تحرير علوم الحديث

عبد الله الجديع

مقدمة الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وأشْهد أن لا إله إلاَّ الله وحْده لا شريك له وليُّ الصَّالحين، وأشْهد أنَّ محمَّداً عبْده ورسوله النَّبيُّ الصَّادقُ الأمينُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحْبه وسلَّم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدّين. أما بعد. . فإنَّ العلم بهذا الدّين يَقوم على معرفة كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وقد تكفَّل اللهُ تبارك وتعالى للنّاس بحفظ ما تقوم عليهم به الحجَّةُ وتلْزمهُم الشَّرائع، كما قال: {إنّا نحن نزَّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون} [الحجر: 9]، فسخَّر لهُ من عِِباده من كانوا أسباباً في حفظه وبَقائه. وهذا الحفظ حقيقةٌ مُشاهدةٌ في حفظ الكتاب العزيز. ولمّا نصّ الله عزَّ وجلَّ فيه على أنَّ معرفته لتقوم الحجُّة على العباد موقوفةٌ على بيان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتُبيّن للنَّاس ما نزّل إليهم} [النّحل: 44]. ولأجله فرض الله طاعته صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة، لزم أن يكون حفظ بيانه ممَّا يندرج ضِمناً تحْت حفظه تعالى للذِّكر. ومعرفة ما جاء به الرَّسول صلى الله عليه وسلم ممَّا هو بيانُ القرآن، لا طريق إليها إلاّ بمعرفة المنقول عنه، وبالضَّرورة علمنا أنَّ ذلك المنقول لم يَصلنا كَما وصلنا القرآنُ، وإنَّما هيَ الرِّوايةُ الَّتي يغْلب عليها نقْل الفَرْد، أو الأفراد

القليلين عن أمثالهم، وما عاد إلى مثل ذلك، جاز عليه ما يجوز أن يقع من غير معْصوم، كالخطأ والوَهْم، بل والكذب. لذا كان العمَل على تمييز الصَّحيح من السَّقيم فرْضاً على الأمّة، أن توجد من بينها من يُحقِّق لها الكفاية فيه، حيثُ لا سَبيل إلى معرفة بيان الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلا بذلك. ولا شكَّ أنّ السُّنَّة أساسٌ يقوم عليه نظر الفَقيه ويبْني عليه اجتهاده، كالقرآن العظيم، فإن لم بتيَّن له ما يصحُّ أنّه سنَّة مما لا يصحُّ، فعلى أي أساس سيقيم بنيانه؟ من أجل ذلك أدرك الأولون أنَّ تمييز الصحيح من السقيم ضرورة للفقيه، ومقدمة لابد منها، فحرروا وحققوا، واجتهدوا في نخل المنقول، ولم يزل يناظر بعضهم بعضاً ويرد بعضهم على بعض في شأن صحة نقل الدليل، ولم ينظروا إلى هذه المقدمة إلا كجزء من المقدمات الضرورية للاستدلال. قال الإمام علي بن المديني: التَّفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الحديث نصف العلم "، أراد بمعرفة الحديث: تمييز صحيحه من سقيمه. وعد معرفة ما يثبت من الحديث ممّا لا يثبت شرطاً في المجتهد والمفتي، ممّا لا ينبغي أن يُرتاب فيه، فإنّه إن لم يفهم ذلك صار ولا بدّ إلى أن يبني ويفرع على ما لا يثبت به دين من الرّوايات. قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي: " لا يجوز أن يكون الرجل إماماً، حتىّ يعلم ما يصح ممّا لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعْلم مخارج العلم ".

وهذا يبيّنه الحافظ أبو حاتم بنُ حبّان بقوله: " من لم يحفظ سُنن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يحسن تمييز صحيحها من سقيمها، ولا عرف الثّقات من المحدثين، ولا الضعفاء والمتروكين، ومن يجب قبول أفراد خبره ممن لا يجب قبول زيادة الألفاظ في روايته، ولم يُحسن معاني الأخبار، والجمع بين تضادّها في الظواهر، ولا عرف المفسّر من المجمل، ولا المختصر من المفصّل، ولا النّاسخ من المنسوخ، ولا اللّفظ الخاصّ الذي يراد به العامّ، ولا اللّفظ العامّ الّذي يراد به الخاصّ، ولا الأمر الّذي هو فريضة وإيجاب، ولا الأمر الّذي هو فضيلةٌ وإرشاد، ولا النّهي الّذي هو حتْمٌ لا يجوز ارتكابه، من النّهي الذي هو ندب ٌ يباح استعماله، مع سائر فصول السّنن وأنواع أسباب الأخبار: كيف يستحلّ أن يفتي، أو كيف يسوِّغُ لنفسه تحريم الحلال، أو تحليل الحرام، تقليداً منه لمن يخطئ ويُصيب؟ ". قلت: وفي هذا منع لطائفتين من النّاس أن تتكلّم في الحلال والحرام ابتداءً: الأولى: من لهُم بالحديث عناية وتخصّص، في تمييز صحيحه من سقيمه، الموجب للمعرفة برواته من تمييز المقبول والمردود، لكن ليس لهم حظٌ من علوم أصول الفقه، ولا مراس لفروعه، فهؤلاء لا يقدر أحدهم أن يستنبط ويجتهد؛ لفقْده آلةَ النَّظر في الأحكام. فلتتّق الله طائفة تسلّقت جدار الفقه، حيث لم تأته من بابه، ولا أعطيت الإذْن من بوّابه، فحظُّ مثل هؤلاء فقء العين حتّى لا تنظر إلى ما لا يباح، وفي أهل زماننا من هؤلاء خلق، عافى الله العلم منهم. والثانية: من لهم اشتغال بالفقه، ومعرفةٌ بطرقه وأصوله، وفهم لدلالات النّصوص ومعانيها، ولكنّهم لا يميّزون بين رواية مقبولة ومردودة،

فترى أحدهم يبني الأحكام على ضعيف الأخبار، بل على ما لا أصل له وباطل من الرّوايات؛ لأنّه لا يدري الصّحيح من السّقيم، فهذا حين يفرض على النّاس شيئاً أو يحرّم عليهم، وكان قد بنى على رواية لا تصحُّ، فقد نسب إلى الدّين ما ليس منه، وأورد الحرج على المكلّفين فيما أتاهم به من حُكم بناه على غير أساس، فكم يحمل على كاهله من حرج؟! بل مثل هذا لا يُدرى ممن علمِه في التّحقيق ما بُني على دليل صحيح وما بُني على غيره، وهو نفسه لا يعرف ذلك. قال علي بن الحسن بن شقيق المرْوزيّ (وكان ثقة): سمعت عبد الله (يعني ابن المبارك) يقول: " إذا ابْتليتَ بالقضاء، فعليك بالأثر "، قال عليّ: فذكرته لأبي حمزة محمد بن ميمون السّكريّ، فقال: " هل تدري ما الأثر؟ أن أحدّثك بالشّيء فتعمل به، فيقال لك يوم القيامة: من أمرك بهذا؟ فتقول: أبو حمْزة، فيُجاء بي، فيقال: إنّ هذا يزعم أنّك أمرته بكذا وكذا، فإن قلت: نعم، خلّي عنك، ويقال لي: من أين قلت هذا؟ فأقول: قال لي الأعمش، فيُسأل الأعمش، فإذا قال: نعم، خلّي عنّي، ويقال للأعمش: من أين قلت؟ فيقول: قال لي إبراهيم، فيُسأل إبراهيم، فإن قال: نعم، خلّي عن الأعمش، وأخذ إبراهيم، فيقال له: من أين قلت؟ فيقول: قال لي علقمة، فيُسأل علقمة، فإذا قال: نعم، خلّي عن إبراهيم، ويقال له: من أين قلت: فيقول: قال لي عبد الله بن مسعود، فيُسأل عبد الله، فإن قال: نعم، خلّي عن علقمة، ويقال لابن مسعود: من أين قلت؟ قال: فيقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قال: نعم، خلّي عن ابن مسعود، فيُقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: قال لي جبريل، حتى ينتهي إلى الرّبّ تبارك وتعالى، فهذا الأثر، فالأمر جدٌ غير هزل؛ إذْ كان يشفي على جنّة أو نار، ليس بينهما هناك

منزلٌ، وليعْلم أحدكم أنّه مسؤولٌ عن دينه وعن أخذه حلّه وحرامه ". نعم، لا حرج أن تستعين الطَّائفتين ببعضهما، فـ"ربَّ حامل فقه غير فقيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه "، لكن أن يستقلَّ كلٌّ بنفسه فيأخذ بالنَّصيبيْن وهو لا يفهم اختصاص الآخر، فهذا من الجِناية على العلم. والكامل من وفقه الله ليضْرب بنصيب هؤلاء وأولئك، وهو الواجب فيمن يكون للنَّاس إماماً. وعلوم الحديث علوم آلة تستعمل للكشف عن السُّنن الصَّحيحة المرويَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نقْل كثير اختلط فيه الغثُّ بالسَّمين، وألَّف فيه من المؤلفات ما يعْسُرُ عدُّه. وهذه العلوم بدأت في أول أمرها علوماً تطبيقيّة غير مؤصّلة تأصيلاً نظرياً من أجل تقريبها وفهْمها، وتيسير استعمالها، بل دفعت ضرورة تمييز السُّنن الصّحيحة من غير أئمة الأمة في الصدر الأول إلى الاجتهاد بما هدتْ إليه العقول من أجل التحقق من صحة النقل، حتى نما ذلك مع نموِّ الأسانيد وكثرتها، إذ كلَّما بعُد الزمان عن زمن التّلقيّ وهو عهد النُّبوة، فإن الأسانيد تطول، وطولها موجبٌ الزِّيادة في التحري، فصار هذا العلم إلى التَّقنين؛ تلبيةً لما أوْجبته الحاجةُ، على ما سيأتي بيانه في موضعه. وجرى النّاس من بعْدُ على صياغة قواعد هذه العلوم كما صنعوا في التأصيل لسائر علوم الآلات، كالعربيّة، وأصول الفقه، واستمرّ عند المحقّقين في هذا العلم التَّحرير والتَّقريب والتَّيسير، إلى زماننا، وأكثر العناية فيه كانت في مُصطلحاته، حتى غلب على هذه العلوم تسمية (مصطلح الحديث).

طريقة المتقدمين، وطريقة المتأخرين في علوم الحديث

وصار لها في الزَّمن المتأخر عند المعْتني بها، ما صارَ لسائر علوم الآلة، كأصول الفقه، أن تدرس كعلوم نظريّة، لا تستعمل في الواقع، إلى أن تجرَّأ طائفة من الطّلبة في هذا الزَّمان فصاروا إلى استعمال تلك المصطلحات للحُكم على الأسانيد المرويَّة، اكتفوا بمصطلحات ظاهرة قصدت عند صياغتها أن يحفظها الصِّبيان في الكُتَّاب، حسِب هؤلاء أنَّ هذا هو منتهى الطَّلب لهذا العلم، إلاَّ نفراً يسيراً أدركوا وعورة الطريق، فسلكوه متأنِّين حذرين، مجتهدين في اتّباع علامته. وقد رأيت تلك العلامات تحتاج إلى ترميم، ومنها ما يحتاج إلى إعادة بناء، فكما قصدت إلى تقريب (أصول الفقه) الّتي هي علامات المرور في طريق الفقه، فكتبت " تيسير علم أصول الفقه "، وقرّبت ما ينبغي العلم به مُحرّراً للإقبال على كتاب الله عزّ وجل، فكتبت " المقدمات الأساسيّة في علوم القرآن "، فكذلك وجب إتمام القصْد في علوم الآلة أن آتي على علوم الحديث، فأحرِّرها، لا اكتفاء بتقريب مصطلحاتها، بل بصياغتها بأتمِّ صيغة ممْكنة، مؤصّلة من منْهج أهلها. وهذا عِلْمٌ لي منذ تلقيته ما يزيد اليوم على ربع قرْن من الزّمان، وأنا أعالجه وأعانيه، وكنت أجد إلحاحاً من داخلي بضرورة أن أصوغه مستوْعب الأبواب وبأسلوب عصْرانيِّ العرْض تيسيراً على الطُّلاب، دون إخلال بشيْء من مراد أهله، مع ما انضمّ إلى ذلك من سؤال من كثير من طلبة هذا العلم الحريصين على تحقيق مسائله وتحريرها، حتى صارت زبْدةُ الأفكار والمقيَّد من المسائل والآثار، إلى هذا الكتاب الذّي بين يديك. طريقة المتقدّمين، وطريقة المتأخّرين: شاع بين كثير من طلبة هذا العلم في هذا الزّمان نِزاعٌ بين ما سمّوه (طريقة المتقدّمين) و (طريقة المتأخّرين) في علوم الحديث. وتحرير محلِّ النّزاع: أن أصحاب التَّفريق رأوا علماء الحديث

المتأخرين صاروا إلى الحكم على الأحاديث على ما تقتضيه ظواهر الأسانيد، والتَّقليد لعبارات بعض متأخري العلماء في الحُكم على الرُّواة، دون مُراجعة لكلام أئمة الجرح والتَّعديل، إذ كثيراً ما يختلفون في الرّاوي، كذلك دون اعتبار للعلل الخفيّة في الرّوايات. وأيضاً، رأوا للمتأخرين تساهلاً في إطلاق المصْطلحات، والتَّوسُع في قبول الحديث المعلول، بيْنما كان الأوّلون يردُّون مثل تلك الأحاديث. ومن تساهلهم: تهوين العبارة في الرّواة، كإطلاق وصف (ضعيفٌ)، أو (فيه ضعفٌ) على الرّاوي الواهي السّاقط، مما يُسهِّل أمره، ويجعل حديثه مقبولاً ولو اعتباراً، من أجل خفّة هذا اللّفظ المتأخر في الجرح. وكذلك يقولون في الحديث: (ضعيفٌ)، وهو في الواقع (موضوعٌ) مثلاً. وأقول: لا ريْب في صحّة هذا المأخذ، لكن إطلاقه ليس بمحمود، فإنَّ لمتأخّري العلماء تحريراتٍ نافعةً في هذا العلم، كالحُفّاظ: أبي بكر البيهقيّ، والخطيب البغداديّ، وابن عبد البرّ الأنْدلسيّ، فأبي الحجاج المزّيّ، فالذّهبيّ، وابن كثير الدّمشقي، وابن قيّم الجوزيّة، وابن رجب الحنبليّ، فأبي الفضْل العراقيّ، فابن حجر العسقلانيّ، وغيرهم. وإن كان التّساهل المشارُ إليه يقع من غيرهم، وربّما من بعضهم تارةً، فإنّه لا يصلح أن يقام النِّزاع المورثُ إعراضاً عند بعض النّاس عن تحريرات مثل هؤلاء الأعلام. وهذا العلم في تحرير من تقدَّم جميعاً مرْجعه إلى طريقة المتقدّمين، فلا غنى لهم عن منهاج أهله، كمالك بن أنس، وشُعبة بن الحجَّاج، وسفيان الثّوريّ، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرّحمن بن مهديّ، وأحمد بن حنبل، وعليّ بن المدينيّ، ويحيى بن معين، والبُخاريّ، ومسلم بن الحجّاج، وأبي زُرعة الرّازيّ، وأبي حاتم الرازيّ، وأبي داود السّجستانيّ، والتّرمذي، والنّسائي، وإخوانهم من متقدّمي أئمة هذا الشّأن.

وأما منهاجي في هذا الكتاب، فقد بنيتُ فيه تحرير أصول هذا العلم على طريق السّلف المتقدمين، واستفدت من تحريرات المتأخرين، وعدلْتُ عن ابتكاراتهم في هذا الفنّ؛ لأنهم جروا على التَّنظير في أكثر ما انفردوا به، خصوصاً أهل الأصول منهم، وهذا العلم مستنده إلى النّقل، وإلى التَّبصُّر في منهج أهله. فبوْنٌ كبيرٌ مثلاً بين كلام أهل الفنّ في تحرير معنى العدالة والجهالة ومراعاتهم لواقع النّقلة، وبين ما ضمّنه متأخرو الأصوليّين كتبهم في تفسير ذلك، والّذي تأثروا فيه بمعناها عند القضاة وداخلوا بين هذا الباب وذاك، ولم يضربوا له من الأمثال من أحوال النّقلة ما يكشف حقيقته. واجتهدت وُسْعي في ضرب الأمثال من واقع الحال لا من نسْج الخيال، تقريباً لمسائل هذا العلم. واستبعدت من مباحث هذا الكتاب من الأبواب: غريب الحديث، وفقه الحديث، ومشكل الحديث، والنّسخ في الحديث. إذ ما كان منها يرجع إلى تأصيل، فتأصيله فيما حرَّرْته في (أصول الفقه) من القواعد، ومنها ما حرّرْته أيضاً في (علوم القرآن) كالنّسخ، لاشتراك السُّنن فيه مع القرآن. ومنها ما هو تعريفي محضٌ، كغريب الحديث، إذ المراد به غريب الألفاظ، فهذا له كتُبُه الخاصّة، وليس علماً تأصيلياً. كما ألغيْتُ ذكر بعض المسائل جرت كتب مصطلح الحديث على ذكرها في وقْت لم تزل فيه الرّواية والإسناد، واليوم قد استغنى النّاس عن التّقنين لها، إذ لم تعدْ تستعمل. مثل مسألة: (من ينسخ وقْت القراءة والعرْض على الشيخ)، فهذه لا تكادُ ترى لها تأثيراً في الواقع التّطبيقيّ.

كذلك الجانب التّنظيري لما انتهت الحاجة إليه، كاعتبار السِّنِّ عند الأداء. وجريْتُ في جميع ما ذكرتُ على توثيق النَّقل، بإحالة النّصوص إلى أصحابها، مستفادةً من معتمد مصادرها، مع اتّباع قوانين الفنّ في اعتماد ما يثبت نقله عن قائله في جميع مادّة الكتاب. والله عز وجلّ أسأل أن ينفع به، وأن يكون قرَّةَ عين لطالب لعلم قلَّ فيه الرّاغب، وأن يغفر لي ما زلّ به الفكر والرّأي والقلم، هو المستعان وعليه التُّكلانُ. وكتب أبو محمد عبدُ الله بن يوسُف الجُديع يوم الجمعة 20 من ذي الحجّة 1423هـ الموافق 21/ 2 / 2003 م مدينة ليدز - المملكة المتحدة

مدخل: مقدمات تعريفية

مدخل: مقدمات تعريفية

المبحث الأول: علم الحديث: تعريفه، تاريخه، أقسامه

المبحث الأول: علم الحديث: تعريفه، تاريخه، أقسامه 1 _ تعريف علم الحديث: العلمُ: معرفة الشيء. والحديثُ في الأصل يطلق على: الجديد من الأشياء، ويطلق على الخبر. ومنه قوله تعالى {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} [النِّساء: 87]، وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [سَبَأ: 19]. وفي الاصطلاحِ: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ، أو صفةٍ. فالقول: هو الألفاظُ النَّبويَّة. مثلُ: حديثِ معاوية من أبي سفيان، رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من يرد الله به خيراً يفقه في الدين " (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح، متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 71، 2948، 6882) ومسلم (2/ 719).

والفعل: هو التصرفات النبوية العملية. مثل: حديث عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما: أنه توضأ فغسل وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا، أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فرشَّ على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله، يعنى اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ (¬1). والتقرير: ما يقع من غيره صلى الله عليه وسلم باطِّلاعه أو علمه فلا ينكره. مثل حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله وعليه وسلم يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم (¬2). والصِّفة: خصائص بشريَّته صلى الله عليه وسلم فيما لا يرجع إلى كسبه وعمله، مثل: حديث البراء بن عازب، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً: ليس بالطويل البائنِ، ولا بالقصير (¬3). ولا يدخل في الصفة بهذا التَّفسير ما يحبه أويكرهه صلى الله عليه وسلم من الأفعال والأحوال، وإنما يَنْدرجُ هذا النَّمطُ من الأحاديث تحت (الفعل) باعتبار الصادر عنه صلى الله عليه وسلم على وفق محبته أو كرهِهِِ، مثل: ¬

(¬1) حديث صحيح، أخرجه البخاري (رقم: 140). (¬2) حديث صحيح، متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 443) ومسلم (2/ 609)، وقد استوعبتُ طُرقه وألفاظه في كتابي " الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام ". (¬3) حديث صحيح، متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 3356) ومسلمٌ (4/ 1819).

حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله: في طهوره وترجله وتنعله (¬1). هل يدخل في (الحديث) ما أضيف إلى من دونَ النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما يضاف إلى صحابيٍّ أو تابعيٍّ أو من بعدهم من الأخبار يسمى (حديثاً) من حيث اللغة، لكن الاصطلاح جرى غالباً على إرادة ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، حتى صار يتبادر إلى الذِّهن عند الإطلاق حين يُقال مثلاً: (في المسألة حديثٌ) أنَّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدفعاً للإيهام، لا ينبغي إطلاق لفظ (حديثٍ) على غير ماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم. الفرق بين الحديث والسنة: السنة في المعنى الأُصوليِّ مساويةٌ للحديث بالتعريف المتقدّم عن أهل الحديث، دون قيد (أو صفة)، واستثناء الصفة النبوية من جملة السنن إنما وقع من أجل أن محل الكلام في السنة هو اعتبار كونها من مصادر التشريع، وهذا لا يَنْدرجُ تحته الأوصاف الذَّاتية، وإنما يستفاد من الأقوال والأفعال والتقريرات النبوية. الأثر: من (أثَرْتُ الخبرَ) إذا رويته. ومن العلماء من يخصُّ الأَثر بـ (الموقوف) على الصحابي أو من دونه، كالتَّابعي. ¬

(¬1) حديث صحيح، متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 116، 416، 5065، 5516، 5582) ومسلم (1/ 226).

2 _ تاريخ علم الحديث:

ومنهم من يسمي كلَّ رواية أثراً؛ بغضِّ النظر عمن أضيفت إليه، ومنه قولهم: (التفسير بالمأثور) فإنَّه يد خل فيه الأحاديث النّبوية والمنقول عن الصحابة والتابعين. وكتبٌ كثيرة ٌُ سمِّيت بـ (الآثار) وفيها الحديث النَّبويُّ وغيره، كـ (الآثار) للإمام محمد بن الحسن الشَّيباني صاحب الإمام أبي حنيفة، بل منهم من سمّى كتابه بذلك ومراده الحديث النّبوي، كما في " شرح مشكل الآثار " و" شرح معاني الآثار " كلاهما لأبي جعفر الطَّحاوي، و " تهذيب الآثار " لابن جرير الطَّبري. علوم الحديث: هي المعارف المتّصلة بالحديث من جهة نقله ومعرفة صحيحه من سقيمه. والألقاب المتعارف ُ عليها عند أهل هذا الفن بـ (علم مصطلح الحديث) والآتي تفصيلها، هي القاعدة العامّة لهذه العلوم. 2 _ تاريخ علم الحديث: مبدأ ظهور هذا العلم: الكلام في النقلة فنٌّ قديم من فنون هذا العلم، يعود إلى عصر الصحابة، وقد ورد عنهم في ذلك آثار قليلة، إليك بعضَ أمثلتها: 1_ عَن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً البكاليَّ يزعم أن موسى عليه السلام ُصاحب بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر عليه السلام، فقال: كذب عدو الله، سمعت أُبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول: " قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ " فذكر الحديث بقصته مع الخضر (¬1). 2 _ وعن حُميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يُحدِّث رهطاً من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لَنَبْلو عليه الكذب (¬2). فتلاحِظ في هذين المثالين أنَّ الكلام وقع في رجلين من غير الصحابة يعرفان بالرواية عن أهل الكتاب، ولم يكن الصحابة يكذِّب بعضهم بعضاً في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما خطَّأ بعضهم بعضاً في أحرف يسيرة كما وقع فيما استدركته عائشة أم المؤمنين على بعض الصحابة (¬3)، وعلّة ذلك أن نقلة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا العدول ولذلك لم يكن الناس يومئذ يعتنون بالإسناد حتى ظهرت الفتن وتباعد العهد وصار النقل إلى التابعين بعد الصحابة. فعن مجاهد بن جبر المكي، قال: جاء بُشير العدوي إلى بن عباس، فجعل يحدث ويقول: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " فجعل ابن عباس لا يأذن (¬4) لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس، مالي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع، فقال ابن عباس: إناكنّا مرَّة إذا سمعنا رجلاًََ ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم: 122، 3220، 4448، 4449، 4450) ومسلم (رقم: 2380). (¬2) أخرجه البخاريُّ في " الصحيح " (6/ 2679) بصورة التعليق، وهوَ موصولٌ في " تاريخه الأوسط " (رقم: 201) بإسناد صحيح. (¬3) كما جمع أمثلةَ ذلك الحافظ بدرُ الدين الزركشي في كتاب " الإجابة لإيراد ما استَدركتْه عائشة على الصحابة ". (¬4) يأذن: يستمع.

يقول: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ابتدرتْه أبصارنا، وأصْغينا إليه بآذانِنا، فلما ركب الناس الصَّعب والذَّلول لم نأخذ من النّاس إلا ما نعرف (¬1). وقال الإمام التابعي محمد بن سيرين: " لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ... (¬2). ثم منذ ذلك الوقت بدأ شيوعُ الاعتناء بالأسانيدِ والكلام في النَّقَلة ونقد الراويات، وكلما تأخر العهد زاد ذلك. فتكلَََََّم طائفةٌ من التابعين بكلام منثور في ذلك، منهم: سعيد بن جبير، وسالم بن عبد الله عمر، ... وعطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعامر الشعبي. ثم الكلام بعد هؤلاء أكثر كالزهريِّ، وأيوب السختيانيِّ، والأعمش. حتى جاءت طبقة أتباع التابعين فصار هذا العلم إلى النُّضوج، وعلتُّه ترجع إلى كثرة الكذابين، وطولِ الإسناد الذي يزيد معه الوهم والغلط وتعمُّد الإسقاط من رجاله تخفيفاً، فظهر أمثال شعبة بن الحجَّاج، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي. ومن بعد طبقة تلامذتهم كيحي القطَّان، وعبد الرحمن بن مهدي. ثم تلامذتهم كأحمد بن حنبل، ويحي بن معين، وعلي بن المدينيِّ، وإسحاق بن راهُوَيه، وعمرو بن علي الفلاَّس. وهذا وقتٌ بدأ يظهر فيه التَّصنيف في علوم الحديث، لكن في أبواب منه مخصوصة، كـ (الجرح والتَّعديل) و (علل الحديث) و (تواريخ النَّقلة). ¬

(¬1) رواه مسلم في " مقدمة صحيحه " (ص: 13) بإسناد صحيح. (¬2) رواه مسلم في " مقدمة صحيحه " (ص: 15) وغيره بإسناد صحيح، ويأتي له مَزيدُ تخريج في موضع آخر من هذا الكتاب.

3 _ تقسيم علوم الحديث:

وتطوَّر وكثر الكلام في تلك العلوم فيمن بعده، لكنَّها بقيت دون أن تخصَّ مصطلحاتها بتصنيف بعد، إلى زمان الإمام أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن الرَّامُهرمزيِّ (المتوفى سنة: 360) فصنَّف أول كتاب مفرد في علوم الحديث سمَّاه: " المحدِّث الفاصل بين الرَّاوي والواعي " ثم توالى الناس على التصنيف فيه. وأنفع المؤلفات فيه كتب الخطيب البغدادي، وأجلها: " الكفاية " ثم مؤلف الإمام أبي عمرو ابن الصَّلاح: " علوم الحديث " المعروف بـ (المقدِّمة). 3 _ تقسيم علوم الحديث: علوم الحديث من حيث الإجمال تنقسم إلى قسمين كلِّيِّين: القسم: الأول علم رواية. وموضعه: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من دونه من صحابي أو تابعي، من جهة العناية بنقل ذلك وضبطه وتحرير ألفاظه. وبعبارة أخرى: هو العناية بمتن الخبر من جهة نصِّه خاصة: ويندرج تحته أصناف من علوم الحديث، منها: المرفوع، والموقوف، والمقطوع، وغريب الحديث، ومختلف الحديث. والقسم الثاني: علم دراية. وموضعه: من السَّند والمتن من جهة العلم بأحوالهما. ويندرج تحته: تمييز المقبول من المردود، وعلم الجرح والتَّعديل وتواريخ الرواة، وعلل الحديث، وغيرها. تعريف السند والمتن: السند: هو سلسلة الرواة التي حصل بها تلقِّي الخبر.

ولك أن تسمِّيه: (الإسناد) والفرق بينهما في علم الحديث صوريٌّ. المتن: هو الكلام (أو النَّص) الذي انتهى إليه السند. واعلم أن الإسناد من خصائص هذه الأمة، وقد أخبرت النصوص النبويَّة الثابتة عن وقوعه قبل ... أن يعرفه الناس، كما في حديث عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تسمعون، ويُسمع منكم، ويسمع ممَّن يسمع منكم " (¬1) وقال عبد الله بن المبارك، " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء " (¬2) والإسناد هو الطريق الموصل إلى ثبوت المتن ولا خيَر في متن بلا إسناد. عن يحي بن سعيد القطَّان، قال: لا " تنظروا إلى الحديث، ولكن انظروا إلى الإسناد، فإن صح الإسناد وإلا فلا تغترَّ بالحديث إذا لم يصح الإسناد " (¬3) والذي يحتاج إليه من الإسناد قد فرغ منه، حين دوِّنت الكتب في ¬

(¬1) أخرجه أحمد (رقم: 2945) وأبو داود (رقم: 3659) وابنُ حبان في " صحيحه " (رقم: 62) وإسناده صحيح. وقال العلائي: في " جامع التحصيل " (ص: 51): " حسن "، قال: " وفي كلام إسحاق بن راهويه ما يقتضي تصحيحه ". (¬2) أخرجه مسلم في " مُقدمة صحيحه " (1/ 15) والترمذي في (العلل) من " الجامع " (6/ 232) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 16) والرَّامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 209) وابن حبان في " المجروحين " (1/ 26) والحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص: 6) والخطيب في " تاريخه " (6/ 165) و " الكفاية " (ص: 558) و " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1643)، و " شَرف أصحاب الحديث " (رقم: 77، 78) جَميعاَ عن ابن المبارك، وإسناده صحيح. ورُوي عن ابن المبارك بلفظ: " طلب الإسناد المتصل من الدين " أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 557) وإسناده ضعيف. (¬3) أخرجه الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1301) وإسناده صحيح.

الرواية، وصار مرجع الناس إليها، وبقى اعتبار صحة تلك الكتب إلى من نسبت إليه. قال ابن الصلاح: " إن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود بها في عصرنا وكثير من الأعصار قبله إثبات ما يروى بها، إذ لا يخلو إسناد منها عن شيخ لا يدري ما يرويه ولا يضبط ما في كتابه ضبطاً يصلح لأن يعتمد عليه في ثبوته، وإنما المقصود منها إبقاء سلسلة الإسناد، والتي خصت بها هذه الأمة (¬1). قلت: خصت الأمة بالإسناد، وقد تحقق ذلك، والحمد لله، لا ببقائه للتبرك المحض، حتى صارت طوائف تحتفظ بدفاتر فيها أسماء كتب من الأصول الكبار في الحديث وغيرها، قد أجيز أحدهم بها من شخص ما، فصاحب الدَّفتر يجيزها لمن شاء، وهو في الواقع لم يجز، ولا يجيز، إلا عناوين لتلك الكتب، ما سمعها ولا سمعت منه، ولا قرأها ولا قرئَت عليه، ولو بحثت كاشفاً عن بعض رجال إسناده لتعسر عليك ولم تصل إلى كشفهم، ثم يريد هذا أن يرفع بذلك رأساً، وكأن لسان أحدهم يقول: انقطعت سلسلة الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا من طريقي. فليس في الأمة حاجة إلى هذه الأسانيد، وحتى لو كان لها بعض اعتبار يوم ابن الصلاح، فإنه اليوم قد زال، حيث صار منتهى الناس إلى صحة الوجادات من كتب السنة، واصطلاح (الحديث المسند) عند أهل الحديث، قال الخطيب: " يريدون أن إسناده متصلٌ بين راويه وبين من أسْند عنه، إلا أن أكثر استعمالهم هذه العبارة هو فيما أسند عن النبي صلى الله عليه وسلم واتصال الإسناد فيه أن يكون كل واحد من رواته سمعه ممن فوقه حتى ينتهى ذلك إلى آخره، وإن لم يبين فيه السماع بل اقتصر على العنعنة " (¬2). ¬

(¬1) صيانة صَحيح مُسلم، لابنِ الصلاح (ص: 115). (¬2) الكفاية (ص: 58).

قلت: وبهذا المعنى الذي عند أكثرهم عرَّف الحاكم (المسند) (¬1). لكن ابن عبد البرِّ جعله مرادفاً لـ (المرفوع)، فلم يشترط فيه الاتصال. حكاه عن طائفة (¬2). وليس وصفه بالاتصال عند من ذكره يعني الصحة، وإنما المراد مجرد الإحالة، وقد يكون ضعيفاًَ. * * * ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص: 17، 18). (¬2) التمهيد (1/ 21 _ 23، 25).

المبحث الثاني: ألقاب الحديث من جهة من يضاف إليه

المبحث الثاني: ألقاب الحديث من جهة من يضاف إليه 1_ الحديث المرفوع: تعريفه: قال الخطيب: " ما أخبر فيه الصحابي عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله " (¬1). قلت بل هو أسع من ذلك، والفصل: أنه ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أفعل أو تقرير أوصفة. على نفس ما تقدم لمصطلح (حديث). وكأنه استفيد من رفعة المقام. ويعتاض عن اللفظ الصريح بالإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقول مثلاً: (عن أبي هريرة مرفوعاً) ويساق لفظ الحديث، دون ذكر: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ويقع هذا اختصاراً، لكن لا ينبغي فيما أرى استعماله في الأحاديث الصحيحة، من أجل ما يفوت به من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة والتسليم عليه. ¬

(¬1) الكفاية (ص: 58).

مسائل:

مسائل: المسألة الأولى: يقع في: إطلاق السلف من الأئمة لفظ (المسند) يريدون به الحديث المرفوع المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما بينته في تعريف (المسند). المسألة الثانية: إذا حدث صحابي بالشيء فوجد فيه من القرينة ما يدل على كونه تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو حديث مسند مرفوع. وهل من هذا قول التابعي عن الصحابي: (يرفع الحديث) أو (ينميه) أو (يبلغ به) أو ما في معناه، دون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؟. الجواب: نعم , هو عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) وذلك مثل: ما أخرجه أبو يعلى الموصليُّ، قال: حدثنا أبو خيثمة، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن محمد بن سعد، عن أبيه، ويرفع الحديث: " لا يحل لأحد أن يهجر أخاه فوق ثلاث " (¬2). وقيل لأحمد بن حنبل: إذا قال: (يرفع الحديث) فهو عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: " فأيُّ شيء؟ " (¬3) أي: فعمن يكون إن لم يكن عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ لكن يجب قصر ذلك على قول الصحابي خاصة، فأما إذا قاله التابعي فمن دونه، فلا ينزَّل منزلة المراسيل فيما أرجحه. ¬

(¬1) وانظر: الكفاية، للخطيب (ص: 587). (¬2) مُسند أبي يعلى (رقم: 720) وإسناده صَحيح. وأبو خيْثمة هو الحافظ زُهير بنُ حرب. (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 586) عن كتاب " العلل " للخلال.

المسألة الثالثة: قول الصحابي: (قال: قال)

وذلك أني وجدتهم يعنون بتلك العبارة: يسنده إلى من فوقه، وذلك أحد رواة الخبر. مثل: ما حدث به موسى بن مسلم الحِزامي، قال سمعت عكرمة يرفع الحديث فيما أرى إلى ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ترك الحيَّات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالمنا هن منذ حاربناهنَّ " (¬1). فإن قلت: إنما تبين أن قوله: (يرفع الحديث) ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم، بقرينة ذكر ابن عباس، فإن خلا من القرينة، فينبغي أن يكون له حكم المرسل. قلت: لما استخدموا العبارة المذكورة في مجرد الارتقاء بإسناد الخبر إلى درجة أعلى في الإسناد، وصحَّ أن تكون تلك الدرجة هي الصحابي هنا، مع عدم وجود تنصيص منهم يُفسر مرادهم ويحصره فيما عرفناه بالاصطلاح في معنى المرفوع، فإن احتمال إرادة كونه عن أي قائل أو غافل فوق الراوي قائل تلك العبارة ودون النبي صلى الله عليه وسلم: احتمال قوي. إلا أن نقف على ذلك الخبر من وجه معتبر مرفوعاً صراحة من قبل الراوي إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وليس من هذا قول أهل العلم المتأخرين اختصاراً في نقل الأحاديث من كتب الرواية (مرفوعاً) مثلاً، فإنا قد علمنا أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في سياقه في مصدره من كتب الحديث المسندة، وإن كان تحاشي ذلك خاصة في الأحاديث الثابتة أولى، كما تقدم التنبيه عليه. المسألة الثالثة: قول الصحابي: (قال: قال) دون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، هل هو مرفوع؟ هذه صورة نادرة الورود في روايات الحديث. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في " سننه " (رقم: 5250) وإسنادُه جيد.

مثالها: ما حدث به أسود بن عامر شاذان قال: أخبرنا شعبة، قال: أخبرني إدريس الأوديُّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال: " لا يصلي أحدكم وهو يجد الخبَث " (¬1). فتحرير هذه المسألة: أن هذه الصورة بمجردها لا تفيد رفع الحديث، بل هو موقوف من هذا الوجه، وهذا المثال المذكور مما اختلف فيه على شعبة أصلاً رفعاً ووقفاً، ولا يكاد يوجد لهذه المسألة مثال يسلم من علة، وعليه فيحول ذلك دون القول: إن هذه الصيغة تفيد الرفع. وما ذكر عن محمد بن سيرين بخصوص ذلك مِن تركه رفع الحديث أحياناً وهو عنده مرفوع، فهو أمر غير مطرد على التحقيق. وبيانه: أن الحافظ دعلجا السِّجزيَّ، قال: حدثنا موسى بن هارون بحديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال: " الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه "، قال موسى: إذا قال حماد بن زيد والبصريون: (قال: قال) فهو مرفوع. قال الخطيب: قلت للبرقانيَّ: أحسب أن موسى عنى بهذا القول أحاديث ابن سيرين خاصة؟ قال: كذا تحسب. (¬2). قلت فهذا المثال لايصلح أن تُبْنى عليه قاعدة، وقول موسى بن هارون الحمَّال غير صحيح الإطْلاق، وما حسبه الخطيب من كون ذلك هناك محصوراً فيما يرويه ابن سيرين خاصة عن أبي هريرة صواب، ما لم تكن هناك قرينة في سياق الخبر تجعله على أصل الوقف. وواقع الأمر أن ابن سيرين حدث عن أبي هريرة بأحاديث لم يكن يذكر فيها الرفع الصريح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي محفوظة من حديث أبي هريرة ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 588) وإسناده صحيح. (¬2) الكفاية (ص: 589).

مرفوعاً، أحياناً يوجد ذلك من رواية ابن سيرين نفسه عن أبي هريرة، يكون حدَّث به عنه لا يذكر الرفع، وتارةً يذكره، كما يكون مرفوعاً من رواية غير ابن سيرين عن أبي هريرة. وهذا ما جاءت به الطرق للحديث المذكور، فإنه رواه من البصريين: أيوب السخستاني (¬1)، وهشام بن حسان (¬2) وعمران بن مسلم القصير (¬3)، جميعاً عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم به. واستدل الخطيب لما حسب بقول ابن سيرين: " كل شيء حدثت عن أبي هريرة فهو مرفوع " ... (¬4). وصح عن محمد بن سيرين: أنه كان إذا حدث عن أبي هريرة، فقيل له: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " كل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " (¬5). قال الطَّحاوي: " وإنما كان يفعل ذلك؛ لأن أبا هريرة لم يكن يحدثهم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم " (¬6). وفي هذا عن ابن سيرين فائدة خاصة، وهي أن الخبر إذا جاء عنه عن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً، فإن ذلك لا يعد من الاختلاف القادح في صحة الرفع، بل الحكم بالرفع متعين. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (1/ 580 رقم: 2210) ومُسلم في " صحيحه " (1/ 459). (¬2) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (8/ 138 رقم: 11631). (¬3) أخرجه عبد الله بن أحمد في " زوائد الزهد " (ص: 21) وابن عدي في " الكامل " (6/ 169). (¬4) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 22) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 589) وإسناده صحيح. (¬5) أخرجه الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1/ 20) وإسناده جيد. (¬6) شرح معاني الآثار (1/ 20).

المسألة الرابعة: المرفوع الحكمي

المسألة الرابعة: ما لا يقال مثله بمجرد الاجتهاد، فالأصل أن يكون مرفوعاً حكماً. وذلك كتحديث الصحابي بما لا سبيل إلا معرفته إلا عن طريق الوحي، مع ضميمةِ أن لا يكون الصحابي يحدث بالإسرائيليَّات فيما يمكن أن يكون من أخبار أهل الكتاب مثل: ما يتصل بأخبار السابقين وبدء الخلق ومستقبل الزمان، ومن أشهر من عرف من الصحابة بالتحديث عن أهل الكتاب: عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، وربَّما وقع لغيرهما، خُصوصا من نزل الشام من الصحابة. ولما كان قد يعسر تبيُّن إن كان الصَّحابي حمل الرواية عن أهل الكتاب، أو كان بتوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل أنه ليس لدينا ما يقطع في هذا، إنما هو قائم على المظنة، فالتحري يوجب أن يرد في سياق الخبر قرينة غير ما تقدم تدل على ضعف احتمال أن يكون من أخبار أهل الكتاب. وذلك كقول أبي سعيد الخدريُّ " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء الله له من النور ما بينه وبين العتيق " (¬1). فأبو سعيد ليس معروفاً بالتحديث بالإسرائيليَّات، وحدث بشيء هو مما اختُصت به هذه الأمة، وهو فضل قراءة سورة الكهف، وهي مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر البيت العتيق وليس لأهل الكتاب فيه شأن. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه سعيد بن منصور في " سننه " _ كما في " تفسير ابن كثير " (4/ 364) _ ومن طريقه: البيهقي في " الشعب " (2/ 474 رقم: 2444). وكذا الدارمي (رقم: 3410) عن أبي النعمان عارم بن الفضل، كلاهما عن هُشيم بن بشير، قال: حدثنا أبو هاشم، عن أبي مِجلز، عن قيس بن عُباد، عن أبي سعيد، به. قلت: وإسناده صحيح، واختلف فيه رفعاً ووقفاً، والصواب موقوف من جهة الإسناد، وكذلك رجَّح وقْفه النسائي والبيهقي، وشرحت علَّته في " الأجوبة المرضية " (السؤال الخامس).

المسألة الخامسة: قول الصحابي (أمرنا، نهينا) وشبهه

ومما يجب أن يحتاط فيه من هذه الصورة. ما يقوله الصحابي من إثبات تحليل أو تحريم، فمن الناس من يدعي أن له حكم الرفع، وهذا خطأ، فإن الصحابة كانوا يُفتون الناس في الحلال والحرام، وكما وسع من بعدهم من العلماء أن يحلوا ويحرموا باجتهادهم فيما لا نص فيه، فعلماء الصحابة هم سادة المجتهدين لهذه الأمة، وقد سبقوا إلى أن قالوا باجتهادهم فأحلوا وحرموا، واختلفوا في المسائل بسبب ذلك. المسألة الخامسة: قول الصحابي (أمرنا بكذا .. نهينا عن كذا .. كنا نؤمر بكذا .. كنا ننهى بكذا .. كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعل كذا .. كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا .. من السنة كذا) وشبه ذلك، فهو حديث مسند مرفوع حكما في قول أكثر أهل العلم، وهو الصواب (¬1). وذلك بناء على أن حال ما يحكيه الصحابي من ذلك إنما كان لبيان شرائع الدين، والتبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصا ولا يكاد يوجد الشيء من ذلك لا شاهد له من النصوص المسندة صراحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الخطيب: " والدليل عليه: أن الصحابي إذا قال: أمرنا بكذا، فإنما يقصد الاحتجاج لإثبات شرع وتحليل وتحريم وحكم يجب كونه مشروعا (¬2). مثاله: ماحدث به مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال: صليت إلى جنب أبي، فلما ركعت شبكت أصابعي، وجعلتهما بين ركبتي، فضرب يدي، فلما صلى قال: قد كنا نفعل هذا، ثم أمرنا أن نرفع إلى الركب (¬3). ¬

(¬1) انظر: معرفة علوم الحديث، للحاكم (ص: 22)، والكفاية، للخطيب (ص: 591 _ 595). (¬2) الكفاية (ص: 592). (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 757) ومسلم ٌ (رقم: 535).

وذهب بعض أهل العلم، كابن حزم، إلى أن هذه الصورة ليست مسنداً مرفوعاً (¬1). واعترض بعضهم باحتمال أن يكون الآمر الناهي من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا ضعيف، فإن الصحابة فيما دل عليه الاستقراء لم يكونوا يستعملون ذلك في أمر أو نهي أوسنة أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي وقد ذكر حديثا عن ابن عباس والضحاك بن قيس فيه: (كذا وكذا سنة): " وابن عباس والضحاك بن قيس رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقولان: (السنة) إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله " , وقال: " وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولون بالسنة والحق إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى " (¬2). قلت: وقول الشافعي: (إن شاء الله)، من أجل مظنة أن يقول الصحابي الشيء من ذلك بمحض اجتهاده، وليس بمنزلة المرفوع الصحيح. وأما قصة حنظلة السَّدوسيِّ قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ... (¬3)، ثم يدق بين حجرين، ثم يضرب به. فقلت لأنس: في زمان من كان هذا؟ قال: في زمان عمر بن الخطاب. فهذا خبر لا يصح رواية، فلا يتعقب بمثله (¬4). وإذا حكى الصحابي أمرا شائعا، ونسبه إلى عامة الصحابة، كأن ¬

(¬1) الأحكام في أصول الأحكام (2/ 72). (¬2) الأم (1/ 271). (¬3) ثمرته: هو العُقدة التي تكون في طَرفه، فتُقطع، ويُدق السوط بين حجرين ليلين ليَكون أيسر على من يُضرب به. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 50 _ 51) وابنُ عبد البر في " التمهيد " (5/ 334)، وعلته حَنظلة فإنه ضعيف الحديث.

المسألة السادسة: تصرفات الصحابة في عهد التشريع دون اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم -

يقول: (كانوا يفعلون كذا) ولا يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولا ما يدل على إرادة زمانه صلى الله عليه وسلم، ليس فيه إلا إضافة ذلك إلى الصحابة، فهذا موقوف (¬1). وذلك كقول أبي سعيد الخدري: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعدوا يتحدثون كان حديثهم الفقه، إلا أن يأمروا رجلاً فيقرأ عليهم سورة، أو يقرأ رجلٌ سورة من القرآن (¬2). المسألة السادسة: الصحابيُّ إذا حدث عن شيء ممَّا كان منهم على حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليس فيه اطِّلاعُهُ صلى الله عليه وسلم ولا إقراره، فهذا ممَّا اختلفوا فيه: هو موقوف، في قول الحاكم (¬3). قصة وهذا مثل ما جاء في قصة عمرو بن سلِمة الجرمي، حين حدَّث عن أبيه قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فقال: " صلُّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلُّوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً "، قال عمرو: فنظروا فلم يكن أكثر قرآناً مني، لما كنت أتلقَّى من الرٌّكبان، فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليَّ بردة، كنت إذا سجدت تقلَّصت عني، فقالت ¬

(¬1) انظر: الكفاية، للخطيب (ص: 595). (¬2) أثرٌ صحيح. أخرجه ابنُ سعد في " الطبقات " (2/ 374) أخبرنا أبو داود الطيالسي. والحاكم (1/ 94 رقم: 322) _ وعنه البيهقي في " المدخل " (رقم: 419) _ من طريق عبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن شعبة، عن علي بن الحَكم، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، به. وقال الحاكم: " حديث صحيح على شرط مسلم ". قلت: إسناده صحيح. ورواه عفان بن مسلم عن شعبة، به مختصراً، ولم يذكر أبا سعيد، أخرجه الخطيب في " الفقيه والمتفقه " (رقم: 948) و " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1207). وهو بذكْر أبي سعيد أصح. (¬3) معرفة علوم الحديث (ص: 19).

المسألة السابعة: حكم تفسير الصحابي للقرآن

امرأة من الحي: ألا تغطُّون عنا است قارئكم؟ فاشتروا، فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص (¬1). فهذا الحديث دل عند طائفة من أهل العلم على صحة إمامة الصبي، وحقيقة الأمر أن صنيع القوم في تقديم عمرو مع صغره ليس في الرِّواية أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وعلم به فأقرَّه. غير أن محقق القولين: أن ما جاء منقولا فعله عن أحد من الصحابة في حياة النبي الله عليه وسلم فهو مرفوع حكماً، ودليل يحتج به، وهو لاحق بالتَّشريع التقريريِّ، وذلك من أجل أن الله تعالى مطلع، والوحي ينزل، وكم نزل في القرآن في أشياء من أحوال الناس يومئذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها إلا حين ينزل الوحي بخصوصها؟ ويشهد لهذا ما صح عن عبد الله بن عمر قال: كنا نتقي كثير من الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مخافة أن ينزل فينا القرآن، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمنا (¬2). المسألة السابعة: حكم تفسير الصحابي للقرآن. إذا كان يتصل بسبب نزول، فهو حديث مسند، وإن لم يكن يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم (¬3)، من أجل أن النزول كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان بيانا لمعنى، فهو موقوف، إلا أن يكون خبراً لا يقال مثله من قبل الرأي والا جتهاد، فهذا يكون مرفوعاً حكماً بشرط أن يؤمن كونُ ¬

(¬1) أخرجه البُخاري (رقم: 4051). (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد (9/ 213 رقم: 5284) واللفظ له، والبُخاري (رقم: 4891) وابن ماجة (رقم: 1632) من طريق سفيان الثوري عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، به. (¬3) معرفة علوم الحديث (ص: 20)، وانظر كتابي: المقدمات الأساسية في علوم القرآن (ص: 45).

المسألة الثامنة: الحديث القدسي

ذلك الصحابي لم يؤخذ عن أهل الكتاب، على ما تقدم بيانه في (المسألة الرابعة). المسألة الثامنة: الحديث القدسيُّ. هو لقب شاع للمتأخرين فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه. وتعريفه المحقَّقُ له أنه: الحديث المرفوع القولي المسند من النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله. وهذه ميِّزه عن القرآن، من جهة أن قرآن لا يقال فيه (حديث مرفوع)، و (القولي) ميَّزه من سائر أنواع المرفوع، والنسبة إلى الله أخرجته من عموم المرفوعات القولية التي هي مما أنشأه النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظه. مثاله: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار " (¬1). ومن المتأخرين من قال في تعريف (القدسي): (ما كان معناه من الله تعالى، ولفظه من النبي صلى لله عليه وسلم)، وهذا فيما أرى خطأ لا مستند له إلاِّ إرادة تمييزه عن القرآن حاصل بالتعريف الذي ذكرته آنفاً، وهو المتفق مع صريح عبارة الرفع النَّبويِّ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث القدسي: (قال الله)، وهذا صريح منه صلى الله عليه وسلم في نسبة القول والذي هو الألفاظ ذاتها إلى الله، ولم يردنا في شيء من النقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصرف في ألفاظ ما يقول فيه: (قال الله عز جل) ممَّا يحدث به عن ربه سوى القرآن. ثم إنه يرد على قولهم: (ومعناه من الله) دخول عموم السنة في ذلك، فإن ¬

(¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 4549، 5827، 5828، 7053) ومسلم (رقم: 2246).

السنن شرائعُ الله أوحاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن، عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ نفسه، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوى * إِنْ هُو إِلاَّ وحي يوحى} [النجم: 4، 3]، فإن جعلنا الحديث القدسي كذلك لم نميزه عن سائر نصوص السنن المنشأة ألفاظها من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وألغينا فائدة التميز الحاصلة من قبل قوله صلى الله عليه وسلم في القدسي: (قال الله). تنبيهات حول الحديث القدسي: التنبيه الأول: قد تأتي صيغة الإضافة في الرواية غير صريحة، وذلك مثل: ما رواه بعض الرواة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفعه: " إن المؤمن عندي بمنزلة كل خير: يحمدني وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه " (¬1). التنبيه الثاني: لكون الأحاديث القدسية منقولة بطريق الآحاد، فإنها يعتريها ما يعتري سائر ألفاظ أحاديث الآحاد من أداء بعض الألفاظ بالمعنى، أو باختلاف يسير في اللفظ، وبزيادة بعض الرواة على بعض فيها، وليس ذلك بالكثير. ¬

(¬1) أخرجه البزار (رقم: 781 _ كشف) قال: حدثنا أحمد بن أبان القرشي، حدثنا عبد العزيز بن مُحمد الدراورْدي، عن عمْرو بن أبي عمرو، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، وبه. قلت: وإسناده حسن، وقال ابنُ حجر في " النُّكت على ابن الصلاح " (2/ 539): " حديث حسنٌ، رُواته من أهل الصدق ". والحديث أخرجه أحمد (14/ 345 رقم: 8731) قال: حدثنا أبو أسامة (وهو منْصور بن سلمة). والحارث بن أبي أسامة في " مسنده " (رقم: 255_ بُغية) قال: حدثنا خالد بن خِداش، كلاهما عن عبد العزيز ، به. لكن فيه: (قال الله عزوجل) بدل (رفعه). وكذلك أخرجه أحمد (14/ 190 / 191 رقم: 8492) والبيهقي في " الشعب " (4/ 118 رقم: 4494) من طريق يزيد بن الهاد، عن عمْرو به.

2 _ الحديث الموقوف:

التنبيه الثالث: يغلب على صفة الحديث القدسي التذكير والموعظة، لا إثبات الأحكام، وإن كان ربما دلَّ على الحكم. التنبيه الرابع: الأحاديث القدسية الصحيحةُ ليست كثيرة، وصنِّف في جمعها مصنَّفات، اشتملت على الصحيح والسقيم من جهة الإسناد، ولما كان بابها المواعظ كثر فيها الواهي والموضوع. 2 _ الحديث الموقوف: تعريفه: ما أضيف إلى الصحابي من قول أوفعل أو تقرير أو صفة. وأجمل ذلك الخطيب، فقال: " الموقوف: ما أسنده الراوي إلى الصحابي، ولم يتجاوزه " (¬1). وقال الحاكم: " أن يروى الحديث إلى الصحابي من غير إرسال ولا إعضال، فإذا بلغ الصحابي قال: إنه كان يقول كذا كذا، وكان يفعل كذا كذا، وكان يأمر كذا كذا " (¬2). قلت: اشترط الحاكم عدم الانقطاع إرسالاً أو إعضالاً، ليس هو المشهور في تعريف (الموقوف). 3 _ الحديث المقطوع: تعريفه: هو ما أضيف إلى التابعي من قول أوفعل أو تقرير أو صفة. ويسمى: (الأثر) كذلك. ¬

(¬1) الكفاية (ص: 58)، وبنحوه تعريف ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 25). (¬2) معرفة علوم الحديث (ص: 19).

مثاله: قول مسروق بن الأجدع: " كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه " (¬1). مسائل: المسألة الأولى: قد تجد القول يؤثر عن التابعي مسنداًَ إليه لا يتجاوزه، وتراه يروى من طريقه تارة عن الصحابي موقوفاً، أو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، وتارة يروى عن ذلك التابعي قوله، ويرويه غيره بإسناد موقوفاً على صحابي أو مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فلما لم تقم الحجة في ذلك على خطأ راوٍِ فيه، فالوجه فيه: أن التابعي حين حدث به من قوله فهو استشهاد منه بما انتهت إليه الرواية فيه عمن قبله، وهو مقطوع لما حدث به من قوله، وموقوف أو مرفوع من الوجه الذي انتهى إلى صحابي أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا أمثلة، منها ما يندرج تحت علم علل الحديث. ومن مثاله فيما هو مقطوع ومرفوع، وهو الصحيح من الوجهين: ماصح عن مسرق بن الأجدع، قال: " أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد " (¬2). وهو حديث صحيح من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء " (¬3). ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه الدارمي (رقم: 319، 389) وابنُ سعد في " الطبقات " (6/ 80) وأبو نُعيم في " الحلية " (2/ 111 رقم: 1603) والبيهقي في " الشعب " (1/ 472 رقم: 748، 749) من طريقين صحيحين عن مسروق. (¬2) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 404) وأبو نُعيم في " الحلية " (2/ 112 رقم: 1610) وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه مسلم (رقم: 482) وغيره.

وليس هذا مما يعل به الآخر فإن أثر مسروق بإسناد كوفي، وحديث أبي هريرة بإسناد مدني. المسألة الثانية: ربما وجدت في كلام أهل الحديث يقولون: (وقفه فلان على عطاء) يستخدمون الفعل من (الموقوف)، مع، أن عطاء تابعي وهو ابن أبي رباح. المسألة الثالثة: قول التابعي: (من السنة كذا). اختلفوا فيه: فمنهم من قال: هو مرفوع مرسل، وذلك على اعتبار أنه يريد بالسنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: هو مقطوع، من أجل أن التابعي عنى به سُنَّة أهل البلد. والذي أراه في ذلك التَّفصيل: فإذا وجدنا التابعي قال ذلك فيما هو معروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صالح، قلنا في خبره ذلك: هو مرسل، وأراد بالسنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا وجدناه أطلق ذلك الوصف على مالم نجد له في المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يجعله منها، قلنا: هو قوله، أراد به سنة البلد وما رأى عليه الناس. * * *

المبحث الثالث: ألقاب الحديث باعتبار تعدد الأسانيد

المبحث الثالث: ألقاب الحديث باعتبار تعدد الأسانيد الحديث باعتبار تعدد أسانيده التي روي بها، أو مجيئه من وجه واحد ينقسم بهذا الاعتبار إلى أقسام، ترجع في جملتها إلى قسمين أساسيَّين: القسم الأول: الحديث المتواتر والتواتر، هو: رواية الجمع عن الجمع، الذين يمتنع اتفاقهم على الكذب، أو الخطأ. وفسره الخطيب البغدادي، فقال: " خبر التواتر، هو: 1 _ ما يخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حدا يُعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أن اتفاق الكذب عندهم محال. 2 _ وأن التواطؤَ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذر. 3 _ وأن ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم.

فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم، قطع على صدقه، وأوجب وقوع العلم ضرورة " (¬1). قلت: وهو يقابل: (حديث الآحاد) الآتي. واعلم أنه ليس لأقل عدد التواتر حد منضبط، وإنما يراعي فيه التعدد فوق الشهرة، مع قرائن تنضم إلى التعدد تمنع الاتفاق على الخطأ والوهم فضلاً عن الكذب، وعلامته مع تعدد الطرق: حصول العلم الذي يتعذر دفعه للمطلع عليه العارف به. والتواتر في الأحاديث النبوية هو من باب (التواتر النظري) لا من باب (التواتر الضروري)؛ لأن معرفته موقوفة على جميع طرق الحديث ورواياته، فهو مبني على البحث والنظر، والعلم به غير حاصل ضرورة كتواتر نقل القرآن المستغني عن الأسانيد والطرق. لذا فالتواتر بالحديث لا يُستغنى فيه بمجرد تعدد الأسانيد عن ثبوت أفرادها؛ فمن الأحاديث ما تعددت أسانيده وكثرت، لكنها واهية لا يثبت منها شيء. وهذا المعنى أغفله أكثر من تعرض لهذا الموضوع، خصوصا أن أكثر من تكلم في التواتر هم الأصوليون، وهؤلاء تكلموا في التواتر الضروري، كتواتر القرآن، ومن ثم عدَّاه طائفة إلى الحديث، وأغفل هؤلاء أن نقل القرآن ليس كنقل الحديث، فلا يستويان، فتواتر القرآن أغنى في صحته عن البحث في الإسناد، بخلاف تواتر الحديث، فإن عمدته على الإسناد، ويكفيك دليلا على ضعف القول باستغناء الحديث المتواتر عن الإسناد ما تنازعوه في قدر ما يُدَّعى فيه التواتر، فإن موجب التسليم لصحته دون مناقشةٍ على طريقة أهل الأصول، فكيف يصحُّ التنازع بعدُ في شيءٍ من ذلك: هو متواتر أو غير متواتر. ¬

(¬1) الكفاية (ص: 50).

تقسيم الحديث المتواتر بحسب صيغته

ولذا أحدث معنى للتواتر ليستوعب الحديث العائد إلى الإسناد، وهو (التواتر النظري)، إشعاراً بأن تمييز ما يُفيد العلم من الحديث على سبيل القطع ليُساوي التواتر في معناه، موقوف على النظر والبحث. تقسيم الحديث المتواتر بحسب صِيغته: هو قسمان باعتبار لفظه ومعناه: الأول: المتواتر اللفظي. وهو عزيز الوجود في الأحاديث، وأشهر مثال له حديث: " من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "، رواه ما يزيد على سبعين صحابيًّا، جمع طرقه الحافظ الطبراني في جزءٍ، وكذا جمعها ابن الجوزي في أول كتابه " الموضوعات " (¬1)، ومنها ما هو مُخرَّجٌ في الصحاح والسنن، وجمع الطحاوي منها طرفاً (¬2). والثاني: المتواتر المعنوي. وهو كثير، وذلك أن يكون الباب أو الحكم قد جاءت به الأحاديث الكثيرة التي حقَّقت بكثرتها حدَّ التواتر، كشرعيِّة رفع اليدين في الصلاة، وشرعيةِ المسح على الخفين. وجمع بعض متأخري الحُفاظ ما حسبه متواتراً في كتب مُفردةٍ، منهم الحافظ جلال الدين السيوطي في كتاب سماه " قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة "، وهو مُختصرٌ من كتاب مطول له في ذلك، وبناه على حدِّ التواتر بما رواه عشْرةٌ فصاعداً، وزادت أحاديثه على المئة، لكنه في التحقيق يخالف في دَعوى التواتر في أكثره، وكذا من جاء بعد السيوطي ¬

(¬1) انظر: الموضوعات (1/ 54 _ 129) عن ثمانية وتسعين نفساً من الصحابة، لكن فيها طُرق عِدة لا تصح. (¬2) في كتابه " شرح مشْكل الآثار " (1/ 352 _ 369).

القسم الثاني: حديث الآحاد

ممن شاعَ تصنيفهم في ذلك بين الناس، كالزبيدي، في كتابه: " لفظ اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة "، وجعفر الكتّاني في كتابه: " نُظم المتناثر من الحديث المتواتر ". القسم الثاني: حديث الآحاد قال الخطيب: " خبر الآحاد، هو: ما قصر عن صفة التواتر، ولم يقطع به العلم وإن روْته الجماعة " (¬1). قال: ابن حبان: " فأما الأخبار فكلها أخبار آحاد " (¬2). قلت: وهذا صحيح بالنظر إلى غالب السنن المروية، أو بالنظر إلى التواتر اللفظي، فإنه كما تقدم عزيز الوجود، فيصح بهذا الاعتبار أن يكون الأصل في الأخبار أخبار الآحاد. وحديث الآحاد باعتبار التفرد بالإسناد أو تعدد الأسانيد ثلاثة أنواع، جرى على ذكرها المتأخرون. النوع الأول: الحديث المشهور. وهو بالنظر إلى الشهرة اللغوية والاصطلاحية قسمان: الأول مشهور يعرفه الخاصُّ والعام. وهذه الشهرة هي الشهرة العامة، كأن يقول: (هذا حديث مشهور) في الفقه أو الحديث أو الأصول، وهي شُهرة يراد بها ذُيوع الحديث وكثرةُ تداوله، مثل حديث: " طلب العلم فريضة على كل مسلم "، و " من كان له إمام فقرأ الإمام له قراءة "، و " من سُئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار ¬

(¬1) الكفاية (ص: 50). (¬2) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 156).

النوع الثاني: الحديث العزيز

يوم القيامة "، إلى أحاديث أخرى لها طرقٌ وأسانيد عِدة، وفيها الصحيح وغيره. وربما لا يكون له إسناد، بل هو حديث موضوع، كالحديث الذي لا أصل له: " اختلاف أمتي رحمة " (¬1). والثاني: مشهور عند أهل المعرفة بالحديث. وتعريفه: هو الحديث الذي يرويه ثلاثة فأكثر في كل طبقةٍ، ولم يبلغ في كثرة الأسانيد ما ينزَّل به منزلة التواتر. وهذه شهرة اصطلاحية بمعنى مخصوص، وأمثلته في الأحاديث كثيرة. كالحديث في قُنوت النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة يدعو على رَعل وذكوان (¬2). فهذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة، أصح طرقه عن أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وخُفاف بن إيْماء الغِفاري، ورواه عن أنس من أصحابه جمع، منهم: قتادة وأبو مِجلز لاحق بن حميد وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وعاصم الأحول، وعن قتادة رواه عددٌ، وعن كل رواه ما شاء الله. ولم يقلَّ نقلته في كل طبقة عن عدد الشهرة. قال الحاكم: " وأمثال هذا الحديث ألوف من الأحاديث التي لا يقف على شهرتها غيرُ أهل الحديث والمجتهدين في جمْعه ومعرفته " (¬3). والنوع الثاني: الحديث العزيز. ويرد في استعمال المتقدمين بمعناه اللغوي، وهو القلة والندْرة، فيقولون: (حديث عزيز)، وفي الراوي: (عزيز الحديث) أي قليله. ¬

(¬1) انظر لهذا الحديث: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، للألباني (رقم: 57). (¬2) قبيلتان من قبائل العرب من بني سُليم. (¬3) معرفة علوم الحديث (ص: 94).

النوع الثالث: الحديث الغريب

لكنه في اصْطلاح المتأخرين: الحديث الذي لا يقلُّ رواته عن اثنين في جميع طبقات الإسناد، ولا يبلغ الشهرة. ولكوْن هذا الوصف نادرَ الوجوه في الأحاديث أطلق عليه لقب (العزيز). مثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده، وولده والنَّاس أجمعين ". فهذا لم يُروَ من وجه صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك (¬1)، ورواه عن أنس: قتادة وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن عبد العزيز إسماعيل بن عُليَّة وعبدُ الوارث بن سعيد، وعن كلٍّ منهما جماعة. والنوع الثالث: الحديث الغريب. تعريفه: هوَ الحديث الذي ينفرد بروايته راوٍ واحد. ويسمى: (الفرْد). والغريب نوعان: أولهما: الغريب المطلق. وهو أكثر ما يطلق عليه مصطلح (الفرد). وهو الحديث الذي لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإسناد واحد. كحديث: " إنما الأعمال بالنيات " فإنه لا يعرف له إسناد إلا عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 14) من حديث أبي هريرة، واتفقنا عليه: البخاري (رقم: 15) ومسلم (رقم: 44) من حديث أنس.

وهذا المعنى بمجرده لا يفيد ثبوت الحديث أو ضعفه، فلا تفهمن أن مجرد التفرد يعني الضعف، وإنما في (الغريب): الصحيح، والحسن، والضعيف، وتعرف درجة كل بحسب حال الإسناد، وسلامته من العلل. وثانيهما: الغريب النسبي. وهو الحديث الذي علم مخرجه عن النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر من وجه، كحديث يرويه أبو هريرة وابن عمر، ولكنه لم يعرف عن ابن عمر إلا من رواية نافع مولاه، فهو من أفراد نافع عن ابن عمر، والتفرد فيه إنما وقع بالنسبة لابن عمر، لا مطلقاً، ويقولون فيه: " تفرد به فلان عن فلان ". فإن وجدت ذلك فلا تفهمن منه غرابة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يكون مروياً عنه من وجوه. والغريب النسبي كثير في جميع الكتب الأمهات، ومن وجوامعه الواسعة " المعجم الأوسط " للحافظ الطبراني. ومن مثاله: ما رواه عيسى بن موسى غُنْجارٌ، عن أبي حمزة السكري، الأعمش، عن أبي أيوب السَّختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسموا العنب الكرْم " (¬1). قال: الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلا أبو حمزة السكري، واسمه محمد بن ميمون، تفرد به الغُنْجار، ولم يسند الأعمش عن أيوب حديثاً عن غير هذا ". قلت: وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو هريرة ووائل بن حجر، ومعناه عن سمرة بن جندب، وعن أبي هريرة جماعة من ثقات أصحابه، منهم: الأعرج، ومحمد بن سيرين، وأبو سلمة، وعن محمد بن سيرين: أيوب السختياني وهشام بن حسان وغيرهما، ورواه عن أيوب غير الأعمش على ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في " الأوسط " (7/ 451 رقم: 6884) و " الصغير " (رقم: 955).

خلاف في رفعه، لكنه لا يعرف مرفوعاً من حديث أيوب إلا من رواية الأعمش عنه، ولا يعرف عن الأعمش إلا من هذا الوجه، فليس هو عن غير أبي حمزة من أصحابه. فالحديث بالنظر إلى أصله تقول فيه، مشهور، أو عزيز، ثم بقيت المتابعة في أسانيد رواية أبي هريرة إلى الأعمش، وهو إمام مكثر اعتنى أصحابه بحديثه، لكن لم يوجد هذا الحديث عنه إلا من هذا الوجه. واعلم أن الوصف بالتفرد إن وقع من حافظ عارف، كالطبراني هنا مثلا، فلا تطعمن أن تجد له طريقاً أخرى صالحة عمن وقع التفرد بالنسبة له. قال النووي: " وإذا قالوا: تفرد به أبو هريرة، أو ابن سيرين، أو أيوب، أو حمَّاد، كان مشعراً بانتفاء وجوه المتابعات كلها " (¬1). قلت: ولكن لا تيأس، فالعلم منحة. والنقص في البشر طبيعة، وربما علم المفضول ما لم يعلمه الفاضل. وللغرابة صور، فمنها: 1 _ ما تفرد به راوٍ واحد مطلقاً أو عن شيخ معيَّن، وهو الأكثر في رواية الحديث. 2 _ ما تفرد به أهل بلد دون غيرهم، فيقال: " هذا حديث تفرد به أهل الشام " مثلاً، حيث لم تقع روايته لغيرهم، ولم يعرف إلا من جهتهم. وذلك كتفرد الشاميِّين برواية حديث أبي ذر الغفاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال: " يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فالا تظالموا " الحديث (¬2). ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم، للنووي (1/ 34). (¬2) أخرجه مسلم (رقم: 2577).

فهذا حديث عظيم، صحيح من جهة النقل، اختص به أهل الشام، وجاء عن أبي ذر من طرق لهم، وقال حافظ الشاميِّين أبو مسهر عبدُ الأعلى بن مسهر الغساني: " ليس لأهل الشام أشرف من حديث أبي ذر " (¬1)، وجاء معنى ذلك كذلك عن أحمد بن حنبل (¬2)، ولم يصح من رواية غيره من الصحابة. 3 _ ما تفرد به أهل البلد عن أهل بلد آخر، وليس هو عند أهل البلد آخر، وليس هو عند أهل البلد الآخر أصلاً، أو ليس عندهم من وجه قويِّ. مثاله: ما تفرد بروايته من الثقات عبد الله بن المبارك، أخبرنا محمد بن سوقه، عن عبد الله دينار، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب، خطب بالجابية (¬3)، فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي فيكم، فقال: " استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى إن الرجل ليبتدئ بالشهادة قبل أن يسألها، فمن أراد منكم بحبحة الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، لا يخلون أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما، ومن ومن سرّتهُ حسنتهُ وسائتهُ سيئتهُ، فهو من مؤمن " (¬4). قال الحاكم: " هذا الحديث من أفراد الخراسانيين عن الكوفيين، فإن ¬

(¬1) أخرج ذلك ابنُ عساكر في " تاريخه " (26/ 139). (¬2) ذكره ابنُ رجب في " جامع العلوم والحكم " (ص: 421). (¬3) قرية في بلاد الشام، قريبة من دمشق. (¬4) أخرجه ابنُ المبارك في " مسنده " (رقم: 241) ومن طريقه: أحمد (رقم: 114) والطحاوي في " شرح المعاني " (4/ 150 _ 151) وابن حبان (16/ 239 رقم 7254) والحاكم في " المستدرك " (1/ 113 _ 114 رقم: 387) و " معرفة علوم الحديث " (ص: 102) وأبو نعيم في " معرفة الصحابة " (رقم: 44) والبيهقي في " الكبرى " (7/ 91) من طُرق عن ابن المبارك به، بعضهم اقتطع من متنه ولم يذْكره كله. وبينتُ علة الحديث في كتاب " علل الحديث " مع بيان صحته من هذا الوجه.

عبد الله بن المبارك إمام أهل الخرسان، وهذا يعد في أفراده عن محمد بن سوقة، وهو كوفي ". قلت: وأراد أنه لم يحفظه أهل الكوفة عن ابن سوقة الكوفي إلا من وجه ضعيف، وحفظه من هو من غير بلدهم من الثقات. وبقية ما يتحصل بهذا النوع يأتي في هذا الكتاب في (تميز علل الحديث). تنبيه: الألقاب الثالثة لحديث الآحاد جرى المتأخرون على ذكرها دون اعتبار ثبوت الرواية بذلك الإسناد أو تلك الأسانيد، والإسناد إنما أريد لتمييز ما يثبت من النقل وما لا يثبت، فالحديث حين يسمى (عزيراً) أو (مشهوراً) بالمعنى الاصطلاحي المتقدم، ينبغي أن ينفى عن أسانيده ما كان من روايات الكذابين والمتروكين ومن لا يعتبر بحديثه، وإنما تعتبر الأسانيد التي تندرج في حيز القبول وما يشبهه ويقرب منه، وإلا فأي عزة أو شهرة لحديث رواه متروكان أو متروكون كلٌّ بإسناد لنفسه لا يعرف إلا من طريقه؟. والواقع العملي لأهل العلم بالحديث أنهم حين يصفون الحديث بالشهرة، فذلك عندما تكثر طرقه، وتدل بأفرادها أو مجموعها، على ثبوته، فهكذا ينبغي أن يعامل هذا الوصفان. وأما (الغريب) فهذا الذي يرد فيه الثابت وغيره، بل إنك ترى وصف (الغريب) في استعمال بعض أهل الحديث قد يساوي الضعف أو يدل عليه. قال النووي: " إذا انتفت المتابعات وتمحض فرداً فله أربعة أحوال: حال يكون مخالفاً لرواية من هو أحفظ منه، فهذا ضعيف، ويسمَّى شاذاً أو منكراً. وحال لا يكون مخالفاً، ويكون هذا الرَّاوي حافظاً ضابطاً متقناً، فيكون صحيحاً.

حجية خبر الواحد الصحيح

وحال يكون قاصراً عن هذا، ولكنه قريب من درجته، فيكون حديثه حسناً. وحال يكون بعيداً عن حاله، فيكون شاذاً منكراً مردوداً " (¬1). قلت: وجميع تلك الدرجات يعرف تفصيلها من خلال دراسة هذا الكتاب. فائدة: كانوا يطلقون على الأحاديث الغرائب تسمية (الفوائد)، وجمعت طائفة ذلك وصنَّفته تحت هذا المسمَّى. قال أبو عروبة الحراني (الحسين بن أبي مشعر، وكان ثقة حافظاً) في رجل: " كان حديثه كلها فوائد "، ففسر ذلك بن عدي بقوله: " أي غرائب " (¬2). حجية خبر الواحد الصحيح: قال ابن عبد البرَّ: " أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمت، على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لاتعد خلافاً " (¬3). والأكثر ون من أهل العلم على أن خبر الواحد الثابت يوجب العمل بمقتضاه، ولا يوجب القطع (¬4) خلافاً لأبي محمد بن حزم وطائفة (¬5). ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم (1/ 34). (¬2) الكامل (3/ 357). (¬3) التمهيد (1/ 2). (¬4) التمهيد، لابن عبد البر (1/ 7، 8). (¬5) الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (1/ 108). وانظر لهذه المسألة كتابي " تَيسير علم أصول الفقه " (ص: 149 _ 151).

المبحث الرابع: المتابعات والشواهد

المبحث الرابع: المتابعات والشواهد المتابعات: جمع متابعة، وهي موافقة الراوي لغيره في رواية الحديث المعين، بشرط أن تقع لغير الصحابي الذي يروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كأن تقع للراوي عنه أو من قبله. وصورتها: أن يروي الحديث عن ابن عمر نافع مولاه، ويوافقه في روايته سالم بن عبد الله يرويه كذلك عن أبيه، فيقال: تابع سالم نافعاً، وكلُّ منهما متابعٌ ومتابعٌ. وفائدة المتابعة: رفع الغرابة في ذلك الموضوع الذي حصلت فيه الموافقة من الإسناد، وفيه تقوية الحديث من ذلك الطريق، بحسب قوة المتابع. ويشترط في المتابعة أن توافق في الإسناد، ويكفي في المتن موافقة المعنى. وربما سماها بعض المحدثين (شاهداً) توسعاً في الاستعمال، واللغة تحتمله.

الشواهد: جمع شاهد، وهو نوع من المتابعة، لكنه خاص بمن روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصحابي، فهو: المتابعة صحابي لصحابي آخر في متن حديث لفظاً أو معنى. كحديث يروى عن جابر بن عبد الله، ويروى مثله أو نحوه أو معناه عن عائشة أم المؤمنين، فيقال عن حديث جابر: له شاهد من حديث عائشة، وكذلك العكس. وكذلك يشهد المرسل للمتصل، ومعلوم أن المرسل لا ذكر للصحابي فيه، لكنه شاهد باعتبار استقلاله عن المتصل بالرواية، وتنزيل ترك الصحابي فيه منزلة مجيء الرواية عن الصحابي مجهول. ولابد أن يقع من التساوي بين الحديثين الذين يشهد أحدهما للآخر في المعنى بنحو المعنى الذي يقع في المتابعات، ولا جوز تكلف تقوية الحديث بشاهد صلته به لا تدرك إلا بتكلف (¬1). كيف يوقف على المتابعة والشاهد؟ الوقوف على متابعة أو شاهد للحديث يتم البحث عن طرق الحديث في الكتب المختلفة في الرواية المعنية بسياق الأحاديث بأسانيدها، كأصوله الكبار كالستة الأمهات والمسانيد والصحاح والسنن والمصنفات والفوائد والأجزاء الحديثية، فالحديث ربما ظن فرداً، فيطلع الباحث على طريق أو طرق أخرى بين متابع ومشاهد تزيلان الغرابة، وربما صيرتنا الضعيف المردود مقبولاً حسناً أو صحيحاً. كما أن استقصاء المتابعات والشواهد طريق الكشف عن علة الحديث. ¬

(¬1) ولهذا المعنى زيادةُ إيضاح تأتي في (القسم الثاني) من هذا الكتاب، عند الكلام على تقوية الحديث بتعدد الطُّرق.

المبحث الخامس: لطائف الإسناد

المبحث الخامس: لطائف الإسناد ‍‍ هذا مبحث قصدت التنبيه فيه على طرف يندرج في جملة أصول هذا العلم، وهو مبحث (العالي والنازل) لما سيأتي ذكره في فائدته، ولم أجد سواه ممَّا يدرج عادةًَ تحت هذا المسمى ممَّا ينبني عليه عمل في هذا العلم. ومن أشهر ما يذكر فيه من المصطلحات: (الحديث المسلسل)، لكني عدلت عنه قاصداً، إذ لم أجد منه ما يحتاج إليه في التحقيق، إلا ما تفيده صيغته أحياناً من دفع مظنِّة الانقطاع في الإسناد، وهذه فائدةٌ متحققة ضمن التأصيل لشرط الاتصال في الأسانيد. ومن علة الإعراض عن هذا النوع: أن غالب ما ادُّعي من صفات التسلسل لا يصح، ويقل جداً ما يثبت تسلسله أو يستمر منها (¬1). وقد أطالت فيها طائفة من المتأخرين، وألِّفت فيها مؤلفات مفردة، والله المستعان. ¬

(¬1) قال الذهبي: " وعامة المسلسلات واهية، وأكثرها باطلة؛ لكذب رُواتها، وأقواها: المسلسل بقراءة سورة الصف، والمسلسل بالدمشقيِّين، والمسلسل بالمصريين، والمسلسل بالمحمدين إلى ابن شهاب " (الموقظة، ص: 44).

العالي والنازل

العالي والنازل: كانت الرحلة في طلب الحديث سنة من اصطفاهم الله لحفظ الأصل الثاني لهذا الدين، المبين لكتاب رب العالمين، وكانوا يعيبون الرَّاوي الذي يقتصر على السماع ببلده، ولا يرحل. قال حرب بن إسماعيل: سئل أحمد (يعني ابن حنبل) عن الرجل يطلب الإسناد العالي؟ قال: "طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف؛ لأن أصحاب عبد الله كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة، فيتعلمون من عمر ويسمون منه " (¬1). وعن أبي العالية الرِّياحي، قال: " كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبصرة، فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة، فسمعناها من أفواهم " (¬2). والعلو نوعان، منهما يتضح معناه: النوع الأول: العلو المطلق. وهو الإسناد المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأقل عدد من الرواة. النوع الثاني: العلو النسبي. وهو العلو بالإسناد بالنسبة إلى إمام من الأئمة عرف ذلك الحديث الذي وقع فيه العلو عنه، ومحل العلو فيما بين الشيخ وذلك الأمام، بغضِّ النَّظر عن طول الإسناد في نفسه، كما سيأتي بعض مثاله في ألقابه. والنزول يعرف بضده، فحيث تبين العلو فالنزول في مقابلته. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 117) بإسناد لكتاب " العلل " للخلال، والذي يقول فيه: " حُدثت عن عبد العزيز بن جعفر ". والمقصود بعبْدِ الله في الرواية ابنُ مسعود. (¬2) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1684) وإسناده صحيح.

والنزول قد يقدم في الاعتبار على العلو، وذلك إذا لم يوجد العالي إلا من وجه لا يثبت لجرح في بعض رواته، أو انقطاع أو تدليس، وجاء بإسناد نازل صحيح. قال عبد الله بن مبارك: " بعد الإسناد أحب إلي إذا كانوا ثقات؛ لأنهم قد تربصوا به، وحديث بعيد الإسناد صحيح، خير من قريب الإسناد سقيم " (¬1). وعن الثقة عبيد الله بن عمرو الرقي، وذكر له قرب الإسناد، فقال: حديث بعيد الإسناد صحيح، خير من حديث قريب الإسناد سقيم _ أو قال ضعيف _ " (¬2). وقال الحافظ أبو يعلى الخليلي: " عوالي الأسانيد مما ينبغي أن يحتشد طالب هذا الشأن لتحصيله، ولا يعرفه إلا خواص الناس، والعوام يظنون أنه بقرب الإسناد وببعده، وبقلة العدد وكثرتهم، وإن الإسنادين يتساويان في العدد وأحدهما أعلى، بأن يكون رواته علماء وحفاظا " (¬3). واعترَّت طوائف كثيرة بقلة رجال الإسناد في معنى العلو، ولم يلاحظوا علل الأخبار، فوجدوا نسخاً عالية الأسانيد بقلة الرجال، وهي هابطة نازلة بوهائهم وسقوطهم، مثل نسخة إبراهيم بن هدبة عن أنس بن مالك، ونسخة موسى بن عبد الله الطويل عنه كذلك. قال ابن دقيق العيد: " ولا أعلم وجهاً جيداً لترجيح العلو إلا أنه أقرب إلى صحة وقلة الخطأ "، قال: " فإن كان النزول فيه إتقان، والعلو بضده، فلا تردد في أن النزول أولى " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 25) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 24) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع " (رقم: 123) وإسناده صحيح. (¬3) الإرشاد، للخليلي (1/ 177). (¬4) الاقتراح (ص: 302).

وفي العلو النسبي ألقاب استعملها المتأخرون، وذلك بالنسبة إلى إمام من الأئمة المصنفين الكبار، كالبخاري ومسلم، تلكم هي: 1_ الموافقة وهي: أن يقع لك الحديث عن شيخ مسلم مثلاً، من غير طريقه، بعدد أقل من عدد رواتك لو رأيته من طريق مسلم نفسه. 2 _ البدل، وهو: أن يقع لك الحديث لا عن شيخ مسلم، بل عن شيخ شيخه، بنفس تلك الصفة في الموافقة. 3 _ المساواة، وهي: أن يقع لك الحديث بإسناد إلى الصحابي أو من قاربه، فيكون عدد رواته فيما بينك وبينه، بعدد الرواة فيما بين مسلم وبينه. 4 _ المصافحة، أن تقع المساواة مع مسلم لشيخك لا لك، فتكون بمنزلة من صافح مسلماً؛ لكونك لقيت شيخك الذي ساوى مسلماً. وأمثلتها في صنيع المتأخرين كثيرة، وانظر للمتيسر من ذلك ما يخرجه المزي والذهبي في ثنايا كتب التراجم، كما تجده كثيراً في كتب المعاجم والمشيخات لمتأخري المحدثين. * * *

القسم الأول: تحرير أركان النظر في الحديث

القسم الأول: تحرير أركان النظر في الحديث

الباب الأول: تحليل الإسناد

الباب الأول: تحليل الإسناد

الفصل الأول: تمييز النقلة

الفصل الأول: تمييز النقلة

المبحث الأول: الطريق إلى تمييز الراوي

المبحث الأول: الطريق إلى تمييز الراوي قال علي بن المديني: " التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم " (¬1). قلت ومعرفة الرجال تبدأ بهذه الخطوة، وهي (تمييز الراوي)، فالبحث فيه يمثل (المرحلة الأولى) من البحث في الأسانيد، وذلك مقدمة لتمييز درجة الحديث من جهة صحته أو إعلاله. وغاية البحث هنا هي: التحقق من أعيان النقلة، فإن الإسناد سلسة من الرواة، هذا مذكور باسمه، وآخر بكنيته، وثالث بنسبه، ورابع بلقبه، وهكذا، فالوقوف على تعيين المراد بكل يحتاج إلى تأصيل يقي من الوقوع في الغلط في هذا الباب، فإن المطلوب في كل راوٍ أن تعرف منزلته من جهة العدالة والأهلية للرواية أو عدم ذلك، ولا سبيل إلى الوقوف على حقيقة أمره إلا بتمييز شخصيته. وهناك طريقان يستعان بهما للوصول إلى تمييز الراوي: ¬

(¬1) أخرجه الرَّامهرْمُزي في " المحدث الفاصل " (ص: 320) _ ومن طريقه: الذهبي في " السير " (11/ 47 _ 48) _ وإسناده صحيح.

الطريق الأول: تتبع مواضع رواية ذلك الحديث في كتب الحديث المختلفة. وهذا ما صار معروفاً بـ (تخريج الحديث)، فإنه يكشف عن حقيقة كثير من الأسماء المهملة من العلامة المميزة. فإسناد يخرج في " الصحيح البخاري " مثلاً يأتي فيه: (فلان عن سفيان عن فلان) تجده في موضع آخر أحياناً في نفس (الصحيح) حيث يأتي الحديث مكرراً، أو عند مسلم في (صحيحه) أو غيره من أصحاب المصنفات في الحديث، فيه (فلان عن سفيان الثوري عن فلان) فتكون زيادة (الثوري) استفيدت من البحث عن موضوع الحديث في محل آخر، فرفع الإشكال عن (سفيان) فإنه ربما احتمل قبل هذا الكشف أن يكون (سفيان بن عيينة)، أو غيره بالنسبة للمبتدئ، وأما أن يكون الثوري أو ابن عيينة فقد يغلط فيه العالم أحياناً، وذلك فيما وقع فيه الاشتراك من الشيوخ والتلاميذ بين السفيانين، مع تعسر وجود قرينة مساعد للتحقق. وتتبع ورود الحديث في المواضع المختلفة مطلوب لازم لكشف علة الحديث كذلك كما ستعلمه في (الباب الثاني) من هذا القسم. والطريق الثاني: البحث عن الراوي باستعمال العلامة المذكورة في الإسناد، في كتب تراجم الرجال. وههنا جدير أن تعلم أن الكتب المصنَّفة في رجال الحديث لم يجري مصنِّفوها على منهج مطرد ثابت، والوقوف على حقيقة الراوي فيها يتفاوت سهولة وصعوبة بحسب ما صنِّفت عليه تلك الكتب. فما روعي فيه الترتيب المعجمي للأسماء فهو أسهلها، وهو موجود في كثير من المصنَّفات الجوامع في هذا الباب، أبرزه في الكتب المتقدمين: 1 _ " التاريخ الكبير" للإمام البخاري صاحب "الصحيح " (المتوفى سنة: 256) وفيه (13782) ترجمة.

2 _ " الجرح والتعديل" للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (المتوفى سنة: 327) وفيه (18040) ترجمة. والقاعدة في الكتابين: احتواء أسماء من نقل عنه شيء من الخبر، حديثاًً مرفوعاً كان أو أثراً عن صحابي أو تابعي، وذلك إلى زمان مؤلفيهما، من غير اقتصارٍ على رواة كتاب معين، أو بلد معين، فلذا لم يقاربهما كتاب في الشمول والاستيعاب في جملة كتب التراجم التي وصلت إلينا، وما تلاحظه من زيادة التراجم في كتاب ابن أبي حاتم إنما سببه أنه عاش بعد البخاري زماناً فاستوعب رجالاً لم يذكرهم البخاري، أحياناً بفوات عليه، وغالباً لدخولهم في جملة النَّقلة بعد تصنيف البخاري، من أقرانه أو ممن جاءوا بعد موته. ويلحق بهما في الشمول والاستيعاب للرواة كتابا الإمام أبي حاتم ابن حبان البستيِّ (المتوفى سنة: 354): " الثقات " و " المرجوحين " فيندر أن يفوته رجل ذكره البخاري، وقلما يفوته رجل ذكره ابن أبي حاتم، وأحسب أن ما وقع له من الفوات مما له ذكر في كتاب ابن أبي حاتم فبسبب أنه التزم شرطاً في الثقات في ذكرهم على الطبقات. والمقصود هنا أن تعلم أن من طرق الكشف عن حقيقة الراوي أن تأخذ ما ذكر به من علامة في الإسناد وترجع للبحث عنه في كتاب البخاري أو ابن أبي حاتم من كتب المتقدمين. وأما في كتاب المتأخرين فإنك تجدها أيسر للوقوف على المقصود منها، وذلك كما لا يخفى؛ لما جرت عليه من التقريب والتبسيط، إلا أن العيب ههنا أنك لا تجد لهم كتاباً جامعاً لكل من روي عنه العلم، وإنما قصرت تأليفاتهم الجوامع في الرجال على تراجم رجال كتاب أو كتب مخصوصة، وأكبر ما وقعت منهم العناية به: رجال الكتب الأمهات الست، وإذا قصدت الحقيقة فاعلم أن أكثر من تدور عليهم الأحاديث والآثار من

الرواة لهم أحاديث مخرجة في هذه الكتب، لذا فإنك إذا بحثت عن راوٍِ في إسناد حديث يرويه الإمام أحمد بن حنبل في " مسنده "، فإنك ستجده غالباً في كتب رجال الأمهات الست، ويندر جداً أن لا يكون فيها. فإذا ظهر فاعلم أنه لم يصنف في هذا الباب على هذا المعنى كتاب أفضل من " تهذيب الكمال في أسماء الرجال " للإمام الحافظ أبي الحجاج المزِّي (المتوفى سنة: 742)، وليت جميع تراجم الرجال تستوعب على نفس منهاجه، وهو قد حوى من التراجم ثمانية آلاف ترجمة. وتتبعه في ذلك فروعه التي استفيدت منه وبنيت عليه، وأفضلها " تهذيب التهذيب " للحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة: 852). فهذه المراجع الثلاثة في الرجال كتاب البخاري وابن أبي حاتم والمزي، جميعها رتب على الحروف المعجم، والبحث عن الراوي فيها أيسر من غيرها مما لم يؤلف على منهاجها. على أنه ينبغي لك أن تعلم بعض الاصطلاحات الخاصة في هذه الكتب، فإنها مع ترتيبها على الحروف المعجم، لكن الأسماء في الحرف الواحد لم يلتزم البخاري وابن أبي حاتم ترتيبها، والتزمه المزي ومن فرع على كتابه، سوى في تقديم من اسمه (أحمد) في حرف الهمزة، ومن اسمه (محمد) في حرف الميم، ومن اسمه (عبد الله) في العبادلة، وصورة نادرة أخرى؛ وهي فصل الراوي المتفق في رسمه وحروفه المختلف في ضبطه وشكله عما وافقه في الرسم، مما يسبب الغلط للمبتدي، كما ترى مثاله في " تهذيب الكمال " بـ (عقيل بن خالد) بضم العين، فإنه فصل عمن اسمه (عقيل) بفتح العين، وجاء بعد الفراغ منه. ومثل هذه التنبيهات لا نأتي على استقصائها، إنما ينبغي للطالب أن ينتبه إلى مثلها، كما عليه أن يلاحظ منهج كل صاحب تصنيف قبل أن يتقحَّم الأخذ عنه.

البحث عن الراوي في غير المراجع المتقدمة: أما البحث عن الراوي في غيرها مما صنف عشوائياً في الرجال، أو بطريقة تحتاج إلى خبرة سابقة بمنهج مؤلفيها؛ ممكن، إما باستقرائها من أولها إلى منتهاها، وإما بالخبرة بطريقة مؤلفها وإدراك كونها مظنةً لوجود مثل هذا الراوي أو ذاك فيها، وإما بالاستعانة بالفهارس المعجمية التي تلحق بها من قبل محققيها، أو فهارس لها مستقلة عنها، لكني أنبهك إلى خطورة أن تجزم بنفي مجرد أنك لم تقف على ذكر للراوي في الفهرس إلا أن تكون على ثقة تامة بعلم ومعرفة من صنعه، فإنك اليوم ترى كثيراً من الفهارس لكتب رجال الحديث ولأطراف الأحاديث لم يصنعها ذوو خبرة، يقع لهم فيها من الغلط شيء كثير، ومن الفوات أكثر. المقصود: أنه لما كان هذا الباب من العلم شديداً خطيراً لما ينبني عليه من تثبيت دين؛ فإن الباحث لا يستغني بواحد من الطريقين عن الآخر، فربما خرج الحديث، ووجد تقييد (سفيان) بـ (الثوري) في رواية أخرى، لكن حيث يشترك السفيانان في كثير من الروايات فهو محتاج إلى أن يتبين أن التفسير الذي جاء في الموضع الآخر للحديث يقين في أن (سفيان) هو (الثوري) في الموضع الأول، وليست مشاركة وقعت من الثوري لا بن عيينة، وكذلك لو استعمل طريق البحث الثاني دون الأول، فإن ما يرد عليه أكثر مما يرد على الطريق الأول. إذا؛ الوقوف على النتيجة المبدئية باستعمال واحد من الطريقين لا يكفي للتحقق إلى درجة اليقين، فحيث كان مطلوباً؛ فإنه يلزم لتحقيقه استعمال الطريقين. نعم؛ الحافظ والمحدث تحصل له ملكة خاصة يميز بها الرواة، ربما أغنته عن تتبع ما أشرحه في هذا الفصل، لكني أظن أنه ربما احتاج لمعرفة بعضه، خصوصاً في هذا الزمان المتأخر، وإنما هي بمنزلة التبصرة للطالب المبتدي والتذكرة للعارف المنتهي.

المبحث الثاني: تمييز الراوي بما يعرف به من اسم وكنية ونسب ولقب وصفة أخرى

المبحث الثاني: تمييز الراوي بما يعرف به من اسم وكنية ونسب ولقب وصفة أخرى إذا جئت إلى إسناد كهذا: " دحيم، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدثنا أبو سلمة، عن عمرو بن أمية، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأردت التعرف على رواته من خلال النظر في كتب الرجال، فإن سبيلك إلى ذلك الوقوف على الراوي باسمه لا بكنيته أو نسبه أو لقبه، إلا أن يفيد البحث أنه لا يعرف باسم وعرف بعلامة من العلامات الأخرى. وهذا إسناد لو تعرفت على رجاله، وجدت فيهم المسمى، وآخر مذكوراً بكنيته، وثالثاً مذكوراً بنسبه، ورابعاً مذكوراً بلقبه، وحيث إن المقصود من البحث عن الرواة التوصل إلى معرفة طبقة الراوي ومن أدرك من الشيوخ ومن أدركه من التلاميذ، ومعرفة حاله من جهة الأهلية للرواية أو عدمها، فإن بحثك لن يقف بك حتى تصير إلى ذلك من أمره، والراوي قد يذكر باسمه الواضح الصريح ويقع له فيه مشارك مما يعيق التيقن من كونه المراد إلا ببحث زائد، فكيف به إذا ذكر بغير اسمه الصريح من كنية أو نسب أو لقب؟

الدلالة الأولى: تمييز الأسماء

فيما يأتي ذكر دلالات ست تهديك للتوصل إلى مراده مرتبة بحسب أبواب ما ترد عليه أسماء الرواة في الأسانيد: الدلالة الأولى: تمييز الأسماء الراوي يأتي في الإسناد مسمى على صفتين: الصفة الأولى: مهملاً من القيد، كقول المحدث: (حدثنا يونس) دون أن يذكر معه نسبة إلى أب أو غيره، وهذا يقع عادة لمن قد عرف من الرواة وتميز إلى حد أغنى عن ذكر علامات زائدة يميز بها، فتركوا ذكر العلامات اختصاراً، ولم يكن يشق عليهم معرفته، فإنهم إذا رأوا مروزياً قال: في روايته: (حدثنا عبد الله) فلا يخفى على ماهر بالصنعة أنه عبد الله بن المبارك الإمام الحافظ الكبير، مع كثرة من اسمه (عبد الله) في الرواة، وكذا يقول القائل: (حدثنا شعبة) أو (مالك) فمع ورود طائفة في الرواة ممن يسمى (شعبة) وطوائف ممن يسمى (مالكاً) لكنه يدرك ابتداء أن شعبة هو ابن الحجاج، ومالكاً هو ابن أنس، والعلامة التي يحتاجها العارف لتمييز ذلك هي تصور طبقة الراوي الذي جاء اسمه مهملاً من القيد. نعم؛ يشكل منها الأسماء التي تأتي مهملة وتشترك ولا تساعد معرفة الطبقة على تمييزها، إنما تستلزم معرفة زائدة بقرائن معينة تفصل الاشتراك، كقول المحدث: (حدثني سفيان) فجائز أن يكون الثوري، وجائز أن يكون ابن عيينة، أو: (حدثنا حماد) فجائز أن ابن زيد وجائز أن يكون ابن سلمة. فإن قلت: فما يصنع المبتدي في ذلك؟ قلت: ما كان من هذا النمط من الرواة فبصيرتك فيه تستفاد من (المبحث الثالث). الصفة الثانية: مقيداً باسم الأب أو غيره، مثل قول المحدث: (حدثنا قتيبة بن سعيد).

فما ورد على هذه الصفة فإن الوقوف عليه في كتب التراجم المرتبة كالتي أسلفت ذكرها ميسور، لكن عليك أن تلا حظ أمرين: الأول: طبقة الراوي والتي سيأتي بيان ما يتصل بها في (المبحث الثالث). والثاني: المرجع الذي يكون مظنة للوقوف على الترجمة فيه. فلو أردت البحث عن (قتيبة بن سعيد) فلاحظ موضع وجوده في الإسناد: أهو متقدم في الرواة أو متأخر؟ فلو وجدته في إسناد يقارب في الزمن زمان شيوخ البخاري ومسلم، كأن تراه في إسناد لأبي داود السجستاني صاحب " السنن " (المتوفى سنة: 275)، أو فوق هذا الزمن إلى الزمن النبوي، فالمظنة في الوقوف عليه: " تاريخ " البخاري وكتاب ابن أبي حاتم و " التهذيب " للمزي. لكنك لو كنت تبحث مثلاً عن أحد شيوخ الحافظ أبي القاسم الطبراني (المتوفى سنة: 360)، فليس " تاريخ " البخاري مظنة للوقوف على اسمه فيه، وكتاب " الجرح والتعديل " مظنة ضعيفة، و" التهذيب " مظنة محتملة بتوسط، فيوجد فيه تراجم جماعة من شيوخ الطبراني، والسبب في ذلك تأخر هؤلاء الشيوخ في الطبقة في زمن بُعَيْدَ البخاري أو في طبقته، وقد ولد الطبراني بعد موت البخاري بأربع سنين، وابن أبي حاتم من طبقة شيوخ الطبراني، فمن كان منهم قديماً وجدته في " الجرح والتعديل "، ومن تأخر منهم ضعف الوقوف عليه فيه، و" التهذيب " في تراجم رجال الكتب الستة الأمهات، وقد أدرك الطبراني السماع من طائفة من شيوخ بعض الأئمة الستة. أما إذا جئت للبحث عن أحد الشيوخ الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة: 405) فلست تقف عليه في شيء من المراجع الثلاثة المذكورة، وطريق البحث عنه شاق، خصوصاً أنه لا يوجد مصنف خاص في تراجم شيوخ

الحاكم، وهو ممن روى عن خلق كثيرين من بلاد شتى، فالوقوف على ترجمة شيخ من شيوخه يقتضي منك بحثاً قد يطول وقد يقصر بحسب ظهور أمر ذلك الشيخ: فجائز أن يكون من الموصوفين بالحفظ والإتقان والثقة والضبط، وجائز أن لا يكون كذلك، فاحتمله حافظاً مشهوراً وانظر من المصنفات التي تكون مظنة لمثله، مثل: " تذكرة الحافظ " للذهبي، و" سير أعلام النبلاء " له، فإن لم تجده فاحتمله مجروحاً، وانظر أجمع ما ألف في المجروحين ممن لم يترجم منهم في " تهذيب الكمال "، ذلك هو كتاب " لسان الميزان " لابن حجر، فإنه حوى أسماء أغلب من يذكر بالجرح إلى العصور المتأخرة. فإن تعذر عليك الوقوف على ترجمته فجهدك في سائر المصنفات في تراجم الرواة، فإن جاء في الإسناد منسوباً إلى بلد، فانظر إن كان لذلك البلد تاريخ للرجال مما بأيدي الناس اليوم، فإن نسب (بغدادياً) فارجع إلى " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي (المتوفى سنة: 463) وإن نسب ... (دمشقياً) أو (شامياً) فارجع إلى " تاريخ دمشق " لابن عساكر (المتوفى سنة: 571)، كل ذلك بشرط ملاحظة أن يكون ذلك الكتاب في التاريخ صنف بعد شيخ الحاكم في الزمن، فإنه لو نسب (واسطياً) مثلاً، فلا تذهب إلى " تاريخ واسط " للحافظ بحشل الو اسطي؛ وذلك لتقدمه، فإن بحشلاً هذا توفي سنة (292). على أنك ينبغي أن تلاحظ إمكان وقوع نسبة الراوي إلى (بغداد) مثلاً، ومن شرط الخطيب أن يكون مذكوراً في كتابه، لكنك لا تراه فيه. وإن وقع الراوي غير منسوب إلى بلد؛ فشأنك في البحث، فانظر في جميع ما تهيأ لك من كتب الرواة التي تظن أن يكون الراوي مترجماً فيها، وذلك كتاريخي الخطيب وابن عساكر، ومعاجم الشيوخ والمشيخات والسؤالات والأجزاء، وبعض التواريخ العامة للرواة، كـ"الإرشاد " للخليلي

(المتوفى سنة: 446)، والتاريخ الشامل " تاريخ الإسلام " للذهبي، كما يجوز أن يكون مترجماً في الكتب التي اعنت بذكر (المشتبه) من أسماء الرواة، خصوصاً إذا ظننت أن الراوي ممن يتداخل اسمه مع آخر يقاربه في رسمه، أو يوافقه فيه لكن يخالفه في شكله وضبطه، ومن أجمع تلك الكتب: "الإكمال " للحافظ أبي نصر ابن ما كولا (المتوفى سنة: 487) و " تكملة الإكمال " للحافظ أبي بكر ابن نقطة (المتوفى سنة: 629) و " توضيح المشتبه " للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (المتوفى سنة: 842). تعذر الوقوف على ترجمة للراوي مع مجيئه مسمى: ربما تعذر عليك الوقوف على الترجمة للراوي مع اهتدائك بما تقدم، وهذا جائز، فإن حصل فلواحد من أسباب أربعة: السبب الأول: أن يكون الراوي وقع منسوباً إلى أبيه نسبةً غير صريحة، أو إلى أحد أجداده. وهذا واقع في الرواة على وجوه، إليكها بأمثلتها: 1 _ من نسب إلى أبيه، لكن بكنية الأب. مثاله (أشعث بن أبي الشعثاء)، وهو: أشعث بن سليم، (أبو الشعثاء) كنية والده سليم بن أسود. وفي الرواة: (كثير بن معدان) هكذا ينسبه بعضهم إلى اسم أبيه، لكن قال أبو حاتم الرازي كذلك: " ويقال له: كثير ابن أبي كثير، وكثير بن أبي أعين، وكثير أبو محمد، وكل صحيح " (¬1). 2 _ من نسب إلى أبيه، لكن بنسب الأب. مثاله: (عبد الرحمن بن الأصبهاني)، وهو: عبد الرحمن بن عبد الله، و (الأصبهاني) نسب عبد الله. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 2 / 157)، وانظر: التاريخ الكبير للبُخاري (4/ 1 / 211 _ 212).

3 _ من نسب إلى أبيه، لكن بلقب الأب. مثاله: (إسحاق بن راهويه)، وهو: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، و (راهويه) لقب لأبيه. 4 _ من نسب إلى جده من جهة أبيه. مثاله: (أحمد بن يونس)، وهو: أحمد بن عبد الله بن يونس. 5 _ من نسب إلى جده من جهة أمه. مثاله: (سليمان بن شرحبيل)، وهو: سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، و (شرحبيل) هو ابن مسلم جده من قبل أمه. و" تهذيب الكمال " وفروعه تسعف في تمييز كثير من هؤلاء وذلك بالرجوع إلى اسم الراوي على ما ترى من نسبته في الإسناد كـ (أحمد بن يونس) فتراه أحالك على (أحمد بن عبد الله بن يونس)، لكن ما عجزت عنه فطريقك لكشفه (المبحث الثالث). والسبب الثاني: أن يكون الراوي يسمى بأكثر من اسم، وذلك على سبيل التدليس إخفاء لحقيقته. وهذا مما يشق الكشف عنه، ويقتضي بحثاً واحتياطاً شديدين. مثاله: ما وقع من جماعة من الرواة من تسمية (محمد بن سعيد الشامي) المعروف بـ (المصلوب) وهو كذاب زنديق، بأسماء كثيرة مختلفة تعمية لأمره. قال أبو طالب عبد الله بن أحمد بن سوادة (وكان صدوقاً): " قلب أهل الشام اسم محمد بن سعيد الزنديق على مئة اسم وكذا وكذا اسماً، قد جمعتها في كتاب، وهو الذي أفسد كثير من حديثهم " (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الموضح لأوهام الجمع والتفريق " (2/ 349).

ومن أسمائه: محمد بن سعيد بن حسان، ومحمد بن سعيد الأسدي، ومحمد بن حسان، ومحمد بن أبي قيس، ومحمد بن أبي زكريا، ومحمد بن عبد الرحمن، وأبو عبد الرحمن الشامي، وأبو قيس الدمشقي، ومحمد الطبري. والسبب الثالث: وقوع تصحيف أو تحريف. مثل: (حضين) بالضاد المنقوطة تصحف إلى (حصين) بالصاد المهملة، و (حبان) بالباء الموحدة إلى (حيان) بالياء المثنَّاة من تحت، أو (مسعر) تحرف إلى (مسعود)، و (عبدة) إلى (عبيدة). وليقوَ في ظنك احتمال وقوع التصحيف أو التحريف إذا كان الراوي من شرط البخاري وابن أبي حاتم، أي كان متقدماً؛ لأنه لا يكاد يخرج عن كتابيهما راوٍِ لشيء من العلم تقدم زمانها. وطريق كشفه استعمال مرحلتي البحث الآتيتين في المبحثين (الثالث والرابع). والسبب الرابع: لا ذكر له في كتب التراجم. وهذا وارد على من تأخر من الرواة عن درجة رجال الكتب الستة الأمهات، فإنه لم يلتزم أحد أن يتتبع من روى العلم بعدهم من جميع أصناف الرواة، فجائز أن يكون الرجل من شيوخ الطبراني أو الدارقطني أو الحاكم أو البيهقي أو الخطيب أو ابن عساكر، ومن في طبقاتهم ويقرب منهم من الأئمة المصنفين في الحديث، لا تجد له ترجمة في شيء من الكتب. ومن كان بهذه المثابة فانظر حكمه في الكلام على (الجهالة) من هذا الكتاب.

الدلالة الثانية: تمييز الكنى

الدلالة الثانية: تمييز الكنى مجيء الراوي بكنيته في الإسناد كثيرٌ جداًَ، ولايقال (كنيةٌ) إلا لما جاء من الأسماء مضافاً إلى (أبو) أو (أم). ومجيئه في الأسانيد على صورتين: الأولى: بلفظ الكنية مجرداً من قيدٍ زائد، كقول المحدث: (عن أبي الأحوص). والثانية: بلفظ الكنية مع قيد زائد في التعريف، كقول المحدث: " (حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء)، أو (حدثنا أبو بكر بن الخلاد)،: أو (حدثنا أبو الطاهر بن السرح) أو: (عن أبي إسحاق الهمْداني) أو: (عن أبي حمزة القصاب)، أو: (حدثنا أبو السعيد مولى بني هاشم). والصورة الثانية أسهل في الوقوف عليها من الصورة الأولى، لما في القيد من فائدة التمييز، ومن ذكر منها باسمه مع كنيته كـ (أبي كريب) فلا يشكل ذكر كنيته في شيء. الطريق إلى تمييزهم: يقع بالرجوع إلى نوعين من التصانيف: النوع الأول: الجوامع من كتب تراجم الرجال، كالجوامع الثلاثة المتقدم ذكرها، وذلك في فصل خاص عقد في أواخرها في الكنى، وهي مرتبة على حروف المعجم، وكنى النساء بعد أسمائهن في " تهذيب الكمال " وبعد كنى الرجال في " الجرح والتعديل ". والنوع الثاني: كتب خاصة ألفت في (الكنى)، ككتاب " الكنى والأسماء " للإمام مسلم بن الحجاج صاحب " الصحيح " (المتوفى سنة: 261)، و " الكنى والأسماء " للحافظ أبي بشر الدولابي (المتوفى سنة: 310)، و " الاستغناء في

معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى " للحافظ أبي عمر بن عبد البر (المتوفى سنة: 463). واعلم أن الذين يذكرون من الرواة بالكنى على أقسام: 1 _ من تكون كنيته اسمه. مثاله: (أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي) أحد فقهاء المدينة السبعة. و (أبو حصين بن يحيى بن سليمان الرازي) قال أبو حاتم الرازي: قلت له: هل لك اسم؟ قال: لا، اسمي وكنيتي واحد، فقلت: فأنا قد سميتك عبد الله، فتبسم (¬1). 2 _ من اشتهر بكنيته، ولا يدري إن كان له اسم غيرها أم لا. مثاله: (أبو بكر بن نافع مولى ابن عمر)، و (أبو بكر بن عياش). هذا القسم والذي قبله إن بحثت عنهم في النوعين السابقين من كتب التراجم وقفت على أمرهم فيها، جميعها أو في بعضها. على أنك تحتاج إلى استحضار الأمرين الذين نبهتك عليهما في (تميز الأسماء) وهما مراعاة طبقة الراوي من خلال موضعه في الإسناد، والكتاب الذي هو مظنة لوجوده فيه. 3 _ من اشتهر بكنيته واختلف في اسمه. مثاله: (أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم)، فقيل في اسمه: (بكير) وقيل غير ذلك. فهذا إذا بحثت عنه في " تاريخ " البخاري وجدته في " الكنى "، بينما ذكره ابن أبي حاتم فيمن اسمه (بكير) من حرف الباء، وفي " تهذيب الكمال " في (الكنى)، فتفطن لمثل هذا فليس له قاعدة. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 364).

أما كتب الكنى المستقلة كالثلاثة التي ذكرت، فذكره فيها من شرطها. 4 _ من اشتهر بكنيته وله اسم معروف. مثاله: (أبو عاصم النبيل) و (أبو العالية الرياحي) و (أبو إدريس الخولاني). وهذا أكثر الأقسام وروداً في الأسانيد، وهو لا يذكر في فصل (الكنى) في كتابي البخاري وابن أبي حاتم، إنما من كان منهم من شرط " تهذيب الكمال " وجدته فيه، ومن لم يكن في شرطه فربما وجدته في كتب الكنى المستقلة، وربما لم تجده؛ لأنها لم تستوعب جميع ذلك. على أنك إذا جئت إلى من يذكر بالكنى ممن بعد مسلم والدولابي ومن قرب من طبقتهما ممن ألف في ذلك، فإنه يشق الوقوف عليه، وبخاصة من كان من هذا القسم منهم، وابن عبد البر مع تأخر زمانه إلا أنه اقتصر على أصحاب الكنى قبل شيوع التصنيف في الحديث، إلى نحو أواسط المئة الثالثة. فالطريق الأقرب لاكتشافهم بعلامة أخرى في الإسناد، على ما يأتي في (المبحث الثالث). 5 _ من ذكر بكنية، وهو مشهور باسمه. مثاله: (أبو حفص عمر بن الخطاب) و (أبو الحسن علي بن أبي طالب) و (أبو عبد الله بن مالك بن أنس) و (أبو بسطام شعبة بن الحجاج). وهذا الصنف ذكره على سبيل التتمة للأقسام، وإلا فإنهم لا يذكرون في الأسانيد بكناهم دون أسمائهم. ومما عليك أن تلاحظه: أن من الرواة من يذكر بكنيته منسوباً إلى أبيه أو جده بكنية الأب أو الجد، مثاله:

الدلالة الثالثة: تمييز الأنساب

(أبو القاسم بن أبي الزناد)، اسم أبيه: عبد الله بن ذكوان. (أبو بكر بن أبي شيبة)، هو: عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان، و (أبو شيبة) كنية جده إبراهيم. (أبو عبيدة بن أبي السفر)، هو: أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي سفر، واسم (أبي السَّفر) سعيد بن يحمد. كما ينبغي أن تلاحظ أن من الألقاب ما أتى على لفظ الكنية، كما سيأتي في (تمييز الألقاب). الدلالة الثالثة: تمييز الأنساب (النسب) تكون إلى قبيلة أو الجد أو البلد أو الصنعة أو غير ذلك، وهي واقعة في الرواة على الوجوه المختلفة. من أمثلتها: (الأشجعي) يروي عنه أبو النضر هاشم بن القاسم وطبقته، هو: عبيد الله بن عبيد الرحمن، ونسبته إلى القبيلة. (المسعودى) يروي عنه أبو نعيم الفضل بن دكين وطبقته، هو: عبد الرحمن بن عبد الله، ونسبته إلى الجد. (الفريابي) من أصحاب سفيان الثوري، هو: محمد بن يوسف، ونسبته إلى البلد. (المجمر) من أصحاب أبي هريرة، هو: نعيم بن عبد الله، ونسبته إلى صنعة، وهي تجمير المساجد، أي تطيبه بالبخور. وما من راو ٍإلا وله نسبة، وليس يعني الباحث في الرجال معرفة ذلك إلا بمقدار ما يفيد في التعريف بشخصية الراوي.

الدلالة الرابعة: تمييز الألقاب

كذلك المقصود ههنا: من يأتي من الرواة في الأسانيد بنسبه فقط، أو بنسبه مع علامة لا تساعد في تمييزه، أما من يأتي اسمه مقروناً بنسبه، وهو كثير في الرواة جداً، فهذا ليس معنياً بهذه الدلالة لإمكان الوقوف عليه بطريق سهلة. الطريق إلى تميزها: بالنظر فيما يأتي: 1 _ فصل خاص في (الأنساب) في أواخر " تهذيب الكمال " وفروعه، وذلك إذا كان الراوي من شرط " التهذيب ". 2 _ كتب مخصوصة مؤلفة في (الأنساب) رتبت على حروف المعجم. وليس فيها أفضل ولا أجمع من كتاب " الأنساب " للحافظ أبي سعد السمعاني (المتوفى سنة: 562). لكنك قد لا تقف على بغيتك فيه، فإنه يذكر النسبة ويذكر أمثلة ممن يندرج تحتها من الرواة أو غيرهم، ولا يستقصي. 3 _ يقع في (الأنساب) الاشتباه كثيراً في الرسم والضبط، فربما وجدت بغيتك في كتب (المشتبه)، خصوصاً الثلاثة التي أسلفت ذكرها في (تمييز الأسماء). 4 _ إن وقعت النسبة إلى بلد، فارجع إلى اسم ذلك البلد في " معجم البلدان " للعلامة المؤرخ ياقوت الحموي (المتوفى سنة: 626). فإن عجزت فارجع إلى المرحلة الثانية في المبحث التالي. الدلالة الرابعة: تمييز الألقاب اللقب: أن يدعى الإنسان بغير اسمه من الأوصاف التي تلحقه لسبب، وتجيء مدحاً وهو قليل، مثل: (الصديق، والصادق، وزين العبدين)، أو

ذماً وهو الغالب، مثل ما يتبع صفة خلقية وهو كثير، كـ (الأعمى، والأصم، والأعرج، والأسود، والأزرق) أو أمراً آخر كـ (غندر) وقيل معناه (المشغب). كما يأتي أحياناً بصيغة الكنية، وهو لقب، مثل: (أبي الزناد) لقب عبد الله بن ذكوان، وكنيته (أبو عبد الرحمن). ومثل: (أبي الشيخ) لقب أبي محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني. ومجيء الراوي في الأسانيد بلقبه كثير شائع، ويأتي في الغالب مهملاً من علامة زائدة، فترى قول المحدث: (عن الأعرج) يعني عبد الرحمن بن هرمز. و (عن الأعمش) يعني سليمان بن مهران. و (حدثنا بندار) يعني محمد بن بشار. والتيقظ لذلك من مهمات علم الرجال، والغلط فيه يقع كثيراً، فربما تبادر إلى ذهنك أنه اسم فتذهب تبحث عنه في الأسماء فلا تراه فيها، فتحسب أنه غير موجود. فلو جئت إلى قول ابن أبي فديك: حدثني حماد بن أبي حميد الزرقي، عن عون بن عبد الله، في حديث خرجه أبو عبد الله بن ماجة في " سننه " (¬1)، فإنك لا يتبادر إلى ذهنك أن (حماداً) لقب، لمجيء مثله في الأسماء عادة، وستذهب للبحث عنه فيها. نعم؛ لو بدأت بـ"تهذيب الكمال " أو بعض فروعه وعدت إلى من اسمه (حماد) وجدت الإحالة على اسمه الحقيقي، وذلك لما لقي رجال الأئمة الستة من العناية، لكن هب أنك عدت إلى " تاريخ" البخاري أو ¬

(¬1) الحديث (رقم: 4197) من كتاب (الزهد).

حكم استعمال ألقاب المحدثين في دراسة الأسانيد:

" الجرح والتعديل " فإنك سوف لن تجد له ذكراً فيمن اسمه (حماد)، ولو كان الرجل ليس من شرط " تهذيب الكمال " فليس لك حيلة للكشف عن حقيقته في الأسماء، وحينئذ فلا تعجل بالنفي، فجائز أن يكون لقباً. ومن أشد ما يقع التغرير به من ألقاب الرواة مجيء الراوي بلقبه منسوباً إلى أبيه، كهذا المثال، وكقول المحدث: (حدثنا وهبان بن بقية) أو (عارم بن الفضل) أو (عبدان بن عثمان)، فهؤلاء مذكورون بالألقاب لا بالأسماء، فـ (وهبان): وهب، وعـ (عارم) محمد، و (عبدان) عبد الله. الطريق إلى تمييزها: بالبحث فيما يلي: 1 - " تهذيب الكمال " وفروعه في فصل خاص في أواخرها. 2 - كتب مفردة في هذا الباب، من أجمعها كتاب " نزهة الألباب في الألقاب " للحافظ ابن حجر العسقلاني. 3 - كتب (المشتبه) في أفراد من تلك الألقاب ليست كثيرة. 4 - في بعض معاجم اللغة، كـ" القاموس المحيط " وغيره ضمن المواد اللغوية، والبحث عن اللقب فيها كالبحث عن أي مادة لغوية بالتجريد من الحروف الزائدة في الكلمة. حكم استعمال ألقاب المحدثين في دراسة الأسانيد: تعريف الراوي باسمه أو كنيته أو نسبه؛ هو الأصل في تمييز الناس، ولو نقل عن إنسان كراهته لاسم أو كنية أو نسب عرف بها واشتهر، فلا ينبغي أن يرد في ذلك محذور، وإن لم يأت على رضاه، أما الألقاب فإنه قد دخل الحرج على بعض أهل العلم من التعريف بما كان يرجع منها إلى قبح وذم، واستدلوا بقوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الفُّسُوقُ

بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11]، ووجدوا النقل عن بعض الرواة بكرا هتهم لما لقبوا به. والتحقيق: أن هذه الألقاب أصبحت لمن عرف وشاع ذكره بها بمنزلة الاسم العلم، لا تذكر على سبيل الانتقاص، فلا تتصور محدثاً يأتي على ذكر (الأعمش) في إسناد وهو يقصد شينه بصفة العمش، إنما هو في استعماله بمنزلة قوله: (سليمان بن مهران)، بل ربما اقترن عنده ذكر (الأعمش) بأجمل الصفات اللائقة به رحمه الله، فهو يستحضر (الأعمش) الأمام الثقة الحافظ المتقن القارىء الصالح. وأنت ترى في الأسماء ما لو رجعت إلى أصله ومعناه وأصل اشتقاقه لو جدته يرجع إلى معنى غير محمود، لكن حيث عرف به المسمى به وصار علماً عليه فقد أهمل اعتبار أصله، فلا فرق في اعتبار هذا المعنى في الألقاب لنفس العلة. قال عبدة بن سليمان (مروزي ثقة): سمعت ابن المبارك وسئل عن (فلان القصير) و (فلان الأعرج) و (فلان الأصفر) و (حميد الطويل)؟ قال: " إذا أراد صفته ولم يرد عيبه فلا بأس " (¬1). وقال أبو بكر الأثرم: سمعت أحمد - يعنى ابن حنبل - سئل عن الرجل يعرف بلقبه؟ قال: " إذا لم يعرف إلا به جاز " ثم قال: " الأعمش إنما يعرفه الناس بهذا " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1244) بإسناد صحيح، وذكره ابنُ حجر في " نزهة الألباب " (1/ 45) لكن وقع فيه: (عبدة بن عبد الرحيم)، وهذا أيضاً مرزويٌّ ثقة. (¬2) نزهة الألباب، لابن حجر (1/ 45).

الدلالة الخامسة: تمييز الأبناء

وقال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد سئل عن الرجل يكون له اللقب، لا يعرف إلا به، ولا يكرهه؟ قال: " أليس يقال: سليمان الأعمش، وحميد الطويل؟ " كأنه لا يرى به بأساً (¬1). الدلالة الخامسة: تمييز الأبناء المراد بهذا من يأتي من الرواة في الأسانيد بصيغة (ابن كذا). وهو الواقع في رجال الحديث بإضافة (ابن) إلى: 1_ الأب، كقول المحدث: (حدثني ابن إسحاق) يعني محمداً صاحب " السيرة " و (عن ابن أبي ليلى) يعني عبد الرحمن، أضيف إلى أبيه بكنية الأب، وكذلك هو محمد عبد الرحمن بن أبي ليلى، أضيف إلى جده. 2 _ الجد، كقول المحدث: (عن ابن جريج) يعني عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أضيف إلى جده، و (عن ابن شهاب) يعني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وأضيف إلى جد أعلى. و (حدثنا ابن منيع) يتبادر أنه نسبة للأب، وهو كذلك في الحافظ (أحمد بن منيع)، ولا يشكل هذا، لكنه يشكل في ابن ابنته (أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي)، فإن كثيراً من المحدثين يقول فيه: (ابن منيع) ينسبه إلى جده من قبل أمه. 3 _ الأم، كقول المحدث: (حدثنا ابن علية) يعني إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، أضيف إلى أمه. وحكي أنه كان يكره ذلك (¬2)، ومن أجل كراهته فقد كان الإمام أحمد روى عنه في " المسند " حديثاً كثيراً، لا يكاد ينسبه إلا إلى أبيه. ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 283). (¬2) انظر: الجامع لأخلاق الراوي للخطيب (رقم: 1237) في سياق خبرٍ في تأييد ذلك.

الدلالة السادسة: تمييز النساء

4 _ العم، كقول المحدث: (حدثنا ابن أخي ابن وهب) يعني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، أضيف إلى عمه عبد الله بن وهب. الطريق إلى تمييز ذلك: ليس بين أيدينا مصنف خاص في تمييز من يأتي على هذه الصفة من الرواة، سوى فصل تراه آخر " تهذيب الكمال " وفروعه نافع، ومن لا يعرف اسمه من الرواة ربما وجدته في آخر " الجرح والتعديل ". الدلالة السادسة: تمييز النساء الروايات من النساء قليلات، وكثير منهن لا تقف لهن في تراجمهن على أكثر من ذكر أسمائهن. وأسماء النساء ظاهرة في الغالب، فإذا وافقك ذكر امرأة في الإسناد، فطريق الوقوف على ترجمتها بالرجوع إلى: 1_ فصل (النساء) من " تهذيب الكمال " وفروعه في آخر الكتاب. 2 _ جزء خاص في " الطبقات الكبرى " للحافظ محمد بن سعد (المتوفى سنة: 230) وهو آخر الكتاب، عقد النساء. 3 _ " الثقات " لابن حبان، وطريقته ذكر أسماء الرجال في كل طبقة على الحروف، ثم يتبعها أسماء النساء من ذلك الحرف. 4 _ وللصحابيات انظر: آخر " الإصابة " لابن حجر، ولغيرهن فصلاً في (النسوة المجهولات) في آخر " الميزان " للذهبي. 5 _ وفي بعض كتب البلدان، مثل " تاريخ دمشق " لا بن عساكر، في آخره. 6 _ وأجمع ما كتب في ذكر في أسمائهن لكنه لم يقتصر منهن على

المحدثات، كتاب " أعلام النساء " للعلامة المؤرخ عمر رضا كحالة، وفيه فوائد جمة. وقولي فيما تقدم: (أسماء النساء ظاهرة في الغالب) وأشير إلى وقوع اللبس في بعض ذلك نادراً، فـ (أسماء) و (جويرية) من أسماء النساء عادة، و (طلحة) من أسماء الرجال عادة، لكنك تجد في الرجال (أسماء بن الحكم) وغيره، و (جويرية بن أسماء) وغيره، وفي النساء (طلحة أم غراب) , وهكذا، ولا يقع الإشكال في ورود الاسم منسوباً إلى الأب أو بعلامة تزيل الاشتباه، وإنما يقع فيما يأتي مهملاً من الأسماء، مثل (جويرية) المذكور آنفاً. وربما بحثت عن المحادثة فلم تجد لها ترجمة ولا ذكر في غير الإسناد الذي وجدتها فيه، فانتبه لذلك. تتمة: ما تراه من الصفات زائدة تذكر في الراوي في سياق الإسناد غير ما تقدم ذكره في الدلالات آنفاً، مثل نسبة الراوي إلى مولاه، كقول المحدث: (عن نافع مولى ابن عمر)، أو ذكر صفات ثناء أو جرح للراوي كقول المحدث: (حدثنا فلان وكان ثقة)، أو: (وكان ضعيفاً)، أو حكاية بعض شأنه أو عام تحديثه أو بلد تحديثه، أو غير ذلك، فكله مفيد في التعريف بالراوي، وهو بمنزلة القيد المساعد للوقوف على حقيقته، لكن لا يقوم شيء من ذلك مجرداً كعلامة لتحقيق ذلك. * * *

المبحث الثالث: تميز الراوي بمعرفة شيوخه وتلاميذه وطبقته

المبحث الثالث: تميز الراوي بمعرفة شيوخه وتلاميذه وطبقته هذا الفصل يمثل (المرحلة الثانية) من البحث عن الراوي وتمييزه. وقد تقدم في (المبحث السابق) توضيح المفاتيح الأولى للوقوف على الراوي في كتب التراجم، وتكون تلك المفاتيح في الغالب قائدة إليه ودالة عليه، وفي أحيان كثيرة لا تسعفك في الوقوف على المراد مع الوضوح في العلامة، بسبب الاشتراك في الأسماء. وعلى أي الحالين فأنت محتاج إلى مراعاة ما سأبينه لك في هذا الفصل لسببين: أولهما: إذا وقفت على الاسم في كتب التراجم، فلا يصح الجزم بأنه هو المراد بمجرد اتباع تلك الخطوة من البحث حتى تنضم إليها قرائن أخرى يتحصل بها اليقين بأنه المقصود. وثانيهما: إذا وقفت عليه ضمن عدد كلهم يسمون بمثل اسمه ويشاركونه في تلك العلامة الظاهرة، فإنه يتعذر عليك معه أن تقول بمجرد اعتماد الاسم: هو فلان، وإنما تحتاج إلى وسيلة محددة للمقصود.

الفرع الأول: تمييز الشيوخ والتلاميذ

والإبانة عن ذلك وتوضيحه في فرعين: الفرع الأول: تمييز الشيوخ والتلاميذ. الفرع الثاني: تمييز طبقات الرواة. وفهم هذين الأصلين مقدمة في غاية الأهمية لمرحلة البحث في اتصال الإسناد أو انقطاعه، أو لكشف إمكان سماع الراوي ممن فوقه في الإسناد أو عدمه، فإليك شرح ذلك: الفرع الأول تمييز الشيوخ والتلاميذ الشيخ: هو الراوي وقع حمل الخبر عنه في الإسناد. والتلميذ: هو الراوي الآخذ عن ذلك الشيخ في الإسناد. والأخذ للخبر حاصل بصيغة من صيغ التحمل، مثل: (حدثنا) و (سمعت) و (عن) و (قال) وشبهها. فقول البخاري مثلاً: (حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن سعيد)، ابن المثنى شيخ للبخاري، وتلميذ ليحيى بن سعيد. والعبرة ههنا في ذكر (الشيخ) و (التلميذ) بناء على مجرد وقوع الرواية على تلك الصفة ولو مرة، وليس لها ارتباط بصغر التلميذ وكبر الشيخ، ولا بكثرة ما وقع للتلميذ من الرواية عن الشيخ أو قلة ذلك. وهذا يقتضي منك أن تنتبه إلى صور واقعة في الأسانيد تأتي على غير المعتاد، مما قد يثير عندك ريبة في صواب الإسناد، أهمها: 1 _ رواية الآباء عن الأبناء. وقوع رواية الأبناء عن الآباء جار على الجادة لا يحتاج إلى تنبيه

2 _ رواية الأكابر عن الأصاغر

خاص، لكن مجيء الصورة معكوسة مما يجدر أن يلاحظ، نعم؛ ليس له أمثلة كثيرة، إلا أن ملاحظته من دقائق الفن. مثاله: قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن أبي عمر العدني، وغياث بن جعفر الرحبي، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا وائل بن داود، عن ابنه، عن الزهري، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بسويق وتمر (¬1). فمثل هذا قد يحسبه المبتدئ تحرف عن (ابنه) من (عن أبيه)، وإنما هو بكر بن وائل بن داود. 2 _ رواية الأكابر عن الأصاغر. المراد هنا من كان متقدماً في السن أو الشيوخ يروي عمن تأخر في السن أو الشيوخ ممن يكون في طبقة تلاميذه، وهي كسابقتها لا تجد كثرة وقوعها، لكنها ربما أوردت الريبة إذا وقعت. مثالها: قال النسائي: أخبرنا عمرو بن علي، ومحمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، قالوا: أنبأنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول أخبرني مالك بن أنس، أن ابن شهاب أخبره، أن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي أخبراه، أن أباهما محمد بن علي أخبرهما، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء. قال ابن المثنى: يوم حنين، وقال: هكذا حدثنا عبد الوهاب من كتابه (¬2). ¬

(¬1) سنن ابن ماجة (رقم: 1909). (¬2) سنن النسائي (رقم: 3367).

3 _ رواية الأقران

فـ (يحيى بن سعيد) في الإسناد أول ما يتبادر إلى الذهن في الرواة عن مالك هو القطان، فإنه كان من تلامذته، ولو قال قائل: هو الأنصاري، فهذا لا يتصور في العادة، فإن الأنصاري تابعي ومن مشاهير شيوخ مالك وأعيانهم، ومالك من أتباع التابعين، كذلك عبد الوهاب الراوي عن يحيى هو ابن عبد المجيد الثقفي من أقران مالك. لكن هكذا نزل الأنصاري في هذا الإسناد ليروي عن تلميذه مالك، وجاءت رواية الترمذي لهذا الحديث مصرحة بأنه (الأنصاري) (¬1). ومن ذلك: رواية صالح بن كيسان عن الزهري. صالحٌ أكبر من الزهري، وقد رأى صالح ابن عمر " (¬2). ورواية إسماعيل بن أبي خالد عن فراس بن يحيى. قال أحمد بن حنبل: " فراس ثقة، روى عنه إسماعيل، وإسماعيل أكبر منه سناً " (¬3). 3 _ رواية الأقران: القرين من الرواة: من يجتمع مع الراوي الآخر في الطبقة أو الشيوخ والتلاميذ. وهذه حاصلة بكثرة في الرواة، كرواية سفيان الثوري عن شعبة بن الحجاج، ورواية شعبة عن الثوري. قال النسائي: أخبرنا أحمد بن نصر، قال: حدثنا عبد الله بن الوليد، ¬

(¬1) الجامع، للترمذي (رقم: 1795). (¬2) العلل، لأحمد بن حنبل (النص: 360). (¬3) سؤالات أبي داود للإمام أحمد (النص: 360).

4 _ رواية السابق واللاحق

قال: حدثنا سفيان، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قطع أبو بكر رضي الله عنه في مجن قيمته خمسة دراهم (¬1). فسفيان هذا هو الثوري، روى عن قرينه شعبة، ولو سألت: كيف تميز لك سفيان هنا بكونه الثوري؟ قلت: عن طريق تلميذه عبد الله بن الوليد، فهو معروف به، وحديثه , وأخذه عنه مشهور، بل هو راوي " الجامع " للثوري. قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني عمرو بن محمد الناقد، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، حدثنا شعبة، أخبرني سفيان، عن علي بن الأقمر، عن أبي جحيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا آكل متكئاً " (¬2). وهذه رواية شعبة عن قرينه سفيان. هذه الصورة من رواية الأقران إذا روى القرينان أحدهما عن الآخر يسمونها (المدبج)، وتجد كذلك رواية القرين عن قرينه دون رواية الآخر عنه، ووقوعه أولى، لكن (المدبج) ألطف الصورتين. 4 _ رواية السابق واللاحق: الراوي يحدث عنه رجل من القدماء، ثم يعيش ذلك الراوي بعد ذلك الرجل زماناً إلى أن يدركه بعض أصاغر الرواة فيحدثون عنه. وفائدة معرفة هذه الصورة دفع ظن الغلط في تلاميذ الراوي، فإنك ¬

(¬1) السنن، للنسائي (رقم: 4912). والمِجَنُّ: الترس وشبهه. (¬2) المعجم الكبير، للطبراني (22/ 131 رقم: 344). وأخرجه الطحاوي في " شرح مُشكل الآثار " (5/ 335 _ 336 رقم: 2087) من طريق أخرى عن يعقوب الحضرمي، وفيه زيادة لطيفة: فقال رجل لشُعبة: من حدثك؟ فقال: " أمير المؤمنين في الحديث سُفيان بن سعيد بن مسروق " , وإسناده صحيح.

ربما تسأل: كيف اتفق فلان وفلان في الرواية عن ذلك الشيخ، وبين وفاتيهما زمان بعيد؟ مثاله: قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى، حدثني أشعث، عن محمد بن سيرين، عن خالد يعني الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم (¬1). قال ابن حبان: " ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث، وخالد تلميذه " (¬2). ومحمد بن سيرين مات سنة (110)، وبقي بعده شيخه في هذا الحديث خالد الحذاء إلى أن مات سنة (141)، فكان ممن أدركه وحدث عنه: عبد الوهاب بن عطاء الخفاف ومات سنة (204). قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، حدثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن المسلم إذا عاد أخاه لم في خرفة الجنة حتى يرجع " (¬3). فهذان روايان اتفقا في التحديث عن خالد الحذاء، وبين وفاتيهما (94) سنة. وهذا باب صنف فيه الحافظ الخطيب كتاباً سماه " السابق واللاحق " في ¬

(¬1) السنن، لأبي داود (رقم: 1039). وأشعث هو ابن عبد الملك الحمراني، ثقة، والإسناد صحيح، وفي قوله " ثم تشهَّد " كلام ليسَ هذا محله. (¬2) الإحسان في تقريب صحيح ابن حِبان (6/ 393) عقب الحديث المذكور (رقم: 2670). (¬3) المسند (5/ 283). والخُرفة في الأصل: حيث يُجتنى الثمر، كبستان النخيل.

كثير منه نظر من جهة ذكر بعض الكذابين الذين ادعوا السماع ممن لم يدركوهم من الشيوخ. والمقصود هنا أن تتفطن لورود مثل هذه الصورة ولا تستبعد وقوع مثل هذا الفارق في الزمن بين تلميذين لراو معين، أحدهما في واقع الأمر أعلى من طبقة الآخر بطبقتين، والجميع من الثقات والأسانيد إليهم صحيحة. ما هو المرجع لمعرفة شيوخ الراوي وتلاميذه؟ الطريق للوقوف على ذكر أسماء شيوخ الراوي أو تلاميذه هو الرجوع إلى الكتب الجوامع في تراجم الرجال كمراجعك للمرحلة الأولى من البحث. ومن أكثرها عناية بذلك " تهذيب الكمال " للمزي، فإنه يجتهد أن يستوعب شيوخ الراوي وتلاميذه، ممن وقعت له رواية من أولئك الشيوخ والتلاميذ عند الأئمة الستة أو غيرهم، إلا أن يكون الراوي روى عن الكثير جداً من الشيوخ مثل: (أحمد بن حنبل)، أو روى عنه الكثير من التلاميذ كـ (أبي هريرة) فلا يأتي على استيعابهم. فهو في التحقيق أنفعُ مرجع وأوثقه للتحقق من وقوع رواية المترجم عن شيخ ما، أو رواية عنه من تلميذ ما. ومثل هذا البحث لا يفيدك فيه مجرد الرجوع إلى المختصرات في رواة الحديث، مثل كتاب " تقريب التهذيب " لابن حجر. إذا كان إسنادك الذي تبحث عن رواته مخرجاً في الكتب الستة أو بعض مصنفات الأئمة الستة الأخرى التي جعلها المزي من شرطه في كتابه، كـ" السنن الكبرى " للنسائي، و " الأدب المفرد " للبخاري، و " الشمائل " للترمذي، وغيرها مما ذكره في مقدمة " التهذيب "، فهذا الإسناد ستجد في ترجمة كل راوٍ من رواته ذكر جميع شيوخه في نفس تلك الكتب، وجميع

تلاميذه فيها كذلك، فيفسر لك المزي اسم الشيخ أو التلميذ بما يزيل الشبهة عنه. وقد رتب ذلك ترتيباً علمياً، فبدأ في كل ترجمة بذكر الشيوخ، فإذا ذكر التلاميذ، مرتبين على حروف المعجم: الأسماء، فالكنى، فالنساء. ويرمز بعد اسم الشيخ أو التلميذ برمز من روى له من الأئمة الستة. نعم؛ أنبهك إلى انضباط تلك الرموز غالباً لا دائماً. ويزيد في أسماء الشيوخ والتلاميذ ما وقف عليه خارج الكتب التي على شرطه كذلك. وهذا مثال بترجمة منه: (محمد بن أبي حفصة، واسمه ميسرة، أبو سلمة البصري. روى عن: علي بن زيد بن جُدعان، وعمرو بن دينار، وقتادة بن دعامة، ومحمد بن زياد الجمحي ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري (خ م مد س)، وأبي جمرة الضبعيِّ. روى عنه: إبراهيم بن طهمان (س)، وإسماعيل بن حمَّاد بن أبي حنيفة، وحمَّاد بن زيد (مد)، ورَوْحُ بن عبادة (م)، وسعدان بن يحيى اللَّخمي (خ)، وسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك (خ م)، ومعاذُ بن معاذٍ، وأبو إسحاق الفزاري، وأبو إسماعيل المؤدبُ، وأبو معاوية الضرير) ... (¬1). تلاحظ كيف جاءت الأسماء مرتبة، ولا يكاد منها اسم إلا ويقع مثله في الأسانيد بعلامة لا تنبىء عن أمره بوضوح، فيأتيك في الأسانيد: ابن جدعان، وعمرو، وقتادة، وابن شهاب، أو الزهري، وأبو جمرة، وهكذا ¬

(¬1) تهذيب الكمال (25/ 85 _ 86).

في التلاميذ، فلو أنك نظرت في الإسناد فلم تجد فيه اسماً أيسر للوقوف عليه من (محمد بن أبي حفصة) وعدت إلى ترجمته هذه لكفتك كثيراً من الجهد للتعرف على شيخه وتلميذه. ومن فائدة معرفة الشيوخ والتلاميذ كشف ما يقع من الغلط والتصحيف في أسماء الرواة، فعندك ههنا في شيوخ (ابن أبي حفصة): (أبو جمرة الضبعيُّ)، ويأتي في بعض الأسانيد غير منسوب، ويتصحف إلى (أبي حمزة) بالحاء المهملة أوله والزاي، فيشتبه مع بعض من هو في طبقته ممن يكنى بهذا ويأتي مهملاً من النسبة، فحين ترى في شيوخ الراوي: (روى عن أبي جمرة الضبعي) فإنه لا يبقى مجال للشك مع هذا التمييز. ورأيت في الترجمة الرمز واقعاً بعد أسماء بعض الشيوخ والتلاميذ، لا بعد جميعها، فأما الشيوخ فلم يقع في الكتب الستة وما يتبعها على شرط " تهذيب الكمال " لابن أبي حفصة عنهم رواية إلا عن الزهري فقط، فله سبعة مواضع في الكتب المشار إليها، موضعان عند البخاري في " صحيحه " (خ) أحدهما من رواية عبد الله بن المبارك، والثاني من رواية سعدان بن يحيى عن ابن أبي حفصة، وعند مسلم في " صحيحه " (م) ثلاثة مواضع أحدهما من رواية ابن المبارك واثنان من رواية رَوْح بن عبادة عن ابن أبي حفصة، ومواضع عند أبي داود السجستاني في كتاب " المراسيل " (مد) من رواية حماد بن زيد عن ابن أبي حفصة (¬1)، ومواضع عند النسائي في " السنن الكبرى " (س) من رواية إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي حفصة (¬2)، وهو كل ماله عندهم من الأسانيد. وجميع من بقي من شيوخه وتلاميذه تجد الرواية عنهم في غير الكتب ¬

(¬1) المراسيل (رقم: 123). (¬2) السنن الكبرى (رقم: 5787) ووقع فيه نسبة (ابن أبي حفصة) إلى اسم أبيه (محمد بن ميسرة).

الفرع الثاني تميز طبقات الرواة

الستة وتوابعها من كتب الأئمة الستة، لكن استحضر أن الأمر في مثلهم أن المزي لم يقصد استيعابهم كما قصد إلى استيعاب رواة ما كان من الكتب على شرطه. ولا تجد كـ" تهذيب الكمال " كتاباً ينفعك في هذا، إلا ما صار إليه الناس اليوم من جمع المعلومات في أجهزة الحاسب الآلي، وعمل الدراسات في تمييز الرواة، فإنهم إذا أتقنوها وأحسنوها فقد كفوا هما عظيماً. ويبقى تمييز الشيوخ والتلاميذ للراوي الذي لم يترجم في " تهذيب الكمال " عن طريق الجوامع التي ألفت في تراجم الرواة، والتي أهمها كما تقدم في (مرحلة البحث الأولى): " تاريخ " البخاري و " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم، ومن جرى على الترجمة على طريقتهما من الكتب اللاحقة، ككتب الثقات والضعفاء، أو كتب تراجم لمؤلفات مخصوصة كـ" تعجيل المنفعة " لابن حجر، أو غير ذلك مما قدمت لك ذكره أو وصفه في (المبحث السابق). الفرع الثاني تميز طبقات الرواة مصطلح (الطبقة) كثيراً ما يتردد في استعمال أهل الحديث، وربما رأيته في لسان أهل التاريخ، لكنه بالفريق الأول ألصق. ومعنى الطبقة: الرواة المطابقون لبعضهم في الزمن حياتاً وموتاً، والمعتبر في المطابقة التقارب في أعمارهم ووفياتهم. فيقال: " (أيوب السختياني) و (هشام بن عروة) طبقة واحدة، ذلك أن زمانهما واحد، ومن أدركاه من الشيوخ قد تقاربا فيه، ووفاتهما متقاربة كذلك.

الطرف الأول: تمييز مواليد الرواة

والتقارب اصطلاحي لا يعود إلى ضابط: فعند بعض العلماء: جميع الصحابة طبقة، وجميع التابعين طبقة، وجميع أتباع التابعين طبقة، وهذا روعي فيه الفضل والمنزلة. وعند بعضهم: الصحابة طبقات، والتابعون فمن بعدهم طبقات، وهذا روعي فيه القدم والسابقة والإدراك. وبعضهم: كل عشر سنين طبقة، وهذا أشبه بأن يكون لتيسير الحفظ والمعرفة، وهكذا. والذي تتصل به فائدة في هذا العلم من هذا المبحث هو ما ينبني عليه تمييز المشترك من أسماء الرواة وكناهم وأنسابهم وألقابهم، ومعرفة إدراكهم بمن رووا عنه من عدمه. وهذا يتحقق بتمييز الطرفين: الطرف الأول: تمييز مواليد الرواة اتصال الإسناد شرط لقبول الحديث، وتواريخ مواليد الرواة مقاييس لتصور إمكان اللقاء بين راويين وسماع أحدهما من الآخر، وبها يتم ابتداء حساب طبقته. وخذ له مثلاً: هذا فقيه التابعين سعيد بن المسيب، قال عن نفسه بأصح إسناد: " ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب، وكانت خلافته عشر سنين وأربعة أشهر " (¬1). فهذا النص يعني أنه أدرك من حياة عمر رضي الله عنه ثمان سنين، ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد في " الطبقات " (5/ 119 _ 120) بإسناد صحيح. ورُوي غيرُ ذلك، ولا يصح منه شيء.

وكان بالمدينة، ومن كان بهذا السن جاز جداً أن يسمع من عمر ومن قاربه في موته ومن تلاه، لكن حديثه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه منقطع جزماً، فقد مات قبل أن يولد. ولكن لصغر سعيد يوم استشهد عمر، مع كثرة ما حدث عنه مما لا يحتمل سنه أن يكون سمعه من عمر؛ اختلف نقاد المحدثين في سماعه منه: فكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: " هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه إذا لم يُقبل سعيد عن عمر فمن يقبل،؟ " (¬1). وخالفه غيره. فقال عباس الدوري: سمعت يحيى _ يعني ابن معين _ يقول: " سَعيد بن المسيب قد رأى عمرَ وكان صغيراً " قلت ليحيى: هو يقول: ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر؟ فقال يحيى: " ابن ثمان سنين يحفظ شيئاً؟ " (¬2). وعبد الله بن وهب المصري الحافظ قبله قال: سمعت مالكاً - يعني ابن أنس - وسئل عن سعيد بن المسيب: هل أدرك عمر؟ قال: " لا، ولكنه ولد في زمان عمر، فلما كبر أكبَّ على المسألة عن شأنه وأمره حتى كأنه رآه " (¬3). فنفى مالك الإدراك مع إثباته ولادته في زمان عمر، وإنما يراد اصطلاحاً بالإدراك إدراك الزمان، لكن يشبه أن يكون مراد مالك إدراك السماع لصغر سنه. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 61). (¬2) التاريخ، ليحيى بن معين، رواية الدوري (النص: 858). (¬3) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (1/ 468) بإسناد صحيح.

فلاحظ! كم تقرر هذه القضية من أمر يعتمد عليه ثبوت الإسناد أو عدمه، كما تلاحظ من خلالها تحديد طبقة سعيد بن المسيب، فهو تابعي كبير، أما تابعيته فلإدراكه الصحابة، وأما كبره فلقدمه في الإدراك، فإن مولده كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو خمس سنين. واعلم أن تحديد مواليد الرواة لم يعتن به الناس كما اعتنوا بحفظ وفيات الشيوخ، خصوصاً في الطبقات الأولى، ولذلك يقل في الرواة من تذكر سنة ولادته، وربما كان السبيل إلى تحديد مولده البحث في طريق أخرى تفيده ولو على وجه التقريب، ومما يستعمل في ذلك طرق، منها: 1 - أن يحفظ تحديد عمر الراوي مع سنة وفاته، فيطرح عمره من تاريخ وفاته، فيخلص إلى مولده. مثاله: (عامر بن شراحيل الشعبي) اختلفوا في عمره، فمنهم من قال: (77) سنة، ومنهم من قال: (79) سنة، ومنهم من قال: (82) سنة، ومات سنة (104) أو بعدها بقليل، فلو نظرت مولده بهذا الاعتبار وجدته سنة (27) أو (52) أو (22). وهذا يعني أنه ولد قبيل مقتل عمر رضي الله عنه، أو بعيده في خلافة عثمان رضي الله عنه. وروى عن جماعة من الصحابة قيل في روايته عنهم: (مرسلة لم يسمع منهم)، هم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وطلحة ين عبيد الله، وأسامة بن زيد، وعلي بن أبي طالب، وعوف بن مالك الأشجعي، وعائشة أم المؤمنين، وأم هانىء بنت أبي طالب، وعبد الله بن عمر. ويمكنك أن تحقق إمكان السماع من عدمه في حق الشعبي من هؤلاء الصحابة، وذلك بالنظر في وفاة كل منهم وكم أدرك الشعبي من زمانه.

2 - أن يقارن بآخر قد عرف مولده أو سنه. مثاله: قال الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي: " أبو إسحاق أكبر من عبد الملك بن عمير بسنتين " (¬1). أبو إسحاق هذا هو عمرو بن عبد الله السبيعي، مولده سنة (32) أو نحوها، فيكون عبد الملك قد ولد سنة (34) أو نحوها، وحيث إنه مات سنة (136) فهو قد زاد على المئة سنتين، وقد قال ذلك خليفة بن خياط (¬2). 3 - أن يكون مقبول الرواية ويحفظ عنه السماع الصريح في روايته من شيخ قد علمت سنة وفاته، فيستدل بوفاة ذلك الشيخ على وقوع مولد التلميذ قبلها بزمن تمكن فيه من السماع منه. مثاله: (أبو البختري سعيد بن فيروز الطائي) رجل من ثقات التابعين، تكلموا في إدراكه لجماعة من الصحابة وسماعة منهم: عمر بن الخطاب، وأبي ذر الغفاري، وعبد الله بن مسعود، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعائشة أم المؤمنين، ورافع بن خديجة، وأبي سعيد الخدري. لكن قد ثبت عن أبي البختري قال: أتينا علياً فسألناه عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: عن أيهم؟ قال: قلنا: حدثنا عن عبد الله بن مسعود، قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علماً، قال: حدثنا عن أبي موسى، قال: صبغ في العلم صبغة، ثم خرج منه، قال: قلنا: حدثنا عن عمار بن ياسر، فقال: مؤمن ¬

(¬1) معرفة الثقات، للعجلي (الترجمة: 1394). (¬2) الطبقات، لخليفة بن خيَّاط (ص: 163).

نسي، وإذا ذكر، قال: قلنا: حدثنا عن حذيفة، فقال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين، قال: قلنا: حدثنا عن أبي ذر، قال: وعى علماً ثم عجز فيه، قال: قلنا: أخبرنا عن سلمان، قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحر لا ينزح قعره، منا أهل البيت، قال: قلنا: فأخبرنا عن نفسك يا أمير المؤمنين، قال: إياها أردتم؟ كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتدئت (¬1). فهذا الخبر صريح في لقائه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسماعه منه ضمن من أتاه فسأله عن هؤلاء الصحابة. وإذا كان في موضع من يأتي علياً ليسأله مثل هذه المسائل، أو يسأل علي بحضرته وهو يدرك تلك المسائل، فهو في سن تؤهله لذلك، وإذا لم نصحح سماعه ممن تقدم علياً في الوفاة من الصحابة، فإنه قد أدرك علياً فمن بعده من الصحابة المذكورين آنفاً: زيد وعائشة ورافع وأبي سعيد، فإنهم جميعاً ماتوا بعد علي. تنبيه: قد يرد ذكر سماع الراوي من شيخ علمت سنة وفاته، لكن يكون السماع غير محفوظ، ويرجع إلى وهم من ثقة أو ادعاء من مجروح، أو سقط وتحريف في نسخة، فلاحظ ذلك وتحقق من ثبوت السماع. وهاك أمثلة: المثال الأول: قال خلف بن خليفة: رأيت عمرو بن حريث صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام صغير (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد (2/ 346) من طريق الأعمش، عن عَمرو بن مُرَّة، عن أبي البختَري، به. وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه الترمذي في " الشمائل " (بعد الحديث رقم: 391).

وفي رواية: وأنا يومئذ ابن ست سنين (¬1). هكذا زعم خليفة، وهو رجل كان ثقة فتغير في آخر عمره، وهذه الدعوى عدت وهماً منه عند بعض أهل التحقيق، ولم يتجاسر آخرون على إنكارها من أجل ما ثبت لهم من وصف خليفة بالصدق. وسبيل من أنكرها أصح في النقد، وذلك أن عمرة بن حريث رضي الله عنه توفي سنة (85) وخليفة توفي سنة (181) أو بعيدها، وجزم ابن سعد بأنه حين مات كان ابن (90) سنة أو نحوها (¬2)، وقال غيره: له (101) سنة، فعلى عمره الأول يكون مولده سنة (80) فيكون أدرك من حياة عمرو خمس سنين. والذي يفصل في بيان الصواب في عمر خليفة ما ورد عنه من قوله: " قرض لي عمر بن عبد العزيز وأنا ابن ثماني سنين، وفرض لأخ في وهو ابن ست سنين وألحقنا بموالينا " (¬3). وعمر إنما ولي الخلافة سنة (99) بلا خلاف، فلو كان فرض لخليفة في أول ولايته، فاطرح ثمانية وهي عمر خليفة يومئذ من (99) فيكون مولده سنة (91) وهذا المتفق مع ما قال ابن سعد. فيتحصل من ذلك أن خليفة ولد بعد موت عمرو بن حريث بست سنين، فأنى له أن يراه؟ إذا ليس هو بتابعي، بل كأقرانه من طبقة أتباع التابعين، ودعواه تلك وهم منه. ¬

(¬1) أخرجها عبد الله بن أحمد في " العلل ومعرفة الرجال " (رقم: 5651). (¬2) الطبقات الكبرى (7/ 313). (¬3) أخرجه ابن عديٍّ في " الكامل " (3/ 513) بإسناد صحيح إليه.

ولذا ذكر الإمام أحمد بن حنبل خلفاً وقوله رأيت عمرو بن حريث، فقال أحمد: قال ابن عيينة: " كذب، لعله رأى جعفر بن عمرو بن حريث " (¬1). وقال أبو الحسن الميموني: سمعت أبا عبد الله _ يعني أحمد بن حنبل _ يسأل: رأى خلف بن خليفة عمرو بن حريث؟ " قال أبو عبد الله: " هذا ابن عيينة وشعبة والحجاج لم يروا عمرو بن حريث، يراه خلف؟ ‍‍‍‍! ما هو عندي إلا شُبَّه عليه " (¬2). المثال الثاني: قال الترمذي حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا الضحاك بن عثمان، عن أيوب بن موسى، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف ولكن (ألف) حرف، و (لام) حرف، و (ميم) حرف " (¬3). فقول القرظي: (سمعت عبد الله بن مسعود) يثبت أنه تابعي قديم يلحق بطبقة علقمة والأسود من أصحاب ابن مسعود، وحيث أن ابن مسعود مات سنة (32) أو (33)، فهذا يعني إدراك القرظي لعثمان بن عفان رضي الله عنه وجميع من مات بعد ابن مسعود من الصحابة. ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال، رواية عبد الله بن أحمد (رقم: 4458، 5652، 5653، 6032). (¬2) تهذيب الكمال (8/ 287). والحجاج هو ابنُ أرطأة. (¬3) الجامع، للترمذي (رقم: 2912). والحديث مُخرَّجٌ بشرحِ علته في ذيل تحقيقي لكتاب " الرد على من يقول (الم) حرف " لأبي القاسم بن مَنده.

والإسناد بهذا إليه صحيح، ولذا قال الترمذي في الحديث: " حديث حسن صحيح ". وازدادت الشبهة بقول قتيبة بن سعيد: " بلغني أن محمد بن كعب القرظي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم "، فاعتمد ذلك أبو داود السجستاني فقال: " سمع من علي ومعاوية وعبد الله بن مسعود " (¬1). والتحقيق أن ذلك وهم، فأما قول قتيبة الذي اعتمده أبو داود والترمذي فإنما حكاه عمن لا يعرف. ورده البخاري بقوله: " لا أدري حفظه أم لا " (¬2). وسبب ذلك أن المعروف عند أهل السير أن أباه كعباً ممن نجا من القتل بحكم سعد بن معاذ في بني قريظة؛ لأنه لم ينبت بعد. ولهذا عد كعباً في الصحابة من توسع فذكر من ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يذكر برؤية أو رواية، كالحافظ ابن عبد البر، وهذا على شرط آخرين كابن حبان معدود في التابعين، وقد ذكره فيهم " (¬3). فمن كان أبوه محل تردد هل يعد في الصحابة أو لا يعد فيهم لصغره في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف لابنه أن يصح له السماع من الأقدمين؟ وقد ذكروا أن محمد مات سنة (118) أو (117) وهو ابن ثمانين سنة. وهذا يعني أنه ولد سنة (38) أو (37)، فكيف يصح أن يثبت له سماع من ابن مسعود على ما تقدم في وفاته؟ وكيف يصح له من علي وقد استشهد سنة (40)؟ ¬

(¬1) تهذيب الكمال (26/ 343). (¬2) التاريخ الكبير (1/ 1 / 216). (¬3) الثقات (5/ 334).

وأشبه الأقاويل في مولده والمتفق مع هذا التحقيق قول الحافظ يعقوب بن شيبة: " ولد في آخر خلافة علي سنة أربعين " (¬1). وكأن من ذكر مولده في حياة النبي كلى الله عليه وسلم قصد أباه، ولأبيه رواية عن علي بن أبي طالب من رواية محمد عنه، فيما ذكر ابن حبان. والوهم في ذكر السماع في حديث ابن مسعود يشبه أن يكون من قبل الضحاك بن عثمان، فقد كان يخطئ. المثال الثالث: وقع من جماعة رووا عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وزعموا أنهم سمعوا منه وكانوا أحياء بعد سنة (200)، فهذا بقاء للتابعين إلى ما بعد المئتين لو صدق هؤلاء، ولكنهم كانوا يكذبون. منهم: " إبراهيم بن هدبة أبو هدبة البصري، فهذا رجل كان يقول في أحاديثه: " حدثنا أنس بن مالك "، وكان أبو هدبة كذاباً، دخل بغداد وحدث عن أنس، فسألوه أن يخرج رجله، خافوا أن يكون شيطاناً قد تمثل لهم فأرادوا أن يعرفوه بذلك (¬2). قال ابن حبان: " دجال من الدجاجلة، وكان رقاصاً بالبصرة يدعى إلى الأعراس فيرقص فيها، فلما كبر جعل يروي عن أنس ويضع عليه " (¬3). وقد رأوا أن أنساً رضي الله عنه مات سنة (93) أو قبيلها، فيحتاج ابن هدبة هذا ليعمر (120) سنة أو أكثر ليتسنى له السماع من أنس، والناس الذين اتهموه لم يروا سنه مؤهلاً لذلك، زيادة على ما عملوا من سوء حاله ومن روايته ما لا يرويه الناس. ¬

(¬1) تهذيب التهذيب، لابن حجر (3/ 685). (¬2) التاريخ، ليحيى بن معين، رواية الدُّوري (النص: 4661)، تاريخ بغداد (6/ 201). (¬3) المجروحين (1/ 114 _ 115).

الطرف الثاني: تمييز وفيات الرواة

الخلاصة: إذاً، استعمال المواليد والوفيات من أهم الطرق لـ: 1 _ تمييز طبقات الرواة من جهة ابتدائها. 2 _ تمييز إدراك الراوي لمن حدث عنه من الشيوخ (¬1). 3 _ كشف الوهم والغلط في ذكر السماع. 4 _ كشف زيف الكذابين في ادعاء السماع وقدم الطبقة. قال الحافظ أبو علي الحسين بن علي النيسابوري: لما حدث عبد الله بن إسحاق الكرماني عن محمد بن أبي يعقوب أتيته، فسألته عن مولده؟ فذكر أنه ولد سنة إحدى وخمسين ومئتين، فقلت له: مات محمد بن أبي يعقوب الكرماني قبل أن تولد بسبع سنين، فاعلمه (¬2). الطرف الثاني: تمييز وفيات الرواة الكلام في الوفيات من نفس باب الكلام في المواليد من جهة ما بين الأمرين من العلاقة، كما تراه واضحاً مما تقدم في المواليد، بل إن الوفيات مقاييس لتمييز المواليد، والعناية بها وقعت أكثر، وحفظها في تراجم الرواة كثير شائع، ولعلك لا تجد راوياً عرفت سنة ولادته وجهلت سنة وفاته، لكنك تجد رواة كثيرين علمت وفياتهم ولم تعلم مواليدهم. ومن خلال الأمثلة المتقدمة تلاحظ أن وفيات الشيوخ قاعدة لمعرفة أعمار الرواة تحديداً أو تقديراً، فيتبين لك من خلالها: طبقة الراوي، ومن ¬

(¬1) علماً بأنه لا تلازم بين الإدراك وثبوت السماع، فقد يثبت الإدراك ولا يصح السماع، وذلك لسببٍ آخر تعلمه فيما يأتي من مباحث هذا الكتاب. (¬2) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 61) عنه. ووقع فيه: (بتسْعِ سنين)، وكذا في " الجامع " للخطيب (رقم: 146) حيث رواه من طريق الحاكم، والصواب ما أثبتُّ، فكذلك جاءَ في " الميزان " للذهبي (2/ 392) وغيره، واعتضد بأنَّ وفاة ابن أبي يعقوب كانت سنة (244).

أدرك من الشيوخ، ومن أدركه من التلاميذ ومن طابقه وقارنه من أمثاله وأقرانه، كما تميزه بها عمن رافقه في الاسم وخالفه في زمنه. وهذا الطريق والذي قبله من أقوى ما يميز به الكذابون، فإن طائفة كثيرة منهم لم يكن لهم حظ من نور حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سمعوه، فعمدوا إلى وضع المتون وركَّبوا لها الأسانيد، وأرادوا لبضاعتهم أن تروج، فألصقوها بالمعروفين من الثقات الذين كتب الله لهم القبول عند الناس، ولم يكن أولئك الكذابون أدركوا أولئك الثقات. وطائفة ادعت السماع من بعض الكبار أرادت أن تتشرف بالأخذ عنهم، فقصدت إلى تزوير علو الطبقة وإيهام القدم، إلى غير ذلك من دواعي الكذب. عن إسماعيل بن عياش قال: كنت بالعراق، فأتاني أهل الحديث، فقالوا: ههنا رجل يحدث عن خالد بن معدان، فأتيته، فقلت: أي سنة كتبت عن خالد بن معدان؟ قال: سنة ثلاث عشرة، فقلت: أنت تزعم أنك سمعت من خالد بن معدان بعد موته بسبع سني ن، قال إسماعيل: مات خالد سنة ست ومئة (¬1). وقال الحافظ أبو حسان الحسن بن عثمان الزيادي: سمعت [حماد] بن زيد يقول لم نستعن على الكذابين بمثل التاريخ، نقول للشيخ: سنة كم ولدت؟ فإذا أخبر بمولده عرفنا كذبه من صدقه "، قال أبو حسان: فأخذت في التاريخ، فأنا أعمله من ستين سنة (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 71) والحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 60 _ 61) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع " (رقم: 145)، بإسناد جيّد. والتحقيق في سنة وفاة خالد أنها كانت سنة (103) في أظهر الأقوال، وعليه فيكون هذا الرجل قد ادّعى أنه سمع من خالدٍ بعدَ موته بعشْر سنين. (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (7/ 357) و " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 143) ومن طريقه: ابن عساكر في " تاريخه " (1/ 54 _ 55) بإسناد صحيح. ووقع فيهما: (حسان بن زيد) بدل (حماد)، وأظنه قد انتقل البَصر إلى (أبي حسان) فأخذت منها، ولم أجد لها وجْهاً غير ذلك، فأبو حسان يروي عن حماد بن زيد، كما وجدته في غير موضع، كما أن مثل هذه المقالة أليق بأن تكون من إمام مثل حماد بن زيد، أما (حسان بن زيد) فمن يكون؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍! ثم وجدت ابنَ عساكر قال عقبَ تخريج هذا الأثر: " كذا من تاريخ بغداد: حسّان بن زيد وأظنه: حماد بن زيد ".

فوائد معرفة الطبقات

أين جحد المواليد والوفيات؟ مرجعك لمعرفة مواليد الرواة ووفياتهم كتب التراجم الجوامع، كـ" تهذيب الكمال "، وفروعه، وكتب الذهبي كـ" سير أعلام النبلاء: و " تاريخ الإسلام " و " العبر "، ومن قبلها كتب التاريخ على السنين، كـ " المنتظم " لابن الجوزي وشبهه، كما تجد في كتب الأقدمين أصول المصنفات المفيدة في هذا الباب، مثل " التاريخ " و " الطبقات " لخليفة بن خياط المعروف بـ (شباب)، و" التاريخ الأوسط " للبخاري، و " الطبقات الكبرى " لابن سعد، و " المعرفة والتاريخ " ليعقوب بن سفيان، و " الثقات " لابن حبان، وكتب منثورة كثيرة ألفت في هذا المعنى، ومن الكتب الخاصة " تاريخ مولد العلماء ووفياتهم " لأبي سليمان محمد بن عبد الله بن زبر الربعي (المتوفى سنة: 379)، ومنها كتب عرفت بـ (الوفيات)، ومنها كتب التراجم على البلدان، كـ" تاريخ بغداد ". وليس " التاريخ الكبير " للبخاري، ولا " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم، ولا كتب الضعفاء والمجروحين، مظنة لمعرفة ذلك. فوائد معرفة الطبقات: 1 _ تمييز ثبوت السماع بين راويين أو غلبة ثبوته. فمعرفة الإدراك من التلميذ للشيخ علامة على اتصال الإسناد غالباً، ما لم يكن التلميذ مدلساً، وبتفصيل ستعلمه في الفصل التالي. وإنما قلت: (غالباً) مع انتفاء التدليس عنه؛ استثناء للراوي الذي تيقنا إدراكه، لكنه ثبت عدم اللقاء بينه وبين الشيخ الذي روى عنه.

كما ترى مثلاً في قول الدارقطني في (زر بن حبيش): " لم يلق أنس بن مالك، ولا يصح له عنه رواية " (¬1)، مع أن أنساً من صغار الصحابة وآخرهم موتاً، وزر تابعي قديم، أدرك الجاهلية، وسمع من عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود والكبار من الصحابة، بل إنه مات قبل أنس بنحو عشر سنين، فالإدراك متيقن، ولكن قام البرهان على عدم اللقاء والسماع، فسقط اعتبار مجرد الإدراك. 2 _ تمييز الانقطاع في الإسناد. وهذه الفائدة ظاهرة من التي قبلها، فإن وقوع الراوي في طبقة لم تدرك طبقة الشيخ دليل على الانقطاع، ولا أظهر في إفادة ذلك من وقوع مولد الراوي بعد وفاة الشيخ، أو وفاة الشيخ والراوي عنه له من العمر ما لا يتهيأ في مثله التحمل والسماع، كأربع سنين أو دونها. 3 _ تزييف دعوى السماع وكشف الغلط أو الكذب. وذلك في حال قول الراوي: (حدثنا) وشبهها من صيغ السماع، وقامت الحجة على عدم إدراكه لمن روى عنه بتلك الصيغة. وهذا كما تقدم يقع غلطاً من الراوي أو بعض من روى عنه، أو كذباً. 4 _ جرح الرواة أو تعديلهم. وذلك أن الراوي إذا ادعى السماع، وطبقته تمنع إمكان ذلك، فإما أن تكون تلك الدعوى وهماً، أو كذباً، وذلك إما منه أو ممن هو في سياق الإسناد إليه، وإذا تعين الواهم أو الكاذب كان ذلك جرحاً فيه بحسبه، فإن كان قد استقر صدقه حكمنا بوهمه، وإذا تكرر ذلك منه فربما صيرنا للحكم بسوء حفظه، وإن لم يستقر صدقه كان ذلك سبباً لجرحه بالكذب. ¬

(¬1) جامع التحصيل، للحافظ العلائي (ص: 213).

تقسيم الطبقات

تقسيم الطبقات: علمت من المبحث السابق أن تمييز الطبقة يكون بتمييز إدراك اللاحق للسابق وأن معرفة المواليد والوفيات أحسن الطرق لإثبات الإدراك، ومن تعسر علينا معرفة ذلك من أمره اعتبرنا القرائن في إمكان الإدراك، وهذا من حيث التأصيل لموضوع (الطبقات). أما توزيع الرواة على الطبقات فقد قدمت في أول هذا المبحث أن تقدير الطبقة يعود إلى اصطلاح المصنفين، وفي مجهود أئمتنا السابقين ما يساعد الباحث لاستفادة هذا المعنى، وحيث إن الحاجة إلى تمييز الطبقات تشتد في رواة القرون الأولى، فإن أحسن ما يتفق مع ما شرحت في هذا المبحث هو تقسيم الطبقات الذي جرى عليه الحافظ المحقق ابن حجر العسقلاني في كتابه " تقريب التهذيب "، فإنه قال: الأولى: الصحابة على اختلاف مراتبهم، وتمييز من ليس له منهم إلا مجرد الرؤية من غيره. الثانية: طبقة كبار التابعين، كابن المسيب، فإن كان مخضراً صرحت بذلك (¬1). الثالثة: الطبقة الوسطى من التابعين، كالحسن وابن سيرين. الرابعة: طبقة تليها جل روايتهم عن كبار التابعين، كالزهري وقتادة. الخامسة: الطبقة الصغرى منهم الذين رأوا الواحد والاثنين ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة، كالأعمش. السادسة: طبقة عاصروا الخامسة، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة، كابن جريج. ¬

(¬1) والمُخضرم: من أدرك الجاهلية والإسلام، ولم يَثْبت لهم شرف الصحْبة، مثلي: سُويد بن غفلة، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبي مسلم الخولاني.

السابعة: كبار التابعين، كمالك والثوري. الثامنة: الطبقة الوسطى منهم، كابن عيينة وابن علية. التاسعة: الطبقة الصغرى من أتباع التابعين، كيزيد بن هارون، والشافعي، وأبي داود الطيالسي، وعبد الرزاق. العاشرة: كبار الآخذين عن تبع الأتباع ممن لم يلق التابعين، كأحمد بن حنبل. الحادي عشرة: الطبقة الوسطى من ذلك، كالذهلي والبخاري. الثانية عشرة: صغار الآخذين عن تبع الأتباع، كالترمذي. وألحقت بها باقي شيوخ الأئمة الستة الذين تأخرت وفاتهم قليلاً، كبعض شيوخ النسائي (¬1). وهذا من حيث التقسيم دقيق، أما من حيث تطبيق الحافظ له في كتابه، فإنه قد يعد الراوي في طبقة يكون الأليق النزول به عنها. ويمكن أن تتبع هذه القسمة كمقياس لجميع الرواة من أهل القرون الأولى ممن له رواية عند الأئمة الستة أو عند غيرهم. ¬

(¬1) تقريب التهذيب (ص: 75).

المبحث الخامس: تفسير طبقة الصحابة

المبحث الخامس: تفسير طبقة الصحابة الصحابي مبتدأ الإسناد، وحلقة الوصول الضرورية فيه، وتحديد معناه وتوضيح المراد به أساس تمييز سائر الطبقات. وقد اختلف المتقدمون في تحديد المراد بـ (الصحابي)، فمن المنقول فيه ما يلي: 1 _ روي عن سعيد بن المسيب: " الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين ". قلت: وهذا لا يثبت عن ابن المسيب (¬1). 2 _ وقال عاصم بن سليمان الأحول: عن عبد الله بن سرجس: أنه رأى الخاتم الذي بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن له صحبة (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 99) بإسناده إلى محمد بن سعْد بكتاب " الطبقات " لكني لم أجد النص فيه، قال ابن سعد: عن الواقدي محمد بن عُمر، قال: أخبرني طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: كان سعيد بن المسيب يقول، فذكره. قلت: الواقدي ليس بعُمدةٍ، وشيخه طلحة مجهول. (¬2) أخرجه أحمد (34/ 372، 375 رقم: 20774، 20779) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 98) وإسناده صحيح.

قلت ذهب عاصم إلى أن ابن سرجس وإن رأى النبي صلى الله عليه وسلم فليس بصحابي، من أجل أنه اعتبر في الصحبة الملازمة لبعض الوقت. 3 _ وروي عن أحمد بن حنبل، قال: " كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه، فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، وكانت سابقته معه، وسمع منه، ونظر إليه (¬1). 4 _ وقال البخاري: " من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أو رآه من المسلمين، فهو من أصحابه " (¬2). قال ابن حجر: " هذا الذي ذكره البخاري هو الراجح "، وقال: " هو قول أحمد والجمهور من المحدثين " (¬3). قلت: ويشير قوله: (الراجح) إلى ما ذهب إله بعض السلف كالذي تقدم عن عاصم الأحول، إلى عدم إطلاق الصحبة إلا على الصحبة العرفية، وهي أن يرافقه مدة. وقال ابن حجر: " ويرد على التعريف: من صحبه أو رآه مؤمناً به ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام، فإنه ليس صحابياً اتفقا، فينبغي أن يزاد فيه: ومات على ذلك " (¬4). وقال ابن حجر: " أصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام " (¬5). ¬

(¬1) هذا من قول أحمد في " رسالة عبدوس بن مالك العطار " عنه، ومنها أخرج الخطيب هذا النص في " الكفاية " (ص: 99) وهذه الرسالة رُويت كذلك مُفردةً عن أحمد، كما أخرجها ابنُ أبي يعلى في " طبقات الحنابلة " (1/ 241 _ 246)، وفي إسنادها من لم يُعرف بجرحٍ أو تعديل، ولا أجزم بصحتها عن أحمد، لكن لا بأس في الاعتبار بما فيها. (¬2) صحيح البخاري (3/ 1335)، وأخرجه من طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 99). (¬3) فتح الباري (7/ 3، 4)، ومعناه في " الإصابة " (1/ 8). (¬4) فتح الباري (7، 4). (¬5) الإصابة (1/ 7).

وفيمن يدخل في التعريف قال: " فيد خل فيمن لقيه من طالت مجالسته أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو عنه، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يراه لعارض كالعمى " (¬1). قلت: ومن أهل العلم من ذهب إلى التوسع فيمن يدخل في جملة الصحابة، حتى قال: يدخل فيهم الجن الذين أسلموا ممن ينطبق عليه تعريف الصحابي. وهذا ليس مما له فائدة هنا، فإن تحديد المراد بالصحابي في هذا الموضع إنما هو فيمن روى العلم، وكان له شخصية محددة، أما: هل يدخل في الصحابة مسلمو الجن الذين استمعوا القرآن، أو بعض الملائكة، فهذا مما لا ينبغي عليه عمل، ولا يحقق مصلحة، ولا يُنْتهى فيه إلى شيء بين. نعم؛ رأيت الطبراني أخرج في " معجمه الكبير " حديثاً عن رجل من الجن، فقال: حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي، حدثنا أحمد بن سعد بن أبي مريم، حدثنا عثمان بن صالح، حدثني بن صالح، حدثني عمرو الجني، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة النجم، فسجد، فسجد، فسجت معه (¬2). قلت: وهذا خبر غريب جداً، بل منكر، وعثمان بن صالح هو المصري، من أصحاب عبد الله بن وهب، ومن شيوخ البخاري، وهو من طبقة تبع أتباع التابعين، ولو صححنا كونه من التابعين بمثل هذا لروايته عن جني له صحبة، لاضطرب عندنا مقياس الطبقات، ولصار به عامة من روى عنه من أتباع التابعين، وليس هذا محل إشكال إن ثبت، مع شدة غرابته، وإنما الشأن أن عثمان إن صح هذا إليه (¬3)، فإنه وإن كان صدوقاً انتقى له ¬

(¬1) الإصابة (1/ 7). (¬2) المعجم الكبير (17/ 45)، ومن طريقه: أخرجه ابن نُقطة في " تكملة الإكمال " (2/ 166). (¬3) إذ شيخُ الطبراني لم أعرفه بجرْحِ ولا تعديل.

كيف تثبت الصحبة؟

البخاري في صحيحه إلا أن أبا زرعة الرازي سئل عن بعض ما رواه عن عبد الله بن لهيعة، وفيه المنكر؟ فقال: " لم يكن عندي عثمان ممن يكذب، ولكنه كان يكتب الحديث مع خالد بن نجيح، وكان خالد إذا سمعوا من الشيخ، أملى عليهم مالم يسمعوا فبلوا به " (¬1). قلت: وخالد هذا كذاب معروف. وقد قال أبو نعيم الأصبهاني في رواية الجني هذه: " في إسناده نظر " (¬2)، وقال الهيثمي: " في إسناده من لا يعرف، وعثمان بن صالح لا أراه أدرك أحد من الصحابة " (¬3). كيف تثبت الصحبة؟ تثبت الصحبة بطريق من الطرق التالية: 1 _ التواتر، كصحبة حمزة بن عبد المطلب، وأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم. 2 _ الشهرة والاستفاضة، كصحبة كثيرين، علم كونهم من الصحابة بمجيء ذكرهم في الأخبار المعروفة، كياسر والد عمار، وخبيب بن عدي، أو بالرواية عنهم من وجوه عدة تحصل بمثلها الشهرة. 3 _ صحة الإسناد إلى من قال: (سمعت رسول النبي صلى الله عليه وسلم). 4 _ الخبر الثابت إلى من هو معروف من الصحابة: أن فلاناً صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أو يذكره في سياق ما يفيد صحبته. مثال: الحارث بن وقيش. 5 _ أن يخبر عن نفسه أن له صحبة، ويثبت الإسناد عنه بذلك. ¬

(¬1) سؤالات البرذعي (2/ 417 _ 418). (¬2) معرفة الصحابة (4/ 2045). (¬3) مجمع الزوائد (2/ 285).

6 _ معرفة قدم عهده، بحيث لا ينكر أن يكون أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم. وجدير أن تعلم أن كثيراً من الأسماء تجده في جملة الصحابة، اعتمد ذاكروها على وجود رواية عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تحققت من تلك الرواية وجدت كثير منها لا تثبت أسانيدها إلى ذلك المدعى صحبته. وكذلك فإن مجرد قول الرجل من الرواة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لا يعني الصحبة، فالتابعي ومن دونه قد يقول ذلك، فيكون من قبيل المرسل أو المعضل. والتثبت في الصحبة وتحقق إثباتها شرط لصحة الحديث، فدونها ينتفي الاتصال. وكان النقاد الأولون يحققون ذلك، كما يحققون أحوال سائر النقلة، وبه كشفوا الخطأ في ظن الصحبة لطائفة. فمن أمثلة ذلك: قال أبو حاتم في (عبد الرحمن بن عئاش الحضرمي): " أخطأ من قال: له صحبة، هو عندي تابعي، هو عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم " يعني: الصواب في روايته كذلك، وقال أبو زرعة: " ليس بمعروف " (¬1). وقال أبو حاتم في (عيسى بن يزداد): لا يصح حديثه، وليس لأبيه صحبة، ومن الناس من يدخله في المسند على المجاز، وهو وأبوه مجهولان " (¬2). وسأل البرقاني الدارقطني: مسلم بن الحارث التميمي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: " مسلم مجهول، لا يحدث عن أبيه إلا هو " (¬3). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 2 / 262). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 1 / 291). (¬3) سؤالات البرقاني (النص: 490).

من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير

كما يجب أن تعلم أن النقاد ربما اختلفوا في إثبات الصحبة لشخص، والواجب حينئذ المصير إلى الترجيح بما ذكرنا من الطرق لإثبات الصحبة أو نفيها. من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، هل تصح صحبته؟ حدث شعبة بن الحجاج عن أبي إياس معاوية بن قرة بن إياس، قال: جاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام صغير، فمسح رأسه، واستغفر له. قال شعبة: فقلت: أله صحبة؟ فقال لا، ولكنه كان على عهده قد حلب وصر (¬1). قلت: فهو قد ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يكن سنه سن من يحمل العلم؛ لعدم التمييز من أجل الصغر. واختلف أصحاب الزهري عنه على حديث رواه عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن جابر بن عبد الله في قتلى أحد، فمنهم من ذكر فيه جابراً ومنهم من لم يذكره، فسأل ابن أبي حاتم أباه عنه؟ فقال: " الصحيح مرسل " قال: قلت: عبد الله بن ثعلبة أليس قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: " نعم، وهو صغير " (¬2). قلت: فعد حديثه مرسلاً من أجل عدم السماع للصغر. والتحقيق: أن هذا الصنف يثبت لهم شرف الصحبة، لكن رواياتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة ملحقة بعموم مراسيل التابعين، لا بمراسيل الصحابة الذين لهم من النبي صلى الله عليه وسلم سماع، يروي أحدهم عنه صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعه، وإنما سمعه من صحابي غيره، فأرسله، بل هؤلاء الذين لهم شرف الصحبة تابعيون في الحكم (¬3). ¬

(¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل ومعرفة الرجال " (النص: 3819) وإسناده صحيح. (¬2) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1015). (¬3) وانظر: فتح الباري، لابن حجر (7/ 4).

هل للصحابة عدد محصور؟

فمن أدخلهم في الصحابة في كتب تراجم الصحابة، فإنما فعل ذلك لثبوت معنى الصحبة لهم، لا لاتصال رواياتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحذر أن تعتمد على ذلك للقول باتصال الإسناد. فائدة هل للصحابة عدد محصور؟ بالنظر إلى تاريخ المجتمع الإسلامي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المعلوم أنه صحبه خلق كثير، منهم من لقي ربه في حياته صلى الله عليه وسلم، ومنهم من بقي بعده، ومنهم من عرف اسمه، ومنهم من لم يعرف، ومنهم من حمل عنه العلم، ومنهم من لم يحمله، وممن حمل العلم كمن شهد معه حجة الوداع من روى وحفظ عنه الحديث، ومنهم من لم يحفظ عنه الحديث. قال محمد بن أحمد بن جامع الرازي: سمعت أبا زرعة (يعني الرازي) وقال له رجل: يا أبا زرعة، أليس يقال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟ قال: " ومن قال ذا؟! قلقل الله أنيابه، هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله؟ قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مئة ألف وأربعة عشر ألفاً من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه "، فقال له الرجل: يا أبا زرعة، هؤلاء أين كانوا وسمعوا منه؟ قال: " أهل المدينة، وأهل مكة، ومن بينهما، والأعراب، ومن شهد حجة الوداع، كل رآه وسمع منه يعرفه " (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم 1894) وإسناده جيِّد إلى ابن جامع هذا راويه عن أبي زُرعة، ولم أقِف على ما يُبين حاله، وقد روى عن أبي حاتم الرازي كذلك، فهو مستورٌ على أقل الأحوال إن لم تثبت ثقته، ومثله في هذا الخبر يُحتمل.

فرع: فإذا ميزت الصحابي تيسر لك تمييز التابعي، فإنه: من لقي رجلاً من الصحابة فأكثر، فيثبت له به شرف التابعية، ولا يتحصل حديثه بالصحابي حتى ينقل شيئاً سمعه من الصحابي أو رآه. وعلى معناه فقس تفسير كل طبقة تليه. * * *

المبحث السادس: تمييز المشتبه من أسماء الرواة

المبحث السادس: تمييز المشتبه من أسماء الرواة الاشتباه في أسماء الرواة يقع بواحد من سببين: السبب الأول: التشابه في الرسم ويكون معوقاً دون الوقوف على شخصية الراوي؛ ذلك لما يقع به من التصحيف والتحريف. قال علي بن المديني: " أشدُّ التصحيف في الأسماء " (¬1). واصطلحوا على تسميته بـ (المؤتلف والمختلف). ومعناه: ما يتفق من الأسماء في الخط صورة، ويختلف في اللفظ صيغة. وهذا يعني الاتحاد في الرسم، والاختلاف في النقط والشكل. وتقدمت بعض أمثلته في (تمييز الأسماء)، وإليك صوراً منها زيادة في التوضيح والتأكيد: ¬

(¬1) أخرجه أبو أحمد العسْكري في " أخبار المصحفين " (ص: 32 _ 33) وإسناده صحيح.

(سلًّام) بالتشديد، وهو أكثر، و (سَلَام) بالتخفيف في أسماء معينة. (مَعْمَر) بفتح الميم وإسكان العين ثم ميم مفتوحة خفيفة، و (مُعَمَّر) بضم أوله فعين مفتوحة فميم مشددة. و (البَرَاء) بالتخفيف، في الأسماء جميعاً، و (البَرَّاء) بالتشديد في نسب ثلاثة من الرواة: أبي العالية البَرَّاء، واسمه: زياد بن فيروز، وقيل غير ذلك، وأبي معشر البَرَّاء، واسممه: يوسع بن يزيد، وحماد بن سعيد البَرَّاء. وما كان من هذا النمط مما يرجع إلى الشكل، فإن ما يقع من الخفاء بسببه قليل، وإنما مثله مظنة اللحن. أم ما كان مثل (جَرير) بجيم أوله، وراء آخره، و (حَرِيز) بحاء مهملة أوله، وزاي آخره، ومثل (شُرَيح بالشين المعجمة أوله، و (سُرَيج) بالسين المهملة أوله، ومثل (يَزيد) بياء مثنَّاة ... أوله، و (بَرِيد) بباء موحدة مفتوحة أوله، ومثل (الهَمْداني) بميم ساكنة بعدها دال مهملة، و (الهَمَذاني) بميم مفتوحة بعدها ذال معجمة، و (الزُّبَيْري) بزاي مضمومة فباء موحدة مفتوحة فمثناة تحتية، و (الزَّنْبريِّ) بزاي مفتوحة، فنون ساكنة فموحدة مفتوحة؛ فإن التصحيف بمثله أشد، ويكون معوقاً دون الوقوف على الترجمة وتمييز المقصود. وأغمض منه ما رجع إلى بابه، لكن بزيادة حرف ونقصة، كالذي بين (عبد) و (عبيد)، أو (عمر) و (عمرو)، أو (بشر) و (بشار). وأشد منه ما اتحد الرسم أو تقارب إلا في حرف، مثل: (سفيان) و (شيبان)، و (عنان) و (غياث). والغلط في مثل هذا لا يكاد يسلم منه أحد، وهو في الكتب المطبوعة غير قليل، فلا تركن إلى هذا. واعلم أن ضبط الأسماء لا يخضع إلى قاعدة في القياس، إنما

الاشتراك

العمدة فيه السماع، فعليك بضبطها وتجويدها وحفظ مواضع اجتماعها وافتراقها تسلم من اللحن والتصحيف. وقد نبهت سالفاً على أسماء أهم المصنفات المفيدة في هذا الفن، وفي " إكمال " ابن ماكولا، ثم " تكملة " ابن نقطة، ثم " توضيح " ابن ناصر. السبب الثاني: الاشتراك وربما صار بك إلى جرح عدل، أو تعديل مجروح، كما يكون سبباً في أن يدخل على الراوي ما ليس من حديثه. والطريق إلى معرفة ذلك بتمييز ما اصطلحوا عليه بـ (المتفق والمفترق). وهو فن يعسر فهمه وتحتاج معرفته إلى يقظة شديدة، فإن الرجل تراه في الإسناد، فتبحث عن ترجمته، فتجد في التراجم من هو مسمى بنفس اسمه، ولا تجد في الإسناد من العلامة ما يساعدك على تمييزه، فكيف الطريق إلى معرفته؟ تقدم أن النظر في الشيوخ والتلاميذ يساعدك على كشف الالتباس عن كثير من الرواة ممن هذه صفته، لكنك قد لا تصل إلى ذلك بمجرد هذا الطريق لعدم وجود الاستقصاء لجميع شيوخ الراوي أو تلاميذه عادة على ما علمت شرحه، أو ترى الراويين يشتركان في بعض الشيوخ والتلاميذ، أي: تتحد طبقتهما، فيبقى لك أن تميزه بمعرفة هذا الطريق. اعلم أن الاتفاق والافتراق في أسماء الرواة ممن تذكر أسماؤهم غير مميزة بما يدفع الاشتباه؛ يرجع إلى صور ثلاث: الأولى: الاتفاق في الاسم مع الافتراق في الطبقة. مثاله: (حيوة بن شريح) رجلان، أحدهما من طبقة الأولى من أتباع التابعين، من أقران الليث بن سعد ومالك بن أنس وأقدم منهما قليلاً، وهو من أعيان المصريين.

والثاني من شيوخ البخاري والدارمي وأبي داود، من الشاميين، يروي عن بقية بن الوليد وطبقته. وكلاهما يأتي ذكره كثيراً في الأسانيد (حيوة بن شريح) من غير علامة مفسرة. فهذا النمط يسهل تمييزه بتمييز الطبقة. وقد يكون الراويان المشتركان عدلين كهذا المثال، فيكون محذور الغلط في تمييزه أخف منه حين يكون أحدهما مجروحاً والآخر ثقة. مثل: (سعيد بن سنان) راويان معروفان، البُرْجُمي كوفي ثقة صدوق، والآخر أبو مهدي، شامي متروك الحديث. لكن البرمجي متأخر الطبقة عن الشامي. والثانية: الاتفاق في الاسم مع اتحاد الطبقة، لكن مع وجود علامة تساعد على التمييز بمراجعة التراجم المشتبه في كتب الرواة. مثاله: (عبد الرحمن بن إسحاق) رجلان من طبقة واحدة يأتيان في الأسانيد غير مميزين، أما أحدهما فهو كوفي ضعيف الحديث، وأما الآخر فهو مدني نزل البصرة صدوق، ولا يشتركان في الشيوخ، فحديث الأول عند الكوفيين وحديث الثاني عند البصريين. قال الحافظ محمد بن سعيد وذكر الأول في الكوفيين: " عبد الرحمن بن إسحاق، ويكنى أبا شيبة، وكان ضعيف الحديث، روى عن الشعبي، وهو الذي روى عنه أبو معاوية الضرير والكوفيون، وعبد الرحمان بن إسحاق المديني أثبت منه في الحديث، وهو الذي روى عنه إسماعيل بن علبة والبصريون " (¬1). ¬

(¬1) الطبقات الكبرى، لابن سعد (6/ 361 _ 362).

ويقرب منه في إمكان الفصل مثل: (إسماعيل بن أبان) رجلان، أحدهما (الوراق) والثاني (الغنوي)، كلاهما كوفيان، واشتركا في شيء قليل من الشيوخ والتلاميذ، والغنوي أقدم قليلاً، ولعله لا يأتي إلا منسوباً فلا يشق التمييز. قال يحيى بن معين: " إسماعيل بن أبان الغنوي كذاب لا يكتب حديثه , وإسماعيل بن أبان الوراق ثقة " (¬1). وهذا النمط من الرواة يمكن التوصل إلى تمييز المقصود منهم ببعض البحث المتحري بتأمل بلد الراوي أو شيوخه وتلاميذه. فإن لم يتميز فلاحتمال أن يكون المجروح، يجب التوقف عن قبول تلك الرواية. والثالثة: الاتفاق في الطبقة والبلد والاشتراك في بعض الشيوخ والتلاميذ، مما يجعل عملية الفصل بينهما شاقة في كثير من الأحيان يحتاج الباحث معها إلى قرينة تصير به إلى أي ترجيح. مثاله: (حماد) ابن زيد، و (حماد) ابن سلمة، كلاهما من طبقة واحدة، ومن بلد واحد فهما بصريان، واشتركا في طائفة من الشيوخ رويا عنهما جميعاً، مثل: (أيوب السختياني، وثابت البناني، وحميد الطويل، وأبي عمران الجوني، وغيرهم)، كما اشتركا في طائفة من التلاميذ رووا عنهما جميعاً، منهم: (عفان بن مسلم، وحجاج بن منهال، وسليمان بن حرب، وغيرهم). ولا إشكال عند مجيء اسم أحدهما منسوباً إلى أبيه، وإنما في وروده مهملاً من القيد المفسر. وههنا فصل مفيد أورده الحافظ الذهبي في ترجمة (ابن زيد)، قال: ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 528) بإسناد صحيح.

" اشتركا الحمادان في الرواية عن كثير من المشايخ، وروى عنهما جميعاً جماعة من المحدثين، فربما روى الرجل منهم عن حماد، لم ينسبه، فلا يعرف أي الحمادين هو إلا بقرينة، فإن عري السند من القرائن، وذلك قليل، لم نقطع بأنه ابن زيد، ولا أنه ابن سلمة، بل نتردد، أو تقدره ابن سلمة، ونقول: هذا الحديث على شرط مسلم، إذ مسلم قد احتج بهما جميعاً. فمن شيوخهما معاً: أنس بن سيرين، وأيوب، والأزرق بن قيس، وإسحاق بن سويد، وبرد بن سنان، وبشر بن حرب، وبهز بن حكيم، وثابت، والجعد أبو عثمان، وحميد الطويل، وخالد الحذاء، وداود بن أبي هند، والجريري، وشعيب بن الحبحاب، وعاصم بن أبي النجود، وابن عون، وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس، وعبيد الله بن عمر، وعطاء بن السائب، وعلي بن زيد، وعمرو بن دينار، ومحمد بن زياد، ومحمد بن واسع، ومطر الوراق، وأبو جمرة الضبعي، وهشام بن عروة، وهشام بن حسان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن عتيق، ويونس بن عبيد. وحدث عن الحمادين: عبد الرحمن بن مهدي، ووكيع، وعفان، وحجاج بن منهال، وسليمان بن حرب، وشيبان، والقعنبي، وعبد الله بن معاوية الجمحي، وعبد الأعلى بن حماد، وأبو النعمان عارم، وموسى بن إسماعيل، لكن ما له عن حماد بن زيد سوى حديث واحد، ومؤمل بن إسماعيل، وهدبة، ويحيى بن حسان، ويونس بن محمد المؤدب، وغيرهم. والحفاظ المختصون بالإكثار وبالرواية عن حماد بن سلمة: بهز بن أسد , وحبان بن هلال، والحسن الأشيب، وعمرو بن عاصم. والمختصون بحماد بن زيد الذين ما لحقوا ابن سلمة، فهم أكثر وأوضح: كعلي بن الديني، وأحمد بن عبادة، وأحمد بن المقدام، وبشر بن معاذ العقدي، وخالد بن خداش، وخلف بن هشام، وزكريا بن عدي،

وسعيد بن منصور، وأبي الربيع الزهراني، والقواريري، وعمرو بن عون، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، ولوين، ومحمد بن عيسى بن الطباع، ومحمد بن عبيد بن حساب، ومسدد، ويحيى بن حبيب، ويحيى بن يحيى التميمي، وعدة من أقرانهم. فإذا رأيت الرجل من هؤلاء الطبقة قد روى عن (حماد) وأبهمه علمت أنه ابن زيد، وأنه لم يدرك حماد بن سلمة، وكذا إذا روى رجل ممن لقيهما فقال: (حدثنا حماد) وسكت، نظرت في شيخ حماد من هو، فإن رأيته من شيوخهما على الاشتراك؛ ترددت، وإن رأيته من شيوخ أحدهما على الاختصاص والتفرد عرفته بشيوخه المختصين به. ثم عادة عفان لا يروي عن حماد بن زيد إلا وينسبه، وربما روى عن حماد بن سلمة فلا ينسبه، وكذلك يفعل حجاج بن المنهال، وهدبة بن خالد، فأما سليمان بن حرب، فعلى العكس من ذلك، وكذلك عارم يفعل، فإذا قالا: (حدثنا حماد) فهو ابن زيد، ومتى قال موسى التبوذكي: (حدثنا حماد) فهو ابن سلمة، فهو روايته، والله أعلم. ويقع مثل هذا الاشتراك سواء في السفيانين، فأصحاب سفيان الثوري كبار قدماء، وأصحاب ابن عينية صغار لم يدركوا الثوري، وذلك أبين، فمتى رأيت القديم قد روى فقال: (حدثنا سفيان) وأبهم، فهو الثوري، وهم كوكيع، وابن مهدي، والفريابي، وأبي نعيم، فإن روى واحد منهم عن ابن عيينة بينه، فأما الذي لم يلحق الثوري وأدرك ابن عيينة فلا يحتاج أن ينسبه لعدم الإلباس، فعليك بمعرفة طبقات الناس " (¬1). هذا الذي حكيت لك عن الذهبي مثال لاشتراك الثقتين. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (7/ 464 _465)، وسبقه إلى بَعض هذا المزِّي في " التهذيب " (7/ 269).

أغمض منه اشتراك ثقة ومجروح. ومثاله: (عبد الكر يم) رجلان من طبقة واحدة، يأتي ذكرهما في بعض الأسانيد مهملين من العلامة المساعدة على التمييز، ويشتركان في بعض الشيوخ والتلاميذ، أما أحدهما فهو عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية متروك الحديث، والثاني عبد الكريم بن مالك الجزري ثقة، رويا جميعاً عن سعيد بن جبير، وطاوس اليماني، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، ومجاهد، ونافع مولى ابن عمر، وروى عنهما جميعاً عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وإسرائيل بن يونس، وسفيان بن عيينة، وشريك بن عبد الله القاضي. فهذا النمط إذا جاء مهملاً فإما أن تجد قرينة خارجية مساعدة في تفسير المقصود، أو تعذر التمييز، وعليه فالمصير إلى التوقف في شأنه. تنبيه: يقع الالتباس في بعض أسماء الرواة من جهة مظنة القلب فيها، حيث تأتي على خلاف المعروف من الأسماء، فيظن الظان أنها جاءت على الغلط، وإنما هي أسماء لرواة آخرين جاءت على العكس من أسماء مشهورة في التقديم والتأخير في الاسم واسم الأب. مثالها: في الرواة (مسلم بن الوليد) وهو ابن رباح، مدني، من أتباع التابعين، وليس هو بالمشهور، فانقلب على البخاري، فسماه (الوليد بن مسلم)، وخطأه فيه أبو زرعة وأبو حاتم الرويان (¬1)، وهو على القلب يشارك راويين مشهورين في الاسم واسم الأب، كلاهم يدعى (الوليد بن مسلم)، أحدهما بصري، والآخر الشامي المعروف. ¬

(¬1) بيان خطأ البخاري، لابن أبي حاتم (ص: 130) والجرح والتعديل، له (4/ 1 / 197).

وكان أئمة الحديث يتحرون تمييز هذا النوع من الرواة: أخرج الترمذي قال: حدثنا الحسن بن الصباح البزار، حدثنا مبشر بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن العلاء، عن أبيه، عن ابن عمر، عن عائشة، قالت: لا أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى لله عليه وسلم. في الرواة (العلاء بن عبد الرحمن) يروي عن أبيه عن الصحابة، وهذا هنا (عبد الرحمن بن العلاء) يروي عن أبيه عن الصحابة، وحيث إن الأول (العلاء عن أبيه) أشهر، وهو معروف بمولى الحرقة، فربما ظن الظان أن الثاني الوارد في إسناد الترمذي الذكور غلط وقلب، لذا قال الترمذي بعد روايته: سألت أبا زرعة فقلت له من: عبد الرحمن بن العلاء هذا؟ فقال: هو عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج (¬1). تتمة: ولا تعجزن عن زيادة البحث والتنقيب عما يشتبه، حتى تقف على اليقين بدليله وحجته ما أمكنك، ولا تقنعن بالوقوف على أصل ينفرد لك بالدلالة على ما تبحث عنه حتى تعدم بغيتك في غيره، إلا أن يقطع بحجته النظر. وذلك أن طائفة من كبار النقاد بذلوا من الوسع غايتهم، لكن الكمال ميؤوس منه للبشر، فجاء بعدهم من أهل صنعتهم من استدرك وناقش، وحلل واستدل، ووهم وسلم، وزاد وأفاد، وكان لإمام الصناعة حافظ دار ¬

(¬1) الجامع، للترمذي (رقم: 979)، والشمائل، له (رقم: 371).

السلام، بل إمام دار السلام في هذا الفن أبي بكر الخطيب، أن أتى بتحرير لا ينقضي من حسنها العجب، في هذه الأبواب المشكلة. ومن أنفع ما صنف فيها كتاب " الموضح لأوهام الجمع والتفريق "، تعقب فيه كبار أئمة هذا العلم، رحمهم الله. * * *

الفصل الثاني: اتصال الإسناد

الفصل الثاني: اتصال الإسناد اتصال الإسناد طريق تلقي كل راو للحديث عمن فوقه. والتحقق من اتصال الإسناد يوجب معرفة الصيغ التي يقع عليها تحمل الرواية من قبل التلميذ عن الشيخ، وهي محصورة في القسمة التالية: الأول: صيغة سماع صريحة، لا تحتمل الواسطة بحال. الثاني: صيغة اتصال هي بمنزلة السماع، كالمكاتبة. الثالث: صيغة تحتمل السماع ولا تنتفي بذاتها الانقطاع، كالعنعنة. وهذا الفصل معقود لبيان هذه القسمة في المباحث الثلاثة التالية، ثم إلحاقه بمبحث متمم. * * *

المبحث الأول: الصيغة الصريحة بالسماع

المبحث الأول: الصيغة الصريحة بالسماع ويقع بألفاظ، أكثرها استعمالاً: (سمعت، حدثني، حدثنا، أنبأني، أنبأنا، أخبرني، أخبرنا). قال الخطيب: " ما يسمع من لفظ المحدث، الراوي له بالخيار فيه، بين قوله: (سمعت) و (حدثنا)، و (أخبرنا)، و (أنبأنا)، إلا أن أرفع هذه العبارات: سمعت " (¬1). قال: " ليس يكاد أحد يقول: (سمعت) في أحاديث الإجازة والمكاتبة، ولا في تدليس ما لم يسمعه؛ فلذلك كانت هذه العبارة أرفع مما سواها، ثم يتلوها قول: (حدثنا) و (حدثني) " (¬2). قال: " وإنما كان قول: (حدثنا) أخفض في الرتبة من قول: (سمعت)؛ لأن بعض أهل العلم كان يقول فيما أجيز له: (حدثنا) " (¬3). وجرت مذاهب الأكثرين على التسوية بينها، ذلك في قول سفيان بن ¬

(¬1) الكفاية (ص: 412). (¬2) الكفاية (ص: 413). (¬3) الكفاية (ص: 413).

شرط قبول صيغة السماع

عيينة، والشافعي، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، وفقهاء الكوفة، وغيرهم (¬1). وصيغة (قال لي) و (قال لنا) و (ذكر لي)، و (ذكر لنا) و (زعم لي) و (زعم لنا) هي بمنزلة السماع، وإن احتملت أن تكون مناولة. مسألة: قول الراوي: (حدثنا فلان) لا يجوز تأوله على معنى: حدث أهل بلدنا، فهذا تكلف، ولا شاهد له في الواقع، وذُكر له مثال عن الحسن البصري أنه قال: (حدثنا أبو هريرة)، ولا يصح، إنما هو غلط من بعض الرواة عن الحسن، حسبوه سمع منه، فأبدلوا (عن) بـ (حدثنا) (¬2). نعم؛ توسع بعض الرواة في صيغة (خطبنا فلان)، وعنوا خطب أهل بلدهم، ونحوها، أما التحديث والإخبار الصريحين في أمر الرواية فلا. شرط قبول صيغة السماع: لا يصح التسليم لمجرد الوقوف على صيغة السماع بين الراوي وشيخه في رواية إلا عند اجتماع شروط ثلاثة: الأول: صحة الإسناد إلى الراوي المصرح بالسماع. وهذا يجب أن يعتبر فيه أن لا يقوم دليل على وهم أحد رواة الإسناد فيما دون الراوي المصرح بالسماع في تلك الدعوى، فإن أهل العلم ردوا التصريح بالسماع في بعض الأسانيد. كقول أبي بكر الأثرم لأحمد بن حنبل: عراك بن مالك قال: (سمعت عائشة)؟ فأنكره، وقال: " عراك بن مالك، من أين سمع عائشة؟ ما له ولعائشة؟ إنما يروي عن عروة، هذا خطأ "، قال لي: " من روى هذا؟ "، ¬

(¬1) جمعت ذلك عنهم في جزء مُحرر. (¬2) وانظر: جامع التحصيل، للعلائي (ص: 133).

قلت: حماد بن سلمة عن خالد الحذاء، فقال: " رواه غير واحد عن خالد الحذاء، ليس فيه: (سمعت)، وقال غير واحد أيضاً عن حماد بن سلمة، ليس فيه (سمعت) " (¬1). الثاني: أن يكون ذلك الراوي ممن يصلح الاستدلال بخبره. فأما إذا كان ممن يحتج بخبره فظاهر. وأما إذا كان من الضعفاء الذين يعتبر بهم، فإن الراوي ما دام صدوقاً في الأصل فإذا قال: (حدثني) فهو خبر عن شيخه المباشر لا يحتمل الكذب، نعم قد يحتمل الوهم، فقد يشبه للراوي، لكن احتمال وهمه في ذلك ضعيف، فلا يصار إليه إلا بدليل، ويكون قوله: (حدثني) اتصالاً. الثالث: السلامة من المعرض المؤثر. وهذان مثالان لتحقيق هذه الشروط: المثال الأول: رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه: اختلفوا فيها على أقوال أربعة: أولها: لم يسمع من أبيه شيئاً. وإليه ذهب شعبة بن الحجاج (¬2)، ويحيى بن معين في روايتي عباس الدوري وابن الجنيد عنه (¬3)، وبه جزم عبد الرحمن بن يوسف بن خراش (¬4)، والنسائي (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 163) وإسناده صحيح. (¬2) العلل ومعرفة الرجال (النص: 752). (¬3) تاريخ يحيى بن معين، رواية الدوريِّ (النص: 1716)، وسؤالات ابنِ الجنيد (النص: 819). (¬4) تاريخ دمشق، لابن عساكر (35/ 70). (¬5) السنن (بعد رقم: 1404).

وثانيها: التردد في إمكان سماعه؛ لكونه كان صغيراً. وهذا ظاهر المنقول عن أحمد بن حنبل، فإنه سئل: هل سمع عبد الرحمن بن عبد الله من أبيه؟ فقال: " أما سفيان الثوري وشريك فإنهم ليقولان سمع، وأما إسرائيل فإنه يقول في حديث الضب: سمعت " (¬1). قلت: وهذا الذي حكى عن الثوري وشريك ليس فيه نفي السماع، إنما فيه أنهما حدثنا بحديث عبد الرحمن عن أبيه وليس فيه (سمعت). وكان سبب تردد أحمد عائداً إلى ما حكاه عن يحيى بن سعيد القطان، قال: " مات ابن مسعود، وعبد الرحمن بن عبد الله ابن ست، أو نحو ذلك " (¬2). وتعقب هذا يعقوب بن شيبة بقوله: " أخاف أن يكون هذا غلطا ً" (¬3). وعلى التردد جرى الحاكم النيسابوري، فإنه خرج لعبد الرحمن في " المستدرك " في مواضع، فهو يقول: " لم يسمع من أبيه في أكثر الأقاويل " (¬4)، وعليه فتارة يقول بعد تخريج حديثه: " إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه، فقد اختلف في ذلك " (¬5)، وتارة يقول: " صحيح الإسناد " دون تردد (¬6). وثالثها: لم يسمع من أبيه إلا حديثاً واحداً. ¬

(¬1) أخرجه ابن عساكر في " تاريخه " (35/ 67، 69) بإسناد صحيح إلى أبي بكر مُحمدِ بن عليِّ بن شعيب السمسار عن أحمد، والسمسار هذا لم يُجرح، وكانَ من أصحاب أحمد. (¬2) أخرجه ابن عساكر (35، 68) وإسناده صحيح. (¬3) تاريخ ابن عساكر (35/ 68). (¬4) المستدرك (1/ 82 بعد رقم 275). (¬5) المستدرك (2/ 305 بعد رقم 3194)، ونحوه (4/ 365 بعد رقم: 8086، 8087). (¬6) انظر مثلاً: المستدرك (4/ 159، 239، 404 الأرقام 7275، 7599، 8232).

وهذا ذكره العجلي ممرضاً، فقال: " يقال: إنه لم يسمع من أبيه إلا حرفاً واحد محرم الحلال كمستحل الحرام " (¬1). وإلى قريب منه ذهب ابن سعد، فبعد أن أسند إليه هذا الأثر وفيه قوله: (سمعت عبد الله بن مسعود) (¬2) قال ابن سعد: " كان ثقة، قليل الحديث، وقد تكلموا في روايته عن أبيه، وكان صغيراً " (¬3). ورابعها: سمع من أبيه وإليه ذهب علي بن المديني، ويحيى بن معين في رواية معاوية بن صالح عنه (¬4)، والبخاري، وأبو حاتم الرازي (¬5). قال علي بن المديني: " قد لقيَ أباه " (¬6). وقال: " سمع من أبيه، وكان شعبة يقول: لم يسمع من أبيه، وهو عندي قد أدركه " (¬7). واستدل له البخاري بما رواه عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه (يعني عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود): أخر الوليد بن عقبة الصلاة بالكوفة، فانكفأ ابن مسعود إلى مجلسه، وأنا مع أبي. ¬

(¬1) ترتيب الثقات، للعجلي (النص: 1052). (¬2) وكذلك أسنده ابنُ عساكر (35/ 64) من وجه آخر، وفيه تصريح عبد الرحمن بسماعه من أبيه. وهذا حدَّث به عبد الرحمن حين ذُكر بحضرته تحريم الضب، فأنكر ذلك وحدَّث بهذا عن أبيه. فهذا هو حديث الضب الذي أشار بعض العلماء إلى أن عبد الرحمن سمعه من أبيه. (¬3) الطبقات الكُبرى (6/ 181). (¬4) أخرجه ابنُ عساكر (35/ 69) بإسناد صحيح. (¬5) الجرح والتعديل (2/ 2 / 248) ونص قوله: " سمِع أباه ". (¬6) نقله ابن عساكر (35/ 65) بإسناده الصحيح إلى يعقوب بن شيبة، عن علي. (¬7) نقله ابن عساكر في " تاريخه " (35/ 67) بإسناد صحيح، وهو إسناده بكتاب " العلل " لابن المديني.

قال البخاري: " شعبة يقول عبد الرحمن لم يسمع من أبيه، وحديث ابن خثيم أولى عندي " (¬1). وقال في " تاريخه الكبير ": " سمع أباه، قاله عبد الملك بن عمير " (¬2). قلت: فإذا جئت للنظر أولاً في دليل نفي السماع أو التردد فيه، فأحسن ما يمكن التعلق به أمران: أولهما: أن بعض من روى حديث عبد الرحمن لا يذكرون له فيما رووا سماعا من أبيه. وهذا فيما لم يقل فيه الراوي: (سمعت) وما في معناها، فروايته بتلك الصيغة محلها (المبحث الثالث)، وإنما الشأن في روايته الصريحة بالاتصال، فحيث جاء نقل السماع من وجه صحيح سالم من المعارض الراجح، فيجب المصير إليه، ويكون من أتى به زاد علماً لم يأتي به الآخر. وثانيهما: أن عبد الرحمن كان صغيراً يوم مات أبوه، وهو ابن ست سنين في قول يحيى القطان، فكيف لابن ست سنين أن يحفظ كالذي رواه عبد الرحمن عن أبيه؟ وهذا شكك فيه يعقوب بن شيبة، كما تقدم، كما أن ابن سعد مع إقراره بصغره، فإنه أورد له خبره الصريح في السماع من أبيه، وهو صحيح، فهو صغر لم يحل دون الحفظ. وتحديد سنه يوم مات أبوه بست سنين يحتاج إلى نقل صحيح، حيث قابل الثابت، إذ السماع ثبت به الإسناد، أما تحديد السن فمنقطع، القطان لم يدرك ذلك العهد. ¬

(¬1) التاريخ الأوسط (رقم: 246) _ ومن طريقه: ابنُ عساكر (35/ 67) _ وإسناده بخبرِ ابن خُثيْم صحيح إلى ابن خثيم، أما إلى ابن مسعود فحسن، ابن خُثيم صدوق لا بأس به. وأخرجه ابن عساكر في " تاريخه " 35/ 63) من طريق آخر إلى ابن خُثيم بسياق متْنه. (¬2) التاريخ الكبير (3/ 1 / 299 _ 300).

وأما النظر في القول الثالث، فإن القائل به قد حضر السماع في تلك الرواية الخاصة، وكان ينبغي أن تكون مظنة راجحة على السماع في الجملة، كما سيأتي في (المبحث الثالث)؛ وذلك لعدم ثبوت المعارض، ولما جرى عليه عمل الجميع أن الراوي إذا ثبت سماعه من الشيخ ولو مرة، ولم يثبت عنه التدليس، فكل ما حدث به عن ذلك الشيخ بالعنعنة فهو متصل. وهذا القول في التحقيق وارد في نصرة القول الرابع. ثم يزيد عليه القول الرابع من الأدلة ما ذكره البخاري، وهو ثابت إلى عبد الرحمن من جهة الإسناد، فهو وقصة الضب الصحيحة الإسناد دليلان. ينضم إليهما ثالث: وهو ما حدث به عبد الملك بن عمير، قال: عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، أن عبد الله بن سعود أوصى ابنه عبد الرحمن، فقال: " يا بني، إني أوصيك بتقوى الله، وأمسك عليك لسانك، وابك من خطيئتك، وليسعك بيتك " (¬1). وهذه رواية صحيحة، فمن كان في سن يعقل فيه مثل هذه الموعظة، فجدير أن يكون أهلاً لحمل العلم وحفظ الحديث. ومن خلال القولين الرابع والخامس تعلم خطأ قول الحاكم: " لم يسمع من أبيه في أكثر الأقاويل "، وأبين منه خطأ قوله في موضع آخر: " مشايخ الحديث اتفقوا على أن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه " (¬2)!! فها هي الأسانيد قد صحت عن عبد الرحمن بتصريحه بالسماع من أبيه ¬

(¬1) أخرجه ابنُ أبي عاصم في " الزهد " (رقم: 35) وإسناده صحيح، وهو أصح إسناد رُوي به هذا الخبر عن عبد الملك بن عُمير. (¬2) سؤالات مسعود السجزي (النص: 215).

وإدراكه له وهو ثقة مقبول القول أنه سمع أباه، ولم يقم دليل على ضد ذلك، إذا: حديثه عن أبيه عبد الله بن مسعود متصل صحيح، إما يقينا، وذلك فيما جاء بالصيغة الصريحة بالاتصال، وإما رجحاناً، وذلك في سائر ما حدث به دون تصريح بالسماع. وعلى ذلك جرى طائفة من الأئمة، كالترمذي في مواضع من " الجامع " (¬1)، وابن خزيمة (¬2)، وابن حبان (¬3). والمثال الثاني: رواية عبدِ الجبار بن وائل بن حُجر، عن أبيه: اختلف فيها على قولين: الأول: متصلة، من جهة مجيء ذكره السماع من أبيه في شيء من الرواية عنه. وهذا روي فيه ما قاله البخاري: " قال فطر: عن أبي إسحاق، عن عبد الجبار، سمعت أبي ". لكن قال البخاري: " ولا يصح " (¬4). وقال ابن حبان: " وقد وهم فطر بن خليفة " (¬5). ولا يوجد لدينا ما يستدل به صراحة في إثبات السماع غير هذا. والثاني: منقطعة؛ لانتفاء ثبوت رواية في كونه سمع، ولقيام المعارض الصحيح. ¬

(¬1) منها: (رقم: 1206، 2257، 2657). (¬2) انظر مثلاً في " صحيحه " (رقم: 176). (¬3) انظر " صحيحه " (رقم: 66، 972، 1053، 4410). (¬4) التاريخ الكبير (1/ 1 / 69). (¬5) المجروحين (2/ 273).

وقال يحيى بن معين: " ثبت، ولم يسمع من أبيه شيئاً، إنما كان يحدث عن أهل بيته عن أبيه " (¬1). وقال: " لم يسمع من وائل، يقولون: إنه مات وهو حبل " يعني أن أمه به حبلى (¬2). وقال ابن حبان: " ولد بعد موت أبيه بستة أشهر، مات وائل بن حجر وأم عبد الجبار حامل به، وهذا ضرب من المنقطع الذي لا تقوم به الحجة " (¬3). قلت: وأصل هذه الحكاية التي ذكر يحيى بن معين ما حدث به البخاري، قال: قال لي ابن حجر: " ولد عبد الجبار بعد موت أبيه بستة أشهر " (¬4). وابن حجر هذا هو محمد بن حجر بن عبد الجبار بن وائل، وهو هنا يخبر عن نبأ جده، لكن محمد هذا لين الحديث، وقد قال البخاري فيه: " فيه نظر "، ثم هو لم يدرك جده إنما يروي عن عمه عنه، فالرواية ضعيفة إذاً لا يصلح الاعتماد عليها في نفي إدراك عبد الجبار لأبيه. ومع ذلك فكأن البخاري حين لم يقف على ضده يقاومها قد استند إليها، فقال: " عبد الجبار لم يسمع من أبيه ولا أدركه، يقال: إنه ولد بعد موت أبيه بأشهر " (¬5). ¬

(¬1) تاريخ يحيى بن مَعين، رواية الدُّوري (النص: 44). (¬2) تاريخ يحيى بن مُعين، رواية الدوري (النص: 1890)، وحكى أبو داود عن يحيى بن مَعين قوله: " مات وهو حمْلٌ " (سؤالات الآجري، النص 422). (¬3) المجروحين (2/ 273 ترجمة: مُحمد بن حُجر)، وبعض ذلك في " الثقات " أيضاً (7/ 135) في ترجمة (عبد الجبار). (¬4) التاريخ الكبير (1/ 1 / 69، و 3/ 2 / 106). (¬5) نقله عنه الترمذي في " الجامع " (بعد رقم: 1453) وفي " العلل الكبير " (2/ 619).

وابن حبان استدل بهذه الحكاية على توهيم فطر بن خليفة في الرواية التي فيه تصريح عبد الجبار بالسماع من أبيه (¬1). وقال أبو حاتم الرازي: " روى عن أبيه، مرسل، ولم يسمع منه " (¬2). وكذلك قال الترمذي (¬3)، والنسائي (¬4)، وابن حبان كما تقدم، ولذا أورده في ثقات أتباع التابعين، حيث لم تثبت عنده تابعيته. كذلك ذكر ابن حجر نفي سماعه من أبيه عن جماعة من الأئمة (¬5). فالخبر إذاً بإثبات سماعه من أبيه لم يصح؛ لضعف فطر، وكذلك لم يقم دليل على اتصال ما بين عبد الجبار وأبيه. لكن هل لأجل أنه كان حملاً حين مات أبوه؟ أم لصغره يومئذ؟ دليل الأول لا يثبت من جهة النقل. ورده المزي، فقال: " وهذا القول ضعيف جداً، فإنه قد صح عنه أنه قال: كنت غلاماً لا أعقل صلاة أبي، ولو مات أبوه وهو حمل، لم يقل هذا القول " (¬6). فتعقَّبه ابن حجر فقال: " نص أبو بكر البزار على أن القائل: كنت غلاماً لا أعقل صلاة أبي، هو علقمة بن وائل لا أخوه عبد الجبار " (¬7). قلت: وهذا تعقب ضعيف، فإن المحفوظ أن علقمة كان في سن ¬

(¬1) الثقات (7/ 135). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 1 / 30). (¬3) الجامع (بعد رقم: 1454). (¬4) السنن (بعد رقم: 1404). (¬5) تهذيب التهذيب (2/ 470). (¬6) تهذيب الكمال (16/ 395)، وكذلك وافقه العلائي في " جامع التحصيل " (ص: 267). (¬7) تهذيب التهذيب (2/ 470).

يعقل فيه صلاة أبيه، وقد سمع منه، ثم إن الرواية المشار إليها ترد هذا الاحتمال، فإن عبد الوارث بن سعيد (وهو ثقة)، قال: حدثنا محمد بن جحادة (وهو ثقة) قال: حدثني عبد الجبار بن وائل بن حجر، قال: " كنت غلاماً لا أعقل صلاة أبي "، على هذا اتفق جميع من رواه عن عبد الوارث (¬1). وهذا صريح في أن قائل ذلك هو عبد الجبار، فكيف يصح ما نقله ابن حجر عن البزار ولا اختلاف في الرواية أصلاً من الوجه المذكور؟ فهذه الرواية كما أفاد المزي تدل على أن عبد الجبار كان قد ولد في حياة أبيه، وأدركه ورآه، لكنه لم يكن يميز يومئذ، ولذلك لم يسمع منه، إنما أخذ صلاة أبيه وروايته عن أخيه علقمة وغيره من أهل بيته. لذا فروايته عن أبيه منقطعة، إلا ما تبين أنه مما حدثه به ثقة عن أبيه، وهذا موجود في بعض حديثه. * * * ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 723) قال: حدثنا عُبيد الله بن عمر بن ميسرة، وابن خزيمة (رقم: 905) _ ومن طريقه: أبو نعيم في " المستخرج على مُسلم " (رقم: 889) _ قال: حدثنا عِمران بن موسى القزَّاز، وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (رقم: 2619) قال: حدثنا مُحمد بن عُبيد بن حساب، والطحاوي في " شرح المعاني " (1/ 257) من طريق أبي مَعْمرٍ المقعد، والطبراني في " الكبير " (22/ 28 رقم: 61) من طريق المقعد وابن حساب، وابن حبان (رقم: 1862) من طريق إبراهيم بن الحجاج السامي، هؤلاء الخمسة قالوا: حدثنا عبدُ الوارث، به. وجميعهم ثقات، والإسناد إلى عبد الجبار صحيح.

المبحث الثاني: الصيغة الصريحة بالاتصال بغير لفظ السماع وما في معناه

المبحث الثاني: الصيغة الصريحة بالاتصال بغير لفظ السماع وما في معناه هي ما يتحمل بصيغة لا تحتمل الواسطة، وليست سماعاً، ولا في معنى السماع كالتحديث والإخبار، إنما تنزل منزلته، هذه تعود جملتها إلى أقسام ثلاثة: القسم الأول: القراءة على الشيخ وتمسى: (العرض) كذلك. وهو أن يقرأ على الشيخ حديثه، ولا فرق أن يكون القارئ هو الراوي نفسه، أو غيره وهو حاضر يسمع. وصيغتها: (قرأت على فلان)، أو: (قرئ على فلان وأنا أسمع)، أو: (قراءة عليه وأنا أسمع)، وما يدل على معنى ذلك. وحكم الرواية بها أنه صحيحة بمنزلة السماع، ويعتبر فيها ما تقدم من شروط صحة السماع. قال الترمذي: " القراءة على العالم إذا كان يحفظ ما يقرأ عليه،

أو يمسك أصله فيما يقرأ عليه إذا لم يحفظ، هو صحيح عند أهل الحديث مثل السماع " (¬1). وقال القاضي عياض: " لا خلاف أنها رواية صحيحة " (¬2). وروي تصحيحها عن علي بن أبي طالب وابن عباس، ولا يثبت عنهما. إنما ثبت ذلك عمن بعد الصحابة من أئمة الحديث أنهم ذهبوا إلى تصحيحها، كعامر بن شراحيل الشعبي، والحسن البصري، ونافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي باح، ومكحول الشامي، وابن شهاب الزهري، وكبار الأئمة بعدهم، كمنصور بن المعتمر، وأيوب السختياني، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وشعبة بن الحجاج، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، وابن أبي ذئب، وابن جريج، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، والشافعي، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم (¬3). وعلى هذا جرى العمل، وكان بعضهم يرى التمييز في صيغة الأداء بين السماع والعرض، ولكن لم ينضبط ذلك في الواقع العملي من أجل أن الأكثرين لم يكونوا يرون التفريق في الصيغة، ولا يأتي له في الأسانيد فصل عادة، فلا يقال مثلاً: هذا الحديث تحمله فلان من فلان قراءة أو عرضاً، إلا بدليل خارج عن نفس ذلك الإسناد، أو يأتي التمييز صريحاً في نفس الإسناد، وهو نادر (¬4)، فلما تعذر الفصل فيه كان لا فرق بين السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه. ¬

(¬1) كتاب (العلل) من آخر " الجامع " (6/ 244). (¬2) الإلماع (ص: 70). (¬3) بينت نُصوصهم في الجزء المشار إليه في طُرقِ التحمل. (¬4) جاء ذلك عن سفيان بن عيينة وشُعبة بن الحجاج وغيرهما في بعْض الرواية عنهم، كما بيَّنتُ مثاله في الجزء المشار إليه.

القسم الثاني: الإجازة

القسم الثاني: الإجازة اعلم أن المتأخرين توسعوا في هذا، وابتكروا له أنواعاً وصوراً، خرجت عما يأتي بيانه، ولم آت على تفصيل ما ذكروه، من أجل أن جميع ما يخرج عما أذكره من صور الإجازة فهو باطل غير صحيح، وما أذكره فهو بحسبه، والمقصود إبراز ما قبله الأوائل من أنواع الإجازة وضروبها، حيث الحاجة إلى تمييز طرق الأسانيد قبل استقرار مصير الناس إلى الكتب المدونة الصحيحة. وبالاستقراء وجدت ما استعمله السلف وصححوه وخرجت به أحاديث في كتب السنة، ومنها الصحيحان، ما يلي: 1 _ مناولة الشيخ للتلميذ بعض حديثه مكتوباً، وإذنه له في روايته عنه وهذه أعلى صور الإجازة؛ لما اشتملت عليه من مزيد التوثق. قال الخطيب: " يجوز للطالب روايته عنه، وتحل الإجازة محل السماع عند جماعة من أئمة الحديث " (¬1). وقال عياض: " هي رواية صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين " (¬2). وممن صح عنه من أئمة السلف تصحيحها: ابن شهاب الزهري، ويحيى بن أبي كثير، ومنصور بن المعتمر، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، ومالك بن أنس، ومعتمر بن سليمان، وعبد الرزاق الصنعاني، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. وكذا من قال بتصحيح الإجازة بإطلاق فإن هذا النوع أولى بالدخول ¬

(¬1) الكفاية (ص: 466). (¬2) الإلماع، للقاضي عياض اليَحصُبي (ص: 80).

فيه من غيره، كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعيب بن أبي حمزة، والبخاري، وغيرهم. 2 _ إعلام التلميذ للشيخ أن لديه بعض حديثه، أيرويه عنه؟ فيقول الشيخ: نعم. ثبت هذا عن الحسن البصري، وابن شهاب الزهري، ومكحول الشامي، وهشام بن عروة، وابن جريج، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهم، وروى عنهم الثقات بذلك كما رووا عنهم بالسماع. وعن بعض أهل الحديث من لم يكن يختار الرواية بهذا، وهو مذهب تشدد، كيحيى بن سعيد القطان، وصالح جزرة، وإبراهيم الحربي، وروي عن شعبة ولا يصح عنه، أو مذهب تحوط كالمنقول عن أبي زرعة الرازي، وروي عن مالك، وذلك خشية الاتكال. والأصل وثوق الشيخ بأن التلميذ عنى حديثاً معروفاً له من روايته، وعلامته ثقة التلميذ وأنه غير مجروح. قال أبو طاهر السلفي: " الأصل في ذلك معرفة الراوي وضبطه وإتقانه على أي وجه كان، سماعاً، أو مناولة، أو إجازة " (¬1). قلت: والأحاديث المروية بهذا الطريق لا يميز أكثرها في كتب الحديث، فلا يبين الراوي أنه أخذها عن الشيخ إجازة، ويستعمل فيها صيغة (أخبرنا) كما هو عند طائفة، وجوز بعضهم (حدثنا)، وهذا إذا لم يبين في الرواية أنه إجازة، فلا سبيل إلى تمييزه عن السماع الصريح، وحين جعلوا ذلك اتصالاً، فلم يبق للجدل فيه فائدة. ¬

(¬1) الوجيز في ذكر المُجاز والمُجيز (ص: 57).

3 _ كتابة الشيخ للتلميذ بشيء معين من حديثه، يقرنه بلفظ الإجازة، أو لا. وصورتها أن يقول الراوي: (كتب إليَّ فلان) وما في معناها. فهذه رواية متصلة، إذا روعيت الشروط المتقدمة لتثبيت السماع، مع شرط رابع، وهو: صحة الكتاب، بمعنى: أن يكون الكتاب كتاب الشيخ. قال الخطيب: " فإذا عرف المكتوب إليه خط الراوي، وثبت عنده أنه كتابه إليه، فله أن يروي عنه ما تضمن كتابه ذلك من أحاديث " (¬1). وتصحيح الرواية بهذا أيضاً مما عليه عمل أئمة كبار، قبل الناس ذلك منهم، واحتجوا به من روايتهم، منهم: منصور بن المعتمر، وأيوب السختياني، وشعبة بن الحجاج، وابن جريج، والليث بن سعد، وغيرهم. والسنة وعمل المسلين في الصدر الأول بالمكاتبة متواتر، وهي عندهم حجة، كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك , وكتب أبو بكر وعمر إلى الأمراء والولاة، ولزمت الحجة بتلك الكتب. قال القاضي عياض: " استمر عمل السلف فمن بعدهم من المشايخ بالحديث بقولهم: (كتب إلي فلان، قال: أخبرنا فلان)، وأجمعوا على العمل بمقتضى هذا التحديث، وعدوه في المسند بغير خلاف يعرف في ذلك " (¬2). وما ذكرنا من اشتراط صحة ذلك الكتاب عمن نسب إليه، طريقه: اعتماد نسبة الراوي عن الشيخ ذلك الكتاب إليه، مادام الراوي ثقة. وقد يتأكد ذلك بقرينة زائدة، كقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: " كتب ¬

(¬1) الكفاية (ص: 480)، وذكر معناه القاضي عِياض في " الإلماع " (ص: 84). (¬2) الإلماع (ص: 86).

إلي قتيبة بن سعيد: كتبت إليك بخطي، وختمت الكتاب بخاتمي، يذكر الليث بن سعد حدثهم " (¬1). فهذه زيادة وتوكيد، وإلا فمجرد أن يقول عبد الله: (كتب إلي قتيبة) فقد بين أن ذلك الكتاب كتاب قتيبة: ومادام ثقة فهو صادق في تلك النسبة. ومن أمثلة ما احتجوا به وهو مما روي بهذه الطريق: 1 _ قال قتادة: كتبنا إلى إبراهيم بن يزيد النخعي نسأله عن الرضاع؟ فكتب: إن شريحاً حدثنا، أن علياً وابن مسعود كانا يقولان: يحرم من الرضاع قليله وكثيره. وكان في كتابه: إن أبا الشعثاء المحاربي حدثنا، أن عائشة حدثته، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " لا تحرم الخطفة والخطفتان " (¬2). 2 _ وقال عبد الله بن عون: كتب إليَّ نافع: أن ابن عمر قال: " نُهي عن لحوم الحمر الإنسية " (¬3). 3 _ وقال الأوزاعي: كتب إلي قتادة، قال: حدثني أنس بن مالك: أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ (الحمد لله رب العالمين)، لا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول القراءة ولا في آخرها (¬4). ¬

(¬1) مُسند الإمام أحمد (رقم: 575)، وساقَ ذلك الخطيب في " الكفاية " (ص: 486) بإسناد إلى عبد الله، بزيادة. (¬2) حديثٌ صحيحٌ. أخرجه بهذا السياق: النسائي (رقم: 3311) وأبو يعلى (8/ 163 رقم: 4710) والرامهرمزي (ص: 441 _ 442) من طريق يزيد بن زُريع، حدثنا سعيد (هو ابن عروبة) عن قتادة، به. وسنده صحيح. (¬3) حديثٌ صحيحٌ. أخرجه الطبراني في " الكبير " (12/ 384 رقم: 13421) وإسناد حسنٌ، وصحَّة الحديث من جهة أصله. (¬4) أخرجه أبو عوانة (2/ 134 _ 135) والرامهرمزي (ص: 442)، ونحوه عند مسلم في " صحيحه " (1/ 299) قلت: تكلموا فيما كتب به قتادة، قالوا: قتادة وُلد أكمه، فكيف كتب؟ إنما هذا مجاز حقيقته أنه أمر من كتب له، وعليه فيدخل الكاتب واسطة مَجهولة في الرواية، فتكون مُنقطعة، كما قال ذلك بعض العلماء، كالذهبي في " سير أعلام النبلاء " (7/ 121). وأقول: هذا تكلف، فإن الأعمى يُكتب له ما يُنسب إليه من القول، كما يُكتب للأمي الذي لايقرأ، ويُنسب ذلك إليه، ويُعتدُّ بذلك المكتوب، إذ الواجب أن يطمئنَّا إلى ما كُتب وأنهما لا يُقرَّان أنه كلاهما حتى يتيقَّناه كذلك. وهذه غير مسألة أن يعتمد الضرير فيما يُحدث به على كتاب كُتب له، فهو هنا أمر بأن يُكتب له مما أملاه من حفظه.

