهم: فقد أنكر أبو بكر خبر المغيرة حتى رواه محمد بن مسلمة, وأنكر عمر خبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه أبو سعيد الخدري, وأنكر خبر فاطمة بنت قيس, وأنكرت عائشة خبر ابن عمر. قلنا: إنما أنكروا عند الارتياب. قولهم: لعلها أخبار مخصوصة. قلنا: نقطع أنهم عملوا لظهورها لا لخصوصها. وأيضًا: التواتر أنه كان ينفذ الآحاد إلى النواحي لتبليغ الأحكام). أقول: القائلون بجواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلًا, اختلفوا في وجوب العمل به, فنفاه / القاساني, وابن داود,

والرافضة. والقائلون بوجوب العمل به, اتفقوا على أن دليل السمع دلّ عليه, واختلفوا في وجوبه بدليل العقل, فقال به أحمد والقفال وابن سريج وأبو الحسين البصري, [وأباه الآخرون]. والمصنف لو قال: وأبو الحسين, وبالعقل لكان فيه رفع وهمين: الأول: أن البصري عند الإطلاق إنما يريد به أبا عبد الله.

الثاني: اعتقاد أن هؤلاء لا يقولون بوجوبه سمعًا. لنا: إجماع الصحابة والتابعين, بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال بخبر الواحد, وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى, وتكرر ذلك مرة بعد أخرى, وشاع وذاع بينهم ولم ينكره أحد, وكل واحدة وإن كانت آحادًا, فإن المشترك متواتر, ولا مصادرة. لا يقال: ما ذكرتم إنما دلّ على جواز العمل سمعًا؛ لأنا نقول: لا قائل بالفرق بين الجواز و [الوقوف] سمعًا. واعترض من وجوه: الأول: لا نسلم أن العمل في تلك الوقائع كان بأخبار الآحاد, ولعله بغيرها, ولا يلزم من موافقة العمل حين سمعوها أن يكون العمل لأجلها. الجواب: علم من سياق تلك الأخبار أن العمل بها, وقرائن الأحوال تدل عليه, والعادة تحيل غيره. قالوا ثانيًا: لا نسلم عدم الإنكار؛ فإن أبا بكر أنكر خبر المغيرة حتى رواه محمد بن مسلمة, روى مالك: «أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تسأله

ميراثها, فقال لها: ما لكِ في كتاب الله شيء, وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا, فارجعي حتى أسأل الناس, فقال المغيرة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس, فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقال ابن مسلمة مثل ما قال المغيرة, فأنفذ لها أبو بكر السادس» , وتمامه لفظ أبي داود. وأنكر عمر خبر أبي موسى في الاستئذان. وفي الصحيحين, أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثًا, فكأنه وجده مشغولًا فرجع, فقال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له, فدعي, فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنا كنا نؤمر بهذا, فقال: لتقيمنّ على هذا بينة أو لأفعل. فانطلق إلى مجلس من الأنصار, فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا, فقام أبو سعيد فقال: كنا نؤمر بهذا, فقال: خفي عني هذا من

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ألهاني عنه الصفق بالأسواق. وأنكر عمر أيضًا خبر فاطمة بنت قيس, في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة, فقال عمر: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة, لا ندري أحفظت أم نسيت. وأنكرت عائشة خبر ابن عمر المتقدم. والجواب: إنما أنكروا عند الارتياب وليس بمحل التنازع, وأيضًا: لا يخرج بانضمام ما ذكرتم عن كونه خبر واحد, وأيضًا: هي عليكم [لا لكم]. قالوا ثالثًا: لعلها / أخبار مخصوصة تلقوها بالقبول, فلا يلزم في كل خبر.

الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد

الجواب: أنا نعلم أنهم عملوا لظهورها في كونها صادقة, لا لخصوصياتها من موافقة ظاهر الكتاب, أو خبر متواتر, أو قياس. وللجمهور أيضًا: أنه تواتر أنه عليه السلام كان ينفذ الآحاد لتبليغ الأحكام, وقبض الزكوات, مع العلم بأن المبعوث إليهم كانوا مكلفين بالعمل بمقتضاه, وإلا لم يكن لبعثهم فائدة, وهذا إنما يتم بالنسبة إلى من تواتر عنده, وإلا فهو مصادرة, مع أن المبعوث مُفتون, ويجب على العامي العمل بقول المفتي, وليس فيه ما يدل على تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدار الأحكام ليجتهد فيها, وهو محل النزاع. قال: (واستدل بظواهر مثل: {فلولا نفر} إلى قوله: {لعلهم يحذرون} , إن الذين يكتمون} , {إن جاءكم فاسق} وفيه بعد). أقول: استدل على وجوب العمل بخبر الواحد بثلاث آيات: وجه التمسك بالأولى: أن الله تعالى أوجب الحذر بإنذار طائفة من فرقة, والإنذار: الخبر المخوف, والفرقة: ثلاثة لغة, فالطائفة: واحد أو اثنان, وحكى الجوهري عن ابن عباس أن الطائفة: الواحد فما فوق.

ولما كان الترجي على الله محالًا, حمل على لازمه وهو الطلب, إطلاقًا للملزوم وإرادة للازم, والطلب من الله أمر, والأمر للوجوب. وفيه نظر؛ لأن الطلب إنما يكون أمرًا لو كان مانعًا من النقيض, وكون الترجي دالًا على مثل هذا الطلب ممنوع. قيل: الإنذار: الفتوى المخوف لقرينة ليتفقهوا. وردّ: بأنه يلزم تخصيص الإنذار بالفتوى, وتخصيص القوم بغير المجتهدين؛ إذ المجتهد لا يعمل بفتوى الآخر, ولا يلزم تخصيص القوم بالمجتهدين, فإن الرواية ينتفع بها المجتهد وغيره, وقرينة التفقه لا تدل على الفتوى, لقوله عليه السلام: «ربّ حامل فقه» الحديث. قيل: فيجب خروج واحد من كل ثلاثة, وهو باطل اتفاقًا. قلنا: النص اقتضى خروج احد من كل ثلاثة, ووجوب العمل بقوله إذا رجع خص في أحدهم إجماعًا, وبقي معمولًا في الآخر. قال المصنف: (وفيه بعد) لأن قصاراه الظهور ولا يكفي في مسائل الأول؛ إذ النزاع في وجوب العمل بالظني. الآية الثانية: قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} تواعد على كتمان ما أنزل, ومنه السنة لقوله تعالى: {وما

ينطق عن الهوى}؛ ولأنها من الهدى, فوجب على الواحد إخبار بما سمع, ولولا وجوب العمل به لم يكن لوجوب الإخبار فائدة. وردّ: بأن المراد بما أنزل الله القرآن, سلمنا لكن الواجب إظهاره, [ولا يجب العمل به, كما يجب على الفاسق بمقتضى الآية الإظهار, ولا يجب العمل بقوله؛ إذ قد يقصد بوجوب الإظهار] على كل واحد حتى يتألف منه ما يفيد العلم. الآية الثالثة: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا} , أمر بالتبيين في الفاسق, فدل أن العدل بخلافه؛ ولأنه علق الحكم على الوصف, وهو مشعر بعليته, فوجب العمل بخبر العدل لانتفاء علة التبيين. وردّ: بأن ترتيب / الحكم على الوصف [يشعر] بالعلية لكنه لا يوجبها, سلمنا لكن اللازم كون خبر الواحد ليس مانعًا من القبول, فأين وجوب العمل؟ . إلا أن يقال: كلما ثبت الجواز سمعًا ثبت الوجوب, ومفهوم المخالفة ضعيف, ولو سلم فاستدلال بظاهر في أصل.

أدلة المانعين على وجوب العمل بخبر الواحد

قال: ({ولا تقف} , {إن يتبعون إلا الظن} وقد تقدم, ويلزمهم ألا يمنعوه إلا بقاطع. قالوا: توقف على أنه علة في خبر ذي اليدين, حتى أخبره أبو بكر وعمر. قلنا: غير ما نحن فيه, ولو سلّم فإنما توقف للريبة بالانفراد, وهو ظاهر في الغط, ويجب التوقف في مثله). أقول: المانعون لوجوب العمل بخبر الواحد تمسكوا بالآيتين, وقد تقدم وجه التمسك بهما والجواب عنهم. ويلزمهم ألا يمنعوا التعبد به إلا بقاطع؛ لأن الآيتين دلتا على أن التمسك بما لا يفيد العلم لا يجوز, وما ذكروه لا عموم له, فلو سلّم فهو قابل للتخصيص. تمسكوا من السنة, بما في الصحيحين من حديث ذي اليدين, وهو مشهور.

والجواب: أنه ليس من صور النزاع؛ لأن الكلام في وجوب العمل على الأمة بخبر الواحد منقولًا عنه عليه السلام, ولا يلزم ذلك في حقه. سلمنا لأنه مما نحن فيه, لكنه توقف لانفراده بالإخبار بين جمع كثير في أمر الغالب عدم مثله وعدم الغفلة له, وكان ظاهرًا في الغلط, والتوقف في مثله واجب اتفاقًا. قال: (أبو الحسين: العمل بالظن في تفاصيل المعلوم الأصل واجب عقلًا, كالعدل في مضرة شيء, وضعف حائط, وخبر الواحد كذلك؛ لأن الرسول بعث للمصالح, فخبر الواحد تفصيل لها, وهو مبني على التحسين. سلمنا: لكنه لم يجب في العقليات, بل أولى. سلمنا: فلا نسلمه في الشرعيات. سلمنا: وغايته قياس ظني في الأصول. قالوا: صدقه ممكن, فيجب احتياطًا. قلنا: إن كان أصله المتواتر فضعيف, وإن كان المفتي, فالمفتي خاص وهذا عام. سلمنا: لكنه قياس شرعي. قالوا: لو لم يجب لخلت وقائع. ردّ: بمنع الثانية. سلمنا: لكن الحكم النفي, وهو مدرك شرعي بعد الشرع).

أقول: احتج أبو الحسين على وجوب العمل بخبر الواحد عقلًا: بأن العمل بالظن في تفاصيل المعلوم الأصل في العقليات كالأفراد العقلية لكل معلوم واجب عقلًا؛ لأنه لما كان اجتناب المضار واجبًا قطعًا, وجب تفاصيله عقلًا, كقبول خبر العدل في مضرة شيء معين فيحكم العقل بأن لا يؤكل, وكإخبار عدل بضعف حائط فيحكم العقل بوجوب القيام من تحته, وما ن حن فيه من ذلك؛ لأن النبي عليه السلام بعث لتحصيل المصالح ودفع المضار قطعًا, ومضمون خبر الواحد تفصيل لذلك, والخبر يفيد الظن به, فوجب العمل به قطعًا. والجواب: أنه مبني على التحسين والتقبيح العقلي, وقد أبطلناه. سلمنا, ولا نسلم أن العمل / بالظن في تفاصيل المعلوم الأصل واجب, بل هو أولى للاحتياط, ولم ينته إلى الوجوب. سلمناه في العقليات, ولا تقاس الشرعيات عليها, لعدم الجامع الذي هو شرط القياس, وظهور الأذى. سلمنا, لكنه قياس ظني فلا يفيد إلا الظن؛ لجواز كون خصوصية الأصل شرطًا, وخصوصية الفرع مانعًا, للأدلة المانعة من الظن, ثم إن المسألة أصولية لا يجزي فيها الظن.

احتج الباقون: بأن صدق العدل ممكن, فيجب العمل به احتياطًا. الجواب: أنه قياس لم يتبين فيه الأصل, فإن كان أصله المتواتر [فضعيف للفرق؛ إذ المتواتر] يفيد العلم, ولذلك وجب اتباعه لا للاحتياط, فالجامع ملغى, وإن كان أصله فتوى المفتي فضعيف أيضًا للفرق؛ إذ حكم المفتي خاص بمقلده, وحكم خبر الواحد عام. سلمنا, لكنه قياس فلا يفيد إلا الظن والمسألة علمية, ثم هو شرعي لا دليل عقلي, ومطلوبكم وجوب العمل به عقلًا. ولهذه الفائدة غيّر المصنف العبارة, فقال في جواب دليل أبي الحسين: (قياس ظني) , وقال هنا: (قياس شرعي). احتجوا ثانيًا: بأنه لو لم يجب العمل به لخلت وقائع عن الحكم, وهو ممتنع, أما الأولى: فلأن القرآن والأخبار المتواترة لا تفيان بالأحكام بالاستقراء, وأما الثانية: فظاهرة. الجواب: منع الاستثنائية, وهو امتناع الوقائع عن الحكم عقلًا؛ إذ المتفق عليه امتناع خلو الوقائع التي لها دليل, لا التي لا دليل لها. سلمناه, ونمنع الملازمة؛ لأن الحكم فيها لا دليل فيه نفي الحكم, ونفي الدليل دليل على نفي الحكم, لورود الشرع بأن ما لا دليل فيه لا حكم فيه فكان عدم الدليل لعدم الحكم مدركًا شرعيًا, فلم يلزم إثبات حاكم غير

من شرائط العمل بخبر الواحد: البلوغ

الشرع, وقال: (بعد الشرع) لأن عدم الحكم لما استند إلى عدم الدليل وهو عقلي, والمستند إلى العقلي عقلي, أشار إلى أنه وإن كان ثابتًا قبل الشرع, لكنه بعد ورود الشرع مدرك شرعي مستند إلى الاستصحاب, وهو شرعي, [والحق أن النفي حكم عقلي]. قال: (الشرائط: منها البلوغ لاحتمال كذبه لعلمه بعدم التكليف, وإجماع أهل المدينة على قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الدماء قبل تفرقهم, مستثنى لكثرة الجناية بينهم منفردين. والرواية بعده والسماع قبله مقبول كالشهادة. ولقبول ابن عباس وابن الزبير وغيرهم في مثله, ولإسماع الصبيان). أقول: لما فرغ من حكم خبر الواحد, شرع في شرائط وجوب العمل [به] , منها: البلوغ؛ لأن غير البالغ لا يحصل الظن بصدقه؛ لأنه عالم بأنه غير مكلف فلا ينزجر عن الكذب إذ لا مانع من الإقدام عليه إلا الإثم, وقد علم انتفاؤه, ويعلم منه عدم قبول رواية المجنون. لا يقال: أجمع أهل المدينة على قبول شهادة الصبيان المحكوم بإسلامهم في الجراح قبل تفرقهم لئلا يلقنهم الكبار, مع أنه احتيط في الشهادة ما لم

يحتط في الرواية, فاشترط الجمهور فيها العدد والحرية دون الرواية, فتكون روايتهم مقبولة بطريق الأولى, لأنا نقول: قبولها مستثنى لمسيس الحاجة إليه, لكثرة الجناية فيما بينهم, وإنما تقبل بشرط أن يكونوا منفردين [ليس بينهم كبير] , فمنفردين ليس حالًا من كثرة الجناية كما قرره الشارحون, فلو لم تعتبر شهادتهم لضاعت الحقوق التي توجبها تلك الجنايات, والمستثنى لا يرد نقضًا كالعرايا. واعلم أنه لم يثبت إجماع أهل المدينة, لمخالفة القاسم بن محمد, وسالم بن عبد الله.

وبعدم قبولها قال بعض أصحابنا, منهم: ابن عبد الحكم, واختلف قول مالك في قبولها في القتل. واختلف المذهب في اشتراط العدد, والحرية, والذكورية, وعدم العداوة, والقرابة. وأما لو روى بعد البلوغ ما سمعه قبل البلوغ قُبِلَ قياسًا على الشهادة بطريق الأولى, وقد تمنع الأولوية لإيجاب الرواية حكمًا عامًا. وأيضًا: أجمع الصحابة على قبول رواية ابن الزبير, وابن عباس, وغيرهما من أصاغر الصحابة, فيما تحملوه قبل البلوغ ورووه بعده, ولم

الشرط الثاني: الإسلام

يرد قط أنهم كانوا يسألون الراوي, هل سمعت قبل البلوغ أو بعده؟ . وأيضًا: أجمعوا على إحضار الصبيان مجالس الرواية وإسماعهم, ولو لم يعتبر نقله لم يكن لإحضارة فائدة, وقد يمنع؛ إذ قد يحضر للتبرك, ولذلك يُحضرون من لم يميز. قال: (ومنها: الإسلام للإجماع, وأبو حنيفة وإن قبل شهادة بعضهم لم يقبل روايته, ولقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأٍ} , وهو فاسق بالعرف المتقدم. واستدل: بأنه لا يوثق كالفاسق. وردّ: بأنه قد يوثق ببعضهم لتدينه في ذلك. والمبتدع بما يتضمن التكفير كالكافر عند المكفر, وأما غير المكفر فكالبدع الواضحة, وما لا يتضمن كفرًا إن كان ظاهرًا كفسق الخوارج فرده قوم, وقبله قوم. الرادّ: إن جاءكم فاسق, وهو فاسق. القابل: نحن نحكم بالظاهر, والآية أولى لتواترها, وخصوصها بالفاسق, وعدم تخصيصها, وهذا مخصص بالكافر والفاسق المظنون صدقهما باتفاق. قالوا: ليجمعوا على قبول قتلة عثمان. ردّ: بالمنع, وبأنه مذهب بعض.

وأما خلاف البسملة وبعض الأصول وإن ادعى القطع, فليس من ذلك لقوة الشبهة من الجانبين, وأما من يشرب النبيذ ونحوه ويلعب بالشطرنج من مجتهد أو مقلد, بالقطع أنه ليس بفاسق وإن قلنا المصيب واحد؛ لأنه يؤدي إلى تفسيق بواجب, وإيجاب الشافعي الحدّ لظهور أمر التحريم عنده). أقول: الشرط الثاني الإسلام؛ للإجماع على ردّ رواية الكافر, وأبو حنيفة إن قبل شهادة بعضهم [على بعض] للضرورة, صيانة للحقوق عند عدم حضور المسلمين, فقد صرح بعدم قبول روايته. وأيضًا: قال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأٍ} , وهو فاسق بالعرف المتقدم, وإن كان لا يسمى فاسقًا بالعرف المتأخر إلا المسلم صاحب الكبيرة, والآية وإن لم تكن عامة بلفظها, فهي عامة بحسب المعنى المومأ إليه وهو الفسق. واستدل: بأن الكافر لا يوثق بقوله, فلا يقبل كالفاسق. وضعف: بأنه قد يوثق ببعضهم لظهور تدينه في ذلك الدين, مع تحريم

الكذب فيه. أما المبتدع, فإن كانت بدعته تتضمن كفرًا, فهو كالكافر عند من كفّره, وأما من لم يكفره فهو عنده كمرتكب البدع الواضحة. وأما المبتدع بما لا يتضمن كفرًا, فإن لم يكن واضحًا, فلا نزاع في قبوله وسنذكره آخر الفصل. وإن كان واضحًا, كفسق الخوارج الذين استباحوا الدماء والأموال, فرده القاضي أبو بكر وجماعة, وقبله الأكثرون ما لم يكن ممن يدعوا إلى بدعته, وقبله آخرون مطلقًا ما لم يكن ممن يستحل الكذب. احتج الراد: بقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأٍ} وهو فاسق, ولا فرق بين متأول أو غير متأول, كما لا فرق بين كافر متأول أو غيره.

واحتج القابل: بقوله عليه السلام: «نحن نحكم بالظاهر» وهو ظاهر الصدق؛ لأنه يعظم الدين ويتوقى الكذب, ولا يعلم فسق نفسه, وقد تقدم الكلام عن هذا الحديث. قال المصنف: (ومذهب الراد أولى) لأن الآية أولى بالعمل من الحديث لتواترها, والخبر آحاد, ولا نزاع في تقديم المتواتر, ولخصوصها بالفاسق, وعموم الحديث في الفاسق وغيره, ودلالة الخاص على ما يتناوله لا شك فيه والعام يحتمل عدم تناوله لذلك الخاص, بأن يكون مخرجًا عنه. وأيضًا: الآية غير مخصصة؛ إذ كل فاسق مردود, والحديث مخصص؛ لأن خبر الكافر والفاسق العالم بفسق نفسه وإن ظن صدقهما لا يعمل بقولهما اتفاقًا, وإذا تعارض ما دخله التخصيص وما لم يدخله, قُدم ما لم يدخله, على ما سيأتي في الترجيح. واعلم أن أولى ما تمسك به القائل اتفاق المحدثين على الرواية عنهم, ففي الصحيحين كثير من أحاديثهم. احتج القابل: بإجماع الصحابة على قبول رواية قتلة عثمان, ولا

نزاع في أنها بدعة واضحة. الجواب: منع الإجماع, وثانيًا: بأن فسق القتلة ليس مجمعًا عليه, بل هو مذهب / بعضهم, وبعضهم يراه اجتهاديًا, مع أن القتلة من أهل الإجماع, أو نقول: قبول روايتهم مذهب بعضهم. أما ما لا يكون بدعة واضحة, فلا يوجب رد الرواية إن كان في غير الفروع, كالخلاف في أن البسملة من القرآن, وبعض مسائل الأصول كإثبات التكوين والبقاء صفتين, فإنه وإن ادعى الخصم القطع فليس من قبيل البدع الواضحة لقوة الشبهة من الجانبين, وكذا إن كان من الفروع كم يشرب النبيذ ويلعب الشطرنج من مجتهد يرى ذلك حلالًا أو مقلد له في ذلك, فالقطع أنه ليس بفاسق. إما إن قلنا: كل مجتهد مصيب فواضح, وإن قلنا: المصيب واحد؛ فإنه يجب عليه العمل على وفق ظنه, وعلى المقلد بفتواه, فيؤدي إلى تفسيق بما يراه واجبًا عليه, وذلك فيما يكون واجبًا عند مجتهد حرامًا عند آخر. فإن قيل: لو لم يكن فاسقًا قطعًا لما حُدَّ, لكن الشافعي قال بوجوب

الشرط الثالث: رجحان الضبط

الحدّ. قلنا: الشافعي أوجب الحدّ لظهور أمر التحريم عنده, لا لأنه فاسق, ولذلك [قبل] شهادته. والعجب من المصنف حيث لم يذكر مذهب مالك, وهو يقول: يُحدّ ولا تقبل شهادته. وقد قال بعض أصحابنا: إن ذلك منه بناء على أنه فاسق قطعًا, والظاهر أنه فاسق ظنًا عنده, لكن لم يبعض الحكم كما فعل الشافعي, وإنما لم يذكره لكونه يبطل له القطع الذي ادعاه, على أنه اختار في كتابه في [الفقه] القول الآخر المتأول على مالك من أنه لا يحدّ وتقبل شهادته, وصححه جمع من متأخري المالكية, إلا أن يحمل على بعد على سلب القطع بفسقه. الثالث: رجحان ضبط الراوي على سهوه؛ إذ مع المرجوحية والمساواة لا يترجح طرف الإصابة, فلا يحصل الظن.

الشرط الرابع: عدالة الراوي

قال: (ومنها: العدالة, وهي مخالفة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة, ليس معها بدعة. وتحقق باجتناب الكبائر, وترك الإصرار على الصغائر, وبعض الصغائر وبعض المباح. وقد اضطرب في الكبائر, فروى ابن عمر: الشرك بالله, وقتل النفس, وقذف المحصنة, والزنا, والسحر, وعقوق الوالدين المسلمين, وأكل مال اليتيم, والقرار من الزحف, والإلحاد في الحرم. وزاد أبو هريرة: أكل الربا, وزاد عليّ: السرقة, وشرب الخمر. وقيل: ما توعد عليه الشارع بخصوصه. وأما بعض الصغائر, فما يدل على الخسة, كسرقة لقمة, وكالتطفيف بحبة. وبعض المباح: كاللعب بالحمام, والاجتماع مع الأراذل, والحرف الدنيئة مما لا تليق به ولا ضرورة. وأما الذكورية, والحرية, وعدم العداوة, والقرابة, فمختص بالشهادة). أقول: الشرط / الرابع: عدالة الراوي, وهي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة, ليس معها بدعة, فقيد (دينية) يخرج الكافر, وقيد (يحمل على ملازمة التقوى والمروءة) يخرج الفاسق, و (ليس معها

بدعة) يخرج الفاسق بالاعتقاد. ولما كانت العدالة هيئة نفسية خفية, فلابد لها من علامة تتحقق بها, وتتحقق باجتناب الكبائر, وترك الإصرار على الصغائر, وترك بعض المباح. أما الكبائر: فقد اضطرب الرواة فيها, وروى البخاري في كتاب الأدب حديث ابن عمر موقوفًا. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: «اجتنبوا السبع الموبقات» , فعد أكل الربا, وأما زيادة عليّ [السرقة] فغير معروف, وكذا شرب الخمر. لكن خرّج ضياء الدين المقدسي في جزء جمعه في ذم السُكْر حديثًا

مسلسلًا عن عليّ فيه: «أن مدمن الخمر كعابد وثن» , ولكن قلما تصح المسلسلات. وقيل: الكبيرة كل ما تواعد الشارع عليه بخصوصه, وهذا أعم من الأول. وأما الإصرار على الصغائر, فمرجعه العرف وبلوغه مبلغًا ينفي الثقة. وأما الصغائر: فالمراد منها ما يدل على خساسة النفس, ودناءة الهمة, كسرقة لقمة, وتطفيف بحبة. وأما بعض المباح بما يدل على دناءة الهمة, كالأكل في السوق, والاجتماع مع الأراذل, والحرف الدنيئة ممن لا تليق به, ولا ضرورة تدعوه إلى ذلك؛ لأنه حينئذ لا يمتنع من الكذب عادة. وأما الذكورية, والحرية, وعدم القرابة, والعداوة, فمختص بالشهادة؛ لأنها أولى بالاحتياط, لقوة البواعث, ولخصوصها بخلاف الخبر.

رواية مجهول الحال

قال: (مسألة: مجهول الحال لا يقبل, وعن أبي حنيفة قبوله. لنا: الأدلة تمنع من الظن, فخولف في العدل, فيبقى ما عداه. وأيضًا: الفسق مانع, فوجب تحقق ظن عدمه, كالصبا والكفر. قالوا: الفسق سبب التثبت, فإذا انتفى انتفى. قلنا: لا ينتفي إلا بالخبرة, أو التزكية. قالوا: نحن نحكم بالظاهر وبنحوه ولا نقف. قالوا: ظاهر الصدق كإخباره بالزكاة, وطهارة الماء ونجاسته, ورق جاريته. أجيب: بأن ذلك مقبول مع الفسق, والرواية أعلى رتبة). أقول: مجهول الحال, قد يكون مجهول العدالة في الظاهر والباطن. فمذهب الجمهور أن روايته غير مقبولة. وعن أبي حنيفة: قبولها. وإن جهلت عدالته الباطنة وكان عدلا في الظاهر وهو المستور قبلت

روايته عند كثير من المحدثين, وجمع من الشافعية. وأما مجهول العين: فلا تقبل روايته, وفسر بمن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد, على أن في الصحيحين جماعة لم يرو لهم إلا راوٍ واحد. احتج / المصنف: بأن الأدلة تمنع من العمل بالظن, مثل: {ولا تقف ما ليس لك به علم} , {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا}. خولف في الظن الحاصل من قول العدل للإجماع, فيبقى معمولًا به فيما عداه. لا يقال: المتبع للإجماع, وأيضًا: تأول بما المطلوب فيه العلم. لأنا نقول: لا إجماع في غير العدل, ودليل التأويل أيضًا الإجماع وقد انتفى, فلا يصار إليه. احتج أيضًا: بأن الفسق مانع بالاتفاق, فيجب تحقق ظن عدمه كالصبا

والكفر بأنه يجب تحقق ظن عدمهما, والجامع دفع احتمال المفسدة. قلت: وقد يفرق بأن البلوغ والإسلام شرطان إجماعًا, [و] تحقق العدالة لسيت شرطًا عنده, ويجب تحقق الشرط, ويكفي في انتفاء المانع أن الأصل عدمه, نعم لو طالبه بوجود المقتضى كان أولى. احتجوا أولًا: بأن الفسق سبب للتثبت لقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق} , فإذا انتفى الفسق - إذ الأصل عدمه - انتفى وجوب التثبت. أجاب: أنا لا نسلم أنه انتفى, وإنما انتفى العلم به, ولا يلزم من عدم العلم بشيء عدمه, والمطلوب العلم بانتفائه, ولا يحصل إلا بالخبرة بالشخص وتزكيته, وهو ينبني على أن الأصل الفسق أو العدالة, والظاهر أنه الفسق؛ لأن العدالة طارئة, ولأنه أكثر. قالوا ثانيًا: قوله عليه السالم: «نحن نحكم بالظاهر» يدل على العمل بكل ظاهر, والظاهر صدقه. أجاب: أنا نمنع ظهور صدقه, لاستواء نسبة الصدق والكذب إليه مما لم تعلم عدالته, ثم هو معارض بنحو {ولا تقف} , {إن يتبعون إلا الظن}. قالوا ثالثًا: هو ظاهر الصدق فيقبل, كما لو أخبر بذكاة شاة,

الجرح والتعديل بقول الواحد في الرواية

وطهارة ماء أو نجاسته, ورق جاريته, فإنا لا نشترط العدالة ونكتفي بظاهر صدقه. أجاب: بأنه ليس محل النزاع, إذ محل النزاع ما كان الفسق فيه مانعًا, وما ذكرتم مقبول مع الفسق. وأيضًا: الرواية أعلى رتبة لكونها تثبت شرعًا عامًا. قال: (مسألة: الأكثر على أن الجرح والتعديل يثبت بالواحد في الرواية دون الشهادة. وقيل: لا فيهما. وقيل: نعم فيهما. الأول: شرط فلا يزيد على مشروطه كغيره. قالوا: شهادة فيتعدد. أجيب: بأنه خبر. قالوا: أحوط. أجيب: بأن الآخر أحوط, والثالث ظاهر). أقول: الأكثر على أن كل واحد من الجرح والتعديل يثبت بقول الواحد في الرواية, ولابد من اثنين في الجرح وفي التعديل في الشهادة.

وعن القاضي أبي بكر: أنه يثبت بقول الواحد فيهما, وعنه لابد في التعديل في الشهادة من اثنين, وهما قولان معروفان / في مذهب مالك. وقال قوم: لابد من العدد في الجرح والتعديل في الرواية والشهادة. لنا: أن التعديل شرط فلا يحتاج إلهي إلى أكثر مما يحتاج في أصله, وقد اكتفى في الرواية بواحد, وفي الشهادة باثنين. واعلم أنه لا يفيده حتى يثبت, وأنه لا ينقض عن أصله ولم يثبت؛ إذ كسائر الشهادات. أجاب: بالمعارضة, فإنه خبر فيكتفى بالواحد كسائر الأخبار. قالوا ثانيًا: اعتبار العدد أحوط؛ لأنه يبعد احتمال [عدم] العمل بما

ذكر سبب الجرح والتعديل

ليس بحديث. أجيب: بأن عدم اعتبار العدد أحوط, فإنه يبعد احمال عدم العمل. والمذهب الثالث ظاهر؛ إذ يجعل المعارضة في الثاني دليلًا, والدليل معارضة, فيقول: خبر فيكتفى بالواحد, فيعارض: بأنه شهادة. أو يقال: أحوط, فيعارض: بأن الآخر أحوط. قال: (مسألة: قال القاضي: يكفي الإطلاق فيهما. وقيل: لا فيهما. وقال الشافعي: في التعديل. وقيل: بالعكس. الإمام: إن كان عالمًا, إن شهد من غير بصيرة لم يكن عدلًا, وفي محل الخلاف مدلس. وأجيب: بأنه قد ينبني على اعتقاده, أو لا يعرف الخلاف. النافي: لو اكتفى لأثبت مع الشك. أجيب: بأنه لا شك مع إخبار العدل. الشافعي: لو اكتفي في الجرح لأدى إلى التقليد للاختلاف فيه. العكس: العدالة ملتبسة لكثرة التصنع بخلاف الجرح. الإمام: غير العالم يوجب الشك). أقول: ذهب القاضي أبو بكر إلى أنه يكفي المعدل والمجرح أن يقول: هو عدل, أو هو ليس بعدل, ولا حاجة إلى ذكر سبب الجرح أو العدالة.

وقال قوم: يجب ذكر السبب فيهما. وقال الشافعي: لابد من ذكر سبب الجرح مفسرًا؛ لاختلاف الناس في سببه, وأما سبب التعديل فلا. وعكس آخرون. وقال إمام الحرمين: إن صدر ممن يعلم أسبابهما كفى الإطلاق, إلا لم يكف. احتج القاضي: بأن المجرح أو المعدل إن شهد من غير بصيرة بحال المزكى والمجرح, لم يكن عدلًا, وهو خلاف الفرض, وما ذكر من أنه اختلف في سبب الجرح, فربما جرح بما ليس بمجرح. فيقال: مهما أطلق في محل الخلاف كان مدلسًا, وذلك قادح في عدالته. وردّ: بأنه قد يبني الجرح على اعتقاده وإن علم الخلاف ولا يلزم

تقليده فيه, وربما بناه على اعتقاد وهو لا يعرف الخلاف, وهو غير مدلس في الحالين. قيل: المستند الأخير مناف للفرض؛ لأنه إذا لم يعرف الخلاف شهد من غير بصيرة وهو مردود؛ لأنه يصير بها على اعتقاده. احتج النافي: بأنه لو اكتفي بالإطلاق لأثبت ما ذكر مع الشك, للالتباس في أسباب الجرح والتعديل وكثرة الخلاف فيها, ربما جرح أو عدّل بما ليس بمجرح أو معدل. الجواب: لا نسلم أنه يثبت مع الشك؛ لأن قول العدل يوجب الظن, وأنه لو لم يعرف لم يقل. احتج الشافعي: بأنه لو اكتفي [في الجرح] لأدى إلى تقليده لاختلاف الناس في أسباب الجرح, فهو في كون الحديث مردود مقلد للجارح؛ لأنه عمل بقوله فيما رآه جارحًا, وربما لو ذكر لم يره المجتهد جرحًا, بخلاف العدالة فإن أسبابها لا تنضبط فيكون التقليد في أسبابها مما لا انفكاك عنه. وفيه نظر؛ بل لأنها ملازمة للتقوى والمروءة, فهو مما لا يختلف فيه. القائل بالعكس: العدالة تلتبس على الناس لكثرة التصنع بخلاف الجرح,

الجرح مقدم على التعديل

فاحتيج إلى ذكر السبب فيها. الإمام: لو أثبتنا أحدها لقول غير العالم بأسبابها لأثبتاه مع الشك, بخلاف العالم, والمصنف بيّن المأخذ ولم يرجح. قال: (مسألة: الجرح مقدم. وقيل: الترجيح. لنا: أنه جمع بينهما فوجب, أما عند إثبات معين ونفيه باليقين فالترجيح). أقول: إذا عدّل قوم شخصًا وجرّحه آخرون, فالمجرِح مقدم. وقيل: المعدِل مقدم. وقيل: يعمل بقول الأرجح من المعدِل أو المجرِح. احتج: بأن المجرِح جمع بين قول المعدِل والمجرِح, فإن غاية قول المعدل أنه لم يعلم فسقًا ولم يظنه؛ إذ العلم بالعدم لا يتصور, والجارح يقول: علمت, فلو حكمنا بقول المعدل كان المجرح كاذبًا, ولو حكمنا بفسقه لم يلزم كذب المعدل؛ لأنه لم ينف شيئًا معينًا, وتكذيب العدل خلاف

رواية العدل عن شخص

الظاهر, فالجمع مهما أمكن أولى. أما لو عين الجارح السبب ونفاه المعدل بطريق يقيني, مثل أن يقول الجارح: قتل فلانًا يوم كذا, ويقول المعدل: فلان حي رأيته بعد ذلك بمدة, فالتعارض واقع لعدم إماكن الجمع, فيصار إلى الترجيح بمزيد العدالة وبكثرة العدد. وقيل: الضمير في قوله: (جمع بينهما) أي بين القول بتقديم الجرح والقول بالترجيح. قال: (مسألة: حكم الحاكم المشترط العدالة بالشهادة تعديل, وعمل العالم مثله. ورواية العدل, ثالثها المختار: تعديل إن كانت عادته أنه لا يروي إلا عن عدل, وليس من الجرح ترك العمل في شهادة ولا رواية, لجواز معارض, ولا الحد في شهادة الزنا بعدم الذهاب لعدم النصاب, ولا بمسائل الاجتهاد ونحوها مما تقدم. ولا بتدليس على الأصح, كقول من لحق الزهري: قال الزهري, موهمًا أنه سمعه, ومثل: وراء النهر يعني غير جيحان). أقول: حكم الحاكم العدل الذي يرى العدالة شرطًا في قبول الشهادة بمقتضى شهادة أحد تعديل. وعمل العالم الذي يرى العدالة في قبول الرواية بروايته تعديل.

أما لو ع مل العالم على وفق حديث لم يكن حكمًا بصحته. واختلفوا في رواية العدل عن الشخص, فقيل: تعديل, وقال الأكثر: ليس بعديل. والصحيح: إن علم / من عادة الراوي أنه لا يروي إلا عن عدل, فهو تعديل, وإلا فلا. وأما ترك العمل بشهادة أو رواية, فليس جرحًا؛ لجواز معارض بفقدان شرط آخر غير العدالة. وكذلك الحدّ في شهادة الزنا لعدم تمام النصاب, ليس جرحًا. وكذا الحدّ على المسائل الاجتهادية كشرب النبيذ, ليس جرحًا. وكذا اللعب بالشطرنج مما هو مختلف فيه, لا يكون جرحًا.

وكذلك [بعض] مسائل الأصول مثل الخلاف في البسملة, وفي إثبات التكوين صفة, وإليه الإشارة بقوله: (ونحوها مما تقدم) أي نحو مسائل الاجتهاد لقوة الشبهة من الجانبين. والعجب من المصنف, كيف جعل الحدّ في شهادة الزنا لعدم النصاب ليس جرحًا, ومذهبه أنه جرح. وكذلك شرب النبيذ وإدمان الشطرنج, كل ذلك عند مالك جرح, وكذا التدليس يجرح على الأصح, كقول من لحق الزهري ولم يصحبه: «قال الزهري» , فأنه يوهم أنه سمعه.

وكقول من قال: «حدثنا فلان وراء النهر» , يعني غير جيحان, وهو نهر بالشام, والسامع يتوهم أنه جيحان, ومعنى أن القول يكون موهمًا لأن الشخص يقصد ذلك؛ إذ لا نزاع في أن الثاني تدليس فادح, والنزاع في الأول. وفي الصحيحين عن جماعة من المدلسين كقتادة, والأعمش, وسفيان, وغيرهم.

الصحابة كلهم عدول

قال: (مسألة: الأكثر على عدالة الصحابة. وقيل: كغيرهم. وقيل: إلى حين الفتن, فلا يقبل الداخلون؛ لأن الفاسق غير معين. وقالت المعتزلة: عدول إلا من قاتل عليًا رضي الله عنه. لنا: {والذين معه} , «أصحابي كالنجوم» , وما تحقق بالتواتر عنهم من الجدّ في الامتثال. وأما الفتن فتحمل على اجتهادهم. ولا إشكال بعد ذلك على قول المصوبة وغيرهم). أقول: إن الجمهور على أن الصحابة عدول, فلا يسأل عن عدالتهم, بل هم معدلون بظاهر الكتاب والسنة. وقيل: هم كغيرهم, فيحتاج إلى تعديل من لم يكن مشتهر العدالة. وقيل: لم يزالوا عدولًا إلى حين الفتن بين عليّ ومعاوية, فلا يقبل

الداخلون من الطرفين؛ لأن الفاسق غير معين, وأما من لم يدخل فيها فباق على العدالة. وقالت المعتزلة: هو عدول إلا من قاتل عليًا. لنا: {والذين معه أشداء على الكفار} الآيتين, قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} أي عدولًا, وكذلك {كنتم خير أمة أخرجت للناس}. ومن السنة: «أصحابي كالنجوم» , «خير القرون قرني». وأيضًا: ما تحقق عنهم بالتواتر في الجدّ في امتثال الأوامر واجتناب

على من يطلق اسم الصحابي؟

النواهي, وذلك كله يوضح عدالتهم. وأما ما ذكر من الفسق فيحمل على الاجتهاد وتحسين الظن بهم؛ إذ هم أولى من يحسّن الظن بهم, وحينئذ لا إشكال, سواء قلنا: كل مجتهد مصيب, أو قلنا: المصيب واحد, فإن المخطئ لا يؤاخذ بخطئه, بل له أجر واحد, وللمصيب / أجران. قال: (مسألة: الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به, وإن لم يرو ولم تطل. وقيل: إن طالت. وقيل: إن اجتمع, وهي لفظية, وإن ابتنى عليها ما تقدم. لنا: تقبل التقييد بالقليل, وكان للمشترك, كالزيادة والحديث. ولو حلف أن لا يصاحبه حنث بلحظة. قالوا: أصحاب الجنة, أصحاب الحديث للملازم. قلنا: عرف في ذلك. قالوا: يصح نفيه عن الوافد والرائي. قلنا: نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم). أقول: اختلفوا في اسم الصحابي على من يطلق. وذهب جمع الأصوليين وأكثر المحدثين إلى أن الصحابي كل مسلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يرو عنه حديثًا, وإن لم تطل صحبته معه.

وقيل: إن طالت الصحبة فهو صحابي, ويروى عن أنس, وابن المسيب. وقيل: إن اجتمع طول الصحبة والرواية فهو صحابي, وإلا فلا. والحق: أن المسألة لفظية, وإن انبنت عليها مسألة علمية وهي عدالة الصحابة. لنا: أن الصحبة فعل يقبل التقييد بالكثير والقليل, يقال: صحبه قليلًا وكثيرًا من غير تكرار ولا نقض, يوجب جعله للقدر المشترك دفعًا للمجاز والاشتراك, كالزيادة والحديث فإنهما لما احتملا القليل والكثير جعل المحدث والزائر للمتصف بالقدر المشترك. وأيضًا: لو حلف ألا يصحب فلانًا, فصحبه لحظة حنث اتفاقًا, ولو شرط فيه الأمران أو أحدهما لما كان كذلك. وفيهما نظر؛ لأن الأول إثبات اللغة بالترجيح. والصحابي بياء النسب المخصوص في العرف بأصحاب النبي, يخالف

الصاحب لغة, وقد قال عليه السلام: «لا تؤذوني في أصحابي» , والمخاطب غير صاحب. قالوا: إذا قيل: أصحاب الجنة وأصحاب الحديث, فإنما يقال للملازم لا لغيره, ولو كان لغير الملازم لما فهم من الملازم؛ لأن الأعم لا يشعر بالأخص. أجاب: بأنه فهم الملازم من العرف الجديد؛ لأن الوضع كذلك, ولا يثبت مثل ذلك في الصحابي. قالوا: الوافد على النبي والرائي له يقال فيه ليس بصاحب, فدلّ على أن الصاحب ملازم, وإلا لم ينف عن الوافد والرائي؛ إذ الحقيقة لا تنفى. الجواب: أن المنفي الصحبة طويلة أو مطلق الصحبة؟ . الثاني ممنوع, والأول مسلّم, ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم. لا يقال: لو حلف أن زيدًا ليس بصاحب عمرو, وقد صحبه لحظة لم يحنث. لأنا نقول أولًا: الأيمان مبنية على العرف, والعرف الجديد في مثله

قول من عاصر النبى صلى الله عليه وسلم: أنا صحابي

للملازم. وأيضًا: إن عنى ليس بصاحب في الحال فمسلّم, ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم, وإن عنى ليس بصاحب في شيء من الملازمة منعناه. قال: (مسألة: لو قال المعاصر / العدل: أن صحابي, احتمل الخلاف). أقول إذا قال من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا صحابي» , وكان معروف العدالة, فالظاهر صدقه للعدالة, ويحتمل عدم الصدق لكونه متهمًا بإلحاق نفسه بالمراتب الشريفة. وجعل ابن الصلاح أحد الطرق ما يثبت به كون الشخص صحابيًا أن يقول العدل المعاصر: «أنا صحابي». قال: (مسألة: العدد ليس بشرط, خلافًا للجبائي, فإنه اشترط خبرًا آخر, أو ظاهرًا, أو انتشاره في الصحابة, أو عمل بعضهم, وفي خبر الزنى أربعة. والدليل والجواب: ما تقدم في خبر الواحد. ولا الذكورة, ولا البصر, ولا عدم العداوة, ولا عدم القرابة, ولا الإكثار, ولا معرفة نسبه, ولا العلم بفقه أو عربية, أو معنى الحديث, لقوله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأً» , ولا موافقة القياس, خلافًا لأبي حنيفة).

أقول: الجمهور على عدم اشتراط العدد في الرواية, بل يقبل الواحد العدل, خلافًا للجبائي, فإنه اشترط أحد أمور: إما أن يخبر عدل آخر به. وإما أن يكون الخبر موافقًا لظاهر آية, أو ظاهر خبر آخر. وإما انتشار الخبر في الصحابة. وإما عمل بعض الصحابة بموجبه. وعنه وعن القاضي عبد الجبار: لابد في خبر يثبت [به] حكم في الزنا من أربعة. ومما ينظر فيه, منع الجبائي جواز التعبد بخبر الواحد العدل واشتراطه هنا في وجوب العمل به العدد, إلا أن يحمل ثمة على خبر الواحد لغة, لكن أدلته تأباه. قال المصنف: والدليل على عدم اعتبار العدد, والجواب عن الأسئلة الواردة وعن حجج المنكرين, ما تقدم في خبر الواحد. فمن جانبنا: عمل الصحابة في الوقائع المتكررة, وإنفاذه عليه

السلام [الآحاد] لتبليغ الأحكام, ومن جانبهم: توقفهم في قبول المنفرد ونحو {ولا تقف}. وكذا الذكورية ليست بشرط, بل تقبل المرأة. وكذا البصر؛ لاتفاقهم على قبول الأعمى. وكذا عدم القرابة, وعدم العداوة, فيقبل ما رواه الوالد العدل مما فيه حق لابنه وبالعكس. وكذا يقبل من العدل ما رواه على عدوه, بخلاف الشهادة. وهذا مجرد تكرار؛ لأنه تقدم في آخر فصل العدالة. وكذا الإكثار من الرواية ليس شرطًا, فتقبل رواية من لم يرو إلا حديثًا واحدًا. ولا يشترط كونه معروف النسب؛ إذ لا مدخل لذلك في الصدق. ولا يشترط علم الراوي بالفقه والعربية, أو معنى الحديث, لقوله عليه السلام: «نضر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه, فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه, وربّ حامل فقه ليس بفقيه» , أخرجه أبو داود, والترمذي.

قول الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل على أنه سمع منه

وروي عن مالك أنه [كان] يترك رواية الراوي إذا لم يكن فقيهًا, ومثله عن أبي حنيفة. ولا يشترط أن يكون الخبر موافقًا للقياس, خلافًا لأبي حنيفة حيث اشترط موافقته في رواية غير الفقيه, ووافق على قبوله من الفقيه وإن خالف القياس. قال: (مسألة: إذا قال الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, حمل على أنه سمع منه. وقال القاضي: يتردد في ذلك, فيبنى على عدالة الصحابة). أقول: لما فرغ من شروط الراوي, شرع في بيان مراتب مستند الراوي. فبدأ بمراتب مستند الصحابي إذا قال: سمعته, أو أخبرني, أو حدثني عليه السلام, فهو خبر قبوله بلا خلاف, واختلف في مسائل منها: إذا قال الصحابي: قال صلى الله عليه وسلم, حمل على أنه سمعه منه عند المالكية وجمهور المحدثين.

قول الصحابي: أمر بكذا ونهى عن كذا

وقال القاضي أبو بكر: يتردد في كونه سمعه منه أو سمعه ممن يرويه عنه, وحينئذ ينبني قبوله على عدالة [جميع] الصحابة. فعلى قول الجمهور أن كلهم عدول يقبل؛ لأنه إما سمعه منه, أو من صحابي عدل, وكونه يرويه عن تابعي بعيد. وعلى قول الآخرين, قد يرويه عن واسطة لا تعلم عدالته, وإلا ظهر ما ذهب إليه القاضي, لعدم ظهوره في أحد الأمرين. قال: (مسألة: إذا قال: سمعته أمرَ أو نهى. فالأكثر: حجة؛ لظهوره في تحققه لذلك. قالوا: يحتمل أنه اعتقد, وليس كذلك عند غيره. قلنا: بعيد). أقول: إذا قال الصحابي: سمعته أمرَ بكذا, أو نهى عن كذا, فالأكثر على أنه حجة, وبه قال أصحابنا؛ لأن قول الصحابي العدل العارف بمدلولات الألفاظ ظهر في تحقق كون النبي عليه السلام هو الآخر والناهي؛ لأنه لا يجزم بما لم يعلم. قالوا: يحتمل أنه اعتقد ما سمعه من صيغةٍ أمرًا أو نهيًا وليس كذلك,

قول الصحابي: أمرنا أو نهينا

لكثرة الخلاف والوهم, كمن يعتقد الأمر بالشيء نهي ضده. الجواب: إن ذلك وإن احتمل فبعيد؛ لأجل العلم بالأوضاع والضبط والعدالة, والاحتمال لا ينفي الظهور. قال: (مسألة: إذا قال: أمرنا, أو نهينا, أو أوجب, أو حرم. فالأكثر: حجة؛ لظهوره في أنه عليه السلام الآمر. قالوا: يحتمل ذلك, أو أنه أمر الكتاب, أو بعض الأئمة, أو عن استنباط. قلنا: بعيد). أقول: إذا قال الصحابي: أمرنا, أو نهينا, أو أوجب كذا, أو حرم أو أبيح, فما بني لما لم يسم فاعله, فعند المالكية والشافعية حجة؛ لظهوره في أنه عليه السلام الآمر والناهي, والموجب والمحرم, كما لو قال أحد خدام الملك الكبار: أمرنا بكذا, أو نهينا, تبادر إلى الذهن أن الملك هو الأمر, وخالف الكرخي من الحنفية محتجًا بكونه يحتمل أمر النبي عليه السلام, ويحتمل أن يريد به أمر الكتاب, أو أمر بعض الأئمة, أو يكون

قول الصحابي: من السنة كذا

عن استنباط فإنه إذا قاس فغلب على ظنه أنه مأمور به, يجب العمل بموجبه, فإنه يقال عما أمرنا. الجواب: أنه احتمال بعيد لا يرفع الظهور. قال: (مسألة: إذا قال: من السنة كذا. فالأكثر: حجة؛ لظهوره في تحققها عنه, خلافًا للكرخي). أقول: إذا قال الصحابي: من السنة كذا, فالأكثر على أنه حجة؛ لأنه ظاهر في تحقق السنة عن النبي عليه السلام, خلافًا للكرخي, محتجًا بأن السنة تطلق على فعل الخلفاء الراشدين. الجواب: أن سنة الرسول هو المتبادر عند الإطلاق, وإنما يطلق على سنة / غيره مقيد بسنة فلان. قال: (مسألة: إذا قال: كنا نفعل, أو كانوا. فالأكثر: حجة؛ لظهوره في عمل الجماعةز قالوا: لو كان كذلك لما ساغت المخالفة. قلنا: لأن الطريق ظني, كخبر الواحد النص). أقول: هذه المرتبة أضعف المراتب, وهي كلها في القوة على حسبما رتبها المصنف, يظهر ذلك بالاحتمالات التي أبدى في كل واحدة؛ إذ بعضها أبعد من بعض.

فإذا قال الصحابي: كنا نفعل, أو كانوا, فالأكثر على أنه حجة؛ لأنه ظاهر في أن الضمير للجميع, وأنه أراد عملًا لجماعة؛ لأن قصده الاحتجاج ولا يثبت بقول البعض, فيكون إجماعًا. وقيل: لا يكون حجة؛ لأنه لو كان كذلك لما ساغت مخالفته اجتهادًا؛ إذ لا تجوز مخالفة الإجماع. الجواب: منع الملازمة؛ لأن ذلك فيما طريقه قطعي, وهنا ساغت لأن الطريق ظني, كما تسوغ في خبر الواحد القطعي الدلالة, فإن مخالفته سائغة بالاجتهاد لظن الطريق, ولا يمنعه قطعية المروي. والإمام فخر الدين جعل هذه من قبيل السنة المقررة, وأنه ظاهر في أنهم كانوا يفعلون ذلك مع علمه. وقال ابن الصلاح: «إن لم يضفه إلى زمانه عليه السلام, فهو من قبيل الموقوف, وإلا فهو من قبيل المرفوع».

مستند غير الصحابي

ورجحه بعض الشارحين, بأن الكلام في كيفية الرواية عن الرسول, لا في الإخبار عن الإجماع. وفيه نظر؛ لأنه في بيان مسند الصحابي. قال: (ومستند غير الصحابي قراءة الشيخ, أو قراءته عليه, أو قراءة غيره عليه, أو إجازته, أو مناولته, أو كتابته بما يرويه. فالأول أعلاها على الصحيح, إلا أنه إذا لم يقصد إسماعه قال: قال, وحدّث, وأخبر, وسمعته, وقرأته عليه, من غير نكير, ولا ما يوجب سكوتًا من إكراه, أو غفلة, أو غيرهما, معمول به, خلافًا لبعض الظاهرية؛ لأن العرف تقريره. ولأن فيه إبهام الصحة, فيقول: حدثنا, أو أخبرنا مقيدًا أو مطلقًا على الأصح, ونقله الحاكم عن الأئمة الأربعة. وقراءة غيره عليه كقراءته). أقول: أما مستند غير الصحابي, وهو المصحح لجواز روايته عن شيخه ولقبولها منه بأحد أمور ستة: الأول: قراءة الشيخ. الثاني: قراءته على الشيخ.

الثالث: قراءة غيره على الشيخ وهو يسمع. الرابع: إجازة الشيخ له أن يروي عنه. الخامس: أن يناوله كتابًا يروي عنه ما فيه. السادس: أن يكتب إليه بما يرويه عنه. ثم هذه الأمور على مراتب: فقراءة الشيخ أعلى المراتب على الأصح, وهو مختار المتأخرين من المحدثين والأصوليين. وقيل: هو مذهب عامة أهل المشرق. وذكر ابن رشد أن مذهب مالك أن قراءته على الشيخ أعلى من قراءة الشيخ, وذكره ابن الصلاح عن أبي حنيفة, وابن أبي ذئب, وعن

مالك أيضًا أنهما سواء. قال ابن الصلاح: «وهو مذهب أصحابه وأشياخه والبخاري أيضًا». ثم لهذه المرتبة ألفاظ, فللراوي أن يقول إذا قصد الشيخ إسماعه منفردًا أو مع غيره: حدثنا, وأخبرنا, وأنبأنا, وقال لنا, وسمعته. قال القاضي عياض: «ولا خلاف في ذلك». قال الخطيب / البغدادي: «وأرفعها سمعت, ثم حدثني وحدثنا, ثم أخبرنا, ثم أنبأنا». وهذا قبل أن يشيع تخصيص أخبرنا بما قرئ عل الشيخ. وقال ابن الصلاح: «أخبرنا أرفع من سمعت, من حيث أن سمعت لا يدل على أن الشيخ رواه وخاطبه به». فإن لم يقصد الشيخ إسماعه فلا يضفه إلى نفسه, بل يقول: حدث, أو

أخبر, وسمعته, هذا هو المعروف عند لمحدثين والأصوليين. وذكر ابن العربي في سراج المريدين: أن مالكًا ومحمد بن إسحاق تهاجرا, فقال ابن إسحاق: مالك مولى وينتسب إلى أصبح, لا يكلم حتى يرجع. وقال مالك: ابن إسحاق يقول: حدثتني فاطمة بنت المنذر وما رآها ولم يتسور على الحرم, وهذا زوجها هشام بن عروة يقسم ما كان ذلك.

قال ابن العربي: وكلاهما سالم, أما مالك فأصبحي نسبًا, وتيمي حلفًا, فأيهما انتسب إليه جاز. وأما ابن إسحاق, فليس بممتنع أن تحدّث [أحدًا] وهو يسمع, فيقول: حدثتني فاطمة بما سمعها تحدث لغيره, وذلك جائز في الحديث إجماعًا؛ بأن يحدث رجل آخر, أو يقول لجماعة: أحدثكم, ويسمعه غيرهم ممن لم يعلم به المحدث, فيجوز للآخر أن يقول: حدثني فلان, وأخبرني, وسمعته. المرتبة الثانية: قراءته على الشيخ, ويسمى عرضًا. والجمهور على صحة هذه الرواية, خلافًا للشذوذ. وهذا إذا كان الشيخ يحفظ ما قرئ عليه, أو كان الكتاب بيده. فإذا قرأ ولم ينكر الشيخ, ولا وجد أمرًا يوجب السكوت عنه من إكراه أو غفلة أو غيرها من المقدرات المانعة من الإنكار, فهم منه عرفًا تقريره.

وأيضًا: في سكوته إيهام الصحة, وذلك بعيد من العدل عند عدم الصحة, فيكفي هذا من الشيخ إذا قرأ القارئ قائلًا: أخبرك فلان, أو قلت أخبرنا فلان, والشيخ ساكت مصغ فاهم غير منكر. واشترط بعض الظاهرية, وبعض الشافعية إقرار الشيخ نطقًا, بأن يقول: نعم, أو هو كما قرأت. [وأما ألفاظها, فأجودها: قرأت على فلان فأقر به, وقوله: حدثنا فلان قراءة عليه] , أو أخبرنا فلان قراءة عليه. وأما إطلاق حدثنا وأخبرنا فأجازه مالك والبخاري, وهو مذهب معظم الحجازيين والكوفيين, ومنعه أحمد والنسائي, وأجاز الشافعي أخبرنا ومنع حدثنا, ونقل المصنف عن الحاكم جوازه عن الأئمة الأربعة في

اللفظين معًا, ولم أقف عليه. والذي اختاره الحاكم هو مختار ابن وهب, أن يقول فيما قرأ الشيخ على الراوي وحده: حدثني, وحدثنا إن كان معه غيره, وما قرأ على الشيخ: أخبرني, وما قرأ عليه وهو حاضر: أخبرنا. ومنع سيف الدين الإطلاق, قال: لأن ذلك مشعر بنطق الشيخ وذلك مع سكوته كذب, وظاهره أنه لو قال: نعم, أو هو كذلك, جاز الإطلاق وفاقًا, وليس كذلك, بل هو أيضًا مختلفًا فيه. والحق أنه أمر اصطلاحي / قال ابن الصلاح: «وتكلف الاحتجاج له من اللغة عناد». وأما قراءة غيره على الشيخ وهو يسمع؛ بأن يكون حفظ الحديث, أو يكون الكتاب بيده, فهي عند المصنف والأكثرين مساوية لقراءة غيره في المتفق والمختلف, والمختار والمزيف, وشرط عدم النكير, وترتيب

المناولة

الألفاظ. وأما المناولة: فإن كانت مقرونة مع الإجازة, فهي أعلى مراتب الإجازة, ولها صور: أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعًا مقابلًا به, ويقول: هذا سماعي, أو روايتي عن فلان, فاروه عني. أو أجزت لك روايته, ثم يملكه إياه. أو يقول: انسخه وقابل ثم ردّه. وهذه المناولة قائمة مقام السماع عند مالك وأصحابه المصريين وجماعة وجعلها الشافعي وأبو حنيفة وأحمد منحطة عنه. أما لو ناوله إياه وأجاز له روايته عنه لكنه لم يكنه من النسخة, فهذا منحط عما سبق, وجائز له أن يروي إذا ظفر بالكتاب أو بما هو مقابل به. وقيل لا رجحان لهذه على الإجازة المجردة الواقعة في معين.

الإجازة

وذهب جماعة من الحجازيين إلى رجحانها عليها. أما لو أتى الطالب بالكتاب من عنده وقال للشيخ: هذا روايتك فناولنيه وأجز لي روايته, فأجابه من غير أن يتحقق جميعه, فلا تصح. أما المناولة مجردة عن الإجازة مقتصرًا عليها, مع قول الشيخ: هذا من حديثي أو سماعي, فالأكثر على عدم صحتها, وأجازها جمع كثير من المحدثين. وأما ألفاظها فيقول: حدثنا وأخبرنا مناولة. وجائز عند مالك في القسم الأول إطلاق حدثنا وأخبرنا, واختار المتأخرون غيره. قال: (وأما الإجازة للموجود المعين, فالأكثر على تجويزها. والأكثر على منع حدثني وأخبرني مطلقًا. وبعضهم: مقيدًا, وأنبأني اتفاقًا للعرف. ومنعها أبو حنيفة, وأبو يوسف. ولجميع الأمة الموجودين, الأكثر على تجويزها لأنه مثلها.

وفي نسل فلان, أو من يوجد من بني فلان, خلاف واضح. لنا: أن الظاهر أن العدل لا يروي إلا بعد علم أو ظن, وقد أذن له. وأيضًا: كان عليه السلام يرسل كتبه مع الآحاد وإن لم يعلموا ما فيها. قالوا: كذب؛ لأنه لم يحدثه. قلنا: حدثه ضمنًا, كما لو قرأ عليه. قالوا: ظن فلا يجوز الحكم به كالشهادة. قلنا: الشهادة آكد). أقول: أما الإجازة بأن أجاز لشخص معين شيئًا معينًا, مثل أن يقول: أجزت لك الكتاب الفلاني. فقيل: لا خلاف في مثل هذا. وحكى الباجي الإجماع على جواز الرواية بالإجازة. وحكى الخلاف في العمل بها, ولا يصح الإجماع لمخالفة الشافعي وأبي حنيفة وكثير من العلماء, وحكى المصنف المنع عن أبي يوسف,

والمروي عنه الجواز. والحق الأول؛ لأنه أخبره تفصيلًا, ثم كما جازت الرواية يجب العمل بالمروي, خلافًا للظاهرية في أنه كالمرسل. أما لو أجاز لمعين غير معين / كما لو قال: جميع مسموعاتي, فالخلاف في هذا النوع أقوى, والجمهور على الجواز ووجوب العمل به. وأما ألفاظها, فيقول: حدثنا إجازة, أو أخبرنا إجازة. وحكى المصنف المنع [عن بعضهم, ولم أره, ثم لا معنى له؛ لأنه إذا أجاز الرواية بالإجازة, فلا طريق له غير ذلك, أما لو قال: حدثنا وأخبرنا من غير تقييد, فالأكثر على المنع] , وأجازه الحافظ أبو نعيم, وجماعة.

وحكى المصنف اتفاق المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة من غير تقييد, ولم أر هذا الاتفاق. قال ابن الصلاح: «اصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة». أما الإجازة لجميع الأمة الموجودين, فقال جماعة من متأخري المالكية وغيرهم بجوازها, وجوزه الخطيب البغدادي, وأبو الطيب الطبري, وحكاه الحازمي عن جمع من أدركه من الحفاظ. قال ابن الصلاح: «ولم نسمع عن أحد ممن يقتدى به أنه استعمل هذه الإجازة فروى بها, ولا عن الشرذمة المتأخرة الذين سوغوها؛ لأن الإجازة فيها ضعف, وتزداد بهذا التوسع والاسترسال ضعفًا كثيرًا». أما الإجازة للمعدوم, فإن كانت اتباعًا للموجود, كما لو قال: أجزت لك ولمن يولد لك, فقد اختلف المتأخرون فيه.

وكذا إن انفرد, كما لو قال: أجزت لمن يولد لفلان. أجازها ابن عمروس من أصحابنا والخطيب البغدادي وجماعة, ومنعها آخرون؛ لأن الإجازة في حكم الإخبار جملة بالمجاز, ولا يصح إخبار المعدوم ورآها الآخرون إذنًا فيصح المعدوم. احتج المصنف على قبول الإجازة: أن الظاهر من العدل أنه لا يروي للمجاز إلا ما علم أو ظن صحته, وقد أذن له, فجازت الرواية عنه كما لو قرأ عليه. وأيضًا: فإنه عليه السلام كان يرسل كتبه مع الآحاد ولم يعلموا ما فيها؛ ليعمل من يراها بموجبها, [فلو] لم تجز الرواية بالإجازة, لما جاز قبول كتبه؛ بل الظن الحاصل من الإجازة أقوى من الظن الحاصل من الكتاب. احتج المانع: بأنه كذب؛ لأنه يقول: حدثني وما حدثه. الجواب: أنه حدثه ضمنًا, كما لو قرأ على الشيخ وأنه لم يحدثه مع جواز الرواية, وما ذاك إلا لتضمنه تحديث الشيخ.

قالوا ثانيًا: ظن مستند إلى ما لا يجوز استناد الشهادة إليه, فلا يجوز استناد الرواية إليه قياسًا على الشهادة, ولو قال: انقل عني جميع شهادتي, لم تصح. الجواب: أمر الشهادة آكد ولذلك احتيط فيها وزيد في شروطها, ووجب العمل بكتاب الرسول وإن لم يعلم مضمونه, ولو شهد بمثله لم يجز عند الكثرين, وأصل هذا الدليل في الإحكام لمسألة أخرى, وهي: إذا غلب على ظن الراوي رواية الحديث عن بعض الشيوخ وسماعه. أجاز الشافعي وجماعة أن يرويه عنه, ومنه أبو حنيفة محتجًا: بأنه حكم على المروي عنه أنه حدثه, ولا يجوز مع عدم العلم كالشهادة. واحتج الشافعي: بأن آحاد الصحابة كانوا يحملون كتب الرسول في الصدقات وغيرها, وكان / يجب على كل أحد الأخذ بها بإخبار حاملها أنه كتاب الرسول, وإن لم يكن ما فيها مسموعًا للحامل, بل غلب على ظن الحامل أنه قول الرسول. وأما الكتابة للراوي, فإن انضم إلى ذلك بأن يقول: أجزت لك ما كتبت, فهي مثل المناولة المقرونة بالإجازة. وأما المجردة, فقد أجاز الرواية بها الكثير من المتقدمين منهم: الليث

نقل الحديث بالمعنى

وكثير من المتأخرين, وجعلها قوم أقوى من الإجازة. ويكفي معرفة المكتوب إليه خط الكاتب وإن لم تشهد به بينة, ومنهم من لا يعتمد مع الغيبة على الخط, وأجاز الليث أن يقول فيها: حدثنا, وأخبرنا, والمختار أن يقول: كتب إليّ فلان, قال: حدثنا فلان. قال: (مسألة: الأكثر على جواز نقل الحديث بالمعنى للعارف. وقيل: بلفظ مرادف, وعن ابن سيرين منعه. وعن مالك أنه كان يشدد في الباء والتاء, وحمل على المبالغة في الأولى. لنا: أنهم نقلوا عنه أحاديث كثيرة في وقائع متحدة بألفاظ مختلفة شائعة ذائعة, ولم ينكره أحد. وأيضًا: ما روي عن ابن مسعود وغيره أنه قال صلى الله عليه وسلم كذا أو نحوه. وأيضًا: أجمع على تفسيره بالعجمية, فالعربية أولى. وأيضًا: المقصود المعنى قطعًا وهو حاصل. قالوا: قال: «نضر الله امرأً». قلنا: دعا له لأنه الأولى, ولم يمنعه.

قالوا: يؤدي إلى الإخلال لاختلاف العلماء في المعنى وتفاوتهم, فإذا قدر ذلك مرة أو مرتين, اختل ذلك بالكلية. قلنا: الكلام فيمن نقل بالمعنى سواء). أقول: اختلفوا في جواز نقل الحديث بالمعنى للعارف بمواقع الألفاظ, وأما غيره فلا يجوز له اتفاقًا, ثم الأكثر على الجواز, ومنع بعض المحدثين, وبعض الأصوليين, وبعض الفقهاء من الشافعية والحنفية. ثم هذا الخلاف لا يجري فيما تضمنته الأمهات, فليس لأحد أن يغير شيئًا من كتاب مصنف ويثبت بدله لفظًا آخر بمعناه, ثم هؤلاء لم يختلفوا أن الأولى نقله بلفظه, واستحب بعضهم أن يتبعه بأن يقول: أو كما قال, وممن كان يقول ذلك ابن مسعود, وأبو الدرداء, وأنس.

قال الخطيب: «والصحابة أرباب اللسان وأعلم الخلق بمعاني الكلام, ولم يكونوا يقولون ذلك إلا تخوفًا من الزلل, لمعرفتهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر». وقيل: إنما يجوز بلفظ مرادف فقط, وهذا يغاير القول بالجواز مطلقًا لأن الترادف من خواص المفرد, وليس إلا جعل لفظة مكان أخرى. وروي عن مالك أنه كان يشدد في نحو الباء والتاء من بالله وتالله, فلا يجعل أحدهما مكان الآخر, وحمل تشديده على أن المبالغة في أن الأولى نقله بلفظه, لا أنه يجب؛ لأنه ممن نقل عنه الجواز. احتج: بأنا نقطع أنهم نقلوا عنه عليه السلام أحاديث في وقائع متحدة بألفاظ / مختلفة, والذي صدر منه عليه السلام لفظ واحد والباقي بالمعنى, وتكرر وشاع ولم ينكر أحد, فكان إجماعًا على جوازه. واحتمال أن يكون كرر الحديث في ذلك الموطن بألفاظ مختلفة, فروى كل واحد ما سمع بعيد. لا يقال: كل منهم يعتقد أن الصادر من النبي عليه السلام هو اللفظ الذي رواه فلم ينقل بالمعنى, لأنا نقول: موضوع الحجة قبول الآخرين من

غير نكير, مع علمهم أن بعضها بالمعنى. وأيضًا: روي عن ابن مسعود أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم كذا أو نحوه, وذلك صريح بعدم الجزم باللفظ, وأن المروي هو المعنى, ولم ينكر. وقد يقال: لا يلزم من جوازه عند شك الراوي وتبينه ذلك أن يجوز مطلقًا. وأيضًا: أجمع على تفسيره بالعجمية, ولا يجوز تبديل شيء منه بمعناه ولا بمرادفه, وفرق بين ما نقل على أنه كلام النبي عليه السلام, وما نقل على أنه تفسير له. وأيضًا: المقصود في التخاطب إنما هو المعنى ولا عبرة باللفظ, ولذلك أخبر الله تعالى عن الأمم السابقة بمقالات وأنهم قالوها وليست بهذا اللسان قطعًا, وللمخالف أن يمنع للتبرك بلفظه عليه السلام وغير ذلك. قالوا: قال عليه السلام: «نضر الله امرأً» الحديث, ولا يكون مؤديًا له كما سمعه إلا إذا نقله بلفظه. والجواب: المنع, ولو سلّم فلا يفيدكم؛ لأنه دعا لمن نقله بلفظه لأنه فعل الأولى, ولم يمنع منه. قالوا ثانيًا: تجويز ذلك يؤدي إلى الاختلاف, فإنا نقطع باختلاف العلماء في معاني الألفاظ وتفاوتهم, فإذا قدّر اللفظ بالمعنى مرتين وثلاثًا ووقع

تكذيب الأصل الفرع

في كل مرة أدنى تغيير, حصل بالتكرار تغيير كثير واختل المقصود. الجواب: أن الكلام فيمن نقل المعنى سواء, من غير تغيير أصلا. قال: (مسألة: إذا كذب الأصل الفرع سقط, لكذب واحد غير معين, ولا يقدح في عدالتهما, فإن قال: لا أدري, فالأكثر يعمل به خلافًا لبعض الحنفية, ولأحمد قولان. لنا: عدل غير مكذب, كالموت والجنون, واستدل: بأن سهيل بن أبي صالح روى عن أبيه, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد, ثم قال لربيعة: لا أدري, فكان يقول: حدثني ربيعة عني. قلنا: صحيح, فأين وجوب العمل. قالوا: لو جاز لجاز في الشهادة. قلنا: الشهادة أضيق. قالوا: لو عمل به لعمل الحاكم بحكمه إذا شهد شاهدان ونسي. قلنا: يجب ذلك عند مالك وأحمد وأبي يوسف وإنما يلزم الشافعي). أقول: إذا روى عدل عن عدل ثم كذّب الأصل الفرع / في روايته عنه, فالاتفاق على أنه لا يعمل به؛ لأن أحدهما كاذب قطعًا فلا نعرفه, ولا يقدح في عدالتهما؛ لأن عدالة كل واحد منهما مظنونة, وشك في أنه هو الكاذب أو الآخر, والشك لا يرفع الظن, وتظهر ثمرة ذلك فيما لو انفرد

كل واحد منهما برواية خبر فإنه يقبل, نعم لو شهدا معًا بشيء واحد كان محل نظر. أما لو قال الأصل: لا أدري أرويته أم لا؟ . فالأكثر على أنع يعمل به, وروي عن مالك والشافعي وأحمد في أحد قوليه, وخالف بعض الحنفية. لنا: أنه عدل لم يكذبه الأصل فوجب العمل بروايته كما لو مات الأصل أو جن, بجامع عدم التكذيب, وما يجوز في الميت من أنه لو كان حيًا لصدقه معارض, لجواز أن يكذبه فيتساقطا ويبقى عدم التصديق وعدم التكذيب المساوي للمصرح به, واستدل: بأن سهيل بن أبي صالح روى عن أبيه عن أبي هريرة, أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد, ثم قال لربيعة: لا أدري, فكان [ربيعة] إذا روى يقول: حدثني ربيعة عني ولا ينكره

أحد, أخرجه أبو داود. الجواب: أنه لا يدل على وجوب العمل به, نعم يدل على جواز رواية ما هذا شأنه. فإن قيل: قد عمل به مالك والشافعي وأحمد. قلنا: لرواية جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر.

قال الترمذي: «وهو أصح» , أو لغير ذلك من الطرق. قالوا: لو جاز لجاز في الشهادة, لكن شهادة الفرع لا تقبل مع نسيان الأصل. الجواب: منع الملازمة؛ لأن باب الشهادة أضيق. قالوا: لو عمل بروايته مع نسيان الأصل, لعمل الحاكم بحكمه إذا شهد شاهدان بحكم في قضية والحاكم قد نسي حكمه. الجواب: منع بطلان التالي؛ ذا يجب عليه أن ينفذ ذلك الحكم عند مالك, وأحمد, وأبي يوسف.

انفراد العدل بزيادة لا تخالف المزيد عليه

وإنما يلزم الشافعية, ولهم أن يعرفوا بما مرّ؛ لأن الشهادة يوهنها ما لا يوهن الرواية, فشهادتهم أوهنا نسيان القاضي. قال: (مسألة: إذا انفرد العدل بزيادة والمجلس واحد, فإن كان غيره لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة لم تقبل, وإلا فالجمهور تقبل, وعن أحمد روايتان. لنا: عدل جازم فوجب قبوله. قالوا: ظاهر الوهم فوجب ردّه. قلنا: سهو الإنسان بأنه سمع ولم يسمع بعيد, بخلاف سهوه عما سمع فإنه كثير. فإن تعدد المجلس قبل باتفاق. فإن جهل فأولى بالقبول. ولو رواها مرة وتركها مرة فكروايتين. وإذا أسند وأرسلوه, أو رفعه ووقفوه, أو وصله وقطعوه فكالزيادة). أقول: إذا انفرد العدل بزيادة لا تخالف المزيد عليه, كما لو روى

الجماعة أنه دخل البيت, وانفرد واحد بأنه دخل وصلّى بأن اتحد المجلس, فإن كان من لم يرو الزيادة انتهوا إلى عدد لا يتصور ذهولهم عادة عن تلك الزيادة لم تقبل؛ لأنه أولى بالذهول والغلط منهم, وإن لم يبلغوا هذا العدد, فقال جمع من الفقهاء والمتكلمين: يجب قبولها, خلافًا لأحد قولي أحمد وبعض المحدّثين؛ لأن الراوي عدل ثقة وقد جزم بالرواية فيجب القبول, وعدم رواية الغير لا يقدح, لجواز أن يكون دخل في أثناء المجلس, أو خرج في أثنائه, أو طرأ له ما أشغله من عطاس أو نعاس أو ألم أو غفلة, أو نسي بعدما سمع. قال الآخرون: هو أولى بإضافة الوهم إليه لوحدته وتعددهم, فقد يكون توهم أنه سمع ولم يسمع. الجواب: أن سهو الإنسان فيما لم يسمع حتى يجزم بأنه سمع بعيد, بخلاف سهوه عما سمع؛ فإن ذهول الإنسان عما يجري بحضوره كثير الوقوع. أما لو تعدد المجلس, بأن يكون المنفرد روايته عن مجلس آخر غير مجلس

الباقين, فلا خلاف في قبول روايته, فإن جهل كون المجلس واحد أو متعدد فأولى بالقبول مما إذا اتحد لاحتمال التعدد, هكذا في الإحكام, وقريب منه في المحصول, والمصنف لم يقيد كون الزيادة لا تخالف المزيد عليه, هذا تفصيل الأصوليين. وأما تفصيل المحدثين فمن وجه آخر. قال الخطيب: «الجمهور من الفقهاء والمحدثين أن الزيادة من الثقة مقبولة إذا انفرد بها, كان ذلك منه بأن رواة مرة ناقصًا ومرة بالزيادة, أو من غيره, وردها قوم من المحدثين مطلقًا, وقبلها قوم من غيره وردوها منه». واختار ابن الصلاح, أن الزيادة إن كانت منافية لما رواه سائرهم طرحت, وإن لم تناف ولم تخالف فهي كالحديث [الذي] تفرد برواية جملته ثقة, وادعى الخطيب الاتفاق على قبولها, وما كان بين هاتين المرتبتين مثل زيادة نقطة لم يذكرها سائر الرواة, مثل ما انفرد به مالك, عن نافع, عن ابن عمر, أن النبي عليه السلام: «فرض زكاة الفطر من رمضان على كل حرّ أو عبد, ذكر أو أنثى من المسلمين».

قال الترمذي: «انفرد مالك بزيادة من المسلمين». وروى عبيد الله بن عمر, وأيوب وغيرهما, عن نافع, عن ابن عمر بدونها. وأخذ بالزيادة الشافعي وأحمد وغير واحد واحتجوا بها.

زيادة الوصل مع الإرسال

ومنه حديث: «جعلت لنا الأرض مسجدًا, وجعلت لنا تربتها طهورا» , انفرد أبو مالك الأشجعي بزيادة تربتها, ورواه الباقون / «وجعلت لنا الأرض مسجدًا وطهورًا». فهذا يشبه الأول من حيث [إن ما رواه الجماعة عموم, وما رواه المنفرد خصوص, ويختلف الحكم بسببهما, ويشبه الثاني من حيث إنه لا ينافي المزيد عليه]. قال: «وأما زيادة الوصل مع الإرسال, فإن بين الوصل والإرسال من المخالفة نحو ما ذكرناه, ويزداد بأن الإرسال نوع قدح في الحديث فيقدم, كما يقدم الجرح على التعديل. ويجاب: بأن الجرح يقدم لما فيه من زيادة العلم, والزيادة هنا مع من

الفرق بين الشاذ وزيادة الثقة

وصل». ومما ينبغي أن يعرف الفرق بين الشاذ وزيادة الثقة؛ لأن الشذوذ قدح, قال الشافعي: «ليس الشذوذ أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره, بل أن يخالف ما رواه ما روى الناس». خلافًا لمن فسره بما انفرد به الثقة ولا يعرف عند غيره؛ إذ في الصحيحين من هذا القبيل أحاديث, وقيل منها: «إنما الأعمال بالنيات» , وحديث: [«نهى عن] بيع الولاء». و[اختار] منه وأضبط, كان من انفرد به شاذًا مردودًا, وإن لم يخالف ما رواه غيره, فإن كان ضابطًا قُبل ولا يقدح انفراده, وإن كان لم يكن موثوقًا

حذف بعض الخبر

بضبطه وإتقانه, انحط عن درجة الصحيح بأن كان هذا قريبًا من الضابط, كان الحديث حسنًا, وإن كان بعيدًا منه ردَّ وكان من قبيل الشاذ المنكر, فخرج من هذا أن الشاذ المردود قسمان. أما لو أسنده المنفرد وأرسله الباقون, فحكى الخطيب عن أكثر المحدثين أن الحكم للمرسل, وعن بعضهم الحكم للذي هو أحفظ, وعن بعضهم الحكم للأكثر, ثم ذلك غير قادح في عدالة من أسنده, خلافًا لمن قال: من أسند ما أرسله الحفاظ فذلك قادح في عدالته, ثم قال: والصحيح أن الحكم لمن أسنده. وكذا لو رفعه بعضهم إلى النبي عليه السلام ووقفه بعضهم على الصحابي فكالزيادة على الأصح أيضًا. أما لو وصله وكان منقطعًا عند الأكثرين فكالزيادة؛ إذ المنقطع والمرسل يشتركان في عدم الاتصال. قال: (مسألة: حذف بعض الخبر جائز عند الأكثر, إلا في الغاية والاستثناء ونحوه, مثل: «حتى تزهى» , وإلا «سواء بسواء» فإنه ممتنع). أقول: يجوز حذف بعض الخبر وروايته عند الأكثرين إذا كان مستقلًا

الخبر فيما تعم به البلوى

لأنهما كخبرين. أما لو تعلق بالمذكور تعلقًا بغير المعنى كما في الغاية, مثل ما روى في الصحيح عن أنس: «نهى عليه السلام عن بيع الثمرة حتى تزهى». وفي الصحيح أيضًا, عن أبي سعيد الخدري قال: قال عليه السلام: «لا تبيعوا الذهب بالذهب والورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء» , فلا يجوز حذف «حتى تزهى» ولا حذف المستثنى, لاختلال المعنى, وحينئذ إنما يجوز / للعارف الذي يعلم أن ما تركه غير متعلق بما ذكر فجائز, ومنعه قوم مطلقًا. قال: (مسألة: خبر الواحد فيما تعم به البلوى, كابن مسعود في مس الذكر, وأبي هريرة في غسل اليدين, معمول به, خلافًا لبعض الحنفية. لنا: قبول الأمة له في تفاصيل الصلاة, وفي نحو الفصد والحجامة, وقبول القياس وهو أضعف. قالوا: العادة تقضي بنقله متواترًا. ردّ: بالمنع, وتواتر البيع والنكاح والعتق والطلاق اتفاقًا, أو كان مكلفًا بإشاعته).

أقول: من الأمور: ما تعم به البلوى وحاجة الكل إليه, كالصلاة وما تتوقف عليه, فعند المالكية والشافعية قبول خبر الواحد فيه. قال المصنف: كحديث ابن مسعود في وجوب الوضوء من مس الذكر, وهو غير معروف عن ابن مسعود. نعم رواه غيره, قال الطبري: «بضعة عشر صحابيًا رواه». وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها» , خرجها في الصحيحين عنه. وحديث رفع اليدين, رواه أبو هريرة, «كان النبي عليه السلام إذا قام

إلى الصلاة رفع يديه» أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة, وخرجاه في الصحيح من حديث ابن عمر, لكن قال البيهقي: «لا نعلم سنة رواها جماعة منهم العشرة إلا هذه» , إلا أن يحمل على رفع اليدين عند الركوع فيصح, وهو أيضًا مروي من حديث أبي هريرة, وهو في الصحيح من حديث ابن عمر. والحق: أن الأول والثالث من المشهور, وهم يفرقون بينه وبين الآحاد في كثير من الأحكام. لنا: قبول الأمة له في تفاصيل الصلاة وذلك مما تعم به البلوى, وقبوله نحو الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة, أوجبوا منها الوضوء وهو حجة عليهم. وأيضًا: قبلوا القياس في نحوه وهو أضعف من خبر الواحد, على ما

قبول خبر الواحد فيما يوجب الحد

سيأتي, فخبر الواحد [أولى] بالقبول. وقد يقال: القهقهة والفصد والحجامة عمل به لشهرته, أو للقرائن المحتفة به, والقياس إنما عمل به لعدم القادح, والخبر المتنازع فيه عدم شهرته قادح فيه. قالوا: العادة تقضي في مثله بالتواتر, لتوفر الدواعي على نقله, ولما لم يتواتر علم كذبه. الجواب: المنع, وسنده ما مرّ من الفصد والحجامة. قالوا: لو صح لوجب أن يلقيه إلى عدد التواتر, لئلا يؤدي إلى بطلان صلاة أكثر الناس, مما جعل في البيع والنكاح والعتق والطلاق. أجاب: بالمنع, وبطلان الصلاة فيمن بلغة خاصة, والبيع وما ذكر معه اتفق تواتر, أو كان عليه السلام مكلفًا / بإشاعته خاصة دون غيره, فليس ذلك من العادة في شيء. قال: (مسألة: خبر الواحد في الحدّ مقبول, خلافًا للكرخي والبصري. لنا: ما تقدم. قالوا: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» , والاحتمال شبهة.

قلنا: لا شبهة كالشهادة, وظاهر الكتاب). أقول: خبر الواحد فيما يوجب الحدّ مقبول عند الأكثر, خلافًا للكرخي والبصري. لنا ما تقدم من أنه عدل جازم في حكم ظني, فوجب قبوله. قالوا: قال عليه السلام: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» , واحتمال كذبه شبهة, فوجب سقوط الحدّ فيه. الجواب: ليس [كل] شبهة يدرأ بها الحدّ, كما في الشهادة مع احتمال الكذب, وذلك يدرأ الحدّ اتفاقًا مع أن بابها أضيق, وكذا ظاهر الكتاب يجوز أن يكون المراد غيره, مع أن هذا الاحتمال لا يدرأ به حدُّ. وهذا الحديث في خلافيات البيهقي بهذا اللفظ. وأخرجه الترمذي من حديث عائشة قالت: قال عليه السلام: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم, فإن كان له مخرج فخلوا سبيله, فإن

حمل الصحابي ما يرويه على أحد محمليه

الإمام إن يخطئ في العفو, خير من أن يخطئ في العقوبة» , قال: «وروي موقوفًا وهو أصح». قال: (مسألة: إذا حمل الصحابي ما رواه على أحد محمليه, فالظاهر حمله عليه بقرينة. فإن حمله على غير الظاهر, فالأكثر على الظهور. وفيه قال الشافعي: كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته. فإن كان نصًا, فيتعين نسخه عنده, وفي العمل نظر. فإن عمل بخلاف خبرٍ أكثرُ الأمة, فالعمل بالخبر, إلا إجماع أهل المدينة). أقول: إذا روى الصحابي خبرًا مجملًا وحمله على أحد محمليه, فالظاهر حمله عليه؛ لأن الظاهر أنه لم يحمله عليه إلا لقرينة عاينها؛ لأن النبي عليه السلام لا ينطق بلفظ مجمل قاصدًا للتشريع ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية غالبًا.

ولما كان قد يقال: لا يكون حجة على غيره من المجتهدين بل ينظر, فإن انقدح وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال وجب اتباعه, وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح. وقال المصنف: (فالظاهر) ولم يقل: يجب حمله, ثم هذا إن لم يقل بتعميم المشترك, وأما إن قلنا به, فحمله على أحدهما حمل على غير الظاهر, فيصير من الثاني. أما لو كان ظاهرًا في معنى, فحمله على غير ظاهره, فالأكثر على أنه يعتبر ظهوره ويحمل عليه, وفيه قال الشافعي: «كيف أترك الحديث لأقوال أقوام لو عاصرتهم لحاججتهم بالحديث». وقال جمع من الحنفية: يحمل على ما تأوله عليه. أما لو كان الخبر نصًا, فلا وجه لمخالفة الراوي سوى احتمال اطلاعه على ناسخ فيتعين لعدالة الصحابي أنه نسخ بناسخ اطلع هو عليه ورآه بالخبر؛ إذ ربما ظن ناسخًا ولم يكن, ولأن النص أقوى من الظاهر, والظاهر لا يترك

لقول الصحابي, فكيف النص. ويمكن أن يقال: يعمل بالناسخ؛ لأن خطأه فيه / بعيد, والنص دلالة قطعية لا يحمل غير معناه, فما تركه إلا لنص آخر لاجتهاد, بخلاف الظاهر قد يكون تركه لاجتهاد. والمصنف جزم في باب النسخ بأن النسخ لا يثبت بتعيين الصحابي, محتجًا بأنه قد يكون عن اجتهاد, فأحرى إذا لم يقل هو منسوخ بكذا, ولا يناقض ما هنا؛ لأنه قال: تعين عنده نسخه لا في الواقع, لكن يحتمل أن يكون منسوخًا في الواقع, فقد يكون قال: (وفي العمل نظر) لذلك, وهو يقرب من قوله في النسخ. وإذا لم يعلم ذلك فالوجه الوقف, ويحتمل أنه تردد لتردد الناس في الراوي إذا خالف ما رواه, هل يقبل ما رواه أم لا؟ . وأكثر المالكية يقبلونه. أما لو عمل بخلاف الخبر أكثر الأمة, تعين العمل بالخبر لأنه حجة, وقولهم ليس بحجة. قال المصنف: (إلا إجماع أهل المدينة) فإنه يقدم. والحق ما قدمناه في الإجماع, وهو أنه إن كان إجماعهم مخالفًا لخبر الواحد, فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك الخبر بلا خلاف, وإن كان

خبر الواحد إذا خالف القياس

اجتهاديًا قدم الخبر عند الجمهور من المالكية, خلافًا لابن المعذل, وأبي مصعب, وبعض المغاربة. قال: (مسألة: الأكثر على أن الخبر المخالف للقياس من كل وجه مقدم, وقيل: بالعكس. أبو الحسين: إن كانت العلة بقطعي فالقياس, وإن كان الأصل مقطوعًا به فالاجتهاد. والمختار: إن كانت العلة بنص راجح على الخبر, ووجودها في الفرع قطعي فالقياس, وإن كان وجودها ظنيًا فالوقف, وإلا فالخبر. لنا: أن عمر رضي الله عنه ترك القياس في الجنين للخبر, وقال: لولا هذا لقضينا فيه برأينا, وفي دية الأصابع باعتبار منافعها, لقوله عليه السلام: «في كل أصبع عشرة» , وفي ميراث الزوجة من الدية, وغير ذلك, وشاع وذاع ولم ينكره أحد. وأما مخالفة ابن عباس خبر أبي هريرة «توضؤوا مما مسته النار» , فاستبعاد لظهوره, وكذلك هو وعائشة في «إذا استيقظ» , ولذلك قالا: فكيف نصنع بالمهراس. وأيضًا: أخر معاذ العمل بالقياس وأقره. وأيضًا: لو قدم لقدم الأضعف. والثانية إجماع؛ لأن الخبر يجتهد فيه في العدالة والدلالة, والقياس في ستة:

حكم الأصل, وتعليله, ووصف التعليل, وفي وجوده في الفروع, ونفي المعارض فيهما, وإلى الأمرين أيضًا إن كان الأصل خبرًا. قالوا: الخبر محتمل للكذب والكفر والفسق والخطأ والتجوز والنسخ. وأجيب: بأنه بعيد. وأيضًا: فمتطرق إذا كان الأصل خبرًا. وأما تقديم ما تقدم؛ فلأنه يرجع إلى تعارض خبرين عمل بالراجح منهما. والقف: لتعارض الترجيحين. فإن كان أحدهما أعم خُصّ بالآخر, وسيأتي). أقول: خبر الواحد إن خالف القياس, فإن تعارضا من كل وجه, فعن مالك القياس مقدم, قال العراقيون من أصحابنا: هو مذهب مالك, وقال القاضي عياض: «مشهور مذهب مالك أن الخبر مقدم». وفي المدونة ما يدل على الأمرين من مسألة ولوغ الكلب, ومسألة المصراة. وقال الشافعي, وأحمد, والكرخي: الخبر مقدم.

وقال أبو الحسين: إن كانت العلة منصوصة بنص قاطع قُدم القياس, وإلا فإن كان الأصل مقطوعًا به فقط فموضع اجتهد في أيهما يقدم, وإلا فالخبر مقدم. والمختار: إن كانت العلة منصوصة بما هو راجح على الخبر في الدلالة, فإن كان وجود العلة في الفرع قطعيًا فالقياس مقدم, فإن كان وجودها في الفرع ظنيًا فالوقف. وإن لم تكن العلة منصوصة, أو منصوصة بما هو مساو للخبر في الدلالة, فالخبر مقدم. لنا في تقديم الخبر حيث يقدم: أن عمر رضي الله عنه ترك القياس في مسألة الجنين للخبر, حين استشارهم في إملاص المرأة, فقال المغيرة: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالغرة عبدًا أو أمة, فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي عليه السلام قضى به, خرّجه البخاري. زاد أبو داود: «الله أكبر, لو لم أسمع هذا لقضينا بغير هذا».

وكذا في دية الأصابع, حيث رأى أنها تتفاوت باعتبار منافعها, حكى الخطابي عن ابن المسيب أن عمر كان يجعل في الإبهام خمسة عشر, وفي [الخنصر ستًا, وفي البنصر تسعًا] , وفي الوسط والسبابة عشرًا عشرًا, حتى وجد كتابًا عند آل عمر بن حزم, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ به. وكذا في ميراث الزوجة, روى أبو داودٍ أن عمر كان يقول: الدية للعاقلة, ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا, حتى أخبره الضحاك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن ورث امرأة أشيم من دية زوجها, إلى غير

ذلك من الصور, وشاع وذاع ولم ينكر تقديمه, فكان إجماعًا. قيل: لا نسلم عدم الإنكار, فإن ابن عباس خالف خبر أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: «توضؤوا مما مسته النار». أخرجه في الصحيحين. زاد الترمذي: فقال ابن عباس: «أنتوضأ من الحميم». وبأن ابن عباس وعائشة خالفا خبره أيضًا, وهو قول عليه السلام: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها». واعلم أن ما ذكره المصنف من مخالفتهما فغير معروف. نعم روي عن أصحاب عبد الله أنهم قالوا: «كيف يصنع أبو هريرة بالمهراس» , رواه البيهقي.

الجواب: أنهما لم يقدما القياس, بل استبعدا حمل الحديثين على ظاهرهما الذي هو الوضوء الشرعي في الأول, والإطلاق في الثاني, لثبوت غير ذلك من أنه عليه السلام «أكل من كتف شاة وصلّى ولم يتوضأ» , ولتعذر الثاني في مثل المهراس, وهو الحجر العظيم. واللام في (لظهوره) للتعدية / لا للتعليل. ولنا أيضًا: حديث معاذ, أخّر فيه القياس عن الخبر, وأقره عليه السلام, فكان الخبر مقدمًا. واعلم أن التمسك السابق لا يتناول ما كانت العلة فيه بنص مساوٍ للخبر, وهذا إن أراد معاذ بالسنة ما سمعه من النبي عليه السلام فغير محل للنزاع, وإن أراد ما صدق أنه سنة, لزم تقديمه في موضع الاجتهاد عنده. احتج أيضًا: بأنه لو قدم القياس على خبر الواحد لقدم الأضعف؛ لأن الخبر يجتهد فيه في أمرين فقط: [عدالة الراوي, ودلالة الخبر على المراد. وأما القياس, فيجتهد فيه في أمور ستة]: ثبوت حكم الأصل.

وتعليل حكم الأصل. إظهار وصف صالح للتعليل. ووجود ذلك الوصف في الفرع. ونفي المعارض في الأصل. وفي الفرع. وإن كان حكم الأصل ثابتًا بالخبر, احتاج القياس أيضًا إلى اجتهاد في عدالة الراوي ودلالة الخبر على المراد, ولا شك أن ما يجتهد فيه في مواضع أكثر, فاحتمال الخطأ فيه أكثر, والظن الحاصل منه أضعف, وهذا أيضًا يقتضي تقديمه في موضع الاجتهاد. قالوا: الاحتمال في القياس أقل؛ لأن الخبر يحتمل كذب الراوي وفسقه وكفره وخطئه, وباعتبار الدلالة يحتمل التجوز, وباعتبار الحكم يحتمل النسخ. الجواب: أنها احتمالات بعيدة لا تمنع الظهور, ثم هذه الاحتمالات متطرقة إذا كان حكم الأصل بخبر. ثم لما فرغ مما يقدم فيه الخبر, قال: وأما تقديم ما يقدَّم من القياس, فإنه يرجع إلى تعارض خبرين وأحدهما راجح, فقدم الراجح. وفيه نظر بغير ما ذكر؛ لتوقفه على مقدمات أكثر, ولا يلزم من رجحان نص العلة على الخبر رجحان القياس على الخبر؛ لأن نص العلة وإن

المرسل

كان راجحًا فهو إنما دلّ على الحكم بواسطة العلة, وخبر الواحد لا بواسطة فاعتدلا. ثم قال: (الوقف لتعارض الترجيحين) أي حيث قلنا بالوقف فلترجيح القياس بما ذكر, وترجيح الخبر بقلة المقدمات, وفيه ما تقدم. أما إن كان الخبر لا يخالف القياس من كل وجه بأن يكون أحدهما أعم, فإن الأعم يخص بالأخص جمعًا بينهما, وسيأتي في التخصيص تخصيص العموم بالقياس, وأما تخصيص القياس بالخبر فسيأتي أيضًا في النقض في العلة, وإليه أشار بقوله: (والمختار) , وإن كانت مستنبطة لم يجز إلا لمانع, ثم قال: وإن كانت منصوصة فبظاهر عام, ويجب تخصيصه وتقدير المانع. قال: (مسألة: المرسل قول غير الصحابي قال صلى الله عليه وسلم. ثالثها: قال الشافعي: إن أسنده غيره أو أرسله وشيوخهما مختلفة, أو عضده قول الصحابي أو أكثر العلماء, أو عرف أنه لا يرسل إلا عن عدل, قبل. ورابعها: إن كان من أئمة النقل قبل, وإلا فلا, وهو المختار. لنا: أن إرسال الأئمة من التابعين كان مقبولًا مشهورًا ولم ينكر, كسعيد بن المسيب, والنخعي, والشعبي, وغيرهم. فإن قيل: يلزم أن يكون المخالف خارقًا للإجماع.

قلنا: خرق الإجماع الاستدلالي, والظني لا يقدح. وأيضًا: لو لم يكن عدلًا عنده, لكان مدلسًا في الحديث. قالوا: لو قبل مع الشك لأنه لو سئل لجاز ألا يعدّل. قلنا: في غير الأئمة. قالوا: لو قبل لقبل في عصرنا. قلنا: لغلبة الخلاف فيه, أما إن كان من أئمة النقل ولا ريبة تمنع, قبل. قالوا: لا يكون للإسناد معنى. قلنا: فائدته في أئمة النقل تفاوتهم, ورفع الخلاف. القابل مطلقًا تمسكوا بمراسيل التابعين, ولا يفيد تعميمًا. قالوا: إرسال العدل يدل على تعديله. قلنا: نقطع بأن الجاهل يرسل ولا يدري من رواه, وقد أخذ على الشافعي. فقيل: إن أسند فالعمل بالمسند, وإن لم يسند فقد انضم غير مقبول إلى مثله ولا يرد؛ لأن الظن قد يحصل أو يقوى بالانضمام. والمنقطع: أن يكون قول الصحابي أو من دونه). أقول: اختلف في تعريف المرسل, وفي العمل به.

المشهور عند المحدثين أن قول التابعي: قال صلى الله عليه وسلم كذا, وقيل: قول التابعي الكبير كابن المسيب, وأنه إذا قال تابعي صغير كالزهري: قال صلى الله عليه وسلم فهم منقطع؛ لأنهم لم يلقو من الصحابة إلا قليلًا, وأكثر روايتهم عن التابعين. وعرّفه المصنف: بقول غير الصحابي قال صلى الله عليه وسلم, وهذا يتناول قول تابعي التابعين ومن دونه, والمشهور عند المحدثين تسمية هذا بالمعضل, فسماه الخطيب البغدادي منهم مرسلًا, وهذا هو المشهور في الفقه وفي أصوله. ثم هو مقبول عند مالك, وأبي حنيفة, وأحمد في أشهر قوليه, وجمهور المعتزلة, واختاره الآمدي.

وقيل: لا يقبل, وهو مذهب جمهور المحدثين, وقال الشافعي: لا يقبل إلا بأحد أمور خمسة: - أن يسنده غيره. - أو يرسله آخر, وعلم أن أحد شيوخ [أحد] المرسلين غير شيوخ المرسل الآخر. - أو يعضده قول صحابي. - أو قول أكثر أهل العلم. - أو علم من حال المرسل أنه لا يرسل إلا ما رواه عن عدل. - واختار المصنف مذهب ابن أبان, وهو أن الراوي إن كان من أئمة أهل الحديث قبل, وإلا فلا.

لنا: أن إرسال الأئمة والتابعين كان مشهورًا مقبولًا ولم ينكره أحد وكان إجماعًا, كإرسال ابن المسيب, والنخعي, والشعبي, والحسن وغيرهم. فإن قيل: لو كان كذلك لكان إجماعًا, وكان المخالف خارقًا [للإجماع] فكان فاسقًا. الجواب: أن ذلك في الإجماع القطعي, أما الثابت بالاستدلال وهو السكوتي, للاستدلال من قول البعض أو عمله وسكوت الباقين عن الموافقة أو الظن كالمنقول بالآحاد, ولا يكون مخالفه خارقًا, وإنما جعل الاستدلالي قسيم / الظني, لأنه قد يكون قطعيًا إذا علمت موافقتهم, وقد تقدم. ولنا أيضًا: لو لم يكن المروي عنه عدلًا عنده, لكان الجزم بالإسناد

برواية الموهم أنه سمع من عدل تدليسًا في الحديث, فيكون قدحًا. واعلم أن ما احتج به أولًا أخص من الدعوى, فقد يقال: إنما قبل مرسلًا؛ لأنهم لا يرسلون عن الصحابة وهم عدول إلا لأجل أنهم من أئمة النقل فقط. وعلى الثاني: أنه يقتضي قبول المرسل من كل عدل. وأيضًا: لا يلزم من كونه عدلًا عنده أن يكون عدلًا في الواقع, فيجب إظهاره, وأيضًا: لم تعلم عدالة الأصل, وقد قام أن رواية العدل عن الشخص ليس تعديلًا له, فإن ادعى أن أئمة النقل عادتهم أنهم لا يروون إلا عن عدل حتى يكون تعديلًا, منعناه, ثم هو راجع إلى قول الشافعي؛ لأنه إذا لم يرو إلا عن عدل, فما أرسل إلا عن عدل, ولو سلّم فقصاراه أن يكون قدحًا [في] الحديث لا فيه على ما قدم. احتج القائل بعدم القبول: بأنه لو قبل المرسل لقبل مع الشك, والتالي باطل, أما الملازمة؛ فلأنه لو سئل عن عدالة الراوي جاز ألا يعدله, ومع هذا الاحتمال يبقى الشك في عدالته. أجاب: بأن هذا الاحتمال إنما يقوى في غير أئمة النقل.

وأما أئمة النقل فالظاهر أنهم لا يجزمون إلا عمن لو سئلوا عنه لعدلوه, والاحتمال الضعيف لا ينافي الظهور. قالوا ثانيًا: لو قبل لقبل في عصرنا؛ إذ لا تأثير للزمان, والتالي باطل. الجواب: نمنع الملازمة؛ للفرق بأن غلبة الخلاف وكثرة المذاهب في عصرنا منع من قبول المرسل. وأيضًا: لغلبة الإرسال عمن لو سئل عنه لم يعرفه, فضلًا عمن يعدله. سلمنا, ونمنع بطلان التالي في أئمة النقل, إذ لم تكن ريبة من تكذيب الحفاظ وغيرها, وكأنه منع الملازمة في غير محل النزاع, وبطلان التالي في محل النزاع. قالوا ثالثًا: لو جاز العمل بالمرسل, لما كان لذكر الإسناد فائدة, فكان اتفاقهم على الإسناد عبثًا. الجواب: منع الملازمة, وأن فائدته في غير أئمة النقل ظاهرة, لينظر فيه المجتهد, وفي أئمة النقل معرفة تفاوت رتبهم للترجيح عند التعارض, وفي

القبيلين رفع الخلاف؛ إذ لم يختلفوا في العمل بالمسند بخلاف / المرسل. احتج القائل مطلقًا: بأنهم قبلوا مراسيل التابعين, وتقريره ما مرّ. الجواب: أن ذلك لا يفيدهم تعميمًا, فإن من ذكرتم من أئمة النقل. قالوا ثانيًا: العدل إذا أرسل غلب على الظن أن المنقول عنه عدل, وإلا لما جزم بالمنقول. الجواب: منع ذلك في غير الأئمة, لأنا نقطع أن الجاهل يرسل ولا يعرف من رواه فضلًا عن عدالته, وكذلك لم يقبل في عصرنا. وقد أخذ بعض الحنفية على الشافعي حيث قال: إذا أسنده غيره ... إلى آخره, فقال: إذا أسنده غيره فالعمل إذن بالمسند. قال المصنف: وهو وراد. وأجاب ابن الصلاح: بأنه بالمسند يتبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال, حتى يحكم له مع إرساله بأنه إسناد صحيح تقوم به الحجة. وقال بعضهم: موافقته للمسند لا توجب إسقاطه, كما لو وافق مسند مسندًا؛ [إذ] العمل بالمرسل من حيث تقوى بالمسند, لا من

المنقطع

حيث أنه مسند. ومنع بعضهم وردوه بأن مقصوده إذا لم يثبت عدالة ذلك الإسناد فيكون العمل بهما. ثم قال الحنفي المعترض: وإلا فقد انضم غير مقبول إلى مثله؛ لأن شيئًا منها ليس بدليل, وهذا في غير الخامس؛ لأنه عند الشافعي مسند. قال المصنف: ولا يرد؛ لأن الظن قد لا يحصل إلا بهما, أو لا يقوى إلا بحيث يجب العمل به إلا بالانضمام. لكن للمعترض أن يقول: العلم بعدالة الأصل إن لم تكن شرطًا قُبل المرسل, وإلا لم يقبل الخبر الذي اجتمع فيه إرسالان؛ لانتفاء شرط القبول وهو العلم بعدالة الأصل, وما أجاب به المصنف ضعيف؛ لانتفاء شرط القبول عنده, ثم لما فرغ من المرسل, قال: والمنقطع: أن يكون بين الراويين رجل لم يذكر, وبعضهم يسميه مرسلًا. قال: وفي العمل به نظر يعرف مما تقدم في المرسل, وينبغي على مختاره في المرسل أن يفصل في العمل بالمنقطع, يظهر ذلك بالتأمل, ثم قال: والموقوف: قول صاحبي أو من دونه, والمشهور عند المحدثين أنه ما

روى عن الصحابة من أقوالهم وأفعالهم ولا يوصل إلى الرسول عليه السلام. ويستعملونه في غير الصحابي أيضًا لكن مقيدًا, يقولون: وقفه فلان على طاووس, أو على عطاء. ولم يتعرض له المصنف, وفي العمل به فيما لا يعلم إلا توقيفًا اختلاف عندنا.

الأمر

قال: (الأمر حقيقة في القول المخصوص اتفاقًا, وفي الفعل مجاز. وقيل: مشترك, وقيل: متواطئ. لنا: سبقه إلى الفهم, ولو كان متواطئًا لم يفهم الأخص, كحيوان في إنسان. واستدل: لو كان حقيقة لزم الاشتراك, فيخل بالتفاهم. وعورض: بأن المجاز خلاف الأصل فيخل بالتفاهم, وقد تقدم مثله. التواطؤ: مشتركان في عام, فيجعل اللفظ له دفعًا للمحذورين. وأجيب: بأنه يؤدي إلى رفعهما أبدًا, فإن مثله لا يتعذر, وإلى صحة دلالة الأعم للأخص, وأيضًا فإنه قول حادث هنا). أقول: لما فرغ مما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع من السند, شرع فيما يشترك فيه من المتن. فمنه الأمر: ولفظ الأمر, وهو «أم ر» حقيقة في القول المخصوص, الذي هو الصيغة الدالة على الطلب اتفاقًا, وسُمي هذا اللفظ لفظًا, كقولهم: «قام» فعل ماض, و «في» حرف جر, وليس كقولنا: الأسد حقيقة في الحيوان المفترس. والأمر قسم من أقسام الكلام, سواء قلنا: الكلام هو المعنى القائم بالنفس, أو بالعبارة الدالة بالوضع, ويطلق الأمر على الفعل, ومنه: {وما

أمر فرعون برشيد} , والأكثر على أنه فيه مجاز, وقيل: مشترك بين القول المخصوص والفعل, وقيل: للقدر المشترك بين القول المخصوص والفعل. قلت: وهذا القول غير موجود, وأيضًا يبطل اتفاقه الذي صدر به؛ لأنه إذا كان حقيقة للقدر المشترك, كان مجازًا في الخصوصيات, إلا إذا أطلق على الخصوصيات باعتبار ذلك المعنى. وقد يُجاب عن الثاني: بجواز أن يكون مشتركًا بالاشتراك اللفظي بين القدر المشترك بين القول المخصوص والفعل وبين القول المخصوص, لكن دليله وهو أنه يسبق القول إلى الفهم يرده, على أنه يبطل من ناحية أخرى لوجود الخلاف في الأمر, أهو حقيقة في النفسي مجاز في اللفظي, أو

بالعكس, أو بالقدر المشترك بينهما؟ . لنا: سبق القول المخصوص إلى الفهم عند الإطلاق من غير قرينة, فكان فيه حقيقة غير مشترك بينهما, وإلا لما تبادر شيء منهما, وغير متواطئ, وإلا لكان أعم في القول المخصوص, فلم يفهم منه القول المخصوص؛ لأن الأعم لا يفهم منه الأخص, كما أن الحيوان لا يتبادر منه عند الإطلاق فهم الإنسان, فمعنى كلامه: كحيوان في فهم إنسان منه. واستدل: لو كان حقيقة في الفعل لكان مشتركًا؛ إذ لا شك أنه حقيقة في القول المخصوص, واللازم باطل لإخلاله بالتفاهم. الجواب: لو لم يكن حقيقة لزم المجاز, واللازم باطل لإخلاله بالتفاهم. واعلم أن عدم منع المصنف الملازمة مستند إلى جواز التواطؤ يحقق بطلان الاتفاق الذي ذكر, لأنه رآه إذا كان حقيقة في الفعل لا يكون حقيقة في المشترك, وكذلك يلزمه هناك. ولا يقال: إنما لم يمنعه / مستندًا إلى ما ذكر؛ لأنه لا يدفع الاشتراك اللفظي؛ لأنه حقيقة في القول أيضًا, فلو كان حقيقة في القدر المشترك لزم الاشتراك. لأنا نقول: إنما لا يندفع لو لم يكن كون الأمر حقيقة في القول

المخصوص باعتبار الشأن والشيء, وهو ممنوع. ثم اعلم أن هذه المعارضة ضعيفة على ما سبق له من أن المجاز خير. احتج القائل بالتواطؤ: بأن القول المخصوص والفعل مشتركان في معنى عام, وهو الشيء والشأن, فيجعل اللفظ للمشترك دفعًا لمحذور المجاز والاشتراك. الجواب: متى يجب جعل اللفظ للقدر المشترك مع وجود ما يدل على المجاز أو الاشتراك أو لا, الأول ممنوع وإلا أدى إلى رفع المجاز والاشتراك, فإنه لا يتعذر وجود معنى عام في شيء من مواضع الاشتراك والمجاز, والثاني مسلّم ولكن لا نسلّم عدم ما يدل على أحدهما, فإن ما ذكرنا من سبق الفهم يدل عليه. والمجاز والاشتراك وإن كانا خلاف الأصل, لكن إذا دلّ عليهما دليل صارا موافقين للأصل, وإلى هذا المعنى أشار في المنتهى, حيث قال: وأجيب: بأن ذلك إنما يستقيم لو لم يدل دليل على خلافه, وإلا وجب رفعهما أصلًا, فإنه لا يتعذر في كل موضع. وثانيًا: بأنه يؤدي إلى صحة دلالة الأعم على الأخص. وثالثًا: بأنه قول حادث يرفع كونه حقيقة بالقول المخصوص بخصوصه,

مسألة: حد الأمر اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء

وأنه مجمع عليه, فوجب ردّه, وصاحب الإحكام لم يورده مذهبًا, بل على سبيل الإيراد بأن قال: لم لا يجوز أن يكون متواطئًا؟ ثم أتى بالأجوبة. قال: (حدّ الأمر: اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء. وقال القاضي والإمام: القول المقتضى طاعة المأمور بفعل المأمور به. وردّ: بأن المأمور مشتق منه, وأن الطاعة موافقة الأمر, فيجيء الدور فيهما. وقيل: خبر عن الثواب على الفعل. وقيل: عن استحقاق الثواب. وردَّ: بأن الخبر يستلزم الصدق أو الكذب, والأمر يأباها). أقول: لما ذكر أن «أم ر» يُطلق على القول المخصوص حقيقة فيسمى أمرًا, والأمر أحد أقسام الكلام, سواء قلنا: الكلام هو المعنى القائم بالنفس, أو هو العبارة الدالة بالوضع, عرّفه باعتبار أنه قسم من الأول, ثم نقل تعاريف منكري النفساني القائلين إنه قسم من الثاني. ولما كان رأي الأشعري هو الأول بدأ به, وكان الأولى أن يحدّه بالاعتبار الثاني فقط كما فعل في تعريف القرآن؛ لأنه حظ الأصولي, وذلك حظ المتكلم. وأيضًا إذا كان حقيقة في القول المخصوص وهو صيغة كما تقدم,

فالمناسب / حدّه باعتبارها, وهذا الذي حدّه إنما هو لمدلول القول المخصوص فهو لمدلول الأمر, فالاقتضاء جنس. وقوله: (غير كفّ) يخرج النهي؛ لأنه عنده فعل, وهو كف. وقوله: (على جهة الاستعلاء) يخرج الدعاء والالتماس, والأشعري لا يشترط الاستعلاء, واشترطه أبو الحسين البصري, والحق عدم اشتراطه؛ لقوله تعالى حكاية عن فرعون: {ماذا تأمرون}. لا يقال: فيكون السؤال والالتماس للوجوب, ويكون التارك مستحقًا للعقاب؛ لأن الأمر للوجوب كما سيأتي. لأنا نقول: ذلك يقتضي إيجاب السؤال وإلا أنه لا يتقرر الوجوب؛ إذ لا يلزم المسئول القبول, ولا يكون سببًا إلا بعد تقرر الوجوب. وعرّفه القاضي - وتابعه جماعة - بأنه: القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به. وردّه المصنف: بأنه يشتمل على الدور من وجهين: أحدهما: أن المأمور - وهو واقع في الحدَّ مرتين - مشتق من الأمر, فتتوقف معرفته على معرفته. وثانيهما: أن الطاعة موافقة الأمر, والمضاف من حيث هو مضاف لا

مسألة: المعتزلة لما أنكروا الكلام النفسي

يُعرَّف إلا بمعرفة المضاف إليه. وقد يُدفع الدور: بأن تميز الأمر غير تصور حقيقته, فتميزه كافٍ في تصور هذه الأمور, والمطلوب تصور حقيقته. ودفعه بعضهم: بأنهما يتوقفان على الأمر اللغوي, والحدّ للأمر الاصطلاحي. وعرَّفه بعض الأشاعرة: بأنه خبر عن الثواب على الفعل, وقال آخرون منهم: خبر عن استحقاق الثواب على الفعل؛ لئلا يلزم الخلف في الخبر عند عدم الثواب إذا أحبط عمله. واعترض عليهما: بأن الخبر يستلزم إما الصدق وإما الكذب؛ إذ لا يخلو عن أحدهما قطعًا, والأمر ينافيه, فإنه لا يكون صدقًا ولا كذبًا, وتنافي اللازمين دليل تنافي الملزومين, فلا يجعل الخبر جنسًا للأمر. قال: (المعتزلة لما أنكروا الكلام النفسي قالوا: قول القائل لمن دونه «افعل» ونحوه, ويرد التهديد وغيره, والمبلغ والحاكي والأدنى. وقال قوم: صيغة «افعل» بتجردها عن القرائن الصارفة عن الأمر. وفيه: تعريف الأمر بالأمر, وإن أسقطه بقية صيغة «افعل» مجردة. وقال قوم: صيغة «افعل» بإرادات ثلاث: وجود اللفظ, ودلالته على الأمر, والامتثال, فالأول عن النائم, والثاني عن التهديد ونحوه, والثالث عن المبلغ.

وفيه تهافت؛ لأن المراد إن كان اللفظ فسد؛ لقوله: إرادة دلالته على الأمر, وإن كان المعنى فسد؛ لقوله: الأمر صيغة «افعل». وقيل: إرادة الفعل. وردّ: بأن السلطان لو أنكر متوعدًا بالهلاك ضرب سيدٍ لعبد, فادعى مخالفته, وطلب تمهيد عذره لمشاهدته, فإنه يأمر ولا يريد؛ لأن العاقل لا يريد هلاك نفسه, وأورد مثله على الطلب؛ لأن العاقل لا يطلب هلاك نفسه, وهو لازم. والأولى / لو كانت إرادة لوقعت المأمورات كلها؛ لأن معنى الإرادة تخصيصه بحال حدوثه, فإذا لم يوجد لم يتخصص). أقول: أما المعتزلة لما أنكروا الكلام النفسي, وكان الطلب نوعًا منه لم يمكنهم تعريفه به, فعرّفوا تارة باعتبار اللفظ, وتارة باعتباره مقترنًا بصفة الإرادة, ومن قال بأنه نفس الإرادة, فإنما قال حين انسدت عنه طرق التعريف, وتبين له أن الأمر غير الصيغة, التعريف الأول للبلخي, وأكثرهم أنه قول القائل لمن دونه: «افعل» ونحوها, في الدلالة على مدلوله من العربي وغيره. ويرد على طرده قول القائل لمن دونه: «افعل» تهديدًا وتعجيزًا, أو إباحة

أو غير ذلك, فإنها ترد لستة عشر معنى, وقول القائل لمن دونه: «افعل» إذا بَلَّغ إليه أمر الغير إياه, وكذا الحاكي. ويرد على عكسه: «افعل» إذا صدر من الأدنى على سبيل الاستعلاء, فإنه أمر, ولذلك يدفع بأنه أمر من هو أ‘لى منه. وعرّفه قوم منهم: بأنه صيغة «افعل» مجردة عن القرائن الصارفة عن الأمر إلى تهديد وغيره. واعترض: بأنه فيه تعريف الأمر بالأمر, فإن أسقط هذا القيد بقيت صيغة «افعل» مجردة, فيرد ما تقدم. أما من عرّفه باعتبار اللفظ مقترنًا بصيغة الإرادة فقال: صيغة «افعل» بإرادات ثلاثة: إرادة وجود اللفظ, وإرادة دلالتها على الأمر, وإرادة الامتثال, واحترز بالأول عن النائم, وبالتالي عن التهديد ونحوه, وبالثالث عن المبلغ والحاكي. واعترضه المصنف: بأن فيه تهافتًا؛ لأن المراد بالأمر المذكور في الحدّ إن كان اللفظ فسد؛ لقوله: وإرادة دلالتها على الأمر؛ إذ الصيغة لم يرد دلالتها على اللفظ, وإن كان المعنى فسد؛ لقوله: الأمر صيغة «افعل» , والمعنى ليس صيغة. وقد يجاب عنه: بأن الأمر المذكور في الحدّ المراد به المعنى, والمعرف

المراد به اللفظ, لكن يلزم استعمال اللفظ المشترك في التعريف من غير قرينة, وبقيد أيضًا بلزوم الدور؛ لأن الامتثال فعل المأمور به على الوجه الذي أمر به, فيتوقف عليه [بمرتبتين]. أما من عرّفه بأنه: إرادة الفعل, فاعترض عليه بأنه غير منعكس؛ إذ لو ضرب رجل عبده فأنكر السطان على السيد وتوعده بالهلاك, فادعى السيد مخالفة العبد لأوامره؛ ليدفع عن نفسه ما توعد به, فإنه يأمر عبده بحضرة السلطان ليعصيه, ويشاهد السلطان عصيانه, فيزول إنكاره ويخلص من الهلاك! فهو قد أمر, وإلا لم يظهر عذره وهو مخالفة الأمر, ولا يريد منه الفعل؛ لأنه لا يريد ما يفضي إلى هلاك نفسه. وهذا وارد على الذي / قبله؛ لعدم إرادة الامتثال, وأورد المعتزلة هذا الإيراد على تعريف الأشاعرة الأمر بأنه طلب فعل غير كفّ على جهة الاستعلاء, فإن السيد في الصورة المذكورة آمر, فلو كان الأمر هو الطلب, لزم أن يكون العاقل طالبًا هلاك نفسه, واعترف المصنف بوروده. والحق الفرق بأن العاقل يطلب ما يختار وما يكره إذا علم أنه لا يقع, ولا يريد إلا ما يختار. ولما كان هذا الرد يستلزم عند المصنف ردّ تعريف أصحابنا, قال المصنف: الأولى في ردّ كون الأمر إرادة فعل العبد, أنه لو كان كذلك

مسألة: القائلون بالنفسياختلفوا في كون الأمر له صيغة

لوقعت المأمورات كلها, أما الملازمة؛ فلأنه لا معنى لتعلق الإرادة بالشيء سوى تخصيصها للشيء المراد بوقت حدوثه, وتخصيص الفعل بحال حدوثه لا يكون من غير حدوث الفعل ووقوعه؛ إذ كلما لم يوجد لم يتخصص, وينعكس بعكس النقيض, كلما تخصص الفعل بحال حدوثه كان موجودًا, فلو كانت المأمورات كلها مرادة, لزم أن تكون واقعة. وأما بطلان التالي؛ فلأن الكافر الذي يموت على كفره مأمور بالإيمان إجماعًا, والمصنف وصاحب الإحكام اعتمدا به الردّ على هذا الدليل, وهو مبني على أن العبد غير مختار وهم يمنعونه, فلا تكون إرادة الله تعالى لفعل العبد مخصصة له بحال حدوثه عندهم. قال: (القائلون بالنفسي اختلفوا في كون الأمر له صيغة تخصه, والخلاف عند المحققين في صيغة «افعل». والجمهور: حقيقة في الوجوب. وأبو هاشم: في الندب. وقيل: للطلب المشترك. وقيل: مشترك. الأشعري والقاضي: بالوقف فيهما. وقيل: مشترك فيهما وفي الإباحة. وقيل: للإذن المشترك في الثلاثة, والتهديد).

أقول: القائلون بالكلام النفسي اختلفوا في الأمر - بمعنى الاقتضاء - هل له صيغة تخصه؟ . فقال الأشعري: لا, وقال آخرون: نعم. قال الإمام والغزالي: والذي نراه أن هذه الترجمة عن الأشعري خطأ, فإن قول القائل لغيره: «أمرتك» , و «أنت مأمور» , صيغة خاصة بالأمر بلا شك, إنما الخلاف في صيغة «افعل» , هل هي مختصة بالأمر أم لا؟ لكونها مترددة بين ستة عشر معنى. وقد يقال: «أمرتك» , و «أنت مأمور» لا يدل بصيغته على الاقتضاء المذكور بل بمادته, ثم «أمرتك» , و «أنت مأمور» يطلق على الصيغة الدالة

عليه, فلا يكون مختصًا بالاقتضاء. وقال صحاب الإحكام: «وما قالاه لا يرفع الخلاف؛ إذ الخلاف في أن الأمر له صيغة إنشائية تخصه أم لا؟ وما ذكره إخبار عن الأمر لا إنشاء, وإن استعمل في الإنشاء كصيغ العقود». قال: والجمهور وهو مذهب مالك والشافعي, أن صيغة الأمر - ونعني به صيغة «افعل» - حقيقة في الوجوب إذا عريت عن القرائن, واستعمالها في غيره بطريق المجاز, وهذا ينافي اختياره قبل هذا أن المندوب مأمور به. وقال أبو هاشم: إنه حقيقة في الندب. وقيل: حقيقة في الطلب المشترك بين الوجوب والندب. وقيل: مشترك بين الوجوب والندب اشتراكًا لفظيًا. وقال الأشعري والقاضي: بالوقف فيهما, أي لا نعرف أهو حقيقة في الوجوب, أو في الندب, أو مشترك بينهما؟ .

مسألة: ثبوت الاستدلال بمطلقها على الوجوب

وقيل: مشترك بين الوجوب, والندب, والإباحة. وقيل: للإذن المشترك بين الثلاثة, وهو الإذن. الشيعة: مشترك بين الثلاثة والتهديد أيضًا. قال: (لنا: ثبوت الاستدلال بمطلقها على الوجوب شائعًا متكررًا من غير نكير, كالعمل بالأخبار. واعترض: بأنه ظن. وأجيب: بالمنع, ولو سلّم فيكفي الظهور في مدلول اللفظ, وإلا لتعذر العمل بأكثر الظواهر. وأيضًا: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} , والمراد قوله: {اسجدوا}. وأيضًا: {إذا قيل لهم اركعوا} , ذم على مخالفة أمره. وأيضًا: تارك المأمور به عاص, بدليل: {أفعصيت أمري}. وأيضًا: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} , والتهديد دليل الوجوب. واعترضت: بأن المخالفة حملت على مخالفة من إيجاب وندب, وهو بعيد. قولهم: مطلق.

قلنا: بل عام. وأيضًا: نقطع بأن السيد إذا قال لعبده: خِط هذا الثوب ولو بكتابة أو إشارة, فلم يفعل, عُدّ عاصيًا. واستدل: بأن الاشتراك خلاف الأصل, فثبت ظهوره في أحد الأربعة, والتهديد والإباحة بعيد. والقطع بالفرق بين: «ندبتك إلى أن تسقيني» , وبين «اسقني» ولا فرق إلا اللوم, وهو ضعيف؛ لأنهم إن سلّموا الفرق؛ فلأن «ندبتك» نص, و «استقني» محتمل). أقول: احتج على مذهب الجمهور: بأن الأئمة الماضين في كل عصر كانوا يستدلون بصيغة الأمر - المجردة عن القرائن - على الوجوب, وشاع وذاع ولم ينكره أحد, كما في العمل بالأخبار بعينه تقريرًا, أو اعتراضًا, أو جوابًا. واعترض: بأنه ظن, فلا يجري في مسائل الأصول. أجيب: بالمنع؛ لأن الإجماع قطعي. سلمنا: ويكفي الظهور؛ ولذا اكتفى بنقل الآحاد في مدلولات الألفاظ وإلا لتعذر العمل بأكثر / الظواهر؛ إذ المقدور عليه فيها إنما هو غلبة الظن, وأما القطع فغير مقدور عليه.

ولنا أيضًا من الكتاب: قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} والمراد به قوله تعالى: {اسجدوا لآدم} , والسؤال للإنكار لا للاستفهام, ولولا أن صيغة «افعل» للوجوب وإلا لو توجه الذم, وكان يقال: ما أوجبت عليّ, والذم على الترك وإن كان متأخرًا عن الوجوب إلا أنا لم نثبت الوجوب به, نعم أثبتنا به العلم بالوجوب, ثم الظاهر أن الوجوب من قرينة {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} , والذم على الإباية والاستكبار. وأيضًا: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} , ذموا على مخالفة الأمر. وأيضًا: تارك الأمر عاص, وكل عاص مستحق للعقاب, أما الأولى فلقوله تعالى: {أفعصيت أمري} , وأما الثانية فلقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} , فالأمر للوجوب وإلا لم يستحق تاركه العقاب. وأيضًا: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} , هدد على مخالفة

الأمر, والتهديد دليل الوجوب. واعترض هذا الدليل من وجهين: أحدهما: لا نسلم أن مخالفة الأمر ترك المأمور به, بل حمله على غير المراد بأن يكون للوجوب, فيحمل على الندب, وبالعكس. أجاب: بأنه بعيد؛ إذ المتبادر إلى الفهم من قولهم: «خالف أمر سيده» أنه ترك المأمور به, فلا يصرف عنه إلا لدليل. الثاني: اعتراضهم بأن {عن أمره} مطلق, فلا يعم كل أمر. الجواب: أنه مصدر مضاف فيعم, مع أنه رتب الأمر بالحذر على مخالفة [الأمر] , وهو وصف مناسب, فحيث وجدت مخالفة الأمر وجد الأمر بالحذر, فيكون عامًا. ولنا من جهة العرف: القطع بأن السيد إذا قال لعبده: «خِطْ هذا الثوب» ولو بكناية أو إشارة - فضلًا عن صريح القول - فلم يفعل, عدَّ عاصيًا, ولا معنى للوجوب إلا ذلك. وقد استدل: بأن الاشتراك خلاف الأصل, فيكون حقيقة في أحد الأربعة فقط مجازًا في الباقي, وليس حقيقة في الإباحة والتهديد؛ لأنه بعيد ولم يقل به أحد, ولاقتضاء الصيغة رجحان الفعل, وليس الندب أيضًا؛ لأنا نفرق بين: «ندبتك إلى أن تسقيني» , وبين: «اسقني» , ولو كان للندب لم يكن فرق, فتعين أنه للوجوب, ثم لا فرق بينهما إلا اللوم على الترك وهو معنى الوجوب, وهذا ضعيف؛ لأنهم يمنعون الفرق, وإن سلّموه فلا

مسألة: الندب، إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم

يسلمون أنه لا فرق إلا اللوم, بل لأن «ندبتك» نص في الندب, و «اسقني» يحتملهما معًا. قال: (الندَّب: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» , فرده إلى مشيئتنا. وردّ: بأنه إنما ردّ إلى استطاعتنا, وهو معنى الوجوب. مطلق الطلب يثبت الرجحان, ولا دليل مفيد, فوجب جعله للمشترك دفعًا للاشتراك. قلنا: بل يثبت التقيد, ثم فيه إثبات اللغة بلوازم الماهيات [وهو غير جائز]. الاشتراك يثبت الإطلاق, والأصل الحقيقة. القاضي: لو ثبت لثبت بدليل ... إلى آخره. قلت: بالاستقراءات المتقدمة. الإذن المشترك كمطلق الطلب). أقول: احتج القائلون / بأن صيغة «افعل» حقيقة في الندب مجاز في غيره: بما في الصحيحين: «ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» , فردّه

إلى مشيئتنا, وهو معنى الندب. الجواب: لا نسلم أنه ردّه إلى مشيئتنا, بل ردّه إلى استطاعتنا, وهو لازم معنى الوجوب؛ لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}. القائل بأنها للقدر المشترك احتج: بأنه ثبت لغةً رجحان جانب الفعل عند الإطلاق, فجعله لأحدهما تقييد من غير دليل, فوجب جعله للمشترك بين الوجوب والندب وهو مطلق الطلب, دفعًا لمحذور المجاز والاشتراك. الجواب: نمنع أنه لا دليل على التقييد؛ لأن الأدلة السابقة دلَّت عليه. وثانيهما: أنكم أثبتم اللغة بما يلزم الماهية؛ لأن الرجحان لازم الوجوب والندب لأنه جزء كل منهما, فجعلتم الصيغة له وهو لا يجوز؛ لأن طريق اللغة النقل, أو لأنه يؤدي إلى رفع الاشتراك والمجاز؛ إذ ما من شيئين إلا ويشتركان في لازم, فيجعل اللفظ له. والاعتراض عليهما: أن العقل إذا كانت معه مقدمة نقلية تثبت به اللغة, وصحة هذا الاستدلال مشروط بعدم ما يدل من المواضع على الاشتراك والمجاز, فلا يلزم رفعه.

احتج القائل بالاشتراك -[وهي ثلاث مذاهب]-: بأنه ثبت إطلاق صيغة «افعل» في الوجوب والندب, والأصل في الإطلاق الحقيقة, فيكون مشتركًا. ولم يجب المصنف عنه لظهوره؛ لأن المجاز أولى من الاشتراك. احتج القاضي على الوقف: بأنه لو ثبت كون الأمر للوجوب أو الندب لثبت بدليل, ثم الدليل إما عقلي ولا تثبت اللغة به, وإما نقلي إما آحاد ولا يفيد العلم, وإما متواتر وهو يوجب استقراء طبقات الباحثين, فلا يختلف فيه. الجواب: منع الحصر لثبوته بالأدلة الاستقرائية المتقدمة, ومرجعها تتبع مظان استعمال اللفظ, ويكفي الظهور في مدلول اللفظ. احتج القائل بأنه للإذن - وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب والإباحة -: بالدليل الذي تقدم للقائل بأنه للقدر المشترك بين الوجوب والندب [والإباحة]. وجوابه كجوابه.

مسألة: صيغة الأمر بمجردها لا تدل على تكرار

قال: (مسألة: صيغة الأمر بمجردها لا تدل على تكرار, ولا على مرة, وهو مختار الإمام. الأستاذ: للتكرار مدة العمر مع الإمكان. وقال كثير: للمرة, ولا يحتمل التكرار. وقيل: بالوقف. لنا: أن المدلول طلب حقيقة الفعل, والمرة والتكرار خارجي؛ ولذلك يبرأ بالمرة. الأستاذ: تكرر الصوم, والصلاة. ورُدَّ: بأن التكرار من غيره. وعورض: بالحج. قالوا: ثبت في «لا تصم» , فوجب في «صُم»؛ لأنها طلب. رُدَّ: بأنه قياس, وبالفرق بأن النهي يقتضي النفي, وبأن التكرار في الأمر مانع من غيره, بخلاف النهي. قالوا: الأمر نهي عن ضده, والنهي يعم, فيلزم التكرار. ورُدَّ: بالمنع, وبأن اقتضاء النهي للأضداد دائمًا فرع على تكرار الأمر. المرة: القطع بأنه إذا قال: «ادخل» فدخل مرة, امتثل. قلنا: امتثل لفعل ما أمر به؛ لأنها من ضروراته, لا لأن الأمر ظاهر فيها, ولا في التكرار. الموقف: لو ثبت لثبت بدليل ... إلى آخره).

أقول: صيغة الأمر إذا تجردت عن القرائن لا تدل على تكرار المأمور به, وهو قول أصحاب مالك رحمه الله, ولا يدل أيضًا على اقتضاء المرة, وهذا مختار الإمام فخر الدين, والمصنف. وحكى ابن القصار من أصحابنا: أنه استقرى كلام مالك رحمه الله فدلّ على أنها عنده للتكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان, وهو مختار الأستاذ وجمع من الفقهاء والمتكلمين, وقال أبو الحسين البصري وكثير من الأصوليين: إنها للمرة, ولا تحتمل التكرار. وقيل: بالوقف, على معنى لا ندري أهو للتكرار أو للمرة؟ , وليس بظاهر في واحد منهما, وهو مختار إمام الحرمين. احتج المصنف: بأن مدلول الأمر طلب حقيقة الفعل, والمرة والتكرار

خارج عن مدلوله؛ إذ لو كان المرة من مفهومه لكان «افعل» مرات تناقضًا, و «افعل» مرة واحدة تكرارًا, ولو كان التكرار من مفهومه لزم ذلك أيضًا, ولزم ألا يبرأ المأمور بالمرة الواحدة, لكنه يبرأ لغة وعرفًا. والمرة وإن كانت لازمة الوجود في الخارج, إلا أنها غير لازمة لمدلوله عقلًا؛ لفهمه دونها. وأيضًا: فإنا قاطعون بأن المرة والتكرار من صفات المصدر كالقليل والكثير؛ لأنك تقول: اضرب ضربًا قليلًا وكثيرًا, ومكررًا وغير مكرر, ومعلوم أن الموصوف بالصفات المتقابلة لا دلالة له على خصوصية شيء منها. قيل: هذان الدليلان يفيدان عدم الدلالة عليهما بالمادة, فلم لا يدلّ عليهما بالصفة؟ وهو المتنازع فيه, واحتمالها لهما لا يمنع ظهور أحدهما. ورُدَّ: بأنها لطلب الفعل بإجماع أهل العربية, والأصل عدم دلالته على أمر خارج, ولا يرد, فإن كان من ضرورة وقوع الفعل فلا يلزم أن يكون داخلًا في مدلول الأمر, ولا أن يكون متعينًا, كما لا يتعين إلا له في الضرب, ولا الشخص / المضروب, وإن كان ذلك من ضرورة الأمر بالضرب. وأيضًا: يجوز ورود الأمر على الفور وعلى التراخي, فصح أن يقال: وجد الأمر في الصورتين؛ لأن لأصل في الإطلاق الحقيقة, ولا مشترك سوى طلب الفعل؛ إذ الأصل عدم غيره, فكان هو مدلول الأمر في الصورتين دون ما به الافتراق من الزمان وغيره, دفعًا لمحذور المجاز والاشتراك.

والتكرار والتناقض مدفوعان بأن الصريح لا يناقض الظاهر, والتأكيد لرفع الاحتمال, وكونه يبرأ بالمرة وإن لم تكن قرينة تمنعه. احتج الأستاذ: بأنه لو لم يكن الأمر للتكرار, لما تكرر الصوم والصلاة, لكنه تكرر. الجواب: منع الملازمة؛ إذ التكرار من غيره وهو الإجماع. ولو سلّم, فمعارض بالحج, فإنه مأمور به ولا تكرار. قالوا ثانيًا: ثبت التكرار في «لا تصم» , فوجب في «صُم» , والجامع أن كلًّا منهما طلب. الجواب: أنه قياس في اللغة وقد أبطلناه, ولو سلّم فالفرق بينهما أن النهي يقتضي انتفاء الحقيقة, ولا يكون إلا بانتفائها في جميع الأوقات, والأمر يقتضي إثباتها, وهو يحصل بمرة. وأيضًا: التكرار في الأمر مانع من فعل غيره من المأمورات, بخلاف التكرار في النهي؛ إذ التروك تجتمع وتجامع فعل الغير. قالوا ثالثًا: الأمر بالشيء نهي عن ضده, والنهي يمنع من المنهي عنه دائمًا, فيلزم تكرار المأمور به. الجواب: إنما نمنع أنه نهي عن ضده. سلّمنا, ولا نسلم تكراره؛ لأن النهي الضمني تابع للأمر, فإن كان المأمور به دائمًا, كان نهيًا عن ضده دائمًا, وإن كان مأمورًا به في وقت ما كان نهيًا عن الأضداد في ذلك الوقت, فإذن كون النهي الذي تضمنه الأمر

مسألة: الأمر إذا علق على علة ثابتة

يقتضي التكرار فرع عن كون الأمر للتكرار, فإثباته به دور. احتج القائل بأنه للمرة: بأن السيد إذا قال لعبده: «ادخل الدار» فدخلها مرة, عُدَّ ممتثلًا عرفًا, ولو كان للتكرار لما عُدّ ممتثلًا بها. الجواب: أنه إنما امتثل بحصول المأمور به الذي هو في ضمن المرة؛ إذ المرة من ضرورة فعل ما أمر به, لا لأن الأمر ظاهر في المرة بخصوصها, ولا حاجة إلى قوله: ولا في التكرار. احتج القائل بالوقف: بأنه لو ثبت لثبت بدليل إما عقلي أو نقلي ... إلى آخره. والجواب: أنه ثبت بالاستقراء. قال: (مسألة: الأمر إذا علق على علة ثابتة, وجب تكرره بتكررها اتفاقًا؛ للإجماع على اتباع العلة, لا للأمر. فإن علق على غير العلة, المختار: لا يقتضي.

لنا: القطع بأنه إذا قيل: «إن دخلت السوق فاشتر كذا» , فاشترى مرة, عُدّ ممتثلًا بالمرة مقتصرًا. قالوا: ثبت ذلك في أوامر الشرع, {إذا قمتم} , {الزانية والزاني} , {وإن كنتم جنبًا}. قلنا: في غير العلة بدليل خاص. قالوا: تكرر للعلة, فالشرط أولى لانتفاء المشروط. قلنا: العلة مقتضية معلولها). أقول: القائلون بأن الأمر لا يدل على التكرار, اتفقوا على أن الأمر إذا عُلق على علة ثابتة - أي ثبتت عليتها بالدليل, كما لو قال: «إن زنا فاجلدوه» - أنه يتكرر الفعل بتكرر العلة؛ للاتفاق على اتباع العلة مهما وجدت وإثبات الحكم بثبوتها, فإذا تكررت تكرر, وليس التكرار مستفادًا من الأمر, وإلا لتكرر وإن لم تكرر. فإن عُلق على شيء لم تثبت عليته, كما لو قال: «إن دخل الشهر فأعتق عبدًا» , فالمختار أنه لا يقتضي - تكرار المعلق عليه - تكرار الفعل. لنا: أن السيد إذا قال لعبده: «إن دخلتَ السوق فاشترِ كذا» , فاشتراه

مرة مقتصرًا عليها غير مكرر ذلك بتكرار دخول السوق, عُدّ ممتثلًا, ولو أخذ يشتري ذلك كلما دخل, عُدَّ مستحقًا للَّوْمِ, ولو وجب تكرار الفعل بتكرار ما علق عليه, ما عُدَّ ممتثلًا باقتصاره على المرة, ولما استحق اللوم إذا كرر الشراء عند تكرار الدخول. [احتج القائل بأنه يتكرر - إذا علق أيضًا على غير العلة -: بأن تكرر الفعل بتكرر ما علق عليه في أوامر الشرع, نحو: {إذا قمتم إلى الصلاة} , {الزانية والزاني فاجلدوا} , {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} , وليس تكرره للأمر, فهو لتكرر المعلق عليه؛ إذ الأصل عدم غيره. الجواب: ما ذكرتم أن ثبتت عليته كالزنا, فليس محل النزاع, وإن لم تثبت فلا يثبت فيه التكرار إلا بدليل خاص؛ ولذلك لم يتكرر الحج وإن كان معلقًا بالاستطاعة, وتكرر الوضوء والغسل إما لأن المعلق عليه علة, أو للإجماع. قالوا ثانيًا: الأمر المعلق على علة ثابتة يجب تكرره بتكررها, فالمعلق على الشرط أولى أن يتكرر بتكرره؛ لانتفاء المشروط عند انتفائه, بخلاف العلة لا يلزم من انتفائها انتفاء المعلول؛ لجواز أن تخلفها علة أخرى؛ إذ يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين.

مسألة: القائلون بالتكرار قائلون بالفور

الجواب: أن التكرر في العلة من أجل أن وجودها مقتضي وجود المعلول, وذلك منتف في الشرط, فإن وجود لا يقتضي وجود المشروط, واقتضاء انتفاء المشروع بانتفاء الشرط لا يوجب التكرار بتكرره وهو ظاهر, والشرط وإن كان في جانب العدم آكد, لكن منشأ الحكم الثبوت, والعلة في جانب الثبوت آكد]. قال: (القائلون بالتكرار قائلون بالفور, ومن قال إن المرة تبرئ, قال بعضهم: للفور. وقال القاضي: إما الفور, وإما العزم. وقال الإمام: بالوقف لغة, فإن بادر امتثل. وقيل: بالوقف وإن بادر. وعن الشافعي رضي الله عنه: ما اختير في التكرار, وهو الصحيح. لنا: ما تقدم الفور, لو قال: «اسقني» وأخَّر, عُدّ عاصيًا. قلنا: للقرينة. قالوا: كل مخبر أو منشئ فقصده الحاضر, مثل «زيد قائم» , «وأنت طالق». ردّ: بأنه قياس, وبالفرق بأن في هذا استقبالًا قطعًا. قالوا: طلب كالنهي, والأمر نهي عن ضده, وقد تقدم. قالوا: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} , فذم على تكر البدار. قلنا: لقوله: {فإذا سويته}.

قالوا: لو كان التأخير مشروعًا لوجب أن يكون إلى وقت معين. ورُدّ: بأنه يلزم لو صرح بالجواز بأنه إنما يلزم لو كان التأخير مشروعًا, وأما في الجواز فلا, لأنه متمكن من الامتثال. قالوا: قال الله تعالى: {سارعوا} , {فاستبقوا}. قلنا: محول على الأفضلية, وإلا لم يكن مسارعًا. القاضي: ما تقدم في الموسع. الإمام: الطلب متحقق, والتأخير مشكوك, فوجب البدار. وأجيب: بأنه غير مشكوك). أقول: القائلون بأن صيغة الأمر إذا عريت عن القرائن تقتضي التكرار قائلون بالفور, وهو وجوب المبادرة؛ لأنه من ضرورات استغراق الأوقات, وهو المروي عن مالك. وأما من قال: إن المرة تبرئ, سواء قلنا: وضع لها, أو قلنا: المرة من

ضرورة ما أمر به, فقال بعضهم: إنها للفور, ولو أخّر عصى. وقال القاضي: تقتضي الفور في أحد الأمرين, إما الفعل في الحال, أو العزم عليه في ثاني حال, ولم يذكر صاحب الإحكام عن القاضي سوى جواز التأخير, لكن يلزم ذلك على ما قدم في الموسع. وقال إمام الحرمين: بالوقف في مدلوله لغة, أهو الفور أم جواز التأخير؟ , لكنه لو بادر إلى الفعل في الحال امتثل, فإن أخّر وأوقعه بعد ذلك لم نقطع بخروجه عن عهدة الخطاب. قال بعضهم: بالوقف لغة, وأنه لو بادر لا نقطع بخروجه عن عهده الخطاب؛ لاحتمال وجوب التراخي, وهو خلاف إجماع السلف. ومختار الشافعي والمغاربة من المالكية: أنها تدل على طلب الفعل فقط, وصححه المصنف. لنا: ما تقدم في التكرار من أن المدلول طلب حقيقة الفعل, والفور والتراخي خارجي, وأيضًا: الفور والتراخي من صفات / الفعل, ولا دلالة للموصوف على الصفة.

