تحرير المقال في موازنة الأعمال وحكم غير المكلفين في العقبى والمآل

عقيل القضاعي

المقدمة

المقدمة بسم الله الرحمان الرحيم. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أما بعد: فهذان كتابان جليلان في مبحث عقدي مهم، يسر الله الوقوف عليهما وتحقيقهما. - الأول: مراتب الجزاء يوم القيامة لأبي عبد الله الحميدي. استللته من الآتي بعده. - والثاني: تحرير المقال في موازنة الأعمال وحكم غير المكلفين في العقبى والمآل لعقيل بن عطية القضاعي. جعله مصنفه كالشرح لكتاب الحميدي السابق، وتعقبه في أشياء كثيرة وخطَّأه في مسائل عديدة. اشتمل على تقريرات هامة، وفوائد مهمة، قل أن تعثر عليها في كتاب، بل بعضها لا يوجد بالتفصيل الذي ذكر المصنف إلا في هذا الكتاب. فقد أطال النفس في بيان أصناف الناس يوم القيامة وموازنة أعمالهم. وأجاد في بيان أحكام أهل الفترة وخصوصا أهل الجاهلية الذين

بعث فيهم نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقسمهم أقساما، ونوعهم أنواعا. وفصَّل في أحكام الأطفال يوم القيامة، وساق المذاهب في ذلك وناقشها قولا قولا. وأسهب في تفصيل حكم غير المكلفين كالمجانين ونحوهم، وحكم الجن ويأجوج ومأجوج، وغير ذلك مما ستقف عليه مفصلا في كتابه. وضمن ذلك توجيهات نفيسة لعدد من الآيات والأحاديث، وفوائد عديدة استطرد المصنف في بيانها، وتنبيهات لطيفة يعز أن ترى نظيرا لها في مصنف آخر. وقديما قيل: كم ترك الأول للآخر، كما في الرفع والتكميل (51) (¬1). وهذا جرد مختصر بأهم المسائل التي تعرض لها القضاعي في تحرير المقال، أقدمها تحفيزا لقارئ الكتاب، وتشويقا لمطالع هذا المصنف: يتكون الكتاب من شطرين كبيرين: الأول: في مناقشة الحميدي في كتابه الآنف الذكر. ¬

(¬1) ومن نظائر هذه المقالة: قال ابن رشيد السبتي في السنن الأبين (180): ولابد للأول أن يفضل للآخر. وقال الصنعاني في إرشاد النقاد (21): فإن عطاء ربك لم يكن محظورا، وإفضاله الممدود ليس على السابق مقصورا. وقال الحافظ في التهذيب (12/ 455): وهذا من المواضع الدقيقة والعلل الخفية التي ادخرها الله تعالى للمتأخر، لا إله إلا الله، ما أكثر مواهبه، ولا نحصي ثناء عليه، لا إله إلا هو. انتهى. وقال ابن معصوم في مقدمة سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر: على أن تأخر الزمان، لا ينافي التقدم في الإحسان، فقد يتأخر الهاطل عن الرعد، والنائل عن الوعد. ومراتب الاعداد، تترقى بتأخير رقمتها وتزداد.

والثاني: فصول زائدة استدركها القضاعي، لم يذكرها الحميدي. أما الشطر الأول: فقد اعترض فيه القضاعي الحميدي في المسائل التالية: جعل الحميدي المقربين هم النبيين والشهداء فقط، في حين رجح عقيل القضاعي أن المقربين هم الأنبياء والصدقون والشهداء والصالحون. وجزم الحميدي بأن السماوات هي الجنات، ورد القضاعي عليه هذا، وبين خطأه فيه. وصرح الحميدي بأن أرواح الأنبياء والشهداء الآن في الجنة، وحكى الإجماع على أن من سواهم ليسوا الآن في الجنة. وناقشه القضاعي في هذا. ورد القضاعي على ابن حزم زعمه أن صنف "من يأخذ كتابه وراء ظهره" هم المؤمنون المذنبون الذين يخرجون من النار بالشفاعة، وبين بما لامزيد عليه أن أخذ الكتاب وراء الظهر هو صفة للكافر الذي يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره. أما صنف المذنبين من المؤمنين فيأخذونه بأيمانهم. وعند القضاعي أصحاب اليمين هم الأبرار والمقربون، وهم جميع المؤمنين بما فيهم المذنبون. وقسم الحميدي أصحاب اليمين ثلاثة أقسام: من رجح خيره على شره, ومن رجح شره على خيره, ومن استوى خيره وشره. أما القضاعي فهذه الأقسام للمؤمنين جميعا, وليس لأصحاب اليمين فقط.

وقسم الحميدي صنف "من رجح شره على خيره" أربعة أقسام: كثير الخير كثير الشر، كثير الخير قليل الشر, قليل الخير قليل الشر، قليل الخير كثير الشر. واعترضه الحميدي بأنه لا يدخل من هذه الأربعة في قسم من رجح شره على خيره إلا قسم واحد، وهو قليل الخير كثير الشر. أما كثير الخير قليل الشر فلا يدخل. وأما كثير الخير كثير الشر, وقليل الخير قليل الشر فهما صنف "من استوت حسناته وسيئاته". وجعل الحميدي كثير الشر مقدما في الدخول في النار على القليل الشر، ويخرجان معا بعد القصاص. وخطأه القضاعي في هذا, وبين أنه ظلم في حقه. وقرر الحميدي أن الايمان يوزن في الميزان يوم القيامة, في حين منع ذلك القضاعي أي منع، وأطال في بيان ذلك بما لا طائل من ورائه. وأهل الموازنة عند الحميدي أربعة أقسام: 1 - من رجحت حسناته, وهما صنفان. 2 - من استوت سيئاته وحسناته. 3 - من رجحت سيئاته على حسناته. 4 - قسم الكفار.

أما القضاعي فالأصناف عنده خمسة: 1 - من عنده خير محض, كالأنبياء والرسل. 2 - من عنده شر محض كالكفار والمشركين. 3 - من غلب خيره على شره, وهم أصحاب اليمين، وهم أصناف. 4 - من غلب شره على خيره, فهم في المشيئة, وهم قسمان: - من يعفى عنه, وهذا يلتحق بقسم من غلب خيره. - من يقتص منه ثم يدخل الجنة, وهم من جملة أصحاب اليمين من المؤمنين المذنبين. وأما الشطر الثاني: فزاد المصنف قسمين آخرين لم يذكرهما الحميدي مما يتعين الكلام عليهما في باب الموازنة: القسم الأول فيمن لم يلزمه التكليف: الباب الأول في حكم المجانين. والباب الثاني في حكم أهل الفترة. وجعلهم أربعة أقسام: القسم الأول: قوم أدركوا الحق ببصيرتهم ووحدوا الله في جاهليتهم، من غير أن يكونوا متبعين لشريعة من تقدمهم كقُس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل. فهؤلاء في الجنة.

القسم الثاني: قوم تدينوا بشريعة قائمة الرسوم مقررة الأحكام من الشرائع المتقدمة كمن تهود أو تنصر في الجاهلية. فأما من تهود فمثل تبع أبي كرب وقومه من حمير. وأما من تنصر من أهل الفترة فمثل أهل نجران وغيرهم. وحكم هذا القسم أن كل من دخل من أهل الفترة في شريعة من الشرائع من قِبل نفسه فقد لزمته وصار من أهلها، وإن لم يكن مخاطبا بها قبل ذلك، وإذا لزمته فيحشر مع أهل تلك الشريعة ويسعه ما يسعهم من الثواب والعقاب. القسم الثالث: هو من تعرض منهم إلى تغيير الشرائع ومخالفة الأنبياء في التوحيد أو اتبع غيره على ذلك كعمرو بن لحي. وتكلم في هذا أثناء الفصل على مباحث عديدة، منها: - الأصنام التي كان العرب يعبدونها. - عبادة العرب للأصنام. - عبادة العرب الحجارة في الجاهلية. - جعل العرب الجن شركاء لله وأن الملائكة بنات الله. - عبادة العرب للملائكة. - تفسير ما غيره عمرو بن لحي من الدين. - جعل العرب لآلهتهم شركا في أموالهم. - وأدهم البنات. - تحليلهم وتحريمهم بعض المطعومات.

- النسي في الشهور. - استقسامهم بالأزلام. - اختراع قريش أحكاما في الجاهلية وحمل العرب عليها. ثم تكلم عن حكم أهل الجاهلية، وأطال بجلب مسائل نفيسة جدا لا يستغني عنها باحث في مسائل الشرك والكفر وحكم أهل الجاهلية. وخلص في آخر هذا القسم إلى أن أهل هذا القسم كفار. القسم الرابع من أهل الفترة: من لم يكن عنده توحيد ولا إشراك ولا دخول في شريعة نبي ولا تعرض لتغييرها ولا اختراع لدين, بل بقي عمره على حال غفلة وذهول عن ذلك كله, وقد نُقل أن في أهل الجاهلية من كان على هذه الوتيرة. وهذا القسم عند القضاعي ليس عندهم ما يكذبون به ولا ما يصدقون, وبالتالي فهم من أهل الجنة. الباب الثالث: في حكم من لم تبلغه الدعوة. قرر القضاعي أنه لا يلزمهم التكليف ولا العقاب المترتب عليه, لأنه لا فرق بين من لم تبلغه الدعوة وبين أهل الفترة في المعنى. ومن لم تبلغه الدعوة كما يتصور وجودهم في زمان النبي - عليه السلام - كذلك يتصور وجودهم بعده إلى قيام الساعة. ثم تعرض بالبحث ليأجوج ومأجوج وهل هم من أهل الفترة أم لا؟ ورجح كفرهم.

الباب الرابع: في حكم الصبيان والأطفال. ذكر المذاهب في ذلك، وناقشها ورجح أنهم في الجنة. وتكلم عن معنى فطرة واختلاف العلماء فيها، وفصل الكلام في معنى حديث "كل مولود يولد على الفطرة". القسم الثاني: في الكلام على الجن. وهو يحتوي على أربعة أبواب: الباب الأول: في وجود الجن وكونهم أمة عاقلة مميزة. الباب الثاني: في تكليف الجن في الأمم الخالية قبل الإسلام. الباب الثالث: في كون الجن متعبدين بشريعة نبينا محمد - عليه السلام -. الباب الرابع: في أقسام الجن وحكم موازنتهم. وضمن هذا كله مباحث أخرى ومسائل متعددة استطرد في بيانها، مما لا يسع معه إلا مطالعة الكتاب بأسره واستخراج فوائده. والله الموفق بمنه وكرمه.

تمهيد

تمهيد - صحة نسبة الكتاب لمؤلفه. لاخلاف في صحة نسبة الكتاب لمؤلفه وكل من ترجم لعقيل القضاعي نسبه له. منهم ابن الزبير الغرناطي قال في صلة الصلة (4/ 170): وقفت له على تأليف سماه "فصل المقال في الموازنة بين الأعمال"، تكلم فيه مع أبي عبد الله الحميدي وشيخه أبي محمد بن حزم، فأجاد فيه وأحسن وأتى بكل بديع وأتقن. ومنهم ابن فرحون في الديباج (2/ 123). ومنهم كحالة في معجم المؤلفين (6/ 290) وسماه: فصل المقال في الموازنة بين الأعمال. ونسبه له كذلك الحافظ ابن حجر، حيث قال في الفتح (11/ 398): وفي حديث أبي أمامة في نحو حديث أبي سعيد: إن الله يقول لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم، وفيه دلالة على موازنة الأعمال يوم القيامة، وقد صنف فيه الحميدي صاحب الجمع كتابا لطيفا، وتعقب أبو طالب عقيل بن عطية أكثره في كتاب سماه: تحرير المقال في موازنة الأعمال.