4 _ ومما اتفق عليه الشيخان مما جاء بهذا الطريق: رواية أبي عثمان النهدي، قال: " أتانا كتاب عمر ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر الحديث في النهي عن الحرير. وفي لفظ، قال أبو عثمان: " كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان "، وفي لفظ ثالث: " كنا مع عتبة، فكتب إليه عمر " (¬1). 5 _ وما أخرجه البخاري من طريق هشام الدستوائي، قال: " كتب إلي يحيى " يعني ابن أبي كثير، وساق حديثاً في الصلاة " (¬2). 6 _ وما أخرجه البخاري من طريق الليث بن سعد، قال: " كتب إلي هشام " يعني ابن عروة، وساق حديثاً في فضل خديحة (¬3). 7 _ وما أخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني قال: " كتب إلي يعلى بن حكيم " وساق حديثاً في كراء الأرض (¬4). بل إن البخاري ومسلماً خرجا رواية الرجل عن الرجل ممن لم يثبت السماع بينهما البتة، وإنما كان ذلك مكاتبة، وتلك رواية الليث بن سعد عن ¬

(¬1) هذه الألفاظ للبخاري (رقم: 5490 _ 5492)، ولمسلمٍ نحو ذلك (3/ 1642 _ 1643). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 611). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 3605). (¬4) صحيح مسلم (3/ 1181).

عبيد الله بن أبي جعفر المصري، فإنه صح عن الليث قال: " لم أسمع من عبيد الله بن أبي جعفر، إنما كان صحيفة كتب إلي، ولم أعرضه عليه " (¬1). نعم الرواية في الكتابين بصيغة العنعنة، لكن المقصود أن الشيخين لم يريا تلك الصورة انقطاعاً، مع أن طريق التلقي فيها لم يكن إلا المكاتبة، بل قال البخاري في ترجمة (ابن أبي جعفر): " سمع منه الليث " (¬2) , فعد المكاتبة بمنزلة السماع. وهو مذهب الليث بن سعد نفسه، فإن عبد الله بن وهب قال: لقد كان يحيى بن سعيد يكتب إلى الليث بن سعد، فيقول: " حدثني يحيى بن سعيد "، وكان هشام بن عروة يكتب إليه، فيقول " حدثني هشام " (¬3). والوجه في صحة الاحتجاج بالمكاتبة: ما حكاه الرامهرمزي عن بعض أهل العلم، قال: " المكاتب لا يخلو من أن يكون على يقين من أن المحدث كتب بها إليه، أو يكون شاكاً فيه، فإن كان شاكاً فيه لم تجز له روايته عنه، وإن كان متيقناً له فهو وسماعه الإقرار منه سواء؛ لأن الغرض من القول باللسان فيما تقع العبارة فيه باللفظ إنما هو تعبير اللسان عن ضمير القلب، فإذا وقعت العبارة عن الضمير بأي سبب كان من أسباب العبارة: إما بكتاب، وإما بإشارة، وإما بغير ذلك مما يقوم مقامه، كان ذلك كله سواء " (¬4). وقال الزيعلي في معرض نقد حديث ابن عكيم في جلود الميتة: ¬

(¬1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 180) والخطيب في " الكفاية " (ص: 460) بإسناد صحيح. ومن مواضع تخريجها عند البخاري (الأحاديث: 284، 1405، 2210) وعند مسلم (2/ 720، و 3/ 1214، 1478). (¬2) التاريخ الكبير (3/ 1 / 376). (¬3) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة " (2/ 824 _ 825) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 491) _ بإسناد صحيح. (¬4) المحدث الفاصل (ص: 452 _ 453).

عيب الإجازات المعاصرة

" الكتاب والوجادة والمناولة كلها مرجوحات؛ لما فيها من شبه الانقطاع بعدم المشافهة " (¬1). قلت: لا عبرة بهذا الشبه، فإن العلة في رد المنقطع هي وجود الواسطة المجهولة، لا عدم المشافهة، وهي معدومة هنا. وقد قال الحافظ محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي المعروف بلوين: " كتب إلي، وحدثني واحد، وإن كتب النبي صلى الله عليه وسلم قد صارت ديناً يدان بها، والعمل بها لازم للخلق، وكذلك ما كتب به أبو بكر وعمر وغيرهما من الخلفاء الراشدين، فهو معمول به، ومن ذلك كتاب القاضي إلى القاضي، يحكم به ويعمل به " (¬2). هذه الصور من الإجازة هي التي توجد في استعمال السلف، وقد توسع فيها المتأخرون، وزادوا في أنواعها، وأدخلوا فيها صوراً منكرة، شبيهاً بما أدركناه اليوم من طائفة يقتني أحدهم كراساً جمع فيه له أو جمع لنفسه أسماء مصنفات عدة، كالصحيحين والسنن، له بمضمون ذلك الكراس إجازة من شيخ له، أن يروي تلك الكتب عنه، وذلك بإسناد لذلك الشيخ عن شيخ له، ويقع في السلسلة من هو معروف من علماء المتأخرين بالإسناد، ينتهي الإسناد إلى إمام من الأئمة الحديث، كالحافظ ابن حجر أو غيره، ومنه إلى الأئمة المصنفين لتلك الكتب. والعيب في هذه الإجازات أن الطالب يجاز بمجرد أسماء لكتب، لا يجاز بمضمون، بل من هؤلاء المجازين من لم يطلع على مضمون، ولم ير الكتاب الذي أجيزت له روايته عمره، خصوصاً بعض الأجزاء الحديثية التي هي في عداد المفقود، فعجبا لأحدهم يقول بعد ذلك: (لدي برواية صحيح البخاري إجازة) و: (أنا أروي جامع الترمذي عن مسند العصر فلان)، ما ¬

(¬1) نصب الراية (1/ 121 _ 122). (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 491) وإسناده صحيح.

القسم الثالث: الوجادة

أراه _ والله _ إلا يكذب في دعواه، فإنه لو قرأ البخاري أو الترمذي وحفظهما، فإنه إنما تلقاهما بالطريق الذي تلقاهما به سائر الناس، وهو هذه الوجادات عن الأصول الخطية والنسخ المنتهية أصولها إلى قرون عدة، فأي فضل في هذا لإسناد هذا المسكين، وأي صدق في دعواه: (أروي هذا عن فلان؟ )، ما هذا إلا من تشبع الإنسان بما لم يعط، ولا عجب، فكثير من هؤلاء المجيزين والمجازين ممن لا حظ لهم في هذا العلم. القسم الثالث: الوجادة صيغتها: (وجدت، أو: وجدنا في كتاب فلان)، وقد يقول الراوي: (قرأت في كتاب فلان). قال عياض: " لا أعلم من يقتدى به أجاز النقل فيها بـ (حدثنا) و (أخبرنا)، ولا من يعده معد المسند " (¬1). وأمثلتها في استعمال السلف كثيرة. وربما زاد المحدث التصريح بكون تلك الوجادة بخط من وجدت عنه، وكثيراٍ ما يستعمل ذلك عبد الله بن أحمد بن حنبل في " المسند " عن أبيه، فيقول: " وجدت في كتاب أبي بخط يده "، ويسوق الحديث. قلت: وهذا التصريح زيادة توكيد، فإن اكتفى بالقول: (وجدت في كتاب فلان) فالأصل حمل تلك الإضافة على أنَّ ذلك الكتاب صحيح النسبة إليه. فمثل قول محمد بن المثنى: " نسخت هذا الحديث (¬2) من كتاب غندرٍ ¬

(¬1) الإلماع (ص: 117). (¬2) يعني حديثه أن رجلين تداعيا عنْد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف المدَّعى عليه بالله الذي لا إله إلا هو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد غفر لك بإخلاصك ".

حكم التحديث وجادة في الصحة والضعف

عن شعبة عن عطاء عن أبي البختري عن عبيدة عن ابن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أسمعه منه " (¬1) فهذا وجادة متصلة، وإن لم يسمعها محمد بن المثنى. أما إن وجد في كتاب، ولم ينسبه لأحد، فتلك رواية منقطعة؛ لجهالة صاحب ذلك الكتاب. وذلك مثل قول أحمد بن صالح المصري: " وجدت في كتاب بالمدينة: عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز .. " فذكر الإسناد والحديث من حديث جبير بن مطعم في بعض خبر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وذكر أسمائه. والإسناد لولا هذه العلة إسناد جيد، من أجل ذلك قال أحمد بن صالح في آخره: " أرجو أن يكون صحيحاً (¬2). حكم التحديث وجادة في الصحة والضعف: ذهب جماعة من السلف إلى جواز الرواية وجادة، وحدثوا بهذا الطريق، منهم الحسن البصري، وعامر الشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وأبو الزبير المكي، وأبو سفيان طلحة بن نافع، وقتادة بن دعامة السدوسي، والحكم بن عتيبة، والليث بن سعد، وغيرهم. وعن جماعة من أئمة الحديث تليين الرواية بها، ووصفها بالانقطاع؛ لكون الراوي لم يسمع من الشيخ، وربما لم يره، ولم يكاتبه الشيخ بحديثه، بل ربما لم يتعاصرا وكان بينهما زمان. وممن روى عنه المنع من الرواية بها: محمد بن سيرين، وذلك في التحقيق من أجل مذهبه في النهي عن الكتب جملة. ¬

(¬1) مُسند البزار (6/ 137) وفي الإسناد اختلاف على عطاء، وهو ابن السائب. (¬2) أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (2/ 126 _ 127 رقم: 1532).

صحة رواية الحسن عن سمرة

وممن وصفها بالانقطاع: سفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج. والتحرير: أن قبول والعمل بها صحيح معتبر، بشرط حصول الثقة بالموجود. ومذهب السلف في الرواية بها مشهورة، ولم يكد ينقل المنع من ذلك عن أحد، إلا ما تقدم عن ابن سيرين. قال الخطيب: " لا فرق بين أن يوصي العالم لرجل بكتبه، وبين أن يشتريها ذلك الرجل بعد موته، في أنه لا يجوز له الرواية منها، إلا على سبيل الوجادة، وعلى ذلك أدركنا كافة أهل العلم، اللهم إلا أن يكون تقدمت من العالم إجازة لهذا الذي صارت الكتب له، بأن يروي عنه ما يصح عنده من سماعاته، فيجوز أن يقول فيما يرويه من الكتب: (أخبرنا) أو (حدثنا)، على مذهب من أجاز أن يقال ذلك في أحاديث الإجازة " (¬1). وفي حكم الوجادة: الوصية بالكتب، يوصي الشيخ بكتبه لشخص معين، فعلها أبو قلابة الجرمي من التابعين أوصى بكتبه لأيوب السختياني (¬2). وهذان مثالان محرران من أمثلة الرواية بالوجادة: المثال الأول: رواية الحسن البصري عن سمرة بن جندب. قال العلائي: " قد روى عنه نسخة كبيرة، غالبها في السنن الأربعة " (¬3). وقد اختلفوا فيها على أربعة أقوال: الأول: أنه لم يسمع من سمرة. ¬

(¬1) الكفاية (ص: 504). (¬2) ذكرت الرواية بذلك، وعامة ما لم أعزه من النقل في بيان طُرق التحمل إلى الجزء المفرد في ذلك. (¬3) جامع التحصيل، للعلائي (ص: 198 _ 199).

وهذا حكي عن علي بن زيد بن جدعان (¬1)، وهو قول شعبة بن الحجاج، قال: " لم يسمع الحسن من سمرة " (¬2). وجرى على إطلاقه بعض من جاء من بعد، كابن حبان (¬3) وغيره. والثاني: أنه لم يسمع من سمرة، إنما حديثه عنه من كتاب سمرة. قال يحيى بن سعيد القطان في أحاديث سمرة التي يرويها الحسن: " سمعنا أنها من كتاب " (¬4). وهو ظاهر ما حكي عن بهز بن أسد، فقد سأله جرير بن عبد الحميد عن الحسن: على من اعتماده؟ قال: " كتب سمرة " (¬5). قال يحيى بن معين: " لم يسمع من سمرة حرفاً قط " (¬6). وسأله عثمان الدارمي: الحسن لقي سمرة؟ قال: " لا " (¬7). وبين في رواية الدوري أكثر من ذلك، فقال: " لم يسمع الحسن من سمرة شيئاً، هو كتاب " (¬8). والثاني: أنه لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة (¬9)، وسائر حديثه عنه من كتاب سمرة. ¬

(¬1) ذكره يحيى بن معين في " تاريخه " (النص: 4054) دون إسناد. (¬2) رواه يحيى بن معين في " تاريخه " (النص: 4053) وإسناده صحيح. (¬3) صحيحه (5/ 113 بعد رقم: 1807). (¬4) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 11) وإسناده صحيح. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 32) عن شيخه محمد بن سعيد بن بلج الرازي، ولم أقف له على ترجمة. (¬6) معرفة الرجال، رواة ابن مُحرز (1/ 130)، وروى الدقاق عنه: " الحسن لم يَسمع من سمُرة " (من كلام أبي زكريا، النص: 390). (¬7) تاريخ الدارمي (النص: 277)، المراسيل، لابن أبي حاتم (ص: 96). (¬8) تاريخ يحيى بن معين (النص: 4094). (¬9) يعني حديث: " الغلام مُرْتهنٌ بعقيقته. . " ساق لفظه الترمذي (رقم 1522) وغيره.

وهو قول النسائي، قال: " الحسن عن سمرة كتاب، ولم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة " (¬1). وهذا يستند إلى ما رواه قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد، قال: أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسن: ممن سمع حديث العقيقة. فسألته؟ فقال: من سمرة بن جندب (¬2). والثالث: أنه سمع من سمرة. قال علي بن المديني: " سماع الحسن من سمرة صحيح " (¬3). وقال وقد ذكر رواية الحسن: " أما أحاديث سمرة فهي صحاح " (¬4). وقال: " وقد روى سمرة أكثر من ثلاثين حديثاً مرفوعاً وغيرهما، ¬

(¬1) السنن، للنسائي (بعد رقم: 1380). (¬2) أخرجه البُخاري (رقم: 5155) قال: حدثنا عبد الله بنُ أبي الأسود، وفي " التاريخ الكبير " (1/ 2 / 290) _ وعنه: الترمذي في " جامعه " (عقب رقم: 182) _ قال: قال لي عليٌّ (يعني ابن المديني)، والترمذي كذلك قال: حدثنا محمد بن المثنى، والنسائي (رقم: 4221) قال: أخبرنا هارون بن عبد الله، وعبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 4044) قال: حدثني أبو خيثمة، والبيهقي في " الكبرى " (9/ 299) والمزيُّ في " التهذيب " (23/ 587 _ 588) من طريق أبي قلابة الرقاشي، قالوا جميعاً: حدثنا قريشُ بن أنس به، وفي رواية أبي خيثمة وأبي قلابة عنه قال: حدثنا حَبيب بن الشهيد. وقد ذكروا أن قريشاً اختلط وتغير قبل موته بستِّ سنين، وذكر الحافظ ابن حجر في " الفتح " (9/ 593) أن الأثرم حكى أن الإمام أحمد بن حنبل ضعَّف حديث قريش هذا، وقال: " ما أراه بشيء "، وردَّه ابنُ حجر أنَّ لحديثه المذكور في العقيقة طريقاً آخر، وقال: " وأيضاً فسماع علي بن المديني وأقرانه من قريش كان قبل اختلاطه، فلعل أحمد إنما ضعفه؛ لأنه ظنَّ أنه إنما حدث به بعد الاختلاط ". قلت: ويؤيد صحة رواية ابن المديني عنه، أنه قال في رواية البُخاري لحديث العقيقة عنه في " التاريخ ": " حدثنا قريش بن أنس وكان ثقة ". (¬3) نقله عنه البخاري في " التاريخ الأوسط " (1/ 393)، و " التاريخ الكبير " (1/ 2 / 290)، وحكاه الترمذي عن البُخاري عنه في " الجامع " (بعد حديث رقم: 182)، وفي " العلل الكبير " (2/ 963 _ بترتيب أبي طالب القاضي). (¬4) رواه عنه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 52).

والحسن قد سمع من سمرة؛ لأنه كان في عهد عثمان ابن أربع عشرة وأشهر، ومات سمرة في عهد زياد " (¬1). وتبعه على ذلك الترمذي، فصحح أحاديثه عنه في " الجامع " (¬2)، وكذلك صنع ابن خزيمة في " صحيحه " (¬3)، والحاكم في " المستدرك " (¬4). والقول الأول أشد هذه الأقوال، فإن تسليم ظاهره يقضي بأن حديث الحسن عن سمرة منقطع، لكن أصحاب القول الثاني جاءوا بزيادة علم عليه، لا يجوز إهمالها، وهي أن ما رواه الحسن عن سمرة فإنما أخذه من كتاب سمرة. قال العلائي: " وذلك لا يقتضي الانقطاع " (¬5). وقد جاء في بعض ما رواه الحسن عن سمرة قوله: " قرأت في كتاب سمرة " (¬6). بل صح عن عبد الله بن عون، قال: " دخلنا على الحسن، فأخرج إلينا كتاباً من سمرة، فإذا فيه: أنه يجزئ من الاضطرار صبوح أو غبوق " (¬7). فهذا دليل شاهد أن الحسن كان عنده عن سمرة كتاب. على أن القول بإثبات سماعه من سمرة أصح وأقوى، وذلك لوجوه ثلاثة: الأول: تصريحه حين سئل عن حديث العقيقة بكونه سمعه من سمرة. ¬

(¬1) العلل، لابن المديني (ص: 53). (¬2) انظر الأحاديث: (رقم: 182، 1237، 1296). (¬3) انظر الحديثين: (رقم: 1710، 1757). (¬4) انظر " المستدرك " (1/ 214 بعد رقم: 780). (¬5) جامع التحصيل (ص: 199). (¬6) العلل، لابن المديني (ص: 53) وذكر أنه وقع في حديث واحد رواه الحسن عن سمُرة. (¬7) أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 2187) وإسناده صحيح.

والرواية بذلك صحيحة، ولذا احتج بها البخاري وغيره، وهذا يحيى بن معين حين أوردت عليه هذه الرواية سكت مع ما تقدم عنه أن الحسن لم يسمع من سمرة، بل لم يلقه. فقد قال أبو قلابة الرقاشي، وقد روى قصة حديث العقيقة عن قريش: فسمعت يحيى بن معين يقول: لم يسمع الحسن من سمرة، قال: فقلت: على من تطعن؟ على قريش بن أنس؟ على الحبيب بن الشهيد؟ فسكت (¬1). فهذا الذي حدث به قريش حجة أن الحسن سمع من سمرة في الجملة. والثاني: روي حميد الطويل قال: عن الحسن قال: جاءه رجل فقال: إن عبداً له أبق، وإنه نذر إن قدر عليه أن يقطع يده، فقال الحسن: حدثنا سمرة قال: قلما خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمر فيها بالصدقة، ونهى فيها عن المثلة (¬2). وهذه رواية صحيحة عن الحسن. والثالث: أن سمرة كان بالبصرة، وحديثه في أهلها، وكان فيها بعد مقتل علي وأثناء خلافة معاوية، وبقي فيها حتى مات في آخر خلافة معاوية سنة (59) أو (60) قيل: كانت وفاته بالبصرة، وقيل: بالكوفة، والحسن قدم البصرة بعد مقتل علي، رضي الله عنه، فإذا كان قد اتفق مع سمرة في الزمان والمكان، فما الذي منع اللقاء؟ بل كيف يمتنع ذلك وسمرة والٍ ¬

(¬1) أورد ذلك المزِّي في " التهذيب " (23/ 588) بعد رواية قصِّة حديث العقيقة، وإسناده إلى أبي قلابة صحيح. (¬2) إسناده صحيح. أخرجه أحمد (33/ 316 رقم: 20136)، وعلق محققه بالتشكيك إن كان حُميد حفظ تصريح الحسن بالسماع، وذلك من أجل أن يزيد ين إبراهيم التُّستَري رواه عن الحسن قال: (عن سمرة)، وجعل المحقق ذلك مخالفةً لحميد، وهذا عجيب، فلم يزل هذا المحقق وغيره يجعلون ذكر السماع من راوٍ من قبيل زيادة الثقة، وهو الأمر عليه إطباق عامة أهل العلم بالحديث، والعنعنة لا تُنافي السماع.

صحة رواية مخرمة بن بكير عن أبيه

ظاهر الصيت، والحسن يومئذ في سن تقدم وعلم، فقد قتل عمر بن الخطاب وله سنتان، فيكون عمره حين قتل علي تسعة عشرة سنة. فهذه الوجوه قاضية بصحة سماع الحسن من سمرة في الجملة، وهو الذي قطع به ابن المديني، مع شدة شرطه في الاتصال، ثم لو سلمنا أن من حديثه عنه مالم يسمعه فإنه اعتمد فيه على كتب سمرة على قول ابن معين وغيره، والرواية من الكتاب اتصال (¬1)، وهو مقصود هنا. المثال الثاني: رواية مخرمة بن بكير عن أبيه. حكي عن مخرمة في شأن سماعه من أبيه حكايتان متضادتان: الأولى: ما رواه عنه موسى بن سلمة الجمحي المصري قال: أتيت مخرمة بن بكير، فقلت له: حدثك أبوك؟ قال: " لم أدرك أبي، ولكن هذه كتبه " (¬2). وفي لفظ، قال: أتيت مخرمة بن بكير، فقلت له: أخرج إلي بعض كتب أبيك، قال: فأخرج إلي كتاباً، فقلت: سمعت هذا من أبيك؟ فقال: " لم أسمع من أبي شيئاً، وهذه كتبه " (¬3). ¬

(¬1) للذهبي تشكيك في عامة ما يقول فيه الحسن: (عن فلان) اغترَّ به جماعةٌ من المعاصرين، وذلك أنه وصف الحسن بالتدليس عن الضعفاء، فلا يُقبل منه ما قال فيه: (عن) حتى وإن ثبت سماعه أو لُقيُّه لذلك الشيخ في الجملة، وهذا القول غيرُ محرر، وليت الذهبي رحمه الله لم يُرسله فيتعلق به من جاء بعده، فما هو إلا دعوى، ولمناقشتها موضعٌ آخر، وإنما كان الحسن يُرسل عمَّن لم يلقه أو لم يسمع منه، أما التدليس فهي تُهمةٌ مرسلةٌ لا تثبت عليه. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 364) و " المراسيل " (ص: 220) بإسناد صحيح إلى موسى. (¬3) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (8/ 178) بإسناد صحيح إلى موسى، كما رواه (8/ 177) عن شيخه علي بن إبراهيم بن الهيثم البلدي، وهو شيخٌ متهم، وهو بمعناه مختصراً عند الطحاوي في " شرح المعاني " (3/ 164) من طريق صحيح.

وقال في لفظ: " ما سمعت عن أبي شيئاً، إنما هذه كتب وجدناها عندنا عنه "، وزاد: " ما أدركت أبي إلا وأنا غلام " (¬1). لكن هذه الحكاية لا يحتج بمثلها على الانفراد، من أجل أن موسى هذا ليس بالمشهور، وغاية أمره أن يستشهد به عند الموافقة. ووجدت له موافقاً من طريق صحيح فقد حكى حماد بن خالد الخياط، وكان ثقة، قال: أخرج مخرمة بن بكير كتباً، فقال: " هذه كتب أبي، لم أسمع منها شيئاً " (¬2). والحكاية الثانية: ما رواه إسماعيل بن أبي أويس قال: قرأت في كتاب مالك بن أنس بخط مالك، قال: وصلت الصفوف حتى قمت إلى جنب مخرمة بن بكير في الروضة، فقلت له: إن الناس يقولون: إنك لم تسمع هذه الأحاديث التي تروي عن أبيك من أبيك، فقال: " ورب هذا المنبر والقبر، لقد سمعتها من أبي، ورب هذا المنبر والقبر، لقد سمعتها من أبي " ثلاثاً (¬3). قلت: وهذه الحكاية ربما طعن عليه لكونها وجادة عن مالك، وليس بطعن على التحقيق، فإنها كانت بخط مالك، وابن أبي أويس من أهل بيته ومن أصحابه، لكن المأخذ عليها إنما هو من جهة أن ابن أبي أويس لم يكن قوياً في الحديث. ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي (8/ 177 _ 178) بإسناد صحيح إلى موسى. (¬2) أخرج ذلك عنه مباشرة: أحمد بن حنبل في " العلل " (رقم: 545، 1907، 5592) وعنه: البُخاري في " التاريخ الكبير " (4/ 2 / 16) وابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 220) ويعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 183). (¬3) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة " (1/ 663) عن إبراهيم بن المنذر: حدثني ابن أبي أويس. كما رواهُ بمعناه مُختصراً عن ابن أبي أويس: أبو حاتم الرازي، كما في " الجرح والتعديل " (4/ 1 / 364)، أحمد بن صالح المصري عندَ أبي زُرعة الدمشقي في " تاريخه " (1/ 442) ومن طريقه: ابنُ حبان في " الثقات " (7/ 510).

ولما حكى أبو حاتم القصة عن ابن أبي أويس، قال مشعراً بضعفها: " إن كان سمعها من أبيه، فكل حديثه عن أبيه، إلا حديثاً يحدث به عن عامر بن عبد الله بن الزبير " (¬1). غير أنه ربما قيل: يقويها قول معين بن عيسى القزاز، وهو ثقة: " مخرمة سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار " (¬2). وأقول: أدرك معن مخمرة وروى عنه شيئاً، لكن هذه العبارة من إنشائه، ولم يعزها إلى مخرمة من قوله كما وقع في رواية حماد الخياط المتقدمة فيجوز أن يكون بلغه ما حدث به ابن أبي أويس، وهو بلديه وقرينة في الأخذ عن مالك، ويجوز أن يكون قال ذلك بمجرد اجتهاده، ويجوز غير ذلك، وبإيراد مثل هذه الاحتمالات لا يصلح الاعتراض على ما صح نقله عن مخرمة نفسه من عدم سماعه من أبيه، إلا أن يحمل ذلك على شيء يسير، على ما ذهب إليه بعض أهل العلم بالحديث: قال أبو داود السجستاني: " لم يسمع من أبيه إلا حديثاً واحد، وهو حديث الوتر " (¬3). وقال علي بن المديني: " ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان (¬4)، لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد بالمدينة من يخبرني عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شيء من حديثه: سمعت أبي " (¬5). قلت: وهذا جميعه يؤكد صحة الحكاية الأولى عن مخرمة، ويضعف الثانية. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 364). (¬2) أخرجه ابن عدي (8/ 178) بإسناد صحيح إليه. (¬3) نقله المزي في " تهذيب الكمال " (27/ 326). (¬4) يعني ابن يسار. (¬5) أخرجه ابنُ عدي (8/ 178) بإسناد صحيح.

وهو الأمر الذي صار إليه كبار النقاد: قال أحمد بن حنبل: " مخرمة بن بكير ثقة، إلا أنه لم يسمع من أبيه شيئاً " (¬1). وكذلك قال في رواية أبي طالب، وزاد: " إنما يروي من كتاب أبيه " (¬2). وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: " يقولون: إن حديثه عن أبيه كتاب، ولم يسمع من أبيه " (¬3). وقال في رواية محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ابن البرقي: " كان مخرمة ثبتاً، ولكن روايته عن أبيه من كتاب وجده لأبيه، لم يسمع منه " (¬4). وقد ضعفه يحيى في رواية الدوري، حيث قال مرة: " ضعيف الحديث " (¬5)، ومرة: " ليس حديثه بشيء " (¬6)، وفي رواية ابن محرز: " لا يكتب حديثه " (¬7). قلت: وهذا اختلاف عن يحيى، وعلة تضعيفه له ليست من جهة عدالته، ولا من جهة حفظه وإتقانه، وإنما هو لأجل أن روايته لم تكن شيئاً سمعه، إنما هي وجادة. ¬

(¬1) العلل (النص: 3230). (¬2) نقله عنه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 1 / 363) و " المراسيل " (ص: 220)، وابن عدي في " الكامل " (8/ 178). (¬3) تاريخ يحيى بن معين (النص: 1192)، ونقل ابنُ أبي خيثمة عن يحيى نحوه، كما في " الجرح والتعديل " (4/ 1 / 363)، وفي رواية ابن مُحرز (1/ 56): سُئل يحيى بن معين: مخرمة بن بُكير سمع من أبيه؟ فقال: " كتاب ". (¬4) نقله ابن عبد البر في " التمهيد " (24/ 202). (¬5) تاريخ يحيى بن معين (النص: 340، 1019، 5157)، وكذلك رَوى مُعاوية بن صالح عن يحيى، كما في " الكامل " لابن عدي (8/ 178). (¬6) تاريخ يحيى (النص: 1121). (¬7) معرفة الرجال (1/ 56).

ولهذا خالف يحيى في ذلك غيره مع الإقرار بكون حديثه عن أبيه وجادة، فهذا أحمد يوثقه، وكذلك قال علي بن المديني: " ثقة " (¬1)، وقال أحمد بن صالح المصري: " من ثقات الناس " (¬2)، وقال أو حاتم: " صالح الحديث " (¬3)، كما جرى على توثيقه غيرهم مع تسليم كون حديثه عن أبيه وجادة. فالرجل ثقة، حديثه عن أبيه وجادة صحيحة، كان يقول فيما يحدث به منها: (عن)، وهذا هو الذي لا يجوز سواه في الوجادة، وقد عد بعضهم مخرمة لذلك في المدلسين، ولا معنى له وقد تبين وجهه سوى التوسع في الاصطلاح. وهي رواية متصلة؛ نظراً لعدم الوساطة فيها بين الراوي والمروي عنه، وأنها كتاب الشيخ نفسه وليست نسخة عنه. ولهذا احتج مسلم في " صحيحه " برواية مخرمة عن أبيه. نعم، في القوة دون السماع، لكن ذلك لا يؤثر بالمكاتبة متصلة وليست سماعاً، فكذلك الوجادة الصحيحة * * * ¬

(¬1) أخرجه ابنُ عدي (8/ 178) بإسناد صحيح. (¬2) رواه عنه أبو زُرعة الدمشقي في تاريخه " (1/ 442). (¬3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 364).

المبحث الثالث: صيغة العنعنة وما يجري مجراها

المبحث الثالث: صيغة العنعنة وما يجري مجراها العنعنة، هي: قول الراوي: (عن فلان)، وتقع من لفظ المحدث نفسه عن شيخه، كما يمكن أن تكون من تصرف من روى عنه. وهي صيغة لا تعني الاتصال ولا الانقطاع بمجردها، وقد استعملت في السند المتصل، كما استعملت في السند المنقطع، وبها يوهم المدلسون الاتصال فيما دلسوا فيه. والناظر المحرر للأسانيد يجد أن استعمال (عن) في محل السماع هو الغالب، وكانوا يتخففون بترك الصيغة الصريحة، ويكتفون بالقول: (فلان عن فلان) ". قال الخطيب: " إنما استجاز كتبة الحديث الاقتصار على العنعنة؛ لكثرة تكررها، ولحاجتهم إلى كتب الأحاديث المجملة بإسناد واحد، فتكرر القول من المحدث: (حدثنا فلان عن سماعه من فلان) يشق ويصعب؛ لأنه لو قال: (أحدثكم عن سماعي من فلان، وروى فلان عن سماعه من فلان، وفلان عن سماعه من فلان) حتى يأتي على أسماء جميع مسندي الخبر إلى أن يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل حديث يرد مثل ذلك الإسناد لطال وأضجر، وربما كثر رجال الإسناد حتى يبلغوا عشرة وزيادة على ذلك، وفيه

تحرير المذاهب في حكم الإسناد المعنعن وبيان الراجح

إضرار بكتبة الحديث، وخاصة المقلين منهم والحاملين لحديثهم في الأسفار، ويذهب بذكر ما مثلناه مدة من الزمان، فساغ لهم لأجل هذه الضرورة استعمال: عن فلان " (¬1). ومن الدليل على إرادة التخفيف في استعمالها: قول عفان بن مسلم: جاء جرير بن حازم إلى حماد بن زيد، فجعل جرير يقول: " حدثنا محمد، قال: سمعت شريحاً. حدثنا محمد، قال: سمعت شريحاً "، فجعل حماد يقول: " يا أبا النضر: عن محمد عن شريح، عن محمد عن شريح " (¬2). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل لأبيه: أبو معاوية فوق شعبة، أعني في حديث الأعمش؟ فقال: " أبو معاوية في الكثرة والعلم _ يعني علمه بالأعمش _، شعبة صاحب حديث يؤدي الألفاظ والإخبار، أبو معاوية عن عن مع أن أبا معاوية يخطئ على الأعمش خطأ " (¬3). وقال الوليد بن مسلم: " كان الأوزاعي إذا حدثنا يقول: حدثنا يحيى، قال: حدثنا فلان، حدثنا فلان، حتى ينتهي، فربما حدثت كما حدثني، وربما قلت: (عن عن عن) تخففنا من الأخبار " (¬4). والعلماء في حكم الإسناد المعنعن على مذاهب، يعتبر التنبيه فيها على ثلاثة: المذهب الأول: هو من قبيل المرسل والمنقطع (¬5). وهذا ذكره ابن الصلاح، ولم ينسبه لأحد، وهو مذكور عن شعبة بن الحجاج. ¬

(¬1) الكفاية (ص: 553 _ 554). (¬2) أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 4262) وإسناده صحيح. (¬3) العلل ومعرفة الرجال (النص: 2680). (¬4) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة " (2/ 464) وإسناده صحيح. (¬5) انظر: المحدث الفاصل، للرامَهرمُزي (ص: 450)، والسنن الأبين، لابن رُشيْد (ص: 22 _ 25).

فقد قال: " فلان عن فلان مثله لا يجزئ "، وكان سفيان الثوري يقول: " يجزي " (¬1)، فلذا جاء شعبة أنه رجع عن قوله إلى قول سفيان (¬2)، ورأيت ظاهر عبارة ابن رجب الحنبلي من المتأخرين يدل عليه، كما سيأتي ذكره. وهو مذهب مهجور، لا تساعد عليه طريقة النقلة في رواية الحديث، ولا منهج الأئمة الكبار في الحكم بصحة الحديث. وقال ابن الصلاح وقد ذكر الإسناد المعنعن: " الصحيح، والذي عليه العمل أنه من قبيل الإسناد المتصل، وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيه وقبلوه ... وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضاً مع براءتهم من وصمة التدليس " (¬3). والمذهب الثاني: اشترط ثبوت السماع أو اللقاء في الجملة، ولو مرة، ثم جميع ما يرويه ذلك الراوي بالعنعنة عن ذلك الشيخ فهو محمول على الاتصال، ما لم يعرف بتدليس. وهذا يمكن أن يستفاد من طريقة شعبة بن الحجاج، الذي عرف بتنقيبه عن السماع فيما أخذ عن شيوخه، إلى أن قال تلميذه يحيى بن سعيد القطان: " كل شيء يحدث به شعبة عن رجل، فلا تحتاج أن تقول عن ذاك الرجل: إنه سمع فلاناً، قد كفاك أمره " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه عبدُ الله بن أحمد في " العلل " (النص: 3026). (¬2) حكى ذلك ابنُ عبد البر في " التمهيد " (1/ 13) ولم أقف عليه مُسنداً. (¬3) علوم الحديث (ص: 61). (¬4) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 162) و " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 35) وإسناده صحيح.

وهو مذهب كبار أئمة الحديث، فإنهم كانوا لا يثبتون الاتصال في محل العنعنة حتى يقوم الدليل عليه بين التلميذ والشيخ. فهو قول ابن المديني والبخاري وجمهور المتقدمين، ومقتضى كلام أحمد بن حنبل وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم الرازي وغيرهم من أعيان الحفاظ (¬1). قلت: حكايته عن علي بن المديني، ذكره كثير من الأئمة، ولم أقف عليه مسنداً عنه، لكن في كلامه المعروف عنه ما يثبته ويدل عليه، كما علمناه مذهباً للبخاري من خلال كتبه، إذ عليه بنى (صحيحه). قال الشافعي في جواب قول من قال له: " فما بالك قبلت ممن لم تعرفه بالتدليس أن يقول: (عن) وقد يمكن فيه أن يكون لم يسمعه؟ " فيما ذكر عن أهل العلم ممن مضى من أهل بلده: " وكان قول الرجل: (سمعت فلاناً يقول: سمعت فلاناً يقول)، وقوله: (حدثني فلان عن فلان) سواء عندهم، لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه ممن عناه بهذه الطريق، قَبِلنا منه: (حدثني فلان عن فلان) " (¬2). وقال الخطيب بعد أن أورد عن بعض متأخري الفقهاء رد المعنعن بمجرد العنعنة: " أهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدث: (حدثنا فلان عن فلان) صحيح معمول به، إذا كان شيخه الذي ذكره يعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنه ولقيه وسمع منه، ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس، ولا يعلم أنه يستجيز إذا حدثه أحد شيوخه عن بعض من أدرك، حديثاً نازلاً، فسمى بينهما في الإسناد من حدثه به، أن يسقط ذلك المسمى ويروي الحديث عالياً، فيقول: (حدثنا فلان عن فلان) أعني الذي لم يسمعه ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/ 365، 372)، وانظر: موقف الإمامين، لخالد الدُّريس (ص: 269 _ 287) فقد ساق فيه عبارات طائفة من كبار الأئمة المتقدمين في إثبات هذا المذهب. (¬2) الرسالة (الفقرة: 1032).

منه؛ لأن الظاهر من الحديث السالم رواية مما وصفناه الاتصال، وإن كانت العنعنة هي الغالبة على إسناده " (¬1). وقال ابن عبد البر: " تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم ومن لم يشترطه، فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطاً ثلاثة، وهي: عدالة المحدثين، ولقاء بعضهم بعضاً مجالسة ومشاهدة، وأن يكونوا برآء من التدليس " (¬2). وهذا هو الذي صححه طائفة من كبار متأخري الأئمة كابن الصلاح (¬3)، وابن رشيد الفهري (¬4)، والنووي (¬5)، والذهبي (¬6)، وغيرهم. وهو في التحقيق ما جرى عليه البخاري وعرف من منهجه. واللقاء وحده مع عدم التدليس كاف عند البخاري لإثبات الاتصال في الإسناد المعنعن، وكذلك كان شيخه علي بن المدني يرى (¬7). واللقاء يثبت بالسماع الصريح الثابت في رواية، أو بالرؤية والاجتماع، أو بما يقوم من القرائن دليلاً عليه، كقدم التلميذ وكونه من أهل بيئة الشيخ، مع السلامة في كل ذلك من المعارض الراجح. وحين ادعى مسلم الإجماع على ما ذهب إليه من الاكتفاء بالمعاصرة، ¬

(¬1) الكفاية (ص: 421). (¬2) التمهيد (1/ 12). (¬3) صِيانة صحيح مسلم (ص: 128). (¬4) السنن الأبين (ص: 32). (¬5) شرح صحيح مسلم (ص: 128). (¬6) سير أعلام النبلاء (12/ 573). (¬7) وهذه مسألة يطول سردها ببراهينها، وقد وجدت الباحث الأستاذ خالد الدريس قد بينها بياناً جيداً في كتابه: " موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين " (ص: 108 ـ 114)، وهو كتاب قيم مفيد، وإن كان في بعض ما استنتجه فيه مما يناقش أو يخالف فيه.

قابله ابن رجب بأن ذكر أن مذهب الأئمة الكبار على خلافه، وعلى اشتراط ثبوت السماع، وقال: " بل اتفاق هؤلاء الأئمة يقتضي حكاية إجماع الحفاظ المعتد بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يعرف عن أحد من نظرائهم، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم " (¬1). وأقول: فيما أطلقه ابن رجب من أن مذاهب أولئك الأئمة على اشتراط ثبوت السماع لا يساعد عليه ما أورده دليلاً لما قال، وبيانه: أنه استدل لذلك بأمثلة تطبيقية، تلخيصها في التالي: 1 _ جماعة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يثبت لهم منه سماع، فروايتهم عنه مرسلة، كطارق بن شهاب. _ جماعة ثبتت رؤيتهم لبعض الصحابة، لكن حديثهم عنهم مرسل؛ لعدم السماع، كالأعمش، والرؤية أبلغ في الاتصال من مجرد إمكان اللقاء. 3 _ وجود بعض من ثبت له اللقاء والسماع اليسير من شيخ، ولم يسمع أكثر ما روى عنه معنعناً، كسعيد بن المسيب عن عمر. وساق ابن رجب بعض عبارات الأئمة أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم في ذلك، ثم قال: " فدل كلامهم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري، فإن المحكي عنهما: أنه يعتبر أحد أمرين: إما السماع وإما اللقاء، وأحمد ومن تبعه عندهم لا بد من ثبوت السماع " (¬2). قلت: والنقد لما استخلصه ابن رجب عن هؤلاء الأئمة من وجهين: الوجه الأول: ما ذكره من عباراتهم مستدلاً به فجميعه لا يخلو من واحد من الأحوال الأربعة التالية: الأول: ما استدل به أن جماعة ثبتت لهم الرؤية ولم يثبت لهم ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/ 372). (¬2) شرح علل الترمذي (1/ 367).

السماع، فإن ذلك عرف بصغر سن أحدهم يوم إدراكه، وأنه لم يكن في عمر من يحتمل عنه ما روى عن ذلك الشيخ، كرواية ابن المسيب عن عمر، ورواية الأعمش عن أنس، مع ما ينضم إلى هذا الأخير مما عرف عنه من التدليس. الثاني: عبارات لأحمد بن حنبل وغيره فيها التوقف عن القطع بالاتصال؛ لأنه لم يقف على ما يدل عليه، كقول أحمد، وقد سئل: يحيى بن أبي كثير سمع من أنس؟: " قد رآه، قال: رأيت أنساً، ولا أدري سمع منه أم لا " (¬1). قلت: وهذا التوقف من جهة ما ورد من الريبة في الانقطاع؛ من أجل صغر يحيى حين أدرك أنساً. الثالث: ما يوجد من نفي السماع في عبارات بعضهم في حق من عرف لهم الإدراك وإمكان اللقاء، كقول أبي زرعة الرازي في (أبي أمامة بن سهل بن حنيف): " لم يسمع من عمر " (¬2)، مع أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فليس في محل النزاع، إذ لانزاع أن الراوي إذا ثبت عدم سماعه فلا يغني لاتصال روايته ثبوت اللقاء، وإنما الشأن فيمن لم يثبت أنه لم يسمع، ولم يأت أنه سمع، وكان اللقاء والسماع ممكناً لثبوت الإدراك المجيز لتحقق ذلك. الرابع: قيام شبهة في عدم الاتصال في محل العنعنة، مثل أن يروي الراوي عن رجل عاصره، لكنهما قد تباعدت أرضهما، ولا يعرف لأحدها ارتحال إلى بلد الآخر، مثل قول أبي حاتم الرازي في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء: " قد أدركه، ولا أظنه سمع منه، ذاك بالشام، وهذا بالبصرة " (¬3). ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 240). (¬2) المراسيل لا بن أبي حاتم (ص: 16، 258). (¬3) المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 187).

ويشبه هذا في قيام الشبهة، قول أحمد بن حنبل: " ابن سيرين لم يجئ عنه سماع من ابن عباس " (¬1)، فإن أحمد قال في نص آخر: " لم يسمع من ابن عباس شيئاً، كلها يقول: نبئت عن ابن عباس " (¬2)، فالانقطاع بينهما فيما يقول فيه (عن ابن عباس) في بعض الرواية عنه لا يحمل على الاتصال لمجرد الإدراك والمعاصرة، من أجل ما قام من شبهة التلقي بالواسطة. ومثله كذلك، قول أحمد حين سئل: عبد الله البهي سمع من عائشة؟: " ما رأى في هذا شيئاً، إنما يروي عن عروة " (¬3) يعني إنما المعروف من حديثه عن عائشة بالواسطة، فقام ثبوت ذلك في حديثه شبهة على كونه لم يسمع منها البتة وإن عاصرها. والوجه الثاني: ما ثبت عن هؤلاء الأئمة من اعتبار إمكان السماع قائماً مقام السماع. فمن نصوصهم: قال أبو داود السجستاني: قيل لأحمد (يعني ابن حنبل): سمع الحسن من عمران (¬4)؟ قال: " ما أنكره، ابن سيرين أصغر منه بعشر سنين سمع منه " (¬5). وقال أبو داود: قلت لأحمد: عباس بن سهل، أدرك أبا حميد؟ قال: " عباس قديم " (¬6). وقال ابن هانئ لأحمد بن حنبل: ابن إسحاق سمع من عطاء؟ قال: ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 187) بإسناد صحيح. (¬2) العلل ومعرفة الرجال (النص: 1123، 3526). (¬3) المراسيل، لابن أبي حاتم (ص: 115) ونُسب فيه القول إلى عبد الله بن أحمد، والتصويب من " شرح العلل " لابن رجب (1/ 369). (¬4) أي الحسن البصري سمع من عمران بن حصين. (¬5) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 322). (¬6) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 326).

" نعم، ابن أبي ذئب أصغر من ابن إسحاق، وقد سمع من عطاء بن أبي رباح " (¬1). وقال أبو بكر الأثرم: سألت أحمد قلت: محمد بن سوقة سمع من سعيد بن جبير؟ قال: " نعم، قد سمع من الأسود غير شيء " كأنه يقول: إن الأسود أقدم (¬2). وسئل أحمد عن أبي ريحانة سمع من سفينة؟ قال: " ينبغي، هو قديم، قد سمع من ابن عمر " (¬3). وسأل الترمذي أبا عبد الله البخاري عن حديث رواه عطاء بن يسار عن أبي واقد الليثي، قال: أترى هذا الحديث محفوظاً؟ قال: " نعم "، قلت له: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ فقال: " ينبغي أن يكون أدركه، عطاء بن يسار قديم " (¬4). وقال أبو حاتم الرازي: " الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئاً؛ لا لأنه لم يدركه، قد أدركه وأدرك من هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع منه، كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة بن الزبير، وهو قد سمع ممن هو أكبر منه، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة " (¬5). قلت: أما قوله في الزهري عن أبان، فإنه علله بقوله: " كيف سمع من أبان وهو يقول: بلغني عن أبان؟ " (¬6)، فقام هذا شبهة تمنع من قبول عنعنته عن أبان. ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 239). (¬2) نقله ابن رجب في " شرح علل الترمذي " (1/ 364). (¬3) نقله ابن رجب في " شرح العلل " (1/ 375). (¬4) العلل الكبير، للترمذي (2/ 633). (¬5) المراسيل (ص: 192). (¬6) المراسيل (ص: 191).

وأما ما ذكره في رواية حبيب عن عروة، وهو محل الشاهد، فمقتضى قوله أن لولا اتفاق أهل الحديث على نفي سماع حبيب من عروة لكانت روايته عنه متصلة؛ من أجل أنه سمع ممن هو أكبر منه. وهذا موافق لأصل إجراء العنعنة على الاتصال ما لم يثبت ما ينافيه. وحدث أحمد بن حنبل في " المسند " بحديث قال فيه: حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن عثمان بن أبي العاتكة .. ، فقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: من أين سمع محمد بن يزيد من عثمان بن أبي العاتكة؟ قال: " كان أصله شامياً، سمع منه بالشام " (¬1). قلت: لعل الشبهة دخلت على عبد الله من جهة أن هذا واسطي، ويروي عن شامي بالعنعنة، فأزاحها عنه أبوه بكون الواسطي إنما كان بالشام، فكأنه جعل من مظنة اللقاء والسماع برهاناً كافياً على إثبات الاتصال. وجرت بين ابن أبي حاتم وأبيه محاورة في سماع غزوان أبي مالك الغفاري من عمار بن ياسر، قال فيها: ما تنكره أن يكون سمع من عمار وقد سمع من ابن عباس؟ قال: " بين موت ابن عباس وبين موت عمار قريب من عشرين سنة " (¬2). قلت: فدل هذا على أن اعتبار المعاصرة مع القرائن المساعدة دليلاً على الاتصال كان معروفاً من منهجهم. فمن هذا يظهر أن ما خلص إليه ابن رجب من القول: " والصواب أن ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله، ويحتج به مع إمكان اللقي، كما يحتج بمرسل أكابر التابعين " (¬3)، فهذا في التحقيق ضعيف، مع مراعاة الذي لأجله كانوا يستعملون العنعنة. ¬

(¬1) المسند (5/ 264). (¬2) علل الحديث (1/ 24). (¬3) شرح علل الترمذي (1/ 374).

المذهب الثالث: أن (عن) اتصال بشرط المعاصرة. وهو الذي انتصر له مسلم بن الحجاج، وحكي فيه إجماع من تقدمه. وقد ذكر مسلم في صدر " صحيحه " مقالة لم يفصح عن قائلها، حاصلها: أنه لا يكفي قول الراوي: (عن فلان) لإثبات اتصال ما بينهما، حتى وإن ثبت أنهما كانا جميعاً في عصر واحد، ومحتمل أن يكون الحديث الذي روى عن ذلك الشيخ قد سمعه منه وشافهه به، لكنا لا نعلم له منه سماعاً، ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط أو تشافها بحديث، وإنما يثبت الاتصال إذا ثبت أنهما اجتمعا مرة فأكثر، أو تشافها بالحديث (¬1). ثم رد مسلم هذه المقالة وأنكرها، ووصفها بكونها مخترعة. وقال: " القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً: أن كل رجل ثقة، روى عن مثله حديثاً، وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه؛ لكونهما جميعاً كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة، إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئاً " (¬2). وناقش مسلم المقالة السابقة ورد ما يمكن التعلق به لأجلها، وهو احتمال الإرسال وعدم السماع بين الراوي وذلك الشيخ الذي عنعن عنه. ثم أبطل ذلك بأن الاحتمال عندئذ يرد على كل موضع عنعنة، حتى في رواية الراوي عمن سمع منه مرة أو أكثر؛ لجواز أن يكون روى عنه بالواسطة فأسقطها وأرسله عنه. ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (ص: 29). (¬2) مقدمة صحيح مسلم (ص: 29 _ 30).

وقال مسلم: " وما علمنا أحد من أئمة السلف ممن يستعمل الأخبار ويتفقد صحة الأسانيد وسقمها، مثل أيوب السختياني وابن عون ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ومن بعدهم من أهل الحديث، فتشوا عن موضع السماع في الأسانيد .. وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم، إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به، فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقدون ذلك منه كي تنزاح عنهم علة التدليس " (¬1). وذكر مسلم أمثلة عديدة لقبول أهل العلم الحديث تصحيحه والاحتجاج به، مع أنه لم يأت إلا من وجه قد قال فيه الراوي: (عن فلان) ولم يثبت أنهما اجتمعا ولا تشافها في شيء من الرواية. وقال الحاكم في المعنعنات: " هي متصلة بإجماع أئمة النقل، على تورع رواتها عن أنواع التدليس " (¬2). وهذا بينه مسلم ودل عليه ما ذكره الحاكم، تفيده كذلك عبارات بعض المتقدمين: فقد قال أبو بكر الحميدي وهو يذكر صفة الحديث الثابت، فجعل ما يحدثه الراوي عن شيخ قد أدركه متصلاً بمجرد ذلك، قال: " وإن لم يقل كل واحد ممن حدثه: (سمعت) أو (حدثنا) حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أمكن أن يكون بين المحدِّث والمحدَّث عنه واحد أو أكثر؛ لأن ذلك عندي على السماع؛ لإدراك المحدث من حدث عنه حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولازم صحيح يلزمنا قبوله ممن حمله إلينا إذا كان صادقاً، مدركاً لمن روى ذلك عنه " (¬3). ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (ص: 32 _ 33). (¬2) معرفة علوم الحديث (ص: 34). (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 63) وإسناده صحيح.

وقال علي بن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: بسر بن سعيد لقي زيد بن ثابت؟ قال: " وما ينكر أن يكون قد لقيه "، قلت روى عن أبي صالح عن زيد بن ثابت؟ قال: " قد روى شفيق عن رجل عن عبد الله " (¬1). قلت: طرأت الشبهة لابن المديني من جهة وقوع رواية لبسر عن زيد بالواسطة، ولم يوقف له على رواية بالسماع منه، فرده القطان بكون الراوي قد يروي عن شيخه بالواسطة، وليس بلازم منه وجودها في كل ما يرويه عنه. وتحرير محل النزاع: أن الشرط المتفق عليه بين الجميع لتحقيق الاتصال: أن يكون الراوي المعنعن لم يثبت عليه في حديثه المعنعن تدليس، وأن أخذه الحديث عمن عنعن عنه مترجح. فشرط البخاري ومن وافقه: أن يكون قد عرف بينهما اللقاء ولو مرة. وشرط مسلم ومن وافقه: أن يكونا تعاصرا، فثبوت المعاصرة مع عدم التدليس مظنة للقاء الموجب للسماع فالاتصال. وما يشترط له البخاري ثبوت اللقاء مندفع عند مسلم بعد ثقة الراوي بعدم تدليسه، فهو لا يسقط واسطة بينه وبين شيخه، وألزم القائل بمذهب البخاري أن ما خشيه من مظنة عدم الاتصال في هذه الحالة، أنه وارد كذلك في حالة اشتراط ثبوت اللقاء ولو مرة، فإن مظنة عدم الاتصال واردة أيضاً، ويلزم عليه اشتراط ثبوت السماع في كل موضع عنعنة. والبخاري ومن وافقه يقولون بما قال به مسلم من تصحيح الاتصال بالمعاصرة إذا ترجح اللقاء بالقرائن، ومسلم أطلق القول في الاكتفاء بها، فأخذت على " صحيحه " أسانيد أعلت بالانقطاع، وليس كذلك البخاري. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 244) وإسناده صحيح.

وطريق البخاري أمكن وأرجح، والمظنة التي أوردها مسلم مندفعة بشرط عدم التدليس أو ثبوت الإرسال في رواية معينة، وهو أوفق لما يوجبه مقتضى الاتصال كشرط للحديث الصحيح. وعليه فالراجح: أن الإسناد المعنعن يحكم له بالاتصال فيما بين الراوي والمروي عنه بتلك الصيغة، بشرط ثلاثة: الأول: أن يثبت اللقاء بينهما يقيناً أو غالباً. والثاني: أن يسلم التلميذ من التدليس. والثالث: أن لا يقوم دليل على عدم سماعه. * * *

المبحث الرابع: مسائل متفرقة في اتصال الإسناد

المبحث الرابع: مسائل متفرقة في اتصال الإسناد المسألة الأولى: مما ينبغي مراعاته صيغ تلحق بالإسناد المعنعن، وتأخذ أحكامه، بيانها فيما يلي: (1) قول الراوي: (قال فلان). هذه الصيغة في التحقيق بمنزلة (العنعنة) يحتمل معها السماع والانقطاع. لكن يستثنى منها من عرف أنه لا يقولها إلا في حديث مسموع له (¬1). مثل همام بن يحيى عن قتادة، فإنه قال: "ما قلت: (قال قتادة)، فأنا سمعته من قتادة " (¬2). ¬

(¬1) انظر: الكفاية، للخطيب (ص: 418). (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 419) وإسناده صحيح. وأخرجه الرامهرمزي (ص: 523) من طريق آخر فيه عبادٌ غير منسوبِ راويه عن همام، وعنه علي بن سهل، لم أهتدِ إليه، وسواهما ثقات.

وقال حماد بن زيد: " إني أكره إذا كنت لم أسمع من أيوب (يعني السختياني) حديثاً أن أقول: (قال أيوب كذا كذا) فيظن الناس أني قد سمعته منه " (¬1). وكان الحجاج بن محمد الأعور يقول: (قال ابن جريج)، وذلك فيما قرأه على ابن جريج، وهو متصل عنه (¬2). (2) قول الراوي: (عن فلان أن فلاناً قال). قال ابن عبد البر: " جمهور أهل العلم على أن (عن) و (أن) سواء، وأن الاعتبار ليس بالحروف، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحاً، كان حديث بعضهم عن بعض أبداً بأي لفظ ورد محمولاً على الاتصال، حتى تتبين فيه علة الانقطاع ". ورد قول من جعل (أن) ليست اتصالاً بأن استدل بكون قول الصحابي: (قال رسول الله)، أو: (أن رسول الله) أو: (عن رسول الله)، أو: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) سواء عند أهل العلم (¬3). وهذا هو التحقيق مادامت تلك الصيغة واقعة بين راويين قد ثبت اتصال ما بينهما. إنما تستثنى صورة ما إذا حدَّث الراوي عن حدث لم يدركه، وفي سياق الحديث ذكر لشيخه، ولم يبين إن كان قد أخذه عن ذلك الشيخ أم لا، كقول عروة بن الزبير: (أن عائشة قالت يا رسول الله)، فعروة سمع من عائشة، لكنه في التحقيق هنا لم يحدث عنها، إنما حدَّث عن حدث لها وقع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا صورته صورة المرسل. ¬

(¬1) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 26) وإسناده صحيح. (¬2) انظر تاريخ بغداد، للخطيب (8/ 237). (¬3) التمهيد (1/ 26).

وقد قال أحمد بن حنبل: " كان مالك _ زعموا _ يرى (عن فلان) و (أن فلاناً) سواء " (¬1). قال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد قيل له: إن رجلاً قال: (عروة أن عائشة قالت: يا رسول الله) و (عن عروة عن عائشة) سواء؟ قال: كيف هو سواء؟ "، أي ليس هو بسواء (¬2). (3) ومن الصيغ: (ذكر فلان) و (ذَكره فلاناً) صيغتان قليتا الاستعمال. (زَعم فلان) نادرة الاستعمال. وكذا: (فلان يأثر عن فلان)، وتفيد احتمال الاتصال كمجرد العنعنة. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أترخص في أن أضع صدقة مالي في مواضعها، أو إلى الأمراء لا بد؟ قال: سمعت ابن عباس يقول: " إذا وضعتها مواضعها ما لم تعط منها أحداً شيئاً تعوله أنت، فلا بأس "، سمعته مرة يأثره عن ابن عباس (¬3). قلت: فههنا اتصال. لكن ما رواه عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، يأثره عن ابن مسعود، أنه قال: " في كل مُعاهد مجوسي أو غيره الدية وافية " (¬4). ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 311) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 575). (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 312) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 575). (¬3) أثر صحيح، أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (4/ 44 رقم: 6917) وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه عبد الرزاق (10/ 97 رقم: 18497) _ ومن طريقه: الطبراني في " الكبير " (9/ 409 رقم: 9739) _ وإسناده صحيح إلى مجاهد، ضعيف عن ابن مسعود.

المسألة الثانية: رموز صيغ الأداء

فهذا منقطع، مجاهد لم يدرك عبد الله بن مسعود. ووقعت في رواية بعض الأحاديث القدسية فيما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى. (4) ومن ذلك: (فلان رد ذلك إلى فلان) أو (يرد إلى فلان). كقول محمد بن سيرين: عن عبد الرحمن بن بشر بن مسعود، ورد الحديث حتى رده إلى أبي سعيد الخدري، وذكر الحديث في العزل (¬1). المسألة الثانية: رموز صيغ الأداء استخدام الاختصار في كتابة صيغ الأداء كان عليه عمل الكتَّاب والنساخ غالباً، وذلك بكتابتهم: (حدثنا): (نا) أو (ثنا)، وربما كتبها بعضهم: (دثنا) وهي نادرة. و (أخبرنا): (أنا) غلباً، ومنهم من كان يكتبها: (أبنا) بتقديم الباء على النون، وتحرف في المطبوعات إلى تقديم النون على الباء، فيحسبها من لا يفهم هذا العلم من الإنباء. ويكتبها بعضهم أيضاً: (أرنا)، وهو قليل نادر. وقد يجمع لفظ القول إلى التحديث في اختصار الكتابة، فيكتبون: (قال: حدثنا): (قثنا)، وليس بالشائع جداً. ولا تختصر: (سمعت) ولا (أنبأنا) ولا صيغ الأداء غير الصريحة بالسماع مثل (عن) و (قال). ولفظه (قال) تحذف عادة في الكتابة، وتنطق عند القراءة، فإذا وجدت ¬

(¬1) أخرجه أحمد (17/ 136 رقم: 11078) ومسلم (2/ 1062 _ 1063) والنسائي (رقم: 3327) وفي " الكبرى " (رقم: 5048، 9094) والدارمي (رقم: 2144).

المسألة الثالثة: قول البخاري في " تاريخه ": " فلان سمع فلانا " معناه

مثلاً: (فلان حدثنا فلان) فتقرأ: (فلان قال: حدثنا فلان)، وشبهها لفظ السماع والإخبار والإنباء. وكذلك: (فلان قال فلان) تقرأ: (قرئ على فلان، قيل له: أخبر ك فلان)، وهكذا. والنصح لكل من يحقق كتاباً في الحديث اليوم أن يكتب تلك الكلمات المختصرة على تمامها وفقاً لأصولها الصحيحة؛ لزوال مقتضى الإبقاء على ذلك الاختصار، وليست كتابتها على التمام من الخروج عن مبدأ الأمانة في النقل. وينبغي أن تلاحظ عند الانتقال من طريق إلى طريق في إسناد الخبر، أنهم يستعملون حرف (ح). قال النووي: " والمختار أنها مأخوذة من التحول، لتحوله من الإسناد إلى إسناد، ولفظها عند القراءة: ح " (¬1). المسألة الثالثة: يقول البخاري في " تاريخه " في كثير من التراجم: (فلان .. سمع فلاناً)، فهل هذا إثبات منه لسماعه؟ أم حكاية لما وقع في الإسناد من طريق ذلك الراوي قال: (سمعت فلاناً) وما في معناه؟ قال البخاري في (ثعلبة بن يزيد الحماني): " سمع علياً، روى عنه حبيب بن أبي ثابت، يعد في الكوفيين، فيه نظر " (¬2). ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم (1/ 38). (¬2) التاريخ الكبير (1/ 2 / 174).

المسألة الرابعة: المرسل إذا علمت فيه الواسطة

فقال ابن عدي: " أما سماعه من علي، ففيه نظر، كما قال البخاري " (¬1). قلت: فهو يفسر قول البخاري أنه أراد بقوله: " فيه نظر " سماعه من علي، وهذا يعني أن البخاري لا يثبت سماعه من علي، إنما أراد بقوله: " سمع علياً " مجرد حكاية ما وقع في الإسناد. فهذا القول إن لم يظهر جلياً أن البخاري قصد به إنشاء العبارة في تثبيت السماع من جهة نفسه، فإنه لا يصح الاستدلال به على أنه قول للبخاري، إنما العمدة حينئذ لتصحيح السماع على ثبوت الإسناد الذي حكيت فيه تلك الصيغة. وأما مثل قول البخاري في ترجمته (عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود): " سمع أباه، قاله عبد الملك بن عمير "، فبين أن ذكر سماعه من أبيه جاء في رواية عبد الملك عنه. وكثيراً ما يقول البخاري مثل هذا: (فلان .. سمع فلاناً .. قاله فلان). فهذا لو حكاه إنسان أنه قول للبخاري يكون قد أخطأ عليه. المسألة الرابعة: المرسل إذا علمت فيه الواسطة، وتبين أنها ثقة، فهو صحيح جار مجرى المتصل قال خالد الحذاء: " كل شيء قال محمد (¬2): (نبئت عن ابن عباس)، إنما سمعه من عكرمة، لقيه أيام المختار بالكوفة " (¬3). ¬

(¬1) الكامل (2/ 323). (¬2) يعني ابن سيرين. (¬3) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (5/ 334) من طريق أحمد بن حنبل، قال: حدثنا أميَّة بن خالد، قال: سمعت شُعبة قال: قال خالد، فذكره. وإسناده صحيح. وحكاه أبو داود في " مسائل أحمد " (ص: 326) بنحوه، دون تسمية أمية. كما رواه ابنُ سعدٍ في " الطبقات " (5/ 291، 7/ 194) قال: أخبرت عن أمية، فذكره.

قال أحمد بن حنبل: قال شعبة: قال لي خالد الحذاء: " كل شيء رواه ابن سيرين عن ابن عباس، فهو عن عكرمة، لقيه بالكوفة أيام المختار " (¬1). ووجدت بعض متأخري العلماء استدل باتصال ما أرسله إبراهيم النخعي عن ابن مسعود، وذلك اعتماداً على ما جاء عن الأعمش، قال: قلت لإبراهيم النخعي: أسند لي عن عبد الله بن مسعود، فقال إبراهيم: " إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله، فهو الذي سميت، وإذا قلت: (قال عبد الله) فهو عن غير واحد عن عبد الله " (¬2). وليس هذا كالذي تقدم عن ابن سيرين، فإن الواسطة هنا لم يتبين إن كانت ثقة؛ لأنها مبهمة مجهولة، وإبراهيم روى عن أصحاب عبد الله بن مسعود، وفيهم المجاهيل. * * * ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 326). (¬2) أثرٌ حسنٌ. أخرجه الترمذي في (العلل) آخر " الجامع " (6/ 249) من طريق شُعبة عن الأعمش. وإسناده حسنٌ، قد رواه الترمذي عن شيخه أبي عبيدة أحمد بن عبد الله، وهو صدوق لا بأس به، ويأتي هذا الأثر مرةً أخرى في هذا الكتاب في (القسم الثاني) مباحث (المنقطع والمرسل).

الباب الثاني نقد النقلة

الباب الثاني نقد النقلة

الفصل الأول حكم نقد النقلة وصفة الناقد

الفصل الأول حكم نقد النقلة وصفة الناقد

المبحث الأول: حكم نقد الراوي

المبحث الأول: حكم نقد الراوي معنى النقد: قال ابن فارس: " النون والقاف والدال أصل صحيح، يدل على إبراز شيء وبروزه " قال: " ومن الباب (نقد الدرهم) وذلك أن يكشف عن حاله في جودته أو غير ذلك " (¬1). و (نقد الراوي) من هذا، فإنه يكشف عن حاله في أهليته للرواية أو عدم ذلك. كما سمي من يقوم بعملية الكشف هذه بـ (الناقد) لهذا الاعتبار. وقد اصطلح علماء الحديث على تسمية النقد هذه بـ (الجرح والتعديل)، بناء على ما ينتج عنها من ثبوت أهلية الراوي أو عدمها. وهذان الوصفان يشعران بثنائية القسمة عندهم، فالناقد إما أن يصير إلى (جرح) الرواي، وإما إلى (تعديله)، ولا يفيد مرتبة متوسطة. وتحقيق ذلك: أن النظر في أحوال الرواة لا يسفر دائماً عن نتيجة ¬

(¬1) مقايس اللغة (5/ 467).

(الجرح) أو (التعديل) لذلك الراوي، وإنما قد تخفى حاله ولا يسعف النظر في التوصل إلى شيء في أمره، فيصير الناقد إلى مرتبة ليست تعديلاً ولا تجرحاً صريحاً، وهي الحكم بـ (جهالة) الراوي. لكن، حين كان المقصود التوصل إلى كون الراوي مقبول الرواية أو مردودها، فالعبارة إذاً بالقبول أو الرد؛ وعليه فيصح أن تكون القسمة ثنائية، على اعتبار المصير بالمرتبة المتوسطة إلى (الجرح) على مذهب الأكثر، أو (التعديل) على مذهب الأقل، على ما سيأتي تفصيله. و (نقد الراوي) هي المرحلة الثانية من النظر في الأسانيد، فقد تقدم في الباب الأول تبيين طرق الكشف عن شخصية الراوي، وحيث تميز لنا فيتلو ذلك تمييز حاله من جهة صلاحيته لقبول حديثه أو رده. وهذا المبحث من أهم مباحث (علوم الحديث) وأصعبها، فأما أهميته فمن جهة كونه (القاعدة العظمى) التي ينبني عليها تصحيح نسبة السنن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نفي ذلك، وأما صعوبته فمن جهتين: الأولى: ما يدخل على الناقد من الحرج من الكلام في المسلم بالقدح في حال ثبوت ذلك عليه؛ لأنه كلام في عرضه الذي جاءت شريعة الإسلام بحفظه. والثانية: فهم قوانينه وقواعده ومنهجية تطبيقه. فأما ما يتصل بالجهة الثانية فهذا الفصل أكثره معقود لهذا الغرض، وأما الجهة الأولى فإنها تستلزم بيان حكم الشريعة في ذلك. حكم الكلام في النقلة: حفظ عرض المسلم من المسلمات في دين الإسلام، وحرمته معلومة بالضرورة، والنقاد يقولون: (فلان ضعيف) أو (سيئ الحفظ) أو (كثير الغلط) أو (ليس بشيء) أو (ليس بثقة) أو (متروك) أو (كذاب) أو غير ذلك من

صيغ قدح تقال في الراوي، ولو علم بها لما رضيها، فكيف يصح مثل هذا القدح مع تلك الضرورة المسلَّمة في تحريم عرض المسلم؟ وإذا تأملت ذلك من جهة أخرى وجدت أحوال نقاد المحدثين محل القدوة في الصلاح والدين، ومع ذلك فهم من كان يقوم بهذه الوظيفة (جرح الرواة وتعديلهم)، فكيف كانوا يرون ذلك؟ وما عذرهم فيه؟ جواب ذلك من وجوه، منها: 1 _ حرمة العرض كحرمة الدم والمال، وحرمة الدين أعظم منها جميعاً، فإنه تسترخص له الأنفس والأموال، وهذا أيضاً معلوم من الدين بالضرورة. والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دين، كما قال محمد بن سيرين رحمه الله: " إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم " (¬1)، وهو بيان الكتاب العزيز , وفيه تفصيل الأحكام والأوامر والنواهي، فالمتعرض له إنما يضيف شيئاً إلى الدين، فإما أن يكون أهلاً له صادقاً أميناً حافظاً أو ليس كذلك، ولا طريق إلى معرفة ذلك إلا بـ (الجرح والتعديل). فهو واجب ألزمت به ضرورة حفظ الدين. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، فأوجب الله تعالى التبين في خبر الفاسق قبل قبوله فيما ينبئ به عن قوم آخرين، فكيف الطريق إلى معرفة فسقه إن لم يكن بعلامة علمناها منه دلت على فسقه؟ ¬

(¬1) أخرجه الدارمي (رقم: 425) وابنُ سعد (7/ 194) ومسلم في " مقدمة صحيحه " (1/ 14) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 15) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 414) وابن عدي (1/ 253، 254) والخطيب في " الكفاية " (ص: 196، 197) و " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم 138) من طريق ابنِ عونٍ عن ابن سيرين، به. وروى معناه غير واحد عن ابن سيرين.

ولو ثبت فسقه لأحد ما جاز له كتمانه على من يتضرر بخبره من الناس، فإذا كان هذا التثبت في الإخبار عن شخص أو قوم من سائر الناس ممن لا يلزم بخبرهم تحليل ولا تحريم ولا أمر ولا نهي، فكيف يجوز السكوت والإقرار لخبر من يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير دراية بأهليته أو عدمها؟ وقد تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " (¬1) في لفظ: " إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " (¬2)، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: " يا أيها الناس، إياكم وكثرة الحديث عني، من قال علي فلا يقولون إلا حقاً أو صدقاً، فمن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " (¬3)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: " من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " (¬4). قال الدارمي: " معنى هذا الحديث: إذا روى الرجل حديثاً، ولا يعرف لذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل، فحدث به، فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث " (¬5). فهذا حكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكذيب من حدث عنه بما لم يقل ¬

(¬1) حديث صحيح مُتواترٌ، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثيرٌ من أصحابه. وهو عند البخاري (رقم: 107) من حديث الزبير بن العوام، ولم يذكر " مُتعمداً "، و (رقم: 110، 5844) ومسلم (رقم: 3) من حديث أبي هريرة، والبخاري (رقم: 3274) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ومسلم (رقم 3004) من حديث أبي سعيد الخُدري. (¬2) حديث صحيح. متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 1229) ومسلم (رقم: 4) من حديث المغيرة بن شعبة، به. (¬3) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 297) وابن أبي شيبة (8/ 761) وابن ماجة (رقم: 35) من طريق محمد بن إسحاق، عن معبدِ بن كعب، عن أبي قتادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: على هذا المنبر، فذكره. قلت: وإسناده جيد، وابن إسحاق ذكر سماعه للحديث عند أحمد. (¬4) أخرجه مسلم (1/ 9) من حديث سمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة. (¬5) الجامع للترمذي (بعد حديث رقم: 2662).

ناسباً ذلك إليه، وسبب تغليظ حكم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم؛ أن من كذب عليه فقد زاد في دين الله، فكأنما كذب على الله عزوجل. ومن وقع في الكذب على التوهم لا القصد فربما يعذر، لكن لا يعذر من علم غلطه ولم يبين. فبيان أحوال النقلة يوجبه نفي الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، الذي يرجح حفظ ضرورته على ضرورة حفظ الأنفس والأموال والأعراض. 2 _ تأملنا فوجدنا التعرض للمسلم إنما يحرم بغير سبب شرعي، أما إن كان بسبب معتبر صحيح في الشرع فإن ذلك يتردد بين إباحة وندب ووجوب، ولا يمتنع، وذلك بنفس أدلة الشرع، فمن اعتدى على غيره وجب منعه، وكان للمعتدي عليه الحق في الانتصار لنفسه، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لي الواجد يحل عرضه عرضه وعقوبته " (¬1)، والواجد: هو الغني يكون عليه الدين يحل أجله فلا يقضيه. والتعدي على الدين أخطر من التعدي على الأنفس والأعراض والأموال، فكيف يصح أن تأذن الشريعة في الرد عن النفس بما هو ممتنع في الأصل إن لم يكن له سبب، وتمنع الذَّب عن الدين بتخليصه من عدوان الكذابين والمتهمين والغالطين عليه؟ 3 _ اعتبرت الشريعة العدالة في الشهود، فقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى ¬

(¬1) حديثٌ حسنٌ. أخرجه أحمد (4/ 22، 388، 389) وأبو داود (رقم: 3628) والنسائي (رقم: 4689، 4690) وابن ماجة (رقم: 2427) من حديث الشريد بن سُويد. وحققت القول فيه في تعليقي على " المنتقى من مُسند المقلين " لدَعلج السجْزي (رقم: 12).

عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، والعدالة لا سبيل إلى معرفتها في أعيان الشهود إلا بنقدهم ثم الحكم عليهم بمقتضى ذلك النقد من عدالة أو جرح، فإذا صح أن يطلب هذا فيمن يشهد على متاع وشيء ليس له كبير قدر، فصحته ووجوب تحققه فيمن يشهد في دين الله، فينسب شيئاً إلى الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الثقة محمد بن عمرو الرازي المعروف بـ (زنيج): سمعت بهز بن أسد يقول إذا ذكر له الإسناد الصحيح: " هذه شهادات العدول المرضيين بعضعم على بعض " وإذا ذكر له الإسناد فيه شيء قال: " هذا فيه عهدة "، ويقول: " لو أن لرجل على رجل عشرة دراهم ثم جحده، لم يستطع أخذها منه إلا بشادين عدلين، فدين الله عزوجل أحق أن يؤخذ فيه بالعدول " (¬1). 4 _ أوجب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم النصيحة، فعن تميم الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدين النصيحة " قلنا: لمن؟ قال: " لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم " (¬2). والكشف عن أمر الراوي بقصد التحذير من غلطه أو كذبه لئلا يغتر به من لا يعلم حاله من النصيحة لله ولكتابه بنفي نسبة ما لا تصح إضافته إليه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بنفي نسبة ما لم يتفوه به من القول إليه، ولعموم المسلمين بوقايتهم من التدين بما ليس من دين الإسلام. وهذه علة كافية للفصل بين (نقد الرواة) لهذا المقصد، وبين (الغيبة) التي حرمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 16) وابن عدي في " الكامل " (1/ 251) والخطيب في " الكفاية " (ص: 135) و " الجامع " (رقم: 131) بإسناد صحيح. وأخرج ابن حبان في " المجروحين " (1/ 23) طرفاً منه. (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 102، 103) ومُسلم (رقم: 55) وأبو داود (رقم: 4944) والنسائي (رقم: 4197، 4198).

ويشهد له ما جاء من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة " أو: " بئس رجل العشيرة "، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول؟ قال: " يا عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة: من ودعه _ أو: تركه _ الناس اتقاء فحشه " (¬1). قال الخطيب: " ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بئس رجل العشيرة " دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل ليس بغيية، إذا لو كان ذلك غيبة لما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد عليه السلام بما ذكر فيه والله أعلم أن بئس للناس الحالة المذمومة منه، وهي الفحش فيجتنبوها، لا أنه أراد الطعن عليه والثلب له، وكذلك أئمتنا في العلم بهذه الصناعة؛ إنما أطلقوا الجرح فيمن ليس بعدل لئلا يتغطى أمره على من لا يخبره، فيظنه من أهل العدالة فيحتج بخبره، والإخبار عن حقيقة الأمر إذا كان على الوجه الذي ذكرناه لا يكون غيبة " (¬2). قال: " وأما الغيبة التي نهى الله تعالى عنها فهي ذكر الرجل عيوب أخيه يقصد بها الوضع منه والتنقيص له والإزراء به، فيما لا يعود إلى حكم النصيحة وإيجاب الديانة، من التحذير عن ائتمان الخائن، وقبول خبر الفاسق، واستماع شهادة الكاذب " (¬3). قال مسلم بن الحجاج يصف صنيع نقاد المحدثين: " وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا، لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (رقم: 5685، 5707، 5780) ومُسلم (رقم: 2591) من طريق مُحمد بن المنكدر، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، به. (¬2) الكفاية (ص: 83 _ 84). (¬3) الكفاية (ص: 85).

أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثماً بفعله ذلك، غاشاً لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع " (¬1). وقال الترمذي: " وقد عاب بعض من لا يفهم على أهل الحديث الكلام في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في الرجال، منهم الحسن البصري وطاوُس تكلما في معبد الجهني (¬2) , وتكلم سعيد بن جبير في طلق بن حبيب (¬3)، وتكلم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي في الحارث الأعور (¬4)، وهكذا روي عن أيوب السختياني وعبد الله ¬

(¬1) صحيح مُسلم (1/ 28). (¬2) أما أثرُ الحسن، فأخرجه الترمذي في " العلل الصغير " (6/ 248) وعبد الله بن أحمد في " السنة " (رقم: 849) والآجري في " الشريعة " (رقم: 592، 599) وابن عدي في " الكامل " (1/ 131) من طريق مَرحوم بن عبد العزيز العطار، قال: سمعت أبي وعمِّي يقولان: سَمعنا الحسن وهو ينهى عن مجالسة مَعبد الجهني، يقول " لا تُجالسوه؛ فإنه ضال مُضل ". قلت: إسناد هذا الخبر إلى الحسن حسن. وأخرجه العقيلي في " الضعفاء " (4/ 218) بإسناد آخر عن الحسن، وهو جيد. وأما أثر طاوُس، فأخرجه الفريابي في " القدر " (رقم: 266) وعبد الله بن أحمد في " السنة " (رقم: 847) والآجري في " الشريعة " (رقم: 590) واللالكائي في " السنة " (رقم: 1273) من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال لنا طاوس: " أخروا معْبد الجهني؛ فإنه قدري ". وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " (2/ 2 / 359) و " الأوسط " (1/ 369) وابن سعد في " الطبقات " (7/ 228) وعبد الله بن أحمد في " السنة " (رقم: 303) من طريق حمَّاد بن زيد، عن أيوب (يعني السختياني)، قال: ما رأيت أحداً أعبد من طلْْق بن حبيب، فرآني سعيد بن جبير جالساً معه، فقال: ألم أرك مع طلقٍ؟ لا تُجالس طلقاً، وكان طلقٌ يرى الإرجاء. قلت إسناده صحيح، وهذا لفظ البخاري. (¬4) أما عن الشعبي، فأخرجه مُسلم في " مُقدمة صحيحه " (1/ 19) عنه، قال: حدثني الحارث الأعور، وكان كذاباً ". وأخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 116 _ 117) وعبد الله بن أحمد في " العلل " (رقم: 990، 1148) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 2 / 78) والعُقيلي (1/ 208) وابنُ عدي (2/ 449 _ 450) والخطيب في " الكفاية " (ص: 151) وفي رواية لأكثرهم، قال الشعبي: " حدثني الحارث الأعور، وأشهد أنه أحد الكذابين ". وهو صحيح عنه باللفظين. وأما عن إبراهيم، فأخرجه مسلم في " المقدمة " (1/ 19) وابنُ أبي حاتم (1/ 2 / 78) والعُقيلي (1/ 208) وابنُ عدي (2/ 449) بإسناد صحيح عن إبراهيم: " أن الحارث اتُّهم ".

بن عون وسليمان التيمي وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وعبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من أهل العلم؛ أنهم تكلموا في الرجال وضعفوا، وإنما حملهم على ذلك عندنا _ والله أعلم _ النصيحة للمسلمين، لا يظن بهم أنهم أرادوا الطعن على الناس أو الغيبة، إنما أرادوا عندنا أن يبينوا ضعف هؤلاء لكي يعرفوا؛ لإن بعضهم من الذين ضعفوا كان صاحب بدعة، وبعضهم كان متهماً في الحديث، وبعضهم كانوا أصحاب غفلة وكثرة خطأ، فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم شفقة على الدين وتثبتاً؛ لأن الشهادة في الدين أحق أن يتثبت فيها من الشهادة في الحقوق والأموال " (¬1). سياق بعض الآثار عن السلف في شرعية نقد الرواة: 1 _ عن يحيى بن سعيد القطان، قال: سألت سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، عن الرجل يكون واهي الحديث، يأتيني الرجل فيسألني عنه، فأجمعوا أن أقول: ليس هو بثبت، وأن أبين أمره. وفي لفظٍ سألهم قال: عن الرجل لا يكون ثبتاً في الحديث، فيأتيني الرجل فيسألني عنه؟ قالوا: " أخبر عنه، وبين أمره ". وفي رواية قال لهم: الرجل يكون كثير الغلط في الحديث (وفي لفظ: ¬

(¬1) العلل الصغير، للترمذي في آخر كتاب " الجامع " (6/ 230 _ 231).

لا يحفظ، أو يتهم في الحديث) (وفي لفظ: يتهم ويغلِّط ويصّحف) (وفي لفظ: يغلط في الحديث، أو يكذب فيه)، أبين أمره؟ قالوا: " بين أمره " (¬1). 2 _ وعن حماد بن زيد، قال: كلمنا شعبة في أن يكف عن أبان بن أبي عياش لسنه وأهل بيته، فضمن أن يفعل، ثم اجتمعنا في جنازة، فنادى من بعيد: يا أبا إسماعيل، إني قد رجعت عن ذاك، لا يحل الكف عنه؛ لأن الأمر دين (¬2). 3 _ وعن عبد الرحمن بن مهدي، قال: مررت مع سفيان الثوري برجل، فقال: " كذاب والله، لولا أنه لا يحل لي أن أسكت عنه لسكت " (¬3). 4 _ وعن عبد الله بن المبارك، قال: قلت لسفيان الثوري: إن عبَّاد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم، فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: " بلى ". ¬

(¬1) أثر صحيح بجميع ألفاظه. أخرجه البُخاري في " التاريخ الأوسط " (رقم: 1436) ومسلم في " المقدمة " (1/ 17) والجوزجاني في " أحوال الرجال " (ص: 36 _ 37) وأبو داود في " سؤالات أحمد بن حنبل " (النص: 134) والترمذي في " العلل الصغير " (6/ 231 _ آخر الجامع) وأبو زرعة الدمشقي في " تاريخه " (1/ 471) وعبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 4684، 4685) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 23، 24) والعُقيلي في " الضعفاء " (1/ 3 _ 6) وابن حبان في " المجروحين " (1/ 20) وابن عدي في " الكامل " (1/ 149، 150) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (رقم: 850، 851) وأبو نُعيم في " المستخرج على مسلم " (رقم: 45، 53) والبيهقي في " الدلائل " (1/ 45) والخطيب في " الكفاية " (ص: 88) و " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1509) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 47) من طرُقٍ عن يحيى بن سعيد، به، وأسانيده صحيحة. (¬2) أثرٌ صحيح. أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (1/ 39) بإسناد جيد، وجاء معناهُ عن حماد بن زيْدٍ من غير وَجْه. (¬3) أثرٌ صحيح. أخرجه ابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 21) بإسناد صحيح. وأخرجه أبو نعيم في " المستخرج على مسلم " (رقم: 47) وعنه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 89)، ووقع فيه: (شُعبة) بدل (سُفيان)، ولا يَرد احتمال التصحيف على رواية ابن حبان من أجل أنه نُسب فيها: (الثوري)، ومُحتملٌ على رواية الخطيب، والله أعلم.

قال عبد الله: فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عبَّاد أثنيت عليه في دينه، وأقول: لا تأخذوا عنه (¬1). 5 _ وقال الشافعي: " وأما الرجل من أهل الفقْه يُسْأل عن الرجل من أهل الحديث فيقول: كُفوا عن حديثه، ولا تقبلوا حديثَه؛ لأنه يغْلط، أو يُحدث بما لم يَسمع، وليست بينه وبين الرجل عداوة؛ فليس هذا من الأذى الذي يكون به القائل لهذا فيه مجروحاً عنه لو شَهِد بهذا عليه، إلا أن يُعرف بعداوةٍ له، فتُردَّ بالعداوة لا بهذا القول " (¬2). 6 _ وعن أبي بكر محمد بن خلاد (وكان ثقة)، قال: قلت ليحيى بن سعيد: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تذكر حديثهم خصمائك عند الله يوم القيامة؟ فقال: " لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لم حدثت عني حديثاً ترى أنه كذب " (¬3). وفي رواية، قال أبو بكر بن خلاد: أتيت يحيى مرة، فقال لي: أين كنت؟ فقلت: كنت عند ابن داود فقال: إني لأشفق على يحيى من ترك هؤلاء الرجال الذين تركهم، فبكى يحيى، وقال: " لأن يكون خصمي رجل من عرض الناس شككت فيه فتركته، أحب إلي من أن يكون خصمي النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: بلغك عني حديث سبق إلى قلبك أنه وهم فلم حدثت به؟ " (¬4). ¬

(¬1) أثرٌ صحيح. أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه " (1/ 17) بإسناد جيد. (¬2) الأم (6/ 206). (¬3) أثرٌ صحيح. أخرجه الحاكمُ في " المدخل إلى الصحيح " (1/ 111) والبيهقي في " الدلائل " (1/ 45) والخطيب في " الكفاية " (ص: 90) بسند جيد. (¬4) أخرجه ابنُ عدي (1/ 186) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1268) بإسناد صحيح.

7 _ وعن عفان بن مسلم، قال: كنا عند إسماعيل بن علية، فحدث رجل عن رجل، فقلت: إن هذا ليس بثبت، قال: فقال الرجل: اغتبته، قال إسماعيل: ما اغتابه، ولكنه حكم أنه ليس بثبت (¬1). 8 _ وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا مسهر (هو عبد الأعلى بن مسهر الغساني حافظ الشاميين) يسأل عن الرجل يغلط ويتهم (وفي لفظ: ويهم) ويصحف؟ قال: " يبين أمره " فقلت لأبي مسهر: أترى ذلك من الغيبة؟ قال: " لا " (¬2). 9 _ وعن محمد بن بندار السباك الجرجاني (وكان لا بأس به)، قال: قلت لأحمد بن حنبل: إنه ليشتد علي أن أقول: فلان ضعيف، فلان كذاب؟ فقال أحمد: " إذا سكتَّ أنت، وسكتُّ أنا؛ فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟ " (¬3). الخلاصة: فحاصل ما تقدم في بيان حكم (نقد الرواة) أنه: واجب لحفظ الدين، وليس هو من قبيل الغيبة التي حرمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. * * * ¬

(¬1) أخرجه مسلم في " مقدمته " (1/ 26) و " التمييز " (ص: 178) وابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 23) والرامهرمُزي (رقم: 853) والعقيلي في " الضعفاء " (1/ 11) وابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 18) والخطيب في " الكفاية " (ص: 89) بإسناد صحيح. (¬2) تاريخ أبي زُرعة الدمشقي (1/ 377). وأخرجه من طريقه: ابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 20) وابنُ عدي (1/ 150) والخطيب في " الكفاية " (ص: 92). (¬3) أثرٌ صحيح. أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 92) و " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1617) بإسناد صحيح إلى السَّبَّاك، به.

المبحث الثاني: صفة الناقد

المبحث الثاني: صفة الناقد نقاد المحدثين هم طائفة التي امتن الله على هذه الأمة بأن يوجدها فيها؛ لتحفظ عليها سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتميز لها ما هو منها وتنفي عنها ما ليس منها. قال الخطيب: " لولا عناية أصحاب الحديث بضبط السنن وجمعها، واستنباطها من معا دنها، والنظر في طرقها، لبطلت الشريعة، وتعطلت أحكامها، إذا كانت مستخرجه من الآثار المحفوظة، ومستفاد من السنن المنقولة " (¬1). وقال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: " أفضل المسلمين رجل أحيا سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أميتت، فاصبروا يا أصحاب السنن رحمكم الله، فإنكم أقل الناس " (¬2). قال الخطيب: " قول البخاري: (إن من أصحاب السنن أقل الناس) عنى به الحفاظ للحديث، العاملين بطرقه، المميزين لصحيحه من سقيمه، وقد ¬

(¬1) الكفاية (ص: 35). (¬2) أخرجه الخطيب في " الجامع لأخلاق الرَّاوي وآداب السامع " (رقم: 90) وإسناده لا بأس به.

صدق رحمه الله في قوله؛ لأنك إذا عتبرت لم تجد بلداً من بلدان الإسلام يخلو من فقيه أو متفقه يرجع أهل مصره إليه، ويعولون في فتاويهم عليه، وتجد الأمصار الكثيرة خالية من صاحب حديث عارف به مجتهد فيه؛ وما ذاك إلا لصعوبة علمه وعزته، وقلة من ينجب فيه من سامعيه وكتبته، وقد كان العلم في وقت البخاري غضاً طرياً، والارتسام به محبوباً شهياً، والدواعي إليه أكبر، والرغبة فيه أكثر، وقال هذا القول الذي حكيناه عنه، فكيف نقول في هذا الزمان مع عدم الطالب، وقلة الراغب؟ " (¬1). قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: " فإن قيل: فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة؟ قيل: بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عز وجل بهذه الفضيلة، ورزقهم هذه المعرفة في كل دهر ومكان " (¬2). قلت: فأبان رحمه الله عن كون هذه الطائفة معتبرة بأوصافها فيما يتصل بالدراية بهذا العلم، ليست مقصورة على زمان، ولا محصورة في مكان. وقال الخطيب: " أجمع أهل العلم على أنه لا يقبل إلا خبر العدل، كما أنه لا تقبل الشهادة العدل، ولما ثبت ذلك وجب متى لم تعرف عدالة المخبر والشاهد، أن يسأل عنهما، أو يستخبر عن أحوالهما أهل المعرفة بهما، إذ لا سبيل إلى العلم بما هما عليه إلا بالرجوع إلى قول من كان بهما عارفاً في تزكيتهما، فدل على أنه لا بد منه " (¬3). ونقد الرواة _ كما تقدم في المبحث السابق _ صورة استثنائية من عمومات المنع من القدح في عرض المسلم، أوجبتها ضرورة حفظ الدين. ¬

(¬1) الجامع لأخلاق الراوي، للخطيب (1/ 112 _ 113). قلت: وماذا عسى أن يقول الخطيب لو أدرك زَمانَنا؟! (¬2) تقدمة الجرح والتعديل (ص: 2). (¬3) الكفاية (ص: 78).

وما كان استثناء من أصل؛ وجب في مثله الاقتصار على قدر الاستثناء وعدم مجاوزته بزيادة على ما يتحقق به المقصود. ولهذه العلة كان أئمة النقد في غاية الحذر في الحكم على الرواة، وقد اتسمت منهجيتهم في صيغة النقد بخصلتين: الأولى: الاقتصار على وصف الراوي بالأوصاف المؤثرة في روايته، كثبت، وحافظ، ومتقن، وثقة، بما يعود إلى ضبطه لحديثه، أو سيئ الحفظ، ولين الحديث، وليس بقوي، بما يرجع إلى سوء حفظه، أو منكر الحديث إلى نكارة حديثه للتفرد بما لا يعرف مع عدم الشهرة بالعلم والصدق، أو متروك الحديث لغلبة الخطأ وفحشه، وهكذا. فهذا الإمام البخاري جاء عنه قوله: " إني أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً " (¬1). وتراه يستعمل من العبارات في نقد الرواة مثل: (فلان مقارب الحديث، منكر الحديث، ذاهب الحديث، متروك الحديث، فيه نظر، عنده عجائب، سكتوا عنه، ليس بالقوي عندهم، تركوه "، وهكذا. فهذا وشبهه عبارات تتصل بالراوي بخصوص مرويه، وهي محققة للمقصود دون تعرض إلى ما لا يحتاج إليه من سيرته وحاله، بل ستعلم لاحقاً أن منهاجهم جار على اعتبار الرواة على السلامة في الدين ما لم يبد غير ذلك ببرهان، ويكن بعد بدوه مؤثراً في الراوي في صدقه وأمانته في النقل. والثانية: الإيجاز في العبارة. وهذه الخصلة تراها شائعة كثيرة في أحوال الرواة، فتراهم يقولون في ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/ 13).

الراوي: " ثقة " لا يفصلون الأسباب التي استوجبت الحكم بثقته؛ لأنهم رأوا هذا الوصف مفيد للتزكية التي تكفي لقبول روايته، ولو ذهب الناقد إلى ذكر أسباب التزكية لطال ذلك ولا ضرورة له. وجانب التزكية ليس موضع حذر من جهة التوسع في استعمال الألفاظ والإطناب في ذكر أسبابها، وإنما الحذر في ألفاظ الجرح، فإنها قوادح، فترى النقاد اجتهدوا في استعمال الوصف المفيد بكلمة أو كلمتين كون هذا الراوي أهلاً للرواية أو ليس كذلك. والذي نرجع له سبب ذلك، أنهم حيث بانت اصطلاحاتهم بألفاظهم، فقد أغنت شهرة الاصطلاح عن الإسهاب في ذكر أسباب الجرح، فكانت الزيادة في تلك الألفاظ لا مبرر لها، فتخرج عن حد الاستثناء من الغيبة. وهذا الاحتياط منهم رحمهم الله أحوج من بعدهم إلى البحث عن مرادهم بكثير من تلك العبارات، خصوصاً عندما يختلفون في راو جرحاً وتعديلاً، كما سيأتي تفصيله. فإذا لاحظت هذا من طريقتهم علمت مقدار ما كانوا يتصفون به من الورع في الدين، وأنهم لولا الذَّبُّ عن حماه لما تقحموا الكلام في أحد. ولعسر هذا المقام ومشقته قال الإمام أبو الفتح ابن دقيق العيد: " أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون، والحكام " (¬1). كما أن هذا الجانب لا يتم إلا بأن يكون الناقد أهلاً للنقد، فليس كل أحد يحسن الكلام في النقلة. ¬

(¬1) الاقتراح في بيان الاصطلاح (ص: 344).

وتحرير ذلك بشرح أو صاف الناقد، فإليكها: 1 _ صلاح الدين. وهذه صفة تقتضي بالضرورة أن يكون مسلماً، ولا يعرف فيمن تعرض لنقد الرواة من كان غير مسلم. والصلاح يستلزم قدراً من المحافظة والعمل الصالح، أدناه حفظ الفرائض والواجبات، وترك المحرمات. والمعتبر في الواجب والمحرم ما ليس محل خلاف. وعليه؛ فلا يقدح في أهلية الناقد أن يذهب مذهباً يحتمله الاجتهاد، سواء كان في قضية علمية أو عملية، ويكون مخطئاً في مذهبه. ونعني بالقضية العلمية الغلط في بعض فروع الاعتقاد، ولما وقع الاعتذار عنهم بالتأويل؛ لم يكن ذلك مسقطاً لاعتبار كلامهم في التجريح والتعديل: [1] عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد المعروف بـ" ابن خراش " (المتوفى سنة: 283). كان من الحفاظ النقاد العارفين بالحديث وأهله، وكلامه في رواة الحديث يشبه كلام أقرانه الكبار، كأبي حاتم الرازي وعلي بن الحسين بن الجنيد الرازي. قال الحافظ أبو أحمد بن عدي: سمعت عبد الملك بن محمد أبا نعيم يثني على ابن خراش، وقال: " ما رأيت أحفظ منه، لا يذكر له شيء من الشيوخ والأبواب إلا مر فيه " (¬1). ¬

(¬1) الكامل، لابن عدي (5/ 519)، وأبو نُعيم هذا من الأئمة الحُفاظ المُتقنين.

وقال الحافظ أبو الحسين أحمد بن جعفر ابن المنادي: " كان من المعدودين المذكورين بالحفظ والفهم بالحديث والرجال " (¬1). قلت: ولكن نقم عليه التشيع، بل رمى بكونه رافضياً. وهذا في التحقيق مما يجب أن يكون من قبيل الخطأ في التأويل، ولا يجري على الإنصاف أن يطرح علمه وصدقه ودرايته لرأي أخطأ فيه، والأئمة الذين جمعوا كلام النقاد في الرجال اعتبروا قوله وقبلوه. [2] أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد " ابن حزم " الأندلسي (المتوفى سنة: 456). الإمام الحافظ الفقيه المحقق صاحب المؤلفات الكثيرة، رأس أهل الظاهر، فضائله كثيرة، وعلمه جم. لكنه مع وقوفه عند ألفاظ النصوص في الفروع وانتصاره للنص، إلا أنه تجاوزه في أصعب الأمور، وهو باب الاعتقاد، فتكلم بكلام أهل الكلام، فوافقهم في الصفات، وخالف دلالة البرهان، حتى جاءت مقالته فيها شبيهة من بعض الوجوه مقالة جهم بن صفوان، فجرأ بعض من جاء بعده من الأئمة الأعيان لجرحه بذلك: قال الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي (المتوفى سنة: 744): " طالعت أكثر كتاب " الملل والنحل " لا بن حزم، فرأيته قد ذكر فيه عجائب كثيرة ونقولاً غريبة، وهو يدل على قوة ذكاء مؤلفه وكثرة اطلاعه، لكن تبين لي منه أنه جهمي جلد لا يثبت من معاني أسماء الله الحسنى إلا القليل، كالخالق والحق، وسائر الأسماء عنده لا تدل على معنى أصلاً " وشرح طرفاً من ذلك (¬2). ¬

(¬1) تاريخ بغداد (10/ 281) بإسناد صحيح. (¬2) طبقات عُلماء الحديث، لابن عبد الهادي (3/ 350 _ 351).

وبين سببه بما يوافقه فيه الحافظ ابن كثير، حيث قال: " كان من أشد الناس تأويلاً في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات؛ لأنه كان أولاً قد تضلع من علم المنطق .. ففسد بذلك حاله في باب الصفات " (¬1). ومع ذلك فقد اعتد أهل العلم بذكر قوله في الرجال، على خطأ له في ذلك وأوهام. [3] أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (المتوفى سنة: 458). الإمام الكبير الحافظ المحقق، صاحب التصانيف النافعة في علوم الدين، شهرته بالإمامة والمعرفة مغنية عن التفصيل. كان قد اجتهد في إصابة طريقة أهل الحديث والثبات عليها في العقائد، إلا أنه تأثر بشيخه أبي بكر بن فورك من رءوس أتباع أبي الحسن الأشعري، فوافق أهل الكلام في بعض فروع المسائل الاعتقادية، كمسألة القرآن (¬2) وغيرها. ومع ذلك فهو ناقد معتبر القول في الجرح والتعديل وتمييز الرواة. فهؤلاء الأئمة مثال لكون الخطأ في بعض فروع الاعتقاد بالتأويل لا يؤثر في أهلية الناقد واعتبار قوله. نعم، يوجب احتياطاً في قبول جرحه أو تعديله عند المعارضة، أي عند اختلاف نقاد المحدثين في راو جرحاً وتعديلاً، لكن ليس هذا من باب كونه معتبر القول جملة أو لا، وهذا الباب هو المقصود هنا بالتقرير. ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 553). (¬2) شرحتُ اعتقاد الأشعرية في القرآن ومُخالفته لعقيدة السلف، في كتابي " العقيدة السلفية في كلام رب البرية "، وخُلاصة ذلك المذهب أنهم يقولون: القرآن كلام الله، وكلام الله غير مخلوق، إذ هُو كلام نفسيٌّ قائم بذاتِهِ تعالى، ليس هو هذا المؤلف من الحروف باللسان العربي، فهذا إنما هو عبارةٌ عن كلام الله، وليس كلام الله حقيقةً، وهو مخلوق.

وأما المخالف تأويلاً في بعض الفروع العملية؛ فهذا أولى بأن يقبل قوله إذا وجدت سائر الصفات الناقد. قال الإمام الشافعي: " والمستحل لنكاح المتعة والمفتي بها والعامل بها؛ ممن لا ترد شهادته، وكذلك لو كان موسراً فنكح أمة مستحلاً لنكاحها مسلمة أو مشركة؛ لأنا نجد من مفتي الناس وأعلامهم من يستحل هذا، وهكذا المستحل الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين يداً بيد، والعامل به؛ لأنا نجد من أعلام الناس من يفتي به ويعمل به ويرويه، وكذلك المستحل لإتيان النساء في أدبارهن، فهذا كله عندنا مكروه محرم وإن خالفنا الناس فيه، فرغبنا عن قولهم، ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم ونقول لهم: إنكم حلَّلتم ماحرم الله وأخطأتم؛ لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم، وينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز وجل " (¬1). وهذا الذي قاله الشافعي يتنزل على مزكي الشهود وعلى الشهود أنفسم، ولما كانت الرواية أولى من الشهادة في هذا الباب، فهذا الكلام متنزل كذلك على رواة العلم وعلى الذين تعرضوا لنقدهم من الحفاظ، لا يُقْدح على أحد منهم بشيء ذهب إليه بتأويل وشبهة. 2 _ حفظ الحديث والمعرفة به وبأهله. وهذان في التحقيق وصفان من باب واحد، فالناقد يحتاج إلى خبرة ودراية بالمروي ليقايس به ويبني على وفقه موافقة ومخالفة تمييز حال الراوي، ولا تتهيأ له تلك المعرفة دون سعة حفظ واطلاع على الأسانيد والمتون، إضافة إلى دراية بمواضع الاتفاق منها والافتراق، وهذا يستلزم معرفة بجانب من فقهها معانيها، على ما ستعلمه من الفصول التالية في شرح منهج النقد. ¬

(¬1) الأم (6/ 206).

ووقع من جرى أهل العلم على اعتماد قوله في (الجرح والتعديل) شاهد على مراعاة هذه الصفة في الناقد. يصدق ذلك: أن الناقد يسعى إلى إثبات عدالة الراوي وضبطه، فإن كان فاقداً للعدالة أو الضبط في نفسه فكيف يقدر على الحكم على غيره، فأما عدالته فكما مر في بيان الصفة الأولى، وأما الضبط فمن كان كثير الخطأ في نقله وعلمه، أو ضعيفاً، أو متهماً بكذب، فهذا قد سقط بسقوط درايته بحديث نفسه، فكيف يدري حديث غيره فيتمكن على وفق درايته من نقده؟! قال أبو داود السجستاني: قلت لأحمد (يعني ابن حنبل): عمير بن سعيد؟ قال: " لا أعلم به بأساً "، قلت له: فإن أبا مريم قال تسلني عن عمير الكذاب؟ قال: وكان عالماً بالمشايخ، فقال أحمد: " حتى يكون أبو مريم ثقة " (¬1)؟. يقول أحمد: إنما يعتد بكلامه لو كان ثقة , أما وهو رجل مجروح ساقط، فلا. وأبو مريم هذا هو عبد الغفار بن القاسم الأنصاري، أحد من ذكروا بمعرفة الحديث، لكنه كان يضع الحديث. وإليك ثلاثة من هؤلاء الذين لهم قول مذكور في كتب الجرح والتعديل، تحتاج إلى التوقي من نقدهم وكلامهم في الرواة؛ لأن الكلام فيهم أسقط اعتمادهم في الجرح والتعديل: [1] محمد بن عمر بن واقدٍ الواقدي الأسلمي (المتوفى سنة: 207). كان واسع المعرفة، كثير الأخبار، رواية للسير والمغازي، ومن أكثر الناس كلاماً فيها، وله كلام كثير في وفيات الشيوخ، لكن الأئمة النقاد ¬

(¬1) سؤالات أبي داود (النص: 342).

الكبار مثل: الشافعي وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين والبخاري وسائر من بعدهم من أمثالهم قد اتفقوا على وهائه وسقوطه، بل منهم من قضى بأنه كان كذاباً، وإنما خالفهم من هو دونهم في المعرفة بالنقلة بدرجات. فإذا وجدت عبارة نقد معزوة إلى الواقدي فاعلم أنها ليست موضعاً للقبول، علماً بأن ما له في ذلك قليل. [2] محمد بن الحسين بن أحمد أبو الفتح الأزدي (المتوفى سنة: 374). أحد العلماء المذكورين بالحفظ، لكن ضعفه الحافظ أبو بكر البرقاني، وقال الخطيب البغدادي: " في حديثه غرائب ومناكير، وكان حافظاً، صنف كتباً في علم الحديث " (¬1). وحول كلامه في الرواة قال الذهبي: " له كتاباً كبير في الجرح والضعفاء عليه فيه مؤاخذات " (¬2). ولو تتبعت غلطه في ذلك وجدته كثيراً، منه ما أنكره عليه الذهبي في ترجمة (أبان بن إسحاق) (¬3) حيث قال: " أبو الفتح يسرف في الجرح، وله مصنف كبير إلى الغاية في المجروحين، جمع فأوعى، وجرح خلقاً بنفسه لم يسبقه أحد إلى التكلم فيهم، وهو المتكلم فيه ". وقال الحافظ ابن حجر في ترجمته (خثيم بن عراك بن مالك) (¬4): " وشذَّ الأزدي فقال: منكر الحديث، وغفل أبو محمد بن حزم فاتبع الأزدي، وأفرط فقال: لا تجوز الرواية عنه، وما درى أن الأزدي ضعيف، فكيف يقبل منه تضعيف الثقات؟ ". ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/ 244). (¬2) ميزان الاعتدال (3/ 523). (¬3) في " ميزان الاعتدال " (1/ 5). (¬4) في " هدي الساري " (ص: 400).

[3] مسلمة بن القاسم الأندلسي (المتوفى سنة: 353). كان محدثاً واسع الرحلة كثير السماع من الشيوخ، له مصنفات في تواريخ المحدثين، وكلام كثير في الجرح والتعديل، لكنه لم يكن مرضياً عند الأندلسيين، قال ابن الفرضي: " سمعت من ينسبه إلى الكذب، وسألت محمد بن أحمد بن يحيى القاضي عنه فقال: لم يكن كذاباً، ولكن كان ضعيف العقل " (¬1)، وقال الذهبي: " لم يكن بثقة " (¬2). فهؤلاء وأمثلهم ممن لهم كلام محفوظ عنهم في كتب الجرح والتعديل، لا يعتمد على جرحهم أو تعديلهم منفردين، فإن جاءت أقوالهم موافقة لأقوال من يعتبر قوله فلا بأس بحكايتها، وإن جاءت مخالفة فمطروحة، وإن لم يوجد لها الموافق أو المخالف فالتعديل منهم غير كاف، والجرح يفيد التوقف في قبول رواية الراوي، لا لأجل اعتمادنا على جرح الواحد منهم، وإنما لمجيء جرحه موافقاً للجهالة بأمر ذلك الراوي، وهي قادحة لذاتها في قبول حديثه. 3 _ الورع، والحذر، والمبالغة في الاحتياط والتيقظ. قال الذهبي: " الكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام، وبراءة من الهوى والميل، وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله " (¬3). قلت: وهذا يستلزم مراقبة الله تعالى في حرمة دينه من جهة، وحرمة أعراض الرواة من جهة أخرى، ويوجب مبالغة في الاحتياط في التحقق قبل إرسال العبارات بالتعديل أو التجريح. كما يوجب ترك العصبية لأحد أو على أحد، والنظر بعين الإنصاف والعدل، وإن كان ذلك صعباً شديداً. ¬

(¬1) تاريخ علماء الأندلس (ص: 130). (¬2) سير أعلام النبلاء (16/ 110). (¬3) الموقظة (ص: 82).

قال ابن حبان: سئل علي بن المديني عن أبيه؟ فقال: " اسألوا غيري " فقالوا: سألناك، فأطرق، ثم رفع رأسه وقال: " هذا الدين، أبي ضعيف " (¬1). وهذا يحيى بن معين يتكلم في صاحب له ممن كان يحبه، فنقل عنه الحسين بن حبان قوله في (محمد بن سليم القاضي): " هو _ والله _ صاحبنا، وهو لنا محب، ولكن ليس فيه حيلة البتة، وما رأيت أحداً قط يشير بالكتاب عنه ولا يرشد إليه "، وقال: " قد _ والله _ سمع سماعاً كثيراً، وهو معروف، ولكنه لا يقصر على ما سمع، يتناول ما لم يسمع "، قلت له: يكتب عنه؟ قال: " لا ". وفي رواية ابن أبي خيثمة، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: " ليس بثقة "، قلت: لم صار ليس بثقة؟ قال: " لأنه يكذب في الحديث " (¬2). والقاعدة في أئمة هذا الشأن الشهرة بالدين والصلاح والورع، لكن العصمة غير ثابتة لهم، فقد يتأثر الناقد ببعض العوارض فيصدر حكمه على غير سنن العدل، فيجب التفطن إلى ذلك، كما وقع من جماعة من النقاد في حق بعض النقلة وعلمنا بالقرائن أن أحكامهم تلك لم تكن منصفة. وعليك أن تتفطن إلى أمرين هنا: الأول: لا يجوز اعتماد قول ذلك الناقد في حق من دلت القرائن أنه على خلاف حكمه فيه، وإنما تلك زلة توجب الاستغفار له. والثاني: لا يجوز إهدار سائر أحكام ذلك الناقد على غير ذلك الراوي بسبب زلته تلك، وإنما هي باقية على الاعتبار كأقوال غيره من الأئمة. لكن اعلم أنه لا يجوز الإقدام على رد كلام الناقد وادعاء كونه خرج على غير مخرج الإنصاف إلا بعد ثبوت المعارض الراجح. ¬

(¬1) المجروحين، لابن حبان (2/ 15). (¬2) تاريخ بغداد، للخطيب (5/ 326).

وتفسير ذلك: لو أن زيداً من النقاد قال: (فلان كذاب)، ووجدنا عامة النقاد على موافقته في جرح ذلك الراوي بالتكذيب أو ما يقرب منه، فلا يصح رد كلام ذلك الناقد (¬1)، ولو وجدناهم اختلفوا فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه، لم نقدر أن نقول: (قوله غير منصف)، وإنما نبحث عن طريق آخر للترجيح، ولو وجدناه انفرد بما خالفوه فيه، فإن كان فسر قوله وبين حجة مقنعة قبلناه، وإلا رددنا، وإن كان المنتقد ممن ثبت عدالته واشتهر صدقه فهذا لا يلتفت معه إلى قول الجارح ويحمل على الغلط أو عدم الإنصاف. ومن أكثر ما وقعت به مجاوزة الإنصاف: الكلام بسبب اختلاف العقائد والمذاهب، وقليل بسبب الغضب، ونادر منه ما قد يحمل على الحسد، فتفطن لذلك. وهذه أمثلة منقسمة على هذه الوجوه المختلفة: [1] الحافظ إبراهيم بن يعقوب الجوزاجاني (المتوفى سنة: 259)، له مصنف في جرح الرواة تحامل فيه على طائفة من ثقات الكوفيين واصفاً لهم بالزيغ والانحراف وغير ذلك، بسبب ما كان يميل إليه الكوفيون من التشيع، والجوزجاني كان قد سكن الشام، وكان أهلها يميلون إلى النصب، وهو الانحراف عن أهل البيت، فصدرت عباراته في الجرح واضحة التأثر بذلك؛ لذا فإنه لا يقبل كلامه في كوفي إلا أن يوافق من ناقد لم يوصم بذلك. ¬

(¬1) مثل قول الإمام مالك بن أنس في (عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان المدني): " كذاب "، فإنه عامة نُقَّاد المحدثين مطبقون على وَهاء هذا الرجل وسُقوطه، وكذَّبه منهم طائفة، فما نقله أحمد بن صالح المصري قال سألت عبدَ الله بن وهب عن عبد الله بن زياد بن سِمعان؟ فقال: " ثقةٌ "، فقلت: إن مالكاً يقول فيه: كذاب؟ فقال: " لا يُقبل قول بعضهم في بعْض ". (تاريخ أبي زُرعة الدمشقي 1/ 379، جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/ 157)، فهذا الرد من ابن وهبٍ غير معتبر، فمالكٌ تكلم فيه بالإنصاف الذي اتفق عليه عامة الأئمة النقاد بعده.

قال ابن عدي: " كان مقيماً بدمشق، يحدث على المنبر، ويكاتبه أحمد بن حنبل فيتقوى بكتابه ويقرأه على المنبر، وكان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي رضي الله عنه " (¬1). وقال ابن حبان كان حريزيَّ المذهب، ولم يكن بداعية إليه، وكان صلباً في السنة حافظاً للحديث، إلا أنه من صلابته كان يتعدى طوره " (¬2). و (حريزي) نسبة إلى حريز بن عثمان، وقد اتهم بالنصب، فصار طائفة ينسبون إليه لقولهم بهذا المذهب. وقال الدارقطني: " كان فيه انحراف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه " (¬3). ونقول: يصح ما يذكره الجوزجاني من البدعة عن كثيرين من أهل الكوفة، ولكنه تجاوز في الجرح وبالغ في الحط، ولم يفرق بين تشيع غال وغير غالٍ. [2] الحافظ أبو بشر محمد بن أحمد الدولابي (المتوفى سنة: 310). صاحب كتاب " الكنى والأسماء " وغيره، له كلام في الرجال ونقل كثير، لكنه كان حنفياً متعصباً (¬4)، وحمله ذلك على المبالغة في الجرح للمخالف لمذهبه، كما حمله على الانتصار للمذهب في موضع الغلط. ومن الدليل عليه ما يأتي: نقل عنه ابن عدي _ وهو تلميذه _ شدة طعنه على نعيم بن حماد ¬

(¬1) الكامل (1/ 504) في ترجمة (إسماعيل بن أبان الورَّاق). (¬2) الثقات (8/ 81 _ 82). (¬3) سؤالات السلمي (النص: 77). (¬4) لسان الميزان (5/ 51).

الخزاعي الذي كان من أشد الناس خلافاً لأهل الرأي الحنفية، ثم قال ابن عدي: " وابن حماد متهم فيما يقوله لصلابته في أهل الرأي " (¬1). وكان حدث برواية أبي حنيفة عن منصور بن زاذان عن الحسن عن معبد بحديث إعادة الوضوء والصلاة من القهقهة، ثم قال: " هو معبد بن هوذة الذي ذكره البخاري في كتابه في تسمية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "، فتعقبه ابن عدي فقال: " وهذا الذي ذكره ابن حماد غلط، وذلك أنه قيل: معبد الجهني، فكيف يكون جهنياً أنصارياً؟ ومعبد بن هوذة أنصاري، وله حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكحل، إلا أن ابن حماد اعتذر لأبي حنيفة فقال: هو معبد بن هوذة؛ لميله إلى أبي حنيفة، ولم يقله أحد (عن معبد) في هذا الإسناد إلا أبو حنيفة " (¬2). فأقول: من كان هذا وصفه فيخشى من جرحه لمخالفه أن لا يكون صدر منه ذلك على وجه الإنصاف، كما يخشى من تعديله لموافقه لنفس المعنى، فلا يجوز أن يقبل منه هذا ولا ذاك في راو علمنا كونه على مذهبه أو على خصام لمذهبه. ويجب أن لا تغفل ما للخلاف في المذهب من التأثير في المتكلمين في الرجال، فراقب ذلك، خصوصاً في حال تعارض الجرح والتعديل. وأكثر ما كان شائعاً من العصبية للمذهب في القرون الأولى ما كان بين أهل الحديث وأهل الرأي، فلا يقبل كلام بعضهم في بعض إلا من أهل وبحجة. واعلم أن المثالين المتقدمين (الجوزجاني والدولابي) قد اختلت فيهما صفة الناقد، فنزل عن كونه أهلاً للاعتماد عليه بيناً انحرافه فيه، لا مطلقاً. ¬

(¬1) تهذيب الكمال (29/ 476). (¬2) الكامل، لابن عدي (4/ 102).

[3] وهناك أمثلة عديدة لوقوع الغلط من الناقد على سبيل الندرة، قامت الحجة على عدم الاعتماد بها، مع بقاء ذلك الإمام مقبول الجرح والتعديل في سائر الأحوال، منها: جرح مالك بن أنس لمحمد بن إسحاق صاحب " السيرة "، وتكذيب أبي داود السجستاني لابنه أبي بكر. ومنه كذلك (جرح الأقران لبعضهم) ككلام النسائي في أحمد بن صالح المصري، وكلام محمد بن إسحاق بن منده في أبي نعيم الأصبهاني، وأبي نعيم فيه. [4] ما وقع من ترك رواية أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين عن الإمام أبي عبد الله البخاري، اعتمدا فيه على ما كتب لهما به محمد بن يحيى الذهلي الحافظ من أن البخاري يقول: (لفظي بالقرآن مخلوق) (¬1). وهذه المسألة نسبت إلى البخاري وهو منها بريء، حكى محمد بن شادل (وكان محدثاً ثبتاً) قال: لما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري دخلت على البخاري فقلت: يا أبا عبد الله، أيش الحلية لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى، كل من يختلف إليك يطرد؟ فقال: " كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء " فقلت: هذه المسألة التي تحكى عنك؟ قال: " يا بني، هذه مسألة مشؤومة، رأيت أحمد بن حنبل وما ناله في هذه المسألة، وجعلت على نفسي أن لا أتكلم فيها " (¬2). أقول: محمد بن يحيى من بحور الأئمة ومن نقادهم، وجائز أن تكون زورت له المقالة على البخاري، فكان ذلك الموقف منه، وجائز غير ذلك من طباع البشر التي لا يعصمون منها، كالذي أشار إليه البخاري نفسه، ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 1 / 191). (¬2) أخرجه الحاكم (كما في " سير أعلام النُّبلاء " 12/ 456 _ 457) وإسناده جيد. وهذه المسألة بينت فساد نسبتها إلى الإمام البخاري في مبحثٍ نافع في كتابي " العقيدة السلفية في كلام رب البرية " (ص: 261 _ 268) فارجع إليه.

غفر الله للجميع، فلا يجوز أن يستعمل ذلك سبباً للنيل من البخاري بوجه، فضلاً عن ترك حديثه كما صنع أبو زرعة وأبو حاتم، غفر الله لهما. 4 _ المعرفة بأسباب الجرح والتعديل. هذه الخصلة من أهم ما يجب ملاحظته في الناقد، فلا يقبل جرح أو تعديل إلا من عارف بما يكون جرحاً وما يكون عدالة. والكلام في الرواة يأتي عادة من أئمة قد عرفوا به وعدوا من أهله وأصحاب الدراية به، لكنك تجد بعد الشيء من ألفاظ الجرح والتعديل يقع من بعض الرواة الثقات في بعض الرواة الآخرين من شيوخهم أو غيرهم، فهؤلاء يجب أن تحتاط في قبول أقوالهم على معانيها المستعملة في هذا العلم؛ لجواز صدورها على غير مراد أهل المعرفة. ومن هذا ما صدر من جماعة من التابعين في بعضهم، كتكذيب سعيد بن المسيب لعكرمة مولى ابن عباس، وتكذيب سالم بن عبد الله بن عمر لنافع مولى ابن عمر، فإنهم كانوا يطلقون على الخطأ لفظ الكذب، بخلاف ما جرى عليه نقاد المحدثين من بعد فإن الكذب عندهم هو تعمد وضع الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هذا ما قد تراه في سياق إسناد من قول الراوي الثقة: (حدثنا فلان وكان ثقة) أو شبه ذلك، فإن لم يكن ذلك الراوي معروفاً في أئمة الجرح والتعديل فلا تكفي مجرد ثقته في نفسه لاعتماد قوله والتعويل عليه، إلا أن يوافق من عارف، ومن أمثلته: [1] قال محمد بن إسحاق صاحب " السيرة ": " حدثني محمد بن يحيى بن حبان، ومحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة وكانا ثقة " (¬1). ¬

(¬1) سنن النسائي (رقم: 2476)، مُسند أحمد (رقم: 11813).

كما قال ابن إسحاق: " حدثني أبو سفيان الحرشي وكان ثقة فيما ذكر أهل بلاده " (¬1). وقال: " حدثني عياض بن دينار وكان ثقة " (¬2). وقال: " حدثني عمران بن أبي أنس أخو بني عامر بن لؤي وكان ثقة " (¬3). [2] وقال يزيد بن عبد الصمد الدمشقي: " حدثنا عبد الرزاق بن مسلم الدمشقي وكان من ثقات المسلمين من المتعبدين، قال حدثنا مدرك بن سعد " قال يزيد: " شيخ ثقة " (¬4). [3] وقال سريج بن يونس: " حدثنا محبوب بن محرز بياع القوارير كوفي ثقة " (¬5). فهؤلاء الرواة: محمد بن إسحاق ويزيد بن عبد الصمد وسريج ثقات، وأرفعهم يزيد وهو ابن محمد بن عبد الصمد، لكن ليسوا ممن عرف بالخبرة في الرواة ودرجاتهم في النقل، وذلك علامة على كون التعديل قد لا يصدر من أحدهم على المعنى الذي يقرر عليه نقاد المحدثين، وجائز أن يكون بني على ما رأوا عليه ذلك الراوي من ستر وسلامة في نفسه، أو ذكر له بالخير عند الناس، وهذا غير كاف لتوثيقه حتى ينضم إليه الدراية بحديثه والخبرة به. لكن لا بأس باعتبار ذلك إذا وافق شهادات النقاد العارفين. ¬

(¬1) مُسند أحمد (رقم: 7025). (¬2) مُسند أحمد (رقم: 7489). (¬3) مُسند أحمد (4/ 57). (¬4) سنن أبي داود (رقم: 5081). (¬5) عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " (رقم: 542).

5 _ الاعتدال والتوسط في الجرح والتعديل. وهذا شرط يوجبه ما تقدم من الشروط، والثالث منها خاصة، في الورع والتيقظ والتحفظ توجب أن يراعي في حكمه أن يكون سديداً، يوافق حقيقة الموصوف. لكن التنبيه عليه على التعيين؛ من أجل اعتبار هذا المعنى الخاص مؤثراً في نقدكثير من الرواة، خصوصاً الجرح، فإن من الأئمة النقاد من اجتمعت فيه جميع الشروط المتقدمة، لكنه كان يبالغ في التحفظ، حتى يقدح في الراوي بالغلطة والغلطتين. ويأتي لهذا مزيد بيان وتمثيل في الكلام في (اختلاف الجرح والتعديل). * * *

المبحث الثالث: نماذج لأعيان من يعتمد قوله في نقد الرواة

المبحث الثالث: نماذج لأعيان من يعتمد قوله في نقد الرواة الخبراء بأحوال النقلة، والمتكلمون فيهم تعديلاً أو جرحاً، ممن إلى كلامهم المرجع لتمييز أحوال الرواة، لا يستقصي ذكرهم في هذا الموضع، وإنما القصد هنا إلى ذكر طائفة من رءوسهم، ممن عرفوا بكثرة النقد، تنبيهاً على مقامهم في هذه الصناعة، مع الإبانة عن منزلة كلام أحدهم بحسب ما يقتضيه المقام من الإيجاز، فمنهم: 1 _ شعبة بن الحجاج (المتوفى سنة: 160). من أتباع التابعين، كان إمام هذه الصناعة وأمير المؤمنين فيها، حتى قال فيه تلميذه الناقد العارف يحيى بن سعيد القطان: " كان شعبة أعلم الناس بالرجال " (¬1). وقال أحمد بن حنبل: " كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن " يعني في الرجال، وبصره بالحديث، وتثبته، وتنقِّيه للرجال (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح " (ص: 127) بإسناد صحيح. (¬2) العلل ومعرفة الرجال (النص: 3557) ومن طريقه: ابنُ عدي (1/ 155).

وقال أبو حاتم الرازي: " كان شعبة بصيراً بالحديث جداً، فهماً له، كأنه خلق لهذا الشأن " (¬1). قلت: وكان من شدة تحريه أنه قل من كان يرضى من الرواة؛ لذا فإنه إذا وثق رجلاً فذاك، ما لم تقم حجة بينة على خلافه، وإذا جرح فاحتط من جرحه. 2 _ مالك بن أنس (المتوفى سنة: 179). من أتباع التابعين، إمام دار الهجرة. قال بشر بن عمر الزهراني: سألت مالكاً عن رجل؟ فقال: " هل رأيته في كتبي؟ "، قلت: لا، قال: " لو كان ثقة رأيته " (¬2). قلت: وهذا يدل على شدة انتقائه للرواة، ومن أجله عدت روايته عن الرجل توثيقاً له. وقال علي بن المديني: " كل مدني لم يحدث عنه مالك ففي حديثه شيء , ولا أعلم مالكاً ترك إنساناً إلا إنساناً في حديثه شيء " (¬3). 3 _ يحيى بن سعيد القطان (المتوفى سنة: 198). وهو تلميذ شعبة وخريجه، وجارٍ على طريقه ومنهاجه، وكان من أبصر الأمة بالرواة. قال أبو الوليد الطيالسي: " ما رأيت أحداً كان أعلم بالحديث ولا بالرجال من يحيى بن سعيد " (¬4). ¬

(¬1) تقدمة الجرح والتعديل (ص: 129). (¬2) أخرجه مسلم في " مُقدمة الصحيح " (1/ 26) والرامهرمزي (ص: 410) والعُقيلي (1/ 14) وابن عدي في " الكامل " (1/ 177) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 68) بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه ابن عدي (1/ 77) بإسناد صحيح. (¬4) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 52) وإسناده صحيح.

وكان متشدداً، حتى قال لو لم أرو إلا عن كل من أرضى، ما رويت إلا عن خمسة " (¬1). وقال محمد بن بشار بندار: سمعت يحيى بن سعيد يقول وقلت له: عن ثقة؟ فقال: " لا تقل (عن ثقة)، لو حققت لك ما حدثتك إلا عن أربعة: ابن عون، وشعبة، ومسعر، وهشام الدستوائي " (¬2). ويحيى القطان لم يرد بهذا جرح سائر من أدرك من النقلة، وفيهم من هو معروف بالحفظ والإتقان، وإنما الشأن كما قال الحاكم: " فيحيى بن سعيد في إتقانه وكثرة شيوخه يقول مثل هذا القول، ويعني بالخمسة الشيوخ الأئمة الحفاظ الثقات الأثبات " (¬3)، وكما قال أبو الوليد الباجي: " لاخلاف أنه أراد بذلك النهاية فيما يرضيه؛ لأنه قد أدرك من الأئمة الذين لا يطعن عليهم أكثر من هذا العدد " وذكر جماعة من كبار حفاظ شيوخه (¬4). وقال يحيى بن معين: " كان يحيى بن سعيد القطان يضعف عبد الحميد بن جعفر "، قال الدوري: قلت ليحيى: قد روى عنه يحيى بن سعيد، قال: " روى عنه ويضعفه "، قال يحيى: " وقد كان يحيى بن سعيد يروي عن قوم وما كانوا يساوون عنده شيئاً (¬5). قلت: وإنما كان يفعل في رواة لم يبلغوا السقوط، وإن لم يكونوا عنده في المحل الذي يعدهم فيه من الثقات. ¬

(¬1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 3885) ومن طريق الدوري عن ابن معين عنه أخرجه: ابن عدي في " الكامل " (2/ 128) وابن شاهين في " الثقات " (ص: 270) والحاكم في " المدخل إلى الصحيح " (ص: 113). (¬2) أخرجه ابن شاهين في " الثقات " (ص: 270) بإسناد جيد. (¬3) المدخل إلى الصحيح (ص: 113). (¬4) التعديل والتجريح (1/ 285). (¬5) تاريخ يحيى (النص: 3931) ومن طريقه: العقيلي (3/ 43 _ 44) وابنُ عدي (7/ 3).

4 _ عبد الرحمن بن مهدي (المتوفى سنة: 198). هو تلميذ شعبة كذلك، وصاحب يحيى القطان، كان إماماً في تمييز النقلة، إماماً في معرفة علل الحديث. قال تلميذه علي بن المديني: " أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي " (¬1). وقال: " والله، لو أخِذْت وحُلِّفتُ بين الركن والمقام لحلفت بالله أني لم أر قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي " (¬2). مقارنة بينه وبين يحيى القطان: روي عن ابن المديني قال: " إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدِّث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يحيى تشدد " (¬3). قلت: وهذا الاختيار يؤيده الواقع التطبيقي في شأن من اختلفا فيه من الرواة. أما إذا اتفقا فحسبك. قال الذهبي، وذكر ابن المهدي: " كان هو ويحيى القطان قد انتدبا لنقد الرجال، وناهيك بهما جلالة ونبلاً وعلماً وفضلاً، فمن جرحاه لا يكاد _ والله _ يندمل جرحه، ومن وثقاه فهو الحجة المقبول، ومن اختلفا فيه اجتُهِد في أمره، ونزل عن درجة الصحيح إلى الحسن، وقد وثقا خلقاً كثيراً، وضعفا آخرين " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (4/ 105). (¬2) أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص: 68). (¬3) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (10/ 243) بإسناد لين. (¬4) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل (ص: 167).

5 _ أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني (المتوفى سنة 218). إمام أهل الشام، والمقدم في هذا الفن في معرفة رواة بلده. قال ابن حبان: " كان يقبل كلامه في التعديل والجرح في أهل بلده، كما كان يقبل ذلك من أحمد ويحيى بالعراق، وكان يحيى بن معين يفخم أمره " (¬1). 6 _ يحيى معين (المتوفى سنة: 233). هو رأس هذا العلم في معرفة الرجال، وإليه المنتهى فيه، فقل من الرواة وندر من لم يعرف له فيه تعديل أو جرح، كما أنه رأس في معرفة علل الحديث. وقد قال فيه صاحبه أحمد بن حنبل: " يعرف خطأ الحديث " (¬2). وقال: " أعرفنا بالرجال يحيى بن معين " (¬3). وقال الآجري: قلت لأبي داود: أيما أعلم بالرجال: يحيى، أو علي بن عبد الله؟ قال: " يحيى عالم بالرجال، وليس عند علي من خبر أهل الشام شيء " (¬4). قال أبو حاتم الرازي في ترجمة (يوسف بن خالد السمتي): " أنكرت قول يحيى بن معين فيه: إنه زنديق، حتى حمل إلي كتاب قد وضعه في ¬

(¬1) المجروحين، لابن حبان (2/ 77)، قلت: جاءَ عن يحيى بن معين قوله " إذا حدَّثت في بلدٍ فيه مثلُ أبي مُسهر، فيجب للحيتي أن تحلق " أخرجه ابن عدي (1/ 209) وإسناده جيد. (¬2) تاريخ أسماء الثقات، لابن شاهين (النص: 1659). (¬3) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 55) والخطيب في " تاريخه " (9/ 41) وإسناده صحيح. (¬4) سؤالات الآجري (النص: 1968) ومن طريقه: الخطيب في " تاريخه " (14/ 181).

التهجم بابا بابا، ينكر الميزان في القيامة، فعلمت أن يحيى بن معين كان لا يتكلم إلا على بصيرة وفهم " (¬1). وقال ابن عدي: " به تستبرأ أحوال الضعفاء " (¬2). وأطلق عليه بعض المتأخرين نعت التشدد، وهذا إن أريد به أنه كان يجرح بالغلطة، فليس صواباً، فقد وثق وأثنى على كثيرين نالهم غيره بالجرح، بل طريقته من أسد الطرق وألصقها بالعدل، لكنه كان كثير الكلام في النقلة، حتى قل أن يوجد راو ممن تقدمه أو كان في زمانه لم ينزله يحيى منزلته من تعديل أو جرح؛ لذا صح أن يكون من سكت عنه ألصق بالتعديل منه بالجرح. لذا ربما شدد في عبارة الجرح تارة في رواة قليلين من أجل ما بدا له فيهم من استحقاق ذلك التشديد، ولم يكن عادة مطردة له، بل عادته كما ذكرت قبل الاعتدال في العبارة. ومن أمثلة ما يعد من مبالغة في الجرح: (1) قوله في (سويد بن سعيد): " لو كان لي فرس ورمح لكنت أغزو سويد بن سعيد " (¬3). وقال أبو زرعة الرازي: قلنا ليحيى بن معين: إن سويد بن سعيد يحدث عن ابن أبي الرجال عن ابن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال في ديننا برأيه فاقتلوه، فقال يحيى: " سويد ينبغي أن يبدأ به فيقتل " (¬4). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 222). (¬2) الكامل (1/ 218 _ 219). (¬3) المجروحين لابن حبان (1/ 352)، ونحوه في " تاريخ بغداد " للخطيب (9/ 229 _ 230). (¬4) أسئلة البرذعي لأبي زُرعة (2/ 409 _ 410).

وقال في رواية أبي داود عنه: " هو حلال الدم " (¬1). قلت: وتحرير أمره ليس كما قال يحيى، وإنما هو في الأصل صدوق ثقة، لكنه أتي من التدليس، حيث كان يكثر منه، وأنه كان عمي فصار يلقن ما ليس من حديثه فيحدث به. (2) وقال عبد الله بن أحمد: سألت يحيى قلت: شيخ بالكوفة يقال له: زكريا الكسائي، فقال: رجل سوء يحدث بحديث سوء "، قلت ليحيى: إنه قد قال لي: إنك قد كتبت عنه، فحول يحيى وجهه إلى القبلة وحلف بالله مجتهداً أنه لا يعرفه ولا أتاه ولا كتب عنه، إلا أن يكون رآه في طريق وهو لا يعرفه، ثم قال يحيى: " يستاهل أن يحفر له بئر ثم يلقى فيه " (¬2). قلت: وهذا هو زكريا بن يحيى الكسائي، كوفي متروك الحديث. وهذا التشديد من يحيى فيه وفي سويد مشعر بأنه صدر مصدر الغضب للدين، فيحيى محمود على حسن قصده فيه إن شاء الله، أما الذي يهمنا فهو منزلة الراوي في روايته، وكلام يحيى في مثله لا غنى لمشتغل بهذا العلم عنه؛ لقوة معرفته وسداد رأيه. 7 _ علي بن عبد الله ابن المديني (المتوفى سنة: 234). قال أحمد بن حنبل: " أعلمنا بالعلل علي بن المديني " (¬3). وقال البخاري: " ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني " (¬4). وقال أبو حاتم الرازي: " كان عَلَماً في الناس في معرفة الحديث والعلل " (¬5). ¬

(¬1) سؤالات الآجري (النص: 1911). (¬2) العلل ومعرفة الرجال (النص: 3904) والكامل لابن عدي (4/ 172 _ 173). (¬3) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 55) وإسناده صحيح. (¬4) الكامل لابن عدي (1/ 213). (¬5) الجرح والتعديل (3/ 1 / 194).

وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة (يعني الرازي) عن فضيل بن سليمان؟ فقال: " لين الحديث، روى عنه علي بن المديني، وكان من المتشددين " (¬1). أراد فاجعل من روايته عنه توثيقاً، فإنه كان غاية في الاحتياط. 8 _ أحمد بن حنبل (المتوفى سنة: 241). قدوة الناس، وسلطان هذه الصنعة، حتى إنك ترى الإمام الناقد العارف بهذا الفن يجد لرأي أحمد في رجل أو حديث هيبة، لا يملك دفعها، بل إنه ليدفع عن نفسه التردد في الشيء اقتداء بأحمد. فهذا الناقد البصير أبو حاتم الرازي يقول في (أبي معشر نجيح السندي): " كنت أهاب حديث أبي معشر، حتى رأيت أحمد بن حنبل يحدث عن رجل عنه أحاديث، فتوسعت بعد في كتابة حديثه " (¬2). وأحمد رأسٌ في التثبت في الجرح والتعديل، وسَط العبارة، قوله حكمٌ بين الأقوال، قلما تصيرُ بالمحقق نتيجةُ تحقيقه فيمن اختُلف فيه إلى خلافٍ قوْل أحمد. وبه تخرَّج رءوس هذا العلم بعده، كالبخاري وأبي داود السجستاني وأبي زُرعة الرازي، وأبي زُرعة الدمشقي، وغيرهم. 9 _ محمد بن إسماعيل البخاري (المتوفى سنة: 256). قال الترمذي: " لم أر أحداً بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل " (¬3). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (7/ 73). (¬2) الجرح والتعديل (4/ 1 / 494). (¬3) العلل الصغير في آخر " الجامع " (6/ 229).

قلت: البخاري صنع للناس منهاجاً في تمييز الصحييح من السقيم، كما أتى على تتبع النقلة على صفة لم يسبق إليها، وصنف في كل ذلك ما صار للناس إماماً في صنوف هذا العلم، وعلى منهاجه وأثره جرى مسلم بن الحجاج في تصنيف (الصحيح) وإن انفرد فيه بزيادة وتهذيب، وكذا صار القدوة لجميع من جاء من بعد فجرد الصحيح , وبه تخرج الناقد أبو عيسى الترمذي. وعلى كتابه في " التاريخ " بنى ابن أبي حاتم كتابه " الجرح والتعديل "، فصار يعرض تراجمه على أبيه أبي حاتم وصاحبه أبي زرعة، ويجيبان بما يأتي على الموافقة والتصديق لما قاله البخاري في أكثر ذلك الكتاب، ثم يزيدان مع ابن أبي حاتم الفوائد مما لم يذكره، ولا يتعقبان البخاري إلا في المواضع اليسيرة. فأصَّل لذلك البخاري، وهؤلاء الأئمة بعده بنوا على علمه وجروا على أثره، فمعاناته أعظم، وفضله على الجميع إن شاء الله أكبر، رحمه الله. 10 _ أبو زرعة الرازي عبيد الله بن عبد الكريم (المتوفى سنة: 264). قال الذهبي: " يعجبني كثيراً كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل، يبين عليه الورع والمخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم، فإنه جراح " (¬1). 11 _ أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس (المتوفى سنة: 277). قال الذهبي: " إذا وثق أبو حاتم رجلاً فتمسك بقوله، فإنه لا يوثق إلا رجلاً صحيح الحديث، وإذا لين رجلاً أو قال فيه: لا يحتج به، فتوقف، حتى ترى ما قال غيره فيه، فإن وثقه أحد، فلا تبن على تجريح أبي حاتم؛ ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 13/ 81).

فإنه متعنِّت في الرجال، قد قال في طائفة من رجال الصحاح: ليس بحجة، ليس بقوي، أو نحو ذلك " (¬1). قلت هؤلاء الأعلام نماذج رءوس المؤسسين لموازين نقد الرواة، وفي طبقة كل آخرون من كبار الأئمة تكلموا في تمييز النقلة، ومن مدارس هؤلاء تخرج من انتهى إليه الناس في أزمانهم في معرفة هذا العلم، وعلى أثرهم جرى من جاء من بعد من متأخري العلماء حين ناقشوا أحوال النقلة وصنفوا فيهم، كالنسائي وابن خزيمة والعقيلي وابن عدي وابن حبان والدارقطني والحاكم النيسابوري والخطيب البغدادي وابن عبد البر وابن عساكر والمزي والذهبي وابن حجر العسقلاني، وغيرهم من أهل الطبقات المختلفة، رضي الله عنهم. * * * ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 13/ 260).

الفصل الثاني تفسير التعديل

الفصل الثاني تفسير التعديل

المبحث الأول: معنى العدالة

المبحث الأول: معنى العدالة رواية الحديث لا يجوز إجراؤها على مجرد حسن الظن في الناقل، حتى تبرأ ساحته وتثبت أهليته، وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: " خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم، والحديث " (¬1). قلت: يؤيد ذلك ثبوت الجرح في كثير من الرواة. والأساس الذي ينبني عليه قبول حديث الراوي مما يتصل بشخصه: أن يكون عدلاً في نفسه، ضابطاً لما يرويه. فهذان أصلان: العدالة، والضبط، لا بد من اجتماعهما فيه على سبيل ثبوتهما كصفة للناقل، لا يصح اعتماد نقله بدونهما. فما هو معنى العدالة؟ العدل في اللغة، قال ابن فارس: " العدل من الناس: المرضي المستوي الطريقة " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 35) والعقيلي في " الضعفاء " (1/ 9) والخطيب في " الكفاية " (ص: 345) وإسناده صحيح. (¬2) مقاييس اللغة (4/ 246).

لا يصلح عد الصغائر مفسقات

أما في الشرع، فالمعتبر في العدالة بعد الإسلام: هو السلوك الظاهر من الراوي، مما عرف معه أنه على استقامةٍ. والإنسان يذكر بالخير أو بالشر بحسب ما يبدو منه، والسرائر موكولة إلى الله، فليس اعتبارها والبحث عنها مطلوباً لإثبات العدالة. وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: " إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمنَّاه وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة " (¬1). والحد المعتبر في السلوك الظاهر: أن لا يوقف منه على مفسق في دينه. ولا يصلح عد الصغائر مفسقات، من أجل انتفاء العصمة منها، فإن الله تعالى قال عن عباده في مقام الثناء عليهم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]. وقد قال ابن عباس: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه " (¬2). قلت: فهذا دليل على أن الصغائر لا ينفك عنها عموم البشر، وهي ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في " الصحيح " (رقم: 2498) و " خلق أفعال العباد " (رقم: 416) والبيهقي في " الكبرى " (8/ 201) والخطيب في " الكفاية " (ص: 136) من طريق شُعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، أخبرني حُميد بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن عُتبة بن مسعود قال: سمعت عمر، به. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 5889، 6238) ومسلم (رقم: 2657).

لا فسق مع الشبهة

تكفر عن صاحبها بالحسنات الماحية، كالصلوات الخمس، وشهود الجمعة، وصوم رمضان، والاستغفار، والصدقة وغير ذلك، كما قال تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. ولا يكون الفسق إلا بما يحتمل الشبهة في الشيء الذي يحكى عن الراوي، فقول مثلاً: (فلان كان يشرب المسكر)، كما قيلت في بعض الرواة، فهذه تحتمل أن يكون مراد قائلها بالمسكر: ما كان يراه أهل الكوفة في النبيذ ويستبيحونه منه، وهو مذهب كثير من ثقاتهم وفقهائهم، فلا يكون مفسقاً؛ لما يجري فيه من التأويل. والفسق لا يجامع التأويل الذي ظهر وجهه. أي: من وقع في مفسق متأولاً، فلا يفسق به، من أجل اعتقاده أنه غير مفسق، وذلك كالبدعة أيضاً، فهذا لا ينافي العدالة. وكذلك من غلب فضله وصلاحه، فالأصل اعتبار ذلك منه، ما دام غالب حاله الاستقامة. قال الشافعي: " لا نعلم أحداً أعطي طاعة الله تعالى حتى لم يخلطها بمعصية، إلا يحيى بن زكريا، ولا عصى الله عزوجل فلم يخلط بطاعة، فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المعدل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح " (¬1). ويأتي لهذا مزيد بيان وتمثيل في الكلام على (صور الجرح غير المؤثر). وهذه هي العدالة الدينية، ولا تغني وحدها لقبول حديث الراوي، حتى ينضم إليها ركن الضبط والإتقان لما يرويه. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي ومناقبه " (ص: 305 _ 306) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 138) وإسناده صحيح.

المبحث الثاني: الدليل على اشتراط عدالة الناقل لقبول خبره

المبحث الثاني: الدليل على اشتراط عدالة الناقل لقبول خبره دل على ذلك النصوص النقلية من جهتين: الأولى: إلغاء القرآن الاعتداد بخبر الفاسق لذاته، في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. والفاسق ضد العدل، فإذا ألغى تصديق الفاسق في خبره، وأوجب التحري، من أجل أن الفسق لا يمنع الكذب، بل الكذب ذاته من خصال الفسق، فدل مفهمومه: أن الخبر العدل مقبول. والجهة الثانية: ما فرض الله من العدالة في الشهود في غير موضع من كتابه، كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وكما قال سبحانه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. ووجه الدلالة في ذلك على وجوب العدالة لقبول الأخبار، هو أن إيجاب العدالة في الشاهد من أجل ما يحتاج إليه من صدقه لإثبات الحقوق في الأموال وغيرها، وحق الله أعظم من حقوق العباد، وحفظ الدين من حفظ حق الله، وهو الضرورة العظمى التي دونها سائر الضرورات، كضرورة

المال والنفس والعرض، فإذا أمر الله بفرض العدالة فيمن يشهد على درهم، ففرضها في حق من يقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) آكد وأعظم، من جهة اتصال ذلك بحفظ ضرورة الدين. فكيف إذا ضممت إلى ذلك ما عظمته النصوص المتواترة في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فغير العدل لا يمنعه شيء من الكذب. من أجل ذلك قال الله عز وجل في القذفة: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]. قال مسلم بن الحجاج: " والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيهما " (¬1). قلت: بل شأن الحديث يرجح من بعض الوجوه، خصوصاً في جانب ضبط الرواية، كما سيأتي في ذكر الفرق ما بين الشهادة والرواية. وهاتان الجهتان اللتان ذكرت ظاهرتان في وجوب حمل الحديث عن العدول، لا عن غيرهم. وأما ما روي من نصوص مباشرة في اشتراط ذلك فلا يثبت منه شيء، كحديث: " هلاك أمتي في العصبية والقدرية والرواية عن غير ثبت "، فهذا حديث موضوع (¬2). ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (ص: 9). (¬2) أخرجه الفريابي في " القدر " (رقم: 388) _ وعنه: الطبراني في " الكبير " (11/ 89 _ 90 رقم: 11142) _ وابن أبي عاصم في " السنة " (رقم: 326، 950) _ ومن طريقه: أبو نعيم في " المستخرج (رقم: 39) _ والبزار (رقم: 191 _ كشف الأستار) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 412 _ 413) والعقيلي في " الضعفاء " (4/ 359) _ ومن طريقه: ابن الجوزي " الموضوعات " (رقم: 539) _ وابن عدي في " الكامل " (1/ 243، 244، و 8/ 438) واللالكائي في " السنة " (رقم: 1130) من طريقين عن هارون بن هارون، عن مجاهد عن ابن عباس، به مرفوعاً. ورواه بقية بن الوليد، فقال: عن أبي العلاء، عن مجاهد، عن ابن عباس. أخرجه ابن عدي (1/ 244) وأبو نعيم في " المستخرج " (رقم: 39) واللالكائي في " السنة " (رقم: 1129) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 58) والخطيب في " الكفاية " (ص: 74) والسمعاني في " أدب الإملاء " (ص: 56). قلت: أبو العلاء هذا هو هارون بن هارون، كذلك كناه بقية، وكان مبتلى بالتدليس. فأخرجه العقيلي (4/ 359) _ ومن طريقه: ابن الجوزي في " الموضوعات " (رقم: 539) _ من طريق بقية، قال: حدثنا هارون بن هارون أبو العلاء الأزدي، عن عبد الله بن زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس. وكذلك أخرجه ابن عدي (1/ 244)، لكنه لم يذكر كنية هارون. وترى ههنا أنَّ هارون هذا إنما أخذه بواسطةٍ عن مجاهد، فهو تارةً يُسقطها، وتارة يذكرها، وتارة يكني عنها، فقد قال بقية مرة: عن هارون بن هارون أن شيخاً من الأنصار حدثه، عن مجاهد عن ابن عباس. كذلك أخرجه ابن عدي (1/ 244). وعبد الله بن زياد شيخ هارون فيه: هو آفته، وهو ابن سمعان، وكان يتلاعب بإسناده، فقال فيه مرة أيضا: عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. أخرجه ابن عدي (1/ 244). وقال مرة _ إن ثبت عنه _: عن عطاء، يعني ابن رباح، عن ابن عباس. أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 412) والخطيب في " الكفاية " (ص: 74) من طريق أحمد بن حازم الغِفاري، قال حدثنا حسن بن قتيبة، عنه. وحسن هذا ضعيف. قال ابن عدي: " رواة هذا الحديث شوَّشوا الإسناد، وبلاءُ هذه الأحاديث من هارون بن هارون، وهو منكر الحديث،. . وعبد الله بن زياد بن سمعان ضعيف جدا، وهؤلاء كلهم اضطربوا في إسناده لوْناً لوْناً ". قلت: بل ظاهر الأمر أنه حديث ابن سمعان، هو الذي كان يتلاعب في تركيب أسانيده عن ابن عباس، وهارون أسقطه في بعض روايته تدليساً، كما قال ابن الجوزي: " ترك ذكر ابن سمعان لأنه كذاب "، وما هذا بالاضطراب. وقال البزار: " لا نعلمه يُروى بهذا اللفظ من وَجهٍ صحيح، وإنما ذكرناه إذ لا يُحفظ من وجه أحسن من هذا، وهارون ليس بالمعروف بالنقل ". وقال ابن الجوزي: " حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم " وحمل فيه على ابن سمعان، فقال: " هو المتهم بهذا الحديث ". قلت: ابن سمعان هو عبد الله بن زياد بن سليمان بن سِمعان مدني كذبوه، وهو متروك الحديث. فقوْل ابن عبد البر بعد هذا: " هذا حديث انفرد به بقية عن أبي العلاء، وهو إسناد فيه ضعف لا تقوم به حُجة "، وقال: " والحديث الضعيف لا يُدفع وإن لم يُحتج به، ورُبَّ حديث ضعيف الإسناد صحيح المعنى "، فهذا لو كان الضعف يسيراً لسوء حفظ مع الصدق، أما أن يتبيَّن أن أصل هذا الحديث ينتهي إلى ابن سمعان لا يتجاوزه، فلا. ورُوي مرفوعاً من حديث أبي قتادة الأنصاري، وعلي بن أبي طالب. أما حديث أبي قتادة، فأخرجه الطبراني في " الصغير " (رقم: 432) " الأوسط " (4/ 336 رقم: 3579) وابن عدي (1/ 244) والخطيب في " الكفاية " (ص: 74) و " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1261) والسمعاني في " أدب الإملاء " (ص: 56) من طريق محمد بن إبراهيم بن العلاء الشامي، حدثنا سويد بن عبد العزيز، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، به. قلت: وإسناده واهٍ، ابن العلاء هذا مُتهم بوضْع الحديث وسويد ضعيف الحديث. وأما حديث علي، فأخرجه ابن عدي (1/ 245) من طريق عمر بن شبَّة، قال: حدثني عيسى بن مُحمد (‍‍! ) بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي، به ضمن سياق. في ذم العصبية. قال ابن عدي: " وهذا الحديث لا أعلم يرويه غير عيسى بن محمد ". قلت: كذا ذكره ابن عدي، والصواب: (عيسى بن عبد الله) وذكر (ابن مُحمد) خطأ في الإسناد، فعيسى من أبناء عبد الله، وكذلك ترجم له الأئمة، وهو آفة هذا الحديث، وسائر الإسناد يُحتمل، لكنه قد هوى به، فهو متروك الحديث، أتى بموضوعات. وروى هذا الحديث أبو البختري وهب بن وهب بإسنادٍ إلى الحسن البصري، به مرسلاً. أخرجه ابن عدي (1/ 245 _ 246) وأبو البختري هذا من أعيان المعروفين بالكذب ووضْع الحديث.

الفرق بين عدالة الشاهد وعدالة الراوي

ومثل هذه الأحاديث لا يصح التعلق بها في شيء، وقد أغنى الله عنها. تبيين الفرق بين العدالة للشاهد والعدالة للراوي: روي في اتحاد معنى العدالة فيهما حديث موضوع: " لا تأخذوا العلم إلا ممن تجيزون شهادته " (¬1)، وهذا لا يعتمد عليه في شيء. ¬

(¬1) أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 411) وابن عدي في " الكامل " (1/ 255، 256، و 3/ 289 و 5/ 77) وابن حبان في " المجروحين " (1/ 25) والخطيب في " تاريخه " (9/ 301) و " الكفاية " (ص: 158، 159) والرافعي في " تاريخ قزوين " (3/ 399) وابن الجوزي في " العلل " (رقم: 187) من طرق عن صالح بن حسان، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس، به. وفيمن رواه عن صالح ثقة وضعيفٌ، وليس الحمل فيه إلا على صالح هذا وهو مدني، منكر الحديث ليس بثقة. ومن الرواة من حدث به عنه عن محمد بن كعب مُرسلاً، ليس فيه ابن عباس. ومنهم من حدث به عنه عن محمد بن كعب عن ابن عباس قوله ولم يرفعه. أخرج ذلك الخطيب في " الكفاية " (ص: 159، 160)، كما روى المرسل ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 28). والموقوف ابن عدي في " الكامل " (1/ 256). وهكذا كان أو كذلك، فإنه لا يثبت منه شيء، قال الخطيب: " إن صالح بن حسان تفرَّد بروايته، وهو ممن اجتمع نُقاد الحديث على ترك الاحتجاج به؛ لسوء حفظه، وقلة ضبطه ". وقال ابن حبان: " هذا خبرٌ باطل رفْعه، وإنما هو قول ابن عباس " وحَمل فيه على أحد من رواه عن صالح .. قلت: بل لم يثبت عنه أيضاً؛ لما ذكرت من حال صالحٍ نفسه. وروى بقية بن الوليد، قال: حدثنا إسحاق بن مالك، عن أبي بكر التميمي، عن الحسن، به مرسلاً. أخرجه ابن عدي (1/ 256) وإسناده لا يثبت، فإسحاق من شيوخ بقية المجهولين، والتميمي هذا لم يتبين من يكون، وأخاف أن يكون دلسه بقية، ثم هو إلى ذلك كله مرسل. وأخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1/ 31) من رواية الحسن بن ذكوان عن الحسن به مرسلاً. وابن ذكوان هذا ضعيف.

والتحقيق: أن الاتفاق بين الشاهد والراوي معتبر في العدالة والصدق، لكنهما يفترقان في معاني تقبل فيها الرواية ولا تقبل الشهادة: فاعتُبِرت مثلاً في الشاهد الحرية، لكنها لا تطلب في الراوي، ففي الرواة الثقات كثير من الموالي؛ إذا الرق لا ينافي العدالة. ويقبل في الرواية خبر الواحد العدل، ويقبل في صيغة الرواية: (حدثني فلان عن فلان)، وليس كذلك في الشهادة. والحديث يشهد للحديث، كما تشهد له الأصول، وليس كذلك الشهادة. يقابل ذلك أن قوماً تقبل شهادتهم، ولكن لا تقبل رواياتهم؛ لما يوجبه حفظ وأداء الرواية من الاحتياط في اللفظ والمعنى (¬1). ¬

(¬1) وانظر: الرسالة، للشافعي (الفقرات: 1008 _ 1014)، وانظر لبعض فوارق الشهادة والرواية: شروط الأئمة الخمسة، للحازمي (ص: 149 _ 150).

كما قال الشافعي، وحكي عن سائل سأله: قد أراك تقبل شهادة من لا تقبل حديثه؟ قال: " فقلت: لكبر أمر الحديث وموقعه من المسلمين، ولمعنى بين، قال: وما هو؟ قلت: تكون اللفظة تترك من الحديث فتحيل معناه، أو ينطق بها بغير لفظة المحدث، والناطق بها غير عامد لإحالة الحديث، فيحيل معناه، فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى، كان غير عاقل للحديث، فلن نقبل حديثه إذا كان يحمل ما لا يعقل إن كان ممن لا يؤدي الحديث بحروفه، وكان يلتمس تأديته على معانيه وهو لا يعقل المعنى. قال: أفيكون عدلاً غير مقبول الحديث؟ قلت: نعم، إذا كان كما وصفت كان هذا الموضع ظنة بينة يرد بها حديثه، وقد يكون الرجل عدلاً على غيره ظنيناً في نفسه وبعض أقربيه، ولعله أن يخر من بعد أهون عليه من أن يشهد بباطل، ولكن الظنة لما دخلت عليه تركت بها شهادته، فالظنة ممن لا يؤدي الحديث بحروفه ولا يعقل معانيه , أبين منها في الشاهد لمن ترد شهادته فيما هو ظنين فيه بحال " (¬1). قلت: وليس اعتبار خصائص الشهادة من مباحثنا هذه، ومحلها مطولات كتب الفقه. * * * ¬

(¬1) الرسالة (ص: 380 _ 381).

المبحث الثالث: طريق إثبات عدالة الراوي

المبحث الثالث: طريق إثبات عدالة الراوي راوي الحديث قد يكون ممن عرف شأنه وتبينت سيرته بما اشتهر به من العلم أو الصلاح والعبادة أو الحكم أو غير ذلك، لكن أكثر الرواة لم يعرفوا إلا في سياق ما رووه من الحديث، وهؤلاء فيهم المكثر من الرواية، وفيهم المقل، وفيهم من اشتهر بكثرة من حمل عنه الحديث، وفيهم من لم يرو عنه إلا النفر اليسير، وفيهم من لم يرو عنه إلا راو واحد. وبهذه الاعتبارات المختلفة فإن إثبات العدالة بمعناها المتقدم للراوي، وهو الإسلام واستقامة الظاهر، لا سبيل له إلا اعتماد رواية الراوي عنه كتعريف نسبي به، يثبت به وجوده، ويدل على كونه جار على أصل السلامة والاستقامة في الدين ما لم يحفظ عليه قادح. وعليه فيمكن تقسيم الرواة إلى قسمين: القسم الأول: من علمنا دينه وقدر استقامته من خلال سيرته المنقولة إلينا بالطرق المعتبرة، كأبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وغيرهم ممن عرفت سيرهم واستقرت بذلك عدالتهم، وكسعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والزهري وأبي حنيفة ومالك بن أنس وسفيان الثوري وشعبة بن الحجاج والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة الأمة

الخلاف في عدد الرواة عن الشيخ لإثبات عدالته، وتحرير الراجح

المستقرة عدالتهم بما عرف من سيرهم في العلم والعبادة والزهد، وهكذا عامة من حفظت عنهم الأخبار في بيان أحوالهم، فدلتا على منزلتهم في العدالة، ومكانتهم في الديانة حتى أغنى ذلك عن تتبع أمرهم والبحث عن درجاتهم، وفي بعض النقلة وإن كانوا قلة من حفظ لنا من سيرهم ما يفيد الجرح في العدالة، كالذي نقل لنا من سير بعض الأمراء وما ذكروا به من الظلم كبسر بن أرطاة (¬1)، والحجاج الثقفي. والقسم الثاني: من لم يعرف من سيرته المنقولة ما يساعد على إثبات عدالته، وليس لدينا من أمره إلا راويته الحديث، وهؤلاء هم أكثر الرواة كما تقدم. فهذا قد اعتبر لإثبات عدالته: ثقة الراوي عنه مع صحة الإسناد إليه. فكأنهم قالوا: الأصل في الراوي الإسلام، والأصل في المسلم: العدالة، والفسق عارض، فحيث لم ينقل في حق الراوي فهو عدل. لكن اختلفوا هنا: هل يكفي لإثبات هذه العدالة أن يروي عنه واحد، أم يشترط أن يكون اثنان فصاعداً؟ على مذهبين: المذهب الأول: تثبت العدالة بأن يروي عن الراوي من هو معروف بالثقة والعلم والتثبت في الأخذ، دون اعتبار عدد. قال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيى بن معين: متى يكون الرجل معروفاً؟ إذا روى عنه كم؟ قال: " إذا روى عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي وهؤلاء أهل العلم، فهو غير مجهول "، قلت: فإذا روى عن الرجل مثل سماك بن حرب وأبي إسحاق قال: " هؤلاء يروون عن مجهولين " (¬2). ¬

(¬1) ولا صُحبة له على التحقيق، وكان ظالماً جائراً. (¬2) شرح علل الترمذي، لابن رجب الحنبلي (1/ 81 _ 82).

قلت: هذا قد اعتبر فيه ابن معين تثبت الراوي في الأخذ واحتياطه في عدم الرواية عمن لم يعرف، فأما من لم يكن يبالي عمن روى فلا تثبت بروايته العدالة وإن كان ثقة. ومثله في المعنى ما نقله أبو داود السجستاني قال: قلت لأحمد (يعني ابن حبان): إذا روى يحيى أو عبد الرحمن بن مهدي عن رجل مجهول، يحتج بحديثه؟ قال: " يحتج بحديثه " (¬1). وهذا المذهب جرى عليه عمل الشيخين البخاري ومسلم في الاحتجاج بحديثه من لم يرو عنه إلا واحد من الصحابة، لكن ثبوت العدالة المطلقة للصحابة يخرجهم عن سائر الرواة، ويأتي ذلك. وهو مذهب ابن حبان أيضاً، جرى عليه في " ثقاته " كما سيأتي في مبحث خاص، لكنه توسع فجعل مجرد رواية الثقة وإن لم يعرف بالاحتياط في الأخذ تعديلاً. والمذهب الثاني: أن يروي عنه اثنان فأكثر. وهذا المذهب جاء عن الحافظ محمد بن يحيى الذهلي، قال: " إذا روى عن المحدث رجلان ارتفع عنه اسم الجهالة " (¬2). وقد نسبه الحاكم والبيهقي إلى البخاري ومسلم فيمن خرجا حديثه في كتابيهما، وبينت خطأ ذلك في الكلام على شرط الشيخين، وأن الصحيح أنهما أخرجا حديث من لم يرو عنه إلا واحد واحتجابه من الصحابة خصوصاً. وكذلك قال ابن عدي في ترجمة (سعيد بن أبي راشد): " لا أعلم يروي عنه غير مروان الفزاري، وإذا روى عنه رجل واحد كان شبه مجهول " (¬3). ¬

(¬1) سؤالات أبي داود لأحمد (النص: 137). (¬2) الكفاية، للخطيب البغدادي (ص: 150) وإسناده صحيح. (¬3) الكامل، لابن عدي (4/ 442).

وقال في (أبي الجهم الإيادي) راوي حديث: " امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار ": " مجهول، لم يحدث عنه غير هشيم، وليس له إلا هذا الحديث الواحد " (¬1). فجعل رواية الواحد عن رجل وإن كان ذلك الواحد ثقة لا ترفع عنه الجهالة. وقال أبو عبد الله بن منده: " من حكم الصحابي أنه إذا روى عنه تابعي واحد، وإن كان مشهوراً، مثل الشعبي وسعيد بن المسيب، ينسب إلى الجهالة، فإذا روى عنه رجلان صار مشهوراً واحتج به " (¬2). قلت: وهذا إذا قاله في الصحابي، فهو عنده في غيره أولى في إثبات الجهالة برواية الواحد. وهذا القول لم يشترط عدالة الرجلين. وذكر الدارقطني (خشف بن مالك)، فقال: " هو رجل مجهول، ولم يرو عنه إلا زيد بن جبير، وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر يتفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلاً مشهوراً، أو رجل قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعداً، فإذا كان هذه صفته ارتفع عنه اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفاً، فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد، انفرد بخبر، وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره " (¬3). واختاره الخطيب، لكن قيده، فقال: " أقل ما ترتفع به الجهالة: أن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم " (¬4). ¬

(¬1) الكامل (5/ 136). (¬2) شروط الأئمة الستة، لابن طاهر المقدسي (ص: 99 _ 100) قلت: وقوله: واحتج به " غيرُ مسلم إذا أجريناه في غير الصحابة حتى يتوفَّر شرط الضبط. (¬3) سنن الدارقطني (3/ 174). (¬4) الكفاية، للخطيب (ص: 150).

وهذا القيد: (أن يكون من روى عنه مشهوراً بالعلم) ينبغي أن يراد به الثقة، فالشهرة بالعلم والرواية مع الكذب والوهاء لا خير فيها. سأل عثمان الدارمي يحيى بن معين قال: قلت: عطاء بن المبارك، تعرفه؟ فقال: " من يروي عنه؟ "، قلت: ذاك الشيخ أحمد بن بشير، فقال: " هه! " كأنه يتعجب من ذكر أحمد بن البشير، فقال: " لا أعرفه "، قال عثمان: " أحمد بن بشير كان من أهل الكوفة، ثم قدم بغداد، وهو متروك " (¬1). ومثاله أيضاً (أبان الرقاشي) والد يزيد، قال فيه ابن عدي: " لا يحدث عنه غير ابنه يزيد بالشيء اليسير، ومقداره ما يرويه ليس بمحفوظ، على أن له مقدار خمسة أو ستة أحاديث مخارجها مظلمة " (¬2). وهكذا قال ابن حبان: " الشيخ إذا لم يرو عنه ثقة فهو مجهول لا يجوز الاحتجاج به؛ لأن رواية الضعيف لا تخرج من ليس بعدل عن حد المجهولين إلى جملة أهل العدالة، كأن ما روى الضعيف وما لم يرو في الحكم سيان " (¬3). وهذا النمط من المجهولين يتفرد عن أحدهم الراوي المجروح جهالة أحدهم جهالة عين في الرواية. والراجح: صحة اعتبار المذهبين في عموم الرواة عدا الصحابة (¬4)، على التفصيل التالي: 1 _ تثبت العدالة للراوي إذا روى عنه اتصالاً من كان متثبتاً في الأخذ، وإن كان واحداً. ¬

(¬1) تاريخ الدارمي (النص: 664). (¬2) الكامل، لابن عدي (2/ 69). (¬3) المجروجين، لابن حبان (1/ 327 _ 328). (¬4) لعدالة الصحابة تأصيلاً، وأن مجهولهم مقبول الرواية تحقيقاً.

مسائل

2 _ من لم يعرف بالتثبت في الأخذ وإن كان ثقة، لا تثبت العدالة بروايته حتى يوافقه في الحمل عن ذلك الراوي غيره ممن يصلح الاعتداد به، أو يدل اختبار حديثه على حفظه فيقوم ذلك مقام العدد، كما سيأتي في (المبحث التاسع). 3 _ من لم يرو عنه إلا راو مجروح، فهو مجهول، ولا يحكم بعدالته بذاك، من جهة الريبة في إثبات شخصه أصلاً، وهو (مجهول العين). ويلحق بهذا المبحث مسائل: المسألة الأولى: هل ارتفاع الجهالة إثبات للعدالة؟ نعم؛ هو إثبات للعدالة الدينية، أو ما اصطلح عليه بعض المتأخرين بـ (العدالة الظاهرة)، وهي: الإسلام، والسلامة من القادح في الدين. وأطلق الخطيب أن ارتفاع الجهالة برواية اثنين لا يعني ثبوت العدالة، فقال: " إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه "، ورد قول من ذهب إلى أنها تثبت له (¬1). قلت: وهذا صحيح بالنظر إلى إرادة العدالة الموجبة لقبول الراوية، وهي التي تحقق فيها: العدالة الدينية وضبط الراوي، فهذه العدالة لا تثبت للراوي بارتفاع جهالته، ولكن يثبت له منه الشق الأول. والمتأخرون تبعوا الخطيب، ومنه صار جماعة إلى تقسيم العدالة إلى قسمين: الأول: عدالة ظاهرة، واختاروا ثبوتها برواية اثنين فصاعداً. ومن لم تثبت له فهو في اصطلاحهم: مجهول العين، كما تقدم. والثاني: عدالة باطنة، وتعني أهلية الراوي في النقل من جهة ضبطه ¬

(¬1) الكفاية، للخطيب (ص: 150).

المسألة الثانية: معنى وصف الراوي بالشهرة

وإتقانه لما يرويه، ولا تثبت له إلا بتنصيص ناقد عارف أنه ثقة، أو بما يقوم مقام ذلك. وإثبات هذه العدالة ركن لصحة إطلاق وصف (العدالة) على الراوي، الموجب للاحتجاج بحديثه، والطريق إليه كما قال الخطيب: " التعويل فيه على مذاهب النقاد للرجال، فمن عدلوه وذكروا أنه يعتمد على ما يرويه جاز حديثه، ومن قالوا فيه خلاف ذلك وجب التوقف عنه " (¬1). ومن لم تثبت له هذه العدالة من الرواة فهو في اصطلاحهم: مجهول الحال، والمستور. وهذا القسم ليس مراداً لنا في هذا البحث؛ لكونه بيانه سيأتي، لكن ذكره لا بد منه لإزاحة اللبس عن استعمال لفظ (العدالة). المسألة الثانية: معنى وصف الراوي بالشهرة. يطلق بعض النقاد على الراوي وصف (مشهور)، وهي مفردة دالة بأصل استعمالها على دفع جهالة العين، لكنها لا تفيد التعديل الذي يثبت بأصل استعمالها على دفع جهالة العين، لكنها لا تفيد التعديل الذي يثبت معه حديث الراوي، وإنما تنتفع في تقوية أمره بقدرما، إذا سلم الراوي من قادح. مثل قول يحيى بن معين في (سعيد بن عمرو بن أشوع قاضي الكوفة): " مشهور، يعرفه الناس " (¬2). فهذا النص من يحيى لا يفيد توثيق الرجل، لكنه يثبت عينه، ويدل على عدالته في نفسه ما لم يثبت عنه ضد ذلك. ولو تأملت أحوال النقلة لم تجد فيهم من عرفت عدالته الموجبة لقبول حديثه بمجرد الشهرة، حتى يثبت من اختبار حديثه حفظه وإتقانه. ¬

(¬1) الكفاية (ص: 156). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 1 / 50).

المسألة الثالثة: تعرف العدالة عند ابن عبد البر

واعلم أن قول بعض المتأخرين: (تثبت العدالة بالاستفاضة والشهرة) لا يصح بإطلاق؛ لأن مرجع الاستفاضة والشهرة إلى النقل الثابت عن الرواة، كالأخبار التي تحكي سيرهم وأحوالهم، فإن العدالة إنما استفيدت بدلالة تلك الأخبار، لا بمجرد استفاضة ذكرهم وشهرتهم. المسألة الثالثة: في تعريف العدالة عند أبي عمر بن عبد البر: قال ابن عبد البر: " كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبداً على العدالة حتى تتبين جرحته في حاله أو في كثرة غلطه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " (¬1). هذا النص في تفسير العدالة أنكره المتأخرون، فلماذا؟ هل لأنهم فهموا أنه يجعل العدالة وصفاً ثابتاً بمجرد الإسلام؟ أم لغير ذلك؟ عملياً وجدت ابن عبد البر جرح بالجهالة في مواضع كثيرة، ورد بها أحاديث رواها مجهولان لا طعن عليهم إلا بالجهالة، في كتبه: التمهيد، والاستذكار، والاستيعاب، فدل على أنه لم يعن إثبات العدالة لكل من روى تأصيلاً، وإنما جعل في التحقيق على العدالة من حمل العلم وعرف أنه اعتنى به، والمجهولون لم يعرفوا بحمل العلم، إذ المعرفة والاعتناء بالعلم توجب الشهرة به، وهو ما ينافي الجهالة، وهذا الكلام لا إشكال فيه، ولم يقل ابن عبد البر: (كل من روى الحديث فهو عدل) ليصح التعقب عليه. فقوله صحيح في الجملة في المعروفين من الرواة. وأما الحديث الذي ذكره فضعيف على التحقيق (¬2). * * * ¬

(¬1) التمهيد (1/ 28). (¬2) بينته في كتابي " علل الحديث ".

المبحث الرابع: معنى الضبط

المبحث الرابع: معنى الضبط الصلاح في الدين بمجرده وصف قاصر لقبول حديث الراوي والاحتجاج به، ولا يتم وصفه بالأهلية الكافية لذلك حتى يكون حافظاً لحديثه متقناً له. قال أبو الزناد عبد الله بن ذكوان: " أدركت بالمدينة مئة، كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله " (¬1). وقال مالك بن أنس: " لقد أدركت في هذا البلد _ يعني المدينة _ مشيخة، لهم فضل وصلاح وعبادة، يحدثون، ما سمعت من أحد منهم حديثاً قط "، قيل له: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: " لم يكونوا يعرفون ما يحدثون " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه " (1/ 15) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (رقم: 425) وابنُ عدي في " الكامل " (1/ 177، 259) والخطيب في " الكفاية " (ص: 247 _ 248، 252)، وإسناده حسن. (¬2) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (1/ 684) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (رقم: 418) والعُقيلي في " الضعفاء " (1/ 13 _ 14) وابن حبان في " المجروحين " (1/ 41) والحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 48) والخطيب في " الكفاية " (ص: 189) و " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 168) وإسناده صحيح. وأخرج ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 67) معناه بإسناد صحيح إلى إسماعيل بن أبي أويس عن مالك. وإسماعيل صالحُ الأمر في مثل هذا.

النوع الأول: حفظ الصدر

وعن حماد بن زيد: أن فرقداً (يعني السبخي) ذُكر عند أيوب (يعني السختياني)، فقال: " لم يكن صاحب حديث، وكان متقشفاً، لا يقيد علماً، ذاك لون، والبصر بالعلم لون آخر " (¬1). وقال عمرو بن محمد الناقد: سأل رجل وكيعاً (يعني ابن الجراح)، قال: يا أبا سفيان، تعرف حديث سعيد بن عبيد الطائي عن الشعبي في رجل حج عن غيره، ثم حج عن نفسه؟ فقال: " من يرويه؟ "، قلت: وهب بن إسماعيل، قال: " ذاك رجل صالح، وللحديث رجال " (¬2). قلت: واعتبار الضبط الركن الأساس لتزكية الراوي؛ من أجل كونه يباشر ذات الراوية، لذلك كان القدح في النقلة بتخلفه أكثر، فالوهم والغلط قليل ذلك وكثيره إنما هو في ضعف الحفظ. وليست كذلك العدالة في الدين، وإنما طلبت لدفع مظنة الكذب، إذ ضعف الوازع عند رقيق الدين مما يورد الشبهة في أمانته ولا يؤمن منه معه الكذب، فيكون قادحاً بمجرده للمظنة لا لمباشرته الرواية، إلا أن يكون ثبوت الكذب منه في الحديث، وكم تجد فيمن قدح في عدالته الدينية من كان يحفظ ما يحفظ الناس؟ والضبط: حفظ الراوي لحديثه. ويلزم لتمامه: أن يقدر الراوي على أداء الحديث كما تلقاه. وهو واقع على نوعين: النوع الأول: حفظ الصدر. كثير من الرواة، بل لو قلت: أكثر الرواة كانوا يعتمدون حفظ الصدر في أداء الحديث، ولم يكونوا يكتبون. ¬

(¬1) أخرجه الجوزَجاني في " أحوال الرجال " (النص: 153) بإسناد صحيح. (¬2) وأخرجه مسلم في " المقدمة " (1/ 17) والحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 64) والخطيب في " الكفاية " (ص: 250) وإسناده صحيح.

كيف يثبت حفظ الراوي؟

فهذا أبو هريرة حافظ، وأكثرهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما حدث إلا من حفظه بصدره. قال: " ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب " (¬1). وربما قلت: كانوا يعتمدون حفظ الصدور؛ لأنهم نهوا أولاً عن كتابة الحديث مخافة اختلاطه بالقرآن، لكن الكتابة شاعت بعدئذ. وأقول: هذا صحيح في الجملة، لكن بقي الاعتماد على حفظ الصدور واستمر حتى بعد التدوين. فكثير من كبار الأئمة كان اعتمادهم على الحفظ، كسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وحماد بن زيد. وهذا يحيى بن معين وسئل عن (وكيع بن الجراح): كيف كان يحدثهم؟ فقال: " كان يحدث من حفظه، كل شيء حدث به حفظاً " (¬2). كيف يثبت حفظ الراوي؟ قال الخطيب: " وإذا سلم الراوي من وضع الحديث وادعاء السماع ممن لم يلقه، وجانب الأفعال التي تسقط بها العدالة، غير أنه لم يكن له كتاب بما سمعه، فحدث من حفظه، لم يصح الاحتجاج بحديثه حتى يشهد له أهل العلم بالأثر والعارفون به أنه ممن قد طلب الحديث وعاناه وضبطه وحفظه " (¬3). قلت: أي لابد من تزكية أهل المعرفة بهذا العلم له أنه موثوق الحفظ، فيحتج بما يؤديه عندئذ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 113). (¬2) معرفة الرجال، رواية: ابن مُحرز (2/ 75). (¬3) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/ 135).

النوع الثاني: حفظ الكتاب

النوع الثاني: حفظ الكتاب. وهو: أن يكون الحديث مكتوباً عند الراوي. وكان مالك بن أنس ينكر أن يكون هذا طريقاً يعتمد فيه حديث الراوي. قال أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك: أيؤخذ ممن لا يحفظ ويأتي بكتبه فيقول: قد سمعتها، وهو ثقة؟ فقال: " لا يؤخذ عنه، أخاف أن يزاد في كتبه بالليل " (¬1). وقال أشهب في رواية: سمعت مالكاً، وسئل عن الرجل الثقة، فيدفع إليه الكتاب، فيعرف الحديث، إلا أنه ليس له حفظ ولا إتقان؟ قال: " لا يؤخذ عنه، إذا زيد في الحديث شيء لم يعرف " (¬2). قال الباجي: " هذا الذي قاله رحمه الله هو النهاية في الاجتهاد، إلا أنه قد عدم من يحفظ، ولو لم يؤخذ إلا عمن يحفظ لعدم من يؤخذ عنه، فقد قل الحفاظ، واحتيج إلى الأخذ عمن له كتاب صحيح وهو ثقة ينقل ما في كتابه، فإذا كان الآخذ ممن يميز تبينت له الزيادة، وإن كان لا يميز فالأمر فيه ضعف، ولعله الذي عنى مالك، رحمه الله " (¬3). وقال هشيم بن بشير: " من لم يحفظ الحديث فليس هو من أصحاب الحديث، يجيء أحدهم بكتاب يحمله كأنه سجل مكاتب " (¬4). قلت: وهذا محمول على إرادة شحذ الهمم لحفظ الصدور، لا على معنى تأثيره أن يكون طريقاً لضبط الرواية. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 27) والخطيب في " الكفاية " (ص: 337) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 32) والخطيب في " الكفاية " (ص: 337) وإسناده صحيح. (¬3) التعديل والتجريح (1/ 289). (¬4) أخرجه ابن عدي (1/ 181) والخطيب في " الكفاية " (ص: 338) وإسناده صحيح.

والتحقيق: أن الكتاب المتقن الموثق حجة عند أهل العلم، بل هو ميزان، ودليل على صحة الحفظ، ومقوم لخلله، فإن الحفظ خوان، والحافظ بشر جائز عليه الوهم والخطأ، لا سيما مع طول الأسانيد. قال الرامهرمزي: " الأولى بالمحدث والأحوط لكل راوٍ أن يرجع عند الراوية إلى كتابه؛ ليسلم من الوهم " (¬1). قال الثقة مروان بن محمد الطاطري: " ثلاثة ليس لصاحب الحديث عنه غنى: الحفظ، والصدق، وصحة الكتب، فإن أخطأت واحدة وكانت فيه ثنتان لم تضره: إن أخطأ في الحفظ ورجع إلى صدق وصحة كتب لم يضره " , وقال مروان: " طال الإسناد وسيرجع الناس إلى الكتب " (¬2). وقال علي بن المديني: " ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة حسنة " (¬3). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: " ما رأيت أبي، رحمه الله، حدث من غير كتاب، إلا بأقل من مئة حديث " (¬4). وقال علي بن المديني: سمعت يحيى (يعني القطان) يقول في حديث ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، في رجل آجر نفسه في الحج، ¬

(¬1) المحدث الفاصل (ص: 388). (¬2) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 263) والخطيب في " الكفاية " (ص: 340 _ 341) وابن عساكر في " تاريخه " (57/ 318) وإسناده صحيح. وبنحوه: أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 36) والرامهرمزي (ص: 405 _ 406) والخطيب في " الكفاية " (ص: 340) وإسناده صحيح كذلك. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 295) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع " (رقم: 1030) وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1034) وإسناده صحيح.

قال: " أملى علي من حفظه: حدثنا عطاء عن ابن عباس، وكان في كتابه: حدثت عن سعيد بن جبير، وقال عطاء: عن ابن عباس ". قلت ليحيى: تراه حديث مسلم البطين؟ قال: " نعم، وليس من صحيح حديثه عن عطاء " (¬1). قلت: يريد يحيى أن هذا الحديث إنما هو حديث مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأن جريج أخطأ في التحديث به عن عطاء، وجعل ما في كتاب ابن جريج أنه حدث بذلك الحديث عن ابن جبير دليلاً على ما قال، وأن جريج وهم في قوله: (حدثنا عطاء)، وليس في هذا شيء من باب التدليس (¬2). وقال عبد الله بن المبارك: " إذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب غندر حكم فيما بينهم " (¬3). وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا نعيم، وذكر عنده حماد بن زيد وابن علية، وأن حماداً حفظ عن أيوب، وابن علية كتب، فقال: " ضمنت ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 238) بإسناد صحيح إلى القطان. (¬2) وهو صحيح محفوظ من حديث مسلم البَطين عن سعيد، قال: جاء رجلٌ إلى ابن عباس، فقال: إني آجرت نفسي من قومي على أن يحملوني، ووضعت لهم من أجْرتي على أن يدعوني أحجُّ معهم، أفيُجزي ذلك؟ قال: أنت من الذين قال الله عز وَجل {أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} أخرجه ابن أبي شيبة (ص: 444 _ الجزء المستدرك) وابن أبي حاتم في " تفسيره " (رقم: 1888) والحاكم (2/ 277 _ 278 رقم: 3099) من طُرق عن الأعمش، عن مسلم، به. ولم ينفرد به مسلم عن سعيد، بل تابعه عبد الكريم الجزري، أخرجه عبد الرزاق في " تفسيره " (1/ 80) ومن طريقه: ابنُ خزيمة (رقم: 3053) _ والحاكم (1/ 481 رقم: 1770) من طريق زيد بن المبارك، كلاهما عن معمر، عن عبد الكريم، به. وخرجه الشافعي من رواية ابن جريج عن عطاء التي حكم يحيى بعدم صحتها. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 271) و " الجرح والتعديل " (3/ 2 / 221) بإسناد صحيح.

لك أن كل من لا يرجع إلى كتاب لا يؤمن عليه الزلل " (¬1). وقال أحمد بن حنبل: " ما كان أقل سقطاً من ابن المبارك، كان رجلاً يحدث من كتابه، ومن حدث من كتاب لا يكاد يكون له سقط كبير شيء، وكان وكيع يحدث من حفظه، ولم يكن ينظر في كتاب، وكان له سقط، كم يكون حفظ الرجل! " (¬2). وقال الميموني لأبي عبد الله بن أحمد بن حنبل: قد كره قوم كتاب الحديث بالتأويل (¬3)، قال: " إذاً يخطئون إذا تركوا كتاب الحديث، حدثونا قوم من حفظهم وقوم من كتبهم، فكان الذين حدثونا من كتبهم أتقن " (¬4). ومن المثال التطبيقي لذلك، ما حدث به عبد الرحمن بن مهدي، قال: " لما حدث سفيان عن حماد عن عمرو بن عطية التيمي عن سلمان قال: إذا حككت جسدك فلا تمسحه ببزاق، فإنه ليس بطهور. قلت له: هذا حماد يروي عن ربعي بن حراش عن سلمان. قال من يقول ذا؟ قلت: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أمضه، قلت: حدثنا شعبة، قال أمضه، قلت: حدثنا هشام الدستوائي، قال: هشام؟ قلت: نعم، فأطرق هنيهة، ثم قال: أمضه، سمعت حماداً يحدثه عن عمرو بن عطية عن سلمان ". قال عبد الرحمن: " فمكثت زماناً أحمل الخطأ على سفيان، حتى نظرت في كتاب غندر عن شعبة، فإذا هو: عن حماد عن ربعي بن حراش عن سلمان. قال شعبة: وقد قال حماد مرة: عن عمرو بن عطية التيمي عن ¬

(¬1) تاريخ أبي زُرعة (1/ 467) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع " (رقم: 1023). (¬2) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة " (2/ 197) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع " (رقم: 1024) وإسناده صحيح. (¬3) يعني والله أعلم: من أجل ما ورد من النهي عن كتابة الحديث، والذي كان لعلة الاختلاط بالقرآن، فلما ذهبت العلة ذهب أثرُ النهي. (¬4) أخرجه الخطيب في " تقييد العلم " (ص: 115) وإسناده صحيح.

سلمان، فعلمت أن سفيان إذا حفظ الشيء لم يبال من خالفه " (¬1). وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضاً: " كنا إذا أعطينا صخر بن جويرية يقرأ علينا، ما كان يجيء على ما يقرأ علينا، حتى أخذنا كتاب غندر، فكان يقرأ علينا على ما هي في كتاب غندر " يعني أنه كان كتاباً صحيحاً (¬2). وقال يزيد بن هارون وذكر أهل البصرة: " إذا ختلفوا في حديث نطقوا بكتاب عبد الوارث " (¬3). قال الحميدي: " من اقتصر على ما في كتابه فحدث به، ولم يزد فيه، ولا ينقص منه ما يغير معناه، ورجع عما يخالف فيه بوقوف منه عن ذلك الحديث، أو عن الاسم الذي خولف فيه من الإسناد ولم يغيره، فلا يطرح حديثه، ولا يكون ضاراً ذلك له في حديثه، إذا لم يرزق من الحفظ والمعرفة بالحديث ما رزق غيره، إذا اقتصر على كتابه ولم يقبل التلقين " (¬4). وقال الخطيب: " من سمع الحديث وكتبه، وأتقن كتابه، ثم حفظه من كتابه، فلا بأس براويته " (¬5). قلت: يقول في هذا: إن الكتاب المتقن حجة. والثقات الذين عرفوا بحفظ الكتاب كثير. ومنهم من كان يجمع بين الضبطين، وهذا كثير بعد اعتناء الناس بالتدوين. وفيهم من كان ضابطاً لكتبه ولم يكن حافظاً لحديثه في صدره، وقد يوصف بسوء الحفظ، وهو الذي يقولون فيه: (صحيح الكتاب) وشبه ذلك. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 64 _ 65) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1128) بإسناد صحيح عن ابن مهدي. (¬2) أخرجه أحمد بن حنبل في " العلل " (النص: 3608). (¬3) أخرجه مسلم في " التمييز " (رقم: 30) بإسناد صحيح. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 27). (¬5) الكفاية (ص: 254).

فمثله إذا علم أن حديثه من كتابه فهو محقق لشرط الضبط، منهم: همام بن يحيى، وحفص بن غياث، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، ويونس بن يزيد الأيلي، وجماعة ليست بكثيرة. ومن عبارات أئمة الشأن في طائفة: قال أحمد بن حنبل في (حاتم بن إسماعيل): " حاتم أحب إلي من الدراوردي زعموا أن حاتماً كان رجلاً فيه غفلة، إلا أن كتابه صالح " (¬1). وقال يحيى بن معين: " أتيت حاتم بن إسماعيل بشيء من حديث عبيد الله بن عمر، فلما قرأ علينا حديثاً قال: أستغفر الله، كتبت عن عبيد الله كتاباً، فشككت في حديث منها، فلست أحدث عنه قليلاً ولا كثيراً " (¬2). وقال أحمد بن حنبل في (أبي عبيدة الحداد): " لم يكن صاحب حفظ، وكان كتابه صحيحاً " (¬3). وقال يحيى بن معين في (محمد بن مسلم الطائفي): " كان إذا حدث من حفظه يقول: كأنه يخطئ، وكان إذا حدث من كتابه فليس به بأس " (¬4). وقال أبو حاتم الرازي في (أبو عوانة وضاح اليشكري): " كتبه صحيحة، وإذا حدث من حفظه غلط كثيراً، وهو صدوق ثقة "، وقال أبو زرعة الرازي: " ثقة إذا حدث من كتابه " (¬5). وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي في (شريك القاضي): " كتبه صحاح، فمن سمع منه من كتبه فهو صحيح " (¬6). ¬

(¬1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (1/ 2 / 259). (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 347). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3/ 1 / 24). (¬4) تاريخ يحيى ين مَعين (النص: 304). (¬5) الجرح والتعديل (4/ 2 / 41). (¬6) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 332) وإسناده صحيح.

المبحث الخامس: كيف يعرف الضبط؟

المبحث الخامس: كيف يعرف الضبط؟ جرى نقاد المحدثين على تمييز ضبط الراوي بطرق ترجع إلى ما يأتي: 1 _ عرض رواياته على روايات غيره لتبين قد موافقته أو مخالفته أو تفرده. ويتم ذلك بالمقارنة بين حديث الراوي وأحاديث الثقات المعروفة، وأحاديث المجروحين المنكرة، ويعتبر حاله في الإتقان بقدر ما وافق فيه الثقات، وحاله في الجرح بحسب ما تفرد به، أو خالف فيه الثقات، أو وافق المجروحين. وهذا طريق تمييز أكثر النقلة. قال الشافعي: " يعتبر على أهل الحديث بأن إذا اشتركوا في الحديث عن الرجل بأن يستدل على حفظ أحدهم بموافقة أهل الحفظ، وعلى خلاف حفظه بخلاف أهل الحفظ له " (¬1). ¬

(¬1) الرسالة (الفقرة: 1047).

وكان الاستثبات بعرض حديث الراوي على حديث غيره، أو طلب الموافق له إذا أتى بما يستغرب من العلم، قديم منذ عهد الصحابة، وذلك لتبين حفظ ذلك الراوي للحديث من عدمه. ومن شائع أمثلته: 1 _ قصة أبي بكر في توريث الجدة، فعن قبيصة بن ذؤيب، قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق (¬1). 2 _ وقصة عمر مع أبي موسى في الاستئذان، فعن أبي سعيد الخدري، قال: كنت جالساً بالمدينة في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً، قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه، فأتيت بابه فسلمت ثلاثاً، فلم يرد علي، فرجعت، فقال ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك، فسلمت على بابك ثلاثاً، فلم يردوا علي، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع "، فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتك. فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر ¬

(¬1) حديث صحيح في قول الترمذي وغيره، وهو الراجح عندي. أخرجه مالك (رقم: 1461)، ومن طريقه: أبو داود (رقم: 2894) والترمذي (رقم: 2101) والنسائي في " الكبرى " (رقم: 6346) وابن ماجة (رقم: 2724) وأحمد في " المسند " وابنه عبد الله في " زوائده " (29/ 499 رقم: 17980) وغيرهم. وتكلمت عنه في " علل الحديث ".

القوم. قال أبو سعيد: قلت أنا أصغر القوم، قال: فاذهب به. قال أبو سعيد: فقمت معه فذهبت إلى عمر، فشهدت (¬1). 3 _ وقصة عائشة في حديث حدث به عبد الله بن عمرو، فعن عروة بن الزبير، قال: قالت لي عائشة: يا ابن أختي، بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج، فالقه فسائله، فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً. قال: فلقيته فساءلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعاً، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم، ويبقي في الناس رءوسا ًجهالاً يفتونهم بغير علم، فيضلون ويضلون ". قال عروة فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته، قالت: أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال عروة: حتى إذا كان قابل قالت له: إن ابن عمر قد قدم فالقه، ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم. قال: فلقيته، فساءلته، فذكره لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى. ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (17/ 74 رقم: 11029) والحُميدي (رقم: 734) والبُخاري (رقم: 5891) ومُسلم (3/ 1694) وأبو داود (رقم: 5180) وأبو يعلى (2/ 269 رقم: 981) والبزَّار (8/ 13 رقم: 2981) وأبو نُعيم في " المستخرج على البخاري " _ (كما في " الفتح " 11/ 29) _ والبيهقي في " الكبرى " (8/ 339) من رواية سُفيان بن عُيينة، قال: حدثنا _ والله _ يزيد بن خُصيْفةَ، عن بسر بن سعيد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول، به. ولهذا الحديث طرق أخرى، وقد قال عمر في رواية عند مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشْعري نفسه: " سبحان الله ‍‍‍‍! إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت ".

قال عروة: فلما أخبرتها بذلك، قالت: ما أحسبه إلا قد صدق، أراه لم يزد فيه شيئاً ولم ينقص (¬1). وفي هذه الآثار وما في معناها دليل على أن التيقظ والتثبت لقبول الحديث، والتحري لأحوال نقلته بدأ منذ بدأت الرواية في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا المنهج في المقابلة لحديث الراوي بحديث غيره، ليتبين منها قدر ما يشهد له وما لا يشهد له، أو ما يخالفه ويناقضه، هو القاعدة العظمى لتمييز الحفاظ الثقات من غيرهم، وازداد ظهور ذلك كلما تأخر الزمن بعد الصحابة، بسبب طول الإسناد وتشعبه المقتضى كثرة الناقلين، مما تزداد معه مظنة الخطأ والوهم، مع ضعف الوازع عند كثير من الناس، مما ظهر معه الكذابون الذين كانوا يتعمدون وضع الحديث: متناً أو إسناداً، أو جميعاً. قال الذهبي: " اعلم أن أكثر المتكلم فيهم ما ضعفهم الحفاظ إلا لمخالفتهم الأثبات " (¬2). وأقول: ولتفردهم عن المعروفين بما لا يعرف من رواية الثقات عنهم. ومن مثاله الموضح له: قوله يحيى بن معين: " قال لي إسماعيل بن علية يوماً: كيف حديثي؟ ¬

(¬1) حديث صحيح. مُتفق عليه، أخرجه البُخاري (رقم: 6877) ومسلم (4/ 2059) والبيهقي في " المدخل " (رقم: 852) والسياق للأخيرين، من طريق عبد الله بن وهب، حدثني أبو شريح، أن أبا الأسود حدثه، عن عروة، به. أبو شريح هو عبد الرحمن بن شريح، وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل. ووقع ذكر القصة كذلك باختصار في بعض طُرق الحديث من رواية هِشام بن عُروة عن أبيه. أخرجه كذلك مسلم (4/ 2058) وفي " التمييز " له (رقم: 12)، والحديث مرويٌّ دون هذه القصة في أكثر الأصول. (¬2) الموقظة (ص: 52).

قال: أنت مستقيم الحديث، قال: فقال لي: وكيف علمتم ذاك؟ قلت له: عارضنا بها أحاديث الناس، فرأيناها مستقيمة، قال: فقال: الحمد لله " (¬1). وقال يحي بن معين: " ربما عارض بأحاديث يحيى بن يمان أحاديث الناس، فما خالف فيها الناس ضربت عليه، وقد ذكرت لوكيع شيئاً من حديثه عن سفيان، فقال وكيع: ليس هذا سفيان الذي سمعنا نحن منه " (¬2). وكما قال مسلم بن الحجاج: " من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس " (¬3). ومن أجل ذلك كانوا يكتبون حديث الراوي على وجوه المختلفة ليتبينوا موضع الموافقة من موضع المخالفة، وليحكم عليه بحسب ما يظهر من ذلك. قال يحيى بن معين: " لو نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه " (¬4). وقال ابن حبان: " الإنصاف في النقلة في الأخبار: استعمال الاعتبار فيما رووا " (¬5). ¬

(¬1) معرفة الرجال، رواية: ابن مُحرز (2/ 39). (¬2) تاريخ يحيى بن معين (3/ 319). (¬3) مُقدمة صحيح مسلم (ص: 7). (¬4) تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 4330)، ومن طريقه: ابن حِبان في " المجروحين " (1/ 33)، والحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 32)، والخطيب في " الجامع " (رقم: 1639) وفي " تاريخ يحيى ": (الشيء) بدل الحديث. (¬5) الإحسان (1/ 154).

وبين ذلك بالمثال التالي فقال: " كأنا جئنا إلى حماد بن سلمة، فرأيناه روى خبراً عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم نجد ذلك الخبر عند غيره من أصحاب أيوب، فالذي يلزمنا فيه التوقف عن جرحه والاعتبار بما روى غيره من أقرانه: فيجب أن نبدأ فننظر هذا الخبر: هل رواه أصحاب حماد عنه؟ أو رجل واحد منهم وحده؟ فإن وجد أصحابه قد رووه، علم أن هذا قد حدث به حماد. وإن وجد ذلك من رواية ضعيف عنه ألزق ذلك بذلك الراوي دونه. فمتى صح أنه روى عن أيوب ما لم يتابع عليه يجب أن يتوقف فيه، ولا يلزق به الوهن، بل ينظر: هل روى أحد هذا الخبر من الثقات عن ابن سيرين غير أيوب؟ فإن وجد ذلك علم أن الخبر له أصل يرجع إليه. وإن لم يوجد ما وصفنا نظر حينئذ: هل روى أحد هذا الخبر عن أبي هريرة غير ابن سيرين من الثقات؟ فإن وجد ذلك علم أن الخبر له أصل. وإن لم يوجد ما قلنا، نظر: هل روى أحد هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي هريرة؟ فإن وجد ذلك صح أن الخبر له أصل. ومتى عدم ذلك والخبر نفسه يخالف الأصول الثلاثة (¬1) علم أن الخبر موضوع لا شك فيه، وأن ناقله الذي تفرد به هو الذي وضعه. ¬

(¬1) الأشبه أنه أراد: الكتاب والسنة الثابتة والإجماع.

هذا الحكم الاعتبار بين النقلة في الروايات " (¬1). ومن أمثلة تقريب ما بينه ابن حبان، قول يحيى بن معين: " نظرنا في حديث الواقدي، فوجدنا حديثه عن المدنيين عن شيوخ مجهولين أحاديث مناكير، فقلنا: يحتمل أن تكون تلك الأحاديث المناكير منه، ويحتمل أن تكون منهم، ثم نظرنا إلى حديثه عن ابن أبي ذئب ومعمر، فإنه يضبط حديثهم، فوجدناه قد حدث عنهما بالمناكير، فعلمنا أنه منه، فتركنا حديثه " (¬2). ومن مثال جرح الراوي في حفظه بظهور النكارة فيما روى من أجل مجيئه بمتن منكر لا يعرف إلا به، بإسناد نظيف لا يحتمل مثله: ما رواه أبو الحسن علي بن إبراهيم بن الهيثم البلدي، قال: حدثني أبي، حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني، حدثنا ليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تضربوا أولادكم على بكائهم، فبكاء الصبي أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا الله، وأربعة أشهر الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم , وأربعة أشهر دعاء لوالديه ". قال الخطيب: " هذا الحديث منكر جداً، ورجال إسناده كلهم مشهورون بالثقة، سوى أبي الحسن البلدي " (¬3). ومثال وهم الراوي وضعف ضبطه بروايته ما يخالف المحفوظ: ما رواه يحيى بن عبيد الله عن أبيه (¬4)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فأتى الذي هو خير، فهو كفارته " (¬5). ¬

(¬1) الإحسان (1/ 155). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 1 / 21) بإسناد صحيح. (¬3) تاريخ بغداد (11/ 238). (¬4) هو عبيد الله بن عبد الله بن مَوْهب. (¬5) أخرجه مسلم في " التمييز " (رقم: 82) والبيهقي في " الكبرى " (10/ 34).

فهذا تفرد به يحيى عن أبيه. والمحفوظ: ما رواه أبو حازم الأشجعي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأتها، وليكفر عن يمينه " (¬1). ووافقه أبو صالح السمان عن أبي هريرة. وكذلك وافق أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما في رواية أبي حازم: أبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم، وعبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص في الرواية المحفوظة عنه، وأبو الدرداء، وغيرهم. قال مسلم بعد ذكر رواية يحيى: " فلو لم يكن مما يبين فساد هذه الرواية إلا ما ذكرنا قبل (يعني رواية أبي حازم وأبي صالح) لكفى ذلك فكيف ومعه حديث أبي موسى وعدي بن حاتم وأبي الدرداء وغيرهم؟ بمثل هذه الرواية وأشباهها ترك أهل الحديث حديث يحيى بن عبيد الله، لا يعتدون به " (¬2). وقال أبو داود السجستاني: " الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وليكفر عن يمينه) إلا فيما لا يعبأ به. قلت لأحمد: روى يحيى بن سعيد عن يحيى بن عبيد الله؟ فقال: تركه بعد ذلك، وكان أهلاً لذلك، قال أحمد: أحاديثه مناكير، وأبوه لا يعرف " (¬3). وقلة حديث الراوي مع تفرده بما لا يرويه غيره من المعروفين، يدل على لينه؛ لأن قلة الحديث لا تساعد في تبين إتقان الراوي من عدمه بعرضه على روايات غيره، وتفرده بما لم يعتن بنقله الحفاظ غيره شبهة، فتكون علامة على لينه لا على حفظه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه " (3/ 1271 _ 1272) و " التمييز " (رقم: 81) والبيهقي في " الكبرى " (10/ 32). (¬2) التمييز (ص: 206). (¬3) سنن أبي داود (عقب رقم: 3274).

2 _ عرض ما يحدث به حفظا على ما في كتبه

2 _ عرض ما يحدث به الراوي حفظاً على ما في كتبه. وذلك من أجل ما تقدم من كون الكتاب المتقن حاكماً على مجرد الحفظ , فهو إما شاهد له دال على إتقانه، وإما كاشف لسوء حفظه، تارة مطلقاً كما تقدم مثاله، وتارة للدلالة على خطئه في الحديث المعين. قال البخاري: " يروى عن سفيان عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة، قال: قال ابن مسعود: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصلى، ولم يرفع يديه إلا مرة، وقال أحمد بن حنبل: عن يحيى بن آدم: نظرت في كتاب عبد الله بن إدريس عن عاصم بن كليب، ليس فيه: ثم لم يعد ". قال البخاري: " فهذا أصح؛ لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم؛ لأن الرجل ربما حدث بشيء ثم يرجع إلى الكتاب فيكون كما في الكتاب " (¬1). 3 _ اختبار حفظ الراوي بقلب الأحاديث عليه , أو تركيبها له. عن حماد بن سلمة، قال: كنت أقلب على ثابت البناني حديثه، وكانوا يقولون: القصاص لا يحفظون (¬2) , وكنت أقول لحديث أنس: كيف حدثك عبد الرحمن بن أبي ليلى؟ فيقول: لا، إنما حدثناه أنس. وأقول لحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى: كيف حدثك أنس؟ فيقول: لا، إنما حدثناه عبد الرحمن بن أبي ليلى " (¬3). قلت: وهذا مثال الحافظ المتقن. وعن عمرو بن علي، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: " كنا عند شيخ من أهل مكة أنا وحفص بن غياث، فإذا أبو شيخ جارية بن هرم يكتب ¬

(¬1) رفع اليدين في الصلاة، للبُخاري (ص: 79 _ 82). (¬2) يعني وأن ثابتاً كان يعد من القصَّاص، وهم الوعاظ. (¬3) أخرجه الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 154) بإسناد صحيح.

4 _ قرينة في السياق

عنه، فجعل حفص يضع له الحديث ويقول: حدثتك عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين بكذا وكذا، فيقول: حدثتني عائشة بنت طلحة عن عائشة بكذا وكذا، فيقول له حفص بن غياث: وحدثك القاسم بن محمد عن عائشة بكذا، فيقول: حدثني القاسم بن محمد عن عائشة بكذا، فيقول: حدثك سعيد بن جبير عن ابن عباس بمثله، فيقول: حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس. فلما فرغ ضرب حفص بيده إلى ألواح جارية فمحاها، فقال جارية: تحسدونني؟ فقال له حفص: لا، ولكن هذا يكذب ". قال عمرو بن علي: فقلت ليحيى: من الرجل؟ فلم يسمه، فقلت له يوماً: يا أبا سعيد لعل عندي عن هذا الشيخ ولا أعرفه، قال: " هو موسى بن دينار " (¬1). قلت: وهذا مثال للمغفل الذي لا يدري الحديث ولا الإسناد، أو يعني ما يقول فيعتمد الكذب. 4 _ مجيء قرينة في سياق الرواية تكشف سوء حفظ الراوي. كقول البخاري مثلاً في (ذوَّاد بن علبة الحارثي): " يخالف في حديثه " (¬2)، استدل له بقوله: حدثنا ابن الأصبهاني، قال: حدثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد، قال لي أبو هريرة: يا فارسي، أشكم درد (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 69) وابن عدي في " الكامل " (2/ 433 _ 434) والعقيلي في " الضعفاء " (4/ 156) والحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 66) وإسناده صحيح. ومعنى القصة كذلك ذكره ابن المديني عن يحيى القطان أخرجه ابن عدي (8/ 60) بإسناد صحيح. (¬2) هذه عبارة " التاريخ الأوسط " (2/ 185)، وعبارة " التاريخ الكبير " (2/ 1 / 264) و " الضعفاء " (الترجمة: 112): " يُخالف في بعض حديثه ". (¬3) كلمتان فارسيتان: (إشكم) أو (شْكم) البطن، و (درْد) ألم (وانظر: السامي في الأسامي للميداني، ص: 216).

قال ابن الأصبهاني: " ورفعه ذوَّاد (¬1)، وليس له أصل، أبو هريرة لم يكن فارسياً إنما مجاهد فارسي " (¬2). وتبعه على ذلك العقيلي، وقال: " الموقوف أولى " (¬3)، وكذلك قال ابن الجوزي: " وهو أصح " يعني الموقوف (¬4). ومن أجل قلة حديثه، ومجيئه بمثل هذه المخالفات ضعفه الجمهور، فقال يحيى بن معين: " ضعيف، ولا يكتب حديثه " (¬5)، وقال أبو حاتم ¬

(¬1) أخرجه أحمد (15/ 28 _ 29، 131 رقم: 9066، 9240) من طريقين عن ذواد بن عُلبة، عن ليث، عن مُجاهد، عن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُهجَّر، قال: فصليت، ثم جئت فجلست إليه، فقال: " يا أبا هريرة، اشكنْب درْد؟ "، قال: قلت: لا، يا رسول الله، قال: " صلِّ، فإن الصلاة شِفاء ". وأخرجه ابن ماجة وصاحبه أبو الحسن القطان في " زوائده " (رقم: 3458) والعقيلي في " الضعفاء " (2/ 48) وابن عدي (4/ 22) وأبو الشيخ في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " (رقم: 805) وابن الجوزي في " العلل المتناهية " (رقم: 269 _ 272) من طُرق أخرى عن ذوَّاد، عن ليث، به مرفوعاً. قال ابن عدي: " ثم وجدناه عن الصلت بن الحجاج عن الليث مرفوعاً أيضاً كما رفعه ذوَّاد بن علبة .. وأظن أن بعض الضعفاء أيضاً قد رواه عن ليثٍ فرفعه، وأظنه معلَّى بن هلال ". قلت: أسنده ابن عدي في ترجمة (الصلت) (5/ 130) وأبو الشيخ في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " (رقم: 806)، وابن الجوزي في " العلل " (رقم: 273) والصلت ضعيف منكر الحديث، قال ابن الجوزي: " لعله أخذه من ذوَّاد ". (¬2) التاريخ الأوسط (رقم: 1409) ومن طريقه: العُقيلي في " الضعفاء " (2/ 48) وابن عدي (4/ 23) وابن الجوزي في " العلل " (رقم: 275). وابن الأصبهاني هو: محمد بن سعيد بن سليمان، كان من الثقات الحفاظ، والمحاربي شيخه هو: عبد الرحمن بن محمد. (¬3) كما أسنده العقيلي (2/ 48) ومن طريقه: ابن الجوزي في " العلل " من طريق عبد الرحمن بن صالح، قال: حدثنا شريك، عن ليث، بإسناده موقوفاً. وكذلك ابن عدي (4/ 23) من طريق عبد السلام بن حرب، عن ليث، بإسناده موقوفاً. (¬4) العلل (1/ 172). (¬5) أخرجه ابن عدي (4/ 12) من رواية ابن أبي مريم عن يحيى، وإسناده صحيح، وفي رواية عثمان الدارمي (النص: 323): " ضعيف "، وفي رواية الدوري (النص: 1761) وجعفر بن أبان (كما في " المجروحين " 1/ 296): " ليس بشيء ".

الرازي: " ليس بالمتين، يكتب حديثه " (¬1)، وذكره أبو زرعة في " الضعفاء " (¬2)، وقال النسائي مرة: " ليس بالقوي "، ومرة: " ليس بثقة " (¬3)، وقال ابن حبان: " منكر الحديث جداً، يروي عن الثقات ما لا أصل له، وعن الضعفاء ما لا يعرف " (¬4). فإن قلت: لم لم يحمل الخطأ فيه على ليث بن أبي سليم، فإنه كان مضطرب الحديث ليس بالقوي؟ قلت: قد رواه ليث من وجه صحيح إليه بما لا يحمل معه الوهم في رفعه، والإسناد إن قطع الطريق فيه دون الراوي الضعيف، وذلك بعلة دونه، فلا يجوز أن يكون الحمل بعدها عليه، إلا أن تكون العلة غير مسقطة، فيكون التعليل بضعف ذلك الراوي زائداً في ضعف الحديث. تنبيه: هذه الطرق ربما عرف بها أيضاً كذب الكذابين، ولكشفهم طرق تزيد على هذا ذكرتها في (الحديث الموضوع)، ولم أذكرها هنا؛ من أجل أن الكذب فسق يقدح في العدالة، لا في الحفظ، وهذا المقام إنما هو لبيان ما كان يتبعه النقاد لتمييز حفظ الراوي أو لينه. * * * ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 453). (¬2) رواية البرذعي (2/ 615). (¬3) نقله المزي في " تهذيب الكمال " (8/ 521). (¬4) المجروحين (1/ 296).

المبحث السادس: حكم تحمل الحديث في الصغر

المبحث السادس: حكم تحمل الحديث في الصغر العبرة في الرواية بالضبط والتمييز، والقدرة على الأداء بعد على الوجه الذي سمع الراوي، فإن كان في سن لم يمنعه من ذلك، فسماعه صحيح. قال القاضي عياض: " متى ضبط ما سمعه صح سماعه، ولا خلاف في هذا " (¬1). وفي الصحابة جماعة كانوا صغاراً يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمعوا منه ورووا عنه، منهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، والمسور بن مخرمة، وعمر بن أبي سلمة، والسائب بن يزيد، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، والنعمان بن بشير، وغيرهم، وهؤلاء المذكورين ليس فيهم يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم من كان بلغ عشر سنين. وهناك جماعة من الصحابة، ثبت لهم شرف الصحبة، لكن لم يثبت لهم سماع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أدركوه صغاراً لا يميزون، منهم: محمود بن لبيد، على الأصح. قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي: متى يجوز سماع الصبي في ¬

(¬1) الإلماع (ص: 62).

الحديث؟ فقال: " إذا عقل وضبط "، قلت: فإنه بلغني عن رجل (سميته) أنه قال: لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد البراء وابن عمر، استصغرهم يوم بدر؟ فأنكر قوله هذا، وقال: " بئس القول! يجوز سماعه إذا عقل، فكيف يصنع بسفيان بن عيينة ووكيع؟! " وذكر أيضاً قوماً (¬1). قلت: ينكر أحمد في هذا مذهب صاحبه يحيى بن معين، فإنه قال: " حد الغلام في كتاب الحديث أربع عشرة سنة، أو خمس عشرة " (¬2). وقال أحمد في استدلال يحيى: " إنما ذلك في القتال " (¬3). أي هو استدلال غير صالح لهذه المسألة، فليست الرواية كالقتال، القتال يحتاج إلى قوة البدن , والرواية لا تحتاج إلا إلى قوة العقل، فإذا تبين من الصبي أنه يضبط، فقد تحقق المقصود. ويصحح هذا من مذهب أحمد ما رواه عنه حنبل بن إسحاق، قال: قال أبو عبد الله: " كان يحيى بن آدم أصغر من سمع من سفيان عندنا، وقال يحيى: قبيصة (¬4) أصغر مني بسنتين "، قلت له: فما قصة قبيصة في سفيان؟ فقال أبو عبد الله: " كان كثير الغلط "، قلت له: فغير هذا؟ قال: " كان صغيراً لا يضبط "، قلت له: فغير سفيان؟ قال: " كان قبيصة رجلاً صالحاً ثقة، لا بأس به في تدينه، وأي شيء لم يكن عنده في الحديث؟! " يذكر أنه كان كثير الحديث (¬5). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 113) بإسناد صحيح. ونحوه كذلك عنده (ص: 114) من وجه آخر. (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 113) بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه الخطيب (ص: 114) بإسناد صحيح. (¬4) هو ابن عقبة من صغار من روى عن سفيان الثوري. (¬5) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (12/ 474) وإسناده صحيح.

فتكلم فيه أحمد؛ لكونه من أجل صغره لم يضبط ما سمع من سفيان، فهو يقول: لو أنه ضبط ما ضره الصغر، فالشأن في الضبط. والظاهر أن يحيى بن معين إنما أراد سن النضج، ولم يرد أن الراوي يجرح في روايته عن الشيخ المعين لمجرد كونه حمل عنه في الصغر، وإنما جرحه لو كان، فمن جهة ضعف ضبطه، وذلك من أجل صغره. ومن الدليل على هذا أن ابن معين قال في (قبيصة): " قبيصة ثقة في كل شيء، إلا في سفيان؛ فإنه سمع وهو صغير " (¬1)، وروى عنه عباس الدوري قوله: " قبيصة وأبو أحمد الزبيري ويحيى بن آدم والفريابي، سماعهم من سفيان قريبٌ من السواء " قال عباس: قلت له: فأبو داود الحَفري؟ قال: كان أبو داود خيراً من هؤلاء كلهم، وكان أصغرهم سِنًّا (¬2). قلت: أبو داود هذا هو عُمر بن سعدٍ، رجحه ابنُ معين على قبيصة ومن معه في سفيان، وعده في رواية الدارمي عنه من ثقات أصحاب سفيان (¬3)، مع أنه كان أصغر سناً من قبيصة ومن معه. فمن جرى على غمز بعض الرواة بمجرد كونهم حملوا عن بعض شيوخهم في الصغر، لا يعتد بذلك كقادح في حديثهم، حتى يثبت أنهم لم يكونوا ضابطين: ومن أمثلة ما لا يقبل: 1 _ ما حكاه نعيم بن حماد ن قال: سمعت ابن عيينة يقول: " لقد أتى هشام بن حسان عظيماً بروايته عن الحسن "، قيل لنعيم: لم؟ قال " لأنه كان صغيراً " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (12/ 474) عن " تاريخ " ابن أبي خيثمة عن يحيى. (¬2) تاريخ يحيى ابن معين (النص: 1772). (¬3) تاريخ عثمان الدارمي (النص: 97). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 43) و " الجرح والتعديل " (4/ 2 / 56) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 103) وإسناده صحيح إلى نعيم، أما هو فصالحُ الأمر في مثل هذا.

قلت: إن كان مراد ابن عيينة ما فسر به نعيم من الصغر، فإنه في التحقيق ضعيف؛ لأسباب ثلاثة: أولها: أن بعض من حكي عنه غمز روايته عن الحسن لم يذكر أحد منهم الصغر، وفيهم بعض أقرانه، وهم أعلم، ولو كانت العلة من قبل الصغر لسبقوا إلى ذكرها. وثانيها: أنه ثبت عن هشام قوله: " جاورت الحسن عشر سنين " (¬1). قلت: وهذا دليل مساعد يثبت سماعه في الجملة من الحسن. وثالثها: أن ابن عيينة نفسه قد سمع وهو صغير من جماعة، كالزهري وعمرو بن دينار وابن أبي نجيح، واحتج الناس بحديثه عنهم، فيكف يصح له الجرح بالرواية لمجرد الصغر؟ والذي ظهر لي أن مراد ابن عيينة غير ذلك، وهو أن هشاماً كان يدلس عن الحسن، وهي مظنة واردة على كل ما لا يذكر فيه السماع الصريح من الحسن. قال علي من المديني: " حديثه عن الحسن عامتها يدور على حوشب " (¬2). قلت: وحوشب هذا هو ابن مسلم الثقفي من كبار أصحاب الحسن، وكان ثقة (¬3)، فلو دلسه هشام فيما يرويه عن الحسن بالعنعنة، فلا يقدح ذلك في ثبوت روايته عنه. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 2 / 56) وإسناده صحيح. (¬2) العلل، لابن المديني (ص: 63)، وعنه: في الجرح والتعديل (4/ 2 / 55). (¬3) انظر: طبقات ابن سعد (7/ 270) وتاريخ يحيى بن معين (النص: 4261) وسؤالات الآجري لأبي داود (النص: 737) والجرح والتعديل (1/ 2 / 281) والثقات لابن حبان (6/ 243).

لكن المقصود هنا تفسير مراد ابن عيينة، وهو هذا في الأصح. وقد حكى نعيم نفسه عن ابن عيينة أيضاً، قال: " كان هشام أعلم بحديث الحسن من عمرو بن دينار؛ لأن عمرو بن دينار لم يسمع من الحسن إلا بعد ما كبر " (¬1). 2 _ قول يحيى بن معين في (أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي ألاسود): " ما أرى به بأساً، ولكنه سمع من أبي عوانة (¬2) وهو صغير، وقد كان يطلب الحديث " (¬3). قلت: أبو بكر هذا ثقة حافظ، فغمزه ابن معين بغير مغمز، وإلا فأين ما رواه عن أبي عوانة ولم يضبطه؟ 3 _ وقول الحافظ محمد بن مسلم بن وارة في (عمرو بن هشام البيروتي): " كتبت عنه، كان قليل الحديث "، قيل له: ما حاله؟ قال: " ليس بذاك، كان صغيراً حين كتب عن الأوزاعي " (¬4). قلت: هو صدوق، قال فيه ابن عدي: " ليس به بأس " (¬5)، وما قاله ابن وارة تليين، وإنما يكون اللين من جهة الضبط، ومجرد الصغر كما تقدم لا ينافي الضبط. أما بعد عصر التدوين، ومصير الناس إلى رواية الكتب والأجزاء، فإن المتأخرين سهلوا في السماع في الصغر حتى بالغوا فيه. ومن أقدم ذلك سماع إسحاق بن إبراهيم الدبري من عبد الرزاق ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 2 / 54 _ 55) وإسناده صحيح إلى نعيم. (¬2) الوضَّاح بن عبد الله. (¬3) معرفة الرجال، رواية: ابن محرز (1/ 90). (¬4) الجرح والتعديل (3/ 1 / 268). (¬5) ذكر ذلك في ترجمة (سليمان بن أبي كريمة) (4/ 250).

الصنعاني كتبه، كـ" المصنف "، و " التفسير "، وكان صغيراً، قال الحافظ إبراهيم الحربي: " مات عبد الرزاق، وللدبري ست سنين أو سبع سنين " (¬1). وقال ابن عدي: " استصغر في عبد الرزاق، أحضره أبوه عنده وهو صغير جداً، فكان يقول: (قرأنا على عبد الرزاق) أي قرأ غيره وحضر صغيراً، وحدث عنه بحديث منكر " (¬2). قلت: والحمل في تلك النكارة على غيره، إذ في الإسناد مجروح (¬3). ثم إن وجد في تلك الكتب شيء، فينبغي أن يؤخذ فيها على عبد الرزاق، خلافاً لبعض أئمة الحديث، وذلك من أجل أنه اختلط بأخرة (¬4)، سوى بعض التصحيف مما أخذ على الدبري، وليس بضاره في أصل سماعه، فإنه في الجملة سماع صحيح؛ لذلك اعتمد من جاء من بعد على ما رواه من كتب عبد الرزاق. * * * ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 116) بإسناد صحيح. (¬2) الكامل (1/ 560) و " سِير أعلام النبلاء " للذهبي (13/ 417). (¬3) وقال الذهبي: " لعلَّ النكارة من شيخه، فإنه أضرَّ بأخرةٍ " (سير أعلام النبلاء 13/ 417). قلت: بل في الإسناد عبدُ الرحمن بن زياد بن أنعم، وهو ضعيف. (¬4) قال الحافظ ابن الصلاح في " علوم الحديث " (ص: 396): " قد وَجدت فيما رُوي عن الطبراني عن إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق أحاديث استنكرها جِداً، فأحلْتُ أمرها على ذلك، فإن سماع الدبري منه مُتأخرٌ جِداً ".

المبحث السابع: حكم الرواية بالمعنى

المبحث السابع: حكم الرواية بالمعنى اختلف المتقدمون في شأن جواز رواية الحديث بالمعنى على مذهبين مشهورين: المذهب الأول: جواز الرواية بالمعنى وثبتت الرواية به عن أكثر الأئمة من السلف، منهم: واثلة بن الأسقع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد المكي، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، وعمرو بن دينار، والزهري، وجعفر الصادق، والشافعي، وسفيان الثوري، وحماد بن زيد، ووكيع بن الجراح، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. وروي عن عبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وعائشة، ولم بثبت عنهم. وروي مرفوعاً في جواز الرواية بالمعنى أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: عن واثلة بن الأسقع، وعبد الله بن عمرو، وسليمان بن أكيمة الليثي، وأبي هريرة، وعبد الله بن مسعود، ورجل من الصحابة، ولا يثبت منها شيء، وليس فيها ما تتقوى به (¬1). ¬

(¬1) كما شرحت ذلك في " تنقيح النقول من نوادر الأصول " (رقم: 98 _ 101).

ومن دليل أصحاب هذا المذهب: ما جاء عن يحيى بن سعيد القطان، قال: " أخاف أن يضيق على الناس تتبع الألفاظ؛ لأن القرآن أعظم حرمة، ووسع أن يقرأ على وجوه إذا كان المعنى واحداً " (¬1). وقال الرامهرمزي: " ومن الحجة لمن ذهب إلى هذا المذهب: أن الله تعالى قد قص من أنباء ما قد سبق قصصاً، كرر ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير، والحذف والإلغاء، والزيادة والنقصان، وغير ذلك " (¬2). كذلك قال الخطيب: " اتفاق الأمة على أن للعالم بمعنى خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وللسامع بقوله، أن ينقل معنى خبره بغير لفظه، وغير اللغة العربية، وأن الواجب على رسله وسفرائه إلى أهل اللغات المختلفة من العجم وغيرهم أن يرووا عنه ما سمعوه وحملوه مما أخبرهم به وتعبدهم بفعله على ألسنة رسله، سيِّما إذا كانوا السفير يعرف اللغتين، فإنه لا يجوز أن يكل ما يرويه إلى ترجمان وهو يعرف الخطاب بذلك اللسان؛ لأنه لا يأمن الغلط وقصد التحريف على الترجمان، فيجب أن يرويه بنفسه. وإذا ثبت ذلك صح أن القصد برواية خبره وأمره ونهيه إصابة معناه وامتثال موجبه، دون إيراد نفس لفظه وصورته. وعلى هذا الوجه لزم العجم وغيرهم من سائر الأمم دعوة الرسول إلى دينه , والعلم بأحكامه. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (316) وإسناده جيد. كما روى معناه من وجهٍ آخر. (¬2) المحدث الفاصل (ص: 530)، وذكر أن مثل هذا الاستدلال قد حُكي عن الحسن البصري، وساقه، لكن في إسناده نظرٌ.

المذهب الثاني: التمسك باللفظ

ويدل على ذلك: أنه إنما ينكر الكذب والتحريف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغيير معنى اللفظ، فإذا سلم راوي الحديث على المعنى من ذلك، كان مخبراً بالمعنى المقصود من اللفظ وصادقاً على الرسول الله صلى الله عليه وسلم " (¬1). وابن حزم يعيد ما يكون من اختلاف الألفاظ في بعض الروايات إلى سبب آخر، فيقول: " ليس اختلاف الروايات عيباً في الحديث إذا كان المعنى واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث، كرره ثلاث مرات، فنقل كل إنسان بحسب ما سمع، فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحداً " (¬2). قلت: لكن هذا الاستدلال ضعيف لما يقع من الاختلاف في الرواية المتحدة المخرج عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو الشأن في الحديث الذي قصده ابن حزم بهذا التنبيه، فإنه حديث واحد، مخرجه رواية أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه أبو بردة، وعنه بريد بن عبد الله، ووقع في روايات الرواة عنه اختلاف في بعض الألفاظ، فهذا لا يحسن الاستدلال لمثله بمثل ما صنع ابن حزم. وأحسبه ألجأه إلى ذلك تشديده في منع رواية الحديث بالمعنى أصلاً، فإنه قال: " من حدث وأسند القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يحل له إلا أن يتحرى الألفاظ كما سمعها، لا يبدل حرفاً مكان آخر، وإن كان معناهما واحداً، ولا يقدم حرفاً ولا يؤخر آخر " (¬3). والمذهب الثاني: التمسك باللفظ وثبتت الرواية به عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، ونافع مولى ابن عمر، والقاسم بن محمد، ومحمد بن سيرين، ورجاء بن حيوة، وأبي معمر ¬

(¬1) الكفاية (ص: 303 _ 304). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 139). (¬3) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 86).

الأزدي، وعبد الله بن طاوس، ومالك بن أنس، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم. وأصله من السنة حديثان صحيحان: الأول: عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نضر (¬1) الله امرأً سمع منا حديثاً، فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع " (¬2). ¬

(¬1) بالتخفيف أصح. قال الرامهرمزي: " قوله صلى الله عليه وسلم: نضَر الله امرأً، مُخففٌ، وأكثر المحدثين يقوله بالتثقيل إلا من ضبط منهم، والصواب التخفيف، ويحتمل معناه وجْهين: أحدهما: يكون في معنى ألبسه الله النضرة، وهي الحُسنُ وخلوصُ اللون، فيكون تقديره: جمَّله الله وزينه. والوجه الثاني: أن يكون في معنى أوْصله الله إلى نضرة الجنة، وهي نِعمتها ونضارتها " ثم استدل لذلك (المحدث الفاصل، ص: 167)، وانظُر كذلك: تَصحيفات المحدثين، لأبي أحمد العَسكري (1/ 358). (¬2) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (رقم: 2657) وأبو يعلى (9/ 198 رقم: 5296) والبزار (5/ 382 رقم: 2014) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 9، 10) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 166) والهيثم الشاشي في " مسنده " (رقم: 276) وابن حبان (رقم: 66، 68) وأبو عمرو المديني في " جزء حديث: نضَر الله امرأ سمع مقالتي " (رقم: 1، 2) والخليلي في " الإرشاد " (2/ 698 _ 699) من طُرق عِدة عن سِماك بن حربٍ، قال: سمعت عبدَ الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، به. رواه عن سماك من الثقات: شُعبة بن الحجاج، وعلي بن صالح، وحماد بن سلمة، وإسرائيل بن يونس، وعمرْو بن أبي قيس. وسماك صدوق جيد الحديث في غير روايته عن عكرمة مولى ابنِ عباس. تابعه عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه، به. أخرجه البزار (5/ 385 رقم: 2019) وابن عدي في " الكامل " (8/ 223) من طريقين عن مِهران بن أبي عُمر، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الملك. قلت: وهذه طريقٌ حسنة، طريق البزار عن مِهران صحيح، ومِهران صدوق فيه لين، ومن فوقه ثقات، وإن كانَ قد أغرب بهذا عن إسماعيل بن أبي خالد. ورواه إسحاق بن منصور السلولي عن هُريم بن سفيان، وجعفرِ بن زياد الأحمر، كلاهما عن عبد الملك، به. أخرجه الطبراني في " الأوسط " (2/ 179 _ 180 رقم: 1326 وفي سنده سقط) والسهمي في " تاريخ جُرجان " (ص: 199 _ 200) والخطيب في " الكفاية " (ص: 267). كما أخرجه مُقتصراً على (هُريم) فقط: البيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 23) من طريق إسحاق بن منصور، وابن جُميع في " مُعجمه " (ص: 315) من طريق يحيى بن أبي بُكير، كلاهما عن هُريم. قلت: وإسناده صحيح، هريم وجعفرٌ ثقتان. وقد قال الترمذي: " حديث حسنٌ صحيح ".

وهذا المعنى مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه. ومما يتعلق به منا أيضاً في هذا الباب مما ثبت إسناده: حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأً سمع قولي، ثم لم يزد فيه " وذكر سائر الحديث (¬1). والحديث الثاني: عن البراء بن عازب، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهم آخر ما تتكلم به ". قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت: " اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت " قلت: ورسولك، قال: " لا، ونبيك الذي أرسلت " (¬2). ¬

(¬1) حديث حسنٌ. أخرجه أبو عمْرو المديني في " جزئه في هذا الحديث " والحاكم في " المدخل إلى الصحيح " (ص: 85 _ 86) وفي إسناده تحريف) وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (رقم: 199) من طُرقِ عن عبد الجبار بن عاصم، قال: حدثنا هانئ بن عبد الرحمن بن أبي عبلةَ، عن إبراهيم بن أبي عبلةَ، حدثني عقبة بن وَساج، عن أنس، به. قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله غيرُ هانئ ثقات، أما هوَ فلا بأس به. (¬2) حديث صحيح. مُتفق عليه: أخرجه البُخاري (رقم: 244، 5952) ومُسلم (رقم: 2710) من طريق سعْد بن عبيدة، حدثني البراء، به. ورواه غيره عن البراء.

تحرير القول في دلالة هذين الحديثين: أجاب الرامهرمزي بقوله: " قوله: (فأداها كما سمعها) فالمراد منه حكمها لا لفظها، لأن اللفظ غير معتبر به، ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله: (فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) " (¬1). وأقول: كذلك فإن هذا في حق من لم يكن بفقيه، فهو إذا روى بالمعنى فربما حرف فيه، وشرط جواز الرواية بالمعنى: أن يكون عالما ً بما رواه بالمعنى. ثم إن هذا الحديث نفسه قد نقله الناقلون الثقات فاختلفوا في لفظه، واتفقوا في معناه، فذلك في نفسه دليل على صحة الرواية بالمعنى، ومبطل للاستدلال به على منع ذلك بإطلاق (¬2). وأما رده عليه السلام الرجل من قوله: (برسولك) إلى قوله: (وبنبيك)، فإن النبي أمدح، ولكل نعت من هذين النعتين موضع، ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة، واسم النبي لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام؟ وإنما فضل المرسلون من الأنبياء؛ لأنهم جمعوا النبوة والرسالة جميعاً، فلما قال: (وبنبيك الذي أرسلت) جاء بالنعت الأمدح، وقيده بالرسالة بقوله: (الذي أرسلت). وبيان آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو المعلم للرجل الدعاء، وإنما القول في اتباع اللفظ إذا كان المتكلم حاكياً لكلام ¬

(¬1) هذا السياق الذي علَّق عليه الرامهرمزي للحديث، جاءَ من رواية أبي الحويْرث عبْد الرحمن بن معاوية، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " نضر الله امرأً سمع مقالتي، فحفظها، فأداها كما سمعها، فرُب حامل فِقه إلى من هو أفقه منه، وربَّ حاملِ فقه غيرُ فقيه ". أخرجه البزار (8/ 342 رقم: 3416) وإسناده حسن. وهو مُخرَّجٌ في غير موضعٍ نحوه، كما رواه كذلك غيرُ أبي الحويرث عن مُحمد بن جبير. (¬2) وانظر: الكفاية، للخطيب (ص: 305).