احتج القائل بأنها للفور: بأن السيد لو قال لعبده: «اسقني» فأخَّر من غير عذر, عُدّ عاصيًا عرفًا, ولولا أنه للفور لما فهم ذلك. الجواب: أن ذلك إنما فهم بالقرينة؛ لأن العادة أن طلب السقي لا يكون إلا عند الحاجة, والكلام في الصيغة المجردة. قالوا ثانيًا: كل مخبر أو منشئ مثل: «زيد قائم» , و «أنت طالق» فإنما يقصد الزمان الحاضر, فكذا الأمر بجامع أنهما من أقسام الكلام في الأول, وأن كلا منهما إنشاء في الثاني, وصاحب الإحكام لم يذكر المخبر, وهو أحسن؛ إذ لا نسلم أن كل مخبر قصده الحاضر؛ لأن المخبر يخبر عن الماضي والمستقبل أيضًا. الجواب: أنه قياس في اللغة وقد أبطلناه, ولو سلم فالفرق أن الأمر فيه دلالة على الاستقبال قطعًا, فلا يمكن صرفه إلى الحال؛ لأن الحاصل لا يطلب, بل إلى الاستقبال المطلق, أو الأقرب إلى الحال, وكلاهما محتمل, فلا يصار إليه إلا بدليل, بخلاف «أنت طالق» فإنه لا يتأخر عن التلفظ به تأخرًا زمانيًا, أو نقول: لا نسلم أن وقوع الطلاق على الفور من حيث اللغة, بل الشارع جعله علامة على الحكم الحالي, فلا يلزم أن يكون الأمر للفور لغة. قالوا ثالثًا: النهي يقتضي الفور, فكذا الأمر بجامع أن كلا منهما طلب وقالوا رابعًا: الأمر بالشيء نهي عن أضداده, والنهي يقتضي الفور فكذا

الأمر, وقد تقدم تقريرها والجواب عنهما. قالوا خامسًا: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} , فذم على ترك المبادرة؛ لأن «إذ» للزمان, أي ما منعك من السجود زمان الأمر, فلولا أنها للفور ما توجه الذم؛ لجواز التأخير حينئذ. الجواب: أنه أمر مقيد بوقت معين, يدل عليه قوله تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} , ولا يلزم ذلك في الأمر المطلق. قلت: وقد اعتمدوا هذا الجواب, ولا يتم إلا بتقدير كون الفاء في جواب الشرط تقتضي التعقيب, وليس كذلك؛ لأنها إنما تقتضيه إذا كانت عاطفة, مثل: «جاء زيد فعمرو» , أو «أعط زيدًا فعمرًا». قالوا سادسًا: لو كان التأخير مشروعًا لوجب أن يكون إلى أمد, وإلا لجاز تأخيره أبدًا, فلا يكون واجبًا, ثم الأمد لابد أن يكون معينًا, وإلا لكان التكليف بامتناع تأخيره عن ذلك الأمد تكليفًا بالمحال, وتعيين الوقت لإشعار الأمر به, ولا دليل / من خارج يعينه؛ لأنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تأخيره عن الوقت الذي لو لم يشتغل به فيه لفاته, ولا يعرف إلا بأمارة, وليس إلا كبر السن أو المرض الشديد, وكثير ممن يموت فجأة, فلا يكون شاملًا لجميع المكلفين. الجواب أولًا: بالنقض بما لو صرح بجواز التأخير, كما لو قال: «صُم

على التراخي»؛ إذ لا خلاف في جواز التكليف بمثله. وثانيًا: إنما يلزم لو كان التأخير متعينًا, فيجب تعريف وقته الذي يؤخر إليه, وأما إذا كان جائزًا فلا, لأنه متمكن من الامتثال بالمبادرة, فلا يلزم التكليف بالمحال. وفي الجواب الثاني نظر؛ لأن التكليف بالمحال اللازم لعدم تعيين الأمد إنما هو التكليف بامتناع تأخيره عن ذلك الأمد, لا التكليف بالإتيان بالمأمور به قبل أمدة حتى يندفع بما ذكر. قالوا سابعًا: قال تعالى: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم} والمراد سببها اتفاقًا وهو فعل المأمور به فتجب المسارعة إليه, وقال تعالى: {فاستبقوا الخيرات} وفعل المأمور به من الخيرات فيجب الاستباق إليه. الجواب: أن ذلك محمول على أفضلية المسارعة والاستباق؛ إذ لو وجب على الفور لو يكن مسارعًا ومستبقًا؛ لأنهما إنما يتصوران في الموسع لا في المضيق؛ لأن المسارعة مباشرة الفعل في وقت مع جواز تأخيره عنه. سلمنا حملهما على الوجوب, لكن الفورية منهما لا من مطلق صيغة الأمر. احتج القاضي: بما سبق له في الموسع, وقد تقدم تقريره وجوابه. احتج الإمام: بأن طلب الفعل محقق, والخروج عن العهدة بالتأخير مشكوك؛ لاحتمال أن يكون للفور فيعصي بالتأخير, فيجب البدار ليخرج

مسألة: الأمر بالشئ ليس نهيا عن ضده

عن العهدة بيقين. الجواب: لا نسلم أن الخروج عن العهدة بالتأخير مشكوك لما بينا, ولا يحمل على ظاهره, وإلا لكان البدار مشكوكًا فيه؛ إذ الشك في أحد المتقابلين يوجب الشك في الآخر. قال: (مسألة: اختيار الإمام والغزالي: أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده, ولا يقتضيه عقلًا. وقال القاضي ومتابعوه: نهي عن ضده, ثم قال: يتضمنه, ثم اقتصر قوم, وقال القاضي: والنهي كذلك فيهما. ثم منهم من خصّ الوجوب دون الندب. لنا: لو كان الأمر نهيًا عن الضد أو يتضمنه, لم يحصل بدون تعقل الضد والكفّ عنه؛ لأنه مطلوب النهي, ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما. واعترض: بأن المراد الضد العام, وتعقله حاصل؛ لأنه لو كان عليه لم يطلبه. وأجيب: بأن طلبه في المستقبل, ولو سلم / فالكفّ واضح). أقول: اختلفوا في أن الأمر بالشيء معين, هل يكون نهيًا عن الشيء المعين المضاد له أو لا؟ فإذا قال «تحرك» فهل هو في المعنى بمثابة لا تسكن؟ .

قال الإمام والغزالي: ليس نفسه, ولا يقتضيه عقلًا. [وقال القاضي أبو بكر ومن تبعه: إنه نفس النهي عن ضده, ثم رجع فقال: ليس نفسه لكن يتضمنه عقلًا] وبهذا القول قال أكثر المالكية. قيل: وفائدته أن المأمور بالعبادة إذا أتى فيها بضدها هل يفسدها, بناء على أن النهي يقتضي الفساد؟ . فقال الحنفية: لو سجد على نجاسة ثم أعاد السجود على طاهر لم تفسد وكذا إذا قعد عمدًا ثم قام. ثم إن قومًا من القائلين بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده, كعبد الجبار وأبي الحسين, اقتصروا على ذلك ولم يتجاوزوه إلى أن النهي عن الشيء أمر بضده, وقال القاضي: والنهي كذلك فيهما.

أي مرة قال: إنه نفس الأمر بالضد, ومرة قال: إنه يتضمنه. ثم القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده, منهم من خصص ذلك بأمر الإيجاب فيكون نهيًا عن ضده, بخلاف أمر الندب لا يكون أضداده المباحة منهيًا عنها, لا نهي تحريم, ولا نهي تنزيه. قيل: فائدة قوله: (بشيء معين) , الاحتراز عن مثل قول القائل: «افعل شيئًا» إذ لا يكون نهيًا عن ضده, إما لأنه لا ضد له, أو لأن كل ما يلابسه شيء فلا يكون ضده منيهًا عنه. وفيه تعسف؛ إذ لا فائدة في الأمر به أولًا. وقيل: المراد به الأمر بأحد الضدين لا بعينه, فإنه لا يكون الأمر به نهيًا عن الضد الآخر, وفيه نظر؛ لأن ضد أحدهما لا بعينه الكفّ عنهما, وهو منهي عنه, والظاهر أنه لا فائدة له. احتج: بأنه لو كان الأمر بالشيء نهيًا عن الضد أو مقتضيًا له, لما حصل الأمر بدون تعقل الضد وتعقل الكف عنه واللازم باطل, أما الملازمة؛ فلأن الكفّ عن الضد هو المطلوب من النهي, ويمتنع أن يكون المتكلم طالبًا لأمر لا يشعر به, فيكون الكف عن الضد متعقلًا له, ولا يتعقل إلا بتعقل مفرديه وهما الضد والكف عنه, وأما بطلان التالي؛ فلأنا نقطع بطلب حصول الفعل مع الذهول عن الضد والكف عنه. واعترض: بمنع انتفاء التالي, فإنا لا نسلم تحقق الطلب مع الذهول عن الضد؛ إذ المراد بالضد هو الضد العام لا الأضداد الجزئية, والذي يذهل عنه هو الأضداد الجزئية, وأما الضد العام الذي هو ترك المأمور به, فتعلقه

مسألة: القاضي: لو لم يكن إياه لكان ضدا

حاصل لأن المأمور لو كان متلبسًا بالفعل لو يطلبه / الآمر منه؛ لأنه تحصيل الحاصل, فإذًا إنما يطلبه إذا علم أنه غير متلبس به, والعلم بذلك يستلزم العلم بتلبسه بضده المستلزم تعقل ضده. الجواب: لا نسلم أن المأمور لو كان متلبسًا بالفعل لم يطلبه منه, وإنما يلزم تحصيل الحاصل بتقدير كون الأمر يطلب تحصيل الفعل في الحال, وهو ممنوع بأن الأمر بطلب الفعل في المستقبل وإن كان المأمور متلبسًا به في الحال, فالمطلوب الدوام, فحينئذ لا يلزم تعقل الضد العام. سلمنا تعقله, لكن الكف واضح عدم تعقله, واعلم أن هذا الكلام على المستند, مع أن تعقل الضد العام لازم للأمر؛ لأن إيجاب الفعل لا يتصور بدون المنع من تركه الذي هو الضد العام, فيلزم تعقل الكف أيضًا. قيل: الجواب الأول ينافي موضوع المسألة؛ لأنها في الأمر بشيء معين, وإذا أمر بشيء معين استحال أن يكون حالة الأمر مشتغلًا به, وإلا لزم تحصيل الحاصل, فإن طلب في المستقبل, يكون المطلوب تحصيل شيء آخر لا الأول. نعم الأمر بالماهية لا ينافي كونه متلبسًا بالفعل؛ إذ المطلوب الاستمرار. وفيه نظر؛ لأن المراد بالتعيين هو النوعي لا الشخص, ولا مشاحة في الاصطلاح, حيث أطلق اسم الضد على الترك المأمور به, وهو أمر عدمي. قال: (القاضي: لو لم يكن إياه, لكان ضدًا, أو مثلًا, أو خلافًا؛ لأنهما إما أن يتساويا في صفات النفس أو لا. الثاني: إما أن يتنافيا بأنفسهما أو لا, فلو كانا مثلين أو ضدين لم

يجتمعا, ولو كانا خلافين لجاز أحدهما مع ضد الآخر وخلافه؛ لأنه حكم الخلافين, ويستحيل الأمر مع ضد النهي عن ضده, وهو الأمر بضده؛ لأنهما نقيضان, أو تكليف بغير الممكن. وأجيب: إن المراد بطلب الترك ضده, طلب ترك الكف, منع لازمهما عنده, فقد يتلازم الخلافان, فيستحيل ذلك. وقد يكون كل منهما ضد ضد الآخر, كالظن والشك, فإنهما معًا ضد العلم. وإن أراد بترك ضده [غير] الفعل المأمور به, رجع النزاع لفظيًا في تسميته طلبه نهيًا. القاضي أيضًا: السكون عين الحركة, فطلب السكون طلب ترك الحركة. وأجيب: بما تقدم). أقول: احتج القاضي على أن الأمر بالشيء نفس النهي عن ضده: بأنه لو لم يكن إياه لكان مثله أو ضده أو خلافه, واللازم بأقسامه باطل, أما الملازمة؛ فلأن كل متغايرين إن تساويا في صفات النفس - أي في الذاتيات - فهما المثلان, كسوادين وبياضين, وإلا [فإن تنافيا بأنفسهما - أي استلزم كل منهما عدم الآخر, حتى يشمل النقيضين, والعدم, والملكة, والضدين الوجوديين - إذ التنافي بالذات بين النقيضين فقط, وإلا فهما الخلافان,

كالحركة والسواد] , وأما انتفاء اللازم, فلأنهما لو كان مثلين / أو ضدين لم يجتمعا في محل؛ لاستلزام اجتماعهما اجتماع النقيضين, لكنهما يجتمعان قطعًا في الطلب وفي الوجود, فلو قال: «تحرك, لا تسكن» اجتمعا معًا في الطلب, فلو فعل الحركة اجتمعا معًا في الوجود. ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كل منهما مع ضد الآخر ومع خلاف الآخر؛ لأن ذلك حكم الخلافين, كما يجتمع البياض - وهو خلاف الحلاوة - مع الحموضة التي هي ضد الحلاوة, [ومع الرائحة التي هي خلاف الحلاوة] , لكن اجتماعهما محال؛ لأن الأمر بالشيء مع ضد النهي عن ضده نقيضان, أو تكليف بغير الممكن؛ لأن «اسكن» مع «تحرك» الذي هو ضد «لا تتحرك» بالنظر إلى ذاتيهما تكليف بغير الممكن, وبالنظر إلى ما يستلزمان نقيضان. أجاب المصنف: بأن القاضي إن أراد بقوله: (طلب المأمور به عين طلب ترك ضده) , أن طلب المأمور به هو طلب الكف عن ضده. سلمنا أنهما خلافان, ونمنع ما جعل القاضي لازم الخلافين عند هذا التفسير, إذ قد يتلازم الخلافان, كالعلة ومعلولها المساوي, فيستحيل

اجتماع أحدهما مع ضد الآخر, وإلا اجتمع الضدان؛ لأن أحدهما لا ينفك عن الآخر. وأيضًا: قد يكون ضد أحد الخلافين ضد الآخر, كالظن والشك, فإنهما خلافان, وكل منهما ضد العلم, فلو لزم جواز اجتماع الشيء وضد خلافه, لزم اجتماع الشيء وضده, وهذا المثال غير صحيح؛ لأن الشك والظن ضدان على الوجه الذي فسر به المصنف الضدين؛ لأنهما يتنافيان وإن لم يكونا بالمصطلح ضدين؛ لأن تقابلهما تقابل العدم والملكة, والمثال: الضاحك والكاتب, فإنهما خلافان, وكل منهما ضد الصاهل. وإن أراد القاضي بقوله: «طلب المأمور به هو عين طلب ترك ضده» , فإن فسر طلب ترك ضده بفعل المأمور به - كما يشعر به استدلاله الثاني - رجع النزاع لفظيًا في تسمية فعل المأمور به تركًا لضده, وفي تسمية طلبه نهيًا, وكان طريق ثبوته النقل لغة ولم يثبت, ولو ثبت, قال في المنتهى: لكان حاصله أن له عبارة أخرى كالأحجية, مثل: «أخوك ابن أخت خالتك» , وذلك شبه اللعب. ولا يقال: مراد القاضي بترك ضده المنع من ترك الفعل المأمور به وهو جزء الطلب الجازم؛ لأنا نقول: مراد القاضي هنا إثبات أنه عينه لا أنه يستلزمه, بل لو صح له لزم منه بطلان قوله الثاني إنه ليس عينه, لكن يستلزمه. احتج القاضي أيضًا: بأن فعل السكون مثلًا عين ترك الحركة؛ إذ البقاء

مسألة: التضمن: أمر الإيجاب طلب فعل يذم على تركه اتفاقا

في الحيز الأول هو بعينه عدم الانتقال إلى الحيز الثاني, وإنما يختلف التعبير عنه, ويلزم منه أن طلب فعل السكون هو طلب ترك الحركة. الجواب: نمنع أنه عينه, فإن السكون أمر وجودي يستلزم الإتيان به ترك الحركة, ولو سلم فالجواب ما تقدم من رجوع النزاع لفظيًا, على ما صرح به في المنتهى. قال: (التضمن: أمر الإيجاب طلب فعل يذم على تركه اتفاقًا, ولا يذم إلا على فعل وهو الكف, أو الضد, فيستلزم النهي. وأجيب: بأنه مبني على أنه من معقوله, لا بدليل خارجي, ولو سلم فالذم على أنه لم يفعل, لا على فعل, وإن سلم فالنهي طلب كف عن فعل لا عن كف, وإلا أدى إلى وجوب تصور الكف عن الكف لكل أمر وهو باطل قطعًا. قالوا: لا يتم الواجب إلا بترك ضده, وهو الكف عن ضده أو نفيه فيكون مطلوبًا, وهو معنى النهي, وقد تقدم). أقول: احتج القائلون بأن الأمر الشيء يتضمن النهي عن ضده بحجتين: تقرير الأولى: أن أمر الإيجاب طلب فعل يستحق الذم على تركه

اتفاقًا لا أنه يذم, لجواز العفو كما تقدم له, ولا ذم إلا على فعل لأنه المقدور, وليس هذا إلا الكف عن الفعل, أو فعل ضد المأمور به, وكلاهما ضد, فستلزم أمر الإيجاب النهي عن الكف, أو عن فعل الضد؛ إذ لا ذم على ما لم ينه عنه. الجواب أولًا: أن الدليل أخص من الدعوى. وثانيًا: أنه إنما يلزم من يقول: إن الذم على الترك من معقول الأمر, لا أنه إنما يعلم بدليل خارجي وهو ممنوع؛ إذ الذم على ترك من دليل خارجي شرعي؛ ولذلك جوز قوم الوجوب بدون الذم على ما سبق في حدّ الواجب وجوزه قوم من غير خطور الذم على الترك بالبال, وإن لزم في الواقع, ولو كان الذم من معقوله لما تمكنوا من تجويزه. سلمنا أن أمر الإيجاب يدل على الذم على الترك عقلًا, لكن لا نسلم أنه لا يذم إلا على فعل, بل يذم على أنه لم يفعل ما أمر به. قوله: العدم غير مقدور.

قلنا: ممنوع, وهو أحد قولي القاضي. سلمنا أن الذم لا يكون إلا على فعل, لكن لا يكون الكف منهيًا عنه؛ إذ النهي طلب كف عن فعل لا عن كف, كما أن الأمر طلب فعل غير كف, إذ لو كان منهيًا عنه لأدى إلى طلب الكف عن الكف, لأنه مطلوبه النهي هنا, وذلك يستلزم وجوب تصور الكف عن الكف لكل أمر, وهو باطل قطعًا؛ لأن الآمر بالشيء قد لا يخطر بباله الكف عن الكف أصلًا. وفي الأجوبة الثلاثة نظر. أما الأول: فلأن الوجوب يستلزم استحقاق الذم على الترك؛ لأنه إما جزؤه أو لازمه البين؛ لأنه أخذه المصنف في تعريف / الوجوب. وقد يجاب عنه: بأن الكلام فيما هو أعم من الأمر الشرعي, ويحققه قوله: لكل أمر. وأما الثاني: فسلمنا أنه مختار المصنف, حيث قال: (لا تكليف إلا بفعل). وقد يجاب عنه: بأنه ذكره على سبيل الإلزام للقاضي. وأما الثالث: فلأنه لا يلزم من كون الكف غير منهي عنه إبطال دليله؛ لجواز كون الضد العام منهيًا عنه. وقد قال: [وهو الكف] أو الضد.

مسألة: الطاردون متمسكا القاضي المتقدمان

قالوا ثانيًا: ما لا يتم الواجب - وهو فعل المأمور به - إلا بترك ضده وهو إما الكف عن ضده أو نفي ضده على الرأيين, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, فالكف عن الضد أو نفي الضد واجب, فيكون ضد المأمور به منهيًا عنه؛ لأن معنى النهي: طلب الكف عن الضد أو طلب نفيه, فيكون الأمر بالشيء مستلزمًا للنهي عن ضده. الجواب: ما تقدم أول الكتاب, أن ما لا يتم الواجب إلا به - من عقلي أو عادي - فليس بواجب. قال: (الطاردون: متمسكا القاضي المتقدمان. وأيضًا: النهي طلب ترك فعل الضد, فيكون أمرًا بالضد. قلنا: فيكون كالزنا واجبًا من حيث هو ترك اللواط وبالعكس, وبأن لا مباح, وبأن النهي طلب الكف لا الضد المراد. فإن قلتم: فالكف فعل فيكون أمرًا, رجع النزاع لفظيًا, ولزم أن يكون النهي نوعًا من الأمر. ومن ثم قيل: الأمر طلب فعل لا كف).

أقول: الطاردون للحكم في النهي بأنه أمر بالضد, احتجوا بثلاثة أوجه, منها متمسكا القاضي المتقدمان, وهما: لو لم يكن إياه لكان مثلًا, أو ضدًا, أو خلافًا. وأيضًا: ترك السكون هو فعل الحركة, فطلبه طلبها. والجواب: الجواب الثالث, وهو في الحقيقة عين الثاني بتغيير العبارة: النهي طلب ترك الفعل, والترك فعل؛ لأن العدم غير مقدور, وليس غير فعل الضد, وإلا لم يكن تركًا له, فهو أحد الأضداد فيكون مطلوبًا, وهو معنى الأمر به. الجواب أولًا: النقض وهو: لو صح لزم أن يكون الزنا واجبًا من حيث هو ترك اللواط لأنه ضده, وأن يكون اللواط واجبًا من حيث هو ترك الزنا, فيحصل الثواب بهما بقصده أداء الواجب بهما, وهو معلوم البطلان. وأيضًا: يلزم نفي المباح, إذ ما مباح إلا وهو ترك حرام. وأيضًا: المطلوب في النهي هو الكف لا للأضداد الجزئية, وإلا لما صح الطلب مع الذهول / عنها والنزاع فيها. فإن قلتم: فالكف فعل فيكون ضدًا وقد طلب, فتحقق الأمر بالضد. قلنا: رجع النزاع حينئذ لفظيًا في تسمية الكف فعلًا, ثم في تسمية طلبه أمرًا كما تقدم. ويلزم أن يكون النهي نوعًا من الأمر؛ لأن الأمر على ما فسرتم هو طلب

مسألة: الطاردون في التضمن: لا يتم المطلوب بالنهى

الفعل فقط, ثم ذلك الفعل إن كان كفًا, سُمّي نهيًا أيضًا, لكنه ليس نوعًا له, أما عندنا؛ فلأنه مباين له, وأما عندكم؛ فلأنه عينه أو لازمه. فإن قالوا: لا يلزم من كون النهي الخاص ليس نوعًا من الأمر الخاص, ألا يكون نوعًا من الأمر العام - الذي هو طلب الفعل فقط - أعم من كونه كفًا أم لا, وهو اللازم لمذهبهم. قلنا: رجع النزاع حينئذ إلى تعريف الأمر, فعلى تعريفنا لا يكون نوعًا منه, وعلى تعريفكم يكون نوعًا منه فرجع النزاع إلى الاصطلاح, ومن أجل ألا يصير النهي نوعًا من الأمر, قيل في حدّ الأمر: هو طلب فعل غير كف. وفي الإلزامين نظر؛ إذ الواجب الضد العام, ومرادهم أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده التي لم ينه عنها, وكذا الأمر نهي عن جميع أضداده التي لم يؤمر بها, فلا معنى لإلزامهم إياه. ثم من جوَّز كون الشيء الواحد واجبًا حرامًا من وجهين يلتزم هذا. قال: (الطاردون في التضمن: لا يتم المطلوب بالنهي إلا بأحد أضداده كالأمر. وأجيب: بالإلزام الفظيع, وبأن لا مباح. الفارُّ من الطرد: إما لأن النهي طلب نهي, وإما لأن أمر الإيجاب يستلزم الذم على الترك وهو فعل, فاستلزم كما تقدم, والنهي طلب كف عن فعل يستلزم الأمر؛ لأنه طلب فعل لا كف, وإما لإبطال المباح. المخصص: الوجوب للأمرين الآخرين).

أقول: احتج القائلون بأن النهي يتضمن الأمر بالضد, كما أن الأمر يتضمن النهي عن الضد لا أنه عينه: بأنه لا يتم المطلوب بالنهي إلا بأحد أضداده, كما لا يتم المطلوب من الأمر إلا بترك جميع أضداده, فيجب [وتقريره]. والجواب: بإلزام كون الزنا واجبًا من حيث هو ترك لواط وبالعكس, وإلزام ألا مباح أيضًا, وقد مرَّ ما فيهما, وأما الذين فروا من طرد الحكم متقصرين عليه في الأمر, إنما يقولون به في النهي لأحد أمور أربعة: إما لأن مذهبهم أن النهي طلب نفي الفعل - كما يقول أبو هاشم – والعدم لا ضد له؛ إذ الضدان الأمران الوجوديان, فاختص الأمر بانه نهي عن ضده دون النهي, أو لأن العدمي لا يستلزم الوجودي. وفيهما نظر, أما الأول؛ فلأن مرادهم من الضد ما هو أعم. وأما الثاني؛ فيبطل بالعكس؛ إذ الوجودي لا يستلزم العدمي, فلا معنى للفرار من الطرد, وأما الإلزام الفظيع وهو كون الزنا واجبًا إذا ترك به اللواط, وألزموا كون الواجب حرامًا؛ لأنه إذا أمر بشيء فقد نهى عن ضده

عندهم, فيكون الواجب الذي هو ضد منهيًا عنه. وقد يجاب عنه: بأن هذا النهي لزم منه الأمر, وهو لا يستغرق الزمان, بل زمان ذلك الأمر, ولا شك أنه منهي عنه في ذلك الزمان ومأمور به في غيره, بخلاف اللازم من النهي, فإنه يفيد الدوام فتحصل المنافاة, فيكون الزنا مأمورًا به دائمًا, منهيًا عنه دائمًا؛ لأنه ضد اللواط, والزنا في نفسه منهي عنه. على أن للآخر أن يقول: النهي عن اللواط لا يستلزم الأمر بالزنا عينًا, بل بأحد أضداد اللواط, وقد نهى عن الزنا, فيخرج عن تناول الأمر. وإما لأن أمر الإيجاب يستلزم الذم على ترك, وهو - أي الترك, أو أمر الإيجاب - فعل, فاستلزم النهي عن فعل ينافي المأمور به, وهو معنى الضد كما تقدم. وأما النهي, فهو طلب كف عن فعل يذم فاعله, فلم يكن مستلزمًا للأمر؛ لأنه طلب فعل غير كف, وإما للزوم إبطال المباح, وما تقدم يرده, مع أنه لم يستلزم طلب الكف طلب فعل غير كف, فكذا لا يستلزم طلب الفعل غير الكف طلب الكف. وكل من قال: الأمر بالشيء نفس النهي عن ضده, يلزمه الطرد؛ إذ لا ينفك الشيء عن نفسه. أما الذين خصصوا الحكم بأمر الإيجاب فللأمرين الآخرين, وهو أن

مسألة: الإجزاء الامتثال فالاتيان بالمأمور به على وجه

أمر الوجوب يستلزم الذم على الترك فاستلزم النهي, بخلاف أمر الندب. وفيه نظر؛ لأن الأمر الندبي يستلزم ترجيح الفعل, فيكون الترك مرجوحًا, وترك الفعل المرجوح لازم لضد المندوب؛ لأنه يلزم من فعل ضد المندوب ترك الفعل, وترك المرجوح مطلوب فيكون منهيًا / عنه نهي كراهة. وإما للزوم إبطال المباح؛ إذ ما من وقت إلا ويندب فيه فعل؛ إذ استغراق الأوقات بالمندوبات مندوب, بخلاف الواجب فإنه لا يستغرق الأوقات, فيكون الفعل في غير وقت أداء الواجب مباحًا, فلا يلزم نفي المباح. قال: (الإجزاء: الامتثال, فالإتيان بالمأمور به على وجه يحققه اتفاقًا. وقيل: الإجزاء: إسقاط القضاء, فيستلزمه. وقال عبد الجبار: لا يستلزمه. لنا: لو لم يستلزم, لم يعلم امتثال. وأيضًا: فإن القضاء استدراك لما فات من الأداء, فيكون تحصيلًا للحاصل. قالوا: لو كان لكان المصلي بظن الطهارة آثمًا, أو ساقطًا عنه القضاء إذا تبين الحدث. وأجيب: بالسقوط للخلاف, وبأن الواجب مثله بأمر آخر عند التبين, وإتمام الحج الفاسد واضح). أقول: كون الفعل مجزيًا قد يطلق بمعنى أنه [امتثل به الأمر نحو ما أتى به

على الوجه الذي أُمر به, وقد يطلق بمعنى أنه مسقط للقضاء] , ولا خلاف أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر الشارع به يحقق الإجزاء بمعنى الامتثال, أي يدل على أن الفاعل امتثل, وأما بالمعنى الثاني: فالأكثر على أن الإتيان بالمأمور به على وجه يستلزم الإجزاء, بمعنى إسقاط قضاء ذلك الفعل, وقال عبد الجبار في العمد: أنه لا يستلزمه. لنا: لو لم يستلزم سقوطه لم يعلم امتثال, أما الملازمة؛ فلأنه يجوز أن يأتي بالمأمور به حينئذ ولا يسقط عنه, وكذلك القضاء إذا فعله وهلم جرًا, [ومع احتمال بقاء التكليف لا يعلم امتثال] , وانتفاء الثاني مقطوع به, وقد يمنع الملازمة من يقول: فاقد الطهرين يصلي ويقضي فإنه تحقق

الامتثال بالفعل مع التكليف بالقضاء, وأيضًا: القضاء استدراك ما فات من مصلحة الأداء, والفرض أنه أتى بالمأمور به على وجه ولم يفت شيء, فلو أتى به استدراكًا لكان تحصيل الحاصل. قالوا: لو كان مستلزمًا سقوط القضاء لكان المصلي بظن الطهارة إذا تبين كونه محدثًا إما آثمًا, أو ساقطًا عنه القضاء, واللازم بقسيمه باطل. أما الأولى؛ فلأنه إن أمر بالصلاة بيقين الطهارة فلم يفعل كان آثمًا, وإن أمر بصلاة بظن الطهارة فقد أتى بها على وجهها, والفرض أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يسقط القضاء, فيسقط القضاء, والتالي باطل. الجواب: منع بطلان التالي والتزام سقوط القضاء؛ إذ المسألة مختلف فيها, وأيضًا: المأمور به صلاة بظن الطهارة, وإذا تبين خطؤه وجب مثله بأمر آخر, وتسمية / الثاني قضاءً مجازٌ. قالوا: لو كان مسقطًا للقضاء لكان إتمام الحج الفاسد مسقطًا للقضاء, واللازم باطل اتفاقًا. الجواب واضح مما ذكرنا؛ لأن وجوب قضاء ما فسد إتمامه فعل آخر وجب بأمر آخر, والإتمام لم يجب قضاؤه, فالذي فعل سقط قضاؤه, والمقضي ما فعل. واعلم أنه لا خلاف في جواز ورود الأمر بمثل ما فعل, إنما النزاع في كونه قضاء للأول.

مسألة: صيغة الأمر بعد الحظر للإباحة على الأكثر

قال: (مسألة: صيغة الأمر بعد الحظر للإباحة على الأكثر. لنا: غلبتها شرعًا, {وإذا حللتم} , {فإذا قضيت الصلاة}. قالوا: لو كان مانعًا لمنع من التصريح. وأجيب: بأن التصريح قد لا يكون بخلاف الظاهر). أقول: اختلفوا في صيغة الأمر بعد الحظر, فقال المتقدمون من المالكية والباجي من المتأخرين, وكثير من الشافعية: إنها للوجوب؛ لأنها ظاهرة في الوجوب, ووقوعها بعد الحظر لا يكون مانعًا, فكانت للوجوب عملًا بالمقتضى السالم عن المعارض, وقال بعض المتأخرين من المالكية: إنها للإباحة, واختاره المصنف, واحتج بغلبة استعمالها شرعًا في الإباحة, فيقدم على الوجوب الذي دلّت عليه اللغة. قال تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} , {فإذا قضيت الصلاة

مسألة: القضاء بأمر جديد

فانتشروا} , وقال آخرون: لو كان وقوعها مانعًا بعد الحظر لمنع من التصريح بالوجوب, ولا يمتنع أن يقول: «حرمت كذا» , ثم يقول: «أوجبته». الجواب: منع الملازمة, والتصريح قرينة أن الظاهر غير مراد. نعم لو قال: لو كان مانعًا من الوجوب الظاهر لما وقع وقد وقع, قال تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} كان متجهًا. قال: (مسألة: القضاء بأمر جديد, وبعض الفقهاء بالأول. لنا: لو وجب به لاقتضاه, وصوم يوم الخميس لا يقتضي يوم الجمعة. وأيضًا: لو اقتضاه لكان أداء, ولكانا سواء. قالوا: الزمان ظرف, واختلاله لا يؤثر في السقوط. وردّ: بأن الكلام في مقيد لو قدم لم يصح. قالوا: كأجل الدْين. ردّ: بالمنع, وبما تقدم.

قالوا: فيكون أداء. قلنا: سمي قضاء لأنه يجب استدراكًا لما فات). أقول: إذا ورد الأمر بعبارة معينة في وقت معين فلم تفعل لعذر أو لغير عذر, أو فعلت فيه على نوع من الخلل, فوجوب قضائها بعده بأمر جديد, كقوله عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها». وذهب بعض أصحابنا وكثير من الفقهاء إلى أنه بالأمر الأول. احتج المصنف لمختاره بدليل بطلان الملازمة فيه بثلاثة أوجه, تقريره: لو وجب القضاء بالأمر الأول / لاقتضى الأمر القضاء؛ لأن الوجوب أخص من الاقتضاء, وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم. وأما النفي التالي؛ فلأن قول القائل: «صم يوم الخميس» لا يقتضي صوم يوم الجمعة بوجه من وجوه الاقتضاء.

وأيضًا: لو اقتضى الأمر الأول وجوب القضاء لكان أداءً؛ لأنه بمثابة قولنا: صم يوم الخميس, فإن لم يتفق فبعده, كقوله: «صلّ في جماعة, فإن لم تتفق فصل منفردًا». وأيضًا: لو اقتضى الأمر الأول القضاء كما اقتضى الأداء, لكانا سواء فلا يعصي بالتأخير. قيل: أمر بالصلاة وبإيقاعها يوم الخميس؛ لأن الأمر بالمركب أمر بكل واحد من أجزائه, فلما فات إيقاعها فيه - الذي هو كمال المأمور - بقي الوجوب مع نقص فيه, والزمان من ضروراته, ولا يلزم اقتضاء يوم الجمعة عينًا, كما لو قال السيد لعبده: «خط هذا الثوب يوم الجمعة» , فلم يخطه فيه, فإنه يجب عليه خياطته بعد, ولا يلزم كونه أداء؛ لأنه وجب استدراكًا لما فات, ولا يلزم استواؤها لما ذكر من الترتيب؛ إذ معناه: «إن فعلت في الأول برئت, وإلا أثمت ووجب عليك الفعل بعده». وفيه نظر؛ لأن وجوب كل جزء ظاهر إذا لم يتعذر الآخر, إما إذا تعذر فممنوع؛ لاحتمال المنع منه, أو لكون الوجوب مشروطًا بذلك الزمان, ووجوب الخياطة لقرينة الاحتجاج. احتج الآخرون بوجوه: الأول: الزمان ظرف من ضرورة المأمور به غير داخل في المأمور به, فلا يؤثر اختلاله في سقوطه.

مسألة: الأمر بالأمر الشئ ليس أمرا بالشئ

الجواب: المنع, بل هو داخل في المأمور به؛ لأن الكلام في الفعل المقيد بوقت, بحيث لو قدم لم يعتد به, كصلاة الظهر مثلًا. قالوا ثانيًا: الوقت للمأمور به, كالأجل للدين, وكما لا يسقط بعدم الأداء عنده, فكذا ما نحن فيه. الجواب: المنع, والفرق أنه لو قدم لم يصح, بخلاف الدين. قالوا: لو وجب بأمر جديد لكان أداءً؛ لأنه حينئذ أمر بالفعل بعد الوقت, فيكون مأتيًا به في وقته لا بعده, فيكون أداءً. الجواب: إنما سمي قضاء؛ لأن فيه استدراك مصلحة ما فات أولًا, وهو بالحقيقة منع للملازمة؛ إذ شرط الأداء ألا يكون استدراكًا لمصلحة فاتت. وهذه المسألة مبنية على أن المقيد هل هو المطلق والقيد؟ , أو هما شيئان كما في التعقل والتلفظ؟ , أو ما صدقا عليه؟ . وهو شيء واحد يعبر عنه بالمركب من متعدد. قال: (مسألة: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا بالشيء. لنا: لو كان, لكان «مُرْ عبدك بكذا» تعديًا, ولكان يناقض قولك للعبد: «لا تفعل». قالوا: فهم ذلك من أمر الله تعالى رسوله عليه السلام, ومن قول الملك لوزيره: «قل لفلان: افعل». قلنا: للعلم بالعادة أنه مبلغ). أقول: أمر الآمر المكلف أن يأمر غيره بشيء ليس أمرًا من الآمر لذلك

الغير بذلك الشيء, نحو قوله عليه السلام: «مروهم بالصلاة لسبع» , فالصبي غير مأمور من قبل الشارع بالصلاة. لنا: لو كان الأمر بالأمر أمرًا لذلك الغير, لكان قولك لشخص: «مُرْ عبدك بكذا» تعديًا؛ لأنه أمر لعبد الغير, ولكان مناقضًا لقولك للعبد: «لا تفعل». وفيهما نظر؛ لأنه إن توجه الأمر على السيد الآمر لم يكن متعديًا, وإن لم يتوجه فهو متعد في أمر السيد أولًا. وأما ثانيًا: فلأنا نلتزم التنافي بينهما, على أنه لا تناقض بين الصريح والظاهر؛ لأن دلالته على عدم جواز الترك ظاهر, ولا تفعل نصُّ. قالوا: فهم ذلك من أمر الله لرسوله أن يأمرنا, ومن قول الملك لوزيره: «قل لفلان افعل» , ولولا ذلك لما فهم. الجواب: أن الفهم من القرينة وهو العلم بأنه مبلغ لأمر الله وأمر الملك. لا يقال: فيلزم أن يكون الصبيان على هذا الجواب مكلفين من قبل الشارع في المثال المذكور. لأنا نقول: عدم التكليف مانع منه.

مسألة: إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب الفعل الممكن

قال: (مسألة: إذا أمر بفعل مطلق, فالمطلوب الفعل الممكن المطابق للماهية لا الماهية. لنا: أن الماهية يستحيل وجودها في الأعيان, لما يلزم من تعددها, فيكون كليًا جزئيًا, وهو محال. قالوا: المطلوب مطلق, والجزئي مقيد, فالمشترك هو المطلوب. قلنا: يستحيل بما ذكرناه). أقول: إذا أمر بفعل مطلق, كما لو قال لو كيله: «بع» فإنه لا يكون أمرًا بالبيع بالغبن الفاحش, ولا بثمن المثل؛ إذ هما متفقان في مسمى البيع, ومختلفان بصيغتيهما, والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك, وغير مستلزم لما تخصص به كل واحد منهما, فلا يكون الأمر المتعلق بالمشترك متعلقًا بواحد منهما, إلا أن تدل قرينة على إرادة أحد الأمرين, ككون العرف قيده بثمن المثل. قالوا: ولذلك لا يملك الوكيل في مثل هذا أن يبيع بالغبن الفاحش. وقال آخرون, واختاره المصنف: إن الأمر لا يكون بغير الجزئيات الواقعة في الخارج؛ لأن القدر المشترك من غير قيد لا وجود له في الأعيان,

فالتكليف به تكليف ما لا يطاق, فإذًا المطلوب الجزئي الموافق في الحدّ للطبيعة من حيث هي بعد حذف المشخصات, فإذا أتى المأمور بالبيع بالغبن الفاحش فقد أتى بمسمى البيع فيصح, نظرًا إلى مقتضى الأمر بالبيع المطلق. وإن قيل بالبطلان / فالدليل آخر. احتج المصنف: بأن الماهية من حيث هي يستحيل وجودها في الخارج, فلا يكون مأمورًا بالإتيان بها. بيان استحالة وجودها؛ أن الماهية من حيث هي من لوازمها الاشتراك بين كثيرين فتكون كلية, فلو فرض وجودها في الخارج لم تكن مشتركة بين كثيرين للزوم التشخص فتكون جزئية, فيلزم أن تكون كلية جزئية وهو محال؛ لاستلزامه اجتماع النقيضين في الخارج. وفيه نظر؛ لأن الماهية من حيث هي لا يلزمها الاشتراك بين كثيرين, وإلا لما عرض لها التشخيص. قالوا: المطلوب فعل مطلق, ولا شيء من الجزئي بمطلق, فلا شيء من المطلوب بجزئي, وينعكس: لا شيء من الجزئي بمطلوب, فيكون المشترك هو المطلوب. أجاب: بأنه يستحيل وجود المشترك لما ذكرنا, فلا يكون مطلوبًا. وفيه ما تقدم, مع أن الخصم لم يقل: إن الماهية بقيد الاشتراك مطلوبة, وإنما قال: الماهية التي يعرض لها الاشتراك مطلوبة, ولا يستحيل وجود المعروض للاشتراك.

النهي

والحق: أن المطلق مطلوب بالذات, والجزئي مطلوب بالعرض. قال: (مسألة: الأمران المتعاقبان بمتماثلين, ولا مانع عادة من التكرار من تعريف أو غيره, وةالثاني غير معطوف, مثل: «صلّ ركعتين, صلّ ركعتين». قيل: معمول بهما. وقيل: تأكيد. وقيل: بالوقف. الأول: فائدة التأسيس أظهر, فكان أولى. الثاني: كثر في التأكيد, ويلزم في العمل مخالفة براءة الذمة. وفي المعطوف العمل أرجح, فإن رجح التأكيد بعادي قُدَّمَ الأرجح, وإلا فالوقف). أقول: إذا تعاقب أمران بتماثلين, احتمل التأكيد فيكون المطلوب الفعل مرة, ويحتمل التأسيس فيكون المطلوب الفعل مكررًا. فإن وجد مانع عادة من التكرار, كتعريف الثاني مثل: «صلّ ركعتين, صلّ الركعتين» , أو غير ذلك مثل: «اسقني ماء, اسقني ماء» , فإن القرينة وهو دفع الحاجة بمرة غالبًا تمنع تكرار السقي, فتعين التأكيد. فإن لم يوجد مانع التكرار, والثاني غير معطوف, فقيل: يعمل بهما

فيتكرر. وقيل: الثاني تأكيد, فيجب مرة فقط. وقيل: بالوقف فيهما. القائل يعمل بهما احتج: بأن فائدة التأسيس أظهر من فائدة التأكيد, فكان أولى لزيادة الفائدة. الآخر قال: كثر التكرار في التأكيد أكثر منه في التأسيس, فيحمل عليه إلحاقًا للمفرد بالأعم الأغلب. وأيضًا: يلزم من العمل بهما مخالفة براءة الذمة التي هي الأصل بخلاف التأكيد, أما إذا كان معطوفًا / مثل: «صلّ ركعتين, وصلّ ركعتين» فالعمل بهما أرجح؛ لأن التأكيد مع واو العطف قليل. فإن رجح في المعطوف التأكيد بعادي من تعريف أو غيره, وقع التعارض بين العطف ومانع التكرار, فيصار إلى الترجيح, فإن لم يترجح واحد منهما وجب الوقف.

مسألة: النهي: اقتضاء كف عن فعل على جهة الاستعلاء

قال: (النهي: اقتضاء كف عن فعل على جهة الاستعلاء. وما قيل في حد الأمر من مزيف وغيره, فقد قيل مقابله في حدّ النهي والكلام في صيغته, والخلاف في ظهور الحظ لا الكراهية, وبالعكس, أو مشتركة, أو موقوفة كما تقدم. وحكمها: التكرار والفور. وفي تقدم الوجوب قرينة, نقل الأستاذ الإجماع, وتوقف الإمام. وله مسائل مختصة). أقول: عرّف النهي بأنه: اقتضاء كف عن فعل على جهة الاستعلاء, وفائدة القيود تقدمت في الأمر. ويرد: كف نفسك أيضًا, وما يرد في حدّ الأمر من مزيف وغيره, قيل مقابله في حدّ النهي, كقولنا: القول المقتضي طاعة المأمور بترك المأمور به, أو قول القائل لمن دونه: «لا تفعل ... إلى آخرها» , والخلاف في أن له صيغة تخصه أم لا؟ , ثم هل ظاهره الحظر أو الكراهة مع أنه ورد لسبعة معانٍ, أو مشتركة بالاشتراك اللفظي أو المعنوي, أو بالوقف على التفسير المتقدم, كما تقدم في الأمر. ويخالف الأمر في أن حكمه التكرار, فينسحب حكمه على جميع الأزمان والفور, فيجب الانتهاء في الحال, خلافًا للإمام فخر الدين فيهما

مسألة: اللغة: لم تزل العلماء

إذ مقتضى النهي القدر المشترك, الذي هو الامتناع عن إدخال الماهية في الوجود, وهو أعم من أن يكون دائمًا أو غير دائم. ولو قال للصبي: «لا تلعب» , وللمريض: «لا تقعد» لم يكن للدوام, وتقدم الأمر النهيَّ قرينة دالة على النهي للتحريم. ونقل الأستاذ الإجماع على ذلك, وتوقف إمام الحرمين لقيام الاحتمال, فهذه المسائل المشتركة. وللنهي مسألتان اختص بهما؛ إذ الثالثة لا يختص بها وهي أيضًا تكرار؛ لأنه قال: (وحكمه التكرار) , وهو معنى قوله: يفيد الدوام. قال: (مسألة: النهي عن الشيء لعينه يدل على الفساد شرعًا لا لغةً, وقيل: لغة. وثالثها: في الإجزاء لا السببية. لنا: أن فساده سلب أحكامه, وليس في اللفظ ما يدل عليه لغةً قطعًا, وأما كونه يدل شرعًا؛ فلأن العلماء لم تزل يستدلون / على الفساد بالنهي في الربويات والأنكحة وغيرها. وأيضًا: لو لم يفسد لزم من نفيه حكمه للنهي, ومن ثبوته حكمه للصحة, واللازم باطل؛ لأنهما في التساوي ومرجوحية النهي, يمتنع النهي لخلوه عن الحكمة. وفي رجحان النهي تمتنع الصحة لذلك). أقول: النهي عن الشيء قد يكون لعينه, وقد يكون لصفته, فالنهي

عن الشيء لعينه يدل على فساد المنهي عنه. واختلف القائلون به, فبعضهم قال: يدل شرعًا, وبعضهم قال: لغة. وقيل: لا يدل على الفساد, وقيل: يدل على الفساد فيما يوصف بالإجزاء وهي العبادات, لا فيما يوصف بالسببية وهي المعاملات. ومعنى الفساد في المعاملات: ألا تكون سببًا مقيدًا لأحكامها المقصودة منها وثمراتها, وهذا مذهب أبي الحسين البصري, حكاه الإمام عنه. وذهب آخرون إلى أنه لا يدل على الفساد, وإليه ذهب القاضي أبو بكر

منا, والغزالي, والقفال, وكثير من مشايخ الحنفية, ومشايخ المعتزلة. ثم من هؤلاء من قال: إنه يدل على الصحة, وروي عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن. قال الأولون: فإذا قال: «لا تصم يوم العيد» وصامه قضاء عن رمضان, عصى ولم يجزئه, ولو باع ذهبًا بذهب متفاضلًا, لم يكن هذا البيع سببًا لحل الانتفاع بالمبيع, ولا يترتب عليه أحكام البيع. احتج المصنف على الجزء السلبي: أولًا: بأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه, وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعًا, إذ معنى النهي اقتضى الامتناع عن الفعل, وسلب

الأحكام ليس عينه, ولا لازمًا له, ولو قال: «لا تبع, فإن بعت عاقبتك» وترتبت عليه أحكام البيع, لم يكن ظاهرًا في التناقض. واحتج على الجزء الثبوتي بوجهين: الأول: أن علماء الأمصار لم يزالوا يستدلون بالنهي على الفساد في أبواب الربا والأنكحة وغيرها من العبادات ولم ينكر, فكان إجماعًا. وفيه نظر؛ لأنا نمنع أنهم يستدلون بالنهي على الفساد, بل يستدلون به على التحريم. الثاني: لو لم يفسد المنهي عنه لكان صحيحًا, لكن الصحة والنهي لا يجتمعان؛ لأن الفعل إن تضمن مصلحة خالصة أو راجحة لم ينه عنه, وكذا إن تضمن مصلحة مساوية؛ لأنه ترجيح لأحد المتساويين على الآخر, وإن تضمن مفسدة خالصة أو راجحة امتنعت صحته. وتنزيله على كلام المصنف: أن أحكام الشرع معللة برعاية مصالح العباد, فيلزم من نفي المنهي / عنه حكمة يدل عليها النهي ومن ثبوته حكمة يدل عليها الصحة, فإن تساوت الحكمتان تساقطتا وكان فعله كلا فعله, فامتنع النهي عنه لخلوه عن الحكمة, وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى, وإن كانت راجحة امتنعت الصحة لفوات قدر الرجحان من مصلحة النهي فثبت فساد المنهي عنه وليس من الصيغة لغة, فهو من النهي الشرعي. قلت: وفيه نظر؛ إما لأن الأحكام المبنية على المصالح أحكام شرعية, والصحة والفاسد عنده أمر عقلي, وإما لأنه يستلزم أن يكون كل منهي عنه

مسألة: النافي: لو دل لناقض تصريح الصحة

فاسدًا ولو دلّ الدليل على صحته. قال: (اللغة: لم تزل العلماء. وأجيب: بفهمهم شرعًا بما تقدم. قالوا: الأمر يقتضي الصحة, والنهي نقيضه, فيقتضي نقيضها. وأجيب: بأنه لا يقتضيها لغة. فلو سلّم, فلا يلزم اختلاف أحكام المتقابلات, ولو سلّم فإنما يلزم ألا يكون للصحة, لا أن يقتضي الفساد). أقول: احتج القائل بأنه يدل على الفساد لغة: بأن العلماء لم يزالوا يستدلون بالنهي على الفساد, والأصل عدم النقل. الجواب: سلمنا أنه يدل على الفساد, لكن لفهمهم ذلك شرعًا, لما تقدم من الدليل على عدم دلالته لغةً. قالوا ثانيًا: الأمر يقتضي الصحة لما مرَّ, والنهي نقيضه, ومقتضى النقيضين نقيضان, فيكون النهي مقتضيًا نقيض الصحة وهو الفساد. الجواب: الأمر يقتضي الصحة شرعًا لا لغةً, فكذلك النهي. سلمنا, لكن لا يجب اختلاف أحكام المتقابلات؛ لجواز اشتراكها في لازم واحد. سلمنا, لكن نقيض «يقتضي الصحة» , هو: «لا يقتضي الصحة» , وهو أعم من «يقتضي الفساد» , والأعم لا إشعار له بالأخص المعَّين. قال: (النافي: لو دلَّ لناقض تصريح الصحة, ونهيتك عن الربا لعينه, وتملك به يصح.

مسألة: القائل يدل على الصحة

وأجيب: بالمنع بما سبق). أقول: احتج القائل بأنه لا يدل على الفساد شرعًا ولا لغة: بأنه لو دلّ النهي على الفساد لكان مناقضًا للتصريح بصحة المنهي عنه, واللازم باطل؛ لأنه يصح أن يقال: «نهيتك عن الربا لعينه ولو فعلت عاقبتك» , وحصل له بن الملك. الجواب: منع الملازمة, وهو أن الظهور لا يمنع التصريح بنقيضه, وإليه الإشارة بما سبق, أي في مسألة «الأمر بعد الحظر» , وهو ينافي قوله: وليس في اللفظ ما يدل عليه لغة قطعًا, إلا أن يريد ظاهر شرعًا لا لغة, وهذا الجواب ينافي مقتضى / دليله من المنقول. وقيل: معنى (وأجيب بالمنع بما سبق) أي نمنع بطلان اللازم, ولا يصح أن يقول: وتملك به؛ لما سبق من أن النهي عن الشيء وصحته لا يجتمعان, وهذا وإن كان يحتمله ويسلم من هذا الاعتراض, لكن قوله في المسألة التي بعد: (وأجيب بأنه ظاهر فيه, وما خولف فبدليل) , مع أنه استدل أيضًا فيها بالدليل السابق من المعقول, يرد هذا الحمل. قال: (القائل يدل على الصحة: لو لم يدل, لكان المنهي عنه غير شرعي, والشرعي الصحيح, كصوم يوم النحر, والصلاة في الأوقات المكروهة.

وأجيب: بأن الشرعي ليس معناه المعتبر لقوله صلى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة»؛ وللزوم دخول الوضوء وغيره في مسمى الصلاة. قالوا: لو كان ممتنعًا لم يمنع. وأجيب: بأن المنع للنهي, وبالنقض بمثل: {ولا تنكحوا} , «ودعي الصلاة». قولهم: نحمله على اللغوي, يوقعهم في مخالفة أن الممتنع لا يمنع, ثم هو متعذر في الحائض). أقول: احتج القائل بأنه يدل على الصحة: بأنه لو لم يدل عليها لكان المنهي عنه غير شرعي, أما الملازمة؛ فلأن المنهي عنه إذا لم يكن صحيحًا لم يكن شرعيًا, لأن كل شرعي صحيح, وينعكس: كلما لم يكن صحيحًا لم يكن شرعًا. وأما بطلان التالي؛ فلأن المنهي عنه في صوم يوم النحر والصلاة في الأوقات المكروهة, الصوم والصلاة الشرعيان لا اللغويان. الجواب: منع الملازمة, والشرعي ليس معناه المعتبر شرعًا, بل ما يسميه الشارع بذلك الاسم, وهو الصورة المعينة صحت أم لا؛ ولذلك يقال: صلاة صحيحة, وصلاة فاسدة, ويدل عليه قوله عليه السلام: «فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» , أخرجه مسلم, وصلاة الحائض لا تصح

مسألة: النهي عن الشئ لوصفه

اتفاقًا, ثم يلزم أن يكون الوضوء - وغيره من شرائط الصلاة - داخلًا في مفهوم الصلاة؛ لأن الصلاة المعتبرة شرعًا هي المستجمعة للشرائط, ومعلوم أن الشرائط خارجة. قالوا ثانيًا: لو كان ممتنعا شرعًا لم يمنع؛ لأن المنع عن الممتنع لا يفيد. الجواب أولًا: أنه ممتنع بهذا المنع, إنما المحال منع المتميز بغير هذا المنع. وثانيًا: أنه منقوض بمثل: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} , فإنه غير صحيح اتفاقًا, وكذا: «دعي الصلاة أيام أقرائك». فإن قيل: نحمله هنا على اللغوي, فلا يلزم الصحة. قلنا: دليلكم قائم في اللغوي, وهو أن الوطء ممتنع شرعًا وقد منع منه, والممتنع لا يمنع, ثم حمله على اللغوي في صلاة الحائض؛ لأن اللغوي - وهو الدعاء - غير ممنوع اتفاقًا. قال: (مسألة: النهي عن الشيء لوصفه كذلك, خلافًا / للأكثر. وقال الشافعي: يضاد وجوب أصله, يعني ظاهرًا, وإلا ورد نهيُ الكراهة. وقال أبو حنيفة: يدل على فساد الوصف؛ لأنه المنهي عنه. لنا: استدلال العلماء بمثله على تحريم صوم يوم النحر ونحوه, وبما تقدم من المعنى.

قالوا: لو دلّ لناقض تصريح الصحة, وطلاق الحائض, وذبح ملك الغير معتبر. وأجيب: بأنه ظاهر فيه, وما خولف صرف النهي عنه). أقول: لما فرغ من النهي عن الشيء لعينه, شرع في النهي عن الشيء لوصفه, كالنهي عن طلاق الحائض, وهو عنده يدل على الفساد شرعًا لا لغة, والأكثر أنه لا يدل على الفساد. وقال الشافعي: النهي عن الشيء لوصفه يضاد وجوب أصله. قال المصنف: يعني يضاد وجوب أصله ظاهرًا, وإلا ورد نهي الكراهة, كالنهي عن الصلاة في الأماكن المكروهة, فإنه يرفع وجوب أصلها اتفاقًا؛ لأن نسبة الكراهة والتحريم إلى الوجوب في التضاد سواء, فلو لم يجامع أحدهما لم يجامع الآخر, لكن يجوز ترك الظاهر لدليل أرجح. قيل: في هذا النقض نظر؛ لأن طلاق الحائض, وذبح ملك الغير, يرجع إلى وصف منفك. وقال أبو حنيفة: يدل على فساد الوصف, ولا يدل على فساد أصله, حتى لو طرح الزيادة في الربا صح العقد.

مسألة: النهي يقتضي الدوام ظاهرا

لنا: استدلال العلماء على فساد صوم يوم العيد بنهيه عليه السلام عن صومه, وليس نهيًا عن مطلق الصوم, بل لأنه صوم في يوم العيد. وأيضًا: ما تقدم من المعنى, وهو (لو لم يفسد ... إلى آخره). وفي الاستدلال نظر على الوجه الذي ذكره؛ إذ لا يلزم عند الخصم من التحريم الفساد. قالوا: لو دلَّ لناقض تصريح الصحة, ولا تناقض كما مرّ. وأيضًا: وجب ألا يعتبر طلاق الحائض, ولا ذبح ملك الغير. الجواب: أنه ظاهر في الفساد, ويجوز التصريح بخلاف الظاهر, وما خولف فيه من الصور, فلدليل راجح صرف النهي عن الفساد. وقيل: صرف النهي عن الظاهر, وهو قريب منه. وقيل: صرف النهي عن الوصف إلى أمر خارج, كتطويل العدة في الحائض مثلًا: وقيل: صرف النهي عن الظاهر إلى وصفها, وهذا أبعدها. قال: (مسألة: النهي يقتضي الدوام ظاهرًا. لنا: استدلال العلماء مع اختلاف الأوقات. قالوا: نهيت الحائض عن الصلاة. قلنا: لأنع مقيد). أقول: النهي يقتضي دوام ترك المنهي عنه اقتضاء ظاهرًا, وقد يصرف عنه لدليل.

العام والخاص

لنا: أن العلماء لم يزالوا يستدلون بالنهي على الترك مع اختلاف الأوقات ولولا أنه للدوام لما صح, وقد علمت ما في هذه المسألة, ودليل النافي عليها, فلا نعيده. قالوا: لو كان للدوام لما انفك عنه, لكن الحائض نهيت عن الصلاة والصوم لا دائمًا. الجواب: كلامنا في النهي المطلق, وهذا مختص / بوقت الحيض عام فيه لا يتناول غيره أصلًا. قال: (العام والخاص. أبو الحسين: العام: اللفظ المستغرق لما يصلح له. وليس بمانع؛ لأن نحو عشرة, يدخل فيه, ولأن ونحو ضرب زيدٌ عمرًا, يدخل فيه. الغزالي: اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا. وليس بجامع؛ لخروج المعدوم والمستحيل فإن مدلولهما ليس بشيء, والموصلات لأنها ليست بلفظ واحد, ولا مانع؛ لأن كل مثنى يدخل فيه؛ وكل معهود ونكرة يدخل فيه, وقد يلتزم هذين. والأولى: ما دلّ على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقًا ضربة. فقولنا: «اشتركت فيه» ليخرج نحو عشرة, و «مطلقًا» ليخرج المعودون, وقولنا: «ضربه» ليخرج نحو رجل.

والخاص بخلافه). أقول: من أقسام المتن: العام, والخاص. وحَدَّ أبو الحسين العام بأنه: اللفظ المستغرق لما يصلح له. واعترضه المصنف: بأنه ليس بمانع, فإن نحو: عشرة ومائة يدخل فيه, لا بالنسبة إلى أفراد العشرات لأنها بهذا الاعتبار - وإن صلح لها - إلا أنها على طريق البدل فليس بمستغرق, [ولا بالنسبة إلى الوحدات التي اشتملت عليها لأنها ليست بصالحة لكل واحد منها, إذ المراد «بما يصلح» ما يصلح لأن يطلق ذلك عليه لغة] , بل باعتبار أنه مستغرق لجميع الوحدات التي يصلح لفظ العشرة لجميعه من حيث هو جميعها, ويرد أيضًا: نحو «ضرب زيد عمرًا»؛ لأنه لفظ مستغرق لجميع ما يصلح له من الفعل والفاعل. قيل: أراد أبو الحسين بقوله: (ما يصلح له) أفراد المسمى لا أجزاؤه فلا يرد ما ذكر, وفيه نظر؛ لأنه يلزم أن يكون الرجال ليس بعام؛ لأن ما يصلح له شيء واحد, إلا أن يريد بطريق المجاز, كالجموع الداخلة فيه, وحينئذ لا يلزم أن يكون عشرة عامًا, لعدم استغراقها جميع العشرات التي [ني] لها. وعرّفه الغزالي: بأنه اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدًا, وفوائد القيود ظاهرة.

واعترض: بأنه ليس بجامع, ولا مانع. أما أنه ليس بجامع؛ فلخروج لفظ المعدوم والمستحيل, فإنه عام, ومدلوله ليس بشيء, والموصولات بصلاتها من العام, وليس بلفظ واحد. وأما أنه ليس بمانع؛ فلأن كل مثنى يدخل في الحدّ, وأيضًا: كل جمع لمعهود وكل جمع لنكرة يدخل فيه, وليس بعام, إلا أن الغزالي قد يلتزم عموم هذين. وقد يجاب عن الأول: بأن المعدوم والمستحيل شيء لغة, وإن لم يكن شيئًا بالمعنى المتنازع فيه في الكلام, وهي كونه ثابتًا حال العدم. وعن الثاني: أن العام هو الموصول, إلا أنه مبهم لا يعلم لماذا هو؟ , والصلة / مبنية, والمثنى لا يدل على شيئين فصاعدًا, بل على شيئين فقط. قيل: لو كان كذلك - والفاء تفيد التعقيب - لزم أن يكون اللفظ الواحد دالًا على أكثر من شيئين عقب دلالته على شيئين, فليس «فصاعدًا» معمولًا للدال, بل لمحذوف يفسره الدال, فيكون أقل المدلول للعام شيئين, ولا نزاع في أنه يلزم عليه أن يكون لفظ ثلاثة عامًا. ولما زيف المصنف التعريفين, عرّفه: بما دلّ على مسميات, باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقًا ضربة. فقولنا: (ما دلّ) كالجنس, ولم يقل: «لفظ» لئلا يختص العموم باللفظ. وقال: (مسميات) ليخرج المثنى. والحق أن نحو: رجال يدخل فيه؛ لدلالته على مسميات بالرجل,

مسألة: العموم من عوارض الألفاظ حقيقة

باعتبار أمر اشتركت فيه, وهو الذَّكَرُ من بني آدم, إذ لا يريد مسميات باسم العام, إذ لا مسمى له إلا شيء واحد. وقال: (باعتبار أمر اشتركت فيه) ليخرج نحو عشرة, فإن العشرة دلّت على آحادها لا باعتبار أمر اشتركت فيه؛ لأن آحاد العشرة أجزاء لها لا جزئيات لها, فلا يصدق على واحد أنه عشرة. وقال: (مطلقًا) أي لا بقرينة خارجية, احترازًا من المسلمين لمعهودين. وإنما قال: (ضربة) ليخرج نحو رجل, فإنه دلّ على مسميات لكن لا دفعة واحدة, بل على البدل. ثم قال: (والخاص بخلافه) أي ما دلّ لا على مسميات ... إلى آخره. قال: (مسألة: العموم من عوارض الألفاظ حقيقة. وأما في المعاني, فثالثها الصحيح كذلك. لنا: أن العموم حقيقة في شمول أمر لمتعدد, وهو في المعاني كعموم المطر والخصب ونحوه. ولذلك قيل: عمّ المطر والخصب ونحوه. وكذلك المعنى الكلي لشمول الجزئيات. ومن ثم قيل: العام ما لا يمنع تصوره من الشركة. فإن قيل: أمر واحد شامل, وعموم المطر ونحوه ليس كذلك. قلنا: ليس العموم بهذا الشرط لغة. وأيضًا: فإن ذلك ثابت في عموم الصوت, والأمر, والنهي, والمعنى الكلي).

أقول: العموم من عوارض الألفاظ, فإذا قيل: لفظ عام, صرف على سبيل الحقيقة, أما في المعنى, كما لو قيل: هذا معنى عام, فقيل: لا يصدق حقيقة ولا مجازًا, وقيل: يصدق مجازًا. والصحيح عنده: أنه يصدق حقيقة. لنا: أنا لعموم حقيقة في شمول أمر لمتعدد, فكما صح في الألفاظ باعتبار شموله بحسب الوضع لمعان متعددة, يصح في المعاني, بل هو في المعنى أظهر؛ إذ اشتراك الأشخاص في الإنسانية ليس في مجرد الاسم, وليس في وقوع الإنسان عليها كوقوع زيد على جمع تسموا به, فإن زيدًا لم يسم به إلا لأنه هو, لا لمعنى كلي, ولو رأيت رجلًا مجهول / الاسم حكمت أنه إنسان, ولم تحكم أنه زيد حتى تسأل عنه. فأنت في الأول متمثل صورة كلية تطابق كل إنسان فلذا حكمت, ولم تتمثل من زيد صورة تطابق شخصًا آخر, فلذا لم تحكم بوقوع اسم الليث على الأسد, ولا يمنع الشركة, ووقوعه على شخص إنسان يمنعها, فإذن: العموم من عوارض المعاني, وإنما يعرض للألفاظ من حيث أنها ذوات معان تطابق كثرة.

فالعموم للفظ من حيث وقوع الشركة في المفهوم لا في اللفظ, ومن شمول أمر معنوي لمتعدد عموم المطر والخصب والقحط للبلاد. ولذلك يقال: «عمَّ المطر» , و «عمَّ الخصب» , وكذلك ما تصوره من المعاني الكلية الشاملة لجزئياتها المتعددة الداخلة تحتها؛ ولأجل عروض العموم للمعنى, فسّر المنطقيون العام بما فسّر به الكلي. فقالوا: العام ما لا يمنع تصوره الشركة. فإن قيل: المراد من العموم أمر واحد شامل لمتعدد, وشمول المطر والخصب ليس كذلك, إذ الموجود في مكان غير الموجود في الآخر, وإنما هي أفراد من المطر والخصب, لأفراد من الأمكنة والأشخاص, ولو نسب المطر إلى جزئياته لا إلى أجزائه, لكان أمرًا واحدًا شاملًا, إلا أنه لا يكون المراد من قول العرب: «عمَّ المطر» , ولا كذلك «الرجال» , فإنه أمر واحد شامل لمراتب العدد. الجواب: أنه لا يعتبر في اللغة في العموم هذا القيد, بل يكفي الشمول, سواء كان هناك أمر واحد, أو لم يكن. سلمنا, لكن العموم بذلك المعنى ثابت في الصوت يسمعه طائفة, وهو أمر واحد يعمهم. وفيه نظر؛ إذ لا يشمل أصواتًا, وكذلك الأمر والنهي النفسيان يعمّان المكلفين, وكذلك المعنى الكلي فإن عمومه باعتبار أمر واحد شامل لأفراده. واعلم أن الإطلاق اللغوي يسهل, إنما النزاع في واحد يشتمل على متعدد, وكذلك لا يتصور في الأعيان الخارجية, إنما يتصور في المعاني

مسألة: للعموم صيغة

الذهنية, والأصوليون ينكرون [الوجود الذهني]. والنزاع لفظي؛ لأن العموم إن كان شمول لفظ لمتعدد, كان من عوارض الألفاظ فقط, وإن كان شمول معنى لمتعدد, كان من عوارض المعاني فقط, وعروضه للفظ بالتبعية, وإن كان شمول أمر لمتعدد, كان من عوارضهما. وكأن المصنف استشعر أن يقال له: لو عرض للمعنى حقيقة أيضًا لزم الاشتراك, فأشار إلى أنه للقدر المشترك, وهو شمول أمر لمتعدد, وهو بناء على أنه استعمال / المتواطئ في أفراده حقيقة, وفيه ما فيه. قال: (مسألة: قال الشافعي والمحققون: للعموم صيغة. والخلاف في عمومها وخصوصها: كما في الأمر. وقيل: مشتركة, وقيل: موقوفة بالوقف في الأخبار لا في الأمر والنهي. والوقف إما على معنى لا ندري, وإما نعلم أنه وضع ولا ندري أحقيقة أم مجاز. وهي: أسماء الشروط, والاستفهام, والموصولات, والجموع المعرفة

تعريف جنس, والمضاف, واسم الجنس كذلك, والنكرة في النفي. لنا: القطع في: لا تضرب أحدًا. وأيضًا: لم تزل الطمأنينة بمثل: {والسارق والسارقة} , {الزانية والزاني} , {يوصيكم الله في أولادكم} , وكاحتجاج عمر في قتال أبي بكر مانعي الزكاة: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, فإذا قالوها حقنوا مني دماءهم وأموالهم» , وكذلك: «الأئمة من قريش» , و «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» , وشاع وذاع ولم ينكره أحد. قولهم: فهم بالقرائن, يؤدي إلى أن لا يثبت للفظ مدلول ظاهر أبدًا. والاتفاق فيمن دخل داري فهو حر, أو طالق, أنه يعم. وأيضًا: كثرة الوقائع. واستدل: بأنه معنى ظاهر محتاج إلى التعبير عنه كغيره. وأجيب: بأنه قد يستغنى بالمجاز وبالمشترك). أقول: ذهب المرجئة إلى أن معنى العموم لا صيغة له في لسان العرب.

وذهب المحققون إلى أنه له صيغة, ثم اختلفوا: فقال الأكثر: الصيغ الآتي ذكرها حقيقة في العموم, مجاز في الخصوص وعكس قوم, وإلى هذا أشار بقوله: (والخلاف في عمومها وخصوصها كالأمر) أي الخلاف في أنها للعموم أو للخصوص, وهذا ظاهر الإحكام. وقيل: المعنى أن الصيغ المستعملة للعموم, هل هي خاصة بالعموم, أو عامة له ولغيره كالأمر؟ , وكلام المصنف يحتملها, يظهر بالتأمل. وعن الأشعري: أنها مشتركة بين العموم والخصوص. وعنه أيضًا قول بالوقف, إما على معنى لا ندري أوضع له صيغة أم لا؟ أو ندري أنه وضع له, ولا ندري أحقيقة منفردة أو مشتركة أو مجاز؟ بناءً على أن المجاز موضوع. وقيل: بالوقف إن استعملت في الأخبار. وإن استعملت في الأمر والنهي, مثل: {ولا تنكحوا المشركات}.

{فاقتلوا المشركين} , فهي للعموم. ثم الصيغ: أسماء الشروط, والاستفهام, نحو: «من» , و «ما» , و «مهما» , و «حيثما» , و «أيمنا» , و «الذي» , و «التي» , و «أي» , والجموع المعرفة تعريف الجنس والمضافة نحو: «العلماء» , و «علماء الإسلام» واسم / الجنس كذلك نحو: «التمتر» , و «تمر الحجاز» هكذا في المنتهى, والنكرة في النفي نحون: «لا رجل في الدار» , ولم يذكر «كل» لظهورها فيه. لنا: أن السيد إذا قال لعبده: «لا تضرب أحدًا» فهم منه العموم, حتى لو ضرب واحدًا عُدّ مخالفًا, والتبادر دليل الحقيقة, فالنكرة في النفي للعموم حقيقة, فللعموم صيغة. وهذا لا ينهض على من وقف في الخبر. وأيضًا: القطع بأن العلماء لم يزالوا يستدلون بمثل? والسارق والسارقة فاقطعوا? ,? الزانية والزاني فاجلدوا? ,? يوصيكم الله في أولادكم? . وقد يقال: إنما فهم ذلك في الاثنين الأولين من ترتيب الحكم على الوصف المعشر بعليته.

وكاحتجاج عمر في قضية قتال أبي بكر مانعي الزكاة بقوله عليه السلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» , وأقره أبو بكر وعدل إلى الاستثناء في قوله: «إلا بحقها» , فقال: «والزكاة من حقها» , ففهما وجوب قتال الجميع قبل «لا إله إلا الله» , وعدمه بعده. رواه الجماعة. وأيضًا: احتج أبو بكر على الأنصار بقوله عليه السلام: «الأئمة من قريش» أخرجه النسائي وأذعنوا فكان إجماعًا على أن الصيغة للعموم, إذ لو قلت: «بعض الأئمة من قريش» , لم يلزم ألا يكون من غيرهم إمام. وكذا احتجاج أبي بكر على فاطمة بقوله عليه السلام: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» لم يثبت بهذا اللفظ, ورواه مسلم: «لا نورث, ما تركناه صدقة» , ويكفي الظهور في مدلول اللفظ. وقد يقال في احتجاج عمر: إن ذلك فهم من العلة الموجبة لعصمة الدم والمال, وهو قوله: «لا إله إلا الله»؛ لأنه وصف مناسب, وكاحتجاج أبي بكر على فاطمة فهم من «نحن» , ولا مدخل للفظ الأنبياء فيه, وفهم التعميم

مسألة: الخصوص متيقن

في «الأئمة من قريش» من تفضيل النبي عليه السلام قريشًا على من سواهم, وعلى وجه لا يشاركهم فيه غيرهم, فلو لم يدل على اختصاص ذلك بهم, لما حصل الشرف لهم, وإلى ما ذكرنا أشار بقوله: (واعترض بأن العموم لم يفهم من اللفظ, وإنما فهم من القرائن). والجواب: أن فتح هذا الباب يؤدي إلى ألا يثبت للفظ مدلول ظاهر أبدًا لجواز أن يفهم بالقرائن, فإن الناقلين لم ينقلوا نص الواضع, وإنما أخذوه من تتبع موارد الاستعمال, مع أن [التجويز] لا ينافي الظهور. وأيضًا: أسماء الشروط عامة؛ لأنهم اتفقوا على أن من قال: «من دخل داري فهو حر» , أو «فهي طالق» , عمّ جميع عبيده وجميع ونسائه. وأيضًا: «لا إله إلا الله» , يفهم / منه نفي جميع ما سوى الله. واستدل: بأن العموم معنى ظاهر يعقله الأكثر, والحاجة ماسة إلى التعبير عنه, فوجب الوضع له عادة كغيره من المعاني الظاهرة. الجواب: أن الاحتياج إلى التعبير لا يقتضي أن يكون له لفظ منفرد على سبيل الحقيقة, فإنه يجوز أن يستغني بالمجاز وبالمشترك, كالروائح والطعوم, استغني بالتقييد بالإضافة, كرائحة المسك - مثلًا - ولم يهمل. قال: (الخصوص متيقن, فجعله له حقيقة أولى. ردّ: بأنه إثبات لغة بالترجيح, وبأن العموم أحوط فكان أولى. قالوا: لا عام إلا مخصص, فيظهر أنه الأغلب. أجيب: بأن احتياج تخصيصها لدليل مشعر بأنها للعموم.

وأيضًا: فإنما يكون ذلك عند عدم دليل الاشتراك إضافة لهما, والأصل الحقيقة. وأجيب: بأنه على خلاف الأصل, وقد تقدم مثله. الفارق: الإجماع على التكليف للعام, وذلك بالأمر والنهي. وأجيب: بأن الإجماع على الإخبار للعام). أقول: احتج القائلون بأن الصيغ حقيقة في الخصوص: بأن الخصوص متيقن؛ لأن الصيغ إن كانت له فظاهر, وإن كانت للعموم فداخل في المراد ولا كذلك العموم؛ إذ ربما كان للخصوص, فكان العموم غير مراد وغير داخل, فجعله حقيقة للخصوص المتيقن أولى من جعله للعموم المشكوك فيه. الجواب أولًا: إنه إثبات اللغة بالترجيح, وطريقها النقل. وثانيًا: أن العموم أحوط؛ لاحتمال أن يراد العموم, فلو حمل على الخصوص لضاع الغير فعصى الأمر, والأحوط أولى. وفيهما نظر. أما الأول: فلأنه إثبات لهما بما تركب من العقل والنقل؛ لأنه أثبت الاستعمال في العموم والخصوص بالنقل, وضم إليه الترجيح. وأما الثاني: فلأن الاحتياط يكون بالخصوص أيضًا؛ إذ قد يكون بعض الأفراد ممنوعًا. قالوا ثانيًا: ما من عام إلا وهو مخصوص, فالظاهر أنه للأغلب حقيقة,

وفي الأقل مجاز, تقليلًا للمجاز. الجواب: أن احتياج خروج البعض عنها إلى دليل وهو المخصص, دليل ظاهر بأنها للعموم حقيقة, ولا يحمل على الخصوص إلا لدليل, وذلك دليل المجاز في الخصوص, والحقيقة في العموم؛ إذ المجاز لا يحمل عليه إلا لدليل. وأيضًا: ظهور كونها للأغلب حقيقة إنما يكون عند عدم الدليل على أنها للأقل, وهاهنا قد دلّت / أدلتنا عليه. القائل بالاشتراك احتج: بأنها أطلقت للعموم والخصوص, والأصل في الإطلاق الحقيقة, فتكون حقيقة فيهما, وهو معنى الاشتراك. الجواب: إنه خلاف الأصل, فيكون مجازًا في أحدهما؛ لأنه أولى من الاشتراك, وقد تقدم مثله. القائل بأنها للعموم في الأمر والنهي, وأنه يتوقف في الأخبار قال: الإجماع على أن التكليف لعامة المكلفين, والتكليف إنما يكون بالأمر والنهي فلولا أن صيغها للعموم لما كان التكليف عامًا. الجواب: المعارضة بمثله في الأخبار, للإجماع على أن الإخبار يكون

مسألة: الجمع المنكر ليس بعام

لجميع المكلفين بأن يعتقدوا مقتضاه, مثل: {الله خالق كل شيء} , ومثل: {والله بكل شيء عليم}. قال: (مسألة: الجمع المنكر ليس بعام. لنا: القطع بأن رجالًا في الجموع كرجل في الوحدان, ولو قال له: «عندي عبيد» , صح تفسيره بأقل الجمع. قالوا: صح إطلاقه على كل جمع, فحمله على الجميع حمل على جميع حقائقه. ردّ: بنحو: رجل, وبأنه إنما يصح على البدل. قالوا: لو لم يعم, لكان مختصًا بالبعض. ردّ: بنحو: رجل, وبأنه موضوع للجمع المشترك). أقول: الجمع المنكر نحو: «رجال» ليس بعام, أي ليس ذلك من صيغ العموم, خلافًا للجبائي. لنا: القطع أن رجالًا في الجموع في صلاحيته لكل مرتبة في مراتب العدد على البدل, كرجل في الوحدان في صلاحيته لكل واحد, ورجل ليس بعام فيما يتناوله من الوحدان على البدل, فكذا رجال فيما يتناوله من مراتب العدد على البدل, وأيضًا: لو قال له «عندي عبيد» , صح تفسيره بأقل

الجمع وهو ثلاثة, ولو كان ظاهرًا في العموم لما صح. وقد يقال: صح تفسيره بأقل الجمع مجازًا, كما يفسر الجمع المعرّف باللام في هذا بأقل الجمع, مع أنه حقيقة في العموم؛ لأن القرينة صرفته عن العموم؛ إذ لا يملك جميع العبيد. قالوا: ثبت إطلاقه على كل مرتبة من مراتب الجموع, فإذا حملنا على الجميع فقد حملناه على جميع حقائقه, فكان أولى. الجواب: النقض بنحو: «رجل» فإنه يصح لكل واحد, ولا يوجب ذلك حمله على الجميع, وليس بعام اتفاقًا. وأيضًا: وإن صح إطلاقه على كل جمع بطريق الحقيقة, لكن على البدل لأنه موضوع للجمع المطلق, فلا يصح إطلاقه على الجمع المستغرق بخصوصه إلا بطريق المجاز, فإن فرق بأن جميع الأفراد إحدى حقائقه, وهو يتناول / سائر الحقائق لأنها مندرجة تحته, فكان الحمل عليها أولى؛ لأنه لما كان مترددًا بين حقائقه كفانا في الترجيح هذا القدر, وأما «رجل» فليس له حقيقة تتناول البواقي. فالجواب الحق حينئذ: منع كونه حقيقة في كل مرتبة, بل هو القدر المشترك, فلا دلالة له على الخصوص أصلًا. قالوا ثانيًا: لو لم يكن للعموم لكان مختصًا بالبعض لكنه غير مختص؛ لامتناع التخصيص بغير مخصص. الجواب أولًا: النقض بنحو: «رجل» مما ليس للعموم, وإلا مختصًا بالبعض.

مسألة: أبنية الجمع لاثنين

وثانيًا: أنه موضوع للجمع المشترك بين العموم والخصوص, ولا يلزم من عدم اعتبار قيد العموم اعتبار عدمه. قال: (مسألة: أبنية الجمع لاثنين يصح, وثالثها: مجاز. الإمام: ولواحد. ولنا: أنه يسبق الزائد, وهو دليل الحقيقة والصحة, {فإن كان له إخوة} , والمراد أخوان. واستدل ابن عباس بها ولم ينكر عليه, وعدل إلى التأويل. قالوا: {فإن كان له إخوة} والمراد أخوان, والأصل الحقيقة. ردّ: بقضية ابن عباس. قالوا: {إنا معكم مستمعون}. ردَّ: بأن فرعون مراد. قالوا: «الاثنان فما فوقها جماعة». وأجيب: في الفضيلة, فإنه يعرف الشرع لا اللغة. النافون: قال ابن عباس: «ليس الأخوان إخوة». وعورض: بقول زيد: «الأخوان إخوة». والتحقيق: أراد أحدهما حقيقة, والآخر مجازًا. قالوا: لا يقال: «جاءني رجلان عاقلون» , ولا: «رجال عاقلان». وأجيب: بأنهم يراعون صورة اللفظ). أقول: اختلفوا في أقل الجمع, وليس الخلاف في لفظ جمع, فإن ذلك ضم الشيء إلى الشيء, فيصح للاثنين اتفاقًا, وإنما الخلاف في نحو:

«رجال» , و «مسلمين» , وعن مالك, والقاضي, والأستاذ, والغزالي: أنه اثنان. قلت: الظاهر عندي أن المروي عن مالك محمول على أنه مجاز؛ لأنه نص على أنه إذا قال: «لفلان عليّ دراهم» , لا يقبل تفسيره بأقل من ثلاثة. وقال الإمام في البرهان: «إن ثمرة الخلاف أن من قال أقل الجمع اثنان يقبل تفسيره إذا فسر باثنين». وروي عن أبي حنيفة والشافعي: أن أقله اثنان.

وقال الإمام: «إنه يصح لواحد أيضًا كما يصح لاثنين, يعني مجازًا». ومختار المصنف: أنه يبنى لاثنين مجازًا, وأنه حقيقة في الزائد. وقال قوم: لا يبنى لاثنين حقيقة ولا مجازًا, ولو قال: وثالثها المختار لكان أولى. لنا في أنه ليس بحقيقة في الاثنين: سبق الفهم عند إطلاق هذه الصيغ بلا قرينة إلى الزيادة على الاثنين, وهو دليل على أنه حقيقة في الزائد / على الاثنين. ولنا: في أنه يصح للاثنين مجازًا قوله تعالى: {فإن كان له إخوة} , والمراد أخوان فما فوقهما, ويدل على الأمرين قول ابن عباس لعثمان: «ليس الأخوان إخوة في لسان قومك» , فقال عثمان: «لا أنقض أمرًا كان قبلي» , فاستدل ابن عباس ولم ينكر عثمان, بل عدل إلى التأويل, وهو الحمل على المجاز للإجماع. وقد يقال: هذا يدل على أن الإخوة في الآية للثلاثة, وأن المفهوم إنما خولف للإجماع. القائلون بأنها للاثنين حقيقة, احتجوا بقوله تعالى: {فإن كان له

إخوة} , والمراد أخوان فما فوقهما, والأصل في الإطلاق الحقيقة. ردّ: بأن قضية ابن عباس تدل على خلافه. قالوا: قال تعالى: {إنا معكم مستمعون} بخطاب الجماعة, والمراد موسى وهارون عليهما السلام. أجاب: بأن المراد هما وفرعون. وفيه نظر؛ لأنه قال في الآية الأخرى: {إنني معكما أسمع وأرى} والقصة واحدة, بل الأولى في الجواب أن يقال: إن مجاز لما تقدم. قالوا: قال عليه السلام: «الاثنان فما فوقها جماعة» , رواه الدارقطني وهو صريح في إطلاق لفظ الجماعة على الاثنين, والأصل في الإطلاق الحقيقة. الجواب: أن اللفظ له محملان: لغوي وهو ما ذكرتم, وشرعي وهو انعقاد الجماعة بهما وحصول الفضيلة, فوجب حمله على الشرعي؛ لأنه عليه السلام بعث ليعلم الشرع دون اللغة, مع أنه ليس محل نزاع؛ إذ لا نزاع في لفظ جمع, إنما النزاع في صيغ الجموع.

مسألة: إذا خص العام كان مجازا في الباقي

احتج القائلون بأن لا يصح لاثنين ولو مجازًا: بأن ابن عباس قال: «ليس الأخوان إخوة». والجواب: المعارضة بقول زيد بن ثابت: «الأخوان إخوة». والتحقيق: أن ابن عباس أراد بقوله: «ليس الأخوان إخوة» أي حقيقة, وأراد زيد بقوله: «الأخوان إخوة» أي مجاز, جمعًا بين الكلامين. قالوا ثانيًا: لو صح لاثنين, لجاز أن يقال: «جاءني رجلان عالمون» , و «رجال عالمان» , فيجعل «عالمون» في الأول, و «رجال» في الثاني لاثنين. الجواب: لا نسلم الملازمة؛ لأنهم يراعون صورة اللفظ, بأن يكون كلامهم جمعًا أو مثنى. وفيه نظر؛ فإنه يقال: جاءني زيد وعمرو وبكر العالمون, ولا يقال: العلمان, ولا يقال: جاءني زيد وعمرو العالمون. قال: (مسألة: إذا خص العام كان في الباقي مجازًا. الحنابلة: حقيقة. الرازي: إن بقي غير منحصر. أبو الحسين: إن خص بما لا يستقل من شرط, أو صفة, أو استثناء. عبد الجبار: إن خص بشرط, أو صفة. القاضي: إن خص بشرط, أو استثناء.

وقيل: إن خص بدليل لفظي. الإمام: حقيقة في تناوله, مجاز في الاقتصار عليه. لنا: لو كان حقيقة لكان مشتركًا؛ لأن الفرض أنه حقيقة في الاستغراق. وأيضًا: الخصوص بقرينة, كسائر المجاز. الحنابلة: التناول باق فكان حقيقة. أجيب: بأنه كان مع غيره. قالوا: يسبق, وهو دليل الحقيقة. قلنا: بقرينة, وهو دليل المجاز). أقول: العام إذا خص وأريد به الباقي, فهو مجاز. وقالت الحنابلة: حقيقة. وقال أبو بكر الرازي: حقيقة إذا كان الباقي غير منحصر, وإلا فهو مجاز.

وقال أبو الحسين البصري: حقيقة إن خص بمخصص لا يستقل بنفسه من شرطٍ أو صفةٍ أو غايةٍ أو استثناءٍ, وإن خص بمستقل من سمعٍ أو عقلٍ فهو مجاز. وقال القاضي: حقيقة إن خص بشرط أو استثناء, لا بصفة أو غيرها. وقال القاضي عبد الجبار: حقيقة إن خص بشرط أو صفة, لا باستثناء أو غيره. وقيل: حقيقة إن خص بدليل لفظي متصل أو منفصل. وقال الإمام: حقيقة في تناوله لما لو كان مستعملًا في موضوعه لتناوله مجاز في الاقتصار عليه. والمغايرة بين هذا القول والمختار: أن التناول بعد التخصيص حقيقة عند الإمام, والتناول على المختار بعد التخصيص مجاز. لنا: أنه لو كان حقيقة في الباقي كما هو حقيقة في الكل, لكان مشتركًا بين الكل والبعض؛ لأن الفرض أنه موضوع للكل. وأيضًا: لو كان حقيقة في الباقي لم يحتج عند إطلاقه عليه إلى قرينة؛ لأن إطلاق اللفظ يفهم منه المفهوم الحقيقي بغير قرينة, لكن هذا يحتاج كسائر

مسألة: إذا بقي غير منحصر فهو معنى العموم

المجاز. وقد يقال: الاحتياج إلى القرينة لأجل الاقتصار لا لأجل التناول, فلا ينهضان على الإمام. احتج القائل بأنه حقيقة: بأن اللفظ كان متناولًا له قبل التخصيص, والتناول باقٍ, وإنما طرأ عدم تناول الغير. الجواب: أنه كان يتناوله مع غيره, والآن يتناوله وحده, وهما متغايران, فقد استعمل في غير ما وضع له, والظاهر أن تناوله للغير وعدم تناوله إياه لا يغير صفة تناوله لما يتناوله, لكنهم إن أرادوا أنه مجاز في الاقتصار, فهو مذهب الإمام, وإلا لزم الاشتراك. قالوا: بسبق الباقي بعد التخصيص إلى الفهم عند الإطلاق, وهو دليل الحقيقة. الجواب: إنما يتبادر مع القرينة؛ لأنه بدونها إنما يتبادر العموم, وذلك دليل المجاز. وقد يقال: المحتاج إلى القرينة عدم إرادة / المخرج, أما إرادة الباقي فمعلوم بدون القرينة. قال: (مسألة: الرازي: إذا بقي غير منحصر, فهو معنى العموم. أجيب: بأنه كان للجميع. أبو الحسين: لو كان ما لا يستقل يوجب تجوزًا في نحو: «الرجال المسلمون» , و «أكرم بني تميم إن دخلوا» , لكان نحو: «مسلمون»

للجماعة مجازًا, ولكان نحو: «المسلم» [للخبر] أو للعهد مجازًا, ونحو {ألف سنة إلا خمسين عامًا} مجاز. وأجيب: بأن الواو في «مسلمون» كألف «ضارب» , وواو «مضروب» والألف واللام في «المسلم». ولو كانت كلمة حرفًا أو اسمًا, فالمجموع الدال, والاستثناء سيأتي. القاضي: مثله, إلا أن الصفة عنده كأنها مستقلة. عبد الجبار: كذلك, إلا أن الاستثناء عنده ليس بتخصيص. المخصص باللفظية: لو كانت القرائن اللفظية توجب تجوزًا ... إلى آخره, وهو أضعف. الإمام: العام كتكرر الآحاد وإنما اختصر, فإذا أخرج بعضها بقي الباقي حقيقة. وأجيب: بالمنع, فإن العام ظاهر في الجميع, فإذا خص خرج قطعًا, والمتكرر نص). أقول: احتج القائل بأنه حقيقة إن كان الباقي بعد التخصيص غير منحصر: بأن معنى العموم حقيقة كون اللفظ دالًا على أمر غير منحصر في عدد, وإذا كان الباقي غير منحصر كان عامًا. الجواب: منع كون معناه ذلك, بل معناه تناوله للجميع, وقد كان ثم صار لغيره فهو مجاز, وليس النزاع في لفظ العام الذي هو شمول أمر لمتعدد,

بل النزاع في الصيغ. احتج أبو الحسين: بأنه لو كان ما لا يستقل يوجب تجوزًا في نحو: «الرجال المسلمون» من المقيد بصفة, و «أكرم بني تميم إن دخلوا» من المقيد بشرط, لكان نحو: «مسلمون» للجماعة مجازًا, ولكان نحو: «المسلم» للجنس أو للعهد مجازًا, ولكان نحو: {ألف سنة إلا خمسين عامًا} مجازًا, واللوازم الثلاثة باطلة اتفاقًا؛ إذ كل واحد من الثلاثة تقيد بقيد هو كالجزء له, وقد صار به لمعنى غير ما وضع له, وكل منهما غير مستقل, ويفيد معنى زائدًا فالفرق تحكم. الجواب: ما ذكرتم ليس فيه عام مقيد, إذ الواو في «مسلمون» كألف «ضارب» , واو «مضروب» , مما هو جزء الكلمة, والمجموع لفظ واحد, والألف واللام في «المسلم» وإن كان كلمة اسمًا كالموصول أو حرفًا كغيره, فالمجموع هو الدال على الجنس أو العهد, ومفرداته بعد التركيب مستعملة فيما وضعت له فكان حقيقة, كزيد قائم, بخلاف الشرط والصفة فإنه إذا قيد بهما كالعام, لم يبق العام دالًا على ما وضع له قبل التقييد, فلا يكون كالعام بعد التقييد به حقيقة, والاستثناء سيأتي الكلام عليه. احتج القاضي: بمثل ما احتج به أبو الحسين, إلا أن الصفة عنده كأنها مستقلة؛ لجواز إقامتها مقام الموصوف. القاضي عبد الجبار قال مثلما قالاه, إلا أن الاستثناء عنده ليس

بتخصيص؛ لما ستعلم أن المستثنى منه باق على عمومه في الإرادة, والتخصيص إنما هو في الإسناد, لكن الذي لعبد الجبار في العمد: أن الاستثناء تخصيص. احتج القائل بأن المخصص إذا كان بالدلائل اللفظية فهو حقيقة: بأنه لو كانت الدلائل اللفظية توجب تجوزًا, لكان نحو «مسلمون» ... إلى آخره. الجواب: أن هذا أضعف؛ لأن المتصل كالجزء وهو يصلح جامعًا, وتعميه في المنفصل مع ظهور الفرق لا وجه له. احتج الإمام: بأن العام كتكرر الآحاد [المتعددة, فمعنى الرجال لغة: فلان وفلان إلى أن يستوعب, وإنما وضع الرجال اختصارًا, وتكرر لآحاد] إذا بطل بعضها لا يصير الباقي مجازًا. الجواب: منع كونه كتكرر الآحاد, وإنما يقول أهل العربية ذلك لبيان الحكمة في وضعه, لا لأنه مثله في جميع أحكامه؛ إذ العام ظاهر في الجمع, فإذا خرج البعض لم يبق على ظاهره قطعًا, وهو معنى المجاز, والمتكرر استعمل كل واحد في كل واحد نصًا, فإذا خرج بعض عن الإرادة, بقي الباقي نصًا فيما تناوله ولم يتغير عن وضعه. وقد يقال: النص لا يمنع كون اللفظ بعد إخراج شيء مجازًا, كعشرة إلا ثلاثة, مع أن الخصم قد يقول قولك, فإذا خص خرج قطعًا [تريد]

مسألة: العام بعد التخصيص

بحسب التناول أو بحسب الاقتصار, الأول ممنوع. قال: (مسألة: العام بعد التخصيص ليس بحجة. وقال البلخي: إن خص بمتصل. وقال البصري: إن كان العموم منبئًا عنه, كـ {فاقتلوا المشركين} وإلا فليس بحجة, كـ {السارق والسارقة} , فإنه [لا] ينبئ عن النصاب والحرز. عبد الجبار: إن كان غير مفتقر إلى بيان كاقتلوا المشركين, بخلاف: {أقيموا الصلاة} فإنه مفتقر إلى إخراج الحائض. وقيل: حجة في أقل الجمع, وقال أبو ثور: ليس بحجة. لنا: ما سبق من استدلال الصحابة مع التخصيص. وأيضًا: القطع بأنه إذا قال: «أكرم بني تميم ولا تكرم فلانًا» فترك, عدَّ عاصيًا, وأيضًا: فإن الأصل بقاؤه. واستدل: لو لم يكن حجة لكانت دلالته موقوفة على دلالته على الآخر, واللازم باطل؛ لأنه إن عكس فدور, وإلا فتحكم. أجيب: بأن الدور إنما يلزم بتوقف التقدم, وأما بتوقف المعية فلا. قالوا: صار مجملًا تعدد مجازه فيما بقي وفي كل منه. قلنا: لما بقي بما تقدم, أقل الجمع هو المتحقق, وما بقي مشكوك. قلنا: لا شك مع التقدم). أقول اختلفوا في العام إذا خص, هل يكون حجة إذا بقي؟ .

أما إذا خص بمبهم كما لو قال: اقتلوا المشركين إلا بعضهم, أو قال: هذا العموم مخصوص, فلا يكون حجة اتفاقًا. وإن خص بمبين كقوله: {فاقتلوا المشركين} , ثم يظهر أن الذمي غير مراد, فالمختار أنه حجة فيما بقي. وقال البلخي: إن خص بمتصل فحجة, وإلا فلا. [وقال البصري: إن كان العام منبئًا عن الباقي] , كـ {فاقتلوا المشركين} فإنه ينبئ عن الحربي إنباءه عن الذمي, بخلاف {والسارق والسارقة} فإنه ينبئ عن كون المسروق نصابًا من حرز, وهذا التفصيل ملغى؛ لأنه ينبئ عن سارق ونصاب من حرز, وكونه لا ينبئ عن نفس النصاب والحرز الذي هو شرط, كذلك {فاقتلوا المشركين} لا ينبئ عن الذمة والحرب. وقال عبد الجبار: إن كان العام قبل التخصيص غير مفتقر إلى بيان, كـ {فاقتلوا المشركين} , فإنه بين قبل إخراج الذمي, بخلاف {أقيموا

الصلة} , فإنه مفتقر إلى البيان قبل إخراج الحائض؛ ولذلك بينه عليه السلام بفعله, فقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» , والظاهر أن هذا لا يخالف فيه؛ لأنه ليس بحجة قبل التخصيص, فكذا بعده. وقيل: يبقى حجة في أقل الجمع. وقال أبو ثور, وابن أبان: ليس بحجة مطلقًا. لنا: ما سبق في مسألة أن للعموم صيغة من استدلال الصحابة مع التخصيص, وشاع وذاع ولم ينكر, فكان إجماعًا. ولنا أيضًا: أنه إذا قال: «أكرم بني تميم ولا تتكرم فلانًا» فترك إكرام غير المخرج, عُدَّ عاصيًا. وأيضًا: العام كان حجة فيه قبل التخصيص, والأصل بقاؤه.

وهذا الدليل ينهض على الكل بخلاف الأولين. واستدل: لو لم يكن حجة في الباقي, لكانت إفادته للباقي موقوفة على إفادة للمخرج, واللازم باطل؛ لأنه إن عكس حتى تتوقف إفادته للمخرج على إفادته للباقي فدور, وإلا كان ترجيحًا من غير مرجح وهو التحكم. الجواب: أن التوقف ينقسم إلى: توقف تقدم كالمعلول على العلة, والمشروط على الشرط, والتوقف من الطرفين بهذا لمعنى محال؛ لاستلزامه توقف الشيء على نفسه, وهو المراد بالدور إذا أطلق. وإلى توقف معية, كتوقف كون هذا ابناً لذاك, على كون ذاك ابنًا لهذا وبالعكس, وهذا لا يمتنع من الطرفين, ويعبر عنه بدور المعية. [وما ذكرتموه من توقف المعية] قالوا: حقيقته العموم ولم يرد, وسائر ما تحته من المراتب مجازاته, فإذا لم ترد الحقيقة وتعددت المجازات, كان اللفظ مجملًا فيها, فلا يحمل على شيء منها, فيبقى مترددًا بين جميع مراتب الخصوص, فلا يبقى حجة في شيء منها. الجواب: إنما ذلك إذا كانت / المجازات متساوية, ولا دليل على تعيين أحدها, وما ذكرنا من الأدلة دلّ على حمله على الباقي فيصار إليه. احتج القائل بأنه حجة في أقل الجمع: بأن أقل الجمع معلوم البقاء, وما بقي بعد التخصيص مشكوك في بقائه, فيكون حجة فيما علم بقاؤه. الجواب: منع الأمرين؛ لجواز التخصيص إلى واحد؛ ولأن الباقي معلوم بالأدلة السابقة.

مسألة: جواب السائل غير المستقل

قال: (مسألة: جواب السائل غير المستقل دونه تابع للسؤال في عمومه اتفاقًا. والعام على سبب خاص بسؤال, كقوله عليه السلام لما سئل عن بئر بضاعة: «خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء, إلا ما غير لونه, أو طعمه أو ريحه» أو بغير سؤال, كما روي أنه مرّ بشاة ميمونة فقال: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» , معتبر عمومه على الأكثر, ونقل عن الشافعي خلافه. لنا: استدلال الصحابة بمثله, كآية السرقة, وهي في سرقة المجن, أو رداء صفوان, وآية الظهار في سلمة بن صخر, وآية اللعان في هلال بن أمية, وغيره. وأيضًا: اللفظ عام والتمسك به. قالوا: لو كان عامًا لجاز تخصيص السبب بالاجتهاد. أجيب: بأنه اختص بالمنع للقطع بدخوله, على أن أبا حنيفة أخرج الأمة المسفرشة من عموم: «الولد للفراش» , فلم يلحق ولدها مع وروده في ولد زمعة, وقد قال عبد الله بن زمعة: هو أخي وابن وليدة أبي, وُلِدَ على فراشه. قالوا: لو عمّ لم يكن في نقل السبب فائدة. قلنا: فائدته منع تخصيصه, ومعرفة الأسباب. قالوا: لو قال: «تغدّ عندي» , فقال: «والله لا تغديت» لم يعم. قلنا: لعرف خاص. قالوا: لو عمّ لم يكن مطابقًا.

قلنا: بل طابق وزاد. قالوا: لو عمّ لكان حكمًا بأحد المجازات بالتحكم؛ لفوات الظهور بالنصوصية. قلنا: النص خارجي بقرينة). أقول: الجواب إن لم يكن مستقلًا بدون السؤال, كان في عمومه تابعًا للسؤال اتفاقًا, كقوله عليه السلام لما سئل عن بيع الرطب بالتمر, فقال: «أينقص الرطب إذا جفّ؟ قالوا: نعم, قال: فلا إذًا». وفي خصوصه, كما لو سأله سائل وقال: توضأت بماء البحر؟ , فقال: يجزيك, فهذا خاص, فإنه ثبت إلحاق غيره به, فبالعلة المتعدية لا بالنص. أما إن كان الجواب بلفظ عام مستقل ورد على سبب خاص, سواء كان ذلك السبب سؤالًا, كقوله عليه السلام لما سئل عن بئر بضاعة: «خلق الماء طهورًا لا ينجسه إلا ما غير لونه, أو طعمه, أو ريحه» لا يثبت بهذا اللفظ, ولفظه عند الدارقطني: «إن الماء لا ينجسه شيء, إلا ما غير

ريحه وطعمه». أو غير سؤال, كما روي أنه مرّ بشارة ميمونة, فقال: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» , ثبت بهذا اللفظ عند الترمذي. ففي الصورتين: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الأكثر. ونقل عن مالك والشافعي: أنه لا عبرة بعموم اللفظ, إنما المعتبر خصوص السبب, والصحيح عنهما خلافه. لنا: أن الصحابة عممت أكثر العمومات, مع ابتنائها على أسباب خاصة, فمنها: آية السرقة ونزلت في سرقة المجن, أو رداء صفوان على

خلاف في ذلك, ومنها آية الظهار, ونزلت في سلمة بن صخر, ومنها: آية اللعان ونزلت في هلال بن أمية, وكذلك غيره من العمومات

الواردة على سبب خاص. والنُسخ التي فيها «أو غيره» على الشك خطأ, وفي المنتهى مصرحًا به: «وغيره من الأدلة». ولنا أيضًا: أن اللفظ عام والتمسك به, وخصوص السبب لا يصلح معارضًا؛ إذ لا منافاة قطعًا. قالوا أولًا: لو عمّ صورة السبب وغيرها, لجاز تخصيص السبب عنه بالاجتهاد, حتى يجوز الحكم بعدم طهورية ماء بئر بضاعة, ونجاسة جلد شاة ميمونة بعد دبغه, وبطلانه قطعي, أما الملازمة؛ فلأنه فرد من أفراد العام فكما جاز إخراج غيره بالاجتهاد فكذلك هو. الجواب: منع الملازمة, فإن صورة السبب اختصت عن سائر الأفراد بالمنع عن الإخراج, للقطع بدخولها في الإرادة ولا بُعد في أن يدلّ دليل على إرادة خاص, فيصير كالنص فيه والظاهر في غيره, فيمكن إخراج غيره بالاجتهاد دونه. ثم أشار إلى منع بطلان اللازم: بأن أبا حنيفة أخرج صورة السبب بالاجتهاد, لأن قوله عليه السلام: «الولد للفراش» عام في كل مستفرشة

من أمة أو زوجة, مع أنه ورد في مستفرشة زعة, وقال عبد بن زمعة - هكذا هو في المنتهى وهو الصواب, وليس اسمه عبد الله -: «هو أخي وابن وليدة أبي, ولد على فراشه» , فالسبب هو الأمة المستفرشة ومع ذلك فإن أبا حنيفة أخرجها عن العموم بالاجتهاد, فلم يلحق ولدها بسيدها, بل حكم بكونه عبدًا لعبد بن زمعة, على وفق قوله عليه السلام: «هو لك يا عبد». قلت: وفي المنع الثاني نظر؛ لأن الأمة إنما تكون فراشًا عند أبي حنيفة إذا ولدت / ولدًا فاستلحقه, فما جاءت به بعد ذلك من ولد فهو ولده إلا أن ينفيه, فلم يخرج ولد أمة ثبت أنها فراش فضلًا عن إخراجه ولد مستفرشة زمعه؛ إذ لم يثبت كونها فراشًا عندهم, وإنما سيق الحديث للرد على مدعيه وهو سعد, فقال عليه السلام: «الولد للفراش, ولا فراش لأخيك» , فلا ولد له, فيبقى ملكًا لمالك الأمة, إذ ليس ولدًا شرعيًا لأحد.

قالوا ثانيًا: لو عمّ صورة السبب وغيرها, لم يكن لنقل السبب فائدة؛ لأن خصوصية السبب لما لم يقتض خصوصية الخطاب [الوارد عليها, فتناول الخطاب] له ولغيره على السواء, فنقله دون غيره لا فائدة فيه, ولو لم يكن لتركه فائدة لم ينقل, ولم يبالغ في تدوينه وحفظه. الجواب: لا نسلم انتفاء الفائدة, ومن فوائده منع تخصيص صورة السبب بالاجتهاد, ومن فوائده معرفة الأسباب. قالوا ثالثًا: لو قال: «تغدّ عندي» , فقال: «والله لا تغديت» , لم يعم كل تغد, حتى لو تغدى عند غيره لم يحنث. الجواب: خرج ذلك عن عموم دليلنا لعرف خاص, والتخلف لمانع لا يقدح في الدليل, ولا يصرفه عما لا يتحقق فيه المانع. قالوا رابعًا: لو عمّ المسؤول عنه وغيره لم يكن الجواب مطابقًا للسؤال, يعني حيث يكون السبب بسؤال, وعدم المطابقة مما يجب نفيه عن الشارع. الجواب: منع الملازمة؛ إذ الجواب مطابق وزائد, وذكر الزيادة لا يخرجه عن المطابقة. قالوا خامسًا: لو عمّ لكان حكمًا لأحد المجازات بالتحكم, واللازم باطل, بيان اللزوم, أن ظهوره في العموم قد فات بنصوصيته في صورة السبب, فصار مصروفًا عما وضع له وهو الظهور في جميعها, إلى غير ما وضع له وهو الظهور في بعض والنصوصية في بعض, والسبب وحده ومع سائر الخصوصيات ومع بعضها مجازات له, فكان الحمل على السبب مع

مسألة: المشترك يصح إطلاقه على معنييه

سائر الخصوصيات على التعيين تحكمًا. الجواب: أن العام باق على ظهوره لم يفت بالنصوصية في السبب؛ لأن لفظ العام لم يدل على صورة السبب نصًا, بل ذلك خارجي عن مفهوم اللفظ, وقد علم بقرينة وهي وروده فيه, لا أنه أريد من اللفظ بخصوصه, فهو من حيث هو ظاهر في الجميع, ومن حيث القرينة نص في صورة السبب. قال: (مسألة: المشترك يصح إطلاقه على معنييه مجازًا لا حقيقة, وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز. وعن القاضي والمعتزلة: يصح حقيقة إن صح الجمع. وعن الشافعي: ظاهر فيهما عند تجرد القرائن كالعام. الغزالي والقاضي: يصح أن يراد, لا أنه لغة. وقيل: لا يصح أن يراد, وقيل: يجوز في النفي لا الإثبات. والأكثر: أن جمعه باعتبار معنييه مبني عليه. لنا: في المشترك أنه بسبق أحدهما, فإذا أطلق عليهما كان مجازًا. النافي للصحة: لو كان للمجموع حقيقة, لكان مريد أحدهما خاصة غير مريد, وهو محال. وأجيب: بأن المراد المدلولان معًا, لا بقاؤه لكل فرد. وأما الحقيقة والمجاز, فاستعماله لهما استعمال في غير ما وضع له أولًا وهو معنى المجاز.

النافي للصحة: لو صحّ لهما, لكان مريدًا ما وضع له أولًا غير مريد وهو محال. وأجيب: بأنه مريد ما وضع له أولًا, وثانيًا بوضع مجازي. الشافعي: {ألم تر أن الله يسجد له} , {إن الله وملائكته يصلون على النبي} وهي من الله رحمة, ومن الملائكة استغفار. وأجيب: بأن السجود والخضوع والصلاة: الاعتناء بإظهار الشرف, أو بتقدير خبر, أو فعل حُذف لدلالة ما يقارنه, أو بأنه مجاز بما تقدم). أقول: اللفظ المشترك يصح إطلاقه على كل واحد [من معنييه معًا كما يصح إطلاقه على كل واحد] منهما بدلًا عن الآخر, بأن يراد في إطلاق واحد هذا وهذا, فيطلق «القرء» ويراد به حيضًا وطهرًا, ويكون مجازًا. قيل: وذلك غير إرادة مجموع الأمرين من حيث هو مجموع؛ لأن هذا الإطلاق باتفاق القائلين بجوازه مجاز. ردّ: بأنه لا فرق بين المجموع هنا وكل واحد؛ لأنه من الأمور التي لا يحصل عند اجتماع الأجزاء شيء غير الاجتماع, كالعشرة الحاصلة من آحادها. وتحرير البحث: أن معاني اللفظ المشترك إما أن تكون متضادة أو لا؟ . والأول: إما ألا يمكن الجمع بينها في إطلاق واحد, كما إذا تعلقت بشيء واحد لا يتصور تعلقها به معًا, كما يقول: «أقرأت هند وقت كذا» ,

فلا يجوز إعماله فيها على سبيل الجمع لامتناعه, أو يمكن كما إذا تعلقت بشيء واحد يتصور تعلقها به معًا في إطلاق واحد, كما يقال: «رأيت الجون» , أو تعلقت بأمور على سبيل التوزيع, كما يقال: «أقرأت الهندان» , فهذا الإطلاق جائز عقلًا غير معلوم لغة. والثاني: إما أن يمكن تعلقها بشيء واحد أم لا؟ . والأول يصح عقلًا إعماله فيها, ويجب لغة عند الشافعي والقاضي عند عدم قرينة تخصيصه بأحد معانيه, كما يقال: «يعجب زيدًا العين» ويراد به جميع معانيه, وإن لم يكن فاختلف العلماء في جواز استعماله / فيها. فإن أرادوا به, أنه هل يجوز أن يستعمل لفظ مشترك ويراد به بإطلاق واحد كل واحد من معانيه, متعلقا كل واحد منها بما يتصور تعلقه به غير ما تعلق به المعنى الآخر كذلك؟ . فالظاهر جوازه, وكأن المستدل بالآيتين أراد به هذا المعنى. وإن أرادوا, هل يجوز استعمال اللفظ المشترك مريدًا به جميع معانيه - متعلقًا المجموع من حيث هو بكل واحد من المذكورين - سواء تصور تعلقه به أم لا؟ . فالظاهر عدم جوازه, وكأن المانع إنما منع هذا. قال: (وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز) , كما إذا أطلق الأسد وأريد به السبع والشجاع معًا, فإنه استعمال مجازي.

وذهب القاضي أبو بكر من أصحابنا, والجبائي وعبد الجبار من المعتزلة إلى أنه يصح حقيقة بشرط ألا يمتنع الجمع بينهما, كاستعمال صيغة «افعل» للأمر والتهديد, وهذا مذهب الشافعي, إلا أنه زاد أنه إذا تجرد عن القرائن الصارفة له إلى أحد معنييه, وجب حمله على المعنيين, وهو عام فيهما عند التجرد. والعام عنده قسمان: قسم متفق الحقيقة, وقسم مختلفها, وكأنه المسوغ لذكر هذه المسألة في باب العموم, ولهذا عدل عن عبارتهم في نقل مذهب الشافعي حيث قالوا: جوز الشافعي إعمال المشترك في جميع مفهوماته الغير المتضادة, فذكر مذهبه في الحمل لا في الاستعمال, على أنه عند الاحتجاج إنما احتج على الاستعمال. قال أبو الحسين والغزالي: يصح أن يراد ولا مانع من القصد, كما

زعم قوم أن القاطع حمل على امتناعه, بل لولا أن اللغة منعت منه لم يمنعه العقل. وقيل: لا يصح أن يراد. وقال قوم: يجوز في النفي لا الإثبات بناء على أن النكرة في النفي تعم. وهو وهم؛ إذ النفي إنما يرفع مقتضى الإثبات, وهو واحد عند هذا القائل. واختلف في جمعه باعتبار معنييه نحو: «عيون» ويريد: باصرة, وجارية. وذهبا والأكثر على أنه مبني على الخلاف في المفرد, فإن جاز جاز, وإلا فلا. وقيل: يجوز وإن امتنع في المفرد. المقام الأول: في أن المشترك لمعنييه مجاز. ولنا فيه: أنه يسبق منه إلى الفهم عند الإطلاق أحد المعنيين على البدل, فلا يكون حقيقة في معنييه معًا, فإذا أطلق على معنييه كان مجازًا, من باب إطلاق اسم الجزء على الكل.

وكأن المصنف احتج على الشق الثاني فقط لظهور الشق الأول, ويرد ما ذكر أول الكتاب من أنه إن تبادر غير المعين لزم أن يكون للمعين مجازًا. احتج القائل بأنه لا يصح أن يراد: بأنه لو صح لهما معًا لكان حقيقة, وإلا كان مستعملًا في غير ما وضع له, وهو خلاف الفرض, ولو كان حقيقة لكان مريدًا أحدهما خاصة غير مريد له خاصة, وهو محال. بيان الملازمة؛ أن له حينئذ ثلاثة معان, هذا وحده, وهذا وحده, وهما معًا, والفرض استعماله في جميع معانيه, فيكون مريدًا لهذا وحده, ولهما معًا, وكونه مريدًا لهما معًا ينافي إرادة هذا وحده وهذا وحده, وإنما حملناه على هذا ليوافق الدليل الدعوى؛ إذ لو حمل على ظاهره, كان دليلًا لمختار المصنف. ولو قال: لو صح لهما - كما قال في دليل نافي صحة إطلاق اللفظ على معنييه المجازي والحقيقي معًا - كان أولى. الجواب: أنه مناقشة لفظية؛ إذ المراد نفس المدلولين معًا, لا بقاؤه لكل واحد منفردًا. وحاصله: دعوى أن مفهوميه هما منفردان, فإذا استعمل في المجموع لم يكن مستعملًا في مفهوميه, فيكون النزاع عائدًا إلى تسمية ذلك استعمالًا في مفهوميه, لا في إبطال ذلك.

المقدم الثاني: في أن اللفظ المستعمل في الحقيقة والمجاز مجاز فيهما. ولنا فيه: أن استعماله لهما استعمال له في غير ما وضع له أولًا؛ لأن ذلك لم يكن المعنى المجازي داخلًا فيه, وهو داخل الآن, فكان مجازًا؛ إذ لا معنى للمجاز إلا ذلك. النافي للصحة قال: لو صح اللفظ لهما لكان مريدًا لما وضع له لمكان المعنى الحقيقي, غير مريد لما وضع له المكان المعنى المجازي, وذلك محال. الجواب: منع الملازمة, فإنه لم يرد ما وضع له بالوضع الأول, بل ذلك داخل في المراد, حيث أراد المجموع [مما وضع له أولًا, وما لم يوضع له أولًا بوضع ثان مجازي لهذا المعنى الثالث أعني المجموع] وقد هجر الحقيقة والمجاز الأول, وخرجا عن الإرادة بخصوصها, ودخلا تحت مراد ثالث. احتج الشافعي على جواز الاستعمال: بالوقوع في الآيتين. الأولى: قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب} , والسجود من الناس وضع الجبهة على الأرض, وإلا لم يكن لتخصيصه بكثير من الناس فائدة, وهو من غيرهم الانقياد. الثانية: قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} , والصلاة من الله مغفرة, ومن الملائكة استغفار, وهما متغايران / والأصل في

الإطلاق الحقيقة, فقد استعمل المشترك في مفهوميه معًا. الجواب أولًا: أن معنى السجود في الكل واحد وهو الخضوع, ونعني به الإذعان والانقياد لا القلبي؛ إذ لا يتصور من بعض المذكورين, غير أنه متصور من كل الناس, فتضيع فائدة التقييد بكثير من الناس. وكذا الصلاة, الاعتناء بإظهار الشرف, فيكون متواطئًا. وفيه نظر؛ لأن حقيقة السجود وضع الجبهة على الأرض وغيره مجاز, وكذا حقيقة الصلاة إنما هي الدعاء. الجواب الثاني: أن الآية الأولى يقدر فيها فعل, كأنه قال: ويسجد له كثير من الناس, وفي الثاني خبر, كأنه قال: إن الله يصلي, وإنما جاز ذلك لأن {يسجد له من في السموات} , و {يصلون على النبي} مقارن له فكان مثل المحذوف, مثل: «نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف» , والمقدر في حكم المذكور, فكرر اللفظ مرادًا به كل مرة معنى غير الأول. وفيه أيضًا نظر؛ لأن اللفظ واحد مرادًا به معان مختلفة, وهو المدعى. الجواب الثالث: أنه وإن ثبت الاستعمال فلا يتعين كونه حقيقة, بل نقول: إنه مجاز, وإن كان خلاف الأصل, دلّ عليه الدليل الذي ذكرنا. قيل: يحتمل وضع لفظ الصلاة والسجود في الآيتين لمجموع معنى كل منهما, كما وضع لكل واحد من معنى كل منهما, فيكون إعمال كل منهما في كلا مفهوميه إعمالًا للفظ المشترك في بعض معانيه لا في كلها. والجواب: أنه يلزم أن يكون مفهوما الصلاة مسندًا إلى كل واحد

مسألة: نفي المساواة

من الله والملائكة, ومفهوما السجود مسندًا إلى كل واحد من المذكور في الآية, وهو باطل قطعًا. قيل: لو كان السجود في الأولى والصلاة في الثانية مستعملًا في المعنيين بطريق الحقيقة, يلزم إسناد معنى السجود إلى كل واحد من الجبال والدواب وإسناد معنى الصلاة إلى الله والملائكة, وهو ظاهر الفساد. قال: ومنه يعرف عدم استقامة الجواب الأخير؛ لأنه يلزم منه الفساد المذكور. قلت: وجوابه يعلم مما مرَّ؛ لأن الإسناد إلى كل واحد بالمعنى الذي يصح منه, وهو معنى استعمال اللفظ في معنييه. قال: (مسألة: نفي المساواة, مثل {لا يستوي} يقتضي العموم كغيره. أبو حنيفة - رحمه الله -: لا يقتضيه. لنا: نفي نكرة يعم كغيره. قالوا: المساواة مطلقًا أعم من المساواة بوجه خاص, والأعم لا يشعر بالأخص. أجيب: بأن ذلك في الإثبات, وإلا لم يعم نفي أبدًا. قالوا: لو عمّ لم يصدق؛ إذ ما من شيئين / إلا وبينهما مساواة, ولو في نفي ما سواهما عنهما. قلنا: إنما ينفى مساواة يصح انتفاؤها. قالوا: المساواة في الإثبات للعموم, وإلا لم يستقم إخبار بمساواة لعدم

الاختصاص, ونقيض الكلي الموجب جزئي سالب. قلنا: المساواة في الإثبات للخصوص, وإلا لم يصدق أبدًا, وإذ ما من شيئين إلا وبينهما نفي مساواة ولو في تعيينهما, ونقيض الجزئي الموجب كلي سالب. والتحقيق: أن العموم من النفي). أقول: نفي المساواة نحو قوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} , عام يقتضي نفي المساواة من جميع الوجوه, حتى في القصاص, فلا يقتل المسلم بالذمي, كغير المساواة من الأفعال: «فلا آكل» عام في وجود الأكل, «ولا أضرب» عام في وجود الضرب. وقال أبو حنيفة: لا يقتضيه. لنا: أنه نكرة في سياق النفي؛ لأن الجملة ن كرة, وكذلك توصف بها النكرة, فوجب التعميم كغيره من النكرات, وليس قياسًا في اللغة, بل استدلال بالاستقراء. والحق: أنه نفي دخل على مطلق, والناكرة أخص منه؛ لأنها مع وحدة

غير معينة. قالوا أولًا: المساواة في الجملة أعم من المساواة بوجه خاص, وهو المساواة من كل وجه, والأعم لا إشعار له بالأخص, فلا يلزم من نفيه نفيه. الجواب: أن ما ذكرتم من عدم إشعار الأعم بالأخص, إنما ذلك في الإثبات, أما في النفي فإن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص, ولولا ذلك لم يعم نفي أبدًا, لورود الشبهة. وتقرير هذا الدليل على وجه يوافق الدعوى أن يقال: نفي المساواة مطلقًا أعم من نفي المساواة من كل الوجوه ومن بعضها إلى آخر السؤال. والجواب: أن نفي المطلق يستلزم نفي كل فرد من أفراده, وإلا لم ينتف المطلق لوجوده في ظل المطلق المقيد. قالوا ثانيًا: لو كان عامًا لم يصدق؛ إذ بين كل أمرين مساواة من وجه وأقله المساواة في سلب ما عداهما عنهما. الجواب: منع الملازمة بتخصيص الدعوى؛ لأنه إذا قيل: لا مساواة, فإنما يراد نفي مساواة يصح انتفاؤها, فهو مما خصصه العقل, مثل: {الله خالق كل شيء} , وهذا الدليل أيضًا لا يباشر الدعوى على الوجه المتنازع فيه, يظهر بالتأمل. قالوا ثالثًا: إذا وقعت المساواة بين شيئين في الإثبات فهي للعموم,

مسألة: المقتضي

كقولنا: «زيد وعمرو متساويان»؛ إذ لو لم يفد العموم لم يستقم إخبار بمساواة بين شيئين؛ لأن / المساواة بوجه ما غير مختص بهما, بل كل شيئين كذلك كما تقدم, لكنه إخبار يفيد فائدة زائدة, ليس كقولنا: «السماء فوقنا». فإذن قولنا: «يستوي» معناه كل وجه استواء ثابت, وهو كلي موجب, وقولنا: «لا يستوي» نقيضه, [للتكاذب بهما عرفًا, ونقيض الكلي الموجب جزئي سالب, فيكون معنى قولنا: «لا يستوي»] بعض وجوه الاستواء ليس بثابت, وهو المدعى. الجواب: المعارضة بالمثل, وهو أن المساواة في الإثبات للخصوص, وإلا لم يصدق إثبات مساواة؛ إذ ما من شيئين إلا وبينهما نفي مساواة ولو في تعيينهما الخاص, فيكون قولنا: «يستوي» موجبًا جزئيًا بمعنى: بعض وجوه المساواة ثابت, ونقيضه سالب كلي, فيكون «لا يستوي» بمثابة: لا شيء من وجوه المساواة ثابت, وهو المطلوب. والتحقيق: أن المساواة لا دلالة لها على العموم, وإنما استفيد العموم من النفي الداخل على المطلق. قال: (مسألة: المقتضي وهو ما احتمل أحد تقديرات لاستقامة الكلام, لا عموم له في الجميع. أما إذا تعين أحدهما بدليل, كان كظهوره. ويمثل بقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان».

لنا: لو أضمر الجميع, لأضمر مع الاستغناء. قالوا: أقرب مجاز إليهما باعتبار رفع المنسوب إليهما, عموم أحكامهما. أجيب: بأن باب غير الإضمار في المجاز أكثر فكان أولى, فيتعارضان فيسلم الدليل. قالوا, العرف في مثل: «ليس للبلد سلطان» في جميع الصفات المعتبرة. قلنا: قياس في العرف. قالوا: يتعين الجميع لبطلان التحكم إن عين, ولزم الإجمال إن أبهم. قلنا: ويلزم من التعميم زيادة الإضمار, فتكثر مخالفة الدليل, فكان الإجمال أقرب). أقول: المقتضي بصيغة الفاعل, وهو ورود الكلام على وجه يحتاج في استقامته من صيانته عن الكذب أو غير ذلك إلى إضمار, وذلك المضمر هو المقتضي, ودلالة الدليل على أن الكلام لا يصح إلا بإضمار, هو المسمى بدلالة الاقتضاء, فإن احتمل تقديرات متعددة يستقيم الكلام بكل واحد منها لم يضمر الجميع, وهو معنى قوله: (لا عموم له في الجميع) , ولم يكتف بقوله: لا عموم له؛ لأن ما أضمر قد يكون عامًا فيقدر واحد معين إن دلّ عليه دليل من عقلٍ, أو شرعٍ, أو عرفٍ, فإن لم يدل دليل على تعين أحدهما, كان مجملًا بينهما. وإذا تعين أحدهما بدليل كان كالمظهر, حتى لو كان المظهر عامًا كان المقدر عامًا, ولو كان خاصًا كان المقدر خاصًا, إذ لا فرق بين الملفوظ

والمقدر في إفادة المعنى. وذكر في مثاله قوله عليه السلام: «رفع عن أمتي / الخطأ والنسيان» رواه ابن عدي بهذا اللفظ؛ إذ لا يستقيم بلا تقدير؛ لوقوعهما من الأمة, وثم تقديرات دنيوية كالضمان والعقوبة, وأخروية كالحساب والعقاب. لنا: لو أضمر مع الجميع لأضمر مع الاستغناء؛ لأن الحاجة تندفع بالبعض, والإضمار لما كان للضرورة وجب أن يقدر بقدرها. قالوا: أقرب مجاز إلى الخطأ والنسيان باعتبار رفع المنسوب إليها المقتضي رفع ذاتهما عموم أحكامهما, فإن نفي جميع الأحكام يجعلهما كالعدم, فكأن الذات قد ارتفعت, بخلاف نفي البعض, وإذا تعذرت الحقيقة وتعدد المجاز, حمل على الأقرب إلى الحقيقة, وهو معنى إضمار الجميع. وإنما قال: باعتبار رفع؛ لأنه ربما تساوت نسبة المجازات إلى المعنى الحقيقي بالنظر إلى ذاته. الجواب: أن باب غير الإضمار في المجاز أكثر من باب الإضمار, فكلما كان الإضمار أقل كانت مخالفة الأصل أقل, فكان إضمار البعض أولى

مسألة: لا أكلت، وإن أكلت: عام

[فيتعارض كون إضمار الجميع أقرب إلى الحقيقة وكون إضمار البعض أولى] ويسلم دليلنا المثبت. قالوا: إذا قيل: «ليس للبلد سلطان» , فُهم نفي جميع الصفات المعتبرة من العدل, والسياسة, ونفاد الحكم, وغيرها. الجواب: أنه قياس في العرف ولا جامع. قالوا: ليس إضمار بعض أولى من إضمار بعض آخر فيجب إضمار الكل؛ لأنا لو أضمرنا بعضًا معينًا لزم التحكم, أو مبهمًا فيلزم الإجمال. الجواب: المقدر بعض غير معين, والإجمال - وإن كان خلاف الأصل - يجب المصير إليه لأنه واحد, فيقدم على كثرة الإضمار, وإن كان الإضمار الواحد أولى من الإجمال, والمثال المذكور مما تعين فيه المضمر بدليل, على ما ذكر في باب الإجمال, ولا ينافي ما ذكر هنا. قال: (مسألة: «لا أكلت» , و «إن أكلت» عام في مفعولاته, فيقبل تخصيصه. وقال أبو حنيفة: لا يقبل. لنا: أن «لا آكل» لنفي حقيقة الأكل بالنسبة إلى كل مأكول, هو معنى العموم. قالوا: لو عمّ, لعمّ في الزمان واالمكان. أجيب: بالتزامه, وبالفرق بأن «أكلت» لا يعقل إلا بمأكول, بخلاف ما ذكر.

قالوا: إنّ «أكلت» , و «لا آكل» مطلق, فلا يصح تفسيره بمخصص لأنه غيره. قلنا: المراد المقيد المطابق للمطلق؛ لاستحالة وجود الكلي في الخارج وإلا لم يحنث بالمقيد). أقول: الفعل المتعدي إذا وقع في سياق النفي / مثل: «لا آكل» وما في معناه, مثل: «إن أكلت فإنت طالق» من غير ذكر المصدر, عام في مفعولاته, فيقبل تخصيصه, حتى لو قال: أردت مأكولًا خاصًا, قبل منه عند المالكية والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يقبل تخصيصًا. لنا: أن «لا آكل» لنفي حقيقة الأكل, وإنما يتحقق بنفيه بالنسبة إلى كل مأكول وهو معنى العموم, فيجب قبوله للتخصيص, وكما لو قال: «لا آكل أكلًا»؛ إذ لا فرق, وقد وافقوا فيه. قالوا: لو عمّ في المفعولات, عمّ في سائر المتعلقات من ظرف الزمان والمكان, وكان قابلًا للتخصيص فيها, واللازم باطل. الجواب أولًا: نلتزمه؛ لأن نفي حقيقة الأكل بنفيه في كل زمان وكل

مكان. وثانيًا: بالفرق, فإنّ «أكلت» لا يعقل معناه إلا بمأكول؛ لأنه من لوازم ماهيته في الذهن ومقدمات وجوده في الخارج, بخلاف ظرف الزمان والمكان, لجواز أن لا يخطر بالبال, وإن كان لا ينفك عنهما في الواقع. وقول من قال: إنه ينفك عنه في الواقع, بدليل «خلق الله الزمان» مردود إذ المنفك المصدر, وهو فعل الله تعالى, والإخبار عنه غير منفك, فإذا المفعول كالمذكور, ولو قال: «لا آكل شيئًا» عمّ وقبل تخصيصه. وحاصل الجواب: أن المفعول عندنا مقدر فهو كالملفوظ؛ لوجوب تعلقه - يلحظ عند الذكر - فربما يراد به بعض دون بعض, وعندهم كالمحذوف لا يلحظ عند الذكر, وإنما يلزم من نفي الحقيقة. وقد يقال: الزمان أيضًا داخل في مفهوم العموم. ويجاب عنه: بأن الداخل في مفهوم الفعل الزمان, واللازم العموم بالنسبة إلى ظرف الزمان والمكان, وظرف الزمان وظرف المكان يعقل الفعل بدونهما, ولا يعقل بدون المفعول, كما لا يعقل دون الزمان. قالوا: «لا آكل» , و «إن أكلت» يدلان على أكل مطلق, فلا يصح تفسيره بمقيد لأنه غيره, والمطابقة بين المفسر والمفسر به واجب. الجواب: أنه مقيد بمطابق للمطلق؛ لاستحالة وجود المطلق في الخارج؛ إذ كل ما فيه مشخص, ولو كان «لا آكل» للمطلق لم يحنث بالمقيد. وفيه ما تقدم, والحنث إنما وقع بالمطلق الذي في ضمن المقيد. بل الأولى في الجواب: أن نفي المطلق إنما يكون بنفي جميع المقيدات,

مسألة: الفعل المثبت لا يكون عاما في أقسامه

وهو معنى العموم, فيقبل التخصيص. قال: (مسألة: الفعل المثبت لا يكون عامًا في أقسامه, مثل: «صلى داخل الكعبة» فلا يعم الفرض والنفل, ومثل: «صلى بعد / غيبوبة الشفق» فلا يعم الشفقين إلا على رأي, و «كان يجمع بين الصلاتين في السفر» لا يعم وقتيهما. وأما تكرر الفعل فمستفاد من قول الراوي: «كان يجمع» , كقولهم: كان حاتم يكرم الضيف. وأما دخول أمته بدليل خارجي من قولٍ, مثل: «صلوا كما رأيتموني أصلي» , و «خذوا عني مناسككم». أو قرينة, كوقوعه بعد إجمال, أو إطلاق, أو عموم, أو بقوله: {لقد كان لكم} , أو بالقياس. قالوا: قد عمّ نحو: «سهى فسجد» , و «أما أنا فأفيض الماء» ونحوه. قلنا: بما ذكرنا, لا بالصيغة). أقول: الفعل المثبت لا عموم له, فلا يعم أقسامه, فإذا قال الراوي: «صلى داخل الكعبة» , لم يعم صلاة الفرض والنفل, فلا يستدل به على جواز أحدهما عينًا, إذ لا يكون فرضًا نفلًا, والفعل لا عموم له, فإن

الموجود في الخارج لتشخصه لا يكون كليًا, ولا يعم جهات وقوعه في الخارج, كما لو قال: «صلى بعد غيبوبة الشفق» , فلا يعم الصلاة بعد الشفق الأحمر والأبيض إلا على رأي من جعل المشترك يعم مفهوميه, وحينئذ لا يكون الفعل عامًا, بل الشفق للمشترك بين الأحمر والأبيض, ثم إنه ليس فيه ما يدل على أنه صلى قبل الشفق الأبيض؛ لأنه بمنزلة «صلى بعد الشفقين» وإذا صلى بعد الأبيض, صدق أنه صلى بعدهما, بخلاف ما إذا صلى قبله. وفي الإحكام: الشفق مشترك بين البياض والحمرة, فصلاته احتمل أنها وقعت بعد الحمرة, واحتمل أنها وقعت بعد البياض, فلا يحمل وقوعه بعدهما إلا على رأي من عمم المشترك, فإنه بمنزلة «صلى بين الشفقين». وكما لو قال: «كان يجمع بين الصلاتين: الظهر والعصر, والمغرب والعشاء في السفر» , فلا يعم جمعهما بالتقديم في وقت الأولى, والتأخير في وقت الثانية, والعموم المنتفي في هذين إنما هو بحسب الجهات, وإليه أشار في المنتهى, ويرجع إلى نفي العموم بحسب الوقت, أما وقوع الفعل منه متكررًا بحيث يعم كل سفر فلا يدل عليه.

ربما توهم ذلك من قوله: «كان يفعل» , فإنه يفهم التكرار عرفًا, كما فهم ذلك عرفًا من قولهم: «كان حاتم يكرم الضيف» , ولكن ذلك ما فهم من الفعل وهو «يجمع» , بل من قول الراوي: «كان» , حتى لو قال: «جمع» لم يفهم ذلك. وكذا أيضًا: لا عموم لفعله بالنسبة إلى الأمة, بل هو خاص به, إلا أن يدل دليل من خارج على المساواة, إما في ذلك الفعل ويكون قوليًا, مثل: «صلوا كما رأيتموني» , و «خذوا عني مناسككم». أو يكون الدليل قرينة, كوقوع الفعل بعد إجمال, أو إطلاق, أو عموم وفهم أنه / بيان له, فيتبعه في العموم وعدمه. وإما دليل في الأفعال عمومًا, نحو: {لقد كان لكم في رسول الله}. وإما دليل وهو قياس الأمة عليه بجامع تعلم عليته, وكل ذلك خارج عن اللفظ, فإذًا الفعل المثبت لا يعم بوجه. وقوله: (أو بقياس) , راجع إلى أقسام الخارجي.

مسألة: نحو قول الصحابي: نهى عليه الصلاة والسلام عن

قالوا: عمّ بالإجماع في نحو: «سهى فسجد» رواه أبو داود. وأما أنا فأفيض الماء, ولفظه عند مسلم: «وأما أنا فأفيض على رأس ثلاثة أكف» , فيعم كل سهو وكل غسل, وغيره مما حكي من فعله. الجواب: أن التعميم من أحد ما ذكرنا لا من الفعل, أو فُهم من الفاء التي أدخلها الراوي الدالة على السببية. قال: (مسألة: نحو قول الصحابي: «نهى - عليه الصلاة والسلم - عن بيع الغرر, وقضى بالشفعة للجار» , يعم الغرر والجار. لنا: عدل عارف, فوجب الاتباع. قالوا: يحتمل أن يكون خاصًا, وسمع صيغة خاصة فتوهم الاحتجاج للمحكي. قلنا: خلاف الظاهر). أقول: إذا حكى الصحابي حالًا بلفظ العموم, كما لو قال: «نهى عن بيع الغرر, وقضى بالشفعة للجار» , فإنه يعم الغرر والجار, خلافًا

مسألة: إذا علق الحكم على علة عم بالقياس شرعا لا بالصيغة

للأكثرين. لنا: أنه عدل عارف باللغة والمعنى, فالظاهر أنه لا ينقل العموم إلا بعد تحققه. قالوا: الألف واللام في الغرر والجار تحتمل العهد كما تحتمل الاستغراق, ومع هذا الاحتمال لا تقتضي العموم. وأيضًا: الصحابي يحتمل أن يكون سمع من الرسول صيغة خاصة فتوهم أنها للعموم, فذكر صيغة عامة, فلا يكون حجة؛ لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية, والعموم في الحكاية لا المحكي. الجواب: أن هذين الاحتمالين خلاف الظاهر؛ لأن الألف واللام للاستغراق غالبًا ولا معهود, إذ الأصل عدمه, واحتمال توهم العموم فيما ليس بعام مع معرفته باللغة خلاف الظاهر. ولفظ الإحكام: لعله نهى عن فعل خاص - لا عموم له - فيه غرر, وقضى لجار مخصوص بالشفعة, فنقل صيغة العموم لظنه عموم الحكم, ويحتمل أنه سمع صيغة ظنها عامة وليست عامة. قال: (مسألة: إذا علق الحكم على علة, عمّ بالقياس شرعًا لا بالصيغة. وقال القاضي: لا يعم.

وقيل: بالصيغة, كما لو قال: حرمت المسكر لكونه حلوًا. لنا: ظاهر في استقلال العلة, فوجب الاتباع, ولو كان بالصيغة لكان قول القائل: أعتقت غانمًا لسواده, يقتضي عتق سودان عبيده, ولا قائل به. القاضي: يحتمل الجزئية. قلنا: لا يترك الظاهر للاحتمال. الآخر: حرمت الخمر لإسكارها, مثل: حرمت المسكر لإسكاره. وأجيب: بالمنع). أقول: إذا علق الشارع حكمًا على علة, هل يعم الحكم جميع صور وجود العلة أم لا؟ . ثم إن عمّ, هل بالقياس الشرعي؟ أو يكون عمومه من الصيغة؟ . المختار: عمومه بالقياس الشرعي بعد ثبوت التعبد بالقياس؛ لأنه يذكر في آخر الكتاب أن النصب على العلة لا يكفي في التعدي دون التعبد بالقياس. وقال القاضي: «لا يعم». وقيل: عمومه بالصيغة, كما لو قال: «حرمت الخمر لكونه مسكرًا» , فإنه يعم كل مسكر. أما عمومه شرعًا بالقياس؛ فلأنه ثبت التعبد بالقياس, وما ذكرناه ظاهر

مسألة: الخلاف في أن المفهوم له عموم لا يتحقق

في استقلاله العلة, فوجب اتباعها وإثبات الحكم حيث ثبتت. وأما عدم عموم صيغته؛ فلأنه لو كان كذلك لكان قول القائل: «أعتقت غانمًا لسواده» يقتضي عتق جميع سودان عبيده؛ لأنه بمثابة أعتقت كل أسود, واللازم باطل. فإذًا الفائدة في ذكر العلة معرفة كون الحكم معللًا. احتج القاضي: بأنه يحتمل أن يكون جزء علة, والجزء الآخر خصوصية المحل, حتى تكون العلة إسكار الخمر لا مجرد الإسكار. الجواب: أن هذا مجرد احتمال فلا يترك له الظاهر, إذ التعليل ظاهر في الاستقلال كالمنصوصة. احتج القائل بأنه يعم بالصيغة: بأن «حرمت الخمر لإسكاره» , مثل: «حرمت المسكر» , والثاني يعم كل مسكر, فكذا الأول. الجواب: منع المماثلة؛ لأن الأول خاص بالخمر صيغة, والثاني عدم لكل مسكر, وإن أراد أنه لا فرق في الحكم لم ينفعه؛ لأن ذلك بالشرع ولا يلزم كونه بالصيغة. قال: (مسألة: الخلاف في أن المفهوم له عموم لا يتحقق؛ لأن مفهومي الموافقة والمخالفة عام فيما سوى المنطوق به, ولا يختلفوا فيه. ومن نفى العموم كالغزالي, أراد أن العموم لم يثبت في المنطوق به, ولا يختلفون فيه أيضًا). أقول: القائلون بالمفهوم اختلفوا في أن له عمومًا أم لا؟ .

فقال الغزالي: لا عموم له, وقال الأكثرون: له عموم. وقال الإمام فخر الدين والآمدي: لا يتحقق هذا الخلاف, فإن تحريم الضرب المفهوم من تحريم التأفيف - وإن كان التحريم يشملهما - إلا أنه اختلفت جهة الدلالة, فلا المنطوق عام بالنسبة إلى الصورتين, ولا المفهوم عام بالنسبة إليهما. والنزاع في عموم المفهوم بالنسبة إلى صور المسكوت آيل إلى اللفظ. فإن من قال إنه عام بالنسبة إليهما, إنما يريد به / ثبوت الحكم به في جميعها لا بمجرد الدلالة اللفظية, وهو مما لا يخالف فيه, ومن نفى العموم لم يرد أن الحكم لم يثبت في جميع صور المسكوت, وإنما أراد نفي ثبوته مستندًا إلى الدلالة اللفظية من غير واسطة, وإلا فللدلالة اللفظية مدخل. وقال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام: ولقائل أن يقول: محل النطق إن كان إثباتًا فالحكم منتف في جملة صور المخالفة؛ لأنه إن دل على نفي الحكم عن كل فرد من أفراد المخالفة فهو المطلوب, وإلا فهو دال على نفي الحكم

مسألة: قالت الحنفية: مثل قوله صلى الله عليه وسلم: لا يقتل مسلم بكافر

عن مسمى المخالف, والمنفي عن مسمى المخالف منفي عنه جميع أفراد المخالف, أما لو كان محل النطق نفيًا حتى يقتضي انتفاء نفي الحكم عن المخالف حتى يكون الثابت للمخالف إثباتًا, فلا يلزم العموم, فإن العموم له صيغ مخصوصة لا كل صيغة, فإذا كان بعض الألفاظ المنطوق بها في مثل هذا لا تدل على العموم, فلابد له من دليل. وقول القائل: متى جعلناه حجة لزم انتفاء الحكم في جملة صورة انتفاء الصفة وإلا لم يكن للتخصيص فائدة, فممنوع؛ لأنا إذا عقلنا الحكم بالمسمى المطلق, كانت فائدة المفهوم حاصلة في بعض الصور ضرورة, فلم يخل المفهوم عن فائدة. قال: (مسألة: قالت الحنفية: مثل قول صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر, ولا ذو عهد في عهده» , معناه: بكافر, فيقتضي العموم إلا بالدليل وهو الصحيح. لنا: لو لم يقدر شيء لامتنع قتله مطلقًا وهو باطل, فيجب الأول للقرينة. قالوا: لو كان كذلك, لكان بكافر الأول للحربي فقط فيفسد المعنى, ولكان {وبعولتهن} للرجعية والبائن؛ لأنه ضمير المطلقات. قلنا: خص الثاني بالدليل. قالوا: لو كان لكان نحو: «ضربت زيدًا يوم الجمعة وعمرًا» أي يوم الجمعة. وأجيب: بالتزامه, وبالفرق لأن ضرب عمرو في غير يوم الجمعة لا

يمتنع). أقول: اختلفوا في العطف على العام هل يوجب العموم في المعطوف؟ . هكذا وضع المسألة في المستصفى والإحكام, نعم ذكر الإمام في المحصول مسألة أخرى, فقال: عطف الخاص على العام لا يخصصه, خلافًا لأبي حنيفة, ثم ذكر هذا المثال. قال سيف الدين: مثاله: استدلال أصحابنا أن المسلم لا يقتل بالذمي, بقوله عليه السلام: «ألا لا يقتل مسلم بكافر, ولا ذو عهد في عهده» هذا لفظ الحديث عند أبي داود. وقال الآمدي: وهو عام بالنسبة إلى كل كافر, حربيًا كان أو ذميًا. فقال الحنفية: لو كان عامًا / لكان المعطوف عليه كذلك, وهو قوله: «ولا ذو عهد في عهده» , ضرورة الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم وصفته, وليس كذلك, فإن الذي لا يقتل به المعاهد هو الحربي لا الذمي. وظاهر كلام الآمدي أن الحنفية لا يسلمون عموم الأول.

وظاهر كلام المصنف أنهم يسلمون ذلك, ويدعون أن ذلك يقتضي كون الكافر المقدر في قوله: «ولا ذو عهد في عهده» بكافر - عامًا أيضًا - حتى لا يقتل المعاهد بحربي ولا ذمي, إلا إذا خص بدليل, وهذا يتمشى له على مذهبه, ويكون المخصص للثاني الإجماع. وأما الحنفية: فلو عمّ الأول - ولا دليل منفصل مخصص - لزم أن لا يقتل المسلم بالذمي, وهم لا يقولون به, فحمل كلامهم عليه فاسد. احتج المصنف: بأنه لو لم يقدر شيء في الثاني لامتنع قتل الذمي مطلقًا, واللازم باطل, أما الملازمة؛ فلأنه إذا لم يقدر امتنع قتله حتى بالمسلم, وأنه باطل اتفاقًا, فيجب تقدير ما سبق؛ لقيام القرينة وهو سبقه دون غيره؛ إذ لا قرينة, وإذا قدر كان عامًا صيغة اتفاقًا. قيل على الملازمة: حرمة القتل معلقة بوصف العهد, فإذا انتفى العهد انتفت حرمة القتل, وأيضًا: لا يلزم امتناع قتله. نعم يظهر امتناع قتله ويجوز أن يخصص بدليل منفصل, كما يجوز تخصيص «بكافر» على تقدير أن يكون هو المقدر, ولو سلم أنه يجب تقدير شيء فيقدر ما دام في عهده لقرينة «في عهده» , فإذا قتل لم يبق عهده. احتج الآخرون بوجهين: الأول: اخترعه المصنف لهم, تقريره: لو كان معناه: «ولا ذو عهد في عهده» بكافر, لكان «بكافر» الأول للحربي؛ لأنه الذي لا يقتل به المسلم عندكم فيفسد المعنى؛ إذ يصير المعنى: لا يقتل المسلم بكافر حربي ويقتل بالذمي, ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي ولا ذمي, وفساده ظاهر؛

لأن ذلك لا يصلح مقصودًا للشارع؛ لما فيه من حط مرتبة المسلم عن الذمي, فوجب تخصيص الثاني وحمل الكلام عليه دفعًا لهذا الفساد. وأيضًا: لو لزم من عموم الأول عموم الثاني, لزم أن يكون الضمير في {وبعولتهن} للرجعية والبائن؛ لأن ضمير {والمطلقات} العام في الرجعية والبائن, فيكون المطلق أحق برد البائن في العدة, وليس كذلك إجماعًا. ثم أجاب: بأن الثاني فيهما عام لكن خص بدليل منفصل, فلا يلزم في الأول فساد المعنى, وإنما يفسد لو بقي على عمومه, ولولا الدليل المنفصل لالتزمنا أن المُطَّلق أحق بالرجعية في العدة, واعلم أن الملازمة إن قررت على غير هذا الوجه مما قررها به الشارحون لم تتم, وتقريرها على هذا الوجه يقتضي عدم بقاء الأول على عمومه, وجوابه يقتضي أيضًا أنه سلم تخصيص الأول, وأنه لولا تخصيص الثاني لزم فساد المعنى, وكلامه أول المسألة يقتضي أنهم يرون أن الأول باق على عمومه, فهو متناف. احتجوا ثانيًا: بأنه لو وجب أن يضمر فيما لا يستقل - ما ذكر في المستقل الذي عطف عليه غير المستقل - لكان نحو: «ضربت زيدًا يوم الجمعة وعمرًا» , معناه: وضربت عمرًا يوم الجمعة, وليس كذلك. الجواب: نلتزم ظهوره فيه.