- النسخ المعتمدة ومنهج التحقيق: اعتمدت في تحقيقي لهذا الكتاب على نسختين: النسخة الأولى: محفوظة في الخزانة العامة بالرباط، رقم (109.ق)، وهي بخط أندلسي، كتبت في حياة المؤلف سنة 603، وقرأت عليه ثلاث مرات، تتكون من 156 ورقة. وهي نسخة متقنة إلا أن بها بترا في عدد من الصفحات الأولى، فأكمل البتر بخط مشرقي مغاير، وتركت بعض البياضات، أكملت بعضها من النسخة (ب)، وبقيت بياضات أخرى بسبب وقوع سقط كبير في النسخة (ب). كما أن بعض من قام بجمع النسخة خلط بعض الأوراق وقدم وأخر في الصفحات، فقمت مستعينا بالنسخة الثانية بإرجاع الأمر إلى نصابه. تتخلل النسخة إلحاقات عديدة على الهامش وعليها علامة التصحيح صح. وأغلبها ثابت في النسخة (ب)، ولهذا لم أر أن أذكر ذلك في الهوامش، إلا أن يكون سقط من النسخة (ب)، ففي هذه الحال أشير لذلك. وقد جعلت هذه النسخة هي الأم ورمزت لها بـ: (أ). النسخة الثانية: محفوظة في الخزانة العامة رقم (652) وهي بخط مغربي إلا الصفحات الأولى فبخط أندلسي، تنقصها الورقة الأولى، وبها بتر في أسفل الثلاثين صفحة الأولى. ولم أشر لهذا البتر في الهوامش لكثرته. تتكون من 254 صفحة، عارية من اسم الناسخ وتاريخ النسخ، منقولة من نسخة كتبت سنة 891. مسطرتها: 28.5/ 19.5.

ورمزت لهذه النسخة بـ: (ب). وقد اعتنيت بذكر الفروق بين النسختين مع ترجيح ما في (أ) غالبا. وقابلت الكتاب جيدا على النسخة (أ) لجودتها وإتقانها وكونها قرأت على المؤلف، بخلاف النسخة (ب) فهي دونها في الجودة بكثير، وفيها سقط في مواطن عديدة كما نبهت عليه في الهوامش. ونهجت في التعليق على الكتاب وتخريج أحاديثه منهج الاختصار، غير مخل بالفائدة المرجوة من التخريج وهي بيان الصحة والضعف، ولم أر الإسهاب في تتبع طرق الأحاديث وذكر الأسانيد، إلا إذا اقتضى المقام ذلك. ولا يفوتني هنا أن أتوجه بالشكر لبعض إخواننا من طلبة العلم ممن أعانني على نسخ المخطوط. وقد قابلته بنفسي على النسختين عدة مرات، ولله الحمد. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الصفحة الأولى من المخطوط (أ)

الصفحة الثانية من المخطوط (أ)

الصفحة الأخيرة من المخطوط (أ)

الصفحة الأولى من المخطوط (ب)

الصفحة الأخيرة من المخطوط (ب)

ترجمة عقيل القضاعي

ترجمة عقيل القضاعي هو: عقيل بن عطية بن أبي أحمد جعفر بن محمد بن عطية القضاعي من أهل طرطوشة يكنى أبا المجد وأبا طالب. ولد بمراكش سنة: 549هـ روى بالأندلس عن أبي القاسم ابن بشكوال قرأ عليه وسمع منه، وعن أبي محمد بن عبيد الله الحجري، وأبي بكر بن الجد الحافظ، وأبي بكر بن خير، وأبي القاسم بن الحاج، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن الفخار، وأبي نصر فتح بن محمد القرطبي، وغيرهم. وسمع منه: أبو جعفر بن الدلال وأبو الحسن بن منخل الشاطبي وغيرهم. قال ابن الزبير في صلة الصلة (4/ 170 - 171): وكان نبيها متصرفا في فنون من العلم متقنا لها يتناوله من ذلك حسن التهدي وقفت له على تأليف سماه "فصل المقال في الموازنة بين الأعمال" تكلم فيه مع أبي عبد الله الحميدي وشيخه أبي محمد بن حزم، فأجاد فيه وأحسن وأتى بكل بديع وأتقن ... وهو من بيت علم وطلب ... وكان من ذوي المشاركة والتفنن في العلوم. وقال ابن الأبار في التكملة لكتاب الصلة (4/ 33 - 34): وكان من أهل الحفظ والإتقان والضبط، يبصر الحديث ويتقدم في صناعته، مع حسن الخط والمشاركة في الأدب. انتهى.

ألف عدة كتب منها: شرح مقامات الحريري. رد على ابن عبد البر في بعض تواليفه وتنبيه على أغلاطه. ومنها هذا الكتاب، وسيأتي الحديث عنه. ولي عقيل قضاء غرناطة وسجلماسة، وكان يكتب المناكح على القاضي ابن يربوع. وتوفي بسجلماسة في صفر سنة 608 هـ/ 1211م، وقد قارب الستين سنة. انظر ترجمته في: التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار (4/ 33). وصلة الصلة لابن الزبير الغرناطي (4/ 170). وأعلام مالقة لابن عسكر وابن خميس (329). والإحاطة في أخبار غرناطة (4/ 230). والديباج المذهب لابن فرحون (2/ 123). وتاريخ الإسلام للذهبي (43/ 299). والإعلام لعباس بن إبراهيم المراكشي (9/ 318). ومعجم المؤلفين لكحالة (6/ 290).

تحرير المقال في موازنة الأعمال وحكم غير المكلفين في العقبى والمآل

تحرير المقال في موازنة الأعمال وحكم غير المكلفين في العقبى والمآل للقاضي أبي طالب عقيل بن عطية بن أبي أحمد القضاعي الطرطوشي (المتوفى سنة 608هـ/1211م) تحقيق: مصطفى باحُّو

[مقدمة المصنف]

[مقدمة المصنف] (ق.2.أ) بسم الله الرحمان الرحيم، صلى الله على النبي محمد وآله وسلم. قال القاضي أبو طالب عقيل بن عطـ (ـية القضاعي) (¬1): الحمد لله ( ... ) (¬2) (كما يحـ) ـب (¬3) ربنا ويرضى. أما بعد، فإن أحد الطلبة رعاهم الله عرض علي كتابا، صنعه أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي رحمه الله في الموازنة يوم القيامة وتقسيم أهلها وترتيب الجزاء من الثواب والعقاب عليها، وكان هذا الطالب المشار إليه معجبا بذلك الكتاب ومستحسنا لأغراضه، ومولعا بتقسيمه، وزاده كلفا به كون أبي محمد علي بن أحمد بن حزم رحمه الله قد رواه عن مؤلفه. كذلك ذكر أبو محمد في برنامجه، وذلك أنه قال: كتاب جمعه صاحبنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي في مراتب الجزاء يوم القيامة على ما جاءت به نصوص القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه دقق فيه وقرطس ما شاء، أخذته عنه لإحسانه فيه وجو (دة) (¬4) نظره في تقسيمه، يكون بضع عشرة ورقة صغارا. هذا مع أن الحـ (ـميدي) (¬5) تلميذ لأبي محمد بن حزم، ومشهور بالاختصاص به والأخذ عنه. ¬

(¬1) بتر فيما بين القوسين في (أ)، وأتممته اعتمادا على السياق. (¬2) بتر في (أ). (¬3) بتر فيما بين القوسين في (أ)، وأتممته اعتمادا على السياق. (¬4) بتر في (أ). (¬5) ما بين القوسين به بتر في (أ)، وأتممته اعتمادا على السياق.

ولم يمنع ذلك أبا محمد من رواية هذا الكتاب عنه، جريا على سنن أهل العلم في الإنصاف. وقد ذكره الحميدي في كتاب جذوة المقتبس (¬1)، وأطنب في ذكره، حتى قال: وما رأينا مثله (¬2). وأكثر ما يحكي فيه، عنه أخذه وإليه أسنده. وروى الحميدي أيضا بالأندلس عن أبي عمر بن عبد البر النمري (¬3) وأبي العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري (¬4) وغيرهما، وكان من (أهل) (¬5) جزيرة ميورقة، وأصله من قرطبة، ثم إن الحميدي رحمه الله رحل عن الأندلس إلى بلاد المشرق في حياة شيوخه المتقدم ذكرهم، وكانت رحلته قبل الخمسين ¬

(¬1) جذوة المقتبس (290 - طبعة الخانجي) (8/ 489 - المكتبة الأندلسية). (¬2) جذوة المقتبس (291 - طبعة الخانجي). (¬3) أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري الأندلسي القرطبي المالكي المتوفى سنة: 463، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 153) وطبقات الحفاظ (431) والصلة لابن بشكوال (521) وترتيب المدارك (8/ 127) وجذوة المقتبس (344) وشذرات الذهب (5/ 266) وغيرها كثير. (¬4) المتوفى سنة: 478، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 567) والصلة (70) وجذوة المقتبس (127) وشذرات الذهب (5/ 377). (¬5) بياض في (أ)، وهكذا قدرتها اعتمادا على ما بقي من رسم الحروف.

والأربعمائة (¬1)، فسمع بمصر من أبي عبد الله القضاعي (¬2) وأبي إسحاق الحبال (¬3) وغيرهما. وحج فلقي بمكة كريمة المروزية (¬4) وغيرها. وسمع بالشام والعراق، ثم استوطن بغداد إلى أن توفي بها سنة ثمان وثمانين (ق.2.ب) وأربعمائة. ومن شيوخه بها: أبو بكر بن ثابت الخطيب (¬5)، والأمير أبو نصر بن ماكولا (¬6). وممن روى عنه هنالك: أبو نصر بن أبي مسلم النهاوندي، وأبو بكر محمد بن طرخان البغدادي (¬7) وغيرهما. ¬

(¬1) في الصلة (438): أنها سنة: 448. (¬2) صاحب مسند الشهاب، المتوفى سنة: 454، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 92). (¬3) المتوفى سنة482: واسمه: إبراهيم بن سعيد النعماني المصري، قال عنه الذهبي في السير: الإمام الحافظ المتقن العالم، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 495) وتذكرة الحفاظ (3/ 1191) وطبقات الحفاظ (441) وشذرات الذهب (5/ 351) وحسن المحاضرة (1/ 302) والإكمال (2/ 379). (¬4) انظر ترجمتها في سير أعلام النبلاء (18/ 233). (¬5) المتوفى سنة: (463)، انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (18/ 270) وتذكرة الحفاظ (3/ 1135) وطبقات الحفاظ (433). (¬6) هو أبو نصر علي بن هبة الله العجلي البغدادي الشهير بابن ماكولا مصنف كتاب الإكمال، المتوفى سنة: نيف وثمانين وأربعمائة، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 569) وتذكرة الحفاظ (3/ 1201) وطبقات الحفاظ (443). (¬7) المتوفى سنة (513)، انظر ترجمته في السير (19/ 423) وشذرات الذهب (6/ 67) وغيرها.

وذكره الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتابه (¬1) فقال: أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ، وقال: لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم. وروى عنه من أهل الأندلس أبو علي حسين بن محمد الصدفي (¬2)، وأبو الحسن عباد بن سرحان المعافري (¬3). ووصفه أبو علي بالإتقان والدين. وهذه الجملة في أخبار الحميدي نقلنا أكثرها من كتاب الصلة (¬4) الذي أخذناه مشافهة (¬5) عن مؤلفه أبي القاسم بن بشكوال رحمه الله. ومنها ما أخذناه عن غيره من الشيوخ. وأبو عبد الله الحميدي هذا هو صاحب الجمع بين الصحيحين (¬6) ألفه ببغداد، وأُخذ عنه هنالك، وكذلك ألف بها تاريخه المسمى بجذوة المقتبس (¬7). ¬

(¬1) لم أجده في الإكمال. (¬2) الأندلسي السرقسطي، الشهير بابن سكرة، المتوفى سنة: (514)، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (19/ 376) وتذكرة الحفاظ (4/ 1253) وطبقات الحفاظ (455). (¬3) المتوفى سنة (504)، انظر ترجمته في الصلة (359) وبغية الملتمس (345). (¬4) الصلة لابن بشكوال (438). (¬5) في (ب): من هذه مشافهة. (¬6) طبع في دار ابن حزم بتحقيق علي حسين البواب سنة 1423/ 2002. (¬7) طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1372/ 1952 بتحقيق محمد بن تاويت الطنجي، نشر عزت العطار. وطبع بالدار المصرية للتأليف والترجمة سنة 1966. ... = = ونشرته مكتبة الخانجي بالقاهرة بتحقيق محمد بن تاويت بدون تاريخ في مجلد واحد، كتب مقدمته محمد زاهد الكوثري.