تحرير عدم معارضة هذا للمذهب الأول

غيره، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل الرجل من قوله: (وبرسولك) إلى قوله: (وبنبيك) ليجمع بين النبوة والرسالة، ومستقبح في الكلام أن يقول: (هذا رسول عبد الله الذي أرسله)، و (هذا قتيل زيد الذي قتله)؛ لأنك تجتزئ بقولك: (رسول فلان) و (قتيل فلان) عن إعادة اسم المرسل والقاتل، إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول، وإنما يحسن أن تقول: (هذا رسول عبد الله الذي أرسله إلى عمرو)، و (هذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس) أو: (في وقعة كذا) " (¬1). قلت: وهذا الجواب محقق للغرض في الإبانة عن دلالة هذين الخبرين، وليس فيهما مقابلة لما استدل به الجمهور على الجواز. ثم إن جميع المنقول عمن ذهب هذا المذهب من السلف ليس فيه قول واحد مقتضاه المنع للرواية بالمعنى، وإنما على معنى الاجتهاد في الإتيان بالحديث على لفظه ما أمكن، وهذا مقصد لم يتجاوزه المجوزون، بل المعروف عنهم الاجتهاد في الألفاظ، لكن للمشقة سهلوا أن يؤدى الحديث على المعنى، وليس ذلك عندهم بإطلاق، وإنما بشرط أن يكون مؤديه على هذا الوجه فقيها ً عالماً بما يحيل المعاني، لئلاَّ يقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. فالأصل الذي لا يختلف فيه: أن يؤديه بلفظه، وهذا بلا ريبة أبرأ للذمة، وأنفع للأمة، وأبعد عن التهمة. كما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: " من سمع حديثاً، فحدث به كما سمع، فقد سلم " (¬2). ¬

(¬1) المحدث الفاصل (ص: 531 _ 532)، ومعناه في " الكفاية " (ص: 306). (¬2) أثرٌ صالح. أخرجه مسلم في " التمييز " (رقم: 9) والرامهرمزي (ص: 538) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 267) وإسناده صحيح، فيه الرديني بن أبي مجلز وهو شيخ ليس بالمشهور، وسائر الإسناد إما ثقةٌ وإما صدوقٌ.

مسائل

والأداء باللفظ محقق لصاحبه ثواب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في الحديث المتقدم. لكن ذلك لا يتجاوز درجة الاستحباب، وقد كان محمد بن سيرين من أشد من كان يبالغ في الألفاظ، ومع ذلك كان يقول: " كنت أسمع الحديث من عشرة، اللفظ مختلف والمعنى واحد " (¬1). فلم يمنعه تشدده في أداء الحديث بلفظه الذي سمع، أن يكون سمعه ممن فوقه على المعنى. وحيث إن العبرة في نصوص السنة ما تدل عليه من الأحكام والشرائع، فإن الأداء للحديث بمعناه عند مشقة الإتيان بلفظه، محقق للغرض، ما دام المعنى صحيحاً موافقاً لدلالة أصل لفظه. نعم، الرواية بالمعنى استعمال الراوي لاجتهاده في الألفاظ في سياقه الحديث، وهذا قد يقع له فيه الغلط، ولذا، فإن من صور العلل الواردة على الأحاديث النبوية: التعليل بالخطأ بسبب الرواية بالمعنى. وتتفرع عن هذا المبحث مسائل: المسألة الأولى: هل يجوز اختصار الحديث؟ عن عبد الله بن المبارك، قال: " علَّمنا سفيان اختصار الحديث " (¬2). ¬

(¬1) أثرٌ صحيح. أخرجه عبد الرزاق (11/ 327، 451، رقم 20672، 20977) ومن طريقه: ابن سعد (7/ 194) والترمذي في (العلل) في آخر " الجامع " (6/ 239) ويعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 64) والخطيب في " الكفاية " (ص: 311) وابن عبد البر في " بيان العلم " (رقم: 464، 465) _ أخبرنا مَعْمرٌ، عن أيوب، عن ابن سيرين، به. قلت: هذا إسناد صحيح. وأخرجه الرامهرمزي (ص: 534) من طريق الواقدي، حدثنا مَعمر، به. (¬2) أخرجه الرامهرمزي (ص: 543) من طريق ابن عائشة عن ابن المبارك، به. وفي إسناده شيخ الرامهرمزي وهُو أبوه لم أقف على بيان أمْره.

وذهب بعض أئمة الحديث إلى المنع من ذلك. قال يحيى بن آدم: " ما رأيت أحداً يختصر الحديث إلا وهو يخطئ، إلا ابن عيينة " (¬1). وقال العباس بن محمد الدوري: سئل أبو عاصم النبيل: يكره الاختصار في الحديث؟ قال: " نعم؛ لأنهم يخطئون المعنى " (¬2). قال الخطيب وقد ذكر اختلافاً لأهل العلم بالحديث في ذلك جوازاً ومنعاً: " الذي نختاره في ذلك: أنه إن كان فيما حذف من الخبر معرفة حكم وشرط وأمر لا يتم التعبد والمراد بالخبر إلا بروايته على وجهه، فإنه يجب نقله على تمامه، ويحرم حذفه؛ لأن القصد بالخبر لا يتم إلا به، فلا فرق بين أن يكون ذلك تركاً لنقل العبادة، كنقل بعض أفعال الصلاة، أو تركاً لنقل فرض آخر هو الشرط في صحة العبادة، كترك نقل وجوب الطهارة ونحوها، وعلى هذا الوجه يحمل قول من قال: لا يحل اختصار الحديث " (¬3). ثم بين الخطيب بما لا مزيد عليه الصورة التي يجوز معها الاختصار للحديث، أو تقطيعه، بما يجمع بين مذاهب العلماء ويجري على المعقول الصحيح، فقال: " فإن كان المتروك من الخبر متضمناً لعبارة أخرى، وأمراً لا تعلق له بمتضمن البعض الذي رواه، ولا شرطاً فيه؛ جاز للمحدث رواية الحديث على النقصان، وحذف بعضه، وقام ذلك مقام خبرين متضمنين عبارتين منفصلتين وسيرتين وقضيتين لا تعلق لإحداهما بالأخرى، فكما يجوز لسامع الخبر فيما تضمنه مقام الخبرين اللذين هذه حالهما رواية أحدهما دون ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي خيثمة في (أخبار المكيين) من " تاريخه " (ص: 382) بإسناد صالح. (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 291) وإسناده صحيح. (¬3) الكفاية (ص: 290).

المسألة الثانية: تقطيع متن الحديث وتفريقه في الأبواب

الآخر، فكذلك يجوز لسامع الخبر فيما تضمنه مقام الخبرين المنفصلين رواية بعضه دون بعض " (¬1). قال الخطيب: " وإن كان النقصان من الحديث شيئاً لا يتغير به المعنى، كحذف بعض الحروف والألفاظ، والراوي عالم واع محصل لما يغير المعنى وما لا يغيره من الزيادة والنقصان، فإن ذلك سائغ له على قول من أجاز الرواية على المعنى، دون من لم يجز ذلك " (¬2). وفي اختلاف الفقهاء مسائل عديدة، يعود سبب اختلافهم فيها إلى اختلاف روايات الحديث اختصاراً وإتماماً، فيستدل كل فريق بما وقع له من الرواية، والواجب في هذا أن تعاد الرواية المختصرة للمطولة التامة، لتفسر ما أبهم منها. المسألة الثانية: تقطيع متن الحديث من أجل تفريقه في الأبواب: إذا كان المتن متضمناً لما يمكن أن يستقل عن غيره مما جاء في نفس سياقه، فلا حرج في فصل الجزء المستقل منه ليوضع فيما يناسبه من بابه، فإن السورة من القرآن تستل الآية منها للاستدلال بها في الباب من الأبواب، وكذلك ينبغي أن يكون الحديث، إذا صح وجود معنى الاستقلال للجزء المقطوع منه. وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري: سألت أبا عبد الله (يعني أحمد) عن الرجل يسمع الحديث، وهو إسناد واحد، فيقطعه ثلاثة أحاديث؟ قال: " لا يلزمه كذب، وينبغي أن يحدث بالحديث كما سمع، ولا يغيره " (¬3). ¬

(¬1) الكفاية (ص: 292). (¬2) الكفاية (ص: 293). (¬3) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 166).

المسألة الثالثة: إحالة الرواية على سياق مذكور

قلت: ولا ريب أن اعتبار هذا المعنى الذي ذكره أحمد إنما هو عند أداء الحديث من قبل الراوي، أما الاستدلال منه بقصد الاستدلال فالفسحة فيه أظهر. والواقع التطبيقي في مصنفات الحديث، خصوصاً تلك التي اعتنت بالأبواب، كثرة وقوع ذلك فيها، و (صحيح البخاري) من أكثرها استعمالاً لذلك. المسألة الثالثة: إحالة الرواية على سياق مذكور: المقصود به: أن يسوق مخرج الخبر حديثاً بإسناده ومتنه، ثم يخرج بعده متابعة أو شاهداً، فلا يسوق اللفظ، ويقول بعد الفراغ من الإسناد مثلاً: (مثله) أو (نحوه)، يحيل على اللفظ المتقدم. وهذا لا حرج فيه، ويكثر عند أهل الحديث استعماله، لكن يجب الاحتياط في حكاية لفْظ الرواية المحالة. قال الحاكم: " مما يلزم الحديثي من الضبط والإتقان إذا روى حديثاً وساق المتن، ثم أعقبه بإسناد آخر: أن يُفرَّق بين أن يقول: (مثله)، (أو نحوه)، فإنه لا يَحل له أن يقول: (مثله) إلا بعد أن يقف على المتنين جميعاً، فيعلم أنهما على لفظٍ واحد، وإذا لم يُميز ذلك، جاز أن يقول: (نحوه)، فإذا قال: (نحوه) بين أنه مثل معانيه " (¬1). ويتفرغ عن هذه المسألة: هل يصح سياق نفس المتن المذكور للرواية الأولى للإسناد الثاني؟ الجواب: اختلف في ذلك المتقدمون، فوسع فيه سفيان الثوري في (مثله) و (نحوه)، ووافقه النقل عن يحيى بن معين في (مثله) خاصة، ومنع شعبه بن الحجاج من ذلك فيهما (¬2). ¬

(¬1) سؤالات مسْعود السجزي للحاكم (النص: 123، 322). (¬2) خرَّج الروايات بذلك عنهم الخطيب في " الكفاية " (ص: 319، 320) بأسانيد صحيحة. وكذلك النقل عن ابن معين موجود في " تاريخه " (النص: 2264).

والاحتياط فيه أولى، وذلك بأن يقول مثلاً: (مثل حديث قبله متنه كذا وكذا) أو (نحو حديث قبله متنه كذا وكذا)، وهو اختيار الخطيب. ومما يقويه ما ذكر هـ ابن حجر عن صنيع مسلم في " صحيحه " إذا قال: (مثله)، وقد كان من أدق الناس في تمييز الألفاظ: " الذي يظهر أن مسلماً لا يقصر لفظ المثل على المساوي في جميع اللفظ والترتيب، بل هو في المعظم إذا تساويا في المعنى " (¬1). وفي باب الاعتبار، لا مانع من الاعتبار بالإسناد الثاني في تقوية الأول، اعتماداً على المحدث فيما ادعاه من المثلية أو النحوية، وإن كان الأولى الاجتهاد للوقوف على متن ذلك الإسناد في مصادر السنن والأخبار. * * * ¬

(¬1) فتح الباري (2/ 146).

المبحث الثامن: مسائل متممة لركن الضبط

المبحث الثامن: مسائل متممة لركن الضبط المسألة الأولى: إصلاح الخطأ في السماع أو الكتاب هل ينافي الضبط؟ قال أبو معمر عبد الله بن سخبرة الأزدي: " إني لأسمع الحديث لحناً، فألحن؛ اتباعاً لما سمعت " (¬1). وقال إسماعيل بن أمية: " كنا نرد نافعاً عن اللحن، فيأبى إلا الذي سمع " (¬2). وقال عيسى بن يونس: قال رجل للأعمش: إن كان ابن سيرين ليسمع الحديث فيه اللحن، فيحدث به على لحنه. فقال الأعمش: " إن كان ابن سيرين يلحن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلحن "، يقول: قومه (¬3). ¬

(¬1) أثرٌ صحيح. أخرجه الدارمي (رقم: 325) والرامهرمزي (ص: 540) وإسناده صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة (9/ 56) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1053) بإسناد رجاله ثقات، والخطيب في " الكفاية " (ص: 285) بإسناد يعتبر به، ومعناه للخطيب كذلك من وجْهٍ آخر، لكن في إسناده يحيى بن عبد الحميد الحماني وليس بثقة، وأبو معْمر من ثقات التابعين من أصحاب ابن مسعود. (¬2) أثرٌ صحيح. أخرجه مسلم في " التمييز " (رقم: 14) والخطيب في " الكفاية " (ص: 285 _ 286) و " الجامع " (رقم: 1055) وإسناده صحيح. وكذلك معناه عندَ ابن أبي شيبة (9/ 56) بإسناد صحيح. ونافع: هو مولى عبد الله بن عمر. (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 295، 365) بإسناد صحيح.

وقال الأوزاعي: لا بأس بإصلاح الخطأ واللحن والتحريف في الحديث " (¬1). وقال الأوزاعي أيضاً: " أعربوا الحديث، فإن القوم كانوا عرباً " (¬2). وقال علي بن الحسن بن شقيق: قلت لعبد الله (يعني ابن المبارك): الرجل يسمع الحديث فيه اللحن، يقيمه؟ قال: " نعم، كان القوم لا يلحنون " (¬3). وسئل أحمد بن حنبل: يجيء الحديث فيه اللحن وشيء فاحش، فترى أن يغير؟ أو يحدث به كما سمع؟ قال: " يغيره _ شديداً _، إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يلحنون، إنما يجيء اللحن ممن هو دونهم، يغير _ شديداً (¬4) _ " (¬5). وقال عباس الدوري: قلت ليحيى (يعني ابن معين): ما تقول في الرجل يقوم للرجل حديثه، ينزع عنه اللحن؟ فقال: " لا بأس به " (¬6). وسئل النسائي عن اللحن في الحديث؟ فقال: " إن كان شيئاً تقوله العرب وإن كان في غير لغة قريش فلا يغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلم الناس ¬

(¬1) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه " (1/ 265) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 524) والخطيب في " الكفاية " (ص: 365) و " الجامع " (رقم: 1060) وابن عبد البر في " بيان العلم " (رقم: 457) بإسناد صحيح. ورُوي عن عامر الشعبي نحو هذا، لكنه من طريق جابر الجُعفي عنه، وجابرٌ ليس بثقة. (¬2) أخرجه أبو زرعة في " تاريخه " (1/ 265) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 524) والخطيب في " الكفاية " (ص: 296) وابن عبد البر في " بيان العلم " (رقم: 454، 455) وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 297) وإسناده صحيح. (¬4) الأشْبه أن يكون هذا من قبيل الوصْف لتأكيد قول أحمد، أي قال: يُغير مُشدداً في ذلك، وعليه فهذه الكلمة في الموضعين من قول ابن هانئ ناقل هذا عن أحمد. (¬5) مسائل أحمد بن حنبل، رواية ابن هانئ النسابوري (2: 234 _ 235). (¬6) تاريخ يحيى بن معين (النص: 4195).

بلسانهم، وإن كان ما لا يوجد في كلام العرب فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلحن " (¬1). قال الحافظ الرامهرمزي: " أما تغيير اللحن، فوجوبه ظاهر؛ لأن من اللحن ما يزيل المعنى ويغيره عن طريق حكمه، وكثير من رواة الحديث لا يضبطون الإعراب ولا يحسنونه، وربما حرفوا الكلام عن وجهه، ووضعوا الخطاب في غير موضعه، وليس يلزم من أخذ عن هذه الطائفة أن يحكي ألفاظهم إذا عرف وجه الصواب، إذا كان المراد من الحديث معلوماً ظاهراً، ولفظ العرب به معروفاً فاشياً، ألا ترى أن المحدث إذا قال: (لا يؤم المسافر المقيم) فنصب المسافر ورفع المقيم .. ؛ كان قد أحال " (¬2). قلت: والقول بجواز نقل الحديث على المعنى بشروطه يصحح مذهب من قال: يغير اللحن، بل ينبغي أن يجوزه حتى من أوجب اتباع اللفظ؛ لما علل به أحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فالذي يوجبه اتباع اللفظ أن يصلح اللحن؛ ليأتي على وفاق لفظ النبي صلى الله عليه وسلم. لكن قال القاضي عياض: " حماية باب الإصلاح والتغيير أولى؛ لئلا يجسر على ذلك من لا يحسن، ويتسلط عليه من لا يعلم " وبين أنه يحكى كما جاء ويبين (¬3). وقال: " وأحسن ما يعتمد عليه في الإصلاح أن ترد تلك اللفظة المغيرة في أحاديث أخرى، فإن ذكرها، على الصواب في الحديث آمن أن يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل بخلاف إذا كان إنما أصلحها بحكم علمه ومقتضى كلام العرب " (¬4). ¬

(¬1) الإلماع، للقاضي عِياض (ص: 183). (¬2) المحدث الفاصل (ص: 527). (¬3) الإلماع (ص: 186 _ 187). (¬4) الإلماع (ص: 187).

المسألة الثانية: حكم رواية الضرير

المسألة الثانية: حكم رواية الضرير من الكتاب. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي، قلت: ما تقول في سماع الضرير البصر؟ قال: " إذا كان يحفظ من المحدث فلا بأس، وإذا لم يكن يحفظ فلا، قد كان أبو معاوية الضرير إذا حدثنا بالشيء الذي يرى أنه لم يحفظه يقول: في كتابنا، أو: في كتابي عن أبي إسحاق الشيباني، فلا يقول: حدثنا، ولا سمعت ". قلت: فالأمي؟ قال: " هو كذلك بهذه المنزلة، إلا ما حفظ من المحدث " (¬1). وقال أبو معاوية: " ما سعت من الشيخ وحفظته عنه قلت: حدثنا، وما قرئ علي من الكتب قلت: ذكر فلان " (¬2). قال الخطيب: " ونرى العلة التي لأجلها منعوا صحة السماع من الضرير والبصير الأمي، هي جواز الإدخال عليهما ما ليس من سماعهما " (¬3). قلت: وهذه العلة إذا انتفت بتحفظ الراوي واحتياطه المانع من هذه المظنة، فلا مانع في صحة الرواية عنه. المسألة الثالثة: تساهل الرواة في الإتقان فيما بعد رأس سنة ثلاث مئة. قال الذهبي مبيناً شرطه في " الميزان ": " من قد تكلم فيه من المتأخرين لا أورد منهم إلا من قد تبين ضعفه واتضح أمره من الرواة؛ إذ العمدة في زماننا ليس على الرواة؛ بل على المحدثين والمقيدين، والذين عرفت عدالتهم وصدقهم في ضبط أسماء السامعين. ثم من المعلوم أنه لا بد من صون الراوي وستره. فالحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس سنة ثلاث مئة. ولو فتحت على نفسي تليين هذا الباب لما سلم معي إلا ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 338) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 379) وإسناده صحيح. (¬3) الكفاية (ص: 339).

القليل، إذ الأكثر لا يدرون ما يروون، ولا يعرفون هذا الشأن، إنما سمعوا في الصغر، واحتيج إلى علو سندهم في الكبر، فالعمدة على من قرأ لهم، وعلى من أثبت طباق السماع لهم " (¬1). وفي ترجمة (أبي بكر بن خلاد) المتوفى سنة (359) نقل الذهبي في " السير " توثيقه عن بعض النقاد، ونقل عن الخطيب قوله فيه: " كان لا يعرف شيئاً من العلم، غير أن سماعه صحيح "، ثم قال الذهبي: " فمن هذا الوقت، بل وقبله، صار الحفاظ يطلقون هذه اللفظة على الشيخ الذي سماعه صحيح بقراءة متقن وإثبات عدل، وترخصوا في تسميته بالثقة، وإنما الثقة في عرف أئمة النقد كانت تقع على العدل في نفسه، المتقن لما حمله، الضابط لما نقل، وله فهم ومعرفة بالفن، فتوسع المتأخرون " (¬2). قلت: وحيث تبين مرادهم فلا يوجب سوى الاحتياط في تحقيق هذا المراد، إذ العبرة بصحة نقل الكتب والأجزاء. * * * ¬

(¬1) ميزان الاعتدال (1/ 4). (¬2) سير إعلام النبلاء (16/ 69).

المبحث التاسع: أصول في تعديل الرواة

المبحث التاسع: أصول في تعديل الرواة الأصل الأول: هل ترتفع الجهالة وتثبت العدالة بتزكية ناقد واحد للراوي، وكذلك الجرح؟ علمنا مما تقدم أن عدالة الراوي الموجبة لقبول حديثه هي التي تحقق فيها وصفان: العدالة الدينية، والضبط. والطريق إلى العلم بها في شأن الرواة موقوف على تزكية العارفين بالنقلة، والقائمة عندهم على سلامة الراوي من القوادح في دينه، وذلك بالمشهور من سيرته وأخباره أو بناء على أصل السلامة، وعلى براءة رواياته من المخالفة والنكارة، فيحكمون بكون هذا الراوي (ثقة) مثلاً. هذا التعديل هل يكفي فيه قول ناقد واحد؟ اختلفوا في إثبات عدالة الشاهد: فمن الفقهاء من أوجب اجتماع اثنين على تزكيتة، ومنهم من أجاز الاكتفاء بواحد، وجر بعضهم الخلاف إلى الراوي. والتحقيق والذي عليه العمل: صحة الاكتفاء بتعديل واحد ثبتت له أهلية النقد للنقلة، ومن يصحح العمل بخبر الواحد، وهم الجميع في التحقيق، فيجب أن يصح على مذهبه قبول تزكية الواحد الكفؤ (¬1). ¬

(¬1) وانظر: الكفاية، للخطيب (ص: 162)، البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين (1/ 622).

الأصل الثاني: هل يتوقف قبول التعديل على العلم بأسبابه؟

وكذلك الجرح، لا يطلب له غير كفاءة الناقد. ولا فرق في هذا بين كون الراوي روى عنه جمع أو لم يرو عنه إلا واحد ثقة، على التحقيق، كما سيأتي في (الأصل الثالث)، فإن العلم بشخصه وثبوت عينه مع سلامة حديثه من الضعف كاف للناقد أن يحكم بثقته، ويعتمد في ذلك قوله. الأصل الثاني: هل يتوقف قبول التعديل على العلم بأسبابه؟ التحقيق من مذاهب أهل العلم أن التعديل لا يطلب فيه الإبانة عن السبب؛ لأن أسباب الصلاح والضبط كثيرة يعسرها حدها، إذ هي خبرة به لا تقف عند صفة من صفاته لتذكر، بخلاف التجريح، فإن صفة واحدة قد تكون مؤثرة فيه قادحة. فإذا قال الناقد: (فلان ثقة) كان قوله واجب القبول بهذا الإطلاق، وهو على معنى ثبوت عدالة وضبط ذلك الراوي جميعاً. الأصل الثالث: الراوي إذا عرف شخصه من رواية ثقة واحد أو أكثر عنه، ولم يثبت عليه قادح في دينه، وسلم حديثه من المنكرات، فهو عدل ثقة يحتج بخبره. هذا الأصل في التحقيق منهج عامة المتقدمين من أئمة الحديث في قبول أحاديث النقلة. فإن الرجل إذا ارتفعت عندهم جهالة عينه، أجروا أمره على السلامة في الدين، ونظروا فيما روى، فحكموا عليه في إتقانه بحسب ما عرف من حديثه وما أنكر. ووضوح هذا وشيوعه مستغن عن التدليل عليه بالمثال، فإنا نعلم بالضرورة أن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأقرانهم وأتباعهم من تلامذتهم ومن قرب منهم ومن بعدهم، قد تكلموا في الرواة من التابعين

الأصل الرابع: من استقرت عدالته، فلا حاجة للاشتغال بتتبع أمره

وأتباعهم، ولم يدركوهم، ولم يبلغهم من أخبارهم في الغالب إلا تلك الأحاديث التي رويت عنهم من طرق الثقات، فحكموا على أولئك النقلة من خلال فحص مروياتهم، فمن سلم حديثه من النكارة وثقوه، أو حكموا عليه بوصف من أوصاف القبول، ومن ثبتت نكارة حديثه جرحوه بما يناسبه بحسب تلك النكارة. فحديث الراوي كان الطريق إلى تمييز حاله في الرواية. فإن أردت فهم ذلك منهم فتأمل جرحهم وتعديلهم للنقلة يتضح لك جلياً ما قلت، ومنهج الحافظ ابن عدي في " كامله " شرح لذلك المنهاج. وأما العدالة في النفس فكانت تجرى على أصل السلامة، كما تقدم، فالراوي إذا لم يأت عنه ما يقدح في عدالته في دينه فهو عدل (¬1). الأصل الرابع: من استقرت عدالته، وثبتت في الحديث إمامته، فهذا لا يشتغل في تتبع أمره؛ لم في ذلك من تحصيل ما هو حاصل، وإتعاب النفس بما ليس وراءه طائل. وهذا مثل الأئمة: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ولليث بن سعد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين. ¬

(¬1) ورُوي عن الوَليد بن مسلم، عن عبد الله بن المبارك تفسير العدْل بمحضر سُفيان الثوري وغيره، قال: " من رضيه أهل العلم فكتبوا عنه حديثه، فهو عدْلٌ جائز الشهادة " فتبسم سُفيان الثوري. أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 193) وإسناده واهٍ؛ لكونه من رواية شيخ ابنِ عدي الحسن بن عثمان التستري، وهو متهم بالكذب. وهذا إن صحَّ فإنه يُثبت العدالة التي تُجيز الشهادة، فيبقى ذلك التعديل ناقصاً في شأن الرواية، ومُجرَّد كِتابة أهل العلم حديث الراوي لا يدلُّ على ثقته، فإنهم يكتبون حديث الراوي ليَعتبروا به، ويكتبونه ليميِّزوه.

الأصل الخامس: درجات العدول متفاوتة

قال الخطيب: " ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر، واستقامة الأمر، والاشتهار بالصدق والبصيرة والفهم، لا يسأل عن عدالتهم، وإنما يسأل عن عدالة من كان في عداد المجهولين، أو أشكل أمره على الطالبين " (¬1). وذلك كالذي روى حنبل بن إسحاق قال: سمعت أبا عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) وسئل عن إسحاق بن راهويه؟ فقال: " مثل إسحاق يسأل عنه؟! إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين (¬2). وقال حمدان بن سهل البلخي: سألت يحيى بن معين عن الكتابة عن أبي عبيد والسماع منه؟ فتبسم، وقال: " مثلي يسأل عن أبي عبيد؟! أبو عبيد يسأل عن الناس " (¬3). وقال أبو حاتم الرازي في (يزيد بن هارون): ثقةٌ إمام، صَدوق في الحديث، لا يُسأل عن مثلِه " (¬4). وقال أبو حاتم في (محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان) وقد سئل عنه؟: " هذا من التابعين، لا يسأل عنه " (¬5). قلت: كأنه يقول: له مقام كبير، ومكانة رفيعة، أغنت عن تتبع أمره والسؤال عنه. الأصل الخامس: درجات العدول متفاوتة. لا يقع التفاوت في تحقق ركن العدالة الدينية في الرواة، إذ هي إما عدالة وإما فسق، ولكن التفاوت يقع في تحقق الركن الثاني، وهو قوة ¬

(¬1) الكفاية في علم الرواية (ص: 147). (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 147 _ 148) بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (12/ 414) بإسناد صالح. وأبو عبيد هوَ القاسم بن سلاَّم. (¬4) الجرح والتعديل (4/ 2 / 295). (¬5) الجرح والتعديل (3/ 2 / 312).

الضبط، فإنه يتفاوت في نسبه بين النقلة، فهم درجات في القبول، ودرجات في الرد، فدرجات المجروحين يأتي بيانها في (تفسير الجرح). وأما درجات المقبولين فتنقسم في الجملة إلى منزلتين بحسب القسمة الاصطلاحية للحديث المقبول: الأولى: منزلة الحديث الصحيح. والثانية: منزلة راوي الحديث الحسن. والضبط الراجح شرط قبول حديث الراوي العدل، وهو كما لا يخفى مما يتفاوت فيه الناس. قال جرير بن عبد الحميد: لما ورد شعبة البصرة قالوا له: حدثنا عن ثقات أصحابك، فقال: " إن حدثتكم عن ثقات أصحابي، فإنما أحدثكم عن نفر يسير من هذه الشيعة: الحكم بن عتيبة، وحبيب بن أبي ثابت، وسلمة بن كهيل، ومنصور " (¬1). قلت: فأراد شعبة أعلاهم في الثقة عنده، وإلا فإنه روى عن كثير من الثقات، ممن وثقهم هو نفسه. وقيل لعبد الرحمن بن مهدي: أبو خلدة (¬2) , ثقة؟ فقال: " كان صدوقاً، وكان مأموناً، الثقة سفيان وشعبة " (¬3). قال الباجي: " وإنما أراد عبد الرحمن بن مهدي، رحمه الله، التناهي في الإمامة، لو لم يوثق من أصحاب الحديث إلا من كان في درجة شعبة وسفيان الثوري لقل الثقات، ولبطل معظم الآثار ". ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 138، 139، 144) وابن عدي في " الكامل " (1/ 154) وإسناده صحيح. (¬2) هو خالد بن دينار (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 160) و " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 37) وابن عدي (1/ 264) وابن حبان في " المجروحين " (1/ 49) والحاكم في " المدخل إلى الصحيح " (ص: 113 _ 114) والخطيب في " الكفاية " (ص: 59 _ 60) وإسناده صحيح.

وقال في شأن أبي خلدة: " عبد الرحمن لم يرد أن يبلغه مبلغ غيره ممن هو أتقن منه وأحفظ وأثبت، وذهب إلى أن يبين أن درجته دون ذلك؛ ولذلك قال: كان خياراً، كان صدوقاً، وهذا معنى الثقة إذا جمع الصدق والخير مع الإسلام " (¬1). وشبيه يقول ابن مهدي هذا: قول أحمد بن حنبل وقد سئل عن عقيل بن خالد ويونس بن يزيد وشعيب بن أبي حمزة من أصحاب الزهري: " ما فيهم إلا ثقة " قال المروذي: وجعل يقول: " تدري من الثقة؟ إنما الثقة يحيى القطان، تدري من الحجة؟ شعبة وسفيان حجة، ومالك حجة "، قلت: ويحيى؟ قال: " يحيى وعبد الرحمن، وأبو نعيم الحجة الثبت، كان أبو نعيم ثبتاً ". وقال المروذي: قلت (يعني لأحمد بن حنبل): عبد الوهاب (يعني ابن عطاء) ثقة؟ قال: " تدري من الثقة؟ الثقة يحيى القطان " (¬2). وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت ليحيى بن معين، وذكرت له الحجة، فقلت له محمد بن إسحاق منهم؟ فقال: " كان ثقة، إنما الحجة عبيد الله بن عمر، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز " (¬3). قال أبو زرعة: فقلت ليحيى بن معين: فلو قال رجل: إن محمد بن إسحاق كان حجة، كان مصيباً؟ قال: " لا، ولكنه كان ثقة " (¬4). ومن هذا قول أبي حاتم الرازي في (محمد بن مسلم بن تدرس أبي الزبير المكي): " روى عنه الناس "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " إنما يحتج بحديث الثقات " (¬5). ¬

(¬1) التعديل والتجريح، للباجي (1/ 284 _ 285). (¬2) العلل ومعرفة الرجال، رواية المروذي (النص: 48). (¬3) تاريخ أبي زُرعة (1/ 460 _ 461). (¬4) تاريخ أبي زُرعة (1/ 462). (¬5) الجرح والتعديل (4/ 1 / 76).

الأصل السادس: هل رواية الثقة عن رجل تعديل له؟

وقال في (محبوب بن محرز القواريري): " يكتب حديثه "، فقيل له: يحتج بحديثه؟ فقال: " يحتج بحديث سفيان وشعبة " (¬1). وإنما أراد أبو حاتم الدرجة العليا في الإتقان. فدلت هذه الآثار أن العدول درجات، كلهم مقبول من أجل ثبوت عدالته وضبطه في الجملة، ولكن فائدة تمييز ذلك: الترجيح بينهم عند تعارض الروايات واختلافها في الأسانيد والمتون. وهذا طريق معتمد عند أئمة النقاد في علم (علل الحديث) يرجحون بتفاوت حفظ الثقات. وأما الثقة المطلقة فلا توجد لأحد من الرواة، إلا أن يقال: (فلان من أوثق الناس) أو (من أثبت الناس)، وليست هذه ثقة مطلقة. وسبب امتناع هذا أنه لا يعرف أحد من الرواة سلم من الغلط، فمن أوثق الناس شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري ومالك بن أنس، لكن ما سلم أحد منهم من خطأ يسير يؤخذ عليه. فإن قارنت بغيرهم نازعهم من يقرب منهم في الضبط في أعيان شيوخهم، كشعبة والثوري في الأعمش، وكمنازعة بعض الثقات من أصحاب الزهري لمالك فيه. الأصل السادس: هل رواية الثقة عن رجل تعديل له؟ هذه المسألة مما اختلف فيه أهل العلم على ما يمكن حصره في أربعة أقوال: القول الأول: رواية الثقة عن رجل بمجردها تعديل له، وهو محكي عن الحنفية (¬2). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 388). (¬2) شرح علل الترمذي، لابن رجب (1/ 80).

والقول الثاني: رواية الثقة عن رجل ليست تعديلاً له بمجردها، وهذا معروف لطائفة كبيرة من أئمة الحديث. قال الترمذي: " لا يغتر برواية الثقات عن الناس " (¬1). وقال الخطيب: " احتج من زعم أن رواية العدل عن غيره تعديل له: بأن العدل لو كان يعلم فيه جرحاً لذكره. وهذا باطل؛ لأنه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته، فلا تكون روايته عنه تعديلاً ولا خبراً عن صدقه، بل يروي عنه لأغراض يقصدها، كيف وقد وجد جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أمسكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم مع علمهم بأنها غير مرضية، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب في الرواية، وبفساد الآراء والمذهب؟ ". ثم مثل لذلك بأمثلة، منها: 1 _ قول عامر الشعبي في (الحارث الأعور): " حدثني الحارث وكان كذاباً " (¬2). وفي لفظ: " حدثني الحارث، وأشْهد أنه أحد الكذابين " (¬3). 2 _ وقال عثمان بن أبي صفوان الثقفي: سمعت سفيان الثوري يقول: " حدثنا ثوير بن أبي فاختة، وكان من أركان الكذب " (¬4). ¬

(¬1) العلل الصغير، في آخر " الجامع " (6/ 235). (¬2) أخرجه البُخاري في " التاريخ الأوسط " (1/ 282) _ ومن طريقه: ابن عدي في " الكامل " (2/ 449) _ وأبو زُرعة الرازي (2/ 587 _ أسئلة البرذعي) ومسلم في " مقدمة صحيحه " (1/ 19) ويعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 116 _ 117) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 151) _ والرامهرمزي (ص: 418) والعُقيلي في " الضعفاء " (1/ 208) والخليلي في " الإرشاد " (2/ 552) (1/ 208) وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 990، 1148) _ ومن طريقه: ابنُ عدي في " الكامل " (2/ 449) _ ومُسلمٌ في " مُقدمة صحيحه " (1/ 19) وابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 2 / 78) والعُقيلي في " الضعفاء " (1/ 208) وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 151) بإسناد صحيح إلى عثمان هذا، ولم أقف فيه على جرح أو تعديل، وذُكر برواية ابنه عنه.

3 _ وقال يزيد بن هارون: " حدثنا أبو روح، وكان مجنوناً، وكان يعالج المجانين، وكان كذاباً (¬1). كما استدل الخطيب لما ذهب إليه بقول شعبة بن الحجاج: " لو لم أحدثكم إلا عن ثقة، لم أحدثكم عن ثلاثين " (¬2). وقال يحيى بن سعيد القطان: " ليس كل من يحدث عنه سفيان كان ثقة " (¬3). ووجدت الإمام يحيى بن معين يقول في رواة حدث عنهم من لا يخفى يحيى أنهم من أهل التثبت والنقد، مثل شعبة بن الحجاج، ومع ذلك فلم يجعل روايتهم عنهم تعديلاً لهم، فقد قال في كل من (أبي قزعة) و (أبي سلمة الكوفي) ": " لا أعرفه " وقد روى عنهما شعبة (¬4). ونقل ابن هانئ النيسابوري أنه سأل الإمام أحمد بن حنبل عن (البختري) الذي روى عنه شعبة؟ فقال: " لا أعرفه " (¬5). وقد قال الحاكم: " تفرد شعبة بالرواية عن زهاء ثلاثين شيخاً من شيوخه لم يرو عنهم غيره، وكذلك كل إمام من أئمة الحديث قد تفرد بالرواية عن شيوخ لم يرو عنهم غيره " (¬6). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 151) بإسناد صحيح. واسم أبي روْح هذا خالد بن محْدوج الواسطي، والحق أن يزيد بن هارون لم يكن يروي عنه؛ من أجل كذبه عنده، وقد صح عنه قوله: " حلفت أن لا أروي عن خالدِ بن مَحدوج " (أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه: ص: 24، والعقيلي 2/ 15)، والظاهر أنه حين قال: " حدثنا أبو روْح ... " أراد أن يبين كذبه، لا أن يسوق شيئاً من حديثه، ويزيد من الحفاظ المعروفين بتثبتهم والاجتهاد في الرواية عن الثقات. (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 152) بإسناد صحيح. (¬3) نقله ابن حجر في " التهذيب " (1/ 622) عن " تاريخ ابن أبي خيثمة ". (¬4) معرفة الرجال، رواية ابن مُحرز (1/ 77). (¬5) مسائل الإمام أحمد، رواية: ابن هانئ (2/ 232). (¬6) معرفة علوم الحديث (ص: 161).

وقال الإمام أحمد بن حنبل: " جون بن قتادة شيخ لا يعرف، لم يحدث عنه غير الحسن " (¬1). بل ربما روى عن رجل ثقتان ولا يوثقه الناقد، كما سئل أحمد بن حنبل عن (عبد الأعلى التميمي) الذي روى عنه مسعر: من هو؟ قال: " لا أعرفه، روى عنه مسعر والمسعودي " (¬2). قلت: ومعلوم أن كثير من الثقات رووا عن المجهولين لم يعرفوا إلا من جهة أولئك الثقات، فلم يعتبر النقاد روايتهم عن أولئك تعديلاً لهم، من أولئك الثقات: أبو إسحاق السبيعي، وعامر الشعبي، والزهري، وقتادة، والثوري، والقعنبي، ومعن بن عيسى القزاز، وأحمد بن عبد الله بن يونس. قال شعبة بن الحجاج: " نعم الرجل سفيان، لولا أنه يقمِّش " يعني يأخذ من الناس كلهم (¬3). وقال يحيى بن سعيد القطان: " لا تكتب عن معمر عن رجل لا يعرف؛ فإنه لا يبالي عمن روى " (¬4). وقال ابن عدي في ترجمة (عمر ذي مر الهمداني): " هو في جملة مشايخ أبي إسحاق المجهولين الذين لا يحدث عنهم غير أبي إسحاق؛ فإن لأبي إسحاق غير شيخ يحدث عن لا يعرف " (¬5). وقال في (كدير الضبي) و (كريم بن الحارث): " غير معروفين، لا يحدث عنهما غير أبي إسحاق " (¬6). ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد، رواية: أبي داود السجستاني (ص: 302). (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية: ابن هانئ النيسابوري (2/ 221). (¬3) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ " (1/ 728 _ 729) وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 418) وإسناده صحيح. (¬5) الكامل (6/ 244). (¬6) الكامل (7/ 223).

وقال ابن عدي: " القعنبي روى عن جماعة من أهل المدينة وغيرهم ممن لا يعرفون " (¬1). وقال: " ومعن يحدث عن قوم من أهل المدينة ليسوا هم بمعروفين " (¬2). وقال: " ابن يونس يَروي عن غير واحدٍ ممن يكنيهم ولا يُعرفون (¬3). وممن عرف بالرواية عن المجهولين الذين رووا المنكرات مع أنهم من المعدودين في الثقات كذلك: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ومحمد بن إسحاق، وبقية بن الوليد. قال عبد الله بن المبارك: " بقية صدوق اللسان، ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر " (¬4). ومن شيوخه المجهولين: عمر بن أبي عمر الكلاعي، وعلي بن أبي علي القرشي، ولوذان بن سليمان، ومحمد بن عبد الرحمن القُشيري، ويحيى بن خالدٍ أبو زكريا. وقال ابن عدي في (عُثمان بن عبد الرحمن الطرائفي) (¬5): " صُورة عُثمان بن عبد الرحمن أنه لا بأس به، إلا أنه يحدث عن قوم مجهولين بعجائب وتلك العجائب من جهة المجهولين، وهو في أهل الجزيرة كبقية في أهل الشام، وبقية أيضاً يحدث عن مجهولين بعجائب " (¬6). ¬

(¬1) الكامل (4/ 549) ترجمة: سليط بن مسلم. (¬2) الكامل (7/ 478) ترجمة: محمد بن عباد بن سعد. (¬3) الكامل (9/ 197) ترجمة: أبي يزيد الطحان. (¬4) أخرجه مسلم في " مقدمة الصحيح " (ص: 19) بإسناد صحيح. (¬5) انظر: الكامل، لابن عدي (2/ 282). (¬6) الكامل (6/ 297 _ 298).

وقال أبو حاتم الرازي في (سليمان بن عبد الرحمن أبي أيوب الدمشقي، المعروف بابن بنت شرحبيل): " صدوق، مستقيم الحديث، ولكنه أروى الناس عن الضعفاء والمجهولين، وكان عندي في حد لو أن رجلاً وضع له حديثاً لم يفهم، وكان لا يميز " (¬1). وقال كذلك في (عبد الرحمن بن محمد المحاربي): " صدوق إذا حدث عن الثقات، ويروي عن المجهولين أحاديث منكرة فيفسد حديثه بروايته عن المجهولين " (¬2). وقال أبو حاتم أيضاً في (مروان بن معاوية الفزاري): " صدوق، لا يدفع عن صدق، وتكثر روايته عن الشيوخ المجهولين " (¬3). وقال محمد بن عبد الله بن نمير: " كان مروان بن معاوية يتلقط الشيوخ من السكك " (¬4). قلت: فهذه أمثلة لجماعة من الثقات رووا عن المجهولين، فما عدت روايتهم عنهم مما ترتفع به وتثبت لهم به العدالة. والقول الثالث: رواية الثقة الذي عرف أنه لا يروي إلا عن ثقة تعديل، ومن لم يعرف ذلك منه فليس بتعديل. وتصوير المسألة: الراوي الثقة المعروف بالتحري في أخذه وانتقاء الشيوخ، إذا روى عن رجل مسمى، سكت النقاد عن جرحه، ولم يتبين فيما روى شيء منكر يطعن عليه به، فهل تعد روايته عنه توثيقاً، إعمالاً لنقله حيث لا معارض له؟ أم لا؟ ¬

(¬1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (2/ 1 / 129). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 282). (¬3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 273). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 324) و " الجرح والتعديل " (ص: 273) وإسناده صحيح.

لم يعتبر النقاد في مواضع رواية بعض الثقات ممن ينطبق عليهم ما ذكرت، لكني رأيت طريقتهم في هذا ليست مطردة، بل إنهم اعتمدوا رواية بعض هؤلاء الثقات عن أولئك النقلة، وجعلوها بمنزلة التوثيق لهم. ومن أمثلته: ما نقله عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سئل أبي عن شهاب الذي روى عن عمرو بن مرة؟ فقال: " شيخ يرضاه شعبة بروايته عنه، يحتاج أن يسأل عنه؟! " (¬1). وقال أبو حاتم في (محمد بن أبي رزين): " شيخ بصري، لا أعرفه، لا أعلم روى عنه غير سليمان بن حرب، وكان سليمان قل من يرضى من المشايخ، فإذا رأيته قد روى عن شيخ فاعلم أنه ثقة " (¬2). وأطلق جماعة من كبار الأئمة النقاد الحكم بثقة شيوخ جماعة من الرواة عرفوا بالتثبت والتحري، جمعتهم في جزء، إليك أسمائهم: أحمد بن حنبل، وأيوب السختياني، وبقي بن مخلد، وحريز بن عثمان، وسليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني، وسليمان بن حرب، وشعبة بن الحجاج، وعامر بن شراحيل الشعبي، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي، وعفان بن مسلم، وعلي بن المديني، ومالك بن أنس، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، ومحمد بن الوليد الزبيدي، ومظفر بن مدرك أبو كامل، ومنصور بن سلمة أبو سلمة الخزاعي، ومنصور بن المعتمر، وموسى بن هارون الحمال، والهيثم بن جميل، ووهيب بن خالد، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن أبي كثير. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 361). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 2 / 255).

قال ابن حجر: " من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن ثقة، فإنه إذا روى عن رجل، وصف بكونه ثقة عنده، كمالك وشعبة والقطان وابن مهدي وطائفة ممن بعدهم " (¬1). قلت: وإذا روى الثقة من هؤلاء عن رجل مجروح عند غيره قامت تلك الروية تعديلاً عارض الجرح، فيحاكم بهذا الاعتبار إلى طرق الترجيح. وإن وقعت الرواية من قبل أحد هؤلاء عن غير مجروح فهي تعديل يرفع جهالته. قال ابن عبد الهادي: " لو روى شعبة خبراً عن شيخ له لم يعرف بعدالة ولا جرح، عن تابعي ثقة، عن صحابي، كان لقائل أن يقول: هو خبر جيد الإسناد، فإن رواية شعبة عن الشيخ مما يقوي أمره " (¬2). والقول الرابع: الراوي يروي عنه أكثر من ثقة، ولا يجرح، فهل رواية العدد من الثقات تعدله؟ وهو الراوي المستور، وربما أطلق عليه بعض الأئمة: (مجهول الحال). قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه؟ قال: " إذا كان معروفاً بالضعف لم تقوه روايته عنه، وإذا كان مجهولا ً نفعه رواية الثقة عنه ". وقال: سألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوي حديثه؟ قال: " إي، لعمري "، قلت: الكلبي روى عنه الثوري! قال: " إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبي يتكلم فيه " (¬3). ¬

(¬1) لسان الميزان (1/ 108). (¬2) الصارم المُنكي (ص: 81). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 1 / 36).

قلت: هذا حكم أبي حاتم مع تشدده، وأبي زرعة مع اعتداله. قال أبو حاتم الرازي في (يحيى بن النضر الأنصاري): " ثقة، روى عنه الثقات " (¬1). فهذا يحتمل أنه وثقه من جهة انتفاء القادح، مع رواية الثقات. وابن عدي كان يجعل رواية الثقات عن رجل مقويه لأمره، ومرجحة لعدالته، في جماعة اختلف فيهم، مثل: الأحوص بن حكيم، وأفلح بن حميد، وبكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، وبهز بن حكيم، وثور بن يزيد الكلاعي، وجعفر بن ميمون أبي العوام، وزياد بن عبد الله البكائي، وسليمان بن موسى الدمشقي، وغيرهم. وفي هؤلاء من الراجح فيه أنه صدوق، ومنهم الضعيف الذي يعتبر به، والمقصود أن ابن عدي جعل من رواية الثقات عنهم ما يرفع من أمرهم. وقال في (الحسن بن ذكوان) وقد روى عنه يحيى القطان وعبد الله بن المبارك: " وناهيك للحسن بن ذكوان من الجلالة أن يرويا عنه، وأرجو أنه لا بأس به " (¬2). وقال في (حبيب بن أبي حبيب صاحب الأنماط): " أرجو أنه لا بأس به، وقد حدث عنه ابن مهدي ويزيد بن هارون " (¬3). وقال في (عمرو بن يحيى بن عمارة المازني) وقد روى عنه أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر وسفيان الثوري وشعبة ومالك بن أنس وابن عيينة وغيرهم: " لا بأس به برواية هؤلاء الأئمة عنه " (¬4). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 192). (¬2) الكامل (3/ 160). (¬3) الكامل (3/ 310). (¬4) الكامل (6/ 241).

وفي (العلاء بن عبد الرحمن): " ما أرى بحديثه بأساً، وقد روى عنه شعبة ومالك وابن جريج ونظراؤهم " (¬1). فرواية الثقات مما تدفع به التهمة عن الرواة، ويرد الطعن , ويرجح به قبول حديثهم. لكن ليس ذلك مطلقاً، وإنما في أحوال تنزل فيها رواية الثقات منزلة القرائن المساعدة، وذلك فيمن لم ينكشف أمره في السقوط، ولم يهبط في الضعف بالبرهان إلى حد الترك. كما أن هذه القرينة المرجحة إنما ترفع من حاله في الجملة، لا في قبول حديثه مطلقاً، إذا قابل ذلك ما يدل على نكارة أو ضعف بعض حديثه. وبعض متأخري الحفاظ ينسبون تقوية الراوي بهذا الطريق أيضاً إلى النسائي وابن حبان، كما قال الزيلعي وذكر حديث عبد الله بن مغفل في ترك الجهر بالبسملة في الصلاة، وفيه: (عن ابن عبد الله بن مغفل)، وذكر ثلاثة من الرواة عنه: " فقد ارتفعت الجهالة عن ابن عبد الله بن مغفل برواية هؤلاء الثلاثة عنه "، قال: " والنسائي وابن حبان وغيرهما يحتجون بمثل هؤلاء، مع أنهم ليسوا مشهورين بالرواية، ولم يرو واحد منهم حديثا ً منكراً ليس له شاهد ولا متابع حتى يجرح بسببه، وإنما رووا غيرهم من الثقات " (¬2). قلت: أما ابن حبان، فسلوك مثل هذا الطريق معروف من طريقته، وأما النسائي، فلا بأس أن ينسب له اعتباره ذلك طريقاً في تقوية الراوي، لكن لا يصح أن يقال: (احتج به)؛ لأن التحقيق أنه لم يجرد الصحيح من الحديث، ولم يشترط الصحة في كتبه، وإنما كان يبالغ في الاحتياط فيما خرجه. ¬

(¬1) الكامل (6/ 374). (¬2) نصب الراية (1/ 333).

نعم؛ ما نسب الزيلعي إليهما من التأصل تقدم أنه طريق سلكه غيرهما من نقاد الأئمة. والتحقيق: أن جميع هذه الأقاويل الأربعة صحيح معتبر بتقييد، وبيانه فيما يلي: أما الأول: فمقيد بكون الراوي غير معروف بالرواية عن المجروحين، فوقوع ذلك شبهة تحول دون الاعتداد بروايتهم كتعديل لمن رووا عنه. وأما الثاني: فمراد به من كان لا يبالي عمن روى، عمن روى، كمن استثنيت في المذهب الأول. وأما الثالث: فصحيح معتبر؛ إذ ليس هو في جميع الثقات، وإنما هو مقصور على الراوي المتثبت المعروف بتوقيه الرواية عن المجروحين. وأما الرابع: فصحيح معتبر كذلك في رفع أمر الراوي وتقويته، لا في الاحتجاج به بمجرد رواية العدد من الثقات عنه، حتى ينضم إليه سلامة رواياته من المنكرات، فيحتج به حينئذ. وفي الجملة، فمجرد رواية الثقة عن رجل مفيد في التعريف به والإظهار لشخصه، لكنه لا يثبت ثقته حتى يختبر حديثه فيثبت حفظه، فإن لم يثبت حفظه ولم يتبين فهو محكوم بجهالته، وإن تبين خطؤه فيلحقه من الجرح بحسبه. وهذا طريق سلكه النقاد في أكثر الرواة على ما تقدم ذكره، فقضوا بتعديل طائفة مع أنه لم يرو عن أحدهم إلا واحد من أجل ما رأوا من استقامة حديثهم، وقضوا بالجهالة على آخرين من أجل عدم تبين إتقانهم لما رووا، مع أن فيهم من روى عنه العدد، وبالرد لحديث آخرين منهم والجرح لهم؛ لما دل عليه النظر في حديثهم من نكارته. والشأن في المشهورين من الرواة ظاهر، من جهة ثبوت العدالة

أو ثبوت الجرح، ولكنه في غير المشهورين، وهذه بعض نصوص النقاد في طائفة منهم تبين منهجهم: فمثال الراوي يكون غير مشهور إلا من جهة حديثه أو أحاديثه التي رواها، ومن جهة راو ثقة روى عنه، يدل النظر والمقارنة أنه مستقيم الحديث، فيلحق بالثقات: قول أحمد بن حنبل في (سلم بن أبي الذيال): " ما أعلم أن أحداً روى عن سلم بن أبي الذيال إلا المعتمر، وسلم ثقة " (¬1)، قلت: يرفع بذلك أحمد من أمره. وقول أبي حاتم الرازي في (عبد الواحد بن سلمان الأغر): " ما أعلم أحداً روى عنه غير أبي الربيع الزهراني، وأرى حديثه مستقيماً، ما أرى به بأساً " (¬2). وقوله في (المغيرة بن أمي المِنقري): " لا أعلم رَوى عنه غير ابنِه عبد العزيز، وأرى حديثه مستقيماً (¬3). وقول ناقد الشاميين دحيم في (مرزوق بن أبي الهذيل): " صحيح الحديث عن الزهري، وما أعلم أحداً روى عنه غير الوليد "، وقال أبو حاتم الرازي: " حديثه صالح، لا أعلم رَوى عنه غير الوليد بن مسلم " (¬4). وقول أبي زرعة الرازي في (نبيح بن عبد الله العنزي): " كوفي ثقة، لم يرو عنه غير الأسود بن قيس " (¬5). وقول أبي زرعة كذلك في (يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة): " ثقة، ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد، رواية: ابن هانئ (2/ 247). (¬2) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (3/ 1 / 21). (¬3) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 1 / 219). (¬4) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 1 / 265). (¬5) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 1 / 508).

ولم يرو عنه إلا أسامة بن زيد، ولا أعرفه إلا في هذا الحديث الواحد: حديث أبي طلحة، وما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه " (¬1). ومما يدخل ضمن هذا جماعة ربما حكم أبو حاتم عليهم بالجهالة، لكنه وصف حديثهم بالاستقامة؛ لأن أحدهم لم يعرف له إلا الحديث أو الشيء اليسير جداً، وتبين أن ذلك محفوظ صحيح من غير طريقهم، فهؤلاء لاحقون بالعدول. توضيح: من عرف أنه لا يروي إلا عن ثقة على نوعين: أحدهما: من عرف من شأنه التثبت والتحري في انتخاب الرواية عن الثقات عنده خاصة، كمالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى القطان وابن مهدي وأحمد بن حنبل وأبي زرعة، فمجرد رواية أحدهم عن الرجل توثيق، بمنزلة تصريحهم بالقول: (هو ثقة). وثانيهما: من عرف بالتتبع أنه لا يروي إلا عن ثقة، وذلك بتتبع شيوخه الذين روى عنهم وحديثهم، فتبين كونهم ثقات، فهم ثقات عند من أطلق العبارة في شيوخ ذلك الراوي من الحفاظ. كقول أبي داود السجستاني: " شيوخ حريز كلهم ثقات "، فهذا حكم بتعديل جميع شيوخ حريز بن عثمان من قبل أبي داود، وكقول أبي حاتم الرازي: " يحيى بن أبي كثير إمام لا يحدث إلا عن ثقة "، فهذا حكم بتعديل جميع شيوخ ابن أبي كثير من قبل أبي حاتم. فإن قلت: فماذا لو وجدنا في بعض أولئك الشيوخ من جرح؟ قلت: ذلك اختلاف جرح وتعديل، يرجح راجحه بحجته. ¬

(¬1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 208 _ 209).

الأصل السابع: تصحيح الناقد لإسناد حديث، هل يفيد تعديلا منه لرواته؟

الأصل السابع: تصحيح الناقد لإسناد حديث، هل يفيد تعديلاً منه لرواته؟ وتصحيح الناقد للإسناد أو ما ينزل منزلة تصحيحه، كتحسينه، تعديل منه لأفراد رواته، إذ موجب الحكم بالصحة أو الحسن للإسناد المعين ثقة الرواة. ومثاله: (يزيد بن عبد الرحمن الأودي)، أخرجه له الترمذي حديثه عن أبي هريرة في حسن الخلق، وقال: " حديث صحيح غريب " (¬1). فحكم الترمذي على الحديث بالصحة، مع الغرابة المطلقة، وهي الغرابة في أصل الإسناد، فهو بمنزلة لو قال: (إسناده صحيح)، فلا يقال: يحتمل أن يكون الترمذي صححه لغيره، فذلك قد يصح في الغرابة النسبية. فحيث حكم بتصحيح الإسناد لذاته؛ فهو حكم منه بثقة رواته عنده، إذ شرط صحة الإسناد ثقة رواته، فدل على أن يزيد هذا ثقة عند الترمذي. وذكر أبو الحسن ابن القطان حديث الفريعة بنت مالك في مكث المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها الذي كانت فيه حتى يبلغ الكتاب أجله، وهو من رواية سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب، عن الفريعة، قال فيه الترمذي: " حديث حسن صحيح " (¬2). ثم قال ابن قطان: " الحديث الصحيح، فإن سعد بن إسحاق ثقة، وممن وثقه النسائي، وزينب كذلك ثقة، وفي تصحيح الترمذي إياه توثيقها وتوثيق سعد بن إسحاق، ولا يضر الثقة أن لا يروي عنه إلا واحد " (¬3). قلت: وابن قطان من أكثر المتأخرين توسعاً في تجهيل الرواة الذين ¬

(¬1) الجامع (رقم: 2004). (¬2) الجامع (رقم: 1204). (¬3) بيان الوهم والإيهام، لابن القطان (5/ 395).

عمل الناقد بحديث الراوي، وذهابه إلى مقتضاه

لا يعرفون بتوثيق قديم، ومع ذلك يجعل من تصحيح الترمذي حجة على توثيق رواة الإسناد الذي صححه. ووقع منه أنه قال في (عمرو بن بجدان) وقد ذكر من روايته حديثاً نقل عن الترمذي تحسينه له (¬1): " لا يعرف لعمرو بن بجدان هذا حال " (¬2)، فتعقبه ابن دقيق العيد بقوله: " ومن العجب كون ابن قطان لم يكتف بتصحيح الترمذي في معرفة حال عمرو بن بجدان، مع تفرده بالحديث، وهو قد نقل كلامه: (هذا حديث حسن صحيح)، وأي فرق بين أن يقول: هو ثقة؟ أو يصحح له حديثاً انفرد به؟ وإن كان توقف عن ذلك لكونه لم يرو عنه إلا أبو قلابة، فليس هذا بمقتضى مذهبه، فإنه لا يلتفت إلى كثرة الرواة في نفي جهالة الحال، فكذلك لا يوجب جهالة الحال بانفراد راو واحد عنه بعد وجود ما يقتضي تعديله , وهو تصحيح الترمذي " (¬3). قال الذهبي بعد أن جعل تخريج حديث الراوي في (الصحيحين) توثيقاً للراوي الذي لم يذكر بجرح أو تعديل: " وإن صحح له مثل الترمذي وابن خزيمة فجيد أيضاً، وإن صحح له كالدارقطني , والحاكم فأقل أحواله حسن حديثه " (¬4). ويلحق بهذا الأصل مسألتان: المسألة الأولى: عمل الناقد بحديث الراوي، وذهابه إلى مقتضاه. قال الخطيب: " إذا عمل العالم بخبر من روى عنه لأجله، فإن ذلك تعديل له يعتمد عليه؛ لأنه لم يعمل بخبره إلا وهو رضى عنده عدل، فقام عمله بخبره مقام قوله: (هو عدل مقبول الخبر)، ولو عمل العالم بخبر من ¬

(¬1) وفي " الجامع " للترمذي (رقم: 124): " حديث حسن صحيح ". (¬2) بيان الوهم والإيهام (3/ 327). (¬3) نقله الزيلعي في " نصب الراية " (1/ 149). (¬4) الموقظة (ص: 78).

تخريج حديث الرواي في الصحاح هل هو تعديل له؟

ليس عنده عدلاً، لم يكن عدلاً يجوز الأخذ بقوله والرجوع إلى تعديله؛ لأنه إذا احتملت أمانته أن يعمل بخبر من ليس بعدل عنده، احتملت أمانته أن يزكي ويعدل من ليس بعدل " (¬1). قلت: لكن الواجب مراعاته في هذا أن يكون العالم عارفاً بالنقلة، وأن يكون مستنده في العمل هو ذلك الحديث لذاته. فإن كان العامل بالخبر من عامة الفقهاء وليس ممن له اشتغال بتمييز النقلة، فلا عبرة بعمله بالرواية لتقوية رواتها، والواقع شاهد بعمل الفقيه غير البصير بالحديث ورواته بالأحاديث الواهية فضلاً عن الضعيفة. وإن كان عمل بالحديث مضموماً إلى دليل آخر عنده، فقد يكون استأنس بذلك الحديث ولم يحتج به، فلا يعتبر ذلك تعديلاً منه لرواته. المسألة الثانية: تخريج حديث الرواي في الصحاح هل يعد تعديلاً له من قبل من خرج له؟ الأصل أن تخرج الحديث في الكتاب الموصوف بالصحة في جميع الكتب المعروفة بذلك أن الحديث المحتج به فيها قد استوفى شروط الصحة، وذلك يوجب أن يكون من خرج حديثه في هذه الكتب على سبيل الاحتجاج ثقة أو صدوقاً عند صاحب (الصحيح)، بمنزلة تصريحه بالقول: (هو ثقة)، أو: (هو صدوق). وهذه تنبيهات تتصل بهذه المسألة: التنبيه الأول: اعلم أنه ليس في رواة " الصحيحين " ممن خرج حديثه احتجاجاً من يصح وصفه بالجهالة، وذلك لكون تصحيح صاحب الصحيح له تزكية ترفعه إلى مصاف الثقات، ومن كان من أولئك قد وصفهم بعض النقاد بالجهالة، فذلك بناء على ما عندهم في حال أولئك النقلة، وزاد ¬

(¬1) الكفاية (ص: 155).

صاحب الصحيح خبرة بأمره، فزكاه، من أولئك: بيان بن عمرو، والحسين بن الحسن بن يسار، ومحمد بن الحكم المروزي. قال الذهبي: " فإن خرج حديث هذا في (الصحيحين) فهو موثق بذلك " (¬1). وقال: " من أخرج له الشيخان على قسمين: أحدهما: ما احتجا به في الأصول. وثانيهما: من خرجا له متابعة وشاهداً واعتباراً. فمن احتجا به أو أحدهما ولم يوثق ولا غمز، فهو ثقة حديثه قوي، ومن احتجا به أو أحدهما وتكلم فيه: فتارة يكون الكلام فيه تعنتاً والجمهور على توثيقه، فهذا حديثه قوي أيضاً، وتارة يكون الكلام في تليينه وحفظه له اعتبار، فهذا حديثه لا ينحط عن مرتبة الحسن التي قد نسميها من أدنى درجات الصحيح، فما في الكتابين بحمد الله رجل احتج به البخاري أو مسلم في الأصول ورواياته ضعيفة، بل حسنة أو صحيحة. ومن خرج له البخاري أو مسلم في الشواهد والمتابعات، ففيهم من في حفظه شيء، وفي توثيقه تردد. فكل من خرج له في (الصحيحين) فقد قفز القنطرة، فلا معدل عنه إلا ببرهان بين " (¬2). قلت: وكثير من النقاد بعد الإمامين يحتجون بالراوي يحتج به الشيخان أو أحدهما، ويعدونه بذلك قد جاز القنطرة، ويجعلونه في كفة ترجيح ثقة الراوي المختلف فيه. ¬

(¬1) الموقظة (ص: 78). (¬2) الموقظة (ص: 79 _ 80).

قال ابن عدي في (عبد الله بن يوسف التنيسي): " البخاري مع شدة استقصائه اعتمد عليه في مالك وغيره، ومنه سمع (الموطأ)، وله أحاديث صالحة، وهو خير فاضل " (¬1). وقال في (علي بن الجعد): " والبخاري مع شدة استقصائه يروي عنه في صحاحه " (¬2). كذلك قال في (فليح بن سليمان): " اعتمده البخاري في (صحيحه)، وروى عنه الكثير، وهو عندي لا بأس به " (¬3). قلت: لكن الواجب أن لا تجعل هذه قاعدة مطردة في كل ما روى ذلك الراوي؛ لأن الشيخين كان من منهجهما الانتقاء من حديث من عرف بضعف من أهل الصدق، فالصواب أن يستفاد من احتجاج الشيخين أو أحدهما براو أنه مقبول من حيث الجملة، لكن حديثه المعين غير المخرج في الصحيح يجب الاحتياط في قبوله حتى يثبت أنه محفوظ، ليوافق منهج صاحب (الصحيح) في الانتقاء (¬4). قال الزيلعي عقب حديث يرويه أبو أويس المدني في الجهر بالبسملة: " لو ثبت هذا عن أبي أويس فهو غير محتج به؛ لأن أبا أويس لا يحتج بما انفرد به، فكيف إذا انفرد بشيء وخالفه فيه من هو أوثق منه؟ مع أنه متكلم فيه، فوثقه جماعة، وضعفه آخرون .. ومجرد الكلام في الرجل لا يسقط حديثه، ولو اعتبرنا ذلك لذهب معظم السنة؛ إذ لم يسلم من كلام الناس إلا من عصمه الله، بل خرجا في (الصحيح) لخلق ممن تكلم فيهم، منهم: جعفر بن سليمان الضبعي، والحارث بن عبيد الإيادي، وأيمن بن نابل ¬

(¬1) الكامل (5/ 342). (¬2) الكامل (6/ 366). (¬3) الكامل (7/ 144). (¬4) وانظر البحث في: شرط الشيخين.

الحبشي، وخالد بن مخلد القطواني، وسويد بن سعيد الحدثاني، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي، وغيرهم. ولكن صاحبا الصحيح رحمهما الله إذا أخرجا لمن تكلم فيه، فإنهم ينتقون من حديثه ما توبع عليه وظهرت شواهده، وعلم أن له أصلاً، ولا يروون ما تفرد به، سيما إذا خالفه الثقات، كما أخرج مسلم لأبي أويس حديث: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي "؛ لأنه لم يتفرد به، بل رواه غيره من الأثبات، كمالك وشعبة وابن عيينة، فصار حديثه متابعة " (¬1). التنبيه الثاني: يلاحظ أن من أخرج لهم البخاري تعليقاً، أو مسلم في " مقدمة صحيحه " فهؤلاء ليس لهم شرط الصحيح، فلا يستدل بذلك على تعديلهم. قال ابن القيم: " مسلم لم يشترط فيها (أي المقدمة) ما شرطه في الكتاب من الصحة، فلها شأن، ولسائر كتابه شأن آخر، ولا يشك أهل الحديث في ذلك " (¬2). التنبيه الثالث: ما سوى " الصحيحين " من الكتب المجردة لـ (الصحيح)، وذلك مثل: صحيح ابن خزيمة، وكتاب " التوحيد " له، وصحيح ابن حبان، فمن خرج له في شيء من هذه الكتب فلا يخلو أن يكون احتجاجاً أو متابعة، فما كان احتجاجاً فهو ثقة عند المخرج، وما كان متابعة فقد يكون ثقة وقد يكون دون ذلك، لكن يعتبر به عند ذلك المخرج على أقل الدرجات. والحاكم كذلك فيمن يحكم على أسانيدهم بالصحة في " مستدركه "، لا في جميع من يخرج لهم، فإنه ربما حشا في كتابه ما ليس على شرطه فيه أصلاً، كما صنع في كتاب " الصحابة " منه. ¬

(¬1) نصب الراية (1/ 341 _ 342). (¬2) الفروسية (ص: 63).

الأصل الثامن: صيغة التعديل للجماعة على الاشتراك، لا توجب الاحتجاج بأحدهم على الانفراد

وتبقى مسألة الاحتجاج بتخريج ذلك الإمام كتعديل منه للراوي تابعة لكونه ممن يعتد بتعديله أو لا. الأصل الثامن: صيغة التعديل للجماعة على سبيل الاشتراك معتبرة، لكنها لا توجب الاحتجاج بأحدهم عند الانفراد. وذلك كقول الناقد في جمع الرواة إلى بعضهم في سياق واحد: " رواه الثقات فلان وفلان " ويسمي جماعة، فهذا توثيق منه لهم على الاجتماع، لا على الانفراد، وإنما يراعى في الانفراد الوصف اللائق بكل منهم، فإنه قد يجمع أصحاب الدرجة العليا في الضبط مع الدنيا، ولأجل اتفاقهم في تلك الرواية ساقهم مساقاً واحداً، ولذا فربما وجدت فيهم من يعتبر به، ولا يبلغ الاحتجاج. لكن يرفع ذلك من الجهالة إذا كان في السياق من روى من المجهولين ما رواه الثقات. والدارقطني يستعمل مثل هذا في كتاب " العلل ". الأصل التاسع: قول الناقد: (إن كان هذا فلاناً فهو ثقة) فهو توثيق منه لذلك المسمى. وذلك مثل ما حكاه البرقاني عن الدارقطني وسأله: ابن أبي فديك يروي عن عبد الله بن يزيد عن أبيه عن أبي هريرة؟ فقال: " إن كان هذا يزيد مولى المنبعث فهو ثقة " (¬1). فهذا تعديل ليزيد مولى المنبعث. الأصل العاشر: أكثر رواة العلم ثقات. قال الحاكم: " أكثر الرواة للأخبار ثقات " (¬2). ¬

(¬1) سؤالات البرقاني (النص: 255). (¬2) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 50).

قلت: وهذا قول صحيح محقق، فالمجروحون محصورون من جهة أن الجرح عارض، والمجهولون الذين لم يتبين أمرهم في العدالة أو الجرح ليسوا بالكثيرين في جمهور الرواة. لكن لا يصح لقائل أن يدعي أن الأصل في الرواة الثقة حتى يتبين ذلك ويثبت له بطريقه، على ما تقدم. * * *

المبحث العاشر: تحرير القول في تعديل جماعة من المتقدمين تنازعهم الناس

المبحث العاشر: تحرير القول في تعديل جماعة من المتقدمين تنازعهم الناس هذا مبحث قصدت به إزالة الشبهة عن منزلة بعض متقدمي أئمة الحديث، وجدنا من جاء من بعد يتنازعون في قوة تعديلهم للرواة، وقصدت فيه إلى جماعة عرفوا بالكلام في الرواة، لا من له القول بعد القول، والكلام محصور في الأئمة: أحمد بن عبد الله العجلي، وأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي حاتم محمد بن حبان البستي، وأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وأبي عمر بن عبد البر. ومعلوم عند المعتني بهذا العلم أن لهؤلاء الأئمة كلاماً كثيراً في تعديل الرواة، لكن أشكل منهم إطلاق التعديل في طائفة من الرواة هم في نظر غيرهم من النقاد مجهولون أو مجروحون. وبعض الناس شكك في توثيق يحيى بن معين ومحمد بن سعد ويعقوب بن سفيان والنسائي والدارقطني، من جهة أنهم كان يقع في كلامهم توثيق المجهولين. وأقول: دعوى ذلك تجن على هؤلاء الأئمة، فهؤلاء جميعاً من أعلم خلق الله برواة الحديث، وطرقهم في نقد الرواة غير خارجة عن طرق

طريقة العجلي

غيرهم، وذلك في إرجاع القول في الراوي الذي لم تعلم سيرته إلا من جهة رواياته، إلى اختبار مروياته، فإذا سلمت من النكارة حكموا بثقته. وأما هؤلاء الأئمة الذين سميت قبل، فالبيان هنا مقصور على تحرير طريقتهم في التعديل للرواة الذين يعدهم غيرهم مجهولين، أما أن يعدلوا من يجرحه غيرهم، فما من الأئمة النقاد إلا عدل من جرحه غيره، فلا ينبغي أن يكون ذلك مما يؤخذ على هؤلاء الأئمة، وإليك بيان ذلك: طريقة العجلي: أطلق بعض المتأخرين أن العجلي يوثق المجهولين، وقد تتبعت كتاب العجلي المسمى: " معرفة الثقات من رجال أهل العلم والحديث، ومن الضعفاء , وذكرهم مذابهم وأخبارهم "، فوجدته في الغالب متين العبارة، موافقاً لكلام غيره من نقاد المحدثين، وذلك في تعديله وتجريحه، ويتفرد عن كبار الأئمة بتوثيق من لا يوجد لهم فيه توثيق، كما يشذ في قوله عنهم وهو في شيء قليل. وأقول: إذا أنصفت وجدت عامة كبار النقاد يتفرد أحدهم بتعديل لا يقوله غيره، ويخالف الجمهور في الشيء بعد الشيء، فإن عددناه مأخذاً على العجلي لزم أن يؤخذ على يحيى بن معين وأبي زرعة وأبي حاتم الرازي وغيرهم، لذا فالواجب أن يعتبر له نقده، فإن جاءت عبارته على الموافقة لعبارة سائر النقاد فذاك ظاهر القبول، وإن خالف أخضعنا قوله لقواعد الترجيح عند اختلاف الجرح والتعديل، وإن انفرد وجب قبول قوله والاحتجاج به كغيره، حتى يتبين بالحجة خطؤه. طريقة أبي بكر بن خزيمة: لم يصلنا لابن خزيمة مصنف في التعديل والتجريح للرواة، وإنما له في ذلك عبارات منثورة في " صحيحه "، وفي كتاب " التوحيد" له، وقد

طريقة ابن حبان

اشترط فيه الصحة كذلك، وأيضاً، ما يستفاد من احتجاجه بحديث الراوي كتوثيق، على ما تقدم ذكره في (الأصل السابع) من (المبحث السابق). والذي وجدت بعض المتأخرين عابه على ابن خزيمة أنه كان يوثق المجهولين، كذا زعم، وهو ادعاء منتقض من جهتين: الأولى: أنه لا يعاب ناقد من أئمة الحديث بالقول: (يوثق المجهولين)، لأنه ما من النقاد أحد وثق راوياً إلا وقد أخرجه بذلك التوثيق من جملة المجهولين، ولكن بما قام له من الحجة على ثقته، بناء على ما هو معلوم من تمكن ذلك الناقد في الصنعة. والثانية: وجدنا ابن خزيمة في الواقع جرح رواة بالجهالة، ورد حديثهم بذلك في مواضع عدة من كتابيه (¬1)، فلو كان الأصل عنده إجراء الرواة على الثقة والعدالة لم يكن لجرحه بالجهالة معنى. لكن حقيقة الأمر أن توثيقه لمن وثقه أو احتجاجه به مبنى على الخبرة بأمر ذلك الراوي، وتحقق سلامة حديثه عنده من النكارة. طريقة ابن حبان: هو أشهر من عيب عليه من النقاد التوسع في التعديل، وتحرير القول في ذلك فيما يلي: اعلم أن ابن حبان، رحمه الله، ألزم نفسه بتقسيم النقلة إلى (ثقات) و (مجروحين)، وصنف كتابيه المعروفين في ذلك: " الثقات " و " المجروحين "، فكان يجعل كل من وقف على اسمه منهم في واحد من القسمين. ¬

(¬1) انظر مثاله في صحيح ابن خزيمة (2/ 181، 191، 359، و 2/ 58، 92، 177، 189، 210، و 4/ 95، 219، 284)، وفي التوحيد (1/ 544، 545، و 2/ 580، 619 _ 620، 671، 678، 748، 864 _ 866)، يقول في الراوي: " لا أعرفه بعدالة ولا جرح "، أو " مجهول ".

فإذا كان الراوي ظاهر الأمر عنده في الثقة، أو يقرب من ذلك، أو يرجح إلى جهته، يدخله في (الثقات). وإذا كان ظاهر الأمر في المجروحين، أو يقرب منهم، أو يرجح عنده جرحه، فهو في (المجروحين). وهذان ظاهران. وطائفة هي محل تردده، فربما مال إلى إدخالهم في (الثقات) ونبه على ما يؤخذ عليهم كالخطأ، فيقول: " يخطئ "، وربما قال: " يخطئ كثيراً "، وربما عدهم فيهم وهو يستخير الله في قبول حديثهم، وقد يدخل الرجل ممن تردد فيه في (المجروحين)، فيصفه أيضاً بكونه " يخطئ " أو " يخطئ كثيراً "، وربما علق أمره على الاستخارة. فمثاله في (الثقات): (إبراهيم بن سليمان الزيات)، قال: " مستقيم الحديث إذا روى عن الثقات "، ثم قال: " وهو أقرب من الضعفاء، ممن أستخير الله فيه " (¬1). بينما أورد جماعة في (المجروحين)، وهم عنده من هذا النحو، منهم: بهز بن حكيم، قال: " لولا حديث: إنا آخذوه وشطره إبله، عزمة من عزمات ربنا، لأدخلناه في الثقات، وهو ممن أستخير الله عز وجل فيه " (¬2). جعفر بن الحارث أبو الأشهب، قال: " كان يخطئ في الشيء بعد الشيء، ولم يكثر خطؤه حتى يصير من المجروحين في الحقيقة، ولكنه ممن لا يحتج به إذا نفرد، وهو من الثقات يقرب، وهو من أستخير الله فيه " (¬3). ¬

(¬1) الثقات (8/ 68). (¬2) المجروحين (1/ 194). (¬3) المجروحين (1/ 212).

وقال نحواً من ذلك في (خالد بن يزيد بن أبي مالك الدمشقي) (¬1)، و (خصيف بن عبد الرحمن الجزري) (¬2)، و (سويد بن عبد العزيز) (¬3)، و (يحيى بن أبي سليم أبي بلج الفزاري) (¬4). ومن كانوا على هذه الصفة فهم موضع تردد ابن حبان يجعلهم في (الثقات) أو في (الضعفاء)، وهؤلاء لا يجعل قوله حكماً فيهم، إنما يدفع تردده بقول غيره من النقاد، فيصار بالراوي إلى (الثقات) أو (الضعفاء). ومما يؤخذ عليه: أنه أورد جماعة من الرواة في الكتابين جميعاً (الثقات) و (المجروحين)، مما يعد من تناقضه، منهم: إسماعيل بن محمد بن جحادة اليامي (¬5)، رزيق أبو عبد الله الألهاني الشامي (¬6)، وزياد بن عبد الله النميري (¬7)، وسعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك الأموي (¬8)، وسهل بن معاذ بن أنس الجهني (¬9)، وعبد الواحد بن نفيع (أو: نافع) بن علي أبو الرماح الكلاعي (¬10)، وعمر بن إبراهيم العبدي (¬11)، وعمران بن ظبيان الأسلمي (¬12)، وكنانة بن العباس بن مرداس السلمي (¬13). ¬

(¬1) المجروحين (1/ 284). (¬2) المجروحين (1/ 287). (¬3) المجروحين (1/ 351). (¬4) المجروحين (1/ 313). (¬5) الثقات (8/ 96)، المجروحين (1/ 128). (¬6) الثقات (4/ 239)، المجروحين (1/ 301). (¬7) الثقات (4/ 255 _ 256)، المجروحين (1/ 306). (¬8) الثقات (6/ 374)، المجروحين (1/ 321). (¬9) الثقات (4/ 321)، المجروحين (1/ 347). (¬10) الثقات (7/ 125)، المجروحين (2/ 154). (¬11) الثقات (8/ 446)، المجروحين (2/ 89). (¬12) الثقات (7/ 239)، المجروحين (2/ 123 _ 124). (¬13) الثقات (5/ 339)، المجروحين (2/ 229).

وما وقع فيه ابن حبان من ذلك فليس تردداً، بل هو خطأ، وصواب قوليه يتميز بحكم غيره، أما قولاه هو فحيث تناقضا فقد تساقطا، إذ أبطل أحدهما الآخر. نعم، ربما وقع في ذلك لظنه الفرق بن شخصين، كالذي وقع منه في شأن (عباد (¬1) بن مسلم الفزاري) فإنه أورده في (الثقات) (¬2)، وأورده في (المجروحين) فقال: " منكر الحديث على قلته، ساقط الاحتجاج بما يرويه؛ لتنكبه عن مسلك المتقنين في الأخبار، واحسبه الذي يروي عن الحسن، الذي يروي عنه الثوري وأبو نعيم، فإن كان كذلك فهو مولى بني حصن، كوفي يخطئ " (¬3). لكن يبقى صنف من الرواة ليسوا بواحد من الأقسام المتقدمة: وهم من أوردهم في " الثقات " ممن لا يعرف، ويبين هو نفسه في بعضهم أنه لا يدري من يكونون، وهؤلاء سبب وصفه بالتساهل. والتحقيق: أن ابن حبان لمن تأمل كتابيه يجده إماماً بصيراً بالنقلة، يعرضهم على موازين النقد، ويحرر أحوالهم في الرواية من خلال مروياتهم، وهو ذاته منهج متقدمي الأئمة. وهو في إيراد هذا الصنف من الرواة في (الثقات) فمن أجل أنه جعل الأصل في كل راو لم يقف في روايته على ما يطعن فيه لأجله اللحاق بالثقات، وإن كان لا يدري من يكون ذلك الرواي. وحيث علمنا أن ابن حبان إذا لم يثبت عنده كون الراوي مجروحاً فإنه يدخله في (الثقات)، وأنه أدخل فيهم من لا يعرفه، فهذا المنهج لا يعني أن من في كتابه من هؤلاء فهم ممن يحتج بهم، بل فيهم من هو حجة، وفيهم ¬

(¬1) وصوابه: عُبادة. (¬2) الثقات (7/ 160). (¬3) المجروحين (2/ 173 _ 174).

من دون ذلك ممن هو صالح للاعتبار، والمستورون والمجهولون الذين لم يثبت عليهم فيما رووا حديث منكر يحتملون هم وزره، فهؤلاء يعتبر بهم، ويحتج بحديثهم لغيره، وربما خرج حديثهم في " الصحاح " متابعة. وهذا منهج لا يعرف فيه اختلاف من حيث الجملة. ولم أر وجهاً لعيب ابن حبان بهذا خلافاً لما جرى عليه طائفة من المتأخرين؛ لأننا قد تبينا منهجه، فغاية الأمر أن لا نجعل من مجرد إيراد الراوي في (الثقات) صحة الاحتجاج به، حتى ينضم إلى ذلك سائر شروط الاحتجاج. والروي يلحق بالثقات ولا يحتج به منهج قديم، فهذا أبو حاتم الرازي مثلاً على تشدده يقول في (محل بن محرز): " كان آخر من بقي من ثقات أصحاب إبراهيم، ما بحديثه بأس، ولا يحتج بحديثه، كان شيخاً مستوراً، أدخله البخاري في كتاب الضعفاء، يحول من هناك " (¬1). وهذا يدل على أمور: أولها: يكون الرجل ثقة، ولا يحتج به. وثانيها: المستور ثقة، ولا يحتج به. وثالثها: من هذا وصفه لا يلحق بالضعفاء. وهذا في الأمرين الأول والثالث منهج ابن حبان في " ثقاته " في الرواة غير المشهورين بالثقة والعدالة. يتأيد هذا بتفسير ابن حبان نفسه للعدالة، فإنه قال: " العدالة في الإنسان: هو أن يكون أكثر أحواله طاعة الله؛ لأنا متى ما لم نجعل العدل إلا من لم يوجد منه معصية بحال، أدانا ذلك إلى أن ليس في الدنيا عدل، ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 414).

إذ الناس لا تخلو أحوالهم من ورود خلل الشيطان فيها، بل العدل من كان ظاهر أحواله طاعة الله، والذي يخالف العدل من كان أكثر أحواله معصية الله " (¬1). قلت: وهذا لا يخالف في شيء تفسير (العدالة) عند من تقدمه من أهل العلم، وهي العدالة الدينية. فأما العدالة الموجبة لصحة الاحتجاج بحديث الراوي، وهي اقتران الضبط إلى العدالة في الدين، فيبينها ابن حبان في " صحيحه " بقوله: " وقد اعتبرنا حديث شيخ شيخ على ما وصفنا من الاعتبار على سبيل الدين، فمن صح عندنا منهم أنه عدل احتججنا به، وقبلنا ما رواهُ، وأدْخلناه في كتابنا هذا (¬2) ومن صحَّ عندنا أنه غيرُ عدلٍ بالاعتبار الذي وصفناه لم نحتج به، وأدخلناه في كتاب المجروحين من المحدثين بأحد أسباب الجرح " (¬3). قلت: ومنهجية اعتبار حديث الراوي طريق عامة النقاد قبل ابن حبان، وهو على الأثر فيه، ويبينه في مواضع من كتابيه في الثقات والمجروحين، ومن عبارته في ذلك: قال في ترجمة (عبد الله بن المؤمل المخزومي): " كان قليل الحديث، منكر الرواية، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد؛ لأنه لم يتبين عندنا عدالته فيقبل ما انفرد به؛ وذاك أنه قليل الحديث، لم يتهيأ اعتبار حديثه بحديث غيره لقلته فيحكم له بالعدالة أو الجرح، ولا يتهيأ إطلاق العدالة على من ليس نعرفه بها يقيناً فيقبل ما انفرد به، فعسى نحل الحرام ونحرم الحلال برواية من ليس بعدل، أو نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل اعتماداً منا على رواية من ليس بعدل عندنا، كما لا يتهيأ إطلاق الجرح على من ليس ¬

(¬1) الإحسان (1/ 151). (¬2) أي مع اعتبار سائر شُروط صِحة الحديث، وقد بيَّنها. (¬3) الإحسان (1/ 155).

يستحقه بإحدى الأسباب التي ذكرناها من أنواع الجرح في أول الكتاب، وعائذ بالله من هذين الخصلتين: أن نجرح العدل من غير علم، أو نعدل المجروح من غير يقين " (¬1). وقال في ترجمة (سعيد بن زياد بن أبي هند الداري): " الشيخ إذا لم يرو عنه ثقة، فهو مجهول، لا يجوز الاحتجاج به، لأن رواية الضعيف لا تخرج من ليس بعدل عن المجهولين إلى جملة أهل العدالة، كأن ما روى الضعيف وما لم يرو في الحكم سيان " (¬2). وقال في ترجمة (عبد الرحمن بن أبي نصر بن عمرو): " منكر الحديث على قلة روايته، يروي عن أبيه المناكير، وأبوه مجهول، لا يدري من هو، ولا يعلم له من علي سماع، وفي دون هذا ما يسقط الاحتجاج برواية من هذا نعته " (¬3). وقال في ترجمة (عمران بن مسلم القصير): " ولا يجوز أن يحكم على مسلم بالجرح، وأنه ليس بعدل، إلا السبر " (¬4). وقال في ترجمة (عائذ الله المجاشعي): " منكر الحديث على قلته، لا يجوز تعديله إلا بعد السبر، ولو كان ممن [لا] يروي المناكير، ووافق الثقات في الأخبار، لكان عدلاً مقبول الرواية، إذ الناس أحوالهم على الصلاح والعدالة، حتى يتبين منهم ما يوجب القدح فيجرح بما ظهر منه من الجرح، هذا حكم المشاهير من الرواة، وأما المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا الضعفاء، فهم متروكون على الأحوال كلها " (¬5). ¬

(¬1) المجروحين (2/ 28). (¬2) المجروحين (1/ 328). (¬3) المجروحين (2/ 59). (¬4) المجروحين (2/ 123). (¬5) المجروحين (2/ 192 _ 193).

وقال في ترجمة (محمد بن عطية بن سعد العوفي): " منكر الحديث جداً، مشتبه الأمر، لا يوجد الاتضاح في إطلاق الجرح عليه؛ لأنه لا يروي إلا عن أبيه، وأبو ليس بشيء في الحديث، ولا يروي عنه إلا أسيد بن زيد، وأسيد يسرق الحديث، فلا يتهيأ إطلاق القدح على من يكون بين ضعيفين إلا بعد السبر والاعتبار بما يروي عن غير الضعيف، ولا سبيل إلى ذلك فيه فهو ساقط الاحتجاج، حتى تتبين عدالته بروايته عن ثقة إذا كان دونه ثقة، واستقامت الرواية فلم يخالف الثقات " (¬1). قلت: فهذه النصوص المفسرة دالة على ما يلي: أولاً: أن الطريق إلى تبين عدالة الراوي عنده هو اختبار حديثه. وهذه هي العدالة الموجبة لقبول حديثه، وهي الإتقان لما رواه، وهذا طريق عامة الأئمة في أكثر الرواة. ثانياً: أن العدالة تثبت عنده برواية الواحد الثقة. وحيث إنه اعتبر اختبار حديث الراوي وسلامته من النكارة علامة على عدالته في النقل، دل على أن العدالة التي تثبت عنده برواية واحد ثقة إنما هي ما ترتفع به جهالة عينه ويثبت بها شخصه، وقد تقدم أنه مذهب لغيره، بل عليه عمل النقاد في رواة ما روى عنهم إلا الفرد من الثقات، لم يرو أحدهم منكراً، فصاروا إلى توثيقه وقبوله. ثالثاً: أنه جرح رواة بالجهالة، لكنها عنده ثابته للراوي الذي لم يعرف إلا من رواية مجروح لا يعتبر به عنده عن ذلك الراوي. وهذا القدر صحيح، موافق لطريقة غيره، ويبقى: الراوي لا يروي عنه إلا واحد من الثقات، فهذا قد يصفه غير ابن حبان بالجهالة، وقد يختبر حديثه فيلحقه بحسب ما تبين له إما بالمجروحين أو بالثقات، وابن حبان لم ¬

(¬1) المجروحين (2/ 273 _ 274).

يتجاوز هذا، غاية أمره أنه تعنى اختبار حديث الراوي بالقدر الذي وقف عليه منه، فصار بذلك إلى تبين ضبطه فألحقه بالثقات، أو ضعفه، فألحقه بالمجروحين، والأدلة على إلحاقه الراوي من هؤلاء بالثقات بناء على اختبار حديثه كثيرة في كتابه (الثقات)، وقد تتبعت ذلك بما يطول بيانه هنا. لكن الواجب اعتباره ما بينته قبل: أن رجال (الثقات) فيهم الثقة المحتج به، وفيهم الصالح للاعتبار وليس بحجة. وهذا مما يتعذر معه اعتماد إيراد ابن حبان للراوي في الثقات على أنه (ثقة) يحتج به عنده، إلا أن يوجد فيما ذكره قرينة تدل على أن ذلك الراوي في محل من يحتج به، كأن يقول: (مستقيم الحديث)، وقد قالها في طائفة، وإلا فما لك إلا أن تفسر قدر توثيق ابن حبان بمقالات سائر النقاد في الراوي. ولست أرى في هذا شيئاً من التساهل، ولكنه فوت فائدة الفصل بين ثقة محتج به، وصالح يعتبر به. لكن، ليس في (الثقات) راو لا يعتبر به على رأي ابن حبان. وكذلك ليس كل راو في (المجروحين) أراد ابن حبان إسقاط حديثه مطلقاً، بل فيهم المتروك وفيهم من يعتبر بما يوافق فيه الثقات من حديثه، وهو يبين ذلك. وأما قول ابن حجر: " هذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه، مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب (الثقات) الذي ألفه، فإنه يذكر خلقاً ممن ينص عليهم أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون، وكان عند ابن حبان أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور، وهو مذهب شيخه ابن خزيمة، ولكن جهالة حاله باقية عند غيره " (¬1). ¬

(¬1) لسان الميزان (1/ 107).

طريقة الحاكم النيسابوري

وقول ابن حجر أيضاً في ترجمة (أيوب) رجل ذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: " لا أدري من هو، ولا ابن من هو ": " وهذا القول من ابن حبان يؤيد ما ذهبنا إليه: من أنه يذكر في كتاب (الثقات) كل مجهول روى عنه ثقة، ولم يجرح، ولم يكن الحديث الذي يرويه منكراً، هذه قاعدته، وقد نبه على ذلك الحافظ صلاح الدين العلائي، والحافظ شمس الدين بن عبد الهادي، وغيرهما " (¬1). فأقول: ليس مذهباً عجيباً، ولا هو خلاف قول الجمهور، وإنما هو على ما بينت، إلا أن يعني ابن حجر بقول الجمهور أن جهالة الحال لا تثبت إلا براوية اثنين، وهذا قدمت من قبل له أمثلة من كلام أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وأبي زرعة الرازي فيها توثيق من لم يرو عنه إلا واحد، وبينه كلام أبي حاتم وأبي زرعة بناء على استقامة حديثه، وكذلك صنع ابن حبان. طريقة الحاكم النيسابوري: الحاكم النيسابوري رأس من رءوس هذه الصناعة كلامه في النقلة في التحقيق معتبر قوي، وتعديله فيما يصف به الرواة من الثقة والصدق مقبول محتج به. وإنما دخلت الشبهة على بعض المتأخرين في تعديل الحاكم ووصف بعضهم له بالتساهل فيه، من جهة ضعف تحقيقه لشرط الصحة في كتابه " المستدرك "، كما بينته في (القسم الثاني). وحمل أحد الأمرين على الآخر معتبر لو لم يتبين سبب ما يعود إليه الخلل في طريقة الحاكم في التصحيح. لكن الشأن في كلامه في النقلة مختلف، فقد جرى على منهاج النقاد ¬

(¬1) لسان الميزان (1/ 614).

قبله، فزكى رجالاً، وجرح آخرين، بل جرح رجالاً بالجهالة، مما دل على أن خبر المجهول عنده ليس موضعاً للحجة، ولا يحكم بصحته، وهذا موافق لمسلك جمهور أئمة هذا العلم، ووافق غيره من الأئمة في كثير مما تكلم فيه، وتفرد بفوائد في تعديل الرواة وجرحهم، تعد له، وكثير من ذلك منثور في " المستدرك "، ومنه في " سؤالات مسعود السجزي " له، ومنه في " تاريخ نيسابور "، ولا يكاد يخلو سائر كتبه من شيء من ذلك. وعهد من طريقة من يذكر عند بعض العلماء بالتساهل في التعديل أن يجري حال من لم يتبين أمره على العدالة، وليس الحاكم منهم، وهذه أمثلة من الرواة نعتهم بالجهالة في " المستدرك " ولم يصحح أحاديثهم لأجلهم: (1) يحيى بن عبد الله المصري، قال الحاكم: " لست أعرفه بعدالة ولا جرح " (¬1). (2) عبد الملك بن عبد الرحمن، قال الحاكم: " مجهول، لا نعرفه بعدالة ولا جرح " (¬2). (3) غزال بن محمد، قال الحاكم: " مجهول، لا أعرفه بعدالة ولا جرح " (¬3). (4) عثمان بن جعفر أبو علي، قال الحاكم: " لا أعرفه بعدالة ولا جرح " (¬4). (5) أبو المغيرة القواس، تفرد عنه عوف الأعرابي، قال الحاكم: " مجهول " (¬5). ¬

(¬1) المستدرك (2/ 620 رقم: 4236). (¬2) المستدرك (3/ 60 رقم: 4399). (¬3) المستدرك (4/ 211 رقم: 7479). (¬4) المستدرك (4/ 409 رقم: 8255) (¬5) المستدرك (4/ 575 رقم: 8716).

هؤلاء منهم من عرف مخرجه من جهة مجروح أصلاً كيحيى بن عبد الله، فقد روى عنه اليمان بن سعيد وهو ضعيف، ومنهم من عرف مخرجه من جهة عدل كغزال بن محمد فقد روى عنه زياد بن يحيى الحساني وهو ثقة، ففيه إبانة أن الجهالة عند الحاكم تفارق الجهالة عند ابن حبان، فابن حبان لا يعد من كان بين ثقتين مجهولاً، فغزال مثلاً روى عن محمد بن جحادة وهو ثقة، فيكون بهذا بين ثقتين، لكنه مجهولاً في رأي الحاكم. بل يؤكد أن رفع الجهالة عنده إنما هي برواية اثنين على الأقل قوله في (إسماعيل بن إبراهيم الشيباني) , قد ذكر حديثاً من رواية محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عنه: " ولعل متوهماً من غير أهل الصنعة، يتوهم أن إسماعيل الشيباني هذا مجهول، وليس كذلك، فقد روى عنه عمرو بن دينار الأثرم " (¬1)، فجعل جهالته مرتفعة برواية اثنين: ابن ركانة وعمرو بن دينار، وهما ثقتان. وهذا موافق لشرط الحاكم الذي قننه لصفة الحديث الصحيح عنده، حيث قال: " صفة الحديث الصحيح: أن يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي زائل عنه اسم الجهالة، وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة " (¬2). وهذه الصفة التي ذكر الحاكم ظن بعض الناس أنه عنى أن كل حديث صحيح يجب أن يرويه اثنان عن الصحابي، وليس الأمر كذلك، إنما قوله: " وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان " عائد على ما ترتفع به الجهالة، فهو يقول: رفع الجهالة لا يكون إلا برواية اثنين عن الصحابي فمن دونه من رواة الحديث. ¬

(¬1) المستدرك (4/ 365 رقم: 8088). (¬2) معرفة علوم الحديث (ص: 62).

طريقة ابن عبد البر

وخلاصة ما تحرر لي في شأن كلامه في الرواة ما يلي: أولاً: إن صدرت منه العبارة صريحة في تعديل أو تجريح أو تجهيل الراوي المعين، فقوله حجة، كقول شيخه الدارقطني وشبهه، فإن خالفه غيره في بعض ذلك، فهو من اختلاف الجرح والتعديل، يرجح الراجح بحجته. ثانياً: حكمه على إسناد في " المستدرك " بقوله مثلاً: " صحيح الإسناد "، حكم منه بثقة رواته عنده، لكنه في مرتبة غير معينة من القبول، من أجل أنه لم يكن يفرق بين الصحيح والحسن، فقد يكون الروي في مرتبة الثقة أو مرتبة الصدوق. ولما ثبت من خطئه الكثير في الحكم على أحاديث بالصحة وهي واهية أو ضعيفة من رواية المجروحين، فإنه لا يصح تعميم القول في الاحتجاج بذلك على كون رواة الإسناد ثقات أو صدوقين، لكنه يرفع من شأن الراوي المجهول عند غيره. طريقة ابن عبد البر: ابن عبد البر من طبقة الخطيب البغدادي، وهما معدودان في المتأخرين، كلاهما في الرواة المتقدمين مبني على تلخيص عبارات السلف فيهم، نعم الخطيب فارق ابن عبد البر بإنشاء القول بتعديل الرواة وجرحهم، خصوصاً من طبقة شيوخه، لكن لا يكاد يوجد ذلك لابن عبد البر إلا قليلاً. فإذا كان قول ابن عبد البر في الرواة خلاصة كلام السالفين، فالحجة إذاً عائدة إلى كلامهم، ويبقى تحرير ابن عبد البر للعبارة في الراوي تحرير إمام ناقد، فكما نقبل تحرير العبارة ممن جاء بعده كالذهبي وابن حجر من المتأخرين، فقبول قوله أولى، بل إن المتتبع لكلامه في الرواة في كتبه يجد له وزن عبارة الناقد العارف بهذا العلم فيه. وإنما دخلت الشبهة عند بعض الناس أن ابن عبد البر يتساهل في

نور الدين الهيثمي من المتأخرين

التعديل، من جهة ما فهموه عنه من قوله في تفسير العدالة، وإنه يجري المسلمين في الأصل عليها، وليس كذلك كما بينته آنفاً في (المبحث الثالث). بل قد وصف ابن عبد البر بالجهالة رواة عديدين، ولو كانت العدالة تثبت عنده للراوي بمجرد الإسلام فيقبل بذلك حديثه، لم يكن لوصفه بالجهالة لأولئك الرواة معنى. وممن ينبغي التنبيه على كلامه في الرواة من المتأخرين: الحافظ نور الدين الهيثمي (المتوفى سنة: 807). فإنه قد نثر في كتابه " مجمع الزائد " من خلال حكمه على الأسانيد، كثيراً من عبارات الجرح والتعديل، وهو يعتمد على من تقدمه، لكنها عبارات ينقصها التحرير، فربما أطلق التوثيق وهو كثير، لراو مجهول أو ضعيف، وهو يعتمد توثيق ابن حبان بإطلاق، وكثيراً ما يقول في الراوي: " لم أعرفه "، وهو كان من مشايخ الطبراني في (الميزان) نبهت على ضعفه، ومن لم يكن في (الميزان) ألحقته بالثقات الذين بعده " (¬1). ومعروف أن الحافظ الطبراني روى عن خلق كثيرين، ولم يكن معتنياً بنقد النقلة، إنما كان رواية، ولم يعرف عنه انتقاء الرواة الثقات، بل وقع في شيوخه من هو معروف بالضعف، فإطلاق الهيثمي هذه المنهجية في شيوخ الطبراني إطلاق غير علمي. * * * ¬

(¬1) مجمع الزوائد، للهيثمي (1/ 8). وأراد بـ (الميزان) " ميزان الاعتدال " للذهبي.

المبحث الحادي عشر: تحرير القول في عدالة الصحابة

المبحث الحادي عشر: تحرير القول في عدالة الصحابة الصحابي أصل الإسناد، وهو حلقة الوصل بالوحي، وحيث إن العصمة لا تثبت لآحاد الصحابة، فما القول في عدالتهم بركنيها: العدالة الدينية، وإتقان الرواية؟ ولا ريب أن الذي يهمنا هو تمييز شأن الصحابي الذي روى العلم. فأما العدالة الدينية، فثابتة لجميعهم بتثبيت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ذلك لهم، والمقصود براءة جميعهم من وصف الفسق، وإنما كان يوجد الفسق في المنافقين، وليسوا صحابة، لتخلف معنى الصحبة فيهم، وليس من هؤلاء بفضل الله من يذكر برواية العلم. قال ابن حزم: " قد كان في المدينة في عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن، وكان بها أيضاً من لا ترضى حاله، كهيت المخنث الذي أمر عليه السلام بنفيه، والحكم الطريد، وغيرهما، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحبة " (¬1). قلت: وحتى من زنى أو سرق ممن قص علينا نبؤهم، فإن من ثبت ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 83).

ذلك عليه فإنه تاب منه وأقيم عليه الحد المطهر، فعاد أمره إلى العدالة بالتوبة. قال الخطيب: " كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن " (¬1). قلت: والأدلة المثبتة عدالة جميع الصحابة كثيرة في الكتاب والسنة من حيث المعموم، ومن حيث التفصيل في كثير من أعيانهم. من ذلك قوله تعالى: {وكذلك جعلنكم أمة وسطاً} [البقرة: 143]. عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، أو: ما أتانا من أحد، قال: فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، قال: فذلك قوله: {وكذلك جعلنكم أمة وسطاً}، قال: الوسط: العدل، قال: فيدعون، فيشهدون له بالبلاغ، قال: ثم أشهد عليكم " (¬2). ¬

(¬1) الكفاية (ص: 93). (¬2) حديث صحيح. أخرجه وكيع بن الجراح في " نسخته " (رقم: 26) ومن طريقه: أحمد (17/ 372، 383 رقم: 11271، 11283) وابن أبي حاتم في " تفسيره " (رقم: 1332، 1336) و " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 2 _ 3) عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، به. وأخرجه سعيد بن منصور في (التفسير) من " سننه " (رقم: 222) وابن أبي شيبة (11/ 454) وأحمد (17/ 122 رقم: 11068، 18/ 112 رقم: 11558) والترمذي (رقم: 2961) والنسائي في " التفسير " (رقم: 26، 27) وابن ماجة (رقم: 4284) وأبو يعلى (2/ 416 رقم: 1207) وابن أبي حاتم في " تفسيره " (رقم 1331) و " الجرح " (1/ 1 / 2) وابن حبان (16/ 199 رقم: 7216) والبيهقي في " الشعب " (1/ 248 رقم: 265) جميعاً من رواية أبي معاوية الضرير، عن الأعمش، بإسناده به. ولم يذكر ابنُ ماجة والبيهقي تفسير الوسط. واقتصر أحمد في الموضع الأول والترمذي وأبو يعلى ومن بعده سِوى البيهقي على قول أبي سعيد: عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] قال: " عدلاً ". وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وأخرجه البخاري (رقم: 4217، 6917) من طريق أبي أسامة. و (رقم: 3161) من طريق عبد الواحد بن زياد. والبخاري أيضاً (رقم: 4217) وأبو يعلى (2/ 397 رقم: 1173) من طريق جرير بن عبد الحميد. وكذا البُخاري في " صحيحه " (رقم: 6917) و " خلق أفْعال العِباد " (رقم: 207) وعبْد بن حميد (رقم: 913) والترمذي (رقم: 2961) وابن جرير في " تفسيره " (2/ 7) والبيهقي في " الشعب " (1/ 248 رقم: 264) من طريق جعفرِ بن عون. وابن جرير (2/ 7) من طريق حَفصِ بن غياث، خمستهم عن الأعمش، به. لم يذكر البخاري في " أفعال العباد " وابنُ ماجة والبيهقي تفسير الوَسط، بينما اقتصرت عليه روايتا ابن جرير، دونَ سائر الحديث. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح ". خالفهم سُفيان الثوري، فروى الحديث في تفسير (الوَسط) بالعدْل من قول أبي سعيد، ولم يرفعه. أخرجه ابن جرير (2/ 7) من طريق مُؤمَّل بن إسماعيل، والحاكم (2/ 268 رقم: 3062، وكما في " إتحاف المهرة " 5/ 208 حيث سقط بعض الإسناد من طبعة المستدرك) من طريق حماد بن مسعدة، كلاهما عن الثوري عن الأعمش، بإسناده. وقال الحاكم: " صحيح على شرْط الشيخين ". قلت: ورفْع هذا اللفظ أظْهر على ما في رواية السبعة عن الأعمش: وكيع وأبي معاوية والخمْسة الآخرين.

وقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعل ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم} الآية [الفتح: 18]، وقوله عز وجل: {والسابقون الأولون من المهجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} الآية [التوبة: 100]، وقوله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} حتى قوله: {وكونوا مع الصدقين} [التوبة: 117 _ 119]، وقوله {للفقراء المهجرين الذين أخرجوا من ديراهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هو الصدقون} والآية التي بعدها [الحشر: 8 _ 9]. قال الخطيب: " لا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم، المطلع على بواطنهم، إلى تعديل أحد من الخلق له، فهم على هذه الصفة، إلا أن

يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخروج من باب التأويل؛ فيحكم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك، ورفع أقدارهم عنه، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء ... لأوجبت الحال التي كانوا عليها، من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين؛ القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين. هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء " (¬1). وعن البراء بن عازب، قال: " ليس كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال، وكان الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب " (¬2). وفي رواية، عن البراء، قال: " ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) الكفاية (ص: 96). (¬2) أثرٌ صحيح. أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 235) _ ومن طريقه: ابن رُشيْد في " السنن الأبين " (ص: 117) _ والخطيب في " الكفاية " (ص: 548) من طريق إسحاق بن منصور السلولي، والحاكم في " المستدرك " (1/ 127 رقم: 438 وكما في " إتحاف المهرة " لابن حجر 2/ 512) والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 99) من طريق عبد الله بن مُحمد بن سالم المفْلوج، كلاهما عن إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب، به. (في كتابي: المحدث، والمستدرك، سقط). قال الحاكم: " هذا حديث صحيح على شرْط الشيخين ولم يُخرجاه. ومُحمد بن سالم وابْنه عبْد الله مُحتج بهما. فأما صحيفة إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، فقد أخرجها البخاري في الجامع الصحيح ". قلت: إسناده حسن، من أجل أن إبراهيم بن يوسف لا يتجاوز حديثه الحُسن، وسائر الإسناد ثقات. وإنما صححته، لكون يوسف لم يتفرد به عن أبيه، بل هو متابع على معناه، كما بينته في (الحديث المرْسل).

سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثنا أصحابنا، ولكنا لا نكذب " (¬1). وقال قتادة _ وسمع حديثاً من أنس _: قال رجل لأنس: أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: " نعم، وحدثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب " (¬2). وقال حميد الطويل بعد أن ساق حديثاً عن أنس في الشفاعة: فقال له (أي لأنس) رجل: يا أبا حمزة، أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: تغير وجهه واشتد عليه، وقال: " ما كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم نكن يكذب بعضنا على بعض " (¬3). وليس ما وقع بين الصحابة من اختلاف أفضى إلى الاقتتال فيما بينهم، كالذي وقع في الجمل وصفين، فكان بتأويل، والتأويل لا يقدح في أصل العدالة، بل صاحبه معذور. وقال ابن حزم: " أما قدامة بن مظعون، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة، وأبو بكرة، رضوان الله عليهم، فأفاضل أئمة عدول " (¬4). وبين أن ذلك، لكون قُدامة بدرياً، وكان متأولاً فيما جاء عنه، يعني ¬

(¬1) أثرٌ صحيح. خرَّجته في (الحديث المرسل) ضِمن (القسم الثاني) من هذا الكتاب. (¬2) أثر حسن. أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 633 _ 634) وابن عدي (1/ 263) من طريق عباد بن راشد، عن قتادة، به، وإسناده حسن، عباد لا بأس به. (¬3) أخرجه ابن منده في " الإيمان " (في آخر رقم: 874) من طريق مُعتمر بن سليمان، قال: سمعت حُميداً. وإسناده صحيح. وأخرجه ابن عدي (1/ 261) من طريق يحيى بن أيوب عن حُميد، بنحوه، وإسناده حسن. والطبراني في " الكبير " (1/ 218 رقم: 699) من طريق أبي شهاب الحنَّاط، عن حميد، نحوه. وإسناده حسن كذلك. وجعفر الفِريابي في " فوائده " (ق: 80 / ب) والخطيب في " الجامع " رقم: 100) من طريق حماد بنِ سلمة عن حميد، وإسناده صحيح. (¬4) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 84).

ضبط الصحابي

في شرب الخمرة، وكان المغيرة من أهل بيعة الرضوان، وسمرة شهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وكان متأولاً فيما جاء عنه يعني فيمن قتل من الخوارج، وكان حال أبي بكرة يحتمل أنه قد شبه عليه فيما وقع فيه في شأن المغيرة من قذفه بالزنا، رضي الله عنهم. والحاصل: أنك لا تجد في الصحابة، وخصوصاً رواة الأخبار، من يطعن عليه بمعصية لا تقبل التأويل، أو معصية طهر من أثرها بالحد. ضبط الصحابي: وأما ضبط الصحابي لما روى، فلا ريب أن أحدهم يجوز عليه الوهم كما يجوز على غيره، ولكن قرب العهد بالنبي صلى الله عليه وسلم، وطريق تلقي العلم عنه، بالسماع المباشر، أو بالرؤية، مع تكرار ورود العلم عليه، يضعف احتمال الوهم، بخلاف من بعدهم بعدما كثرت الوسائط. ومع ذلك فإن حفظ الصحابي تعرض للنقد، وبدأ ذلك في الصحابة أنفسهم، ووقع من بعض من جاء من بعد من الأئمة على ندرة، وإليك مثالين: الأول: توهيم عائشة لابن عمر في تواريخ عمرات النبي صلى الله عليه وسلم. فعن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما جالس إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة، ثم قال له: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعاً، إحداهن في رجب، فكرهنا أن نرد عليه، قال وسمعنا أستنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يأماه، يا أم المؤمنين، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال: يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات، إحداهم في رجب، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر

مسائل في عدالة الصحابة

عمرة إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط (¬1). الثاني: توهيم سعيد بن المسيب لابن عباس في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة وهو محرم. فعن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، أن النبي تزوج ميمونة وهو محرم. قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس , وإن كانت خالته، إنما تزوجها حلالاً (¬2). قال ابن تيمية: " وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس، بل في الصحابة من قد يغلط أحياناً " (¬3). مسائل في عدالة الصحابة: المسألة الأولى: الرجل يختلف في صحبته، فيقدح فيه بعض من لا يثبتها له: وجد في بعض الرواة من عد في الصحابة؛ لشبهة رواية وقعت له عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو لزعم بعض أهل السيرة أنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فمثل ¬

(¬1) مُتفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 1685) ومسلم (رقم: 1255). (¬2) حديث صحيح. أخرجه ابن عدي (1/ 125) وتمام الرازي في " الفوائد " (رقم: 625 _ ترتيبه) والبيهقي في " الكبرى " (7/ 212) و " دلائل النبوة " (4/ 332) وابن عبد البر في " التهيد " (3/ 158) وابن عساكر في " تاريخه " (36/ 426 _ 427، و 54/ 123) من طريق الأوزاعي، عن عطاء، به. وهو عند البُخاري في " صحيحه " (رقم: 1740) وغيره من طريق الأوزاعي، بحديث ابن عباس دونَ توهيم سعيد له. وقال ابن عبد البر: " هكذا في الحديث: قال سعيد بن المسيب، فلا أدري أكان الأوزاعي يقوله أو عطاء ". قلت: هوَ من قول عطاء أولى؛ لاتصالته بالخبر من روايته. (¬3) قاعدة جليلة في التوسل والوَسيلة (ص: 161).

هؤلاء، إذا وجدت في أحدهم الجرح، فليس هو عند الجارح معدوداً في الصحابة، وثبت عليه الجرح عنده بسبب من أسبابه. وذلك مثل (بسر بن أرطاة) ويقال: (ابن أبي أرطاة)، فقد عده بعضهم في الصحابة، ولا تثبت له صحبة على التحقيق، قال يحيى بن معين: " أهل المدينة ينكرون أن يكون سمع بسر بن أبي أرطاة من النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل الشام يروون عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " (¬1). ولما ثبت عنه من الظلم والفساد في الأرض لهوى بني أمية، قال فيه يحيى بن معين: " رجل سوء " (¬2). وأورده ابن عدي في " كتابة " في المجروحين لقول ابن معين فيه، وأورد له حديثين: أحدهما: دعاء مرفوع، والآخر: " لا تقطع الأيدي في الغزو "، وقال: " بسر بن أبي أرطاة مشكوك في صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، لا أعرف له إلا هذين الحديثين، وأسانيده من أسانيد الشام ومصر، ولا أدري بإسناد هذين بأساً " (¬3). قلت: إن سلم الحديثان من النكارة، فلا يسلم إسناد فيه مثل بسر من السقوط، فإن ما تقدم له من الفساد يتعذر في مثله التأويل. والمهم أن تدرك هنا أنه لا يوجد قدح في عدالة من ثبتت صحبته، إنما وجد مثل هذا فيمن اختلف فيه، والراجح عدم صحبته. وقد يقول الناقد في الرجل: (مجهول)، وغيره يدعي له الصحبة، فلا تحمل قول بعضهم على بعض، فتظن أن من الصحابة من يطلق عليه ذلك، وإنما هذا تعارض بين أن يكون تابعياً مجهولاً، أو صحابياً، فإن رجح القول بصحبته، وإلا فهو تابعي مجهول، فابحث عن راجحه بحجته. ¬

(¬1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 643). (¬2) تاريخ يحيى بن معين (النص: 5236). (¬3) الكامل (2/ 153).

وذلك مثل (معبد بن خالد الجهني أبي رغوة)، فقد قال ابن أبي حاتم: " له صحبة، روى عن أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، مات سنة ثنتين وسبعين، وهو ابن ثمانين سنة، سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: هو مجهول " (¬1)، وقد قال فيه يحيى بن معين: " ثقة " (¬2). قلت: الأشبه أن يكون صدر هذه المقالة من كلام ابن أبي حاتم، لا من كلام أبيه، وأن قوله من بعد: " سمعت أبي يقول ذلك "، إشارة إلى روايته عن أبي بكر وعمر، وما بعده من الكلام، وكذلك وجدت ابن عبد البر نسب القول بصحبته لا بن أبي حاتم، لا لأبيه، وتبعه عليه ابن الأثير وابن حجر وغيرهما (¬3). وحيث قام هذا الاحتمال فلا يصح الاعتراض بهذه الصورة على الأصل في انتفاء جرح الصحابي بالجهالة، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه أورد توثيقه عن ابن معين، فدل على أصل الاختلاف فيه، ولم أجد مستنداً في ذكر عمره الذي أقام شبهة صحبته إلا كلمة للواقدي، وهو متروك غير ثقة، نقلها عنه من سميت آنفاً وغيرهم. وقال أبو حاتم الرازي في (خذام بن وديعة): " مجهول " (¬4)، وغيره يثبت له الصحبة. وكذا قال في (مدلاج بن عمرو السلمي) (¬5)، وهو صحابي على الراجح، ولا رواية له. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 279). (¬2) تاريخ الدارمي (النص: 724). (¬3) انظر: الاستعياب، لابن عبد البر (10/ 158 _ 159 هامش الإصابة)، وأسد الغابة، لابن عبد الأثير (4/ 160) والإصابة (9/ 242). (¬4) الجرح والتعديل (1/ 2 / 400). (¬5) الجرح والتعديل (4/ 1 / 428).

المسألة الثانية: الرجل تدعى صحبته برواية عنه لا تثبت فيذكر في الضعفاء، فليس صحابيا

وقالها في (بلال الفزاري) (¬1)، والقول قوله، فالرجل إنما روى مرسلاً، ولا صحبة له، ومثله آخرون، منهم: الحارث بن بدل النصري (¬2)، وعبد الله بن أبي شديدة (¬3)، وعبد الله بن قيس الأسلمي (¬4). وقد وجدت لابن حجر قولاً بخصوص هذه المسألة جديراً بالتنبيه عليه، قال في ترجمة (مدلاج) المتقدم ذكره: " وكذا يصنع أبو حاتم في جماعة من الصحابة يطلق عليهم اسم الجهالة، لا يريد جهالة العدالة، وإنما يريد أنه من الأعراب الذين لم يرو عنهم أئمة التابعين " (¬5). قلت: وليس الأمر ما أوهمته عبارته رحمه الله، أن أبا حاتم يقول في أحدهم: (مجهول) وهو من أعراب الصحابة، فهذا ما لا يوجد له مثال واحد البتة في كلام أبي حاتم، ولو قال: حكم أبو حاتم بجهالته لكونه من أعراب الصحابة، فلم يعرف صحبته لعدم ظهور أمره فيها، وذلك أن هؤلاء يكون أحدهم مغموراً، فكيف إذا اقترن بذلك أنه لم يرو عنه من العلم شيء، ولم يأت في صحيح الأخبار ما يبين أمره، كمدلاج المتقدم؟ والتحقيق: أنه لا يوجد فيمن وصقهم أبو حاتم بقوله: (مجهول)، من له صحبة في رأي أبي حاتم نفسه. المسألة الثانية: الرجل تدعى صحبته بناء على ما لا يثبت عنه من الرواية، فيذكر في الضعفاء من أجل نكارة حديثه، فهذا لا يصح عده صحابياً. ومثاله: (عمرو بن عبيد الله الحضرمي)، قال البخاري: " رأي النبي صلى الله عليه وسلم، لا يصح حديثه " (¬6) , فذكره ابن عدي في الضعفاء، وقال: " وهذا ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 398). (¬2) الجرح والتعديل (1/ 2 / 69). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 2 / 83). (¬4) الجرح والتعديل (2/ 2 / 138). (¬5) لسان الميزان (6/ 15). (¬6) التاريخ الكبير (3/ 2 / 312).

المسألة الثالثة: تحرير القول في جهالة الصحابي

هو حديث واحد، وإنما شك البخاري أن لا يصح له، أي ليس لعمرو بن عبيد الله صحبة " (¬1). ومثل: (زهير بن عثمان الثقفي)، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " الوليمة حق، واليوم الثاني معروف "، قال البخاري: " لم يصح إسناده، ولا يعرف له صحبة " (¬2)، وذكره ابن عدي تبعاً للبخاري، وأقره (¬3). فمثل هذين إنما ذكرا في الضعفاء، لا لضعفهما؛ وإنما لضعف الرواية عنهما، وإذا كان مثل هذه الرواية هو الطريق لإثبات الصحبة، فالصحبة لا تثبت به، وإن افترضنا ثبوتها للرجل بغير هذه الرواية فذكره في الضعفاء ليس لجرحه في عدالته، وإنما من أجل الرواية الضعيفة التي قد تكون علتها من قبل غيره. المسألة الثالثة: تحرير القول في جهالة الصحابي. والمقصود به هنا من لم يسم، وهو وارد في رواية بعض الحديث، كقول الراوي: (حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم). فهذا عند أهل العلم في الاحتجاج به وقبوله على مذهبين: المذهب الأول: لا يقبل، وهو ظاهر صنيع الشيخين في " صحيحيهما ". قال الحاكم في صفة الحديث الصحيح: " أن يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي زائل عنه اسم الجهالة، وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة " (¬4). ¬

(¬1) الكامل (6/ 244). (¬2) التاريخ الكبير (2/ 1 / 425). (¬3) الكامل (4/ 187). (¬4) معرفة علوم الحديث (ص: 62).

وقال ابن حزم: " لا يقبل حديث قال راويه فيه: عن رجل من الصحابة، أو: حدثني من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا حتى يسميه، ويكون معلوماً بالصحبة الفاضلة، ممن شهد الله تعالى لهم بالفضل والحسنى " (¬1). والمذهب الثاني: يقبل، بمنزلة المسند، وعليه جرى المصنفون في جمع المسانيد، كأحمد بن حنبل وغيره. والتحقيق أن جهالة الصحابي غير قادحة، وذلك لاعتبارين: الأول: بناء على أصل عدالة جميع الصحابة، ومظنة النفاق والردة ليست واردة على نقلة الأثر. قال ابن الصلاح: " الجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول " (¬2). والثاني: لما علم بالتتبع أن الرواية عن صحابي مجهول العين قليلة، ولم يوجد فيها ما يعد منكراً أو ضعيفاً لمجرد كون الصحابي لم يسم أو لم يعرف، فدل على سقوط أثر ذلك. لكن اتصال الإسناد أو عدمه إنما يعتبر فيه تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: مسند متصل. وله صور: الأولى: أن يقول صحابي معروف: (أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم). كقول أنس بن مالك: " أخبرني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر على موسى عليه السلام وهو يصلي في قبره " (¬3). ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 3). (¬2) علوم الحديث (ص: 56). (¬3) انظر: سنن النسائي (3/ 216).

فالجهالة بهذا الصحابي لا تضر على أي حال: صرح الصحابي المسمى بسماعه منه أم لا، وذلك تصديقاً لذلك الصحابي المسمى في خبره بصحبة مخبره. ولو لم يخبر عن صحبته أو ما يدل عليها، فأدنى أحواله، ينزل منزلة مراسيل الصحابة، وهي مسندة عند عامة أئمة الحديث. والثانية: أن يقول التابعي الثقة: (حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)، فيصدق في وصفه لمن حدثه بالصحبة، وخبره متصل لبيانه السماع من ذلك الصحابي المبهم. قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله (يعني أحمد بن حنبل): إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث صحيح؟ قال: " نعم " (¬1). والقول بتصحيح ذلك أيضاً منقول عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي من أئمة الحديث، وأبي بكر الصيرفي من الأصوليين، لكن خالف البيهقي، فقال: " هو مرسل " (¬2). وله أمثلة كثيرة، كقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: " حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة والمواصلة، ولم يحرمها "، الحديث (¬3). قلت: هذا ما دام التابعي ثقة، أما إن كان مجروحاً، فقد سقط قوله بسقوطه. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 585) عن كتاب " العلل " للخلال، والذي يرويه الخطيب بقوله: " حُدثت عن عبدِ العزيز بن جعفر ". (¬2) حكى ذلك عنهم: ابن رجب في " شرح العلل " (1/ 320). (¬3) انظر: سنن أبي داود (رقم: 2374).

والثالثة: أن يقول التابعي الثقة: (أخبرني رجل سمع النبي صلى الله عليه وسلم) وشبه ذلك، فتثبت الصحبة لتلك الواسطة المبهمة تصديقاً للتابعي في خبره المتصل عن تلك الواسطة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم. مثل قول أبي البختري سعيد بن فيروز: " أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم " (¬1). 2 _ متوقف فيه: وله صورة واحدة، وهي: أن يقول التابعي الثقة: (عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)، فيذكر الخبر معنعناً. فهو صادق في وصفه بالصحبة، لكنه لا يجري مجرى المتصل، وذلك لاحتمال كون التابعي لم يدرك ذلك الشيخ من الصحابة، فإنا نعلم أن الإرسال في التابعين كثير، كانوا يحدثون عمن لم يدركوا ومن لم يسمعوا منهم من الصحابة، ولم يسلم من ذلك حتى بعض كبار التابعين، كسعيد بن المسيب. ومن أمثلته: قول راشد بن سعد: " عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: " كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة " (¬2). وأما ما سأل الحسين بن إدريس الحافظ محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، قال: إذا كان الحديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أيكون ذلك حجة؟ قال: " نعم، وإن لم يسمعه، فإن جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم حجة " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أحمد في " مُسنده " (30/ 222 رقم: 18289 _ الرسالة) و (5/ 293 _ ميمنية). (¬2) أخرجه النسائي (رقم: 2053). (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 585) وإسناده صحيح.

فهذا للإبانة أن جهالة الصحابي لا تضره، ذكر في روايته سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يذكر. وليس هو في شأن اتصال ما بين التابعي وذلك الصحابي المجهول. 3 _ مرسل. وله صور واحدة، وهي أن يقول التابعي الثقة: (عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم) أو: (حدثني رجل) ولا ينسبه للصحابة، ولا يذكر عن ذلك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا مرسل، وذلك الرجل مجهول جهالة مؤثرة، ولا يلحق بالصحابة، فإن التابعين رووا كثيراً عن نظرائهم، وفي التابعين من جرح. كذلك رأيت أبا داود السجستاني خرج في " المراسيل " حديثاً من طريق محمد بن كعب القرظي، قال: (حدثني من لا أتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) فذكر حديثاً (¬1). فعده أبو داود مرسلاً. * * * ¬

(¬1) المراسيل (رقم: 533)، وفي الإسناد إلى القُرظي راوٍ مجهول، وإنما استدللت بصنيع أبي داود في إدخال هذه الصورة في جُملةِ المراسيل.

الفصل الثالث تفسير الجرح

الفصل الثالث تفسير الجرح

تمهيد: في معنى الجرح

تمهيد: في معنى الجرح الجرح يقابل التعديل، وهو: الطعن في الراوي بما يسلب عنه وصف العدالة أو الضبط، أو جميعاً. فسلب العدالة يكون بـ: الفسق بالفعل أو القول، والكذب في الحديث والتهمة به، وسرقة الحديث، والبدعة، والجهالة. وسلب الضبط في: سوء الحفظ، ومنه الاختلاط، وفحش الخطأ، وقبول التلقين، ويكون نسبياً فلا يطرح معه الراوي، وكلياً يسقط معه الراوي. وتقدم تحرير القول في حكم جرح الرواة غير العدول، وأنه مما توجبه ضرورة حفظ الدين. وفي المباحث التالية: تحرير سائر ما يتصل بهذا الأصل، وتبقى بقية تستوعب في الفصل الخامس في تحرير في (اختلاف الجرح والتعديل). * * *

المبحث الأول: صور الجرح غير المؤثر

المبحث الأول: صور الجرح غير المؤثر اعلم أنه ليس كل جرح في الراوي مقبولاً، فلا يعتد إلا بجرح من أهله، ولا يعتد بجرح إلا بصيغة بينة واضحة أن علة جرحه كذا كذا، وكانت تلك الجرحة قادحة، وسلمت من المعارض الراجح. وقد وقع في هذا الباب القدح في الرواة بأسباب غير معتبرة في التحقيق، أقدم بيانها ليخلص القول بعدها في تحرير القول في الأسباب المؤثرة، وذلك في صور: الصور الأولى: استعمال المباحات، أو ما يختلف فيه الاجتهاد حلاًّ وحرمة. فوقع الراوي في الشيء من ذلك لا يجوز أن يعد قادحاً، إذ استعمال المباح مشروع، ولا يقدح في العدالة استعمال المشروعات، ولا يصح أن تكون مفسقات، وإن جرى العرف بتركها على التحقيق، فإن العرف لا يصلح دليلاً على المنع مما أباحه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. وما يختلف فيه الاجتهاد، فهذا إن فعله الراوي فلا يقدح فيه من جهة ما يكون له معه من عذر المخالفة، وخلاف العلماء في الأحكام كثير بينهم.

وقد جاوز بعض النقاد فجرح الراوي أو تركه لمثل ذلك، فمن أمثلته: 1 _ قال شعبة بن الحجاج: " لقيت ناجية الذي روى عنه أبو إسحاق، فرأيته يلعب بالشطرنح، فتركته، فلم أكتب عنه، ثم كتبت عن رجل عنه " (¬1). قال الخطيب: " ألا ترى أن شعبة في الابتداء جعل لعبه بالشطرنج مما يجرحه، فتركه، ثم استبان له صدقه في الرواية وسلامته من الكبائر، فكتب حديثه نازلاً " (¬2). قلت: ومعروف عن شعبة تشديده في ترك حديث الراوي لشيء رآه منه في غير الحديث، مما يحتمل التأويل أو الخطأ. عن ورقاء بن عمر، قال: قلت لشعبة: ما لك تركت حديث فلان؟ قال: " رأيته يزن إذا وزن فيرجح في الميزان، فتركت حديثه "، وقلت لشعبة: ما لك تركت حديث فلان؟ قال: " رأيته يركض دابته، فتركت حديثه " (¬3). وكان شعبة يقع في (الخصيب بن جحدر) يقول: " رأيته في الحمام يغير مئزر " (¬4). وقال يحيى القطان: أتى شعبة المنهال بن عمرو، فسمع صوتاً، فتركه، يعني الغناء (¬5). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 183) بإسناد صحيح. (¬2) الكفاية (ص: 183). (¬3) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 30 وإسناده حسن، وبعضه أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 182). (¬4) أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (2/ 30) وإسناده صحيح. (¬5) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (8/ 41) وإسناده صحيح. وفسَّر أبو حاتم الرازي ذلك الصوت بقوله: " يعني أنه سمع صوْت قراءة بألحان، فكرهَ السماع منه لأجل ذلك " (تقدمة الجرح والتعديل، ص: 153 ونحوه ص: 172). والصواب أنه الغِناء أو آلته، فقد أخرج الخطيب في " الكفاية " (ص: 183) بإسناد صحيح إلى شُعبة، قال: " أتيت منزل المنهال بن عمرو، فسمعت فيه صوت الطنبور، فرجعت "، فقال له وهْب بن جرير: فهلاَّ سألت؟ عسى ألا يعلم هو.

2 _ وقال جرير بن عبد الحميد: " أتيت سماك بن حرب، فرأيته يبول قائماً، فرجعت ولم أسأله عن شيء، قلت: قد خرف " (¬1). 3 _ وقصة شرب الكوفيين للنبيذ معروفة، وقولهم فيه مشهور في عصر النقل والرواية، وكانت استباحتهم حاصلة بالتأويل، فالقدح على راو رأى ذلك الرأي أو فعل ذلك الفعل بمجرد ذلك جرح مردود غير معتبر. قال يحيى بن معين: " وكيع وابن نمير كانوا يشربون النبيذ، وإنما كان نبيذهم يجعلونه في التنور، يشربونه اليوم واليومين والثلاثة، ويهريقونه، ولا يشربون كلا نبيذ يزداد على الترك جودة ". وقال: " شريك وسفيان ووكيع وكل من رخص فيه كلهم يكرهون المعتق " (¬2). وقال أيضاً: " ومن رخص فيه فيما أسكر كثيره: شريك وسفيان وحسن بن حي ووكيع وابن نمير، وهؤلاء، وهم مع ذلك ينهون عن الخليطين، وعن المنادمة والمعاقره والجلوس عليه، والنقيع عندهم خمر، والبصريون يرخصون في النقيع ويقولون: هو حلال، وكل نبيذ يجوز ثلاثة أيام فلا خير فيه عندهم وعند سفيان وشريك وابن حي وابن نمير ووكيع وأبي معاوية، كلهم يكرهه " (¬3). وقال يحيى بن معين أيضاً: " تحريم النبيذ صحيح، وأقف عنده لا أحرمه، قد شربه قوم صالحون بأحاديث صحاح، وحرمه قوم آخرون بأحاديث صحاح " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (4/ 541) بإسناد صحيح. (¬2) من كلام أبي زكريا، رواية يزيد بن الهيثم (النص: 204، 205). (¬3) سؤالات ابن الجنيد (النص: 94). (¬4) سؤالات ابن الجنيد (النص: 287).

وأحسن ما قيل فيمن واقع مثل هذه المخالفة متأولاً: قول أبي حاتم الرازي: جاريت أحمد بن حنبل من شرب النبيذ من محدثي الكوفة، وسميت له عدداً منهم، فقال: " هذه زلات لهم، ولا تسقط بزلاتهم عدالتهم " (¬1). 4 _ وقال الإمام أحمد بن حنبل: " كان يحيى _ يعني القطان _ لا يرضى إبراهيم بن سعد "، قال المروذي: قلت: أيش كان حاله عنده؟ قال: " كان على بيت المال " (¬2). قال يحيى بن سعيد القطان: " لو لم أرو إلا عن كل من أرضى، ما رويت إلا عن خمسة " (¬3). وفسر ذلك الحاكم فقال: " يحيى بن سعيد في إتقانه وكثرة شيوخه يقول مثل هذا القول، ويعني بالخمسة الشيوخ: الأئمة الحفاظ الثقات الأثبات " (¬4). قلت: بل والجامعين لأوصاف الورع والعفة حتى المباح المستحسن تركه، كما يدل عليه رأيه في إبراهيم بن سعد، فإبراهيم لم يكن ليعاب في حفظه، إنما عيبه قربه من الحاكم. 5 _ وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: " كان وكيع لا يحدث عن هشيم؛ لأنه كان يخالط السلطان، ولا يحدث عن إبرهيم بن سعد، ولا ابن علية، وضرب على حديث ابن عيينة " (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 26). (¬2) العلل ومعرفة الرجال، لأبي بكر المروذي وغيره (النص: 215). (¬3) أخرجه يحيى بن مَعين في " تاريخه " (النص: 3885) ومن طريقه: ابنُ عدي (1/ 187 _ 188) والحاكم في " المدخل إلى الصحيح " (ص: 113). (¬4) المدخل إلى الصحيح (ص: 113). (¬5) سؤالات الآجري لأبي داود السجستاني (النص: 82).

وقال أبو داود: سمعت رجلاً قال لأحمد: لأيش ترك وكيع إبراهيم بن سعد؟ قال: " ما أدري، كان إبراهيم ثقة " (¬1). 6 _ وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأبي مسهر (يعني عبد الأعلى بن مسهر حافظ الشاميين): إنه _ يعني سليمان بن عتبة _ يسند أحاديث عن أبي الدرداء؟ قال: " هي يسيرة، وهو ثقة، ولم يكن له عيب إلا لصوقه بالسلطان " (¬2). 7 _ وقال أبو الحسن الميموني: قلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، أحمد بن عبد الملك بن واقد؟ فقال لي: " قد مات عندنا، ورأيته كيساً، وما رأيت بأساً، رأيته حافظاً لحديثه "، قلت: ضبطه؟ قال: " هي أحاديث زهير، وما رأيت إلا خيراً، وصاحب السنة، قد كتبنا عنه "، قلت: أهل حران يسيئون الثناء عليه، قال لي: " أهل حران قلما يرضون عن إنسان، هو يغشى السلطان بسبب ضيعة له "، فرأيت أمره عند أبي عبد الله حسناً، يتكلم فيه بكلام حسن (¬3). 8 _ ومن هذا القدح على المحدث بأخذ الأجرة على التحديث، وممن عيب به: أبو نعيم الفضل بن دكين، وهشام بن عمار، وعلي بن عبد العزيز المكي. وعلل بعضهم القدح بمثل هذه الصورة بأن أخذ الأجرة ربما أغرى المحدث بالزيادة في الحديث من أجل المال، كما قد يغريه بذلك لصوقه بالسلطان؛ لما يجره إلى محاباته. والصواب في جميع ذلك: أن القدح فيها ليس معتبراً، من جهة أننا اشترطنا الصدق لقبول روايته، فإذا ثبت اندفعت به مثل هذه الظنون. ¬

(¬1) سؤالات الآجري (النص: 84). (¬2) تاريخ أبي زرعة (1/ 382). (¬3) تاريخ بغداد (4/ 266).

الصورة الثانية: ما يعود الجرح فيه إلى طريق التلقي، والجارح اعتمد فيه المذهب المرجوح

وكذلك فإن المخطىء المتأول بمعصية إذا عرف بالصدق فحديثه مقبولاً مطلقاً، لأن التأويل متضمن إرادة صاحبه للصواب، وعدم قصده للخطأ، وقد وقع التأويل للمخالفة الشرعية من جماعة من الصحابة فلم يمنع ذلك من قبول ما حملوه من العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأهل الشام الذين قاتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. فأولى من ذلك أن يقبل حديث من واقع مختلفاً في منعه، أو ترك مختلفاً في فرضه. قال الشافعي: " والمستحل لنكاح المتعة، والمفتي بها، والعامل بها، ممن لا ترد شهادته، وكذلك لو كان موسراً فنكاح أمة مستحلاً لنكاحها، مسلمة أو مشركة؛ لأنا نجد من مفتي الناس وأعلامهم من يستحل هذا، وهكذا المستحل الدينار بالدينارين، والدرهم بالدرهمين يداً بيد، والعامل به؛ لأنا نجد من أعلام الناس من يفتي به ويعمل به ويرويه، وكذلك المستحل لإتيان النساء في أدبارهن، فهذا كله عندنا مكروه محرم، وإن خالفنا الناس فيه فرغبنا عن قولهم، ولم يدعنا هذا إلى أن نحرجهم ونقول لهم: إنكم حللتم ما حرم الله وأخطأتم؛ لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم، وينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز وجل " (¬1). قلت: والقول في البدعة من هذا على التحقيق، وسيأتي في أسباب سلب العدالة. الصورة الثانية: ما يعود الجرح فيه إلى طريق التلقي، والجارح اعتمد فيه المذهب المرجوح. وذلك في حالتين: الأولى: في رواية الراوي عرضاً. ¬

(¬1) الأم (6/ 206). وتقدم سِياق هذا النص أيْضاً في (صفة الناقد).

وهي الرواية قراءة على الشيخ، لا سماعاً من لفظه، وتقدم أنها: متصلة بمنزلة السماع عند أكثر أئمة الحديث. وربما رأيت من بعض النقاد الطعن في رواية بعض الثقات عن بعض شيوخهم أنها كانت عرضاً، ويكون مرجع الأمر إلى شيء زائد على مجرد العرض، وهو أن الذي كان يعرض على الشيخ راو مجروح، ويكون ذلك الثقة قد حضر ذلك العرض. مثل من طعن في روايته عن مالك؛ لكونه أخذ عنه بعرض حبيب كاتبه. ومنه قول يحيى بن معين في (حفص بن ميسرة): " سمع عرضاً، كان عباد بن كثير يعرض لهم على زيد بن أسلم وغيره، قال أبو جعفر السويدي (¬1): ذهبت إلى حفص بن ميسرة فسألته أن يخرج إلي كتاباً، فقال لي: إنما كان عباد بن كثير يعرض لنا " (¬2). قلت: والرواية بمثل هذا في الأصل صحيحة؛ لأن العبرة بإقرار الشيخ ما يقرأ عليه، والقارئ ليس واسطة بين التلميذ وشيخه، ولذلك فلا تضر جهالته ولا كونه مجروحاً. ولوا افترضنا صحة القدح على ما يروي بهذا الطريق، فإن ورود القدح على الشيخ أولى من وروده على التلميذ، فإنما حدث التلميذ بما أقر به الشيخ مما قرئ عليه. وأما أن يكون حفص بن ميسرة اتقى التحديث عن زيد بن أسلم من أجل أنه سمع بعرض مجروح، فذلك جائز أن يكون من أجل شكه في ضبطه لرواية نفسه عن شيخه. ¬

(¬1) اسمه محمد بن النوشجان، بغدادي ثقة. (¬2) معرفة الرجال، رواية ابنِ محرز (2/ 151 _ 152).

والمقصود: أن من تكلم فيه من الرواة المعروفين بالثقة بسبب مثل هذا السماع، فليس ذلك بقادح فيهم. والحالة الثانية: القدح في الراوي من جهة أنه روى وجادة. قال علي بن المديني: سألت سفيان (يعني ابن عيينة) عن جعفر بن محمد بن عباد بن جعفر، وكان قدم اليمن، فحملوا عنه شيئاً، قلت لسفيان: روى معمر عنه أحاديث يحيى بن سعيد، فقال سفيان: " إنما وجد ذاك كتاباً، ولم يكن صاحب حديث، أنا أعرف بهم، إنما جمع كتباً فذهب بها " (¬1). وقال شعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة: " حديث أبي سفيان عن جابر، إنما هي صحيفة " (¬2). وفي لفظ لشعبة: " إنما هو كتاب " (¬3). وقال أبو حاتم الرازي: " فأما جابر فإن شعبة يقول: لم يسمع أبو سفيان من جابر إلا أربعة أحاديث ". وقال: " ويقال: إن أبا سفيان أخذ صحيفة جابر عن سليمان اليشكري " (¬4). وقال عبد الرحمن بن مهدي: " كان شعبة يرى أن أحاديث أبي سفيان عن جابر إنما هو كتاب سليمان اليشكري " (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 38 _ 39) بإسناد صحيح. (¬2) أخرجه يحيى بن معين في " تاريخه " (النص: 4458) ومن طريقه: عبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 3810) وابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 100) والعقيلي (2/ 224) وابن عدي (5/ 180 _ 181) والخطيب في " الكفاية " (ص: 507) عن شعبة بإسناد صحيح. وابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 46) و " الجرح والتعديل " (2/ 1 / 475) عن سفيان، وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه يحيى بن معين (النص: 2397) بإسناد صحيح. (¬4) المراسيل (ص: 100). (¬5) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 144 _ 145) وإسناده صحيح. وأخرجه الحاكم في " المعرفة " (103 _ 104) لكن قال ابن المديني: قلت لعبد الرحمن: سمعته من شعبة؟ قال: أو بلغني عنه. فهذا يُلين الرواية.

وقال أبو حاتم الرازي: " جالس سليمان اليشكري جابراً، فسمع منه، وكتب عنه صحيفة، فتوفي وبقيت الصحيفة عند امرأته، فروى أبو الزبير وأبو سفيان والشعبي عن جابر، وهم قد سمعوا من جابر، وأكثره من الصحيفة، وكذلك قتادة " (¬1). وقال همام بن يحيى: " قدمت أم سليمان اليشكري بكتاب سليمان، فقرئ على ثابت، وقتادة، وأبي بشر، والحسن، ومطرف، فرووها كلها، وأما ثابت فروى منها حديثاً واحداً " (¬2). وقال سليمان التيمي: " ذهبوا بصحيفة جابر إلى الحسن، فرواها، أو قال: فأخذها، وأتوني بها فلم أروها " (¬3). وقال عبد الرحمن بن مهدي: حدثت سفيان (يعني الثوري) أحاديث إسرائيل عن عبد الأعلى عن ابن الحنفية، قال: " كانت من كتاب " يعني أنها ليست بسماع (¬4). وقال شعبة: " أحاديث الحكم عن مجاهد كتاب، إلا ما قال سمعت " (¬5). وقال يحيى القطان: قال شعبة: " عامر الشعبي عن علي، وعطاء _ يعني ابن أبي رباح _ عن علي، إنما هي من كتاب " قال يحيى: فاسترجعت أنا (¬6). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 136). (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 506) وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 506) وإسناده صحيح. كذلك أخرجه الحاكم في " المعرفة " (ص: 110) وإسناده صحيح، وزاد إلى الحسن ذكْر قتادة. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 71) وإسناده صحيح. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 130) وإسناده صحيح. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 130) وإسناده صحيح.

الصورة الثالثة: الجرح بسبب التحمل في الصغر

والتحرير كما بينته في (شرط اتصال السند): أن قبول الوجادة والعمل بها صحيح معتبر، بشرط حصول الثقة بالموجود، وعليه فلا تعد الرواية بها مما يقدح في الراوي لأجله. الصورة الثالثة: الجرح بسبب التحمل في الصغر. تقدم في الفصل السابق بيان صحة تحمل الصغير إذا كان مميزاً، وضبط ما تحمله، فالقدح في الراوي بسبب صغر السن لا أثر له بمجرده، ولا يصلح أن يكون سبباً للجرح، وإنما إذا ثبت أن السن لم يكن سن ضبط، والراوي حدث بالشيء مما لم يضبطه لذلك، كان ذلك مؤثراً، لكنا لم نجد في التحقيق له مثالاً صالحاً ترجع علته إلى مجرد هذا. وقد تكلم في بعض الرواة لهذه العلة، كما ذكرت بعض مثاله حيث أشرت. قال أحمد بن أبي الحواري (وهو ثقة): قلت للفريابي: رأيت قبيصة (¬1) عند سفيان؟ قال: " نعم، رأيته صغيراً ". قال أبو زرعة الدمشقي: فذكرته لمحمد بن عبد الله بن نمير، فقال: " لو حدثنا قبيصة عن النخعي لقبلنا منه " (¬2). قلت: يعني أنه لم يضره أن كان صغيراً حين سمع من الثوري. الصورة الرابعة: ما يعود إلى جحد الشيخ أن يكون حدث بالحديث، أو تركه القول بمقتضاه. فهاتان حالتان: الأولى: الراوي يروي عن رجل حديثاً، فيسأل المروي عنه فينكره، أو ينكر أن يكون ذلك الراوي قد سمع منه، فذلك الخبر لا يقبل من ذلك ¬

(¬1) يعني ابن عُقبة. (¬2) تاريخ أبي زُرعة الدمشقي (1/ 580).

الطريق، ولكن لا يعد هذا سبباً للطعن على ذلك إذا كان ثقة ضابطاً؛ لجواز النسيان على المحدث، إلا أن يعتضد الجرح بذلك بما يشهد له، أو أن يكون التلميذ لم تستقر ثقته. قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يضعف الحديث عندك بمثل هذا: أن يحدث الرجل الثقة بالحديث عن الرجل، فيسأله عنه، فينكره ولا يعرفه؟ فقال: " لا، ما يضعف عندي بهذا " (¬1). والعلة في ذلك كما ذكرت: أن النسيان غير مأمون على الراوي، وإن كان ثقة، وإنما العبرة بإتقان من حفظه عنه. ووقوعه في رواية الثقات نادر قليل. مثاله: ما رواه أحمد بن حنبل، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم كره يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها. قال وكيع: سألت ابن جريج؟ فأنكره، ولم يعرفه (¬2). قلت: فمن ذا يجرؤ أن يطعن بهذا على سفيان الثوري؟! إنما يحمل على نسيان ابن جريج له. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 543) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه في " العلل ومعرفة الرجال " (النص: 1381) وعنه: ابنُ أبي خيثمة في " أخبار المكيين " من " تاريخه " (ص: 361). كما أخرجه يعقوب بن سفيان (2/ 832) ومن طريقه: البيهقي في " الكبرى " (7/ 314) من طريق أبي نُعيم وقبيصة عن الثوري، به. كما نقل عن أحمد ما حكاه عن وكيع عن ابن جريج من إنكاره. والثوري لم يتفرد به عن ابن جريج، إنما تابعه عليه: سفيان بن عيينة، عند سعيد بن منصور (رقم: 1428)، وعنه: يعقوب بن سفيان (2/ 832 _ 833) ومن طريقه: البيهقي، وحفص بن غياث عند ابن أبي شيبة (5/ 5 / 122). وتابعهم ابن المبارك عن ابن جريج به في سياق مطوًّل وقصةٍ، أخرجه يعقوب بن سفيان (2/ 833) والبيهقي (7/ 314). وتأول البيهقي إنكار ابن جريج أنه كانَ على اللفظ، وفيه نظرٌ، إنما ظاهرهُ أنه أنكر أن يكون حدَّث به.

ومن مثاله: ما حدث به حماد بن زيد، قال: قلت لأيوب: هل تعلم أحداً قال بقول الحسن في: (أمرك بيدك)؟ قال: لا، إلا شيء حدثناه قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. قال أيوب: فقدم علينا كثير، فسألته؟ فقال: ما حدثت بهذا قط، فذكرته لقتادة، فقال: بلى، ولكنه نسي (¬1). قلت: وهل يقبل ذلك الحديث بعينه؟ على قولين: الأول: يقبل، والعمدة فيه على الحفظ الثقة، والشيخ قد نسي. والثاني: لا يقبل، من أجل الشبة، وهو قول متأخري الحنفية (¬2). والأول هو الصحيح، وهو قول أهل الحديث، وعامة الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، وصححه الخطيب (¬3). فإذا كان الراوي جازماً أن الشيخ حدثه، والشيخ يقول: لم أحدثك، فالقول قول الراوي المعروف بالثقة والإتقان، والشيخ قد نسي. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 2204) والترمذي في " الجامع " (رقم: 1178) و " العلل الكبير " (1/ 462 _ 463) والنسائي (رقم: 3410) والحاكم (2/ 206 رقم: 2824) والبيهقي في " الكبرى " (7/ 349) والخطيب في " الكفاية " (ص: 220) من طرُقٍ عن سليمان بن حرْب، عن حماد، به. قال الترمذي: " لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد، وسألت مُحمداً (يعني البخاري) عن هذا الحديث؟ فقال: حدثنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد بهذا، وإنما هو عن أبي هريرة موقوف. ولم يعرف مُحمدٌ حديث أبي هريرة مرفوعاً ". وقال النسائي: " حديث منْكرٌ ". وقال البيهقي: " كثيرٌ هذا لم يَثبت من معرفته ما يوجب قبول روايته ". لكن قال الحاكم: " حديث غريب صحيح ". والذي يبدو لي أن من ردَّه ولم يُفصَّل فجائزٌ أن يكون من أجْل إنكار كثيرٍ أنه حدَّث به. (¬2) الكفاية (ص: 541). (¬3) الكفاية (ص: 541).

وأولى من ذلك بالقبول حين يكون الشيخ متردداً غير جازم بالإنكار، فيكون حفظ الثقة مرجحاً، ومن هذا لو أن الشيخ قال لراويه عنه: لم أحدثك، فرد وقال،: بل حدثتني، فأقره الشيخ. مثل: ما حدث به محمد بن جعفر غندر، قال: حدثنا شعبة، عن صدقة، قال: سمعت ابن عمر، وسأله رجل، فقال: إني أهللت بهما جميعاً، قال: " لو كنت اعتمرت كان أحب إلي "، ثم أمره فطاف بالبيت وبالصفا وبالمروة، وقال: " لا يحل منك شيء دون يوم النحر ". ثم إن شعبة نسي هذا الحديث، فقلت له: إنك حدثتني به، قال: إن كنت حدثتك به فهو كما حدثتك (¬1). وربما وقع من الشيخ من بعد أن يحدث بذلك الحديث عن راويه عنه عن نفسه. مثل: ما حدث به عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد. قال عبد العزيز: فذكرت ذلك لسهيل، قال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة، أني حدثته إياه ولا أحفظه. قال عبد العزيز: وقد كان أصاب سهيلاً علة أذهبت ببعض حفظه، ونسي بعض حديثه، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه (¬2). قلت: وهذه المسألة غير تراجع الشيخ عما حدث به مبيناً عن خطئه، فإنه لو فعل ذلك فالقول قوله. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 331) وإسناده صحيح. وصدقةُ هُو ابنُ يسار الجزري نزيل مك‍َّة. (¬2) أخرجه الشافعي في " مُسنده " (2/ 179 _ ترتيبه) ومن طريقه: البيهقي في " الكبرى " (10/ 168) والخطيب في " الكفاية " (ص: 331 _ 332) عن عبد العزيز. كما رواهُ غير الشافعي كذلك بهذه القصة، وغير عبد العزيز عن ربيعة وذكر قصة نحوها.

الصورة الخامسة: الرواية عن المجروحين والمجهولين

والحالة الثانية، وهي عمل الإمام بخلاف رواية راو حدث هو عنه بتلك الرواية وقال بخلافها. فهذا لا يقدح به على الراوي ولا على الحديث، فمعلوم أن لترك العمل بالحديث أسباباً عدة، فقد يكون تركه لمعارض أقوى عنده، أو قياس أو احتمال نسخه، أو غير ذلك. فهذا مالك روى عن نافع وهو الثقة الحافظ عنده، عن ابن عمر حديث البيعين بالخيار، ولم يقل به مالك؛ لأنه رأى عمل أهل المدينة على خلافه. قال الخطيب: " إذا روى رجل عن شيخ حديثاً يقتضي حكماً من الأحكام، فلم يعمل به، لم يكن ذلك جرحاً منه للشيخ؛ لأنه يحتمل أن يكون ترك العمل بالخبر لخبر آخر يعارضه، أو عموم، أو قياس، أو لكونه منسوخاً عنده، أو لأنه يرى أن العمل بالقياس أولى منه، وإذا احتملت ذلك لم يجعله قدحاً في راويه " (¬1). الصورة الخامسة: الرواية عن المجروحين والمجهولين. وقع هذا من نفر كثير من الثقات، بل حفاظ الناس ومتقنيهم. قال بندار (محمد بن بشار): " ضرب عبد الرحمن بن مهدي على نيف وثمانين شيخاً عنهم الثوري " (¬2). وقال عبد الرحمن بن مهدي: " اتقوا هؤلاء الشيوخ، واتقوا شيوخ أبي عامر العقدي المدنيين " (¬3). وهذا الأعمش أنكروا عليه التحديث ببعض الحديث الذي يكون من ¬

(¬1) الكفاية (ص: 186). (¬2) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 200) بإسنادٍ صحيح. (¬3) أخرجه ابن عدي (1/ 200) بإسناد حسن.

طريق المجروحين، فيبين وجه ذلك فيقول: " كنت أحدثهم بأحاديث يقولها الرجل لأخيه في الغضب، فاتخذوها ديناً، لا والله لا أعود إليها أبداً " (¬1). وكان حدث عن موسى بن طريف عن أبيه عن علي: " أنا قسيم النار "، فقيل له: لم رويت هذا؟ فقال: " إنما رويته على الاستهزاء " (¬2). وذكرت في الكلام عن أصل (هل رواية الثقة عن رجل تعديل له؟ ) (¬3) جماعة من الثقات عرفوا بالرواية عن المجهولين حتى أكثروا، ومع ذلك فلم يسقط حديثهم. فمثل هذا لا يكون الحمل فيه على الثقة، ولا يصح أن يعد بمجرده سبباً للقدح في الراوي. فتأمل ذلك واعلم أن كثيراً من النقلة تكلم فيهم بسبب ذلك، وهم في أنفسهم وحديثهم ثقات. مثل: (عيسى بن موسى غنجار)، قال الحاكم: " لم يؤخذ عليه إلا كثرة روايته عن الكذابين " (¬4). وقال: " يحدث عن أكثر من مئة شيخ من المجهولين لا يعرفون، بأحاديث مناكير، وربما توهم طالب هذا العلم أنه يجرح فيه، وليس كذلك " (¬5). وإنما كان من حال بعض النقلة أنهم لم يعرف لحديثهم مخارج إلا من جهة روايتهم عن المجروحين، فهؤلاء لو افترضنا ثقة أحدهم في نفسه، فما هو بثقة في حديثه، وإن كان الحمل فيه على من فوقه، بل التحقيق أنه لا معنى لوصف هذا الراوي بالثقة؛ لما في ذلك من التغرير بروايته. ¬

(¬1) الكامل، لابن عدي (8/ 53). (¬2) الكامل، لابن عدي (8/ 53). (¬3) في (الأصل السادس) من المبحث التاسع) من مباحث (التعديل). (¬4) سؤالات مسعود السجزي للحاكم (النص: 88). (¬5) معرفة علوم الحديث (ص: 106).

مثل (خالد بن الحسين أبي الجنيد الضرير)، قال ابن عدي: " عامة حديثه عن الضعفاء أو قوم لا يعرفون، فإذا كان سبيله هذا السبيل إذا وقع لحديثه نكرة؛ يكون البلاء منه، أو من غيره لا منه " (¬1). ومثل (يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي)، فقد قال فيه أبو حاتم: " منكر الحديث، لا أدري منه أو من أبيه، لا ترى في حديثه حديثاً مستقيماً "، وقال أبو زرعة الرازي: " لا بأس به، إنما الشأن في أبيه، بلغني عن أحمد بن حنبل أنه قال: يحيى بن يزيد لا بأس به ولم يكن عنده إلا حديث أبيه، ولو كان عنده غير حديث أبيه لتبين أمره " (¬2). ومنه قول الدارقطني في (محمد بن مَروان القطان): " شيخٌ من الشيعة، حاطب ليل (¬3)، لا يكاد يُحدث عن ثقة، متروك " (¬4). فالدارقطني جرحه من جهة أنه لا يكاد يحدث عن ثقة. وكقول ابن حبان في (مطرح بن يزيد): " لا يحتج بروايته بحال من الأحوال؛ لما روى عن الضعفاء " (¬5) يعني وأن عامة ما روى فهو عن عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد، وهما مجروحان. ومن هذا أيضاً قوله (محمد بن عطية بن سعد العوفي): " منكر ¬

(¬1) الكامل (3/ 475). (¬2) الجرح والتعديل (4/ 2 / 198). (¬3) معنى قولهم: (فلانٌ حاطب ليْلٍ): لا يُبالي ماذا يَحمل ولا عمن. فائدة: قال سفيان بن عيينة: قال لي عبد الكريم الجزري: يا أبا محمد، تدري ما حاطبُ ليْل؟ قال: قلت: لا، إلا أن تخبرنيه، قال: هوَ الرجل يخرج من الليل فيتحطب، فتقع يده على أفعى فتقتله. هذا مثلٌ ضربتْه لك لطالب العلم، إن طالبَ العلم إذا حمل من العلم ما لا يُطيقه، قتله علْمه، كما قتلت الأفعى حاطب ليْل. أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 1048) بإسناد صحيح. (¬4) سؤالات البرقاني (النص: 458). (¬5) المجروحين (3/ 27).

الحديث جداً، مشتبه الأمر، لا يوجد الاتضاح في إطلاق الجرح عليه؛ لأنه لا يروي إلا عن أبيه، وأبوه ليس بشيء في الحديث "، كما علله أيضاً بأنه لم يعرف حديثه إلا من رواية مجروح عنه (¬1). فهذا الصنف من الرواة ليسوا معدودين في جملة الثقات أصلاً، ولهذا جاز أن تلحقهم التهمة. ومن هذا الصورة: تخريج أحاديث المجروحين. وقد طعن به على بعض أئمة الحديث أنهم خرجوا أحاديث الضعفاء والمتروكين والكذابين في كتبهم دون بيان لعللها، كما طعن به مثلاً على الحافظ أبي نعيم الأصبهاني. وليس هذا في التحقيق مما يجرح به، وإن كان خلاف الأولى، وذلك من أجل أن الواحد من هؤلاء المخرجين يسند أحاديثه تلك، ومن أسند فقد أحال. فإن قلت: فلم كانوا يكتبون أصلاً أحاديث المجروحين، أو يروون عنهم؟ قلت: يغلب على من كان يفعل ذلك عدم العلم بمنازل الرواة، ومن كان يعلم ذلك فكان يرويه تارة على سبيل اعتقاد عدالة المحدث بها عند ذلك الراوي عنه، وتارة على سبيل الاستهزاء كما تقدم عن الأعمش فيتلقفه من كان همه الإكثار والإغراب في الرواية، أو من أجل تمييزها عن أحاديث الثقات، كما كان يفعله بعض النقاد، أو لغير ذلك. لكن ليس من سبب ذلك غش الأمة، فهذا إن ورد على الراوي طعن على عدالته في نفسه. ¬

(¬1) المجروحين (2/ 273 _ 274).

والكتابة عنهم بقصد تمييز حديثهم، منهج جرى عليه عامة النقاد، يكتب أحدهم أحاديث المجروحين ويعتني بجمعها كما يعتني بأحاديث الثقات، وذلك لما يوجبه تحرير حال النقلة من تمييز محفوظ حديثهم من غيره (¬1)، أو لمصلحة الاعتبار به إذا كان المجروح ممن يصلح حديثه لذلك، وليس هذا من قبيل ما يذم ويؤخذ على الراوي فعله في الرواية عن الضعفاء. قال يحيى بن معين: " كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور، فأخرجنا به خبزاً نضيجاً " (¬2). وقال أبو بكر الأثرم: رأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين بصنعاء في زاوية وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه، فقال له أحمد: تكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، وتعلم أنها موضوعة، فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه على الوجه! فقال: " رحمك الله يا أبا عبد الله، أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة؛ حتى لا يجيء بعده إنسان فيجعل بدل أبان ثابتاً، ويرويها عن معمر عن ثابت عن أنس، فأقوله له: كذبت، إنما هي عن أبان لا عن ثابت " (¬3). فهذا فيه كتابة أحاديث من لا يعتبر به أصلاً، وإنما يقايس بحديثه لكشف الكذب والكذابين. ومثال الكتابة للاعتبار، قول أحمد بن حنبل في (عبد الله بن لهيعة): ¬

(¬1) قال الحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص: 31): " وللأئمة في ذلك غرضٌ ظاهر، وهو أن يعرفوا الحديث: من أين مخرجه، والمنفرد به: عدلٌ أو مجروحٌ ". (¬2) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 56) والحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص 32) والخطيب في " تاريخه " (14/ 184) بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 31 _ 32) والحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص 32) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1580) بإسناد صحيح.

الصورة السادسة: الجرح والتدليس

" ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع غيره يشده، لا أنه حجة إذا نفرد " (¬1). فهذه العلة التي كانوا يكتبون لأجلها أحاديث المجروحين، موجودة كذلك فيما يخرج من الحديث في الكتب التي لا تشترط الصحة، دون بيان في أكثرها لعلة الحديث ولا لضعف أو وهاء راويه. والمفترض أن لا يرد الإنسان من هذه الموارد إلا وهو يفهم ويميز ما يقبل وما لا يقبل. والمراد أن يعلم هنا أن هذا ليس من أسباب الطعن المعتبرة على أحد من الرواة. الصورة السادسة: الجرح والتدليس. التدليس جرح نسبي يقدح فيما حدث به الراوي مدلساً، أو مترجحاً فيه مظنة التدليس، على ما ستعلمه في مبحث (الحديث المدلس) من ألقاب (الحديث المردود). ولا يكون وصف الراوي به مما يقدح في عدالته بمجرده، كما لا يكون منافياً لثقته، لأسباب بينتها في المبحث المشار إليه. لذلك تجد أكثر من واقعه كانوا من الثقات المعروفين. ولو جعلنا التدليس قادحاً، فإنه سيكون قادحاً في العدالة؛ لما فيه من معنى الغش، ولكن التأويل عند من فعله حال دون الجرح به. ومن النقاد من جعل الإكثار من التدليس، وفحش ما يأتي به الراوي المدلس من المنكرات مما يكون قد سمعه من كذاب أو مجهول فدلسه، ¬

(¬1) شرح علل الترمذي، لابن رجب الحنبلي (1/ 91).

ملحقاً الضرر بذلك المدلس، فيجعل علة جرحه عنده تلك المنكرات التي رواها. كما جرح بقية بن الوليد عند طائفة من العلماء بذلك، حتى أسقط بعضهم عامة حديثه. وكما قال محمد بن عبد الله بن نمير في (أبي جناب يحيى بن أبي حية الكلبي): " صدوق، كان صاحب تدليس، أفسد حديثه بالتدليس، كان يحدث بما لم يسمع " (¬1). قلت: وهذا وافقه فيه كثيرون، لكن أبو جناب، في تتبعي، وجدت عامة ما يفسرون به ضعفه هو التدليس، ووصفه بالصدق جماعة من النقاد، والقول فيه ما قاله أبو نعيم الفضل بن دكين وقد أدركه وروى عنه: " ما كان به بأس، إلا أنه كان يدلس، وما سمعت منه شيئاً إلا شيئاً قال فيه: حدثنا " (¬2)، وقال أبو زرعة الرازي: " صدوق، غير أنه كان يدلس " (¬3). وأدخل ابن عدي جماعة من الرواة في " الكامل " ليس فيهم قادح سوى التدليس، ولم يورد آخرين عرفوا به، وكأنه حين رأى أولئك الذين أو دعهم كتابه قد جرحهم بعض من تقدمه تبعهم في ذكرهم في المجروحين. ومن أمثلتهم (ميمون بن موسى المرئي البصري) يروي عن الحسن البصري، وقد روى عنه يحيى القطان وغيره، لم يجرح بشيء غير التدليس مع قلة حديثه، وخشية أن يظن رد حديثه مطلقاً قال ابن عدي: " إذا قال: حدثنا، فهو صدوق؛ لأنه كان متهماً في التدليس " (¬4). والوقوف على تحرير هذا السبب من الجرح في الموصوف به، يدفع ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 138). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 2 / 138) وإسناده صحيح. (¬3) الجرح والتعديل (4/ 2 / 139). (¬4) الكامل (8/ 162).

التهمة عن بعض الرواة ممن اختلف فيهم، يعود الجرح فيهم إلى هذا السبب، فإذا تبين لم يصلح معه رد قول المعدل في حال بيان هذا الراوي سماعه للخبر. وليس من ذلك ما علل به ابن حبان مجيء الموضوعات في روايات الحسن بن عمارة، إذ حمله على مجرد التدليس، وأن شعبة طعن عليه لأنه لم يتبين ذلك، حيث قال ابن حبان: " كان بلية الحسن بن عمارة أنه كان يدلس عن الثقات ما وضع عليهم الضعفاء، كان يسمع من موسى بن مطير، وأبي العطوف، وأبان بن أبي عياش، وأضرابهم، ثم يسقط أسماءهم ويرويها عن مشايخهم الثقات، فلما رأى شعبة تلك الأحاديث الموضوعة التي يرويها عن أقوام ثقات أنكرها عليه، وأطلق عليه الجرح، ولم يعلم أن بينه وبينهم هؤلاء الكذابين، فكان الحسن بن عمارة هو الجاني على نفسه بتدليس عن هؤلاء وإسقاطهم من الأخبار، حتى التزق الموضوعات به " (¬1). فهذا الذي أعاد إليه ابن حبان جرح شعبة للحسن وأن شعبة لم يتفطن له، غير صحيح، إلا أن يكون الحسن بن عمارة كان يقول في تلك الأحاديث المدلسة (سمعت)، كما يوجد بعض ذلك فيما أثر عن شعبة أنه طعن على الحسن بسببه. والتحقيق أن عبارات النقاد في ابن عمارة لم تبن على ما ذكره ابن حبان، فإنه يوجد في الموصوفين بالثقة من كان يدلس المتهمين ويعنعن عن شيوخهم، ولم يطعن عليه بمثل ما طعن على ابن عمارة وفيهم من روى عنه شعبة نفسه، وإنما قام الطعن على ابن عمار على وهائه في نفسه من جهته، وقد قال علي بن المديني: " ما أحتاج إلى شعبة فيه، أمر الحسن بن عمارة أبين من ذلك "، قيل: أكان يغلط؟ فقال: كان يغلط؟! أي شيء يغلط؟ " وذهب إلى أنه كان يضع الحديث (¬2). ¬

(¬1) المجروحين (1/ 229). (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (7/ 349) وإسناده صحيح.

المبحث الثاني: تحرير القول فيما يسلب العدالة

المبحث الثاني: تحرير القول فيما يسلب العدالة ما يطعن به على عدالة الراوي يحصر القول فيه في الأسباب التالية: الفسق، الكذب، والتهمة به، سرقة الحديث، البدعة، الجهالة. السبب الأول: الفسق والمقصود به: مواقعة المعصية. ومن أمثلة القدح في الرواة ذلك: ما نقله ابن أبي خيثمة قال: سألت يحيى بن معين عن (عمر بن سعد) (¬1): أثقة هو؟ فقال: " كيف يكون من قتل الحسين بن علي، رضي الله عنه، ثقة؟! " (¬2). قلت: ولم يجعل صنيعه مما يقبل التأويل المعتبر؛ ولعله لظهور المخالفة فيه، وغيره يوثقه. والمعصية القادحة هي المعلومة التي لا تقبل التأويل، وليس منها ¬

(¬1) يعني ابن أبي وقاص. (¬2) الجرح والتعديل (3/ 1 / 111 _ 112).

الصغائر، وقتل الحسين رضي الله عنه كان عظيماً من الذنوب، وهل يقبل في مثله التأويل؟ الله أعلم. ونقل ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين قوله في (يعقوب بن حميد بن كاسب): " ليس بثقة "، قال: فقلت له: من أين قلت ذاك؟ قال: " لأنه محدود "، قلت أليس هو في سماعه ثقة؟ قال: " بلى "، فقلت: أنا أعطيك رجلاً تزعم أنه وجب عليه الحد وتزعم أنه ثقة، قال: " من هو؟ "، قلت: خلف بن سالم، قال: " ذلك إنما شتم بنت حاتم مرة واحدة، وما به بأس، لولا أنه سفيه ". قال ابن خيثمة: قلت لمصعب الزبيري " إن يحيى بن معين يقول في ابن كاسب: إن حديثه لا يجوز؛ لأنه محدود؟ فقال: بئس ما قال، إنما حده الطالبيون في التحامل، وليس حدود الطالبيين عندنا بشيء؛ لجورهم، وابن كاسب ثقة مأمون " (¬1). قلت: أراد يحيى أن الحد موجب لارتكابه مفسقاً، لكن رد مصعب يشكك في أن ذلك الحد كان عدلاً؛ لما عهد يومئذ من ظلم السلطان. ونقول: غاية هذا الجرح أن يكون مبهماً؛ للشبة فيه، والجرح المبهم لا حجة فيه. لكنك تعتبر به أنه كان يقع من نقاد المحدثين القدح في النقلة بسبب الفعل المفسق الذي لا يحتمل فيه التأويل، ويسقطون بذلك حديثه وإن كان متقناً لما روى. ¬

(¬1) تاريخ ابن أبي خيثمة (ص: 438) والتعديل والتجريح، للباجي (3/ 1249)، وتهذيب التهذيب، لابن حجر (4/ 441)، وطرف منه الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 2 / 206).

السبب الثاني: الكذب، والتهمة به

وسأل السلمي الدارقطني عن علي بن سراج؟ فقال: " كان يعرف ويفهم، ولم يكن يذاكر، فإنه كان يشرب المسكر ويسكر " (¬1). وقال العباس بن محمد الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول وذكرت له شيخاً كان يلزم سفيان بن عيينة يقال له: ابن مناذر، فقال: " أعرفه، كان صاحب شعر، ولم يكن من أصحاب الحديث، [وكان يتعشق ابن عبد الوهاب الثقفي، وكان يقول فيه الشعر، وكان يشبب بنساء ثقيف؛ فطردوه من البصرة، فخرج إلى مكة]، وكان يرسل العقارب في مسجد الحرام حتى تلسع الناس، وكان يصب المداد [بالليل] في المواضع التي يتوضأ منها حتى تسود وجوه الناس، ليس يروي عنه رجل فيه خير " (¬2). ولذا قال فيه ابن عدي كذلك: " لم يكن من أصحاب الحديث، وكان الغالب عليه المجون واللهو " (¬3). السبب الثاني: الكذب، والتهمة به وهو نوعان: الكذب في الحديث، والكذب في كلام الناس، وهذا الثاني من صور الفسق، لكني أذكره هنا من أجل مناسبته لهذا السبب. فأما الكذب في الحديث، أو قيام القرينة على ثبوته في حق الراوي، فخصلة ظاهرة الأثر في القدح فيه بسببها. والقدح في الراوي كونه (كذاباً)، أو (يكذب)، إذا صدر من عارف بهذا الشأن، مصدر فيه، مثل أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فهو جرح بليغ. ¬

(¬1) سؤالات السلمي (النص: 199). (¬2) تاريخ يحيى (النص: 309)، ونقله عنه: ابن حبان في " المجروحين " (2/ 271) وابن عدي (7/ 520) والزيادة له، وهيَ صحيحة عن عباس، والخطيب في " الكفاية " (ص: 245) وله نحوُ زيادة ابنِ عدي. (¬3) الكامل (7/ 521).

لكن هل يكون قاطعاً في كذبه؟ أي أن وصف الكذب لحق ذلك الراوي لذاته؟ أم هي تهمة بنيت على قرائن معتبرة عند الناقد؟ فنحن نعلم مثلاً أن من الرواة الضعفاء من لا يوصف بالكذب، مع وقوع رواية الكذب من طريقهم، وذلك أن أحدهم كان يؤتى من غفلته. تحرير هذه المسألة: أن نعت الراوي بالكذب إن كان بدليل لا يقبل الشك أنه كان يتعمد الكذب، كاعترافه، أو ما ينزل منزلته، فهو وصف ظاهر يوجب سقوط عدالته. لكن أكثر من أطلق عليه هذا الوصف من الرواة، فهو بحسب نظر الناقد وتمحيصه لحديثه، فوجد حديثه الكذب، فحكم عليه بمقتضى ذلك، ولم يطلع من أمره إلا على ذلك منه، وهذا في حقنا لا يزيد على أن يكون مجرد تهمة يسقط بها حديث ذلك الراوي، وإن وقع إطلاق الوصف من أرفع أئمة هذا الشأن، نعم، ربما جعلنا نحكم على حديثه المعين بأنه (كذاب). قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في ترجمة (أحمد بن إبراهيم الحلبي): سألت أبي عنه وعرضت عليه حديثه؟ فقال: " لا أعرفه، وأحاديثه باطلة موضوعة كلها، ليس لها أصول، يدل حديثه على أنه كذاب " (¬1). وسأل ابن أبي حاتم أباه عن حديث رواه عبد الكريم (الجرجاني)، عن الحسن بن مسلم، عن الحسين بن واقد، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حبس العنب أيام القطاف؛ ليبيع من يهودي أو نصراني، كان له من الله مقت " (¬2)؟ فقال أبو حاتم: " هذا حديث كذاب باطل " قال ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 40). (¬2) أخرجه الطبراني في " الأوسط " (6/ 170 _ 171 رقم: 5352) وابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 236) والسهمي في " تاريخ جُرجان " (ص: 241) من طرق عن عبد الكريم، عن الحسن بن مسلم، به. بلفظ: " من حبس العنب أيام القِطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني، أو ممن يتخذه خمراً، فقد تقحَّم النار على بصيرة ". زاد السهمي في الإسناد: (عن عُمر بن الخطاب). قلت: عبد الكريم في رواية الطبراني: (ابن أبي عبْد الكريم)، وفي رواية السهمي: (ابن عبد الكريم)، وفي رواية ابنِ حبان: (ابن عبد الله السكري). وقاله ابن حبان وقد أورد الحديث في ترجمة (الحسن بن مسلم): " هذا حديث لا أصل له عن حسين بن واقد، وما رواه ثقة، والحسن بن مسلم هذا راويه يجب أن يعدل به عن سنن العُدول إلى المجروحين برواية هذا الخبر المنكر ".

ابنه: قلت: تعرف عبد الكريم هذا؟ قال: " لا "، قلت: فتعرف الحسن بن مسلم؟ قال: " لا، ولكن تدل روايتهم على الكذب " (¬1). ويؤيد كون ذلك الوصف في حقنا مجرد تهمة، أنا وجدنا بعض كبار الأئمة وصف بعض النقلة بالكذب، ولم يكن الأمر كما قال، بل لم يصح أن يسلم لهم فيهم حتى شبهة الكذب، بل قيل ذلك الوصف في رواة ثقات وفي آخرين لم ينزل حديثهم عن درجة الاعتبار، ومن أمثلة ذلك: (عكرمة مولى ابن عباس)، فقد تناولته ألسنة بعض السلف، وتحرر لي ثبوت تكذيبه عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير في حكاية، ونقل كذلك عن غيرهما ولم يثبت، ومن هذا أن مالك بن أنس كان يكره عكرمة، وكذا تنم عن ذلك بعض عبارات غيره، ولم يكن ذلك عندهم في التحقيق من جهة ضبطه لما روى، إنما كان من جهة رأيه ومذهبه، فإنه مذكور برأي الصفرية من الخوارج أتباع زياد بن الأصفر، قيل: إن عكرمة كان ينشر رأيه ويدعو إليه، ونزل إفريقية ونشره هناك، في بيان يطول. وإليه يعود ذم أكثر من كره حديثه، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عكرمة مولى ابن عباس؟ فقال: هو ثقة، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: نعم، إذا روى عنه الثقات، والذي أنكر عليه يحيى ين سعيد الأنصاري ومالك فلسبب رأيه (¬2). وعكرمة روى الكثير وتكلم بالكثير من العلم، ولم يتفرد بشيء لا ¬

(¬1) علل الحديث (رقم: 1165). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 2 / 8 _ 9).

أصل له، إلا المذهب، وحتى هذا فلم يظهر لنا من خلال المنقول عنه من الأخبار أنه كان له أثر يذكر، من أجل ذلك أجمع اللاحقون على ثقته في حديثه، واحتج به البخاري، وتجنبه مسلم من أجل ما قيل فيه مما تقدم ذكره. وسبقت تزكية عكرمة من قبل أستاذه عبد الله بن عباس: فقد صح عن عثمان بن حكيم (وهو ثقة) قال: جاء عكرمة إلى أبي أمامة بن سهل وأنا جالس عنده، فقال: يا أبا أمامة، أما سمعت ابن عباس يقول: " ما حدثكم عكرمة عني من شيء فصدقوه، فإنه لم يكذب علي؟ "، قال: نعم (¬1). وكان عكرمة يقول: " أرأيت هؤلاء الذين يكذبوني من خلفي؟ أفلا يكذبوني في وجهي؟! فإذا كذبوني في وجهي فقد والله كذبوني " (¬2). وقال عفان بن مسلم في (روح بن أسلم الباهلي): " كذاب "، ولم يبلغ ذلك، فهذا ابن معين على شدته يقول: " ليس بذاك فيه، لم يكن من أهل الكذب " وقال أبو حاتم الرازي: " لين الحديث، يُتكلم فيه " (¬3)، فغاية أمر الرجل أن يكون ضعيفاً يعتبر بحديثه، ولا يحتج به إذا انفرد. ونقل عثمان الدارمي عن يحيى بن معين قوله في (القاسم بن محمد المعمري البغدادي): " خبيث كذاب "، فتعقبه الدارمي فقال: " وقد أدركت القاسم هذا، كان ببغداد ليس كما قال يحيى " (¬4)، ووثقه قتيبة بن سعيد (¬5)، ¬

(¬1) أخرجه يحيى بنُ معين في " تاريخه " (النص: 1217). (¬2) أخرجه ابن سعد (5/ 2888) بإسناد صحيح. (¬3) الجرح والتعديل (1/ 2 / 499). (¬4) تاريخ الدارمي (النص: 708). (¬5) تاريخ بغداد، للخطيب (12/ 425).

وابن حبان (¬1)، وقال ابن حجر: " صدوق، نقل عثمان الدارمي أن ابن معين كذبه، ولم يثبت ذلك " (¬2) أي: ولم يثبت منه الكذب. وقال يحيى بن معين (كنانة بن جبلة الهروي): " كذاب خبيث "، لكن خالفه أبو حاتم الرازي فقال: " محله الصدق، يكتب حديثه، حسن الحديث " (¬3)، فانظر فرق ما بين العبارتين؟! وملاحظته ما روى كنانة على قلته يبين صحة ما قال أبو حاتم، ومن تابع يحيى في الطعن عليه حمله ما لا يحتمل، فإنه روى من الحديث ما علته من قبل غيره. فتأمل هذا من كلام النقاد، ولا تعجل بتسليمه حتى تزول الشبهات، فقد وجدنا الراوي الثقة يحدث بالحديث النظيف الإسناد في الظاهر، وهو كذب، بسبب أن الواضع قد دلس، أو بسبب تلقين الثقة بعدما اختلط ما ليس من حديثه. كما وقع لعبد الرزاق الصنعاني في حديث حدث به بإسناد ظاهره الصحة، حمله عنه الثقة أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري، فكان يحدث به، فبلغ الحديث يحيى بن معين، فقال: " من هذا الكذاب النيسابوري الذي حدث عن عبد الرزاق بهذا الحديث؟ "، فقام أبو الأزهر فقال: " هو أنا ذا "، فتبسم يحيى بن معين، وقال: " أما إنك لست بكذاب "، وتعجب من سلامته، وقال: " الذنب لغيرك في هذا الحديث " (¬4). وقد يكون حديث الراوي موضوعاً، لكنه لا يوصف بتعمد الكذب، مثل (جبارة بن المغلس الحماني)، فقد قال يحيى بن معين: " كذاب "، لكن ¬

(¬1) الثقات (9/ 15). (¬2) تقريب التهذيب (الترجمة: 5491). (¬3) الجرح والتعديل (3/ 2 / 169 _ 170). (¬4) تاريخ بغداد (4/ 41 _ 42) وكذلك أخرج القصة بمعناها الحاكم في " المستدرك " (3/ 128 بعد رقم: 4640).

قال أبو زرعة: قال لي ابن نمير: " ما هو عندي ممن يكذب "، قلت: كتبت عنه؟ " قال: " نعم "، قلت: تحدث عنه؟ قال: " لا " قلت: ما حاله؟ قال: " كان يوضع له الحديث فيحدث به، وما كان عندي ممن يتعمد الكذب " (¬1). قلت: فهذا وقع له بسبب الغفلة لا التعمد. وأما إذا قيل الدليل على صحة إلحاق وصف الكذب به، جزمنا بأنه (كذاب). مثل: (خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني)، قال يحيى بن حسان التنيسي (وكان ثقة): " يلزق أحاديث الليث بن سعد، إذا كانت عن الزهري عن ابن عمر أدخل سالماً، وإذا كانت عن الزهري عن عائشة أدخل عروة، قلت له: اتق الله، قال: ويجيء أحد يعرف هذا؟ ‍! " (¬2). من أجل هذا قال جماعة من النقاد في هذا الرجل: " كذاب "، كقول أبي زرعة الرازي: " هو كذاب، كان يحدث الكتب عن الليث عن الزهري، فكل ما كان: الزهري عن أبي هريرة، جعله عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وكل ما كان: عن الزهري عن عائشة، جعله عن عروة عن عائشة متصلاً " (¬3). قلت: وهذا مما ينزل منزلة اعترافه؛ لأنه مما وقف عليه منه الثقة يحيى بن حسان واطلع عليه، ولم يعتمد فيه على مجرد النظر في روايته. ومن كانت عامة أحاديثه مكذوبة: فهو ساقط، لا يجوز أن يعتبر بحديثه، بلا خلاف عند عامة أهل العلم، وإن تورعنا عن وصف شخصه بالكذب. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم بياناً لمنهج نقاد المحدثين: " وإذا ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 550). (¬2) أخرجه العُقيلي في " الضعفاء " (2/ 13) بإسناد صحيح، وانظره في ميزان الاعتدال " (1/ 637). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 2 / 348).

أثر التوبة من الكذب في الحديث:

قالوا: متروك الحديث، أو: ذاهب الحديث، أو: كذاب، فهو ساقط الحديث، لا يكتب حديثه " (¬1). كما قال يحيى بن معين في (عبد الحكيم بن منصور الواسطي): " كذاب "، وقال أبو حاتم الرازي: " لا يكتب حديثه " (¬2)، ولم يختلفوا أنه " متروك الحديث ". فخلاصة هذا: أن ثبوت الكذب على الراوي، أو غلبه المظنة أنه كان يكذب قادح في عدالته. أثر التوبة من الكذب في الحديث: من ثبت عليه الكذب في حديثه، ثم ذكر بالتوبة منه، فما حكم ما يحدث به بعد التوبة؟ وجود مثال صالح لهذه الصورة أن الراوي كان يكذب في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تثبت توبته فلا يحدث بعد التوبة إلا بحديث صدق مستو، أحسبه متعذراً في الواقع. لأنه حتى وإن تاب بعد أن حدث بالكذب، فتمييز ما يحدث به من الصدق من غيره مما حدث به قبل ذلك كالمتعذر، هذا لو صدق في توبته وروى بعدها صدقاً؛ لذلك شدد الأئمة المتقدمون في هذا (¬3). عن عبيد الله بن أحمد الحلبي، قال: سألت أحمد (يعني ابن حنبل) عن محدث كذب في حديث واحد، ثم تاب ورجع؟ قال: " توبته فيما بينه وبين الله تعالى، لا يكتب عنه حديث أبداً " (¬4). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 37). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 1 / 35). (¬3) انظر: الكفاية، للخطيب (ص: 190 _ 191). (¬4) طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى (1/ 198)، نقلاً عن أبي بكر الخلال، وكذلك رواها الخطيب في " الكفاية " (ص: 190).

وقال الحسين بن حبان: قلت ليحيى بن معين: ما تقول في رجل حدث بأحاديث منكرة، فردها عليه أصحاب الحديث، إن هو رجع عنها، وقال: ظننتها، فأما إذ أنكرتموها ورددتموها علي فقد رجعت عنها؟ فقال: " لا يكون صدوقاً أبداً، إنما ذلك الرجل يشتبه له الحديث الشاذ والشيء فيرجع عنه، فأما الأحاديث المنكرة التي لا تشتبه لأحد فلا "، فقلت ليحيى: ما يبرئه؟ قال: " يخرج كتاباً عتيقاً فيه هذه الأحاديث، فإذا أخرجها في كتاب عتيق فهو صدوق، فيكون شبه له فيها وأخطأ كما يخطئ الناس فيرجع عنها "، قلت: فإن قال: قد ذهب الأصل وهي في النسخ؟ قال: " لا يقبل ذلك منه "، قلت له: فإن قال: هي عندي في نسخة عتيقة، وليس أجدها؟ فقال: " هو كذاب أبداً حتى يجيء بكتابه العتيق "، ثم قال: " هذا دين، لا يحل هذا " (¬1). والرجل من هؤلاء لا يكاد ينهض بعد ثبوت كذبه، فإن من اجترأ على الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغية ترويج ضلالته أو تحقيق شهوته، فإن مظنة كذبه في ادعاء التوبة قوية. كحال (زياد بن ميمون أبي عمار صاحب الفاكهة)، فقد صح عن الحافظ أبي داود الطيالسي قال: " لقيته أنا وعبد الرحمن بن مهدي، فسألناه، فقال: عدوا أن الناس لا يعملون أني لم ألق أنساً، ألا تعلمان أني لم ألق أنساً؟ ثم بلغناه أنه يروي عنه، فأتيناه، فقال: عدوا أن رجلاً أذنب ذنباً فيتوب، لا يتوب الله عليه؟ قلنا: نعم، قال: فإني أتوب، ما سمعت من أنس قليلاً ولا كثيراً، فكان بعد ذلك يبلغنا أنه يروي عنه، فتركناه " (¬2). وقال يزيد بن هارون: " كان أبو جزي مرض مرضة ظن أنها الموت، ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 192) وإسناده جيد. (¬2) الجرح والتعديل (1/ 2 / 544)، ونحوه في " مقدمة مُسلم " (ص: 24).

فتاب من أحاديث ادعاها لعمرو بن دينار، فلما استقل من مرضه عاودها، فلم يقبل منه " (¬1). وقد حكى النووي عمن تقدم من أهل العلم، كأحمد بن حنبل والحميدي وغيرهما عدم قبول حديث التائب من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية، والمختار: القطع بصحة توبته في هذا وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة، وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافراً فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة، وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا " (¬2). قلت: هذا على سبيل التنظير لا يجوز سواه في شأن التائب من أي ذنب، لكنه في الواقع في هذه المسألة بمنزلة المعدوم، ويطلب التأصيل في هذا الجانب من علوم الحديث لتمييز أحوال النقلة، فإذا عدمنا وجود من يجري عليه تقعيد النووي، فلم يعد في استدراك مثله على أهل الحديث فائدة. والذي أحمل عليه عبارات المتقدمين في هذا، كأحمد بن حنبل، هو أنهم قد انكشف لهم من حال هؤلاء أن توبتهم من جنس توبة زياد بن ميمون وأبي جزي. وقد وقفت عل حال أحدهم ممن قد يحتمل أن ينزل عليه تقعيد النووي المذكور، وهو الحافظ أبو الحسن علي بن أحمد بن الحسن النعيمي البصري ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 467)، وأبو جُزي هو نصرُ بن طريف الباهلي البصري، وإسناد هذا إلى يزيد صحيح، وانظر قصة أخرى عن أبي جُزي هذا في " المعرفة والتاريخ " ليعقوب بن سفيان (3/ 62) رواها عبدُ الصمد بن عبد الوارث عنه. (¬2) شرح صحيح مسلم، للنووي (1/ 70)، وانظر: المقنع في علوم الحديث، لابن الملقَّن (1/ 271 _ 272) بتحقيقي.

الكذب في حديث الناس:

(المتوفى سنة: 423)، فقد قال الخطيب البغدادي: حدثني الأزهري، قال: " وضع النعيمي على أبي الحسين بن المظفر حديثاً لشعبة، ثم تنبه أصحاب الحديث على ذلك، فخرج النعيمي عن بغداد لهذا السبب، وأقام حتى مات ابن المظفر، ومات من عرف قصته في وضعه الحديث، ثم عاد إلى بغداد " (¬1). قلت: وحمل الذهبي ذلك منه على هفوة منه في صباه، فقال: " قد بدت منه هفوة في صباه واتهم بوضع الحديث، ثم تاب إلى الله واستمر على الثقة " (¬2). وكأن في جميع هذا نظراً، وذلك أن كلام الأزهري لا يفيد غير التهمة، والرجل قد عرف عند أهل العلم بالحفظ والأمانة والإمامة، وجائز أن يكون أساس تلك التهمة أن الرجل شبه له ذلك الحديث المشار إليه، فحدث به على الوهم والخطأ لا على تعمد الكذب، فإننا لم نر ما يشهد لما قال الأزهري في معرفة الحديث، ومن رءوس أئمة البغداديين، سمع من النعيمي، بل اعتنى بحديثه، وأثنى عليه، فلو كان لما ذكر الأزهري أثر مع ما حكى من شيوع ذلك ببغداد، لما خفي البرقاني، ليطلق الثناء عليه في كل شأن إلا ما ذكره من عجب فيه. وكذلك لم يعتد الخطيب بقول الأزهري، فأثنى على النعيمي وروى عنه. الكذب في حديث الناس: وهذه كما تقدم مثال لما يفسق به الراوي، ويقدح به على عدالته. قال مالك بن أنس: " لقد تركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت ¬

(¬1) تاريخ بغداد (11/ 332). (¬2) ميزان الاعتدال (3/ 114).

كتابة أحاديث الكذابين والمتهمين بالكذب للتمييز:

عنهم من العمل شيئاً، وإنهم لممن يؤخذ عنهم العلم، وكانوا أصنافاً: فمنهم من كان كذاباً في غير علمه، تركته لكذبه، ومنهم من كان جاهلاً بما عنده، فلم يكن عندي موضعاً للأخذ عنه لجهله، ومنهم من كان يدين برأي سوء " (¬1). ومن مثاله في النقلة (أنس بن عبد الحميد، أخو جرير)، قال أخوه جرير: " لا يكتب عنه؛ فإنه يكذب في كلام الناس، وقد سمع من هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر، ولكن يكذب في حديث الناس، فلا يكتب عنه " (¬2). كتابة أحاديث الكذابين والمتهمين بالكذب للتمييز: حين يقول الناقد: " فلان لا يكتب حديثه " يعني لا يجوز الاعتبار به في الشواهد والمتابعات، ولا يراد به منع كتابته للتمييز والمعرفة، بل كما بينت فيما تقدم في طريق تمييز ضبط الراوي، أنه لم يتميز كثير من النقلة إلا بمقارنة حديثهم بأحاديث الثقات والمجروحين جميعاً، ولم يكتشف كثير من علل الحديث إلا بذاك، فالإبقاء على تلك الأحاديث لأهل الاختصاص هو بمنزلة الآلة يميزون بها الناقل والمنقول. فعن سفيان الثوري قال: " إني لأحمل الحديث على ثلاثة أوجه: أحمل الحديث عن رجل أتخذه ديناً، وأحمل الحديث عن رجل لا أستطيع جرحه ولا أستطيع أتخذه ديناً، وأحمل الحديث عن رجل لا أعبأ بحديثه أحب معرفته " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 65) بإسناد صحيح. (¬2) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (1/ 1 / 289 _ 290). (¬3) أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 1878) والعقيلي (1/ 15) وابن عدي (1/ 167) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1582) من طُرقٍ عن نعيم بن حماد، حدثنا حاتم الفاخر، عن سفيان، به. قلت: وإسناده صالح، نُعيم صدوق في الأصل يُخطئ يُحتمل منه مثلُ هذا، وحاتم مستورٌ، وثقه نعيم في هذه الرواية.

السبب الثالث: سرقة الحديث

وقال أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي: جاءني علي بن المديني، فكتب عني عن عبد السلام بن حرب أحاديث إسحاق بن أبي فروة فقلت: أي شيء تصنع بها؟ قال: " أعرفها، لا تقلب " (¬1). وهذا من معنى قول الوزاعي: " تعلم ما لا يؤخذ به، كما تتعلم ما يؤخذ به " (¬2). وتقدم أيضاً ذكر مثاله من صنيع يحيى بن معين. السبب الثالث: سرقة الحديث والمراد به: أن يأخذ الراوي حديث غيره مما لم يسمعه، فيدعي سماعه. يفسره ما نقله الحسين بن إدريس، قال: سألت عثمان بن أبي شيبة عن أبي هشام الرفاعي؟ فقال: " إنه يسرق حديث غيره فيرويه "، قلت: أعلى وجه التدليس؟ أو على وجه الكذب؟ فقال: " كيف يكون تدليساً وهو يقول: حدثنا! " (¬3). وهذا قدح شديد في العدالة، يسقط الاعتداد بجميع رواية الموصوف بذلك. ومن أمثلته: 1 _ قال يحيى بن معين في (عبد العزيز بن أبان القرشي): " ليس ¬

(¬1) أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (1/ 102) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1579) بإسناد صحيح. (¬2) أخرجه أبو زُرعة الدمشقي في " تاريخه " (1/ 263) وإسناده جيد. (¬3) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (3/ 376) وإسناده صحيح.

بثقة "، قال عثمان الدارمي: قلت: من أين جاء ضعفه؟ فقال: " كان يأخذ أحاديث الناس فيرويها " (¬1). ولذا قال ابن معين في رواية معاوية بن صالح عنه: " كذاب، يدعي ما لم يسمع، وأحاديثه لم يخلقها الله قط " (¬2). 2 _ وقال أحمد بن حنبل في (يحيى بن عبد الحميد الحماني): " ما زلنا نعرف أنه يسرق الأحاديث أو يتلقطها أو يتلقفها " (¬3). 3 _ وقال الحافظ علي بن الحسين بن الجنيد في (يحيى بن أكثم التميمي المروزي): " كانوا لا يشكون أن يحيى بن أكثم كان يسرق حديث الناس، ويجعله لنفسه " (¬4). 4 _ وقال يحيى بن معين في (محمد بن الحسن بن زبالة): " ليس بثقة، كان يسرق الحديث " (¬5). وفسر ذلك ابن حبان فقال: " يسرق الحديث، ويروي عن الثقات ما لم يسمع منهم من غير تدليس عنهم " (¬6). 5 _ وقال الداقطني في (عبد الله بن إبراهيم المؤدب): " كذاب، يروي عن قوم لم يلحقهم " (¬7). 6 _ وقال يحيى بن معين في (مطرف بن مازن): " قال لي هشام بن يوسف: جاءني مطرف بن مازن، فقال: أعطني حديث ابن جريج ومعمر ¬

(¬1) تاريخ عثمان الدارمي (النص: 569). (¬2) أخرجه ابنُ عدي (6/ 503) وإسناده صحيح. (¬3) العلل ومعرفة الرجال (النص: 4079). (¬4) الجرح والتعديل (4/ 2 / 129). (¬5) تاريخ يحيى بن معين (النص: 799). (¬6) المجروحين، لابن حبان (2/ 275). (¬7) سؤالات السهمي (النص: 331).

حتى أسمعه منك، فأعطيته فكتبها، ثم جعل يحدث بها عن معمر نفسه، وعن ابن جريج، فقال لي هشام بن يوسف: انظر في حديثه فهو مثل حديثي سواء، فأمرت رجلاً فجاءني بأحاديث مطرف بن مازن، فعارضت بها، فإذا هي مثلها سواء، فعلمت أنه كذاب " (¬1). والحافظ أبو أحمد بن عدي في عدد من الرواة بذلك، وكان يستدل لتلك التهمة، منهم: إبراهيم بن عبد السلام المخزومي المكي، والعباس بن الحسن البلخي، وجعفر بن عبد الواحد الهاشمي، والحسن بن عبد الرحمن بن عباد الاحتياطي، والحسين بن علي بن الأسود العجلي، وحميد بن الربيع الخزاز، وسليمان بن أحمد الواسطي، وعبد الرحمن بن واقد أبو مسلم الواقدي، وعلي بن عبدة المكتب، والنضر بن طاهر أبو الحجاج، ويحيى بن هاشم السمسار، وغيرهم. وللحافظ أبي أحمد بن عدي توسع في الجرح بهذه التهمة، فربما جرح بها الراوي الضعيف أو المجهول، يروي حديثاً عن شيخ، وقد عرف ذلك الحديث عن ذلك الشيخ من رواية غير هذا الضعيف أو المجهول، فيصف هذا بأنه سرق الحديث ممن حدث به عن ذلك الشيخ؛ لأن هذا المجروح لم يعرف بذلك الحديث أو بذلك الشيخ. ولا مانع _ كما لا يخفى _ أن يكون الضعيف أو المجهول سمع ما سمعه غيره، لكن ذلك الحديث المعين الذي سمعه لم يشتهر من طريقه. وتسليم هذه التهمة للراوي تحتاج إلى دليل قوي، فإن ناسب الوصف بها كون الراوي متروكاً أو مذكوراً بالكذب، أو منكر الحديث، تساهلنا في ذكرها، إذ تكون حينئذ جارية في سياق ما علمنا من حال الراوي، أما إن ¬

(¬1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 787) ونقله: ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 1 / 314) وابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 75) وابنُ عدي في " الكامل " (8/ 108) والعُقيلي في " الضعفاء " (4/ 216) والحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 65).

مسألة فيمن ذهبت أصوله، فحدث من أصول غيره ما سمع

كان الموصوف بها لم يبلغ حد الترك فلا يقبل هذا الجرح إلا بدليل قاطع أنه كان يسرق الحديث، فإن ثبت حينئذ ألحقنا ذلك الراوي بالمتروكين وأسقطنا الاعتبار بحديثه. والراوي الضعيف من جهة سوء حفظه قد يقلب أحاديث سمعها من شيخ يجعلها عن شيخ آخر، ويركب إسناداً على غير متنه، لكنه إنما أتي من جهة سوء الحفظ لا سرقة الحديث، كما يأتي شرحه في مباحث (النقد الخفي). مسألة: الراوي يكون قد سمع وكتب، لكن ذهبت أصوله، فيحدث بنفس تلك الأحاديث التي سمع لكن من غير أصوله، فهل يكون ذلك من هذا الباب؟ مثاله: قول أحمد بن إسحاق بن واضح العسال المصري (وهو شيخ مستور): " كان محمد بن خلاد الإسكندراني رجلاً صالحاً ثقة، ولم يكن فيه اختلاف، حتى ذهبت كتبه، فقدم علينا رجل يقال له: أبو موسى، في حياة ابن بكير (¬1)، فدفع إليه نسخة ضمام بن إسماعيل، ونسخة يعقوب بن عبد الرحمن، فقال: أليس قد سمعت النسختين؟ قال: نعم، قال: فحدثني بهما، قال: ذهبت كتبي ولا أحدث بها، قال: فما زال به هذا الرجل حتى خدعه، وقال: النسخة واحدة، فحدث بها، فكل من سمع منه قديماً قبل ذهاب كتبه فحديثه صحيح، ومن سمع منه بعد ذلك فحديثه ليس بذاك " (¬2). قلت: وهذا يعني أنه لا يقبل من الراوي أن يحدث بمسموعه من أصول غيره، إلا أن يثبت سماعه على نفس ذلك الأصل. ¬

(¬1) هوَ يحيى بن عبْد الله بن بكيْر. (¬2) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 75)، والحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 68 _ 69) وإسناده إلى ابن واضح صحيح.

السبب الرابع: البدعة

لكن إن كان الراوي قد ثبت أنه يحفظ حديثه ويميزه، فحدث بشيء من تلك الأحاديث المحفوظة له من كتب غيره، فلا يقدح فيه ذلك. قال الحافظ عبد الله بن محمد بن سيار الفرهياني، وذكر أبا موسى محمد بن المثنى، وبنداراً محمد بن بشار، فقال: " ثقتان، وأبو موسى أحج؛ لأنه كان لا يقرأ إلا من كتابه، وبندار يقرأ من كل كتاب ". فعلق على ذلك الخطيب البغدادي بقوله: " بندار وإن كان يقرأ من كل كتاب، كان يحفظ حديثه " (¬1). قلت: ومنه قول يحيى بن معين في (عبد الله بن مسلمة القعنبي): " ثقة مأمون، لا يسأل عنه، لو ضاع كتابه ثم أخذه ممن سمع معه في المثل كان جائزاً، هو رجل صدق " (¬2). السبب الرابع: البدعة هذا من أكثر ما وقع فيه الطعن على الرواة في غير ما يعود إلى الضبط، وما سلم منه طوائف من الثقات الحفاظ من الناس، بل تكلم فيهم لأجله. والمعني به: البدع العقدية، لا البدع الإضافية في أبواب الفروع. وأصول البدع تعود جملتها إلى: بدعة الخوارج، والقدرية، والرافضة، والناصبة، والمرجئة، والجهمية، والواقفة (¬3). ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/ 104)، والرواية عن ابنِ سيار صحيحة الإسناد. (¬2) مَعرفة الرجال، رواية ابنِ مُحْرز (1/ 101 رقم: 445). (¬3) فأما الخوارج فبدعتهم أول البدع في الإسلام، وذلك حينَ شقوا عصا الطاعة وخرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. والقدرية، هُم القائلون بنفي القدر، أي: أن الشر من خلق العبْد لا من خلق الله، ومنه من يقول: لا يعلمه الله من المخلوق حتى يفعله. والرافضة: مبْغضو أبي بكر وعُمر وعثمان، أو مكفروهم، والغلاة في علي بن أبي طالب وأهل بيته، والشيعة لقَبٌ يَشملهم، لكن يدْخل فيه: مُجرد تقديم علي على أبي بكر وعُمر دونَ البُغض. والناصبة: من قابلوا الرافضة في بُغض علي وأهْل بيته. والمرجئة: من ذهب إلى أن الإيمان مُجرَّد اعتقادِ القلب وإقرار اللسان، وأنَّ الأعمال ليست من الإيمان، وعليه فهو لا يزيد ولا ينقص، ومنهم من غلا فقال: لا يضرُّ مع الإيمان معصية. والجهمية: أتباع جهم بن صَفوان في نفي صِفات الباري تعالى، واعتقاد خلق القرآن. والواقفة: هم من توقَّف في القرآن حين ظهرت المقالة فيه فقالوا: لا نقول هو مخلوق، ولا غير مخلوق.

مذاهب أهل العلم في رد حديث أهل البدع أو قبوله

وتضاربت فيه مذاهب أهل الحديث، بين قبول حديث الموصوف به ورده، أو قبوله في حال ورده في حال. وإنما دخل الإشكال على من ذهب إلى القدح بذلك أن البدعة خلل في الدين، وذلك موجب للقدح في العدالة. قال سلام بن أبي مطيع: بلغ أيوب (يعني السختياني) أني آتي عمراً (يعني ابن عبيد) (¬1)، فأقبل علي يوماً، فقال: " أرأيت رجلاً لا تأمنه على دينه، كيف تأمنه على الحديث " (¬2). وقال ابن حبان: " إن الداعي إلى مذهبه والذاب عنه حتى يصير إماماً فيه، وإن كان ثقة، ثم روينا عنه، جعلنا للاتباع لمذهبه طريقاً، وسوغنا للمتعلم الاعتماد عليه وعلى قوله " (¬3). وتحرير القول في حديث المبتدع في بيان مذاهب علماء السلف. مذاهب أهل العلم في رد حديث أهل البدع أو قبوله: هي محصورة في أربعة مذاهب: المذهب الأول: ترك حديثهم مطلقاً، أي: البدعة جرحة مسقط للعدالة. وعليه يتنزل نصوص طائفة من الأئمة: ¬

(¬1) وهوَ من رءوس القدرية. (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/ 23) بإسناد صحيح. (¬3) الإحسان في تقريب صحيح ابنِ حبان (1/ 160).

فعن محمد بن سيرين، قال: " كان في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد؛ لكي يأخذوا حديث أهل السنة، ويدعوا حديث أهل البدع " (¬1). وعن مالك بن أنس، قال: " لقد تركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم من العلم شيئاً، وإنهم لممن يؤخذ عنهم العلم، وكانوا أصنافاً: فمنهم من كان كذاباً في غير علمه، تركته لكذبه، ومنهم من كان جاهلاً بما عنده، فلم يكن عندي موضعاً للأخذ عنه لجهله، ومنهم من كان يدين برأي سوء " (¬2). المذهب الثاني: التفريق بحسب شدة البدعة وخفتها في نفسها، وبحسب الغلو فيها أو عدمه بالنسبة إلى صاحبها. قال أحمد بن حنبل: " احتملوا المرجئة في الحديث " (¬3). وقال إبراهيم الحربي: حدثنا أحمد يوماً عن أبي قطن (يعني عمرو بن الهيثم)، فقال له رجل: إن هذا بعدما رجع من عندكم إلى البصرة تكلم ¬

(¬1) أثرٌ صحيح. أخرجه مُسلم في " مُقدمة صحيحه " (1/ 15) والترمذي في (العلل) آخر كتاب " الجامع " (6/ 231) والجوزجاني في " أحوال الرجال " (ص: 35 _ 36) وعبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 3640) وابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 28) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 208 _ 209) والعُقيلي في " الضعفاء " (1/ 10) وابنُ عدي في " الكامل " (1/ 214) وابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 82) والخطيب في " الكفاية " (ص: 197) من طريق إسماعيل بن زكريا الخُلقانيِّ، عن عاصم الأحوال، عن ابن سيرين، به. وإسناده جيد. وعدَّه يحيى بن معين في " تاريخه " (النص: 2115) مما تفرد به إسماعيل. لكن أخرجه بمعناه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 197) من طريق مُحمد بن حميد، قال: حدثنا جرير (يعني ابنَ عبد الحميد)، عن عاصم. غيرَ أن هذه متابعةٌ لا يُركن إليها ولا يُتعقب بها؛ لأنَّ ابنَ حُميد هو الرازي ضعيف جدًّا. (¬2) أخرجه ابنُ عبد البرِّ في " التمهيد " (1/ 65) بإسناد صحيح. (¬3) سؤالات أبي داود (النص: 136).

بالقدر وناظر عليه، فقال أحمد: " نحن نحدث عن القدرية، لو فتشت أهل البصرة وجدت ثلثهم قدرية " (¬1). وأحمد شدد في حديث الجهمية لغلظ بدعتهم، وتوسط في القدرية، فقبل من لم يكن داعية، وسهل في المرجئة، قال ابن رجب الحنبلي: " فيخرج من هذا: أن البدع الغليظة كالتجهم يرد بها الرواية مطلقاً، والمتوسطة كالقدر إنما يرد رواية الداعي إليها، والخفيفة كالإرجاء، هل يقبل معها الرواية مطلقاً، أو يرد عن الداعية؟ على روايتين " (¬2). وقال مسلم بن الحجاج: " الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين، أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم، والمعاندين من أهل البدع " (¬3). المذهب الثالث: التفريق بين الداعي إلى بدعته، وغير الداعي، فيرد الأول، ويقبل الثاني. قال الحاكم: " الداعي إلى البدعة لا يكتب عنه ولا كرامة؛ لإجماع جماعة من أئمة المسلمين على تركه " (¬4). هذا منقول عن عبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين (¬5). قال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك وقيل له: تركت عمرو بن ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (12/ 200) وإسناده حَسنٌ. (¬2) شرح علل الترمذي (1/ 56)، والرواية الأولى عن أحمد في المرجئة في القبول مُطلقاً هي التي ذكرْت، وأما الثانية فتأتي في المذهب الثالث. (¬3) مُقدمة صحيح مُسلم (ص: 8). (¬4) مَعرفة علوم الحديث (ص: 16). (¬5) الكفاية، للخطيب (ص: 203 _ 205).

عبيد وتحدث عن هشام الدستوائي وسعيد وفلان، وهم كانوا في عداده، قال: " إن عمراً كان يدعو " (¬1). كما روى نعيم، قال: قلت لا بن المبارك: لأي شيء تركوا عمرو بن عبيد؟ قال: " إن عمراً كان يدعو " يعني إلى القدر (¬2). وقال عبد الرحمن بن مهدي: " من رأى رأياً ولم يدع إليه احتمل، ومن رأى رأياً ودعا إليه فقد استحق الترك " (¬3). وقال: " ثلاثة لا يحمل عنهم: الرجل المتهم بالكذب، والرجل الكثير الوهم والغلط، ورجل صاحب الهوى يدعو إلى بدعة " (¬4). وقال محمد بن عبد العزيز الأبيوردي (من أصحاب أحمد) " سألت أحمد بن حنبل: أيكتب عن المرجئ والقدري؟ قال: " نعم، يكتب عنه إذا لم يكن داعياً " (¬5). وكذلك قال أبو داود السجستاني: قلت لأحمد بن حنبل: يكتب عن القدري؟ قال: " إذا لم يكن داعياً " (¬6). ¬

(¬1) الضعفاء، للعقيلي (3/ 277) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 203 _ 204) _ بإسناد صالح، نُعيم صدوق في الأصل، ليس بالقوي في الحديث، لكن هذا مما يُحتمل منه، خصوصاً وقد أخذه من في ابن المبارك، لم يحتج معه إلى إسناد. وروى معناه عن ابن المبارك كذلك عليُّ بن الحسن بن شقيق. أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 203) وإسناده صحيح. ورَوى ابنُ عدي (1/ 257) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص 227) عن عبد الله بن المبارك قال: " يُكتب الحديث إلا عن أربعة: غلاَّط لا يَرْجع، وكذَّاب، وصاحب هوى يدْعو إلى بدعته، ورجلٍ لا يحفظ فيُحدثُ من حفظه ". (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 273) وإسناده صالح. (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 203) وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 4947) وعنه: العُقيلي (1/ 8) وإسناده صحيح. (¬5) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 204 _ 205). (¬6) سؤالات أبي داود لأحمد بن حنبل (النص: 135) والكفاية، للخطيب (ص: 205).

وقال أبو بكر المروذي: " كان أبو عبد الله (يعني أحمد) يحدث عن المرجئ إذا لم يكن داعية أو مخاصماً " (¬1). وقال جعفر بن محمد بن أبان الحراني: قلت لأحمد بن حنبل: فنكتب عن المرجئ والقدري وغيرهما من أهل الأهواء؟ قال: " نعم، إذا لم يكن يدعو إليه ويكثر الكلام فيه، فأما إذا كان داعياً فلا " (¬2). وسئل أحمد بن حنبل: عمن يكتب العلم؟ فقال: " عن الناس كلهم، إلا عن ثلاثة: صاحب هوى يدعو الناس إليه، أو كذاب، فإنه لا يكتب عنه قليل ولا كثير، أو عن رجل يغلط فيرد عليه فلا يقبل " (¬3). قلت: عبارات أحمد في ذلك جاءت بالتشديد في أمر الداعية، في الكتابة عنه، وليس في تخريج حديثه مطلقاً، والفرق بين الصورتين: أنه عرف من منهج أحمد التشديد على المخالفين في الأصول، والكتابة عن أحدهم تحسين لأمره عند من لا يعرفه، وتغريد للناس به، فكان يشدد في أمر هؤلاء تنفيراً للناس عنهم، وهذا إنما يؤثر في حق الأحياء يقصد الراوي أن يحمل عن أحدهم الحديث، أما الأموات الذين لم يعرف الناس من أمرهم إلا ما خلفوه من علم أو رواية، فهؤلاء خرج أحمد من حديثهم الكثير في كتبه، من شتى طوائف أهل القبلة، وفيهم من كان غالياً، ولا يبعد أن يكون داعية. ولذا قال إبراهيم الحربي: قيل لأحمد بن حنبل: في حديثك أسماء قوم من القدرية، فقال: " هو ذا نحن نحدث عن القدرية " (¬4). وقال عباس الدوري: سمعت يحيى (يعني ابن معين) يقول: " ما كتبت ¬

(¬1) العلل رواية المروذي (النص: 213). (¬2) أخرجه ابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 82) وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 228) وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 206) وإسناده صحيح.

عن عباد بن صهيب "، قلت: هكذا تقول في كل داعية: لا يكتب حديثه إن كان قدرياً أو رافضياً أو غير ذلك من أهل الأهواء من هو داعية؟ قال: " لا يكتب عنهم، إلا أن يكونوا ممن يظن به ذلك ولا يدعوا إليه، كهشام الدستوائي وغيره ممن يرى القدر ولا يدعو إليه " (¬1). وقال أحمد بن محمد الحضرمي: سألت يحيى بن معين عن عمرو بن عبيد؟ فقال: " لا تكتب حديثه "، فقلت له: كان يكذب؟ فقال: " كان داعية إلى دينه "، فقلت له: فلم وثقت قتادة وسعيد بن أبي عروبة وسلام بن مسكين؟ فقال: " كانوا يصدقون في حديثهم، ولم يكونوا يدعون إلى بدعة " (¬2). وقال ابن حبان: " والدعاة يجب مجانبة رواياتهم على الأحوال، فمن انتحل نحلة بدعة ولم يدع إليها، وكان متقناً، كان جائز الشهادة، محتجاً بروايته " (¬3). وقال: " الاحتياط ترك رواية الأئمة الداعين منهم، والاحتجاج بالرواة الثقات منهم " (¬4). ويبين الحافظ الخطيب السبب في هذا المذهب، فيقول: " إنما منعوا أن يكتب عن الدعاة؛ خوفاً أن تحملهم الدعوة إلى البدعة والترغيب فيه على وضع ما يحسنها " (¬5). ¬

(¬1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 3581)، ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 204). (¬2) الضعفاء، للعُقيلي (3/ 281)، ولم أقف على حالِ الحضرمي ولا الراوي عنه شيخ العقيلي محمد بن عبد الحميد السَّهمي، وهو إسنادٌ نقل به العقيلي طائفة من السؤالات ليحيى بن مَعين. (¬3) الثقات (6/ 284). (¬4) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 160). (¬5) الكفاية (ص: 205).

قلت: وهذا تعليل معتبر في حل راو لم يعرف بالصدق، أما من ثبت صدقه وعرفت أمانته، وكان يذهب إلى شيء من تلك المذاهب بتأويل، وكان ينتصر إلى مذهبه ذلك، فهذا مراد كذلك في قول هؤلاء الأئمة، لكن لا يتنزل عليه تعليل الخطيب. والذي يتحرر من إمعان النظر في هذا المذهب أنه مذهب نظري اليوم في شأن رواة الحديث، وذلك أن أمر الدعوة إلى البدعة مما لا يمكن حصره وضبطه، والكلام في رواة الحديث فد فرغ منه، وصارت العمدة في معرفة أحوال الرواة على ما بلغنا من أخبارهم، والمتأمل يجد في تلك الأخبار وصف عدد غير قليل من الرواة بالبدعة، لكن يندر فيهم من يمكن القول: إنه كان داعية، نعم؛ وصف طائفة بالغلو، إلا أنه لا يعني بالضرورة كون الموصوف بذلك داعية إليها. المذهب الرابع: عدم اعتبار البدعة جرحاً مسقطاً لحديث الراوي، لما تقوم عليه من التأويل، وإنما العبرة بالحفظ والإتقان والصدق، والسلامة من الفسق والكذب. وعلى هذا في التحقيق يتنزل مذهب من ذهب من كبار الأئمة إلى أن البدعة لا تمنع قبول حديثهم، إلا من كان يستحل الكذب. وهذا هو منقول من مذهب أبي حنيفة وصاحبه أبي يوسف وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والشافعي (¬1). قال سفيان بن عيينة: " حدثنا عبد الملك بن أعين، وكان شيعياً، وكان عندنا رافضياً صاحب رأي " (¬2). ¬

(¬1) انظر: الكفاية للخطيب (ص: 202 _ 203)، كشْف الأسرار عن أصول البَزدوي (3/ 26 _ 27)، وحكى الخطيب (ص: 194) عن الشافعي أنه قال: " وتُقبل شهادةُ أهْل الأهواء، إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يروْنَ الشهادة بالزور لموافقهم "، وأسند البيهقي في " السنن " (10/ 208 _ 209) معناه. (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 151) وإسناده صحيح.

قال ابن دقيق العيد: " والذي تقرر عندنا: أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية، إذ لا نكفر أحداً من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة، فإذا اعتقدنا ذلك، وانضم إليه التقوى والورع والضبط والخوف من الله تعالى، فقد حصل معتمد الرواية " (¬1). وهو قول يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، ومحمد بن عمار الموصلي، وإليه مال الخطيب البغدادي (¬2). قال علي بن المديني: قلت ليحيى (يعني القطان) " إن عبد الرحمن (يعني ابن مهدي) يقول: اترك من كان رأساً في البدعة يدعو إليها، قال: " كيف نصنع بقتادة وابن أبي رواد وعمر بن ذر؟! " وذكر قوماً، قال يحيى: " إن ترك هذا الصنف ترك ناساً كثيراً " (¬3). قلت: يرد يحيى مذهب ابن مهدي، بل مقتضى قوله أن يكون من سماهم ممن يندرج تحت رأي ابن مهدي، وهو يحل الاستشكال الذي نراه: ما هو حد الداعية من غيره؟ فهذا يحيى القطان يرى قتادة ومن ذكره معه من الدعاة، وإلا لما صح له الاستدراك على ابن مهدي بذكرهم، وهم من ثقات الناس ومتقنيهم وعليهم مدار كثير من الحديث. يقابله ما نقله محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: قلت لعلي بن عبد الله المديني: يا أبا الحسن، إن يحيى بن معين ذكر لنا: أن مشايخ من البصريين كانوا يمرمون بالقدر، إلا أنهم لا يدعون إليه، ولا يأتون في حديثهم بشيء منكر، منهم: قتادة، وهشام صاحب الدستوائي، وسعيد بن ¬

(¬1) الاقتراح في بيان الاصْطلاح (ص: 333 _ 334) وابنُ دقيق وإن صار إلى ترك الرواية عن المبتدع الداعية، إلا أنه جعل ذلك من أجل الإهانة له والإخماد لبدعته، وإن لم نَجد ما رَوى موجوداً من غير طريقه قبلْناه تقديماً لمصْلحة حفظ الحديث. (¬2) الكفاية (ص: 200 _ 201). (¬3) أخرجه أبو القاسم البَغوي في " الجعديات " (رقم: 1093) والعُقيلي في " الضعفاء " (ق: 1 / ب) وإسناده صحيح.

أبي عروبة، وأبو هلال، وعبد الوارث، وسلام (¬1)، كانوا ثقات، يكتب حديثهم، فماتوا وهم يرون القدر، ولم يرجعوا عنه، فقال لي علي، رحمه الله: " أبو زكريا كذا كان يقول عندنا، إلا أن أصحابنا ذكروا أن هشام الدستوائي رجع قبل موته، ولم يصح ذلك عندنا " (¬2). قلت: ففي هذا نفي أن يكون قتادة داعية إلى بدعته، لكن فيه تثبيت أن جميع هؤلاء كانوا يذكرون بالبدعة، ويحيى اعتبر في ثقتهم أمرين: عدم الدعوة إلى البدعة، مع الحفظ والإتقان. وهذا عبد الرحمن بن مهدي قد ترك بعض الرواة لأجل البدعة، ثم حدث عنهم قبل موته: فقد قال ابن أخته الحافظ أبو بكر بن أبي الأسود: كان خالي عبد الرحمن بن مهدي يترك الحديث عن الحسن بن أبي جعفر الجفري وعثمان بن صهيب وغيرهما من أهل القدر؛ للمذهب، والضعف، فلما كن بأخرة حدث عنهم، وخرجهم في تصانيفه، فقلت: يا خال، أليس قد كنت أمسكت عن الرواية عن هؤلاء؟ فقال: " نعم، لكن خفت أن يخاصموني بين يدي ربي فيقولون: يا رب، سل عبد الرحمن: لم أسقط عدالتنا؟ " (¬3). وقد سئل الحافظ محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن (علي بن غراب)، فقال: " كان صاحب حديث بصيراً به " فقيل له: أليس هو ضعيفاً؟ قال: " إنه كان يتشيع، ولست أنا بتارك الرواية عن رجل صاحب حديث يبصر الحديث بعد أن لا يكون كذوباً للتشيع أو القدر، ولست براو عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله ولو كان أفضل من فتح _ يعني الموصلي _ " (¬4). ¬

(¬1) أبو هلال اسمُه مُحمد بن سُليم الراسبي، وعبْد الوارث هوَ ابنُ سعيد، وسلاَّم هوَ ابنُ مسكين. (¬2) سؤالات ابن أبي شيبة (ص: 45 _ 46). (¬3) سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 241) بإسناد صحيح. (¬4) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 207) وإسناده صحيح.

وسئل الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم عن (الفضل بن محمد الشعراني)، فقال: " صدوق في الروية، إلا أنه كان من الغالين في التشيع " قيل له: فقد حدثت عنه في " الصحيح " فقال: " لأن كتاب أستاذي ملآن من حديث الشيعة " يعني مسلم بن الحجاج (¬1). وفي " صحيح البخاري " عن جمع كبير من المنسوبين إلى البدع. فهؤلاء الأعيان قدوة الناس في هذا الفن، وممن إليهم المرجع فيه. وقال ابن حزم: " من أقدم على ما يعتقده حلالاً، فما لم يقم عليه في تحريمه حجة، فهو معذور مأجور وإن كان مخطئاً، وأهل الأهواء معتزليهم ومرجئيهم وزيديهم وإباضيهم بهذه الصفة، إلا من أخرجه هواه عن الإسلام إلى كفر متفق على أنه كفر، أو من قامت عليه حجة من نص أو إجماع فتمادى ولم يرجع فهو فاسق " (¬2). قلت: ومن أمثلة ما يتنزل عليه هذا المذهب وهم ثقات محتج بهم: 1 _ عبد الله بن أبي نجيح. قال علي بن المديني: " أما الحديث فهو فيه ثقة، وأما الرأي فكان قدرياً معتزلياً " (¬3). وقال يحيى بن معين: " كان ابن أبي نجيح من رؤساء الدعاة " (¬4). 2 _ خالد بن مخلد. قال الجوزجاني: " كان شتاماً معلناً بسوء مذهبه " (¬5). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 208) وإسناده صحيح. (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 149). (¬3) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 99). (¬4) نقله عنه ابن أبي خيثمة في " تاريخه " (ص: 335 _ تاريخ المكيين). (¬5) أحوال الرجال (النص: 108) قلت: ولا يصحُّ أن يُقبل جرح الجوزجاني فيمن فيه تشيُّع؛ لِما اتُّهم به من النصب.

3 _ سالم بن عجلان الأفطس: قال الجوزجاني: " كان يخاصم في الإرجاء، داعية، وهو متماسك " (¬1). 4 _ عبد الرحمن بن صالح الأزدي. قال يعقوب بن يوسف المطوعي (وكان ثقة): كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي رافضياً، وكان يغشى أحمد بن حنبل، فيقربه ويدنيه، فقيل له: يا أبا عبد الله، عبد الرحمن رافضي، فقال: " سبحان الله! رجل أحب قوما من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم نقول له: لا تحبهم؟! هو ثقة " (¬2). وكان يحيى بن معين يعلم تشيعه، بل نعته بذلك، ومع فقد كتب حديثه وروى عنه، ووثقه، وكذلك وثقه غيره (¬3). مع أن أبا داود السجستاني قال: " لم أر أن أكتب عنه، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " (¬4). 5 _ عمران بن حطان. قال أبو داود السجستاني: " ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج " ثم ذكر عمران بن حطان، وأبا حسان الأعرج (¬5). 6 _ عباد بن يعقوب الرواجني. وشأنه في الغلو في الرفض والدعوة إليه مشهور، ومن أبينه ما حكاه الثقة المتقن القاسم بن زكريا المطرز، قال: وردت الكوفة، وكتبت عن شيوخها كلهم غير عباد بن يعقوب، فلما ¬

(¬1) أحوال الرجال (النص: 327). (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (10/ 262) وإسناده صحيح. (¬3) انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (10/ 261 _ 263) وتهذيب الكمال (17/ 177 _ 182). (¬4) سؤالات الآجري (النص: 1922)، وعن الحافظ موسى بن هارون الحمَّال بمعنى هذا، قال: " كانَ يحدث بمثالبِ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه " (تاريخ بغداد 10/ 263). (¬5) سؤالات الآجري (النص: 1296) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 207).

فرغت ممن سواه دخلت عليه، وكان يمتحن من يسمع منه، فقال لي: من حفر البحر؟ فقلت: الله خلق البحر، فقال: هو كذلك، ولكن من حفره، فقلت: يذكر الشيخ، فقال: حفره علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ثم قال: من أجراه؟ فقلت: الله، مجري الأنهار، ومنبع العيون، فقال: هو كذلك، ولكن من أجرى البحر؟ فقلت: يفيدني الشيخ، فقال: أجراه الحسين بن علي، (وذكر تمام القصة) (¬1). وجاء أنه كان يشتم عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وقال ابن حبان: " كان رافضياً داعية إلى الرفض " (¬2). قلت: ومع ذلك فخرج حديثه البخاري في " الصحيح "، وحكم بثقته غير واحد. 7 _ الحسين بن الحسن الأشقر. قال ابن الجنيد عن يحيى بن معين: " كان من الشيعة المغلية الكبار "، قلت: فكيف حديثه؟ قال: " لا بأس به "، قلت: صدوق؟ قال: " نعم، كتبت عنه " (¬3). قلت: فهذه المناهج لهؤلاء الأعلام من أئمة الحديث صريحة في عدم الاعتداد بالبدعة قادحاً في العدالة، ومن أجل هذا جرت ألفاظهم بالتعديل لهؤلاء الرواة مع ما عرفوا به من البدعة. والتأويل بالبدع أوسع منه في المعاصي؛ لأن وجه المخالفة بها للشرع خفي، فإذا كنا عذرنا بالمخالفة تأويلاً في المنهيات الصريحة في الشرع كقتل المسلم، كالذي حصل بين الصحابة، فالعذر فيما كان وجه ¬

(¬1) أخرجها الخطيب في " الكفاية " (ص: 209) بإسناد جيد. (¬2) المجروحين (2/ 172). (¬3) سؤالات ابن الجنيد (النص: 674) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 208).

المخالفة في خفياً أولى، وإنما تكون العبرة بالصدق والإتقان، فإذا ثبت فحديثه مقبول. قال ابن جرير الطبري: " لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به، وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك؛ للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه " (¬1). قلت: وإنما يخرج من هذا التأصيل: من كان من الرواة طعن عليه لبدعته وحديثه جيمعاً، فهذا مجروح من أجل حديثه، وذلك مثل: جابر الجعفي، وعمرو بن عبيد البصري. قال سفيان بن عيينة: " كان الناس يحملون عن جابر قبل أن يظهر ما أظهر، فلما أظهر ما أظهر اتهمه الناس في حديثه، وتركه بعض الناس " فقيل له: " وما أظهر؟ قال: " الإيمان بالرجعة " (¬2). قلت: فكأن سفيان جعل اتهامه في حديثه من أجل بدعته، والواقع أنه لا تلازم بينهما، لجواز أن يكون صاحب بدعة صدوقاً، كما تقدمت له أمثلة، وإنما المعنى أنه بعدما ظهرت منه هذه العقيدة ظهر منه في روايته ما اتهم فيه. وكذلك القول في عمر بن عبيد، مع ظهور الفسق وضعف التأويل في بعض ما جاء عنه، فقد تكلم بما لا يحتمل (¬3). ¬

(¬1) هدي الساري، للحافظ ابن حجر (ص: 428). (¬2) أخرجه مُسلمٌ في " مُقدمته " (ص: 20) والعُقيلي في " الضعفاء " (1/ 194) وإسناده صحيح. وأما تفسير الرجْعة، فأحسن شيء يُبيَّن ذلك ما حكاه سُفيان بنُ عيينة نفسُه قال: " إن الرافضة تقول: إنَّ علياًّ في السحاب، فلا نَخرج مع مَن خرج من ولده حتى يُنادي مُنادٍ من السماء: اخرجوا معَ فلانٍ "، وحكى عن جابر الجُعفي في قوله تعالى {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي} [يوسف: 80] قال: لم يجئ تأويلها. قال سُفيان: كذب. أخرجه مسلم في " مُقدمته " (ص: 21) وابنُ عدي (2/ 331) بإسناد صحيح إلى سُفيان. (¬3) انظر ترجمته، وللدارقطني جُزءُ " أخبار عَمرو بن عبيد " نَشره المستشرقون (‍‍‍! ).

ولا ريبة أن كثير من أهل البدع نصروا مذاهبهم برواية النكرات إسناداً ومتناً، وجماعات منهم عرفوا بوضع الحديث لأجل ذلك. وهو المعنى الذي خافه من شدد فرد أحاديث أهل البدع. لكن مادامت الخشية محصورة في كون صاحب البدعة قد تدفعه بدعته إلى المجيء بالمنكرات من الروايات نصرة لتلك البدعة، فالأمر إذاً عائد إلى القول في روايته، فإذاً تحرر لنا صدقه، وسلامة روايته من النكارة، فقد ذهب المحذور. فمن قال من المتأخرين: إذا روى صاحب البدعة ما تعتضد به بدعته رد، وإن روى غير ذلك قبل. فهذا مذهب وإن تداولته كتب علوم الحديث فليس صواباً؛ لأن قبول روايته حيث قبلناها فإنما حصل لأجل كونه بريئاً من الكذب معروفاً بالصدق والأمانة، فإذا صرنا إلى رد حديثه عند روايته ما تعتضد به بدعته فقد اتهمناه، وهذا تناقض، مع ملاحظته أن من ذهب مذهباً كان أحرص من غيره على حفظ ما يقوي مذهبه، فينبغي أن يقال: حفظ وأتقن؛ لأن داعية الإتقان متوفرة فيه، فيكون هذا مرجحاً لقبول تلك الرواية ما دام موصوفاً بالصدق. وعلى مظنة أن تدعو البدعة إلى الكذب في الرواية من معروف بالصدق، فهذا لا ينحصر في البدعة، فإن الهوى يكون في غيرها أيضاً. وأما إطلاق القول بتكذيب طائفة من أهل البدع على التعيين، كقول يزيد بن هارون: " لا يكتب عن الرافضة؛ فإنهم يكذبون " (¬1)، فهذا مما يجري على غالب من أدرك يزيد ورأى من هؤلاء، وأن يكون أراد غلاتهم، غير أن واقع الأمر أن طائفة من الرواة وصفوا من قبل بعض النقاد بالرفض، كانوا من أهل الصدق، روى الأئمة عنهم الحديث وأثنوا عليهم، كما مثلت هنا بجماعة منهم. ¬

(¬1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 28) وإسناده صحيح.

السبب الخامس: الجهالة

وخلاصة الفصل في هذا: أن ما قيل من مجانبة حديث المبتدع، ففيه اعتبار الزمان الذي كانت الرواية فيه قائمة، ومرجع الناس إلى نقلة الأخبار في الأمصار، وما كان قد حصر يومئذ بيان أحوال الرواة، أما بعد أن أقام الله بأهل هذا الشأن القسطاس المستقيم (علم الجرح والتعديل) فميزوا أهل الصدق من غيرهم، وفضح الله بهذا العلم خلائق من أهل الأهواء والبدع وافتضحوا بالكذب في الحديث، فأسقطهم الله، كما أصاب الهوى بعض متعصبة السنة، فوقعوا في الكذب في الحديث كذلك، وهو وإن كانوا أقل عدداً من أصحاب البدع، إلا أنهم شاركوهم في داعية الهوى والعصبية، وقابل هؤلاء وأولئك من ثبت له وصف الصدق من الفريقين، فأثبت أئمة الشأن له ذلك، فلا يكون في التحقيق وصف من وصفوة بالصدق إلا من أجل ما روى. السبب الخامس: الجهالة الجهالة على ما يأتي من بيان معناها في الفصل التالي، كانت جهالة عين أو جهالة حال، فإن لحاقها بالجرح لا من أجل ثبوته في حق الراوي، وإنما هو من أجل اجتماعها في معنى رد حديث الراوي؛ ولذلك صار المصنفون من المتأخرين الذين أفردوا الرواة المجروحين بالتصنيف، إلى إدخال المجهولين كذلك في كتبهم. وهذا معنى صحيح عندما لا يتحرر إلحاقهم بالعدول، وهو على معنى التوقف فيهم؛ لما يشترط لإثبات العدالة من ثبوت شخص أحدهم، وسلامة حديثه من النكارة، على ما تقدم بيانه في التعديل. وعليه: فالقدح في العدالة بسبب الجهالة صحيح بالاعتبار الذي ذكرنا (¬1). * * * ¬

(¬1) وتتمة بيان ما يتصلُ بالجهالة في الفصْل التالي المعقود لها.