مسألة: {يا أيها المزمل}، {لئن أشركت} ليس بعام للأمة

وثانيًا: بالفرق, بإنه إنما قدر بكافر فيما تقدم, فإنه لو لم يقدر لامتنع قتل ذي العهد مطلقًا وهو باطل, ولا ضرورة هنا, فإن ضرب عمرو مطلقًا يوم الجمعة أو في غيره لا مانع يمنع منه. قال: (مسألة: {يأيها المزمل} , {لئن أشركت} ليس بعام للأمة إلا بدليل من قياس أو غيره. وقال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى: عام إلا بدليل. لنا: القطع بأن خطاب المفرد لا يتناول غيره لغة. وأيضًا: يجب أن يكون خروج غيره تخصيصا. قالوا: إذا قيل لمن له منصب الاقتداء: اركب لمناجزة العدو ونحوه, فهم لغة أنه أمر لأتباعه معه, ولذلك يقال: «فتح» , و «كسر» , والمراد مع أتباعه. قلنا: ممنوع, أو فهم لأن المقصود متوقف على المشاركة بخلاف هذا. قالوا: {إذا طلقتم} يدل عليه. قلنا: ذكر النبي عليه السلام أولًا للتشريف, ثم خوطب الجميع. قالوا: {فلما قضى زيد} , ولو كان خاصًا لم يتعد. قلنا: نقطع بأن الإلحاق للقياس. قالوا: فمثل {خالصة لك} , و {نافلة لك} لا يفيد. قلنا: يفيد قطع الإلحاق). أقول: خطاب الرسول مثل: {يأيها المزمل} , ومثل: {لئن

أشركت ليحبطن عملك} , قال الشافعية: ليس بعام للأمة إلا بدليل من قياس أو غيره مما هو خارج عن اللفظ, وعن الحنفية والحنابلة: أنه عام إلا أن يدل دليل على الخصوص. واختلف فيه قول المالكية, وظاهر قول مالك أنه عام, وقد احتج في المدونة على أن ردة الزوج مزيلة للعصمة بقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك}. قلت: والحق أنه إن أريد عموم الصيغة فلا عموم, وإن أريد ما هو أعم فمثل المذكور يفهم منه العموم عرفًا. احتج على مختار بوجهين: الأول: أنّا استقرينا كلام العرب فوجدنا خطاب المفرد لا يتناول غيره لغة, وهذا خطاب مفرد. الثاني: أن خطاب المفرد لو تناول غيره لغة, لكان إخراج غير المذكور والنص على أن المراد هو المذكور دون غيره تخصيصًا للعموم, ولا قائل به. ولنا في الرد عليهم: أن التناول في مثله عرفًا لا يقال, فهو لدليل خارجي وهو المدعي, لأنّا نقول: المراد عند الشافعية من الدليل هو الشرعي

لا القرائن الحالية المنضمة إلى اللفظ, وإلا عاد النزاع لفظيًا. وعلى الثاني: لا نسلم بطلان التالي فإن التخصيص يقع في العام عرفًا, كـ {حرمت عليكم / أمهاتكم} فإنه لغة يفيد حرمة جميع الأمهات, وفي عرف الشرع يفيد حرمة جميع الاستمتاعات وقد خص من ذلك أشياء. احتج الآخرون بوجوه أربعة: قالوا أولًا: إذا قيل لمن يقتدى به كالأمير: «اركب لمناجزة العدو» , و «اذهب لفتح بلاد كذا» , فهِمَ منه أنه أمر له ولأتباعه معه لغة, وكذلك يقال: «فتح المدينة, وكسر العدو» والمراد مع أتباعه, لا أنه فتح وكسر وحده, والنبي عليه السلام مقتدى به, فالأمر له أمر للأمة. والجواب: لا نسلم فهم ذلك من الخطاب؛ ولذلك يقال: «أمر السلطان الأمير, ولم يأمر الجند» , ولو سلّم فإنما فُهِمَ لدليل, وهو أن المقصود - وهو المناجزة أو الفتح - موقوف على مشاركته له, بخلاف هذه الصورة, فإن قيام الرسول ونحوه لا يتوقف على مشاركة الأمة له. قالوا ثانيًا: قال تعالى: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} , فأفرده بالخطاب, وأمر بصيغة الجمع والعموم, فدل على أن مثله عام خطابًا له وللأمة. الجواب: أن ذكره للنبي عليه السلام بالنداء أولًا للتشريف, والخطاب بالأمر للجميع؛ لأن النداء للجميع, ولا يمتنع أن يقال: «يا فلان افعل أنت

وأتباعك كذا» , وإنما النزاع إذا لم يتعرض للأتباع, بل لو كان خطابًا للأمة لكفى: «إذا طلقت فطلقوهن لعدتهن». قالوا ثالثًا: قال تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج} , أخبر تعالى أنه أباحه له ليكون شاملًا للأمة, ولو خص ولم يتعد لم يحصل الغرض. الجواب: منع الملازمة, وأن تعدي الحكم إليهم بالقياس, وإباحة زينب له خاصة, ولا يدل على إباحتها للغير, بل رفع الحرج عن النبي كان لمقصود رفع الحرج عن المؤمنين, فيكون إلحاق الأمة به بقياسهم عليه بواسطة نفي الحرج. قالوا رابعًا: لو لم يعمّ, لم يكن لمثل {خالصة لك} و {نافلة} فائدة؛ لدلالته على اختصاص الخطاب به, وهو مستفاد من نفس الخطاب واللازم باطل؛ لامتناع للغو في كلامه تعالى. الجواب: منع عدم الفائدة, فإن الخطاب - وإن لم يدل على العموم فلا يدل على عدم العموم - فهو محتمل, وهذا يقطع احتمال العموم, وفائدته لا

مسألة: ما خطابه لواحد لا يعم

تلحق الأمة به بالقياس كما تلحق لو لم يرد ذلك. قال: (مسألة: خطابه لواحد ليس بعام, خلافًا للحنابلة. لنا: ما تقدم من القطع, ولزوم التخصيص, ومن عدم فائدة: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة». قالوا: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} , «بعثت إلى الأسود والأحمر» يدل عليه. أجيب: بأن المعنى تعريف كل ما يختص به ولا يلزم اشتراك الجميع. قالوا: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» يأبى ذلك. قلنا: إنه محمول على أنه على الجماعة بالقياس, أو بهذا الدليل, لا أن خطاب الواحد للجميع. قالوا: نقطع بأن الصحابة حكمت على الأمة بذلك, كحكمهم بحكم ماعز في الزنى وغيره. قلنا: إن كانوا حكموا للتساوي في المعنى فهو القياس, وإلا فخلاف الإجماع. قالوا: لو كان خاصًا لكان: «يجزيك ولا يجزي أحدًا بعدك» , وتخصيصه عليه السلام خزيمة بقبوله شهادته وحده, زيادة من غير فائدة. قلنا: فائدته قطع الإلحاق كما تقدم). أقول: خطاب الشارع لواحد من الأمة لا يعم جميع الأمة بصيغته. نعم قد يعم الحكم بقياس أو نص يدل على مساواة الجميع, خلافًا

للحنابلة. لنا: ما تقدم من القطع أن خطاب المفرد لا يتناول غيره لغة, ومن لزوم إخراج غير المذكور تخصيصًا, وأيضًا: يلزم عدم فائدة قوله عليه السلام: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة»؛ لتضمن مدلول الخطاب ذلك, وقد سبق ما على الأولين, وأما الحديث فلم يثبت, والذي روي: «إنما حكمي على امرأة واحدة كحكمي على مائة امرأة» , وروي: «ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة» , ومع ذلك يكون الخطاب لواحد ظاهر في الجميع, والحديث يفيد التنصيص على العموم. احتج الحنابلة بوجوه أربعة: الأول: أن النصوص دالة على تعميم الأحكام, مثل قوله تعالى {وما أرسلناك إلا كافة للناس} , وفي الصحيح: «بعثت إلى الأحمر

والأسود» , فدل على أنحكمه لا يخص واحدًا دون آخر. الجواب: إنما يلزم ذلك لو دلَّت على تعميم كل حكم لك مكلف, ولا يدل عليه, وإنما معناه: أنه بعث ليعرف كل أحد من الناس من مقيم ومسافر, وحر وعبد, وطاهر وحائض, ما يختص به من الأحكام؛ لا أن الكل لكل واحد. قلت: مع أن الآية لا حجة فيها؛ لأن المعنى: وما أرسلناك إلا لتكف الناس, وإنما تكون للتأكيد إذا تأخرت. قالوا ثانيًا: «حكمي على الواحد» يأبى ما ذكرتم من عدم تناول خطاب الواحد للجميع بصيغته. [الجواب: أن نقول: يأبى أن يكون خطاب الواحد للجميع صيغة, ولا يأبى أن يكون خطاب الواحد للجميع بالقياس] أو بهذا الدليل, وليس النزاع فيه بل في الأول, مع أنه لو سلم إنما يأبى كون حكمه على الواحد غير عام, ولا يأبى كون خطابه لواحد غير عام. سلمنا أنه يدل على أن خطابه لواحد خطاب للجميع إذا كان فيما هو حكم عليه, أما إذا كان فيما هو حكم له فمن أين ذلك وأنتم ادعيتم العموم؟ . قالوا ثالثًا: القطع بأن الصحابة كانوا يحكمون في الحوادث على الأمة بما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم على الواحد, كحكمهم برجم كل زان, لرجمه عليه

السلام ماعزًا, وغير ذلك ما شاع وذاع ولم ينكر, فكان إجماعًا, ولولا فهمهم العموم من الخطاب لما حكموا. الجواب: أن نقول: إن كان حكمهم بذلك بعد علم كل من حكم بتساوي الأمة في المعنى المعلل به ذلك الحكم كالزنى للرجم, فهو معنى القياس, والإلحاق بهذا الوجه لا نزاع فيه, وإن كان لا مع علم جميعهم بذلك, فليس / بموضع إجماع, فلا يصح دعوى الإجماع فيه؛ إذ قد يكون بعضهم قد حكم للتساوي في المعنى, وبعضهم حكم لكون خطاب الواحد للجميع, وهذا أقرب من تقرير الشراح هذا الشق بأنهم إن لم يحكموا مع التساوي لم يجز الحكم عليهم بذلك الحكم؛ لأن الإلحاق بدون العلة الجامعة خطأ إجماعًا, ولا يجتمعون على الخطأ. إذ للخصم أن يقول: نمنع أنه إذا لم يحكموا مع التساوي لا يجوز الحكم عليهم بذلك الحكم؛ لجواز أن يكون مستندهم أن خطاب الواحد للجميع. قالوا رابعًا: لو كان خطاب الواحد خاصًا, لكان قوله عليه السلام لأبي بردة بن نيار في العناق في الأضحية: «تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك» , أخرجه مسلم.

مسألة: جمع المذكر السالم كالمسلمين ونحو: فعلوا

وتخصيصه خزيمة بن ثابت بقبول شهادته وحده, روى أبو داود أنه عليه السلام «جعل شهادته شهادة رجلين» , زيادة من غير فائدة. الجواب: فائدته قطع الإلحاق, فلا يلحق غير به بالقياس عليه, ولولا ذلك لألحق غير من عند المساواة في المعنى كما تقدم في المسألة التي قبل هذا. قال: (مسألة: جمع المذكر السالم كـ «المسلمين» , ونحو «فعلوا» مما يغلب في المذكر, لا يدخل فيه النساء ظاهرًا, خلافًا للحنابلة. لنا: {إن المسلمين والمسلمات} لو كن داخلات لما حسن, فإن قدر مجيئه للنصوصية, ففائدة التأسيس أولى. وأيضًا: قالت أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن النساء قلن: ما نرى الله ذكر إلا الرجال, فأنزل الله: {إن المسلمين والمسلمات} , ولو كن داخلات لم يصح تقريره النفي.

وأيضًا: فإجماع العربية على أنه جمع المذكر. قالوا: المعروف تغليب الذكور. قلنا: صحيح إذا قصد الجميع, ويكون مجازًا. فإن قيل: الأصل الحقيقة. قلنا: يلزم الاشتراك, وقد تقدم مثله. قالوا: لو لم يدخلن, لما شاركن المُذّكرين في الأحكام. قلنا: بدليل من خارج؛ ولذلك لم يدخلن في خطاب الجهاد, والجمعة, وغيرهما. قالوا: لو أوصى لرجال ونساء بشيء, ثم قال: «أوصيت لهم بكذا» دخل النساء بغير قرينة, وهو معنى الحقيقة. قلنا: بقرينة الإيصاء الأول). أقول: لا خلاف أن الجمع المختص بأحد الصنفين لا يدخل فيه الآخر كالرجال والنساء, ولا خلاف في دخول الكل فيما لا علامة للمذكر ولا للمؤنث فيه كالناس, والخلاف فيما فيه علامة تذكير كالمؤمنين, هذا المذكور في الإحكام. ولا معنى عندي لقول المصنف: (ونحو فعلوا)؛ لأن الضمير إن عاد على نحو المؤمنين, فدخولهن فيه بدخولهن في المؤمنين, وإن عاد على مثل

الرجال فلا يدخلن اتفاقًا, وإن عاد على مثل الناس دخلن اتفاقًا, إلا أن يرد مثل: المؤمنين والمؤمنات فعلوا. ومذهب القاضي: أنهن لا يدخلن, واختاره الغزالي, وأكثر الأصوليين. وقال القاضي عبد الوهاب: إنهن يدخلن, وبه قال الحنابلة, والخلاف في ظهور التناول / لا في صحة التناول؛ لقوله تعالى: {لتكون من المؤمنين} , وقوله تعالى: {وكانت من القانتين}. احتج على مختاره بوجوه ثلاثة: الأول: قال تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} ولو كن داخلات لما حسن عطفه عليه؛ لعدم فائدته. فإن قيل: فائدته كونه نصًا في النساء فلا يقبل التخصيص. قلنا: فيكون تأكيدًا, وفائدة التأسيس أولى من فائدة التأكيد الذي هو على خلاف الأصل. قلت: مع أنه لا يتوجه؛ لأنهن وغيرهن سواء, ولم ينص على الرجال

حتى يطلبن أن ينص عليهن, إلا أن يقال: ظاهر في الجميع واختلفت مراتب الظهور, فظهوره في الرجال أشد, كالعام الوارد على سبب خاص ظهوره في السبب أشد, مع أنه لفظ يستعمل للرجال وحدهم, فطلبن لفظًا يستعمل للنساء فقط, لكن يبعد قولهن: «ما نرى الله ذكر إلا الرجال». الثاني: ما رواه النسائي عن أم سلمة أنها قالت: قلت يا رسول الله! ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ , فأنزل الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} , ولو كن داخلات لما صح سؤالها, ولا تقريره عليه السلام. الثالث: إجماع أهل العربية أن هذه الصيغ جمع مذكر وهو تضعيف المفرد, والمفرد مذكر, وإجماع أهل العربية حجة في مباحث الألفاظ. احتج الآخرون بوجوه ثلاثة: قالوا أولًا: المعروف من العرب تغليب المذكر على المؤنث عند الاجتماع, قال تعالى: {وادخلوا الباب سجدًا} , والمراد رجالهم ونساؤهم, وقال: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو} , والمراد آدم وحواء وإبليس, وهذا إنما يتصور بدخول النساء فيه, وقد غلبوا المتكلم على الحاضر والحاضر على الغائب في الضمائر, والعقلاء على غيرهم.

الجواب: أنه إنما دلّ على أن الإطلاق صحيح إذا قصد الجميع, ونحن نقول به لكن يكون مجازًا, ولا يلزم أن يكون ظاهرًا فيه, وفيه النزاع. فإن قيل: الأصل في الإطلاق الحقيقة, فلا يصار إلى المجاز إلا بدليل. قلنا: لا نزاع في أنه موضوع للرجال وحدهم, فلو كان للكل حقيقة أيضًا لزم الاشتراك, وقد تقدم أن المجاز خير منه. قيل: إنما يلزم الاشتراك لو لم يكن للقدر المشترك بين جمع محض الذكور وجمع الذكور والإناث. ردَّ: بأن ذلك لا يدفع الاشتراك؛ لأنهم اتفقوا على أنه وضع لجمع المذكر بخصوصه, فلو كان للمشترك لزم الاشتراك بين الكل والجزء. قيل: فلو كان مجازًا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد, لدخول المسمى الحقيقي فيه وهو الذكور, وهو ممتنع. ردَّ: بأنه إنما يكون حقيقة في الذكور مع الاقتصار عليهم, أما إذا كانوا مع الإناث فلا, مع أنا لا نسلم امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ. قالوا ثانيًا: لو لم يدخل النساء في هذه الصيغ, لما شاركن المُذّكرين في الأحكام الثابتة بهذه الصيغ / واللازم باطل, أما الملازمة؛ فلأن أكثر أحكام الصلاة والزكاة والصوم بهذه, كـ {أقيموا الصلاة} , {آتوا الزكاة} , و {كتب عليكم الصيام}.

مسألة: من الشرطية تشمل المؤنث عند الأكثر

الجواب: منع الملازمة, فإن اللازم أن لا يشاركن في الأحكام بهذه الصيغ, ومع المانع أن يشاركن بدليل من خارج؟ , ولا يقال: الأصل عدمه؛ لأن الذي يدل على أنه بدليل خارجي لا من خطاب التذكير, عدم دخولهن في كثير من أحكام خطاب التذكير, كقوله تعالى: {جاهدوا} وقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا} , ولو كن داخلات لكان خروجهن على خلاف الدليل, ولا ينفع المستدل كون خروجهن بدليل خارجي وهو الإجماع؛ لأنه جواب عن السند وهو غير مسموع, أو غير مضر. قالوا ثالثًا: لو أوصى لرجال ونساء بمائة دينار, ثم قال: «أوصيت لهم بثوب» دخل النساء بغير قرينة, وهو معنى الحقيقة, فيكون ظاهرًا فيهما, وهو المطلوب. الجواب: منع المبادرة بغير قرينة, بل إن سلمت المبادرة فالوصية الأولى قرينة دالة على إرادة الرجال والنساء. قال: (مسألة: «من» الشرطية تشمل المؤنث عند الأكثر. لنا: أنه لو قال: «من دخل داري فهو حر» , عتقن بالدخول). أقول: ما لا يفرق فيه بين المذكر والمؤنث بعلامة مثل: «من» , و «ما» و «التي» للشرط, وإن كان العائد إليها مذكرًا, يعمّ المذكر والمؤنث عند

مسألة: الخطاب بالناس والمؤمنين يشمل العبيد

الأكثرين, وقال قوم: يختص بالمذكرين. لنا: لو قال: «من دخل داري فهو حر» , وله إيماء, فدخلها النساء, عتقن, ولولا ظهور فيه لما اتفق عليه عادة. قلت: وفيه نظر؛ إذ للخصم أن يمنع الحكم, أو يقول: ثبت ذلك شرعًا بقرينة, والخلاف إنما هو لغة. قال: (مسألة: الخطاب بالناس والمؤمنين يشمل العبيد عند الأكثر. وقال الرازي: إن كان لحق الله تعالى. لنا: أن العبيد من الناس والمؤمنين قطعًا, فوجب دخوله. قالوا: ثبت صرف منافعه إلى سيده, فلو خوطب بصرفها إلى غيره لتناقض. ردّ: بأنه في غير تضايق العبادات, فلا تناقض. قالوا: ثبت خروجه عن خطاب الجهاد, والجمعة, وغيرهما. قلنا: بدليل, كخروج المريض والمسافر). أقول: الخطاب بصيغة تتناول العبيد لغة, مثل: {يأيها الناس} ,

{يا أيها الذين آمنوا} هل يتناول العبيد شرعًا حتى يعمهم الحكم, أو يختص بالأحرار؟ . أكثر المالكية, والشافعية, والحنفية على أنه يعمهم. وذهب بعض المالكية إلى أنه يختص بالأحرار. وذهب الرازي من الحنفية إلى أنه يدخل في العمومات المثبتة لحقوق الله, ولا يدخل في المثبت لحقوق الآدميين. احتج المصنف للأكثر: بأن العبيد من الناس والمؤمنين قطعًا لغة, والأصل عدم النقل, وكونه عبدًا لا يصلح مانعًا. احتج الآخرون بوجهين: الأول: ثبت إجماعًا صرف منافعه إلى سيده, فلو / كلف بالخطاب لكان صرفًا لمنافعه إلى غير سيده, وذلك تناقض, فيتبع الإجماع ويترك الظاهر. الجواب: لا نسلم أنه ثبت صرف منافعه إلى سيده في جميع الأوقات, حتى في وقت تضايق العبادات, بل قد استثنى منه [وقت تضايق العبادات, حتى لو أمره السيد في آخر] وقت الظهر بحيث لو أطاعه فاتته الصلاة,

مسألة: {يا أيها الناس}، {يا عبادي} يشمل الرسول

وجبت عليه الصلاة, ولا تكون منافعه في ذلك الوقت للسيد, فلا تناقض إذا صرف المنافع في غير وقت تضايق العبادات. وأنت تعلم أن هذا الدليل إذا كان من جانب الرازي, لا يصلح ما ذكر جوابًا عنه. قالوا ثانيًا: خرج العبد من خطاب الجمعة, والحج, والجهاد, ولزوم التبرعات, والإقرارات, ولو كان الخطاب متناولًا له لزم التخصيص, والأصل عدمه. الجواب: أن خروجه لدليل اقتضى خروجه, وذلك كخروج المريض والمسافر عن العمومات الدالة على وجوب الصوم, والصلاة, والجهاد, وذلك لا يدل على عدم تناول العمومات لهم, غايته أنه خلاف الأصل ارتكب لدليل, هو جائز. قال: (مسألة: مثل {يأيها الناس} , {يا عبادي} يشتمل الرسول عند الأكثر. وقال الحليمي: إلى أن يكون معه «قل». لنا: ما تقدم, وأيضًا: فهموه لأنه كان إذا لم يفعل سألوه, فيذكر موجب التخصيص. قالوا: لا يكون آمرًا مأمورًا أو مبلِغًا مبلَغًا بخطاب واحد, ولأن الأمر للأعلى ممن دونه. قلنا: الآمر هو الله تعالى, والمبلغ هو جبريل - عليه السلام -. قالوا: خص بأحكام, كوجوب ركعتي الفجر, والضحى,

والأضحى, وتحريم الزكاة, وإباحة النكاح بغير ولي ولا شهود ولا مهر, وغيرها. قلنا: كالمريض, والمسافر, وغيرهما, ولم يخرجوا بذلك عن العمومات). أقول: ما ورد على لسان النبي عليه السلام من العمومات المتناولة له لغة, مثل: {يأيها الناس} , {يأيها الذين آمنوا} , {يا عبادي} يتناوله عليه السلام عند الأكثر. وقال قوم: علو منصبه, وكونها واردة على لسانه, يمنع دخوله فيها. وقال الحليمي, والصيرفي: إن كان النبي عليه السلم في أول الخطاب مأمورًا بالقول لم يشمله, وإلا شمله.

احتج الأكثر بوجهين: الأول: ما تقدم في التي قبلها, يعني أنه عليه السلام من الناس والمؤمنين وعباد الله تعالى قطعًا لغة, والنبوة لا تخرجه عن إطلاق هذه الأسماء عليه, فتكون العمومات متناولة له. الثاني: أن الصحابة فهموا دخوله عليه السلام في هذه العمومات؛ ولذلك كانوا يسألونه إذا لم يفعل مقتضاها عن الموجب, فيذكر عليه السلام موجب التخصيص, وذلك تقرير منه لدخوله فيها. لا يقال: لا ينهضان على الحليمي, أما الأول: فلقرينة «قل». وأما الثاني: فلا نسلم أنهم سألوه فيما كان «بقل»؛ لأنا نقول: قد سلم فيما فيه «قل» , والآيات كلها مقدر فيها «قل» , فيجري ذلك مجرى الملفوظ, يدل على ذلك: {يأيها الرسول بلغ}. قال الإمام في البرهان: الخطاب المصدَّر بالأمر / بالتبليغ يجري على حكم العموم, فإن قوله تعالى: {قل يأيها الناس} على اقتضاء العموم في وضعه, والقائل هو الله تعالى, وحكم قول الله تعالى لا يغيره أمر يختص بالرسول في تبليغه, وكان التحقيق فيه: «بلغني من أمر ربي كذا فاسمعوه واتبعوه». احتج الآخرون بوجهين:

الأول: أنه عليه السلام آمر الأمة بهذه الأوامر, ومبلغ إياها إليه, فإذا كان آمرًا لا يكون مأمورًا؛ لأن الواحد بالخطاب الواحد لا يكون آمرًا مأمورًا, وإن كان مبلَّغاَّ فلا يكون مبلَّغًا إليه لمثل ذلك. فإن قيل: يكون آمرًا مأمورًا من جهتين. قلنا: الآمر أعلى رتبة من المأمور, فلابد من المغايرة, أو يجعل دليلًا بنفسه, أي الآمر أعلى والواحد لا يكون أعلى من نفسه, وإذا كان كذلك لم يدخل النبي عليه السلام في تلك الأوامر. وفي لفظة «الأمر للأعلى لمن دونه» مسامحة. الجواب: لا نسلم أنه آمرًا, بل الله تعالى هو الآمر, ولا نسلم أنه مبلغ إلى نفسه, بل المبلغ إليه جبريل, وهو مبلغ إلينا. قالوا ثانيًا: الرسول عليه السلام خص بأحكام من وجوب أشياء, كركعتي الفجر, وصلاة الضحى, ووجوب الأضحية, وتحريم الزكاة, وإباحة النكاح من غير ولي ولا شهود ولا مهر, وغير ذلك من الأحكام المختصة به, فدلّ على عدم مشاركته للأمة في عموم الخطاب, وعلو منزلته وانفراده بالتكاليف. واعلم أنه لم يثبت وجوب ركعتي الفجر عليه, وأما وجوب الأضحية ففي مستدرك الحاكم, وقد تقدم ما فيه.

مسألة: {يا أيها الناس} ليس خطابا لمن بعده

وأما تحريم الزكاة, ففي الصحيحين: «لا تحل الصدقة لآل محمد». وأما إباحة النكاح من غير ولي ولا مهر ولا شهود, فلقوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي}. الجواب: إن إفراده بذلك بدليل لا يوجب عدم المشاركة مطلقًا, فإن عدم الحكم قد يكون للمانع, كما يكون لعدم المقتضي, وذلك كما أخرج المريض والمسافر من بعض العمومات, ولا يوجب ذلك خروجهم عن العمومات مطلقًا. قال: (مسألة: {يأيها الناس} ليس خطابًا لمن بعدهم, وإنما ثبت الحكم بدليل آخر من إجماع, أو نص, أو قياس, خلافًا للحنابلة. لنا: القطع بأنه لا يقال للمعدومين: {يأيها الناس}. وأيضًا: إذا امتنع في الصبي والمجنون, فالمعدوم أجدر. قالوا: لو لم يكن مخاطبًا له, لم يكن مرسلًا إليه, والثانية اتفاقًا. وأجيب: بأنه لا يتعين الخطاب الشفاهي, بل لبعضٍ شفاهًا, ولبعضٍ بنصب الأدلة؛ لأن حكمهم كحكم من شافههم. قالوا: الاحتجاج بدليل التعميم. قلنا: لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر, جمعًا بين الأدلة).

أقول: الخطاب الوارد في زمان النبي عليه السلام شفاهًا, نحو: {يأيها الناس} , {يأيها الذين آمنوا} ليس خطابًا لمن بعدهم, وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر من نص أو إجماع أو قياس, وأما مجرد الصيغة فلا. وقال الحنابلة, وبعض الحنفية: يعمّ مَنْ بعدهم. ولا خلاف أنهم غير مخاطبين حالة العدم, وإنما النزاع بعد وجودهم وبلوغهم حدّ التكليف, هل يكونون مكلفين بذلك, أو بدليل منفصل؟ . احتج الجمهور بوجهين: الأول: أنا نعلم قطعًا أنه لا يقال للمعدومين: {يأيها الناس} , وإنكاره مكابرة. وأيضًا: إذا امتنع خطاب الصبي والمجنون لقصورهم عن الخطاب مع وجودهم, فالمعدوم أجدر لأن تناوله أبعد. وفيهما نظر؛ لأنه إن عنى في الأول أنه لا يتناولهم وحدهم فمسلم وليس محل النزاع, وإن أراد أنه لا يتناولهم وإن كان هناك من يواجه بالخطاب فهو مصادرة. وفي الثاني: أنهم قالوا: يكون مخاطبًا بعد وجوده وبلوغه حدّ التكليف, وإنما يلزم ما ذكر لو قال: إنه مخاطب حال العدم بذلك, فظهر الفرق؛ لأن الخطاب صادف عاقلًا, ومن حصلت له تلك المرتبة بعدُ يكون مخاطبًا بذلك

ولا كذلك في الصبي والمجنون إن لم يصادق الخطاب من هو أهل للخطاب. احتج الحنابلة بوجهين: الأول: لو لم يكن الرسول عليه السلام مخاطبًا لمن يوجد بعده, لم يكن مرسلًا إليه, أما بطلان اللازم فبالإجماع, وأما الملازمة؛ فلأنه لا معنى لإرساله إليه إلا أن يقول الله تعالى للنبي: بلغه أحكامي, ولا تبليغ إلا بهذه العمومات التي هي خطاب المشافهة؛ إذ التبليغ لا تجب فيه المشافهة. نعم الواجب التبليغ في الجملة, وذلك يحصل بأن يحصل للبعض مشافهة وللبعض بنصب الأدلة على أن حكمهم حكم الذين شافههم عليه السلام. لا يقال: غير الخطاب من الأدلة التي ذكرتم أن حكمهم حكم المشافهين إنما يعلم كونها حجة بالدلائل الخطابية, وإذا كان الخطاب الموجود في زمانه عليه السلام لا يتناولهم, تعذر الاحتجاج عليهم. لأنا نقول: يعلم ذلك بإجماع الصحابة, أو بالنقل عن النبي عليه السلام أنه حكم بكون ذلك حجة على من بعدهم. قالوا ثانيًا: لم يزل العلماء يحتجون على أهل الأعصار ممن بعد الصحابة بمثل هذه العمومات الشفاهية, فكان إجماعًا على تناولها لهم, وإلا لما احتجوا بها عليهم. الجواب: لا نسلم أن الاحتجاج بلفظ الخطاب, بل بمعقول الخطاب؛ لأن المحتجين علموا أن حكم ذلك الخطاب ثابت على من بعدهم بدليل آخر من إجماع, أو قياس. فإن قيل: سياق ما نقل يدل على أن الاحتجاج كان للفظ دون المعقول.

مسألة: المخاطب داخل في عموم متعلق خطابه

قلنا: قد بينا امتناع مخاطبة المعدوم, وحينئذ يجب أن يعتقد أن احتجاج أهل الإجماع بالخطاب من جهة معقوله لا من جهة لفظه, جمعًا بين الأدلة الدالة على امتناع مخاطبة المعدوم والاحتجاج الذي ذكرتم. قال: (مسألة: المخاطب دخل في عموم متعلق خطابه عند الأكثر أمرًا ونهيًا, أو خبرًا, مثل: {والله بكل شيء عليم} , من أحسن إليك فأكرمه, أو فلا تهنه. قالوا: يلزم {الله خالق كل شيء}. قلنا: خص بالعقل). أقول: من خاطب المكلفين بخطاب يتناوله عموم متعلقه لغة, هل يدخل في ذلك الخطاب لتناوله له صيغة أم لا, لقرينة كونه مخطابًا؟ . الأكثر على دخوله, سواء كان الخطاب خبرًا مثل: {والله بكل شيء عليم} , فيكون عالمًا بذاته لأنه شيء؛ لقوله تعالى: {كل شيء هنالك إلا وجهه} , وكذا إذا كان أمرًا, كما لو قال السيد لعبده: «من أحسن إليك فأكرمه» , فإذا أحسن السيد إلى عبده, كان إكرامه واجبًا على العبد بمقتضى عموم خطاب السيد. وكذلك لو كان نهيًا مثل: «من أحسن إليك فلا تهنه» , فإذا أحسن السيد إليه, حرم على العبد إهانته بمقتضى الخطاب, وهو واضح لأنه يتناوله

مسألة: مثل: {خذ من أموالهم صدقة}

لغة, ووجب تناوله حال التركيب. احتج الآخرون: بقوله تعالى: {الله خالق كل شيء} , فلو دخل لكان خالقًا لنفسه. أجاب المصنف: بأنه ظاهر فيه, لكن بدليل خص بدليل العقل. قال البيضاوي في تفسيره: الشيء يختص بالموجود, لأنه في الأصل مصدر شاء, أطلق بمعنى شاء تارة فيتناول الباري, وبمعنى مشيئ أخرى أي مشيئ وجوده, وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة. وعليه: {إن الله على كل شيء قدير} , {الله خالق كل شيء} فهما على عمومهما بلا مثنوية, والمعتزلة لما قالوا: الشيء ما يصح أن يوجد وهو يعم الواجب والممكن, أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضًا, لزمهم التخصيص بالممكن في الموضعين بدليل العقل. قال: (مسألة: مثل قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} , ولا يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من المال, خلافًا للأكثر.

لنا: أنه بصدقة واحدة يصدق أنه أخذ منها صدقة, فيلزم الامتثال. وأيضًا: فإن كان دينار مال, ولا يجب ذلك بالإجماع. قالوا: المعنى من كل مال, فيجب العموم. قلنا: كل للتفصيل, ولذلك فرق بين «للرجال عندي درهم» , وبين «لكل رجل عندي درهم» باتفاق). أقول: اختلفوا في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} , هل يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع مال كل مالك, أو أخذ صدقة من نوع واحد من مال كل مالك؟ . الأكثر على الأول, وذهب الكرخي إلى الثاني, واختاره المصنف. واحتج عليه: بأنه يصدق بأخذ الرسول صدقة واحدة من نوع من مال كل واحد, أنه أخذ صدقة من مجموع مال كل واحد, وإذا صدق ذلك فقد امتثل. فقول المصنف: (بصدقة واحدة) أي من أموال كل واحد واحد؛ لأن دلالة العموم كلية. ثم احتج بالإجماع, قال في الإحكام: الإجماع على أن كل درهم ودينار من دراهم المالك ودنانيره موصوف بأنه ماله, ومع ذلك لا يجب أخذ الصدقة من خصوص كل دينار وكل درهم له.

مسألة: العام بمعنى المدح والذم

لا يقال: المتنازع فيه النوع, وما ذكرتم راجع إلى القدر. لأنا نقول: إذا لم يجب, لم يجب من كل نوع؛ إذ لا مقتضى له إلا فهم العموم من الخطاب, إلا أن يقال: خولف مقتضى الدليل فيما ذكرتم للإجماع, والإجماع هو إجماع الخصمين, وليس كما فهم بعضهم أن ذلك في الزكاة؛ إذ الآية في المخلفين احتج الأكثرون: بأنه جمع مضاف فيعم, فيكون المعنى: خذ من كل مال كل واحد. الجواب: لا نسلم أن معناه من كل مال كل واحد, إذ كل وضع لاستغراق كل واحد واحد, وهو أمر زائد على العموم, والجمع إنما يدل على المجموع؛ ولذلك فرقوا بين «للرجال عندي درهم» , وبين «لكل رجل عندي درهم» , حتى نلزمه في الأول درهمًا واحدًا لجميعهم, وفي الثاني نلزمه درهمًا لكل واحد واحد, ولو سلمنا أن معناه من كل, فهو من كل أموال كل واحد, لا من كل مال كل واحد؛ لأن «كل» إنما دخلت على الجمع, فالعموم في جماعات الأموال, لا في أفراد الأموال, والظاهر ما ذهب إليه. قال الآمدي: «ومأخذ الكرخي دقيق». قال: (مسألة: العام بمعنى المدح والذم, مثل: {إن الأبرار لفي نعيم} الآية, {والذين يكنزون} عام. وقال الشافعي بخلافه.

لنا: أن اللفظ عام ولا منافي, فعمّ كغيره. قالوا: سيق لقصد المبالغة في الحث أو الزجر, فلا يلزم التعميم. قلنا: العموم أبلغ. وأيضًا: لا تنافي بينهما). أقول: اللفظ العام إذا قصد به المخاطب المدح أو الذم, مثل: {إن الأبرار لفي نعيم} , {وإن الفجار لفي جحيم} , {والذين يكنزون الذهب والفضة} , قال الشافعي: لا يصح التمسك به في وجوب زكاة الحلي؛ لأن العموم لم يقع مقصودًا, وإنما سيق لقصد الذم. واختار المصنف: أنه على عمومه, وهو مذهب الأكثرين. واحتج: بأنه عام بصيغته وضعًا, ولا منافاة بين المدح والذم وبين العموم فيجب التعميم بالمقتضى السالم عن المعارض. قال الآخرون: سيق لقصد المدح والذم, وقد عهد فيهما التجوز والتوسع, وأن يذكر العام وإن لم يرد العموم مبالغة وإغراقًا. الجواب: أن التعميم أبلغ في الحث والزجر, فالحمل عليه أولى.

التخصيص

وأيضًا: لا منافاة بين قصد المبالغة والعموم, فالجمع بين المقصودين أولى من تعطيل أحدهما. فإن قيل: قصد المبالغة إنما يحصل إذا لم يكن عموم وذكر بلفظ العموم, كما لو قال: «ضرب كل واحد منهم» قلنا: قصد المبالغة في الحث أو الزجر هو الذي لا ينافي العموم, لا قصد المبالغة مطلقًا. قال: (التخصيص: قصر العام على بعض مسمياته. أبو الحسين: إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه. وأراد متناوله بتقدير عدم المخصص, كقولهم: خصّ العام. وقيل: تعريف أن العموم للخصوص, وأورد الدور. أجيب: بأن المراد في الحدّ التخصيص اللغوي, ويطلق التخصيص على قصر اللفظ وإن لم يكن عامًا, كما يطلق عليه عام لتعدده, كعشرة والمسلمين لمعهودين, وضمائر الجمع, ولا يستقيم تخصيص إلا فيما يستقيم توكيده بكل). أقول: لما فرغ من بحث العام والعموم, شرع في التخصيص والمخصص. وعرّف المصنف التخصيص بأنه: قصر العام على بعض مسمياته, وهو

متناول ما أريد به جميع المسميات أولا, ثم أخرج بعض في الاستثناء, وما لم يرد إلا بعض المسميات ابتداء, كما في غيره. والمراد من المسميات متناولات العام, إذ مسمى العام شيء واحد. ولو قال: قصر العام على بعض مسماه لكان أحسن, وقد يكون المراد على بعض مسميات دلّ عليها العام. وعرّفه أبو الحسين البصري بأنه: إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه. وأورد عليه: أن ما أخرج بالخطاب غير متناول له. فأجاب: بأن المراد ما يتناوله الخطاب بتقدير عدم المخصص, كقولهم: خصص العام, وهذا عام مخصوص, ولا شك أن المخصص ليس بعام, لكن المراد أنه عام لولا تخصيصه, وكأن المصنف إنما عدل عن هذا الحدّ لما فيه من المجاز والدور. والحق: أن الخطاب في نفسه متناول لذلك البعض, وباعتبار المخصص غير متناول له, فالعام على تقدير وجود المخصص شامل لجميع الأفراد في نفسه, والمخصص أخرج بعضها عنه, فلا حاجة إلى هذا التقدير. والظاهر أن المصنف إنما ذكر هذا التقدير جوابًا عما اعترض به الآمدي على الحدّ, لا أنه ذكر لأبطاله. وعرّف أيضًا التخصيص بأنه: تعريف أن العموم للخصوص, أي

تعريف أن اللفظ الموضوع لجميع الأفراد أريد بعضها. وأورد: أنه تعريف التخصيص بالخصوص, وهو دور. والجواب: أن المراد بالتخصيص المحدود هو الاصطلاحي, وبالخصوص هو اللغوي, واللغوي أعرف, فلا دور, ولا يندفع عن تعريف أبي الحسين لأنهما اصطلاحيان. قلت: والظاهر أن المصنف إنما عدل عن هذا الحدّ لعدم اضطراده, إذ يلزم أن يكون قولنا: هذا العموم مخصوص تخصيصًا, وليس كذلك, إذ ليس من مقولة أن يفعل. واعلم أنه يطلق التخصيص أيضًا على قصر اللفظ على بعض متناولاته وإن لم يكن عامًا, كما يطلق اللفظ أنه عام بحسب / تعدد أفراده وإن لم يكن عامًا, كعشرة يقال: إنه عام باعتبار آحاده, فإذا قصر على خمسة بالاستثناء قيل: خصَّ, وكذا المسلمين للمعهودين نحو: «أكرمت المسلمين إلا زيدًا» فإنهم يسمون المسلمين هنا عامًا, والاستثناء منه تخصيصًا له. وذكر المصنف في أمثلة العام غير المصطلح ضمائر الجمع, بناء على أن صيغ العموم ما دلّ بنفسه, وليس كذلك, إذ الموصول عام ويحتاج إلى قرينة الصلة, فضمير الغائب تابع لمضمره. ثم قال: «ولا يستقيم تخصيص» يعنى بشيء من التفاسير المذكورة, إلا فيما يستقيم توكيده بكل, وهو ما كان ذا أجزاء يصح افتراقها حسًا,

مسألة: التخصيص جائز إلا عند شذوذ

كقولنا: «الناس كلهم» , أو حكمًا, كقولنا: «اشتريت الجارية كلها» , وذلك ليكون له بعض يمكن قصره عليه. واعلم أن النكرة في سياق النفي يدخلها التخصيص ولا تؤكد بكل, وكذا النكرة عددًا كانت أو غير عدد, وكثير من ألفاظ العموم لا تؤكد بكل. وعبارة الآمدي أحسن, حيث قال: «ما لا يتصور فيه معنى الشمول, لا يتصور تخصيصه». قال: (مسألة: التخصيص جائز إلا عند شذوذ. الأكثر: على أنه لابد في التخصيص من بقاء جمع يقرب من مدلوله. وقيل: يكفي ثلاثة, وقيل: اثنان, وقيل: واحد. والمختار: أنه ما بالاستثناء والبدل يجوز إلى واحد, وبالمتصل كالصفة يجوز إلى اثنين, وبالمنفصل في المحصور القليل يجوز إلى اثنين, مثل: «قتلت كل زنديق» , وقد قتل اثنين, وهم ثلاثة. وبالمنفصل في غير المحصور أو العدد الكثير, المذهب الأول. لنا: أنه لو قال: «قتلت كل من في المدينة» , وقد قتل ثلاثة, عُدّ لاغيًا وخُطَّئ, وكذلك: «أكلت كل رمانة» , وكذلك لو قال: «كل من دخل, أو أكل» , وفسّره باثنين أو ثلاثة. القائل باثنين أو ثلاثة: ما قيل في الجمع. وردّ: بأن الجمع ليس بعام.

القائل بالواحد: أكرم الناس إلا الجهال. وأجيب: بأنه مخصوص بالاستثناء ونحوه. قالوا: {وإنا له لحافظون} , وليس محل النزاع. قالوا: لو امتنع لكان لتخصيصه, وذلك يمنع الجميع. أجيب: بأن الممتنع تخصيص خاص بما تقدم. قالوا: قال الله تعالى: {الذين قال لهم الناس} , وأريد نعيم بن مسعود, ولم يعد مستهجنًا للقرينة. قلنا: الناس للمعهود, فلا عموم. قالوا: صلح «أكلت الخبز» , «شربت الماء» لأقل. قلنا: ذلك للبعض المطابق للمعهود الذهني, ومثله في المعهود الوجودي, فليس من العموم والخصوص في شيء). أقول: اختلف القائلون بالعموم وتخصيصه في الغاية التي ينتهي التخصيص / إليها, فذهب أبو الحسين البصري, إمام الحرمين, وجماعة إلى أنه لابد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام. وذهب القفال إلى أنه لابد من بقاء ثلاثة في المجموع, كالرجال, والمسلمين, ويجوز الانتهاء إلى الواحد في «مَنْ». وحكى الإمام فخر الدين الاتفاق في ألفاظ الاستفهام والشرط, أنه يجوز

إلى الواحد. وحكى القاضي عبد الوهاب أنه: يجوز عندنا إلى الواحد مطلقًا. وأما القول بأنه يجوز إلى اثنين, فهو مبني على أن أقل الجمع اثنان. واختيار المصنف التفصيل, فإن كان باستثناء أو بدل جاز إلى الواحد, نحو: «عشرة إلا تسعة» , و «اشتريت العشرة واحدًا منها». وإن كان بمتصل غيرهما كالشرط والصفة, يجوز إلى اثنين, نحو: «أكرم الناس العلماء, أو إن كانوا علماء» , ولا يظهر فرق بين الاستثناء والبدل, وبين الصفة والشرط. وإن كان التخصيص بمنفصل, فإن كان في محصور قليل جاز إلى اثنين مثل: «قتلت كل زنديق» وهم ثلاثة, وإن كان في غير محصور, أو عدد كثير, فالمذهب الأول هو أنه لابد من جمع يقرب من مدلوله. ولو قال: وبالمنفصل المذهب الأول من غير تفصيل لكان أولى؛ لأن ما بفي في المثال الثالث يقرب من مدلول العام. ثم احتج للقسم الرابع لوضوح ما عداه عنده: بأنه لو قال: «قتلت كل من في المدينة» ولم يقتل إلا ثلاثة, عُدَ لاغيًا, وكذلك لو قال: «أكلت كل رمانة في البستان» ولم يكن أكل إلا ثلاثة, عُدّ لاغيًا. وكذلك لو قال: «كل من دخل داري فهو حر» , أو «كل من أكل فأكرمه» وفسّر بثلاثة وقال: أردت زيدًا وعمرًا وبكرًا, عُدّ لاغيًا.

احتج القائل بجواز التخصيص إلى اثنين أو ثلاثة: بما قيل في أن أقل الجمع اثنان, أو ثلاثة. الجواب: أن الكلام في أقل مرتبة يخصص إليها العام, لا في أقل مرتبة يطلق عليها الجمع؛ إذ الجمع ليس بعام, ولم يدل دليل على تلازم حكمهما فلا تعلق لأحدهما بالآخر, والدال على أحدهما لا يدل على الآخر. احتج القائلون بجواز التخصيص مطلقًا إلى واحد بوجوه خمسة: الأول: يجوز أن يقال: «أكرم الناس إلا الجهال» وإن كان العالم واحدًا. الجواب: أن منع التخصيص إلى الواحد مخصوص بالاستثناء وبدل البعض, وقد استثنيناهما, فلا يصح الإلزام بهما. قالوا ثانيًا: {وإنا له لحافظون} , والمراد هو تعالى. الجواب: ليس محل النزاع, فإنه للتعظيم, وليس من العموم والخصوص في شيء؛ لجري العادة أن العظماء يتكلمون عنهم وعن أتباعهم فيغلبون المتكلم, فصار ذلك استعارة عن العظمة, ولم يبق معنى العموم ملحوظًا أصلًا, ولا مخصص أيضًا. قالوا ثالثًا: لو امتنع لكان المانع تخصيص العام وإخراجه عن موضعه إلى غيره, وذلك يمنع كل تخصيص. الجواب: منع كون المانع مطلق التخصيص, بل المانع تخصيص خاص

وهو ما بعد فيه لاغيًا. قالوا رابعًا: قال تعالى: {الذين قال لهم الناس} وأراد نعيم بن مسعود, ولم يعد مستهجنًا لوجود القرينة, فوجب جواز التخصيص إلى الواحد مهما وجدت القرينة. الجواب: أنه غير محل النزاع, إذ لا مخصص هنا, والبحث في تخصيص العام, والناس ليس بعام بل لمعهود, والمعهود ليس بعام لما عرفت في حدّ العام, حيث قال: (مطلقًا) يخرج المعهود. قال الزمخشري: أطلق عليه الناس لأنه من الناس, كما يقال: «فلان يلبس البرود ويركب الخيل» وإن لم يكن عنده إلا فرس واحد. قالوا خامسًا: علم بالضرورة من اللغة صحة قولنا: «أكلت الخبز» , و «اشربت الماء» لأقل القليل مما يتناوله الخبز والماء. الجواب: ليس محل النزاع, فإن كل واحد من الخبز والماء ليس بعام, بل هو للبعض الخارجي المطبق للمعهود الذهني, وهو الخبز والماء المقدر في الذهن أنه يؤكل ويشرب, وهو مقدارٌ ما معلوم, فليس إلا معهودًا يتناول عدة من المعينات قيد ببعض منها, وكما لا عموم للمعهود الوجودي, فكذا

مسألة: المخصص متصل ومنفصل

الذهني وإن كان الشخصي يمنع الشركة - والذهني لا يمنعها - كان للبعض المطابق للذهني لاستحالة وجود الماهية في الخارج بدون فرد من أفرادها المطابق لها بعد حذف المشخصات, فحمل على ذلك البعض لضرورة الوجود, فلا استغراق لواحد منها. قال: (مسألة: المخصص: متصل, ومنفصل. فالمتصل: الاستثناء المتصل, والشرط, والصفة, والغاية, وبدل البعض. والاستثناء في المنقطع, قيل: حقيقة. وقيل: مجاز. وعلى الحقيقة, قيل: متواطئ. وقيل: مشترك. ولابد لصحته من مخالفة في نفي الحكم, أو في أن المستثنى حكم آخر له يخالفه بوجه, مثل: ما زاد إلا نقص. ولأن المتصل أظهر, لم يحمله فقهاء الأمصار على المنقطع إلا عند تعذره, ومن ثم قالوا في له عندي مائة درهم إلا ثوبًا وشبهه: إلا قيمة ثوب). أقول: المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم, ويطلق على اللفظ الدال على تلك الإرادة مجازًا. والمخصص: متصل, ومنفصل؛ لأنه إما أن لا يستقل بنفسه وهو المتصل, أو يستقل وهو المنفصل.

ثم المتصل خمسة أنواع, والاستثناء المنقطع ليس بمخصص؛ إذ لا إخراج فيه, وإنما تكلم عليه استطرادًا, ثم هذه الخمسة منها ما يخرج المذكور به كالاستثناء والغاية, ومنها ما يخرج غير المذكور به كالشرط والصفة والبدل. ولما كان بدل البعض كالاستثناء عند المصنف, فحكمه كحكمه, ولذلك لم يفرد له فصلًا. واعلم أن المستثنى إن كان بعض المستثنى منع, فالاستثناء متصل, وإلا فمنقطع. واختلفوا في استعمال الاستثناء في المنقطع, فقيل: حقيقة فيه, وقيل: مجاز, ثم اختلف القائلون بكونه حقيقة فيه. فقال قوم منهم: إنه مقول عليهما باعتبار أمر مشترك بينهما وهو المخالفة فهو متواطئ, وقيل: بل هو مشترك بينهما بالاشتراك اللفظي. ثم قال: ولابد لصحة الاستثناء المنقطع من مخالفة بوجه من الوجوه, إما بأن ينفى من المستثنى الحكم الذي يثبت للمستثنى منه, مثل: «جاء القوم إلا حمارًا» , فقد نفينا المجيء عن الحمار بعدما أثبتناه للقوم. وإما بأن يكون المستثنى نفسه حكمًا آخر مخالفًا للمستثنى منه بوجه, مثل: «ما زاد إلا نقص» , فإن النقص حكم مخالف للزيادة, وكذا: «ما نفع إلا ما ضر».

مسألة: وأما حده: فعلى التواطؤ ما دل على مخالفة بإلا

ولا يقال: «ما جاءني زيد إلا أن العالم حادث» , إذ لا مخالفة بينهما بأحد الوجهين؛ لأنه مقدر بـ «لكن» , فكما تجب فيه المخالفة تحقيقًا, مثل: «ما ضربني زيد لكن ضربني عمرو» , أو تقديرًا مثل: «ما ضربني لكن أكرمني» , فكذا هنا. ثم أشار المصنف إلى أنه مجاز في المنقطع, وهو اختيار القاضي عبد الوهاب, محتجًا بأن علماء الأمصار لم يحملوا الاستثناء على المنقطع إلا عند تعذر المتصل, حتى عدلوا للحمل على المتصل عن الظاهر وخالفوه. فقالوا في قول المقرّ له عندي مائة درهم إلا ثوبًا: إلا قيمة ثوب, فارتكبوا الإضمار وهو على خلاف الأصل ليصير متصلًا, ولو كان ظاهرًا في المنقطع لم يرتكبوا خلاف الظاهر حذرًا عنه. وهذا الذي ذكر أنه قول علماء الأمصار هو أحد القولين عندنا, وذكر المازري هذا القول وقولًا آخر أنه يؤخذ بالمائة ويعد ذكر الثواب ندمًا. قال: (وأما حدّه, فعلى التواطؤ: ما دلّ على مخالفة بإلا, غير الصفة وأخواتها وعلى الاشتراك والمجاز لا يجتمعان في حدّ, فيقال في المنقطع: ما دلّ على مخالفة بإلاّ غير الصفة وأخواتها, من غير إخراج. وأما المتصل, فقال الغزالي: قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دال على أن المذكور لي يرد بالقول الأول.

وأورد على طرده: التخصيص بالشرط, والوصف بالذي, والغاية, ومثل: «قام القوم ولم يقم زيد» , ولا يرد الأولان. وعلى عكسه: «جاء القوم إلا زيد» , فإنه ليس بذي صيغ. وقيل: لفظ متصل بجملة لا يستقل بنفسه, دال على أن مدلوله غير مراد بما اتصل به, ليس بشرط, ولا صفة, ولا غاية. وأورد على طرده: «قام القوم إلا زيدًا». وعلى عكسه: «ما جاء إلا زيد» , فإنه لم يتصل بجملة. وأن مدلول كل استثناء مراد بالأول. والاحتراز من الشرط والصفة وهم, والأولى إخراج بإلا وأخواتها). أقول: اعلم أن الاستثناء إن كان متواطئًا في المتصل والمنقطع, أمكن أن يحدّ بحدّ واحد باعتبار المشترك بينهما, وهو مجرد المخالفة, الأعم من الإخراج / وعدمه, فيقال: ما دلّ على مخالفة بإلا غير الصفة وأخواتها, فما دلّ على مخالفة يتناول أنواع التخصيص. وقوله: (بإلا غير الصفة) يخرج سائر أنواعه, وإنما قيد «إلا» بغير الصفة, ليخرج نحو: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}؛ لأنهما بمعنى «غير» , فهي صفة لا استثناء. وقوله: (وأخواتها) أراد بقية حروف الاستثناء وهي معلومة,

فيخرج ما دلّ على مخالفة [لا بها] , أو إحدى أخواتها, نحو: «قام القوم ولم يقم زيد». وفيه مناقشة؛ لأن «إلا» هو الدال على المخالفة, فالأولى أن يقال: الاستثناء الإشعار بمخالفة بإلا أو إحدى أخواتها. أما إذا قلنا: إنه مشترك بينهما اشتراكًا لفظيًا, أو هو مجاز في المنقطع, فلا يجمعان في حدّ واحد من حيث المعنى لاختلاف مفهوميهما, إما بحسب اللفظ, فممكن أن يقال: هو المذكور بعد إلا, غير الصفة أو إحدى أخواتها, فيكون لفظيًا. قيل: لو زِيدَ في التعريف مخرجًا أو غير مخرج, لكن معويًا. ردّ: بأن مخرجًا أو غير مخرج لا مدخل له في التعريف, لأن حينئذ لبيان الأنواع, ولو سلّم لم يكن معنويًا؛ لأنه مركب من لفظي ومعنوي, فإذا لم يجتمعا في حدّ واحد, يزاد عن الحدّ المذكور قيد «من غير إخراج» , فيكون حدًّا للمنقطع يمتاز به عن المتصل؛ لأن المتصل فيه إخراج. وأما المتصل: فعرّفه الغزالي: بأنه قول ذو صيغ مخصوصة محصورة, دال على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول. واعترض طرده وعكسه. أما طرده: فالتخصيص بالشرط, نحو: «أكرم الناس إن دخلوا» , و

الوصف بالذي [] والتي وأخواتها, لأنها [الصيغ] المخصوصة دون الوصف بغيرها. وقيل: إنما قيد بما ذكره؛ لأن الوصف بغيره لم يذكر بعده شيء, ولا يخفى ضعفه, لأن الآخر ما ذكر بعده إلا الصلة, والمخصص الموصول لا الصلة, نحو: «الناس الذين علموا» , والغاية نحو: «أكرم الناس إلا أن يدخلوا» , ومثل: «جاء القوم ولم يجئ زيد». قال المصنف: (ولا يرد الأولان) يعني التخصيص بالشرط والوصف بالذي؛ لأنهما لا يخرجان المذكور به, بل غير المذكور. والحق: أن لا يرد الرابع؛ لأن المراد في قولنا أي الوضع, وقوله: (ولم يجئ زيد) لم يوضع إلا لنفي المجيء عن زيد, ولم يوضع للإعلام بأن زيدًا لم يرد بالأول, وإنما يلزم من ذكره بعد الإثبات لزومًا عقليًا لا وضعيًا, بخلاف: «جاء القوم إلا زيدًا» , فإنه لم يوضع إلا لذلك. ثم أورد على عكسه: «جاء القوم إلا زيدًا» , فإنه استثناء وليس ذا صيغ, بل ذو صيغة واحدة. والحق: أنه لا يرد؛ لظهور أن المراد أن جنس الاستثناء ذو صيغ, وكل استثناء ذو صيغة, والحق ورود الغاية. فإن أجيب: بأن المراد من قولنا: «ذو صيغ» أدوات الاستثناء, لزم

الدور, وأيضًا: لا يكون حدًا لاستثناء, وإنما هو حدّ لأدوات الاستثناء, وقيد «محصورة» زائد لا يحتاج إليه. وعرّفه بعض النحاة: بأنه لفظ متصل بجملة لا يستقل بنفسه, دال على أن مدلوله غير مراد بما اتصل به, واحترز «بمتصل» عن المنفصل من لفظ أو عقل, و «بلا يستقل» عن اللفظي المتصل المستقل. (وبدال ... آخره) المتصلات غير المخصصة, وبقوله (ليس بشرط ... إلى آخره) عنها. ثم أورد على طرده وعلى عكسه, أما على طرده: فـ «قام القوم إلا زيد» , يصدق عليه الحدّ وليس باستثناء. وأما العكس: فالاستثناء المفرغ, نحو: «ما جاء إلا زيد» , هو استثناء ولم يتصل بجملة, لأنه هو الفاعل, والفعل وحده مفرد. وثانيها: أنّا سنبين أن مدلول كل استثناء متصل مراد بالأول, ولا يخفى أنه إن ورد ورد على الغزالي أيضًا. وأورد أيضًا: أن قوله: (ليس بشرط ولا صفة) لا حاجة إليه؛ لأنهما لا يدلان على أن مدلولهما غير مراد, بل على أن المراد مدلولهما لا غير, وقد يقال على الأول: إن «إلا زيد» وضع لنفي لا لإعلام عدم الإرادة, كقولنا: «جاءني عمرو لا زيد». وعن الثاني: أن المراد الجملة أو ما يقدر به وما اتصل به المفرغ. قيل: يقدر معه عام يتناوله, فيكون جملة معنى, ويكون زيد بدلًا من

مسألة: وقد اختلف في تقرير الدلالة في الاستثناء

ذلك المقدر. وعن الثالث: أن المستثنى غير مراد في الجملة, حيث لم يرد الإسناد إليه. وعن الرابع: أنه لا يريد إخراج كل شرط وصفة, بل نحو: {لو كان فيهما آلهة إلا الله} , و «أكرم الناس إن لم يكونوا جهالًا». والحق: أن هذا أيضًا تعريف لأدوات الاستثناء, والضمير في مدلوله ليس على ظاهره, بل مدلول جزئه وهو زيد في قولنا: «إلا زيدًا» , لا مدلول إلا زيدًا. ثم قال المصنف: والأولى في تعريفه: إخراج بإلا, يعني غير الصفة أو إحدى أخواتها, يعني بقية الأدوات, والظاهر أنه تعريف لفظي. قال: (وقد اختلف في تقرير الدلالة في الاستثناء. فالأكثر: المراد بعشرة في قولك: «عشرة إلا ثلاثة» سبعة, و «إلا» قرينة لذلك, كالتخصيص بغيره. وقال القاضي: عشرة إلا ثلاثة بإزاء سبعة, كاسمين مركب ومفرد. وقيل: المراد بعشرة, عشرة باعتبار الأفراد, ثم أخرجت ثلاثة, والإسناد بعد الإخراج, فلم يسند إلا إلى سبعة, وهو الصحيح. لنا: أن الأول غير مستقيم, للقطع بأن من قال: «اشتريت الجارية إلا نصفها» أو نحوه, لم يرد استثناء نصفها من نصفها, ولأنه كان بتسلسل, ولأنا نقطع بأن الضمير للجارية بأكملها, ولإجماع العربية على أنه إخراج بعض من كل, ولإبطال النصوص, وللعم بأنا نسقط الخارج, فيعلم أن

المسند إليه ما بقي. والثاني كذلك, للعلم بأنه خارج عن قانون اللغة, إذ لا تركيب من ثلاثة, ولا يعرب الأول, وهو غير مضاف, ولامتناع إعادة الضمير على جزء الاسم في «إلا نصفها» , ولإجماع العربية ... إلى آخره. قال الأولون: لا / يستقيم أن يراد عشرة بكمالها, للعم بأنه ما أقرّ إلا بسبعة, فيتعين. وأجيب: بأن الحكم بالإقرار باعتبار الإسناد, ولم يسند إلا بعد الإخراج. قالوا: لو كان المراد عشرة, امتنع من الصادق, مثل قوله تعالى: {إلا خمسين عامًا}. وأجيب: بما تقدم. القاضي: إذا بطل أن يكون عشرة, وبطل أن يكون سبعة, تعين أن يكون الجميع لسبعة. وأجيب: بما تقدم. فيتبين أن الاستثناء على قول القاضي ليس بتخصيص. وعلى الأكثر تخصيص. وعلى المختار محتمل). أقول: يتبادر إلى الذهن في الاستثناء أنه تناقض, لأن قولك: «عليّ عشرة إلا ثلاثة» إثبات للثلاثة في ضمن العشرة, ونفي للثلاثة صريحًا, ولا شك أنهما لا يصدقان معًا, فاضطروا إلى تقرير دلالته على وجه يدفع

التناقض. فقال الأكثر: المراد بعشرة في قولنا: «عشرة إلا ثلاثة» سبعة, و «إلا ثلاثة» قرينة لإرادة السبعة في العشرة, إرادة للجزء باسم الكل, كالتخصيص بغير الاستثناء. وقال القاضي: «عشرة إلا ثلاثة» بإزاء سبعة, كأنه وضع له اسمان, مفرد وهو سبعة, ومركب وهو عشرة إلا ثلاثة. وقيل: المراد بعشرة في هذا التركيب مفهوم العشرة, ثم أخرجت منه ثلاثة, ثم أسند إلى سبعة, لأن المركب التقييدي مقدم على المركب الإسنادي, فعشرة مراد معناها باعتبار آحادها لم تغير, فتتناول السبعة والثلاثة معًا, ثم أخرجت عنها الثلاثة بقوله: «إلا ثلاثة» , فدل «إلا» على الإخراج, و «الثلاثة» على العدد المسمى بها حتى بقي سبعة, ثم أسند إليه, فلم يسند إلا إلى سبعة, فليس «إلا» إثباتًا فقط, ولا نفي أصلًا, فلا تناقض إذ لم يتعارض نفي وإثبات, قال: (وهو الصحيح). واكتفى المصنف في إثبات مختاره بإبطال القولين فتعين مختاره؛ لأنه لابد في دفع التناقض من أحد التقديرات الثلاث, لأنه لو أريد عشرة وأسند إليه فالتناقض ظاهر, فانتفاؤه بألا تراد العشرة, أو تراد ولا يسند إليها, فإن لم ترد العشرة, فإن أريد السبعة فهو الأول, وإن لم ترد بها السعة وهي مرادة

قطعًا, كانت مرادة بالمركب وهو الثاني, وإن أريد بالعشرة ولم يسند إليها فهو الثالث, وإذا تعين أحد الثلاثة وبطل قسمان, تعين الثالث عينًا. احتج المصنف على بطلان الأول بوجوه ستة: الأول: أنا نقطع أن من قال: «اشتريت الجارية إلا نصفها» لم يرد بالجارية نصفها, وإلا لزم استثناء نصفها وهو لم يرده قطعًا, وإلا كان استثناء مستغرقًا. الثاني: لو كان المراد بالمستثنى منه / ما بقي بعد الاستثناء لزم التسلسل, لأنه إن كان المراد بالجارية نصفها, وقد أخرج الاستثناء من المستثنى منه نصفه, فيكون نصف النصف مخرجًا بالاستثناء, فيكون المراد بالنصف الذي هو المستثنى منه نصف النصف, لأنه الباقي بعد استثناء النصف عنه, وقد أخرج عن المستثنى منه الذي هو نصف النصف, وهلمّ جرا. الثالث: أنا نقطع بأن الضمير عائد إلى الجارية بكمالها, فلو كان المراد بالمستثنى منه ما بقي بعد الاستثناء, لزم أن يكون الضمير في «إلا نصفها» عائدًا إلى نصف الجارية, وكان يلزم تذكيره. الرابع: إجماع أهل العربية على أن الاستثناء المتصل إخراج بعض من كل, ولو أريد الباقي من الجارية لم يكن ثم كل ولا بعض ولا إخراج. الخامس: أنه يبطل النصوص؛ إذ ما من لفظ إلا ويمكن الاستثناء لبعض مدلوله, فيكون المراد هو الباقي, فلا يبقى نصًا في الكل, ونحن نعلم أن عشرة نص في مدلوله. السادس: أنا نعلم أنا نسقط الخارج في العشرة عنها, وأن المسند إليه

ما بقي, فهذا المعنى معقول, واللفظ دال عليه, فوجب تقريره عليه, إذ يجب إبقاء الألفاظ المفردة على وضعها ما أمكن. وقرر السادس بتقريرين آخرين: الأول: أنا نعلم بالضرورة أنا نسقط الخارج, يعني المستثنى من المستثنى منه, فيعلم أن المسند إليه ما بقي بعد الإسقاط, وهنا إذا كان المراد سبعة, ثم أخرجت ثلاثة فكان المراد أربعة, فلا يعلم أن المسند إليه سبعة. الثاني: لو كان المراد بالمستثنى منه هو الباقي, لم يكن الإسقاط موجبًا للعلم بكون الباقي مسندًا إليه, لأن إسقاط الخارج يتوقف على حصول خارج, وعلى تقدير أن يكون المستثنى منه هو الباقي لم يحصل خارج. وكل هذه الأدلة ضعيفة. أما الأول: فلأنه إنما يلزم لو كان الاستثناء من المراد, وليس كذلك, بل من الظاهر ليبين أن المراد بالجارية نصفها. وأما الثاني: فإنما يلزم التسلسل لو احتيج إلى إخراج بعد إخراج, لكن الاستثناء بيّن أن المراد بالمستثنى منه الذي هو الكل - بحسب الظاهر - النصف فلم يحتج إلى شيء آخر. وأما الثالث: فلأنه إنما يلزم إعادة الضمير إلى النصف لو لم يعتبر اللفظ المذكور الظاهر في الكل. وأما الرابع: فلأنه إنما يلزم أن لا يكون المتصل مخرجًا لو لم يكن الإخراج من الكل بحسب الظاهر. وأما خامسًا: فلأن النص هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحدًا عند عدم

القرينة, والعشرة إذا لم تكن قرينة الاستثناء هي كذلك, مع أنه مشترك الإلزام. أما السادس: فعلى التقرير / الأول قوي. وعلى التقرير الثاني, لا نسلم أن الباقي بعد إسقاط الثلاثة من المستثنى منه الذي هو عشرة بحسب الظاهر أربعة, بل الباقي سبعة. وعلى التقرير الثالث, لم لا يجوز أن يكون إسقاط الخارج بحسب ظاهر المستثنى فيه, لا بحسب مراد المتكلم. ثم احتج لبطلان مذهب القاضي بوجوه: الأول: أنه خارج عن قانون اللغة, إذ ليس في لغتهم مركب من ثلاثة ألفاظ. ثانيًا: لا يعرب الجزء الأول من المركب وهو غير مضاف, كل ذلك معلوم بالاستقراء. وأيضًا: لو كان كذلك لزم إعادة الضمير في «إلا نصفها» إلى جزء الاسم. وأيضًا: إجماع أهل العربية على أن الاستثناء المتصل إخراج بعض من كل, إلى آخر الأدلة السابقة. احتج الأكثرون بوجيهن: الأول: لا يخلو أن يراد بعشرة كمالها أو سبعة, والأول باطل؛ لأنا

نعلم أنه ما أقرّ إلا بسبعة, فتعين الثاني. الجواب: الإقرار إنما يحكم به باعتبار الإسناد, ولا إسناد إلا بعد الإخراج؛ فيكون إقرارًا بالباقي بعد الإخراج وهو سبعة. قالوا ثانيًا: لأو كان المراد بعشرة كمالها, امتنع من الصادق, مثل: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا} لما يلزم من إثبات لبث الخمسين ونفيه, وهو تناقض. الجواب: ما تقدم, وهو أن الحكم باللبث إنما هو بعد إخراج الخمسين فلم يسند إلا إلى الباقي. ثم احتج القاضي بأنه: إذا بطل أن يكون عشرة لما ذكره الأولون وأن يكون سبعة لما ذكره الآخرون, تعين أن يكون المجموع لسبعة؛ لما تقدم من أنه لابد من أحد الثلاثة. ثم قال: فتبين مما ذكرنا أن الاستثناء على قول القاضي ليس بتخصيص؛ إذ التخصيص قصر العام على بعض مسمياته, وهنا لم يرد بالعام بعض مسمياته, بل أريد بالمجموع نفس مسماه. وعلى قول الأكثر تخصيص, لأنه قصر العام على بعض مسمياته. وعلى المختار يحتمل أن يقال: تخصيص, نظرًا إلى الحكم, وأنه للعام في الظاهر والمراد الخصوص, وأن يقال: ليس بتخصيص؛ إذ المفرد يرد به إلا العموم, كما كان عند الانفراد ولم يغير.

مسألة: شرط الاستثناء الاتصال لفظا

قال المصنف في المنتهى: «ولا يكون مجازًا على المختار». وعلى قول الأكثرين يكون مجازًا, والمصنف وإن كان ك لامه أولًا يقتضي أن الاستثناء تخصيص, حيث قسم المخصص المتصل إلى خمسة أقسام لكن يحمل على أن ذلك على مذهب الأكثرين. قال: (مسألة: شرط الاستثناء الاتصال لفظًا, أو ما في حكمه, كقطعه لتنفس أو سعال ونحوه. وعن ابن عباس: يصح وإن طال شهرًا. وقيل: يجوز بالنية كغيره, وحمل عليه مذهب ابن عباس لقربه. وقيل: يصح في القرآن خاصة. لنا: لو صح, لم يقل عليه السلام: «فليكفر عن يمينه» معنيًا؛ لأن الاستثناء أسهل, وكذلك جميع الإقرارات, والطلاق, والعتق. وأيضًا: فإنه يؤدي إلى أن لا يعلم صدق ولا كذب. قالوا: قال: «والله لأغزون قريش» ثم سكت, وقال بعد: «إن شاء الله». قلنا: يحمل على السكوت العارض, لما تقدم. قالوا: سأله اليهود عن لبث أهل الكهف, فقال: «غدًا أجيبكم» , فتأخر الوحي بضعة عشر يومًا, ثم نزل {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله} , فقال: «إن شاء الله». قلنا: يحمل على «أفعل إن شاء الله» , وقول ابن عباس مؤول بما

تقدم, أو بمعنى المأمور به). أقول: اشترطوا في الاستثناء اتصاله بالمستثنى منه لفظًا, أو ما هو في حكم الاتصال, فلا يضر قطعه بتنفس أو سعال ونحوهما, مما لا يعد انفصالًا عرفًا, وروي عن ابن عباس: يصح الاستثناء وإن طال الزمان شهرًا. وقيل: لا يجب الاتصال لفظًا, بل يكفي الاتصال بالنية ويمين الحالف. قال المصنف: كما في التخصيص بغير استثناء, وهذا أحد الأقوال عندنا. قال ابن يونس: وقد اختلف في «إلا» خاصة, فقيل: تجزئه بها النية, كما تجزي في محاشاته امرأته إذا قال: «الحلال عليّ حرام» ونوى إلا امرأتي. قال المصنف: وحمل مذهب ابن عباس على هذا القول, لقربه من الصواب, وليس ببعيد من كلام ابن عباس.

وقيل: يصح الانفصال في كتاب الله تعالى فقط, بناء على أنه شيء واحد, ولا معنى لهذا القول. احتج الجمهور بوجوه: الأول: لو صح انفصال الاستثناء, لما قال عليه السلام: «من حلف على يمين فرأى خبرًا منها, فليكفر عن يمينه, وليفعل الذي هو خير» , أخرجه مسلم. بيان اللزوم: أنه أوجب الكفارة عينًا, فلو كان الاستثناء المنفصل جائزًا لما عين الكفارة طريقًا للخلاص عن اليمين, بل كان يرشد إلى الاستثناء, لأن الإرشاد إلى طريق أسهل أولى, ولا أقل من أن يخيره في الاستثناء وفي الكفارة, وكذلك جميع الإقرارات, والطلاق, والعتق, كان ينبغي أن يستثنى منها, نفيًا لأحكامها بأسهل الطرق. وهو باطل؛ لأنه لو قال: «لفلان عليّ عشرة» , وقال بعد شهر: «إلا ثلاثة» , حكم عليه بعشرة, وعُدّ لاغيًا اتفاقًا. قيل في تقريره: لو جاز الاستثناء بعد زمان لما ثبت إقرار ولا طلاق ولا عتق, لعدم الجزم بثبوت شيء منها لجواز الاستثناء, وهو بعيد من كلام المصنف, مع أن الدليل الثالث يفيد هذا المعنى.

وأيضًا: يؤدي إلى ألا يعلم صدق ولا كذب؛ لجواز استثناء يرد عليه فيصرفه عن ظاهره إلى ما يصيره صادقًا, وإن كان ظاهره كاذبًا. قيل على الأول: جاز أن يكون عدم الإرشاد لعلم النبي عليه السلام بعلم الأمة به, لأنه لغوي, فعرفهم الشرعي فقط؛ لأنه بعث لتعريف الأحكام لا لتعريف / اللغة. قلت: وفيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك, لم يكن مطلوبًا, وظاهر الحديث أنه مطلوب, لتوقف الإتيان بالخبر عليه. قلت: ولا يصح العموم في الثالث, إذ من الكلام ما لا يقبل الاستثناء, أو يعلم بأن يخبر أنه لا استثناء بعد كلامه هذا. احتج الآخرون بوجوه: الأول: قوله عليه السلام: «والله لأغزون قريشًا» ثم سكت, ثم قال: «إن شاء الله» , أخرجه أبو داود, ولولا صحة الاستثناء بعد زمان, لم يأت به. الجواب: أنه يحمل على السكوت العارض من تنفس أو سعال, جمعًا بينه وبين أدلتنا. قلت: الأولى في الجواب: أنه قاله للتبرك لا لحل اليمين؛ لأن في الحديث: حلف واستثنى, وحلف واستثنى, وحلف وسكت ثم قال, ولو

كان لسعال لما قال: وسكت, ولو كان لتنفس لما أتى بثم. لا يقال: هذا شرط والكلام في الاستثناء, إذ لا فرق؛ ولذلك سمى العلماء ذلك بالاستثناء بالمشيئة. قالوا: سأله اليهود عن مدة لبث أهل الكهف, فقال: «غدًا أجيبكم» , فتأخر الوحي بضعة عشر يومًا, ثم نزل {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله} , فقال: «إن شاء الله» , أخرجه ابن إسحاق في السيرة, ولا كلام يعود إليه الاستثناء إلا قوله عليه السلام: «غدا أجيبكم». الجواب: لا نسلم عوده إلى «غدًا أجيبكم»؛ لجواز أن يكون المراد: أفعل إن شاء الله, أي أعلق كلما أذكر أني فاعل غدًا بمشيئة الله, أو راجع إلى قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} , فقال: «إن شاء الله» , أي أذكر إن شاء الله. قالوا ثالثًا: قال به ابن عباس وهو عربي عالم, فيتبع. الجواب أولًا: أنه محجوج بما سبق, أو قوله مؤول بما تقدم, أي إذا نواه, أو يكون المراد الاستثناء المأمور به في قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله} , أي إذا أخره إلى شهر من قوله: {إني فاعل ذلك غدًا} بحيث لم يقله معه, ثم ذكر ذلك بعد شهر, كان ممتثلًا لذلك الأمر.

مسألة: الاستثناء المستغرق باطل باتفاق

ولا يخفى فساد حمل الشراح هذا الكلام على أنه الاستثناء المأمور - وهو الاستثناء بمشيئة الله - يجوز انفصاله, والكلام في الاستثناء «بإلا» , لأنه لا خلاف في الاستثناء بمشيئة الله أنه لا يجوز انفصاله لفظًا, وإن اختلف في الاستثناء «بإلا» مطلقًا, أو بالنية؛ لأنه في المشيئة بالله رافع له من أصله, ولذلك لم يختلفوا فيه, والاستثناء «بإلا» نوع تخصيص, فأطلق العام لإرادة الخاص. قال: (مسألة: الاستثناء المستغرق باطل باتفاق. والأكثر على جواز المساوي والأكثر. وقالت الحنابلة, والقاضي أولًا: بمنعهما. وبعضهم, والقاضي ثانيًا: بمنعه في الأكثر. وقيل: إن كان العدد صريحًا. لنا: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} والغاوون أكثر, بدليل: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}. وأيضًا: «كلكم جائع إلا من أطعمته». وأيضًا: فقهاء الأمصار / على أنه لو قال: «عندي عشرة إلا تسعة» , لم يلزم إلا واحد, ولولا ظهوره لما اتفقوا عليه عادة. الأقل: مقتضى الدليل منعه. وأجيب: بالمنع, فلو سلّم فالدليل متبع. قالوا: «عشرة إلا تسعة ونصف درهم وثلث درهم» , مستقبح ركيك.

وأجيب: بأن استقباحه لا يمنع صحته, كعشرة إلا دانقًا, ودانقًا إلى عشرين). أقول: الاستثناء المستغرق باطل, وحكى المصنف الاتفاق على ذلك. وذكر اللخمي في كتاب الأيمان بالطلاق خلافه, قال: الاستثناء يصح فيما كانت النية فيه قبل انعقاد اليمين, فإن جاء مستفتيًا صح استثناء الجميع, فلو قال: «طالق واحدة إلا واحدة» لم يلزمه شيء, ويختلف إذا كانت عليه بينة؛ لأن قبحه يصيره في معنى من أتى بما لا يشبه, يعني فيحمل على أنه ندم, ولا يصدق في أنه رفع وحل. وأما استثناء الأكثر, فالأكثرون على جوازه. وقالت الحنابلة, والقاضي: لا يجوز استثناء المساوي. وقال بعض الأصوليين, وبعض الفقهاء منا, والقاضي: يمنع استثناء الأكثر فقط, وقال ابن الماجشون منا: يمنع استثناء عقد, كمائة إلا

عشرة, ويجوز إلا خمسة, وقال بعضهم: إن كان العدد صريحًا امتنع استثناء الأكثر, كألف إلا سبعمائة, وإلا جاز, كعبيدي أحرار إلا أحرار الصقالبة, وهم أكثر, ومال إليه اللخمي منا. احتج الأكثرون بوجوه: الأول: قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} و «من» هنا للبيان, لأن الغاوين كلهم متبعوه؛ فاستثنى الغاوين وهم أكثر من غيرهم, بدليل: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} , دلّ على أن الأكثر ليس بمؤمن, وكل من ليس بمؤمن غاو, ينتج: الأكثر غاو. قلت: العباد يشمل الملائكة, بدليل: {بل عباد مكرمون} , فلا يلزم من كون أكثر الناس غاويًا أن يكون أكثر العباد غاويًا, مع أنه لا ينهض على من يمنع إذا كان العدد صريحًا. الثاني: قوله عليه السلام: «كلكم جائع إلا من أطعمته, فاستطعموني أطعمكم» , أخرجه مسلم, معناه إلا من أشبعته, والذين أشبعهم أكثر.

ولا ينهض أيضًا على من قال: إن كان العدد صريحًا. الثالث: أن فقهاء الأمصار اتفقوا على أنه لو قال: «عليّ عشرة إلا تسعة» , لم يلزمه إلا واحد, ولولا أن استثناء الأكثر ظاهر في وضع اللغة في بقاء الأقل, لامتنع الاتفاق عليه عادة. ولا يصح هذا الاتفاق؛ لأن ابن الماجشون من فقهاء الأمصار, وقد تقدم مذهبه, وجماعة من أصحابنا ذهبوا إلى أنه إذا قال: «أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين» , أن الثلاثة / تلزمه, قال اللخمي: وكذلك في الإقرار. احتج الأقلون بوجهين: الأول: مقتضى الدليل من الاستثناء لأنه إنكار بعد إقرار, خالفناه في الأقل؛ لأنه في معرض الذهول, فقد يكون نسي أنه قضاه ذلك ثم تذكر عند اليمين, فلو لم يصح لتضرر, بخلاف الكثير إذ لا يذهل عنه غالبًا, فيبقى فيه على وفق الدليل. الجواب: لا نسلم أن مقتضى الدليل منعه, وليس إنكارًا بعد إقرار؛ لأنه جملة واحدة, لما مرَّ أنه إسناد بعد إخراج فليس فيه حكمان مختلفان.

مسألة: الاستثناء بعد جمل بالواو

ولو سلّم أنه على خلاف الدليل, لكن خلاف الأصل يتبع إذا دلّ الدليل عليه, والأدلة السابقة دلّت عليه فتبع, إذ الخاص مقدم على العام عند التعارض. الثاني: لو قال: «عليّ عشرة إلا تسعة دراهم ونصف درهم وثلث درهم» , كان مستقبحًا ركيكًا, وليس إلا لأجل استثناء الأكثر, فدلّ على عدم جوازه. الجواب: أن استقباحه لا يستلزم عدم صحته, كما لو قال: «عليّ عشرة إلا دانقًا, ودانقًا إلى عشرين دانقًا» , فإنه مستقبح, مع أن المجموع ثلث عشرة, واستقباحه لكونه ترك الاختصار, بأن يقول: «إلا عشرين دانقًا» , ومع ذلك فإنه تسقط عنه عشرون دانقًا اتفاقًا. وفي الاتفاق نظر, وأيضًا: الفرق بأن الأقل في معرض النسيان. قال: (مسألة: الاستثناء بعد جمل بالواو, قالت الشافعية: للجميع. والحنفية: للأخير. والغزالي والقاضي: بالوقف. والشريف: بالاشتراك. أبو الحسين: إن تبين الإضراب عن الأول فللأخير, مثل أن يختلف نوعًا أو اسمًا, وليس الثاني ضميرًا, أو حكمًا غير مشتركين في غرض, وإلا ففي الجميع. والمختار: إن ظهر الانقطاع فللأخيرة, والاتصال فللجميع, وإلا فالوقف).

أقول: الاستثناء إذا تعقب جملًا معطوفة بالواو, فعن مالك والشافعي: أنه يعود إلى الجميع, وعن أبي حنيفة: أنه يعود إلى الأخيرة. وحكى المصنف عن القاضي والغزالي: الوقف. وكذلك حكى الآمدي, وفي المستصفى أنه اختار مذهب الشافعي ولم يقل بما قال القاضي. والوقف على معنى لا [ندري] أهو ظاهر في العود إلى الجميع, أم هو في العود إلى الأخيرة؟ . وقال المرتضى من الشيعة: إنه مشترك فيتوقف إلى ظهور القرينة.

وهذان موافقان للحنفية في الحكم - وإن خالفا في المأخذ - لأنه يرجع إلى الأخيرة, فيثبت حكمه فيها ولا يثبت في غيرها - كما يقول الحنفية - لكن الحنفية لظهور عدم تناوله, والآخران لعدم ظهور تناوله. وقال عبد الجبار وأبو الحسين: إن تبين الإضراب عن الجملة الأولى فالاستثناء إلى الأخيرة, وإلا فهو راجع إلى الجميع. وظهور الإضراب بوجوه ثلاثة: الأول: بأن يختلفا نوعًا وليس الثاني ضمير الأول, مثل: «أكرم بني تميم والنحاة هم العراقيون إلا البغاددة». الثاني: أن يختلفا اسمًا وليس الثاني ضمير الأول, مثل: «أكرم بني تميم وأكرم ربيعة إلا الطوال». الثالث: أن يختلفا حكمًا فقط مع الاتحاد نوعًا والاشتراك اسمًا, لكن الجملتان غير مشتركين في غرض, كما لو قال: «سلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال» , وإن لم يتبين الإضراب, عاد إلى الجميع, بأن يختلفا حكمًا, وإن كان الجملتان مشتركتين في غرض, مثل: «أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال» للاشتراك في غرض التعظيم. وكذا بأن يختلفا نوعًا إلا أن الثاني ضمير الأول, كآية القذف, لأنها أمر ونهي وخبر.

وفيها أيضًا الاختلاف في الحكم, لكن اشتركت في غرض الانتقام, هكذا فهم الآمدي من مذهب أبي الحسين, وجعل الآية يعود الاستثناء فيها على مذهبه إلى الجميع. وفهم الإمام من مذهب أبي الحسين أنهما إذا اختلفتا حكمًا مطلقًا اختص بالآخرة, وجعل الآية على مذهب أبي الحسين يعود الاستثناء فيها إلى الأخيرة. وكذا لو اتحدتا نوعًا واختلفتا حكمًا واسم الأول مضمر في الثانية, مثل: «أكرم بني تميم واستأجرهم إلا الطوال» , هكذا صرح به الآمدي, وهذا وإن كان اختلفتا حكمًا غير مشتركتين في غرض وليس الثاني ضمير الأول؛ فيكون معنى كلام المصنف: غير مشتركتين في غرض والثاني ضمير الأول. وقال الغزالي: لا ت صلح آية القذف مثالًا للمسألة؛ لأنه حكم تبين بالأمور الثلاثة, فهي أحكام بجملة واحدة, قال: والمثال «وقفت داري على العلماء والقراء والصوفية إلا أن يفسق أحدهم». واختار الآمدي والمصنف ما هو في الحقيقة راجع إلى مذهب القاضي؛ لأن القائل بما إنما يقول ذلك عند عدم القرينة. واحتج عليه في المنتهى: بأن الاتصال يجعلها كالواحدة, والانفصال يجعلها كالأجانب, والإشكال يوجب الشك.

مسألة: الشافعية: العطف يصير المتعدد كالمفرد

قال: (الشافعية: العطف يصير المتعدد كالمفرد. أجيب: بأن ذلك في المفردات. قالوا: لو قال: «والله لا أكلت ولا شربت ولا ضربت إن شاء الله»؛ عاد إلى الجميع. أجيب: بأنه شرط, فإن ألحق فقياس. ولو سلم: فالفرق أن الشرط مقدر تقديمه. ولو سلم: فلقرينة الاتصال, وهي اليمين على الجميع. قالوا: لو كرر لكان مستهجنًا. قلنا: عند قرينة الاتصال. ولو سلم, فللطول, مع إمكان إلا كذا من الجميع. قالوا: صالح, فالبعض تحكم كالعام. قلنا: صلاحيته لا توجب ظهوره فيه, كالجمع المنكر. قالوا: لو قال: «عليّ خمسة, وخمسة إلا ستة» , عاد إلى الجميع. قلنا: مفردات. وأيضًا: الاستقامة). أقول: احتج القائل بعود الاستثناء إلى جميع الجمل بوجوه خمسة: الأول: أن العطف يصير المتعدد كالمفرد؛ فلا فرق بين قولنا: «اضرب الذين سرقوا وزنوا وقتلوا إلا من تاب» , وبين: «اضرب الذين هم سراق

وزناة وقتلة, إلا من تاب». الجواب: أن ذلك في عطف المفردات وأما في الجمل فمحل النزاع, فإن قولنا: «ضرب بني تميم, وقتل مضر, وبكر شجعان» ليست كالمفرد قطعًا. الثاني: لو قال: «والله لا أكلت ولا شربت ولا ضربت / إن شاء الله» عاد إلى الجميع. الجواب: أنه شرط لا استثناء, ولا نزاع في الشرط, وإطلاق الاستثناء عليه مجاز, فإن ألحق به فقياس في اللغة, وقد أبطلناه. ولو سلّم صحته فالفرق أن الشرط - وإن تأخر لفظًا - فهو مقدم تقديرًا. وفيه نظر؛ لأنه مقدر تقديمه على ما يرجع إليه, ولو سلم عدم تقديره مقدمًا, أو سلم أنه استثناء, فهو إنما رجع إلى الجميع, للقرينة الدالة على اتصال الجمل وهي اليمين عليها ونحن نقول به, إنما الكلام فيما لا قرينة فيه. الثالث: لو كرر الاستثناء في كل جملة قبل الأخرى, فقال: «اضرب من سرق إلا زيدًا, ومن زنى إلا زيدًا, ومن قتل إلا زيدًا» كان مستهجنًا, ولولا أن المذكور بعدها يعود إلى الجميع - فكان مغنيًا عن التكرار - لما استهجن. الجواب: إنما يستهجن عند قرينة الاتصال خاصة, أما عند عدمها فلا, لما فيها من الطول مع إمكان عدمه, بأن يقول بعد الجمل: إلا كذا من الجميع, فيصير بعوده إلى الجميع. الرابع: وهو صالح للعود إلى الجميع, فالقول بالعود إلى البعض تحكم, كما في العام.

مسألة: المخصص: آية القذف لم ترجع إلى الجلد اتفاقا

الجواب: أن صلاحيته للجميع لا توجب ظهوره فيه, كالجمع المنكر فإنه صالح للجميع وليس بظاهر فيه, والعام لا يصح القياس عليه لأنه حقيقة في الكل بخلاف الاستثناء. فإن قال: ليس الدليل مجرد الصلاحية للكل, بل مع تعذر الحمل على البعض للتحكم في أي بعض, ولا كذلك في الجمع المنكر, فإنه لا يتعذر الحمل على مسمى جمع. قلنا: لا تحكم؛ لأن عوده إلى الأقرب أرجح بالاستقراء, كباب التنازع وغيره. الخامس: لو قال: «عليّ خمسة, وخمسة إلا ستة» , عاد إلى الكل اتفاقًا, فكذا في غيره دفعًا للاشتراك والمجاز. الجواب أولًا: أنه غير محل النزاع؛ لأن كلامنا في الجمل, وهذه مفردات. وثانيًا: أنه إنما يرجع إلى الجميع ليستقيم, إذ لو رجع إلى الأخيرة كان مستغرقًا. وأيضًا: مدعاكم الرجوع إلى كل واحدة لا إلى المجموع من حيث هو, والنزاع فيما يصلح للجميع وللأخيرة, وليس هذا منه. قال: (المخصص: آية القذف لم ترجع إلى الجلد اتفاقًا. قلنا: الدليل وهو حق الآدمي, ولذلك عاد إلى غيره. قالوا: «عليّ عشرة إلا أربعة إلا اثنين» للأخير. قلنا: أين العطف.

وأيضًا: مفردات. وأيضًا: للتعذر فكان الأقرب أولى, ولو تعذر, تعين الأول, مثل: «عليّ عشرة إلا اثنين». قالوا: الثانية حائلة, كالسكوت. قلنا: لو لم يكن الجميع بمثابة الجملة. قالوا: حكم الأولى يقين, والرفع مشكوك. قلنا: لا يقين مع الجواز للجميع. وأيضًا: فالأخيرة كذلك, للجواز بدليل. قالوا: إنما يرجع لعدم استقلاله فيتقيد بالأقل, وما يليه هو المحقق. قلنا: يجوز أن يكون وضعه للجميع, كما لو قام دليل القائل بالاشتراك حسن الاستفهام. قلنا: للجهل بحقيقته, أو لرفع الاحتمال. قالوا: صح الإطلاق, والأصل الحقيقة. قلنا: والأصل عدم الاشتراك). أقول: احتج القائلون بأن الاستثناء إذا تعقب جملًا معطوفة بالواو اختص بالأخيرة, بوجوه خمسة: الأول: لو رجع إلى الجميع لرجع في آية القذف, فكان يجب أن يسقط الحدّ بالتوبة, ولا يسقط اتفاقًا. الجواب لا يلزم من ظهوره فيه الحمل عليه دائمًا, لجواز مخالفة الظاهر

لدليل وهو هنا حق الآدمي, ولا يسقط بالتوبة, ولأجل ظهوره في الجميع وخولف به في الجلد عاد إلى غيره من ردّ الشهادة والتفسيق اتفاقًا, ولو اختص بالأخير لما كان كذلك. قلت: وللخصم منع الاتفاق لثبوت الخلاف, ومنع عوده إلى الثانية لمخالفة أبي حنيفة. الثاني: لو قال: «عليّ عشرة إلا أربعة إلا اثنتين» عاد إلى الأخيرة, وتلزمه ثمانية, فقدروا استثناء الاثنين من الأربعة, فوجب ذلك في غيره دفعًا للاشتراك والمجاز. الجواب: أن النزاع في العطف بالواو, وليس ما ذكرتم منه. وثانيًا: الكلام في الجمل, وهذه مفردات. وثالثًا: أنه يتعذر عوده هنا إلى الجميع, وإلا كان الاثنان مثبتًا منفيًا, وكان لغوًا أيضًا, إذ تلزم معه الستة كما تلزم دونه, إذ لا فرق بين أن يستثنى منه أربعة, وبين أن يستثنى منه أربعة إلا اثنين واثنين. وكذا جعلهما الآمدي وجهين: التعذر للتناقض, واللغو. لا يقال: لا نسلم أن الاستثناء من النفي إثبات, حتى تكون مثبتة منفية. لأنا نقول: هذا المنع يبطل استدلالكم, حيث جعلتموه للأخيرة فقط,

وإذا تعذر العود إلى الجميع, تردد بين الأولى والأخيرة, فجعله للأخيرة أولى لأنه أقرب, ولو تعذر عود إلى الأخيرة, تعين عوده إلى الأولى, نحو: «عليّ عشرة إلا اثنين إلا اثنين» , فيكون المقرّ به ستة. الثالث: أن الجملة الثانية حائلة بين الاستثناء وبين الجملة الأولى, فكان مانعًا من تعلق الاستثناء بها كالسكوت. الجواب: منع كونها حائلة, وإنما تكون حائلة لو لم يكن الجميع بمثابة جملة واحدة, وأنه ممنوع. الرابع: حكم الأولى بكمالها متيقن, ورفعه برفع البعض بالاستثناء مشكوك فيه, لجواز كونه للأخيرة, والشك لا يعارض اليقين. الجواب: لا نسلم أن حكم الأولى متيقن؛ إذ لا يقين مع جواز كون الاستثناء إلى الجميع. وثانيًا: يلزم في الأخيرة؛ لأن حكمها ثابت بيقين, والرفع مشكوك فيه لجواز رجوع الاستثناء إلى الأولى بدليل يدل عليه. قيل على الجواب الثاني: المانع بالنسبة إلى الأخيرة متحقق, إذ الاستثناء لابد له من جملة يعود إليها, والأخيرة متعينة لقربها, فلا يكون حكمها يقينًا. ثم ما ذكر المصنف يدفع هذا الإيراد, وهو قوله: (للجواز بدليل) لأنه - مع دلالته - دليل يصرف الاستثناء إلى الأولى, فكيف يتعلق بالثانية؟ . قلت: أرجحية العود إلى الثانية عند عدم الدليل لا يدل على الأرجحية دائمًا؛ لأنه على تقدير دليل يدل على عوده إلى الأولى فقط, يكون حكم

الثانية يقينًا على ذلك التقدير, والذي يمنع تعلق الاستثناء بالثانية ثبوت الدليل لا جوازه. الخامس: إنما يرجع الاستثناء إلى ما قبله للضرورة وهو عدم استقلاله, وما وجب للضرورة يقدر بقدرها, ويكفي في ذلك العود إلى جملة واحدة, ثم الأخيرة هي المتحققة, سواء قلنا: يعود إليها فقط, أو قلنا: يعود إلى الجميع, فيحمل عليه ويترك ما لم يتحقق. الجواب: لا نسلم اندفاع الحاجة بعوده إلى الأخيرة, لجواز أن يكون وضع للعود إلى الجميع, فلا تندفع الحاجة بالعود إلى الأخيرة, كما لو قام دليل على عوده إلى الجميع. قلت: لقائل أن يقول: تخصيص الجمل تكثير للمجاز؛ فتقليله أولى. وأيضًا: إثبات المجاز بالاحتمال. احتج القائل بأنه مشترك: بأن حسن الاستفهام عن أيهما المراد, هل عاد إلى الجميع أو الأخيرة دليل أنه مشترك, وإلا لما حسن الاستفهام. الجواب: لا نسلم أن الاستفهام يدل على الاشتراك, لجواز أن يكون علم أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر, ولا يعلم المدلول الحقيقي. سلمنا أنه يعلمه, لكن لرفع الاحتمال؛ لأنه ليس بنص ظاهر مع قيام احتمال الآخر, فيندفع بالتصريح.

مسألة: الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس

قالوا ثانيًا: صح إطلاق الاستثناء مع إرادة العود إلى الجميع وإلى الأخيرة فقط, والأصل في الإطلاق الحقيقة, فكان حقيقة لهما ويلزم الاشتراك. الجواب: الأصل عدم الاشتراك, وقد تقدم أن المجاز خير منه. قال: (مسألة: الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس, خلافًا للحنفية. لنا: النقل عن أئمة اللغة. وأيضًا: لو لم يكن, لم يكن «لا إله إلا الله» توحيدًا. قالوا: لو كان للزم من «لا علم إلا بحياة» , و «لا صلاة إلا بطهور» ثبوت العلم والصلاة بمجردهما. قلنا: ليس مخرجًا من العلم والصلاة, فإن اختار تقدير ألا صلاة بطهور اطّرد, وإن اختار تقديرًا ألا صلاة تثبت بوجه إلا بذلك, فلابد من الشرط المشروط, وإنما الإشكال في المنفي الأعم في مثله, وفي مثل: «ما زيد إلا قائم» , إذ لا يستقيم نفي جميع الصفات. وأجيب أحدهما: أن الغرض المبالغة بذلك. والثاني: أنه آكدها, والقول بأنه منقطع بعيد؛ لأنه مفرغ, وكل مفرغ متصل, لأنه من تمامه). أقول: الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس. وحكى المصنف عن الحنفية: أن الاستثناء من النفي لا يكون إثباتًا.

لنا: النقل عن أئمة العربية أنه كذلك, وهو المعتمد في مدلولات الألفاظ, وأيضًا: لو لم يكن كذلك؛ لم يكن «لا إله إلا الله» يتم به التوحيد, واللازم باطل إجماعًا, بيان اللزوم, أنه إنما يتم بإثبات الألوهية لله وفيها عما سواه, والمفروض أنه لا يفيد / الإثبات لها وإنما يفيد النفي فقط, فلو تكلم بها دهري منكر لوجود الصانع - وهي لا تفيد إلا نفي الغير - لما نافى معتقده, ولما علم بها إسلامه. واعلم أنا لحنفية إنما خالفوا في أنه موضوع لذلك لا في الدلالة, وإلا فقد قال صاحب البديع منهم: الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا, فهو بيان معنوي أن المستثنى لم يكن مرادًا, واستخراج صوري, وليس إخراجًا للبعض عما دلّ عليه صدر الجملة بالمعارض حتى يكون تخصيصًا, فمعنى عشرة إلا ثلاثة: سبعة, وعند الشافعية: إلا ثلاثة, فإنها ليست [عليي] , والجمع أن يجعل استخراجًا وتكلمًا بالباقي بوضعه, ونفيًا وإثباته بإشارته. وتحقيقه: أن الاستثناء كالغاية من الصدر, لكونه بيانًا أنه ليس بمراد منه, وبالغاية ينتهي الحكم السابق إلى خلافه, فيجب إثبات الغاية ليتم

الصدر, لكن لما لم يكن المقصود إلا الصدر, جعل إثبات الثاني إشارة, وكذلك اختير في كلمة التوحيد لكون المقصود نفي الإلهية عن غير الله نفيًا ينتهي بإثباتها فيه - تعالى -. احتج الحنفية: بأنه لو كان الاستثناء من النفي إثباتًا, لزم من: «لا علم إلا بحياة» ثبوت العلم بمجرد الحياة, ومن: «لا صلاة إلا بطهور» ثبوت الصلاة بمجرد الطهور, وهو باطل اتفاقًا. الجواب: أن قولنا: إلا بحياة, وإلا بطهور, ليس إخراجًا للحياة من العلم والطهور من الصلاة, فيثبتان بثبوتهما, إذ لم نقل: لا صلاة إلا الطهور, ولا علم إلا الحياة, بل قلنا: بحياة, وبطهور, فلابد من تقدير متعلق وهو المستثنى في الحقيقة, وهو إما صلاة بطهور تستثنى من حاصلة خبرًا للصلاة, فيكون التقدير: لا صلاة حاصلة إلا صلاة بطهور, وإما وجه من الوجوه التي تقع عليها الصلاة, يستثنى من تثبت بوجه خبرًا له؛ فيكون التقدير: لا صلاة تثبت بوجه من الوجوه إلا باقترانها بالطهور. فإن اختار التقدير الأول اطرد, إذ كل صلاة بطهور حاصلة قطعًا, ولا يلزم صحتها.

وإن اختار في تقديره: لا صلاة تثبت بوجه إلا بطهور, فإنها إنما تثبت بهذا الوجه ولا تخلوا عنه, كقولك: «كتبت بالقلم» , فإنه لا يقتضي عِلَّية القلم باستقلاله للكتابة, بل كونه آلة لا تحصل إلا به, فهو صريح بأن الطهور شرط, ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط لزومًا كليًا يحصل بمجرده, بل يحصل بحصوله في الجملة, والأمر كذلك هنا, فاندفع الإشكال في الإثبات, وإنما الإشكال في مثل هذا التركيب في المنفي الأعم الذي يقتضيه الاستثناء المفرغ, وهو ألا تكون الصلاة بلا طهور صلاة, وألا صفة للصلاة من الصفات المعتبرة من استقبال وستر العورة وغيرهما إلا صفة الطهارة, وكذلك في قولنا: «ما زيد إلا عالم» , فإنه يلزم ألا يكون إنسانًا ولا موجودًا إلى غير ذلك, والضمير في مثله / يعود إلى المثال الأخير فقط, إذ عند نفي الحياة, لا يبقى للعلم من الصفات المعتبرة في كونه عالمًا, لانتفاء العلم بانتفاء الحياة. الجواب بأمرين: أحدهما: المبالغة في تحقيق العلم لزيد, وكأن قائلًا قال: «ما زيد عالمًا» فقال: «ما زيد إلا عالمًا» , نفيًا لما توهمه المخاطب من نفي العلم, وأهل البيان يجعلونه نفيًا للصفة المناقضة للصفة المستثناة. والآخر: أن ذلك آكد صفاته فكان سائر الصفات بالنسبة إليه غير معتبر. واعلم أن هذا الإشكال على الحنفية أيضًا, وقد قيل: إن هذا الاستثناء منقطع, إذ لم يدخل العلم في الحياة, والطهور في الصلاة؛ فلا إخراج حقيقة, قال المصنف: وهو بعيد لأنه مفرغ, وكل استثناء مفرغ متصل,

مسألة: التخصيص بالشرط

لأنه من تمام الأول, فيقدر بقدر الضرورة عام يناسبه ويتناوله كما قدرنا. قال: (التخصيص بالشرط. الغزالي: الشرط مما لا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد عنده. وأورد: أنه دور, وعلى طرده: جزء السبب. وقيل: ما يقف تأثير المؤثر عليه. وأورد على عكسه: الحياة في العلم القديم. والأولى: ما يستلزم نفيه نفي أمر على غير جهة السببية. وهو عقلي كالحياة للعلم, وشرعي كالطهارة للصلاة, ولغوي: «أنت طالق إن دخلت الدار». وإنما استعمل في الشرط الذي لم يبق للمسبب سواه, فلذلك يخرج به ما لولاه لدخل لغة, مثل: «أكرم بني تميم إن دخلوا» , فيقصره الشرط على الداخلين, وقد يتحد الشرط ويتعدد على الجمع وعلى البدل, فهذه ثلاثة كل منها مع الجزاء كذلك, فتكون تسعة, والشرط كالاستثناء في الاتصال وفي تعقبه الجمل. وعن أبي حنيفة: الجميع, ففرق. وقولهم في مثل: «أكرمك إن دخلت» ما تقدم خبر, والجزاء محدود مراعاة لتقدمه, كالاستفهام والقسم. فإن عنوا ليس بجزاء في اللفظ, فمسلم. وإن عنوا: إلا في المعنى فعناد. والحق: أنه لما كان جملة, روعيت الشائبتان).

أقول: لما فرغ من الاستثناء, شرع في المخصص الثاني من المخصصات المتصلة, وهو الشرط. وعرّفه الغزالي: بأنه ما لا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد عنده. وأورد عليه: أنه دور, لأنه أخذ في تعريف الشرط المشروط, وهو مشتق منه, فيتوقف تعلقه على تعلقه. وثانيًا: أنه غير مطرد؛ لأنه جزء السبب كذلك. وقد يجاب عن الثاني: بأن جزء السبب قد يوجد المسبب دونه إذا وجد سبب آخر, ولا يندفع الدور بأن يقال: المأخوذ في التعريف هو اللغوي والمعرّف الاصطلاحي؛ لأن المعرف أعم من الشرعي والعقلي واللغوي, ولذلك قسمه إليها. وعرّفه قوم: بأنه ما يقف تأثير المؤثر عليه, ويفهم منه أنه لا يتوقف ذات المؤثر عليه, فيخرج جزء السبب. واعترض: بأنه غير منعكس, لأن الحياة شرط / في العلم القديم ولا يتصور تأثير ومؤثرًا, إذ المحوج إلى المؤثر هو الحدوث. ومنه يعلم فساد قول من قال: القدرة مؤثرة ويتوقف تأثيرها على الحياة. لأنا نقول: ذاته تعالى كافية في تأثير قدرته, وإن كانت ذاته لا تنفك عن الحياة. ولما بطل التعريفان.

عرّفه المصنف: بأنه ما يستلزم نفيه نفي أمر على غير جهة السببية, فيخرج السبب وجزاؤه, وفيه تعريف بالمساوي [في الخفاء] لأن الفرق بين السبب والشرط متوقف على فهم المعنى المميز بينهما. قلت: ولا ينعكس؛ لأن اللازم من نفيه نفي الملزوم على غير جهة السببية؛ لأن السبب: وصف ظاهر منضبط دلّ الدليل السمعي على كونه معرفًا للحكم الشرعي. ثم اعلم أن الشرط ينقسم إلى: عقلي, وشرعي, ولغوي. فالعقلي: كالحياة للعلم, فإن العقل هو الذي يحكم بأن العلم لا يوجد إلا بحياة. وأما الشرعي: فكالطهارة للصلاة, فإن الشرع هو الحاكم بذلك. وأما اللغوي: فمثل: «إن دخلت الدار فأنت طالق» , فإن أهل اللغة وضعوا هذا التركيب ليدل على أن ما دخلت عليه «إن» هو الشرط, والآخر المعلق به هو الجزاء, ثم الشرط اللغوي استعملوه في السببية غالبًا, يقال: «إن دخلت الدار فأنت طالق» والمراد أن الدخول سبب للطلاق, فيلزم من وجوده وجوده, لا مجرد كون عدمه مستلزمًا لعدمه من غير سببية. ويستعمل في شرط شبيه بالسبب من حيث إنه يستتبع الوجود, وهو الشرط الذي لم يبق للمسبب أمر يتوقف عليه سواه, فإذا وجد ذلك الشرط فقد وجدت الأسباب والشروط كلها, فيوجد المشروط.

فإذا قيل: «إن طلعت الشمس ضاء البيت» , فهم منه أنه لا تتوقف إضاءته إلا على طلوعها, ولأنه يستعمل فيما لم يبق للمسبب سواه, يخرج ما لولاه لدخل لغة, فإذا قيل: «أكرم بني تميم إن دخلوا» , فلولا الشرط عمّ وجوب الإكرام جميعهم المقتضي, فإذا ذكر الشرط علم أنه بقي شرط لولاه لكان المقتضي [تمامًا] واستتبع مقتضاه, فيقتضي الوجود لوجود الشرط والعدم لولاه, فيقصر الإكرام على الداخلين ويخرج غير الداخلين, ولولاه ما خرجوا. واعلم أن الشرط إما أن يتحد أو يتعدد, وإذا تعدد فإما أن يكون كل واحد شرطًا على الجمع حتى يتوقف المشروط على حصولهما جميعًا, أو على البدل حتى يحصل بحصول أيهما كان, فهذه ثلاثة. والجزاء أيضًا كذلك؛ لأنه إما أن يتحد أو يتعدد, وإذا تعدد فإما على الجمع حتى يلزم حصول هذا وذاك معًا, وإما على البدل حتى يلزم حصول أحدهما مبهمًا, فهذه أيضًا ثلاثة, فإذا اعتبر التركيب صارت ثلاثة من الشرط وثلاثة من الجزاء بتسع صور, فلو قال: «إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان» فدخلت إحداهما, فقيل: تطلقان معًا, وقيل: الداخلة فقط, وقيل: لا تطلق واحدة منهما نظرًا إلى أنه علق على الجمع, أو على البدل. ثم اعلم أن حكم الشرط حكم الاستثناء في الاتصال, إلا لتنفس سعال, وأنه إذا تعقب جملًا أهو للجميع أم إلى الأخيرة فقط؟ .

وعن أبي حنيفة: أنه للجميع, ففرق بين الشرط والاستثناء, حيث جعل الشرط للجميع, والاستثناء إلى الأخيرة, فإن نظر إلى أنه مقدم تقديرًا فهو مقدم على ما يرجع إليه فقط. ولما كان الشرط له صدر الجملتين؛ لأن الشرط قسم من الكلام, فحقه أن يصدر به ليعلم نوعه, كما فعلوا في الاستفهام, والقسم, والنهي, والنفي. قيل في نحو: «أكرمك إن دخلت الدار» ما تقدم جملة خبرية والجزاء محذوف تقديره: «أكرمك إن دخلت الدار أكرمك» , لدلالة الخبر - وهو أكرمك الأول - عليه, وإنما صير إليه مراعاة [لتعدية] الواجب كما وجب في الاستفهام والقسم, وقولهم هذا إن عنوا به أنه ليس بجزاء في اللفظ فمسلّم, وإلا لا نجزم, وإن عنوا ليس بجزاء في المعنى فعناد, إذ يعلم قطعًا أنه لا يدل إلا على إكرامٍ مقيد بقيد دخول الدار, ولذلك لو لم يدخل ولم يكرم, لم يعدّ كاذبًا, والتعليق ثانيًا لا ينافي الإطلاق أولًا, نعم يدل على التقييد ثانيًا وأن المراد بالمطلق هو المقيد, وهو المراد بقولنا: جزءًا في المعنى. والحق: أنه لما كان المتقدم جملة مستقلة, عومل معاملة المستقل لفظًا فلم يجزم, وأريد به الجزاء معنى, فقدر الجزاء دالًا على أنه مراد تعليقه بالشرط, وإن استقلت لفظًا فروعيت فيه الشائبتان, ولذلك قال بكل منهما قائل, وجاز الإطلاق بالاعتبارين.

مسألة: التخصيص بالصفة

قال: (التخصيص بالصفة, مثل: «أكرم بني تميم الطوال» , وهي كالاستثناء في العود, وعلى متعدد). أقول: الثالث من المخصصات المتصلة الصفة, نحو: «أكرم بني تميم الطوال» , فتقصر الصفة - وهي الطوال العام - وهو بني تميم - على بعض أفراده وهو الطوال, وهو عند العود على متعدد, مثل: «أكرم بني تميم, ومضر وربيعة الطوال» مختلف فيه, أهو عائد إلى الجميع أم إلى الأخير كالاستثناء بعد الجمل؟ , والمختار المختار. قال: (التخصيص بالغاية, مثل: «أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا» , فيقصر على غير الداخلين, لا لصفة, وقد تكون هي والمقيد بها متحدين ومتعددين كالشرط, وهي كالاستثناء في العود على متعدد). أقول: الرابع من المخصصات المتصلة الغاية, نحو: «أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا» , فالغاية وهو إلى أن / يدخلوا - قصر العام - وهو بني تميم - على غير الداخلين, ثم كل واحد من الغاية وما قيد بها قد يكون متحدًا ومتعددًا على الجمع أو على البدل, فتأتي الأقسام التسعة كما في الشرط, ثم الغاية بعد المتعدد كالاستثناء في العود إلى الجميع أو إلى الأخيرة. والمذاهب المذاهب, والمختار المختار. قال: (التخصيص بالمنفصل, يجوز التخصيص بالعقل. لنا: {الله خالق كل شيء}.

وأيضًا: {ولله على الناس حج البيت} , وفي خروج الأطفال بالعقل. قالوا: لو كان مخصصًا لكان متأخرًا؛ لأنه بيان. قلنا: لكان متأخرًا بيانه, لا ذاته. قالوا: لو جاز به, لجاز النسخ. قلنا: النسخ على التفسيرين محجوب عن العقل. قالوا: تعارضا. قلنا: فيجب المحتمل). أقول: لما فرغ من التخصيص بالمتصل, شرع في التخصيص بالمنفصل, وهو الدليل العقلي والنقلي, سواء كان النقلي قطعيًا أو ظنيًا, وفيه مسائل: الأولى في التخصيص بالعقل: ذهب مالك والجمهور إلى جواز التخصيص بالعقل, ومنعه قوم. لنا: {الله خالق كل شيء} , والدليل العقلي يمنع أن يكون تعالى مخلوقًا, وقد تقدم ما فيه.

ولنا أيضًا: {ولله على الناس حج البيت} , والعقل قاض بخروج من لا يفهم الخطاب, كالأطفال والمجانين. قلت: لقائل أن يقول: خصّ بمتصل, وهو بدل البعض؛ لأن من لا يفهم الخطاب غير مستطيع, أو بمنفصل وهو قوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاث ... الحديث». احتج الأقلون بوجوه: الأول: لو كان خروج الواجب في الأولى, وخروج الأطفال والمجانين في الثانية تخصيصًا, لصح إرادة الواجب من قوله: {الله خالق كل شيء} , ولصح إرادة الصبي من: {ولله على الناس حج البيت} لغة. أما الملازمة؛ فلأن تلك مسمياته لغة, وإطلاق اللفظ على مسمياته لغة صحيح [لغة] قطعًا. وأما بطلان التالي؛ فلأنه إذا قلنا: هذا خالق كل شيء, فهم لغة أنا أردنا غير نفسه, ولو أراد فيه نفسه لكان مخطئًا لغة.

الجواب: أن التخصيص للمفرد وهو كل شيء, ويصح إرادة الجميع به لغة, فإذا وقع في التركيب فما نسب نفيه إليه - وهو المخلوقية - هو المانع من إرادة الجميع والقاضي بذلك هو العقل, ولا معنى للتخصيص إلا ذلك. ولقائل أن يقول: يصلح في التركيب للجميع لغة, ولو أريد لم يخطئ لغة إنما يكذب في المعنى, والخطأ لغة غير الكذب في الخبر. قالوا ثانيًا: لو كان العقل مخصصًا لكان متأخرًا, أما الملازمة؛ فلأن تخصيص الشيء بيان للمراد منه, والبيان متأخر عن المبين, لامتناع البيان ولا مبين, وأما انتفاء التالي؛ فلتقدم العقل على ورود الخطاب ضرورة. الجواب: أن ذات العقل هو المتقدم, أما كونه بيانًا فمتأخر. قالوا ثالثًا: لو جاز التخصيص بالعقل لجاز النسخ بالعقل, وأما الملازمة فلأن النسخ بيان كالتخصيص, وأما بطلان التالي فبالاتفاق. الجواب: منع الملازمة, والفرق: أن النسخ رفع الحكم الشرعي, أو بيان انتهاء أمد الحكم الشرعي, وكلاهما محجوب عن العقل, بخلاف التخصيص فإن خروج البعض عن الخطاب يدركه العقل, كما في الصور المذكورة. قالوا رابعًا: تعارض دليل الشرع ودليل العقل, فترجيح أحدهما بلا مرجح تحكم. الجواب: منع التحكم؛ لأنهما لما تعارضا - ودليل العقل لا يحتمل التأويل لكونه قاطعًا, ودليل الشرع يحتمل إذ الدلالة ظنية - وجب تأويل المحتمل جمعًا بين الأدلة, ولا كذلك التعارض لأنه إبطال لهما.

مسألة: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب

قال: (مسألة: يجوز التخصيص للكتاب بالكتاب. أبو حنيفة, والقاضي, والإمام: إن كان الخاص متأخرًا, وإلا فالعام ناسخ, تساقطا. لنا: {وألات الأحمال} , مخصص لقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم} , وكذلك {والمحصنات من الذين} , مخصص لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات}. وأيضًا: لا يبطل القاطع بالمحتمل. وقالوا: إذا قال: «اقتل زيدًا» , ثم قال: «لا تقتلوا المشركين» , فكأنه: لا تقتل زيدًا, فالثاني ناسخ. قلنا: التخصيص أولى لأنه أغلب ولا رفع فيه, كما لو تأخر الخاص. قالوا: على خلاف قوله تعالى: {لتبين للناس}. قلنا: {تبيانًا لكل شيء}. والحق: أنه المبين بالكتاب وبالسنة. قالوا: البيان يستدعي التأخير. قلنا: استبعاد. قالوا: قال ابن عباس: «كنا نأخذ بالأحدث». قلنا: يحمل على غير المخصص جمعًا بين الأدلة). أقول: ذهب الشافعي وكثير من أصحابه ومعظم أصحابنا, والدبوسي وجمع من الحنفية إلى جواز تخصيص الكتاب بالكتاب.

وحكى الآمدي عن أبي حنفية, والقاضي, والإمام, أن العام إن تأخر فهو ناسخ, وإن تقدم فالخاص مبين له, وإن جهل تساقطا, ولا يثبت هذا والله أعلم عن أبي حنيفة. قال: لنا: إن قوله تعالى: {وألات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} , مخصص لقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم} الآية. وفي التمسك بها نظر؛ لأن كل منهما عام من وجه, خاص من وجه فليس تخصيص إحداهما بالأخرى بأولى من العكس, وقد تقدم له في الإجماع أن ابن عباس يقول بأبعد الأجلين, وقال به سحنون من أصحابنا. ومن لا يقول بأبعد الأجلين, قد يكون المخصص عنده السنة, هذا مع

جواز أن يكون {وألات} متأخرًا, فلا ينهض على المخالف. واحتج أيضًا: بأن {ولا تنكحوا المشركات} عام, وقد خصَّ بقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم}. وفي التمسك بهذا النظر؛ إذ المشرك من جعل لله شركاء وهم عبدة الأصنام, لا أهل الكتاب. سلمنا, ويكون التخصيص بها لتأخرها. واحتج أيضًا من جهة العقل: بأنه لو لم يخص به لبطل القاطع بالمحتمل؛ لأن دلالة الخاص على مدلوله قطعية, ودلالة العام على جميع الأفراد محتملة؛ لجواز أن يرد به الخاص, فلو لم يخص به العام المتأخر بل أبطل الخاص العام, كنا أبطلنا القاطع بالمحتمل. احتج الآخرون بوجوه أربعة: الأول: إذا قال: «اقتل زيدًا» , ثم قال: «لا تقتلوا المشركين» , فكأنه قال: لا تقتل زيدًا ولا عمرًا ... إلى آخر الأفراد, وإنما اختصر, ولو قال: «لا تقتل زيدًا» لكان نسخًا, فكذلك هذا. «لا تقتل زيدًا» لكان نسخًا, فكذلك هذا. الجواب: لا نسلم أنه مثل قولنا: «لا تقتل زيدًا» , إذ لا يمكن في هذا التخصيص, بل يتعين النسخ. أما إذا ذكر بلفظ العموم, فالتخصيص ممكن, فلا يصار إلى النسخ

لوجهين: الأول: أن التخصيص أغلب, حتى قيل: لا عام إلا وهو مخصص. الثاني: أن النسخ وهو رفع والتخصيص بيان لا رفع فكان أولى, كما لو تأخر الخاص, فإن العلم يخص به وإن كان النسخ محتملًا, بأن يقرر حكم العام ثم يرفع, والنقض أقوى من الترجيح المذكور لأن للآخر أن يقول: النسخ إعمال للدليلين في زمنين, والتخصيص إبطال في بعض أفراده. قالوا ثانيًا: تخصيص الكتاب بالكتاب على خلاف قوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم} , إذ التخصيص تبيين, فيكون المبين الكتاب لا الرسول, فيلزم وقوع نقيض ما أخبر الله تعالى به. الجواب: المعارضة بأنه تعالى وصف القرآن بأنه {تبيانًا لكل شيء} والكتاب شيء, فيكون تبيانًا له. ولما كان الجواب بالمعارضة جدليًا. أجاب: بأن الكل ورد على لسان النبي عليه السلام, فهو المبين تارة بالكتاب وتارة بالسنة, فلا مخالفة ولا تعارض, ومع أنه لو صح لم يكن الخاص المتأخر مخصصًا. قالوا ثالثًا: البيان يستدعي التأخير, فلا يبين المتقدم المتأخر, بل يكون المتأخر رافعًا له. الجواب: لا نسلم أن البيان يستدعي التأخير, بل يستبعد عدم تأخيره,

مسألة: يجوز تخصيص السنة بالسنة

والاستبعاد لا يوجب المنع. مع أن لنا أن نقول: المتأخر كونه بيانًا لا ذاته, وأنه كذلك. قالوا رابعًا: قال ابن عباس: «كنا نأخذ بالأحداث» , وهو ظاهر في أخذ الجماعة به, فكان إجماعًا, والعام المتأخر أحدث فوجب الأخذ به وترك الخاص المتقدم, وهو المطلوب. الجواب: أنه يحمل على ما لا يقبل التخصيص, جمعًا بين أدلتنا ودليلكم, لأنا إن حملنا على ظاهره حتى يتناول العام المخصص وما يحتمل التخصيص, لزم إبطال دليلنا. قيل: إن حملناه على العام غير المخصص, كان جمعًا بين الأدلة, ولا يحمل على غير العام المخصص, إذ فيه تسليم جواز الأخذ بالعام الذي يحتمل التخصيص؛ إذ يصدق عليه أنه غير العام المخصص, وهو باطل عند المجيب. ويكمن - على بُعْد - أن يجعل المخصص اسم فاعل. قال: (مسألة: يجوز تخصيص السنة بالسنة. لنا: «فيما دون خمسة أوسق صدقة» , مخصص لقوله: «فيما سقت السماء العشر» , وهي كالتي قبلها). أقول: الجمهور على جواز تخصيص السنة بالسنة.

مسألة: يجوز تخصيص القرآن بالسنة

احتجوا: بأنه لو لم يجز لم يقع, وقد وقع, فإن قوله عليه السلام: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» , مخصص / لقوله عليه السلام: «فيما سقت السماء العشر» , فإن الثاني يتناول ما دون خمسة أوسق, والحديثان في الصحيح, قال: (وهي كالتي قبلها) يعني في انتهاض الدليل العقلي من أنه لا يبطل القاطع بالمحتمل. قال: (مسألة: يجوز تخصيص السنة بالقرآن. لنا: {تبيانًا لكل شيء} , والسنة شيء. وأيضًا: لا يبطل القاطع بالمحتمل. قالوا: {لتبيين} , وقد تقدم). أقول: تخصيص السنة بالقرآن جائز عند الجمهور. لنا: {تبيانًا لكل شيء} , والسنة شيء, وأيضًا: لا يبطل القاطع

مسألة: يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد

وهو القرآن بخصوصه بالمحتمل وهو السنة لعمومها. قالوا: قال تعالى: {لتبين للناس} فدل على أنه المبين, فلا يكون القرآن مبينًا. الجواب: ما تقدم, وهو أنه مبين تارة بالكتاب, وأخرى بالسنة. قال: (يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد. وقال به الأئمة الأربعة, وبالمتواتر اتفاقًا. ابن أبان: إن خص بقطعي. الكرخي: إن خص بمنفصل. القاضي والإمام: بالوقف. لنا: أنهم خصوا: {وأحل لكم ماء وراء ذلكم} , بقوله: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» , و {يوصيكم الله} , بقوله: «لا يرث القاتل ولا الكافر من المسلم, ولا المسلم من الكافر» , «ونحن معاشر الأنبياء لا نورث». وأورد: إن كانوا أجمعوا فالمخصص الإجماع, وإلا فلا دليل. قلنا: أجمعوا على التخصيص بها. قالوا: ردّ عمر خبر فاطمة بنت قيس «أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة» لما كان مخصصًا لقوله: {أسكنوهن} , ولذلك قال: «كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة».

قلنا: تردده في صدقها ولذلك قال: لا ندري أصدقت أم كذبت؟ . قالوا: العام قطعي, والخبر ظني. زاد ابن أبان والكرخي: لي يضعف بالتجوز. قلنا: التخصيص في الدلالة - وهي ظنية - فالجميع أولى. القاضي: كلاهما من وجه, فوجب الوقف. قلنا: الجمع أولى). أقول: يجوز تخصيص القرآن بالسنة المتواترة, وحكى المصنف الاتفاق فيه, وحكى القرافي فيه خلافًا. وأما تخصيصه بخبر الواحد, فحكى الآمدي عن الأئمة الأربعة جوازه ولا يثبت عن أبي حنيفة.

وقال ابن أبان: إن خص الكتاب بدليل قطعي متصلًا كان أو منفصلًا, جاز تخصيصه بعد ذلك بخبر الواحد وإلا فلا, وذهب الكرخي إلى أنه إن خصّ بدليل منفصل جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا. وتوقف القاضي. احتج للمختار: بأن الصحابة خصوا القرآن بخبر الواحد ولا نكير؛ فكان إجماعًا, فمن ذلك: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} يدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها, خصوه بما في الصحيح, قال عليه السلام: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها». وأيضًا: قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} يقتضي الميراث للولد عمومًا, وقد خص بقوله عليه السلام: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» لا يعرف هذا الحديث بهذا اللفظ, وفي الصحيح: «لا نورث ما تركنا صدقة» , وعند النسائي «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» وخصوها أيضًا

بقوله عليه السلام: «لا يرث القاتل» , هذا لفظه عند الترمذي, وخصوها أيضًا بما في الصحيح, وهو قوله عليه السلام: «لا يرث الكافر المسلم, ولا المسلم الكافر». واعترض هذا الدليل: بأنهم إن أجمعوا على خروج ما ذكرتم عن عموم الآية, فالمخصص الإجماع لا السنة, وإلا فلا نسلم التخصيص, إذ لا دليل عليه. الجواب: أنهم أجمعوا على التخصيص بأخبار الآحاد, حيث لم ينكروه لما وقع؛ فلا يكون التخصيص بالإجماع, بل بخبر الواحد, ودليله الإجماع, ومنه يعلم ضعف قول من قال: إنما ينهض إن ثبت أن الآيتين ما خُصتا بقطعي ولا بمنفصل, فإن التمسك أنهم لم ينكروه - حيث وقع - وإلا كانوا يتوقفون على كونها خصت بقطعي أو بمنفصل. قالوا: ردّ عمر خبر فاطمة بنت قيس, أن النبي عليه السلام لم يجعل لها سكنى ولا نفقة.

لما كان مخصصًا لقوله تعالى: {أسكنوهن} , فقال: «كيف نترك كتاب ربنا, وسنة نبينا لقول امرأة» , لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لخص به, وجعل علة الرد معارضته للكتاب. الجواب: إنما رده لتردده في صدقها, يدل على ذلك قوله: «لا ندري أصدقت أم كذبت» , فعلل الرد بالتردد في الصدق, لا بكونه خبر واحد, وإنما طرق إليها الوهم, وإلا فالصحبة ظاهرة في العدالة. قالوا: العام - وهو الكتاب - قطعي, والخاص - وهو خبر الواحد - ظني, فلو خص به لزم تقديم الظني على القطعي. الجواب: أن التخصيص وقع في الدلالة, لأنه رفع للدلالة في بعض الموارد, فلم يلزم ترك القطعي بالظني, بل ترك الظني بالظني. فإن قيل: فقد تعادلا فلا ترجيح للخاص. قلت: لا منافاة بين التعادل بحسب الذات والترجيح بسبب خارج - وهو كون الأصل في الدليل الإعمال - يرجح الخاص. ويقرر بعبارة أخرى, فنقول: العام قطعي المتن ظني الدلالة, والخبر الخاص بالعكس؛ فكان لكل قوة من وجه, فوجب الجمع.

مسألة: الإجماع يخصص القرآن والسنة

وقال الكرخي مثل ذلك, إلا أنه زاد قيدًا, فقال: العام القطعي [لم] يضعف بالتجوز, فصرفه عن حقيقته إلى المجاز - لأن المخصص بالمنفصل مجاز عنده - والقطعي يترك بالظني إذا ضعف بالتجوز, إذ لا يبقى قطعيًا, إذ نسبته إلى جميع مراتب التجوز بالجواز بالسواء, وإن كان ظاهرًا في الباقي؛ فارتفع مانع القطع, وابن أبان مثل ذلك لما ذكر الكرخي. والجواب: ما تقدم. احتج القاضي: بأن كلا منهما قطعي من وجه ظني من وجه, فتعارضا فيجب الوقف. الجواب: يرجح الخبر, لأن اعتباره جمع بين الدليلين, واعتبار الكتاب إبطال للخبر جملة, والجمع أولى من الإبطال. قال: (مسألة: الإجماع يخصص القرآن والسنة, كتنصيف آية القذف على العبد, فلو عملوا بخلاف نص تضمن ناسخًا). أقول: لم يختلفوا في أن الإجماع يخصص العموم, والمخصص في الحقيقة سنده, لعدم اعتباره زمن الوحي, وهذا كما خصوا آية القذف, فإن ظاهرها ثمانون للحر والعبد, وأوجبوا على العبد نصفها, أما لو عملوا بخلاف ما هو نص؛ فإن إجماعهم يتضمن ناسخًا, ومن ثَمّ قيل: الإجماع لا ينسخ به والفرق بين التخصيص به والنسخ لا يرجع إلى خلاف معنوي.

مسألة: العام يخص بالمفهوم

قال: (مسألة: العام يخص بالمفهوم إن قيل به. ومثل: «في الأنعام الزكاة» , «في الغنم السائمة الزكاة» , للجمع بين الدليلين. فإن قيل: العام أقوى, فلا معارضة. قلنا: الجمع أولى كغيره). أقول: من قال بالمفهوم, قال إنه يخصص العموم, وذكر في مثاله من مفهوم المخالفة لأنه أضعف, فيلزم من ثبوته ثبوت الأقوى: «في الأنعام الزكاة» , فإنه عام في السائمة والمعلوفة. ثم يقول: «في الغنم السائمة الزكاة» , فيدل بالمفهوم على أنه ليس في المعلوفة زكاة, فيخص الأول بالسائمة وتخرج عنه المعلوفة. مثاله من الإحكام: أن الماء لا ينجسه إلا ما غير طعمه وريحه, مع مفهوم إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثًا. لنا: أنه دليل شرعي عارض دليلًا آخر, فكان العمل جمعًا بين الأدلة. فإن قيل: المنطوق أقوى, والأضعف لا يعارض الأقوى. قلنا: الجمع أولى كغيره من المخصصات, ولا يشترط التساوي في القوة كما في القرآن بخبر الواحد. قال: (مسألة: فعله عليه السلام يخصص العموم, كما لو قال:

الوصال أو الاستقبال للحاجة, أو كشف الفخذ حرام على كل مسلم, ثم فعل, فإن ثبت الاتباع بخاص فنسخ, وإن ثبت بعام, فالمختار تخصيصه بالأول. وقيل: بالوقف. لنا: أن التخصيص أولى للجمع. قالوا: الفعل أولى لخصوصه. قلنا: الكلام في العمومين). أقول: فعله صلى الله عليه وسلم مخصص للعموم عندنا, وعند الشافعية, والحنفية, خلافًا للكرخي, كما لو قال: الوصال, أو استقبال الحاجة, أو كشف الفخذ حرام على كل مسلم, ثم فعل ذلك, فهو مبين أنه غير مراد في العموم, هذا إذا لم يثبت وجوب اتباع الأمة بدليل خاص, أما لو ثبت فهو نسخ لتحريمه بالنسبة إلينا. والظاهر: أن النهي عن الاستقبال مخصوص بالصحراء؛ لأنه استدبر في

مسألة: الجمهور: إذا علم صلى الله عليه وسلم بفعل مخالف للعموم

البنيان, وثبت الاتباع بخاص وهو قياسنا عليه؛ لأنه أشد احترامًا, ولا نسخ لإمكان الجمع, فقول المصنف: (ثم فعل) أي إذ استقبل في الصحراء. أما لو يثبت الاتباع فيه إلا بعام, مثل: {فاتبعوه} , و {لقد كان لكم في رسول الله أسوة} , فالمختار: أن ذلك العام وهو دليل الاتباع مخصوص بالأول, ولا يجب عليهم الاقتداء به في الفعل. وقيل: يجب عليهم العمل [بموافق] دليل الاتباع, فيتبع في فعله. وقيل: بالوقف. لنا: أن اعتبار الأول تخصيص لدليل الاتباع, ففيه الجمع بين الدليلين, واعتبار دليل الاتباع إبطال للدليل الأول, فالجمع أولى. قالوا: الفعل خاص والقول عام, والخاص مقدم. الجواب: أن الفعل لا دلالة له بالنسبة إلينا, إنما الدليل القول الأول ودليل الاتباع وهما عامان, والأول أخص, فالعمل به أولى. وفيه نظر؛ إذ للقائل أن يقول: الدليل مجموع دليل الاتباع مع الفعل, وليس بعام أعم. قال: (مسألة: الجمهور: إذا علم صلى الله عليه وسلم بفعل مخالف للعموم ولم ينكر, كان مخصصًا للفاعل. فإن تبين معنى حمل عليه, موافقه بالقياس, أو بحكمي على الواحد.

لنا: أن سكوته دليل الجواز. فإن لم يتبين, فالمختار لا يتعدى لتعذر دليله). أقول: إذا علم صلى الله عليه وسلم بفعل للمكلف مخالف للعموم ولم ينكره كان خصصًا للفاعل, فإن تبين معنى يكون علة لتقريره عليه السلام, حمل عليه من يوافق ذلك الشخص في ذلك المعنى, إما بالقياس, وإما بقوله عليه السلام: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» , فإن وجد ذلك المعنى في جميع الأفراد, كان ذلك ناسخًا للعام, على القول بأن القياس ينسخ. لنا: أن سكوته دليل جواز الفعل, إذ علم من عادته أنه لو لم يكن جائزًا لما سكت عن إنكاره, وإذا ثبت أنه دليل الجواز وجب التخصيص به جمعًا بين الأدلة, أما إذا لم يتبين معنى هو العلة, فالمختار لا يتعدى إلى غيره, لتعذر دليله, أما القياس فظاهر, وأما «حكمي على الواحد» , فهو أنا لو أعلمناه كنا أبطلنا العام بكلية, بخلاف ما لو خصصنا كان جمعًا بين الأدلة,

مسألة: الجمهور: مذهب الصحابي ليس بمخصص

بأن يحمل العام على غير الفاعل, والتقرير على الفاعل, والحديث على الصور التي وجد فيها المعنى, وقرر تعذره. أيضًا: بأن «حكمي على الواحد» مخصوص إجماعًا, مما علم فيه عدم الفارق, وللاختلاف في الأحكام قطعًا, وهنا لم نعلمه. قال: (مسألة: الجمهور: مذهب الصحابي ليس بمخصص ولو كان الراوي, خلافًا للحنفية والحنابلة. لنا: ليس بحجة. قالوا: يستلزم دليلًا, وإلا كان قياسًا فيجب الجمع. قلنا: يستلزم في ظنه, فلا يجوز لغيره اتباعه. قالوا: لو كان ظنيًا لبينه. قلنا: ولو كان قطعيًا لبينه. وأيضًا: لم يخف عن غيره. وأيضًا: لم يجز لصحابي آخر مخالفته, وهو اتفاق). أقول: مذهب الصحابي لا يخصص العموم عندنا, وذهب بعض أصحابنا, وبعض الشافعية, وأكثر الحنفية والحنابلة إلى أنه مخصص, والخلاف فيه ينبني على حجيته.

مسألة: الجمهور: العادة في تناول بعض خاص ليس بمخصص

احتجوا: بأن مخالفة الصحابي للعام لا تكون إلا بدليل وإلا كان فاسقًا, لكنهم عدول, فيعتبر ذلك الدليل - وإن لم يعرف بعينه - ويخصص به جمعًا بين الدليلين, وهذا الدليل إنما ينهض إذا كان الصحابي هو الراوي, وإلا [فقد] يكون اطلع عليه, إلا أن يغير الدليل بأن يقول: قول الصحابي لا يكون إلا لدليل وإلا كان فاسقًا, وذلك الدليل مخصص جمعًا بين الأدلة. الجواب: أنه يستدعي دليلًا في ظنه, وما ظنه المجتهد دليلا لا يكون دليلًا على غيره ما لم يعلمه بعينه مع وجه دلالته, فلا يجوز لغيره اتباعه في اعتباره والتخصيص به؛ لأنه تقليد من مجتهد, وهو لا يجوز. قالوا – دفعًا / لهذا الجواب -: دليل قطعي, إذ لو كان ظنيًا لبينه للتهمة. الجواب من وجوه ثلاثة: الأول: المعارضة, بأنه لو كان قطعيًا لبينه دفعًا للتهمة. وأيضًا: لو كان قطعيًا لم يخف على غيره عادة. وأيضًا: لو كان قطعيًا لم يجز لصحابي آخر مخالفته, لكن مخالفته جائزة اتفاقًا. قال: (مسألة: الجمهور: أن العادة في تناول بعض خاص ليس

بمخصص, خلافًا للحنفية, مثل: حرمت الربا في الطعام, وعادتهم تناول البر. لنا: أن اللفظ عام لغة وعرفًا, ولا مخصص. قالوا: يخص به, كتخصيص الدابة بالعرف, والنقد بالغالب. قلنا: إن غلب الاسم عليه كالدابة اختص به, بخلاف غلبة تناوله والفرض فيه. قالوا: لو قال: «اشتر لحمًا» وعادتهم تناول الضأن, لم يفهم سواه. قلنا: تلك قرينة في المطلق, والكلام في العموم). أقول: المعروف من مذهب مالك, أن العادة مخصصة للعموم, وبه قال أبو حنيفة, وذهب بعض أصحابنا, وجمهور الشافعية إلى أنها غير مخصصة, وهذا إذا كان عادة المخاطبين تناول طعام خاص, فورد خطاب عام بتحريم الطعام, كقوله: «حرمت عليكم الطعام» والفرض أنه عادتهم زمن الخطاب تناول البُر, فهل يعم جميع الطعام أو يخص البر؟ . فيه خلاف. والعجب من المصنف كيف غفل عما ذكر في كتابه في الفقه في باب الوكالة, حيث قال: «وكذلك المخصص بالعرف» , وفي كتاب العارية من المدونة في الذي يسأل رجلًا يسرج له دابة ليركبها في حاجة, فيقول له

ربها: «اركبها حيث شئت» , فهذا يعلم أنه لم يسرجها إلى الشام ولا إلى إفريقية. احتج: بأن اللفظ عام لغة, ولم يطرأ عليه عرف نقله, إذ الفرض أن المعتاد أكلهم البر, والطعام باق على عمومه, فيجب العمل بالمقتضي السالم عن المعارض. قلت: الحق أنه ظاهر في إرادة المجاز العرفي. احتج القائل بأنها تخصيص بوجهين: الأول: قالوا: يخص بها, كتخصيص الدابة بذوات الأربع, وهو كونه في اللغة لكل ما دبّ, وكما يخص بها النقد بالغالب بعد كونه في اللغة لكل نقد. الجواب: أن ذلك لتخصيص بذلك المسمى عرفًا, بخلاف ما نحن فيه, فإن العادة في تناوله لا في غلبة الاسم عليه, ولو فرضنا غلبة الاسم لاختص به كما في الدابة, وكان المخصص غلبة الاسم لا غلبة العادة, والفرض إنما وقع في غلبة العادة فقط. فقلت: يلزم من غلبة التناول غلبة الاسم, فيرجع إلى خلاف في حال. قالوا أيضًا: لو قال: «اشتر لحمًا» والمعتاد في البدو تناول لحم الضأن, لم يفهم سواه, فعلم أن غلبة التناول يستلزم غلبة الاسم. الجواب: أن ذلك غير محل النزاع, لأن «لحمًا» مطلق نزل على قيد بقرينة, فليس فيه ترك المطلق / وإنما الكلام في العموم هل يحمل على الخصوص فيترك به الظاهر, وأين أحدهما من الآخر؟ .

مسألة: الجمهور: إذا وافق الخاص حكم العام فلا تخصيص

فإن دلالة المطلق على المقيدات دلالة [الجزء على الكل] , ودلالة العام على إفراده دلالة الكل على الأجزاء, وهي أقوى لأنها تضمنية. قال: (مسألة: الجمهور: إذا وافق الخاص حكم العام فلا تخصيص, خلافًا لأبي ثور, مثل: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» , وقوله في شاة ميمونة: «دباغها طهورها». لنا: لا تعارض, فيعمل بهما. قالوا: المفهوم يخصص العموم. قلنا: مفهوم اللقب مردود). أقول: إذا وافق الخاص العام في الحكم, فإن كان بمفهومه ينفي الحكم عن غيره, فقد سبق أنه مخصص وإلا فلا, خلافًا لأبي ثور, مثل: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» , مع ما أخرجه البزار والطبراني في معجمه في شاة ميمونة: «دباغها طهورها» , فيعم طهارة كل إهاب ولا يختص بشاة ميمونة.