ويذكر أن السبب في ذلك هو أن الأمير أبا نصر بن ماكولا كلفه أن يؤلف له مجموعا في ذكر علماء أهل الأندلس ليستعين به على غرضه، وكان الأمير إذ ذاك يؤلف كتاب الإكمال في المؤتلف والمختلف (¬1)، فصنعه الحميدي حينئذ. ونظن أن هذا الذي ذكر صحيح، فإن الحميدي ذكر في أول كتابه أنه كُلف تأليفه (¬2)، وعظم قدر من كلفه ذلك من غير أن يسميه، فجاء الكتاب نبيلا في معناه، غير أنه ذكر فيه حكايات ليس من شأن أهل العلم تخليد أمثالها في الأوراق، كقصة أحمد بن كليب (النحوي) (¬3) وغيرها. وما ذكرنا هذا كله عن الحميدي إلا ليعلم قدره من لم يقف على خبره، ويعرف أيضا من هو عالم به أنه لا يخفى علينا مكانه من العلم ولا مكانته عند العلماء. لكن ليس ذلك بمانع أن يرد عليه بعض قوله، إذ لا ينبغي أن يؤخذ من قوله ومن قول غيره إلا ما وافق الحق، ونطرح ما عداه، ونحن لما نظرنا ¬

(¬1) طبع في مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، سنة 1381 - 1385/ 1962 - 1966 بتحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني في 6 أجزاء، والسابع بتحقيق نايف العباس، نشر محمد أمين دمج ببيروت، المطبعة الهاشمية بدمشق. وطبع في دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة سنة 1993، في 10 مجلدات. (¬2) جذوة المقتبس (1/ 3). (¬3) في (أ) هنا هامش عليه علامة التصحيح، لكن فيه طمس، ولا شيء في (ب)، والمثبت من جذوة المقتبس (2/ 134).

الكتاب المبدأ بذكره، وتأملنا غرض مؤلفه فيه وجدناه غير مخلص ( ... ) (¬1) الأقسام التي عمد فيها إلى تنظير (¬2) بعضها ببعض، تضمحل عند التحصيل، فتحققنا أن الحميدي أصابته غفلة فيه، وكذلك أصابت الغفلة أبا محمد بن حزم في استحسانه له وتصويبه لتقاسيمه. وما ذاك منه إلا لأن كثيرا من مضمنه هو مذهبه، فغاب عنه ما وراء ذلك مما لو أمعن النظر فيه لم يخف عليه، وقد قال الحميدي في أول كتابه هذا: إن الأصل (في ذلك تلقاه الحميدي) (¬3) من أبي محمد المذكور مشافهة حسبما يأتي ذكره، وهكذا وجدنا نحن في كتاب الفصل، من تأليف أبي محمد، (ق.3.أ) أشياء موافقة لما ذكره الحميدي في هذا الكتاب، مما نرى أن الحق في خلافه. فكان هذا كله داعية لنا إلى تتبع ما في كتاب الحميدي وانتقاده وإبراز (¬4) ما يصح من أمر الموازنة في الآخرة، وتقسيم أهلها بحسب مفهوم الشريعة، ووضع ذلك كله في هذا الكتاب الذي تحرينا الحق جهدنا في مضمنه، ونقحنا الكلام المودع فيه (¬5). ¬

(¬1) بياض في النسخة (أ) وبتر في النسخة (ب). (¬2) طمس قليل في الأصل، وسيكرر المصنف نحوها في مواطن من كتابه منها (ق.38.ب)، وفي النسخة (ب) بتر. (¬3) بياض في النسخة (أ) وبتر في النسخة (ب)، وأتممته اعتمادا على قول الحميدي الآتي الذي أشار إليه عقيل هنا، وهو قوله: وإن كان أصله ما نبه عليه شيخنا أبو محمد أعزه الله في ذلك المجلس ... (¬4) كذا في النسخة (ب) وفي النسخة (أ): وإبرازه. (¬5) كذا في النسخة (أ)، وفي النسخة (ب): في.

هذا مع أنه قد تضمن أشياء زائدة على ذكر الموازنة، لأنا لما بنيناه على كتاب الحميدي، وكان المقصود به عند مؤلفه مسألة الموازنة وما كان من غير ذلك فإنما هو عنده في حكم التبع تبعناه في ذلك، إذ شرطنا ذكر كلامه أولا ثم التكلم عليه ثانيا. وقد رأينا أن نفصل بين كلامنا وكلامه، بحيث يمتاز أحدهما من الآخر، وذلك بأن ننقل كلامه بلفظه، فإذا كمل أردفنا عليه فصلا أو فصولا متتابعة من كلامنا لتحسين ما قاله أو لانتقاده وتبيين (¬1) وهمه، أو لتتميم معناه إن أخل به، أو لتقسيم حاصر لما يقصد به، أو لإيراد ما يليق بذلك الموضع مما لم يلم هو به، أو ألم به على وجه آخر (¬2). فإذا كمل ذلك رجعنا إلى نقل لفظه أيضا، ثم عدنا إلى تلك الفصول كذلك، حتى يفرغ مقصودنا بحول الله في هذا الكتاب، ولم نترك من كلام الحميدي في كتابه المذكور شيئا، بل سقناه على ما هو عليه، بحيث لو شاء ناقل أن ينقل كتابه من المواضع التي ذكرناه فيها، فيها حتى يُختزل برأسه عن مجموع هذا الكتاب أمكنه ذلك. والذي بنى الحميدي عليه مسألة الموازنة بعد صدر من كتابه هو حديث أنس بن مالك في الشفاعة (¬3)، غير أنه لم يقف عند نصه، بل أقحم فيه ¬

(¬1) كذا في النسخة (ب)، وفي النسخة (أ): وتبين. (¬2) هذه الجملة كتبت في هامش (أ) وفيها بتر قليل، وعليها علامة التصحيح، وجاءت على الصواب في (ب). (¬3) سيأتي تخريجه.

عند الكلام عليه ما ليس منه (¬1)، واعتقد أنه في نص الحديث على ما سيأتي ذكره في موضعه، ويأتي في الكتاب بحول الله تبيين (¬2) ما عسى أن يرد عليه أو على أبي محمد بن حزم، إذا دعت إلى ذلك داعية، فإن كلامنا في هذا الكتاب إنما هو مع هذين الرجلين، أحدهما بالاختراع والتأليف، والثاني بالاستحسان والتصويب. فعلى الحقيقة إذا رددنا على الحميدي في شيء ما تطرق ذلك إلى الرد على أبي محمد بن حزم، هذا إذا لم يوجد لأبي محمد فيه كلام. وأما ما نص عليه فسيكون الرد على الحميدي فيه بحكم التبع، لأن ابن حزم من أهل النظر في الجملة، وأما الحميدي فإنما هو من أصحاب الحديث، وإن كان من أهل التحذق فيهم. ثم إنا لما فرغنا من التكلم مع الحميدي فيما تضمنه كتابه، أردفنا عليه قسمين، لم يلم بذكرهما ويحسن التنبيه (¬3) عليهما والكلام فيهما: القسم الأول: حكم المجانين وأهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة، وهؤلاء وإن لم تكن لهم موازنة في الجملة فلابد من حشرهم يوم القيامة، (ق.3.ب) ولابد لهم من حكم فيه، ومن هذا القسم (هم) (¬4) الأطفال بجملتهم، أعني أولاد المسلمين وأولاد المشركين. ¬

(¬1) كذا في النسخة (أ) وفي النسخة (ب): ما ليس في الكتاب منه. (¬2) كذا في النسخة (ب)، وفي النسخة (أ): تبين. (¬3) في الكلمتين الأخيرتين طمس قليل، وهكذا ظهرا لي. (¬4) يظهر أنها زائدة، وفي (ب) بتر.

ويلزم الحميدي دخول هؤلاء الأصناف الأربعة بالعموم في قوله أول الكتاب: (قد صح النص على أن جميع ولد آدم يوم القيامة على ثلاث طبقات)، إذ المجانين ومن ذكرنا معهم هم من بني آدم وليسوا من الطبقات الثلاث، لأن النص الذي ذكر إنما هو ما جاء في سورة الواقعة من قوله تعالى: {وكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} [الواقعة: 7]. ولا ريب في أن الله سبحانه إنما خاطب بذلك المكلفين من بني آدم، إذ هم المستحقون للثواب والعقاب المترتبين على السعادة والشقاوة، وذلك بحسب إيمانهم وتصديقهم أو كفرهم وتكذيبهم. وبالكلام على الأصناف الأربعة المتقدم ذكرهم، وعلى ما تضمنه كتاب الحميدي من حكم المكلفين، وانقسامهم إلى ما انقسموا إليه يتم الكلام على جميع ولد (¬1) آدم في المعنى المقصود بهذا الكتاب، ويتبين من مجموع ذلك حكم الموازنة فيمن تلزمه منهم أو تسقط عنه، ثم من تسقط عنه ممن لا يلزمه التكليف يتقرر في جميعهم بالنظر إلى قانون الشرع ما يكون مآلهم إليه في الآخرة. والقسم الثاني: حكم الجن في القيامة، إذ هم أمة يلزمهم التكليف، وإذا لزمهم التكليف ترتب عليه الجزاء، فلم يكن لهم بد من الموازنة لانقسامهم إلى من يستحق الثواب والعقاب، وتفضيل بعضهم على بعض فيهما كما كان ذلك لبني آدم. ¬

(¬1) كذا في النسخة (أ) وفي النسخة (ب): أولاد.

إذ لا فرق بين الصنفين في كون الشرائع لازمة لهما، ولذلك خاطبهما الله تعالى في تقرير التكليف لهما وإقامة الحجة عليهما خطابا واحدا فقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} الآية. [الأنعام: 130]. ونحن بحول (¬1) الله نورد من الكلام على هذين القسمين ما يتمم المقصود ويكمل المطلوب، مما حررنا القول فيه، وتحرينا الصواب فيما يحويه، على النحو الذي سلكناه في جملة الكتاب، وسميناه لذلك كتاب " تحرير المقال في موازنة الأعمال، وحكم غير المكلفين في العقبى والمآل". لتكون هذه الترجمة تحتوي على مقصود الكتاب في الجملة، إذ لا يخرج عنها إلا ما يندرج في تضاعيف الكلام مما يستدعيه القول ويوجبه النظر، وأكثر ذلك إنما هو في (التكلم على) (¬2) كتاب الحميدي، مثل تعيين المقربين، وما احتوى الكلام فيهم من أشياء مخترعة هنالك، وما شاكل ذلك مما نبهنا على جملته قبل، إذ قلنا: إن كلام الحميدي اقتضى التبعية له فيما ألم به. وقد يطرأ في أثناء ذلك ما عسى أن تدعو الضرورة إلى التكلم (ق.4.أ) عليه مثل كلامنا مع أبي محمد بن حزم في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ} الآية [الانشقاق: 10]، هل المقصود بها الكافر أو المذنب من ¬

(¬1) في (ب): بحمد. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب).

المؤمنين، وغير هذا مما يقف الناظر عليه عند المطالعة، ولعله لا يجد في المعنى الذي نصمد إليه في الشرح والتبيين أجلى منه، ولا أبعد من الاعتراض فيه. وهانحن نبتدئ كتابنا هذا على ما بنيناه عليه، واشترطناه فيه، والله الموفق للصواب.