المبحث الثالث: تحرير عود ما يسلب الضبط إلى سوء حفظ الراوي

المبحث الثالث: تحرير عود ما يسلب الضبط إلى سوء حفظ الراوي يقع سلب الضبط عن الراوي بسبب سوء حفظه، سلباً كلياً أو جزئياً. وهذا في الجملة قسمان: أولهما: فساد الضبط إلى حد أن يكون الراوي متروك الحديث، وقد يكون علامة عند بعض النقاد على سوء الظن به، واتهامه بالكذب بما ينتقل به القدح إلى عدالته. وثانيهما: اختلال الضبط جزئياً، فيثبت على الراوي الوهم في بعض ما يرويه، فإن كثر رجح به إلى جانب الرد دون القدح في أصل عدالته وصدقه، فيبقيه في إطار من يعتبر به عند الموافقة، وربما نزل به عن درجة المتقنين، دون النزول به عن درجة القبول، لكنه يكون في مرتبة دنيا منه. وهذا قد يتميز منه أن سلب الضبط وقع للراوي في حال دون حال، وتميز ذلك من أمره، فهو مجروح به في الحال المتميز، عدل مقبول فيما سواه، كمن ضبط عن بعض الشيوخ دون آخرين، وكالمختلط فيما حدث به بعد اختلاطه وقبله.

وسوء الحفظ لا ينافي الصدق في الأصل. ومراجعة إلى الغفلة وضعف تيقظ الراوي. وتارة تكون الغفلة طبعاً فيه، وتارة عارضة لعدم الاعتناء بالمحفوظ، وتأثير عوارض أخرى عليه، كالاشتغال بالعبادة دون العلم، أو ترك بثه في أهله، أو الانشغال بالدنيا، أو تقدم السن، أو لغير ذلك. وكثير من ذلك في المنسوبين للصلاح والتعبد، حتى ربما حدثوا بالموضوع والكذب، يجري على ألسنتهم دون تعمد، وربما كان أحدهم سمع بعض الحديث، فيحمل إسناد هذا على حديث هذا، وحديث هذا على إسناد هذا، ويحدث على التوهم عن الرجل بما ليس من حديثه، وربما ألصق كلاماً حسناً بإسناد معروف، ليس ذلك الإسناد من ذلك الكلام في شيء، وربما أدخل عليه ما ليس من حديثه وهو لا يعلم فيحدث به على أنه من حديثه، وهكذا. لذا كان أبو الزناد عبد الله بن ذكوان يقول: " أدركت بالمدينة مئة، كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله " (¬1). وكذلك قال مالك بن أنس: " لقد أدركت في هذا البلد _ يعني المدينة _ مشيخة، لهم فضل وصلاح وعبادة، يحدثون، ما سمعت من أحد منهم حديثاً قط "، قيل له: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: " لم يكونوا يعرفون ما يحدثون ". وعن حماد بن زيد: أن فرقداً (يعني السبخي) ذكر عند أيوب (يعني السختياني)، فقال: " لم يكن صاحب حديث، وكان متقشفاً، لا يقيد علماً، ذاك لون، والبصر بالعلم لون آخر ". ¬

(¬1) هذا الأثر والآثار الثلاثة التالية كلُّها صحيحة، تقدم تخريجها في (المبحث الرابع) من مباحث (التعديل) عند بيان (معنى الضبط).

وقال عمرو الناقد: سأل رجل وكيعاً (يعني ابن الجراح)، قال: يا أبا سفيان، تعرف حديث سعيد بن عبيد الطائي عن الشعبي في رجل حج عن غيره، ثم حج عن نفسه؟ فقال: " من يرويه؟ "، قلت: وهب بن إسماعيل، قال: " ذاك رجل صالح، وللحديث رجال ". وكان يحيى بن سعيد القطان يقول: " ما رأيت الكذب في أحد، أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير ". وفي لفظ: " لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث " (¬1). قال الإمام مسلم: " يجري الكذب على لسانهم، ولا يتعمدون الكذب " (¬2). وعلل يحيى القطان نفسه مرة بعلة أخرى غير ما قاله مسلم، فقال: " لأنهم يكتبون عن كل من يلقون، لا تمييز لهم فيه " (¬3). قلت: يعني يحيى أنهم يحدثون بالكذب الواقع من غير جهتهم، وكلا العلتين صحيحتان. وكان يحيى القطان يقول كذلك: " رب صالح لو لم يحدث كان خيراً له، إنما هو أمانة، إنما هو تأدية، الأمانة في الذهب والفضة أيسر منه في الحديث " (¬4). ومن أمثلته: (ثابت بن محمد الزاهد)، قال ابن عدي: " هو ممن لا يتعمد ¬

(¬1) أخرجه مسلم في " مقدمته " (1/ 17) وعبد الله بن أحمد في " العلل ومعرفة الرجال " (النص: 2988 _ 2990) والعُقيلي في " الضعفاء " (1/ 14) وابنُ عدي في " الكامل " (1/ 246) وابنُ حِبان في " المجروحين " (1/ 67) والحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 54) والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 167، 1607) وابنُ عبد البر في " التمهيد " (1/ 52) وإسناده صحيح. (¬2) مقدمة صحيح مُسلم (1/ 18). (¬3) أخرجه الخليلي في " الإرشاد " (1/ 171 _ 172) وإسناده جيد. (¬4) أخرجه الجوزجاني في " أحوال الرجال " (ص: 37) وإسناده صحيح.

الكذب، ولعله يخطئ، وفي أحاديثه ما يشتبه عليه فيرويه حسب ما يستحسنه، والزهاد والصالحون كثيراً ما يشتبه عليهم فيروونا على حسن نياتهم " (¬1). و (رواد بن الجراح)، قال ابن عدي: " كان شيخاً صالحاً، وفي حديث الصالحين بعض النكرة " (¬2). و (سلم بن ميمون الخواص)، قال ابن عدي: " روى عن جماعة ثقات ما لا يتابعه الثقات عليه: أسانيدها ومتونها "، ثم فسر فقال: " هو في عداد المتصوفة الكبار، وليس الحديث من عمله، ولعله كان يقصد أن يصيب فيخطئ في الإسناد والمتن؛ لأنه لم يكن من عمله " (¬3). و (زكريا بن يحيى الوقار)، قال ابن عدي: " سمعت مشايخ أهل مصر يثنون عليه في باب العبادة والاجتهاد والفضل، وله حديث كثير، بعضها مستقيمة، وبعضها ما ذكرت وغير ما ذكرت موضوعات، وكان يتهم الوقار بوضعها؛ لأنه يروي عن قوم ثقات أحاديث موضوعات، والصالحون قد رسموا بهذا الرسم أن يرووا في فضائل الأعمال أحاديث موضوعة بواطيل، ويتهم جماعة منهم بوضعها " (¬4). ومثال من كانت الغفلة طبعه، حتى ربما حدث بالكذب وهو لا يدري: ذاك الواسطي الذي أخبر بقصته الحافظ يزيد بن هارون، قال: " كان بواسط رجل يروي عن أنس بن مالك أحرفاً، ثم قيل: إنه أخرج كتاباً عن أنس، فأتيناه فقلنا له: هل عندك سوى تلك الأحرف؟ فقال: نعم، عندي كتاب عن أنس، فقلنا: أخرجه إلينا، فأخرجه إلينا، فنظرنا فيه، فإذا هي ¬

(¬1) الكامل (2/ 301). (¬2) الكامل (4/ 120). (¬3) الكامل (4/ 350، 351). (¬4) الكامل (4/ 176).

أحاديثك شريك بن عبد الله النخعي، فجعل يقول: حدثنا أنس بن مالك، فقلنا له: هذه أحاديث شريك، فقال: صدقتم، حدثنا أنس بن مالك عن شريك "، قال: " فأفسد علينا تلك الأحرف التي سمعناها منه، وقمنا عنه " (¬1). قلت: فهذا الشيخ إنما أتي من غفلته وجهله، فأين شريك من أنس، فأنس صحابي توفي سنة (92)، وشريك من أتباع التابعين ولد سنة (95) , فكيف روى أنس عن شريك؟! ومن هؤلاء (محاضر بن المورع)، قال أبو سعيد أحمد بن داود الحداد الواسطي (وكان ثقة): " محاضراً لا يحسن أن يصدق، فكيف يحسن أن يكذب! كنا نوقفه على الخطأ في كتابه، فإذا بلغ الموضوع أخطأ " (¬2). وقال أحمد بن حنبل: " سمعت منه أحاديث، لم يكن من أصحاب الحديث، كان مغفلاً جداً " (¬3). ومنهم: (عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد)، قال أبو حاتم الرازي: " الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخره عمره التي أنكروا عليه نرى أن هذا مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان سليم الناحية، وكان خالد بن نجيح يفتعل الحديث ويضعفه في كتب الناس، ولم يكن وزن أبي صالح وزن الكذب، كان رجلاً صالحاً " (¬4). ومنهم (سفيان بن وكيع بن الجراح)، قال أبو حاتم الرازي: " دخلت ¬

(¬1) أخرجه ابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 70 _ 71) بإسناد جيد، ونحوه في " المدخل إلى الإكليل " للحاكم (ص: 60). (¬2) سؤالات الآجري لأبي داود (النص: 126). (¬3) العلل ومعرفة الرجال (النص: 4110). (¬4) الجرح والتعديل (2/ 2 / 87).

الكوفة، فحضرني أصحاب الحديث، وقد تعلقوا بوراق سفيان بن وكيع، فقالوا: أفسدت علينا شيخنا وابن شيخنا، قال: فبعثت إلى سفيان بتلك الأحاديث التي أدخلها عليه وراقة يرجع عنها، فلم يرجع عنها، فتركته " (¬1). وهذه الحال قد تبلغ بإنسان حد الترك لحديثه في نظر بعض الأئمة، وذلك بحسب أثر ذلك على ما روى، كما قال أبو بكر بن أبي شيبة في (مصعب بن سلام التميمي): " تركنا حديثه، وذلك أنه جعل يملي علينا عن شعبة أحاديث: حدثنا شعبة، حدثنا شعبة، فذهبت إلى وكيع فألقيتها عليه، قال: من حدثك بهذا؟ فقلت: شيخ ههنا، قال: هذه الأحاديث كلها حدثنا بها الحسن بن عمارة، فإذا الشيخ قد نسخ حديث الحسن بن عمارة في حديث شعبة " (¬2). وهذا ذكر يحيى بن معين أنه قد رجع عنه (¬3)، لكنه ينبئ أن بعض النقلة لم يكن يميز، وهذا الرجل له حديث حسن من روايته عن غير شعبة إذ هو صدوق في الأصل، وما وقع منه من قلب فيما ذكروه من روايته عن شعبة أو الزبرقان السراج فإنه لا يسقطه جملة، إنما تبين أن ما حدث به عن غيرهما فيه المحفوظ، على أنه لا ينبغي أن يحتج به لذاته، بل يكتب حديثه للاعتبار. ومن هؤلاء من لم يكن يفهم ما الحديث، فكان يؤتى من جهله: قال أبو حاتم الرازي في (عقيل الجعدي): " منكر الحديث، ذاهب، ويشبه أن يكون أعرابياً، إذ روى عن الحسن البصري، قال: دخلت على سلمان الفارسي، فلا يحتاج أن يسأل عنه " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 67) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 237)، ومعناه في " الجرح والتعديل " (2/ 1 / 231 _ 232). (¬2) معرفة الرجال، رواية ابن مُحرز (2/ 213). (¬3) انظر: سؤالات ابن الجنيد (النص: 253). (¬4) الجرح والتعديل (3/ 1 / 219).

القسم الأول: الوهم والغلط بمقتضى الجبلة

وحاصل هذا: أن من الغفلة ينتج سوء الحفظ، فيخطئ الراوي في الأسانيد: فيرفع الموقوف، ويوقف المرفوع، ويوصل المرسل، ويرسل الموصول، ويقلب الأسانيد، فيجعل ما لهذا الشيخ لشيخ آخر، ولا يضبط المتون، ويغير فيها. وسوء الحفظ يكون بسبب خلقي، وهو ضعف ذاكرته، كما يكون بتفريط من الراوي، وعليه فهذان قسمان: القسم الأول: الوهم والغلط بمقتضى الجبلة وهو طبيعة ثابتة لكل نفس، ولا تكون سبباً للقدح في الراوي حتى تكثر منه إلى جنب إلى ما روى (¬1)، فإن كثرت صارت به إلى مرتبة في الجرح، تتفاوت قدراً، وقد تبلغ بالراوي إلى ترك حديثه، وذلك إذا فحش منه، كما قال الشافعي: " من كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل صحيح لم يقبل حديثه، كما يكون من كثر غلطه في الشهادة لم تقبل شهادته " (¬2). ومن أمثلته: قول الدارقطني في (الجراح بن مليح أبي وكيع): " ليس بشيء، هو كثير الوهم "، قال البرقاني: قلت: يعتبر به؟ قال: " لا " (¬3). وقول الحافظ عمرو بن علي الفلاس في (جعفر بن الزبير الشامي) وكان متروك الحديث، ومنهم من بالغ فكذبه: " متروك الحديث، وكان رجلاً صدوقاً كثير الوهم " (¬4). ¬

(¬1) وانْظر المبحث التالي (متى يُترك حديث الراوي؟ ). (¬2) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 207) وإسناده صحيح. (¬3) سؤالات البَرقاني للدارقطني (النص: 67). (¬4) الكامل، لابن عدي (2/ 362).

الوهم والغلط يقع بأسباب

ومن الرواة من يكثر خطؤه إذا حدث من حفظه، ويضبط إذا حدث من كتابه، كما ذكرته في صور الجرح النسبي (¬1). والأصل أن علة كثرة الخطأ والوهم لا تنافي الصدق، فما لم تغلب على الراوي فإنه باق في درجة من يعتبر به، كما قال الدارقطني في (مبارك بن فضالة): " لين، كثير الخطأ، بصري، يعتبر به " (¬2). فهذه كثرة غير غالبة، فلم تمنع من الاعتبار بحديثه، وهذا يتبينه الباحث في حق الراوي من خلال النظر فيما قاله جماعة النقاد في ذلك الراوي، وملاحظة قدر ما عليه من الخطأ. والوهم والغلط يقع بأسباب: أولها: المخالفة في الأسانيد. والمقصود أن يأتي بها على غير ما يأتي بها الثقات. مثل (عبد الله بن عمر العمري)، قال أحمد بن حنبل: " كان يزيد في الأسانيد، ويخالف، وكان رجلاً صالحاً " (¬3). ومثل (أشعث بن عطاف)، قال ابن عدي: " لم أر له منكراً، إلا أنه يخالف الثقات في الأسانيد، ولأشعث بن عطاف أحاديث حسان عن الثوري وغيره، وهو عندي لا بأس به " (¬4). ومن صور المخالفة في الأسانيد: القلب. مثل (محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى)، وقد روى الكثير، وبلغ به ¬

(¬1) فيما يأتي في (المبحث الرابع). (¬2) سؤالات البرْقاني (النص: 477). (¬3) تاريخ بغداد (10/ 20). (¬4) الكامل (2/ 56).

ثانيها: وصل المراسيل

سوء الحفظ إلى أن قال البخاري: " صدوق، ولا أروي عنه؛ لأنه لا يدري صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً " (¬1). كان من سوء حفظه يقلب الأحاديث سنداً أو متناً، كما قال شعبة بن الحجاج: " أفادني ابن أبي ليلى أحاديث، فإذا هي مقلوبة " (¬2). وممن عرف بسوء الحفظ، وكان من علته قلب الأحاديث (علي بن زيد بن جدعان)، قال حماد بن زيد: " حدثنا علي بن زيد، وكان يقلب الأحاديث " (¬3). وقال حماد بن زيد: " كان علي بن زيد يحدث بالحديث فيأتيه من الغد فيحدث به كأنه حديث آخر " (¬4). وثانيها: وصل المراسيل. مثل (إبراهيم بن الحكم بن أبان)، جرحوه، قال ابن عدي: " بلاؤه مما ذكروه أنه يوصل المراسيل عن أبيه، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه "، وكان الحافظ عباس بن عبد العظيم قد قال فيه قبله: " كانت هذه الأحاديث في كتبه مراسيل، ليس فيها ابن عباس، ولا أبو هريرة، يعني أحاديث أبيه عن عكرمة " (¬5). وثالثها: رفع الموقوف. ولك أن تعدها من أمثلة الزيادة في الأسانيد. ¬

(¬1) نقله الترمذي في " الجامع " بعدَ الحديث (رقم: 364) ونحوه بعد الحديث (رقم: 1715). (¬2) أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " (1/ 1 / 162) وابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 152) و" الجرح " (3/ 2 / 322) والعُقيلي (4/ 98) بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه العُقيلي (3/ 230) بإسناد صحيح. (¬4) أخرجه العُقيلي (3/ 231) بإسناد صحيح. (¬5) الكامل، لابن عدي (1/ 393، 394).

رابعها: الجمع بين الرواة في سياق واحد وحمل حديث بعضهم على بعض

مثل (إبراهيم بن مسلم الهجري)، فقد كان ضعفه من جهة أنه كان يرفع الموقوف، قال سفيان بن عيينة: " كان رفَّاعاً " (¬1). ومثله قول شعبة في (علي بن زيد بن جدعان): " كان رفاعاً " (¬2)، وقوله في (يزيد بن أبي زياد) مثل ذلك (¬3). ورابعها: الجمع بين الرواة في سياق واحد وحمل حديث بعضهم على بعض. ومثاله في الضعفاء (ليث بن أبي سليم): قال أبو نعيم الفضل بن دكين: قال شعبة لليث بن أبي سليم: " كيف سألت عطاء وطاوساً ومجاهداً كلهم في مجلس؟ "، قال: سل عن هذا خف أبيك. قال ابن أبي حاتم: فقد دل سؤال شعبة لليث بن أبي سليم عن اجتماع هؤلاء الثلاثة له في مسألة، كالمنكر عليه (¬4). وقال الداقطني: " صاحب سنة، يخرج حديثه، إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاوس ومجاهد، وحسْب " (¬5). قلت: وهذه صورة ناتجة عن تخليط الراوي واضطرابه؛ لما علم من سوء حفظه. وقال إبراهيم الحربي: سمعت أحمد (يعني ابن حنبل) وذكر الواقدي، فقال: " ليس أنكر عليه شيئاً إلا جمعه الأسانيد، ومجيئه بمتن واحد على ¬

(¬1) أخرجه يعقوب بنُ سفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 711) والعُقيلي (1/ 66) بإسناد صحيح. وكقول سُفيان فيه كذلك قولُ عددٍ من أئمة الجرح والتعديل. (¬2) أخرجه البُخاري في " التاريخ " (3/ 2 / 275) والترمذي (بعد حديث: 2678) وعبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 4978) وابنُ أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 147) و " الجرح والتعديل " (3/ 1 / 186) والعُقيلي (3/ 229، 230) وابنُ عدي (6/ 334، 335) بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 156) و " الجرح والتعديل " (4/ 2 / 265) والعقيلي (4/ 340) وابنُ عدي (9/ 164) بإسناد صحيح. (¬4) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 151) وإسناده صحيح. (¬5) سؤالات البُرقاني (النص: 421).

سياقة واحدة عن جماعة، وربما اختلفوا ". قال إبراهيم: ولم، وقد فعل هذا ابن إسحاق، كان يقول: حدثنا عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبى بكر، وفلان، وفلان. والزهري أيضاً قد فعل هذا؟ قال إبراهيم: قال بور بن أصرم (¬1): رآني الواقدي أمشي مع أحمد بن حنبل، قال: ثم لقيني بعد، فقال لي: رأيتك تمشي مع إنسان ربما تكلم في الناس. قيل لإبراهيم: لعله بلغه عنه شيء؟ قال: نعم، بلغني أن أحمد أنكر عليه جمع الرجال والأسانيد في متن واحد. قال إبراهيم: وهذا قد كان يفعله حماد بن سلمة، وابن إسحاق، ومحمد بن شهاب الزهري (¬2). قلت: يعني وما أنكر عليهم، فلم ينكر على الواقدي؟ وقد كان أحمد ربما أطلق على صنيع الواقدي هذا قلب الأحاديث، وهو إنما كان يحيل لفظ هذا على لفظ هذا، قال أحمد بن حنبل: " يقلب الأحاديث، يلقي حديث ابن أخي الزهري على معمر، ونحو هذا " (¬3). وذكر ابن حبان هذه المسألة وكان قد ضرب مثلاً بحماد بن سلمة، فقال في الجواب عن قول من قال: " يروي عن جماعة حديثاً واحداً، بلفظ واحد من غير أن يميز بين ألفاظهم ": " يقال له: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون يؤدون الأخبار على المعاني بألفاظ متباينة، وكذلك كان حماد يفعل، كان يسمع الحديث عن أيوب وهشام وابن عون ويونس وخالد وقتادة (¬4) عن ابن سيرين، فيتحرى المعنى ويجمع في اللفظ، فإن أوجب ¬

(¬1) مرْوَزي ثقة، ممن رَوى عنه البخاري. (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (3/ 16) وإسناده جيد. (¬3) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 1 / 21) بإسناد صحيح. وكذلك أخرجه الخطيب في " تاريخه " (3/ 16). (¬4) أيوب هوَ السختياني، وهِشام هوَ ابنُ حسان، وابنُ عون هوَ عبد الله، ويونس هوَ ابنُ عبيْد، وخالدٌ هوَ الحذَّاء، وقتادة هوَ ابن دعامَة السدوسي، جَميعاً من حُفاظ أصْحاب مُحمد بن سيرين.

خامسها: قبول التلقين

ذلك منه ترك حديثه أوجب ذلك ترك حديث سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وأمثالهم من التابعين؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك " (¬1). وتكلم شعبة بن الحجاج في (عوف بن أبي جميلة الأعرابي) بمثل ذلك. قال يحيى القطان: قال لي شعبة في أحاديث عوف عن خلاس عن أبي هريرة، ومحمد بن سيرين عن أبي هريرة إذا جمعهم، قال لي شعبة: " ترى لفظهم واحد؟ "، قال ابن حاتم: كالمنكر على عوف (¬2). قلت: يحتمل فعل مثل هذا من راو متقن؛ لأن إتقانه حائل دون خالط، مثل الزهري، على قلته منه، أما من يكثر من ذلك ويتبين الغلط في روايته بسببه، كليث بن أبي سليم، فيكون ذلك دليلاً على ضعفه. وخامسها: قبول التلقين. وهذا حين يكون الشيخ قد استولت عليه الغفلة، فيقال له: حدثك فلان بكذا، فيما هو من حديثه وما ليس من حديثه، وهو لا يميز، فيحدث به على أنه من حديثه. ومن أمثلة هؤلاء الذين جرحوا بقبول التلقين: (عبد الحميد بن إبراهيم الحضرمي أبو تقي الحمصي)، قال الحافظ ¬

(¬1) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 154). وساق الخليلي في " الإرشاد " (1/ 417 _ 418) محاورة بينه وبين بعض الحفاظ في شأن حماد بن سلمة، فقال: " ذاكرت يوما بعض الحفاظ، فقلت: البخاري لم يخرج حماد بن سلمة في (الصحيح) وهو زاهد ثقة؟ فقال: لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس، فيقول: حدثنا قتادة وثابت وعبد العزيز بن صهيب، وربما يخالف في بعض ذلك. فقلت: أليس ابن وهب اتفقوا عليه، وهو يجمع بين أسانيد، فيقول: حدثنا مالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد والأوزاعي، بأحاديث، ويجمع بين جماعة غيرهم؟ فقال: ابن وهب أتقن لما يرويه وأحفظ له ". (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمه الجرح والتعديل " (ص: 147) بإسناد صحيح.

محمد بن عوف الحمصي: " كان شيخاً ضريراً لا يحفظ، وكنا نكتب من نسخة الذي كان عند إسحاق بن زبريق لا بن سالم، فنحمله إليه ونلقنه، فكان لا يحفظ الإسناد، ويحفظ بعض المتن، فيحدثنا، وإنما حملنا الكتاب عنه شهوة الحديث " (¬1). وقال أبو حاتم الرازي: " ذكر أنه سمع كتب عبد الله بن سالم عن الزبيدي (¬2)، إلا أنها ذهبت كتبه فقال: لا أحفظها، فأرادوا أن يعرضوا عليه، فقال: لا أحفظ، فلم يزالوا به حتى لان، ثم قدمت حمص بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة، فإذا قوم يروون عنه هذا الكتاب، وقالوا: عرض عليه كتاب ابن زبريق، ولقنوه، فحدثهم بهذا، وليس هذا عندي بشيء، رجل لا يحفظ، وليس عنده كتب " (¬3). ومنهم (سفيان بن وكيع بن الجراح)، قال ابن عدي: " بلاؤه أنه كان يتلقن ما لقن، ويقال: كان له وراق يلقنه من حديث موقوف فيرفعه، وحديث مرسل فيوصله، أو يبدل في الإسناد قوماً بدل قوم " (¬4). وقد كان بعض نقاد المحدثين يستعملون هذا طريقاً لتبين حفظ الراوي، مثل ما حكاه أبو المنذر يحيى بن المنذر الكوفي قال: كنا بمكة، فقدم علينا عطاء بن عجلان البصري، فأخذ في الطواف، فجاء غياث بن إبراهيم وكدام بن مسعر وآخر قد سماه، فجعلوا يكتبون حديث عطاء، فإذا مروا بعشرة أحاديث أدخلوا حديثاً من غير حديثه، حتى كتبوا أحاديث وهو يطوف، فقال لهم حفص بن غياث: ويلكم؛ اتقوا الله، فانتهروه وصاحوا ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 1 / 8). (¬2) هوَ مُحمد بن الوليد. (¬3) الجرح والتعديل (3/ 1 / 8)، وانظر: الجرح والتعديل (2/ 1 / 232) في شأن ما أدْخله عليه ورَّاقه. (¬4) الكامل (4/ 482).

به، فلما فرغ كلموه أن يحدثهم، فأخذ الكتاب فجعل يقرأ، حتى انتهى إلى حديث فمر فيه فقرأه قال: فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قرأ حتى انتهى إلى الثالث، فانتبه الشيخ واستضحكوا، قال: فقال لهم: إن كنتم أردتم شيني فعل الله بكم وفعل (¬1). وهل إطلاق العبارة على الراوي بقبول التلقين يسلم قادحاً فيه؟ يقع قبول التلقين للراوي إما بسبب الغفلة، أو التساهل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عرف عنه ذلك من الرواة، فلا يخلو من أن تكون هذه البلية عرضت عليه بعد حفظ وإتقان، أو لم يعرف أصلاً بالحفظ، فإن كان من النوع الأول وتميز حديثه الذي كان يحفظ من حديثه الذي لقن فيه، قبل ما حفظه ورد ما لقن فيه، وإن لم يتميز رد جميع حديثه، وأما من لزمه هذا الوصف ولم يعرف بضبط أصلاً فكل حديثه مردود من طريقه. فقبول التلقين قد يصير الرجل متروك الحديث ليس بثقة، وذلك إذا تلقن الحديث الموضوع وحدث به، كما وقع لمثل (محمد بن معاوية النيسابوري)، قال أبو زرعة الرازي: " كان شيخاً صالحاً، إلا أنه كلما لقن يلقن، وكلما قيل: إن هذا من حديثك، حدث به، يجيئه الرجل فيقول: هذا من حديث معلى الرازي، وكنت أنت معه، فيحدث بها على التوهم ". قلت: فأضر ذلك به حتى قال أحمد بن حنبل: "رأيت أحاديثه أحاديث موضوعة "، بل اتهمه يحيى بن معين فقال: " كذاب " (¬2). كما قد يكون في حديثه ما يدل على رواية المنكر، وكان قبول التلقين من أسباب ذلك، مثل ما حكى ابن حبان عن عفان بن مسلم قال: كنت أسمع الناس يذكرون قيساً (يعني ابن الربيع) فلم أدر ما علته، فلما قدمنا ¬

(¬1) أخرجه العُقيلي في " الضعفاء " (3/ 402) بإسناد صحيح، ونقله المزي في " تهذيب الكَمال " (20/ 97). (¬2) الجرح والتعديل (4/ 1 / 103 _ 104).

سادسها: التصحيف إذا حدث من كتبه

الكوفة أتيناه فجلسنا إليه، فجعل ابنه يلقنه ويقول له: حصين، فيقول: حصين، فيقول رجل آخر: ومغيرة، فيقول: ومغيرة، فيقول آخر: والشيباني، فيقول: والشيباني (¬1). قال قتادة بن دعامة السدوسي: " إذا سرك أن يكذب صاحبك فلقنه " (¬2). وقال الحافظ عبد الله بن الزبير الحميدي: " ومن قبل التلقين ترك حديثه الذي لقن فيه، وأخذ عنه ما أتقن حفظه إذا علم ذلك التلقين حادثاً في حفظه لا يعرف به قديماً، وأما من عرف به قديماً في جميع حديثه فلا يقبل حديثه، ولا يؤمن أن يكون ما حفظه مما لقن " (¬3). وقال ابن حزم: " من صح أنه قبل التلقين ولو مرة، سقط حديثه كله " (¬4). قلت: وليس كما قال ابن حزم، وإنما العبرة بثبوت أثر التلقين على حديثه، فإن ادعي أنه كان كذلك وكان موصوفاً بالثقة والصدق، ولم يثبت عليه في مثال فلا يرد حديثه بمجرد الدعوى، وإن ثبت عليه في بعض حديثه وتميز، فلا يرد سائر حديثه الذي لم يتأثر بالتلقين: وسادسها: التصحيف إذا حدث من كتبه. ويقع بسبب عدم الضبط الكتاب، فيحدث من كتابه فيخطئ الأسماء أو في المتون. ¬

(¬1) المجروحين (2/ 219). قلت: (حُصين) كذا وَقع فيما ذكره ابنُ حبان، فإن كانَ محفوظاً فهوَ ابنُ عبد الرحمن السلمي، لكن في " الجرح والتعديل " (3/ 2 / 98): (أبو حصين) وهو بهذا عثمان بن عاصم الأسدي، وأما مغيرة فهو ابن مقسم، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان. (¬2) أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 1069، 1070) من طريقين عنه، وهوَ صحيح بهما، وربَّما حكاهُ قتادة عن أبي الأسود الدؤلي، انظر: " الجعديات " (رقم: 1071). وأخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 324) بلفظ: " إذا أردْت أن تُغلطِّ صاحبك فلقِّنه " وإسناده حسنٌ. (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 235) بإسناد صحيح. (¬4) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 142).

وقلة ذلك شأنها شأن الوهم اليسير من الراوي لا يقدح في ثقته إن غلب حفظه وإتقانه، فإن كثر أضر به. سئل أبو حاتم الرازي عن (مؤمل بن إسماعيل) و (أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي) صاحبي سفيان الثوري؟ فقال: " في كتبهما خطأ كثير، وأبو حذيفة أقلهما خطأ "، وقال كذلك في (أبي حذيفة أقلهما خطأ "، وقال كذلك في (أبي حذيفة) وقد وصفه بالصدق: " كان يصحف " (¬1). وممن ضعف بالتصحيف: مصعب بن سعيد المصيصي، ضعفه بذلك ابن عدي (¬2). ومن الثقات ممن ذكروا بالتصحيف جماعة، منهم: عبد الوارث بن سعيد، وكان حافظاً متقناً فصيحاً، لكن أخذ عليه الخطأ في كتابه في الإسناد وأسماء الرجال، جاء ذلك عن علي بن المديني قال: " في كتابه في الإسناد وأسماء الرجال، جاء ذلك عن علي بن المديني قال: " في كتاب عبد الوارث بن سعيد خطأ كثير "، فقيل له: في الحديث؟ قال: " في الإسناد وأسماء الرجال " (¬3). ومنهم: محمد بن إسحاق صاحب " المغازي "، فعن صاحبه يحيى بن سعيد الأموي، قال: " كان ابن إسحاق يصحف في الأسماء؛ لأنه إنما أخذها من الديوان " (¬4). فالثقة إذا ذكر بالتصحيف فإنه وإن لم يقدح ذلك في صحة حديثه، لكن يوجب الاحتياط في أسانيده ومتونه فيما حدث به من كتبه. والحال أن الأخذ من الكتب يوجب الاحتياط مطلقاً، فإن مظنة ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 163، 164). (¬2) الكامل (8/ 89). (¬3) أخرجه العَسكري في " تصحيفات المحدثين " (1/ 46) بإسناد صالح. (¬4) أخرجه العَسكري في " أخبار المصحفين " (ص: 41) بإسناد لا بأس به، والديوان أراد بهِ السجل الذي تُكتب فيه أسماء الجُند وأصْحاب العَطية، مما يعود إلى سُلطان الدوْلة.

القسم الثاني: ما يرجع من سوء الحفظ إلى تساهل الراوي

التصحيف في قراءة النصوص واردة على جميع الناس، ولكن الثقة المتقن من يضبط كتابه إذا كان يحدث منه. قال أحمد بن حنبل: " من يفلت من التصحيف؟ كان يحيى بن سعيد يشكل الحرف إذا كان شديداً، وغير ذاك لا، وكان هؤلاء أصحاب الشكل عفان وبهز وحَبان " (¬1). القسم الثاني: ما يرجع من سوء الحفظ إلى تساهل الراوي ووقع من بعض الرواة في السماع والإسماع، كمن لا يبالي بالنوم عند السماع، أو يحدث من غير أصل صحيح، أو يحمل الحديث عن الشيخ في المذاكرة. وهذا مثل قول أبي بكر الإسماعيلي في (أحمد بن عبد الكريم الوزان الجرجاني): " صدوق، ضعف آخر عمره، كتبت عنه في صحته، ثم كنت أمر به يقرأ عليه وهو نائم، أو شبه النائم " (¬2). ومن التساهل: طعن بعض الأئمة على رواية من سمع " الموطأ " بقراءة حبيب بن رزيق كاتب مالك بن أنس، فإنه كان يقرأ على مالك لبعض الغرباء، وكان معروفاً بالكذب ووضع الحديث. قال يحيى بن معين: " أشر السماع من مالك عرض حبيب، كان يقرأ على مالك، فإذا انتهى إلى آخر القراءة صفح أوراقاً وكتب: بلغ، وعامة سماع المصريين عرض حبيب " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (12/ 274) بإسناد صحيح. وعفان هوَ ابنُ مسلم، وبهزٌ هوَ ابن أسد، وحبانُ هوَ ابن هلال. (¬2) المعجم، للإسماعيلي (الترجمة: 32) سؤالات السهمي (الترجمة: 139). (¬3) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (3/ 324) وإسناده صحيح.

وقال: " كان ابن بكير سمع من مالك بعرض حبيب، وهو أشر العرض " (¬1). قلت: وهذا يعد من التساهل في حمل الحديث أن لا يكون القارئ على الشيخ ثقة. قال القاضي عياض: " عدم الثقة بقراءة مثله، مع جواز الغفلة والسهو (يعني على الشيخ) عن الحرف وشبهه، وما لا يخل بالمعنى، مؤثر في تصحيح السماع .. ولهذه العلة لم يخرج البخاري من حديث ابن بكير عن مالك إلا القليل، وأكثر عنه الليث " (¬2). والمذاكرة: ليست ظرفاً مناسباً لتحمل الحديث عن الشيخ؛ لأنهم يتساهلون فيها؛ إذ لم يقصدوا الأداء. وكان جماعة من كبار أئمة الحديث، ينهون أن يحمل عنهم الحديث في المذاكرة، مثل الإمام عبد الرحمن بن مهدي، فقد كان يقول: " حرام عليكم أن تأخذوا عني في المذاكرة حديثا؛ لأني إذا ذاكرت تساهلت في الحديث " (¬3). * * * ¬

(¬1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 5282). (¬2) الإلماع (ص: 77). والليث هوَ ابن سعد. (¬3) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1111) وإسناده جيد.

المبحث الرابع: متى يترك حديث الراوي؟

المبحث الرابع: متى يترك حديث الراوي؟ عمت مما تقدم في (تفسير التعديل) أن ضبط الراوي يعرف مقارنته بحديث الثقات المعروفين، فإن وافق فيما نقل ولو معنى، أو غلبت عليه الموافقة وندرت المخالفة وتميزت؛ فهو ضابط. لكن أعلم أن السلامة من الغلط والوهم ليست واردة على أحد من رواة الحديث وإن وصف بكونه " أمير المؤمنين في الحديث ". لذا فالخطأ النادر المتميز من الثقة، في راو أو إسناد أو متن، لا يسقط به الثقة، إنما يرد من روايته ذلك الخطأ. قال سفيان الثوري: " ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ، وإن غلط، وإن كان الغالب عليه الغلط ترك " (¬1). وقال عبد الله بن المبارك: " ومن يسلم من الوهم؟ " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 227 _ 228) بإسناد جيد. (¬2) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 191) بإسناد صحيح.

وكان يحيى بن معين يقول: " من لا يخطئ في الحديث فهو كذاب " (¬1). ويقول: " لست أعجب ممن يحدث فيخطئ، إنما العجب ممن يحدث فيصيب " (¬2). وقال ابن حبان: " وفي الدنيا أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرى عن الخطأ؟ ولو جاز ترك حديث من أخطأ لجاز ترك حديث الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المحدثين؛ لأنهم لم يكونوا بمعصومين " (¬3). قال الذهبي: " ليس من حد الثقة أنه لا يغلط ولا يخطئ فمن الذي يسلم من ذلك غير المعصوم الذي لا يقر على الخطأ " (¬4). قلت: فهذا شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، ومع ذلك فقد أخذ عليه الخطأ اليسير في أسماء الرواة. قال أبو زرعة الرازي: " كان أكثر وهم شعبة في أسماء الرجال " (¬5)، ونحوه قال أبو حاتم كذلك (¬6). وقال أبو داود السجستاني: " شعبة يخطئ فيما لا يضره ولا يعاب عليه " يعني في الأسماء (¬7). وله في " علل الحديث " لا بن أبي حاتم ثمانية أو تسعة مواضع أخطأ فيها. ¬

(¬1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 2682، 4342) ومن طريقه: ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 191) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1124). (¬2) تاريخ يحيى بن معين (النص: 52) ومن طريقة: ابن عدي (1/ 191). (¬3) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 153). (¬4) الموقظة (ص: 78). (¬5) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 45). (¬6) علل الحديث (رقم: 45، 1196، 2831). (¬7) سؤالات الآجري (النص: 1190).

وما من هؤلاء الحفاظ المكثرين من يسلم من شيء يؤخذ عليه، والإكثار مظنة العثار، والراوي يحفظ الكثير، فيهم في اليسير، فلا يقدح قليل خطئه في كثير صوابه. قال ابن عدي في (أبي داود الطيالسي): " حدث بأصبهان كما حكى عنه بندار أحداً وأربعين ألف حديث ابتداء، وإنما أراد به من حفظه، وله أحاديث يرفعها، وليس بعجب ممن يحدث بأربعين ألف حديث من حفظه أن يخطئ في أحاديث منها، يرفع أحاديث يوقفها غيره، ويوصل أحاديث يرسلها غيره، وإنما أتي ذلك من قبل حفظه، وما أبو داود عندي وعند غيري إلا متيقظ ثبت " (¬1). وقال الحافظ أبو حامد ابن الشرقي في (أبي الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري): " أبو الأزهر هذا كتب الحديث فأكثر، ومن أكثر لا بد من أن يقع في حديثه الواحد والاثنان والعشرة مما ينكر " (¬2). قلت: فالعبرة إنما هي بغلبة الحفظ والضبط والإتقان وأن يقل الغلط إلى جنب ما روى. واعلم أن ورود مظنة الغلط على كل راو أوجبت التحري والتثبت في قبول الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفحص أحوال النقلة وتمييز ضبطهم من عدمه، وتمامه من نقصه، ومقدار غلطهم بالنسبة إلى جملة ما رووا، فراو حدث بمئة حديث وأخطأ في بضعة أحاديث، فرفع ما هو موقوف أو وصل ما هو مرسل، فلا تطرح المئة لأجل البضعة، وإنما يميز ما أخطأ فيه بالحجة، ويقبل سائره، وآخر روى عشرة أحاديث فأخطأ في بعضها، فقلة ما روى مع الخطأ تورد الريبة في سائر العشرة، فمثله لا يقبل منه التفرد ويوصف بعدم الضبط أو خفته، وقد يبقى في درجة من يستشهد به، وقد يطرح كلية. ¬

(¬1) الكامل (4/ 278). (¬2) الكامل، لابن أبي عدي (1/ 318)

قال عبد الرحمن بن مهدي: قيل لشعبة: متى يترك حديث الرجل؟ قال: " إذا حدث عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون، وإذا أكثر الغلط، وإذا اتهم بالكذب، وإذا روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه فلم يتهم نفسه فيتركه لذلك طرح حديثه، وما كان غير ذلك فارووا عنه " (¬1). وقال أحمد بن سنان الواسطي: " كان عبد الرحمن بن مهدي لا يترك حديث رجل إلا رجلاً متهماً بالكذب، أو رجلاً الغالب عليه الغلط " (¬2). وكان عبد الرحمن بن مهدي يقول: " ثلاثة لا يحمل عنهم: الرجل المتهم بالكذب، والرجل الكثير الوهم والغلط، ورجل صاحب هوى يدعو إلى بدعة " (¬3). وقال أبو موسى محمد بن المثنى: قال لي عبد الرحمن بن مهدي: " يا أبا موسى، أهل الكوفة يحدثون عن كل أحد ". قلت: يا أبا سعيد، إنهم يقولون: إنك تحدث عن كل أحد. قال: " عمن أحدث؟ "، فذكرت له محمد بن راشد المكحولي، فقال لي: " احفظ عني، الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا يختلف فيه. وآخر يهم، والغالب على حديثه الصحة، فهو لا يترك حديثه، لو ترك حديث مثل هذا لذهب حديث الناس. وآخر يهم، والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 /31 _ 32) بإسناد صحيح. وأخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 410) وابن حبان في " المجروحين " (1/ 74، 77، 79) والعقيلي (1/ 13) وابن عدي في " الكامل " (1/ 260) والحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص: 62) والخطيب في " الكفاية " (ص: 225 _ 226، 229) بمعناه من وجه آخر فيه ضعف. (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 227) بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 4947) وعنه: العقيلي (1/ 8) وإسناده صحيح. (¬4) أثر صحيح. أخرجه مسلم في " التمييز " (رقم: 35) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 38) والرامهرمزي في " المحدث " (ص: 406) والعقيلي في " الضعفاء " (ق: 2 / ب) وابن عدي في " الكامل " (1/ 242، 264) والخطيب في " الكفاية " (ص: 227) و " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1265) جميعا من رواية ابن المثنى وزاد ابن أبي حاتم تفسيرا لقوله: " فهذا يترك حديثه " قال: " يعني لا يحتج بحديثه ".

وقال الحميدي: " فإن قال قائل: فما الشيء الذي ظهر لك في الحديث أو من حدث عنه لم يكن مقبولاً؟ قلنا: أن يكون في إسناده رجل غير رضى، بأمر يصح عليه: بكذب، أو جرحة في نفسه ترد بمثلها الشهادة، أو غلطاً فاحشاً لا يشبه مثله، وما أشبه ذلك. فإن قال: فما الغفلة التي ترد بها حديث الرجل الرضى الذي لا يعرف بكذب؟ قلت: هو أن يكون في كتابه غلط، فيقال له في ذلك، فيترك ما في كتابه ويحدث بما قالوا، أو يغيره في كتابه بقولهم، لا يعقل فرق ما بين ذلك. أو يصحف تصحيفاً فاحشاً، فيقلب المعنى، لا يعقل ذلك، فيكف عنه. وكذلك من لقن فتلقن، التلقين يرد حديثه الذي لقن فيه، وأخذ عنه ما أتقن حفظه إذا علم أن ذلك التلقين حادث في حفظه لا يعرف به قديماً، فأما من عرف به قديماً في جميع حديثه؛ فلا يقبل حديثه، ولا يؤمن أن يكون ما حفظ مما لقن " (¬1). وقال الشافعي: " ومن كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم نقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم نقبل شهادته " (¬2). ¬

(¬1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (1/ 1 / 33 _ 34) بسند جيد. (¬2) الرسالة، للشافعي (ص: 382) وأخرجه عنه الخطيب في " الكفاية " (ص: 228).

قلت: هذه بعض عباراتهم الجامعة تشرح ما لخصته قبل: أن ثبوت الغلط من الراوي لا يقدح في حديثه حتى يكثر منه، وما تميز حفظه له من الحديث فهو مقبول، والصدق لا ينافي الغلط في الحفظ. * * *

المبحث الخامس: درجات سوء الحفظ

المبحث الخامس: درجات سوء الحفظ سوء الحفظ باعتبار أثره على حديث الراوي درجات متفاوتة، محصورة في الجملة في قسمين: القسم الأول: اختلال الضبط بما لا يسقط به الراوي وتحته أربعة أصناف من الرواة: الصنف الأول: من غلب ضبطه، واعتراه الوهم والخطأ في اليسير من حديثه: تقدم أنه ليس من شرط الثقة أنه لا يخطئ، وأن الخطأ لا تعصم منه نفس بشر، وإنما العبرة بغلبة الحفظ، وندرة الخطأ أو قلته. فمن أمثلة في الثقات: 1 _ فراس بن يحيى المكتب. قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد القطان عن فراس المكتب؟ فقال: " ما بلغني عنه شيء، ولا أنكرت من حديثه إلا حديث الاستبراء " (¬1). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 2 / 91)، سؤالات الآجري لأبي داود (النص: 538). وحديث الاسْتبراء هوَ ما أخرجه عبْد الرزاق في " المصنف " (7/ 226 رقم: 12897) ومن طريقه: الطبراني في " الكبير " (9/ 393 رقم: 9677): عن الثوري، عن فِراس، عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود، قال: " تسْتبرأ الأمة بحيْضةٍ ".

ولذا اتفق على توثيقه النقاد: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، والنسائي، ومحمد بن سعد، والعجلي، وابن حبان، وغيرهم، ولم يضعفه أحد لروايته حديثاً منكراً؛ نظر لكثرة ما حدث به، وغاية ما جرح به قول يعقوب بن سفيان: " في حديثه لين، وهو ثقة " (¬1)، وكأنه اطلع على كلمة يحيى القطان فلينه قليلاً مع توثيقه. 2 _ إسحاق بن إبراهيم بن أبي إسرائيل المروزي. كان ثقة في الحديث، ما عيب عليه إلا في رأيه في مسألة القرآن (¬2)، لكن قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: " كان عندي أنه لا يكذب "، فقيل له: إن أبا حاتم قال: ما مات حتى حدث بالكذب، فقال: " حدث بحديث منكر " (¬3). قلت: فهذا إن سلم فإنه لم يتجاوز الحديث اليسير الذي لا يؤثر على ثقته في الجملة وصحة حديثه. 3 _ الحسن بن سوار البغوي. هو صدوق ثقة، لكنه حدث بحديث واحد بإسناد منكر. فقد قال الحافظ أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء الثقة الرضى وقلت له: الحديث الذي حدثتنا: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت) أعده علي، وكان قد حدثتني به قبل ¬

(¬1) المعرفة والتاريخ (3/ 92). (¬2) وَذلك أنه كان يتوقف في القرآن حينَ وقَعت المِحنةُ به، لا يقول: مَخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوق. (¬3) الجرح والتعديل (1/ 1 / 210).

هذه المرة بسنتين. قال: نعم، حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن ضمضم بن جوس، عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على ناقة، لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. قال أبو إسماعيل: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؟ فقال: " هذا الشيخ ثقة ثقة، والحديث غريب "، ثم أطرق ساعة، وقال: " أكتبتموه من كتاب؟ "، قلنا: نعم (¬1). وفي لفظ قال أحمد: " أما الشيخ فثقة، وأما الحديث فمنكر " (¬2). وأنكر هذا الحديث غير أحمد من الحفاظ: علي بن المديني، وظاهر صنيع البخاري (¬3)، والعقيلي (¬4). وذلك أن صواب الإسناد لهذا الحديث كما رواه أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله الكلابي: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم) الحديث. فهؤلاء النقلة وشبههم لا يتوقف عن شيء من حديثهم حتى يقوم برهان على خطأ أحدهم في شيء معين من ذلك، ولا يلحقون بالمجروحين، بل هم ثقات، إنما يرد عين ما أخطأ فيه أحدهم، لا سائر حديثه. كما تقدم أن ثقات درجات، والراوي الصدوق نازل عن درجة الثقة العليا لنزول درجته في الحفظ لكنا لا نسقط حديثه. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (7/ 318 _ 319) بإسناد صحيح إلى أبي إسماعيل الترمذي، وسؤال أحمد إن كانوا كتَبوه من كتاب يَحتمل أنه على سبيل التعجب أن يكون منكراً وقد حدث به من كتاب، والاحتمال الأرجح أنه لكونه من كتاب فيكون قد دخله الخطأ من جهة إدخال حديث في حديث، وهذا مُتصورُ الوقوع عند الكتابة، ولعكْرمة بن عمار بالإسناد المذكور لهذا الحديث أيْضاً أثرٌ عن عُمر في سُجود السهو، والله أعلم. (¬2) أخرجه العُقيلي في " الضعفاء " (1/ 228). (¬3) العلل الكبير، للترمذي (1/ 385). (¬4) في " الضعفاء " له (1/ 228).

ومن أمثلة هذا الصنف: (محمد بن مصعب القرفساني)، قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه؟ فقال: " صدوق في الحديث، ولكنه حدث بأحاديث منكرة "، قلت فليس هذا مما يضعفه؟ قال: نظن أنه غلط فيها ". قال: سألت أبي عنه فقال: " ضعيف الحديث "، قلت له: إن أبا زرعة قال كذا، وحكيت له كلامه، فقال: " ليس هو عندي كذا، ضعف لما حدث بهذه المناكير " (¬1). ويفصح يحيى بن معين عن سبب ذلك فيقول: " لم يكن محمد بن مصعب من أصحاب الحديث، كان مغفلاً، حدث عن أبي الأشهب عن أبي رجاء عن عمران بن حصين: كره بيع السلاح في الفتنة، وإنما هو كلام أبي رجاء " (¬2). فمثل هذا لا يلغي وصف الراوي بالصدق، ويبقيه في منزلة التوثيق وقبول الحديث، لكن ينظر في حديثه ويتأنى فيه حتى تزول شبهة النكارة عن حديثه المعين الذي يرويه. وهذا الشأن فيمن ثبت أنه وقعت في حديثه بعض المناكير بسبب سوء الحفظ. أما من ادعي ذلك عليه ولم يوقف منه على شيء من ذلك، فهذا باق على مطلق الثقة وصحة حديثه. وهذا مثل (محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة)، وقد قال فيه على بن المديني: " كان عندنا ثقة، وقد أنكرت عليه أحاديث " (¬3)، فهذا الإنكار لا أثر له، وابن المديني لم يعتد به، وكذلك جرى غيره من النقاد على توثيقه. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 103). (¬2) العلل ومعرفة الرجال، رواية عبد الله بن أحمد (النص: 1142). وأبو رَجاء هوَ العُطاردي عِمْران بنُ ملحان. (¬3) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 110).

الصنف الثاني: من كان ضابطاً لكتابه، غير ضابط إذا حدث من حفظه. إذا كان الراوي المعروف بسوء الحفظ رجع إلى كتاب صحيح، فكان يحدث من كتابه، فحديثه من الكتاب صحيح، ويرد من حديثه ما كان حدث به من حفظه. وذلك مثل (شريك بن عبد الله القاضي)، فقد كان كثير الحديث جداً، لكنه سيىء الحفظ، وحديثه القديم صحيح مطلقاً، أما ما لم يتبين منه فهو ضعيف لسوء حفظه، إلا ما كان من كتابه فهو صحيح. قال الحافظ محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي: " شريك كتبه صحاح، فمن سمع منه من كتبه فهو صحيح "، قال: " ولم يسمع من شريك من كتابه إلا إسحاق الأزرق " (¬1). قلت: وقد يتكلم في الراوي لمثل هذه العلة، لكنه يعرف بتعاهد كتابه، فمثل يغلب في حديثه جانب الثقة. وذلك مثل: (همام بن يحيى العوذي البصري)، فقد كان ثقة صادقاً، لكنه كان سيىء الحفظ، يغلط إذا حدث من حفظه. قال يزيد بن زريع: " همام حفظه رديء، وكتابه صالح " (¬2)، وقال أبو حاتم الرازي: " ثقة صدوق في حفظه شيء " (¬3). قلت: لكنه كان يتعاهد كتابه ويرجع إليه، فاندفع ما يخشى من سوء حفظه. قال أحمد بن حنبل: " من سمع من همام بأخرة هو أصح، وذلك أنه ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 332) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 2 / 108) والعُقيلي (4/ 367) والخطيب في " الكفاية " (ص: 332) وإسناده صحيح. (¬3) الجرح والتعديل (4/ 2 / 109).

أصابته مثل الزمانة، فكان يحدثهم من كتابه، فسماع عفان وحبان وبهز أجود من سماع عبد الرحمن؛ لأنه كان يحدثهم (يعني لعبد الرحمن، أي أيامهم) من حفظه. قال عفان: حدثنا همام يوماً بحديث، فقيل له فيه، فدخل فنظر في كتابه، فقال: ألا أراني أخطئ وأنا لا أدري، فكان بعد يتعاهد كتابه " (¬1). قلت: لكن تبقى حاجة إلى اعتبار هذا الوصف فيه، فإن بين أن ذلك الحديث من كتابه، فهو صحيح، لكن إن لم يبين فربما كان قد استثبته من كتابه وربما اعتمد فيه على مجرد حفظه، غير أن هذا لا يوجب التوقف عن قبول خبره، إنما يوجب الاحتياط فيه، فيبحث فيه عن وهمه وخطئه، فإن عدم فحديثه صحيح، وهكذا ما احتج به الشيخان من حديثه، وذلك من أجل ما عرف به من الصدق والأمانة والحرص على التثبت في الرواية، فذلك يجعله في محل من يقبل حديثه. الصنف الثالث: من تميز ضبطه في حال، وسوء حفظه ولينه في حال. وهذا جرح نسبي، لا يسقط بالراوي جملة، وإنما حيث تميز ما يتقنه من غيره، قبل المحفوظ، وطرح ما سواه، وهنا يجب أن تتنبه إلى أن بعض النقاد ربما أطلق وصف الضعف على من هذا نعته، فظن من لا خبرة له أنه ضعيف مطلقاً، وليس كذلك. ولهذا الصنف صور: الصورة الأولى: أن يكون ضابطاً إلا في حديث بعض الشيوخ. ¬

(¬1) سؤالات أبي داود السجستاني لأحمد (النص: 490) وأخرج الخطيب في " الكفاية " (ص: 332) منه قصة عفان من طريق أبي داود، ونقل عبد الله بن أحمد عن أبيه نحوَ ذلك في " العلل " (النص: 682 _ 683) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع " (رقم: 1027). قلت: عفان هوَ ابنُ مُسلم، وحبان هوَ ابن هلال، وبهْزٌ هوَ ابن أسد.

مثل (عبد الرزاق بن عمر) ثقة إلا عن الزهري. قال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأبي مسهر _ أو قيل له _: فعبد الرزاق بن عمر؟ فأخبرنا أنه سمع سعيد بن عبد العزيز يقول: " ذهبت أنا وعبد الرزاق بن عمر إلى الزهري، فسمعنا منه "، فحدثنا أبو مسهر أن عبد الرزاق بن عمر أخبره من بعد ما أخبرهم سعيد ما أخبرهم، من حضوره معه عند الزهري: أنه ذهب سماعه من الزهري. قال أبو مسهر: ثم لقيني عبد الرزاق بعد، فقال: قد جمعتها، من بعدما أخبره أنها ذهبت، فقال لنا أبو مسهر: " فيترك حديثه عن الزهري، ويؤخذ عنه ما سواه "، قلت لأبي مسهر: يحدث عن إسماعيل بن عبيد الله، فقال: " ثقة " يعني في إسماعيل بن عبيد الله وغيره خلا الزهري، يعني لذهابها، أو لأنه تتبعها بعد ذهابها (¬1). ومثل (عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي) ثقة عن شيوخه من أهل بيته، لين عن غيرهم، وكان أيضاً قد اختلط. قال الدارقطني: " إذا حدث عن أبي إسحاق وعمرو بن مرة والأعمش فإنه يغلط، وإذا حدث عن معن والقاسم وعون فهو صحيح، وهؤلاء هم أهل بيته " (¬2). ومثل (عكرمة بن عمار)، صدوق عن إياس بن سلمة، لين عن غيره. قال أحمد بن حنبل: " مضطرب عن غير إياس بن سلمة، وكأن حديثه عن إياس بن سلمة صالح " (¬3)، وقال: " أحاديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير ضعاف، ليس بصحاح " قال له عبد الله ابنه: من عكرمة أو من يحيى؟ قال: " لا، إلا من عكرمة "، وقال: " أتقن حديث إياس بن سلمة " (¬4). ¬

(¬1) تاريخ أبي زُرعة الدمشقي (1/ 378). (¬2) سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 255). (¬3) العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل (النص: 733). (¬4) العلل (النص: 3255).

ومثل (جرير بن حازم) ثقة إلا عن قتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري، فكان سيىء الحفظ. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت يحيى (يعني ابن معين) عن جرير بن حازم؟ فقال: " ليس به بأس "، فقلت له: إنه يحدث عن قتادة عن أنس أحاديث مناكير؟ فقال: " ليس بشيء، هو عن قتادة ضعيف " (¬1). وقال ابن عدي: " له أحاديث كثيرة عن مشايخه، وهو مستقيم الحديث، صالح فيه، إلا روايته عن قتادة، فإنه يروي أشياء عن قتادة لا يرويها غيره " (¬2). وقال مسلم بن الحجاج: " وجرير لم يعن في الرواية عن يحيى، إنما روى من حديثه نزراً، ولا يكاد يأتي بها على التقويم والاستقامة، وقد يكون من ثقات المحدثين من تضعف روايته عن بعض رجاله " (¬3). ومثل (حماد بن سلمة)، فقد كان من أثبت الناس في ثابت البناني، لكن قال مسلم: " وحماد يعد عندهم إذا حدث عن غير ثابت، كحديثه عن قتادة وأيوب ويونس وداود بن أبي هند والجريري ويحيى بن سعيد وعمرو بن دينار وأشباههم، فإنه يخطئ في حديثهم كثيراً " (¬4). الصورة الثانية: أن يكون متقناً فيما حدث به في بلد، دون ما حدث به في غيره. وذلك من أجل عدم التمكن في غير بلده، يخطئ لذلك. مثل (شبيب بن سعيد الحبطي)، قال علي بن المديني: " بصري ثقة، ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال، رواية: عبد الله عن أبيه وزياداته عن غيره (النص: 3912). (¬2) الكامل (2/ 355). (¬3) التمييز، لمسلم (ص: 217). (¬4) التمييز، لمسلم (ص: 218).

كان من أصحاب يونس (¬1)، كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه كتاب صحيح " (¬2). قال ابن عدي: " عنده عن يونس عن الزهري، وهي أحاديث مستقيمة، وحدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير، وكأن شبيباً إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب نسخة يونس عن الزهري إذ هي أحاديث مستقيمة ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير، ولعل شبيباً بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب ومن حفظه؛ فيغلط ويهم، وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب " (¬3). وتكلم فيما حدث به (محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب) في العراق دون الحجاز (¬4). الصورة الثالثة: أن يكون متقناً فيما حمله من حديث أهل بلده دون غيرهم. وهذا متصور من أجل اعتناء الراوي بحديث أهل بلده فيتقن حفظه، دون ما حدث به عن غيرهم. وذلك مثل (إسماعيل بن عياش الحمصي)، قال يحيى بن معين: " إذا حدث عن الشاميين فحديثه صحيح، وإذا حدث عن العراقيين أو المدنيين خلط ما شئت " (¬5). وقال ابن عدي بعد أن ذكر طائفة من حديثه عن غير أهل بلده الشاميين: " هذه الأحاديث من أحاديث الحجاز ليحيى بن سعيد، ومحمد بن عمرو، وهشام بن عروة، وابن جريج، وعمر بن محمد، وعبيد الله الوصافي، وغير ما ذكرت من حديثهم، ومن حديث العراقيين، إذا رواه ¬

(¬1) هوَ ابنُ يزيد الأيلي. (¬2) الكامل، لابن عدي (5/ 47). (¬3) الكامل (5/ 49). (¬4) التمييز، لمسلم بن الحجاج (ص: 191). (¬5) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 77) وإسناده لا بأس به.

ابن عياش عنهم فلا يخلو من غلط يغلط فيه، إما أن يكون حديثاً موصولاً يرسله، أو مرسلاً يوصله، أو موقوفاً يرفعه، وحديثه عن الشاميين إذا روى عنه ثقة فهو مستقيم الحديث، وفي الجملة: إسماعيل بن عياش ممن يكتب حديثه ويحتج به في حديث الشاميين خاصة " (¬1). ومن هؤلاء (بقية بن الوليد الشامي)، قال ابن عدي: " في بعض رواياته يخالف الثقات، وإذا روى عن أهل الشام فهو ثبت، وإذا روى عن غيرهم خلط، كإسماعيل بن عياش، إذا روى عن الشاميين فهو ثبت، وإذا روى عن أهل الحجاز والعراق خالف الثقات في روايته عنهم " (¬2). الصورة الرابعة: أن يكون ثقة مقبولاً في أحاديث الرقائق والمواعظ، دون الأحكام. وهذه الصورة راجعة في الأصل إلى تسهل أهل الحديث في روايات المعروفين بالصدق في غير ما يثبت حكماً أو أصلاً، لعلة أن الأحكام مما تتوافر الهمم على حفظه، فكونه لا يأتي إلا من طريق من في حفظه ضعف، فذلك شبهة على عدم إتقانه، بخلاف أبواب الرقائق وشبهها فالشواهد لها في الأصل قائمة، فالراوي المتكلم في حفظه لا يأتي فيها بما لا يحتمل مثله. وهذا مثل: (فليح بن سليمان المدني)، فقد خرج له البخاري في " صحيحه " في مواضع، وهو لين الحديث ليس بالقوي فيه، لكن عذر البخاري أنه لم يخرج له في الأحكام شيئاً، إنما عامة ما أخرجه له إما ما هو معروف من غير طريقه أو رقائق. وتكلم بعض النقاد في حفظ (محمد بن إسحاق) صاحب " السيرة "، في روايته في غير السير. ¬

(¬1) الكامل (1/ 488). (¬2) الكامل (2/ 276).

نقل أبو الفضل عباس بن محمد الدوري عن أحمد بن حنبل قال: " أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث " كأنه يعني المغازي ونحوها " فأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا " , وقبض أبو الفضل أصابع يده الأربع من كل يد ولم يضم الإبهام (¬1). وسئل عبد الله بن أحمد بن حنبل عن (محمد بن إسحاق)؟ فقال: كان أبي يتتبع حديثه ويكتبه كثيراً بالعلو والنزول، ويخرجه في (المسند)، وما رأيته اتقى حديثه قط، قيل له: يحتج به؟ قال: " لم يكن يحتج به في السنن " (¬2). فابن إسحاق ثقة حجة في السير والمغازي؛ لا عتنائه بها، وهو في التحقيق صدوق في الأحكام، يحكم لحديثه بالحسن بعد السبر والنظر وتحقق حفظه له على الوجه. الصورة الخامسة: أن يكون متقناً في النقل لغير الحديث، دون ذلك في الحديث. وفي هذا أن الناقل يكون قد انصرف همه إلى الاعتناء بفن فأتقنه، وتقحم الحديث وليس من فنه فأتى بما لا يحمد، فحيث تميز لنا أمره وعرفنا الفصل فيما روى، فنقتصر على جرحه في الحديث خاصة دون سائر ما روى من العلم. وهذا مثل (حفص بن سليمان القارئ)، فقد بلغ به سوء حفظه ونكارة حديثه إلى أن كان متروكاً في الحديث، لكنه حجة في القراءة، بل عليه المعول في قراءة عاصم، والتي يقرأ بها اليوم أكثر أهل الإسلام. ¬

(¬1) أخرجه الدوري في " تاريخ يحيى بن معين " (النص: 231) ومن طريقه: البيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 37 _ 38). (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (1/ 230) وإسناده جيد.

وقال يحيى بن معين في (زياد بن عبد الله البكائي): " ليس حديثه بشيء، وكان عندي في المغازي لا بأس به " (¬1). قلت: يعني في روايته " المغازي " عن ابن إسحاق. الصورة السادسة: ثقة في الأصل، لكن اختلط وتغير حفظه بأخرة، للكبر، أو لعارض. الاختلاط، هو: فساد العقل بالخرف، لتقدم السن غالباً، أو لعوارض أخرى. مثل (صالح بن نبهان مولى التوأمة)، سأل محمد بن عثمان بن أبي شيبة علي بن المديني عن صالح مولى التوأمة؟ فقال: " صالح ثقة، إلا أنه خرف وكبر، فسمع منه قوم وهو خرف كبير، فكان سماعهم ليس بصحيح: سفيان الثوري منه سمع منه بعدما خرف، وكان ابن أبي ذئب قد سمع منه قبل أن يخرف " (¬2). وقال ابن أبي مريم: سمعت يحيى بن معين يقول: " صالح مولى التوأمة ثقة حجة "، قلت له: إن مالكاً ترك السماع منه، فقال لي: " إن مالكاً إنما أدركه بعد أن كبر وخرف، وسفيان الثوري إنما أدركه بعد ما خرف، فسمع منه سفيان أحاديث منكرات، وذلك بعدما خرف، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف " (¬3). وروى عباس الدوري عن يحيى بن معين، قال: " خرف قبل أن يموت، فمن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت " (¬4). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 538). (¬2) سؤالات ابنُ أبي شيبة (النص: 79). (¬3) الكامل، لابن عدي (5/ 85). (¬4) تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 783).

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن بشر بن عمر زعم أنه سأل مالكاً عن صالح مولى التوأمة؟ فقال: " ليس بثقة "؟ فقال أبي: " مالك كان قد أدرك صالحاً وقد اختلط وهو كبير، من سمع منه قديماً فذاك، وقد روى عنه أكابر أهل المدينة، وهو صالح الحديث، ما أعلم به بأساً " (¬1). وقال ابن عدي: " هو في نفسه ورواياته لا بأس به إذا سمعوا منه قديماً، فالسماع القديم منه سمع منه ابن أبي ذئب وابن جريج وزياد بن سعد وغيرهم، ممن سمع منه قديماً، فأما من سمع منه بأخرة فإنه سمع وهو مختلط، ولحقه مالك والثوري وغيرهما بعد الاختلاط، وحديث صالح الذي حدث به قبل الاختلاط ولا أعرف له حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة، وإنما البلاء ممن دون ابن أبي ذئب، ويكون ضعيفاً فيروي عنه، ولا يكون البلاء من قبله، وصالح مولى التوأمة لا بأس بروايته وحديثه " (¬2). أما ابن حبان، فإنه ذكر قول يحيى بن معين من رواية الدوري عنه، وقال بعده: " هو كذلك لو تميز حديثه القديم من حديثه الأخير، فأما عند عدم التمييز لذلك واختلاط البعض بالبعض يرتفع به عدالة الإنسان حتى يصير غير محتج به ولا معتبر بما يرويه " (¬3). قلت: كلام ابن حبان هذا من حيث التأصيل في شأن المختلط صحيح في الجملة، لكن القدح في عدالته إنما أراد به الإتقان، وعدم الاعتبار بما يرويه ليس على معنى الترك. أما بالنظر إلى حال صالح، فليس كما قال؛ لأنه قد تميز أن رواية ابن أبي ذئب والأقدمين عنه كانت قبل اختلاطه، وما مثل به ابن حبان من ¬

(¬1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (2/ 1 / 417 _ 418). (¬2) الكامل (5/ 88). (¬3) المجروحين، لابن حبان (1/ 366).

الحديث الذي أنكره عليه فهو من رواية ابن أبي ذئب عنه ولم يرده ابن حبان إلا من جهة معارضته في رأيه لحديث آخر صحيح، وليس بينهما معارضة في التحقيق. وأمثلته في الثقات عديدة، ومن أحسن ما فيه كتاب " الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات " لأبي البركات ابن الكيال (المتوفى سنة: 939). ومن العوارض الأخرى غير الخرف، ما قاله أبو حاتم الرازي في (أبي بكر بن أبي مريم): " ضعيف الحديث، طرقته لصوص فأخذوا متاعه، فاختلط " (¬1). ومن علة الجرح بالاختلاط أن المختلط ربما قبل التلقين. مثل ما حدث به أحمد بن حنبل، قال: " رأيت سنيداً عند حجاج بن محمد، وهو يسمع منه كتاب (الجامع) _ يعني لابن جريج _، فكان في الكتاب: ابن جريج، قال: أخبرت عن يحيى بن سعيد، و: أخبرت عن الزهري، و: أخبرت عن صفوان بن سليم. فجعل سنيد يقول لحجاج: قل يا أبا محمد: ابن جريج عن الزهري، و: ابن جريج عن يحيى بن سعيد، و: ابن جريج عن صفوان بن سليم. فكان يقول له هكذا ". قال عبد الله بن أحمد: ولم يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجاج، وذمه على ذلك. قال أحمد: " وبعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذه " يعني قوله: (أخبرت)، و (حدثت عن فلان) (¬2). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 405). (¬2) العلل ومعرفة الرجال، لأحمد (النص: 3610) وسُنيدٌ هو الحسين بن داود.

وليس من الاختلاط قول الحاكم في (عبد الله بن محمد بن عقيل): " عمر، فساء حفظه، فحدث على التخمين " (¬1). فهذا إنما هو ضعف للحفظ للكبر، كالذي وقع لهشام بن عروة، ولم يقدح في حديثه، وليس خرفاً. حكم حديث المختلط: وقع كثيراً من أئمة الحديث الكبار متقدميهم ومتأخريهم تعليل الروايات بأن فلاناً إنما سمع من فلان بعد أن اختلط. فهذا أحمد بن حنبل يعلل حديثاً من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق السبيعي، فيقول: " زهير سمع من أبي إسحاق بأخرة " (¬2). قال الحازمي: " أما من زال عقله بأمر طارئ، كالاختلاط وتغيب الذهن؛ فلا يعتد بحديثه، ولكن يلزم الطالب البحث عن وقت اختلاطه، فإن كان لا يمكن الوصول إلى علمه طرح حديثه بالكلية؛ لأن هذا عارض قد طرأ على غير واحد من المتقدمين والحفاظ المشهورين، فإذا تميز له ما سمعه ممن اختلط في حال صحة جاز له الرواية عنه وصح العمل فيها " (¬3). وجوب تحقيق تأثير الاختلاط في حديث الراوي الموصوف به: الراوي إذا أطلق الكبار من نقاد المحدثين توثيقه، وذكر أنه اختلط لما كبر، فالأصل التوثيق حتى يتبين الوهم بسبب الاختلاط، ولا يجوز رد حديثه بمجرد هذا الوصف له. فهذا (بحر بن مرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة) وصفه يحيى بن ¬

(¬1) سؤالات مَسعود السجزي (النص: 78). (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود السجستاني (ص: 303). (¬3) شُروط الأئمة، للحازمي (ص: 52).

سعيد القطان بالاختلاط، فقال: " رأيته قد اختلط "، وتبع بعضهم يحيى على ذلك، وطائفة أطلقت توثيقه دون الاعتداد بوصفه بالاختلاط، وذلك أن الرجل لم يثبت وهمه في شيء أو تحديثه بما ينكر بسبب ما قاله يحيى من اختلاطه، مما يجيز أن يكون لم يحدث بعد اختلاطه بشيء، ولذا قال ابن عدي: " لا أعرف له حديثاً منكراً فأذكره، ولم أر أحداً من المتقدمين ممن تكلم في الرجال ضعفه إلا يحيى القطان ذكر أنه كان قد خولط، ومقدار ما له من الحديث لم أر فيه حديثاً منكراً " (¬1). أما إن ثبت أن الاختلاط أضر بحديثه، فلينوه بعد اختلاطه من أجل ذلك، فهذا هو الذي لا يقبل من حديثه إلا ما حدث به قبل اختلاطه، وذلك بحسب قدم السامعين منه، وما حدث به بعد الاختلاط فهو صالح للاعتبار ما لم يثبت فيه وهم أو خطأ فيميز. قال ابن حبان وقد ذكر المختلط في آخر عمره: " لا نعتمد من حديثهم إلا ما روى عنهم الثقات من القدماء الذين نعلم أنهم سمعوا منهم قبل اختلاطهم، وما وافقوا الثقات في الروايات التي لا نشك في صحتها وثبوتها من جهة أخرى؛ لأن حكمهم وإن اختلطوا في أواخر أعمارهم، وحمل عنهم في اختلاطهم بعد تقدم عدالتهم، حكم الثقة إذا أخطأ، أن الواجب ترك خطئه إذا علم، والاحتجاج بما نعلم أنه لم يخطئ فيه، وكذلك حكم هؤلاء: الاحتجاج بهم فيما وافقوا الثقات، وما انفردوا مما روى عنهم القدماء من الثقات الذين كان سماعهم منهم قبل الاختلاط سواء " (¬2). كما قال ابن عدي في (سعيد بن إياس الجريري) و (سعيد بن أبي عروبة): " سعيد الجريري مستقيم الحديث وحديثه حجة من سمع منه قبل ¬

(¬1) الكامل، لابن عدي (2/ 236). (¬2) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 161).

الاختلاط، وهو أحد من يجمع حديثه من البصريين، وسبيله كسبيل سعيد بن أبي عروبة، لأن سعيد بن أبي عروبة أيضاً اختلط، فمن سمع منه قبل الاختلاط فحديثه مستقيم حجة " (¬1). وقال في (ابن أبي عروبة): " من سمع منه قبل الاختلاط فإن ذلك صحيح حجة، ومن سمع بعد الاختلاط فذلك ما لا يعتمد عليه " (¬2). ويخرج من هذا الأصل: ما دل التحري أن راوياً ممن حدث عن المختلط بعد اختلاطه قد انتفى من حديثه المستقيم المحفوظ؛ فهذا استثناء يلحق بالمقبول الصالح للاحتجاج من حديث ذلك المختلط. قال يحيى بن معين: قلت لوكيع بن الجراح: تحدث عن سعيد بن أبي عروبة وإنما سمعت منه في الاختلاط؟ قال: " رأيتني حدثت عنه إلا بحديث مُستوٍ؟! " (¬3). ومن هذا ما خرجه الشيخان من حديث من روى عن بعض الثقات المختلطين بعد اختلاطهم، فإنهما لم يخرجا من حديث هذا الضرب ما يمكن إنكاره، وما خرجا منه إلا ما هو محفوظ. وتلخيص القسمة في الراوي الثقة الذي ثبت أنه اختلط أن قبول ما يقبل من حديثه ورد ما يرد منه على أحوال أربعة تضبط بحسب من روى عنه: أولها: أن يثبت أن السماع وقع منه قبل اختلاطه، فهذا يحتج به. وثانيها: أن يثبت أن السماع وقع منه بعد اختلاطه، فهذا ضعيف لا يحتج به، وإنما يصلح للاعتبار إن لم يكن مما ثبت خطؤه فيه بعينه فيجتنب الخطأ. ¬

(¬1) الكامل (4/ 445 _ 446). (¬2) الكامل (4/ 451). (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 217) بإسناد صحيح.

وثالثها: أن يثبت أن السماع وقع منه بعد اختلاطه، ولكن من حمل عنه تحرى في أخذه عنه، فلم يحمل عنه إلا صحيح حديثه، فهذا يحتج به. ورابعها: أن لا يتبين متى وقع السماع منه: قبل الاختلاط أو بعده، فهذا يتحرى فيه، ويلحق بأشبه حديثه قبل اختلاطه غالباً ألحق بمن يحتج بحديثه عنه، وإن كان العكس فالعكس، وإن تحير الباحث توقف فيه، وهذا يجعله صالحاً للاعتبار على أدنى تقدير. الراوي يختلط فلا يتميز صحيح حديثه من سقيمه: وهذه حال خارجة عن وصف الثقة، إذ هذا الصنف من الرواة ضعفاء. وصورته: الراوي يختلط فيأتي بالمنكرات بسبب اختلاطه، ولا يتميز ما حدث به على الصحة من غيره. فهذا يضعف مطلقاً، وغاية أمره أن يصلح حديثه للاعتبار، إذا لم يبلغ حد الترك. ومن مثاله: (ليث بن أبي سليم)، قال مؤمل بن الفضل _ وكان ثقة _: قلنا لعيسى بن يونس: لم تسمع من ليث بن أبي سليم؟ قال: " قد رأيته وكان قد اختلط، وكان يصعد المنارة ارتفاع النهار فيؤذن " (¬1). وقال ابن حبان في (عبيد بن معتب): " كان ممن اختلط بأخرة، حتى يجعل يحدث بالأشياء المقلوبة عن أقوام أئمة، ولم يتميز حديثه القديم من حديثه الجديد، فبطل الاحتجاج به " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3/ 2 / 178) وابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 68، و 2/ 232) بإسناد صحيح. (¬2) المجروحين (2/ 173).

وممن وقع له ذلك ولم يتميز من حمل عنه قبل اختلاطه ممن حمل عنه بعده، فضعف مطلقاً (يزيد بن أبي زياد)، قال ابن حبان: " كان يزيد صدوقاً، إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير، فكان يتلقن ما لقن، فوقع المناكير في حديثه من تلقين غيره إياه وإجابته فيما ليس من حديثه؛ لسوء حفظه، فسماع من سمع منه قبل دخوله الكوفة في أول عمره سماع صحيح، وسماع من سمع منه في آخر قدومه الكوفة بعد تغير حفظه وتلقنه ما يلقن سماع ليس بشيء " (¬1). قلت: ولا يكاد يتميز شيء مما حدث به قبل التغير، إلا أن يظهر بالمتابعة، أما لذاته فضعيف. التخليط غير الاختلاط بأخرة: التخليط اختلال عارض في الضبط يقع في حال الصحة لا الخرف. ومنه قول أبي حاتم الرازي في (أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب: " كتبنا عنه وأمره مستقيم، ثم خلط بعد، ثم جاءني خبره أنه رجع عن التخليط "، وقال: " كان صدوقاً ". قال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة وأتاه بعض رفقائي، فحكى عن أبي عبيد الله ابن أخي ابن وهب أنه رجع عن تلك الأحاديث، فقال أبو زرعة: " إن رجوعه مما يحسن حاله، ولا يبلغ به المنزلة التي كان قبل ذلك " (¬2). وهذا زال تخليطه وضبط حديثه ورجع عن خطئه. ومن الرواة من يقع ذلك له فيتمكن منه سوء الحفظ، حتى لا يقيم الحديث. ¬

(¬1) المجروحين (3/ 100). (¬2) الجرح والتعديل (1/ 1 / 60).

مثل (إسماعيل بن مسلم المكي)، وقد ضعفوه، قال يحيى القطان: " لم يزل مخلطاً، كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب " (¬1). ومثل (صالح بن أبي الأخضر)، قال عمرو بن علي: سمعت معاذ بن معاذ العنبري، وذكر صالح بن أبي الأخضر، فقال: سمعته يقول: سمعت من الزهري، وقرأت عليه، فلا أدري هذا من هذا، فقال يحيى بن سعيد القطان وهو إلى جنبه: " لو كان هكذا لكان خيراً، ولكنه سمع وعرض، ووجد شيئاً مكتوباً، فقال: لا أدري هذا من هذا " (¬2). وقال ابن حبان: " يروي عن الزهري أشياء مقلوبة .. اختلط عليه ما سمع من الزهري بما وجد عنده مكتوباً، فلم يميز هذا من ذاك ". قال: " من اختلط عليه ما سمع بما لم يسمع ثم لم يرع عن نشرها بعد علمه بما اختلط عليه منها، حتى نشرها وحدث بها وهو لا يتيقن بسماعها؛ لبالحري (¬3) أن لا يحتج به في الأخبار؛ لأنه في معنى من يكذب وهو شاك، أو يقول شيئاً وهو يشك في صدقه، والشاك في صدق ما يقول لا يكون بصادق " (¬4). الصنف الرابع: من غلب عليه سوء الحفظ، فغلب في حديثه احتمال خطئه ووهمه، مع بقاء وصف الصدق له في الجملة. وهذا كثير في الرواة المجروحين، ممن يعتبر بحديثهم، ولم يسقطوا، وتقدم له أمثلة كثيرة في الرواة كليث بن أبي سليم، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعلي بن زيد بن جدعان، وشبههم من الضعفاء الذين يكتب حديثهم ويعتبر به. ¬

(¬1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 198) بإسناد صحيح. (¬2) المجروحين (1/ 368 _ 369)، وانظر: الجرح والتعديل (2/ 1 / 394). (¬3) أي: جدير. (¬4) المجروحين (1/ 368، 369).

القسم الثاني: فساد الضبط إلى حد أن يكون الراوي متروك الحديث وهذا يقع بغلبة المناكير على حديث الراوي، فيوصف بكونه: " منكر الحديث "، أو " متروك الحديث ". فأما أن يكون " متروك الحديث " فلا يدخل هذا الوصف اشتباه، إذ هو الراوي غلب عليه الوهم والخطأ حتى فحش، وغلبت المنكرات على حديثه، حتى ربما أورده الشبهة عليه بالكذب، فاتهم به بناء على ذلك، كما بينت بعض أمثلته في (المبحث الثاني). ومن مثاله (عبد الله بن سلمة الأفطس) اتفقوا على كونه متروك الحديث، بل اتهم، ويفسر ابن حبان جرحه بقوله: " كان سيىء الحفظ، فاحش الخطأ، كثير الوهم " (¬1). ولكن يقع الاشتباه في الراوي يوصف بكونه (منكر الحديث)، فإن تلك النكارة على درجات في عبارات النقاد، بينتها في (تفسير عبارات الجرح والتعديل)، وفي (القسم الثاني) عند الكلام على (الحديث المنكر)، حيث أطلقت على الراوي لا يبلغ الترك، كما أطلقت على المتروك. طريق كشف النكارة: والمعتبر في وصف الراوي بذلك في الأصل هو ما أتى به من الروايات المنكرة التي علمت نكارتها، بالتفرد بغير المعروف، أو بالمخالفة للمعروف، بالقدر الذي يغلب على حديث الراوي. كما قال مسلم بن الحجاج: " علامة المنكر في حديث المحدث: إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى، ¬

(¬1) المجروحين (2/ 20).

خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك، كان مهجور الحديث، غير مقبوله ولا مستعلمه، فمن هذا الضرب من المحدثين: عبد الله بن محرر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبد الله بن ضميرة، وعمر بن صهبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث، فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به " (¬1). ومن طريق كشف نكارة الحديث: أن يستغرب الحديث مما تفرد به عن الثقة، فيبحث عن أصله في كتب ذلك الثقة وقد عرف اعتناؤه بحديثه ورجوعه إلى أصول، فلا يوجد فيها الحديث، فيعرف بذلك أن الحديث منكر. قال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد سئل عن حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأئمة من قريش "؟ قال: " ليس هذا في كتب إبراهيم، لا ينبغي أن يكون له أصل " (¬2). ومن أمثلته في الرواة: (محمد بن أبي حميد الزرقي)، قال أحمد بن حنبل: " أحاديثه أحاديث مناكير " (¬3)، وفي معناه قول يحيى بن معين المجمل: " ليس بشيء " (¬4)، وقال أبو حاتم: " منكر الحديث، ضعيف الحديث، مثل ابن أبي سبرة ويزيد بن عياض، يروي عن الثقات المناكير " (¬5). قلت: وهذا منكر الحديث، قد يتردد في بلوغه الترك. ¬

(¬1) مُقدمة صحيح مُسلم (ص: 7). (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 289). (¬3) العلل ومعرفة الرجال (النص: 2811). (¬4) تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 800). (¬5) الجرح والتعديل (3/ 2 / 234).

و (مغيرة بن زياد الموصلي)، قال أحمد بن حنبل: " ضعيف الحديث "، وقال: " روى عن عطاء عن ابن عباس في الرجل تحضره الجنازة، قال: لا بأس أن يصلي عليها ويتيمم "، قال أحمد: رواه ابن جريج وعبد الملك عن عطاء، مرسل "، قال أحمد: " وروى عن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة. وهذا يروونه عن عطاء عن عنبسة عن أم حبيبة: من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة. وروى عن عطاء عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قصر وأتم، والناس يروونه عن عطاء، مرسل " (¬1). وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن حديث المغيرة بن زياد عن عطاء عن عائشة قالت: قصر النبي صلى الله عليه وسلم في السفر وأتم، وصام وأفطر، يصح؟ قال: " له أحاديث منكرة "، وأنكر هذا الحديث (¬2). وقال أحمد مرة: " ضعيف الحديث، له أحاديث منكرة "، وفي موضع آخر: " ضعيف الحديث، أحاديثه أحاديث مناكير "، وفي موضع: " كل حديث رفعه مغيرة بن زياد فهو منكر " (¬3). أما يحيى بن معين فقلل قدر المناكير في حديثه، فقال: " له حديث واحد منكر "، وفسره عبد الله بن أحمد عن أبيه بحديث ابن عباس في الرجل تمر به الجنازة يتيمم ويصلي (¬4). قلت: وهذا مثال لمن يتردد بين الترك والاعتبار. و (محمد بن معاوية النيسابوري)، قال أحمد بن حنبل: " رأيت أحاديثه موضوعة "، وقال أبو حاتم الرازي: " روى أحاديث لم يتابع عليها، أحاديثه ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال (النص: 835). (¬2) مسائل عبد الله بن أحمد عن أبيه (النص: 558). (¬3) العلل ومعرفة الرجال (النص: 1501، 3361، 4012). (¬4) العلل (النص: 4011).

منكرة، فتغير حاله عند أهل الحديث "، وكان يحيى بن معين يقول: " كذاب "، لكن أبا زرعة الرازي يفسر تلك المنكرات منه بسبب قبوله التلقين، فيقول: " كان شيخاً صالحاً، إلا أنه كلما لقن يلقن، وكلما قيل: إن هذا من حديثك حدث به، يجيئه الرجل فيقول: هذا من حديث معلى الرازي، وكنت أنت معه، فيحدث بها على التوهم " (¬1). وهذا التفسير من أبي زرعة يدفع عنه تعمد الكذب، مع أن أحاديثه موضوعة، فمثله متروك الحديث على أي حال. والعلة في التردد في بعض هؤلاء بين الاعتبار بحديثه أو تركه كلية، وكذلك من كان أمره إلى ترك حديثه مطلقاً، هو قدر الغلط في حديثهم. وحيث إن أحدهم لم يبلغ به الجرح حد التهمة، فإن سبب الجرح يعود إلى سوء حفظه الموجب كثرة خطئه وغلبته. مظان سياق منكرات الراوي: كتب الجرح والتعديل قد سلك أكثرها مسلك الاختصار، فمع أن الناقد صار إلى جرح الراوي بحسب ما ظهر له من حاله وحديثه، إلا أنه لا يكاد يسوق مثالاً من مرويات ذلك المجروح مما كان دليلاً لديه على جرحه، سوى أن ما تفرق من جرح للرواة في أثناء كتب علل الحديث يصلح أن يستفاد من تلك الأحاديث المعللة أمثلة على ما من أجله قدح في بعض الرواة، فهذا طريق. كذلك اعتنى المتأخرون الذين صنفوا في تتبع المجروحين بجمع أنكر ما للراوي المجروح، أو مثلوا ببعض ذلك ليستدل به على ما عداه، وذلك مثل: أبي أحمد بن عدي في كتاب " الكامل "، وأبي جعفر العقيلي في كتاب " الضعفاء "، وأبي حاتم بن حبان في كتاب " المجروحين "، كما جرى على ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 103 _ 104).

سننهم الذهبي في " ميزان الاعتدال " بحكاية بعض ما قالوا، وبالزيادة عليه. لكن يجدر بك أن تعلم أنهم ربما ذكروا الحديث الثابت، يكون التمثيل له للمنكر من حديث الراوي مرجوحاً، أو لا يكون ذكر الراوي في هذه الكتب صواباً أصلاً، وابن عدي خاصة أكثرهم اعتناء بذكر ما ينكر على الراوي، لكنه يزيد فيذكر من غرائبه وأفراده، زد على ذلك أنه ربما ذكر من الرواة من الصواب فيه التعديل، في نظر ابن عدي نفسه أو نظر غيره من أهل العلم، وربما ساق للراوي من حديثه ما يستدل به على أن حديثه من قبيل المحتمل أو الصالح أو المستقيم المحفوظ. * * *

المبحث السادس: مسائل تتصل بالجرح بسوء الحفظ

المبحث السادس: مسائل تتصل بالجرح بسوء الحفظ المسألة الأولى: الراوي قد يكون لين الحديث من جهة عدم ظهور إتقانه لقلة حديثه، أو لمجيء حديثه على غير سياق روايات الثقات، وإن لم يكن أتى بمنكر. مثل (عبد الصمد بن حبيب العوذي)، كان قليل الحديث، قال البخاري وأبو حاتم الرازي: " لين الحديث، ضعفه أحمد " (¬1)، زاد أبو حاتم: " يكتب حديثه، ليس بالمتروك ". ومثل (إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي)، ضعفه الأكثرون، لكن جاء ضعفه من جهة لين فيه لا أنه روى منكراً، ولذا قال ابن عدي: " ليس هو بمنكر الحديث، يكتب حديثه " (¬2)، وقال أبو حاتم قبله: " يكتب حديثه، وهو حسن الحديث " (¬3). المسألة الثانية: الإغراب عن الثقات. نعت الراوي برواية الغرائب سبب للجرح، إذا كان مثله لا يحتمل ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/ 2 / 106)، الجرح والتعديل (3/ 1 / 51). (¬2) الكامل (1/ 385). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 1 / 148).

مثلها، كراو لم يرو إلا بضعة أحاديث، فيغرب بأكثرها، وذلك إسناداً أو متناً أو جميعاً، فهذا يشعر بلين حديثه، وإن لم يصل ما تفرد به إلى حد النكارة. أما الثقة المكثر إذا أغرب ببعض حديثه عن شيخ عرف بالعناية به، فهو من علامة تميزه وإتقانه. لذا فحين تكلم في (حرملة بن يحيى التجيبي المصري) من أجل ما أغرب به عن عبد الله بن وهب رد ذلك ابن عدي، فقال: " قد تبحرت حديث حرملة وفتشته الكثير، فلم أجد في حديثه ما يجب أن يضعف من أجله، ورجل توارى ابن وهب عندهم ويكون عنده حديثه كله، فليس ببعيد أن يغرب على غيره من أصحاب ابن وهب كتباً ونسخاً " (¬1). والإغراب مما تميل إليه النفوس بطبعها، لكن من عرفوا بالإتقان كانوا يتقون الإغراب إلا بمحفوظ، بخلاف من كان همه تكثير الرواية، فهذا لا يبالي بما حدث ولا عمن حدث، حتى ربما لحقته التهمة بسبب ذلك، كما كان الشأن في حق (الهيثم بن عدي) , و (محمد بن عمر الواقدي) وشبههما. كما قال أبو يوسف القاضي: " من تتبع غريب الحديث كُذِّب " (¬2). ¬

(¬1) الكامل (3/ 409). (¬2) أثرٌ صحيح. أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 562) وابنُ عدي (1/ 111) والخطيب في " الكفاية " (ص: 225) بإسناد جيد. ولفظ ابن عدي: " من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غريب الحديث كُذِّب، ومن طلب المالَ بالكيمياء أفْلس ". قلت: ولو ضبطْتَ قوله: (كُذب) (كَذب) لجاز. وأخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1481) بإسناده إلى أبي يوسف عن أبي حنيفة، به، لكنه ضعيف. وروى مُحمد بن جابر اليمامي عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي قال: " كانُوا يَكرهون غريب الحديث، والكلام ". أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 565) والخطيب في " الكفاية " (ص: 224). ابنُ جابر ليس بالقوي في الحديث. لكن في معناه عن إبراهيم قال: " كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يُخرج الرجل أحسن حديثه، أو أحسنَ ماعنده " أخرجه الرامهرمزي (ص: 561) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1295) وإسناده صَحيح. وكانوا يعنون بذلك الغريب؛ لأنه تستحسنه النفوس.

وقال ابن حبان: " صناعة الحديث صناعة من لم يقنع بيسير ما سمع عن كثير ما فاته "، قال: " وكل من حدث عن كل من سمع في الأيام وبكل ما عنده، عرض نفسه للقدح والملام، ولست أعلم للمحدث إذا لم يحسن صناعة الحديث خصلة خيراً له من أن ينظر إلى كل حديث يقال له: إن هذا غريب ليس عند غيرك، أن يضرب عليه من كتابه ولا يحدث به؛ لئلا يكون ممن يتفرد دائماً، لو أراد الحاسد أن يقدح فيه تهيأ له، ولا يسمعه أن يروي إلا عن شيخ ثقة بحديث صحيح، يكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولاً " (¬1). والناقد إذا روى الراوي الذي لا يحتمل الإغراب لعدم شهرته بالحفظ، أو لقلة ما روى، جاء عن الراوي المشهور بغير المعروف من حديثه من رواية الثقات، كان ذلك شبهة للقدح فيه، وتقوى حتى تثبت على ذلك الراوي بحسب نوع ما تفرد به وقدره، ويقع هذا في شأن راو قليل الحديث أصلاً غير مشهور ربه. ومن أمثلة هؤلاء: (سعيد بن زربي)، ذكر العقيلي حديثاً من روايته عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داود "، قال العقيلي: " ولا يتابع عليه من حديث ثابت، وقد روي هذا بإسناد جيد ثابت من غير هذا الوجه " (¬2). وكقول ابن حبان في (محمد بن عبيد الله (¬3) العصري): " منكر الحديث جداً، يروي عن ثابت ما لا يتابع عليه كأنه ثابت آخر، لا يجوز الاحتجاج به، ولا الاعتبار بما يرويه إلا عند الوفاق للاستئناس به " (¬4). ¬

(¬1) المجروحين، لابن حبان (3/ 93). (¬2) الضعفاء، للعُقيلي (2/ 107). (¬3) هكذا وقع (عبيد الله) مصغَّراً في بعض محال ترجمته، و (عبد الله) مكبَّراً في بعض آخر، والأول أشْبه بالصواب. (¬4) المجروحين (2/ 282).

فأمثال هذا أو ذاك ممن لم يرو إلا القليل، ومع ذلك يتفرد بما لا يعرف عن الثقات، فهذا يعود عليه تفرده ذلك بالجرح لا بالمحمدة. المسألة الثالثة: الإصرار على الخطأ. يراد به أن يبين للراوي أنه أخطأ، فيصر أنه مصيب، ولا يرجع إذا بين له، وهذا جعله بعض النقاد قادحاً فيمن عرف منه مطلقاً، وبعضهم يذكره قادحاً لكن لا يطلقه، ولذلك فقد ذكر به بعض من استقر عند الأكثرين توثيقهم. والتحرير لهذه المسألة: أن القدح في الراوي إنما هو من جهة خطئه لا من جهة إصراره على ما يحسب نفسه مصيباً فيه. قال حمزة السهمي: سألته (يعني الدارقطني) عمن يكون كثير الخطأ؟ قال: " إن نبهوه عليه ورجع عنه فلا يسقط، وإن لم يرجع سقط " (¬1). ومن أمثلته في الضعفاء (سفيان بن وكيع) " قيل لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: لم رويت عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وتركت سفيان بن وكيع؟ فقال: " لأن أحمد بن عبد الرحمن لما أنكروا عليه تلك الأحاديث رجع عنها عن آخرها، إلا حديث مالك عن الزهري عن أنس: (إذا حضر العشاء)، فإنه ذكر أنه وجده في درج من كتب عمه في قرطاس، وأما سفيان بن وكيع، فإن وراقه أدخل عليه أحاديث، فرواها، وكلمناه فيها فلم يرجع عنها، فاستخرت الله وتركت الرواية عنه " (¬2). و (المسيب بن واضح)، قال أبو حاتم الرازي: " صدوق، كان يخطئ كثيراً، فإذا قيل له لم يقبل " (¬3). ¬

(¬1) سؤالات السهمي (النص: 1). (¬2) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1120) وإسناده صحيح. (¬3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 294).

ومن أمثلته في الثقات: (محمد بن عبيد الطنافسي)، قال أحمد بن حنبل: " كان يخطئ، ولا يرجع عن خطئه " (¬1). و (محمد بن غالب تمتام) فقد ذكر الدارقطني من أوهامه أنه حدث محمد بن جعفر الوركاني، عن حماد بن يحيى الأبح، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " شيبتني هود وأخواتها "، قال الدارقطني: " فأنكروا عليه موسى بن هارون وعبيدة، فأخرج أصله وجاء إلى إسماعيل بن إسحاق القاضي، فأوقفه عليه، فقال: ربما وقع على الناس الخطأ في الحداثة، ولو تركته لم يضرك، فقال: أنا لا أرجع عما في أصل كتابي "، ثم بين الدارقطني كيف دخله الوهم، ووثقه وأثنى عليه (¬2). قلت: وهذا من أمثلته الثقات، كان إصراره حين أصر من أجل ما اعتقده من ضبطه. المسألة الرابعة: جرح الراوي مقارنة بغيره، من الجرح النسبي، ولا ينافي أصل الثقة، إلا أن تكون المقارنة بين ضعيفين. الناقد ربما ضعف الراوي في بعض الشيوخ، ولم يعن مطلقاً، وإنما عند المقارنة بمن هو أتقن منه عن ذلك الشيخ، كالشأن في تضعيف بعض أصحاب الزهري مقارنة بالمتقنين. قال يعقوب بن شيبة: سمعت يحيى بن معين يقول: " كان جعفر بن برقان أمياً "، فقلت له: جعفر بن برقان كان أمياً؟ قال: " نعم "، قلت: كيف روايته؟ فقال: " كان ثقة صدوقاً، وما أصح رواياته عن ميمون بن مهران وأصحابه! "، فقلت له: أما روايته عن الزهري ليست مستقيمة؟ قال: " نعم "، وجعل يضعف روايته عن الزهري (¬3). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 10). (¬2) سؤالات السلمي (النص: 312). (¬3) الكامل، لابن عدي (2/ 372).

هكذا ظاهر قول ابن معين أن حديثه عن الزهري ضعيف مطلقاً، لكن قال ابن عدي: " إنما قيل ضعيف في الزهري؛ لأن غيره عن الزهري أثبت منه، أصحاب الزهري المعروفين: مالك، وابن عيينة، ويونس، وشعيب، وعقيل، ومعمر، فإنما أرادوا أن هؤلاء أخص بالزهري، وهم أثبت من جعفر بن برقان؛ لأن جعفراً ضعيف في الزهري لا غير " (¬1). قلت: وهذا التفسير معتضد بهذه المحاورة بين عثمان الدارمي وشيخه يحيى بن معين، قال عثمان: سألت يحيى بن معين عن أصحاب الزهري: قلت له: معمر أحب إليك في الزهري أو مالك؟ فقال: " مالك ". قلت: فيونس أحب إليك وعقيل، أم مالك؟ فقال: " مالك ". قلت: فابن عيينة أحب إليك، أم معمر؟ فقال: " معمر ". قلت: فإن بعض الناس يقولون: سفيان بن عيينة أثبت الناس في الزهري؟ فقال: " إنما يقول ذاك من سمع منه، وأي شيء كان سفيان! إنما كان غليماً أيام الزهري ". قلت: فشعيب _ أعني ابن أبي حمزة _؟ فقال: " هو ثقة مثل يونس وعقيل "، " شعيب بن أبي حمزة كتب عن الزهري إملاء للسطان، وكان كاتباً ". قلت: فالزبيدي؟ قال: " هو مثلهم ". قلت: فإبراهيم بن سعد أحب إليك أو ليث؟ فقال: " كلاهما ثقتان ". قلت: فمعمر أحب إليك أو صالح بن كيسان؟ فقال: " معمر أحب إلي، وصالح ثقة ". ¬

(¬1) الكامل (2/ 373 _ 374). يونس هوَ ابن يزيد الأيلي، وشُعيبٌ هوَ ابنُ أبي حَمزة، وعُقيلٌ هوَ ابنُ خالد الأيْلي، ومَعْمرٌ هوَ ابنُ راشد.

قلت: فالماجشوني _ أعني عبد العزيز _؟ قال: " ليس به بأس ". قلت: فصالح بن أبي الأخضر؟ فقال: "ليس بشيء في الزهري ". قلت: فمحمد بن أبي حفصة؟ قال: " صويلح، ليس بقوي ". قلت: فابن جريج؟ فقال: " ليس بشيء في الزهري ". فجعفر بن برقان؟ فقال: " ضعيف في الزهري ". قلت: فمحمد بن إسحاق؟ فقال: " ليس به بأس، وهو ضعيف الحديث عن الزهري ". قلت له: عبد الرحمن بن إسحاق الذي يروي عن الزهري؟ فقال: " صالح ". وسألته عن سفيان بن حسين؟ فقال: " ثقة، وهو ضعيف الحديث عن الزهري ". قلت له: فمعمر أحب إليك أو يونس؟ فقال: " معمر ". قلت: فيونس أحب إليك أو عقيل؟ فقال: " يونس ثقة، وعقيل ثقة نبيل الحديث عن الزهري ". وسألته عن الأوزاعي: ما حاله في الزهري؟ فقال: " ثقة ". قلت له: أين يقع من يونس؟ فقال: يونس أسند عن الزهري، والأوزاعي ثقة، ما أقل ما روى الأوزاعي عن الزهري! ". قلت: فزياد بن سعيد، أي شيء حاله في الزهري؟ فقال: " ثقة ". قلت: فما حال سليمان بن موسى في الزهري؟ فقال: " ثقة ". قلت: فعبد الله بن عبد الرحمن الجمحي، كيف حديثه عن ابن شهاب؟ فقال: " لا أعرفه ".

قلت: فعنبسة بن مهران عن الزهري، من عنبسة، يروي عنه يحيى بن المتوكل؟ فقال: " لا أعرفه ". قلت: فعمر بن عثمان الذي يروي عن أبيه عن ابن شهاب، ما حالهما؟ فقال: " ما أعرفهما ". قلت: فابن أبي ذئب، ما حاله في الزهري؟ فقال: " ابن أبي ذئب ثقة ". وسألته عن أخي الزهري، ما حاله؟ فقال: " ضعيف " (¬1). وقال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) وذكر يونس بن أبي إسحاق، فضعف حديثه، وقال: " حديث إسرائيل أحب إلي منه " (¬2). قلت: فهذا تضعيف ليونس مقارنة بابنه إسرائيل عن أبي إسحاق خاصة، وليس ضعفاً مطلقاً، فلا يصح القول: يونس ضعيف عند أحمد مثلاً. وهكذا حين قيل لأحمد: غندر وحفص بن غياث؟ قال: " غندر أحب إلي من حفص، حفص كان مخلطاً " وضعف أمره (¬3). قلت: فالتحقيق في الجرح الوارد على هذه الصفة أنه تليين للراوي بالمقارنة بمن ذكر معه، ولا يصلح اقتطاع لفظ الجرح في ذلك الراوي عما اقترن به، بل الشأن عند إطلاق القول في أكثر هؤلاء المضعفين مقارنة بمن هو فوقهم في بعض الشيوخ أنهم ثقات عند الإطلاق. فإن قلت: ما فائدة هذا الجرح؟ ¬

(¬1) ساق هذه المحاورة عثمان الدارمي في " تاريخه " (41 _ 48) وحذفت ما أورده عثمان في ثناياها عن غير يحيى، وما ليس من موضوع أصحاب الزهري. (¬2) تهذيب الكمال، للمزي (32/ 491). (¬3) مسائل أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 208).

قلت: الترجيح عند الاختلاف. وأما المقارنة بين الضعفاء فتدل على التفاوت بينهم في الضعف خفة وشدة، وقد تساعد في تقدير درجة الراوي في حفظه. سئل يحيى بن معين عن المثنى بن الصباح؟ فقال: " ضعيف الحديث، هو أقوى من طلحة بن عمرو " (¬1). قلت: المثنى يعتبر به، وطلحة متروك، لكن هذه المقارنة تنبئ بتدني رتبة المثنى حتى صار يقارن بطلحة، وإن كان أقوى منه، على حد قول القائل: ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟ وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عن جويبر والكلبي؟ فقدم جويبراً، وقال: " جويبرٌ على ضعفه، والكلبي متهم " (¬2). قلت: هما متروكان، وكأن أبا داود يقول: لو كان في أحد منهما خير، ففي جويْبر. وقال الدارقطني: " مُجالد بن سعيد الكوفي ليس بثقة، يزيد بن أبي زياد أرجح منه، ومجالدٌ لا يُعتبر به " (¬3). قلت: بالغ الدارقطني في شأن مجالد، لكن المقارنة له بيزيد، ويزيد يعتبر به تجعل إمكان الاعتبار بمجالد وارداً. وقال البرقاني: سألته عن عدي بن الفضل؟ قال: " يترك "، ثم قال: " وأبو جزي نصر بن طريف أسوأ حالاً منه " (¬4). قلت: كأنه يقول: إن كان عدي متروكاً، فما بالك بأبي جزي؟ ¬

(¬1) سؤالات ابن الجُنيد (النص: 141). (¬2) سؤالات الآجري لأبي داود السجستاني (النص: 227). (¬3) سؤالات البرقاني (النص: 484). (¬4) سؤالات البرقاني (النص: 518).

المبحث السابع: أصول في جرح الرواة

المبحث السابع: أصول في جرح الرواة الأصل الأول: يثبت الجرح بقول ناقد واحد. بينت هذا في (أصول في تعديل الرواة) (¬1)، وأنه لا يطلب فيه أكثر من كفاءة الناقد. الأصل الثاني: هل يشترط لقبول الجرح أن يكون مفسراً قادحاً؟ الراوي لا يخلو إما أن يكون معدلا، أو مجروحاً، أو مختلفاً فيه، أو مسكوتاً عنه. فمن ليس فيه غير التعديل فهو عدل ما دام وصفه صادراً من أهل لذلك، وتقدم أن التعديل يكتفى فيه بالقول المجمل من عارف بالتزكية، ولا يطلب فيه التفسير لتعذر حصر أسبابه. ومن ليس فيه غير الجرح فهو مجروح بقدر ما ذكر به من الجرح إن كان بين السبب، أو كان للعبارة دلالة ظاهرة يمكن حمله عليها. والجرح ربما قدح في الراوي بسبب واحد وقف عليه الناقد، فيمكن حصره، وبهذا فارق التعديل. ¬

(¬1) الأصل الأول.

ولما كان قد يقع بما ليس بجارح على التحقيق، أو يكون جرحاً نسبياً يرد على بعض حديث الراوي لا على شخصه، كما تقدم في (المبحث الأول) من هذا الفصل، كما لا يمكن ادعاء سلامة أحد من النقاد من الوقوع في جرح الراوي بما لا يعد جارحاً في التحقيق. لذا؛ فإنه لا يجوز تأصيلاً تسليم كون الراوي مجروحاً حتى يوقف على سبب الجرح، فيتبين أنه قادح فيه أو في حديثه. فإن قلت: فماذا إذا لم يأت في الراوي إلا جرح مجمل، ولم يعدل، فهل يستعمل ذلك الجرح أم لا؟ قلت: نعم، يستعمل ذلك الجرح ما دام استعماله في حق ذلك الراوي ممكناً، بل إعماله أولى من إهماله، لصدوره من ناقد عارف، لكن لا على تسليم صحة جرح الراوي بمجرد ذلك، ولكنا حيث اشترطنا ثبوت عدالة الراوي لقبول حديثه، وأن غير ثابت العدالة لا يخلو من أن يكون مجروحاً بسبب من أسباب الجرح، أو مجهولاً، فأدنى ما ننزل عليه حال هذا الراوي أن يكون مجهولاً غير محتج به، فيكون وجه رد حديثه عدم ثبوت العدالة. وقال ابن حجر: " من جل حاله، ولم يعلم فيه سوى قول إمام من أئمة الحديث: إنه (ضعيف)، أو (متروك)، أو (ساقط)، أو (لا يحتج به)، ونحو ذلك، فإن القول قوله ولا نطالبه بتفسير ذلك، إذ لو فسره وكان غير قادح، لمنعنا جهالة حال ذلك الرجل من الاحتجاج به، كيف وقد ضعف؟ " (¬1). وقد ذهب بعض العلماء، كابن حزم، إلى اشتراط تفسير الجرح مطلقاً، حتى في مثل هذه الحالة (¬2)، وهو الأوفق للأصول. ¬

(¬1) لسان الميزان (1/ 108). (¬2) انظر: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 146).

الأصل الثالث: درجات المجروحين متفاوتة. وهذا واقع بالنظر إلى اعتبار العدالة أو الحفظ جميعاً. لكن ما رجع الجرح فيه إلى العدالة بما يتلخص لنا تحريره مما تقدم في هذا الفصل، وهو الفسق والكذب والتهمة فيه وسرقة الحديث، فهذا لا يفيد فيه تفاوت درجات المجروحين، فالجميع ساقط لا اعتبار به، وإن كان الكذب أشد من مجرد التهمة به مثلاً. أما ما رجع الجرح فيه إلى الحفظ، فتفاوت درجات المجروحين فيه مؤثر، إذ منهم من هو مطروح ساقط، ومنهم من هو صالح يعتبر به، ومنهم من ناله الوصفان بحسب حديثه، ومنهم من يحتج به في حال ويرد في حال. فهذه أربع درجات أذكرها بحسب القوة: الأولى: من يحتج به في حال، وهو سيىء الحفظ في حال أخرى. والثانية: من لا يحتج لسوء حفظه، مع ثبوت وصف الصدق له في الجملة، وهو الأكثر في الضعفاء. والثالثة: من غلب عليه الخطأ في طرف من رواياته فصار في حد من لا يعتبر به، وكان أحسن حالاً في طرف آخر، فكان فيه صالحاً للاعتبار، كما سأذكره مثاله في (الأصل الرابع). والرابعة: من بلغ به سوء الحفظ إلى أن غلب عليه الخطأ، فترك حديثه، فهذا لا يعتبر به. وكل من كان سوء حفظه لم يبلغ به حد الترك، فهو صالح الحديث للاعتبار، وإنما يسقط من حديثه في تلك الحال ما تفرد به. الأصل الرابع: الراوي يكون مجروحاً، يعتبر ببعض حديثه دون بعض. وهذا كالفرع عن الأصل السابق. وفي الضعفاء جماعة حديثهم في بعض الأحوال صالح يعتبر به، وفي

بعضها مطروح منكر، يجب على المشتغل بهذا الفن أن يلاحظ ذلك، لئلا ينزل الجرح فيهم منزلة واحدة، فيعتبر بكل حديثهم، أو يترك كل حديثهم. مثل (أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن)، قال علي بن المديني: " كان شيخاً ضعيفاً ضعيفاً، وكان يحدث عن محمد بن قيس ويحدث عن محمد بن كعب بأحاديث صالحة، وكان يحدث عن المقبري وعن نافع بأحاديث منكرة " (¬1). وقال عمرو بن علي الفلاس: " ضعيف، ما روى عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب ومشايخه، فهو صالح. وما روى عن المقبري وهشام بن عروة ونافع وابن المنكدر، فهي رديئة لا تكتب " (¬2). الأصل الخامس: الكتب المؤلفة في الضعفاء. اعتنى أئمة الحديث بتمييز المجروحين من الرواة، واختصهم طائفة كثيرة بالتصنيف، كالبخاري والجوزجاني والنسائي والعقيلي وابن عدي وابن حبان والدارقطني، ممن وصلتنا كتبهم، وفي المتأخرين: ابن الجوزي، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم. وهي مصنفات تمثل مرجعية ضرورية لمعرفة هذا الصنف من الرواة. فأما كتب البخاري والجوزجاني والنسائي والدارقطني فمختصرة. وكان أبو حاتم الرازي قد قال في عدد من الرواة ذكرهم البخاري في " الضعفاء ": " يحول "، ولا يوجد ذلك في كتاب البخاري الذي بين أيدينا، والعلة: أن الذي وصلنا للبخاري إنما هو " الضعفاء الصغير "، وله " الكبير "، والظاهر أنه محل تلك الأسماء المنتقدة من قبل أبي حاتم، وكذلك ابن عدي عن البخاري من الجرح ما لا يوجد في هذا " الصغير ". ¬

(¬1) سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني (النص: 106). (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (13/ 460 _ 461).

وأما كتاب الجوزجاني فهو معروف بـ (أحوال الرجال)، وقد اتهم بالتحيز لأهل الشام، والخصومة لأهل العراق، لذلك طعن في هذا الكتاب على جماعة من ثقات الكوفيين وأئمتهم، كما بينته في (صفة الناقد). وكتاب العقيلي كتاب نافع جداً، يذكر الراوي ويعتني بالنقل لألفاظ الجرح فيه عمن تقدمه كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري، كما يجرح من جهة نفسه، ويسوق من منكرات الراوي ما يستدل به لضعفه، لكن أخذ عليه إيراد بعض الثقات فيه، مما يوجب التحوط عند الأخذ منه. أما كتاب ابن عدي " الكامل في ضعفاء الرجال "، فهو قرة عين لكل معتن بهذا الفن، رسم فيه للنقد طريق السلف فأتى به ظاهر اً بيناً في أحسن صورة، وكاد أن تكون كل ترجمة من تراجمه بمنزلة مثل تطبيقي في نقد الرواة، يحتذيه من قصد أن يفهم منهج القوم. وقال منهجه في جمع الضعفاء: " ذاكر في كتابي هذا كل من ذكر بضرب من الضعف، ومن اختلف فيهم: فجرحه البعض، وعدله البعض الآخر، ومرجح قول أحدهما مبلغ علمي من غير محاباة، فلعل من قبح أمره أو حسنه تحامل عليه أو مال إليه، وذاكر لكل رجل منهم مما رواه ما يضعف من أجله، أو يلحقه بروايته له اسم الضعف " (¬1). وضمن كتابه هذا ما جاوز ألفين ومئتي ترجمة. وفي كتابه طائفة كبيرة من الثقات المتقنين، ذكرهم فيه لأن بعض من سبقه ذكرهم بالضعف، فحرر القول، وذب عنهم، فليس ذكره لأحدهم في هذا الكتاب بمنقص من قدر المذكور، بل هو رافع لشأنه؛ لأنه إنما أورده للدفاع منه. مع أنه ربما وجد الحرج من ذكر الثقة الحافظ في هذا الكتاب، فتراه ¬

(¬1) الكامل (1/ 78 _ 79).

يقول مثلاً في ترجمة (أحمد بن صالح المصري): " لولا أني شرطت في كتابي هذا أن أذكر فيه كل من تكلم فيه متكلم، لكنت أجل أحمد بن صالح أن أذكره " (¬1). وذكر الحافظ (أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن عقدة)، وقال: " ولم أجد بداً من ذكره؛ لأني شرطت في أول كتابي هذا أن أذكر فيه كل من تلكم فيه متكلم ولا أحابي، ولولا ذاك لم أذكره؛ للذي كان فيه من الفضل والمعرفة " (¬2). لكن أخذ على ابن عدي في كتابه أمور: أولها: ذكر رواة ثقات لم يذكرهم بطعن لا عن متقدم ولا عن نفسه. مثل (ثابت بن الوليد بن عبد الله بن جميع) (¬3)، قال الذهبي: " ذكره ابن عدي في الكامل، ولكن ما غمزه بكلمة، وساق له حديثاً واحداً محفوظ المتن. (¬4) و (حازم بن إبراهيم البجلي)، ساق له أحاديث، ولم يذكر فيه مطعناً عن أحد، ولم يجرحه بشيء، بل قال: " أرجو أنه لا بأس به " (¬5). وكان الذهبي يتعقبه بمثل ذلك، وذلك في الجملة في شيء يسير. ثانياً: ذكره الراوي الثقة بسبب كلمة لمتقدم، أجراها على معنى القدح فيه وليس الأمر كما فهم ابن عدي. وهذا نادر، مثاله (حنظلة بن أبي سفيان الجمحي)، ذكره من أجل ¬

(¬1) الكامل (1/ 302). (¬2) الكامل (1/ 339). (¬3) الكامل (2/ 298). (¬4) ميزان الاعتدال (1/ 369). (¬5) الكامل (3/ 379).

كلمة نقلها عن علي بن المديني، وقيل له: كيف رواية حنظلة عن سالم؟ فقال: " رواية حنظلة عن سالم واد، ورواية موسى بن عقبة واد آخر، وأحاديث الزهري عن سالم كأنها أحاديث نافع "، فقال رجل: يدل على أن حديث سالم كثير، قال: " أجل " (¬1). فتعقبه الذهبي بقوله: " هذا القول من ابن المديني لا يدل على غمز في حنظلة بوجه، بل هو دال على جلالته، وأنه نظير موسى وابن شهاب في حديثه عن سالم " (¬2). ثالثا: ربما وقع في " الكامل " كذلك ذكر الراوي ألصقت به بعض المنكرات، والنكارة فيها من جهة غيره في الإسناد، ولا يذكر ابن عدي الطعن في ذلك الراوي عن أحد تقدمه، والأصل أن لا يورد ذلك الراوي من أجل تلك المنكرات التي هي من جهة غيره، بل ينبغي أن يسوقها في ترجمة من أتى بها من المجروحين. وهذا مثل (الوليد بن عطاء بن الأغر)، فإنه ذكر في ترجمة حديثاً منكراً البلية فيه من الراوي عنه بإقرار ابن عدي نفسه، ولم يعبه بشيء (¬3). رابعاً: استدراك تراجم عديدة لم يذكرها، وهي من شرط كتابه. لكنه معذور في ذلك، فهو إنما ذكر ما بلغه علمه ممن تكلم فيه. ومن قارن بما استدركه الذهبي في " الميزان " ثم من جاء بعده كالعراقي وابن حجر من أسامي من تكلم فيه ممن يندرج تحت شرط ابن عدي وجد من ذلك عدداً كبيراً. وكتاب ابن الجوزي " الضعفاء والمتروكون "، لا يعتمد عليه، لما فيه ¬

(¬1) الكامل (3/ 338). (¬2) ميزان الاعتدال (1/ 620). (¬3) الكامل (8/ 361).

من تخاليط كثيرة، وخطأ في حكاية النقل عن الأئمة، واختصار مخل لعباراتهم. وللذهبي " المغني في الضعفاء "، فيه فوائد كثيرة، لكن الذهبي ربما أختصر العبارة وتصرف فيها فأخل. وفي " الميزان " بعض الشبه من هذا، ومما يؤخذ عليه فيه أنه يقول في عدد من الرواة: " لا يعرف "، وهذا إذا لم يسبق إليه، فربما كان مستنده فيه ما قاله ابن حجر عائباً ذلك منه: " إذا لم يجد المزي قد ذكر للرجل إلا راوياً واحداً جعله مجهولاً، وليس هذا بمطرد " (¬1). أما تتمة ابن حجر " لسان الميزان " فمليئة بالفائدة. وفي الجملة: يجب أن تحتاط وتحقق في الأخذ من هذه الكتب، إذ ليس بمجرد ذكر الراوي فيها تسليم للقدح فيه، كما سأذكره في فصل (اختلاف الجرح والتعديل). الأصل السادس: يطلب نقد رواة الآثار كما يطلب نقد رواة الحديث. على هذا رأينا أئمة هذا الشأن، لا يفرقون في تحقيق أهلية الراوي بين من يروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن يروي الآثار عن الصحابة والتابعين. لكن ليس هذا على معنى المساواة في قدر التشديد بين الصورتين، فإنهم إذا كانوا يفرقون فيما يرويه الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام وما يرويه في الرقائق، فتفريقهم بين ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وما يروى عن غيره أولى بالاعتبار. وإنما المقصود أنهم يخضعون الجميع للنقد، ولا يستسهلون نسبة رأي إلى صحابي أو عالم بمجرد أن وجد منسوباً إليه، بل كانوا يحققون إسناده. ¬

(¬1) تهذيب التهذيب (4/ 224 _ ترجمة: النضر بن عبد الله السلمي).

فهذا مثلاً (بزيع أبو خازم الكوفي) صاحب الضحاك بن مزاحم، ضعفوه، وقال ابن عدي: " لا يعرف في الرواة، إلا في روايته عن الضحاك بن مزاحم بحروف في القرآن، ولا أعرف له شيئاً من المسند، وإنما أنكروا عليه ما يحكي عن الضحاك في التفسير، فإنه يعرف عن الضحاك بتفسير لا يأتي به غيره، ولا أعرف له مسنداً " (¬1). * * * ¬

(¬1) الكامل (2/ 241).

الفصل الرابع تفسير الجهالة

الفصل الرابع تفسير الجهالة

المبحث الأول: من هو الراوي المجهول؟

المبحث الأول: من هو الراوي المجهول؟ عرف الخطيب (المجهول) بقوله: " المجهول عند أصحاب الحديث هو: كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد عنه " (¬1). قلت: وفي هذا نظر، فإنا وجدنا العدالة أثبتها أهل الشأن لرواة لم يشتهروا بالعلم، ولم يعرفوا إلا من جهة راو واحد عن أحدهم. والتحقيق أن الجهالة باعتبار مقابلتها في هذا العلم للعدالة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: جهالة عين ولها صورتان: الأولى: كون الراوي لا يسمى، كأن يأتي في الإسناد: (عن رجل). والثانية: أن يسمى، لكن لم يعرف عنه سوى اسمه من جهة تلميذ واحد روى عنه لا يروي عنه غيره، ولم يعرف ذلك التلميذ بالتحري فيمن يروي عنهم، ولا يدري أحد من أهل الحديث من يكون ذلك الراوي. ¬

(¬1) الكفاية، للخطيب البغدادي (ص: 149).

القسم الثاني: جهالة حال

ويطلق على هذا النوع من الرواة وصف: (مجهول)، و: (لا يعرف)، و: (لا يدرى من هو)، و: (نكرة). وهذا الصنف من الرواة يوجد عن أحدهم في العادة الحديث والحديثان والشيء اليسير. وهل يدخل في هذه الصورة الصحابة؟ قال الحاكم: " المحدث إذا لم يعرف شخصه، لم يكن له أن يروى عنه بإجماع الأمة " (¬1). قلت: وهذا بعمومه يتناول الصحابة، وللحاكم قول أبين من هذا ذكرته في الكلام على جهالة الصحابي في (تفسير التعديل)، وبينت هناك أن الصحابي مستثنى مما يطلب لإثبات العدالة في غيره، وكل ما هو مطلوب لقبول حديثه صحبته، ولو لم يسم. القسم الثاني: جهالة حال ولها صورتان: الأولى: كون الراوي معروفاً برواية أكثر من واحد عنه. والثانية: روى عنه واحد، لكن انضمت إليه قرينة زادت من قدر العلم به، كمجيء ذكره في خبر لا في إسناد، أو أن يكون العلم به وبحديثه جاءنا من رواية ثقة عنه لم يعرف بالرواية عن المجروحين، كإبراهيم النخعي، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح. لكنه مع العلم بوجوده وارتفاع جهالة عينه فإنه لم تثبت أهليته في الحديث. ¬

(¬1) سؤالات مَسعود السجزي للحاكم (النص: 288).

نعم، تثبت له العدالة الدينية بذلك على ما تقدم في (التعديل). ويطلق على هذا النوع من الرواة وصف: (مجهول الحال)، وربما أطلق بعض علماء الجرح والتعديل وصف: (مجهول) ويعنون هذا المعنى، كما يقع من أبي حاتم الرازي. ويوصف هذا أيضاً بـ (المستور). وزوال الراوي بجهالة الحال إنما يكون باختبار حديثه وتبين حفظه وإتقانه بذلك، وهو الطريق الذي سلكه أئمة الحديث للحكم على الرواة، فإن ثبت حفظه فهو ثقة أو صدوق، وإن تبين سوء حفظه نزل على ما يناسبه من الأصاف. وقد لا يتهيأ للناقد تبين حال الراوي إذا كان لم يرو إلا القليل من الحديث، فيثبت له الوصف بالجهالة الموجبة لرد حديثه، حتى تندفع عنه شبهة الضعف بالمتابعة. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: سألته عن عطاء العطار؟ فقال: " روى عنه حماد بن سلمة، وهشام بن حسان " فقلت: كيف حديثه؟ فقال: " كم روى؟! شيئاً يسيراً " (¬1). وقال ابن عدي في (عمران بن عبد الله البصري): " غير معروف، وأنكر عليه البخاري الحديث الواحد في التسبيح، وإذا كان الرجل غير معروف بالروايات؛ فإنه يقع في حديثه المناكير " (¬2). وقال البخاري في (قيس أبي عمارة الفارسي): " فيه نظر " (¬3)، فقال ابن ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل (النص: 786). (¬2) الكامل (6/ 173). (¬3) التاريخ الأوسط (2/ 108).

عدي: " هذا الذي أشار إليه البخاري إنما هو حديث واحد، وليس الذي يبين من الضعف في الرجل وصدقه إذا كان له حديث واحد " (¬1). وقال ابن عدي في (سلم العلوي): " قليل الحديث جداً، ولا أعلم له جميع ما يروي إلا دون خمسة أو فوقها قليلاً، وبهذا المقدار لا يعتبر فيه حديثه أنه صدوق أو ضعيف، ولا سيما إذا لم يكن في مقدار ما يروي متن منكر " (¬2). * * * ¬

(¬1) الكامل (7/ 171). (¬2) الكامل (4/ 352).

المبحث الثاني: جهالة الراوي سبب لرد حديثه

المبحث الثاني: جهالة الراوي سبب لرد حديثه الجهالة سبب لرد حديث الراوي، ما لم تثبت استقامة حديثه ذلك. وهذا قديم عند أهل العلم أنهم لا يحتجون بحديث المجهول. قال عبد الله بن عون: " لا نكتب الحديث إلا ممن كان عندنا معروفاً بالطلب " (¬1). وقال الشافعي: " لا نقبل خبر من جهلناه، وكذلك لا نقبل خبر من لم نعرفه بالصدق وعمل الخير " (¬2). وقال: " من حدث عن كذاب لم يبرأ من الكذب، ولا يقبل الخبر إلا ممن عرف بالاستئهال لأن يقبل خبره، ولم يكلف الله أحداً أن يأخذ دينه عمن لا يعرف " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 28) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 405) وابنُ عدي (1/ 257) والخطيب في " الكفاية " (ص: 251) من طريق إبراهيم بن المنذر الحِزامي، قال: سمعت أيوب بن واصل يقول: سمعت عبد الله بنَ عون، به. وإسناده حسن. (¬2) اختلاف الحديث (ص: 45). (¬3) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 207) وإسناده صحيح، والمعنى لهذا القوْل عن الشافعي أيضاً في " الرسالة " (ص: 376 _ 377).

وقال: " كان ابن سيرين والنخعي وغير واحد من التابعين يذهب هذا المذهب، في أن لا يقبل إلا عمن عرف، وما لقيت ولا علمت أحداً من أهل العلم بالحديث يخالف هذا المذهب " (¬1). وقال البيهقي: " لا يجوز الاحتجاج بأخبار المجهولين " (¬2). وقال الذهبي: " لا حجة فيمن ليس بمعروف العدالة، ولا انتفت عنه الجهالة " (¬3). وقال ابن رجب: " ظاهر كلام الإمام أحمد أن خبر مجهول الحال لا يصح ولا يحتج به " (¬4). قلت: وقد جرح الأئمة بالجهالة، وردوا بها الكثير من الحديث. فمن أمثلته (هبيرة بن يريم الشيباني)، تابعي تفرد بالرواية عنه أبو إسحاق السبيعي، قال ابن أبي حاتم الرازي: سألت أبي عنه قلت: يحتج بحديثه؟ قال: " لا، هو شيبة بالمجهولين " (¬5). وهذا ابن عدي أدخل في المجروحين جماعة من المجهولين كانت حجته تعود تارة إلى نكارة حديثهم، وتارة إلى قلة الرواية بحيث لا يتبين من مقدارها استقامة ما رووا، فمن كلامه: قوله في (إبراهيم بن عبد السلام المخزومي): " ليس بمعروف، حدث بالمناكير، وعندي أنه يسرق الحديث " (¬6). ¬

(¬1) الأم (12/ 369). (¬2) الخلافيات (2/ 178 _ 179). (¬3) ميزان الاعتدال (2/ 234). (¬4) شرح علل الترمذي (1/ 347). (¬5) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 109 _ 110). (¬6) الكامل في ضعفاء الرجال (1/ 419).

وقوله في (إبراهيم بن هانئ) شيخ لبقية بن الوليد: " ليس بالمعروف، يحدث عنه بقية، ويحدث إبراهيم هذا عن ابن جريج بالبواطيل " (¬1). وقوله في (إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي): " ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة " (¬2). وقوله في (بشير بن زياد الخراساني): " غير مشهور، في حديثه بعض النكرة " وقال: " ليس بالمعروف، إلا أنه يروي عن المعروفين ما لا يتابعه أحد عليه، ولم أجد أحداً يروي عنه غير إسماعيل بن عبد الله بن زرارة " (¬3). وقوله في (بكر بن يزيد المدني): " ليس بمعروف، ولا أعلم يروي عنه غير القعنبي (¬4)، وهو مجهول من أهل المدينة، والقعنبي أصله من المدينة سكن البصرة، ويروي عن قوم من أهل المدينة غير معروفين، لا يروي عنهم غيره " (¬5). وقال مثل هذا في (بهلول بن راشد) (¬6)، و (سليمان بن أبي خالد البزار) (¬7)، و (سليط بن مسلم) (¬8) , و (عبد الله بن سليمان) (¬9)، وهؤلاء جميعاً روى عنهم القعنبي. وقوله في (تمام بن بزيع السعدي): " ليس بالمعروف، ولا يحدث عنه من البصريين غير محمد بن أبي بكر المقدمي، وهو قليل الحديث " (¬10). ¬

(¬1) الكامل (1/ 421). (¬2) الكامل (1/ 422). (¬3) الكامل (2/ 183). (¬4) هوَ عبد الله بن مسلمة القعنبي. (¬5) الكامل (2/ 201). (¬6) الكامل (2/ 251). (¬7) الكامل (4/ 295). (¬8) الكامل (4/ 549). (¬9) الكامل (5/ 430). (¬10) الكامل (2/ 279).

وقوله في (الحسن بن عبد الله الثقفي): " ليس بمعروف، منكر الحديث "، وقال بعد أن ذكر له حديثين: " وهذان الحديثان بهذا الإسناد منكران، ولا أعلم أنّ للحسن بن عبد الله الثقفي غيرهما، وإن كان للحسن رواية غير ما ذكرته يكون مثل ما ذكرته في الإنكار " (¬1). وقوله في (محمد بن عباد بن سعد) شيخ لمعن بن عيسى: " ليس بالمعروف، ومعن يحدث عن قوم ٍ من أهل المدينة ليسوا هم بمعروفين " (¬2). وكذلك صنع العقيلي، فمن كلامه في جماعة من المجهولين: قوله في (إياس بن أبي إياس): " مجهول، حديثه غير محفوظ " (¬3). وقوله في (إبراهيم بن زكريا الواسطي): " مجهول، وحديثه خطأ " (¬4). وقوله في (إبراهيم بن عبد الرحمن الجبلي): " ليس بمعروف في النقل، والحديث غير محفوظ " (¬5). وقوله في (بلهط بن عباد): " مجهول في الرواية، حديثه غير محفوظ، ولا يتابع عليه " (¬6). وقوله في (الحسن بن علي الهمداني): " مجهول، لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به " (¬7). وهكذا رأيت من صنيع ابن حبان، لكن على خطته فيمن لم يرو عنه إلا مجروح، فمن كلامه: قوله في (عبد الله بن أبي ليلى الأنصاري)، وذكر له أثراً عن علي بن ¬

(¬1) الكامل (3/ 167 _ 168). (¬2) الكامل (7/ 478). (¬3) الضعفاء، للعُقيلي (1/ 35). (¬4) الضعفاء (1/ 53). (¬5) الضعفاء (1/ 56). (¬6) الضعفاء (1/ 166). (¬7) الضعفاء (1/ 235).

أبي طالب: " من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة ": " هذا شيء لا أصل له عن علي، .. وابن أبي ليلى هذا رجل مجهول، ما أعلم له شيئاً يرويه عن علي غير هذا الحرف المنكر الذي يشهد إجماع المسلمين قاطبة ببطلانه .. " (¬1). وقوله في (عبد الله بن زياد سليم القرشي): " شيخ مجهول، يروي عن عكرمة، روى عنه بقية بن الوليد، لست أحفظ له راوياً غير بقية " وذكر له من تفرده ما لا يحتمل (¬2). وقوله في رجل يقال له: (أبو زيد): " يروي عن ابن مسعود ما لم يتابع عليه، ليس يدري من هو، لا يعرف أبوه ولا بلده، والإنسان إذا كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبراً واحداً خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس والنظر والرأي يستحق مجانبته فيها، ولا يحتج به "، وذكر له حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بالنبيذ (¬3). وكذلك الشأن عند الدارقطني، فجرح جماعة بقوله في أحدهم: " مجهول يترك " أو " مجهول متروك ". قال ذلك في: إسحاق بن عمر، يروي عن عائشة (¬4)، وفي: علي بن أبي فاطمة، يحدث عن يونس بن بكير (¬5)، وفي: عمرو بن أبي نعيمة المعافري (¬6)، وحابس اليماني، يروي عن أبي بكر الصديق (¬7) وفي: ¬

(¬1) المجروحين، لابن حبان (2/ 5). (¬2) المجروحين (2/ 17). (¬3) المجروحين (3/ 158). (¬4) سؤالات البرقاني (النص: 28). (¬5) سؤالات البرقاني (النص: 367). (¬6) سؤالات البرقاني (النص: 372). (¬7) سؤالات البرقاني (النص: 112).

يزيد بن زيد مولى أبي أسيد البدري (¬1)، وفي: أبي مريم الثقفي، يروي عن عمار بن ياسر (¬2). وهذا الذي ذكرت يوضح منهجاً مشتركاً عند هؤلاء الأئمة، هو: أن الراوي يكون مجهولاً ويأتي بالحديث بما لا يعرف وجهه إلا من طريقه، ولكون الشبهة في ضعفه قد قويت من جهة ما تفرد به إسناداً أو متناً أو كليهما، فقد صار في عداد المجروحين. ولا يلحق بالثقات إلا من ثبت تحديثه بالمحفوظ من الحديث دون غيره من أولئك المجهولين. * * * ¬

(¬1) سؤالات البرقاني (النص: 551). (¬2) سؤالات البرقاني (النص: 587).

المبحث الثالث: أصول في الراوي المجهول

المبحث الثالث: أصول في الراوي المجهول الأصل الأول: مجاهيل التابعين أرفع ممن بعدهم لندرة الكذب يومئذ. هذا الأصل بالنظر إلى ندرة ما ينكر من أحاديث من أحاديث تلك الطبقة، على أن هذا لا يدل على قبول حديث من كان كذلك منهم، إنما المقصود تفاوت أثر النعت بالجهالة فيما بينهم وبين من بعدهم. قال عروة بن الزبير، وهو معدود في الطبقة الثانية من التابعين: " إني لأسمع الحديث فأستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به، وأسمعه من الرجل أثق به حدثه عمن لا أثق به " (¬1). قال ابن عبد البر: " في خبر عروة هذا دليل على أن ذلك الزمان كان يحدث فيه الثقة وغير الثقة " (¬2). وهكذا جاء عن غير واحد من التابعين أنهم لم يكونوا يقبلون الحديث إلا عمن ثبت عندهم أنه ثقة. ¬

(¬1) أخرجه الشافعي في " الأم " (12/ 368) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 73، 210) وابنُ عبد البر في " التمهيد " (1/ 38، 39) وإسناده صحيح. (¬2) التمهيد (1/ 39).

قال الشافعي: " وما زال أهل الحديث في القديم والحديث يثبتون، فلا يقبلون الرواية التي يحتجون بها ويحلون بها ويحرمون بها إلا عمن أمنوا " (¬1). لكن لو قارنت بين مجاهيل التابعين والمجاهيل بعدهم، وجدت أكثر من بقي له نعت الجهالة فيمن بعدهم قد روي عنه من الحديث ما عدت الآفة فيه منه، كشيوخ بقية بن الوليد وغيره ممن كانوا يروون عن المجهولين الأحاديث المنكرة. سئل أبو حاتم الرازي عن حديث رواه بقية بن الوليد، عن أبي سفيان الأنماري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب عن عثمان، عن النبي صلى الله وسلم توضأ وخلل لحيته؟ فقال أبو حاتم: " هذا حديث موضوع، وأبو سفيان الأنماري مجهول " (¬2). قلت: الأنماري هذا من طبقة أتباع التابعين، أتى بهذا الإسناد النظيف الذي لا يعرف عن غيره، فلظهور نكارة الإسناد والجزم بكونه باطلاً أن يروي به هذا الحديث، حمل هذا المجهول تبعته. الأصل الثاني: المجهولات من النساء. يقل في النساء من روين الحديث ويقل فيمن رواه منهن من عرفن، ومن عرفن فقد عرفن بالثقة، وندر في النساء من جرحت بسبب من أسباب الجرح المتقدمة، لكن أكثرهن مجهولات. وأكثر من ذكرن بالرواية منهن كن من الطبقات المتقدمة، من الصحابيات ومن قرب من عهدهن. ¬

(¬1) الأم (12/ 368). (¬2) علل الحديث (رقم: 180).

ولعل ما ذكرت من غلبة الجهالة على النساء أنهم لم يكونوا يرغبون في الرواية عنهن؛ لأنها رواية عن المجهولات. قال أبو هاشم الرماني: " كانوا يكرهون الرواية عن النساء، إلا عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم " (¬1). وقال شعبة بن الحجاج: " كنت إذا أتيت الكوفة يسألني الأعمش عن حديث قتادة، فقلت له يوماً: حدثنا قتادة عن معاذة، قال: عن امرأة؟! اغرب، اغرب! " (¬2). وقال أبو الحسن ابن القطان: " أحاديث النساء متقاة محذور منها قديماً من أئمة هذا الشأن، إلا المعلومات منهن الثقات، فأما هؤلاء الخاملات القليلات العلم، اللاتي إنما اتفق لهن أن روين أحاديث آبائهن أو أمهاتهن أو إخوانهن أو أخواتهن أو أقربائهن بالجملة .. فإن الغالب في هؤلاء أنهن من المستورات كمساتير الرجال، فأما مثل عمرة بنت عبد الرحمن وعائشة بنت طلحة وصفية بنت شيبة وأشباههن من ثقاتهن، فلا ريب في وجوب قبل روايتهن " (¬3). وعقد الذهبي في أواخر كتابه " ميزان الاعتدال " فصلاً قال فيه: " فصل في النسوة المجهولات، وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها " (¬4). قلت: وهذا يدل على خفة تأثير ذلك في حديثهن. ¬

(¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل ومعرفة الرجال " (النص: 4956) بإسنادٍ صحيح، وأبو هاشم هذا ثقةٌ فقيه يروي عن التابعين. (¬2) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 146) وإسناده صحيح. ومُعاذةُ هيَ العدوية، تابعيةٌ ثقةٌ. (¬3) بيان الوهم والإيهام (5/ 146). (¬4) ميزان الاعتدال (4/ 604).

الأصل الثالث: قول الراوي: (حدثني الثقة) أو: (حدثني من لا أتهم) ولا يسمي ذلك الشيخ، فهل يعتد بهذا التعديل؟ عدم تسمية الراوي، أو عدم ذكر ما يتميز به شخصه، فيمن دون الصحابة من الرواة، لا يرفع من أمره شيئاً أن يقول الراوي عنه: (حدثني الثقة) أو: (حدثني من لا أتهم)، حتى وإن كان ذلك الراوي معدوداً فيمن يميز النقلة. وذلك أنا نعلم أن النقاد يختلفون في النقلة، فربما لو سمى ذلك الراوي شيخه لكن مجروحاً بقادح عند غيره من أئمة الحديث. قال العلائي: " والذي عليه أكثر المحققين: أنه لا يكتفى بقول الراوي: حدثني الثقة، من غير ذكر اسمه، فإنه إذا صرح باسمه وعرفناه زال ذلك الاحتمال إذا لم يظهر فيه جرح بعد البحث " (¬1). بل إن عدوله عن تسمية شبهة في أنه ربما علم أنه لو سماه لرد أهل العلم روايته. ومن أمثلة قول الناقد: قول الشافعي: " أخبرنا الثقة عن فلان " ويسمي شيخ ذلك الثقة عنده. فالشافعي ممن له دراية بالنقلة، لكنا لا نقبل منه قوله في شيخه المبهم: " الثقة " دون أن يسميه، فإنه روى عن بعض الشيوخ المجروحين، ومن أبرزهم إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، وهو متروك عند سائر كبار النقاد، ومعروف أن الشافعي كان يوثقه. أما ما جاء عن بعض أهل العلم في تعيين المراد ببعض من أرادهم الشافعي بذلك، فذلك مما لا يمكن القطع به، بل الظاهر أنه أجري على مجرد الاحتمال. ¬

(¬1) جامع التحصيل (ص: 106).

وذلك مثل ما حكى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: " جميع ما حدث به الشافعي في كتابه فقال: حدثني الثقة، أو: أخبرني الثقة، فهو أبي " (¬1). فهذا حصر غير دقيق، بل حدث الشافعي عن الثقة عنده عن جماعة من الرواة لم يدركهم أحمد بن حنبل، مثل: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وابن شهاب الزهري، وحميد الطويل ويحيى بن أبي كثير ويونس بن عبيد، وأيوب السختياني، وهشام بن عروة، وسفيان الثوري، وغيرهم. نعم، حدث عن الثقة عنده عن جرير بن عبد الحميد، وإسماعيل بن علية، وهذان من شيوخ أحمد. وحاول بعض أهل العلم أن يبسط ذلك، فذكر أن قول الشافعي: " عن الثقة عن الليث بن سعد " هو يحيى بن حسان، و " عن الثقة عن أسامة بن زيد " هو إبراهيم بن أبي يحيى، و " عن الثقة عن حميد الطويل " هو إسماعيل بن علية، و " عن الثقة عن معمر " هو مطرف بن مازن، و " عن الثقة عن الوليد بن كثير " هو أبو أسامة حماد بن أسامة، و " عن الثقة عن الزهري " هو سفيان بن عيينة (¬2). وهذا إضافة إلى كونه لم يستغرق كل من قاله فيه الشافعي: " عن الثقة "، فهو مقول بالظن، ويبدو أن مستنده يرجع إلى تفقده من عرف بالرواية عن ذلك الشيخ ممن أدركهم الشافعي وأخذ عنهم، وهذا لا يصح أن يكون مقياساً لتعيين هؤلاء. ثم رأيت أن فيهم من هو ثقة كابن علية وأبي أسامة، وفيهم من هو مجروح كابن أبي يحيى ومطرف بن مازن. ¬

(¬1) أخرجه أبو نُعيم في " الحلية " (9/ 182) بإسناد صحيح، وهوَ في " العلل " لأحمد (النص: 1082) و " آداب الشافعي " لابن أبي حاتم (ص: 96)، ونصه: " وكلُّ شيْءٍ في كتب الشافعي: حدثني الثقة عن هُشيْم، وغيره، هو أبي ". (¬2) انظر: مناقب الشافعي، للبيهقي (1/ 533)، تعجيل المنفعة، لابن حجر (2/ 626 _ 627).

فالصواب من القول: أن هذه العبارة من الشافعي لا ترتفع من شأن ذلك الراوي، بل أمره باق على الجهالة، وكأن قوله: " أخبرنا الثقة " بمنزلة قوله: " أخبرنا رجل ". ومالك بن أنس أعرف بالحديث ورجاله من الشافعي، واستعمل هذه الصيغة في مواضع من " الموطأ "، وكذلك اجتهد بعض العلماء لتمييز المراد (¬1)، وليس في ذلك شيء يقطع به، إلا أن يراد الحديث ذاته من طريق أخرى صحيحة إلى مالك يصرح فيها باسم ذلك المبهم. ومن أمثلة قول الراوي الثقة الذي لا يعد فيمن يعتمد قوله في الرجال: قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي: " حدثني من لا أتهم "، فإنه جاء بأخبار كثيرة في السير يرويها بمثل هذه الصيغة، ومعروف أن ابن إسحاق يروي عن المجهولين والمتروكين (¬2)، وليس معدوداً فيمن يميز المتقنين من النقلة من غيرهم، وإذا كنا لم نعتد بمثل ذلك القول من الشافعي، فكيف يغني شيئاً من مثل ابن إسحاق؟ ‍‍‍‍! والقول بترك الاعتماد على مثل هذا التعديل المبهم هو الذي رجحه الخطيب من أئمة الحديث (¬3) وأبو بكر الصيرفي من أئمة الأصول، وذلك خلافاً لإمام الحرمين ومن تبعه (¬4). الأصل الرابع: قول الناقد في الراوي: " لا أعرفه ". وقع استعمال هذا اللفظ بمعنى: " مجهول " في كلام كثير من نقاد ¬

(¬1) انظر: الجرح والتعديل، ترجمة (مَخرمة بن بكَير) (4/ 1 / 363)، وتعجيل المنفعة (2/ 625). (¬2) وفسَّر مرةً قوله: " حدثنا من لا أتهم " بأنه عنى الحسن بن عُمارة، وهوَ متروك، (انظر: الروْضً الأنف، للسهلي 6/ 43). (¬3) الكفاية (ص: 531). (¬4) جامع التحصيل، للعلائي (ص: 95، 96).

المحدثين، ومن أكثرهم استعمالاً له في المجاهيل: الإمامان يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي. لكن ينبغي أن تعلم أن تلك الجهالة إنما هي بالنسبة إلى علم ذلك الناقد، لا مطلقاً، فإن خفاء حال الراوي على ناقد وإن كان ذلك الناقد كيحيى بن معين، لا يلزم منه أن يكون مجهولاً عند غيره، فابن معين إنما يخبر عن علمه. مثال ذلك أنه سئل عن (إبراهيم بن محمد الشافعي) فقال: " لا أعرفه، زعموا أنه ليس به بأس " (¬1). كذا قال يحيى، والرجل مشهور بالعلم، روى عنه كثيرون، وكان ثقة، وإنما يبلغ يحيى من أمره ما يمكنه من الحكم على شخصه، فقال: " لا أعرفه ". وقد يعرف حديثه ويميزه فيثني عليه فيه، لكنه لا يدري من يكون ذلك الراوي. نقل عبد الخالق بن منصور قال: سألت يحيى بن معين عن (حاجب، يعني ابن الوليد) فقال: " لا أعرفه، وأما أحاديثه فصحيحة "، فقلت: ترى أن أكتب عنه؟ فقال: " ما أعرفه، وهو صحيح الحديث، وأنت أعلم " (¬2). ويشبه أن يكون الخطيب بنى على ذلك، فقال في (حاجب): " كان ثقة ". وقال أبو داود السجستاني في (العلاء بن خالد الأسدي): " ما عندي من علمه شيء، أرجو أن يكون ثقة " (¬3). ¬

(¬1) معرفة الرجال، رواية ابن محرز (1/ 75). (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخ بغداد " (8/ 271) بإسناد حسن. (¬3) سؤالات الآجري (النص: 143).

والرجل صدوق جيد الحديث. وما فسر به بعض العلماء قول يحيى بن معين في بعض المواضع: " لا أعرفه " بكون ذلك الراوي (مجهولاً)، فهو صحيح بحسب ما وافق من حال ذلك الراوي، حيث اجتمعت فيه أسباب الوصف بالجهالة. وذلك كقول يحيى في (محمد بن عباد بن سعد): " لا أعرفه "، فقال ابن أبي حاتم: " يعني لأنه مجهول " (¬1). وكقوله في (أبي يزيد الطحان) الذي يروي عنه أحمد بن يونس: " لا أعرفه " (¬2)، فقال ابن عدي: " ابن يونس يروي عن غير واحد ممن يكنيهم ولا يعرفون، فلهذا قال ابن معين: لا أعرفه " (¬3). أما قول ابن عدي في ترجمة (عبد الرحمن بن آدم) الذي قال فيه ابن معين: " لا أعرفه ": " إذا قال مثل ابن معين: لا أعرفه، فهو مجهول غير معروف، وإذا عرفه لا يعتمد على معرفة غيره؛ لأن الرجال بابن معين تسبر أحوالهم " (¬4)، فهذا تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: " لا يتمشى في كل الأحوال، فرب رجل لم يعرفه ابن معين بالثقة والعدالة، وعرفه غيره، فضلاً عن معرفة العين، فلا مانع من هذا " (¬5). قلت: وهذا الذي قاله الحافظ هو الصواب، وإنما أخبر ابن معبن بحسب علمه، وفيمن لم يعرفهم جماعة من الثقات، وابن عدي نفسه لم يسلم لابن معين قوله ذلك في جماعة، منهم: الجراح بن مليح البهراني (¬6)، ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 15). (¬2) تاريخ الدارمي (النص: 968). (¬3) الكامل (9/ 197). (¬4) الكامل (5/ 485). (¬5) تهذيب التهذيب (2/ 527) ترجمة: عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أمير الأندلس. (¬6) تاريخ الدارمي (النص: 214) الكامل (2/ 410)، وابن مَعين لم يعرفه في رواية الدارمي، لكن عرَفه في رواية الدوري فقال: " ليس به بأسٌ " (تاريخه، النص: 5357).

وحاتم بن حريث الطائي (¬1)، وسفيان بن عقبة (¬2)، وعلل ابن عدي في غير موضع قول ابن معين في الراوي يسأل عنه: (لا أعرفه) بقلة حديث ذلك الراوي (¬3)، وهذا صواب فمثل ابن معين لا يخفاه أمر راو معروف برواية الحديث، إنما يقع مثل ذلك في راو يذكر بالحديث والحديثين ونحو ذلك، فلا يخبر أمره. كما قال أبو حاتم الرازي: سألت يحيى بن معين عن (سعيد بن سلمة المديني) فلم يعرفه، قال ابنه عبد الرحمن: " يعني فلم يعرفه حق معرفته " (¬4). وقال يحيى في (صدقة بن أبي عمران): " لا أعرفه "، فقال ابن أبي حاتم: " يعني لا أعرف حقيقة أمره "، وهو شبه ما نقله عن أبيه أبي حاتم في حق (صدقة) هذا، قال: " صدوق، شيخ صالح، ليس بذاك المشهور " (¬5). وقالها يحيى في (قدامة بن كلثوم)، فقال ابن أبي حاتم: " لم يعرفه؛ لأنه كان مجهولاً " (¬6)، ونحو ذلك في ترجمة (قرة بن أبي الصهباء) (¬7)، وقالها يحيى في (محمد بن ذكوان أبي صالح السمان أخي سهيل)، فقال ابن أبي حاتم: " يعني لا أخبره " (¬8). والمقصود أن هذه العبارة لا تعني الجهالة إلا عند قائلها، فإذا فقدنا معها التعديل أو الجرح المعتبرين صرنا إلى وصف ذلك الراوي بالجهالة. ¬

(¬1) تاريخ الدارمي (النص: 287) الكامل (3/ 371). (¬2) تاريخ الدارمي (النص: 370) الكامل (4/ 475). (¬3) كما قال ذلك في: الأصبغ بن سفيان، وعاصم بن سُويد الأنصاري، ومحمد بن عبد العزيز التميمي، وأبي سلَمة مولى بني ليث. (¬4) الجرح والتعديل (2/ 1 / 29). (¬5) الجرح والتعديل (2/ 1 / 433). (¬6) الجرح والتعديل (3/ 2 / 129). (¬7) الجرح والتعديل (3/ 2 / 130). (¬8) الجرح والتعديل (3/ 2 / 252).

الأصل الخامس: توضيح طريقة أبي حاتم الرازي في الحكم بجهالة الراوي. الإمام أبو حاتم تعرض للكلام في النقلة على سبيل التصنيف المستوعب، وذلك فيما كان يعرضه عليه ولده عبد الرحمن من أسمائهم يسأله عنهم، إذ كتابه الفذ " الجرح والتعديل " يكاد يكون من تصنيف أبي حاتم نفسه. فنجد كثيراً من الرواة يحكم عليهم أبو حاتم بالجهالة، فيقول تارة وهو الأكثر: (مجهول)، وتارة: (لا أعرفه)، وربما قال: (لا يعرف)، كما يقول في الراوي: (غير مشهور)، وربما أضاف إلى ذلك كلمة (شيخ) وهي في هذا السياق مضمومة إلى غيرها لا تدل على شيء في جرح الراوي أو تعديله. وقد تأملت طريقة أبي حاتم في أولئكم الرواة، فوجدت الأصل في نظره يقوم على اعتبار مقدار ما روى ذلك الراوي، ونوع مرويه مسنداً أو مرسلاً، مرفوعاً أو غير مرفوع، مع ملاحظة طريق العلم به وبروايته، وذلك بالنظر إلى من روى عنه. فعامة من وصفهم بالجهالة ممن لم يبلغه من حديثهم إلا الحديث الواحد، أو اليسير جداً، أو الأثر عن صحابي قولا أو فعلاً، فذلك المروي إن كان معروفاً من طريق محفوظ وجدته أثنى على حديث ذلك الراوي دون شخصه، وهذا كثير منثور في الكتاب، وربما وصفه بالجهالة مع تقوية حديثه، كقوله مثلاً في (أحمد بن إبراهيم أبي صالح الخراساني): " شيخ مجهول، والحديث الذي رواه صحيح " (¬1)، وقال في (سعيد بن محمد الزهري): " ليس بمشهور، وحديثه مستقيم، إنما روى حديثاً واحداً " (¬2). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 39). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 1 / 58).

بينما في آخرين تفردوا بالحديث والحديثين، ولا يعرف لهم غير ذلك، يزيد إلى وصف الجهالة جرح ذلك الراوي في حديثه، كقوله في (زياد بن عبيد الكوفي): " مجهول، والحديث الذي رواه باطل " (¬1)، وفي (زرعة بن عبد الله بن زياد الزبيدي) شيخ لبقية بن الوليد: " شيخ مجهول، ضعيف الحديث " (¬2). والراوي لا يعرف إلا من طريق رجل مجروح يقول فيه: (مجهول)، مثل قوله في (عبد العزيز بن أبي معاذ): " شيخ مجهول، لا يدري من هو " وذلك أنه لم يعرف إلا من رواية مسلمة بن الصلت عنه، ومسلمة هذا متروك الحديث. وقد تكون علة الراوي من جهة أنه لم يعرف حديثه إلا من روايته عمن هو معروف بالجرح، كقول أبي حاتم في (وافد بن سلامة) يروي عن يزيد الرقاشي، روى عنه محمد بن عجلان وعبد الله بن وهب: " هو يروي عن الرقاشي، فما يقال فيه؟ "، قال ابنه عبد الرحمن: " يعني أن الرقاشي ليس بقوي، فما وجد في حديثه من الإنكار يحتمل أن يكون من يزيد الرقاشي " (¬3). ورأي أبي حاتم بحسب ما بلغه من العلم في شأن الراوي، وقد يخالف في ذلك، فالراوي عنده مقل من الحديث، ولم يبلغه من الرواة عنه إلا الراوي الواحد، فيحكم بجهالته، ويكون غيره قد اطلع على أكثر من ذلك فيعدله أو يجرحه. كما قال في (شعيب بن يحيى التجيبي المصري): " شيخ، ليس بالمعروف " (¬4). وذلك أنه ذكر أنه روى عن عبد الجبار بن عمر، وعنه عبد الرحمن بن عبد الحكم. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 539). (¬2) الجرح والتعديل (1/ 2 / 606). (¬3) الجرح والتعديل (4/ 2 / 50). (¬4) الجرح والتعديل (2/ 1 / 353)، وعلل الحديث (2/ 248).

والصواب أنه مشهور كثير الحديث، حديثه معروف في أهل بلده، روى عن الليث بن سعد وابن لهيعة ويحيى بن أيوب، وروى عنه بكر بن سهل الدمياطي، وخرج له الطبراني في " معجميه " حديثاً كثيراً عنه، وكذلك روى عنه الربيع بن سليمان، وزيد بن بشر ن وغيرهم، فأبو حاتم قال ذلك القول بحسب ما بلغه عن هذا الرجل. وقال أبو حاتم في (يحيى بن أبي زكريا أبي مروان الغساني): " شيخ ليس بمشهور " (¬1)، وله في البخاري في أربعة مواضع متابعات، وله غيرها، بل وقفت له على ثلاثة عشر حديثاً، نعم، بعضها لا يثبت، لكنها تدل على أن الرجل معروف، وروى عنه جماعة من الثقات. وقال في (عبد الرحمن بن الحارث السلامي): " شيخ مجهول، لا أعلم روى عنه غير هشام، وأرى حديثه مقارباً " (¬2) , مع أنه روى عنه أيضاً الحكم بن موسى، والرجل معروف عند أهل الشام، نعم كان قليل الرواية. لكن هذا إذا قارنت مقدار صواب أبي حاتم فيه بمقدار ما فاته منه، وجدت ما فاته منه قليلاً. والذي تحرر لي في الجملة: أن مذهب أبي حاتم في وصف الراوي بالجهالة لا يخرج عما هو معروف من مسالك غيره من أهل العلم بالحديث. وعليك أن تعلم أنه رحمه الله، لم يراع التمييز بين جهالة الحال والعين، بل هذا الطريق لم يكن متميزاً في كلامهم يومئذ، ولذا فإنه قد يقول: (مجهول) في مجهول العين الذي لا يدري من هو، ولم يعرف ذكره إلا من رواية واحد عنه، وقد يكون ذلك الراوي عنه مجروحاً أو مجهولاً ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 146). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 225)، وهشام المذكور هو ابن عمار.

مثله، ويقولها كذلك في مجهول الحال، وهو الذي عرف برواية أكثر من ثقة عنه، لكن لم يتبين ضبطه لقلة حديثه. الأصل السادس: طريقة ابن القطان الفاسي في تجهيل الرواة. عرف الإمام أبو الحسن علي بن محمد الفاسي، المعروف بابن القطان (المتوفى سنة: 628) بتوسعة في تجهيل الرواة، خصوصاً في كتابه " بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام ". وذلك التوسع منه غير محمود، ولذا رده عليه الإمامان المحققان: الذهبي، وابن حجر. قال ابن القطان في (حفص بن بغيل): " لا تعرف حاله " (¬1)، فتعقبه الذهبي بقوله: " ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره يدل على عدالته، وهذا شيء كثير، ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل " (¬2). وقال ابن القطان في (مالك بن الخير الزبادي): " هو ممن لم تثبت عدالته " (¬3)، فقال الذهبي: " وفي رواة الصحيحين عددٌ كثير، ما علمنا أن أحداً نصَّ على توثيقهم، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما يُنكر عليه، أن حديثه صحيح " (¬4). وقال ابن حجر في ترجمة (محمد بن نجيح السندي): " عده أبو الحسن بن القطان فيمن لا يعرف، وذلك قصور منه فلا تغتر به، وقد أكثر ¬

(¬1) بيان الوهم والإيهام، لابن القطان (النص: 1637). (¬2) ميزان الاعتدال (3/ 426). (¬3) بيان الوهم والإيهام، لابن القطان (النص: 1451). (¬4) ميزان الاعتدال (3/ 426).

من وصف جماعة من المشهورين بذاك، وسبقه إلى مثل ذلك أبو محمد بن حزم، ولو قالا: لا نعرفه، لكان أولى لهما " (¬1). قلت: فهذه الطريقة تجعله مع ابن حزم في محل ترك الاعتداد بقولهما في تجهيل الرواة. * * * ¬

(¬1) تهذيب التهذيب (3/ 717).

المبحث الرابع: تحرير القول في الرواة المسكوت عنهم

المبحث الرابع: تحرير القول في الرواة المسكوت عنهم علمنا أن منهج أهل العلم بالحديث لتمييز أهلية الراوي أو عدمها فيما يرويه، هو اختبار حديثه، وهذه المنهجية كانت طريقهم لتعديل أو جرح أكثر الرواة. فحين ترى مثلاً الإمام علي بن المديني يقول في رجل روى عنه يحيى بن أبي كثير وزيد بن أسلم: " مجهول "، بينما قال في (خالد بن سمير) ولم يرو عنه غير الأسود بن شيبان: " حسن الحديث " (¬1)، فإنما قال " مجهول " في راو لم يتبين مما رواه منزلة حديثه، وحين تبين في الآخر ضبطه نعته بحسن حديثه. ونحن نجد طائفة من الرواة ممن ذكروا في كتب تراجم الرواة، أو وقفنا على أسمائهم فيما رووه من الحديث، لم يؤثر عن نقاد المحدثين شيء في تعديلهم أو جرحهم، فهؤلاء يقول فيهم الواحد من المتأخرين مثلاً: (فلان ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً)، ومنهم من يجعل ذلك بمجرده سبباً لرد رواية ذلك الراوي، ومنهم من يعد سكوت الناقد عن أحدهم تعديلاً له، من جهة أنه لو وقف في أحدهم على الجرح لذكره. ¬

(¬1) انظر: شرح علل الترمذي، لابن رجب (1/ 83 _ 84).

وحيث إن محل ما يتعلق به المتأخرون في الغالب في الاعتداد بالسكوت عن الراوي الديوانان العظيمان في تاريخ الرواة: " التاريخ الكبير " للبخاري، و " الجرح والتعديل " لا بن أبي حاتم، فإليك تحرير القول فيهما، وخذ من ذلك أنموذجاً لغيرهما: " التاريخ الكبير " للبخاري: من تأمل هذا الديوان وجد أن البخاري اجتهد في استقصاء أسماء من بلغه ممن روى العلم إلى زمانه، وهو كتاب مليء بالعلم، وما يتصل منه بموضوع الجرح والتعديل، يجب أن يؤخذ بالاعتبار في شأنه ما يلي: أولاً: لم ينص فيه على خطته، إنما تركها للناظر فيه. ثانياً: لم يلتزم فيه ذكر التعديل في الرواة، وإنما يرد ذلك أحياناً قليلة جداً. ثالثاً: التزم أن يذكر الجرح في المجروحين، وذلك من جهة ما يحكيه من عبارات بعض الأئمة قبله، وتارة بعبارة نفسه، وتارة بنقد رواية ذلك الراوي فيستفاد من خلال ذلك النقد جرحه عند البخاري، ولا يلزم بأنه جرح عدداً يسيراً جداً من الرواة سكت عنهم في (التاريخ) وقدح فيهم في محل آخر، فالحكم للغالب الأعم. رابعاً: لم يجر على الجرح بالجهالة، إلا ما يمكن أن يدل عليه قوله في مواضع في الراوي: " فيه نظر "، فإن التتبع يدل على أن طائفة ممن قال فيهم البخاري ذلك هم في جملة المجهولين. وقد قال ابن عدي: " مراد البخاري أن يذكر كل راو، وليس مراده أنه ضعيف أو غير ضعيف، وإنما يريد كثرة الأسامي " (¬1). ¬

(¬1) الكامل (3/ 267).

وهذا المعنى ذكره ابن عدي فيما يزيد على ثلاثين موضعاً من " الكامل ". وهو نص من إمام عارف ناقد، أن إدخال الراوي في " التاريخ الكبير " لا يعني بمجرده جرحاً ولا تعديلاً. لكن لكون البخاري قلما ترك بيان الجرح لمن هو مجروح، فلو قال قائل: من سكت عنهم البخاري فغير مجروحين عنده، وإنما هم عدول، واحتمل في القليل منهم أن لا يكونوا من المشهورين، فيلحقون بالمستورين، لكان هذا قولاً وجيهاً. نعم، لا يصح أن يطلق بتوثيق من سكت عنه البخاري بمجرد ذلك. " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم الرازي: فسر ابن أبي حاتم خطته في كتابه " الجرح والتعديل " وبين منهجه ولم يدعه للتخمين، فقال: " ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل، كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روي عنه العلم، رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله " (¬1). وينبغي أن يلاحظ من عبارة ابن أبي حاتم، أن من سكت عنهم لا يلحقون بالمجروحين ولا المجهولين ولا المعدلين، فإنه ضمن كتابه الحكم على الرواة بالأوصاف الثلاثة. ومن قال: يجري أمرهم على التعديل تغليباً للأصل؛ لعدم الجرح، ولعدم تنصيص العارفين على الجهالة، والأصل السلامة من القدح، فهذا من ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 38).

جهة التأصيل قوي (¬1)، لكنه وإن مال بنا إلى اعتبار التعديل، فإنه لا ينهض بمجرده للحكم به في حق ذلك الراوي. غير أنه يمكن أن يستفاد من هذا: أن يعتبر لمجرد سكوت البخاري وابن أبي حاتم عن الراوي منزلة هي أرفع من الحكم بالجهالة، مائلة إلى الحكم بالتعديل، وهي منزلة (المستور) عند بعض الأئمة. والذي يتحرر لنا في هذا الأصل في الجملة أن نقول في هذا النوع من الرواة، أنهم قسمان: القسم الأول: الرواة المترجمون في كتب الجرح والتعديل، لكن لم يذكروا بجرح ولا تعديل. وهذا الصنف إذا اتبعنا فيهم النظر والتحري عند المتقدمين أمكن تمييز منازلهم في الرواية من حيث قبول حديثهم أو رده، وذلك باتباع الطرق التالية: الأولى: جمع مروياتهم. الثانية: تحري موضع الموافقة لحديث الثقات، والمخالفة له، أو التفرد دونهم. الثالثة: اعتبار شهرته من عدمها بحسب كثرة من روى عنه. ¬

(¬1) وممن سلكه من المعاصرين العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة، رحمه الله، في بحث له نُشر في " مجلة كليَّة أصول الدين " الصادرة عن جامعة محمد بن سعود الإسلامية، العدد الثاني لعام 1400 هـ، وذلك بعنوان: (سُكوت المتكلمين في الرجال عن الراوي الذي لم يُجرح ولم يأتِ بمتنٍ منكر يُعدُّ توثيقاً له)، وكتب الشيخ عداب الحمش رداَّ عليه في كتاب سماه (رواة الحديث الذي سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل)، وفي ردِّه فوائد، وأنا أوافقه على بعض نتائجه وأخالفه في أخرى، وربما أخذت عليه في نفسه فيه.

الرابعة: اعتبار شهرته من عدمها بحسب ما ورد عنه من أخبار. فلو أخذت له مثالاً (عبد الله بن عوف الكناني)، فهو راو لم يوثقه غير ابن حبان، لكنه كان أحد عمال عمر بن عبد العزيز، فهذا تعديل له في شخصه دون روايته، لما عرف من صرامة عمر في الحق وعدله، فما كان ليولي فاسقاً، فبقيت عدالته في الرواية بحسب سلامته من التفرد بمنكر (¬1). الخامسة: وجود التصريح بالتعديل لشيخ له لم يعرف ذلك الشيخ إلا من طريق هذا الراوي. مثل: (مالك بن الخير الزبادي) رجل من أهل مصر، فزعم ابن القطان أنه لم تثبت عدالته (¬2)، وتعقبه الذهبي في ذلك وقال فيه: " محله الصدق " (¬3). قلت: وهذا الرجل تفرد بالرواية عن (مالك بن سعد التجيبي)، لم يرو عنه أحد سواه، وما عرف مخرج حديثه إلا من طريقه، وقد قال أبو زرعة الرازي في هذا التجيبي: " مصري لا بأس به " (¬4)، وذكر يعقوب بن سفيان في " ثقات التابعين من أهل مصر " (¬5)، كما ذكره ابن حبان في " الثقات " (¬6)، فإذا صح أن يكون هذا ثقة، وجب أن يصح الطريق إليه، ولا يصح إلا بعد أن يكون رواته ثقات. ¬

(¬1) انظر تعليقي على كتاب " تسمية ما انتهى إلينا من الرواة عن سعيد بن منصور عالياً " لأبي نُعيم (ص: 47). (¬2) بيان الوهم والإيهام، لابن القطان (رقم: 1451). وتقدم قريباً في (المبحث السابق) التنبيه عليه. (¬3) ميزان الاعتدال (3/ 426)، بل وجدت فيه فائدة عزيزة فاتت جميع من ترجم له، وهي قولُ ناقد أهل مصر أحمد بن صالح المصري فيه: " ثقة " (تاريخ أبي زُرعة 1/ 442) زيادةً على توثيق ابنِ حبان، ولكن المقصود التمثيل بهذه الصورة في دَفع الجَهالة عن الراوي. (¬4) الجرح والتعديل (4/ 1 / 209). (¬5) المعرفة والتاريخ، ليعقوب بن سُفيان (2/ 530). (¬6) الثقات (5/ 385).

والقسم الثاني: من وجدناه في الأسانيد، لكن لم نقف له على ترجمة. اعتنى الأئمة ومتأخروهم على التعيين بتتبع أسماء من تكلم فيه من الرواة على سبيل الاستيعاب، وما وقعت العناية بتتبع جميع الرواة، وإن حاولها بعضهم، وأوعب ما ألف في جمع من تكلم فيهم: " ميزان الاعتدال " للحافظ الذهبي، مع الزيادة عليه في " لسان الميزان " للحافظ ابن حجر العسقلاني، والذي أورد فيه تراجم من تكلم فيهم ممن لا ترجمة لهم في " تهذيب الكمال " للمزي. وقد ذكر ابن حجر في آخر كتاب " اللسان " فائدة حاصلها: أن من لم يترجم له في " الميزان " أو " اللسان " أو " تهذيب التهذيب " قال: " فهو إما ثقة، أو مستور " (¬1). قلت: وهذا أصل نافع في رواة كثيرين، إذا بحثت عن تراجم لهم لم تقف عليها، وهم معروفون بالنقل، فهذا طريق يعين على تنزيلهم ما يليق بهم، لكن بعد التحقق على نفس منهاج متقدمي النقاد، من اعتبار الشهرة بالحديث، ورواية ما هو معروف، إلى سائر ما تقدم بيانه في شرح منهجهم. والعمل بهذا الطريق اقتداء بأئمة هذا الشأن ممن تعرضوا لبيان أحوال رواة لم يسبقوا إلى الكلام فيهم، كابن عدي والعقيلي وابن حبان والدارقطني والخطيب البغدادي. فهذا ابن عدي مثلاً، قد تتبع المجروحين إلى زمانه في كتابه الفذ: " الكامل "، حتى قال في مقدمته: " لا يبقى من الرواة الذين لم أذكرهم إلا من هو ثقة أو صدوق، وإن كان ينسب إلى هوى وهو فيه متأول " (¬2). ¬

(¬1) لِسان الميزان (7/ 571). (¬2) الكامل (1/ 79).

ومنهجه في اتباع هذا الطريق واضح في كتابه، ومن عبارته في بعض الرواة: قوله في (سليمان بن أبي كريمة) بعد أن أذكر له جملة أحاديث: " وله غير ما ذكرت، وليس بالكثير، وعامة حديثه مناكير، ويرويه عنه عمرو بن هاشم البيروتي، وعمرو ليس به بأس، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً، وقد تكلموا فيمن هو أمثل منه بكثير، ولم يتكلموا في سليمان هذا؛ لأنهم لم يخبروا حديثه " (¬1). وقوله في (سعد بن سعيد سعدويه الجرجاني) وذكر له أحاديث: " لسعد غير ما ذكرت من الحديث غرائب وأفراد غريبة تروى عنه، وكان رجلاً صالحاً، ولم تؤت أحاديثه التي لم يتابع عليها من تعمد منه فيها، أو ضعف في نفسه ورواياته، إلا لغفلة كانت تدخل عليه، وهكذا الصالحون، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً؛ لأنهم كانوا غافلين عنه، وهو من أهل بلدنا، ونحن أعرف به " (¬2). وهذا المنهج رأيت عمل الحافظ الذهبي قد جرى عليه في تعديل طائفة من الرواة، خصوصاً من طبقات من يأتي بعد طبقات رواة الأئمة الستة، وذلك بالنظر إلى شهرته، مع كون أمره على الستر والسلامة، وأنه لم يوقف فيما روى على شيء منكر. تنبيه وفائدة: قال الثقة عبد الله بن أحمد الدورقي: " كل من سكت عنه يحيى بن معين فهو عنده ثقة " (¬3). ¬

(¬1) الكامل (4/ 250). (¬2) الكامل (4/ 398). (¬3) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 218) وإسناده جيد.

قلت: هذا يجب حمله على رجال جاءوا في معرض السؤال ليحيى، فلم يذكر فيهم جرحاً ولا تعديلاً، إذ من شأن يحيى أنه إذا سئل عن الراوي المجروح لم يسكت عنه، وإذا كان لا يعرفه أجاب بذلك، فحيث سكت عن جرحه وعن تجهيله، فهو عنده في جملة المقبولين الموثقين، والله أعلم. * * *

الفصل الخامس تعارض الجرح والتعديل

الفصل الخامس تعارض الجرح والتعديل

تمهيد

تمهيد جرح الرواة وتعديلهم قائم على اجتهاده النقاد، وكل ما رجع إلى الاجتهاد فهو مظنة للاختلاف، وذلك اختلاف جائز توجبه سنة التفاوت في العلم والفهم، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. قال المنذري: " اختلاف هؤلاء كاختلاف الفقهاء، كل ذلك يقتضيه الاجتهاد، فإن الحاكم إذا شهد عنده بجرح شخص، اجتهد في أن ذلك القدر مؤثر أم لا، وكذلك المحدث إذا أراد الاحتجاج بحديث شخص ونقل إليه فيه جرح، اجتهد فيه هل هو مؤثر أم لا " (¬1). قلت: نعم، ليس الاختلاف في هذا الباب واقعاً في جميع الرواة، بل منهم خلق كثير ثقات عدول متفق على قبولهم والاحتجاج بهم، كما فيهم مجروحون متفق على جرحهم، لا يحتج بهم، بل لا يعتبر بكثير منهم، وفيهم من هو مسكوت عن أمره، كما تقدم في (الفصل الرابع)، وفيهم المختلف فيه. والشأن ابتداء وجوب اعتبار إعمال النصين أو النصوص التي ظاهرها التعارض بالاجتهاد في التوفيق بينهما دون تكلف، وذلك قبل المصير إلى الترجيح الموجب ترك العمل بأحد النصين، فإن تعذر الجمع بين النصوص المختلفة وجب المصير إلى العمل بالراجح، وإن كان ذلك لا يقع إلا ¬

(¬1) جوابُ المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل (ص: 83).

بالاجتهاد؛ لأن تمييز المقبول من المردود فيما يضاف إلى صاحب الشريعة واجب. واعلم أن تعارض الجرح والتعديل يقع في الأصل بين قول ناقد وناقد غيره لكنه أيضاً ربما يقع في النقل عن الناقد نفسه، فيأتي عنه التعديل والجرح جميعاً، وبالنظر إلى ذلك فهاتان صورتان: الصورة الأولى: تعارض الرواية في الجرح والتعديل عن الناقد المعين. ومن أكثر من نقل عنه مثل هذا من الأئمة يحيى بن معين، فإنه كثيراً ما تختلف الرواية عنه. كقوله في (الحسن بن يحيى الخشني): " ثقة " في رواية ابن أبي مريم عنه، و" ليس بشيء " في رواية الدوري عنه (¬1). وقوله في (قَزعة بن سُويد): " ثقة " في رواية الدارمي عنه، و " ضعيف " في رواية الدوري عنه، و " ضعيف الحديث " في رواية أحمد بن أبي يحيى المجروح عنه (¬2). قال الذهبي في سبب اختلاف النقل عن يحيى بن معين: " سأله عن الرجال عباس الدوري، وعثمان الدارمي، وأبو حاتم، وطائفة، وأجاب كل واحد منهم بحسب اجتهاده، ومن ثم اختلف آراؤه وعبارته في بعض الرجال، كما اختلفت اجتهادات الفقهاء المجتهدين، وصارت لهم في المسألة أقوال " (¬3). وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: " قد يخطر على قلب المسؤول عن الرجل من حاله في الحديث وقتاً ما ينكره قلبه، فيخرج جوابه على حسب ¬

(¬1) الكامل (3/ 168). (¬2) الكامل (7/ 176). (¬3) ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل (ص: 172).

النكرة التي في قلبه، ويخطر له ما يخالفه في وقت آخر، فيجيب على ما يعرفه في الوقت منه ويذكره، وليس ذلك تناقضاً ولا إحالة، ولكنه قول صدر عن حالين مختلفين، يعرض أحدهما في وقت والآخر في غيره " (¬1). والصورة الثانية: تعارض الجرح والتعديل الصادرين من ناقدين أو أكثر. وهذا هو الأكثر في هذا الباب، وهو أشق مسائله وأصعبها. * * * ¬

(¬1) حكاه المنذري في " جوابه عن أسئلة في الجرح والتعديل " (ص: 89).

المبحث الأول: مقدمات ضرورية لتحقيق القول في الراوي المختلف فيه

المبحث الأول: مقدمات ضرورية لتحقيق القول في الراوي المختلف فيه تحرير القول في الراوي المختلف فيه جرحاً وتعديلاً يحتاج إلى اعتبار تنبيهات وضوابط، لا بد من مراعاتها؛ للمصير إلى ما هو الألصق بالعدل الذي أوجب الله عز وجل في حق نقلة العلم، ولئلا ينسب إلى الدين برواية من ليس بأهل ما ليس منه، أو ينفي عنه بالقدح على الثقة ما هو منه. وتحرير تلك التنبيهات والضوابط في المقدمات التالية: المقدمة الأولى: أهلية الناقد لقبول قوله والمقصود: أهليته للكلام في النقلة على ما تقدم بيانه في صفة الناقد. قال يعقوب بن سفيان: سمعت إنساناً يقول لأحمد بن يونس: عبد الله العمري ضعيف، قال: " إنما يضعفه رافضي مبغض لآبائه، لو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنه ثقة " (¬1). قال الخطيب: " فاحتج أحمد بن يونس على أن عبد الله العمري ثقة بما ليس حجة؛ لأن حسن الهيئة مما يشترك فيه العدل والمجروح " (¬2). ¬

(¬1) المعرفة والتاريخ (2/ 665) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 165). (¬2) الكفاية (ص: 165).

وقال ابن الجنيد: سألت يحيى بن معين عن شداد بن سعيد الراسبي؟ فقال: " ثقة "، قلت ليحيى: إن ابن عرعرة (¬1) يزعم أنه ضعيف، فغضب، وقال: " هو ثقة "، وتكلم يحيى بكلام وأبو خيثمة يسمع، فقال أبو خيثمة: " شداد بن سعيد ثقة "، ثم قال لي يحيى: " يزعم ابن عرعرة أن سلم بن زرير ثقة " (¬2)، قلت: كذلك يقول، قال: " هو ضعيف ضعيف " (¬3). وكذلك قال ابن الجنيد: قال رجل ليحيى بن معين وأنا أسمع: زعم إبراهيم بن عرعرة أن محمد بن ذكوان والحسين بن ذكوان، ليسا بشيء، فغضب يحيى، وقال: " أما الحسين بن ذكوان فحدثني عنه يحيى بن سعيد وعبد الله بن المبارك، ولكن كان قدرياً، وأما محمد بن ذكوان فليس به بأس، أي شيء كان عنده؟ روى عنه حماد بن زيد وعبد الوارث وعبد الصمد، لا بأس به، قل لا بن عرعرة: اذهب ازرع " (¬4). والخطأ هنا في جرح ابن عرعرة لثة وتعديله لمجروح أنه وإن كان ثقة معتنياً بالحديث، إلا أن ابن معين لم يراه من أهل الصنعة، فإنه سئل عنه فقال: " ثقة، معروف بالحديث، كان يحيى بن سعيد يكرمه، مشهور بالطلب، كيس الكتاب، ولكنه يفسد نفسه؛ يدخل في كل شيء " (¬5). ونقل أبو حاتم الرازي عن هشام بن يوسف الصنعاني قوله في (عبد الله بن معاذ بن نشيط صاحب معمر): " هو صدوق، وكان عبد الرزاق يكذبه " ثم قال أبو حاتم: " أقول: هو أوثق من عبد الرزاق " (¬6). ¬

(¬1) هوَ الثقة إبراهيم بن محمد بن عرْعرة بن البِرنْد السامي. (¬2) كانَ في الأصل: (سالم بن رَزين)، والتصويب من " تهذيب الكمال " للمزي (12/ 396). (¬3) سؤالات ابن الجنيد (النص: 706). وأبو خيْثمة هوَ الحافظ زُهير بن حرْبٍ. (¬4) سؤالات ابن الجنيد (النص: 645). (¬5) تاريخ بغداد، للخطيب (6/ 149 _ 150). (¬6) الجرح والتعديل (2/ 2 / 173).

المقدمة الثانية: التحقق من ثبوت الجرح أو التعديل عن الناقد المعين

قلت: وهذا لكون عبد الرزاق لم يكن ممن له شأن في الكلام في النقلة، فحين تكلم أخطأ. المقدمة الثانية: التحقق من ثبوت الجرح أو التعديل عن الناقد المعين وهذا الشرط مقدمة سابقة للنظر في صيغة النقد وأثرها في الراوي. والمقصود أن تحاكم النصوص المنقولة عن علماء الجرح والتعديل في نقد الرواة بنفس قوانين علم الحديث، فلا يفرع إلى على صيغة ثبت إسنادها إلى قائلها. فهناك روايات عديدة ذكرت عن بعض الأئمة لا توجد عنهم من طريق مسند، أو وجدت ولكن أسانيدها لم تثبت. مثالها: (تاريخ) رواه أحمد بن أبي يحيى أبو بكر الأنماطي البغدادي عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، اعتمده ابن عدي في " كامله " في مواضع كثيرة، وهو غير ثابت عنهما، وذلك أن ابن أبي يحيى هذا قال فيه الحافظ الثقة إبراهيم بن أورمة الأصبهاني: " كذاب " (¬1). ومما يشبه هذه القاعدة: أن لا يقبل ما يحكى عن الراوي مما يكون سبباً للقدح فيه إلا بالرواية الثابتة عنه. فمثل ما أورده جماعة في القدح في (أبي صالح باذام) من طريق سفيان الثوري، قال: قال لي الكلبي: قال لي أبو صالح: " كل شيء حدثتك فهو كذب " (¬2)، فهذا مما لا يجوز الاعتماد عليه، فإن الكلبي ¬

(¬1) الكامل، لابن عدي (1/ 321) بإسناد صَحيح، وقال ابنُ عدي مُؤكِّداً ما نقله عن ابن أورْمَة: " ولأبي بكر بن أبي يحيى هذا غيرُ حديثٍ منكرٍ عن الثقات ". (¬2) أخرجه البُخاري في " التاريخ الكبير " (1/ 1 / 101) و " الأوسط " (2/ 40) و " الضعفاء الصغير " (رقم: 322) والجَوْزجاني في " أحوال الرجال " (ص: 63) والعُقيلي في " الضعفاء " (1/ 166) وابنُ حبان في " المجروحين " (2/ 255) وابنُ عدي في " الكامل " (2/ 255، و 7/ 274) وإسناده إلى سُفيان صحيح.

المقدمة الثالثة: منع قبول صيغة الجرح أو التعديل التي لا تنسب إلى ناقد معين

هو محمد بن السائب، رأس في الكذب، فكيف يصدق على أبي صالح؟ وهكذا كان الناقد البارع يعتبر هذا الطريق في تثبيت الجرح. المقدمة الثالثة: منع قبول صيغة الجرح أو التعديل التي لا تنسب إلى ناقد معين وهذا كقولهم في الراوي: (تكلموا فيه)، و: (يتكلمون فيه)، كما يقع في كلام البخاري وأبي حاتم الرازي وأبي الفتح الأزدي وغيرهم، و: (فيه مقال) كما يكثر عند المتأخرين، وما يشبهها من الألفاظ التي لا تعزى إلى ناقد معين. ولا اعتبار بأن يكون حاكيها من النقاد المعروفين، فإنه لم ينشئها من جهته، إلا أن يضيف إليها من عبارته ما يبينها، كما تراه في عدد من قيلت فيه. زد على ذلك أنها من قبيل الجرح المجمل أيضاً. لكنها تدل على شبهة الجرح، فيبحث عن تفسيرها، فإن عدم عدم أثرها. ¬

(¬1) الكامل (3/ 517) والكُديمي هِيَ نسْبةُ مُحمد بن يونُس راويه عن ابنِ المديني.

المقدمة الرابعة: مراعاة ميول الناقد المذهبية في القدح في النقلة

وفي التعديل مما يكثر وقوعه عند المتأخرين، كالذهبي والهيثمي: (وثق) و (موثق) فهذه عبارة يجب البحث عن قائلها المجهول الذي بنيت له، وفي الغالب يكون مرادهم ابن حبان، فكأنهم لضعف الاعتماد على ما يتفرد به من التعديل يبنون العبارة للمجهول. المقدمة الرابعة: مراعاة ميول الناقد المذهبية في القدح في النقلة الجرح والتعديل جميعاً يتأثران بهذا، فيعدل من ليس بأهل، وهو الأقل وروداً في كلامهم، ويجرح من هو عدل، ووقع من طائفة بسبب المخالفة في العقائد والمسالك، كما قدمت التمثيل له بجرح الجوزجاني لأهل الكوفة بسب فشو التشيع فيه، والدولابي لمخالفي الحنفية، وكما وقع من طائفة من أهل الحديث في أهل الرأي من أهل الكوفة وغيرهم. قال ابن حجر: " وممن ينبغي أن يتوقف في قبوله قوله في الجرح: من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد، فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب، وذلك؛ لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة، وعبارة طلقة، حتى أنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية، فهذا إذا عارضه مثله أو أكبر منه، فوثق رجلاً ضعفه؛ قبل التوثيق. ويلتحق به عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المحدث الحافظ، فإنه من غلاة الشيعة، بل نسب إلى الرفض، في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد " (¬1). ومن أمثلة ذلك في النقلة ما جاء في ترجمة (أحمد بن الفرات أبي مسعود الرازي) وكان من الثقات الحفاظ المتقنين، من المعروفين بالسنة، ¬

(¬1) لسان الميزان (1/ 108 _ 109).

قال ابن عدي: سمعت أحمد بن محمد بن سعيد يقول: سمعت ابن خراش يحلف بالله: " إن أبا مسعود أحمد بن الفرات يكذب متعمداً ". فتعقبه ابن عدي فقال: " وهذا الذي قاله ابن خراش لأبي مسعود هو تحامل، ولا أعرف لأبي مسعود رواية منكرة، وهو من أهل الصدق والحفظ " (¬1). وعاب الذهبي على ابن عدي إيراده في " كتابه "، فقال: " ذكره ابن عدي فأساء، فإنه ما أبدى شيئاً غير أن ابن عقدة روى عن ابن خراش، وفيهما رفض وبدعة " وذكر النص السابق. وأقول: لا عيب على ابن عدي، فإنه يذكر في كتابه من تكلم فيه، فإن كان بباطل رده، وهكذا فعل هنا. وقال الذهبي في " السير " (¬2): " من ذا الذي يصدق ابن خراش ذاك الرافضي في قوله؟! ". قلت: ومما نرد قول ابن خراش إلا لأجل المذهب، وأبو مسعود قد استقرت ثقته وثبت إتقانه، وشاع علمه. ومن قبيح ما سودت به صحف كثيرة ما وقع من نقمة جماعة من أهل الحديث على أبي حنيفة وأصحابه، بسبب المذهب. كما قال يحيى بن معين: " أصحابنا يفرطون في أبي حنيفة وأصحابه " فقيل له: أكان أبو حنيفة يكذب؟ فقال: " كان أنبل من ذلك " (¬3). قلت: وتلك الطعون التي سودت بها صحف كثيرة لا تعود في التحقيق إلا إلى التحامل بسبب خلاف المذهب كمن أطلق أن أبا حنيفة ¬

(¬1) الكامل (1/ 312). (¬2) سير أعلام النبلاء (12/ 487). (¬3) أخرجه ابنُ عبد البر في " بيان العلم " (رقم: 2106) وإسناده صحيح.

كان يبيح المسكر، وهو إنما أباح باجتهاده النبيذ الذي لم يستثن من حفاظ وأئمة الكوفيين من موافقته فيه إلا الفرد بعد الفرد، إلى أشياء أخرى طعن فيها على أبي حنيفة وأصحابه كأبي يوسف ومحمد بن الحسن، كانت بسبب مخالفة الطاعن لأبي حنيفة في مذهبه، وأنه كان يدع الحديث بالرأي، وهذا لو صح فمعروف أن الفقيه قد يدع العمل بالحديث لأسباب صحيحة معتبرة، ولم يسلم من ذلك فقيه من فقهاء الأمة الكبار المتبوعين. فهذا مالك بن أنس، وقد أجمعوا على ثقته، ومع ذلك فقد ترك القول بأحاديث هي عنده صحيحة، لمعارضات معتبرة لديه، وهذا ابن عبد البر المالكي يورد عن الليث بن سعد قوله: " أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة، كلها مخالفة لسنة رسول الله صلى عليه وسلم مما قال فيها برأيه، ولقد كتبت إليه أعظه في ذلك " (¬1). وللشافعي في الرد على مالك، كما له في الرد على محمد بن الحسن والأوزاعي، وكثير مما يعود إليه ذلك: القول بالحديث أو تركه. فمثل هذا لا يجوز التعلق به من أقوال المجرحين، في حق من عرف مقامه في الدين. كما يجب أن يتفقد من عبارة الجارح في كل مخالف له في مذهبه، إذ هو بشر يعتريه من حال البشر، ويتكلم في الغضب والرضى، والعدل مجاهدة، وكم من جرح يمكن تخريجه على مثل هذا؟ وأما الميل إلى التعديل، فكتوثيق ابن عقدة الحافظ الشيعي لبعض من على مذهبه من المجروحين، وهو قليل. وقال يحيى بن معين: " كان أبو نعيم (¬2) إذا ذكر إنساناً فقال: هو ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضْله (رقم: 2105) تعليقاً. (¬2) يعني الفَضل بَن دُكين، وهوَ من حُفاظ الكوفة ومُتقنيهم.

المقدمة الخامسة: اعتبار بشرية الناقد في تأثيرها في إطلاق الجرح أو التعديل

جيد وأثنى عليه، فهو شيعي، وإذا قال: فلان كان مرجئاً، فاعلم أنه صاحب سنة لا بأس به " (¬1). المقدمة الخامسة: اعتبار بشرية الناقد في تأثيرها في إطلاق الجرح أو التعديل الناقد يعتريه ما يعتري البشر من الغفلة أو الغضب، فيقول القول لا يعني به شيئاً يتصل بهذا العلم، وإنما أوقعه فيه بعض هذه العوارض، فهذا إن كان لفظ جرح أو تعديل، فإنه لا يجوز أن يكون له أثر على الراوي الموصوف بذلك. فمن مثال ما قد يرد على الناقد من التوهم: ما حكاه حماد بن حفص (¬2) (وكان ثقة)، قال شهدت يحيى بن سعيد (يعني القطان) وجاء إليه شيخ من أهل البصرة، فتذاكرا الحديث، فقال الشيخ ليحيى: حدثنا ابن أبي رواد بكذا وكذا، فقال يحيى: " عرف عليه كذاب "، فقال: فلما كان بعد ساعة قال: " الأب حدثك أو الابن؟ " فقال: بل الأب، فقال: " الأب لا بأس به، إنما ظننت أنك تعني الابن " (¬3). ومما يخرج على صدوره بسبب الغضب مثلاً: ما جاء من تكذيب أبي داود السجستاني لابنه أبي بكر، إن صح عنه، فإن أبا بكر حين مات أبوه كان شاباً، وصار إماماً بعد وفاة أبيه، وقد عاش بعده إحدى وأربعين سنة، عرفه فيها تلامذته الحفاظ كأبي حسن الدارقطني بالحفظ والثقة. ومن هذا (جرح الأقران)، ككلام مالك بن أنس في محمد بن إسحاق، وكلام ابن إسحاق فيه. ¬

(¬1) سؤالان ابن الجُنيد (النص: 797). (¬2) هوَ مُحمد بنُ حفصٍ القطان البصري، و (حماد) لقبٌ، يُستدرك على " نُزهة الألباب " لابن حجر. (¬3) أخرجه يعقوب بنُ سفيان في " المعرفة " (1/ 700) وإسناده صحيح.

وقال علي بن المديني في (سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف): " كان أصحابنا يرمونه بالقدر، وكان عندنا ثقة ثبتاً، وكان مالك بن أنس يتكلم فيه، وكان لا يروي عنه مالك شيئاً، وكان سعد قد طعن على مالك في نسبه " (¬1). واعلم أنه ليس المراد بالتنبيه على هذه الصورة إلغاء كلام القرين في قرينه مطلقاً، بل إن أدق صور النقد للنقلة هي النقد للمعاصر، ومنه نقد الأقران، وذلك لكون الناقد قد اطلع على حال من عدله أو جرحه وخبر أمره، فهو أقوى من جرحه أو تعديله لمن لم يدركه. وإنما المراد هنا البحث عن سبب الجرح عند معارضة التعديل، فإن أعاد الناقد الجرح إلى علة مدركة في شأن من جرح، واستدل لذلك وبينه، فقوله معتبر، ولا أثر للاقتران، إلا أن يثبت وجود خصومة أو خلاف بينه وبين من جرحه، فهذا مما يوجب الاحتياط، والأصل: ترك قوله فيه، على أنك لو بحثت عن حال هذا الصنف وجدت الطعون فيهم من مخالفيهم تأتي من قبيل الجرح المجمل الذي يطرح في مقابلة التعديل المعتبر؛ لمجرد إجماله. قال ابن عبد البر: " والصحيح في هذا الباب: أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم إمامته، وبانت ثقته، وبالعلم عنايته، لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة يصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله، لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة، وسلامته من ذلك كله، فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته؛ فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه. والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين ¬

(¬1) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 91).

المقدمة السادسة: وجوب اعتبار مرتبة الناقد مقارنة بمخالفة

إماماً في الدين قول أحد من الطاعنين: أن السلف، رضي الله عنهم، قد سبق من بعضهم في بعض كلام، كثير منه في حال الغضب، ومنه ما حمل عليه الحسد ... ، ومنه على جهة التأويل، مما لا يلزم المقول فيه ما قال القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً، لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان وحجة توجبه " (¬1). وهل يؤثر تعديل الأقران أيضاً على اعتبار أن المعدل قد يميل لشخص لموافقة في الرأي والمذهب مثلاً، فيثني عليه ويعدله؟ الواقع العملي لا يكاد يثبت وجود أثر لمثل ذلك، بل الأمثلة لا تكاد تحصى في تعديل المخالف وجرح الموافق. المقدمة السادسة: وجوب اعتبار مرتبة الناقد مقارنة بمخالفة. وذلك بأربع اعتبارات: الاعتبار الأول: قلة الكلام في النقلة وكثرته. وهو قدر اعتناء الإمام الناقد بتعديل الرواة وتجريحهم، فإن من أثر عنه تتبع ذلك والاعتناء به، لا يوضع في درجة واحدة مع من لم يؤثر عنه من البيان لذلك إلا اليسير، وبهذا الاعتبار قسمهم الذهبي إلى ثلاثة أقسام: 1 _ من تكلموا في أكثر الرواة، كيحيى بن معين، وأبي حاتم الرازي. 2 _ من تكلموا في كثير من الرواة، كمالك بن أنس، وشعبة. 3 _ من تكلموا في الرجل بعد الرجل، كسفيان بن عيينة، والشافعي (¬2). ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/ 1093 _ 1094)، وقد عقد لهذه المسألة في هذا الكتاب باباً مُفيد، فُليراجع. (¬2) ذكر من يُعتمد قولُه في الجرْح والتعديل (ص: 158).

الاعتبار الثاني: التشدد والاعتدال والتساهل. وقسم الذهبي الناقد باعتبار هذا المعنى إلى ثلاثة أقسام، فقال: " قسم منهم متعنت في الجرح، متثبت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويلين بذلك حديثه، فهذا إذا وثق شخصاً، فعض على قوله بناجذيك، وتمسك بتوثيقه، وإذا ضعف رجلاً فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه؟ فإن وافقه ولم يوثق ذاك أحد من الحذاق فهو ضعيف، وإن وثقه أحد فهذا الذي قالوا فيه: لا يقبل تجريحه إلا مفسراً، يعني لا يكفي أن يقول فيه ابن معين مثلاً: هو ضعيف، ولم يوضح سبب ضعفه، وغيره قد وثقه، فمثل هذا يتوقف في تصحيح حديثه، وهو إلى الحسن أقرب. وابن معين، وأبو حاتم، والجوزجاني، متعنتون. وقسم في مقابلة هؤلاء، كأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي بكر البيهقي، متساهلون. وقسم كالبخاري، وأحمد بن حنبل، وأبي زرعة، وابن عدي، معتدلون منصفون " (¬1). قلت: هذا الذي مثل به الذهبي من ذكر هؤلاء الأعيان صحيح في الجملة بالنظر إلى ما وقع من كلامهم، في النقلة، لكنك تحتاج إلى مراعاته عند اختلاف الجرح والتعديل، لا مطلقاً، فإن أقوال هؤلاء جميعاً الأصل فيها الإعمال والاعتبار، والذهبي نفسه اعتمد على جرحهم وتعديلهم في كتبه. وإلا فمن ذا يجافي كلام العارفين بنقلة الحديث، من أمثال يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين والنسائي، مع ما عرف عنهم من التشديد؟! ¬

(¬1) ذكر من يُعتمد قولُه في الجرْح والتعديل (ص: 158 _ 159).

فالقطان كان قل من يرضى من الرواة، كما قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو بن علقمة: كيف هو؟ قال: " تريد العفو أو تشدد؟ "، قلت: بل أشدد، قال: " فليس هو ممن تريد، كان يقول: حدثنا أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب (¬1)، قال يحيى: " وسألت مالكاً عنه؟ فقال فيه نحواً مما قلت لك " (¬2). وابن معين كانت تحمله الغيرة على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يقول من العبارة ما يتحصل المقصود بدونه، ككلامه في سويد بن سعيد وعلي بن عاصم. وقال أبو الفضل بن طاهر المقدسي: سألت الإمام أبا القاسم سعد بن علي الزنجاني بمكة عن حال رجل من الرواة، فوثقه، فقلت: إن أبا عبد الرحمن النسائي ضعفه، فقال: " يا بني، إن لأبي عبد الرحمن في الرجال شرطاً أشد من شرط البخاري ومسلم " (¬3). ولكن الشأن فيما إذا تعارض قول أحدهم مع قول ناقد سواه، فنلاحظ ما يحتمل وروده بسبب ما عرف عنهم من الشدة، كما نلاحظ من آخرين ما يمكن أن يكون في تعديلهم، بسبب ما ذكروا به من التساهل، كابن حبان. الاعتبار الثالث: النظر والإنشاء، للمتقدمين، والتحرير والترجيح، للمتأخرين. والمقصود أن لا تقيم التعارض مثلاً بين جرح أبي حاتم الرازي وتوثيق الذهبي، من أجل أن أبا حاتم إنما جرح بمقتضى بحثه ودرايته بحال الراوي واختبار حديثه، والذهبي وثق ترجيحاً لقول من خالف أبا حاتم من النقاد، باتباع قوانين الترجيح التي نحن في صدد بيانها. ¬

(¬1) يعني كانَ يجمع الشيوخ. (¬2) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (7/ 456) والعُقيلي في " الضعفاء " (4/ 108) وإسناده صحيح، وهو في " الجرح والتعديل " (4/ 1 / 31) باختصار. (¬3) شروط الأئمة الستة، لابن طاهر (ص: 104).

وإنما يقوم التعارض بين كلام المنشئين. الاعتبار الرابع: الناقد العارف في جرح وتعديل أهل بلده. وهذا وجدنا له الأثر في أن الناقد إذا عدل أو جرح بلديه كان أصح مذهباً فيهم من الغرباء، ولا يستغرب ذلك، فكونه من أهل داره يوجب مزيد اطلاع. قال حماد بن زيد: " بلدي الرجل أعرف بالرجل " (¬1). قال أبو بكر المروذي: سألت (أحمد بن حنبل) عن قطن الذي روى عنه مغيرة؟ فقال: " لا أعرفه إلا بما روى عنه مغيرة "، قلت: إن جريراً ذكره بذكر سوء، قال: " لا أدري، جرير أعرف به وببلده " (¬2). وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، ما تقول في سعيد بن بشير؟ قال: " أنتم أعلم به " (¬3). وقال ابن عدي في (شقيق الضبي): " كان من قصاص أهل الكوفة، والغالب عليه القصص، ولا أعرف له أحاديث مسندة كما لغيره، وهو مذموم عند أهل بلده، وهم أعرف به " (¬4). وكان محمد بن عبد الله بن نمير من نقاد الكوفيين، قال علي بن الحسين بن الجنيد: كان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يقولان في شيوخ الكوفيين: " ما يقول ابن نمير فيهم؟ " (¬5). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 175) بإسناد جيد. (¬2) العلل، رواية المروذي (النص: 98)، وجريرٌ هوَ ابنُ عبد الحميد. (¬3) تاريخ أبي زُرعة (1/ 540)، وإنما قال أحمد ذلك لأن سعيداً هذا دمشقي. (¬4) الكامل (5/ 71). (¬5) أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ في " التقدمة " (ص: 320) عن ابنِ الجنيد.

المقدمة السابعة: ملاحظة مذهب الناقد فيما يراه جرحا، ومذهبه فيه مرجوح

وقال ابن عدي في (محمد بن عوف الحمصي): " هو عالم بأحاديث الشام، صحيحها وضعيفها " (¬1). قلت: ومن أمثلته في النقاد: أبو مسهر في الشاميين، ومحمد بن عوف في الحمصيين، وأحمد بن صالح، وابن يونس في المصرين. المقدمة السابعة: ملاحظة مذهب الناقد فيما يراه جرحاً، ومذهبه فيه مرجوح وهذا لا يضبطه إلا ما سيأتي ذكره في المبحث التالي من اشترط تفسير سبب الجرح، وإنما المراد هنا أن تتفطن إلى أن الناقد المعتد به في الجملة قد يقدح بما ليس بقادح في التحقيق. ومثال ذلك أن علي بن المديني سأل يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني؟ فقال: " ضعيف "، قال: قلت ليحيى: إنه يقول: (أخبرني)، قال: " لا شيء، كله ضعيف، إنما هو كتاب دفعه إليه " (¬2). قلت: فضعفه لأنه يرى ضعف التحمل بهذا الطريق، وهو مذهب مرجوح كما بينته في (طرق التحمل). ومن هذا ما حدث به أبو داود الطيالسي، قال: سمعت شعبة يقول: " جرير بن حازم وحماد بن زيد أتياني يسألاني أن أسكت عن الحسن بن عمارة، ولا والله، لا سكت عنه، ثم لا والله، لا سكت عنه، هذا الحسن بن عمارة يحدث عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وعن الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي، قالا: إذا وضعت زكاتك في صنف من الأصناف جاز. وأنا والله سألت الحكم عن ذلك؟ فقال: إذا وضعت في ¬

(¬1) الكامل (1/ 231). (¬2) أخبار المكيين من " تاريخ ابن أبي خيثمة " (ص: 366).

صنف من الأصناف أجزأك، فقلت: عمن؟ فقال: عن إبراهيم النخعي. وهذا الحسن بن عمارة يحدث عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وعن الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد وغسلهم. وأنا سألت الحكم عن ذلك عن ذلك فقال: يصلي عليهم ولا يغسلون، قلت: عمن؟ قال: بلغني عن الحسن البصري " (¬1). وفي رواية قال أبو داود: قال شعبة: " ائت جرير بن حازم، فقل له: لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عمارة؛ فإنه يكذب "، قلت لشعبة: ما علامة ذلك؟ قال: " روى عن الحكم أشياء لم نجد لها أصلاً "، ثم ذكر شيئاً من ذلك ببعض الاختلاف (¬2). قال القاضي الرامهرمزي: " وليس يستدل على تكذيب الحسن بن عمارة من الطريق الذي استدل به أبو بسطام؛ لأنه استفتى الحكم في المسألتين، فأفتاه الحكم بما عنده، وهو أحد فقهاء الكوفة زمن حماد، فلما قال له أبو بسطام: عمن، أمكن أن يكون يظن أنه يقول: من الذي يقوله من فقهاء الأمصار؟ فقال في إحداهما: هو قول إبراهيم، وفي الأخرى: هو قول الحسن، هذا مقام الحجة وليس يلزم المفتي أن يفتي بجميع ما روى، ولا يلزمه أيضاً أن يترك رواية ما لا يفتي به، وعلى هذا مذاهب جميع فقهاء الأمصار: هذا مالك يرى العمل بخلاف كثير مما يروي، والزهري عن سالم عن أبيه أثبت وأقوى عند علماء أهل الحديث من الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وقد خالف مالك هذه الرواية في رفع ¬

(¬1) أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (رقم: 224) وإسناده صحيح، ورجَّح الرامهرمزي هذا السياق من أجْل سِياق الرواية التالية في تفسير شُعبة لروايات الحسن. (¬2) أخرجه مسلمٌ في " مقدمة الصحيح " (1/ 23 _ 24) والرامهرمزي (رقم: 223) والبيهقي في " الكبرى " (4/ 13) والخطيب في " تاريخه " (7/ 347) بإسنادٍ صحيح.

المقدمة الثامنة: التحقق من آخر قولي أو أقوال الناقد في الراوي، إن كان قد اختلف عليه

اليدين بعد أن حدث به عن الزهري. وهذا أبو حنيفة يروي حديث فاطمة بنت أبي حبيش في المستحاضة ويقول بخلافه (¬1). وقد يمكن أن يحدث الحكم ابن عمارة من كتابه بما لا يحفظه، والعمل عنده بخلافه، ويسأله شعبة فيجيب على ما يحفظ، والعمل عليه عنده. والإنصاف أولى بأهل العلم، وكان أبو بسطام سيىء الرأي في الحسن، والله يغفر لهما " (¬2). المقدمة الثامنة: التحقق من آخر قولي أو أقوال الناقد في الراوي، إن كان قد اختلف عليه وهذا كالذي نبهت عليه في صدر هذا الفصل من اختلاف النقل جرحاً وتعديلاً عن الناقد المعين، كالذي مثلت به عن يحيى بن معين. والمقصود أن الناقد قد يعدل الراوي، ثم يبدو له من أمره ما يوجب جرحه فيصير إليه، كما سأل أبو بكر أبو المروذي أحمد بن حنبل عن (الحكم بن عطية البصري) قال: كيف هو؟ قال: " كان عندي ليس به بأس، ثم بلغني أنه حدث بأحاديث مناكير " وكأنه ضعفه (¬3). وكما في قول يحيى بن معين في (ثواب بن عتبة المهري)، ففي رواية الدوري عنه: " ثقة " (¬4)، وكذلك نقل إسحاق بن منصور عن يحيى (¬5)، وهذا ما كان قد صار إليه في شأنه، ومن الدليل عليه قول ابن حاتم: ¬

(¬1) خرَّجه الرامهرمزي (رقم: 230) من طريقه، مع رأيه في ترك العَمل به. (¬2) المحدث الفاصل (ص: 322 _ 323). (¬3) العلل، رواية المرُّوذي (النص: 165). (¬4) تاريخه (النص: 3565). (¬5) الجرح والتعديل (1/ 1 / 471).

المقدمة التاسعة: مراعاة دلالة ألفاظ الجرح والتعديل

" سمعت أبي وأبا زرعة ورأيا في كتاب رواه عباس الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: ثواب بن عتبة ثقة، فأنكرا جميعاً ذلك " (¬1). يظهر لي أنهما أنكرا ما في الكتاب من توثيق يحيى، لعلمهما أن الدوري إنما سمع من يحيى تضعيفه، كما يدل عليه قول الدوري في موضع آخر من " التاريخ ": " سمعت يحيى يقول: ثواب بن عقبة شيخ صدق "، قال الدوري: " فإن كنت كتبت عن أبي زكريا فيه شيئاً أنه ضعيف،، فقد رجع أبو زكريا، وهذا هو القول الأخير من قوله " (¬2). المقدمة التاسعة: مراعاة دلالة ألفاظ الجرح والتعديل إذ منها اللفظ المجمل الذي لا يتبين وجهه فيبحث عن تفسيره في كلام قائله، أو كلام غيره، أو بتأمل حال الراوي وحديثه، ومنها اللفظ الذي هو ظاهر الإفادة للجرح، ومعناه فيه بين، ومنها اللفظ يتردد في وضوح دلالته بنفسه. وقد تتبعت في الفصل التالي مشهور تلك الألفاظ وأكثرها استعمالاً، وبينت نكتاً تتصل بمعناها، توقف على ما يحتاج إليه لاستعمال هذه المقدمة. المقدمة العاشرة: التحقق من كون العبارة المعينة قيلت من قبل الناقد في ذلك الشخص المعين حكاية ألفاظ علماء الجرح والتعديل من قبل رواتها والناقلين لها عنهم قد يداخلها الوهم، فيكون الناقد قال تلك العبارة في راو، فيذكرها من أخذها عنه في راو آخر، ربما شابهه في اسمه أو نسبه، أو انتقل البصر من ترجمة إلى أخرى. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 471). (¬2) تاريخه (النص: 4333).

مثل ما نقله العقيلي وابن عدي عن البخاري قال: " زيد أبو عمر عن أنس، سكتوا عنه " (¬1)، وأسند العقيلي لزيد هذا حديثاً عن أنس في ذكر الجهنميين، وقال بعده: " روي هذا المتن بغير هذا الإسناد بأسانيد جياد ". واعتمد ابن الجوزي على ما نقله العقيلي أو ابن عدي البخاري، فذكر الرجل في " الضعفاء " (¬2)، وكذا الذهبي، مع إقراره بكون المتن الذي رواه زيد محفوظاً (¬3)، وبعده ابن حجر، ولم يتعقب بشيء إلا بذكر ابن حبان للرجل في " الثقات " (¬4). وجميع هذا وهم، فإن البخاري لم يقل العبارة المذكورة في (زيد أبي عمر)، إنما قالها في الراوي الذي تلاه في " التاريخ الكبير "، فبعد أن فرغ من ذكر (زيد أبي عمر) وحديثه في ذكر الجهنميين، قال: " زيد بن عوف أبو ربيعة، من بني عامر بن ذهل، ويقال: فهد، عن حماد بن سلمة، سكتوا عنه " (¬5). وأيد الوهم أن من تقدم ذكرهم جميعاً حين ترجموا لـ (زيد بن عوف)، لم يذكروا هذه العبارة عن البخاري فيه. كما يؤيده أن عبارة (سكتوا عنه) جرح بليغ من البخاري، وهذا الرجل لم يعرف إلا بحديث الجهنميين المشار إليه، وهو حديث محفوظ عن أنس من غير طريقه، لذا فقول ابن حبان في إيراده في (الثقات) هو الصواب، ولم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلاً (¬6). ¬

(¬1) الضعفاء، للعقيلي (2/ 72)، الكامل، لابن عدي (4/ 165). (¬2) الضعفاء، لابن الجوزي (1/ 303). (¬3) ميزان الاعتدال (2/ 108). (¬4) لسان الميزان (2/ 596)، والرجل في " الثقات " لابنِ حبان (4/ 250). (¬5) التاريخ الكبير (2/ 1 / 404). (¬6) الجرح والتعديل (1/ 2 / 576).

المقدمة الحادية عشرة: التحقق من لفظ المنقولة عن الناقد

وهو بخلاف ابن عوف، فإنه رجل متروك الحديث. وربما رجع أصل الوهم إلى رواية من نسخة من أصول " تاريخ " البخاري، لأن العقيلي وابن عدي إنما يرويانه عنه من جهتين مختلفتين. وتارة يكون الوهم من قبل الناقد نفسه، كأن يسأل عن راو قد اشترك مع آخر مجروح عنده في اسم أو نسب، فيجيب بحكمه في المجروح، كالمثال المتقدم عن يحيى القطان في (المقدمة الخامسة). المقدمة الحادية عشرة: التحقق من لفظ المنقولة عن الناقد ومن ذلك أن يأمن التصحيف أو التحريف للعبارة بما قد يحيل معناها، مثل ما وقع في كثير من الكتب من تحريف قول عبد الله بن عون البصري في (شهر بن حوشب): " نزكوه " بالنون والزاي في أوله، حرفت إلى " تركوه " بتاء فوقية في أوله فراء، في كثير من المراجع، وبين العبارتين فرق كبير في المعنى، فمعنى: (نزكوه) قال مسلم بن الحجاج: " أخذته ألسنة الناس، تكلموا فيه " (¬1)، وقال عياض: " معناه: طعنوا عليه، مأخوذ من النيزك، وهو الرمح القصير " (¬2). ومن قبيح التحريف أيضاً ما وقع في " الميزان " للذهبي في ترجمة (أبي صالح باذام مولى أم هانئ): " وقال إسماعيل بن أبي خالد: كان أبو صالح يكذب، فما سألته عن شيء إلا فسره لي " (¬3). وصواب العبارة: " كان أبو صالح يكتب " (¬4). ومن ذلك أن يقف على سياق لفظ الناقد بتمامه، لا يبني على اللفظ ¬

(¬1) مقدمة صحيح مُسلم (ص: 17) وقد أخرج الأثر عن ابنِ عونٍ بإسناد صَحيح. (¬2) إكمال المعلم (1/ 134). (¬3) ميزان الاعتدال (1/ 296). (¬4) الضعفاء، للعُقيلي (1/ 165)، والكامل، لابن عدي (2/ 256).

المقدمة الثانية عشرة: التيقظ إلى ما يقع أحيانا من المبالغة في صيغة النقد

المختصر، فربما صدر لفظ الناقد في راو بما يوهم الجرح حين سئل عنه وعمن هو أوثق منه على سبيل المقارنة، كأن يقول: (فلان ثقة، وفلان ضعيف)، أي مقارنة بمن ذكر معه، لا مطلقاً، وربما نقلت العبارة عنه بتصرف، فإذا تم الوقوف على نصها كانت على دلالة أخرى، وربما نقلت على المعنى، كأن يقال: (وثقه فلان) أو: (ضعفه فلان) أو (تركه فلان)، ولا تذكر الصيغة المفيدة لذلك، وربما عكس الأمر، فيكون أصل المنقول: (تركه فلان) فتحكى عنه قولا: " متروك ". قال يعقوب بن سفيان: سمعت أحمد بن صالح، وذكر مسلمة بن علي، قال: " لا يترك حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه، قد يقال: (فلان ضعيف)، فأما أن يقال: (فلان متروك) فلا، إلا أن يجتمع الجميع على ترك حديثه " (¬1). وله أمثلة كثيرة، منها: نقل العقيلي عن يحيى بن سعيد القطان قوله في حسين المعلم وقد ذكر أحاديثه: " فيه اضطراب "، فصدر العقيلي بقوله: " حسين بن ذكوان المعلم، بصري، مضطرب الحديث " (¬2)، أخذها من عبارة يحيى القطان متوسعاً فيها حتى جعل الوصف اللازم لحسين هذا أنه مضطرب الحديث. ومن هذا أيضاً: الاختصار في نقل عبارة الناقد، أو حكايتها بالمعنى، مما يقع به الخروج عن أصل دلالتها. المقدمة الثانية عشرة: التيقظ إلى ما يقع أحياناً من المبالغة في صيغة النقد وذلك كاستعمال العبارات المشعرة بشدة جرح الراوي، كأن يحمل ¬

(¬1) المعرفة والتاريخ (2/ 191) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 181). (¬2) الضعفاء (1/ 250).

خطأه على الكذب، وإنما هو الوهم، أو يحمل منكراً رواه، عليه، وإنما هو التدليس. مثل ما حكى عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: قلت لأبي: كان يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة الحراني كان يكذب، فعظم ذلك عنده جداً، قال: " هؤلاء _ يعني أهل حران _ يحملون عليه، كان أبو قتادة يتحرى الصدق، لربما رأيته يشك في الشيء "، وأثنى عليه وذكره بخير. قال أحمد: " لعله كبر واختلط، الشيخ وقت ما رأيناه كان يشبه الناس ما علمته، كان يتحرى الصدق ". وقال: " أظن أبا قتادة كان يدلس " (¬1). قلت: وفي هذا كذلك فرق ما بين نعت الناقد العارف بهذا الشأن وأدبه، وغيره، فيعقوب بن إسماعيل هذا ليس معدوداً فيمن يعرف هذا الشأن. وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: ترى المسيب بن شريك كان يكذب؟ قال: " معاذ الله، ولكنه كان يخطئ " (¬2). وكان يحيى بن معين ربما بالغ في عبارة النقد، فكن يقظاً لذلك. وذلك كقوله وقد ذكر له عبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح، فقال له رجل: قوم يقدمون عبد الرحمن بن مهدي؟ فقال: " من قدم عبد الرحمن على وكيع _ فدعا عليه _ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " (¬3). فهذا مما عيب على يحيى، وأنكر منه. قال يعقوب بن سفيان: " كان غير هذا الكلام أشبه بكلام أهل العلم، ومن حاسب نفسه وعلم أن كلامه من عمله لم يقل مثل هذا " (¬4). ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال (النص: 1533)، ومعناه في (النص: 216، 1065). (¬2) العلل ومعرفة الرجال (النص: 3638). (¬3) تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 2677). (¬4) المعرفة والتاريخ (1/ 728).

المقدمة الثالثة عشرة: قد تطلق العبارة لا يراد ظاهرها

وقال الذهبي: " هذا كلام رديء، فغفر الله ليحيى، فالذي أعتقده أنا أن عبد الرحمن أعلم الرجلين وأفضل وأتقن، وبكل حال هما إمامان نظيران " (¬1). المقدمة الثالثة عشرة: قد تطلق العبارة لا يراد ظاهرها جرى في لسان العرب إطلاق لفظ الكذب على معناه المتبادر عند الإطلاق، الذي هو ضد الصدق، كما أنهم ربما أطلقوه على إرادة مجرد الخطأ. وتكرر وقوعه بهذا المعنى في مواضع في المنقول عن السلف، ومن أمثلته: ما حدث به أبو نهيك الأزدي: أن أبا الدرداء كان يخطب الناس، فيقول: لا وتر لمن أدركه الصبح. قال فانطلق رجال إلى عائشة، رضي الله عنها، فأخبروها، فقالت: كذب أبو الدرداء، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح فيوتر (¬2). ومن هذا أنهم ربما أطلقوا على الراوي وصف (الكذب) وعنوا في رأيه ومذهبه، لا في حديثه وروايته. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (9/ 152). (¬2) حديث صحيح. أخرجه ابنُ نصْر في " كتاب الوتر " (ص: 306 _ 307) وابنُ عدي (1/ 124) _ ومن طريقه: البيْهقي في " الكبرى " (2/ 478 _ 479) _ من طريق أبي عاصم النبيل، حدثنا ابنُ جريج، أخبرني زِياد، أن أبا نَهيكٍ أخبره، به. قلت: وهذا إسنادٌ صحيح، وزِياد، هوَ ابن سعْد. كذلك أخرجه أحمد (6/ 242) من طريق روْح بن عُبادة، والطبراني في " الأوسط " (3/ 79 رقم: 2153) من طريق أبي عاصم، قالا: حدثنا ابنُ جريج بإسناده، لكن لم يذكر فيه اللفظة مَحل الشاهد: (كذب .. ). وراوه عبد الرزاق في " المصنف " (3/ 11 رقم: 4603) عن ابن جريج، قال: أُخبرتُ عن أبي الدرداء، به. قلت: ولا أثر لهذا، فقد بيَّن ابنُ جريج إسنادَه به لأبي عاصم وروْحٍ.

مثل: (تليد بن سليمان المحاربي الكوفي)، كان أحد من سمع منهم أحمد بن حنبل وأثنى عليه (¬1)، لكنهم نقموا عليه مذهبه في التشيع، وغلظ يحيى بن معين فيه العبارة حتى قال: " كذاب "، لكني بحثت عن سبب تكذيبه له، فوجدته قد أحاله على مذهبه لا على حديثه، إذ نص مقالة يحيى كما رواها عنه الدوري: " تليد كذاب، كان يشتم عثمان، وكل من يشتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دجال، لا يكتب عنه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " (¬2). فتأثرت طائفة جاءوا من بعد بعبارة يحيى، وليس الأمر كما ذهبوا إليه، إنما علته مما ذكرت، فتأمل ‍‍! * * * ¬

(¬1) ووقع في كتاب " الكامل " لابن عدي (2/ 284): قال السعدي (يعني الجوزَجاني): سَمعتُ أحمد بن حنبل يقول: " حدثنا تليد بن سليمان، وهوَ عندي كانَ يكذب، وكان مُحمد بن عبيد يُسيءُ القول فيه "، ونظيرها حكى العُقيلي في " الضعفاء " (1/ 171) عن الجوزجاني. وأقول: هكذا جاءت العبارة، وفيها تكذيبٌ صريحٌ من أحمد له، وجميع من نقل العبارة عن ابن عدي أو العقيلي فقد حكاها هكذا، والواقع أنه قد حُذف منها ما أفْسدها، بحيث أصْبح ذلك التكذيب من قول أحمد، بينما نصُّ العبارة في " أحوال الرجال " للجوزجاني (النص: 92): " سمعتُ أحمد بن حنبل يقول في كتابي: حدثنا تليد بن سُليمان الخُشني. قال إبراهيم: وهُو عندي كان يكذب، كان مُحمد بن عُبيد يُسيءُ القول فيه "، قلت: وإبراهيم هذا هو الجوزَجاني، فتأمل! ثم إننا حرَّرنا في هذا الكتاب أن الجوزجاني لا يُقبل جرْحه في أهل الكوفة. قال المروذي عن أحمد: لم يَرَ به بأساً (العلل، للمروذي وغيره، النص: 189)، وروى عنه في " المسند " حديثاً (رقم: 9698) ولم يتفطن مُحققوه لما ذكرْت، فأطلقوا أن تليداً اتفقوا على ضَعفه، مع أنه عدَّله أيضاً غيرُ أحمد. وهذا مثال أيضاً لوجوب تحرير العبارة عن الناقد. (¬2) تاريخ يحيى بن معين (النص: 2670).

المبحث الثاني: تحرير منع تقديم الجرح على التعديل إلا بشروط

المبحث الثاني: تحرير منع تقديم الجرح على التعديل إلا بشروط التأصيل: أن من ثبت تعديله من ناقد عارف، فالواجب منع المصير إلى خلافه إلا بحجة. والتحقيق من مذاهب أهل العلم: أن الجرح الثابت عن الناقد العارف متروك حتى تجتمع فيه شروط ثلاثة: الشرط الأول: أن يكون مفسراً، ولو من ناقد واحد الجرح المجمل: هو اللفظ ظاهره القدح، لكن لم يبين وجهه، ولم يشرح سببه، كقول الناقد في راو: (ضعيف)، أو (ليس بشيء)، أو (متروك)، أو استعماله عبارة من العبارات النادرة الاستعمال، كقوله: (ارم به)، أو يسأل عن الراوي، فيشير بيده، أو لسانه، أو يحرك رأسه. كما لا عبرة بعدد المعدلين والجارحين على التحقيق، وما يسلكه بعض المنتسبين لهذا العلم من المتأخرين من حساب عدد من جرح ومن عدل، فيصير إلى الراجح بالعدد، فمذهب ضعيف لا يقوم على أصول هذا العلم.

فالتأصيل: أن الجرح ولو كان من واحد في مقابل تعديل الجمع، إذا سلم كونه قادحاً، قدم على التعديل، لأن الجارح بما هو قادح بمنزلة زيادة العلم من الثقة، فالجارح قد اطلع على ما يخرج ذلك الراوي عن محل السلامة في العدالة أو الضبط، إلى حيز الجرح والقدح (¬1)، دون أن يكون لمجرد العدد تأثير في ذلك. فإن قلت: لم لا يقدح الجرح مطلقاً ما دام صادراً من ناقد عارف، بناء على أن التعديل إنما جاء على وفاق الأصل، الذي هو السلامة من الجرح، والجرح زيادة علم جاء به الناقد، والأصل أن هؤلاء الناقد لما عرف من درايتهم بالنقلة، فهم يعنون ما يقولون، لا يطلقون عبارة الجرح إلا أن تكون جارية على اعتبارهم أسباب الجرح القادح المؤثر؟ فالجواب: الاشتباه واقع فيما يرد على لفظ الجرح من الاحتمال بسبب الإجمال، مع صحة وقوع المثال من قبل النقاد أنفسهم أنهم ربما أطلقوا اللفظ ظاهره الجرح، ويحتمل وجهاً غير معارض للتعديل، كما أن أحدهم ربما جرح بغير جارح، أو بلغه سبب الجرح عن غيره فبنى عليه، أو خرج منه مخرج الغضب والانفعال. قال أبو الطيب الطبري: " لا يقبل الجرح إلا مفسراً، وليس قول أصحاب الحديث: (فلان ضعيف) و (فلان ليس بشيء) مما يوجب جرحه ورد خبره، وإنما كان كذلك، لأن الناس اختلفوا فيما يفسق به، فلا بد من ذكر سببه؛ لينظر: هل هو فسق أم لا؟ ". قال الخطيب: " وهذا القول هو الصواب عندنا، وإليه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، مثل: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، وغيرهما " (¬2). ¬

(¬1) وانظر: الكفاية، للخطيب (ص: 175 _ 177). (¬2) الكفاية، للخطيب (ص: 179).

ومن أمثلته المؤكدة لوجوب تحقق هذا الشروط: ما رواه عباس الدوري في (بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي)، قال: سمعت يحيى (يعني ابن معين) يقول: حدث يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق فقال: رأيت بريدة بن سفيان يشرب الخمر في طريق الري. قال الدوري: " والذي يظن ببريدة بن سفيان أنه شرب نبيذاً، فرآه محمد بن إسحاق فقال: رأيته يشرب خمراً، وذاك أن النبيذ عند أهل المدينة ومكة خمر، لا أنه يشرب خمراً بعينها إن شاء الله، فهذا وجه الحديث عندي " (¬1). قلت: وكأن الجوزجاني استعمل هذه الحكاية للطعن عليه حين قال: " مغموص عليه في دينه " (¬2)، فزاد الجرح إبهاماً، فتأمل! وقال يحيى القطان: " كان محمد بن سيرين لا يرضى حميد بن هلال " (¬3). فقال ابن عدي: " لحميد بن هلال أحاديث كثيرة، وقد حدث عنه الناس والأئمة، وأحاديثه مستقيمة، والذي حكاه يحيى القطان أن محمد بن سيرين لا يرضاه لا أدري ما وجهه، فلعله كان يرضاه في معنى آخر ليس الحديث، فأما في الحديث فإنه لا بأس به وبروايته " (¬4). والأمر كما قال ابن عدي، وذلك المعنى الآخر غير الحديث بينه أبو حاتم الرازي بقوله: " دخل في شيء من عمل السلطان، فلهذا كان لا يرضاه، وكان في الحديث ثقة " (¬5). ¬

(¬1) تاريخ يحيى (النص: 268، 1923) وعنه في: الكامل (2/ 243) ومعرفة علوم الحديث، للحاكم (ص: 72). (¬2) الكامل (1/ 243). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 2 / 230). (¬4) الكامل (3/ 81). (¬5) الجرح والتعديل (1/ 2 / 230).

وقال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد القطان عن (الربيع بن عبد الله بن خطاف)، وقلت له: إن عبد الرحمن بن مهدي يثنى عليه، فقال: " أنا أعلم به "، وجعل يضرب فخذه تعجباً من عبد الرحمن، وقال: " لا ترو عنه شيئاً "، فقلت: لا أروي عنه حديثاً أبداً (¬1). قلت: فهذا جرح مجمل، لم يذكر يحيى له سبباً، وتسليمه له مع قيام المعارض، وهو التعديل لا يصح. قال ابن عدي: لم أر له حديثاً يتهيأ لي أن أقول من أي جهة أنه ضعيف، والذي يرويه عن الحسن وابن سيرين إنما هي مقاطيع " (¬2). وتبين أن العلة التي تكلم لأجلها فيه يحيى هي مظنة أنه كان يذهب إلى القول بالقدر. بين ذلك ما نقلة علي بن المديني قال: سألت عبد الرحمن بن مهدي عنه؟ فقال: " كان عندي ثقة في حديثه "، قلت لعبد الرحمن: كان يرى القدر؟ قال: " كان يجالس عمرو بن فائدٍ يوم الجمعة " (¬3). ومما يبين ضرورة تفسير سبب الجرح وقوع الحالات التالية: أولاً: أن الكلام في الراوي قد يكون بسبب منكرات جاءت من طريقة، ليس الحمل فيها عليه، إنما على مجروح أو مجهول غيره في الإسناد فوقه أو دونه. فتكلمت طائفة من النقاد في (بقية بن الوليد)، وذلك في التحقيق لشهرته بكثرة الرواية عن المتروكين والمجهولين، حتى أضر ذلك به عند طائفة. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 466) والضعفاء للعُقيلي (2/ 49) والكامل (4/ 43). (¬2) الكامل (4/ 43)، ويعني بقوله: (مقاطيع) أي مقطوعات، يعني كلامَ الحسن وابن سيرين، وليست أحاديث مرفوعة، أو آثاراً موقوفة. (¬3) الضعفاء، للعُقيلي (2/ 49)، وابنُ فائد هذا كانَ يذهب مذهب المعتزلة في القدر.

قال الدارقطني: " يروي عن قوم متروكين، مثل مجاشع بن عمرو، وعبد الله بن يحيى، ولا أعرفه، ولا أعلم له راوياً غير بقية " (¬1). قال ابن عدي: " إذا روى عن المجهولين، فالعدة عليهم، والبلاء منهم لا منه " (¬2). ومن أمثلته: ما حكاه أبو حاتم الرازي في (عثمان بن أبي العاتكة): سمعت دحيماً يقول: " لا بأس به، ولم ينكر حديثه عن غير علي بن يزيد، والأمر من علي "، فقيل له: إن يحيى بن معين يقول: الأمر من القاسم أبي عبد الرحمن، فقال: " لا ". قلت: ودحيم المرجع في رواة الشاميين، وعثمان هذا منهم، ولذا قال أبو حاتم: " لا بأس به، بليته من كثرة روايته عن علي بن يزيد، فأما ما روي عن عثمان عن غير علي بن يزيد فهو مقارب، يكتب حديثه " (¬3). وقال الذهبي في (أبي الحسن علي بن عبد الله بن الحسن بن جهضم الهمذاني): " ليس بثقة، بل متهم يأتي بمصائب " (¬4)، فعارض قول الحافظ شيرويه الديلمي: " كان ثقة صدوقاً عالماً زاهداً، حسن المعاملة، حسن المعرفة بعلوم الحديث " (¬5). وتبين أن التهمة بالكذب حكاها ابن الجوزي فقال: " ذكروا أنه كان كذاباً، ويقال: إنه وضع صلاة الرغائب " ونقل عن أبي الفضل بن خيرون قوله: " قد تكلموا فيه " (¬6). ¬

(¬1) سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 89). (¬2) الكامل (2/ 276). (¬3) الجرح والتعديل (3/ 1 / 163). (¬4) سيَر أعلام النبلاء (17/ 276)، ومعناه في " الميزان " (3/ 142). (¬5) من كتابه " طبقات الهَمذانيين "، نقله عنه الرافعي في " تاريخ قزوين " (3/ 370) وابنُ حجر في " اللسان " (4/ 277). (¬6) المنتظم، لابن الجوزي (15/ 161).