مسألة: رجوع الضمير إلى البعض ليس بتخصيص

لنا: لا تعارض بين منطوق العام ومنطوق الخاص, ومفهوم الخاص غير معتبر, فيعمل بمقتضى كل منهما, عملا بالمقتضى السالم. قالوا: تقدم أن المفهوم يخصص العموم, ومفهوم الخاص نفي الحكم عن سائر صور العام سواه, فوجب تخصيصه به جمعًا بين الأدلة. الجواب: أن مفهوم اللقب ليس بحجة. والحق: أن الخلاف في التخصيص به ينبني على حجيته. قال: (مسألة: رجوع الضمير إلى البعض ليس بتخصيص. الإمام, وأبو الحسين: ليس بتخصيص. وقيل: بالوقف, مثل: {والمطلقات} , مع {وبعولتهن}. لنا: لفظان فلا يلزم من مجاز أحدهما مجاز الآخر. قالوا: يلزم مخالفة الضمير. أجيب: كإعادة الظاهر. الوقف: لعدم الترجيح. وأجيب: بظهور العموم فيهما, فلو خصصنا الأول خصصناهما, ولو سلم فالظاهر أقوى). أقول: إذا ذكر عام وبعده ضمير يرجع إلى بعض متناولاته, لم يكن

تخصيصًا له عندنا وعند الحنفية وأكثر الشافعية. وذهب الإمام, وأبو الحسين البصري إلى أنه تخصيص, وتوقف قوم ونسب الآمدي الوقف إلى الإمام وإلى أبي الحسين. مثاله: قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ثم قال: {وبعولتهن أحق بردهن} , والضمير في {بردهن} للرجعيات, فلا يوجب تخصيص التربص بالرجعيات. لنا: أنهما لفظان, فلا يلزم من خروج أحدهما عن ظاهره وصيروته مجازًا خروج الآخر, وغايته أن ظاهر الضمير أن يكون عامًا وقد خصّ, فلا يلزم مثله فيما رجع إليه. قالوا: يلزم من خصوص الضمير - مع بقاء عموم ما له الضمير - مخالفة الضمير لما يرجع إليه, وأنه خلاف الأصل. الجواب: أن الضمير كإعادة الظاهر, ولا شك أنه لو أعاد الظاهر فقال: «وبعولة المطلقات» وأراد به ثانيًا الخصوص, لم يلزم منه / خصوص الأول, ولم نحكم بكونه غير الأول ومخالفًا له, فكذا هنا. قلت: وفيه نظر؛ لأنه إذا قال: «وبعولة المطلقات أحق بردهن» ,

مسألة: جواز تخصيص العموم بالقياس

كانت المطلقات هي [المذكورة] أولًا لظهور العهد, فيلزم التخصيص. القائل بالوقف قال: يلزم تخصيص الظاهر أو المضمر دفعًا للمخالفة, وكلاهما تحكم لعدم المرجح فوجب الوقف؛ لأنا إن أبقينا الأول على عمومه لزم مخالفة المضمر الظاهر, وإن خصصناهما لزم مخالفة ظاهرهما. الجواب: لا نسلم عدم الترجيح؛ لأنهما ظاهران في العموم, فإذا خصصنا الأول لزم تخصيص الثاني, وإذا خصصنا الثاني لم يلزم تخصيص الأول وما فيه مخالفة ظاهر واحد أولى مما فيه مخالفتان. ولو سلّم أنه لا يلزم من تخصيص الأول إلا مخالفة ظاهر واحد, لكان مخالفة ظاهر الضمير أولى من مخالفة ظاهر الظاهر, إذ مخالفة الأضعف دلالة أولى من مخالفة دلالة الأقوى, ووجه ضعفه: توقفه عليه من غير عكس. قال: (مسألة: الأئمة الأربعة, والأشعري, وأبو هاشم, وأبو الحسين: جواز تخصيص العموم بالقياس. ابن سريج: إن كان جليًا. ابن أبان: إن كان العام مخصصًا. وقيل: إن كان الأصل مخرجًا. والجبائي: يقدم العام مطلقًا. القاضي, والإمام: بالوقف. والمختار: إن ثبتت العلة بنص أو إجماع, أو كان الأصل مخصصًا, خصّ به, وإلا فالمعتبر القرائن في الوقائع, فإن ظهر ترجيح خاص فالقياس

وإلا فعموم الخبر. لنا: أنها كذلك كالنص الخاص, فيخصص بها جمعًا بين الدليلين. واستدل: بأن المستنبطة إما راجحة, أو مرجوحة, أو مساوية, والمرجوح والمساوي لا يخصص وقوع احتمال من اثنين أقرب من واحد معين. وأجيب: يجزيه في كل تخصيص, وقد رجح بالجمع. الجبائي: لو خص به لزم تقديم الأضعف بما تقدم في خبر الواحد, من أن الخبر يجتهد فيه في أمرين إلى آخره. وأجيب: بما تقدم, وبأن ذلك عند إبطال أحدهما, وهذا إعمال لهما, وبإلزام تخصيص الكتاب بالسنة والمفهوم لهما. واستدل: بتأخيره في حديث معاذ, وتصويبه. وأجيب: بأنه أخر السنة على الكتاب, ولم يمنع الجمع. واستدل: بأن دليل القياس الإجماع, ولا إجماع عند مخالفة العموم. وأجيب: بأن المؤثرة ومحل التخصيص يرجعان إلى النص, لقوله عليه السلام: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» , وما سواهما إن ترجح الخاص وجب اعتباره لأنه المعتبر, كما ذكر في الإجماع الظني, وهذه ونحوها قطعية عند القاضي, لما ثبت من القطع بالعمل بالراجح من الأمارات ظنية عند قوم, لأن الدليل الخاص بها ظني). أقول: يخص العام بالقياس عندنا, وعند الشافعي, وأحمد,

والأشعري, وأبي هاشم, وأبي الحسين. وقال ابن سريج: يخص بالقياس الجلي دون الخفي. وقال عيسى بن أبان: إن خص العام بنص, خص بعد ذلك بالقياس وإلا فلا, وإليه ذهب الكرخي, إلا أنه شرط أن يكون المخصص أولًا منفصلًا, وهذا هو الثابت المعول عليه عند الحنفية. وقيل: إن كان الأصل المقيس عليه مخرجًا من العام بنص, جاز إخراج ما شاركه في العلة قياسًا عليه, وإلا فلا. وقال الجبائي: العام مقدم مطلقًا. وتوقف القاضي والإمام. واختار المصنف: أن العلة إن ثبتت بنص أو إجماع, أو كان الأصل

مخرجًا من العام, خصّ بالقياس, وإلا بالمعتبر القرائن في آحاد الوقائع, فإن ظهر ترجيح خاص للقياس قدم, وإلا قدم عموم الخبر. ولو قال: وإلا فالعام لكان أولى, لأن الكلام في تخصيص العموم بالقياس أعم من أن يكون العام خبرًا أم لا. لنا: أن القياسات إذا كانت علية أوصافها ثابتة بنص أو إجماع, أو كان الأصل مخرجًا بنص, نزلت منزلة نص خاص في إفادة الظن, فكانت مخصصة جمعًا بين الأدلة. لا يقال: العلة قد تكون مستنبطة فيما إذا كان الأصل مخرجًا, فلا نسلم أنها حينئذ كالنص الخاص. لأنا نقول: القياس حينئذ يكون لازمًا لنص مقدم على العام, ولازم المقدم مقدم. وأيضًا: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» هو المخصص في الحقيقة, على ما سيذكر آخر المسألة. واستدل بدليل مزيف على الشق الثاني, وهو: أنه إذا انتفت الأمور الثلاثة ولم يظهر ترجيح خاص للقياس, قدم عموم الخبر [أن] العلة إذا كانت مستنبطة, فإما أن تكون راجحة على العام في محل التخصيص, أو مرجوحة أو مساوية, وإنما يخصص بها إذا كانت راجحة, فالتخصيص يثبت باحتمال بعينه, وينتفي باحتمالين, ووقوع احتمال من اثنين أقرب من

واحد معين, فيكون عدم التخصيص أقرب إلى النفس وأرجح في الظن, فيجب العمل بالعام, وهو المطلوب. الجواب: أن هذا بعينه يمنع كل تخصيص بعين ما ذكرتم. وفيه نظر؛ لأن المخصص في غير ما نحن فيه يتعين رجحانه بدليل يدل عليه. ثم أشار إلى جواب تفصيلي وهو: أن احتمال رجحانها لا يكون مساويًا لاحتمال عدم رجحانها؛ لأنه على تقدير يلزم الجمع بين الدليلين, وعلى تقدير عدم رجحانها يلزم إبطال أحدهما, والجمع أولى. وإلى هذا أشار بقوله: وقد رجح التخصيص بالعلة المستنبطة بالجمع, أو قد رجح مطلق التخصيص بالجمع, على أن يكون من تمام النقض الإجمالي, فكأنه قال: وقد رجحتم بالجمع, فما كان جوابهم هناك فهو جوابنا هنا. وبعض / الشارحين جعل: (واستدل) نقضًا للدليل الذي ذكره على مختاره, ووجه وروده أن يقال: وجوب التخصيص بالقياس على الأصل المخصص مبني على جواز التخصيص بالعلة المستنبطة؛ لأن تلك العلة لا يجوز أن تكون ثابتة بنص أو إجماع, وإلا لكان هو القسم الأول, لكن التخصيص بالمستنبطة لا يجوز لما ذكر. والجواب: ما مرّ, والتقرير الأول أسعد باصطلاحه, وإلا لقال: واعترض.

وأيضًا: صرح في الإحكام, أنه لإبطال تخصيص العموم بقياس علته مستنبطة. احتج الجبائي: بأنه لو قدم القياس على عموم الخبر, لزم تقديم الأضعف على الأقوى وهو باطل, أما الملازمة؛ فلأن الخبر يجتهد فيه في أمرين, والقياس في ستة أمور, وإن كان أصله خبرًا ففي ثمانية, وما توقف على مقدمات أكثر فهو أضعف. الجواب أولًا: بما تقدم - يعني في صدر المسألة - أن ما ذكرنا من الصور بمثابة نص خاص, لا كما حمل عليه الشراح بما تقدم في خبر الواحد؛ لأنه ثم من جهته, فلم يتقدم له هناك جواب. وثانيًا: أن الإلزام بما ذكرتم لا يرد علينا, وإنما لا يجوز عند إبطال أحدهما, وهذا إعمال لهما. وثالثًا: بالتزامه بما جوزتم من تخصيص الكتاب بالسنة وبالمفهوم, مع أنهما أضعف. وفي الثالث نظر؛ لأنه لا يقول بتخصيص القرآن بخبر الواحد, ولا يقول بمفهوم المخالفة فرعًا عن التخصيص به, وأما الخبر المتواتر ومفهوم الموافقة, فيمنع أنهما أضعف. واستدل الجبائي أيضًا على تقديم الخبر على القياس: بحديث معاذ, وقد تقدم في الإجماع. ووجهه: أنه قدم السنة على القياس وأقره عليه السلام, وذلك يدل على أنه لا عبرة بالقياس مع وجود الخبر, خالفه أو وافقه.

الجواب: أنه أخر السنة عن الكتاب, مع أنه يخصصه بالسنة المتواترة اتفاقًا, ولم يمنع تأخير السنة عن الكتاب الجمع بينهما, بأن يخص بها إذا كانت خاصة, فكذا لا يمنع تأخير القياس الجمع بينه وبين العام, بأن يخصص بالقياس إذا كان القياس خاصًا. وقد يقال: مقتضى الحديث ألا تقدم السنة على الكتاب. خالفناه للإجماع, فيعمل به فيما عداه, لكن لا يصح الإجماع. واستدل الجبائي أيضًا: بأن الدليل على حجية القياس هو الإجماع, ولا إجماع عند مخالفة العموم للخلاف فيه, فامتنع العمل به, إذ لا يثبت حكم إلا بدليل. الجواب: لا نسلم أن دليل كل قياس الإجماع, بل قد يكون نصًا, وما ذهبنا إليه كذلك, لأن النص على علة الحكم كالنص على الحكم, وإذا كان كذلك, كان تعدية / العلة المؤثرة وهي الثابتة بنص أو إجماع بذلك النص, وتعدية حكم محل التخصيص وهو الأصل المخصص بقوله عليه السلام: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» , لا بالإجماع. ثم قال: إن ما سوى المؤثرة ومحل التخصيص إن ترجح الخاص - وهو القياس - وجب اعتباره؛ لأن رجحان الظن هو المعتبر, كما ذكر في الإجماع الظني, يريد - والله أعلم - في مسألة إجماع أهل المدينة, وإن لم يكن الخاص راجحًا, وجب اعتبار العموم؛ لأن المقتضي للعمل - وهو العموم - موجود من غير مانع, فوجب العمل به, والقياس - وإن كان خاصًا وفيه الجمع بينهما - إلا أنه يحتمل ألا تكون العلة المستنبطة أو المختلف فيها علة.

المطلق والمقيد

ثم نبه المصنف على نكتة, فقال: (هذه القضية ونحوها قطعية عند القاضي, لما تقرر من وجوب العمل بالراجح من الأمارات قطعًا, ظنية عند قوم لأن الدليل الخاص لها ظني, والمأخوذ من الظني ظني). لا يقال: القاضي متوقف, فكيف يقال هذه قطعية عنده؟ . لأنا نقول: القاضي ذهب إلى أن العمل بالراجح قطعي لمن ظهر له الرجحان, فهذه قطعية عنده على تقدير الرجحان, وإن كان القاضي لم يظهر في هذه رجحان, وإذا كانت قطعية, فطعنا بتخطئة المخالفة فيها. قال: (مسألة: المطلق: ما دلّ على شائع في جنسه, فتخرج المعارف, ونحو: كل رجل ونحوه, لاستغراقهما. والمقيد: بخلافه, ويطلق المقيد على ما أخرج من شياع بوجه, كرقبة مؤمنة, وما ذكر في التخصيص من متفق ومختلف ومختار ومزيف, جار فيه, ويزيد مسألة: إذا ورد مطلق ومقيد). لما كان المطلق شبيهًا بالعام, والمقيد شبيهًا بالخاص, ذكرهما عقبهما. وعرّف المطلق بأنه: ما دلّ على شائع في جنسه, فقوله (ما دلّ) كالجنس, وقوله: (على شائع في جنسه) أي غير معين منه, فيتناول الموجود والمعدوم والمستحيل, ويخرج ما لا يكون شائعًا في جنسه, وهو ما لا يصدق على كثيرين كالجزأين الحقيقيين, نحو: زيد, وأنت, والعام

المستغرق؛ لأنه باعتبار كونه مستغرقًا لم يدل على شائع في جنسه, لاستغراقه جميع الجنس, ولا يخرج المحلى بالألف واللام إذا أريد به الماهية, ويخرج: «كل رجل» , ونحو: «لا رجل»؛ لأنه بما انضم إليه للاستغراق, وأنه ينافي الشيوع المذكور. وفي الكتب المشهورة: الفرق بين المطلق والنكرة؛ فاللفظ الدال على الماهية من حيث هي هي, هو المطلق, ومع كثرة معينة: ألفاظ متعددة, ومع كثرة مستغرقة: العام, ومع وحدة معينة: المعرفة, ومع وحدة غير معينة: النكرة. وحدّ المصنف يشملهما؛ لأن الشائع في جنس يصدق على الماهية / وعلى النكرة, والمبحوث فيه عند الأصوليين هو الثاني. والمقيد بخلاف المطلق وهو: لفظ دال على معنى غير شائع في جنسه فيتناول ما دلّ على معين, وما دلّ على شائع لا في جنسه, وهو العام. ويطلق المقيد على معنى آخر, وهو: ما أخرج من شائع بوجه من الوجوه, مثل: {رقبة مؤمنة} , فإنها وإن كانت شائعة في الرقاب المؤمنات, فقد أخرجت من الشياع بوجه, حيث كانت شائعة في المؤمنات وغيرها, فأزيل ذلك الشياع عنه, وقيد بالمؤمنة فكان مطلقًا من وجه,

مسألة: إذا ورد مطلق ومقيد

مقيدًا من وجه. وبين تعريفي المقيد عموم من وجه, لصدق الأول على زيد دون الثاني وصدق الثاني في رقبة مؤمنة دون الأول, وصدقهما معًا في عبدي, وكذا بين تعريف المطلق والمقيد بالتفسير الثاني, لصدق المطلق في رقبة وصدق المقيد في عبدي, وصدقهما في رقبة مؤمنة, وفيه نظر. ثم جميع ما ذكر من مخصصات العموم المتفق عليها والمختلف فيها والمزيف والمختار, جار في تقييد المطلق به, وزيد في المطلق مسألة واحدة, وهي مسألة حمل المطلق على المقيد, على أنها مذكورة, ثم فيما إذا وافق الخاص حكم العام, لكن لم يقل هناك بحمل العام على الخاص إلا شذوذًا, بخلاف هذا, فلذلك لم يستغن عنها بتلك. (قال: ويزيد مسألة: إذا ورد مطلق ومقيد, فإن اختلف حكمهما, مثل: «اكس وأطعم» , فلا يحمل أحدهما على الآخر بوجه اتفاقًا, ومثل: «إن ظاهرت فأعتق رقبة» , مع: «لا تملك رقبة كافرة» , واضح. فإن لم يختلف حكمهما, فإن اتحد موجبهما مثبتين, حمل المطلق على المقيد لا العكس, بيانًا لا نسخًا. وقيل: نسخ إن تأخر المقيد. لنا: أنه جمع بينهما؛ لأن العمل بالمقيد عمل بالمطلق. وأيضًا: يخرج بيقين وليس بنسخ؛ لأنه لو كان التقييد نسخًا لكان

التخصيص نسخًا. وأيضًا: لكان تأخير المطلق نسخًا. قالوا: لو كان تقييدًا لوجب دلالة رقبة على مؤمنة مجازًا. وأجيب: بأنه لازم لهم إذا تقدم المقيد, وفي التقييد بالسلامة. والتحقيق: أن المعنى: رقبة من الرقاب, فيرجع إلى ضرب من التخصيص يسمى تقييدًا. وإن كان منفيين, عمل بهما, مثل: «لا تعتق مكاتبًا» , «لا تعتق مكاتبًا كافرًا». فإن اختلف موجبهما كالظهار والقتل, فعن الشافعي: حمل المطلق على المقيد. فقيل: بجامع - وهو المختار - فيصير كالتخصيص بالقياس على محل التخصيص. وشدّ عنه بغير جامع. وأبو حنيفة: لا يحمل). أقول: إذا ورد مطلق ومقيد, فإن اختلف حكمهما, نحو: «اكس تميميًا عالمًا» , «أطعم تميميًا عالمًا» فلا يحمل أحدهما على الآخر بوجه اتفاقًا, كانا مأمورًا بهما أو منهيًا عنهما / أو مختلفين, وسواء اتحد موجبهما أو اختلف, إلا في مثل: «إن ظاهرت فأعتق رقبة» , مع: «لا تملك رقبة كافرة» فإن المطلق يقيد بالإيمان, وإن كان الظهار والملك حكمين مختلفين, لكن

لتوقف الإعتاق على الملك, وإلا لم يجمع الإتيان بالمأمور به والاجتناب عن المنهي عنه. أما لو لم يختلف حكمهما, فإما أن يتحد موجبهما أو يختلف, فإن اتحد فإما أن يكونا منفيين أو مثبتين. الأول: أن يتحد موجبهما مثبتين, مثل: «إن ظاهرت فأعتق رقبة» , «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» , فقال الآمدي: «لا خلاف أنه يحمل المطلق على المقيد» , وحكى المصنف فيه خلافًا, اختار أنه يحمل المطلق على المقيد, [ويكون المقيد بيانًا للمطلق لاستحسانه, سواء تقدم أو تأخر. القول الثاني: أنه إن تأخر المقيد كان نسخًا للمطلق. لنا: أن حمل المطلق على المقيد] جمع بينهما؛ لأن العمل بالمقيد يلزم منه العمل بالمطلق, والعمل بالمطلق لا يلزم منه العمل بالمقيد, إذ قد يحصل في ضمن مقيد آخر. وأيضًا: يخرج بالعمل بالمقيد عن العهدة, سواء كان مكلفًا بالمطلق أو بالمقيد, بخلاف العمل بالمطلق؛ إذ قد يكون مكلفًا بالمقيد, فإذا لم يأت به لا يخرج عن العهدة. وإما أنه بيان لا نسخ, فلأنه لو كان التقييد نسخًا لكان التخصيص نسخًا بطريق الأخرى؛ لأن دلالة المطلق على المقيد دلالة الجزء على الكل,

ودلالة العام على الخاص دلالة الكل على الجزء, فإن كان رفع الأضعف نسخًا, فأحرى رفع الأقوى, أو تقول: هو نوع من المجاز مثله, وليس التخصيص بنسخ بما سلمتم. وأيضًا: لو كان نسخًا للمطلق, لكان تأخير المطلق نسخًا للمقيد؛ لأن التنافي إنما يتصور من الطرفين, وهو الموجب لذلك, وأنتم لا تقولون به. وقد يفرق بينهما بأن التقييد حكم شرعي لم يكن ثابتًا قبل, أما التخصيص فهو دفع لبعض الحكم الأول, وتأخير المقيد رفع لإطلاقه بإيجاب المقيد, وتأخير المطلق ليس فيه إلا عدم التعرض للقيد. احتج القائلون بأن تأخير المقيد نسخ, قال: لو كان بيانًا لكان المراد بالمطلق هو المقيد, فيجب أن يكون مجازًا فيه, وهو فرع الدلالة وأنها منتفية إذ المطلق لا دلالة له على مقيد خاص. والجواب: أنه لازم لهم إذا تقدم المقيد, فإنهم يقولون: المراد بالمطلق المقيد فيجب دلالته عليه مجازًا, وأيضًا: لازم لهم في تقييد الرقبة بالسالمة مجازًا, فما هو جوابكم في الصورتين, فهو جوابنا. ثم أفاد أن الحق أن «رقبة» معناه: أي رقبة كانت من الرقاب, فيصير عامًا إلا أنه على البدل, ويصير تقييده بالمؤمنة أو السالمة تخصيصًا وإخراجًا لبعض المسميات / عن أن يصلح على طريق البدل, فالتقييد يرجع إلى نوع من التخصيص يسمى تقييدًا اصطلاحًا, ولا شك أنه مجاز, وكما يقدم الخاص بيانًا للعام, كذلك يقدم المقيد بيانًا للمطلق.

أما لو اتحد موجبهما منفيين, فإنه يعمل بهما, كما لو قال في الظهار: «لا تعتق مكاتبًا» , «لا تعتق مكاتبًا كافرًا» , فلا يجزئ إعتاق المكاتب أصلًا, وهذا المثال من تخصيص العام, لا من تقييد المطلق, ولا يتصور مطلق في طريق النفي, بل يصير عامًا. أما إن اختلف موجبهما, كالظهار والقتل, قال تعالى - في الظهار -: {فتحرير رقبة} , وقال - في القتل -: {فتحرير رقبة مؤمنة}. فقال الشافعي, وبعض أصحابنا: يحمل المطلق على المقيد. وقال أكثر أصحابنا, والحنفية: لا يحمل أحدهما على الآخر. ثم اختلف أصحاب الشافعي في معنى قوله: يحمل عليه, فقال

المجمل

أكثرهم: معناه بجامع إن كان, فيصير تقييد المطلق بالقياس على المقيد, كتخصيص العام بالقياس على محل التخصيص في عام آخر. وشذ قوم من الشافعية فقالوا: معناه أنه يحمل عليه من غير جامع؛ لأنه كلامه - تعالى - واحد, وبعضه يفسر بعضًا. وليس بسديد؛ لأن الواحد هو المعنى القائم بذاته - تعالى - وتعلقاته مختلفة, ولا يلزم من اتحاد المتعلق اتحاد المتعلَق, وإلا كان المأمور به عين المنهي عنه, وأما العبارات فمتعددة قطعًا. وقال الآخرون: لا يحمل ولا بجامع, إذ يلزم منه رفع ما اقتضاه المطلق من الامتثال بمطلقة فيكون نسخًا, والقياس لا يصلح ناسخًا, وقد يمنع كونه نسخًا, بل هو كالتقييد بالسليمة. قال: (المجمل: المجموع, وفي الاصطلاح: ما لم تتضح دلالته. وقيل: اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء. ولا يطرد للمهمل والمستحيل ولا ينعكس, لجواز فهم أحد المحامل. والفعل المجمل, كالقيام من الركعة الثانية, لاحتمال الجواز والسهو. أبو الحسين: ما لا يمكن معرفة المراد منه. ويرد المشترك المبين, والمجاز المراد, بين أو لم يبين. وتكون في مفرد بالأصالة أو بالإعدال, كالمختار.

وفي مركب, مثل: {أو يعفو}. [وفي] مرجع الضمير والصفة, مثل: طبيب. وفي تعدد المجاز بعد منع الحقيقة). أقول: من أقسام المتن: المجمل, والمجمل لغة: المجموع, وجملة الشيء ومجموعه. وفي الاصطلاح: ما لم تتضح دلالته, أي ما له دلالة غير متضحة. ويتناول: القول, والفعل, والمشترك؛ لأن الدلالة أعم من اللفظية, ودلالة الفعل عقلية, والمصنف عرّف المتشابه بقريب من هذا التعريف, والمتشابه أعم. وعرّفه قوم بأنه: اللفظ الذي يفهم منه عند الإطلاق شيء. ولا يطرد / ولا ينعكس؛ لأن المهمل كذلك وليس بمجمل ولفظ المستحيل كذلك؛ لأن مفهومه ليس بشيء, وليس بمجمل لوضوح مفهومه. وأما العكس, فلجواز فهم أحد محامل المجمل لا بعينه كما في المشترك, وهو شيء, فلا يصدق الحدّ عليه. وأيضًا: المجمل قد يكون فعلًا, كالقيام من الركعة الثانية من غير تشهد

فإنه يحتمل الجواز والسهو فكان مجملًا, ولا يصدق الحدّ عليه إذ ليس بلفظ. وعرّفه أبو الحسين: ما لا تمكن معرفة المراد منه. ويرد على طرده: المشترك المقترن بالبيان, فإنه ليس بمجمل والحدّ صادق عليه؛ لأنه لا تمكن معرفة المراد منه من نفسه, بل من البيان. وفيه نظر؛ لأنه مع قطع النظر عن البيان مجمل, ومع البيان غير مجملو واللفظ قد يكون مجملًا باعتبار دون آخر. وأورد أيضًا على طرده: المجاز المراد, بُيّن أو لم يبين, إذ لا تمكن معرفة المراد منه وليس بمجمل, وقّيد المشترك بالمبين؛ لأنه إذا لم يبين كان مجملًا, بخلاف المجاز. ثم اعلم أن الإجمال يكون في المفرد, ويكون في المركب. أما في المفرد: فكالمشترك, لتردده بين معانيه, إما بالأصالة كالعين بالنسبة إلى الجارية والباصرة, وإما بالإعلال كالمختار المتردد بين الفاعل والمفعول, ولولا الإعلال لكان مختير - بكسر الياء للفاعل وبفتحها للمفعول - فينتفي الإجمال. أما في التركيب فأنواع: منها: في المركب بجملته, نحو: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}؛ لتردده بين الزوج والولي. ومنها: في مرجع الضمير إذا تقدمه أمران يصلح لكل واحد منهما,

مسألة: لا إجمال في نحو: {حرمت عليكم الميتة}

نحو: «ضرب زيد عمرًا فضربته»؛ لتردده بين زيد وعمرو. ومنها: مرجع الصفة, مثل: «طبيب ماهر»؛ لتردده بين المهارة مطلقًا والمهارة في الطب. ومنها: في تعدد المجازات بعد مانع يمنع من حمله على الحقيقة. قال: (مسألة: لا إجمال في نحو: {حرمت عليكم الميتة} , و {أمهاتكم} , خلافًا للكرخي والبصري. لنا: القطع بالاستقراء أن العرف للفعل المقصود منه. قالوا: ما وجب للضرورة يقدر بقدرها, ولا يضمر الجميع والبعض غير متضح. قلنا: [تتضح] بما تقدم). أقول: لا إجمال في التحريم المضاف إلى الأعيان عند الجمهور, نحو: {حرمت عليكم الميتة} , و {أمهاتكم}. وخالف الكرخي, والبصري.

مسألة: لا إجمال في نحو: {وامسحوا برؤوسكم}

لنا: القطع أن من استقرأ كلام العرب, علم أن مرادهم في مثله - عند الإطلاق - تحريم الفعل المقصود من ذلك, كالأكل في المأكول, والشرب في المشروب, واللبس في الملبوس, والوطء في الموطوء. فإذا قال: {حرمت عليكم الميتة} , كان تحريم الأكل سابقًا إلى الفهم عرفًا, فانتفى الإجمال. قالوا: تحريم العين غير متصور, فلابد من إضمار فعل يكون متعلقًا للتحريم, والأفعال كثيرة, ولا يضمر الجميع؛ لأن ما وجب للضرورة يقدر بقدرها, فيتعين إضمار البعض, ولا دليل على خصوصية شيء منها, فدلالته على البعض المراد غير واضحة, وهو معنى الإجمال. الجواب: لا نسلم أن ذلك البعض غير متضح, بل متضح بما سبق في العرف في إرادة المقصود من مثله. قال: (مسألة: لا إجمال في {وامسحوا برؤسكم}. لنا: إن لم يثبت عرف في مثله, كمالك, والقاضي, وابن جني, فلا إجمال. وإن ثبت, كالشافعي, وعبد الجبار, وأبي الحسين, فلا إجمالز قالوا: العرف في مثل: «مسحت بالمنديل» للبعض. قلنا: لأنه آلة, بخلاف: «مسحت بوجهي».

وأما الباء للتبعيض فأضعف). أقول: لا إجمال في نحو: {وامسحوا برؤسكم} , خلافًا لبعض الحنفية. لنا: أنه لغة لمسح الرأس وهو الكل, فإن لم يثبت في مثله عرف في إطلاقه على البعض, اتضح دلالته على الكل للمقتضي السالم عن المعارض, كما هو مذهب مالك, والقاضي, وابن جني. وإن ثبت عرف في إطلاقه للبعض, اتضح دلالته على البعض للعرف الطارئ, كما هو مذهب الشافعي, وعبد الجبار, وأبي الحسين, فلا إجمال بوجه. وفي كلام المصنف إشارة إلى إبطال القول بالإجمال والقول بالعرف في البعض؛ لأن الأصل عدم النقل, فيثبت مذهبه. قالوا في بيان أن العرف في مثله البعض: إن العرف في مسحت يدي بالمنديل, إنما هو للبعض, لتبادر ذلك إلى الفهم عند إطلاقه.

مسألة: لا إجمال في نحو: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"

الجواب: أن الباء للاستعانة, والمنديل آلة, والعرف في الآلة ما ذكروه, بخلاف غيره, مثل: «مسحت بوجهي» , حيث الباء صلة. قالوا ثانيًا: الباء إذا دخلت على اللازم كانت للتعدية, وإذا دخلت على الفعل المتعدي كانت للتجزئة, والأصل في الإطلاق الحقيقة. الجواب: لم يثبت في اللغة مجيء الباء للتبعيض, وإنما قال: (أضعف) لأن الأول ثبت العرف فيه في الجملة. قال: (مسألة: لا إجمال في نحو: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» , خلافًا لأبي الحسين والبصري. لنا: العرف في مثله - قبل الشرع - المؤاخذة والعقاب, ولم يسقط الضمان, إما لأنه ليس بعقاب, أو تخصيص بعموم الخبر. قالوا: لابد من إضمار. وأجيب: بما تقدم). أقول: لا إجمال في نحو: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» , روى ابن عدي هذا الحديث: «رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه». ذهب أبو الحسين / وأبو عبد الله البصري إلى أنه مجمل, والكلام فيه قريب منه في الأولى, إذ ليس المقصود رفع ذاتيهما لوقوع ذلك.

مسألة: لا إجمال في نحو: "لا صلاة إلا بطهور"

قال: لنا العرف في مثله قبل ورود الشرع, رفع المؤاخذة والعقاب قطعًا فلا إجمال. لا يقال: فيسقط الضمان إذا أتلف مال الغير خطأً؛ لأنه داخل في عموم العقاب وقد رفع, ولا يسقط اتفاقًا. لأنا نقول: إنما لم يسقط لكونه ليس عقابًا؛ لأن العقاب ما قصد به الإيذاء, أو ما كان للزجر, وهذا إنما يقصد به جبر مال المتلف عليه, ولذلك وجب الضمان على الصبي مع أنه غير معاقب. وإما لتخصيص الخبر بدليل يدل عليه, والتخصيص لا يوجب الإجمال. قالوا: لابد من إضمار لمتعلق الرفع, إذ نفس الخطأ غير مرفوع, وإلا لزم كذب الخبر, ولا سبيل إلى إضمار جميع أحكامهما, لكثرة المخالفة مع اندفاع الضرورة بإضمار البعض وذلك البعض غير متضح, فيثبت الإجمال. الجواب: إضمار المؤاخذة والعقاب متضحة عرفًا. قال: (مسألة: لا إجمال في نحو: «لا صلاة إلا بطهور» , خلافًا للقاضي. لنا: إن ثبت عرف شرعي في الصحيح فلا إجمال, وإلا فالعرف في مثله نفي الفائدة, مثل: «لا علم إلا ما نفع» فلا إجمال, ولو قدر انتفاؤهما فالأولى نفي الصحة لأنها يصير كالعدم, فكان أقرب إلى الحقيقة المتعذرة. فإن قيل: إثبات اللغة بالترجيح. قلنا: إثبات المجاز بالعرف في مثله. قالوا: العرف شرعًا مختلف في الكمال والصحة.

قلنا: مختلف للاختلاف, ولو سلم فلاستواء الترجيح بما ذكرنا). أقول: نحو قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور» , ثبت بهذا اللفظ عند الدارقطني, ومثله: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» مما ينفى فيه الفعل - والمراد صفته - لا إجمال فيه, خلافًا للقاضي والبصري. لنا: إن ثبت عرف شرعي في إطلاق مثله لنفي الصحة أو لنفي الكمال فلا إجمال؛ لأنه يصير منقولًا عن نفي الصلاة إلى نفي الصلاة الصحيحة فلا إجمال. وإن ثبت عرف شرعي, فالعرف اللغوي في مثل هذا التركيب يقتضي إضمار الفائدة, نحو: «لا علم إلا ما نفع» , أي لا فائدة في علم لا نفع فيه, ولا فائدة لصلاة بغير طهور, فلا إجمال. ولو قدر انتفاء العرف الشرعي واللغوي, فالأولى حمله على نفي الصحة دون نفي الكمال؛ لأن ما لا يصح كالعدم في عدم النفع به, بخلاف ما لا

يكمل, فكان أقرب المجازين إلى الحقيقة المتعذرة فيحمل عليه, فلا إجمال. قيل: هذا إثبات اللغة بالترجيح, ولا تثبت إلا بالنقل. قلنا: ليس من ذلك, بل ترجيح لأحد المجازات بالعرف. لا يقال: الفرض انتفاء العرف الشرعي واللغوي. لأنا نقول: لا يلزم من انتفاء الحقيقة الشرعية واللغوية انتفاء عرف الاستعمال المجازي. قال ابن دقيق العيد: لو حمل لفظ الصلاة على الشرعية, كانت منتفية حقيقة, ولا حاجة إلى الإضمار المؤدي إلى الإجمال أو المجاز, محتجًا بأن ألفاظ الشارع إنما تحمل على عرفه لأنه بعث لبيان الشرع لا اللغة. قلت: وفيه نظر؛ لأن الصلاة الشرعية هي ما سمى الشارع بهذا الاسم من الهيئات المخصوصة, لا أن الشرعية هي المعتبرة شرعًا, فحينئذ لا تكون الحقيقة منفية إذا أتى بها بغير طهارة. قالوا: العرف شرعًا مختلف, فيفهم منه نفي الصحة تارة ونفي الكمال أخرى, مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» , فكان مترددًا بينهما ولا رجحان لأحدهما, فلزم الإجمال. الجواب: أن الاختلاف إنما حصل من اختلاف العلماء في تقديره, فبعضهم يقدر الصحة, وبعضهم يقدر الكمال, لا أن عرف الشرع اختلف

مسألة: لا إجمال في نحو: {والسارق والسارقة فاقطعوا. . .}

فهو عند كل فريق ظاهر في شيء. وفيه نظر؛ لأن الإمام الواحد يحمله في مورد على نفي الصحة, وفي آخر على نفي الكمال, سلمنا أنه متردد بينهما, لكن لا على السواء, بل نفي الصحة راجح لأنه أقرب إلى نفي الذات. قال: (مسألة: لا إجمال في نحو: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}. لنا: أن اليد حقيقة إلى المنكب, لصحة بعض اليد لما دونه, والقطع إبانة المتصل, فلا إجمال. واستدل: لو كان مشتركًا في الكوع والمرفق والمنكب, لزم الإجمال. وأجيب: لو لم يكن لزم المجاز واستدل: يحتمل الاشتراك والتواطؤ, وحقيقة أحدهما, ووقوع واحد من اثنين أقرب من واحد معين. وأجيب: إثبات اللغة بالترجيح, وبأنه لا يكون مجملًا أبدًا. قالوا: تطلق اليد على الثلاثة, والقطع على الإبانة والجرح, فثبت الإجمال. قلنا: لا إجمال مع الظهور). أقول: لا إجمال في آية السرقة, خلافًا لبعض الأصوليين. لنا: لو كان, لكان إما في اليد أو في القطع, لكن اليد حقيقة إلى

المنكب, لصحة بعض اليد لما دونه, فكان ظاهرًا فيه, فلا إجمال. وفيه نظر؛ لأن صدق اليد عليه لا يمنع من صدق اليد عليه بوضع آخر إذا كان مشتركًا بين البعض والكل, كما تقدم في إطلاق لفظ القرآن ولفظ بعض القرآن على بعض القرآن, وأما القطع فهو لإبانة الشيء عما كان متصلًا به, فهو ظاهر فيه, فلا إجمال. واستدل: بأنه إنما يكون مجملًا بتقدير كونه مشتركًا, ولا اشتراك لظهور اليد في العضد إلى المنكب, والقطع في الإبانة. أجاب: لو لم يكن مشتركًا لزم المجاز / ولا يخفى ضعفه, إذ المجاز أولى من الاشتراك, وهذا التقرير أسعد بكلامه في تقرير الشراح. واستدل أيضًا: بأن لفظ اليد يحتمل أن يكون مشتركًا في الثلاثة اشتراكًا لفظيًا, وأن يكون موضوعًا للقدر المشترك, أو يكون حقيقة في أحدهما مجازًا في الآخرين, وإنما يكون مجملًا على تقدير واحد وهو الاشتراك, وعلى التقديرين الآخرين لا إجمال؛ لأنه على تقدير التواطؤ يحمل على القدر المشترك, وعلى تقدير كونه حقيقة في أحدهما يحمل عليه, ووقوع واحد [بعينه] من اثنين أقرب من وقوع واحد بعينه فيغلب على الظن, فيظن عدم الإجمال.

مسألة: المختار: أن اللفظ لمعنى تارة ولمعنيين أخرى

الجواب أولًا: بأنه إثبات للغة, وهو تعيين ما وضع له اليد بالترجيح, وهو عدم لزوم الإجمال, وأنه باطل. وثانيًا: أنه يلزم ألا يكون مجملًا أبدًا, إذ ما من مجمل إلا ويجري فيه ذلك بعينه, وقد يقال: إن ذلك إنما يجري عند عدم دليل يدل على الإجمال. قالوا: يطلق اليد من الكوع إلى الأنامل, ومن المرفق إليها ومن الكوع, والقطع على الإبانة وعلى الجرح, والأصل الحقيقة, فيلزم الإجمال. الجواب: إنما يلزم ذلك لو لم يكن اليد ظاهرًا في الأول والقطع في الإبانة. قال: (مسألة: المختار أن اللفظ لمعنى تارة, ولمعنيين أخرى من غير ظهور, مجمل. لنا: أنه معناه. قالوا: يظهر في المعنيين لتكثر الفائدة. أجيب: إثبات اللغة بالترجيح, ولو سلّم عورض بأن الحقائق لمعنى واحد أكثر, فكان أظهر. قالوا: يحتمل الثلاثة كالسارق). أقول: إذا أطلق لفظ لمعنى واحد تارة ولمعنيين آخرين أخرى, كلفظ الدابة إذا أطلق تارة للفرس, وتارة للحمار والبغل, فإن ثبت ظهوره في أحد المحملين أو فيهما فلا نزاع, لأنه على التقدير الأول مجاز في أحدهما, وعلى التقدير الثاني مجمل. أما لو لم يظهر واحد من الأمرين, فمختار الغزالي والمصنف: أنه

مجمل, واختار الآمدي أنه ليس بمجمل, فيحمل على ما يفيد معنيين. واحتج المصنف: بأن كونه يطلق لمعنى تارة ولمعنيين أخرى من غير ظهور في أحد الأمرين وهو معنى المجمل, وقد فرضناه كذلك فيكون مجملًا. قالوا: ما يفيد معنيين أكثر فائدة, فالظاهر إرادته لتكثير الفائدة. الجواب أولًا: أنه إثبات اللغة, وهو كونه لمعنيين بالترجيح بكثرة الفائدة وأنه باطل, ولم سلم أنه ليس إثباتًا للغة بالترجيح, أو لم سلم إثبات اللغة بالترجيح, فهو معارض بأن / أكثر الألفاظ حقيقة لمعنى واحد, فكان جعله من الأكثر أظهر. لا يقال: إذا كان ظاهرًا في الواحد لم يكن مجملًا فينافي مذهب المعترض. لأنا نقول: دليل ظهوره فيه معارض بدليل ظهوره في المعنيين بتكثير الفائدة, فيتعارضا ويجيء الإجمال. قالوا: يحتمل أن يكون مشتركًا بين المعنيين وبين المعنى الآخر, ويحتمل أن يكون للقدر المشترك بين المعنيين والمعنى الآخر, ويحتمل أن يكون حقيقة في المعنيين مجازًا في الواحد أو بالعكس. وإنما يلزم الإجمال بتقدير واحد, ووقوع واحد من اثنين أقرب من واحد معين. وجوابه ما سبق في مسالة: والسارق.

مسألة: لا إجمال فيما له محمل لغوي

قال: (مسألة: لا إجمال فيما له محمل لغوي ومحمل في حكم شرعي, مثل: «الطواف بالبيت صلاة» , ليس مجملًا. لنا: عرف الشارع تعريف بالأحكام, ولم يبعث لتعريف اللغة. قالوا: يصلح لهما, ولم تتضح دلالته. قلنا: تتضح بما تقدم). أقول: إذا ورد من الشارع لفظ يمكن حمله على حكم شرعي مجرد, ويمكن حمله على الموضوع اللغوي, مثل ما روى الترمذي عنه عليه السلام أنه قال: «الطواف بالبيت صلاة» , فإنه يحتمل أن يكون أراد أنه صلاة حكمًا في افتقاره إلى الطهارة, ويحتمل أنه أراد أنه يشتمل على الدعاء فهو صلاة لغة, قال الغزالي: إنه مجمل؛ إذ ليس حمله على حكم مجرد أولى من التقدير على الحكم العقلي أو الاسم اللغوي, ومن هنا يعرف الفرق بين هذه المسألة والتي بعدها, وهما مسألتان في المستصفى والإحكام. واختار الآمدي والمصنف أنه ليس بمجمل. لنا: أن عرف الشارع أن يعرف الأحكام الشرعية ولذلك بعث, ولم

مسألة: لا إجمال فيما له مسمى لغوي ومسمى شرعي

يبعث لتعريف الموضوعات اللغوية, فكان ذلك قرينة واضحة لحمله على الحكم الشرعي, فلا إجمال. قالوا: اللفظ يصلح للمحمل اللغوي والشرعي لأنه الفرض, ولم يتضح دلالته على أحدهما لعدم الدليل فرضًا, وهو معنى الإجمال. الجواب: لا نسلم أنه لم تتضح دلالته, بل متضحة بما ذكرنا أن عرف الشارع تعريف الأحكام لا اللغة, غايته أنه لم يتضح بدليل خاص, وذلك لا يوجب عدم الاتضاح مطلقًا. قال: (مسألة: لا إجمال فيما له مسمى لغوي ومسمى شرعي. وثالثها: الغزالي: في الإثبات الشرعي وفي النهي مجمل. ورابعها: في النهي اللغوي والإثبات الشرعي مثل: «إني إذًا لصائم». لنا: أن عرفه يقتضي بظهوره فيه. الإجمال: يصلح لهما. الغزالي: في النهي تعذر الشرعي للزوم صحته. وأجيب: ليس معنى الشرعي الصحيح, وإلا لزم في: «دعي الصلاة / أيام أقرائك» الإجمال. الرابع: في النهي تعذر الشرعي للزوم صحته, كبيع الحر والخمر. وأجيب: بما تقدم, وبأن: «دعي الصلاة» للغوي, وهو باطل). أقول: قد يكون للفظ مسمى لغوي ومسمى شرعي, كلفظ الصلاة والصوم, قال القاضي: هو مجمل.

قال الغزالي: وهذا منه على تقدير التزام الأسماء الشرعية, وإلا فهو ينكرها, وقال بعض الشافعية وبعض الحنفية: يحمل على الشرعي مطلقًا, واختاره المصنف. وقال الغزالي: إن وقع في الإثبات, مثل قوله عليه السلام, وقد سأل بعض أزواجه في الغداء: «هل عندكم شيء؟ » , فقالت: لا, فقال: «إني إذًا لصائم» , حمل على الشرعي, فيصح الصوم بنية من النهار, وفي المنتهى: كنهيه عليه السلام عن صوم يوم النحر, يكون مجملًا. واختار الآمدي: أنه في الإثبات للشرعي, وفي النهي للغوي. لنا: أن عرف الشارع استعماله في الشرعي, وذلك يقضى بظهوره فيه عند إطلاقه, فلا إجمال.

احتج القاضي: بأنه يصلح لهما ولم يتضح لأحدهما وهو معنى الإجمال. الجواب: متضح بأن عرفه معرف لإرادته. احتج الغزالي: بأنه في الإثبات للشرعي بما ذكرتم, وفي النهي لا يحمل على الشرعي وإلا لكان صحيحًا واللازم باطل, أما الملازمة؛ فلأن الصحيح ما وافق أمر الشارع, وهو المراد بالشرعي, وأما انتفاء اللازم؛ فلأن النهي يدل على الفساد, أو لا يدل على الصحة. الجواب: أن الشرعي ليس هو الصحيح شرعًا, بل الشرعي ما يسميه الشارع بهذا الاسم من الهيئات المخصوصة, وإلا لزم فيه: «دعي الصلاة أيام أقرائك» , أن يكون مجملًا بين الصلاة والدعاء واللازم باطل؛ لأنه ظاهر قطعًا في معناه الشرعي. قلت: ولو صح دليل الغزالي لم ينتج إلا المذهب الرابع؛ لأنه إذا تعذر الحمل على الشرعي تعين الحمل على اللغوي, فينتفي الإجمال. احتج في الإثبات: بما ذكروا في النفي بأنه ظاهر في اللغوي, لتعذر الحمل على الشرعي للزوم صحته, وأنه باطل كبيع الحر والخمر مما نهى الشارع عنه, وشيء منها لا يصح بيعه.

البيان والمبين

الجواب: ما تقدم أن الشرعي ليس هو الصحيح, وبأنه يلزم في: «دعي الصلاة أيام أقرائك» , أن يكون المنهي عنه الدعاء, وأنه باطل. قال: (البيان والمبين. يطلق البيان على فعل المبين, وعلى الدليل, وعلى المدلول, ولذلك قال الصيرفي: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح. وأورد: البيان ابتداء, والتجوز بالحيز, وتكرير الوضوح. وقال القاضي والأكثر: الدليل. وقال البصري: العلم عن الدليل. والمبين: نقيض المجمل. ويكون في مفرد, وفي مركب, وفي فعل, وإن لم يسبق إجمال). أقول: البيان يطلق على فعل المبين, وهو التبيين الذي هو التعريف والإعلام بما ليس بمعروف, كالسلام والكلام للتسليم والتكليم, مشتق من بان إذا ظهر وانفصل, ويطلق على ما حصل بن التبيين وهو الدليل, وعلى متعلق التبيين ومحله وهو المدلول, ولأجل النظر إلى المعاني الثلاثة اختلف تفسير العلماء له. فقال الصيرفي بالنظر إلى النظر الأول: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح. وأورد عليه: ما يدل على الحكم ابتداء من غير سبق إجمال وإشكال مع أنه بيان, وليس ثم إخراج من حيز الإشكال.

مسألة: المختار: أن الفعل يكون بيانا

ثانيهما: لفظ الحيز في الموضعين مجاز لأنه للأجرام والمجاز يجتنب في الحدّ. ثالثها: أن الوضوح هو التجلي, فيكون تكرارًا. وزاد الغزالي: أن الشيء يختص بالموجود. وقال القاضي, والغزالي, وأكثر الأصوليين نظرًا إلى الثاني: إنه الدليل, وقال أبو عبد الله البصري نظرًا إلى الثالث: العلم عن الدليل. ثم عرف المصنف المبين: بأنه نقيض المجمل, يعني ما اتضحت دلالته, فخاصة هذا منافية لخاصة هذا, فيدخل الخطاب المبين ابتداء, والخطاب الذي معه البيان, كالمجمل الذي معه بيانه, والبيان الوارد بعد مجمل أو عام أو مطلق, والفعل البين ابتداء, والفعل المقترن بما يدل على أنه بيان للغير. ثم المبين قد يكون في مفرد, وقد يكون في مركب, مثل: «عليّ عشرة إلا درهمًا» , وقد يكون في فعل سبقه إجمال كبيان النبي عليه السلام الصلاة بفعله بعد أقيموا الصلاة, أو لم يسبق إجمال كقطعه يد السارق من الكوع بعد آية السرقة, إذ ليست بمجمل على ما سبق. قال: (مسألة: المختار أن الفعل يكون بيانًا. لنا: أن عليه السلام بيّن الصلاة والحج بالفعل.

وقوله: «صلوا كما» , و «خذوا عني» يدل عليه. فإن المشاهدة أدل؛ وليس الخبر كالمعاينة. قالوا: يطول, فيتأخر البيان. قلنا: وقد يطول بالقول. ولو سلّم, فما تأخر للشروع فيه. ولو سلّم, فالسلوك أقوى البيانين. قلنا: وقد يطول بالقول. ولو سلّم, فما تأخر عن وقت الحاجة). أقول: الجمهور أن الفعل يكون بيانًا. لنا: أنه عليه السلام بيّن الصلاة والحج بالفعل. فإن قيل: المبين قوله عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي» , و «خذوا عني مناسككم» لا الفعل. قلنا: البيان بالفعل, والقول دليل أن الفعل بيانو لا أنه هو البيان, إذ لم / يشتمل القول على شيء من أفعالهما. وأيضًا: مشاهدة الفعل أقوى في بيانه من الإخبار عنه, ولذلك قيل: «ليس الخبر كالمعاينة». أخرجه ابن حبان في صحيحه.

مسألة: إذا ورد بعد المجمل قول وفعل

قالوا: الفعل يطول, فلو بين به لزم تأخير البيان مع إمكان تعجيله. الجواب: قد يطول بالقول أكثر, ولو سلم فلا نسلم تأخير البيان؛ إذ تأخير البيان لا يشرع فيه عقب الإمكان, وهذا قد شرع فيه, والفعل هو الذي استدعى زمانًا, ومثله لا يعد تأخيرًا, كمن قال لعبده: «ادخل المدينة» فسار في الحال. ولو سلّم, فإنما يمتنع تأخير البيان مع إمكان التعجيل إذا لم يكن فيه غرض, وهنا إنما تأخر لسلوك أقوى البيانين. ولو سلّم, فتأخير البيان إنما يمتنع عن وقت الحاجة لا مطلقًا, وهو لم يتأخر عنه. قال: (مسألة: إذا ورد بعد المجمل قول وفعل, فإن اتفقا وعرف المتقدم منهما, فهو البيان, والثاني تأكيد, فإن جهل فأحدهما. وقيل: يتعين غير الأرجح للتقديم؛ لأن المرجوح لا يكون تأكيدًا. وأجيب: بأن المستقل لا يلزم فيه ذلك. فإن لم يتفقا كما لو طاف بعد آية الحج طوافين وأمر بطواف واحد, فالمختار القول وفعله ندب أو واجب متقدمًا أو متأخرًا؛ لأن الجمع أولى. أبو الحسين: المتقدم بيان. ويلزمه نسخ الفعل متقدمًا مع إمكان الجمع). أقول: إذا ورد مجمل, وورد بعده قول وفعل, كل منهما صالح لأن

يكون بيانًا لذلك المجمل, فإما أن يتفقا أو يختلفا. فإن اتفقا, كما لو كان طاف بعد نزول آية الحج طوافًا واحدًا وأمر بطواف واحد, فإن عرف المتقدم منهما فهو البيان لحصوله به, والثاني تأكيد, وإن جهل فالبيان أحدهما من غير تعيين. وقيل: إن كان أحدهما أرجح, تعين المرجوح للتقديم فكان بيانًا, والراجح للتأكيد؛ لأن المرجوح لا يكون تأكيدًا. وأجيب: بأن ذلك إنما يلزم في المفردات, نحو: «جاءني القوم كلهم» , أما المؤكد المستقل فلا يلزم فيه ذلك, كالجمل التي يذكر بعضها بعد بعض للتأكيد, فإن الثانية - وإن كانت أضعف -[أو] استقلت؛ فإنها بانضمامها إلى الأولى تفيدها تأكيدًا لمضمونها في النفس وزيادة تقرير. أما لو اختلفا, كما لو طاف طوافين وأمر بطواف واحد, فالمختار أن لقول هو البيان, والفعل ندب له, أو واجب عليه يختص به, ولا فرق بين أن يكون القول متقدمًا أو متأخرًا؛ لأنه جمع بين الدليلين, وهو أولى من إبطال أحدهما. وقال أبو الحسين: المتقدم منهما هو البيان. وهو باطل؛ إذ يلزمه نسخ الفعل إذا كان الفعل هو المتقدم مع إمكان

مسألة: المختار: أن البيان أقوى

الجمع؛ لأنه إذا طاف أولًا طوافين, وجب علينا طوافان, فإذا أمر بطواف فقد نسخ أحد [الطوافين] عنا. قال: (مسألة: المختار: أن البيان أقوى. والكرخي: يلزم المساواة. أبو الحسين: بجواز الأدنى. لنا: لو كان مرجوحًا, ألغي الأقوى في العام إذا خص, والمطلق إذا قيد, وفي التساوي التحكم). أقول: المختار وجوب كون المبيَّن أقوى دلالة من المبيَّن. وذهب الكرخي إلى جوازه بالمساوي. وجوزه أبو الحسين بالأدنى دلالة. والحق: إن كان المبين عامًا أو مطلقًا؛ فلابد وأن يكون المخصص والمقيد في دلالته أقوى من دلالة العام على صورة التخصيص, ومن دلالة المطلق على صورة التقييد, وإلا فلو كان مرجوحًا لزم إلغاء الراجح بالمرجوح ولو كان مساويًا لم يكن تقديم أحدهما على الآخر بأولى من العكس؛ فيلزم التحكم.

مسألة: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع

قلت: وفيه نظر؛ لأن فيه جمعًا بين الدليلين, كالمفهوم مع العموم قال في المنتهى: وأما المجمل فواضح, يعني يكون بيان المجمل أقوى دلالة منه؛ لأن المجمل لما كان ما لم يتضح دلالته, كان بيانه وهو ما يعين أحد احتمالاته أقوى منه ضرورة, وهو معنى قول الآمدي: أما المجمل فيكفي في تعين أحد احتمالاته أدنى ما يفيد الترجيح. قال: (مسألة: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع, إلا عند من يجوز تكليف ما لا يطاق, وإلى وقت الحاجة يجوز. والصيرفي والحنابلة: ممتنع. والكرخي: ممتنع في غير المجمل. وأبو الحسين: مثله في الإجمالي لا التفصيلي, مثل: هذا العموم مخصوص, والمطلق مقيد, والحكم سينسخ. والجبائي: ممتنع في غير النسخ. لنا: {فإن لله خمسة} , إلى: {ولذي القربى} , ثم بين أن السلب للقاتل, إما عمومًا وإما برأي الإمام, وأن ذوي القربى بنو هاشم دون بني أمية وبني نوفل, ولم ينقل اقتران إجمالي مع أن الأصل عدمه. وأيضًا: {أقيموا الصلاة} ثم بين جبريل, وكذلك الزكاة, وكذلك السرقة, ثم بين على تدريج.

وأيضًا: فإن جبريل عليه السلام قال: أقرأ, قال: وما أقرأ, وكرر ثلاثًا, ثم قال: {اقرأ باسم ربك}. واعترض: بأنه متروك للظاهر؛ لأن الفور لا يمتنع تأخيره, والتراخي يفيد جوازه في الزمن الثاني فيمتنع تأخيره. وأجيب: بأن الأمر قبل البيان لا يجب به شيء, وذلك كثير). أقول: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز إلا عند مجوز تكليف ما لا يطاق, وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. فالجمهور: جوازه, ومنعه الأبهري من أصحابنا, حكاه القاضي عنه, ومنعه الصيرفي, وأبو إسحاق المروزي من الشافعية,

والظاهرية, وذهب الكرخي وأكثر الحنفية إلى جواز تأخير بيان المجمل دون الظاهر إذا أريد غير ظاهره. وقال أبو الحسين بمثل ما قال الكرخي في المجمل, وأما الظاهر فلا يجوز تأخير بيانه الإجمالي, أما التفصيلي فيجوز تأخيره, فيجب أن يقول: هذا العموم مخصوص, وهذا لمطلق مقيد, وهذا الحكم سينسخ, ولا يجب تفصيل ما خص عنه, وذكر الصفة التي قيد بها, وتعيين وقت النسخ, وذهب الجبائي وعبد الجبار إلى جواز تأخير بيان النسخ دون ما عداه. لنا: قوله تعالى: {واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} إلى قوله: {ولذي القربى}؛ فإنه أثبت خمس الغنيمة للمذكورين, وأثبت لذوي القربى عمومًا نصيبًا, و «ما غنمتم» , و «ذوي القربى» فما له ظاهر وأريد خلافه من غير ذكر بيان معه, لا إجمالي ولا تفصيلي. ثم بين بعد ذلك أن السلب للقاتل, إما عمومًا عملًا بقول عليه السلام:

«من قتل قتيلًا فله سلبه» , كما يقول ابن وهب والشافعي. وإما برأي الإمام, كما يقول مالك وأبو حنيفة. وأيضًا: بيّن أن ذوي القربى بنو هاشم وبنو المطلب, دون بني أمية وبني عبد شمس. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون البيان الإجمالي مقترنًا به, والمتأخر هو التفصيلي؟ . أجيب: لم ينقل اقتران بيان إجمالي, ولو اقترن به لنقل. وأيضًا: الأصل عدمه. ولنا أيضًا: {أقيموا الصلاة} , والصلاة عند نزول الآية كانت ظاهرة في الدعاء, مع أن المراد ذات الأركان, ولو كانت ظاهرة في الشرعية فالقدر والصفة والشرائط مما بيّن بَعْدُ, ولم يقترن بها بيان إجمالي ولا تفصيلي, ثم بَيَّن جبريل, ثم بَيَّن الرسول بتدريج. وكذلك: {وآتوا الزكاة} , أوجب الزكاة ثم بَيَّن تفاصيل الجنس والنصاب بتدريج. وكذلك قال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} , فأوجب

حدّ السرقة, ثم بَيَّن اشتراط النصاب والحرز بتدريج, والجميع مما له ظاهر وأريد خلافه. ولنا أيضًا: ما في الصحيح, أن جبريل عليه السلام في ابتداء الوحي قال للنبي عليه السلام: «اقرأ, فقال عليه السلام: ما أنا بقارئ» , ثم كرر ثلاثًا والنبي عليه السلام يقول مثل ذلك, ثم قال جبريل: {اقرأ باسم ربك} , فأخبر بيان ما أمره به أولًا إلى ما بعد الثلاث. واعترض هذا الدليل الذي ادعيتم تأخير بيانه: فإنه متروك الظاهر, وما كان كذلك لا يصح التمسك به اتفاقًا, أما الصغرى: فلا يلزم لو حمل على ظاهره من تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن الأمر إن كان على الفور فلا يجوز تأخيره؛ لأنه تأخير عن وقت الحاجة, وإن كان على التراخي فإن

مسألة: واستدل بقوله تعالى: {أن تذبحوا بقرة} وكانت معينة

الوجوب يتراخى دون الجواز؛ إذ جواز الفعل ثابت على الفور, لأنه لم يقل أحد بوجوب التأخير, والجواز أيضًا حكم يحتاج إلى البيان, كما يحتاج إليه الوجوب, فيمتنع تأخيره لأنه تأخير عن وقت الحاجة, فترك الظاهر لازم لنا ولكم, هكذا جعله الآمدي خاصًا بهذا الأخير. والشراح جعلوه اعتراضًا عليها كلها, ولا يصح؛ لأن الجواب يأبى ذلك, لذكر متعلق الأمر ظاهرًا, فلو لم يرد بعد ذلك اشترط / النصاب والحرز لقطعنا, وكذلك فيما ذكر معه, بخلاف «اقرأ». ثم أجاب: بمنع كون الأمر قبل البيان على الفور أو على التراخي, بل هو قبل البيان لا يجب به شيء أصلًا, ثم قال: وذلك كثير, أي الصور التي أخَّر فيها البيان مثل {الزانية والزاني فاجلدوا} ثم بَيَّن أن المحصين يرجم وكذلك قوله تعالى {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم} ثم نزل المخصص. قال الآمدي: «إلى غيره من العمومات التي لم يبين تفاصيلها إلا بعد مدة» [لا كما قال الشراح]: الأمر الذي لا يجب به شيء كثير. قال: (واستدل: بقوله تعالى: {أن تذبحوا بقرة} وكانت معينة, بدليل تعيينها بسؤالهم مؤخرًا, وبدليل أنهم لم يؤمروا بمتجدد, وبدليل المطابقة لما ذبح.

وأجيب: بمعنى التعيين, فلم يتأخر بيان, بدليل: بقرة, وهو ظاهر وبدليل قول ابن عباس: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم, وبدليل: {وما كادوا يفعلون}. واستدل: بقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون} , فقال ابن الزبعري: فقد عبدت الملائكة والمسيح, فنزل: {إن الذين سبقت لهم}. وأجيب: بأن «ما» لما لا يعقل, ونزول {إن الذين سبقت} زيادة بيان لجهل المعترض, مع كونه خبرًا. واستدل: لو كان ممتنعًا, لكان لذاته أو لغيره بضرورة أو نظر, وهما منتفيان. وعورض: لو كان جائزًا ... إلى آخره). أقول: هذه دلائل استدل بها للمذهب المختار, كلها مزيفة عند المصنف. الأول: احتجوا بقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} , وجه التمسك بها أن البقرة المأمور بذبحها بقرة معينة لا أي بقرة كانت كما هو الظاهر, فقد أريد خلاف الظاهر, وإنما قلنا: إنها كانت معينة, لأن عود هذه الكلمات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أنها معينة, عينها الله بسؤالهم بعدُ, فقال: {إنها بقرة ... } إلى آخره, والضمير في

السؤال ضمير المأمور بها, فكذا في الجواب. ويدل أيضًا على أنها معينة: أنهم لم يؤمروا بمتجدد, ولو كانت بقرةٍ ما لكان الأمر بالمعين أمرًا بمتجدد. وأيضًا: لما ذُبح ذلك العين, طابق الأمر بذبح المعين, ويُعلم قطعًا أنه لو ذبح غيره لما كان مطابقًا للأمر, فعلم أن المأمور بها معينة. الجواب: منع كونها معينة بل بقرةٍ ما, فلا يحتاج إلى بيان, بدليل: {يأمركم أن تذبحوا بقرة} وهو ظاهر في بقرة غير معينة, وبدليل قول ابن عباس: «لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم, ولكن شددوا فشدد الله عليهم» وبدليل: {وما كادوا يفعلون} دلّ على أنهم كانوا قدرين على الفعل وأن السؤال عن التعيين كان تعنتًا, فلو كانت معينة ما عنفهم. والحق: أن هذه الأجوبة ضعيفة. قوله: (بدليل بقرة) هو كما قال ظاهر في أي بقرة كانت لكن أريد خلافه, بدليل تعيينه بسؤالهم, وإلا لزم النسخ قبل التمكن, فإن التعيين إبطال للتخيير / الثابت تعيينها بسؤالهم, وإلا لزم النسخ قبل التمكن, فإن التعيين إبطال للتخيير / الثابت بالنص, وهو إن كان جائزًا عندنا لكن محذوره أشد من محذور تأخير البيان إلى وقت الحاجة, وأما الذم فقد يكون للتواني بعد البيان, وقول ابن عباس لا يكون حجة في مثله. الثاني: استدل أيضًا بقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله

حصب جهنم} , وهو عام أريد به الخصوص وتأخر البيان؛ لأنها لما نزلت, قال عبد الله بن الزبعري: «فقد عبدت الملائكة والمسيح» , فنزل: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى}. الجواب: أن «ما» لما لا يعقل, ونزول {إن الذين} زيادة بيان, وإلا فقد ظهر عدم تناوله للملائكة والمسيح, أو مخصوص بدليل العقل, واحتيج إلى زيادة البيان لجهل المعترض. لا يقال: «ما» تستعمل لما يعقل والمختلط بمن يعقل. لأنا نقول: لا نزاع في الاستعمال, إنما النزاع في الظهور, وهي ظاهرة فيما لا يعقل وإلا لزم الاشتراك, قال المصنف: «هذا مع كونه خبرًا». قال البيضاوي: {إن الذين} خبر مستأنف لا إشعار فيه أنه مخصص. وقال بعض الشراح: النزاع في التكاليف التي يحتاج إلى معرفتها للعمل بها, ولذلك عقدنا المسألة في تأخير البيان إلى وقت الحاجة, والآية خبر.

مسألة: المانع بيان الظاهر

وفيه نظر؛ لأن جماعة جوزوا تأخير بيان الأمر دون الخبر, ولا نعرف من عكس. وقال معظم الشراح: المراد أنه خبر آحاد, فلا يعول عليه في المسألة العلمية, هذا بعد صحته. واستدل أيضًا: لو كان تأخير البيان عن وقت الخطاب ممتنعًا, لكان امتناعه لذاته أو لغيره, ولو كان أحدهما لعرف بالضرورة أو بالنظر وهما منتفيان, أما الضرورة فبالضرورة, ولأنه لا تسمع دعوى الضرورة في محال الخلاف, وأما بالنظر؛ فلأنه لو امتنع لامتنع لجهل مراد المتكلم من كلامه, لعلمنا أنه لا يحصل بالبيان إلا ارتفاع ذلك, وأنه لا يصلح مانعًا. الجواب: المعارضة بالمثل, أي لو كان جائزًا لعرف جوازه ضرورة أو نظرًا وكلاهما منتف, أما الضرورة فللخلاف فيه, وأما النظر؛ فلو جاز فلعدم المانع ولا جزم به, غايته عدم الوجدان. قال: (المانع بيان الظاهر: لو جاز لكان إلى مدة معينة, وهو تحكم ولم يقل به. أو إلى الأبد, فيلزم المحذور. وأجيب: إلى معينة عند الله, وهو وقت التكليف. قالوا: لو جاز لكان مفهمًا؛ لأنه مخاطب فتلزمه.

وظاهره جهالة, والباطن متعذر. وأجيب: بجريه في النسخ, لظهوره في الدوام. وبأنه يفهم الظاهر مع تجويزه التخصيص عند الحاجة, فلا جهالة ولا إحالة. عبد الجبار: تأخر بيان المجمل يخل بفعل العبادة في وقتها؛ للجهل بصفتها بخلاف النسخ. وأجيب: بأن وقتها وقت بيانها. قالوا: لو جاز تأخير بيان المجمل لجاز الخطاب بالمهمل ثم يبين مراده. وأجيب: بأنه يفيد أنه مخاطب بأحد مدلولاته, فيطيع ويعصي بالعزم بخلاف الآخر. وقال: تأخير بيان التخصيص يوجب / الشك في كل شخص, بخلاف النسخ. وأجيب: بأن ذلك على البدل, وفي النسخ يوجب الشك في الجميع فكان أجدر). أقول: احتج المانعون من جواز تأخير بيان الظاهر: بأنه لو جاز التأخير فإنما إلى مدة معينة أو إلى الأبد, وكلاهما باطل. أما إلى مدة معينة فلأنه تحكم؛ لأن العام نسبته إلى الأزمنة كلها على السواء, ولأنه لم يقل به أحد.

وأما إلى الأبد؛ فلأنه يلزم المحذور, وهو تأخر البيان عن وقت الحاجة المستلزم تكليف ما يطاق. الجواب: نختار إلى مدة معينة عند الله تعالى, وهو الوقت الذي يعلم أنه مكلف به فيه, ونسبة البيان إلى وقت التكليف أولى, لاحتياج المكلف في هذا الوقت إلى الامتثال بخلاف غيره فلا تحكم, ونحن قائلون به. قالوا ثانيًا: لو جاز تأخير بيانه, لكان المتكلم بالعام غير مبين قاصدًا به التفهيم, أما الملازمة؛ فلأنه مخاطب والخطاب يستلزم التفهيم, لأن حقيقته توجب الكلام إلى المخاطب لأجل التفهيم, ولذلك لا يصح خطاب الزنجي بالعربي. وأما بطلان اللازم؛ فلأنه لو قصد التفهيم, فإما لظاهره وهو غير مراد فيكون فهمه جهالة, ولا يصح مقصود الشارع. وإما لباطنه وهو متعذر, ويلزم القصد إلى ما يمتنع حصوله. الجواب أولًا: النقض بالنسخ؛ لأنه ظاهر في الدوام مع أنه غير مراد, فيجيء فيه ما ذكرتم بعينه. وثانيًا: أنه يقصد تفهيم الظاهر مع تجويز التخصيص عند الحاجة, فلا جهالة, إذ لم يعتقد عدم التخصيص وأن الظاهر مراد قطعًا, ولا إحالة, إذ لم يرد منه فهم التخصيص تفصيلًا. نعم, لو كان مفهمًا لنفس الظاهر من كلامه فقط, أو لنفس ما هو مراده من كلامه, لزمته الجهالة أو الإحالة. ثم احتج المصنف للمانع في غير النسخ, ولم يتقدم ذكر عبد الجبار, لكنه

يوافق الجبائي, فأفاد هنا مذهبه وأن هذا الدليل من تصرفه, ولذلك لم يقل: «قالوا». ولما شاركهم في الدليل الثاني, قال المصنف: «قالوا» , ولما اختص بالآخر قال: «قال». احتج أولًا على منع تأخير بيان المجمل: بأن تأخير بيانه يوجب الجهل بصفة العبادة, والجهل بصفة الشيء يخل بفعله في وقت فامتنع, بخلاف النسخ فإنه لا يخل بذلك فجاز. الجواب: وقت العبادة وقت بيان صفتها لا قبل ذلك, فلا يخل التأخير بفعلها في وقتها. قال هو وأصحابه: لو جاز تأخير بيان المجمل, لجاز الخطاب بالمهمل ثم يبّين مراده, أما الملازمة؛ فلأنه عدم الإفهام لا يصلح مانعًا, وإلا لما جاز بالمجمل. الجواب: الفرق أن المجمل يعلم أن المراد أحد مدلولاته؛ فيطيع ويعصي بالعزم على فعله إذا تبين, بخلاف المهمل, فإنه لا يفهم منه شيء. احتج عبد الجبار في المقام الثاني, ولهذا أخَّره المصنف, وفصل بين دليله بالدليل المشترك, قال: تأخير بيان الظاهر سوى النسخ, وفرض الكلام في التخصيص؛ فقال: تأخير بيان التخصيص يوجب الشك في كل واحد من أفراد العام, هل هو مراد للمتكلم أم لا, فلا يعلم منه تكليف أحد

مسأله: المختار على المنع: جواز تأخير إسماع المخصص الموجود

بعينه, فينتفي التكليف الذي هو غرض الخطاب, بخلاف النسخ فإن الكل داخلون إلى أن ينسخ. الجواب: أن ذلك في التخصيص يوجب الشك في كل واحد واحد على البدل, وفي النسخ يوجب الشك في الجميع؛ إذ يجوز في كل زمان النسخ عن الجميع وعدم بقاء التكليف, فكان النسخ أجدر بأن يمنع من التخصيص فتجويزه في النسخ دون التخصيص باطل. فإن قيل: في النسخ كلف الجميع إلى وقت ورود الناسخ, فلا شك في الحال, إنما الشك في الاستمرار, وفي التخصيص إنما كلف البعض فقط, فالشك في كل واحد واحد في الحال. قلنا: الشك قبل وقت العمل لا يضر. قال: (مسألة: المختار على المنع, جواز تأخير إسماع المخصص الموجود. لنا: أنه أقرب من تأخيره مع العدم. وأيضًا: فإن فاطمة سمعت: {يوصيكم الله} , ولم تسمع: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث». وسمعوا: {فاقتلوا المشركين} , ولم يسمع الأكثر: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» , إلا بعد حين). أقول: المانعون من تأخير البيان إلى وقت الحاجة اختلفوا في جواز إسماع

العام [للداخل تحته, مع عدم إسماع المخصص له إلى وقت الحاجة]. فذهب أبو الحسين منهم إلى الجواز واختاره المصنف تنزيلًا على المنع. لنا: أن تأخير إسماعه مع وجوده أقرب من تأخيره مع عدمه, والدال على منع الأبعد لا يدل على منع الأقرب, والأصل عدم دليل منع هذا بخصوصه. وأيضًا: لو لم يجز لم يقع, وقد وقع, فإن فاطمة سمعت {يوصيكم الله في أولادكم} وهو عام, [ولم تسمع مخصصه وهو: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث». وسمع الصحابة {فاقتلوا المشركين} ولم يسمع أكثرهم] مخصصه, وهو قوله عليه السلام في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» , إلا بعد حين, ولو ادعى الضرورة ما أبعد؛ إذ ليس كلما سمعوا العام سمع جميعهم الخاص.

مسألة: المختار على المنع: جواز تأخيره عليه السلام تبليغ الحكم

قال: (مسألة: المختار على المنع, جواز تأخيره عليه السلام تبليغ الحكم إلى وقت الحاجة, للقطع بأنه لا يلزم منه محال, ولعل فيه مصلحة. قالوا: {بلغ}. وأجيب: بعد كونه للوجوب, والفور أنه للقرآن). أقول: المانعون من تأخير البيان إلى وقت الحاجة اختلفوا في جواز تأخير النبي عليه السلام تبليغ الحكم إلى وقت الحاجة. والمختار: جوازه؛ للقطع بأنه لا يلزم منه محال لذاته, والاستحالة بالغير منفية؛ لأن الأصل عدم الغير. وأيضًا: يجوز أن يكون في التأخير مصلحة, قالوا: قال تعالى: {بلغ ما أنزل إليك} , والأمر للوجوب وللفور وإلا لم يفد فائدة زائدة؛ لأن وجوب التبليغ يقضي به العقل. الجواب بعد تسليم أن الأمر للوجوب وأنه على الفور: أن هذا الأمر ظاهر في تبليغ لفظ القرآن, لا في كل الأحكام. قال: (مسألة: المختار على التجويز: جواز بعض دون بعض. لنا: أن المشركين فيه الذمي, ثم العبد, ثم المرأة بالتدريج, وآية الميراث بيّن ميراثه عليه السلام, والقاتل والكافر بتدريج. قالوا: يوهم الوجوب في الباقي, وهو تجهيل. ولنا: إذا جاز إيهام الجميع, فالبعض أولى).

أقول: المجوزون لتأخير البيان إلى وقت الحاجة, اختلفوا في جواز التدريج, أو لابد أن يبين جميع ما خصّ من العام جملة, ولا يجوز أن يبين شيئًا فشيئًا, والمختار الجواز. لنا: قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} , ثم بين فيه إخراج أهل الذمة ثم العبد ثم المرأة بتدريج, والذي في الإحكام بدل العبد: العسيف ولم يثبت أن النبي عليه السلام خصّ عنه العبد, ولم يثبت التدريج. والثابت أنه عليه السلام قال: «ألحق خالدًا - حين رأى امرأة مقتولة - فقل له: لا تقتل امرأة, ولا ذرية, ولا عسيفًا». وآية الميراث وهي: {يوصيكم الله} , بين عليه السلام إخراج نفسه بقوله: «لا نورث» , وإخراج القاتل وإخراج الكافر بتدرج. قالوا: تخصيص البعض يوهم إرادة الباقي وأنه تجهيل فإنه يمتنع من الشارع.

مسألة: يمتنع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص

الجواب: أن العموم مع تأخير البيان يوهم إرادة جميع ما خرج, وإذا جاز إيهام الجميع, فإيهام البعض أولى. قال: (مسألة: يمتنع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص إجماعًا. والأكثر: يكفي بحث يغلب على الظن انتفاؤه. وقال القاضي: لابد من القطع بانتفائه, وكذلك كل دليل مع معارضه. لنا: لو اشترط لبطل العمل بأكثر العمومات. قالوا: ما كثر البحث فيه فالعادة تفيد القطع, وإلا فبحث المجتهد يفيده؛ لأنه لو أريد لاطلع عليه ومنعه, وأسند بأنه قد يجد ما يرجع به). أقول: قال الغزالي: «لا خلاف في منع المبادرة إلى العمل بموجب العام قبل البحث عن المخصص». قلت: لأن إمكان وجود المخصص مانع من اعتقاد ظن العموم؛ لأن أكثر العمومات مخصوص. قيل: حكى صاحب المحصول عن الصيرفي أنه تمسك بالعام ابتداء.

وقال غير الصيرفي: إنما يجوز إذا طلب المخصص فلم يجده, فما حكي عن الصيرفي يدفع الإجماع. قلت: قال الإمام في البرهان: إذا ورد لفظ عام بعبادة قبل دخول وقت العمل به, قال الصيرفي: يجب اعتقاد عمومه / جزمًا قبل ظهور المخصص, فإذا ظهر ذلك المخصص يغير ذلك الاعتقاد. وذكر الآمدي عن الصيرفي مثله. وخطأه الإمام وقال: إنه غير معدود في مباحث العقلاء, وإنه قول صدر عن غباوة واستمرار في عناد. وخطأه الآمدي أيضًا وقال: احتمال إرادة الخصوص قائم, ولهذا لو ظهر المخصص لما كان ذلك ممتنعًا ووجب اعتقاد الخصوص, وما هذا شأنه فاعتقاد عمومه جزمًا قبل الاستقصاء في البحث عن مخصصه وعدم الظفر به على وجه تركن النفس إلى عدمه, يكون ممتنعًا. فإذن لابد في الجزم باعتقاد عمومه من اعتقاد انتفاء مخصصه بطريقه, ومع ذلك لا نعرف خلافًا بين الأصوليين في امتناع العمل بموجب اللفظ العام

قبل البحث عن المخصص, وكأن قوله مع ذلك من تمام الردّ عليه؛ لأنه إذا اعتقد عمومه أوجب العمل به قبل البحث, فكان محجوجًا بإجماعهم. وأما على ما حكاه صاحب المحصول, فلا يلزم من التمسك به العمل لأنه قد يتمسك به ليرى هل عند المناظر مخصص أو لا, فيعمل به لغلبة الظن بعدم المخصص بعد مناظرتهما. ولا يتوقف الاستدلال به على طلب المخصص, كما لا يتوقف على طلب المجاز. بيس وقال القرطبي في شرح مسلم: «اختلفوا في العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص, وإذا قلنا: إنه يمتنع العمل به قبل البحث عن المخصص, فقال الأكثرون: يكفي بحث يغلب على النفس ظن انتفاء المخصص». وقال القاضي: «لابد من القطع بانتفائه, وهذا الخلاف لا يختص بهذه المسألة, بل كل دليل مع معارضه كذلك». لنا: لو اشترط القطع لبطل العمل بأكثر العمومات المعمول بها, إذ القطع لا سبيل إليه, والغاية عدم الوجدان.

الظاهر والمؤول

قيل: نمنع الملازمة, إذ قد ينضم إلى ذلك قرائن توجب القطع, أو عند النظر في الأدلة يفيض الله عليهم الجزم بموجبه. قالوا: إن كانت المسألة مما كثر البحث فيها ولم يطلع على تخصيص, فالعادة قاضية بالقطع بانتفائه, إذ لو كان لوُجد مع كثرة البحث قطعًا, وإن لم يكن مما كثر البحث فيه, فبحث المجتهد يوجب القطع بانتفائه, لأنه لو أريد بالعام الخاص لاطّلع عليه, لاستحالة ألا يُنَصَّب عليه دليلًا, وإلا لزم تكليف ما لا يطاق, وألا يبلغه إلى المكلف وإلا كان نصب الدليل عليه عبثًا إذ الحكم مع عدم اطلاعه على المخصص هو العموم قطعًا. الجواب: منع المقدمتين, وهو العلم عادة عند كثرة البحث, والعلم عند بحث المجتهد, وأسند بأنه كثير ما يبحث / فيحكم, ثم يجد ما يرجع به عن حكمه, ولو حصل القطع لما رجع. قال: (الظاهر والمؤول. الظاهر: الواضح. وفي الاصطلاح: ما دلّ دلالة ظنية, إما بالوضع كالأسد, أو بالعرف كالغائط. والتأويل: من آل يؤول, أي رجع. وفي الاصطلاح: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح. وإن أردت الصحيح زدت: بدليل يصيره راجحًا. الغزالي: احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من الظاهر.

ويرد: أن الاحتمال ليس بتأويل بل شرط, وعلى عكسه: التأويل المقطوع به). أقول: من أقسام المتن: الظاهر, والمؤول. والظاهر لغة: الواضح, ومنه الظهور. وفي الاصطلاح: ما دلّ دلالة ظنية, فيخرج النص لأن دلالته قطعية, ويخرج المجمل والمؤول, إذ لا ظن في المجمل, ودلالة المؤول موهومة. ثم الدلالة الظنية إما بالوضع كالأسد للحيوان المفترس, وإما بالعرف كالغائط للخارج المستقذر, إذا غُلّب فيه بعد أن كان للمكان المطمأن من الأرض, فيكون الترديد في أنواع المحدود, فيخرج المجاز مع القرينة لأنه وإن دلّ دلالة ظنية, لكن لا بالوضع ولا بالعرف فليس بظاهر. وقد يقال: المراد ما دل بنفسه, فلا يكون المجاز مع القرينة داخلًا, فينتهي الحدّ عند دلالة ظنية. ثم المشترك بين النص والظاهر هو المحكم, لاستغنائهما عن البيان. والتأويل: من آل الأمر إلى كذا أي رجع, ومآل الأمر مرجعه. وفي الاصطلاح: حمل الظاهر على المعنى المحتمل المرجوح, فيتناول التأويل الصحيح والفاسد, فإن أردت الصحيح فقط, زدت في الحدّ: بدليل يصيره راجحًا, فما كان لا بدليل, أو بدليل يصيره مساويًا, لا يكون تأويلًا صحيحًا, وسواء كان الدليل قطعيًا أو ظنيًا, فالمؤول على هذا

مسألة: يكون قريبا فيترجح بأدى مرجح

الظاهر: المحمول على المعنى المحتمل المرجوح. وعرّف الغزالي التأويل بأنه: احتمال يعضده دليل يصير به أغلب عن الظن من المعنى الذي دلّ عليه الظاهر. ويرد عليه: أن الاحتمال ليس بتأويل بل شرط خارج والتأويل الحمل. ويرد على عكسه: التأويل المقطوع به, فإنه يعضده دليل يفيد القطع, وهو ضد الظن. ولما كان الظاهر أكثر استعمالًا من الظهور, والتأويل أكثر استعمالًا من المؤول, تعرض المصنف لهما فقط. والمشترك بين المجمل والمؤول المتشابه, لاحتياجهما إلى البيان, لأن كلًا منهما غير / راجح الدلالة, لكن المؤول دلالته مرجوحة. قال: (يكون قريبًا, فيترجح بأدنى مرجح. وقد يكون بعيدًا, فيحتاج إلى الأقوى. وقد يكون متعذرًا فيُرد. فمن البعيدة: تأويل الحنفية قوله عليه السلام لابن غيلان وقد أسلم على عشرة نسوة: «امسك أربعًا وفارق سائرهن» , أي ابتدئ النكاح, أو أمسك الأوائل, فأنه يبعد أن يخاطب بمثله [يتجدد] في الإسلام من غير تحديد بيان, ومع أنه لم ينقل تحديد قط. وأما تأويلهم قوله عليه السلام لفيروز الديلمي وقد أسلم على أختين:

«أمسك أتيهما شئت» , فأبعد لقوله: أيتهما). أقول: التأويل على ثلاثة أقسام: قريب, وبعيد, ومتعذر. فالقريب: يترجح الطرف المرجوح بأدنى مرجح لقربه, مثل: {إذا قمتم إلى الصلاة} أي إذا أردتم. والبعيد: ما احتاج الطرف المرجوح في ترجيحه على المعنى الراجح - لولا الدليل - إلى دليل أقوى. والمتعذر: ما لا يحتمله اللفظ, فيجب ردّه. وعدّ المصنف تأويلات وحكم ببعدها, وحكم الغزالي بردّ أكثرها. فمن ذلك: تأويل ما أخرجه الترمذي, أن غيلان - لا كما قال المصنف ابن غيلان - أسلم على عشرة نسوة, فأمره عليه السلام أن يتخير أربعًا منهن. هذا لفظ الترمذي, ورواه الشافعي بلفظ: «أمسك أربعًا وفارق سائرهن». قال الحنفية: مؤول إما في «أمسك» أي ابتدئ نكاح أربع, «وفارق سائرهن» أي اتركهن, وإما في «أربع» أي الأوائل من العشر, «وفارق سائرهن» أي اترك الأواخر, ولذلك يرون وجوب تجديد النكاح إن تزوجهن

مسألة: ومنها قولهم في {إطعام ستين مسكينا}

معًا, وإمساك الأربع الأوائل إن تزوجهن مترتبات. ووجه بعده: أن غيلان كان متجد الإسلام لا يعرف شيئًا من الأحكام فكيف يخاطب بأمسك ويكون المراد به ابتداء النكاح؟ . ولا شك أنه يبعد خطاب متجدد في الإسلام بمثله, مع أنه لم ينقل تجديد قط لا منه ولا من غيره, مع كثرة إسلام المتزوجين, ولو كان لنقل قطعًا. ومنها: تأويلهم ما خرّجه الترمذي, أن فيروز الديلمي أسلم على أختين, فقال له عليه السلام: «اختر أيتهما شئت» , تأولوه بمثل ما مرّ, وهو أبعد مما تقدم, غذ فيه ما تقدم, ويختص بأن فيه التصريح بقوله: «أيتهما شئت» , فدل على أن الترتيب غير معتبر. قال: (ومنها: قولهم في {فإطعام ستين مسكينًا} , أي إطعام طعام ستين مسكينًا, لأن المقصود دفع الحاجة, وحاجة ستين كحاجة واحدة في ستين يومًا, فجعلوا المذكور معدومًا والمعدوم مذكورًا, مع إمكان قصده لفضل الجماعة وبركتهم, وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن. ومنها: قولهم في ربعين شاة شاة, أن قيمة الشاة, لما تقدم. وهو أبعد, إذ يلزم منه: أن لا تجب الشاة. وكل معنى إذا استنبط من حكم أبطله, باطل).

أقول: ومن تأويلهم البعيد قوله تعالى: {فإطعام ستين مسكينًا} , قالوا: المراد إطعام طعام ستين مسكينًا؛ لأن المقصود دفع الحاجة, وحاجة ستين شخصًا كحاجة واحد في ستين يومًا, لا فرق بينهما عقلًا. ووجه بعده: أنه جعل المعدوم - وهو طعام ستين - مذكورًا بحسب الإرادة, [والموجود - وهو ستين - معدومًا بحسب الإرادة] , حيث لم يجعلوه مفعولًا للطعام مع رجحان أن المذكور هو المراد؛ لأنه يقصد إطعام ستين عينًا ولا يخير فيه في واحد في ستين يومًا, لفضل الجماعة وبركتهم وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن, فيكون إلى الإجابة أقرب. ومنها: تأويلهم ما خرّجه أبو داود, أنه عليه السلام قال: «من أربعين شاة شاة». قالوا: المراد قيمة الشاة, لما تقدم أن المقصود دفع الحاجة, والحاجة إلى قيمة الشاة كالحاجة إليها, قال: وهو أبعد من الذي قبله؛ لأنه إذا وجبت قيمة الشاة لا تجب الشاة بخلاف الأول, إذ لا منافاة بين إيجاب إطعام طعام ستين مسكينًا وبين إطعام ستين مسكينًا, فيرجع المعنى - المستنبط من الحكم - وهو دفع الحاجة المستنبطة من إيجاب الشاة على الحكم وهو

مسألة: ومنها: حمل "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها"

وجوب الشاة بالإبطال, وكل معنى استنبط من حكم فأبطله فهو باطل؛ لأنه يوجب بطلان أصله المستلزم لبطلانه, فيلزم من صحته اجتماع صحته وبطلانه وأنه محال, فتنتفي صحته فيكون باطلًا. والثابت عن الحنفية أنهم قالوا: أو قيمة الشاة, وكذا قال جماعة من أصحابنا, فلا يلزمهم شيء مما ألزمهم, ولا يكون تأويلًا بعيدًا. قال: (ومنها: حمل «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها, فنكاحها باطل باطل باطل» على الصغيرة, والأمة, والمكاتبة. وباطل: أي يؤول إليه غالبًا لاعتراض الأولياء؛ لأنها مالكة لبضعها فكان كبيع سلعة, واعترض الأولياء لدفع نقيصة - إن كانت - فأبطل ظهور قصد التعميم بتمهيد أصل مع ظهور «أي» مؤكدة بـ «ما» , وتكرير لفظ البطلان وحمله على نادر بعبيد كاللغز, مع إمكان قصده لمنع استقلالها فيما يليق بمحاسن العادات). أقول: ومنها: تأويلهم ما خرّجه أبو دود عنه عليه السلم, أنه قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها, فنكاحها باطل, فنكاحها باطل».

فتارة تأولوا «أيما» فحملوه على الصغيرة والأمة والمكاتبة, وأجروا لفظ «باطل» على ظاهره, وتارة أوّلوا لفظ «باطل» أي يؤُول إلى البطلان غالبًا لاعتراض الولي إذا تزوجت بغير كفٍ, وحملوا «أيما امرأة» على غير المذكورات, وإنما أولوه بما ذكر لأن المرأة - غير من ذكر – مالكة لبضعها فرضاها / هو المعتبر, فيصح نكاحها كبيع سلعة تملكها. فإن قيل: فكان ينبغي ألا يجوز للولي الاعتراض كما في بيع سلعتها؟ . قلنا: اعتراض الأولياء لدفع نقيضة - إن كانت - فإن الشهوة مع قصور النظر مظنة الوقوع فيها, فإذا عدمها بعدم اعتراض الولي فقد حصل المقصود, ولا يتأتى مثله في السلعة. ووجه بعده: أنه أبطل ظهور قصد النبي عليه السلام التعميم في كل امرأة, بتمهيد أصل من الأصول, فإنّ واضعي القواعد إذا ذكروا حكمًا بلا تفصيل يفهم منه قصدهم العموم, وجعل ذلك قاعدة كلية وإن لم يكن اللفظ صريحًا في العموم, فكيف واللفظ صريح في العموم, وهو «أي» لأنها من صيغ العموم, لا سيما مؤكدة بـ «ما» , فحمله على نادر - وهي الصغيرة والأمة والمكاتبة - ثَمّ حمل باطل, مع تكرير لفظ ثلاث مرات تأكيدًا يؤتى به نفيًا لاحتمال السهو, والتجوز على نادر أيضًا وهومصيره إلى البطلان عند اعتراض الولي لنقيصة - إن كانت - لا شك أنه بعيد يتنزل منزلة اللغز, هذا مع إمكان قصده منع استقلال المرأة عن نهوضها بنفسها [بما لا

مسألة: ومنها: حملهم "لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل"

يليق بمحاسن العادات, فهو خاص به بنفسها] , ولا شك أن نكاحها بنفسها من هذا القبيل, يشهد به العرف ولا يمكن إنكاره. وجعل بعض الشراح (بتمهيد أصل) يتعلق بقوله: (فأبطل) أي أبطل ظهور قصد التعميم بسبب تمهيد أصل, وهو العلة المذكورة لتأويلهم. قال: (ومنها: حملهم «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» على القضاء والنذر, لما ثبت عندهم من صحة الصوم بنيته من النهار, وجعلوه كاللغز, فإن صح المانع من الظهور فليطلب أقرب التأويل. ومنها: حملهم القربى على الفقراء منهم؛ لأن المقصود سد الخلة, ولا خلة مع الغنى, فعطلوا لفظ العموم مع ظهور أن القرابة سبب للاستحقاق مع الغنى). أقول: ومنها: تأويلهم ما رواه النسائي عنه عليه السلام أنه قال: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» , قالوا: يحمل على قضاء الصوم ونذره, وإنما حملوه على ذلك لما ثبت عندهم من صحة الصيام بنية من النهار.

ووجه بُعْده: أنهم حملوه على صورة نادرة بالنسبة إلى الصوم, مع ظهور العموم بالنكرة في سياق النفي, فصار كاللغز, فإن صح المانع من حمله على العموم كما هو مذهب الشافعي القائل بصحة صوم التطوع بنية من النهار, فيصار إلى الأقرب إليه وهو القضاء, والنذر, والواجب. وإن لم يصح - كما هو مذهب مالك - حُمل على عمومه. وإنما قال: (إن صح المانع من الظهور) مع أن الحقيقة منتفية إجماعًا بناء على / ما قدم من أن العرف في مثله نفي الفائدة, فهو ظاهر عنده في العرفية. ومنها: حملهم قوله تعالى: {ولذي القربى} على الفقراء منهم, قالوا: لأن المقصود سد الخلة, ولا خلة مع الغنى. ووجه بُعْده: أنهم عطلوا لفظ العموم مع ظهور أن القرابة سبب مناسب للاستحقاق, وكان تعطيلًا للعام لذكر المساكين بعد, لا كما قال بعض الشراح: إنه تخصيص للعام فلا بُعْد. وعدّ بعض الشافعية حمل مالك آية الزكاة على أن اللام لبيان المصرف, لا أنها للتشريك, من التأويلات البعيدة.

المفهوم والمنطوق

ورده الغزالي وقال: اللام لا تتعين للتمليك, والواو لا تتعين للتشريك, قال: لأن سياق الآية يدل على ذلك, كأنه قال: ليس لهؤلاء تُصرف الصدقة, وإنما تُصرف لهؤلاء, فاللفظ ليس بظاهر فيما ادعوه حتى يمتنع صرف اللفظ إلى ما ذكر, بل هذه الجهة يعينها السياق. قال المصنف: سياق الآية, وهو الرد على لمزهم ورضاهم عن المعطين إذا أعطوهم وسخطهم عليهم إذا منعوهم, اقتضى بيان المصرف, لئلا يتوهم في المعطين أنهم مختارون في الإعطاء والمنع. قال: (المفهوم والمنطوق: ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق, والمفهوم بخلافه, أي لا في محل النطق. والأول صريح, وهو ما وضع اللفظ له. وغير الصريح بخلافه, وهو ما يلزم عنه, فإن قصد وتوقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية بدلالة اقتضاء, مثل: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» , و {اسأل القرية} , و «أعتق عبدك عني على ألف» , لاستدعائه تقدم الملك, لتوقف العتق عليه. وإن لم يتوقف واقترن بحكم لو لم يكن لتعليله لكان بعيدًا, فتنبيه وإيماء كما سيأتي. وإن لي يقصد, فدلالة إشارة, مثل: «النساء ناقصات عقل ودين,

قال: وما نقصان دينهنّ؟ قال: تمكث إحداهنّ شطر دهرها لا تصلي». فليس المقصود بيان أكثر الحيض وأقل الطهر, ولكنه لزم من أن المبالغة تقتضي ذكر ذلك. وكذلك: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث} , يلزم منه جواز الإصباح جُنُبًا, ومثله: {فالآن باشروهن} إلى {حتى يتبين لكم}). أقول: لما فرغ مما دلّ بمنطوقه, شرع الآن فيما دلّ لا بمنطوقه. قال الآمدي: اللفظ إذا اعتبر بحسب دلالته, فقد تكون دلالته بصريح صيغته ووضعه وهو المنطوق, وقد تكون دلالته لا بصريح صيغته ووضعه وهو غير المنطوق. وهو أربعة أقسام: لأنه إما أن يكون مدلوله مقصودًا أو لا, والثاني / دلالة الإشارة, والأول إما أن يتوقف الصدق أو الصحة عليه أو لا, والأول دلالة الاقتضاء, والثاني إما أن يكون مفهومًا في محل تناوله اللفظ نطقًا أو لا, والأول دلالة التنبيه والإيماء, والثاني دلالة المفهوم. وعرّف المصنف هنا المنطوق وإن كان إنما صدّر بالمفهوم, للعلة التي ذكر الآمدي من أن المفهوم مقابل للمنطوق والمنطوق أصل للمفهوم, فلابد من تعريف المنطوق أولًا. وعرّفه المصنف بأنه: ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق, وأراد بمحل النطق مورد الكلام, أعني ما أُورد الكلام لأجله, كما تقول: محل كلامك

كذا, وعلى هذا ففي تناوله لدلالة الإشارة نظر. قال الآمدي: قال بعضهم: المنطوق ما فهم من اللفظ في محل النطق, وليس بصحيح, فإن الأحكام المضمرة في دلالة الاقتضاء مفهومة من اللفظ في محل النطق, ولا يقال لشيء من ذلك منطوق اللفظ. فالواجب أن يقال: المنطوق ما فهم من دلالة اللفظ نطقًا في محل النطق, كوجوب الزكاة المفهوم من قوله: «في الغنم السائمة الزكاة» , وتحريم التأفيف من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف}. فغير الصريح - عند المصنف - من المنطوق, وليس منه عند الآمدي. ثم قال: (المفهوم بخلافه) أي ما دلّ عليه اللفظ في غير محل النطق, خلافًا لقوله أول الكتاب: (وغير اللفظية التزام). قال الآمدي: والمنطوق وإن كان مفهومًا من اللفظ, غير أنه لما كان مفهومًا من دلالة اللفظ نطقًا, خُصّ باسم المنطوق, وبقي ما ورآءه معرفًا بالمعنى العام المشترك, تمييزًا بين الأمرين. ثم المنطوق ينقسم إلى: صريح, وغير صريح. فالصريح ما وضع له اللفظ, فيدل عليه بالمطابقة أو بالتضمن.

وغير الصريح بخلافه, وهو دلالة اللفظ على ما يلزم عن ما وضع له - يعني في محل النطق - ليتميز عن المفهوم فإنه أيضًا دلالة اللفظ على ما يلزم عما وضع له ولكن [لا] في محل النطق, والدلالة فيهما معًا التزام. قيل: لا حاجة إليه لأن «ما» في قوله: «ما يلزم» كناية عن المنطوق. ولا يصح؛ لأن المنطوق غير الصريح مأخوذ في المحدود لا في الحدّ, نعم تركه لظهوره. ثم غير الصريح, وهو عند الإمام فخر الدين من قبيل المفهوم, ينقسم إلى ثلاثة أقسام, لأنه إما أن يكون مقصودًا للمتكلم أو لا, والأول بحكم الاستقراء قسمان: أحدهما: أن يتوقف الصدق أو صحة الملفوظ العقلية أو الشرعية عليه, ويُسمَّى دلالة الاقتضاء, أما توقف الصدق نحو: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» , لو لم يقدر المؤاخذة ونحوها كان كذبًا, لأنهما لم يرفعا. وأما الصحة العقلية فنحو: {واسأل القرية} , إذ لو لم يُقدّر لم يصح عقلًا, لأن سؤال القرية لا يصح عقلًا. وأما الصحة الشرعية فنحو قول السائل: «أعتق عبدك عني على ألف» , لأنه يستدعي تقدير الملك, أي مملكًا على ألف, لأن العتق بدون الملك لا يصح شرعًا.

وثانيهما: أن يقترن المقصود اللازم عما وضع اللفظ له بحكم, لو لم يكن اللازم لتعليل الحكم كان الإتيان بالحكم مقترنًا به بعيدًا من الشارع, فيهم منه التعليل وإن لم يصرح به, ويُسمَّى تنبيهًا وإيماءً, كقول الأعرابي: «واقعت أهلي في نهار رمضان, فقال عليه السلام: «أعتق رقبة» , فإن السؤال مقدر في الجواب, وسيأتي بأقسامه. وظاهر كلامه عدم انحصار غير الصريح في الثلاثة؛ لأن الذي لا يتوقف عليه لا يقترن بحكم كذلك, وهو مقصود يخرج عن التنبيه ولا يدخل تحت شيء من الأقسام الثلاثة, وعند الآمدي وفي المنتهى: أن المفهوم من المقصود ولم يتعرض له هنا. أما لو لم يكن مقصودًا للمتكلم, فهو المسمى بدلالة الإشارة, وضرب له أمثلة منها: قوله عليه السلام في النساء: «ناقصات عقل ودين» , فقيل: يا رسول الله! فما نقصان دينهن؟ فقال: «تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي» دلّ على أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا, وبيان ذلك غير

مقصود, ولكن لزم من حيث إنه قصد به المبالغة في نقصان دينهن, والمبالغة تقتضي ذكر أكثر ما يتعلق به الغرض, فلو كان زمان ترك الصلاة - أي وقت الحيض - أكثر من ذلك لذكره. والحديث لم يرد بهذا اللفظ, ولفظه عند مسلم: «تمكث الليالي ما تصلي» , فلا يكون مثالًا لدلالة الإشارة. ومنها قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} , مع قوله: {وفصاله في عامين} , يعلم منهما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, وليس بيان ذلك بمقصود في شيء من الآيتين, إذ المقصود في الأولى بيان حق الوالدة وما تعانيه من المشقة في الحمل والفصال, وفي الثانية بيان مدة أكثر الفصال, ولكن لزم منه ذلك. ومنها: قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} يلزم منه جواز الإصباح جُنُبًا, وهو غير مقصود الآية, ولكن لزم منه استغراق الليل بالرفث, ومثله: {فالآن باشروهن} إلى {حتى يتبين لكم} , يلزم منه جواز الإصباح جُنُبًا قطعًا.

مسألة: ثم المفهوم: مفهوم موافقة ومخالفة

قال: [ثم المفهوم: مفهوم موافقة, ومخالفة. فالأول: أن يكون المسكوت موافقًا في الحكم, ويسمى فحوى الخطاب, ولحن الخطاب, كتحريم الضرب من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} , وكالجزاء بما فوق المثال من قوله: {فمن يعمل مثقال ذرة} , وكتأدية ما دون القنطار من {يؤده إليك} , وعدم الأجر من {لا يؤده إليك}. وهو تنبيه بالأدنى, فلذلك كان في غيره أولى. ويعرف بمعرفة المعنى, وأنه أشد مناسبة في المسكوت. ومن ثمة قال قوم: هو قياس جلي. لنا: القطع بذلك لغة قبل شرع القياس. وأيضًا: فأصل هذا قد يندرج في الفرع, مثل: «لا تعطيه ذرة» فإنها مندرجة في الذرتين. قالوا: لولا المعنى لما حكم. وأجيب: بأنه شرطه لغة. ومن ثَمّ قال به النافي للقياس]. أقول: ينقسم المفهوم إلى: مفهوم موافقة, ومفهوم مخالفة؛ لأن حكم غير المذكور إما موافق لحكم المذكور نفيًا وإثباتًا أو لا. والأول: مفهوم الموافقة, وهو أن يكون المسكوت عنه وهو الذي سماه

غير محل النطق, موافقًا في الحكم المذكور وهو ما سماه محل النطق, وهذا يسمى: فحوى الخطاب ولحن الخطاب, أما تسميته بالأول فلأن فحوى الكلام ما يفهم منه على طريق الجزم وهذا كذلك, وأما الثاني فلأن لحن الخطاب عبارة عن معنى الخطاب. ولما كان هذا النوع من المفهوم مما سبق فهمه إلى الذهن, سمي بهذا الاسم إشعارًا بأنه كان معناه, كقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} , عُلم من حال التأفيف وهو محل النطق, [حال الضرب وهو غير محل النطق] , مع الاتفاق وهو إثبات الحرمة فيهما. ومنها: قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره, ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} , المذكور مثقال ذرة, والمسكوت ما فوقه, والحكم متحد وهو الجزاء بهما, و {يره} كناية عن الجزاء. ومنها: قوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} , يعلم منه تأدية ما دون القنطار, وقوله: {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} , يعلم منه عدم تأدية ما فوق الدينار. ومفهوم الموافقة تنبيه بالأدنى على الأعلى, فلذلك كان الحكم في غير المذكور أولى منه في المذكور, فالجزاء بأكثر من المثقال أشد مناسبة منه

بالمثقال, وتأدية الدينار أشدّ مناسبة من تأدية القنطار, وعدم تأدية القنطار أنسب من عدم تأدية الدينار. ولا يعرف كون الحكم في غير المذكور أشد مناسبة منه في الحكم المذكور إلا بعد معرفة المعنى المناسب المقصود من الحكم, كالإكرام في منع التأفيف, وعدم تضييع الإحسان والإساءة في الجزاء, والأمانة في أداء القنطار, وعدمها في عدم أداء الدينار. قال: (وهو تنبيه بالأدنى) وهو الأقل مناسبة, على الأعلى وهو الأكثر مناسبة. وفي المنتهى: «وهو تنبيه بالأدنى على الأعلى, وبالأعلى على الأدنى» فالأولان والرابع تنبيه بالأدنى, وفي الثالث تنبيه بالأعلى. ومن أجل توقف معرفة الحكم في المسكوت على معرفة المعنى في محل النطق, وكونه أشدّ مناسبة للحكم المسكوت, قال قوم: هو قياس جلي. لنا: القطع بإفادة هذه الصيغ لهذه المعاني لغة قبل شرع القياس. وقد يقال: القياس كان ثابتًا قبل الشرع, وكانوا يسمونه تمثيلًا, فما ثبت بالفحوى وإنما ثبت بقياس, لا فارق. احتج أيضًا: بأن الأصل في القياس لا يكون مندرجًا في الفرع إجماعًا,

وهنا قد يكون مندرجًا, مثل: «لا تعطه ذرة» يدل على عدم إعطاء الأكثر, والذرة داخلة في الأكثر. قالوا: لو قطع النظر عن المعنى المشترك المناسب الموجب للحكم وعن كونه آكد في الفرع, لما حكم به, ولا معنى للقياس إلا ذلك. الجواب: أن ذلك شرط لتناوله لغة, فلا يدل اللفظ / على ذلك إلا إذا اتصف بالشرائط المذكورة, فحينئذ يكون المعنى مدلولًا عليه بالفحوى, والقياس الدلالة فيه على الفرع من حيث المعقول لا من اللفظ وفحوه, فليس المثبت للحكم هو الوصف حتى يكون قياسًا, ولكونه ليس بقياس قال به من لا يقول بالقياس. وقد يقال: القائل به لم ينكر القياس الجلي, ثم مفهوم الموافقة قد يكون قطعيًا وهو ما لا يتطرق إليه إنكار كالأمثلة المذكورة, لكون المعنى أشد مناسبة في المسكوت قطعًا, وقد يكون ظنيًا كقول الشافعية: قتل الخطأ يوجب الكفارة فالعمد أولى, وإذا كان اليمين غير الغموس يوجب الكفارة فالغموس أولى, وهو ظني لجواز ألا يكون المعنى ثم الزجر الذي هو أشد مناسبة, بل التدارك والتلاقي, فلا يلزم من رفع الكفارة لأدنى الجنايتين رفعهما لأعلاهما. قلت: والحق أن من أثبت ذلك فبالقياس لا بالفحوى؛ لأنه سبق أن الفحوى ما يفهم من اللفظ على سبيل القطع, وحيث لا قطع فلا فحوى.

مسألة: مفهوم المخالفة: أن يكون المسكوت مخالفا

وأيضًا استدل المصنف على أن الفحوى ليس بقياس: فإنا نقطع بذلك لغة قبل شرع القياس, فلا ينهض فيما لا قطع فيه أنه ليس قياس. ففي كلام المصنف وحكمه أنه يكون ظنيًا نظر. قال: (مفهوم المخالفة: أن يكون المسكوت مخالفًا, ويُسمى دليل الخطاب, وهو أقسام: مفهوم الصفة. ومفهوم الشرط, مثل: {وإن كن}. ومفهوم الغاية, {حتى تنكح}. والعدد الخاص, مثل: {ثمانين جلدة}. وشرطه ألا تظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت فيكون موافقة, وإلا خرج مخرج الغالب, مثل: {اللاتي في حجوركم} , {فإن خفتم} , «أيما امرأة نكحت» , ولا لسؤال أو حادثة, ولا تقدير جهالة أو خوف, أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر). أقول: لما فرغ من مفهوم الموافقة, شرع في مفهوم المخالفة وهو: ما كان المسكوت عنه مخالفًا للمذكور في الحكم إثباتًا ونفيًا, ويُسمّى دليل الخطاب, وهو أقسام, وذكر المصنف أقواها. الأول مفهوم الصفة: مثل «في الغنم السائمة زكاة» , يفهم منه أنه

لا زكاة في المعلوفة. الثاني مفهوم الشرط: مثل {وإن كن أولات حمل فأنفقوةا عليهن} , مفهومه لا تجب النفقة على غير الحامل. الثالث مفهوم الغاية: مثل {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} , مفهومه أنها إذا نكحت زوجًا غيره حلّت. الرابع مفهوم العدد الخاص: مثل {فاجلدوهم ثمانين جلدة} , يفهم منه أن الزائد غير واجب. وشرط مفهوم المخالفة بأقسامه, ألا تظهر أولوية المسكوت / عنه, أو [مساواته] فيه, وإلا استلزم ثبوت الحكم في المسكوت عنه كذلك, وكان موافقة لا مخالفة, ويعني موافقة في الحكم. ففي الأول يكون مفهوم موافقة, وفي الثاني يكون موافقة في الحكم بطريق القياس, وإنما قلنا ذلك لأن مفهوم الموافقة - كما سبق - تنبيه بالأدنى وأنه في غيره أولى, وأنه أشد مناسبة في المسكوت, فلا يكون المساوي مفهوم موافقة. وشرط مفهوم المخالفة أيضًا: ألا يكون خرج مخرج الغالب المعتاد, مثل {وربائبكم اللاتي في حجوركم} , فإن الغالب كون الربائب في

الحجور, فقيد به لذلك, لا لأن حكم اللاتي في غير الحجور بخلافه. ومثل قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} , لأن الخلع غالبًا إنما يكون عند الخوف من عدم قيام كل واحد من الزوجين بما أمره الله به, فلا يفهم منه أن عدم الخوف لا يجوز الخلع. ومثله قوله عليه السلام: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها» , فإن الغالب أن المرأة إنما تباشر نكاح نفسها عند عضل الولي, فلا يفهم منه أنها إذا نكحت نفسها بإذن وليها لم يكن باطلًا. ويشترط أيضًا: ألا يكون لسؤال سائل عن المذكور, كما لو سأل: هل في الغنم السائمة زكاة؟ فقال عليه السلام: «في الغنم السائمة زكاة». وألا يكون هناك تقدير جهالة بحكم المسكوت عنه, وإلا فقد يكون ترك التعرض له لعدم العلم بحاله. وألا يكون لحادثة, كما لو قيل بحضرته: لفلان غنم سائمة, فقال عليه السلام: «في الغنم السائمة زكاة». وألا يكون خوف يمنع من ذكر حال المسكوت عنه, أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر, لأن الباعث على التخصيص ثابت, فانتفاء العموم لانتفاء شرطه.

مسألة: فأما مفهوم الصفة فقال به الشافعي وأحمد

وقيل: المراد في تقدير جهالة أو خوف راجع إلى المخاطب, بألا يعلم وجوب الزكاة مثلًا في السائمة, ويكون عالمًا بوجوبها في المعلوفة, فيقول عليه السلام: «في الغنم السائمة زكاة» , وكذلك إذا كان المقيد بالوصف يخاف منه, فذكر له ذلك الموصوف ونفى عنه الخوف بسببه, فلا يدل على أن ما عداه ليس كذلك. قال: (فأما مفهوم الصفة, فقال به الشافعي, وأحمد, والإمام, وكثير. ونفاه أبو حنيفة, والقاضي, والغزالي, والمعتزلة. البصري: إن كان لبيان كالسائمة, أو لتعليم كالتحالف, أو كان ما عدا الصفة داخلًا تحتها كالحكم بالشاهدين, وإلا فلا). أقول: أما مفهوم الصفة, فقال به مالك, والشافعي, وأحمد, والأشعري. ونفاه أبو حنيفة, والقاضي منا, وابن سريج / وإمام الحرمين على ما حكاه الإمام فخر الدين, ونفاه الغزالي, والمعتزلة.

والمصنف حكى عن الإمام أمنه يقول به, فإن أراد بالإمام فخر الدين صح النقلان, على أنه إذا أطلق الإمام لا يريد إلا إمام الحرمين. والأظهر ما حكاه المصنف, وهو ظاهر البرهان, وقد أورد له دليلًا حيث قال الإمام: «لو لم يفد الحصر». وفصل أبو عبد الله البصري فقال: إن كان للبيان كقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} ثم يقول عليه السلام بيانًا له: «في الغنم السائمة زكاة». أو كان للتعليم وتمهيد القاعدة, كخبر التحالف وهو قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا» , فإنه بمعنى: إذا اختلف متبايعا سلعة قائمة تحالفا. أو يكون ما عدا الصفة داخلًا تحتها كالحكم بالشاهدين, فإنه يدل على

مسألة: المثبتون: قال أبو عبيد في "لي الواجد يحل عقوبته وعرضة"

نفيه عن الشاهد الواحد لدخوله في الشاهدين, ولا يدل على النفي فيما عدا هذه الصور الثلاثة. قال: (المثبتون: قال أبو عبيد في «لي الواجد يحل عقوبته وعرضه»: يدل على أن ليّ من ليس بواجد لا يحل عقوبته وعرضه. وفي «مطل الغني ظلم» , مثله. وقيل له في قوله «لأن يمتلئ جوف أحدكم نارًا خير له من أن يمتلئ شعرًا»: المراد الهجاء, أو هجاء الرسول عليه السلام؟ . فقال: لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى؛ لأن قليله كذلك فالتزم من تقديره الصفة المفهوم. وقال الشافعي: هما عالمان بلغة العرب, فالظاهر فهمهما ذلك لغة. قالوا: بنيا على اجتهادهما. أجيب: بأن اللغة تثبت بقول الأئمة من أهل اللغة, ولا يقدح فيها التجويز. وعورض: بمذهب الأخفش. وأجيب: بأنه لم يثبت كذلك, ولم سلّم فمن ذكرناه أرجح, ولو سلّم فالمثبت أولى. وأيضًا: لو لم يدل على المخالفة, لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدة, وتخصيص آحاد البلغاء بغير فائدة ممتنع, فالشارع أجدر. اعترض: لا يثبت الوضع بما فيه من الفائدة. أجيب: بأنه يعلم بالاستقراء, إذ لم يكن للفظ فائدة سوى واحدة

تعينت. وأيضًا: تثبت دلالة التنبيه بالاستبعاد اتفاقًا, فهو أولى. واعترض: بمفهوم اللقب. وأجيب: بأنه لو سقط لاختل الكلام, فلا مقتضى للمفهوم فيه. واعترض: بأن فائدته تقوية الدلالة حتى لا يتوهم تخصيصه. وأجيب: بأن ذلك فرع العموم, ولا قائل به, وإن سلّم في بعضها خرج, فإن الفرض أنه لا شيء يقتضي تخصيصه سوى المخالفة. واعترض: بأن فائدته ثواب الاجتهاد بالقياس / فيه. وأجيب: بتقدير المساواة يخرج, وإلا اندرج فيه). أقول: احتج المثبت: بأن أهل اللغة فهموا ذلك؛ لأن أبا عبيد لما سمع قوله عليه السلام: «ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه» قال: «هذا يدل على أن ليّ غير الواجد لا يحل عقوبته وعرضه, والليّ: المطل, والواجد: الغني, والعقوبة: الحبس, وحلّ العرض: أن يقول له ظلمتني».

وقال وكيع: «عرضه شكايته» , وهذا الحديث خرّجه أبو داود, وفي البخاري في باب لصاحب الحق مقال, قال: يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم «ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه» , وفي الصحيحين: «مطل الغني ظلم» , قال أبو عبيد أيضًا: «يدل على أن مطل غير الغني ليس بظلم». وقيل في قوله عليه السلام «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا»: المراد بالشعر الهجاء مطلقًا, أو هجاء الرسول عليه السلام فسمع ذلك أبو عبيد فقال: «لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى؛ لأن قليله وكثيره سواء فيه» , فجعل الامتلاء من الهجو في قوة الهجو الكثير يوجب ذلك, ففهم منه أن غير الكثير ليس كذلك, فاحتج به, فقد ألزم من تقدير الصفة المفهوم, فكيف من التصريح بها؟ والحديث في الصحيح, وهذا كله حكاه الإمام في البرهان عن أبي عبيدة معمر بن المثنى,

وقال: هو إمام غير مدافع, وإذا ساغ الاحتجاج بقول أعرابي جلف, فالاحتجاج بقول أبي عبيدة أولى. والآمدي نقل ذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام. وذكر السهيلي في الروض الأنف: أن عائشة أم المؤمنين تأولت قوله عليه السلام: «لأن يمتلئ جوف أحدكم» , على الأشعار التي هجي بها عليه السلام, وأنكرت حمله على العموم. قال: وأنكر أبو عبيد هذا التأويل, وقال: رواية نصف بيت من ذلك حرام, قال السهيلي: وعائشة أعلم بإن البيت والبيتين من تلك الأِشعار على طريق الحكاية بمنزلة الكلام المنثور الذي ذموا فيه رسول الله, بخلاف تتبعها والخوض فيها, قال: ذكر ذلك عن عائشة ابن وهب في جامعه. فالسهيلي وافق الآمدي. وقال الشافعي بمفهوم الصفة, وهو وأبو عبيد عالمان بلغة العرب, فالظاهر فهمهما ذلك لغة, ولو لم يفده لغة لما فهماه منه, فظهر إفادته لغة وهو المطلوب. اعترض: بأنا لا نسلم أنهما فهما النفي عن غيره من اللفظ لغة, لجواز أن يكون عن نظر واستنباط؛ لأن العالم قد يحكم على اللسان عن نظر

واستنباط, وهو في مسلكه - في محل النزاع - مطالب بالدليل, بخلاف الأعرابي منطقه طبعه فيتمسك به, وهذا ذكره الإمام في البرهان تضعيفًا لهذا المسلك. الجواب: أن أكثر اللغة إنما يثبت بقول الأئمة: معنى كذا كذا, وهذا التجويز قائم فيه, مع أنه لا يقدح / في إفادته الظن, ولو كان قادحًا لم يثبت مفهوم لأكثر الموضوعات. قيل: هذا الجواب مع كونه على [المسند] ضعيف؛ لأن اللغة إنما تثبت بما نقلا, وليس في كلامهما ما يدل على أنهما نقلا. قلت: الظاهر أن ذلك عن نقل, والمستند إذا انحصر فيما جعل مستندًا كان ملزومًا مساويًا للمنع, فإذا اندفع اندفع اللازم, وهو هنا كذلك. وعورض هذا الدليل أيضًا: بمذهب الأخفش, فإنه نفاه مع كونه من علماء العربية, فدل على أنه غير مفهوم من اللغة. الجواب: أنه لم يثبت ذلك عن الأخفش, كما تكرر وشاع نفي ذلك عن الآخرين, وسلّم, فمن ذكرناه أرجح, لأنهما اثنان وهو واحد, وهما - أيضًا - أعلم, ولو سلّم, فهما مثبتان وهو نافي والمثبت مقدم؛ لأن

النافي إنما ينفي لعدم الوجدان, ولا يدل على عدم الوجود إلا ظنًا, والمثبت يثبت الوجدان وهو يدل على الوجود قطعًا. ولنا أيضًا: لو لم يدل على أن المراد مخالفة المسكوت للمذكور في الحكم, لم يمكن لتخصيص المذكور بالذكر فائدة؛ لأن الفرض ألا فائدة سواه, واللازم باطل, إذ لا يستقيم تخصيص آحاد البلغاء لغير فائدة, فالشارع أجدر. واعترض هذا الدليل: [بأنه] إثبات لوضع التخصيص لنفي الحكم عن المسكوت عنه بما فيه من الفائدة, ولا يثبت الوضع بغير النقل. الجواب: أنه إثبات للوضع بالاستقراء؛ لأنا استقرينا كلام العرب فوجدنا كل ما ظن ألا فائدة للفظ سوى واحدة تعينت لأن تكون مرادة للواضع لأنه حكيم, وهو كذلك, فاندرج في القاعدة الكلية الاستقرائية فكان إثباتًا بالاستقراء لا بالفائدة, وأنه يفيد الظهور فيه فيكتفى به. سلمنا أنه إثبات للوضع بما فيه من الفائدة, ولا نسلم بطلانه؛ لأنا جميعًا أثبتنا دلالة الإيماء حذرًا من لزوم البعد, فلأن يثبت المفهوم حذرًا من عدم الفائدة أولى. اعترضوا ثانيًا على المذكور بنقض إجمالي تقريره: لو صح ما ذكرتم وهو أنه لو لم يدل على نفي الحكم عن المسكوت لم يكن مفيدًا, لزم أن يعتبر مفهوم اللقب بعين ما ذكرتم, ولا يعتبر بما سلمتم. الجواب: أن اللقب لو أسقط لاختل الكلام, فذكر لعدم الاختلال وهو

أعظم فائدة, فلم يصدق: لو لم يثبت المفهوم لم يكن ذكره مفيدًا, وهو المقتضى لإثبات المفهوم, فتنتفي دلالته على المفهوم لانتفاء تعين الفائدة. ويلزم على هذا الجواب لو ذكرت الصفة دون الموصوف, كما لو قال: «في السائمة زكاة» ألا يدل على النفي عن المعلوفة, لكن خلفه أمر آخر وهو أن الوصف مشعر بالعلية, بخلاف اللقب. اعترضوا ثالثًا على الدليل المذكور: بمنع الملازمة, وهو أنا لا نسلم أنه لو لم يدل تخصيص محل النطق بالذكر على المخالفة, لم يكن لذكر الوصف فائدة, ومن فوائده تقوية الدلالة على محل الوصف, حتى لا يتوهم خروج السائمة بالتخصيص, فإنه لو قال: «في الغنم زكاة» , جاز أن يكون المراد المعلوفة فقط تخصيصًا, فلما ذكر السائمة زال الوهم. الجواب وإن كان على المستند أن نقول: دفع التوهم يستلزم أن لفظ الغنم باق على عمومه حالة التقييد بالصفة, فيكون معناه: في الغنم سيما السائمة زكاة, لأنه إذا كان لفظ السائمة لتقوية دلالة لفظ الغنم على السائمة حتى لا تخرج بالتخصيص, فلفظ الغنم باق على عمومه, إلا أن دلالته على بعض الأفراد وهي الموصوفة أقوى, وذلك مما لم يقل به أحد, لأن المسكوت إما مخالف أو غير متعرض له. ولو سلّم تناوله للمسكوت في بعض الصور, قال الآمدي: كما لو قال: «ضحوا بشاة» , فإنه يتوهم أنه لا تجزئ العوراء, فلو قال بعد ذلك: «ضحوا بشاة عوراء» , فإنه على التضحية بغير العوراء بطريق الأولى, لكن

مسألة: واستدل: لو لم يكن للحصر لزم الاشتراك

يخرج عن محل النزاع؛ لأن النزاع فيما ليس فيه ما يقتضي التخصيص سوى مخالفة المسكوت عنه للمذكور, [وليس في] دفع توهم التخصيص فائدة سواها. وأيضًا: من شرطه ألا يظهر أولوية ولا مساواة, على أن هذا المثال الذي اعتمدوا عليه عندنا مما خرج مخرج الغالب. اعترضوا رابعًا: بمنع الملازمة أيضًا, أي لا نسلم أنه لو لم يدل على التخصيص لم يكن له فائدة, بل له فائدة وهو ثواب الاجتهاد بالقياس, وهو إلحاق المسكوت بالمذكور بمعنى جامع, وهي فائدة, فلا تتعين فائدة التخصيص. الجواب: أنه بتقدير المساواة في المعنى المقتضي للحكم يخرج عن محل النزاع, إذ شرطنا ألا تظهر أولوية ولا مساواة, وإن لم تكن مساواة اندرج فيما لا فائدة فيه سوى التخصيص, لاستحالة القياس حينئذٍ. قال: (واستدل: لو لم يكن للحصر لزم الاشتراك إذ لا واسطة, وليس للاشتراك باتفاق. وأجيب: إن عنى السائمة فليس محل نزاع, وإن عنى إيجاب الزكاة فيها, فلا دلالة على واحد منهما. الإمام: لو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص بما دون غيره لأنه معناه. والثانية معلومة وهو مثل ما تقدم, فإنه إن عنى لفظة السائمة فليس محل النزاع, وإن عنى الحكم المتعلق بها, فلا دلالة له على الحصر,

ويجريان معًا في اللقب, وهو باطل. واستدل: بأنه لو قيل: الفقهاء الحنفية أئمة فضلاء, لنفرت الشافعية ولولا ذلك ما نفرت. وأجيب: من تركهم على الاحتمال, كما تنفر من التقديم, أو لتوهم المعتقدين ذلك. واستدل: بقوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} , قال: «لأزيدن على السبعين» , ففهم أن ما زاد بخلافه, والحديث صحيح. وأجيب: [لهم ذلك] , لأنها مبالغة / فتساويا, أو لعله باق على أصله في الجواز, فلم يفهم منه. واستدل: بقول يعلى بن أمية لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمنَّا؟ , وقد قال تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} , فقال عمر: تعجبت مما تعجبت منه, فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «إنما هي صدقة تصدق الله بها عليكم, فاقبلوا صدقته» , ففهما نفي القصر حال عدم الخوف, وأقرّ الرسول عليه السلام. وأجيب: بجواز أنهما اصطحبا وجوب الإتمام, فلا يتعين. واستدل بأن فائدته أكثر فكان أولى تكثيرًا للفائدة, وإنما يلزم من [جمع] تكثير الفائدة يدل على الوضع, وما قيل من أنه دور لأن دلالته تتوقف على تكثير الفائدة, وبالعكس يلزمهم في كل موضع.

وجوابه: أن دلالته تتوقف على تعقل تكثير الفائدة عندها, لا على حصول الفائدة. واستدل: لو لم يكن مخالفًا لم يكن السبع في قوله: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعًا» مطهره؛ لأن تحصيل الحاصل محال, وكذلك: «خمس رضعات يحرمن»). أقول: استدل للمختار بوجوه ضعيفة: الأول: لو لم يكن المقيد بصفة ظاهر في الحصر, وهو ثبوت الحكم للمذكور ونفيه عما عداه, لزم اشتراك أفراد المنطوق وهي السائمة, وأفراد المسكوت وهي المعلوفة في الحكم والتالي باطل, أما الملازمة؛ فلعدم الواسطة بين الحصر والاشتراك, فإذا انتفى الأول ثبت الثاني, لكنه ليس للاشتراك اتفاقًا, غايته أنه محتمل. الجواب: إن عنى بالحصر أن السائمة انتفى عن المعلوفة فمُسَلَّم, لكنه غير محل النزاع, وإن عنى أن إيجاب الزكاة انتفى عن المعلوفة, فلا نسلم أن اللفظ لو لم يدل عليه لتعين ثبوت الاشتراك. قوله: (لا واسطة) نمنعه, إذ لا يلزم من عدم الدلالة على النفي دلالته على الاشتراك, لجواز ألا يدل على حصر ولا اشتراك. احتج الإمام بما هو قريب مما تقدم, فقال: لو لم يفد الحصر لم يفد

الاختصاص به دون غيره, أما الملازمة؛ فلأنه لا معنى للحصر إلا الاختصاص دون غيره, وأما انتفاء التالي؛ فلأنه يفيد اختصاص الحكم بالمذكور قطعًا. والجواب أيضًا: إن عنى أن لفظ (السائمة) منتف عن المعلوفة سلمنا, وليس محل النزاع, وإن عنى أن ما يتعلق بالسائمة من الحكم منتف عن المعلوفة فممنوع, بل لا دلالة للفظ عليه إثباتًا ولا نفيًا, ولا يلزم من عدم الحكم فيه الحكم بالعدم فيه, فلا يلزم من دلالته على وجوب الزكاة في السائمة, عدم دلالته على وجوب الزكاة فيما عداه - الذي هو معنى الاختصاص - دلالته على ثبوت الحكم في المذكور ونفيه عما عداه - الذي هو معنى الحصر. ثم دليل الإمام والذي قبله منقوضان بمفهوم اللقب؛ لأنهما يجريان فيه مع أنه باطل اتفاقًا, بأن يقال في اللقب: لو لم يكن للحصر لكان للاشتراك, ولو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص. واستدل أيضًا: بأنه لو قيل: الفقهاء الحنفية فضلاء, ولا شيء يقتضي التخصيص مما تقدم, نفر الشافعية, ولولا فهمهم نفي الفضل عن غير المذكور لما نفروا. الجواب: منع الملازمة, والنفرة إما للتصريح بغيرهم وتركهم على الاحتمال, كما تنفر من التقديم في الذكر لاحتمال أن يكون للتفضيل, وإن

جاز أن يكون لغيره, وإما لتوهم المعتقدين لمفهوم الصفة قصد ذلك في الصورة المذكورة, فينفروا من ذكر عبارة يتوهم منها بعض الناس نفي الفضل عنهم, أو النفرة للمعتقدين من الشافعية المفهوم بحسب اعتقادهم, وهو توهم. واستدل أيضًا, وهو من قبيل مفهوم العدد: بأن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبيه, فقيل للنبي عليه السلام: قد نهيت عن الاستغفار, فقال: «إنما خيرني ربي فقال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} , وسأزيده على السبعين». ووجه الاحتجاج: أنه لو لم يدل التقييد على المخالفة, لما فهم النبي عليه السلام ذلك.

الجواب: منع فهمه ذلك؛ لأن السبعين للمبالغة, فما زاد عليها فهو مثلها في الحكم, لا سيما وآخر الآية: {ذلك بأنهم كفروا}. قال الزمخشري: خيل بما قال إظهارًا لغاية رحمته ورأفته بمن بعث لأمته ودعا لأمته إلى ترحم بعضهم على بعض. سلمنا فهمه ذلك, لكن لا نسلم أنه فهمه من تخصيص السبعين بالذكر ولعله باق على أصله؛ لأن الأصل جواز الاستغفار للرسول وكونه مظنة الإجابة, ففهم من حيث إنه الأصل؛ لأنه لما أخرج السبعين بقي ما زاد على الأصل. واعلم أن فهم المبالغة من الفهم من البقاء على الأصل متنافيان, ولذلك أتى بأو دون الواو, ولما كان كل من قال بمفهوم العدد قال بمفهوم الصفة, حسن إيراده, أو لأن العدد وصف للمعدود. واستدل أيضًا: بما في الصحيح من قول يعلى بن أمية لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمِنّا؟ وقد قال تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} , فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه, فسألتُ

رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم». ووجه الاستدلال: أنهما فهما من تقييد قصر الصلاة بحال الخوف, عدم قصرها عند عدم الخوف, وأقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم, ولولا إفادته له لغة لما فهماه, ولما أقرّ الرسول عليه السلام. الجواب: لا نسلم أنهما فهما ذلك منه, لجواز أنهما حكما بذلك باستصحاب الحال في وجوب إتمام الصلاة, وذلك لأن الأصل الإتمام, وخولف في الخوف بالآية بخلاف غيرها, فلا يعدل عنه إلا بدليل, وإذا جاز ذلك لم يتعين أن يكون المفهوم منه على أنه مفهوم شرط, إلا أن يكون الغرض به إلزام من لا يفرق بينهما. واستدل أيضًا: بأن إفادته للتخصيص يفضي إلى تكثير الفائدة, فإن إثبات المذكور ونفيه عما عداه أكثر فائدة من إثبات المذكور وحده, وكثرة فائدته ترجح المصير إليه, لأنه ملائم لغرض العقلاء. وهذا الدليل إنما ينهض على من جعل تكثير الفائدة دالًا على الوضع, ونحن لا نقول به, فلا ينهض علينا. وقد اعترض هذا الدليل: باستلزامه الدور؛ لأن دلالة التقييد [بالوصف على النفي على الغير] يتوقف على الوضع المتوقف على تكثير الفائدة, إذ

به تثبت, وإنما يحصل تكثير الفائدة بدلالته على النفي عن الغير فهو دور. ثم أجاب عن الدور بنقض إجمالي وتفصيلي. أما الإجمالي: فلأن ما ذكرتم يجري في كل موضع يثبت الشيء لفائدة, سواء كان حكمًا أو وضعًا شرعيًا, فيجب ألا يثبت الشيء لفائدته أصلًا, فتنتفي المقاصد والحكم, وأنه باطل. وأما التفصيلي فهو: أن الذي تتوقف عليه دلالة اللفظ تعقل تكثير الفائدة, والمتوقف على الدلالة هو حصول تكثير الفائدة, فالعلة [الغائبة] تعقل الفائدة عند الدلالة, أي تقدير الدلالة. واستدل أيضًا: لو لم يكن المسكوت مخالفًا, يلزم ألا يكون السبع مطهرة في نحو قوله عليه السلام: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات»؛ لأن الطهارة إذا حصلت بدون السبع, فلا تحصل بالسبع؛ لأن تحصيل الحاصل محال, ذلك كقوله عليه السلام: «خمس رضعات معلومات يحرمنّ» , لأن الحرمة إذا حصلت بدون الخمس فلا تحصل بالخمس, والحديثان في الصحيح.

مسألة: لنا في: لو ثبت لثبت بدليل

وإنما ترك المصنف جواب هذين الشبهتين لظهورهما, إذ لا يلزم من عدم دلالة السبع على نفي الطهارة عما دونها, أن يكون / ما دون السبع مطهرًا لجواز ألا يدل على حكم ما دون السبع لا بتطهير ولا بغيره, وكذا بالجواب عن الآخر, وهما من مفهوم العدد. قال: (النافي: لو ثبت لثبت بدليل - وهو عقلي ونقلي - إلى آخره. وأجيب: بمنع اشتراط التواتر, والقطع بقبول الآحاد, كالأصمعي, والخليل, وأبي عبيدة, وسيبويه. قالوا: لو ثبت لثبت في الخبر وهو باطل؛ لأن من قال: «في الشام الغنم السائمة» لم يدل على خلافه قطعًا. وأجيب: بالتزامه, وبأنه قياس, ولا يستقيمان. والحق: الفرق بأن الخبر وإن دلّ على أن المسكوت عنه غير مخبر به فلا يلزم ألا يكون حاصلًا, بخلاف الحكم, إذ لا خارجي له فيجري فيه ذلك. قالوا: لو صح لما صح: «أدَّ زكاة السائمة والمعلوفة» , كما «لا تقول له أفّ واضربه» , لعدم الفائدة والتناقض. وأجيب: بأن الفائدة عدم تخصيصه, ولا تناقض في الظواهر. قالوا: لو كانت لما ثبت خلافه للتعارض, والأصل عدمه, وقد ثبت في نحو: {لا تأكلوا الربا أضعافًا مضعفة}. وأجيب: بأن القاطع عارض الظاهر, فلم يقو, ويجب مخالفة الأصل بالدليل).

أقول: احتج النافي لمفهوم الصفة: بأنه لو ثبت بدليل, إذ الحكم بثبوت شيء - وليس بضروري - بلا دليل باطل اتفاقًا, لكن لا دليل لأنه إما عقلي, ولا تثبت اللغة بمجرد العقل, وإما نقلي, فإما متواتر وكان يجب ألا يختلف فيه, وإما آحاد ولا يفيد في إثبات أصل من الأصول. الجواب: منع اشتراط التواتر, ومنع عدم إفادة الآحاد في مثله, وإلا امتنع العمل بأكثر أدلة الأحكام, لعدم التواتر في ألفاظها. وأيضًا: القطع بأن العلماء في كل عصر في سائر الأمصار كانوا يكتفون في فهم معاني الألفاظ بالآحاد, كنقلهم عن الخليل, والأصمعي, وأبي عبيدة, وسيبويه. قالوا ثانيًا: لو ثبت المفهوم في الحكم لثبت في الخبر, أما الملازمة؛ فلأن موجب إثباته في الحكم الحذر عن عدم الفائدة, وهو قائم في الخبر, وأما بطلان التالي؛ فلأنه لو قال: «في الشام الغنم السائمة» , لم يدل على عدم المعلوفة في الشام, وذلك معلوم لغة وعرفًا قطعًا. وقد أجيب عنه بجوابين: أحدهما: منع بطلان التالي, وسنده ما سبق من نفرة الشافعية إذا قيل: الفقهاء الحنفية فضلاء.

الثاني: أنه قياس في اللغة, وقد علمت أن القياس في اللغة لا يصح. والجوابان لا يستقيمان؛ لأن الأول مكابرة, وأيضًا: لم يلتزمه أحد منهم. وأما الثاني؛ فلأنه على ذلك التقدير استقرائي, لا أنه قياس في اللغة. قال المصنف: والحق في الجواب الفرق. قال الآمدي: إذا قال: «رطبًا جنيا» إنما يخبر عما شاهده, ولا يلزم ألا يكون شاهد ما ليس على هذه الصفة, وإذا قال لعبده: «اشتر رطبًا جنيًا» بعد علمه أن الرطب البايت مما يباع في السوق, فقوله ذلك إنما قصد بن تبيين ما يشتري مما لا يشتري, فكان النفي ملازمًا للإثبات, بخلاف الخبر. وتقرير ما قال المصنف: [أن الخبر في قوله: «في الشام الغنم السائمة» , وإن لم يدل على أن المعلوفة مخبر عنه - كما قال المصنف -] وإن دلّ على أن المسكوت عنه غير مخبر به, وإلا لدلّ ما لا يتناهى لأنه مسكوت عنه. فصوابه: وإن لم يدل على أن المعلوفة مخبر عنه, فلا يلزم ألا يحصل العلم به؛ لأن الخبر له خارجي وهو متعلقه, فيجوز ثبوته مع عدم الإخبار عنه, وعدمه مع الإخبار به, بخلاف الحكم الخارجي له كذلك حتى يجري فيه ما جرى في الخبر؛ لأن متعلق حكم الشارع يتوقف ثبوته ونفيه على الشارع, لأنه لا يعلم إلا منه, فاستلزم الإثبات النفي. وحاصل الجواب: لا نسلم أنه لو ثبت في الحكم لثبت في الخبر؛ لأن العلة في الحكم التقييد بالصفة مع عدم أمر خارجي, وهذا المعنى غير موجود في الخبر, فلا يلزم من الدلالة في الحكم الدلالة في الخبر.

قال في المنتهى - وهو دقيق نفيس -: قال بعض فضلا الشراح: وهو كما قال, لا كما قال بعض الشراح: وأنه رجوع إلى نفي المفهوم. قالوا ثالثًا: لو صح القول بمفهوم المخالفة, لما صح أن يقال: «أدَّ زكاة الغنم السائمة والمعلوفة» , بيان اللزوم: إن وازناه في منافاة مفهوم كل لمنطوق الآخر كقولك: «لا تقل له أفّ واضربه» , ولا شك أنه غير جائز, فكذلك هذا, وإنما لم يجز لعدم فائدة التقييد, لأنه يستغني بقوله: «أدَّ زكاة الغنم». وأيضًا: لا يجوز للتناقض لأن مفهوم كل منهما مناقض لمنطوق الآخر. الجواب أولًا: أنا إنما نقول به عند التخصيص بالذكر, فلا يلزم فيما ذكرتم مما لا تخصيص فيه, بل عطف عليه. ولا نسلم أنه كمفهوم الموافقة, لقطعية ذلك وظنية هذا, والفائدة في ذكر النوعين عدم تخصيص أحدهما عن العام, لذكرهما بالنصوصية عليهما بخلاف «أدَّ زكاة الغنم» , ولا تناقض بين الظواهر, ولذلك يصح تقابلها وتعادلها دون القواطع, هذا مع إمكان صرفها عن ظواهرها بالدليل, ودفع التناقض أقوى دليل عليه. قالوا رابعًا: لو دلّ تقييد الحكم بالصفة على النفي عند عدمها, لما ثبت خلافه, وهو ثبوت الحكم عند عدم الصفة, أما الملازمة, فللزوم التعارض بين المفهوم وبين الدليل المثبت للحكم عند عدم الصفة, والتعارض خلاف

مسألة: فأما مفهوم الشرط

الأصل؛ لأنه يؤدي إلى إهمال الدليل, والأصل إعماله. وأما انتفاء التالي؛ فلأنه ثبت في قوله تعالى: {لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة} , مفهوم عدم النهي فيما ليس كذلك, والنهي ثابت / في القليل والكثير. الجواب: منع الملازمة, والتعارض منتف, لأن القاطع - وهو الإجماع - لا يقوي الظاهر لمعارضته. سلمنا, لكن التعارض وإن كان خلاف الأصل, يجب المصير إليه عند قيام الدليل, كما أن الأصل البراءة. وتُخَالف الدليل, فلو أورده النافي هكذا: لو كان المفهوم ثابتًا لزم التعارض عند المخالفة وهو خلاف الأصل, وإذا لم يثبت لم يلزم, وما يفضي إلى خلاف الأصل مرجوح إلا لدليل, فحينئذ لا يرفعه ما ذكر المصنف. وجوابه على هذا إجمالًا وتفصيلًا: أما الإجمالي: فللزومه في الألفاظ التي لم يترتب عليها مدلولها, فقال: لو كان العام يتناول جميع الأفراد, لما ثبت خلافه للتعارض. وثانيًا: أن ما ذكرتم خرج مخرج الغالب, فكل ما وجد شرط ما ثبت خلافه. قال: (فأما مفهوم الشرط, فقال به بعض من لا يقول بالصفة. والقاضي, وعبد الجبار, والبصري على المنع. القائل به: ما تقدم.

وأيضًا: يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط. اعترض: قد يكون سببًا. قلنا: أجدر إن قيل بالاتحاد, والأصل عدم إن قيل بالتعدد. وأورد: {إن أردن}. وأجيب: بأن الأغلب, أو معارضة الإجماع). أقول: أما مفهوم الشرط فحجة عندنا, وقال به بعض من لا يقول بمفهوم الصفة, كابن سريج, وأبي الحسين البصري. ومنعه القاضي أبو بكر منّا, وعبد الجبار من المعتزلة, كما منعا مفهوم الصفة. وفصّل البصري هناك, ومنع هنا مطلقًا. احتج القائل به: بما تقدم في مفهوم الصفة من مقبول ومزيف, فينقل إلى هنا بعينه؛ لأن مرجع الشرط أنه وصف, واختص بدليل آخر وهو: أنه إذا ثبت أنه شرط, يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط؛ إذ لا معنى للشرط

إلا ذلك, ولذلك فهم ذلك يعلى بن أمية كما سبق. قيل: هو شرط لإيقاع الحكم لا لثبوته, وليس النزاع في مفهوم ما هو شرط في الواقع - أعني الشرط المصطلح - بل في مفهوم ما دخل عليه حرف الشرط. واعترض هذا الدليل: بأنه لا يتعين أن يكون شرطًا, لجواز استعمال «أن» في السببية, بل غلبتها فيها كما تقدم, ولا يلزم من انتفاء السبب انتفاء المسبب, لجواز تعدد السبب. الجواب: لا يضر ذلك, سواء قلنا: يجب اتحاد السبب, أو قلنا: يجوز تعدده. أما إذا قلنا بالاتحاد فلانتفاء المسبب عند انتفاء سببه, فهو أجدر بالانتفاء عند الانتفاء من الشرط, للتلازم في الوجود والعدم, بخلاف الشرط. وأما إن قلنا بجواز التعدد, فلأن الأصل عدم غيره وإن جاز, فإذا نتفى فقد انتفى السبب مطلقًا, فينتفي المسبب. واعترض الدليل المذكور بإيراد نقض عليه وهو: لو ثبت مفهوم الشرط لثبت / جواز إكراه الفتيات على البغاء عند عدم إرادة التحصن, عملًا بقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} , ولكن الإكراه عليه لا يجوز بحال إجماعًا. الجواب أولًا: أنه انتفى المفهوم لانتفاء شرطه, وشرطه ألا يكون خرج مخرج الغالب, والغالب أن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن.

مسألة: مفهوم الغاية

وثانيًا: أن المفهوم اقتضى ذلك, لكنه ظاهر, والقاطع - وهو الإجماع - عارضه, فاندفع الظاهر للمعارض الأقوى. وأيضًا: إنما يدل على عدم الحرمة عند عدم الإرادة وأنه ثابت, إذا لا إكراه حينئذ؛ لأنهن إذا لم يردن التحصن لم يكرهن البغاء, إذا الإكراه إلزام فعل مكروه, وإذا لم يمكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان. قال: (مفهوم الغاية, قال به بعض من لا يقول بالشرط, كالقاضي وعبد الجبار. القائل به: ما تقدم, وبأن معنى «صوموا إلى أن تغيب الشمس»: آخره غيبوبة الشمس, فلو قدر وجوب بعده لم يكن آخرًا). أقول: أما مفهوم الغاية, فقال به بعض من لا يقول بالشرط والصفة, فهو أقوى منهما, كالقاضي منا, وعبد الجبار من المعتزلة. احتج القائل به: بما تقدم في الصفة وبدليل يخصه وهو: أن قول القائل: «صوموا إلى أن تغيب الشمس» معناه: آخر وجوب الصوم غيبوبة الشمس, فلو قدرنا ثبوت الوجوب بعد أن غابت الشمس, لم تكن الغيبوبة آخرًا, وهو خلاف المنطوق. قيل: الكلام في الآخر نفسه لا في ما بعد الآخر, ففي قوله تعالى {إلى المرافق} المرافق آخر, وليس النزاع في دخول ما بعد المرافق.

مسألة: وأما مفهوم اللقب

قلت: النزاع فيما بعد الغاية, هل هو مسكوت عنه أو متعرض له؟ . ولم يختلفوا في حرمتها حين العقد في: {حتى تنكح زوجًا غيره}. قال: (وأما مفهوم اللقب [فقال] وبعض الحنابلة, وقد تقدم. وأيضًا: كان يلزم من «محمد رسول» , و «زيد موجود» وشبهه, ظهور الكفر. واستدل: بأنه يلزم منه إبطال القياس, لظهور الأصل في المخالفة. وأجيب: بأن القياس يستلزم التساوي في المتفق عليه فلا مفهوم, فكيف به هنا؟ . قالوا: لو قال لمن يخاصمه: «ليست أمي بزانية ولا أختي» , تبادر نسبة الزنا إلى أم خصمه, ووجب الحدّ عند مالك وأحمد. قلنا: من القرائن, لا مما نحن فيه). أقول: أما مفهوم اللقب, فأنكره الجمهور, وقال به الدقاق وبعض الحنابلة, وهو نفي الحكم عما يتناوله الاسم, كما لو قال: «في الغنم زكاة» , فتنتفي عنده عن غير الغنم ظاهرًا, وقد تقدم أن المفهوم إنما يعتبر حذرًا عن عدم فائدة القيد, واللقب قد انتفي فيه المقتضى للمفهوم, إذ لو

طرح / لاختل الكلام. وأيضًا: كان يلزم من: «محمد رسول الله» نفي رسالة غيره من الأنبياء, ومن: «زيد موجود» نفي الوجود عند الله تعالى. وإنما قال: (ظهور الكفر) , ولم يقل: يلزم الكفر؛ لأنه إنما يلزم لو كان منتبهًا لدلالة لفظه, ومريدًا بلفظه ما دلّ عليه بمفهومه, مع أن دلالة المفهوم لم يقل أحد إنها بطريق القطع. واستدل أيضًا: بأن القول بمفهوم اللقب يلزم منه إبطال القياس, والقياس حق, والمؤدي إلى إبطال ما هو حق فهو الباطل. أما الملازمة؛ فلأنه إذا كان تعليق الحكم بالاسم دالًا على نفيه عما عداه يكون الأصل المعين عليه ظاهرًا في مخالفة الفرع له في الحكم؛ لأن النص أو الإجماع الدال على الحكم في الأصل المقيس عليه يكون دالًا على نفي الحكم عن الفرع بحسب الظاهر, فلو عمل بالقياس يلزم مخالفة ظاهر النص أو الإجماع. الجواب: أن القياس يستدعي مساواة الفرع للأصل في المعنى الذي شرع الحكم لأجله, فإذا حصل ذلك, دلّ على حكم الفرع وبطل مفهوم المخالفة هذا في الشرط والصفة, فكيف بمفهوم اللقب الذي هو أضعف؟ . والحاصل: أن محل القياس لا يثبت فيه مفهوم اللقب اتفاقًا, فإذا لم يجتمعا في محل, فكيف يدفع القياس؟ . قالوا: لو قال لمن يخاصمه: «ليست أمي بزانية ولا أختي» , تبادر منه

مسألة: وأما الحصر بإنما

نسبة الزنا إلى أم الخصم وأخته, ولذلك وجب الحدّ عند مالك, وأحمد ولولا مفهوم اللقب لما تبادر. الجواب: أن فهم ذلك من القرائن الحالية وهي الخصام, وإرادة الإيذاء والتقبيح, وليس مما نحن فيه من المفهوم الذي كون اللفظ ظاهرًا فيه لغة. قال: (وأما الحصر بإنما, فقيل: لا يفيد, وقيل: منطوق, وقيل: مفهوم. الأول: إنما زيد قائم, بمعنى: إن زيدًا, والزائد كالعدم. الثاني: {إنما إلهكم الله} بمعنى: ما إلهكم إلا الله, وهو المدعى. وأما مثل: «إنما الأعمال بالنيات» , و «إنما الولاء» فضعيف؛ لأن العموم فيه بغيره, فلا يستقيم لغير المعتق, ولا ظاهرًا). أقول: اختلفوا في تقييد الحكم بإنما, فذهب القاضي, والغزالي إلى أنه ظاهر في الحصر. وذهب الحنفية, وبعض من أنكر دليل الخطاب إلى أنها تفيد الحصر.