نقل اللفظ: قال أبو عبد الله الحميدي: الحمد لله على ما وهب من فضله وخص من جميل صنعه وطوله، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليما، أما بعد. قَسَم الله لك من الخير أكملَه قسما، وأوفره نصيبا، وزادك من آلائه، وأوتر عليك من نعمائه، فإنك أشرت إلي فيما جرى في مجلس شيخنا أبي محمد (¬1)، يعني ابن حزم، أدام الله توفيقه من مسألة الموازنة، وتقسيم طباق أهلها، ورغبت أن أقيدها لك بدقتها، وأثبتها بحقائقها وكثرة أقسامها لنبوء أكثر الأفهام عنها دون تقييد ولا إثبات. وأنا إن شاء الله تعالى واقف عند ما أشرت به وآخذ فيما رغبت فيه، مستوعبا لكل ما توجبه القسمة وتقتضيه الرتبة، مما تنتَّج لي وظهر إلي بعدُ، حسبما أفهمنيه الله تعالى، وأقدرنيه عليه، وإن كان أصله ما نبه عليه شيخنا أبو محمد أعزه الله في ذلك المجلس (¬2). ¬

(¬1) كذا في النسخة (أ)، وفي النسخة (ب): أبي عبد الله محمد. وهو خطأ. (¬2) كذا في النسخة (أ)، وفي (ب): حسبما أفهمنيه شيخنا أبو محمد أعزه الله في ذلك المجلس، وأحيل بعد "أفهمنيه" على هامش لا يظهر في نسختي، فلعله باقي الكلام الذي سقط.

جميع ولد آدم - عليه السلام - عند الله تعالى على ثلاث طبقات

فلا غرو، فالكلمة الواحدة تقتضي معاني كثيرة، والجنس المفرد يعم أنواعا عظيمة، والأصل الواحد ينتج فروعا جمة، وستقف في كل ذلك على البرهان فيه على نحو ما التزمناه عقدا وقولا، ولله تعالى الحمد بدءا وعودا، وبه عز وجل نستعين لا إله إلا هو. وهذا حين نأخذ في سبيل ذلك ونبين حقيقة مذهبنا فيه، وظهور برهاننا له (¬1) إن شاء الله، فنقول وبالله التوفيق: قد صح النص على ما نبين بعد هذا أن جميع ولد آدم - عليه السلام - عند الله تعالى على ثلاث طبقات: الأولى هم المقربون، وهم النبيون عليهم السلام والشهداء فقط. وهؤلاء ناهضة (¬2) أرواحهم إلى الجنة إثر خروجها من أجسامهم عن هذا العالم الذي نحن فيه، وبرهان ذلك أنه لم يختلف مسلمان في أن الأنبياء عليهم السلام الآن في الجنة، وكذلك الشهداء. وقد صح هذا بالنص، وأخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬3) أنه رأى الأنبياء ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) يشير إلى حديث الإسراء، وقد رواه البخاري (7079) عن شريك بن عبد الله أنه قال سمعت أنس بن مالك. وأخرجه مسلم (162) من طريق شريك مختصرا. ورواه البخاري (3035 - 3674) ومسلم (164) والترمذي (3346) والنسائي (448) وأحمد (4/ 207 - 208) وابن خزيمة (1/ 153) وابن حبان (48) وأبو عوانة (336 فما بعد) = = والبزار (3892) وأبو نعيم في المستخرج (420) والطبراني في الكبير (19/ 271) عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة. ورواه البخاري (342 - 1555) ومسلم (163) وأحمد (5/ 143) وابن حبان (7406) وأبو عوانة (355) وأبو نعيم في المستخرج (471) وأبو يعلى (3616) عن الزهري عن أنس عن أبي ذر. ورواه ثابت عن أنس. رواه مسلم (162). وراجع الأحاديث المنتقدة (396) بقلمي.

عليهم السلام في ليلة الإسراء به (¬1): آدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى عليهما السلام في الثانية، ويوسف - عليه السلام - في الثالثة، وإدريس - عليه السلام - في الرابعة، وهارون - عليه السلام - في الخامسة، وموسى وإبراهيم عليهما السلام في السادسة والسابعة (¬2). وبهذا قطعنا على أن السماوات هي الجنات ضرورة لصحة الإجماع على أن أرواحهم في الجنة من الآن، ومن المحال أن يكونوا في مكانين مختلفين في وقت واحد، وكذلك جاء النص أيضا في الشهداء من طريق ابن مسعود وغيره، قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169]. وإذا صح أن الشهداء في الجنة فمن المحال أن يكون أحد في أفضل مرتبة وأعلى محلة من الأنبياء عليهم السلام فصح أنهم متقدمون في هذه المنزلة ومستأهلون لها لا يجوز غير ذلك، انتهى كلامه. ¬

(¬1) كذا في (ب)، وفي (أ): أبيه. (¬2) وقع في بيان منازل الأنبياء تعارض، راجع له الفتح لابن حجر (7/ 210) (13/ 485) وكتابي: "الأحاديث المنتقدة" رقم (396).

فصل هذا الحديث الذي أشار إليه الحميدي هو حديث الإسراء، رواه بطوله أنس بن مالك. فمن رواته من جعله عنه عن النبي - عليه السلام - من غير واسطة (¬1)، ومنهم من رواه عن أنس عن أبي ذر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2)، ومنهم من رواه عن أنس عن مالك بن صعصعة عن النبي - عليه السلام - (¬3). وهذه الطرق كلها في الصحيح. وترتيب الأنبياء في الحديث هو كما ذكره الحميدي، إلا أن قوله: (وموسى وإبراهيم عليهما السلام في السادسة والسابعة)، إنما تحفَّظ بذلك من الخلاف الذي روي في طرق الحديث، فإن في بعضها: إن موسى في السادسة وإبراهيم في السابعة (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (7079) ومسلم (162). (¬2) رواه البخاري (342 - 1555) ومسلم (163) وأحمد (5/ 143) وابن حبان (7406) وأبو عوانة (355) وأبو نعيم في المستخرج (471) وأبو يعلى (3616). (¬3) رواه البخاري (3035 - 3674) ومسلم (164) والترمذي (3346) والنسائي (448) وأحمد (4/ 207 - 208) وابن خزيمة (1/ 153) وابن حبان (48) وأبو عوانة (336 فما بعد) والبزار (3892) وأبو نعيم في المستخرج (420) والطبراني في الكبير (19/ 271). (¬4) هذه رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة المتقدمة.

وفي بعضها: إن إبراهيم في السادسة وموسى في السابعة (¬1). والأول أكثر، وذلك -والله أعلم- هو الصواب (¬2). وأما قول الحميدي في ابتداء كلامه: (قد صح النص على أن جميع ولد آدم على ثلاث طبقات) فإنما يعني به المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وهم المذكورون في سورة الواقعة، وسيأتي له ذكر ذلك، وقد تقدم أن قوله هذا معترض بالمجانين وغيرهم من حيث عم جميع ولد آدم وجعلهم من الثلاث الطبقات (¬3)، فلو قال: قد صح النص على أن المكلفين من بني آدم على ثلاث طبقات لكان قولا صحيحا. وأما قوله عن المقربين إنهم النبيؤون والشهداء فقط، واقتصاره في تفسير المقربين على الصنفين لاغير فنحن ننازعه في ذلك، إذ لم يستند فيه إلى توقيف، ولا نعلم أن أحدا سبقه إلى هذا القول إلا شيخه أبا محمد بن حزم. ¬

(¬1) هذه رواية شريك عن أنس. (¬2) من بداية الفصل إلى هنا كتب في هامش (أ) وعليه علامة التصحيح، لكن به بتر في كثير من الكلمات، وأتممته من (ب). (¬3) كذا في النسخة (أ)، وفي النسخة (ب): طبقات.

تفسير معنى السابقين

(تفسير معنى السابقين) (¬1) فلنذكر أقوال أهل التفسير في الآية أولا، ثم نعترض على ذلك القول ثانيا، ثم نذكر ما ارتضيناه في تعيين المقربين مما ظهر لنا فيه ثالثا، ثم نكر على ما احتج به الحميدي فيما بقي من قوله فنتكلم عليه رابعا بحول الله. فنقول: أما أقوال أهل التفسير في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقًرَّبُون} [الواقعة: 10] فمختلفة. قال الحسن البصري: هم أصحاب نبينا - عليه السلام -، وأصحاب الأنبياء صلوات الله عليهم قبله. وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين (¬2). وقال الفراء: هم المهاجرون وكل من سبق إلى نبي من الأنبياء فهو من هؤلاء. وقال قتادة: هم من كل أمة (¬3). وقال مجاهد: هم السابقون إلى الجهاد، وأول الناس رواحا إلى الصلاة. (¬4) ¬

(¬1) كل العناوين التي بين قوسين زيادة مني توضيحا. (¬2) رواه ابن جرير (11/ 627) وابن أبي حاتم في تفسيره كما في تفسير ابن كثير (4/ 284). (¬3) تفسير ابن كثير (4/ 284) وتفسير القرطبي (17/ 199) والدر المنثور (8/ 6). (¬4) الهداية لمكي بن أبي طالب (164 - نسخة العامة: 218ق) وتفسير القرطبي (17/ 199). وهو عند مكي أطول مما ذكر المصنف.

وفي التفسير المنسوب إلى ابن عباس قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] يريد الذين سبقوا إلى توحيد الله والإيمان به وبرسوله (ق.5.أ) كما قال في سورة براءة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] أولئك هم المقربون يريد مثل النبيين والمرسلين، انتهى ما ذكره فيه. وقال الزجاج: هم السابقون إلى طاعة الله والتصديق بأنبيائه (¬1). وقال ابن سلام في تفسيره: هم السابقون من أصحاب الميمنة، وأصحاب الميمنة هم جميع أهل الجنة، وهم أصحاب اليمين، فأهل الجنة صنفان: السابقون، وأصحاب اليمين الذين ليسوا من السابقين، وهم الذين يحاسبون حسابا يسيرا. (¬2) وكل ما تقدم نقلنا جملته من تفسير ابن سلام، وتفسير ابن عباس، ومعاني القرآن للفراء، والزجاج، والنحاس، ومن الهداية لمكي (¬3)، والتحصيل للمهدوي (¬4)، وعند بعضهم في ذلك ما ليس عند الآخرين. (¬5) ¬

(¬1) معاني القرآن وإعرابه (5/ 86). (¬2) قال ابن كثير (4/ 284): وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا. . . (¬3) لازال مخطوطا، ومنه عدة نسخ خطية في الخزانة العامة والملكية بالرباط. (¬4) منه الجزء الثاني في الخزانة العامة بالرباط، رقم 89، لكن لم يتيسر لي الرجوع إليها. والجزء الأول منه في القرويين، رقم: 42. (¬5) وفي تفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي (4/ 280) أقوال أخرى زائدة على ما هنا.

وفي الهداية والتحصيل: إنه روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سُئلوه بذلوه، وحكموا للناس حكمهم لأنفسهم» (¬1). وهذا الحديث لا نعلم متنه ولا إسناده، ومع ذلك فليس فيه إلا صفة السابقين لا تعيينهم. فهذا هو الاختلاف الموجود لهم في تفسير الآية، وخرج من ذلك أن السابقين الذين هم المقربون، من المفسرين من يقول: إنهم أصحاب الأنبياء عليهم السلام، أخذ ذلك من لفظ السبق، بأن كان أولئك هم المبادرون إلى الإيمان بهم والتصديق لهم. ومنهم من قصر ذلك على أصحاب النبي - عليه السلام - فجعل الآية فيهم خاصة. ومنهم من خصص بعض أصحاب النبي - عليه السلام - فجعلهم المهاجرين أو من صلى القبلتين من الصحابة. ومنهم من جعل السابقين من كل أمة دون أن يقتصر بهم على أصحاب الأنبياء. واعتبر مجاهد السبق إلى الجهاد والسبق إلى الصلاة. وأما ابن سلام ففسر السابقين باعتبار أهل الجنة، وذلك يقتضي استغراق كل من هو سابق من أول الدنيا إلى قيام الساعة. ¬

(¬1) رواه أحمد (6/ 67) والبيهقي في الشعب (7/ 504) بسند فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.