وهذا الطعن متهافت، فمن ذا كذبه، فالجرح لا يقبل من مجهول، والتهمة بوضع صلاة الرغائب جاءت من جهة أنه روى الحديث فيها، لكنه لم يكن سوى ناقل، وعلتها ممن فوقه، فإسنادها مجهول (¬1). وكثير من الثقات رووا عن المجهولين والضعفاء والمتهمين ما هو منكر أو كذب، وما لحقهم الجرح بسببه، إنما التهمة لمن يعرف من رجاله بالعدالة. وتفطن إلى صورة تقابل هذه، وهي: أن يكون الراوي عن المتكلم فيه مجروحاً، فيروي عنه منكرات، والحمل فيه على ذلك المجروح. كما قال الدارقطني في (سماك بن حرب): " إذا حدث عنه شعبة والثوري وأبو الأحوص فأحاديثهم عنه سليمة، وما عن شريك بن عبد الله وحفص بن جيمع ونظرائهم ففي بعضها نكارة " (¬2). وكما قال ابن عدي في (ثابت بن أسلم البناني): " هو من ثقات المسلمين، وما وقع في حديثه من النكرة فليس ذلك منه، إنما هو من الراوي عنه؛ لأنه قد روى عنه جماعة ضعفاء ومجهولون، وإنما هو في نفسه إذا روى عمن هو فوقه من مشايخه فهو مستقيم الحديث ثقة " (¬3). وذكر ابن عدي جماعة من الرواة، عيبهم من هذا الباب، فذب عنهم، وحمل النكارة في أحاديث جاءت عنهم على أنها من قبل الأسانيد إليهم (¬4). ثانياً: قد يكون الجرح من أجل الخطأ في حديث معين، فيطلق الناقد العبارة في الراوي، وليس الأمر كما قال، بل الإنصاف أن يقيد الجرح بما أخطأ فيه خاصة، ويحتج به فيما سوى ذلك. ¬

(¬1) انظر تعليقي على كتاب أبي القاسم بن منده: " الرد على من يقول (الم) حرف " (ص: 39). (¬2) سؤالات السلمي (النص: 158). (¬3) الكامل (2/ 308). (¬4) فانظر مثلاً: الكامل (3/ 73) ترجمة (حُميد بن قيس الأعرج)، و (4/ 161) ترجمة (زيد بن رُفيع).

مثاله: عبد الرحمن بن نمر الشامي، روى عن الزهري ومكحول، وروى عنه الوليد بن مسلم وسليمان بن كثير. قال فيه يحيى بن معين: " ابن نمير ضعيف في الزهري " (¬1). وهذا الجرح تبين أنه كان من أجل حديث معين، أورده ابن عدي من طريقه عن الزهري عن عروة بن الزبير، أنه سمع مروان بن الحكم يقول: أخبرتني بسرة بنت صفوان الأسدية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء من مس الذكر، والمرأة مثل ذلك. ثم قال ابن عدي: " هذا الحديث بهذا الزيادة التي ذكر في متنه: والمرأة مثل ذلك، لا يرويه عن الزهري غير ابن نمر هذا ". قال: " له عن الزهري غير نسخة، وهي أحاديث مستقيمة .. وقول ابن معين: هو ضعيف في الزهري، ليس أنه أنكر عليه في أسانيد ما يرويه عن الزهري، أو في متونها، إلا ما ذكرت من قوله: والمرأة مثل ذلك، وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء " (¬2). وأقول: بل ذهب ناقد أهل الشام دحيم إلى تصحيح حديثه عن الزهري، كما قال الخبير بحديث الزهري الحافظ محمد بن يحيى الذهلي بعد أن أطلق ثقته: " لا تكاد تجد لا بن نمر حديثاً عن الزهري إلا ودون الحديث مثله يقول: سألت الزهري عن كذا؟ فحدثني عن فلان وفلان، فيأتي بالحديث على وجهه " (¬3). على أنه من الجائز أن تكون تلك الزيادة التي أجلها ضعفه ابن معين على ما بينه ابن عدي مدرجة من قول الزهري ورأيه، والزهري ¬

(¬1) تاريخه (النص: 1164) وفي سؤالات ابنِ الجنيد (النص: 140): " ضعيف الحديث ". (¬2) الكامل (5/ 477، 478). (¬3) تهذيب التهذيب، لابن حجر (2/ 561).

معروف بمثل ذلك يدرج في المتون التفسير والرأي، خصوصاً مع مراعاة ما ذكره الذهلي من أنه كان يسأل الزهري. ثالثاً أن يكون الجرح عائداً إلى كون الراوي قد ضعف في شيخ معين، أو في حال معين، فهذا لا يصلح فيه قبول الجرح المطلق، بل يرد من حديثه القدر الذي ضعف فيه، ويحتج بما سواه من حديثه. قال ابن القيم منبهاً على ما يقع من بعضهم الغلط فيه من مثل هذا: " أن يرى الرجل قد تكلم في بعض حديثه، وضعف في شيخ، أو في حديث، فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجده، كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظاهر وغيرهم، وهذا غلط، فإن تضعيفه في رجل أو في حديث ظهر فيه غلط لا يوجب التضعيف لحديثه مطلقاً، وأئمة الحديث على التفصيل والنقد واعتبار حديث الرجل بغيره، والفرق بين ما انفرد به أو وافق فيه الثقات " (¬1). تنبيه: مما يكون من قبيل الجرح المجمل: ذكر الراوي في كتب الضعفاء. شأن جماعة من الثقات أوردهم ابن عدي والعقيلي في كتابيهما في الضعفاء. فابن عدي في " الكامل " ذكر طائفة من أعيان الثقات، ممن حكم هو بأنهم من الثقات المتقنين، منهم: حبيب بن أبي ثابت، وثابت بن أسلم البناني، وأبو العالية الرياحي، وسعيد بن أبي سعيد المقبري، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، وأبو نضرة العبدي، وعبد الله بن وهب المصري، وغيرهم. ¬

(¬1) الفروسية (ص: 62).

وذكرهم من أجل كلام بعضهم فيه، وكان شرطه إيراد كل متكلم فيه ليذب عنه. بل ذكر ابن عدي في (كتابه) بعض الصحابة لأجل الحديث الذي روي عنهم، لا لجرح فيهم، مثل: ذي اليدين، وزيد بن أبي أوفي، وسليك الغطفاني، وأبي الطفيل عامر بن واثلة. وبين ابن عدي وجه ذلك فقال: " وكل من له صحبة ممن ذكرنا في هذا الكتاب، فإنما تكلم البخاري في ذلك الإسناد الذي انتهى فيه إلى الصحابي، أن ذلك الإسناد ليس بمحفوظ، وفيه نظر، لا أنه يتكلم في الصحابة، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لحق صحبتهم، وتقادم قدمهم في الإسلام، لكل واحد منهم في نفسه حق وحرمة؛ للصحبة، فهم أجل من أن يتكلم أحد فيهم " (¬1). وكذا أورد العقيلي في (كتابه) جماعة وهم من المتقنين: أمية بن خالد القيسي، وجرير بن عبد الحميد الضبي، وعلي بن مسهر، وعلي بن المديني، وغيرهم. ومع اشترط الذهبي في " الميزان " استقصاء من تكلم فيه، وإن كان من الثقات المتقنين؛ لإبطال دعوى الجرح فيهم، إلا أنه تحاشى ذكر أحد من الصحابة، وقال في بيان شرطه: " إلا ما كان في كتاب البخاري وابن عدي وغيرهما من الصحابة، فإني أسقطهم؛ لجلالة الصحابة، ولا أذكرهم في هذا المصنف؛ فإن الضعف إنما جاء من جهة الرواة إليهم " (¬2). قلت: وطريقة الذهبي أجود. ¬

(¬1) الكامل (4/ 163). (¬2) ميزان الاعتدال (1/ 2).

الشرط الثاني: أن يكون جرحا بما هو جارح

الشرط الثاني: أن يكون جرحاً بما هو جارح ليس كل جرح يكون قادحاً حتى ولو كان مفسراً؛ وذلك لما عرف أن الراوي قد يجرح بغير جارح، والعالم ربما جرح بالشيء يخالف فيه، والصواب والعدل قول مخالفه. وتقدم في (تفسير الجرح) أنه وقع بأسباب لا أثر لها في التحقيق، فاستبنه مما شرحته هناك. فإذا كان الجرح مفسراً قادحاً فهو مقدم على التعديل، على التحقيق. الشرط الثالث: أن لا يكون الجرح مردوداً من ناقد آخر بحجة فقد وجدنا الرجل يجرح الرجل أو يعدل من بعض النقاد، فيأتي بعده من يطلع على جرحه أو تعديله، فيرد قوله. فأما رد التعديل بظهور الجرح، فهذا يميز بالشرط الأول. مثل قول الجوزجاني: قلت لأحمد (يعني ابن حنبل): إن موسى (يعني ابن عبيدة الربذي) قد روى عنه سفيان وشعبة؟ قال: " لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه " (¬1). وكقول الدارقطني في (عبد الغفار بن القاسم أبي مريم): " متروك "، ثم قال: " شيخ شعبة، أثنى عليه شعبة، وخفي أمره على شعبة، وبقي بعد شعبة زماناً فخلط " (¬2). ¬

(¬1) أحوال الرجال (النص: 208). (¬2) سؤالات البَرقاني (النص: 316).

ومن هذا تعديل بعض السلف لبعض من أدركوا من الرواة، فاكتشف من جاء بعدهم من أمرهم ما خفي على من عدلهم، كتعديل بعضهم لجابر الجعفي، وعبد الكريم بن أبي المخارق، والواقدي. فتقديم الجرح في هذه الأمثلة صحيح ما دام مفسراً مبيناً قادحاً. ولكن رد الجرح من قبل الناقد الآخر هو المعني بهذا الشرط، ومن أمثلته: 1 _ قال ابن الجنيد: سألت يحيى بن معين عن هلال بن خباب وقلت: إن يحيى القطان يزعم أنه تغير قبل أن يموت واختلط؟ فقال يحيى: " لا، ما اختلط، ولا تغير "، قلت ليحيى: فثقة هو؟ قال: " ثقة مأمون " (¬1). قلت: وهذا النفي من ابن معين جائز أن يكون بالنظر إلى روايات الرجل، فلم ير لما ذكر يحيى القطان تأثيراً فيها، فكأنه يقول: لو صح ما قال القطان فلا وجه للقدح به، إذ كأنه لم يكن. 2 _ وقال الآجري: قلت لأبي داود: العوام بن حمزة، حدث عنه يحيى القطان، قال عباس (يعني الدوري) عن يحيى بن معين: إنه ليس بشيء؟ قال: " ما نعرف له حديثاً منكراً " (¬2). قلت: فأبو داود يقول: لا وجه لجرحه بما قال ابن معين؛ لسلامة حديثه، وخذ منه أن ابن معين ربما قال هذه العبارة لا يعني بها رد حديث الراوي، إنما يعني قلة حديثه. 3 _ وقال علي بن المديني في (عبد الحميد بن جعفر الأنصاري): " كان يقول بالقدر، وكان عندنا ثقة، وكان سفيان الثوري يضعفه " (¬3). ¬

(¬1) سؤالات ابن الجنيد (النص: 288). (¬2) سؤالات الآجري (النص: 355). (¬3) سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني (النص: 105).

قلت فلم يعتد بتضعيف سفيان، وجائز أن يكون من أجل إجماله، أو من أجل البدعة، ولم يكن ابن المديني يرى لها أثراً في صدق الراوي وثقته. 4 _ وفي طائفة من الرواة كان البخاري عدهم في جملة الضعفاء فيما ألفه في ذلك، فخالفه فيهم أبو حاتم الرازي، على ما يذكر من تشدده: فمنهم: حريث بن أبي حريث، قال أبو حاتم: " يحول اسمه من هناك، يكتب حديثه ولا يحتج به " (¬1)، يريد أنه صالح الحديث للاعتبار. ومنهم: عبيد بن سلمان الأعرج، قال أبو حاتم: " لا أرى في حديثه إنكاراً، يحول من كتاب الضعفاء الذي ألفه البخاري إلى الثقات " (¬2). ومنهم: عبيد الله بن أبي زياد القداح، قال أبو حاتم: " ليس بالقوي ولا بالمتين، وهو صالح الحديث، يكتب حديثه، ومحمد بن عمرو أحب إلي منه، يحول اسمه من كتاب الضعفاء الذي صنفه البخاري " (¬3). ومنهم: عباد بن راشد التميمي البصري، قال أبو حاتم: " صالح الحديث " وأنكر على البخاري إدخال اسمه في كتاب الضعفاء، وقال: " يحول من هناك " (¬4). ومنهم: عبد الرحمن بن مسلمة، قال أبو حاتم: " صالح الحديث " وأنكر على البخاري إدخاله في كتاب الضعفاء، وقال: " يحول من هناك " (¬5). ومنهم: عبد الرحمن بن عطاء المديني، قال أبو حاتم: " شيخ " قال له ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 263). يعني بقوْله: " من هُناك " أي: من كتاب " الضعفاء " للبخاري. (¬2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 407). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 2 / 316). (¬4) الجرح والتعديل (3/ 1 / 79). (¬5) الجرح والتعديل (2/ 2 / 286).

ابنه عبد الرحمن: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء؟ فقال: " يحول من هناك " (¬1). ومنهم: عبد الرحمن بن حرملة، قال أبو حاتم: " ليس بحديثه بأس، وإنما روى حديثاً واحداً ما يمكن أن يعتبر به، ولم أسمع أحد ينكره ويطعن عليه، وأدخله البخاري في كتاب الضعفاء، يحول منه " (¬2). ومنهم: عبد الرحمن بن ثابت بن الصامت، قال أبو حاتم: " ليس عندي بمنكر الحديث " فقال ابنه: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء، قال: " يكتب حديثه، ليس بحديثه بأس، ويحوَّل من هناك " (¬3). ومنهم: عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، قال أبو حاتم " صدوق "، وأنكر على البخاري إدخاله اسمه في كتاب الضعفاء، وقال: " يحول منه " وقال: " يروي عن الضعفاء يشبه ببقية في روايته عن الضعفاء " (¬4). قلت: وتلاحظ أن المقياس عند أبي حاتم لرد جرح البخاري كان اعتبار حديث الراوي، فيكون مذهب البخاري فيهم التشديد، والصواب فيهم التوسط. وهذا باب يطول استقصاؤه، وإنما هذه أمثلة. 5 _ ومنه من ذكر بجرح قديم، فأعرض عن ذلك الجرح صاحبا (الصحيح) ولم يعداه شيئاً، واحتجا بحديث ذلك الراوي، كطائفة من المتكلم فيهم في كتابيهما. وقد تعقب الدارقطني النسائي في جرحه لجماعة ممن احتج بهم ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 2 / 269). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 222 _ 223). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 2 / 219). (¬4) الجرح والتعديل (3/ 1 / 157 _ 158).

البخاري ومسلم، فرد قول النسائي، كما ترى ذلك في جزء حدث به الثقة أبو محمد الحسن بن محمد الصيداوي عن أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن بكير البغدادي عن الدارقطني (¬1). فالناقد قد يرد قول الناقد بعد أن يطلع عليه من جهة وقوفه على ما لم يقف عليه من تقدمه: فإن تعقب بتعديل فلكونه حقق مقال من سبقه في الجرح فلم يره صواباً لثبوت ضده، أو عدم الدليل عليه، وإن تعقب بجرح؛ فلكونه كشف من أمره الراوي ما فات من سبقه. * * * ¬

(¬1) وهذا منشورٌ باسم: " سؤالات أبي عبد الله بن بكير وغيره لأبي الحسن الدارقطني ".

المبحث الثالث: تنبيهات حول تعارض الجرح والتعديل

المبحث الثالث: تنبيهات حول تعارض الجرح والتعديل التنبيه الأول: ترك التعديل عند ظهور الجرح لا يقدح في شخص المعدل أو علمه. اعلم أن تقديم الجرح باجتماع الشروط المتقدمة، فذلك بناء على أن الجارح أتى بزيادة علم، لم يأت بها أو لم يطلع عليها من عدله، وليس في تقديمه قدح في المعدل بهذا الاعتبار. قال ابن حزم: " التجريح يغلب التعديل؛ لأنه علم زائد عند المجرح لم يكن عند المعدل، وليس هذا تكذيباً للذي عدل، بل هو تصديق لهما معاً " (¬1). التنبيه الثاني: الجرح لمن استقرت عدالته وثبتت إمامته مردود. الراوي إذا ثبت عدالته وعرفت ثقته وإمامته باتفاق النقاد السالفين، فتناوله جارح متأخر فتكلم فيه بعد ذلك، فذلك مما لا يلتفت إليه، وإن كان ذلك الجارح ممن يفهم هذا الفن، وإن وجدت لهذا مثالاً فإنك لا تعدم إما نقص الحجة على الجرح، وإما الخطأ فيه. ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 146).

التنبيه الثالث: تقديم الجرح عند اجتماع الشروط لا يلزم منه السقوط بالراوي

سأل أبو عبد الرحمن السلمي الدارقطني عن أبي حامد الشرقي؟ فقال: " ثقة مأمون إمام "، قال السلمي: فقلت: فما تكلم فيه ابن عقدة، فقال: " سبحان الله! وترى فيه مثل كلامه؟ ولو كان بدل ابن عقدة يحيى بن معين "، قلت: وأبو علي الحافظ كان يقول من ذلك، فقال: " وما كان محل أبي علي وإن كان مقدماً في الصنعة أن يسمع كلامه في أبي حامد، رحم الله أبا حامد، فإنه صحيح الدين، صحيح الرواية " (¬1). التنبيه الثالث: تقديم الجرح عند اجتماع الشروط لا يلزم منه السقوط بالراوي. وإنما المقصود إعماله، وقد يصير إلى النزول بدرجة الراوي عن درجة المتقنين إلى من يقبل حديثه بعد تحقق سلامته من الغلط، كما قد يعتبر الجرح فيه عند مقارنته بمن هو فوقه، لا إذا استقل بالرواية، وقد ينزل به إلى درجة من يرد حديثه الذي ينفرد به، ويعتبر به عند الموافقة، وقد يلحق بالمتروكين، أو الكذابين. والعبرة بدلالة ذلك الجرح المفسر وأثر قدحه. التنبيه الرابع: جرى عند علماء هذا الفن أن الراوي إذا اتفق على توثيقه إماما الصناعة أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فإنه جاز بذلك القنطرة. والمقصود أنه لو جرح فغاية أمره أن يكون لخطأ أخطأه لا يسقط به، ولا يزيله عن درجة المقبولين، وإنما قد ينزل به عن درجة المتقنين إلى من يحسن حديثه. ¬

(¬1) سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 18). أبو حامد هوَ أحمد بن مُحمد بن الحسن النيْسابوري، من تلامذةِ مُسلم، وأبو علي هوَ الحسين بنُ علي بن يزيد النيْسابوري، من كِبار الحُفاظ.

التنبيه الخامس: الراوي يختلف فيه جرحا وتعديلا، وهو قليل الحديث

والاستثناء لمن هذه صفته وقع من جهة انتفاء وجود حالة خرجت عما ذكرت من القبول. مثل: (حشرج بن نباتة الأشجعي)، أنكر عليه البخاري حديث الخلفاء (¬1)، وذكره ابن عدي واعتذر عنه، وأجاب عما أنكر عليه، ثم قال: " وأحاديثه حسان وإفرادات وغرائب، وقد قمت بعذره فيما أنكروه عليه، وهو عندي لا بأس به وبروايته، على أن أحمد ويحيى قد وثقاه " (¬2). واتفقا على توثيق شهر بن حوشب، وضعفه بعض الحفاظ، لكنك لا تجد في المفسر القادح من الجرح ما ينزل به عن رتبة الصدوق الذي يحسن حديثه. ويشبه هذه الصورة كذلك اتفاق يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي على الرواية عن راو. وإذا قلنا هذا فيمن وثقوه، فكذلك وجدناه فيمن جرحوه، لا يكاد يبرأ. التنبيه الخامس: الراوي يختلف فيه جرحاً وتعديلاً، وهو قليل الحديث. مثل هذا إذا كان جرحه بالخطأ في حديث أو بعض حديثه الذي روى، فالجرح يلين حديثه، وينزل بدرجة ذلك الراوي عن درجة من يحتج به، وإنما يعتبر بحديثه ويستشهد. * * * ¬

(¬1) هوَ حديث رواه عن سعيد بن جُهْمان، عن سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذكر الخُلفاء من بعْده: أبي بكر وعمَر وعثْمان. وحوْله تفصيلٌ له مَقام آخر، وإنما الشاهد مما ذكرْت اتفاق أحمد ويحيى على توثيق حشْرَجٍ. (¬2) الكامل (3/ 375).

الفصل السادس مراتب الرواة وتفسير عبارات الجرح والتعديل

الفصل السادس مراتب الرواة وتفسير عبارات الجرح والتعديل

المبحث الأول: مراتب الرواة

المبحث الأول: مراتب الرواة والمقصود اعتباره في هذا المبحث: هو مذاهب أئمة الشأن في مراتب الرواة باعتبار درجات تعود جملتها إلى: الاحتجاج، أو الاعتبار، أو السقوط. ومراعاتها طريق الباحث لتقرير قبول الراوي أو رده، وإن رده فهل إلى الترك أم دونه. وأقدم من جاء عنه تقسيم مراتب الرواة هو الإمام عبد الرحمن بن مهدي، وذلك باعتبار القبول والتوسط والرد. قال: " الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا يختلف فيه. وآخر يهم، والغالب على حديثه الصحة، فهو لا يترك حديثه، لو ترك حديث مثل هذا لذهب حديث الناس. وآخر يهم، والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه " (¬1). ¬

(¬1) أثرٌ صحيح. أخرجه مسلم في " التمييز " (رقم: 35) وابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 38) وغيرهما من رواية مُحمد بن المثنَّى. وقد سُقْتُ النص بتمام تخريجه وزيادةٍ في أوَّله في (تفسير الجرح).

وفسر ابن أبي حاتم قوله في آخره: " يترك حديثه " بقوله: " يعني: لا يحتج بحديثه ". وذلك لما سأذكره عنه أن من غلب عليه الوهم فهذا لا يترك مطلقاً، وإنما احتمل منه الترغيب والترهيب، والزهد والآداب، لا أحكام الحلال والحرام. مراتب الرواة في تقسيم ابن أبي حاتم: وللحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي السبق في تفصيل تعيين مراتب الرواة، فجعلهم على خمس مراتب، وعلى ما بينه جرى عامة من جاء بعده، وإنما أعملوا النظر في إلحاق ما لم يذكره من العبارات بقسمته، مع بعض المغايرات غير الجوهرية. ونحن على ما جرينا عليه في هذا الكتاب، قصدنا إلى تحرير هذا العلم من خلال منهج المتقدمين الذي إليهم ترجع اصطلاحات هذا الفن وقوانينه، لم نر مزيد التحشية بتفصيل ما اجتهد بإضافته المتأخرون في هذا الباب؛ لأن جل الهم عندهم كان في تتبع الألفاظ وتنزيلها على قسمة ابن أبي حاتم، ولم يكن ابن أبي حاتم نفسه ليعجز عن ذكر أكثر مما ذكر منها، ولكنه قصد إلى التمثيل بمشهورها، على أن من تعقب لم يقدر أن يأتي على جميعها، كما أن منهم من أقحم ألفاظاً لم يعرف شيوعها إلا عند المتأخرين أنفسهم، ولم يزل الباحثون يتعقبون بالزيادة. ورأينا: أن تتبع الألفاظ ليس ذا كبير أهمية، فإن النظير يعرف بالنظير، وتحري الكلام في كل راو لذاته يفصل في تبيين درجته، بل وفهم ما أطلق فيه من العبارة جرحاً وتعديلاً، ومما لا يضل معه المعتني بهذا العلم بأي المراتب يحلقه. وأحسن ابن الصلاح بقوله بعد أن تعقب على ابن أبي حاتم بألفاظ

قليلة: " وما من لفظة منها ومن أشباهها، إلا ولها نظير شرحناه، أو أصل أصلناه يتنبه إن شاء الله تعالى بها عليها " (¬1). فأما قسمة ابن أبي حاتم لتلك المراتب لتلك نقلاً عن أهل الحديث، فإنه قال: " فمنهم: الثبت الحافظ الورع المتقن الجهبذ للناقد للحديث. فهذا الذي لا يختلف فيه، ويعتمد على جرحه وتعديله، ويحتج بحديثه وكلامه في الرجال. ومنهم: العدل في نفسه، الثبت في روايته، الصدوق في نقله، الورع في دينه، الحافظ لحديثه، المتقن فيه. فذلك العدل الذي يحتج بحديثه، ويوثق في نفسه. ومنهم: الصدوق الورع الثبت الذي يهم أحياناً، وقد قبله الجهابذة النقاد، فهذا يحتج بحديثه. ومنهم: الصدوق الورع، المغفل، الغالب عليه الوهم والخطأ والغلط والسهو. فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب، والزهد والآداب، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام. وخامس: قد ألصق نفسه بهم، ودلسها بينهم ممن ليس من أهل الصدق ¬

(¬1) علوم الحديث، لابن الصلاح (ص: 127).

والأمانة، ومن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال أولي المعرفة منهم الكذب، فهذا يترك حديثه وتطرح روايته " (¬1). وفي أول " الجرح والتعديل " ذكر قسمة أخرى باعتبار مراتب الألفاظ، فيها مزيد تفصيل، فقال: " وجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى: (1) فإذا قيل للواحد: إنه ثقة، أو: متقن ثبت، فهو ممن يحتج بحديثه. (2) وإذا قيل له: إنه صدوق، أو: محله الصدق، أو: لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه. وهي المنزلة الثانية. (3) وإذا قيل: شيخ، فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانية. (4) وإذا قيل: صالح الحديث، فإنه يكتب حديثه للاعتبار. (5) وإذا أجابوا في الرجل بلين الحديث، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتباراً. (6) وإذا قالوا: ليس بقوي، فهو بمنزلة الأولى في كتب حديثه، إلا أنه دونه. (7) وإذا قالوا: ضعيف الحديث، فهو دون الثاني، لا يطرح حديثه، بل يعتبر به. (8) وإذا قالوا: متروك الحديث، أو: ذاهب الحديث، أو: كذاب، فهو ساقط الحديث، لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الرابعة " (¬2). قلت: فتلاحظ أن ابن حاتم اعتبر في هذه الدرجات الاحتجاج ¬

(¬1) تقدمة الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (ص: 10). (¬2) الجرح والتعديل (1/ 1 / 37).

المرتبة الأولى: الاحتجاج

بالراوي أو عدمه، وعليه يمكن أن يستخلص من قسمته ما ذكرت أولاً، أن مراتب الرواة في الجملة ثلاث: المرتبة الأولى: الاحتجاج. وهو درجتان: الدرجة الأولى: درجة راوي (الحديث الصحيح). ويندرج تحتها في قول ابن أبي حاتم في القسمة الأولى: " الثبت الحافظ الورع المتقن الجهبذ الناقد للحديث "، وقوله: " العدل في نفسه، الثبت في روايته، الصدوق في نقله، الورع في دينه، الحافظ لحديثه، المتقن فيه "، وفي القسمة الثانية: " ثقة، أو: متقن ثبت ". والدرجة الثانية: درجة راوي (الحديث الحسن). ويندرج تحتها في قول ابن أبي حاتم في القسمة الأولى: " الصدوق الورع الثبت الذي يهم أحياناً، وقد قبله الجهابذة النقاد "، وفي القسمة الثانية: " صدوق، أو: محله الصدق، أو: لا بأس به ". المرتبة الثانية: الاعتبار. وهو ثلاث درجات: الدرجة الأولى: راوي الحديث الصالح المحتمل للتحسين. ويندرج تحتها في قول ابن أبي حاتم في القسمة الثانية: " شيخ " و " صالح الحديث ". نعم، جعل ابن أبي حاتم اللفظ الأول أعلى من الثاني، لكن كما سيأتي في (شرح العبارات) أنه لا يبلغ الموصوف به الاحتجاج، فهو وإن كان أرقى من " صالح الحديث " لكنه لا يحتج به.

المرتبة الثالثة: السقوط

الدرجة الثانية: راوي الحديث اللين الصالح للاعتبار. ويندرج تحتها في قول ابن أبي حاتم في القسمة الثانية: " لين الحديث "، و " ليس بقوي ". الدرجة الثالثة: راوي الحديث الضعيف الصالح للاعتبار. ويندرج تحتها في قول ابن أبي حاتم في القسمة الأولى: " الصدوق الورع، المغفل، الغالب عليه الوهم والخطأ والغلط والسهو "، وقوله في القسمة الثانية: " ضعيف الحديث ". المرتبة الثالثة: السقوط. وجعلها ابن أبي حاتم درجة واحدة، وهي حرية بذلك وإن تفاوتت , فرواية أخف من رواية الكذاب، لكن جمعهما بطلان نسبة الراوية إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ويندرج تحتها في قول ابن أبي حاتم في القسمة الأولى: " من ليس من أهل الصدق والأمانة، ومن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال أولي المعرفة منهم الكذب "، وفي القسمة الثانية: " متروك الحديث، أو: ذاهب الحديث، أو: كذاب ". وما يتصل بتفاوت ما بين مراتب الثقات وما بين مراتب الضعفاء فله مزيد تفصيل بينته في (تفسير التعديل) و (تفسير الجرح). * * *

المبحث الثاني: تفسير عبارات الجرح والتعديل

المبحث الثاني: تفسير عبارات الجرح والتعديل هذا المبحث معقود لبيان دلالات الألفاظ التي ورد عن السلف من أئمة هذا الشأن بيان معانيها، أو كانت كثيرة الاستعمال شائعة، يجدر التنبيه على بعض ما يتصل بها مما تكون له فائدة لكشف أثر استعمالها. ولم أقصد إلى حصر ألفاظ الجرح والتعديل، فهذا مما لا يتحمله هذا المقام (¬1)، ولم أر تتبع ذلك استقصاء مما له كبير فائدة، وذلك أن منها ما يندر استعماله، بل فيها ما لم يستعمل إلا في الراوي الواحد (¬2)، ومنها الشائع المنتشر، وهذا غالبه بين في دلالته اللغوية، فالأصل أن تلك الألفاظ موضوعة على دلالاتها في كلام العرب، ومنها ما يعرف بالمقايسة بما أذكر. فإن كانت للفظ دلالة خاصة، فالطريق إلى العلم بها أحد أمور ثلاثة: الأول: بيان مستعملها أنه يعني بها كذا. ¬

(¬1) ولسْتُ أرى ابتداع أمْر كهذا أن يكون على سبيل الاستقصاءِ إلا مما يثْقل به هذا العلم، فإنَّ المتعرض له الناظر في مصطلحات أهْله المشتغل به، المدمن للنظر في تراجم النقلة، لا يحتاج إلى أن يُتكلف له تتبع مثل ذلك، وهُو أمْرٌ لم يفعله المتقدمون، إنما شرحوا من تلك العبارات ما يُشكل وما يكثر، وقد رأيت كتاباً حافلاً لشيخ فاضل جمع فيه تلك الألفاظ كالمستقصي، لكني استثْقلته للمبتدئ، واستبْعدتُ فائدته للمتخصص. (¬2) وللعالم الفاضل الدكتور سعدي الهاشمي كِتابان فريدان في جمع الألفاظ النادرة والقليلة الاستعمال، أحدهما في (ألفاظ التوثيق والتعديل)، والثاني في (ألفاظ التجريح).

والثاني: دلالة قرينة في السياق على إرادة معنى معين. والثالث: إفادة التتبع لاستعمالات الناقد لتلك اللفظة. 1 _ من هو (الحجة)؟ قولهم: (فلان حجة)، أو: (يحتج بحديثه) أو: (لا يحتج بحديثه) مما يتكرر كثيراً في كلام النقاد في تعديل الرواة وتجريحهم. فقولهم: (حجة) يعني (ثقة)، بل فوق الثقة (¬1)، يصحح حديثه ويحتج به. وتأتي عبارة (يحتج به)، في أكثر الأحيان وصفاً إضافياً مع لفظ آخر أو أكثر من ألفاظ التعديل، لكن قد يستعملها الناقد أحياناً وصفاً مستقلاً، وهي عندئذ من أوصاف التعديل، وصريحة في صحة الاحتجاج بحديث الموصوف بها عند قائلها. من ذلك الدارقطني في (مغيرة بن سبيع الكوفي) يروي عن بريدة الأسلمي: " يحتج به " (¬2). ويقابلها قولهم: (لا يحتج به) في التجريح، وستأتي. فإذا قال الناقد: (فلان لا بأس به) فيقال له: يحتج به؟ فيقول: (لا)، دل ذلك على أنه لم يرد بعبارة التعديل ما يفهمه إطلاقها من صحة أو حسن حديث ذلك الراوي. ويأتي في شرح عبارة: (لا بأس به) من أمثلة ما يوضح ذلك. وللأئمة في إطلاق وصف " حجة " إرادة خاص. ¬

(¬1) انْظر: تَذكرة الحفاظ، للذهبي (3/ 979). (¬2) سؤالات البرقاني (النص: 511).

فقال أحمد بن حنبل وقد سئل عن عقيل بن خالد ويونس بن يزيد وشعيب بن أبي حمزة من أصحاب الزهري: " ما فيهم إلا ثقة " قال المروذي: وجعل يقول: " تدري من الثقة؟ إنما الثقة يحيى القطان، تدري من الحجة؟ شعبة وسفيان حجة، ومالك حجة "، قلت: ويحيى؟ قال: " يحيى وعبد الرحمن، وأبو نعيم الحجة الثبت، كان أبو نعيم ثبتاً ". وشبيه به ما نقله المروذي، قال: قلت (يعني لأحمد بن حنبل): عبد الوهاب (يعني ابن عطاء) ثقة؟ قال: " تدري من الثقة؟ الثقة يحيى القطان " (¬1). وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت ليحيى بن معين، وذكرت له الحجة، فقلت له: محمد بن إسحاق منهم؟ فقال: " كان ثقة، إنما الحجة عبيد الله بن عمر، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز " (¬2). قال أبو زرعة: فقلت ليحيى بن معين: فلو قال رجل: إن محمد بن إسحاق كان حجة، كان مصيباً؟ قال: " لا، ولكنه كان ثقة " (¬3). قلت: وهذه العبارات وشبهها من هؤلاء الأعلام أرادوا بها الحجة الذي يكون حكماً على غيره فيما يرويه، ينازع الرواة إلى روايته، ولا ينازع هو إلى غيره، لكونه قد تجاوز في الحفظ والإتقان أن يكون محكوماً عليه، أو أرادوا من يليق إطلاق القول: " هو ثقة "، أو " هو حجة " دون تحفظ. وإلا فإنهم احتجوا بروايات الثقات المقلين، وبالثقات الذين قورنوا هنا ببعض كبار المتقنين، بل واحتجوا بحديث الصدوق لكن بعد عرضه على المحفوظ من حديث الثقات. ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال، رواية المروذي (النص: 48). (¬2) تاريخ أبي زُرعة (1/ 460 _ 461). (¬3) تاريخ أبي زُرعة (1/ 462).

2 _ قولهم: (ثقة)، ويشبهها: (متقن)، و (ثبت). هذه اللفظة إذا صدرت من ناقد عارف كمن وصفنا، فإنها تعني أن الموصوف بها صحيح الحديث، يكتب حديثه ويحتج به في الانفراد والاجتماع. قال أبو زرعة الرازي في (حصين بن عبد الرحمن السلمي): " ثقة "، فقال ابن أبي حاتم: يحتج بحديثه؟ قال: " إي، والله " (¬1). لكنهم إذا اختلفوا فلاحظ أن لفظ (ثقة) يمكن أن يجامع اللين اليسير الذي لا يضعف به الراوي، وإنما قد ينزل بحديثه إلى مرتبة الحسن، كقول علي بن المديني في (أيمن بن نابل): " كان ثقة، وليس بالقوي " (¬2)، وقول يعقوب بن سفيان في (الأجلح بن عبد الله الكندي): " ثقة، في حديثه لين " (¬3)، وفي (فراس بن يحيى): " في حديثه لين، وهو ثقة " (¬4). كما أنه قد يجامع الضعف الذي يبقي الراوي في إطار من يعتبر بحديثه، مثل قول يعقوب بن شيبة في (علي بن زيد بن جدعان): " ثقة، صالح الحديث، وإلى اللين ما هو " (¬5). وإدراك هذا يعين على الإجابة عن تعارض ظاهر في العبارات المنقولة عن الناقد المعين، ويكثر مثله عن يحيى بن معين، حيث تختلف عنه الروايات في شأن بعض الرواة جرحاً وتعديلاً (¬6)، كما يعين على الإجابة كذلك عن تعارض يقع بين عبارات النقاد في الراوي المعين. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 193). (¬2) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 195). (¬3) المعرفة والتاريخ (3/ 104). (¬4) المعرفة والتاريخ (3/ 92). (¬5) نقله المري في " تهذيب الكمال " (20/ 438). (¬6) كما تقدم في (الفصْل السابق).

3 _ قولهم: (جيد الحديث). عبارة تعديل واحتجاج، مستعملة عندهم بغير شيوع، واستعملوها بما يساوي (ثقة)، ولذا فربما اقترنت بها في كلام بعض النقاد. فمن ذلك، قول أحمد بن حنبل في (زكريا بن أبي زائدة): " جيد الحديث، ثقة " (¬1)، وفي (سليمان بن أبي مسلم الأحول): " ثقة، جيد الحديث " (¬2). ووقعت مرسلة في كلام أبي داود السجستاني، فقد قال في (عمر بن عبد الله الرومي): " جيد الحديث " (¬3)، وكذلك قال أبو زرعة الدمشقي في (الوليد بن عبد الرحمن الجرشي) (¬4). 4 _ قولهم: (صدوق). وصف الراوي بهذه العبارة جرى عند المتأخرين حملها على من يكون في مرتبة من يقولون فيه: (حسن الحديث)، والاصطلاح لا حرج فيه، لكن ليس على ذلك الإطلاق استعمال السلف. نعم، هي مرتبة دون الثقة في غالب استمالهم، بل حديث الموصوف بها على ما نص عليه ابن أبي حاتم عن منهج أئمة الحديث أنه يكتب وينظر فيه، أي لا يؤخذ ثابتاً على التسليم، حتى تدفع عنه مظنة الخطأ والوهم، ويكون ذلك الحديث المعين منه محفوظاً. و (الصدوق) هو من يحكم بحسن حديثه عند اندفاع تلك المظنة. ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال، رواية الميموني (النص: 363). (¬2) العلل، رواية الميموني (النص: 367). (¬3) سؤالات الآجري (النص: 824). (¬4) تاريخ أبي زُرعة (2/ 713).

قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عطاء الخراساني؟ فقال: " لا بأس به، صدوق "، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: " نعم " (¬1). وقد تأتي (صدوق) وصفاً للثقة المبرز في الحفظ والإتقان، فيكون إطلاقها عليه مجردة لا يخلو من قصور من قبل القائل، لا ينزل بدرجة ذلك الحافظ، من أجل ما استقر من العلم بمنزلته. وذلك مثل قول أبي حاتم الرازي في (عمرو بن علي الفلاس): " كان أرشق من علي بن المديني، وهو بصري صدوق " (¬2). وجدير أن تعلم أن عبارة (صدوق) قد تجامع وصف الراوي بكونه (ثقة) في قول الناقد، يوصف الراوي بهما جميعاً، فإذا وجدت ذلك في راو، فالأصل أنه بمنزلة التوكيد لنعته بالثقة من قبل ذلك الناقد. كقول أحمد بن حنبل في (أبي بكر بن أبي شيبة): " صدوق ثقة " (¬3)، فأبو بكر متفق على حفظه وثقته، فلم يقع هذا النعت له على سبيل التردد بين الوصفين. وأكثر ما يأتي ذلك على هذا المعنى. نعم، قد يطلق الوصفان مجموعين تارة، ويشعر استمالهما مقارنة بأوصاف سائر النقاد لذلك الراوي بأن المراد (هو صدوق أو ثقة) على سبيل التردد، كقول أبي حاتم الرازي في (سماك بن حرب): " صدوق ثقة (¬4). وربما جمع الناقد الأوصاف المتعددة من أوصاف التعديل في الراوي، والتي لو جاءت مفرقة لكان لكل منها دلالتها ومعناها، لكنها حيث اجتمعت ¬

(¬1) الجَرح والتعديل (3/ 1 / 335). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 1 / 249). (¬3) العلل ومعرفة الرجال (النص: 1658). (¬4) الجرح والتعديل (2/ 1 / 280).

فإنها تحمل على تأكيد التعديل، كقول أبي حاتم الرازي في (السري بن يحيى الشيباني): " صدوق، ثقة، لا بأس به، صالح الحديث " (¬1)، وقوله في (عبد الله بن محمد بن الربيع الكرماني): " شيخ ثقة صدوق مأمون " (¬2). وربما جمعت إلى وصف أدنى، فتنزل بالراوي عند الناقد له إلى تلك المرتبة الدنيا، مع بقاء الوصف بالصدق في الجملة. مثل: (عباد بن عباد المهلبي)، قال فيه أبو حاتم: " صدوق، لا بأس به "، قيل له: يحتج بحديثه؟ قال: " لا " (¬3). أما إذا جاء الوصفان من أكثر من قائل، فالأصل اعتبار دلالات ألفاظ كل على سبيل الاستقلال، فإن الرجل يختلف فيه بين أن يكون ثقة أو صدوقاً، فيصار إلى تحرير أمره تارة بالجمع بين أقوالهم، وتارة بالترجيح بدليله. 5 _ قولهم: (لا بأس به)، أو: (ليس به بأس). الأصل أن هذه اللفظة إذا أطلقت على راو من قبل ناقد عارف فهي تعديل له في نفسه وحديثه، فإن أريد به معنى مخصوص بين. وذلك كقول أحمد بن حنبل في (مجاعة بن الزبير): " لم يكن به بأس في نفسه " (¬4). قد يحتج به ابتداء: كقول أبي حاتم الرازي في (غوث بن سليمان بن زياد الحضرمي): " صحيح الحديث، لا بأس به " (¬5). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 284). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 162). (¬3) الجرح والتعديل (3/ 2 / 83). (¬4) الجرح والتعديل (4/ 1 / 420). (¬5) الجرح والتعديل (3/ 2 / 57).

وقوله في (واقد بن محمد بن زيد العمري): " لا بأس به، ثقة، يحتج بحديثه " (¬1). وقوله في (عطاء بن أبي مسلم الخراساني): " لا بأس به، صدوق "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " نعم " (¬2). وقوله في (عبد ربه بن سعيد): " لا بأس به "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " هو حسن الحديث، ثقة " (¬3). وقول الدارقطني في (مبشر بن أبي المليح): " لا بأس به، ويحتج بحديثه " (¬4). ومن هذا استعمالها في كلام الناقدين: يحيى بن معين، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم. قال أبو بكر بن أبي خيثمة: قلت ليحيى بن معين: إنك تقول: (فلان ليس به بأس)، و (فلان ضعيف)؟ قال: " إذا قلت: (ليس به بأس) فهو ثقة، وإذا قلت لك: (هو ضعيف) فليس هو بثقة، ولا يكتب حديثه " (¬5). وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لعبد الرحمن بن إبراهيم: ما تقول في علي بن حوشب الفزاري؟ قال: " لا بأس به "، قلت: ولم لا تقول (ثقة) ولا تعلم إلا خيراً؟ قال: " قد قلت لك: إنه ثقة " (¬6). ولك أن تقول: إنما جعلها ابن معين ودحيم تساوي الوصف بقولهم: ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 33). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 1 / 335). (¬3) الجرح والتعديل (3/ 1 / 41). (¬4) سؤالات البرقاني (النص: 486). (¬5) هوَ في " تاريخ ابن أبي خيثمة " (ص: 315 _ تاريخ المكيين) وأخرجه من طريقه: ابن شاهين في " الثقات " (ص: 270) والخطيب في " الكفاية " (ص: 60). (¬6) تاريخ أبو زُرعة (1/ 395).

(ثقة)، على اعتبار أنها مرتبة من مراتب الثقات، لا أنها تعادلها من كل وجه عند الإطلاق. وقد تكون بمنزلة قولهم في الراوي: (صدوق)، فيكتب حديثه وينظر فيه، ويحتج به بعد اندفاع شبهة الوهم والخطأ، لكون الوصف بها حينئذ قاصراً عن وصف أهل الضبط والإتقان. مثل قول ابن عدي في (المغيرة بن زياد الموصلي): " عامة ما يرويه مستقيم، إلا أنه يقع في حديثه كما يقع في حديث من ليس به بأس من الغلط، وهو لا بأس عندي " (¬1). وقد يكون موضع تردد عن الناقد: كقول أبي حاتم الرازي في (إبراهيم بن عقبة بن أبي عياش الأسدي) وقد وثقوه: " صالح، لا بأس به "، قال ابنه: قلت: يحتج بحديثه؟ قال: " يكتب حديثه " (¬2). وقوله في (زهرة بن معبد أبي عقيل): " ليس به بأس، مستقيم الحديث " فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " لا بأس به " (¬3). وقد يعتبر به، ولا يبلغ حديثه الاحتجاج: كقول أبي حاتم في (عبيد الله بن علي بن أبي رافع المدني): " لا بأس بحديثه، ليس منكر الحديث "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " لا، هو يحدث بشيء يسير، وهو شيخ " (¬4). وقوله في (عنبسة بن الأزهر الشيباني) و (محمد بن سعيد ابن ¬

(¬1) الكامل (8/ 76). (¬2) الجرح والتعديل (1/ 1 / 117). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 2 / 615). (¬4) الجرح والتعديل (2/ 2 / 328).

الأصبهاني) في كل منهما: " لا بأس به، يكتب حديثه، ولا يحتج به " (¬1). وقول ابن عدي في (جعفر بن ميمون أبي العوام البصري): " ليس بكثير الرواية، وقد حدث عنه الثقات، مثل: سعيد بن أبي عروبة، وجماعة من الثقات، ولم أر بحديثه نكرة، وأرجو أنه لا بأس به، ويكتب حديثه في الضعفاء " (¬2). وعند الدارقطني ربما قارن هذا اللفظ قلة حديث الراوي: كما قال في (أيوب بن وائل) الذي يحدث عن نافع، وعنه حماد بن زيد: " مقل، صاحب حديث، لا بأس به " (¬3). وقال في (ثمامة بن شراحيل) الراوي عن ابن عمر: " لا بأس به، شيخ مقل " (¬4). وقال في (الخصيب بن زيد) الراوي عن الحسن البصري: " شيخ لا بأس به، ليس له كبير مسند " (¬5). تنبيه: أما عبارة: (لا أعلم به بأساً)، فهذه وقعت في كلام أحمد بن حنبل في جماعة من الرواة، منهم: صالح بن نبهان مولى التوأمة قبل أن يختلط (¬6)، وعبد الله بن شريك (¬7)، والمختار بن فلفل (¬8)، وداود بن صالح ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 1 / 401، و 3/ 2 / 268). (¬2) الكامل (2/ 370). (¬3) سؤالات البرقاني (النص: 18). (¬4) سؤالات البرقاني (النص: 65). (¬5) سؤالات البرقاني (النص: 135). (¬6) العلل ومعرفة الرجال (النص: 2382، 4479). (¬7) العلل ومعرفة الرجال (النص: 3193). (¬8) العلل ومعرفة الرجال (النص: 3321).

التمار (¬1)، ويزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد (¬2)، وعمير بن سعيد النخعي (¬3)، وقيس بن طلق (¬4). ولم يقلها في راو من هؤلاء إلا وهو إما ثقة وإما صدوق، ليس فيهم من ينزل عن ذلك. وشبيه به استعمال من جرت في قوله من سواه من النقاد، كالذهبي من المتأخرين، فإنه يقولها في رواة من المستورين أو من فوقهم. ولو جاريت مجرد دلالة اللفظ اللغوية، لوجدت بينها وبين (لا بأس به) فرقاً، وذلك شبيه بما حدث به عبد الله بن عون، قال: قال ابن سيرين لرجل في شيء سأله عنه: " لا أعلم به بأساً "، ثم قال له: " إني لم أقل لك: لا بأس به، إنما قلت: لا أعلم به بأساً " (¬5). قلت: لكن حين تبين لنا المراد بالتعديل بها في حق النقلة، وعلمنا أن الناقد قد عنى التعديل، لم يؤثر ما للفظ اللغوي من دلالة. وأرى مثلها قول أحمد بن حنبل في جماعة من الرواة: (لا أعلم إلا خيراً)، فقد تتبعتها فوجدته لا يكاد يقولها إلا في ثقة أو صدوق، وندر منه قولها في مجروح ينزل عن درجة الاعتبار. وذلك كالذي نقل الميموني عن أحمد في (الحكم بن عطية) قال: " لا أعلم إلا خيراً "، فقال له رجل: حدثني فلان عنه عن ثابت عن أنس، قال: كان مهر أم سلمة متاعاً قيمته عشرة دراهم، فأقبل أبو عبد الله يتعجب، ¬

(¬1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (1/ 2 / 416). (¬2) الجرح والتعديل (4/ 2 / 275). (¬3) سؤالات أبي داود (النص: 342). (¬4) سؤالات أبي داود (النص: 551). (¬5) أخرجه ابنُ سعد في " الطبقات " (7/ 196) وأبو زُرعة الدمشقي في " تاريخه " (2/ 683) وأبو نُعيم في " الحلية " (2/ 299 رقم: 2288) وإسناده صحيح.

وقال: " هؤلاء الشيوخ لم يكونوا يكتبون، إنما كانوا يحفظون، ونسبوا إلى الوهم، أحدهم يسمع الشيء فيتوهم فيه " (¬1). وكان أحمد بعد ذلك إذا سئل عنه لينه، كما قال له المروذي: الحكم بن عطية، كيف هو؟ قال: البصري؟ قلت: نعم، الذي روى عن ثابت، قال: " كان عندي ليس به بأس، ثم بلغني أنه حدث بأحاديث مناكير " وكأنه ضعفه (¬2). قلت: وفي هذا من الفائدة دلالة على أنه قوله في الراوي: (لا أعلم إلا خيراً) تعديل يساوي قوله: (ليس به بأس). أما عن غير أحمد من سائر النقاد، فندر استعمال هذه اللفظة في كلامهم. 6 _ قولهم: (حسن الحديث). شرحت ما يتصل به في الكلام على (الحديث الحسن). 7 _ قولهم: (مقارب الحديث). وقع استعمال هذه العبارة في كلام أحمد بن حنبل، والبخاري، وهي عبارة تعديل وقبول، تساوي مرتبة (حسن الحديث)، على هذا دل استقراء أحوال من قيلت فيه، على قلة ذلك في كتب الجرح والتعديل. بل وجدت البخاري قال في (الوليد بن رباح): " مقارب الحديث "، وحكم على حديث رواه بقوله: " حديث صحيح " (¬3). والترمذي يبني على من يقول فيه البخاري ذلك أن يحسن حديثه (¬4)، ¬

(¬1) تهذيب التهذيب (1/ 468). (¬2) العلل، رواية المروذي (النص: 165). (¬3) العلل الكبير، للترمذي (2/ 676 _ 677). (¬4) كما في جاء حديث رواهُ أبو ظِلال عن أنس، " الجامع " للترمذي (رقم: 586)، وآخر لبكَّار بن عبد العزيز بن أبي بكرةَ، " الجامع " (رقم: 1578).

نعم، ربما خالف شيخه في قوله ذلك ولم يقنع به في رواة شاع لأهل العلم بالحديث فيهم الجرح (¬1). وبمعناه أيضاً عبارة (حديثه مقارب)، ووقعت في كلام أحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وبندرة في كلام يحيى بن معين، وغيرهم. 8 _ قوهم: (وسط). تقع في كلام ابن المديني، ومن المتأخرين الذهبي. وهل هي مرتبة تعديل، أم لا؟ دلالتها من لفظها تضع الموصوف بها في مرتبة بين التعديل والتجريح، ومن كان كذلك فلا يحسن أن يلحق بمراتب التعديل، كما لا يصار به إلى الجرح، فحديثه موقوف على المرجح، وهو المتابعات والشواهد، وعليه يقال: هي مرتبة صالح الحديث الذي لا يحتج بحديثه ولكن يعتبر به. ومما يبين ذلك من استعمالهم: قول يحيى بن سعيد القطان في (يزيد بن كيسان اليشكري): "ليس هو ممن يعتمد عليه، وهو صالح وسط " (¬2). وقول علي بن المديني في (محمد بن مهاجر): " كان وسطاً " (¬3). وقوله في (موسى بن أعين): " كان صالحاً وسطاً " (¬4). وقول أبي زرعة الرازي في (محمد بن الزبرقان أبي همام): " صالح، هو وسط " (¬5). ¬

(¬1) مثل: عبد الرحمن بن زياد بن أنْعم الإفريقي، (الجامع، للترمذي رقم: 199)، وإسماعيل بن رافع (الجامع، رقم: 1666). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 2 / 285) وإسناده صحيح. (¬3) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 231). (¬4) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 260). (¬5) الجرح والتعديل (3/ 2 / 260).

قلت: فدلالة هذه العبارة لا تعدو صلاحية حديث الراوي للاعتبار عند من قالها في حق من قيلت فيه. 9 _ قولهم: (شيخ). عبارة تقع في كلام بعض أئمة الحديث في معرض بيان حال الراوي على سبيل النعت المستقل، لا مضمومة إلى غيرها، وأكثرهم لها استعملاً الإمام أبو حاتم الرازي. وبتأمل معناها من خلال النظر في حال من قيلت فيه، فإنها لا تدل على عدالة الراوي إلا من جهة أنه مذكور برواية، وليس هذا تعديلاً ولا جرحاً، وليس فيه تمييز لضبطه، ولذا لا تقال إلا في راو قليل الحديث، ليس بالمشهور به. قال الذهبي: " ليس هو عبارة جرح، ولكنها أيضاً ما هي بعبارة توثيق " (¬1). فمن أمثلتها المبينة لذلك ما يلي: سأل ابن الجنيد يحيى بن معين عن (المفضل بن فضالة أبي مالك البصري)؟ فقال: " شيخ، وأيش عنده؟ ‍! " (¬2). وقال أبو حاتم الرازي في (سليمان بن زياد الحضرمي المصري): " صحيح الحديث "، فقال ابنه: ما حاله؟ قال: " شيخ " (¬3). قلت: وهذا رجل قليل الحديث، جملة ما روى من الحديث أربعة أو خمسة أحاديث، يرويها جميعاً عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي من صغار الصحابة، وروى عنه جماعة من أهل مصر، وما رواه فجميعه ¬

(¬1) ميزان الاعتدال (2/ 385). (¬2) سؤالات ابنِ الجنيد (النص: 708). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 1 / 118).

محتمل، ولذلك قال يحيى بن معين: " ثقة " (¬1)، وذكره يعقوب بن سفيان في " ثقات التابعين من أهل مصر " (¬2). وقال أبو حاتم في (شبيب بن بشر البجلي): " لين الحديث، حديثه حديث الشيوخ " (¬3). قلت: يعني بقوله: " حديثه حديث الشيوخ " أنه قليل الحديث، وكذلك أمره، فجميع ما روى من الحديث إذا استبعدت رواية بعض الهلكى عنه، إنما هو بضعة عشر حديثاً، حديثان من روايته عن عكرمة عن ابن عباس، والباقي من روايته عن أنس، ولم يعرف أكثر ما رواه إلا من طريقه، واشتهر ذكره من رواية أبي عاصم النبيل عنه، ولا يكاد توجد لغيره رواية عنه إلا من طريق لا يخلو من علة، ولذا قال غير واحد من الأئمة: " لم يرو عنه غير أبي عاصم "، وأحسن ما روي عنه من غير طريق أبي عاصم: رواية إسرائيل بن يونس لحديث واحد، وأحمد بن بشير الكوفي بحديث واحد كذلك، ولا كلام في كونه معروفاً، لكن في حديثه على قلته من التفرد ما لا يقدر على حمله، وله في التفسير نصوص رواها عن عكرمة عن ابن عباس، كان أبو حاتم الرازي يقول، وقد سئل عن عمر بن الوليد الشني: " من تثبت عمر أن عامة حديثه عن عكرمة فقط، ما أقل ما يجوز به إلى ابن عباس، لا شبه شبيب بن بشر الذي جعل عامة حديثه عن عكرمة عن ابن عباس " (¬4) وهو يريد بذلك ما رواه من التفسير، وفيه نقول غريبة مستنكرة. وقال أبو حاتم وأبو زرعة في (طالب بن حجير أبي حجير): " شيخ " (¬5). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 118). (¬2) المعرفة والتاريخ (496). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 1 / 357). (¬4) الجرح والتعديل (3/ 1 / 140). (¬5) الجرح والتعديل (2/ 1 / 496).

ففسره أبو الحسن بن القطان بقوله: " يعنيان بذلك أنه ليس من طلبة العلم ومقتنيه، وإنما هو رجل اتفقت له رواية لحديث أو أحاديث أخذت عنه " (¬1). وقال أبو حاتم في (عبد الله بن الأسود القرشي): " شيخ، لا أعلم روى عنه غير عبد الله بن وهب " (¬2). قلت: لابن وهب عنه حديثان، يروي أحدهما عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه مرفوعاً: " أعلنوا النكاح "، والثاني عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد مرفوعاً: " لا تزال أمتي على الفطرة ما صلوا المغرب قبل اطلاع النجوم "، كما وقفت له على حديث ثالث ظاهر صنيع أبي حاتم عدم الوقوف عليه، وهو من رواية عبد الله بن عياش بن عباس القتباني عنه عن أبي معقل، عن أبي عبيد مولى رفاعة مرفوعاً: " ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله ". فهذه رواية ثان عنه، ومقدار هذا الذي رواه يعسر معه تمييز حفظه وإتقانه، لكن حين رأى الدارقطني أن هذا القدر اليسير ليس فيه منكر قال: " مصري لا بأس به " (¬3). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي، قلت له: يحيى البكاء أحب إليك، أو أبو جناب (¬4)؟ قال: " لا هذا، ولا هذا "، قلت: إذا لم يكن في الباب غيرهما، أيهما أكتب؟ قال: " لا تكتب منه شيئاً "، قلت: ما قولك فيه؟ قال: " هو شيخ " (¬5). ¬

(¬1) بيان الوهم والإيهام (3/ 482). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 2). (¬3) سؤالات البرقاني (النص: 250). (¬4) البكَّاء هو يحيى بن مسلم، وأبو جَناب هو يحيى بنُ أبي حية الكلبي. (¬5) الجرح والتعديل (4/ 2 / 186).

وقد قال فيه ابن عدي: " ليس بذاك المعروف، وليس له كثير رواية " (¬1). وقد يخرج عن المعنى الذي بينت ما لا تخفى دلالته بالقرينة، وذلك كقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: من رأيت في هذا الشأن، أعني الحديث؟ قال: " ما رأيت مثل يحيى بن سعيد "، قلت: فهشيم؟ قال: " هشيم شيخ " (¬2). قلت: فهذا خرج مخرج المقارنة لهشيم بن بشير بيحيى القطان، وإلا فحسبك من قدر هشيم في الحديث أن يقارن بيحيى. 10 _ قولهم: (محدث). هذه العبارة في كلام المتقدمين تعني الاعتناء بالحديث رواية، وهي وصف مدح، لكنها لا تفيد التعديل الذي يحتج معه بحديث ذلك الراوي، حتى يعرف منه ضبطه لحديثه، وسلامته من قادح في العدالة، فكأن العبارة تساوي (عنده حديث كثير). ولتبين هذا المعنى خذ له مثالاً قول أبي حاتم الرازي وقد سئل عن (عبد العزيز بن محمد الدراوردي) و (يوسف بن الماجشون): " عبد العزيز محدث، ويوسف شيخ " (¬3). فهذه المقارنة تفسر المفارقة بين النعتين، فحيث إن لفظة (شيخ) تعني قلة الحديث، فعبارة (محدث) تعني كثرته. ومن برهان صحة هذا أن أحمد بن حنبل قال في (الدراوردي): " كان ¬

(¬1) الكامل (9/ 15). (¬2) العلل ومعرفة الرجال (النص: 1181). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 2 / 396).

معروفاً بالطلب " (¬1)، وقال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان مقارنة بينه وبين (عبد العزيز بن أبي حازم): " ابن أبي حازم أفقه من الدراوردي، والدراوردي أوسع حديثاً " (¬2). ولا يبعد من هذا استعمال المتأخرين مصنفي التراجم عندما يطلقون على الرجل وصف " المحدث "، فهم يذكرون هذا الوصف لمن كانت له بالحديث عناية متميزة، أو فائقة. لكن ينبغي أن تلاحظ منه أن الدراية ليست مرادة في هذا، كذلك قدر المروي لا أصل له في كلامهم، فما ادعاه بعض المتأخرين أن (المحدث) وصف يطلق على من حفظ قدر كذا من الحديث، دعوى لا تعرف لها حجة. 11 _ قولهم: (صالح الحديث). قال الحافظ أحمد بن سنان: " كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حيث الرجل فيه ضعف، وهو رجل صدوق، فيقول: رجل صالح الحديث " (¬3). واستعمل الإمام أحمد هذه العبارة فيمن هو دون الثقة، ويحتج به. فقال ابن هانئ: سألته عن الأعمش: هل هو حجة في الحديث؟ قال: " نعم "، قلت له: فأبو الزبير؟ قال: " نعم، هو حجة "، قلت: فيزيد التستري؟ قال: " نعم، هؤلاء نحتج نحن بحديثهم "، قلت: فابن إسحاق؟ قال: " هو صالح الحديث، وأحتج به أيضاً " (¬4). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 2 / 396). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 383). (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 60) وإسناده صحيح. (¬4) مسائل ابن هانئ النيسابوري (2/ 241 _ 243).

لكن ربما كانت عبارة تردد هل يحتج به أم لا، عند أبي حاتم الرازي، فإنه قال في (بشير بن عقبة أبي عقيل الأزدي): " صالح الحديث " , فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " صالح الحديث " (¬1)، مع أن غيره يطلق توثيقه كأحمد وابن معين. بل ربما كانت عنده دون درجة من يحتج به، كما قال في (عمر بن روبة التغلبي): " صالح الحديث "، فقال ابنه: تقوم به الحجة؟ فقال: " لا، ولكنه صالح " (¬2). وقال في (موسى بن أبي عائشة): " صالح الحديث "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " يكتب حديثه " (¬3). وهذا يعني أنه (صالح الحديث) للاعتبار، أي في الشواهد والمتابعات. هذا إن صح حمله على التردد، وإلا فهو عبارة تعديل بلا تردد، فتجرى في حق الراوي منزلة سائر ألفاظ التعديل فيه، فإن كانت تلك العبارات قد صيرته إلى الاحتجاج أهملنا أثر التردد في هذه العبارة، وإن كانت تنزل به إلى الاعتبار كان محمل هذه العبارة عليه صحيحاً أيضاً، فإن من يعتبر بحديثه فهو صالح الحديث كذلك. كما قال أبو حاتم في (حنش بن المعتمر الكناني): " هو عندي صالح "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " ليس أراهم يحتجون بحديثه " (¬4). وقال يزيد بن الهيثم: قيل ليحيى (يعني ابن معين) وأنا أسمع: (إسماعيل بن زكريا) روى حديث حجية عن علي في قصة صدقة العباس؟ ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 376 _ 377). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 1 / 108). (¬3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 157). (¬4) الجرح والتعديل (1/ 2 / 291).

فقال: " ليس بشيء، إسماعيل بن زكريا صالح الحديث "، قيل له: فحجة هو؟ قال: " الحجة شيء آخر " (¬1). 12 _ قولهم: (صويلح). هي كقولهم: (صالح الحديث) في الصلاحية للاعتبار لا للاحتجاج، وإن كانت صيغتها تفيد أنها دونها في القوة. وقد قيلت في كلام المتقدمين في طائفة غير كثيرة من الرواة، وقعت في كلام يحيى بن معين (¬2)، وقالها أبو زرعة الرازي في فرد لعله لم يقلها في غيره (¬3). وقال الدارقطني في (هارون بن مسلم صاحب الحناء): " صويلح، يعتبر به " (¬4). قلت: فدل هذا، مع التأمل لحال من قالها فيهم ابن معين وأبو زرعة، على أن من هذا وصفه ليس بخارج عما قاله الدارقطني في هارون هذا. ¬

(¬1) من كلام أبي زكريا (النص: 358). (¬2) قالها مثلاً في (عبْد الرحمن بن سُليمان ابنِ الغسيل) و (عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي) في " تاريخ الدارمي " (النص: 450، 473)، وفي (روْح بن المسيب أبي رَجاء الكلبي) و (عبد الله بن عُمر العُمري) و (عُبيد بن طُفيل أبي سيدان) و (عبيد بن عبد الرحمن المعروف بعبيد الصيد) و (عاصم بن رَجاء بن حيوةَ) و (عائذ بن حَبيب) و (محمد بن سُليم أبي هلال الراسبي) و (مُبشر بن مُكسر) و (المستلم بن سعيد) كما في " الجرح والتعديل " (1/ 2 / 496، و 2/ 2 / 110، 409، 410، و 3/ 1 / 342، و 3/ 2 / 17، 273، و 4/ 1 / 343، 439)، وفي (يحيى بن يزيد الهُنائي) كما في " الضعفاء " للعُقيلي (4/ 436)، وهذا أكثرُ المأثور عن يحيى ممن قال فيهم هذه العبارة. (¬3) قالها في (زكريا بن أبي زائدة) كما في " الجرح والتعديل " (1/ 2 / 594) ولابن مَعين مثلها في زكريا هذا. (¬4) سؤالات البرقاني (النص: 526).

ثم أكثر من استعمالها الذهبي فيما لا يخرج عن استعمال من تقدم، في المعنى الذي بينت. واعلم أنه ليس من هذا أن يقال في الراوي: (له أحاديث صالحة)، إذ ليس هذا وصفاً له في عموم ما روى، بل هو وصف لبعض حديثه، وقد يكون ما عدا تلك الأحاديث واهية منكرة. وهذا مثل قول ابن عدي في (سليمان بن أرقم) وذكر بعض حديثه: " لسليمان غير ما ذكرت من الحديث أحاديث صالحة، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه " (¬1). وقوله في (القاسم بن غصن): " له أحاديث صالحة غرائب، ومناكير " (¬2). 13 _ قولهم: (محله الصدق). هي عبارة تعديل، تقرب من (صدوق) وإن كانت دونها، فإن حققت فيها ما يشترط لحسن الحديث، حسنت حديث الموصوف بها، ما لم يقترن بها وصف تليين سواهاً، فحينئذ لا تبلغ بالراوي مرتبة الاحتجاج، وإنما هو بمنزلة من يعتبر به ويستأنس بحديثه. كما قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان في (سعيد بن بشير): " محله ¬

(¬1) الكامل (4/ 238). واعلم أن ابنَ عدي يَستعمل عِبارة (عامة) بمعنى (أكثر) أو (غالب)، دلَّ على ذلك الاستقراء، ورُبما صرَّح في بعض المواضع بما يدلُّ على ذلك أيضاً، وذلك كقوْله في ترجمة (الجرح بن مليح الرُّؤاسي) والد وَكيع: " عامة ما يَرويه عنه ابنه وكيع، وقد حدَّث عنه غيرُ وَكيع الثقات من الناس " (الكامل 2/ 413)، وقال في ترجمة (داود بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي) بعدَ أن أملى له أحاديث عدة: " وهذا الذي أمْليت لداود هوَ عامة ما يرويه، ولعله لا يرْوي ما ذكرْته إلا حديثاً أو حديثين " (الكامل 3/ 560). (¬2) الكامل (7/ 153).

الصدق عندنا "، قال ابن أبي حاتم: قلت لهما: يحتج بحديثه؟ فقالا: " يحتج بحديث ابن أبي عروبة، والدستوائي، هذا شيخ يكتب حديثه " (¬1). ويزيده بياناً قول أبي حاتم الآتي عند شرح عبارة (لا يحتج به). أما ذكرها مجردة عن وصف التليين، فوقعت كثيراً في كلام طائفة من الأئمة، وأكثر منها أبو حاتم الرازي. وشبهها قولهم: (إلى الصدق ما هو)، وهي نادرة الاستعمال جداً، إن قيلت مرسلة، فتقرب من (صدوق)، كما قالها أبو زرعة الرازي في (سعيد بن سالم القداح) (¬2)، وإن ضم إليها تليين فالراوي بحسبه، كما قال أبو زرعة أيضاً في (ربيعة بن عثمان التيمي): " إلى الصدق ما هو، وليس بذاك القوي " (¬3)، وقال في (مشمعل بن ملحان): " لين، إلى الصدق ما هو " (¬4)، فهذان صالحاً الأمر يعتبر بهما. 14 _ قولهم: (لين)، أو: (لين الحديث). قال الحافظ حمزة السهمي: سألت أبا الحسن الدارقطني، قلت له: إذا قلت: (فلان لين) أيش تريد به؟ قال: " لا يكون ساقطاً متروك الحديث، ولكن يكون مجروحاً بشيء لا يسقط عن العدالة " (¬5). قلت: وهذا المعنى في التحقيق هو الأصل في معنى هذا اللفظ في كلامهم، وهو الضعف من جهة سوء الحفظ. وفي معناها كذلك قولهم: (فيه لين)، و (فيه ضعف)، وإن كانت قد ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 7). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 1 / 31). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 2 / 477). (¬4) الجرح والتعديل (4/ 1 / 417). (¬5) سؤالات السهمي (النص: 1) وأخرجه من طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 60).

تفيد خفة عن (لين) بمقتضى وضعها اللغوي، لكنها كذلك في استعمالهم. 15 _ قولهم: (ليس بالحافظ). قال ابن القطان الفاسي: " هذا قد يقال لمن غيره أحفظ منه " (¬1). قلت: وذلك كما قال يحيى بن سعيد القطان في (عاصم بن سليمان الأحول): " لم يكن بالحافظ " (¬2)، فإن عاصماً كان من الثقات التقنين، ولكن جفت فيه عبارة يحيى، وغاية القول: أراد بالنظر إلى أقرانه من البصريين. ومما يبينه أيضاً أن ابن أبي حاتم سأل أباه عن حديث يرويه (حميد بن قيس الأعرج) وقد اختلف عليه فيه؟ فقال: " إن كان شيء فمن حميد؛ لأن حميداً ليس بالحافظ " (¬3). قلت: وحميد هذا من الثقات، وإنما فيه لين يسير. وسأل البرذعي أبا زرعة الرازي عن رواية (يونس بن يزيد الأيلي) عن غير الزهري؟ فقال: " ليس بالحافظ " (¬4). قلت: أراد ليس بالمتقن لما رواه عن غير الزهري إتقانه عن الزهري، ولهذا نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة إطلاقه القول في (يونس) هذا: " لا بأس به " (¬5). وقال أبو حاتم الرازي في (عبد الله بن نافع الصائغ): " ليس بالحافظ، هو لين، تعرف حفظه وتنكر، وكتابه أصح " (¬6). ¬

(¬1) بيان الوهم والإيهام (4/ 336). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3/ 1 / 343) وإسْناده صحيح. (¬3) علل الحديث (رقم: 1419). (¬4) سؤالات البرذعي (2/ 684). (¬5) الجرح والتعديل (4/ 2 / 249). (¬6) الجرح والتعديل (2/ 2 / 184).

قلت: وهو عندهم جيد الحديث، وهذا لا تخرج عنه عبارة أبي حاتم هذه. وقال ابن عدي في (الهيثم بن جميل الأنطاكي): " ليس بالحافظ، يغلط على الثقات " (¬1). قلت: وهو موصوف عند عامتهم سوى ابن عدي بالحفظ والإتقان والثقة، وكأنه لينه لوهم يسير وقف عليه منه، والثقة قد يخطئ. وممن يكثر استعماله لها: أبو أحمد الحاكم، ولفظه بها: " ليس بالحافظ عندهم "، فهو يلخص بذلك عبارة من تقدمه من نقاد المحدثين، وقد يعني بها ما ذكرت من دلالتها على المنزلة المتوسطة للراوي، وربما عنى الضعف الذي لحق الراوي بسبب سوء الحفظ والوهم والخطأ، وقد يكون أثر ذلك في حديثه قليلاً، وقد يكون كثيراً. لذا، يجب تمييز قدر الضعف فيها بالنظر في عبارات من تقدم أبا أحمد من النقاد. وتقايس بها عبارات هي في معناها، كقولهم: (ليس بالمتقن). 16 _ قولهم: (معروف). هل تعني التعديل؟ قال أبو حاتم الرازي في (الحجاج بن سليمان ابن القمري): " شيخ معروف " (¬2). والتحقيق: أنه هو الرعيني، مصري اختلفوا فيه جرحاً وتعديلاً، وقرين أبي حاتم أبو زرعة الرازي قال في (الرعيني) هذا: " منكر الحديث " (¬3)، فكأن أبا حاتم أراد بالمعرفة أنه ليس بمجهول، فتأمل ‍! ¬

(¬1) الكامل (8/ 399). (¬2) الجرح والتعديل (1/ 2 / 162). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 2 / 162).

بينما قال علي بن المديني في (حصين بن أبي الحر مالك العنبري): " معروف " (¬1)، وهو ثقة. والتحقيق: أنها عبارة مجملة، يبحث في تفسيرها في عبارات سائر النقاد في ذات ذلك الراوي. ومن دليل ذلك، قول أحمد بن حنبل في (أبي ريحانة عبد الله بن مطر): " هو معروف "، فسأله ابنه عبد الله: كيف حديثه؟ قال: " ما أعلم إلا خيراً " (¬2). فلو كانت العبارة دالة بمفردها على التعديل لما احتاج عبد الله ليسأل أباه عن حاله في الحديث. ومثلها أيضاً عبارة (مشهور) إذا وصف بها الراوي مجردة، كقول يحيى بن معين في (مغيرة بن حذف العبسي): " مشهور " (¬3). 17 _ قولهم: (يكتب حديثه). تأتي على ثلاثة أحوال: الأولى: مفردة. فهي عندئذ مشعرة بضعف الراوي لذاته، وصلاحية حديثه للاعتبار، على أدنى الدرجات. قال أبو حاتم الرازي في (الوليد بن كثير بن سنان المزني): " شيخ يكتب حديثه " (¬4)، فقال الذهبي: " قول أبي حاتم هذا ليس بصيغة توثيق، ولا هو بصيغة إهدار " (¬5). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 195). (¬2) العلل ومعرفة الرجال (النص: 4593). (¬3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 220). (¬4) الجرح والتعديل (4/ 2 / 14). (¬5) ميزان الاعتدال (4/ 345).

والثانية: مضافة إلى لفظ تعديل، كإضافتها إلى (حسن الحديث) أو (صدوق)، فيكون المراد وجوب التحري لإثبات سلامة ما رواه من الخطأ والوهم وإثبات كونه محفوظاًَ، كما بينته في (حسن الحديث). ومن مثاله: قول أبي حاتم الرازي في (إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي): " يكتب حديثه، وهو حسن الحديث " (¬1). وأورد ابن عدي عن يحيى بن معين قوله في (إبراهيم بن هارون الصنعاني ": " ليس به بأس، يكتب حديثه "، فقال: " معناه: أنه في جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، ولم أر لإبراهيم هذا عندي إلا الشيء اليسير، فلم أذكره ههنا " (¬2). قلت: وهذا منه مؤكد أنه لم يأت بمنكر، وإلا سارع لذكره، لكنه ليس في محل من يحتج به، لعدم ظهور ذلك لقلة حديثه. والثالثة: أن تضاف إلى عبارة تجريح. فمقتضى العبارة أن ذلك التجريح لا يبلغ بالراوي درجة من لا يعتبر به، فهو في عداد من يصلح حديثه في المتابعات والشواهد. كقول أبي حاتم الرازي في (إسماعيل بن مسلم المكي): " ضعيف الحديث، ليس بمتروك، يكتب حديثه " (¬3). ويشبه هذه العبارة قولهم: (يخرج حديثه)، كما قال الدارقطني في (عبد الملك بن أبي زهير الطائفي): " شيخ مقل، ليس بالمشهور، يخرج حديثه " (¬4). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 148). (¬2) الكامل (1/ 394). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 1 / 199). (¬4) سؤالات البرقاني (النص: 303).

لا ينبغي أن تتجاوز هذه العبارة الدلالة على أن الراوي يكتب حديثه للاعتبار، حتى يرتفع أمره بوصف تعديل يصير معه إلى الاحتجاج. 18 _ قولهم: (يعتبر به). ظاهرة الدلالة على المراد بها، وهو صلاحية الراوي أو الحديث في المتابعات والشواهد، دون الاحتجاج، وتأتي مضافة إلى غيرها من ألفاظ التليين أو التضعيف، كما تأتي مفردة. والدرا قطني يستعملها كثيراً مفردة. كما قالها في (أيوب أبي العلاء القصاب)، و (أسيد بن أبي أسيد)، و (أشعث بن سوار)، و (بكر بن عمرو المعافري) وغيرهم (¬1). وبين المراد بها في غير ترجمة: فمن ذلك قوله في (سعيد بن زياد الشيباني): " لا يحتج به، ولكن يعتبر به " (¬2). وقوله في (عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد): " لا يحتج به، يعتبر به " (¬3). وقوله في (محمد بن إسحاق بن يسار) وأبيه: " لا يحتج بهما، وإنما يعتبر بهما " (¬4). 19 _ قولهم: (لا يحتج به). عبارة إنما يتبادر من لفظها أنها جرح، مع أنها قد تطلق على راو صالح الأمر يعتبر بحديثه في المتابعات والشواهد، ولا يحتج به. ¬

(¬1) انظر: سؤالات البرقاني (النص: 17، 37، 41، 43، 44، 54، 57). (¬2) سؤالات البرقاني (النص: 188). (¬3) سؤالات البرقاني (النص: 317). (¬4) سؤالات البرقاني (النص: 422).

وهي جرح مبهم، فإذا لم يوجد تفسير مؤثر لسببها، فالأصل: أن لا عبرة بها إذا عارضت التعديل من أهله، إلا مراعاة معنى استثنائي يأتي التنبيه عليه. قال الضياء المقدسي في (شريح بن النعمان الصائدي) بعد أن ذكر قول أبي إسحاق السبيعي فيه: " وكان رجل صدق ": " وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وكذا عادة أبي حاتم يقول في غير واحد ممن روى له أصحاب الصحيح: لا يحتج به، ولا يبين الجرح، فلا نقبل إلا ببيان الجرح " (¬1). وكذلك قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي راداً قول أبي حاتم في (بهز بن حكيم): " وقول أبي حاتم: لا يحتج به، لا ينبغي أن يقبل منه إلا بحجة " (¬2). كما قال رداً لقول أبي حاتم في (أيوب أبي العلاء): " وقول أبي حاتم فيه: لا يحتج به، لا يلتفت إليه إذا لم يفسره، كسائر الجرح المجمل " (¬3). قلت: لكن بين أبو حاتم مراده باستعمال هذه العبارة، بما يزيح عنه بعض الإجمال، فإنه قال: " إبراهيم بن مهاجر ليس بقوي، هو وحصين بن عبد الرحمن، وعطاء بن السائب، قريب بعضهم من بعض، محلهم عندنا الصدق، يكتب حديثهم ولا يحتج بحديثهم "، قال ابنه عبد الرحمن: قلت لأبي: ما معنى: لا يحتج بحديثهم؟ قال: " كانوا قوماً لا يحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون فيغلطون، ترى في حديثهم اضطراباً ما شئت " (¬4). قلت: فهذا البيان يورد شبهة في حديث من وصف بها، فإن عارضها التعديل، فمع قولنا: (هي جرح مجمل)، إلا هذا البيان من أبي حاتم ¬

(¬1) الأحاديث المختارة (2/ 114). (¬2) بيان الوهم والإيهام (5/ 566). (¬3) بيان الوهم والإيهام (5/ 402). (¬4) الجرح والتعديل (1/ 1 / 133).

يوجب تحوطاً في الاحتجاج بحديث من وصف بها حتى تزول الشبهة، وذلك يتحقق سلامة حديثه المعين من الخطأ، شأن ما يشترط لقبول حديث (الصدوق)، أو بتفرده بإطلاقها دون سائر النقاد، وقد عرف بالتشدد. وفي معناها قولهم في الراوي: (ليس بحجة). 20 _ قولهم: (ليس بذاك). وقعت في كلامهم بكثرة، وهي صيغة جرح، تتبعتها فوجدتها قد اطردت في تليين الراوي الموصوف بها، لكنها درجات متفاوتة في التليين: فأطلقت على من دون الثقة. وأطلقت على الصدوق الذي يعد حديثه المحفوظ من قبيل الحديث الحسن. كما قالها يحيى بن معين في (عمرو بن شعيب) (¬1)، وهو معروف بحسن حديثه، بل في رواية الدوري عن يحيى بن معين نفسه قوله فيه: " ثقة " (¬2)، وقالها في (العلاء بن عبد الرحمن) (¬3)، وهو صدوق جيد الحديث، احتج به مسلم في " صحيحه ". وكما قال أبو زرعة الرازي في (الحكم بن فصيل (¬4) الواسطي): " شيخ، ليس بذاك " (¬5)، وهو صدوق لا بأس به، حسن الحديث، قال يحيى بن معين: " ليس به بأس " (¬6)، وفي رواية: " ثقة " (¬7). ¬

(¬1) نقله عنه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3/ 1 / 239). (¬2) تاريخه (النص: 874). (¬3) نقله ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3/ 1 / 357). (¬4) هكَذا صَوابه بفتح الفاء والصاد المهملة، انظر: الإكمال، لابن ماكولا (7/ 66). (¬5) الجرح والتعديل (1/ 2 / 127). (¬6) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 2 / 127)، وكذلك نحوه في " سؤالات ابن الجنيد " (النص: 801). (¬7) تاريخ يحيى بن معين (النص: 4852).

وقال أبو داود: " ثقة " (¬1)، وذكره ابن حبان في " الثقات " (¬2). وأطلقت على من يعتبر به ممن لم يتبين إتقانه لقلة حديثه. كما قال يحيى بن معين في (خالد بن الفزر): " ليس بذاك " (¬3)، وهو شيخ ليس بالمشهور، لم يرو عنه غير الحسن بن صالح، وقال أبو حاتم: " شيخ ". وأطلقت على من ليس بقوي في حديثه، يعتبر به ولا يحتج به. كما في ترجمة (إبراهيم بن رستم المروزي)، إذ سأل ابن أبي حاتم أباه قال: قلت: ما حاله في الحديث؟ قال " ليس بذاك، محله الصدق " (¬4)، والرجل ليس بالقوي في الحديث لوهمه وخطئه. وكما قال يحيى بن معين في (جعفر بن ميمون الأنماطي): " ليس بذاك " (¬5)، والرجل صالح الحديث، لكنه لا يبلغ الاحتجاج للينه، وابن معين نفسه قال مرة: " صالح "، وقال أخرى: " ليس بثقة " (¬6)، فكأنه يقول: لم يبلغ مبلغ الثقات. وأطلقت على الضعيف المعروف بالضعف، ممن الأصل فيه الصدق فيعتبر بحديثه. كما قال يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله بن نمير في (عثمان بن سعد الكاتب): " ليس بذاك " (¬7)، وهو لين الحديث، سيىء الحفظ، شرح ¬

(¬1) سؤالات الآجري (النص: 129، 180). (¬2) الثقات (8/ 193). (¬3) نقله ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 2 / 346)، وفيه قولُ أبي حاتم التالي كذلك. (¬4) الجرح والتعديل (1/ 1 / 99). (¬5) تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 3726، 4149). (¬6) انظر: تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 3726، 4149). (¬7) تاريخ يحيى بن معين (النص: 3599) والجرح والتعديل (3/ 1 / 153).

أمره ابن حبان فقال: " كان ممن لا يميز شيخه من شيخ غيره، ويحدث بما لا يدري، ويجيب فيما يسأل، فلا يجوز الاحتجاج به " (¬1). وكما قال يحيى بن معين في (روح بن أسلم أبي حاتم الباهلي): " ليس بذاك، لم يكن من أهل الكذب "، كأنه يرد قول عفان بن مسلم: " كذاب "، وعفان مع إتقانه لا يعد في مبرزي النقاد، وفسر العبارة فيه أبو حاتم الرازي فقال: " لين الحديث، يتكلم فيه " (¬2)، فكأنه يشير إلى قول عفان ممرضاً، وأن الرجل لا ينزل حاله عن مجرد الضعف للين حديثه، ولذا أطلق تضعيفه طائفة، ولم يجاوزوا. وكما قال أحمد بن حنبل في (سلم بن سالم البلخي الزاهد): " ليس بذاك في الحديث " قال عبد الله بن أحمد: " كأنه ضعفه " (¬3). قلت: وهو كذلك ضعيف الحديث عند أكثرهم، وعلته من جهة ما روى من المنكر، وكأنه لغفلة الصالحين، وشدد بعض النقاد القول فيه حتى أشار إلى أنه يكذب، لكنه لا يبلغ ذلك، بل هو ضعيف، يبقى في حد الاعتبار. ولا تعني السقوط بأي اعتبار، فإن وجدتها وصف بها من هو متروك أو متهم، فذلك ممن قالها لعدم اطلاعه على سبب شدة الجرح في ذلك الراوي. وحيث وقع استعمالها فيما يتردد في الدرجات المتفاوتة احتجاجاً واعتباراً، فلا يصح عدها سبباً لرد حديث الموصوف بها، حتى يحدد معناها بغيرها. ¬

(¬1) المجروحين (2/ 96). (¬2) الأقوال الثلاثة في " الجرح والتعديل " (1/ 2 / 499). (¬3) العلل ومعرفة الرجال (النص: 5434).

وتجد في كلامهم يذكرون تلك العبارة مضافة إلى لفظة مفسرة، وهي عندئذ بحسبها، فيقولون: (ليس بذاك الثقة)، و (ليس بذاك المعروف)، و (ليس بذاك المشهور) , و (ليس بذاك القوي)، وهذه عبارات متكررة في كلامهم، سوى الأولى منها فهي نادرة. 21 _ قولهم: (ليس بالقوي). عبارة تليين، يكتب حديث الموصوف بها، ويعتبر به. قال الذهبي: " هذا النسائي قد قال في عدة: ليس بالقوي، ويخرج لهم في كتابه، قال: قولنا: (ليس بالقوي) ليس بجرح مفسد " (¬1). وعليه قال الذهبي أيضاً في تفسير قول أبي حاتم: (ليس بالقوي): " لم يبلغ درجة القوي الثبت " (¬2). قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألته (يعني أباه) عن هشام بن حجير؟ فقال: " ليس هو بالقوي "، قلت: هو ضعيف؟ قال: " ليس هو بذاك " (¬3). وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن فرقد السَّبخيِّ؟ فقال: " ليس هو بقويِّ في الحديث "، قلت: هو ضعيف؟ قال: " ليس هو بذاك " (¬4). وقال علي بن المديني في (الفرج بن فضالة): " هو وسط، وليس بالقوي " (¬5). وقال في (سليمان بن قَرْمٍ): " لم يكن بالقوي، وهو صالح " (¬6)، ¬

(¬1) الموقظة (ص: 82). (¬2) الموقظة (ص: 83). (¬3) (¬4) العلل ومعرفة الرجال (النص: 751). (¬5) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 234). (¬6) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 247).

ونحوُها في (كثير بن زيد) (¬1)، و (هشام بن سعد) (¬2) و (منكدر بن محمد بن المنكدر " ... (¬3). وقال في محمد بن عبد الله بن مسلم ابن أخي الزُّهريِّ: " ضعيفٌ، ليس بالقوي، ونحن نكتب حديثه " (¬4). */* وفي (أبي خلف موسى بن خلف): " ليس بالقوي، يعتبر به " (¬5). وقال الدارقطني في (شبل بن العلاء بن عبد الرحمن): " ليس بالقوي، ويُخرَّج حديثه " ... (¬6). قلت: عامة استعمالهم لهذه العبارة لا يخرج في دلالته عما ذكرت، فهي عبارة جرح خفيف، تجعل الراوي في مرتبة (صالح الحديث) لغيره، و (لا يحتج به) لذاته. وقد تدل بالنظر إليها مقرونة بعبارات سائر النقاد في الراوي الذي قيلت فيه على أنه في منزلة من هو دون الثقة وفوق الضعيف، فتليينه بهذه العبارة من جهة عدم بلوغه درجة أهل الإتقان، وكذلك الصدوق، وتارة تدل سائر العبارات على أن الرجل ضعيف الحفظ، فيوصف بالضعف مع صحة الاعتبار بحديثه، لكن لا تفيد شدة الضعف لذاتها. وقد يراد بها لمعنى غير الحديث، لكن لا يأتي ذلك إلا مبيناً في نفس لفظ الجرح، مثل قول الدارقطني وقد سئل عن (أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة): " حافظ محدث، ولم يكن في الدين بالقوي، ولا أزيد على هذا " (¬7). ¬

(¬1) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 97). (¬2) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 109). (¬3) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 178). (¬4) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 150). (¬5) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 501). (¬6) سؤالات البرقاني (النص: 223). (¬7) سؤالات السُّلمي (النص: 41).

واعلم أن مما يلتحق بهذه اللفظة في المعنى: قولهم: (ليس بالمتين) على معنى قولهم: (ليس بالقوي) بتفصيله. 22 _ قولهم: (إلى الضعف ما هو). عبارة تليين شائعة، لكنها قليلة الاستعمال في كلامهم، والتليين فيها لم أجده إلا من جهة سوء الحفظ. كقول أحمد بن حنبل في (عاصم بن عبيد الله بن عاصم العمري): " حديثه وحديث ابن عقيل إلى الضعف ما هو " (¬1). وقالها يحيى بن معين في (بشر بن حرب الندبي) (¬2). ويَبَيِّنُها قول أبي حاتم الرازي في (الصلت بن دينار الأزدي): " ليِّنُ الحديث، إلى الضعف ما هو، مضطرب الحديث، يكتب حديثه " (¬3). وهؤلاء الرواة جميعاً عرفوا بسوءِ الحفظ، وحديثهم يعتَبَر به، ولا يحتج به، وبعضهم أرفع من بعض، وعبد الله بن محمد بن عقيل من أحسنهم حالاً، وقد يحسن حديثه مع لينه. وشذَّت عبارة يعقوب بن شيبة في (عبد الكريم بن مالك الجزَريِّ)، حيث قال: " إلى الضعف ما هو، وهو صدوق ثقة " (¬4). قلت: وابن شيبة يجمع بين ألفاظ لا تأتي على استقامة مصطلحاتهم، فتنبَّه، وكأنه يعني هنا أن الجَزريَّ يُتردَّدُ فيه بين أن يكون صدوقاً أو ثقة، إذ في حفظه ما يميل به إلى الضعف عن درجة الثقات، وليس المراد الضعف الذي ينزل بالراوي عن درجة الاحتجاج، بل إن الجزريَّ ممن يحتج بحديثه. ¬

(¬1) أخرجه ابنُ عساكر في " تاريخه " (25/ 266) بإسناد جيد. (¬2) الكامل، لابن عدي (2/ 158). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 1 / 438). (¬4) أخرجه ابنُ عساكر في " تاريخه " (36/ 466) بإسناد جيد.

23 _ قولهم: (تَعرف وتُنْكر). عبارة جرح في التَّحقيق، تتَّصل بحديث الراوي لا بشخصه، والمعنى: تارة هكذا وتارة هكذا، يأتي بالحديث مرة على الوجه، ومرة على غير ذلك، أي: لم يكن يتقن حديثه. ولذا كان الناقد ربما قالها في الراوي، وقرنها بالتَّعبير بالحركة إشارةًَ إلى عدم استقرار حال الراوي وثباته فيما يؤديه. كما قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد (يعني القطان) عن (الربيع بن حبيب)؟ فقال: " تَعْرف وتُنْكر " وقال بيده (¬1). قلت: وهو قد روى عن الربيع هذا، وهو صدوق جيد الحديث. وكما قال ابن أبي حاتم الرازي في (الحسين بن زيد بن عليٍّ الهاشميِّ): قلت: لأبي: ما تقول فيه؟ فحرك يده وقبلها، يعني تعرف وتنكر (¬2). وفسر القول فيه ابن عدي فقال: " أرجو أنه لا بأس به، إلا أني وجدت في بعض حديثه النكرة " (¬3). وكذلك قال ابن أبي حاتم في (زيد بن عوف القطعي) المقلب بـ (فهد): قيل لأبي: ما تقول فيه؟ فقال: " تَعْرف وتُنْكر " وحرك يده (¬4). قلت: وقد وجدت هذا اللفظ وقع في كلام يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وأبي حاتم الرازي، وغيرهم، وليس بالكثير، وقيل في رواة درجاتهم متفاوتَةٌ في اللين والضَّعف، وفيهم من ¬

(¬1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 2 / 457) وإسناده صحيح. (¬2) الجرح والتعديل (1/ 2 / 53). (¬3) الكامل (3/ 218). (¬4) الجرح والتعديل (1/ 2 / 570).

الراجح قبوله، وفيهم من الراجح ضعفه، لذا فهي عبارة تليين مجملة في قدر اللين في الراوي، فتُحرَّرُ فيمن قيلت فيه بحسب دلالة سائر أقوال النقاد فيه الراوي، أو بتأمُّل حديثه وروايته. 24 _ قولهم: (سيئ الحفظ). عبارة صريحة التعلُّق بحديث الراوي، وليست كثير الورود في كلام المتقدِّمين مطلقة دون وصف آخر، وإنما كان أكثر ما ترد عنهم مقرونة بوصف آخر كالقول: (صدوق سيئ الحفظ)، و (سيئ الحفظ كثير الوهم)، أو (كثير الغلط)، أو (كثير الخطأ)، وما معناها، أو (مضطرب الحديث)، وغير ذلك، وإنما جاءت مطلقة في الراوي بعد الراوي، وقعت في كلام أحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وأبي بكر البزار، والدر قطني، وكثر استعمالها بإطلاق كلام المتأخرين. ويندر أن تجدها تستعمل فيمن بلغ به سوء الحفظ إلى حدِّ الترك. كما وقع فيما حكاه عمرو بن علي الفلاَّسُ عن يحيى بن سعيد القطان في (عيسى بن أبي عيسى الحَنَّاط)، وهو متروك الحديث، قال: " كان سيئ الحفظ " (¬1). وكما قال عمرو بن علي في (عبيدة بن معتب الضبي): " سيئ الحفظ، متروك الحديث " (¬2). قلت: وهو متروك عند جماعة من النقاد، ضعيف لا يبلغ الترك عند آخرين. وقالوا في جماعة: (سيئ الحفظ جداً)، ولا تعني السقوط. ¬

(¬1) الكامل، لابن عدي (6/ 436). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 1 / 94).

والتحقيق: أن الضعف العائد إلى سوء الحفظ قد يبلغ صاحبه حد الترك، كما بينته في (تفسير الجرح)، لكن يندُرُ ذلك في الرواة الذين قيلت فيهم هذه العبارة، بل أكثرهم يعتبر بحديثه، ولا يكادُ يقبل حديث من رجح له هذا الوصف لذاته وإن كان منعوتاً بالصدق. 25 _ قولهم: (فيه نظر). شاع استعمال هذه العبارة عن البخاريِّ، واستعملها غيره من المتقدمين بقلَّة، كأبي حاتم الرازي وابن عديِّ وأبي أحمد الحاكم وغيرهم، وأكثر من استمالها من المتأخرين أبو المحاسن محمد بن علي الحسيني صاحب " الإكمال في ذكر من له رواية في مسند أحمد ". وقد قال الذهبي في تفسيره هذه اللفظة: " قلَّ أن يكون عند البخاري رجل فيه نظر، إلا وهو متهم " (¬1)، وقال في موضع آخر: " لا يقول هذا إلا فيمن يتهمه غالباً " (¬2). قلت: لكن المتَتَبَّع لاستعمال البخاري له لا يجد ما أطلقه الذهبي صواباً، بل إنك تجده قالها في المجروحين على اختلاف درجاتهم، كما قالها في بعض المجهولين الذين لم يتبيَّن أمرهم لقلة ما رَوَوا، بل قالها في رواة هم عند غيره في موضع القبول. فقالها في (عبد الحكيم بن منصور الخزاعي) (¬3)، وهو متروك متهم. وقالها في (حريث بن أبي مطر الحنَّاط) (¬4)، وهو منكر الحديث. ¬

(¬1) ميزان الاعتدال (3/ 52). (¬2) ميزان الاعتدال (2/ 416)، وقالَ في " الموقظة " (ص: 83): " هوَ عندَه أسوأ حالاً من الضعيف ". (¬3) التاريخ الكبير (3/ 2 / 125). (¬4) التاريخ الكبير (2/ 1 / 71).

وقالها في (عمرو بن دينار قَهْرَمانِ آل الزبير) (¬1)، وهو ضعيف الحديث. وقالها في (علي بن مسعدة الباهلي) (¬2)، وهو صالح الحديث يعتبر به. وقالها في (جميل بن عامر) (¬3)، وهذا ذكره ابن عدي وقال: " يعرف بحديث أو حديثين " (¬4). كما قالها في (سعيد بن خالد الخُزاعيِّ) (¬5)، وقال ابن عدي: " هذا الذي ذكره البخاري إنما يشير إلى حديث واحد، يرويه عنه عبد الملك الجُدِّيُّ، وهو يعرف به، ولا يعرف له غيره " (¬6). وفي (شعيب بن ميمون) يروي عن حصين بن عبد الرحمن وغيرِهِ (¬7)، وذكر ابن عدي أن الرجل له حديث واحد (¬8)، وقال أبو حاتم الرازي: " مجهول " (¬9). وقالها في (حُيَيِّ بن عبد الله المعافِريَّ) (¬10)، وهو حسنُ الحديث لا بأس به. وقالها في (حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير) (¬11)، وقد احتج به ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/ 2 / 329). (¬2) التاريخ الكبير (3/ 2 / 294 _ 295). (¬3) التاريخ الكبير (1/ 2 / 216). (¬4) الكامل (2/ 428). (¬5) التاريخ الكبير (2/ 1 / 469). (¬6) الكامل (4/ 432). (¬7) التاريخ الكبير (2/ 2 / 222). (¬8) الكامل (5/ 5). (¬9) الجرح والتعديل (2/ 1 / 352). (¬10) التاريخ الكبير (2/ 1 / 76). (¬11) التاريخ الكبير (1/ 2 / 318).

مسلم في " صحيحه " في موضع واحد (¬1)، وهو صدوق حسن الحديث، وثقه أبو حاتم الرازي وأبو داود السجستاني وابن حبان (¬2). وأكثر الذين قال فيهم البخاري تلك العبارة هم ممن يكتب حديثه ويعتبر به، وفيهم جماعة كانوا قليلي الحديث، غير مشهورين به، لا يَصِلون إلى حدِّ السُّقُوط، خلافاً لما قاله الذهبي. ومما يبين مراد البخاري بقوله هذا، ما ذكره الترمذي عنه من قوله في (حكيم بن جبير): " لنا فيه نظر "، قال الترمذي: " ولم يعزم فيه على شيء " (¬3). فهذا يدل على أن هذه العبارة من البخاري فيمن هو في موضع تأمُّل وتوقُّف عنده، فهي عبارة احتراز عن قبول حديث الراوي والاحتجاج به، أو الاعتبار به، ولكونِها توقفاً عن القبول، فهي في جملة ألفاظ الجرح، وإن لم يقصد البخاري إلحاق الجرح بمن أطلقها عليه. وأكثر ما يقال: هي من عبارات الجرح المجملة، يبحث عن تفسيرها في كلام سائر النقاد في ذلك الراوي. وإذا عرف هذا في دلالة هذا اللفظ، تبين المراد بقوله أيضاً: (في حديثه نظر)، فالمعنى فيه غير خارج عما ذكرت من توقف البخاري في قبول حديث ذلك الراوي، أو إسناده، تارة بسببه، وتارة من جهة علة دونه في الإسناد، لا يقضى معها بقبول خبره، أو بالدلالة على أمره في إدخاله في جملة رواة العلم. ومثال ما كان مورد النظر بسببه، قول البخاري في (إسماعيل بن ¬

(¬1) صحيح مُسلم (الحديث رقم: 878). (¬2) الجرح والتعديل (1/ 2 / 102)، سؤالات الآجري (النص: 42، 381)، الثقات، لابن حِبان (4/ 138). (¬3) العلل الكبير (2/ 969).

إبراهيم بن مهاجر البجلي): " في حديثه نظر " (¬1)، وهو معروف بالضَّعْف. وما كان النظر من جهة الإسناد الذي رواه، قوله في (إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي): " في حديثه نظر " (¬2). إذ حديثه هذا الذي يشير إليه البخاري رواه محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي، قال: حدثني إسماعيل بن إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده عفيف، في قصة. وابن الأشعث فيه مجهول، وإياس أبو إسماعيل قال فيه البخاري أيضاً: " فيه نظر " (¬3) ولم يرو عنه غير ابنه (¬4). وما نسبه الذهبي إلى البخاري أنه قال: " إذا قلت: فلان في حديثه نظر، فهو واه متهم " (¬5)، فهذا لم أقف عليه مسنداً إلى البخاري في شيء، ولا يدل عليه ما وقفنا عليه من استعمال البخاري. وأما قول البخاري: (في إسناده نَظَر) فتوقُّفٌ منه في ثبوت إسناد معَّين جاء من رواية المذكور، إذ أكثر ما أتت هذه العبارة في كلامه، عقبَ حديث أو أثر يذكره في ترجمة الراوي، فالهاء في قوله (إسناده) لا تعود على الراوي، إنما تعود على الرواية المذكورة. ومن أدل علامة عليه، قوله في ترجمة (أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي): قال لنا مسددٌ: عن جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك النُّكري، عن أبي الجوزاء، قال: أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة، ليس من القرآن آية إلا سألتْهُم عنها. قال البخاري: " في إسناده نظر " (¬6). ¬

(¬1) التاريخ الكبير (1/ 1 / 342). (¬2) التاريخ الكبير (1/ 1 / 345). (¬3) التاريخ الكبير (1/ 1 / 441). (¬4) وبيَّنتُ الحديث وعلته في تحقيقي لكتاب " المفاريد " لأبي يعلى الموصلي (رقم: 59). (¬5) سير أعلام النبلاء (12/ 441). (¬6) التاريخ الكبير (1/ 2 / 16 _ 17).

قلت: فهذا ليس حُكماً على أبي الجوزاء، فإنه ثقة معروف، وإنما هو توقُّفٌ من البخاري في إثبات هذا الخبر عنه، والمفيد اتِّصال ما بينه وبين ابن عباس وعائشة، وربما من أجل كونه من رواية جعفر بن سليمان الضبعي، وهو عند البخاري " يخالف في بعض حديثه " (¬1). قلت: وعلى هذا الذي بيَّنْت عن استعمال البخاري يقع استعمال غيره، إلا أن تقوم قرينةٌ على إرادة معنى مخصوص. وذلك كاستعمال ابن عبد البرِّ لعبارة: " فيه نظر " (¬2)، ففسرها العلائي بقوله: " أي في صحبته " (¬3). وقال السُّليمانيُّ (¬4) في (محمد بن المغيرة بن سنان الضبي فقيه الحنفية بهَمَذانَ): " فيه نظر "، فقال الذهبي: " يشير إلى أنه صاحب رأي " (¬5). 26 _ قولهم: (ضعيف) أو: (ضعيف الحديث). هي صيغة جرح بلا تردُد، لكن هل هي مفسرة أو مجملة؟ التحقيق: أنها مجملة، فإذا عارضها تعديل معتبر لم يعتد بها حتى يبين وجهها. ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/ 1 / 192). (¬2) الاستيعاب (6/ 328 _ هامش الإصابة). (¬3) جامع التحصيل (ص: 262). (¬4) هوَ الحافُظ الناقد أبو الفضْل أحمد بن علي البيكنْدي (المتوفى سنة: 404) قال الذهبي: " رأيتُ للسليماني كتاباً فيه حط على كبار، فلا يُسمع منه ما شذَّ فيه " (سير أعلام النبلاء 17/ 202). (¬5) سير أعلام النبلاء (13/ 384).

ثم إن التضعيف بها قد يراد به الضعف اليسير، كثقة أو صدوق إذا قورن بمن هو فوقه قيل فيه: " ضعيف الحديث ". وقد تطلق على الراوي ويراد بها أنه دون من يحتج بحديثه، لسوء حفظه مثلاً، ولكن يعتبر به. قال أبو حاتم الرازي في (عُبيد بن واقد أبي عبَّاد القَيْسيَّ): " ضعيف الحديث، يكتب حديثه " (¬1). وقال الدارقطني في (قابوس بن أبي ظَبْيَان): " ضعيف، ولكن لا يترك " (¬2). وقد تطلق على المجروح الشديد الضعف الذي لا يكاد يكتب حديثه، كقول أبي حاتم الرازي في (حمزة بن نجيح أبي عُمارة): " ضعيف الحديث "، فقال ابنه: يكتب حديثه؟ قال: " زاحفاً " (¬3). وعلى شديد الضعف الذي يبلغ حديثه الترك، وإن كان غير مُتَّهم، كقولِ عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن أبي قتادة الحرَّاني، قلت: ضعيف الحديث؟ قال: " نعم، لا يحدث عنه " ولم يقرأ علينا حديثه (¬4). وقال علي بن المديني في (الوليد بن محمد الموقَّريِّ): " ضعيف، ليس بشيء، وكان قد روى عن الزهري، ولا نروي عنه شيئاً " (¬5). وقال أبو حاتم الرازي في (رَوْحِ بن مسافر أبي بشر): " ضعيف الحديث، لا يكتب حديثه " (¬6). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 1 / 5). (¬2) سؤالات البرقاني (النص: 418). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 2 / 216). (¬4) الجرح والتعديل (2/ 2 / 192). (¬5) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 151). (¬6) الجرح والتعديل (1/ 2 / 496).

ومن هذا استعمال يحيى بن معين لها، حيث قال: " وإذا قلت لك: (هو ضعيف) فليس هو بثقة، ولا يكتب حديثه " (¬1). ومن هذا قولهم: (ضعيف جداً)، وهي دالة بلفظها على معناها. كما تطلق على الراوي المتَّهم بالكذب، فإذا وجدت ذلك فلا تقل: هو جرح يسير. ويطلب تعيين مرتبة ذلك الضعف بالنظر في القرائن. ومن هذا قول ابن عدي في " كامله " في كثير من الرواة: " هو في جملة الضعفاء "، فربما قالها فيمن يعتبر به، وربما قالها في متروك. 27 _ قولهم: (مضطرب الحديث). شرحت في تفسير (الحديث المضطرب) أنَّ إحدى صورتي الاضطراب هي الاختلاف على الراوي، حيث يأتي الحديث عنه على وجوه، تدل على لينه وسوء حفظه. وذلك كقول أحمد بن حنبل في (خُصَيفِ بن عبد الرحمن): " شديد الاضطراب في المسند " (¬2)، لذلك وصفه في موضع آخر بقوله: " ليس بقوي في الحديث " (¬3). 28 _ قولهم: (يخالف الثقات). عبارة جرح مجملةٌ، إذا عارضت التعديل فإنها تثير شُبهة إمكان الشُّذوذ، وربما أيضاً التفرد. وابن حبان يقول في مواضع فيمن يوردهم في " الثقات ": " يخالف "، " ربَّما خالف " فهي عبارة لا تعني الجرح المسقط، والثقة قد يخالف، ¬

(¬1) تقدَّم سياقه بتَمامه وتَخريجه في الكلام على عبارة (لا بأس به). (¬2) العلل (النص: 4926). (¬3) العلل (النص: 3187).

فتكون روايته شاذَّة إذا كانت المخالفة لمن هو أتقن منه، وإنما يكون مجرَّد المخالفة قادحاً مؤثِّراً في الراوي إذا كان قليل الحديث. 29 _ قولهم: (لا يتابع على حديثه). قال ابن القطان الفاسيُّ: " يُمسُّ بهذا من لا يعرف بالثقة، فأما من عرف بها فانفراده لا يضره، إلا أن يكثر ذلك منه " (¬1). قلت: والأمر كما قال، وأكثر من استعمل هذه العبارة من المتقدِّمين البخاري، وإذا قالها في راو فإنه يعني تفرده بما لا يعرف إلا من طريقه، وفي الغالب هو حديثٌ معيَّنٌ ليس لذلك الراوي سواه، ولذا فهذه اللفظة إذا قالها البخاري في راو فهو تضعيف؛ لأنها غالباً إمَّا في مجهول أو مُقلِّ، ومن كان بهذه المنزلة ولا يروي إلا حديثاً واحد يتفرد به، فلا يحتج به. وتبعه على استعمالها العقيلي، وأطلقها على جماعة من الرواة هم بهذه المثابة. لكنه ذكر بعض الثقات أيضاً، وقال فيهم مثل ذلك، وربما أورد الحديث مما يعنيه أن ذلك الراوي لم يتابع عليه. فقالها مثلاً في سعد بن طارق الأشجعي، وسلام بن سليمان أبي المنذر، وعقبة بن خالد السَّكونيِّ، ويحيى بن عثمان الحربي (¬2)، وغيرهم، وهؤلاء ثقات، والتفرد لا يضر في قبول ما رووا. وقال في (عبد الله بن خَيرانَ البغدادي) (¬3): " لا يتابع على حديثه "، فتعقَّبه الخطيب فقال: " قد اعتبرت من رواياته أحاديث كثيرة، فوجدتها مستقيمة تدل على ثقته " (¬4). ¬

(¬1) بيان الوهم والإيهام (5/ 363). (¬2) انظر: الضعفاء (2/ 119، 160، و 3/ 355، و 4/ 420). (¬3) الضعفاء (2/ 245). (¬4) تاريخ بغداد (9/ 451).

فمثل هذا من العُقيلي يتثبَّت فيه، ولا يُسلَّم ابتداء كسبب في رد حديث الموصوف به. 30 _ قولهم: (روى مناكير) أو: (روى أحاديث منكرة). جرح، لكن لا يلزم منه جرح ذات الراوي الذي وصف بها، حتى لا يكون في الإسناد من يحمل عليه سواه، أو كان ذلك الراوي لم يعدل أصلاً. والراوي يأتي بالمنكرات من الروايات والمأخذُ فيها عليه سواه من رجال الإسناد، سبب شائع من أسباب الطعن عليه، كما بينته في (تفسير الجرح)، ويناله من قدر الضعف بحسب ما روى من المنكرات بالنظر إلى سائر مرويَّاته. قال حرب بن إسماعيل الكِرمانيُّ: قلت لأحمد بن حنبل: قيس بن الربيع، أيُّ شيء ضعَّفه؟ قال: " روى أحاديث منكرة " (¬1). ولمعنى النكارة هنا ولما سيأتي مما يتصل بهذا اللَّفظ انظر تفسير (الحديث المنكر). 31 _ قولهم: (منكر الحديث). هذا الوصف صريح في حق الراوي باعتبار حديثه، لا أمْر آخر. وهي من ألفاظ الجرح الموجبة ضعفه عند الناقد. وقدر الجرح بهذه العبارة في التحقيق متفاوت، بين الضعف الذي يبقي للراوي شيئاً من الاعتبار، والشديد الذي يبلغ به إلى حد التهمة، فهي لفظةٌ مفسَّرةُ باعتبار، مجملة باعتبار. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 2 / 98).

ويفسَّرُ ذلك في حقِّ الراوي المعين بالقرائن المصاحبة للوصف، أو بدلالة أقاويل سائر النقاد فيه. ومما يبين تلك الدرجات الأمثلة التالية: 1 _ قول أبي حاتم الرَّازيِّ في (سعيد بن الفضل بن ثابت البصريِّ): " ليس بالقوي، منكر الحديث " (¬1)، وقوله في (سليمان بن عطاء الحرَّانيِّ): " منكر الحديث، يكتب حديثه " (¬2)، وقوله في (عبد الله بن جعفر بن نجيح المدينيِّ): " منكر الحديث جداً، ضعيف الحديث، يحدث عن الثقات بالمناكير، يكتب حديث ولا يحتج به " (¬3). وقول أبي زرعة الرازي في (سلامة بن روح الأيْليِّ): " ضعيف منكر الحديث "، فقال له ابن أبي حاتم: يُكتب حديثه؟ قال: " نعم، يكتب على الاعتبار " (¬4). فاقترانُ وصف (منكر الحديث) بتليين الراوي، أو بكتابة حديثه، دليلٌ على أنه ليس بمطروح الحديث، بل يعتبر به. وشبيهٌ به في المعنى ما يقع في عبارات ابن حِبان، كقوله في (عبد الله بن نافع المدني مولى ابن عمر): " منكر الحديث، كان ممن يخطئ ولا يعلم، لا يجوز الاحتجاج بأخباره التي لم يوافق فيه الثقات، ولا الاعتبار منها بما خالف الأثبات " (¬5). فهذا يجعله في مرتبة من يعتبر به في المتابعات والشواهد. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 55). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 1 / 133). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 2 / 23). (¬4) الجرح والتعديل (2/ 1 / 302). (¬5) المجروحين (2/ 20).

وجدير أن تلاحظ هنا أنَّ من يعتبر به ممن هذا نعته، فإنما هو الاعتبار بغير المنكر من روايته؛ لأن المنكر كما بينت في (القسم الثاني) من هذا الكتاب لا يعتبر به. 2 _ وسئل أحمد بن حنبل عن (عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقيِّ)، قيل له: يروى عن الإفريقيِّ؟ قال: " لا، هو منكر الحديث " (¬1)، وقال أبو زرعة في (محمد بن عبد الله بن نمران): " منكر الحديث، لا يكتب حديثه " (¬2)، وقال أبو حاتم الرازي في (مسلمة بن علي الخُشَنيِّ): " ضعيف الحديث، لا يشتغل به "، فقال له ابنه: هو متروك الحديث؟ قال: " هو في حد الترك، منكر الحديث " (¬3). فهذه الأمثلة دلت على أن (منكر الحديث) يكون في منزلة المتروك الذي لا يعتبر به. 3 _ وقال يحيى بن معين في (محمد بن سعيد الشامي المصلوب): " منكر الحديث " (¬4). فهذا رجل معروف بالكذب ووضع الحديث، ووصفه يحيى بكونه (منكر الحديث). وعلمنا كون هذا الاستعمال هنا أريد به المتروك الكذاب بدلالة المعروف عن النقاد في شأنه. إذاً استعمالهم لهذه اللفظة يجب أن يراعى فيه درجة الجرح بها، ولا ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال، رواية المرُّوذي (النص: 204). (¬2) سؤالات البرذعي (2/ 336). (¬3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 268). (¬4) تاريخه (النص: 5110)، واعلم أن يحيى بنَ معينٍ على كثرةِ كلامه في النقلة فإنه من أقلِّهم استعمالاً لعبارة (مُنكر الحديث).

يصح أن تحمل على الشديد المسقط لذاتها، إلا أن يُعدم في الراوي من الأوصاف سِواها. وهذا الذي ذكرت في بيان معنى هذه العبارة هو الذي يجري عليه الاصطلاح لعامة النقاد، ومنهم البخاري في التحقيق. تفسير قول البخاري في الراوي: " منكر الحديث ": حكى أبو الحسن القطان عن البخاري أنه قال في كتابه " الأوسط ": " كل من قلت فيه: منكر الحديث؛ فلا تحل الرواية عنه " (¬1). هذا النص عن البخاري وجدت من يذكره يعزوه لابن القطان، ولم أجد له ذكراً فيما في أيدينا من مصنَّفَات البخاري، ولما فيه من الشِّدَّة ألحق في رأي بعض متأخري المحدثين بأسوأ مراتب التجريح. والذي وجدته بالتتبُّع أن استعمال البخاري لهذه اللفظة لا يختلف عن استعمال من سبقه أو لحقه من علماء الحديث، فهو إنما يقول ذلك في حقِّ من غلبت النكارة على حديثه، أو استحكمت من جميعه، وربما حكم عليه غيره بمثل حُكمه، وربَّما وصف بكونه (متروك الحديث)، وربما اتُّهم بالكذب، وربما وصف بمجرد الضعف، وربما قال ذلك البخاري في الراوي المجهول الذي لم يرو إلا الحديث الواحد المنكر. وهذه أمثلة متفاوتة من الرواة لذلك: قال البخاري في (إسحاق بن نجيح الملطي): " منكر الحديث "، وهذا رجل معروف بالكذب ووضع الحديث عندهم، ومثله ممن لا تحل الراوية عنه إلاَّ للبيان. وقالها في (ثابت بن زهير أبي زهير)، وهكذا جاءت عبارات غيره ¬

(¬1) بيان الوهم والإيهام، لابن القطان (2/ 264، و 3/ 377).

على الموافقة لما قال لفظاً أو معنى , وقال ابن عدي: " كل أحاديثه تُخالفُ الثقات في أسانيدها ومتونها " (¬1)، ومنهم من قال: " متروك الحديث ". وقالها في (جُميع بن ثُوب الرَّحبيِّ)، وقال ابن عدي: " عامَّةُ أحاديثه مناكير، كما ذكره البخاري " (¬2). قلت: وهذا من ابن عدي تفسير ظاهر لمراد البخاري بهذه اللفظة، والتي تؤكد ما ذكرته آنفاً أنَّه مراد أئمة الشأن. وقالها البخاري في (إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة)، ولم يقله غير ممن سبقه، بل قال أحمد بن حنبل: " ثقة "، وقال ابن معين: " صالح "، لكن وافقه عليه من أقرانه أبو حاتم الرازي، وفسَّره فقال: " شيخ ليس بقوي، يكتب حديثه، ولا يُحتج به، منكر الحديث " (¬3)، فكأنه يقول: له أحاديث مناكير، ولم يغلب ذلك على حديثه إلى درجة أنه صار لا تحل الراوية عنه. وهذا ابن عدي يقول بعدما حرَّر مروياته: " له غير ما ذكرته من الأحاديث، ولم أجد له أوحش من هذه الأحاديث، وهو صالح في باب الرواية، كما حكي عن يحيى بن معين، ويكتب حديثه مع ضعفه " (¬4). قلت: وكان البخاري قال مرة: " عنده مناكير " (¬5)، وهذه أظهر في أمره من الإطلاق المتقدِّم، لكن دل هذا على أن تلك العبارة من البخاري لا تعني دائماً أن يكون الراوي الموصوف بذلك ينزَّل منزلة المتروك الساقط، والذي هو مقتضى عبارة: " لا تحل الرواية عنه ". ¬

(¬1) الكامل (2/ 298). (¬2) الكامل (2/ 417). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 1 / 83 _ 84). (¬4) الكامل (1/ 383). (¬5) التاريخ الأوسط (2/ 135).

وقالها البخاري في (عبد الله بن خالد بن سلمة المخزومي)، وكذلك قال أبو حاتم الرازي (¬1)، وفسر أمره ابن عدي، فقال: " ليس به من الحديث إلا اليسير، ولعله لا يروي عنه غير محمد بن عقبة " (¬2). ومن بابه (عبد الله بن المؤمل المخزومي)، قال أبو داود: " منكر الحديث " (¬3)، وكان قليل الحديث، كما بين ذلك ابن حبان فقال: " قليل الحديث، منكر الرواية، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد؛ لأنه لم يتبين عندنا عدالته فيقبل ما انفرد به، وذاك أنه قليل الحديث، لم يتهيأ اعتبار حديثه بحديث غيره لقلته، فيحكم له بالعدالة أو الجرح، ولا يتهيأ إطلاق العدالة على من ليس نعرفه بها يقيناً فيقبل ما انفرد به، فعسى نحل الحرام ونحرم الحرام برواية من ليس بعدل، أو نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل اعتماداً منها على رواية من ليس بعدل عندناً، كما لا يتهيأ إطلاق الجرح على من ليس يستحقه " (¬4). قلت: وفي هذا بقاء على أصل استعمال هذه اللفظة فيمن لم يرو إلا المنكر أو غلب ذلك على حديثه، فهذا وإن لم يرو إلا اليسير، لكن جميعُ ذلك منكر، فصح أن يكون (منكر الحديث)، وهذا جرح له بالنظر إلى مروياته دون حاله. ويستثنى من دلالة الاصطلاح في استعمال (منكر الحديث) صورة تحتاج إلى تيقظ، وهي: ما وقع من استعمال بعض المتقدمين هذا الوصف يريد به أن الراوي يتفرد ويُغْرب. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 2 / 45). (¬2) الكامل (5/ 367). (¬3) تهذيب الكمال، للمزي (16/ 190). (¬4) المجروحين (2/ 28).

وعلى هذا حمل بعض الأئمة قول يحيى بن سعيد القطان في (قيس بن أبي حازم): " منكر الحديث " وذكر له أحاديث مناكير (¬1). كما قال يعقوب بن شيبة: " الذين أطْرَوْه يحملون هذه الأحاديث عنه على أنها عندهم غير مناكير، وقالوا: هي غرائب " (¬2). ولذا قال ابن حجر: " ومراد القطان بالمنكر: الفرد المطلق " (¬3). وهو استعمال أحمد بن حنبل أيضاً في طائفةٍ من الثقات، لم يكن مرادُهُ يعدو التفرد، مثل: محمد بن حنبل أيضاً في طائفة من الثقات، لم يكن مراده يَعدو التفرد، مثل: محمد بن إبراهيم التيمي، وزيد بن أبي أنيسة، وعمرو بن الحارث، والحسين بن واقد، وخالد بن مخلد. ومما يُؤيِّد هذا قول أحمد بن حنبل في (الحسين بن الحسن الأشقر): " منكر الحديث، وكان صدوقاً " (¬4). فوصفه بالصدق مع كونه عنده منكر الحديث. 32 _ قولهم: (روى أحاديث معضلةً) أو: (يروي المعضَلاتِ). جاء استعمالُ (المعضلِ) في كلام السلف بمعنى: الحديث المنكر، أو شديد النكارة، أو الموضوع، وقع ذلك في مواضع عدة في كلام الجوز جاني، وابن عدي، وابن حبان، كما وقع بِنْدرة في كلام آخرين، كالبخاري (¬5)، وأبي حاتم الرازي (¬6)، والعقيلي (¬7). ¬

(¬1) تاريخ دمشق، لابن عساكر (49/ 464). (¬2) تاريخ دمشق (49/ 462). (¬3) تهذيب التهذيب (3/ 445). (¬4) مسائل ابن هانئ النيْسابوري (2/ 243). (¬5) كقوله في ترجمة (عُمر بن غِياث): " مُعضل الحديث " (التاريخ الأوسط 2/ 186) هامشاً، ونقله ابنُ عدي في " الكامل " (6/ 117). (¬6) في ترجمة (عِمران بن وَهب) في " الجرح والتعديل " (3/ 1 / 306)، و (عُفير بن مَعدان) في " علل الحديث " (2/ 173). (¬7) كقوله في ترجمة (عُمر بن يزيد الشيباني): " مَجهولٌ بالنقل، جاءَ عن شُعبة بحديث مُعضلٍ " (الضعفاء 3/ 195).

ومن عبارتهم فيه: قال الجوزجاني في (ضبارة بن عبد الله بن مالك الحضرمي): " روى عن ذُويد عن الزهري حديثاً معضلاً عن أبي قتادة "، يعني منكراً، وهذا رجل مجهول. وقال ابن عدي في (الحسن بن زيد بن الحسن الهاشمي): " يروي عن أبيه، وعكرمة أحاديث معضلة " (¬1)، أراد منكرة. وبمعناه قوله في (حصين بن عمر الأحمسيِّ): " عامة أحاديثه معاضيل ينفرد عن كل من يروي عنه " (¬2). وقال ابن حبان في (عمر بن محمد بن صهبان الأسلمي): " كان ممن يروي عن الثقات المعضلات التي إذا سمعها من الحديث صناعته لم يشك أنها معمولة، يجب التنكُّب عن روايته في الكتب " (¬3). ولابن حبان في هذا الاستعمال نظائر أخرى معروفة. ومنه قوله في (سلام بن أبي خُبْزة العطار): " كثير الخطأ، معضل الأخبار، يروي عن الثقات المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به " (¬4). وجميع هذا لا يعنون به (المعضل) بمعناه الاصطلاحي الذي شاع استعماله عند المتأخرين، وكان يُذْكر عند المتقدمين نادراً، كما بيَّنته في (ألقاب الحديث). 33 _ قولهم: (أستخير الله فيه). عرفت هذه العبارة عن ابن حبَّان، ولا تكاد تراها لغيره، ووجدتها من ¬

(¬1) الكامل (3/ 172). ونحوه في ترجمة (الحسَن بن علي النخعي) وكانَ ابنُ عدي قد كذَّبه (الكامل 3/ 213). (¬2) الكامل (3/ 301). (¬3) المجروحين (2/ 81 _ 82). (¬4) المجروحين (1/ 340).

كلام عبد الرحمن بن مهدي، لكنِّي لم أجدها عنه بإسناد يصحُّ، ولو صحَّ عنه فهو نادر قليل. وظاهرها: تردُّدُ الناقد في الراوي: يُلْحق بالثقات أو الضعفاء، والترجيح بحسب ما يتبين من كلام سائر النقاد والنظر في حديث الراوي. 34 _ قولهم: (ليس بشيء). تكثر في كلام يحيى بن معين، ويقولها غيره. قال الحاكم: " قول يحيى بن معين: (ليس بشيء)، هذا يقوله ابن معين إذا ذكر له الشيخ من الرواة يقل حديثه، ربما قال فيه: ليس بشيء، يعني لم يسند من الحديث ما يشتغل به " (¬1). قلت: ومن مثاله قول يحيى بن معين في (حنظلة بن عبد الرحمن التيمي): " ليس بشيء "، وقال مرَّة: " لم يكن به بأس إن شاء الله " (¬2)، وفي رواية: " ضعيف، يكتب حديثه " (¬3)، فترددت فيه عبارته في معنى متقارب، والسبب فيه ما قال ابن عدي: " لم أر له من الحديث إلا القليل، إلا أن الثوري قد حدث عنه بشيء يسير، ولم يتبين لي ضعفه؛ لقلة حديثه " (¬4). قلت: أراد الضعف المسقط. ولم يبد لي صحة ما قاله الحاكم في أكثر من أطلق عليهم ابن معين هذه العبارة، وهو قد أطلقها على عدد كثير من الراوة، وجدت أكثرهم من المعروفين بالرواية، لكنهم من الضعفاء والمتروكين والمتهمين، ومثاله منتشر جداً في الروايات عن ابن معين. ¬

(¬1) نقله ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (3/ 461). (¬2) تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 2844، 3430). (¬3) الكامل، لابن عدي (3/ 343). (¬4) الكامل (3/ 343).

نعم، يوجد في بعضهم من يمكن وصفه بقلة الرواية على ضعفه، لكن لا يصح أن يحمل عليه مراد يحيى؛ لأنه الأقل مقارنة بالصنف الآخر. والصواب أن عبارة يحيى هذه: عبارة جرح مجملة في تحديد قدر الجرح وسببه، ولا تخرج عن نفس مراد غيره من النقاد على ما يأتي ذكره عن المنذري. ومما يدل على ذلك: ما حكاه الآجري، قال: قلت لأبي داود: العوَّام بن حمزة حدث عنه يحيى القطان، قال عباس عن يحيى بن معين: إنه ليس بشيء، قال: " ما نعرف له حديثاً منكراً " (¬1). وحين نقل عثمان الدارمي عن ابن معين قوله في (سليمان بن داود الخولاني): " ليس بشيء "، قال عثمان: " أرجو أنه ليس كما قال يحيى، وقد روى يحيى بن حمزة أحاديث حساناً كلها مستقيمة " (¬2). وقال المنذري: " أما قولهم: (فلان ليس بشيء)، ويقولون مرَّة: (حديثه ليس بشيء)، فهذا ينظر فيه: فإن كان الذي قيل فيه هذا قد وثَّقه غير هذا القائل، واحتج به، فيحتمل أن يكون قوله محمولاً على أنه ليس حديثه بشيء يحتج به، بل يكون حديثه عنده يكتب للاعتبار وللاستشهاد وغير ذلك. وإن كان الذي قيل فيه ذلك مشهوراً بالضعف، ولم يوجد من الأئمة من يحسن أمره، فيكون محمولاً على أن حديثه ليس بشيء يحتجُّ به، ولا يعتبر به ولا يستشهد به، ويلتحق هذا بالمتروك " (¬3). قلت: فهذا يؤكد أن هذه العبارة من قبيل الجرح المجمل. ¬

(¬1) سؤالات الآجري (النص: 355)، وعِبارة ابنِ معين في رواية عباس الدوري (النص: 4244): " ليسَ حديثه بشيء ". (¬2) تاريخ الدارمي (النص: 386). (¬3) جوابُ المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل (ص: 86).

نعم، ربما دل على شدة ضعف الموصوف بها أيضاً عند الناقد اقترانها بما يدل على ذلك، مثل قول علي بن المديني في (أبي بكر الدَّاهريِّ): " ليس بشيء، لا يكتب حديثه " (¬1)، فعبارة (لا يكتب حديثه) لا تقال إلا في شديد الضعف، ومن يعود ضعفه في الأصل إلى روايته. وقال يحيى بن معين في (عمر بن موسى الوجيهيِّ): " ليس بشيء "، وفي موضع آخر: " كذَّابٌ، ليس بشيء " (¬2)، وقال فيه داود السجستاني: " ليس بشيء، يروي عن قتادة وسماك مناكير " (¬3)، قلت: وهو معروف بكذبه ونكارة حديثه. وقال يحيى بن معين في (معلى بن زياد القُردوسيِّ): " ليس بشيء، ولا يكتب حديثه "، فتعقبه ابن عدي بقوله: " لا أرى بروايته بأساً، ولا أدري من أين قال ابن معين: لا يكتب حديثه، وهو عند ي لا بأس به " (¬4). فتأمَّل استدراك ابن عدي، فلم يتعقب يحيى في قوله: (ليس بشيء)، إنما في قوله: (لا يكتب حديثه)، فدل على أن (ليس بشيء) وحدها عندهم لم تكن تدل على تفسير قدر الجرح لذاتها، ويمكن حملها على أدنى الجرح عندما يتبين من حال الراوي أنه لا يتجاوز ذلك. ويلتحق بها قولهم: (لا يساوي شيئاً)، وإن كانت قليلة الاستعمال، فقد تتبعها فوجدتها كذلك. ¬

(¬1) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 205)، واسمُ الداهري عبْد الله بن حكيم. (¬2) سؤالات ابن الجنيد (النص: 272، 535). (¬3) سؤالات الآجري (النص: 152). (¬4) الكامل (8/ 98) وفيه (8/ 97) نقل قوْل ابنِ معين من رواية ابن أبي مَريم عنهُ بإسناد صحيح. وهذا الرجل يَبدو أن الرواية فيه عن ابن مَعين قد تناقضت، فقد روى عنه إسحاق بنُ منصور قوله فيه: " ثقة " (الجرح والتعديل 4/ 1 / 331)، وهوَ الصواب فيه، وقد وثَّقه كذلك أبو حاتم الرازي وغيره. ورُبما قالَ يحيى تلك العبارة في رواية ابن أبي مريم في (مُعلَّى) آخر، والله أعلم.

35 _ قولهم: (لا شيء). عبارة كثيرة الاستعمال، وهي من ألفاظ التجريح المجملة. ومن أكثر النقاد استعمالاً لها: يحيى بن معين، كما وقعت في كلام غيره بقلَّة، كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل والبخاري وأبي زرعة الرازي وغيرهم. ولم أجدها خارجة عن دلالة قولهم: (ليس بشيء)، فأكثر من قيلت فيهم الضعفاء، ومراتبهم في الضعف تتفاوت بين خفته كاللِّين، وشدَّته كالتُّهمة بالكذب. وفسرها ابن أبي حاتم الرازي في استعمال ابن معين، فنقل عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين في (خالد بن أيوب البصري) قال: " لا شيء "، قال: " يعني ليس بثقة " (¬1). وقيلت في الراوي المقلِّ الذي لم يتبين حفظه وإتقانه لقلِّة حديثه، كما قالها مثلاً يحيى بن معين في (هبيرة بن حدير العدوي) (¬2)، وقالها الدارقطني في (الهجنَّع بن قيس) (¬3). 36 _ قولهم: (لا يعتبر به). صريحة في ترك حديث الموصوف بها، لكن لا تكاد تجدها لسابق غير الدارقطني. فمن ذلك قوله: " لا يعتبر به " في (مسلم بن يسار أبي عثمان الطُّنبذيِّ) (¬4)، و (يزيد بن صليح الحمصي) (¬5). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 321). (¬2) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 2 / 110). (¬3) سؤالات البرقاني (النص: 527). (¬4) سؤالات البرقاني (النص: 492). (¬5) سؤالات البرقاني (النص: 549).

وينبغي أن يكون من بابها: " لا يعتبر بحديثه " من جهة واقع الاستعمال، لكنها نادرة في كلامهم، وجدتها من قول الجوزجاني في (عبد الغفار بن الحسن أبي الرَّمليِّ)، قال: " لا يعتبر بحديثه " (¬1). قلت: لكن أبا حازم هذا صدوق في التحقيق، قال أبو حاتم الرازي: " كوفي، وقع إلى الشام، لا بأس به " (¬2)، وذكره ابن حبان في " الثقات " (¬3)، ولا عبرة بقول الأزدي: " كذاب " (¬4)، فالأزدي ليس ممن يعتمد عليه في هذا الشأن؛ لكونه مجروحاً في نفسه. 37 _ قولهم: (ليس بثقة). هي عبارة جرح، قلَّ أن تجدها مقولة في راو إلا وهو شديد الضعف: متروك الحديث، أو متهم بالكذب، أو كذَّاب معروف، خصوصاً في كلام يحيى بن معين والنسائي وقد أكثر منها. لكن ليس ذلك بإطلاق، فقد وقعت منهم في جماعات من الرواة الضعفاء، أو ممن في حفظهم بعض اللِّين، وإنما تبيَّن ذلك بدراسة أحوال أولئك الرواة ممن قيلت فيهم هذه الكلمة. مثل ما قال بشر بن عمر: سألت مالك بن أنس عن محمد بن عبد الرحمن الذي يروي عن سعيد بن المسيب؟ فقال: " ليس بثقة "، وسألته عن صالح مولى التوأمة؟ فقال: " ليس بثقة "، وسألته عن أبي الحويرث؟ فقال: " ليس بثقة "، وسألته عن شعبة الذي روى عنه ابن أبي ذئب؟ فقال: ¬

(¬1) الكامل، لابن عدي (7/ 20)، وتصحَّفت (يُعتبر) في " الميزان " (2/ 639) وغيره إلى (يغتر)، فتأمل! (¬2) الجرح والتعديل (3/ 1 / 54). (¬3) الثقات، لابن حبان (8/ 421). (¬4) ميزان الاعتدال (2/ 639).

" ليس بثقة "، وسألته عن حرام بن عثمان؟ فقال: " ليس بثقة "، وسألت مالكاً عن هؤلاء الخمسة؟ فقال: " ليسوا بثقة في حديثهم " (¬1). قلت: وليس في هؤلاء من يبلغ الترك سوى حرام بن عثمان، بل هم بين صدوق، أو صالح يعبتر به. وتعقب ابن القطان الفاسي قول مالك ذلك في (شعبة مولى ابن عباس) فقال: " إن مالكاً لم يضعفه، وإنما شحَّ عليه بلفظة: ثقة، وقد كانوا لا يطلقونها إلى على العدل الضابط .. وربما قالوا: (ليس بثقة) للضعيف أو المتروك، فإذاً هو لفظ يتفسَّر مراد مطلقه بحسب حال من قيل فيه ذلك " (¬2). وقال الخطيب بعد أن ذكر نماذج من ألفاظ بعض النقاد في الجرح بفعل بعض المباحات أو مواقعة بعض المكروهات، أو فعل ما يختلف في تحريمه، قال: " وكذلك قول الجارح: (إن فلاناً ليس بثقة)، يحتمل أن يكون لمثل هذا المعنى، فيجب أن يفسَّر سببه " (¬3). قلت: ويصدق هذا أن يحيى بن معين عن (يونس بن خباب)؟ فقال: " ليس بثقة، كان يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فليس بثقة " (¬4). قلت: فأعاد ابن معين هذه اللفظة حين فسرها هنا إلى معنى غير الحديث. فحيث قام الاحتمال في دلالتها على الضعف المسقط أو غير ¬

(¬1) أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه " (ص: 26) وإسناده صحيح، ومحمد بن عبد الرحمن هو ابن لبيبة، وأبو الحويرث اسمه عبد الرحمن بن معاوية، وشعبة هو ابن دينار مولى ابن عباس. (¬2) بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام (5/ 325). (¬3) الكفاية (ص: 183). (¬4) سؤالات ابن الجنيد (النص: 559).

المسقط، بل الجرح المعتبر أو غير المعتبر، فإنه لا يصح عدها من قبيل الجرح الشديد بمجرد إطلاقها. وعليه: فهي لا حقة بألفاظ الجرح المجملة، لا يعتد بها مجردة حتى تفسَّر. نعم، رد ابن حجر تأويل ابن القطان المتقدم بقوله: " هذا التأويل غير شائع، بل لفظة (ليس بثقة) في الاصطلاح يوجب الضعف الشديد " (¬1). قلت: وابن حجر مسبوق إلى اعتبار هذا المعنى، فحين قال الجوزجاني في (سعيد بن كثير بن عفير): " فيه غير لون من البدع، وكان مخلطاً غير ثقة " (¬2)، تعقبه ابن عدي بقوله: " هذا الذي قال: فيه غير لون من البدع، فلم ينسب ابن عفير المصري إلى بدع، والذي ذكر أنه غير ثقة، فلم ينسبه أحد إلى الكذب " (¬3). قلت: فدل هذا على أن ابن عدي من قبل كان يحملها عنهم على الضعف الشديد الذي يبلغ بالراوي حد الكذب، وذلك فيما يبدو من خلال ما وجده عنهم في أكثر استعمالهم كما ذكرت أولاً. 38 _ قولهم: (متروك الحديث). جرح بليغ، مفسِّر في لفظه، ظاهر في أنه من جهة حديث الراوي وما أتى به من المنكرات التي غلبت عليه، فاستحق بذلك هذا الوصف. وتقدم في (تفسير الجرح) وفي (المبحث الأول) من هذا الفصل ما بينه ابن أبي حاتم عن أهل الحديث أن من يقولون فيه ذلك، فهو ساقط الحديث، لا يعتبر به. ¬

(¬1) تهذيب التهذيب (2/ 170 _ 171). (¬2) أحوال الرجال (النص: 277). (¬3) الكامل (4/ 471).

وفي معناها قولهم: (ذاهب الحديث)، و (ساقط الحديث)، و (واهي الحديث). فإذا لم تضف للفظ (الحديث)، كقولهم: (متروك) و (ذاهبٌ) و (ساقط) و (واه)، فأغلب ما استعملت له هو ذات المعنى بالإضافة، لكن قد يراد به غير ذلك، فتفطن، وابحث عن وجهه في كلمات سائر النقاد، فلن تعدم وجهه إن شاء الله. 39 _ قولهم: (تركه فلان). هذه صيغة جرح، ولا تلازم بينها وبين صيغة (متروك) أو (متروك الحديث)؛ فقد يراد بها ذلك، وقد يراد بها أن الناقد ترك ذلك الراوي لمجرد ضعفه عنده. ومن أبرز النُّقُّاد الذين يجدر بك أن تلاحظ طريقتهم في ذلك: الإمامان يحيى بن سعيد القطان، وصاحبه عبد الرحمن بن مهدي، وأكثر من نقل عنهما الحافظان: عمرو بن على الفلاس، ومحمد بن المثنى الزمن. فقد كان علماء هذا الفن والمصنِّفُون فيه يزنون النقلة من خلال ما بلغهم من اختيار هذين الإمامين، في موضع اتفاقهما وافتراقهما. وطريقة يحيى معروفة عندهم بالتشدد، وطريقة ابن مهدي بالاعتدال، فإن اتفقا على ترك الراوي، فلا يكاد جرحه يندمل، وإذا اتفقا على الرواية عنه فقد جاز القنطرة، وإذا افترقا، فقبله ابن مهدي وتركه يحيى فعندئذ يغلب الاعتدال، فيكون رأي ابن مهدي أرجح عند النقاد، أو قبله يحيى وتركه ابن مهدي رجح القبول بطريقة الأولى، لكن حال اختلافهما لا يعني أن يكون القبول فيه بمعنى الاحتجاج، كما لا يكون الترك بمعنى السقوط، بل ربما كان الراوي في موضع من يكتب حديث للاعتبار.

فمن أمثلة من اتفقا على الرواية عنهم: واصل بن عبد الرحمن أبو حرة البصري (¬1)، وعبد الله بن عثمان بن خثيم (¬2)، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي (¬3)، وما من هؤلاء إلا مقبول الحديث، فثلاثتهم من أهل الصدق. ومن أمثلة من اتفقا على ترك الرواية عنهم، وهي كثيرة: أشعث بن سوار (¬4)، ورباح بن أبي معروف (¬5)، ومحمد بن راشد المكحولي (¬6)، والمثنى بن الصباح (¬7)، ومسلم بن كيسان الأعور (¬8)، وهؤلاء لم يبلغ حديثهم الترك عند سائر الأئمة، بل هم موصوفون بالصدق في الجملة، لكن لا يحتج بهم، إنما يكتب حديثهم للاعتبار، وبعضهم أضعف من بعض والأخيران أضعفهم. والصلت بن دينار (¬9)، وعمرو بن عبيد المعتزلي (¬10)، ومحمد بن عبيد الله العرزمي (¬11)، وإبراهيم بن يزيد الخوزي (¬12)، والحسن بن دينار (¬13)، ونصر بن طريف أبو جزي (¬14)، وأبان بن أبي عياش (¬15)، هؤلاء متروكون، بل بعضهم معروف بوضع الحديث. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 31). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 112) الكامل (5/ 267). (¬3) الكامل، لابن عدي (8/ 525). (¬4) الجرح والتعديل (1/ 1 / 271). (¬5) الجرح والتعديل (1/ 2 / 489) الكامل (4/ 106). (¬6) الكامل (7/ 419). (¬7) الجرح والتعديل (4/ 1 / 324) الكامل (8/ 172). (¬8) الجرح والتعديل (4/ 1 / 192). (¬9) الجرح والتعديل (2/ 1/ 438). (¬10) الجرح والتعديل (3/ 1 / 247) الكامل (2/ 35). (¬11) الجرح والتعديل (4/ 1 / 2). (¬12) الجرح والتعديل (1/ 1 / 147) الكامل (1/ 367) الضعفاء للعقيلي (1/ 70). (¬13) الجرح والتعديل (1/ 2 / 12) الكامل (3/ 116). (¬14) الكامل (8/ 274). (¬15) الجرح والتعديل (1/ 1 / 296) الضعفاء للعقيلي (1/ 40).

ومن أمثلة من افترقا فيهم فروى عنهم يحيى وتركهم ابن مهدي: قابوس بن أبي ظبيان (¬1)، وأبو صالح باذام مولى أم هانئ (¬2). وممن روى عنهم ابن مهدي وتركهم يحيى: الحسن بن أبي جعفر (¬3)، وحبيب المعلم (¬4)، وحرب بن شداد (¬5)، والرَّبيع بن صبيح البصري (¬6)، وعمران بن داور القطان (¬7). والراجح في جميع هؤلاء من روى عنهم يحيى أو ابن مهديِّ الصدق في حديثهم، وقبول رواياتهم، منهم احتجاجاً ومنهم اعتباراً، وليس يلحق واحد منهم بالمتروكين. قال الترمذي بعد أن نقل عن ابن المديني أسماء بعض الرواة ترك الرواية عنهم يحيى القطان: " وإن كان يحيى بن سعيد القطان قد ترك الرواية عن هؤلاء، فلم يترك الرواية عنهم أنه اتهمهم بالكذب، ولكنه تركهم لحال حفظهم. . وقد حدث عن هؤلاء الذين تركهم يحيى بن سعيد القطان: عبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من الأئمة " (¬8). ونقل الليث بن عبدة عن يحيى بن معين قال: " كان ابن مهدي إذا حدث بحديث معاوية بن صالح زبره يحيى بن سعيد، وقال: أيش هذه الأحاديث؟ وكان ابن مهدي لا يبالي عمن روى، ويحيى ثقة في حديثه " (¬9). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 2 / 145). (¬2) العلل، لأحمد بن حنبل (النص: 4690) الكامل (2/ 255). (¬3) الجرح والتعديل (1/ 2 / 79) الكامل (3/ 133). (¬4) الجرح والتعديل (1/ 2 / 101) الكامل (3/ 321). (¬5) الكامل (3/ 332). (¬6) التاريخ الكبير، للبخاري (2/ 1 / 278 _ 279). (¬7) الكامل (6/ 162). (¬8) كتاب (العلل) في آخر " الجامع " (6/ 237). (¬9) الكامل (8/ 145).

قلت: لا يقبل من يحيى هذا الإطلاق في حق ابن مهدي. وقد ذكرت في (صفة الناقد) ما روي عن ابن المديني قال: " إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يحيى تشدد " (¬1). وإذ قال ابن معين هذه العبارة المشعرة بتساهل ابن مهدي وأشار إلى تقديم القطان عليه، فإنه أيضاً قال في موضع آخر: " كان يحيى بن سعيد القطان لا يروي عن إسرائيل، ولا شريك، وكان يستضعف عاصماً الأحوال، وكان يروي عمن هو دونه: مجالد " (¬2). وإنما كان ابن معين يتشدد، بل هو معروف بذلك، كما بينته في غير موضع. وفي الجملة: فهذا جرح غير مفسر السبب، وربما كان مرجع التارك إلى علة لا تكون جرحاً قادحاً. كما وقع من عبد الله بن المبارك، وكان من أئمة النقاد، وقد اعتدَّ أهل العلم بتركه فيمن ترك، وبروايته فيمن روى عنهم، كان ربما ترك الراوي فأعاد السَّبب إلى أنه اقتدى ببعض من يثق به في هذا العلم، وليس من أجل علة بينة بنى عليها تركه، كما قال عبد العزيز بن أبي رزمة (وكان ثقة): جلس ابن المبارك بالبصرة مع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وذكر قوماً من أهل الحديث، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، لم تركت الحسن بن دينار؟ قال: " تركه إخواننا هؤلاء " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (10/ 243) بإسناد لين. (¬2) تاريخ يحيى (النص: 2445) الجرح والتعديل (1/ 2 / 12) الكامل (2/ 128)، ومجالد هو ابن سعيد. (¬3) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه " (النص: 2079) ومن طريقه: ابن عدي (3/ 116) وابن حبان في " المجروحين " (1/ 232) وإسناده صحيح.

وقال فيه ابن المبارك أيضاً: " اللهم إني لا أعلم إلا خيراً، ولكنَّ أصحابي وقفوا فوقفت " (¬1). 40 _ قولهم: (لم يحدث عنه فلان). قد تساوي " تركه فلان "، فيكون لها معناها. قال أحمد بن حنبل في (أبي الزبير محمد بن مسلم): " قد روى عنه قوم واحتملوه، روى عنه أيوب وغير واحد، إلا أن شعبة لم يحدث عنه " (¬2). ولم يحدث مالك بن أنس عن جماعة من أهل المدينة، وقد قال علي بن المديني: " كلَّ مدني لم يحدث عنه مالك ففي حديثه شيء، ولا أعلم مالكاً ترك إنساناً إلا إنساناً في حديثه شيء " (¬3). وقال أبو حاتم الرازي: " إذا رأيت الرجل لا يروي عنه الثوري " وأراه قال: " وشعبة، وقد أدركاه، فما ظنك به؟ " (¬4). وقال عمرو بن علي الفلاس: سألت عبد الرحمن _ يعني ابن مهدي _ عن حديث (عمرو بن ثابت) فأبى أن يحدث عنه، وقال: " لو كنت محدثاً عنه، لحدثت بحديث أبيه عن سعيد بن جبير في التفسير " (¬5). قال أبو حاتم الرازي في (القاسم بن محمد بن أبي شيبة): " كتبت عنه، وتركت حديثه "، وقال أبو زرعة: " كتبت عنه ولم أحدث عنه بشيء " (¬6). ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي (3/ 116) وإسناده صالح. (¬2) العلل ومعرفة الرجال، رواية المروذي وغيره (النص: 67). (¬3) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 177) وإسناده صحيح. (¬4) علل الحديث (1/ 365). (¬5) الجرح والتعديل (3/ 1 / 223). (¬6) الجرح والتعديل (3/ 2 / 120).

ويراد بها أيضاً أنه لم يتهيأ له السماع منه، فلذلك لم يكتب عنه شيئاً، وليست جرحاً أصلاً. مثاله: قال أبو الحسن الميموني لأحمد بن حنبل وقد ذكر له دخوله الرقة وسماعه من بعض أهلها: فكيف لم تكتب عن عبد الله بن جعفر (يعني الرقي)؟ فقال: " ما كان عبد الله بن جعفر تلك الأيام يذكر "، قلت: فقد أتيتها بعد ذاك، فكيف لم تكتب عنه؟ قال: " لم أكتب عنه "، قلت: تركته من علة؟ قال: " لا، ولكن لم أكتب عنه شيئاً " (¬1). كذلك كقول أبي حاتم الرازي في (عبيد بن جناد الحلبي): " صدوق، لم أكتب عنه " (¬2). وقول أبي زرعة الرازي في (عبد الله بن الجهم الرازي): " كان صدوقاً، رأيته ولم أكتب عنه " (¬3). 41 _ قولهم: (سكتوا عنه). هي عبارة محالة، خبر من قائلها عن غيره، لا ينشئ بها شيئاً من جهته. فهي بمنزلة قول الناقد وقد اطلع على كلام غيره من أهل الحديث: (تكلموا فيه)، أو (طعنوا عليه)، ودلَّ الاستقراء لحال من قيلت فيه أنها مساوية لإخبار الناقد عن غيره بقوله: (تركوه). لذا فهي من عبارات الجرح المجملة، ولولا دلالة الاستقراء لكانت في جملة ما لا يصح الاعتماد عليه في جرح الرواة حتى يوقف على تفسيره. وقد عرف استعمالها عن البخاري، وندرت جداً عن غيره، كأبي حاتم الرازي وأبي زرعة ومسلم بن الحجاج. ¬

(¬1) تهذيب الكمال، للمزي (28/ 327 _ 328). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 404). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 2 / 27).

ولا يعاب استعمالها منهم فيمن قالوها فيه، إلا قول البخاري في (أبي حنيفة النعمان بن ثابت الإمام الفقيه): " سكتوا عنه، وعن رأيه، وعن حديثه " (¬1). فهذه حكاية من البخاري عن أهل الحديث، ومن تأمَّل فاحصاً منصفاً متبرئاً من العصبية وجد هذا القول خطأ، وذلك _ بإيجاز _ من جهتين: الأولى: دلالة الاستقراء على أن أهل الحديث قد اختلفت عباراتهم في أبي حنيفة، بين معدِّل وجارح، علماً أن الجرح عند من جرح لم يفسر بسبب حديثه، فكيف سكتوا عنه , وفيهم من أثنى عليه وأطراه ورفع من شأنه. والثانية: أن عبارات الجارحين وقع فيها من المبالغة والتَّهويل، وذلك بسبب الشِّقاق الذي كان بين أهل الرأي وأهل الحديث في تلك الفترة، علماً بأن كثيراً من تلك الأقاويل لا تصح نسبتها إلى من عزيت إليه. وأبو حنيفة شغله الفقه عن الحديث، ولعله لو اشتغل به اشتغال كثير من أهل زمانه، لم يمكن مما مُكِّن فيه من الفقه، ومع ذلك فإنه قد روى وحدث، نعم، ليس بالكثير على التحقيق؛ للعلة التي ذكرنا، وهي انصرافه إلى فقه النصوص دون روايتها. 42 _ ومن عباراتهم في الجرح: قياس المجروح بالمجروح. من مسالك نقاد النقلة أن يستدل لبيان حال الراوي بقياسه براو هو أظهر في حاله، فإذا أردت الوقوف على قدر الجرح في مراد الناقد لزمك النظر في رأيه في المقيس عليه، فإذا لم تجد له فيه نصاً مفسراً، نظرت تفسيره في كلام غيره من النُّقَّاد، ومن أمثلته: قول أحمد بن حنبل في (مطر بن طهمان الورَّاق): " كان يحيى بن ¬

(¬1) التاريخ الكبير (4/ 2 / 81).

سعيد (يعني القطان) يشبه مطر الورَّاق بابن أبي ليلى " يعني في سوء الحفظ (¬1). ويبيِّن هذا قول أحمد بن حنبل في (ابن أبي ليلى): " كان سيئ الحفظ، مضطرب الحديث، وكان فقه ابن أبي ليلى أحبَّ إلينا من حديثه، حديثه فيه اضطراب " (¬2). ومن مثاله أيضاً: قول أحمد في (سليمان بن داود الشَّاذ كونيِّ): " هو من نحو عبد الله بن سلمة الأفطس "، لكن هذا فسَّره أبو بكر الأثرم بقوله: يعني الكذب (¬3). قلت: وليس كما قال، ولم يكن ذلك وجه المشابهة، وذلك أنك إذا عدت إلى النظر في حال (الأفطس) في رأي أحمد وغيره لم تجد أحداً اتَّهمه بالكذب، إنما كان متروكاً عند أحمد وغيره لأمر آخر، هو سوء الخلق، قال أحمد: " كان سيئ الخلق، وتركنا حديثه وتركه الناس " (¬4)، وكانت بينه وبين يحيى بن سعيد القطَّان خصومة، فتحدى يحيى وتكلم فيه يحيى، وعلى قاعدة ترك الكلام في الأقران إذا علم أن الشُّبهة قامت دون اعتبار ذلك الجرح، فاعتماد قول يحيى فيه محل نظر. فالرجل لم يترك في التحقيق من أجل كذب، إلا ما يوحيه بعض قول يحيى فيه، وهو قابل للتأويل أيضاً، إنما الأمر كما قال أحمد: " كان خبيث اللسان " (¬5)، وقال أبو زرعة الرازي: " صدوق، ولكنه كان يتكلم ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال (النص: 852). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 2 / 323). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 1 / 115). (¬4) العلل ومعرفة الرجال (النص: 4545). (¬5) العلل ومعرفة الرجال (النص: 4546).

في عبد الواحد بن زياد ويحيى القطان " (¬1)، وقال أيضاً: " إنما قيل فيه من أجل لسانه " (¬2). وعلى هذا فتفسير أبي بكر الأثرم لقياس أحمد للشَّاذ كونيِّ على الأفطس بأنه في الكذب، تفسير غير مسلِّم، وإنما ينبغي حمله على موضع اتفاق بين الرجلين، والذي كان في الشَّاذ كونِّي مما يشبه ما كان في الأفطس هو سوء خلق ذكر به الشَّاذ كونِّي أيضاً، أما الكذب فابن الشَّاذ كونيِّ أظهر فيه من أن يقاس بالأفطس. وقال أبو حاتم الرازي فيه (عبد العزيز بن حصين بن الترجمان المروزي): " ليس بقوي، منكر الحديث، وهو في الضعف مثل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " (¬3). وقد قال أبو حاتم في (ابن أسلم): " ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحاً، وفي الحديث واهياً، ضعفه علي بن المديني جداً " (¬4). فعبد العزيز عند أبي حاتم واهي الحديث ضعيف جداً كذلك. وقال أبو حاتم في (عقبة بن علقمة أبي الجنوب اليشكري): " ضعيف الحديث، وهو مثل أصبغ بن نُباتة وأبي سعيد عقيصاً متقاربين في الضعف، ولا يشتغل بهم " (¬5). وقال في (أصبغ): "لين الحديث " قال ابنه: وعقيصا؟ فقال: " بابتهم، غير أن أصبغ أشبه " (¬6). ¬

(¬1) أسئلة البرذعي لأبي زرعة (2/ 328). (¬2) أسئلة البرذعي (2/ 487). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 2 / 380). (¬4) الجرح والتعديل (2/ 2 / 233 _ 234). (¬5) الجرح والتعديل (3/ 1 / 313). (¬6) الجرح والتعديل (1/ 1 / 320).

ولم ينقل ابنه عنه في (عقيصا) شيئاً، فإذا وازنت أمر الثلاثة في رأي أبي حاتم وجدت رأيه لم يبلغ بهم الترك وإن كان قال: " لا يشتغل بهم "، فهذه العبارة ليست صريحة في الترك، لذلك تجد عبارة أبي حاتم بين (ضعيف الحديث) و (لين الحديث)، وقوله: " أصبغ أشبه " كأنه يقول: في حديثه ما قد يعتبر به. وحاصل هذا النوع من ألفاظ الجرح: اللِّحاق بألفاظ الجرح المجمل، حتى يوقف على معناه بالتَّتبُّع والنظر والتَّحري. تنبيهات: الأول: لم أذكر ألفاظ الوصف بالكذب ووضع الحديث، لظهورها واستغنائها باللفظ عن التفسير. الثاني: وقولهم: (يسرق الحديث) فسرتها في (تفسير الجرح) بتفصيل أمثلتها، كذلك لم أذكر تفسير (مجهول)، و (لا أعرفه) وما في معناها؛ لكوني استوعبته في (تفسير الجهالة). الثالث: سائر العبارات المحالة في صيغتها على الغير كقولهم: (فيه مقال)، و: (تكلموا فيه)، و: (ضعفوه)، و: (ضعِّف)، و: (تركوه)، و: (تُرِك)، وشبهها، أعرضت عن ذكرها، وإن كثرت عند المتأخرين، لأن إجمال القول فيها: كُلُها من الجرح الذي لا يقبل ولا يعوَّل عليه حتى يوقف على فاعل القول فيه، فإن تحقَّق وجب تمييز ما يرجع إليه من تفسير أو إجمال.

الباب الثالث النقد الخفي

الباب الثالث النقد الخفي

الفصل الأول المراد بالنقد الخفي وبيان منزلته وتعيين محله

الفصل الأول المراد بالنقد الخفِيِّ وبيان منزلته وتعيينُ محلَّه

المبحث الأول: معنى النقد الخفي

المبحث الأول: معنى النقد الخفي مقصودنا بالنَّقد الخفي: استكشاف العلل الخفية في الأحاديث التي ظاهرها السلامة من العلل، وذلك أن الحديث يستجمع شروط القبول: من اتصال الإسناد، وعدالة الرواة، وضبطهم، فَيُحْكم عليه ظاهراً بالقول: (إسناده صحيح)، لكن يقف الناقد على سبب غير ظاهر يرد الحكم بصحة الحديث، وقد يبلغ به الحكم بالوضع. وهذا السبب الخفي، هو (العلة). وحاصل تعريفها، أنها: سبب غامض خفي، يقدح في ثبوت الحديث، وظاهره السلامة منه. ومحل (النقد الخفي): رواياتُ الثقات. والبحث عن علة الحديث مُقدم في علم الحديث على إفناء العمر في مجرد الجمع والتكثير، دون تحقيق ولا تمحيص، كما يجري عليه أكثر المتعرضين إليه. كان الإمام عبْد الرحمن بن مهدي يقول: " لأن أعرف علة الحديث هو عندي، أحبُّ إليَّ من أن أكتب عِشرين حديثاً ليس عندي " (¬1). ¬

(¬1) / 405)، والنووي في " المجموع " (3/ 92)، و " شرح صحيح مُسلم " (9/ 31)، وابن دقيق العيد في " إحكام الأحكام " (1/ 29).

طريقة النقاد فيما يسمى (علة)

قلت وكيف لا؟ وكان همهم مَعرفة السُّنن للعمل بها وإرشاد الأمة، فإذا تميز له من التعليل سلامة الرواية عَلِم ما لزم بمُقتضاها، وإن تبين سُقوطها عَلِم سُقوط أثرها، وهذا ما لا يكون بمُجرّد الجَمع والتكثير. وسيأتي تحريرُ القول في لَقب (الحديث المعلل) في (القِسم الثاني) من هذا الكتاب. طريقةُ النُّقَّاد فيما يسمَّى (علّة): اعلم أن أئمة الحديث أطْلقوا لَفْظَ (العلَّة) على ما هو أعم من الخفية في الإسناد الجامع في الظاهر لشروط القبول، فأطلقوا اللفظ على: الظاهرة، والخفية، كما أطلقوه من جهة أخرى على: القادحة، وغير القادحة، على ما سأذكره. و (العلة الخفية) واردة في تحقيق أهل هذه الصنعة في الإسناد، وواردة في المتن، خلافاً لما شوش به طائفة ممن تعرض لنقد السنة من المعاصرين من المستشرقين ومن تأثر بهم من المسلمين، أن المحدثين اعتنوا بنقد الإسناد دون المتن، فهذا منهم يرجع في خلاصته إلى سببين: الأول: ضعف معرفتهم بمنهج أهل الحديث، وذلك ظاهر في ضعف استقرائهم. والثاني: التأثر بطريقة المتأخرين من علماء الحديث، الذين أهمل أكثرهم اعتبار البحث عن العلل الخفية في الأحاديث، بل حكموا بتصحيح الأحاديث الكثيرة التي أعلها المتقدمون، من أجل ما أجروا عليه الحكم من مجرد اعتبار النظر إلى ظاهر الإسناد. واعلم أن (العلة) في المتن، توجب طعناً في الإسناد ولا بد، حتى وإن كان ظاهر الإسناد السلامة من العلل، فإنه لا بد أن يكون أخطأ فيه راوٍِ، أو دلس، والنقاد يبينون ممن يكون الخطأ والوهم، أو التدليس، من رواة الإسناد الثقات.

واعلم أنه لم يسلم من الوهم أوثق نقلة الحديث، من مثل شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وهؤلاء رءوس الحفاظ. فأحصيت لشعبة في (علل ابن أبي حاتم) الخطأ في تسعة مواضع، وللثوري في ثلاثة مواضع، وكانا يعتمدان على حفظ الصدر، والثوري أحفظ من شعبة، ولمالك الوهم في اسم بعض رواة الإسناد، ولا يكاد يذكر له وهم في الكتب إلا بَنْدرة، حتى قال في وصفه ابن حجر: " رأس المتقنين، وكبير المتثبِّتين " (¬1)، والعلة أنه كان يعود حفظه إلى طريقي التوثُّق: الصدر والكتاب. لكن المقصود أن تعلم أنه لم يسلم أحد من الرواة من وهم وإن ندر (¬2). وفي هذا الباب تبيين هذا الأصل الأصعب تحقيقاً من شروط قبول الحديث، في استعراضه على سبيل الاقتداء والتحرير لمذاهب أهل الصنعة، كخلاصة تتبع طويل، مع التمثيل والتدليل لتقريبه، تأصيلاً لتطبيقه، وتبيين أنه ليس بسحر وكهانة كما خيَّله بعض الناس، بل علمٌ تُدرك مقدماته وتُفهم أسبابه، وتُمكن معرفته. ولا تهويل فيما قاله الحافظ أبو يعلى الخليلي: " العلة تقع للأحاديث من أنحاء شتَّى لا يمكن حصرها " (¬3). فإنما هذا فيما قصد هو أن ينبه عليه من علوم الحديث، حيث تعرض لها بإيجاز في مقدمة كتابه ... " الإرشاد "، ولم يَكن ذلك محلاُّ لتتبع أسباب التعليل للأحاديث، وإلاَّ فإنَّ من دَرَسَ طريقة القَوم يتبين أن العلل في الأحاديث عنْدهم تَعود إلى أسباب مَفهومةٍ مُدْرَكة، يُمكن حصْرها وفَهمها، بل وتطبيقها. ¬

(¬1) تقريب التهذيب (الترجمة: 6425). (¬2) وانظر ما تقدم في صدْر (المبحث الرابع) من (تفسير الجرح). (¬3) الإرشاد (1/ 160 _ 161).

نعمْ، وقع في تعليلهم رد الحديث بغير سبب مفسر، وهو قليل، لكن هذا ليس طريقاً ينبغي التعويل عليه، ولا يجوز القول برد رواية الثقة إلا بحجة قائمة؛ لما يقتضيه رد روايته من الحكم بخطئه، والأصل منع ذلك في أخبار العدول دون برهان. لك، بل ينبغي أن تجعل من تعليل الناقد لحديث معين بغير حجة مفسرة، شبهة توجب البحث عن العلة، فإن استنفدت الممكن من وسائل استكشاف العلة، وثبتت براءة الحديث منها، وجب التسليم بثبوت ذلك الحديث. * * *

المبحث الثاني: منزلة هذا العلم والطريق إليه

المبحث الثاني: منزلة هذا العلم والطريق إليه هذا العلم من علوم الحديث من أشرفها وأعظمها قدراً، وهو علم لا تتهيأ المعرفة به إلا بصبر طويل، وسعة تحصيل، ودراية بمقدمات في هذا العلم تكتسب بالخبرة، ويقود إليها عمق النظرة، لا يقتصر فيه على حفظ ظاهر، بل هو بحفظ وتحقيق، اقترن فيه الأخذ بالأسباب بالتوكل الموجب للتوفيق. وهو علم تخصص، كأي تخصص، لا يجرؤ عليه من ليس من أهله إلا سقط، ولا من لم يتأهل فيه بعد إلاَّ أكثر الغلط، فتخيله إن شئت فيمن تعرض لتطبيب إنسان، وما له نصيب في دراسة طب الأبدان، أو طالب أقبل على علم الطب بالكلية، لكنه لم يكتسب من الأهلية ما يمكنه معه إجراء عملية جراحية، فهل ترى يستغرب من عاقبة استعجاله هلاك نفس بشرية؟ فعلم (علل الحديث) هو علم الطب لأبدان الأحاديث المروية، وليس الذكي فيه من شخص ظاهر العلل، فذلك باد بالحسن، وإنما الذكي من اكتشف العلل الباطنة الخفية. فلهذا، كانت معرفة هذا العلم صعبة إلا على من فتح الله عليه ومنحه من فضله، بصدق تحصيله له وسلامة قصده، مع السعي الدؤوب للبلوغ مبلغ أهله.

المبرزون من أئمة الحديث في معرفة علله

ومن هذه الجهة جاءت عن السلف عبارات تنبئ عن هذه الحقيقة، ففسرها من لم يفهم مراد أهلها بأن هذا العلم كهانة. قال علي بن المديني: جاء رجل لعبد الرحمن (يعني ابن مهدي)، فقال: يا أبا سعيد، إنك تقول للشيء: هذا صحيح، وهذا لم يثبت، فعمن تقول ذلك؟ قال عبد الرحمن: " أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال: هذا جيد، وهذا ستوق، وهذا نبهرج (¬1)، أكنت تسأل عمن ذلك، أو كنت تسلم الأمر إليه؟ "، قال: لا، بل كنت أسلم الأمر إليه، قال: " فهذا كذلك؛ لطول المجالسة أو المناظرة والخبرة " (¬2). قلت: فانظر كيف أعاده إلى أمر مدرك: طول مجالسة لأهله، وكثرة مناظرة فيه، وخبرة مكتسبة. وكذلك انظر إلى مثله المضروب، فالصَّرَّاف يميَّز مزيَّفَ النَّقد من صحيحه، لا بصدفةٍ أو إلهام مجرد، بل بدراية ومعرفة، أكسَبَها طول الملازمة، وشُغْل الوقت في المعالجة. المبرّزون من أئمة الحديث في معرفة علله: حفَّاظ الحديث خلق كثير على مرِّ الأزمان، وإن شحَّ بهم هذا الزمان، لكنك لا تجد فيهم المتعرِّض إلى هذا الفن من فنون هذا العلم، إلا قليلاًَ، وذلك لما تقدمت الإشارة إليه، أن معرفة هذا العلم لا تقتصر على مجرد حفظ، فإذا كان في بعض من يحفظ الحديث من لا يميز علله الظاهرة وهم أكثر المعدودين في حفَّاظه، فكيف يفهم علله الباطنة؟ ولذا كان من عدَّ في العارفين به قلة في أئمة الأمة. ¬

(¬1) ستُّوق، ونبهرج: نقد مُزيَّف. (¬2) أخرجه ابنُ عدي (1/ 198) ومن طريقه: البيهقي في " دلائل النُّبوة " (1/ 31) وإسنادُهُ صحيح.

قال أبو حاتم الرازي: " الذي كان يحسن صحيح الحديث من سقيمه وعنده تمييز ذلك، ويحسن علل الحديث: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وبعدهم أبو زرعة كان يحسن ذلك " فقيل له: فغير هؤلاء تعرف اليوم أحداً؟ قال: " لا " (¬1) قلت: بل منهم في عصره: البخاري، ومحمد بن يحيي الذهليُّ، ثم بعدهم مسلم والترمذي، فالنسائي وهكذا، وأبو حاتم نفسه رأسٌ من رءوس أهله. فأما أحمد بن حنبل، فعنه كلام كثير منقول في هذا الباب. ويحيى بن معين، ففي بعض كتبه منثورات في علل الحديث. وعلي بن المديني، له فيه تصنيف، وصلنا بعضه، وقد قال فيه الخطيب: " كان علي بن المديني فيلسوف هذه الصنعة وطبيبها، ولسان طائفة الحديث وخطيبها " (¬2). وتلميذه محمد بن إسماعيل البخاري، وله كلام كثير منثور في " تاريخيه " وحكى عنه الترمذي الكثير في مصنفه في (العلل)، بل " صحيحه " أعظم الأدلة على قوة تمكنه وكبير منزلته، فإن نقاد الحديث توالوا على تتبعه فيه ونقده في خفي علل الحديث، وما كاد يرجح فيه رأيهم على رأيه إلا في مواضع معدودة. وتلميذه مسلم بن الحجاج، وله فيه كتاب " التمييز "، وصلنا بعضه، وهو ينبئ عن تمكن ودراية، مثله الذي جعل لـ" صحيحه " التقدم حتى صار ثاني الكتب في صحيح السنة. ويعقوب بن شيبة، وقد ألف مسنداً معللا، تدل القطعة التي وصلتنا ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 23). (¬2) الجامع لأخلاق الرَّاوي (2/ 302).

منه من (مسند عمر بن الخطاب) على تبحره في معرفة هذا العلم، وذكروا أنه لم يتم ذلك الكتاب (¬1). وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، قدوة في معرفة هذا العلم، وكلامهما في علل الحديث كثير نافع، ضمَّنه عبد الرحمن بن أبي حاتم الكتاب الذي جمعه في ذلك عنهما. وأبو بكر البزار، وقد ضمَّن " مسنده " المعروف بـ" البحر الزَّخَّار " من علوم الحديث أنواعاً، وضرب منه بنصيب وافر في بيان علل الحديث، وإن كان مختصر العبارة فيه. وأبو عبد الرحمن النسائي، وفي كتابيه " السنن الكبرى " و " المجتبى " من بيان علل الحديث شيء كثير. وغيرهم عدد ليس بالكثير من أقرانهم من الحفاظ، وبعدهم طائفة من الكبار، هم قلة في أئمة الحديث، من أبرزهم: الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني، وكتابه " العلل الواردة في الأحاديث النبوية " الذي رواه عنه تلميذه الحافظ أبو بكر البرقاني، من أعظم هذه الكتب نفعاً، يبين عن دقة هذا العلم، وتمكن الدارقطني فيه. قال ابن كثير يبين قدر هذا الكتاب: " هو من أجل كتاب، بل أجل ما رأيناه وضع في هذا الفن، لم يسبق إلى مثله، رقد أعجز من يريد أن يأتي بعده " (¬2). لكن ينبغي أن تلاحظ أنه يعل بالعلل القادحة وغير القادحة، فقد توسع في ذلك. ¬

(¬1) انظر ترجمته في " تاريخ بغداد " للخطيب (14/ 281). (¬2) اختصارُ علوم الحديث، لابن كثير (ص: 54) مع " الباعث الحثيث ".

هل انتهى الزمن الذي يمكن فيه تمييز العلل الخفية للأحاديث؟

هل انتهى الزمن الذي يمكن فيه تمييز العلل الخفية للأحاديث؟. كذا قد يخيل لبعض الناس، وذلك لما رأوا في المتأخرين من ضعف المعرفة بهذا العلم، لكن إدراك أن الحاجة إليه لا زالت قائمة , يوجب أن يكون في الأمة من يفهمه، ولو عجز عنه أهل زمان فلا يعني تعذره، بل الواجب تحصيله كسائر علوم الاجتهاد، فهذا علم قام على اجتهاد النقاد، وباب الاجتهاد لا يحل لأحد غلقه، وبقاء الحاجة علة بقائه، والحاجة لمعرفة الصحيح من السقيم من الحديث لم تنته، ونقد السنن المروية لم يزل. وإذا كان يجب على الأمة أن توجد من بينها من يجتهد لها في دينها، ليميز لها الحلال من الحرام، وعلة ذلك بقاء الحوادث، أو للترجيح في الخلاف، فالسنن المروية لم يزل كثير منها مما يجتهد فيه أهل الحديث، وأكثره مما يحتاج فيه إلى الترجيح في الخلاف، فوجب أن يوجد فيها من يميز الصحيح من السقيم، ولا سبيل إليه إلا بتمييز علل الحديث. والحق أن في المتأخرين طائفة من الأئِمة تعرضوا لنقد الأحاديث بالعلل الخفية، وإن لم يكثر ذلك منهم بالنظر إلى تعرضهم له، أو بالمقارنة بكلامهم في العلل الظاهرة، منهم: الخطيب البغدادي، وابن عبد البرِّ المالكي، وأبو طاهر السلفي، وابن القطان الفاسي، وتقي الدين ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، وابن كثير الدمشقي، وابن رجب الحنبلي، وأبو الفضل العراقي، وابن حجر العسقلاني، ومحمد ناصر الدين الألباني. والمتعرضون من أهل هذا الزمان لهذا العلم كثير، لكن الشأن في أغلبهم على حد قول القائل: أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل

المبحث الثالث: تحديد إطار النقد الخفي

المبحث الثالث: تحديد إطار النقد الخفيِّ تقدم أن الحديث يخضع في بحث الناقد إلى إدخاله في مخبرةٍ؛ ليستكشف ما يمكن أن يكون مانعاً من القول بثبوته، وذلك يجعل الناقد يستعرض جميع ما يقف عليه مما يمكن أن يكون له تأثير ولو احتمالاً، وفيه ما تأثيره ظاهر، وفيه ما تأثيره خفي، وفيه ما يورد الشبهة. ولكوْن هذا العلم من علوم الحديث كان النقاد يتكلمون فيه دون مصطلحات مستقرة، فقد دخل بعض صوره في بعض، كما دخل فيه ما ليس منه. وتوضيح ذلك بحصر أنواع التعليل الواقع في كلامهم في صور أربع، أذكرها مبيناً ما ينبغي إدراجه تحت هذا العلم، وما يخرج عنه، إما لكونه غير مرادٍ أصلا أن يدخل في هذا الباب، بل ذكره فيه خطأٌ، وإما لكونه اندرج بعد الاصطلاح تحت باب آخر: الصورة الأولى: ما أطلق عليه مسمى (العلة) وليس من هذا الباب. وله مثالان: الأول: الحديث المنسوخ. تسمية (النسخ) علة، وقع بنَدرة في كلام بعض الأئمة، كأبي حاتم

الرازي (¬1) والترمذي ... (¬2). وليس هذا من موضوع (علل الحديث)؛ إذا الناسخ والمنسوخ جميعاً صحيحا النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وموضوع (علم العلل) ما لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث لقادح خفي. والثاني: مُشكل الحديث. وذلك في الحديث يشكل معناه، أو الحديثين يتعارضان ظاهراً، فهذا طريق لعلك لا تجد في أهل الحديث المتقدمين من أعلَّ حديثاً بمقتضاه، وإنما وقع في أزمانهم من بعض أهل البدع طعناً منهم في السنن الصحيحة بما استشكلوه من ظاهرها، أو جاءت على النقض لبدعهم، ولو ردوه إلى أهل العلم بالسنن لعلمه الذين يستنبطونه. وقد اصطفى الله تعالى رجالاً من أهل الذكر، فذَبُّوا عن السنن بدفع الإشكال بأحسن البيان، كالشافعي في " مختلف الحديث "، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار " وهو أجمع كتاب في بابه وأجله، وابن قتيبة الأديب البارع في " تأويل مختلف الحديث "، وغيرهم. والمقصود: أنَّ ما استشكل الإنسان معناه، أو ظنه معارضاً لأصل، فإنه لا يجوز له رده حتى يستيقن فساده، ويجد في نقلته من يحمل تبعته، كما كان يصنع نقاد أهل الحديث، فإنهم ردوا أحاديث بمخالفة الأصول، ¬

(¬1) مثاله: إيراد حديث: " الماء من الماء " في علل الحديث " لابنِهِ (رقم: 114). (¬2) فقد قال في كتاب (العلل) في آخر كتاب " الجامع " (6/ 227) بعد أن ذكر حديثَ ابن عباس في الجمع بينَ الصَّلاتين في الحضر، وحديثَ قتْل شارب الخمر في الرابعة بعد جلده ثلاثاً: " وقد بيَّنَّا علَّة الحديثين جميعاً في الكتاب "، وكان قد أخرج الأول في " الجامع " (رقم: 187)، والثاني (رقم: 1444)، ولم يذكر لهما علة تقدح في صحتهما عنده، وإنما عنَى ترك العمل بهما فيما بدا له، كما ذكر ذلك أول كتاب (العلل)، وذكر بعدَ حديث شارب الخمر دعوة النَّسْخ، فتأمل كيف أطلق على ذلك اسم العلَّة ‍‍‍‍‍‍!

الصورة الثانية: ما أطلق عليه مسمى (العلة) ولا أثر له على ثبوت الحديث

وبينوا أن الغلط وقع فيها من بعض نقلتها، كما سأذكر بعض أمثلته في (التعليل بمخالفة القرآن)، أو (السنن المحفوظة). الصورة الثانية: ما أطلق عليه مسمى (العلة) ولا أثر له على ثبوت الحديث. وهذه الصورة وقعت في كثير من الأحاديث المعللة في كلام أئمة الحديث، ترجع عامتها إلى اختلاف الرواة في الإسناد، أو المتن. وهذا له أمثلة عديدةٌ، يأتي التنبيه عليها أثناء بيان أسباب التعليل من خلال منهج النقاد، وذِكر ما لا يتأثر بالتعليل منها، كالتعليل بمجرد التفرد، وتعليل زيادة الثقة في أحوال، وكالحديث يختلف في إسناده ثقتان، كلٌّ يأتي به على وجه، ولا علة له فوق ذلك الثقة، فإن لم يترجح الخطأ في أحدهما فهو صحيح على أي حال، إذ كيفما كان المحفوظ فيه فهو صحيح إلى منتهاه. ومما ينبغي التنبه له أمران: الأول: يعود إلى اختلاف ألفاظ المتن للحديث الواحد. فهذا إن وجدته في حديث، فليس بعلة، ما لم تتضاد تلك الألفاظ في معانيها، وذلك من أجل جواز الرواية بالمعنى بشروطه، فلا تعجل بالتعليل لهذا السبب، حتى تعدم ردَّ ذلك الاختلاف إلى معنى واحد صحيح، أو معان غير متناقضة. والثاني: إذا قام الدليل على كون المختلف فيه حديثين، فليس هذا اختلافاً في التحقيق، وعليه فليس هو بعلة. قال ابن رجب: " وعلامة ذلك: أن يكون في أحدهما زيادة على الآخر، أو نقص منه، أو تغييرٌ، يُستدل به على أنه حديث آخر " (¬1). ¬

(¬1) شرح علل الترمذيِّ (2/ 729).

الصورة الثالثة: ما أطلق عليه مسمى (العلة)، وهو من العلل الظاهرة

واعتبار كونهما حديثين، ولا يُعل أحدهما بالآخر، هو على طريقة ابن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيَّين وأكثر الحفَّاظ. أما الدارقطني، فقد كان يعل الحديث بمثل هذا الاختلاف، إذا تقارب المعنى بين الحديثين، كأحاديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد (¬1) الصورة الثالثة: ما أطلق عليه مسمى (العلة)، وهو من العلل الظاهرة. وهي العلَّة العائدة إلى انقطاع ظاهر، أو مجيء الرواية من طريق مجروح، أو اشتراك اسم بين راوٍ ثقة وآخر مجروح. والطريق لتمييز هذه العلة معرفة المراسيل، وتواريخ الرواة لمعرفة الإدراك، والجرح والتعديل، والمتفق والمفترق أو مشتبه الأسماء. ومن أمثلة العلل الظاهرة: أولاً: أن يختلف ثقة ومجروح، فليس هذا من خفي العلل، إذ رواية المجروح مرجوحة ضعيفة من جهة ضعفه المتميز، وهو لو تفرَّد فهو واهٍ، فكيف به وقد خالف؟ نعم، يستثنى من ذلك اختلاف الرواية بين ثقة أو ثقات ومن هو ثقة أو صدوق في الأصل، يُلين في بعض شيوخه لا مطلقاً، إذا كان وقع الاختلاف على شيخه الذي هو فيه ضعيف، إذ هذا مما قد يخفى، إجراء على أصل ثقته، كرواية بعض الثقات من أصحاب الزهري عنه، وقد ضُعِّفوا فيه، وسأذكر له مثالاً بمخالفةٍ من هشام بن سعد لسائر أصحاب الزهريِّ، عنه. ثانياً: تعليل الحديث براوٍ غير منسوب، يشترك في إطلاقه راويان: ثقة ومجروح. ¬

(¬1) انظر: شرح العلل، لابن رجب (2/ 729 _ 730).

وذلك كرواية وكيع بن الجراح عن النضر، لا يبينه: وهو يروي عن النضر بن عربي وهو ثقة، وعن النضر الخزاز وهو ضعيف. ورواية حفص بن غياث عن أشعث عن الحسن البصري، وهو يروي عن أشعث بن عبد الملك وهو ثقة، وعن أشعث بن سوار وهو ضعيف. فهذا وإن كان فيه خفاء من أجل تعيين الراوي المهمَل، لكن ليس ذلك الخفاء علة بنفسه، واعتبار عدالة الرواة وضبطهم يوجب تمييزه، فيصار فيه إلى رواية العدل الضابط فتقبل الرواية، أو رواية المجروح فترد بالعلة الظاهرة. وجدير أن تعلم بخصوص التعليل بالعلة الظاهرة مسألتين تتصل إحداهما بالأخرى: المسألة الأولى: الإسناد فيه أكثر من مجروح، والأعلى أشد ضعفاً ممن دونه، فعلى من تُحمل النكارة في ذلك الحديث؟ والمسألة الثانية: إذا جاء المجروحون في الإسناد على نسق، فبمن تلصق النكارة؟ الجواب: إذا توالى في الإسناد أكثر من مجروح، ألصقت النكارة بأشدهم ضعفاً، إلا أن يتابع بما يقوم دليلاً على أن النكارة ليست من جهته، فيصار إلى من فوقة. قال يعقوب بن سفيان: حدثني عبيد بن إسحاق العطار الكوفي، حدثنا سيف بن عمر، قال: كنت عند سعد الإسكاف، فجاءه ابنه يبكي، فقال: ما لك؟ قال: ضربني المعلم، قال: أما لأخزينهم اليوم، حدثني عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " معلمو صبيانكم أشراركم، أقلهم رحمة لليتيم، وأغلظهم على المسكين " (¬1). ¬

(¬1) أخرجه في " المعرفة والتاريخ " (3/ 58) ومن طريقه: ابن عَدي في " الكامل " (4/ 507).

الصورة الرابعة: ما أطلق عليه مسمى (العلة)، وهو صواب

قال يعقوب: " سيف وسعد بن طريف الإسكاف، حديثهما وروايتهما ليس بشيء ". وقال ابن عديٍّ: " هذا حديث منكر موضوع، وقد اتفق في هذا الحديث ثلاثة من الضعفاء فروَوه: عبيد بن إسحاق الكوفي العطار، يلقب عطار المطلقات، ضعيف، وسيف بن عمر الضَّبِّيُّ كوفي، وسعد الإسكاف كوفي ضعيف، وهو أضعف الجماعة، فأرى والله أعلم أن البلاء من جهته ". قلت: فيعقوب أعله بمن وافق وروده في سياقه من المجروحين، دون الإبانة عمن تلصق به التهمة، أما ابن عدي فكان كلامه أبين، فإنه بين إعلاله بالثلاثة جميعاً، لكنه صار إلى إلصاق التهمة بسعد، مع الضعف دونه، من أجل كونه عنده أشدهم ضعفاً. وههنا أيضاً فائدة في التعليل بالأعلى دون الأدنى، لأنه جهة مخرج الحديث، كذلك فإنه لو وقف على متابع الأدنى _ كما يقع كثيراً في مثل هذه الأحاديث الغرائب _ بقي معلولاً بالأعلى، فإن المتابعة تتعذر على أصله، إلا أن تكون من سارق. الصورة الرابعة: ما أطلق عليه مسمى (العلة)، وهو صواب. وهي التي تقع في روايات الثقات، وفي الأسانيد التي ظاهرها الاتصال. وهذا محل العلل الخفية القادحة. قال الحاكم: " إنما يعلل الحديث من أوجهٍ ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واهٍ، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات: أن يحدثوا بحديث له علة، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولاً " (¬1). ¬

(¬1) مَعرفة علوم الحديث (ص: 112 _ 113).

الفصل الثاني أسباب التعليل من خلال منهج النقاد

الفصل الثاني أسباب التَّعليل من خلال منهج النُّقَّاد

المبحث الأول: التعليل بالتفرد

المبحث الأول: التعليل بالتَّفرُّد قدمت في مدخل هذا الكتاب بيان أصل ما يعود إليه معنى التفرد، وأنه يساوي الغرابة، وبينت قسمي التفرد أو الغرابة: المطلق، والنسبي وأهم الصور التي يقع عليها التفرد. كما ذكرتُ أن التفرد من حيث الجملة لا يعني ضعف الحديث فالأفراد فيها: الصحيح، والحسن، والضعيف المنكر. والأصل في تفرد الثقات القبول، لا خلاف بين أهل العلم بالحديث في ذلك، وعلى هذا بنى أصحاب الصحاح كتبهم، وعليه جرى حكم الأئمة في تصحيح أكثر الحديث. وعلى هذا جرى المبرزون من أئمة الحديث في معرفة علله، كأحمد وابن المديني والبخاري ومسلم، والرازيين، وغيرهم، يحتجون بأفراد الثقات. مثل ما قال ابن أبي حاتم الرازي: سألت أبا زرعة عن حديث رواه علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الغار؟ قال أبو زرعة: " لا أعلم أنه رواه غير علي بن مسهر "، قلت له: هو صحيح؟ قال: " نعم، علي بن مسهر ثقة " (¬1). ¬

(¬1) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 2833). وحديث الغار الذي رواه هو حديث الثلاثة الذين أوَوا إلى غار فانطبق عليهم، فدَعوا بصالح أعمالهم، الحديث بطوله مُتفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 3278) ومسلم (رقم: 2743) من طريق عليِّ بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر. وهو حديث مَحفوظ عن نافع من وُجوه، لكن التفر‍‍ُّد مشار إليه في كلام أبي زُرعة عَنى به عن عُبيد الله بن عُمر خاصّ‍ةً لا مُطلقاً.

تحرير القول في الأفراد من جهة ما يكون محفوظا أو معلولا

وتحرير القول في الأفراد من جهة ما يكون سالماً محفوظاً أو معلولاً، كما يلي: أولاً: تفرد الثقة بما لم يروه غيره مطلقاً، كحديث: " إنما الأعمال بالنيات " تفرد به يحيى بن سعيد الأنصاري بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لم يروه غيره. فهذا التفرد صحيح محتج به، وأكثر الأحاديث الصحيحة من هذا. لكن قد يختلفون فيه لشبهة، والتحقيق امتناعها وقبوله. مثاله: ما رواه سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نعم الإدَامُ الخلُّ " (¬1). احتج به مسلم في " الصحيح "، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه، لا نعرفه من حديث هشام بن عروة إلا من حديث سليمان بن بلال ". وقال أبو عبد الله بن بطة الحنبلي: " ليس يعرف هذا الحديث من حديث عائشة إلا من هذا الطريق، ولا رواه عن هشام بن عروة غير سليمان بن بلال، وهو حديث صحيح، طريقه مستقيم، ولكن الحديث المشهور حديث جابر " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الد‍َّارمي (رقم: 1977) ومسلم (رقم: 2051) والترمذي في " الجامع " (رقم: 1840) و " الشمائل " (رقم: 143) و " العلل الكبير " (2/ 769) وابنُ ماجة (رقم: 3316) وأبو عوانة في " مستخرجه " (5/ 402) وأبو نعيم في " الحلية " (10/ 30 رقم: 14403) والبيهقيُّ في " الكبرى " (10/ 62 _ 63) والخطيب في " تاريخه (10/ 30، 371 _ 372) والذهبي في " السير " (10/ 130، و12/ 229) من طرقٍ عن سليمان بن بلال، به. (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (10/ 372).

وقال الذهبي: " حديث صحيح غريب فرد على شرط الشيخين " (¬1). وممن بقي عنده هذا الحديث من الحفاظ وكان يُقصد لأجله: الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، وكان يرويه عن يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال، فقد جاء عنه أنه قال: " كان يقرع على بابي ببغداد، فأقول: من ذا؟ فيقول: يحيى بن حسان: نعم الإدَامُ الخلُّ " (¬2). ولم يعرفه البخاري إلا من رواية يحيى بن حسَّان عن سليمان بن بلال، فيما نقله عنه الترمذي. والصواب أنه معروف من رواية غير واحد عن سليمان، وإنما التَّفرد به من قبل سليمان. وروي من طريق وكيع بن الجراح عن هشام بن عروة، لكنه لا يصح (¬3)، وكذلك رواه أبو أويس المدني عن هشام، وأنكره أبو حاتم الرازي (¬4). وقد ذهب بعض كبار النقاد إلى إنكار هذا الحديث: منهم: أحمد بن حنبل (¬5). وقال أحمد بن صالح المصري، وقد سئل عن هذا الحديث، وحديث ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (12/ 230). (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (10/ 30). (¬3) أخرجه ابن جميع في " مُعجمه " (97 _ 98) ومن طريقه: الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (9/ 167 _ 168)، وفيه شيخ ابن جُميع أبو بكر مُحمد بن الحسن البغدادي مَجهول. (¬4) في " علل الحديث " لابنه عبد الرحمن (2/ 19 _ 20)، وذكره عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن هشام، قال أبو حاتم: " هذا حديث منكر "، قلت: أبو أويس ليسَ بالقوي، وابنه مثله، ورواه مرّة أخرى عن غير أبيه بإسناد أثبت من هذا، كما سيأتي في سياق كلام أحمد بن صالح. (¬5) نقله ابنُ رجب في " شرح العلل " (1/ 477).

آخر في فضل التمر يرويان جميعاً بنفس الإسناد: " نظرت في كتب سليمان بن بلال، فلم أجد لهذين الحديثين أصلاً، وحدثني ابن أبي أويس، قال حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة عن رجل من الأنصار، أن رسول الله صلى الله عليه سأل قوماً: ما إدامكم؟، قالوا: الخل، قال: نِعْمَ الإدَامُ الخلُّ " (¬1). وسأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث بهذا الإسناد؟ فقال: " هذا حديث منكر بهذا الإسناد " (¬2). قلت: سليمان بن بلال ثقة من أصحاب هشام بن عروة، ولكن عرضت الشبهة لمن أنكر روايته هذه من جهات ثلاث: أولاها: كون الحديث معروفاً من حديث جابر بن عبد الله. وثانيها: أن أحمد بن صالح لم يجده في كتب سليمان بن بلال. وثالثها: أن ابن أبي أويس رواه عن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة على غير ما رواه سليمان. وأقول: وهذه شبهات مردودة، لا يصلح بمثلها القدح على حديث الثقة. فأما روايته من حديث جابر، فتلك بإسناد لا صلة له بهذا، وإنما هو حديث مستقل، واحتج به مسلم كما احتج بحديث عائشة. وأما عدم وقوف أحمد بن صالح عليه في كتب سليمان، فلم يأتي عن سليمان أنه لم يكن يحدث إلا من كتبه، ولا أن أحمد بن صالح مع حفظه اطلع على جميع ما كان لسليمان من الأصول، على أن هذا الطعن يتوجه ¬

(¬1) أخرج ذلك عن أحمد بن صالح: أبو الفضل بن عمار الشهيد في " علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج " (ص: 109 _ 110). (¬2) علل الحديث (2/ 292 _ 293).

إلى من دون سليمان، لكن له عنه طرق صحيحة لا مجال للطعن عليها في مجموعها. وأما الاعتراض عليه برواية إسماعيل بن أبي أويس، عن ابن أبي الزناد، فاعتراضٌ برواية الأدنى على الأعلى، فإسماعيل لم يكن بالمتقن مع صدقه، وابن أبي الزناد صدوق حسن الحديث لا يبلغ مبلغ سليمان في الثقة. وبهذا المثال قايس في وجوب تحرير القول فيما تدعى عليه العلة، وهو من روايات هذا الصنف من الثقات. ثانياً: تفرد الثقة من أصحاب من يدور عليهم الحديث، كتفرد حماد بن سلمة عن ثابت البناني بحديث، لا يرويه عن ثابت غير حماد، وقد يعرف عن غير ثابت. فهذا صحيح محتج به. ثالثاً: تفرد الثقة عن رجل ممن يدور عليهم الحديث، وليس ذلك الثقة من أصحاب ذلك الرجل، كتفرد معمر بن راشد عن قتادة بن دعامة السدوسي، بما لا يُعرف عند أصحاب قتادة المعروفين به، كشعبة بن الحجاج وسعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي وغيرهم فهذا محل للتعليل. كما قال مسلم بن الحجاج: " حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث: أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه، قبلت زيادته. فأما من تراه يعمد لمثل الزُّهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، ... أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث،

مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس " (¬1). رابعاً: تفرد الصدوق الذي لم يبلغ في الإتقان مبلغ الثقات، كمحمد بن عمرو بن عَلْقَمَة، وعمر بن شعيب، وأسامة بن زيد اللَّيثي، بما لم يروه غيره مطلقاً. فهذا مقبول بتحقيق ما يُطلب لحسن الحديث. خامساً: تفرد الصدوق عن شيخ له، عرف بالاعتناء بحديثه والضبط له، كتفرد عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل شقيق بن سلمة، أو عن زر بن حبيش. ومنه تفرد الصدوق المعروف بالاعتناء بحديث أهل بلده بشيء عنهم لا يرويه عنهم غيره، كتفرد إسماعيل بن عياش بحديث عن ثقة من أهل الشام. ومنه تفرده في باب اعتنائه بما لم يروه غيره من أقرانه عن شيخ مشهور، كأفراد محمد بن إسحاق فيما سمعه من شيخ ثقة في أبواب السير والمغازي؛ لاعتنائه بهذا الباب وضبطه له. سادساً: تفرد الصدوق عن مشهور من الثقات بما لا يوجد عند ثقات أصحاب ذلك المشهور، وليس لذلك الصدوق اعتناء بحديث الشيخ، كتفرد يحيى بن اليمان عن سفيان الثوري والأعمش بما لا يرويه أصحابهما عنهما. فهذا محل للتعليل، وقد يبلغ النكارة، وربما اعتبر به إذا وجد له فيمن فوق الثوري أو الأعمش مثلا ً أصل. ومن مثاله في الرواية: ما رواه محمد بن عمرو بن علقمة، قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش: ¬

(¬1) مُقدمةُ صحيح مسلم (ص: 7).

أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا كان دم الحيضة، فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق " ... (¬1). قلت: هذا مما تفرد به محمد بن عمرو، وهو صدوق، ومثله لا يحتمل مثل هذا التفرد دون سائر أصحاب الزهري، بمتن لا يعرف في الباب عن غيره في جعل الفارق بين دم الحيض والاستحاضة هو اللَّونَ. ولذا قال أبو حاتم الرازي حين سأله ابنه عن هذا الحديث: " لم يتابع محمد بن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 286، 304) _ ومن طريقه: البيهقي في " الكبرى " (1/ 325) وابن عبد البر في " التمهيد " (16/ 64، و 22/ 105) _ والنسائي (رقم: 215، 362) وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (6/ 251 رقم: 3483) والدارقطني (1/ 206، 207) والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1125) من طريق محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن محمد بن عمرو. تابع ابنَ المثنى: خلف بن سالم، حدثنا محمد بن أبي عدي، بإسناده نحوه. أخرجه الدارقطني (1/ 207). قال أبو داود بعد روايته المتقدمة (وهو عند من رواه من طريقه كذلك): وقال ابن المثنى: حدثنا به ابن أبي عدي من كتابه هكذا، ثم حدثنا به بعدُ حفظاً، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة كانت تستحاض، فذكر معناه. وهكذا أخرجه كما ذكره أبو داود من حديث عائشة، وساق لفظه: النسائي (رقم: 216، 363) _ وعنه: الطحاوي في " شرح المشكل " (7/ 154 رقم: 2729) _ وابن أبي عاصم (6/ 251 رقم: 3483) وابن حبان (4/ 180 رقم: 1348) والدارقطني (1/ 207) والحاكم (1/ 174 رقم: 618) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1125) جميعاً من طريق محمد بن المثنى، بإسناده به. وذكر النسائي وابن أبي عاصم والدارقطني والخطيب عن محمد بن المثنى مثل ما ذكره أبو داود عنه عن ابن أبي عدي. (¬2) علل الحديث (رقم: 117). قلت: والحديث صححه ابنُ حبان والحاكم، وليس كما قالا، وله علة أخرى بسْطها في محل آخر.

مسألتان متممتان لمبحث التفرد:

سابعاً: تفرد المجروح، كان تفرداً مطلقاً أو نسبياً، فهو منكر، وليس من باب علل الحديث؛ لظهور نكارته بجرح راويه (¬1). مسألتان متممتان لمبحث التفرد: المسألة الأولى: بين الترمذي عن أهل الحديث الأسباب التي يعود إليها وصف الحديث بالغرابة، في الصور التالية، ومنها يستفاد ما يأتي في استعمال الترمذي للفظ (الغريب) في كثير من الأحاديث في " جامعه ": ¬

(¬1) وللحافظ محمد بن طاهر المقدسي قسمة تأتي في السياق التوضيحي كذلك للأفراد، فقال في " أطراف الغرائب والأفراد " (ق: 9 / ب): " اعلم أن الغرائب والأفراد على خمسة أنواع: النوع الأول: غرائب وأفراد صحيحة. وهو أن يكون الصحابي مشهوراً براوية جماعة من التابعين عنه، ثم ينفرد بحديث عنه أحد الرواة الثقات لم يروه عنه غيره، ويرويه عن التابعي رجل واحد من الأتباع ثقة، وكلهم من أهل الشهرة والعدالة. وهذا حدُّ في معرفة الغريب والفرد الصحيح، وقد أخرج له نظائر في الكتابين (يعني الصحيحين). والنوع الثاني من الأفراد: أحاديث يرويها جماعة من التابعين عن الصحابي، ويرويها عن كل واحد منهم جماعة، ينفرد عن بعض رُواتها بالرواية عنه رجل واحد، لم يرو ذلك الحديث عن ذلك الرجل غيره من طريق يصحُّ، وإن كان قد رواه عن الطبقة المتقدمة عن شيخه، إلا أنه من رواية بعد المتفرد عن شيخه لم يروه عنه [غيره]. والنوع الثالث من الإفراد: أحاديث تفرد بزيادة ألفاظ فيها واحد عن شيخه، لم يرو تلك الزيادة غيره عن ذلك الشيخ، ينسب إليه التفرد بها، وينظر في حاله. والنوع الرابع: متون اشتهرت عن جماعة من الصحابة، أو عن واحد منهم، فروي ذلك المتن عن غيره من الصحابة ممن لا يعرف به، إلا من طريق هذا الواحد، ولم يُتابعه عليه غيره. النوع الخامس من التفرد: أسانيد ومُتون يتفرد بها أهل بلد، لا توجد إلا من روايتهم، وسننٌ يتفرد بالعمل بها أهل مصر لا يُعمل بها في غير مِصرهم ". قلت: وهذا الذي ذكر ابن طاهر صحيح، لكنه لم يُراع فيه ما نحن بصدده من بيان ما يتصل منه بباب علل الحديث، وما لا يتأثر بذلك، وهو مَقصودنا بهذه المسألة. كما أني وجدت لغيره، كأبي يعلى الخليلي في " الإرشاد " (1/ 167 _ 172) اعتبارات أخرى في تقسيم الأفراد، قد أتيت بقسمتي على جميعها فيما يتصل بالمقبول والمردود من الأفراد، وزيادة لا توجد في شيء منها.

1 - الحديث لا يروى إلا من وجه واحد، وهو الغريب المطلق، كما يسمى الفرد المطلق. مثل: ما حدث حماد بن سلمة، عن أبي العشراء، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أما تكون الذَّكاةُ إلا في الحلق واللَّبَّةِ؟ فقال: " لو طعنت في فخذها أجزأ عنك ". قال الترمذي: " فهذا حديث تفرد به حماد بن سلمة عن أبي العشراء، ولا يعرف لأبي العشراء عن أبيه إلا هذا الحديث، وإن كان هذا الحديث مشهوراً عند أهل العلم، وإنما اشتهر من حديث حماد بن سلمة، لا نعرفه إلا من حديثه " (¬1). 2 - الرجل من الأئمة يحدث بالحديث، لا يعرف إلا من حديثه، لكن يشتهر الحديث لكثرة من روى عنه. مثل: ما روى عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته. قال الترمذي: " لا يعرف إلا من حديث عبد الله بن دينار. رواه عنه عبيد الله بن عمر وشعبة وسفيان الثوري ومالك بن أنس وابن عيينة وغير واحد من الأئِمة "، وبين وهم من رواه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر (¬2). 3 - الحديث يستغرب لزيادة تكون فيه. ومثل له الترمذي بزيادة مالك: " من المسلمين "، في حديث زكاة الفطر، وإن كان التحقيق أن مالكاً لم يتفرد بها (¬3). ¬

(¬1) كتاب (العلل) آخر " الجامع " (6/ 251 _ 252). (¬2) كتاب (العلل) آخر " الجامع " (6/ 252). (¬3) والتفرد بالزيادة يأتي له مزيد بيان في المبحث التالي.

4 - الحديث يروي من أوجه كثيرة، وإنما يستغرب لحال الإسناد. مثل: ما رواه شبابة بن سوار، قال: حدثنا شعبة، عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدُّباء والمز فَّت. أسنده الترمذي، وقال: " هذا حديث غريب من قبل إسناده، لا نعلم أحد حدث به عن شعبة غير شبابة. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة: أنه نهى أن ينتبذ في الدُّبَاءِ والمُزَفَّتْ. وحديث شبابة إنما يستغرب لأنه تفرد عن شعبة. وقد روى شعبة وسفيان الثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحج عرفة. فهذا الحديث المعروف أصح عند أهل الحديث بهذا ... الإسناد " (¬1). والمسألة الثانية: وقوع التفرد من الثقات المكثرين بعد انتشار التدوين، قليل بالنظر إلى مجموع ما يرويه أحدهم. قال الذهبي بعد ذكره طبقات كبار الحفاظ إلى زمانه: " فهؤلاء الحفاظ الثقات إذا انفرد الرجل منهم من التابعين فحديثه صحيح، وإن كان من الأتباع قيل: صحيح غريب، وإن كان من أصحاب الأتباع قيل: غريب فرد، ويندر تفردهم، فتجد الإمام منهم عنده مِئَتا ألف حديث، لا يكاد ينفرد بحديثين ثلاثة " (¬2). * * * ¬

(¬1) كتاب (العلل) آخر " الجامع " (6/ 254 _ 255). (¬2) الموقظة (ص: 77).

المبحث الثاني: التعليل بالزيادة

المبحث الثاني: التعليل بالزيادة صورتها: أن يروي جماعة من الثقات حديثاً واحد بإسناد واحد ومتن واحد، فيزيد بعض الرواة الثقات فيه زيادة لم يذكرها سائرهم (¬1). وعليه: فيخرج الحديث الفرد يرويه الثقة لا يشاركه فيه غيره، فإنه وإن كان زاد علماً لم يأت به سواه لكنه انفصل به عن غيره، فلم يشاركوه في أصله، وليس مما عنوا به كما عني به، ومقتضى ثقته قبول ما حفظه من العلم فتقبل أفراده ابتداء ما لم يقم دليل على غلطه. وأما لو شارك غيره في الرواية، ثم أتى بما لم يأت به غيره فيها، فذلك المقصود بزيادة الثقة. والقول في زيادات الثقات يتحرر ببيان أصلين: ¬

(¬1) هذا التعريف في الأصل مستفاد من قول الحافظ ابن رجب، حيث قال: " أن يرويَ جماعة حديثاً واحداً بإسناد واحد ومتْن واحد، فيزيد بعض الرواة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة " "شرح علل الترمذي " (1/ 425)، لكنه لم ينعت الرُّواة بالثقة، مع أنه قال ذلك في معرض تعريف زيادة الثقة.

الأصل الأول: محل وقوع زيادات الثقات

الأصل الأول: محل وقوع زيادات الثقات. يتبين من التعريف المتقدم لزيادة الثقة أنها تقع في الإسناد، وتقع في المتن. وصورها محصورة في خمس، ثلاث في الإسناد: وصل مرسل، ورفع موقوف أو مقطوع، والزيادة خلال الإسناد، ومنه: المزيد في متصل الأسانيد، وواحدة في المتن، وهي زيادة الكلمة، أو الجملة أو أكثر، ومشتركة بينهما، وهي: الإدراج، وهذا بيانها: أولاً: وصل المرسل. والمقصود بالمرسل هنا: ما رفعه التابعي فقط، لأننا احترزنا بما ذكرنا من الزيادة خلال الإسناد عن وصل المنقطع، وسيأتي. ومثاله، قال أبو يعلي الخليلي: " حدثني رواه أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، وهو ثقة إمام، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة. هذا مما يتفرد به أبو عاصم مسنداً مجوداً. والناقلون رووه عن مالك عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة مرسلاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه أبو هريرة. وتابع على ذلك أبا عاصم عبد الملك بن الماجشون، ويحيى بن أبي قتيلة من أهل مصر، وليسا بذاك. وقال أهل البصرة لأبي عاصم: خالفك أصحاب مالك في هذا، فقال: حدثنا به مالك بمكة، وأبو جعفر المنصور بها، هاتوا من سمع معي. ورواه معمر بن راشد عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيا: رفع الموقوف

وهو المحفوظ المخرج في صحيح البخاري وغيره " (¬1). ثانياً: رفع الموقوف. مثاله: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه ". رواه قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو. واختلف عنه: فرواه هشام الدستوائي، فقال: عن قتادة عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو، قوله موقوفاً. ذكره العقيلي (¬2) معلقاً دون إسناد، وأتبعه بقوله: " وهذا أولى " يعني من المرفوع الآتي. ورواه شعبة وغيره عن قتادة، واختلف على شعبة فيه وقفاً ورفعاً: فرواه يحيى بن سعيد القطان، وهو من أتقن الناس، ومحمد بن جعفر غندر، وهو من متقني أصحاب شعبة، وعمرو بن مرزوق، وهو ثقة، ثلاثتهم عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو، قوله، ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وتابع الثلاثة: عبد الله بن المبارك، ومعاذ بن هشام، عن شعبة، بإسناده إلى عبد الله بن عمرو، لكن زادا: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرفعاه. رواه عن ابن المبارك من ثقات أصحابه: أحمد بن جميل، ويعمر بن بشر وهو صحيح عنه، وكذلك هو جيد الإسناد إلى معاذ بن هشام. وابن المبارك شيخ الإسلام، الحافظ المتقن الإمام، أتى عن شعبة بما ¬

(¬1) الإرشاد، للخليلي (1/ 165 _ 166). (¬2) في " الضعفاء " (2/ 20).

لم يأت به يحيى بن سعيد القطان وهشام الدستوائي ومحمد بن جعفر، فحفظ من العلم عليهم زيادة، وافقه عليها عن شعبة: معاذ، وهو صدوق جيد الحديث. وجزم أبو علي النيسابوري بترجيح الوقف، وتردد تلميذه الحاكم، وجزم تلميذه البيهقي بموافقة أبي علي. ولو نظرت إلى ما أتى به ابن المبارك وحده عن شعبة لما جاز على الأصول رده، لإتقانه وحفظه، فكيف وقد وافقه غيره عن شعبة؟ ثم كيف وأن عامة أصحاب قتادة عدا ما ذكره العقيلي عن هشام الدستوائي، يروونه عن قتادة مرفوعاً؟ كذلك قال: سعيد بن أبي عروبة، وهمام بن يحيى، وعمران بن داور القطان، وعمر بن إبراهيم العبدي، رووه جميعاً عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا بنظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه ". وسعيد من أتقن أصحاب قتادة قبل أن يختلط، وهذا رواه عنه سرار بن مجشر، ونص النسائي على تقديمه فيه، لكونه روى عنه قبل الاختلاط. وهمام من ثقات أصحاب قتادة. وعمران صدوق حسن الحديث، وهو في المتابعات أحسن، والإسناد إليه حسن. وعمر صدوق، لكنه لم يكن متقناً لحديث قتادة، كان يخالف فيه، غير أنه ههنا جاءت روايته على الوفاق لرواية ثلاثة من ثقات أصحاب قتادة فلم يخالف ولم يتفرد، وذلك من طريقين صحيحين عنه، وخالف في رواية جاءت من طريق ابنه الخليل عنه، وهي ضعيفة، ذكر فيها (الحسن) بدل (سعيد بن المسيب).

ثالثا: الزيادة خلال الإسناد

وحاصل هذا: أن الرفع زيادة في رواية هذا الحديث، جاءت من طريق خمسة من أصحاب قتادة: سعيد، وهمام، وعمران القطان، وعمر بن إبراهيم، والخامس شعبة، ولم يبق يقابل ذلك في النقص، سوى رواية هشام الدستوائي عن قتادة، فإن صحت فقد قصر فيها هشام، وحفظ الزيادة عن قتادة غيره من أصحابه، وقد اجتمع فيهم الضبط والعدد (¬1). ثالثاً: الزيادة خلال الإسناد. وهي غير ما يدرجه بعض الرواة من تفسير راوٍ مهمل، أو الزيادة في اسمه ونسبه، أو بيان درجته في الرواية، أو شبه ذلك. وإنما هي واقعة على صور ثلاث: الصورة الأولى: زيادة راوٍ خلال الإسناد في موضع عنعنة. لم يأت ذكره في رواية أخرى للحديث، فتكشف انقطاعاً في الإسناد الناقص، لم يكن ليظهر لولا تلك الزيادة. مثاله: ما أخرجه أحمد بن حنبل، قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا أبو هارون الغنوي، عن مطرف، قال: قال لي عمران بن حصين: أي مطرف، والله إن كنت لأرى أني لو شئت حدثت عن نبي الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين لا أعيد حديثاً، ثم لقد زادني بطأً عن ذلك وكراهية له: أن رجالاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو من بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , شهدت كما شهدوا، وسمعت كما سمعوا، يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، ولقد علمت أنهم لا يألون عن الخير، فأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فكان أحيانا ً يقول: لو حدثتكم أني سمعت من نبي الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا رأيت أني قد صدقت، وأحياناً يعزم فيقول: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا. ¬

(¬1) وتفصيل تخريج هذا الحديث في كتابي " علل الحديث ".

قلت: فهذا الحديث ظاهر إسناده الاتصال والسلامة من العلة، ورواته جميعاً ثقات (¬1). لكن كشف بشر بن المفضل عن علته، فقال: عن أبي هارون الغنوي، قال حدثني هانئ الأعور، عن مطرِّف، عن عمران بن حصين. حدث به عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني نصر بن علي، حدثنا بشر، به. قال عبد الله: فحدثت به أبي، فاستحسنه، وقال: زاد فيه رجلاً (¬2). قلت: فبينت رواية بشر أن الرواية الأولى كانت منقطعة، ونظرنا من بعد إلى حلقة الوصل هانئاً هذا فوجدناها لينة، لا تقوم معها رواية الحديث. وزيادة بشر محفوظة، لكونه ثقة ضابطاً. واعلم أن الزيادة قد تكون مرجوحة شاذة، وذلك مثل ما رواه زهير بن معاوية، عن حميد الطويل، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: لبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة والحج معاً، فقال: " لبيك بعمرة وحجة ". قال البخاري: " هذا خطأ، أصحاب حميد يقولون: عن حميد سمع أنساً " (¬3). هشيم بن بشير (¬4)، ويحيى بن سعيد القطان (¬5)، ¬

(¬1) وإسماعيل فيه هو ابن علية، وأبو هارون هو إبراهيم بن العلاء، ومطرف هو ابنُ عبد الله بن الشخير. (¬2) انظر الحديث في " مسند أحمد " (33/ 122 _ 123 رقم: 19893). (¬3) العلل الكبير، للترمذي (1/ 375). (¬4) أخرجه أحمد (19/ 22 رقم: 11958) ومُسلم (رقم: 1251) وأبو داود (رقم: 1795) والنسائي (رقم: 2729) وابن خزيمة (رقم: 2619) والطبراني في " الصغير " (رقم: 968) والبيهقي في " الكبرى " (5/ 9). (¬5) أخرجه أحمد (20/ 236 رقم: 12870).

الصورة الثانية: المزيد في متصل الأسانيد

وسفيان بن عيينة (¬1)، ذكروا جميعاً عن حميد سمع أنساً. كما رواه غيرهم ما يزيد على ستة عشر نفساً من أصحاب حميد، عنه، لم يذكروا واسطة بينه وبين أنس، بما يأتي على رواية من ذكر السماع (¬2). فشذ زهير بن معاوية مع حفظه وإتقانه؛ لأن اتفاق جميع أصحاب حميد على ترك ما ذكره، وتأكيد ذلك بذكر السماع ممن ذكره، لا يقوم معه بعد احتمال أنه يكون من قبيل (المزيد في متصل الأسانيد) الآتي ذكره. الصورة الثانية: المزيد في متصل الأسانيد. وهو الإسناد الصحيح الذي اتصل برواية العدل عن العدل بما لا يحتمل انقطاعاً، يأتي من وجه آخر صحيح يكون بعض رواته تلقى بواسطة ¬

(¬1) أخرجه الحُميدي (رقم: 1215) وأبو يعلى (6/ 325، 391 رقم: 3648، 3737 _ وسقط منه ذكر سُفيان في الموضع الأول). (¬2) كذلك قال: مُعتمر بن سليمان، عند أبي يعلى (6/ 431 رقم: 3805)، وسفيان بن عيينة أيضاً، عند أحمد (19/ 143 رقم: 12091) والبغوي في " شرح السنة " (7/ 72 رقم: 1881)، ومحمد بن أبي عدي، عند ابن الجارود في " المنتقى " (رقم: 430)، وأبو ضمرة أنس بن عياض، عند ابن حبان في " صحيحه " (9/ 242 رقم: 3933)، وحماد بنُ زيد، عند الترمذي (رقم: 821) وقال: " حديث حسن صحيح "، وإسماعيل بنُ عُلية، عند ابن أبي شيبة (4/ 99)، وعبد الله بن المبارك، عند أحمد (21/ 316 رقم: 13806)، وشُعبة بن الحجاج، عند أحمد (21/ 412 رقم: 14002)، ومروان بن معاوية، عند البغوي في " شرح السنة " (7/ 73 رقم: 1882)، ويونس بن عبيد، عند الدارقطني (2/ 288) والحاكم (1/ 472 رقم: 1736) وقال: " صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه! "، ويزيد بن زُريع، عندَ الدارقطني (2/ 288)، ويزيد بن هارون، عند الدارمي (رقم: 1859) والطحاوي في " المشكل " (6/ 229 رقم: 2442)، وحماد بن سلمة، عند الطحاوي في " شرح المعاني " (2/ 153)، وعبْد الوهاب بن عطاء، عند ابنِ سعد في " الطبقات " (2/ 175)، ومعاذ بن مُعاذ العنبري، عند البيهقي في " الكبرى " (5/ 40)، وداود الطائي، عند أبي نعيم في " أخبار أصبهان " (1/ 250)، ومنيع بن عبد الرحمن، عند الخطيب في " تاريخه " (10/ 81)، جميعهم اتفقوا على روايته عن حميد عن أنس.

الصورة الثالثة: زيادة ذكر التحديث والسماع بدل العنعنة

عن شيخه في السند الأول، ولا يكون من باب الاختلاف الذي يدخله الترجيح، والذي يقال فيه: المحفوظ إحدى الروايتين والأخرى وهم. وشرحت مثال هذه الصورة في مبحث (الشاذ). والصورة الثالثة: زيادة ذكر التحديث والسماع بدل العنعنة. وهذا كثير في الأسانيد، خصوصاً لما بينا في الكلام على العنعنة أنهم كانوا يتخففون بذكرها عن سياق ألفاظ السماع، ولا ريب أن حفظها زيادة تدفع الشبهة عن حديث الموصوف بالتدليس من الثقات، بل تنفي على أي حال شبهة الانقطاع. وقبولها مشروط إضافة إلى كون الراوي الحافظ لها ثقة بأن يصح الإسناد إليه، وأن يسلم ذلك من المعارض الراجح، فقد تقوم الحجة على وهم الثقة في ذكر السماع (¬1). والصور المتقدمة كان السلف من أئمة هذا العلم يعتنون بتمييزها وحفظها، ويعيبون على من يقع له الحديث على وجهين: ظاهر الاتصال في أحدهما، ومنقطع في الآخر، فيحدث بما ظاهره الاتصال دون المنقطع. كما قال الميموني: تعجب إلي أبو عبد الله _ يعني أحمد بن حنبل _ ممن يكتب الإسناد ويدع المنقطع، ثم قال: " وربما كان المنقطع أقوى إسناداً وأكبر "، قلت: بينه لي، كيف؟ قال: " يكتب الإسناد متصلاً وهو ضعيف، ويكون المنقطع أقوى إسناداً منه، وهو يرفعه ثم يسنده، وقد كتبه هو على أنه متصل، وهو يزعم أنه لا يكتب إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "، معناه: لو كتب الإسنادين جميعاً عرف المتصل من المنقطع، يعني: ضعف ذا، وقوة ذا (¬2). ¬

(¬1) واستفد مِثاله مما تقدم ذكْره في خطأ من روى عن عبد الجبار بن وائل سماعَه من أبيه وائل بن حجر، في (اتصال الإسناد). (¬2) أخرجه الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1576) وإسناده صحيح.

رابعا: الزيادة في متن الحديث

رابعاً: الزيادة في متن الحديث. وهي ما يقع في ألفاظ متن الحديث الواحد المتحد في أصله، كحديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من مفردة، أو مفردات، أو جملة، أو مقطع، أو قصة، أو ما يزيد حتى يبلغ أن يكون بمنزلة حديث آخر. وهو كثير في الأحاديث، ويمكن أن يستفاد بعض مثاله مما بينته من مثال لفوائد المستخرجات على " الصحيحين "، وما يقع فيها من زيادات الرواة في المتون. وربما كان تمام الحديث بتلك الزيادة، ومن لم يذكرها اختصره، ففوت باختصاره ما قد يدل عليه من العلم أصل سياقه. وقد اعتنى به جماعة من فقهاء المحدثين، كأبي داود السجستاني في " السنن "، وأبي بكر النيسابوري في " الزيادات على كتاب المزني "، والبيهقي في " السنن ". وجمع ألفاظ الحديث، وتبيين ما يزيد الثقات في متنه على بعضهم يحرر أصول كثير من الأحاديث، وربما أبان عن معنى يتحصل بتلك الزيادة، أو بتمام السياق لم يكن ليحصل بدونه. بل في اختلاف الفقهاء مسائل كثيرة يعود سبب اختلافهم فيها إلى هذا المعنى كاختلافهم في كفارة المواقع في رمضان، وهل هي لإفطاره بأي سبب، أو لإفطاره بالمواقعة خاصة، وحكم القضاء له، أو عدمه، وكاختلافهم في صفة القعود للتشهد من صلاة الصبح بالتورك أو الافتراش، لما جاء به الرواة لحديث أبي حميد السَّاعديِّ في صفة الصلاة اختصاراً وتماماً، وغير ذلك. ومن مثاله الذي يتنازع أئمة الحديث قبوله: زيادة " وإذا قرأ فأنصتوا " في حديثي أبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، من قبل بعض الثقات في حديث كل منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما جعل الإمام ليؤتم به "، وهو حديث معروف الصحة، سوى هذه الزيادة، فقد اختلفوا فيها قبولاً وردا.

وقد أورد مسلم الحديث بها في " صحيحه " (¬1) من حديث أبي موسى، ولم يبال بما قاله غيره من تفرد سليمان التيمي بها عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى، من أجل ما عرف من إتقان التيمي. بينما أحجم مسلم أن يسوق الحديث بها في " صحيحه " من حديث أبي هريرة مع حكمه بصحته، من أجل شدة إنكارهم لها على محمد بن عجلان، إذ تفرد بها عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. قال إبراهيم بن سفيان راوي " الصحيح " عن مسلم: قال أبو بكر ابن أخت أبي النضر في هذا الحديث (¬2)، فقال مسلم: " تريدُ أحفظ من سليمان؟ "، فقال أبو بكر: فحديث أبي هريرة؟ فقال: " هو عندي صحيح "، فقال: لِمَ لم تضعه ههنا؟ قال: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه (¬3). تنبيه: ربما أطلق بعض العلماء عبارة: (زيادة الثقة) على ما يأتي به الصحابي من العلم في حديث يشاركه فيه صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الآخر لا يذكر تلك الزيادة في حديثه. مثل ما وقع في حديث عبد الله بن مغفل في غسل الإناء من ولوغ الكلب: " وعفروه الثامنة بالتراب"، فجعل غسلة التراب غير الغسلات السبع، وأبو هريرة حين روى ذلك جعل غسلة التراب من السبع، قال البيهقي: " أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، فروايته أولى "، فتعقبه الناقد ابن ¬

(¬1) صحيح مسلم (1/ 304). (¬2) يعني زيادة سُليمان التيميِّ في حديث أبي موسى. (¬3) صحيح مُسلم (1/ 304)، والكلام حول الحديثين تفصيلاً في كتابي " الإعلام بحكم القراءة خلف الإمام ".

التركماني الحنفي فقال: " بل رواية ابن مغفل أولى؛ لأنه زاد الغسلة الثامنة، والزيادة مقبولة، خصوصاً من مثله " (¬1). وصاغ ذلك ابن حجر بصيغة أخرى، فقال: " هي زيادة ثقة، فيتعين المصير إليها " (¬2). وكذلك وقع في كلام طائفة من العلماء (¬3). وهذا من جهة الاصطلاح واسع، لكنه ليس المراد بكلامهم في زيادات الثقات عادة، وإنما يعنون بها زيادات الرواة الثقات فيمن دون الصحابي أصل الحديث، على اعتبار أن رواية الصحابي حديث مستقل لذاتة، بخلاف ما تتفرع به الأسانيد منه، فإنها جميعاً تنتهي إليه (¬4). وكما يكون ذلك في الزيادة يكون كذلك في الموافقة والمخالفة، ففي الموافقة فكل منهما شاهد لحديث الآخر، وفي المخالفة يتبع طريق النظر في مشكل الحديث. غير أنك لو استعملت هذه العبارة فقلت: (زيادة ثقة) فيما اتحدت فيه القصة مما يحدث به الصحابيان فأكثر يزيد بعضهم على بعض، فليس في ذلك من حرج، وإنما المقصود التنبيه على طريقة القوم. ¬

(¬1) انظر: " السنن الكبرى " للبيهقي (1/ 242)، و " الجوهر النقي " لابن التركماني، بهامشها (1/ 241). (¬2) التلخيص الحبير (ا / 24)، وظاهر السياق نِسبة العبارة إلى ابن مندَه، وليست كذلك، وانظُر: " البدر المنير " لابن الملقَّن (2/ 329). وذكرت هذا من أجل التمثيل، وفي تسليم القول بخصوص هذين الحديثين على وَفْقِ ما أوردت أن تكون هذه زيادة، نظرٌ، إذ الأبين تعارضُ الروايتين في بيان ليس هذا محله. (¬3) انظر مثاله في كلام بعض المتأخرين: ابن قدامة في " المغني " (1/ 419، 503، 553) و " الكافي " (¬4) نبَّه على شيء من معنى هذا ابن رجب في " شرح علل الترمذي " (424).

خامسا: الإدراج

خامساً: الإدراج. ويقع في الإسناد والمتن. ولوقوعه في روايات الثقات صور ثلاث: الصورة الأولى: أن يكون وهماً من الثقة، وهو أن يدخل حديثاً في حديث، كأن يسوق إسناداً، ثم يدخل عليه متناً مروياً بإسناد آخر، وهذا أكثر ما يدخل من صور الإدراج تحت (علل الحديث)، وسيأتي مثاله في (التعليل بالغلط). الصورة الثانية: أن يقع الحديث للراوي بإسنادين أو أكثر، ربما اختلفت وصلاً وإرسالاً، أو تفاوتت فيما بينها في المتن زيادة ونقصاً، فيحمل رواية بعضهم على بعض، ولا يبين حديث هذا من حديث هذا. وادعي أنه ربما فعله سفيان بن عيينة، ولم أقف له على مثال، وعيب على محمد بن إسحاق (¬1). ومثله قادح في الحديث، تعل به الرواية. وكان الزهري يجمع بين الروايات المسندة من روايات الثقات من شيوخه، ويحمل ألفاظ بعضهم على بعض. كما قال في سياقه لقصة حديث الإفك: " أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصاً (¬2)، وقد وعيت عن كل واحد منهم ¬

(¬1) انظر ما سأذكره في مبحث (الحديث المدرج) في (القسم الثاني) من هذا الكتاب. (¬2) أي سياقاً للقصة.

الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضاً، ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت " الحديث (¬1). قال القاضي عياض: " هو مما انتقد قديماً على الزهري؛ لجمعه الحديث عنهم، وإنما عند كل واحد منهم بعضه، وقيل: كان الأولى أن يذكر حديث كل واحد منهم بجهته، ولا درك (¬2) على الزهري في شيء منه؛ لأنه قد بين ذلك في حديثه، والكل ثقات أئمة لا مطعن فيهم، فقد علم صحة الحديث، ووثق كل لفظة منه، إذ هي أحد هؤلاء الأربعة الأقطاب عن عائشة " (¬3). وحين حدث محمد بن إسحاق بهذا الحديث عن الزهري، ذكر عنه هذا التلفيق وزاد، فقال عن الزهري: " كل قد حدثني بعض هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد جمعت لك الذي حدثني القوم "، قال محمد بن إسحاق: " وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، عن نفسها، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعاً، يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها ما سمع " (¬4). قلت: فمثل هذا لا يعل بمثل هذا التصرف؛ لكونه متصلاً، ويعود في جملته إلى رواية الثقات، وإن كان خلاف الأولى. وإنما يكون قادحاً معللاً لو كان بعض تلك الطرق مرسلة أو ضعيفة. وذلك كالإدراج الذي وقع من الزهري في روايته عن ابن أُكيمة الليثي، عن أبي هريرة: ¬

(¬1) مُتفق عليه: أخرجه البُخاري (رقم: 2518، 3910، 4473) ومسلم (رقم: 2770). (¬2) أي لا تَبعةَ، أو مؤاخذة. (¬3) إكمال المُعلم، للقاضي عياض اليَحصُبي (8/ 286). (¬4) السيرة النبوية، لابن هشام، عن ابن إسحاق (3/ 309 _ 310).

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: " هل قرأ معي منكم أحد آنفاً؟ "، فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ ". فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: فهذه الجملة (فانتهى الناس. . ) إلى آخره، مما أدرجه الزهري في الحديث في قول عامة متقدمي النقاد ممن تعرض للقول في هذا الحديث، كالبخاري ومحمد بن يحيى الذهلي وأبي داود السجستاني والبيهقي والخطيب، وغيرهم، وبينوا وجه ذلك وحجته بما يطول المقام بتفصيله (¬1). وهي عبارة لا يقولها الزهري إلا بتوقيف؛ لأنها خبر، فلا بد أن يكون تلقاها بواسطة بينه وبين زمان النبوة، وليست تلك الواسطة في الراجح: ابن أُكيمة عن أبي هريرة، إذ لا تساعد الروايات على تصحيح ذلك، فهي إذاً رواية مرسلة. فيكون الزهري قد أدرج بعض ما هو مرسل فيما هو موصول. وهذا لا يدعى في شيء من الحديث حتى تقوم الحجة عليه، كما تراه وقع في هذا الحديث، أو تقوى الشبهة فيه. الصورة الثالثة: أن يقع بقصد لفائدة، وليس هذا من علل الحديث. وإدراج الزيادة من هذا يبين عادة، وإن ترك بيانه فلظهوره فلا محظور منه ولا يُعل به. وهو مثل إدراج لفظة تشرح اسم راوٍ في الإسناد، بتبيين نسبه أو جرحه وتعديله، أو شيء من أمره، وهو كثير الورود في الأسانيد، فهذا يأتي الإدراج فيه بقرينة مبينة. ¬

(¬1) شرحته في كتاب " علل الحديث ".

مثاله: قول أبي داود السجستاني: حدثنا مخلد بن خالد، قال: حدثنا إبراهيم، يعني ابن خالد، عن رباح بن زيد فذكر بإسناده حديثاً (¬1). فعبارة (يعني ابن خالد) إدراج من أبي داود، وعلامة الإدراج قوله: " يعني "، ولو لم تأت هذه القرينة وجاء السياق بلفظ: (إبراهيم بن خالد)، لم يصح ادعاء الإدراج في تفسيره وإنما هو تعريف مخلد نفسه بشيخه. ومما لايبين لظهوره مثلا، ما تراه في كتاب يعقوب بن سفيان، حيث يسوق إسناده إلى راو، لا يريد ذكر روايته، وإنما ينتهي إليه ليبين درجته في الحديث. كقوله مثلا: " حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن صلة بن أشيم، تابعي كوفي ثقة " (¬2). فعبارة (تابعي كوفي ثقة) ليست من كلام سفيان الراوي عن صلة وهو الثوري، ولا مدرجة من كلام أبي نعيم الفضل بن دُكيِّن، إنما هي من إنشاء الحافظ يعقوب بن سفيان، يستعمل ذلك كثيراً في كتابه هذا ومثله بين للمعتني بهذا العلم. فإن قلت: فماذا لو جاء الإسناد في موضع يقول فيه الثقة مثلا: (حدثنا حماد)، ويأتي في مكان آخر يقول فيه ذلك الثقة: (حدثنا حماد بن زيد)، فهل تكون زيادة (ابن زيد) مدرجة من قول من حدث بذلك الإسناد عن ذلك الثقة؟ أم هي من زيادة الثقة، يحفظ الزيادة في الإسناد كما يحفظ الزيادة في المتن، يذكرها بعض الرواة عنه ولا يذكرها بعضهم؟ قلت: بل هي زيادة ثقة محفوظة كجزء من روايته، لا تنسب إلى غير ذلك الثقة المحدث بها عن ذلك الشيخ المهمل، ولا يدعى عليها الإدراج إلا بحجة تفسره، أو شبهة قوية تقوم دون التسليم بقبولها. ¬

(¬1) سنن أبي داود (رقم: 1324). (¬2) المعرفة والتاريخ (3/ 90).

الأصل الثاني: الحكم في زيادة الثقة

ويقع مثل ذلك الإدراج في المتون أيضاً، بقصد شرح لفظ غامض أو نحو ذلك. مثل: ما جاء في أثناء قول عائشة في حديث بدء الوحي: ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه، وهو التعبد، الليالي ذوات العدد. . الحديث (¬1). فعبارة: (وهو التعبد) جزم بعض العلماء أنها مدرجة من قول الزهري يشرح بها معنى التَّحنُّث، وفي رواية عن الزهري جاءت العبارة معترضة بصيغة: (قال: والتَّحنُّث: التعبد) (¬2). الأصل الثاني: الحكم في زيادة الثقة. ما هو محل للتعليل من صور زيادات الثقات: زيادة الوصل في محل الإرسال، أو الراوي في محل العنعنة، أو زيادة الرفع في محل الوقف، أو الزيادة في متن الحديث. وليس منه: المزيد في متصل الأسانيد، ولا زيادة التحديث في موضع العنعنة، فهذا لا أثر له فيما يأتي من الخلاف. ونقسم الكلام في حكم زيادة الثقة عند أهل العلم إلى قسمين: القسم الأول: زيادة الثقة في الإسناد: الوَصل، أو الرفع، أو راوياً في محل العنعنة. بين أهل العلم في هذا اختلاف، حصره الخطيب في المذاهب الأربعة التالية: ¬

(¬1) مُتفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 3، 6581) ومُسلم (رقم: 160). (¬2) نقل ابن حجر القول بكونها مدرجة عن الطيبي (فتح الباري 1/ 23)، والرواية الأخرى عن الزهري عند البخاري (رقم: 4760).