وقال قوم: يفيد الحصر مفهومًا لا منطوقًا. احتج القائل بأنه لا يفيده: بأنه لا فرق بين: «إن زيدًا قائم» , وبين: «إنما زيد قائم» فما زائدة, والزائد كالعدم في إفادة الحصر, فكما لا يفيد الأول الحصر, فكذا الثاني. احتج المثبت: بأن معنى {إنما إلهكم الله}: ما إلهكم إلا الله, والثاني يفيد الحصر فكذا الأول, وكلاهما تقرير للدعوى عريًا عن الاستدلال. واحتج بعضهم في إفادتهم الحصر بمثل: «إنما الأعمال بالنيات» , «إنما الولاء لمن أعتق» , إذ يتبادر منه عدم صحة العمل بغير نية, وعدم الولاء لغير المعتق. والجواب: أن العموم مستفاد من الألف واللام, فكل عمل بنية, وكل ولاء للمتعق, فينتفي مقابله - وهو الجزئي السالب - وهو: ليس كل عمل بنية, وليس بعض الولاء للمتعق.

مسألة: وأما مفهوم الحصر

فإن قيل: يحتمل الولاء للمعتق ولغيره, إذ لا منافاة بينهما, بل هو ظاهر في نفي الولاء عن غيره؛ لأن قوله: «للمعتق» ظاهر في الاستقلال, هذا ظاهر المنتهى, وقرر أيضًا من جانب القائل لا تفيد الحصر: أي لو أفادت الحصر لما صح عمل بغير نية, ولا ولاء لغير معتق, والتالي باطل؛ لصحة العمل بغير نية, وثبوت الولاء لغير المعتق. وأجاب: بأنه إنما ثبت عموم الولاء للمعتق وغيره, وعموم صحة العمل بنية وبغير نية لغير الحديث كالإجماع مثلًا, والحديث يدل بحسب الظاهر أن لا يستقيم الولاء لغير المعتق, ويجوز العدول عن الظاهر بدليل قطعي. قال: (وأما مفهوم الحصر, مثل: «صديقي زيد» , و «العالم زيد» ولا قرينة عهد. فقيل: لا تفيد, وقيل: منطوق, وقيل: مفهوم. الأول: لو أفاد لأفاد العكس؛ لأنه فيهما لا يصلح للجنس, ولا للمعهود معين لعدم القرينة, وهو دليلهم. وأيضًا: لو كان, لكان التقديم بغير مدلول الكلمة. القائل به: لو لم يفده, لأخبر عن الأعم بالأخص, لتعذر الجنس والعهد, فوجب جعله لمعود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي. وأجيب: بل جعله بمعهود ذهني, مثل: «أكلت الخبز» هو المعروف. ولو سلّم, فاللام للمبالغة, فأن الحصر؟ . ويلزمه: «زيد العالم» بعين ما ذكرتم, وهو الذي نص عليه سيبويه في:

«زيد الرجل» , فأن زعم أنه مخبر بالأعم فغلط؛ لأن شرطه التنكير. فإن زعم أن اللام لزيد فغلط, لوجوب استقلاله بالتعريف منقطعًا عن «زيد» كالموصول). أقول: إذا قدم الوصف على الموصوف في القضية المهملة التي محمولها شخصي, مثل: «صديقي زيد» , و «العالم زيد» , ولا قرينة تفيد العهد. قال الحنفية والقاضي: مثل هذا التركيب لا يفيد الحصر. وقال الغزالي, وكثير من الفقهاء: يفيد الحصر؛ لأن الوصف لما قُدّم على الموصوف - والترتيب الطبيعي يقتضي خلافه - فهم من العدول إليه قصد النفي عن غيره. ثم اختلف هؤلاء, فقال بعضهم: يفيده بمنطوقه, وقال بعضهم: بل بمفهومه. احتج الأولون: بأنه لو أفاد: «العالم زيد» , و «صديقي زيد» الحصر, لأفاده: «زيد العالم» , و «زيد صديقي». بيان اللزوم؛ أن دليلهم في «العالم زيد» هو أن العالم لا يصلح للجنس, لأن الإخبار عن الكلي بأنه زيد - الجزئي - كاذب, ولا يصلح للعهد؛ لأن الفرض ألا قرينة تصرفه إلى العهد, فكان لما يصدق عليه الجنس, وهو الماهية

فيفيد أن الذي صدق عليه العالم «زيد» وهو معنى الحصر, وهذا الدليل بعينه يجري في قولنا: «زيد العالم» , والاشتراك في الدليل يوجب الاشتراك في الحكم. قالوا: وأيضًا لو كان «العالم زيد» يفيد الحصر دون العكس؛ لكان التقديم مغيرًا لمدلول الكلمة؛ لأنه لو اتحد مفهوم العالم متقدمًا ومتأخرًا - وكلا التركيبين يفيد بين زيد والعالم الاتحاد فهو هو - لزم إما شمول الحصر, وإما شمول عدمه, وأما بطلان التالي؛ فلأن التقديم والتأخير إنما يغير الهيئة التركيبية, لا مدلول المفردات. قيل: لا امتناع في تغيير التقديم, فإن نسبة الشيء إلى غيره بالموضوعية تغاير نسبة ذلك الغير بالمحمولية, ولذلك قد تصدق القضية ولا يصدق عكسها. وردّ: بأن التقديم وإن غير نسبة الموضوعية والمحمولية, لكن لم يغير نفس مدلول الموضوع والمحمول. وردّ الرّد: بأن قوله: «لا امتناع» مُنِع, وما ذكر سند له, وما تطرق إلى السند لا يقدح في المنع, مع أن قوله: «لم يغير نفس مدلول المحمول والموضوع» ممنوع؛ لأن محمول العكس وصف لموضوع الأصل, لا عين موضوع الأصل. وأصل الحديث للإمام فخر الدين, قال: إذا قلنا: «المنطق زيد» , فالمنطلق دال على معنى نسبي, فهو في نفسه متعين للخبرية, وزيد دال على

الذات, فهو في نفسه متعين للمبتدأية, تقدم أو تأخر. قال السكاكي: لا معرج على هذا؛ لأن «المنطلق» لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق, وأنه بهذا المعنى لا يجب كونه خبرًا, إذ لم يبق نسبيًا, وزيد لا يوقع خبرًا إلا بمعنى صاحب اسم زيد, فيكون المراد من قولنا في المنطلق زيد: الشخص الذي له لانطلاق صاحب اسم زيد, فقد غير التقديم مدلول الكلمة؛ لأن الوصف إذا وقع مسندًا إليه قصد به الذات الموصوفة به, وإذا وقع مسندًا قصد به كونه ذاتًا موصوفة. صوابه: كون الذات موصوفة وهو عارض للأول فاندفع السؤالان, فإن أراد بتغير المفهوم هذا القدر منعنا بطلانه, وإن أراد غير منعنا الملازمة, وليس الحصر مدلول الكلمة, وإنما هو من الأمور الحاصلة من التركيب وتختلف بالتقديم والتأخير, بدليل «ما ضرب زيد إلا عمرًا» , و «ما ضرب عمرًا إلا زيد». احتج القائل بأنه يفيد الحصر: بأنه لو لم يفده لأدى إلى الإخبار عن العام بالخاص, أما الملازمة؛ فلأنه لا قرينة عهد وليس للجنس, بل لما صدق عليه العالم, فلو فرض غير زيد وهو عمرو مثلًا أنه يصدق عليه العالم, لكان العالم أعم من زيد وعمرو, وقد أخبرت عنه بزيد. وأما بطلان التالي؛ فلأن الخبر الثابت للعام ثابت لجزئياته, فيلزم ثبوت زيد لعمرو, فبطل للجنس ولما صدق عليه مطلقًا, فوجب جعله لما صدق عليه بعد تخصيصه بما يصلح أن يحمل عليه زيد من معين, وما ذاك إلا بأن

يجعل / لمعهود ذهني, وهو شخص كامل أو منتهي في العلم قد تصوره المخاطب أو توهمه, وأنت تعلم ذلك فتخبر عن ذلك الشخص المتصور بأنه زيد. ورده الآخرون: بأنا نختار أنه لما صدق عليه مطلقًا ولا محذورًا؛ لأن القضية مهملة فهي في قوة الجزئية, فكان بمعنى: بعض العلماء زيد, وبعض أصدقائي زيد. سلمنا أنه لمعهود ذهني, لكن لا على الوجه الذي ذهبتم إليه, بل لمعهود ذهني غير مقيد بصفة, مثل: «أكلت الخبز, وشربت الماء». سلمنا, ولا ينتج مطلوبكم؛ لأنه لم يحصل حصر العالم في زيد, بل الحاصل كون زيد كاملًا أو منتهيًا في العلم فقط, فحاصله أن اللام للمبالغة في علمه, لا لحصر العلم فيه. وأيضًا: يلزم في «زيد العالم» - بعين ما ذكرتم - أن يكون لمعهود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي, وهم لا يقولون به ويفرقون بينهما, مع أن سيبويه نص في «زيد الرجل» على أن اللام للبالغة. فإن قالوا: لا يلزم الفرق, فإن الإخبار عن الأعم بالأخص غير جائز, بخلاف العكس. قلنا: إنما يخبر عن الأخص بالأعم إذا كان الأعم نكرة يدل على كون الأخص شائعًا فيه, لا في الحمل, فهو هو, والخاص لا يكون غير العام, وهو هنا معرفة. فإن قيل: الفرق أن اللام في «العالم» إذا تأخر كان لزيد, بخلاف ما إذا

لم يتقدم ما يصلح له فيصدق, ثم [الأعهد] وهو إحدى مقدمات الدليل ولا يصدق هنا. قلنا: العالم في «زيد العالم» ينبغي أن يكون منقطعًا عن زيد مستقلًا بإفادة معناه الإفرادي كالموصولات, فإنك إذا قلت: «زيد هو الذي علم» , كان «الذي علم» مستقلًا عند إفراده, ولم يمكن إشارة إلى زيد, وإنما يتعلق به ويصير هو إياه بعد الإسناد الحاصل بالتركيب, فكذا «اللام» التي هي بمعناه.

النسخ

قال: (النسخ: الإزالة, نسخت الشمس الظل. والنقل: نسخت الكتاب, ونسخت النحل, ومنه المناسخات. فقيل: مشترك, وقيل: للأول, وقيل: للثاني. وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فيخرج: المباح بحكم الأصل, والرفع بالنوم والغفلة, ونحو: «صلّ إلى آخر الشهر». ونعني بالحكم, ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن, فإن الوجوب المشروط بالعقل لم يكن عند انتفائه قطعًا. فلا يرد: الحكم قديم فلا يرتفع؛ لأنا لم نعينه, والقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب, وهو المعنى بالرفع). أقول: لما فرغ مما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع, شرع فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون الإجماع, وهو النسخ. وهو في اللغة: الإزالة, يقال: نسخت الشمس الظل إذا أزالته. والنقل أيضًا, وهو تحويل الشيء من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه, ومنه: نسخت النحل إذا حولتها من خلية إلى خلية. ومنه: المناسخات في المواريث, بانتقالها من قوم إلى قوم. ومنه: نسخ الكتاب, لما فيه من مشابهة النقل لتحصيل مثل ذلك في الآخر, وإلا فما في الكتاب لم ينقل حقيقة.

واختلف في استعماله فيهما, أهو بطريق الاشتراك, وإليه ذهب القاضي والغزالي, أو هو حقيقة في الأول مجاز في الثاني, إطلاقًا لاسم اللازم على الملوم, وإليه ذهب أبو الحسين. وعكس القفال: إطلاق اسم الملزوم على اللازم, وهو بحث لفظي. وأما في الاصطلاح: فهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فقوله: (رفع الحكم) جنس, و (الشرعي) فصل يخرج المباح بحكم الأصل, فإن رفعه بدليل شرعي متأخر لا يسمى نسخًا, وقوله: (بدليل شرعي) يخرج رفعه بالنوم والغفلة والجنون والموت, وقوله: (متأخر) ليخرج نحو: «صلّ عند كل زوال إلى آخر الشهر» , وكذا الشرط والاستثناء والمستقل المتصل, مثل: «اقتلوا المشركين ولا تقتلوا النساء» , وإن كان يمكن أن يقال فيه: لا رفع؛ لأن الحكم لم يثبت بأول الكلام؛ لأن الكلام بالتمام فيكف يرفع؟ . لكن التصريح ودفع التوهم مما يقصد في الحدود. قيل: الاحتراز عن النوم والغفلة لا يصح؛ لأن الرفع بهما بدليل شرعي وهو قوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاث» , فالواجب أن يقال:

احترازًا عن الرفع بالموت. وردّ: بأن الرفع بالحقيقة هو إرادة الشارع, فكما صح أن يقال: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي» مع أنه ليس ذلك الدليل برافع, وإنما دلّ على الرافع. قال بعض فضلاء الشراح: رفع حكم الخطاب إنما يكون بعد ثبوته ولم يثبت في قوله: «صلّ كل زوال إلى آخر الشهر» إلا بعد تمام الكلام, ثم قال: والعجب من المصنف سلّم ورود هذا على الغزالي, وغفل عن وروده عليه. قلت: إنما سلّم وروده على الغزالي؛ لأن قوله: «الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم» , يغني عن قوله: «مع تراخيه عنه»؛ لأن لفظ المتقدم يُشعر بأنه غير مقارن, فأتى المصنف بلفظ «متأخر» إذ لم يتقدم له ما يغني عنه. قيل: الحكم كلام الله تعالى وهو قديم, وما ثبت قدمه امتنع عدمه, فلا يتصور رفعه ولا تأخره عن غيره. وأجاب المصنف: بأنا نريد بالحكم ما ثبت على المكلف بعد أن لم يكن ثابتًا, فإن نقطع بأن وجوب المشروط بالعقل لم يكن قبل العقل, ثم ثبت بعده, وذلك ليس بقديم / حتى يمتنع انتفاؤه وتأخره.

مسألة: الإمام: اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط

ثم إنا نعلم قطعًا أنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه, فقد انتفى الوجوب لانتفاء التعلق الخارجي الذي هو جزء مفهوم الوجوب, وانتفاء التعلق الخارجي هو المعنى بالرفع, وإذا تصورنا الحكم والرفع لذلك, كان إمكان رفعه ضروريًا, وكذا تأخره. وفي الحقيقة, المرتفع التعلق, وفي صدر الكتاب الإشارة إلى أن الحكم كما يطلق على خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين تعلقًا علميًا, فإنه يطلق أيضًا على خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين تعلقًا خارجيًا, وهو بالمعنى الثاني حادث؛ لأن التعلق الخارجي مشروط بالعقل, لانتفاء التكليف الخارجي عند انتفائه, والمشروط بالحادث حادث. وعرف من الحدّ الناسخ والمنسوخ. قال: (الإمام: اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول. فيرد: أن اللفظ دليل النسخ, ولا يطرد, فإن لفظ العدل: «نسخ حكم كذا» ليس بنسخ, ولا ينعكس لأنه قد يكون فعله عليه السلام, ثم حاصله اللفظ الدال على النسخ؛ لأنه فسّر الشرط بانتفاء النسخ, وانتفاء انتفائه حصوله). أقول أورد للنسخ حدودًا أربعة غير مرضية عنده: فمنها: ما ذكر الإمام وهو: اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام

الحكم الأول, ومعناه: أن الحكم كان دائمًا في علم الله تعالى دوامًا مشروطًا بشرط لا يعلمه إلا هو, وأجل الدوام أن يظهر انتفاء ذلك الشرط للمكلف فينقطع الحكم ويبطل دوامه, وما ذاك إلا بتوقيفه تعالى, فإذا قال قولًا دالًا عليه, فذلك هو النسخ. واعترض من وجوه: منها: أنه فسّر النسخ باللفظ, وهو دليل النسخ لا هو, ولذلك يقال: نسخ الحكم بالآية. ومنها: عدم الطرد, لدخول قول العدل: نسخ حكم كذا. ومنها: أنه غير منعكس, لخروج ما نسخ بفعله عليه السلام, وليس بلفظ. ومنها: أنه تعريف للشيء بنفسه؛ لأنه فسّر شرط دوام الحكم الأول بانتفاء النسخ, فيكون المعنى انتفاء انتفاء النسخ هو حصول النسخ, فانحل إلى أنه اللفظ الدال على حصول النسخ. قيل في دفع الأول: النسخ يستدعي ناسخًا - أي رافعًا هو الفاعل, وهو الله تعالى -, ومنسوخًا أي مرفوعًا وهو الحكم, والرافع والمرفوع يستدعيان رفعًا وارتفاعًا, فالرفع صفة الفاعل, والارتفاع صفة المفعول, فالنسخ قول الشارع: «نسخت». وردّ: بأن ذلك دليل عليه, إذ اللفظ لا يكون صفة له تعالى. قيل: قد علم أن الحكم / يدوم بدوام شرط دوامه وليس شرطه, وإلا

عدم قول الله الدال على انتفائه, فقاطع الدوام هو ذلك القول وهو النسخ, كما أن الحكم ليس إلا قوله: «افعل» , كذلك النسخ ليس إلا ذلك القول. قلت: وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أنه ليس شرطه إلا عدم قول الله, بل شرط دوامه عدم إرادة الله عدم دوامه, والقول دليل عدم إرادة الله دوامه. سلمنا, لكن قوله: «فقاطع الدوام هو ذلك القول» يقتضي أنه ناسخ لا أنه نسخ, وقوله: «الحكم ليس إلا قوله افعل» لا نسلم بل هو دليل الحكم. قيل في عدم الطرد: إن قول العدل يدل على القول الدال بالذات على النسخ, والمراد إنما هو الدال بالذات, وفي دفع العكس: أن الفعل يدل على قول ناسخ, إذ النبي عليه السلام مُبلغ, وفي دفع الدوران: ما ذكر لا يتوقف فهمه على فهم النسخ, وإن كان في الخارج هو النسخ, وكذلك كل حدّ ومحدود يتحدان ذاتًا ويتغايران مفهومًا. قلت: وهذا الأخير - وإن كان كما قال - لكنه تعريف للشيء بمساويه في الخفاء. قيل في دفع الدور: لا نسلم أن دوام الحكم الأول هو انتفاء النسخ, غاية ما في الباب أنه يلزمه, ولا يلزم من تفسير الشرط بدوام الحكم الأول تفسيره بانتفاء النسخ, وإن كان شرطًا لهما لتلازمهما. سلمناه, لكن التعرض لقوله: «وانتفاء انتفائه حصوله» - مع أنه متجوز فيه لأنه ليس عينه بل لازمه - ضائع, لحصول الدور بقوله: «لأنه فسر الشرط بانتفاء النسخ». قلت: ولا يخفى عدم اتجاه هذا الكلام؛ لأنه لم يقل: إن دوام الحكم

مسألة: وقال الغزالي: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت

الأول هو انتفاء النسخ, [وإنما قال: شرط دوام الحكم الأول هو انتفاء النسخ] , على ما فسَّر به الإمام الشرط. وقوله: «ولا يلزم من تفسير الشرط بدوام الحكم الأول تفسيره بانتفاء النسخ, وإن كان شرطًا لهما لتلازمهما» فاسد أيضًا؛ لأن المفسر شرط دوام الحكم الأول, والمفسر به انتفاء النسخ, لا أن المفسر نفس الشرط, والمفسر به دوام الحكم الأول. قال: (وقال الغزالي: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا, مع تراخيه عنه. وأُورد: الثلاثة الأول, وأن قوله: على وجه ... إلى آخره زيادة. وقال الفقهاء: النصُّ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده. وأورد: الثلاثة الأول, فإن فرّوا من الرفع لكون الحكم قديمًا والتعلق قديمًا, فانتهاء أمد الوجوب ينافي بقاؤه عليه, وهو معنى الرفع. وإن فروا لأنه لا يرتفع تعلق المستقبل, لزمهم منع النسخ قبل الفعل كالمعتزلة. وإن كان لأنه بيان أمد التعلق بالمستقبل المظنون استمراره, فلابد من زواله. المعتزلة: اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتًا.

فيرد: ما على الغزالي, والمقيد بالمرة بفعل). أقول: ومن الحدود المزيفة ما عرّفه به القاضي وارتضاه الغزالي. فقوله: (الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت) هو الجنس, واختار الخطاب على النص, ليشمل اللفظ والفحوى والمفهوم, لجواز النسخ بالجميع, وفيه الاحتراز عن الموت والغفلة ونحوهما, وقوله: (بالخطاب المتقدم) احتراز عن رفع مباح الأصل, وقوله: (لولاه لكان ثابتًا) لأن حقيقة النسخ الرفع, وهو إنما يكون رافعًا لو كان المتقدم بحيث لولا طريان هذا لبقي, وقوله: (مع تراخيه عنه) لأنه لو اتصل به لكان بيانًا كالشرط والغاية, والاستثناء. واعترض: بالثلاثة الأول وهي: أن الخطاب دليل النسخ, ويدخل فيه قول العدل, إذ المراد لولاه لكان ثابتًا عندنا لا في نفس الأمر, وإلا لم يرد. ويخرج النسخ بفعل الرسول, ونسخ ما ثبت بفعل الرسول ويختص بسؤال, وهو أن قوله: (على وجه لولاه لكان ثابتًا) مع [تراخيه عند - زيادة - أما لولاه لكان ثابتًا] , فإنه لا يكون الرفع إلا كذلك, وأما مع تراخيه عنه, فإنه لولاه لم يتقرر الحكم الأول, فكان دفعًا لا رفعًا. ومنها ما عرّفه به الفقهاء فقالوا: النص الدال ... إلى آخره. وأورد عليه: الثلاثة الأول الواردة على الإمام.

وفي ورود عدم الطرد نظر مع أنه لا معنى لفرارهم من الرفع إلى الانتهاء. أما أولًا: فلأنه الحكم لما كان خطاب الله, لم يتصور فيه انتهاء. وأما ثانيًا: فلأن ذلك يحتمل أمورًا ثلاثة, اثنان فاسدان, وواحد نزاع لفظي. فإنهم إن فرّوا من الرفع لكون الحكم قديمًا والتعلق قديمًا فلا يتصور رفع شيء منهما ففاسد, فإن انتهاء أمر الوجوب لا يتصور مع دوام الوجوب وعدم دوامه هو الرفع, فقد قالوا بالرفع معنى وأنكروه لفظًا, فقد ناقضوا. وإن كان فرارهم من الرفع لكون التعلق بالفعل المستقبل لا يمكن رفعه فإذا نسخ علم أنه لم يكن متعلقًا به ففاسد؛ لأنه يلزم منه امتناع النسخ قبل الفعل, لأنه إذا صدق: أن ما نسخ لم يتناوله الخطاب, صدق بعكس النقيض: ما تناوله الخطاب لم ينسخ. وإن كان فرارهم لأنهم يرون النسخ بيان أمد التعلق بالمستقبل المظنون استمراره قبل سماع الناسخ, مع أنه لم يكن مستمرًا في نفس الأمر, فبسماع الناسخ زال ذلك الظن, وزال التعلق المظنون قطعًا. وهذا ليس خلافًا في المعنى / لأنه يستلزم زوال التعلق المظنون قطعًا, وهو مرادنا بالرفع, ومرادكم بالانتهاء, فصار النزاع لفظيًا. ومنها: ما عرّفه به المعتزلة وهو: اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتًا. فورد عليه: ما ورد على الغزالي, واختص حدّهم بأنه يرد عليه عدم

مسألة: الإجماع على الجواز والوقوع

الطرد, بالمقيد بمرة يفعل, كما إذا قال: «حجوا» , ثم قال: «أوجبت عليكم الحج في جميع السنين مرة واحدة» , فمرة واحدة لفظ دال على أن مثل الحكم الثابت بقوله: «حجوا» زائل على وجه لولا «مرة واحدة» لكان ثابتًا «أوجبت عليكم الحج في جميع السنين». قال: (والإجماع على الجواز, والوقوع. وخالفت اليهود في الجواز, وأبو مسلم الأصفهاني في الوقوع. لنا: القطع بالجواز, وإن اعتبرت المصالح, فالقطع أن المصلحة تختلف باختلاف الأوقات, وفي التوراة: أن آدم كان يزوج بناته بنيه, وقد حرم ذلك باتفاق. واستدل: بإباحة السبت ثم تحريمه, وبجواز الختان ثم إيجابه يوم الولادة عندهم, وبجواز الأختين ثم التحريم. وأجيب: بأن رفع مباح الأصل ليس بنسخ). أقول: اتفقت الشرائع على جواز النسخ, وخالف بعض اليهود كالشمعنية, ومنهم من جوزه عقلًا ومنعه سمعًا كالعنانية منهم. ومنهم من جوزه عقلًا وسمعًا كالعيسوية.

واختلف النقل عن الأصبهاني, فحكى الإمام عنه أنه منع جوازه في القرآن, وحكى الآمدي عنه أنه جوزه عقلًا لا سمعًا, وظاهر كلام المصنف أنه جوزه سمعًا وعقلًا, ولكن ما وقع. وقول المصنف: (الإجماع على الجواز) واضح, وعلى الوقوع: إما إجماع سابق, أو إجماع لا يكون قطعيًا, كما تقدم في لو ندر المخالف. لنا على اليهود: أنا نقطع بجوازه عقلًا, وأنه لو فرض لم يلزم منه محال لذاته, سواء اعتبرت المصالح أو لا. أما إذا قلنا بعدم اعتبار المصالح, فلأنه - تعالى - يفعل ما يشاء. وأما إذا اعتبرت, فلأنا نقطع بأن المصلحة تختلف باختلاف الأوقات, كشرت دواء في وقت دون وقت, فلا بُعْد في أن تكون المصلحة في وقت تقتضي شرع ذلك الحكم, وفي وقت تقتضي رفعه. ولنا عليهم أيضًا: الوقوع, فإنه جاء في التوراة أن آدم أُمر, تزويج بناته من بنيه, والآن ذلك حرام بالاتفاق, وهذا هو النسخ. وفي هذا التمسك نظر؛ لأنه أمر بتزويج بناته لصلبه من بنيه لصلبه, وهو البنون حقيقة, فما بعد ذلك إنما يكون رفع مباح الأصل. سلمنا أنه / مأمور بتزويج ما صدق عليه أنها بنت, لكن يجوز أن يكون مقيدًا بظهور شرع بعده.

مسألة: قالوا: لو نسخت شريعة موسى

سلمنا, لكن الأمر له لا يكون أمرًا لمن بعده. وقد استدل عليهم: بأن العمل يوم السبت كان قبل موسى مباحًا ثم حرم, وكان الختان جائزًا بعد الكبر ثم أوجب [بعد] الولادة عندهم, والجمع بين الأختين كان جائزًا ثم حرم عندهم, وكذلك نسخ, والوقوع دليل الجواز. الجواب: منع كون ذلك نسخًا, بل هو رفع لمباح الأصل, فلا يكون نسخًا. قال: (قالوا: لو نسخت شريعة موسى, لبطل قول موسى المتواتر: هذه شريعة مؤبدة. قلنا: مختلق. قيل: من ابن الراوندي, والقطع أنه لو ذلك كان عندهم صحيحًا لقضت العادة بقوله صلى الله عليه وسلم. قالوا: إن نسخ لحكمة ظهرت له لم تكن ظاهرة, فهو البداء, وإلا فعبث. وأجيب - بعد اعتبار المصالح -: أنها تختلف باختلاف الأوقات والأحوال, كمنفعة شرب دواء في وقت أو حال وضرره في آخر, فما تجدد ظهور ما لم يكن. قالوا: إن كان مقيدًا فليس بنسخ, وإن دلّ على التأبيد لم يقبل للتناقض بأنه مؤبد ليس بمؤبد, ولأنه يؤدي إلى تعذر الإخبار بالتأبيد,

وإلى نفي الوثوق بتأبيد حكم ما, وإلى جواز نسخ شريعتكم. أجيب: بأن تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع النسخ, كما لو كان معينًا, مثل: «صم رمضان أبدًا» ثم نسخ قبله, فهذا أجدر, و «صم رمضان أبدًا» بالنص يوجب أن الجميع متعلق الوجوب, ولا يلزم الاستمرار, فلا تناقض كالموت, وإنما الممتنع أن يخبر بأن الوجوب باق أبدًا ثم ينسخ). أقول: تمسك مانعو النسخ من اليهود بخمس شبه: قالوا أولًا: لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر: «هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض» , والتالي باطل لكونه متواترًا, فلا يبطل متنًا, وقول رسول الله فلا يمكن بطلانه معنى. الجواب: منع كونه قول موسى, ومنع تواتره, بل هو من اختلاقات ابن الراوندي, والقطع دال على أنه مختلق على موسى؛ لأنه لو كان عندهم صحيحًا - مع حرصهم على دفع نبوته ومعارضته - لقضت العادة بأن يقولوا له ذلك, ويحتجوا عليه به, ولكنهم لم يقولوه, وإلا لنقل واشتهر عادة. ولنا أيضًا على مانعي الجواز العقلي: الاستفسار في الملزوم.

فإن قالوا: لو جاز نسخ شريعة موسى بطل قول موسى, منعنا الملازمة. وإن قالوا: لو وقع لبطل قول موسى, لم يلزم نفي الجواز, على أن التأبيد في الشريعة قد يريد به التوحيد, أو المراد بالتأبيد المبالغة, أو ما لم تظهر شريعة, مع أنهم في بعض الأزمنة أقل من عدد التواتر. قالوا ثنايًا: لو جاز / النسخ لجاز على الله تعالى البداء أو العبث, والتالي باطل, بيان اللزوم, أن النسخ إن كان لحكمة ظهرت لله لم تكن ظاهرة له قبل النسخ, يلزم البداء, وهو ظهور ما لم يكن ظاهرًا, وإن لم يكن لحكمة فهو العبث, وكلاهما محال, لاستحالة البداء - الذي هو الظهور بعد الخفاء - عمن لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء, واستحالة العبث على الحكيم. الجواب أولًا: إنما يرد ذلك لو وجب اعتبار المصالح في أفعاله تعالى, وهو غير لازم, لابتنائه على التحسين والتقبيح العقليين, وقد مرّ بطلانه. سلمنا أن أفعاله تتبع المصالح, لكن المصلحة تختلف باختلاف الأزمان والأحوال, كمنفعة شرب الدواء في زمان أو حال, ومضرته في زمان أو حال, فقد تتجدد مصلحة لم تكن موجودة؛ لا أنه تجدد ظهور حكمة لم تكن ظاهرة, فلم يلزم بداء. والحاصل: أنهم إن عنوا بظهور الحكمة تجددها, اخترنا الإثبات ولا بداء, وإن عنوا تجدد العلم بها, اخترنا النفي ولا عبث. قالوا ثالثًا: الحكم الأول الذي ادعيتم نسخه, إما أن يكون مقيدًا بغاية أو مؤدبًا, وأيًّا ما كان لا نسخ.

أما إذا كان مقيدًا بغاية؛ فلأن الحكم بخلافه بعد تلك الغاية لا يكون نسخًا؛ لأن الحكم انتهى بنفسه, كما لو قال: «صم إلى يوم العيد» , ثم يقول: «في العيد لا تصم» , إذ لا رفع قطعًا. وأما إذا كان مؤبدًا, فلأنه لا يقبل النسخ لوجوه أربعة: الأول: لزوم التناقض, إذ حاصله الإخبار بأنه مؤبد وأنه غير مؤبد. الثاني: أنه يؤدي إلى تعذر الإخبار عن التأبيد بوجه من الوجوه, إذ ما من [عبادة] تذكر إلا وتقبل النسخ, لأن الإخبار بالتأبيد لكي يعرف المخاطب التأبيد, ولا طريق له إلى معرفته لجواز النسخ, وذلك يؤدي إلى عجز الله عن إعلامنا بالتأبيد, ونحن نعلم بالضرورة أن ذلك كسائر المعاني النفسية يمكن التعبير عنه والإخبار به. والثالث: أنه يؤدي إلى نفي الوثوق بتأبيد حكم ما, وقد ذكرتم أحكامًا مؤبدة كالصلاة والصوم, ولا يبقى وثوق بوعد الله ووعيده, ولا يخفى ما فيه من اختلال الشريعة. ورابعًا: أنه يؤدي إلى جواز نسخ شريعتكم, وأنتم لا تقولون به. الجواب: أنا نختار أنه دلّ على التأبيد. قوله: (لا يقبل النسخ للتناقض) , قلنا: تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع نسخه, كما لو كان الفعل الواجب مقيدًا بوقت معين, مثل: «صم رمضان هذه السنة» , ثم ينسخه قبل ذلك الوقت / فإن نسخه لا يلزم منه تناقض, فجواز نسخ المقيد بالتأبيد أولى وأجدر بعدم التناقض, لأن تعيين

الوقت نص في طلب الفعل من المكلف في ذلك الوقت, بخلاف التأبيد فإنه يدل على الدوام ظاهرًا لا نصًا, فإنه يستعمل للزمان الطويل, وإذا كان ما دلالته نص لا يؤدي إلى التناقض, فما دلالته ظاهرة أجدر في عدم لزوم التناقض, على هذا يحمل كلامه لا على ظاهره؛ لأنهم يمنعون النسخ فضلًا عن النسخ قبل الفعل. وتحقيقه: أن قوله: «صم رمضان أبدًا» , يدل على أن صوم كل شهر من شهور رمضان إلى الأبد واجب في الجملة, غير مقيد للوجوب بالاستمرار إلى الأبد, فلم يكن رفع الوجوب بعدم استمراره مناقضًا له, كما لو قال: «صم كل رمضان» , فإن جميع الرمضانات داخلة في هذا الخطاب, وإذا مات انقطع الوجوب قطعًا, ولم يكن نفيًا لتعلق الوجوب بشيء من الرمضانات, فالاستمرار إنما هو ما لم يرد ناسخ, كما يستمر ما لم يرد الموت, لأنه ظاهر تبين أنه غير مراد, وإنما الممتنع أن يجعل التأبيد قيدًا للوجوب, بأن يخبر أن الوجوب ثابت أبدًا ثم ينسخ, وما ذكرتم من الوجوه إنما تبطل هذا القسم, فثبت أن زمان الواجب غير زمان الوجوب, فقد يتقيد الأول بالأبد دون الثاني. قلت: والأولى أن يقرر الجواب هكذا: قولكم إن دلّ على التأبيد لم يقبل, إن أردتم نصًا نمنع الحصر, وإن أردتم ظاهرًا نمنع بطلان اللوازم, إذ لا يناقض الصريح الظاهر, ولا يتعذر الإخبار بالتأبيد لجواز أن يخبر نصًا, ولا ينتفي الوثوق بتأبيد حكم إذا كان التأبيد نصًا, والرابع ملتزم لأن الامتناع شرعي لا عقلي.

مسألة: لو جاز لكان قيل وجوده أو معه

قال: (قالوا: لو جاز لكان قبل وجوده, أو بعده, أو معه, وارتفاعه قبل وجوده أو بعده باطل, ومعه أجدر؛ لاستحالة النفي والإثبات. قلنا: المراد أن التكليف الذي كان زال كالموت؛ لأن الفعل يرتفع. قالوا: إما أن يكون الباري علم استمراره أبدًا فلا نسخ, أو إلى وقت معين فليس بنسخ. قلنا: إلى الوقت المعين الذي علم أنه ينسخه فيه, وعلمه بارتفاعه بالنسخ لا يمنع النسخ. وعلى الأصبهاني: الإجماع على أن شريعتنا ناسخة لما يخالفها, ونسخ التوجه, والوصية للوالدين بالمواريث, وذلك كثير). أقول: قالوا رابعًا: لو جاز النسخ - وهو رفع الحكم - لكان رفعه قبل وجوده, أو بعده, أو معه, واللازم بأقسامه باطل. أما قبل الوجود؛ فلأن ما لم يوجد كيف يرتفع؟ والعدم الأصلي ليس ارتفاعًا, وأما بعد وجوده؛ فلأن ما وجد يمتنع أن يرتفع, لأن الواقع لا يرتفع, وأما مع وجوده؛ فلأنه لو ارتفع لزم اجتماع النفي والإثبات, فيوجد حين لا يوجد, وهو محال. الجواب: أن اللازم أن الفعل لا يرتفع - وهو غير محل النزاع - بل المراد أن التكليف الذي كان متعلقًا بالفعل زال كما يزول بالموت, لأنا نعلم بالضرورة أنه بعد الموت لم يبق مكلفًا, وهو معنى الارتفاع في النسخ؛ لأن الفعل يرتفع.

مسألة: المختار: جواز النسخ قبل وقت الفعل

قالوا خامسًا: إما أن يكون الباري عالمًا باستمراره أبدًا, أو علم استمراره إلى وقت معين, وعلى التقديرين فلا نسخ, أما إذا علم استمراره أبدًا فظاهر وإلا لزم الجهل, وأما على التقدير الثاني؛ فلأن الحكم في علمه تعالى مؤقت فالحكم يكون منتهيًا بنفسه؛ لأن ذلك الوقت غاية له. الجواب: نختار القسم الثاني, وهو أن الله علم استمراره إلى وقت معين وهو الوقت الذي علم الله أنه ينسخ ذلك الحكم فيه, وعلم الله تعالى بارتفاع الحكم بالنسخ لا يمنع النسخ, فيكون انتهاؤه بالنسخ لا بنفسه. وأما الحجة على الأصبهاني على كل واحد من النقلين؛ فلأن الوقوع دليل الجواز؛ لأن الأمة أجمعت - قبل ظهور الخلاف - على أن أحكم شريعتنا ناسخة لما يخالفها من الأحكام, ثم نقول له: صحة شريعتنا إن توقفت على النسخ وقد ثبتت شريعتنا, فيكون النسخ ثابتًا, وإن لم تتوقف على النسخ جاز إثبات النسخ بالأدلة الشرعية؛ لأن كل ما لا يتوقف عليه السمع يجوز إثباته به, فيثبت النسخ بالإجماع. ولنا: التوجه إلى بيت المقدس كان واجبًا إجماعًا, ونسخ بالتوجه إلى القبلة, وأيضًا: الوصية للوالدين والأقربين نسخت بآية المواريث. وفيه نظر؛ لأنه يقول: خصّ بغير الوارثين. قال: (مسألة: المختار جواز النسخ قبل وقت الفعل, مثل: «حجوا هذه السنة» , ثم يقول قبله: «لا تحجوا» , ومنع المعتزلة والصيرفي. لنا: ثبت التكليف قبل وقت الفعل, فوجب جواز رفعه كالموت.

وأيضًا: فكل نسخ كذلك؛ لأن الفعل بعد الوقت ومعه يمتنع نسخه. واستدل: بأن إبراهيم عليه السلام أُمر بالذبح, بدليل: {افعل ما تؤمر} , وبالإقدام, وبترويع الولد, ونسخ قبل التمكن. واعترض: بجواز أن يكون موسعًا. وأجيب: بأن ذلك لا يمنع رفع تعلق الوجوب بالمستقبل؛ لأن الأمر باق عليه وهو المانع عندهم؛ ولأنه لو كان موسعًا لقضت العادة بتأخيره رجاء نسخه أو موته لعظمه. وأما دفعهم بمثل: لم يؤمر وإنما توهم, أو أمر بمقدمات الذبح, فليس بشيء, أو ذبح وكان يلتحم عقبه / أو جعل صفيحة نحاس أو حديد, فلا يسمع, ويكون نسخًا قبل التمكن). أقول: قال الآمدي: اتفق القائلون بجواز النسخ على جواز نسخ الفعل بعد التمكن من الامتثال, سواء أطاع المكلف أو عصى, وظاهر كلام الإمام فخر الدين خلافه؛ لأنه قال: يجوز النسخ قبل العمل, خلافًا للمعتزلة, وظاهر البرهان مع الآمدي. واختلفوا في جوازه قبل التمكن من الامتثال, وذلك على وجهين:

أحدهما: أن ينسخ قبل دخول الوقت, كما إذا قال: «حجوا هذه السنة» , ثم يقول قبل يوم عرفة: «لا تحجوا». وثانيهما: أن ينسخ بعد دخول الوقت وقبل انقضاء زمن يسع الفعل, فذهب أصحابنا, وأكثر الشافعية, والحنفية إلى جوازه, ومنعه الصيرفي وبعض الحنابلة, وجمهور المعتزلة. لنا: أنه ثبت بالدليل في مبادئ الإحكام, أن التكليف ثابت قبل وقت الفعل, فوجب جواز رفعه بالنسخ كما يرفع الموت لأنهما سواء. قيل: قد يجاب عنه: بأن التكليف مقيد بعدم الموت عقلًا فلا رفع. قلنا: كذا في زمانه عليه السلام التكليف مقيد بعدم وصول الناسخ إلى المكلف, فلا فرق, وأيضًا: كل نسخ قبل وقت الفعل - وقد اعترفتم بجوازه - فيلزم جوازه قبل الفعل؛ لأن التكليف بالفعل بعد وقته محال؛ لأنه إن فعل أطاع وإن ترك عصى, فلا نسخ, وكذلك في وقت فعله؛ لأنه فعل وأطاع به وانقطع التكليف, ولاستحالة توارد النفي والإثبات. وقد يقال: الكلام فيمن لي يفعل شيئًا من الأفراد التي تناولها التكليف, وليس كل ناسخ كذلك.

واستدل أيضًا: بقضية إبراهيم عليه السلام, فإنه أُمر بذبح ولده إسماعيل ونسخ عنه قبل التمكن. أما الأولى: فلقول إسماعيل: {افعل ما تؤمر} , وغير الذبح غير مذكور. وفيه نظر؛ لأنه لم يقل: افعل ما أمرت, ولا ما رأيت, بل قال: {ما تؤمر} , فقد يريد: افعل ما يتحقق من الأمر في المستقبل. وثانيًا: أنه أقدم على الذبح وترويع الولد, ولو لم يكن مأمورًا به لكان ممتنعًا شرعًا وعادة. وأما الثانية: فلأنه لم يفعل, ولو كان بعد التمكن لكان عاصيًا. واعترض: بأنا لا نسلم أنه لو لم يفعل بعد التمكن يكون عاصيًا, لم لا يجوز أن يكون موسعًا, فيحصل التمكن ويعصي بالتأخير, ثم ينسخ؟ . وأجيب بجوابين: الأول: لو كان موسعًا لكان الوجوب متعلقًا بالمستقبل؛ لأن الأمر باق عليه قطعًا, فإذا نسخ عنه فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل, وهو المانع عندهم من النسخ, فيتوارد النفي والإثبات ويلزم العبث. أيضًا - وهذا بناء على شبههم لا على مذهبهم -: لأنهم يجوزون النسخ قبل الفعل وبعد التمكن. وأيضًا: لو كان موسعًا لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح وترويع الولد / عادة, إما رجاء أن ينسخ, وإما رجاء أن يموت أحدهما فيسقط عنه, لعظم

مسألة: إن كان مأمورا به ذلك الوقت توارد النفي والإثبات

الأمر, ومثله مما يؤخر عادة. وفيه نظر؛ لأن الأنبياء شأنهم المبادرة إلى الامتثال, ولعله آخر إلى آخر الوقت, والمصنف استضعفه وما ذكر ردّه, فقد يكون إشارة إلى ما ذكرنا. وقد دفع بعضهم هذا الاستدلال بوجوه أخر لم يرضها المصنف. منها: أن إبراهيم لم يؤمر وإنما توهم, ولو سلّم فإنما أمر بمقدمات الذبح لا به, وقد أتى بها. قال المصنف: (ليس بشيء)؛ لأن الله تعالى يقول: {إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم} , ولو لم يكن مأمورًا لما كان بلاء مبينًا, ولو كان بالمقدمات وقد وأتى بها لم يكن في حقه بلاء مبينًا, لكونه علم سلامة العاقبة, ولما احتاج إلى الفداء لفعله المأمور به, وعلى أصلهم هو توريط لإبراهيم في الجهل بما يظهر له أنه أمر وليس بأمر, ومما دفعوه به: أنه لا نسلم أنه لم يذبح, بل ذبح وكان يلتحم عقب الذبح, كلما قطع شيئًا التحم, وأن الله تعالى جعل على صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح. وهذا لا يسمع؛ لأنه لو ذبح لما احتاج إلى الفداء, ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به, لكان تكليف ما لا يطاق, وهم لا يجوزنه, ثم قد نسخ عنه, وإلا لأثم بتركه, فيكون ناسخًا قبل التمكن. قال: (قالوا: إن كان مأمورًا به ذلك الوقت, توارد النفي والإثبات وإن لم يكن فلا نسخ. وأجيب: بل لم يكن, بل قبله وانقطع التكليف به كالموت).

مسألة: المختار: جواز نسخ "صوموا أبدا"

أقول: إن كان مأمورًا بالفعل في ذلك الوقت, فلو نسخ في ذلك الوقت لزم أن يكون في ذلك الوقت مأمورًا بالفعل غير مأمور به, فيلزم توارد النفي والإثبات على محل واحد وهو محال, وإن لم يكن مأمورًا به في ذلك الوقت, لم يكن نفي الوجوب فيه نسخًا له. الجواب: نختار أن ليس مأمورًا به ذلك الوقت. قوله: (فلا نسخ) نمنعه, وإنما لم يكن مأمورًا به ذلك الوقت لوجود الناسخ فيه, وكان مأمورًا قبله وانقطع التكليف عند دخول وقته بالناسخ, كما ينقطع التكليف بالموت, فالتكليف وعدمه قبل الموت في زمانين, إلا أن متعلقها هو الفعل في وقت واحد, وذلك جائز. قال: (مسألة: المختار جواز نسخ «صوموا أبدًا» , بخلاف «الصوم واجب مستمر أبدًا». لنا: لا يزيد على «صم غدًا» , ثم ينسخ قبله. قالوا: يتناقض. قلنا: لا منافاة بين إيجاب صوم غد وانقطاع التكليف قبله كالموت). أقول: الخطاب المقيد بالتأبيد, إن كان التأبيد قيدًا في الفعل, مثل: «صوموا أبدًا» , فالجمهور على جواز نسخه, وإن كان التأبيد قيدًا للوجوب وبيانًا لاستمراره, فإن كان نصًا, مثل: «الصوم واجب مستمر أبدًا» , لم يقبل خلافه, وإلا قبل وحمل على مجازه.

مسألة: الجمهور: جواز النسخ من غير بدل

لنا: أن لا يزيد في دلالته على جزئيات الزمان على دلالة قوله: «صم غدًا» , على «صوم غد» وقد قدمنا أن ذلك قابل للنسخ, فإذا جاز ذلك مع قوة النصوصية فيما يتناوله فهذا مع ظهوره واحتماله ألا يتناول أولى. قالوا: التأبيد معنى الدوام وهو ينافي النسخ, فكان تناقضًا, ولا يجوز على الله. الجواب: لا نسلم التناقض, إذ لا منافاة بين إيجاب فعل مقيد بالأبد, وعدم أبدية التكليف به, وذلك كما لا منافاة بين إيجاب صوم مقيد بزمان, وأن لا يوجد الوجوب في ذلك الزمان, كما يقال: «صم غدًا» ثم ينسخ قبله وذلك كما يتعلق التكليف بالصوم في غد ثم يموت قبل غد, فلا يوجد في غد تكليف. قال: (مسألة: الجمهور: جواز النسخ من غير بدل. لنا: أن مصلحة التكليف قد تكون في ذلك. وأيضًا: وقع, كنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر, وتحريم ادَّخار لحوم الأضاحي. قالوا: {نأت بخير منها أو مثلها}. وأجيب: بأن الخلاف في الحكم لا في اللفظ. سلمنا: لكن خصص. سلمنا: ويكون نسخه بغير بدل خيرًا لمصلحة علمت. ولو سلّم أنه لم يقع, فمن أين لم يجز؟ ). أقول: اختلفوا في جواز نسخ التكليف من غير تكليف آخر يكون بدلًا

عنه, لا كما قالوا: جواز النسخ من غير بدل؛ لأن الإباحة بدل, فجوزه الجمهور, ومنعه قوم. لنا: أن الحكم إن لم يتبع المصلحة فجوازه ظاهر, لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, قال الغزالي: إثبات بدل تكليف من الله, ولا يجب عليه أن يكلف عباده, وإن تبع الحكم المصلحة فلا استحالة عقلًا في أن تكون المصلحة في نسخ الحكم عن المكلف من غير بدل. ولنا أيضًا: لو لم يجز لم يقع, لكنه وقع, من ذلك ما رواه القاسم بن سلام في كتاب «الناسخ والمنسوخ» , من نسخ وجوب الإمساك عن المباشرة بعد الفطر, فإنه نسخ مبيحًا من غير بدل. ومن ذلك: ما في الصحيح من تحريم ادَّخار لحوم الأضاحي, ثم نسخ

مسألة: الجمهور: جواز النسخ بأثقل

مبيحًا من غير بدل. قالوا: قال تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} , ولا يتصور كونه خيرًا أو مثلًا إلا في بدل. الجواب: المراد نأت بآية خير منها, لا بحكم خير منها, والآية لفظ والخلاف في الحكم لا في اللفظ, ولا دلالة عليه في الآية, والإتيان بالآية وإن استلزم حكمًا لا يستلزم تكليفًا. وفيه نظر؛ لاستلزامه حرمه مسّه للمحدث. سلمنا أن المراد نأت بحكم, لكنه عام يقبل التخصيص, فلعله مخصوص بما نسخ لا إلى بدل, كآية النجوى. سلمنا بقاءه على عمومه, لكن نسخه من غير بدل حكم, ولعله خير للمكلف لمصلحة يعلمها الله ولا نعلمها. سلمنا: لكن الآية تدل على عدم الوقوع, وأما عدم الجواز فلا, والنزاع في الجواز لا في الوقوع. قال: (مسألة: الجمهور: جواز النسخ بأثقل. لنا: ما تقدم, وبأنه نسخ التخيير في الصوم والفدية وصوم عاشوراء برمضان, والحبس في البيوت بالحدّ.

قالوا: أبعد في المصلحة. قلنا: يلزمكم في ابتداء التكليف. وأيضًا: فقد يكون علم الأصلح في الأثقل, كما يسقمهم بعد الصحة ويضعفهم بعد القوة. قالوا: {يريد الله بكم اليسر} , {يريد الله أن يخفف عنكم}. قلنا: إن سلم عمومه, فسياقه للمآل في تخفيف الحساب وتكثير الثواب, أو تسمية الشيء بعاقبته, مثل: «لدوا للموت وابنوا للخراب» وإن سلّم الفور, فمخصص بما ذكرنا, كما خصصت بثقال التكاليف والابتلاء باتفاق. قالوا: {نأت بخير منها أو مثلها} , والأشق ليس بخير للمكلف. وأجيب: بأنه خير باعتبار الثواب). أقول: يجوز نسخ التكليف بتكليف أخف أو مساو اتفاقًا, واختلفوا في جواز نسخ تكليف بتكليف أثقل منه, والجمهور على جوازه, خلافًا لبعض الشافعية. لنا: ما تقدم من أنه إن لم تعتبر المصلحة فواضح, وإن اعتبرت فلعل

المصلحة في الأثقل. وأيضًا: لو لم يجز لم يقع, وقد وقع, ففي الصحيح التخيير بين الصوم والفدية, ثم نسخ بوجوب صوم رمضان عينًا, ولا شك أن إلزام أحد الأمرين عينًا أشق من التخيير بينه وبين غيره. ومن ذلك: أن صوم يوم عاشوراء كان الواجب, فنسخ بصوم رمضان وصوم شهر أشق من صوم يوم, وفي الصحيح أنه عليه السلام لما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه, فلما فرض رمضان كان هو الواجب وترك عاشوراء, وهذا يدل على أن ذلك الأمر كان للوجوب؛ لأن الندب باق. ومنه: الحبس في البيوت كان هو الواجب على الزاني, فنسخ بالجلد وبالرجم, وأنه أثقل.

قالوا أولًا: نقلهم إلى الأثقل أبعد في المصلحة, لكونه إضرارًا بالمكلفين لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة وإن تركوا استحقوا العقاب, وهو غير لائق بالحكمة. الجواب أولًا: النقض بأنه يلزمكم في أصل التكليف, لأنه نقل من البراءة الأصلية إلى ما هو أثقل, فينبغي ألا يجوز. لا يقال: خرج بالإجماع؛ لأن الكلام في الجواز لا في الوقوع. وأيضًا: لا نسلم أنه أبعد في المصلحة, وربما علم الله تعالى المصلحة في الأثقل بعد الأخف أكثر, كما ينقلهم من الصحة إلى السقم, ومن القوة إلى الضعف, ومن الشباب إلى الهرم, هذا بعد تسليمهم رعاية المصلحة. قالوا ثانيًا: قال تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم} , {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} , والأثقل غير يسير وغير تخفيف فلا يريده. الجواب: لا نسلم عموم التخفيف واليسر / في الآيتين, أما {يريد الله أن يخفف عنكم} فظاهر أنه مطلق, وأما {يريد الله بكم اليسر} ففي المذكور, وهو إباحة الفطر للمريض والمسافر. سلمنا العموم, لكن سياق الآيتين يدل على إرادة ذلك في المآل بالتخفيف في الحساب, واليسر تكثير الثواب, أو في الحال لكن مجاز, تسميةً للشيء باسم عاقبته, مثل: «لدوا للدود وابنوا للخراب» , سمي

مسألة: يجوز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس

التكليف تخفيفًا ويسرًا باعتبار تخفيف الحساب وتكثير الثواب. ولو سلّم أنه للعموم وأنه للفور لا للمآل - ولا مجاز باعتبار المآل - فهو مخصوص بما ذكرناه من النسخ بالأثقل, كما هو مخصوص بخروج أنواع التكليف الثقيل وأنواع الابتلاء مما هو واقع اتفاقًا. قالوا ثالثًا: قال تعالى: {مما نسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} , فيجب الأخف لأنه الخير, أو يجب المساوي لأنه المثل, والأشق ليس بخير ولا مثل. الجواب: أنه خير باعتبار الثواب؛ لأن ثوابه أكثر, لقوله عليه السلام: «أجرك على قدر نصبك». وأيضًا: لا يلزم من عدم الوقوع عدم الجواز. قال: (يجوز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس, ونسخهما معًا, خلافًا لبعض المعتزلة. لنا: القطع بالجواز. وأيضًا: الوقوع, عن عمر: «كان في ما أنزل: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» , ونسخ الاعتداد بالحول, وعن عائشة: «كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات» , والأشبه جواز مس المحدث المنسوخ لفظه.

قالوا: التلاوة مع حكمها كالعلم مع العالمية والمنطوق مع المفهوم, فلا ينفكان. وأجيب: بمنع العالمية والمفهوم, ولو سلّم, فالتلاوة أمارة الحكم ابتداء لا دوامًا, فإذا نسخ لم ينتف المدلول, وكذلك العكس. قالوا: بقاء التلاوة يوهم بقاء الحكم, فيوقع في الجهل وتزول فائدة القرآن. قلنا: مبني على التحسين, ولو سلّم فلا جهل مع الدليل؛ لأن المجتهد يعلم والمقلد يرجع إليه, وفائدته كونه معجزًا وقرآنًا يتلى). أقول: يجوز نسخ التلاوة دون الحكم, ويجوز نسخ الحكم دون التلاوة ويجوز نسخهما معًا, وخالف بعض المعتزلة في الأولين. لنا القطع بالجواز, فإن تلاوة الآيات حكم من أحكامها يثاب عليه, وما تدل عليه من الأحكام حكم آخر لها ولا تلازم بينهما, وإذا ثبت ذلك جاز نسخهما ونسخ أحدهما, كسائر الأحكام المتباينة. وأيضًا: لو لم يجز لم يقع, لكنه وقع. أما التلاوة فقط, فما روي في الصحيح عن عمر: «الشيخ والشيخة / إذا زنيا فارجموهما» , وحكمه ثابت.

وأما نسخ الحكم, فما روى البخاري من نسخ الاعتداد بالحول, واللفظ مقروء. وأما نسخهما, ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: «كان فيما أنزل: عشر رضعات معلومات يرحمن, فنسخن بخمس». لا يقال: لا نسلم أن هذا قرآن, إذ لا يثبت القرآن بأخبار الآحاد. لأنا نقول: الاحتجاج أن هذا قرآن, إذ لا يثبت القرآن بأخبار الآحاد. لأنا نقول: الاحتجاج بقول عمر وإخباره إن كان كذا كان, يتلى ونسخ, ولم ينكر عليه, فدلّ على أنهم كانوا يعلمون ذلك, لأن ما شأنه كذلك لا ينفرد عمر ولا عائشة بعلمه وليس الكلام في إثبات كونه الآن قرآنًا حتى يقال: لا يثبت بالآحاد. لا يقال: آية الاعتداد بالحول لم تنسخ, بل خصصت لبقاء حكمها في المرتابة. لأنا نقول: لا خلاف أن الاعتداد كان بالحول - مرتابة كانت أم لا - حتى نزلت الآية الأخرى, وما رواه البخاري يرشد إليه. لا يقال: لم ينسخ عشر رضعات يحرمن لبقاء حكمه, نعم مفهومه ليس

معمولًا به, ولعله لكون مفهوم العدد ليس بحجة. لأنا نقول: الاحتجاج إنما هو بقول عائشة: «فنسخن بخمس» , أعلمت أن مفهومه كان معمولًا به, ثم نسخ اللفظ والحكم الناشئ عن المفهوم. قال المصنف: والأشبه جواز مس المحدث المنسوخ لفظه, وعند الآمدي: الأشبه منع مسه له. والحق الأول, إذ لم يبق قرآنًا ومتلوًا, وليس من المصحف, وتضمنه للحكم لا يوجب ذلك, كالأخبار الإلهية الواقعة في الأحاديث. احتج الآخرون بوجهين: الأول: أن التلاوة مع حكمها في دلالتها عليه كالعلم مع العالمية والمنطوق مع المفهوم, فكما لا انفكاك بين العلم والعالمية, وبين المنطوق والمفهوم, كذلك التلاوة مع الحكم, ولو قال «المتلو» كان أولى. الجواب: منع ثبوت العالمية, فإنها فرع ثبوت الحال ولا نقول به, إذ ليست العالمية أمرًا وراء قيام العلم بالذات, وكذا نقول في المفهوم: لا نسلم لزومه للمنطوق, هكذا صرح به الآمدي. سلمنا أن العالمية مغايرة, وأن المفهوم ملازم للمنطوق, ولا نسلم أن التلاوة لا تنفك عن الحكم, إذ التلاوة أمارة الحكم ابتداء لا دوامًا, أي يدل ثبوت التلاوة على ثبوت الحكم, ولا يدل دوامها على دوامه, ولذلك قد

مسألة: يجوز نسخ التكليف بالإخبار بنقيضه

يثبت الحكم مرة واحدة وهي متكررة أبدًا, فنسخ التلاوة وحدها نسخ لدوامها, فإذا عرفت الحكم ابتداء - دائمًا أو غير دائم - لم يحتج إلى التلاوة. ثانيًا: ليعرف, ولا تحتاج التلاوة إليه, فإذا لم يحتج أحدهما إلى الآخر في دوامه, لم ينتف المدلول - الذي هو الحكم - بنسخ التلاوة, ولم ينتف الدال - الذي هو التلاوة - بنسخ الحكم. قالوا ثانيًا: بقاء التلاوة يوهم بقاء الحكم لأنها دليله, وبقاء الدليل يشعر ببقاء المدلول, فلو جاز نسخه مع بقائه كان إيقاعًا في الجهل, وهو على الله قبيح, وأيضًا: تزول فائدة القرآن؛ لأن فائدة اللفظ إفادة مدلوله, وإذا لم يقصد به ذلك, فقد بطلت فائدته, والقرآن منزه عما لا فائدة فيه. الجواب: أنه مبني على التقبيح العقلي وقد أبطلناه. ولو سلّم, فلا يكون إيقاعًا في الجهل, وإنما يكون كذلك لو لم ينصب عليه دليل, وأما إذا نصب عليه دليل فلا, والمجتهد يعلم ذلك بدليل, والمقلد يعلم ذلك بالرجوع إلى المجتهد فينتفي الجهل. قوله: (تزول فائدة القرآن) , إنما يلزم ذلك لو انحصرت فائدته فيما ذكرتم, ومن فوائده: كونه معجزًا بفصاحة لفظه, وقرآنًا يتلى للثواب. قال: (مسألة: يجوز نسخ التكليف بالإخبار بالإخبار بنقيضه, خلافًا للمعتزلة. وأما نسخ مدلول خبر لا يتغير فباطل, والمتغير كإيمان زيد, وكفر مثله, خلافًا لبعض المعتزلة.

واستدلالهم بمثل: «أنتم مأمورون بكذا» , ثم ينسخ برفع الخلاف). أقول: النسخ في الخبر إما أن يكون للفظه, أو للتكليف بالإخبار بمدلوله, وإما أن يكون لنفس مدلوله. والأول: متفق عليه عند القائلين بالنسخ, ماضيًا كان أو مستقبلًا. وكذا اتفقوا على جواز نسخ تكليفنا بالإخبار عن شيء, عقليًا كان أو شرعيًا, كان مما لا يتغير مدلوله كالإخبار بوجود الإله وحدوث العالم, أو يتغير كالإخبار بكفر زيد وإيمانه؛ لأن ذلك حكم من الأحكام الشرعية فجاز أن يكون مصلحة في وقت مفسدة في آخر. واختلفوا, هل يجوز نسخه بالإخبار بنقيضه, أي يكلفنا الإخبار بنقيض ما كلفنا الإخبار له؟ . فجوزه بعض أصحابنا. ومنعه المعتزلة, بناء على أنه كذب, والتكليف بالكذب قبيح, وهو مبني على التحسين العقلي. وأما نسخ مدلول الخبر, فإن كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث

العالم, فلا يجوز اتفاقًا, لاستحالة الكذب عليه تعالى. وإن كان مدلوله مما يتغير, سواء كان ماضيًا كالإخبار بما وجد من إيمان زيد وكفره, أو مستقبلًا وسوءا كان وعدًا, أو وعيدًا, أو حكمًا شرعيًا. فقال القاضي أبو بكر, والجبائي, وأبو هاشم, وكثير من الفقهاء والمتكلمين: يمتنع رفعه, وذهب عبد الجبار, والبصري, وأبو الحسين إلى جوازه, ومنهم من منع في الخبر الماضي, وجوّز في الخبر المستقبل. واختار الآمدي الجواز إذا كان ما دلّ عليه الخبر متكررًا, فيكون الخبر عامّاً فيه, فأمكن أن يكون الناسخ مبينًا لإخراج بعض ما تناوله اللفظ, كما في الأوامر. وقريب منه في المحصول, قال الإمام: «الخبر إذا كان عن ماض كقوله: عمرت نوحًا ألف / سنة, جاز أن يبين من بعد أنه ألف سنة إلا خمسين عامًا». وفيه نظر؛ إذ هو كذب إن كان مدلول الأول مرادًا, وإلا كان تخصيصًا.

احتج المانعون: بأن نسخ مدلول الخبر يؤذن بكونه كذبًا, ولذلك لو قال: «أهلك الله زيدًا» ثم قال: «ما أهلك الله زيدًا» كان كذبًا بخلاف الأمر. سلمنا إمكان نسخ مدلول الخبر, لكن إذا كان المدلول حكمًا شرعيًا تكليفيًا, حتى يكون الخبر في معنى الأمر, والأمر يجوز نسخه, وهذا كما لو قال: «أمرتكم, ونهيتكم, وأوجبت عليكم». قال الآمدي: والجواب: أن ذلك إنما يفضي إلى الكذب أن لو لم يكن حَمْلُ الناسخ على غير ما أريد من الخبر, وأما إذا قال: «أهلك الله زيدًا» , فإهلاكه إنما لم يدخله النسخ, لأنه لم يتكرر حتى يمكن رفعه بعضه وتبقية بعضه, بل يقع دَفعة, فلو أخبر عن عدمه مع اتحاده كان كذبًا. قال: وقولهم: الخبر بالحكم الشرعي في معنى الأمر, إن أرادوا أن صيغته كصيغته فخلاف الحسّ, وإن أرادوا أنه يفيد إيجاب الفعل كما في الأمر, فمسلّم, ولا يلزم أن يكون هو هو, إذ لا يلزم من اشتراك شيئين في لازمٍ اتحادهما, وغايته تسليم نسخ مدلول بعض الأخبار, وليس فيه ما يدل على امتناع نسخ غيرها. قلت: وقد أشار المصنف في المنتهى إلى دفع ما ذكر, بأن المدلول المنسوخ إن ناقض مدلول الناسخ كان أحدهما كذبًا, وهو مستحيل على الله وإن لم يناقضه تعين أن يكون الثاني تخصيصًا, فعلى كل تقدير لا نسخ. قوله: إن أرادوا أنه يفيد إيجاب الفعل ... إلى آخره, ترديد ضعيف, إذ

مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن

المراد من كونه بمعناه, إفادته الإيجاب لا على وجه لا يحتمل الصدق والكذب وإلا لخرج من كونه خبرًا, وهذا القدر يحصل المطلوب, لأنا نجوّز نسخ الخبر إذا كان كذلك, ولا حاجة إلى اتحادهما حتى يُمنع. قال المصنف: (واستدلالهم - يعني المجوزين - بمثل: أنتم مأمورون بكذا ثم ينسخ برفع الخلاف) , لأن المانعين يجوزنه محتجين بأنه في معنى الأمر, فجاز نسخه كالأمر. قال: (مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن كالعدتين, والمتواتر بالمتواتر, والآحاد بالآحاد. وأما المتواتر بالآحاد, فنفاه الأكثرون, بخلاف تخصيص العام. لنا: قاطع فلا يقابله مظنون. قالوا: وقع, فإن أهل قباء سمعوا مناديه عليه السلام: «ألا إن القبلة قد حولت» , فاستداروا ولم ينكر عليهم. أجيب: علموه بالقرآن لما ذكرناه. قالوا: كان يرسل الآحاد لتبليغ الأحكام مبتدأة وناسخة. أجيب: إلا أن تكون مما ذكرنا, فتعلم بالقرآن لما ذكرنا. قالوا: {قل لا أجد} , نسخ بنهيه عن أكل كل ذي ناب من السباغ, فالخبر أرشد. وأجيب: إما بمنعه, وإما بأن المعنى: لا أجد الآن, وتحريم حلال الأصل ليس نسخًا).

أقول: اتفق القائلون بالنسخ على جواز نسخ القرآن بالقرآن, كآية الاعتداد بالحول, بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشرا, وكذا نسخ الخبر المتواتر بالخبر المتواتر, وكذا نسخ خبر الآحاد بخبر الآحاد, كنهيه عن ادّخار لحوم الأضاحي, ونُسِخَ بقوله: «فكلوا وادخروا» , ونسخ الآحاد بالمتواتر أجدر. وأما نسخ المتواتر بالآحاد, فاتفقوا على جوازه عقلًا, واختلفوا في وقوعه. فنفاه الأكثرون, وأثبته بعض الظاهرية, والباجي منا, بخلاف تخصيص المتواتر بالآحاد, جوزه الأكثرون, والفرق بينهما: أن التخصيص فيه بيان وجمع بين الدليلين, والنسخ إبطال.

لنا: أن المتواتر قاطع والآحاد مظنون, والقاطع لا يقابله المظنون. قيل: يجوز أن يكون المتواتر ظني الدلالة, والآحاد قطعي الدلالة فيتقابلان وينسخه الآحاد المتأخر. ردّ بأنه حينئذ يتعين أن يكون الآحاد مخصصًا لأن الجمع أولى من النسخ. قيل: إنما يتعين التخصيص إذا ورد قبل العمل بالعام, وأما بعده فيكون ناسخًا. قلت: إذا عمل بالعام, فالعام قد ت بين أنه على عمومه ومراد جميع أفراده فهو قطعي المتن, وعلم إرادة جميع أفراده, فصار قطعي الدلالة بما انضم إليه, فلا يرفع حينئذ بما هو مظنون المتن. احتج الأقلون بوجوه ثلاثة: قالوا: وقع في الصحيح: «بينما الناس بقباء في صلاة الصبح, إذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي عليه السلام قد أنزل عليه الليلة قرآن, وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها, وكانت وجوههم إلى الشام, فاستداروا إلى الكعبة» , وبلغ ذلك النبي عليه السلام ولم ينكر, وكان التوجيه إلى بيت المقدس عندهم مقطوعًا به. الجواب: نمنع أنهم رجعوا إلى قوله, بل رجعوا إلى الآيات التي تلا عليهم, التي فيها ذكر النسخ.

سلمنا, لكن خبر الواحد قد يفيد القطع [بالقرائن المنضمة إليه - وهذا من ذلك القبيل - لأن منادي الرسول بقربه على رؤوس الأشهاد في مثل هذه الواقعة, مع تجويزهم النسخ وانتظارهم ذلك لوعده تعالى بقوله: {فلنولينك قبلة ترضاها} قرينة دالة على صدقه عادة, ويجب الحمل عليه لما ذكرنا من امتناع ترك القاطع] بالمظنون, فلا يرد قولهم: لو فتح هذا الباب لانسد باب التمسك بخبر الواحد؛ لأنه يمكن تقدير قرائن يكون عمل الصحابة بناء عليها, لا على أخبار الآحاد, لأنا إنما قدرنا ذلك هنا للضرورة لئلا يرفع القطع بالظن. قالوا ثانيًا: تقطع بأنه عليه السلام كان يبعث الآحاد لتبليغ الأحكام مطلقًا مبتدأة وناسخة, والمبعوث إليهم متعبدون بتلك الأحكام, ولم ينقل / فرق يقتضي منع نسخ المتواتر بالآحاد. الجواب: أنه مسلم في غير المتواتر بالآحاد, وأما فيه فلا, وإن سلّم فيه فبالقرائن الحالية, لما ذكرنا من أن القاطع لا يقابله المظنون. قالوا ثالثًا: قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا} , نسخ بما في الصحيح: «من نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع» وهو خبر آحاد, وإذا جاز نسخ القرآن به فالخبر المتواتر أجدر.

مسألة: ويتعين الناسخ بعلم تأخره

الجواب أولًا: لا يلزم من الجواز الوقوع الذي هو مدعاكم. وثانيًا: إما بمنع حكم الخبر, فإنه مختلف في أكل لحوم السباع عند المالكية, وإما بأن المعنى: لا أجد الآن, والتحريم في المستقبل لا ينافيه حتى يلزم منه نسخه به, غايته أن عدم التحريم في المستقبل ثابت بالآية ورفع بالخبر, لكن عدم التحريم معناه بقاء الإباحة الأصلية, فالخبر قد حرم حلال الأصل ولم يرفع حكمًا شرعيًا, ومثله ليس نسخًا اتفاقًا. قيل: معنى أجيب إما بمنعه بأن يقال: لا نسلم أن الآية منسوخة فإنها لا تدل على إباحة الجميع حتى يكون تحريم كل ذي ناب ناسخًا, بل يدل على عدم وجدان المحرم, وعدم وجدان المحرم بالوحي لا يدل على إباحة الجميع. وإما بأن المعنى: لا أجد الآن محرمًا, فيكون مؤقتًا, والمؤقت لا يكون منسوخًا, ونهيه عن أكل كل ذي ناب راجع إلى مباح الأصل. قال: (ويتعين الناسخ بعلم تأخره, وبقوله عليه السلام: هذا ناسخ أو ما في معناه, مثل: «كنت نهيتكم» , أو الإجماع. ولا يثبت بتعيين الصحابي إذ قد يكون عن اجتهاد, وفي تعيين أحد المتواترين نظر, ولا يثبت بقبليته في المصحف, ولا بحداثة الصحابي, ولا

بتأخر إسلامه, ولا بموافقة الأصل, وإذا لم يعلم ذلك, فالوجه الوقف لا التخيير). أقول: مما تدعو الحاجة إليه طريق معرفة الناسخ والمنسوخ, فإذا تعارض نصان من كل وجه فإن علم المتأخر فهو ناسخ, ويعلم التأخر بضبط التاريخ, مثل أن يعلم أن هذه نزلت في الخامسة من الهجرة والأخرى في السادسة. ومنها: أن يقول عليه السلام: هذا ناسخ إما صريحًا, وإما بذكر ما في معناه, مثل: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروها» , ومثل: «كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي, فكلوا وادخروا». ومنه: الإجماع على أن هذا ناسخ لهذا, فلو قال الصحابي: كان الحكم كذا ثم نسخ, لم يكن طريقًا صحيحًا لمعرفة التأخر, إذ قد يكون ذلك منه اجتهد, ولا يجب اتباع المجتهد له فيه, فلو لم يتعرض للنسخ ولكنه عين أحد الدليلين المتقدمين, فإن كانا متواترين, فقال المصنف: «فيه نظر» من حيث إنه نسخ للمتواتر بالآحاد, أو نسخ بالمتواتر والآحاد؛ لأنه وإن لم يقبل / قوله - ابتداء -: هذا ناسخ, فلا يلزم ألا يقبل فيما أدى إليه, كما يثبت

الإحصان بشاهدين - مع أنه يترتب عليه الرجم - الذي لا يثبت ابتداء إلا بأربعة, وكقبول شهادة النساء في الولادة وإن ترتب عليها النسب, قال أبو الحسين البصري: «وهذا يقتضي الجواز العقلي لا الوقوع». قيل: وجه النظر أنه يستلزم ألا يثبت التأخر بقول جميع الأمة, لاستلزامه كون الإجماع ناسخًا. قلت: جزم المصنف بأنه لا يثبت النسخ بقوله, وتردد هل يثبت التأخر بقوله وإن كان ذلك يستلزم النسخ. وظاهر ما اعتلوا به أنه لو عين تأخر أحد الظنيين أو تأخر القطعي قبل منه, وأما قبليته في المصحف, فلا يستلزم قبليته في النزول. وكذا حداثة سن الصحابي لا تدل على أن ما رواه متأخرًا, إذ قد يكون ما روه متقدم الإسلام متأخرًا, اللهم إلا أن تنقطع صحبة الأول قبل صحبة الثاني. وكذا تأخر إسلام الراوي أيضًا لا يقتضي تأخر ما رواه. ولا يثبت التأخر أيضًا بكونه موافقًا للبراءة الأصلية, مستروحًا أنه لو تقدم لم يفد إلا علم بالأصل, فيكون عريًا عن فائدة جديدة, وإذا تأخر أفاد الأول رفع حكم الأصل, والآخر رفع الحكم الشرعي. وإذ لم يعلم الناسخ معينًا بطريقه, فإن كانا قطعيين وجب الوقف عن العمل, أو التخيير, واختار المصنف الوقف. والأظهر الوقف إذا كانا قطعيين, وإن كانا ظنيين فالتخيير, ولو كان

مسألة: الجمهور على نسخ السنة بالقرآن

بينهما عموم وخصوص من وجه, فهما كما إذا تنافيا من كل وجه. قال: (مسألة: الجمهور على جواز نسخ السنة بالقرآن, وللشافعي قولان. لنا: لو امتنع لكان بغيره, والأصل عدمه. وأيضًا: التوجه إلى بيت المقدس بالسنة ونسخ بالقرآن, والمباشرة بالليل كذلك, وصوم عاشوراء. وأجيب: بجواز نسخه بالسنة, ووافق القرآن. وأجيب: بأن ذلك يمنع تعين ناسخ أبدًا. قالوا: تبيين, والنسخ رفع لا بيان. قلنا: المعنى لتبلغ, ولو سلّم فالنسخ أيضًا بيان, ولو سلمّ فأين نفي النسخ؟ . قالوا: منفر. قلنا: إذا علم أنه مبلغ فلا نفرة). أقول: يجوز نسخ السنة بالقرآن, وعن الشافعي أنه غير جائز. لنا: لو امتنع لكان امتناعه لغيره؛ لأنه بالنظر إلى ذاته لو فرض لم يلزم منه محال, وأما انتفاء اللازم؛ فلأن الأصل عدم غيره.

وأيضًا: لو لم يجز لم يقع, وقد وقع, فإن التوجه إلى بيت المقدس بالسنة إذ ليس في الآية ما يدل عليه, ونسخ القرآن. وأيضًا: حرمة المباشرة بعد الفطر ثبت بالسنة ونسخ بالقرآن. ووجوب صوم عاشوراء بالسنة ونسخ القرآن. واعترض: بأنا لا نسلم أن النسخ فيما ذكرتم من الصوم بالقرآن, ولم لا يجوز أن يكون بالسنة, ونزل الكتاب على وفقها, أو ثبت أولًا بقرآن ثم نسخت تلاوته وحكمه, أو بقوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} / أو أنه بيان لأقيموا الصلاة المجمل وفسّر بأمور, منها التوجه إلى بيت المقدس فيكون داخلًا في الأمر. الجواب عن الأولين: أن ذلك لو صح لمنع تعيين ناسخ أبدًا, لتطرق ذلك الاحتمال إليه, وهو خلاف الإجماع. قلت: ولا يلزم ذلك فيما علم بقوله عليه السلام هذا ناسخ, ولا فيما علم بالإجماع, نعم ينفى بالأصل إذ الأصل عدمه. وعن الثالث: أن الآية لا تقتضي بيت المقدس عينًا, الذي هو الواجب المنسوخ. وعن الرابع: أنا لا نسلم أن الداخل في البيان كالملفوظ به في جميع أحكامه, حتى ينسخ دون المبين.

قالوا: قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} , يدل على أن الرسول مبين للقرآن بالسنة, فلو نسخت به لم يكن بيانًا له, لأن النسخ رفع المنسوخ بالناسخ وليس بيانًا للناسخ بالمنسوخ, والمرفوع لا يكون بيانًا لرافعه. الجواب: أن المعني بالبيان في الآية تبليغه إليهم لأنه أظهر, تفاديًا عن الإجمال والتخصيص؛ لأن الإبلاغ عام فيه, بخلاف البيان لاختصاصه ببعضه كالعام والمجمل والمطلق والمنسوخ. سلمنا أن المراد تبيين المجمل والعام والمطلق والمنسوخ, ولا نسلم أن النسخ ليس ببيان, بل هو مع كونه رافعًا للسنة بيان لها, ولا يمنع كونها مبينة له أن تكون مرفوعة به, فإن القرآن بيان لقوله تعالى: {تبيانًا لكل شيء} , مع أنه ينسخ بالقرآن, مع أن الآية إنما دلت على أنه المبيّن, فيبين تارة بالكتاب, وتارة بالسنة, فيرجع قوله: (النسخ أيضًا بيان) إلى المعارضة؛ لأن معنى «أيضًا» في قوله: فالنسخ أيضًا بيان, أنه لا تختص السنة بذلك, فلو صح ما ذكرتم لزم ألا ينسخ بعض القرآن بعضًا. سلمنا أنه ليس ببيان, فمن أين ثبت نفي نسخ السنة بالقرآن؟ والآية لا تدل على أن كل سنة بيان للقرآن, غايته أنها تدل على أن القرآن لا ينسخ من السنة ما كان منها بيانًا له, فالسنة مبينة لغير ما هو ناسخ لها, والناسخ لها مبين لها.

مسألة: الجمهور على جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر

قالوا: نسخ السنة بالقرآن منفر للناس عن النبي عليه السلام وطاعته؛ لأنه يوهم أن الله لم يرض بما سنه نبيه, فلا يحصل مقصود البعثة. الجواب: أنه إذا علم أنه عليه السلام مبلغ الإحكام - لا أنه واضع لها - فلا نفرة حينئذٍ. قال: (مسألة: الجمهور على جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر, ومنع الشافعي. لنا: ما تقدم. واستدل: بأن «لا وصية لوارث» نسخ الوصية للوالدين والأقربين, والرجم للمحصن نسخ الجلد. وأجيب: بأنه يلزم ن سخ المعلوم بالمظنون, وهو خلاف الفرض. قالوا: {نأت بخير منها أو مثلها} , والسنة ليست كذلك, ولأنه قال: {نأت / بخير منها} , والضمير لله. وأجيب: بأن المراد الحكم؛ لأن القرآن لا تفاضل فيه, فيكون أصلح للمكلف أو مساويًا, وصح {نأت}؛ لأن الجميع من عنده. قالوا: {قل ما يكون لي أن أبدله}. قلنا: ظاهر في الوحي, ولو سلّم فالسنة أيضًا بالوحي). أقول: الجمهور على جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر, ومنعه

الشافعي. لنا: ما تقدم وهو: لو امتنع لكان لغيره, والأصل عدمه. واستدل أيضًا: بالوقوع, روى الترمذي, والنسائي عن عليه السلام: «لا وصية لوارث» , وهو ناسخ لقوله تعالى: {الوصية للوالدين والأقربين} , والرجم للمحصن ثبت بفعله, وهو ناسخ لآية الجلد. أجيب: لو صح ما ذكرتم لزم نسخ المعلوم بالمظنون؛ لأن الخبرين آحاد وهو خلاف الفرض الذي هو نسخ القرآن بالخبر المتواتر, ثم يكون من الصورة التي لا تجوز باتفاق. قيل: معنى خلاف الفرض: أي المفروض أن خبر الواحد - الذي هو مظنون - لا ينسخ القرآن - الذي هو مقطوع به - وهذا الفرض لزم من الدعوى بطريق المفهوم؛ لأن تقييد الخبر بالمتواتر في الدعوى يدل على أنه لا يجوز نسخ القرآن بالآحاد. قلت: وهو بعيد من لفظه. قيل: قوله: (خلاف الفرض) يشعر بأن المجيب قد سلم النسخ بخبر الواحد, لكن منع إفادته للمطلوب, وحينئذ يلزم النسخ بالمتواتر بطريق الأحرى.

قلت: لو سلم إشعاره بذلك فهو خلاف الفرض؛ لأنه جعل دليل الجواز الوقوع ففرض الوقوع ولا يلزم من وقوع النسخ بخبر الواحد وقوعه بالمتواتر. قيل: إنما ردّ الجواز, وإلا كان قوله: (يلزم نسخ المعلوم بالمظنون) ضائعًا, إذ يكفي قوله: (خلاف الفرض) على ذلك التقدير, فالأولى أن يحمل قوله: (خلاف الفرض) أي خلاف المجمع عليه. قلت: لا يكون ضائعًا؛ لأنه بيّن به أن المذكور آحاد, ليرد قول من قال إنه متواتر, وحَمْلُ خلاف الفرض على ما ذكر لا يشك في بعده. واعلم أنه لو صح تواترهما لم ينتهض على الخصم. أما الأولى: فلحمل الوالدين على غير الوارثين فلا نسخ. سلمنا عمومها, لكن منسوخة بآية المواريث على ما قدم. أما الثانية: فتخصيص أيضًا فلا نسخ, ولو سلم فمنسوخة بالشيخ والشيخة, أو بغيرها من القرآن, يدل على ذلك قوله عليه السلام: «لأقضين بينكما بكتاب الله» , ثم قال في آخر الحديث: «واغد يا أنيس

على امرأة هذا, فإن اعترفت فارجمها» , وهذا الطريق أولى؛ لأن الرجم في المحصن متواتر عند المحدثين. احتج الشافعي بقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} , يدل على عدم جواز نسخة بالسنة؛ لأن / ما ينسخ به القرآن يجب أن يكون خيرًا أو مثلًا, والسنة ليست كذلك. وأيضًا: قال {نأت} الضمير لله, فيجب ألا ينسخ إلا بما أتى الله به وهو القرآن. الجواب: أن المراد من الآية: ننسخ حكمها؛ لأنه وصف البدل بالخير, والقرآن خير كله ولا يفضل بعضه بعضًا بحسب اللفظ, نعم يكون ذلك باعتبار الحكم, وحكم السنة قد يكون خيرًا أو مثلًا من حيث كونه أصلح للمكلف, أو مساويًا للمنسوخ باعتبار الثواب وغيره. قوله: ولأن الضمير في نأت لله. قلنا: السنة أيضًا من عند الله, لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} , وهذا الجواب مخالف لم أجاب به عن الآية في مسألة النسخ من

غير بدل, وقد سلك غير المصنف في الجواب ما هو أولى, وهو: أن الآية لا تفيد أن الخير هو الناسخ؛ لأنه رتب الإتيان به على نسخ الآية, فلو كان الخير هو الناسخ لترتب نسخ الآية على الإتيان به ويدور. وإنما قلنا: إنه أولى؛ لأن قوله: (القرآن لا تفاضل فيه) ممنوع. قال القاضي عياض: قال ابن راهويه: يفضل بعضه بعضًا, وهو أيضًا أفضل من سائر الكتب, وذلك راجع إلى عظم الأجر. وقاله غيره من المتكلمين, ومنع ذلك الأشعري, والقاضي, وبعض الفقهاء؛ لأن مقتضى الأفضل نقص المفضول, وما ورد من ذلك فمعناه فاضل وعظيم. وحكى السهيلي عن ابن أبي زيد, وابن القابسي ذلك, في نفي أن لله اسمًا أعظم. واعلم أن للمجيب أن يمنع كونه السنة ليست مثلًا للمنسوخ لفظه من القرآن. قالوا: قال تعالى: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} نفى جواز التبديل عنه, والنسخ تبديل فينتفي جوازه.

مسألة: الجمهور على أن الإجماع لا ينسخ

الجواب: أن الضمير ظاهر عوده إلى الوحي, فهو ظاهر في عدم تبديل الوحي, ولا يدل على منع تبديل الحكم. ولو سلم, فقد سبق أن السنة بالوحي, فلا يكون بدّله من تلقاء نفسه بل الله بدّله. قال: (مسألة: الجمهور على أن الإجماع لا ينسخ. لنا: لو نسخ بنص قاطع أو إجماع قاطع, كان الأول خطأ, ولو نسخ بغيرهما فأبعد, للعلم بتقديم القاطع. قالوا: لو اتفقت الأمة على قولين فإجماع على إنها اجتهادية, فلو اتفق على أحدهما كان نسخًا. قلنا: لا نسخ بعد تسليم جوازه, وقد تقدمت). أقول: اختلفوا في جواز نسخ الحكم الثابت بالإجماع القطعي, وإنما قيدنا الإجماع بالقطعي, لقوله: (للعم بتقديم القاطع) , والجمهور على منعه. لنا: لو نسخ, فإما بنص قاطع أو إجماع قاطع أو بغيرهما, ولو كان / بنص قاطع, كان الإجماع الأول خطأ لمعارضة القاطع إياه. قيل: الصواب أن يقول: يلزم أن يكون أحدهما خطأ؛ لأن التقدير أن كلًا منهما قطعي, فتعيين أحدهما للخطأ ترجيح بلا مرجح.

مسألة: الجمهور على أن الإجماع لا ينسخ لأنه إذا كان. . .

وفيه نظر؛ لأن تأخر أحدهما معينًا مرجح له, كما هو في كل ناسخ. ولو نسخ بظني من كتاب أو سنة أو قياس أو إجماع ظني, كالمنقول بالآحاد أو السكوتي, فأبعد عن الصواب, للعلم بتقديم القاطع على غيره, فيلزم خلاف المعقول. قالوا: لو اختلفت الأمة على قولين, فهو إجماع على أن المسألة اجتهادية يجوز الأخذ فيها بكل واحد من القولين, فإذا أجمعوا على أحد القولين بطل الجواز الذي هو مقتضى الإجماع الأول, وهو معنى النسخ. الجواب: لا نسلم جواز ذلك فإنه مختلف فيه, ولو سلم لا يكون نسخًا لما تقدم أن الإجماع الأول مشروط بعدم الإجماع الثاني, فينتفي الأول لانتفاء شرطه لا لكونه منسوخًا, وقد تقدمت هذه الشبهة في الإجماع. قال: (مسألة: الجمهور على أن الإجماع لا ينسخ؛ لأنه إن كان عن نص, فالنص الناسخ, فإن كان عن غير نص - والأول قطعي - فالإجماع خطأ, أو ظني فقد زال شرط العمل به, وهو رجحانه. قالوا: قال ابن عباس لعثمان: «كيف تحجب الأم بالأخوين, وقد قال الله تعالى: {فإن كان له إخوة} , والأخوان ليسا إخوة؟ ». فقال: حجبهما قومك يا غلام. قلنا: إنما يكون نسخًا بثبوت المفهوم قطعًا, وأن الأخوين ليسا إخوة قطعًا, فيجب تقدير النص, وإلا كان الإجماع خطأ). أقول: الجمهور على أنه الإجماع لا ينسخ به.

وخالف ابن أبان وبعض المعتزلة؛ لأن الإجماع إن كان عن نص فالنص هو الناسخ, وإن كان عن غير نص تعين أن يكون قياسًا, فمستند الحكم الأول إن كان قطعيًا فالإجماع خطأ؛ لأنه على خلاف القاطع, وإن كان ظنيًا لم يبق مع الإجماع على خلافه دليل؛ لأن شرط العمل به رجحانه وإفادته الظن, وقد انتفى بمعارضة القاطع له وهو الإجماع, فلا نسخ لتوقف نسخه على ثبوته, وهو غير ثابت لزوال شرط العمل به. قيل: قوله: (فالنص الناسخ) , لا يخالفه الخصم, إذ لا يقول الإجماع لذاته ناسخ, كيف ولا إجماع إلا عند مستند, فالخلاف لفظي. قال: وقوله: (تبين زوال شرط العمل به وهو رجحانه) منقوض بكل ناسخ, فإن المنسوخ ترك العمل به لأنه صار مرجوحًا بناسخه, وكان العمل مشروطًا برجحانه فإذًا المراد بالرجحان المذكور رجحان ليس بحسب التاريخ. قالوا: قال ابن عباس لعثمان: «كيف تحجب الأم عن الثلث / بالأخوين وقد قال الله تعالى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} , والأخوان ليسا إخوة؟ فقال عثمان: حجبهما قومك يا غلام» , وهذا تصريح بترك

مسألة: المختار: أن القياس المظنون لا يكون ناسخا ولا منسوخا

حكم القرآن للإجماع, وهو معنى النسخ. الجواب: لا نسلم النسخ, فإنه يتوقف على أن الآية أفادت عدم حجب ما ليس بإخوة قطعًا, وعلى أن الأخوين ليسا إخوة قطعًا, فإن ذلك لو ثبت بدليل ظاهر وجب حمله على غير ظاهره دفعًا للنسخ, لكن دليل شيء منها ليس بقاطع, فإن الأول فرع ثبوت المفهوم, وإن ثبت فبظاهر, والثاني فرع أن الجمع لا يطلق لاثنين, وإن ثبت أنه ليس حقيقة فيه, لكن الجواز مجاز مما لا ينكر, ولم سلم فيجب تقدير ن ص قد حدث قطعًا ليكون النسخ به, وإلا كان الإجماع على خلاف القاطع, فكان خطأ وأنه باطل, وقد تقدم أنهم لو عملوا بخلاف نص تضمن ناسخًا. قال: (مسألة: المختار أن القياس المظنون لا يكون ناسخًا, ولا منسوخًا. أما الأول: فإن ما قبله إن كان قطعيًا لم ينسخ بالمظنون, وإن كان ظنيًا فقد تبين زوال شرط العمل به وهو رجحانه لأنه ثبت مقيدًا, كان المصيب واحدًا أم لا. وأما الثاني: فلأن ما بعده قطعي أو ظني بين زوال شرط العمل به, وأما المقطوع فنسخ بالمقطوع في حياته, وأما بعده فتبين أنه كان منسوخًا. قالوا: صح التخصيص فيصح. قلنا: منقوض [بالعقل] , والإجماع, وخبر الواحد). أقول: القياس إما أن يكون مظنونًا, وإما أن يكون مقطوعًا.

أما الأول: فالمختار أنه لا يكون ناسخًا ولا منسوخًا, أما أنه لا يكون ناسخًا؛ فلأن ما فرض منسوخًا إما قطعي أو ظني, فإن كان قطعيًا لم يجز نسخه؛ لأن نسخ المقطوع بالمظنون لا يجوز, وإن كان ظنيًا فقد تبين زوال شرط العمل به وهو رجحانه؛ لأن العمل به مقيد بعدم ظهور معارض راجح أو مساو, فلا يعمل به عند ظهور معارض راجح, سواء قلنا كل مجتهد مصيب, أو قلنا المصيب واحد, وحينئذ كان الواجب العمل به ما لم يظهر راجح, وقد عمل به فلم يرفع, ولا حكم له في الزمان الذي ظهر فيه الراجح فيرفع, فلا رفع لحكمه على التقديرين, فلا نسخ. وأما أنه لا يكون منسوخًا؛ فلأن ما بعده لا يخلو عن أن يكون قطعيًا أو ظنيًا راجحًا, وإلا لم يقدم عليه, وأيّا ما كان فقد بان زوال شرط العمل به؛ لأن شرط العمل به رجحانه. وأما المقطوع, فينسخ في حياته عليه السلام بالمقطوع؛ لأن حكم هذا القياس حكم النص القاطع, فكما جاز نسخ القاطع بالقاطع, فكذا ينسخ القياس القطعي بالقاطع, وأما بعده عليه السلام فلا ينسخ, إذ لا ولاية للأمة على النسخ, نعم قد يظهر أنه كان منسوخًا, بأن يظهر حكم أصله,

مسألة: المختار: جواز نسخ أصل الفحوى

وأما أنه ينسخ به فلا نزاع فيه, وإنما تركه لظهوره. قالوا: يجوز النسخ بالقياس المظنون قياسًا على التخصيص به, بجامع أن كلًا منهما تخصيص, وكون أحدهما في الأعيان والآخر في الأذهان لا يصلح فارقًا. الجواب: النقض بالعقل, والإجماع, وخبر الواحد, فإنها تخصص ولا تنسخ. وفيه نظر؛ لأن المخصص سند الإجماع, وخبر الواحد قيل: ينسخ. قال: (مسألة: المختار جواز نسخ أصل الفحوى دونه, وامتناع نسخ الفحوى دون أصله, ومنهم من جوزهما, ومنهم من منعهما. لنا: أن جواز التأفيف بعد تحريمه لا يستلزم جواز الضرب, وبقاء الحرمة يستلزم تحريم الضرب, وإلا لم يكن معلومًا منه. المجوز: دلالتان يجوز رفع كل منهما. قلنا: إذا لم يكن استلزام. المانع: الفحوى تابع فيرتفع بارتفاع متبوعه. قلنا: تابع الدلالة لا للحكم, والدلالة باقية). أقول: لا خلاف في جواز النسخ بالفحوى, ولا خلاف في نسخ حكم الفحوى, وإنما الخلاف في جواز نسخ الفحوى دون الأصل, ونسخ الأصل دون الفحوى.

وثالثها المختار: جواز نسخ الأصل دون الفحوى. لنا: أن تحريم التأفيف ملزوم لتحريم الضرب, وإلا لم يعلم منه من غير عكس للأولوية في الفرع, ونسخ الفحوى دون الأصل معناه بقاء تحريم التأفيف وانتفاء تحريم الضرب, وهو وجود الملزوم مع عدم اللازم وأنه محال, وأما عكسه وهو انتفاء تحريم التأفيف مع بقاء تحريم الضرب, فهو رفع الملزوم مع بقاء اللازم, وليس بممتنع. قيل عليه: لا منافاة بين الاستلزام بحسب الفهم وعدم الاستلزام بدليل خارجي. القائلون بالجواز فيهما قالوا: إفادة اللفظ الأصل والفحوى دلالتان متغايرتان, فجاز رفع كل منهما بدون الآخر. الجواب: لا نسلم دلالة التغاير على جواز رفع كل منهما بدون الآخر, وإنما يصح ذلك إذا لم يكن أحد الغيرين مستلزمًا للآخر. القائلون بالامتناع فيهما قالوا: أما الفحوى دون الأصل فلما قلتم, وأما الأصل دون الفحوى, فلأن الفحوى تابع للأصل, وإذا ارتفع الأصل لم يمكن بقاء الفحوى, لوجوب ارتفاع التابع بارتفاع متبوعه, وإلا لم يكن تابعًا له. الجواب: أن دلالة اللفظ على الفحوى تابعة لدلالته على الأصل, وليس حكمها تابعًا لحكمه, فإن فهمنا لتحريم الضرب حصل من فهمنا تحريم

مسألة: المختار: أن نسخ حكم أصل القياس لا يبقى مع حكم الفرع

التأفيف؛ لأن الضرب إنما كان حرامًا لأن التأفيف حرام, ولولا حرمة التأفيف لما كان الضرب حرامًا, والذي [هو] يرتفع [هو تحريم التأفيف لا دلالة اللفظ عليه فإنها باقية, إلا أنه لا يعمل بمقتضاها لدليل خاص بالأصل, فالمتبوع لم يرتفع, والمرتفع] ليس بمتبوع. قال: (مسألة: المختار أن نسخ حكم أصل القياس لا يبقى معه حكم الفرع. لنا: خرجت العلة من الاعتبار فلا فرع. قالوا: الفرع تابع للدلالة لا / للحكم كالفحوى. قلنا: يلزم من زوال الحكم زوال الحكمة المعتبرة, فيزول الحكم مطلقًا لانتفاء الحكمة. قالوا: حكمتم بالقياس على انتفاء الحكم بغير علة. قلنا: حكمنا بانتفاء الحكم لانتفاء علته). أقول: إذا نسخ حكم أصل القياس, فالمختار أنه لا يبقى حكم الفرع, خلافًا لبعض الحنفية, وعلى أنه لا يبقى ففي تسميته نسخًا

نزاع لفظي. لنا: أنه يستلزم خروج علة الأصل عن كونها معتبرة شرعًا, حيث علم إلغاؤها بعد ثبوت الحكم معها في الأصل, والفرع إنما يثبت بالعلة, فإذا انتفت العلة انتفى الفرع, وإلا لزم ثبوت الحكم بلا دليل. قيل: العلة أمارة الحكم لا موجبة له, والأمارة إنما يحتاج إليها ابتداء لا دوامًا, كما مرّ في نسخ الحكم دون التلاوة. قيل: وفيه نظر؛ لأن العلة باعثة لا أمارة, والباعث يحتاج إليه دائمًا. وردّ: بأن مراده من الأمارة المعرفة, أعم من أن يكون باعثًا أو مجرد أمارة لأنه جعله قسيم الموجب, ولو سلم فلا نسلم أن الباعث يحتاج إليه دائمًا, بل يحتاج إليه عند تأثير الفاعل في حصول المعلول فقط. قالوا أولًا: الفرع تابع لدلالة حكم الأصل على علة الأصل لا الحكم الأصل, فلا يلزم من انتفاء الحكم انتفاء الدلالة, ولم يحدث شيء إلا انتفاء الحكم والدلالة باقية, فيبقى حكم الفرع, وهو بعينه الذي صرتم إليه في جواز نسخ الأصل دون الفحوى. الجواب: أنا لا نسلم أنه لم يحدث شيء إلا انتفاء الحكم, بل ثبت انتفاء الحكمة المعتبرة شرعًا, وهو ملزوم لانتفاء الحكم, لاستحالة بقائه بغير حكمة معتبرة فينتفي الحكم, ولا كذلك في المفهوم, إذ لا يلزم من انتفاء الحكمة المحرمة للتأفيف انتفاء الحكمة المحرمة للضرب, إذ لا يلزم من ارتفاع الأضعف ارتفاع الأقوى, ويلزم من ارتفاع الأقوى ارتفاع الأضعف.

مسألة: المختار: أن الناسخ قبل تبليغه عليه السلام حكمه. . .

قالوا: هذا حكم يرفع حكم الفرع, قياسًا على رفع حكم الأصل من غير علة جامعة بينهما موجبة للرفع, والقياس بلا جامع فاسد, ولو سلم الجامع فالقياس المظنون لا يكون ناسخًا. الجواب: ليس حكمًا بالقياس, بل بانتفاء الحكم لانتفاء علته, وهو نوع من الاستدلال لا يحتاج إلى أصل, وفرع, وعلة. نعم, علمنا عدم اعتبار العلة ببطلان حكم الأصل, لا أنا قسنا الفرع في عدم الحكم على الأصل بجامع عدم العلة. قال: (مسألة: المختار أن الناسخ قبل تبليغه عليه السلام لا يثبت حكمه. لنا: لو ثبت لأدى إلى وجوب وتحريم, للقطع بأنه لو ترك الأول أثم. وأيضًا: لو / عمل بالثاني عصى اتفاقًا. وأيضًا: يلزم قبل تبليغ جبريل, وهو اتفاق. قالوا: حكم, فلا يعتبر علم المكلف. قلنا: لابد من اعتبار التمكن, وهو منتف). أقول: ذهب أصحابنا, والحنفية, والحنابلة, وبعض الشافعية إلى أن الناسخ لا يثبت حكمه في حق من لم يبلغه, خلافًا لبعض الشافعية.

والمصنف تابع للآمدي, وفرضها فيما إذا بلغ الخطاب النبي عليه السلام فقبل تبليغه إلى المكلفين هل يثبت حكمه في حقهم أم لا؟ . قال القاضي عياض: منهم من قال يثبت النسخ في حقه, لكن يشترط أن يبلغه, وهو خلاف في عبارة, وكلهم مجمعون على بقائه على الحكم الأول وإجزائه؛ إذ الجاهل لا يثبت التكليف في حقه بما جهله, وهذا مما يستحيل, وإنما ذهب إلى ثبوت النسخ في حقه طائفة من الفقهاء الذين لم يقووا في الأصول. وقال الإمام في البرهان: «النزاع لفظي». لنا: لو ثبت حكمه لأدى إلى وجوب وتحريم في محل واحد وهو محال, أما الملازمة؛ فلأنه لو ترك العمل بالأول قبل بلوغ الثاني إليه لأثم بتركه, قال الآمدي: «إجماعًا» , وهو ظاهر كلام الغزالي, وكلام عياض المتقدم. ولو أثبته بالإجماع لكان أولى من إثباته بالقطع, فلو كان الحكم الثاني ثابتًا - وكان حظرًا - لكان ذلك الفعل قبل بلوغ الناسخ واجبًا حرامًا. ولنا أيضًا: أنه لو عمل بالثاني - وهو معتقد عدم نسخه - لأثم قطعًا, ولو ثبت حكمه لما أثم بالعمل به, لا يقال: لو لم يكن مخاطبًا لما لزمه القضاء. وقد قال مالك والشافعي فيما حكى عياض: إن من أسلم في دار الحرب ولم يحد من يسأل عن الواجبات, ثم إنه وجد بعد ذلك من أخبره, أنه يقضي

مسألة: العبادات المستقلة ليست نسخا

[فهذا مثله]. قلنا: قد قال أبو حنيفة وسحنون: لا قضاء عليه, وإن سلم فالقضاء بأمر جديد, فلا يستلزم وجوبًا قبله, كقضاء صوم الحائض. ولنا أيضًا: أنه لو ثبت حكمه - قبل تبليغ الرسول - لثبت قبل تبليغ جبريل, واللازم باطل اتفاقًا, بيان اللزوم: أنهما سواء في وجود الناسخ وعدم علم المكلف به, ووجوده مقتض لحكمه, وعدم علم المكلف لا يصلح مانعًا فيثبت. قالوا: حكم تجدد, فلا يعتبر علم المكلف به, وأيضًا: حق الشارع فلا يعتبر في إسقاطه عن المكلف علمه به, كما في عزل الموكل. الجواب: أن العلم ليس بمعتبر, لكن التمكن من العلم معتبر, وإلا كان تكليفًا بالمحال, والتمكن منتف فلا يثبت حكمه, لا لعدم علمه, بل لعدم تمكنه من العلم وهو شرط التكليف, هذا أقرب إلى لفظه. والحق: منع ثبوت الوجوب عليه إذا لم يعلم؛ لأنه لابد في الإيجاب عليه من اعتبار تمكنه من الامتثال, وإلا لزم تكليف ما لا يطاق, لكن التمكن منتف لانتفاء شرط امتثال الحكم, وهو العلم به, لعدم العلم بدليله. قال: (مسألة: العبادات المستقلة ليست نسخًا. وعن بعضهم: صلاة سادسة تنسخ.

وأما زيادة جزء مشترط, أو زيادة شرط, أو زيادة ترفع مفهوم المخالفة, فالشافعية والحنابلة: ليس بنسخ, والحنفية: نسخ. وقيل: الثالث نسخ. عبد الجبار: إن غيرته حتى صار وجوده كالعدم شرعًا, كزيادة ركعة في الفجر وكعشرين في القذف, وكتخيير في ثالث بعد اثنين, فنسخ. والغزالي: إن اتحدت كركعة في الفجر فنسخ, بخلاف عشرين على القذف. والمختار: إن رفعت حكمًا شرعيًا بعد ثبوته بدليل شرعي فنسخ, لأنه حقيقة, وما خالفه ليس بنسخ. فلو قال: «في السائمة زكاة» , ثم قال: «في المعلوفة الزكاة» فلا نسخ فإن تحقق أن المفهوم مراد فنسخ, وإلا فلا, ولو زيدت ركعة في الصبح فنسخ, لتحريم الزيادة ثم وجوبها, والتغريب على الحدّ كذلك. فإن قيل: منفي بحكم الأصل. قلنا: هذا لو لم يثبت تحريمه, فلو خبر في المسح بعد وجوب الغسل فنسخ التخيير بعد الوجوب, ولو قال: {واستشهدوا شهيدين} , ثم ثبت الحكم بالنص بشاهد ويمين فليس بنسخ, إذ لا رفع لشيء. ولو ثبت مفهومه ومفهوم {فإن لم يكونا رجلين} , إذ ليس فيه منع الحكم بغيره. ولو زيد في الوضوء اشتراط غسل عضو فليس بنسخ؛ لأنه إنما حصل وجوب مباح الأصل.

قالوا: كانت مجزئة ثم صارت غير مجزئة. قلنا: معنى مجزئة امتثال الأمر بفعلها ولم يرتفع, وارتفع عدم توقفها على شرط آخر, وذلك مسند إلى حكم الأصل, وكذلك لو زيد في الصلاة ما لم يكن محرمًا). أقول: هذه المسألة في الكتب مترجمة: بالزيادة على النص, هل تكون نسخًا؟ . واعلم أن زيادة عبادة على ما قد شرع من العبادات, إن كان مستقلًا فليس بنسخ, وعن بعض العراقيين: إن إيجاب صلاة سادسة نسخ؛ لأنه يخرج الوسطى من كونها وسطى, فيبطل تأكيد المحافظة عليها الثابت بقوله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} , وهو حكم شرعي وهذا معنى النسخ, وهو فاسد, إذ لا يبطل تأكد ما صدق عليه أنها وسطى, وإنما يبطل كونها وسطى, وهو أمر حقيقي لا حكم شرعي, وأما غير هذه الزيادة فعلى وجوه: منها: أن تكون الزيادة مع الأولى جزئين لعبادة, بحيث / لا تعتبر الأولى دونها, فتكتون شرطًا لصحة المزيد عليه, كزيادة ركعة في الفجر.

ومنها: أن تكون شرطًا في الأولى ولا تكون جزءًا, كزيادة شرط الإيمان في رقبة الكفارة. ومنها: أن ترفع مفهوم مخالفة الأولى, كقوله: «في المعلوفة زكاة» بعد قوله: «في الغنم السائمة زكاة». قلت: وهذا المثال من المستقل ولم يذكره الآمدي, هذا مع أن الحنفية لا يقولون بالمفهوم. فقال مالك, والشافعي, والحنابلة, والجبائي, وابنه: ليس بنسخ. وقال الحنفية: إنه نسخ, ونعني في الأولين. وقال قوم: الثالث - وهو ما يرفع مفهوم المخالفة - نسخ دون الأولين. وقال عبد الجبار: إن غيرت الزيادة الأصل تغييرًا شرعيًا حتى صار وجوده كالعدم شرعًا فنسخ, وإلا فلا, وذكر أمثلة: منها: زيادة ركعة على ركعتين في الفجر, فإنهما لا يجزئان دونها. ومنها: زيادة التغريب على الجلد, فإنه لا يحصل الحدّ بالجلد وحده. ومنها: زيادة عشرين جلدة على حدّ القذف, فإنه لا يحصل الحدّ بدون العشرين. ومنها: أن يخير المكلف في أمرين, ثم يخير فيهما وفي ثالث, فإن فِعْل الثالث مع ترك الأولين غير محرم, وقد كان فهو كالعدم في انتفاء الحرمة

بنفيهما. وما قيل من أن المثال الثاني والثالث لا يصح؛ لأن وجود الثمانين لا يكون كالعدم بل يضم إليها عشرين ويحصل الإجزاء, وكذا لو أتى بأحد الأولين بعد التخيير في الثالث, لم يكن وجوده كالعدم فوارد, إلا أن يتأول على ما ذكرنا. وقال الغزالي: إن غيرت حكم المزيد عليه ورفعت جواز اقتصار عليه, وأنه لابد في امتثال الأمر من الزيادة فنسخ, كزيادة ركعتين في الصبح, فإن الركعتين الأوليين ارتفع موجب الأمر بهما, فليس الأربع اثنين وزيادة, إذ لو أتى بالصبح أربعًا لم يجزه, ولو كانت الأربع اثنين وزيادة لأجزأته, كما لو أمر أن يتصدق بدرهم فتصدق بدرهمين, أما لو لم تتصل هذا الاتصال, كعشرين على القذف فليس بنسخ, إذ لو حده بعد الزيادة ثمانين لي يبطل إجزاء الثمانين عن نفسها, بل يطالب بالعشرين فقط. فزيادة الشرط نسخ على قول عبد الجبار, وليس بنسخ على قول الغزالي. والمختار: أن الزيادة إن رفعت حكمًا شرعيًا بعد ثبوته بدليل شرعي فنسخ؛ لأنه حقيقة النسخ. وقوله: (بدليل) يتعلق برفعت لا بثبوت, وإلا لزم التكرار, إذ الحكم الشرعي لا يكون إلا بدليل شرعي, مع أن النسخ لا يتحقق حتى يكون

الرافع شرعيًا, وما خالف المذكور / وهو ألا يكون المرفوع حكمًا شرعيًا, إن كان حكمًا شرعيًا لكن الزيادة لم تتأخر, فليس بنسخ لانتفائه بانتفاء كل منهما. فلو قال: «في الغنم السائمة الزكاة» , ثم قال: «في المعلوفة الزكاة» , فإن ثبت المفهوم وتحقق أنه كان مرادًا فنسخ, وإلا فلا إذ لا رفع, إنما هو دفع للمفهوم إن ثبت. وإنما قال أولًا: (فلا نسخ) أي لمنطوق الأول بمفهوم الثاني. ثم قال: (فإن تحقق إرادة مفهوم الأول) فمنطوق الثاني ناسخ له, وإلا فهو دفع إن قلنا بالمفهوم, فلو زيد في صلاة الصبح ركعة فنسخ؛ لأنه ثبت تحريم الزيادة عليها ثم ارتفع بوجوبها, وكلاهما حكم شرعي. وكذا زيادة التغريب على الجلد؛ لأنه ثبت تحريم الزيادة, ثم ثبت وجوبها, كلاهما بدليل شرعي. فإن قيل: التغريب كان منفيًا بالأصل, فرفعه رفع لحكم الأصل, وهو لا يكون نسخًا. قلنا: إنما يصح لو لم يثبت تحريمه بدليل شرعي, وعلى هذا زيادة عشرين على القذف نسخ. فلو أوجب غسل الرجلين معينًا, ثم خير بين غسلهما ومسحهما فهو نسخ؛ لأنه رفع الوجوب عينًا بوجوب أحد الأمرين مخيرًا وهو غيره, وقد ثبتا بدليل شرعي.

فلو قال: {واستشهدوا شهيدين} , ثم ورد نص بجواز الحكم بشاهد ويمين فلا نسخ؛ لأن المرفوع عدم جواز الحكم بشاهد ويمين, وقوله: {واستشهدوا شهيدين} لم يثبته حتى يكون نسخًا للقرآن بخبر الواحد. فإن قيل: مفهوم قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين} , ومفهوم قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} يمنع الحكم بالشاهد واليمين لأنه غيرهما, والنص قد نفى الغير بالمفهوم. قلنا: دلّ على طلب الاستشهاد لرجلين ما أمكن, ولرجل وامرأتين إذا تعذر, فإن سلم مفهومهما فهو أن غيره غير مطلوب, وإما أنه لا يحكم بغيرهما إذا حصل, فلا يدل عليه لا بمنطوق ولا بمفهوم. فلو زيد في الوضوء اشتراط غسل عضو, فليس بنسخ على الأصح؛ لأنه رفع مباح الأصل. قالوا: نسخ؛ لأن الأربعة دونه كانت مجزية ولم تبق الآن مجزية, والإجزاء حكم شرعي وقد ارتفع. الجواب: أن الإجزاء بدونه يدل على الامتثال بفعله وعدم توقفه على شرط آخر, أما الامتثال بفعله فلم يرتفع, وأما عدم توقفه على شرط آخر وإن ارتفع فليس حكمًا شرعيًا, بل هو مستند إلى حكم البراءة الأصلية. ولو زيد في الصلاة ركن, فإن كان محرمًا قَبْلُ, فنسخ لحرمته لا للصلاة وإن لم يكن محرمًا فليس بنسخ؛ لأنه رفع لحكم الأصل, ونعني به إذا لم يرد

مسألة: إذا نقص جزء العبادة أو شرطها

دليل شرعي فيه, وإلا ورد المكروه والمباح والمستحب. قال: (مسألة: إذا نقص جزء العبادة أو شرطها, فنسخ للجزء والشرط لا للعبادة, وقيل: نسخ للعبادة. عبد الجبار: إن كان جزءًا لا شرطًا. لنا: لو كان نسخًا لوجوبها, افتقرت إلى دليل ثان, وهو خلاف الإجماع. قالوا: ثبت تحريمها بغير طهارة, وبغير الركعتين, ثم ثبت جوازها أو وجوبها. قلنا: الفرض لم يتجدد). أقول: لما فرغ من حكم الزيادة, شرع في حكم النقصان من العبادة, ولا يخلو من أن ينقص منها ركن أو شرط كما لو أسقط من الصبح ركعة, أو أبطل اشتراط الطهارة. قال الكرخي وأبو الحسين: نقص الجزء أو الشرط نسخ للجزء أو الشرط لا للعبادة, واختاره المصنف. وقال بعض المتكلمين - ومال إليه الغزالي -: نسخ للعبادة. وقال عبد الجبار: نقص الجزء نسخ للعبادة, ونقص الشرط نسخ له فقط, فحصل الاتفاق على نسخ الجزء أو الشرط.

مسألة: المختار: جواز نسخ وجوب معرفته

قلت: والأظهر أن النزاع لفظي, فإنه يلزم من رفع الجزء أو الشرط رفع الكل, لا رفع كل واحد, وإلا لاحتيج في الباقي إلى تجدد وجوب, فمن قال إنه نسخ للعبادة, إن أراد أنه يرتفع المجموع من حيث هو مجموع بارتفاع الجزء أو الشرط, وإذا ارتفع المجموع - الذي هو العبادة - صدق أنها نسخت فمسلم ولا يخالف الآخر, وإن أراد أنه نسخ للباقي فمعلوم أنه لا يلزم من رفع جزء رفع جميع الأجزاء. احتج للمختار: بأنه لو كان نسخًا للباقي إذا نقص الجزء, أو نسخًا للمشروط إذا نقص الشرط, لافتقر الباقي في وجوبه إلى دليل غير الأول, أما الملازمة؛ فلأن الوجوب السابق قد ارتفع, فالوجوب الثاني لابد له من دليل لأنه حكم شرعي, فلابد له من دليل. وأما بطلان الثاني؛ فبالاتفاق. قالوا: ثبت تحريمها تغير الركعتين وبغير الطهارة, وهذا التحريم بالشرع إذ لا مجال للعقل, فإذا نقص الجزء أو الشرط, فقد ثبت جوازها بدون الشرط ووجوبها بدون الجزء, فارتفع التحريم بالإباحة أو الوجوب, وهو معنى النسخ. الجواب: الفرض أنه لم يتجدد وجوب الباقي, بل أبطل وجوب ما نقص وهو نسخ, ولا نزاع فيه, وإنما النزاع في نسخ وجوب الباقي, ووجوبه باق كما كان لم يتغير. قال: (مسألة: المختار جواز نسخ وجوب معرفته, وتحريم الكفر وغيره خلافًا للمعتزلة, وهي فرع التحسين والتقبيح.

والمختار: نسخ جميع التكاليف, خلافًا للغزالي. لنا: أحكام غيرها. قالوا: لا ينفك عن وجوب معرفة النسخ والناسخ. وأجيب: بأنه يعلمها, وينقطع التكليف بهما وبغيرهما). أقول: اتفقوا على جواز رفع جميع التكاليف بإعدام العقل, وعلى امتناع النهي عن معرفته إلا عند من يجوز تكليف المحال؛ لأن العلم بنهيه يستدعي معرفته, فيتوقف تحريم معرفته على معرفته فيدور. واختلفوا في جواز نسخ وجوب معرفته, وتحريم الكفر وغيره من المعاصي, فجوزه أصحابنا, ومنعه المعتزلة, والمسألة فرع التحسين والتقبيح العقليين, إذ لو ثبتا لم تتغير هذه الأمور من وجوب إلى تحريم وبالعكس؛ لأن ما بالذات لا يتغير, وقد مرّ بطلانه. واختلف أصحابنا, هل يجوز نسخ جميع التكاليف عن المكلف بعد ثبوتها مع بقاء شرائط التكليف؟ . والمختار: جوازه, خلافًا للغزالي. لنا: أنها أحكام, فما جاز على بعضها جاز على جميعها. قالوا: لو جاز نسخ جميع التكاليف لأدى إلى عدم جواز نسخ جميعها.

أما الملازمة؛ فلأن المنسوخ عنه لابد له من معرفة النسخ والناسخ ليعلم أنه غير مكلف بشيء, وهذا نوع من التكليف, فيلزم خلاف الفرض. الجواب: أنّا وإن سلمنا أن النسخ لا يحصل في حق المكلف بدون علمه, فلا يمتنع تحقق النسخ لجميع التكاليف عند علمه بالنسخ, وإن لم يكن مكلفًا بمعرفة النسخ والناسخ. ولئن سلمنا لزوم كونه مكلفًا بمعرفتهما, فيجوز أن يعملهما ثم ينقطع التكليف بهما وبغيرهما. وقول من قال الانقطاع إن كان بنفسه لا يكون نسخًا وإن كان بغيره تسلسل, فاسد بما مرّ.

القياس

قال: (القياس: التقدير والمساواة. وفي الاصطلاح: مساواة فرع لأصل في علة حكمه. ويلزم المصوبة زيادة في نظر المجتهد؛ لأنه صحيح وإن تبين الغلط والرجوع، بخلاف المخطئة. وإن أريد الفاسد معه، قيل: تشبيه). أقول: لما فرغ من الأدلة الثلاثة وما يتعلق بها من المشاركات الثلاثة والثنائية، شرع في الدليل الرابع الذي هو القياس، ويشمل على مقدمة وخمسة أبواب. أما المقدمة: فهي تعريفه وبيان أركانه. والقياس لغة: التقدير- يقال: قست الثوب بالذراع إذا قدرته- والمساواة، ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان، أي يساويه [دون] ذلك، فيتوقف على أمرين يقدر أحدهما بالآخر، وإنما قيل في الشرع: قاس عليه؛ لأنه ضمن فيه معنى البناء والحمل، لأن الانتقال من صلة إلى صلة للتضمن أي من الباء إلى على. وفي الاصطلاح: مساواة فرع لأصل في علة حكمه. ولما كان القياس من أدلة الأحكام، فلابد من حكم مطلوب به وله محل ضرورة، والمقصود إثباته فيه لثبوته في محل آخر يقاس هذا به، فكان هذا

فرعا وذلك أصلا، لحاجته/ إليه وابتنائه عليه، ولا يمكن ذلك في كل شيئين بل إذا كان بينهما أمر مشترك-ولا كل مشترك- بل المشترك الذي يوجب الاستواء في الحكم بأن يستلزم الحكم، ونسميه علة الحكم، فلابد أن نعلم علة الحكم في الأصل، ونعلم ثبوت مثلها في الفرع لا عينها لاستحالته، وبذلك يحصل ظن مثل الحكم في الفرع وهو المطلوب، ولم يعتبر المصنف تماثل الحكمين، لأنه تابع للقياس لا نفسه. والمراد بالفرع: صورة لم يظهر للمجتهد حكمها بخصوصية دليل من نص أو إجماع، بل يكون حكمها مبنيا على حكم صورة أخرى. والمراد بالأصل: صورة ظهر للمجتهد حكمها بخصوصية دليل من نص أو إجماع. فيندفع ما قيل إن الفرع تتوقف معرفته على معرفة القياس؛ لأنه الذي ساوى أصلا في علة حكمه، والأصل هو الذي يساويه الفرع في علة حكمه فيلزم الدور، إذ لا نسلم أن معرفة الأصل والفرع من -حيث ذاتيهما- متوقفة على معرفة القياس، لجواز أن يعلم كل منهما من حيث ذاته، ولا تعلم المساواة بينهما، وتعريفه بهما إنما هو من حيث ذاتيهما، لا من حيث إنهما فرع وأصل. واعلم أن المراد من المساواة المذكورة، المساواة في نفس الأمر، قاس المجتهد أم لا؛ لأن القياس اسم لهذا الدليل وليس مصدرا لفعل القائس، فيختص بالقياس الصحيح عند من يرى ما لا مساواة فيه في نفس الأمر قياسا فاسدا. وأما من يرى أن كل مجتهد مصيب، فالقياس الصحيح عنده ما حصلت

مسألة: وأورد قيالس الدلالة

فيه المساواة في نظر المجتهد، سواء حصلت في نفس الأمر أم لا، حتى لو تبين غلطه ووجب رجوع عنه، فإن ذلك لا يقدح في صحته عندهم قبل ظهور الدليل الصحيح وإن زالت صحته الآن، بخلاف المخطئة فإنهم لا يرون ما ظهر غلطه والرجوع عنه محكوما بصحته إلى زمان ظهور غلطه، بل فيما كان فاسدا وتبين الآن أنه كان فاسدا. فإذا المصوبة لا يشترطون المساواة إلا في نظر المجتهد، فحقهم أن يقولوا: مساواة فرع لأصل في علة حكمه في نظر المجتهد، فإن أردنا دخول القياس الفاسد مع الصحيح لم نشترط المساواة في الواقع وفي نظر المجتهد، وقلنا بدلها: تشبيه فرع بأصل في علة حكمه، ومع زيادة "في نظر المجتهد" -على مذهب المصوبة- فيشمل القسمين على المذهبين، لأن التشبيه قد يكون بين المتساوين في علة الحكم وفي /الواقع أو عند المجتهد، وقد يكون بين غيرهما، وعلى الأول يتناول الصحيح على المذهبين، وعلى الثاني يتناول الفاسد على المذهبين، فيتبين أن المراد في التشبيه المشابهة، فلا يرد قول من قال: التشبيه فعل القائس فلا يتناول ما هو في الواقع قياس ولم ينظر فيه. قال: (وأورد: قياس الدلالة، فإنه لا تذكر فيه علة. وأجيب: بأنه إما غير مراد، وإما أنه يتضمن المساواة فيها. وأورد: قياس العكس، مثل: "لما وجب الصيام في الاعتكاف بالنذر وجب بغير نذر"، عكسه: "الصلاة لما لم تجب فيه بالنذر، لم تجب بغير نذر". وأجيب: بالأول، أو بأن المقصود: مساواة الاعتكاف فيه بغير نذر

في اشتراط الصوم له بالنذر، بمعنى: لا فارق، أو بالبر، وذكرت الصلاة لبيان الإلغاء، أو قياس الصوم بالنذر على الصلاة بالنذر). أقول: أورد على عكس الحد قياس الدلالة، فإن شرطه أن لا تذكر فيه علة، لأنه قسيم قياس العلة، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة الدالة على الشدة، فإن الرائحة ليست بعلة- لا في الواقع ولا في نظر المجهد- بل العلة الشدة المطربة الملزومة للرائحة المذكورة- مع أنه قياس-. [وفيه نظر؛ إذ المحدود القياس الذهني]. الجواب: إما بأن المحدود قياس العلة، فإن القياس إذا أطلق إنما يراد به قياس [العلة]، ولا يطلق لقياس الدلالة إلا مقيدا، وإما بأنه يتضمن المساواة في العلة، ومرادنا ما هو أعم من المساواة الضمنية أو المصرح بها، وهذا أولى لأنه بعد تقسيم القياس إلى قياس العلة وقياس الدلالة، فالمحدود المشترك واللازم المذكور مساو للملزوم –أعني الشدة- فالمساواة فيها تستلزم المساواة في العلة، فاندفع ما قيل: إن الاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزومات. وأورد الأصل على عكس الحد قياس العكس وهو: ما أثبت فيه نقيض حكم الأصل بنقيض علته، كما لو قال المالكي أو الحنفي: "لما وجب الصيام

في الاعتكاف بالنذر، وجب بغير نذر قياسا على الصلاة، لما لم تجب في الاعتكاف بالنذر، لم تجب بغير النذر"، فالحكم في الأصل عدم الوجوب بغير نذر، والعلة عدم وجوبه بالنذر، والمطلوب في الفرع وجوبه بغير نذر والعلة وجوبه بالنذر، فهذا لا يصدق عليه الحد، إذ لا مساواة بين الفرع والأصل في العلة ولا في الحكم، مع أنه قياس. مثال آخر: قال [المغيرة] في كتاب الزكاة من المدونة، فيمن عنده عشرة دنانير حال عليها الحول، فأنفق بعضها واشترى بالبعض سلعة: إن عليه الزكاة، سواء أنفق قبل الشراء أو بعده، فإنه يحسب ما أنفق ويزكى إن كان المجموع مما باعها به وما أنفق نصابا، كما لا يحسب ما أنفق قبل الحول قبل الشراء أو بعده، كذلك لا /يترك أن يحسب ما أنفق بعد الحول قبل الشراء أو بعده. الجواب أولا: بأنه ليس من القياس المحدود. وثانيا: بأنه مساواة من وجهين: أحدهما: أن المقصود مساواة الاعتكاف بغير نذر الصوم، في أن الصوم شرط في الاعتكاف بنذر الصوم، وتقريره: إما بإلغاء الفارق –وهو النذر- لأنه غير مؤثر كما في الصلاة، إذ وجوده وعدمه سواء، فتبقى العلة الاعتكاف المشترك، وإما [بالسير] وهو: أن العلة إما الاعتكاف، أو

الاعتكاف بالنذر، أو غيرهما، وكونه بالنذر لا يصح علة ولا جزء علة؛ لأنه غير مؤثر، بدليل ثبوته في الصلاة بدون الحكم، فإذا الصلاة لم تذكر للقياس عليها، بل لبيان إلغاء الفارق، أو لإلغاء أحد أوصاف السبر، فلا تجب المساواة لهما، فلا يضر عدمهما، فيكون الاعتكاف بنذر الصوم أصلا والاعتكاف بغير نذر الصوم فرعا، والحكم وجوب اشتراط الصوم فيهما، والعلة الاعتكاف، فيصدق حد القياس عليه، وينعكس. قلت: وفيه نظر؛ لأن ما كان بمعنى لا فارق، هو القياس في معنى الأصل، والذي بالسبر قياس العلة، ولابد أن يصرح فيه بالعلة، وهذا لم يصرح بها فيه. الوجه الثاني: أنه قياس للصيام بالنذر على الصلاة بالنذر في أنها تجب به في الاعتكاف، ولا تأثير للنذر في وجوبها، فكذا الصيام، ويلزمه بدون النذر، كما يجب مع النذر إجماعا، وإلا لكان للنذر فيه تأثير، فالذي فيه القياس حصل فيه المساواة، والذي فيه عدم المساواة لازم له ولا يضر، فالصلاة أصل، والصوم فرع، والعلة كونهما عبادتين، والحكم عدم صيرورته شرطا بالنذر. وقد يجاب عنه: بأنه ملازمة، والقياس لبيان الملازمة والمساواة حاصلة على التقدير. وحاصلة: لو لم يشترط لم يجب بالنذر واللازم باطل، ثم تبين الملازمة بالقياس على الصلاة، بأنها لما لم تكن شرطا لم تجب بالنذر، ولا شك أن على تقدير عدم وجوبه بالنذر، فالمساواة حاصلة بينها وبين الصوم، وإن لم تكن حاصلة في نفس الأمر.

مسألة: وقولهم: بذل المجتهد قي استخراج الحق

قال: (وقولهم: بذل المجتهد في استخراج الحق، وقولهم: الدليل الموصول إلى الحق، وقولهم: للعلم عن نظر، مردود بالنص، والإجماع، وبأن البذل حال القياس، والعلم ثمرة القياس. أبو هاشم: حمل الشيء على غيره بإجراء حكمه عليه، ويحتاج بجامع. وقول القاضي: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما، حسن، إلا أن "حمل" ثمرته، وإثبات الحكم فيهما معا ليس به، فبجامع كاف. وقولهم: ثبوت حكم الفرع فرع القياس: فتعريفه به دور. وأجيب: بأن المحدود القياس الذهني، وثبوت الفرع الذهني والخارجي ليس فرعا له). /أقول: هذه تعريفات ذكرها الأصوليون للقياس مزيفة. منها: قولهم: "بذل الجهد في استخراج الحق"، وهو غير مطرد لبذل الجهد في استخراج الحق من النص والإجماع؛ لأنه قد يحتاج إلى اجتهاد في صيغ العموم، والمفهوم، والإيماء، والإشارة، ورد المطلق إلى المقيد، وتخصيص العام، وتصحيح السند وغير ذلك، وبأن البذل حال القائس وهو غير القياس؛ فإن الدليل المنصوب من جهة الشارع نظر فيه القائس أو لا.

ومنها: قولهم: ["والعلم عن نظر"]، وهو أيضا غير مطرد، بالعلم الحاصل عن نظر في نص أو إجماع. وأيضا: العلم ثمرة القياس، فتعريفه به دور، ولا يطرد أيضا. ومنها: ما ذكره أبو هاشم، وهو: "حمل الشيء على غيره، بإجراء حكمه عليه"، وهو منقوض بحمل بلا جامع، لصدق الحد دون المحدود، إذ لا تتحقق حقيقته لا صحيحا ولا فاسدا، فيحتاج إلى قيد، وهو أن يقال: "بجامع"، محافظة على طرده، مع أن الحمل فعل القائس. ومنها: ما عرفه به القاضي أبو بكر، قال: "حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لها، أو نفيه عنهما، بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما". فقوله: "معلوم على معلوم"، يتناول جميع ما يجري فيه القياس من موجود ومعدوم وممكن ومستحيل، ولهذا لم يقل: حمل شيء. وقوله: "في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما"، ليتناول القياس في الحكم الثبوتي، وفي الحكم العدمي. وقوله: "بأمر جامع بينهما ... . إلى آخر"، يتناول الحكم الشرعي نحو: العدوانية، والوصف الفعلي نحو: العمدية، ونفيها كما يقال في الخطأ: ليس بعمد ولا عدوان، فلا قصاص كقتل الصبي.

قال: (وهو حسن)، يعني عند الأصوليين، وزيفه المصنف من ثلاثة أوجه: الأول: أن الحمل ثمرة القياس، [إذ المراد من الحمل إثبات الحكم، وإثبات الحكم ثمرة القياس، وهو فعل فيدور، ولا يطرد أيضا. الثاني: أنه يشعر بأن إثبات الحكم] فيهما جميعا بالقياس، وليس كذلك فإن الحكم في الأصل بالنص أو الإجماع. وأيضا: القياس فرع على ثبوت حكم الأصل، فلو كان ثبوت حكم الأصل بالقياس لزم الدور. وثالثها: أن قوله: "بجامع"، كاف في التمييز، ولا حاجة إلى تفصيل الجاحد في الحد. قال: (وقولهم: ثبوت حكم الفرع)، اختلف الشراح في وجه إيراده فأكثرهم على أنه مما أورد على حد القاضي، وهو ظاهر الإحكام، مع أن الإيراد للآمدي، ثم أجاب عنه المصنف. ومنهم من قال: إنه اعتراض على بعض الأصوليين الذين عرفوا القياس بثبوت حكم الفرع. ومنهم من قال –وهو الأظهر-: إن المصنف صرح بأنهم عدلوا عن ذكر حكم الفرع إلى حكم شيء أو معلوم؛ لأنه دور.

مسألة: وأركانه: الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع

وفيه دعوى بطلان حد المصنف. وقلنا: أظهر؛ لأنهم لم يعرفوه به، قصاراه أنه عرفه به واحد، وكذا إنما اعترض على القاضي بالدور الآمدي فقط. والمصنف قال: وقولهم: "وإن كان سياق قوله أولى"، وقولهم: "بذل الجهد"، وقولهم: "الدليل الموصل" /وقولهم: "العلم [عن نظر"]، يرشد إلى الثاني، والمصنف أشار إلى تقريره. وجوابه، إما تقريره بأن ثبوت حكم الفرع فرع القياس ومتأخر عنه، فيتوقف عليه، فتعريفه به دور. والجواب: أن ثبوت حكم الفرع الخارجي فرع القياس الخارجي، والمعرف إنما هو القياس الذهني، أي الماهية العقلية للقياس، وتقييده بالذهني باعتبار حصوله ووجوده في الذهن، لا باعتبار أن المحدود القياس من حيث إنه في الذهن، إذ ذاك نوع من القياس. وحكم الفرع الذهني أي تعقل حقيقته، وكذا الخارجي وهو حصول الحكم الجزئي، ليس شيء منها فرع القياس الذهني، أي يتوقف على ماهيته القياس، والذي توقف عليه القياس المعروف هو تصور ثبوت حكم لفرع الخارجي، فلا دور. قال: (وأركانه: الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع.

الأصل: الأكثر: محل الحكم المشبه به، وقيل: دليله، وقيل: حكمه. والفرع: المحل المشبه، وقيل: حكمه. والأصل: ما ينبني عليه غيره، فلا بعد في الجميع، ولذلك كان الجامع فرعا للأصل، أصلا للفرع). أقول: أركان الشيء أجزاؤه التي لا يحصل إلا بحصولها، داخلة في حقيقته محققة لهويته، ولما فرغ من تحقيق ماهية القياس، شرع في بيان أركانه وهي أربعة محققة على تفسير الفقهاء والمتكلمين. وأما على رأي الإمام فخر الدين فهي ثلاثة. وأما حكم الفرع فهو ثمرة القياس ومتأخر عنه، فلا يكون ركنا له. أما الأصل: فهو المحل المشبه به عند الأكثر، وبه قال الفقهاء، والغزالي. وقال المتكلمون: الأصل: الدليل المثبت للحكم في ذلك المحل المشبه به. وقال الإمام فخر الدين: "إن الأصل حكم المحل المشبه به".

مسألة: ومن شرط حكم الأصل أن يكون شرعيا

فإذا قلنا: "النبيذ مسكر فيحرم قياسا على الخمر، بدليل حرمة الخمر". فالأصل الخمر، أو حرمة الخمر. وأما الفرع: فقيل على الأول: إنه المحل المشبه، وعلى الثالث: إنه حكمه، ولم يقل أحد إنه دليله، وكيف يقال ودليله القياس؟ واعلم أن التفسير للفرع هنا إنما هو الفرع الواقع في كلام الأصوليين، لا الفرع الذي هو ركن القياس، إذ لا يكون حكم الفرع ركنا له. ولما كان الأصل ما ينبنى عليه الشيء، فلا بعد في الكل؛ لأن الحكم في الفرع ينبني على الحكم في الأصل، وعلى مأخذه، وعلى محله، فالكل مما ينبني عليه حكم الفرع –بوسط أو بغير وسط- فلا بعد في التسمية، والأول أولى لافتقار الحكم ودليله إلى المحل من غير عكس، والثاني في الفرع أولى لأنه ينبني على الغير ويفتقر إليه دون المحل، والمحل إنما سمي فرعا مجازا. والاصطلاح المتعارف بين الفقهاء: أن الأصل والفرع هما المحلان، وعلى هذا يفرع المصنف الأحكام. ولأجل أن الأصل ما ينبني عليه غيره، قال بعض العلماء: الجامع أصلا /للحكم في الفرع والحكم فرع له، إذ يعلم ثبوته بثبوته وهو فرع للأصل فإن حكم الأصل أصل للجامع، والجامع فرع له، إذ يستنبط منه بعد العلم بثبوته. قال: (ومن شرط حكم الأصل أن يكون شرعيا، وألا يكون منسوخا، لزوال الاعتبار الجامع).

أقول: لما فرغ من المقدمة، شرع في الأبواب. الباب الأول في شروط القياس: وهي لا تخرج عن شروط أركانه. وأما شروط حكم الأصل فذكر منها ستة: الأول: أن يكون حكم الأصل شرعيا؛ لأن المطلوب إثبات حكم شرعي في محل آخر للمساواة في علته، ولا يتصور إلا بذلك، وهو مبني على أن القياس لا يجري في اللغة ولا في العقليات من الصفات والأفعال. وتظهر فائدته فيما إذا قاس النفي، فإذا لم يكن المقتضي ثابتا في الأصل كان نفيا أصليا، والنفي الأصلي لا يقاس عليه النفي الطارئ، وهو حكم شرعي، ولا الأصلي لثبوته بدون القياس. الثاني: ألا يكون منسوخا ليمكن بناء الفرع عليه لأن الحكم إنما يتعدى من الأصل إلى الفرع بناء على اعتبار الشارع للوصف الجامع في الأصل حيث أثبت الحكم به، ولما زال الحكم مع ثبوت الوصف، على أنه لم يبق معتبرا في نظره فلا يتعدى الحكم، إذ لم يبق الاستلزام الذي كان دليلا للثبوت، كما لو قال: "لا تدخر لحوم الهدايا فوق ثلاث، قياسا على لحوم الأضاحي". الثالث: أن لا يكون مثبتا بالقياس، خلافا للحنابلة، والبصري. لنا: أن العلة الجامعة بين حكم الأصل وأصله، إن اتحدت مع الجامعة بين حكم الأصل وفرعه، كقول الشافعية في السفرجل: "مطعوم فيكون

ربويا، قياسا على التفاح"، ثم يقيس لتفاح –في تحريم الربا- على البر بواسطة الطعم، فذكر الوسط –وهو التفاح-[زائد]، لإمكان قياس أحد الطرفين على الآخر، وإن لم تتحد العلة في القياسين فسد القياس؛ لأن العلة الأولى التي في القياس [الأول] وهي الجامعة بين الوسط وفرعه، لم يثبت اعتبارها؛ لأنها ليست بموجودة فيما هو أصل للوسط، والثانية في أصل الأصل غير موجودة في الفرع الأخير، فلا مساواة بينهما في العلة المعتبرة فلا تعدية، كما لو قال: "الجذام عيب يثبت به الفسخ في البيع، فيثبت به الفسخ في النكاح، قياسا على القرن والرتق"، فيمنع الخصم كون القرن والرتق يثبت بهما فسخ النكاح، فيقول: "لأنهما مفوتان للاستمتاع كالجب"، فقوات الاستمتاع هو الذي ثبت لأجله الحكم في القرن والرتق وأنه غير موجود في الجذام، والثابت في الجذام –وهو كونه يوجب للمشتري خيار الفسخ –لم يثبت اعتباره/ في حكم الوسط، هذا إن كان الأصل فرعا يوافقه المستدل ويخالفه المعترض. أما لو كان المقيس عليه فرعا يخالفه المستدل ويوافقه المعترض، كما لو قال الحنفي –في صوم بنية النفل-: "أن صائم أتى بما أمر به فيصح، قياسا على فريضة الحج"، أي إذا أتى به بنية النفل وهو لم يحج حجة

مسألة: ومنها: ألا يكون معدولا به عن سنن القياس

الإسلام، فإن الحنفي لا يقول بصحة فريضة الحج بنية النفل بل خصمه هو القائل به، فهذا فاسد لأنه معترف ضمنا [ببطلانه] في الأصل والاعتراف ببطلان إحدى مقدمات دليله اعتراف ببطلان دليله، ولا يسمع من المدعي ما هو معترف ببطلانه، ولا يمكن من دعواه إن لم يعترف بحكم الأصل. فإن أورده الحنفي إلزاما للشافعي بناء على أصله. قيل: إنما يتوجه لو بين في الفرع وجود ما هو علة في الأصل المقيس عليه عند المعترض، [وأما إذا بين ما ليس علة عند المعترض] فلا يتوجه الإلزام والظاهر أن هذا فرع عما إذا أتى بالحج بمطلق النية. على أن الآمدي في "منتهى السول" جعل ذا شرطا آخر، فقال: "الشرط الخامس: أن يكون أصل المقيس مما يقول المستدل". قال: (ومنها: ألا يكون معدولا به عن سنن القياس، كشهادة خزيمة، وأعداد الركعات، ومقادير الحدود والكفارات.

ومنه ما لا نظير له، كان له معنى ظاهر كترخص المسافر، أو غير ظاهر كالقسامة). أقول: الرابع: أن لا يكون حكم الأصل معدولا به عن سنن القياس –أي طريقة- لتعذر التعدية، بل يجب أن يكون موافقا للأصول والقواعد الشرعية معقولا حكمته. فقد يكون مما لا يعقل معناه كشهادة خزيمة وحده، فإنه على خلاف قاعدة الشهادة التي استقرت في الشرع، ولم تعقل حكمته، فلا يلحق به صحابي آخر وإن كان على رتبته في المعنى المناسب في الدين والصدق. فإنه علم أن القاعدة لم يخرج منها إلا هذا الفرد، وعلم قصد التخصيص فلا يلحق به غيره. وكأعداد الركعات، ومقادير الحدود والكفارات، فإنها وإن لم تكن على خلاف قاعدة مستقرة في الشرع، لكن لا تعقل حكمتها. ومن المعدول به عن سنن القياس: ما لا يوجد له ما يساويه في العلة، سواء كان له معنى ظاهر كترخص المسافر، إذ علته السفر وهو معنى مناسب للرخصة لما فيه من المشقة والوجد، والوصف غير موجود في محل آخر، أو لم يكن له معنى ظاهر كخمسين يمينا في القسامة غلظ لحقن الدماء، وكونها خمسين غير ظاهر المعنى.

مسألة: ومنها: ألا يكون ذا قياس مركب

قال: (ومنها: ألا يكون ذا قياس مركب/، وهو أن يستغني بموافقة الخصم في الأصل مع منعه علة الأصل، أو منعه وجودها في الأصل. فالأول: مركب الأصل، مثل: "عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب". فيقول الحنفي: العلة جهالة المستحق من السيد او الورثة، فإن صحت بطل الإلحاق، وإن بطلت منع حكم الأصل، فم ينفك عن عدم العلة في الفرع. أو منع الأصل الثاني مركب الوصف، مثل تعليق الطلاق، فلا يصح قبل النكاح، كما لو قال: "زينب التي أتزوجها طالق"، فيقول الحنفي: العلة مفقودة في الأصل، فإن صحت بطل الإلحاق، وإلا منع حكم الأصل، فما ينفك عن عدم العلة في الأصل، أو منع الأصل. فلو سلم أنها العلة وأنها موجودة، أو أثبت أنها موجودة، انتهض الدليل عليه لاعترافه، كما لو كان مجتهدا. وكذلك لو أثبت الأصل بنص ثم أثبت العلة بطريقها على الأصح. لنا: لو لم يقبل، لم تقبل مقدمة تقبل المنع. ومنها: ألا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع). أقول: الخامس: أن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب، وهو أن يستغني المستدل عن إثبات حكم بالدليل لموافقة الخصم له فيه، مع كون الخصم مانعا بعلة المستدل، وذلك إما يمنعه لعلته، وإما يمنعه لوجودها فيه، والأول يسمى مركب الأصل، والثاني مركب الوصف.