وهو قول سديد غير أنه ليس فيه تعيين السابقين. فإن قيل: فإذا كان الاختلاف موجودا بين المفسرين في الآية، ولم يصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1) في ذلك شيء يوقف عنده، بل من قال من المفسرين في ذلك قولا: إنما قاله بما أداه إليه اجتهاده، فما الذي يمنع غيرهم من العلماء أن يقولوا ما ظهر لهم فيه. وإذا كان الأمر كذلك فلا درك على الحميدي ولا على ابن حزم قبله فيما قالا في ذلك. (ق.5.ب) قلنا: نحن لا ننكر على من يقول قولا، أداه إليه اجتهاده، بدليل قام عنده عليه، سواء كان ذلك الدليل صحيحا أو معترضا لا يشعر هو بالاعتراض فيه، لكن (يجب أن) (¬2) ينظر الدليل في نفسه، فإن كان صحيحا (¬3) صحح قوله، واستحسن مذهبه، وإن كان معترضا اعترض عليه بما يكون قدحا فيه حتى يترك ذلك القول عن ثلج صدر بتركه. وإنما قصدنا بنقل (أقوال) (¬4) المفسرين هاهنا أن يعلم اختلافهم في الآية، وكونهم لم يقتصروا على تأويل واحد فيها. ¬

(¬1) في (أ): عليه السلام. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬3) هنا كلمة أو كلمتان كتبتا بين السطرين في (أ)، وعليهما علامة التصحيح، ولم يتجه لي توجيههما، وأظنهما: مسلم معا، أو: منكم معا. ولا شيء في (ب). (¬4) ما بين القوسين سقط من (ب).

فكما ساغ لابن حزم والحميدي أن يتأولا في الآية (¬1) تأويلا يخالفان فيه سائر المفسرين، فكذلك يسوغ لنا أن نتأول فيها تأويلا يقع اختيارنا عليه بدلائل صحيحة، وإن كان في ذلك خلاف لهما ولغيرهما. وسنذكر تأويلنا فيما بعد إن شاء الله بعد أن نعترض على ذلك القول كما قدمنا. ¬

(¬1) في (ب): فيها.

مقام الصديقين فوق مقام الشهداء

فصل (مقام الصديقين فوق مقام الشهداء) (¬1) قصر الحميدي رحمه الله في كلامه المتقدم تعيين المقربين على الأنبياء والشهداء، وهو معترض، إذ ينتقض قوله بالصديقين. فإن ظاهر الشرع يقتضي أن يكون مقام الصديقين فوق مقام الشهداء، ولا يلزم أحدا من المفسرين فيما نقلناه عنهم هذا الاعتراض، فإنه ما من قول من تلك الأقوال إلا وهو صالح لأن يدخل الصديقون وغيرهم فيه. فإن قيل: ما الدليل على كون مقام الصديقين فوق مقام الشهداء؟. قلنا: ظواهر الشريعة من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُول َ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. فقدم الصديقين على الشهداء، وذلك يدل على فضلهم عليهم، فقد قدم النبي - عليه السلام - الصفا في الطواف على المروة بتقديم الله له، وذلك يدل ¬

(¬1) هذا العنوان مني.

منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1) على ملاحظة التفضيل بالبداءة حيث فعل ذلك، وقال: «نبدأ بما بدأ الله به» (¬2)، وفي رواية، «ابدؤوا بما بدأ الله به»، على الأمر. وقد احتج أبو محمد بن حزم في كتابه بهذه الرواية. وإذا أمرنا أن نبدأ بما بدأ الله به فنحن نفعل ذلك، فكما نجعل الأنبياء فوق الصديقين، والشهداء فوق الصالحين، فكذلك نجعل الصديقين فوق الشهداء للترتيب الذي رتبهم الله عليه. وكذلك قال الله تعالى في آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19]. هذا إن كان الشهداء في هذه الآية هم الذين قتلوا في سبيل الله، إذ ذلك (¬3) محتمل فيهم. ¬

(¬1) أكثر المواطن التي ذكر فيها النبي اقتصر فيها على الصلاة في (أ)، بينما ذكرت الصلاة والتسليم معا في (ب)، فمشيت في سائر الكتاب على ما في (ب)، فإن ذكر في أحدهما الصلاة والآخر التسليم أشرت لذلك غالبا. (¬2) رواه أبو داود (1905) والنسائي (2961). (2974) والترمذي (862) وابن ماجه (3074) وأحمد (3/ 320 - 388) ومالك (835) وابن الجارود (465) وابن خزيمة (2620) وابن حبان (3943) والبيهقي (1/ 85 - 3/ 315) والطيالسي (1668) وأبو يعلى (2027) وغيرهم من طرق عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وسنده صحيح. وهو عند مسلم (1218) وغيره من نفس الوجه بلفظ: أبدأ. ورواه النسائي (2962) وأحمد (3/ 394) وابن الجارود (469) والدارقطني (2/ 154) من نفس الوجه بلفظ: ابدؤوا. (¬3) في (ب): ذاك.

والاحتمال الثاني أن يكون الشهداء هاهنا بمنزلة قوله: {لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة 143]. والأول أظهر. وهكذا فعل النبي - عليه السلام - إذ صعد الجبل هو وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فإنه قال: «اثبت أحد، فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد» (¬1)، فقدم الصديق على الشهيد في اللفظ، كما هو مقدم عليه في المعنى، إذ مقام أبي بكر فوق مقام عمر وعثمان بلا إشكال. ومما يدل على شرف مقام الصديقين وعظم قدر من اتصف بالصديقية أن لفظ الصديق ورد في مدح الأنبياء عليهم السلام، ووصفوا به على جهة الثناء عليهم، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيم َ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} [مريم: 41]، وقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} [مريم: 56]، وقال سبحانه: {يُُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف: 46]. وقال: في مريم عليها السلام: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَة} [المائدة: 75]. ولا يخفي على من عنده (أدنى) (¬2) شيء من العلم أن مقام إبراهيم صلوات الله عليه -وقد وصفه الله تعالى بالصديقية والنبوة- فوق مقام زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، وقد جمع الله لهما النبوة والشهادة. ¬

(¬1) رواه البخاري (3483) والترمذي (3697) عن قتادة عن أنس. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب).

ولهذا قال بعض الأولياء: ليس بعد النبوة منزلة أقرب إليها من الصديقية. ولما تكلم مكي بن أبي طالب في الهداية (¬1) على قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13 - 14]، وذكر عن الحسن أن قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ} [الواقعة: 13]، يعني الأمم الماضية، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} يعني أمة محمد - عليه السلام - (¬2). قال (¬3): وقيل عنى بذلك النبيين والمرسلين ومن يشبههم من الصديقين، فقال: {وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 14]، لأن الأنبياء والمرسلين كانوا في الأولين دون الآخرين. هكذا قال: (ومن يشبههم من الصديقين)، حاكيا عن من قال ذلك، إذ شعر بعلو مقامهم وقربهم من النبيين. ولا شك أن الشهداء يلونهم في المرتبة كما رتبهم الله تعالى. وقد قال سهل بن عبد الله (¬4): سبق الأنبياء إلى الإيمان بالله، والصديقون والشهداء إلى الإيمان بالأنبياء. ¬

(¬1) الهداية لمكي بن أبي طالب (164 - نسخة العامة: 218ق). (¬2) روى قول الحسن ابن جرير (11/ 644) بسند فيه ابن حميد الرازي. ورواه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (4/ 285). وذكر أنه قول مجاهد كذلك. ونحوه عن ابن جريج خرجه ابن المنذر كما في الدر المنثور (8/ 8). واختاره ابن جرير. (¬3) الهداية لمكي بن أبي طالب (164 - نسخة العامة: 218ق). (¬4) هو التستري أبو محمد المتوفى سنة 283، انظر ترجمته في: الحلية (10/ 190)، والسير (13/ 330)، وطبقات الصوفية (166).

معنى الصديق

(معنى الصديق) (¬1) فإن قيل: أما الشهيد فمعلوم، فما معنى لفظ الصديق؟ وعلى من يطلق (ق.6.ب) هذا الاسم من أهل الإيمان؟. قلنا: الصديق وزنه فعيل، وهو من أبنية المبالغة، وأكثر ما يستعمل في المدح والذم: - فمن المدح: رجل صديق. - ومن الذم: رجل فسيق. وفي الحديث: «إن أبا سفيان رجل مسيك» (¬2). وله أمثلة في اللغة من غير ذلك، منها قولهم: رجل سكيت، إذا كثر سكوته. وكذلك الصديق معناه: من كثر منه الصدق، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكون صديقا» (¬3). ¬

(¬1) هذا العنوان مني. (¬2) رواه البخاري (2328 - 3613 - 5044 - 6265 - 6742) ومسلم (1714) عن عائشة. (¬3) رواه البخاري (5743) ومسلم (2607) وأبو داود (4989) والترمذي (1971) وأحمد (1/ 384 - 393 - 432 - 439) والبيهقي (10/ 195 - 196 - 243) وابن حبان (272 - 273 - 274) وابن أبي شيبة (6/ 122) والطيالسي (1/ 33) والبزار (1658) وأبو يعلى (5138) عن أبي وائل عن ابن مسعود.

وإنما كان الصدق كذلك لأنه أصل لسائر أعمال البر، وأعني بذلك: الصدق على الإطلاق، وليس هو مقصورا على صدق اللسان في باب الأخبار، بل ينقسم إلى صدق في الأقوال، وصدق في الأفعال، وصدق في الأحوال. فأما الصدق في الأقوال فيقدر عليه أكثر المسلمين في مخاطبتهم ومحاورتهم فيما بينهم، وذلك سهل على من لم يتعود الكذب، وإنما الشأن في صدق الأقوال مع الله عز وجل، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا أفراد (¬1) من المؤمنين ممن امتحن الله قلوبهم للتقوى، فيجعلون أعمالهم موافقة لأقوالهم. ومثال ذلك ما قاله بعض العلماء في من كان عبدا حقا لله تعالى، بأن ترك ماعداه وأقبل بكليته عليه أنه إذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] صدق هذا القول منه يوم القيامة، ومن كان عبدا لهواه أو لدنياه لم يصدق في حقه قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]. ولذلك قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم» (¬2) فجعله عبدا لهما، إذ (¬3) كان مشغوفا بهما وحريصا على جمعهما. وأما الصدق في الأفعال فمثاله الوفاء بالعهد والوقوف عند الوعد، فقد أثنى الله تعالى على إسماعيل نبيه - عليه السلام - بأنه كان صادق الوعد. ¬

(¬1) كذا في النسخة (أ)، وفي النسخة (ب): الأفراد. (¬2) رواه البخاري (2730 - 6071) وغيره عن أبي هريرة. (¬3) كذا في النسخة (أ)، وفي النسخة (ب): إذا.

ولما فسر الله تعالى البر بالإيمان، وذكر أفعالا مقترنة معه وهي إنفاق المال وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، قال في المتصفين بذلك كله آخر الآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة: 177]. وقال في قوم آخرين: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} [محمد: 21]، أي: فلو صدقوا الله في أفعالهم لكان خيرا لهم. ووصف سبحانه المؤمنين الذين لم يرتابوا في إيمانهم وجاهدوا في سبيل الله بأنهم الصادقون. (ق.7.أ) وقال تعالى في من جعل على نفسه من المؤمنين عهدا لله في المبالغة في الجهاد فوفوا بعهدهم يوم أحد بأن قاتلوا قتالا شديدا حتى استشهد بعضهم: {مِِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه ِ} [الأحزاب: 23]. وذم تعالى من كان بعكس ذلك ممن عاهد الله فلم يف بعهده، فقال: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ، وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] إلى قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة: 77]. وأما الصدق في الأحوال فيكون ذلك في مقامات الدين كالخوف والتوكل والصبر وغيرها، وما من مقام منها إلا وهو محتاج إلى الصدق فيه. ولنضرب المثال بالخوف، فنقول: كل مؤمن يخاف الله تعالى في

الجملة، وبذلك يتأتى منه ما يتأتى من الطاعات وغيرها سواء كان ذلك قليلا أو كثيرا، لكن الخوف يتفاضل فيه الناس، فمنهم من يكون معه خوف ضعيف، لا يكون فيه من القوة بحيث يترك صاحبُه الآثام. ومنهم من يكون عنده خوف أقوى من ذلك فيحجزه عن المعاصي والذنوب، وذلك أقل فائدة الخوف. ومنهم من يكون عنده خوف شديد يغلب عليه ويستولي على خاطره حتى يكون كالمدهوش، أو كالذي جُلس للقتل، كما يحكى عن بعضهم أنه لم يضحك أربعين سنة (¬1)، وعن آخر أنه كان أبدا كأنه جالس على شفير جهنم، فمن كان بهذه الحال كان مقامَه الخَوفُ، وعُبر عنه بأنه صادق في حاله، ويقال عن مثل هذا الخوف: هذا هو الخوف الصادق، أي الذي بلغ الغاية كما يقال: هذه شهوة صادقة، أي قوية، وهذا خل صادق الحموضة، إذا كانت شديدة. وكذلك الصدق في الإخلاص هو أعلى مراتب الإخلاص، والإخلاص هو الذي لا يتطرق إليه تغيير ولا يشوبه تكرير، فمعنى الصدق فيه أن تكون سريرة المخلص خيرا من علانيته. ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في الحلية (6/ 221) عن عطاء السليمي. قلت: وهذا غلو، ولو كان فضيلة لفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام رضوان الله عليه. وراجع لزاما تعليقا عطر الأنفاس، حبره الحافظ الكبير شمس الدين الذهبي في كتابه العجاب: سير أعلام النبلاء (10/ 140 - 141).