المذهب الأول: عدم قبول الزيادة، والحكم لتاركها، حكاه عن أكثر أهل الحديث. المذهب الثاني: الترجيح بالعدد، فإن كان التارك أكثر فالقول قوله، وكذلك العكس. قال الزَّيلعيُّ: " إن جماعة من الحنفية لا يرون الترجيح بكثرة الرواة، وهو قول ضعيف؛ لبعد احتمال الغلط على العدد الأكثر، ولهذا جعلت الشهادة على الزنا أربعة؛ لأنه أكبر الحدود " (¬1)، وقال: " وإنما يرجح بكثرة الرواة إذا كانت الرواة محتجا بهم من الطرفين " (¬2). المذهب الثالث: الترجيح بالحفظ، فإن كان التارك أحفظ فقوله أرجح، وكذلك العكس. وهذه طريقة الدارقطني. فمع إقراره بمبدأ: (الزيادة من الثقة مقبولة) لكنه لا يرجح به، إنما يرجح الأحفظ. فقد سئل عن حديث اختلف فيه مطرف بن طريف وسفيان الثوري روياه جميعاً عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر، فزاد مطَرِّف: عن عمر. فأجاب بأن ثلاثة رووه عن مطرف، أتقن ثقتان على روايته عنه بزيادة عمر، ورواه عنه شريك القاضي، فلم يذكر عمر، ثم قال الدارقطني: " مطرف من الأثبات، وقد اتفق عنه رجلان ثقتان، فأسنداه عن عمر، ولولا أن الثوري خالفه فرواه عن زيد العمي فلم يذكر فيه عمر، لكان القول قول من أسند عن عمر، لأنه زاد، وزيادة الثقة مقبولة " (¬3). ¬

(¬1) نصب الراية (1/ 359). (¬2) نصب الراية (1/ 360). قلت: ويعني بالطرفين: طرف من زاد، وطرف من ترك. (¬3) العلل الواردة في الأحاديث النبوية، للدارقطني (2/ 75).

وسئل عن حديث رواه إسماعيل بن جعفر عن عمارة بن غزية، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ما يقال عند الأذان. خالف ابن جعفر فيه: إسماعيل بن عياش، فرواه عن عمارة، عن خبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، كما خالفهما: يحيى بن أيوب الغافقي، فرواه عن عمارة عن خبيب موقوفاً؟ فقال الدارقطني: " إسماعيل بن جعفر أحفظ من يحيى بن أيوب، وإسماعيل بن عياش، وقد زاد عليهما، وزيادة الثقة مقبولة " (¬1). قلت: وهكذا رأيته فعل في مواضع، ثم الترجيح بالأحفظ هو القاعدة العامة التي جرى عليها الدارقطني في تعليله الأحاديث. المذهب الرابع: قبول الزيادة من العدل الضابط، مطلقاً كان التارك لها واحداً أو أكثر، مثله في الحفظ أو أحفظ منه. وهذا المذهب قال الخطيب: " هو الصحيح عندنا؛ لأن إرسال الراوي للحديث ليس بجرح لمن وصله ولا تكذيب له، ولعله أيضاً مسند عند الذين رووه مرسلاً، أو عند بعضهم، إلا أنهم أرسلوه لغرض أو نسيان، والناسي لا يقضى له على الذاكر، وكذلك حال راوي الخبر إذا أرسله مرة ووصله أخرى، لا يضعف ذلك أيضاً؛ لأنه قد ينسى فيرسله، ثم يذكر بعده فيسنده، أو يفعل الأمرين معاً عن قصد منه فغرض له فيه " (¬2). وقال الخطيب: " اختلاف الروايتين في الرفع والوقف لا يؤثر في الحديث ضعفاً؛ لجواز أن يكون الصحابي يسند الحديث مرة ويرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكره مرة أخرى على سبيل الفتوى ولا يرفعه، فحفظ الحديث عنه على الوجهين جميعاً، وقد كان سفيان بن عيينة يفعل هذا كثيراً في حديثه، فيرويه تارة مسنداًً مرفوعاً، ويقفه مرة أخرى قصداً واعتماداً، وإنما ¬

(¬1) العلل (2/ 183). (¬2) الكفاية (ص: 581).

لم يكن هذا مؤثراً في الحديث ضعفاً،. . . لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة للأخرى، والأخذ بالمرفوع أولى؛ لأنه أزيد " (¬1). ولهذا انتصر ابن حزم، ولم يعد الاختلاف في ذلك مؤثراً في رواية الثقة موصلة (¬2). وهذه في التحقيق طريقة كبار النقاد من الأئمة، كما هو الشأن في إطلاق من أطلق: (زيادة الثقة مقبولة)، كأحمد بن حنبل، كما سيأتي، وغيره. وسئل البخاري عن حديث إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لا نكاح إلا بولي "؟ فقال: " الزيادة من الثقة مقبولة، وإسرائيل بن يونس ثقة، وإن كان شعبة والثوري أرسلاه، فإن ذلك لا يضر الحديث " (¬3). والبخاري لا يقبل زيادة الثقة مطلقاً، إنما يعتبر في ذلك قوة الحفظ، فإنه أعل أخباراً بالاختلاف فيها وإرسالاً، أو رفعاً ووقفاً، ولا يقبل فيها زيادة الوصل أو الرفع، في أمثلة في " التاريخ " وعلل الترمذي ". وقال مسلم بن الحجاج: " والزيادة في الأخبار لا تلزم إلا عن الحفاظ الذي لم يعثر عليهم الوهم في حفظهم " (¬4). وقال أبو زرعة الرازي في شأن زيادة وصل لعبد الله بن المبارك: " إذا زاد حافظ على حافظ قبل، وابن المبارك حافظ " (¬5). كما قال كذلك في زيادة الوصل أيضاً: " زيادة الحافظ على الحافظ تقبل " (¬6). ¬

(¬1) الكفاية (ص: 587 _ 588). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 88، 149). (¬3) أخرجه البيهقي في " الكبرى " (7/ 108) والخطيب في " الكفاية " (ص: 582) وإسناده جيد. (¬4) التمييز (ص: 189). (¬5) علل الحديث، لابن أبي حاتم (1/ 318). (¬6) علل الحديث لابن أبي حاتم (2/ 302).

قلت: والعمل بهذا الإطلاق يشبه أن يكون عليه عمل عامة المتأخرين من علماء الحديث، كالحاكم والبيهقي وابن الجوزي، ومن بعدهم. قال أبو يعلى الخليلي، وهو يذكر نوعاً من أنواع علل الحديث: " أن يروي الثقات حديثا مرسلا، وينفرد به ثقة مسندا، فالمسند صحيح وحجة، ولا تضره علة الإرسال " (¬1). وقال ابن القطان الفاسي من المتأخرين بعد أن ذكر حديثاً أعل بالإرسال والواصل ثقة: " هو نظر غير صحيح أن تعل رواية ثقة حافظ وصل حديثا رواه غيره مقطوعا، أو أسنده ورواه غبره مرسلا؛ لأجل مخالفة غيره له، والأمر يحتمل أن يكون قد حفظ ما لم يحفظه من خالفه، وإذا كان المروي من الوصل والإرسال عن رجل واحد ثقة، لم يبعد أن يكون الحديث عنده على الوجهين، أو حدث به في حالين، فأرسل مرة، ووصل في أخرى، وأسباب إرساله إيَّاه متعددة: فقد تكون أنه لم يحفظ في الحال حتى راجع مَكتوباً إن كان عنده، أو تذكَّر، أو لأنه ذكره مُذاكرا ً به، كما يقول أحدنا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لِما هو عنده بسنده، أو لغير ذلك من الوجوه. وإنما الشأن في أن يكون الذي يُسند ما رواه غيره مَقطوعاً أو مُرسلاً، ثقة. فإنه إن لم يكن ثقة لم يُلتفت إليه ولو لم يُخالفه أحدٌ، فإذا كان ثقة فهو حُجة على من لم يَحفظ. وهذا هو الحق في هذا الأصْل، وكما اختاره أكثر الأصوليون فكذلك أيضاً اختاره من المحدثين طائفة، وإن كانَ أكثرهم على الرأي الأول، فمَّمن اختار ما اخترناه: أبو بكر البزار، ذهب إلى أنه إذا أرْسل الحديث جَماعة، ¬

(¬1) الإرشاد (1/ 163).

وحدَّث به ثقةٌ مسندا، كان القول قول الثقة (¬1)، فيجيءُ على قوله أحرى وأولى بالقبول: ما إذا أرسل ثقةٌ ووصل ثقة، فإنه إذا لم يُبال بإرسال جماعة إذا وصله ثقة، فأحرى أن لا يُباليَ بإرسال واحدٍ إذا أسْنده ثقة " (¬2). الراجح: والراجح المحرر في هذا من بين مذاهبهم، القول: زيادة الثقة للوصْل في موضِع الإرسال، أو الرفع في موضع الوقف، أو الواسِطة في موْضع العنعنة، مقبولة، ما حققت فيها اعْتبارين: الأول: أن يكون الراوي ثِقة ضابطاً، لا يُذكر بلين في حفظه. والثاني: أن يَبْرأ من قيام حُجة على خطئه فيما زاد. قال الترمذي: " وإنما تصحُّ إذا كانت الزيادة ممن يُعتمد على حِفظه " (¬3)، وقال: " إذا زاد حافظ ممن يُعتمد على حِفظه قُبل ذلك منه " (¬4). قلت: فأما الصدوق ومن في حِفظه لين فلا تقبل زيادته، فهؤلاء قد يزيد أحدهم الشيء وهْما، كمن يزيد الوصل في الإسناد المرسل يُجريه على الجادَّة غفلة. قال أحمد بن حنبل: " كان ابنُ المنكدر رجُلاً صالحاً، وكان يُعرف بجابر، مثل ثابت عن أنس، وكان يُحدث عن يزيد الرَّقاشي، فربَّما حدَّث بالشيء مُرسلاً فجعلوه عن جابر " (¬5). ¬

(¬1) وذلك في قول البزار عقب حديث أبي سعيد مرفوعاً: " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة .. " قال: " وهذا الحديث قد رواه غيرُ واحد عن زيد عن عطاء بن يسار مرسلاً، وأسنده عبدُ الرزاق عن معمر والثوري، وإذا حدث بالحديث ثقةٌ فأسنده كان عندي الصواب، وعبد الرزاق ثقةُ " نقله ابنُ القطان في " بيان الوهم " (1/ 310). (¬2) بيان الوَهم والإيهام، لابن قطان (5/ 430). (¬3) كتاب (العلل) آخر " الجامع " (6/ 252 _ 253). (¬4) كتاب (العلل) آخر " الجامع " (6/ 253). (¬5) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 302).

وقال أبو طالب: قال أحمد بن حنبل: " يونُس بن أبي إسحاق حديثه فيه زيادة على حديث ... الناس "، قلت: يقولون: إنه سمع في الكتاب فهو أتمُّ، قال: " إسرائيل ابنه سمع من أبي إسحاق وكتب، فلم يكن فيه زيادة مثل ما يزيد يونس " (¬1). قلت: ولمثل هذا المعنى تردد شُعبة بن الحجاج في حديث تفرّد برفعه سماك بن حرب دون جماعة من الثقات وقفوه، وذلك أن سِماكاً وإن كان ثقة، لكنه يَهم ويُخطئُ وفي حفظه شيءٌ. قال أبو داود الطيالسي: سمعت خالد بن طُليق يسأل شعبة، فقال: يا أبا بسْطام، حدثني حديث سِماك بن حرب في اقْتضاء الذهب من الوَرق، حديث ابن عُمر، فقال: " أصلحك الله، هذا حديثٌ ليس يرفعه أحدٌ إلا سماك "، قال: فترهبُ أن أرْوي عنك؟ قال: " لا، ولكن حدثنيه قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ولم يرفعه وأخبرنيه أيوب عن نافع عن ابن عمر، ولم يَرفعه، وحدثني داود بنُ أبي هند عن سعيد بن جبير، ولم يَرفعه، ورفعه سِماك، فأنا أفْرقُه " (¬2). تنبيهان: التنبيه الأول: الحديث قد يختلف فيه النقلة رَفعاً ووقْفاً، لكن يوجد في الرواية الموقوفة ما يدل على كون الخبر لا يُقال إلا بتوْقيف، فيكون ذلك دليلاً على ترجيح الرَّفع. وذلك نحو حديث أبي سعيد الخُدري، قال: " من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أضاء الله له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق ". ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 244)، ورواه كذلك عن أحمد: الفضل بن زياد، أخرجه عنه يعقوب بن سفيان في " المعرفة " (2/ 173 _ 174). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 158) والعُقيلي في " الضعفاء " (2/ 179) وإسناده صحيح.

القسم الثاني: زيادة الثقة في المتن

فهذا الحديث مما اختلف فيه رفعاً ووقفا (¬1)، والصناعة الحديثية بناءً على الأصل المتقدم في قبول زيادة الثقة لا تُساعد على قبول زيادة الرفع من جهة حِفظ من زادها، ولكنه اعتضد بكون هذا وإن كان الراجح فيه الوقف بناءً على القواعد، لكنه مرفوعاً حُكماً، إذ مثله لا يُقال من قبل الرأي، فكانت هذه قرينة مُرجحة لزيادة الرَّفع في التحقيق. التنبيه الثاني: من الثقات المتقنين من كانوا يُوقِفون الحديث تَقصيراً، وغيرهم يَرفعه، فمن تبيَّن ذلك منه لم يَصحَّ أن يُقام صَنيعه مُخالفة مُعتبرة للثقة الذي رفع الحديث. كقول أبي بكر المُروذيِّ: سألته (يعني أحمد بن حنبل) عن هشام بن حسان؟ فقال: " أيوب وابنُ عوْن أحب إليَّ " وحسَّن أمر هشام، وقال: " قد روى أحاديث رَفعها أوْقفوها، وقد كانَ مذْهبهم أن يُقصروا بالحديث ويوقفوه " (¬2). القسم الثاني: زِيادة الثقة في المتن. مَذهب جُمهور أهل الفقه والأصول قَبولها، ونسب بَعضهم إلى الإمام أبي حنيفة أنه ردَّها (¬3). والتحقيق: أن مَذهب أبي حنيفة الذي يتبين من صنيع أصْحابه: قبولُ زيادة الثقة، كما وَجدته في كلام الطحاوي (¬4)، وتعلق به المتأخرون في مَواضع، كابن الهُمام (¬5)، وذكروه على التسليم. وأحْسب الوهْم دخل على من نسب ردَّ الزيادة لأبي حنيفة، من جهة مذْهبه في النَّصَّين المستقلين، في أحدهما من الحُكم ما ليس في الآخر، ¬

(¬1) كما شرحته في كتاب " الأجوبة المرْضية " (ص: 17 _ 21). (¬2) العلل ومعرفة الرجال، رواية المرُّوذي (النص: 78). (¬3) البرهان، لإمام الحرمين (1/ 662)، المنخول، للغزالي (ص: 283)، المستصفى، له (ص: 194). (¬4) انظر: شرح مشكل الآثار، للطحاوي (12/ 440). (¬5) انظر: شرح فتح القدير، لابن الهمام (2/ 68).

يتراخى أحدهما، فليس من مذهبه بناء المطلق على المقيد ولا العام على الخاص في هذه الحالة، وإنما يرى المتأخر منهما ناسخاً، وإلا تعارضا، في تفصيل يُعرف من أصول مذهبه (¬1). وليست هذه المسألة من باب زيادة الثقة في الحديث الواحد المعين. وكذلك الشأن عنْد أهل الصنعة، أهل الحديث، فإن الزيادة في المتن عندهم مَقبولة إذا كانَ من جاء بها ثِقة مُتقنا، لم يَقم دليل على وهمه فيها. فكذلك كان أحمد بن حنبل يرى، كما سيأتي بعض قوله، وعلى ذلك جرى منهج الشيخين البُخاري ومسلم، فخرَّجا الكثير من مُتون الحديث يزيد الرُّواة فيها على بعضهم، يُصححان كل ذلك. وسأل عبدُ الرحمن بنُ أبي حاتم أباه وأبا زُرعة عن حديث رواه أبو إسحاق السبيعي عن حارثة بن مُضرِّب في قصة ابن النواحة، الزيادة التي يزيد أبو عوانة أنه قال: " وكفَّلهم عشائرهم ": هو صحيح؟ فقالا: " رواه الثوري ولم يذكره هذه الزيادة، إلا أن أبا عوانة ثقة، وزيادة الثقة مقبولة " (¬2). ¬

(¬1) انظر: شرح التلويح على التوضيح، للسعد التفتازاني (2/ 36)، و: كشف الأسرار عن أصول البزدوي، لعلاء الدين البخاري (3/ 110 _ 112). (¬2) علل الحديث لابن أبي حاتم (رقم: 1397) ومن قول أبي حاتم في قبول الزيادة أيضاً (رقم: 361). وقصة ابنِ النواحة هذه صحيحة الإسناد، أخرجهما البيهقي في " الكبرى " (6/ 77 و 8/ 206) والخطيب في " الموضح لأوهام الجمع والتفريق " (2/ 107 _ 108) من طريق أبي عوانة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضرِّب، قال: صليت الغداة مع عبد الله بن مسعود، فذكر الحديث، وفيه الزيادة المذكورة من قول جَرير بن عبد الله والأشعث بن قيس، فيما أشارا به على ابن مسعود. وعلق الزيادة المشار إليها البخاري في " صحيحه " في (كتاب الكفالة) (2/ 801). والتحقيق أن أبا عوانة لم يتفرد بها عن أبي إسحاق، بل تابعه عليها: إسرائيل بن يونس. فيما أخرجه الطحاوي في " شرح المشكل " (11/ 312 _ 313). والحديث بدونها رواه الأعمش وسُفيان الثوري وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق، في تفصيل له محلٌّ آخر.

وذكر الخطيب في قبول الزيادة من الثقة أو ردّها من متن الخبر مذاهب، ورجح منها قول الجُمهور، وهو: أن الزيادة الواردة في متن خبر مقبولة مُطلقاً، ومعمولٌ بها، إذا كان راويها عدْلاً حافظاً ومُتقناً ضابطاً (¬1). والوجه في قبولها: أن الثقة إذا انفرد بحديث لم يأت به غيره، فهو صحيح مُحتجٌّ به، فإذا كانَ يُقبل تفرده بالحديث، فتفرَّده بالزيادة أولى بالقبول. كما نقل صالحُ بن أحمد عن أبيه في زيادةِ (من المسلمين) في حديثِ ابن عمر في زكاة الفِطر، قال: " قد أنكر على مالك هذا الحديث، ومالكٌ إذا انفرد بحديث فهو ثقة، وما قال أحدٌ ممن قال بالرأي أثْبتَ منه في الحديث " (¬2). فهو يقول: إذا انفرد بحديث فهو ثقة، فكذلك يَجب أن تُقبل الزيادة يتفرد بها. فإن قيل: الحديث الواحد يُمكن أن يَسْمعه الراوي دون أن يُشاركه أحدٌ، أما الزيادة في متن حديث مَسموع لغيره كما هو مسموع له، لا يحفظ فيه ذلك الغير تلك الزيادة، فيَنبغي أن يكون دليلاً على خطئها. قيل: كلاَّ، وذلك لوُجوه، منها: أولاً: مَظنة أن يكون الراوي يُحدث بالحديث في الأحوال والأزمانِ المختلفة واقعٌ صحيحٌ، فتحديثه بالحديث تارة ببعض الاختصار وتارة بالتمام غير ممتنع (¬3)، فسمعه النقلة على الوجهين. ثانيا: كما أنه لا يَمتنع أن يحضر الجماعة المجلس الواحد، فيسمعوا ¬

(¬1) الكفاية (ص: 597)، وانظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (2/ 90 _ 91). (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه صالح (النص: 1160). (¬3) ذكر معنى هذا الخطيب في " الكفاية " (ص: 598).

الحديث جميعاً، فيحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر، وإذا جاز أن يَسمع الراوي الحديث فينساه كله، فأولى من ذلك صِحة احتمال نِِسيان بعضه. ثالثاً: وكذلك فإن بعض الرواة عن ذلك الشيخ قد يَعمد إلى اختصار الحديث، فلا يجوز أن يكون صنيعه قادحاً في رواية من جاء بلفظ أتم من لفظه. وللزَّيْلعي في زيادة الثقات في المتون تفصيل مُعتبرٌ، يؤيد ما تقدم من أن القبولَ مَشروطٌ بإتقان الراوي لها، وعدم خطئه فيها، فإنه قال في شأن زيادة ذكْر البَسملة في حديث أبي هريرة من رواية نُعيم المُجمر عنه: " فإن قيل: قدْ رواها نُعيم المجمر، وهو ثقةٌ، والزيادة من الثقة مقْبولة. قلنا: ليس ذلك مُجمعاً عليه، بل فيه خلاف مَشهورٌ: فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مُطلقاً، ومنهم من لا يَقبلها، والصحيح التفصيل، وهوَ أنها تُقبل في موضعٍ دون موضع. فتُقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثِقةً حافظاً ثبْتاً، والذي لم يذكرها مثله، أو دونه في الثقة، كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس، قوله: " من المسلمين " في صدقة الفِطر، واحتج بها أكثر العلماء. وتُقبل في موْضع آخر لقرائن تخصها. ومن حكم في ذلك حُكماً عاماً فقد غلط، بل كلُّ زيادة لها حكم يخصها، ففي مَوْضعٍ يُجزم بِصِحَّتها، كزيادة مالك. وفي موضع يغلب على الظن صحتها، كزيادة سَعْد بن طارق في حديث: " جُعلت الأرْضُ مسْجداً، وجعلت ترْبتُها لنا طَهُوراً "، وكزيادة سُليمان التميمي في حديث أبي موسى: " وإذا قرأ فأنصتوا ". وفي موضع يُجزم بخطأ الزيادة، كزيادة مَعمر ومن وافقه، قوله: " وإن كانَ مائِعاَ فلا تقْربوه "، وكزيادة عبد الله بن زياد ذِكْر البسملة في حديث:

" قسمت الصلاة بيني وبين عبْدي نصْفين "، وإن كان مَعْمرٌ ثقةً، وعبد الله بن زياد ضعيفاَ، فإن الثقة قد يَغلط. وفي موضع يَغلب على الظن خطؤها، كزيادة مَعمرٍ في حديث ماعز " الصلاة عليه "، رواها البُخاري في (صحيحه)، وسُئل هل رواها غيرُ معْمر؟ فقال: لا، وقد رواه أصحاب السنن الأربعة عن معمر، وقال فيه: " ولم يُصلِّ عليه "، فقد اختلف على معمرٍ في ذلك، والراوي عن معمرٍ هو عبد الرزاق وقد اختلف عليه أيضاً، والصواب أنه قال: " ولم يُصلِّ عليه ". وفي موْضع يُتوقف في الزيادة، كما في أحاديث كثيرة. وزيادة نُعيم المُجمر التسمية في هذا الحديث مما يُتوقف فيه، بلْ يغلب على الظن ضَعفه " (¬1). قلت: قد يناقش الزَّيْلعي في بعض ما مثَّل به، ولكن ما أشار إليه من عدم تنزيل الزيادة من الثقة منزلة القبول مُطلقاً، صحيحٌ في الجملة. تنبيهان: التنبيه الأول: الراوي يبلغه الحديث أو يسمعه بواسطة عن شيخٍ، ثُم يلقى ذلك الشيخ فيحمله عنه بعُلوِّ دون واسِطة، فيقع تَحديثه به تارة بالواسطة، وتارة بعَدمها. هذه الصورة إذا انتفت فيها شُبهة الغلط، فالحديث مَحفوظ من الوجهين، ولا يُعدُّ ذلك اختلافاً مؤثراً. لكن يجب أن يكون مَحلُّ وقوع الاختلاف على الراوي نَفسه، ومن اختلفا أو اختلفوا عليه ثقتان أو ثقاتٌ، وهو ثقةٌ كذلك، أماَّ إذا وقع الاختلاف بين النقلة في طبقة أدنى من طبقةِ من روى عن ذلك الشيخِ، فمَظنةُ الغلط أرْجح. ¬

(¬1) نصب الراية (1/ 336 _ 337).

مثال هذه المسألة: ما رواه يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، أنه بَلغه، أن نوْفل بن معاوية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من الصلاة صَلاةُ، من فاتته فكأنما وُتر أهله وماله "، قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هي صلاة العصر " (¬1). ورواه جعفر بن ربيعة، أنَّ عِراك بن مالك حدثه، أن نَوْفل بن معاوية حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من فاتته صلاة العصْر فكأنما وُتر أهله وماله " (¬2). قال الخطيب: " والحُكم يوجب القَضاء في هذا الحديث لجعفر بن ربيعة بثبوت إيصاله الحديث؛ لثقته وضبطه، ورواية الليث (¬3) ليست تكذيباً له؛ لجواز أن يكون عِراك بلغه هذا الحديث عن نوفل بن معاوية، ثم سمعه منه بعد، فرواه على الوجهين جميعاً " (¬4). التنبيه الثاني: قال ابن حبان: " لا نقبل شيئاً منها إلا عمن كان الغالب عليه الفقه، حتى يُعلم أنه كان يرْوى الشيء ويَعلمه، حتى لا يُشك فيه أنه أزاله عن سننه أو غيَّره عن معناه، أم لا " (¬5). قلت: هذا مما انفرد به ابن حبان، واشترط ثِقة الناقل وعدم الدليل على وهمه فيما زاد يدفع المظِنة التي ذكرها ابن حبان. ¬

(¬1) أخرجه النسائي (رقم: 479) والخطيب في " الكفاية " (ص: 583) من طريق الليث ابن سعد، عن يزيد، به. (¬2) أخرجه النسائي (رقم: 478) والبيهقي في " الشعب " (رقم: 2846) والخطيب في " الكفاية " (ص: 583 _ 584) من طريق حَيوة بن شريح، أنبأنا جعفر، به. (¬3) يعني ابن سعد راويه عن يزيد بن أبي حبيب. (¬4) الكفاية (ص: 584). (¬5) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 159).

المبحث الثالث: التعليل بالمخالفة

المبحث الثالث: التعليل بالمخالفة لعدم الوُضوح في تحرير أصول هذا العلم، ولِما يَقع من إطلاق النُّقاد لعبادة: (رواه فلان وفلان، وخالف فلان)، صارت عِبارة (مُخالفة) كأنها حقيقة في كل علِّة تقع بسبب مجيء الرواة بالحديث على أكثر من وجه، وليس كذلك، بل الحديث قد يأتي على وَجهين، كأن يُروى مُتصلاً ومُرسلاً، أو مرفوعاً وموقوفاً، ويُسمى الناقد ذلك مُخالفة، أو اختلافاً، وهو كذلك بالنظر إلى صورته: أن جاء هذا على وجهٍ، لكن ليس بين النَّقص والزيادة تعارضُ أصْلاً، إذ الرواية بالزيادة في الأصل تضمنت الرواية الناقصة مع مَزيد فائدة، فغاية ما يحتاج إلى تحقيقه، هو: هل هذه الزيادة مما يُقبل أم لا؟ على ما تقدم في المبحث السابق. والمخالفة الواقعة من الثِّقات أنواع: النوع الأول: الشذوذ وهو مُخالفة الثقة لمن هو أقوى منه، على ما سيأتي في (الحديث الشاذ) (¬1). ¬

(¬1) في القسم الثاني من هذا الكتاب، وهناك بيانُه بتفصيل وذكرُ أمثلته.

النوع الثاني: مخالفة القرآن

والواجب حصْرها بالمخالفة التي لا وجه لها، وقامت الحُجة على الخطأ فيها، لتعذّر جمعها إلى رواية الأحفظ. النوع الثاني: مُخالفة القرآن اعلم أنه يُخطئ على هذا العلم من أقام المعارضة بين القرآن والحديث يَزعم صِحته، فالمفارقة بين طريقي نقلهما كافيةٌ للقضاء أن لا يوجد حديث يقوم لمعارضة القرآن. لذا ما يُمكن تصور وُجوده من ذلك إن كان ظاهرُه الصحة نقلاً، فلا يَخلو من أحد حاليين: الأول: أن تكون المعارضة بينه وبين القرآن لا تعدو أن تكون غلطاً من مُدعيها، لا غلطاً في نفس الأمر، وهذا يكون تارةً وهْماً، وتارة هوىً. والثاني: أن تكون مُعارضة حقيقة، وعندئذ لا يَسلم الإسناد من علةٍ خفيَّة. والمقصود: منع وُقوع التعارض الحقيقي بين آية من كتاب الله، وحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا على معنى وُجود النسخ، وواقع الحال: امتناع أن يأتي حديث يَسلمُ من علةٍ، يُعارض آية من كتاب الله، وإنما توجد أمْثلة من الحديث يحسبها بعْض المشتغلين بالحديث صحيحة، ولم يقفوا على عِللها، ووجدها غيرُهم مما يخالف القرآن. وعرض الحديث على القرآن طريقٌ من طُرق فحصه، اعتبره أئمة هذا العلم وبنوا عليه التعليل لبعض الحديث الآتي على خلافه. وقد روي في اتباع هذا المنهج في عرض الحديث على القرآن حديثٌ ضعيف. فعن عليِّ بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها تكون بعدي

رُواةٌ يرون عني الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن فُخُذوا به، وما لم يُوافق القرآن فلا تأخذوا به " (¬1). كما روي معناه من وُجود أخرى، ولا يثبت في هذا خبرٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). ولسْنا بحاجة إلى مثله لإقرار صِحة هذا المنهج، فإن القرآن حكمٌ ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني في " سننه " (4/ 208 _ 209) من طريق جُبارة بن المغلس، والهروي في " ذم الكلام " (ص: 170) من طريق أبي كُريب محمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن زِر بن حبيش، عن علي بن أبي طالب، به. قال الدارقطني: " هذا وهْم، والصواب عن عاصم عن زيد عن علي بن الحسين مُرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ". قلت: وعلته من جهة ضَعف حفظ أبي بكر بن عياش، ولذا حكم الدارقطني بوهم هذا الإسناد. كما أخرج ابن حزم في " الإحكام " (2/ 76) من وجه آخر عن علي، وإسناده واهٍ. (¬2) رُوي فيه كذلك من حديث ثوبان وعبد الله بن عمر، فأما حديث ثوبان، فعنْه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إن رَحى الإسلام دائرة "، قال: فكيف يُصنع يا رسول الله؟ قال: " اعرضوا حديثي على الكتاب، فما وافقه فهو مني، وأنا قلته ". أخرجه الطبراني في " الكبير " (2/ 94 رقم: 1429) وفيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو منكر الحديث عن أبي الأشعث. وأما حديث ابنِ عُمر، فأخرجه الطبراني كذلك (12/ 316 رقم: 13224) عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سُئلت اليهود عن موسى، فأكثروا، وزادوا، ونقصوا، حتى كفروا، وسُئلت النصارى عن عيسى، فأكثروا فيه، وزادوا، ونقصوا، حتى كفروا، وإنه سَيفشو عني أحاديث، فما أتاكم من حديثي فاقرأوا كِتاب الله واعْتبروه، فما وافق كتاب الله فأنا قُلته، وما لم يُوافق كتاب الله فلم أقله ". قلت: وفي إسناده أبو حاضرٍ يرويه عن الوَضين بن عطاء، قال أبو حاتم الرازي: " مجهول " (علل الحديث 2/ 133)، وسماه غيرُ واحد من الأئمة (عبد الملك بن عبد ربِّه) وقال الذهبي في " الميزان " (2/ 658): " منكر الحديث، وله عن الوليد بن مسلم خبرٌ موضوع "، وذكره ابنُ حبان في " ثقاته " (7/ 99) فلم يُصب. كما رُوي فيه بعض المراسيل، لم تقتصر عِللها على الإرْسال، إنما في أسانيدها من العلل سِواه.

على ما سواه، ووجدْنا في صنيع بَعْض أعيان أئمة الصحابة من استعمل هذا المنهج في نقد الروايات. وذلك مثل: ما صحَّ عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين حدثت فاطمة بنْت قيسٍ بقصتها في سُكنى المطلقة: فعن أبي إسحاق السبيعي، عن الشعبي، عن فاطمة بنْت قيس، قالت: طلقني زوجي، فأردت النُّقلة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " انْتقلي إلى بيت ابن عمك عمْرو بن أم مكتوم، فاعتدَّي فيه ". فحصبه (¬1) الأسود، وقال ويْلك، لم تُفتي بمثل هذا؟ قال عمر: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة: {لا تُخرجوهنَّ من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة بينة} [الطلاق: 1] (¬2). ¬

(¬1) هذا من قوْل أبي إسحاق، والأسود هو ابن يزيد النخعي، حَصبَ عامراً الشعبي حين حدَّث بهذا. (¬2) حديث صحيح. أخرجه بهذا السياق النسائي في " الكبرى " (رقم: 5743) وأبو عوانة (رقم: 4617) من طريق الأحوص بن جوَّاب، قال: حدثنا عمار بن رُزيق، عن أبي إسحاق، به. وإسناده جيد. وتابع الأحوص عليه: قبيصَة بن عقبة، عند أبي عوانة (رقم: 4618) والدارقطني (34/ 26) مثله. ويحيى بن آدم عند الدارقطني أيضاً وأبي نُعيم (رقم: 3504) بنحوه. كذلك تابعهم: أبو أحمد الزُّبيري، عند مسلم في " صحيحه " (2/ 1118 _ 1119) وأبي داود (رقم: 2291) وأبي عوانة (رقم: 4615، 4616) والطحاوي في (شرح المعاني) (3/ 67) والدارقطني (4/ 25) وأبي نعيم (رقم 3504) والبيهقي في " الكبرى " (7/ 475)، وفي لفظه: " لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة ". لكنَّ ذكرَ (السنة) أعله الدارقطني، من أجل تفرُّد أبي أحمد الزبيري دون سائر من رواه، غير أني وجدت في سياق رواية يحيى بن آدم عند أبي نعيم في " المستخرج " ما يُوافقها. وانظر تعليل الدارقطني في: " السُّنن " (4/ 26) و " العلل " (2/ 141). كما رواه سُليمان بن معاذ الضبي عن أبي إسحاق، بنحو رواية الأحوص، دون ذكر (السنة)، أخرجه أبو نعيم (رقم: 3505)، لكن سُليمان هذا لين الحديث. وحسِبَ بعْض الناس أن سبب رد عمرَ رواية فاطمة من أجل كونها امرأة، وليس كذلك، فقد قبل عمر وغيره روايات النساء كعائشة وغيرها، ولا معنى للتعليل بكونها امرأة، وإنما حين عرض ما روت على القرآن، قامت عنْده الشبْهة في قبول رواية تأتي في ظاهرها على خلاف عموم دلالة القرآن، لذا قال في رواية أبي أحمد: " لا ندري لعلها حَفظت أو نسيت "، وطلب على قولها شاهدين، وهذا قد فعل عمر نظيره في رواية بعضِ الرجال من الصحابة، كأبي موسى الأشعري في قصة الإستئذان.

وكانت أم المؤمنين عائشة تعرض ما يبلغها من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتاب الله، وكانت ترد من ذلك ما يأتي على خلاف القرآن، في وقائع عدة. كقصتها في تخطئة عمر وابنه عبد الله عندما حدثا عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه "، فقالت عائشة: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهل عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهل عليه "، وقالت: حسبكم القرآن: {ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى} [الإسراء: 15]. وقالت في رواية: إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ (¬1). وعن عروة بن الزبير، قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه "، فقالت: وَهل (¬2)، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن "، وذاك مثل قوله (¬3): إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بدر من المشركين، فقال لهم ما قال: " إنهم ليسمعون ما أقول "، وقد وهل، إنما قال: " إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق " ثم ¬

(¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 1226) ومُسلم (2/ 640 _ 642)، والرواية الأخرى له. (¬2) أي: غلط ونسي. (¬3) تعني ابن عمر.

قرأت: {إنك لا تسمع الموتى} الآية [النمل: 80]، {وما أنت بمسمع من في القبور} [فاطر: 22] (¬1). قلت: في هذا الذي استدركته عائشة في الجملة مناقشة وكلام، ولكن المقصود أن من أعيان الصحابة من كان يعرض ما يبلغه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن، ولا يقبل منها ما أتى على خلافه. وسئل الأوزاعي: أكل ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقبله؟ فقال: " نقبل منه ما صدقه كتاب الله عز وجل، فهو منه، وما خالفه فليس منه "، فقيل له: إن الثقات جاءوا به؟ قال: " فإن كان الثقات حملوه عن غير الثقات؟ " (¬2). ومن أمثلته في نظر المتقدمين ما سأذكره عن الشافعي في النوع التالي. ... وتعليل بعض أهل العلم لحديث أبي هريرة، قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الأثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل " (¬3). فهذا رده جماعة من محققي الأئمة، وأقوى مستند في رده معارضة القرآن، فإنه إذا استثني اليوم السابع في خلق آدم، فإن الحديث دل على أن الأرض خلقت في ستة أيام، والله عز وجل يقول في كتابه: {قل أئِنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} [فصلت: 9، 10]، أي فعدة مدة خلق الأرض بما فيها أربعة ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم: 932). (¬2) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه " (1/ 271) وإسناده جيد. (¬3) أخرجه مسلم في " صحيحه " (رقم: 2789).

النوع الثالث: مخالفة المعروف من السنن النبوية

أيام، لقوله من بعد في مدة خلق السماوات: {فقضاهنَّ سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها} [فصلت: 12]، فهذه ستة أيام لخلق السماوات والأرض، كما قطع بذلك القرآن العزيز في مواضع، كقوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38]. وأبان البخاري أن الوهم من الثقة دخل فيه من جهة أن بعض الرواة أخطأ، فهذا مما حمله أبو هريرة عن كعب الأحبار، وليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال البخاري: " وقال بعضهم: عن أبي هريرة، عن كعب، وهو أصح " (¬1)، وأعله غيره بغير ذلك (¬2). النوع الثالث: مخالفة المعروف من السنن النبوية وهذا طريق يكشف به إتقان الرواة وحفظهم: أن يقارن حديث الراوي بالمحفوظ المعروف من روايات غيره، كما بينته في (الجرح والتعديل)، وكذلك هو طريق يكشف به وهم الثقة. مثاله: عرض الروايات المختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة صلاة الكسوف، على السنن المحفوظة عنه أنه صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان، كما صح من حديث عائشة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وغيرهم. ورويت فيها صفات غير ذلك من طريق بعض الثقات، لكنها لا تصح، من أجل خلافها للمحفوظ من السنة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى في حياته الكسوف مرة واحدة، ويمتنع تعدد الصفة لصلاة واحدة. ¬

(¬1) التاريخ الكبير (1/ 1 / 413 _ 414)، وحاول الشيخ عبد الرحمن المعلمي أن يذُبَّ عن الحديث في كتابه " الأنوار الكاشفة " في رده على أبي ريَّة (ص: 188 _ 193)، وفي بعض ما قاله تكلف. (¬2) انظر الأسماء والصفات، للبيهقي (2/ 251).

ومن عمل الأئمة بهذا الأصل قول الشافعي وقد استدل بالمحفوظ من السنة أن لا يقطع الصلاة شيء: " فإن قال قائل: فقد روي أن مرور الكلب والحمار يفسد صلاة المصلي إذا مرا بين يديه. قيل: لا يجوز إذا روي حديث واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقطع الصلاة: المرأة، والكلب، والحمار " (¬1) وكان مخالفاً لهذا الأحاديث، فكان كل واحد منها أثبت منه، ومعها ظاهر القرآن، أن يترك إن كان ثابتاً، إلا بأن يكون منسوخاً، ونحن لا نعلم المنسوخ حتى نعلم الآخر، ولسنا نعلم الآخر، أو يرد ما يكون غير محفوظ ". قال: " وهو عندنا غير محفوظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وعائشة بينه وبين القبلة (¬2)، وصلى وهو حامل أمامة، يضعها في السجود ويرفعها في القيام (¬3)، ولو كان ذلك يقطع صلاته لم يفعل واحداً من الأمرين، وصلى إلى غير سترة (¬4)، وكل واحد من هذين الحديثين يرد ذلك الحديث؛ لأنه حديث واحد، وإن أخذت فيه أشياء. فإن قيل: فما يدل عليه كتاب الله من هذا؟ قيل: قضاء الله أن {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء: 15]، والله أعلم: أنه لا يبطل عمل رجل ¬

(¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه " (رقم: 510) من حديث أبي ذر الغِفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قام أحدكم يُصلي فإنه يَستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مِثل آخرة الرحل فإنه يَقطع صلاته الحمار، والمرأة، والكلب الأسود "، قال عبد الله بن الصامت راويه عن أبي ذر: قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: " الكلب الأسْود شيْطان ". وله شاهد عند مسلم كذلك من حديث أبي هريرة. (¬2) سيأتي ذكره وتخريجه. (¬3) مُتفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 494، 5650) ومسلم (رقم: 543) من حديث أبي قتادة الأنصاري. (¬4) فيه عن عبد الله بن عباس، وأخيه الفَضل، والمطلب بن أبي وداعة، والحسن بن علي، وحديث ابن عباس فيها صحيح، بيّنتُ الجميع في الحلقة الأولى من كتاب " الأجوبة المرْضية " (ص: 22 _ 29).

النوع الرابع: مخالفة المحسوس

عمل غيره، وأن يكون سعي كل لنفسه وعليها، فلما كان هذا هكذا، لم يجزْ أن يكون مرور رجل يقطع صلاة غيره " (¬1). قلت: وسبقت عائشة أم المؤمنين الشافعي لترد ما بلغها في هذا الباب إلى ما تعلمه من حالها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعنها، وذكر عندها ما يقطع الصلاة: الكلب، والحمار، والمرأة، فقالت عائشة: قد شبهتمونا بالحمير والكلاب ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ (وفي رواية: إن المرأة لدابة سوء)، والله، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وإني على السرير، بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنسل من عند رجليه (¬2). قلت: وهذا المثال الذي ذكرته عن الشافعي محل مناقشة بين أهل العلم، لكنك رأيت من خلاله أنهم كانوا يردون الحديث الواحد من رواية الثقة إلى المحفوظ من السنن، ويجعلون من ذلك المحفوظ ميزان يزنون به رواية ذلك الثقة، فإن جاءت على خلاف المحفوظ جعلوا ذلك علة لها. وهذا يحتاج إلى تحوط شديد، كالذي ذكرته في العرض على القرآن، إذ لا يحل رد خبر الثقة بالمظنة الضعيفة، حتى تظهر حجة بينة فتكون تلك الحجة هي المعللة لروايته. النوع الرابع: مخالفة المحسوس والمقصود: أن تأتي رواية الثقة على خلاف المشاهد. وهذه الصورة من التعليل معدومة في أحاديث الثقات، ولا يؤخذ على ثقة أنه روى ما يخالف المحسوس. ¬

(¬1) اختلاف الحديث (ص: 139 _ 140). (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 486، 489، 492، 497) ومسلم (1/ 366)، والرواية الأخرى له.

لكن قد تشتبه بعض النصوص على قوم، يحسبونها تخالف الواقع المشاهد، وإنما ذلك أنهم أتوا من قبل أفهامهم أو أهوائهم، والدليل على خطئهم وجود المخالف لهم فيما يدعونه، وما يخالف المحسوس على سبيل اليقين لا يماري فيه أحد. وذلك مثل تعليل من ليس من أهل الصنعة لحديث أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لن يفلح قوم ولًّوا أمرهم امرأة " (¬1). فقال: الواقع شاهد بأن المرأة حكمت في بعض البلدان في الغابر والحاضر، وأفلح قومها بعقلها ورشدها، كبلقيس التي قصًّ الله تعالى نبأها مع نبيه سليمان، عليه السلام، وكيف صارت بقومها إلى الإسلام. وأقول: إذا كان هذا هو معنى الحديث، فله نصيب من هذا التعليل، ولكن الحديث ورد على سبب، فقد قال أبو بكرة في صدره: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال (فذكر الحديث). نعم، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن مراعاة السبب أصل لفهم مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، خصوصاً عند اشتباه المعنى، والعموم باق في مثل صورة السبب، وقوم كسرى بعد هلاكه ما رفع الله لهم ذكراً، ما أفلحوا حين ولوا ابنته، لما دعا عليهم به النبي صلى الله عليه وسلم (¬2)، ولقوله: " هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم: 4163، 6686). (¬2) فيما قاله الزهري: حسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزقوا كل مُمزق. أخرجه البخاري (رقم: 64 ومواضع أخرى) في آخر حديث ابن عباس في قصة بَعث النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى كسرى يَدعوه إلى الإسلام، فمزّق كِسرى الكتاب. وهذا المرسل مُعتَضِدٌ ببعض الطرق. (¬3) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 2864 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 2918) من حديث أبي هريرة.

فحديث أبي بكرة عام في قوم أشبهوا في الحال قوم كسرى فيما كتب الله عليهم من الهزيمة. وهكذا ربما اعترض بعض الناس من غير أهل الحديث على رواية الثقة الصحيحة، زعماً أنها على خلاف الواقع، وإنما وقعت له شبهة، أو قصد الطعن على السنن فحجب بسوء قصده عن الوقوف على المعنى. وليس من هذا النوع: أن يفسر العلم الحديث شيئاً من الخلق بتفسير علمي يدل عليه النظر والمشاهدة، وأن يكون له تفسير نبوي آخر لا يعرف مثله إلا عن طريق الوحي، ولا يتناقض في معناه مع التفسير العلمي. مثاله: حديث أبي ذر الغفاري، حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين غربت الشمس: " تدري أين تذهب؟ "، قلت الله ورسوله أعلم، قال: " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {والشمس تجري لمستقرٍ لها ذلك تقدير العزيز العليم} [يس: 38] " (¬1). قلت: فلا يصح الاعتراض على هذا الحديث الصحيح بالمشاهد، وهو أن الشمس لا تغيب إلا باعتبار البقعة المعينة من الأرض، وهو في الوقت الذي تغيب فيه عن موضع، تكون طالعة في موضع آخر، فمتى يكون ذهابها لتسجد عند العرش وتستأذن لطلوعها؟ وذلك أن أمر العرش غيب، وخضوع غير الإنسان لله وسجوده لله على صفة يعلمها الله ليست مما يدرك بالمشاهدة، والقرآن أثبت سجود المخلوقات جميعاً لله رب العالمين في مواضع منه، كما قال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثيرٌ حق عليه العذاب} [الحج: 18]. ¬

(¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 3027 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 159).

النوع الخامس: مخالفة العقل

والحديث لم يتحدث عن غياب للشمس بمعنى انقطاعها عن الأرض، وإنما اعتبر لها حالاً غيبيا عند غروبها عن محل من الأرض، هو السجود تحت العرش، وعلى اعتبار أن الشمس في حال غياب وطلوع دائم لما نعلمه من طبيعة الخلق فهي في سجود لله دائم، وفي استئذان للطلوع دائم، وذلك أنها مسيرة بأمره وتدبيره تبارك وتعالى. النوع الخامس: مخالفة العقل وهذا النوع ذكره تكميل من أجل تبيين وجهه؛ لأنه معدوم في روايات الثقات، إنما يوجد ما تتفق العقول على بطلانه في رواية الكذابين الذين حدثوا بالمستحيل. ولا وجه لافتراضه أصلا في روايات الثقات حيث كان الواقع ينفيه. وإنما يوجد في بعض الحديث ما لم تستوعب بعض العقول فهمه، تارة للجهل، وتارة للهوى والبدعة وبُغض السنن. ووقع مثل ذلك عن طوائف من الناس ردوا بمحض العقول نصوصاً تتصل بالغيب، كبعض نصوص الصفات واليوم الآخر، مما لم تنفرد به السنن الصحيحة، وإنما له في القرآن نظائر، وهذا مما لا يجوز أن يكون العقل فيه حاكماً على النص. وربما وقع من بعض العلماء استشكال معنى حديث صحيح، يحسبه أحدهم أتى على خلاف العقل في ظاهره، فيجتهد في تأويله لا في تعليله، وهذا وإن كان مما ينظر في أفراده وأمثلته، لكنه أقوم طريقاً من طريق من يسارع لرد الحديث وتعليله دون العمل على حمله على أحسن وجوهه. ومن أمثلة صنيع بعض العلماء: ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بالموت كهيئة

كبش أملح، فينادى مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت "، ثم قرأ: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة}، وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا، {وهم لا يؤمنون} [مريم: 39] (¬1). قال أبو بكر ابن العربي: " استشكل هذا الحديث لكونه يخالف صريح العقل؛ لأن الموت عرض، والعرض لا ينقلب جسما، فكيف يذبح؟ فأنكرت طائفة صحة هذا الحديث ودفعته، وتأولته طائفة، فقالوا هذا تمثيل، ولا ذبح هناك حقيقة، وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته، والمذبوح متولي الموت، وكلهم يعرفه؛ لأنه الذي تولى قبض أرواحهم " (¬2). قلت: والذي ألجأ إلى ظن مخالفة صريح العقل قياس الغيب على الشهادة، وأمر الآخرة غيب، وقص علينا ربنا تبارك وتعالى من شأنه، وكذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا يأتي على القياس، ولا تتصوره العقول، والله تعالى يخلق ما يشاء، ويحيل ما يشاء إلى ما يشاء، وليس في قدرته مستحيل والوقف عند النص هو اللائق هنا دون التأويل. وهكذا في جميع ما تظن بعض العقول أنه لا يأتي على مقاييسها من أخبار الثقات المتقنين، فإن بابه كباب هذا الحديث، أو يكون وجهه خفي على مدعي معارضته للعقول. ¬

(¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 4453) ومسلم (رقم: 2849). (¬2) نقله ابنُ حجر في " فتح الباري " (11/ 421).

خلاصة هذا المبحث:

خلاصة هذا المبحث: وقوع تعليل الحديث من رواية الثقات بأنواع المخالفة المتقدمة، حاصل في الأنواع الثلاثة الأولى: الشذوذ عن رواية الأقوى، ومخالفة القرآن، ومخالفة المعروف من السنن، على ما بينته بمثاله، دون اعتقاد كثرة وقوعه، بل هو نادر قليل في أحاديث الثقات، والنوع الأول أكثره. وأما التعليل بالمخالفة للمحسوس، والعقل، فلا يوجد له مثال في روايات الثقات. وما يقع أحياناً من الإشكال في دلالة بعض نصوص الأحاديث الصحيحة، فشبيه بما يقع من الإشكال في دلالة بعض آيات الكتاب، ينظر وجهه ومعناه، ويؤلف بينه، وبدفع ما يبدو من تعارض الظاهر برده إلى المحكم، وحمل معناه عليه. ولم يزل علماء الأمة يعنون بهذا، فيما ألفوه في مشكل الحديث مفرداً، أو ما ضمن في شروحه، واستحضر دائماً قول الله عز وجل: {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: 76]، وقوله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83]. * * *

المبحث الرابع: التعليل بالاختلاف

المبحث الرابع: التعليل بالاختلاف معنى الاختلاف على الراوي: قال أبو داود السجستاني: " أسند الزهري أكثر من ألف حديث عن الثقات، وحديث الزهري كله ألفا حديث ومئتا حديث، النصف منها مسند،. . . وأما ما اختلفوا عليه؛ فلا يكون خمسين حديثاً، والاختلاف عندنا ما تفرد قوم على شيء وقوم على شيء " (¬1). قلت: هذا يبين معنى الاختلاف على الراوي عند أئمة هذا الشأن، فالزهري حافظ كثير الحديث، وأصحابه الذين رووا عنه الحديث خلق كثير، وهم درجات في حفظهم، والثقات المتقنون عنه كمالك بن أنس ويونس بن يزيد الأيلي وعقيل بن خالد وسفيان بن عيينة ومعمر بن راشد وشعيب بن أبي حمزة، وغيرهم، ربما اختلفوا عنه في الرواية، وصلاً وإرسالاً، أو رفعاً ووفقاً، أو على إسنادين مختلفين، أو غير ذلك. وقبل ذكر صور الاختلاف على الراوي، يجب أن تعلم أنه ليس كل اختلاف في الرواية يكون قادحاً مؤثراً في صحتها، وإنما الاختلاف بهذا الاعتبار قسمان: ¬

(¬1) تهذيب الكمال (26/ 431).

القسم الأول: اختلاف غير قادح

القسم الأول: اختلاف غير قادح. ولهذا صور، منها: الصورة الأولى: أن تتكافأ الطرق قوة عن راو ثقة، يروي حديثاً، فيقول فيه مرة: (عن فلان)، ومرة: (عن رجل آخر)، لا على سبيل الشك، وإنما افتراق الوجهان بافتراق طرق كل عن ذلك الثقة. مثل أن يروي بعض أصحاب سهيل بن أبي صالح حديثاً عنه عن أبيه عن أبي هريرة، وغيرهم عنه عن أبيه عن أبي سعيد. فهذا لا يخلو من واحد من احتمالين: أولهما: أن يكون صوابه من أحد الوجهين، فيكون أخطأ فيه ذلك الثقة، وقد يترجح الصواب بعينه بقرينة، فيصار إليه، وقد لا يترجح شيء، فتقبل الرواية أيضاً؛ لأنه غاية أمرها أن تكون محفوظة بأحد الإسنادين. وثانيهما: أن يكون محفوظاً من الوجهين جميعاً. وهذا طريق لا يصار إليه إلا إذا كان ذلك الثقة ممن لا يعاب من مثله تعدد الأسانيد، من مثل الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، ومنصور بن المعتمر، وشبههم. وطائفة من المتأخرين يصيرون إلى ترجيح الاحتمال الثاني، بعضهم يقول: " ذلك أولى من تخطئة الثقة "، وبعضهم يجعله منه من أجل ثقته قوة للحديث أن حفظه من وجهين. كما قال ابن حزم في مثل هذا: " هذا قوة للحديث وزيادة في د لائل صحته ". فقال مثلاً في المثال المذكور: " في الممكن أن يكون أبو صالح سمع الحديث من أبي هريرة، ومن أبي سعيد، فيرويه مرة عن هذا، ومرة عن هذا " (¬1). ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 149).

والتحقيق: أنه لا يكون علة قادحة؛ من أجل أن كلا الاحتمالين لا يمنع القول بثبوت الحديث. ومن أمثلة ما يقوى فيه ترجيح الاحتمال الثاني: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء، واطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ". رواه أبو رجاء العطاردي، فاختلف عنه، فرواه عوف بن أبي جميلة وسلم بن زرير وقتادة وأيوب السختياني من طريق صحيح عن أبي رجاء عن عمران بن حصين. ورواه أيوب السختياني في أكثر الطرق عنه وأبو الأشهب جعفر بن حيان وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن نجيح وصخر بن جويرية عن أبي رجاء عن ابن عباس. وأخرج الحديث الشيخان: البخاري من حديث عمران بن حصين (¬1)، ومسلم من حديث ابن عباس (¬2). وقال الترمذي: " كلا الإسنادين ليس فيهما مقال، ويحتمل أن يكون أبو رجاء سمع منهما جميعاً " (¬3). ورواه أبو داود الطيالسي فقال: حدثنا أبو الأشهب، وجرير بن حازم، وسلم بن زرير، وحماد بن نجيح، وصخر بن جويرية، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، وابن عباس، رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، به (¬4). قلت: وهذا _ فيما أرى _ من صنيع أبي داود أشبه، حمل رواية بعضهم على بعض، وهو مرجح لما ذهب إليه الترمذي. ¬

(¬1) صحيح البُخاري (رقم: 3069، 4902، 6084، 6180). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 2737). (¬3) جامع الترمذي (بعد الحديث رقم: 2603). (¬4) مُسند الطيالسي (رقم: 833).

الصورة الثانية: أن يروي الحفاظ الأثبات عن ثقة حديثا معين، وينفرد عنهم متقن بإسناد آخر

الصورة الثانية: أن يروي الحفاظ الأثبات عن ثقة حديثاً بإسناد معين، وينفرد ثقة متقن عنهم، فيرويه عن ذلك الثقة بإسناد آخر للحديث. مثاله: ما رواه عامة أصحاب الأعمش عنه، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم في سؤال اليهود إياه عن الروح، ونزول قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح}. كذلك قال في إسناده عن الأعمش: وكيع بن الجراح، وأبو معاوية الضرير، وحفص بن غياث، وعيسى بن يونس، وعبد الواحد بن زياد، وغيرهم (¬1) وهؤلاء من الحفاظ الأثبات من أصحاب الأعمش. خالفهم عبد الله بن إدريس الأودي، فقال: عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود، به (¬2). وابن إدريس ثقة حافظ لا يختلف فيه. وهذه الرواية تختلف عن الأولى، لكنها لا تناقضها، ويخاف من مثلها من راو صد وق لم يعرف بمتانة الحفظ، أو كان ثقة قليل الحديث، فلا يحتمل أن يأتي بمثل هذه المخالفة؛ لعدم تبين إتقانه لمثلها لقلة ما جاء به، بل ربما كان مجيء مثل هذه الرواية عنه دليلاً على لينه. أما من ثبت كونه من الثقات المتقنين المكثرين، فالأصل: أن نقبل ما ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 214، و 7/ 280 رقم: 3688، 4248) والبخاري (رقم: 125، 4444، 6867، 7018، 7024) ومسلم (رقم: 2794) والترمذي (رقم: 3141) والنسائي في " التفسير " (رقم: 319) والهيثم بن كليب الشاشي (رقم: 369) وأبو يعلى (9/ 267 رقم: 5390) والبزار (رقم: 1529) وابن أبي عاصم في " السنة " (رقم: 592، 593) وابن جرير في " تفسيره " (15/ 155) والطبراني في " الصغير " (رقم: 981) وابن حبان (رقم: 98) والواحدي في " أسباب النزول " (ص: 299) من طرق عِدة عن الأعمش. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". (¬2) أخرجه أحمد وابنه عبد الله (7/ 13 رقم: 3898) ومسلم (4/ 2153) وابن أبي عاصم في " السنة " (رقم: 593، 594) وابن حبان (رقم: 97).

روى حتى يقوم دليل على خطئه، وليس مما يدل على خطئه أن يستقل دون الجماعة بما لا يروونه، وإنما يروي ما يناقض رواية الجماعة، ولا يكون له مخرج سوى الحكم بخطئه أو بخطأ الجماعة، وحيث امتنع الثاني، فقد تعين الأول، وهو (الشذوذ) كما سيأتي. والدارقطني متشدد، وقد يعل رواية الثقة بمجرد المخالفة وإن لم تكن مناقضة لرواية من هو أولى منه، ولكنه قال في هذا الحديث وقد ذكر مخالفة ابن إدريس للجماعة: " ولعلهما صحيحان، وابن إدريس من الأثبات، ولم يتابع على هذا القول " (¬1). وهكذا دل صنيع مسلم حيث أخرج الحديث بالروايتين، وقال ابن حبان عقب إخراجه الحديث من رواية ابن إدريس التي تفرد بها: " ذكر البيان بأن الأعمش لم يكن بالمنفرد في سماع هذا الخبر من عبد الله بن مرة دون غيره " وساق روايته عن إبراهيم كما رواها عنه الجماعة، فأفاد تصحيح الخبر من الطريقين. بل في سياق رواية مسلم ما يشعر بوقوع الحديث لابن إدريس من الوجهين، حيث قال: " سمعت الأعمش يرويه عن عبد الله بن مرة " وذكر إسناده، فكأنه يقول: هذا الحديث الذي رواه الأعمش عن إبراهيم سمعته كذلك يرويه عن عبد الله بن مرة. وكذلك وجدته رواه عبد الله بن محمد الكرماني، وهو ثقة، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله (¬2). وهذه كرواية الجماعة، دلت على وقوع الحديث لابن إدريس من ¬

(¬1) العلل (5/ 252). (¬2) أخرجه الهيثم بن كليب في " مُسنده " (رقم: 370) قال: حدثنا ابن أبي خيثمة، حدثنا عبدُ الله بن محمد، به. وإسناده صحيح. وكذلك وقفت عليه منقولاً عن " تاريخ ابن أبي خيثمة " في " شرح العلل " لابن رجب (2/ 721).

الصورة الثالثة: أن يروي الحديث ثقتان، يختلفان في راوي يسميه أحدهما دون الآخر

الوجهين، والأعمش حافظ مكثر لا ينكر له حفظ الحديث من الوجهين. الصورة الثالثة: أن يروي الحديث ثقتان، يختلفان في راو في الإسناد، يسميه أحدهما ويبهمه الآخر. فهذا في التحقيق اختلاف غير مؤثر، إذ لا تضاد فيه، وإنما يؤثر الاختلاف الموجب للترجيح، أو التوقف، وأما في هذه الصورة فرواية من سمى قضت على رواية من أبهم، إذ الذي سمى قد حفظ علماً قصر عنه من أبهم. القسم الثاني: اختلاف قادح. وله صور أيضاً: الصورة الأولى: أن يروي الحفاظ الأثبات عن ثقة حديثاً بإسناد معين، وينفرد واحد دونهم في الحفظ، فيرويه عن ذلك الثقة بإسناد آخر للحديث. مثاله: ما رواه ابن شهاب الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، في كفارة المواقع امرأته في نهار رمضان. هكذا رواه الثقات المتقنون من أصحاب الزهري: مالك بن أنس، ومعمر بن راشد، وسفيان بن عيينة، وشعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد الأيلي، وعقيل بن خالد، وابن جريح، وإبراهيم بن سعد، ومنصور بن المعتمر، والأوزاعي، والليث بن سعد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعراك بن مالك، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، ومحمد بن أبي حفصة، وغيرهم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مالك في " الموطأ " (رقم: 815) والحميدي (رقم: 1008) وابن أبي شيبة (3/ 106) وأحمد (12/ 237 رقم: 7290، و 13/ 125، 196 رقم: 7692، 7785، و 16/ 403، 405 رقم: 10687، 10688) والدارمي (رقم: 1668) والبُخاري (رقم: 1834، 1835، 2460، 5053، 5737، 5812، 6331، 6333، 6435) وفي " التاريخ الأوسط " (1/ 432) ومسلم (رقم: 1111) وأبو داود (رقم: 2390 _ 2392) والترمذي (رقم: 724) والنسائي في " الكبرى " (رقم: 3114 _ 3119) وابن ماجة (رقم: 1671) وابن الجارود في " المنتقى " (رقم: 384) والطحاوي في " شرح المعاني " (2/ 60، 61) وابن خزيمة (رقم: 1943 _ 1945، 1949، 1950) وابن حِبان (رقم: 3524 _ 3527) والدارقطني (2/ 190) والبيهقي في " الكبرى " (4/ 221، 222، 224 _ 226) وابن عبد البر في " التمهيد " (7/ 173) من طرق كثيرة عن الزهري. قال الترمذي: " حديث حسنٌ صحيح ".

وخالفهم في إسناده: هشام بن سعد، فقال: عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة (¬1). وهشام ثقة في الجملة، لكن لمجيئه بمثل هذه الرواية عن الزهري ضعف فيه خاصة؛ ولذا: قال البخاري: " قال هشام بن سعد: عن الزهري، عن أبي سلمة، ولم يصح: أبو سلمة " (¬2). وقال ابن خزيمة: " هذا الإسناد وهم، الخبر عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن، هو الصحيح، لا عن أبي سلمة ". وقال العقيلي: " المحفوظ حديث حميد " (¬3). وقال ابن عدي في رواية هشام: " خطأ ". وقال الخليلي: " هذا أنكره الحفاظ قاطبة من حديث الزهري عن أبي سلمة؛ لأن أصحاب الزهري كلهم اتفقوا عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخي أبي سلمة، وليس هو من حديث أبي سلمة، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 2393) وابن خزيمة (رقم: 1954) والطحاوي في " شرح المعاني " (3/ 118) وأبو الشيخ في " طبقات الأصْبهانيِّين " (رقم: 962) وابن عدي في " الكامل " (8/ 411) والدارقطني (2/ 190) والبيهقي في " الكبرى " (4/ 226) وابن عبد البر في " التمهيد " (7/ 168، 175) من طرق عن هشام بن سعد، به. (¬2) التاريخ الأوسط (1/ 434). (¬3) الضعفاء (4/ 342).

الصورة الثانية: الاضطراب

ومنهم من رواه عن هشام عن الزهري مقطوعاً عن أبي هريرة، رواه هكذا وكيع (¬1)، قال أبو زرعة الرازي: أراد وكيع، رحمه الله، الستر على هشام، فأسقط أبا سلمة " (¬2). قلت: ولو كان من حفاظ أصحاب الزهري لاحتملنا له ما احتملناه لابن إدريس عن الأعمش. الصورة الثانية: الاضطراب. وذلك: بأن يختلف الجماعة من الثقات , ولا يقوم مع اختلافهم مرجح يصير إلى الحكم برواية على أخرى؛ لاستواء الثقات درجة واحدة. مثاله: ما نقله أبو داود السجستاني قال: سمعت أحمد بن محمد بن حنبل يقول: " اختلف شعبة وسعيد وهشام في حديث أنس: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضأون)، في اللفظ، وكلهم ثقات " (¬3). وساق أبو داود ألفاظهم، فلفظ شعبة عن قتادة عن أنس: (ينامون، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضأون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) , ولفظ سعيد بن أبي عروبة عنه: (يضعون جنوبهم، فينامون من يتوضأ، ومنهم من لا يتوضأ)، ولفظ هشام الدستوائي عنه: (ينتظرون العشاء الآخر حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضأون). قلت: فأعل أحمد بالاختلاف ولم يرجح، لثقة الرواة وتقارب درجاتهم في الحفظ. ¬

(¬1) أخرج هذه الرواية: العقيلي في " الضعفاء " (4/ 342). (¬2) الإرشاد (1/ 345 _ 346). (¬3) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 317).

الصورة الثالثة: أن يتفق الثقتان على حديث إسنادا ومتنا إلا في لفظة يتضادان فيها

وهذه صورة (المضطرب)، وهو قادح. الصورة الثالثة: أن يروي الثقتان حديثاً يتفقان فيه سنداً ومتناً، إلاًّ في لفظة، يرويها أحدهما على ضد ما يرويها الآخر. مثل: رواية عبد الله بن نمير، وهو من الثقات، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المسيء صلاته: " ثم اسْجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ". فذكر في القصة الجلوس بعد السجدة الثانية، وهذه الجلسة هي التي تسمى ب (جلسة الاستراحة). خالفه أبو أسامة حماد بن أسامة، وقد رواه عن عبيد الله بن عمر، فقال في لفظه: " ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ". فأسقط ذكر الجلسة من روايته، وبلفظ مخالف لإثباتها. ورجح البيهقي روايته على رواية ابن نمير؛ لأنه أثبت في الجملة منه. لكن وجدنا من القرائن ما بين الخطأ في رواية أبي أسامة، وذلك أن الرواية عنه قد اختلفت، فرواه عنه إسحاق بن منصور وهو ثقة حافظ بترك الجلسة، ورواه إسحاق بن راهويه موافقة لرواية ابن نمير، ولا سبيل إلى الطعن على من دون أبي أسامة، فلم يبق إلا الوهم عليه، كما وجدنا الترجيح لذلك بغير ذلك من القرائن (¬1). ¬

(¬1) الحديث بالاختلاف أخرجه البخاري في " صحيحه "، وذكرت طرفاً من شرح علته في كتابي " الأجوبة المرضية عن الأسئلة النجدية " (ص: 54 _ 55).

المبحث الخامس: التعليل بالغلط

المبحث الخامس: التعليل بالغلط ويأتي على أمثلة كثيرة، يندرج تحتها بعض ما تقدم، مما يعود إلى وهم الراوي الثقة، كالخطأ في الوصل أو الإرسال، أو الرفع أو الوقف، ومن أظهر ما يكون من علل الحديث، مما ترى التعليل به عند أئمة الشأن الصور التالية: الصورة الأولى: دخول حديث في حديث. قال علي بن المديني: " حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحرم من الرضاعة المصة والمصتان. رواه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الحجاج بن أبي الحجاج، عن أبي هريرة. وهذا غلط. ورواه يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه هشام بن عروة، عن أبيه، عن الحجاج بن أبي الحجاج، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال: غرة عبد أو أمة.

وحديث ابن إسحاق عندهم خطأ، وأدخل حديثاً في حديث. والحديث عندي حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحرم المصة والمصتان ". وحديث هشام بن عروة، عن الحجاج بن أبي الحجاج، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم " ما يذهب مذمة الرضاع ". وعن هشام بن عروة، عن الحجاج بن أبي الحجاج، عن أبي هريرة: الرضاع ما فتق الأمعاء. وقول أبي هريرة، وحديث الثلاثة صحاح، وحديث ابن إسحاق وهم " (¬1). ومن مثاله أيضاً ما حكاه أبو زرعة الدمشقي، قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن حديث أبي اليمان عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن أم حبيبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أريت ما تلقى أمتي من بعدي، وسفك بعضهم دم بعض، وكان ذلك سابقاً من الله عز وجل، فسألته أن يوليني شفاعة فيهم يوم القيامة، ففعل "؟. قال أبو عبد الله: " ليس له عن الزهري أصل "، وأخبرني أنه من حديث شعيب عن ابن أبي حسين، وقال لي: " كتاب شعيب عن ابن أبي حسين اختلط بكتاب الزهري، إذ كان به ملصقاً "، قال: " وبلغني أن أبا اليمان قد اتهم، وليس له أصل "، ورأيته كأنه يعذر أبا اليمان ولا يحمل. قال أبو زرعة: وقد سألت عنه أحمد بن صالح؟ فقال لي مثل قول أحمد: إنه لا أصل له عن الزهري (¬2). ¬

(¬1) العلل، لابن المديني (رقم: 126). (¬2) حديث أبي زُرعة الدمشقي (2/ 49 / أب مخطوط)، واسم ابن أبي حسين: عبد الله بن عبد الرحمن.

الصورة الثانية: التصحيف في الأسانيد والمتون

الصورة الثانية: التصحيف في الأسانيد والمتون. وهذا يقع في المتن وفي الإسناد، كما بينته في (الحديث المصحف). فمثاله في الإسناد: ما رواه زهير بن معاوية، عن واصل بن حيان البجلي، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الكمأة دواء العين، وإن العجوة من فاكهة الجنة، وإن هذه الحبة السوداء دواء من كل داء إلا الموت " (¬1). قلت: إسناد هذا الحديث ظاهره الصحة، ولكن الحال أن زهيراً قد تحرف عليه اسم شيخه فيه، وصوابه: (صالح بن حيان). بين ذلك جماعة من كبار الأئمة: قال أحمد بن حنبل وذكر صالح بن حيان: " غلط زهير في اسمه، فقال: واصل بن حيان " (¬2). وقال يحيى بن معين وذكر زهير بن معاوية: " يخطىء عن صالح بن حيان، يقول: واصل بن حيان، ولم يرَ واصل بن حيان " (¬3). وقال أبو حاتم الرازي وسأله ابنه عن هذا الحديث: " أخطأ زهير مع إتقانه، هذا هو صالح بن حيان، وليس هو واصل، وصالح بن حيان ليس بالقوي، هو شيخ، ولم يدرك زهير واصلاً " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (5/ 346). (¬2) سؤالات أبي داود (النص: 8). (¬3) تاريخ يحيى بن معين، رواية الدوري (النص: 2127)، وروى الآجري عن أبي داود عن يحيى نَحوه (سؤالاته، النص: 509). (¬4) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 2182).

قلت: وكذلك روى هذا الحديث عن صالح بن حيان: محمد بن عبيد الطنافسي (¬1)، وعبدة بن سليمان (¬2). ومثاله في المتن: ما روي عن حديج بن معاوية، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي هريرة وأبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الإيمان كلمات ". سأل ابن أبي حاتم الرازي أباه عنه؟ فقال: " خطأ، وإنما هو: ألا إنما هو كلمات: سبحان الله، والحمد لله. ورواه جماعة كثيرة عن حديج هكذا، ورواه إسرائيل عن أبي إسحاق، عن الأغر، عن أبي هريرة، وأبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كلمات من قالهن: سبحان الله، والحمد لله، الحديث ". قال أبو حاتم: " قال لنا أبو حصين (¬3): رأيت في كتاب أبي هذا الحديث: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الا)، وقد تآكل ما بعده، فجاء الرازيون فلقنوه: (الإيمان كلمات)، وإنما موضعه موضع دارس قد تآكل " (¬4). قلت: وهذا الحشو لموضع السقط أبدع للحديث معنى لم يأت به، كما لا يخفى. قلت: ومثل هذا نراه اليوم يقع كثيراً من كثير من المتعرضين لنشر كتب العلم ومصادر السنن، منهم من ينشأ تحريفه من سوء قراءته لنص الأصل، ومنهم من يقع له ذلك بسبب إقحامه على النص ما ليس منه، كتعليق في هامش المخطوط ليس لحقاً مصححاً، يدخله على النص، أو يزيد ¬

(¬1) أخرجه أحمد (5/ 351) والروياني (رقم: 23). (¬2) أخرجه ابن عدي (5/ 81). (¬3) اسمه: عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس، كوفي ثقة. (¬4) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1958 _ 1959).

من كتب التخرج والإحالة ما لم يكن في النص، وهذا من أقبح ما يكون، وقد رأينا من يخرج الحديث من كتاب آخر فيجده في الفرع المخرج عنه موصولاً، وهو في أصل الذي تحمل ثقل الأمانة فيه مرسل أو منقطع، فيزيد الوصل من فرع التخريج، فيجعله موصلاً، وقد يكون الإرسال في أصله علة للوصل في فرع التخريج. وكشف هذا النوع من أخطاء الثقات أيسر مما سواه من علل الحديث، كالقلب والوهم بمخالفة الثقات، أو التفرد عنهم بما تقوم الشبهة فيه. كما قال مسلم بن الحجاج: " الذي يدور به معرفة الخطأ في رواية ناقل الحديث إذا هم اختلفوا فيه من جهتين: أحدهما: أن ينقل الناقل حديثاً بإسناد، فينسب رجلاً مشهوراً بنسب في إسناد خبره خلاف نسبته التي هي نسبته، أو يسميه باسم سوى اسمه، فيكون خطأ ذلك غير خفي على أهل العلم حين يرد عليهم " (¬1). ومثل لذلك، فمن تلك الأمثلة (¬2): 1_ قول النعمان بن راشد: عن الزهري، عن أبي الطفيل عمرو بن واثلة. قال مسلم: " ومعلوم عند عوام أهل العلم أن اسم أبي الطفيل عامر، لا عمرو ". 2 _ قول مالك: عن الزهري: عن عباد، وهو من ولد المغيرة بن شعبة. قال مسلم: " وإنما هو عباد بن زياد بن أبي سفيان، معروف النسب عند أهل النسب، وليس من المغيرة بسبيل ". ¬

(¬1) التمييز (ص: 170). (¬2) انظر: التمييز (ص: 171).

الصورة الثالثة: القلب

3 _ رواية من روى حديث: " إن أبغض الناس إلى الله عز وجل ثلاثة: ملحد في الحرم " الحديث، فقال: " ملحد في الحرفة ". قال مسلم: " فهذه الجهة التي وصفنا من خطأ الإسناد ومتن الحديث هي أظهر الجهتين خطأ، وعارفوه في الناس أكثر. والجهة الأخرى: أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثاً عن مثل الزهري أو غيره من الأئمة، بإسناد واحد ومتن واحد، مجتمعون على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه، فيخالفهم في الإسناد، أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ، فيعلم حينئذ أن الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ دون الواحد المنفرد، وإن كان حافظاً. على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث مثل شعبة، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من أئمة أهل العلم " (¬1). الصورة الثالثة: القلب: وبينت معنى القلب في (الحديث المقلوب). ومن الأمثلة التي وقع فيها القلب في الإسناد، وتضمن غير نوع من العلل: ما رواه أبو الأحوص سلام بن سليم، عن سماك بن حرب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة بن نيار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشربوا في الظروف، ولا تسكروا " (¬2). ¬

(¬1) التمييز (ص: 172). (¬2) أخرجه ابنُ أبي شيبة (8/ 158)، والطيالسي (رقم: 1369) والنسائي (رقم: 5677) وابن قانع في " مُعجم الصحابة " (3/ 204) والطبراني في " الكبير " (22/ 198 رقم 522) والدارقطني في " السنن " (4/ 259) والبيهقي في " الكبرى " (8/ 298).

سأل ابن حاتم الرازي أبا زرعة عن هذا الحديث؟ فقال: " وهم أبو الأحوص فقال: عن سماك، عن القاسم، عن أبيه، عن أبي بردة، قلب من الإسناد موضعاً، وصحف في موضع، أما القلب فقوله: عن أبي بردة، أراد: عن ابن بريدة، ثم احتاج أن يقول ابن بريدة عن أبيه، فقلب الأسناد بأسره، وأفحش في الخطأ. وأفحشُ من ذلك وأشنع: تصحيفه في متنه: اشربوا في الظروف، ولا تسكروا. وقد روى هذا الحديث عن ابن بريدة عن أبيه: أبو سنان ضرار بن مرة، وزبيد اليامي، عن محارب بن دثار، وسماك بن حرب، والمغيرة بن سبيع، وعلقمة بن مرثد، والزبير بن عدي، وعطاء الخراساني، وسلمة بن كهيل، كلهم عن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية، ولا تشربوا مسكراً "، وفي حديث بعضهم قال: واجتنبوا كل مسكر. ولم يقل أحد منهم: ولا تسكروا، وقد بان وهم حديث أبي الأحوص من اتفاق هؤلاء " (¬1). * * * ¬

(¬1) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1549). وهذا الحديث قد استَقْصيْت جميع طُرقه وألفاظه وعلله في كتابي " علل الحديث ".

المبحث السادس: التعليل بالتدليس

المبحث السادس: التعليل بالتدليس وشرحت معنى التدليس في (الحديث المدلس) (¬1). والتعليل به بمعنى الوقوع لا المظنة، أي: ليس التعليل بمجرد العنعنة من الراوي الموصوف بالتدليس، وإنما بكشف وقوع تدليسه في ذلك الحديث، عن طريق جمع أسانيده. مثل: حديث بقية بن الوليد، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يحب الملحين في الدعاء ". هكذا رواه كثير بن عبيد الحذاء عن بقية (¬2). فهذا يقول فيه المبتدئ: (في إسناده بقية، وهو مدلس وقد عنعن)، ثم ¬

(¬1) في القسم الثاني من هذا الكتاب. (¬2) أخرجه الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " (رقم: 1008 _ تنقيح) قال: حدثنا الفضل بن محمد، والطبراني في " الدعاء " (رقم: 20) قال: حدثنا واثلة بن الحسن العٍرقي، والعقيلي في " الضعفاء " (4/ 452) قال: حدثنا أحمد بن محمد النصيبي، والقُضاعي في " مسند الشهاب " (رقم: 1069) من طريق أبي عروبة الحرَّاني، و (1070) من طريق إسحاق بن إبراهيم بن يونس، جَميعاً قالوا: حدثنا كثير بن عُبيد، به.

يقلب فيرى بعض من رواه عن كثير قال فيه: " حدثنا كثير بن عبيد، حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا الأوزاعي " (¬1)، فيقول: (انزاحت عنه شبهة التدليس، والأوزاعي فمن فوقه إسناد معروف الصحة). لكن يقول الناقد في هذه الرواية، كما قال البيهقي: " هكذا قال: حدثنا الأوزاعي، وهو خطأ "، يعني لتفرد راو بها عن كثير عن بقية دون الجماعة، مع قيام الدليل على الواسطة بين بقية والأوزاعي فيه. كما قال أبو حاتم الرازي: " هذا حديث منكر، نرى بقية دلسه عن ضعيف عن الأوزاعي " (¬2). وقال العقيلي: " لعله أخذه بقية عن يوسف بن السفر ". قلت: هو كذلك، إنما حمله بقية عن أبي الفيض يوسف بن السفر كاتب الأوزاعي، عن الأوزاعي، وكان يوسف هذا متهماً بالكذب ووضع الحديث، كذلك رواه عن بقية: عيسى بن المنذر الحمصي، وهو ثقة (¬3)، وتابعه أحد المتروكين (¬4) لكن العبرة برواية عيسى هذا. وكذلك أعله ابن عدي بتدليس بقية. والتعليل بهذا الطريق لا يتفطن له إلا من رزق بصيرة وقوة معرفة وسعة اطلاع في هذا العلم، والذي يعل به الطلبة غايته ما ذكرت، لا يعدو ¬

(¬1) كذلك رَواه أحمد بن يحيى بن صفوان الأنطاكي، فيما أخرجه البيهقي في " الشعب " (رقم: 1108). (¬2) علل الحديث (2/ 199). (¬3) أخرجه العُقيلي في " الضعفاء " (4/ 452). (¬4) هو سليمان بن سلمة الخبائري الحِمصي، أخرجه من طريقه: يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 431) _ ومن طريقه: البيهقي في " الشعب " (رقم: 1109) _ وابن عدي في " الكامل " (8/ 500) وابن عساكر في " تاريخه " (32/ 368). لكن أسقطت رواية ابن عساكر (بقية).

أن يجد أحدهم الراوي الموصوف بالتدليس لم يصرح بالسماع في روايته، فيقول: (إسناد ضعيف، فيه فلان مدلس، ولم يصرح بالتحديث)، وليس هذا من العلل الخفية، إنما العلة الخفية كشف وقوع التدليس في تلك الرواية، والتعليل بمجرد العنعنة من الموصوف بالتدليس تعليل ظاهر، قد يكون مرجوحاً لا أثر له في اتصال الإسناد، كما تلاحظه في بيان (الحديث المدلس).

الفصل الثالث قوانين ضبط عملية تعليل الأحاديث

الفصل الثالث قوانين ضبط عملية تعليل الأحاديث

المبحث الأول علم التخريج

المبحث الأول علم التخريج الطريق لكشف علة الحديث: جمع الروايات ثم سبرها وتنقيحها. قال الخطيب: " السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط " (¬1). قال الأوزاعي: " كنا نسمع الحديث، فنعرضه على أصحابنا كما يعرض الدرهم الزيف على الصيارفة، فما عرفوا أخذنا، وما تركوا تركنا " (¬2). وقال ابن أبي حاتم: " تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره، فإن خالفه في الماء والصلابة علم أنه زجاج، ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالة بروايته " (¬3). ¬

(¬1) الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع (2/ 295). (¬2) أخرجه أبو زُرعة الدمشقي في " تاريخه " (1/ 265) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 20/ 21) والخطيب في " الكفاية " (ص: 605) بإسناد صحيح. (¬3) تقدمة الجرح والتعديل (ص: 351).

تفسير علم التخريج

قلت: فهو يبدأ بتتبع روايات الحديث وجمعها، ومن ثم النظر فيها وتمحيصها. قال عبد الله بن المبارك: " إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض " (¬1). قلت: والطريق إلى تحقيق الجمع المقصود لطرق الحديث هو تخريج الحديث بمعناه الآتي قريباً. تفسير علم التخريج: المراد بعبارة (التخريج) عندما ظهر استعمال هذا المصطلح، هو: انتقاء الراوي لنفسه من أصول سماعاته عن شيوخه أحاديث، فمنها ما يصنف على ترتيب أسماء الشيوخ على حروف المعجم، وعندئذ يسمى (معجماً)، ومنها ما يصنف على اعتبار آخر، كالبدء بحسب الأقدم، أو بحسب البلدان، وهذا يسمى (مشيخة)، ومنها ما يكون عشوائيا أو شبيها بذلك، فيسمى (الفوائد) وربما قيل: (الفوائد المنتقاة). ويخرج من حديث كل شيخ حديث فأكثر، يراعى فيها علو الإسناد، أو قوته، أو غرابة الحديث (¬2). وقد ينتقي تلك الأحاديث للشيخ غيره من معاصريه من رواة الحديث وحفاظه. قال الخطيب: " وإن لم يكن الراوي من أهل المعرفة بالحديث وعلله واختلاف وجوهه وطرقه وغير ذلك من أنواع علومه، فينبغي له أن يستعين ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1902) وإسناده صالحٌ. (¬2) وانظر حصول التفريج بأصول التخريج، للشيخ أحمد بن الصديق الغُماري (ص: 13).

ببعض حفاظ وقته في تخريج الأحاديث التي يريد إملاءها قبل يوم مجلسه، فقد كان جماعة من شيوخنا يفعلون ذلك، فمنهم: أبو الحسين بن بشران، كان محمد بن أبي الفوارس يخرج له الإملاء. والقاضي أبو عمر بن عبد الواحد الهاشمي البصري، كان أبو الحسين بن غسان يخرج له. وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج النيسابوري، كان أبو حازم العبدوي يخرج له. وصاعد بن محمد الأستوائي فقيه أصحاب الرأي بنيسابور، كان أحمد بن علي الأصبهاني يخرج له. وكان أبو الحسن محمد بن أحمد بن رزقويه يخرج الإملاء لنفسه، إلى أن كف بصره. ثم كان أبو محمد الخلال يخرج له أحياناً، وأحياناً كنت أنا أخرج له " (¬1). ومن أمثلة الكتب في (التخريج) بهذا المعنى: " المعجم الصغير " تخريج: الحافظ أبي القاسم الطبراني، خرجه لنفسه. و" المعجم " للحافظ أبي بكر الإسماعيلي، وهو (مشيخته). وخرج الحافظ عبد العزيز بن محمد النخشبي (المتوفي سنة: 457) لقرينه أبي القاسم الحسين بن محمد الحنائي (المتوفي سنة: 459) الفوائد المعروفة ب" الحنائيات ". كما خرج الحافظ أبو طاهر السلفي (المتوفي سنة: 576) الفوائد لشيخه أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار المعروف ب" ابن الطيوري " (المتوفي سنة: 500) وتسمى ب" الطيوريات ". ¬

(¬1) الجامع لأخلاق الراوي، للخطيب (2/ 88).

التخريج بمعنى جمع الطرق والألفاظ

التخريج بمعنى جمع الطرق والألفاظ: قال أحمد بن حنبل: " الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً " (¬1). والتخريج بهذا المعنى هو: أن تعمد إلى حديث فتجمع طرقه: أسانيدها ومتونها، من الكتب الحديثية التي تقوم على الإسناد، لا الكتب الناقلة عنها، ثم التأليف بينها لتحرير مواضع الاتفاق والافتراق في الأسانيد، فتتبين المتابعات والشواهد، وفي المتون، فيتبين ما فيها من التوافق اللفظي والمعنوي، والزيادة والاختلاف. هذا المعنى للتخريج هو المطلوب تحقيقه لكشف علة الحديث، وليس هو المدلول القريب اليوم لمصطلح (التخريج). إنما (التخريج) اليوم في طريقة أكثر من يتصدى للاشتغال بالحديث، ممن يفهم وممن لا يفهم، هو: عزو الأحاديث التي تذكر في الكتب غير مروية بالإسناد، إلى محالها من كتب الإسناد، كالحديث يوجد في " المغني " لابن قدامة مثلاً، ربما عزاه إلى مصدر من المصادر، كسنن أبي داود، وربما لم يعز إلى مصدر، فيكون التخريج ببيان محله من " السنن " توثيقاً لنصه، وتيسيراً للوقوف عليه في أصله، وقد يزيد الباحث العزو إلى ما تيسر له الوقوف عليه من الأصول. وليس من هذا: الكلام على درجة الحديث، فذلك زيادة على التخريج، يحسن أن تسمى (تحقيقاً) مثلاً، وهي عبارة قد شاعت اليوم تدل على هذا المعنى. فإن وقعت عملية التخريج هذه لكتاب مسند، كمن يعمد إلى أحاديث (مسند أحمد) فيبين محال الحديث في غيره، ويربط بين ذلك الحديث ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1640) بإسناد حسن.

وسائر طرقه في سائر كتب الحديث، فهذا العمل أشبه بمصطلح (الاستخراج) (¬1) منه بمجرد (التخريج)، وإن كان معنى (الاستخراج) فيه ناقصاً، فإن العناية فيه إنما هي بالإسناد غالباً دون المتن، ومعلوم أن (الاستخراج) يعتبر في الإسناد والمتن جميعاً (¬2). فمن يفهم فإنما ذلك عنده لواحد من غرضين، أو لهما جميعاً: أولهما: وسيلة يتوصل بها إلى تبيين درجة الحديث، فهذا لا يكون (التخريج) بالنسبة له مقصداً لذاته، ولذلك فقد تتحقق بغيته بأن يوقف على كون الحديث مما (أخرجه) البخاري ومسلم، ولا يزيد. وثانيهما: توثيق للنص المخرج، من جهة إحالته إلى أصل من الأصول. ومن لا يفهم، فليس محلاً للحديث هنا. ولا نجد حرجاً في هذه العملية أن يقال: (أخرجه) أو (خرجه)، فهو واسع، واللغة تحتمله، وإن كان (أخرجه) أكثر وأحسن. ومن أمثلة كتب التخريج بهذا المعنى: " تخريج أحاديث الكشاف " و " نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية " كلاهما للحافظ أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي الحنفي (المتوفى سنة: 762). و" البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير " للحافظ عمر بن علي المعروف ب" ابن الملقن " الشافعي (المتوفى سنة: 804). ¬

(¬1) والذي بينت ما يتصل به في مبحث خاصٍ في (القسم الثاني) من هذا الكتاب عند الكلام على (مسائل تتصل بالصحيح والحسن). (¬2) كما بينت معناه في الكلام عن المستخرجات على " الصحيحين " في القسم الثاني من هذا الكتاب.

من القواعد الواجب اعتبارها في علم التخريج

وللحافظ ابن حجر العسقلاني يد طولى في ذلك. وفي الزمن المتأخر مؤلفات الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الأباني، والشيخ المحدث أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، وغيرهما من محدثي العصر. ومن القواعد الواجب اعتبارها في علم التخريج ما يلي: أولاً: ملاحظة ألفاظ الإحالة ودلالاتها. قال الحاكم: " مما يلزم الحديثي من الضبط والإتقان إذا روى حديثاً وساق المتن، ثم أعقبه بإسناد آخر: أن يفرق بين أن يقول: (مثله)، أو: (نحوه)، فإنه لا يحل له أن يقول: (مثله) إلا بعد أن يقف على المتنين جميعاً، فيعلم أنهما على لفظ واحد، وإذا لم يميز ذلك، جاز أن يقول: (نحوه)، فإذا قال: (نحوه) بين أنه مثل معانيه " (¬1). قلت: وكان الإمام مسلم بن الحجاج دقيقاً في سياقه الروايات، فإذا بحثت عن ألفاظ الأحاديث عنده، فإن ساق للحديث طريقاً واحدة لمتنه فذاك المتن لذاك الإسناد، وإن أخرجه بسند، ثم أحال عليه أسانيد، فإن قال: (مثله) فهو باللفظ ذاته أو يقرب منه، وإن قال: (به) فهو مثله، ما لم ينبه مسلم نفسه على زيادة في المتن أو نقص. وإذا ساق المتابعات قبل المتن، فإن قال: (فلان وفلان، واللفظ له) أو (واللفظ لفلان) فلفظ الحديث لمن أضافه إليه من الرواة، والثاني بنحوه أو معناه، وربما عطف المتابعات في سياق الإسناد على بعضها، وقال: (وألفاظهم متقاربة)، وقد لا ينبه على ذلك فيشعر باتحاد اللفظ. وربما قال مثلاً: (حدثنا محمد بن عباد، وابن أبي عمر، جميعاً عن مروان الفزاري، ¬

(¬1) سؤالات مسعود السجزي للحاكم (النص: 123، 322) وتقدم ذكر هذا النص من قبل في (المبحث السابع) من مباحث (التعديل).

ثانيا: المحدث يسوق حديثا بإسناده ومتنه، ثم يلحقه بآخر قائلا: (مثله)

قال ابن عباد: حدثنا مروان، عن يزيد)، فساق الإسناد، فهذا التصرف يشعر بأن السياق لرواية ابن عباد، ورواية ابن أبي عمر قريب منه. ثانياً: المحدث يسوق حديثاً بإسناده ومتنه، ثم يلحقه بآخر يقتصر منه على الإسناد ويحيل المتن على الذي قبله قائلاً: (مثله)، أو (نحوه)، فهل يصح سياق نفس المتن للإسناد الثاني؟ الجواب: اختلف في ذلك المتقدمون، فوسع فيه سفيان الثوري في (مثله) و (نحوه)، ووافقه النقل عن يحيى بن معين في (مثله) خاصة، ومنع شعبة بن الحجاج من ذلك فيهما (¬1). والاحتياط فيه أولى، وذلك بأن يقول مثلاً: (مثل حديث قبله متنه كذا وكذا) أو (نحو حديث قبله متنه كذا وكذا)، وهو اختيار الخطيب. وفي باب الاعتبار، لا مانع من الاعتبار بالإسناد الثاني في تقوية الأول، اعتماداً على المحدث فيما ادعاه من المثلية أو النحوية، وإن كان الأولى الاجتهاد للوقوف على متن ذلك الإسناد في مصادر السنن والأخبار. ثالثاً: الأخذ من نسخة مروية بإسناد واحد، يجوز أن يساق الإسناد عند اقتباس بعض تلك الأحاديث، يذكر قبل المتن كما جاء في أول حديث في تلك الصحيفة، كصحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة، وهو قول وكيع بن الجراح، ويحيى بن معين، وأبي بكر الإسماعيلي، وغيرهم. وكان مسلم يسوق الإسناد لصحيفة همام إليه، قال: " هذا ما حدثنا أبو هريرة، فذكر أحاديث منها .. "، وهذه مبالغة في التحري والأمانة (¬2). رابعاً: إذا أخرجت أحاديث أو حديثاً من جملة أحاديث، رواها ¬

(¬1) خرج الروايات بذلك عنهم الخطيب في " الكفاية " (ص: 319، 320) بأسانيد صحيحة. وكذلك النقل عن ابن مَعين موجود في " تاريخه " (النص: 2264). (¬2) صِيانة صحيح مسلم، لابن الصلاح (ص: 102، 103).

خامسا: إذا وجدت اسما مهملا في الإسناد، كيف تعرف به في سياقه؟

المخرج عن شيخ، نسبه تاما في أولها، ثم قال في سائرها: (وحدثنا فلان) ولم يزد على اسمه، جاز أن يبين على ما في أول تلك الأحاديث، ولو قلت عند قوله: (حدثنا فلان): (يعني) أو (أي: ابن فلان الفلاني) لكن أحوط، كما يفعل لبيان اسم مبهم في الإسناد. وترى مثل هذا يقع كثيراً في " مسند أحمد " في تسمية شيوخه، و" مسند أبي يعلى " و " المعجم الأوسط " للطبراني، وغيرها. خامساً: إذا وجدت اسماً مهملاً في الإسناد، وتيقنت من يكون فلا يجوز أن تقحم بيانه بعبارة تفهم أنه كذلك في الرواية، فلو جاء مثلاً: (عن هشام عن قتادة) فمع تيقنك أنه الدستوائي، فلا تجعله: (عن هشام الدستوائي عن قتادة)، ولكن قل: (عن هشام _ يعني الدستوائي _ عن قتادة)، أو (عن هشام _ هو الدستوائي _ عن قتادة). وهذه فائدة، أنك إذا وجدت مثل هذه الصيغة (هو ابن فلان)، أو (الفلاني) فاعلم أنها ليست من قبل الراوي عن ذلك الشيخ، وإنما هي من بعض رواة الإسناد، أو من نفس مخرج الخبر (¬1). * * * ¬

(¬1) كما تقدم في (المبحث الثاني) من (الفصل الثاني) من هذا الباب.

المبحث الثاني: علامات لكشف العلة من منهج المتقدمين

المبحث الثاني: علامات لكشف العلة من منهج المتقدمين وهي أسباب تكتسب بالدراية بعلوم الحديث، وفهم ما ترد عليه الأسانيد والمتون، استعملها أئمة النقاد لمعرفة علة الحديث، وهي علامات ظنية، لا يجوز القطع بتخطئة الثقة بمجرد ورودها على فكر الناقد حتى يستدل لها. نعم، قد يقوم الدليل عند الناقد على علة الحديث، ولم يتبين بمن يلصق الوهم فيه من رواته، لكن ينبغي في هذه الحال أن يتوجه حمله على أدناهم حفظاً. ومن أمثلته: ما نقله ابن أبي حاتم الرازي، قال: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث، رواه علي بن هاشم بن مرزوق، عن يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن سالم مولى دوس: قلت لكعب: أكنت تقبل وأنت صائم؟ قال: نعم، وآخذ به (¬1)؟ فقالا: " هذا خطأ، إنما هو عن سالم مولى دوس، قال: قلت لسعد بن أبي وقاص "، قال أبو زرعة: " وأخطأ علي بن هاشم؛ لأن يزيد بن هارون لا يذهب عليه مثل هذا " (¬2). ¬

(¬1) جاء في رواية الخطيب التالية الإشارة إليها: يعني بمتاعها. (¬2) علل الحديث (رقم: 666). وعلى الصواب رواه مُحمد بن مسلمة الواسطي عن يزيد بن هارون. أخرجه الخطيب في " أوهام الجمع والتفريق " (1/ 291) لكن ابنَ مسلمة هذا ليس بثقة.

أولا: أن يأتي أحد وجهي الرواية على الجادة، والآخر خارجا عنها

قلت: يقول: يزيد لحفظه وإتقانه لا يقع له مثل هذا الوهم، ولا يحمل فيه عليه الخطأ وفيمن دونه أولى بحمل الخطأ عليه منه مع صدقه، وهو علي بن هاشم الرازي. لكن إذا لم يتبين ما يمكن أن يحمل عليه الوهم من رواته، فتكون الرواية معلولة، دون إلحاق المأخذ فيها على معين. وتلك العلامات المساعدة المستفادة من طرق النقاد في التعليل، منها ما يعرف من الفصل السابق، إذ التفرد، والزيادة، والمخالفة، والاختلاف، ودخول حديث في حديث، والتصحيف، والقلب، والتدليس، جميعها تكون بملحظ الناقد، بل يقصد إلى تقصيها في الرواية، حتى تسلم له منها، فوقوع الشيء منها في الرواية علامة على العلة، فإن استقرت بحجتها كانت هي العلة. لكن قد بينت من قبل أنه ليس كل تفرد علة، ولا كل مخالفة مؤثرة، ولا كل اختلاف قادحاً، فما لم يكن من قبيل ما بينت قبل أنه قادح بمجرد تلك الأسباب، فإن الناقد قد يهتدي بعلامات أخرى للتوصل إلى العلة، ترجع أصولها إلى ما يلي: أولاً: أن يأتي أحد وجهي الرواية على الجادة، والآخر خارجاً عنها. ومن عباراتهم فيه: (لزم فلان الطريق) (¬1). و (أخذ طريق المجرة فيه) (¬2). و (وهذا الطريق كان أسهل عليه) (¬3). ¬

(¬1) علل الحديث، لابن أبي حاتم فيما نقله عن أبيه (رقم: 46، 288، 582، 1286، 1823، 2162، 2237، 2296). (¬2) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 118). (¬3) الكامل، لابن عدي (5/ 425).

والمعنى فيه: أن يروي الحديث ثقتان، فيجريه أحدهما على المعتاد في أسانيد شيخه، والآخر على غير المعتاد منها. فمن خرج به عن المعتاد، فذلك قرينة على إتقانه للرواية، إذ مثل ذلك يحتاج حفظه إلى مزيد احتياط، ولا يتفطن إليه متيقظ، بخلاف ما جاء على الجادة. وقد قال أحمد بن حنبل في مثال هذا: " أهل المدينة إذا كان حديث غلط يقولون: ابن المنكدر عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس، يحيلون عليهما " (¬1). وهذه أمثلة: المثال الأول، ويدخل في غير شيء من علل الحديث: حديث سمرة بن جندب في كفارة تفويت الجمعة. رواه قتادة، واختلف عليه، فرواه همام بن يحيى، عنه، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من فاتته الجمعة فليتصدق بدينار، أو بنصف دينار "، وفي لفظ: " من ترك جمعة من غير عذر، فليتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار " (¬2). تابع هماماً عليه إسناداً ومتناً: حجاج بن حجاج الباهلي الأحول (¬3)، وهو ثقة. ورواه خالد بن قيس بن رباح، فقال: عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (2/ 306، و 5/ 499 _ 500) وإسناده جيد. (¬2) أخرجه أحمد (33/ 277، 330 رقم: 20087، 20159) وأبو داود (رقم: 1053) والنسائي (رقم: 1372) وغيرهم، واستوعبتُ بيانه في كتاب " علل الحديث ". (¬3) أخرجه البخاري في " تاريخه " (2/ 2 / 176). (¬4) أخرجه أبو داود في " المسائل " (ص: 296) والنسائي في " الكبرى " (رقم: 1662) وابنُ ماجة (رقم: 1128) والبيهقي (3/ 248).

وهذا الطريق خالفت في الإسناد، فجعلت (الحسن) بدلاً من (قدامة بن وبرة)، وهي محيلة الرواية من مجهول، وهو قدامة، إلى ثقة، وهو الحسن البصري، وهي رواية صحيحة الإسناد إلى قتادة، كصحة رواية همام عنه. ومن يذهب من أهل العلم إلى صحة حديث الحسن عن سمرة، يصحح هذا الإسناد على طريقته، ومن لا يصححها قد يقوي روايتي قتادة ببعضهما، وهذان المنهجان كلاهما خطأ ههنا. فتصحيح الرواية لذاتها من رواية الحسن عن سمرة، أو اعتبارها طريقاً مستقلة للحديث تنضم إلى رواية قدامة، إغفال لمخالفة همام. والتحقيق: أن هماماً ألصق بقتادة، وأعلم بحديثه وأشهر به من خالد، بل هو من المكثرين عن قتادة وغيره، وليس خالد كذلك وإن كان ثقة، ثم إن خالداً أجرى الإسناد عن قتادة على الجادة، فقتادة عن الحسن عن سمرة نسخة، ومثل همام في كثرة حديثه عن قتادة لا يفوته مثل هذا، ليأتي به عن قتادة عن رجل غير معروف، لا يحفظ مثله ولا يتفطن له إلا بتعنٍّ، بخلاف المشهور المعروف. ولذا قال البخاري: " والأول أصح " يعني رواية همام. وممن أشار إلى علة هذه الرواية: أبو داود في " سننه " وأبو حاتم الرازي فيما حكاه ابنه (¬1). وقال البيهقي: " كذا قال، ولا أظنه إلا واهماً في إسناده، لاتفاق من مضى على خلاف فيه ". والحديث لا يصح، ولهمام فيه مخالفان آخران مرجوحان كذلك. ¬

(¬1) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 577).

قال البخاري: " لا يصح حديث قدامة في الجمعة ". قلت: العلة كما بينت من جهة جهالة قدامة، وكذلك لعدم العلم بثبوت سماع له ولا لقاء من سمرة، فإنه لم يذكر سماعاً في شيء من الطرق، ولم نجده يروي عن غير سمرة في شيء يثبت إسناده إليه. فرجل مجهول لم تثبت عدالته، يروي بالعنعنة، لا يجوز قبول حديث ينفرد به لا يرويه سواه. المثال الثاني: ما رواه محمد بن صالح بن مهران، قال: حدثنا أرطاة أبو حاتم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " (¬1). قال ابن عدي: " الحديث عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر خطأ، إنما يرويه عبيد الله عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، على أنه قد روي عن هشام بن حسان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، وهذا خطأ أيضاً (¬2)، وهذا الطريق كان أسهل عليه إذا قال: عبيد الله عن نافع عن ابن عمر؛ لأنه طريق واضح، وبهذا الإسناد أحاديث كثيرة، من أن يقول: عبيد الله عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ". المثال الثالث: ما رواه سعيد بن كثير بن عفير، قال: حدثني المنذر بن عبد الله الحزامي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله ¬

(¬1) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (2/ 143) والطبراني في " الكبير " (12/ 375 رقم: 13389) من طُرق عن محمد بن صالح بن مهران، به. (¬2) وهذا من طريق هِشام بن حسان أخرجه العُقيلي في " الضعفاء " (2/ 246)، وعلته شبيهةٌ بهذه، وبيَّن العُقيلي أيضاً صواب روايته من طريق هشامٍ عن عبيد الله عن المقبري عن أبي هريرة.

بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال: " سبحانك اللهم، تبارك اسمك، وتعالى جدك " وذكر الحديث بطوله (¬1). قال الحاكم: " لهذا الحديث علة صحيحة، والمنذر بن عبد الله أخذ طريق المجرة فيه ". ثم أسنده الحاكم من طريق أبي غسان مالك بن إسماعيل، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، قال: حدثنا عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا افتتح الصلاة، فذكر الحديث بغير هذا اللفظ. قال الحاكم: " وهذا مخرج في صحيح مسلم ". المثال الرابع: ما رواه عبد الله بن أبي بكر المقدمي، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ساقي القوم آخرهم " (¬2). قال ابن عدي: " كذا قال المقدمي هذا: عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، وهذا الطريق كان أسهل عليه؛ لأن ثابتاً أبداً يروي عن أنس، وإنما روى ثابت هذا الحديث عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة ". المثال الخامس: ما رواه عبد الرحمن بن أبي الموال، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمر كما يعلمنا السورة من القرآن الكريم، يقول: " إذا هم أحدكم بالأمر أو أراد الأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك " فذكر الحديث (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث " (ص: 118) من طريق يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: حدثنا سعيد بن كثير بن عُفير، به. (¬2) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (5/ 425) قال: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا عبد الله بن أبي بكر المقدمي، به. (¬3) أخرجه ابنُ عدي (5/ 500) من طريق منْصور بن أبي مُزاحم، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموال، به.

ثانيا: أن تأتي رواية الغرباء عن الثقة على خلاف رواية أهل بلده أو أصحابه

قال أبو طالب أحمد بن حميد: سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن أبي الموال؟ قال: " عبد الرحمن لا بأس به "، قال: " كان محبوساً في المطبق حين هزم هؤلاء، يروي حديثاً لابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستخارة، ليس يرويه أحد، هو منكر "، قلت: هو منكر؟ قال: " نعم، ليس يرويه غيره، لا بأس به، وأهل المدينة إذا كان حديث غلط يقولون: ابن المنكدر عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس، يحيلون عليهما " (¬1). ثانياً: أن تأتي رواية الغرباء عن الثقة على خلاف رواية أهل بلده، أو المعروفين من ثقات أصحابه. ومثل له الحاكم بما رواه موسى بن عقبة، وهو مدني، عن أبي إسحاق السبيعي، وهو كوفي، زعم الحاكم أنه وهم في إسناده، من جهة أنه قال: عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مئة مرة " (¬2). قال الحاكم: " هذا إسناد لا ينظر فيه حديثي إلا علم أنه من شرط الصحيح، والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا ". قلت: هو إسناد ظاهره الصحة بلا ريب، والحاكم تبع جماعة من أئمة الحديث، رأوا هذا الحديث يعرف من حديث أبي بردة بن أبي موسى عن الأغر المزني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من رواية العراقيين عن أبي بردة، وأبو بردة من أئمة الكوفيين. ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي (5/ 499 _ 500). (¬2) أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة " (رقم: 440) من طريق زياد بن يونس، والطحاوي في " شرح المعاني " (4/ 289) والطبراني في " الدعاء " (رقم: 1810) والحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص: 115) والبيهقي في " الشعب " (5/ 318 رقم: 6789) من طريق سعيد بن أبي مريم، كلاهما عن محمد بن جعفر بن أبي كثير، عن موسى بن عُقبة.

ثالثا: أن يأتي الحديث على شبه أحاديث راو آخر، وقد يكون الآخر مجروحا

ولو كان الأمر كذلك، أنه لم يروه العراقيون عن أبي بردة عن أبيه، لصح قول الحاكم ومن سبقه أو لحقه من أئمة الحديث. لكني وجدت لهذا الحديث أصلاً من حديث أبي إسحاق عن أبي بردة من حديث أهل بيت أبي إسحاق، بل من أخصهم به، وهو حفيده إسرائيل بن يونس. لكن المقصود أن تعلم أن وقوع هذه الصورة شبهة توجب البحث عن العلة (¬1). ثالثاً: أن يأتي الحديث على شبه أحاديث راو آخر، وقد يكون ذلك الآخر من المجروحين. هذا أيضاً من أسباب القدح في النقلة. مثل أحاديث (سنان بن سعد عن أنس بن مالك). قال أحمد بن حنبل: " تركت حديثه، حديثه حديث مضطرب "، وقال: " يشبه حديثه حديث الحسن، لا يشبه أحاديث أنس " (¬2). لكن العلل الخفية إنما هي في أحاديث الثقات، فهل لهذه الصورة تأثير في رواياتهم؟ من أئمة الحديث من أعل رواية الثقة لمشابهتها لأحاديث المجروحين. والتحقيق أنه لا يصح التعليل لحديث الثقة بممجرد الشبه بحديث المجروح، أو أن ذلك الحديث رواه ذلك المجروح كذلك كما رواه الثقة، من جهة انتقاء المانع من وقوع الحديث لكليهما. ¬

(¬1) شرحت علة هذا الحديث في كتابي " علل الحديث ". (¬2) العلل ومعرفة الرجال (النص: 3409، 3410).

لكن قد يفيد الشبه شبهة توجب مزيد تحر، وربما كشفت عن علة قادحة. قال ابن رجب: " حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه فلان، فيعللون الأحاديث بذلك " (¬1). قلت: ومن مثاله: ما رواه أبو بكر الحنفي، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن ولم يشكيني إلى عواده، أطلقته من إساري، ثم أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، ثم يستأنف العمل " (¬2). قال الحافظ أبو الفضل بن عمار الشهيد: " هذا حديث منكر، وإنما ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (2/ 756). (¬2) أخرجه الحاكم (1/ 348 _ 349 رقم 1290) وعنه: البيهقي في " الكبرى " (3/ 375) و " الشعب " (6/ 547 و 7/ 187 _ 188 رقم 9239، 9943) قال: حدثني بكر بن محمد الصيرفيُّ بمكة، حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله، حدثنا علي بن المديني، حدثنا أبو بكر الحنفي، به. قال الحاكم: " حديث صحيح على شرْط الشيخين ولم يخرجاه "، وقال البيهقي في " الشعب ": " إسناد صحيح ". قلت: كذا قالا، وليْس كذلك كما سيأتي. وعزاه أبو الفَضل بن عمار الشهيد في " علل الأحاديث في كتاب التصحيح " (ص: 117 _ 118) إلى " صحيح مسلم "، وليس في شيء من نُسخه، ولائقٌ أن لا يكون فيه، فلعل مسلماً أدخله أولاً ثم رفعه لما كشف علته، فبقي في نُسخة وقف عليها ابنُ عمار، ولذا أيضاً استدركه الحاكم، ونبّه البيهقي أنه ليس في " الصحيح " وتوالى طائفة على نفيِ وُجوده فيه.

رواه عاصم بن محمد عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه، وعبد الله بن سعيد شديد الضعف، قال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت أحداً أضعف من عبد الله بن سعيد المقبري. ورواه معاذ بن معاذ عن عاصم بن محمد عن عبد الله بن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. وهو حديث يشبه أحاديث عبد الله بن سعيد " (¬1). قلت: وذكر البيهقي أيضاً أن قرة بن عيسى، وهو الواسطي، رواه كذلك عن عاصم، عن عبد الله بن سعيد. وتفرد به أبو بكر الحنفي عن عاصم عن سعيد بن أبي سعيد. وليس في روايته أيضاً ذكر سماع بين عاصم وسعيد، ورواية غيره جعلته بالواسطة بين عاصم وسعيد، وهي عبد الله بن سعيد. والحنفي اسمه عبد الكبير بن عبد المجيد، ثقة، لكنه في الحفظ دون معاذ بن معاذ بلا تردد. فمن أتى بزيادة الواسطة فيه ثقة، بل أرجح في الثقة ممن لم يأت بها. أيد رواية من أتى بها أن الحديث معروف من حديث عبد الله بن سعيد من رواية غير عاصم. فقد رواه كذلك محمد بن فضيل، وهو ثقة (¬2)، وعبد الرحمن بن ¬

(¬1) علل الأحاديث، لأبي الفضل بن عمار (ص: 118 _ 119). (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في " المرض والكفارات " (رقم: 78) قال: حدثنا أحمد بن عمران بن عبد الملك، قال سألت محمد بن فُضيْل؟ فحدثني: حدثنا: عبْد الله بن سعيدٍ، عن جدِّه، عن أبي هريرة، به مرفوعاً نحوه.

رابعا: أن يأتي الحديث موافقا للمنقول عن أهل الكتاب

سليمان بن أبي الجون العنسي، وهو صدوق حسن الحديث (¬1). فالحديث حديث عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو متروك ليس بثقة. ولذا أدخله ابن الجوزي في " الموضوعات "، وقال: " هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ". والمحفوظ في هذا الحديث موقوفاً على أبي هريرة قوله، كذلك رواه أبو صخر حميد بن زياد (¬2). ومثله وإن كان لا يقال من قبل الرأي، إلا أن أبا هريرة حمل عن أهل الكتاب (¬3). فشبه الحديث بحديث المجروح دل على علة الحديث الظاهر السلامة منها. رابعاً: أن يأتي الحديث موافقاً للمنقول عن أهل الكتاب. هذه علامة لا تصلح لتعليل أحاديث الثقات، حتى تقوم حجة على كون الحديث مما أخطأ فيه بعض الرواة فنسبه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الإسرائيليات. ¬

(¬1) أخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات " (رقم: 1702) من طريق أبي الشيخ الأصبهاني بإسناده إلى عبد الرحمن بن أبي الجوْن قال: حدثنا عبْد الله بن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة، به. قلت: إسناده إلى ابن أبي الجون جيد. (¬2) أخرجه البهقي في " الكبرى " (3/ 375) بإسناد الصحيح إلى عبْد الله بن وهب، قال: حدثني أبو صخْر حُميد بن زياد، أنَّ سعيداً المقْبري حدثه قال: سمعْت أبا هريرة يقول: قال الله عزَّ وجلَّ: (فذكر نحوه). قلت: وإسناده جيدٌ. (¬3) فإن قلت: للمرفوع طُرق أخرى. قلت: ليس فيها ما يُفرح به ليَثْبت به الحديث مَرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن تكلف بعض العلماء المتأخرين لتقويته ودَرْءِ الحكم بالوضع أو النكارة عليه.

خامسا: أن يكون الثقة يرجع إلى أصول، ولا يوجد ذلك الحديث في أصوله

والعلة في منع التعليل بمجرد موافقة ما عند أهل الكتاب، أن الوحي الذي أنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم جاء مصدقاً لما جاء به النبيون من قبل، وفي القرآن الكثير مما يوافق ما عند أهل الكتاب، فتأمل. ولم أجد في منهج أهل العلم بالحديث مثالاً واحداً أعلوا به رواية ثقة بمجرد وقوع تلك الموافقة، حتى يقوم دليل على وهم الثقة، كأن يروي ثقة حديثاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يوجد من رواية من هو أوثق منه عن أبي هريرة عن كعب الأحبار، يحكيه عن التوراة. ولكني وجدت بعض أهل زماننا ممن ليس من هذا العلم في شيء يشكك في بعض الحديث؛ لكونه وجد نظيره في التوراة التي عند اليهود. كما سمعت من أحدهم في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً " الحديث (¬1). قال: " هذا آية في التوراة ". وأقول: لو صح ما زعمه ما ضر ذلك في صحته حديثاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فيكون من العلم المصدق لما عند أهل الكتاب. خامساً: أن يكون الثقة يرجع إلى أصول، ولا يوجد ذلك الحديث في أصوله. مثاله: قول أبي داود السجستاني: سمعت أحمد (يعني ابن حنبل) سئل عن حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الأئمة من قريش "؟ قال: " ليس هذا في كتب إبراهيم، لا ينبغي أن يكون له أصل " (¬2). وقال أبو حاتم الرازي: سألت أحمد بن حنبل عن حديث سليمان بن ¬

(¬1) متفق عليه: أخرجه البُخاري (رقم: 5873) ومسلم (رقم: 2841). (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 289).

موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نكاح إلا بولي "، وذكرت له حكاية ابن علية؟ فقال: " كتب ابن جريج مدونة، فيها أحاديثه، من حدث عنهم، ثم لقيت عطاء، ثم لقيت فلاناً، فلو كان محفوظاً عنه لكان هذا في كتبه ومراجعاته " (¬1). وقال ابن أبي حاتم الرازي: سمعت أبي وذكر حديث إبراهيم بن سليمان أبي إسماعيل المؤدب، عن هرير بن عبد الرحمن، بن رافع بن خديج، عن جده رافع، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبلال: " نور بالفجر قدر ما يبصر القوم مواقع نبلهم ". قال أبي: " روى أبو بكر بن أبي شيبة هذا الحديث عن أبي نعيم، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن هرير بن عبد الرحمن، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبي: " وسمعنا من أبي نعيم كتاب إبراهيم بن إسماعيل، الكتاب كله، فلم يكن لهذا الحديث فيه ذكر، وقد حدثنا غير واحد عن أبي إسماعيل المؤدي ". قلت لأبي: الخطأ من أبي نعيم، أو من أبي بكر بن أبي شيبة؟ قال: " أرى قد تابع أبا بكر رجل آخر، إما محمد بن يحيى أو غيره، فعلى هذا يدل أن الخطأ من أبي نعيم " يعني أن أبا نعيم أراد أبا إسماعيل المؤدب، وغلط في نسبته، ونسب إبراهيم بن سليمان إلى إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع (¬2). قلت: الحكم بخطأ أبي نعيم فيه محل نظر، فقد توبع عليه (¬3)، لكني قصدت التمثيل باتباع النقاد هذا الطريق لكشف علة الحديث. ¬

(¬1) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1224). (¬2) علل الحديث (رقم: 400) كما قال أبو حاتم قبل ذلك (رقم: 385): " حدثنا هارون بن معروف وغيره عن أبي إسماعيل إبراهيم بن سليمان المؤدب، عن هُرَير، وهو أشبه " أي من رواية أبي نعيم. (¬3) كما بينت ذلك في تعليقي على " تسمية ما انتهى إلينا من الرواة عن أبي نُعيم عالياً " لأبي نُعيم الأصبهاني (رقم: 54).

سادسا: أن يثبت عن راوي الحديث ترك عمله به، أو ذهابه إلى خلافه

ويشبهه: أن يعاد حديث الثقة إلى أصل غيره من الثقات ممن شاركه في السماع، فلا يوجد الحديث فيه على الوجه الذي ذكره. مثل: قال أحمد بن منصور الرمادي: قلت لعلي بن المديني: حدثني بعض مشايخنا المصريين، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عائشة، قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين: فذكر الحديث. فحرك رأسه، وضحك، قال: ليس هذا بشيء، وقال: جرير بن حازم إنما سمع من يحيى بن سعيد بالبصرة مع حماد بن زيد في كتاب حماد بن زيد، وهذا الحديث إنما رواه حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، قال: قالت عائشة: أصبحت أنا وحفصة صائمتين. وليس هذا من حديث عمرة، إنما سمعه يحيى بن سعيد من الزهري، والزهري إنما سمعه من رجل لا يعرفه، حدثه به بعض من يدخل على عائشة، عن عائشة (¬1). سادساً: أن يثبت عن راوي الحديث ترك عمله به، أو ذهابه إلى خلافه. وهذا مسألة شائعة في الأصول على خلاف وتفصيل، لكنها أيضاً طريق جرى كبار نقاد الحديث على اعتباره في تعليل الحديث، كعلامة على العلة، أو تكون هي العلة، فيقضى على ناقلها بالوهم إن كان من الثقات، أو الضعف إن كان ممن دونهم. وله أمثلة كثيرة، منها. تضعيف جميع ما روي عن أبي هريرة في المسح على الخفين، بما جاء عنه في إنكاره. ¬

(¬1) أخرجه المقدمي في آخر كتاب " التاريخ " (ص: 155 _ 156).

نعم، الأحاديث المروية عن أبي هريرة في إثبات المسح عديدة، لكنها معلولة بغير علة (¬1)، غير أن مخالفتها المروي عنه في إنكار المسح من جملة تلك الأدلة على ضعفها. والرواية عن أبي هريرة بترك المسح جاءت عنه من وجهين: الأول: عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، قال: سألت أبا هريرة عن المسح على الخفين؟ قال: فدخل أبو هريرة دار مروان بن الحكم، فبال، ثم دعا بماء فتوضأ، وخلع خفيه، وقال: ما أمرنا الله أن نمسح على جلود البقر والغنم (¬2). والثاني: عن أبي رزين، قال: قال أبو هريرة: ما أبالي، على ظهر خفي مسحت، أو على ظهر حمار (¬3). وهذان خبران صحيحان عن أبي هريرة، ظاهران في مذهبه في ترك المسح على الخفين، وقد حكم بثبوتها عن أبي هريرة مسلم بن الحجاج، وقال: " ولو كان قد حفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجدر الناس وأولاهم للزومه والتدين به، فلما أنكره. . . بان ذلك أنه غير حافظ المسح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن من أسند ذلك عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، واهي الراوية، أخطأ فيه إما سهواً أر تعمداً ". قال مسلم بعد إيراده إحدى الطرق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ¬

(¬1) كما بينت ذلك في " علل الحديث ". (¬2) أخرجه مسلم في " التمييز " (رقم: 89) قال: حدثنا مُحمد بن المثنى، حدثنا محمد، حدثنا شُعبةُ، عن يزيد بن زاذِي (في الأصل: زاذان)، قال: سمعت أبا زُرعة، به. قلت: وهذا إسنادٌ صحيح، ومُحمد هو ابن جَعفر غنْدرٌ. (¬3) أخرجه ابنُ أبي شيبة (1/ 186) قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا إسماعيل بن سُميْع، قال: حدثني أبو رَزين، به. قلت: هذا إسناد صحيح، وأبو رَزين اسمه مَسْعود بن مالك.

إثبات المسح: " هذه الرواية في المسح عن أبي هريرة ليست محفوظة، وذلك أن أبا هريرة لم يحفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم، لثبوت الرواية عنه بإنكاره المسح على الخفين " (¬1). وسئل الدارقطني عن الأحاديث الواردة عن أبي هريرة في المسح، فذكر خمسة من طرقها، ثم قال: " قال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر، وكلها باطلة، ولا يصح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح " (¬2). ومع صحة الرواية بإنكار المسح عن أبي هريرة، وجدت ابن عبد البر يقول فيه: " لا يثبت " (¬3)، ولم يعلله بشيء، وتبعه على ذلك جماعة ممن جاء بعده، وقوله هذا خلاف قول أحمد ومسلم. بل سبق الشافعي إلى إثبات الرواية بالإنكار عن أبي هريرة، فقال: " ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين، فأنكر المسح علي بن أبي طالب وعائشة وابن عباس وأبو هريرة، وهؤلاء أهل علم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومسح عمر وسعد وابن عمر وأنس بن مالك، وهؤلاء أهل علم به " (¬4). قلت: فهذا مثال لتعليل الروية أو الروايات بمجيئها على خلاف الثابت المحفوظ عن راويها من رأيه ومذهبه. ¬

(¬1) التمييز (ص: 209). (¬2) العلل (8/ 276)، وحكي ابنُ حجر في " التلخيص " (1/ 158) قال: " قال أحمد: لا يصحُّ حديث أبي هريرة في إنكار المسح، وهو باطلٌ "، كذا قال، وما نقله الدارقطني عن أحمد هوَ الصواب، وبمعناه كذلك نقل ابنُ رجبٍ عن أحمد في " شرح العلل " (2/ 797)، وفي نصٍّ ساقه ابنُ عبد البر في " التمهيد " (11/ 139) من رواية أبي بكر الأثرم عن أحمد أنَّ أبا هريرة كانَ لا يرى المسح، مما يوكِّدُ خطأ حِكاية إنكار أحمد للرواية بترك المسح عن أبي هريرة، وإنما أنكر الرواية عنه بإثبات المسح. (¬3) التمهيد (11/ 138). (¬4) الأم: (14/ 598).

سابعا: أن يدل على نكارة الحديث نفرة الناقد من سياقه

ورأيت أحمد بن حنبل أعمل هذا الأصل أيضاً (¬1). ومما يتصل بهذا الأصل: تعليل زيادة في الحديث مع كونها من رواية الثقة؛ من أجل أنها جاءت على خلاف المحفوظ من رأي الصحابي راوي الحديث. قال أحمد بن حنبل: " كان شعبة يتهيب حديث ابن عمر: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. يعني يتهيبه للزيادة التي فيها: (والنهار)؛ لأنه مشهور عن ابن عمر من وجوه: (صلاة الليل)، ليس فيه: (والنهار)، وروى نافع أن ابن عمر: كان لا يرى بأساً أن يصلي بالنهار أربعاً. وبعضهم قال: أنه كان يصلي بالنهار أربعاً فلو كان حفظ ابن عمر عن النبي عليه السلام: (صلاة النهار مثنى مثنى) لم يكن يرى أن يصلي بالنهار أربعاً، وقد روي عن عبد الله بن عمر قوله: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى " (¬2). سابعاً: أن يدل على نكارة الحديث ما يجده الناقد من نفرة منه ينزه عن مثلها الوحي وألفاظ النبوة. والمقصود أن يقع ذلك الشعور لمن عايش المفردات والمعاني النبوية حتى أصبح وهو يحرك لسانه بالألفاظ النبوية، وكأنه يتذوق منها ريق النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قد يرد عليه من الرواية ما يجد له مرارة أو بعض مرارة، فيرد على قلبه الحرج في نسبة مثل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك ¬

(¬1) قال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد (يعني ابنَ حنبل) ذكر حديثاً لصالح بن كيْسان، عن الحارث بن فُضيْل الخَطمي، عن جعفر بن عبد الله بن الحكم، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي رافع، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يكون أمراءُ، يقولون ما لا يَفعلون، فمن جاهدهم بيده ". قال أحمد: " جَعفرٌ هذا هو أبو عبد الحميد بن جعفر، والحارث بن فُضيْل ليس بمحمودٍ في الحديث، وهذا الكلام لا يُشبه كلام ابن مسعود، ابنُ مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصْبروا حتى تلْقوني " (مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود ص: 307). (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 294)، ومعناه (ص: 310).

الشعور علامة على علة في الرواية، توجب عليه بحثاً عن محل الغلط منها حتى يقف عليه. وليس المقصود أن ينصب الناقد هواه ومزاجه مجرداً لقبول الحديث أو رده، فإن الرأي يخطئ مهما اعتدل وراقب صاحبه ربه، والهوى لا تعصم منه نفس. ومما وجدته يصلح لهذا مثالاً، حديث بقي في القلب منه غصة زماناً، حتى اطمأنت النفس لعلته، وهو حديث أبي سعيد الخدري: أن رجلاً أتى بابنة له إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنتي هذه أبت أن تزوج، قال: فقال لها: " أطيعي أباك "، قال: فقالت: لا، حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته، فرددت عليه مقالتها، قال: فقال: " حق الزوج على زوجته أن لو كان به قرحة فلحستها، أو انتثر منخراه صديداً أو دماً ثم لحسته ما أدت حقه "، قال: فقالت: والذي بعثك بالحق، لا أتزوج أبداً، قال: فقال: " لا تنكحوهن إلا بإذنهن ". قلت: فهذا الحديث فيما ذكر فيه من وصف حق الزوج على الزوجة بهذه الألفاظ المنفرة المستنكرة، ليس في شيء من المعهود في سنة أعف خلق الله صلى الله عليه وسلم، والذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب وجوامع الكلم، وقد فصل الله في كتابه ونبيه ذو الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم في سنته الحقوق بين الزوجين بأجمع العبارات وأحسن الكلمات، كلها من باب قول ربنا عز وجل: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228]. وأما علة الحديث فما هي مجرد النفرة من صيغة تلك العبارات، وإنما روى هذا الحديث جعفر بن عون، قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن نهار العبدي، عن أبي سعيد، به (¬1). ¬

(¬1) أخرجه ابنُ أبي شيبة (4/ 303) والنسائي في " الكبرى " (رقم: 5386) والبزار (رقم: 1465) _ كشف الأستار) وابن حبان (9/ 472 رقم: 4164) والدارقطني (3/ 237) والحاكم (2/ 188 _ 189 رقم: 2767) والبيهقي في " الكبرى " (7/ 291) من طرق عن جعفر بن عون، به، واللفظ لابن أبي شيبة والبزار.

قال البزار: " لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد، ولا رواه عن ربيعة إلا جعفر ". وقال الحاكم: " حديث صحيح الإسناد "، فتعقبه الذهبي بجرح ربيعة. وكنت اغتررت مدة بكون ربيعة هذا قد أخرج له مسلم في " الصحيح " (¬1) حديثه " المؤمن القوي "، من روايته عن محمد بن يحيى بن حبان، محتجاً به، فأجريت أمره على القبول في هذا الحديث. والتحقيق أن تخريج مسلم له لا يصلح الاحتجاج به بإطلاق، فمسلم قد ينتقي من حديث من تكلم فيه وكان الأصل فيه الثقة، فيخرج من حديثه ما تبين له كونه محفوظاً. أما هذا الحديث فالشأن كما ذكر البزار من تفرد جعفر به عن ربيعة، وهو إسناد فرد مطلق. وربيعة هذا قال يحيى بن معين ومحمد بن سعد: " ثقة "، وقال النسائي: " ليس به بأس "، لكن قال أبو زرعة الرازي: " إلى الصدق ما هو، وليس بذاك القوي "، وقال أبو حاتم الرازي: " منكر الحديث، يكتب حديثه " (¬2). قلت: والجرح إذا بان وجهه وظهر قدحه فهو مقدم على التعديل، كما شرحته في محله من هذا الكتاب، فالرجل أحسن أحواله أن يكون حسن الحديث بعد أن يزول عما يرويه التفرد، فيروي ما يروي غيره، أو يوجد لحديثه أصل من غير طريقه بما يوافقه. وليس كذلك في هذا الحديث. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (رقم 2664). (¬2) انظر ترجمته في " الجرح والتعديل " (1/ 2 / 477) و " الطبقات " لابن سعد (ص: 396 _ التتمة) " وتهذيب الكمال " (9/ 133).

وعلى هذا المعنى يحمل ما روي من حديث أبي حميد وأبي أسيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم الحديث عني، تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه ". وهذا _ فيما أرى _ حديث في صحته نظر (¬1)، ولو صح فمحمله: أن يكون شعور العارف بالسنن المخالط للعلم النبوي، المجتهد في البراءة من الهوى، دليلاً على علة في الرواية، لا يجرؤ على القول بها والطعن على الحديث حتى يقف على وجهها. * * * ¬

(¬1) جمعت طرقه، وبينت علله في كتابي " علل الحديث "، وقد أخرجه أحمد (25/ 456 رقم: 16058 _ الرسالة و 5/ 425) وابن سعد في " الطبقات " (1/ 387) والبزار (رقم: 187 _ زوائده) والطحاوي في " شرح مُشكل الآثار " (15/ 344 رقم: 6067) وابن حبان في " صحيحه " (رقم 63) وغيرهم.

المبحث الثالث: مقدمات أساسية لكشف العلة الخفية

المبحث الثالث: مقدمات أساسية لكشف العلة الخفية هذا مبحث معقود لبيان أصول لا بد من مراعاتها قبل تقحم علم تعليل الحديث، إليك بيانها: المقدمة الأولى: تمييز مراتب الرواة الثقات. وهذه أعظم المقدمات، وبيانها في نوعين: النوع الأول: معرفة مراتب الثقات الذين تدور عليهم الأحاديث الصحيحة وكيف الترجيح بينهم عند اختلافهم. وذلك كتمييز أصحاب أبي هريرة، وأصحاب عبد الله بن عمر، وأصحاب نافع مولاه، وأصحاب قتادة عن أنس، وأصحاب ثابت البناني عن أنس، وأصحاب الزهري، وأصحاب الحسن البصري، , وهكذا. وهذا طريق معتمد عند أئمة النقاد في علم (علل الحديث) يرجحون بتفاوت حفظ الثقات عمن عليهم مدار الحديث. وذلك التفاوت على صور: الأولى: المقارنة بين الثقتين في الرواية عن الشيخ الواحد المعين، كالترجيح بين أصحاب الأعمش إذا اختلفوا عليه.

وذلك كقول عثمان الدارمي: " سألت يحيى بن معين عن أصحاب الأعمش، قلت: سفيان أحب إليك في الأعمش، أو شعبة؟ فقال: سفيان أحب إلي في الأعمش. قلت: فزهير أحب إليك أم زائدة؟ فقال: كلاهما، يعني: ثبت. قلت: فأبو معاوية أحب إليك فيه أم وكيع؟ فقال: أبو معاوية أعلم به، ووكيع ثقة. قلت: فجرير أحب إليك أو ابن نمير؟ فقال: كلاهما , قلت: وابن إدريس أحب إليك أو ابن نمير؟ فقال كلاهما ثقتان، إلا أن ابن إدريس أرفع، وهو ثقة في كل شيء. قلت: فأبو عوانة أحب فيه أو عبد الواحد؟ فقال: أبو عوانة أحب إلي، وعبد الواحد ثقة، قلت: وأبو شهاب أحب إليك فيه أو أبو بكر بن عياش؟ فقال: أبو شهاب أحب إلي من أبي بكر في كل شيء. قلت: فأبو بكر أحب إليك فيه أو أبو الأحوص؟ فقال: ما أقربهما " (¬1). والثانية: بين الثقات مطلقاً في الرواية عن الشيخ الواحد المعين. كقول طائفة من النقاد: " حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت البناني " (¬2). وكقول أحمد بن حنبل: " كان عبد الملك بن أبي سليمان من الحفاظ، إلا أنه يخالف ابن جريج في أشياء. قال: وابن جريج أثبت عندنا منه. قال: عمرو بن دينار وابن جريج أثبت الناس في عطاء " (¬3). والثالثة: بين الثقتين في جملة شيوخهما. ¬

(¬1) تاريخ الدارمي (النص: 47 _ 54). (¬2) قال ذلك أحمد بن حنبل (العلل، النص: 1783، 5189)، ويحيى بن معين (سؤالات ابن الجنيد، النص: 172، رواية الدوري النص: 4299، 4483)، وعليُّ بن المديني (الجرح والتعديل 1/ 2 / 142)، ومسلم بن الحجاج (التمييز، ص: 217)، وأبو حاتم الرازي (علل الحديث، رقم 1211، 1212) وغيرهم، بل حكى مُسلم إجماعَ أئمة الحديث على ذلك. (¬3) تاريخ بغداد (10/ 406).

كقول أحمد بن حنبل في (عاصم بن بهدلة): " ثقة، رجل صالح خير ثقة، والأعمش أحفظ منه " (¬1). وسأله ابنه عبد الله عن أبي أسامة حماد بن أسامة، وأبي عاصم الضحاك بن مخلد: من أثبتهما في الحديث؟ فقال: " أبو أسامة أثبت من مئة مثل أبي عاصم " (¬2). ومن هذا الترجيح بين الثقتين في الرواية عن أهل بلدهما، كمنصور بن المعتمر والأعمش في الرواية عن الكوفيين، حيث ذهب كبار النقاد إلى ترجيح منصور، وتنازعوا في روايتهما عن إبراهيم النخعي خاصة، وعلة تقديم منصور كما قال أبو حاتم الرازي: الأعمش حافظ يخلط ويدلس، ومنصوراً أتقن لا يدلس ولا يخلط " (¬3). واعلم كذلك أن نقاد المحدثين قد يختلفون في تلك المقارنات النسبية بين الثقات. قال أحمد بن حنبل: " كنت أنا وعلي بن المديني، فذكرنا أثبت من يروي عن الزهري، فقال علي: سفيان بن عيينة، وقلت أنا: مالك بن أنس، وقلت: مالك أقل خطأ عن الزهري، وابن عيينة يخطئ في نحو من عشرين حديثاً عن الزهري، في حديث كذا، وحديث كذا، فذكرت منها ثمانية عشر حديثاً، وقلت: هات ما أخطأ فيه مالك، فجاء بحديثين أو ثلاثة، فرجعت فنظرت فيما أخطأ فيه ابن عيينة، فإذا هي أكثر من عشرين حديثاً " (¬4). قلت: فهذه الحكاية تبين طريقة النظر في ترجيح الثقات بعضهم على بعض. ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال (النص: 918). (¬2) العلل ومعرفة الرجال (النص: 5980). (¬3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 179). (¬4) العلل ومعرفة الرجال (النص: 2543).

قال مسلم بن الحجاج: " أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثاً عن مثل الزهري أو غيره من الأئمة بإسناد واحد، ومتن واحد، مجتمعون على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه، فيخالفهم في الإسناد، أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ، فيعلم حينئذ أن الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ دون الواحد المنفرد، وإن كان حافظاً، على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث، مثل شعبة، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من أئمة أهل العلم " (¬1). قلت: ومثاله تمييز طبقات أصحاب الزهري، ولأئمة الحديث فيهم مقارنات ضرورية الأخذ بالاعتبار، لتمييز المحفوظ من حديث الزهري من غيره. وقد قسم أبو بكر الحازمي أصحاب الزهري بالنظر إلى جملتهم إلى خمس طبقات (¬2)، وتبعه على قسمته غير واحد، منهم ابن رجب الحنبلي (¬3)، إليكها بمزيد تهذيب وزيادة: الطبقة الأولى: جمعت الحفظ والإتقان وطول الصحبة للزهري، والعلم بحديثه، والضبط له، كمالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد، ويونس بن يزيد الأيلي، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، وعبيد الله بن عمر العمري، محمد بن الوليد الزبيدي، وإبراهيم بن سعد، وصالح بن كيسان، وغيرهم. والطبقة الثانية: أهل حفظ وإتقان، لكن لم تطل صحبتهم للزهري، ¬

(¬1) التمييز (ص: 172). (¬2) وذلك في " شروط الأئمة الخمسة " (ص: 151 _ 155). (¬3) في " شرح علل الترمذي " (1/ 399 _ 400).

وإنما صحبوه مدة يسيرة، ولم يمارسوا حديثه، وهم في إتقان دون الطبقة الأولى، كالأوزاعي، والليث بن سعد، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وسليمان بن موسى، ونحوهم. والطبقة الثالثة: لازموا الزهري وصحبوه ورووا عنه، ولكن تكلم في حفظهم، كسفيان بن حسين، وابن أخي الزهري محمد بن عبد الله بن مسلم، ومحمد بن إسحاق، وأبي أويس عبد الله بن عبد الله المدني، وصالح بن أبي الأخضر، وزمعة بن صالح، ومحمد بن أبي حفصة، وعبد الرحمن بن أبي نمر، وسليمان بن كثير العبدي، وأسامة بن زيد، وجعفر بن برقان، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، ونحوهم. والطبقة الرابعة: قوم رووا عن الزهري من غير ملازمة ولا طول صحبة، وهم متكلم فيهم مطلقاً، مثل: إسحاق بن يحيى الكلبي، ومعاوية بن يحيى الصدفي، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وإبراهيم بن يزيد المكي، والمثنى بن الصباح، ونحوهم. والطبقة الخامسة: قوم من المتروكين والمجهولين، كالحكم بن عبد الله الأيلي، وبحر بن كنيز السقاء، وعبد القدوس بن حبيب، ومحمد بن سعيد المصلوب، ونحوهم (¬1). ومن مثاله في أصحاب قتادة عن أنس، قول أبي بكر البرديجي: " إذا ورد عليك حديث لسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مروفوعاً، وخالفه هشام وشعبة (¬2)، حكم لشعبة وهشام على سعيد، وإذا روى حماد بن سلمة ¬

(¬1) وانظر عبارات الأئمة في المقارنة بين أصحاب الزهري فيما جمعه ابن رجب في " شرح العلل " (2/ 478 _ 486). (¬2) هشامُ، هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، وشعبة هوَ ابن الحجاج.

وهمام وأبان (¬1) ونحوهم من الشيوخ عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً وخالف سعيد أو هشام أو شعبة، كان القول قول هشام وسعيد وشعبة على الانفراد، فإذا اتفقوا هؤلاء الأولون، وهم: همام بن يحيى وأبان وحماد بن سلمة، على حديث مرفوع، وخالفهم شعبة وهشام وسعيد، أو شعبة وحده، أو هشام وحده، أو سعيد وحده، توقف عن الحديث؛ لأن هؤلاء الثلاثة: شعبة وسعيد وهشام (¬2) أثبت من همام وأبان وحماد " (¬3). النوع الثاني: معرفة من هو ثقة في حال فيقبل حديثه، مجروح في حال فيرد حديثه. وهم أقسام ثلاثة (¬4): أولها: من ضعف حديثه في بعض الأوقات دون بعض. كالمختلطين للكبر، كسعيد بن أبي عروبة، وسعيد بن إياس الجريري، وعطاء بن السائب. ومن تغير حفظه بأخرة، كأبي حمزة محمد بن ميمون السكري، بعدما ذهب بصره. ومن ساء حفظه لكنه صحيح الكتاب، كعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وشريك بن عبد الله النخعي. وثانيها: من ضعف حديثه في بعض الأماكن دون بعض، وهو ثلاثة أصناف: الأول: من حدث في مكان ليس معه فيه كتابه فخلط، وحدث في مكان آخر فضبط. ¬

(¬1) همام هو ابن يحيى، وأبان هو ابن يزيد العطَّار. (¬2) القياس في العبارة النصب، لكن أهمِلتْ (سعيد) من ألف النصب، فضبطْت الجميع بالرفع على تقدير المبتدأ. (¬3) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1904) وإسناده صحيح. (¬4) هذه القسمة لابن رجب في " شرح العلل " (2/ 522 وما يليها) ولخَّصتها في التالي.

مثل معمر بن راشد في لين حديثه بالبصرة، وقوته باليمن. والثاني: من حدث عن أهل بلد اعتنى بحديثه عنهم فأتقنه، وعن آخرين فلم يضبطه. كإسماعيل بن عياش الشامي، فإنه ثقة إذا روى عن أهل بلده، ضعيف في غيرهم. والثالث: من حدث عنه أهل بلد فضبطوا، وأهل بلد آخر فلم يضبطوا. كزهير بن محمد التميمي، فإنه ثقة إذا حدث عنه أهل العراق، ضعيف إذا حدث عنه أهل الشام. وثالثها: من كان ثقة في بعض شيوخه، ضعيفاً في آخرين. كجعفر بن برقان في روايته عن الزهري خاصة، فهي ضعيفة، وهو ثقة في غيره. وسماك بن حرب عن عكرمة خاصة ضعيف، ثقة في غيره. وجرير بن حازم عن قتادة ويحيى الأنصاري في حديثه عنهما خطأ ولين، ثقة حجة عن غيرهما. ومما يشبه هذا صور: أولها: من كان رأسا في الحفظ، لكن في حفظ حديث الكبار، فإذا نزل للرواية عن الصغار والأقران لم يتقن. كالأعمش، إذا روى عن مثل الحكم بن عتيبة وحبيب بن أبي ثابت وأبي إسحاق السبيعي. ثانيها: من كان إذا جمع رواياته عن الشيوخ لم يتقن، وإذا أفردها أتقنها. كعطاء بن السائب.

المقدمة الثانية: حفظ الأسانيد المعروفة الصحة، والأسانيد المعللة

ثالثها: من كان يحدث عن شيخ مجروح فيسميه باسم ثقة، وهماً. كما وقع لأبي أسامة في روايته عن (عبد الرحمن بن يزيد بن تميم)، وهو ضعيف، فيقول فيه: (عبد الرحمن بن يزيد بن جابر)، وهذا ثقة. المقدمة الثانية: حفظ الأسانيد المعروفة الصحة، والأسانيد المعللة. وذلك يستفاد بطريقين: فتارة بتصريح أهل المعرفة، وتارة: بالممارسة لهذا الفن. كالذي قالوا فيه: أصح الأسانيد كذا، ويقابله: أوهى الأسانيد، والدرجات التي بين ذلك. والأنموذج المفيد في تمييز أصح الأسانيد: كتاب " تقريب الأسانيد " للحافظ زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي (المتوفى سنة: 806)، فقد بناه على أصح الأسانيد التي هي موازين الحديث الصحيح. وهذا تلخيص لتلك الأسانيد بحسب الصحابة: 1 _ أصحاب نافع مولى ابن عمر، عنه، عن عبد الله بن عمر. 2 _ أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، عن الأعرج، عن أبي هريرة. 3 _ أصحاب القاسم بن محمد، عنه، عن عائشة. 4 _ أصحاب الزهري، عنه عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. وعنه، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وعنه، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. وعنه، عن عبيد الله بن عتبة، عن ابن عباس. وعنه، عن أنس بن مالك. 5 _ أصحاب قتادة بن دعامة السدوسي، عنه، عن أنس.

6 _ أصحاب ثابت البناني، عنه، عن أنس. 7 _ أصحاب محمد بن سيرين، عنه، عن أبي هريرة. وعنه، عن عبيدة السلماني، عن علي بن أبي طالب. 8 _ أصحاب إبراهيم النخعي، عنه، عن علقمة، (أو الأسود)، عن عبد الله بن مسعود. 9 _ أصحاب سعيد المقبري، عنه، عن أبي هريرة. 10 _ أصحاب أبي سلمة بن عبد الرحمن، عنه، عن أبي هريرة. 11 _ أصحاب عمرو بن دينار، عنه عن جابر بن عبد الله. 12 _ أصحاب محمد بن المنكدر، عنه عن جابر بن عبد الله. 13 _ أصحاب يزيد بن أبي حبيب، عنه، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر. وهكذا. ومن ذلك معرفة الأسانيد التي دارت عليها الأحاديث الصحيحة، وشاعت واشتهرت، كثابت البناني عن أنس، يقابلها الأسانيد الواهية كأبان بن أبي عياش عن أنس. قال علي بن المديني: " لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثم بعده سليمان بن المغيرة، ثم بعده حماد بن زيد، وهي صحاح، وروى عنه حميد شيئاً، فأما جعفر فأكثر عن ثابت وكتب مراسيل، وكان فيها أحاديث مناكير. . وفي أحاديث معمر عن ثابت أحاديث غرائب ومنكرة، جعل: ثابت عن أنس أن النبي صل الله عليه وسلم كان كذا، شيء ذكره، وإنما هذا حديث أبان بن أبي عياش عن أنس " (¬1). ¬

(¬1) العلل، لابن المديني (ص: 72) حُميدٌ في السياق هو الطويل، وجعفرٌ هوَ ابن سليمان، ومَعْمرٌ هوَ ابنُ راشدٍ.

وقال ابن المديني: " أحاديث هشام عن الحسن عامتها تدور على حوشب، وأما أحاديثه عن محمد فصحاح " (¬1). وبين ابن المديني من دارت عليهم الأحاديث في الأمصار الإسلامية، ومن انتهت إليهم، وخلاصة ذلك فيما يلي: الإسناد يدور على ستة: لأهل المدينة: ابن شهاب الزهري، ولأهل مكة: عمرو بن دينار، ولأهل البصرة: قتادة بن دعامة السدوسي، ويحيى بن أبي كثير، ولأهل الكوفة: أبي إسحاق السبيعي، وسليمان بن مهران الأعمش. ثم صار علم هؤلاء الستة إلى: لأهل المدينة: مالك بن أنس، ومحمد بن إسحاق، ولأهل مكة: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وسفيان بن عيينة، ولأهل البصرة: سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وأبي عوانة، وشعبة بن الحجاج، ومعمر بن راشد، ولأهل الكوفة: سفيان بن سعيد الثوري، ولأهل الشام: الأوزاعي: ولأهل واسط: هشيم بن بشير. ثم انتهى علم هؤلاء إلى: يحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن آدم (¬2). فتمييز النقلة بمثل هذا من أسس تمييز علل الحديث، إذ هذه مقاييس يميز بها حفظ الراوي وخطؤه، أي يقوم إسناد هؤلاء مقام الميزان لسائر من يشاركهم الرواية بمثل تلك الأسانيد، موافقة ومخالفة. ¬

(¬1) العلل، لابن المديني (ص: 63). وهشام هو ابن حسان، والحسن هو البصري، وحوشبٌ هو ابنُ مسلم من أصحاب الحسن، ومُحمد هو ابنُ سيرين. (¬2) العلل، لابن المديني (ص: 36 _ 40) .......

وأمثلة ذلك كثيرة في علل الحديث. ونقربه بالمثالين التاليين. الأول: روى عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن أبي خالد الدالاني، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد، حتى غط أو نفخ، ثم قام يصلي، فقلت: يا رسول الله، إنك قد نمت. قال: " إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعاً؛ فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله " (¬1). قلت: وهذا حديث معلول عند جميع الحفاظ، كأحمد بن حنبل والبخاري وأبي داود والترمذي وابن عدي والدارقطني وغيرهم، وما شذ عنهم أحد فقواه إلا ابن جرير الطبري، والعلة فيه تعود إلى وجوه (¬2)، لكن ما نعنيه منها هنا: أن الدالاني في حفظه ضعف، وقد جاء عن قتادة بما لم يأت به أصحاب قتادة المعروفون به والمعتنون بحديثه، من الثقات المتقنين، لذا قال أبو داود السجستاني: ذكرت حديث يزيد الدالاني لأحمد بن حنبل، فانتهرني؛ استعظاماً له، وقال: " ما ليزيد الدالاني يدخل على أصحاب قتادة؟ "، ولم يعبأ بالحديث (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " (1/ 132) _ وعنه: أحمد في " المسند " وابنه عبد الله (4/ 160 رقم 2315) وأبو يعلى (4/ 369 رقم: 2487) _ وعَبد بن حميد (رقم: 659) وأبو داود (رقم: 202) _ ومن طريقه: البيهقي في " المعرفة " (1/ 361) _ والترمذي في " الجامع " (رقم: 77) و " العلل الكبير " (1/ 148) والطحاوي في " شرح المشكل " (9/ 49 رقم 3429) والطبراني في " الكبير " (12/ 157 رقم: 12748) وابنُ عدِي في " الكامل " (9/ 166) والدارقطني في " سننه " (1/ 259 _ 160) وابن شاهين في " ناسخ الحديث ومنسوخه " (رقم: 195) والبيهقي في " السنن " (1/ 121) و " الخلافيات " (رقم: 402) من طُرق عن عبد السلام، به. (¬2) كما شرحت ذلك في كتاب " علل الحديث ". (¬3) ذكر ذلك عقب رواية الحديث في " السنن "، وبنحوه كذلك في " مسائل الإمام أحمد " رواية أبي داود (ص: 355).

المقدمة الثالثة: تمييز المراسيل، ومن كان معروفا بالإرسال

والمثال الثاني: روى قران بن تمام، عن أيمن بن نابل، عن قدامة بن عبد الله بن عمار العامري، قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على ناقته، ويستلم الحجر بمحجنه " (¬1). قال أبو حاتم الرازي: " لم يرو هذا الحديث عن أيمن إلا قران، ولا أراه محفوظاً، أين كان أصحاب أيمن بن نابل عن هذا الحديث؟ " (¬2). ومن الأصول في هذا الباب أيضاً: معرفة النسخ التي تروى بها الأحاديث الكثيرة، وتمييز ما يصح منها مما لا يصح، ثم استعمال كشف علل الاختلاف فيها بحسب مراتب رواة تلك النسخ عن أصحابها، وذلك مثل: نسخة سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن جده. ونسخة بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده. ونسخة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وهذه النسخ من حيث الجملة ثابتة من صاحب النسخة إلى منتهى الإسناد، والنظر في عللها من جهة أصحاب سهيل وبهز وعمرو، في مواضع اتفاقهم واختلافهم وانفرادهم. المقدمة الثالثة: تمييز المراسيل، ومن كان معروفاً بالإرسال من الرواة، وتبين مواضع سماعهم من عدمه. ويدل على الطريق: معرفة الفرق بين التدليس والإرسال، ومعرفة تواريخ الرواة. ¬

(¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في " زَوائد المسند " (24/ 138 _ 139 رقم 15414) وأبو يعلى (2/ 229 رقم: 928) والفاكهي في " تاريخ مكة " (رقم: 469) وابن قانع في " معجم الصحابة " (2/ 358) والطبراني في " الأوسط " (9/ 14 _ 15 رقم: 8024) و " الكبير " (19/ 38 رقم: 80) وابن عدي في " الكامل " (2/ 147) وأبو نعيم في " معرفة الصحابة " (4/ 2348 رقم 5771) من طرق عن قرَّان، به. والمِحجن: عصا معقوفة الرأس. (¬2) علل الحديث (رقم: 886) .......

ومما ينبه عليه من هذا على التعيين أمور ثلاثة: أولها: أن يكشف الغلط في التصريح بالسماع من الثقة، وأن الصواب الإرسال، وهذا من أغمضها. مثل: سماع محمد بن كعب القرظي من ابن مسعود، والحسن البصري من أبي هريرة. ومن مثاله في روايات الثقات: ما رواه أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، عن صفوان بن عمرو، عن يحيى بن جابر الطائي، قال: سمعت النواس بن سمعان، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ قال: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يعلمه الناس " (¬1). قال أبو حاتم الرازي: " هذا حديث خطأ، لم يلق ابن جابر النواس ". قال ابن أبي حاتم: " الخطأ يدل أنه من أبي المغيرة فيما قال: (سمعت النواس)، وذلك أن إسماعيل بن عياش روى عن صفوان بن عمرو عن يحيى بن جابر عن النواس، لم يذكر السماع، فيحتمل أن يكون أرسله، ويحيى بن جابر كان قاضي حمص، يروي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس " (¬2). قلت: وكذلك وقع في بعض الرواية عن أبي المغيرة على مثل ما ذكره ابن أبي حاتم عن ابن عياش (¬3)، وتابع ابن عياش على روايته كذلك: ¬

(¬1) أخرجه ابنُ أبي حاتم الرازي في " علل الحديث " (رقم: 1849) والطبراني في " مُسند الشاميين " (رقم: 980) والبيهقي في " الشعب " (5/ 457 رقم: 7273) من طرق عن أبي المغيرة، بذكْر السماع بين يحيى بن جابر والنواس. (¬2) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1849). (¬3) أخرجه أحمد (29/ 180 رقم 17632) والدارمي (رقم: 2687) كلاهما عن أبي المغيرة بالعنعنة.

أبو اليمان الحكم بن نافع (¬1)، وروى الحديث معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه، عن النواس، فكان دليلاً آخر على أن يحيى بن جابر أرسله؛ لما عرف من روايته عن النواس بواسطة (¬2). وثانيها: الانقطاع في محل قامت القرائن على قوة الاتصال فيه، كالإدراك والقدم واحتمال اللقاء. كرواية سعيد بن المسيب عن أنس. ومما ينبغي التنبه له هنا أيضاً: أن لا تغتر بترجيح الاتصال في موضع بينوا فيه الإرسال، استدلالاً بتصحيح بعض أهل العلم حديثاً جاء من ذلك الوجه، كما يقع بعض ما يصححه الترمذي، وإن كان قليلاً. وثالثها: ملاحظة الرواة الذين سمعوا من بعض الشيوخ حديثاً أو عدداً، ولم يسمعوا منهم ما سواها. كرواية الحكم بن عتيبة عن مقسم. ويلاحظ في هذا: من سمع يسيراً، وأخذ ما سواه إجازة أو وجادة، كالحسن البصري عن سمرة بن جندب، وأبي سفيان عن جابر بن عبد الله، ولا أعني بذلك تسليم وقوف الإرسال هنا؛ لما قدمت في الكلام على (ركن ¬

(¬1) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 339) والطبراني في " مسند الشاميين (رقم: 980) وابن قانع في " معجم الصحابة " (3/ 163) والبيهقي في " الشعب " (6/ 236 رقم 7995). قلت: عطف الطبراني رواية أبي المغيرة بذكر سماع يحيى بن جابر من النواس على رواية أبي اليمان، فقال: (حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو اليمان، ح، وحدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا أبو المغيرة، قالا: حدثنا صفوان .. ). فحمل سِياق أبي اليمان على سياق أبي المغيرة، وذكْر السماع إنما هو في رواية أبي المغيرة، ولذا، فإن من أخرجه عن أبي اليمان مُفرداً لا يذكر فيه سَماعاً بين يحيى بن جابر والنواس. (¬2) شرحت علة هذه الرواية بذكْر السماع في كتاب " علل الحديث " .......

المقدمة الرابعة: تمييز ما يدخل على أحاديث بعض الثقات، وهما أو تعمدا

الاتصال) أن الرواية بهذا الطريق متصلة، وإنما نبهت عليه ليلاحظ في كلام نقاد الحديث (¬1). المقدمة الرابعة: تمييز ما يدخل على أحاديث بعض الثقات، وهماً أو تعمداً. مثل: ما حكاه ابن حاتم الرازي، قال سألت أبي عن حديث رواه أبو عقيل بن حاجب (¬2)، عن عبد الرزاق، عن سعيد بن قماذين (¬3)، عن عثمان بن أبي سليمان، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن حبشي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تطرقوا الطير في أوكارها؛ فإن الليل أمان لها "؟ فقال أبو حاتم: " يقال: إن هذا الحديث مما أدخله على عبد الرزاق، وهو حديث موضوع " (¬4). قلت: والعلة فيما حكاه أبو حاتم أن عبد الرزاق الصنعاني، وهو ثقة حافظ، قد ذهب بصره بعدما كبر، فصاروا يلقنونه ما ليس من حديثه الذي في كتبه، فيتلقن، فلقن أحاديث موضوعة. وهكذا كل ثقة كان يقبل التلقين بأخرة، كالذي جاء أيضاً عن سويد بن سعيد الحدثاني، وعثمان بن صالح بن صفوان المصري، وعبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد، وعليه محمل ما روي عنهم من المنكرات بالأسانيد النظيفة. وصح عن بسر بن سعيد، قال: " اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، ¬

(¬1) وانظر ما سيأتي في (المقدمة الحادية عشرة). (¬2) واسمه مُحمد بن حاجب، يُلقَّب ب (شاه) المروزي، صدوق. (¬3) هو سعيد بن مسلم بن قماذين اليماني. (¬4) علل الحديث (2/ 48) .......

المقدمة الخامسة: تمييز التدليس، ومعرفة ما يقع من بعض الثقات من تدليس الأسماء

فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا عن كعب (¬1)، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا بجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). وقد يقع مثل هذا بسبب تدليس التسوية (¬3). كما قال الهيثم بن خارجة: قلت للوليد بن مسلم: قد أفسدت حديث الأوزاعي، قال: كيف؟ قلت: تروي عن الأوزاعي عن نافع، وعن الأوزاعي عن الزهري، وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد، وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبد الله بن عامر الأسلمي، وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة، وقرة، وغيرهما، فما يحملك على هذا؟ قال: أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء. قلت: فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء، وهؤلاء ضعفاء، أحاديث مناكير، فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضعف الأوزاعي، فلم يلتفت إلى قولي (¬4). قلت: فأحاديث الضعفاء تدخل على الثقة بمثل هذا، فتفطن إليه، ولاحظ له المقدمة التالية. المقدمة الخامسة: تمييز التدليس، ومعرفة ما يقع من بعض الثقات من تدليس الأسماء. وفيه أصول: أولها: تمييز من عرف بالتدليس عن المجروحين والمجهولين. ثانيها: تمييز من اشتهر بالتدليس وكثر منه، فيطلب سماعه. ¬

(¬1) يعني كعْب الأحبار. (¬2) أخرجه مسلم في " التمييز " (ص: 175) وإسناده صحيح. (¬3) سيأتي بيانُ معناه في (القسم الثاني) من هذا الكتاب. (¬4) أخرجه ابن عساكر في " تاريخه " (63/ 291 _ 292) بإسناد صحيح.

المقدمة السادسة: تمييز بلدان الرواة، ومعرفة ما يتفردون به من السنن

وثالثها: تمييز المقلين من التدليس، وإسقاط تأثير الوصف بالتدليس في حديثهم، ما لم يثبت التدليس في حديث بعينه. رابعها: تمييز ما لم يدلس فيه المدلس مع عدم ذكره للسماع. كرواية يحيى القطان عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة (¬1)، وروايته عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي (¬2). خامسها: تمييز من كان يدلس، لكنه لا يدلس عن بعض الشيوخ. سادسها: تمييز ما أطلق من وصف (التدليس) على الراوي وأريد به الإرسال، ظاهراً كان أو خفيا. في تفصيل تبينه مما يأتي في الكلام على (الحديث المدلس). المقدمة السادسة: تمييز بلدان الرواة، ومعرفة ما يتفردون به من السنن. فما من أهل مصر من الأمصار الكبرى في صدر الإسلام بعد انتشار الصحابة في البلاد إلا ووقع لهم من السنن التي ليست لغيرهم، يرويها أهل تلك البلاد بأسانيدهم. فأهل المدينة أعلم بالسنن عن عبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد ¬

(¬1) تقدمة الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (1/ 241). (¬2) أخرج ذلك أحمد في " العلل " (النص: 1218، 3567، 4320)، وكذلك نقل عليُّ بن المديني عن يحيى القطان، كما في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 175). وفي " جامع التحصيل " للعلائي (ص: 173) استثناءُ خمس روايات: خبر المغيرة بن شعبة في شأن الثلاثة الذين شهدوا عليه، وقول للشعبي في الجراحات، وشِعر يُروى عن أيمن بن خُريم، وخبر عن الشعبي في رجل خيَّر امرأته، والخامسة عن علي في رجل تزوَّج امرأة على أن يعتق أباها. والخبران الأخيران خاف يحيى أن لا يكون إسماعيل سمعهما من الشعبي .......

المقدمة السابعة: تمييز المتشابه من الأسماء والكنى والألقاب

الخدري وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأهل مكة أعلم بالسنن التي نقلها عبد الله بن عباس، وأهل الكوفة بالسنن التي نقلها علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وأهل البصرة بالسنن التي نقلها أنس بن مالك، وأهل الشام بالسنن التي نقلها معاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، ومعاوية بن أبي سفيان، وأهل مصر بالسنن التي نقلها عبد الله بن عمر بن العاص، وأهل مرو بالسنن التي نقلها بريدة الأسلمي، وهكذا. فإذا روى المدني سنة عن ابن مسعود ليست عند أهل الكوفة، أو الكوفي سنة عن ابن عمر ليست عند أهل المدينة، كان ذلك عند الناقد شبهة وعلامة على العلة. ولا طريق إلى معرفة هذا دون تمييز هذه المقدمة. المقدمة السابعة: تمييز المتشابه من الأسماء والكنى والألقاب. وقد بينت أهمية هذا النوع من العلم للكشف عن حقيقة الراوي، إذ الاشتباه قد يصير الحديث الواهي صحيحاً، كأن يجد الطالب حديثاً يأتي في إسناده (عن عبد الكريم عن سعيد بن جبير) فيفسره على أنه (عبد الكريم بن مالك الجزري) وهو ثقة، فيقضي بصحة الإسناد، وحقيقته (عبد الكريم بن أبي المخارق) وهو واه متروك. وتأمل أثر ذلك في المثال التالي: ...... روى الفضل بن موسى السيناني، عن حسين بن واقد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وددت أن عندي خبزة بيضاء من برة سمراء ملبقة بسمن ولبن "، فقام رجل من القوم فاتخذه، فجاء به، فقال: " في أي شيء كان هذا؟ "، قال: في عكة ضب، قال: " ارفعه " (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (رقم: 3818) وابن ماجة (رقم: 3341) والطحاوي في " شرح المعاني " (4/ 199) والعقيلي في " الضعفاء " (1/ 251) والبيهقي في" الكبرى " (9/ 326) و " الشعب " (5/ 113 رقم: 6002) من طرُق عن الفضل بن موسى، به. وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (10/ 234 رقم 15078) من طريق أبي تُراب عسْكر بن الحصين النخشبيِّ الزاهد، حدثنا نُعيم بن حماد ومعاذ بن أسد، قالا: عن الفضل، به. لكنه قال: (أيوب السختياني)، وقد رواه الطحاوي من طريقين آخرين عن نعيم بن حماد، والعقيلي من طريق آخر عن معاذ بن أسد (تحرف إلى راشد)، ولم يذْكرا (السختياني)، فزيادته وهْمٌ من أبي تراب، أو إدراج ممن دونه.

قلت: هذا الحديث بإسناد إذا نظره الطالب قال: هذا إسناد نظيف، جميع رجاله ثقات لا يعرفون بتدليس، وأيوب عن نافع عن ابن عمر من أصح الأسانيد، إذ أيوب إذا جاء في مثل هذا الإسناد فهو السختياني الإمام الثقة الحافظ. لكن أئمة الشأن ردوه وأنكروه: فمنهم من حمل فيه على حسين بن واقد، كما قال الثقة أحمد بن أصرم: سمعت أحمد بن حنبل، وقيل له في حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي عليه السلام في الملبقة؟ فأنكره أبو عبد الله، وقال: " من روى هذا؟ "، قيل له: الحسين بن واقد، فقال بيده، وحرك رأسه، كأنه لم يرضه (¬1). ومنهم من قال: أيوب هذا ليس بالسختياني. كما قال أبو داود بعد أن أخرج الحديث: " هذا حديث منكر، وأيوب ليس هو السختياني ". ومنهم من عين أن أيوب هذا هو أيوب بن خوط أحد المتروكين الهلكى، ووجدوا حسين بن واقد يروي عنه كما يروي عن السختياني، فدخلت الشبهة من الاشتراك. فسأل ابن أبي حاتم أباه عن الحديث؟ فقال: " هذا حديث باطل، ولا يشبه أن يكون من حديث أيوب السختياني، ويشبه أن يكون من حديث أيوب بن خوط ". ¬

(¬1) أخرجه العقيلي (1/ 251).

المقدمة الثامنة: تمييز المقلين من الرواة والمكثرين

قال ابن أبي حاتم: قلت: فأيوب بن خوط، يروي عن نافع؟ قال: " نعم، وهو متروك الحديث "، قلت: فحسين بن واقد، روى عن أيوب بن خوط شيئاً؟ قال: " لا أدري " (¬1). قلت: وفي " الجرح والتعديل " ذكر أبو حاتم أن ابن خوط هذا روى عن نافع، وروى عنه حسين بن واقد (¬2). ولابن حبان كلمة فصل في (الحسين بن واقد)، قال: " ربما أخطأ في الروايات، وقد كتب عن أيوب السختياني، وأيوب بن خوط، جميعاً، فكل حديث منكر عنده عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، إنما هو أيوب بن خوط، وليس بأيوب السختياني " (¬3). قلت: فتطابقت كلمات النقاد في إنكار الحديث حيث لم يكن عند أحد من أصحاب أيوب السختياني المتقن الحافظ المكثر، ووجدوه من باب أحديث ابن خوط المتروك، فتعين التفسير للإهمال به، استدلالاً بما ظهر من نكارة الحديث، وبما اعتضد به ثقة حسين بن واقد في سائر حديثه، مع ما قام من الدليل عند بعضهم أن حسيناً روى عن الرجلين. فتأمل مادل عليه اعتبار توضيح المشتبه في هذا الباب. المقدمة الثامنة: تمييز المقلين من الرواة والمكثرين. وهذا الأصل معتبر في الصحابة فمن بعدهم من الرواة. فأما في الصحابة ففائدته معرفة من عليهم مدار السنن، وأن لا يستغرب أن يوجد عند المكثر من أفراد الحديث ما ليس عند غيره، كأبي هريرة في كثرة ما روى، حتى ندر من الأبواب ما لا توجد له فيه رواية. ¬

(¬1) علل الحديث (2/ 19 رقم: 1531). (¬2) انْظر: " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 246) ....... (¬3) الثقات (6/ 209 _ 210).

المقدمة التاسعة: تمييز أصح ما يروى في الباب

بينما ترى الرواية عن الخلفاء الراشدين مثلاً قليلة. قال علي بن المديني: " أحاديث أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة قليلة " (¬1). والأحاديث عن علي بن أبي طالب مع تأخره عنهم أيضاً قليلة، وأكثر ما ينسب أو يروي عنه من الحديث لا يصح. كذلك الصحابي لا يعرف له إلا الحديث الواحد أو الأحاديث اليسيرة، فإن روي عنه الشيء غيره كان ذلك المروي عند الناقد محلاً للنظر. وأما غير الصحابة، فالزهري مثلاً في كثرة حديثه لا ينكر له التفرد، بينما الراوي لا يروي إلا القليل، يروي ما لا يشارك فيه فهو محل نظر، وإن كان ثقة، فقلة حديثه تنبئ عن ضعف اهتمامه بالنقل، وإن كان اكتسب ثقته من أجل عدم ظهور وجه القدح فيه في نفسه وفي شيء مما رواه، إلا أن حال مثله حال في قلة الحديث توجب تحرياً لإثبات حفظه لما رواه. ولذا كان أئمة الجرح والتعديل ينبهون كثيراً على قلة حديث الراوي أو كثرته؛ ليعرف محله في الاعتناء بهذا العلم من عدمه، وليعتبر ذلك في تمحيص رواياته. المقدمة التاسعة: تمييز أصح ما يروى في الباب. ومن هذا قولهم: (أصح شيء في الباب حديث فلان) أو (حديث كذا)، وهو كثير في الأبواب التي وردت فيها الأحاديث المختلفة. كقول أحمد بن حنبل في حديث ثوبان: " أفطر الحاجم والمحجوم ": " هو أصح ما روي في هذا الباب " (¬2). ¬

(¬1) التاريخ وأسماء المحدثين، للمقدمي (ص: 161) ....... (¬2) أخرجه الحاكم في " المستدرك " (1/ 427 بعد رقم: 1559) وإسناده صحيح.

المقدمة العاشرة: تمييز الأبواب التي لا يثبت فيها حديث

وقال علي بن المديني في حديث رافع بن خديج في ذلك: " لا أعلم في الحاجم والمحجوم حديثاً أصح من هذا " (¬1). وقال البخاري في أحاديث الوضوء من مس الذكر: " أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة " (¬2). وقال الترمذي في حديث عبد الله بن زيد في مسح الرأس في الوضوء: " أصح شيء في هذا الباب وأحسن " (¬3)، وله مثل هذا نظائر أخرى. هذه العبارة لا تفيد صحة الحديث عند قائلها، لكن فائدتها أن جميع ما سوى ذلك الحديث عند الناقد صاحب العبارة فهو دونه في القوة، ففيها إذا الإشارة إلى منزلة سائر الأحاديث في الباب. والناقد يقول العبارة فيه قد يخالفه فيها غيره من النقاد، كما بين عبارة أحمد بن حنبل وابن المديني في شأن أصح شيء في الحاجم والمحجوم، إذ كل منهما قال غير مقالة الآخر، ولكن المقصود أن يحيط المعتني بتمييز علل الحديث بمثل هذا كما يحيط بأقاويلهم في بيان أحوال النقلة، ويعمل على تحرير الراجح منها. المقدمة العاشرة: تمييز الأبواب التي لا يثبت فيها حديث. هذا أصل خصه بالتصنيف بعض الحفاظ، كالحافظ عمر بن بدر الموصلي (المتوفى سنة: 622) في كتاب " المغني عن الحفظ والكتاب، في قولهم: لا يصح شيء في هذا الباب ". وهذا باب يدخله اجتهاد، ويرجع إلى قدر إحاطة العلم بطرق الأحاديث، لكن العبارة فيه إذا كانت من مقدمي أئمة هذا العلم، فقلما تترك سبيلاً للتعقب بضدها. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم (1/ 428 بعد رقم: 1561) وإسناده صحيح. (¬2) نقله الترمذي في " الجامع " (بعد الحديث: 84). (¬3) الجامع (رقم: 32) .......

المقدمة الحادية عشرة: تفقد صيغ التحمل والأداء

وفي كلام الأئمة النقاد كثير من العبارات في ذلك، من أمثلتها: 1_ البسملة عند الوضوء. قال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: فما وجه قوله: " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "، قال: " فيه أحاديث ليست بذاك، وقال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}، فلا أوجب عليه، وهذا التنزيل، ولم تثبت سنة " (¬1). 2 _ الغسل من غسل الميت. قال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد (يعني ابن حنبل) ذكر فيمن غسل ميتاً فليغتسل؟ فقال: " ليس يثبت فيه حديث " (¬2). وهكذا نقل البخاري عن أحمد وعلي بن المديني قالا: " لا يصح من هذا الباب شيء " (¬3). 3 _ زكاة العسل. قال البخاري: " ليس في زكاة العسل شيء يصح " (¬4). المقدمة الحادية عشرة: تفقد صيغ التحمل والأداء، كالسماع والإجازة والعنعنة والوجادة. فقد يقوم الدليل على خطأ ذكر السماع في أي محل من الإسناد، كما أن طائفة من العلماء أعلت بالرواية ببعض هذه الطرق، كالوجادة. ¬

(¬1) تاريخ أبي زُرعة الدمشقي (1/ 631 _ 632). (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 309). (¬3) العلل الكبير، للترمذي (1/ 402). (¬4) العلل الكبير، للترمذي (1/ 312) .......

المقدمة الثانية عشرة: تمييز الإدراج للألفاظ في سياقات المتون

كما قال أحمد بن صالح المصري في (عطاء بن دينار): " هو من ثقات أهل مصر، وتفسيره فيما يروي عن سعيد بن جبير صحيفة، وليست له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير "، وقال أبو حاتم الرازي: " صالح الحديث، إلا أن التفسير أخذه من الديوان، فإن عبد الملك بن مروان كتب يسأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بن جبير بهذا التفسير إليه، فوجده عطاء بن دينار في الديوان فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير " (¬1). وقد بينت ما يتصل بذلك وما يقبل وما لا يقبل منه في محله من هذا الكتاب، وإنما المقصود أن يعتبر الباحث عن علل الحديث هذه الطرق، وصحتها حيث ترد. وتفطن منها إلى العنعنة، فإن الثقة قد يروي الحديث بها، ولا يذكر بالتدليس، لكنها مظنة للإرسال، فتأمل ذلك واستقصه، حتى تنتفي مظنته. المقدمة الثانية عشرة: تمييز الإدراج للألفاظ في سياقات المتون. وهذا يتبين بالاعتناء بجمع ألفاظ الحديث عند استقصائه من محال تخريجه، وجمع متابعاته، فذلك طريق كشف زيادات الرواة، واستظهار القرائن الدالة على الإدراج. وهو أمر يهمله أغلب المتعرضين لعلم الحديث من المتأخرين، وخصوصاً المعاصرين، مع أن تحرير المتون هو الغاية من النظر في الأسانيد. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 1 / 332) .......

القسم الثاني أصناف الحديث من جهة القبول والرد

القسم الثاني أصناف الحديث من جهة القبول والرد

الباب الأول الحديث المقبول

الباب الأول الحديث المقبول

الفصل الأول الحديث الصحيح

الفصل الأول الحديث الصحيح

المبحث الأول تعريف الحديث الصحيح

المبحث الأول تعريف الحديث الصحيح المتحرر في تعريف الحديث الصحيح من مجموع عبارات المتقدمين واستعمالهم، هو: الحديث الذي يجمع الشروط الأربعة التالية: الأول: اتصال السند. والثاني: عدالة الرواة. والثالث: ضبط الرواة. والرابع: السلامة من العلل المؤثرة. وجرى المتأخرون على جعل نفي الشذوذ شرطاً مستقلاً غير نفي العلة، والتحقيق: أنه صورة من صور العلل المؤثرة، وأئمة النقاد في هذا الفن أعلوا بالشذوذ في معنى التعليل بسائر العلل غير الظاهرة. والحديث إذا حقق الشروط المتقدمة مجتمعة فهو (الحديث الصحيح لذاته)، وإن تخلف شرط فلا يوصف بالصحة.

ومن عبارات الأئمة المتقدمين في تعريف الحديث الصحيح ما يلي: 1 _ قال الشافعي: " ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً: منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه. معروفاً بالصدق في حديثه. عاقلاً لما يحدث به. عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ. وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث. حافظاً إذا حدث به من حفظه. حافظاً لكتابه إذا حدث من كتابه. إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم. بريا من أن يكون مدلساً: يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث الثقات خلافه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهى بالحديث موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى من انتهي به إليه دونه؛ لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه، ومثبت على من حدث عنه، فلا يستغني في كل واحد منهم عما وصفت " (¬1). 2_ وقال أبو بكر الحميدي: " فإن قال قائل فما الحديث الذي يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزمنا الحجة به؟ ¬

(¬1) الرسالة (النص: 1000 _ 1002) .......

قلت: هو أن يكون الحديث ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، متصلاً غير مقطوع، معروف الرجال، أو يكون حديثاً متصلاً حدثنيه ثقة معروف عن رجل جهلته، وعرفه الذي حدثني عنه، فيكون ثابتاً يعرفه من حدثنيه عنه حتى يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يقل كل واحد ممن حدثه: (سمعت) أو: (حدثنا) حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أمكن أن يكون بين المحدث والمحدث عنه واحد أو أكثر؛ لأن ذلك عندي على السماع؛ لإدراك المحدث من حدث عنه حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولازم صحيح يلزمنا قبوله ممن حمله إلينا إذا كان صادقاً، مدركاً لمن روى ذلك عنه. مثل شاهدين شهدا عند حاكم على شهادة شاهدين، يعرف الحاكم عدالة اللذين شهدا عنده، ولم يعرف عدالة من شهدا على شهادته، فعليه إجازة شهادتهما على شهادة من شهدا عليه، ولا يقف عن الحكم بجهالته بالمشهود على شهادتهما. فهذا الظاهر الذي يحكم به، والباطن ما غاب عنا من وهم المحدث، وكذبه، ونسيانه، وإدخاله بينه وبين من حدث عنه رجلاً أو أكثر، وما أشبه ذلك مما يمكن أن يكون ذلك على خلاف ما قال؛ فلا نكلف علمه، إلا بشيء ظهر لنا، فلا يسعنا حينئذ قبوله؛ لما ظهر لنا منه " (¬1). 3_ وقال الحافظ محمد بن يحيى الذهلي: " لا يجوز الاحتجاج إلا بالحديث الموصل غير المنقطع، الذي ليس فيه رجل مجهول، ولا رجل مجروح (¬2). 4 _ وقال ابنه الثقة يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي: " لا يكتب الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يرويه ثقة عن ثقة، حتى يتناهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة، ولا يكون فيهم رجل مجهول، ولا رجل مجروح، فإذا ثبت ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 63 _ 64) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 56) وإسناده جيد.

المراد بشروط صحة الحديث على سبيل الإجمال

الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة؛ وجب قبوله، والعمل به وترك مخالفته " (¬1). قلت: وشرط صاحبي الصحيح، ومن عرف عنه من الأئمة المتقدمين الحكم على الحديث بالصحة، وطرقهم في تعليل الحديث، مع هذه التعاريف عن هؤلاء الأعلام، استخلصنا منه هذه القيود كحد للحديث الصحيح. وعلى المنهج ذاته جرى المتأخرون كابن الصلاح فمن بعده في تعريف الحديث الصحيح، واجتهدوا على حصره بأوصاف هي واضحة المعالم في الجملة، سوى ما حصل من مناقشات لهم في اشتراط نفي الشذوذ مستقلاً بالشرط عن شرط نفي العلة، وكذلك في اشتراط نفي العلة مطلقاً، أو مقيداً بالقادحة. وما حرزته من عبارات جميعهم فمغن إن شاء الله عن الإيراد والنزاع، وناقل إلى اعتبار تحرير المراد بهذه الأوصاف، لا الإسهاب في كلام نظري أطال فيه المتأخرون دون فائدة تذكر سوى القصد إلى تقويم تعريف ابن الصلاح. المراد بشروط صحة الحديث على سبيل الإجمال: تحرير المراد بالشروط الأربعة المتقدمة المثبت اجتماعها صحة الحديث، سبق مفصلاً في فصوله ومباحثه من هذا الكتاب، وإنما يوجب فهم التعريف إيضاح المراد بقيوده، ودفع محترزاته، وبيانها كالآتي: الشرط الأول: اتصال السند. المراد به: أن يكون كل راو من رواة الإسناد أخذ الحديث ممن فوقه ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 56) وإسناده صحيح .......

الشرط الثاني: عدالة الرواة

مباشرة، وذلك بصيغة من صيغ التحمل الصريحة بالسماع كأن يقول: (سمعت فلاناً)، أو الصريحة بالاتصال دون سماع كالمكاتبة من الشيخ للتلميذ بخط موثوق به، أو المحتملة للسماع احتمالاً راجحاً، كالعنعنة ممن انتفت عن روايته عن شيخه شبهة الانقطاع بتدليس أو إرسال. فيخرج بذلك المنقطع في جميع صوره، وألقابه المعروفة في هذا العلم هي: المنقطع، والمرسل، والمعضل، والمدلس، والمعلق. الشرط الثاني: عدالة الرواة. العدالة: استقامة الراوي في الظاهر على طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وطريق تمييز الطاعة: الكتاب والسنة، وذلك فيما لا يحتمل خلافاً من نصوصهما. فخرج به: ...... رواية الفاسق بالكذب في الحديث، أو في لسانه في غير الحديث، ومن يدعي سماع ما لم يسمع، أو الفاسق بالمعصية التي لا يدخلها تأويل كشرب الخمر المتفق على حرمته، ورواية الكافر. ولا يقدح في العدالة شيء مما يلي: أولاً: فعل المباحات مجردة عن المخالفة في أمر آخر، وإن جرى العرف على العيب بها. ثانياً: موافقة الصغيرة بمجرده؛ من أجل انتفاء العصمة منه. ثالثاً: موافقة المعاصي بالتأويل؛ لاعتقاد المواقع كونها مباحة. رابعاً: البدعة غير القاضية بكفر صاحبها لعينه؛ لكون الأصل فيه قصد إصابة الحق. وقد تشددت طائفة فقدحت في الرواة بما تقدم، وحررت المذهب الراجح من مذاهب أهل العلم في الفصول المعقودة لذلك من هذا الكتاب.

الشرط الثالث: ضبط الرواة

الشرط الثالث: ضبط الرواة. والمعتبر في الضبط أن يكون الراوي حافظاً لحديثه، إما عن ظهر قلب، وإما في كتاب متقن صحيح، بحيث يقدر على أداء الحديث كما سمعه، لفظاً أو معنى، على ما تقدم شرحه في القسم الأول. واعتبار الحفظ شرط لا يختلف فيه لصحة الحديث. وأما فقه الراوي فوجده ليس علامة على كونه ضابطاً؛ فإن من الفقهاء من كان همه الاستدلال للمسألة، فلا يبالي كيف ساق متن الحديث، فربما تصرف في لفظه وحدث به على ما فهم، وهذا كثير شائع في كتب الفقه. كما أن طائفة منهم لغلبة اعتنائها بالفقه فإنهم لم يكونوا يقيمون الأسانيد، فتراهم تكثر في رواياتهم المراسيل، وحمل اللفظ على اللفظ، وإدخال حديث في حديث، مثل الفقيه: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬1). لا ريب أن الفقه إذا انضم إلى الحفظ فهو مزية للتقديم، ولكنه ليس بشرط يطلب لصحة الحديث. وقد كان أئمة السلف يعتبرون فقه الراوي مع حفظه مرجحاً على مجرد الحفظ، وإنه والذي نفسي بيده لجدير بذلك. كما جاء عن وكيع بن الجراح، قال: " أيما أحب إليكم: سفيان عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي؟ أو سفيان عن منصور، عن إبراهيم، قال: قال علي؟ "، قيل له: أبو إسحاق عن عاصم عن علي، قال: " كان حديث الفقهاء أحب إليهم من حديث المشيخة " (¬2). ¬

(¬1) انظر: المجروحين، لابن حبان (1/ 93) ....... (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 25) وإسناده صحيح.

كذلك قال الثقة عبد الله بن هاشم النيسابوري: قال لنا وكيع: " أي الإسنادين أحب إليكم: الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله؟ أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؟ "، فقلنا: الأول، فقال: " الأعمش شيخ، وأبو وائل شيخ، وسفيان فقيه، ومنصور فقيه، وإبراهيم فقيه، وعلقمة فقيه، وحديث يتداوله الفقهاء خير مما يتداوله الشيوخ " (¬1). وكان مالك بن أنس لا يحمل الحديث عمن لم يكن يفهمه، حيث قال: " لقد تركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم من العلم شيئاً، وإنهم لممن يؤخذ عنهم العلم، وكانوا أصنافاً: فمنهم من كان كذاباً في غير علمه، تركته لكذبه، ومنهم من كان جاهلاً بما عنده، فلم يكن عندي موضعاً للأخذ عنه لجهله، ومنهم من كان يدين برأي سوء " (¬2). وقال مالك: " أدركت بالمدينة مشايخ أبناء مئة وأكثر، فبعضهم قد حدثت بأحاديثه، وبعضهم لم أحدث بأحاديثه كلها، وبعضهم لم أحدث من أحاديثه شيئاً، ولم أترك الحديث عنهم لأنهم لم يكونوا ثقات فيما حملوا، إلا أنهم حملوا شيئاً لم يعقلوه " (¬3). وقد شدد ابن حبان، فجعل الفقه شرطاً في راوي الحديث الصحيح، وبين علة ذلك بقوله: " إذا كان الثقة الحافظ لم يكن فقيهاً وحدث من حفظه، فربما قلب المتن، وغير المعنى؛ حتى يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه، ويقلب إلي شيء ليس منه وهو لا يعلم، فلا يجوز عندي ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي في" الكامل " (1/ 172) والحاكم في " تاريخه " (كما في " السير " 12/ 328 ـ 329) والسياق له، والبيهقي في " المدخل " (رقم: 14، 15) وإسناده صحيح. وأخرجه الرامهرمزي (ص: 238) عن شيخٍ مجهول بإسناده إلى ابن هاشم. كما أخرجه الحاكم في " المعرفة " (ص: 11) والخطيب في " الكفاية " (ص: ) من رواية علي بن خشرم، عن وكيع. (¬2) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 65) بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 67) وإسناده حسن.

الاحتجاج بخبر من هذا نعته، إلا أن يحدث من كتاب، أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار " (¬1). قلت: وهذا تعليل ذاهب الأثر باشتراطنا الإتقان للمحفوظ؛ إذ القلب في الرواية وتغيير المعنى مظنة لا تجتمع في الراوي مع نعته بالحفظ. قال الخطيب: " إن لم يكن من أهل العلم بمعنى ما روى لم يكن بذلك مجروحاً؛ لأنه ليس يؤخذ عنه فقه الحديث، وإنما يؤخذ منه لفظه، ويرجح في معناه إلى الفقهاء، فيجتهدون فيه بآرائهم " (¬2). واستدل لذلك بحديث: " نضر (¬3) الله امرأ سمع منا حديثاً، فبلغه كما سمعه. . " الحديث (¬4). قلت: وهذا الذي قاله الخطيب هو الصواب، ولو تأملت حال أكثر النقلة الثقات لم تجدهم ممن عرف بالفقه، أو حتى ذكر به أصلاً، فالعبرة بثقة الراوي وصحة الإسناد. قال صالح بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صح مثل حديث سعيد وأبي سلمة، والرواية عن علقمة والأسود عن ابن مسعود، والرواية عن سالم عن ابن عمر، إذا رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " كل ثقة، وكل يقوم به الحجة إذا كان الإسناد صحيحاً " (¬5). وذكر ابن رجب كلام ابن حبان المتقدم، وقال: " وفيما ذكره نظر، ¬

(¬1) المجروحين (1/ 93) ....... (¬2) الكفاية (ص: 157). (¬3) بالتخفيف أصح، وانظر ما تقدم من تعليقٍ بخصوصه في (المبحث السابع) من مباحث (تفسير التعديل). (¬4) سبق تخريجه في القسم الأول في المبحث المشار إليه في التعليق السابق. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 25) وإسناده صحيح.

الشرط الرابع: السلامة من العلل المؤثرة

وما أظنه سبق إليه، ولو فتح هذا الباب لم يحتج بحديث انفرد به عامة حفاظ المحدثين، كالأعمش وغيره، ولا قائل بذلك، اللهم إلا أن يعرف من أحد أنه كان لا يقيم متون الأحاديث، فيتوقف حينئذ فيما انفرد به، فأما مجرد الظن فيمن ظهر حفظه وإتقانه فلا يكفي في رد حديثه " (¬1). كذلك فإن الراوي قد يكون حافظاً، لكن جل اهتمامه بمراعاة الطرق والأسانيد، ولا يلتفت إلى سياقات المتون (¬2). ومن أسوأ ما يقع من بعض الرواة: اختصار متن الحديث، دون وقوع العلم به من طريق آخر، ودون تحديث هذا المختصر له في موضع آخر بتمام سياقه، فهذا يفوت مصلحة ما يقع في ذلك المتن من الفائدة. لكن هذا القصور لا أثر له في الجملة على تحقق شرط الضبط الذي يصح به الحديث. الشرط الرابع: السلامة من العلل المؤثرة. والعلة: سبب قادح في الحديث يظهر بالتتبع. فإن كانت في المتن فإنها تظهر من خلال مقارنة ذلك المتن بنظائره بعد صحة الإسناد، فتبدو فيه مخالفة لما هو مسلم أو أصح منه، كحكاية خلق الأرض دون السماوات في ستة أيام، وكمجيئه على غير ما رواه من هو أقوى. وإذا كانت في الإسناد فإنها تظهر من خلال مقارنة ذلك الإسناد بسائر أسانيد الحديث، كالحديث يرويه الثقة مرفوعاً، فإذا بك تجده موقوفاً أو مقطوعاً، أو يرويه متصلاً فإذا بك تجده منقطعاً أو مرسلاً. ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/ 151). (¬2) نبَه على ذلك ابن حبان قبلَ سياق النص السابق .......

على ما تقدم من بيانه في (النقد الخفي) من هذا الكتاب. ومنها الشذوذ، وهو: مخالفة الثقة في روايته لمن هو أقوى منه. والعلة المؤثرة هنا: هي رواية الثقة المرجوحة. وفي هذا ما يدل على أن وصف الراوي بالثقة وإن كانت القاعدة أن يصحح حديثه، لكن ذلك مشروط بسلامة رواياته من القوادح. ولا يتم إلا بجمع طرق حديثه المعين للتأكد من حفظه له. وهذا على خلاف ما يظنه كثير من الناس أن ثقة الراوي مجردة كافية وحدها للحكم لحديثه بالصحة دون تحقيق هذا الشرط. * * *

المبحث الثاني: تطبيق لإظهار تحقق شروط الحديث الصحيح

المبحث الثاني: تطبيق لإظهار تحقق شروط الحديث الصحيح قال الإمام أحمد بن حنبل في " مسنده ": حدثنا ابن نمير، عن مالك _ يعني ابن مغول _، عن محمد بن سوقة، عن نافع، عن ابن عمر: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: " رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور " مئة مرة (¬1). مخرج هذا الحديث هو أحمد بن حنبل وهو أحد كبار حفاظ الأمة وأئمتها، وكتابه " المسند " من أعظم دواوين الإسلام في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يشك أهل العلم بالحديث في صحة نسبة هذا الديوان إليه، كما لا يشكون في صحة أصوله التي نشر عنها. ولما كان أحمد رحمه الله لم يشترط في " مسنده " أن لا يخرج إلا الصحيح، احتجنا للنظر في درجة هذا الحديث. وترتيب البحث فيه على مرحلتين: المرحلة الأولى: النظر في إسناد أحمد لهذا الحديث، ويعني أمرين: أولاً: معرفة أحوال نقلته، بتمييز العدالة والضبط لكل راو. ¬

(¬1) مُسند أحمد (رقم: 4726) .......

وثانياً: معرفة وقوع الاتصال فيما بينهم من عدمه. فتحقيق أحوال النقلة على النحو الذي شرحه في (تمييز النقلة)، وباتباع ذلك المنهاج تبين ما خلاصته: أن رواة الإسناد كلهم ثقات، وروى لهم البخاري ومسلم. وأما الأمر الثاني: وهو سلامة الإسناد من الانقطاع، فإن كل موضع يصرح فيه الثقة بالسماع فإنه يزيل مظنة الانقطاع فيه بينه وبين شيخه، لكن هذا الإسناد كله معنعن، والعنعنة صيغة ليست قطعية بالاتصال، ولا يحكم باتصال الإسناد بها إلا إذا سلم المعنعن من التدليس، وثبت إمكان سماعه ممن فوقه، وقد وجدنا في تراجم رجال هذا الإسناد أن كل راو من رواته ممكن سماعه ممن فوقه، ولم يوصف أحد منهم بتدليس. فحيث تحقق هذا؛ فهو إسناد متصل برواية الثقات. المرحلة الثانية: تحقيق السلامة من العلل المؤثرة. وهذا يتم بتتبع طرق هذا الحديث ومواضع وروده عند أحمد في غير الموضع المذكور، وعند غير أحمد في كتب رواية الحديث الأخرى. رجعنا فوجدنا الحديث أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في " مصنفه " في موضعين (¬1)، قال في الموضع الأول: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا مالك بن مغول، وفي الموضع الثاني كما رواه أحمد. وفيه أن ابن أبي شيبة وهو أحد الأئمة الحفاظ وافق الإمام أحمد على روايته، وهذه (متابعة)، وفي روايته من الفائدة تمييز (ابن نمير) وذكر سماعه من ابن مغول صريحاً. وتابع أحمد وابن أبي شيبة عليه: أحمد بن عبد الله، ويقال له: ابن ¬

(¬1) المصنف (10/ 297 _ 298، و 13/ 462).

أبي شعيب الحراني، وهو ثقة، رواه عنه البخاري في كتاب " الأدب المفرد " (¬1). ثم وجدنا ابن نمير لم يتفرد بروايته عن مالك بن مغول، بل تابعه جماعة من الثقات، منهم: 1_ أبو أسامة (¬2)، واسمه حماد بن أسامة ثقة محتج به في " الصحيحين ". 2_ المحاربي (¬3)، واسمه عبد الرحمن بن محمد، كوفي ثقة احتج به الشيخان، تكلم فيه بعض الحفاظ؛ لأنه كان يروي عن مجاهيل أحاديث منكرة، والعيب فيها من جهتهم لا من جهته، وهو هنا روى عن ثقة. 3_ أبو بكر الحنفي (¬4)، واسمه عبد الكبير بن عبد المجيد، قال: (حدثنا مالك بن مغول)، وأبو بكر هذا بصري ثقة، احتج به الشيخان. فهذا ابن نمير لم بنفرد برواية هذا الحديث عن مالك بن مغول، وهل انفرد ابن مغول عن محمد بن سوقة. لا، بل وجدناه تابعه الحافظ الإمام سفيان بن عيينة فرواه عن محمد بن سوقة (¬5). وهل وافق ابن سوقة أحد عن نافع؟ لم نجد ذلك، لكنه ثقة فلا يضره التفرد، لا سيما أنه لم يخالفه أحد. فإن قلت: فهل تجد أحداً عن ابن عمر غير نافع؟ ¬

(¬1) الأدب المفرد (رقم: 618) ....... (¬2) أخرجه أبو داود في " سننه " (رقم: 1516) وابنُ ماجه في " سننه " (رقم: 3814). (¬3) أخرجه الترمذي في " جامعه " (رقم: 3430) وابنُ ماجه في الموضع المتقدم. (¬4) أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة " (رقم: 458). (¬5) أخرجه الترمذي بعد روايته الماضية، وابنُ حبان في " صحيحه " (رقم: 927) .............

قلت: نعم، وجدته عن ابن عمر من طريقين آخرين، كلاهما عند أهل العلم بالحديث صالح. فإن قلت: نافع حجة بنفسه لا يتوقف في صحة حديثه حتى يوجد الموافق. قلت: نعم، لكن البحث قد يدل على مخالفة لنافع مؤثرة في حديثه، لا لاحتياج حديثه إلى عاضد، فحيث جاء الموافق دل على ضعف احتمال المخالفة، خصوصاً وأنك لم تجد مخالفة حصلت لأحد ممن روى هذا الحديث. بل قد روى غير ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشهد لأصل هذا الحديث، فجاء معناه من حديث الأغر المزني وحذيفة بن اليمان وغيرهما. فدل التتبع والبحث على أن هذا الحديث سلم من العلل المؤثرة. فإن قلت: رأينا بعض من رواه قال في لفظه في آخره: " الغفور "، وبعضهم قال: " الرحيم ". قلت: هذا واسع في الألفاظ، فإن الله تعالى كذلك، على أنه قد ترجح أن من قال " الغفور " فروايته أقوى وأبين. وقد وجدنا الإمام الترمذي قال في هذا الحديث: " حديث حسن صحيح " فزاد ذلك الطمأنينة في صحة ما استخلصناه من هذا البحث من الحكم بصحة الحديث. * * *

المبحث الثالث: نقد تعريفات الصحيح

المبحث الثالث: نقد تعريفات الصحيح 1_ قسم الحاكم النيسابوري الحديث الصحيح بحسب استعمال أهل العلم له من فقهاء الحجاز وفقهاء العراق، وهم فقهاء الأمصار في العصر الأول، إلى عشرة أقسام، خمسة متفق عليها، وخمسة مختلف فيها: فالمتفق عليها: (1) ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وهو ما رواه الصحابي المشهور الذي عنه راويان ثقتان، في شرط ذكره. قلت: وهذا منتقد على الحاكم فيما ذكره من شرط الشيخين، وهو غير مصيب فيه، كما ذكرته في محله من هذا الكتاب (¬1). (2) الحديث برواية العدل عن العدل إلى الصحابي الذي ليس له إلا راو واحد. (3) أخبار جماعة من التابعين الثقات لا يعرف أحدهم إلا برواية واحد عنه. (4) الأفراد الغرائب، يتفرد بها الثقة، وليس لها طرق مخرجة في الكتب. ¬

(¬1) فيما سيأتي في (المبحث السابع) من (الفصل الثالث).

(5) أحاديث من روى عن أبيه عن جده من الثقات، كصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قلت: والمتأخرون على أن هذه الصحيفة حسنة الإسناد، والمتقدمون لم يتفقوا على الاحتجاج بها، لكن أن تقول: أكثرهم كان على قبولها والاحتجاج بها. وفي إدخال الحاكم لها تحت (الصحيح) إنما هو من أجل عدم فصله له عن (الحديث الحسن)، كما جرى على ذلك في حكمه على الأحاديث في كتابه " المستدرك ". والخمسة المختلف فيها، هي: (1) المراسيل، والمراد: ما يرفعه التابعي أو تابع التابعي. صحيحة عند جماعة من الكوفيين، كإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سلمان، وأبي حنيفة وصاحبيه: أبي يوسف ومحمد. قلت: وهذا شامل لبعض صور (المعضل) بتعريف المتأخرين، لأن ما يرفعه تابع التابعي قد زاد فيه السقط على واحد بيقين، وهو سقط على التوالي، وهي سمة (المعضل). (2) روايات المدلسين التي لا يذكرون فيها السماع. هي صحيحة عند بعض أئمة الكوفة، ضعيفة عند آخرين (¬1). (3) خبر يرويه ثقة عن إمام ثقة فيسنده، ويرويه عن ذلك الإمام جماعة من الثقات فيرسلونه. أو يرفعه الثقة ويوقفه الجماعة. فهذه الأخبار صحيحة على مذهب الفقهاء، إذ القول عندهم قول من زاد. وعند غيرهم من أئمة الحديث قول الجماعة (¬2). ¬

(¬1) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 45) ............. (¬2) في تفصيل بينته في (النقد الخفي) في القسم الأول من هذا الكتاب.

(4) روايات محدث صحيح السماع صحيح الكتاب، ظاهر العدالة، لكنه لا يعرف ما يحدث به ولا يحفظه. فهذا يحتج به أكثر أهل الحديث، ولا يرى أبو حنيفة ومالك صحة الاحتجاج به. (5) روايات أهل البدع المعروفين بالصدق. مقبولة عند أكثر أهل الحديث. وليس ذلك عند آخرين. قلت: وهذه الأقسام العشرة التي عدها الحاكم أقساماً للصحيح، فإنما هي بالنظر كما قدمت لاستعمال العلماء لها. والتحقيق: أن الحاكم وغيره ممن نسبوا وصف (الصحيح) لهذه الأقسام التي لم تستوف شروط الصحة، فذلك لكونهم وجدوا الفقهاء يحتجون بالشيء منها. والواجب اعتباره في هذا أن يعلم أن الفقيه قد يستعمل الحديث المرسل، أو المختلف فيه رفعاً ووقفاً، أو المعلول بعلة غير مسقطة بمرة؛ لكونه وجد تلك الرواية جاءت موافقة لأصل، أو دليل آخر، لا لكونها صحيحة لذاتها مع قصورها عن استيفاء شرط الصحة، لذا تجدهم يستعملون الشيء من ذلك، لكن لا تجدهم يقولون: (هو صحيح)، كذلك تراهم يعلون روايات مخالفيهم بالقصور عن استيفاء شروط الصحة. 2 _ من العلماء من عرف الحديث الصحيح بغير ما تقدم، وهي تعريفات يرد عليها الاعتراض. منها: تعريف الحاكم النيسابوري، فإنه قال: " صفة الحديث الصحيح أن يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي زائل عنه اسم الجهالة، وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة " (¬1). ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص: 62) .......

قلت: وفي هذا أن الصحابي الذي لم يسم، والصحابي الذي لم يعرف إلا برواية عدل واحد عنه، ليس حديثه مما يصح وصفه بالصحة عند الحاكم. وهذا ضعيف، بل ما كان عند الحاكم من أعلى درجات الصحيح، وهو ما اتفق عليه الشيخان، فيه الرواية عن جماعة لم يرو عن أحدهم إلا واحد، كما سيأتي في شرط الشيخين في الحديث الصحيح. كذلك فإن الصحابي الذي لم يسم إذا صح الإسناد إليه فحديثه صحيح، كما بينته في الكلام في (العدالة والجهالة) مما تقدم في هذا الكتاب. * * *

المبحث الرابع: الحديث الصحيح في اصطلاح الترمذي

المبحث الرابع: الحديث الصحيح في اصطلاح الترمذي يقول الترمذي كثيراً في حكمه على الأحاديث المخرجة في " جامعه ": " حديث حسن صحيح "، في جملة اصطلاحات أخرى، تبيين سائرها في موضعه. فما مراده هنا بهذه العبارة؟ أوجدنا النظر والتتبع لما حكم عليه من الحديث بذلك، أنه أراد به: الحديث من رواية الثقات العدول المتقنين، المحفوظ غير الشاذ، والذي جاء معناه من غير وجه (¬1). فإن زاد: (غريب) فيكون حسناً صحيحاً بذلك اللفظ بذلك الإسناد، ولا يمنع مجيء معناه من وجه آخر، كما هو الشأن في أكثر أحاديث الثقات. وفرق ما بين وصف الحديث بكونه (صحيحاً) أو (حسناً صحيحاً) أن الوصف بالصحة المجردة غير مشروط أن يكون معناه جاء من وجه آخر، فبهذا الاعتبار يكون قوله: (حسن صحيح) أقوى مرتبة من القول: (صحيح) ¬

(¬1) وانظر شرح علل الترمذي، لابن رجب (1/ 385، 386، 388).

فقط؛ من جهة أنه صحيح لذاته، وأن معناه جاء من غير وجه، فله عاضد من غيره (¬1). ولكثرة استعمال الترمذي لهذه الصيغة ظن كثير من الناس أنه أقدم من عرف عنه ذلك، وليس كذلك، بل وقع استعماله في كلام شيخه البخاري، كما نقل الترمذي عنه شيئاً من ذلك، وأبي حاتم الرازي، لكن قليلاً. فمنه قول ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه إبراهيم بن شيبان، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن أبي إدريس، عن عبد الله بن حوالة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجندون أجناداً؟ قال: " هو صحيح حسن غريب" (¬2). وقال: سألت أبي عن حديث رواه يحيى بن حمزة، عن زيد بن واقد، عن مغيث بن سمي، عن عبد الله بن عمرو، قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: " محموم القلب، صدوق اللسان "، قالوا: صدوق اللسان نعرف، فما محموم القلب؟ قال: " هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا غل ولا حسد "، قالوا: من يليه يا رسول الله؟ قال: " الذي يشنأ الدنيا، ويحب الآخرة "، قالوا: ما نعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يليه؟ قال: " مؤمن في خلق حسن "، قال أبي: " هذا حديث صحيح حسن، وزيد محله الصدق، وكان يرى رأي القدر " (¬3). * * * ¬

(¬1) ذكر معنى ذلك ابن رجب في " شرح العلل " (1/ 388). (¬2) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1001) ....... (¬3) علل الحديث (رقم: 1873).

الفصل الثاني الحديث الحسن

الفصل الثاني الحديث الحسن

المبحث الأول: تعريف الحديث الحسن

المبحث الأول: تعريف الحديث الحسن الحديث الحسن في استعمال المتقدمين له، واقع على صورتين: الصورة الأولى: ما تقاصر عن درجة الصحيح، من جهة قدر الإتقان في بعض رواته فيما لا يهبط عن درجة القبول غالباً، مع اعتبار سائر شروط الصحة (¬1). والطريق إلى إدراكه: أنك تجده في الراوي الموصوف بالصدق، لكنه: إما أن يثبت له من الوهم والغلط ما نزل بحفظه عن درجة أهل الإتقان، غير أنه لم يزل فوق الضعف الذي يسقط بالرواية. وإما أن يكون لم يرو إلا القليل ولم يتميز من مجموع ما روى أنه يلحق بالثقات، فيبقى دون الثقة. والتحقيق: أن الفصل بين مقبول ومردود في هذا المقام في غاية المشقة؛ لذلك كان هذا النمط من الرواة يشترط لقبول حديثه والحكم بحسنه شرطان زائدان على شروط الصحيح: ¬

(¬1) انظر شرح علل الترمذي، لابن رجب (1/ 389 _ 390) .......

الترمذي و (الحديث الحسن)

الأول: زيادة التحري لتحقيق شرط السلامة من العلل المؤثرة. والثاني: البحث عن وجود ما يوافق روايته، فلو تفرد بمضمونها؛ كأن يأتي بحكم لم يأتي به غيره، ولا يعرف في قرآن أو سنة صحيحة كان الحديث بذلك من (قسم المردود). ولهذا يعبر بعض أهل الحديث عن الراوي الذي خف ضبطه أو لم يتبين إتقانه بعبارة: (يكتب حديثه وينظر فيه)، وهذا الشرط ليس مطلوباً في حديث الثقة تام الضبط راوي الحديث الصحيح. والصورة الثانية: الحديث يكون ناقصاً في شرط الاتصال، أو نازلاً في شرط الضبط عن حد من يقبل منفرداً، فيأتي معناه من وجه آخر صالح للاعتبار به، في نفس منزلته أو يقرب منها، بحيث إذا نظرت إلى كل من الوجهين منفرداً رددته، لكنك إذا جمعتهما قوى أحدهما الآخر، حيث سد كل منهما نقص الآخر. وهذا هو الحديث (الحسن لغيره). وهو في التحقيق: الضعيف المنجبر. الترمذي و (الحديث الحسن): أول من جاء عنه تعريف (الحديث الحسن) هو الإمام الترمذي، ومعلوم أن له في كتابه " الجامع " مصطلحات مبتكرة، اضطرب العلماء بعده في تفسيرها، وهذا محل بيان (الحديث الحسن) عنده (¬1). قال الترمذي: " ما ذكرنا في هذا الكتاب (حديث حسن)، فإنما أردنا به حُسن إسناده عندنا. كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم ¬

(¬1) وسائر استعمالاته في محالِّها من هذا الكتاب، كقوله: (حديث حسنٌ صحيحٌ) و (حديثٌ غريب)، وقد ذكر ابنُ رجب ما تأوَّله المتأولون لتفسير المراد بتلك الاصْطلاحات، انظر: شرح العلل (388 _ 394).

بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويروى من غير وجه نحو ذاك. فهو عندنا حديث حسن " (¬1). وهذا يبينه ابن رجب بقوله: " الحديث الذي يرويه الثقة العدل، ومن كثر غلطه، ومن يغلب على حديثه الوهم، إذا لم يكن أحد منهم متهماً، كله حسن، بشرط أن لا يكون شاذاً مخالفاً للأحاديث الصحيحة، وبشرط أن يكون معناه قد روي من وجوه متعددة " (¬2). وكونه جعل الشرط فيه: رواية معناه من غير وجه، فإذا قال: (حديث حسن غريب) فيعني غرابة لفظه من ذلك الوجه، وحسنه لمجيء معناه من وجه آخر (¬3). قلت: وهذا التعريف من الترمذي يمكن إجراء هـ على صورة (الحسن لغيره)، إذ مجيء معنى الحديث من وجه آخر لا يطلب في رواية من ثبت حفظه بثبوت السلامة من الوهم، وإن كان في حفظه لين إنما تُطلب فيه السلامة من التفرد بما لا أصل له، وفرق بين الصورتين لا يخفى. ولذا كان (الحسن لذاته) مندرجاً عند أكثر الأئمة تحت (الصحيح)؛ لاعتبار النظر عندهم إلى ذات الإسناد وذات المتن، وأنه نفس ما اعتبروه للحديث الصحيح لذاته. والحديث الحسن بتعريف الترمذي هو الضعيف الصالح عند من تقدمه من أهل العلم. قال ابن رجب: " كان الإمام أحمد يحتج بالحديث الضعيف الذي لم يرد خلافه، ومراده بالضعيف قريب من مراد الترمذي بالحسن " (¬4). ¬

(¬1) كتاب (العلل) آخر " الجامع " (6/ 251). (¬2) شرح العلل (1/ 384 _ 385). (¬3) بيَّنه ابنُ رجب كذلك (1/ 386) ....... (¬4) شرح علل الترمذي (1/ 344).

قلت: وهذا نسبه كذلك ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى طريقة أحمد وغيره من الأئمة المتقدمين: فقال ابن تيمية: " والترمذي أول من قسم الأحاديث إلى صحيح وحسن وغريب وضعيف، ولم يعرف قبله هذا التقسيم عن أحد، لكن كانوا يقسمون الأحاديث إلى صحيح وضعيف، كما يقسمون الرجال إلى ضعيف وغير ضعيف، والضعيف عندهم نوعان: ضعيف لا يحتج به، وهو الضعيف في اصطلاح الترمذي، والثاني: ضعيف يحتج به، وهو الحسن في اصطلاح الترمذي،. . ولهذا يوجد في كلام أحمد وغيره من الفقهاء أنهم يحتجون بالحديث الضعيف، كحديث عمرو بن شعيب، وإبراهيم الهجري وغيرهما، فإن ذلك الذي سماه أولئك ضعيفاً هو أرفع من كثير من الحسن، بل هو مما يجعله كثير من الناس صحيحاً " (¬1). وقال ابن القيم وهو يبين أصول مذهب أحمد: " الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه ولا قول صاحب ولا إجماعاً على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس. وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة، فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس " (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (18/ 140 _ 141 _ وفاء)، ونحوه في: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 163) ....... (¬2) إعلام الموقعين (1/ 31 _ 32)، معنى هذا أيضاً في كتاب " الفروسية " (ص: 67).

الحديث نوعان

قلت: ومن هذا القبيل ما حكاه ابن أبي حاتم الرازي في ترجمة (مخلد بن خفاف الغفاري)، قال: سئل أبي عنه؟ فقال: " لم يرو عنه غير ابن أبي ذئب، وليس هذا إسناد تقوم به الحجة " يعني الحديث الذي يروي مخلد بن خفاف عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الخراج بالضمان، " غير أني أقول به؛ لأنه أصلح من آراء الرجال " (¬1). وهذا الحديث يتقوى بالطرق عند جماعة من العلماء، والعلة في هذا الإسناد من جهة عدم شهرة مخلد، فمثله يحسن حديثه في غير الأحكام، أما في الأحكام كهذا الحديث فيحتاج إلى عاضد، وقد جاء ما يشده ويدفع عن مخلد فيه التفرد (¬2). وهذا النوع من الحديث كان الأئمة من السلف يصيرون إليه عند فقدهم ما هو أولى منه، وبينت في (المرسل) أن احتجاج من احتج به من أكثرهم كان من هذه الجهة، لا من جهة اعتقاد ثبوته في لفظه وروايته. وحاصل ما تقدم أن (الحسن) يندرج تحته نوعان: الأول: الحسن بتعريفه الذي صدرت به، وهو ما عاد الفارق بينه وبين (الصحيح) إلى قدر الإتقان فيمن ترجح حفظه ولم يتفرد بأصل. وهذا هو (الحسن لذاته). والثاني: المروي من وجه لين أو ضعيف لم يبلغ السقوط، جاء معناه من وجه آخر صالح للاعتبار به، فتقوى به. وهذا هو (الحسن لغيره)، وهو رواية الضعيف المنجبرة. وكيف يتقوى الحديث الضعيف بتعدد الطرق حتى يلحق بالمقبول من الحديث؟ بيانه في (الفصل الثالث) من (الباب الثاني). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 347). (¬2) بما تحريره في كتابي (نُصوص المعاملات الماليَّة) يسَّر الله إتمامه .......

وقد قال السخاوي: " قال النووي رحمه الله في بعض الأحاديث: وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة، فمجموعها يقوي بعضها بعضاً، ويصير الحديث حسناً، ويحتج به، وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة، وظاهر كلام أبي الحسن ابن القطان يرشد إليه، فإنه قال: هذا القسم لا يحتج به كله، بأن يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرقه، أو عضده اتصال عمل، أو موافقة شاهد صحيح، أو ظاهر القرآن، واستحسنه شيخنا " يعني ابن حجر، وأشار إلى أنَّ مذهب ابن دقيق العيد التوقف (¬1). قلت: واعلم أنه لم يذهب أحد من متقدمي أئمة الحديث، ولا متأخري المحققين منهم إلى أن قبول مثل هذا الحديث هو من جهة اشتمال الإسناد على شروط القبول، وإنما بإقرار جميع من تعرض إلى هذا النوع: هو حديث ضعيف لذاته، لكنهم وجدوا الضعف مما أشار إليه تعريف الترمذي للحديث الحسن بقوله: " لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويروى من غير وجه نحو ذاك "، فيطلبون فيه وجود ما ذكره الترمذي على التحقيق. وبعض المتأخرين توسعوا، وأهملوا اعتبار هذه الأوصاف، فقووا أحاديث بممجرد تعدد الطرق، وتسهلوا في درجات الرواة، كما وقع لمثل السيوطي رحمه الله وغيره. واعلم أنه لا حاجة بك أن تقول فيما يتقوى عندك بهذا الطريق بعد اعتبار شروطه: (حديث حسن لغيره) كما لا حاجة للقول في الصورة الأولى: (حديث حسن لذاته)، وإنما جرى عمل المتقدمين وأكثر المتأخرين على إطلاق القول: (حديث حسن). * * * ¬

(¬1) فتح المغيث (1/ 69) .......

المبحث الثاني: تاريخ هذا (المصطلح)

المبحث الثاني: تاريخ هذا (المصطلح) يعزو كثير من المتأخرين استعمال مصطلح (الحديث الحسن) بمعنى: الحديث النازل عن درجة (الصحيح) دون الرد، إلى الإمام الترمذي صاحب " الجامع ". نعم، تقسيم الحديث المقبول إلى: صحيح، وحسن، لم يكن شائعاً قبل الإمام الترمذي، وكان بعض من تقدم قبله من أئمة الحديث يرون الحديث الحسن درجة من الضعف كما تقدم عن أحمد وغيره فيما كانوا يقدمونه على القياس، ولم يكن مرادهم الضعيف المردود. فلما جاء الترمذي أظهر الاصطلاح بجعل (الحسن) أحد قسمي المقبول. والتحقيق: أنه مسبوق إلى استعمال هذا المصطلح بالمعنى الذي قصد إليه، سبقه به أئمة الحديث، لكنه لم يتحرر يومئذ بتعريف، وفضل الترمذي أنه أول من صاغ قانونه، وحرر تعريفه. فممن استعمله قبله أو من معاصريه من أئمة الحديث: (1) الإمام مالك بن أنس، وهو أقدم من عرف عنه ذكر (الحديث الحسن).

وذلك فيما أخرجه الحافظ ابن أبي حاتم الرازي (¬1) قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب، قال: سمعت عمي (يعني عبد الله بن وهب) يقول: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس، قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه ". فقال: " إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة " ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع. وهذا الحديث لو تتبعته صرت إلى أنه (حسن) بالمعنى الاصطلاحي، مع أن الاصطلاح لم يعرف بعد. (2) الإمام علي بن المديني. ومما جاء عنه في ذلك في حديث عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان ذا وجهين في الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة "، قال ابن المديني: " إسناده حسن , ولا نحفظه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الطريق " (¬2). (3) الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب " الصحيح ". فقد نقل عنه الترمذي تحسينه لعدة أحاديث، وذلك في كتابي " الجامع " و " العلل الكبير "، جميعها مما يتطابق مع تعريف الحديث الحسن بما تقدم، وعنى به البخاري درجة في الثبوت، منها: حديث عثمان في تخليل اللحية ¬

(¬1) في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 31 _ 32) ....... (¬2) نقله المزِّي في " تهذيب الكمال " (29/ 482).

في الوضوء، وحديث ابن عباس في تخليل الأصابع، وحديث عائشة في " ويل للأعقاب من النار " في الوضوء كذلك، وغيرها. (4) أبو حاتم الرازي، فحكم به على الحديث المعين، قوله في ترجمة (عمرو بن محمد) الراوي عن سعيد بن جبير: " هو مجهول، والحديث الذي رواه عن سعيد بن جبير فهو حسن " (¬1). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه شعبة والليث عن عبد ربه بن سعيد، واختلفا: فقال الليث: عن عمران بن أبي أنس. وقال شعبة: عن أنس بن أبي أنس. واختلفا: فقال الليث: عن ربيعة بن الحارث. وقال شعبة: عن المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الصلاة مثنى مثنى، تخشع، وتضرع، وتمسكن، وتقنع بيديك _ يقول: يرفعهما _ وتقول: يا رب، يا رب، فمن لم يفعل ذلك لم يفعل ذلك فهيَ خداج ". قال أبي: " ما يقول الليث أصح؛ لأنه قد تابع الليث عمرو بن الحارث، وابن لهيعة، وعمرو والليث كانا يكتبان، وشعبة صاحب حفظ ". قلت لأبي: هذا الإسناد عندك صحيح؟ قال: " حسن ". قلت لأبي: من ربيعة بن الحارث؟ قال: " هو ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ". قلت: سمع من الفضل؟ قال: " أدركه ". قلت: يحتج بحديث ربيعة بن الحارث؟ قال: " حسن ". فكررت عليه مراداً فلم يزدني على قوله: " حسن "، ثم قال: " الحجة سفيان وشعبة ". قلت: فعبد ربه بن سعيد؟ قال: " لا بأس به ". قلت: يحتج بحديثه؟ قال: " هو حسن الحديث " (¬2). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 1 / 262) ....... (¬2) علل الحديث (رقم: 365).

قلت: حكم أبي حاتم على راو بكونه (حسن الحديث) كثير، يأتي قريباً بعض مثاله. قلت: والأشبه أن يكون ما اصطلحه الترمذي في عد الحديث الحسن قسيماً للصحيح في جملة الحديث المقبول، مما أخذه عن شيخه البخاري، وأخذه البخاري عن شيخه علي بن المديني. ولا نعلم أحداً من أئمة هذا الشأن عاب على الترمذي هذا الاصطلاح عند ظهوره منه، بل إن من جاء من بعد قد تواردوا على متابعة الترمذي في استعماله. ويعتضد ما بينته عن الترمذي في معنى (الحسن) وعمن سبقه إليه أو وافقه فيه: ما شاع من استعمال إطلاق وصف (حسن الحديث) على الراوي، فمن تأمل أحوال من أطلقت عليه هذه العبارة عند متقدمي العلماء وجدها صفة من يحكم على حديثه بالحسن الاصطلاحي. فمن ذلك: (1) قال أحمد بن حنبل في (شهر بن حوشب): " ما أحسن حديثه " ووثقة، قال: " روى عن أسماء بنت يزيد أحاديث حساناً " (¬1). (2) وقال أبو داود في (أشعث بن عبد الرحمن): " حسن الحديث " (¬2). (3) وقال أبو حاتم الرازي في (عبد الله بن عبد الملك بن أبي عبيدة المسعودي): " حسن الحديث، لا بأس به عنده غرائب عن الأعمش " (¬3). (4) وقال أبو حاتم في (محمد بن راشد المكحولي): " كان صدوقاً، حسن الحديث " (¬4). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 383). (¬2) سؤالات الآجرِّي (النص: 312). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 2 / 105). (¬4) الجرح والتعديل (3/ 2 / 253).

(5) وقال أبو حاتم في (محمد بن عبد الله المرادي): " شيخ لشريك، حسن الحديث، صدوق " (¬1). وعلى نفس المعنى جرى الناقد أبو أحمد بن عدي في تحرير عبارات المتقدمين، وإن كان قد جاء بعد الترمذي لكنه كان على سنن السابقين، ومن أمثلة كلامه في ذلك: نقل عن يحيى بن معين قوله في (إبراهيم بن سليمان أبي إسماعيل المؤدب): " ضعيف "، ثم قال: " هو عندي حسن الحديث، ليس كما رواه معاوية بن صالح عن يحيى، وله أحاديث كثيرة غرائب حسان، تدل على أن أبا إسماعيل من أهل الصدق، وهو ممن يكتب حديثه " (¬2). وقال ابن عدي في (أبان بن يزيد العطار): " هو حسن الحديث متماسك، يكتب حديثه، وله أحاديث صالحة عن قتادة وغيره، وعامتها مستقيمة، وأرجو أنه من أهل الصدق " (¬3). وقال ابن عدي في (بريد بن عبد الله بن أبي بردة الأشعري) وقد ذكر له حديثاً تفرد به: " هذا طريق حسن، ورواة ثقات، وقد أدخله قوم في صحاحهم، وأرجو أن لا يكون ببريد هذا بأس " (¬4). ولابن عدي بمثل المعنى في رواة آخرين (¬5). قلت: وقول ابن عدي: (يكتب حديثه) ولم يقل: (يحتج به)؛ لأن ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 2 / 309) ....... (¬2) الكامل (1/ 404). (¬3) الكامل (2/ 73). (¬4) الكامل (2/ 247). (¬5) انظر مثلاً قوله في: سعيد بن سالم القدَّاح، وعبد الله بن لَهيعة، وعبد الله بن عُثمان بن خثيم، ومُحمد بن دينار الطاحي، ومُحمد بن عيسى بن القاسم بن سُميع (الكامل 4/ 454، و 5/ 253، 268، و 7/ 414، 489) .......

من كان (حسن الحديث، صدوقاً) لا يصلح الاحتجاج بخبره ابتداء حتى ينظر فيه، فيعرف أنه محفوظ، وإنما تكون عبارة (يكتب حديثه) جرحاً لو جاءت مفردة، أو مضمونة إلى لفظ جرح. نعم، ربما قال الناقد في الراوي (حسن الحديث) وهو من الثقات المتقنين، كما قال أحمد بن حنبل في أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج: " شعبة حسن الحديث عن أبي إسحاق، وعن كل من يحدث عنه " (¬1)، وقال في (عيسى بن يونس بن أبي إسحاق): " حديثه حسن " (¬2)، وقال العجلي في (سفيان بن عيينة): " كان حسن الحديث " (¬3)، وقال أحمد بن حنبل في (زيد بن أبي أنيسة): " إن حديثه لحسن مقارب، وإن فيها لبعض النكارة، وهو على ذلك حسن الحديث " (¬4)، وقال علي بن المديني: " ليس أحد أثبت في سعيد بن أبي سعيد المقبري من ابن أبي ذئب وليث بن سعد ومحمد بن إسحاق، هؤلاء الثلاثة يسندون أحاديث حساناً، ابن عجلان كان يخطئ فيها " (¬5). غير أن هذا قليل، فيكون التأصيل: أن من قيلت فيه عبارة (حسن الحديث) فهو صدوق حسن الحديث على المعنى الاصطلاح، حتى تدل قرينة على عدم إرادة ذلك. ومن دلالة القرينة على عدم إرادة ذلك مثلاً قول ابن عدي في (حسام بن مصك): " عامة أحاديثه إفرادات، وهو مع ضعفه حسن الحديث، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق " (¬6). ¬

(¬1) تقدمة الجرح والتعديل (ص: 176). (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 197). (¬3) معرفة الثقات (النص: 631). (¬4) الضعفاء، للعقيلي (2/ 74)، قلت: وزيد ثقة، وأحسب النكارة التي عنى أحمد التفرد، فإنه ربما أراد ذلك. (¬5) معرفة الرجال، لابن مُحرزٍ (2/ 207). (¬6) الكامل (3/ 366).

تنبيهان:

فسائر قول ابن عدي مع النظر في كلام غيره من نقاد الحديث في (حسام) هذا، يتبين أن حسن الحديث هنا لم يرد به المعنى الاصطلاحي له، إنما ما يكون من حديث الراوي صالحاً للاعتبار. خلاصة ما تقدم: استعمال مصطلح (الحديث الحسن) قديم لأهل العلم بالحديث، واقع في كلام المتقدمين، يعنون به مرتبة من مراتب القبول والاحتجاج، وإنما كان للترمذي فيه فضل الإبراز والتعريف. تنبيهان: الأول: وقع إطلاق لفظ (حديث حسن) في كلام بعض المتقدمين، يعنون به الغريب، وليس هذا من المعنى الاصطلاحي في شيء، والقرينة هي التي أخرجت المراد به عن المعنى المتقدم. فمن ذلك: قول وكيع بن الجراح: " كل حديث حسن عبد السلام بن حرب يرويه " (¬1). فهو يشير إلى أفراده وروايته الغرائب، وليس هذا من الحسن الاصطلاحي. ومن هذا ما حدث به أمية بن خالد، قال: قلت لشعبة: ما لك لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سليمان؟ قال: " تركت حديثه "، قال: قلت: تحدث عن فلان وتدع عبد الملك بن أبي سليمان؟ قال: " تركته "، قلت: إنه كان حسن الحديث، قال: " من حسنها فررت" (¬2). ¬

(¬1) أخرجه العُقيلي (3/ 70) بإسناد صحيح ....... (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 146) والعقيلي في " الضعفاء " (3/ 32) وابن عدي في " الكامل " (6/ 525) _ ومن طريقه: البيهقي في " الكبرى " (6/ 106) _ والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1296) وإسناده صحيح.

الثاني: (الحسن) بمعنى حسن السياق

والثاني: وقع في كلام بعض العلماء إطلاق وصف (حديث حسن) يريدون به حسن السياقة لا الثبوت، وهذا ليس بجيد ممن فعله؛ لأنه يشكل ويلتبس بالاصطلاح، لكنه قليل نادر. منه قول الحافظ أبي عمر ابن عبد البر بعد إيراده حديثاً هو عند أهل العلم موضوع من حديث معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا العلم، فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح " في سياق طويل، قال: " هو حديث حسن جداً، ولكن ليس له إسناد قوي " (¬1). * * * ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضْله (1/ 55).

المبحث الثالث: تطبيق لتحقيق شروط حسن الحديث

المبحث الثالث: تطبيق لتحقيق شروط حسن الحديث تطبيق للحديث الحسن لذاته: قال الإمام أبو داود السجستاني (¬1): حدثنا مؤمل بن الفضل، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، عن يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحب لله، وأبغض لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ". حال الإسناد من حيث أحوال الرواة واتصاله: شيخ أبي داود مؤمل وشيخه ابن شابور وشيخه يحيى ثقات، سمع مؤمل من شيخه، وابن شابور لا يعرف بتدليس، ثم هو وشيخه وسائر الإسناد رواة دمشقيون لا ينكر لقاء بعضهم بعضاً وسماع بعضهم من بعض. وأما القاسم فهو ابن عبد الرحمن تابعي، ويعرف ب " صاحب أبي أمامة " معروف السماع منه، وهو عدل، لكنهم تكلموا في ضبطه وإتقانه، ولينوا روايته، ومنهم من أطلق ضعفه، كما أن منهم من وثقه، وحين تبحث عن ¬

(¬1) في " سننه " (رقم: 4681) .......

سبب التضعيف المطلق تجده أن بعض الرواة الضعفاء رووا عنه أحاديث منكرة، ليس البلاء فيها من جهته، إنما من جهتهم، وأمره في التحقيق كما وصفه البخاري أن أحاديث الثقات عنه كيحيى بن الحارث مقاربة، وهذا وصف يعني القبول بحيطة، إذ هذه درجة من في حديثه لين مع الصدق، وهي درجة من يقال في حديثه: (حسن). ولنأتِ إلى النظر في الشرطين المذكورين آنفاً لقبول حديث الصدوق، فتأملنا فوجدنا الإسناد سالماً إلى القاسم، وأما هو فوجدناه صاحباً لأبي أمامة لا ينكر أن يسمع من أبي أمامة ما لم يسمعه غيره منه، لكنا نخشى من التفرد بما روى من العلم، فمثله لو استقل بحفظ حكم لا يعرف في كتاب ولا سنة ثابتة من غير طريقة فإنه لا يقبل منه؛ إذ يقال: أين كان حفاظ الأمة لم يعرفوه وعرفه القاسم وحده؟ فبحثنا في متن هذه الرواية فلم نجده روى ما يسنتكر معناه، وهذا مقدار كاف للحكم بحسن حديثه. لكن البحث أوجدنا غير أبي أمامة روى نحو ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتيقنا حسن حديثه، بل زاده ذلك قوة حتى ارتقى به إلى درجة (الحديث الصحيح لغيره). وذلك ما أخرجه أحمد وغيره (¬1) من طريق أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ، قال: حدثني سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، عن سهل بن معاذ الجهني، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل إيمانه ". ¬

(¬1) هو في " مسند أحمد " (3/ 440)، كما أخرجه الترمذي في " جامعه " (رقم: 2521) وأبو يعلى في " مسنده " (رقم: 1485) والحاكم في " مستدركه " (رقم: 2694) .......

تطبيق للحديث الحسن لغيره

المقرئ وشيخه سعيد من ثقات المصريين ومتقنيهم، وقد بينا السماع، على أنهما لم يعرفا بتدليس، وأبو مرحوم هذا مصري لا بأس به، أطلق ابن معين تضعيفه بعبارة مجملة فسرتها عبارة النسائي فيه، قال: " أرجو أنه لا بأس به "، وهذا هو الصدوق الذي في حفظه لين، والذي يحسن حديثه بعد النظر والتحري، وشيخه سهل هذا لا بأس به إذا روى عنه من يعتد به، وأبوه معاذ الجهني صحابي، فحيث أثبت التحري أن هذين الصدوقين أبا مرحوم وسهلاً رويا ما له أصل من حديث غيرهما، فحديثهما حسن. تطبيق للحديث الحسن لغيره: أخرج ابن حبان وغيره (¬1)، من حديث الصلت بن مسعود، قال: حدثنا مسلم بن خالد، قال: حدثنا شريك بن أبي نمر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس للنساء وسط الطريق ". فهذا الحديث بهذا الإسناد ليس بالقوي، اختل فيه من شروط القبول شرط الضبط في أحد رواته، وهو مسلم بن خالد، وهو المعروف بالزنجي، كان سيء الحفظ، ضعيفاً فيما يتفرد به. لم نجد بعد النظر في الإسناد علة سوى ذلك، فقلنا: ما نخشاه من سوء حفظ مسلم فجائز أن يندفع بالوقوف على الحديث لفظاً أو معنى من غير طريقه. فوجدنا الحديث أخرجه الدولابي وغيره (¬2) من طريق محمد بن يوسف ¬

(¬1) صحيح ابن حبان (12/ 415 _ 416 رقم: 5601). وأخرجه ابن أبي عاصم في " كتاب الديات " (ص: 190) وابنُ عدي في " الكامل " (5/ 9) ومن طريقه: البيهقي في " الشعب " (6/ 174 رقم: 7823) من طريق الصلْت، به. (¬2) أخرجه الدولابي في " الكنى والأسماء " (رقم: 273) والبيهقي في " الشعب " (رقم: 7821) وله عنده متابعة هاشم بن القاسم لسُفيان عن ابن أبي ذئب .......