قالوا: وسمى مركبا لاختلافهما في تركيب الحكم، فالمستدل يركب العلة على الحكم، أي يستنبطها منه، والمعترض يقول: الحكم فرع العلة ولا طريق إلى إثباته بسواها، ولذلك يمنع الحكم عند إبطالها. والأظهر: أنه سمي مركبا لإثباتهما الحكم كل بقياس، إذ ليس بمنصوص عليه ولا مجمع عليه فقد اجتمع قياساهما، وإلا لقال: ألا يكون مركبا أو ذا تركيب، ثم إن الأول اتفقا فيه على الحكم، وهو الأصل بالاصطلاح، والثالث دون الوصف الذي يعلل به المستدل فسمي مركب الأصل، والثاني اتفقا فيه على الوصف الذي يعلل به المستدل وإن اختلفا في وجوده، فسمي مركب الوصف بأدنى مناسبة، تمييزا له عن صاحبه. مثال الأول: كما لو قال المستدل في الحر يقتل عبدا: فلا يقتل به الحر كالمكاتب، فيقول الحنفي: العلة في عدم قتله بالمكاتب جهالة المستحق للقصاص من السيد بتقدير العجز عن أداء الكتابة، أو ورثة المقتول بتقدير أدائه، والجهالة غير ثابتة في العبد، فإن صحت هذه العلة بطل إلحاق العبد به لعدم مشاركته في العلة، وإن بطلت منعت حكم الأصل، وقلت: يقتل الحر بالمكاتب لعدم المانع، إذ ليس الحكم المذكور بمجمع عليه ولا منصوص عليه فالخصم لا ينفك عن عدم العلة في الفرع، كما لو كانت هي الجهالة/، أو منع الحكم في الأصل، كما لو كانت كونه عبدا، وعلى التقديرين لا يتم القياس. مثال مركب الوصف: ما لو قال في تعليق الطلاق قبل النكاح: تعليق للطلاق فلا يصح قبل النكاح، كما لو قال: "زينب التي أتزوجها طالق"،

فيقول الحنفي: العلة عندي –وهي كونه تعليقا- مفقودة في الأصل، فإن قوله: "زينب التي أتزوجها طالق" تنجيز لا تعليق، فإن صح هذا بطل إلحاق التعلق به لعدم الجامع، وإلا منع حكم الأصل، وهو عدم الوقوع في قوله: "زينب التي أتزوجها طالق"، لأني إنما منعت الوقوع لأنه تنجيز، ولو كان تعليقا لقلت به، فالخصم لا ينفك عن منع الأصل إذا لم يكن التعليق ثابتا فيه، أو منع حكم الأصل إذا كان ثابتا، وعلى التقديرين لا يتم القياس. قيل: يجب أن يقيد منع الأصل فيهما بما إذا كان مجتهدا، أما المقلد فلا إذ ليس له تخطئة إمامه لاحتمال ألا يكون ما عينه المعترض هو مأخذ إمامه، وبتقدير أن يكون هو، لا يلزم من عجزه عن تقديره عجز إمامه، بل يجب على المعترض تصويب إمامه في الأصل وإن لزمه تخطئته في الفرع؛ لأن تخطئته في الفرع أولى من تخطئته في الأصل، لأن تخطئته في الأصل تستلزم التخطئة في الفرع من غير عكس. وصرح الآمدي في المنتهى به، قال: إنما يمنع حكم الأصل إذا كان مجتهدا، ثم الخصم لا يعجز عن إظهار قيد يختص بالأصل يدعي أن ذلك هو العلة عنده بعد الموافقة على الحكم، ولا سبيل إلى دفعه بالدليل على أن علتك هي العلة عندي، بل لو قال علة غير ذلك ولم يعنيه سمع، فإذا طريق ثبوت ذلك هو تسليمه. فإن سلم المعترض المناظر في مركب الأصل ما جعل المستدل علة، وسلم أن العلة موجودة في الأصل في مركب الوصف، انتهض الدليل عليه لاعترافه بصحة الموجب وثبوته، وإلا فالمستدل إن ثبت وجودها في الأصل بدليل من

مسألة: ومن شروط علة الأصل أن تكون بمعنى الباعث

عقل أو حس أو شرع، فينتهض عليه ويلزم القول بموجبه، كما لو كان مجتهدا في طلب الحكم لنفسه وغيره مناظر وظن ذلك، فإنه لا يكابر نفسه، فكذلك المناظر إذا عرض له ما يحصل به الظن لموافقة صاحبه عليه، فيبعد ترك ما ظن لتضافرهما. وقيد بالمجتهد؛ لأن المقلد قد يعتقد أن إمامه يدفع ما تمسك به. أما لو لم يكن حكم الأصل مجمعا عليه في الواقع، ولا بين المتناظرين، فإن أثبت المستدل حكم الأصل بنص، ثم أثبت العلة بطريق من طرقها، قبل منه على الأصح، وقيل: لا يقبل لما فيه من الانتقال. لنا: لو لم يقبل، لم يقبل في المناظرة مقدمة تقبل المنع؛ لأن من منع ذلك إنما منعه خشية الانتشار والانتقال، فلا يحصل المقصود من المناظرة، وهذا لا يختص بحكم الأصل/ بل هو ثابت في كل مقدمة تقبل المنع، وربما فرق بأن هذا الحكم شرعي مثل الأول، فيستدعي ما يستدعي الأول، بخلاف المقدمات الأخر. السادس: أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع، وإلا لم يكن جعل احدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس. وقد يدفع بأن دلالة الدليل قد تكون على حكم الأصل أقوى. قال: (ومن شروط علة الأصل: أن تكون بمعنى الباعث، أي مشتملة على حكمة مقصودة للشارع من شرع الحكم، لأنها لو كانت مجرد أمارة –وهي مستنبطة من حكم الأصل- كان دورا. ومنها: أن تكون وصفا وضابطا لحكمة، لا لحكمة مجردة، لخفائها أو

لعدم انضباطها، ولو أمكن اعتبارها جاز على الأصح). أقول: أما شروط علة الأصل: فقد اتفقوا على جواز التعليل بالأوصاف الظاهرة المنضبطة، [سواء] كان الوصف معقولا كالرضى، أو محسوسا كالقتل، أو عرفيا كالحسن والقبح، وسواء كان موجودا في محل الحكم كما مر من الأمثلة، أو ملازما له غير موجود فيه، كتحريم نكاح الأمة لعلة رق الولد. واختلفوا في شروط، وذكر المصنف أربعة وعشرين: الأول: أن تكون بمعنى الباعث، اشترطه المعتزلة، وأكثر الفقهاء، واختاره الآمدي، والمصنف. وجمهور الأشاعرة لا يشترطونه، ويرونه يجر إلى التحسين العقلي، وأنه لو كانت علة أحكامه البواعث، لزم أن يكون مستكملا بالغير. وفسر الأشاعرة علة الحكم بمعرفة دون الموجب له والداعي [للشارع] إليه؛ لأن الحكم لما كان خطاب الله الذي هـ كلامه القديم، امتنع تعليله بشيء من العلل.

وفيه نظر؛ لأن المعلل تعلقه، والخلاف في المستنبطة، أما المنصوصة فاتفقوا على جواز التعليل بها وإن كانت مجرد أمارة. وصرح المصنف به بعد هذا، فقال: "والمختار جواز تعليل حكمين بعلة بمعنى الباعث، وأما الأمارة فاتفاق". ومعنى الباعث: أن تكون مشتملة على حكمة مقصودة للشارع من الحكم، من تحصيل مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها؛ لأنها لو كانت [مجرد] أمارة لم يكن لها فائدة ولا تعرف الحكم، وإنما يعرف بها الحكم إذا لم تكن منصوصة أو مجمعا عليها، وإلا عرف الحكم بنص أو الإجماع لا بها، فإذا قال: "حرمت الخمر معللة بالإسكار"، كان تصريحا بحرمة الخمر، فلا يكون [قد عرف] بالعلة. بقي أن يعرف بها وهي مستنبطة وحينئذ يلزم الدور، لأن المستنبطة لا تعرف إلا بثبوت الحكم، فلو عرف ثبوت الحكم بها لزم الدور. ودفع الأشاعرة الدور: [بأنها مستنبطة من حكم الأصل، معرفة لحكم الفرع. ورد: بأنها لا تكون معرفة لحكم الفرع دون حكم الأصل]، وإلا لم يتحقق القياس الذي هو مساواة فرع لأصل في علة حكمه. وقيل: معرفة للحكم. رده أيضا: أن حكم الأصل إنما يعرف عليه الوصف، لإفضاء الوصف إلى الحكمة المقصودة، فما لم يشتمل/ الوصف على الحكمة، لم يكن الحكم

معرفا لعليته إلا بالمقارنة الصرفة، فحصوله في الفرع بوصف المعرفية يتوقف على المقارنة المتوقفة على المعرفية ويلزم الدور. والحق: أن حصوله في الفرع بوصف المعرفية يتوقف على المقارنة في الأصل، والمقارنة [المتوقفة على المعرفية المقارنة] في الفرع. قيل في رده أيضا: الوصف إن لم يعرف حكم الأصل [لم يعرف حكم الفرع، وإلا لم يكن للأصل مدخل في الفرع؛ لأن ثبوت الوصف في الفرع لا يتوقف على حكم الأصل]، وكذا معرفته لحكم الفرع، ضرورة كونه غير معرف لحكم الأصل، فثبت أنه يكون معرفا لحكم الأصل، فيكون حكم الأصل مفرعا عليه، والوصف مستنبط من حكم الأصل فيكون فرعا لحكم الأصل، فيلزم الدور. والحق: أن معرفته لحكم الفرع يتوقف على حكم الأصل، لتوقف المعرفية المذكورة على مقارنة الوصف لحكم الأصل، المتوقفة على ثبوت حكم الأصل، فيكون لحكم الأصل مدخل. الشرط الثاني: أن يكون وصفا ظاهرا منضبطا في نفسه، حتى يكون ضابطا للحكمة –لا مجرد حكمة- وذلك لخفائها، كالرضى فيضبط بصيغ العقود، لكونها ظاهرة منضبطة، أو لعدم انضباطها، كالمشقة فإنها تختلف كثيرا بحسب الأشخاص والأحوال والأزمان، وليس لكل مرتبة ضابط، ولا يمكن تعيين مرتبة منها، إذ لا طريق إلى تمييزها بذاتها وضبطها في نفسها،

مسألة: ومنها: ألا تكون عدما في الحكم الثبوتي

فنيطت بالسفر، فلو وجدت حكمة مجردة وكانت ظاهرة منضبطة بحيث يمكن اعتبارها ومعرفتها، جاز اعتبارها وربط الأحكام بها على الأصح؛ لأنا نعلم قطعا أنها هي لمقصودة للشارع واعتباره المظنة لمانع خفائها واضطرابها، فإذا زال المانع من اعتبارها، جاز اعتبارها قطعا. وقيل: لا يجوز وإلا لوقع، ولم تعتبر المظآن بدونها، وقد اعتبر كما في الملك المترف في السفر، وصاحب الصنعة الشاقة في الحضر. الجواب: أن ذلك لانتقاء حكمة كذلك مما يقصده الشارع في أحكامه والمظنة لا يجب اطرادها وانعكاسها. قال: (ومنها: ألا تكون عدما في الحكم الثبوتي. لنا: لو كان عدما لكان مناسبا، أو مظنة مناسب. وتقرير الثانية: أن العدم المطلق باطل، والمخصص بأمر إن كان وجوده منشأ مصلحة فباطل، وإن كان منشأ مفسدة فمانع، وعدم المانع ليس علة، وإن وجوده ينافي المناسب لم يصلح عدمه مظنة لنقيضه؛ لأنه إن كان ظاهرا تعين بنفسه، وإن كان خفيا فنقيضه خفي، ولا يصلح الخفي مظنة للخفي، وإن لم يكن فوجوده كعدمه. وأيضا: لم يسمع أحد يقول: العلة كذا أو عدم كذا. واستدل: بأن لا علة عدم، فنقيضه وجود.

وفيه مصادرة، وقد تقدم مثله، فالواضح تعليل الضرب بانتقاء الامتثال. قلنا: بالكف). أقول: الشرط الثالث: أن لا تكون علة الحكم الثبوتي عدما، ولا نزاع في تعليل الثبوتي بالثبوتي، كالإسكار للتحريم، والعدمي بالعدمي، كعدم نفاذ التصرف لعدم العقل، والعدمي بالوجودي، كعدم نفاذ التصرف للمسرف. وأما عكسه: فاختلفوا فيه، والمختار منعه. لنا: لو كان العدمي علة للثبوتي لكان مناسبا أو مظنة مناسب، واللازم باطل، أما الملازمة؛ فلما تقدم من أنها لابد أن تكون بمعنى الباعث وحينئذ إما أن يكون نفس الباعث هو المناسب، أو أمر يشتمل عليه وهو المظنة. أما بطلان اللازم؛ فلأن العدم المعلل به إما عدم مطلق وواضح، إذ لا يعلل به لعدم تخصصه بمحل وحكم واستواء نسبته إلى الكل، وإما عدم مخصص بما يضاف إليه، فذلك الأمر الذي أضيف إليه العدم إما أن يكون منشأ مصلحة أو منشأ مفسدة أو لا.

فإن كان منشأ لمصلحة، فلا يكون عدمه علة، لأنه تفويت لتلك المصلحة، ولا يصلح مقصودا للشارع فلا يكون مناسبا ولا مظنة مناسب. وإن كان منشأ مفسدة فهو مانع، فعدمه عدم مانع، وعدم المانع لا يكون علة، وإن لم يكن كذلك، فإما أن يكون وجوده ينافي وجود المناسب أو لا، فإن كان بحيث يستلزم وجوده عدم المناسب، فلابد أن يستلزم عدمه وجود المناسب لتحصل الحكمة به، وحينئذ يكون هو نقيض المناسب، وهذا لا يصلح أن يعلل به؛ لأن نقيض ذلك الأمر إن كان ظاهرا أغنى عن المظنة بنفسه وكان هو العلة بالحقيقة، وإن كان خفيا فنقيضه وهو ذلك الأمر خفي فعدم ذلك الأمر خفي، لأن النقيضين سيان في الجلاء والخفاء، لأنا كما نعلم وجود المحسوسات ضرورة، نعلم عدمها كذلك، فيكون عدم نقيضه خفيا، والخفي لا يصلح مظنة للخفي، وإن لم يكن منافيا للمناسب فالمناسب يحصل عند وجوده كما يحصل عند عدمه، فيكون وجوده وعدمه سواء في تحصيل المصلحة لا خصوصية لأحدهما به، فلا يكون عدمه خاصة مظنة، فلا يصلح علة وقد فرضناه علة، هذا خلف. مثاله: ما لو قيل: "ساب النبي عليه السلام يقتل لعدم إسلامه" فيقال: إن كان في قتله مع الإسلام مصلحة فيلزم من اعتبار عدمها تفويتها، وإن كان فيه مفسدة فغايته أن الإسلام مانع فما المقتضى لقتله؟ وإلا فإما أن ينافي مناسبا للقتل هو الكفر مثلا، فإن كان الكفر ظاهرا فليقل: يقتل لأنه كافر، وإن كان خفيا فالإسلام كذلك فعدمه كذلك، فلا فرق بين معرفة الكفر ومعرفة عدم الإسلام في الخفاء وإن كان لا ينافي مناسبا، إذ ليس الكفر هو

المناسب ولذلك تقول: يقتل/ وإن تاب، فالمناسب أمر آخر يجتمع مع الإسلام، فالإسلام وعدمه سواء في تحصيل المصلحة فلا يكون عدمه مظنة. وفيه نظر من وجوه: الأول: منع الملازمة بما مر في الشرط الأول. الثاني: لا حاجة إلى هذا التقسيم، بل كان يقول: إن كان منشأ مصلحة فباطل، وإن كان منشأ مفسدة فمانع، وإلا فلا اعتبار لوجوده وعدمه في الحكم، وإلا لكان وجوده أو عدمه منشأ لأحدهما، إذ العلة الباعثة شأنها ذلك، مع أن الثالث قسم الثاني، فلا يكون قسيما له. الثالث: منع كون أحد المتقابلين في حكم الآخر في الجلاء والخفاء، إذ قد يكون أحد الضدين أجلى من الآخر. الرابع: أنا نختار الثالث، ولم لا يجوز أن يكون المناسب هو العدم بعينه كالقتل لعدم الإسلام في مسألتنا، إذ فيه المصلحة المقصودة، وهو التزام الإسلام خوفا من القتل. الخامس: نختار الرابع، قوله: "وجوده كعدمه" نمنعه، إذ عدمه يستلزم المقصود، ووجوده –وإن لم يناف- فلا يستلزم. السادس: أن الدليل المذكور يجري في تعليل العدمي بالعدمي. السابع: يقتضي أن لا يعلل بأمر وجودي أيضا لأن الوجود المطلق لا يكون علة، والوجود المضاف تردد فيما أضيف إليه إلى آخره، [وفي هذا الأخير نظر].

مسألة: وألا يكون العدم جزءا منها

ولنا أيضا: أن لم يسمع أحد يقول: العلة كذا أو عدم كذا، مع كثرة السبر والتقسيم، ولو كان صالحا لسمع ولو قليلا. وفيه نظر من وجهين: الأول: أنه قد سمع، إذ لا فرق بين قولنا: علة الإجبار عدم الإصابة أو البكارة، وعلة الحجر الجنون أو عدم العقل، فالتعليل بالعبارات الوجودية عن العلل العدمية واقع. سلمنا، ولا يلزم من عدم السماع دليل الامتناع، وإلا لامتنع التمسك بدليل أو تأويل لم يسمع، وقد مر بطلانه. [وقد استدل أيضا: بأن العلة وجودية فلا يتصف بها العدم، بيان أنها وجودية: أن نقيضها لا علة وهو عدم لصدقه على المعدوم فهي وجود، وإلا كان النقيض عدميين، وقد مر تقريره في مسألة الحسن والقبح مع جوابه. وكون إثبات الوجود بصورة السلب مصادرة لكونه يجوز أن يكون ثبوتيا أو منقسما، ثم إنه يقتضي أن لا يكون العدم علة العدم. قالوا: صح تعليل الضرب بانتقاء الامتثال، مع أن الضرب ثبوتي وانتفاء الامتثال عدمي. قلنا: بل التعليل بالكف عن الامتثال، وهو ثبوتي]. قال: (وألا يكون العدم جزءا منها. قالوا: انتقاء معارضة المعجزة جزء من المعرف لها، وكذلك الدوران وجزؤه عدم. قلنا: شرط الإجزاء). أقول: الشرط الرابع: أن لا يكون العدم جزءا من علة الحكم

مسألة: وألا تكون المتعدية المحل ولا جزءا منه

الثبوتي، واستغنى عن الاحتجاج عليه بما تقدم، لأن المركب من الوجود والعدم عدم. واحتج الآخرون: بأن معرفة أن المعجزة معجزة أمر وجودي، وهو معلل بالتحدي بالمعجزة مع انتفاء المعارضة [وانتفاء المعارضة] بمثلها فهذه علة جزؤها عدم، وما جزؤه عدم فهو عدم وقد علل به الوجودي، وكذلك الدوران علة لمعرفة كون المدار علة وهي وجودية، والدوران عدمي لأنه عبارة عن الوجود عند الوجود والعدم عند العدم فأحد جزأيه عدم فهو عدم. الجواب: أن العدم في الصورتين شرط للأمر الوجودي. واعلم أن من لم يشترط كون العلة /باعثة، يجوز أن تكون العلة عدما في الحكم الثبوتي، إذ لا امتناع في ذلك، بأن ينصب الشارع عدما مضافا على حكم، أما من شرط كونها باعثة، فلابد من أن تكون عنده وجودية إذ الباعث أو الداعي لابد أن يكون موجودا. قال: (وألا تكون المتعدية المحل ولا جزءا منه، لامتناع الإلحاق بخلاف القاصرة، والقاصرة بنص أو إجماع صحيحة باتفاق. والأكثر على صحتها بغيرها، كتعليل الربا في النقدين بجوهريتهما. خلافا لأبي حنيفة. لنا: لأن الظن حاصل بأن الحكم لأجلها، وهو المعنى بالصحة، بدليل صحة المنصوص عليها.

واستدل: موقوفة على تعديتها، لم تنعكس على الدور. والثانية: اتفاق. وأجيب: بأنه دور معية. قالوا: لو كانت صحيحة لكانت مفيدة، والحكم في الأصل بغيرها، ولا فرع. رد: بجريانه في القاصرة بنص، وبأن النص دليل الدليل، وبأن الفائدة معرفة الباعث والمناسب فيكون ادعى إلى القبول، وإذا قدر وصف آخر متعد، لم يتعد إلا بدليل على استقلاله). أقول: الشرط الخامس: أن لا تكون العلة المتعدية نفس المحل ولا جزءا منه، يعني جزءا خاصا به، إذ لا يتصور تعديتها، وأما الجزء المحمول الأعم فيجوز، ولا يسميه المتكلم جزءا بل وصفا، وهذه العبارة فيها قلق، إذ لا تكون متعدية ومحلا حتى يشترط ألا تكون محلا، وعبارة الآمدي أسد حيث قال: اتفق الكل على أن تعديه العلة شرط صحة القياس، وعلى صحة العلة القاصرة إن كانت منصوصة أو مجمعا عليها.

أما لو كانت القاصرة بمناسبة أو سبر، فالأكثر على صحتها، كتعليل الربا في الذهب والفضة بجوهرية الصمنية، أي بكوهما جوهريا الثمن، وهو وصف قاصر، هكذا قال الآمدي، وهو الذي ذكره المصنف في كتابه في الفقه، حيث قال: "العلة غلبة الثمنية، وقيل الثمنية". ومنع أبو حنيفة، والبصري التعليل بالقاصرة المستنبطة. لنا: أن الظن حاصل بأن الحكم لأجلها لأن المفروض –وهو معنى صحة العليل بها- بدليل صحة المنصوص عليها اتفاقا، وإن لم يفد النص إلا الظن إذا كان آحادا أو ظني الدلالة، فلو كان معنى التعليل القطع بأن الحكم لأجلها، ما جاز ذلك. ومن هنا تعلم أن الصواب جوهرية الثمنية [لأنه مناسب]، لا نفس الجوهرية إذا ليس بمناسب. واستدل: لو كانت صحة علية المستنبطة موقوفة على تعديتها، ولم تكن تعديتها موقوفة على صحتها لامتناع الدور، لكن تعديتها تتوقف على صحتها اتفاقا. /الجواب: منع الملازمة، إذ اللازم دور المعية ولا محدور فيه؛ لأنه دور التقدم، إذ الصحة والتعدية معلولا العلة فحصولهما معا، فالعلة إذا وجدت في الفرع حصلت الصحة والتعدية معا، إذ التقدير أن صحة العلة مشروط

بوجودها في الفرع، ومع وجودها في الفرع حصلت التعدية، ومتى لم تحصل العلة في الفرع، لم تحصل الصحة. أو نقول: التعدية شرط العلة، بمعنى وجود الوصف في غيره، ومشروط بها، بمعنى وجود الحكم [به] في غيره، فهو غلط نشأ من الاشتراك. قالوا: لو كانت القاصرة المستنبطة صحيحة، لكانت مفيدة، لأن ما لا فائدة فيه لا يحكم بصحته شرعا لكنها غير مفيدة؛ لأن فائدتها منحصرة في إثبات الحكم بها وهو منتف، أما في الأصل فلأنه بالنص أو الإجماع، والفرع الفرض ألا فرع. الجواب: النقض بالقاصرة بنص، لجريان هذا الدليل فيها، وأنه جائز اتفاقا. الثاني: لا نسلم أن الحكم في الأصل بغير العلة، بل بالعلة، والنص دل على كونه دليلا، فإذا قال: "جوهر الثمن ربوي"، فقد عرف كون النقدين ربويين بكون الربوية معللة بجوهرية الثمنية، والنص دل على ما يثبت به الحكم. الثالث: لا نسلم حصر الفائدة في معرفة الحكم، بل من الفوائد معرفة الباعث والمناسب بإنه الحكم، إذا عرف أنه كذلك كان أدعى إلى الإذعان

والقبول من التعبد المحض. ومن فوائده: أنه إذا كانت علة وقدر في محلها وصف آخر متعد، جاز أن يكون جزء علة فلا تعدية، وأن يكون كلا مستقلا فتحصل التعدية، وإذا جاز الأمران فلا تعدي إلا بدليل يدل على استقلاله. فإن قيل على الجواب الأول: خرجت المنصوصة بالإجماع. وعلى الثاني: لو عرفت حكم الأصل وهي مستنبطة منه لزم الدور. وعلى الثالث: أن الفائدة الأولى مبنية على تعليل أحكامه بالبواعث. وفيه ما سبق، والثانية مدفوعة بالترجيح بالتعدية، وقد قال بعد هذا: فإن ادعى أن المستنبطة كذلك، ترجح سبر المستدل بموافقة التعدية. وقال أيضا: والأكثر تعديا على غيره. قلت: المراد من الأول نقض الدليل فلا يفيد العلم، والثاني لا دور؛ لأن المتأخر على حكم الأصل العلم بكونها علة، وهي معرفة أن حكم الأصل لأجلها، لا أنها معرفة نفس حكم الأصل. وقد صرح بهذا بعد، ؟ فقال: "قالت الشافعية: حكم الأصل ثابت بالعلة والمعنى أنها الباعثة على حكم الأصل". والثالث: أن الفائدة الأولى بناء على مختاره من أن العلل الشرعية المستنبطة بمعنى الباعث، وأما الفائدة الثانية فلا تندفع بما قال؛ لأن التعدية

مسألة: وفي النقض

يترجح بها الدليل عند المعارضة؛ لأنها كافية في الدلالة على العلية. وقوله: "وترجيح سبر المستدل"؛ لأن السبر دليل، فلما عارضه السبر الآخر، ترجح سبر المستدل بموافقته التعدية، ولئلا يلزم التعبد بالحكم، ولهذا قال بعد هذا: "فإن ترجح بالتوسعة منع الدلالة"، أي منع إفادة التعدية الاستقلال، ويدل عليه أيضا قوله: "ولا يكفي رجحان المعنى ولا كونه متعديا، لاحتمال الجزئية". قال: (وفي النقض، وهو وجود المدعى علة في الأصل مع تخلف الحكم. ثالثها: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة. ورابعها: عكسه. وخامسها: يجوز في المستنبطة وإن لم يكن مانع ولا عدم شرط. والمختار: إن كانت مستنبطة لم يجز إلا لمانع أو عدم شرط، لأنها لا تثبت علتها إلا ببيان أحدهما؛ لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن لذلك، فلعدم المقتضي، فإن كانت منصوصة فبظاهر عام فيجب وتقدير المانع. لنا: لو بطلت لبطل المخصص. وأيضا: جمعا بين الدليلين، ولبطلت القاطعة، كعلل القصاص والجلد وغيرهما). أقول: الشرط السادس: أن تكون مطردة، أي كلما وجدت وجد الحكم، وعدمه نسمى نقضا، ويسميه القدماء تخصيص العلة، وهو أن

يوجد الوصف الذي يدعي أنه علة في محل، مع عدم الحكم فيه. وقد اختلف في جواز النقض، أي كونه قادح في العلة حتى يبقى معه ظن العلية على ستة مذاهب: الأول: يجوز مطلقا. الثاني: لا يجوز مطلقا. الثالث: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة. الرابع: يجوز في المستنبطة إذا كان لمانع أو عدم شرط، ولا يجوز في المنصوصة مطلقا. الخامس: يجوز في المستنبطة وإن لم يكن مانع ولا عدم شرط، ولا يجوز في المنصوصة مطلقا، هذا في الحقيقة عكس الثالث. ومختار المصنف: التفصيل فيهما، وهو أنها إن كانت مستنبطة لم يجز إلا لمانع [أو عدم شرط؛ لأن علية المستنبطة المتعدية لا تثبت عند التخلف إلا

ببيان أحدهما؛ لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن] لمانع ولا عدم شرط فهو لعدم المقتضى قطعا، فلو كان الوصف مقتضيا لثبت الحكم في صورة النقض لكن لم يثبت فليس مقتضيا، والمراد من البيان في قوله: (إلا ببيان أحدهما) مدلوله اللغوي، وهو الظهور. واعلم أن دعواه مركبة من الصحة عند وجود المانع وفقدان الشرط، ومن عدم الصحة عند عدم المانع ووجود الشرط. واستدل على الثاني مطلقا فقط وترك الأول لظهوره؛ لان الاستنباط دل على العلية بالمناسبة أو بالسبر مع الاعتبار، وأمكن صرف نفي الحكم إلى المانع لئلا يلغى، فيجب الحمل عليه جمعا بين الدليل الدال على العلية والدال على مانعية المانع. أما إن كانت منصوصة، فإن كان النص قطعيا امتنع التخلف، وحينئذ يجب أن تكون بظاهر عام؛ لأن الخاص بمحل الحكم لا يتناول صورة النقض، وإذا كان كذلك فيجب تخصيصه بغير صورة النقض لأن ذلك النص عام يدل على العلية في محل النقض وغيره، وعدم الحكم الخاص يدل على عدم العلية في محل النقض، وإذا تعارض عام وخاص فقد علمت أن الواجب تخصيص العام جمعا بينهما، ويجب تقدير مانع يمنع من العلية في صورة النقض وإن كنا لا نعلمه بعينه، لئلا يلزم الحكم بدون العلة، فإن فيه إبطال العلة لما ذكرنا أن عدم الحكم بدونهما لعدم المقتضي فيبطل الانتفاء. وحاصل هذا المذهب: أنه لابد من مانع أو عدم شرط، لكن في المستنبطة يجب العلم بعينه، وإلا لم نظن العلية، وفي المنصوصة لا يجب،

مسألة: النقض يلزم منه مانع وانتفاء شرطه

ويكفي في ظن العلية تقديره، وفي الصورتين لا تبطل العلية بالتخلف. لنا: لو بطلت العلية بالتخلف لبطل المخصص، بيان اللزوم: أنه ليس إلا تخصيص عموم دليل كونها علة، وخصوصية هذا المدلول ملغاة قطعا فانتفى الفرق. ولنا أيضا: أنه جمع بين الدليلين، دليل الاعتبار إذ يعمل به في غير صورة النقض، ودليل الإهدار إذ يعمل به في صورة النقض. وأيضا: لو بطلت لبطلت العلل المتفق عليها، كعلة القصاص –وهو القتل العمد العدوان- بالتخلف في الوالد، وكذا شرب الخمر علة للجلد، مع التخلف في الغصة، وإنما حملنا القاطعة على المتفق عليها لاستحالة التخلف عن القطعية؛ لأن التخلف إن لم يكن لدليل فظاهر، وإن كان لدليل ظني فلا يعارض القاطع ولا يكون بقاطع، وإلا لتعارض قطعيان. قيل: لا يلزم من بطلان الضعيف بالنقض بطلان القوي. ورد: بأن الأقوى أشد مناسبة لعدم التخلف. قال: (أبو الحسين: النقض يلزم منه مانع أو انتفاء شرطه، فتبين أن نقيضه من الأولى. قلنا: ليس ذلك من الباعث، ويرجع النزاع لفظيا. قالوا: لو صحت للزم الحكم. وأجيب: بأن صحتها كونها باعثة، لا لزوم الحكم فإنه مشروط. قالوا: تعارض دليل الاعتبار ودليل الإهدار. قلنا: الانتفاء للمعارض لا ينافي الشهادة.

قالوا: يفسد كالعقلية. أجيب: بأن العقلية بالذات، وهذه بالوضع). أقول: احتج القائلون بأن النقض يفسد مطلقا: بما قال أبو الحسين منهم: النقض إنما يصح مع وجود مانع أو انتفاء شرط، وإلا فهو كاشف عن عدم المقتضي، فقد بين النقض، أن عدم المانع ووجود الشرط جزء من العلة؛ لأن المستلزم هو العلة مع ذلك، فلا تكون الأولى تمام العلة، فيقدم النقض في علتها. الجواب: أن المراد من العلة وليس نقيض كل /من وجود المانع وانتفاء الشرط من العلة الباعثة وإن كان جزءا من العلة المستلزمة، وعلى هذا يرجع النزاع لفظيا، فإن فسرت بالباعث على الحكم جاز النقيض، وإن فسرت بالمستلزم لم يجز النقض. وهذا الجواب إنما يتم لو انحصرت العلة في الباعثة، وليس كذلك؛ لأن المنصوصة –وإن كانت مجرد أمارة- فيصح التعليل بها اتفاقا، ومنه يعلم ضعف الشبهة الثانية في قوله: (أجيب: بأن صحتها كونها باعثة). قالوا: لو صحت مع النقض لزم الحكم في صورة النقض؛ لأن من ضرورة صحة العلية لزوم المعلول لعلته. الجواب: منع كونه من لوازم الباعث، ووجود الحكم مشروط بعدم المانع ووجود الشرط.

مسألة: المجوز في المنصوصة

قالوا: تعارض دليل العلية وهو وجود الحكم معه، ودليل الإهدار وهو التخلف عنه، فيتساقطان فلا يعمل بدليل العلية. الجواب: لا نسلم أن التخلف دليل الإهدار، فإن انتفاء الحكم في صورة النقض لمعارض لا يبطل شهادة النص أو الاستنباط. قالوا: التخلف يفسد العلة كما يفسد العلية العقلية. الجواب: بالفرق، بأن العلة العقلية مقتضية لمعلولها بالذات، على أنه جائز فيها عند فوات القائل، أما العلل الشرعية فاقتضاؤها لمعلولاتها بواسطة وضع الشارع، سواء كانت دواعي أم مقدمات. قال: (المجوز في المنصوصة: لو صحت المستنبطة مع النقض لكان لتحقيق المانع، ولا يتحقق غلا بعد صحتها، فكان دورا. وأجيب: بأنه دور معية. والصواب: أن استمرار الظن بصحتها عند التخلف يتوقف على المانع وتحقق المانع ويتوقف على ظهور الصحة فلا دور. كإعطاء الفقير يظن أنه لفقره، فإن لم يعط آخر توقف الظن، فإن تبين مانع عاد، وإلا زال. قالوا: دليلها اقتران، فقد تساقطا، وقد تقدم). أقول: القائلون بجوازه في المنصوصة دون المستنبطة، قالوا: لو

صحت المستنبطة مع النقض لكان لتحقق المانع. أما الملازمة؛ فلأن التخلف مع عدم المانع يكون لعدم المقتضي. وأما بطلان اللازم؛ فلأن المانع إنما يتحقق بعد صحة العلية، إذ لو لم تصح كان عدم الحكم لعدمها، ولا أثر لما يتصور مانعا فيتوقف الصحة على المانع، والمانع على الصحة، ويلزم الدور. والجواب: أن المستحيل دور التقدم لا دور المعية، وهذا دور معية، إذ غايته امتناع انفكاك كل عن الآخر، وأما أن الصحة متقدمة على المانع أو العكس فلا. وليس بصواب؛ إذ لا تعلم المانعية إلا بعد العلم بالاقتضاء، ولا يعلم الاقتضاء مع التخلف إلا بعد العلم بالمانعية. والصواب: أن ظن العلية مستفاد من المناسبة أو السبر، فيظن ذلك حتى بتحقق التخلف، وعند التخلف إن وجد أمر ينتسب إله ذلك –لصلاحيته لذلك-/ حكمنا على ذلك الأمر بأنه مانع، واستمر ظن الصحة، وإلا زال الظن. فإذا استمر الظن بصحتها [عند] التخلف يتوقف على وجود المانع، وكونه مانعا يتوقف على ظهور الصحة لا على استمرار الظن بالصحة. مثاله: لو أعطى فقيرا ظننا أن الإعطاء للفقير، فإذا لم يعط فقيرا آخر،

مسألة: المجوز في المستنبطة

توقف الظن بكون الفقر هو العلة، فإن تبين مانع –كفسقه مثلا- عاد الظن أنه كان لفقره، وهنا لم يعط معه لأجل الفسق، وإن لم يتبين، زل ظن كونه للفقر، وهذا يشكل إذا كان العلم بالتخلف مقارنا لا متأخرا. والصواب: أن المانعية [كونه] بحيث إذا جامع علة باعثة منعها مقتضاها، والفسق للإعطاء كذلك، وجد الباعث أم لا، ووجود المانع المتوقف عليه العلة هو هذا القدر، لا كونها مانعا بالفعل الذي هو متوقف على العلية، فلا دور. قالوا: دليل المستنبطة اقتران الحكم بها، وقد شهد لها بالاعتبار في صورة، وعليها بالإهدار في محل النقض، فيتساقطا. الجواب: أن الانتفاء للمعارض لا ينافي الشهادة. قال: (المجوز في المستنبطة: المنصوصة دليلها نص عام فلا يقبل. أجيب: إن كان قطعيا فمسلم. وإن كان ظاهرا وجب قبوله. الخامس: المستنبطة بدليل ظاهر، وتخلف الحكم مشكك، فلا يعارض الظاهر. وأجيب: تخلف الحكم ظاهر أنه ليس بعلة، والمناسبة والاستنباط مشكك. والتحقيق: أن الشك في أحد المتقابلين يوجب الشك في الآخر. قالوا: لو توقف كونها أمارة على ثبوت الحكم في محل آخر،

لا نعكس فكان دورا أن تحكما. وأجيب: بأنه دور معية. والحق: أن استمرار الظن بكونها أمارة يتوقف على المانع أو ثبوت الحكم، وهما على ظهور كونها أمارة). أقول: القائلون بالجواز في المستنبطة إذا كان لمانع أو عدم شرط دون المنصوصة [قالوا]: المنصوصة دليلها نص عام وإلا لما تصور تخلف الحكم عنها. وحينئذ يتناول محل النقض صريحا فثبت فيه العلية صريحا، فلا يقبل النقض إذ يلزم إبطال النص، بخلاف المستنبطة فإن دليلها الاقتران مع عدم المانع ولا تخلف عنه. الجواب: أن النص العام إن كان قطعيا فمسلم أنه لا يقبل التخصيص، وإن كان ظاهرا وجب قبوله وتقدير المانع. الخامس: القائل بالجواز في المستنبطة وإن لم يكن مانع ولا فوت شرط، قالوا: المستنبطة علة بدليل ظاهر يوجب ظن العلية وهو المناسبة، والتخلف مشكك فلا يوجب ظن عدم العلية، إنما يوجب الشك فيه؛ لأن احتمال تخلف الحكم لعدم كون الوصف علة مساو لاحتمال تخلفه لمعارض، والظن لا يرفع بالشك، فالتخلف لا يبطل/ العلية.

الجواب: المعارضة، وهو أن التخلف دليل ظاهر على عدم العلية، ودليل المستنبطة مشكك، إذ التخلف يحتمل أن يكون للمعارض أو لعدم المقتضي احتمالا مساويا. ولما كان هذا الجواب جدليا، قال: (والتحقيق: أن الشك في أحد المتقابلين يوجب الشك في الآخر)، فإذا كان التخلف مشككا في عدم العلية كان مشككا في العلية، إذ حقيقة الشك احتمال المتقابلين على السواء، فإذا قوله: "العلة مظنونة بدليلها وعدم العلة مشكوك فيه بدليله" كلام متناقض. واعلم أن عند التعارض يحصل الشك في الطرفين، وعند الانفراد يوجب كل الظن، والشك إنما نشأ من التعارض، لا أن مقتضى أحدهما الظن والآخر الشك إذا انفردا حتى يقدم عند الاجتماع ما مقتضاه الظن فيعمل به؛ لأن الظن والشك متضادان، فلا يجتمعان في محل واحد. قالوا: لو توقف كونها أمارة للحكم في صورة الاقتران على ثبوت الحكم في صورة التخلف لانعكس، فيتوقف ثبوت الحكم في صورة التخلف على كون المستنبطة أمارة للحكم في صورة الاقتران ولزم الدور، وإن لم ينعكس لزم التحكم. وأجيب: بأنه دور معية لا دور توقف كما سبق، وليس بحق. والجواب الحق: أن المناسبة دلت على علية الوصف ابتداء، فإذا أمعن

مسألة: وفي الكسر، وهو وجود الحكمة المقصودة

النظر فيما هو شرط العلية من أحد الأمرين، إما ثبوت الحكم معه في جميع الصور، أو وجود المانع من ثبوته، إذ لو [انتفيا فلا علة]، فإن علم تحققه استمر الظن وإلا زال، فاستمر كونها أمارة يتوقف على أحدهما، وهما على ظن كونها أمارة، وهو ابتداء ظنه، فلا دور. قال: (وفي الكسر وهو: وجود الحكمة المقصورة مع تخلف الحكم. المختار: لا يبطل، كقول الحنفية في العاصي بسفره: مسافر فيترخص كغير العاصي، ثم بين المناسبة بالمشقة. فيعترض: بصنعة شاقة في الحضر. لنا: أن العلة السفر، لعسر انضباط المشقة، ولم يرد النقض عليه. قالوا: الحكمة هي المعتبرة قطعا، فالنقض وارد. قلنا: قدر الحكمة المساوية في محل النقض مظنون، ولعله لمعارض والعلة موجودة في الأصل قطعا، فلا يعارض الظن القطع حتى لو قدرنا وجود قدر الحكمة أو أكثر قطعا، وإن بعد أبطل، إلا أن يثبت حكم آخر أليق بها، كما لو علل القطع بحكمة الزجر، فيعترض بالقتل العمد العدوان، فإن الحكمة أزيد لو قطع. فيقول: ثبت حكم أليق بها تحصل به وزيادة، وهو القتل). أقول: الشرط السابع عند بعضهم أن تكون الحكمة مطردة أي كلما وجدت الحكمة وجد الحكم، فإذا وجدت في محل بدون الحكم سمي

كسرا. والمختار: أنه لا يبطل العلية مثاله: ما لو قال الحنفي في المسافر العاصي بسفره: / "مسافر فيترخص بسفره كغير العاصي" ثم بين مناسبة السفر للترخص بما فيه المشقة المقتضية للترخص، فيعترض: بصنعة شاقة في الحضر. لنا: أن العلة السفر ولم يرد النقض عليه، فوجب العمل بمقتضى العلة. بيان أن العلة السفر: أنه وإن كان المقصود المشقة، لكن يعسر ضبطها وليس كل قدر منها يوجب الترخص، وإلا لسقطت العبادات، وتعيين القدر الموجب لذلك متعذر، فضبط بوصف ظاهر منضبط هو السفر، فجعل أمارة لها، ولا معنى للعلة إلا ذلك. قالوا: الحكمة هي المعتبرة بالذات، واعتبار الوصف إنما هو بالتبعية فالنقض وارد على العلة؛ لأنه إذا وجدت الحكمة المعينة ولم يوجد الحكم، على أن تلك الحكمة غير معتبرة، فكذا الوصف المعتبر بتعينها، فإن المقصود إذا لم يعتبر فالوسيلة أجدر. الجواب: أن قدر الحكمة –كالمشقة في مثالنا- يختلف، ولابد في ورود النقض من وجود حكمة في محل النقض مساوية لحكمة الأصل فإن عدم اعتبار الأضعف لا يوجب عدم اعتبار الأقوى وذلك غير متيقن، ولعله أقل حكة، ولعله معارض، ومع المعارض ينقض قدر الحكمة أو يبطل فلذلك لم يعتبره

مسألة: وفي النقض المكسور

الشارع، والعلة موجودة في الأصل قطعا، ولا يصلح التخلف الظني معارضا للقطعي، نعم لو علم وجود قدر الحكمة أو أكثر، وإن بعد تحققه –لعسر الاطلاع على قدر الحكمة- أبطل العلية لأن القاطع إذا عارض قاطعا تساقطا. ومن هنا تعلم أن قوله: (وهو وجود الحكمة) أي جنسها لا قدرها، أو وجود قدرها ظنا، وقوله: (وإن بعد) موافقا لقوله: (ولو أمكن اعتبارها جاز). وقوله: (أبطل) معناه: إذا لم يكن مانع أو عدم شرط [يدل عليه. قوله: (ولعله لمعارض)، وإلا فهو نقض، والنقض عنده إنما يبطل إذا لم يكن المانع ولا عدم شرط]، لكن إنما يبطل إذا لم يثبت حكم آخر في محل النقض أليق بالحكمة من الحكم المتخلف، كما لو علل قطع اليد قصاصا بحكمة الزجر، فيعترض الخصم بالقتل العمد العد=وان، فإن الحكمة فيه أزيد لو قطع، ومع ذلك لا يقطع، فيقول المعلل: ثبت حكم أليق بحكمة الزجر تحصل حكمة الزجر بذلك وزيادة، فإن القتل يحصل به إبطال اليد وغيرها. قال: (وفي النقض المكسور: وهو نقض بعض الأوصاف. المختار: لا يبطل، كقول الشافعي في بيع الغائب: بيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصح، مثل: بعتك عبدا. ويعترض: بما لو تزوج امرأة لم يرها.

لنا: أن العلة المجموع فلا نقض، فإن بين عدم تأثير كونه مبيعا، كان كالعدم/ فيصبح النقض، ولا يفيد مجرد ذكره دفع النقض). أقول: الشرط الثامن عند بعضهم: أن لا يتخلف الحكم عن بعض أوصاف العلة، فإن تخلف عنه سمي نقضا مكسورا، ولا يتحقق إلا في العلة المركبة، ووجه تركبه من النقض والكسر، كأنه قال: الحكمة المعتبرة تحصل باعتبار هذا البعض، وقد وجد في المحل ولم يوجد الحكم. والمختار: لا يبطل العلية، مثاله: ما لو قال الشافعي في منع بيع الغائب: "بيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصح، كما لو قال: بعتك عبدا من غير تعيين"، فيقول المعترض: "منقوض بما لو تزوج امرأة لم يرها"، ‘ذ الجهل بالصفة عند العاقد حال العقد موجود، مع أن العقد صحيح، فقد حذف قيد كونه مبيعا، ونقض ما بقي. لنا: أن العلة المجموع فلا نقض عليه إذ لا يلزم من عدم علية البعض عدم عليه الجميع، هذا إذا اقتصر على نقض البيع، أما لو أضاف إليه إلغاء المتروك فإن بين مثلا عدم تأثير كونه مبيعا وأن الباقي مستقل بالمناسبة، كان وصف كونه مبيعا كالعدم فيرد النقض، فإن قال: له فائدة وهي دفع النقض. قيل: مجرد ذكره لا يصيره جزءا من العلة، والاحتراز بذكره يتوقف على أن له مدخلا في التأثير، وقد مر بطلانه، وأيضا فائدة الاحتراز عن النقض وإمكانه متوقفة على كونه جزء العلة، حتى لو لم يكن جزءا كانت العلة ما وراءه والنقض وارد عليها، وكونه جزء العلة يتوقف على إمكان

مسألة: وأما العكس وهو انتفاء الحكم لانتفاء العلة

الاحتراز به عن النقض فيدور. قال: (وأما العكس -وهو انقاء الحكم لانتقاء العلة-: فاشتراطه مبني على منع تعليل الحكم بعلتين لانتفاء الحكم عند انتفاء دليله، ونعني انتفاء العلم أو الظن، إذ لا يلزم من انتفاء الدليل على الصانع انتفاؤه). أقول: الشرط التاسع: أن تكون العلة منعكسة، أي كلما عدم الوصف عدم الحكم. والحق: أن اشتراطه مبني على تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين؛ لأنه إذا جاز ذلك صح أن ينتفي الوصف، ولا ينتفي الحكم لوجود الوصف الآخر، وإذا لم يجز فثبوت الحكم دون الوصف يدل على أنه ليس علة له، وإلا لانتفى بانتفائه، لوجوب انتقاء الحكم عند انتقاء دليله، ونعني انتفاء العلم أو الظن لانتفاء الحكم، إذ لا يلزم من انتفاء دليل الشيء انتفاؤه، وإلا لزم من انتفاء الدليل على الصانع انتفاؤه، وأنه باطل، نعم يلزم انتفاء العلم أو الظن بالصانع. وفيه نظر؛ إذ المراد من الحكم: الحكم الثابت علينا لا الصفة القديمة، فمناط الحكم عند المصوبة: العلم أو الظن، فإذا انتفيا انتفى /الحكم، وعند المخطئة: ينتفي الحكم أيضا، لئلا يلزم التكليف بالمحال.

مسألة: وفي تعليل الحكم الواحد بعلتين أو علل

قال: (وفي تعليل الحكم الواحد بعلتين أو علل: كل مستقل. ثالثها للقاضي: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة. ورابعها: عكسه. ومختار الإمام: يجوز ولكن لم يقع. لنا: لو لم يجز لم يقع، وقد وقع، فإن اللمس والبول والمذي والغائط والريح، يثبت بكل واحد منها الحدث، والقصاص والردة يثبت بكل منها القتل. قولهم: الأحكام متعددة، ولذلك ينتفي في قتل القصاص، ويبقى في الآخر. قلنا: إضافة الشيء إلى أحد دليله لا يوجب تعددا، وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط. وأيضا: لو امتنع لامتنع تعدد الأدلة لأنها أدلة). أقول: لما كان اشتراط الانعكاس فرع تعدد العلة، شرع في بيانه. واعلم أنهم اختلفوا في تعليل الحكم الواحد بعلتين أو علل، كل واحدة

مستقلة، فقيل: جائز، كانت العلل منصوصة أو مستنبطة. وقيل: بالمنع مطلقا. وثالثها للقاضي: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة، ومال إليه الغزالي. ورابعها: يجوز في المستنبطة دون المنصوصة. ثم القالون بجوازه عقلا، اختلفوا في جوازه شرعا، فأكثرهم على جوازه، وقال إمام الحرمين: إنه ممتنع شرعا. [والذي ذكره المصنف أعم]. واعلم أن محل الاخلاف عند الآمدي: الواحد بالشخص، قال: وأما الواحد بالنوع فلا خلاف في تعليله بعلتين، وعند الإمام فخر الدين

والبيضاوي: الخلاف في الواحد بالنوع، ومختارهما: الجواز في المنصوصة دون المستنبطة. وكلام المصنف محمول على الواحد بالنوع لوجهين: الأول: أن أدلته إنما تدل على تعليل الواحد بالنوع بعلتين، لا الواحد بالشخص. الثاني: أنه يذكر بعد هذا تعليل الواحد بالشخص بعلتين، وهو قوله: "القائلون بالوقوع إذا اجتمعت، فالمختار كل واحدة علة". احتج المصنف على جوازه مطلقا بوجهين: الأول: لو لم يجز لم يقع، أما الملازمة؛ فلأن ما لا يجوز لا يقع، وأما بطلان التالي؛ فلأنه واقع، إذ الحدث حكم واحد معلل باللمس والبول والمذي والغائط، وهي علل مستقلة، لثبوت الحدث بكل واحدة منها، وهو معنى الاستقلال، وكذا القتل حكم واحد وهو معلل بالقصاص والردة. قالوا: الأحكام فيما ذكرتم متعددة، والعلل متعددة، أما الحدث فلأنه لو كان حدث البول واللمس واحد، لارتفع أحدهما بارتفاع الآخر، وليس كذلك، إذ لو نوى أحدهما لم يرتفع الآخر. وكذا القتل بالقصاص غير القتل بالردة، [ولذلك ينتفي أحدهما ويبقى الآخر، فينتفي قتال القصاص بالعفو ويبقى قتل الردة]، وينتفي قتل الردة بالإسلام ويبقى الآخر، ويحقق تعددهما/ واختلافهما: أن الأول حق الآدمي، والثاني حق الله.

قلنا: لو تعددت الأحكام بإضافتها إلى العلل، لتعددت بإضافتها إلى الأدلة لأنها أدلة، واللازم باطل؛ لأن إضافة الحكم إلى أحد الدليلين مرة وإلى الآخر أخرى لا يوجب تعددا في الحكم، وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط، فكان يتصور أن ينتفي أحدهما ويبقى الآخر، ولو نوى بعض أحداثه غير متعرض لغيره لارتفع الكل، ولا تعدد في القتل، بل في استناده، والزائل بالعفو استناده إلى القتل العمد العدوان، والزائل بالإسلام استناده إلى الردة، لا نفس القتل فإنه باق، وليس إلا إبطال حياة واحد، وهو واحد بالنوع وإن اختلفت الإضافة، وذلك راجع إلى التعدد بالشخص. قال الغزالي: الحائض المحرمة المعتدة يحرم وطؤها، ولا يمكن أن يحال تحريم الوطء على أحد هذه الأسباب دون باقيها، لمساواة كل منها الآخر في الاعتبار في التحريم، ولا يقال بتعدد التحريمات، فإنها لا تختلف بالنوع والحقيقة، وما اتحدت حقيقته لا تعداد فيه، فتبين من قول الغزالي أن المنفي التعدد بالنوع وكذا قول المصنف، وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط –يعني بالنوع- وإلا فهما مختلفان بالشخص. وكذا قوله: (إضافة الشيء إلى أحد دليله لا يوجب تعددا)، يعني نوعها، وإلا فمدلول الأدلة كلي. فتبين أن الدليل إنما دل على تعليل الواحد بالنوع بعلتين، على أنه لا ينهض على المانع في المستنبطة؛ لأن العلل المذكورة منصوصة. الثاني: ولو امتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين، لامتنع تعدد الأدلة

مسألة: المانع: لو جاز لكانت كل واحدة مستقلة وغير مستقلة

الشرعية؛ لأن العلل الشرعية أدلة لا مؤثرات، وهذا أيضا إنما ينهض على تعليل الحكم الواحد بالنوع إذ مدلول الأدلة كلي، على أنه قد يقال: الباعثة أخص من مطلق الدليل، ولا يلزم من امتناعه امتناع الأعم. قال: (المانع: لو جاز، لكانت كل واحدة مستقلة غير مستقلة؛ لأن معنى استقلالها: ثبوت الحكم بها. أجيب: بأن معنى استقلالها: أنها إذا انفردت استقلت، فلا تناقض في التعدد. قالوا: لو جاز لاجتمع المثلان، فيستلزم النقيضين؛ لأن المحل يكون مستغنيا غير مستغن، وفي الترتيب تحصيل الحاصل. قلنا: في العلل العقلية، فأما مدلول الدليلين فلا. قالوا: لو جاز لما تعلق الأئمة في علة الربا بالترجيح؛ لأن من ضرورته صحة الاستقلال. وأجيب: بأنهم تعرضوا للإبطال لا للترجيح. ولو سلم، فالإجماع على اتحاد العلة هنا، وإلا لزم جعلها أجزاء). أقول: احتج المانع مطلقا بوجوه ثلاثة: الأول: لو جاز تعليل الحكم الواحد بعلتين/ أو علل كل مستقل، لكانت كل واحدة من تلك العلل مستقلة بالتعليل غير مستقلة به، والتالي باطل للتناقض، وأما الملازمة؛ فلأن معنى استقلالها: ثبوت الحكم بها دون

غيرها، كما قال في المنتهى، وكذا في الأخرى، فيستلزم عليه كل واحدة عدم علية الأخرى ويتناقض. أجيب: لا نسلم أن معنى استقلالها ثبوت الحكم بها دون غيرها مطلقا، بل ذلك معنى استقلالها إذا انفردت لا مطلقا، على معنى: أنها انفردت ثبت الحكم بها دون غيرها، ولا تناقض في تعدد العلل بهذا المعنى، وإنما يلزم التناقض لو كان معنى استقلالها ثبوت الحكم بها دون غيرها عند التعدد. أيضا: وبما ذكرنا يندفع ما قيل: إنه بعد هذا نختار أن كل واحدة مستقلة عند الاجتماع، وهذا الجواب يشعر بخلافه. الثاني: لو جاز تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين مستقلتين أو علل، لزم اجتماع المثلثين، أما الملازمة؛ فلجواز اجتماعها في محل واحد، وكل منها توجب مثل ما توجب الأخرى فموجباهما مثلان، وقد اجتمعا في المحل. وأما بطلان اللازم؛ فلأن اجتماع المثلين في محل يوجب اجتماع النقيضين؛ لأن المحل يكون مستغنيا في ثبوت الحكم له بكل واحدة عن كل واحدة، فيكون مستغنيا غير مستغن عنها، وقرر امتناع اجتماع المثلين في الحكمة بأنهما لو اجتمعا في محل لاتحدا بحسب العوارض، كما اتحدا بحسب الماهية؛ لأن نسبة جميع العوارض إليهما على السوية ضرورة أن محلهما واحد فكل ما يعرض عارضا لأحدهما يكون عارضا للآخر، إذ عروضه لأحدهما دون الآخر ليس أولى من العكس، فيكون أحدهما غير الآخر، فلا يكون المثلان مثلين، ويستلزم اجتماعهما في محل واحد مترتبة، وتحصيل الحاصل أيضا مع ذلك. والحق: أنه لا يحتاج في لزوم الاستغناء وعدمه إلى توسط

اجتماع المثيلن. الجواب: إنما يلزم ما ذكرتم في العلل العقلية الموجبة لمعلولاتها، أما في مدلول دليلين كالحكم الشرعي –الذي هو مدلوله العلتين- فلا نسلم ذلك، وإلا لامتنع تعدد الأدلة بعين ما ذكرتم. لا يقال: المعرف يوجب التعريف، فيعود المحذور. لأنا نقول: التعريف معلول نوعي، وهو ما يحصل بعض جزئئياته بعلة، وبعضها بأخرى. قلت: وهذا الدليل يصعب الانفصال عنه على مختار المصنف؛ لأن الخصم إنما التزم المحال عند اجتماعهما، فيكون المعلول واحدا بالشخص، ومدلول الدليلين كلي، مع أن العلة عنده الباعثة، وهي العلية الفاعلية فيحصل شرع الحكم بها، فما يحصل بالأخرى إما مثله أو عينه. نعم لو قلنا: العلة عند الاجتماع المجموع، اندفع السؤال ولم يلزم اجتماع المثلين، كما في العلل العقلية لو اجتمع النار والشعاع، وفي الترتيب. أيضا: العلة هي الأولى، والثانية امتنع تأثيرها لعدم المحل. الثالث: لو جاز تعليل الحكم بالنوع بعلتين، لما تعلق الأئمة في علل الربا بترجيح بعض علله –من القوت أو الطعم أو الكيل- على بعض. أما الملازمة؛ فلأن من ضرورة تعليل الحكم الواحد بعلتين، صحة استقلال كل واحدة بالعلية المنافي للترجيح، المستلزم عدم اعتبار المرجح [المستلزم عدم استقلاله، وقررت بوجه آخر، أي من ضرورة الترجيح صحة استقلال كل واحدة بالعلية] إذ الترجيح بعد التعارض، ولا تعارض إلا

مسألة: القاضي: لا بعد في المنصوصة

بين أمرين كل منهما في قوة الآخر أو قريب منه، فكان يجب –لو جاز التعدد- أن يقولوا به، ولا يتعلقوا بالترجيح لتعيين واحد ونفي ما سواه، والتقرير الثاني ظاهر المنتهى، وهو الذي يساعده []. الجواب الثاني: لا نسلم أنهم تعلقوا بالترجيح، بل تعرضوا لتعيين ما يصلح علة مستقلة ونفي ذلك عن غيره بالإبطال. سلمنا أنهم تعرضوا للترجيح، ولا نسلم أنهم إنما تعرضوا له لامتناع التعليل بعلتين، بل لانتفاء الإجماع على اتحاد العلة في الربا في الطعام، ولا يمكن اتحاد العلة يكون المجموع على، وإلا لزم جعل العلل المذكورة أجزاء وهو خلاف الإجماع، وهو رجوع إلى منع اللازمة. قال: (القاضي: لا بعد في المنصوصة، وأما المستنبطة فتستلزم الجزئية لرفع التحكم، فإن عنيت بالنص، رجعت منصوصة. وأجيب: بأنه ثبت الحكم في محال أفرادها، فتستنبط. العاكس: المنصوصة قطعية والمستنبطة وهمية فقد تساوى الإمكان، وجوابه واضح. الإمام وقال إنه النهاية القصوى وفلق الصبح: لو لم يكن ممتنعا شرعا لوقع عادة ولو نادرا، لأن إمكانه واضح، ولو وقع لعلم، ثم ادعى تعدد الأحكام فيما تقدم).

أقول: احتج القاضي –وهو المجوز في المنصوصة دون المستنبطة-: بأنه لا بعد في أن ينص الشارع على أن كل واحد منها علة مستقلة لأنها أمارات ولا يمتنع نصب أمارتين على حكم واحد، بل قد وقع كما سبق. وأما المستنبطة فلا/؛ لأن المستنبط من الحكم أوصافا يصح أن يكون كل منها علة للحكم، فإن عين بالنص علية كل منها رجعت العلة منصوصة والتقدير بخلافه، ولا يثبت الحكم بكل واحدة وإلا لكان مستغنيا بكل واحدة عن كل واحدة، ولا بواحدة معينة للزوم التحكم، فتعين أن يكون المجموع علة. الجواب: إنما يلزم أن تكون كل واحدة جزء علة، لو لم يثبت الحكم بكل واحدة على انفرادها، أما إذا ثبت فلا؛ لأنه مستنبط أن كل واحدة علة، وإلا لما ثبت الحكم بها عند الانفراد، فيثبت ذلك عند الاجتماع، ولا تناقض لأنها علامات. قلت: وهذا الدليل في سند المستنبطة صحيح، ولكن لا يلزم من الامتناع تعليل الحكم الواحد بالشخص بعلتين. والحق: امتناعه وإن كان المصنف يختار خلافه، على أنه اضطرب قوله لأنه قال بعد هذا: (وألا تكون المستنبطة بمعارض في الأصل)، إلا أن يحمل قوله: "القائلون بالوقوع إذا اجتمعت" على المنصوصة. احتج المانع في المنصوصة دون المستنبطة: بأن المنصوصة قطعية بتعيين

مسألة: القائلون بالوقوع إذا اجتمعت، فالمختار: كل واحدة علة

الشارع، فيمتنع اجتماعها كالعلل العقلية، وأما المستنبطة فعليتها وهمية أي ظنية لأن عليتها مرجوحة، فتكون كل منهما مساوية للأخرى في استناد الحكم إليها، لإمكان كون كل واحد علة دون الأخرى. وجوابه واضح وهو: منع كون المنصوصة قطعية، ومنع كون المستنبطة وهمية. واحتج الإمام: بأنه لو لم يكن ممتنعا شرعا لوقع ولو على سبيل الندور أما الملازمة؛ فلأن إمكانه عقلا واضح، ولو وقع لعلم عادة، ثم ادعى لتصحيح مذهبه تعدد الأحكام فيما تقدم. قال: (القائلون بالوقوع إذا اجتمعت، فالمختار: كل واحدة علة. وقيل: جزء. وقيل: واحدة لا بعينها. لنا: لو لم تكن لكانت جزءا، أو كانت العلة واحدة. والأول باطل لثبوت الاستقلال، والثاني للتحكم. وأيضا: لو امتنع لامتنع تعدد الأدلة، لأنها أدلة. القائل بالجزء: لو كانت مستقلة لاجتمع المثلان، وقد تقدم. وأيضا: لزم الحكم؛ لأنه إن ثبت بالجميع فهو المدعى، وإلا لزم التحكم. وأجيب: بأنه يثبت بالجميع كالأدلة العقلية والسمعية. القائل لا بعينها: لو لم تكن كذلك لزم التحكم أو الجزئية فيتعين).

أقول: القائلون بوقوع تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين مختلفتين اختلفوا إذا اجتمعت في محل حتى يكون واحدا بالشخص، فقيل: كل واحدة علة، وقيل: المجموع علة، وقيل: العلة واحدة لا بعينها، ونعني إذا حصلت في /المحل دفعة، وإلا فالعلة هي الأولى. واحتج المصنف على ذلك: بأنه لو لم تكن كل واحدة، لكان المجموع علة، أو كانت العلة واحدة لا بعينها، أما الملازمة فواضحة، وأما بطلان التالي، فلأنها لو كانت جزءا لم تكن مستقلة، وقد ثبت الاستقلال، [وأما الثاني؛ فلأنه –مع تساويها- تحكم محض. وفيه نظر؛ إذ ثبوت الاستقلال] حالة الانفراد لا حالة الاجتماع، والتحكم إنما يلزم لو قلنا واحدة معينة. الثاني. لو لم تكن كل واحدة علة عند الاجتماع، لامتنع اجتماع الأدلة على مدلول واحد؛ لأن العلل الشرعية أدلة، وقد علمت ما فيه. احتج القائل بأن كل واحدة علة جزءا: بأنه لو كانت كل واحدة علة لزم اجتماع المثلين، ولو كانت واحدة لزم التحكم، وقد مر تقريره وجوابه وقد عرفت ما فيه. وأيضا: لو لم يكن الجميع علة لزم التحكم؛ لأن الحكم إن ثبت بالمجموع فهو المدعى، وإن ثبت بواحدة لزم التحكم. الجواب: أنه يثبت بواحدة لا بعينها، ولا تحكم.

مسألة: والمختار: جواز تعليل حكمين بعلة بمعنى الباعث

وأيضا: جواب المصنف وهو: أنه يثبت بالجميع، أي بكل واحدة كما يثبت المدلول بالأدلة السمعية والعقلية، وفيه ما سبق. احتج القائل بأن العلة واحدة لا يعينها: بأنه لو لم تكن كذلك لزم الجزئية، وإلا كان المجموع علة، وهو باطل لثبوت الاستقلال، أو التحكم إن كانت العلة واحدة معينة. الجواب: منع الملازمة، لجواز ثبوته بالجميع، وأنت تعلم مما سبق القوي من هذه الشبه والضعيف. قال: (والمختار: جواز تعليل حكمين بعلة بمعنى الباعث، وأما الأمارة فاتفاق. لنا: لا بعد في مناسبة وصف واحد لحكمين مختلفين. قالوا: يلزم تحصيل الحاصل؛ لأن أحدهما حصلها. وأجيب: بأنه إما أن تحصل الأخرى، أو لا تحصل إلا بهما). أقول: لما فرغ من تعليل الحكم الواحد بعلتين، شرع في تعليل حكمين بعلة واحدة. واعلم أن العلة إن كانت منصوصة لم يختلفوا في جواز تعليل حكمين بها إذ لا امتناع في نصب علامة واحدة على حكمين مختلفين، كجعل طلوع الفجر علامة على وجوب الصوم والصلاة وهو المعنى بقوله: (وأما الأمارة فاتفاق). /أما العلة بمعنى الباعث، فالمختار جوازه، إذ لا بعد في مناسبة وصف

مسألة: ومنها: أن لا تتأخر عن حكم الأصل

واحد لحكمين مختلفين غير متضادين، كالسرقة للقطع زجرا لغيره، وله من العود والتغريم جبرا لصاحب المال، وكالزنا المثبت للجلد وللتغريب المحصل للزجر التام. وشرط قوم اتحاد حكمهما، وهو الشرط العاشر. واحتجوا عليه: بأنه لو جاز لزم تحصيل الحاصل؛ لأن معنى مناسبته للحكم: حصول مصلحة عند الحكم، والحكم الواحد قد حصل المصلحة المقصود منه، فلو أثبت حكما آخر لحصل المصلحة المقصودة. أيضا: وأنه تحصيل الحاصل. الجواب: المنع، لجواز أن يحصل الحكم الآخر مصلحة أخرى كالسرقة أو أن المصلحة المقصودة لا تحصل إلا بهما كما في الزنا. قال: (ومنها: أن لا تتأخر عن حكم الأصل. لنا: لو تأخر لثبت الحكم بغير باعث، وإن قدرت أمارة فتعريف المعرف. ومنها: أن لا تعود على الأصل بالإبطال، وألا تكون المستنبطة بمعارض في الأصل. وقيل: ولا في الفرع. وقيل: مع ترجيح المعارض، وألا تخالف نصا أو إجماعا، وألا تتضمن المستنبطة زيادة على النص. وقيل: إن نافت مقتضاه، وأن يكون دليلها شرعيا، وألا يكون دليلها متناولا حكم الفرع بعمومه أو بخصوصه، مثل: "لا تبيعوا الطعام

بالطعام"، أو: "من قاء أو رعف". لنا: تطويل بغير فائدة، ورجوع. قالوا: مناقشة جدلية). أقول: الحادي عشر: ألا يكون ثبوتها متأخرا عن ثبوت حكم الأصل، كعليل إثبات الولاية للأب على الصغير بالجنون، فإن الولاية ثابتة قبل الجنون، ولا يعارض هذا بكون المستنبطة فرع حكم الأصل، إذ لا تأخر بالزمان. لنا: لو تأخرت العلة –بمعنى الباعث- عن الحكم، لثبت الحكم بغير باعث وكذا في الأمارة، إذ لا فائدة فيها إلا تعريف الحكم، وقد عرف، فيكون تعريفا للمعرف؛ لأن حكم الأصل عرف بالنص. وقد يقال: تعريف حكم الفرع مع أن تعاقب الأمارات لا يمتنع، وتعريف المتأخر المتقدم كذلك، كالعالم للصانع. الثاني عشر: ألا تعود على الأصل بالإبطال؛ لأن كل علة استنبطت من حكم فأبطلته فهي باطلة لأنها فرعه، وبطلان الأصل يستلزم بطلان الفرع، كما مر في تأويلات الحنفية. الثالث عشر: ألا تكون المستنبطة لها معارض في الأصل، لا وجود له في الفرع، قال الآمدي في منتهى السول: إلا على مذهب من جوز تعليل

الحكم الواحد بعلتين، وهذا مناسب لم يأتي له في المعارضة، ومخالف لظاهر قوله: (فالمختار: كل واحدة علة)؛ لأن احتمال الجزئية على مختاره مدفوع لأنه يستنبط/ استقلالها من محل انفرادها، إلا أن يتأول ذاك على المنصوصة، وذا على المستنبطة. وقيل: ولا بمعارض في الفرع، فإن ثبت فيه علة أخرى توجب خلاف ذلك الحكم –بالقياس على أصل آخر- فإن الوصف المعارض أبطل اعتبارها، ويأتي له في المعارضة في الفرع ما يقتضي صحة هذا الشرط. وقيل: بل الشرط ألا يكون معارض في الأصل راجحا، أو معارض في الفرع، راجحا، أما لو لم يكن راجحا لم يبطل، وإنما يحوج إلى الترجيح وهو دليل الصحة. وفيه نظر؛ لأن المعارض المساوي يمنع العلة. وبعضهم جعل قوله: (وقيل: مع ترجيح المعارض) راجعا إلى الآخر. وبعضهم جعل قوله (ولا في الفرع) بعض الشرط، أي لا يكون المعارض في الأصل ولا في الفرع. الرابع عشر: ألا تخالف نصا ولا إجماعا، كما لو قيل: "الملك يصوم في الكفارة زجرا له، ولا يعتق لسهولته عليه"، وعليك ملاحظة ما سبق في معارضة القياس الخبر، وفي تخصيص العموم بالقياس. الخامس عشر: ألا تتضمن المستنبطة زيادة على النص –أي حكما في

الأصل –غير ما أثبته النص؛ لأنها إنما تعلم بما أثبته النص، كما لو قال: "لا تبيعوا الطعام بالطعام، إلا سواء بسواء"، فيعلل الحرمة بالوزن حتى يحرم في النقدين، مع أن النص لم يدل عليه. وقيل: إن كانت الزيادة منافية لحكم الأصل؛ بحيث تكر على الأصل بالبطلان، وإلا جاز. قيل: المراد أن النص إنما دل على علية وصف، والاستنباط زاد قيدا على ذلك الوصف لم يجز التعليل به. السادس عشر: أن يكون دليل العلة شرعا، إذ لو كان عقليا أو لغويا لم يكن حكم الأصل شرعا. السابع عشر: ألا يكون الدليل الدال عليها متناولا لحكم الفرع، لا بعمومه ولا بخصوصه. والأول: كما لو قاس الذرة على البر في الربوية وعلل بالطعم، فمنع. فاحتج بقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا ساء بسواء" وترتيب الحكم على الوصف يشعر بعليته، فالنص يتناول الذرة بعمومه.

والثاني: كما لو قال في القيء: "خارج نجس، فينتقض الوضوء قياسا على البول"، فمنع أنه خارج نجس. فاحتج بقوله عليه السلام: "من قاء فليتوضأ" فإن النص خاص بالقيء. لنا: أنه طويل بغير فائدة، ورجوع عن القياس إلى النص؛ لأن إثبات حكم الفرع بالقياس يتوقف على إثبات العلة بالدليل العام أم الخاص، والدليل بعينه يدل على حكم الفرع من غير توسط، والقياس يدل على حكم الفرع بتوسط، فإثباته تطويل بلا فائدة. وأيضا: الحكم/ إنما ثبت بذلك الدليل لا بالعلة، فيكون رجوعا عن القياس إلى النص. قالوا: مناقشة جدلية، إذ المقصود الظن بأي طريق حصل، فلا معنى لتعيين الطريق. قلنا: رجوع عن القياس. واعلم أنه ربما كان النص مخصصا، والمستدل أو المعترض لا يراه حجة إلا في أقل الجمع، فإذا كان العام الدال على حكم الفرع مخصصا، لم يمكنه التمسك بالعام في إثبات الحكم، ويمكنه التمسك به في إثبات العلة، ثم يعمم الحكم في جميع مواردها، فلا يكون عريا عن الفائدة.

مسألة: والمختار: جواز كونه حكما شرعيا إن كان باعثا

قال: (والمختار: جواز كونه حكما شرعيا، إن كان باعثا على حكم الأصل، لتحصيل مصلحة، لا لدفع مفسدة، كالنجاسة في علة بطلان البيع). أقول: اختلفوا في تعليل الحكم الشرعي، فقيل: جائز مطلقا؛ إذ أحد الحكمين قد يكون دائرا مع الآخر، كجواز البيع لصحة الرهن، وسيأتي أن الدوران لا يفيد العلية. وقيل: بالمنع مطلقا –وهو الثامن عشر- محتجا بأن الحكم المجعول علة إن تقدم لزم النقض، وإن تأخر لم يجز لما مر، وإن قارن فتحكم، إذ ليس جعل هذا علة بأولى من العكس. الجواب: منع التحكم لجواز أن يكون أحدهما مناسبا للحكم الآخر من غير عكس. والمختار: إن كانت العلة باعثة على حكم الأصل لتحصيل مصلحة يقتضيها حكم الأصل جاز، كما يقال في بطلان بيع الخمر: "علته النجاسة –والنجاسة حكم شرعي- ليحصل التنزه عن القاذورات"، أما إن كان لدفع مفسدة يقتضيها حكم الأصل فلا يجوز؛ لأن الحكم الشرعي لا يكون منشأ مفسدة مطلوبة الدفع –وإلا لم يشرع ابتداء، وهذا إنما يصح لو لم يشتمل

مسألة: والمختار: جواز تعدد الوصف ووقوعه

على مصلحة راجحة وعلى مفسدة تدفع الحكم الآخر لتبقى المصلحة خالصة. مثاله: شرع حد الزنا لحفظ النسب، والرجم أو الجلد مع التغريب فيه شدة لو لم يبالغ في الشهادة عليه؛ لأدى إلى كثرة وقوع الحد، وفيه من المفسدة ما لا يخفى، فشرع المبالغة فيه دفعا لتلك المفسدة، وتمام الكلام عليها في الإحكام. قال: (والمختار: جواز تعدد الوصف ووقوعه، كالقتل العمد العدوان. لنا: أن الوجه الذي ثبت به الواحد يثبت به المتعدد من نص، أو مناسبة، أو شبه، أو سبر، أو استنباط. قالوا: لو صح تركبها لكانت العلة صفة زائدة؛ لأنا نعقل المجموع ونجهل كونه علة، والمجهول غير المعلوم، وتقرير الثانية: أنها إن قامت بكل جزء فكل جزء علة، وإن قامت بجزء فهو لعلة. وأجيب: بجريانه في المتعدد، بأنه خير واستخبار. والتحقيق: أن معنى العلية، ما قضى الشارع بالحكم عنده للحكمة لا أنها صفة زائدة/. ولو سلم: فليست وجودية، لاستحالة قيام المعنى بالمعنى. قالوا: ويلزم أن يكون عدم كل جزء علة، لعدم صفة العلية لانتفائها بعدمه، ويلزم نقضها لعدم ثان بعدم أول، لاستحالة تجدد عدم العدم. وأجيب: بأن عدم الجزء الأول عدم شرط العلية.

ولو سلم: فهو كالبول بعد اللمس، وعكسه ووجهه أنها علامات فلا بعد في اجتماعها ضربة ومترتبة، فيجب ذلك). أقول: التاسع عشر: اتحاد الوصف، كالإسكار في تحريم الخمر. والمختار: جواز تعدد الوصف ووقوعه، كالقتل العمد لعدوان في القصاص. لنا: أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من أوصاف متعددة مما يقوم الدليل على التعليل بها، لكون المناسب هو المجموع، كما يظن في الواحد إذا ما ثبت به علة الواحد تثبت به علة المتعدد والفرق تحكم، ولا معنى لقوله: (أو استنباط). قالوا: لو صح تركب العلة لكانت العلية صفة زائدة، أما الملازمة؛ فلأنا نعقل المجموع ونجهل كونه علة حتى تنظر، والمجهول غير المعلوم. وأما بطلان التالي؛ فلأن صفة العلية إن لم تقم بشيء من الأجزاء فليست صفة له، وإن قامت فإما بكل جزء، فكل جزء علة والمفروض خلافه، وإما الجزء فهو العلة ولا مدخل لسائر الأجزاء. فإن قيل: يقوم بالمجموع من حيث هو مجموع. قيل: الهيئة الاجتماعية –أيضا- صفة لمجموع الأجزاء فتقوم بمحل، وينقل الكلام إليه ويسلسل.

والحق: أنه تسلسل في الاعتبارات، وليس بمحال. أجاب المصنف: بأن ما ذكرتم منقوص بالحكم على المتعدد من ألفاظ بأنه خبر أو استخبار، ولما كان هذا نقضا إجماليا، أشار إلى التحقيق، وهو يرجع إلى منع الملازمة، وأن معنى كون مجموع الأوصاف علة: هو أن الشارع قضى بثبوت الحكم عندها، رعاية لما اشتملت عليه الأوصاف من الحكمة، وليس ذلك صفة لها فضلا عن كونها صفة زائدة، بل جعله الشارع متعلقا به. ولو سلم كونها صفة زائدة، فإنما يلزم ذلك لو لم تكن العلية اعتبارية إضافية، إذ ليست وجودية وإلا لكانت معنى، والوصف المعلل به معنى، فيلزم قيام المعنى بالمعنى، فلو لم يصح بالمتعدد للزم ذلك المحال، ولم يصح بالواحد للزوم محال آخر ملازم له. قالوا: لو كانت العلة أوصافا متعددة لكان عدم كل جزء علة، لانتفاء صفة العلية، أما الملازمة؛ فلأن تحققها موقوف على تحقق جميع الأوصاف فيلزم انتفاؤها لانتفاء كل جزء، وأما بطلان التالي؛ فلأنه إذا ثبت عدمها لعدم وصف، ثم عدم وصف /آخر لزم تخلف معلوله، وهو انتفاء العلية عند انتفائه، لأن تجدد عدم على ما قد عدم لا يتصور. الجواب: لا يلزم من انتقائها لعدم وصف أن يكون الوصف علة لانتفاء مقتضية له بالاستقلال، إذ وجود كل جزء شرط للعلية، فعدم جزء يكون عدم شرط العلية، وعدم شرط العلية هو شرط عدم العلية لا علة لعدمها، ليلزم النقض في العلل العقلية.

مسألة: لا يشترط القطع بالأصل

والظاهر أن عدمه علة، فالأولى أن يقال: إن أردت بقولك عدم كل جزء علة لعدمها على سبيل البدل فمسلم، ونمنع بطلان التالي، وإن أردت أن عدم كل جزء علة على الاجتماع فممنوع. ثم قال: ولو سلم أن عدم كل جزء علة لعدمها، فهو كالبول بعدم اللمس، فكما لا يلزم هناك تخلف فكذلك هنا، إذ الانتفارات ليست عللا عقلية ليلزم ما ذكرتم، وإنما هي أمارات وضعية، ولا بعد في اجتماع عدة من الأمارات، مرتبة تارة وغير مرتبة أخرى، حتى يجب بذلك النقض. قال: (ولا يشترط القمع بالأصل، ولا انتفاء مخالفة مذهب الصحابي، ولا القطع بها في الفرع على المختار في الثلاثة، ولا نفي المعارض في الأصل والفرع، وإذا كانت وجود مانع أو انتفاء شرط، لم يلزم وجود المقتضي. لنا: أنه إذا انتفى الحكم مع المقتضي كان مع عدمه أجدر. قالوا: إن لم يكن بانتفاء الحكم لانتفى به. قلنا: أدلة متعددة). أقول: هذه شروط اختلف فيها، فمنها: القطع بالعلة في الأصل. والمختار: الاكتفاء بالظن، هكذا قال بعض الشارحين، وقال الآمدي: اشترط قوم أن تكون متفرغة من أصل مقطوع بحكمه، وليس كذلك لجواز القياس على أصل مظنون.

قلت: وهذا مراد المصنف. ومنها: انتفاء مخالفتها لمذهب صحابي. والحق: جوازه، إذ قد يكون مذهبه لعلة مستنبطة من أصل آخر. ومنها: القطع بوجود العلة في الفرع. والمختار: يكفي الطن، وإنما اشترطت هذه الأمور نظرا إلى أن الظن يضعف بكثرة المقدمات. وقوله: (ولا نفي المعارض في الأصل والفرع) يصح أن يكون مجرورا عطفا على قوله: (بالأصل)، أي لا يشترط القطع بالأصل ولا بنفي المعارض في الأصل ولا في الفرع، بل يكفي ظن نفي المعارض في الأصل وفي الفرع، ويصح أن يكون مرفوعا، أي لا يشترط نفي المعارض في الأصل والفرع معا، ولا يخالف ما تقدم؛ لأنه نفي لاشتراط المجموع، بخلاف ما سبق، مع أن ذلك في المستنبطة/ وهذا عام فيهما. أما لو علل حكم عدمي بوجود مانع أو انتفاء شرط، كما لو قيل: "عدم شرط صحة البيع هو الرؤية"، أو وجد المانع وهو الجهل بالمبيع فلا يصح، فهل يشترط مع ذلك وجود المقتضي مثل بيع في أهله في محله مثلا؟ المختار: لا يشترط. لنا: لو انتفى الحكم مع وجود ما يقتضيه لوجود مانع أو انتفاء شرط، كان انتفاؤه لعدم المقتضي أجدر.

مسألة: حكم الأصل ثابت بالعلة

قالوا: إذا لم يكن المقتضي، فانتفاء الحكم إنما هو لعدم المقتضي لا لوجود المانع؛ لأن الأحكام شرعت للمصالح، فما لا فائدة فيه لا يشرع، فانتفاؤه يكون لانتفاء فائدته. الجواب: لا يلزم من استناده إلى عدم المقتضي ألا يستند إلى وجود المانع أو عدم الشرط؛ لأنها أدلة متعددة. قال: (مسألة: قالت الشافعية: حكم الأصل ثابت بالعلة، والمعنى أنها الباعثة على حكم الأصل. والحنفية: بالنص، والمعنى أن النص عرف الحكم، فلا خلاف في المعنى). أقول: اختلفوا في حكم الأصل المنصوص عليه. فقالت الحنفية: إنه ثابت بالنص. وقالت الشافعية: إنه ثابت بالعلة. والخلاف لفظي؛ لأن مراد الشافعية أنها الباعثة على حكم الأصل، وأنها التي لأجلها شرع، والحنفية لا ينكرونه. ومراد الحنفية أن النص هو المعرف للحكم، والشافعية لا ينكرونه. قال: (من شروط الفرع: أن يساوي في العلة علة الأصل فيما يقصد من عين أو جنس، كالشدة في النبيذ، وكالجناية في قصاص الأطراف على

النفس. وأن يساوي حكمه حكم الأصل فيما يقصد عين أو جنس، كالقصاص في النفس في المثقل على المحدد، كالولاية في النكاح في الصغيرة على المولى عليها في المال، وأن لا يكون منصوصا عله، ولا متقدما على حكم الأصل، كقياس الوضوء على التيمم في النية، لما يلزم من حكم الفرع قبل ثبوت العلة لتأخر الأصل، نعم يكن إلزاما. وقيل: وأن يكون الفرع ثابتا بالنص في الجملة لا التفصيل. ورد: بأنهم قاسوا "أنت على حرام" على الطلاق، واليمين، والظهار). أقول: لما فرغ من شروط العلة، شرح في شروط الفرع، وهي خمسة: الأول: أن يكون الفرع مساويا في العلة لعلة الأصل فيما تقصد المساواة فيه من عين أو جنس العلة، الأول: كقياس النبيذ على الخمر بجامع الشدة المطربة، وهي بعينها موجودة في النبيذ، ونعنى نوعها لا شخصها. وأما الثاني: فقياس الأطراف على القتل في القصاص، بجامع الجناية المشتركة، فإن الجناية جنس لإتلاف النفس والأطراف، وهو الذي قصد الاتحاد فيه، فيكفي تحقق ذلك ولا يجب كون الجناية في القتل هي الجناية في الطراف، إذ المقصود تعدية حكم الأصل إلى الفرع للاشتراك في العلة،

وأحد الأمرين يحققه. وأما إذا لم تكن علة الأصل في الفرع مشاركة لها في صفة خصوصا ولا في صفة عمومها، لم يتعد حكم الأصل إلى الفرع. الشرط الثاني: أن يساوى حكمه حكم الأصل فيما تقصد المساواة فيه من عين الحكم أو جنسه، الأول: كقياس القصاص في النفس في القتل بالمثقل على القصاص في القتل بالمحدد، فالحكم في الأصل هو الحكم في الفرع بعينه، وهو القتل. الثاني: إثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها على إثبات الولاية عليها في مالها، فإن ولاية النكاح من جنس ولاية المال وليست عينها، وإنما اشترط ذل ليصح القياس، وإلا لم يصح لأن شرع الأحكام لم يكن مطلوبا لذاته، بل لما يقضي إليه من المقاصد، فإذا استويا فيما يقصد ثبت الحكم. الشرط الثالث: ألا يكون الفرع منصوصا عليه، لا إثباتا وإلا لضاع القياس، ولا نفيا وإلا لم يجز القياس. الرابع: ألا يكون حكم الفرع متقدما على حكم الأصل، مثال: الوضوء شرط لصلاة فتجب في النية قياسا على التيمم، وشرعية التيمم متأخرة عن شرعية الوضوء، وذلك لأنه يلزم أن يثبت حكم الفرع قبل ثبوت العلة، لتأخر الأصل مع كون العلة فرعه. نعم، لو ذكر ذلك إلزاما للخصم لصح، وأما أن تكون معرفة ثبوت الحكم مأخوذة منه فلا.

مسألة: مسالك العلة، الأول: الإجماع

الخامس: أثبته أبو هاشم، وهو أن يكون الفرع ثابتا بالنص في الجملة دون التفصيل، فيجري القياس في تفاصيل الجملة، مثاله: ثبوت الحد في الخمر بلا تعيين عدد الجلدات، فتعين بالقياس على القذف، وهو مردود بأن العلماء قاسوا "أنت حرام" تارة على الطلاق فتحرم وتارة على الظهار فتجب الكفارة وتارة على اليمين بالله، ولا نص جملة بل هي واقعة متجددة. قال: (مسالك العلة، الأول: الإجماع). أقول: لما فرغ من الباب الأول شرع في الباب الثاني في طرق العلة، إذ كون الوصف الجامع علة حكم خبري غير ضروري فلابد في إثباته من دليل. المسلك الأول: الإجماع على كون الوصف علة، ويتصور الخلاف في مثله بأنه يكون الإجماع ظنيا كالثابت بالآحاد والسكوتي، أو يكون ثبوت الوصف في الأصل والفرع ظنيا، أو يدعي/ الخصم معارضا في الفرع. مثاله: الصغر في ولاية المال علة بالإجماع، ثم يقاس عليه النكاح. قال: (الثاني: النص، وهو مراتب: الأول: صريح مثل: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل، أو من أجل، أو كي، أو إذا، ومثل: لكذا وبكذا، وإن كان كذا، ومثل: "فإنهم يحشرون"، {فاقطعوا أيديهما}، ومثل قول الراوي: "سها فسجد"، "وزنا ماعز فرجم" سواء الفقيه وغيره لأنه لو لم يفهمه لم يقله).

أقول: المسلك الثاني: النص وهو صريح، وغير صريح. فالصريح: ما دل بوضعه على العلية من غير احتياج إلى نظر واستدلال، وهو إما لا يحتمل غير العلة، أو يحتمل احتمالا مرجوحا. الأول: ما هو نص في العلية: "لعلة كذا"، أو "لسبب كذا"، أو "لأجل"، كقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة"، أو "من أجل" كقوله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل}، وكذا ما ذكر فيه حرف من حروف التعليل التي لا تستعمل في غيره نحو {كي لا يكون دولة بين الأغنياء}، و "إذا" نحو: {إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات}. الثاني: ما ورد فيه حرف من حروف التعليل إلا أنه قد يقصد به غيره ك "اللام"، و"الباء"، و"أن المخففة" نحو: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، ونحو: {جزاء بما كانوا يعملون}، ونحو: {أن

كان ذا مال وبنين}، وهذه الثلاثة دون الخمسة الأولى لأنها قد تجئ لغير العلية، فتجئ اللام للعاقبة، والباء للمصاحبة، وأن للتفسير، ولهذا فصلها المؤلف عما قبلها فقال: (ومثل)، لكنها ظاهرة في التعليل حتى يدل الدليل على خلافه. ومن هذه القسم وهو اضعف مما قبله، ما دخل فيه الباء في لفظ الشارع إما في الوصف مثل: "زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون"، وإما في الحكم نحو: {فاقطعوا أيديهما}، والحكمة فيه أن الفاء للترتيب، والباعث مقدم في العقل متأخر في الخارج، فيجوز ملاحظة الأمرين، دخول الفاء على كل منهما، وهذا عند الآمدي من قبيل الإيماء، لأن دلالة الفاء على الترتيب والعلية استدلالية. ومنها: ما دخل فيه الفاء لكن لا في لفظ الشارع، بل في لفظ الراوي، مثل: "زنى ماعز فرجم"، و"سهى فسجد",

مسألة: وتنبيه وايماء

وهذا سواء الفقيه فيه وغيره؛ لأنه لو لم يفهم كون الوصف المرتب عليه علة لم يقله، لما فيه من التلبيس، وهذا دون ما قبله لاحتمال الغلط، إلا أنه لا ينفي الظهور. قال: (وتنبيه وإيماء، وهو الاقتران بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل كان بعيدا، مثل: "واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: أعتق رقبة"، كأنه قال: إذا واقعت فكفر، فإن حذف بعض الأوصاف فتنقيح. ومثل: "أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذا"). /أقول: القسم الثاني من النص ما دل على العلية لا بالوضع بل بالإيماء، وهو اقتران الوصف بحكم، لو لم يكن الوصف أو نظيره لتعليل الحكم كان بعيدا من الشارع الإتيان بمثله لخلوه عن الفائدة، فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد. مثال كون العين للتعليل، ما في الصحيح أن أعرابيا جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت واقعت أهلي في رمضان فقال عليه السلام: "أعتق رقبة"، ثبت بهذا اللفظ عند ابن ماجة. ولفظه في الصحيح: "هل تجد ما تعتق؟ "، فإنه يدل على أن الوقاع

علة للإعتاق، إذا غرض الأعرابي بقوله "واقعت" علم حكمها، وذكر الحكم جوابا ليحصل غرضه لئلا يلزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخر البيان عن وقت الحاجة، فيكون السؤال مقدارا في الجواب، كأنه قال: واقعت فكفر. وقد عرفت أن ذلك للتعليل بكذا، هذا ولكنه دونه في الظهور؛ لأن الفاء مقدرة، وثم محققة، ويحتمل –أيضا- عدم قصد الجواب، فإن حذف بعض الأوصاف المقترنة بالحكم –ككونه أعرابيا مثلا- سمي الإيماء تنقيح المناط، أي تنقيح ما ناط الشارع به الحكم، والمناط هو العلة. مثال آخر لكون العين للتعليل ما أخرجه أو داود أنه عليه السلام سئل عن بيع الرطب بالتمر؟ فقال: "أينقص الرطب إذا جف؟ " قالوا: نعم، قال: "فلا إذا" [ينيط] أن النقصان علة في منع البيع، وإن فهم منه

مسألة: ومثل بالنظير لما سألته الخثعمية

أن النقصان علة في منع البيع لترتيب الحكم على الوصف بالفاء واقترانه بإذا، وهما للتعليل بالوضع، لكن لو قدر انتفاؤهما بأن يقال مثلا في الجواب: لا، لنفي فهم التعليل بحاله، وإلا لم يكن لذكره والاستفسار عنه فائدة، ولعل هذا المثال لهذا الغرض. قال: (ومثل النظير: لما سألته الخثعمية إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج، أفينفعه إن حججت عنه؟ فقال: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه؟ فقال: نعم" فنظيره في السؤال كذلك، وفيه تنبيه على الفرع والأصل والعلة. وقيل: إن قوله لما سأله عمر عن قبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت أكان ذلك مفسدا؟ فقال: لا" من ذلك. وقيل: إن ذلك نقض لما توهمه عمر من إفساد مقدمة الإفساد، لا تعليل لمنع الإفساد، إذ ليس فيه ما يتخيل مانعا، بل غايته ألا يفسد). أقول: مثال ما يكون ذكر النظير للتعليل، ما خرجه ابن ماجه: أن امرأة من حثعم أتت النبي عليه السلام فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا/ كبيرا لا يستطيع أن يركب أفأحج عنه؟ قال: "نعم، فإنه لو كان على أبيك دين فقضيته"، ولا يوجد هذا اللفظ الذي ذكر المصنف.

فالخثعمية سألته عن الحج، فذكر دين الآدمي، وهو نظير المسئول عنه من حيث إن الحج دين، فذكره عليه السلام لنظير المسئول عنه مع ترتيب الحكم عليه يدل على التعليل وإلا كان ذكره عبثا، ولزم من كون النظير علة للحكم المرتب عليه، أن يكون المسئول عنه أيضا علة لمثل ذلك الحكم ضرورة المماثلة وهذا النوع من الإيماء يسمى تنبيها على أصل القياس. وفيه –كما ترى- التنبيه على أصل القياس، وعلى علة الحكم فيه، وعلى صحة إلحاق الفرع بهما، فالأصل: دين الآدمي، والفرع: الحج، والعلة: القضاء عن الميت، والحكم: كون أداء الغير يجزئ، وذكر الإمام فخر الدين وجماعة من الأصوليين أن حديث عمر من هذا القسم. وروي الثاني: أن عمر قال: يا رسول الله! قبلت وأنا صائم، فقال عليه السلام: "أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فمه"، نبه عدم ترتب الفساد على المقدمة علة لعدم إعطائها حكم ما هي مقدمة له، ليثبت مثله في المسئول عنه، وهو القبلة.

مسألة: ومثل أن يفرق بين حكمين بصفة مع ذكرهما

ورده الآمدي: بأنه إنما يكون من قبيل النظير لو أدى حمله علة غير التعليل إلى مستبعد، وليس كذلك، إذ الأقرب حمله على أنه نقض لما توهمه عمر من أمن مقدمة المفسد مفسدة، فنقبض عليه النبي عليه السلام بالمضمضة ولا يكون تعليلا لمنع الإفساد، إذ ليس في المضمضة ما يصلح علة لعدم الفساد، وإنما يصلح لذلك ما يكون مناسبا لعدم الفساد، وكونه مقدمة للإفساد لم تفض إليه لا يصلح لذلك، غايته عدم ما يوجب الفساد، ولا يلزم وجود ما يوجب الفساد، فوجوده كعدمه. قال: (ومثل: أن يفرق بين حكمين بصفة من ذكرهما، مثل: "للراجل سهم، وللفارس سهمان". أو مع ذكر أحدهما، مثل: "القاتل لا يرث"، أو لغاية، أو استثناء مثل: {حتى يطهرن}، و {إلا أن يعفون}، ومثل ذكر وصف مناسب، مثل: "لا يقضي القاضي وهو غضبان". أقول: ومن مراتب الإيماء أن يفرق بين حكمين بوصفين، مثاله: ما روى أبو داود "أنه عليه السلام أعطى الفارس سهمين، والراجل سهما".

مسألة: فإن ذكر الوصف صريحا

أو مع ذكر أحدهما، مثل: "القاتل لا يرث"، فإنه لم يتعرض لغير القاتل وإرثه؛ لأن التفرقة بين حكمين بصفة، تدل على كون تلك الصفة علة للتفرقة، وإلا لم يكن لذكرها فائدة. وكذا التفريق بالغاية مثل: {حتى يطهرن}، وبالاستثناء مثل: {إلا أن يعفون}، يدل على أن الحيض/ علة حرمة المباشرة والطهر علة إباحتها، وعدم العفو مثبت للتشطير والعفو لا يثبته. ومن مراتب الإيماء: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا للحكم، مثاله: ما في الصحيح: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان"، فإن فيه التنبيه على أن الغضب علة عدم جواز الحكم لأنه مظنة التشويش، وذلك لما ألفنا من اعتبار الشارع للمناسبات، فيغلب على الظن من المقارنة مع المناسبة قصد الاعتبار، مع أنه لو لم يكن للتعليل كان التقييد به بعيدا. قال: (فإن ذكر الوصف صريحا، والحكم مستنبطة، مثل: {وأحل الله البيع}، فثالثها: الأول إيماء لا الثاني. فالأول: على أن الإيماء اقتران الوصف بالحكم وإن قدر أحدها.

والثاني: على أنه لابد من ذكرهما. والثالث: على أن ذكر المستلزم له كذكره، والحل يستلزم الصحة. وفي اشتراط المناسبة في صحة علل الإيماء. ثالثها المختار: إن كان التعليل فهم من المناسبة اشترطت). أقول: إذا ذكر كل من الحكم والوصف فهم إيماء اتفاقا، أما لو ذكر أحدهما فقط، مثل أن يذكر الوصف والحكم مستنبط نحو: {وأحل الله البيع} فإن البيع وصف له قد ذكر فعلم منه حكمه وهو الصحة. أم يذكر الحكم والوصف مستنبط –كسائر العلل المستنبطة- نحو: "حرمت الخمر"، فقد اختلفوا في أنه إيماء – فيقدم عند التعارض على المستنبطة بلا إيماء –على ثلاثة مذاهب. الأول: كلاهما إيماء. الثاني: مقابلة. الثالث وهو أصحها: أن ذكر الوصف إيماء دون العكس. والنزاع لفظي مبني على تفسير الإيماء. فالأول: على أن الإيماء اقتران بالحكم، سواء كانا مذكورين أو أحدهما مذكورا والآخر مقدرا. والثاني: على أنه لابد من ذكرها، إذ به يتحقق الاقتران. والثالث: مبني على أن إثبات المستلزم للشيء يقتضي إثبات ذلك

الشيء، والعلة كالمحل تستلزم المعلول كالصحة، فيكون بمثابة المذكور فيتحقق الاقتران واللازم لا يكون إثباته إثباتا لملزومه، فهو بخلاف ذلك. ثم اعلم أن الأصوليين اختلفوا في اشتراط مناسبة الوصف المومأ إليه في صحة التعليل. فنفاه الغزالي، إذ المناسبة طريق مستقل والإيماء كذلك، فلا يتوقف أحدهما على الآخر. وأثبته قوم، إذ الغالب من تصرفات الشرع أن تكون على وفق الحكمة، فما لا مناسبة فيه ولا يوهم المناسبة يمتنع التعليل به. والمختار التفصيل: وهو أن التعليل إن كان فهم من المناسبة كم في: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، اشترط في الوصف المومأ إليه مناسبته؛ لأن التعليل إنما فهو/ من المناسبة، فعدم المناسبة فيما فهمت فيه المناسبة تناقض، هكذا قال الآمدي. وفيه نظر، وما سواه يفهم التعليل من غيرها وهو الاقتران. قيل: وهذا إنما يصح إذا أريد بالمناسبة ظهورها، وأما نفس المناسبة فلابد منها في العلة الباعثة.

مسألة: السبر والتقسيم

وقد يجاب عنه: بأن علل الإيماء منصوصة، والشرط كونها بمعنى الباعثة عند المصنف هي المستنبطة. قال: (السبر والتقسيم وهو: حصر الأوصاف في الأصل، وإبطال بعضها بدليله فيتعين، ويكفي: بحثت فلم أجد. والأصل عدم [باستوائها]. فإن بين المعترض وصفا آخر لزم إبطاله لا انقطاعه، والمجتهد يرجع إلى ظنه، ومتى كان الحصر والإبطال قطعا فقطعي، وإلا فظني). أقول: المسلك الثالث من مسالك العلة: السبر والتقسيم، وهو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل وإبطال بعضها، وهو ما سوى الذي يدعى أنه علة، واحدا كان أو أكثر، فيتعين الباقي للعلية، وهذا المسلك يسمى بكل من الجزأين، ويسمى بهما معا. وظن بعضهم أن السبر هو إبطال بعض الأوصاف، والتقسيم حصر الأوصاف في الأصل، وليس كذلك. ثم علم أن المثبت لعلية الوصف بالسبر إن كان مناظرا، كفاه في بيان حصر الأوصاف في الأصل أن يقول: الحكم الثابت فيه لابد له من علة وليس إلا ما ذكرت، لأني بحثت البحث التام فلم أجد إلا ما ذكرته، ويصدق

مسألة: وطرق الحذف، منها: الإلغاء

لعدالته ومعرفته؛ لأن الأوصاف الشرعية والعقلية لو كانت لم تخف عنه. أو يقول: الأصل عدم ما سواها من الأوصاف إلا أن يدل عليه دليل، والأصل عدمه. وعلى التقديرين: يغلب على الظن انحصار أوصاف الأصل فيما ذكر، فلو بين المعترض بعد الحصر –على التقديرين- وصفا آخر، لزم المستدل إبطاله حتى يتم الاستدلال؛ إذ لا يتم الحصر بدونه، ولا يلزم انقطاعه، إذ غايته منع مقدمة من مقدمات دليله، فيلزمه الدلالة عليها فقط. وقيل: ينقطع؛ لأنه ادعى حصرا ظهر بطلانه. والحق: أنه إن أبطله سلم حصره، مع أنه قد يقول: علمت أنه لا يصلح فلذلك لم أدخله في الحصر. وأيضا: لم يدع الحصر قطعا، وفي بعض النسخ: لزم إبطاله لانقطاعه، أي لانقطاع المعترض، أو لانقطاع المستدل إن لم يبطله. أما النسخ التي فيها انقطاعه فلا إشكال. أما لو كان المثبت لعلية الوصف مجتهدا، فإنه يرجع إلى ظنه إذ لا يكابر نفسه، فمهما غلب على ظنه شيء من ذلك عمل عليه. وعلى التقديرين، متى كان الحصر والإبطال قطعيين، فالسبر قطعي ومتى كانا ظنيين أو أحدهما، فالسبر ظني. قال: (وطرق الحذف منها: /الإلغاء، وهو بيان إثبات الحكم بالمستبقى فقط، وبتبيين نفي العكس الذي لا يقيد، وليس به لأنه لم يقصد

لو كان المحذوف علة لانتفى عند انتفائه، وإنما قصد لو كان المستبقى جزء علة لم انتقل، ولكن يقال: لابد لذلك من الأصل فيستغنى عن الأول). أقول: لما فرغ من أحد شقي السبر –وهو الحصر- شرع في بيان الإبطال، ولابد من طريق وهو كل ما يفيد ظن عدم العلية، وله طرق: الأول الإلغاء: وهو بيان أن الحكم في الصورة الفلانية ثابت بالمستبقى فقط ويزيد أنه لا يثبت بدونه، فيعلم أن المحذوف لا أثر له، وإلا فقد يقال: لا يلزم من ثبوت الحكم بدونه في صورة عدم عليته في صورة المقارنة، إذ قد تكون العلة متعددة فلا يلزم من نفيها نفي المعلول. ولهذا يقول في جواب المعارضة: ولا يكفي إثبات الحكم في صورة دونه لجواز علة أخرى. والإلغاء من حيث به عدم علية الوصف بثبوت الحكم بدونه في صورة يشبه نفي العكس –الذي مر أنه لا يفيد عدم العلية- وليس إياه، وإنما يكون إياه لو أريد به أنه لو كان المحذوف علة لانتفاء الحكم عند انتفائه، بل المراد: لو كان المحذوف جزء علة فالمستبقى جزء علة، ولو كان كذلك لما كان المستبقى مستقلا بالحكم في تلك الصورة. ثم أشار المصنف بقوله: (ولكن يقال: لابد لذلك من أصل) إلى أن غايته أن يفيد أن المحذوف ليس علة، على تقدير ثبوت الحكم دونه، ولا يلزم من ذلك كون المستبقى علة مستقلة، بل لابد لبيان كون المستبقى علة مستقلة من أصل يفيد استقلال المستبقى بالعلية، وحينئذ يستغنى عن الإلغاء. قيل بعد ما ذكر: إن الحكم لابد له من علة وحصر الأوصاف،

مسألة: ومنها: طرده مطلقا كالطول والقصر

[واكتفى] غير واحد بوجود الحكم دونه، وبعدم الحكم عند وجوده تعين أن يكون المستبقى علة، ولا حاجة إلى طريق آخر. واعترض: بأن يجوز أن يكون الوصف المحذوف جزءا من العلة وأعم من المعلول، وحينئذ لا يلزم من وجود الحكم دونه ومن عدم الحكم عنده أن يكون المستبقى علة. والاعتراض فاسد؛ لأنه إذا وجد الحكم دونه وعدم الحكم مع وجوده لا يكون له تأثيرا في العلية، ولو كان جزء علة لانتفت العلة بانتفائه فينتفي المعلول. قال: (ومنها: طرده مطلقا، كالطول والقصر، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم كالذكورة في أحكام العتق. ومنها: ألا تظهر مناسبته، ويكفي المناظر بحثت. فإن ادعى أن المستبقى كذلك ترجح سبر المستدل بموافقة التعدية). أقول: الطريق الثاني من طرق الإبطال: أن يكون الوصف طرديا أي من جنس ما علم من الشارع إلغاؤه، وأما في جميع الأحكام كالاختلاف بالطول والقصر فلا يعلل به حكم أصلا. وأما بالنسبة إلى ذلك الحكم –وإن اعتبر في غيره كالذكورة والأنوثة/ في أحكام العتق –فإن الشارع- وإن اعتبره في الشهادة والإرث- فقد

مسألة: ودليل العمل بالسبر وتخريج المناط وغيرهما

علم أنه ألغاه في أحكام العتق، فلا يعلل به شيء من أحكامه. الطريق الثالث: ألا تظهر مناسبة الوصف للحكم، ولا يجب ظهور عدم المناسبة بالدليل، ويكفي المناظر أن يقول: بحثت فلم أجد له مناسبة، ويصدق لأنه عدل عارف. فإن قال المعترض: المستبقى أيضا كذلك، فلا يجب على المستدل بيان المناسبة، وإلا كان انتقالا عن السبر إلى المناسبة، ولا سبيل إلى التحكم فلزم التعارض والمصير إلى الترجيح، فيرجح المستدل سبره بموافقته لتعدية الحكم، والتعدية أولى ليعم الحكم وتكثير الفائدة، ولو رجح بأن قال: لو لم يكن مناسبا لزم التعبد بالحكم، كان حسنا أيضا. قال: (ودليل العمل بالسبر وتخريج المناط وغيرهما: أنه لابد من علة لإجماع الفقهاء على ذلك، ولقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. والظاهر: [التعميم]. ولو سلم فهو أغلب؛ لأن التعقل أقرب إلى الانقياد فيحمل عليه، وقد ثبت ظهورها بالمناسبة فيجب اعتبارها في الجميع، للإجماع على وجوب العمل بالظن في علل الأحكام). أقول: لما فرغ من الكلام على السبر، شرع في الدليل على اعتباره شرعا وكونه دليلا على العلية، وذكر معه غيره كالمناسبة وغيرها للمشاركة في الحكم.

والدليل تقريره أن نقول: لابد للحكم من حكمة لوجهين: أحدهما: إجماع الفقهاء على ذلك، إما تفصيلا كما يقول أصحابنا أو وجوبا كما تقول المعتزلة. الثاني: قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وظاهر الآية مراعاة مصالحهم في جميع ما شرع لهم من الأحكام، إذ لو أرسل بحكم لا مصلحة لهم فيه لكان إرسالا لغير الرحمة –لأنه محض تعب- فلا يكون في التكليف به فائدة، فخالف ظاهر العموم. ولو سلم عدم الإجماع وعدم ظهور التعميم في الآية، فالتعليل هو الغالب على أحكام الشرع، وإنما غلب لأن تعقل المعنى ومعرفة كونه مفضيا إلى مصلحة أقرب إلى انقياد المكلف من التعبد المحض، فيكون أفضى إلى غرض الحكيم، فالحكمة تقتضي حمل ما نحن فيه على كونه معللا بمعنى معقول، إلحاقا للفرد النادر بالأعم الأغلب، إذ اختيار الحكيم الإفضاء إلى مقصوده هو الغالب على الظن. فإذا قد ثبت ظهور تعليل جميع الأحكام عموما بهذا الطريق، وفي

مسألة: الرابع: المناسبة والإخالة

المناسبة أيضا به، ولو سلم عدم نهوض الدليل المذكور، فقد ثبت ظهور تعليل الحكم في صورة المناسبة بها، فيجب مما ذكرنا اعتبار تعليل الجميع في صورة السبر والشبه، لإفادة جميعها ظن العلية، وانعقاد الإجماع على وجوب العمل بالظن في علل الأحكام. /وله تقرير آخر هو أشبه، إذ الكلام في الدليل على اعتبار السبر شرعا وهو أن تقول: ثبت بما ذكرنا أنه لابد لكل حكم من علة، وقد ثبت ظهور علية الأوصاف بالسبر والمناسبة والشبه، على تقدير ثبوت تلك المقدمة، وهو أنه لابد لكل حكم من علة، وفي المناسبة خاصة ثبت ظهور عليتها على تقدير ثبوت تلك المقدمة وعلى تقدير عدم ثبوتها؛ لأن مناسبة الوصف للحكم يفيد بمجرد ظن كونه علة، ثم يقال في الجميع –أي في المناسبة وغيرها-: وإذ قد حصل ظن عليتها فيجب اعتبارها والعمل بها، للإجماع على وجوب العمل بالظن في علل الأحكام. قال: (الرابع: المناسبة والإخالة، وتسمى: تخريج المناط، وهو تعيين العلة لمجرد إبداء المناسبة من ذاته، لا بنص ولا بغيره، كالإسكار في التحريم، والقتل العمد العدوان في القصاص. والمناسب: وصف ظاهر منضبط، يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للشارع من حصول مصلحة أو دفع مفسدة. فإن كان خفيا أو غير منضبط، اعتبر ملازمة وهو المظنة؛ لأن الغيب لا يعرف الغيب، كالسفر للمشقة، والفعل المقضي عليه عرفا بالعمد في

العمدية. وقال أبو زيد: المناسب: ما لو عرض على العقول السليمة تلقته بالقبول). أقول: المسلك الرابع للعلية المناسبة، ويسمى: الإخالة، من اخالة السحاب إذا كانت ترجى المطر؛ لأن المناسبة ترجى العلية، وتسمى: تخريج المناط أيضا؛ لأنه مناط الحكم. وحاصله تعين العلة في الأصل بمجرد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الحكم لا بنص ولا بغيره، كالإسكار للتحريم، فإن النظر في المسكر وحكمه ووصف الإسكار يعلم منه كون الإسكار مناسبا لشرع التحريم، وكالقتل العمد العدوان، فإنه بالنظر إلى ذاته مناسب لشرع القصاص. واعلم أن المناسبة المأخوذة في التعريف هي اللغوية فلا دور، وتبين أن الاصطلاحية فعل الناظر، بخلاف اللغوية. والمناسب في الاصطلاح: وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء. والمقصود: إما حصول مصلحة أو دفع مفسدة. والمصلحة: اللذة ووسيلتها، والمفسدة: الألم ووسيلته، وكلاهما نفسي وبدني، دنيوي وأخروي؛ لأن العاقل إذا خير اختار المصلحة ودفع المفسدة وما هو كذلك يصلح مقصودا قطعا.

وقال: (ما يصلح) ولم يقل: ما يكون مقصودا؛ لتدخل أقسام المناسبة كلها، لكن ما يصلح أن يكون مقصودا تتوقف معرفته على معرفة المناسب فيدور. ولو قال: ما يكون مقصودا/ لم يرد، ثم إن كان الوصف الذي يحصل من ترتيب الحكم عليه المقصود خفيا أو غير منضبط، ولم يعتبر لأنه لا يعلم، فكيف يعلم به الحكم؟ فالطريق أن يعتبر وصف ظاهر منضبط، يلازم ذلك الوصف، يوجد بوجوده ويعدم بعدمه، سواء كانت الملازمة عقلية أو لا؟ فيجعل معرفا للحكم، مثاله: المشقة، فإنها مناسبة لترتيب الترخص عليها، تحصيلا لمقصود التخفيف، ولا يمكن اعتبارها نفسها لأنها غير منضبطة، إذ هي ذات مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان، ولا يناط الترخص بالكل، ولا يمتاز البعض بنفسه، فيناط الترخص بما يلازمه وهي السفر. وكالقتل العمد العدوان، فإنه مناسب لشرع القصاص، لكن وصف العمدية خفي؛ لأن القصد وعدمه لا يدرك، فيناط القصاص بما يلازم العمدية من أفعال مخصوصة نقضي العرف في العرف عليها بكونها عمدا، كاستعمال الجارح في المقتل. وقال أبو زيد الدبوسي من الحنفية: المناسب ما لو عرض على العقول

مسألة: وقد يحصل بالمقصود من شرع الحكم يقينا وظنا

السليمة تقتله بالقبول. وهذا قريب من الأول، إلا أنه لا يمكن إثباته في المناظرة، إذ يقول الخصم: لا يتلقاه عقلي بالقبول، وتلقي عقلك له بالقبول لا يكون حجة علي، بخلاف الأول فإنه يمكن إثباته. قال: (وقد يحصل المقصود من شرع الحكم يقينا وظنا، كالبيع والقصاص. وقد يكون الحصول ونفيه مساويين، كحد الخمر. وقد يكون نفيه أرجح، كنكاح الأمة لمصلحة التوالد. وقد ينكر الثاني والثالث. لنا: أن البيع مظنة الحاجة إلى التعارض وقد اعتبر، وإن انتفى الظن في بعض الصور. والسفر مظنة المشقة، وان انتفى الظن في الملك المترف. أما لو كان فائتا قطعا، كلحوق نسب المشرقي يتزوج مغربية، وكاستبراء جارية يشتريها بائعها في المجلس، فلا يعتبر خلافا للحنفية). أقول: للمناسب تقسيمات باعتبار إفضائه إلى المقصود، وباعتبار نفس المقصود، وباعتبار اعتبار الشارع له. واعلم أن المقصود من شرع الحكم قد يحصل يقينا، كالبيع لإباحة

التصرف، وقد يحصل ظنا كالقصاص للانزجار، فإن المنزجرين أكثر من المقدمين، وهذان مما لم ينكر التعليل بهما أحد. وقد يكون حصوله وعدم حصوله متساويين، كحد الخمر للزجر حفظا للعقل، فإن استيلاء ميل الطبع إلى شرب الخمر يقاوم خوف عقاب الحد، ولهذا [قاوم] عدد المقدمين عدد المنزجرين. وقد يكون عدم حصوله راجحا كنكاح [الآيسة]، فإن المقصود الذي هو التوالد قد يمكن حصوله من الآيسة، لكن عدمه أرجح. وقد أنكر بعضهم جواز التعليل بهذين. واحتج المصنف على جواز التعليل بهما: بأن ظن تخلف الحكمة الباعثة عن الحكم المشروع لأجلها لا يقدح في العلية، واحتمال حصول/ المقصود من شرع الحكم كاف في صحة التعليل به، وذلك أن البيع مظنة الحاجة إلى العوض لأنه شرع لمصلحة الاحتياج إلى المعاوضة وقد اعتبر، وإن انتفى الظن في بعض الصور، إذ بيع الشيء مع ظن عدم الحاجة إلى عوضه -كبيع صاع بمثله- لا يوجب بطلان البيع إجماعا. والسفر مظنة المشقة، وقد اعتبر وإن ظن عدم الشقة، كما في الملك المترف. واعترض: بأن جوازه ثم لأجل ترتب المقصود في الغالب، وإن لم يترتب

في بعض الصور، بخلاف محل النزاع، فإنه كما يحتمل الترتيب يحتمل عدم الترتيب على السواء، وعدم الترتيب أرجح. قلت: بل هو مثله، لترتب المقصود في غالب صور الجنس وهو ما عدا الآيسة وكذا يحصل المقصود من شرع الحد الذي هو جنس لحد الخمر وغيره. قيل: المثال الأول للمناسب، والثاني لمظنة المناسب. وفيه نظر؛ لأن الحاجة إلى التعاوض خفي، فلازمه –الذي هو البيع- يكون مظنة. أما لو كان المقصود فائتا قطعا كالنكاح الذي هو مظنة لحصول نطفة الزوج في الرحم، فيترتب عليه إلحاق الولد به، فإذا تزوج مشرقي مغربية وعلم قطعا عدم تلاقيهما، فهل يلحق به وهو بالمشرق ولد تلده وهي بالمغرب، مع العلم بعدم حصول نطفته في رحمها؟ وكجعل الاستبراء مظنة لبراءة الرحم من الحمل، فيترتب عليه منع الوطء دونه، فلو اشترى واحد جارية ثم باعها من البائع الأول في المجلس، فقد علم عدم وطء من المشتري الأول لها، وهل يجب على المشتري الثاني –وهو البائع الأول- أن يستبريها؟ . قال الجمهور: لا يعتبر فيهما وإن كان ذلك ظاهرا في غالب صور الجنس، فيما عدا هاتين الصورتين. وخالفت الحنفية نظرا إلى ظاهر العلة.

مسألة: والمقاصد ضربان

قال: (والمقاصد ضربان: ضروري في أصله وهو أعلى المراتب، كالخمسة التي روعيت في كل ملة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. كقتل الكفار، والقصاص، وحد السكر، وحد الزنا، وحد السارق والمحارب. ومكمل للضروري، كحد قليل السكر. وغير ضروري حاجي، كالبيع والإجارة، والقراض، والمساقاة، وبعضها آكد من بعض. وقد يكون ضروريا، كالإجارة على تربية الطفل، وشراء المطعوم والملبوس له ولغيره. ومكمل له، كرعاية الكفاءة ومهر المثل في الصغيرة، فإنه أفضى إلى دوام النكاح. وغير حاجي ولكنه تحسبي، كسلب العبد أهلية الشهادة لنقصه عن المناصب الشريفة، جريا على ما ألف من محاسن العادات). أقول: التقسيم الثاني للمناسب باعتبار المقصود نفسه: والمقاصد التي شرعت الأحكام لأجلها ضربان: ضروري، وغير ضروري. والضروري قسمان: ضروري في أصله/، ومكمل للضروري. والضروري في أصله أعلى المراتب في إفادة ظن الاعتبار، كالخمسة

روعيت في كل ملة، إذ هي من المهمات، ولا قيام للشرع دونها، فلابد من مشروعيتها لتحفظ بها المصالح المهمة للعباد، وانحصارها في الخمسة نظرا إلى الواقع، والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها بالعادة، وقد يتكلف الحصر بناء على أن القوى ثلاثة: نفسانية، وشهوانية، وغضبية، والغرض من بعثة الرسل إقامة هذه القوى على المنهج القويم. وصلاح الأولى يتوقف على العقل والدين، والثانية على المال والنكاح، والثالثة على القصاص، فصارت خمسا. الأول: حفظ الدين بشرع إيجاب المقاتلة مع الكفار. الثاني: حفظ النفس بشرع إيجاب القصاص لكونه طريقا صالحا لحصول هذا المقصود. الثالث: حفظ العقل بشرع الحد. الرابع: حفظ النسل بشرع حد الزنا. الخامس: حفظ المال الذي به المعاش بشرع حد السارق والمحارب. وأما المكمل للضروري: فكحد قليل المسكر الذي لا يزيل العقل، إذ حفظ العقل حاصل بتحريم المسكر، إنما حرم القليل للتتميم والتكميل؛ لأن قليله يدعو إلى كثيره بما يورث النفس من الطرب المطلوب زيادته بزيادة سببه إلى أن يسكر. الضرب الثاني: غير الضروري، وينقسم إلى: حاجي، وغيره. والأول ينقسم إلى: حاجي في نفسه، وإلى مكمل له. أم الحاجي في نفسه: فكالبيع، والإجارة، والقراض، والمساقاة،

مسألة: المختار: انخرام المناسبة بمفسدة تلزم

وكل واحد من هذه العقود ليس بحيث لو لم يشرع لأدى إلى فوات شيء من الضروريات الخمس، ثم هذه ليست في مرتبة، إذ الحاجة تشتد وتضعف وبعضها آكد من بعض، وقد يكون بعضها ضروريا في بعض الصور، كالإجارة على تربية الطفل الذي لا أم له ترضعه، وكشراء المطعوم والملبوس له ولغيره، فإنه من قبيل حفظ النفس، ولذلك لم تخل عنه شريعة، وإنما أطلقنا عليه الحاجي باعتبار الأغلب. أما المكمل للحاجي: فكوجوب رعاية الكفاءة ومهر المثل للصغيرة، فإن أصل المقصود من شرع النكاح –وإن كان حاصلا بدونهما- لكنه أشد إفضاء إلى دوام النكاح، فهو من مكملات مقصود النكاح. وأما غير الحاجي: فما فيه التحسين وسلوك منهج أحسن من منهج، كسلب العبد أهلية الشهادة –وإن كان ذا دين وعدالة يغلبان ظن صدقهما- فإنها منصب شريف لا يليق تفويضه إلى من لا يملك نفسه، جريا على ما هو المألوف محاسن العادات، أن نازل القدر لا يلي المراتب الشريفة. قال: (مسألة: المختار: انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية. لنا: أن العقل قاض أنه لا مصلحة مع مفسدة تساويها أو تزيد. قالوا: الصلاة في الدار المغصوبة تستلزم مصلحة ومفسدة تساويها/ أو تزيد، وقد صحت. قلنا: مفسدة الغصب ليست عن الصلاة وبالعكس، ولو نشآ معا عن الصلاة لم تصح.

والترجيح يختلف باختلاف المسائل، ويترجح بطريق إجمالي، وهو أنه لو لم يقدر رجحان المصلحة، لزم التعبد بالحكم). أقول: قال الآمدي: اختلفوا في الحكم الثابت لوصف مصلحي على وجه يلزم من شرع ذلك الحكم مفسدة راجحة على المصلحة أو مساوية، هل تنخرم مناسبته –أي فلا تكون علة لذلك الحكم –أو لا؟ . وقال الإمام: المختار إن المناسبة لا تبطل بالمعارضة وهذه العبارة أسد. ولكن قال الآمدي بعد هذا: والكلام في إثبات حكم لمصلحة يلزم من إثباته –تحصيلا لتلك المصلحة- مفسدة راجحة أو مساوية. لنا: أن العقل قاض بأنه لا مصلحة مع مفسدة تساويها أو تزيد عليها. قالوا: الصلاة في الدار المغصوبة، تقتضي صحتها مصلحة فيها، وحرمتها مفسدة فيها، والمصلحة لا تزيد على المفسدة وإلا لما حرمت، فيجب كون المفسد تساويها أو تزيد عليها، فلو انخرمت المناسبة بذلك لم تصح الصلاة، ولكنها صحيحة. الجواب: أن مفسدة الغصب ليست ناشئة عن الصلاة، ومصلحة الصلاة ليست ناشئة عن الغصب، فإنه لو أشغل المكان من غير صلاة لأثم، والكلام في مفسدة نشأت من شرع الحكم، ولو فرضناهما ناشئين من نفس الصلاة، لوجب ألا تصح، كما في صوم يوم العيد وذلك لتعارض الداعي

مسألة: والمناسب: مؤثر، وملائم، وغريب، ومرسل

إلى الأمر بها والصارف عنه مع المساواة، والأمر عند ذلك محال، انخرمت المناسبة أم لا. وإذا ثبت أنه لابد من رجحان المصلحة على المفسدة عند تعارضهما، فللترجيح طرق: فمنها تفصيلية تختلف باختلاف المسائل. ومنها: طريق إجمالي شامل لجميع المسائل، وهو أنه لو لم يقدر رجحان المصلحة على المفسدة في محل النزاع، لزم أن يكون الحكم ثبت فيه لا لمصلحة فيلزم التعبد بالحكم، وهو خلاف الأصل. قال الآمدي: اشتراط الترجيح في المناسبة إنما يتحقق على القول بعدم تخصيص العلة. قال: (والمناسب: مؤثر، وملائم، وغريب، ومرسل. لأنه إما معتبر أو لا، والمعتبر بنص أو إجماع هو المؤثر، والمعتبر بترتيب الحكم على وفقه فقط، إن ثبت بنص اعتبار عينه في جنس الحكم أو بالعكس، أو جنسه في جنس الحكم، فهو الملائم، وإلا فهو الغريب. وغير المعتبر هو المرسل، فإن كان غريبا أو ثبت إلغاؤه فمردود اتفاقا. وإن كان ملائما، فقد صرح الغزالي والإمام بقبوله، وذكر عن مالك والشافعي، والمختار رده. وشرط الغزالي فيه أن تكون المصلحة ضرورية قطعية كلية). أقول: التقسيم الثالث/ للمناسب بحسب اعتبار الشرع له:

والمناسب بهذا الاعتبار أربعة أقسام: مؤثر، وملائم، وغريب، ومرسل لأنه إما أن يثبت اعتباره شرعا أو لا. والأول: إما أن يثبت اعتباره بنص أو إجماع، أو بترتيب الحكم على وفقه فقط، بأن يثبت الحكم معه في المحل بنص أو إجماع دال على الحكم، فإن ثبت اعتباره –أي اعتبار عينه في عين الحكم بنص أو إجماع- فهو المؤثر لظهور تأثيره في الحكم بالنص، كقوله عليه السلام: "من مس ذكره فليتوضأ"، فإنه دل على اعتبار مس المحدث في عين الحدث. وتأثيره في الحكم بالإجماع، كتعليل الولاية في المال بالصغر، فإنه اعتبر عين الصغر في عين الولاية في المال بالإجماع، هكذا ذكر الغزالي في مثاله وتابعوه، والمصنف ذكر هذا المثال للقسم الأول من الملائم، وهو أظهر. وإن ثبت اعتباره لا بهما بل بترتيب الحكم على وفقه، فحينئذ إما أن يعتبر مع ذلك عين الوصف في جنس الحكم –يعني الجنس القريب- أو جنسه في عين الحكم، أو جنسه في جنس الحكم بنص أو إجماع –أو لا؟ . والأول بأقسامه الملائم، سمي بذلك لكونه موافقا لما اعتبره الشارع. والثاني هو الغريب.

والذي لم يثبت اعتباره بشيء من الوجوه السابقة هو المرسل. واعلم أن الجنسية في الحكم والوصف مراتب: أما في الوصف فأعم أجناسه كونه وصفا يناط به الحكم، ثم الوصف المناسب، ثم المناسب الضروري، ثم الضروري في أصله، ثم الضروري في حفظ العقل مثلا. وأما في الحكم فأعم أجناسه كونه حكما شرعيا، ثم الوجوب، وجوب الصلاة، ثم وجوب الظهر مثلا. وكلما كان الحكم والوصف أخص كان كون الوصف معتبرا في ذلك الحكم آكد، فيكون مقدما على ما هو أعم. ثم اعلم أن المرسل ينقسم إلى ما علم إلغاؤه، وإلى ما لم يعلم إلغاؤه. والثاني ينقسم إلى: ملائم، وغريب؛ لأنه إن اعتبر الشارع جنسه البعيد في جنس الحكم فهو المرسل الملائم، وإلا فهو المرسل الغريب. مثال المرسل الملائم: تعليل تحريم قليل النبيذ بأنه يدعو إلى كثيره وهذا مناسب، ولم يعتبر الشارع عين الوصف في عين الحكم بنص أو إجماع، ولم يثبت ترتيب الحكم على وقفه بنص أو إجماع، لكنه اعتبر جنسه البعيد في جنس الحكم، فإن الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشارع، فهذا ملائم من هذه الجهة لتصرف الشارع. والمرسل الغريب: والمرسل الذي ثبت إلغاؤه، لا يعلل بهما اتفاقا.

وأما المرسل الملائم: فقد صرح الإمام الغزالي بقبوله، ونقل عن مالك والشافعي. والمختار عند المصنف رده، إذ لو لزم من كونه من جنس ما اعتبر من المصالح أن يكون معتبرا، لزم من كونه من جنس ما ألغى من المصالح أن يكون ملغي؛ لأنه كما شارك الأوصاف المعتبرة في الجنس البعيد، شارك الأوصاف/ الملغاة فيه، واكتفى المصنف على الاستدلال على رده بما سيجيء له في المصالح المرسلة، وشرط الغزالي في قبوله شروطا ثلاثة: أن يكون الجنس البعيد ضروريا –أي من الضروريات الخمس- لا حاجيا قطعيا. والمراد: ما يكون الجزم حاصلا بحصوله كليا. والمراد: ما لا يكون مخصوصا ببعض المسلمين، كما لو تترس الكفار الصائلون بأسرى المسلمين، إذا قطعنا أنه إن لم يرم الترس استأصلوا المسلمين المترس بهم وغيرهم، فرمي الترس يكون مصلحة ضرورية قطعية كلية، وإنما وجب اعتباره حينئذ؛ لأن عدم اعتباره يوجب إخلال المقصود من الشرع، وهو حفظ الدين والنفس. قال الغزالي: فرمي الترس لا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، تحصيلا لمصلحة تقليل القتل الذي علم كونه مقصودا للشارع، وإن لم يشهد لتحصيل هذا المقصود بهذا الطريق –وهو قتل من لم يذنب- أصل معين، ولم

مسألة: فالأول: كالتعليل بالصغر

يعلم كونه مقصودا بدليل معين، بل بعمومات الكتاب والسنة وقرائن الأحوال، ولهذا سمي مصلحة مرسلة، إذ حفظ بيضة الإسلام أهم في مقصود الشارع من حفظ جماعة، وهذا مقطوع به في مقصود الشارع، ولهذا لم يحتج إلى أصل معين. فالشارع وإن لم يعتبر عين هذا الوصف –وهو استعلاء الإسلام بقتل الترس- في عين حكم- وهو قتل النفس- ولا يترتب الحكم على وفقه مع اعتبار عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو جنسه في جنسه، ولا بترتيب الحكم على وفقه فقط، إلا أنه علم اعتبار ما هو من باب الضرورة وهو حفظ بيضة الإسلام. أما لو لم تكن ضرورية، كأهل قلعة تترسوا بمسلمين، فإن فتحها ليس في محل الضرورة، لمعارضة حفظ الدين بحفظ النفس. وكذا لو لم تكن كلية، كرمي بعض المسلمين من السفينة إلى البحر لنجاة بعض؛ لأنه ترجيح لأحد المتساوين على الآخر من غير مرجح، وكذا لو لم نقطع بذلك، ولذلك لم يجز للمضطر قطع قطعة من فخذه لعدم الجزم بالخلاص، فلا تكون المصلحة قطعية، فلا يرتكب أمر محظور بمجرد الظن. قال: (فالأول: كالتعليل بالصغر في حمل النكاح على المال في الولاية فإن غير الصغير معتبر جنس حكم الولاية بالإجماع. والثاني: كالتعليل بعذر الحرج في حمل الحضر بالمطر على السفر في الجمع، فإن جنس الحرج معتبر في عين رخصة الجمع. والثالث: كالتعليل بجناية القتل العمد العدوان في حمل المثقل المحدد في القصاص، فإن جنس الجناية معتبر في جنس القصاص كالأطراف وغيرها.

والغريب/: كالتعليل بالفعل المحرم لغرض فاسد في حمل البتات في المرض على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض المقصود، حتى صار توريث المبتوتة كحرمان القاتل، وكالتعليل بالإسكار في حمل النبيذ على الخمر على تقدير عدم النص بالتعليل به. والغريب: الذي ثبت إلغاؤه، كإيجاب شهرين ابتداء في الظهار). أقول: فالأول –يعني من أمثلة الملائم- وهو تأثير عين الوصف في جنس الحكم، كما يقال: "تثبت للأب ولاية النكاح على الصغيرة، كما يثبت له عليها ولاية المال بجامع الصغر"، فالوصف: الصغر، وهو أمر واحد، والحكم: الولاية، وهو جنس يجمع ولاية النكاح وولاية المال، وهما نوعان من التصرف، وعين الصغر معتبر في جنس الولاية بالإجماع. الثاني من الملائم: ما اعتبر جنس الوصف في عين الحكم، كما يقال: "الجمع جائز في الحضر مع المطر قياسا على السفر بجامع الحرج"، والحكم: رخصة الجمع وهو واحد، والوصف: الحرج، وهو جنس تحته ما يحصل بالسفر، وهو خلاف الضلال والانقطاع، وبالمطر وهو التأذي به، وهما نوعان، وقد اعتبر جنس الحرج في عين رخصة الجمع بالإجماع على ما ذكر في المنتهى. الثالث من الملائم: ما اعتبر جنس الوصف في جنس الحكم، كما يقال: "يجب القصاص في القتل بالمثقل، قياسا على القتل بالمحدد بجامع كونهما جناية عمد عدوان"، فالحكم: مطلق القصاص، وهو جنس

لقصاص النفس والطرف، والوصف: جناية العمد العدوان، وهو جنس للجناية على النفس والطرف والمال، وقد اعتبر جنس الجناية في جنس القصاص، والمراد من جنس الأعم، ذاتيا كان أو عرضيا. مثال الغريب –الذي هو قسيم المرسل-: ما يقال فيمن طلق امرأته ثلاثا في مرض موته: "يحكم بإرثها معارضة بنقيض مقصودة، قياسا على القاتل حيث لم نورثه معارضة بنقيض مقصوده، والجامع كونهما فعلا محرما لغرض فاسد". فهذا له وجه مناسبة، وفي ترتيب الحكم عليه تحصيل مصلحة –وهو نهيهما عن الفعل الحرام- لكن لم يشهد له أصل بالاعتبار بنص أو إجماع، واعتباره بترتيب الحكم على وفقه فقط، ولم يعتبر عينه في جنس الحكم، ولا جنسه في عين الحكم، ولا جنسه في جنسه بنص أو إجماع". قال الغزالي: "وسمي هذا غريبا؛ لأن الشارع لم يحكم على وفقه إلا مرة واحدة". وفي هذا المثال نظر؛ لأنه علم اعتبار عين الفعل المحرم لغرض فاسد في عين المعارضة بنقيض المقصود بالنص، وهو قوله عليه السلام: "القاتل لا يرث"، فيكون مناسبا مؤثرا، وقد تقدم له هذا في الإيماء.

وجل الشراح جعلوا هذا المثال للغريب المرسل. ولا خفاء في فساده؛ لأن الغريب المرسل حكى المصنف الاتفاق على عدم التعليل به، وهذا قد ثبت/ اعتباره في الأصل بترتيب الحكم على وقفه، وثبت في الفرع عند مالك وأكثر العلماء، قال الغزالي: "وقد ورثوا امرأة عبد الرحمن بن عوف، ولم ينكر عليهم". مثال آخر للغريب –الذي هو قسيم المرسل وهو تقديري، ولكن المثال إنما يراد للتفهيم لا لنفسه-: ما لو قيل: "يحرم النبيذ قياسا على الخمر بجامع الإسكار"، على تقدير عدم النص بالتعليل به، لأن الإسكار مناسب للتحريم حفظا للعقل، وثبت اعتباره بترتيب الحكم على وفقه، فلو لم يدل النص وهو: "كل مسكر حرام" بالإيماء على اعتبار عينه في عينه لكان غريبا؛ لأنه لم يعتبر عينه في جنس الحكم في أصل آخر متفق عليه، ولا جنسه في عين الحكم، ولا جنسه في جنسه.

مسألة: وثبت علية الشبه لجميع المسالك

وبعضهم جعل هذا –أيضا- مثالا للغريب المرسل. وهو فاسد؛ لاعتباره بترتيب الحكم على وفقه في الأصل أيضا، على تقدير عدم النص بالتعليل به. واعلم أنهم لم يختلفوا في التعليل بالمؤثر والملائم. واختلفوا في صحة التعليل بالغريب، واختار الغزالي وكثير صحة التعليل به، واختاره الآمدي أيضا، إلا أن القسم الثالث –وهو ما اعتبر جنس الوصف في جنس الحكم- من الغريب عند الآمدي. وأما الذي ثبت إلغاؤه: فكإيجاب شهرين ابتداء في الظهار قبل العجز عن الإعتاق بالنسبة إلى من يسهل عليه العتق دون الصوم، فإنه مناسب تحصيلا لمقصود الزجر، كما أفتى به بعض العلماء بعض الملوك، لكن علم عدم اعتبار الشارع له. قال: (وثبت علية الشبه بجميع المسالك.

وفي إثباته بتخريج المناط نظر. ومن ثم قيل: هو الذي لا تثبت مناسبته إلا بدليل. ومنهم من قال: ما يوهم المناسبة/ ويتميز عن الطردي بأن وجوده كالعدم، وعن المناسب الذاتي بأن المناسبة عقلية وإن لم يرد شرع، كالإسكار للتحريم. مثاله: طهارة تراد للصلاة، فيتعين الماء كطهارة الحدث، فالمناسبة غير ظاهرة، واعتبارها في مس المصحف والصلاة يوهم. وقول الراد له: إما أن يكون مناسبا أو لا. والأول: مجمع عليه، فليس به. والثاني: طرد فيلغى. أجيب: مناسب، والمجمع عليه المناسب لذاته، أو لا واحد منهما). أقول: الشبه هو: الوصف الذي اعتبره الشارع في بعض الأحكام، فإذا وجد مثله في محل آخر تعينت التعدية، لعلمنا أن الشارع لا يخصص المثل بحكم عنه مثله، وعلية الشبه بجميع المسالك. أما بالنص والإجماع، فبأن يقال: إنهما دالا على اعتبار هذا الوصف في بعض الأحكام، فاعتباره ثم يوهم اعتباره هنا للمناسبة الموهومة. وأما بالسبر، فبأن يقال/: الحكم لابد له من مصلحة، وهي إما في ضمن الشبهي أو الطردي لعدم ما سواهما بعد السبر الكامل، ولا خفاء أن

اشتمال الشبهي عليها أغلب على الظن من الطردي، وما غلب على الظن اشتماله عليها يجب العمل به، لوجوب العمل بالظن في علل الأحكام. وهل تثبت عليته بتخريج المناط؟ . فيه نظر؛ ومن أجل أنه لا تثبت عليته بالمناسبة، قيل في تعريف الشبه تارة: هو الذي لا تثبت مناسبته إلا بدليل منفصل، وإذا كان كذلك فلا يمكن إثباته بتخريج المناط؛ لأنه إنما يتحقق فيما ثبتت مناسبته من ذاته. وقيل في تعريفه تارة: ما يوهم المناسبة، فلا يثبت بما يوجب المناسبة، إذ بينهما تناف. وإنما جعله المصنف محل نظر ولم يجزم بأنه لا تثبت عليته بالمناسبة، بناء على ما ذكر من مراعاة لتفسير الشبه بما ذكره الآمدي عن القاضي، وإن لم يذكره المصنف، وهو أن الشبه يفسر بقياس الدلالة، وهو الذي يجمع فيه بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم، لكن يستلزم ما يناسب الحكم، هذا أمثل ما يقال في هذا المكان. وقد اضطرب فيه الشراح، وذكروا فيه نحو أربعة أوجه، وجعل كثير

منهم –ومن ثم- راجعا إلى قوله: وتثبت عليه الشبه بجميع المسالك، ويلزم عليه عدم بيان وجه النظر، مع أنه لا يظهر تعلقه به على التفسير الثاني. واعلم أنه يشبه المناسب من حيث التفات الشارع إليه، ويشبه الطردي من حيث إنه غير مناسب، ويتميز عنه بأن الطردي وجوده كالعدم، ويتميز عن الناسب الذاتي بأن المناسبة عقلية وإن لم يرد شرع –كالإسكار للتحريم- فإن كونه مزيلا للعقل الضروري للإنسان، وكونه مناسبا للمنع منه مما لا يحتاج في العلم به إلى ورود الشرع. مثال الشبه: ما لو قيل في إزالة النجاسة: "طهارة تراد للصلاة فيتعين الماء، كطهارة الحدث"، فإن المناسبة بين كونها طهارة تراد للصلاة وبين تعين الماء غير ظاهرة، لكن إذا اجتمعت أوصاف منها ما اعتبره الشارع ومنها ما لم يعتبره، كان إلغاء ما لم يعتبره واعتقاد خلوه عن المصلحة أولى، بخلاف ما اعتبره، فإنه يوهم أنه مناسب وأن ثم مصلحة، وقد اعتبرها حيث اعتبرها لذلك، فاعتبار الشرع للطهارة بالماء- وهو الوضوء في مس المصحف وفي الصلاة وفي الطواف- يوهم مناسبته، فيصدق عليه حد الشبه. واحتج الراد للشبه وهو القاضي: بأن الشبه إما أن يكون مناسبا، أو لا؟ . والأول: مجمع على قبوله، والثاني: هو الطردي، وهو مجمع على رده، فشيء/ منهما لا يكون شبها؛ لأن الشبه مختلف فيه. الجواب: نختار أنه مناسب.

مسألة: الطرد والعكس

قوله: فيكون مجمعا على قبوله. قلنا: متى إذا كان مناسبا لذاته أو أعم؟ . الأول: مسلم، والثاني: ممنوع، فإن الإجماع ما انعقد إلا على المناسب بالذات، وهو المعنى بالمناسب عند الإطلاق. سلمنا أنه ليس بمناسب، قولك: فيكون طرديا. قلنا: لا نسلم، ولا يكون مناسبا ولا طرديا، بل واسطة بينهما يتميز عن كل واحد منهما بما ذكر. قال: (الطرد والعكس. ثالثها: لا يفيد بمجرده قطعا ولا ظنا. لنا: أن الوصف المتصف بذلك إذا خلا عن السبر أو عن أن الأصل عدم غيره أو غير ذلك، جاز أن يكون ملازما للعلة، كرائحة المسكر، فلا قطع ولا ظن. واستدل الغزالي: بأن الاطراد سلامته من النقص، وسلامته من مفسد واحد لا يوجب انتفاء كل مفسد. فلو سلم فلا صحة إلا بمصحح، والعكس ليس شرطا فيها فلا يؤثر. وأجيب: قد يكون للاجتماع تأثير، كأجزاء العلة. واستدل: بأن الدوران في المتضايفين، ولا علة. أجيب: انتفت بدليل خاص مانع. قالوا: إذا حصل الدوران –ولا مانع من العلة- حصل العلم أو الظن عادة، كما لو دعي إنسان فغضب، ثم ترك فلم يغضب، وتكرر ذلك،

علم أنه سبب الغضب، حتى إن الأطفال يعلمون ذلك. قلنا: لولا ظهور انتفاء غير ذلك بحيث، أو بأنه الأصل لم يظن، وهو طريق مستقل، ويقوى بذلك). أقول: الطرد والعكس: هو كون الوصف بحيث يوجد الحكم بوجوده ويعدم بعدمه، وهو المسمى بالدوران. وقد اختلف في دلالته على العلية، فقيل: يدل عليها ظنا. وقيل: قطعا. وقيل: لا يدل عليها أصلا، وهو المختار. لنا: أو الوصف المتصف بالطرد والعكس، إنما يكون مجردا إذا خلا عن السبر وهو أخذ غيره معه وإبطاله، وعن أن الأصل عدم غيره من غير التفات إلى أخذ غيره معه، أو غير ذلك من مناسبة أو شبه، ولا شك أنه إذا خلا عن هذه الأشياء، فكما جاز أن يكون علة جاز أن يكون ملازما لها الرائحة المخصوصة الملازمة للمسكر، فإنها تعدم قبل الإسكار وتوجد معه وتزول بزواله، ومع ذلك فليست علة قطعا، مع هذا الاحتمال لا يحصل

القطع بالعلة ولا الظن، ويكون الحكم بعليتها تحكما اللهم إلا بالالتفات إلى نفي وصف غيره بالأصل أو السبر فيخرج عن البحث. قيل: إن أراد بالجواز تساوي الطرفين، منع، وإن أراد به عدم الامتناع، لم يناف الظن. قلت: لا ينافي الظن ولا يوجبه. واستدل الغزالي: بأن المفيد لعلية الوصف، إما الطرد/ وحده أو بقيد الانعكاس، وكلاهما باطل، أما الأول؛ فلأن الاطراد حاصله أنه لا يوجد في صورة بدون الحكم، ووجوده بدون الحكم هو النقض، فيكون الاطراد السلامة عن النقض، والنقض أحد مفسدات العلة، والسلامة من مفسد واحد لا يوجب انتفاء كل مفسد، ولا ينتفي الفساد إلا بانتفاء كل مفسد. سلمنا، لكن انتفاء كل مفسد لا يكفي في الصحة، فلابد من مقتض للصحة، إذ عدم المانع وحده لا يصلح علة، فلا يكون كافيا، والعكس ليس شرطا في العلة لما مر، ولو سلم أنه شرط فأين المقتضي؟ . الجواب: لم لا يجوز أن يكون للهيئة الاجتماعية أثر كما في أجزاء العلة، فإن كل واحد لا يصلح علة، ويحصل من اجتماعها مجموع هو العلة. قلت: اجتماع عدم المانع وما ليس معتبرا لا شرطا ولا جزءا لا يكون مؤثرا، وليس كالأجزاء لانتفاء الحكم بانتفاء الجزء، بخلاف العكس. واستدل: بأن الدور ثابت في المتضايفين ولا علة، فلو اقتضى العلة لثبتت مع ثبوته.

مسألة: والقياس جلي وخفي

الجواب: أن دلالته ظنية، فيجوز التخلف لدليل خاص يمنع منه، وهو كون كل منهما مع الآخر، وذلك لا يقدح في الدلالة الظنية. غايته أن قاطعا عارض ظنيا، فبطل أثره في صورة التعارض، ويعمل به في غيره. قالوا: إذا وجد الدوران ولا مانع من العلية من معية كما في المتضايفين، أو تأخر كما في المعلول، أو غيرهما كما في الشرط المساوي، حصل العلم بالعلية أو الظن، والعلم به عادة. ويحققه: أنه لو دعي إنسان باسم فغضب، ثم ترك فلم يغضب، وتكرر ذلك، علم ضرورة أنه سبب الغضب، حتى أن من لا نظر له كالأطفال يعلمون ذلك، ويدعونه به قصدا لإغضابه، ولولا أنه ضروري لما علموه. الجواب: نمنع حصول العلم بمجرده، ولولا ظهور انتفاء غير ذلك، إما بأنه بحث عنه فلم يوجد، وإما بأن الأصل عدمه لما ظن. والنزاع في إفادته بمجرده –وهو يعني السبر في قوله: بحثت فلم أجد والأصل عدم ما سواها- طريق مستقل في إفادة العلية، والدوران مقول ذلك الظن، ولا يلزم من إفادة الشيء تقوية الظن الحاصل بغيره بإفادته للظن بمجرده. والحق: أن هذا إنكار للضرورة؛ لأن الأطفال يقطعون به من غير استدلال بما ذكر. قال: (والقياس: جلي وخفي. فالجلي: ما قطع بنفي الفارق فيه، كالأمة والعبد في العتق.