وبالجملة فالصدق من أعلى مقامات المقربين، لأن فيه الانقطاع عن الخلق والانفراد بالخالق. ولذلك قال بشر بن الحارث: من عامل الله تعالى بالصدق استوحش (¬1) من الناس (¬2). وقال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة واحدة أعامل الله تعالى بالصدق أحب إلي من أن أضرب بسيفي في سبيل الله. (¬3) وهذا ينظر (ق.7.ب) إلى قول أبي الدرداء: ألا أخبركم بخير أعمالكم لكم. الحديث. وفيه: وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى، قال: ذكر الله. وروى ذلك مرفوعا عن النبي - عليه السلام - (¬4). ¬

(¬1) كذا في النسخة (أ)، وفي النسخة (ب): واستوحش. (¬2) رواه أبو نعيم في الحلية (8/ 347). (¬3) هذه المقابلة فيها نظر عندي، وأي تعارض بين الصدق والجهاد، بل من جاهد في سبيل الله صادقا من قلبه فذلك من أعلى مقامات معاملة الله بالصدق. (¬4) رواه الترمذي (3377) وابن ماجه (3790) وأحمد (5/ 195) والحاكم (1825) والبيهقي في الشعب (1/ 394) كلهم من طريق عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد بن أبي زياد عن أبي بحرية عن أبي الدرداء. ورجاله ثقات، وعبد الله بن سعيد الأكثر على توثيقه، وتكلم فيه أبو حاتم ويحيى القطان وهما متشددان. لكن رواه أحمد (5/ 195 - 6/ 447) من طريق موسى بن عقبة عن زياد بن أبي زياد مولى ابن عباس عن أبي الدرداء. فأسقط أبا بحرية. ... = = والقلب أميل إلى ترجيح موسى بن عقبة. ويبعد سماع زياد من أبي الدرداء. ورواه مالك (490) عن زياد بن أبي زياد أنه قال قال أبو الدرداء. فوقفه. ورواه أحمد (5/ 239) من طريق عبد العزيز يعنى ابن أبي سلمة عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة أنه بلغه عن معاذ بن جبل أنه قال قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي سنده مبهم. والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (2629) والحاكم في مستدركه. وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 254). وذكره الدارقطني في العلل (6/ 215)، وحكى فيه الخلاف وسكت. والذي أراه، والله أعلم، أن زياد بن أبي زياد كان يضطرب فيه كما تقدم، وهو متكلم فيه، مع مافيه من النكارة الظاهرة.

وقد قال الله تعالى في ثمرة الصدق وفضله: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الآية [المائدة: 119]، وهذا يدخل فيه جميع أنواع الصدق، فمن كان معه الصدق قولا وفعلا وحالا فذلك هو الصديق. وبهذا أيضا يتبين (¬1) أن الصديق فوق الشهيد، لأن الصديق ينال المرتبة التي تكون للصديقين وهو حي بعد، يتقلب في أحواله ويترقى في أطواره، ويتلذذ بمناجاته ويتنعم بعباداته، فلا يأتيه الموت إلا وهو قد استكمل أقصى ما قدر له من مرتبته ومكانته، والشهيد قد يكون من سائر المؤمنين فلا يدرك شيئا من الأحوال الشريفة إلا حين (¬2) معاينة القتال إن أدركه، وشتان بين من يدرك ما يدرك من تلك الأحوال في مدة حياته، وبين (¬3) من لا يدرك ذلك إلى في حين المعاينة للموت. ¬

(¬1) في (ب): وبهذا يتبين أيضا. (¬2) كذا في النسخة (أ)، وفي النسخة (ب): عند. (¬3) في (أ) بياض.

لماذا استحق أبو بكر اسم الصديق

فصل (لماذا استحق أبو بكر اسم الصديق) (¬1) لا يخفى على ذي بصيرة أن الصديق الأكبر من هذه الأمة هو أبو بكر بن أبي قحافة خليفة رسول الله بعد وفاته، وأول من آمن به (وصدقه) (¬2) في حياته، وذلك أن النبي - عليه السلام - لما بعث كان أبو بكر أول من اتبعه وصدقه من الرجال (¬3)، وإنما تحرزنا بهذا من خديجة رضي الله عنها ومن علي بن أبي طالب أيضا، فإنه كان صغير السن دون البلوغ، فمن قال: كان أول من آمن، فإنما قاله لكونه كان عند النبي - عليه السلام -، وكان بحكم التبع له. ذكر ابن إسحاق (¬4) أن عليا كان في حجر النبي - عليه السلام - قبل الإسلام، وأنه آمن به بعد خديجة، وهو ابن عشر سنين. وذكر أن زيد بن حارثة أول من أسلم بعد علي، وجعل إسلام أبي بكر بعده. وهذا فيه نظر، اللهم إلا أن يكون زيد دون البلوغ فيكون في إسلامه مثل علي. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) من (ب). (¬3) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 170): وقد اتفق الجمهور على أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال. (¬4) السيرة النبوية (1/ 154 - دار التقوى).

فقد ذكر ابن إسحاق (¬1) أن حكيم بن حزام قدم من الشام برقيق، فيهم زيد بن حارثة وصيف، وأنه قال لعمته خديجة: اختاري أي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك، فاختارت زيدا، فاستوهبه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها فوهبته (ق.8.أ) له، فأعتقه - عليه السلام - وتبناه، وذلك قبل أن يوحى إليه. فوصف ابن إسحاق زيدا بأنه وصيف. وقول حكيم: " اختاري أي هؤلاء الغلمان شئت" يؤذن ذلك بأن زيدا كان صغيرا، ولذلك تبناه رسول الله (- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) (¬2)، فإن يكن زيد أسلم قبل أبي بكر وهو صغير فيشبه ذلك، وأما أن يكون كبيرا فلا، لأن الصحيح عند أهل العلم أن أبا بكر هو أول من آمن من الرجال وصدق النبي - عليه السلام - بعد خديجة كما قلناه. ومن الدليل على ذلك حديث عمرو بن عبسة، إذ دخل على النبي - عليه السلام - في أول الإسلام بمكة، وهو حديث طويل مذكور في كتاب الصلاة من صحيح مسلم، وفيه قلت: «فمن معك على هذا؟ قال - عليه السلام -: حر وعبد، قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به» (¬3)، وهذا أولى ما يتمسك به في الباب لإخبار النبي - عليه السلام - بلفظه في هذا الحديث الصحيح أنه ليس معه على دينه إلا حر وعبد. ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 155). (¬2) من (ب). (¬3) رواه مسلم (832) وأحمد (4/ 112) والحاكم (3/ 69) وصححه والبيهقي (2/ 454 - 6/ 369) عن أبي أمامة.

وإعلام الصحابي فيه أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعن بذلك إلا أبا بكر وبلالا، ولم يذكر - عليه السلام - علي بن أبي طالب لصغره، وكونه ملازما له كما لم يذكر خديجة لكونها زوجته على أن إسلام علي بعد خديجة مشهور، لكنه كان صغيرا، ولم يُظهر إسلامه أولا بسبب أبيه، وأبو بكر حين (¬1) أسلم أظهر إسلامه. وأما زيد بن حارثة فإسلامه حينئذ على ما قال ابن إسحاق غير مشهور. وقد روي عن الشعبي (¬2) أنه قال: سألت أو سئل ابن عباس أي الناس كان أول إسلاما، فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا وروي أن النبي - عليه السلام - قال لحسان: «هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال: نعم، وأنشده هذه الأبيات، فسُر النبي - عليه السلام - بذلك، وقال له: أحسنت». ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر في كتاب الصحابة (¬3)، وفيه نظر. ¬

(¬1) في (ب): عندما. (¬2) رواه الحاكم (4414) والبيهقي (7/ 14 - 336) والطبراني في الكبير (12/ 89) والخطيب في تاريخ بغداد (14/ 51) وأحمد في فضائل الصحابة (1/ 133) وابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 964) بسند فيه مجالد بن سعيد, وهو ضعيف. وحكم بنكارته أبو حاتم في العلل (2/ 382). (¬3) الاستيعاب (3/ 964).

والذي يصح عندنا ويظهر لنا أن حسان إنما قال هذه الأبيات بعد النبي - عليه السلام - لما تدل عليه معانيها، ويكفينا منها قول حسان: إن أبا بكر (ق.8.ب) هو أول من صدق الرسول، ومتابعة ابن عباس له على ذلك. وتقدم أبي بكر - رضي الله عنه - للناس في المبادرة إلى الإيمان بالنبي - عليه السلام - والتصديق له معلوم. ولذلك جاء في التفسير في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] أن الذين جاء بالصدق هو نبينا - عليه السلام -، والذي صدق به هو أبو بكر - رضي الله عنه -، وهذا أحد التأويلات في الآية، وهو قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬1) فيها (¬2). وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬3) ما يؤيد ذلك، وهو أنه قال عن أبي بكر - رضي الله عنه - (¬4) لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬5) في حديث: «إن الله بعثني إليكم ¬

(¬1) من (ب). (¬2) رواه ابن جرير (11/ 5). وقيل: الذي جاء به النبي, والمصدق المؤمنون. وقال السدي: الذي جاء به جبريل, والمصدق محمد. وقيل غيرها. راجع تفسير ابن جرير (11/ 5) وابن كثير (4/ 53). (¬3) في (ب): عليه السلام. (¬4) من (ب). (¬5) من (ب).

فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركون لي صاحبي»؟ (¬1). وهكذا فعل أبو بكر - رضي الله عنه - (¬2) مع قريش، إذ أنكرت حديث الإسراء، وقالت له: يا أبا بكر، هل لك في صاحبك يزعم (¬3) أنه ذهب إلى بيت المقدس وصلى فيه ثم رجع إلى مكانه (¬4) في (¬5) ليلته، فإنه (¬6) قال لهم أولا: إنكم تكذبون عليه، فلما قالوا له: هاهو ذاك في المسجد يحدث به الناس، قال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (3461) والبيهقي (10/ 236) عن أبي الدرداء. (¬2) من (ب). (¬3) كذا في (ب)، وفي (أ): فزعم إلى. (¬4) في (ب): مكة. (¬5) في (ب): من. (¬6) كذا في (ب)، وفي (أ): فإنهم. (¬7) رواه الحاكم (4407) - (4458) واللالكائي (4/ 773) والبيهقي في الدلائل (2/ 361) من طريق محمد بن كثير الصنعاني عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة. وصححه الحاكم على شرطهما. وفيه نظر, لأن محمد بن كثير ضعيف. ورواه الذهلي في الزهريات ومن طريقه قاسم بن ثابت السرقسطي في الدلائل عن يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن أخي بن شهاب عن عمه، كما في الفتح (8/ 392). وهذا مرسل. ورواه عبد الرزاق (5/ 328) عن معمر عن الزهري مرسلا. فلعل هذا هو الصحيح فيه.