الفريابي، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن الحكم، عن أبي عمرو بن حماس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس للنساء سراة الطريق ". والسراة فسرها بعض الرواة: وسط الطريق. وهذه طريق ثابته إلى ابن أبي ذئب. لكن أدخل مرة بينه وبين الحارث: ابن شهاب الزهري، كما أخرجه الطبراني بإسناد فيه لين (¬1)، ولو صحت الزيادة فالزهري هو الحافظ الإمام، والحارث بن الحكم هو الضمري يعتبر بحديثه، صالح للاعتبار، لم يجرح، ووثقه ابن حبان (¬2)، وإن كان المحفوظ رواية ابن أبي ذئب عنه لا الزهري، فابن أبي ذئب لم يكن يروي إلا عن ثقة سوى رجل واحد، ليس الحارث بن الحكم به، وابن حماس غير مشهور، ففيه لين بهذا الاعتبار، ثم إن شرط الاتصال إلى منتهى الإسناد قد تخلف، فهذا مرسل، ولم يصب من جعل لابن حماس صحبة. وقد روي من طريق ابن حماس متصلاً بإسناد دون هذا. أخرجه أبو داود وغيره (¬3) من طريق عبد العزيز بن محمد الداروردي، عن أبي اليمان الرحال، عن شداد بن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو ¬

(¬1) في " المعجم الأوسط " (4/ 34 رقم: 3042). (¬2) الثقات (6/ 172). (¬3) هو في " سنن أبي داود " (رقم: 5272)، وأخرجه كذلك: البيهقي في " الآداب " (رقم: 971) و " الشعب " (رقم: 7822) والمزي في " التهذيب " (12/ 401 _ 402) جميعاً من طريق الدراوَرْدي به. وللمزي أيْضاً من طريق الدراوردي عن أبي اليمان عن شداد عن أبي أسيد، باللفظ المختصر، أسْقط من إسناده السابق رجلين، وهو راجعٌ إلى نفس العلة.

خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: " استأخرن، فإنه ليس لكن أن تَحْقُقْنَ (¬1) الطريق، عليكن بحافات الطريق "، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. قلت: وهذه مخالفة في الإسناد ضعيفة، وسياقٌ مفصل لا يشهد له اللفظ المتقدم لاختصاره، وإن كان معناه متضمن فيه بصيغة أدنى في شدة الحكم. أما ضعفها فمن جهة أن أبا اليمان هذا غير مشهور، وشداداً شيخه مجهول. فالعبرة برواية ابن حماس المرسلة، فهي العاضد الذي يدفع عن رواية مسلم بن خالد أثر سوء حفظه، وبها يكون حديث أبي هريرة حسناً. *** ¬

(¬1) قال ابن الأثير: " هو أن يركبن حُقها، وهو وسَطها " (النهاية 1/ 415) .......

الفصل الثالث مباحث في الصحيح والحسن

الفصل الثالث مباحث في الصحيح والحسن

المبحث الأول: الكتب في الحديث الصحيح

المبحث الأول: الكتب في الحديث الصحيح أصح الكتب المصنفة في الحديث الصحيح: صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم، لم يسبقهما في الصحة كتاب له مثل درجتهما، ولا خلفهما كذلك، وهما أول الكتب المجردة في الحديث الصحيح، والبخاري قبل مسلم. وقد جاء عن الشافعي تقديم (الموطأ) للإمام مالك بن أنس. فعن يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي، قال: " ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من موطأ مالك " (¬1). وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: " ما بعد كتاب الله تعالى كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدِمة " (ص: 12) و " آداب الشافعي " (ص: 195 _ 196) والبيهقي في " مناقب الشافعي " (1/ 507) وابن عساكر في " كشْف المغطى في فضل الموطَّأ " (رقم: 16) وإسناده صحيح. وأخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 77، 79) وابن عساكر كذلك (رقم: 19) نحوه. (¬2) أخرجه أبو نُعيم في " الحلية " (6/ 360 رقم: 8932) وابن عساكر في " كشْف المغطى " (رقم: 20) وإسناده صحيح.

صحة مسندات " الموطأ "

وقال هارون بن سعيد الأيلي: سمعت الشافعي يقول: "ما كتاب بعد كتاب الله تعالى أنفع [للمسلمين] من كتاب مالك بن أنس " (¬1). وقال أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح: سمعت الشافعي يقول: " ما أعلم شيئاً بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك " (¬2). قلت: وهذا حكم قبل أن يوجد " الصحيحان "، فإن الناس صنفت الكتب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البخاري ومسلم، فكان " الموطأ " أصح تلك الكتب حديثاً، فهو مقارن بما زامنه إلى عهد الشافعي، فلما ألف " الصحيحان " لم تبق تلك الدعوى صحيحة، خصوصاً وأن مالكاً رحمه الله ضمن كتابه الأحاديث والآثار ورأي نفسه، كما وقع في أسانيد أحاديثه المتصل والمرسل والمنقطع والبلاغات، فلم يجرد للحديث الصحيح المتصل. نعم، (الموطأ) من كتب الحديث الصحيح، وليس فيه حديث مسند إلا وهو صحيح. وقد استحق " الصحيحان " التقديم لشدة ما اشترط صاحباهما الإمامان: البخاري ومسلم، ولاجتهادهما في تحقيق شرطهما؛ فإنهما التزما بشروط الحديث الصحيح إلى أقصى حد ممكن، لكن صنيعهما صنيع بشر؛ لذا لم يسلم من مؤاخذات، هي على أحرف يسيرة في " البخاري "، وعلى أحاديث قليلة في " مسلم "، قد ميزت وعرفت. ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 41) وأبو نُعيم في " الحلية " (9/ 79 رقم: 13182) والجوهري في " مُسند الموطأ " (رقم: 77) والبيهقي في " مناقب الشافعي " (1/ 507) والزيادة له، والخطيب في " الجامع " (رقم: 1564) وابن عبد البر (1/ 76، 77) وابن عساكر في " كشف المغطى " (رقم: 22) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه البيهقي في " المناقب " (1/ 507) وإسناده جيد. ورُوي هذا المعنى الذي قاله الشافعي عن عبد الرحمن بن مَهدي، ولم يثبت عنه. أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 42) .......

والقاعدة: أن كل ما في الصحيحين متلقى بالقبول، محكوم بصحة، وليس فيهما حديث موضوع، ولا منكر، بل ولا ضعيف، إلا أحاديث معللة معدودة في " صحيح مسلم ". وقد يزعم بعض أهل البدع وجود موضوع أو منكر ساقط فيهما؛ لمجيء بعض الروايات على غير أهوائهم، أو لآخرون ظنوا في بعض الأحاديث مخالفة لمعقولهم فردوها، وفهم معاني الأحاديث يتفاوت فيه الناس كما يتفاوتون في فهم القرآن العظيم، وفوق كل ذي علم عليم. ولا يهوَّل بما وقع من انتقادات بعض الحفاظ على " الصحيحين " كالحافظ الكبير أبي الحسن الدراقطني، عاب عليهما في التخريج لبعض الرجال، وعاب بعض الأحاديث بالتعليل الخفي، كما في كتاب " التتبع " له. وسأل السلمي الدارقطني: لم ترك محمد بن إسماعيل البخاري حديث سهيل بن أبي صالح في الصحيح؟ فقال: " لا أعرف له فيه عذراً، فقد كان أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي إذا مر بحديث لسهيل قال: سهيل _ والله _ خير من أبي اليمان ويحيى بن بكير، وكتاب البخاري من هؤلاء ملاء " (¬1). وقال أبو عثمان سعيد بن عمرو البرذعي: شهدت أبا زرعة ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج، ثم الفضل الصائغ على مثاله، فقال لي أبو زرعة: " هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه، فعملوا شيئاً يتشوفون به، ألفوا كتاباً لم يسبقوا إليه؛ ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها ". وأتاه ذات يوم وأنا شاهد رجل بكتاب (الصحيح) من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زرعة: " ما أبعد هذا من الصحيح ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! يدخل في كتابه أسباط بن نصر؟! " ثم رأى في الكتاب قطن بن ¬

(¬1) سؤالات السلمي (النص: 148) وبنحوه كذلك (النص: 149) .......

نسير، فقال لي: " وهذا أطم من الأول، قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت، جعلها عن أنس "، ثم نظر فقال: " يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتابه (الصحيح)؟!. . ما رأيت أهل مصر يشكون في أن أحمد بن عيسى " وأشار أبو زرعة بيده إلى لسانه، كأنه يقول: الكذب، ثم قال لي: " يحدث عن أمثال هؤلاء، ويترك عن محمد بن عجلان ونظرائه، ويطرق لأهل البدع علينا؛ فيجدون السبيل بأن يقولوا لحديث إذا احتج عليهم به: ليس هذا في كتاب (الصحيح) "، ورأيته يذم وضع هذا الكتاب ويؤنبه. فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية، ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه روايته في هذا الكتاب عن أسباط بن نصر، وقطن بن نسير، وأحمد بن عيسى، فقال لي مسلم: " إنما قلت: صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات " ....... وقدم مسلم بعد ذلك إلى الري، فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن وارة، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحواً مما قاله أبو زرعة: " إن هذا يطرق لأهل البدع علينا "، فاعتذر إليه مسلم، وقال: " إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت: هو صحاح، ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف، ولكني إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح؛ ليكون مجموعاً عندي وعند من يكتبه عني، فلا يرتاب في صحتها، ولم أقل: إن ما سواه ضعيف " ونحو ذلك مما اعتذر به مسلم إلى محمد بن مسلم، فقبل عذره وحدثه (¬1). ¬

(¬1) ساقَ هذه الحكاية بطولها البَرْذعي في " سؤالاته لأبي زُرعة " (2/ 674 _ 677).

طريقة الشيخين في تخريج حديث من تكلم فيه من الرواة

قلت: فهذا عيب للشيخين في بعض من خرجا لهم، لكن قولهما في ذلك أقوى عند نقاد الحديث، بل مع نقد النسائي والدارقطني للبخاري في بعض من أخرج لهم، وأبي زرعة لمسلم في بعض من أخرج لهم، لم يقع منه شيء على سبيل الطعن عليهما، إنما النقد للبخاري في تركه تخريج الثقة الأولى عند من انتقده، على أن البخاري لم يحتج إلا بما لا ينازع في كونه محفوظاً من الحديث، وإن كان خلاف الأولى عند غيره، ونقد أبي زرعة لمسلم فيه تشديد الشيخ على التلميذ حملاً له على مزيد التحري، وتحذيراً من فتح الطريق لأهل الأهواء. قال الحازمي: " أما إيداع البخاري ومسلم كتابيهما حديث نفر نسبوا إلى نوع من الضعف فظاهر، غير أنه لم يبلغ ضعفهم حداً يرد به حديثهم، مع أنا لا نقر بأن البخاري كان يرى تخريج حديث من ينسب إلى نوع من أنواع الضعف، ولو كان ضعف هؤلاء قد ثبت عنده لما خرج حديثهم، ثم ينبغي أن يعلم أن جهات الضعف متباينة متعددة، وأهل العلم مختلفون في أسبابه " (¬1). قلت: يريد الحازمي أن البخاري لم يخرج لمن يرى تسليم القول بضعفه، وإن خالفه فيه غيره، إذا الاختلاف في جرح الرواة وتعديلهم موجد، لكن ليس كل جرح معتبراً. ويجب أن تلاحظ في طريقة الشيخين في تخريج حديث من تكلم فيه من الرواة ما يلي: أولاً: أنهما انتقيا من حديثه ما كان محفوظاً معروفاً، مثلُ: إسماعيل بن أبي أويْسٍ المديني. ثانياً: غالب ما خرجاه من حديث هذا الصنف فهو في المتابعات، لا في الأصول. ¬

(¬1) شروط الأئمة الخمسة (ص: 172 _ 173) .......

نقد الصحيحين

وربما حسب بعض الناس أن المراد ب (المتابعات) هنا أن يأتي الإسناد من طريق المتكلم فيه بعد إسناد الثقة غير المتكلم فيه، وليس ذلك شرطاً، فالتقديم والتأخير هنا لا أثر له، ما دام تخريج صاحب " الصحيح " لذلك الراوي المتكلم فيه لم يكن بما تفرد به. ثالثاً: أن الصنف من الرواة أقل عنه صاحبا " الصحيح ". رابعاً: أنهما إذا اعتمداه فخرجا عنه من محفوظ حديثه، فلا يعتمدانه في الأحكام، إنما ذلك في الرقائق وشبهها، مثل فليح بن سليمان. ومن هنا يتبين خطأ الحاكم في كثير مما استدركه على الشيخين، وأطلق القول أنه (على شرطهما) أو (شرط أحدهما) على ما سيأتي نقده فيه. وأما النقد ل " الصحيحين " بتعليل بعض أئمة الحديث لبعض الروايات بالعلل الخفية، كما صنع الدارقطني في كتاب " التتبع "، فأكثره على قلته يعود إلى معنى الصناعة الحديثية، لا إلى رد الحديث، على أن مذهب الشيخين فيه أقوى وأرجح. وفي الجملة: ف " صحيح البخاري " أقوى وأرجح من " صحيح مسلم "، وذلك يعود إلى قوة شرط الاتصال عنده وزيادة تحريه في الرجال، وندرة الحديث المعلل في " كتابه ". قال النسائي: " ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل البخاري " (¬1). قال الحافظ أبو علي الحسين بن علي النيسابوري: " ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (2/ 9) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1563) وإسناده صحيح .......

قال ابن تيمية مقارناً بين (الصحيحن): " ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب، والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله، مع فقهه فيه ". قال: " جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه، يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجاج، فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه " (¬1)، وضرب أمثلة لما انتقد على مسلم وكان النقد صواباً. وقد امتدح للبخاري جمعه الأبواب وتوزيعه الأحاديث عليها، ولمسلم حسن سياقته للأحاديث مجموعة الطرق والألفاظ في موضع واحد. وبيان شرط الشيخين يأتي في (المبحث السابع). * * * ¬

(¬1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 171).

المبحث الثاني: ذكر المصنفات المسماة بـ (الصحاح) غير كتابي الشيخين

المبحث الثاني: ذكر المصنفات المسماة بـ (الصحاح) غير كتابي الشيخين وصنفت بعد الشيخين كتب لقبها أصحابها ب " الصحاح "، أشهرها مما وصلنا بعضه أو كله: 1 _ صحيح ابن خزيمة. للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري (المتوفى سنة: 311). التزم فيه جمع الصحيح والحسن من الحديث على وفق شروط. وعلم شرطه من تسميته لكتابه: " المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل، من غير قطع في السند، ولا جرح في النقلة " (¬1). قال الخطيب: " شرط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده، بنقل العدل عن العدل، إلى النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬

(¬1) صحيح ابن خزيمة (1/ 3، و 3/ 186) النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 291). (¬2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 185).

2_ صحيح ابن حبان

كما تبين تحقيق هذا الشرط من دراسة كتابه. 2_ صحيح ابن حبان. للإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي (المتوفى سنة: 354) تلميذ ابن خزيمة. وكان كشيخه ابن خزيمة لا يفرق في " صحيحه " بين الصحيح والحسن، بل كل ما يصلح للحجة عنده فهو صحيح. قال الحافظ ابن حجر وقد ذكر ما يتفرد به (محمد بن إسحاق) صاحب " السيرة ": " ما ينفرد به وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو درجة الحسن إذا صرح بالتحديث، وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن، ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحاً، وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكر معه " يعني ابن خزيمة والحاكم (¬1). وشرطه في " صحيحه " علم بتصريحه به في أول كتابه، إذ لم يدع منهجه الذي سلك في انتقاء الحديث والحكم عليه بالصحة إلى الظن والتخمين، قال: " شرطنا فيما أودعناه كتابنا هذا من السنن، فإنا لم نحتج فيه إلا بحديث اجتمع في كل شيخ من رواته خمسة أشياء: الأول: العدالة في الدين بالستر الجميل. والثاني: الصدق في الحديث بالشهرة فيه. والثالث: العقل بما يحدث من الحديث. والرابع: العلم بما يحيل من معاني ما يروي. ¬

(¬1) فتح الباري (11/ 163) .......

3 _ المستدرك على الصحيحين

والخامس: المتعري خبره عن التدليس. فكل من اجتمع فيه هذه الخصال الخمس احتججنا بحديثه، وبنينا الكتاب على روايته، وكل من تعرى عن خصلة من هذه الخصال الخمس لم نحتج به " (¬1). وعليه وعلى شيخه ابن خزيمة في " صحيحهما " مآخذ فيهما، وقعت غالباً في ضعف بعض الشروط، وتخريجهما لحديث لطائفة ممن اختلف فيه وراجح القول فيه أنه ضعيف. لذا رأى جماعة من النقاد عدم الاكتفاء لقبول الحديث بكونهما أو أحدهما خرجه، ورأوا أنه لا بد من إعادة الدراسة لأحاديث هذين الكتابين، على أنك تجد من عمد إلى ذلك ظهر له قلة ما يؤخذ عليهما. والذي أقول به: أن اعتماد من لا خبرة له بهذا العلم على تصحيحهما جائز، حت يتبين الخطأ، إجراء لما غلب على ما فيهما من الصحة، وبناء على ما يجوز لغير المتخصص من التقليد لأهل الاختصاص. وسبق إلى ذلك عمل أكثر متأخري العلماء، قال أبو عبد الله بن رشيد الفهري وذكر ابن حبان: " وإن كان من أئمة الحديث، فعنده بعض التساهل في القضاء بالصحيح، فما حكم بصحته مما لم يحكم به غيره، إن لم يكن من قبيل الصحيح يكن من قبيل الحسن، وكلاهما يحتج به ويعمل عليه، إلا أن يظهر فيه ما يوجب ضعفه " (¬2). 3 _ المستدرك على الصحيحين. للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم ابن البيع الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة: 405). ¬

(¬1) الإحسان (1/ 151)، ثم شرح ابنُ حبان ما ذكر من هذه الشروط، وبينتُ شرح صِفة العدْل عنده في القسم الأول من هذا الكتاب. (¬2) السنن الأبين (ص: 145) .......

قصد في هذا الكتاب أن يجمع الأحاديث التي اشتملت على شرط الصحة، ولم يخرجها البخاري ومسلم أو أحدهما. لكنه تساهل فيه جداً، وكثرت عليه فيه المآخذ. قال ابن تيمية بعد أن ذكر عن الحاكم تصحيحه لأحاديث موضوعة: " لهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه، وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه، بخلاف أبي حاتم بن حبان البستي، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدراً، وكذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن منده، وأمثالهم فيمن يصحح الحديث، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم، ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح مسلم، ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري " (¬1). وقال ابن القيم: " لا يعبأ الحفاظ أطباء الحديث بتصحيح الحاكم شيئاً، ولا يرفعون به رأساً البتة، بل لا يدل تصحيحه على حسن الحديث، بل يصحح أشياء موضوعة بلا شك عند أهل العلم بالحديث، وإن كان من لا علم له بالحديث لا يعرف ذلك فليس بمعيار على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعبأ أهل الحديث به شيئاً، والحاكم نفسه يصحح أحاديث جماعة وقد أخبر في كتاب (المدخل) له أن لا يحتج بهم، وأطلق الكذب على بعضهم " (¬2). وقال: " تصحيح الحاكم لا يستفاد منه حسن الحديث البتة فضلاً عن صحته " (¬3). ¬

(¬1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 170 _ 171). (¬2) الفروسية (ص: 63). (¬3) الفروسية (ص: 71).

وقال ابن دحية في كتابه (العلم المشهور): " ويجب على أهل الحديث أن يتحفظوا من قول الحاكم أبي عبد الله، فإنه كثير الغلط ظاهر السقط، وقد غفل عن ذلك كثير ممن جاء بعده وقلده في ذلك " (¬1). وقال الزيلعي بعد حديث ذكره في الجهر بالبسملة: " رواه الحاكم، وقال: رجاله ثقات، وتوثيق الحاكم لا يعارض ما يثبت في (الصحيح) خلافه؛ لما عرف من تساهله، حتى قيل: إن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدارقطني، بل تصحيحه كتحسين الترمذي، وأحياناً يكون دونه، وأما ابن خزيمة وابن حبان، فتصحيحهما أرجح من تصحيح الحاكم بلا نزاع " (¬2). قلت: ومن أجمع الكلمات في وصفه قول الحافظ أبي عبد الله الذهبي: " في المستدرك شيء كثير على شرطهما، وشيء كثير على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة، وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد، وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المئة يشهد القلب ببطلانها كنت قد أفردت منها جزءاً " (¬3). وسيأتي ذكر تساهله في الحكم على الحديث بكونه على شرط الشيخين أو أحدهما. ف " المستدرك " وإن قصد فيه إصابة شرط الصحة على طريقة الشيخين، لكن ليس له نفس منزلة " الصحيحين " أبداً ولا يقاربهما، بل لا يعتمد على حكمه حتى يوافق عليه من عارف بالصناعة، وذلك لضعف تحقيقه فيه. كما يجدر بالملاحظة أن الحافظ الذهبي اختصر " المستدرك " وتعقب ¬

(¬1) نقله الزيلعي في " نصب الراية " (1/ 341 _ 342) عن كتاب " العلم المشْهور " لابن دِحية ....... (¬2) نصب الراية (1/ 352). (¬3) سير أعلام النبلاء، للذهبي (17/ 175) .......

تنبيهان:

الحاكم في مواضع كثيرة، وأهمل مواضع أخرى، ونشر " مختصر الذهبي " في هامش " المستدرك "، وحين يقول الحاكم مثلاً: " حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " يختصر ذلك الذهبي بقوله مثلاً: " على شرطهما "، فهذا من الذهبي ليس موافقة ولا مخالفة، وإنما هو سكوت، فلا يصلح أن يضاف إليه القول بالموافقة، فيقال في الحديث: " صححه الحاكم ووافقه الذهبي "، إنما الصواب: " صححه الحاكم وسكت عنه الذهبي "، ولم يبين الذهبي أن سكوته دال على الموافقة. تنبيهان: التنبيه الأول: شاع عند بعض المتأخرينَ إطلاق عبارة " الصحاح الستة " ويعنون إضافة للبخاري ومسلم: سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. وهذا إطلاق ليس بصحيح، فإن هؤلاء الأئمة غير الشيخين لم يشترطوا صحة الأحاديث التي في كتبهم، وهي وإن كان أكثر ما فيها من الصحيح الثابت؛ إلا أنها تشتمل على الحديث الحسن، والضعيف بأنواع مختلفة من الضعف، بل وفي بعضها المنكر والموضوع. وما وقع على أغلفة بعض طبعات " الجامع " للترمذي من تسميته بـ" الجامع الصحيح " فإنه من أغلاط الناشرين، والترمذي مؤلف الكتاب لم يطلق وصفه بالصحة، بل إنه علل في كتابه كثيراً من الأحاديث، وإنما سماه: " الجامع "، وكثير من متأخري العلماء سموه " السنن" وجعلوه أحد كتب السنن التالية لـ" الصحيحين " في الترتيب. وأما قول الحافظ أبي طاهر السلفي وقد ضم السنن عدا ابن ماجة إلى " الصحيحين ": " اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب " (¬1)، فهذا في كتب " السنن" على اعتبار الأغلب، وقلة الحديث الضعيف فيها. ¬

(¬1) نقله ابنُ سيد الناس في " النفح الشذي " (1/ 190).

الثاني: كتاب " الأحاديث المختارة " للضياء المقدسي

التنبيه الثاني: كتاب " الأحاديث المختارة "، للحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى سنة: 643)، كتاب متأخر التصنيف لتأخر وفاة مؤلفه، عمدته فيما خرجه فيه على تخريج الحديث بأسانيده إلى أصحاب المصنفات، كـ (مسند أبي يعلي) و (معاجم الطبراني) وغيرها، وخطته فيه بينها في صدره بقوله: " هذه أحاديث اخترتها مما ليس في البخاري ومسلم، إلا أنني ربما ذكرت بعض ما أورده البخاري تعليقاً، وربما ذكرنا أحاديث بأسانيد جياد لها علة، فنذكر بيان علتها حتى يعرف ذلك " (¬1). وهذا الكتاب يغلب عليه الحديث الصحيح، لكن فيه ما هو معلل بما يذكره الضياء نفسه في تعليله، كما أشار هنا، وفيه ما يسكت عنه ولا يصح، لكن حرصه على أن يكون منتقى من أجود الحديث ظاهرٌ فيه. ولا يصلح أن يطلق عليه وصف الصحة، إنما فيه الصحيح الغالب، كما يوجد الصحيح الغالب في كتب السنن المعروفة، غير أنه يمتاز بكون ما فيه من الصحيح فهو مما يزيد على البخاري ومسلم. وهو فيه أشد احتياطاً من الحاكم، ولذا قدمه طائفة من متأخري العلماء على " المستدرك " للحاكم. قال ابن تيمية: " هو أصح من صحيح الحاكم " (¬2)، وكذلك جاء عن الزركشي (¬3). وقال تلميذه ابن عبد الهادي المقدسي: " اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو ¬

(¬1) الأحاديث المختارة (1/ 69 _ 70) ....... (¬2) الفتاوى الكبرى (3/ 48). (¬3) الرسالة المستطرفة، للكتاني (ص: 24).

الثالث: كتاب " المنتقى " لابن الجارود

قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي، ونحوهما، فإن الغلط في هذا قليل، ليس هو مثل صحيح الحاكم، فإن فيه أحاديث كثيرة يظهر أنها كذب موضوعة، فهذا انحطت درجته عن درجة غيره " (¬1). وقال السخاوي: " هي أحسن من المستدرك " (¬2). قلت: هو مرتب على مسانيد الصحابة، ولم يكمله. التنبيه الثالث: كتاب " المنتقى " للحافظ أبي محمد عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري (المتوفى سنة: 306)، كتاب مختصر في أحاديث الأحكام، عامته أحاديث صحيحه إلا شيئاً يسيراً. التنبيه الرابع: ادعى الإباضية أن أصح كتاب في الحديث بعد كتاب الله تعالى هو " مسند الربيع بن حبيب الأزدي " ويقدمونه على " الصحيحين ". وهذا " المسند " منسوب إلى الربيع، وهو بصري معروف من أهل المئة الثانية، مقارب في الطبقة للإمام مالك بن أنس، لكنه لم يشتهر عند أهل العلم بالرجال كما اشتهر أعيان طبقته من البصريين أو غيرهم، والأشبه من خلال دراسة ترجمته أنه رجل صدوق له حديث قليل، أما هذا " المسند " الذي سموه بـ " المسند الصحيح " فإنا نقبله لو نقل إلينا من أصل صحيح النسبة إلى الربيع، لكن هذه بغية قصدها بعض معاصري الأباضية منتصراً لثبوت هذا الكتاب، ولم أر عنده غير الدعوى، فليس للكتاب نسخة صحيحة، ولا له إسناد معروف. * * * ¬

(¬1) الصارم المنكي (ص: 99). (¬2) فتح المغيث (1/ 38) .......

المبحث الثالث: الأحاديث المعلقات في " صحيح البخاري "

المبحث الثالث: الأحاديث المعلقات في " صحيح البخاري " الحديث المعلق، هو: الحديث الذي حذف جميع إسناده، أو حذف من أول إسناده راو فأكثر. مثاله: قول الإمام البخاري: ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم: " الفخذ عورة ". هكذا ذكره البخاري في " صحيحه " (¬1) بغير إسناد، ويقال في مثله: (علقه البخاري). ومثال ما حُذف بعض إسناده: قول البخاري: وقال عفان: حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما " (¬2). علقه البخاري فيما بينه وبينه عفان، وهو ابن مسلم الصفار لم يدركه البخاري، إنما يروي عنه بالواسطة. ¬

(¬1) الصحيح (1/ 145). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 243).

إطلاق مصطلح (المعلق)

إطلاق مصطلح (المعلق): وأول من عرف عنه من النقاد إطلاق تسمية (المعلق) هو الحافظ أبو الحسن الدارقطني (¬1). سبب تعليق الحديث: يعلق الحديث لواحد من سببين: الأول: أن لا يكون على الشرط الذي ارتضاه المعلق لثبوت الحديث. فالبخاري مثلاً اشترط أن يكون كتابه في الحديث المسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيرى فائدة في ذكر بعض الآثار عن الصحابة أو من دونهم في التفسير والأحكام وغير ذلك، فلو أسندها خرج بذلك عن شرطه، فيعلقها وإن كانت صحيحة. والتزم أن لا يخرج أحاديث جماعة تكلم فيهم بما ينزل بهم عن شرطه في القوة، ورأى لهم بعض الأخبار مما يصح الاستشهاد به، فيعلق عنهم. والثاني: أن يقصد به مجرد الاختصار. وذلك كأن يروي البخاري في الباب ما يغني عن الإطالة بتخريج خبر تام إسناداً ومتناً زيادة على ما خرج. وأحياناً يكون الحديث عنده بإسناد واحد على شرطه، ويحتاجه في بابين، فيسنده في أحدهما ويعلقه في الآخر اتقاء لتكرار الحديث بنفس الإسناد في مكانين؛ ولذا يندر أن يؤخذ على البخاري أنه كرر حديثاً بنفس الإسناد والمتن، إنما ترى في التكرار فائدة جديدة ولا بد. وقد اشتهر بكثرة الأحاديث المعلقة: صحيح الإمام البخاري. وإذا كان التعليق عنده مما يندرج تحت السبب الأول، وهو كونه ليس ¬

(¬1) صيانة صحيح مُسلم من الإخلاط والغلط، لابن الصلاح (ص: 76) .......

تنبيهان:

على شرطه، فذلك لا يعني ضعفه عنده، وإنما القول في معلقات البخاري كما يلي: أولاً: إذا علق الحديث بصيغة الجزم، بأن قال مثلاً: (قال النبي صلى الله عليه وسلم) أو: (قال ابن عباس) فهو ثابت عنده. ثانياً: إذا علق الحديث بصيغة الجزم إلى بعض رواة ذلك الحديث كأن يقول: (قال فلان) ويسوق طرفاً من آخر الإسناد؛ فهو صحيح منه إلى من سماه، أما من ذلك المسمى إلى منتهى الإسناد فيحتاج إلى كشف. وهذا كحديث عفان بن مسلم المتقدم، فهو صحيح عند البخاري إلى عفان، لكنه من عفان إلى ابن عمر يحتاج إلى تحقيق ثبوته. ثالثاً: إذا علق الحديث بصيغة التمريض، كقوله: (يروى، روي) ونحو ذلك من صيغ المبني للمجهول، فليس فيه حكم منه بثبوت المعلق، بل في إشعار بتعليله، فهو على الضعف حتى يتبين وصله من طريق ثابت. وأما ما يعلقه البخاري لأجل الاختصار، فإنه يسوقه موصولاً في موضع آخر من " الصحيح "، فهذا ليس من قبيل المعلق الذي يتخلف عن شرطه؛ للعلم بمخرجه في نفس " الصحيح". تنبيهان: التنبيه الأول: اعلم أنه ليس في معلقات البخاري ما هو شديد الضعف، إلا نادراً ويبينه، إنما فيها: الصحيح، والحسن، والضعيف المحتمل، وأكثر ذلك آثار عن الصحابة والتابعين أو متابعات وزيادة طرق قد روى ما هو أحسن منها مسنداً. ومثاله النادر الذي يلحق بمعلقاته ويبينه، قوله: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: " لا يتطوع الإمام في مكانه " ولم يصح (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1/ 290) .......

الثاني: قول البخاري: (قال فلان) إذا كان من شيوخه، هل له شرط الصحيح

التنبيه الثاني: قول البخاري: (قال فلان)، وفلان هذا من شيوخه، هل يعد على شرط الصحيح أم لا؟ مسألة اختلف فيه العلماء على قولين: أولهما: ليست على شرطه، وشأنها شأن سائر المعلقات التي تحتاج إلى النظر في وصلها في موضع آخر غير " الصحيح "، وحجتهم: أن البخاري إذا روى حديثاً عن شيخ له سمعه منه وذلك الحديث على شرطه فإنه لا يقول فيه: (قال فلان) إنما يقول: (حدثنا) أو شبهها من الصيغ الصريحة في الاتصال، قالوا: ووجدنا البخاري روى لبعض شيوخه ما سمعه منهم بالواسطة. وثانيهما: هو موصول على شرط " الصحيح " فإن البخاري لم يعرف بالتدليس، والراوي إذا قال في بعض حديثه عن شيخه: (قال فلان) أو (عن فلان) ولم يعرف بالتدليس؛ فذلك متصل، قالوا: ووجدنا البخاري في كتابه " التاريخ الكبير " روى عن شيوخه حديثاً كثيراً لا يذكر الصيغة بينه وبين شيخه إلا (قال)، وهو جار عند أهل العلم على الاتصال. وهذا القول الثاني أصح في الأصول. ويذكر أهل العلم له شاهداً حديث المعازف المشهور، فهو مخرج في " الصحيح "، قال البخاري: وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال: حدثني أبو عامر _ أو أبو مالك _ الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم _ يعني الفقير _ لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (رقم: 5268) .......

تتمة في مسائل تتصل بالمعلقات

فهشام بن عمار من شيوخ البخاري، روى عنه البخاري بالسماع المباشر داخل " الصحيح " وخارجه أحاديث، ومنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل راو قد صرح بسماعه ممن فوقه، فلا شبهة في الاتصال، والبخاري أورد الحديث المذكور تحت باب (ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه) وساق هذا الحديث ولم يذكر شيئاً غيره، فهو حجته للباب المذكور، فهذا مما يؤكد اتصاله. لكن لماذا لم يقل: (حدثني هشام)؟ جوابه: للشك في اسم صحابيه، وهو غير قادح عند جمهور أهل العلم؛ لأنه كان عن أبي عامر أو أبي مالك فكلاهما صحابي سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وجهالة الصحابي لا تؤثر لعدالة جميعهم على ما شرحته في (القسم الأول)، فكيف وقد سمي هنا وإنما وقع التردد في تعيينه (¬1)؟ تتمة في مسائل تتصل بالمعلقات: 1 _ اعتنى الحافظ ابن حجر بذكر وصل المعلقات التي في " صحيح البخاري " في " فتح الباري "، وفي كتاب مفرد سماه: " تغليق التعليق "، وهو نافع مبرر لصحة ما ذكرت آنفاً من قسمة المعلقات في " الصحيح". 2 _ ليس " صحيح مسلم " مظنة للحديث المعلق، وفيه شيء نادر. ويوجد المعلق في بعض كتب السنن، كأبي داود والترمذي، كما يوجد في غيرها، وينعدم أو لا يكاد يوجد في كتب المسانيد أو المعاجم وشبهها. والقاعدة فيما يوجد منه عند غير البخاري: أنه حديث ضعيف حتى يعلم وصله من وجه ثابت، وذلك للجهل بدرجة الساقط من الإسناد. ¬

(¬1) وانظر كتابي " الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام " .......

3 _ بلاغات " الموطأ ": ما يعرف بـ (البلاغات) في (الموطأ) للإمام مالك هي من قبيل المعلقات، فلا يُجزم بثبوتها، بل الأصل فيها الضعف لانقطاع الإسناد، حتى توصل بإسناد ثابت، وقد وجد في " بلاغات " مالك كثير من البلاغات موصولاً بإسناد ضعيف، أو ضعيف جداً، وإن كان كثير منها ثابتاً. 4 _ كل خبر يذكر بغير إسناد، فهو: [1] إما أن يعلم مخرجه، كأن يقال: (رواه البخاري، رواه أبو داود) مثلاً، وهو موجود في كتابيهما، فليس بمعلق إذا كان إسناده مذكوراً في كتابيهما. [2] وإما أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو قائله بغير إسناد، ولم يعلم وصله، فهو من قبيل الحديث الضعيف. وهذا كثير شائع في مختلف الكتب التي تورد الأحاديث من غير عزو إلى مخرج ولا اشتراط صحة، ولا التزام لبيان درجاتها، فيجب ترك الاعتماد على ما كان من ذلك حتى يستثبت منه، ففي الأحاديث المعلقة في كلام كثير من المؤلفين أحاديث كثيرة ليس لها أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل منها ما لا يوجد في كتب الرواية أصلاً، ولا بإسناد موضوع. * * *

المبحث الرابع: السنن الأربعة والمسند أعظم دواوين السنة بعد الصحيحين

المبحث الرابع: السنن الأربعة والمسند أعظم دواوين السنة بعد الصحيحين المعني بـ (السنن الأربعة): سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. وبـ (المسند) مسند أحمد بن حنبل. وإذا ذكرت (الكتب الستة) فالمراد: (الصحيحان) و (السنن الأربعة). وأول من عد ابن ماجة سادساً: الحافظ محمد بن طاهر المقدسي، ومن متأخري العلماء من رشح (مسند) الدارمي بدله، ومنهم من عد السادس (الموطأ) لمالك بدله، كما صنع ابن الأثير في " جامع الأصول " (¬1). والعلة في التردد في كتاب ابن ماجة ما شانه من تخريج الواهي والموضوع في مواضع، وكثرة الضعيف على ما سيأتي نقده فيه. وهذه الكتب يغلب عليها الحديث المقبول، بنوعيه: الصحيح، والحسن، ويقل فيها الضعيف وما دونه. ¬

(¬1) وانظر: " النكت على ابن الصلاح " لابن حجر (1/ 486)، والرسالة المستطرفة، للكتاني (ص: 13).

شرط أبي داود في (سننه)

وتبين ذلك بتميز شرط كل منها، وهذا بيانه: شرط أبي داود في (سننه): بين أبو داود في " رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه " منهجه وخطته، والذي يعنينا في هذا المبحث معرفة شرطه، وتوضيحه من عباراته كما يلي: 1 _ قال: " ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه " (¬1). 2 _ لم يتحاش تخريج المراسيل، لكن باحتراز، حيث قال: " إذا لم يكن مسند متصل ضد المراسيل، ولم يوجد المسند، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة " (¬2). وقال: " وإن من الأحاديث في كتاب السنن ما ليس بمتصل، وهو مرسل ومدلس، وهو إذا لم توجد الصحاح "، قال: " ما في كتاب السنن من هذا النحو قليل ". وقال: " وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من المراسيل، منها ما لا يصح، ومنها ما هو مسند عند غيري وهو متصل صحيح ". 3 _ وقال: " ليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء ". 4 _ وقال: " وإذا كان فيه حديث منكر بينت أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره ". ¬

(¬1) نقل هذا النص الحازمي في " شروط الأئمة الخمسة " (ص: 169) من رواية ابن داسة عن أبي داود، وليس في جملة الرسالة المفردة المطبوعة في وَصف السنن ....... (¬2) رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه (ص: 33)، وكذا سائر ما سيأتي ذكْره من النصوص عن أبي داود حتى الفقرة (8) فهو من هذه الرسالة، من (ص: 31) حتى (ص: 51) .......

5 _ وقال: " إذا ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ليس مما خرجته، فاعلم أنه حديث واه، إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر، فإني لم أخرج الطرق؛ لأنه يكثر على المتعلم ". قلت: يشير إلى أنه اجتهد في استقصاء أبواب السنن، وحكمه بالوهاء على ما لم يخرجه من الحديث مما يثبت سنة لم يذكرها، لا يسلم له بهذا الإطلاق، وإنما العبرة بثبوت الرواية بتلك السنة، وفوق كل ذي علم عليم، والسنن يومئذ لم ينته من استقصائها في كتاب. وكان قال قبل ذلك: " لم أكتب في الباب إلا حديثاً أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح؛ فإنه يكثر، وإنما أردت قرب منفعته ". 6 _ وقال: " وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، ومنه ما لا يصح سنده ". 7 _ وقال: " وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض ". قول أبي داود في شأن ما سكت عنه فهو صالح، ما معناه؟ الحديث يكون صالحاً للاحتجاج، أو للاعتبار، وكلاهما مراد لأبي داود، فالأحاديث التي سكت عنها في كتابه، هي أكثر ما فيه، وهي منقسمة إلى أقسام: أولها: الصحيح المحتج به، وهو الأكثر. وثانيها: الحسن، وهو من مظانه. وثالثها: ما يتقوى من الروايات اللينة. ورابعها: ما هو رواية الضعفاء الذين لم يجتمع على ترك حديثهم.

8 _ وقال: " الأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير. . فإنه لا يحتج بحديث غريب، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم ". قلت: هذا الوصف قوة لكتابه، ولكن الغريب الصحيح حجة، وعند أبي داود كثير من أفراد الثقات، بل فيه من أفراد الضعفاء كذلك. وقارن ابن رجب بين أبي داود والترمذي في التخريج لبعض الرواة المتكلم فيهم، وقال في أبي داود: " هو أشد انتقاداً للرجال منه " (¬1) أي من الترمذي. وقال الذهبي بعد ذكره لما بينه أبو داود من شرطه في " سننه ": " قد وفى رحمه الله بذلك بحسب اجتهاده، وبين ما ضعفه شديد ووهنه غير محتمل، وكاسر عما ضعفه خفيف محتمل، فلا يلزم من سكوته والحالة هذه عن الحديث أن يكون حسنا عنده، ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المولد الحادث الذي هو في عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح الذي يجب العمل به عند جمهور العلماء، أو الذي يرغب عنه أبو عبد الله البخاري ويمشيه مسلم، وبالعكس، فهو داخل في أداني مراتب الصحة، فإنه لو انحط عن ذلك لخرج عن الاحتجاج، ولبقي متجاذباً بين الضعف والحسن. فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت: ما أخرجه الشيخان، وذلك نحو من شطر الكتاب. ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين، ورغب عنه الآخر. ثم يليه ما رغبا عنه، وكان إسناده جيداً سالماً من علة وشذوذ. ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/ 398).

ثم يليه ما كان إسناده صالحاً، وقبله العلماء؛ لمجيئه من وجهين لينين فصاعداً، يعضد كل إسناد منهما الآخر. ثم يليه ما ضعف إسناده؛ لنقص حفظ راويه، فمثل هذا يمشيه أبو داود ويسكت عنه غالباً. ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه، فهذا لا يسكت عنه، بل يوهنه غالباً وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته " (¬1). وقال الذهبي: " من أجمع على اطراحه وتركه لعدم فهمه وضبطه، أو لكونه متهماً، فيندر أن يخرج لهم أحمد والنسائي، ويورد لهم أبو عيسى فيبينه بحسب اجتهاده، لكنه قليل ويورد لهم ابن ماجة أحاديث قليلة، ولا يبين، والله أعلم، وقل ما يورد منها أبو داود فإن أورد بينه في غالب الأوقات " (¬2). قلت: وبهذا التفصيل الدقيق الحسن من الناقد الذهبي يتبين خطأ من رأى فيما يسكت عنه أبو داود أو يدخله في " سننه " مطلقاً الصحة. كما قال الساجي في (الوضين بن عطاء): عنده حديث واحد منكر غير محفوظ، عن علقمة عن عبد الرحمن بن عائذ، عن علي، حديث: العينان وكاء السه (¬3). قال الساجي: " رأيت أبا داود أدخل هذا الحديث في كتاب السنن، ولا أراه ذكره فيه إلا وهو عنده صحيح " (¬4). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (13/ 214 _ 215) ....... (¬2) سير أعلام النبلاء (12/ 576). (¬3) السه، قال ابن الأثير: " حلْقة الدبر .. ومعنى الحديث: أن الإنسان مَهْما كان مستيقظاً كان استه كالمشدودة المَوْكيِّ عليها، فإذا نام انْحلَّ وكاؤُها، كنى بهذا اللفظ عن الحديث وخروج الريح " (النهاية: 2/ 429 _ 430). (¬4) نقله ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (4/ 310).

شرط الترمذي في " سننه "

وأطلق بعض العلماء على كتاب أبي داود اسم (الصحيح)، كالحاكم النيسابوري (¬1)، وما تقدم بيانه يرد هذا الإطلاق. شرط الترمذي في " سننه ": خرج الترمذي في " سننه " التي سماها " الجامع " الحديث بمختلف درجاته، لكنه كان في غاية الاعتناء بتميز درجات الحديث، ونقده. وفي كتابه: الصحيح، والحسن، والضعيف بأنواع الضعف المختلفة، والمنكر والواهي والموضوع، وإن كان هذا النوع الأخير قليلاً، ويبينه. قال ابن رجب: " الغرائب التي خرجها فيها بعض المناكير، ولا سيما في كتاب الفضائل، ولكنه يبين ذلك غالباً ولا يسكت عنه، ولا أعلمه خرج عن متهم بالكذب متفق على اتهامه حديثاً بإسنادٍ منفرد، إلا أنه قد يخرج حديثاً مروياً من طرق، أو مختلفاً في إسناده وفي بعض طرقه متهم، وعلى هذا الوجه خرج حديث محمد بن سعيد المصلوب، ومحمد بن السائب الكلبي، نعم قد يخرج عن سيء الحفظ، وعمن غلب على حديثه الوهم، ويبين ذلك غالباً ولا يسكت عنه " (¬2). أي: أنه لم يخرج حديث من هو كهذين المتروكين الهالكين يريد اعتماده، وإنما يخرجه فيبينه، ويبين ما الأصح أو المحفوظ من طريق سواهم (¬3). وأكثر ما في (جامع) الترمذي فهو من الصحيح والحسن، وأكثر رواته ¬

(¬1) النُّكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 481). (¬2) شرح علل الترمذي (1/ 395 _ 397) ....... (¬3) لم يُخرج للمصلوب إلا حديثاً واحداً في كتاب (الدعوات) (رقم: 3549) وبين وهاءَه، كما خرَّج بعده ما هو أصح من حديثه. وكذلك الكلبي، إنما خرَّج له حديثاً واحداً في كتاب (التفسير) (رقم: 3059) وقال: " حديث غريب، وليس إسناده بصحيح "، وذكر وهاء الكلبي.

الثقات الضابطون، وفيهم من يهم قليلاً، ومن يهم كثيراً، ومن يغلب على حديثه الوهم، لكنه لا يكاد يخرج حديث هذا الصنف على قلته إلا ويبين ذلك. والترمذي غير متساهل في التحقيق، خلافاً لما أطلقه بعض متأخري العلماء، وجرى عليه بعض المنتسبين إلى هذا العلم من أهل زماننا. والعلة عند هؤلاء ما لخصه ابن القيم بقوله: " الترمذي يصحح أحاديث لم يتابعه غيره على تصحيحها، بل يصحح ما يضعفه غيره أو ينكره، فإنه صحح حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف " وبين كلام الأئمة في شدة ضعفه، وقال: " ويصحح أيضاً حديث محمد بن إسحاق، وهو أعذر من تصحيحه حديث كثير هذا، ويصحح أيضاً للحجاج بن أرطأة مع اشتهار ضعفه، ويصحح حديث عمرو بن شعيب، وأحسن كل الإحسان في ذلك، والمقصود أنه يصحح ما لا يصححه غيره وما يخالف في تصحيحه " (¬1). قلت: وهذا يقابله أنه يعلل أحاديث يصححها غيره. والوجه في ذلك كله أنه إمام مجتهد في هذه الصنعة كغيره من أئمة هذا الشأن، واختلاف الأئمة في التصحيح والتضعيف لحديث هو من نفس باب اختلافهم في التعديل والتخريج لراو، فاحتمال هذا احتمال لذاك. والترمذي جرى في هذا العلم على خطى شيخه البخاري في منهاجه، كما أظهر ذلك جلياً في كتابه، نعم، كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. والأئمة بعد الترمذي لم يزالوا يعتمدون تصحيحه للحديث أو تحسينه له، حتى يتبين خطأ قوله فيه، وهذا هو الأليق بخريج مدرسة البخاري والدارمي وأبي زرعة الرازي. ¬

(¬1) الفروسية (ص: 63) .......

شرط النسائي في " سننه "

واعلم أن من العلماء من أطلق على " الجامع " للترمذي اسم (الصحيح)، كذلك فعل الحاكم النيسابوري، والخطيب البغدادي، والحاكم سماه " الجامع الصحيح " (¬1). وهذا إطلاق غير صحيح يدل على نقضه طريقة الترمذي نفسه، كما تقدم. شرط النسائي في " سننه ": وذلك في الروايتين عنه: " السنن الصغرى "، أو " المجتبى "، وهي رواية أبي بكر أحمد بن محمد بن السني، و " السنن الكبرى " من رواية جماعة آخرين من الحفاظ عن النسائي. وشرطه فيهما بينه بقوله: " لما عزمت على جمع كتاب السنن، استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشيء، فوقعت الخيرة على تركهم، فتركت جملة من الحديث كنت أعلو فيه عنهم " (¬2). قلت: فمن هؤلاء عبد الله بن لهيعة. قال الحافظ أبو طالب أحمد بن نصر البغدادي: " من يصبر على ما صبر عليه أبو عبد الرحمن؟! كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة فما حدث بها، وكان لا يرى أن يحدث بحديث ابن لهيعة " (¬3). وسئل الدارقطني: إذا حدث أبو عبد الرحمن النسائي وابن خزيمة بحديث، أيما تقدمه؟ فقال: " أبو عبد الرحمن، فإنه لم يكن مثله أقدم عليه ¬

(¬1) نقله ابنُ سيِّد الناس في " النفح الشذي " (1/ 189)، وانظر: " النُّكت على ابن الصلاح " لابن حجر (1/ 481). (¬2) أخرجه ابن طاهر في " شروط الأئمة الستة " (ص: 104) وإسناده صحيح. (¬3) سؤالات السلمي (النص: 33).

أحداً، ولم يكن في الورع مثله، لم يحدث بما حدث ابن لهيعة وكان عنده عالياً عن قتيبة " (¬1). وقال أبو الفضل بن طاهر المقدسي: سألت الإمام أبا القاسم سعد بن علي الزنجاني بمكة عن حال رجل من الرواة، فوثقه، فقلت: إن أبا عبد الرحمن النسائي ضعفه، فقال: " يا بني، إن لأبي عبد الرحمن في الرجال شرطاً أشد من شرط البخاري ومسلم " (¬2). وقال ابن رجب مرجحاً له على أبي داود والترمذي فيمن يخرج له: " وأما النسائي فشرطه أشد من ذلك، ولا يكاد يخرج لمن يغلب عليه الوهم، ولا لمن فحش خطؤه وكثر " (¬3). وأطلق بعض العلماء على كتاب النسائي اسم (الصحيح)، جاء هذا عن الحفاظ، أبي علي النيسابوري، وأبي أحمد بن عدي، والدارقطني، وابن منده، وعبد الغني بن سعيد الأزدي، والحاكم، وأبي يعلي الخليلي، والخطيب البغدادي، وأبي طاهر السلفي (¬4)، وذلك من أجل ما رأوه في كتابه من قوة شرطه وتحريه. كما ذهب إلى القول بصحة رواية ابن السني والمسماة بـ (المجتبى) أو (المجتنى)، أو (السنن الصغرى) تلميذ النسائي محمد بن معاوية الأحمر (¬5). والواقع: أن النسائي أعل في الكتابين (الكبرى) أو (الصغرى) أحاديث كثيرة، وضعفها، وجرح عدداً من الرواة فيهما، والمتحرر لي: أن الاختلاف ¬

(¬1) سؤالات حمزة السهمي للدارقطني (النص: 111). (¬2) شروط الأئمة الستة، لابن طاهر (ص: 104). (¬3) شرح علل الترمذي (1/ 398) ....... (¬4) النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 481). (¬5) النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 484).

شرط ابن ماجة في " سننه "

بينهما طولاً وقصراً إنما هو من جهة الرواة لهما، لا من جهة النسائي نفسه، والله أعلم، والمعنى في الكتابين خطة وشرطاً واحد. شرط ابن ماجة في " سننه ": فيه حديث كثير صحيح وحسن، لكنه أيضاً اشتمل على الواهي والموضوع، وهو لا يميز فيه بين ما يثبت وما لا يثبت، فانحطت بذلك رتبة الكتاب. قال الذهبي: " قد كان ابن ماجة حافظاً ناقداً صادقاً واسع العلم، وإنما غض من رتبة سننه ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات " (¬1). وقال في موضع آخر: " غلاة الرافضة والجهمية الدعاة، وكالكذابين والوضاعين وكالمتروكين المهتوكين، كعمر بن الصبح، ومحمد المصلوب، ونوح بن أبي مريم، وأحمد الجويباري، وأبي حذيفة البخاري، فما لهم في الكتب حرف، ما عدا عمر، فإن ابن ماجة خرج له حديثاً واحداً فلم يصب، وكذا خرج ابن ماجة للواقدي حديثاً واحداً، فدلس اسمه وأبهمه" (¬2). وقال ابن حجر: " تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الحديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم " وسمى بعضهم (¬3). وقد حكي عن أبي زرعة الرازي أنه نظر في كتاب ابن ماجة، فما عاب عليه إلا نحواً من ثلاثين حديثاً. لكن قال الذهبي: قول أبي زرعة إن صح فإنما عنى بثلاثين حديثاً: ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (13/ 278 _ 279). (¬2) سير أعلام النبلاء (12/ 576). (¬3) النكت على ابنِ الصلاح (1/ 485) .......

شرط أحمد في " المسند "

الأحاديث المطرحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة فكثيرة لعلها نحو الألف " (¬1). وقال ابن حجر: " هي حكاية لا تصح؛ لانقطاعها، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية، أو كان ما رأى من الكتاب إلا جزءاً منه فيه هذا القدر، وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب (العلل) لابن أبي حاتم " (¬2). قلت: فبعد هذا كيف يصلح تسميته (صحيحاً) عند من أطلق عبارة (الصحاح الستة)؟. شرط أحمد في " المسند ": قال ابن تيمية: " نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروي عنهم أهل السنن، كأبي داود والترمذي، مثل نسخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده، وإن كان أبو داود يروي في سننه منها، فشرط أحمد في مسنده أجود من شرط أبي داود في سننه " (¬3). وقال في موضع آخر: " وليس كل ما رواه أحمد في المسند وغيره يكون حجة عنده، بل يروي ما رواه أهل العلم، وشرطه في المسند: أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف، وشرطه في المسند مثل شرط أبي داود في سننه " (¬4). ونقل ابن القيم حكاية حنبل بن إسحاق قال: جمعنا أحمد بن حنبل، ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (13/ 279). (¬2) النكت على ابن الصلاح (1/ 486). (¬3) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 162). (¬4) منهاج السنة النبوية (7/ 96 _ 97) .......

أنا، وصالح، وعبد الله، وقرأ علينا المسند، وما سمعه منه غيرنا، وقال لنا: " هذا كتاب، جمعته من سبع مئة ألف وخمسين ألف حديث، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن وجدتموه فيه، وإلا فليس بحجة "، ثم قال ابن القيم: " هذه الحكاية قد ذكرها حنبل في تاريخه، وهي صحيحة بلا شك، لكن لا تدل على أن كل ما رواه في المسند فهو صحيح عنده، فالفرق بين أن يكون كل حديث لا يوجد له أصل في المسند فليس بحجة، وبين أن يقول: كل حديث فيه حجة، وكلامه يدل على الأول، لا على الثاني. وقد استشكل بعض الحفاظ هذا من أحمد، وقال: في الصحيحين أحاديث ليست في المسند، وأجيب عن هذا: بأن تلك الألفاظ بعينها وإن خلا المسند عنها، فلها فيه أصول ونظائر وشواهد، وأما أن يكون متن صحيح لا مطعن فيه ليس له في المسند أصل ولا نظير، فلا يكاد يوجد البتة " (¬1). قلت: وهذه حقيقة لا يتجاوزها من درس هذا الديوان العظيم وتأمله. دعوى (ما سكت عنه أحمد في " المسند " فهو صحيح): قال الحافظ أبو موسى المديني: " ما أودعه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده، قد احتاط فيه إسناداً ومتناً، ولم يورد فيه إلا ما صح عنده " (¬2). وهذه الدعوى ردها ابن القيم، فقال: " هذه المقدمة لا مستند لها البتة، بل أهل الحديث كلهم على خلافها، والإمام أحمد لم يشترط في ¬

(¬1) الفروسية (ص: 69). (¬2) خصائص المسند، لأبي موسى المديني (ص: 24) ونقله بمعناه ابن القيم في " الفروسية " (ص: 66 _ 67).

مسنده الصحيح ولا التزمه، وفي مسنده عدة أحاديث سئل هو عنها فضعفها بعينها وأنكرها " (¬1). وذكر ابن القيم ما زاد على عشرين حديثاً، جميعها مما خرجه في (المسند) وهي عنده إما ضعيفة أو منكرة (¬2). ثم قال: " وهذا باب واسع جداً، لو تتبعناه لجاء كتاباً كبيراً، والمقصود أنه ليس كل ما رواه وسكت عنه يكون صحيحاً عنده " (¬3). قلت: وهذا هو التحقيق، إنما فيه الصحيح وهو الغالب، وفيه الحسن وهو كثير، وفيه الضعيف وهو أقل بكثير من الصحيح والحسن، وفيه المنكر وهو قليل، وهل فيه موضوع؟. قال ابن تيمية: " تنازع الحافظ أبو العلاء الهمذاني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: هل في المسند حديث موضوع؟ فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون في المسند حديث موضوع، وأثبت ذلك أبو الفرج، وبين أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة. ولا منافاة بين القولين، فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج: هو الذي قام دليل على أنه باطل، وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب، بل غلط فيه؛ ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع. . وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله، فإنما يريدون بالموضوع: المختلق المصنوع الذي تعمد صاحبه الكذب " (¬4). ¬

(¬1) الفروسية (ص: 64) وذكر ابن القيم في هذا المعنى حكاية عن أحمد مما أورده أبو موسى المديني في " خصائص المسند " (ص: 27)، هي رواية أبي العز أحمد بن عبيد الله بن كادش العُكْبري، وهو شيخٌ متهم، لم يكن ثقة. (¬2) انظر: الفروسية (ص: 64 _ 66). (¬3) الفروسية (ص: 66) ....... (¬4) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 160) .......

وأدخل ابن الجوزي في كتاب " الموضوعات " من تلك الأحاديث عدداً، تعقبه فيها الحافظ أبو الفضل العراقي، ثم تلميذه ابن حجر في " القول المسدد في الذب عن المسند "، وبينا أنها لا تبلغ الوضع. قال ابن حجر: " ادعى قوم فيه الصحة، وكذلك في شيوخه، وصنف الحافظ أبو موسى المديني في ذلك تصنيفاً، والحق أن أحاديثه غالبها جياد، والضعاف منها إنما يوردها للمتابعات، وفيه القليل من الضعاف الغرائب الأفراد، أخرجها، ثم صار يضرب عليها شيئاً فشيئاً، وبقي منها بعده بقية. وقد ادعى قوم أن فيه أحاديث موضوعة، وتتبع شيخنا إمام الحفاظ أبو الفضل (¬1) من كلام ابن الجوزي في (الموضوعات) تسعة أحاديث أخرجها من المسند، وحكم عليها بالوضع، وكنت قرأت ذلك الجزء عليه، ثم تتبعت بعده من كلام ابن الجوزي في (الموضوعات) ما يلتحق به، فكملت نحو العشرين، ثم تعقبت كلام ابن الجوزي فيها حديثاً حديثاً، وظهر من ذلك أن غالبها جياد، وأنه لا يتأتى القطع بالوضع في شيء منها، بل ولا الحكم بكون واحد منها موضوعاً، إلا الفرد النادر، مع الاحتمال القوي في دفع ذلك، وسميته (القول المسدد في الذب عن مسند أحمد) " (¬2). قلت: واعلم أن في ثناياه زيادات كثيرة من رواية ابنه عبد الله عن غير أبيه، هي على القسمة السابقة أيضاً بين الثابت وغيره، وفيه كذلك من زيادات أبي بكر القطيعي راوي " المسند " عن عبد الله. * * * ¬

(¬1) يعني العراقي. (¬2) تعجيل المنفعة (1/ 240 _ 241).

المبحث الخامس: المستخرجات على " الصحيحين "

المبحث الخامس: المستخرجات على " الصحيحين " المستخرج، هو: أن يعمد المحدث إلى كتاب من كتب الحديث المسندة كـ" صحيح البخاري "، فيروي أحاديث ذلك الكتاب بأسانيده الخاصة بحيث يلتقي مع البخاري في كل حديث في شيخه، أو من فوقه، ولا يتجاوز الشيخ الأقرب إلى البخاري حتى لا يجد في مسموعاته ذلك الحديث عن ذلك الشيخ، ويجب أن يستخرج الحديث من طريق نفس الصحابي الذي أخرج البخاري عنه الحديث. هذه صفة ما يسمى بـ " المستخرج ". مثاله: قال الإمام مسلم في " صحيحه " (¬1): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وابن نمير، قالوا: حدثنا سفيان، عن زياد بن علاقة، سمع جرير بن عبد الله يقول: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. هكذا جاء سياق الحديث برواية مسلم، فاستخرجه الحافظ أبو عوانة الإسفراييني في " المستخرج على صحيح مسلم " (¬2) فقال: حدثنا إسحاق بن ¬

(¬1) كتاب الإيمان (رقم: 98) ....... (¬2) مُستخرج أبي عوانة المسمى " مسند أبي عوانة " (1/ 38).

سيار، قال: حدثنا عبيد الله (¬1)، قال: أخبرنا سفيان، عن زياد بن علاقة، قال: سمعت جريراً يحدث حين مات المغيرة بن شعبة، خطب الناس فقال: أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، والسكينة والوقار، فإني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هذه على الإسلام، واشترط علي النصح لكل مسلم، فورب الكعبة؛ إني لكم ناصح أجمعين، واستغفر ونزل. فأنت رأيت مسلماً لم يرو هذا الحديث بهذا التمام، وفي استخراجه عليه فوائد عديدة في الإسناد والمتن، فأبرزها في الإسناد أن مسلماً روى هذا الحديث من حديث سفيان بن عيينة، فجاء في " الاستخراج " من رواية سفيان الثوري متابعة لابن عيينة، كلاهما عن زياد، وفيه أن التخريج للرواية لم يلتق فيه أبو عوانة بمسلم في شيخه، ولا في شيخ شيخه ابن عيينة، إنما في شيخ ابن عيينة، وفي المتن زيادة لا تخفى فائدتها. واستخرجه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في " المستخرج على صحيح مسلم " (¬2) من طريق الحافظ الحميدي قال: حدثنا سفيان، حدثنا زياد بن علاقة، سمعت جرير بن عبد الله. ثم رواه من طريق الحافظ الحسن بن سفيان قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا زياد بن علاقة، سمعت جرير بن عبد الله قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم ". فاستخراج أبي نعيم لم ترد فيه فائدة في المتن، لكنه جاء على الموافقة لمسلم في رواية هذا الحديث في شيخه ابن أبي شيبة في رواية الحسن بن سفيان عنه، وشيخ شيخه ابن عيينة في رواية الحميدي عنه، ¬

(¬1) هو ابنُ موسى العبسيُّ، وشيخه فيه هو الثوري بناءً على ما يُراد عند الإطلاق في شيوخ عبيد الله، والحديث مَحفوظ من رواية السفيانين. (¬2) المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم (رقم: 195) .......

فوائد المستخرجات

ولك أن تقول: فيه من الفائدة كذلك أنه ميز (سفيان) في رواية مسلم بأنه ابن عيينة، وإن كان مثله لا يخفى في هذا الإسناد على مشتغل بالحديث. فوائد المستخرجات: وللمستخرجات فوائد كثيرة، نبه عليها كثير من المتأخرين، أوصلها ابن ناصر الدين الدمشقي إلى عشرة، هي: أولاً: زيادة ألفاظ، كتتمة محذوف، أو زيادة شرح في حديث، ونحو ذلك، وربما دلت على زيادة حكم. ثانياً: علو الإسناد. قلت: وذلك أن المستخرج مع تأخر وفاته أو زمانه عن وفاة البخاري مثلاً، إلا أنه يروي الحديث الذي رواه البخاري بعدد من الرجال يتساوى مع عدد رجال إسناد البخاري، فيكون المستخرج كأنه عاش مع البخاري في زمن واحد (¬1). ثالثاً: قوة الحديث بكثرة الطرق؛ للترجيح عند المعارضة. قلت: ولدفع الغرابة عنه كذلك. رابعاً: وصل تعليقٍ علقه الشيخان أو أحدهما. خامساً: بيان من تابع من الرواة الراوي من رجال " الصحيحين " على حديثه. سادساً: معرفة اتفاقهما أو اختلافهما في الحرف أو الحرفين فصاعداً. سابعاً: بيان الزيادة التي على لفظ " الصحيحين " أو أحدهما من حديث من وقعت، وهل انفرد بها أم لا؟ ¬

(¬1) وتقدم في (المدخل) لهذا الكتاب، بيان معنى العلو وفائدته.

من أمثلة المستخرجات على " الصحيحين "

ثامناً: ذكر قصة في الحديث لم تقع للبخاري في " صحيحه " مثلاً، ووقعت في المستخرج. تاسعاً: رفع إشكال وقع في لفظ من " الصحيحين " أو أحدهما. عاشراً: من فاته سماع " الصحيحين " أو أحدهما قد يصل إلى ذلك بأحاديثه وتراجمه بسماع أحد الكتب المستخرجة على الكتاب الذي فاته سماعه (¬1). قلت: وهذه الفائدة الأخيرة حين كان التلقي للكتب بالسماع، لا يحتاج إليها اليوم في تلقي " الصحيحين "، خصوصاً أن انتشارهما في الناس أكثر من انتشار المتسخرجات عليهما. من أمثلة المستخرجات على " الصحيحين ": وأكثر ما صنف من المستخرجات، كان على أحد " الصحيحين ". فمن المستخرجات على " صحيح البخاري ": 1 _ مستخرج أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي (المتوفى سنة: 371). 2_ مستخرج أبي بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب البرقاني (المتوفى سنة: 425). 3_ مستخرج أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني (المتوفى سنة: 430). وعلى " صحيح مسلم ": 1 _ المتسخرج، لأبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (المتوفى سنة: 316). ¬

(¬1) ساق هذه الفوائد للمستخرجات: الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في " افتتاح القاري لصحيح البخاري " .......

تنبيهان:

2 _ المتسخرج، لأبي نعيم الأصبهاني. 3_ المستخرج، لأبي سعيد أحمد بن أبي بكر محمد بن أبي عثمان الحيري النيسابوري (المتوفى سنة: 353). كما صنفت مستخرجات على بعض كتب الأصول غير " الصحيحين "، على نفس المنحى فيهما. تنبيهان: التنبيه الأول: قال السخاوي: " وتقع في (صحيح أبي عوانة) الذي عمله مستخرجاً على مسلم أحاديث كثيرة زائدة على أصله، وفيها الصحيح والحسن، بل والضعيف أيضاً، فينبغي التحرز في الحكم عليها " (¬1). وقال: " المستخرجون ليس جل قصدهم إلا العلو، يجتهدون أن يكونوا هم والمخرج عليه سواء، فإن فاتهم فأعلى ما يقدرون عليه كما صرح به بعض الحفاظ مما يساعده الوجدان، وقد لا يتهيأ لهم علو فيوردونه نازلاً، وإذا كان القصد إنما هو العلو ووجدوه، فإن اتفق فيه شرط الصحيح فذلك الغاية، وإلا فقد حصلوا على قصدهم، فرب حديث أخرجه البخاري من طريق بعض أصحاب الزهري عنه مثلاً، فأورده المخرج من طريق آخر ممن تكلم فيه عن الزهري بزيادة، فلا يحكم حينئذ فيه بالصحة " (¬2). قلت: وهذا تنبيه جدير بالملاحظة في جميع المستخرجات على " الصحيحين "؛ إذ الحاجة إلى تخريج الحديث من غير طريق صاحب الصحيح قد تلجئ إلى تخريجه من طريق مجروح. ¬

(¬1) فتح المغيث (1/ 38). (¬2) فتح المغيث (1/ 40) .......

ويؤكد ذلك أنه لم يعرف عن أحمد ممن خرج على الصحيحين أنه اشترط أن لا يخرج إلا عمن يحتج به. والمطلوب اعتباره من النظر في إسناد المستخرج: البحث في درجة الإسناد من جهة المستخرج حتى يلتقي في إسناده مع صاحب " الصحيح "، لا ما بعده إلى منتهى الإسناد؛ فذلك إسناد " الصحيح " فلا يحتاج إلى النظر. التنبيه الثاني: وقع الاستخراج على " الصحيحين " للحديث بعد الحديث في بعض مصنفات من جاء بعد الشيخين، وليس على سبيل الاستقلال بالتصنيف في هذا الموضوع، وذلك مثل ما يقع في كتب البيهقي وأبي محمد البغوي وغيرهما، يخرجون الحديث بإسناد ينطبق عليه نعت الاستخراج، ثم يتبع مثلاً بالقول: (متفق عليه) أو (أخرجه البخاري عن فلان) أو (من طريق فلان) وهكذا، فاعلم أن هذا العزو إلى " الصحيحين " أو أحدهما إنما يعني الاتفاق على الإسناد من موضع الالتقاء بين البغوي مثلاً وصاحب الصحيح، والاتفاق على أصل المتن، وقد يتطابق إلى المتن أو يتغاير زيادة واختصاراً، فاحذر أن تأخذ من هذه الكتب ما عزي إلى " الصحيحين " وتقول: (متفق عليه) أو (أخرجه البخاري) أو (مسلم) دون الرجوع إلى " الصحيحين " ذاتهما. كما عليك أن تحذر من الحكم على لفظ البغوي مثلاً بالصحة، بمجرد عزوه الحديث إلى " الصحيح" وهو قد استخرجه عليه. * * *

المبحث السادس: أين يوجد الحديث الصحيح في غير الكتب الموسومة بالصحة؟

المبحث السادس: أين يوجد الحديث الصحيح في غير الكتب الموسومة بالصحة؟ لم يحصر الحديث الصحيح في كتابي البخاري ومسلم، وإنما أخرجا أحسن ما في الأبواب من صحيح الحديث، وقصدا إلى الاختصار، كما سيأتي في (المبحث السابع). ويستفاد الحديث الصحيح الزائد على ما في " الصحيحين " من الأمهات المشهورة، والكتب الحديثية المنثورة ....... وأكثر تلك الكتب تخريجاً للحديث الصحيح السنن الأربعة المتقدم بيانها: لأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. و" مسند " الإمام أحمد بن حنبل أوسع تلك الكتب ومن أشملها على الحديث الصحيح. وفي " صحيحي " ابن خزيمة وابن حبان زيادات جليلة، وكذا " مستدرك " الحاكم. هذه الكتب قلما يفوتها من الحديث الصحيح، وما يجتهد المحدثون للوقوف عليه في غيرها هو في الغالب الأسانيد لا المتون، ورب حديث

بإسناد ضعيف عند الترمذي يوجد له طريق أخرى صحيحة مروية في كتب الطبراني. على أن المحدث لا يستغنى عن التتبع للحديث في جميع أصناف الكتب المصنفة فيه: كسائر كتب السنن غير المذكورة، مثل: سنن سعيد بن منصور، ومسند الدارمي وهو على طريقة السنن في التصنيف، والسنن الكبرى للنسائي وهي غير السابقة الذكر، وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي. وسائر المسانيد غير " مسند أحمد "، مثل: مسند ابن أبي شيبة، ومسند أبي يعلى الموصولي، ومسند البزار المسمى بـ" البحر الزخار ". والكتب المسماة بـ" المصنف "، وموجود منها بأيدي الناس: " مصنف " عبد الرزاق الصنعاني، و " مصنف " ابن أبي شيبة. وكذا كتب " المعاجم " وطرق تأليفها مختلفة، ومن أجلها: المعاجم الثلاثة للحافظ الطبراني، وهي: " المعجم الكبير " و " الأوسط " و " الصغير ". وفي كتب الطحاوي فوائد جمة، وكذا الكتب المصنفة في أبواب من العلم، كالتفسير والتاريخ والزهد والعقائد مما جرى مؤلفوها على الرواية بالإسناد. كما في الكتب الموسومة بـ" الفوائد " و " الأماني " و " الأجزاء " فوائد لا تحصى كثرة في طرق الحديث والزيادة في متونه. كل تلك الكتب من مظان الوقوف على الحديث الصحيح أو الإسناد الصحيح، والأصل في جميعها بعد " الصحيحين " وجوب النظر لمعرفة الثبوت من عدمه في أسانيدها ومتونها، ولا يكفي مجرد الأخذ منها، وذلك لاشتمالها على المقبول والمردود ....... وقد قال ابن الجنيد: سمعت يحيى بن معين يقول: " ما أهلك

الحديث أحد ما أهلكه أصحاب الإسناد " يعني الذين يجمعون المسند، أي: يغمضون في الأخذ من الرجال (¬1). وليس في المسانيد فيما وصلنا منها كتاب له شرط الصحة، لكن (المسند) للإمام أحمد بن حنبل أجلها وأتقاها حديثاً. وسائر الكتب الممثل بأهمها أو المشار إليها من معاجم وأمالي وفوائد وأجزاء، كذلك تواريخ وتراجم تشتمل على الرواية بالإسناد، وما ذكر ابن معين من عيب المسانيد وارد عليها كذلك. وإنما يستثنى من الحاجة إلى النظر فيه في حق غير أهل الاختصاص: ما رجحناه من قبل في شأن ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان. وكذلك حكم بعض مؤلفي تلك الكتب من الحفاظ على الحديث بالصحة أو الحسن، فلك أن تعتمد قولهم ما لم يظهر خلافه بحجة، وذلك مثل أحكام الإمام الترمذي على الأحاديث بالصحة والحسن، وأحكام الدارقطني والبيهقي على كثير من الأحاديث بالثبوت. وكذا إذا رأيت إماماً عارفاً أو محدثاً بارعاً حكم على شيء من أسانيد وأحاديث تلك الكتب، ولم يعرف ذلك المحدث بالتساهل في الحكم على الروايات بما يخالف طريقة نقاد المحدثين الأقدمين، فلا بأس أن يستفاد منه تمييز الحديث الصحيح الزائد على " الصحيحين "، من أولئك الأئمة من أعيان المتأخرين: المنذري والنووي والذهبي وابن كثير وأبو الفضل العراقي وابن حجر العسقلاني والألباني. وأما من عرف بتساهله وكثر وهمه في الحكم على الأحاديث بحيث أضعف الثقة بأحكامه فلا يصلح الاعتماد عليه، مثل: نور الدين الهيثمي وجلال الدين السيوطي، ومن المعاصرين الشيخ أحمد محمد شاكر، رحمهم الله. ¬

(¬1) سؤالات ابن الجنيد (النص: 62) .......

تنبيه: الكتب الحديثية كثيرة للغاية، وما تقدمت تسميته أو الإشارة إليه فهو أعظمها وأوعبها، واستفادة الحديث الصحيح من أي من الكتب التي عني أصحابها بتخريج الحديث فيها بأسانيدهم توجب التحقق من أمور ثلاثة: الأول: أن يكون الكتاب المستفاد منه صحيح النسبة إلى مؤلفه. وهذا الشرط يخل به كثير من المتأخرين في شأن كتب لم تعرف صحتها إلى من نسبت إليه، أو عرفت بالضعف، مثل المسند الذي تعتمده الزيدية المعروف بـ " مسند زيد "، والمسند الذي تعتمده الإباضية المعروف بـ" مسند الربيع بن حبيب "، وكتاب " الجهاد " لعبد الله بن المبارك، وغيرها. وهذا التنبيه مطلوب اعتباره في جميع كتب الحديث، وقد اعتبره أئمة الحديث حتى في روايات " الصحيحين "، وحققوا صحة أسانيدهما ونسخهما إلى الشيخين، وكذلك فعلوا في شأن السنن الأربعة و" المسند " للإمام أحمد، ومعاجم الطبراني، والأمهات الشائعة. ووقع لهم الكلام في الشيء من ذلك، ككلامهم في روايات كتب عبد الرزاق الصنعاني عنه من طريق إسحاق بن إبراهيم الدبري، وإن كان التحقيق صحة السماع والنسبة. والثاني: أن يكون المؤلف مخرج ذلك الحديث ممن يحتج به. والإخلال بترك التحقق من هذا موجود عند بعض المتأخرين أيضاً، ومعلوم أن طائفة ممن صنفوا في الحديث لم يكونوا من الثقات في أنفسهم، بل هم من المجروحين على تفاوت درجات الجرح، مثل: محمد بن عمر الواقدي، ونعيم بن حماد الخزاعي، وأبي بكر أحمد بن مروان الدينوري، وغيرهم. والثالث: مراعاة جميع شروط صحة الحديث أو حسنه في ذلك الإسناد المخرج من مؤلفه إلى منتهاه.

المبحث السابع: تصحيح الحديث على شرط الصحيح

المبحث السابع: تصحيح الحديث على شرط الصحيح المراد به: (على شرط البخاري ومسلم) أو (أحدهما). وتوضيح هذا يوجب تحرير شرط كل من الشيخين فيما خرجاه في (كتابيهما). شرط البخاري: شرط البخاري في " صحيحه ": أنه جرد الصحيح المستوفي لشروط الصحة: من اتصال الإسناد، وثقة الرواة، والسلامة من العلل. وذلك مستفاد من تتبع كتابه. كذلك يتبين من عنوانه، فإنه سماه: " الجامع المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه " ....... وقال البخاري: " ما أدخلت في كتابي (الجامع) إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول " (¬1). ¬

(¬1) أخرجه ابن عَدي في " الكامل " (1/ 226) و " أسامي من روى عنهم البخاري ومسلم " (ص: 62) ومن طريقه: الخليلي في " الإرشاد " (3/ 962) والخطيب في " تاريخه " (2/ 8 _ 9) وابن عساكر في تاريخه " (52/ 73) من طريق إبراهيم بن مَعْقل النسفي عن البخاري، به. وعند ابنِ عساكر من وجهين عنه، هو صحيحٌ بهما.

قلت: وهذا صريح منه أنه لم يقصد إلى مجرد الجمع، بل جرد الصحيح في كتابه لم يَشُبه بغيره، كذلك يدل هذا على ضعف الاستدراك عليه لما لم يخرجه من الحديث، فإنه قصد إلى الاختصار. فأما شرطه في الاتصال فشديد، فإنه لم يكتف بمعاصرة الراوي لشيخه، بل اشترط لقاءه له ولو مرة، وقد حررته في الكلام على (الاتصال) في (القسم الأول). وأما في الرجال، فإنه عمد إلى أحاديث الثقات الذين هم في أعلى درجات الثقة، واحترز من أحاديث من قامت الشبهة أو قويت مظنتها في روايته. قال الدارقطني: " أخرج البخاري عن بقية بن الوليد وعن بهز بن حكيم اعتباراً؛ لأن بقية يحدث عن الضعفاء، وبهزاً متوسط " (¬1). وبين الحاكم شرط البخاري في صفة الثقة الذي خرج له، فقال: " من شرط البخاري في (الصحيح) أن الحديث لا يشتهر عنده إلا بثقتين يتفقان على روايته " (¬2). وزاد ذلك بياناً في موضع آخر، وضم إلى البخاري مسلماً، فقال: " الحديث الذي يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظاً مشهوراً بالعدالة في روايته " (¬3). ¬

(¬1) سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 75). (¬2) سؤالات مسعود السجزي للحاكم (النص: 267). (¬3) المدخل إلى كتاب الإكليل (ص: 33) .......

ومراد الحاكم بهذا أن أحاديث الصحيحين ليس فيها راو خرجا له أو خرج له أحدهما، إلا وهو معروف برواية اثنين فصاعداً عنه، وليس مراده أن ذلك الحديث رواه اثنان، وعن كل واحد منهما اثنان. والذي يرفع الإشكال عن كلام الحاكم في تفسيره لشرط الشيخين في الرجال، ما بينه بنفسه في كتاب " المدخل إلى كتاب الإكليل " حين قسم الحديث الصحيح المتفق على الاحتجاج به عند فقهاء الحجاز وفقهاء الكوفة، لا المختلف فيه، إلى خمسة أقسام، فذكر أول الأقسام ما اتفق عليه الشيخان، وأتبعه ببيان الشرط المذكور، ثم قال: " القسم الثاني من الصحيح المتفق عليه: الحديث الصحيح بنقل العدل عن العدل، رواه الثقات الحفاظ إلى الصحابي، وليس لهذا الصحابي إلا راو واحد ". ثم مثل له بحديث عروة بن مضرس الطائي في الحج، ثم قال: " هذا حديث من أصول الشريعة، مقبول متداول بين فقهاء الفريقين، ورواته كلهم ثقات، ولم يخرجه البخاري ولا مسلم في الصحيحين، إذ ليس له راو عن عروة بن مضرس غير الشعبي. وشواهد هذا كثيرة في الصحابة " فذكر جماعة من الصحابة لم يعرفوا إلا برواية واحد عن كل منهم (¬1). ونفى الحاكم أن يكون الشيخان أو أحدهما قد خرجا لراو لم يعرف إلا بروية واحد عنه. لكن هذا الذي قاله الحاكم لم يقبله النقاد. قال الحافظ ابن طاهر المقدسي: " إن البخاري ومسلم لم يشترطا هذا الشرط، ولا نقل عن واحد منهما أنه قال ذلك، والحاكم قدر هذا التقدير، وشرط لهما هذا الشرط على ما ظن، ولعمري إنه شرط حسن لو كان ¬

(¬1) المدخل إلى كتاب الإكليل (ص: 36 _ 37).

موجداً في كتابيهما، إلا أنا وجدنا هذه القاعدة التي أسسها الحاكم منتقضة في الكتابين جميعاً " (¬1). فذكر أمثلة لذلك، فمما أخرجه البخاري: مرداس الأسلمي، تفرد عنه قيس بن أبي حازم. وعمرو بن تغلب، تفرد عنه الحسن البصري. واتفق هو ومسلم على تخريج حديث المسيب بن حزن، وتفرد عنه ابنه سعيد. ومما أخرجه مسلم: الأغر المزني، تفرد عنه أبو بردة بن أبي موسى. وأبو رفاعة العدوي، تفرد عنه حميد بن هلال. إلى غير ذلك. ومن الغريب في هذا أن الحاكم قد درس " الصحيحين " دراسة العارف، فعجباً له كيف أطلق تلك المقالة، بل إنه كان يعلم أن الشيخين احتجا بمن لم يرو عنه إلا واحد، فقد قال في " المستدرك ": " وقد أخرجا جميعاً عن جماعة من الثقات لا راوي لهم إلا واحد " (¬2). ووجدت البيهقي كذلك جرى على مذهب شيخه الحاكم في تلك الدعوى، فإنه ذكر (عمرو بن بجدان) فقال: " وليس له راو غير أبي قلابة، وهو مقبول عند أكثرهم؛ لأن أبا قلابة ثقة، وإن كان بخلاف شرط الشيخين في خروجه عن حد الجهالة بأن يروي عنه اثنان " (¬3). والرد المتقدم لكلام الحاكم رد على البيهقي كذلك. وأما تحري البخاري في سلامة الحديث من العلل المؤثرة، فغاية في الظهور لمن درس كتابه، ولذا ندر التعقب عليه في ذلك، وكان لفطنته لما قد يتعقب به مما يقع من اختلاف الرواة في حديث، فإنك تراه يسوق ¬

(¬1) شروط الأئمة الستة (ص: 96) ....... (¬2) المستدرك (1/ 8 بعد الحديث رقم: 16). (¬3) الخِلافيات (2/ 457).

شرط مسلم

الحديث بأحسن إسناد عنده محتجا به، ثم يذكر بعده ما وقع من الاختلاف، كأنه يقول بذلك: قد اطلعت على الاختلاف في الرواية وعلمته، ولكن لا أثر له. شرط مسلم في كتابه: أما مسلم فقد اجتهد في استيفاء شروط الصحة فيما خرجه في " صحيحه " كما وقع من شيخه البخاري، وإن كان خالف في شيء غير مؤثر في تقدم كتابه. وكتابه مختصر أيضاً في الحديث الصحيح، فإنه قال: " صنفت هذا المسند " يعني صحيحه " من ثلاث مئة ألف حديث مسموعة " (¬1). وسئل عن حديث أبي هريرة في القراءة وراء الإمام، فقال: " هو عندي صحيح " فقال السائل: لم لم تضعْه هنا (¬2)؟ فقال: " ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه " (¬3). وفسر ابن الصلاح قوله: (ما أجمعوا عليه) من وجهين، فقال: " الأول: أنه أراد أنه لم يضع في كتابه إلا الأحاديث التي وجد عنده فيها شرائط المجتمع عليه، وأنه لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم. والثاني: أنه أراد أنه ما وضع فيه ما اختلفت الثقات فيه في نفس الحديث متناً أو إسناداً، ولم يرد ما كان اختلافهم إنما هو في توثيق بعض رواته , وهذا هو الظاهر من كلامه " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في " تاريخه " (كما في " السير " 16/ 288 _ 289) والخطيب في " تاريخه " (13/ 101) وإسناده صحيح. (¬2) يعني داخِلَ صحيح. (¬3) صحيح مسلم (1/ 304) ....... (¬4) صيانة صحيح مسلم (ص: 75).

وبين مسلم شرطه في " مقدمة صحيحه " فقال: " نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس " (¬1). قال: " فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى، من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم. فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم، كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم، من حمال الآثار ونقال الأخبار، فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة؛ لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سنية، ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم عطاء ويزيد وليثاً، بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد، في إتقان الحديث والاستقامة فيه، وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم، لا شك عند أهل العلم بالحديث في ذلك؛ للذي استفاض عندهم من صحة حفظ منصور والأعمش وإسماعيل وإتقانهم لحديثهم، وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد وليث. وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران كابن عون وأيوب السختياني، مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني، وهما صاحبا الحسن ¬

(¬1) مُقدمة صحيح مُسلم (ص: 4) .......

وابن سيرين، كما أن ابن عون وأيوب صاحباهما، إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد في كمال الفضل وصحة النقل، وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم " (¬1). قلت: لم ينص مسلم على سوى القسم الأول من الثلاثة، لكنه في التحقيق ضمن القسمين الثاني والثالث بيانه الذي ذكر لمراتب الرواة، فإن مقتضى بيانه للنقلة الذين خرج لهم في كتابه أنهم على ثلاثة أقسام: الأول: الحفاظ المتقنون، مثل: الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبد الله بن عون، وأيوب السختياني. وهذا القسم هو الأصل في التقديم عنده، وهو الذي يقوم عليه بناء (صحيحه). والثاني: ثقات دونهم، مثل: عوف بن أبي جميلة الأعرابي، وأشعث بن عبد الملك الحمراني. وهذا القسم يخرج حديثهم في كتابه كما يخرج الأول، ويحتج بهم، وإن كانوا دونهم. والثالث: صدوقون في الأثل، ليسوا بالمتقنين، من جهة ما عرفوا به من سوء الحفظ، مثل: عطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم. فهذا القسم قد يخرج لهم في المتابعات، حيث وافقوا فيما رووا أهل القسمين السابقين، وإن كان قد أقل من هذا جداً (¬2). ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (ص: 5 _ 6) ....... (¬2) فهو هنا قد مثل بثلاثة: عطاء بن السائب، ولم يُخرج له شيئا أصلاً، ويزيد بن أبي زياد، وليس له عنده سوى موضع واحد مُتابعةً (3/ 1637) من رواية ابن عيينة عنه، وليثٌ كذلك له في موضع واحد مقروناً بأبي إسحاق الشيباني (3/ 1636).

وللحاكم في هذه الأقسام قول لم أجد له فيه مستنداً، قال: " لما فرغ من هذا القسم الأول أدركته المنية رحمه الله وهو في حد الكهولة " (¬1). كما نص مسلم أنه لا يخرج في كتابه لصنفين من الرواة: الأول: المتهمون عند عامة أهل الحديث، أو عند أكثرهم، مثل: عمرو بن خالد، ومحمد بن سعيد المصلوب، وأبي داود النخعي. والثاني: من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط.، مثل: يحيى بن أبي أنيسة، وعباد بن كثير، وعمر بن صهبان. قال الحازمي فيما يكون بياناً لشرط الشيخين جميعاً في انتقاء أحاديث الثقات: " مذهب من خرج الصحيح: أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه وفيمن روى عنهم، وهم ثقات أيضاً، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزمه إخراجه، وعن بعضهم مدخول لا يصلح إخراجه، إلا في الشواهد والمتابعات، وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم " (¬2). قلت: ثم مثل بمثال حاصله: تخريج حديث الزهري، فهو على مراتب بحسب طبقات أصحاب الذين حملوا عنه (¬3): فالأولى: الثقة المتقن المقدم كمالك وابن عيينة ومعمر، فحديث هذه الطبقة أعلى حديث الزهري وأصحه. والثانية: طبقة مثل الليث بن سعد والأوزاعي، وحديثهم عنه ليس ¬

(¬1) المدخل إلى كتاب الإكليل (ص: 34)، وممن ردَّ مقالة الحاكم: القاضي عياض في " إكمال المُعلم " (1/ 86) والذهبي في " السير " (12/ 575). (¬2) شروط الأئمة الخمسة (ص: 150). (¬3) تقدم أن ذكرتُ هذه الطبقات لأصحاب الزهري بأبْسط مما هنا في (المبحث الثالث) من (الفصل الثالث) من (النقد الخفي) .......

بالمردود، ولكنه ليس الأمثل؛ لأنهم لم تكن لهم من الملازمة للزهري ما مكنهم من إتقان حديثه، فيخرج في أدنى درجات الصحيح. والثالثة: طبقة سفيان بن حسين وجعفر بن برقان، لزموا الزهري لكنهم لم يتقنوا عنه حديثه، فتفردوا وأخطأوا، وحديثهم صالح في الشواهد والمتابعات. والرابعة: طبقة الضعفاء، كزمعة بن صالح، والمثنى بن الصباح، لزموا، لكنهم عرفوا بالضعف أصلا ً. والخامسة: طبقة المتروكين، كإسحاق بن أبي فروة، وعبد القدوس بن حبيب. وقال الحافظ ابن حجر: " وأكثر ما يخرج البخاري حديث الطبقة الثانية تعليقاً، وربما أخرج اليسير من حديث الطبقة الثالثة تعليقاً أيضاً، وهذا المثال هو في حق المكثرين، فيقاس على هذا أصحاب نافع وأصحاب الأعمش وأصحاب قتادة وغيرهم. فأما غير المكثرين، فإنما اعتمد الشيخان في تخريج أحاديثهم على الثقة والعدالة وقلة الخطأ، لكن منهم من قوي الاعتماد عليه فأخرجا ما تفرد به، كيحيى بن سعيد الأنصاري، ومنهم من لم يقو الاعتماد عليه فأخرجا له ما شاركه فيه غيره، وهو الأكثر " (¬1)، وقال محمد بن طاهر المقدسي: " شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلاً غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعداً فحسن، وإن لم يكن له إلا راو واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه، إلا أن مسلماً أخرج أحاديث أقوام ترك البخاري ¬

(¬1) هدي الساري (ص: 10).

الواجب اعتباره لفهم شرط الشيخين فيما انتقياه

حديثهم؛ لشبهة وقعت في نفسه، أخرج مسلم أحاديثهم بإزالة الشبهة، مثل: حماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح، وداود بن أبي هند، وأبي الزبير، والعلاء بن عبد الرحمن، وغيرهم " (¬1) وقال الحافظ الزيلعي: " صاحبا الصحيح، رحمهما الله، إذا أخرجا لمن تكلم فيه فإنهم ينتقون من حديثه ما توبع عليه، وظهرت شواهده، وعلم أن له أصلاً، ولا يروون ما تفرد به سيما إذا خالفه الثقات ". ومثل برواية مسلم حديث أبي أويس: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ". قال: لأنه لم يتفرد به، بل رواه غيره من الأثبات، كمالك وشعبة وابن عيينة، فصار حديثه متابعة " (¬2). فالواجب اعتباره لفهم شرط الشيخين فيما انتقياه أمور أهمها: أولاً: أن يلاحظ أنهما يخرجان للراوي أصولاً ومتابعات وشواهد، فمن خرجا له في غير الأصول، فليس على شرط الصحيح. ثانياً: أنهما يخرجان حديث الراوي عن بعض شيوخه، ولا يخرجانه عن شيخ معين مع ثقة ذلك الشيخ؛ لكون الراوي عنه ضعيفاً فيه، وذلك كسفيان بن حسين خرجا له ما لم يكن من حديثه عن الزهري؛ لأنه كان ضعيفاً فيه. ثالثاً: يخرجان للشيخ في بعض حديثه ضعف، فينتقيان منه ما هو محفوظ دون سائره، كتخريجهما لإسماعيل بن أبي أويس وشبهه. رابعاً: يخرجان من روايات الثقات الموصوفين بالتدليس ما ثبت أنهم ¬

(¬1) شروط الأئمة الستة (ص: 86) ....... (¬2) نصب الراية (1/ 341 _ 342) .......

لم يدلسوا فيه، أو الذين اختلطوا في أواخر أعمارهم، ما ثبت أنه ليس مما ضر به الاختلاط. وهذا مما أغفله المستدركون على الصحيحين ما لم يخرجاه، وأبرزهم الحاكم في كتابه " المستدرك ". ومن أشد ما عيب على الحاكم الإخلال في تعقبه بسبب تساهله في تخريج أحاديث من أخرج لهم الشيخان من الرواة، دون اعتبار الصفة التي أخرج لهم عليها الشيخان. وبين الزيلعي أن الشيخين أو أحدهما قد يخرجان حديث الراوي فيه ضعف، انتقاء للمحفوظ من حديثه، ومن ثم فيحتج بعض من بعدهم بكون الراوي خرج له الشيخان دون مراعاة هذا المعنى، فقال: " وهذه العلة راجت على كثير ممن استدرك على (الصحيحين)، فتساهلوا في استدراكهم، ومن أكثرهم تساهلاً الحاكم أبو عبد الله في كتابه (المستدرك)، فإنه يقول: هذا حديث على شرط الشيخين، أو أحدهما، وفيه هذه العلة، إذ لا يلزم من كون الراوي محتجاً به في الصحيح أنه إذا وجد في أي حديث، كان ذلك الحديث على شرطه؛ لما بيناه. بل الحاكم كثيراً ما يجيء إلى حديث يخرج لغالب رواته في الصحيح، كحديث روي عن عكرمة عن ابن عباس، فيقول فيه: (هذا حديث على شرط البخاري)؛ يعني لكون البخاري أخرج لعكرمة، وهذا أيضاً تساهل. وكثيراً ما يخرج حديثاً بعض رجاله للبخاري، وبعضهم لمسلم، فيقول: (هذا على شرط الشيخين)، وهذا أيضاً تساهل. وربما جاء إلى حديث فيه رجل قد أخرج له صاحبا (الصحيح) عن شيخ معين، لضبطه حديثه وخصوصيته به، ولم يخرجا حديثه عن غيره لضعفه فيه، أو ضبطه حديثه، أو لكونه غير مشهور بالرواية عنه،

أو لغير ذلك، فيخرجه هو عن غير ذلك الشيخ، ثم يقول: (هذا على شرط الشيخين)، أو: (البخاري)، أو: (مسلم)، وهذا أيضاً تساهل؛ لأن صاحبي (الصحيح) لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره، فلا يكون على شرطهما. وهذا كما أخرج البخاري ومسلم حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال وغيره، ولم يخرجا حديثه عن عبد الله بن المثنى، فإن خالداً غير معروف بالرواية عن ابن المثنى، فإذا قال قائل في حديث يرويه خالد بن مخلد عن ابن المثنى: (هذا على شرط البخاري ومسلم) كان متساهلاً. وكثيراً ما يجيء إلى حديث فيه رجل ضعيف أو متهم بالكذب، وغالب رجاله رجال الصحيح، فيقول: (هذا على شرط الشيخين) أو (البخاري) أو (مسلم)، وهذا أيضاً تساهل فاحش. ومن تأمل كتابه (المستدرك) تبين له ما ذكرناه " (¬1). وقال ابن القيم ناقداً صنيع الحاكم وشبهه: " أن يرى. . الرجل قد وثق، وشهد له بالصدق والعدالة، أو خرج حديثه في الصحيح، فيجعل كل ما رواه على شرط الصحيح، وهذا غلط ظاهر، فإنه إنما يكون على شرط الصحيح إذا انتفت عنه العلل والشذوذ والنكارة، وتوبع عليه، فأما مع وجود ذلك أو بعضه فإنه لا يكون صحيحاً، ولا على شرط الصحيح، ومن تأمل كلام البخاري ونظرائه في تعليله أحاديث جماعة أخرج حديثهم في صحيحه، علم إمامته وموقعه من الشأن، وتبين له حقيقة ما ذكرناه " (¬2). وقال ابن القيم أيضاً منبهاً على معنى تخريج مسلم حديث (مطر ¬

(¬1) نصب الراية (1/ 341 _ 342) ....... (¬2) الفروسية (ص: 62)، وانظر كذلك لهذا المعنى: الصارم المُنكي، لابن عبد الهادي المقدسي (ص: 161 _ 163).

الوراق) وشبهه: " ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام من استردك عليه إخراج جميع حديث الثقة، ومن ضعف جميع حديث سيء الحفظ، فالأولى طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن " (¬1). قلت: فالواجب على من قصد إلى إصابة شرط الشيخين فيما لم يخرجاه أن يسلك طريقهما في الانتقاء. وخلاصة هذا المبحث: أن على الباحث أن يجتهد في تحقيق صورة الانتقاء من أحاديث من أخرجهم الشيخان، ولا يبادر إلى الحكم على حديث بأنه على شرط الشيخين أو أحدهما بمجرد تخريجهما لذلك الراوي. ولما كان تحقيق ذلك مما يشق ويعسر فينبغي أن يستغنى عن القول مثلاً: (حديث على شرط الشيخين) بالقول: (إسناده إسناد الصحيح) وشبه ذلك، مما لا يقع به إيهام استيفاء شروط الشيخين، خصوصاً مع استحضار أن شرط الشيخين غير مقصور على أحوال الرواة، وإنما يطلب فيه سائر شروط الصحة. * * * ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 353) .......

المبحث الثامن: مسائل في الحديث الصحيح والحسن

المبحث الثامن: مسائل في الحديث الصحيح والحسن المسألة الأولى: الحديث الصحيح والحسن كلاهما حجة في الدين. قال الإمام الشافعي: " وإذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره، بل الفرض الذي على الناس اتباعه " (¬1). قلت: أما الحديث الصحيح فهذا المعنى ظاهر فيه. وأما الحديث إذا دل التحقيق والنظر على حسنه، فذلك يلحقه بالصحيح في الاحتجاج، من جهة أن حسنه لم يثبت إلا عندما تحققت فيه شروط القبول وانتفت عنه موانعه، وتلك هي صفة الحديث الصحيح، وان افترقا في نوع بعض تلك الشروط وكيفية تحققها، على ما تقدم بنانه. وكما أن (الحديث الصحيح) تثبت به الأحكام، فذلك الحسن، لكن يجب أن يعلم أن (الصحيح) يستقل بإثبات حكم لا ضد له أقوى منه، أما (الحسن) فإننا اشترطنا أن لا يتفرد راويه بأصله، وهذا يعني أنه لا يثبت حكما لا يعرف إلا من تلك الجهة، ولكنه يستدل به على الإبانة والتفصيل لحكم أصله في الجملة ثابت من وجه آخر. ¬

(¬1) الرسالة (ص: 330) .............

والعلة في هذا الفارق: أن راوي الحديث الحسن إنما قصر عن درجة من يحتج به ابتداء حتى ينظر في روايته، من أجل ما نخشى من خطئه ووهمه، وذلك لما أوردته شبهة خطئه في بعض ما روى، أو قصور درجته في الحفظ عن درجة المتقنين لعدم الشهرة بالعلم والاعتناء به. وإذا كان هذا ظاهراً في الأحكام، فمن الخطأ البين القول بصحة بناه اعتقاد على (حديث حسن) جرى الحكم بحسنه على ظواهر قواعد المتأخرين في تعريفهم للحسن، دون استقصاء قدر الموافقة للمحفوظ المعروف، أو المخالفة، أو التفرد. وإذا تحققت هذه المسألة لم تجد لأهل الإسلام عقيدة لم يأت فيها إلا حديث حسن، بل إنك لا تجد عقيدة يقصر العلم بها على حديث صحيح فرد، فإن العقائد أبلغ من الأحكام وآكد، والديانة بها أخطر، فمن أجل ذلك لا يصح تصور أن يكون الشيء منها لم يرد فيه إلا خبر واحد فرد، لا يعلم له أصل من وجه آخر. نعم، قد تجد في تفاريع بعض ما يتصل بالاعتقاد ما لم يرد فيه إلا الحديث الواحد الصحيح أو الحسن، لكن أصله محفوظ معروف، كتفاصيل سؤال القبر والشفاعة وصفة الميزان يوم القيامة، فإنك لا تجدها إلا مؤيدة لأصل معلوم من دين الإسلام: جاء به الكتاب، أو الصحيح المقطوع به من السنة، والجهل بتلك التفاريع أو عدم اعتقاد ثبوتها لا يقدح في دين الإنسان، ولعذر صاحبها بالتأويل مساغ، بخلاف الإيمان بأصولها في الجملة. وتقدم أن بعض الحفاظ أدرجوا (الحسن) تحت مسمى (الصحيح) تغليباً، كما وقع الشيء منه في " الصحيحين "، وكما هو صنيع ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما ". والتمييز بينهما في الإطلاق أدق، إذ فيه إبقاء للإشعار بطريق الوصول

المسألة الثانية: درجات الصحة تتفاوت في القوة بحسب القرائن

به إلى هذه المرتبة، كذلك فيه فائدة تمييز درجات الحفظ للنقلة، فلو أطلقنا عليه وصف (الصحة) فربما أوهم ذلك أن رواته رواة (الحديث الصحيح). المسألة الثانية: درجات الصحة تتفاوت في القوة بحسب القرائن. المقصود بهذا ملاحظة أن بعض الصحيح أصح من بعض، فرواية من وصف بأن (ثقة حافظ) فوق رواية من وصف بكونه (ثقة) فقط، والحديث يأتي من طريقين صحيحين أقوى من الحديث لا يأتي إلا من طريق واحدة صحيحة. كما أن الحديث في الفقه يرويه الثقة الفقيه أعلى من الحديث يرويه ثقة غير فقيه. وكذلك (الصحيح) فوق (الحسن). و (الحسن) يرد من وجهين أو أكثر، كل وجه منهما قد اتفقت فيه شروط الحسن، يكون (صحيحاً لغيره)، فهذا فوق (الحسن لذاته). المسألة الثالثة: هل صحة الإسناد توجب صحة الحديث؟ قلت: إذا قيل: (إسناد صحيح) وقصد القائل أنه استوفى جميع الشروط الأربعة المتقدمة فلا فرق بين ذلك وبين قوله: (حديث صحيح). وكذلك إذا قيل: (إسناده حسن) بشروطه، فهو كالقول: (حديث حسن) ............. والواجب أن لا يقال لحديث: (إسناده صحيح) أو (حسن) إلا ويراد بذلك استيفاؤه جميع الشروط الموجبة لصحة الحديث، أو حسنه؛ لأن هذا اللفظ ينبغي أن لا يفهم إلا الثبوت. قال الإمام شعبة بن الحجاج: " إنما يعلم صحة الحديث بصحة الإسناد " (¬1). ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 57) وإسناده جيد .......

المسألة الرابعة: قولهم في الحديث: (رجاله ثقات) هل يعني الصحة؟

لكن في المتأخرين من لا يراعي ذلك، وكأنه كان يكتفي بتحقق الشروط الثلاثة الأولى فيحكم بصحة الإسناد وحسنه، فترى بعض ما يحكمون عليه بذلك لا يسلم من علة قادحة، كما وقع ذلك في صنيع الحاكم النيسابوري، وكثر مثله بعد الذهبي فالعراقي فابن حجر، وفي زماننا صار هذا النمط لا يحصى كثرة، فيحتاج قبول كثير من تلك الأحكام إلى احتياط شديد. المسألة الرابعة: قولهم في الحديث: (رجاله ثقات) هل يعني الصحة؟ الجواب: ليست هذه العبارة حكماً من قائلها بصحة الحديث ولا حسنه. وبين ابن القيم خطأ الحكم بصحة الحديث بناء على مجرد ثقة رواته، وذلك من وجهين، قال: " أحدهما: أن ثقة الراوي شرط من شروط الصحة، وجزء من المقتضي لها، فلا يلزم من مجرد توثيقه الحكم بصحة الحديث. يوضحه أن ثقة الراوي هي كونه صادقاً لا يتعمد الكذب، ولا يستحل تدليس ما يعلم أنه كذب باطل. وهذا أحد الأوصاف المعتبرة في قبول قول الراوي. لكن بقي وصف الضبط والتحفظ، بحيث لا يعرف بالتغفيل وكثرة الغلط. ثانيهما: أن لا يشذ عن الناس، فيروي ما يخالفه فيه من هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يتابع عليه وليس ممن يحتمل ذلك منه، كالزهري، وعمرو بن دينار، وسعيد بن المسيب، ومالك، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، ونحوهم، فإن الناس إنما احتملوا تفرد أمثال هؤلاء الأئمة بما لا يتابعون عليه؛ للمحل الذي أحلهم الله به من الإمامة والإتقان والضبط.

المسألة الخامسة: عدد الحديث الصحيح

فأما مثل سفيان بن حسين، وسعيد بن بشير، وجعفر بن برقان، وصالح بن أبي الأخضر، ونحوهم، فإذا انفرد أحدهم بما لا يتابع عليه، فإن أئمة الحديث لا يرفعون به رأساً. وأما إذا روى أحدهم ما يخالف الثقات فيه، فإنه يزداد وهناً على وهن. فكيف تقدم رواية أمثال هؤلاء على رواية مثل مالك، والليث، ويونس، وعقيل، وشعيب، ومعمر، والأوزاعي، وسفيان، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأضرابهم، هذا مما يستريب من له معرفة بالحديث وعلله في بطلانه " (¬1). المسألة الخامسة: عدد الحديث الصحيح. باعتبار عد الروايات الحديثية في الكتب، فإن هذا ليس مما يمكن المصير إليه؛ وذلك من أجل انتشار طرق الحديث، فالكتب التي تجمع الأسانيد كثيرة جداً. كذلك لتعذر ضبط قاعدة تنزل عليها جميع روايات الحديث، فيقال: هذا من الأسانيد مقبول فيعد، وهذا ليس بمقبول فلا يعد. نعم، جاء عن متقدمي الأئمة أنهم كانوا يسمعون الأسانيد المتعددة للمتن الواحد أحاديث، فيما يحفظه أحدهم. مثل قول البخاري: " أحفظ مئة ألف حديث صحيح، وأحفظ مئتي ألف حديث غير صحيح " (¬2). وقال ابن حجر العسقلاني: " إذا كان الشيخان مع ضيق شرطهما بلغ ¬

(¬1) الفروسية (ص: 73 _ 74). (¬2) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 226) _ ومن طريقه: الخليلي في " الإرشاد " (3/ 962) والخطيب في " تاريخه " (2/ 25) _ وإسناده مُحتمل .......

جملة ما في كتابيهما بالمكرر هذا القدر (¬1)، فما لم يخرجاه من الطرق للمتون التي أخرجاها لعله يبلغ هذا القدر أيضاً أو يزيد، وما لم يخرجاه من المتون من الصحيح الذي لم يبلغ شرطهما لعله يبلغ هذا القدر أيضاً أو يقرب منه، فإذا انصاف إلى ذلك ما جاء من الصحابة والتابعين تمت العدة التي ذكر البخاري أنه يحفظها، بل ربما زادت على ذلك، فصحت دعوى ابن الأخرم: إن الذي يفوتهما من الحديث الصحيح قليل، يعني مما يبلغ شرطهما، بالنسبة إلى ما خرجاه " (¬2). قلت: وهذا الذي جاء عن حفظ البخاري، ذكر عن غيره ما يشبهه أو يزيد عليه، كالذي قيل في مقدار حفظ أحمد بن حنبل، وأبي زرعة الرازي، لكنه جميعاً إخبار عن حفظ الواحد من هؤلاء الأئمة، لا عن مجموع أسانيد الحديث. والشأن في كثرة الأحاديث المروية كما قال محمد بن أحمد بن جامع الرازي: سمعت أبا زرعة وقال له رجل: يا أبا زرعة، أليس يقال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟ قال: " ومن قال ذا؟! قلقل الله أنيابه، هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله؟ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مئة ألف وأربعة عشرة ألفاً من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه " (¬3). قلت: أما إذا قال القائل: يمكن ضبط السنن الصحيحة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بالعدد، فهذا صحيح، فإن ذلك يقل خروجه عن الكتب الستة الأمهات، فإذا ضممت إليها " المسند " لأحمد بن حنبل، ندر من السنن ما يخرج عنها، وذلك النادر يمكن تتبعه من سائر كتب الحديث. ¬

(¬1) يعني على ما ذكره قبل هذا النص: أن عدة ما في البخاري بالمكرر (7275) حديثاً، وعدة ما في مسلم بالمكرر أيضاً (12000) حديثاً. (¬2) النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 297 _ 298). (¬3) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1894) وتكلمت عن إسناده في (القسم الأول) عند الكلام عن الصحابة .......

المسألة السادسة: قولهم: (أصح شيء في الباب)

وما أمكن حصره أمكن عده، وإن لم يقم علماء الشأن بحده بعدد إلى اليوم. المسألة السادسة: قولهم: (أصح شيء في الباب). قولهم: (هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب) لا يعني صحة الحديث في نفسه، فيجوز أن يكون ضعيفاً، إنما قالوا: (أصح) مقارنة بغيره مما روى في نفس الباب. ووقوع هذه العبارة أو معناها كثير في كلام المتقدمين (¬1). المسألة السابعة: أصح الأسانيد. اشتهرت عن بعض أئمة الحديث عبارة: (أصح الأسانيد فلان عن فلان). وقد اختلفوا فيها اختلافاً واسعاً (¬2)، ثمرته: الترجيح عند الاختلاف. والصواب فيه اختيار الحاكم: لا يمكن القطع لإسناد، بأنه أصح الأسانيد مطلقاً، إنما يمكن القول: أصح أسانيد ابن عمر كذا، وأصح أسانيد المدنيين، أو البصريين أو المصريين، كذا وكذا. وسبب صحة هذا الاختيار: وجود التكافؤ في الصحة بين كثير من الأسانيد. غير أن ما يوجد من تلك المقالات يفيد كثير منه _ كما تقدم _ للترجيح بين الثقات في حال الاختلاف في سند أو متن. فلو اختلف مثلاً نافع ومجاهد عن ابن عمر في حديث، فإنا نستفيد ¬

(¬1) وانظر ما تقدم في (النقد الخفي _ الفصل الثالث _ المبحث الثالث _ المقدمة التاسعة). (¬2) انظر معرفة علوم الحديث (ص: 53 _ 56).

المسألة الثامنة: قولهم: (حديث جيد)

من قولهم: " أصح الأسانيد: نافع عن ابن عمر " في ترجيح نافع على مجاهد (¬1). وتفصيل القول فيه يعرف من أحوال النقلة في كتب الجرح والتعديل. المسألة الثامنة: قولهم: (حديث جيد) يعنون به الصحة، لكن المتأخرين ربما استعملوا في منزلة تردد بين الصحيح والحسن بعد التفريق الاصطلاحي. وجرى استعماله في وصف الحديث في كلام المتقدمين قليلاً نادراً. ومنه قولهم في الراوي: (جيد الحديث)، فهو في التحقيق يساوي قولهم: (صحيح الحديث)، وهذا تكرار في جماعة من الرواة. وشبيه به قولهم: (هذا حديث قوي) , (إسناد قوي). وليس في القسمة درجة بين (الصحيح) و (الحسن)؛ فلذا فإن هذين الاستعمالين يلحقان عندهم بـ (الصحيح). وله أمثلة كثيرة في " الصحيحين " وغيرهما، وهو مثل أحاديث: عبد الملك بن عمير، وحماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن، ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة، وسماك بن حرب، وأبي بكر بن عياش. المسألة التاسعة: أين يوجد الحديث الحسن؟ الحديث الحسن حيث إن مرجعه إلى رواة من درجة متوسطة في الحفظ، فإنك لا تكاد تجد كتاباً من كتب السنة يخلو منه، والتحقيق أن في " الصحيحين " بعض الأحاديث الحسنة، خصوصاً في أبواب الرقائق وشبهها، ¬

(¬1) وسبق مزيدٌ في فائدة هذه المسألة في (النقد الخفي _ الفصل الثالث _ المبحث الثالث _ المقدمة الثانية) .......

المسألة العاشرة: أوصاف للحديث تفيد القبول

مثل حديث فليح بن سليمان وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وزهير بن محمد التميمي وشبههم، فهؤلاء لا يمكن لحديثهم أن يرقى فوق (الحسن) لذاته، وروايتهم عند البخاري، ولبعضهم عند مسلم، كما روى مسلم لجماعة حديثهم لا يرقى فوق (الحسن) منهم: إبراهيم ين مهاجر البجلي، وأسامة بن زيد الليثي، وهشام بن سعد المدني. وإطلاق اسم " الصحيح " على كتاب مسلم والبخاري فإنما هو باعتبار غلبة ذلك، أو لاندراج (الحسن) تحت (الصحيح) بجامع القبول وصحة الاحتجاج. وأما في غير " الصحيحين " فيوجد كثيراً في " سنن أبي داود " و " جامع الترمذي " وفي طريقة الترمذي في الحكم بحسن كثير من الأحاديث ما يساعد في معرفة ذلك. المسألة العاشرة: أوصاف للحديث تفيد القبول، لكنها ربما اندرجت تحت (الصحيح) أو تحت (الحسن)، وربما دلت على الضعف الصالح للاعتبار. قولهم: (حديث ثابت " و (إسناد ثابت "، تدل على القبول: وهو إما صحيح وإما حسن. وقولهم: (حديث معروف) ويقابل عندهم (المنكر)، وقد يعني كون الحديث صحيحاً أو حسناً أو في مرتبة ما يصلح للاعتبار، فلا يلزم منه القبول والاحتجاج ....... ويقولون: (حديث محفوظ) و (إسناد محفوظ) ويقابله (الشاذ)، وهذا لا يعني صحة الحديث أو حسنه، إنما هو حكم للراجح، وقد يكون الراجح ضعيفاً لذاته، كأن يختلف في إسناد وصلاً وإرسالا، فتكون الرواية المرسلة في المحفوظة، والمرسل ضعيفاً.

المسألة الحادية عشرة: استدلال العالم بحديث، هل يعني تصحيحه له؟

ويقولون: (حديث صالح)، و (إسناد صالح)، وهذا قد يرادف الحسن، وقد يكون أدنى منه، فيكون المراد أنه صالح للاعتبار لا للاحتجاج. ويقول بعضهم: (إسناده وسط)، فهذا بمنزلة (صالح)، إلا إن دلت قرينة على إرادة الحسن. ويقول بعض المتأخرين في بعض الأسانيد: (هذا إسناد محتمل للتحسين)، فهذا لا يعني ثبوت الرواية، بل هو بمنزلة القول: (هذا إسناد لين) أو (ليس بالقوي)، أو (ليس بذلك)، وهذه من أوصاف (الحديث الضعيف). المسألة الحادية عشرة: استدلال العالم بحديث، هل يعني تصحيحه له؟ يفرق بين العلماء في هذا من جهة المعرفة بصحيح الحديث وسقيمه: فإذا رأيت الفقيه الذي لا خبرة له بذلك يستدل بحديث، فهذا لا يحتج باستدلاله بذلك الحديث على كونه صحيحاً عنده، ولا يقنع حسن الظن في الجملة لتمشية مثل ذلك، فالواقع شاهد أن هذا الصنف من العلماء استدلوا بكثير من الحديث المردود. أما إذا كان الفقيه محدثاً عارفاً بالصحيح والسقيم، فاستعماله لحديث أو استدلاله به حكم منه بصحته أو حسنه، لكن بشرط أن يكون ذلك الحديث هو الدليل الواحد عنده لتلك المسألة؛ إذ لو ضم إليه سواه فربما كان ذكره له على سبيل الاستشهاد والاستئناس، لا الاحتجاج، فتأمل! * * *

الباب الثاني الحديث المردود

الباب الثاني الحديث المردود

مدخل

مدخل الحديث المردود من حيث الجملة، هو الحديث الضعيف. وتعريفه: من الضعف المقابل للقوة. والمراد به هنا: الحديث الذي فقد شرطاً فأكثر من شروط الحديث المقبول. والضعف درجات عديدة: أدناها ما يكون بسبب الانقطاع، أو خطأ الراوي، وأشدها ما كان بكذبه ....... ويقال أيضاً: الضعف نوعان: ضعف يمكن جبره، وضعف لا ينجبر، على ما يأتي بيانه. وعليه فتندرج تحته ألقاب كثيرة منقسمة في الجملة إلى قسمين بحسب ما يعود إليه سبب الضعف: الأول: ما يرجع إلى عدم الاتصال، وتندرج تحته ألقاب للحديث الضعيف، هي: المعلق، المنقطع، المعضل، المرسل، المدلس. الثاني: ما يرجع إلى الجرح القادح في الراوي، وتندرج تحته عدة ألقاب، هي: المجهول، اللين، المقلوب، المصحف، المدرج، الشاذ المعلل، المضطرب، المنكر، الموضوع.

وليس يخلو حديث ضعيف من أن يكون معللاً بواحد من هذه الأوصاف، وهي منبئة عن تفاوت الضعف، بين الضعف اليسير المحتمل، والشديد الذي لا ينجبر. وإطلاق لقب (حديث ضعيف) صالح أن يكون لأي من السببين، وإن كان يوهم خفة الضعف أحياناً، فيشكل إطلاقه على (المنكر) و (الموضوع) مثلاً. وتقدم ذكر (المعلق) ومعناه في شرح (الحديث الصحيح). وسائر الألقاب يأتي بيانها في الفصلين التاليين. * * *

الفصل الأول ألقاب الحديث الضعيف بسبب عدم الاتصال

الفصل الأول ألقاب الحديث الضعيف بسبب عدم الاتصال

المبحث الأول الحديث المنقطع

المبحث الأول الحديث المنقطع معناه اللغوي يستوعب ما ليس باتصال، في أي محل كان ذلك في الإسناد، لكنه كلقب خاص في هذا العلم، ينبغي حصره في صورتين: الصورة الأولى: حديث الراوي عمن لم يسمع منه، في أي موضع في الإسناد دون الصحابي، ويقع في محل أو أكثر. وقال الحاكم: " أن يكون في الإسناد رواية راو لم يسمع من الذي يروي عنه الحديث، قبل الوصول إلى التابعي الذي هو موضع الإرسال " (¬1). قلت: ولو قال: (قبل الوصول إلى الصحابي) لكان أصح. وتعريف الحاكم على أي حال أولى من التعريف الذي ذكره الخطيب فقال: " هذه العبارة تستعمل غالباً في رواية من دون التابعي عن الصحابة " (¬2). قلت: وهذا صحيح، لكنه قاصر، فصورة الانقطاع فيما بين تبع أتباع التابعين والتابعين مثلاً لا تندرج في هذا، وكذلك الانقطاع في طبقة دونها. ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص: 28). (¬2) الكفاية (ص: 58) .......

فإن سقط راو فهو منقطع في موضع، وإن سقط أكثر من راو غير متواليين فهو منقطع في موضعين أو أكثر. مثال سقط راو واحد من الإسناد: ما أخرجه الإمام أبو داود (¬1)، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، قال: حدثني أبو مجلز، عن حذيفة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة. أبان هو ابن يزيد العطار، ولم ينفرد بهذا الحديث عن قتادة، بل تابعه شعبة بن الحجاج، عند الإمام أحمد (¬2) وغيره. وليس في رجال هذا الإسناد أحد غير ثقة، بل كلهم ثقات، والاتصال صريح فيه إلى أبي مجلز، واسمه لاحق بن حميد، أما بينه وبين حذيفة وهو ابن اليمان فليس بمتصل، فإن شعبة قال بعد روايته: " لم يدرك أبو مجلز حذيفة "، وحيث إن أبا مجلز هذا تابعي لقي بعض الصحابة، فإن أقصى ما يتصور من السقط بينه وبين حذيفة لا يعدو أن يكون رجلاً واحداً، هذا على اعتبار الأغلب. هذه الصورة من الانقطاع كثيرة شائعة، خصوصاً فيما بين التابعين والصحابة الذين لم يسمعوا منهم. مثال الانقطاع في موضعين: قال الإمام الترمذي (¬3): حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج بن أرطاة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة، قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فخرجت فإذا هو بالبقيع، فقال: " أكنت ¬

(¬1) في " سننه " (رقم: 4826). (¬2) في " مسنده " (5/ 384، 398، 401). (¬3) في " جامعه " (رقم: 739) .......

الصورة الثانية: أن يكون بدل السقط إبهام لراو

تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ " قلت: يا رسول الله، إني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: " إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب ". قال الترمذي: " حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الحجاج، وسمعت محمداً _ يعني البخاري _ يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة، والحجاج بن أرطاة لم يسمع من يحيى بن أبي كثير ". وهذا المثال وهو سقوط ما يزيد على راو سقطاً غير متوال قليل نادر الورود إذا قارنته بسقط واحد. الصورة الثانية: أن يكون بدل السقط إبهام لراو، كأن يقال: (عن رجل) أو (عن شيخ). فهذا وإن ذكر كواسطة، إلا أنها لإبهامها أشبهت الانقطاع؛ للتساوي في جهالة الراوي عيناً وحالاً، وصح اندراجها تحت مسمى (المنقطع) في التحقيق (¬1). ويشبه هذه الصورة: الانقطاع في قول الراوي: (حدثت عن فلان) و (أخبرت عن فلان) وشبهه. مثالها: قال أبو داود (¬2): حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، عن سهيل، عن رجل، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع كلمة فأعجبته، فقال: " أخذنا فألك من فيك ". قلت: هذا إسناد منقطع بين سهيل، وهو ابن أبي صالح، وأبي هريرة. ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص: 27). (¬2) في " سننه " (رقم " 3917).

سبب إبهام الراوي

تنبيه: تيقظ إلى أنك ربما وجدت في عبارة متقدم إطلاق لقب (المنقطع) يعني به (المقطوع) الذي هو الخبر عن التابعي لا يجاوزه، فقد ذكر ذلك الخطيب عن بعض أهل الحديث (¬1)، كما وجد في كلام بعضهم إطلاق (المقطوع) على (المنقطع)، وتبينه بالقرينة. سبب إبهام الراوي: وهذا المبهم وما في معناه ربما كان ثقة، وربما كان مجروحاً، لكن يقال: لو كان ثقة معلوم القدر والمنزلة مقبول الأمر عند من سمع بذكره لما أبهمه الراوي عنه، ففي تصرفه ما يشعر بكونه ليس بثقة. قال الخطيب: " قل من يروي عن شيخ فلا يسميه، بل يكني عنه، إلا لضعفه وسوء حاله " (¬2). وقال يحيى بن سعيد القطان: سمعت سفيان (يعني الثوري) يقول: حدثني من رأى إبراهيم يرفع يديه تحت الكساء في الصلاة. فجعلت أسأله عن اسم الرجل، فيمطلني به ثم قال لي يوماً حين أضجرته: حدثني أبو الصباح سليمان بن قسيم. قال يحيى: وأخطأ في اسمه، يريد سليمان بن يسير. قال يحيى: وإنما مطلني به؛ لأنه قد علم أني لا أرضاه (¬3). قلت: وربما كان المبهم من المتروكين الهلكى. كما قال علي بن المديني: " كل ما في كتاب ابن جريج: أخبرت عن داود بن الحصين، وأخبرت عن صالح مولى التوأمة، فهو من كتب إبراهيم بن أبي يحيى " (¬4). ¬

(¬1) الكفاية (ص: 59). (¬2) الكفاية (ص: 532) ....... (¬3) أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل (النص: 4973) وإسناده صحيح إلى يحيى بن سعيد. (¬4) أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص: 107) وإسناده صحيح.

كيف يثبت الانقطاع؟

قلت: وإبراهيم هذا متروك ليس بثقة. نعم، ربما أبهم الراوي شيخه لكونه حدث عنه في حياته، أو لكونه من أقرانه أو أصغر منه، كما في أسباب التدليس. حدث أبو إسحاق الفزاري بحديث فقال فيه: عن رجل من أهل الشام، عن أبي عثمان، عن أبي خداش، فقال أبو حاتم الرازي: " هذا الرجل من أهل الشام هو عندي بقية، وأبو عثمان هو عندي حريز بن عثمان "، وقال في سبب إبهام بقية: " وإنما لم يسمه أبو إسحاق؛ لأنه كان حيا في ذلك الوقت " (¬1). قلت: كانا قرينين، ومات أبو إسحاق قبل بقية. كيف يثبت الانقطاع؟ الصورة الثانية من الانقطاع ظاهرة، فإبهام راو في الإسناد علامة صريحة فيه. وإنما تحتاج الصورة الأولى إلى طريق تميز بها، وجملة الطرق التي يستعان بها لمعرفة ذلك خمسة: الأول: التنصيص على عدم السماع. ويقع: تارة من الراوي نفسه، وهو قليل، كقول عمرو بن مرة: قلت لأبي عبيدة (يعني ابن عبد الله بن مسعود): تذكر من أبيك شيئاً؟ قال: " لا " (¬2). ¬

(¬1) نقله ابنه في " علل الحديث " (رقم: 965). (¬2) أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 456) وابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 256) وإسناده صحيح.

وتارة بتنصيص من روى عنه من الثقات، وهو قليل أيضاً، كقول عبد الملك بن ميسرة: " الضحاك لم يسمع من ابن عباس " (¬1). ومثل ما وقع من سليمان التيمي حين حدث عن أبي مجلز، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الركعة الأولى من صلاة الظهر، فرأى أصحابه أنه قد قرأ (تنزيل السجدة)، قال سليمان: " ولم أسمعه من أبي مجلز " (¬2). وتارة بتنصيص الناقد العارف، بناء على الاستقراء والنظر، على عدم الإدراك، أو اللقاء، أو السماع، بقوله مثلاً: (فلان لم يدرك فلاناً، لم يلق فلاناً، لم يسمع فلاناً، عن فلان مرسل). كقول علي بن المديني: " لم يسمع أبو قلابة من هشام بن عامر، وروى عنه، ولم يسمع من سمرة بن جندب " (¬3). وهذا كثير، واعتنى به أئمة الجرح والتعديل، وفيه كتب مصنفة، من أنفعها: " المراسيل " لابن أبي حاتم الرازي، و" جامع التحصيل في أحكام المراسيل " للحافظ صلاح الدين العلائي، كما يوجد ذكر ذلك في كتب تراجم الرجال. وقد يختلف فيه بين النقاد، فيحرر الراجح بأصوله. والثانية: معرفة التاريخ. والمقصود تمييز تاريخ وفاة الشيخ، ومولد التلميذ، فإن كان التلميذ لم يولد بعد يوم مات الشيخ، أو كان صغيراً في سن لا يحتمل السماع، فهو انقطاع. وهذا طريق سلكه النقاد الكبار في معرفة الاتصال والانقطاع في الأسانيد، واستدلوا به كثيرا ً. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 95) وإسناده صحيح ....... (¬2) أخرجه أحمد في " مسنده " (رقم: 5556). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 109) وإسناده صحيح.

والعلم بالتاريخ قد يكون صريحاً بتحديد السنين، وقد يكون بالقرائن المساعدة على ذلك. فمثاله فيما هو صريح: عبد الرحمن بن أبي ليلى، من كبار التابعين، وقد روى عن أبي بكر الصديق، ومات أبو بكر سنة (113)، وقال ابن أبي ليلى: " ولدت لست بقين من خلافة عمر " (¬1). فروايته عنه بهذا الاعتبار منقطعة جزماً. ومثل رواية محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، عن عمر بن الخطاب، فإن أبا حاتم الرازي قال: " ولد لثلاث بقين من خلافة عمر " (¬2)، فروايته عنه منقطعة؛ لصغره. وقد يتحمل الصغير شيئاً عمن أدرك، كأن يذكر أنه رآه، ثم يروي عنه ما لم يكن يحتمله سنه من الحديث، فهذا منقطع فيما رواه عن ذلك الشيخ سوى ما جاء عنه من ذلك اليسير في رؤيته أو شبهه، وأدنى درجاته أنه قامت فيه شبهة الانقطاع. وذلك مثل رواية إبراهيم النخغي عن عائشة أم المؤمنين فإنه أدخل عليها وهو صبي صغير، كما قاله يحيى بن معين (¬3) وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي (¬4) وثبتت الرواية عنه بذلك (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 126) وإسناده صحيح. (¬2) الجرح والتعديل (4/ 1 / 26) ....... (¬3) تاريخ يحيى بن معين (النص: 2373). (¬4) المراسيل، لابن أبي حاتم (ص: 9، 10). (¬5) فقد أخرج البخاري في " التاريخ " (1/ 1 / 334) وابن حبان في " الثقات (4/ 9) من طريق أبي معشر، أن النخعي حدثهم، أنه دخل على عائشة، فرأى عليها ثوباً أحمر، فقال له أيوب: كيف دخل على عائشة؟ قال: كان يحج مع عمه وخاله وهو غلام، فدخل عليها. قلت: وأبو معشر اسمه زياد بن كليب ثقة، وأيوب المذكور هو السختياني.

ومثاله فيما عرفنا فيه الانقطاع بعدم الإدراك بالقرينة، رواية عبدة بن أبي لبابة عن عمر بن الخطاب، فإن أكثر روايته عن التابعين من أصحاب عبد الله بن مسعود، كأبي وائل شقيق بن سلمة، وزر بن حبيش، ومن دونهم كمجاهد بن جبر، والقاسم بن مخيمرة، ورأى عبد الله بن عمر بالشام (¬1)، وهل يصح سماعه منه؟ أثبته بعض الأئمة كالبخاري (¬2)، وظاهر عبارة أبي حاتم الرازي أنه لم يكن له نصيب من ابن عمر غير الرؤية، فإنه قال: " رأى ابن عمر رؤية " (¬3)، فإذا كان هذا شأنه، فأنى له أن يدرك عمر؟ ¬

(¬1) نص على ذلك أحمد بن حنبل في رواية الميموني عنه، نقله ابن عساكر في " تاريخه " (37/ 384) والمزي في " التهذيب " (18/ 543). (¬2) التاريخ الكبير (3/ 2 / 114)، ويبدو أنُّ مستند إثبات السماع ما أخرجه الفاكهي في " أخبار مكة " (رقم: 870) من طريق عثمان بن ساج. وأخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 371) وابن الأعرابي في " معجمه " (رقم: 1498) وابن عساكر في " تاريخه " (7/ 276 و (37/ 381) من طريق سلمة بن عبد الملك العوصي. كلاهما عن إبراهيم بن يزيد، عن عبدة بن أبي لبابة، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تابعوا بين الحج والعمرة، والذي نفسي بيده إنَّ متابعتهما لتنفي الفقر والذنوب عن العبد كما ينفي الكير خبث الحديد ". قلت: وإسناده ضعيف جداً، إبراهيم هو ابن يزيد الخوزي، واه متروك الحديث، وليس هو ابن يزيد النصري الشامي، خلافاً لما حسبه ابن عساكر من أجل رواية العوصي عنه وهو شامي، فإنه روى عن العراقيين، وحديث الخوزي أيضا وقع للعراقين، وأما النصري فلا يوجد فيما جاءنا من ترجمته ما يساعد على اعتباره المقصود هنا، بل هو لعدم شهرته كان يحتاج إلى تمييزه بالنسبة، فحيث أُهمل ولم تقو القرائن في ترجيحه فلم يصح أن يحمل الحديث على أنه له، بل قويت وترجحت القرائن في كون المقصود هو الخوزي، فابن ساج هو عثمان بن عمرو بن ساج جزري حديثه عن الحجازيين وأهل بلده، والخوزي مكي، وزاد تأكيداً أنّ للحديث أصلاً من حديث الخوزي، كما أخرجه من طريقه الفاكهي (رقم: 869) وابن عدي، يرويه بإسنادٍ آخر عن ابن عمر. نعم، له أصل من رواية عبدة بن أبي لبابة، لكن من غير حديث ابن عمر، كما بين قصته الدارقطني في " العلل " (2/ 130 ـ 131). (¬3) جامع التحصيل، للعلائي (ص: 282)، والعبارة في " المراسيل " لابن أبي حاتم (ص: 136) لكن سقطت منها كلمة (ابن)، وهو خطأ جزماً.

والثالثة: مجيء الرواية بصيغة تدل على وجود واسطة بين الراوي ومن فوقه. كقول الراوي: (حدثت عن فلان) أو ما في معناها، وهذا بين في الانقطاع من أجل البناء للمجهول، وأمثلته واردة في الأسانيد بنسبة غير قليلة. كقول يحيى بن أبي كثير: حدثت عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر عند أهل بيت قال: " أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار " (¬1). والرابعة: أن يقوم دليل على أن رواية فلان عن فلان بواسطة بينهما، فإذا وجدت دون الواسطة فهي منقطعة، وهذه لها صورتان: أولاهما: أن لا يأتي الإسناد بين الراويين دائماً إلا معنعناً، ويوقف على أن التلميذ ربما أدخل بينه وبين ذلك الشيخ واسطة. مثل: رواية سالم بن أبي الجعد عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يذكر في شيء من روايته سماعاً من ثوبان، وغالب ما يرويه من حديث ثوبان يدخل بينه وبينه فيه معدان بن أبي طلحة. ولذا قال أحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي: " لم يسمع من ثوبان، بينهما معدان بن أبي طلحة " (¬2). وثانيهما: أن يروى الحديث المعين مثلاً عن (زيد عن عمرو)، ويوقف على روايته عن زيد بواسطة عن عمرو، ولا يدل دليل على أن ¬

(¬1) أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة " (298) و " الكبرى " (رقم: 6902) من طريق عبد الله بن المبارك، عن هشام الدستوائي، عن يحيى، به. وقد رواه بعض أصحاب هشام عنه عن يحيى عن أنس، فبينت هذه الرواية علته ....... (¬2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 80).

الحديث وقع لزيد من الوجهين، فيكون ما بين زيد وعمرو منقطعاً في ذلك الحديث خاصة. وقد نعت النقاد أحاديث بالانقطاع، لمثل هذه العلة. مثاله في أسانيد الأحاديث المروية: ما أخرجه البخاري (¬1)، قال: حدثنا قيس بن حفص، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الحسن بن عمرو، حدثنا مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً ". عبد الواحد هذا هو ابن زياد، ثقة. وافقه على رواية الحديث مروان بن معاوية الفزاري، لكنه قال: حدثنا الحسن بن عمرو، عن مجاهد، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبد الله بن عمرو، بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). فتلاحظ أن مروان حفظ واسطة بين مجاهد وعبد الله بن عمرو، ومروان ثقة حافظ، فنظر الحفاظ فوجدوا أن مجاهداً لم يقل: (سمعت عبد الله) وإنما قال: (عن)، ورواية مروان ههنا دلت على الانقطاع بينه وبينه، عرف ذلك بالبحث في طرق الحديث. وقد رجح الحافظ الدارقطني الانقطاع في رواية البخاري، وأن الصواب كما جاء في رواية النسائي (¬3). نعم؛ مجاهد لم يعرف بالتدليس، وقد ثبت أنه سمع غير هذا الحديث ¬

(¬1) في " صحيحه " (رقم: 2995، 6516). (¬2) أخرجه النسائي (رقم: 4750). (¬3) ذكر ذلك في كتاب " التتبع " (ص: 213) .......

من عبد الله بن عمرو، ولولا ما بدا من علة في إسناده الأول لكان إسناداً صحيحاً، وإن كانت هذه صورة مطابقة لمعنى (التدليس) كما سيأتي. والخامسة: افتراق بلد الراوي وشيخه بما يكون قرينة على عدم التلاقي. قال أبو زرعة الدمشقي: سألت أحمد بن حنبل عن حديث سعيد بن المسيب عن أبي ثعلبة: " كل ما ردت عليك قوسك "، رواه ضمرة عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن أبي ثعلبة؟ فقال: " ما لسعيد بن المسيب وأبي ثعلبة؟ "، قلت له: أتخاف أن لا يكون له أصل؟ قال: " نعم " (¬1). قلت: يريد لا تعرف لابن المسيب رواية عن أبي ثعلبة، لا لعدم الإدراك؛ وإنما لافتراق البلد، سعيد مدني، وأبو ثعلبة شامي، وحديثه في الشام. * * * ¬

(¬1) تاريخ أبي زرعة (1/ 459). ومن طريق ضمرة وهو ابن ربيعة، أخرجه ابن ماجة (رقم: 3211). وذكره الدارقطني في " العلل " (6/ 318 ـ 319) وقال: " يرويه الأوزاعي، واختلف عنه، فرواه ضمرة .. " فساق روايته، ثم قال: " وغيره يرويه عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن أبي ثعلبة مرسلاً والمرسل أصح ". قلت: وهذا في تضعيف هذا الطريق موافق لقول أحمد، وإنما نفيَ أحمد أن يكون له أصل من حديث سعيد عن أبي ثعلبة، لعدم اللقاء، فلا تعرف له عنه رواية، ولم يرد أن ينفي للحديث أصلاً عن أبي ثعلبة، فهو معروف للشاميين بأسانيدهم.

المبحث الثاني: الحديث المعضل

المبحث الثاني: الحديث المعضل معناه لغة من قولك: (أعضل الأمر) إذا اشتد واستغلق. وأما في الاصطلاح، فقد أريد به صورة من صور السقط في الإسناد، على ما يأتي تحريره. ولم يكن إطلاق هذا الوصف (الحديث المعضل) بهذا المعنى شائعاً عند المتقدمين، وإنما كان هذا عندهم مندرجاً تحت المنقطع أو المرسل بعموم معناهما. وقد استعمل المتقدمون (المعضل) وصفاً للمنكر والموضوع من الحديث، كما بينته في (شرح عبارات الجرح والتعديل). أما بمعناه المتأخر كصورة من صور السقط في الإسناد، فقد وجدت الحاكم النيسابوري (¬1) أقدم من أصل لهذا النوع من علوم الحديث، وقسمه إلى قسمين: الأول: ما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم من دون التابعي، فيكون قدر السقط منه أكثر من واحد. ¬

(¬1) في " معرفة علوم الحديث " (ص: 36 ـ 37).

ونقل هذا التعريف عن الإمام علي بن المديني، فمن بعده من الأئمة (¬1). والثاني: قول الراوي من أتباع التابعين الموقوف عليه، يوجد نفس ذلك القول من غير طريقه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وإدراج هذا تحت مسمى (الإعضال) توسعٌ، لم أجد من سبق الحاكم إليه، والعالم قد يحدث بالشيء من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسنده عن أحد، وذلك في مقام الاستشهاد، ولم يزل العلماء يفعلون ذلك. أما القسم الأول فهو مراد بتعريف هذا اللقب عند بعض السابقين من العلماء. قال الخطيب: " أما ما رواه تابع التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيسمونه: المعضل، وهو أخفض رتبة من المرسل " (¬2). وكذلك هو عند المتأخرين، لكن تعريفه عندهم أشمل من هذا، فهو: ما سقط من إسناده راويان فأكثر على سبيل التوالي. وصورته: أن يروي مالك حديثاً يقول فيه: عن عمر بن الخطاب، وهو إنما وصل إليه بواسطة (نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر)، فأسقط نافعاً وعبد الله، وربما بلغه عن (الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه جده عمر) فأسقط ثلاثة على نسق، وجعله عن عمر. ¬

(¬1) وجدت فيما ظاهره أنه من كلام أبي داود السجستاني في موضع من " سننه " عقب حديث (رقم: 266) في كفارة من أتى امرأته وهي حائض قوله في رواية: " وهذا مَعضل "، بما يتفق في معناه مع ما ذكره الحاكم هنا عن ابن المديني، لكني لم أتوثَّق من صحة نِسبةِ هذه اللفظة لأبي داود، وانظر تعليق العلامة المحقق محمد عوامة على " السنن " (رقم: 270) ....... (¬2) الكفاية (ص: 58).

طريق معرفة المعضل

ومناسبة هذا الاصطلاح للمعنى اللغوي للإعضال، كما قال العلائي: " يكون الراوي له بإسقاط رجلين منه فأكثر، قد ضيق المجال على من يؤديه إليه، وحال بينه وبين معرفة رواته بالتعديل أو الجرح، وشدد عليه الحال " (¬1). ومثاله: ما أخرجه الحافظ أبو محمد الدارمي (¬2)، قال: أخبرنا إبراهيم بن موسى، حدثنا ابن المبارك، عن سعيد بن أبي أيوب، عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار ". إسناد هذا الحديث من الدارمي إلى ابن أبي جعفر ليس له علة، لكن ابن أبي جعفر هذا من طبقة أتباع التابعين، ومن كان كذلك فأدنى ما يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم رجلان، فأسقط الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط بذلك الحديث. طريق معرفة المعضل: يعرف الإعضال في الإسناد بما يلي: أولاً: التاريخ، وذلك ببعد طبقة الراوي عن طبقة شيخه، بحيث إنه لو روى حديثاً من طريق ذلك الشيخ كان بينهما راويان على أقل تقدير. ثانياً: دلالة السبر لطرق الحديث، كنحو الذي تقدم في الانقطاع، لكن ثبوت الإعضال بهذا الطريق قليل نادر. * * * ¬

(¬1) جامع التحصيل (ص: 16). (¬2) في " مُسنده " المسمى بـ " السنن " (رقم: 157) .......

المبحث الثالث: الحديث المرسل

المبحث الثالث: الحديث المرسل تعريف الحديث المرسل: لغة: من (أرسلت الشيء) إذا أطلقته. قال العلائي: " فكأن المرسل أطلق الإسناد ولم يقيده براو معروف " (¬1). واصطلاحاً: هو الحديث الذي يرفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا يذكر له إسناداً بذلك. هذا هو المحرر في معناه الاصطلاحي بعد استقراره، ويسمى بـ (الإرسال الظاهر) لظهوره، ويقابله (الخفي) وسيأتي. والمعتبر في (المرسل) روية التابعي الذي له سماع من صحابي فأكثر، يقول: (قال _ أو: فعل _ النبي صلى الله عليه وسلم). ويجب التنبه هنا لثلاث صور يقع فيها الالتباس: الصورة الأولى: تدخل في (المرسل)، وظاهرها الاتصال، وهي رواية من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً. ¬

(¬1) جامع التحصيل (ص: 14)، وقد ذكروا في المناسبة بين اللغة والاصْطلاح غير هذا الوجْه، لكن هذا أحسنها.

فهذا له شرف الصحبة لا حكمها في الرواية، فحديثه من قبيل المرسل، ولا يعد متصلاً، لكنه بمنزلة روايات كبار التابعين. مثل: جعدة بن هبيرة المخزومي، أمه أم هانئ بنت أبي طالب، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وله رؤية، ثبت له بها شرف الصحبة؛ ولذا حكم بصحبته بعض أهل العلم، وراعى آخرون عدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فحكموا بتابعيته، وهذا ينبئك عن سبب اختلافهم. فالتحقيق أنه صحابي، لكن لحديثه حكم روايات التابعين؛ لأنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً. قال يحيى بن معين: " لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم " (¬1)، وقال أبو عبيد الآجري لأبي داود: جعدة بن هبيرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم " (¬2). والصورة الثانية: ظاهرها الإرسال، وهي معضلة، وهي رواية من له رؤية لبعض الصحابة ولم يسمع من أحد منهم، فهذا يثبت له شرف التابعية لا أحكامها. وعليه، فروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم معضلة، وروايته عن الصحابة منقطعة. وذلك كروايات إبراهيم النخغي أو الأعمش عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو حاتم الرازي: " لم يلق إبراهيم النخعي أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلا عائشة، ولم يسمع منها شيئاً، فإنه دخل عليها وهو صغير، وأدرك أنساً ولم يسمع منه " (¬3). وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود (يعني السجستاني) يقول: ¬

(¬1) تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 186). (¬2) سؤالات الآجري (النص: 1746) ....... (¬3) المراسيل، لابن أبي حاتم (ص: 9).

نقد تعريفات المرسل

" لم يسمع الأعمش من واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أنس؟ قال: " ولا كلمة، إنما رأى أنساً، ولم ير ابن أبي أوفى، ولا سمع منه " (¬1). والصورة الثالثة: من يروي من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، على ما بلغه عنه في حياته، ولم تثبت له صحبة. فهذا وإن أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو تابعي، وحديثه مرسل؛ لتعين بلوغ الحديث له بالواسطة، وهي مجهولة. وليس لدينا مثال في الواقع يصلح للاستدلال به لهذا يسلم من علة، وإنما ذكرته لجوازه على من يقبل بعض ما روي بهذا الطريق. نقد تعريفات المرسل: قال الحاكم: " هو قول الإمام التابعي أو تابع التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن أو قرنان، ولا يذكر سماعه فيه من الذي سمعه " (¬2). قلت: هذا التعريف ليس اختيار الحاكم، وإنما بين أنه اختيار الفقهاء من أهل الكوفة، أما عنده فالمرسل هو: " الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي، فيقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (¬3). وقال الخطيب: " المرسل: ما انقطع إسناده، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه، إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال: ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم " (¬4). قلت: وعلى هذا يندرج في (المرسل) كذلك (المنقطع) بتعريفه ¬

(¬1) سؤالات الآجري (النص: 369). (¬2) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 43). (¬3) معرفة علوم الحديث (ص: 25، 26). (¬4) الكفاية (ص: 58) .......

مثال المرسل

الاصطلاحي، ولذلك قال الخطيب: " والمنقطع مثل المرسل " (¬1)، بينما يتميزان باختيار ما جرى عليه الاستعمال في معنى المرسل. أما التعريف الأول الذي ذكره الحاكم عن فقهاء الكوفة، فإنه دخل فيه ما اصطلح عليه بالإسناد (المعضل)، فليس بحاصر للمعنى الخاص للإرسال. قال الخطيب: " أما ما رواه تابع التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيسمونه: المعضل، وهو أخفض رتبة من المرسل " (¬2). وعلى حصر (المرسل) فيما يرويه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، جاء تعريف ابن عبد البر عن أهل العلم، وهو الأدق والموافق لما اخترناه، قال: " هذا الاسم أوقعوه لإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم "، ومثَّل بجماعة، ثم قال: " وكذلك من دون هؤلاء " ومثَّل بآخرين، ثم قال: " ومن كان مثلهم من سائر التابعين الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم، فهذا المرسل عند أهل العلم " (¬3). أما ما يرسله صغار التابعين، كمن لم يلق من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر رواياتهم عن التابعين، فذكر عن طائفة أنه (منقطع) (¬4). مثال المرسل: قال أبو داود (¬5): حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا كثير بن هشام، عن عمر بن سليم الباهلي، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) الكفاية (ص: 58). (¬2) الكفاية (ص: 58). (¬3) التمهيد (1/ 19، 20). (¬4) التمهيد (1/ 21). (¬5) في كتاب " المراسيل " (رقم: 105) .......

طريق تمييز المرسل

" حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع ". إسناد هذا الحديث حسن إلى الحسن، وهو البصري الإمام من سادة التابعين، لكنه أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر عمن حمله، فهو ضعيف من جهة إرساله. طريق تمييز المرسل: يثبت كون الحديث مرسلاً بمجرد أن يعلم أن الذي حدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم تابعي، وتمييز التابعين من غيرهم يعرف من كتب رجال الحديث. * * *

المبحث الرابع: مسائل في الانقطاع والإرسال

المبحث الرابع: مسائل في الانقطاع والإرسال المسألة الأولى: تداخلُ استعمال مصطلح (المنقطع) في (المرسل) عند السلف: قبل تميز الاصطلاح الفاصل بين (المنقطع) و (المرسل) في زمن المتقدمين غلب عندهم استعمال لفظ (المرسل) في كل منقطع، مما يوجب التيقظ عند النظر في عباراتهم. ومثال ذلك: ما أخرجه أبو داود (¬1) من طريق الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد بن دريك، عن عائشة: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى وجهه وكفيه. قال أبو داود بعده: " هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة ". قلت: وهذا في الاصطلاح منقطع. ومن هذا قولهم: (فلان يرسل)، و: (كثير الإرسال)، يعنون روى عمن لم يسمع منه. ¬

(¬1) في " سننه " (رقم: 4104) .......

المسألة الثانية: المفاضلة بين المراسيل

المسألة الثانية: المفاضلة بين المراسيل. مراسيل التابعين متفاوتة في القوة بحسب قدم التابعي المرسل وكبره، أو صغره. وتصور ذلك بتقسيم التابعين إلى طبقات ثلاث بحسب من لقوا وسمعوا منه من الصحابة: الطبقة الأولى: كبار التابعين، وهم الذين أدركوا كبار الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود ومعاذ بن جبل، وجُل أو أكثر رواياتهم إذا سموا شيوخهم عن الصحابة. وهؤلاء مثل: قيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع. ويندرج في جملتهم من يطلق عليه اسم (المخضرمين)، وهم التابعون الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، لكنهم لم يثبت لهم شرف الصحبة، مثل: سويد بن غفلة، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبي رجاء العطاردي، وغيرهم. فمراسيل هذه الطبقة تقرب من المتصل. الطبقة الثانية: أوساط التابعين، وهم الذين أدركوا علي بن أبي طالب، ومن بقي حيا إلى عهده وبعيده من الصحابة، كحذيفة بن اليمان، وأبي موسى الأشعري، وأبي أيوب الأنصاري، وعمران بن حصين، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة أم المؤمنين، وأبي هريرة، والبراء بن عازب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، ووقع سماعهم من بعضهم. ومثال هؤلاء التابعين: الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس اليماني، والقاسم بن محمد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعامر الشعبي، ومجاهد بن جبر.

القول في مراسيل سعيد بن المسيب

فمراسيل هذه الطبقة صالحة تكتب ويعتبر بها. الطبقة الثالثة: صغار التابعين، وهم من أدرك وسمع ممن تأخر موته من الصحابة في الأمصار، الواحد والاثنين والعدد اليسير، كمن سمع من أنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبي أمامة الباهلي. وهؤلاء مثل: ابن شهاب الزهري، وقتادة بن دعامة السدوسي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وحميد الطويل، وشبههم. فمراسيل هذه الطبقة ألصق بالمعضل منها بالمراسل، من أجل أن أكثر حديثهم حملوه عن التابعين، فإذا أرسل أحدهم فالمظنة الغالبة أن يكون أسقط من الإسناد رجلين فأكثر. ولنقاد المحدثين نزاع في تقوية بعض المراسيل وتضعيف بعضها، وذلك تارة من جهة التسهيل في الاعتبار بها، لا من جهة كونها صحيحة صحة المتصل، وتارة: من أجل أن الاستقراء لتلك المراسيل دل على أنها محفوظة من وجوه ثابتة. وفي الحالتين جميعاً ما يدل على أن المرسل ضعيف لذاته لنقص شرط الاتصال في الرواية، وإنما يكتسب القوة بسبب خارجي. وهذه أمثلة من أقوالهم في طائفة من أئمة التابعين مختلفي الطبقات، تحرر ذلك إن شاء الله: القول في مراسيل سعيد بن المسيب: قال أحمد بن حنبل: " مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات " (¬1)، وقال: " مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 239 _ 240) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 571) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه البيهقي في " الكبرى " (6/ 42) وإسناده صحيح .......

وقال يحيى بن معين: " مرسلات سعيد بن المسيب أحسن من مرسلات الحسن " (¬1)، وقال: " أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب " (¬2). قلت: أحسن المراسيل عندهم مراسيل ابن المسيب، وما ذلك من جهة صحة آحادها لذاتها، وإنما الشأن كما قال الحاكم: " تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله، فوجدوها بإسانيد صحيحة " (¬3). وهل اتفقوا على تسليم ما استخلصوه بالاستقراء؟ لا، فهذا علي بن المديني يقول: قلت ليحيى بن سعيد: سعيد بن المسيب عن أبي بكر؟ قال: " ذلك شبه الريح " (¬4). فهذا إمام النقاد يحيى بن سعيد القطان يضعف مرسل سعيد عن أبي بكر، فكيف يكون عنده ما يرسله سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وطائفة نسبت إلى الشافعي أنه صحح مراسيل سعيد مطلقاً، واحتج بها، بل عدَّى بعضهم قوله إلى سائر الطبقة الأولى. فما حقيقة قول الشافعي في ذلك؟ قال رحمه الله: ليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب " (¬5). وقال بعد أن ذكر من رواية ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان، وأتبعه بأثر عن أبي بكر، ومذهب جماعة من التابعين في النهي عن ذلك: " إرسال ابن المسيب عندنا حسن " (¬6). وأصحاب الشافعي اضطربوا في تفسير مراده في قبول مرسل ابن المسيب، وذكر الخطيب لهم في تفسيره قولين: أولهما: مرسل سعيد حجة، فإنه استدل به في النهي عن ¬

(¬1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 957). (¬2) أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص: 26) والخطيب في " الكفاية " (ص: 571) وإسناده صحيح. (¬3) معرفة علوم الحديث (ص: 26). (¬4) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 243) وإسناده صحيح. (¬5) أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي ومناقبه " (ص: 232) ومن طريقه: الخطيب في " الفقيه والمتفقه " (1/ 533) وإسناده صحيح. (¬6) مختصر المُزني (ص: 78)، وأخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 571).

بيع اللحم بالحيوان، وجعله أصلاً لذاته. وثانيهما: ليس بحجة، والشافعي لم يقل: هو حجة، وإنما رجح به، والترجيح بالمرسل صحيح، وإن كان لا يثبت به الحكم لذاته. قال الخطيب: " وهذا هو الصحيح من القولين عندنا؛ لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسنداً بحال من وجه يصح، وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على من دونهم، كما استحسن مرسل سعيد بن المسيب على من سواه " (¬1). وقال الخطيب أيضاً: " أما قول الشافعي: وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب، فقد ذكر بعض الفقهاء أن الشافعي جعل مرسل ابن المسيب حجة؛ لأن مراسيله كلها اعتبرت فوجدت متصلات من غير حديثه، وهذا القول ليس بشيء؛ لأن من مراسيل سعيد ما لم يوجد متصلاً من وجه بتة، والذي يقتضي مذهب الشافعي أنه جعل لسعيد مزية في الترجيح بمراسيله خاصة؛ لأن أكثرها وجد متصلاً من غير حديثه، لا أنه جعلها أصلاً يحتج به " (¬2). قلت: وهذا الذي رجحه الخطيب ذهب إليه قبيله الحافظ البيهقي , ¬

(¬1) الكفاية (ص: 572) ....... (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 546).

وهو من هو في معرفة أدلة الشافعي ومذهبه، فإنه قال: " الشافعي يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها،. . وإذا لم ينضم إليها ما يؤكدها لم يقبله، سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره، وقد ذكرنا. . مراسيل لابن المسيب لم يقل بها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قد قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها، وزيادة ابن المسيب على غيره في هذا أنه أصح التابعين إرسالاً فيما زعم الحفاظ " (¬1). قلت: من ذهب إلى أن الشافعي كان يرى مراسيل ابن المسيب جميعاً حجة، فإنما استفاد ذلك من نص الشافعي حيث قال في جواب من قال له: كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً ولم تقبلوه عن غيره؟ قال: " قلنا: لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعاً إلا وجدنا ما يدل على تسديده، ولا أثره عن أحد فيما عرفناه عنه إلا ثقة معروف، فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعه، ورأينا غيره يسمي المجهول، ويسمي من يرغب عن الرواية عنه، ويرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن بعض من لم يلحق من أصحابه المستنكر الذي لا يوجد له شيء يسدده، ففرقنا بينهم لافتراق أحاديثهم، ولم نحاب أحداً، ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفناه من صحة روايته " (¬2). قلت: والتحقيق أن الشافعي يبين في هذا قوة مراسيل سعيد، من جهة أنها جاءت من وجوه صحيحة، فهو لم يقل: مرسل سعيد حجة لذاته، أو صحيح لذاته، إنما هو صحيح من جهة مجيئه من غير ذلك الوجه المرسل متصلاً محفوظاً، فصحته عنده حاصلة بأمر خارج عن نفس روايته المرسلة. يؤيد ذلك أن هذا النص منه إنما جاء عقب استدلاله بمرسل لسعيد في (الرهن)، ساقه من بعد من طريق موصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ¬

(¬1) مناقب الشافعي، للبيهقي (2/ 32). (¬2) الأم (7/ 159) .......

عنى بقوله آخر النص المتقدم: " ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفناك من صحة روايته " (¬1). وتقوية المرسل بالقرائن، كان الشافعي قد أصل له تأصيلاً دقيقاً في " الرسالة "، سيأتي في (الفصل الثالث). ومما يلحق بهذه المسألة المختصة بأن المسيب، أن أهل العلم قبلوا ما رواه ابن المسيب عن عمر بن الخطاب، وأجروه مجرى المسند، وهو لم يسمع منه أكثر ما حدث به عنه، فقد كان صغيراً يوم قتل عمر، رضي الله عنه. لكن كما قال مالك بن أنس: " ولد في زمان عمر، فلما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره حتى كأنه رآه " (¬2) يريد حتى كأنه كان أخذ ذلك عنه؛ لأن رؤيته له صحيحة. وذكر مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره. بل قال فيه يحيى بن سعيد الأنصاري وهو تلميذه: " يسمى رواية عمر بن الخطاب؛ لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته " (¬3). ومن أجل الإدراك في الجملة، وصحة النقل لمادة ما نقله عن عمر، قال أحمد بن حنبل: " هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، إذا لم يُقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟ " (¬4). والقاعدة أن يكون هذا ضعيفاً لذاته لانقطاعه، لكن قبول السلف له، مع ما ينضم إليه من كونه مذاهب عمر في القضاء وشبهه، ومثله ليس من ¬

(¬1) انظر: تعليقي على كتاب " المقنع في علوم الحديث " لابن الملقَّن (1/ 137). (¬2) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة " (1/ 468) بإسناد حسن. (¬3) أخرجه يعقوب بن سفيان (1/ 470 _ 471) بإسناد صحيح. (¬4) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (2/ 1 / 61) .......

قولهم في مراسيل عروة بن الزبير

شأنه أن يكون سرًّا، فنقل سعيد للشيء منه دون إنكار أحد لشيء مما نقله، دليل على صحته عن عمر، زد عليه أن سعيداً كان يتتبع أقضية عمر ويعتني بها، وهذا يوجب التحري، كذلك فإن كونه من مذاهب الصحابة مما يجعل مندوحة للتسهل فيه، بخلاف ما يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم. قولهم في مراسيل عروة بن الزبير: ومما قواه طائفة من الأئمة من المراسيل: مراسيل عروة بن الزبير، وذلك من أجل أنه قال: " إني لأسمع الحديث فأستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به، وأسمعه من الرجل أثق به حدثه عمن لا أثق به " (¬1). قال ابن عبد البر: " كيف ترى في مرسل عروة بن الزبير، وقد صح عنه ما ذكرنا؟ أليس قد كفاك المؤنة؟ " (¬2). قلت: لا ريب أن هذا النص عن عروة يفيد شدة تحريه واحتياطه، لكن العلم بتحري التابعي وحده لا يكفي للاحتجاج بمرسله دون عاضد؛ لجواز أن يكون حمله عن غير ثقة عند غيره، وحسن الظن بالمتروك ذكره من الإسناد لا يكفي لصحة النقل ما لم يشهد له شاهد. قولهم في مراسيل الحسن البصري: قال يحيى بن سعيد القطان: " ما قال الحسن في حديثه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وجدنا له أصلاً، إلا حديثاً أو حديثين " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الشافعي في " الأم " (12/ 368) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 73، 210) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 38، 39) وإسناده صحيح. (¬2) التمهيد (1/ 39). (¬3) أخرجه الترمذي في (العلل) آخر " الجامع " (6/ 247 _ 248) بإسناد صحيح. ورُوي نحوه عن أبي زُرعة الرازي من قوله، لكن قال: " ما خلا أربعة أحاديث ". أخرجه ابنُ عدي (1/ 228) عن شيخه الحسن بن عثمان التستري، وهو واهٍ.

قولهم في مراسيل جماعة آخرين

قلت: هذه تقوية في الجملة لمراسيل الحسن، وليست تصحيحاً لمفردات رواياتها، ولم تسلم هذه ليحيى القطان: فعن عبد الله بن عون، وهو من تلامذة الحسن، قال: " كان الحسن يحدثنا بأحاديث، لو كان يسندها كان أحب إلينا " (¬1). وقال أحمد بن حنبل: " ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنهما يأخذان عن كل أحد " (¬2). قلت: ومن هذا جاءت شبهة رد المرسل، وأراد أحمد أن هذه أضعف المرسلات بالنظر إلى أهل هذه الطبقة، وهي الوسطى من التابعين، فما بالك بمن بعدها؟ قولهم في مراسيل جماعة آخرين: وقوى العجلي مراسيل عامر الشعبي، وهو من أوساط التابعين، فقال: " مرسل الشعبي صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحاً " (¬3). قلت: وهذا مفيد في قوة الاعتبار بها لذاتها، ولا يصح أن يكون حكماً بصحة أفراد رواياته المرسلة دون شاهد، وظاهر العبارة أن العجلي تتبع مراسيل الشعبي فوجد أكثرها صحيحاً من وجوه أخرى، فعُلمت صحتها بأمر خارج عن نفس المرسل، ولذا قال: (لا يكاد)، ففيه أن ما لم تشهد له الشواهد أنه صحيح، فهو باق على الضعف. ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 57) وإسناده صالح، وقع في اسم راويه عن ابن عون تحريف، وهو على الصواب: (الحسن بن عبد الرحمن)، وهو ابنُ العريان، بصْري لا بأس به. (¬2) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 239 _ 240) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 549، 571) وإسناده صحيح، وأخرجه نَحوه البيهقي في " الكبرى " (6/ 42) بإسناد صحيح ....... (¬3) معرفة الثقات، للعجلي بترتيب الهيثمي والسبكي (2/ 12).

وممن ذهب بعض العلماء إلى تقوية مراسيله ممن جعلنا مراسيلهم في التحقيق معضلة لا مرسلة: إبراهيم بن يزيد النخعي. قال يحيى بن معين: " مرسلات إبراهيم صحيحة، إلا حديث تاجر البحرين، وحديث الضحك في الصلاة " (¬1). قلت: يعني لقيام الحجة على ضعف هذين الحديثين. وقال أحمد بن حنبل: " مرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها " (¬2). قلت: هذا دال على شدة تحري إبراهيم، حيث وجدوا أكثر مراسيله مروية من وجوه صحاح، وليس فيه تصحيح مرسله لذاته، ولذلك استثنوا بعض ما روى، فالصحة لها مكتسبة بأمر خارجي. ومما استدل به بعض أهل العلم لتقوية مراسيل إبراهيم عن ابن مسعود، ما صح عن الأعمش، قال: قلت لإبراهيم النخعي: أسند لي عن عبد الله بن مسعود، فقال إبراهيم: " إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله، فهو ¬

(¬1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 958). قلت: أماَّ حديث تاجر البحرين، فهو رواه الأعمش، عن إبراهيم، قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رجلٌ تاجرٌ أختلف إلى البحرين، فأمره أن يصلي ركعتين. أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " (2/ 448) وأبو داود في " المراسيل " (رقم: 72) من طريق وَكيع بن الجراح، وعباس الدوري في " تاريخ يحيى بن معين " (النص: 960) من طريق أبي يحيى الحِماني، كلاهما عن الأعمش، به. وأما حديث الضحك في الصلاة، فرواه الأعمش أيْضاً عن إبراهيم، قال: جاء رجلٌ ضرير البَصر، والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فعثرَ، فتردَّى في بئرٍ، فضحكوا، فأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم من ضحك أنْ يعيد الوضوء والصلاة. أخرجه الدارقطني في " سننه " (1/ 171) ومن طريقه: البيهقي في " الكبرى " (1/ 146) من طريق أبي معاوية الضرير، حدثنا الأعمش، به. (¬2) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 239 _ 240) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 549، 571) وإسناده صحيح، وأخرجه نَحوه البيهقي في " الكبرى " (6/ 42) بإسناد صحيح أيضاً.

الذي سميت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله " (¬1). قال ابن عبد البر: " في هذا الخبر ما يدل على أن مراسيل إبراهيم النخعي أقوى من مسانيده، وهو لعمري كذلك، إلا أن إبراهيم ليس بعيار على غيره " (¬2). قلت: كذا قال، وهذا عجيب أن تكون الرواية فيه عن مجهول من أصحاب عبد الله بن مسعود، ولو كان أكثر من واحد، أقوى من قول إبراهيم: (حدثني علقمة عن ابن مسعود) ‍‍‍‍‍! كلا، فمعلوم أن في أصحاب عبد الله من كان مجهولاً لا يعرف، فكيف يجوز تنزيل المجهول منزلة المعروف، فضلاً عن تقديمه عليه؟ والتحقيق الذي فصلت أسبابه في غير هذا الكتاب: أن ما أرسله إبراهيم عن ابن مسعود ضعيف لذاته من أجل الانقطاع، وهو قوي للاعتبار به (¬3). وتكلم أئمة الحديث في مراسيل طائفة من التابعين ممن هم أعلى من إبراهيم في القدم، كالذي تقدم في مراسيل الحسن وعطاء. وقال يحيى بن سعيد القطان: " مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بن أبي رباح بكثير؛ كان عطاء يأخذ عن كل ضرب ". وقال يحيى القطان: " مرسلات سعيد بن جبير أحب إلي من مرسلات عطاء ". ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في (العلل) آخر " الجامع " (6/ 249) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 37 _ 38) وإسناده صحيح. وأخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة " (2/ 609) مختصراً. (¬2) التمهيد (1/ 38) ....... (¬3) شرحت ذلك في كتابي " الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام ".

قال علي بن المديني: قلت ليحيى: مرسلات مجاهد أحب إليك أم مرسلات طاوس؟ قال: " ما أقربهما " (¬1). قلت: وقولهم: (مراسيل فلان أحب من مراسيل فلان) ليس تصحيحاً لها، وإنما هو ترجيح في القوة مقارنة بينهما. وقال أبو عمرو بن العلاء: " كان قتادة لا يغث (¬2) عليه شيء، يروي عن كل أحد" (¬3). وقال أحمد بن سنان الواسطي " كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول: " هو بمنزلة الريح ". ويقول: " هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوا " (¬4). وقال يحيى القطان: " مرسل الزهري شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يحسن _ أو يستجيز _ أن يسميه " (¬5). قلت: ووجدت أبا حاتم الرازي سأله ابنه عن حديث يروى عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن جابر، فحكم بخطأ الرواية، وقال " يروى عن الزهري عن من سمع جابراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسمي أحداً، ولو كان سمع من سعيد لبادر إلى تسميته ولم يكن عنه " (¬6). قلت: وتلاحظ من هذا العلة التي لأجلها صار أئمة الحديث إلى رد المرسلات. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في (العلل) آخر " الجامع " (6/ 247)، وابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 243، 244) والخطيب في " الكفاية " (ص: 550) وإسناده صحيح. (¬2) أي لا يرى شيئاً مما يَسمع غثاً لا يستحق أن يُروى، وإنما يروي كلَّ ما وقف عليه: الغث والسمين. (¬3) أخرجه الرَّامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 417) وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 246)، وإسناده صحيح. (¬5) أخرجه ابن عساكر في " تاريخه " (55/ 368) وإسناده صحيح ....... (¬6) علل الحديث (رقم: 573).

وقال يحيى بن سعيد القطان: " مرسلات أبي إسحاق (¬1) عندي شبه لا شيء، والأعمش، والتيمي (¬2)، ويحيى بن أبي كثير، ومرسلات ابن عيينة شبه الريح "، ثم قال: " إي والله، وسفيان بن سعيد ". قال ابن المديني: قلت ليحيى: فمرسلات مالك؟ قال: هي أحب إلي ". ثم قال يحيى: " ليس في القوم أحد أصح حديثاً من مالك " (¬3). وقال يحيى القطان كذلك: " مرسل مالك أحب إلي من مرسل سفيان " (¬4). وسُئل أحمد بن حنبل عن مراسيل يحيى بن أبي كثير؟ قال: " لا تعجبني؛ لأنه روى عن رجال ضعاف صغار " (¬5). وقال يحيى بن سعيد القطان: " مرسلات ابن أبي خالد ليس بشيء، ومرسلات عمرو بن دينار أحب إلي " (¬6). وقال يحيى كذلك: " مرسلات معاوية بن قرة أحب إلي من مرسلات زيد بن أسلم " (¬7). قلت: وهذه نصوص في مراسيل طائفة من رواة الحديث مختلفي ¬

(¬1) يعني السبيعي. (¬2) يعني سليمان بن طرخان التيمي. (¬3) أخرجه الترمذي في (العلل) آخر " الجامع " (6/ 247) وابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 244) والخطيب في " الكفاية " (ص: 550) وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة " (1/ 686) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 549) وإسناده صحيح. (¬5) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 222). (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 244) والخطيب في " الكفاية " (ص: 550) بإسناد صحيح. (¬7) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 245) وإسناده صحيح .......

المسألة الثالثة: حكم الحديث المرسل:

الطبقات، منهم من حديثه مرسل، ومنهم من حديثه معضل، كما يدخل فيما ذُكر ما يرويه أحدهم عن شيخ لم يسمع منه، وهو المنقطع، وفيه الإبانة أن (المرسل ضعيف) لذاته، إنما قوة بعضه من جهة تحري المرسل وتثبته، ووهاء بعضه من جهة التحديث عن الثقات وغيرهم. والطريق إلى جواز الاعتبار بهذا المرسل أو ذاك، هو الاستقراء لطُرق وشواهد تلك الرواية. فمن قوى مراسيل مالك بن أنس، وهي معضلات إذا كانت مما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك من جهة أن التتبع دل على قوتها مع ما عرف عن مالك من التحري، كالشأن في بلاغاته في " الموطأ "، على أنه مع ذلك وجد فيها ما لم يوقف له على أصل. وحاصل هذه المسألة: أن المرسل يتفاوت في قوته، والشواهد مع تحري المرسل معيار للترجيح بينها، وللاعتبار بما يعتبر به منها. المسألة الثالثة: حكم الحديث المرسل: بالنظر إلى الإسناد، فإن المرسل من جهة الصناعة الحديثية منقطع غير متصل. والمرسل بمعناه الشائع والمنقطع في المعنى الاصطلاحي والذي يسميه الكثيرون (مرسلاً)، حكمهما فيما يأتي سواء. وللعلماء في الاحتجاج بذلك وعدمه مذاهب: المذهب الأول: صحة الاحتجاج به، بشرط أن يكون المرسل ثقة عدلاً، وهؤلاء يكون المرسل عندهم من جملة الحديث الصحيح. والقول به منقول عن إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سلمان، وأبي

حنيفة وصاحبيه: أبي يوسف ومحمد (¬1)، وكذلك هو قول مالك وأهل المدينة (¬2)، وذكر أصحاب أحمد أن الصحيح عنه الاحتجاج بالمرسل (¬3)، وأبو داود وغيره نقلوا عنه كقول الشافعي الآتي. قال أبو داود السجستاني: " أما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى، مثل سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم فيها " (¬4). وقال أبو داود: " إذا لم يكن مسند ضد المراسيل، ولم يوجد المسند، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة " (¬5). قال ابن عبد البر: " زعم الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد الأئمة بعدهم إلى رأس المئتين. كأنه يعني أن الشافعي أول من أبى من قبول المرسل " (¬6). ورأي ابن عبد البر لخصه قوله: " كل من عرف بالأخذ عن الضعفاء والمسامحة في ذلك، لم يحتج بمرسله، تابعيا كان أو من دونه، وكل من عرف أنه لا يأخذ إلا عن ثقة فتدليسه ومرسله مقبول " (¬7). قال الحاكم: " منهم من قال: إنه أصح من المتصل المسند؛ فإن. ¬

(¬1) فتح الغفار، لابن نُجيم (2/ 96)، المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 43)، والتمهيد، لابن عبد البر، (1/ 5)، والبرهان، لإمام الحرمين (1/ 634). (¬2) الكفاية، للخطيب (ص: 547)، والتمهيد، لابن عبد البر (1/ 2، 3). (¬3) شرح علل الترمذي، لابن رجب (1/ 296)، وعدَّه العلائي إحدى الروايتين عنه (جامع التحصيل، ص: 27)، واعلم أن عامة مطوَّلات كتب الأصول اعتنت بذكر مذاهب الفقهاء هذه، مما لم نرَ ضرورة للإطالة بالعزو إليه. (¬4) رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصْف سننه (ص: 32). (¬5) رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصْف سننه (ص: 33). (¬6) التمهيد (1/ 4)، والطبري هو أبو جعْفرٍ مُحمد بن جرير ....... (¬7) التمهيد (1/ 30).

التابعي إذا روى الحديث عن الذي سمعه أحال الرواية عليه، وإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقوله إلا بعد اجتهاد في معرفة صحته " (¬1). المذهب الثاني: ليس بحجة، وهو من جملة الحديث الضعيف. وهو قول الأئمة: الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل (¬2)، وقول أكثر أهل الحديث (¬3). قال الشافعي: " الحديث المنقطع لا يكون حجة عندنا " (¬4)، وقال: " نحن لا نقبل الحديث المنقطع " (¬5)، وقال: " لا نثبت المنقطع على وجه الانفراد " (¬6). وبعد أن ذكر أبو داود السجستاني أن الشافعي تكلم في المراسيل، قال: " وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره " (¬7). وكان الإمام أحمد بن حنبل يقدم عليه الحديث الموقوف، فلو كان مما يحتج به عنده لم يقدم عليه قول الصحابي أو فعله. ¬

(¬1) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 43)، وانظره عن الحنفية في " شرح المنار " لابن نجيم (2/ 95)، وحكى معنى ذلك ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 3) عن بعض المالكية. (¬2) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 43، 45)، وكلام الشافعي في غير موضعٍ من كُتبه، انظر من ذلك: الأم (12/ 368). وابن المبارك ربما قبلَ مرسل الثقة، كما نقل ذلك عنه أحمد بن حنبل، قال: حدثني الحسن بن عيسى، قال: حدثْتُ ابن المبارك بحديث أبي بكر بن عياش عن عاصم عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " حسنٌ "، فقلت: له _ يعني ابن المبارك _: إنه ليس فيه إسناد؟ فقال: " إن عاصماً يُحتمل له أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "، قال: فغدوْت إلى أبي بكر، فإذا ابن المبارك قد سبقني إليه، وهو إلى جنبه، فظننته سأله عن هذا الحديث. أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 4874) وهو صحيح، الحسن هذا ثقة. (¬3) الكفاية، للخطيب (ص: 547)، والتمهيد، لابن عبد البر (1/ 5). (¬4) الأم (12/ 482، و 15/ 265). (¬5) الأم (10/ 461). (¬6) اختلاف الحديث (ص: 191). (¬7) رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصْف سننه (ص: 32).

قال ابن هانئ: قلت لأبي عبد الله (يعني أحمد): حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل برجال ثبت، أحب إليك، أو حديث عن الصحابة أو التابعين متصل برجال ثبت؟ قال أبو عبد الله: " عن الصحابة أعجب إلي " (¬1). وقال ابن رجب: " ظاهر كلام أحمد أن المرسل عنده من نوع الضعيف، لكنه يأخذ بالحديث إذا كان فيه ضعف، ما لم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه خلافه " (¬2). وقال مسلم بن الحجاج: " والمرسلمن الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة " (¬3). وقال الترمذي: " والحديث إذا كان مرسلاً، فإنه لا يصح عند أكثر أهل الحديث، قد ضعفه غير واحد منهم " (¬4). قال: " ومن ضعف المرسل فإنه ضعفه من قبل أن هؤلاء الأئمة (يعني أصحاب المراسيل) قد حدثوا عن الثقات وغير الثقات، فإذا روى أحدهم حديثاً وأرسله لعله أخذه عن غير ثقة " (¬5). وقال أبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي وابنه: " لا يحتج بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة " (¬6). وقال ابن حبان: " المرسل والمنقطع من الأخبار لا يقوم بها حجة؛ لأن الله جل وعلا لم يكلف عبده أخذ الدين عمن لا يعرف، والمرسل ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 165) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 557). (¬2) شرح العلل (1/ 313)، ونقل عن الأثرم عن أحمد ما يؤيد هذا. (¬3) مقدمة صحيح مسلم (ص: 30). (¬4) العلل الصغير، في آخر " الجامع " (6/ 247) ....... (¬5) العلل الصغير، في آخر " الجامع " (6/ 248). (¬6) المراسيل (ص: 7).

والمنقطع ليس يخلو ممن لا يعرف، وإنما يلزم العباد قبول الدين الذي هو من جنس الأخبار إذا كان من رواية العدول، حتى يرويه عدل عن عدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم موصولاً " (¬1). وقال الخطيب: " الذي نختاره سقوط فرض العمل بالمراسيل، وأن المرسل غير مقبول، والذي يدل على ذلك: أن إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه، ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه " (¬2). وقال ابن حزم: " هو غير مقبول، ولا تقوم به حجة؛ لأنه عن مجهول " (¬3). ورد الخطيب الاعتراض بكون إرسال الثقة تعديل منه لمن أرسل عنه، بسكوت الثقات عمن يروون عنه، وربما لم يكن ذلك الثقة عالماً أصلاً بحال من أسقطه. قلت: وهذا مصدق بالواقع العملي من حال المرسلين، فإن منهم من كان يروي عن كل أحد، كما تقدم بعض مثاله في المسألة السابقة. كذلك فليس كل ثقة له أهلية تمييز النقلة، كما بين هذا في محله، وإذا كانت رواية العدل في التحقيق عن مسمى لا تعد بمجردها تعديلاً له، فكيف بمن أسقط أصلاً بما حال دون العلم به؟ ثم لو سلمنا ثقة ذلك الذي أسقط عند من أرسل روايته، فإنه معلوم أن الراوي قد يكون مختلفاً فيه جرحاً وتعديلاً، والجرح فيه أرجح، فكيف السبيل إلى تحرير هذا في حق من لم يذكر في الإسناد أصلاً؟ ثم إن اعتناء الثقات بالأسانيد وإقامتهم لها هو الأصل الذي به عرف ¬

(¬1) المجروحين (2/ 72). (¬2) الكفاية (ص: 550 _ 551)، ومعناه أيضاً في: الفقيه والمتفقه (1/ 292). (¬3) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 2) .......

ضبطهم وإتقانهم، والعذر لأحدهم أرجى في ذكر من حدثه بالخبر، فعدول أحدهم إلى الإرسال يورد مظنة القدح في ذلك الراوي الذي أسقط من الإسناد. والشأن أن الثقة المتقن العارف لا يقصر في ذكر من حدثه لو كان ثقة، كما قال يحيى بن سعيد القطان: " سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء؛ لأنه لو كان فيه إسناد صاح به " (¬1). وهذا قال بعض الأئمة معناه في غير واحد من أعيان الثقات يبهمون شيوخهم أو يسقطونهم، كالزهري كما تقدم عنه، ومن ذلك: روى زيد بن أسلم حديثاً اختلف عليه فيه: فرواه معمر بن راشد عنه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه سفيان الثوري عن زيد بن أسلم قال: حدثني الثبت قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو حاتم الرازي: " فإن قال قائل: الثبت من هو؟ أليس هو عطاء بن يسار؟ قيل له: لو كان عطاء بن يسار لم يكن عنه "، وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي زرعة: أليس الثبت هو عطاء؟ قال: " لا، لو كان عطاء ما كان يكني عنه " (¬2). وسأل ابن أبي حاتم أباه عن حديث روي عن الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله عن يزيد بن الأصم عن ميمونة؟ فقال: " رواه بعض أصحاب الأوزاعي عن من سمع يزيد بن الأصم عن ميمونة " قال: " والذي يرويه الدمشقيون عن الأوزاعي عن من سمع يزيد بن الأصم أشبه؛ لأن الأوزاعي لو كان سمع من إسماعيل بن عبيد الله لم يكن عنه " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 244) و " المراسيل " (ص: 5) والخطيب في " الكفاية " (ص: 550) وإسناده صحيح. (¬2) علل الحديث (رقم: 642). (¬3) علل الحديث (رقم: 2450) .......

المذهب الثالث: التفريق بين المراسيل، بحسب المرسل. وهذا عزي للشافعي أنه كان يقبل مراسيل كبار التابعين، كما تقدم بيانه في المسألة السابقة، وتبين أن الشافعي لا يرى قبول مرسل التابعي الكبير لذاته، إنما يقبله بقرائن تقويه. فهذا مذهب في التحقيق لم يقل به أحد، فعاد الخلاف إلى المذهبين الأولين. وظاهر ما تقدمت حكاية عن أهل العلم: الاختلاف بين الفقهاء وأهل الحديث في صحة المرسل. لكن التحقيق كما حررته عبارة الناقد ابن رجب، حيث قال: " اعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ وأعلام الفقهاء في هذا الباب، فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعين إذا كان مرسلاً، وهو ليس بصحيح على طريقهم؛ لانقطاعه وعدم اتصال إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث، فإذا أعضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلاً قوي الظن بصحة ما دل عليه، فاحتج به مع ما احتف به من القرائن، وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند الأئمة " (¬1). يؤيد هذه الخلاصة المحققة قول أبي عمر بن عبد البر وهو يبين مذهب أصحابه المالكية ومن وافقهم في قولهم بقبول المرسل: " ثم إني تأملت كتب المناظرين والمختلفين من المتفقهين وأصحاب الأثر من أصحابنا وغيرهم، فلم أر أحداً منهم يقنع من خصمه إذا احتج عليه بمرسل، ولا يقبل منه في ذلك خبراً مقطوعاً (¬2)، وكلهم عند تحصيل المناظرة يطالب خصمه بالاتصال في الأخبار " (¬3). ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/ 297). (¬2) أي: مُنقطعاً. (¬3) التمهيد (1/ 7).

المسألة الرابعة: رواية الصحابي ما لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم

المسألة الرابعة: رواية الصحابي ما لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ... . وهذا ما يصطلح عليه بـ (مراسيل الصحابة). وقد وقع ذلك من كثير من الصحابة، وأكثره في صغارهم مثل: عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك. فما حكم ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يذكرون فيه السماع؟. صورة هذه المسألة صورة التدليس، على ما سيأتي بيانه في تعريفه، وذلك أن الصحابي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ويروي عنه بالواسطة، وتارة يسقطها، وإسقاط الواسطة بين الراوي وشيخه تدليس. لكن هل يجوز إطلاق مثل ذلك على ما وقع صنيع الصحابة؟ حُكي عن شعبة بن الحجاج قال: " أبو هريرة كان يدلس " (¬1). وهذا خبر واهٍ من جهة الإسناد، والتحقيق: أنه قبيح من جهة اللفظ أن ينسب للصحابة تدليس، فلفظ التدليس وإن كان له معنى اصطلاحي يتناول ما نسميه بمراسيل الصحابة، إلا أن الاصطلاح منشأ من قبلنا، قصدنا به دفع ما وقع من الموصوفين بالتدليس من إسقاط الواسط المجروحة، مما يوهم سلامة الإسناد في الظاهر، وهو أمرٌ حادث بعد الصحابة. ¬

(¬1) أخرجه ابنُ عدي (1/ 151) _ ومن طريقه: ابنُ عساكر (67/ 359) _ قال: أخبرنا الحسن بن عثمان التُّستري، أخبرنا سلمة بن شبيب، قال: سمعت [يزيد بن هارون، قال: سمعت] شعبة، به. سقط ما بين المعقوفين من مطبوعةِ ابن عدي ومن مخطوطة أحمد الثالث لكتاب " الكامل "، واستدركتها من ابن عساكر، وهذه الرواية ساقطةٌ بسقوط التستري هذا، فإنه متهم بالكذب. ووجدت الذهبي ذكر هذا النص في " سير أعلام النبلاء " (2/ 608) وقال بعده: " تدليس الصحابة كثير، ولا عيْب فيه، فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدولٌ ". قلت: وليته بيَّن وهاء الرواية، ولم يعلق بمثل هذا، فزاد على تلك العبارة القبيحة المنسوبة إلى شُعبة أن عمم إطلاق التدليس على ما يقع من إرْسال سائر الصحابة، وهذا أقبح، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم .......

وقد صح عن البراء بن عازب، قال: " ما كل ما نحدثكموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حدثنا أصحابنا، وكانت تشغلنا رعْية الإبل " (¬1). وفي رواية، عن البراء، قال: " ما كل ما نُحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه، ولكن سمعناه، وحدثنا أصحابنا، ولكنا لا نكذب (¬2). وروى قتادة السدوسي عن أنس بن مالك قصة، فقال له رجل: سمعت هذا من أنس؟ قال: نعم، قال رجل لأنس: أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: " نعم، وحدثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب " (¬3). قلت: فهذا يبطل وصف ما وقع من الصحابة من هذا القبيل بالتدليس. كذلك، فإن النظر في اتصال الإسناد لصحة الحديث إنما يجب أن ¬

(¬1) أثرٌ صحيح. أخرجه أحمد في " المسند " (30/ 450، 458 رقم: 18493، 18498) و " العلل " (النص: 3675، 3676) والحاكم في " المستدرك " (1/ 95 رقم 326) و " المعرفة " (ص: 14) وأبو نعيم في " معرفة الصحابة " (رقم: 1165) وابن حزم في " الإحكام " (2/ 12) من طريقين عن سفيان الثوري، عن إسحاق، عن البراء، به. قال الحاكم: " هذا حديث له طرقٌ عن أبي إسحاق السبيعي، وهو صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه ". (¬2) أثرٌ صحيح. أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 2835) ويعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 634) من رواية وكيع، وجعفرٌ الفريابي في " فوائده " (ق: 80 / ب ظاهرية) وابن عدي (1/ 261) من طريق عليِّ بن مسهر، وكذا ابن عَدي من طريق مالك بن سُعير وإسحاق بن الربيع، أربعتهم عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن البراء، به. وإسناده صحيح. وخرَّجته كذلك من طريق يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، وفيه سماع أبي إسحاق من البراء، وذلك فيما تقدم من هذا الكتاب في (عدالة الصحابة). (¬3) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 633 _ 634) وإسناده حسن.

يراعى فيما دون الصحابي، أما الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يخلو من أن يكون سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعه من صحابي آخر سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يروي الصحابي عن تابعي عن صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في صور نادرة تستطرف، ولعلها لا يثبت منها كبير شيء، فحيث عادت (مراسيل الصحابة) إلى وسائط من الصحابة أنفسهم، وهم جميعاً عدول فليس لهذه الصورة إذاً تأثيرٌ في صحة الإسناد، وإن أطلق عليها لفظ (الإرسال). قال الخطيب في كلامه عن (المرسل): " إن كان من مراسيل الصحابة قبل ووجب العمل به؛ لأن الصحابة مقطوع بعدالتهم، فإرسال بعضهم عن بعض صحيح " (¬1). وصحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة في الواقع التطبيقي العملي، جرى عليه عامة أهل العلم، فلم يرد أحد حديثاً لابن عباس صح الإسناد به إليه، من أجل كونه كان كثير الإرسال عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لقلة ما سمع منه لصغر سنه يومئذ، فكان أكثر حديثه مما أخذه بالواسطة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يذكر تلك الوسائط في كثير مما حدث به. وهذا القول هو الذي رجحه الحافظ الخطيب (¬2)، وحكاه ابن رشيد عن جمهور أهل العلم (¬3). وذكر الخطيب أن فيمن رد المرسل من العلماء من رد مراسيل الصحابة، ولم يسم أحداً (¬4). وذكره بعض من جاء من بعد عن بعض أهل الكلام (¬5). ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 291) ....... (¬2) الكفاية (ص: 548). (¬3) السنن الأبين (ص: 116). (¬4) الكفاية (ص: 547). (¬5) انظر: جامع التحصيل، للعلائي (ص: 47).

وأن من حجة صاحب هذا المذهب مظنة أن يكون ذلك الصحابي قد سمع ذلك الحديث من تابعي يحتاج أن يميز حاله في النقل، أو أعرابي مجهول. وهذا القول في التحقيق مهجور لضعف حجته. * * *

المبحث الخامس: الحديث المدلس

المبحث الخامس: الحديث المدلس تعريفه: التدليس لغة: كتمان العيب، ومنه التدليس في البيع، وهو كتمان العيب في السلعة على المشتري، فيوهم السلامة منه. واصطلاحاً: مأخوذ من هذا المعنى، وهو نوعان في الجملة، أولهما يندرج تحت الانقطاع في الإسناد، أما الثاني فليس انقطاعاً، إنما صلته بعدالة الراوي المدلس وضبطه خاصة، وهذا بيان النوعين: والنوع الأول: تدليس الوصل. وهو قسمان: القسم الأول: تدليس الإسناد. تعريفه: أن يروي الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه؛ بصيغة موهمة للاتصال، يقول: (عن فلان) أو (قال فلان) أو شبه ذلك. وقال الخطيب: " رواية المحدث عمن عاصره ولم يلقه، فيتوهم أنه سمع منه، أو روايته عمن قد لقيه ما لم يسمعه منه، هذا هو التدليس في الإسناد " (¬1). ¬

(¬1) الكفاية (ص: 59) .......

قلت: وهذا التعريف قد اشتمل على صورتين لعدم السماع جمعهما الإدراك، وافترقا في ثبوت السماع في الجملة: فالأولى: إدراك مجرد، دون سماع ذلك الراوي ولا في خبر واحد ممن روى عنه. والثانية: أنه سمع ممن روى عنه غير ذلك الحديث، وإنما حدث عنه بما سمعه من غيره عنه، فأسقط تلك الواسطة، وروى الخبر بالعنعنة عن ذلك الشيخ. وطائفة من المتأخرين يسمون الصورة الأولى: (الإرسال الخفي)، مع أن معنى الإيهام موجود فيها، من أجل إدراك الراوي في الجملة لمن أرسل عنه. وعرف ابن عبد البر هذا النوع من التدليس، بعبارة أدق، تخرج منه الصورة الأولى، فقال: " التدليس: أن يحدث الرجل عن الرجل، قد لقيه، وأدرك زمانه، وأخذ عنه، وسمع منه، وحدث عنه بما لم يسمعه منه، وإنما سمعه من غيره عنه، ممن ترضى حاله أو لا ترضى، على أن الأغلب في ذلك أن لو كانت حاله مرضية لذكره، وقد يكون لأنه استصغره. هذا هو التدليس عند جماعتهم، لا اختلاف بينهم في ذلك " (¬1). والمقصود: أن يأتي بصيغة الأداء غير صريحة في السماع، وهي (عن) ومعناها (¬2). ¬

(¬1) التمهيد (1/ 15) ونحوه كذلك (1/ 27، 28). وقوله: لا اختلاف بينهم في ذلك "، ظاهره: في حصْر التدليس في هذا المعنى، وليس كذلك، بل تقدم عن الخطيب أنه أدْرج فيه المرسل الخفي، كذلك صح وُجود بعض عبارات الأئمة في التدليس قيلت فيما هو من قبيل الإرسال الخفي، كبعض ما قيل في تدليس الحسن البصري. (¬2) وكن يَقظاً لِما جرى من بعْض المتأخرين من إطلاق وَصف التدليس على مَن روى بطريق الإجازة فقال: (أخبرنا)، فالتدليس رواية بالواسطة، بخلاف الإجازة فلا واسطة بين المجيز والمُجاز .......

والإسناد الذي يقع فيه التدليس إسناد مرسل في ذلك المحل، لكنه صورة خاصة من الإرسال أو الانقطاع، فارقت معنى الإرسال والانقطاع المعروفين فيما يقع فيها من إيهام السماع فذلك بينٌ يسهل إدراكه بخلاف ما يظن أنه مسموع وليس كذلك. قال الخطيب: " والتدليس يشتمل على ثلاثة أحوال تقتضي ذم المدلس وتوهينه: فأحدها: إيهامه السماع من لم يسمع منه، وذلك مقارب الإخبار بالسماع ممن لم يسمع منه. والثانية: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال، وذلك خلاف موجب الورع والأمانة. والثالثة: أن المدلس إنما لم يبين من بينه وبين من روى عنه؛ لعلمه بأنه لو ذكره لم يكن مرضيا مقبولاً عند أهل النقل؛ فلذلك عدل عن ذكره. وفيه: أنه لا يذكر من بينه وبين من دلس عنه؛ طلباً لتوهيم علو الإسناد، والأنفة من الرواية عمن حدثه، وذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة، من التواضع في طلب العلم، وترك الحمية في الإخبار بأخذ العلم عمن أخذه " (¬1). ومما يبين كيف يقع التدليس في الإسناد: قول الأعمش: قال لي حبيب بن أبي ثابت: " لو أن رجلاً حدثني عنك بحديث ما باليت أن أرويه عنك " (¬2). وربما أسقط المدلس أكثر من واسطة بينه وبين شيخه، كما قال أحمد بن حنبل وذكر المبارك بن فضالة: " كان يرسل [عن] الحسن "، قيل: ¬

(¬1) الكفاية (ص: 510 _ 511). (¬2) أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 455 _ 456) بإسناد حَسنٍ.

يدلس؟ قال: " نعم "، قال: " وحدث يوماً عن الحسن بحديث، فوقف عليه، قال: حدثنيه بعض أصحاب الحديث عن أبي حرب عن يونس " (¬1). قلت: فأسقط ثلاث وسائط: الراوي الذي لم يسم، وأبا حرب، ويونس بن عبيد. وقال علي بن المديني: قلت ليحيى (يعني القطان): حديث حماد بن زيد عن أبي عبد الله الشقري، عن إبراهيم، في العبد يتسرى؟ فقال: " بينه وبين إبراهيم ثلاثة " أي لم يسمعه من إبراهيم (¬2). وقال الشافعي: حدث شعبة عن حماد عن إبراهيم بحديث، قال شعبة: فقلت لحماد: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، ولكن أخبرني مغيرة، قال: فذهبت إلى مغيرة، فقلت: إن حماداً أخبرني عنك بكذا، فقال: صدق، فقلت: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، ولكن حدثني منصور، قال: فلقيت منصورا ً، فقلت: حدثني عنك مغيرة بكذا، فقال: صدق، فقلت: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، ولكن حدثني الحكم، فجهدت أن أعرف طرقه فلم أعرفه ولم يمكني (¬3). واعلم أن من المدلسين من يعرف بالتدليس كجرح نسبي لحقه في كل ما يرويه بالعنعنة عن جميع من روى عنهم، ومنهم من انحصر تدليسه في بعض حديثه، لا مطلقاً، فهذا لا يجوز تعميم رد ما لم يذكر فيه سماعاً عن كل من روى عنه، فتيقظ للتفريق بين الصنفين. ¬

(¬1) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 633) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 235) وإسناده صحيح. اسم الشقري سلمة بن تمَّام، وإبراهيم هو النخعي، والتسري: أن تكون له الأمة يطأها. (¬3) أخرجه البيهقي في " معرفة السنن والآثار " (1/ 165 _ 166) و " الخلافيات " (رقم " 759، 760) و " مناقب الشافعي " (1/ 527) وإسناده إلى الشافعي صحيح، وهو عند ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص: 218 _ 219) بمعناه. وإبراهيم فيه هو النخعي، وحماد هوَ ابنُ أبي سُليمان، ومغيرة هوَ ابنُ مِقسم الضبي، ومنصور هو ابن المعتمر، والحكم هوَ ابنُ عتيبة .......

القسم الثاني: تدليس التسوية

ومن قبيل تدليس الإسناد: ما كان يصنعه هشيم بن بشير، فقد قال أحمد بن حنبل: " كان هشيم يوماً يقول: (حدثنا)، و (أخبرنا)، ثم ذكر أنه لم يسمع، فقال: يا صباح، قل لهم: توسعون الطريق حتى يمر الصبي والمرأة، ثم قال: فلان عن يونس، و: فلان عن مغيرة " (¬1) القسم الثاني: تدليس التسوية. وهو: أن يسقط الراوي ممن فوق شيخه في الإسناد، كراو مجروح أو مجهول، أو صغير السن، ويحسن الحديث بذلك ويجوده (¬2). وهو شر صور التدليس، وفرع عن (تدليس الإسناد). سئل يحيى بن معين عن الرجل يلقي الرجل الضعيف من بين ثقتين، يوصل الحديث ثقة عن ثقة، ويقول أنقص من الحديث وأصل ثقة عن ثقة، يحسن الحديث بذلك؟ فقال: " لا يفعل، لعل الحديث عن كذاب ليس بشيء، فإذا هو قد حسنه وثبته، ولكن يحدث به كما روي " (¬3). وسمي هذا النوع من التدليس (تسوية)؛ لأن فاعله يسقط المجروح من ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل (النص: 2152). قلت: وهذه الصورة أطلق عليها ابنُ حجر من المتأخرين اسم (تدليس القَطع)، وهي نادرةٌ إنما عُرف مثالها من صنيع هُشيم، ولا تخرُج عن تدليس الإسناد، ولم أرَ ما يدعو للتوسُّع في التقسيم لتُعدَّ هذه بمنزلة النوع المستقل للتدليس. كما أهملت من القِسمة ما سماه بعض المتأخرين (تدليس العَطف) ويذكرون مثاله من صنيع هُشيم في ذلك في حِكاية عنه أراد أن يختبر بها تلاميذه، أوردها الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص: 105) بدون إسناد، ولا يوجد لها في الواقع صورةٌ حقيقةٌ مؤثرةٌ، والحكاية المذكورة عن هُشيم لو صحَّت فإنها لا تُخرج هذه الصورة عن (تدليس الإسناد). (¬2) الكفاية (ص: 518). (¬3) تاريخ عثمان الدارمي عن يحيى بن معين (النص: 952) ومن طريقه: ابن عدي (1/ 216) والخطيب في " الكفاية " (ص: 520).

الإسناد من بعد شيخه ليستوي حال رجاله في الثقة، وكان بعض المحدثين يسميه (تجويداً) لأن المدلس يبقي جيد رواته. وكان جماعة من الرواة يعرفون بفعل ذلك، منهم: سليمان بن مهران الأعمش، قال عثمان الدارمي: كان الأعمش ربما فعل ذلك " (¬1). وكذلك جاء عن سفيان الثوري، فعن قبيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفيان يوماً حديثا ًترك فيه رجلاً، فقيل له: يا أبا عبد الله، فيه رجل؟ قال: " هذا أسهل الطريق " (¬2). ومن أفعل الناس له: بقية بن الوليد، والوليد بن مسلم. قال أبو حاتم ابن حبان: " دخلت حمص وأكثر همي شأن بقية، فتتبعت حديثه وكتبت النسخ على الوجه، وتتبعت ما لم أجد بعلو من رواية القدماء عنه، فرأيته ثقة مأموناً، ولكنه كان مدلساً، سمع من عبيد الله بن عمر وشعبة ومالك أحاديث يسيرة مستقيمة، ثم سمع عن أقوام كذابين ضعفاء متروكين عن عبيد الله بن عمر وشعبة ومالك، مثل: المجاشع بن عمرو، والسري بن عبد الحميد، وعمر بن موسى الميثمي، وأشباههم، وأقوام لا يعرفون إلا بالكنى، فروى عن أولئك الثقات الذين رآهم بالتدليس ما سمع من هؤلاء الضعفاء، وكان يقول: (قال عبيد الله بن عمر عن نافع) و (قال مالك عن نافع كذا)، فحملوا عن بقية عن عبيد الله، وعن بقية عن مالك، وأسقط الواهي بينهما، فالتزق الموضوع ببقية ¬

(¬1) تاريخ عثمان الدارمي عن يحيى بن معين (النص: 952) ومن طريقه: ابنُ عدي (1/ 217) والخطيب في " الكفاية " (ص: 520). وتعقب هذا منه الحافظ ابن حجر، فقال في مقدمة " لسان الميزان " (1/ 105): " ما علمت أحداً ذكرَ الأعمش بذلك ". (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 518 _ 519) وإسناده صحيح .......

وتخلص الواضع من الواسط " ثم اعتذر له (¬1). وقال الدارقطني: " الوليد بن مسلم يرسل في أحاديث الأوزاعي، عند الأوزاعي أحاديث عن شيوخ ضعفاء عن شيوخهم أدركهم الأوزاعي، مثل نافع والزهري وعطاء، فيسقط الضعفاء، ويجعلها عن الأوزاعي عن نافع والزهري وعطاء " (¬2). وقال أبو زرعة الدمشقي: " كان صفوان بن صالح ومحمد بن المصفى يسويان الحديث " (¬3). قلت: لم يذكر أحد من الرجلين بتدليس التسوية إلا في هذا النص، وعليه بنى من ذكرهما في المدلسين، فهل تسلم دلالة هذا اللفظ على المعنى الاصطلاحي لهذا التدليس؟ في هذا تردد؛ لاحتمال إرادة غير معنى التدليس، والله أعلم. مثال الحديث يعل بتدليس التسوية: قال ابن أبي حاتم الرازي: سمعت أبي روى عن هشام بن خالد الأزرق، قال " حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصيب بمصيبة من سقم أو ذهاب مال فاحتسب ولم يشك إلى الناس؛ كان حقا على الله أن يغفر له " قال أبي: هذا حديث موضوع لا أصل له، وكان بقية يدلس، فظنوا هؤلاء أنه يقول في كل حديث: (حدثنا) ولا يفتقدون الخبر منه (¬4). يعني يغرهم قوله: (حدثنا فلان)، وهو لا يسقط لهم واسطة بينه وبين شيخه، إنما يسقط من المجروحين من بعد شيخه. ¬

(¬1) المجروحين (1/ 200). (¬2) سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 359). (¬3) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 94) بإسناد صحيح ....... (¬4) علل الحديث، لابن أبي حاتم (2/ 126)، وانظرْه كذلك (2/ 178، 295).

سبب وقوع التدليس في الإسناد

سبب وقوع التدليس في الإسناد: نقل الذهبي قول أبي الحسن بن القطان في (بقية بن الوليد): " بقية يدلس عن الضعفاء، ويستبيح ذلك، وهذا إن صح مفسد لعدالته " (¬1)، ثم تعقبه بقوله: " نعم، والله! صح هذا عنه أنه يفعله، وصح عن الوليد بن مسلم، بل وعن جماعة كبار فعله، وهذه بلية منهم، ولكنهم فعلوا ذلك باجتهاد، وما جوزوا على ذلك الشخص الذي يسقطون ذكره بالتدليس أنه تعمد الكذب، هذا أمثل ما يعتذر به عنهم " (¬2). ومن اجتهادهم: إحسان الظن بمن أسقطوه، وإن كان مجروحاً عند غيرهم، وأسقطوه تمشية لروايته. ومن ذلك: صغر سن الشيخ المدلس عن سن المدلس. ومن ذلك: كراهة ذكره، لسوء حاله من جهة أمر لا يعود إلى نفس حديثه. مثل ما وقع للوليد بن مسلم، حدث بحديث عن شيبان بن عبد الرحمن، عن علي بن عبد الله بن عباس، فبين أبو حاتم الرازي أن الوليد ترك من الإسناد (سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس)، بين ذلك وعلله فقال: " الذي أرى أن الوليد بن مسلم ترك (سليمان) من الإسناد على العمد؛ لأن سليمان أسرف في القتل والنكاية فيهم، فكان يكره أن يكون ذكره في الحديث " (¬3). النوع الثاني: تدليس الأسماء. ويقال: تدليس الشيوخ. ¬

(¬1) انظر: بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام، لابن القطان (النص: 1633). (¬2) ميزان الاعتدال (1/ 339). (¬3) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 978) .......

تعريفه: " أن يروي المحدث عن شيخ سمع منه حديثاً، فغير اسمه، أو كنيته، أو نسبه، أو حاله المشهور من أمره؛ لئلا يعرف " (¬1). وذلك يفعل لأسباب، منها: 1 _ كون الشيخ مجروحاً. 2 _ كون المدلس قد شورك في الرواية عن ذلك الشيخ من قبل من هم دونه في السن أو العلم أو غير ذلك. 3 _ كون ذلك الشيخ أصغر سنا من الراوي عنه. كما وقع لسفيان بن عيينة، فيما أخبر به أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان بن عيينة يوما ً عن زيد بن أسلم، عن علي بن الحسين، قال: " يجزئ الجنب أن ينغمس في الماء "، قلنا: من دون زيد بن أسلم؟ قال: معمر، قلنا: من دون معمر؟ قال: ذاك الصنعاني عبد الرزاق (¬2). 4 _ كثرة ما عند ذلك الراوي عن الشيخ، فيغير في اسمه دفعاً للتكرار (¬3). ومن أمثلة هذا النوع من التدليس: عطية بن سعد العوفي، كان روى عن أبي سعيد الخدري، روى التفسير عن محمد بن السائب الكلبي، فكنى هذا الأخبار (أبا سعيد) (¬4)، ¬

(¬1) الكفاية (ص: 520) ونحوه (ص: 59). (¬2) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 31) وإسناده صحيح. وفي " مصنف عبد الرزاق " (1/ 264 رقم: 1014) عن معمر، عن زيد بن أسلم في الرجل يغسل رأسه بالخِطْمي وهو جنب ثم يتركه حتى يجف، قال: سمعت علي بن الحسين يقول: ما مَسَّ الماءَ منك وأنت جُنبٌ فقد طهر ذلك المكان. (¬3) ذكر هذه الأسباب الأربعة الخطيب في " الكفاية " (ص: 520). (¬4) العلل، للإمام أحمد (النص: 1306، 1307)، المجروحين، لابن حبان (2/ 253)، الكفاية، للخطيب (ص: 512).

والكلبي متهم بالكذب، فما يرويه في التفسير عن أبي سعيد فالمظنة أن يكون الكلبي، ما لم يقل: (الخدري). ومنهم زهير بن معاوية، فقد روى عن أبي يحيى القتات، أحد الضعفاء، وكان يقول: (أبو يحيى الكناسي) ينسبه إلى كناسة الكوفة (¬1)، وهو غير مشهور بذلك. ومنهم: الوليد بن مسلم الدمشقي، ومن أمثلة فعله ذلك، أنه كان يروي عن (عبد الرحمن بن يزيد بن تميم) فيقول: " قال أبو عمرو "، و " حدثنا أبو عمرو عن الزهري " يوهم أنه الأوزاعي، وإنما ابن تميم، وكلاهما رويا عن الزهري (¬2)، وابن تميم هذا منكر الحديث ليس بثقة. ومنهم: بقية بن الوليد الشامي، ومن أمثلة صنيعه: أنه كان يقول: " حدثنا الزبيدي "، فيذهب الظن إلى أنه عنى (محمد بن الوليد الزبيدي)، الثقة، وإنما هو (زرعة بن عبد الله، أو عمرو الزبيدي) (¬3) أحد المجهولين الضعفاء. بل ذكر بهذا التدليس سفيان الثوري على جلالته، فقد كان يروي عن الكلبي، فيقول: " حدثنا أبو النضر " فيظن أنه أراد به (سعيد بن أبي عروبة) أو (جرير بن حازم) (¬4)، فالجميع يكنون بهذه الكنية، وكلهم يروي عنهم الثوري، والكلبي متهم بالكذب، والآخران ثقتان. وكان يحدث عن عبيدة بن معتب الضبي، قال يعقوب بن سفيان: " حديثه لا يسوى شيئاً، وكان الثوري إذا حدث عنه كناه، قال: أبو عبد الكريم، ولا يكاد سفيان يكني رجلاً إلا وفيه ضعف، يكره أن يظهر اسمه فينفر منه الناس " (¬5). ¬

(¬1) العلل ومعرفة الرجال، لأحمد (النص: 1523). (¬2) المجروحين (1/ 91، و 2/ 55). (¬3) المجروحين (1/ 91) ....... (¬4) المجروحين (1/ 91). (¬5) المعرفة والتاريخ، ليعقوب بن سُفيان الفسوي (3/ 145 _ 146).

وذكر ابن حبان في ترجمة (محمد بن سالم الكوفي) أن الثوري كان يحدث عنه ويكنيه، يقول: (حدثني أبو سهل)، قال ابن حبان: " كان هذا مذهباً للثوري: إذا حدث عن الضعفاء كناهم حتى لا يعرفوا، كان إذا حدث عن عبيدة بن معتب قال: حدثنا أبو عبد الكريم، وإذا حدث عن سليمان بن أرقم قال: حدثنا أبو معاذ، وإذا حدث عن بحر السقاء قال: حدثنا أبو الفضل، وإذا حدث عن الكلبي قال: حدثنا أبو النظر، وإذا حدث عن الصلت بن دينار قال: حدثنا أبو شعيب، ومن يشبه هؤلاء من الضعفاء ممن يكثر عددهم " (¬1). ومنهم: قيس بن الربيع، فقد روى عن عمرو بن خالد الواسطي أحد المتروكين، فسماه مرة: (عمرو بن عبد الله مولى عنبسة)، ومرة: (عميراً مولى عنبسة) (¬2). ومنهم: مروان بن معاوية الفزاري، قال يحيى بن معين: " كان مروان بن معاوية يغير الأسماء؛ يعمي على الناس، كان يحدثنا عن الحكم بن أبي خالد، وهو الحكم بن ظهير، ويروي عن علي بن أبي الوليد، وهو علي بن غراب " (¬3). وقال يحيى بن معين وسئل عن مروان الفزاري: " كان ثقة فيما يروي عمن يعرف، وذاك أنه كان يروي عن أقوام لا يدري من هم، ويغير أسماهم، وكان يحدث عن محمد بن سعيد المصلوب، وكان يغير اسمه يقول: حدثنا محمد بن أبي قيس؛ لئلا يعرف " (¬4). ¬

(¬1) المجروحين (2/ 262 _ 263)، وقال نحوه الحاكم النيسابوري في " سؤالات مَسعود السجزي له " (النص: 51). (¬2) انظر: الموضع لأوهام الجمع والتفريق، للخطيب (2/ 289). (¬3) المجروحين (1/ 91 _ 92) والخطيب في " الكفاية " (ص: 521 _ 522) وابنُ عساكر في " تاريخه " (57/ 355) من رواية ابن أبي خيثمة، عنه، وروى نحو ذلك غيره عن يحيى بن معين، منهم: الدوري في " تاريخ يحيى " (النص: 2611 _ 2612). (¬4) الضعفاء، للعقيلي (4/ 203)، ومن طريقه: ابنُ عساكر في " تاريخه " (57/ 354)، وضبطُ السياق منه، وهو من رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن ابن معين .......

قلت: والمصلوب هذا كان يدلس اسمه على نحو من مئة اسم (¬1). ومنهم: هشيم بن بشير الواسطي، فقد كان يروي عن (عبد الله بن ميسرة السجستاني) أحد الضعفاء، ويكنيه بكنى مختلفة، قال يحيى بن معين: " كان يكنيه بثلاث كنى: أبو إسحاق الكوفي، وأبو ليلى، وأبو جرير " (¬2) , وزاد ابن عدي كنية رابعاً (أبا عبد الجليل) (¬3). ومن غريب ما وقفت عليه من أمثلة تدليس هذا النوع ما حكاه الدارقطني عن (سليمان بن الربيع النهدي)، قال: " يقال: كادح بن رحمة له اسم كان يعرف به، فغيره سليمان بن الربيع فسماه كادحاً، ذهب إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] "، قال " وقد روى سليمان بن الربيع هذا أحاديث مناكير عن شيخ آخر، فغير اسمه سماه همام بن مسلم، وأظنه ذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم همام " (¬4)، قال الدارقطني: " أراد: منهم من يهم بالخير، ومنهم من يهم بالشر، وذهب إلى أن أباه كان مسلماً، فقال: همام بن مسلم " (¬5). ومن كان يفعله لا لجرح في الراوي، وإنما للسبب الرابع المتقدم، وهو دفع الملالة بالتكرار، جماعة من المتأخرين، منهم الخطيب البغدادي، كقوله: (أخبرنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي)، ويقول أحياناً: (أخبرنا أحمد بن ¬

(¬1) الضعفاء، للعقيلي (4/ 72)، والكفاية، للخطيب (ص: 522). (¬2) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (5/ 282) وإسناده صحيح. (¬3) الكامل (5/ 281). (¬4) لم أقف عليه بهذا اللفظ من وَجهٍ يثبت، ورُوي من حديث أنس، وذكره ابن أبي حاتم في " العلل " (رقم: 2413) من حديث جابر بن عبد الله، لكن بيَّن أبو حاتم أنها لفظة أدرجت في الحديث. ويُروى من غير وجْه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أحب الأسماء إلى الله: عبْد الله وعبْد الرحمن، وأصْدقها حارثٌ وهمام، وأقبحها حرْبٌ ومُرة "، فقد جاء من وُجوه مُرْسَلة ثلاثة عن أهل الشام، لتفصيلها مَقام آخر. (¬5) تاريخ بغداد (9/ 55).

تحرير الفرق بين (التدليس) و (الإرسال الخفي)

محمد بن أحمد الروياني)، وهو شيخه الثقة الحافظ أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد العتيقي، نسبه إلى (القطيعة) محلة ببغداد نزلها لا يعرف بالنسبة إليها، ونسبته (الروياني) صحيحة لكنه غير مشهور بها كذلك (¬1). ومن مظان كشف هذا النوع من التدليس، كتاب " الموضح لأوهام الجمع والتفريق " للحافظ الناقد أبي بكر الخطيب البغدادي. واعلم أن تدليس الأسماء يصير إلى الجهالة بها، والجهالة سبب لرد الحديث أصلاً، فإذا لم تتبين حقيقة ذلك الراوي فهو مجهول، لكن تكمن الخطورة في إيهام هذا التدليس أن الراوي ثقة إذا التبس باسم أو كنية شيخ له من الثقات، لذا يوجب تيقظاً زائداً. وكذلك ينبغي الاعتناء بمعرفة أسماء من كان يفعل هذا من الشيوخ، فإنه يورد ريبة في كل شيخ لأحدهم غير معروف. تحرير الفرق بين (التدليس) و (الإرسال الخفي): تقدم تعريف (تدليس الإسناد) عن أبي بكر الخطيب، وأنه شامل لما يرويه الراوي عمن لم يلقه ولم يسمع منه، وقد أدرك زمانه. وأشرت إلى أن هذه صورة (الإرسال الخفي) لا التدليس. وذكر ابن عبد البر عن طائفة تسميتها لرواية الرجل عمن لم يدركه تدليساً أيضاً، لكن تعقبه بقوله: " إن كان هذا تدليساً، فما أعلم أحداً من العلماء سلم منه، في قديم الدهر ولا في حديثه، اللهم إلا شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان " (¬2). قلت: وهذه الصورة إنما هي انقطاع ظاهر، وليست تدليساً، ولا إرسالاً خفيا. ¬

(¬1) وانظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (17/ 603) ....... (¬2) التمهيد (1/ 15).

وتحرير القول في الإرسال الخفي، أنه: رواية الراوي عمن أدركه بصيغة العنعنة، وثبت أنه لم يسمع منه البتة، أو سمع منه شيئاً معيناً ولم يسمع منه غيره. وهذا يعود إلى أسباب: أولها: صغر الراوي، فلم يتهيأ له السماع من الشيخ البتة، أو سمع منه أو رأى شيئاً معيناً فبقي يذكره، فرواه. مثل جماعة من التابعين رأوا بعض الصحابة ولم يسمعوا منهم، كالأعمش، وأيوب السختياني، وعبد الله بن عون، رأوا أنس بن مالك ولم يسمعوا منه. وممن سمع لهذه العلة حرفاً أو شيئاً يسيراً ولم يسمع غيره، ما رواه الحسن البصري عن عثمان أنه رآه يصنع أشياء، أو يأمر بأشياء فمن ذلك: قوله: رأيت عثمان يخطب وأنا ابن خمس عشرة سنة قائماً وقاعداً (¬1). وعنه: أنه رأى عثمان بن عفان يصب عليه من إبريق (¬2). وعنه قال: شهدت عثمان يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابنُ سعد في " الطبقات " (7/ 157) وإسناده حسن. (¬2) أخرجه ابن سعد (7/ 157) وإسناده صحيح ....... (¬3) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (رقم: 1301) وابنُ أبي الدنيا في " ذمِّ الملاهي " (رقم: 138) _ ومن طريقه: البيهقي في " الشعب " (5/ 245 رقم: 6536) _ وعبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " (رقم: 521) والذهبي في " السير " (10/ 317) من طرق عن المبارك بن فَضالة، عن الحسن، به، وبيَّن مُبارك سماعه من الحسن، وإسناده صحيح. وتابعه عليه: يونس بن عبيدٍ عن الحسن أن عثمان، ولم يقل: شَهدت، أخرجه عبد الرزاق (11/ 3 رقم: 19734) وإسناده صحيح. كما تابعه: يوسف بن عبدة قال: حدثنا الحسن، قال: كان عثمان لا يخطب جُمعة إلا أمرَ .. الأثر. أخرجه البخاري في " الأدب " (رقم: 1301) وإسناده حسن، يوسف صالح الحديث. كما ذكره الذهبي في " السير " (4/ 568) من طريق قتادة وشعيب بن الحبحاب عن الحسن، قال في رواية قتادة: سمعت عثمان، وفي رواية شُعيب: شَهدت عُثمان. فالخبر بهذه الطرق صحيح بلا ريبة عن الحسن عن عثمان. تنبيه: من غريب ما وقفت عليه من التحريف: أن البيهقي أخرج هذه الرواية في " السنن " (2/ 413) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن يونس، عن الحسن، أن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، كان يأمر بغسل الكلاب في الحمام. كذا وقعَ في المطبوعة، وفي هامشها تنبيه على الرواية الصحيحة عن أكثر من نسخة: (يأمر بقتل الكلاب والحمام)، لكن يبدو أن الناشر أبقى على هذه الرواية في أصل الكتاب من أجل الباب الذي أوردها البيهقي تحته، حيث قال: " باب نجاسة الأبوال والأرواث وما خرج من مخرج حي " مع ما ذكره تحته من الرواية فإنه لا يُناسبه إلا هذه الرواية المحرَّفة.

وثانيها: أن يكونا تعاصرا لكن لا يثبت اللقاء من أجل اختلاف البلد، وعدم قيام الدليل على اجتماعهما في محل. ومن أمثلته: قال علي بن المديني: " الحسن لم يسمع من الضحاك (يعني ابن سفيان)؛ فكان الضحاك يكون بالبوادي ولم يسمع منه " (¬1). وقال الدارقطني: " لا يثبت سماع سعيد (يعني ابن المسيب) من أبي الدرداء؛ لأنهما لم يلتقيا " (¬2). قلت: فكأنه يقول: لأن أبا الدرداء سكن الشام وأقام بها، وسعيداً كان بالمدينة. وفي معناه، ما نقله ابن أبي حاتم عن أبيه، قال: سئل أبي عن ابن سيرين: سمع من أبي الدرداء؟ قال: " قد أدركه، ولا أظنه سمع منه، ذاك بالشام، وهذا بالبصرة " (¬3). ¬

(¬1) العلل، لابن المديني (ص: 55)، والمراسيل لابن أبي حاتم (ص: 42). (¬2) العلل، للدارقطني (6/ 204). (¬3) المراسيل (ص: 187).

وعن أحمد بن حنبل، قال: " لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري، تميم بالشام، وزرارة بصريٌّ " (¬1). قلت: وهذا من هذا القبيل، لكن صح عن زرارة قال: " حدثني تميم الداري " (¬2)، وهذا نص لا يقبل التأويل في عدم ثبوت السماع، بل فيه دليل على أن عدم اللقاء في رأي أحمد كان مبنيا على مجرد المظنة، فحيث ثبت سماعه منه فقد اندفعت بذلك تلك المظنة. ثالثها: أن يكون اللقاء ممكناً، ولكن الراوي عن ذلك الشيخ لا يذكر في شيء من حديثه عنه ما يدل على السماع، وثبت أنه أحياناً يروي عنه بعض حديثه بالوسائط. وهذا مثل سالم بن أبي الجعد عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حدث عنه بأحاديث، وعامة النقاد كأحمد بن حنبل والبخاري على أنه لم يسمع منه، وأن روايته عنه في مواضع جاءت بواسطة معدان بن أبي طلحة. نعم، قال أبو حاتم الرازي مرة: " لم يسمع من ثوبان شيئاً، يدخل بينهما معدان "، وهو كقول أحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما، وقال مرة: " لم يدرك ثوبان " (¬3)، واللفظ الأول في نفي السماع أولى، من أجل قوة مظنة الإدراك في الجملة، ولذا قال يعقوب بن سفيان: " لم يسمع سالم من ثوبان، إنما هو تدليس " (¬4). واستُعمل هذا الطريق في التعليل نقاد الحديث، وهو من خفيه ومشكله، ويحتاج إلى فطنة وبحث، وتقدم في (النقد الخفي). وأعل الدارقطني بمثله ما يرويه الحسن البصري عن أبي بكرة، من ¬

(¬1) نقله ابن رجب في " شرح العلل " (1/ 368). (¬2) أخرج ذلك البُخاري في " التاريخ الكبير " (2/ 1 / 439) بإسناد صحيح إلى زُرارة ....... (¬3) المراسيل (ص: 80). (¬4) المعرفة والتاريخ (3/ 236).

تاريخ التدليس

أجل أنه وجد أحاديث الحسن عن أبي بكرة تأتي تارة بواسطة الأحنف بن قيس، وبه أعل أربعة أحاديث في " صحيح البخاري " (¬1). غير أن قوله مرجوح، لثبوت الرواية عن الحسن صريحة بسماعه من أبي بكرة، وثبوت السماع مرة يخرج روايته عن شمولها بمبحث (الإرسال الخفي). والعلم بوقوع الإرسال الخفي حاصل إما بتنصيص النقاد كالذي ذكرت بعض مثاله عنهم، أو أن يتبين باستقراء وسبر طرق الحديث، وهي الطريق لتمييز علل الحديث. تاريخ التدليس: وقوع التدليس قديم في الأسانيد، بدأ في عصر التابعين (¬2). ¬

(¬1) قال في " التتبع " (ص: 323): " أخرج البخاري أحاديث الحسن عن أبي بكرة، منها: الكسوف، ومنها: زادك الله حرْصاً ولا تَعد، ومنها: لا يُفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة، ومنها: ابني هذا سيد. والحسن لا يَروي إلا عن الأحنف عن أبي بكرة ". قلت: وهو مُتعقب بما وَقع عند البخاري في رواية حديث: " ابني هذا سيد "، فإن الحسن قال فيه: " ولقد سمعْت أبا بكرة "، كما أخرجه البخاري في (كتاب الصلح) (رقم: 2557) و (كتاب الفتن) (رقم: 6692)، ومُختصراً في (كتاب فضائل الصحابة) (رقم: 3536)، قال البخاري في الموضع الأول: قال لي عليُّ بن عبْد الله (يعني ابن المديني): " إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث "، ومعنى ذلك في " التاريخ الكبير " (1/ 2 / 56). وفسَّر أبو الوليد الباجي في " التعديل والتجريح " (2/ 486) (الحسن) قائل تلك العبارة: " سمعت أبا بكْرة " بأنه (الحسن بن علي) من أجل سياق القصة بذكْره، فجعل هذا الحديث من رواية الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبي بكرة، وهو قولٌ ظاهر الضعف، ومُخالفٌ للظاهر، ولم يروَ الحسن بن علي عن أبي بكرة. وأثبت سماع الحسن البصري من أبي بكرة بهْز بن أسد، فقال: " سمع من أبي بكْرة شيئا " (المراسيل، لابن أبي حاتم، ص: 45). (¬2) أما ما حُكي عن شُعبة، أنه قال: " أبو هريرة كان يدلس ". فهذا بينت وهاءه سنداً، وقُبحه إطلاقاً في (المبحث السابق).

قال يعقوب بن سفيان: " أبو إسحاق رجل من التابعين، وهو ممن يعتمد عليه الناس في الحديث، هو والأعمش، إلا أنهما وسفيان يدلسون، والتدليس من قديم " (¬1). وهؤلاء الثلاثة من أئمة الأمة: أبو إسحاق السبيعي، وسليمان بن مهران الأعمش، وسفيان بن سعيد الثوري، ومع ذلك كانوا يفعلونه، بل ربما سوغ صنيعهم ذلك أن يترخص فيه بعض من بعدهم. كما قال عبيد الله بن عمر القواريري: " كتب وكيع إلى هُشيم: بلغني أنك تفسد أحاديثك بهذا الذي تدلسها. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، كان أستاذاك يفعلانه: الأعمش وسفيان " (¬2). وقال عبد الله بن المبارك: قلت لهشيم: ما لك تدلس وقد سمعت؟ قال: " كان كبيراك يدلسان " وذكر الأعمش والثوري (¬3). وهذا الذي حمل مغيرة بن مقسم الضبي، وكان من أصحاب إبراهيم النخعي، على أن يقول: " ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي إسحاق والأعمش، أتيا بأحاديث لا يدرك ما وجوهها ولا معانيها " (¬4). قلت: هذا مع أن مغيرة نفسه واقع ذلك. وكان التدليس في الكوفيين كثيراً، مع ما كان فيهم من حفظ السنن والعلم بها. ¬

(¬1) المعرفة والتاريخ (2/ 633). (¬2) نقله عبد الله بن أحمد في " العلل ومعرفة الرجال " (النص: 2190) ....... (¬3) أخرجه الترمذي في " العلل الكبير " (2/ 966) وابن عدي في " الكامل " (2/ 520، و 8/ 452) وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 322، 990) وابنُ عدي (1/ 242) واللفظ له، وإسناده صحيح. كما أخرج طرفاً منه معناه الجوزجاني في " أحوال الرجال " (ص: 81).

مذاهب أهل العلم في خبر المدلس

ومن أجله قال عبد الرحمن بن مهدي: " حديث أهل الكوفة مدخول " (¬1). مذاهب أهل العلم في خبر المدلس: ذهب بعض السلف مذهباً شديداً في التدليس، حتى عده بعضهم بمنزلة الكذب، مع أن الواقع العلمي أننا رأيناهم جميعاً لا يجعلون التدليس جرحاً يرد به حديث الراوي مطلقاً، وإنما يرد ما عرف أنه دلس فيه، أو ما ظن أنه دلس فيه بمجرد عنعنته على قول آخرين. فلم يكن وقوع التدليس من الراوي قادحاً عندهم في عدالته، مع ما جاء عن طائفة من عيبه وإنكاره. قال حماد بن زيد وعوف الأعرابي: " التدليس كذب " (¬2). وقال شعبة بن الحجاج: " التدليس أخو الكذب " (¬3). وقال: " لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أدلس " (¬4). وقال أبو عاصم النبيل: " أقل حالات المدلس عندي، أن يدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي (1/ 242) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1879) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه ابن عدي (1/ 106 _ 107) بإسناد حسن عن حماد، وصحيح عن عوْف. (¬3) أخرجه ابن عدي (1/ 107) والخطيب في " الكفاية " (ص: 508) من طريق الشافعي، قال: قال شُعبة، به. وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 92) وإسناده صحيح. ورُوي عن عبد الله بن المبارك معناه. أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 509) وفي إسناده أحمد بن محمد بن عمران الجندي وهو ضعيف، ومنهم من اتهمه. (¬5) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 107 _ 108) وإسناده صحيح. ورُوي قبله عن حماد بن زيد أيضاً، أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 508 _ 509). وأما حديث الذي استدلَّ به أبو عاصم، فهو مُتفق عليه من حديث أسماء بنت أبي بكر: أخرجه البُخاري (رقم: 4921) ومُسلم (رقم: 2130).

فهؤلاء شددوا في إنكار التدليس، لكن ليس فيهم من جرح راوياً بالتدليس، فرد حديثه بذلك مطلقاً. وبين الشافعي فيما سيأتي من عبارته أن التدليس ليس كذباً يرد به كل حديث الراوي، وقال ابن رجب: " هذا أيضاً قول أحمد وغيره من الأئمة " (¬1). قلت: التهمة بالتدليس جرح، لكنه نسبي، فهو لا ينافي الثقة، وما من أحد شدد في التدليس إلا روى عمن ذكر به، وشعبة من أظهرهم في ذلك روى عن جماعة من شيوخه من المعروفين بالتدليس، كأبي إسحاق السبيعي والأعمش من أئمة زمانه، فما منعه وقوع ذلك منهم من الرواية عنهم، ولا دعاه إلى الطعن عليهم. والمذاهب المعتبرة لأهل العلم في حديث المدلس الذي لا يذكر فيه السماع تحصر في الأربعة التالية: المذهب الأول: قبول روايته مطلقاً ما دام ثقة، ولم يتبين فيها علة قادحة، وإن لم يبين سماعه. وهذا يمكن أن تنزل عليه مذاهب من رأى قبول المراسيل؛ لأنه في التحقيق أولى بالقبول من المرسل فالمرسلُ قد عمل في الانقطاع جزماً، والمدلس انقطاعه على سبيل المظنة الواردة بسبب العنعنة. وممن ذهب إلى هذا أبو محمد ابن حزم، فقال: " نترك من حديثه ما علمنا يقيناً أنه أرسله، وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده، ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئاً من ذلك، وسواء قال: (أخبرنا فلان)، ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/ 356) .......

أو قال: (عن فلان)، أو قال: (فلان عن فلان)، كل ذلك واجب قبوله، ما لم يتيقن أنه أورد حديثاً بعينه إيراداً غير مسند، فإن أيقنا ذلك تركنا الحديث وحده فقط، وأخذنا سائر رواياته " (¬1). والمذهب الثاني: منع قبول رواية من عرف بالتدليس ولو مرة واحدة، إلا فيما بين فيه سماعه صريحاً، وردّ ما رواه بصيغة احتمال السماع واحتمال التدليس، كالعنعنة. وهذا هو مذهب الشافعي، فإنه قال: " ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في رواياته، وليست تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه، ولا النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول فيه: حدثني، أو: سمعت " (¬2). وقال ابن حبان: " المدلس ما لم يبين سماع خبره عمن كتب عنه، لا يجوز الاحتجاج بذلك الخبر؛ لأنه لا يدري لعله سمعه من إنسان ضعيف يبطل الخبر بذكره إذا وقف عليه وعرف الخبر به، فما لم يقل المدلس في خبره وإن كان ثقة: (سمعت) أو: (حدثني)، فلا يجوز الاحتجاج بخبره " (¬3). وقال: " وهذا أصل أبي عبد الله الشافعي، رحمه الله، ومن تبعه من شيوخنا " (¬4). قال الخطيب: " وهذا هو الصحيح عندنا " (¬5). وقال الخطيب: " فإن قيل: لم إذا عرف تدليسه في بعض حديثه وجب حمل جميع حديثه على ذلك، مع جواز أن لا يكون كذلك؟ ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 142). (¬2) الرسالة (الفقرات: 1033 _ 1035) ....... (¬3) الثقات (1/ 12)، معنى ذلك له أيضاً في " المجروحين " (1/ 92) و " صحيحه " (1/ 161). (¬4) المجروحين (1/ 92). (¬5) الكفاية (ص: 515).

قلنا: لأن تدليسه الذي بان لنا صير ذلك هو الظاهر من حاله، كما أن من عرف بالكذب في حديث واحد صار الكذب هو الظاهر من حاله، وسقط العمل بجميع أحاديثه، مع جواز كونه صادقاً في بعضها، فكذلك حال من عرف بالتدليس، ولو بحديث واحد، فإن وافقه ثقة على روايته وجب العمل به؛ لأجل رواية الثقة له خاصة دون غيره " (¬1). والمذهب الثالث: رد رواية من شاع عنه التدليس واشتهر به وكثر منه، حتى يبين سماعه صريحاً. دون من ذكر به، ولم يعرف له كبير أثر على صحة حديثه وروايته في الجملة، فهذا يقبل حديثه وإن عنعن فيه، من أجل ضعف مظنة التدليس، خصوصاً وأن حديث الراوي معروض في العادة على المعروف من حديث الثقات المتقنين، فلدينا بهذا الاعتبار ميزان لكشف أثر تدليسه إن وجد. كذلك يقال كما سبق: التدليس قدح نسبي في الراوي، مظنته فيمن استقرت ثقة ولم يكثر منه شبيهة بمظنة خطئه، فمع احتمال وقوع ذلك منه، إلا أن روايته مقبولة ما لم يثبت خطؤه فيها. وعلى هذا المذهب في التحقيق عمل الشيخين، وعليه دلت عبارات كبار أئمة الحديث: قال يعقوب بن شيبة: سألت يحيى من معين عن التدليس؟ فكرهه وعابه، قلت له: أفيكون المدلس حجة فيما روى؟ أو حتى يقول: (حدثنا) و (أخبرنا)؟ فقال: " لا يكون حجة فيما دلس " (¬2). قلت: فابن معين هنا لا يشترط بيان السماع لقبول حديث المدلس، وإنما هو لديه مقبول، إلا فيما ثبت أنه دلس فيه. ¬

(¬1) الكفاية (518) ....... (¬2) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 107) والخطيب في " الكفاية " (ص: 516) وإسناده صحيح.