وينقسم إلى: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس في معنى الأصل. فالأول: ما صرح فيه بالعلية. والثاني: ما يجمع فيه بما يلازمها، كما لو جمع بأحد موجبي العلة في الأصل لملازمة الآخر، كقياس قطع الجماعة بالواحد على قتلها بالواحد بواسطة الاشتراك/ في وجوب الدية عليهم. الثالث: الجمع بنفي الفارق). أقول: الباب الثالث في أقسام القياس: وهو ينقسم بحسب القوة والضعف إلى: جلي، وخفي. فالجلي: ما علم فيه نفي الفارق بين الأصل والفرع قطعا، كقياس الأمة على العبد في أحكام العتق، كالتقويم على معتق الشقص، فإنا نعلم قطعا أن الذكورة والأنوثة فيها مما لا يعتبره الشارع. والخفي: ما يكون نفي الفارق فيه مظنونا، كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة، إذ يجوز أن تكون خصوصية الخمر معتبرة ولذلك اختلف في قليله. وينقسم –أيضا- باعتبار علته إلى: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس في معنى الأصل. فقياس العلة: ما صرح فيه بالعلية، كما يقال: "النبيذ مسكر فيحرم كالخمر". وقياس الدلالة: ما لم تذكر في علة، بل يذكر الوصف الملازم لها، كما

مسألة: يجوز التعبد بالقياس

لو قاس قطع أيدي الجماعة بالواحد على قتل الجماعة بالواحد، بجامع وجوب الدية عليهم في الصورتين على تقدير إيجابها، وذلك لأن الدية والقصاص موجبان للجناية لحكمة الزجر في الأصل وقد وجد في [القطع] أحدهما وهو الدية، فيوجد الآخر وهو القصاص عليهم؛ لأنهما متلازمان نظرا إلى اتحاد علتهما وحكمتهما. وحاصله: إثبات حكم في الفرع هو وحكم آخر توجبهما علة واحدة في الأصل، فيقال: يثبت هذا الحكم في الفرع لثبوت الآخر فيه وهو ملازم له، فيكون قد جمع بأحد موجبي العلة في الأصل، لوجوده في الفرع بين الأصل والفرع في الموجب الآخر، لملازمة الآخر له. ويرجع إلى الاستدلال بأحد الموجبين على العلة، وبالعلة على الموجب الآخر، لكن يكتفى بذكر موجب العلة عن التصريح بها. والقياس في معنى الأصل: أن يجمع بنفي الفارق، ويسمى تنقيح المناط كقصة الأعرابي، ينفي كونه أعرابيا، فيلحق به الحضري، وينفي كون الإفساد بالوقاع، فيلحق به الأكل عمدا. قال: (يجوز التعبد بالقياس، خلافا للشيعة والنظام وبعض المعتزلة. وقال القفال وأبو الحسين: يجب عقلا. لنا: القطع بالجواز. وأيضا: لو لم يجز لم يقع، وسيأتي. قالوا: العقل يمنع مما لا يؤمن فيه الخطأ.

رد: بأن منعه هنا ليس إحالة، ولو سلم، فإذا ظن الصواب لا يمنع. قالوا: قد علم الأمر بمخالفة الظن، كالشاهد الواحد، والعبيد، ورضيعة في عشر أجنبيات. قلنا: بل علم خلافه بخبر الواحد، فظاهر الكتاب، والشهادات وغيرها، وإنما يمنع لمانع خاص). أقول: الباب الرابع: في حجية القياس وإثباته على منكريه. وفيه مسائل: الأولى: /في جواز التعبد بالقياس. والتعبد بالقياس هو: أن يوجب الشرع العمل بموجبه، وهو إما أن يكون ممتنعا عقلا، أو جائزا، أو واجبا، وقد قال بكل منها قائل. فعندنا: يجوز. وعند الشيعة، والنظام، وبعض المعتزلة: يمتنع. وعن القفال، وأبي الحسين: يجب. لنا: القطع بالجواز، إذ ليس من الممتنع أن يقول الشارع: إذا ظننتم أن

حكما معللا بعلة فألحقوا به ما شاركه في تلك العلة، وكيف يمتنع عقلا ما يحسن وروده من الشارع، إذ يحسن منه أن يقول: "لا يقضي القاضي هو غضبان"، لأن الغضب مما يوجب اختلال فهمه ورأيه، فقيسوا على الغضب ما كان في معناه مما يشوش الذهن، كالجوع والعطش. وأيضا: لو لم يجز لم يقع، وقد وقع، وسيأتي. قالوا أولا: القياس طريق لا يؤمن فيه الخطأ، وكل طريق لا يؤمن في الخطأ فالعقل مانع من سلوكه، ولا نعني بعدم جوازه عقلا إلا ذلك. الجواب: منع الكبرى، ولا نسلم أن العقل يحكم باستحالته، إذ العقل إنما يمنعه منع أولوية لا منع استحالة، ومثله لا يمتنع التعبد به شرعا، فهو نصب للدليل في غير محل النزاع. سلمنا أن منعه إحالة، لكن لا نسلم أن منعه ثابت في جميع الصور، بل يختص بما لا يغلب فيه جانب الصواب، أما إذا ظن الصواب فلا يمنع، فإن المظان الأكثرية لا تترك للاحتمالات الأقلية، وإلا تعطلت أكثر الأسباب الدنيوية والأخروية، فيرجع إلى منع كلية الكبرى، ولو قدم الجواب الثاني على الأول كان أولى. قيل: متعلق الظن بالصواب، [وهو لا يحتمل الخطأ]، لا نفس الظن

وإلا لم يكن الظن ظنا. رد: بأن الصواب يحتمل الخطأ عند العقل، وإن لم يحتمله في نفس الأمر فيمنعه العقل عند العقلاء؛ لأنه مما لا يؤمن فيه الخطأ. والجواب: أن منعه ليس إحالة. قالوا ثانيا: الشارع قد أمر بمخالفة الظن؛ لأنه منع الحكم بشهادة واحد –وإن كان صالحا- وشهادة العبيد- وإن أفادت ظنا قويا-، ومنع من نكاح الأجنبيات إذا اشتبهن برضيعة، فإن كل واحدة على التعيين يظن كونها غير الرضيعة، لتحققه على تسع تقادير، ولا يتحقق خلافه إلا على تقدير واحد، ومع ذلك أمرنا بمخالفة الظن، وحرم التزوج بها. الجواب: لا نسلم ورود الشرع بمخالفته، بل المعلوم خلافه، كما في خبر الواحد، وظاهر الكتاب، وفي الشهادة المختلفة المراتب، كالشاهد واليمين، والشاهدين، والأربع. وما ذكرتموه إنما فيه منع من اتباع الظن لمانع/ خاص؛ إذ مراتب الظن وحصولها بأسبابها بحسب الوقائع، وذلك مما يختلف، فنيطت بمظان ظاهرة منضبطة، فكان ما ذكرتموه نقضا لمجرد الحكمة الذي سميناه كسرا، وقد تقدم أنه لا يضر. ولو سلم، فالنزاع في المنع العقلي لا الشرعي.

مسألة: النظام: إذا ثبت ورود الشرع بالفرق بين المتماثلات

قال: (النظام: إذا ثبت ورود الشرع بالفرق بين المتماثلات كإيجاب الغسل وغيره بالمني دون البول، وغسل بول الصبية ونضح بول الصبي وقطع سارق القليل دون غصب الكثير، والجلد بنسبة الزنا دون نسبة الكفر، والقتل بشاهدين دون الزنا، وكعدتي الموت والطلاق. والجمع بين المختلفات كقتل الصيد عمدا وخطأ، والردة، والزنا، والقاتل، واللائط في الصوم، والمظاهر في الكفارة، استحال التعبد بالقياس. رد: بأن ذلك لا يمنع الجواز، لجواز انتفاء صلاحية ما توهم جامعا، أو وجود معارض في الأصل أو الفرع، أو لاشتراك المختلفات في معنى جامع، أو لاختصاص كل بعلة لحكم خلافه. قالوا: يفضي إلى الاختلاف، فيرد لقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله}. رد: بالعمل بالظواهر، وبأن المراد التناقض، أو ما يخل بالبلاغة، فأما الأحكام فمقطوع بالاختلاف فيها. قالوا: إن كان كل مجتهد مصيبا، فكون الشيء ونقيضه حقا محال، وإن كان المصيب واحدا، فتصويب أحد الظنين –مع الاستواء- محال. رد: بالظواهر، وبأن النقيضين شرطهما الاتحاد، وبأن تصويب أحد الظنين لا بعينه جائز. قالوا: إن كان القياس كالنفي الأصلي فمستغنى عنه، وإن كان مخالفا فالظن لا يعارض اليقين.

رد: بالظواهر، وبجواز مخالفة النفي الأصلي بالظن. قالوا: حكم الله يستلزم خبره عنه، ويستحيل بغير التوقيف. قلنا: القياس نوع من التوقيف. قالوا: يتناقض عند تعارض علتين. رد: بالظواهر، وبأنه إن كان واحدا رجح، فإن تعذر وقف على قول، وتخير عند الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، وإن تعذر فواضح. الموجب: النص لا يفي بالأحكام، فقضى العقل بالوجوب. رد: بأن العمومات يجوز أن تفي، مثل: كل مسكر حرام). أقول: قالوا ثالثا: - وهو مما اختص به النظام –قال: قد ثبت من الشرع الفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات، ومتى كان كذلك استحال التعبد بالقياس. أما الفرق بين المتماثلات، فمنه: إيجاب الغسل ومنعه من قراءة القرآن ومس المصحف والمكث في المسجد بخروج المني دون البول، مع كون كل منهما فضلة مستقذرة. ومنه: إيجاب الغسل من بول الصبية دون بول الصبي، إذ يكتفى فيه بالنضح. ومنه: / قطع سارق القليل دون غاصب الكثير. ومنه: إيجاب الجلد بنسبة الزنا إلى الشخص دون نسبة القتل والكفر إليه. ومنه: ثبوت القتل بشاهدين دون الزنا.

ومنه: الفرق بين عدتي الموت والطلاق، ففي الأولى أربعة أشهر وعشرا وفي الثانية ثلاثة قروء. وأما الجمع بين المختلفات: فمنه التسوية بين قتل الصيد عمدا وخطأ في الإحرام. ومنه: التسوية بين الزنا والردة في القتل. ومنه: التسوية بين القاتل خطأ، والواطئ في الصوم، والمظاهر عن امرأته، في إيجاب الكفارة عليهم. وأما إنه إذا ثبت ذلك استحال التعبد بالقياس؛ فلأن معنى القياس وحقيقته ضد ذلك، لأن القياس إنما يعتبر باعتبار الجامع، فإذا لم يعتبر الشارع المثلية بين المتماثلات، واعتبر الجمع بين المختلفات، لزم عدم اعتبار الجامع، وإلا لاعتبر المثلية بين المتماثلات للجامع، وفرق بين المختلفات لعدم الجامع، فإذا لم يعتبر الجامع امتنع القياس، فامتنع التعبد به. الجواب: منع الثانية، وأن ذلك لا يمنع جواز التعبد بالقياس. أما الفرق بين المتماثلات؛ فلأن الاشتراك في الحكم بينهما إنما يثبت إذا كان ما به الاشتراك يصلح علة للحكم ليصلح جامعا، ولا يكون له معارض في الأصل هو المقتضي للحكم دون هذا، ولا معارض في الفرع أقوى يقتضي خلاف ذلك الحكم، وشيء من ذلك غير معلوم فيما ذكرتم، لجواز عدم صلاحية ما توهمتم جامعا، أو وجود المعارض له إما في الأصل أو الفرع. وأما الجمع بين المختلفات، فلجواز اشتراكهما في معنى جامع هو العلة للحكم في الكل؛ إذ لا يمتنع اشتراك المختلفات في صفات ثبوتية، أو

لاختصاص كل من المختلفات بعلة تقتضي حكم المخالف الآخر، فإن العلل المختلفة لا يمتنع أن توجب في المحال المختلفة حكما واحدا. قالوا رابعا: القياس يفضي إلى الاختلاف، وكل ما يفضي إلى الاختلاف مردود. أما الأولى: فالاختلاف الأنظار والقرائح، فيلحق أحدهما الفرع بأصل، ويلحقه الآخر بأصل آخر. وأما الثانية: فلقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، سيقت للمدح بعدم الاختلاف الموجب للرد، دل على أن ما هو من عند الله لا يوجد فيه اختلاف كثير، فما يوجد فيه اختلاف كثير لا يكون من عند الله، وحكم القياس فيه اختلاف كثير فلا يكون من عند الله، وكل حكم لا يكون من عند الله مردود إجماعا. الجواب: أنه منقوض بالعمل بالظواهر، فإنه يفضي إلى الاختلاف، وبأن الاختلاف/ المنفي في الآية إنما هو التناقض والاضطراب في النظم المخل بالبلاغة التي وقع بها التحدي، وأما الأحكام فمقطوع بالاختلاف فيها. قالوا خامسا: لو جاز الاجتهاد بالقياس، فإما أن يكون كل مجتهد مصيبا، وإما أن يكون المصيب واحدا. فإن كان الأول، لزم أن يكون الشيء ونقيضه حقا، ضرورة وقوع التناقض في الآراء، كالقول بالحل والقول بالحرمة، واللازم باطل. وإن كان الثاني، فتصويب أحد الظنين مع استوائهما تحكم محض.

الجواب أولا: النقض بالظواهر، إذ الاجتهاد لا يختص بالقياس. وثانيا: نختار القسم الأول، قوله: فيكون الشيء ونقيضه حقا، قلنا: ممنوع؛ لأن النقيضين شرطهما الاتحاد فيما عدا السلب والإيجاب، ولم يوجد هنا الاتحاد في الموضوع وفي الإضافة، إذ حكم كل مجتهد ثابت بالإضافة إليه ومقلده دون غيره. وثانيا: أن نختار القسم الثاني: وإنما يلزم التحكم لو صوبنا معينا، أما إذا صوبنا أحدهما لا يعينه فلا تحكم، على أنه مدفوع، إذ ترجيح أحدهما يكون بالترجيحات المعتبرة. قالوا سادسا: إن كان حكم القياس موافقا للبراءة الأصلية، يكون مستغنى عنه لثبوت مقتضاه بالأصل، وإن خالفها فهو باطل؛ لأنه مطنون والبراءة الأصلية متيقنة، والظن لا يعارض اليقين. الجواب أولا: النقض بالظواهر، وبأنه يجوز ترك النفي الأصلي بالظن، وليس من تقديم المظنون على المقطوع، بل تقديم مظنون على مظنون، كما قدم الإقرار والشهادة على البراءة الأصلية. قالوا سابعا: حكم الله تعالى يستلزم أن يخبر عنه؛ لأن حكمه مفسر بخطابه، ويستحيل خبره عنه بغير التوقيف لأنه تكليف للغافل، والحكم الثابت بالقياس لا يكون توقيفا لأنه فعلنا، فلا يكون حكم الله. الجواب: إنما يلزم ذلك لو لم يكن القياس نوعا من التوقيف، لكنه منه لاستناده على الأصل الثابت بالنص، وإلى التعبد بالقياس.

قالوا ثامنا: القياس يفضي إلى التناقض فيكون باطلا، وذلك عند تعارض علتين تقتضي كل منهما نقيض الأخرى، وحينئذ يجب اعتبارهما وإثبات حكمهما لأنه المفروض، فيلزم التناقض. الجواب: النقض بالظواهر لأنها قد تتعارض، وبأن هذا الفرض إن كان في قائس واحد رجح بطرق الترجيح، وإن لم يقدر على الترجيح، فإما أن يقف كما قال كثير من الفقهاء، وإما أن يتخير أيهما شاء فيعمل به كما قال الشافعي وأحمد، وإن تعدد القائس فواضح ألا تناقض، إذ يعمل كل بقياسه فيما يتحد متعلقاهما. احتج القائل بأنه يحب عقلا التعبد بالقياس: أن الأحكام لا نهاية لها، والنصوص متناهية، فلا تفي بها، فيقتضي العقل بوجوب التعبد بالقياس لئلا تخلو الوقائع عن الأحكام، وهو خلاف المقصود من بعث الرسل. الجواب –بعد تسليم أن لكل واقعة حكما-: أن الذي لا يتناهي الجزئيات لا الأجناس، ويجوز التنصيص على الأجناس بعمومات تتناول جزئياتها حتى تفي بالأحكام كلها، مثل: "كل مسكر حرام"، و "كل ذي ناب حرام"، {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} إلى غير ذلك، مع أن ما ذكروه مبني على رعاية الأصلح، هو غير مسلم.

مسألة: القائلون بالجواز قائلون بالوقوع

قال: (مسألة القائلون بالجواز قائلون بالوقوع، إلا داود، وابنه، والقاساني، النهرواني. والأكثر: بدليل السمع. والأكثر: قطعي، خلافا لأبي الحسين. لنا: ثبت بالتواتر عن جمع كثير من الصحابة العمل به عند عدم النص وإن كانت التفاصيل آحادا، والعادة تقتضي بأن مثل ذلك لا يكون إلا بقاطع. وأيضا: تكرر وشاع ولم ينكر، والعادة تقضي بأن السكوت في مثله وفاق. فمن ذلك: رجوعهم إلى أبي بكر في قتال بني حنيفة على الزكاة، وقول بعض الأنصار في أم الأب: تركت التي لو كانت هي الميتة ورث الجميع، فشرك بينهما، وتوريث عمر المبتوتة بالرأي، وقول علي لعمر لما شك في قتل الجماعة بالواحد: أرأيت لو اشترك نفر في سرقة؟ . ومن ذلك: إلحاق بعضهم الجد بالأخ وبعضهم بالأب، وذلك كثير. فإن قيل: أخبار آحاد في قطعي. سلمنا، لكن لا يجوز أن يكون عملهم بغيرهما. سلمنا: لكنهم بعض الصحابة. سلمنا أن ذلك دليل من غير نكير، ولا نسلم نفي الإنكار. سلمنا، لكنه لا يدل على الموافقة. سلمنا، لكنها أقيسة مخصوصة.

والجواب عن الأول: أنها متواترة في المعنى، كشجاعة علي. وعن الثاني: القطع من سياقها بأن العمل بها. وعن الثالث: شياعه وتكرره قاطع –عادة- بالموافقة. وعن الرابع: أن العادة تقضي بنقل مثله. وعن الخامس: ما سبق في الثالث. وعن السادس: القطع بأن العمل لظهورها لا لخصوصها كالظواهر). أقول: القائلون بجواز التعبد بالقياس، اختلفوا في ورود التعبد الشرعي به. فقال داود وابنه، والقاساني، والنهرواني: لم يرد التعبد به شرعا، بل ورد بحظره، ولم يقضوا لوقوعه إلا فيما كانت العلة فيه منصوصة أو مومأ إليها. وذهب الباقون إلى أن التعبد الشرعي به واقع بدليل السمع. واختلفوا في وقوعه بدليل العقل كما تقدم، ثم الدليل السمعي قطعي عند جميعهم، خلافا لأبي الحسين البصري، فخرج من هذا أن أبا لحسين/

يقول: دليله العقل والنقل، ولكن النقل ظني. احتج المصنف على أن الدليل السمعي القطعي دل على وقوع لتعبد به: أنه ثبت بالتواتر عن جمع كثير من الصحابة العمل بالقياس عند النص، والعادة تقتضي أن إجماع مثلهم في مثله لا يكون إلا عن قاطع، فيوجد القاطع على حجته، وما كان كذلك فهو حجة قطعا، فالقياس حجة قطعا وتفاصيل ما نقل إلينا من العمل بالقياس عنهم –وإن كانت آحادا- فالقدر المشترك وهو أن الصحابة كانوا يعملون بالقياس قد تواتر. قلت: ولقائل أن يقول: إنما عملوا به فيما كانت العلة فيه منصوصة أو مومأ إليها. سلمنا، لكن قوله: "إجماع مثلهم في مثله لا يكون إلا عن قاطع" نمنعه، ولم لا يكون عن ظني جلي؟ . واحتج أيضا: بأن عملهم بالقياس تكرر وشاع ولم ينكر، والعادة تقضي بأن السكوت في مثله –من الأصول العامة- وفاق، فيكون الإجماع القطعي حاصلا على أن القياس متعبد به، وليس هذا من الإجماع السكوتي الذي لا يفيد الظن، لأن ذلك في جزئية، وهنا تكرر في وقائع لا تحصر فأفاد القطع. فمن الوقائع التي عملوا بالقياس فيها: رجوعهم إلى أبي بكر في قتال بني حنفية على منع الزكاة، قياسا لخليفة رسول الله، أو قياسا للزكاة على الصلاة؛ لأن أبا بكر أشار إلى الأمرين

بقوله: "لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه"، ثم قال: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة". ومن ذلك: قول بعض الأنصار لأبي بكر لما ورث أم الأم وحرم أم الأب: لقد ورثت امرأة لو كانت هي الميتة لو يرثها، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع مالها، فرجع أبو بكر فشرك بينهما في السدس، إما قياسا لأحد أصلي الموروث على الأخر، أو قياسا لإرثها على إرثه منها. ومن ذلك: أن عمر ورث المبتوتة في المرض، بالقياس على منع القاتل الميراث، بجامع المعارض بنقيض المقصود. والذي ذكر غير واحد أن الذي ورث المبتوتة هو عثمان، في امرأة عبد الرحمن بن عوف.

ومن ذلك: قول علي لعمر لما شك في قتل الجماعة في الواحد: "أرأيت لو اشترك نفر في سرقة، أكنت تقطعهم؟ قال: نعم، فقال: فكذا هنا"، فرجع عمر إلى قول علي. ومن ذلك: إلحاق بعض الصحابة الجد بالأخ فشركه معه، وبعضهم ألحقه بالأب فأسقط به الأخ، إلى غير ذلك مما لا يحصر. فإن قيل: الدليل فاسد الوضع، إذ المسألة قطعية، فلابد من قاطع، وما ذكرتموه أخبار آحاد غايتها –بعد صحتها- الظن.

سلمنا صحة الوضع وأنها متواترة، ولا نسلم دلالتها على أن العمل بالقياسات المذكورة، ولعل العمل فيما ذكرتم بغيرها، وكان الاجتهاد/ في دلالات النصوص لخفائها. سلمنا دلالتها على [أن] علمهم بها، لكن لا نسلم دلالة عملهم على وجوب العمل دليل؛ لأن العاملين بعض الصحابة. سلمنا أن فعلهم به، ولكن ذلك إذا لم ينكر، ولا نسلم نفي الإنكار، غايته عدم الوجدان، ولا يدل على عدم الوجود. سلمنا عدم الإنكار ظاهرا، لكنه لا يدل على الموافقة، إذ لعلهم أنكروا باطنا كما تقدم في الإجماع السكوتي، للأسباب الحاملة على السكوت. سلمنا دلالة عملهم بها على كونها حجة، لكنها أقيسة مخصوصة، فمن أين يلزم وجوب العمل بكل قياس؟ ولا سبيل إلى التعميم إلا بالقياس، وفي مصادرة. والجواب عن الأول: أنها وإن كانت آحادا، فبينها قدر مشترك وهو العمل بالقياس، وذلك متواتر وذلك كاف، ولا يضر عدم تواتر كل واحد منها، كما في شجاعة علي. وإنما خصه بالذكر ولم يقل: جود حاتم، كما قال في الأخبار، إلزاما للشيعة. وعن الثاني: أنا نعلم من سياقها قطعا أن العمل بها، كما في سائر التجريبات.

مسألة: واستدل بما تواتر معناه من ذكر العلل

وعن الثالث: أن ذلك لا يقدح في الاتفاق، ولأنه إذا تكرر وشاع ولم ينكره أحد، فالعادة تقضي بالموافقة، وليس استدلالهم بعملهم وسكوت الآخرين في جزئية، بل هو استدلال بعملهم وسكوت الآخرين مع التكرر والشيوع الدال بطريق العادة على الاتفاق. وعن الرابع: أنه لو أنكر لنقل عادة؛ لأنه مما توفر الدواعي على نقله لكونه أصلا تعم به البلوى. فإن قيل: نقل إنكاره عن الخلفاء الأربعة، وابن عمر، وابن مسعود. قلنا: ذلك حيث يكون في مقابلة النص، أو الذي عدم فيه شرط، أو ممن لم يبلغ درجة الاجتهاد، فإن عدم الذم في الصور الغير المحصورة مقطوع به، وهؤلاء ممن نقل عنهم العمل به. وعن الخامس: ما سبق جوابا عن الثالث، وهو أن استدلالنا بعدم الإنكار مع الشيوع والتكرار، وأنه يدل. وعن السادس: القطع أن العمل بها لظهورها لا لخصوصها، كسائر الظواهر التي عملوا بها من الكتاب والسنة، فإنا نقطع أن العمل بها لظهورها لأنهم كانوا يوجبون العمل بكل ظاهر وما كانوا يجتهدون إلا لتحصيل الظن. قال: (واستدل: بما تواتر معناه من ذكر العلل ليني عليها، مثل: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟ "، "أينقص الرطب إذا جف؟ ". وليس بالبين. واستدل: بإلحاق كل زان بماعز. رد: بأن ذلك لقوله عليه السلام: "حكمي على الواحد" أو للإجماع.

واستدل بمثل: {فاعتبروا}، وهو ظاهر في الاتعاظ، أو في الأمور العقلية، مع أن صيغة افعل محتملة. واستدل: بحديث معاذ، وغايته الظن). أقول: لما فرغ من الأدلة المرضية عنده، شرع في المزيفة. وقد استدل على وقوع التعبد بالقياس بما تواتر معناه، وإن كانت التفاصيل آحادا، من ذكره عليه السلام العلل ليبني عليها في غير تلك المحال، وذلك معنى القياس، إذ لولا التعبد به ما فعل ذلك. /فمنه: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟ "، "أينقص الرطب إذا جف؟ "، "إنها من الطوافين"، "فإنه لا يدري أين باتت يده"، "فإنهم يحشرون".

"لا تأكل منه فلعل الماء أعان على قتله" إلى غير ذلك مما لا ينحصر. الجواب: أنه هذا الاستدلال ليس ببين في الدلالة على المقصود، فإنه يمنع أن المقصود من ذكرها أن يقاس عليها، ولعله لتعريف الباعث، ولذلك جاز النص بالعلل القاصرة، وكأن النص على العلة لا يكفي في التعدي على ما سيأتي، ولو سلم دلالتها على المقصود، لكن لا بطريق القطع الذي هو المدعى. واستدل أيضا: بأن رجم كل زان محصن ليس إلا إلحاقا بماعز بطريق القياس، إذ رجمه إنما ثبت بفعله عليه السلام وهو ليس بعام، ولم ينص عليه السلام على رجم كل زان محصن، وإلا لنقل. الجواب: أن رجم كل زان إما بـ "حكمي على الواحد"، أو بالإجماع. وسنده: نص لم ينقل إلينا استغناء عنه بالإجماع، أو بقوله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما. الاستدلال الثالث: بقوله: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، والاعتبار قياس الأمر بالأمر، وإثبات حكم محل في محل آخر. والحق: أنه ظاهر في الاتعاظ، لوضعه له لو لغلبته فيه. سلمنا، لكنه ظاهر في القياس في الأمور العقلية، كما يقال في إثبات

الصانع: اعتبر بالدار هل يمكن حدوثها من غير بناء، فما ظنك بالعالم؟ . وأما القياس الشرعي فلا يطلق عليه اعتبار. سلمنا، لكنه مطلق في الاعتبار، وقد عمل به فيما العلة فيه منصوصة. سلمنا، لكن صيغة "افعل" محتملة للوجوب ولغيره، وللمرة والتكرار، وللخطاب مع الحاضرين فقط، أو معهم ومع غيرهم، وقد كثر الخلاف في كل منها مع جواز التجوز، وإن خالف الأصل فظن وجوب العمل للكل بكل قياس وفي كل زمان لو حصل به، ففي غاية الضعف، فلا يثبت مثل هذا الأصل به. واستدل أيضا: بحديث معاذ، في آخره: "أجتهد رأيي" –وليس بعد الكتاب والسنة إلا القياس- فقال عليه السلام: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله". قال المصنف: (وغايته الظن)؛ لأنه خبر آحاد، والمدعى قطعي. وإنما قال: (وغايته الظن) إذ لا يلزم من القياس لمعاذ القياس لغيره،

مسألة: النص على العلة لا يكفي في التعدي دون التعبد بالقياس

فإن قيس عليه غيره لزم الدور. قال: (مسألة: النص على العلة لا يكفي في التعدي دون التعبد بالقياس. وقال أحمد، والقاساني، وأبو بكر الرازي، والكرخي: يكفي. وقيل: يكفي في علة التحريم دون غيرها. لنا: القطع بأن من قال: "أعتقت غانما لحسن خلقه"، لا يقتضي عتق غيره من حسني الخلق. قالوا/: حرمت الخمر لإسكاره، مثل: حرمت كل مسكر. رد: بأنه لو كان مثله عتق من تقدم. قالوا: لم يعتق غير صريح، والحق للآمدي. قلنا: يعتق بالصريح وبالظاهر. قالوا: لو قال الأب لابنه: "لا تأكل هذا لأنه مسموم"، فهم عرفا المنع من كل مسموم. قلنا: القرينة شفقة الأب، بخلاف الأحكام، فإنه قد يخص لأمر لا ليدرك. قالوا: لو لم يكن للتعميم، لعري عن الفائدة. أجيب: بتعقل المعنى فيه، ولا يكون التعميم إلا بدليل. قالوا: لو قال: "الإسكار علة التحريم" لعم، فكذلك هنا. قلنا: حكم بالعلة على كل إسكار، فالخمر والنبيذ سواء. البصري: من ترك أكل شيء لأذاه، دل على تركه كل مؤذ.

بخلاف من تصدق على فقير. قلنا: إن سلم فلقرينة التأذي، بخلاف الأحكام). أقول: إذا نص الشارع على علة الحكم، فهل يكفي ذلك في تعدية الحكم إلى محل آخر وإن لم يرد شرع بالتعبد بالقياس؟ والمختار: لا يكفي. وقال أحمد والقاساني والنهرواني والرازي والكرخي: يكفي. وقال أبو عبد الله البصري: يكفي في علة التحريم دون غيرها من الوجوب والندب والإباحة. واعلم أن هذه المسألة تقرب جدا من المسألة المتقدمة في العموم، وهو قوله: (إذا علق حكم على علة، عم بالقياس شرعا لا بالصيغة). ووجه المغايرة بينهما، أن الكلام هناك بعد ورود التعبد بالقياس، والكلام هنا في أن النص على علة الحكم هل يكون أمرا بالقياس وإن لم يرد التعبد به أم لا؟ . واحتج المصنف على المختار: بأنا نعلم قطعا أن من قال: "أعتقت غانما

لحسن خلقه"، لا يقتضي عتق غيره من حسني الخلق، فلو كان النص على العلة كافيا في التعدي –وإن يرد التعبد بالقياس- لعتق عليه كل عبد له حسن الخلق، كما لو قال: "أعتقت كل عبد لي حسن الخلق". قلت: وفيه نظر؛ لأنه إنما لم يعتق لعدم ظهور استقلال العلة، ولذلك لم يعتق من ذكر بعد ورود التعبد بالقياس. وقد قالوا: يكفي النص في التعدي بعد ورود التعبد بالقياس، لكنه لا يعتق غيره اتفاقا. قالوا: لا فرق في قضية العقل وبين أن يقول: "حرمت الخمر لإسكاره" وبين أن يقول: "حرمت كل مسكر"، [والثاني يفيد عموم الحرمة لكل مسكر] فكذا الأول، وهو المطلوب. الجواب: لا نسلم عدم الفرق لاحتمال الجزئية، وإلا لزم عتق من تقدم وهو كل حسن الخلق، إذا قال: "أعتقت غانما لحسن خلقه". قيل على الجواب: إنما لم يعتق لأنه حق آدمي ولا يثبت إلا بتصريح، وهذا غير صريح، بخلاف حق الله فإنه يثبت بالصريح وبالإيماء لاطلاعه على السرائر. ورد/: بأن ذلك في غير العتق، أما العتق فيحصل بالصريح وبالظاهر إما لتشوف الشارع إليه، وإما لأن فيه حقا لله تعالى لأنه عبادة، وإذا كان: "حرمت الخمر لإسكارها" مثل: "حرمت كل مسكر"، يكون: "أعتقت غانما لحسن خلقه" ظاهر في عتق كل عبد له حسن الخلق، كظهور: "أعتقت

كل عبد لي حسن الخلق"، ولا شك في عتق الجميع في الثاني، فلو كان الأول مثله، لزم عتق الجميع. قالوا: لو قال الأب لابنه: "لا تأكل هذا فإنه مسموم"، فهم منه عرفا المنع من كل مسموم. الجواب: أن فهم التعميم لقرينة شفقة الأب المقتضية عادة النهي عن كل مضر، بخلاف أحكام الله فإنها قد تختص ببعض المحال لأمر لا يدرك. والحق: أن الاحتمال لا يدفع العموم، كما لو عم بالنص، والتخصيص محتمل، مع أنه يتم ما ذكر إذا لم تعلم المصلحة، أما إذا علمت فيثبت الحكم سالما عما ذكر. لا يقال: قد ثبت ورود الشرع بالفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات، وذلك لما علم الله من اختصاص أحد المثلين بمصلحة مقارنة لزمانه لا وجود لها في مثله إذ ليست المصالح لذوات الأوصاف حتى تكون لازمة لها. لأنا نقول: فلا يكفي النص عليها بعد التعبد بالقياس في التعدي، وهم لا يقولون به. قالوا: لو لم يكن ذكر العلة لإفادة الحكم في محال ثبوتها، لعري عن الفائدة، إذ لا فائدة لذكر العلة إلا اتباعها بإثبات الحكم حيث وجدت؛ لأن الحكم في تلك الصورة عرف بالنص. الجواب: لا نسلم حصر الفائدة فيما ذكرتم، ولم لا يجوز أن تكون الفائدة تعقل المعنى المقصود من شرع الحكم في ذلك المحل، وذلك أدعى إلى

مسألة: القياس يجري في الحدود والكفارات

انقياد المكلف، ولا يكون التعميم إلا بدليل يدل عليه. قالوا: لو قال الشارع: "الإسكار علة التحريم"، لعم في كل مسكر، فكذا: "حرمت الخمر لإسكارها"؛ لأنه بمعناه، إذ الألف واللام للعموم. الجواب: لا نسلم أن معناها واحد؛ لأن الأول ذكر فيه الإسكار معرفا بالألف واللام وهي تفيد العموم على ما مر، فمعناه: كل إسكار علة فالخمر والنبيذ سواء، بخلاف: "حرمت الخمر لإسكارها" فإنه علل حرمة الخمر بالإسكار المنسوب إليها. واحتج البصري على تغميم علة النهي دون غيره: بأن من ترك أكل شيء لأذاه، دل على ترك كل مؤذ، بخلاف من تصدق على فقير لفقره، فإنه لا يلزم أن يتصدق على كل فقير. الجواب: لا نسلم أنه يدل على ترك كل مؤذ، لجواز أن يكون ذلك للتأذي الخاص به، ولو سلم فلقرينة التأذي، إذ ترك المؤذي مطلقا مركوز في الطباع، وخصوصية ذلك المؤذي ملغاة عقلا، بخلاف الأحكام فإنها قد تختص بمحالها لأمور لا تدرك. قال: (مسألة: القياس يجري في الحدود والكفارات خلافا للحنفية. لنا: الدليل غير /مختص. وأيضا: حد في الخمر بالقياس. وأيضا: الحكم للظن، وهو حاصل كغيره. قالوا: فيه تقدير ى يعقل معناه، كأعداد الركعات.

قلنا: إذا فهمت العلة وجب، كالقتل بالمتقل، وقطع النباش. قالوا: ادرءوا الحدود بالشبهات. رد: فخبر الواحد والشهادة). أقول: يجوز إثبات الحد والكفارة بالقياس، خلافا للحنفية. ولا يعترض عليهم بقياس إفساد رمضان بالأكل والشرب في الكفارة على الإفساد بالوقاع؛ لأنه استدلال لا قياس، ولا يناقض ما سبق من قوله: (ومقادير الحدود والكفارات)؛ لأن الكلام في إثبات الحد لا في المقدار وإن لزم عنه. لنا: أن الدليل الدال على العمل بالقياس غير مختص بشيء دون شيء، فوجب العمل فيهما حتى يدل دليل على المنع، والأصل عدمه. ولنا أيضا: إجماع الصحابة حين تشاوروا في حد شارب الخمر، فقال علي: "إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي وافترى، فحدوه حد المفتري"، فأقام مظنة الشيء مقامه، ولم ينكروا عليه فكان إجماعا. ولنا أيضا: أن الحكم إنما ثبت في سائر الاجتهاديات لأجل الظن، وهو

حاصل هنا، فوجب العمل به. لا يقال: هذا قياس في الحدود والكفارات فيلزم الدور. لأنا نقول: المتنازع فيه إثبات الحدود والكفارات قياسا لبعضها على بعض، وهذا إثبات للعمل بالقياس فيها كالقياس في غيرها. ولو سلم، فنحن لم نثبته بالقياس، بل إنما أثبتناه باستقراء، أو إجماع مفيد للقطع، فإن الظن يجب العمل به وقد حصل هنا. احتج الحنفية: بأن في شرع الحدود والكفارات تقديرا لا يعقل معناه، كأعداد الركعات، وأعداد الجلدات، وتعين ستين مسكينا، مما لا سبيل إلى إدراك معناه. الجواب: أولا: ما أجاب به الآمدي: أن الحكم المعدى من الأصل إلى الفرع إنما هو وجوب الحد والكفارة من حيث هو وجوب لا في التقدير، وذلك معقول. وثانيا: بما أجاب به المصنف وهو: أنا لا نقول بالقياس في الحدود والكفارات مطلقا، بل نقول به إذا فهمت العلة الموجبة للحكم، كما قيس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد، فإن المعنى للقصاص في القتل بالمحدد حفظ النفس، هو حاصل في إيجاب القصاص في القتل بالمثقل، وكإيجاب قطع النباش بالقياس على قطع السارق، فإن المعنى الموجب لقطع السارق هو

مسألة: لا يصح القياس في الأسباب

حفظ المال بشرع قطع اليد، وهو حاصل في قطع النباس. قالوا: قال عليه السلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، واحتمال الخطأ في القياس شبهة، فيجب أن يدرأ به الحد، فلا يثبت بالقياس. الجواب: النقض بخبر الواحد/ والشهادة، فإن الاحتمال فيهما قائم لأنهما لا يفيدان القطع، فكان يجب أن درأ بهما، وهو خلاف الإجماع. قال: (مسألة: لا يصح القياس في الأسباب. لنا: أنه مرسل؛ لأن الفرض تغاير الوصفين فلا أصل لوصف الفرع. وأيضا: علة الأصل منتفية عن الفرع. وأيضا: إن كان الجامع بين الوصفين حكمة –على القول بصحتها- أو ضابطها لها، اتحد السبب والحكم، وإن لم يكن جامع ففاسد. قالوا: ثبت المثقل على المحدد، واللواط على الزنا. قلنا: ليس محل النزاع؛ لأنه سبب واحد ثبت لهما بعلة واحدة، وهو القتل العمد العدوان، وإيلاج فرج في فرج). أقول: لا يصح القياس في الأسباب عند الحنفية، واختاره الإمام فخر الدين، والآمدي، والمصنف.

وأكثر الشافعية على خلافه. وصورته: إثبات سببية للواط للحد، بأن يجعل سببا للحكم لتحصل الحكمة المقصودة في الفرع، قياسا على سببية الزنا للحد. لنا: لو ثبت في الأسباب، لثبت القياس بالمناسب المرسل، إذ وصف الفرع مرسل؛ لأنه لا أصل له –لأن الفرض تغاير الوصفين- والشرع إنما شهد باعتبار وصف الأصل، ولم يثبت محلا تحقق فيه سببية هذا الوصف معللا باشتماله على الحكمة؛ لأنا إنما نثبته باعتبار اعتبار الشارع وصفا آخر مغايرا له لتحصل الحكمة، وذلك معنى المرسل، وأما بطلان التالي فلما مر. قيل: المعنى الموجب للسببية في الزنا موجود في اللواط، والمعنى شهد له أصل بالاعتبار حيث جعل الزنا سببا. رد: بأن موجب سببية الأصل لو كان موجودا في الفرع لما احتيج إلى إثبات سببيته بالقياس. ولنا أيضا: أن علية سببية المقيس عليه هو قدر من الحكمة تضمنها الوصف الأول، لم يثبت في الوصف الآخر، ولا علم ثبوت حكمه تساويها لعدم انضباط الحكمة، وتغاير الوصفين، فيجوز اختلاف قدر الحكمة. الحاصلة بهما، فيمتنع الجمع في الحكم –وهو السببية- لأن معنى القياس الاشتراك في العلة، وبه يمكن الاشتراك في الحكم.

وقد يقال: لا نسلم أن علة الأصل منتفية عن الفرع، إذ علة الأصل حفظ النسل لا حفظ النسب. ولنا أيضا: أن الحكمة المشتركة إن كانت ظاهرة منضبطة وقلنا بصحة التعليل بها، فلا حاجة إلى اعتبار وصفين، بل يتحد الحكم والسبب، إذ هما معلولا الحكمة؛ لأن الحكمة التي لأجلها يكون الوصف سببا هي الحكمة التي لأجلها يكون الحكم المرتب على الوصف ثابتا، فتستقل الحكمة بإثبات الحكم المرتب على الوصف، فلا حاجة إلى الوصف المحكوم بكونه سببا/ للاستغناء عن الواسطة. وإن لم تكن ظاهرة منضبطة، أو قلنا لا يعلل بالحكمة مطلقا، فإنه إن كان لها مظنة -أي وصف ظاهر منضبط- صار القياس في حكم المرتب على ذلك الوصف، واتحد الحكم والسبب أيضا، وإلا فلا جامع إذ لا حكمة ولا مظنة، فيكون قياسا لا جامع، وأنه باطل. وقد يقال: مراد المستدل إثبات السببية للوصف من غير تعرض للحكم. قيل: الأولى أن يحمل كلامه على أن المراد هو أن الجامع بين الوصفين كالقتل العمد العدوان -بين المثقل والمحدد- إن صلح للعلية لاشتماله على حكمة، كحفظ النفس فيما يجئ، اتحد السبب والحكم، فلا يكون محل النزاع على ما سيذكر في جواب شبههم. قالت الشافعية: ثبت القياس في الأسباب، كقياس المثقل على المحدد في كونه سببا للقصاص، وقاسوا اللواط على الزنا في كونه سببا للحد.

مسألة: لا يجري القياس في جميع الأحكام

قلت: إنما يرد على المصنف، وأما الحنفية فلا يسلمون ذلك. والجواب: أن محل النزاع عند تغاير السبب في الأصل والفرع، وهنا السبب واحد ثبت لمحلي الحكم –وهما الأصل والفرع- بعلة واحدة، وهي في المثال الأول: الزجر لحفظ النفس، والحكم: القصاص، والسبب: القتل العمد العدوان. وفي المثال الثاني العلة: الزجر لحفظ النسب، والحكم: وجوب الحد والسبب: إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا. قال: (مسألة: لا يجري القياس في جميع الأحكام. لنا: ثبت ما لا يعقل معناه كالدية، والقياس فرع المعنى. وأيضا: قد تبين امتناعه في الأسباب والشروط. قالوا: متماثلة، فيجب تساويها في الجائز. قلنا: قد يمتنع في بعض النوع أو يجوز لأمر بخلاف المشترك بينهما). أقول: لا يجري القياس في جميع الأحكام، [خلافا لشذوذ. لنا: ثبت في الأحكام] ما لا يعقل معناه كضرب الدية على العاقلة، فإجراء القياس في مثله متعذر إذ القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الأصل.

وأيضا: الأسباب والشروط من الأحكام –على مختاره- وقد تبين امتناع القياس فيها- وإن كان إنما سبق في الأسباب فقط، لكن لا قائل بالفرق. قيل على الأول: إنما يمتنع بالنسبة إلى من لم يتعقل الحكمة فيما ذكر، أما بالنسبة إلى من تعقلها فلا، وعدم تعقل الجميع لها غير معلوم. وقد قال المصنف قبل هذا، لما قال الحنفية في الحد تقدير لا يعقل معناه، أجاب: إذا فهمت العلة وجب. احتج الآخرون: بأن الأحكام الشرعية متماثلة، إذ يشملها حد واحد وهو حد الحكم الشرعي، والمتماثلات يجب اشتراكها فيما يجوز عليها؛ لأن حكم الشيء حكم مثله، وقد جاز جريان القياس في بعضها، فليجر في الكل. الجواب: أن هذا القدر –وهو الاشتراك في الجنس-/ لا يوجب التماثل فإن الأجناس المتخالفة قد تندرج تحت نوع واحد، فيعمها حد واحد وهو ذلك النوع، ولا يلزم من ذلك ثماثلها لامتياز كل جنس بما يميزه، نعم ما لحق جنسا باعتبار الأمر المشترك من الجواز والامتناع يكون عاما، وأما ما لحق باعتبار الأمر المختص به فلا. واعلم أن اصطلاح الأصوليين في الجنس والنوع يخالف اصطلاح المنطقيين فالمندرج جنس، والآخر نوع.

مسألة: الاعتراضات راجعة إلى منع أو معارضة

وعند المناطقة بالعكس، وهذا التقرير على الاصطلاح الأصولي، وهو طبق في المعنى لما قال في المنتهى، حيث قال: "يجوز لبعض الأنواع ما يمتنع على بعضها" وإن جرى الاصطلاح المنطقي فيه، ولو جريت هنا على الاصطلاح المنطقي كان معناه: أنه قد تختلف الأمثال بخصوصيات صنفية أو شخصية يجوز على بعضها ما يمتنع على الآخر، كما في إفراد القتل العمد العدوان، فإن بعض القائلين لا يقتص منه لشرفه لكونه حرا. وعلى هذا تكون الأحكام الخمسة أصنافا للحكم الشرعي، وعلى الأول أنواعا له. قيل: لا يدخل في الجواب، لقوله: (بخلاف المشترك)، إذ الماهية المشتركة بين أفراد الأحكام –وإن اقتضت صحة أمر- جاز أن يكون جزءا من جزئياتها يمنع منه كالقوت مثلا فإنه يقتضي الربوية، وفرد منها كالعرايا يمنع منه، وإن اقتضت المنع جاز أن يقتضي جزئي منها الجواز لانضمام الخصوصية إليه. قال: (الاعتراضات راجعة إلى منع أو معارضة، وإلا لم يسمع، وهي خمسة وعشرون: الاستفسار وهو: طلب معنى اللفظ لإجمال أو غرابة. وبيانه على المعترض: بصحته على متعدد، ولا يكلف بيان التمادي لعسره. ولو قال: التفاوت يستدعي ترجيحا بأمر والأصل عدمه كان جيدا.

وجوابه: بظهوره في مقصوده بالنقل، أو بالعرف، أو بقرائن معه، أو بتفسيره، ولذا قال: يلزم ظهوره في أحدهما دفعا للإجمال، أو قال: يلزم ظهوره فيما قصدت؛ لأنه غير ظاهر في الأخرى اتفاقا، فقد صوبه بعضهم، وأما تفسيره بما لا يحتمل لغة فمن جنس اللعب). أقول: الباب الخامس: في الاعتراضات الواردة على قياس العلة، وهي راجعة إلى منع أو معارضة، وإلا لم تسمع، وذلك لأن غرض المستدل الإلزام بإثبات مدعاه بدليله، وغرض المعترض عدم ذلك بمنعه عن إثباته به. والإثبات به يكون بصحة مقدماته، لتصلح للشهادة، وبسلامته عن المعارض لتنفيذ شهادته، فيترتب عليه الحكم. والدفع يكون بهدم أحدهما، فهدم/ شهادة الدليل بالقدح في صحته بمنع مقدمة من مقدماته، وهدم نفاذ شهادته بالمعارضة بما يقاومها، فما لا يكون من القبيلين فلا تعلق له بمقصود الاعتراض، فلا يسمع. واعلم أن المقدمة قد تمنع تفصيلا وذلك واضح، وتمنع إجمالا كما لو قال: "لو صحت مقدمات دليلك –وهي جارية في صورة كذا- لثبت فيها الحكم"، وهذا نوع من النقض. وأيضا: المقدمة إذا امتنعت وانتهض المستدل لإقامة الدليل، فللمعترض

منع مقدمات دليله، ومعارضة دليله. فمراد المصنف بالمنع والمعارضة: ما يعم ذلك كله. واعلم أن الحصر العقلي عسر لا سيما وهو أمر للاصطلاح فيه مدخل. ووجه التقريب: أن المستدل يلزمه تفهيم ما يقوله، وأن يكون متمكنا من القياس، ثم يثبت مقدماته، وهي حكم الأصل وعلته وثبوتها في الفرع، وأن يكون ذلك على وجه يستلزم ثبوت حكم الفرع، وأن يكون ذلك الحكم هو مطلوبه الذي ساق الدليل إليه، فهذه سبع مقدمات يتوجه على كل مقام نوع من الاعتراض. النوع الأول: ما يتعلق بالتفهيم، وقدمه لأن فهم المدعى قبل كل شيء وهو واحد فقط، إذ لا يتصور ثم إلا طلب الفهم ويسمى الاستفسار. ويرد على تقدير المدعي، وعلى جميع المقدمات فلا سؤال أعم منه، وهو راجع إلى المنع؛ لأنه منع دلالته على المقصود، فلا يفهم منه لإجماله أو غرابته، لكنه منع خاص؛ لأنه اشتمل على منع ودعوى، فلذلك يطالب المعترض بصحته على متعدد، وما ذلك إلا لكون الأصل عدم ما ادعى المعترض، فالبينة عليه. ولا يقال: ظهور الدليل شرط في صحته، وإنما يتم ظهوره لو لم يكن مجملا، فنفي الإجمال شرط، وبيان شرط الدليل على المستدل. لأنا نقول: ظهور الدليل وإن توقف على نفي الإجمال –غير أن الأصل عدم الإجمال- فسؤال الاستفسار يستدعي الإجمال المخالف للأصل، فكان بيانه على المعترض، فالضمير في قوله: (وبيانه على المعترض)، أي بيان

كونه مجملا. فالاستفسار: طلب معنى اللفظ، وإنما يسمع إذا كان اللفظ مجملا أو غريبا، وإلا فهو تعنت. وبيان كونه مجملا على المعترض إذ الأصل عدمه، فإن وضع الألفاظ للبيان، والإجمال قليل جدا فيها، ويكفي المستدل أنه خلاف الأصل. فعلى المعترض بيان صحة إطلاق اللفظ على معنيين أو أكثر، ولا يكلف بيان التساوي، وإن كان الإجمال لا يحصل إلا به، وهو قد ادعى/ الإجمال فكان يجب أن يلزمه الوفاء به، لكن لم يكلف به لعسره، لكن لو التزمه تبرعا بأن قال: هما متساويان لأن التفاوت يستدعي ترجيحا بأمر، والأصل عدم المرجح، لكان جيدا، وفاء بما التزمه أولا. وفيه نظر؛ لأنه لما سلم المعترض الاستعمال –والأصل عدم الإجمال- فقد سلم حصول المرجح، ولا يتمكن من أن يقول: الأصل عدم المرجح. وجواب الاستفسار: بيان ظهوره في مقصود المستدل، فلا إجمال ولا غرابة، وذلك إما بنقل عن أئمة اللغة، وإما بالعرف العام أو الخاص، أو بالقرائن المنضمة إليه، وإن عجز عن ذلك فبالتفسير، فلو سلك في دفع الإجمال طريقا إجماليا، بأن يقول: يلزم ظهوره في أحدهما وإلا كان مجملا، والإجمال خلاف الأصل، أو يقول: يلزم ظهوره فيما قصدت؛ لأنه غير ظاهر في الآخر اتفاقا، فلو لم يكن ظاهرا فيما قصدت لزم الإجمال، وهو خلاف الأصل، فإذا قال ذلك، فقد صوبه بعض الجدليين، إذ الغرض بيان

مسألة: فساد الاعتبار وهو مخالفة القياس النص

الظهور. ورد [بعضهم: لأنه رجوع إلى الأصل (عدم الإجمال)، بعدما استدل المعترض على أنه مجمل بما أمكنه]، ولأنه يدعي عدم فهمه، وكان لا يبقى لسؤال الاستفسار فائدة، وإذا فسره وجب أن يفسره بما يصلح له لغة، وإلا كان من جنس اللعب، فيخرج عما وضعت له المناظرة من إظهار الحق. ولم يذكر المصنف بيان القرابة من جهة واحد منهما. وجوابه: بأن يبين المستدل كثرة استعمال اللفظ واشتهاره بين النظار. قال: (فساد الاعتبار وهو: مخالفة القياس النص. وجوابه: الطعن، أو منع الظهور، أو التأويل، أو القول بالموجب، أو المعارضة بمثله، فيسلم القياس أو يبين على النص بما تقدم، مثل: ذبح بأهله في محله، كذبح ناسي التسمية فيورد {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه}. فيقول المعترض: مؤول بذبح عبدة الأصنام، بدليل: "ذكر الله على قلب المؤمن، سمى أو لم يسم"، أو ترجيحه بكونه مقيسا على الناسي المخصص باتفاق، فإن أبدى فارقا فهو من المعارضة). أقول: النوع الثاني من الاعتراضات: وهو باعتبار تمكنه من الاستدلال بالقياس في تلك المسألة، فإن منع تمكنه من القياس مطلقا فهو

فساد الاعتبار، كأنه يدعي أن القياس في تلك المسألة. وإن منعه من القياس المخصوص فهو فساد الوضع، كأنه يدعي أنه وضع في المسألة قياسا لا يصح وضعه فيها، على أن هذا يرجع إلى النوع الرابع. الأول: وهو فساد الاعتبار: هو ألا يصلح الاحتجاج بالقياس فيما يدعيه؛ لأن النص على خلافه، واعتبار القياس في مقابلة النص باطل، إذ النص أصله، والمراد من النص الكتاب أو السنة، لا النص الذي في مقابلة الظاهر. /وجواب هذا الاعتراض: إما بالطعن في سنده –إن لم يكن كتابا ولا سنة متواترة- بأنه مرسل، أو موقوف، أو منقطع، أو رواية ليس بعدل، أو كذبه فيه شيخه. وإما بمنع ظهوره فيما يدعيه، كمنع عموم أو مفهوم أو دعوى إجمال، وإما بأنه مؤول –أريد غير ظاهره- لتخصيص أو مجاز أو إضمار، بدليل يرجحه على الظاهر، وإما بالمعارضة بنص مثله حتى يتساقطا فيسلم القياس. فلو عارض المعترض بنص آخر حتى يسلم أحد نصيه فيعارض القياس،

لم يسمع؛ لأن النصين يعارضهما الواحد، كما تعارض شهادة اثنين شهادة أربعة. لا يقال: فيعارض نص المعترض قياس المستدل ونصه. لأنا نقول: كان الصحابة إذا تعارضت عندهم النصوص تركوها ورجعوا إلى القياس، وليس للمستدل [أيضا أن يقول: قد عارض نصك قياسي وسلم نصي لأنه انتقال، وليس على المستدل] أن يبين أن نصه مساو في القوة لنص المعترض لعسر ذلك عليه، إذ لا يمكنه نفي جميع وجوه الترجيحات. ومن الأجوبة: أن يبين أن قياسه أرجح من النص بما تقدم في خبر الواحد وذلك إذا كانت العلة فيه بنص راجح على الخبر، ووجودها في الفرع قطعي وهذا حيث يكون النص خبرا، واعلم أنه لا يتأتى هذا في كل نص، بل قد يمكن بعض الأجوبة فيجيب بما يتأتى من ذلك، وقد لا يمكن شيء منها فينقطع المستدل، مثاله: ما لو قال في متعمد ترك التسمية: ذبح صدر من أهله في محله، فتؤكل قياسا على ناسي التسمية. فيقول المعترض: هذا القياس فاسد الاعتبار، لمخالفته لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه}. فيقول المستدل: الآية مؤولة بذبح عبدة الأصنام، بدليل ما خرج

الدارقطني، أن رجلا قال: يا رسول الله! الرجل يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال: "اسم الله على فم كل مسلم"، على أن الحديث ضعيف. أو يقول: المقيس راجح على المقيس عليه وهو الناسي المخصص باتفاق لأن المتذكر أقرب إلى الذكر من الناسي، فيكون بطريق الأولى فيكون معطوفا على قوله (بدليل) أي مؤول بذبح عبدة الأصنام بدليل الحديث، أو بدلالة قياس الأولوية، ويصح أن يكون المراد [أو] بترجيح القياس على النص بكونه مقيسا على الناسي المخصص، وأصل القياس إذا كان مخصصا من العام، فإن القياس يخصص العام فيقدم عليه على ما سبق، والأول أظهر. وإذا قال المستدل ذلك، فليس للمعترض/ أي يبدي بين التارك والناسي فارقا، بأن يقول: الناسي معذور بخلاف الآخر، فيندفع كون القياس مقدما لأنه إذا فعل ذلك فهو من المعارضة في الأصل أو في الفرع، فيلزم المعترض فسادان: الانتقال، والاعتراف بصحة اعتبار القياس؛ لأن سؤال المعارضة بعد فساد الاعتبار، وفساد الاعتبار يرجع إلى المنع؛ لأن الخصم يقول: لا ينتج المطلوب لأنه فاسد الاعتبار، وإن كان على هيئة صحيحة كاستلزامه خلاف النص، وقد على فساد الوضع؛ لأن كل فاسد الوضع فاسد الاعتبار من غير عكس، والنظر في الأعم مقدم.

مسألة: فساد الوضع

قال: (فساد الوضع وهو: كون الجامع ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم، مثل: مسح فيسن فيه التكرار كالاستطابة. فيرد: أن المسح معتبر في كراهية التكرار على الخف. وجوابه: في بيان المانع لتعرضه للتلف، وهو نقض إلا أنه يثبت النقيض، فإن ذكره بأصله فهو القلب، فإن بين مناسبة النقيض من غير أصل من الوجه المدعى فهو القدح في المناسبة، ومن غيره لا يقدح، إذ قد يكون للوصف جهتان، ككون المحل مشتهى يناسب الإباحة لإراحة الخاطر والتحريم لقطع أطماع النفس). أقول: فساد الوضع: هو إبطال وضع القياس المخصوص في إثبات الحكم الخاص؛ لأن الجامع الذي به يثبت الحكم قد ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض ذلك الحكم، والوصف الواحد لا يثبت به النقيضان. مثاله: ما لو قال الشافعي في مسح الرأس: "مسح فيسن فيه التكرار كالاستطابة"، فيقول المالكي: "المسح لا يناسب التكرار"؛ لأنه ثبت اعتبار المسح في كراهة التكرار على الخف، وكراهة التكرار نقيض استحبابه

والمراد من النقيض الضد. وجواب هذا الاعتراض لبيان وجود المانع من أصل المعترض، فيقال: إنما كره في الخف لأنه تعريض لتلفه. وفساد الوضع يشتبه بأمور ويخالفها بوجوه، يشبه النقض من حيث بين فيه ثبوت نقيض الحكم مع وجود الوصف، إلا أن الوصف في فساد الوضع هو الذي يثبت النقيض؛ لأنه وإن ثبت الحكم بنص أو إجماع، لكن لأجل الوصف ثبت، وفي النقض لا يتعرض لذلك، بل يقنع فيه بثبوت نقيض الحكم مع وجود الوصف، ولو قصد ذلك لكان هو النقض. ويشبه القلب من حيث إنه أثبت نقيض الحكم بعلة المستدل، إلا أنه يفارقه من وجه، وهو أن في القلب يثبت الحكم بأصل المستدل، وهذا يثبته بأصل آخر، فلو ذكره بأصله لكان هو القلب، كما لو قال: فلا يتعين التكرار/ بالماء كالاستطابة، فيرجع إلى النوع الثالث من القلب. ويشبه –أيضا- القدح في المناسبة، من حيث إنه ينفي مناسبة الوصف للحكم، لمناسبته لنقيضه، إلا أنه لا يقصد هنا بيان عدم مناسبة الوصف للحكم، وإنما يقصد بيان بناء نقيض الحكم عليه في أصل آخر، فلو بين مناسبته لنقيض الحكم بالأصل، كان قدحا في المناسبة. وإنما يعتبر القدح في المناسبة إذا كان مناسبته للنقيض وللحكم من وجه واحد، أما إن اختلف الوجهان فلا يضر؛ لأن الوصف قد يكون له جهتان يناسب بإحداهما رجوعه إلى الجهتين: الحكم، وبالأخرى نقيضه، ككون المحل مشتهى يناسب الإباحة لإراحة الخاطر، ويناسب تحريم النكاح [لإراحة

مسألة: منع حكم الأصل

النفس] بقطع الطمع، وحاصل هذا السؤال يرجع إلى منع علية الجامع. قال: (منع حكم الأصل. والصحيح: ليس قطعا للمستدل بمجرده؛ لأنه كمنع مقدمة، كمنع العلة في العلة ووجودها، فيثبتها باتفاق. وقيل: ينقطع لانتقاله. واختار الغزالي اتباع عرف المكان. وقال الشيرازي: لا يسمع، فلا تلزمه دلالة عليه، وهو بعيد إذ لا تقوم الحجة على حكمه مع منع أصله. والمختار: لا ينقطع المعترض بمجرد الدلالة، بل له أن يعترض، إذ لا يلزم من صورة دليل صحته. قالوا: خارج عن المقصود الأصلي. قلنا: ليس بخارج). أقول: النوع الثالث من الاعتراضات: ما يورد على المقدمة الأولى من القياس، وهو دعوى حكم الأصل، ولا مجال للمعارضة فيه؛ لأنه غصب لمنصب التعليل، فيتعين المنع. وقد اختلفوا في كون منع حكم الأصل قطعا للمستدل بمجرده. فمنهم من قال: إنه قطع له ولا يمكن من إثباته بالدليل، لأنه انتقال إلى

إثبات حكم شرعي آخر. والصحيح: أنه لا ينقطع بمجرد وروده، وإنما ينقطع إذا ظهر عجزه عن إثباته بالدليل، إذ الانتقال القبيح ما لا تعلق به بما يتم به مطلوبه، وهذا إثبات لمقدمة من المقدمات مطلوبه، كما لو منع علية العلة، أو وجودها في الأصل أو في الفرع، فإنه يصح معه أن يثبتها ولا يعد منعه ذلك قطعا له، إذ لا فرق بين مقدمة ومقدمة، ولا أثر لكونه حكما شرعيا كالأول. وهذا هو الذي أشار إليه المصنف فيما تقدم بقوله: (وكذلك لو أثبت الأصل بنص، ثم أثبت العلة بطريقها على الأصح)، لأنه لو لم يقبل لم تقبل مقدمة تقبل المنع، [نعم لو اصطلح النظار عليه نظر إلى ذلك لم يبعد]. ولذلك قال الغزالي: "يتبع عرف المكان، فإن عدوه قطعا فقطع، وإلا فلا؛ لأنه أمر وضعي لا مدخل فيه للشرع والعقل". وقال أبو إسحاق الشيرازي: "لا يسمع هذا المنع، فلا تلزم المستدل الدلالة على حكم الأصل". واستبعده المصنف؛ لأن غرض/ المستدل إقامة الحجة على خصمه، ولا

مسألة: التقسيم

تقوم مع كون أصله ممنوعا، ولم يقم عليه دليلا هو جزء الدليل، ولا يثبت الدليل إلا بثبوت جميع أجزائه. وإذا قلنا بسماعه، فأقام المستدل الدليل، فهل ينقطع المعترض بمجرد إبداء المستدل الدليل حتى لا يتمكن المعترض من منع مقدمات ذلك الدليل، أو له أن يعترض عليها؟ . المختار: لا ينقطع، وله أن يعترض، إذ لا يلزم من صورة دليل صحته ولابد في ثبوت المقدمة الممنوعة من صحته، فيطالب ببيان صحته، وذلك بصحة مقدمة مقدمته، وهو معنى المنع. قالوا: اشتغال بما هو خارج عن المقصود فإن من كان غرضه صحة بيع فاشتغل ببيان صحة النكاح فاته مقصوده، إذ ربما ثم المجلس ولم يتم له ذلك. قلنا: المقصود لا يحصل إلا به، فليس بخارج عن المقصود، ولا عبرة بطول الزمان. قال: (التقسيم وهو: كون اللفظ مترددا بين أمرين أحدهما ممنوع. والمختار: وروده. مثاله في الصحيح الحاضر: وجد السبب بتعذر الماء فساغ التيمم، فيقول: السبب تعذر الماء أو تعذر الماء في السفر أو المرض، الأول ممنوع وحاصله: منع يأتي، ولكنه بعد تقسيم. وأما نحو قولهم في الملتجئ إلى الحرم: وجد سبب استيفاء القصاص فيجب، فيقول: متى منع مانع الالتجاء إلى الحرم، أو مع عدمه، فحاصله: طلب نفي المانع، ولا يلزم).

أقول: التقسيم: هو أن يكون اللفظ مترددا بين أمرين أحدهما ممنوع فيمنعه، إما مع السكوت عن الآخر لأنه لا يضره، أو مع التعرض لتسليمه، وهذا السؤال على مقتضى التعريف [لا] يختص بحكم الأصل، ولا بالعلة وعلى ما مثل المصنف يكون من [أسولة] العلة، وموقعه على هذا بعد منه حكم الأصل –لكونه متعلقا بالوصف الذي هو متفرع عن حكم الأصل- وأن يكون مقدما على منع وجود الوصف، لدلالة منع وجوده على تعينه. وبعضهم منع قبول هذا السؤال، محتجا بأن إبطال أحد محتملي كلام المستدل لا يكون إبطالا له. والمختار: قبوله إذ به يتعين مراده، إذ لعله غير مراده. مثاله في الصحيح الحاضر إذا فقد الماء أن يقول: وجد سبب التيمم وهو تعذر الماء- فساغ التيمم قياسا على المريض والمسافر. فيقول المعترض: ما تريد بقوله: تعذر الماء سبب؟ تريد أن تعذر الماء سبب مطلقا؟ أو أن تعذر الماء في المرض أو السفر سبب؟ . الأول ممنوع، والثاني مسلم، إلا أنه غير موجود في الفرع. قلت: وفي هذا المثال نظر؛ لأن شرط هذا السؤال احتمال اللفظ لأمرين على السؤال في الظاهر، وهنا كلام المستدل ظاهر في أنه سبب مطلقا. ثم قال المصنف: وحاصل سؤال التقسيم: منع يأتي على مقدمة من

مقدمات القياس، إلا أنه/ بعد تقسيم، فيأتي فيه ما يأتي في منع كونه علة من الأبحاث، من كونه مقبولا أو لا، وكيفية الجواب عنه. وأنت تعلم مما تقدم في سؤال الاستفسار من أن بيان احتمال اللفظ لأمرين على المعترض، ولا يكلف بيان التساوي لعسره ويكتفى ببيانه إجمالا. وجوابه: ببيان كون اللفظ ظاهرا فيما عينه إما بالنقل، أو بالعرف، أو بالقرائن ... إلى آخره. ولو ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ المستدل عليهما، كقولهم في وجوب القصاص على القاتل الملتجئ إلى الحرم: ["وجد سبب استيفاء القصاص وهو القتل العمد العدوان فيجب". فيقول المعترض: متى يجب مع مانع الالتجاء إلى الحرم] أو عدمه؟ فحاصل مثل هذا السؤال وهو أن يذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ عليهما، لعدم تردد لفظ السبب بين ما ذكر من الاحتمالين إذ هو سبب، كان الالتجاء مانعا من الاستيفاء أو لا، بخلاف التقسيم فإنه تردد بين احتمالين يكون أحدهما سببا والآخر غير سبب، هو طلب نفي المانع، ولا يلزم المستدل بيان نفي المانع، ويكفيه أن الأصل عدمه، فلو أضاف المعترض إلى ذلك بيان وجود المانع، فهو انتقال إلى المعارضة. واعلم أن هذا السؤال لا يرد بعد سؤال الاستفسار؛ لأن المستدل إن دفع سؤال الاستفسار بحيث لا يبقى الإجمال، فالتقسيم لا يرد. وإن أجاب عنه بتعيين ما قصده، فبعد التعيين لا حاجة إلى التقسيم.

مسألة: منع وجود المدعي علة في الأصل

قال: (منع وجود المدعي علة في الأصل، مثل: الكلب حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعا، فلا يطهر بالدباغ كالخنزير، فيمنع. وجوابه: بإثباته بدليله من عقل، أو حس، أو شرع). أقول: من النوع الرابع من الاعتراضات: وهو ما يختص بالمقدمة الثانية من مقدمات القياس، وهو قولهم: والحكم في الأصل معلل بوصف كذا، ما ذكر المصنف، والقدح إما في وجوده وإما في علته، والثاني إما نفي العلة صريحا، أو نفي لازمها. والأول إما منع مجرد أو مطالبة، وبيان عدم تأثير أو معارضة، وبيان عدم تأثيره، والثاني: إما أن يختص بالمناسبة أو لا، فالمختص بحسب شروط المناسب وهو الإفضاء إلى المصلحة وعدم المعارض لها. والظهور والانضباط [أربعة]، وهي: نفي كل واحد منها، وغير المختص، إما من حيث إن شرطها الاطراد، وإما من حيث إن شرطها ألا تكون بمعارض في الأصل. أما نفي الطرد: وهو للحكمة كسر، وللوصف نقض، وأما الآخر فهو المعارضة في الأصل، صارت عشرة. الأول: منع كون ما يدعي علة لحكم الأصل موجود فيه. مثاله: ما قال في الكلب: حيوان يغسل من ولوغه/ سبعا، فلا يطهر

مسألة: منع كونه علة

بالدباغ كالخنزير. فيقول المعترض: لا نسلم أن الخنزير يغسل الإناء من ولوغه سبعا. وجواب هذا الاعتراض بإثبات وجود هذا الوصف في الأصل بما هو ثبوت طريق مثله؛ لأن الوصف قد يكون حسيا فبالحس، أو عقليا فبالعقل، أو شرعيا فبالشرع. مثال يجمع الثلاثة: لو قال في القتل بالمثقل: قتل عمد عدوان. فلو قيل: لا نسلم أنه قتل. قال: بالحس. فلو قيل: لا نسلم أنه عمد. قال: بالعقل بأمارته. فلو قيل: لا نسلم أنه عدوان. قال: بالشرع؛ لأنه حرام. وفي مثال المصنف يثبت بالشرع، أو يقول: أعنى به، إذا لم يغلب على ظنه الطهارة بدونها. قال: (منع كونه علة، وهو من أعظم الأسولة لعمومه، وتشعب مسالكه. والمختار: قبوله، وإلا لأدى إلى اللعب في التمسك بكل طردي. قالوا: القياس رد فرع إلى أصل بجامع، وقد حصل.

قلنا: بجامع نظن صحته، فلا يسمع المنع. قلنا: يلزم أن تصح كل صورة دليل مع عجز المعترض. وجوابه: بإثباته بأحد مسالكه، فيرد على كل منهما ما هو شرط، فعلى ظاهر الكتاب الإجمال أو التأويل، والمعارضة، أو القول بالموجب، أو المعارضة بمثله، فيسلم القياس. وعلى السنة ذلك، والطعن بأنه مرسل، أو موقوف، وفي رواية بضعفه، أو قول شيخه: لم يروه عني. وعلى تخريج [المناط ما يأتي، وما تقدم). أقول: ومن الاعتراضات: منع كون الوصف المدعى عليته علة، وهو من أعظم] الأسولة لعمومه في الأقيسة، إذ العلة قلما تكون قطعية، ولتشعب مسالك العلة، فتتعدد طرق الانفصال عنها، وعلى كل واحد منها أبحاث، وقد قيل: إنه لا يقبل. والمختار: قبوله، وإلا أدى إلى التمسك بكل وصف طردي فيضيع القياس إذ لا يفيد ظنا، وتكون المناظرة عبثا. قالوا: القياس إلحاق فرع بأصل بجامع وقد حصل، وإذا حصل مدعاه لا يكلف ما لم يدعه. الجواب: لا نسلم أن حقيقة القياس ذلك، بل إلحاق فرع بأصل بجامع

تظن صحته، وهذا القيد معتبر في حد القياس اتفاقا، ولم يوجد. قالوا: عجز المعترض عن إبطال دليل صحته، إذ طرق عدم العلية من كون الوصف طرديا، أو إبداء وصف آخر وغير ذلك، مما لا يخفى على المجتهد والمناظر، فلو وجد لوجده، ولو وجده لأظهره، فلما لم يظهره على أن لو يوجد، فالفرار إلى مجرد المنع يكفينا دليلا على صحته، فلا يسمع المنع ولا يشتغل بجوابه لأنه شاهد على نفسه بالبطلان. قلنا: فيلزم أن كل صورة دليل عجز المعترض عن إبطالها فهي صحيحة، حتى لو استدل واحد على وقوع أحد النقيضين، واستدل الآخر على وقوع النقيض الآخر، وتعارضا وعجز كل عن إبطال دليل الآخر، أن يكونا صحيحين. /وقد يقال: السبر دليل ظاهر عام لا يعجز عنه مستدل، وعليه طريق إثبات العلة أولا، فلا يسمع هذا المنع، ولما ظهر أن هذا المنع مسموع. فالجواب: إثبات العلة بمسلك من مسالكها المذكورة، فيرد على كل منها ما هو شرط في صحة ذلك المسلك. فعلى الإجماع منع وجوده، أو منع دلالة السكوت على الموافقة، أو أنه بنقل الواحد، أو المعارضة بإجماع آخر، أو بمتواتر قطعي. وعلى ظاهر الكتاب إذا ثبت به علية الوصف، كما لو قال في بيع الغائب: قال تعالى: {وأحل الله البيع} وهو يدل على صحة كل بيع. فيعترض: بالاستفسار، وبمنع ظهور دلالته، أو لا نسلم أن اللام

مسألة: عدم التأثير وهو أربعة أقسام

للعموم، أو التأويل بدليل يصيره راجحا، وهو نهيه عليه السلام عن بيع الغرر، أو الإجمال. وما ذكرناه إن لم يصيره راجحا، فإنه يعارض الظهور فيبقى مجملا. أو بالمعارضة بآية أخرى، كما لو عارض بقوله: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، وهذا لم يتحقق فيه الرضا، إذ لم ير المبيع أو القول بالموجب وهو تسليم مقتضى ظاهر الكتاب مع بقاء الخلاف، فإنا لا نسلم حل البيع، والخلاف في صحته باق، ولم يثبته. وعلى ظاهر السنة مثل ذلك، وتختص أخبار الآحاد بالطعن في السند بما ذكر، أو خلل في ضبطه. وعلى تخريج المناط بما يأتي من القدح في المناسبة، والقدح في الإفضاء، وكونه خفيا، وكونه غير منضبط، وبما تقدم من أنه غريب، أو ثبت إلغاؤه أو مرسل ملائم. لا ما ذكر الشارحون من أن ما تقدم هو استلزام المفسدة؛ لأن ذلك يأتي وهو القدح في المناسبة. قال: (عدم التأثير وهو أربعة أقسام: عدم التأثير في الوصف، مثل: صلاة لا تقصر فلا تقدم كالمغرب؛ لأن عدم القصر في نفي التقديم طردي، فيرجع إلى سؤال المطالبة).

الثاني: عدم التأثير في الأصل، مثاله في بيع الغائب: بيع غير مرئي فلا يصح كالطير في الهواء، فإن العجز عن التسليم مستقل. وحاصله: معارضة في الأصل. الثالث: عدم التأثير في الحكم، مثاله في المرتدين: مشركون أتلفوا مالا في دار الحرب، فلا ضمان كالحربي، ودار الحرب عندهم طردي، وحصله كالأول. الرابع: عدم التأثير في الفرع، مثاله: زوجت نفسها من غير كفء فلا يصح، وحاصله كالثاني. وكل فرض جعل وصفا في العلة مع اعترافه بطرده مردود، بخلاف غيره على المختار فيها). أقول: عدم التأثير: هو إبداء وصف لا أثر له في ثبوت الحكم، وقسمه الجدليون أربعة أقسام. عدم التأثير في الوصف/ مطلقا، ثم عدم تأثيره في ذلك الأصل، ثم عدم تأثير قيد منه، ثم عدم اطراده، فيعلم من ذلك عدم تأثيره في محل النزاع. وخصوا كل قسم باسم، تمييزا لبعضها عن بعض. مثال الأول: ما لو قيل في الصبح: صلاة لا تقصر فلا يقدم أذانها كالمغرب، فيقول: عدم القصر لا تأثير له في عدم قديم الأذان، إذ لا مناسبة فيه ولا شبه فهو طردي، ولذلك استوى المغرب فيه وغيره مما يقصر.

ومرجعه المطالبة بكون العلة علة، فهو يغني عنه، وجوابه كجوابها فلا يجتمعان. الثاني: عدم التأثير في ذلك الأصل، مثاله: ما لو قال في بيع الغائب: مبيع غير مرئي فلا يصح بيعه كالطير في الهواء، فيقول المعترض: كونه غير مرئي –وإن ناسب نفيس الصحة –إلا أنه استغني عنه بغيره، فلا أثر له في مسألة الطير، ضرورة استواء المنع في المرئي وغيره، والعجز عن التسليم مستقل في منع الصحة. ومرجعه المعارضة في الأصل بإبداء علة أخرى هي العجز عن التسليم، وهو غير مقبول عند الأستاذ؛ لأنه إشارة إلى علة أخرى في الأصل، ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين. والذي ينبغي على اختيار المصنف أن يسمع لما سيأتي، أما من منع تعليل الحكم بعلتين فيسمعه. الثالث: أن يضم إلى الوصف المعلل به وصفا لا تأثير له في الحكم المعلل ويسمى عدم التأثير في الحكم. مثاله: أن يقول: المرتد مشرك أتلف مالا في دار الحرب، فلا يضمن كالحربي، فيقول المعترض: دار الحرب لا تأثير له عندك، ضرورة استواء الإتلاف في دار الحرب ودار الإسلام في عدم وجوب الضمان عندك. وحاصله يرجع إلى سؤال المطالبة إن كان الوصف طرديا بالنسبة إلى ذلك الحكم، أما إن كان مؤثرا بالنسبة إليه رجع إلى سؤال الإلغاء.

الرابع: أن يكون الوصف المذكور لا يطرد في جميع صور النزاع –وإن كان مناسبا- ويسمى عدم التأثير في الفرع، كما لو قال في تزويج المرأة نفسها من غير كفئ: زوجت نفسها من غير كفء فلا يصح، كما لو أنكحها الولي من غير كفء، لاشتراكهما في أنه نكاح لم يراع فيه كفاءة الزوج، وتزويجها نفسها من غير كفء- وإن كان مناسبا للحكم المذكور- غير أنه لا يطرد في جميع صور النزاع، إذ النزاع واقع فيما إذا زوجت نفسها من الكفء وغي الكفء. وحاصل هذا كالثاني؛ لأن التزويج من غير كفء لا تأثير له في الأصل إذ المؤثر عدم رضاها. وقال في المنتهى: "وحاصله كالثالث"، أي أن تزويجها نفسها مستقل بعدم الصحة. قال سيف الدين: /قد يكون أخذ الوصف الذي لا يناسب الحكم في الدليل مفيدا، بأن يكون مشيرا إلى نفي المانع الموجود في صورة النقض، لوجود الشرط الفائت فيها لقصد دفع النقض، أو مشيرا إلى قصد الفرض في الدليل في بعض صور النزاع، كما ذكر في مثال الإتلاف في دار الحرب في مسألة المرتدين، ولا يكون عديم التأثير، إذ هو غير مستغى عنه في إثبات الحكم، إما لدفع النقض، أو لقصد الفرض. وقال المصنف: إنه إن اعترف المستدل بطرده فهو مردود على المختار،

مسألة: القدح في المناسبة

وإلا فهو مقبول على المختار. قال: (القدح في المناسبة بما يلزم من مفسدة راجحة أو مساوية. وجوابه: بالترجيح تفصيلا، أو إجمالا كما سبق). أقول: شرع الآن في الأربعة المخصوصة بالمناسبة: الأول: القدح في المناسبة: وهو إبداء مفسدة راجحة أو مساوية، لما مر أن المناسبة تنخرم بهما. وجوابه: بترجيح المصلحة إجمالا، أو تفصيلا كما سبق. أما التفصيلي: فبخصوص المسألة بأن هذا ضروري وذاك حاجي، أو بأن إفضاء هذا إلى المصلحة قطعي أو أكثري، وذاك ظني أو أقلي، أو بأن هذا اعتبر نوعه في نوع الحكم، وذاك اعتبر جنسه، إلى غير ذلك مما تقدم. وأما إجمالا: فيلزم التعبد لولا اعتبار المصلحة، كما لو قال في الفسخ في المجلس: وجد سبب الفسخ فيوجد الفسخ، وذلك دفع ضرر المحتاج إليه منهما، فيقول المعترض: معارض لضرر الآخر، فيقول: ذلك يطلب نفعا وهذا يدفع ضرره، ودفع الضرر أهم. قال: (القدح في إفضاء الحكم إلى المقصود، كما لو علل حرمة المصاهرة على التأبيد بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب المؤدي إلى الفجور. فإذا تأبد انسد باب الطمع المفضي إلى مقدمات الهم والنظر المفضية إلى ذلك.

مسألة: كون الوصف خفيا كالرضا والقصد

فيقول: بل سد باب النكاح أفضى إلى الفجور، والنفس مائلة إلى الممنوع. وجوابه: أن التأبيد يمنع عادة بما ذكر، فيصير كالطبيعي، كالأمهات). أقول: الثاني: القدح في إفضائه إلى المصلحة المقصودة من شرع الحكم، كما لو قال: علة تحريم ذوات المحارم من الأصهار على التأبيد، الحاجة إلى ارتفاع الحجاب، ووجه المناسبة: أنه يفضي إلى رفع الفجور، لأن رفع الحجاب وتلاقي الرجال والنساء يفضي إلى الفجور، لكن يرتفع بتحريم التأبيد، إذ يرتفع الطمع المفضي إلى مقدمات الهم والنظر المفضية إلى الفجور. فيقول المعترض: لا يفضي إلى ذلك: بل سد باب النكاح أفضى إلى الفجور؛ لأن النفس حريصة على ما منعت منه، وقوة الشهوة مع النظر مظنة الفجور. والجواب: بيان الإفضاء، بأن يقول في المسألة: التأبيد يمنع –عادة- ما ذكرناه من مقدمات الهم والنظر، وبالدوام يصير /كالأمر الطبيعي، فلا يشتهين كالأمهات. قال: (كون الوصف خفيا كالرضا والقصد، والخفي لا يعرف الخفي. وجوابه: ضبطه بما دل عليه من الصيغ والأفعال).

مسألة: كونه غير منضبط

أقول: الثالث منها: كون الوصف غير ظاهر، كالرضا في العقود والقصد في الأفعال. والجواب: ضبطه بصيغة ظاهرة، كضبط الرضا بصيغ العقود، وضبط العمد بفعل يدل عليه عادة، كاستعمال الجارح –مثلا- في [المقتل]. قال: (كونه غير منضبط، كالتعليل بالحكم والمقاصد، كالحرج والمشقة والزجر، فإنها تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال. وجوابه: إما أنه منضبط بنفسه أو بضابط، كضبط الحرج بالسفر ونحوه). أقول: الرابع منها: كون الوصف غير منضبط كالحكم والمصالح، كالحرج والمشقة والزجر، فإنها ذات مراتب غير محصورة ولا متميزة، وتختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال، فلا يعرف القدر المقصود مها، وما هذا شأنه فعادة الشرع فيه رد الناس إلى الأوصاف المنضبطة دفعا للعسر عنهم. وجوابه: إما أنه منضبط بنفسه، كما نقول في المشقة والمضرة: إنه منضبط عرفا، وإما بوصف كضبط الحرج بالسفر، والزجر بالحد، والأربعة راجعة إلى منع علية الوصف. الأول: بإبداء وجود المانع.

مسألة: النقض كما تقدم

والثاني: بواسطة عدم ترتيب المقصود عليه. والثالث والرابع: بواسطة انتفاء شرطه. قال: (النقض كما تقدم، وفي تمكن المعترض من الدلالة على وجود العلة إذا منع. ثالثها: يمكن ما لم يكن حكما شرعا، لأنه انتقال. ورابعها: ما لم يكن طريق أولى بالقدح. قالوا: ولو دل المستدل على وجود العلة بدليل موجود في محل النقض فمنع وجودها. فقال: المعترض: ينتقض دليلك، لم يسمع لأنه انتقال من نقض العلة إلى نقض دليلها، وفيه نظر. أما لو قال: يلزمك إما انتقاض علتك أو انتقاض دليلها كان متجها. ولو منع المستدل تخلف الحكم، ففي تمكين المعترض من الدلالة. ثالثها: يمكن ما لم يكن طريق أولى. والمختار: لا يجب الاحتراز من النقض. وثالثها: إلا في المستثنيات. لنا: أنه سئل عن الدليل، وانتفاء المعارض ليس منه. وأيضا: فإنه وارد، وإن احترز اتفاقا. وجوابه: ببيان معارض اقتضى الحكم أو خلافه كالعرايا وضرب الدية، أو لدفع مفسدة آكد كحل الميتة، فإن كان التعليل بظاهر عام، حكم بتخصيصه، وتقرير المانع كما تقدم).

أقول: النقض –كما تقدم- هو وجود المدعى علة مع تخلف الحكم في تلك الصورة، ويمكن في جوابه/ منع كل واحد منهما. الأول: ما لو منع المستدل وجود الوصف في صورة لنقض وهو وارد، لكن اختلفوا هل للمعترض أن يستدل على وجوده؟ . فقيل: له ذلك، إذ به يتم إبطال دليل المستدل. وقيل لا؛ لأنه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال. وقيل: إن كان الوصف حكما شرعيا فلا؛ لأنه انتقال حقيقة وإلا جاز. وقيل: إن كان له طريق في القدح أولى من النقض، لم يكن له ذلك وإلا جاز. قال الجدليون: لو ذكر المستدل دليلا على وجود العلة في الأصل، وكان ذلك الدليل موجودا في محل النقض، فنقض المعترض العلة، فقال المستدل: لا نسلم وجودها، فقال المعترض: فينتقض دليلك لوجوده في محل النقض بدون مدلوله وهو وجود العلة، لم يسمع من المعترض؛ لأنه انتقال من نقض العلة إلى نقض دليلها. قال الصنف: وفيه نظر؛ إذ القدح في دليل العلة قدح فيها وهو المطلوب فلا انتقال، أو أنه لا يلزم من إبطال الدليل إبطال المدلول، لجواز مدرك آخر، لكن ظن العلية إنما هو من دليلها، فالقدح فيه يستلزم القدح فيها بالنسبة إلينا.

قيل: كأن القائل بعدم السماع نظر إلى خلاف ما أقر به المعترض أولا، فإن نقض العلة بدون وجود الوصف في صورة النقض لا يتصور، ونقض دليل العلة لا يتصور إلا عند عدم الوصف في صورة النقض. رد: بأن المعترض إنما نقض دليل العلة بعدم وجود الوصف في صورة النقض على زعم المستدل، فلا يلزم خلاف ما أقر به أولا، هذا إذا ادعى انتقاض دليل العلة عينا، أما لو ادعى أحد الأمرين، فقال: يلزمك إما انتقاض العلة أو انتقاض دليلها، وأيا ما كان فلا تثبت العلية، كان مسموعا إذا عدم الانتقال ظاهر. الثاني: م لو منع المستدل تخلف الحكم في صورة النقض وهو وارد. واختلفوا: هل للمعترض إقامة الدليل على عدم الحكم؟ . قيل: له ذلك، إذ به يحصل مطلوبه، وقيل: لا؛ لأنه انتقال. وقيل: له ذلك إذا لم يكن له طريق أولى بالقدح. إذا عرفت ذلك، فاعلم أنهم –أيضا- قد اختلفوا في أنه هل يجب على المستدل أن يحترز في متن دليله من النقض، بأن يذكر قيدا يخرج صورة النقض؟ . فقيل: يلزمه لئلا تنتقض العلة. وقيل: يلزمه إلا في المستثنيات لأنها ترد على علة، فإذا قال في الذرة: "مطعوم؛ فيجب التساوي في بيع بعضه ببعض كالبر"، ولا حاجة إلى أن يقول، ولا حاجة تدعوا إلى عدمه لتخرج العرايا، فإنه وارد على كل تقدير سواء عللنا بالطعم، أو الكيل، أو بالقوت، فلا تعلق له بإبطال مذهب وتصحيح آخر.

والمختار: لا يجب أصلا لأنه سئل عن دليل العلة وقد وفى به، والنقض دليل عدم العلة/ فهو معارض، ونفي المعارض ليس من الدليل فلا يلزمه. قيل: المراد من الدليل ما يلزم من العلم به العلم أو الظن بالمدلول، ولا يحصل إلا بعد التعرض لانتفاء المعارض. قلت: قد قدم أن المراد من العلة الباعث، وانتفاء المعارض ليس منه. وأيضا: الأصل عدمه. وأيضا: إن ذكره فإنما يذكره لئلا يرد النقض، وذلك إنما يصح إذا لم يرد النقض معه. وليس كذلك، فإنه وارد معه اتفاقا بأن يقول: هذا وصف طردي والباقي منتقض، وإذا لم يمكن دفع النقض بمنع وجود العلة في محل النقض، ويمنع تخلف الحكم عنها فيه. فجواب النقض: بإبداء معارض هو المانع في صورة النقض، اقتضى نقيض الحكم كنفي الوجوب، أو خلافه كالحرمة للوجوب، وذلك إما لتحصيل مصلحة كما في العرايا إذا أوردت على الربويات، لعموم الحاجة إلى الرطب والتمر وقد لا يكون عندهم ثمن آخر، وكضرب الدية على العاقلة إذا نقض بها التعليل بالبراءة الموجبة لعدم المؤاخذة على غير الجاني، لتحصيل مصلحة أولياء المقتول، وإما دفع مفسدة كما إذا علل حرمة الميتة بالنجاسة أو الضرر أو القذارة. فيورد المضطر فيقول: ذلك لدفع مفسدة هلاك النفس وهي آكد، أما لو كانت العلة بظاهر عام فلا يجب إبداء المانع، بل يحكم بتخصيصه بغير محل

مسألة: الكسر وهو نقص في المعنى

النقض، وتقدير المانع كحدوث مصلحة أو دفع مفسدة، فيكون تخصيصا للعموم لا للعلة، فإنه أهون. قال: (الكسر: وهو نقض في المعنى، الكلام فيه كالنقض). أقول: الكسر هو: نقض المعنى. وحاصله: وجود الحكمة في صورة مع عدم الحكم، وقد علمت هل يسمع ومتى يسمع. وحيث سمع فهو كالنقض، غير أن منع وجود العلة هنا أظهر منه في النقض لما مر أن قدر الحكمة يتفاوت، وانتفاء الحكم هنا قد يدفع بأنه لم لا يجوز أن يثبت حكم آخر هو أولى بالحكمة؟ . قال: (المعارضة في الأصل بمعنى آخر، إما مستقل كمعارضة الكيل بالطعم أو القوت، وإما غير مستقل كمعارضة القتل العمد العدوان بالجارح، والمختار: قبولها. لنا: لو لم تكن مقبولة لم يمتنع التحكم؛ لأن الوصف المدعى علة ليس بأولى بالحرمة أو بالاستقلال من وصف المعارضة، فإن رجح بالتوسعة منع الدلالة. ولو سلم، عورض بأن الأصل انتفاء الأحكام، وباعتبارهما معا. وأيضا: فلما ثبت أن مباحث الصحابة كانت جمعا وفرقا. قالوا: استقلالهما بالمناسبة يستلزم التعدد.

قلنا: تحكم باطل، كما لو أعطى قريبا عالما. أقول: المعارضة في الأصل، هي أن يبدي المعترض معنى آخر يصلح للتعليل مستقلا، فيحتمل أن يكون علة دون وصف المستدل، وأن يكون جزء علة، فهو مع الأول علة/ مستقلة، وعلى التقديرين فلا يحصل الحكم بالأول وحده، كما لو علل حرمة الربا بالطعم، فيعارضه بالكيل أو القوت. وأما غير المستقل، فيحتمل أن يكون جزء علة فينتفي استقلال الأول، كما لو علل القصاص في المحدد بكونه قتلا عمدا عدوانا، فيعارضه بكونه بالجارح، فإنه لما جاز أن تكون العلة ذكر –مع قيد كونه بالجارح- لم يتعد إلى المثقل. واختلف في قبول هذه المعارضة. فمنهم من لم يقبلها، بناء على أنه لا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين، ومنهم من قبله وأوجب الجواب عنه بناء على امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين، والمختار عند المصنف قبولها في الصورتين. فإن قلت: المصنف يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين، فيلزم ألا يسمع المعارضة في الوجه الأول. وأيضا: قال بعد هذا: (النقض يورد لإبطال العلة، والمعارضة لإبطال استقلالها)؛ فدل على أنه إنما يسمع القسم الثاني فقط.

قلت: المصنف إنما يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين بالنوع، وأما بالشخص فإنما جوزه في المنصوصة دون المستنبطة، وإنما حملنا على ذلك وإن كان ظاهر قوله: (القائلون بالوقوع إذا اجتمعت فالمختار كل واحدة علة) أنه جوزه مطلقا لأجل قوله بعد ذلك: (وألا تكون المستنبطة بمعارض في الأصل)، فشرط في صحة التعليل بها ألا تكون بمعارض في الأصل. وأما قوله: (والمعارضة لإبطال استقلالها)، فلا يدل على ذلك؛ لأنها على الوجهين تورد لإبطال الاستقلال. لأنه يقول في الوجه الأول: جعل وصفك أو وصفي دون جعل المجموع علة تحكم، وفي الجزء يقول: ليس جعل جزئك علة بأولى من جعل المجموع، فهو يورد لإبطال استقلال وصف المستدل. ويدل على أن المصنف أراد الصورتين أنه قال في عدم التأثير: (وحاصله معارضة في الأصل) وهو إنما عارض بالمستقل، وظاهره أنه سمعه لقوله: وهي خمسة وعشرون، وإلا لم تسمع، وهو منها. وأيضا: دليل الخصوم في قوله: استقلالهما بالمناسبة. وجوابه يدل عليه، وهو يدل –أيضا- على أنه إنما سمعه إذا كانت

مستنبطة؛ لأن ما ذكر مستنبطة، وأن تعليل الحكم بعلتين منصوصتين في محل جائز، فلا يسمع المعارضة بمنصوصة مستقلة. احتج المصنف على قبوله: بأنه لو لم يقبل لم يمتنع التحكم، واللازم باطل أما الملازمة، فلأن الوصف المبدى في الصورة الأولى يصلح للاستقلال والجزئية كوصف المستدل، والمبدى في الثانية يصلح للجزئية كوصف المستدل فالحكم بالاستقلال المدعى دون اعتبارهما معا تحكم. قيل: في لفظه تساهل، لإيهامه أن المستدل ادعى أنه جزء علة، فالأولى أن يقول: ليس أولى/ بالاستقلال من الجزئية. وأيضا: قوله: (من وصف المعارضة) ضائع لا يحتاج إليه. قلت: إذا جعل من وصف المعارضة متعلقا بقوله: (أولى) لم يكن تساهلا، ولم يكن ما ذكر ضائعا، إلا أن فيه إطلاق المصدر لإرادة اسم الفاعل. فإن قيل: لا تحكم مع الرجحان؛ إذ في اعتبار وصف المستدل دون وصف المعارضة توسعة الأحكام؛ لأنه إذا اعتبر، تعدى الحكم إلى الفرع، ولو اعتبر الآخر ولم يوجد في الفرع لم يتعد. قلنا: لا نسلم دلالة حصول التوسعة –بكونها علة على كونها علة تعم- يصلح ذلك مرجحا لدليل يثبت عليتها لو كان، والكلام فيه. وقال بعض الشراح: المراد بقوله منع الدلالة، أي يمنع دلالة الاستقلال على وجود الوصف في الفرع حتى تلزم التوسعة.

وقال بعضهم: لا نسلم دلالة الاستقلال على التوسعة، ثم سلم المنع وعارض، بأن اعتبار وصف المعارضة يوافق النفي الأصلي، إذ الأصل انتفاء الأحكام، فيعارض الترجيح بالتوسعة. وأيضا: الجزئية توجب اعتبار الوصفين، واعتبارهما أولى من أحدهما. ولنا –أيضا من جهة النقل- ما يدل على أن المعارضة مقبولة: أن مباحث الصحابة كانت جمعا وفرقا. والفرق إنما يتحقق بكون ما جعل المستدل على جزء علة، وقد لا يتعين ذلك، إذ الفرق يكون بإبداء معارض في الفرع. فالأولى أن يقال: مباحث الصحابة كانت جمعا وفرقا، والمعارضة في الأصل جمع وفرق؛ لأن المستدل جمع، والمعترض فرق. قالوا: المفروض استقلال كل منهما بالمناسبة، وهو يستلزم تعدد العلة فيصار إليه، وحينئذ يكون ما ذكرناه علة مستقلة وعلة غيره لا يضر. الجواب: لما احتمل استقلالها والتعدد وجزئيتهما والوحدة، كان الحكم بالاستقلال والتعدد تحكما محضا، وأنه باطل، كما لو أعطى قريبا عالما فإنه يمكن أن يكون إعطاؤه لقرابته أو لعلمه أو لهما، فالحكم بأحدهما دون المجموع مهما تحكم. قيل في تقرير هذا الدليل: لو قبل لزم استقلال كل واحد من وصفي المستدل والمعارض بالعلية، واستقلالهما بالعلية يستلزم تعدد العلة المستقلة وأنه باطل، ولا يخفى ضعفه؛ لأن هذا الدليل من جانب من جوز التعليل بعلتين.

مسألة: وفي لزوم بيان نفي الوصف عن الفرع

وقرره بعضهم: لو قبلت لامتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين، أما الملازمة؛ فلأن استقلال كل واحد من وصفي المستدل والمعترض بالمناسبة يستلزم التعدد، فلو قبلت لكان ثبوت الحكم في الأصل بإحدى العلتين ينافي ثبوته بالأخرى، فلا يعلل بعلتين، وقد بينا/ جوازه. قال: (وفي لزوم بيان نفي الوصف عن الفرع. ثالثها: إن صرح، لزم الوفاء بما صرح. لنا: أنه إذا لم يصرح فقد أتى بما لا ينهض معه الدليل، فإن صرح لزم الوفاء بما صرح. والمختار: لا يحتاج إلى أصل؛ لأن حاصله نفي الحكم لعدم العلة، أو صد المستدل عن التعليل بذلك. وأيضا: فأصل المستدل أصله). أقول: إذا قلنا بقبول المعارضة، فهل على المعترض بيان نفي وصف المعارضة عن الفرع؟ قيل: لا؛ لأن غرضه عدم استقلال ما ادعى المستدل استقلاله، وهذا القدر يحصل بمجرد إبدائه، أو لأن الوصف إن كان موجودا في الفرع فعلى المستدل بيان وجوده فيه ليصح الإلحاق، وإن لم يبينه فلا جمع. وقيل: عليه ذلك؛ لأن مقصوده الفرق، وهو لا يتم بدون نفيه عن الفرع. وقيل: إن تعرض صريحا لعدمه في الفرع، لزمه بيان وإلا فلا، وهو

مسألة: وجواب المعارضة إما بمنع وجود الوصف

المختار. أما إنه إذا لم يصرح فليس عليه بيانه؛ فلأنه قد أتى بما لا يتم دليل المستدل معه، وهذا هو غرضه، لا بيان عدم الحكم في الفرع، حتى لو ثبت بدليل آخر لم يكن إلزاما له. وأما إنه إذا صرح به لزمه؛ فلأنه التزم أمرا وإن لم يجب عليه ابتداء، فيلزمه بالتزامه، ويجب عليه الوفاء بما التزمه. واعلم أنهم اختلفوا أيضا، هل يحتاج المعترض إلى أصل يبين تأثير وصفه الذي أبداه في ذلك الأصل؟ والمختار: لا يحتاج؛ لأن حاصله إما نفي ثبوت الحكم عن الفرع بعلة المستدل، ويكفيه ألا تثبت عليتها بالاستقلال، فلا يحتاج إلى أن يثبت علية ما أبداه استقلالا، فإن كونه جزء علة يحصل مقصوده. وأما صد المستدل عن التعليل بذلك، فهو لا يدعي عليته حتى يحتاج إلى أصل يشهد له. وأيضا: أصل المستدل أصل له، بأن يقول: العلة الطعم أو الكيل أو القوت كما في البر، فإذا مطالبته بالأصل مطالبة بما قد تحقق حصوله، فلا فائدة فيه. قال: (وجواب المعارضة: إما بمنع وجود الوصف، أو المطالبة بتأثيره إن كان مثبتا بالمناسبة، أو بالشبه، لا بالسبر، أو بخفائه، أو عدم انضباطه، أو منع ظهوره أو انضباطه، أو بيان أنه عدم معارض في الفرع مثل: المكره –على المختار- بجامع القتل.

فيعترض: بالطواعية. فيجيب: بأنه عدم الإكراه المناسب نقيض الحكم وذلك طرد، أو يبين كونه ملغى، أو يبين استقلال ما عداه في صورة بظاهر أو إجماع، مثل: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" في معارضة المطعوم بالمكيل، ومثل: "من بدل دينه فاقتلوه" في معارضة التبديل بالكفر بعد الإيمان، غير معترض للتعميم). أقول: جواب المعارضة من وجوه: الأول: منع وجود الوصف، كما لو عارض القوت بالكيل، فيقول: لا نسلم/ أنه مكيل، إذ العبرة بما اعتيد فيه في زمانه عليه السلام، وكان إذ ذاك موزونا. ومنها: المطالبة بكون وصف المعارضة مؤثرا – [ينظر هذا مع قوله: (والمختار لا يحتاج إلى أصل) -] وهذا إنما يسمع من المستدل إذا كان المعترض مثبتا لوصفه بالمناسبة أو بالشبه؛ لأن كل واحد منهما غير كاف، بل يحتاج مع ذلك إلى اقتران الحكم به باعتبار الشارع إياه، أما إذا كان أثبته بالسبر، فلا يحتاج إلى المطالبة بتأثير الوصف، فإن السبر كاف في الدلالة على العلية من غير اعتبار تأثير الوصف، فلا [يتمكن] المستدل من

المطالبة المذكورة، هكذا قال جل الشراح. وفي الإحكام والمتهى: إن كان المستدل أثبت علية الوصف بالمناسبة أو بالشبه لا بالسبر، يعني أنه إذا أثبته بالسبر، فقد أبطل ما عداه. فإن أبدى المعترض وصفا آخر لزم المستدل إبطاله، لا [أنه] يطالب بتأثيره؛ لأن ذلك تسليم لمناسبته وذلك يبطل سبره. هذا ما ظهر لي، والجزم بأن ما في الكتابين غلط من النساخ غير صحيح. ومنها بيان خفائه، ومنها عدم انضباطه، ومنها منع ظهوره، ومنها منع انضباطه، إذ الظهور والانضباط شرط في الوصف المعلل به، فلابد في دعوى صلاحية الوصف ببيانهما. وللصاد أن يبين عدمهما، وأن يطالب ببيان وجودهما. ومنها: أن يبين أن الوصف عدم معارض في الفرع، كما لو قاس المكره على القتل على المختار له في وجوب القصاص بجامع القتل، فيقول المعترض: معارض بالطواعية، فإن العلة هي القتل مع الطواعية، فيجيب المستدل: بأن الطواعية عدم الإكراه المناسب لنقيض الحكم، وهو عدم القصاص. فحاصله عدم المعارض، وهو طرد من الباعث في شيء. لا يقال: لا يتم هذا الجواب؛ لأنه يستلزم ثبوت الفرق بين الأصل

والفرع، فيبطل الإلحاق. لأنا نقول: المناسب لعدم الحكم هو الإكراه السالب للاختيار بالكلية، وهو معدوم في الفرع. ومنها: أن يبين كون الوصف ملغى، بأن يبين استقلال الباقي بالعلية في صورة إما بظاهر أو إجماع؛ فلا يكون وصف المعارض علة ولا جزء علة. وإنما حملنا قوله على هذا، وإن كان ظاهر العطف يقتضي المغايرة؛ لأنه قد فسر الإلغاء قبل هذا بأنه بيان إثبات الحكم بالمتبقي فقط، إلا أن يحمل قوله: (يبين كونه ملغى) أي يبين كونه طرديا، فيكون [غيره]. مثال الأول: ما لو قاس التفاح على البر في حرمة الربا بجامع الطعم، فيعارض: بأن العلة في الأصل الكيل، فيجيب: بأن الطعم/ مستقل بالعلية فيه، بظاهر قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء"، لما علمت أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بعليته. وفي المنتهى: في معارضة الطعم بالكيل وهو الصواب. مثال آخر: في يهودي تنصر، بدل دينه فيقتل كالمرتد، فيعارض: بأن العلة الكفر بعد الإيمان، فيجيب، بأن التبديل معتبر في صورة ما، لقوله عليه

مسألة: ولا يكفي إثبات الحكم في صورة

السلام: "من بدل دينه فاقتلوه"، هذا إذا لم يتعرض للتعميم، فلو عمم فقال: فتثبت ربوية كل مطعوم، أو اعتبار كل تبديل للحديث، لم يسمع لأنه إثبات للحكم بالظاهر، لا أنه تتميم لاستقلال وصف المستدل، فيكون القياس ضائعا، ولا يضره كونه عاما إذا لم يتعرض للتعميم ولم يستدل به. ومنه يعلم فساد حمل من حمله على أن المراد: ليس على المستدل أن يتعرض لثبوت الحكم في جميع صور وجود الوصف؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف –ولو في صورة- يكفي في الدلالة على العلية. والحديث الأول لا يوجد بهذا اللفظ، وفي مسلم: "الطعام بالطعام مثلا بمثل"، والثاني خرجه البخاري بهذا اللفظ. قال: (ولا يكفي إثبات الحكم في صورة دونه، لجواز علة أخرى ولذلك لو أبدى أمرا آخر يخلف ما ألغى، فسد الإلغاء، ويسمى تعدد الوضع لتعدد أصلها، مثل: أمان صدر من مسلم عاقل، فيصح كالحر لأنهما مظنتان لإظهار مصالح للإيمان. فيعترض: بالحرية، لأنها مظنة الفراغ للنظر فيكون أكمل، فيلغيها بالمأذون له في القتل. فيقول: خلف الإذن الحرية، فإنها مظنة لبذل الوسع، أو لعلم السيد لصلاحيته. وجوابه: الإلغاء إلى أن يقف أحدهما، ولا يفيد الإلغاء بضعف المعنى مع تسليم المظنة.

كما لو اعترض في الردة بالرجولية، فإنها مظنة الإقدام على القتال، فيلغيها بالمقطوع اليدين، ولا يكفي رجحان المعين، ولا كونه متعديا، فيجئ التحكم. والصحيح: جواز تعدد الأصول، لقوة الظن به. وفي جواز اقتصار المعارضة على أصل واحد قولان، وعلى الجميع ففي جواز اقتصار المستدل على أصل واحد قولان). أقول: هل يكفي أن يبين استقلال الحكم في صورة دون وصف المعارضة، فيمتنع أن يكون وصف المعارضة علة مستقلة في محل التعليل، لما فيه من إلغاء المستقل واعتبار غير المستقل، أو ادخلا في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع مع استقلاله. قال الآمدي: يكفي. وقال المصنف: لا يكفي، لجواز علة أخرى في تلك الصورة، لما تقدم من جواز تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين، ولذلك لو أبدى في صورة عدم وصف المعارضة وصفا/ آخر يخلفه لئلا يكون الباقي مستقلا، فسد الإلغاء لابتنائه على استقلال الباقي في تلك الصورة وقد بطل، وحينئذ لا يلزم من إثبات الحكم في صورة بعلة –مع عدم الصورة الأخرى فيها- إلغاء ما وجد في تلك الصورة، ويسمى هذا النوع من الإلغاء بتعدد الوضع، أي تعدد العلة المعتبرة، إذ صح القياس كونه على هيئة صالحة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه، وفساد وضعه ألا يكون كذلك وقد تقدم، فتعدد الوضع بتعدد

أصليهما –أي أصلي وصفي المعارض- إذ كل وصف استنبط من أصل، هذا ما ظهر لي. مثاله في أمان العبد للحربي: أمان من مسلم عاقل فيقبل كالحر، إذ الإسلام والعقل مظنتان لإظهار مصالح الإيمان من بذل الأمان وغيره، فيصح تعليل الأمان بهما. فيقول المعترض: فهو معارض بكونه حرا، إذ العلة مسلما عاقلا حرا؛ إذ الحرية مظنة فراغ قلبه للنظر لعدم اشتغاله بخدمة أحد، فيكون إظهار مصالح الإيمان معه أكمل. فيقول المستدل: الحرية ملغاة لاستقلال الإسلام والعقل به في صورة العبد المأذون له من قبل سيده في القتال. فيقول المعترض: إذن السيد له خلف عن الحرية، فإنه مظنة لبذل الوسع فيما تصدى له من مصالح القتال، أو لعلم السيد بصلاحيته لإظهار مصالح الإيمان. وجواب تعدد الوضع: أن يلغي المستدل ذلك الخلف بإبداء صورة لا يوجد فيها الخلف، فإن أبدى المعترض خلفا آخر، فجوابه إلغاؤه إلى أن يقف أحدهما فيكون هو المنقطع، ولا يفيد المستدل الإلغاء بضعف المعنى –إذا سلم وجود المظنة المتضمنة لذلك المعنى- كما لو قال: الردة علة القتل. فيعترض: بأن العلة الردة مع الرجولية؛ لأنه مظنة الإقدام على قتال المسلمين، لأن ذلك معتاد من الرجال دون النساء. فيجيب: بأن كونه مظنة، الإقدام غير معتبر، وإلا لم يقتل مقطوع

اليدين؛ لأن احتمال الإقدام فيه ضعيف، بل أضعف من النساء، وهذا لا يقبل منه لما سلم أن الرجولية مظنة اعتبرها الشارع، كترفه الملك لا يمنع ترخص السفر، إذ المعتبر المظنة لا مقدار الحكمة، لعدم انضباطها. واعلم أن لا يكفي –أيضا- في جواب المعارضة أن يقول المستدل: ما عينته من الوصف راجح على ما عارضت به، ويبين وجها من الترجيح، إذ احتمال الجزئية باق، ولا بعد في ترجيح بعض الأجزاء على بعض، كالقتل العمد العدوان، فإن الأول أقوى فيجئ التحكم. أيضا: كون ما عينه المستدل متعديا والآخر قاصرا، إذ مرجعه الترجيح بذلك، ولا يفيد الاستقلال فيجئ التحكم. هذا مع أنه إن رجحت المتعدية، بأن اعتبارها/ يوجب امتناع الأحكام وبأنها متفق عليها بخلاف القاصرة، رجحت الأخرى بأنها موافقة للأصل، إذ الأصل عدم الأحكام، وبأن اعتبارها إعمال لهما بخلاف إلغائها. ولو سلم ترجيحها، فإنما يفيد عدم استقلال القاصرة لا إبطالها بالكلية، لاحتمال الجزئية. واعلم أنهم قد اختلفوا في جواز تعدد الأصول. فقيل: لا يجوز، ويكتفي المستدل بأصل واحد، إذ غرضه الظن وهو يحصل به. والصحيح: جوازه، لأنه يقوى به الظن. ثم إذ جوزنا التعدد، فهل يقتصر المعترض على معارضة أصل واحد، أو

مسألة: التركيب: تقدم التعدية

يعارض في كل أصل؟ . قولان، بناء على أن إبطال بعض كلامه إبطال لكلامه، أو أنه لو سلم له أصل واحد لكفاه في مقصوده، فلابد من إبطال الجميع. وعلى القول بأنه لابد أن يعارض جميع الأصول، فهل يكتفي المستدل بدفع المعارضة عن أصل واحد؟ أو لابد أن يدفع عن كل واحد؟ . قولان، بناء على أنه التزم الجميع، فيلزمه الدفع عن الجميع، أو أنه يحصل بالدفع عن واحد مطلوبه. قال: (التركيب: تقدم التعدية، وتمثيلها في إجبار البكر البالغ: بكر فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة. فيعارض بالصغر، ويعديه إلى الثيب الصغيرة، ويرجع به إلى المعارضة في الأصل). أقول: التركيب قد تقدم في شروط العلة، ومرجع مركب الوصف: منع حكم الأصل، أو منع العلية. ومرجع مركب الأصل: منع الحكم، أو منع وجود العلة في الفرع. وقد تقدم المثال، وليس بالحقيقة سؤالا برأسه. وأما التعدية: فكما لو قال المستدل في البكر البالغ: بكر فتجبر كالصغيرة، فيقول المعترض: معارض بالصغر، وما ذكرت –وإن تعدى به الحكم إلى البكر البالغ- فما ذكرته يتعدى إلى الثيب الصغيرة. وهذا التمثيل يجعل السؤال راجعا إلى المعارضة في الأصل بوصف آخر، مع زيادة تعرض للتساوي في التعدية، دفعا لترجيح المعين بالتعدية،

مسألة: منع وجود في الفرع مثل أمان صدر من أهله في محله

فلا يكون سؤال آخر، وجوبه جوابها، ولا أثر لزيادة التسوية في التعدية. قال: (منع وجوده في الفرع، مثل: أمان صدر من أهله في محله كالمأذون، فيمنع الأهلية. وجوابه: ببيان وجود ما عناه بالأهلية، كجواب منعه في الأصل. والصحيح: منع السائل من تقريره؛ لأن المستدل مدع فعليه إثباته لئلا ينتشر). أقول: النوع الخامس: ما يرد باعتبار المقدمة الثالثة، وهي دعوى وجود العلة في الفرع، ويدفع وجودها بالمنع أو بالمعارضة، أو بدفع المساواة باعتبار ضميمة شرط في الأصل، أو مانع في الفرع، ويسمى الفرق، أو باعتبار نفس العلة لاختلاف في الضابط أو في المصلحة. الأول: منع وجود الوصف المعلل به في الفرع، كما لو قال في أمان العبد/: أمان صدر من أهله كالمأذون له في القتال. فيقول: لا نسلم أن العبد أهل للأمان. والجواب: ببيان وجود ما يعنيه بالأهلية بحس أو عقل أو شرع، كما لو قال: أريد بالأهلية كونه مظنة لرعاية مصلحة الأمان، وهو بإسلامه وبلوغه كذلك عقلا. فلو تعرض المعترض لتقرير معنى الأهلية بيانا لعدمها، فالصحيح لا يمكن منه؛ لأن تفسيرها وظيفة من تلفظ بها؛ لأنه العالم بمراده وهو المدعي فعليه الإثبات، ولئلا ينتشر الجدال فيعود المانع مستدلا.

مسألة: المعارضة في الفرع لما يقتضي نقيض الحكم

وقيل: يمكن لأنه تتميم لمراده، مع أن قصده الهدم، كما هو مختار المصنف في المعارضة في الفرع. قال: (المعارضة في الفرع، لما يقتضي نقيض الحكم، على نحو طرق إثبات العلة، والمختار: قبولها لئلا تختل فائدة المناظرة. قالوا: فيه قلب التناظر. رد: بأن القصد الهدم. وجوابه: بما يعترض به على المستدل. والمختار: قبول الترجيح. أيضا: فيتعين العمل وهو المقصود. والمختار: لا يجب الإيماء إلى الترجيح في الدليل؛ لأنه خارج عنه وتوقف العمل عليه من توابع ورود المعارضة لدفعها، لا أنه منه). أقول: الثاني: المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض الحكم فيه، بأن يقول: ما ذكرت من الوصف –وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع- فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه، ولابد للمعترض من بيانه على أصل بجامع يثبت عليته، وله الاستدلال في إثبات عليته بأي مسلك شاء من مسالكها، على نحو طرق إثبات المستدل للعلة، فيصير هو مستدلا والمستدل معترضا، فتنقلب الوظيفتان. قال الآمدي وبعض الشراح بما يقتضي نقيض الحكم من نص أو إجماع أو

وجود مانع، أو فوات شرط، فإن أراد أن النص أو الإجماع مثبت للوصف صح، وإن أراد إظهاره من أنه مثبت للحكم لم يصح؛ لأنه حينئذ يكون فساد اعتبار، لا أنه معارضة في الفرع. واعلم أنهم قد اختلفوا في قبول هذا السؤال. والمختار: قبوله لئلا تختل فائدة المناظرة وهو ثبوت الحكم، إذ لا يتحقق بمجرد الدليل ما لم يعلم عدم المعارض. قالوا: فيه قلب المناظرة؛ لأنه استدلال من معترض، فصار الاستدلال إلى المعترض والاعتراض إلى المستدل، وهو خروج عما قصداه من معرفة نظر المستدل في دليله إلى أمر آخر، وهو معرفة صحة نظر المعترض في دليله، والمستدل لا تعلق له بذلك، ثم نظره أو لا. ورد: بأنه إنما يكون قلبا للمناظرة لو قصد به إثبات مقتضى دليله. أما إذا قصد هدم دليل المستدل فلا، فكأنه يقول: دليلك لا يفيد/ لقيام المعارض، فأبطله ليسلم دليلك حتى يفيد، ولا يمكن أن يقصد به إثبات مدعاه؛ لأنه معارض بدليل المستدل، إذ المعارضة من الجانبين وكل يبطل الآخر، وجواب المعارضة في الفرع جميع ما مر من الاعتراضات من قبل المعترض على المستدل ابتداء. الجواب: الجواب لا فرق. [وقد يجاب بالترجيح بوجوه من وجوهه التي ستذكر في باب الترجيح عند العجز عما عداه].

مسألة: الفرق وهو راجع إلى أحد المعارضتين

وقد اختلف في قبول الترجيح، والمختار قبوله؛ لأنه إذا ترجح وجب العمل به للإجماع على وجوب العمل بالراجح وهو المقصود، بخلاف الترجيح في المعارضة في الأصل، لما يلزم من التحكم. وقيل: لا يقبل؛ لأن تساوي الظن الحاصل بهما غير معلوم، ولا يشترط ذلك، وإلا لم تحصل المعارضة لامتناع العلم بذلك، نعم المعتبر حصول الظن –وهو غير مندفع- بالترجيح. وعلى المختار، فهل يجب الإيماء إلى الترجيح في متن الدليل، بأن يقال مثلا: أمان من مسلم عاقل موافقا للبراءة الأصلية. قيل: يجب؛ لأنه شرط في العمل به ولا يثبت الحكم بدونه، فكان كجزء العلة. والمختار: لا يجب؛ لأن الترجيح خارج عن الدليل، وتوقف العمل عليه ليس جزءا من الدليل، بل شرط له لا مطلقا، بل إذا حصل المعارض واحتيج إلى دفعه، فهو من توابع ظهور المعارض لدفعه، لا أنه جزء من الدليل حتى يجب ذكره في الدليل. قال: (الفرق: هو راجع إلى أحد المعارضتين، أو إليهما معا على قول). أقول: الثالث الفرق: وهو إبداء خصوصية في الأصل هي شرط، وله ألا يتعرض لعدمها في الفرع، فيكون معارضة في الأصل أو إبداء خصوصية في الفرع هي مانع، وله ألا يتعرض لعدمها في الأصل، فتكون

مسألة: اختلاف الضابط في الأصل والفرع

معارضة في الفرع، وعلى قول لابد من التعرض لعدم الشرط في الفرع وعدم المانع في الأصل، فيكون مجموع المعارضتين، وعلى هذا اختلف في قبوله لكونه سؤالا واحدا أو سؤالين. قال: (اختلاف الضابط في الأصل والفرع، مثل: تسببوا بالشهادة فوجب القصاص كالمكره. فيقول: الضابط في الفرع الشهادة، وفي الأصل الإكراه، فلا يتحقق التساوي. وجوابه: أن الجامع ما اشتركا فيه من السبب المضبوط عرفا، أو بأن إفضاءه في الفرع مثله أو أرجح، كما لو كان أصله المغري للحيوان، فإن انبعاث الأولياء على القتل طلبا للتشفي أغلب من انبعاث الحيوان بالإغراء سبب نفرته وعدم علمه، فلا يضر اختلاف أصلي التسبب، فإنه اختلاف أصل وفرع، كما يقاس الإرث في طلاق المريض على القاتل في منع الإرث، ولا يفيد أن التفاوت ملغى فيهما لحفظ النفس، كما ألغى التفاوت بين قطع الأنملة وقطع الرقبة، فإنه لا يلزم/ من إلغاء العالم إلغاء الحر). أقول: الرابع: اختلاف الضابط في الأصل والفرع، كما لو قال في شهود الزور إذا قتل شخص بشهادتهم: تسببوا في القتل فيجب القصاص

قياسا على المكره، والخلاف عندنا في الأصل والفرع. فيقول المعترض: الضابط مختلف، فإنه في الأصل الإكراه، وفي الفرع الشهادة، فقد يعتبر الشارع أحدهما دون الآخر. وجوابه من وجهين: أحدهما: أن الضابط التسبب، وهو أم منضبط غرفا، فيصلح مظنة. الثاني: بيان إفضاءه في الفرع مثل إفضائه في الأصل أو أرجح، فيثبت التعدية كما لو حصل في مسألة القصاص من الشهود، الأصل هو مغري الحيوان على القتل. فيقول المعترض: الضابط في الأصل إغراء الحيوان، وفي الفرع الشهادة. فيجيب المستدل: بأن إفضاء التسبب بالشهادة إلى القتل أقوى من إفضاء التسبب بالإغراء، فإن انبعاث أولياء المقتول على قتل من شهدوا عليه بالقتل طلبا للتشفي أغلب من انبعاث الحيوان على قتل من أغري عليه، بسبب نفرة الحيوان عن الآدمي وعدم علمه بالإغراء، وحينئذ لا يضر اختلاف أصلي التسبب، وهو كونه شهادة وإغراء، فإن حاصله قياس التسبب بالشهادة على قياس التسبب بالإغراء، والأصل لابد من مخالفته للفرع، كما يقاس إرث المطلقة في المرض على القاتل في المعاملة بنقيض المقصود. ولا يقال: أحدهما إرث والآخر عدم إرث، إذ الاختلاف راجع إلى محل الحكم لا إلى الحكم. قيل: التمثيل به ليس كما ينبغي؛ لأنه الغريب الذي اتفق على رده.

مسألة: اختلاف جنس المصلحة

قلت: بل الغريب الذي اتفق على رده الغريب المرسل، وهذا هو الغريب الذي اعتبر بترتيب الحكم على وقفه فقط. بل لو قيل على الأول: يرجع إلى القياس في الأسباب، إذ لا يتعذر مثل ما ذكر من الجامع فيها، كان متجها. ولا يفيد في الجواب عن اختلاف الضابط أن يقال: التفاوت يلغي في القصاص بهما، وإن كان إفضاء أحدهما إلى الموت أشد، إذ لا يلزم من إلغاء فارق معين إلغاء كل فارق، بدليل أنه ألغى العلم فيقتل العالم بالجاهل، ول يلغ الإسلام ولا الحرية، فلا يقتل الحر بالعبد، ولا المسلم بالكافر. قال: (اختلاف جنس المصلحة، كقول الشافعي: "أولج فرجا في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا، فيحد كالزاني". فيقال: حكمة الفرع الصيانة عن رذيلة اللواط، وفي الأصل: دفع محذور اختلاط الأنساب/، فقد يتفاوتان في نظر الشرع. وحاصله: معارضة. وجوابه: كجوابه بحذف خصوص الأصل). أقول: الخامس: اختلاف جنس المصلحة في الأصل والفرع، كما لو قال الشافعي: "يحد في اللواط كما يحد في الزنا؛ لأنه أولج فرجا في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا".

مسألة: مخالفة حكم الأصل لحكم الفرع

فيقول المعترض: اختلفت المصلحة؛ لأنهما في الزنا منع اختلاط النسب المفضي إلى عدم تعهد الأولاد، وفي اللواط دفع رذيلة اللواط، فقد يتفاوتان في نظر الشرع. وحاصله معارضة في الأصل، إذ كأنه قال: العلة ما ذكرتم مع كونه موجبا لاختلاط النسب. والجواب: كجواب المعارضة، بإلغاء ما أبداه من الوصف المختص بالأصل بطريقة كما مر. قال: (مخالفة حكم الأصل لحكم الفرع، كالبيع على الناكح وعكسه. وجوابه: أن الاختلاف راجح إلى المحل الذي اختلافه شرط، لا في حكم وبيان). أقول: النوع السادس: ما يرد على المقدمة الرابعة، وهي قوله: [فيوجد] الحكم في الفرع، ولما قام الدليل عليه فلا سبيل إلى منعه، بل يدعي المخالفة ويبينه إما مقتصرا عليه، أو مدعيا أن دليلك يقتضي نقيضه وهذا يسمى قلبا. الأول: مخالفة حكم الأصل لحكم الفرع، بعد تسليم علة الأصل في الفرع. يقول المعترض: الحكم في الفرع مخالف لحكم الأصل، كما لو قاس البيع على النكاح وبالعكس. في عدم الصحة بجامع في صورة.

مسألة: القلب قلب لتصحيح مذهبه

فيقول المعترض: الحكم مختلف بأن عدم الصحة في البيع عدم الانتفاع بالمبيع، وفي النكاح حرمة المباشرة. والجواب: أن البطلان شيء واحد، وهو عدم ترتب المقصود من العقد عليه، وإنما اختلف المحل بكونه بيعا ونكاحا، واختلاف المحل لا يوجب اختلاف ما حل فيه، بل اختلاف المحل شرط في القياس ضرورة، فكيف يجعل شرطه مانعا، فيلزم امتناعه أبدا. نعم، لو كان الاختلاف في الحكم أو في البيان وهو الجامع، لم يتعد إلى الفرع. قال: (القلب: قلب لتصحيح مذهبه، وقلب لإبطال مذهب المستدل صريحا، وقلب بالالتزام. الأول: لبث، فلا يكون قربة بنفسه، كالوقوف بعرفة. [فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة. الثاني: عضو وضوء فلا يكتفي فيه بأقل ما ينطلق كغيره. فيقول الشافعي: فلا يقدر بالربع]. الثالث: عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالعوض، كالنكاح. فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه خيار الرؤية؛ لأن من قال بالصحة قال بخيار الرؤية، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. والحق: أنه نوع معارضة، اشترك فيه الأصل والجامع، فكان أولى بالقبول).

أقول: القلب: هو تعليق منافي الحكم المدعى –أو منافي لازمه- على الوصف/ الذي جعله المستدل علة للحكم إلحاقا بأصل المستدل، وذلك إما بتصحيح مذهب المعترض، فيلزم بطلان مذهب المستدل لتنافيها، وإما بإبطاله مذهب المستدل ابتداء، إما صريحا وإما بالالتزام. مثال ما هو قلب لتصحيح مذهب المعترض: ما لو قال المالكي والحنفي في الاعتكاف إذا لم يكن منذورا: لبث فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة. فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة. الثاني: القلب لإبطال مذهب المستدل صريحا، كما لو قال الحنفي في مسح الرأس: عضو فلا يكفي فيه بأقل ما ينطلق عليه، كغيره من أعضاء الوضوء. فيقول الشافعي: فلا يتقدر بالربع كسائر الأعضاء. الثالث: القلب لإبطال مذهب المستدل بالالتزام، كما لو قال الحنفي في بيع الغائب: عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالمعوض كالنكاح. فيقول الشافعي: فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح، إذ كل من قال

مسألة: القول بالموجب

بالصحة قال بخيار الرؤية، فكان خيار الرؤية لازم الصحة عندهم، وإذا انتفى اللازم –وهو خيار الرؤية- انتفى الملزوم وهو الصحة. والحق: أن القلب بأقسامه راجع إلى المعارضة؛ لأنها يثبت بها خلاف حكم المستدل، والقلب كذلك إلا أنه نوع خاص، إذ الأصل والجامع اشترك قياساهما فيهما، فكان أولى بالقبول من المعارضة المحضة، إذا قصد هدم دليل المستدل لأدى به إلى التناقض ظاهر فيه، ولأنه مانع للمستدل من الترجيح. وجواب القلب: بيان عدم تأثير الوصف في حكم الغالب. قال: (القول بالموجب، وحقيقته: تسليم الدليل مع بقاء النزاع، وهو ثلاثة: الأول: أن يستنتج ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه، مثل: قتل بما يقتل غالبا، فلا ينافي وجوب القصاص كحرقه. فيرد: بأن عدم المنافاة ليس محل النزاع، ولا يقتضيه. الثاني: أن يستنتج إبطال ما يتوهم أنه مأخذ الخصم، مثل: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالمتوسل إليه. فيرد: إذ لا يلزم من إبطال مانع انتفاء الموانع ووجود الشرائط والمقتضي.

والصحيح: أنه مصدق في مذهبه. وأكثر القول بالموجب لخفاء المأخذ، بخلاف محال الخلاف. الثالث: أن يسكت عن الصغرى غير مشهورة، مثل: ما يثبت قربة فشرطه النية كالصلاة، ويسكت عن الوضوء قربة. فيرد: ولو ذكرها لم يرد إلا المنع. وقولهم: فيه انقطاع أحدهما، بعيد في الثالث لاختلاف الرادين. /وجوب الأول: أنه محل النزاع أو مستلزم، كما لو قال: لا يجوز قتل المسلم بالذمي. فيقال: بالموجب؛ لأنه يجب. فيقول: المعنى بـ "لا يجوز" تحريمه، فيلزم نفي الذين الوجوب. وعن الثاني: أنه المأخذ. وعن الثالث: أن الحذف سائغ). أقول: النوع السابع: ما يرد على قولهم بعد إثبات الحكم في الفرع وذلك هو المطلوب فيمنع، ويقال: بل النزاع بعد باق، ويسمى القول بالموجب. وحقيقته: تسليم ما اعتمده المستدل حكما لدليله على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه.

وهو على ثلاثة أقسام: الأول: أن يستنتج المستدل من الدليل ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملزومه كما لو قال المالكي في القاتل بالمثقل: قتل بما يقتل غالبا، فلا ينافي وجوب القصاص كحرقه. فيرد القائل بالموجب بأن يقول: القتل بالمثقل لا ينافي وجوب القصاص عندي، وإنما النزاع في وجوب القصاص، وعدم المنافاة ليس محل النزاع ولا ملزوما له، وهو المراد من قوله: (ولا يقتضيه) إذ لا يلزم من عدم المنافاة بين شيئين كون أحدهما مقتضيا للآخر. الثاني: أن يستنتج المستدل من الدليل إبطال ما يتوهم أنه مأخذ الخصم كما لو قال المالكي في المسألة المذكورة: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالمتوسل إليه، وهي أنواع الجراحات القاتلة. فيرد القائل بالموجب بأن يقول الحنفي: الحكم لا يثبت إلا بارتفاع جميع الموانع ووجود الشرائط ووجود المقتضي، وغاية ما ذكرت عدم مانع خاص، ولا يلزم منه انتفاء جميع الموانع ولا وجود الشرط ولا وجود المقتضي، فلا يلزم ثبوت الحكم. وقد اختلف في المعترض إذا قال: ليس هذا مأخذي، هل يصدق أو لا؟ . فقيل: لا يصدق إلا ببيان مأخذ آخر، إذ ربما كان ذلك مأخوذ وعاند. والصحيح: أنه مصدق؛ لأنه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه.

واعلم أن أكثر القول بالموجب من هذا القبيل، وهو ما يقع لاشتباه المأخذ لخفاء مأخذ الأحكام، وقلما يقع الأول وهو اشتباه محل الخلاف؛ لشهرته ولتقدم التحرير غالبا. الثالث: أن يسكت عن صغرى غير مشهورة ويستعمل قياس الضمير كما لو قال في الوضوء: ما ثبت قربة فشرطه النية كالصلاة، ويسكت عن الصغرى وهي الوضوء ثبت قربه. فيرد بالموجب، إذ لا يلزم أن يكون الوضوء شرطه النية، أما لو صرح بها لم يرد إلا المنع، بأن يقول: لا نسلم أن الوضوء ثبت قربة. قال الجدليون: القول بالموجب في انقطاع/ أحد المتناظرين، إذ لو بين أن المثبت مدعاه أو ملزومه، أو المبطل مأخذ الخصم، أو الصغرى حق انقطع المعترض، إذ لم يبق له إلا تسليم المطلوب، وإلا انقطع المستدل، إذ قد ظهر عدم إفضاء دليله إلى المطلوب. قال المصنف: قولهم ذلك صحيح في الأوليين، بعيد في الثالث لاختلاف مراديهما، إذ مراد المستدل أن المتروك في حكم المذكور لظهوره، ومراد المعترض أن المذكور وحده لا يفيد، فإذا بين مراده فله أن يمنع فيستمر البحث، وإن سلم انقطع. وجواب القسم الأول: أن يبين أن الناتج محل النواع، إذ الخلاف مشهور فيما فرض أو هو ملزومه، كما لو قال: لا يجوز قتل المسلم بالذمي قياسا على عدم قتله بالحربي.

مسألة: الاعتراضات من جنس واحد تتعدد اتفاقا

فيقال بالموجب، بأن يقول: هو عندي لا يجوز لكنه يجب قتله به، فإن "لا يجوز" نفي الإباحة، وهو ليس نفي الوجوب ولا يستلزمه لأنه أعم. فيجيب: بأن المعنى بـ "لا يجوز" الحرمة، وذلك يستلزم عدم الوجوب. وجواب الثاني: أنه المأخذ لاشتهاره بين النظار، وبالنقل عن أئمة مذهبهم. وعن الثالث: أن الحذف سائغ والمحذوف مراد، فلا يضر حذفه، والدليل المجموع لا المذكور. وفيه نظر؛ لأن الحذف إنما يسوغ إذا كانت مشهورة. قال: (الاعتراضات من جنس واحد تتعدد اتفاقا، ومن أجناس كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة. منع أهل سمرقند التعدد للخبط. والمترتبة: منع الأكثر، لما فيه من التسليم للمقدم، فيتعين الأخير. والمختار: جوازه؛ لأن التسليم تقديري فليرتب، وإلا كان منعا بعد تسليم، فيقدم ما يتعلق بالأصل ثم العلة لاستنباطها منه، ثم الفرع لبنائه عليها. وقدم النقض على المعارضة في الأصل؛ لأنه يورد لإبطال العلة، والمعارضة لإبطال استقلالها). أقول: الاعتراضات إن كانت من جنس واحد كالنقض، أو المعارضة في الأصل أو في الفرع، فقد اتفق الجدليون على جواز إيرادها دفعة، إذ لا

الاستدلال

يلزم من ذلك تناقض ولا انتقال. وإن كانت من أجناس، كالمنع، والمطالبة، والنقض، والمعارضة، فقد منع منها أهل سمرقند، وأوجبوا الاقتصار على سؤال واحد حذرا من الخبط. وإذا جوزنا الجميع -وكانت مترتبة طبعا- مثل منع حكم الأصل ومنع العلية، إذ تعليل الحكم بعد ثبوته قطعا، فأكثرهم لا يسمعه؛ لأن الأخير في تسليم للأول، فيتعين الأخير سؤالا، فيجاب عنه دون الأول فيضيع الأول لأنه إذا قال: لا نسلم حكم الأصل ولا نسلم أنه معلل بكذا، فالبحث عن تعليله بماذا هو يتضمن الاعتراف بثبوته/ فإن ما لم يثبت لا تطلب علة ثبوته. والمختار: جوازه؛ لأن التسليم تقديري، إذ معناه: ولو سلم الأول فالثاني وارد، وذلك لا يستلزم التسليم في نفس الأمر. وإذا جوزنا الجمع في المترتبة طبعا، فالواجب رعاية الترتيب في الإيراد وإلا كان منعا بعد التسليم. فإنه إذا قال: لا نسلم أن الحكم معلل بكذا، فقد سلم ثبوت الحكم، فإذا قال: ولو سلم فلا نسلم ثبوت الحكم، كان مانعا لما سلم فلا يسمع، فحينئذ يقدم ما يتعلق بالأصل ثم بالعلة لاستنباطها منه، ثم بالفرع لابتنائه عليها، ويقدم النقض على المعارضة في الأصل؛ لأن النقض يذكر لإبطال العلة، والمعارضة لإبطال استقلال وصف المستدل. فالواجب أن يقول: ليس بعلة، ولو سلم فليس بمستقل. قال: (الاستدلال: يطلق على ذكر الدليل، وعلى نوع خاص وهو المقصود.

فقيل: ما ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس. وقيل: ولا قياس علة، فيدخل نفي الفارق والتلازم، وأما نحو: وجد السبب أو المانع، أو فقد الشرط. فقال: دعوى دليل. وقيل: دليل. وعلى أن دليل، قيل: استدلال. وقيل: إن ثبت بغير الثلاثة. والمختار: أنه ثلاثة: تلازم بين حكمين من غير تعيين علة، واستصحاب، وشرع من قبلنا). أقول: الاستدلال في اللغة: طلب الدليل. وفي الاصطلاح: يطلق على إقامة الدليل مطلقا من نص، أو إجماع، أو غيرهما، وعلى نوع خاص من الأدلة وهو المقصود هنا. فقيل: ما ليس بنص، أي دليل ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس. قيل: هو تعريف بالمساوي؛ لأنه تعريف لبعض الأنواع ببعض. ورد: بأن بعض الأنواع إذا كان أعرف يكون تعريفا بالأعرف. وقيل مكان قولنا "ولا قياس": ولا قياس علة، فيدخل القياس في معنى الأصل، ويدخل قياس الدلالة.

فالأول أخص، ويريد بلا قياس -أي شرعي- حتى [يدخل] المنطقي. واعلم أن الفقهاء كثيرا ما يقولون: وجد السبب فيوجد الحكم، أو وجد المانع أو فقد الشطر فيعدم الحكم. فقيل: ليس بدليل، بل هو دعوى دليل؛ إذ الدليل هو وجود السبب الخاص، أو وجود المانع، أو عدم الشرط الخاص. وقيل: دليل، إذ الدليل ما يلزم من ثبوته ثبوت الحكم قطعا أو ظاهرا، وما ذكرنا كذلك، لاستلزامه وجود الحكم. وقولنا: وجد كذا، كالمقدمة لإثباته. وعلى أنه دليل، فقيل: هو استدلال لأنه ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس مطلقا. وقيل: استدلال إن ثبت وجود السبب أو المانع، أو فقد الشرط بغير النص والإجماع والقياس، وإلا فهو من قبيل ما ثبت به من نص أو إجماع أو قياس، وهو فاسد؛ لأن أحد الثلاثة دل على أحد مقدمتي الاستدلال/ المثبت للحكم، لا أنه نفس الاستدلال. وقد اختلف في أنواع الاستدلال. والمختار عليه السلام عند المصنف أن ثلاثة: تلازم بين حكمين من غير تعيين علة وإلا كان قياسا، واستصحاب الحال وشرع من قبلنا. وعند الآمدي: الأولان فقط، وعند الحنفية: الاستحسان.

مسألة: الأول تلازم بين ثبوتين أو نفيين

وعند بعض المالكية وبعض الشافعية: مذهب الصحابي. والمصالح المرسلة عند بعض المالكية. قال: (الأول: تلازم بين ثبوتين أو نفيين، أو ثبوت ونفي، أو نفي وثبوت، والمتلازمان إن كان طردا أو عكسا كالجسم والتأليف، جرى فيهما الأولان طردا وعكسا، وإن كان طردا كالجسم والحدوث جرى فيهما الأول طردا، والثاني عكسا. والمتنافيان إن كان طردا أو عكسا كالحدوث ووجوب البقاء، جرى فيهما الأخيران طردا وعكسا. وإن تنافيا إثباتا كالتأليف والقدم، جرى فيهما الثالث طردا وعكسا. فإن تنافيا كالأساس والخلل، جرى فيهما الرابع طردا وعكسا). أقول: أما التلازم فأربعة أقسام؛ لأن التلازم إما أن يكون بين ثبوتين، أو بين نفيين، أو بين ثبوت ونفي، أو بين نفي وثبوت، وحاصله راجع إلى المتلازمين في الأولين، وإلى المتنافيين في الآخرين. والتلازم إما أن يكون طردا أو عكسا –أي من الطرفين-، أو طردا لا عكسا- أي من طرف واحد-. والتنافي لابد وأن يكون من الطرفين، لكنه إما أن يكون طردا أو عكسا –أي إثباتا ونفيا- وإما طردا فقط- أي إثباتا، وإما عكسا فقط- أي نفيا-. فهذه خمسة أقسام:

الأول: المتلازمان طردا وعكسا كالجسم والتأليف، إذ كل جسم مؤلف وكل مؤلف جسم، وهذا يجري فيه الأولان- أي التلازم بين الثبوتين وبين النفيين- كلاهما طردا وعكسا، فيصدق: كلما كان جسما كان مؤلفا، وكلما كان مؤلفا كان جسما، وكلما لم يكن جسما لم يكن مؤلفا، وكلما لم يكن مؤلفا لم يكن جسما. الثاني: المتلازمان طردا فقط كالجسم والحدوث، إذ كل جسم حادث ولا ينعكس في الجوهر الفرد والعرض، فهذان يجري فيهما الأول – أي التلازم بين ثبوتين طردا- فيصدق: كلما كان جسما كان حادثا، ولا عكسا فلا يصدق: كلما كان حادثا كان جسما، ويجري فيهما الثاني –أي التلازم بين نفيين عكسا- فيصدق: كلما لم يكن حادثا لم يكن جسما، لا طردا فلا يصدق: كلما لم يكن جسما لم يكن حادثا. الثالث: المتنافيان طردا وعكسا، وهما اللذان بينهما انفصال حقيقي كالحدوث ووجوب البقاء، فإنهما لا يجتمعان في ذات حتى يكون حادثا واجب البقاء، ولا يرفعان عنها حتى يكون قديما واجب البقاء. وهذان يجري فيهما الأخيران –أعني تلازم الثبوت والنفي، والنفي والثبوت- طردا وعكسا- أي من الطرفين- فيصدق: لو كان حادثا لم يجب بقاؤه، ولو وجب بقاؤه لم يكن حادثا، ولو لم يكن حادثا وجب بقاؤه، ولو لم يكن واجب البقاء لكان حادثا. الرابع: المتنافيان إثباتا لا نفيا، وهما الأمران اللذان بينهما انفصال مانع من الجمع، كالتأليف والقدم إذ لا يجتمعان، / فلا شيء مؤلف قديم،

مسألة: الأول في الأحكام: من صح طلاقه ظهاره

لكنهما يرتفعان كالجزء الذي لا يتجزأ، وهذان يجري فيهما الثالث –أعني تلازم الثبوت والنفي- طردا وعكسا- أي من الجانبين- فيصدق: كلما كان جسما لم يكن قديما، وكلما كان قديما لم يكن جسما، ولا يجري فيهما تلازم النفي والثبوت من شيء من الجانبين، فلا يصدق: كلما لم يكن جسما كان قديما، أو كلما لم يكن قديما كان جسما. الخامس: المتنافيان نفيا، وهما الأمران اللذان بينهما انفصال مانع من الخلو كالأساس والخلل، فإنهما لا يرتفعان، فلا يوجد ما ليس له أساس ولا يختل، ولا مشاحة في المثال، وقد يجتمعان في: كل ذي أساس يختل بوجه آخر، وهذان يجري فيهما الرابع –أي تلازم النفي والثبوت طردا وعكسا- فيصدق: كلما لم يكن له أساس فهو مختل، وكلما لم يكن مختلا فله أساس، ولا يجري فيهما الثالث فلا يصدق: كلما كان له أساس فليس بمختل، ولا كلما كان مخلا فليس له أساس. قال: (الأول في الأحكام: من صح طلاقه صح ظهاره، ويثبت بالطرد، ويقوى بالعكس، ويقرر أحد الأثرين فيلزم الآخر للزوم المؤثر، وبثبوت المؤثر، ولا يعين المؤثر فيكون انتقالا إلى قياس العلة. الثاني: لو صح الوضوء بغير نية لصح التيمم، ويثبت بالطرد كما تقدم، ويقرر بانتقاء أحد الأثرين، فينتفي الآخر للزوم انتفاء المؤثر، وبانتفاء المؤثر. الثالث: ما كان مباحا لا يكون حراما. الرابع: ما لا يكون جائزا يكون حراما، ويقرران بثبوت التنافي

بينهما، أو بين لوازمهما). أقول: لما بين أقسام التلازم بحسب موادها، ذكر أمثلتها من الأحكام: الأول: تلازم بين ثبوتين، كما يقال: ن صح طلاقه صح ظهاره، وهذا يثبت بالطرد بالاستقراء، ويقوى بالعكس بالاستقراء، أي كل من لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره، وحاصله التمسك بالدوران لكن على أن العدم ليس جزءا كما تقدم، ومنه تعلم أن المراد بالعكس هنا الانتفاء عند الانتفاء. ويقرر بوجه آخر، وهو أن يقال: ثبت أحد الأثرين فيلزم ثبوت الآخر للزوم وجود المؤثر، وإلا لم يوجد الأثر الآخر، فيلزم وجود الأثر الآخر. أو يقال: ثبت المؤثر فيكون الأثر الآخر ثابتا، ولا يعين المؤثر في الطرفين، وإلا كان انتقالا إلى قياس العلة، ولنفرض لزوم التحرير المرتفع بالكفارة بقوله: "أنت علي كظهر أمي"، ولزوم الطلاق الذي لا أثر فيه للكفارة بقوله: "أنت طالق" أثرين للأهلية. الثاني: استلزام النفي النفي: لو صح الوضوء بغير نية، لصح التيمم؛ لأنه في قوة: لما لم يصح التيمم بغير نية لم يصح الوضوء، فإن "لو" / لانتفاء الشيء لانتفاء غيره، أو في قوة: لو لم يشترط النية في الوضوء لم تشترط في التيمم، وهذا يثبت بالطرد ويقوى بالعكس كما تقدم. ويقرر بوجه آخر، وهو أن يقال: انتفاء أحد الأثرين فيلزم انتفاء الآخر للزوم انتفاء المؤثر عند انتفاء أحد الأثرين، وإذا انتفى ينتفي الأخر. ويقرر أيضا: بانتفاء المؤثر فينتفي الأثر، ولنفرض الثواب واشتراط النية أثران للعبادة.

مسألة: ويرد على الجميع منعهما ومنع إحداهما

الثالث: تلازم الثبوت والنفي، ما يكون مباحا لا يكون حراما. الرابع: تلازم النفي والثبوت، ما لا يكون جائزا يكون حراما. وهذان يقرران بثبوت التنافي بينهما أو بين تلازمهما؛ لأن تنافي اللوازم دليل تنافي الملزومات. قال: (ويرد على الجميع منعهما، ومنع إحداهما. ويرد من الأسئلة ما عدا أسئلة نفس الوصف الجامع، ويختص بسؤال مثل قولهم في قصاص الأيدي باليد: أحد موجبي الأصل وهو النفس، فيجب بدليل الموجب الثاني وهو الدية. وقرر: بأن الدية أحد الموجبين فيستلزم الآخر؛ لأن العلة إن كانت واحدة فواضح، وإن كانت متعددة فتلازم الحكمين دليل تلازم العلتين. فيعترض: بجواز أن يكون في الفرع بأخرى، فلا يقتضي الآخر ويرجحه بامتناع المدارك، فلا يلزم الآخر. وجوابه: بأن الأصل عدم أخرى، ويرجحه بأولوية الاتحاد، لما فيه من العكس. فإن قال: بأن الأصل عدم علة الأصل في الفرع. قال: فالمتعدية أولى). أقول: جميع أقسام التلازم يرد عليه منع المتصلة ومنع الاستثنائية معا، ومنع إحداهما.