فانظر إلى أبي بكر - رضي الله عنه - (¬1) كيف أشرب الإيمان قلبه حتى صار يصدق النبي - عليه السلام - في الشيء الذي ينقله أهل الشرك عنه من غير أن يسمعه هو منه. ولصدقه وتصديقه للنبي - عليه السلام - سمي بالصديق، ويدل على صدق إيمانه وقوة عزمه في الدين أمور: أحدها: إسلامه أول المبعث من غير (توقف منه لجودة قريحته، واستحكام بصيرته، ذكر ابن إسحاق (¬2) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «ما) (¬3) دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده (¬4) كبوة (¬5) ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عَكَم عنه حين ذكرته له وما (¬6) تردد فيه». وقوله: «ما عكم عنه» أي ما تلبث فيه (¬7). ثم إن أبا بكر لما أسلم أظهر إسلامه فيما قال ابن إسحاق (¬8) وجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان والزبير ¬

(¬1) سقط الترضي من (ب). (¬2) السيرة النبوية (1/ 157). (¬3) ما بين القوسين بياض في النسخة (أ)، وأتممته من النسخة (ب). (¬4) من (ب). (¬5) في النسخة (أ): كقوة، وفي النسخة (ب) كبوة، وهو الصواب. (¬6) كذا في النسخة (أ)، وفي النسخة (ب): فما. (¬7) قال ابن منظور في لسان العرب (9/ 344) بعد أن ذكر هذا الحديث: أي ما تحبس وما انتظر ولا عدل. (¬8) السيرة النبوية (1/ 157).

ابن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، يعني أن هؤلاء أسلموا أول من أسلم. والثاني: كونه كان لا يهاب المشركين في أول الإسلام (فإنه رد على ابن الدغنة جواره) (¬1)، أحوج ما كان إليه بمكة ورضي بجوار الله. ووجد عقبة بن أبي (معيط قد) (¬2) وضع رداء النبي - عليه السلام - في عنقه وهو يصلي فخنقنه به خنقا شديدا فأخذ أبو بكر - رضي الله عنه - (¬3) بمنكبه ودفعه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} [غافر: 28]. (¬4) وروي من طريق آخر أن أبا بكر قال ذلك لجماعة من المشركين تشبثوا بالنبي - عليه السلام - واجتمعوا عليه وهم يقولون له: ألست القائل كذا وكذا، لما كان يعيبه من ءالهتهم، فيقول لهم: بلى، فلما سمعوا قول أبي بكر لهوا عن النبي - عليه السلام - وأقبلوا (ق.9.أ) بأجمعهم على أبي بكر يضربونه حتى تصدع رأسه مما جبذوه بلحيته وجعل لايمس شيئا من غدائره إلا جاء معه. (¬5) ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (أ)، وهو ثابت في النسخة (ب). (¬2) هكذا في (ب)، وفي (أ): منطفر. (¬3) من (ب). (¬4) رواه البخاري (3475 - 3643 - 4537) وابن حبان (6567) عن عبد الله بن عمرو. (¬5) رواه أبو يعلى (52) والحميدي (324) ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/ 32) من طريق ابن تدرس مولى حكيم بن حزام عن أسماء به بنحوه. وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 170). وابن تدرس هو أبو الزبير المكي، واسمه محمد بن مسلم. انظر الجرح والتعديل (8/ 74) والتاريخ الكبير (1/ 221).

الثالث: ما كان منه يوم بدر من اليقين إذ التزم النبي - عليه السلام - من ورائه وهو يكثر الدعاء فقال: يا نبي الله كفاك (¬1) مناشدتك ربك فإن الله منجز (¬2) لك ما وعدك. (¬3) الرابع: انقياده لما كان من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬4) في صلح الحديبية وتسليمه ذلك لأول وهلة وأخذه على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬5) فيما حاك في نفسه من ذلك، إذ قال له: أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق (¬6). الخامس: ثباته يوم توفي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬7) وخطبته في ذلك المقام الذي ذهل فيه أعلام الصحابة، إذ قال: من كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل} [آل عمران: 144]. الآية. ¬

(¬1) كذا في النسخة (ب)، وفي النسخة (أ): كداك، وهو تصحيف. (¬2) كذا في النسخة (أ)، وفي النسخة (ب): سينجز. (¬3) رواه مسلم (1763) والترمذي (3081) وأحمد (1/ 30 - 32) وابن حبان (4793) وابن أبي شيبة (8/ 474) والبزار (196) عن ابن عباس عن عمر. (¬4) في (ب): عليه السلام. (¬5) سقطت من (أ). (¬6) رواه البخاري (2581) وأحمد (4/ 330) وابن حبان (4872) والبيهقي (9/ 220) وعبد الرزاق (9720) من طريق الزهري عن عروة عن المسور ومروان بن الحكم. (¬7) في (ب): عليه السلام.

قال ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى قرأها (¬1) أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا إلا يتلوها (¬2). السادس: قتاله أهل الردة ومخالفته في ذلك للصحابة (¬3) حتى استقامت الكلمة وانتشرت الشريعة (ورجع إلى الإسلام من خرج عنه) (¬4) ولله الحمد على خلافته وقيامه بالحق الواجب في ذلك، إذ كان في قتاله لأهل الردة تجديد للإسلام وتثبيت لأهل الإيمان، ولذلك قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬5) آخرا: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرف (¬6) أنه الحق (¬7). فانظر إلى هذه المقامات التي يحار فيها أولو الألباب من الصحابة فتطيش (لديها) (¬8) أحلامهم كيف تجد فيها أبا بكر رابط الجأش ثابت اليقين ماضي العزم، وما ذاك إلا للسر الذي وقر في صدره مما سبقهم جميعا به، فيحق أن يسمى بالصديق على الإطلاق، ولقد شهر بذلك حتى صار لا يعرف إلا به عند الخاصة والعامة. ¬

(¬1) في (ب): تلاها. (¬2) رواه البخاري (1185 - 4187) وغيره عن أبي سلمة عن ابن عباس. (¬3) في (ب): الصحابة. (¬4) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬5) من (ب). (¬6) في (ب): فعرفت. (¬7) رواه البخاري (1335 - 1388 - 6526 - 6855) ومسلم (20) وغيرهما عن أبي هريرة. (¬8) كذا في (ب)، وفي (أ): بياض.

وأما اسمه ونسبه فما يعرفه إلا الخواص من الناس (¬1). وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكناية عن أبي بكر بالصديق فيستفاد من ذلك أن النبي - عليه السلام - سماه بالصديق أو أقر على تسميته به في حياته. وذلك أن عائشة (رضي الله عنها) (¬2) سألته عن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] «فقالت له: يا رسول الله أهم الذين يسرقون ويشربون الخمر؟ فقال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات»، ذكره الترمذي (¬3). وقد نقل ابن إسحاق (¬4) في قصة الإسراء أن أبا بكر انتهى إلى النبي - عليه السلام - فقال: «يا نبي الله أحدثت هؤلاء يعني قريشا (أنك جئت بيت المقدس) (¬5) (ق.9.ب) هذه الليلة قال: نعم». قال: «يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته، فجعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله، كلما وصف له ¬

(¬1) اسمه: عبد الله بن عثمان، وقيل اسمه: عتيق، كما في تهذيب الكمال (15/ 282). (¬2) من (ب). (¬3) رواه الترمذي (3175) وابن ماجه (2/ 1404) وأحمد (6/ 159 - 205) والحاكم (2/ 427) من طرق عن مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني أن عائشة فذكره. لكنه منقطع, عبد الرحمن لم يدرك عائشة. (¬4) السيرة النبوية (2/ 34). (¬5) ما بين القوسين ثابت في (ب)، وفي (أ) بياض.

منه شيئا، قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله، حتى إذا انتهى، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر: «وأنت يا أبا بكر الصديق»، قال: فيومئذ سماه الصديق» (¬1). ¬

(¬1) رواه البزار (3484) والطبراني في الكبير (7/ 283) وأبو نعيم في الدلائل (1/ 144) عن شداد بن أوس. لكن ليس عندهم موضع الشاهد، وفي سنده إسحاق بن إبراهيم بن زبرق الحمصي ضعيف. ورواه البيهقي في الدلائل (2/ 359) من طريق يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمان. وله شاهد عند الحاكم (4/ 2078) عن النزال بن سبرة عن علي قال: ذاك امرؤ سماه الله صديقا على لسان جبريل ومحمد صلى الله عليهما. لكن في سنده العلاء بن هلال الرقي ضعيف، بل اتهمه أبو حاتم. وروى الطبراني في الكبير (1/ 55) حدثنا معاذ بن المثنى ثنا علي بن المديني ثنا إسحاق بن منصور السلولي ثنا محمد بن سليمان العبدي عن هارون بن سعد عن عمران بن ظبيان عن أبي يحيى حكيم بن سعد قال سمعت عليا رضي الله عنه يحلف: لله أنزل اسم أبي بكر من السماء: الصديق. قال الحافظ في الفتح (7/ 9): رجاله ثقات. وروى الطبراني في الكبير (1/ 55) حدثنا بهلول بن إسحاق بن بهلول الأنباري ثنا أبي عن عبد الأعلى بن أبي المساور عن عكرمة قال أخبرتني أم هانئ قالت قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أسري به: «إني أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم». فأخبرهم فكذبوه، وصدقه أبو بكر، فسمي يومئذ الصديق. لكن قال الهيثمي في المجمع (9/ 42): وفيه عبد الأعلى بن أبي المساور متروك. وفي الباب أحاديث أخرى، راجعها في مجمع الزوائد.

فصل إذا ثبت بما تقدم أن أبا بكر هو الصديق فمن المحال بحسب (مفهوم) (¬1) الشريعة أن يفضل عليه ثابت بن قيس بن شماس. وإنما مثلنا بثابت لوجهين: أحدهما: كونه - عليه السلام - شهد له بالشهادة، إذ قال له: «تعيش حميدا وتموت شهيدا» (¬2). والثاني: إنه مات شهيدا في الجهاد فإنه قتل باليمامة في قتال مسيلمة. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) رواه الحاكم (3/ 260) من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري عن أبيه. وصححه على شرط الشيخين. ورواه مالك عن الزهري عن إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري عن ثابت به، خرجه الروياني (2/ 173) والطبراني في الكبير (2/ 67). ورواه عبيد الله بن عمر عن الزهري عن إسماعيل بن محمد بن ثابت أن ثابت بن قيس، خرجه الطبراني في الكبير (2/ 68). ورواه الأوزاعي عن الزهري حدثني محمد بن ثابت الأنصاري حدثني أبي ثابت بن قيس، خرجه الطبراني في الأوسط (1/ 18). وتابعه صالح بن أبي الأخضر، خرجه الطبراني في الكبير (2/ 66). ورواه معمر في جامعه (11/ 239) عن الزهري مرسلا. وله طريق آخر عند الحاكم (3/ 261). فليحرر أصح هذه الطرق.

وإذا كان ثابت المشهود له من الشرع بأنه يموت شهيدا لا يصح أن يفضل على أبي بكر الذي مات على فراشه، فغيره من الشهداء أحرى بذلك. ولئن كان ثابت من المقربين فليكونن أبو بكر من أعلى المقربين. فإن قيل: قد جاء في الحديث أن النبي - عليه السلام - قال لشهداء أحد: «هؤلاء أشهد عليهم، فقال له أبو بكر: يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1)، ألسنا بإخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2): بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي» (¬3). وظاهر هذا تفضيل شهداء أحد على أبي بكر وغيره. فالجواب عن ذلك (¬4) من وجهين: أحدهما: إن هذا الحديث إنما جاء مرسلا عن أبي النضر شيخ مالك بن أنس، وبينه وبين عصر النبي - عليه السلام - قرنان (¬5)، ولم يرو مسندا عنه ولا عن غيره. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) من (ب). (¬3) رواه مالك (1004) عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أنه بلغه أن رسول الله فذكره. وهذا سند منقطع أو معضل. قال ابن عبد البر في التمهيد (21/ 228): هذا الحديث مرسل هكذا منقطع عند جميع الرواة للموطأ, ولكن معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة. (¬4) "عن ذلك" من (ب). (¬5) هو أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله, واسمه سالم بن أبي أمية, توفي سنة 133, وقيل سنة 130 وقيل سنة 129، كما في التمهيد (21/ 145) وتهذيب الكمال (10/ 127) والتاريخ الكبير (4/ 111).