وقال يعقوب بن شيبة: سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس، أيكون حجة فيما لم يقل: (حدثنا)؟ قال: " إن كان الغالب عليه التدليس فلا، حتى يقول: حدثنا " (¬1). قلت: فجعل غلبة التدليس على الراوي هي السبب في رد ما لم يبين فيه السماع، دون من لم يغلب عليه وكان يذكر به نادراً. وكأن من هذا صنيع أحمد بن حنبل في توقفه في قبول رواية لهشيم بن بشير، وهو معروف بالتدليس مشهور به، فقد قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: " حديث ابن شبرمة: قال رجل للشعبي: نذرت أن أطلق امرأتي، لم يقل فيه هشيم: أخبرنا، فلا أدري سمعه أم لا " (¬2). كذلك قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس يحتج فيما لم يقل (سمعت)؟ قال: " لا أدري "، فقلت: الأعمش، متى تصاد له الألفاظ؟ قال: " يضيق هذا، أي: أنك تحتج به " (¬3). قلت: فهذا د ل على توقف أحمد في قبول عنعنة المدلس في حال، وقبولها دون توقف في حال أخرى، فحال التوقف ينبغي أن تحمل على عنعنة من اشتهر أمره بالتدليس وكثر ذلك منه كهشيم، أما من ذكر به وكان كثير الحديث الصحيح المتصل، وشق تتبع ذكره للسماع في كثرة ما روى وندرة أثر ما ذكر به من التدليس، كالأعمش، فهذا يحتج به. لكن يجب أن يقيد بالقول: ما لم يثبت أنه دلس فيه. ومن ذلك قول البخاري: " لا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 516 _ 517) وإسناده صحيح. (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 322). (¬3) سؤالات أبي داود لأحمد بن حنبل (النص: 138).

ثابت، ولا عن سلمة بن سهيل، ولا عن منصور _ وذكر مشايخ كثيرة _ لا أعرف لسفيان هؤلاء تدليساً، ما أقل تدليسه " (¬1). وقال مسلم بن الحجاج: " وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم، إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به، فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقدون ذلك منه حتى تنزاح عنهم علة التدليس " (¬2). وقال يعقوب بن سفيان: " حديث سفيان وأبي إسحاق، والأعمش، ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة " (¬3). قلت: وقد جهدت لأقف لأبي حاتم الرازي أو صاحبه أبي زرعة على حديث أعلاه بمجرد العنعنة من موصوف بالتدليس، فلم أجد، وإنما وجدتهما في شيء قليل يحيلان التهمة بنكارة الحديث على عنعنة المدلس، حيث لم يبين السماع، ولا ريب أن هذا أولى من تخطئة الثقة أو الصدوق أو حمل النكارة في الرواية عليه. وتارة لثبوت التدليس في الحديث المعين (¬4)، كما رأيت أبا حاتم توقف في بعض الأسانيد خشية التدليس لغلبة المظنة (¬5). وجائز حمل عبارة ابن عبد البر على هذا المذهب، حين قال بعد أن ذكر الاتفاق على الإسناد المعنعن: " إلا أن يكون الرجل معروفاً بالتدليس، فلا يقبل حديثه حتى يقول: حدثنا، أو سمعت، فهذا ما لا أعلم فيه خلافاً " (¬6). ¬

(¬1) العلل الكبير، للترمذي (2/ 966) ....... (¬2) مقدمة صحيح مسلم (ص: 33). (¬3) المعرفة والتاريخ (2/ 637). (¬4) انظر إن شئت: علل الحديث، لابن أبي حاتم (الأرقام: 60، 109، 474، 725، 1221، 2078، 2308، 2579). (¬5) علل الحديث (رقم: 2119، 2463). (¬6) التمهيد (1/ 13).

ولما ذكر ابن رجب مذهب الشافعي في رد خبر المدلس بوقوعه في التدليس مرة، قال: " واعتبر غيره من أهل الحديث أن يغلب التدليس على حديث الرجل " وذكره عن علي بن المديني (¬1). والمذهب الرابع: التفريق بين أصناف المدلسين من الثقات، بين من عرف أنه لم يدلس إلا عن ثقة معروف عند أهل العلم بالحديث، وبين من عرف بالتدليس عن المجروحين والضعفاء والمجهولين (¬2). وهذا المذهب يجب اعتباره على تفصيل: فمن قالوا فيه: (لا يدلس إلا عن ثقة) فيجب أن يكون ذلك الثقة معروفاً لأهل العلم، لا بناء على قول الناقد: (فلان لا يدلس إلا عن ثقة)، فذلك الثقة عنده ربما كان مجروحاً عند غيره لو سمي. ولو قيل: بل نقبل ذلك بإطلاق، ما دام قائله في الراوي من النقاد العارفين. قلنا: إذا يلزم أن نقبل بإطلاق كذلك خبر الحافظ الناقد المدلس إذا روى لنا عن شيخ له بالعنعنة، من أجل ما أحسناه فيه من الظن: أنه دلسه وهو عنده ثقة، لأنه لو كان يعده مجروحاً فدلسه كان ذلك مما يقدح فيه؛ لما فيه من ضد الأمانة في الدين، والصواب أن حسن الظن هنا لا يغني شيئاً. وقد بينا في (مباحث التعديل) أن قول الناقد: (حدثني الثقة) ولا يسميه، لا يعتمد عليه، بل هو منزل منزلة المجهول، وفي التدليس لم يقل شيئاً من ذلك، بل أسقطه جملة، فزاد في الريبة، خصوصاً مع استحضار أن المدلس قد يسقط واسطتين أو أكثر. ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/ 353 _ 354). (¬2) نقل ابن رجب هذا المذهب في " شرح العلل " (1/ 354) عن الكرابيسي وأبي الفتح الأزدي وبعض فُقهاء الحنابلة، وقال: " هذا بناء على قولهم في قبول المرسل " .......

والواجب تقسيم هذه المسألة إلى صورتين: الأولى: من عرف بالتدليس عن الثقات في الجملة، كالذي ذكر به سفيان بن عيينة، فهذا إن احتملنا تدليسه عن شيخ في موضع العنعنة، وقلنا: لا يدلس إلا عن ثقة، فحيث جهلنا من يكون ذلك الثقة فهو بمنزلة تصريحه بمن دلسه بصيغة الإبهام فقال: (حدثني ثقة عن ذلك الشيخ)، والراوي إذا أبهم شيخه، فإنه لا يغني في قبول روايته أن يطلق توثيقه دون تسميته، من أجل أنه لو سماه فجائز أن يكون مجروحاً عند غيره، كما تقدم. فهذه الصورة لا تكاد تختلف عن صورة التدليس عن مجهول، فلا يصح إطلاق القبول فيها. وقد شبهها ابن حبان بمراسيل الصحابة في القبول (¬1)، وليس كذلك فإن جهالة الصحابي لا تضر على التحقيق؛ لعدالتهم جميعاً، بخلاف جهالة غيره. والثانية: أن نكون قد عرفنا من دلسه الراوي إن كان دلس، وكان المدلس ثقة، فهذا لا يقدح في ثبوت الرواية بين المدلس ومن روى عنه. ومن أمثلة من كانوا يدلسون عن الثقات جماعة، منهم: 1 _ حميد الطويل عن أنس بن مالك. قال ابن عدي: " الذي رواه عن أنس البعض مما يدلسه عن أنس، وقد سمعه من ثابت " (¬2). 2 _ يونس بن عبيد وهو من أصحاب الحسن البصري. ¬

(¬1) في " صحيحه " (1/ 161). (¬2) الكامل (3/ 67) .......

الترجيح

قال شعبة: " عامة تلك الدقائق التي حدث بها يونس عن الحسن، إنما كانت عن أشعث " يعني ابن عبد الملك. قال ابن أبي حاتم: " يعني أن يونس أخذها من أشعث عن الحسن، ودلسها عن الحسن، ولم يذكر الخبر " (¬1). 3 _ عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد في رواية التفسير: ذكر ابن أبي خيثمة عن علي بن المديني، أنه سمع يحيى بن سعيد، وذكر تفسير مجاهد، فقال: " لم يسمعه ابن أبي نجيح عن مجاهد، كله يدور على القاسم بن أبي بزة " (¬2). 4 _ وذكر الحاكم قتادة وأبا سفيان طلحة بن نافع فيمن يدلس عن الثقات (¬3). وفي هذه الأمثلة رد على ما ادعاه ابن حبان بقبوله: " هذا ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده فإه كان يُدلس، ولا يُدلَّسُ إلا عن ثقة مُتقن، ولا يكادُ يوجد لسفيان بن عيينة خبرٌ دلس فيه إلا وجد ذلك الخبر بعينه قد بين سماعه عن ثقة مثل نفسه " (¬4). قلت: تبين أن ذلك غير محصور في سفيان بن عيينة. وهؤلاء لا يضر تدليسهم لمن دلسوه، ولا يقدح في صحة رواياتهم بذلك التدليس، فحيث علم طريق الاتصال فقد زال الإشكال. الترجيح: من خلال ما تقدم عرضه من مذاهب أهل العلم فإنه لا ينبغي العدول عن المذهب الثالث، الذي جرى عليه عمل الشيخين. ¬

(¬1) تقدمة الجرح والتعديل (ص: 134 _ 135) بإسناد صحيح إلى شُعبة. (¬2) أخرجه ابن أبي خيثمة في " تاريخه " في (أخبار المكيين) (ص: 321). (¬3) معرفة علوم الحديث (ص: 103). (¬4) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 161) .......

كذلك يستفاد من المذهب الرابع أيضاً قبول حديث من ذكر بالتدليس، غير أنه كان يدلس ثقة معروفاً. والحديث إذا ثبت تدليس الراوي فيه فهو منقطع ضعيف. وإن لم يثبت، ولكنه كان محتملاً، من أجل ما اشتهر به بالراوي وعرف عنه، وكان تدليسه عن غير الثقات، فهذا يحكم على ما عنعنه عن شيخه بالضعف؛ من أجل مظنة التدليس، ما لم ينف أثرها متابعة أو شاهد. وإن كان ممن عرف بتدليس التسوية فإنه لا يقبل حديثه حتى يحفظ السماع فيمن فوقه إلى أن يبلغ الصحابي؛ لأن محذور تدليسه محتمل في أي موضع عنعنة. لكن يستثنى من هذا الصورة الأخيرة أن يكون سائر الإسناد سلسلة معروفة، كمالك عن نافع عن ابن عمر، فلو أن من يدلس التسوية روى عن مالك حديثاً فقال: (حدثنا)، ثم ذكره بالعنعنة بين مالك ونافع، وبين نافع وابن عمر، لم يضره ذلك؛ لأنها سلسلة قد عرف اتصالها. واعلم أن بعض العلماء التزموا مذهب الشافعي، وهو الذي جرى عليه عمل المنتسبين إلى هذا العلم من المتأخرين، خصوصاً من أهل زماننا، فلما وجدوا أحاديث لجماعة من الموصوفين بالتدليس مخرجة في " الصحيحين " بالعنعنة، لا يوقف في شيء من طرقها على ذكر السماع، تحيروا في الجواب، إذ مقتضى أصلهم رد مثل تلك الأحاديث. قال ابن حجر: " في الصحيحين جملة كثيرة من أحاديث المدلسين بالعنعنة " (¬1). فأجابت طائفة بأجوبة ضعيفة عن ذلك تحسيناً للظن بالشيخين، وهذا مما لا يصلح في العلم. ¬

(¬1) النكت على ابن الصلاح (2/ 635).

تنبيه: التهمة للثقة بالتدليس دون دليل من قبيل الجرح المبهم

ونقل ابن حجر عن الفقيه صدر الدين ابن المرحل قوله: " إن في النفس من هذا الاستثناء غصة؛ لأنها دعوى لا دليل عليها، ولا سيما أنا وجدنا كثيراً من الحفاظ يعللون أحاديث وقعت في الصحيحين أو أحدهما بتدليس رواتها " (¬1). قلت: وهذا كله إنما نتج من إجراء أحاديث الصحيحين على قول الشافعي، واعتبار ظاهر المصطلحات، وقد علمت أن منهج الشيخين وكبار أهل التحقيق قبلهما وبعيدهما قبول الحديث المعنعن لموصوف بالتدليس على معنى غير قادح، على ما تقدم بيانه. تنبيه: التهمة للثقة بالتدليس دون دليل من قبيل الجرح المبهم، فيعتبر لقبوله ما يعتبر لقبول الجرح. تسليم وصف الراوي بالثقة موجب لقبول ما يخبر به، لا يستثنى من خبره إلا ما قام دليل على رده، ولا يقبل فيه الجرح إلا أن يكون مفسراً. ومن هذا الجرح بوصف الراوي بالتدليس، فإن إثباته في حق راو معين يجب أن يكون ببرهان، فإذا وقع من إمام من أئمة الجرح والتعديل أن أطلق كون فلان مدلساً، فهذا لا عبرة به حتى يثبت أنه دلس، فإن ثبت في خبر معين رد ذلك بما تبين من تدليسه فيه إن كان دلسه من غير ثقة. وإنما يستثنى منه من كان التدليس شعاراً له، حتى كثُر فأحدث الريبة في جميع ما يقول فيه (عن)، فهذا يرد حديثه المعنعن من أجل الريبة الغالبة لا من أجل التدليس، فإن العنعنة بمجردها لا توجبه. ¬

(¬1) النكت (2/ 635) .......

والعلة في تنزيل مجرد الوصف بالتدليس منزلة الجرح المجمل تعود إلى أسباب، أظهرها: أولاً: أننا وجدنا إطلاق اسم التدليس على صور ليست منه، فأطلق على الإرسال الظاهر، وعلى الإرسال الخفي، كما أطلق على أعيان، شهد بعض النقاد ببراءتهم منه. ومما يبين ذلك _ مثلاً _ أن الحسن البصري أطلق عليه وصف التدليس، لكن الدليل عليه أنه روى عن جماعة لم يسمع منهم، أو سمع منهم شيئاً معيناً دون سائر ما يروي عنهم، وهذا لاحق بالإرسال أو الإرسال الخفي. كذلك قال أبو حاتم الرازي في (أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي): " لا يعرف له تدلس " (¬1). بينما قال الذهبي: " يدلس عمن لحقهم وعمن لم يلحقهم، وكان له صحف يحدث منها ويدلس " (¬2). قلت: فكانوا يطلقون على الإرسال اسم التدليس، وأبو قلابة لم يكن يدلس بمعنى التدليس الاصطلاحي، إنما كان يرسل، وذلك منصوص عليه في رواةٍ أدركهم ولم يسمع منهم. وقول أبي حاتم أولى بالاعتبار والتقديم؛ لموافقته المعنى الاصطلاحي المتميز للتدليس. قال ابن حجر بعد ذكر عبارة أبي حاتم في نفي تدليس أبي قلابة: " وهذا يقوي من ذهب إلى اشتراط اللقاء في التدليس، لا الاكتفاء بالمعاصرة " (¬3). ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 2 / 58). (¬2) ميزان الاعتدال (2/ 426). (¬3) تهذيب التهذيب (2/ 340) .......

كيف يعرف التدليس؟

ثانياً: وجدنا من الرواة من يتنازع في إطلاق وصف التدليس عليه، بمنزلة اختلافهم في جرح الراوي وتعديله. قال أبو داود السجستاني في (مغيرة بن مقسم الضبي): " مغيرة لا يدلس، سمع مغيرة من إبراهيم مئة وثمانين حديثاً " (¬1). وقال العجلي: " كان (يعني مغيرة) يرسل الحديث عن إبراهيم، وإذا أوقف أخبرهم عمن سمعه " (¬2). قلت: وهذا من قول العجلي يثبت تدليسه عن إبراهيم، فكأن أبا داود أراد غالب أمره. ثالثاً: وجدنا بعض من أطلق عليه وصف التدليس استفيد ذلك فيه من جهة وقوعه منه في روايته عن بعض شيوخه دون سائرهم، فإطلاق العبارة يوهم اندراج جميعهم. وذلك مثل رواية أبي حرة واصل بن عبد الرحمن البصري عن الحسن البصري، فإنه كان يدلس عنه، وضُعف فيه من أجل أنه لم يسمع منه إلا شيئاً يسيراً، وكان يقول في سائر روايته عنه: (عن الحسن)، فكلامهم فيه بالتدليس محصور في الحسن خاصة، لا في سائر شيوخه أو حديثه. فهذه الأسباب موجبة لتمييز معنى لفظ التدليس وصحته ووجهه، فأما اللفظ المجمل فلا يصح اعتماده لرد الحديث المعنعن للراوي الثقة يرويه عن شيوخه. كيف يعرف التدليس؟ يعرف التدليس في الراوية بطرق: الأولى: تفقد السماع من فم الراوي نفسه. ¬

(¬1) سؤالات الآجري لأبي داود (النص: 166). (¬2) ترتيب ثقات العجلي (النص: 1777).

وذلك كثير الأمثلة من صنيع الأئمة في توقيف الراوي على ما سمع وما لم يسمع، يستكشفون به وقوع التدليس أو عدم السماع. كما كان يصنع شعبة بن الحجاج في حق من ذكر من شيوخه بالتدليس، كقتادة وأبي إسحاق السبيعي، وهو أبرز من شاع عنه ذلك من الأقدمين في تتبع السماع، والحكايات الصحيحة عنه في ذلك كثيرة جداً، وكان لا يدلس أبداً، وكان شديداً جداً في إنكار التدليس. فكان يقول مثلاً: " كنت أتفقد فم قتادة، فإذا قال: سمعت، أو: حدثنا، حفظت، وإذا قال: حدث فلان، تركته " (¬1). وكذلك ربما فعل سفيان الثوري، وإن كان ربما وقع منه التدليس في الشيء النادر. قال عبد الرحمن بن مهدي: " كنت مع سفيان عند عكرمة (يعني ابن عمار)، فجعل يوقفه على كل حديث على السماع " (¬2). وفي رواية، قال ابن مهدي: " قال لي سفيان الثوري بمنى: مر بنا إلى عكرمة بن عمار اليمامي، قال: فجعل يملي على سفيان، ويوقفه عند كل حديث: قل حدثني، سمعت " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه عُثمان الدارمي في " تاريخه " (النص: 703) وابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 161، 169) والبغوي في " الجعديات " (رقم: 1074) وعبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 5077) والخطيب في " الكفاية " (ص: 517) بإسناد صحيح. وروى ابنُ أبي حاتم كذلك في " التقدمة " (ص: 169 _ 170) و " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 34، و 2/ 1 / 370) والبغوي أيضاً (رقم: 1073، 1075) وعبد الله في " العلل " (النص: 5068) والرامهرمزي (ص: 522) وابنُ عدي (1/ 151) والحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص: 43) والخليلي في " الإرشاد " (2/ 487) والخطيب في " الكفاية " وابنُ عبد البر في " التمهيد " (1/ 35) معناه من غير وجه ....... (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 68) بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح " (ص: 117) وإسناده صحيح.

وقال يحيى القطان: " شهدت سفيان يقول لأبي الأشهب: قل سمعت، قل سمعت " (¬1). وقد جرى يحيى القطان على منهاج شيخه شعبة في التشديد في التدليس، والتنقيب والبحث عن السماع، حتى جاء عن أحمد بن حنبل: لم لا تقول ليحيى بن سعيد: قل حدثنا؟ فقال: " مثل يحيى يقال له: قل حدثنا؟! " (¬2). قلت: يعني أن مثله لا يتفقد منه السماع؛ لأنه لا يروي إلا متصلاً. وعن مالك بن أنس قال: " كنا نجلس إلى الزهري وإلى محمد بن المنكدر، فيقول الزهري: قال ابن عمر كذا كذا، فإذا كان بعد ذلك جلسنا إليه، فقلنا له: الذي ذكرت عن ابن عمر من أخبرك به؟ قال: ابنه سالم " (¬3). الثانية: مقارنة الأسانيد، فيكشف بذلك من أسقط في موضع العنعنة للشيخ المعين، مع إدراك ذلك الشيخ وسماعه في الأصل ممن عنعن عنه. وذلك مثل: حديث رافع بن خديج، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر ". هذا الحديث رواه سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وأبو خالد سليمان بن حيان الأحمر ويحيى بن سعيد القطان، وهؤلاء كلهم ثقات، عن محمد بن عجلان، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع، به. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح " (ص: 82) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 233 _ 234) وإسناده جيد. (¬3) أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 476) _ ومن طريقه: ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 37) _ وابن سعد في " الطبقات " (ص: 179 _ القسم المتمم) وإسناده صحيح .......

ورواه جماعة عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة، عن عاصم بن عمر، ولم يقل في شيء من الروايات: (حدثني عاصم). وهذه متابعة لابن عجلان، هكذا أوهم ابن إسحاق بتدليسه، وكشفت رواية أخرجها الإمام أحمد (¬1) عن حقيقة ذلك قال فيها: حدثنا يزيد (وهو ابن هارون)، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قال: أنبأنا ابن عجلان، عن عاصم، بباقي الإسناد به. فعاد الحديث لابن عجلان، فتأمل كيف أوهم التدليس طريقاً جديداً للحديث، ولو كان ابن عجلان ضعيفاً وأسقط، وبقي في السند الثقات لأوهم القبول، وقد عهد ابن إسحاق بكثرة التدليس، وهو يدلس عن مجروحين. الثالثة: معرفة قدر ما روى الراوي عن شيخه متصلاً، فإذا روى عنه غير ذلك علمنا أنه إنما تلقاه عنه بواسطة، فأسقطها. لكن هذا الطريق يوجب تحريا ًشديداً قبل الجزم به. فلو اعتمدت مثلاً قول يحيى بن سعيد القطان: " كان ابن جريج لا يصحح أنه سمع من الزهري شيئاً "، قال: " فجهدت به في حديث: إن ناساً من اليهود غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم. فلم يصحح أنه سمع من الزهري. ولم يسمع ابن جريج من مجاهد إلا حديثاً واحداً " (فطلقوهن في قبل عدتهن). ولم يسمع ابن جريج من ابن طاوس إلا حديثاً في محرم أصاب ذرات، قال: فيها قبضات من طعام. ولم يسمع الحجاج بن أرطاة من الشعبي إلا حديثاً: لا تجوز صدقة حتى تقبض " (¬2). فهذا لا يسلم على إطلاقه فيمن ذكر، ولا يصلح أن يبنى عليه بمجرده ¬

(¬1) في " مُسنده " (3/ 465). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 245) بإسناد صحيح إلى يحيى.

مثلاً أن يكون جميع ما يرويه ابن جريج عن الزهري غير هذا الحديث مما لم يسمعه منه، فيحمل على أن ابن جريج دلس فيه؛ وذلك لأننا وجدنا في أحاديث كثيرة يقول فيها ابن جريج: (أخبرني الزهري) وغير ذلك من صيغ التحمل المباشر. وقد قال سفيان بن عيينة: " ابن جريج جاء إلى الزهري بأحاديث، فقال: أريد أن أعرضها عليك، فقال: كيف أصنع بشغلي؟ قال: فأرويها عنك؟ قال: نعم " (¬1). وقال أحمد بن حنبل: " ابن جريج عرض، وهو يقول: سألت ابن شهاب " (¬2). وقال علي بن المديني: " ابن جريج لم يسمع من ابن شهاب شيئاً، إنما عرض له عليه "، قال: " وقال يحيى (يعني القطان): قال لي سفيان بن حبيب: بلى قد سمع منه كذا كذا، قال: فأتيته، فسألته عنه؟ فقال: ما أدري، سمعته أو قرأته " (¬3). قلت: عرض على الزهري، وطائفة من الأئمة منهم الزهري نفسه يرون العرض كالسماع. إذاً، فلا تحمل روايته عنه لغير الحديث المذكور لو ذكر السماع على ¬

(¬1) أثر صحيح. أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 457) من طريق مُحمد بن عباد، عن سُفيان به، وإسناده جيد. ورَوى ابن عيينة عنه معنى ذلك كذلك في قصة ابن جريج من غير هذا الوجه، أخرجه الرامهرمزي (ص: 436) والخطيب في " الكفاية " (ص: 457). (¬2) أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 2962) عن مُحمد بن علي الجوزجاني المعروف بحمدان الوراق عن أحمد، وإسناده صحيح، الجوزجاني من أصحاب أحمد بغدادي ثقة ....... (¬3) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة " (2/ 139) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 388) بأوله _ وإسناده صحيح.

طبقات المدلسين

الخطأ، بل هي أخبار متصلة، إلا أن تكون معنعنة، فتحمل على مظنة التدليس. وكذلك، ثبت سماع ابن جريج من عبد الله بن طاوس لغير الحديث المذكور (¬1). وأما مجاهد، فقد روى ابن جريج عنه كثيراً في التفسير، لكنها مدلسة عن ثقة معروف، كما قال ابن حبان: " ما سمع التفسير عن مجاهد غير القاسم بن أبي بزة. نظر الحكم بن عتيبة وليث بن أبي سليم وابن أبي نجيح وابن جريج وابن عيينة في كتاب القاسم، ونسخوه، ثم دلسوه عن مجاهد " (¬2). طبقات المدلسين: وباعتبار ما تقدم بيانه وترجيحه من مذاهب أهل العلم في رواية من ذكر أو اشتهر بالتدليس، فإن مما يساعد لمعرفة المدلسين اعتبار تقسيمهم إلى طبقات، بحسب من يقدح وصفه به في رواياته ومن لا بقدح. وقد ذهب جماعة من متأخرين الحفاظ إلى تقسيمهم إلى خمس طبقات: الأولى: من لم يوصف به إلا نادراً، بحيث إنه لا ينبغي عده فيهم، مثل: يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة. ¬

(¬1) ووجدت النص عن يحيى القطان قد حدَّث به يحيى بن مَعين عنه في " تاريخه " (النص: 543) وفيه: (طاوس) لا (ابن طاوس)، وكذلك في نسخه من " التقدمة " لابن أبي حاتم، كما في الهامش، فإن كان كذلك فإن ابن جريج روى عن طاوس شيئاً معنعناً. (¬2) مشاهير علماء الأمصار (ص: 146)، ونحوه في " الثقات " (7/ 331). وعدم سماع ابن جريج التفسير من مجاهد هو قول يحيى القطان، كما نقله عنه يحيى بن معين في " تاريخه " (النص: 4499) .......

والثانية: من احتمل الأئمة تدليسه، واحتج به أصحاب الصحيح وإن لم يبين السماع، لإمامته، أو قلة تدليسه، أو لكونه لا يدلس إلا عن ثقة، مثل: الزهري، والأعمش، وسفيان الثوري. قلت: الإمامة ليست معياراً لقبول حديثه لو كان كثير التدليس، فابن جريج إمام، لكن لا تقبل عنعنته لكثرة تدليسه، سوى ما يرويه عن عطاء والتفسير عن مجاهد. والثالثة: من توقف فيهم جماعة من العلماء، فلم يحتجوا إلا بما بينوا فيه السماع، مثل: أبي إسحاق السبيعي، وأبي الزبير المكي. والرابعة: من اتفقوا على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم، إلا بما بينوا فيه السماع، لغلبة ذلك منهم، وكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجهولين، مثل: محمد بن إسحاق، وبقية بن الوليد. والخامسة: من ضعفوا بأمر آخر مع جرحهم بالتدليس، مثل: أبي سعد البقال. هذه القسمة والتمثيل للحفاظ العلائي بتصرف، وهي أدق وألصق بالمذاهب المنقولة عن السلف من قسمة من جاء بعده (¬1). لكن محاكمة من أطلقت فيه العبارة من أولئك الرواة يحتاج إلى تحرير في حق كل راو مذكور به على سبيل الاستقلال، بمنزلة تحرير ألفاظ الجرح والتعديل فيه، لما تقدم بيانه من كون إطلاق اسم التدليس على الراوي إنما هو من قبيل الجرح المجمل. وكثير من المتأخرين من العلماء وطلبة هذا العلم صاروا إلى تقليد ابن حجر فيمن سماهم في " طبقات المدلسين " من تأليفه، وسلموا له بمجرد إيراده للراوي فيما اصطلحه (الطبقة الثالثة) وما بعدها لرد حديثه بمجرد ¬

(¬1) جامع التحصيل (ص: 130 _ 131).

فائدة في الرواة الوارد عليهم مظنة التدليس

العنعنة، وفي ذلك قصور ظاهر، والتقليد في هذا لا يجوز، فهذا علم بناؤه على البحث والنظر، فلا يسوغ لمنتصب له أن يقلد فيه، فيصير إلى الطعن في الحديث الصحيح بمجرد كون ابن حجر أورد هذا الراوي أو ذاك في كتابه، علماً بأن ابن حجر أورد الأسماء في غاية من الاختصار، والمتتبع لكلامه نفسه في تقوية الأحاديث يجده لا يلتزم ما التزمه هؤلاء المقلدون. فائدة في الرواة الوارد عليهم مظنة التدليس: قال الحاكم: " أهل الكوفة منهم من دلَّس، ومنهم من لم يدلس، وقد دلس أكثرهم، والمدلسون منهم: حماد بن أبي سليمان، وإسماعيل بن أبي خالد، وغيرهما، فأما الطبقة الثانية، فمثل أبي أسامة حماد بن أسامة، وأبي معاوية محمد بن خازم الضرير، وغيرهما، فإن أكثرهم لم يدلسوا " (¬1). وقال: أهل الحجاز والحرمين ومصر والعوالي ليس التدليس من مذهبهم، وكذلك أهل خرسان والجبال وأصبهان وبلاد فارس وخوزستان وما وراء النهر لا يعلم أحد من أئمتهم دلس، وأكثر المحدثين تدليساً أهل الكوفة ونفر يسير من أهل البصرة " وذكر أهل بغداد، ونفى أن يكون التدليس فيهم موجداً إلى زمان أبي بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، فهو الذي أظهر فيها التدليس (¬2). وقد صح عن شعبة بن الحجاج قال: " ما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلا يدلس، إلا ابن عون وعمرو بن مرة " (¬3). قلت: وهذا عام فيمن رآه شعبة من المعروفين بالاعتناء بالحديث، وحمله على العراقيين أهل بلده أظهر، من أجل قلة ذلك في غيرهم. ¬

(¬1) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 46) ....... (¬2) معرفة علوم الحديث (ص: 111، 112). (¬3) أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 52) وإسناده جيد.

الصيغة التي يندفع بها التدليس عن الموصوف به

وأما ما رُوي عن يزيد بن هارون أنه قال: " قدمت الكوفة، فما رأيت بها أحداً لا يدلس، إلا ما خلا مسعراً وشريكاً "، فهذا لا يثبت عنه (¬1). الصيغة التي يندفع بها التدليس عن الموصوف به: كل صيغة أداء صريحة في عدم احتمال الواسطة بين الراوي وشيخه فهي دافعة لمظنة التدليس ما دامت محفوظة عنه. مثل: (سمعت) و (حدثني) و (حدثنا) و (أخبرني) و (أخبرني) و (أنبأني) و (أنبأنا) و (قال لي) و (قال لنا) و (ذكر لي) و (ذكر لنا) , وما في معنى ذلك. ولا يقدح في هذا استعمال بعض الرواة صيغة (أخبرنا) مثلاً فيما تحملوه بالإجازة والمكاتبة والمناولة، فإن التحمل بتلك الطرق اتصال؛ لانعدام الواسطة، كما بينته في موضعه. والمعتبر في التدليس إسقاط الواسطة بين الراوي وشيخه، فكل ما لم يكن للواسطة فيه وجود فلا يقحم في التدليس، وإن لم يكن تلقيه بطريق السماع. ومن ذلك الراوي من كتاب الشيخ الصحيح النسبة إليه. تتمة في مسائل في التدليس: المسألة الأولى: الراوي إذا لم يكن مدلساً وقال فيما يرويه عن شيوخه: (عن) فهو اتصال، ولا يطلب ذكر السماع إلا زيادة في التوثق، لا شرطاً في الاتصال. وهذا الأصل تقدم شرحه في بيان ركن الاتصال في (القسم الأول). ¬

(¬1) أخرجه أبو نُعيم في " الحلية " (7/ 250 رقم: 10390) والخطيب في " الكفاية " (ص: 515) وإسناده واهٍ بمرة، فيه الحسن بن علي بن زكريا العدوي البصري كان معروفاً بوضْع الحديث .......

قيل لسعيد بن سليمان الواسطي سعدويه: لم لا تقول: (حدثنا)؟ فقال: " كل شيء حدثتكم به فقد سمعته، ما دلست حديثاً قط، ليتني أحدث بما قد سمعت " (¬1). فالثقات الذين لا يعرفون بالتدليس إذا حدثوا عن شيوخهم فقالوا فيما يروونه عنهم: (عن فلان)، فالأصل أنه مسموع لهم من أولئك الشيوخ. المسألة الثانية: تمييز من عرف بالتدليس، لكنه لا يدلس عن بعض الرواة خاصة. وهذا مراد به الراوي يرد ما لم يبين في السماع من حديثه، حتى يوقف على ما يدفع مظنة تدليسه، لكنه استثني مما يدلس فيه روايته عن بعض شيوخه بالعنعنة. منهم: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، فهو مدلس مشهور بذلك يدلس عن المجروحين؛ لكنه لم يكن يدلس عن عطاء بن أبي رباح، وهو كثير الحديث عنه. فقد صح عنه قال: " إذا قلت: قال عطاء، فأنا سمعته منه، وإن لم أقل: سمعت " (¬2). وكذلك فيما يرويه عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي ملكية، فقد قال عمرو بن علي الفلاس، سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: " أحاديث ابن جريج عن ابن أبي ملكية كلها صحاح "، وجعل يحدثني بها، ويقول: " ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (9/ 85 _ 86) بإسناد صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي خيثمة في " تاريخه " (ص: 356، 369 _ أخبار المكيين) وإسناده صحيح. قلت: وهذا نصٌّ من ابن جريج عن نفسه، مُقدم على ماجاء عن أحمد بن حنبل قال: " كلُّ شيء قال ابن جريج: قال عطاء، أو عن عطاء فإنه لم يسمعه من عطاء " (شرح علل الترمذي 1/ 376).

حدثنا ابن جريج، قال: حدثني ابن أبي ملكية "، فقال في واحد منها: " عن ابن أبي مليكة "، فقلت: قل حدثي، قال: " كلها صحاح " (¬1). وقال أحمد بن حنبل: سألت يحيى بن سعيد، قلت: هذه الأحاديث كلها صحاح _ يعني أحاديث ابن أبي خالد عن عامر _ ما لم يقل فيها: حدثنا عامر؟ فكأنه قال: " نعم "، وقال يحيى: " إذا كان _ يريد أنه _ لم يسمع أخبرتك " (¬2). ولك أن تعد من هذا قول الذهبي في (سليمان بن مهران الأعمش): " يدلس، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به، فمتى قال (حدثنا) فلا كلام، ومتى قال: (عن) تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم، كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال " (¬3). قلت: أراد بهذا الصنف سوى من ذكر من شيوخ الأعمش الذين اعتنى بالرواية عنهم، والتحقيق: أن رواية الأعمش على القبول في الجملة، وما أورده الذهبي من احتمال التدليس نادر لا أثر له في كثرة حديث الأعمش، غير أن التحري لدفع العلة مطلوب لتحقيق صحة الحديث. المسألة الثالثة: من عرف بالتشديد في الأخذ عمن عرف بالتدليس، فكان يوقفهم على السماع، فهذا يقبل حديث هؤلاء المدلسين من روايته عنهم. ورأس من يذكر مثالاً لهؤلاء المشددين شعبة بن الحجاج، فجميع من يروي عنه من المدلسين فحديثهم عمن حدثوا عنه سماع. ¬

(¬1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 241) وإسناده صحيح. (¬2) العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل (النص: 1218، 3567، 4320)، وابنُ أبي خالد هوَ إسماعيل، وعامرٌ هو الشعبي ....... (¬3) ميزان الاعتدال (2/ 224) وإبراهيم هو ابنُ يزيد النخعي، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو صالح هو ذكوان.

قال يحيى بن سعيد القطان: " كل ما حدث به شعبة عن رجل، فقد كفاك أمره، فلا تحتاج أن يقول لذلك الرجل: سمع ممن حدث عنه؟ " (¬1). وعرف هذا التحري عن يحيى بن سعيد القطان نفسه. المسألة الرابعة: الراوي المعروف بالثقة والإتقان، يوجد له الحديث أو الأحاديث المنكرة يأتي بها معنعنة، فوجهه أن يحمل منه ذلك على التدليس، وإن لم ينص على نعته بالتدليس أحد. مثل ما حكاه الحافظ صالح بن محمد الأسدي المعروف بـ (جزرة) قال: أنكروا على الخفاف (يعني عبد الوهاب) حديثاً رواه لثور بن يزيد عن مكحول عن كريب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديثا في فضل العباس، وما أنكروا عليه غيره، فكان يحيى بن معين يقول: " هذا موضوع وعبد الوهاب لم يقل فيه: حدثنا ثور، ولعله دلس فيه، وهو ثقة " (¬2). وقال البخاري: " يكتب حديثه "، قيل له: يحتج به؟ قال: " أرجو، إلا أنه كان يدلس عن ثور وأقوام أحاديث مناكير " (¬3). المسألة الخامسة: الراوي يروي الحديث عن ثقة ومجروح أو مجهول، فيسقط غير الثقة، فهذا ليس من التدليس. كحديث يرويه الراوي عن الليث بن سعد وابن لهيعة عن شيخ لهما، فيسقط الراوي ذكر ابن لهيعة لما فيه من الجرح، ويقتصر على الليث لثقته. فهذه الصورة لأهل العلم بالحديث فيها قولان: أولهما: لا يحسن فعل ذلك، قال الخطيب: " خوفاً من أن يكون في ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 35) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (11/ 23 _ 24) بإسناد صحيح إلى صالح ....... (¬3) تهذيب التهذيب، لابن حجر (2/ 640).

حديث المجروح ما ليس في حديث الثقة، وربما كان الراوي قد أدخل أحد اللفظين في الآخر وحمله عليه " (¬1). وهذا قول الإمام أحمد بن حنبل، فقد روى حرب بن إسماعيل، أن أبا عبد الله قيل له: فإذا كان الحديث عن ثابت وأبان عن أنس، يجوز أن أسمي ثابتاً وأترك أباناً؟ قال: " لا، لعل في حديث أبان شيئاً ليس في حديث ثابت "، وقال: " إن كان هكذا فأحب أن يسميهما " (¬2). وثانيهما: جواز ذلك. وفعله البخاري ومسلم في " صحيحيهما ". فمثاله عند البخاري، قوله: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حيوة وغيره، قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود، قال: قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس، أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (وذكر الحديث) (¬3). ومثاله عند مسلم، قوله: حدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن الليث وغيره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، حتى يذر " (¬4). ¬

(¬1) الكفاية (ص: 537). (¬2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 537) وإسناده صحيح. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 4320). (¬4) صحيح مسلم (رقم: 1414) .......

قلت: فهذا (الغير) في الموضعين هو عبد الله بن لهيعة، وليس على شرطهما، فكنيا عنه. بين ذلك في حديث البخاري أن ابن أبي حاتم الرازي أخرجه في " تفسيره " (¬1) وغير من رواية ابن لهيعة. والحديث معروف من روايته ورواية حيوة بن شريح والليث بن سعد، فأما رواية حيوة فهي التي احتج بها البخاري، وأما رواية الليث فعلقها بعدها، فدل على أن ذلك (الغير) ليس سوى ابن لهيعة. وأما حديث مسلم، فإن أبا نعيم في " المستخرج " أخرجه من طريق الحسن بن سفيان، قال: حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب، عن الليث وابن لهيعة، عن يزيد، به (¬2). فدل صنيع الشيخين أن الحديث إذا رواه الراوي عن رجلين عن شيخ لهما، فأسقط أحدهما لكونه مجروحاً، أو أبهمه، فلا أثر لذلك، بناء على اعتبار أصل ما تفيده المتابعة من الاتفاق في اللفظ، أو في المعنى، وكون من جمع بينهما من الثقات، فالأصل أنه يعلم اتفاقهما، ولو اختلفا لوجب عليه البيان. وكذلك فإنه لو سماهما جميعاً: الثقة والمجروح، فإن الحديث ثابت صحيح، اعتماداً على الثقة منهما، وأن رواية المجروح جاءت على وفاقه. وبهذا يتضح رجحان طريقة الشيخين، وضعف المظنة التي ذكرها الخطيب وسبقه إلى معناها الإمام أحمد بن حنبل، وأن الأمر على أي حال كان فليس هو من باب التدليس. * * * ¬

(¬1) تفسير ابن أبي حاتم (3/ 1045). (¬2) المستخرج على صحيح مسلم (رقم: 3295) .......

الفصل الثاني ألقاب الحديث الضعيف بسبب جرح الراوي

الفصل الثاني ألقاب الحديث الضعيف بسبب جرح الراوي

المبحث الأول: حديث المجهول

المبحث الأول: حديث المجهول تعريفه: هو الحديث الذي يروى بإسناد فيه راو مجهول. ويقع في كلام أئمة الحديث قولهم: (إسناده مجهول)، ويريدون هذا المعنى. والجهالة وإن لم تكن جرحاً حقيقيا للراوي، غير أنها اعتبرت سبباً لرد حديث الموصوف بها، إذ كون قبول الرواية يقتضي عدالة الرواة، وهي لم تثبت للمجهول، فكان القدح فيها من أجله، فصح أن تكون بمنزلة الجرح. قال الشافعي: " لا يقبل إلا حديث ثابت، كما لا يقبل من الشهود إلا من عرفنا عدله، فإذا كان الحديث مجهولاً أو مرغوباً عمن حمله كان كما لم يأت؛ لأنه ليس بثابت " (¬1). وقال ابن عدي: " إذا لم يعرف الرجل وكان مجهولاً، كان حديثه مثله " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الفقيه والمتفقه " (رقم: 286). (¬2) الكامل (3/ 535).

وتفسير الجهالة وبيان رد حديث بتفصيله في (القسم الأول). واستعمال أهل العلم بالحديث للقب (الحديث المجهول)، معروف عند المتقدمين، فمن أمثلته: أخرج ابن عدي (¬1) من طريق ابن أبي فديك، عن بريه بن عمر بن سفينة، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فقال له: " خذ هذا الدم فادفنه من السباع والدواب "، قال: فتغيبت فشربته، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك. وقد قال البخاري في (عمر بن سفينة): " عن أبيه، روى عنه ابنه بريه، إسناده مجهول " (¬2). وقال الترمذي (¬3): حدثنا القاسم بن دينار الكوفي، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي الكوفي، عن عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن أبي خالد الدالاني، عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة، عن أمه، عن أبيها، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يشمت العاطس ثلاثاً، فإن زاد فإن شئت فشمته، وإن شئت فلا ". قال الترمذي: " هذا حديث غريب، وإسناده مجهول ". قلت: قال ذلك لأن عمر وأمه وجده مجهولون. * * * ¬

(¬1) في " الكامل " (6/ 109). (¬2) التاريخ الكبير (3/ 2 / 160). (¬3) في " جامعه " (رقم: 2745) .......

المبحث الثاني: الحديث اللين

المبحث الثاني: الحديث اللين تعريفه: هو الحديث الذي يروى بإسناد فيه راو لين الحفظ، كالموصوف بسوء الحفظ وكثرة الأوهام والخطأ أو الغفلة مع صدقه في الجملة، ولم يبلغ به خطؤه درجة الفحش إلى حد الترك. والواقع في كلام أهل الحديث وصفهم لهذا النوع من الأحاديث بقولهم: (حديث ضعيف)، فمع أن كل أنواع الحديث المردود موصوفة بالضعف إلا أنهم يستعملون وصف (الضعيف) لهذا النوع كالاسم العلم له، كما تجد قولهم: (إسناد لين) و (إسناد ليس بالقوي) وشبه ذلك. وأمثلته كثير شائعة، كروايات خصيف بن عبد الرحمن، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وعلي بن زيد بن جدعان، وأمثالهم ممن ثبت صدقه، لكن كثر غلطه ووهمه واضطرابه في رواياته، فصار دون من تقبل رواياته عند انفراده، ولا يخلو حديث هذا الصنف من وقوع المنكرات فيه، لكنهم لا يطرحون طرحاً تاماً. ومن العبارة المفسرة المبينة لهذا المعنى قول ابن حبان في تحرير حال (أبي هلال محمد بن سليم الراسبي): " والذي أميل إليه في أبي هلال

الراسبي: ترك ما انفرد من الأخبار التي خالف فيها الثقات، والاحتجاج بما وافق الثقات، وقبول ما انفرد من الروايات التي لم يخالف فيها الأثبات التي ليس فيها مناكير؛ لأن الشيخ إذا عرف بالصدق والسماع، ثم تبين منه الوهم ولم يفحش ذلك منه لم يستحق أن يعدل به عن العدول إلى المجروحين، إلا بعد أن يكون وهمه فاحشاً وغالباً، فإذا كان كذلك استحق الترك، فأما من كان يخطئ في الشيء اليسير فهو عدل، وهذا مما لا ينفك عنه البشر، إلا أن الحكم في مثل هذا إذا علم خطؤه تجنبه واتباع ما لم يخطئ فيه، هذا حكم جماعة من المحدثين العارفين الذين كانوا يخطئون، وقد فصلناهم في الكتاب (¬1) على أجناس ثلاثة: فمنهم من لا يحتج بما انفرد من حديثه ذلك، ويقبل غير ذلك من روايته. ومنهم من يحتج بما وافق الثقات فقط من روايته. ومنهم من يقبل ما لم يخالف الأثبات، ويحتج بما وافق الثقات " (¬2). قلت: هذا المعنى الذي بينه ابن حبان هو من أحسن التفصيل لحال المراد بلين الحديث، أو سيء الحفظ، ممن لا يسقط حديثهم، ولا يحتج به لذاته، وفي كلامه ما يبين أنهم درجات تعود إلى قدر اللين في حفظهم من جهة خطئهم كما وكيفاً، مما بينته مفصلاً في محله من هذا الكتاب. ويلخص القول في علة إلحاق هذا النوع بالحديث الضعيف: هو رجحان جانب الخطأ من قبل الراوي الموصوف بسوء الحفظ، وإن لم نجزم به أنه وقع في الحديث الذي ضعفناه لأجله، فحيث علمنا ضعف حفظه، فمجرد نزول ضبطه عن درجة من غلب عليه الحفظ، جعل ذلك كافياً في رد حديثه. ¬

(¬1) يعني كتابه: المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين. (¬2) المجروحين (2/ 283 _ 284)

ولك أن تقول: رددنا حديثه من أجل الشك الراجح في ثبوته. فأما إذا تبين أن الحديث المعين مما خالف فيه، أو أخطأ، فهو محكوم عليه بلقب آخر، وهو (المنكر)، وما في معناه. وهذا النوع من الحديث المردود لعلة سوء حفظ راويه، مما يتنازعه علماء الحديث، فمنهم من يجعله حسناً؛ وذلك من أجل صدق راويه في الجملة، وعدم القطع بخطئه في الحديث المعين، ومنهم من يضعفه؛ لما تقدم من غلبة الظن أن التفرد من مثله محل شك. والتحقيق: أنه حديث ضعيف؛ من أجل أن الحسن مطلوب فيه رجحان الراوي إلى جانب صحة حديثه، لسلامته في غالب أمره من الوهم والخطأ، بحيث غلب وصفه بالحفظ على وصفه بسوء الحفظ، بخلاف راوي هذا النوع من الحديث فإن اختبار أمره أوجدنا وهماً وخطأً ومخالفات إسنادية ومتنية وقعت منه أورثت الريبة في سائر أفراده التي لا نقطع بخطئه فيها، إلا أن يندفع ذلك عنه بطريق صالح، فيرقى حديثه إلى القبول، وهو (الحسن لغيره) على ما تقدم ذكره في محله. واعلم أنه يلحق بهذا النوع من الحديث: رواية الراوي المختلط الواقعة بعد اختلاطه المؤثر، فإنه باختلاطه صار سيء الحفظ لما حدث به بعد الاختلاط، على ما بينته في (المبحث الخامس) من مباحث (تفسير الجرح). * * *

المبحث الثالث: الحديث المقلوب

المبحث الثالث: الحديث المقلوب وهو ثلاث صور بحسب القلب، منها يتبين معناه: الصورة الأولى: قلب في الإسناد. وهو أن يقلب الراوي اسم راو في الإسناد فيقول مثلاً: (معاذ بن سعد) بدل (سعد بن معاذ)، أو (مرة بن كعب) بدل (كعب بن مرة) ....... فإن كان الاسم لواحد لم يؤثر ويكون خطأ ممن قلبه، أما إن كان صيره بالقلب رجلاً آخر، فلا يشكل على صحة الرواية إذا كانا ثقتين أو ضعفها إذا كانا ضعيفين، إنما يقدح فيها لو كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً، ويعل بذلك الإسناد، فيكون الوصف بالقلب بسبب خطأ الراوي حكماً على الحديث بالضعف. كما وقع لعبد العزيز بن محمد الدراوردي، قال أحمد بن حنبل: " ما حدث عن عبيد الله بن عمر، فهو عن عبد الله بن عمر "، وفي رواية: " ربما قلب حديث عبد الله العمري، يرويه عن عبيد الله بن عمر " (¬1). قلت: الدراوردي سمع من عبيد الله بن عمر العمري وهو ثقة، وسمع ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (2/ 2 / 395، 396).

من عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف، فكان ربما قلب أحاديث عبد الله فجعلها عن عبيد الله، مما أوقعه في رواية المنكرات عن عبيد الله، والتي أصلها أحاديث عبد الله، فصار حديثه ضعيفاً عن عبيد الله، وإن كان الدراوردي ثقة في غيره. ومن مثال وقوع ذلك من الراوي دون أن يقدح في نفس حديثه وإن كان خطأ منه، من أجل قلبه من ثقة إلى ثقة، قول الحافظ يحيى بن محمد بن صاعد: " انقلبت على إبراهيم بن صرمة نسخة ابن الهاد، فجعلها عن يحيى بن سعيد في الأحاديث كلها "، قال: " انقلبت عليه وكان عنده عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار، فقال: عن يحيى بن سعيد عن ابن دينار، في الأحاديث كلها " (¬1). قلت: فلو سلم ابن صرمة من جرح سوى وقوع هذا منه، لما أضر في روايته؛ من أجل العلم بكونها في الأصل عن ثقة، وهو قد انتقل بها من ثقة إلى ثقة، لكن الرجل ضعيف. ومن أسوأ أمثلة القلب: ما نقله ابن أبي حاتم، قال: سئل أبو زرعة عن حديث رواه ابن المبارك، عن عنبسة بن سعيد، عن الشعبي، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ "؟ قال أبو زرعة: " هو مرسل مقلوب " (¬2). يعني أبو زرعة أن صوابه: (ابن المبارك عن عنبسة بن سعيد عن جابر عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم). فهذا قلب مفسد جداً، ليس في تصيير المرسل موصولاً فقط؛ إذ الشعبي تابعي، بل جابر هذا في حال الوصل هو جابر بن عبد الله الأنصاري ¬

(¬1) نقله ابن عدي في " الكامل " (1/ 408). (¬2) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1371) .......

الصورة الثانية: قلب في المتن

الصحابي، وفي حال كونه الراوي عن الشعبي فهو جابر بن يزيد الجعفي أحد المتهمين بالكذب في الحديث، فتأمل ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! الصورة الثانية: قلب في المتن. وهو كما وقع في " صحيح مسلم " في سياقه للفظ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "، فساق الحديث، وفيه: " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ". فعكس لفظ الحديث، والرواية المحفوظة: " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "، كما هي عند البخاري (¬1) وغيره. فهذا وقع الخطأ في رواية مسلم؟ فيه اختلاف، يرجع فيه إلى مظانه، إذ ليس للإطالة به هنا ضرورة (¬2). فهذا إذا قام عليه دليل بأنه مقلوب، كما هو الشأن في هذا المثال، فالمقلوب خطأ، وهو لاحق بقسم المردود، ولا يعتبر به ولا يتكلف له التأويل. الصورة الثالثة: التحول من حديث إلى حديث. ويفسر هذه الصورة قول ابن عدي في (ثابت بن حماد أبي زيد البصري): " له أحاديث يخالف فيها وفي أسانيدها الثقات، وأحاديثه مناكير ومقلوبات "، فلما جئنا لتبين معنى القلب فيها وجدنا مثاله، ما أخرجه ابن عدي من طريقه، قال: عن سعيد (¬3)، عن قتادة عن أنس، قال: قال ¬

(¬1) في " صحيحه " (رقم: 629، 1357، 6421). (¬2) انظر لذلك: إكمال المعلم بفوائد مُسلم، للقاضي عِياض (3/ 563) وفتح الباري، لابن حجر (2/ 146). (¬3) هو ابن أبي عروبة.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو يعلم الناس ما في الصف المقدم، لكانت قرعة "، قال ابن عدي: " وهذا الحديث وهم فهي ثابت بن حماد، وإنما يرويه قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة " (¬1). قلت: يعني ابن عدي أنه قلبه، فركّب إسناداً على غير متنه. وعبارات النقاد في المجروحين من الرواة لهذه العلة كثيرة، فمن ذلك: قال عمرو بن علي الفلاس: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن فرج بن فضالة، ويقول: " حدث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة " (¬2). وقال أحمد بن حنبل في (عبد الرحمن بن يزيد بن تميم): " قلب أحاديث شهر بن حوشب وصيرها حديث الزهري " وجعل يضعفه (¬3). وقال في (مصعب بن سلام): " انقلبت عليه أحاديث يوسف بن صهيب، جعلها عن الزبرقان السراج، وقدم بن أبي شيبة مرة فجعل يذاكر عنه أحاديث عن شعبة، هي أحاديث الحسن بن عمارة، انقلبت عليه أيضاً (¬4). وقال أبو زرعة الرازي في (معاوية بن يحيى الصدفي): " ليس بقوي، أحاديث كله مقلوبة ما حدث بالري، والذي حدث بالشام أحسن حالاً " (¬5). هؤلاء كان القلب يقع لأحدهم دون تعمد، إنما هو لسوء الحفظ. ¬

(¬1) الكامل (2/ 303) ....... (¬2) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (3/ 2 / 86). (¬3) العلل، لأحمد (النص: 4390). (¬4) العلل (النص: 5317)، وانظر: التاريخ الكبير، للبخاري (4/ 1 / 354) والجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 1 / 308). (¬5) الجرح والتعديل (4/ 1 / 384).

وممن كان يتعمد القلب من المتروكين الهلكى: صالح بن أحمد القيراطي، قال ابن حبان: " يسرق الحديث، ولعه قد قلب أكثر من عشرة آلاف حديث " (¬1). وقال ابن عدي: " يسرق الأحاديث، ويلزق أحاديث تعرف بقوم لم يرهم على قوم آخرين لم يكن عندهم وقد رآهم " (¬2). قلت: وهذا هو وجه إطلاقهم: (يسرق الحديث) على الراوي (¬3)، لكن لا يصح تسليم العبارة لقائلها في حق من أوقعه في القلب سوء الحفظ وضعف التيقظ، إنما هي في المتعمدين من جهة ادعاء أحدهم سماع ما لم يسمع. ومما يستدل به تارة لهذه الصورة عند النقاد شبه حديث الراوي بحديث راو آخر، فيستدلون بذلك الشبه على كون أحدهما سرقه من الآخر. هذه هي صور الحديث المقلوب، وما ثبت أنه كذلك فهو ضعيف خطأ، حتى ما ذكرته في الصورة الأولى من وقوع القلب بالتحول من ثقة إلى ثقة في الإسناد، فالحديث في هذه الحالة وإن كان محفوظاً في أصله، إلا أن ذلك الإسناد الذي وقع فيه القلب خطأ ضعيف، لا يعتبر به. * * * ¬

(¬1) المجروحين (1/ 373). (¬2) الكامل (5/ 112). (¬3) وانظر: الاقتراح، لابن دقيق العيد (ص: 236) والموقظة للذهبي (ص: 60). وانظر تفسير هذه العبارة في (المبحث الثاني) من مباحث (تفسير الجرح) .......

المبحث الرابع: الحديث المصحف

المبحث الرابع: الحديث المصحف تعريفه: هو الحديث يقع فيه تغيير في نقط الكلمة في إسناد أو متن، مع بقاء صورة الخط. مثل تصحيف: (جمرة) إلى (حمزة) في الأسماء، و (الحر) إلى (الخز) في المتون. ويعدون تغيير (عبيد الله) إلى (عبد الله) تصحيفاً لقرب الرسم. فإن وقع التغيير في حروف الكلمة مما تختلف به صور الخط، سمي (المحرف). مثل تحريف: (وكيع بن حدس) وهو الصواب، إلى: (وكيع بن عباس). وعند تحريف كثير من العلماء جواز إطلاق أحد اللفظين على الآخر، ومن اعتنى بهذا الباب سماه جميعاً (التصحيف). طريق معرفة التصحيف أو التحريف في الرواية: إن كان في أسماء الرواة فبمراجعة كتب التراجم، خصوصاً كتب

المتاشبه والمؤتلف والمختلف، وإن كان في المتون فبتتبع لفظ الحديث في كتب الرواية، وبمراجعة كتب اللغة، وغريب الحديث. وفي هذا الباب كتب خاصة مفيدة، منها: " إصلاح غلط المحدثين " للخطابي، و" تصحيفات المحدثين " لأبي أحمد العسكري. وأهمية معرفة هذا النوع من علوم الحديث لا تخفى؛ لما يقع بالتصحيف من الإحالة، فربما صيرت الراوي المجروح ثقة أو العكس، وما يقع في ألفاظ المتون من إفساد المعنى والخروج به عن جادته. والقدر المتميز تحريفه أو تصحيفه من الحديث ضعيف، وهو خطأ لا يعتبر به وسببه: وهم الراوي وخطؤه، فهو نتيجة لعدم إتقانه لما أخطأ فيه من ذلك. ومن مثاله: ما رواه قبيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عياض (¬1)، عن أبي سعيد، قال: كنا نورثه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني الجد. فبين مسلم بن الحجاج أن قبيصة لم يحسن قراءته فصحف فيه، قال مسلم: " وإنما كان الحديث بهذا الإسناد عن عياض، قال: كنا نؤديه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني في الطعام وغيره في زكاة الفطر "، قال مسلم: " فقلب قوله إلى أن قال: نورثه، ثم قلب له معنى فقال: يعني الجد " (¬2). وتكلم النقاد في طائفة من الرواة، بسبب ما عرفوا به من التصحيف في الأسماء والمتون، كما بينت في أسباب الجرح في باب (تمييز النقلة). * * * ¬

(¬1) هو عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرْح العامرِي ....... (¬2) التمييز، لمسلم بن الحجاج (ص: 189 _ 190).

المبحث الخامس: الحديث المدرج

المبحث الخامس: الحديث المدرج المدرج قسمان (¬1)، ببيانهما يتضح معناه الاصطلاحي: القسم الأول: مدرج الإسناد وهو أربع صور: الصورة الأولى: أن يقع الحديث للراوي عن جماعة يحمله عنهم فيجمع الكل بإسناد واحد، ولا يبين الاختلاف. وصورته: أن يروي الثقة الحديث عن رجلين، يجمع بينهما، رواية أحدهما مرسلة، ورواية الآخر متصلة، فيسوقه متصلاً، ومثل هذا الصنيع قيل: فعله سفيان بن عيينة مع حفظه، كما ذكره بعض الحفاظ (¬2)، ولم أقف له على مثال صالح من فعل سفيان، أو من فعل غيره من الثقات المتقنين. وكذلك سأل أيوب بن إسحاق بن سافري أحمد بن حنبل عن (محمد بن إسحاق)، قال: يا أبا عبد الله، ابن إسحاق إذا تفرد بحديث ¬

(¬1) تقدم ذكْر ما يقع الإدراج فيه من روايات الثقات في مباحث (النقد الخفي). (¬2) نقله ابن رجب في " شرح العلل " (2/ 765) عن يعقوب بن شيبة.

تقبله؟ قال: " لا، والله، إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا " (¬1). قلت: فأحمد لينه لهذا الصنيع. وكذلك كان من أسباب الطعن على (محمد بن عمر الواقدي)، حيث قال أحمد بن حنبل: " كنا نرى أن عنده كتباً من كتب الزهري أو كتب ابن أخي الزهري، فكان يحيل، وربما يجمع، يقول: فلان وفلان عن الزهري إخال حديث نبهان عن معمر. والحديث لم يروه معمر أيضاً، هو حديث يونس، حدثناه عبد الرزاق عن ابن المبارك عن يونس، كان يحيل الحديث ليس هذا من حديث معمر " (¬2). الصورة الثانية: أن يكون المتن عند راو بإسناد، إلا طرفاً منه فإنه عنده بإسناد آخر، فيرويه راو عنه تاما بالإسناد الأول. ومن هذا ما رأيته وقع من بعض أهل الحديث، يجد خبراً ساقه محمد بن إسحاق في السير والمغازي، ذكر طرفاً منه مسنداً، ثم أدرج فيه شيئاً في ذلك الخبر ليس مما وقع له بنفس ذلك الإسناد، فيخرجه الراوي من طريق ابن إسحاق بالإدراج كالجزء من ذلك الحديث المسند، بل ربما فصل المدرج عن سياق الخبر المسند مركباً له على إسناده (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (1/ 230) بإسناد لا بأس به، وابن سافري صدوق. (¬2) العلل (النص: 5139) ....... (¬3) كما يصلح له مثالاً الحديث الذي تعلق به طائفة من الفقهاء في مسألة مترتبةٍ على إسلام المرأة قبل زوجها، وهو ما جاء في قصة زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها مع زوجها أبي العاص بن الربيع فقال: " أي بُنية، أكرمي مثواه، ولا يخلصنَّ إليك، فإنك لا تحلين له "، وسياقه وعلته في كتابي " إسلام أحد الزوجين ومدى تأثيره على عقد النكاح ". ومن مثاله أيضاً ما وقعَ لسعيد بن أبي مرْيم في روايته لحديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تَباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تَدابروا .. " الحديث، فأدرج فيه: " ولا تنافسوا "، وكان قد رواه كذلك بالإدراج عن مالك، وأخطأ فيه، دخلت عليه هذه اللفظة من حديث أبي هريرة، انظر بيانه في تعليقي على كتاب " المقنع في علوم الحديث " لابن الملقن (1/ 230 _ 231).

الصورة الثالثة: أن يكون عند الراوي متنان مختلفان كل منهما بإسناد يخصه، فيرويهما راو عنه بأحد الإسنادين، أي يدخل متن أحدهما على إسناد الآخر. وهذه من صور دخول حديث في حديث، وشرحت مثالها في (النقد الخفي)، وهي غير الصور المتقدمة في (القلب). الصورة الرابعة: أن يسوق الراوي الإسناد فيعرض له عارض، فيقول كلاماً من قبل نفسه فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن الحديث فيرويه بذلك الإسناد. ومثال هذا ما وقع لثابت بن موسى الزاهد، قال ابن حبان: " روى عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار "، وهذا قول شريك، قاله في عقب حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد)، فأدرج ثابت بن موسى في الخبر، وجعل قول شريك كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سرق هذا من ثابت بن موسى جماعة ضعفاء وحدثوا به عن شريك " (¬1). قلت: وهذا ضعف بين وغفلة ظاهرة، كانت من أسباب ضعف ثابت هذا في الحديث. قال أبو الأصبغ محمد بن عبد الرحمن بن كامل (وكان ثقة): قلت لمحمد بن عبد الله بن نمير: ما تقول في ثابت بن موسى؟ قال: " شيخ له فضل وإسلام ودين وصلاح وعبادة "، قلت: ما تقول في حديث جابر: " من كثر صلاته بالليل؟ " فقال: " غلط من الشيخ، وأما غير ذلك فلا يتوهم عليه " (¬2). ¬

(¬1) المجروحين (1/ 207)، وانظر: الإرشاد، للخليلي (1/ 171)، انظر كذلك قصة ثابت هذا في " المدخل إلى الإكليل " للحاكم (ص: 63) ....... (¬2) أخرجه الحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 63) بإسناد صحيح.

القسم الثاني: مدرج المتن

القسم الثاني: مدرج المتن قال الذهبي: " هي ألفاظ تقع من بعض الرواة متصلة بالمتن، لا يبين للسامع إلا أنه من صلب الحديث، ويدل دليل على أنها من لفظ راو، بأن يأتي الحديث من بعض الطرق بعبارة لا تفصل هذا من هذا " (¬1). طريق معرفة الإدراج: يعرف الإدراج في المتن بأمور: أولها: وجود قرينة في السياق تدل على أن الجملة مدرجة، كاستحالة إضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم. مثل ما وقع في رواية البخاري (¬2) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للعبد المملوك الصالح أجران. والذي نفسي بيده، لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي، لأحببت أن أموت وأنا مملوك ". فقوله: " والذي نفسي بيده " إلى آخره، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بقرينة قوله: " وبر أمي "، فإن أمَّه صلى الله عليه وسلم ماتت عنه وهو صغير. وهذه الصورة من الإدراج متميزة دون حاجة إلى دليل خارجي، مع أن مسلماً حين أخرج الحديث (¬3) قال في روايته: " والذي نفس أبي هريرة بيده. . " فذكره. وثانيها: تصريح الصحابي راوي الحديث بأن تلك الجملة من كلامه. وذلك كحديث عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار "، وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة (¬4). ¬

(¬1) الموقظة (ص: 53 _ 54). (¬2) في " صحيحه " (رقم: 2410). (¬3) في " صحيحه " (رقم: 1665). (¬4) أخرجه البخاري (رقم: 1181، 4227، 6305) .......

قلت: وهذا الإدراج لا يخفى. وثالثها: تصريح بعض رواة الحديث بفصلها عن أصل الحديث. ومثاله ما وقع من بعض الرواة لحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعة وتسعين اسماً، مئة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة ". فأدرج فيه بعضهم سياق الأسماء، كما أخرجه الترمذي (¬1) وغيره، من طريق الوليد بن مسلم، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعاً، زاد بعد قوله صلى الله عليه وسلم: " دخل الجنة ": " هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك. . " إلى آخرها، لم تفصل فيه هذه الزيادة عن الحديث، مما ظنه بعض الناس في جملة الحديث. وهو عند البخاري (¬2) وغيره، عن أبي اليمان عن شعيب، دون ذكرها، وكذلك رواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد، دونها (¬3)، ومن غير وجه عن أبي هريرة بدونها أيضاً. ولك أن تقول: زادها ثقة، والزيادة وغير المخالفة من الثقة مقبولة. ونقول: نعم، على التحقيق، هي كذلك، لو كان بعض الرواة لم يذكرها وبعضهم ذكرها، وليس في مجرد ذلك دليل على الإدراج، ولكنا وجدنا ما بين أنها مدرجة: فأخرج الحديث عثمان بن سعيد الدارمي بإسناد آخر للوليد بن مسلم، ¬

(¬1) في " جامعه " (رقم: 3507)، وقال: " غريب "، وقال: " لا نعلم في كبير شيء من الروايات ذِكر الأسماء إلا في هذا الحديث ". (¬2) في " الصحيح " (رقم: 2585، 6957). (¬3) مُتفق عليه: أخرجه البُخاري (رقم: 6047) ومسلم (رقم: 2677).

قال عثمان: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا خليد بن دعلج، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لله تسعة وتسعين (¬1) اسماً، من أحصاها كلها دخل الجنة ". زاد بعده: قال هشام (يعني ابن عمار): وحدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، مثل ذلك، وقال: كلها في القرآن، هو الله الذي لا إله إلا هو، فساق الأسماء (¬2). فدل هذا على أن الوليد كان يحدث بالحديث المرفوع بإسنادين، وكان يدرج فيه الأسماء مما أخذه عن سعيد بن عبد العزيز قوله. لكن يجب أن تعلم أن كشف مثل هذه العلة ليس مما يتهيأ بيسر، بل هو صورة من الصور الخفية لعلل الحديث. قال الذهبي: " هذا طريق ظني، فإن ضعف توقفنا، أو رجحنا أنها من المتن " (¬3). واعلم أن الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري كان ممن عرف بالإدراج في المتون، يدرج اللفظ يفسر فيه اللفظ، ونحو ذلك، وليس بالكثير في حديثه. والتأصيل في الجملة: أنه لا يصح ادعاء الإدراج في إسناد أو متن إلا إذا قام برهان بين على وجوده، وإذا ثبت فإن كان من مدرج المتن حكم لذلك القدر المدرج بكونه ليس من الخبر، ولا يقدح هذا في سائر الخبر ويكون ذلك القدر من الجملة الحديث الضعيف رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) كذا، والجادة: (وتسمعون). (¬2) انظر: النقض على المريسي، لعُثمان الدارمي (1/ 180 _ 183) ....... (¬3) الموقظة (ص: 54).

وإن كان من مدرج الإسناد فإنه قد يستدل به على لين الرواي أو ضعفه، وإن كان من الثقات المتقنين فبيان إدراجه فيها مزيل لأثر محذورها، ولا يقدح صنيع ذلك فيه، إنما يقدح فيما نتج عن إدراجه من أثر، وحديثه دون الإدراج صحيح. وللحافظ أبي بكر الخطيب كتاب " الفصل للوصل المدرج في النقل "، وهو كتاب ثري نافع في بابه. * * *

المبحث السادس: الحديث الشاذ

المبحث السادس: الحديث الشاذ الشذوذ هو: مخالفة الثقة في روايته لمن هو أقوى منه، وقعت المخالفة في المتن أو السند. والأقوى منه قد يكون ثقة آخر، وقد يكون عدداً حاصلاً بمجموعهم رجحان إتقانهم على إتقانه. كما أنه إذا وقع فقد يكون في سند أو بعض سند، ومتن أو بعض متن. وقد عرفه الشافعي بقوله: " ليس الشاذ من الحديث: أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره، إنما الشاذ من الحديث: أن يروي الثقات حديثاً، فيشذ عنهم واحد، فيخالفهم " (¬1). وعرفه الحاكم بقوله: " حديث يتفرد به ثقة من الثقات، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي ومناقبه " (ص: 233) بإسناد صحيح , ونحوه (ص: 234). (¬2) معرفة علوم الحديث (ص: 119)، وفي سؤالات مسعود السجزي له (النص: 150) قال: " بهْز بن حكيم بن معاوية بن حيْدة القشيري من ثقات البصريين ممن يُجمع حديثه، وإنما أسقط من الصحيح روايته عن أبيه عن جده؛ لأنها شاذةٌ لا مُتابع لها في الصحيح ". قلت: بل لم يُخرجاها لأنها دون شرطهما في القوة، وإلا فهي جيدة قوية .......

ثم استدل بتعريف الشافعي للشاذ، وبين التعريفين مفارقة، وهي أن الشافعي اشترط لصحة الوصف بالشذوذ المخالفة من قبل الثقة، واقتصر الحاكم على مجرد تفرد الثقة بما لم يأت عن غيره. والتحقيق أن تعريف الشافعي يبطل تعريف الحاكم الذي استشهد به، فإنه نفى أن يكون الشذوذ تفرد الثقة، والحاكم يجعله تفرد الثقة، وأكده بالمثال الذي مثل به، وهو حديث معاذ بن جبل في جمع الصلاتين في غزوة تبوك، وهو حديث لم تأت في إسناده ولا في متنه مخالفة من ثقة، ولكنه حديث فرد. والحاكم حكم عليه بالشذوذ، بل زعم أن الحديث موضوع، مع أنه قال: " لا نعرف له علة نعلله بها " (¬1). والتحقيق: أن تفرد الثقة بحديث من غير مخالفة لا يعد من الشذوذ، بل وقوع المخالفة شرط في الشذوذ، أو ما ينزل منزلة المخالفة، كزيادة الثقة المتوسط الرفع أو الوصل وليس محله في الإتقان محل من تسلم زيادته على من لم يأت بها، هذه هي القاعدة (¬2). مثال الشذوذ في الإسناد: حديث حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " (¬3). ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص: 120). (¬2) انظر الكلام حول التفرد في (النقد الخفي). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 386) وأحمد (6/ 144) والدارمي (رقم 2127) وأبو داود (رقم: 2134) والترمذي في " الجامع " (رقم: 1140) و " العلل " (1/ 448) والنسائي (رقم: 3943) وابن ماجة (رقم: 1971) وابن أبي حاتم في " العلل " (رقم: 1279) والطحاوي في " شرح المشْكل " (رقم: 232، 233) وابن حبان (رقم: 4205) والحاكم (2/ 187 رقم: 2761) والبيهقي في " الكبرى " (7/ 298) والخطيب في " الموضع لأوهام الجمع والتفريق " (2/ 107) من طرق عن حماد بن سلمة، بإسناده به.

حماد بن سلمة ثقة، لكنه تفرد بوصل هذا الحديث. قال أبو زرعة الراوي: " لا أعلم أحداً تابع حماداً على هذا " (¬1). قلت: خالفه حماد بن زيد وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي، فقالوا: عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث (¬2). وهذه رواية مرسلة، وحماد بن زيد وابن علية وعبد الوهاب كل واحد منهم أوثق من حماد بن سلمة، فكيف بهم مجتمعين؟. فلذا حكم جماعة من الحفاظ بترجيح روايتهم المرسلة. فرجح أبو زرعة الرازي الإرسال. وقال الترمذي بعد ذكر مخالفة حماد بن زيد وغير واحد لابن سلمة: " وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة "، وكان في " العلل " سأل البخاري عنه؟ فأشار إلى تعليله بإرسال حماد بن زيد له. وكذلك أعقبه النسائي بذكر إرسال ابن زيد له، مشيراً إلى علته. ¬

(¬1) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1279). (¬2) أخرجه ابن جرير في " تفسيره " (5/ 315) من طريق حماد بن زيد. وابن أبي شيبة (4/ 386) وابنُ سعد في " الطبقات " (8/ 168) عن ابنِ عُلية. وابن جرير أيضاً (5/ 314) من طريق ابنِ عُلية وعبد الوهاب. وكان قد أخرجه عن عبد الوهاب بواسطة مُحمد بن بشار عنه، بالرواية المرسلة، وأخرجه (5/ 315) عن سُفيان بن وكيع، عن عبد الوهاب، بمثل رواية حماد بن سلمة موصولة، لكن هذه رواية ضعيفة، ابنُ وكيع ضعيف، وخالف ابن بشار الثقة الحافظ عن عبد الوهاب .......

وحاصله: أن رواية الجماعة (محفوظة) ورواية ابن سلمة (شاذة). وهذا مثال للشذوذ مع أن وجه المخالفة فيه ليس على معنى المعارضة للرواية الأخرى، وإنما جاء من جهة أن حماد بن سلمة ليس في الإتقان في درجة من يستقل عن الجماعة بزيادة، لما له من الأوهام مع ثقته. مثال الشذوذ في المتن: ما رواه همام بن يحيى، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ". قال فيه أبو داود: " هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق، ثم ألقاه، والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام " (¬1). قلت: أراد أبو داود بالمنكر الشاذ؛ لأن مخالفة الثقة شذوذ لا نكارة، وهمام ثقة، لكن هذا معنى اصطلاحي واسع، وإنما ذكرت هذا الحديث مثالاً للتنبيه أيضاً على إطلاقهم النكارة على الشذوذ، بجامع الوهم والخطأ في كلٍّ. وما ذكره من تفرد همام به بهذا اللفظ صحيح بالنظر إلى وروده من طريق ثقة، وإلا فقد جاء من وجه آخر ضعيف لا يعتبر به. وقد قال النسائي: " هذا الحديث غير محفوظ " (¬2)، وهذه العبارة ألصق بالاصطلاح من عبارة أبي داود. والحديث شاذ لمخالفة سياق متنه لما هو المحفوظ من رواية أصحاب الزهري كيونس بن يزيد الأيلي وشعيب بن أبي حمزة وإبراهيم بن سعد ¬

(¬1) سنن أبي داود (رقم: 19). (¬2) السنن الكبرى (رقم: 9542).

زيادات الثقات

وزياد بن سعد وغيرهم، والحكم بالوهم فيه من قبل همام مظنة لا قطع، إذ يحتمل أن يكون ابن جريج دلس فيه (¬1). والحكم بشذوذ هذا اللفظ إدراك من الناقد لما وراء ظاهر الإسناد، وإبانة لوهم الثقة بالبرهان، إذ أتى بما هو على خلاف المحفوظ عن الزهري من رواية متقني أصحابه. وتلاحظ من هذا أن اعتبار درجات الثقات هو المقياس لتمييز الحفظ من الشذوذ. ويتفرع عن الكلام في (الشذوذ) مسألتان: المسألة الأولى: زيادات الثقات. الثقة يزيد أحاديث يحفظها لا يرويها غيره، أو يشارك غيره في رواية حديث، لكنه يزيد فيه ما لم يأت به غيره في إسناده أو متنه. فهذان نوعان، فأما الأول فليس مراداً هنا، إذ هو في أفراد الثقات التي يتميز بها الراوي عن غيره، وهي الأكثر في روايات الأحاديث الصحيحة، لا يكاد ثقة يخلو من أن يأتي بالشيء الذي لا يرويه غيره، خصوصاً أولئك الحفاظ الذين أكثروا رواية الحديث والاعتناء به. كما قال علي بن المديني: " نظرنا فإذا يحيى بن سعيد يروي عن سعيد بن المسيب ما ليس يروي أحد مثلها، ونظرنا فإذا الزهري يروي عن سعيد بن المسيب شيئاً لم يروه أحد، ونظرنا فإذا قتادة يروي عن سعيد بن المسيب شيئاً لم يروه أحد " (¬2). وأما النوع الثاني فهو المراد بهذه المسألة. ¬

(¬1) وانظر الحديث بتخريجه والكلام في علته في تعليقي على كتاب " المقنع في علوم الحديث " لابن الملقن (1/ 182 _ 184) ....... (¬2) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 76).

المزيد في متصل الأسانيد

وجملة ما يحتاج إليه في هذا المقام هو أن الزيادة كانت في الإسناد أو المتن، لا تخلو من أن تكون مخالفة لرواية من لم يأت بها أو غير مخالفة: فإن كانت مخالفة لرواية الأقوى ضبطاً، حكمنا بكونها (شاذة). وإن كانت غير مخالفة نظرنا اعتبار أمرين لقبولها: أن تكون من ثقة متقن، وأن لا يقوم دليل على خطئه فيها، فإن كانت بهذه كانت المثابة حكمنا بكونها (محفوظة). وإن لم يكن من أتى بها في إتقانه في المنزلة التي ترجح معها زيادته، للين في حفظه، كحماد بن سلمة في المثال المتقدم، حكمنا بكونها (شاذة) (¬1). وما حكمنا بشذوذه فهو (ضعيف). المسألة الثانية: المزيد في متصل الأسانيد. هذا مبحث يراد به الإسناد الذي يأتي صريحاً بذكر السماع بين ثقتين، فيقول الراوي الثقة المسمى (خالد) مثلاً: (حدثني زيد) ثم يوجد عن خالد هذا قوله: (حدثني بكر عن زيد)، ويبحث في كل من الإسنادين إلى (خالد) فلا يوجد فيهما علة تدل على وهم أو خطأ، وخالد نفسه لا يعاب في حفظه وصدقه، بل هو ثقة، فيقال: (هذا من المزيد في متصل الأسانيد) حملاً على كون (خالد) سمع الحديث أولا بواسطة، ثم لقي (زيداً) فحدثه به، وهذا واقع في الأسانيد غير مستنكر. فالقول: هو من المزيد في متصل الأسانيد أولى من تخطئة الثقة بغير حجة بينة، إلا أن يوجد أن خالداً لم يدرك زيداً، فيكون بعض الرواة أخطأ فيه، أو وقع في الإسناد سقط من نسخة أو كتاب. ¬

(¬1) وراجع القول في (زيادات الثقات) فيما تقدَّم في (النقد الخفي) .......

مثاله: ما رواه حجاج بن أبي عثمان الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى ". قال (أي عكرمة): فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة، فقالا: صدق. فهذا إسناد صحيح متصل، جاء بيان سماع رواته بعضهم من بعض من وجوه عن حجاج الصواف، وهو ثقة. وروى الحديث معمر بن راشد ومعاوية بن سلام، وهما ثقتان، وسعيد بن يوسف، وهو ضعيف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري. فزادوا عن ابن كثير رجلاً بين عكرمة والحجاج. وهذه رواية صحيحة كذلك، لكنها لا تقدح في اتصال الأولى، لثقة حجاج الصواف وإتقانه عن يحيى بن أبي كثير. فهذه صورة للمزيد في متصل الأسانيد، بنيت على اعتبار انتفاء المسوغ لتخطئة الثقة، فيكون الجمع: أن عكرمة سمعه بواسطة عن الحجاج، ثم لقي الحجاج فسمعه منه دون واسطة (¬1). أما إن جاء الإسناد معنعناً في موضع، وجاء من جهة أخرى صحيحة بزيادة راو في محل العنعنة، فليس من المزيد في متصل الأسانيد، بل الرواية الناقصة ضعيفة للانقطاع، لا للشذوذ، والمزيدة هي المحفوظة. وذلك مثل: ما رواه أبان بن يزيد العطار وحرب بن شداد، ¬

(¬1) شرحت الاختلاف في هذا الحديث في كتاب " علل الحديث "، وهناك تخريجه .......

ومحمد بن المثنى، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنه دخل على عائشة، وهو يخاصم في أرض، فقالت عائشة: يا أبا سلمة، اجتنب الأرض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ظلم قيد شبر من الأرض، طوقه يوم القيامة من سبع أرضين " (¬1). ولا إشكال في صحته على هذا الظاهر، لكن رواه أصحاب ابن أبي كثير مرة أخرى: علي بن المبارك، وحسين المعلم، وأبان العطار، وحرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة، به (¬2). فزادوا واسطة بين يحيى وأبي سلمة، ولم نجد في شيء من الطرق أن يحيى سمعه من أبي سلمة، فدل على أنه تلقاه عنه بالواسطة، وروايته بدونها منقطعة. أما مجيء الزيادة وهي مرجوحة شاذة، فمثل ما رواه زهير بن معاوية، عن حميد الطويل، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة والحج معاً، فقال: " لبيك بعمرة وحجة ". قال البخاري: " هذا خطأ، أصحاب حميد يقولون: عن حميد سمع أنساً " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 64، 259) من طريق أبان بن يزيد العطار، والطحاوي في " شرح المشْكل " (رقم: 6145، 6146) من طريق حرْب بن شداد، ومُحمد بن المثنى، جميعاً، عن يحيى بن أبي كثير، به، واللفظ لأبان. (¬2) أخرجه أحمد (6/ 78) والبخاري (رقم: 2321) من طريق حسين المعلم، والبخاري (رقم: 3023) من طريق علي بن المبارك، وأحمد (6/ 252) ومسلم (رقم: 1612) من طريق حرْبٍ، ومسلم من طريق أبان، وفي رواية حُسين وأبان قال يحيى: " حدثني مُحمد بن إبراهيم، أن أبا سلمة حدثه ". (¬3) العلل الكبير، للترمذي (1/ 375).

قلت: كذلك قال هشيم بن بشير (¬1)، ويحيى بن سعيد القطان (¬2)، وسفيان بن عيينة (¬3)، ذكروا جميعاً عن حميد سمع أنساً. كما رواه غيرهم ما يزيد على ستة عشر نفساً من أصحاب حميد، عنه، لم يذكروا واسطة بينه وبين أنس، بما يأتي على تأييد رواية من ذكر السماع. فهذه الصورة أيضاً ليست من المزيد في متصل الأسانيد. * * * ¬

(¬1) أخرجه أحمد (19/ 22 رقم: 11958) ومسلم (رقم: 1251) وأبو داود (رقم: 1795) والنسائي (رقم: 2729) وابنُ خزيمة (رقم: 2619) والطبراني في " الصغير " (رقم: 968) والبيهقي في " الكبرى " (5/ 9). (¬2) أخرجه أحمد (20/ 236 رقم: 12870). (¬3) أخرجه الحميدي (رقم: 1215) وأبو يعلى (6/ 325، 391 رقم: 3648، 3737 _ وسقط منه ذكر سفيان في الموضع الأول) .......

المبحث السابع: الحديث المعلل

المبحث السابع: الحديث المعلل تعريفه: هو الحديث الذي يُطلع فيه على علة قادحة في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الجامع شروط الصحة في الظاهر. ويندرج فيه مما تقدم: صور من المعلل بالقلب، والتصحيف، والإدراج، كما يندرج تحته: الشذوذ، والاضطراب. فهذه وإن كانت لها ألقابها في الضعف، لكن يصلح تسميتها عند اكتشاف الضعف بسببها: (المعلل). ويدخل في المعلل ما هو أوسع من ذلك، إذ تارة تكون العلة من جهة تفرد الراوي، وتارة من جهة المخالفة، وتارة من جهة الاختلاف. وشرح هذا النوع بعمومه، وأمثلته، وصوره، وطرق كشفها في (النقد الخفي). كما يجب ملاحظة أن من الصور ما يدرج تحت العلة، لكنه لا يقدح في ثبوت الحديث، كشك الراوي وتردده بين ثقتين، يقول: (حدثني فلان

أو فلان)، فهذا وشبهه لا يقدح؛ لأن الحديث كيفما كان فهو عن ثقة (¬1). ومن هذا: " الحديث الذي يرويه العدل الضابط عن تابعي مثلاً عن صحابي، ويرويه آخر مثله سواء عن ذلك التابعي بعينه، لكن عن صحابي آخر، فإن الفقهاء وأكثر المحدثين يجوزون أن يكون التابعي سمعه منهما معاً إن لم يمنع منه مانع " (¬2). قال السخاوي: " وفي الصحيحين الكثير من هذا، وبعض المحدثين يعلون بها، متمسكين بأن الاضطراب دليل على عدم الضبط في الجملة ". قال: " والكل متفقون على التعليل بما إذا كان أحد المتردد فيهما ضعيفاً " (¬3). والأصل أن طريق معرفة علة الحديث جمع طرقه، ثم النظر في اختلاف رواته، ومراعاة مكانهم في الحفظ والضبط. * * * ¬

(¬1) انظر معنى ذلك في " الكفاية " للخطيب (ص: 534). (¬2) فتح المغيث، للسخاوي (1/ 20). (¬3) فتح المغيث، للسخاوي (1/ 20) .......

المبحث الثامن: الحديث المضطرب

المبحث الثامن: الحديث المضطرب تحرير معنى الاضطراب يتبين من حصره في الصورتين التاليتين: الصورة الأولى: أن يروى الحديث على أوجه مختلفة متساوية في القوة، بحيث يتعذر الترجيح. فهذا وإن لم نجزم بخطأ أحد من رواته، لكن الخطأ موجود من راو أو أكثر من غير تعيين. وتصح دعوى الاضطراب حين يتعذر الجمع بين الوجوه المختلفة، فإذا أمكن الجمع فلا اضطراب. وهذه الصورة واردة في السند والمتن. فمثالها في السند: ما وقع من الاضطراب الشديد في إسناد حديث جرهد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الفخذ عورة ". فهذا الحديث اضطرب فيه الرواة على نحو من عشرين وجهاً مختلفاً، قد يمكن إرجاع بعض منها إلى بعضها الآخر، لكن لا انفكاك عن بقاء الاختلاف المؤثر، الذي يتعذر معه ترجيح بعضها على بعض (¬1). ¬

(¬1) شرحت علته في كتابي " أحكام العورات ".

كما يصلح له مثالاً حديث: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث "، فإن التحقيق أنه مضطرب سنداً ومتناً (¬1). والصورة الثانية: التردد في الإسناد أو المتن من الراوي المعين، فيقال: (كان فلان يضطرب فيه فتارة يقول كذا، وتارة يقول كذا). مثاله: ما أخرجه الترمذي (¬2) من طريق شعبة بن الحجاج، قال: أخبرني ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي أيوب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال، وليقل الذي يرد عليه: يرحمك الله، وليقل هو: يهديكم الله ويصلح بالكم ". قال الترمذي: " كان ابن أبي ليلى يضطرب في هذا الحديث، يقول أحياناً: عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول أحياناً: عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم ". قلت: وابن ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، كان ضعيفاً لسوء حفظه. وفي هذا أن اضطراب الراوي المعين في أحاديثه من أسباب ضعفه في حفظه، والحديث الذي اضطرب فيه يعل من جهة لين ذلك الراوي في حفظه، ومن جهة اضطرابه في تلك الرواية. وربما وقع الاضطراب من الثقة، لكن يكون قليلاً إلى جنب ما روى، فمثله يوجب احتياطاً ومزيد تحر قبل تسليم قبول روايته، وذلك بتتبع طرق حديثه المعين، فإن سلم من الاختلاف المؤثر فهو صحيح الحديث؛ إعمالاً لما ترجح من الثقة المقتضية لضبطه. ¬

(¬1) كما بينته في كتابي " علل الحديث "، وتقدم لهذه الصورة مَزيد تمثيل في (النقد الخفي). (¬2) في " جامعه " (رقم: 2742) .......

مثال هؤلاء (عبد الملك بن عمير)، فهو ثقة، وقد ذكر بذلك، قال أحمد بن حنبل: " مضطرب الحديث جدا مع قلة حديثه، ما أرى له خمس مئة حديث، وقد غلط في كثير منها "، وقال يحيى بن معين: " مخلط " (¬1) وهو يريد هذا المعنى. واضطرابه بينه أحمد بن حنبل في رواية أخرى عنه، فقال: " يختلف عليه الحفاظ " (¬2). قلت: وهذا يعني أن ما لم يختلف عليه فيه فهو من صحيح حديثه، وما اختلف عليه فيه اختلافاً غير قادح على أي وجوهه كان، فهو كذلك من صحيح حديثه، وما كان منه غير ذلك فهو مما يعل باضطرابه فيه، ويضعف لذلك. وقد يقع الاضطراب للرواي الثقة في روايته عن شيخ معين لا مطلقاً. وذلك كقول أحمد بن حنبل في (محمد بن عجلان): " ثقة "، فقيل له: إن يحيى (يعني القطان) قد ضعفه؟ قال: " كان ثقة، إنما اضطرب عليه حديث المقبري، كان عن رجل، جعل يصيره عن أبي هريرة " (¬3). قلت: فمثل هذا إن قدح في حديث الراوي، فإنه لا يقدح إلا فيما رواه عن ذلك الشيخ، على أن ابن عجلان لم يضر حديثه عن المقبري أنه اضطرب فيه خلافاً لما قد يفهم من جرح يحيى القطان؛ لأن اضطرابه من جهة أن سعيداً المقبري كان يروي عن أبيه عن أبي هريرة، وسمع كذلك من أبي هريرة، فذكر ابن عجلان عن نفسه أنها اختلطت عليه، فجعلها جميعاً عن سعيد عن أبي هريرة، فما ذكر فيه من روايته عن سعيد: (عن ¬

(¬1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (2/ 2 / 361). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 360 _ 361)، أي: أنَّ الرواة الثقات المتقنين إذا رووا عنه يذْكرون في رواياته اختلافاً، وذلك من جهته لا من جهتهم؛ لحفظهم. (¬3) العلل، رواية أبي بكر المروذي وغيره (النص: 162) .......

أبيه) فهو متصل صحيح، وما لم يذكر (عن أبيه) فإما أن يكون سعيد بين سماعه من أبي هريرة، وإما أن يكون رواه بالعنعنة، فإن كان مبين السماع فهو كذلك متصل، وما لم يبين فإن وافق ابن عجلان عليه غيره، فهو متصل، وإلا وردت عليه مظنة الانقطاع بين سعيد وأبي هريرة، وإذا احتملنا فيه سقوط الواسطة فهو منقطع مظنة، لكن حيث علمنا الواسطة المظنون سقوطها وهي (أبو سعيد المقبري) وهو ثقة، فلك أن تقول: عاد الإسناد إلى أن يكون صحيحاً للعلم بالساقط المتعين كونه ثقة. * * *

المبحث التاسع: الحديث المنكر

المبحث التاسع: الحديث المنكر هو ضد (المعروف). وله بعد الاصطلاح صورتان: الصورة الأولى: الحديث الفرد المخالف الذي يرويه المستور، أو الموصوف بسوء الحفظ، أو المضعف في بعض شيوخه دون بعض، أو بعض حديثه دون بعض. مثل ما رواه مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء ". قال مصعب بن شيبة: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قلت: خالف مصعب سليمان التيمي وأبو بشر جعفر بن إياس، فقالا: عن طلق، قال: فذكراه من قوله.

الصورة الثانية: الحديث الذي يتفرد به الضعيف

وهذان ثقتان، ومصعب ضعيف، ولا متابع له (¬1). الصورة الثانية: الحديث الذي يتفرد به الراوي الضعيف ولا يوجد له أصل من غير طريقه. فهذا منكر لمجرد تفرد الضعيف وإن لم يخالف. مثل ما رواه محمد بن عمر بن الرومي، قال: حدثنا شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا دار الحكمة، وعلي بابها " (¬2). فهذا تفرد به ابن الرومي هذا عن شريك، وهو ضعيف، قال أبو حاتم الرازي: " روى عن شريك حديثاً منكراً " (¬3). قلت: يعني هذا الحديث. وقال الترمذي: " هذا حديث غريب منكر "، وقال ابن حبان: " هذا خبر لا أصل له عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا شريك حدث به، ولا سلمة بن كهيل رواه، ولا الصنابحي أسنده " (¬4). قلت: والرومي هذا لين الحديث ليس بالقوي. واعلم أن النكارة تقع في الإسناد وتقع في المتن، إذ التفرد أو المخالفة واردة فيهما. ومظنة وجوده: كتب الضعفاء التي عنيت بذكر ما يؤخذ على الراوي أو بعض ما يؤخذ عليه، مما يندرج تحت أسباب ضعفه، مثل: " الكامل " ¬

(¬1) خرجت هذا الحديث وبينت علته بتفصيل في كتابي " إعفاء اللحية، دراسة حديثية فقهية " ....... (¬2) أخرجه الترمذي (رقم: 3723). (¬3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 22). (¬4) المجروحين (2/ 94).

تفسير مصطلح (المنكر) في كلام المتقدمين

لابن عدي، و" الضعفاء " للعقيلي، و" المجروحين " لابن حبان، وهي أنفع الكتب في هذا الباب. تفسير مصطلح (المنكر) في كلام المتقدمين: وقع في كلام متقدمي أئمة الحديث إطلاق وصف (المنكر) على ما يأتي: أولاً: تفرد الثقة، وقع هذا في بعض كلام أحمد بن حنبل، وقاله أبو بكر البرديجي (¬1). وكان يحيى القطان يتشدد في تفرد الثقة، حتى ربما عد ذلك من وهمه. قال أحمد بن حنبل: قال لي يحيى بن سعيد: " لا أعلم عبيد الله (يعني ابن عمر) أخطأ إلا في حديث واحد لنافع، حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام "، قال أحمد: فأنكره يحيى بن سعيد عليه، فقال لي يحيى بن سعيد: " فوجدته، فوجدت به العمري الصغير (¬2) عن نافع عن ابن عمر، مثله "، قال أحمد: لم يسمعه إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العمري صححه (¬3). قلت: حكم بالنكارة للغرابة، فلما زالت بالمتابعة حكم بصحته، مع أنها متابعة من لين، إذ العمري الصغير ضعيف ليس بالقوي في الحديث، لكنه صالح في المتابعات. وهذا مما لم تجر عليه طريقة الشيخين ولا غيرهما، بل الثقة مقبول التفرد، ما لم يأت بما يخالف فيه. ¬

(¬1) انظر: شرح علل الترمذي (1/ 450 _ 452) ....... (¬2) يعني عبد الله بن عمر العمري. (¬3) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 216) .......

ثانياً: أنواع من الحديث الضعيف لأسباب أخرى، كالحديث الشاذ، أو الحديث الفرد الذي قام الدليل على أنه قد وهم فيه الثقة، والمدرج، والمنقطع، وحديث المجهول، وقع ذلك في كلام غير واحد من الأئمة المتقدمين، كيحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، والنسائي، وغيرهم، يطلقون لقب (المنكر) على هذه الأنواع. ثالثاً: الحديث الفرد الذي يرويه الصدوق النازل عن درجة أهل الإتقان، وليس له عاضد يصحح به، ترى هذا في كلام أحمد بن حنبل وأبي داود والنسائي والعقيلي وابن عدي وغيرهم. وهذا هو (الحديث الحسن) وهو أحد قسمي (الحديث المقبول). فالنكارة هنا لا يراد بها غير معنى التفرد، ويزول أثرها إذا استقصينا تحقيق شروط حسن الحديث. رابعاً: الحديث الفرد الذي يرويه المستور، أو الموصوف بسوء الحفظ، أوالمضعف في بعض شيوخه دون بعض، أو بعض حديثه دون بعض، وليس له عاضد يقوي به. وهذا يوجد في كلام كثير من أئمة الحديث. مثل ما رواه جعفر بن سلميان الضبعي، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين، ويقال له: يرحمكم الله، وإذا قيل له: يرحمكم الله، فليقل: يغفر الله لكم " (¬1). ¬

(¬1) أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة " (رقم: 224) وعنه: ابن السني في " اليوم والليلة " له (رقم: 259). وأخرجه الهيثم الشاشي في " مسنده " (رقم: 751) والحاكم (2/ 266 رقم: 7694) وابن عبد البر في " التمهيد " (17/ 331) من طريق مُحمد بن عبد الله الرقاشي، عن جعفر، به. تابع جعفراً عليه: أبيض بن أبان. أخرجه الطبراني في " الكبير " (10/ 200 رقم: 10326) و " الأوسط " (6/ 320 رقم: 5681) و " كتاب الدعاء " (رقم: 1983) والحاكم، والبيهقي في " الشعب " (7/ 30 رقم: 9347، 9348). وذكر الطبراني كذلك أن المغيرة بن مسلم رواهُ عن عطاء كما رواهُ أبيض. وقال الحاكم: " هذا حديث لم يرفعه عن أبي عبد الرحمن عن عبْد الله بن مسعود غيرُ عطاء بن السائب، تفرد بروايته عنه جعفر بن سليمان الضُّبعي وأبيض بن أبان القُرشي، والصحيح فيه رواية الإمام الحافظ المتقن سُفيان بن سعيد الثوري عن عطاء بن السائب " يعني موقوفاً من قوْل ابن مسعود. وكذلك قال البيهقي في الموقوف: " وهو الصحيح ". والرواية الموقوفة أخرجها البُخاري في " الأدب المفرد " (رقم: 934) والحاكم (رقم: 7695) والبيهقي في " الشعب " (7/ 30 رقم: 9346) من طرق عن سفيان، به. وأخرجها ابن أبي شيبة (8/ 690) قال: حدثنا ابنُ فضيل، عن عطاء، بإسناد به موقوفاً كذلك. كذلك ذكر الدارقطني أن جرير بن عبد الحميد وعلي بن عاصم روياه عن عطاء موقوفاً أيْضاً، وقال: " والموقوف أشهر " (العلل 5/ 334) .......

قال النسائي: " هذا حديث منكر، ولا أرى جعفر بن سليمان إلا سمعه من عطاء بن السائب بعد الاختلاط، ودخل عطاء بن السائب البصرة مرتين، فمن سمع منه أول مرة فحديثه صحيح، ومن سمع منه آخر مرة ففي حديثه شيء ". وهذه الصورة يمكن إدراجها تحت السادسة الآتية؛ من أجل أنها جاءت عن الراوي في حال الضعف، وإن كان ذلك الراوي قد يقبل في حال أخرى. خامساً: الحديث الفرد المخالف الذي يرويه من سبق وصفه في الصورة الثانية، ويوصف الراوي بالضعف بحسب كثرة ذلك منه أو قلته، وربما كثر منه حتى يصير متروكاً، كما شرحته في (تفسير الجرح). وعلى هذه الصورة أكثر ما يقع إطلاق وصف (المنكر). سادساً: الحديث الذي يتفرد به الضعيف بما لا يعرف من غير طريقه، ولا يحتمل منه.

وهذه الصورة مع التي قبلها ينبغي أن يجري عليهما الاصطلاح على ما تقدم اختياره. سابعاً: حديث المتروكين والكذابين. وتسميته بـ (المنكر) أولى من غيره، وهو غني عن التمثيل؛ لكثرة وقوعه في كلام علماء الحديث. وحديث هؤلاء كذلك يطلق عليه وصف: (الحديث الواهي)، وذلك لأجل شدة ضعف راويه، وسقوط الاعتبار به بمرة، يقولون في ذلك: (حديث واه)، و (إسناده واه). تنبيه: قد يوصف (الحديث المنكر) عندهم بـ (الحديث الباطل)، ويكثر مثله في كلام الإمام أبي حاتم الرازي، وربما أطلق هذا الوصف على أي من درجات النكارة المتقدمة، وفيما تقدم بعض مثاله. ومن ذلك قول ابن عدي في (إبراهيم بن البراء الأنصاري): " ضعيف جداً، حدث عن شعبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم من الثقات بالبواطيل "، وساق بعض حديثه، ثم قال: " أحاديثه التي ذكرتها وما لم أذكرها، كلها مناكير موضوعة، ومن اعتبر حديثه علم أنه ضعيف جداً، وهو متروك الحديث " (¬1). قلت: بل فيه تسوية بين (المنكر) و (الباطل) و (الموضوع)، ولا يخفى إمكان التناسب بينها، وإن تفاوتت عند التفريق بينها دلالاتها. * * * ¬

(¬1) الكامل (1/ 411 _ 412).

المبحث العاشر: الحديث الموضوع

المبحث العاشر: الحديث الموضوع تعريفه: هو الحديث المختلق المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، ركب له إسناد أو جاء بغير إسناد. وهذا النوع يدرج في ألقاب الحديث الناتجة عن جرح الراوي، ويذكر في أنواع الحديث الضعيف، وإن كان الضعف فيه ليس حقيقيا؛ فإن الضعف لا يمنع الاحتمال المرجوح، بخلاف (الموضوع)، فإنه المقطوع بكذبه. والكذب في الحديث من جهة التعمد وعدمه، يعود إلى سببين: الأول: التعمد والقصد. وهذا ظاهر، وعرفت به طائفة من الهلكى، لأغراض سيأتي التنبيه عليها. مثل: محمد بن سعيد الشامي المصلوب، وكان من أجرأ الناس على وضع الحديث، حتى جاء عنه أنه يسمع الكلام يستحسنه فيضع له إسناداً (¬1). ¬

(¬1) سيأتي تخريجه عنه.

مثل: أبي البختري وهب بن وهب القاضي، فقد كان يكذب يضع الحديث بلا حياء، اتفقت على ذلك عبارات جميع النقاد، وأمثلة ما وضعه أسانيد ومتوناً كثيرة في كتب المجروحين. ومثل: جعفر بن الزبير، قال محمد بن جعفر غندر: رأيت شعبة (يعني ابن الحجاج) راكباً على حمار، فقيل له: أين تريد يا أبا بسطام؟ قال: أذهب فأستعدي (¬1) على هذا (يعني جعفر بن الزبير)؛ وضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مئة حديث كذباً " (¬2). ومثل: محمد بن أحمد بن عيسى الوراق، قال ابن عدي: (يضع الحديث، ويلزق أحاديث قوم لم يرهم، يتفرد بها، على قوم يحدث عنهم ليس عندهم "، قال: " عندي عنه آلاف الحديث، ولو ذكرت مناكيره لطال به الكتاب " (¬3). وهذا الصنف نفوسهم مريضة عرية من الورع، رخيصة، يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغاية من الوقاحة وسوء الأدب ورقة الدين. وفيهم طائفة ربما تذرعوا بجهل أنهم قصدوا نصر الدين، فقالوا: نكذب له صلى الله عليه وسلم لا عليه، ونكذب لمصلحة لا لمفسدة، والكذب المحرم إنما هو في حق من كذب عليه يريد بذلك شينه وشين الإسلام، كما يتنزل على هذا حال نوح بن أبي مريم وشبهه. وهذا الصنف من الرواة هم المعنيون بالوعيد الشديد الوارد في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، كالحديث الصحيح المتواتر: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " (¬4). ¬

(¬1) أسْتنْصر عليه، كأنه يعني يَشكو أمره إلى السلطان ليَدفع سوءَه. (¬2) أخرجه ابن عدي في الكامل " (1/ 182) وإسناده صحيح ....... (¬3) الكامل (7/ 559، 562). (¬4) جمع طرقه الحافظ الطبراني في " جزء "، وابن الجوزي في صدْر كتاب " الموضوعات ".

وضع الحديث غفلة وخطأ

والثاني: الغفلة والخطأ. كمن لا يفهم الحديث، فيحدث فيشبه له، أو يكون أتي من تغير حفظه واختلاطه، أو من قبوله التلقين، أو أن يدس في كتبه وهو لا يعلم. وهذا مما يصاب به كثير من الرواة ليسوا متهمين، لكن الحديث يكون موضوعاً. كقصة ثابت الزاهد (¬1)، وكمن جعل الأثر عن بني إسرائيل حديثاً، وهماً منه، كحديث: " الربا سبعون باباً "، والذي صوابه مما حدث به عبد الله بن سلام، وابن سلام كان من أحبار أهل الكتاب فأسلم (¬2). وفي الرواة عدد ذكروا في الكذابين، وعلتهم من جهة الغفلة. مثل: عباد بن كثير الثقفي، فقد قال أبو طالب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: " عباد بن كثير أسوأهم حالاً "، قلت: كان له هوى؟ قال: " لا، ولكن روى أحاديث كذب لم يسمعها، وكان من أهل مكة، وكان رجلاً صالحاً "، قلت: كيف كان يروي ما لم يسمع؟ قال: " البلاء والغفلة " (¬3). ومثل: عطاء بن عجلان العطار، قال يحيى بن معين: " لم يكن بشيء، وكان يوضع له الحديث: حديث الأعمش، عن أبي معاوية الضريرة غيره، فيحدث بها " (¬4). وبسبب الغفلة ربما وضع للراوي الحديث، فحدث به على أنه من حديثه وهو لا يعلم، مثل (محمد بن ميمون الخياط المكي)، قال أبو حاتم الرازي: " كان أميا مغفلاً، ذكر لي أنه روى عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن شعبة حديثاً باطلاً، وما أبعد أن يكون وضع للشيخ؛ فإنه كان أميا " (¬5). ¬

(¬1) وذكرتها في (الحديث المدرَج). (¬2) شرحت علل هذا الحديث في كتابي " علل الحديث ". (¬3) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (5/ 538) وإسناده جيد ....... (¬4) تاريخ يحيى بن معين (النص: 5270). (¬5) الجرح والتعديل (4/ 1 / 82). قلت: علل بالأمية وأراد الجهْل؛ لأنه المعنى المناسب للغفلة.

بداية ظهور الكذب في الحديث

بداية ظهور الكذب في الحديث: عن طاوس بن كيسان، قال: " جاء هذا إلى ابن عباس (يعني بشير بن كعب) فجعل يحدثه، فقال له ابن عباس: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له، ثم حدثه، فقال له: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له: ما أدري، أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟ أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا؟ فقال له ابن عباس: إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول، تركنا الحديث عنه " (¬1). وعن محمود بن لبيد، قال أمرني يحيى بن الحكم على جرش، فقدمتها، فحدثوني أن عبد الله بن جعفر حدثهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا صاحب هذا الداء _ يعني الجذام _ كما يتقى السبع، إذا هبط وادياً فاهبطوا غيره "، فقلت: والله، لئن كان ابن جعفر حدثكم هذا ما كذبكم، قال: فلما عزلني عن جرش قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن جعفر فقلت له: يا أبا جعفر، ما حديث حدثه عنك أهل جرش؟ ثم حدثته الحديث فقال: كذبوا، والله ما حدثتهم (¬2). قلت: هذا يدل على أن الكذب بدأ ظهوره في عصر التابعين، ثم صار يزيد مع الإقبال على الحديث والإسناد والاشتغال بذلك. ¬

(¬1) أثرٌ حسن. أخرجه الدارمي (رقم: 432) ومُسلم في " مقدمته " (ص: 12 _ 13) وعبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 4069) وابن عدي (1/ 120) وابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 38) والحاكم في " المستدرك " (1/ 112 _ 113 رقم: 384) و " المدخل إلى الإكليل " (ص: 52) وأبو نعيم في " المستخرج على مسلم " (رقم: 72) وابنُ عبد البر في " التمهيد " (1/ 43) من طرق عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوُس، به. قلت: إسناده حسنٌ، ابن جحير صدوق فيه ضعْفٌ، وقد خرَّج له الشيخان حديثاً اتفقا عليه هوَ مروي عندهما أيضاً من غير طريقه، وتفرَّد عنه مسلم بحديث أيضاً لم ينفرد به كذلك. ولخبره هذا عن طاوس أصْل من رواية ابن طاوُس عن أبيه، ومن رواية مُجاهد أيضاً عن ابن عباس، بمعناه. (¬2) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 52 _ 53) وإسناده حسنٌ، وبعد هذا ساق ابنُ جعفر قصة عن عمر .......

أسباب تعمد وضع الحديث

أسباب تعمد وضع الحديث: الحامل للكذابين على وضع الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، يرجع إلى أسباب عدة، تعود جملتها إلى ما يلي: السبب الأول: الطعن على الإسلام، والتشكيك فيه. قال حماد بن زيد: " وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألف حديث " (¬1). وهذا سبب ظن بعض الطاعنين على السنة أن أئمة الحديث غفلوا عنه. وواقع الأمر أن حقيقة هؤلاء كانت مشهورة، وأباطيلهم كانت مكشوفة، ومن عرف مبلغ التثبت الذي أصلت عليه قوانين النقد في الحديث، والتي لا تمرر يسير الوهم من الثقة الحافظ؛ علم أن أمثال هؤلاء المغرضين لم يكونوا ليقدروا على إفساد سنة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة دون أن يقيض الله لهم من أنصار دينه من يظهر حقيقة أمرهم. كما قيل لعبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: " يعيش لها الجهابذة " (¬2). من هؤلاء المفضوحين: محمد بن سعيد المصلوب، ومغيرة بن سعيد البجلي، وبيان بن سمعان، وعبد الكريم بن أبي العوجاء. ومن مثاله في الحديث: ما رواه محمد بن سعيد المصلوب، عن ¬

(¬1) أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (1/ 14) والخطيب في " الكفاية " (ص: 604) وابن الجوزي في " الموضوعات " (رقم: 6) وإسناده صحيح لكن عند ابن الجوزي: (أربعة عشر ألف حديث). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 3) و " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 18) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 80) _ وابنُ عدي في " الكامل " (1/ 192) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 60) وإسناده صحيح.

السبب الثاني: نصرة الأهواء

حميد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، إلا أن يشاء الله " (¬1). فهذا من كذب هذا المصلوب الذي فضحه الله به. السبب الثاني: نصرة الأهواء: ومن سلك هذا أصناف بحسب الأهواء: 1 _ فمنهم من يضع للسلاطين تزلفاً لهم، في فضائلهم أو مثالب خصومهم، كالذي وضع في بني أمية وبني العباس. ومنه التقرب إلى السلطان بوضع الحديث في فضل ما يحب. قال داود بن رشيد: دخل غياث بن إبراهيم على المهدي، وكان يعجبه الحمام الطيارة التي تجيء من البعد، فروى حديثاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل أو جناح " قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما قام وخرج قال: " أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جناح، ولكن هذا أراد أن يتقرب إلينا، يا غلام، اذبح الحمام "، قال: فذبح الحمام في الحال (¬2). 2 _ ومنهم من يضع نصرة للمذهب العقدي، كالأحاديث التي وضعت لنصرة عقائد أهل الإثبات في أبواب الصفات، كبعض المنتسبين إلى طريقة الإمام أحمد، وأكثر منهم مقابلوهم كالمنتصرين لمذهب جهم، والأحاديث التي وضعها سني لنصرة مذهبه في الصحابة، فقابله شيعي فوضع في فضائل أهل البيت وفي مثالب الصحابة. ¬

(¬1) ذكره الحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 51 _ 52). وأخرجه الجُورْقاني في " الأباطيل " (رقم: 116). والحكم بوضْعه مما لا يختلف فيه ....... (¬2) قصة صحيحة. أخرجها الحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص: 55) والخطيب في " تاريخه " (12/ 324) وإسنادها لا بأس به. ولها إسنادٌ آخر عند الحاكم، وثالثٌ عند الخطيب.

ومن أمثلة هؤلاء: عمرو بن عبد الغفار الفقيمي، قال ابن عدي: " كان السلف يتهمونه بأنه يضع الحديث في فضائل أهل البيت، وفي مثالب غيرهم " (¬1). ومحمد بن شجاع ابن الثلجي، قال ابن عدي: " كان يضع أحاديث في التشبيه ينسبه إلى أصحاب الحديث ليثلبهم به "، فذكر منها حديثاً، ثم قال: " مع أحاديث كثيرة وضعها من هذا النحو، فلا يجب أن يشتغل به؛ لأنه ليس من أهل الرواية، حمله التعصب على أنه وضع أحاديث يثلب أهل الأثر بذلك " (¬2). ومن أكثر ما يوجد من هذا ما شحنت به كتب الأصول والفروع العتيقة عند الشيعة، فإن فيها الكثير من الأحاديث والأخبار مما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وغيره من سادة أهل البيت، بأسانيد واهية. قال عبد الرحمن بن أبي ليلي: " صحبت عليا، رضي الله عنه، في الحضر والسفر، وأكثر ما يحدثون عنه باطل" (¬3). وكان عامر الشعبي يقول: " ما كذب على أحد من هذه الأمة ما كذب على علي بن أبي طالب " (¬4). 3 _ ومنهم من يضع للمذهب الفقهي، كمن وضع في فضل أبي حنيفة وذم الشافعي، ومنه الحكايات الكثيرة المتضمنة للمبالغات في الفضائل، والتي تنسب إلى الأئمة الفقهاء؛ وذلك بغرض تنفيق مذاهبهم عن طريق نسبة تلك الفضائل لهم. ¬

(¬1) الكامل (6/ 253). (¬2) الكامل (7/ 551). (¬3) أخرجه الجوزجاني في " أحوال الرجال " (ص: 40) والبيهقي في " المدخل " (رقم: 84) واللفظ له، وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 2556) وإسناده جيد .......

السبب الثالث: الترغيب في الأعمال الصالحة

4 _ ومنهم من يضع انتصاراً للأوطان، كمن وضع في فضائل بلد، ومثالب آخر. السبب الثالث: الترغيب في الأعمال الصالحة. وهذا يوجد في طائفة تبيح الكذب في الحديث لمصلحة الدين، وربما احتسب بعضهم الأجر في ذلك، يرغب في طاعة أو ينفر من معصية. ويكثر مثل هذا عند الوعاظ. قال أبو عمار الحسين بن حريث المروزي (وكان ثقة): قيل لأبي عصمة (يعني نوح بن أبي مريم): من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: " إني قد رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة " (¬1). وممن كان يفعل ذلك من أولئك الكذابين: ميسرة بن عبد ربه، وأحمد بن محمد بن غالب الباهلي المعروف بغلام خليل (¬2). قال أبو زرعة الراوي وسئل عن ميسرة بن عبد ربه: " كان يضع الحديث وضعاً، قد وضع في فضائل قزوين نحواً من أربعين حديثاً، كان يقول: إني أحتسب في ذلك " (¬3). ومن هذا ما ذهب إليه بعض أهل الضلالة من جواز وضع الحديث في الترغيب والترهيب، والثواب والعقاب؛ لأنه ليس كذباً عليه صلى الله عليه وسلم، إنما هو كذب لمصلحة الإسلام (¬4)، زعموا! ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 54) ومن طريقه: ابنُ الجوزي في " الموضوعات " (رقم: 16) وإسناده صحيح. (¬2) انظر قصته في " الكامل " لابن عدي (1/ 322). (¬3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 254)، قلت: فكأنه وضعها للترغيب في الرباط هناك. (¬4) وانظر: الموضوعات، لابن الجوزي (1/ 134 _ 139).

السبب الرابع: الرغبة في استمالة السامعين

السبب الرابع: الرغبة في استمالة السامعين، وصرف وجوه الناس إليه. كشأن أحاديث القصاص. قال ابن الجوزي في تعليل صنيع هؤلاء: " يريدون أحاديث تنفق وترقق، والصحاح يقل فيها هذا، ثم إن الحفظ يشق عليهم، ويتفق عدم الدين، ومن يحضرهم جهال " (¬1). ومن مثال هذا صنيع (محمد بن أبان ابن عائشة القصراني)، قال أبو زرعة الرازي: " أول ما قدم الري قال للناس: أي شيء يشتهي أهل الري من الحديث؟ فقيل له: أحاديث في الإرجاء، فافتعل لهم جزءاً في الإرجاء " (¬2). قلت: فهذا لم يفعل ذلك ينتصر به إلى مذهب، إنما قصد به استمالة وجوه العامة إليه. كذلك الإغراب بالروايات؛ لما يحصل به من الإعجاب. وذكر ابن عدي (جعفر بن أحمد بن علي الغافقي المصري المعروف بابن أبي العلاء) وكان قد أدركه، وكتب عنه، لكنه اتهمه بوضع الحديث وذلك أنه كان مغرماً بأبواب اعتنى بوضع الحديث فيها عن المصريين وغيرهم، وضع في فضل النخلة والتمر، وفي الفراعنة، والسرقة، وأكل الطين، أحاديث بألفاظ ركيكة واضحة في الوضع (¬3). ومن هذا: العمد إلى وضع أسانيد لأحاديث صحيحة مشهورة مروية بغير تلك الأسانيد، كما كان يصنع إبراهيم بن اليسع، وحماد بن عمرو النصيبي، وغيرهما من المذكورين بالكذب. ¬

(¬1) الموضوعات (1/ 29) ....... (¬2) الجرح والتعديل (3/ 2 / 200). (¬3) انظر ترجمته في " الكامل " (2/ 400 _ 405).

مصادر المتون الموضوعة

مصادر المتون الموضوعة: متون الأحاديث الموضوعة ترجع إلى واحد من مصادر ثلاثة: الأول: من ذات واضعه، وذلك بأن يصنعه بألفاظ نفسه. والثاني: أن يكون مأثورا عن صحابي أو تابعي قولهما، أو قولا من الحكمة أو أمثال الناس السارية، إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والثالث: أن يكون من الأخبار المستوردة من بني إسرائيل، والتي تسمى (الإسرائيليات)، فتضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الأسانيد لتلك المتون، فإن من وضع المتن فلا يعجزه أن يركب له الإسناد، وقد يكون إسناداً لا يعرف إلا لذلك الخير، يكون الواضع قد صنعه كما صنع المتن، وهذا قليل (¬1)، وقد يكون إسناداً معروفاً نظيفاً، ركب عليه الواضع ذلك المتن، وهذا هو الأكثر، ويفعلون لما يقع من الإغراء به لنظافة الإسناد في الظاهر. فإن كان الواضع صير ما ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم عنه كالآثار والإسرائيليات، فتلك ربما مروية بإسناد، فيزيد فيه الواضع النسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو يصله إليه بزيادة ما يقتضيه الوصل، وربما وضع لتلك الآثار الإسناد أيضاً وركبها عليه. ومن تلك المتون ما لا سند له، وشاع بين الناس منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) مثل ما قاله ابنُ عدي في (الحسن بن علي بن صالح العدوي): " يضع الحديث، ويسرق الحديث، ويُلزقه على قوم آخرين، ويُحدث عن قوم لا يُعرفون، وهو متهم فيهم، فإن الله لم يخلقهم "، قلت: ومن أمثلة هؤلاء ممن ذكر ابنُ عدي رجلٌ يُقال له: (خِراشُ بن عبد الله) اصْطنعه العَدوي هذا وزَعم أنه خادِم أنس بن مالك، وبعد أن ساق ابن عدي له أحاديث عنه قال: " وهذه الأحاديث أربعة عشر حديثاً، وخِراش هذا لا يُعرف، ولم أسْمع أحداً يذْكر خراشاً غير العدوي " (الكامل 3/ 195، 204 _ 205) .......

الكذب في الحديث يعلم بطرق، تعود جملتها إلى إحدى عشرة طريقا

وهذا أظهر في الوضع مما صيغت له الأسانيد؛ لأن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل بدون الإسناد. والكذب في الحديث يعلم بطرق، تعود جملتها إلى ما يلي: الأولى: أن يقر واضعه بأنه وضعه. ووقع من بعض من عرفوا بالكذب اعترافهم بذلك، كنوح بن أبي مريم، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وزياد بن ميمون، وغيرهم. قال أبو داود الطيالسي: " أتينا زياد بن ميمون، فسمعته يقول: أستغفر الله، وضعت هذه الأحاديث " (¬1). قلت: لكن كشف الحديث الموضوع المعين بهذا الطريق فيما في أيدي الناس من الحديث المروي لا يكاد يوجد، إنما كان طريقاً تكشف به حال أولئك المخذولين. الثانية: أن يكون ظاهراً منه بحيث كأنه ينزل منزل إقراره بوضعه. وذلك كما قال يحيى بن معين في (أبي داود النخعي): " رجل سوء كذاب، يضع الأحاديث، انصرفنا من عند هشيم في أبواب من الطلاق، فقال: ليس منها شيء إلا وعندي بإسناد، كان يدخل فيضع الحديث ثم يخرج "، قال يحيى " سمعت أبا داود يقول: حدثني خصيف وخصاف ومخصف، كذب كله " (¬2). قلت: كأن ابن معين يقول: كان الكذب ظاهراً في وجهه. وانكشف لكثير من النقاد حال طائفة من هؤلاء الكذابين، فقضوا بأنهم وضعوا الحديث المعين أو الأحاديث، مثل قطعهم بوضع ميسرة بن عبد ربه ¬

(¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل " لأبيه (النص: 2997) بإسناد صحيح. (¬2) من كلام أبي زكريا يحيى بن مَعين (النص: 218) .......

كتاباً في أحاديث في فضل العقل، سرقه منه داود بن المحبر وغيره، وحكمهم على نسخ مجموعة من قبل بعض الكذابين بكونها موضوعة، كنسخة أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط، وغيره. الثالثة: أن يظهر من حال الراوي عند تحديثه به ما يدل على أنه وضعه. كالذي وقع من غياث بن إبراهيم حين دخل على الخليفة المهدي في زيادته في حديث: " لا سبق إلا في خف " ذكر الجناح، حين علم أن المهدي يحب الحماح، فأراد التزلف له، فكشف المهدي حقيقة أمره من ساعته (¬1). وهذا طريق كان معتبراً في كشف روايات الكذابين لمن كان يقظاً عند مباشرة السماع منهم. الرابعة: أن يستدل بما عرف عن الراوي من أنه كان يكذب، بكون حديثه موضوعاً، وذلك حين تثبت نكارته، ولا يعرف له ما يدل على أن له أصلاً من غير طريقه. وهذا طريق يستعمله عامة النقاد في الحكم على كثير من الأحاديث الموضوعة، وهو الطريق الواجب اعتباره فيما لم تقم قرينة أخرى على اعتباره كذباً؛ وذلك لإمكان إجرائه في الواقع. وبيانه: أنك تجد الحديث يرويه رجل من المعروفين بالكذب بإسناد له، لا يوجد له أصل من وجه آخر بحيث لا تبرأ عهدة ذلك الكذاب منه، فتقول: هذا حديث موضوع، آفته من جهة هذا الكذاب. مثل: ما رواه أحمد بن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ¬

(¬1) وتقدم في هذا المبحث سِياق قصته.

المروزي، قال: حدثنا الحسين بن عيسى، قال: أنبانا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من سقى مسلماً شربة من ماء في موضع يوجد فيه الماء فكأنما أعتق رقبة، فإن سقاه في موضع لا يوجد فيه الماء فكأنما أحيا نسمة مؤمنة ". قال ابن عدي: " هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وحكم على (أحمد بن علي) رواية بقوله: " يضع الحديث عن الثقات " (¬1). وهكذا ترى أحكامه وأحكام ابن حبان وابن الجوزي وغيرهم على الأحاديث الكثيرة بالوضع، فإنما هو لكونها لم تعرف إلا من طريق من هو مذكور بالكذب، وربما يكون كذب ذلك الراوي لهم قد انكشف بالمجيء بمثل تلك الأحاديث، فصح لهم أن يستدلوا على كذبه بها، وعلى كذبها به. الخامسة: أن يكون الحديث شبيهاً بحديث الكذابين، وإن كان لا يتهم بوضعه معين في إسناده، بل ربما كان من رواية مجهول، أو مما أدخل على بعض الرواة الضعفاء، أو دلس اسم الكذاب الذي تلصق به التهمة. وقد ذكرت في (تفسير الجرح) من نماذج الرواة من لزمه الجرح بسبب إدخال الموضوعات عليه وهو لا يعلم، ومن أجله رد من المدلس المعروف بالتدليس عن المجروحين ما لم يبين فيه السماع لو كان ثقة. ومن مثال هذه الصورة ما ذكره عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثت أبي بحديث حدثنا خالد بن إبراهيم أبو محمد المؤذن، قال: حدثنا ¬

(¬1) الكامل (1/ 338) .......

سلام بن رزين قاضي أنطاكية، قال: حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود، قال: بينما أنا والنبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرقات المدينة، إذا أنا برجل قد صرع، فدنوت فقرأت في أذنيه، فاستوى جالساً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ماذا قرأت في أذنه يا ابن أم عبد؟ "، قلت: فداك أبي وأني، قرأت: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي بعثني بالحق، لو قرأها موقن على جبل لزال "؟ أحمد من جهة قال أحمد بن حنبل: " هذا الحديث موضوع، هذا حديث الكذابين، منكر الإسناد " (¬1). قلت: هو حديث لم يتعين واضعه، أو واضع إسناده، وجائز أن تكون حجة أحمد من جهة أن الأعمش معروف الحديث، وليس هذا عند أحد من أصحابه، فكيف صار مثله إلى رجل مجهول كسلام هذا، وجائز أن تكون الحجة أن الحديث معروف من حديث عبد الله بن لهيعة، رواه عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش الصنعاني، عن عبد الله بن مسعود (¬2). ولم يأت من ابن لهيعة ذكره السماع في روايته، ومعروف أنه وقعت في روايته المنكرات، تارة من جهة حفظه، وتارة من مظنة التدليس. ومن أثبت الروايات عنه رواية عبد الله بن وهب، وقد رواه عنه بإسناده إلى حنش، مرسلاً (¬3). ¬

(¬1) العلل (النص: 5979) وعنه: العقيلي في " الضعفاء " (2/ 163) وابن الجوزي في " الموضوعات " (رقم: 498). (¬2) أخرجه أبو يعلى (رقم: 5045) وابن السني في " اليوم والليلة " (رقم: 631) والحكيم: الترمذي في " نوادر الأصول " (رقم: 847 _ تنقيح) والطبراني في " الدعاء " (رقم: 1081) وأبو نُعيم في " الحلية " (1/ 38 رقم: 11) من طريقين عن ابن لهيعة به ....... (¬3) كذلك أخرجه ابنُ أبي حاتم في " تفسيره " (8/ 2513)، وأيضاً هوَ مرسلٌ عند الخطيب في " تاريخه " (12/ 312) من طريق عفيف بن سالم الموصلي عن ابن لهيعة.

السادسة: أن يدل جمع الطرق وتتبع الروايات على عورة الكذاب فيه. وهذا طريق كشف عن حال كثير من الموصوفين بالكذب، وخصوصاً أولئك الذين عرفوا بالكذب في الأسانيد، كتوصيل منقطع يضع له أحدهم الإسناد يوصله به أو وضع إسناد مختلف لحديث صحيح معروف مروي بإسناد آخر صحيح. ومثل هذا لا يقدح في متن الحديث، ولا يحكم بسببه بكونه موضوعاً، وإنما الموضوع هو الإسناد. وذلك كحال (خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني)، قال يحيى بن معين: " كان يزيد في الأحاديث الرجال، يوصلها لتصير مسندة "، ويفسر ذلك أبو زرعة الرازي فيقول: " هو كذاب، كان يحدث الكتب عن الليث عن الزهري، فكل ما كان: الزهري عن أبي هريرة، جعله: عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وكل ما كان: الزهري عن عائشة، جعله: عن عروة عن عائشة، متصلاً " (¬1). وترى الحكم بالوضع بهذا الطريق وقع من طائفة من متقدمي الحفاظ، كأبي حاتم الرازي في " علل الحديث ". السابعة: أن يعرف بالتاريخ، كأن يوجد من الراوي ذكر السماع من قوم لم يدركهم، فيكون قرينة على كون ما حدث به عنهم كذباً، وهو معدود فيمن يسرق الحديث. ولا يلزم منه أن يكون المتن أو حتى سائر الإسناد موضوعاً، إنما قد يكون الكل موضوعاً، وقد يكون حكم الوضع مقصوراً على رواية ذلك الكذاب عن ذلك الشيخ الذي لم يلقه، فتكون روايته تلك من طريقه ساقطة لا اعتداد بها؛ لأجله. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 347، 348).

والتاريخ من أبرز طرق كشف الكذب والكذابين في الحديث: يحدث الراوي عمن مات قبله، أو كان يوم مات الشيخ في سن لا يحتمل السماع منه. قال حفص بن غياث: " إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين " يعني: احسبوا سنه وسن من كتب عنه (¬1). وقال أبو نعيم الفضل بن دكين وذكر المعلى بن عرفان: " قال: حدثنا أبو وائل قال: خرج علينا ابن مسعود بصفين " فقال أبو نعيم: " أتراه بعث بعد الموت؟ " (¬2). قال البخاري: " وهذا لا أصل له؛ لأن عبد الله مات قبل عثمان، رضي الله عنه، وقبل صفين بسنين " (¬3). وقال إسماعيل بن عياش: " كنت بالعراق، فأتاني أهل الحديث، فقالوا: هذا رجل يحدث عن خالد بن معدان، قال: فأتيته، فقلت: أي سنة كتبت عن خالد بن معدان؟ قال: سنة ثلاث عشرة، فقلت: أنت تزعم أنك سمعت من خالد بعد موته بسبع "، قال إسماعيل: " مات خالد سنة ست ومئة " (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 193) ومن طريقه: ابن عساكر في " تاريخه " (1/ 54) وإسناده لا بأس به. وروُي في هذا المعنى عن سفيان الثوري قال: " لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ " أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 169 _ 170) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 193) وابنُ عساكر (1/ 54) وفي إسناده من لم أقف عليه ....... (¬2) أخرجه مسلم في " مقدمته " (ص: 26) وعنه: ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 1 / 330) وإسناده صحيح إلى أبي نعيم. (¬3) التايخ الأوسط (2/ 78). (¬4) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 71) والحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص: 60 _ 61) والخطيب في " الجامع " (رقم: 145) وإسناده جيد.

وقال صالح بن محمد الأسدي المعروف بـ (جزرة) في (محمد بن مهاجر الطالقاني أخي حنيف): " أكذب خلق الله، يحدث عن قوم ماتوا قبل أن يولد هو بثلاثين سنة، وأعرفه بالكذب منذ خمسين سنة " (¬1). وقال ابن أبي حاتم الرازي في (محمد بن منده الأصبهاني): " لم يكن عندي بصدوق، أخرج أولاً عن محمد بن بكير الحضرمي، فلما كتب عنه استحلى الحديث، ثم أخرج عن بكر بن بكار، والحسين بن حفص، ولم يكن سنه سن من يلحقها " (¬2). وقال ابن عدي في (أحمد بن محمد بن الصلت أبي العباس): " رأيته في سنة سبع وتسعين ومئتين يحدث عن ثابت الزاهد وعبد الصمد بن النعمان وغيرهما من قدماء الشيوخ، قوم قد ماتوا قبل أن يولد بدهر، وما رأيت في الكذابين أقل حياء منه، وكان ينزل عند أصحاب الكتب يحمل من عندهم رزماً، فيحدث بما فيها، وباسم من كتب الكتاب باسمه، فيحدث عن الرجل الذي اسمه في الكتاب، ولا يبالي ذلك الرجل متى مات، ولعله قد مات قبل أن يولد " (¬3). ومثاله أيضاً: محمد بن عبدة بن حرب العباداني، أدركه ابن عدي وكتب عنه، وقال: " قوله: كتبت عن بكر بن عيسى كذب عظيم، وذاك أنه كان يقول: ولد سنة ثماني عشرة، وبكر مات أربع ومئتين، فكيف يكتب عنه؟ " (¬4). وقال ابن حبان في (أبي العباس أحمد بن محمد بن الأزهر) وقد أدركه: " قد روى عن محمد بن المصفى أكثر من خمس مئة حديث، فقلت ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (3/ 303) وإسناده صحيح. (¬2) الجرح والتعديل (4/ 1 / 107). (¬3) الكامل (1/ 327 _ 328). (¬4) الكامل (7/ 565) .......

له: يا أبا العباس، أين رأيت محمد بن المصفى؟ فقال: بمكة، فقلت: في أي سنة؟ قال: سنة ست وأربعين ومئتين، قلت: وسمعت هذه الأحاديث منه في تلك السنة بمكة؟ قال: نعم، فقلت: يا أبا العباس، سمعت محمد بن عبيد الله بن الفضيل الكلاعي عابد الشام بحمص يقول: عادلت محمد بن المصفى من حمص إلى مكة سنة ست وأربعين، فاعتل بالجحفة علة صعبة، ودخلنا مكة، فطيف به راكباً، وخرجنا في يومنا إلى منى، واشتدت به العلة، فاجتمع علي أصحاب الحديث، وقالوا: أتأذن لنا حتى ندخل عليه؟ قلت: هو لما به، فأذنت لهم، فدخلوا عليه، وهو لما به لا يعقل شيئاً، فقرأوا عليه حديث ابن جرير عن مالك في المغفر، وحديث محمد بن حرب عن عبيد الله بن عمر: ليس من البر الصيام في السفر، وخرجوا من عنده، ومات فدفناه. فبقي أبو العباس ينظر إلي " (¬1). قلت: فرواية الواحد من هؤلاء شيئاً عمن لم يدركوه يدعون السماع منه، كذب، وإسناد ذلك الراوي عن ذلك الشيخ موضوع. الثامنة: أن يختبر الراوي بسؤاله عن المكان الذي سمع فيه من شيخ معين، أو عن صفة ذلك الشيخ، فيذكر ما يخالف الحقيقة، فيكون تحديثه بما حدث به عن ذلك الشيخ كذباً. مثل: سهيل بن ذكوان، فقد ادعى أنه سمع من أم المؤمنين عائشة، فسئل: أين لقيت عائشة؟ قال: بواسط، وعائشة ما دخلت واسط (¬2). كما قيل له: صف عائشة، فقال: كانت أدماء، أو: سوداء (¬3)، وكذب في ذلك. ¬

(¬1) المجروحين من المحدثين (1/ 164). (¬2) الجامع لأخلاق الراوي، للخطيب (رقم: 151). (¬3) التاريخ الكبير، للبخاري (2/ 2 / 104)، العلل، لأحمد بن حنبل (النص: 988)، تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 2486) .......

التاسعة: أن يكون معلوماً أن زيداً من الرواة غير معروف بالرواية عن فلان، فيروي رجل حديثاً يذكر فيه رواية لزيد عن فلان هذا، فيستدل به على تركيبه الأسانيد، وأن ذلك الإسناد موضوع مركب. مثل: (عبد الله بن حفص الوكيل) روى بإسناده عن سليمان التيمي عن حميد عن أنس حديثاً منكراً، فقال ابن عدي: " هذا موضوع المتن والإسناد، وذاك أن سليمان التيمي لا يحفظ له عن حميد شيء " (¬1). والوكيل هذا متهم بالكذب ووضع الحديث، ومثل هذه العلة دليل على أنه كان يركب الأسانيد. العاشرة: أن يستدل بطراوة الخط في الكتاب العتيق أو بلون الحبر مثلاً على أن الراوي أضاف اسمه في طباق السماع، فادعى لنفسه السماع واتصال ما بينه وبين من روى عنه ذلك الحديث أو الكتاب، وإنما هو يكذب. وصنيع هذا وقع من طائفة من المتأخرين بعدما صارت الرواية إلى الكتب، ولذا يلزم تتبع ذلك من النقلة لكشف صحة السماع أو عدمه، قال الحاكم: " يتأمل أصوله: أعتيقة هي أم جديدة، فقد نبغ في عصرنا هذا جماعة يشترون الكتب فيحدثون بها، وجماعة يكتبون سماعاتهم بخطوطهم في كتب عتيقة في الوقت فيحدثون بها " (¬2). قلت: ومن أمثلة من فضحه الله بتزوير السماع: محمد بن عبد الخالق اليوسفي (¬3)، وأبو البقاء محمد بن محمد بن معمر بن طبرزد (¬4). ¬

(¬1) الكامل (5/ 435). (¬2) معرفة علوم الحديث (ص: 16). (¬3) انظر ترجمته في: ميزان الاعتدال (3/ 613) ولسان الميزان (5/ 246) وتكملة الإكمال لابن نُقطة (4/ 486). (¬4) انظر ترجمته في: ميزان الاعتدال (4/ 30 _ 31) ولسان الميزان (5/ 365) .......

ومنهم: محمد بن أيوب بن سويد الرملي، قال أبو زرعة الرازي: " أتيناه، فأخرج إلينا كتب أبيه أبواباً مصنفة بخط أيوب بن سويد، وقد بيض أبوه كل باب، وقد زيد في البياض أحاديث بغير الخط الأول، فنظرت فيها، فإذا الذي بخط الأول أحاديث صحاح، وإذا الزيادات أحاديث موضوعة ليست من حديث أيوب بن سويد، قلت: هذا الخط الأول خط من هو؟ فقال: خط أبي، فقلت: هذه الزيادات، خط من هو؟ قال: خطي، قلت: فهذه الأحاديث من أين جئت بها؟ قال: أخرجتها من كتب أبي، قلت: لا ضير، أخرج إلي كتب أبيك التي أخرجت هذه الأحاديث منها "، قال أبو زرعة: " فاصفار لونه وبقي (¬1)، وقال: الكتب ببيت المقدس، فقلت: لا ضير، أنا أكتري فيجاء بها إلي. . " قال: " فبقي ولم يكن له جواب، فقلت له: ويحك ‍‍‍‍‍! أما تتقي الله؟ ما وجدت لأبيك ما تفقه به سوى هذا؟ أبوك عند الناس مستور وتكذب عليه؟ أما تتقي الله؟ فلم أزل أكلمه بكلام من نحو هذا ولا يقدر لي على جواب " (¬2). واعلم أنه ليس كل من ادُّعي عليه أنه يفعل ذلك يكون مما يقدح فيه، فقد تكلم الحافظ ابن النجار، في شيخه (عبد الرحيم بن الحافظ أبي سعد عبد الكريم السمعاني) فقال: " كانت سماعاته التي بخط والده وخطوط المعروفين من المحدثين صحيحة، فأما ما كان بخطه فلا يعتمد عليه، فإنه كان يلحق اسمه في طباق لم يكن اسمه فيها إلحاقاً ظاهراً، ويدعي سماع أشياء لم يوجد سماعه منها، وكان متسامحاً " (¬3). فاعتذر عنه ابن حجر، فقال: " هذا الذي قاله ابن النجار فيه لا يقدح بعد ثبوت عدالته وصدقه، أما كونه كان يلحق اسمه في الطباق، فيجوز أنه ¬

(¬1) أي أفحِم وسكت. (¬2) سؤالات البرذعي (2/ 390 _ 391). (¬3) المستفاد من ذيْل تاريخ بغداد، لابن النجار، انتقاء: الدمياطي (ص: 289).

كان يحقق سماعه، وأما كونه ادعى سماع أشياء لم توجد، فهذا إنما يتم به القدح فيه لو وجد الأصل الذي ادعى أنه سمع فيه، ولم يوجد اسمه فيه، أما فقدان الأصول فلا ذنب للشيوخ فيه " (¬1). الحادية عشرة: أن يكون في نفس المروي قرينة تدل على كونه كذباً. كالأحاديث الطويلة التي يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها، أو تخالف البراهين الصريحة ولا تقبل تأويلاً بحال. قال الشافعي: " لا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه، إلا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أنه يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه " (¬2). وذكر ابن القيم (¬3) لتمييز الحديث الموضوع بهذا الطريق علامات، إليكها ملخصة مقربة مع زيادة فائدة يقتضيها المقام: [1] اشتمال الحديث على المجازفات في ترتيب الجزاء المبالغ في وصفه على العمل اليسير. مثل: " من صلى الضحى كذا وكذا ركعة، أعطي ثواب سبعين نبيا " (¬4). [2] مخالفة الواقع المحسوس. مثل: " الباذنجان شفاء من كل داء " (¬5). ¬

(¬1) لِسان الميزان (4/ 7) ....... (¬2) الرسالة (الفقرة: 1099). (¬3) في كتابه: " المنار المنيف في الصحيح والضعيف ". (¬4) وانظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 992). (¬5) وانظر: المقاصد الحسنة، للسخاوي (رقم: 279).

قلت: كالذي روى العلاء بن زيدل، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال " العالم لا يخرف ". سئل أبو حاتم الرازي عن هذا الحديث فقال: " العلاء ضعيف الحديث، متروك الحديث، قد وجدنا من ينسب إلى العلم: المسعودي، والجريري، وسعيد بن أبي عروبة، وعطاء بن السائب، وغيرهم " (¬1). قلت: يعني أنه كبروا فخرفوا. [3] مناقضة السنن الإلهية في التشريع والتكليف. مثل ما يروى في حرمة النار على من اسمه (محمد) أو (أحمد) (¬2). [4] أن يشمل على تحديد تاريخ مستقبل، تقع فيه حوادث، فيقال: " إذا كانت سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت " (¬3). ومن هذا ما يذكر في عمر الدنيا، وأنها سبعة آلاف سنة (¬4). والمبين لكذب هذا النوع من الأخبار: خلو أخبار الوحي المعروفة من ذلك بالاستقراء، مع ظهور كذب تلك الأخبار في الواقع المشاهد. [5] أن تقوم الشواهد الصحيحة، والعلم القاطع، للدلالة على بطلانه. مثل: " إن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرك الثور قرنه تحركت الصخرة، فتحركت الأرض، وهي الزلزلة ". [6] أن يشمل على خلاف الصحيح الثابت. مثل حديث وضع الجزية على يهود خيبر، فهو باطل لأن فيه شهادة ¬

(¬1) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 2821). (¬2) انظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 326). (¬3) انظر من ذلك ما في " الموضوعات " لابن الجوزي (رقم: 1688 _ 1698). (¬4) انظر الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 1791) .......

سعد بن معاذ، ولم يكن حيا يومئذ، ولم يكن أسلم يومئذ والجزية لم تكن شرعت يومئذ، إلى قرائن أخرى. [7] أن يكون سمج اللفظ، أو يكون كلاماً تقبح إضافة مثله إلى نبي. مثل: " لا تسبوا الديك، فإنه صديقي، ولو يعلم بنو آدم ما في صورته لاشتروا ريشه ولحمه بالذهب " (¬1). ومثل: " أربع لا تشيع من أربع: انثى من ذكر، وأرض من مطر، وعين من نظر، وأذن من خبر " (¬2). ومن قبيح كذبهم: " عليكم بالوجوه الملاح، والحدق السود، فإن الله يستحيي أن يعذب وجهاً مليحاً بالنار " (¬3). [8] أن يشتمل على ما يوجب اتفاق الأمة في زمن على الضلالة. كادعاء أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل أمراً ظاهراً بمحضر من جميع الصحابة، ثم اتفقوا على كتمانه، مثل الذي تدعيه الرافضة في شأن الوصي. [9] أن يكون كلاماً هو ألصق بكلام الأطباء أو أصحاب المهن أو الحكماء، منه بكلام الأنبياء. مثل: " كلوا التمر على الريق، فأنه يقتل الدود " (¬4). قلت: ومما يشكل على هذا الطريق: أن من الكذابين من كان يحاكي الكلمات النبوية، ويأتي بالعبارات البليغة، والحق من القول، مركباً على الأسانيد التي ظاهرها السلامة، فيحسبه بعض الناس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) انظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 1347). (¬2) انظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 462 _ 464). (¬3) انظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 333 _ 334). (¬4) انظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 1392) .......

مسائل في الموضوع

وهذا من أغمض ما يكون، إذ لا يتبينه إلا حاذق عارف، يقارن بين المتون والأسانيد فيقيس على المحفوظ المعروف. ومثال ذلك من هؤلاء الكذابين (أبو جعفر عبد الله بن المسور الهاشمي)، فقد صح عن الثقة رقبة بن مصقلة العبدي قوله: " كان يضع أحاديث، كلام حق، وليست من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم " (¬1). وثبت عن محمد بن سعيد الشامي المصلوب قوله: " إني لأسمع الكلمة الحسنة، فلا أرى بأساً أن أنشئ لها إسناداً " (¬2). قلت: ووجود مثل هذا يبطل عبارة يدعيها بعض الناس في بعض أحاديث الضعفاء المتهمين والمجهولين: (هذه الكلمات حق، لا بد أن تكون خارجة من مشكاة النبوة)، كذلك يبطل قبول خبر المجهول الذي لا يعرف له على خبره متابع معتبر على ما روى؛ لجواز أن يكون على نفس صفة هذا الهالك، حتى يتبين أمره في الثقة والأمانة. مسائل في الموضوع: المسألة الأولى: مصطلح (حديث لا أصل له). كان يستعمل في عرف السلف في الحديث يروى بإسناد، لكنه خطأ أو باطل لا حقيقة له ولم يوجد أصلاً. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في " مقدمته " (1/ 22) وأبو أحمد الحاكم في " الكنى " (3/ 46) والخطيب في " تاريخه " (10/ 172) بإسناد صحيح. (¬2) أخرجه أبوزرعه الدمشقي في " تاريخه " (1/ 454) ومن طريقه: ابن حبان في " المجروحين " (2/ 248) وابن الجوزي في " الموضوعات " (رقم: 19) وابن عساكر في " تاريخه " (53/ 77)، وبنحوه أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفه والتاريخ " (1/ 700) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3/ 1 / 263) والبرذعي في " أسئلته لأبي زرعه " (2/ 726) وابن عدي (7/ 317) وابن عساكر، وإسناده جيد .......

وإذا حكموا بذلك على الحديث أرادوا: لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا حكموا على الإسناد أرادوا: لا أصل له عمن أضيف إليه في ذلك الطريق ممن لم يعرف من حديثه من الثقات، وجائز أن يكون له أصل محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذلك الوجه. والعبارة تساوي: ما هو كذب في نفسه متناً أو سنداً، أو في كليهما، ولذلك كثيراً ما تقترن بلفظ (موضوع) أو (كذب). وكثيراً ما يستعمل هذه العبارة أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان والعقيلي وابن عدي وابن حبان، وغيرهم من السالفين في الخبر له إسناد، لكنه باطل أو كذب. ومن أمثلته: مثال ما ليس له أصل بإسناد معين، ومتنه محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه آخر: سئل أبو حاتم الرازي عن حديث رواه نوح بن حبيب، عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " (¬1)؟ فقال أبو حاتم: " هذا حديث باطل، لا أصل له، إنما هو: مالك، ¬

(¬1) أخرجه من هذا الوجه: أبو نعيم في " الحلية " (6/ 374 رقم: 8984) والخليلي في " الإرشاد " (1/ 233) والقضاعي في " مسند الشهاب " (رقم " 1173) من طرق عن نوح به. كما أخرجه الدارقطني في " غرائب مالك " (كما في " تخريج أحاديث المختصر " لابن حجر 2/ 274) وابن حجر نفسه في الكتاب المذكور، من طريق إبراهيم بن محمد العتيق، عن ابن أبي رواد، به، كما ذكر ابن حجر (2/ 248) تخريج الحاكم له في " تاريخ نيسابور " من وجه ثالث عن ابن أبي رواد.

عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) " (¬2). ومثال ما روي بإسناد، ولا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه: ما رواه العلاء بن عمرو الحنفي، قال: حدثنا يحيى بن بريد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي " (¬3). فهذا قال فيه العقيلي: " منكر، لا أصل له " (¬4). وسبقه أبو حاتم الرازي فقال: " هذا حديث كذب " (¬5). والمتأخرون استعملوا العبارة أيضاً فيما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المتون ¬

(¬1) كذلك هو مخرج في " الصحيحين " من طريق مالك: أخرجه البخاري (رقم: 54، 4783) ومسلم (رقم: 1907)، وهو في " الموطأ " من رواية محمد بن الحسن (رقم: 983). ورواته عن يحيى بن سعيد الأنصاري خلق كثير، مخرجة رواياتهم في أكثر الأصول. (¬2) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 362). وقال الخليلي في " الإرشاد " (1/ 167): " عبد المجيد صالح، محدث ابن محدث .. لكنه يخطئ، ولم يخرج في الصحيح، وقد أخطأ في الحديث الذي يرويه مالك والخلق عن يحيى بن سعيد الأنصاري " فذكره بإسناده المعروف إلى عمر بن الخطاب، ثم قال: " وهذا أصل من أصول الدين، ومداره على يحيى بن سعيد، فقال عبد المجيد وأخطأ فيه: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم .. " فذكر هذا الإسناد، وقال: " غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجه، فهذا مما أخطأ فيه الثقة عن الثقة ". (¬3) أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (3/ 348) والطبراني في " الكبير " (11/ 185 رقم: 11441) و " الأوسط " (6/ 271 رقم: 5579) وابن الأنباري في " الوقف والابتداء " (رقم: 19) والحاكم في " المستدرك " (4/ 87 رقم: 6999) و " معرفة علوم الحديث " (ص: 161 _ 162) والبيهقي في " الشعب " (2/ 159، 230 رقم: 1433، 1610) وأبو زكريا ابن مندة في " ذكر أبي القاسم الطبراني " (ص: 357 - 359) من طريق العلاء المذكور، به. (¬4) الضعفاء (3/ 349). (¬5) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 2641).

المسألة الثانية: الحديث الذي لا أصل له يكثر في أبواب الفضائل وشبهها

الموضوعة، ولا تروى عنه بإسناد، ولا ريب أنه استعمال صحيح أيضاً ليس بخارج عما استعمله فيه السلف، بل إطلاقه على هذه الصورة أولى. وذلك كحكم ابن حجر العسقلاني وغيره على حديث: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " بقوله: لا أصل له " (¬1). ويشبه هذه العبارة في المعنى قول الناقد في حديث ما: " ليس له إسناد "، فإنه حكم بكونه لا أصل له. ومن ذلك ما حكاه أبو داود السجستاني، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: " يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وليس له إسناد "، قال أبو داود: " يعني حديث عبد الله بن جعفر المخرمي من ولد مسور بن مخرمة، عن عثمان الأخنسي، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يريد بقوله: ليس له إسناد؛ لحال عثمان الأخنسي؛ لأن في حديثه نكارة " (¬2). المسألة الثانية: الحديث الذي لا أصل له يكثر في أبواب الفضائل، والترغيب والترهيب، والقصص، والتفسير، والفتن والملاحم، والسير والمغازي. قال أحمد بن حنبل: " ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير " (¬3). قال الخطيب: " وهذا الكلام محمول على وجه، وهو أن المراد به كتب ¬

(¬1) المقاصد الحسنة، للسخاوي (رقم: 702) ....... (¬2) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 300 _ 301). والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 362) والترمذي (رقم: 344) والطبراني في " الأوسط " (رقم: 794 _ 9136) من طرق عن المخرمي، به. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح "، كذا قال، وقول أحمد في تعليله أرجح، وفصلت القول فيه في كتاب " علل الحديث ". (¬3) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 212) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1493) وإسناده صحيح.

مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها؛ لسوء أحوال مصنفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القصاص فيها " (¬1). قال: " أما كتب الملاحم فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتصلت أسانيدها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه مرضية، وطرق واضحة جلية " (¬2). قلت: ومن تأمل الكتب العتيقة المدونة في هذه الأبواب وجد الوهاء سمة مؤلفيها، ككتب محمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الضبي في السير والمغازي، وتفيسر الكلبي ومقاتل بن سليمان. وإن كان المؤلف موصوفاً بالسلامة كمحمد بن إسحاق، كان تصنيفه كثير الغث قليل الصواب. نعم، ربما يسهل في قبول بعض ما جمعه هذا الصنف، مما استفادوه من كلام العرب ولغتها، لا الرواية. قال يحيى بن سعيد القطان: " تساهلوا في التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث " ثم ذكر ليث بن أبي سليم، وجرير بن سعيد، والضحاك، ومحمد بن السائب يعنى الكلبي، وقال " هؤلاء لا يحمد حديثهم، ويكتب التفيسر عنهم " (¬3). ويبين البيهقي وجه هذا الترخص فيقول: " وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم؛ لأن ما فسروا به ألفاظه تشهد به لغات العرب، وإنما عملهم في ذلك الجمع والتقريب فقط " (¬4). ¬

(¬1) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 162). (¬2) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 162 _ 163) ....... (¬3) أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 35 _ 37) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1588) وإسناده صحيح. (¬4) دلائل النبوة (1/ 37).

المسألة الثالثة: الكتب المؤلفة في تمييز الأحاديث الموضوعة

المسألة الثالثة: الكتب المؤلفة في تمييز الأحاديث الموضوعة. اعلم أن الأحاديث الموضوعة في أزمان أولئك الكذابين كانت كثيرة، ولكن الله نفى أكثرها بأئمة الهدى الذين سخرهم للذب عن دينه، ففضح بهم أمر الكذابين، وكشفوا عن حقيقة أمرهم، وأبطلوا ما جاءوا به، ثم صنفت التصانيف الموثقة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمد أصحابها إلى انتقاء الحديث فيها، متقين ما انكشف وظهر بطلانه ووضعه، وأكثروا تخريج أحاديث الثقات، وانعدم تارة وندر أخرى فيما خرجوه أحاديث الكذابين، خصوصاً تلك الكتب الأمهات المحتوية على تفاصيل السنن، والتي لا يكاد يخرج عنها من الحديث الصحيح إلا ما ندر. فحين ترى مثلاً ما جاء عن الرجل الواحد من رءوس الكذب أنه وضع الآلاف من الحديث، فلا يغرنك هذا فتحسب له أثراً في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك كقول الحاكم النيسابوري: " مُحمد بن تميم الفاريابي، قد وضَعَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عشْرة آلافِ حديث، وهُو قريبٌ من الجوباري " (¬1). قول ابن حبان في (محمد بن يونس الكديمي): " يضع على الثقات الحديث وضعاً، ولعله قد وضع أكثر من ألف حديث " (¬2). فهذا وشبهه جميعاً مما لم يبق له وجود من رواية هؤلاء وأمثالهم إلا الشيء اليسير المتميز الذي تسلم منه أمهات السنة بفضل الله ونعمته، فله الحمد. ولعل من حكمة بقاء ذلك اليسير أن يستدل به على كذب هؤلاء وفضيحتهم، وقد اعتنى ببيانه علماء الأمة، ولا يزالون. ¬

(¬1) سؤالات مسعود السجزي (النص: 137). (¬2) المجروحين (2/ 313) .......

نقد كتاب " الموضوعات " لابن الجوزي

ومن أشهر المؤلفات فيه كتاب " الموضوعات " لأبي الفرج ابن الجوزي. وهو كتاب نافع، غير أنه انتقد في مواطن منه، وعيب عليه فيه أمران أساسيان: الأول: أنه أدخل فيه أحاديث لا تبلغ الوضع، بل الضعف، إنما هي من الحديث المقبول، وبعض ذلك في كتب " السنن" و " مسند أحمد "، بل فيه حديث هو في " صحيح مسلم " (¬1). وأكثر من اجتهد في تعقبه في ذلك: جلال الدين السيوطي في كتاب " اللآلئ المصنوعة "، وكان قبله قد تعقبه العراقي وابن حجر فيما أورده في " الموضوعات " من أحاديث " المسند ". والتحقيق: أن زعم أن يكون شيء مما أورده ابن الجوزي في " الموضوعات " مما هو من قسم المقبول، محل بحث في أكثره، فقد يسلم فيه الحديث بعد الحديث، لكن أغلب ذلك مما اجتهد في دفع الضعف عنه بتكلف لا يخفى على من تأمله. وإنما يصدق النقد لابن الجوزي في أنه حكم على ما ضمنه كتابه بالوضع، وفيه أحاديث كثيرة لا تهبط إلى ذلك القدر، بل هي من قسم الضعيف. وعلة أوهام ابن الجوزي في كثير منها ناتجة عن التقليد لمن تقدمه كابن عدي والعقيلي وابن حبان، حيث يتابعهم في إيراد أحاديث انتقدوها ¬

(¬1) وهو حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك إن طالت بك مدة، أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله ". أخرجه مسلم (رقم: 2857)، وهو في " الموضوعات " لابن الجوزي (رقم: 1544)، وابن الجوزي قلد في إيراده ابن حبان في " المجروحين " (1/ 176)، فإنه قال: " خبر بهذا اللفظ باطل " .......

على بعض الرواة، ربما لم يحكموا عليها بأكثر من النكارة، فيوردها ابن الجوزي على أنها موضوعة. والثاني: أنه بنى في نقده على إعماله الجرح غير المحرر في الراوي المختلف فيه، وأوهامه في هذا كثيرة في جميع كتبه التي تعرض فيها لنقد الأحاديث أو الرجال، فإنه يذكر الجرح ويقصر في التعديل، أو يغفله جملة، وغاية أمر الراوي أن يكون ضعيفاً لا يتهم. قال الذهبي وذكر قدر معرفة ابن الجوزي بنقد الحديث: " أما الكلام على صحيحه وسقيمه، فما له فيه ذوق المحدثين، ولا نقد الحفاظ المبرزين، فإنه كثير الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة، مع كونه كثير السياق لتلك الأحاديث في الموضوعات، والتحقيق أنه لا ينبغي الاحتجاج بها، ولا ذكرها في الموضوعات وربما ذكر في الموضوعات أحاديث حساناً قوية، ونقلت من خط السيف أحمد بن المجد (¬1) قال: صنف ابن الجوزي كتاب " الموضوعات "، فأصاب في ذكره أحاديث شنيعة مخالفة للنقل والعقل. ومما لم يصب فيه إطلاقه الوضع على أحاديث بكلام بعض الناس في أحد رواتها، كقوله: فلان ضعيف، أو: ليس بالقوي، أو: لين، وليس ذلك الحديث مما يشهد القلب ببطلانه، ولا فيه مخالفة ولا معارضة لكتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا حجة بأنه موضوع، سوى كلام ذلك الرجل في راويه، وهذا عدوان ومجازفة " (¬2). قلت: نعم، أكثر ما في كتاب " الموضوعات " من الحديث الأحاديث الموضوعة. قال ابن تيمية: " الموضوع في اصطلاح أبي الفرج: هو الذي قام دليل على أنه باطل، وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب، بل غلط فيه؛ ولهذا ¬

(¬1) هو الحافظ سيف الدين أبو العباس أحمد بن مجد الدين عيسى بن موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (المتوفى سنة: 643). (¬2) تاريخ الإسلام (حوادث وفيات 591 _ 600) (ص: 300).

المسألة الرابعة: مما يساعد على تمييز الموضوع في الحديث: معرفة أبواب مخصوصة

روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع، وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره، وقالوا: إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل، بل بينوا ثبوت بعض ذلك، لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء " (¬1). وقبل ابن الجوزي وبعده كتب مفيدة في معرفة الأحاديث الموضوعة، لكن ليس فيها ما استقصى، وكأن هذا مطمع غير ممكن من أجل حظ الاجتهاد، إذ ما يدخله التردد: هل هو موضوع، أم شديد الضعف واه، أم منكر، في هذا الباب كثير. وابن الجوزي ممن حاول الفصل بين الموضوع والواهي في كتابين منفصلين، لكن عند غيره أشياء كثيرة مما يخالفه فيها في أي القسمين تكون، أو هي خارجهما أصلاً. كما أن من مظان معرفة الموضوعات أيضاً كتب الأحاديث المشتهرة على الألسنة، ككتاب " المقاصد الحسنة " للسخاوي، لكن تنبه إلى كون هذه لم تقصد إلى الحديث الموضوع ومما لا أصل له، وإنما عنيت بالأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس، وفيها الصحيح والحسن والضعف والموضوع. المسألة الرابعة: مما يساعد على تمييز الموضوع في الحديث: معرفة أبواب مخصوصة، عامة ما يروى فيها من الحديث موضوع. وذلك كالأحاديث في فضل العقل، والأحاديث في حياة الخضر، وأحاديث صلوات الأيام والليالي، كصلوات أيام الأسبوع، وما جاء في صوم رجب والصلاة المسماه بصلاة الرغائب فيه، وصلاة النصف من شعبان، والأحاديث في ذم الحبشة والسودان والترك والمماليك، وغير ذلك (¬2). ¬

(¬1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 160) ....... (¬2) ولهذه المسألة مزيد بيان يستفاد مما تقدم في (النقد الخفي) من (القسم الأول) .......

الفصل الثالث حكم الاعتبار بالحديث الضعيف

الفصل الثالث حكم الاعتبار بالحديث الضعيف

المبحث الأول: تفسير الاعتبار

المبحث الأول: تفسير الاعتبار يستعمل أهل الحديث مصطلح (الاعتبار) و (يعتبر به)، وما في معناها في معنيين: المعنى الأول: أن الراوي أو الحديث ضعيف ضعفاً يرجى برؤه، ولا يسقط به. وقد يعبر عنه بالقول: (صالح)، وفي الراوي تارة: (يكتب حديثه)، و (يخرج حديثه اعتباراً). وتدل عليه جميع عبارات الجرح التي لا يطرح بها الراوي أو حديثه. فيجمع ما كان ضمن هذا النوع من الحديث، أو الرواة، ويكتب، أو يخرج في الكتب، رجاء أن يوجد له في الروايات سواه مما يشاكله في القوة أو يرقى فوقه، من متابعات في الأسانيد أو شواهد، فيزول به أثر الضعف وينتقل به الحديث إلى درجة القبول. فإن فقد ذلك فهي أفراد الضعفاء. وسيأتي بيان ما يعتبر به على هذا المعنى من الروايات.

والمعنى الثاني: أن يميز حديث الراوي ويعرف، لا على معنى جواز تقويته أو التقوية به، فكأنه من معنى: أتخذه عبرة خشية الضرر به. كقول أبي حاتم الرازي في (عبد العزيز بن عمران): " متروك الحديث ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً "، قال ابنه: قلت: يكتب حديثه؟ قال: " على الاعتبار " (¬1). وكقول أبي زرعة أيضاً في (محمد بن عمر الواقدي): " ضعيف "، قال ابن أبي حاتم: قلت: يكتب حديثه؟ قال: " ما يعجبني إلا على الاعتبار، ترك الناس حديثه " (¬2). قلت: وتأمل قوله: " على الاعتبار "، ولم نقل: " للاعتبار "، وهذا فرق ما بين هذا الاستعمال ومصطلح (الاعتبار) بالمعنى الأول. يؤيد هذا ما قاله أبو نعيم الأصبهاني عقب الفصل الذي ذكر فيه الضعفاء والمتروكين: " كل واحد من المذكورين في هذا الفصل بنوع من الأنواع، إذا نظرت في حديثه وتميزته، ارتفع الريب في أمره، وظهر لك حقيقة ما نسبته إليه، وأكثرهم عندي لا تجوز الرواية عنهم ولا الاحتجاج بحديثهم، وإنما يكتب حديث أمثالهم للاعتبار والمعرفة، إذ لا سبيل إلى معرفتهم في حديثهم، وإذا احتاج الراوي إلى ذكرهم عرف لهم من الوضع والكذب والوهم والخطأ والإنكار وغير ذلك، ما يذكرهم به ويضيفه إليهم؛ ليكون ما كتب من حديثه شاهداً له على جرحه لهم " (¬3). والمعنى المقصود هنا لهذا المبحث هو الأول. * * * ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 2 / 391). (¬2) الجرح والتعديل (4/ 1 / 21). (¬3) الضعفاء، لأبي نعيم (ص: 170) .......

المبحث الثاني: تمييز ما يصلح للاعتبار

المبحث الثاني: تمييز ما يصلح للاعتبار عماد مسألة ما يصلح للاعتبار وما لا يصلح يقوم على أساسين: الأول: صلاحية الراوي. وذلك أن يكون الراوي محل الاعتبار لم يبلغ حديثه في الضعف درجة السقوط. وللناقد الخبير أبي عبد الله الذهبي تصوير دقيق لمنازل الرواة يقرب فهم هذه المسألة، قال: " منهم هو العدل الحجة، كالشاب القوي المعافى. ومنهم من هو ثقة صدوق، كالشاب الصحيح المتوسط في القوة. ومنهم من هو صدوق، أو لا بأس به، كالكهل المعافى. ومنهم الصدوق الذي فيه لين، كمن هو في عافية، لكن يوجعه رأسه أو به دمل. ومنهم الضعيف الذي تحامل، ويشهد الجماعة محموماً، ولا يرمي جنبه. ومنهم الضعيف الواهي، كالرجل المريض في الفراش، وبالتطبيب ترجى عافيته.

ومنهم الساقط المتروك، كصاحب المرض الحاد الخطر. وآخر، حاله كحال من سقطت قوته، وأشرف على التلف. وآخر، من الهالكين، كالممحتضر الذي ينازع. وآخر، من الكذابين الدجالين " (¬1). قلت: فهذا توضيح لصفة أحوال الرواة، فإذا استثنيت الصدوق ومن فوقه، وجدت سائر الأوصاف تعود في جملتها إلى قسمين: الأول: من يمكن أن يعالج حديثه من الرواة تبعاً لحاله في المرض. والثاني: ما لا سبيل إلى علاجه؛ لتمكن المرض، أو لبلوغه مبلغ الهلاك. والصالح للاعتبار من هؤلاء: من أمكن علاج علته، وهذا ما كان ضعفه ناتجاً عن سوء حفظه، وكثرة خطئه، أو ورود مظنة ذلك عليه كالمجهول. فبالنظر للأنواع المتقدمة للحديث الضعيف، نجد ما يمكن علاجه مما يعود ضعفه إلى ضعف راويه، ما يلي: أولاً: حديث المجهول والمستور. وينبغي أن يلاحظ فيه التسهيل في الاعتبار بمجاهيل التابعين، ومزيد الاحتياط فيمن بعدهم. وذلك أن الكذب في التابعين كان قليلاً نادراً؛ لقرب العهد من نور النبوة، ولعدم ظهور الشره في الحديث الذي أصاب من بعدهم مما حمل كثيرين على الكذب ووضع الحديث. ¬

(¬1) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل (ص: 171).

قيل لزيد بن أسلم (وهو من صغار التابعين): عمن يا أبا أسامة؟ قال: " ما كنا نجالس السفهاء، ولا نحمل عنهم " (¬1). كذلك مما يوجب التشديد في الاعتبار بحديث المجهول في الطبقات المتأخرة، خصوصاً مجهول العين: ما عرف من طائفة من الرواة من تدليس الأسماء، فربما كان ذلك المجهول شيخاً واهياً لم يتعين أمره للتدليس. ولا شك أن تمييز من يفعل ذلك من المدلسين طريق لتوقي حديث مثل هؤلاء المجهولين. غير أن الشأن في الجملة: صحة الاعتبار برواية المجهول، وإن كان مجهول العين، كشأن الاعتبار بالحديث المنقطع، من جهة الجهالة بعين الساقط. قال الدارقطني: " من لم يرو عنه إلا رجل واحد، انفرد بخبر، وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره " (¬2). وإذا صح الاعتبار برواية مجهول العين، صح بالأولى الاعتبار برواية مجهول الحال والمستور، خصوصاً أن الأخيرين ربما صرنا إلى الحكم بقبول حديثهما لذاته، وذلك عند استيفاء شروط الحسن. ثانياً: حديث سيء الحفظ، وهو راوي الحديث الذي يضعف بسبب لينه، لا من يبلغ الترك لغلبة خطئه. وهذا من أكثر ما اعتنى أئمة الحديث بالاعتبار به، وأكثر ما جرى عليه الترمذي فيما حسنه من الحديث لغيره إنما كان من روايات هذا الصنف، والمعنى فيه ظاهر فإن الصدق في الجملة ثابت للراوي، وسوء حفظه لم يغلب الخطأ على حديثه، فحيث نجد ما يشده فإن قبول حديثه متعين؛ لزوال الشبهة. ¬

(¬1) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه " (1/ 441) وإسناده حسن ....... (¬2) سنن الدارقطني (3/ 174) .......

ويندرج في جملته: حديث الثقة المختلط الذي عرف أنه حدث به بعد اختلاطه، وحديث من عرف بقبول التلقين. ثالثاً: من وقع الاضطراب في حديثه؛ لكون ذلك واقعاً بسبب سوء الحفظ، والاضطراب تكافؤ في الوجوه، فإذا وجد المرجح تعين المصير إليه، والمرجح قد يكون إلى جانب القبول. رابعاً: من وقع في حديثه الاختلاف، فرد لأجله، فإن لم يتعين في ذلك الاختلاف الخطأ، ووجد المرجح إلى جهة القبول وجب المصير إليه والاعتداد بذلك الراوي، إذ ما خشيناه من مظنة خطئه قد زال. وما لا يمكن علاجه منها، ما يلي: أولاً: الراوي الموصوف بكونه (منكر الحديث)، أو (متروك الحديث)، أو (شديد الضعف)، أو بأي عبارة تقتضي الوهاء. ثانياً: الراوي المتهم بالكذب، أو سرقة الحديث، وأولى منه من يثبت ذلك عليه. فإن قلت: ربما روى الواحد من هذا الصنف أو الذي قبله ما يرويه الثقات، فهل يعتبر بما يوافق فيه الثقات أم لا؟ قلت: وجدنا من الناس من المتأخرين من يغتر بتلك الموافقات، والتحقيق: منع الاعتبار بروايات هذين الصنفين، وإن وقعت موافقة لروايات الثقات، والعلة في ذلك: ما يقع في رواياتهم من التحديث بما ليس من حديثهم المسموع لهم، سرقة، أو تشبيهاً عليهم، أو تلقيناً لهم، أو دسا في كتبهم. فالواجب النظر إلى روايات هؤلاء بمنزلة المعدوم في هذا الباب. ومن كلام الأئمة في توكيد هذا الأصل في التمييز بين من يعتبر به ومن لا يعتبر به، ما يلي: قال الترمذي بعد ذكر (محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى)

و (مجالد بن سعيد): " إذا تفرد أحد من هؤلاء بحديث ولم يتابع عليه، لم يحتج به، كما قال أحمد بن حنبل: ابن أبي ليلى لا يحتج به، إنما عنى إذا تفرد بالشيء " (¬1). قلت: فهذا دال على أن حديث هذا الصنف صالح عند عدم التفرد. وقال أحمد بن حنبل: " ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب أعتبر به، ويقوي بعضه بعضاً " (¬2). فإن كان من أحاديث متهم أو متروك أو منكر الحديث، ممن هو شديد الضعف، فهذا لا يعتبر بحديثه عندهم. قال أحمد بن حنبل في الفرق بين النوعين: " الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه في وقت، والمنكر أبداً منكر " (¬3). وبين ذلك بأكثر من هذا في روية أخرى، قيل له: فهذه الفوائد التي فيها المناكير، ترى أن يكتب الحديث المنكر؟ قال: " المنكر أبداً منكر "، قيل له: فالضعفاء؟ قال: " قد يحتاج إليهم في وقت " كأنه لم ير بالكتاب عنهم بأساً (¬4). قلت: وجه ترك كتبة المنكرات، عدم صحة الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار لا يكون بما ليس له أصل، والمنكرات لا أصول لها. أما أحاديث الضعفاء التي يوجد ما يشدها فهذه تكتب؛ لأن لها أصلاً. وكذلك صنع أحمد في " مسنده " فإن أكثره من رواية الثقات المتقنين، وفيه روايات الضعفاء الذين تعرف أحاديثهم أو معانيها من وجوه أخرى، إلا ¬

(¬1) كتاب (العلل) في آخر " الجامع " (6/ 239). (¬2) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1583) وإسناده صحيح. (¬3) العلل، رواية أبي بكر المروذي (النص: 287). (¬4) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 167) .......

قليلاً جداً مما يمكن وصفه بالنكارة، ولم يجر من أحمد على سبيل القصد مع تبينه لنكارته. قال الجوزجاني في (سعيد بن سنان أبي مهدي الحمصي): " كان أبو اليمان يثني عليه في فضله وعبادته، قال: كنا نستمطر به. فنظرت في حديثه فإذا أحاديثه معضلة، فأخبرت أبا اليمان بذلك، فقال: أما إن يحيى بن معين لم يكتب منها شيئاً، فلما رجعت إلى العراق ذكرت أبا المهدي ليحيى بن معين، وقلت: ما منعك يا أبا زكريا أن تكتبها؟ قال: من يكتب تلك الأحاديث؟ من أين وقع عليها؟ لعلك كتبت منها يا أبا إسحاق؟ قلت: كتبت منها شيئاً يسيراً لأعتبر به، قال: تلك لا يعتبر بها، هي بواطيل " (¬1). قلت: وعند بعض النقاد لا يترك حديث الراوي حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه، وعلى هذا فمن لم يتفق على ترك حديثه فهو عند هذه الطائفة صالح للاعتبار. وهذه طريقة أحمد بن صالح المصري. قال يعقوب بن سفيان: سمعت أحمد بن صالح، وذكر مسلمة بن علي، قال: " لا يترك حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه، قد يقال: (فلان ضعيف)، فأما أن يقال: (فلان متروك) فلا، إلا أن يجتمع الجميع على ترك حديثه " (¬2). وكذلك جاء عن أحمد بن شعيب النسائي، أنه لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه (¬3). لكن هذا يجب أن يكون مشروطاً بعدم ظهور وجه الجرح الذي يسقط ¬

(¬1) أحوال الرجال، للجوزجاني (النص: 301) والكامل، لابن عدي (4/ 399). واسم أبي اليمان: الحكم بن نافع. (¬2) المعرفة والتاريخ (2/ 191) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 181). (¬3) النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 482) .......

صلاحية نفس الحديث

به حديث الراوي، وإلا فإطلاقه لا بجري على الأصول، فإن الجماعة قد تعدل الراوي، ويطلع واحد من أهل الاختصاص على كذبه، فهذا عندهم في التحقيق كاف لإسقاط جميع روايته. والثاني: صلاحية نفس الحديث. فيعتبر بكل ما لم يثبت أنه: كذب، أو منكر، أو خطأ. فيصح الاعتبار بما يلي: أولاً: المنقطع. ثانياً: المرسل. ثالثاً: المعضل بسقط اثنين، وذلك فيما يرفعه صغار التابعين أو كبار أتباع التابعين (¬1)، فإن طال السقط، أو كان في الطبقات المتأخرة فلا ينبغي الاعتداد به؛ لقوة مظنة الوهاء بتتابع العلل، أو من أجل تساهل متأخري الرواة فيمن يحملون عنهم. رابعاً: حديث المدلس الذي عنعن فيه، أو ثبت تدليسه فيه، ما لم يرجع تدليسه فيه إلى متروك الحديث أو متهم بالكذب. خامساً: المرسل إرسالاً خفياً. ولا يصح الاعتبار بما يلي: أولاً: المعلق حتى يوقف على إسناده، إذ المعلقات ترجع في الأصل إلى الأسانيد، فإن لم يوقف له على إسناد نزل منزلة ما لا أصل له. ثانياً: المقلوب. ¬

(¬1) قال الخطيب: " حكم المعضل مثل حكم المرسل في الاعتبار به فقط " (الجامع لأخلاق الراوي 2/ 191).

ثالثاً: المصحف. رابعاً: المدرج. خامساً: الشاذ. سادساً: المعلل المتعين خطؤه. وهذه لا يعتبر بها من أجل كون الراجح فيها الخطأ، والحديث إذا تبين أنه خطأ فإنه لا يصلح الاعتداد به، إذ الخطأ لن يكون صواباً. سابعاً: المنكر. ووجه سقوط الاعتبار به أنه لا يخلو من أن تكون نكارته بسبب المخالفة من الراوي الضعيف، وهذه مرجوحة خطأ، ولا يعتبر بالخطأ. أو أن تكون نكارته بسبب التفرد، فيخرج عن هذه المسألة؛ لأن الاعتبار إنما يكون بما يوجد له الموافق. وربما جاءت النكارة بسبب التدليس عن متروك أو متهم. ثامناً: الموضوع (¬1). وعدم الاعتبار بما ثبت أنه كذب أو منكر، ظاهر، وإن تعددت له ¬

(¬1) قال ابن الصلاح في توكيد طرفٍ مما بينته هنا: " ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت: فمنه ضعف يزيله ذلك، بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا مارواه قد جاء من وجهٍ آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختلَّ فيه ضبطه له. وكذلك إذا كان ضعْفه من حيث الإرسال، زال بنَحو ذلك، كما في المرسل الذي يُرسله إمامٌ حافظٌ، إذْ فيه ضعْفٌ قليلٌ يزول بروايته من وجهٍ آخر. ومن ذلك ضعْفٌ لا يزول بنحو ذلك؛ لقوَّة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبْره ومُقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي مُتهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذًّا ". (علوم الحديث، ص: 34) .......

الطرق وكثرت، فلا تعني كثرتها في التحقيق شيئاً؛ لجواز التواطؤ من قبل الكذابين والمتهمين على تنويع الأسانيد للحديث الواحد، فربما نتج تعدد الطرق عن رواية رجل من الضعفاء، عرف بذلك الحديث، فسرقه المتهمون وتداولوه بينهم، يسرقه بعضهم من بعض. وجائز أن يكون الضعيف الذي ترجع إليه جميع الطرق ممن يعتبر به، ولكن ليس في تلك الطرق ما يشده؛ لوهائها. وهذا لا يتقى إلا بتمييز ما كان يصلح للاعتبار بحسب رواته من جهة حفظهم وأنهم لم يبلغوا الترك، والسلامة من العلة القادحة في الإسناد أو المتن. وأمثلة ما لا تعتد به من تعدد الطرق كثيرة. مثل حديث: " من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر ديناه، بعثه الله يوم القيامة فقيهاً "، فهذا روي من حديث ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة، بأسانيد كثيرة كلها واهية ساقطة (¬1). وحديث " زر غبا تزدد حبا "، روي من حديث أبي هريرة وأبي ذر وحبيب بن سلمة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وعائشة أم المؤمنين، وكلها واهية الأسانيد، وما كان فيه بعض النفس فإنه يفتقر إلى ما يشده. وقال الزيلعي في شأن أحاديث الجهر بالبسملة في الصلاة: " وأحاديث الجهر وإن كثرت رواتها، لكنها كلها ضعيفه، وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه، وهو حديث ضعيف، كحديث الطير (¬2)، وحديث الحاجم ¬

(¬1) شَرحت علله في جزء " التبيين لطُرق حديث الأربعين ". (¬2) هوَ ما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بطيْرٍ، فقال: " اللهم ائْتني بأحبِّ خلْقك إليْك يأكل معي من هذا الطير "، فجاء عليٌّ، فأكل معه. الحديث. انظر طُرقه في " العلل المتناهية " لابن الجوزي (1/ 225 _ 234).

تنبيه: الاعتبار بالطرق المرجوحة التي دل النظر على أنها خطأ، لا يصح

والمحجوم، وحديث " من كنت مولاه فعلي مولاه "، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفاً (¬1). تنبيه: الاعتبار بالطرق المرجوحة التي دل النظر على أنها خطأ، لا يصح كما تقدم، وهو مما يغفل عنه كثير من المشتغلين بهذا العلم، يغر أحدهم ظاهر ورود طريق أخرى للحديث، فيقوي بها، دون ملاحظة شذوذها في الإسناد مثلاً، أو رجوعها إلى نفس طريق الحديث الأولى التي أراد تقويتها. وإليك مثالين توضيحاً لذلك: المثال الأول: روى منصور بن المعتمر، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا سمر إلا لأحد رجلين: لمصل أو مسافر ". هذا الحديث رواه عن منصور الثقات من أصحابه: سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن عبد الحميد، وأبو عوانة الوضاح اليشكري، وعمرو بن أبي قيس، جميعاً هكذا، لكن منهم من يذكر واسطة مبهمة بين خيثمة وابن مسعود، ومنهم من لا يذكر وعلى كلا الحالين فإنه منقطع، خيثمة لم يدرك ابن مسعود، والواسطة مبهمة. خالف الجماعة عن منصور: إبراهيم بن يوسف الصيرفي، فرواه عن سفيان بن عيينة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زياد بن حدير، عن ابن مسعود. فحسب بعض الناس هذه طريقاً أخرى للحديث، وما فطنوا إلى أن ¬

(¬1) نصب الراية (1/ 359 _ 360) .......

الصيرفي هذا وهم في إسناده على ابن عيينة، من أجل المحفوظ عن منصور، فمن يعتمد قوله في النقلة كالنسائي قال في (الصيرفي): " ليس بالقوي " وهو من شيوخه، والرجل حسن الحديث ما أتى بما هو موافق لرواية الثقات، أما أن يأتي بمثل هذا الإسناد فهذا مقام إعمال قول الناقد (ليس بالقوي). فإذا تبين أن رواية الصيرفي وهم، والحديث كما رواه جماعة الثقات عن منصور، فيسقط الاعتداد بطريق الصيرفي لتقويته؛ لأنه رواية خطأ (¬1). والمثال الثاني: ما رواه الضحاك بن نبراس، عن ثابت البناني، عن أنس من مالك، عن زيد بن ثابت، قال: أقيمت الصلاة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وأنا معه، فقارب في الخطا، ثم قال لي: " أتدري لم فعلت هذا؟ لتكثر عدد خطانا في طلب الصلاة " (¬2). ¬

(¬1) خرَّجت الحديث وبيَّنتُ علَّته في تعليقي على كتاب " تَسمية ما انتهى إلينا من الرواة عن أبي نعيم الفضْل بن دُكين " لأبي نعيم الأصبهاني (رقم: 55). كذلك انْظر ما بيَّنته لتطبيق ما يُشبه هذه الصورة في مثالٍ آخر، وهو بياني لعلَّة حديث " من حسْن إسلام المرءِ ترْكه ما لا يعنيه "، في تعليقي على كتاب " الرسالة المغنية في السكوت ولُزوم البيوت " لابن البنَّاء الحنبلي (رقم: 35). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في " مُسنده " (كما في " المطالب العالية " 2/ 390 رقم: 566، و " إتحاف الخيرة " رقم: 1419) وعبْد بن حميد (رقم: 256) وأبو يعلى (كما في " المطالب " رقم: 567) والطبراني في " الكبير " (5/ 126 رقم: 4798) وابنُ عدي في " الكامل " (5/ 153) من طريق عبيْد الله بنُ موسى. والبخاري في " الأدب المفرد " (رقم: 458) حدثنا موسى (وهوَ ابن إسماعيل). والطبراني أيضاً (رقم: 4799) من طريق حرَمي بن عمارة، والعُقيلي في " الضعفاء " (2/ 219) من طريق مُسلم بن إبراهيم، أربعتهم قالوا: حدثنا الضَّحَّاك، به، ولفظ حرمَي مَعناه. وأخرجه الطبراني (رقم: 4797) من طريق مُسلمِ بن إبراهيم، أيضاً لكن من مُسند أنسٍ، لم يذْكر زيْداً.

فهذا تابع الضحاك عليه: محمد بن ثابت البناني، عن أبيه، به مرفوعاً (¬1). والضحاك لين الحديث، ومحمد بن ثابت ليس بالقوي، وكلاهما يعتبر به، ولو سلم حديثهما هذا من المخالفة لكان حديثاً حسناً، غير أن حماد بن سلمة والسري بن يحيى وجعفر بن سليمان الضبعي رووه عن ثابت البناني عن أنس عن زيد موقوفاً من فعل زيد وقوله (¬2). وقال العقيلي: " حديث حماد أولى " قلت: كيف لا، وأثبت الناس في ثابت حماد بن سلمة؟ ومتابعة السري ثقة، وجعفر صدوق، ولا يقاوم الضحاك ومحمد بن ثابت مجتمعين جعفراً وحده فكيف بمن فوقه، كحماد؟ بل كيف بهم مجتمعين؟ لذا قال أبو حاتم الرازي: " روى هذا الحديث جماعة عن ثابت البناني، فلم يوصله أحد إلا الضحاك بن نبراس، والضحاك لين الحديث، وهو ذا يتابعه محمد بن ثابت، ومحمد أيضاً ليس بقوي، والصحيح موقوف " (¬3). فهذا مما يبين لك أن ما يعتبر به من طرق الحديث: ما سلم من المعارض الراجح، إذ قيام المعارض الراجح خطأ، فيتعذر حينئذ دفع الضر عنه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود الطيالسي في " مُسنده " (كما في " إتحاف الخِيرة " رقم: 1418) ومن طريقه: الطبراني في " الكبير " (5/ 127 رقم: 4800) والبيهقي في " الشعب " (3/ 60 رقم: 2868) قال: حدثنا مُحمد بن ثابت، به. ووقعَ في رواية البيهقي فيما يَبدوا اختِصارٌ أوْهم أنَّ الرواية من هذا الوَجهِ موقوفةٌ. (¬2) أخرجه العُقيلي (2/ 219) والبيهقي في " الشعب " (3/ 60 رقم: 2869) من طريق حماد، والطبراني في " الكبير " (5/ 126 رقم: 4796) من طريق السري. وعبد الرزاق في " المصنف " (1/ 517 رقم: 1983) ولم يذكر البيهقي في روايته زيْداً ....... (¬3) علل الحديث (رقم: 548) .......

المبحث الثالث: تقوية الحديث بتعدد الطرق

المبحث الثالث: تقوية الحديث بتعدد الطرق تقدم في (الحديث الحسن) ذكر (الحسن لغيره)، وأنه الحديث الضعيف الذي لم يبلغ ضعفه السقوط لاتهام راويه بالكذب أو غلبة الخطأ، ينجبر بممجيئه من وجه آخر يعتبر به. وبينت في المبحث السابق ما يعتبر به وما لا يعتبر به من الحديث، والذي هو مقدمة ضرورية لفهم هذا المبحث. ومحل الحديث منه هنا مقصور على المنهاج الذي يصح به تقوية حديث ضعيف يعتبر به في الأصل لخفة ضعفه، بغيره، إذ أسقطنا فيما تقدم ما لا يعتبر به. وبيان هذا الأصل أن نقول: اعلم أن تقوية الحديث الضعيف الصالح بغيره يشترط لها في الجابر أربعة شروط: الشرط الأول: أن يكون حديثاً له نفس درجة المجبور به من جهة من يضاف إليه. أي: إن كان الضعيف المراد تقويته حديثاً مرفوعاً، وجب في جابره

لا يقوي الحديث الضعيف بموافقة ظاهر القرآن

أن يكون مرفوعاً، صراحة أو حكماً؛ لأن المراد تقوية أحد الطريقين بالآخر لتصحيح نسبتهما إلى نفس القائل أوالفاعل. ويخرج منه: تقوية الحديث بما ليس بحديث، أو بما نسبته إلى من هو دون درجة من ينسب له ذلك الحديث. ولذلك طرق لا يصلح اتباع شيء منها لتقوية نسبة الحديث الضعيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أولها: تقويته بموافقة ظاهر القرآن، زعمه بعضهم. وهذا يكون صحيحاً أن يقال: المعنى الذي جاء به الحديث الضعيف موجود في كتاب الله، لكن يبقي للحديث وصف الضعف في نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً. وليس اشتمال الحديث على الحق، مما يجيز بمجرده نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا أسقطنا الاعتداد بقوانين هذا العلم، ولقال من شاء ما شاء. ومن مثال هذا: تقوية ما رواه دراج أبو السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] " (¬1). فهذا معناه في كتاب الله صحيح، لكن الحديث لم يرو إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد ضعيف، دراج ضعيف الحديث عن أبي الهيثم، وقد جاء بالأمر بالشهادة بالإيمان لمرتاد المسجد، وهو مما لا شاهد له من القرآن. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (رقم: 2617، 3092) وغيره.

لا يقوي الحديث الضعيف بالموقوفات على الصحابة

ثانيها: تقويته بالموقوفات على الصحابة. الحديث الموقوف لا يقوي المرفوع إلا إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، ولم يكن من أحاديث بني إسرائيل. فإن قلت: وجدنا في كلام الشافعي ما نعتبر فيه تقوية المرسل بالمنقول عن الصحابة (¬1). قلت: ليس لهذا مثال يقول فيه الشافعي بتصحيح نسبة حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم علته الإرسال، بقول صحابي أو فعله، وإنما وجد في كلامه تعضيد الحكم المستفاد من المرسل، بجريان عمل بعض الصحابة به، كما وقع منه في بعض مراسيل سعيد بن المسيب. وثبوت الحكم بهذا الطريق غير ثبوت نسبة الحديث. وجاء عن أحمد بن حنبل في هذا ما قد يتعلق به، وذلك ما حكاه أبو زرعة الدمشقي، قال: سألت يحيى بن معين عن حديث أبي سلمة عن جابر في الشفعة، قلت له، ما تقول فيه؟ قال: " منكر "، ورأيته ينكر رفعه عن جابر، ويعجبه وقوفه عن سعيد وأبي سلمة. قال أبو زرعة: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول فيه؟ قال: " هو ثبت "، ورفع منه، واعتد برواية معمر له، واحتج له برواية مالك وإن كانت موقوفة. قلت لأحمد: ومن أي شيء ثبت؟ قال: " رواه صالح بن أبي الأخضر " يعني مثل رواية معمر، قلت: صالح يحتج به؟ قال: " يستدل به، يعتبر به " (¬2). قلت: فظاهر هذا أن أحمد قوى المرفوع بالموقوف، وليس كذلك وإنما أطلق لفظ (الموقوف) هنا على المرسل، وذلك أن الحديث رواه معمر بن راشد وصالح بن أبي الأخضر وغيرهما، عن ابن شهاب الزهري ¬

(¬1) وسيأتي ذِكر نصِّه فيه ....... (¬2) تاريخ أبي زُرعة (1/ 463 _ 464).

لا يقوي الحديث الضعيف بجريان العمل به

عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. ورواه مالك في " الموطأ " (¬1) فقال: عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة، الحديث معناه. وهذا مرسل، وليس بموقوف. ورجح أحمد والبخاري (¬2) وغيرهما وصله، وهو الصواب، إذ معمر من حفاظ أصحاب الزهري، وزاده رجحاناً في حفظ الوصل متابعة من تابعه ممن يعتبر به (¬3). ثالثها: تقوية الحديث بجريان العمل أو الفتوى به. يستأنس بالضعيف الذي لا معارض له، إذا جرى عليه عمل أهل العلم، من الصحابة فمن بعدهم في عصر النقل والرواية. أما عد ذلك العمل منهم دليلاً على ثبوت الحديث، فلا، إذ العمل قد يجري بالشيء بناء على أصل آخر، من دلالة كتاب أو سنة صحيحة غير هذا الحديث. ¬

(¬1) هوَ في رواية يحيى الليثي (رقم: 2079). (¬2) فقد أخرجه في " صحيحه " (رقم: 2099، 2100، 2101، 2138، 2363، 2364، 6575) من طُرقٍ عن معمرٍ، به. (¬3) بل اختلف الرُّواة على مالك فيه، فأرسله عنه أكثر رُواة " الموطَّأ "، ورواه بَعض أصْحابه عنه موصولاً. قال ابن حبان في " صحيحه " (11/ 591 _ 592) بعْد أن أخرجه من طريق عبْد الملك بن عبد العزيز الماجشون، عن مالك موصولاً: " رفع هذا الخبر عن مالك أربع أربعة أنفس: الماجشون، وأبو عاصم، ويحيى بن أبي قُتيْلة، وأشْهَب بن عبد العزيز، وأرْسله عن مالكٍ سائر أصْحابه، وهذا كانت عادةً لمالك، يرْفع في الأحايين الأخبار، ويوقفها مِراراً، ويُرسلها مرَّة، ويُسندها أخرى، على حسَب نشاطه، فالحكم أبداً لمن رفَع عنه وأسْند، بعدَ أن يكون ثقةً حافظاً مُتقناً " .......

على أنه لا يوجد لهذا مثال صالح، أن حديثاً ضعيفاً تقوى بالعمل، وإنما يوجد العمل بما هو ضعيف، وله أمثلة كثيرة. كالذي روي عن سعيد بن عبد الله الأودي، قال: شهدت أبا أمامة وهو في النزع، فقال: إذا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إذا مات أحد من إخوانكم، فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانه، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان بن فلانه، فإن يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يأخذ واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نقعد عند من قد لقن حجته، فيكون الله حجيجه دونهما "، فقال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف أمه؟ قال: " فينسبه إلى حواء: يا فلان بن حواء " (¬1). ذكره ابن القيم، وقال: " فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار، كاف في العمل به " (¬2). قلت: فجعل العمل به مع ضعفه عنده سائغاً، من أجل ما جرت به العادة، وكان ذكر عن الإمام أحمد بن حنبل أنه استحسن تلقين الميت في قبره واحتج عليه بالعمل، ولم يذكر عن أحمد غير ذلك. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في " الكبير " (8/ 298 _ 299 رقم: 7979) وابنُ عساكر في " تاريخه " (24/ 73) من طريقين عن إسماعيل بن عياش، حدثنا عبد الله بن محمد القرشي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سعيد، به، في رواية ابن عساكر: سعيد الأزدي. قلت: وإسناده واهٍ، والتبعة فيه على القرشي هذا، فهو مجهولٌ منكر الحديث. (¬2) الروح، لابن القيم الجوزية (ص: 17).

لا يقوي الحديث الضعيف باستدلال المجتهد به

وابن القيم قد طعن على هذا الحديث ورده في غير هذا الموضع من كتبه (¬1)، وليس هو من قسم الحديث الصالح للاعتبار أصلاً، بل هو منكر باطل. ومحاكمة هذا الاستعمال للحديث الضعيف، تتصل بأصل (منع الاحتجاج بالحديث الضعيف) وسيأتي بيانه. رابعها: تقوية الحديث باستدلال المجتهد به. وهذا أضعف مما تقدم، فإن الواقع أن الاستدلال بالحديث الضعيف، بل بما هو شديد الضعف أحياناً كثيرة، هو مما وقع لكثير من المجتهدين، خصوصاً من برز في الفقه منهم دون الحديث. ومنهم، وفيهم العارفون بالحديث، من يستدل بالحديث الضعيف في الباب لا يوجد فيه ما هو ثابت، كما لا يوجد لدلالة ذلك الضعيف معارض، كاستدلالهم بالمرسل وحديث المستور والمجهول وسيء الحفظ، وإن تحققت هذا منهم وجدتهم يصيرون إليه لاحتمال الثبوت لا لترجيحه، تقديماً له على محض النظر، كالذي بينت وجهه عنهم في (المرسل). على أنك يجب أن تذكر أن لقب (الضعيف) كان في كلام بعض السلف، كأحمد بن حنبل، ربما أطلق على (الحديث الحسن)، كما بينته في محله. خامستها: تقوية الحديث عن طريق الكشف. وهذا يذكر عن بعض متأخري الصوفية، كما زعمه الشعراني في ¬

(¬1) قال في " زاد المعاد " (1/ 503 _ 504) " ولم يكُن يجلس (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) على القبر، ولا يُلقِّنُ الميت كما يفعله الناس اليوم، وأمَّا الحديث الذي .. " وساقه، ثم قال: " فهذا حديث لا يصحُّ رفعه "، وقال في " تهذيب السنن " (7/ 250): " مُتفق على ضعفه، فلا تقوم به حُجةٌ "، فتقوية بعض العلماء له لا تَجري على الأصول .......

لا يقوي الحديث الضعيف بمطابقة الواقع

حديث " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، حيث حكم بصحته عند أهل الكشف، مع إقراره بعدم ثبوته عند المحدثين (¬1). وليس هذا بطريق من طرق العلم، فالكشف هذا إن كان من صالح صاحب سنة فغايته أن يكون فتحاً في الفهم وتوفيقاً وتسديداً فيه، والفهم رأي، والرأي يخطئ ويصيب، ومن دليل خطئه مخالفة الدليل، فإذا قام الدليل على علة الحديث، فكيف يرد بظن مجرد؟ ولو ساغ اتباع هذا الطريق في أي أمر من العلم لفسدت الأصول، بل لاستغني به عن النقول. ومن بابه تصحيح النبي صلى الله عليه وسلم للحديث في النوم، وهذا وإن كان مثاله نادراً، لكنه وقع لبعضهم، وقد يكون المنام حقا، والرائي صالحاً صادقاً، لكن المنامات لا تجري على الظواهر، إنما تقبل التأويل لو كانت حقا، كما أنها لا تكون طرقاً للمعارف، وإن كانت ربما دلت على الشيء منها لشخص الرائي. سادسها: تقوية الحديث بمطابقته للواقع. وهذا طريق لم يسلكه المتقدمون، وقل من سلكه من المتأخرين، كمن نظر إلى أحاديث الفتن وتغير الزمان، وما يطرأ من الحوادث، فوجد لها ذكراً في بعض الأحاديث التي لا يثبت نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وقوع الشيء مما ورد ذكره في الحديث الضعيف دليلاً على صحة ذلك الحديث، وصدوره من (مشكاة النبوة) كما يعبر به بعضهم. كما قال التويجري في صدر كتاهبه الذي جمعه في الفتن: " بعض الأمور التي ورد الإخبار بوقوعها لم ترو إلا من طرق ضعيفة، وقد ظهر مصداق كثير منها، ولا سيما في زماننا، وذلك مما يدل على صحتها في ¬

(¬1) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، للألباني (1/ 145) .......

الشرط الثاني: أن يكون في أدنى درجاته مما يصلح الاعتبار به

نفس الأمر، وكفى بالواقع شاهداً بثبوتها وخروجها من مشكاة النبوة " (¬1). قلت: أصَّل بهذا، وجرى على ذكر الضعيف والمنكر والواهي الساقط من روايات المتروكين والمتهمين، ويقويه بهذا الطريق. وهذا منهج يضرب عن قوانين الحديث صفحاً، ويسقط الاعتداد بالقواعد، ومما ينقض صحة اختياره طريقاً لتقوية الحديث أن المتأمل للمنقول من أخبار الفتن وتغير الزمان، يجد الكثير من تلك الأخبار جاء من روايات كعب الأحبار، ووهب بن منبه وغيرهما ممن عرف بالتحديث بالإسرائيليات، ومثل هذا كان زاداً للضعفاء والمتروكين والكذابين، فركبت الأسانيد لكثير منه وأسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم عن أحمد بن حنبل الإشارة إلى الموضوع في هذا الباب، حين ذكر الملاحم مما ليس له أصول. وما ينقل عن أهل الكتاب قد يكون فيه الحق، كما يكون فيه الباطل، فكيف يسوغ بعد ذلك غيور على سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من الخبر يروى على هذا النحو، يصحح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتحقق مضمونه في الواقع المشاهد، دون اعتبار شروط ثبوت الحديث؟ على أن واقع صنيع من ذهب إلى هذا المذهب تكلف تفسير كثير من تلك الروايات لربطها بالواقع المشاهد. الشرط الثاني: أن يكون في أدنى درجاته مما يصلح الاعتبار به. فيتقوى الضعف بما يماثله في الضعف، أو يقرب منه وإن كان دونه ما لم يكن من الأنواع السابقة التي لا يعتبر بها، كما يتقوى بما هو في فوقه في القوة، بل ذلك أولى. وتقدم بيان ما يعتبر به من أنواع الضعيف. ¬

(¬1) إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة، للشيخ حمود بن عبد الله التويجري (1/ 12) .......

الشرط الثالث: إن كان ضعيفا صالحا، وجب أن يغاير الطريق المجبور به في محل الضعف

الشرط الثالث: إن كان ضعيفاً صالحاً، وجب أن يغاير الطريق الآخر المجبور به في محل الضعف؛ خشية مردهما إلى علة واحدة، فإن ضعف هذا الاحتمال تقويا. وبيانه: لو كان الضعف في الطريق المراد جبره من جهة الانقطاع، وجب في جابره لو كان كذلك منقطعاً أن لا يكون انقطاعه في نفس موضع انقطاع الآخر، لمظنة أن يرجعا إلى علة واحدة. فإن قلت: فماذا لو كان الإسناد فيما فوق محل الانقطاع فيهما مختلفاً؟ قلت: لا يدفع ذلك تلك المظنة، من أجل أن الضعفاء لسوء الحفظ قد يأتي أحدهم بالأسانيد للحديث الواحد على ألوان، فإذا كان الساقط من هؤلاء احتملنا أن يكون غير في أحد الإسنادين لسوء حفظه. فإذا كانت العلة في كل من الطريقين عائدة إلى راو ضعيف مسمى، وجب أن يكون ذلك الضعيف في كل من الإسنادين غير الضعيف في الآخر منهما، ليعضد أحدهما الآخر، فإن كان الضعيف ذاته هو الذي روى الحديث بالإسنادين، لم يجز تقوية أحدهما بالآخر، بل كان هذا الاختلاف في الأسانيد دليلاً مؤكداً لسوء حفظه ذلك الراوي، كما كان يقع مثله لليث بن أبي سليم، وهو ممن يعتبر بحديثه في الجملة. فإن قلت: فالمرسل، هل يقوي المرسل؟ قلت: هذا الشرط يرد القول بصحة تقوية المرسل بالمرسل، للاتفاق بين المرسلين في محل الضعف، ما لم تقم قرينة تدل على افتراق المرسلين في مصادر التلقي لذلك الحديث، وهذا دل عليه كلام الشافعي، كما سيأتي. ووجدت له من المثال: ما اتفق على روايته فقيس بن أبي حازم، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع النساء وعلى يده ثوب .......

مناقشة قول الشافعي فيما يتقوى به المرسل

فهذا مما رواه كل منهم بسياق غبر سياق الآخر، لكن اتفقوا فيه على المعنى، فكانت قرينة على المفارقة، كذلك معلوم أن الثلاثة من التابعين تفاوتوا تفواتاً بيناً في تباعد الطبقات، فقيس من كبار التابعين كاد أن يكون صحابياً، أدرك وروى عمن لم يدركه عامر وإبراهيم، إذ عامر من أوساط التابعين، وإبراهيم له شرف التابعية وأكثر روايته عن أصحاب ابن مسعود وعلي، وهذا التفاوت بين الثلاثة مفارقة أخرى (¬1). مناقشة قول الشافعي فيما يتقوى به المرسل: قال الشافعي: " من شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين، فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور: منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روى كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه. وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده، قبل ما ينفرد به من ذلك، ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل غيره ممن قُبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم؟ فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوى له مرسله، وهي أضعف من الأولى. وإن لم يوجد ذلك، نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً له، فإن وجد يوافق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله. ¬

(¬1) خرَّجت الحديث في كتابي " أحكام العورات "، وذكرْتُ فيه أنَّ إسحاق بن راهويه ممن احتجَّ به.

وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه " (¬1). قلت: وهذا عند الشافعي في تقوية مرسل التابعي الذي له قدم في التابعية، من أجل استثنائه مراسيل الصغار منهم، فإنه قال بعد: " فأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم منهم واحداً يقبل مرسله؛ لأمور: أحدها: أنهم أشد تجوزاً فيمن يروون عنه. والآخر: أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه. والآخر: كثرة الإحالة. كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه " (¬2). وذكر من حجته: الزهري وما له من المنزلة في الإتقان والحمل عن الثقات، ومع ذلك فربما أحال على غير مليء ودلسه، مثل سليمان بن أرقم. وبين الشافعي عذره بقوله: " رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل، فقبل عنه وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه، إما لأنه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله معمر عن حديثه عنه، فأسنده له، فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروى عن سليمان مع ما وصفت به ابن شهاب، لم يؤمن مثل هذا على غيره " (¬3). ¬

(¬1) الرسالة (ص: 461 _ 463) ....... (¬2) الرسالة (ص: 465 الفقرة: 1277). (¬3) الرسالة (ص: 470 الفقرتان: 1304، 1305) .......

قلت: هذا نص الشافعي في تقوية المرسل، قد صار فيه إلى التفريق بن مراسيل الكبار والصغار، فمنعه في مراسيل صغار التابعين، وقواه في مراسيل الكبار بقرائن، حاصلها: 1 _ تقوية المرسل بالمتصل المحفوظ من طريق أخرى، وهذا ظاهر. 2 _ تقوية المرسل بمرسل مثله بشرط أن لا يكون شيوخ أحدهما شيوخ الآخر. 3 _ تقوية المرسل بالمنقول عن آحاد الصحابة قوله. 4 _ تقوية المرسل بجريان الفتوى عند أهل العلم على وفقه. وظاهر كلامه أن تكون تقويته بالقرائن الثلاثة الأخرى مشروطة كذلك بأن لا يعرف عن ذلك التابعي عادة أنه يروي عمن يرغب عن الرواية عنه من المجهولين والضعفاء، والذي من أجله منع القول بتقوية مراسيل صغار التابعين. وقبل نقد التقوية بالطرق الثلاثة الأخريرة، يجب أن تلاحظ أن الشافعي لم يقل في شيء من عبارته: هذه القرائن تصحح نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إنما بين أنها تثبت لما دل عليه المرسل أصلاً فلا يقال فيه: منكر، أو العمل به مردود، مع الميل بما دل عليه إلى جانب القبول، من أجل القرينة. وهذا المعنى في الواقع حاصل في شأن أكثر أحاديث الضعفاء، فإنك تجدها تفيد أحكاماً هي معلومة من غير ذلك الوجه، لكن لا تجد من القرائن ما يجعلك تصحح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه قال أو فعل، إنما تتبع ما هو معلوم الثبوت بغير هذا الطريق الضعيف، وقد تذكر الضعيف استئناساً. فإذا تبين هذا، فاعلم أن ما جعله الشافعي قرائن مقويات للمرسل لا يخلو منه شيء من الاحتمالات المضعفة: فما ذهب إليه في تقوية المرسل بالمرسل، واشتراط التغاير في

الشيوخ مما يعسر تحققه في الواقع إلا على سبيل الظن الغالب؛ لأن احتمال أن يكون مرجع المرسلين إلى أصل واحد باق وإن تغايرا في الشيوخ، فلا ينفك مثلاً سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير من الرواية عن شيخ من الصحابة، لكن حيث إن محل اتفاقهما يغلب أن يكون فيمن يسقط ذكره من الصحابة، فإن مظنة التلقي لذلك الحديث عن واسطة مجروحة تصبح في غاية الضعف. فيتجه ما ذكره الشافعي في هذا، لغلبة مظنة التغاير في الواسطة، أو لغلبة أن تكون هي الصحابي، ولا يضر عود الحديث إليه من طريقيه وإن كان واحداً؛ إذ ليس الصحابي محلاً للضعف. وأما التقوية بما جاء عن الصحابة موافقاً له، فإن الصحابي قد يقول الشيء بمجرد رأيه، ويكون المرسل بلغه ذلك القول عن الصحابي فظنه حديثاً فأرسله، وهذا قد يدفع أثره قليلاً كون المرسل من الثقات الحفاظ كسعيد بن المسيب، فيكون الشافعي قد اعتبر وفاق رأي الصحابي علامة على أن لرأيه أصلاً من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ....... وهذا أمر يجب تحريره في نماذج حقيقية جاءت على هذه الصفة، فإن من قال من أهل الفقه والأصول بصحة الاحتجاج بمذهب الصحابي، كان هذا مما اعتمدوا عليه، أن الصحابي لا يمكن أن يقول بالشيء دون أصل، لكن هذا الظن الحسن لا يصلح أن يكون مستنداً في تصحيح نسبه قول إلى النبي صلى الله عليه وسلم نقصت فيه بعض صفات القبول، ولم يأت له من درجته ما يشده، إنما يقع به تعضيد الحكم المستفاد من ذلك الحديث، وقد لا يبلغ بتلك القوة الثبوت. والتقوية بموافقة قول الفقهاء أضعف من التقوية بالموقوف (¬1). ¬

(¬1) وانظر معنى هذا النقد في كلام ابن رجب في " شرح علل الترمذي " (1/ 305).

الشرط الرابع: أن يوجد فيه معنى المجبور به إن لم يطابقه في لفظه

ولا نزاع في الجملة أن المرسل إذا جاء له ما يعضده يتقوى، كما قال الزيلعي: " المرسل إذا وجد له ما يوافقه فهو حجة باتفاق " (¬1)، وإنما الخلاف فيما يتقوى به المرسل. الشرط الرابع: أن يوجد فيه معنى المجبور به إن لم يطابقه في لفظه. وبيانه: أن اتفاق الشاهد والمشهود له يجب أن يقع إما لفظاً وإما معنى، فأما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فالواجب أن ما يدعى تقويته من هذا الحديث بالآخر يجب أن يكون موجوداً فيهما جميعاً، فإن وجد قدر من الحديث في معنى الآخر، فذلك القدر هو الذي ينجبر لا سائر الحديث، فلا يقال: صار جميعه بذلك حسناً لغيره. والمعتبر في المعنى في الشواهد هو نفس المعتبر في المعنى في رواية الحديث إذا روي بالمعنى، وهذا يستلزم أن يكون الباحث في درجة الحديث عارفاً بدلالات الألفاظ وما تفيده من المعاني. ويجب أن تراعي المعاني دون تكلف، فلو جاءك حديثان كلاهما في النهي عن أمر متحد، لكن أحدهما قول للنبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا كذا)، والآخر بلفظ الصحابي: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا)، صح أن يتقوى أحدهما بالآخر مع وجود الفارق بين القول النبوي الصريح وبين حكاية الصحابي بلفظه مقتضى القول النبوي، لكن مراعاة هذا الفارق هنا تكلف، وإنما قد يحتاج إلى مراعاة مثله في مقام تعارض الأدلة لا توافقها، وهنا قد توافق الدليلان، بل لك أن تقول: أفاد مجيء اللفظ النبوي في أحد الحديثين تفسيراً للصفة التي استفاد منها الصحابي النهي. * * * ¬

(¬1) نصب الراية (1/ 353) .......

الفصل الرابع استعمال الحديث الضعيف

الفصل الرابع استعمال الحديث الضعيف

المبحث الأول: حكم الاحتجاج بالحديث الضعيف

المبحث الأول: حكم الاحتجاج بالحديث الضعيف فيما تقدم علمت أن الحديث الضعيف هو الحديث المردود، وذلك إما من جهة رجحان عدم الثبوت، أو القطع بعدم الثبوت، وبين الدرجتين درجات متفاوتة في الضعف، وبناء على تفاوت تلك الدرجات علمت أن منه الضعيف الذي يصلح الاعتبار به، والضعيف الذي لا يصلح الاعتبار به، كما علمت أن المعتبر به منه، هو ما فيه القدرة على النهوض لو وجد مساعداً، وما دون ذلك فهو ساقط. وعليه فهذا التأصيل يوجب أن لا يتردد في منع الاحتجاج بالقسمين جميعاً، فأما غير الصالح للاعتبار، فظاهر، حيث لا يرجى برؤه، وأما الصالح للاعتبار فلتوقف قبوله على الجابر، فما لم يوجد فهو على الأصل في رجحان الرد ....... قال أحمد بن الحسن الترمذي: كنا عند أحمد بن حنبل، فذكروا على من تجب الجمعة، فلم يذكر أحمد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً. قال أحمد بن الحسن: فقلت لأحمد بن حنبل: فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أحمد: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم. قال أحمد بن الحسن: حدثنا حجاج بن نصير، قال: حدثنا معارك بن عباد، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الجمعة على من آواه الليل إلى أهله ".

قال: فغضب علي أحمد، وقال لي: " استغفر ربك، استغفر ربك ". قال الترمذي صاحب " الجامع " بعد تخريجه: " وإنما فعل هذا أحمد بن حنبل؛ لأنه لم يصدق هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لضعف إسناده؛ لأنه لم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحجاج بن نصير يضعف في الحديث، وعبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان جداً في الحديث " (¬1). من أجل ذلك اتفق أهل العلم بالحديث على منع الاحتجاج بالحديث الضعيف، وبناء الأحكام عليه بمجرده. قال ابن تيمية: " لم يقل أحد من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع " (¬2). قلت: نعم، قد تجد في كلامهم في الأحكام ذكر الضعيف، بل في كلام الفقهاء ما هو واه شديد الضعف، أو ساقط موضوع، وهذا في التحقيق يعود إلى أحد سببين: الأول: أن يكون الحكم ثابتاً بدليل غير ذلك الضعيف، فيأتي ذكره على سبيل الاستئناس، وهذا قد يتساهل فيه فيما يكون ضعفه غير مسقط. والثاني: أن يكون المستدل به ممن لا شأن له في تمييز المقبول من المردود، على ما عليه الحال الذي صار إليه أكثر الفقهاء، خصوصاً المتأخرين، فكم تراهم يتداولون الحديث يأخذه اللاحق عن السابق وهو لا أصل له، بل لا يوجد مسنداً في شيء من الكتب البتة، لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف ولا موضوع، وكم من حديث لا يروى إلا موقوفاً أو مقطوعاً عدوه مرفوعاً، وهذا ترى أمثلته واضحة في الكتب التي اعتنت بتخريج أحاديث كتب الفقه، كتخاريج النووي والزيلعي وابن الملقن وابن ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في " الجامع " (رقم: 502) وفي (العلل) منه (6/ 233 _ 234). (¬2) قاعدة جليلة في التوسَّل والوسيلة (ص: 162) .......

حجر والألباني، وغيرهم، كذلك الكتب التي اعتنت بتخريج الأحاديث المشتهرة على الألسنة. ومن عجيب ما تراه في طريقة بعض الفقهاء في شأن هذا النوع من الحديث، أنهم إذا أرادوا الرد على استدلال المخالف لهم في المذهب بالحديث الضعيف اجتهدوا في إبراز ضعف ذلك الحديث، وعملوا على إسقاطه عليه من جهة الضعف، مما يدلك على أن الضعيف عندهم جميعاً مما لا تثبت به الحجاج، ولا يصح به الاحتجاج. والخطورة في الاحتجاج بالحديث الضعيف تأتي من جهة بناء شيء من الشرائع على الظن المرجوح، كما فيه نسبة تشريع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه جزماً، أو غالباً، ونسبة قول أو فعل لم يثبت عنه جزماً أو غالباً، وهذا لا يسلم صاحبه من الدخول في الوعيد الوارد في القول عليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقله. فعن أبي قتادة الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: " يا أيها الناس، إياكم وكثرة الحديث عني، من قال علي فلا يقولن إلا حقا أو صدقاً، فمن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " (¬1). ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 297) وابن أبي شيبة (8/ 761) وابن ماجة (رقم: 35) والدارمي (رقم: 241) والطحاوي في " شرح المشْكل " (رقم: 414) والحاكم (1/ 111 رقم: 379) من طُرق عن محمد بن إسحاق، عن مَعبد بن كعب بن مالك، قال سمعت أبا قِلابة، به. بيَّن ابن إسحاق سماعه من ابن كعب عند أحمد والحاكم. قلت: وإسناده جيد وقال الحاكم: " حديث على شرْط مُسلم ". وله طريق أخرى صالحة عن معْبد بن كعْب مُتابعة لابن إسحاق، عند الطحاوي في " شرح المشكل " (رقم: 413)، وثانيةٌ يعتبر بها من طريق عبد الرحمن بن كعْبٍ بن مالك، متابعة لمعبد عن أبي قتادة بمعناه، عند الحاكم (1/ 112 رقم: 380).

وعن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من حدث عني حديثاً، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين " (¬1). قال الشافعي في تفسيره: " إذا حدثت بالحديث، فيكون عندك كذباً ثم تحدث به، فأنت أحد الكاذبين في المأثم " (¬2). وسأل الترمذي شيخه الإمام أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن هذا الحديث، قال: قلت له: من روى حديثاً وهو يعلم أن إسناده خطأ، أيخاف أن يكون قد دخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو إذا روى الناس حديثاً مرسلاً، فأسنده بعضهم، أو قلب إسناده، يكون قد دخل في هذا الحديث؟ فقال: " لا، إنما معنى هذا الحديث: إذا روى الرجل حديثاً، ولا يعرف لذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل، فحدث به، فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث " (¬3). وقال ابن حبان: " إني خائف على من روى ما سمع من الصحيح والسقيم ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه الطيالسي في " مُسنده " (رقم: 895) وابنُ أبي شيبة (8/ 595) وأحمد (33/ 333، 374، 376، رقم: 20163، 20221، 20224) ومسلم في " مقدمة الصحيح " (1/ 9) وابنُ أبي الدنيا في " الصمت " (رقم: 537) وأبو القاسم البغوي في " الجعديات (رقم: 144) وابن القطان في " زوائده " على ابن ماجة (بعد رقم: 40) والطحاوي في " شرح المشكل " (رقم: 422) والخرائطي في " مساوئ الأخلاق " (رقم: 166) وابن أبي حاتم في " العلل " (2/ 287) والطبراني في " الكبير " (7/ 215 رقم: 6757) وابن عدي في " الكامل " (1/ 92) والقطيعي في " الفوائد " (رقم: 316) وابن حبان في " صحيحه " (رقم: 29) و " المجروحين من المحدثين " (1/ 7) وابن قانع في " معجمه " (1/ 306) وأبو نعيم في " مستخرجه " (رقم: 28، 62، 63) والبيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 33) والخطيب في " تاريخه " (4/ 161) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 40 _ 41) من طرٍق كثيرة عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة، به. قلت وإسناده صحيح. وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب، وثانٍ من حديث المغيرة بن شعبة. بينت ذلك في كتاب " علل الحديث " ....... (¬2) أسنده ابن عدي في " الكامل " (1/ 207). (¬3) جامع الترمذي (عقب رقم: 2662).

أن يدخل في جملة الكذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كان عالماً بما يروي " (¬1). وقال أيضاً: " المحدث إذا روى ما لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما تقول عليه، وهو يعلم ذلك، يكون كأحد الكاذبين، على أن ظاهر الخبر ما هو أشد من هذا، وذاك أنه قال صلى الله عليه وسلم: من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب، ولم يقل: إنه تيقن أنه كذب، فكل شاك فيما يروي أنه صحيح أو غير صحيح، داخل في ظاهر خطاب هذا الخبر " (¬2). وقال الترمذي: " كل من روي عنه حديث، ممن يتهم، أو يضعف لغفلته وكثرة خطئه، ولا يعرف ذلك الحديث إلا من حديثه، فلا يحتج به " (¬3). قلت: وفي المنقطع والمرسل بينت اختلافهم في الاحتجاج بهما في محله عند بيانهما، وبينت أن الراجح من مذاهبهم فيهما منع الاحتجاج بما كان كذلك، وكذلك في روايات المجهولين. لكن لم يقع الخلاف منهم في منع الاحتجاج بما اشتد ضعفه، بل هم متفقون عليه، وظهور ذلك من صنيع أهل العلم من السلف الأولين، ومن جرى على طريقهم من أئمة هذا العلم والعارفين به، في ترك الاحتجاج بالضعيف في الأحكام، حتى ما خف ضعفه، ظاهر مشهور، تغني شهرته عن سياق العبارات فيه، حيث لم يضع هذا العلم بقوانينه الدقيقة إلا لتحاشي مالا تثبت نسبته إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم. ولم يترخصوا في الحديث الضعيف احتجاجاً به وإن خف ضعفه، ما لم يبلغ القبول، ولكن منهم من ترخص في الاستئناس بالحديث الضعيف غير الساقط في فضائل الأعمال، والترغيب والترهيب، فيما له أصل معروف، وهو الآتي تحريه في المبحث التالي. ¬

(¬1) المجروحين من المحدثين (1/ 6). (¬2) المجروحين (1/ 7 _ 8). (¬3) كتاب (العلل) من آخر " الجامع " (6/ 234) .......

المبحث الثاني: الحديث الضعيف في فضائل الأعمال

المبحث الثاني: الحديث الضعيف في فضائل الأعمال شاع عند أكثر المتأخرين التساهل في الأحاديث الضعيف في فضائل الأعمال، وأطلق بعضهم عده مذبها ًلأهل العلم من أئمة الحديث، وتحرير القول في صحة هذا المذهب لا بد له من سياق المنقول عن أهل العلم من أئمة الحديث ممن يتعلق بنسبة ذلك إليهم، وتبيين مرادهم به. فأما النصوص المروية عنهم، فجاءت عن: سفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وأبي زكريا العنبري، فإليكها: 1 _ روي عن سفيان الثوري لإسناد ضعيف، قال: " لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ " (¬1). 2 _ وصح عن عبدة بن سليمان، قال: قيل لابن المبارك، وروى عن ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي (1/ 257) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 212) _ والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 406، 417 _ 418) والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1266) من طرقٍ عن رواد بن الجراح، عن سفيان، به. قلت: وإسناده ضعيف، رواد ضعيف الحديث، والأسانيد بهذا الخبر إليه غير نقية.

رجل حديثاً، فقيل: هذا رجل ضعيف، فقال: " يحتمل أن يروى عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء ". قال أبو حاتم الرازي: قلت لعبدة: مثل أي شيء كان؟ قال: " في أدب، في موعظة، في زهد، أو نحو هذا " (¬1). 3 _ وصح عن عبد الرحمن بن مهدي، قال: " إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال. وإذا روينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات، تساهلنا في الأسانيد " (¬2). وروي عن أحمد بن حنبل نحوه، ولا بثبت عنه (¬3). 4 _ وروي عن أحمد بن حنبل، قال: " أحاديث الرقاق يحتمل أن يتساهل فيها، حتى يجيء شيء فيه حكم" (¬4). 5 _ وقال أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري (أحد الثقات): " الخبر إذا ورد لم يحرم حلالاً ,لوم يحل حراماً، ولم يوجب حكماً، وكان في ترغيب أو ترهيب، أو تشديد أو ترخيص، وجب الإغماض عنه والتساهل في رواته " (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 30 _ 31) وإسناده صحيح ....... (¬2) أخرجه الحاكم في " المستدرك " (1/ 490 بعد رقم: 1801) وفي " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص: 29) والبيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 34) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1267) وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 213) بإسناده إلى أحمد أنه قال: " إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يَضع حُكماً ولا يَرفعه تساهلنا في الأسانيد "، وفي إسناده أحمد بن مُحمد بن الأزهر السجزي مُتهم بالكذب. (¬4) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 213) عن كتاب " العلل " لأبي بكر الخلال، وهو كتاب لا يرويه الخطيب بسندٍ مُتصل، بل يقول فيه: " حُدثت عن عبد العزيز بن جعفر، أخبرنا الخلال "، ولولا ذاك فهو خبرٌ صحيح عن أحمد. (¬5) أخرجه الخطيبب في " الكفاية " (ص: 213) بإسناد صحيح.

قلت: هذه النصوص عن هؤلاء الأئمة دلت جميعاً على أن الأحاديث التي تروى في غير إثبات الشرائع والأحكام، كانوا يتساهلون في روايتها وكتابتها عن الضعفاء؛ وذلك لثبوت أصولها في الجملة، ولكونها لم تأت بحكم ليس في المحفوظ المعلوم. وليس في شيء من قولهم جواز الحكم بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إنما غايته جواز ذكرها وكتابتها في الكتب، وإن لم يوجد ما يشدها لذاتها. ومن هذا أيضاً قولهم في بعض الرواة: يقبل في الرقائق وشبهها، لا في الأحكام، ومن أمثلته: 1 _ قال سفيان بن عيينة: " لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره " (¬1). 2 _ وقال أحمد بن حنبل في (رشدين بن سعد): " رشدين ليس به بأس في أحاديث الرقاق " (¬2). 3 _ وسئل أحمد بن حنبل عن (النظر بن إسماعيل أبي المغيرة)؟ فقال: " قد كتبنا عنه، ليس هو بقوي، يعتبر بحديثه، ولكن ما كان من رقائق " (¬3). 4 _ ونقل أبو الفضل عباس بن محمد الدوري عن أحمد بن حنبل قال: " أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث " كأنه يعني المغازي ونحوها " فأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا " , ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 41) وفي " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 435) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 212) _ من طريق يحيى بن المغيرة، قال: سمعْت ابن عيينة، به. وإسناده صحيح. (¬2) هوَ من رواية الميموني عن أحمد في " العلل " رواية المروذي وغيره (النص: 481)، وكذلك أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (2/ 67). (¬3) العلل، رواية أبي بكر المروذي (النص: 218) .......

وقبض أبو الفضل أصابع يده الأربع من كل يد ولم يضم الإبهام (¬1). وسئل عبد الله بن أحمد بن حنبل عن (محمد بن إسحاق)؟ فقال: كان أبي يتتبع حديثه ويكتبه كثيراً بالعلو والنزول، ويخرجه في (المسند)، وما رأيته اتقى حديثه قط، قيل له: يحتج به؟ قال: " لم يكن يحتج به في السنن" (¬2). قلت: وهذه العبارات وشبهها في الرواة، صريحة في منع قبول الحديث في إثبات حكم شرعي إلا من طريق الثقات المتقنين، إنما يتسهل عمن دونهم في نقل ما ليس بشرائع، وهذا لا يتعدى كتابة حديث هؤلاء، وجواز إيراده في الكتب في غير أبواب الشرائع، تارة لاعتنائهم به، كابن ¬

(¬1) أخرجه الدوري في " تاريخ يحيى بن مَعين " (النص: 231) ومن طريقه: البيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 37 _ 38). (¬2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (1/ 230) وإسناده جيد. قلت: وقد عابَ ابنُ حزم على من ذهب هذا المذهب في الرجال، فقال: " مما غلطَ فيه بعْضُ أصْحاب الحديث أن قال: فلانٌ يُحتمل في الرقائق، ولا يُحتمل في الأحكام "، قال: " وهذا باطل؛ لأنه تقسيم فاسدٌ لا برْهان عليه، بل البرهان يُبطله، وذلك أنه لا يخلو كلُّ أحد في الأرض من أن يكون فاسقاً أو غير فاسق، فإن كان غير فاسق كان عدْلاً، ولا سبيل إلى مرْتبةٍ ثالثة، فالعدل ينْقسم إلى قسميْن: فقيه، وغير فقيه، فالفقيه العدْل مقبولٌ في كل شيء، والفاسق لا يُحتمل في شيء، والعدْل غير الحافظ لا تُقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء؛ لأنَّ شرْط القبول الذي نصَّ الله تعالى عليه ليس موجوداً فيه، ومنْ كان عدْلاً في بعْض نقْله فهو عدْلٌ في سائره، ومن المحالِ أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره، إلا بنصٍّ من الله تعالى، أو إجماع في التفريق بين ذلك، وإلا فهو تحكُّم بلا برْهانٍ، وقوْلٌ بلا علم، وذلك لا يحلُّ ". (الإحكام في أصول الأحكام 1/ 143). قلت: وهذا استدْراك ضعيف، فإنَّ الحفْظ يتفاوت، والخطأ فيه واردٌ، والواقع مثْبتٌ أن الراوي يعتني بحديث بعْض شيوخه فيكون له مُتقناً، دون حديثه عن غيرهم، فلا يأتي بالحديث على وجهه، وهذا مُتميزٌ في عدد من الرواة، فإن رددْنا جميع حديثه، أنْكرنا ما هو صحيح محفوظ منه مما أمكننا معرفته وتمييزه، وإن قبلْنا جميع حديثه، قبلْنا منه الخطأ وما لم يحْفظه من الحديث، كذلك هنا جهةُ التفريق حاصلةٌ فيما يرويه الراوي الصدوق الذي لم يرْق صدْقه إلى درجةِ الاحتجاج؛ لسوءِ حفظه، يروي ما له أصْلٌ معروف من الأحكام من غير طريقه، ولا يأتي في حديثه إلا بترغيب أو ترهيب مثلاً، فهذا لا يثْبت بما نقله شريعةٌ، وإنما قصد من ذهب إلى التسهيل فيه أن الرقائق لا يُطلب فيها التشديد لعدم إضافتها إلى الدين ما ليس منه.

إسحاق في " السير والمغازي "، وتارة لخفة أمر ما ينقلونه ورجوعه في الجملة إلى فضيلة عمل معلوم الثبوت في نفسه من غير طريق الضعيف. ويبين ابن تيمية الوجه في ترخيص من رخص من العلماء بالضعيف في الفضائل، فيقول: " أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب، وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي، وروي في فضله، حديث لا يعلم أنه كذب، جاز أن يكون الثواب حقا، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع. وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرم شيء إلا بدليل شرعي، لكن إذا علم تحريمه، وروي حديث في وعيد الفاعل له، ولم يعلم أنه كذب، جاز أن يرويه، فيجوز أن يروى في الترغيب والترهيب ما لم يعلم أنه كذب لكن فيما علم أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله " (¬1). قلت: فهذا وجه هذه المسألة عند من قال بها من الأئمة، دون تعرض منهم إلى صيغة الأداء لمثل هذا الحديث. وعلمنا من النظر في صنيعهم أنهم تركوا من المجروحين خلائق ومنعوا من الحديث عنهم بشيء، وعلمنا أن منهم من كانوا يستعملون (الحديث الحسن) بالمعنى الاصطلاحي فيسمونه (الضعيف)، كما وقع من أحمد بن حنبل، وعلمنا منهم من يعتبر قلة ما أتى به الراوي من المنكرات في الأصول، ويحترز عما تبين فيه خطؤه في غير الأصول، ويخرج ما لا ينبني عليه عمل، إعمالاً لصدق ذلك الراوي في الجملة، كما وقع للبخاري حين جرح في " الصحيح " أحاديث لجماعة في الرقائق وتحاشاهم في الأحكام. ¬

(¬1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 162 _ 163) .......

فاعتبار ذلك منهم واجب لفهم طبيعة ما قصدوه من التسهيل في هذه المسألة. كذلك، فإن أولئك المرخصين فيه من السلف، معلوم عنهم سياق الإسناد، كما يدل عليه المعهود من صنيعهم، وما تشير إليه عباراتهم المتقدمة من تعيين التساهل في الأسانيد، فيحدثون بالشيء من تلك الأخبار بأسانيدها، ومن أسند فقد أحال، والإسناد لمن يفهمه، لا لمن لا يفهمه. وهذا المعنى بهذا القدر لم يجر عليه حال المتساهلين من المتأخرين في هذه المسألة، بل إنهم جاوزوا طريقة أولئك العلماء من السلف في ثلاثة أمور ضرورية: أولها: أنهم حذفوا الإسناد غالباً، وكان السلف يسوقون الأسانيد. وثانيها: أنهم ترخصوا في التحديث به للعامة منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، دون بيان، والعامة ربما اعتقدوا بسماعه أو قراءته في الكتب صحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وثالثها: أنهم جاوزوا فيه الضعيف الصالح للاعتبار، إلى الواهي والمنكر والموضوع. فمن فعل هذا لم يصح له دعوى الاقتداء بترخيص من ترخص بذلك من السلف، لتجاوزه الصفة التي قصدوا ....... فلما رأى بعض أعيان الأئمة المتأخرين ذلك التوسع عمدوا إلى ضبط التسهيل في هذه المسألة بشروط، هي ضوابط لازمة للتحديث بالحديث الضعيف في الفضائل لمن رأى اختيار هذا المذهب، فإليكها محررة من عبارة الحافظ ابن حجر العسقلاني، قال رحمه الله: " إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة: الأول: متفق عليه، أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين، والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.

الثاني: أن يكون مندرجاً تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله. قال: الأخيران عن ابن عبد السلام، وعن صاحبه ابن دقيق العيد والأول نقل العلائي الاتفاق عليه " (¬1). قلت: وهذه قيود لا يفهمها إلا من له بالحديث عناية، يميز شديد الضعف من خفيفه، أما أن يسترسل في ذلك من ليس الحديث مهنته فهذا يخشى عليه الوقوع في جملة القائلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. * * * ¬

(¬1) نقل هذا النص عن ابن حَجر تلميذه: الحافظ السخاوي في " القول البديع " (ص: 363 _ 364) عن خطِّ ابنِ حجرٍ كتبَ له به .......

§1/1