ويرد من الأسئلة الواردة على القياس ما عدا الأسئلة المتعلقة بنفس الوصف الجامع، إذ لم يذكر فيه وصف جامع، ويختص بسؤال لا يرد على القياس، ويوضح بمثال، كما يقال في قصاص الأيدي باليد الواحدة قياسا على النفوس بالنفس الواحدة: القصاص أحد موجبي الأصل وهو النفس، فيجب بدليل الموجب الآخر وهو الدية، ويقرر: بأن الدية أحد موجبي الأصل، وقد ثبت فيثبت الآخر وهو القصاص؛ لأن العلة فيهما إما واحدة وإما متعددة، فإن كانت واحدة فواضح، وإن كانت متعددة فتلازم الحكمين دليل تلازم العلتين، وكلما ثبت علة أحد الحكمين، ثبت على الآخر. فيقول المعترض: لم لا يجوز أن يثبت أحد الموجبين فيما جعلتم فرعا بعلة أخرى تختص به وتقتضي ذلك الموجب ولا تقتضي الموجب الآخر، فلا يلزم وجود الموجب الآخر فيه، والمعلوم إنما هو تلازمهما في غير محل النزاع؟ . ويرجح/ المعترض ما ذكر من ثبوته في الفرع بعلة أخرى: باتساع مدارك الأحكام، فيكون أكثر فائدة. وجوابه: أن الأصل عدم علة أخرى. ويرجح المستدل ما ذكره: بأن اتحاد العلة في الحكم الواحد أولى من التعدد، لاستلزام ذلك انعكاسها، والمنعكسة، والمنعكسة متفق عليها بخلاف غيرها، والمتفق عليه أرجح. فإن قال المعترض: إذا قلتم بأن الأصل عدم علة أخرى، فالأصل –أيضا- عدم علة الأصل في الفرع.

الاستصحاب

قلنا: تعارضا والترجيح عندنا من وجه آخر، وهو أن العلة المتعدية أولى من القاصرة؛ لأن المتعدية متفق عليها بخلاف القاصرة، والمتفق عليه أرجح ونحن إذا أثبتنا الحكم في الفرع بعلة الأصل فقد عديناها، وإلا فقد قصرناها. وقد يعارض الآخر: بأنا إذا عللنا الفرع بأخرى فقد أعملناهما، وإذا عللنا الفرع بعلة الأصل فقد أبطلنا واحدة، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما. قال: (الاستصحاب: الأكثر كالمزني، والصيرفي، والغزالي: على صحته. وأكثر الحنفية على بطلانه، كان بقاء أصليا أو حكما شرعيا، كقول الشافعية في الخارج: الإجماع على أن قبلة متطهر، والأصل البقاء حتى يثبت معارض، والأصل عدمه. لنا: أن ما تحقق ولم يظن معارض، مستلزم ظن البقاء. وأيضا: لو لم يكن الظن حاصلا لكان الشك في الزوجية ابتداء، كالشك في بقائها في التحريم أو الجواز وهو باطل، وقد استصحب الأصل فيهما. قالوا: الحكم بالطهارة ونحوها حكم شرعي، والدليل نص أو إجماع أو قياس. وأجيب: بأن الحكم البقاء، ويكفي فيه ذلك. ولو سلم، فالدليل الاستصحاب. قالوا: لو كان الأصل البقاء لكانت بينة النفي أولى، وهو باطل

بالإجماع. وأجيب: بأن المثبت يبعد غلطه، فيحصل الظن. قالوا: لا ظن مع جواز الأقيسه. قلنا: الفرض بعد بحث العالم). أقول: الاستصحاب: وهو أن الحكم بكذا قد كان ولم يظن عدمه، وكلما هو كذلك فهو مظنون البقاء. وقد اختلف في كونه دليلا شرعيا، فقال مالك والمزني، والصيرفي، والإمام، والغزالي: إنه دليل. وأكثر الحنفية على أنه ليس بدليل، سواء كان الاستصحاب بقاء

أصليا، كما يقال في عشرين دينارا ناقصة وتجوز بجواز الوازنة: لم تكن الزكاة واجبة قبل جوازها بجواز الوازنة والأصل عدمه. أو حكما شرعيا، كما يقال في الخارج من غير السبيلين: الإجماع على أن قبله متطهر، والأصل البقاء حتى يثبت معارض، والأصل عدمه. لنا: أن ما تحقق وجوده أو عدمه في حال ولم يظن طرو معارض يزيله، فإنه يستلزم ظن بقائه ضرورة ولولا ذلك لما ساغ للإنسان مراسلة من فارقه. ولنا أيضا: لو شك هل تزوج هذه أو لا، حرم الاستمتاع بها إجماعا، ولو شك/هل طلق أو لا، لم تحرم، ولا فارق بينهما إلا استصحاب عدم الزوجية في الأولى، واستصحاب الزوجية في الثانية. قالوا: الطهارة والحل والحرمة أحكام شرعية، والأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل شرعي، والأدلة الشرعية منحصرة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والاستصحاب ليس منها فلا يكون دليلا في الشرعيات. الجواب: أن ما ذكرتم من أن الحكم الشرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي إنما ذلك في ابتداء الحكم، وأما الحكم ببقائه فيكفي فيه الاستصحاب، ونحن إنما أثبتنا به بقاء الحكم لا نفسه، وبقاؤه ليس حكما شرعيا. ولو سلم، فلا نسلم أن الدليل منحصر فيما ذكرتم، بل هناك دليل آخر وهو الاستصحاب. قالوا: لو كان الأصل البقاء، لكانت بينة النفي أولى عند تعارض البينتين واللازم باطل، إذ لا تسمع بينة المدعى عليه. الجواب: منع الملازمة، وإنما يصح ذلك لو حصل الظن بهما، وتأيدت

شرع من قبلنا

إحداهما بالاستصحاب، وليس كذلك؛ لأن الظن لا يحصل إلا ببينة المثبت لبعد غلطه بأن يظن المعدوم موجودا، بخلاف النافي إذ لا يبعد غلطه في ظن الموجود معدوما، بناء على عدم علمه به، والمثبت يدعي العلم بالموجود وله طرق قطعية، والنافي طريقه عدم العلم. قال في المنتهى: وأجيب بأن تعديهما لإمكان صدقهما، بأن يكون المثبت اطلع على السبب دون النافي. قالوا: القياس جائز فينتفي ظن بقاء الأصل، إذ قد يكون ثم قياس ينفيه فلا يحصل الظن بالاستصحاب. الجواب: أن الفرض فيما بحث فيه العالم ولم يجد أصلا يشهد برفعه، وانتفاء القياس الرافع هو المظنون حينئذ، والاحتمال لا يضر. قال: (شرع من قبلنا. المختار: أن عليه السلام قبل البعثة متعبد بشرع. قيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى. وقيل: ما ثبت أنه شرع. ومنهم من منع. وتوقف الغزالي. لنا: الأحاديث متضافرة: "كان يتعبد"، "كان يتحنث"، "كان يصلي"، "كان يطوف". واستدل: بأن من قبله لجميع المكلفين.

وأجيب: بالمنع. قالوا: لو كان لقضت العادة بالمخالطة، أو لزمته. قلنا: المتواتر لا يحتاج وغيره لا فيد، وقد تمتنع المخالطة لموانع، فيحمل عليها جمعا بين الأدلة). أقول: اختلفوا هل كان عليه السلام قبل البعثة متعبدا بفروع شريعة متقدمة أم لا؟ . مذهب مالك: أنه عليه السلام قبل البعثة غير متعبد بشرع. وقيل: كان متعبدا بشرع، واختاره المصنف. وضبطه بعض المتأخرين بكسر الباء. فإن كان/ كذلك، فالأصح ما اختاره المصنف، إذ تلك العبادات التي صدرت منه قبل البعثة مما ثبت في الشرائع السابقة. وظاهر كلامهم أن الخلاف في أنه قبل البعثة مكلف أو لا؟ . وعلى هذا: فالأصح ما روي عن مالك. ثم القائلون بمختار المصنف اختلفوا: فقيل: إنه كان على شرع نوح.

قيل: على شريعة إبراهيم. وقيل: على شرع موسى. وقيل: على شريعة عيسى. وقيل: على ما ثبت أنه شرع. وتوقف الغزالي. لنا: ما ورد في الأحاديث أنه "كان يتعبد"، "كان يتحنث" يعتزل للعبادة، "كان يصلي"، "كان يطوف"، وكل واحد -وإن كان آحادا فالقدر المشترك متواتر، وتلك أعمال شرعية يعلم بالضرورة ممن يمارسها قصد. الطاعة وهي موافقة أمر الشارع، ولا يتصور من غير تعبد، فإن العقل لا يحسنه. وقد يقال: المعلوم قصد الثواب لا قصد الطاعة. واستدل: بأن شرع من قبله عام لجميع المكلفين، وإلا لخلا المكلف عن التكليف، وأنه قبيح. الجواب: منع عموم شرع من قبله، فإن عموم الرسالة من خصائصه، وما ذكر من قبيح الخلو ممنوع، ولو سلم ففرع تقبيح العقل. قالوا: لو كان متعبدا به لقضت العادة بوقوع مخالطته لأهل ذلك الشرع

مسألة: المختار: أنه بعد البعثة متعبد بما لم ينسخ

أو لزمته مخالطتهم لأخذ الشرع منهم فوقع، ولو وقع لنقل ولافتخرت به تلك الطائفة، واللازم باطل. الجواب: منع قضاء العادة بالمخالطة، ومنع لزومها له، والسند: أنه متعبد بما علم أنه شرع، وذلك يحصل بالمتواتر دون الآحاد، والمتواتر لا يحتاج إلى المخالطة، والآحاد لا تفيد العلم. ولم سلم أن العادة قاضية بالمخالطة، لك ما لم يمنع مانع، فقد تمتنع المخالطة لموانع فيحمل عدم المخالطة على وجود المانع، جمعا بين ما ذكرنا وما ذكرتم من قضاء العادة، والجمع مهما أمكن أولى، وهذا التقرير أوفق لما في المنتهى. وقرر على وجه آخر يرجع إلى الثانية: بأن يقال: قولكم لو كان كذلك لنقل، تعنون نقلا متواترا أو آحادا، أما تواترا [فلا يحتاج إلى نقله كذلك] إذ لم يتعبدنا الله بذلك، والآحاد لا تفيد، والأول أظهر. وقال الغزالي: المذكور من المذاهب ممكن، والواقع منها غير معلوم بقاطع، والظن فيما لا يتعلق بالعمل لا معنى له. قال: (المختار: أنه بعد البعثة متعبد بما لم ينسخ. لنا: ما تقدم، والأصل البقاء. وأيضا: الاتفاق على الاستدلال بقوله تعالى: {النفس بالنفس}. وأيضا: ثبت أنه قال عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها

فليصليها إذا ذكرها، وتلا: {أقم الصلاة لذكري} "، وهي لموسى عليه السلام، وسياقه يدل /على الاستدلال به. قالوا: لم يذكر في حديث معاذ، وصوبه. وأجيب: بأنه تركه إما لأن الكتاب يشتمل أو لقتله جمعا بين الأدلة. قالوا: لو كان لوجب نقلها والبحث عنها. قلنا: المعتبر المتواتر فلا يحتاج. قالوا: الإجماع على أن شريعته ناسخ. قلنا: لما خالفها، وإلا وجب نسخ الإيمان، وتحريم الكفر). أقول: اختلفوا هل كان عليه السلام بعد البعثة متعبدا بشرع من قبله وكذا أمته إلا ما خصه الدليل أو لا؟ . مذهب مالك وجمهور أصحابه، وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة: أنه متعبد بما لم ينسخ. وقال القاضي، وأحمد في أحد قوليه: إنه غير متعبد به. والخلاف فيما أوحي إليه أنه شرع من قبله، وفيما تواتر من شرع من قبله، لا أنه متعبد بما وجد في كتبهم المبدلة، ولا بما نقله الكفار آحادا.

كما لم يختلفوا فيما هو من شرعهم وأمر به بدليل خاص؛ لأن ذلك من شرعه. لنا: ما تقدم أنه كان متعبدا به قبل البعثة، والأصل لبقاء ما كان على ما كان. وفيه من النظر ما تقدم، مع أنه دليل مبني على أصلين مختلف فيهما: الاستصحاب، وشرع ما قبلنا، مع أنه لا يصح في الفروع التي اختلفت الشرائع فيها. ولنا أيضا: اتفاق العلماء على الاستدلال بقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} على وجوب القصاص في ديننا، ولولا أنه متعبد بشرع من قبله، لما صح الاستدلال بكون القصاص واجبا في بني إسرائيل على وجوبه في ديننا. ولنا أيضا: ما في الصحيح أنه عليه السلام قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، وتلا: {وأقم الصلاة لذكري} "، وهي مقولة لموسى، وسياقه يدل على الاستدلال بالآية دلالة إيماء، ولم لم يكن هو وأمته متعبدين بما كان موسى متعبد به، لما صح الاستدلال. وقد يقال: أمرنا بذلك للحديث، وذكر الآية ليبين أن أمته في ذلك مساوية لمن قبلها، فكون أدعى إلى انقياد الأمة.

قالوا: لو تعبدنا بشرع من قبلنا لذكره معاذ، ولو كان دليلا لم يصوب عليه السلام قول معاذ حين تركه، واللازم باطل. الجواب: إما تركه لأن الكتاب يشمله –لأن كتاب الله يتناول التوراة والإنجيل- وإما لقلة ما يكون شرع من قبلنا مدركا له، وإن كانا خلاف الظاهر، لكن يحمل عليه جميعا بين الأدلة. قالوا: لو كان متعبدا بشرع من قبلنا، لوجب البحث على المجتهدين عن تلك الشريعة، واللازم باطل. الجواب: أن المعتبر في كون النبي والأمة متعبدين به من شرع من قبلنا، المتواتر وهو معلوم لا يحتاج إلى بحث وتعلم، لا ما نقل آحادا على لسان الكفار، إذ لسنا متعبدين/ به قطعا. وقد يقال: لو كان كذلك لوجب علينا نحن نقلها والبحث عنها؛ لأنا مكلفون مثلهم، فينقل إلينا تواترا أو آحادا، ولا يلزم من كونه معلوما عندهم –بحيث لا يحتاج إلى بحث وتعلم- أن يكون عندنا نحن كذلك. قالوا: الإجماع على أن شريعته ناسخة لما خالفها من الشرائع، وذلك ينافي تعبده بها.

مذهب الصحابي

الجواب: أنها ناسخة لما خالفها، لا أنها ناسخة لجميع الأحكام، وإلا لنسخت وجوب الإيمان وتحريم الكفر، لثبوت ذلك في تلك الشرائع قطعا. قال: (مذهب الصحابي ليس بحجة على صحابي آخر اتفاقا. والمختار: ولا على غيرهم. وللشافعي وأحمد قولان في أنه حجة مقدمة على القياس. وقال قوم: إن خالف القياس. وقيل: الحجة قول أبي بكر وعمر. لنا: لا دليل عليه فوجب تركه. وأيضا: لو كان حجة على غيرهم، لكان قول الأعم الأفضل حجة على غيره، إذ لا يقدر فيهم أكثر. واستدل: لو كان حجة لتناقضت الحجج. وأجيب: بأن لترجيح أو الوقف أالتخيير برفعه كغيره. واستدل: لو كان حجة لوجب التقلد مع إمكان الاجتهاد. وأجيب: إذا كان حجة فلا تقليد. قالوا: "أصحابي كالنجوم"، "اقتدوا باللذين من بعدي". أجيب: بأن المراد المقلدون؛ لأن خطابه للصحابة. قالوا: ولى عبد الرحمن عليا بشرط الاقتداء بالشيخين فلم يقبل، وولى عثمان فقبل ولم ينكر، فدل على أنه إجماع. قلنا: المراد متابعته في السيرة والسياسة، وإلا وجب على الصحابي التقليد.

قالوا: إذا خالف القياس فلابد من حجة نقلية. أجيب: بأن ذلك يلزم الصحابي، ويجري في التابعين مع غيرهم). أقول: لا خلاف أن مذهب الصحابي ليس حجة على صحابي آخر مجتهد، فأما على غير الصحابة. فعن مالك: أنه حجة. وهو أحد قولي الشافعي وأحمد، قالوا: وهو مقدم على القياس. وقيل: إن خالف القياس فهو حجة. وقال بعض المالكية، وكثير من الشافعية، وبعض الحنفية: ليس بحجة مطلقا. وقيل: الحجة قول أبي بكر وعمر.

لنا: لا دليل على كونه حجة فوجب تركه، إذ لا يجوز إثبات حكم شرعي من غير دليل. وأيضا: لو كان حجة على غيره، لكان قول الأعم الأفضل حجة على غيره، إذ لا يقدر فيهم أكثر من الصلاح والعلم. وفيه نظر؛ إذ لا يجوز أن يكون للصحبة أثر في أن قوله حجة على غيره. واستدل: لو كان حجة لزم تناقض الحجج، لاختلاف الصحابة ومناقضة بعضهم بعضا. الجواب: لا نسلم لزوم التناقض؛ لأنه يندفع بالترجيح إن أمكن، وإلا فبالوقت أو التخيير، كما في تعارض الأخبار. واستدل: لو كان قول الصحابة حجة على غيره، لوجب على التابعين فمن بعدهم تقليد الصحابي والأخذ بما أداه إليه اجتهاده، مع إمكان الاجتهاد والأخذ ما أخذ منه الصحابي من نص أو قياس، /لكنه لا يجوز للمجتهد تقليد غيره أصلا. الجواب: إنما يلزم ذلك لو لم يكن قول الصحابي حجة، أما إذا كان حجة، صار هو أحد مآخذ الحكم، فلم يكن أخذ الحكم منه تقليدا، كالمأخوذ من النص. احتج القائلون بكونه حجة: بقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديت"، وكون الاقتداء بهم اهتداء هو المعنى بحجية

قولهم. واحتج القائلون بأن الحجة قول أبي بكر وعمر: بقوله عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر". الجواب: أن المراد في الحديثين المقلدون من الصحابة؛ لأن خطابه للصحابة، وليس قول مجتهد منهم بحجة على مجتهد آخر إجماعا. قالوا: ولى عبد الرحمن بن عوف عليا بشرط الاقتداء بالشيخين فلم يقبل وولى عثمان فقبل، وشاع وذاع ولم ينكر، فدل على أنه إجماع. الجواب: معنى الاقتداء بهم المتابعة في السيرة والسياسة لا في المذهب، وإلا كان قول الصحابي المجتهد حجة على صحابي مجهد وأنه باطل إجماعا. وأيضا: لو كان كذلك ما خالف علي وكان يقبل الشرط. احتج القائلون بأنه حجة إذا خالف القياس: بأنه لابد له حينئذ من حجة نقلية فيقبل، وتكون الحجة بالحقيقة تلك، أما مع موافقة القياس فقد يكون قال ذلك عن ذلك القياس، فلا حجة فيه إذ ذلك.

الاستحسان

الجواب: لو صح ذلك اقتضى أن يلزم الصحابي العمل به. وأيضا: كان يجب أن يكون قول التابعي مع من بعده كذلك لجريان الدليل فيه، واللازم باطل. قال: (الاستحسان: قال به الحنفية والحنابلة. وأنكره بعضهم؛ حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع، ولا يتحقق استحسان مختلف فيه. فقيل: دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه. قلنا: إن شك فيه فمردود، وإن تحقق فمعمول به اتفاقا. وقيل: هو العدول عن القياس إلى قياس أقوى، ولا نزاع فيه. وقيل: العدول إلى خلاف النظر لدليل أقوى، ولا نزاع فيه. وقيل: العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، كدخول الحمام، وشرب الماء من السقاء. قلنا: مستنده جريانه في زمانه وزمانهم مع عملهم من غير إنكار، أو غير ذلك، وإلا فهو مردود. فإن تحقق استحسان مختلف فيه. قلنا: لا دليل يدل عليه فوجب تركه. قالوا: {واتبعوا أحسن}. قلنا: الأظهر والأولى، و "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"، يعني الإجماع وإلا لزم العوام).

أقول: الاستحسان: قال الحنابلة والحنفية: إنه دليل، ووقع عند المالكية/ ما يدل على ذلك، فمن ذلك مسألة كتاب الخيار، وهي مسألة النظر والاستحسان. وأنكره الشافعي حتى قال: "من استحسن فقد شرع"، أي فقد أثبت حكما من غير دليل، فكان عاصيا أو كافرا. قال المصنف: والحق أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه؛ لأنهم ذكروا في تفسيره أمورا لا تصلح محلا للخلاف؛ لأن بعضها مقبول اتفاقا، وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقا وبين ما هو مردود اتفاقا. فمن جملة ما قيل في تفسيره: أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد يعسر تعبيره عنه، وهذا متردد بين القبول أو الرد؛ لأن "ما انقدح في نفس المجتهد" إن كان تحقق ثبوته وجب عليه العمل به اتفاقا، ولا يضر عجزه عن التعبير عنه، وإن كان يشك فيه فمردود اتفاقا، إذ لا تثبت الأحكام بمجرد الاحتمال.

وقيل: هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه، ولا نزاع في قبوله بهذا المعنى. وقيل: تخصيص قياس بدليل أقوى منه، ولا نزاع أيضا فيه. وقيل: العدول إلى خلاف النظير لدليل أقوى منه، ولا نزاع أيضا فيه. وفي بعض النسخ خلاف النظير، أي العدول في مسألة إلى خلاف ما حكم به في نظائرها. وقيل: العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، كدخول الحمام من غير تعيين زمان المكث، وشراب الماء من السقاء من غير تعيين مقدار الماء ومقدار الأجرة. وها أيضا مما هو متردد؛ لأن مستند مثله إن كان العادة المعتبرة من جريانه في زمانه عليه السلام، فقد ثبت بالسنة. وإن كان جريانه في زمن الصحابة مع عدم إنكارهم، فقد ثبت بالإجماع.

المصالح المرسلة

وإن كان غيرها، فإن كان نصا وقياسا مما ثبتت حجيته فقد ثبت به، وإن كان غير ذلك مما لم تثبت حجيته فهو مردود قطعا. فإذا أظهر الخصم استحسانا يصلح محلا للخلاف، قلنا في نفيه: لا دليل يدل عليه فوجب نفيه، لما علم أن عدم الدليل في نفي الأحكام الشرعية مدرك شرعي. قالوا: قال تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم}، والأمر للوجوب، فدل على أن تر بعض واتباع بعض هو أحسن، وهو معنى الاستحسان. الجواب: أن المراد بـ "الأحسن" الأظهر والأولى، مع أنه أمر باتباع الأحسن من القول. قالوا: قال عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسنا فهم عند الله حسن" يدل على أن ما استحسنه العلماء فهو حق في الواقع. الجواب: "المسلمون" صيغة العموم، والمعنى: ما رآه جميع المسلمين حسنا لا ما رآه كل واحد حسنا، وإلا لزم حسن ما رآه أحد العوام حسنا، وما أجمع عليه فهو حسن عند الله، إذ لا إجماع إلا عن دليل شرعي. /قال: (المصالح المرسلة: تقدمت. لنا: لا دليل فوجب الرد.

قالوا: لو لم يعتبر لأدى إلى خلو وقائع. قلنا: بعد تسليم أنها لا تخلو، العمومات والأقيسة مأخذها). أقول: المصالح المرسلة: مصالح لا يشهد لها أصل بالاعتبار في الشرع، ولا يشهد أصل –أيضا- بإلغائها، لكنها على سنن المصالح وتتلقاها العقول بالقبول. قال بحجيتها مالك رضي الله عنه، وقد تقدمت في القياس. لنا: لا دليل على حجيتها فوجب الرد. قالوا: لو لم يعتبر لأدى إلى خلو وقائع عن الحكم، لعدم شمول النصوص والأقيسة جميعها، وأنه باطل. الجواب: لا نسلم بطلانه، وإن سلم، فلا يلزم الخلو؛ لأن العمومات والأقيسة مأخذ الجميع. وإن سلم، فعدم المدرك بعد ورود الشرع –بأن ما لا مدرك فيه بعينه فحكمه التخيير- مدرك شرعي.

الاجتهاد

قال: (الاجتهاد: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي. والفقيه: تقدم، وقد علم المجتهد، والمجتهد فيه). أقول: لما فرغ من المبادئ والأدلة السمعية، شرع الآن في الاجتهاد. وهو لغة: تحمل الجهد، وهو المشقة، يقال: اجتهد في حمل حجر الرحى، ولا يقال: اجتهد في حمل نارنجة. وفي الاصطلاح: استفراغ الفقيه الوسع، أي بحيث يحس من نفسه العجز عن المزيد عليه. وقوله: (لتحصيل ظن) إذ لا اجتهاد في القطعيات. وقوله: (بحكم شرعي) ليخرج العقلي والحسي. والفقيه: تقدم معناه في صدر الكتاب ضمنا، لأنك قد علمت الفقه، فيكون الموصوف هو الفقيه، وقد علم بذلك ركنا الاجتهاد وهو المجتهد، والمجتهد فيه. فالمجتهد: من اتصف بصفة الاجتهاد على التفسير المذكور. والمجتهد فيه: حكم ظني شرعي عليه دليل فلا يرد اجتهاد المتكلم في تحصيل ظن بتوحيده تعالى، إذا كان المجتهد فقيها وهو بين من تعريف الفقه. قال: (مسألة: اختلفوا في تجزئ الاجتهاد. المثبت: لو لم يتجزأ لعلم الجميع، وقد سئل مالك في أربعين مسألة،

وقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. وأجيب: بتعارض الأدلة، وبالعجز عن المبالغة في الحال. قالوا: إذا اطلع على أمارة مسألة فهو وغيره سواء. أجيب: بأنه قد يكون ما لم يعلمه متعلقا. النافي: كل ما يقدر جهله يجوز تعلقه بالحكم المفروض. أجيب: الفرض حصول الجميع في ظنه عن مجتهد، أبعد تحرير الأئمة للأمارات). أقول: اختلفوا في تجزئ الاجتهاد على معنى أنه هل يجتهد في بعض المسائل دون بعض، بناء على أنه قد يحصل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها، فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها/ أو لابد وأن يكون مجتهدا مطلقا، بحيث يكون عنده ما يحتاج إليه في جميع المسائل من الأدلة؟ . احتج المثبتون بوجهين: الأول: لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم علم المجتهد جميع المآخذ، ويلزم العلم بجميع الأحكام، واللازم باطل؛ لأن مالكا من كبار المجتهدين قطعا، وقد سئل في أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: "لا أدري". الجواب: أن العلم بجميع المآخذ لا يوجب العلم بجميع الأحكام، لجواز

مسألة: المختار: أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بالاجتهاد

عدم العلم ببعضها لتعارض الأدلة، أو للعجز في الحال عن المبالغة، أو لمانع يشوش الفكر. قالوا ثانيا: إذا اطلع على أمارات بعض المسائل فهو وغيره سواء فيها، وكونه لا يعلم أمارات غيرها لا مدخل لجهله بذلك فيما علم أمارته، فيجوز له الاجتهاد فيها كغيره. الجواب: لا نسلم مساواته لغيره، إذ يجوز أن يكون ما لم يعلمه متعلقا بالمسألة المجتهد فيها. احتج النافي: بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض، فلا يحصل له ظن المانع من مقتضى ما يعلمه من الدليل. الجواب: أن المفروض حصول جميع ما هو أمارة لتلك المسألة في ظنه الجواب: أن المفروض حصول جميع ما هو أمارة لتلك المسألة في ظنه نفيا وإثباتا، إما بأخذه عن مجتهد، وإما بعد تحرير الأئمة الأمارات وضم كل نوع إلى جنسه، وإذا كان كذلك فقيام ما ذكرتم من الاحتمال بعيد، فلا يقدح في ظن الحكم فيجب العمل به. قال: (المختار: أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بالاجتهاد. لنا: مثل: {عفا الله عنك لم أذنت لهم}، و "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي"، ولا يستقيم ذلك فيما كان بالوحي. واستدل أبو يوسف بقوله تعالى: {لتحكم بين الناس بما أراك الله}. وقرره الفارسي، واستدل بأنه أكثر ثوابا للمشقة فيه، فكان أولى. وأجيب: بأن سقوطه لدرجة أعلى.

قالوا: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}. وأجيب: بأن الظاهر رد قولهم {افتراه}. ولو سلم، فإذا تعبد بالاجتهاد بالوحي لم ينطق إلا عن وحي. قالوا: لو كان لجازت مخالفته، لأنها من أحكام الاجتهاد. وأجيب: بالمنع، كالإجماع عن اجتهاد. قالوا: لو كان لما تأخر في جواب. قلنا: لجواز الوحي، أو لاستفراغ الوسع. قالوا: القادر على اليقين يحرم عليه الظن. قلنا: لا يعلم إلا بعد الوحي، فكان كالحكم بالشهادة). أقول: اختلفوا هل كان عليه السلام متعبدا بالاجتهاد فيما لم يوح إليه فيه؟ ، فذهب أحمد، وأبو يوسف إلى أنه متعبد. واختاره المصنف. وذهب الجبائي وابنه إلى منعه.

لنا: قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم}، ولا يستقيم مثل ذلك فيما فعل عن وجي. وقد يقال: إن ذلك في أمر الآراء والحروب، لا في الحكم الشرعي. وقال –أيضا- عليه السلام: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت/ ما سقت الهدي"، ولا يستقيم ذلك –أيضا- إلا فيما فعل بالرأي. قال القاضي عياض: يجوز أن يكون خير فاختار الأدنى، فنبه على ترك الأولى، فالخطاب بما ذكر لتركه الأعلى بعد التخيير. واستدل أبو يوسف بقوله تعالى: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} وقرره الفارسي وبين وجه دلالته، فقال: الرؤية تقال للإبصار كقولك: "رأيت زيدا"، وللعلم مثل: "رأيت زيدا قائما"، وللرأي مثل: "رأى فيه الحل والحرمة"، و"أراك" لا يستقيم لرؤية العين لاستحالتها في الأحكام، ولا للإعلام لوجوب ذكر المفعول لوجوب ذكر المفعول الثالث عند ذكر الثاني، والعائد على الموصول كالمذكر لتتم الصلة، كأنه قال: بما أراك الله، ولا يجوز حذف الثالث فتعين أن المراد: بما جعله لك رأيا. والجواب: أنه بمعنى الإعلام، و "ما" مصدرية فلا ضمير، وحذف

المفعولان، فيكون المعنى: بإراءتك، أو أن المقدر ليس كالملفوظ، فكأن المفعولين حذفا، أو أن المعنى: بما أوحى الله إليك، ويدل عليه السياق، واختاره الزمخشري. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أراك الله}. واستدل أيضا: بأن الاجتهاد أكثر ثوابا، لما فيه من المشقة، قال عليه السلام: "أفضل العبادات أحمزها" أي أشقها، وقال: "ثوابك على قدر نصبك". والأكثر ثوابا أولى، وعلو درجته يقتضي ألا يسقط عنه، تحصيلا لمزيد الثواب، ولئلا يكون غيره مختصا بفضيلة ليست له. الجواب: لا نسلم أن علو درجته يقتضي عدم سقوطه، بل يقتضي سقوطه، إذ الشيء قد يسقط لدرجة أعلى، ولا يكون فيه نقص لأجره، ولا يكون غيره مختصا بفضيلة ليست له، وذلك كمن يحرم ثواب الشهادة لكونه حاكما، وثواب التقليد لكونه مجتهدا، وثواب القضاء لكونه إماما.

احتج المانعون بوجوه: الأول: قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} نفي أن يكون الحكم الصادر عنه عليه السلام بالاجتهاد. الجواب: أن الظاهر من سياق الآية أنها إنما سيقت ردا على الكفار فيما يقولونه في القرآن، أنه عليه السلام افتراه، فيختص بما بلغه. سلمنا أن خصوص السبب يوجب تخصيصه، لكن إذا تعبد بالاجتهاد بالوحي لم يكن نطقه إلا عن وحي. وما قيل: إن اجتهاده من فعله لا من نطقه، فضعيف. قالوا: لو كان متعبدا بالاجتهاد لكان في الأحكام الصادرة عنه ما يكون عن اجتهاده، ولو كان كذلك لجازت مخالفته من تكفير ولا عصيان؛ لأن جواز المخالفة من أحكام الاجتهاد، إذ لا قطع حينئذ أنه حكم الله لاحتمال الإصابة. الجواب: منع لزوم جواز المخالفة للاجتهاد مطلقا، بل/ إذا لم يقترن بها القاطع، كاجتهاد يكون عند إجماع، إذ كل منهما اقترن به القاطع. قالوا: لو كان متعبدا بالاجتهاد لما تأخر في جواب، بل كان يجتهد ويجيب لوجوب ذلك عليه، واللازم باطل؛ لأنه روي أنه تأخر في مسائل كثيرة لانتظار الوحي.

مسألة: المختار: وقوع الاجتهاد ممن عاصره ظنا

الجواب: لا نسلم الملازمة، فإنه ربما تأخر لجواز الوحي الذي عدمه شرط في الاجتهاد؛ لأنه إنما تعبد به فيما نص فيه، فلابد من تحقق عدم النص بعدم الوحي. وأيضا: فربما تأخر للاجتهاد، فإن استفراغ الوسع يستدعي زمانا. قالوا: هو قادر على اليقين في الحكم بالوحي، فلا يجوز له الاجتهاد لأنه لا يفيد إلا ظنا، والقادر على اليقين يحرم عليه الظن إجماعا، كالقادر على معاينة القبلة عليه الاجتهاد فيها. الجواب: لا نسلم أنه قادر على يقين، فإنه لا يعلم الحكم إلا بإنزال الوحي عليه، وأنه غير مقدور له، نعم هو قادر عليه بعد الوحي، وأنه إذ ذاك لا يجوز له الاجتهاد، وذلك كحكمه عليه السلام بالشهادة، مع أنها لا تفيد إلا الظن. ولا يقال: يمكنه معرفة الحكم يقينا بالوحي، فيحرم عليه الظن، وقد يفرق بينه وبين الشهادة. قال: (مسألة: المختار: وقوع الاجتهاد ممن عاصره ظنا. ثالثها: الوقف. ورابعها: الوقف فيمن حضره. لنا: قول أبي بكر: "لاها الله إذا، لا نعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه، فقال عليه السلام: صدق. وحكم عليه السلام سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم، فقال عليه السلام: لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة

أرقعة". قالوا: القدرة على العلم تمنع الاجتهاد. قلنا: تثبت الخيرة بالدليل. قالوا: كانوا يرجعون إليه. قلنا: صحيح، فأين منعهم؟ ). أقول: اختلفوا في جواز الاجتهاد في عصره عليه السلام، واختلف المجوزون في وقوعه، فقيل: وقع ظنا، وقيل: لم يقع، وثالثها: الوقف، ورابعها: وقع ممن غاب عنه، والوقف فيمن حضره. لنا: قول أبي بكر: "لاها الله إذا، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه، فقال عليه السلام: صدق". والظاهر أنه عن رأي لا عن وحي، ولفظه في المنتهى: "لاها الله ذا"، كما في صحيح مسلم.

والظاهر أن "إذا" تصحيف، قال الخليل: "ذا" خبر مبتدأ، أي الأمر ذا، وقال الفراء: "ذا" وما بعده مقسم عليه. ولنا أيضا: ما ذكره أهل المغازي أنه عليه السلام حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم، فقال عليه السلام: "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة"، والرقيع السماء/ وجمعه أرقعة. والظاهر أن حكمه كان بالاجتهاد، وقضية معاذ أوضح، لكن فيمن غاب عن حضرته. احتج المانعون بوجهين: الأول: أن المعاصرين قادرون على العلم بالرجوع إليه عليه السلام،

مسألة: الإجماع على أن المصيب في العقليات واحد

والقدرة على العلم تمنع من الاجتهاد الذي غايته الظن. الجواب: لا نسلم أنها تمنعه، إذ المفروض أنه قد ثبت التخيير بين العلم بالرجوع إلى الاجتهاد بالدليل، يعني الحديثين السابقين. قال في المنتهى: "ولو سلم، فالحاضر يظن أنه لو كان وحي لبلغه، والغائب لا يقدر عليه، فيرجع إلى المنع أنه له قدرة على العلم". الثاني: ثبت أن الصحابة كانوا يرجعون إليه في الوقائع، وهو دليل منع الاجتهاد، وإلا رجعوا إلى الاجتهاد. الجواب: لا دلالة له على منعهم من الاجتهاد، لجواز أن يكون الرجوع فيما لا يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد، أو بجواز الأمرين. قال: (مسألة: الإجماع على أن المصيب في العقليات واحد، وأن النافي ملة الإسلام مخطئ آثم كافر، اجتهد أو لم يجتهد. وقال الجاحظ: لا إثم على المجتهد، بخلاف المعاند. وزاد العنبري: كل مجتهد في العقليات مصيب. لنا: إجماع المسلمين على أنهم من أهل النار، ولو كانوا غير آثمين لما ساغ ذلك، واستدل: بالظواهر. وأجيب: باحتمال التخصيص. قالوا: تكليفهم نقيض اجتهادهم ممتنع عقلا وسمعا، لأنه مما لا يطاق. وأجيب: بأنه كلفهم الإسلام، وهو من المتأتى المعتاد، فليس من المستحيل في شيء). أقول: اختلفوا هل كل مجتهد مصيب أم لا؟ وهل حكم العقليات

والشرعيات واحد أو لا؟ ، وجعلهما المصنف مسألتين: الأولى في العقليات: وذكر الإجماع على أن المصيب في العقليات واحد وأن الآخر مخطئ، وأن من كان منهم نافيا لملة الإسلام فهو مخطئ آثم كافر، اجتهد أو لم يجتهد. خلافا للجاحظ فإنه قال: "لا إثم على المجتهد مع أنه مخطئ، وتجري عليه في الدنيا أحكام الكفار، بخلاف المعاند فإنه آثم". وزاد عليه العنبري بأن قال: "كل مجتهد في العقليات فهو مصيب". فإن أراد وقوع معتقده حتى يلزم من اعتقاده قدم العالم وحدوثه اجتماع القدم والحدوث، فخروج عن المعقول، وإن أراد عدم الإثم فمحتمل عقلا ممتنع سمعا، ويكون مذهب الجاحظ بعينه، وإلى قريب من هذا ذهب ناصر الدين البيضاوي، قال في الطوالع: ويرجى العفو للكافر البالغ في اجتهاده في تحصيل الحق الطالب للهدى، وذلك الرجاء من فضل الله ولطفه، إذ لا تقصير منه. هذا معناه لا لفظه.

وزعم أن هذا مخصوصات عن العمومات التي تأتي، وقد تكلمنا معه في ذلك وأشبعنا الكلام عليه في شرحنا للطوالع، فليطالع هناك. لنا: إجماع المسلمين –قبل ظهور المخالف- على قتل نافي ملة الإسلام، وأنه من أهل النار، ولا يفرقون بين معاند ومجتهد، بل يقطعون أنهم لا يعاندون الحق بعد ظهوره لهم، ويعتقدون الباطل عن نظر واجتهاد، ولو كان المجتهد غير آثم لما ساغ حكم بأنه من أهل النار لعصمتهم. واستدل: بظواهر مثل: {فويل للذين كفروا من النار}، {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم فأرداكم}، {ويحسبون أنهم على شيء}، ذمهم على معتقدهم وتوعدهم بالعقاب عليه، ولو كانوا معذورين لما ذمهم. الجواب: أنه لا يفيد القطع، لجواز التخصيص بغير المجتهد منهم. قالوا: فيه تكليفهم نقيض اجتهادهم وهو ممتنع سمعا وعقلا؛ لأنه مما لا يطاق، إذ المقدور بالذات هو الاجتهاد والنظر لكونهما من قبيل الأفعال، والاعتقاد من قبيل الانفعال، وما يؤدي إليه الاجتهاد حصوله بعد الاجتهاد ضروري واعتقاد خلافه ممتنع، لما تقدم من دليل العقل والسمع على منع التكليف بما لا يطاق. الجواب: لا نسلم أن نقيض اجتهادهم غير مقدور، بل ذلك امتناع

مسألة: القطع: لا إثم على المجتهد في حكم شرعي اجتهادي

بشرط المحمول- أي ما داموا معتقدين لذلك يمتنعوا أن يعتقدوا خلافه- وذلك لا يوجب كون الفعل ممتنعا منهم غير مقدور لهم، فإن الممتنع الذي لا يجوز التكليف به ما لا يتأتى عادة كالطيران، وأما ما كلفوا هم به –وهو الإسلام- فهو متأت منهم ومعتاد حصوله من غيرهم، ومثله لا يكون مستحيلا، وقد تقدم في صدر الكتاب أو الإجماع على صحة التكليف بما علم الله أنه لا يقع. قال: (مسألة: القطع: لا إثم على المجتهد في حكم شرعي اجتهادي. وذهب بشر المريسي والأصم إلى تأثيم المخطئ. لنا: العلم بالتواتر باختلاف الصحابة المتكرر والشائع من غير نكير، ولا تأثيم لمعين ولا مبهم، والقطع أنه لو كان آثما لقضت العادة بذكره. واعترض كالقياس). أقول: تقدم حكم الاجتهاد في العقليات، وأما في الأحكام الفرعية الاجتهادية فإنا نقطع بعدم الإثم عن المجتهد إذا أخطأ فيها. ونقل عن بشر المريسي من المعتزلة، وعن أبي بكر الأصم: أن

مسألة: المسألة التى لا قاطع فيها

المخطئ آثم، ولا يعتد بخلافهما لأنه بعد انعقاد الإجماع. لنا: القطع بأنه تواتر أن الصحابة قد اختلفوا في المسائل الاجتهادية وتكرر وشاع ولم ينكر، ولا تأثيم من بعضهم لبعض معين، بأن يقول أحد المخالفين إن الآخر آثم، مع القطع بأنه لو كان آثما لقضت/ العادة بذكره، ولخافوا الاجتهاد وتجنبوه وخوفوا منه، ولما لم يتكلموا فيه بتأثيم، علم قطعا عدم الإثم. واعترض: بما مر من الأسئلة على دليل كون القياس حجة. والجواب: هو الجواب ثم. قال: (مسألة: المسألة التي لا قطع فيها، قال القاضي والجباني: كل مجتهد فيها مصيب، وحكم الله فيها تابع لظن المجتهد. وقيل: المصيب فيها واحد. ثم منهم من قال: لا دليل عليه كدفين يصاب. وقال الأستاذ: دليله ظني، فمن ظفر به فهو المصيب. وقال المريسي والأصم: دليله قطعي، والمخطئ آثم. ونقل عن الأئمة الأربعة التخطئة والتصويب، فإن كان فيها قاطع فقصر فمخطئ آثم، وإن لم يقصر فالمختار مخطئ غير آثم. لنا: لا دليل على التصويب والأصل عدمه.

وصوب غير معين للإجماع. وأيضا: لو كان كل مصيبا لاجتمع النقيضان؛ لأن استمرار قطعه مشروط ببقاء ظنه، للإجماع على أنه لو ظن غيره وجب الرجوع، فيكون ظانا عالما بشيء واحد. لا يقال: الظن ينتفي بالعلم. لأنا نقطع ببقائه، ولأنه كان يستحيل ظن النقيض مع ذكره للعلم. فإن قيل: مشترك الإلزام؛ لأن الإجماع على وجوب اتباع الظن، فوجب الفعل أو يحرم قطعا. قلنا: الظن متعلق بأنه حكم المطلوب، والعلم بتحريم المخالفة فاختلف المتعلقان، فإذا تبدل الظن زال شرط تحريم المخالفة. فإن قيل: فالظن يتعلق بكونه دليلا والعلم بثبوت مدلوله، فإن تبدل الظن زال شرط ثبوت الحكم. قلنا: كونه دليلا حكم أيضا، فإذا ظن علمه، وإلا جاز أن يكون المتعبد به غيره، فلا يكون كل مجتهد مصيبا، على أنه لا يستقيم العلم بالمدلول مع احتمال الدليل. وأيضا: أطلق الصحابة الخطأ في الاجتهاد كثيرا وشاع ولم ينكر، عن علي وزيد وغيره أنهم خطئوا ابن عباس في ترك العول، وخطأهم وقال: من باهلني باهلته، إن الله لم يجعل في مال واحد نصفا وثلثا. واستدل: إن كانا بدليلين، فإن كان أحدهما راجحا تعين، وإلا تساقطا.

وأجيب: بأن الأمارات تترجح بالنسب، وكل راجح. واستدل: بالإجماع على شرع المناظرة، فلولا تبين الصواب لم تكن فائدة. وأجيب: بتبيين التساوي، أو الترجيح، أو التمرين. واستدل: بأن المجتهد طالب، فطالب ولا مطلوب محال، فمن أخطأ فهو مخطئ قطعا. وأجيب: مطلوبه ما يغلب على ظنه، فيحصل وإن كان مختلفا. واستدل: بأنه يلزم حل الشيء وتحريمه، لو قال مجتهد شافعي لمجتهدة. حنفية: أنت بائن، ثم قال: راجعت، وكذا /لو تزوج مجتهد امرأة بغير ولي، ثم زوجها بعده مجتهد بولي. وأجيب: بأنه مشترك الإلزام، إذ لا خلاف في لزوم اتباع ظنه. وجوابه: أن يرفع إلى الحاكم فيتبع حكمه). أقول: المسألة الظنية من الفقهيات، وهي مرادة بالتي لا قاطع فيها. قال القاضي، والجبائي وابنه، وحكاه الإمام فخر الدين عن الأشعري وكثير من المتكلمين: كل مجتهد مصيب، ولا حكم معين لله تعالى فيها، بل حكم الله تابع لظن المجتهد، فما ظنه فيها كل مجتهد فهو حكم الله فيها في حقه وحق مقلده.

قلت: وفيه نظر؛ إذ الأشعري والقاضي يقولان بقدم الحكم، فكيف يقولان إن المسألة الاجتهادية لا يكون فيها لله قبل اجتهاد المجهد حكم؟ . وقيل: فيها لله تعالى حكم معين، والمصيب واحد؛ لأن الطالب يستدعي مطلوبا. ثم منهم من قال: لم ينصب الله عليه دليلا، بل كدفين يصاب، فمن عثر عليه فهو المصيب وله أجران، ومن أخطأه فهو المخطئ وله أجر واحد، لتعبه لا لخيبته، وحكاه الإمام فخر الدين عن بعض الفقهاء. وقيل: بل عليه دليل، ثم اختلف هؤلاء، فقال الأستاذ وابن فورك: من ظفر به فهو المصيب وله أجران، ومن أخطأه فهو المخطئ وله أجر واحد. وقال بشر المريسي والأصم: من أخطأه فهو مخطئ آثم. وقيل: من أخطأه فلا أجر له، ويسقط عنه الإثم لخفاء الدليل وغموضه فكان معذورا. ونقل عن الأئمة الأربعة التخطئة والتصويب.

والأصح من مذهب مالك والشافعي: أن المصيب واحد. هذا أسعد بما في المحصول وأقرب إلى الإحكام، إذ فرض المسألة ما لا قاطع فيه، فكيف يقول عن المريسي: إن دليله قطعي، إلا أن يحمل قوله أولا على الشرعي والذي عن المريسبي على العقلي لأنه معتزلي، والعقل عندهم يكون مدركا للحكم، أما لو كان فيه قاطع، فإن قصر في طلبه كان آثما، وإن لم يقصر لم يأثم، وفي خطئه خلاف. والمختار: أنه مخطئ، فظهر أن مختاره أن المصيب واحد، وأن عليه دليلا ظنيا، وأن المخطئ غير آثم، وأن ما فيه قاطع وقصر عنه فآثم، وإلا فمخطئ غير آثم. لنا: لا دليل على تصويب كل مجتهد، وكل ما لا دليل عليه لا يجوز القول به، أما الأولى: فلعدم الدليل عليه ظاهرا والأصل عدمه، أو الأصل عدم التصويب، ولا يتمكن الخصم من قلبه. فإن قيل: فكذا نقول في تصويب كل مجتهد، فيجب نفيه عن كل واحد وذلك لم يقل به احد. قلت: الدليل يقتضي ذلك لولا الإجماع على تصويب واحد غير معين، المنافي لعدم تصويب كل واحد. ولا يخفى أن إثبات مثل هذا الأصل بمثل هذا الدليل لا يحسن.

ولنا: لو كان كل مجتهد مصيبا لزم اجتماع النقيضين، أما الملازمة؛ فلأنه إذا ظن حكما قطع بأنه حكم الله في حقه، بناء على أن كل مجتهد مصيب، ولا شك أن استمرار قطعه بأن حكم الله في حقه مشروط ببقاء ظنه ذلك الحكم، للإجماع على أنه لو ظن غيره وجب عليه الرجوع عنه إلى ذلك الغير، فيكون عالما به ظانا له، فيكون ظانا عالما بشيء واحد في زمان واحد فيلزم القطع به وعدم القطع به، وهما نقيضان. لا يقال: لا نسلم أن شرط القطع بقاء الظن، قوله: (للإجماع على أنه لو ظن غيره وجب الرجوع). قلنا: الإجماع إنما دل على أن استمرار قطعه بما أداه إليه اجتهاده مشروط بعدم ظن غير ما أداه إليه اجتهاده، ولا يلزم منه أن يكون استمرار قطعه بما أداه إليه/ اجتهاده مشروطا ببقاء ظنه به، وعدم ظن غيره لا يستلزم ظن هذا إذ قد يكون هذا معلوما ولا يظن شيئا، ومن أين يلزم من زوال حكم الظن عند زوال الظن بالشيء إلى الظن بخلاف متعلقه زوال حكمه عند زواله إلى العلم بمتعلقه، فإن القطع أولى بذلك الحكم من ظنه، فإذا حصل القطع زال الظن، وإليه أشار بقوله: "لا يقال). ثم أجاب فقال: لأنا نقول: إنا نقطع ببقاء الظن حال بقاء الإصابة الموجبة لاستمرار القطع؛ لأن الإصابة إنما حصلت من الظن فيكون الظن موجبا للإصابة، ويلزم من بقاء المعلول بقاء علته. وأيضا: لو انتفى ظن الحكم مع العلم به لاستحالته ظن نقيض ذلك الحكم مع ذكره للعلم، أي مع العلم بذلك الحكم، أو أنه يستحيل ظن

نقيض ما علم بموجب مع تذكر ذلك الموجب، بخلاف ما لو ذهل عن الموجب أو عن كونه موجبا، لكنه لا يستحيل ظن النقيض، لثبوت رجوع المجتهد إلى نقيض ما أداه إليه اجتهاده. فإن قيل: ما ذكرتم مشترك الإلزام، إذ لزوم النقيضين وارد على المذهبين فيكون مردودا، فلا يكون منشأ الفساد خصوصية أحد المذهبين، فما هو جواب لكم يكون جوابا لنا. بيان أنه مشترك: أن الإجماع منعقد على وجوب اتباع الظن، فإذا ظن الوجوب وجب الفعل قطعا، وإذا ظن الحرمة حرم الفعل قطعا، ثم شرط القطع بقاء الظن بما ذكرتم، فيلزم الظن والقطع معا ويجتمع النقيضان. قلنا: إنما يلزم ذلك لو كان الظن والقطع تعلقا بشيء واحد، أما لو كان الظن متعلقا بأن الحكم المطلوب، والقطع متعلق بتحريم مخالفته لكونه مظنونا فلا تناقض لاختلاف المتعلق. وقوله: (فإذا تبدل الظن زال شرط تحريم المخالفة) جواب عن سؤال مقدر تقديره: لما كان زوال العلم يتبع زوال الظن، لأنه إذا زال الظن بالحكم زال العلم به، دل على اتحاد متعلقهما. الجواب: أن العلم متعلق بأن المطنون ما دام مظنونا يجب العمل به، فإذا زال الظن فقد زال شرط العمل به، فينتفي العلم بوجوب العمل في زمان زوال الظن، فليس زوةاله بزواله لأجل اتحاد متعلقهما، بل لزوال شرطه. فإن قيل: هذا الجواب يعينه يجري في دليلكم، إذ يقال: لا نسلم اتحاد متعلق الظن والعلم، فإن الظن متعلق بكون الدليل دليلا، والعلم متعلق.

بثبوت مدلوله، فإذا تبدل الظن زال شرط ثبوت الحكم الذي هو ظن الدلالة. قلنا: هذا لا يدفع اجتماع النقيضين، فإن كونه دليلا أيضا حكما، فإذا ظنه فقد علمه، إذ لو لم يعلمه لجاز أن يكون المتعبد به غيره –أي الدليل الذي يجب العمل به غير ذلك الدليل- وإذا كان غيره فقد أخطأ في اعتقاد أن هذا دليل، فهذا حكم أخطأ فيه المجتهد، فلا يكون كل مجتهد مصيبا. /ولنا أيضا: أن الصحابة أطلقوا الخطأ في الاجتهاد وشاع وتكرر من غير نكير، فكان إجماعا. فمن ذلك ما روي عن علي وزيد وغيرهما: أنهم خطئوا ابن عباس حيث لم يقل بالعول في الفرائض، وخطأهم هو أيضا، حتى قال: "من باهلني باهلته، إن الله لم يجعل في مال واحد نصفا ونصفا وثلثا"، وإلى غير ذلك. واعترض: بأن التخطئة إنما كانت فيما خالفوا فيه نصا، أو فيما قصر فيه المجتهد، إذ لو كان كذلك لأثموا المخالف. واستدل: بأن المجتهدين إذا اختلفا في حكم واقعة بالنفي والإثبات، وصار كل منهما إلى مناقضة الآخر، فإما أن يكون الحكمان بدليلين أو لا؟ . الأول: إما أن يكون أحدهما أرجح أو لا، فإن كانا أو أحدهما لا بدليل فواضح أنه لا يكون صوابا، وإن كانا بدليلين وترجح أحدهما تعين للصحة وتعين الآخر للخطأ، إذ لا يجوز العمل بالمرجوح، وإن تساويا تساقطا وكان الحكم الوقف أو التخيير، فيكونان في التعيين مخطئين، فلا يكون كل مجتهد مصيبا.

الجواب: أن تقول: ثم قسم آخر هو أن تترجح كل منهما بالنسبة إلى مجتهد –إذ ليست أدلة في أنفسها- فأمارة كل مجتهد راجحة عنده، وذلك هو رجحانها في نفس الأمر. واستدل أيضا: بانعقاد الإجماع على شرع المناظرة، فلولا أن الغرض منها تبيين الصواب لم يكن لها فائدة، إذ تصويب الجميع ينفي ذلك. الجواب: لا نسلم أنه لا فائدة لها إلا ذلك، ومن فوائده: ترجيح إحدى الأمارتين في نظرهما ليرجعا إليها. ومنها: تساويها ليتساقطا ويرجعا إلى دليل آخر. ومنها: التمرين وحصول ملكة الوقوف على المآخذ ورد الشبه، ليعين ذلك على الاجتهاد. واستدل أيضا: بأن المجتهد طالب فله مطلوب، لاستحالة طالب لا مطلوب له، فمن وجد ذلك المطلوب فهو مصيب، ومن أخطأه فهو مخطئ. الجواب: أن مطلوب كل واحد من المجتهدين ما يغلب على ظنه أنه حكم الله في حقه من الأمارات المختلفة؛ فيحصل مطلوبه وإن كان مختلفا –أي غير معين عند الله-. لا يقال: متعلق ظنه حكم الله، فكيف يمكن ذلك مع الجزم بأنه لا حكم لله في الواقعة، وبالجملة فمطلب "أي" بعد مطلب "هل"، فما لم يعلم أن ثم حكما كيف يطلب تعيينه أهو الحرمة أو الإباحة؟ . لأنا نقول: بل متعلق ظنه أن أليق بالأصول، وأنسب بما عهد من الشارع اعتباره.

مسألة: المصوبة: لو كان المصيب واحدا لوجب النقيضان

واستل أيضا: بأن تصويب الكل مستلزم للمحال، فكان محالا. بيان اللزوم: لو كان الزوج مجتهدا أداه اجتهاده إلى مذهب الشافعي والزوجة مجتهدة أداها اجتهادها إلى مذهب أبي حنيفة، فقال لها: "أنت بائن"، ثم قال: "راجعتك" –وهو يعتقد الحل وهي تعتقد الحرمة- لزم من صحة المذهبين حلها وحرمتها، وكذا لو نكح مجتهد-/ يرى مثل رأي أبي حنيفة- امرأة بغير ولي، ثم تزوجها بعد ذلك مجتهد يرى رأي الشافعي، لزم من صحة المذهبين حلها لهما. الجواب: أنه مشترك الإلزام، إذ لا خلاف أنه يلزمه ابتاع ظنه مخطئا كان أو مصيبا، فيلزم على المذهبين، وقد يقال: المورد أورده على ما في الواقع، إذ التقدير تبعية الحكم لظن المجتهد بخلاف ما ذكر، فإنه بالنسبة إلى مجتهدين، ولا يبعد كون الشيء حلالا وحراما في ظني مجتهدين، فلا تناقض لعدم اتحاد الموضوع، بخلاف الآخر. والجواب الحق: أن يرفع إلى حاكم يحكم بينهما فيتبعان حكمه، لوجوب اتباع حكمه للموافق والمخالف. قال: (المصوبة: لو كان المصيب واحدا، لوجب النقيضان إن كان المطلوب باقيا، أو وجب إن سقط الحكم المطلوب.

وأجيب: بثبوت التالي، بدليل أنه لو كان فيها نص أو إجماع ولم يطلع عليه بعد الاجتهاد وجب مخالفته، وهو خطأ فهذا أجدر. قالوا: قال: "بأيهم اقتديتم اهتديتم"، ولو كان أحدهما مخطئا لم يكن هدى. وأجيب: بأنه هدى لأنه فعل ما يجب عليه من مجتهد أو مقلد). أقول: احتج القائلون بأن كل مجتهد مصيب بوجهين: الأول: لو كان المصيب واحدا والمخطئ يجب عليه العمل بموجب ظنه، فإما أن نوجبه عليه مع بقاء الحكم الذي في نفس الأمر في حقه أو مع زواله، والأول يستلزم ثبوت الحكمين فيستلزم ثبوت النقيضين، والثاني يستلزم أن يكون العمل بالخطأ واجبا وبالصواب حراما. الجواب: أن نختار الثاني وهو زوال الحكم الأول ولا استحالة، بل وقع فيما فيه نص أو إجماع ولم يطلع عليه بعد الاجتهاد، فإنه تجب عليه مخالفته واتباع ظنه مع الاتفاق على أنه خطأ، فهذا مع الاختلاف أجدر. قالوا قال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، ولو كان بعضهم مخطئا في اجتهاده ما كان في متابعته هدى، فإن العمل بغير حكم الله ضلال. الجواب: أن كونه ضلالا من وجه لا يمنع كونه هدى من وجه آخر، وهذا هدى لأنه فعل ما يجب عليه، سواء كان مجتهدا أو مقلدا، فإنه يجب العمل بالاجتهاد على المجتهد ومقلده.

مسألة: تقابل الدليلين العقليين محال

قال: (مسألة: تقابل الدليلين العقليين محال، لاستلزمهما النقيضين. وأما تقابل الأمارات الظنية وتعادلها. فالجمهور: جائز، خلافا لأحمد والكرخي. لنا: لو امتنع لكان لدليل، والأصل عدمه. قالوا: لو تعادلا فإما أن يعمل بهما أو بأحدهما معينا أو مخيرا أو لا؟ . والأول: باطل. والثاني: تحكم. والثالث: حلال/ لزيد حرام لعمرو من مجتهد واحد. والرابع: كذب؛ لأنه يقول: لا حرام ولا حلال، وهو أحدهما. وأجيب: يعمل بهما في أنهما وقفا فيقف، أو بأحدهما مخيرا، أو لا يعمل بهما، ولا تناقض إلا في اعتقاد نفي الأمرين لا في ترك العمل). أقول: لما كانت الأمارة ما يحصل به الظن ولا يرتبط بها مدلولها ارتباطا عقليا بخلاف الدليل، لا جرم اتفق العقلاء على امتناع تقابل الدليلين، وإلا لزم حقية مقتضاهما، فيلزم وقوع المتنافيين، ولا يتصور الترجيح لأنه فرع التفاوت في احتمال النقيض، ولا يتصور في القطعي. واختلفوا في تقابل الأمارات وتعادلها، فجوزه الجمهور، ومنعه أحمد والكرخي، ولا معنى لتقييد الأمارات بالظنية، إذ لا تكون إلا كذلك.

لنا: لو امتنع لكان امتناعه لدليل –إذ القول بغير دليل باطل- والأصل عدم الدليل. قالوا: لو تعادلت أمارتان، فإما أن يعمل بهما أو بأحدهما على التعيين أو على التخيير، أو لا يعمل بواحدة منهما. والأول باطل، للزوم اجتماع التحليل والتحريم. والثاني كذلك، للتحكم. والثالث كذلك، لأنه قد يفتي زيدا بالحل وعمرا بالحرمة، فيكون الفعل الواحد حلالا لزيد حراما لعمرو من مجتهد واحد، وأنه محال. والرابع كذب، لأنه قول بأنه ليس حلالا ولا حراما، مع أنه لا يخرج في الواقع عنهما، فيكون كذبا. الجواب: نختار الأول، فيعمل بهما ولا تناقض، وإنما يلزم لو اقتضى كل عند الاجتماع العمل بمقتضاه عند الانفراد وأنه ممنوع، بل مقتضاهما عند الاجتماع الوقف، فلا تناقض. وثانيا: نختار الثالث، ونمنع استحالة الحل لزيد والحرمة لعمرو من مجتهد واحد، فإنه ليس ضروريا ولم يقم عليه دليل. [قلت: بعين ما قاله أحمد في تعادلهما في نظره أنه مخير، فقد يفتي زيدا بالحل وعمرا بالحرمة، ولا فرق بين تعادلهما في نظره أو في الواقع].

مسألة: لا يستقيم لمجتهد قولان متناقضان

وثالثا: أنا نختار الرابع، وهو أنه لا يعمل بهما كما لو لم يقم دليل، ولا تناقض في عدم العمل بهما ولا كذبه، إنما التناقض في اعتقاد نفي الأمرين لا في ترك العمل بهما. قال: (مسألة: لا يستقيم لمجتهد قولان متناقضان في وقت واحد، بخلاف وقتين أو شخصين على قول التخيير. فإن ترتبا، فالظاهر رجوع، وكذلك المتناظرتان ولم يظهر فرق. وقول في سبع عشرة مسألة: فيها قولان، إما للعلماء، وإما فيهما ما يقتضي للعلماء قولين، لتعادل الدليلين عنده، وإما لي قولان على التخيير عند التعادل، وإما تقدم لي فيها قولان). أقول: لا يجوز أن يكون لمجتهد قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد، لأن دليلهما إن تعادلا توقف/، وإن رجح أحدهما فهو قوله، ويتعين إما في وقتين كما لو أفتى اليوم بشيء وغدا بنقيضه فجائز، لجواز تغير اجتهاده، وكذا في وقت لكن لشخصين كما لو أفتى لزيد بالحل ولعمرو بالحرمة، على القول بالتخيير عند تعادل الأمارات، لا على القول بالوقف. فلو صدر منه القولان في وقتين، فالظاهر أن الآخر رجوع عن الأول أوجبه تغيير اجتهاده، وإن أطلق على الأول أنه قوله، فهو بمعنى أنه كان قوله، فإن جهل الأول لم يجز للمقلد العمل بواحد منهما.

مسألة: لا ينقض الحكم في الاجتهاديات منه ولا من غيره

فلو كان القولان في مسألتين متناظرتين ولم يظهر فرق، كانت فتواه الأخيرة رجوعا عما أفتى به في نظيرتهما. فلو صدر القولان معا عنه، فإن نص على الراجح أو فرع أحدهما، فذلك قوله دون الآخر. وإن لم يجد ما يدل على شيء من ذلك، كقول الشافعي في سبع عشرة مسألة: "فيها قولان"، فلا يحمل على اعتقاده للقولين لتناقضهما، بل يحمل إما على أن فيها قولين للعلماء، وعلى هذا لا تكون من أقواله، وإما على أن فيها ما يقتضي للعلماء قولين لتعادل الدليلين عنده، وإما أن فيها قولين على التخيير عند التعادل، وكأنه قال: تعادلت الأدلة فلي تخيير في القولين، أقول بهذا مرة وبذاك أخرى، وإما تقدم لي فيها قولان، فيحكي قوليه المتقدمين. قال: (مسألة: لا ينقض الحكم في الاجتهادات منه ولا من غيره باتفاق للتسلسل، فتفوت مصلحة نصب الحاكم. وينقض إذا خالف قاطعا، فلو حكم على خلاف اجتهاده كان باطلا. وإن قلد غيره اتفاقا، فلو تزوج امرأة بغير ولي، ثم تغير اجتهاده، فالمختار التحريم. وقيل: إن لم يتصل به حكم. وكذلك المقلد، يتغير اجتهاد مقلده، فلو حكم مقلد بخلاف إمامه جرى على جواز تقليد غيره). أقول: لا يجوز للمجتهد نقض الحكم في المسائل الاجتهادية، لا حكم نفسه إذا تغير اجتهاده، ولا حكم غيره إذا خالف اجتهاده، وعلل بأنه يؤدي

إلى نقض النقض من مجتهد آخر يخالفه ويتسلسل، فتفوت مصلحة نصب الحاكم، وهي فصل الخصومات، ولأنهما اجتهادان فليس صواب هذا بأولى من الآخر حتى ينقض به. وحكى المصنف الاتفاق، وعندنا خلاف مشهور، والعجب منه حكى الخلاف في كتابه في الفقه وذهل عنه هنا. أما ما لو خالف الحاكم قاطعا، نقض حكمه اتفاقا، فلو حكم مجتهد بخلاف اجتهاده كان حكمه باطلا، وإن قلد فيه مجتهدا آخر، لأنه يجب عليه العمل بظنه ويحرم عليه التقليد مع اجتهاده اتفاقا، إنما النزاع قبل اجتهاده. فلو تزوج امرأة بغير ولي عند اعتقاد صحته، ثم تغير/ اجتهاده فرآه حراما، فالمختار تحريمها. وقيل: إنما تحرم إذا لم يتصل به حكم حاكم، وإلا لزم نقض الحكم الاجتهادي للاجتهاد. فإن تعاطاه مقلد ثم علم تغير اجتهاد مقلده، فالمختار أنه كذلك، وذلك كما لو تغير اجتهاد المجتهد في أثناء صلاته بالنسبة إليه وإلى مقلده، فإن حكم مقلده بخلاف مذهب إمامه، فمبني على جواز تقليد غير إمامه، وسيأتي.

مسألة: المجتهد قبل أن يجتهد ممنوع من التقليد

قال: (مسالة: المجتهد قبل أن يجتهد ممنوع من التقليد. وقيل: فيما لا يخصه. وقيل: فيما لا يفوت وقته. وقيل: إلا أن يكون أعلم منه. وقال الشافعي: إلا أن يكون صحابيا أرجح، فإن استووا تخير. وقيل: أو تابعيا. وقيل: غير ممنوع، وبعد الاجتهاد اتفاق. لنا: حكم شرعي فلابد له من دليل والأصل عدمه، بخلاف النفي وأنه يكفي فيه انتفاء دليل الثبوت. وأيضا: متمكن من الأصل، فلا يجوز البدل كغيره. واستدل: لو جاز قبله، لجاز بعده. وأجيب: بأنه بعده حصل الظن الأقوى المجوز، {فاسألوا أهل الذكر}. قلنا: للمقلدين بدليل {إن كنتم}، ولأن المجتهد من أهل الذكر. الصحابة: "أصحابي كالنجوم"، وقد سبق. قالوا: المعتبر الظن وهو حاصل. أجيب: بأن ظن اجتهاده قوى). أقول: المجتهد إذا اجتهد فأداه اجتهاده إلى حكم، لم يجز له الانتقال عنه وتقليد مجتهد غيره اتفاقا.

وأما قبل أن يجتهد، فالمختار أنه ممنوع من التقليد لتمكنه من الاجتهاد، وإليه ذهب مالك والقاضي وأكثر الفقهاء، كان أعلم منه أو لا، صحابيا كان أو غيره، كان الاجتهاد فيما يخصه أم لا، كان فيما يفوت وقته أم لا. وقيل: إنه ممنوع فيما لا يخصه –أي فيما يفتي به- أما ما يختص به فإنه يسوغ له فيه التقليد. وقيل: بشرط فوات وقته لو اشتغل بالنظر والاجتهاد فيه. وقيل: يجوز أن يقلد من هو أعلم منه فقط، وإليه ذهب محمد بن الحسن. وقال الشافعي: الأولى له الاجتهاد مطلقا، فإن ترك الاجتهاد جاز له تقليد مجتهد هو صحابي إذا كان مترجحا في نظره على غيره، فإن استووا عنده تخير، هكذا في المنتهى. والذي هنا: أن الشافعي أجاز له تقليد الصحابي مطلقا.

وقيل: يجوز له تقليد الصحابي والتابعي دون غيرهما. وذهب أحمد إلى جواز التقليد له مطلقا. لنا: أن جواز تقليد لغيره حكم شرعي، فلابد له من دليل والأصل عدمه، فإن قيل: معارض بمثله، قلنا: النفي لا يحتاج إلى دليل زائد على انتفاء دليل الثبوت. وفيه نظر؛ لأن التحريم الشرعي حكم شرعي لابد له من دليل، ولا يكفي فيه انتفاء دليل الثبوت. قيل: وهو مبطل لكثير مما مر في بيان الجواز من قوله: (لو امتنع لكان لذاته أو لغيره)، وقد اعتمد عليه في التي بعد هذه/ وسيأتي جوابه. ولنا أيضا: أن التقليد بدل الاجتهاد، ولا يجوز الأخذ بالبدل مع التمكن من المبدل كالوضوء والتيمم، وكالاجتهاد في القبلة مع القدرة على المعاينة. والخصم يمنع أنه بدل إذ ذاك، بل مخير فيهما عنده. واستدل: لو جاز التقليد قبل الاجتهاد لجاز بعده، أما الملازمة؛ فلأنه لا مانع إلا تمكنه من معرفة الحكم بالاجتهاد، وأنه موجود في الحالين. الجواب: لا نسلم انحصار المانع في كونه مجتهدا، بل إذا اجتهد حصل له ظن الحكم باجتهاده، وظن خلافه بفتوى الغير. والحاصل له بالاجتهاد أقوى الظنين، فيكون العمل به عملا بالأرجح

مسألة: يجوز أن يقال للمجتهد: احكم بما شئت

فيجب، بخلاف ما قبل اجتهاده. احتج المجوز مطلقا: بقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وهو قبل الاجتهاد لم يعلم، الذي اجتهد من أهل الذكر فيجب عليه سؤاله ليعمل به. الجواب: الخطاب مع المقلدين بدليل: {إن كنتم لا تعلمون} وهو صيغة عموم يفهم من سياقه أن من يعلم لا يجب عليه السؤال، وأن السؤال إنما هو لمن لا يقدر على العلم بنفسه، والمجتهد ليس كذلك، ولأن المجتهد من أهل الذكر، والأمر دل على رجوع غير أهل الذكر إلى أهل الذكر، إذ من له الأهلية وهو له أهلية قطعا، وأيضا يقتضي وجوب ذلك عليه ولا قائل به. قالوا: قال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فدل على جواز تقليد الصحابي. الجواب: ما سبق أنه للمقلد. قالوا: المعتبر الظن وهو حاصل بفتوى الغير، فيجب العمل به. الجواب: ما مر أن ظنه الذي يحصل –لو اجتهد- أقوى من الظن الذي يحصل بفتوى الغير، ومع القدرة لا يصار إلى الأضعف. قال: (يجوز أن يقال للمجتهد: احكم بما شئت فإنه صواب. وتردد الشافعي. ثم المختار: لم يقع.

لنا: لو امتنع لكان لغيره، والأصل عدمه. قالوا: يؤدي إلى انتفاع المصالح لجهل العبد. وأجيب: بأن الكلام في الجواز. ولو سلم، لزمت المصالح –وإن جهلها- الوقوع. قالوا: {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه}. وأجيب: بأنه يجوز أن يكون بدليل ظني. قالوا: قال: "لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها"، وقال العباس: إلا الإذخر، فقال: "إلا الإذخر". وأجيب: بأن الإذخر ليس من الخلا، فدليله الاستصحاب، أو منه ولم يرده، وصح استثناؤه بتقدير تكريره لفهم ذلك، أو منه وأريد، ونسخ بتقدير تكريره بوحي سريع. قالوا: قال: "لولا أن أشق"، أحجنا هذا/ ألعامنا أو للأبد؟ فقال: الأبد، ولو قلت نعم لوجبت"، ولما قتل النضر بن الحارث ثم أنشدته ابنته شعرا: ما كان ضربك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق وقال عليه السلام: "لو سمعته ما قتلته". وأجيب: بجواز أن يكون خير فيه معينا، أو يجوز أن يكون بوحي). أقول: هذه المسألة تعرف بمسألة التفويض، وهو أن يفوض الحاكم إلى المجتهد بأن يقال له: احكم بما شئت، فما حكمت به كان صوابا،

واختلفوا في جوازه ووقوعه. ومختار المصنف: جوازه، وأنه لم يقع، وهو قول موسى بن عمران. واحتج في الجواز: بأنه غير ممتنع لذاته، فلو امتنع لكان لغيره والأصل عدمه. قيل: كلامه ان انتفاء دليل الامتناع دليل الجواز، وقد علم من كلامه قبل هذا أن انتفاء دليل الامتناع لا يكفي في الجواز. وجوابه: أن انتفاء دليل الامتناع العقلي يكون كافيا في الجواز العقلي، بخلاف الجواز الشرعي لا يكفي فيه انتفاء الامتناع الشرعي. قالوا: التفويض إلى العبد مع جهله بما في الأحكام من المصالح يؤدي إلى انتفاء المصالح، لجواز أن يختار ما لا مصلحة فيه. الجواب: الكلام في الجواز لا في الوقوع، وغايته أن يؤدي على جواز انتفاء المصالح، لا إلى انتفائها، ونحن نقول به. ولو سلم أن الكلام في الوقوع، فإنما أمر حيث علم أنه لا يختار إلا ما

فيه المصلحة، فتكون المصلحة لازمة لما يختاره، وإن جهل المصلحة. احتج القائلون بالوقوع: بقوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه}، ولا يتصور تحريمه على نفسه إلا بتفويض التحريم إليه، وإلا كان المحرم هو الله. الجواب: لا نسلم أن لا يتصور إلا بالتفويض، بل قد يحرم على نفسه بدليل ظني، ولو سلم فأين وقوعه من غير المعصوم؟ . احتجوا بما في الصحيح من قوله عليه السلام في مكة: "لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، فقال العباس: إلا الإذخر، فقال عليه السلام: إلا الإذخر" فدل على تفويض الحكم إلى رأيه؛ لأنه عمم ابتداء حتى التمس منه العباس فاستثنى، وظاهر أنه لم ينزل الوحي في تلك اللحظة لعدم علامته. الجواب: إما بأن الإذخر ليس من الخلا، فيكون الاستثناء منقطعا، كأنه قال: لكن الإذخر، فدليل اختلاه أو دليل العباس الاستصحاب لا التفويض. وإما بأن الإذخر من الخلا، لكن لم يرد من العموم تخصيصا له، وفهم

العباس أنه لم يرد، فصرح عليه السلام بالمراد تحقيقا لما فهم العباس بانضمام التقرير إليه. وقوله: (وصح استثناؤه بتقدير تكريره) جواب عن سؤال؛ لأنه قدم في تقرير الأدلة أنه المستثنى مراد منه، فكيف يقول: لم يرده؟ . فقال: ليس استثناؤه منه/ بل يقدر تكريره لقوله: "لا يختلى خلاها"، كأنه قال: لا يختلى خلاها إلا الإذخر، وسوغ له ذلك اتحاد معناها، وإما بأنه من الخلا وأريد بالأول ونسخ. فإن قيل: الاستثناء يأبى ثبوت الحكم له، فلا نسخ. قلنا: ليس الاستثناء من الأول، بل بتقدير تكريره فعمم أولا ثم نسخ، فكرر واستثنى وكان النسخ بوحي سريع. وقد يجاب عنه: بجواز نسخه بوحي سابق شرطي، كقوله: إن استثنى أحد فاستثن، أو بوحي سابق بألا يستثني الإذخر إلا عند استثناء العباس، أو بالاجتهاد، أو خير فيه معينا لا على معنى التفويض، فلما ذكره عمه رجع إلى إباحته، لتطيب نفس عمه بإسغافه بما سأل. احتجوا: بقوله عليه السلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"، هو صريح أن الأمر وعدمه إليه عليه السلام. احتجوا أيضا: بما خرجه مسلم، من أن سراقة بن جعشم قال في

حجة الوداع: أحجنا هذا لعامنا أو للأبد؟ فقال عليه السلام: "للأبد". وفي رواية لمسلم، أو رجلا قال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت عليه السلام حتى قالها ثلاثا، فقال عليه السلام: "لو قلت نعم لوجبت"، وهو صريح في أن قوله المجرد من غير وحي موجب. احتجوا أيضا: بما ذكره ابن إسحاق في المغازي، في أن قتيله بنت الحارث لما قتل أخوها، أنشدت أبياتا من جملتها: ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق

مسألة: المختار: أنه عليه السلام لا يقر على خطأ في اجتهاده

فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر قال: "لو سمعته ما قتلته"، ولو قتلته بالوحي لم يقل ذلك، والمصنف ذكر أنها ابنته، وكذا ذكر ابن عبد البر، وظاهر كلام المصنف أنه سمعه منها، وليس كذلك، وإنما قاله عليه السلام حين بلغته الأبيات. الجواب: يجوز أن يكون خير في كل واحد من الأمور الثلاثة معينا، بأن يقال له: لك أن تأمر بالسواك وألا تأمر به، ولك أن تفرض الحج في غير هذه السنة، ولك أن تقتله وألا تقتله، لا على معنى احكم بما شئت، ويجوز أن يكون بوحي، أي اقتل النضر وألا تقتله. قال: (مسألة: المختار أنه عليه السلام لا يقر على خطأ في اجتهاده. وقيل: بنفي الخطأ. لنا: لو امتنع لكان المنع، والأصل عدمه. وأيضا: {لم أذنت}، {ما كان لنبي}، حتى قال: "لو أنزل من السماء عذاب ما نجا من غير عمر"؛ لأنه أشار بقتلهم. وأيضا: "إنكم تختصمون إلي، ولعل أحدكم ألحن بحجته، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"، وقال: "أنا أحكم بالظاهر". وأجيب: بأن الكلام في الأحكام لا في فصل الخصومات. رد: بأنه مستلزم الحكم/ الشرعي المحتمل. قالوا: لو جاز لجاز أمرنا بالخطأ. وأجيب: بثبوته للعوام.

قالوا: الإجماع معصوم، فالرسول أولى. قلنا: اختصاصه بالمرتبة واتباع الإجماع له يرفع الأولوية فيتبع الدليل. قالوا: الشك في حكمه يخل بمقصود البعثة. أجيب: بأن احتمال في الاجتهاد لا يخل بخلاف الرسالة والوحي). أقول: القائلون بأن النبي عليه السلام يجوز له الاجتهاد، اختلفوا في جواز الخطأ عليه، فقيل: لا يجوز عليه. وقيل: يجوز لكن لا يقر عليه، بل ينبه عليه. احتج: بأنه لو امتنع عليه الخطأ لكان لمانع؛ لأنه ممكن لذاته، والأصل عدم المانع. وفيه نظر؛ والمانع علو رتبته، وكمال عقله، وتأييده. واحتج أيضا: بقوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم}، فدل على أن الإذن كان خطأ. والحق: أنه من ترك الأولى، وترك الأولى لا يكون خطأ. احتج أيضا: بمفاداة أسرى بدر في قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى}، حتى قال عليه السلام: "لو نزل من السماء عذاب ما نجا

منه غير عمر"؛ لأنه أشار بقتلهم، وأشار غيره إلى الفداء، فدل على أن المفاداة خطأ. وهذا –أيضا- من ترك الأولى، وقوله: "لو نزل من السماء عذاب ... إلى آخره"، لم يصح. احتج أيضا: بما في الصحيح من قوله عليه السلام: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار".

فدل على أنه يقضي بما لا يكون حقا، وأنه قد يختفي عليه الحق. ويدل عليه أيضا: "أنا أحكم بالظاهر". واعترض على هذا الاحتجاج: بأنه إنما يدل على خطئه في فصل الخصومات، والنزاع إنما هو في الخطأ في الأحكام. ورد: بأن فصل الخصومات مستلزم للحكم الشرعي بأن كذا حرام على فلان حلال لفلان، وأنه يحتمل الصواب والخطأ، فيكون الخطأ في الحكم الشرعي جائزا عليه. والحق: أن الخطأ في الحكم الشرعي لمعين قد اندرج في عموم قد أصيب في حكمه لا يكون خطأ في الاجتهاد. احتج الآخرون: بأنه لو جاز عليه لجاز أمرنا بالخطأ لأنا مأمورن باتباعه. الجواب: منع بطلان اللازم، لثبوته في العوام حيث أمروا باتباع المجتهد وإن كان خطأ في الواقع. قالوا: الإجماع معصوم عن الخطأ، فالرسول أولى أن يحصل له هذا الشرف. الجواب: أن اختصاصه بالرتبة العليا وهي رتبة النبوة التي هي أعلى مراتب المخلوقين، وكون أهل الإجماع متبعين له، يدفع أولويته فلا يلزم من ذلك كونهم أعلى رتبة منه، كرتبة القضاء لا تكون للإمام، ورتبة الإمارة لا

مسألة: المختار: أن النافي مطالب بالدليل

تكون للسلطان، ثم لا يعود ذلك بنقص، / وإذا جاز أن يكون وألا يكون، فالدليل هو المتبع، وقد دل على جواز الخطأ عليه. قالوا: تجويز الخطأ عليه يوجب الشك في قوله أهو صواب أم خطأ؟ وذلك يخل بمقصود البعثة، وهو الوثوق بما يقول إنه حكم الله. الجواب: أن جواز الخطأ في الاجتهاد لا يوجب ذلك، وإنما يخل بالبعثة جواز الخطأ في الرسالة وما ينقله من الوحي، بأن يغير ويبدل، وانتفاؤه معلوم بدلالة تصديق المعجزة له. قال: (مسألة: المختار: أن النافي مطالب بالدليل. وقيل: في العقلي لا الشرعي. لنا: لو لم يكن لكان ضروريا نظريا، وهو محال. وأيضا: الإجماع على ذلك في دعوى الوحدانية والقدم، وهو نفي الشريك، ونفي الحدوث. النافي: لو لزم للزم منكر مدعي النبوة، وصلاة سادسة، ومنكر الدعوى. وأجيب: بأن الدليل يكون استصحابا مع عدم الرافع، وقد يكون انتفاء لازم. ويستدل بالقياس الشرعي بالمانع، وانتفاء الشرط على النفي، بخلاف من لا يخصص العلة). أقول: النافي للحكم عليه أن يقيم الدليل على انتفائه، وهو المختار.

وقيل: عليه ذلك في الحكم العقلي لا الشرعي. لنا: أنه ادعى نفي أمر غير ضروري، فإن لم يحتج إلى أمر يفضي إليه كان ضروريا والمفروض خلافه، فيكون ضروريا نظريا وهو محال. ولنا أيضا: الإجماع على ذلك في دعوى وجدانية الله وهي نفي الشريك، وفي دعوى قدمه وهي نفي الحدوث، فبطل السلب الكلي ويثبت الإيجاب الكلي، إذ لا قائل بالفصل. قيل: قوله هنا: (النافي مطالب بالدليل) يناقض ما تقدم له من أن النفي يكفي فيه انتفاء دليل ثبوته، ولا تناقض لأنه إذا لم ينتهض دليل للثبوت بقى دليل النافي –وهو الاستصحاب- سالما، وقد تقدم أنه حجة، كان بقاء أصليا أو حكما شرعيا، فإن أشار النافي إلى ذلك انتهض على خصمه. احتج النافي: بأنه لو لزم النافي مطلقا إقامة الدليل، للزم منكر دعوى الرسالة أن يقيم الدليل على عدم رسالة مدعيها، وكذلك منكر وجود صلاة سادسة، وكذلك من ادعى عليه فأنكر ما ادعى عليه به، واللوازم بأسرها باطلة. الجواب: أن الدليل قد يكون استصحاب الأصل مع عدم الرافع، وذلك محقق في منكر الدعوى، وقد يكون انتفاء لازم، وذلك متحقق في الصلاة السادسة إذ الاشتهار من لوازمها شرعا، وكذا في دعوى الرسالة إذ المعجزة

التقليد والمفتي والمستفتي

من لوازم دعواها عادة. والحاصل: بطلان اللوازم، وأن الثلاثة مطالبون بالدليل، لكنه/ معلوم عند الجمهور، فلم يحتج إلى التصريح به. وإذا عرفت أن النافي مطالب بالدليل، فالنافي للحكم الشرعي هل يجوز له الاستدلال بالقياس الشرعي؟ . اختلفوا فيه، ومختار المصنف أنه يستدل به إذا كان الجامع وجود المانع أو عدم الشرط، إذ عدم الحكم لا يكون لباعث، وهذا إنما يصح عند من يجوز تخلف الحكم عن العلة لمانع أو عدم شرط، ولا يجعله قادحا في عليتها، وإما من جعله قادحا، فتخلف الحكم عنده إنما هو لتخلف العلة فلا جامع، ولا قياس شرعي بغير جامع. وقد يقال: الجامع عدم علة الحكم، فيكون علة لعدم الحكم، وبعض فضلاء الشارحين حمل النفي في كلام المصنف على النفي الأصلي. وفيه نظر؛ إذ لا يقاس النفي الأصلي على النفي الطارئ. وأيضا: من شروط الفرع ألا يكون متقدما على حكم الأصل. قال: (التقليد، والمفتي، والمستفتي، وما يستفتى فيه. فالتقليد: العمل بقول غيرك من غير حجة، وليس الرجوع إلى الرسول وإلى الإجماع، والعامي إلى المفتي، والقاضي إلى العدول بتقليد لقيام الحجة، ولا مشاحة في التسمية. والمفتي: الفقيه، وقد تقدم. والمستفتي: خلافه.

فإن قلنا بالتجزئ، فواضح. والمستفتى فيه: المسائل الاجتهادية، لا العقلية على الصحيح). أقول: لما فرغ من الاجتهاد، شرع في مقابلة وهو الاستفتاء، والبحث عن التقليد، والمستفتى، وما يستفتى فيه. أما التقليد: فهو العمل بقول غيرك من غير حجة، كأخذ العامي بقول مثله، والمجتهد بقول مثله، فلا يكون الرجوع إلى الرسول تقليدا، لقيام الحجة وهي المعجزة، ولا إلى الإجماع لما مر من الحجية. وقول الشاهد والمفتي: [حجية الرجوع الإجماع]، ولو سمي بعض ذلك تقليدا، كما يسمى في العرف أخذ المقلد العامي بقول المفتي تقليدا، فلا مشاحة في التسمية والاصطلاح. والمفتي: الفقيه، وقد تقدم تعريف الفقيه ضمنا، وتعريف الشيء تعريف لمرادف ذلك الشيء. والمستفتي: خلافه، فإن لم نقل بتجزئ الاجتهاد، فكل من ليس مجتهدا في الكل فهو مستفت في الكل، وإن قلنا به فهو مفت فيما هو مجتهد فيه مستفت في غيره. والمستفتى فيه: المسائل الاجتهادية لا العقلية على الصحيح، لوجوب النظر فيها.

مسألة: لا تقليد في العقليات

قال: (مسألة: لا تقليد في العقليات كوجود الباري. وقال العنبري بجوازه. وقيل: النظر فيه حرام. لنا: الإجماع على وجوب المعرفة، والتقليد لا يحصل لجواز الكذب، ولأنه كان يحصل بحدوث العالم، ولأنه لو حصل لكان نظرا ولا دليل. /قالوا: لو كان واجبا، لكانت الصحابة أولى، ولو كان لنقل كالفروع. أجيب: بأنه كذلك، وإلا لزم نسبتهم إلى الجهل بالله، وهو باطل. وإنما لم ينقل لوضوحه، وعدم المحوج إلى الإكثار. قالوا: لو كان لألزم الصحابة العوام بذلك. قلنا: نعم، وليس المراد تحرير الأولية والجواب عن الشبه، والدليل يحصل بأدنى نظر. قالوا: وجوب النظر دور عقلي، وقد تقدم. قالوا: مظنة الوقوع في الشبه والضلالة. قلنا: فيحرم على المقلد ويتسلسل). أقول: لا يصح التقليد في العقليات. قال الإمام في الشامل: "لم يقل أحد بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة".

وقال الأستاذ: "من اعتقد ما يجب عليه من دينه بغير دليل، لا يستحق اسم الإيمان". وقال قوم: الواجب على المكلف التقليد وأما النظر فحرام، وحكاه ابن العربي في الأحوذي عن الأئمة الأربعة، ولا يصح عنهم، إلا أن يريدوا التعمق فيه واستيفاء مذهب المخالفين وحججهم. على أن الطرطوشي قال: "يجوز تعلم مذهب المخالفين ليرد عليهم"، واحتج بقوله تعالى: {نبؤني بعلم إن كنتم صادقين}. لنا: أن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله، ولا تحصل المعرفة بالتقليد لوجوه ثلاثة: الأول: أنه يجوز أن يكون كذب في إخباره، فلا يحصل العلم بخبره. وأيضا: لو أفاده تقليده العلم، لحصل لمقلد الفيلسوف العلم بقدم العالم ولمقلد المسلم العلم بحدوثه، فكانا عالمين بهما، فيلزم حقيقتهما، فيكون حادثا قديما.

وثالثا: أن التقليد لو حصل العلم فالعلم بأنه صادق فيما أخبر به إما أن يكون ضروريا أو نظريا، لا سبيل إلى الأول بالضرورة فتعين الثاني، وحينئذ لابد له من دليل –والفرض ألا دليل- إذ لو علم صدقه بالدليل لم يبق تقليدا. القائلون بجواز التقليد قالوا: لو وجب النظر لكان الصحابة أولى بالمحافظة على ذلك، ولو كان لنقل نظرهم في ذلك كما نقل نظرهم في الاجتهادات، فلما لم ينقل علم أنه لم يقع. الجواب: منع بطلان التالي، وإلا لزم نسبتهم إلى الجهل بالله وأنه باطل وإنما لم ينقل لوضوحه عندهم، وعدم من يحوجهم إلى إكثار النظر من كثرة الشبه التي حدثت، بخلاف الاجتهاديات فإنها خفية تتعارض فيها الأمارات فاحتاجت إلى إكثار النظر. قالوا: لو كان النظر واجبا لألزم الصحابة العوام بذلك، لكنا نعلم أن أكثر الأعراب ما كانوا يعلمون/ الأدلة الكلامية، بل كانوا يحكمون بإسلام من نطق بالشهادتين وإن لم يعلم شيئا. الجواب: أنهم ألزموهم ذلك، وليس المراد تحرير الدليل بالعبارات المصطلحية ودفع الشكوك الواردة، والمطلوب منهم الدليل الجملي بحيث يوجب طمأنينة القلب، وكانوا يعلمون منهم ذلك، كقول الأعرابي: "البعرة تدل على البعير، والأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل عل اللطيف الخبير؟ ". قالوا أيضا: لو وجب النظر، لزم الدور. أما الملازمة؛ فلتوقف إيجاب الله المعرفة على النظر المتوقف على إيجابه.

مسألة: غير المجتهد يلزمه التقليد

وجوابه: لا نسلم توقف النظر على إيجابه لجواز أن ينظر –وإن لم يجب- وقد تقدم مثله في مسألة الحسن والقبح. قالوا: النظر مظنة الوقوع في الشبه والضلال، لاختلاف الأذهان والأنظار فيحرم، ولا كذلك التقليد، فإنه طريق آمن، فيجب احتياطا. الجواب: أن ما ذكرتم يوجب أن يحرم النظر على المقلد أيضا؛ لأنه مظنتهما، فتقليده فيما يحتملها أجدر بأن يحرم، فإن نظر فممتنع، وإن قلد فيه والكلام عائد في مقلده، ويلزم التسلسل. قال: (مسألة: غير المجتهد يلزمه التقليد، وإن كان عالما. وقيل: بشرط أن يتبين له صحة اجتهاده بدليله. لنا: {فاسألوا}، وهو عام فيمن لا يعلم. وأيضا: لم يزل المستفتون يتبعون من غير إبداء المستند لهم من غير نكير. قالوا: يؤدي إلى وجوب اتباع الخطأ. قلنا: وكذلك لو أبدى له مستنده، وكذلك المفتي نفسه). أقول: من لم يبلغ درجة الاجتهاد يلزمه التقليد، سواء كان عاميا صرفا أو عالما ببعض علوم الاجتهاد، وقيل: إنما يلزم العالم التقليد بشرط أن يتبين له صحة اجتهاد المجتهد بدليله. لنا: قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}،

مسألة: الاتفاق على استفتاء من عرف بالعلم والعدالة

وهو عام في جميع من لا يعلم، للعلم بأن علة السؤال الجهل، والأمر المقيد بعلة يتكرر بتكررها، وهذا غير عالم بهذه المسألة فيجب عليه فيها السؤال. ولنا أيضا: لم تزل العلماء يستفتون فيفتون، ويتبعون من غير أن يبدوا للسائل المستند، وشاع وذاع ولم ينكر، فكان إجماعا على وجوب التقليد على غير المجتهد، وإن كان عالما، وإن لم يتبين له صحة اجتهاد مقلده، وإلا كانوا مخطئين في عدم إبداء المستند للسائلين. ويصح ضبط "المستفتون" بضم التاء وفتحها. والاحتجاج بإجماع المسؤولين لا بإجماع السائلين على الاتباع؛ إذ ليس بحجة لأنهم عوام، أو غير مجتهدين. قالوا: القول بذلك يؤدي إلى وجوب اتباع الخطأ لجوازه من المجتهد. الجواب: /أنه مشترك الإلزام، لجواز الخطأ وإن أبدى له المستند، وكذلك المفتي نفسه يجب عليه اتباع اجتهاده مع أنه يجوز أن يكون خطأ. والحق: أن اتباع الظن في الاجتهاديات واجب وإن كان خطأ؛ لأنه اتباع للظن، وإنما الممتنع اتباع الخطأ لأنه خطأ. قال: (مسألة: الاتفاق على استفتاء من عرف بالعلم والعدالة، أو رآه منتصبا والناس مستفتون معظمون، وعلى امتناعه في ضده. والمختار: امتناعه في المجهول. لنا: أن الأصل عدم العلم. وأيضا: الأكثر الجهال. والظاهر: أنه من الغالب، كالشاهد والراوي.

مسألة: إذا تكررت الواقعة لم يلزم تكرار النظر

قالوا: لو امتنع لذلك، لامتنع فيمن علم علمه دون عدالته. قلنا: يمتنع. ولو سلم، فالفرق أن الغالب في المجتهدين العدالة بخلاف الاجتهاد). أقول: المفتي إن ظن المستفتي علمه وعدالته إما بالخبرة، أو بأن رآه منتصبا للفتوى والناس متفقون وتعظيمه، فالاتفاق على جواز استفتائه، وإن ظن عدم علمه، أو عدم عدالته أو كليهما، فلا يستفته. وأما مجهول العلم، فالمختار امتناع استفتائه. وإن كان معلوم العلم مجهول العدالة، فالمختار جواز استفتائه. لنا في الأول: أن العلم شرط في الاستفتاء، والأصل عدمه. وأيضا: الغالب الجهال فيلحق بالغالب، كالشاهد والراوي إذا لم تعلم عدالتهما يلحقان بالغالب، وهم غير العدول. قالوا: لو امتنع فيمن جهل علمه دون عدالته، لامتنع فيمن علم علمه دون عدالته. وأجيب: بالتزامه وبالفرق، فإن الغالب في المجتهدين العدالة، وليس الغالب في العلماء الاجتهاد. قال: (مسألة: إذا تكررت الواقعة لم يلزم تكرر النظر. وقيل: يلزم. لنا: اجتهد، والأصل عدم غيره.

مسألة: يجوز خلو الزمان عن مجتهد

قالوا: يحتمل أن يتغير اجتهاده. قلنا: فيجب تكريره أبدا). أقول: المجتهد إذا اجتهد في واقعة ثم تكررت، فهل يلزمه تكرير النظر والاجتهاد؟ . قيل: يلزمه لاحتمال تغير اجتهاده باطلاعه على ما لم يكن اطلع عليه. وألزمهم المصنف وجوب تكرير النظر أبدا؛ لأن تغير اجتهاده محتمل في كل وقت، ولا يتقيد بتكرير الواقعة، وأنه باطل. وفيه نظر؛ إذ لا يجب في غير وقت الحادثة. احتج المصنف: بأنه اجتهد وحصل ما يحتاج إليه فيها، والأصل عدم شيء آخر، وفرع ابن القصار عليه فقال: "إذا تكررت الواقعة، احتمل أن يعتمد المستفتي على ما أفتاه به المفتي أولا لأنه حق، واحتمل أن يعيد الاستفتاء لاحتمال تغير الاجتهاد". /قال: (مسألة: يجوز خلو الزمان عن مجتهد، خلافا للحنابلة. لنا: لو امتنع لكان لغيره والأصل عدمه، وقال عليه السلام: "إن الله

لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". قالوا: قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله، وحتى يظهر الدجال". قال: فأين نفي الجواز؟ . فلو سلم: فدليلينا أظهر، ولو سلم فيتعارضان، وسلم الأول. قالوا: فرض كفاية فيستلزم انتفاؤه اتفاق المسلمين على الباطل. قلنا: إذا فرض موت العلماء لم يكن). أقول: المختار أنه يجوز خلو الزمان عن مجتهد، ومنعه الحنابلة. لنا: أنه غير ممتنع لذاته، إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال، فلو امتنع لكان لغيره، والأصل عدمه. وأيضا: في الصحيح أنه عليه السلام قال: "إن الله لا ينزع العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" وهو ظاهر في الوقوع المستلزم للجواز.

مسألة: إفتاء من ليس بمجتهد بمذهب مجتهد

قالوا: صح عنه عليه السلام أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله، وحتى يظهر الدجال"، وهو ظاهر في عدم الخلو عن مجتهد إلى قيام الساعة، أو إتيان أشراطها. الجواب: أنه يدل على عدم الوقوع، لا على عدم الجواز. ولم سلم: فدليلنا أظهر؛ لأنه نفى العالم المستلزم نفي المجتهد، وأما الظهور على الحق، فإنما يدل على اعتقاد الحق، أو أنهم على كلمة الإسلام يجاهدون في سبيل الله، ولا يدل على الاجتهاد. سلمنا، ويتعارض الحديثان، ويسلم الدليل العقلي. قالوا: الاجتهاد فرض كفاية، فيكون انتفاؤه بخلو الزمان عن مجتهد اتفاقا من المسلمين على ترك واجب، ولا يجتمعون عليه. الجواب: أنه فرض كفاية مع القدرة عليه، فإذا فرض موت العلماء لم يمكن الاجتهاد، إذ شرطه ممكنا مقدورا، وقد انتفى ذلك. أو نقول: إذا فرض موت العلماء، لم يكن إجماعهم على الخطأ مستحيلا إذ المستحيل إجماع المجتهدين على الخطأ، لا اجتماع العوام عليه. قال: (مسألة: إفتاء من ليس بمجتهد بمذهب مجتهد، إن كان مطلعا على المآخذ أهلا للنظر، جائز. وقيل: عند عدم المجتهد.

وقيل: يجوز مطلقا. وقيل: لا يجوز. لنا: وقوع ذلك، وأنكر من غيره. المجوز: ناقل كالأحاديث. وأجيب: بأن الخلاف في غير النقل. المانع: لو جاز، لجاز للعامي. وأجيب: /بالدليل، وبالفرق). أقول: إفتاء غير المجتهد بمذهب مجتهد ينبني على تقليد الميت، وحكى الطرطوشي عن المالكية جوازه. أما مع حضوره فلا يجوز إلا على معنى النقل عنه. وحكى المصنف أربعة أقوال: الجواز مطلقا، كان مطلعا على المأخذ أم لا. ومنع أبو الحسين مطلقا. وقيل: يجوز إذا كان مطلعا على مأخذ ذلك الإمام، أهلا للنظر، وإلا

مسألة: للمقلد أن يقلد المفضول

فلا. وقيل: يجوز عند عدم المجتهد، أما مع وجوده فلا. لنا: وقع إفتاء العلماء -وإن كانوا غير مجتهدين- في جميع الأعصار، وتكرر ولم ينكر، فكان إجماعا. وفي هذا التمسك نظر؛ إذ في زمان المجتهدين نمنع إنكار إفتاء من ليس بمجتهد، إلا أن يكون على معنى النقل، وفي زمان عدم وجودهم لا يكون إجماعهم حجة، أو تحمل فتواهم على النقل. القائلون بالجواز قالوا: ناقل، فلا يفرق بين العالم وغيره، كناقل الأحاديث. الجواب: ليس الكلام فيمن نقل لأنه متفق عليه، وإنما الخلاف فيما هو المعتاد في العصر، وهو أن يقول: كذا مذهب مالك، كذا مذهب الشافعي. القائلون بالمنع قالوا: لو جاز، لجاز للعامي لأنهما سواء في النقل. الجواب: الإجماع هو الدليل، وقد جوز للعالم دون العامي. وبالفرق: بأن المطلع على المآخذ يبعد غلطه، بخلاف العامي. قال: (مسألة: للمقلد أن يقلد المفضول. وعن أحمد، وابن سريج: الأرجح متعين. لنا: القطع بأنهم كانوا يفتون، مع الاشتهار والتكرر ولم ينكر. وأيضا: قال: "أصحابي كالنجوم".

واستدل: بأن العامي لا يمكنه الترجيح لقصوره. وأجيب: بأنه يظهر بالتسامع ورجوع العلماء إليه، وغير ذلك. قالوا: أقوالهم كالأدلة، فيجب الترجيح. قلنا: لا يقاوم ما ذكرنا. ولو سلم، فلعسر ترجيح العوام. قالوا: الظن بقول الأعلم أقوى. قلنا: تقرير ما قدمتموه). أقول: اختلفوا في تقليد المفضول مع وجود الأفضل، فجوزه الأكثر. وقال أحمد، وابن سريج، والغزالي: يتعين عليه تقليد الأرجح. ونحوه لابن القصار منا، قال: "يجب على العامي الاجتهاد في أعيان المجتهدين". لنا: القطع أن المفضولين في زمان الصحابة وغيرهم كانوا يفتون، وقد اشتهر ذلك منهم ولم ينكر، فدل على أنه جائز. وأيضا: قال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم

مسألة: ولا يرجع عنه بعد تقليده اتفاقا

اهتديتم"، خرج العوام لأنهم المقتدون، بقي معمولا به في المجتهدين منهم من غير تفضيل. واستدل: بأن العامي لو كلفناه الترجيح لكان تكليفا بالمحال، لقصوره عن معرفة مراتبهم، وترجيح الراجح منهم. الجواب: /أن معرفة ذلك غير مستحيل، بل يظهر له ذلك بالتسامع، وبرجوع العلماء إليه، عدم رجوعه إليهم. قالوا: أقوال المجتهدين بالنسبة إليه كالأدلة بالنسبة إلى المجتهدين، فإذا تعارضت تعين الأرجح. الجواب: أنه قياس ولا يقاوم ما ذكرنا من الإجماع. ولو سلم، فترجيح المجتهد سهل، وترجيح العوام للمجتهدين -وإن أمكن- فهو عسر. قالوا: الظن بقول الأعم أقوى، ويجب مغرفة أقوى الظنين للعمل به عند التعارض. الجواب: أن هذا تقرير للدليل الأول في المعنى وإن تخالفا في العبارة، لأن إفادته للظن وكونه كالدليل للمجتهد أمر واحد، فالجواب الجواب. قال: (مسألة: ولا يرجع عنه بعد تقليده اتفاقا. وفي حكم آخر، المختار جوازه. فلو ألزم مذهبا معينا كمالك والشافعي، فثالثها المختار كالأول). أقول: العامي إذا اتبع بعض المجتهدين في حكم حادثة وعمل بقوله فيها

فليس له الرجوع عن تقليده في ذلك الحكم إلى تقليد غيره اتفاقا. أما لو أراد أن يقلد غيره في واقعة أخرى، فالمختار جوازه، وهذا الاتفاق لا ينافي ما تقدم عن ابن القصار، ولا ما تقدم فيما إذا تغير اجتهاد المجتهد. لنا: القطع بوقوعه في زمن الصحابة وغيرهم، أنهم كانوا يفتون ولا يسألون العوام هل استفتوا غيرهم في غير تلك الواقعة أم لا، وشاع ولم ينكر فكان إجماعا. فلو التزم العامي مذهبا معينا كمذهب مالك والشافعي وقال: إنه على مذهبه وملتزم له، ثم أراد الأخذ بقول غيره في مسألة ما، قيل: له ذلك، نظرا إلى أنه التزم ما لا يلزمه. وقال به بعض المتأخرين من المغاربة بشرط ألا يتبع الرخص، وأن يعتقد فضل من انتقل إلى مذهبه، وألا يجمع بينهما على صفة تخالف الإجماع، كما لو نكح بغير ولي ولا مهر ولا شهود، قال: والمذاهب كلها سبل إلى الجنة.

الترجيح

وقيل: بالمنع مطلقا، لالتزامه إياه. والمختار: التفصيل، وأن كل مسألة اتصل عمله بها ليس له تقليد الغير فيها، بخلاف ما لم يتصل به عمله، ولا يناقض القول الأول الاتفاق السابق، لأنه إنما رجع عن المجموع قبل العمل بالمجموع قبل العمل بما هو مجموع. قال: (الترجيح: وهو اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها، فيجب تقديمها لقطع عنهم بذلك. وأورد: شهادة أربعة مع اثنين. وأجيب: بالتزامه، وبالفرق. ولا تعارض في قطعيين، ولا في قطعي وظني، لانتفاء الظن). أقول: الترجيح لغة: جعل الشيء راجحا. وعرفه اصطلاحا: بأنه اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها. ولا يعارض بالترجيح في المحدود لما سيأتي، ولما كان لا تعارض بين قطعيين، ولا بين قطعي وظني، تعين أن يكون بين أمارتين، ولا تقدم إحداهما على الأخرى إلا إذا اقترن بأحد الأمارتين ما تقوى به على معارضها، وهذا الاقتران الذي هو سبب الترجيح/ هو الترجيح اصطلاحا، وإذا حصل الترجيح وجب العمل بأقوى المارتين، للقطع عن الصحابة وغيرهم بذلك، وأنهم كانوا يقدمون الأقوى، وشاع ولم ينكر. واعترض: بشهادة أربعة مع اثنين إذا تعارضتا، فإن الظن الناشيء من

مسألة: والترجيح في الظنيين

شهادة الأربعة أقوى من الظن الناشئ من شهادة اثنين، مع أنه لا تقدم الأربعة. الجواب: بالتزام تقديم الأربعة، وبالفرق بين الشهادة والدليل، إذ ليس كلما يرجح به الدليل ترجح به الشهادة، على ما سيأتي. قال: (والترجيح في الظنين، منقولين أو معقولين، أو معقول ومنقول، في السند والمتن، والمدلول، وفي خارج. الأول: بكثرة الرواة لقوة الظن، خلافا للكرخي، وبزيادة الثقة والفطنة والورع والعلم والضبط والنحو، وبأنه أشهر بأحدهما، وباعتماده على حفظه لا على نسخه، وعلى ذكر لا خط، وبموافقته عمله، وبأنه عرف أنه لا يرسل إلا عن عدل في المرسلين، وبأن يكون المباشر كرواية أبي رافع: "نكح ميمونة وهو حلال، وكان السفير بينهما"، على رواية ابن عباس: "نكح ميمونة وهو حرام"، وبأن يكون حاجب القصة، كرواية ميمونة: "تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان"، وبأن يكون مشافها كرواية القاسم عن عائشة: "أن بريرة عتقت وكان زوجها عبدا" على من روى أنه كان حرا، لأنها عمة القاسم. وأن يكون أقرب عند سماعه كرواية ابن عمر: أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت تحت ناقته حين لبى. وبكونه من أكابر الصحابة لقربه غالبا، أو متقدم الإسلام، أو مشهور النسب، أو غير متلبس بضعف، وتحملها بالغا، وبكثرة المزكين وأعدليتهم وأوثقيتهم، وبالصريح على الحكم، والحكم على العمل).

أقول: لما كان التعارض إنما يقع بين الظنين، فالترجيح إما بين منقولين كخبرين أو ظاهر في الكتاب أو مختلفين، وإما بين معقولين كقياسين، وإما بين معقولين ومنقول. والأول: في ترجيح يقع في المنقولين، وهو يقع في السند وهو طريق ثبوته، وفي المتن وهو باعتبار مرتبة دلالته، وفي الحكم المدلول من الحرمة والإباحة، وفيما ينضم إليه من خارج. الأول: في الترجيح بحسب السند: ويقع في الراوي، وفي الرواية، وفي المروي، وفي المروي عنه. الأول في الراوي: ويكون في نفسه، وفي تزكيته بما في نفسه: فيرجح ما رواه الأكثر عددا؛ لأن الأكثر عددا أبعد عن الخطأ، خلاقا للكرخي، فإنه لا يرجح بها كما في الشهادة، والفرق سبق. ويرجح بكون أحد الراويين اتصف/ بوصف يغلب على الظن صدقه كالثقة، والفطنة، والورع، والعلم، والضبط، والنحو. ويرجح بكون أحدهما أشهر بهذه الصفات –وإن لم يعلم رجحانه فيها- فإن كونه أشهر يكون في الغالب لرجحانه. ويرجح من كان اعتماده في الحديث على حفظه على المعتمد على

نسخته، ويرجح بتذكره سماعه من الشيخ على من اعتمد على خط نفسه، فإن الاشتباه في النسخة والحظ محتمل، بخلاف الحفظ والتذكر. وترجح رواية من علم أنه عمل برواية نفسه على من لم يعلم، أو لم يعلم عمله بها؛ لأنه أبعد عن الكذب لا سيما إن خالفت رواية الآخر عمله. ويرجح أيضا –إن كانا مرسلين- من علم أنه لا يرسل إلا عن عدل. ويرجح أيضا بكون أحدهما مباشر لما رواه دون الآخر، كرواية أبي رافع: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحك ميمونة وهو حلال"، فإنه يرجح على رواية ابن عباس: "أنه نكحها وهو حرام"؛ لأن أبا رافع كان السفير بينهما –ذكره الترمذي- فيكون أعرف. ويرجح بكون الراوي يشافه من روى عنه على من لا يشافهه، كرواية القاسم بن محمد عن عائشة: أن بريرة عتقت وكان زوجها عبدا، على

رواية: وكان حرا، وإن رجحت الأخرى لكونها مما خرجه البخاري وهذه مما خرجه أبو داود والترمذي، ووجه الترجيح: أن عائشة عمته، وقد سمع منها مشافهة، ورواية الأسود عنها من وراء حجاب. ويرجح بكونه أقرب عند السماع إلى المروي عنه، كما تقدم رواية ابن عمر: "أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت تحت ناقته حين لبى"، على رواية من روى أنه قرن، وعلى هذا يرجح ما رواه أكابر الصحابة على ما رواه صغارهم لأنهم أقرب إلى الرسول غالبا.

مسألة: وبالمتواتر على المسند، والمسند على المرسل

ويرجح رواية متقدم الإسلام، وكذا رواية مشهور النسب، وكذا رواية من لم يتلبس بمضعف في الرواية. ويرجح من تحمل بالغا على من تحمل صبيا، لخروجه عن الخلاف. وأما ترجيح الراوي بحسب تزكيته: فمنها: ما يعود إلى المزكي، وهو أن يكون المزكون لأحدهما أكثر من المزكين للآخر، أو أعدل، أو أوثق. ومنها: ما يعود إلى كيفية التزكية، فتقدم التزكية بصريح المقال على التزكية بالحكم بشهادته، وتقدم التزكية بالحكم بشهادته على التزكية بالعمل بروايته لأنه يحتاط في الشهادة أكثر. قال: (وبالمتواتر على المسند، والمسند على المرسل، ومرسل التابعي على غيره، وبالأعلى إسنادا، والمسند على كتاب معروف، وعلى الشهور، والكتاب على المشهور، وبمثل البخاري ومسلم على غيره، والمسند باتفاق على مختلف/ فيه، وبقراءة الشيخ، وبكونه غير مختلف، وبالسماع على محتمل، وبسكوته مع الحضور على الغيبة، وبورود صيغة فيه على ما فهم، وبما لا تعم البلوى على الآخر في الآحاد، وبما لم يثبت إنكار لروايته على الآخر). أقول: أما الترجيح بالرواية: فمنها: أن يكون أحدهما ثبت التواتر، والآخر بخبر مسند. وفيه نظر؛ لأنه قدم أنه لا تعارض بين قطعي وظني، وما نقل تواترا قطعي، والمسند ظني. ومنها: أن يثبت أحدهما بالمسند والآخر بالرسل، فيقدم المسند.

وقيل: متساويان. وقيل: يقدم المرسل. ومنها: أن يكون أحد المرسلين مرسل تابعي والآخر مرسل غير تابعي، فيقدم مرسل التابعي؛ لأنهم غالبا إنما يروون عن الصحابة وهم عدول كلهم، بخلاف غيرهم. ومنها: أن يكون أحدهما أعلى إسنادا؛ لأن ما كانت الوسائط فيه أكثر كان الظن به أضعف. ويقدم ما كان معنعنا إلى النبي عليه السلام على ما كان معنعنا إلى كتاب معروف. ويقدم أيضا على ما ثبت بطريق الشهرة غير مسند إلى كتاب. ويقدم المسند إلى كتاب معروف على المشهور الذي لم يسند. ويقدم المسند إلى كتاب مشهور بالصحة كالبخاري ومسلم على المسند إلى ما لم يلحق تلك الدرجة مما فيه الصحيح وغيره، كسنن أبي داود.

ويقدم ما اتفق على أنه مسند على ما اختلف في أنه مسند أو مرسل. ويقدم ما كانت الرواية فيه بقراءة الشيخ على الراوي، على ما كان بقراءة الراوي على الشيخ، أو بقراءة غيره على الشيخ. ويقدم الحديث إذا كان غير مختلفة رواياته، على المختلف المضطرب روايته، ويحتمل أن يكون أراد يقدم ما لم يختلف في رفعه على ما اختلف في رفعه ووقفه. وأما الترجيح بحسب المروي: فمنها: أن يكون روى سماعه من الرسول والآخر محتمل السماع، فيقدم ما قيل فيه: سمعت على ما قيل فيه: قال عليه السلام. ويقدم ما جرى بحضوره وسكت عنه على ما جرى في غيبته عليه السلام وسمع به وسكت عنه. ويقدم ما ورد فيه صيغة من النبي على ما فهم الراوي عن النبي فعبر بعبارة نفسه، كقوله: "سها فسجد"، أو أنه يقدم ما قال فيه: "قال" على قوله: "أمرنا، أو نهينا"، ويختص بأخبار الآحاد أن يكون أحدهما مما لا تعم البلوى والآخر مما تعم به البلوى، فيقدم الأول للخلاف في قبول الآحاد فيما تعم به البلوى. وفي تحقيق التعارض بين هذين نظر. وأما الترجيح بحسب المروي عنه: فيقدم ما لم يثبت/ إنكار لرواته على ما ثبت إنكار لرواته، ويشمل وجهين: ما ل يقع لرواته إنكار له، وما لم يقع للناس إنكار له.

مسألة: المتن: النهي على الأمر، والأمر على الإباحة

والأول هو المتعلق بالمروي عنه. وقيل: ما لم يكذب الأصل الفرع، أو أنكره إنكار نسيان. ويقدم ما أنكره الأصل على الفرع إنكار نسيان، على ما أنكره عليه إنكار جحود. قال: (المتن: النهي على الأمر، والأمر على الإباحة على الصحيح. والإباحة على النهي، والأقل احتمالا على الأكثر. والحقيقة على المجاز، والمجاز على المجاز بشهرة مصححة، أو قوته، أو قرب جهته، أو رجحان دليله، أو بشهرة استعماله. والمجاز على المشترك على الصحيح كما تقدم، والأشهر مطلقا، واللغوي المستعمل شرعا على الشرعي، بخلاف المنفرد الشرعي، وبتأكيد الدلالة. ويرجح في الاقتضاء بضرورة الصدق على ضرورة وقوعه شرعا. وفي الإيماء بانتفاء العبث أو الحشو على غيره، وبمفهوم الموافقة على المخالفة على الصحيح. والاقتضاء على الإشارة وعلى الإيماء وعلى المفهوم، وتخصيص العام على تأويل الخاص لكثرته، والخاص ولو وجه، والعام لم يخصص على ما خص، والتقييد كالتخصيص. والعام الشرطي على النكرة المنفية وغيرها، والمجموع باللام ومن وما على الجنس باللام. والإجماع على النص، والإجماع على ما بعده في الظني).

أقول: أما الترجيح بحسب المتن: فيرجح ما مدلوله نهي على ما مدلوله أمر؛ لأن غالب النهي لدفع المفاسد وغالب الأمر لجلب المصالح، واهتمام الشارع بدرء المفاسد أشد، ولأن النهي يقتضي الدوام، ولقلة محامله بخلاف الأمر. ويقدم ما مدلوله أمر على ما مدلوله إباحة للاحتياط، وقيل: بالعكس لاتحاد مدلولهما، بخلاف مدلول الأمر، ولأنه لا يختل به مقصود الفعل والترك إن أراد المكلف، والأمر يختل به مقصود الترك، ولأن المبيح يمكن العمل به على تقدير المساواة والرجحان فقط. ويقدم ما هو للإباحة وينهى بمثله على ما هو للإباحة خالصا ولا ينهى بمثله. وقيل: مراده ترجيح النهي على الإباحة، وهو معلوم من ترجيحه النهي على الأمر والأمر على الإباحة، فلا يبقى لقوله: (بمثله) معنى. وحمله بعضهم على أن المراد (بمثل) الدليل على تقديم الأمر على الإباحة، وهو بعيد، لأن الدليل غير مذكور في الكتاب. وفي بعض النسخ: والإباحة على النهي، وفيه بعد؛ لأن النهي مقدم على الأمر المقدم على الإباحة. وقال بعض فضلاء الشارحين: اختلفت جهة الترجيح، فليس فيه تقدم

الشيء على نفسه، وفيه نظر. ويرجح الأقل/ احتمالا على ما كثرت محتملاته، كمشترك بين معنيين ومشترك بين ثلاثة، ومنه تقديم الخبر على الأمر والنهي. وتقدم الحقيقة على المجاز، لتوقف الحمل على القرينة في المجاز بخلاف الحقيقة. ويقدم مجاز اشتهر مصححه –أي علاقته- فيقدم مجاز المشابهة على غيره. ويرجح ما كان مصححه أقوى، ككون أحدهما من باب إطلاق اسم الكل على الجزء، والآخر بالعكس. ويرجح مجاز جهة قربه إلى الحقيقة أقرب من الآخر، كحمل النفي الداخل على الذات على نفي الصحة على حمله على نفي الكمال. ومنه تقديم ما كان بإطلاق اسم السبب على ما كان بالعكس؛ لأن السبب مستلزم لمسببه دون العكس، فجهة الأول أقرب إلى الحقيقة.

ويرجح المجاز برجحان دليله، من كونه بنص الواضع أو بصحة النفي على مجاز عرف بعدم الاطراد. وقيل: المراد (برجحان دليله) أن القرينة الصارفة في أحدهما قاطعة والأخرى غير قاطعة. وقيل: معناه أن يكون الدليل على أن الحقيقة غير مرادة في أحدهما أرجح من الدليل الدال على أن الحقيقة غير مرادة في الآخر، أو بحيث لم يحمل عليه لزم مخالفة دليل أقوى بخلاف الآخر. ويرجح مجاز اشتهر في الاستعمال على غيره لعدم افتقاره إلى العلاقة، أو لقلة افتقاره إليها، مثلا: "من تغوط عليه الوضوء"، "من تبرز لا وضوء عليه"، يقدم الأول لشهرته. ويقدم المجاز على المشترك، وقيل: بالعكس، وقد علمت ما فيه أول الكتاب، ولم أطلع على هذا الخلاف. ويرجح الأشهر مطلقا في اللغة أو في الشرع أو في العرف على غيره، كانا حقيقتين، أو حقيقة مرجوحة ومجازا راجحا. ويقدم اللغوي المستعمل شرعا في معناه اللغوي على اللفظ الشرعي، وهو ما نقله الشارع عن معناه اللغوي إلى غيره، لعدم التغيير والنقل فسلم من الخلاف، بخلاف المنفرد الشرعي، وهو ما له معنى لغوي استعمل فيه واستعمل في الشرع لمعنى آخر، فإن حمله على الشرعي أظهر. ويقدم ما أكدت دلالته على الآخر كقوله: "فنكاحها باطل باطل".

ويقدم ما تعددت جهات دلالته، بأن يكون دالا على المقصود من وجهين أو ثلاثة والآخر من وجه واحد، وكذلك لو دل أحدهما من ثلاثة أوجه لقدم على ما دل من وجهين. ويقدم الدال بالمطابقة على الدال التزاما. وإذا تعارض نصان يدلان بالاقتضاء وأحدهما لضرورة الصدق والآخر لضرورة وقوعه شرعا، قدم الأول، لأن ما يتوقف عليه صدق المتكلم أولى، لاستحالة الخلف على الشارع، بخلاف المخالفة في المشروع. وإذا تعارض إيماءان أحدهما لانتفاء العبث أو لانتفاء الحشو والآخر لغيره من ترتب حكم/ على وصف، قدم الأول؛ لكون انتفاء العبث والحشو أظهر من دلالة الفاء أو ترتيب الحكم على مجرد الوصف. وإذا تعارض ما دل بمفهومه الموافقة وما دل بمفهومه المخالفة، قدم ما دل بمفهومه الموافقة على الصحيح؛ لأنه أقوى، ولأنه متفق عليه عند الأكثر. وقيل: بالعكس؛ لأن مفهوم المخالفة للتأسيس ومفهوم الموافقة للتأكيد وبأن مفهوم الموافقة لا يتم إلا بفهم المعنى في الأصل وأنه موجود في المسكوت وأنه فيه أقوى، بخلاف مفهوم المخالفة فإن مقدماته أقل، فكان أولى. ويقدم ما دل بالاقتضاء على ما دل بالإشارة، وعلى ما يدل بالإيماء،

وعلى ما يدل بالمفهوم مطلقا لأن نفي الصحة أبعد من انتفاء قصد هذه الأمور. ويقدم تخصيص العام على تأويل الخاص لكثرته، وكذا الخاص يقدم على العام لقوة دلالته على ما تضمنه، ولا كذلك العام لاحتمال خروج ذلك الفرد، ولذلك يقدم الخاص من وجه [العام]، والعام من وجه على العام من كل وجه. ويقدم العام الذي لم يخصص على الذي خص؛ لتطرق الضعف إليه بالخلاف فيه. وتقييد المطلق كتخصيص العام، فيقدم المقيد –ولو من وجه- على المطلق، والمطلق لم يخرج منه مقيد على ما أخرج منه، ومنه تعلم تقديم المطلق على العام. وإذا تعارضت صيغ العموم، فصيغة الشرط الصريح تقدم على صيغة النكرة الواقعة في طريق النفي، وعلى الجمع المحلي والمضاف؛ لأن دلالتها أقوى لإفادتها التعليل. ثم الجمع المحلى، والاسم الموصول على اسم الجنس المعرف باللام، لكثرة استعماله في العهد، فتصير دلالته على العموم أضعف. قال: ويرجح الإجماع على النص؛ لأن النسخ مأمون فيه بخلاف النص. فإن أراد الإجماع الظني، ففي تقديمه على النص نظر؛ إذ هو مختلف في حجيته، ولا كذلك النص.

مسألة: المدلول: الحظر على الإباحة

وإن أراد القطعي لم يحسن؛ لأنه قال: (ولا تعارض بين قطعي وظني) ثم قال: (والترجيح في الظنيين)، فهو إنما يتحدث في الظنيين، منقولين أو معقولين أو مختلفين. وإذا تعارض إجماعان قدم السابق، كإجماع الصحابة على إجماع التابعين ثم كذلك؛ لأنهم أعلى رتبة وأقرب إلى الرسول. وقوله: (في الظني) أي في الإجماع الظني، إذ لا يتصور ذلك في القطعي، لاستحالة تقابل القطعيين، ولا حاجة إلى ذكره لأنه إنما يتحدث في الظنيين. قال: (المدلول: الحظر على الإباحة. وقيل: بالعكس. وعلى الندب لأن درء المفاسد أهم، وعلى الكراهة. والوجوب على الندب. والمثبت على النافي كخبر بلال: "دخل البيت وصلى"، وقال أسامة: "دخل ولم يصل". والدارئ على الموجب. والموجب للطلاق والعتق لموافقة النفي وقد يعكس لموافقة/ التأسيس. والتكليفي على الوضعي بالثواب وقد يعكس. والأخف على الأثقل وقد يعكس). أقول: أما الترجيح بحسب المدلول: فيقدم الحظر على الإباحة للاحتياط، وقيل: بالعكس لئلا تفوت مصلحة إرادة المكلف.

وقيل: هما سواء. ويقدم ما مدلوله حظر على ما مدلوله ندب؛ لأن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح. ويقدم الحظر على الكراهية لأن أحوط، والوجوب على الندب لذلك. ويقدم المثبت على النافي، كخبر بلال: "دخل البيت وصلى"، على خبر أسامة: "دخل ولم يصل"، وهما في سلم، وقدم لأنه يثبت زائدا، أو لأنه للتأسيس، ولأن غفلة الإنسان عن الفعل كثير. وقيل: بالعكس لموافقة البراءة الأصلية، [وهذا الترجيح بالخارج. ويقدم الدارئ للحد على الموجب له، لما فيه من السير ونفي الحرج

الذي قد علم تشوف الشارع إليه، ولموافقته البراءة الأصلية]، وهذا أيضا ترجيح بالخارج. وقيل: بالعكس، لموافقته التأسيس. ويقدم الموجب للطلاق والعتق على ما يوجب عدمهما، إذ الأصل عدم الزوجية والرقية، وهذا مختار الكعبي. وذهب الأكثرون إلى تقديم نافي الطلاق والعتق؛ لأنه وفق الدليل المؤسس المقتضي لصحة النكاح المرجح على النافي لصحته. وبعض الشراح جعل (والموجب للطلاق) مجرورا لا مرفوعا، فيكون المصنف مختارا لقول الأكثرين. ويقدم الحكم التكليفي على ما هو من خطاب الوضع كالصحة؛ لأن التكليفي محصل الثواب. وقيل: بالعكس؛ لأنه لا يتوقف على فهم المخاطب وتمكنه.

مسألة: الخارج: يرجح الموافق لدليل آخر

ويقدم ما اقتضى الخف على ما اقتضى الأثقل، لليسر ونفي الحرج. وقيل: بالعكس إذ المصلحة فيه أكثر، ولتأخره غالبا لتأخر التشديديات. قال: (الخارج: يرجح الموافق لدليل آخر، أو لأهل المدينة، أو للخفاء، أو للأعلام. ويرجحان أحد دليلي التأولين، وبالتعرض للعلة، والعام على سبب خاص في السبب، والعام عليه في غيره، والخطاب شفاها مع العام كذلك، والعام لم يعمل به في صورة على غيره. وقيل: بالعكس، والعام فإنه أمس بالمقصود، مثل: {وأن يجمعوا بين الأختين} على: {أو ما ملكت أيمانكم}. وبتفسير الراوي بفعله أو بقوله، أو بذكر سبب تأخره، كتأخر الإسلام، أو تاريخ مضيق، أو تشديدات). أقول: أما الترجيحات بالخارج: فيرجح الموافق لدليل آخر على ما لا يؤيده دليل آخر. ويرجع الموافق/ لعمل أهل المدينة على ما لم يعملوا بمقتضاه، لمعرفتهم بالتأويل وشهودهم التنزيل. ويقدم الموافق لعمل الأئمة الأربعة على غيره لذلك. ويقدم موافق عمل الأعلم على غيره. وإذا تعارض مؤولان ودليل تأويل أحدهما راجح، قدم على الآخر.

ويقدم الحكم الذي ذكر بعلته على ما لم تذكر معه علته؛ لأنه أفضى إلى تحصيل المقصود من الانقياد، ولدلالته على الحكم من وجهين، وقد يعكس بأن المشقة في قبوله أشد فهو أكثر ثوابا. وإذا تعارض عامان أحدهما على سبب والآخر لا على سبب، قدم في صورة السبب العام الوارد عليه لقوة دلالته فيه، وفي غير صورة السبب يقدم الآخر للخلاف في تناوله لغير صورة السبب. وإذا ورد عام هو خطاب مشافهة لبعض ما تناوله وعام ليس كذلك، فهما كعامين أحدهما على سبب والآخر لا على سبب، فيقدم الشفاهي في المشافهين، ويقدم الآخر في غيرهم. وإذا تعارض عامان لم يعمل بأحدهما في صورة من الصور، وعمل بأحدهما –ولو في صورة- قدم ما لم يعمل به، حتى يصيرا قد عمل بهما، وإلا لألغي أحدهما. وقيل: بالعكس؛ لأن ذلك شاهد له بالاعتبار. وإذا تعارض عامان أحدهما أمس بالمقصود، قدم على الآخر، مثل قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين}، يقدم في تحريم الجمع بينهما بملك اليمين على قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم}، فإن الأولى أمس بمسألة الجمع.

مسألة: المعقولان قياسان، أو استدلالان

وإذا تعارض خبران وفسر الراوي لأحدهما ما رواه بقول أو فعل، ولم يفسر الآخر ما رواه، قدم المفسر لأنه أعرف، فيكون الظن به أوثق. ويقدم ما ذكر فيه سبب وورد النص على غيره، لدلالته على زيادة اهتمامه. ويقدم ما اقترن به قرينة تدل على تأخره على خلافه، كتأخر إسلام رواية؛ لأن الظاهر أن روايته بعد إسلامه، وتحتمل رواية الآخر أن تكون قبل الإسلام هذا أو بعده احتمالا على السواء. ومثل كونه مؤرخا بتاريخ مضيق والآخر بتاريخ موسع، نحو: ذي القعدة من سنة كذا، ويقول الآخر: سنة كذا؛ لاحتمال كون الآخر قبل ذي القعدة، ومثل أن يكون في شديد؛ لأن التشديدات متأخرة لأنها إنما كانت بعد تمكن الإسلام. قال: (المعقولان: قياسان، أو استدلالان). فالأول: أصله، وفرعه، وخارج الأول بالقطع، وبقوة دليله، وبكونه لم ينسخ باتفاق، وبأنه على سنن القياس، وبدليل خاص على تعليله). أقول: لما فرغ من الترجيح في الظنين المنقولين، شرع/ في الترجيح في الظنين المعقولين، وهما قياسان، أو استدلالان، أو قياس واستدلال.

مسألة: وبالقطع بالعلة، أو بالظن الأغلب

وترك المصنف الكلام على الأخيرين، والترجيح بين القياسين يكون بما يعود إلى الأصل، وإلى الفرع، وإلى المدلول، وإلى الخارج. والذي يعود إلى الأصل منه يعود إلى حكمه، ومنه ما يعود إلى علته. والذي يعود إلى حكمه أمور: فيقدم ما حكم أصله قطعي على ما حكم أصله ظني؛ لأن ما أحد مقدماته قطعي أغلب الظن، وإذا كان حكم الأصل ظنيا فيهما قدم ما دليل حكم أصله أقوى من الآخر على حسب الترجيح المذكور في الظنين المنقولين. ويقدم ما حكم أصله غير منسوخ باتفاق على ما اختلف في نسخ حكم أصله، لبعد الأول عن الخلل. ويقدم ما كان على سنن القياس باتفاق على ما اختلف فيه، أهو على سنن القياس أو لا. هكذا قال بعض الشراح، وهو أولى من حمله على ظاهره كما حمله أكثرهم؛ لأنه فاسد إذا كان على غير سنن القياس فلا تعارض فلا ترجيح. ويفدم ما قام دليل خاص على تعليله على غيره، فإنه أبعد عن القصور والخلاف. قال: (وبالقطع بالعلة، أو بالظن الأغلب، أو بأن مسلكها قطعي، أو أغلب ظنا، والسبر على المناسبة لتضمنه انتفاء المعارض. ويرجح بطريقة نفي الفارق في القياس. والوصف الحقيقي على غيره، والثبوتي على العدمي، والباعثة على الأمارة، المنضبطة على الظاهرة،

والمتحدة على خلافها، والأكثر تعديا على الأقل، والمطردة على المنقوضة، والمنعكسة على خلافها، والمطردة فقط على المنعكسة فقط، ولكونه جامعا للحكمة مانعا لها على خلافه، والمناسبة على الشبه. والضروريات الخمس على غيرها، والحاجية على التحسينية، والتكميلية من الخمس على الجاجية، وبالدينية على الأربع. وقيل: بالعكس. ثم مصلحة النفس، ثم النسب، ثم العقل، ثم المال. والقوة موجب النقض مع مانع، أو فوات شرط على الضعف والاحتمال، وبانتفاء المزاحم لها في الأصل، ويرجحانها على مزاحمها، والمقتضية للنفي على الثبوت. وقيل: بالعكس. وبقوة المناسبة، والعامة في المكلفين على الخاصة). أقول: أما الترجيح بحسب العلة فمن وجوه: فيقدم حكم كانت العلة مقطوعا بوجودها فيه على ما كان وجودها فيه ظنيا. ويقدم ما كان ظن وجود العلية فيه أغلب على الظن من غيره. ويقدم/ ما كان مسلكها، أي الدال على علتها قطعي على ما كان حكم أصله مسلك علته ظني.

ويقدم ما كان مسلك علته أغلب ظنا من الآخر. ويقدم قياس السبر على قياس المناسبة؛ لأن قياس السبر يتضمن نفي المعارض لتعرضه لعدم علية غير المذكور، بخلاف المناسبة. وإذا كان طريق ثبوت العلة في القياسين نفي الفارق، رجح أحدهما على الآخر بحسب طرق نفي الفارق. فيقدم القاطع على الظني، والأغلب ظنا على غيره، ويقدم ما العلة فيه وصف حقيقي على ما العلة فيه وصف اعتباري، أو حكم شرعي، أو حكمة مجردة، للاتفاق عليه والخلاف في مقابله. ويقدم ما العلة فيه وصف ثبوتي في حكم عدمي على ما العلة فيه أمر عدمي. ويقدم ما العلة فيه باعثة على ما كانت فيه مجرد أمارة، ويعنى إذا كانتا منصوصتين، وإلا فشرط المستنبطة كونها باعثة. وتقدم العلة المنضبطة على المضطربة، والظاهرة على الخفية، والمتحدة على ذات أوصاف، للخلاف في مقابلاتها، ويعني إذا كان لكل واحدة وصف يضبطها، وإلا لم يعلل بها. ويقدم الوصف الذي يتعدى إلى فروع أكثر على ما يتعدى إلى فروع أقل لكثرة الفائدة. وتقدم المطردة على المنقوضة، وتقدم المنعكسة على غيرها. وتقدم المطردة غير المنعكسة على المنعكسة غير المطردة. وتقدم إحداهما إذا كانت جامعة للحكمة مانعة لها –أي كلما وجدت

وجدت الحكمة وكلما انتفت انتفت الحكمة –على ما لا يكون كذلك. وتقدم على المناسبة على الشبهية؛ لأن الظن الحاصل بها أقوى. وإذا تعارضت علل المناسبة، قدم الخمسة الضرورية على الحاجي وما بعده. وتقدم الحاجية على التحسينية. وتقدم التكميلية للضروريات الخمس على الحاجية. وإذا تعارض بعض الخمسة، قدم الدينية لأنها المقصود الأعظم، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. وقيل: بالعكس لحق الآدمي وهو يتضرر، والله متعال عن ذلك، ولذلك قدم قتل القصاص على قتل الردة، ومن ثم رجحت مصلحة النفس على مصلحة الدين في التخفيف عن المسافر بالقصر وترك الصوم، وكذا مصلحة المال في ترك الجمعة والجماعة. وأما الأربعة الأخر، فتقدم مصلحة النفس إذ به تحصل العبادات، ثم النسب لأنه لبقاء النفس، ثم العقل لفوات النفس بفواته، ثم المال. وإذا انتقضت العلتان وكان موجب التخلف في إحداهما في صورة النقض قويا وفي الأخرى ضعيفا أو محتملا، قدم الأول. وترجح العلة/ إذا انتفى المزاحم لها في الأصل، بألا تكون معارضة والأخرى معارضة.

مسألة: الفرع يقدم بالمشاركة في عين الحكم

وترجح إحدى العلتين المزاحمتين إذا كانت إحداهما راجحة على مزاحمها بخلاف الأخرى. وتقدم العلة المقتضية للنفي على العلة المقتضية للثبوت لثبوت حكمها، راجحة على المفسدة أو مساوية، بخلاف المثبتة إذ لا يثبت حكمها إلا راجحة، ولتأيدها بالنفي الأصلي. وقيل: بالعكس، لإفادتها حكما شرعيا. ويترجح أيضا بقوة المناسبة، وذلك إذا كان أحد القياسين أفضى إلى المقصود. ويقدم القياس الذي علته عامة لجميع المكلفين –أي متضمنة لمقصود يعمهم- على غيرها لقوة فائدتها. قال: (الفرع يقدم بالمشاركة في عين الحكم وعين العلة على الثلاثة، وعين أحدهما على الجنسين، وعين العلة الخاصة على عكسه. وبالقطع بها فيه، فتكون الفرع بالنص في الجملة لا التفصيل). أقول: أما الترجيح بحسب الفرع فمن وجوه: فيقدم ما المشاركة فيه عين الحكم وعين العلة على الثلاثة، وهي ما المشاركة فيه في جنس الحكم وجنس العلة، أو عين الحكم وجنس العلة، أو جنس الحكم وعين العلة؛ لأن الاشتراك في المعنى الأخص يغلب الظن

مسألة: المنقول والمعقول يرجح الخاص

بالمساواة بينهما. ويقدم ما المشاركة فيه في عين أحدهما وجنس الآخر على ما كانت المشاركة فيه في الجنسين معا. ويقدم ما المشاركة فيه في عين العلة وجنس الحكم على ما المشاركة فيه في عين الحكم وجنس العلة؛ لأن العلة هي العمدة في التعدية، فكلما كان التشابه فيها أكثر كان أقوى. ويقدم بالقطع بوجود العلة في الفرع في أحدهما على ظن وجودها في الآخر؛ لأن يكون أغلب على الظن وأبعد عن الاحتمال. ويرجح ما يكون حكم الفرع في أحد القياسين ثابتا بالنص جملة لا تفصيلا على ما لا يكون كذلك، بل يحاول فيه الحكم ابتداء للاتفاق عليه، والخلاف في مقابله. ولم يتكلم على الترجيح بالمدلول، ولا بالخارج، ولا على الاستدلالين، ولا على قياس واستدلال. قال: (المنقول والمعقول: يرجح الخاص بمنطوقه. والخاص لا لمنطوقه درجات. والترجيح فيه حسب ما يقع للناظر. والعام مع القياس تقدم). أقول: أما الترجيح بين الظنيين أحدهما منقول والآخر معقول، فهو ستة أقسام: القياس مع الكتاب والسنة والإجماع، والاستدلال كذلك.

مسألة: وأما الحدود السمعية فترجح بالألفاظ

والمنقول إما خاص/ وإما عام، والخاص إما دال بمنطوقه أو لا بمنطوقه، والخاص الدال بمنطوقه يقدم على المعقول قياسا واستدلالا، وهذا موافق لمذهب الأكثرين، ومخالف لمختاره في معارضة القياس لخبر الواحد. والخاص الدال لا بمنطوقه له درجات مختلفة في القوة والضعف، والترجيح له أو عليه حسب ما يقع للناظر، إذ لا ينحصر ولا ينضبط بحيث تمكن الإشارة إليه، وإنما هو موكل إلى نظر المجتهد، فما قوي فيه الظن حتى رجح على المنقول قدمه عليه، وإلا قدم المنقول. وأما العام مع القياس، فقد تقدم حكمه في آخر مسألة من العام والخاص. قال: (وأما الحدود السمعية: فتترجح بالألفاظ الصريحة على غيرها وبكون المعرف أعرف، وبالذاتي على العرضي، وبعمومه على الآخر لفائدته. وقيل: بالعكس للاتفاق عليه، وبموافقة النقل الشرعي أو اللغوي، أو بقربه، وبرجحان طرق اكتسابه، وبعمل المدينة، أو الخلفاء الأربعة، أو العلماء ولو واحدا، وبتقدير حكم النفي، وبدرء الحد. ويتركب من الترجيحات في المركبات والحدود أمور لا تنحصر، وفيما ذكرنا إرشاد ذلك).

أقول: لما فرغ من التراجيح في الأمارات، شرع في التراجح في الحدود. قيل: وهو يخالف قوله في تعريف الترجيح: (اقتران الأمارة ... إلى آخره)، إلا أن يريد بالأمارة ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى الظن بمطلوب. قلت: الظاهر أنه [قسيم] للترجيح في الأمارات، فلا يتناوله ذلك التعريف، غذ الراجح والمرجوح المراد بهما هنا الدلالة على شيء واحد، بخلاف الأمارتين، فإن مدلوليهما في الترجيح متناقضان. والحدود منها عقلية كتعريفات الماهيات، ومنها سمعيات كتعريفات الأحكام، وهذا هو الذي يعني به صاحب هذا الفن، فمنها ما يرجح إلى نفس الحدود، ومنها ما يرجع إلى أمر خارج، ومنها ما يرجع إليهما. الأول: يرجح الذي بألفاظ صريحة على ما هو باستعارة، أو فيه مجاز مشهور، أو غير مشهور إلا أن معه قرينة. ويرجح –أيضا- إذا كان المعرف في أحدهما أعرف منه في الآخر، فالحسي والعقلي مقدمان على العرفي والشرعي، لشدة المعرفة بالحسي ثم بالعقلي، وإذا كان أحدهما بالذاتبات والآخر بالعرضيات، قدم ما كان بالذاتيات.

وإذا كان أحد الحدين أعم من الآخر، رجح الأعم لتناول ذاك وغيره فتكثر الفائدة، وقيل: بل يقدم الأخص للاتفاق/ على ما يتناوله، لتناول الحدين له، وما مدلوله متفق عليه أولى مما مدلوله مختلف فيه. ولا يعترض بعدم الاطراد ولا بعدم الانعكاس؛ لأن ذلك شرط في تعريفات الماهيات لا في الحدود السمعية. وأما الترجيح بأمر خارج فمن وجوه: فيرجح بموافقة أحد الحدين للنقل السمعي أو اللغوي والآخر يخالف نقلهما، فإن الأصل عدم النقل، ويقدم أيضا إذا كان أقرب إلى المعنى المنقول عنه شرعا أو لغة. ويرجح أحد الحدين إذا كان طريق اكتسابه أرجح من طريق اكتساب الآخر، أي دليل إثبات أحدهما أرجح من دليل إثبات الآخر؛ لأنهما سمعيان وطرق النقل قابلة للشدة والضعف. ويرجح الحد بعمل أهل المدينة على وقفه، أو بعمل الخلفاء الأربعة، أو بعمل العلماء ولو لواحدا منهم. ويرجح الحد بكونه مقررا لحكم الحظر والآخر لحكم الإباحة. ويقدم مقرر حكم النفي على غيره، وفيه نظر مع ما تقدم. ويقدم مقرر درء الحد على غيره كما تقدم. وإذا اعتبرت الترجيحات في الدلائل من جهة ما يقع في المركبات من نفس الدلائل ومقدماتها، وفي الحدود السمعية من جهة ما يقع في نفس الحدود وفي نفس مفرداتها ثم ركبت بعضها مع بعض حصل من ذلك

ترجيحات تفوت الحصر، وفيما ذكر المصنف إرشاد لذلك. وقد شرحنا منه مبلغ فهمنا، والمقصود من الناظر فيه إصلاح ما سقط من القلم، وتنقيح ما زلت به القدم إذ لم تتفق مراجعته وتصحيحه، ممتثلا قول الله تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراما}. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وكان الفراغ من تعليقه عاشر جمادى الأخرى، سنة ست وستين وسبعمائة، وقد نسخته من تعليق "عبد الله" بخطه رحمه الله، وقال في آخره: وكان الفراغ وتعليقه عاشر جمادى الآخرة سنة ست وستين وسبعمائة. كمل شرح ابن الحاجب للإمام العالم العلم الثبت المحقق، فاتح أقفال المشكلات، وكاشف نقاب المعضلات، محيي الدين أبي زكريا يحيى ابن الشيخ الصالح أبي عمران موسى بن عمر الرهوني -رحمه الله ونفعه ونفع به وجازاه خيرا وأسكنه فسيح جنته- على يد عبيد الله الفقير إلى رحمته ومغفرته، محمد بن ميمون لواصلي، لطف الله به وبوالديه، وغفر له ولوالديه، ولمن قال آمين، كتبه لنفسه ثم لمن شاء الله بعده، جعله الله من أهل العلم والعمل، مخلصا لوجهه. وكان الفراغ منه يوم الأحد لهلال شوال -عرفنا الله خيره وبركته- من عام أحد وأربعين وثمانمائة، وغفر الله للكاتب والقارئ والداعي لهما بخير. آمين آمين آمين. وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.

§1/1