والثاني: إن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أدري ما تحدثون بعدي» إذا صح إنما خرج مخرج العموم، ولم يقصد به - عليه السلام - (أبا بكر) (¬1)، لأنه شهد له بالجنة في غير ما حديث، ومحال أن يشهد له بالجنة ويأ (مر أبا موسى بأن) (¬2) يبشره بها وهو لا يدري ما يحدث بعده. وإنما يحمل هذا القول على من كان في عصر النبي - عليه السلام - في الجملة، بدليل قوله في الحديث الآخر: «وليردن علي (أقوام) (¬3) أعرفهم ويعرفوني (¬4)، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي» (¬5)، رواه أبو (سعيد الخدري. وفي) (¬6) حديث ابن مسعود من لفظ آخر: «فأقول: يا رب أصحابي (أصحابي، فيقال: إنك) (¬7) لا تدري ما أحدثوا بعدك». (¬8) ¬

(¬1) ما بين القوسين من (ب)، وسقط من (أ). (¬2) ما بين القوسين من (ب)، وسقط من (أ). (¬3) ما بين القوسين من (ب)، وسقط من (أ). (¬4) كذا في (أ)، وفي (ب): يعرفونني. (¬5) رواه البخاري (6212 - 6643) ومسلم (2291) عن أبي سعيد. (¬6) ما بين القوسين من (ب)، وفي (أ) بياض. (¬7) ما بين القوسين من (ب)، وفي (أ) بياض. (¬8) رواه البخاري (6205 - 6642) ومسلم (2297) عن ابن مسعود.

وفي حديث أنس بن مالك عنه - عليه السلام -: «ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي، اختلجوا دوني، فلأقولن (ق.10.أ): أي رب أصيحابي أصيحابي، فليقالن: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (¬1). وفي حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليصدن عني طائفة منكم فلا يصِلون، فأقول: يا رب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك» (¬2). وفي لفظ آخر عنه: «يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» (¬3). وتدل هذه الألفاظ كلها على أن المقصود بها من ارتد ممن كان يعتقد فيه أنه من جملة الصحابة. وفي كتاب البخاري (¬4) عن قبيصة أنه قال: "هم المرتدون الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلهم أبو بكر". ¬

(¬1) رواه البخاري (6211) ومسلم (2304) عن أنس. (¬2) رواه مسلم (247) عن أبي هريرة. (¬3) رواه البخاري (6213) عن أبي هريرة. وفي الباب عند الشيخين عن سهل بن سعد وابن عباس وأسماء وغيرهم. (¬4) صحيح البخاري (3/ 1271).

ويشبه أن يكون في قوله - عليه السلام -: «أصيحابي» بالتصغير إشارة إلى تقليل الصحبة، إذ هذا الصنف هو الذي وجد فيهم الارتداد بعد النبي - عليه السلام -، ولم يرتد أحد من صميم الصحابة، فضلا عن المهاجرين والأنصار الذين نزل القرآن بتقريظهم والثناء عليهم. ثم نقول: إن الحميدي لم يقصد في كلامه شهداء أحد ولا غيرهم ممن استشهد على عهد النبي - عليه السلام -، (وإنما قصد) (¬1) الشهداء على الإطلاق إلى قيام الساعة. وبعيد أن يفضل من كان اليوم من الشهداء على أصحاب النبي - عليه السلام - الذين ماتوا على فرشهم، مثل سعد بن أبي وقاص، (وسعيد) (¬2) بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وابن عباس، (وابن عمر) (¬3) وغيرهم من الصحابة لقول النبي - عليه السلام -: «خير الناس قرني» (¬4)، وغير ذلك من (الثناء) (¬5) الوارد في حقهم خصوصا وعموما. ¬

(¬1) كذا في (ب)، وفي (أ): فإن فضل. (¬2) ما بين القوسين ثابت في (ب) وسقط من (أ). (¬3) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬4) رواه البخاري (2509 - 6065 - 6282) ومسلم (2533) عن ابن مسعود. ورواه البخاري (2508 - 3450 - 6064) ومسلم (2535) عن عمران بن حصين. ورواه مسلم (2534) عن أبي هريرة. (¬5) بياض في (أ)، وأتممته من (ب).

معنى السابقين والمقربين

باب نذكر ما ظهر لنا في تعيين المقربين على ما وعدنا به، وذلك (بعد) (¬1) أن نتكلم على معنى السابقين والمقربين. فنقول (ق.10.ب) السابق هو (¬2) من سبق إلى أمر ما (¬3) وأحرزه قبل غيره. (ومنه السابق في الخيل، وهو) (¬4) الذي يتقدم أمام الحلبة ويحرز الغاية قبل وصولها، فيكون له السبَق بفتح الباء، وهو ما يجعل له من الرهان لأجل سبْقه. والسبْق هذا هو بتسكين الباء، لأنه مصدر سبق فهو يسبق سبقا (¬5). ولو فرضنا أن يكون جواد (¬6) من الخيل يصل إلى الغاية وهو يجري وحده لم يسم سابقا، إذ لا يعلم سبقه، وإنما يسمى سابقا إذا كان مع غيره ¬

(¬1) من (ب). (¬2) في (ب): السابقون هم. (¬3) سقطت من (ب). (¬4) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬5) لسان العرب (6/ 161) وتهذيب اللغة (8/ 317) والصحاح (4/ 239). (¬6) كذا في (أ)، وفي (ب): جوادا، وهو خطأ.

فيسبقه، فإن اتفق أن يطلق على ذلك الجواد بأنه سابق، فمعنى كلام القائل (¬1) إنه سابق بكونه قد سبق غيره (قبل) (¬2)، أو بتقدير أنه يسبق غيره بعد. فإذا فهم ما قررناه علم (منه) (¬3) أن السابقين إنما سموا بهذا الاسم لأنهم تقدموا غيرهم وأحرزوا قصب السبق دونهم، وذلك إما بالإيمان بالله أولا عند بعثة الرسل، ثم بالأعمال الصالحة ثانيا عند استقرار الشرائع، وإما بهما معا لمن دخل في الملل بعد ذلك أو لمن ولد فيها. ويدل على ما قلناه من أن السابق إنما يفهم معناه بالإضافة إلى غيره قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]. فقال: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، لأجل سبقه للمقتصد وللظالم. وكذلك قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة: 100]، لأجل سبقهم الناس إلى الإيمان بالله ورسوله، ولذلك قال فيهم: {الأَوَّلُونَ}. وقال في موضع آخر: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]. ¬

(¬1) في (ب): فمقصود القائل. (¬2) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬3) بياض في (أ)، وأتممته من (ب).

وإنما كانوا سابقين لاتصافهم أولا بما وصفهم الله به في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57]. الآيات. إلى أن وصفهم آخرا بالمسارعة في الخيرات. وقد أمرنا الله تعالى بالمسابقة والمسارعة، ومعناهما واحد، فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133]. وفي موضع آخر: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]. وحقيقة المفاعلة إنما تكون بين اثنين فصاعدا (هذا) (¬1) هو الأصل فيها، تقول العرب: سابقتهم فسبقتهم، كما جاء عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2) (قال) (¬3) لها: «سابقيني»، (قالت) (¬4): (ق.11.أ) فسابقته فسبقته فلما كان بعد قال: «سابقيني، فسابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك» (¬5). ¬

(¬1) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬2) كذا في (ب)، وفي (أ): عليه السلام. (¬3) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬4) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬5) رواه ابن ماجه (1/ 636) وأحمد (6/ 39) وابن حبان (10/ 545) والحميدي (261) من حديث سفيان بن عيينة عن هشام عن أبيه عن عائشة. وهذا سند صحيح. ولهشام فيه شيخ آخر هو أبو سلمة, خرجه الطبراني (23/ 47). ... = = وللحديث طريق آخر عند أحمد في مسنده (6/ 280) عن عائشة مختصرا بسند فيه علي بن زيد ابن جدعان، وهو ضعيف.

وكذلك الاستباق يكون أيضا بين اثنين (فصاعدا، قال الله تعالى حكاية عن إخوة يوسف) (¬1): إنا ذهبنا نستبق، وقد أمرنا الله سبحانه بالاستباق في (الخير، فقال في غير موضع من كتابه) (¬2) العزيز: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. فمن امتثل هذه الأوامر المتقدمة وعمل (بمقتضاها، فهو من السابقين) (¬3) الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]. (وأما قوله) (¬4) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» (¬5) (فإنما أراد بذلك أمته جملة، ومعنى) (¬6) السابقين في هذا الموضع معنى الأولين، أي الذين يسبقون جميع الأمم إلى الفصل بينهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى، ثم يسبقون إلى دخول الجنة، لأنهم أول من يدخلها. ¬

(¬1) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬2) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬3) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬4) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬5) رواه البخاري (836 - 856 - 3298) ومسلم (855) عن أبي هريرة. (¬6) بياض في (أ)، وأتممته من (ب).

وقد جاء هذا نصا في الحديث، فإن في بعض ألفاظه: «نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم بين الخلائق». (¬1) وفي لفظ آخر: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة». (¬2) ويحتمل أن يكون للسابقين في هذا الموضع تأويل آخر، وهو أن تجعل الأمة كلها أيضا سابقين باعتبار سبقهم لليهود والنصارى، لأنهم مذكورون في هذا الحديث، ونصه بكماله: «نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة، بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتيناه (¬3) من بعدهم، ثم هذا اليوم الذي كتبه الله علينا هدانا الله له والناس (¬4) لنا (فيه تبع) (¬5): اليهود غدا والنصارى بعد غد». وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (856) والنسائي (1368) وابن ماجه (1083) عن أبي هريرة وحذيفة. (¬2) رواه مسلم (855) وأحمد (2/ 274 - 473) عن أبي هريرة. (¬3) كذا في (ب)، وفي (أ): وأوتينا. (¬4) كذا في (أ)، وفي (ب): فالناس. (¬5) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬6) تقدم قريبا.

ومعنى سبق هذه الأمة لليهود وللنصارى أن ثوابهم أعظم من ثواب اليهود بانفرادهم والنصارى بانفرادهم، إذ أعطى الله (تعالى) (¬1) لهذه الأمة من الأجر قيراطين، وأعطى لليهود وللنصارى (¬2) من الأجر قيراطا (قيراطا) (¬3)، على ما رواه ابن عمر وأبو موسى الأشعري عن النبي - عليه السلام - (¬4). وكيف ما كان ذلك، فالسابقون في هذا الحديث إما (¬5) هم جميع الأمة، فهم سابقون باعتبار آخر. وإما ما كنا فيه من تأويل السابقين الذين هم المقربون، فإنما هو خاص في بعض (هذه) (¬6) الأمة وفي بعض الأمم قبلها، (وهم الطبقة) (¬7) العليا (¬8) من المؤمنين في كل زمان، والله أعلم. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) في (ب): والنصارى. (¬3) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬4) رواه البخاري (2148 - 2149 - 3272 - 4733) والترمذي (2871) وغيرهما عن ابن عمر. (¬5) كذا في (أ)، وفي (ب): إنما. (¬6) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬7) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬8) كذا في (ب)، وفي (أ): العلما.

(معنى المقربين) (¬1) وأما المقربون فمعناه: المدنون، تقول: قربت زيدا، (إذا) (¬2) أدنيته منك وجعلته (بإزائك، والجار القريب هو الـ) ـملاصق (¬3) لك، كما أن الجار الجنب هو البعيد عنك. ولكن (معنى المقربين عند الله تعالى إنما هو من) (¬4) قولك: قرب الأمير زيدا، إذا كان ذا مكانة (عنده منه، وصاحب منزلة عنده، فهو تقريب) (¬5) بالمعنى. وذلك هو الذي يعقل في حق الله تعالى، إذ (يتنزه عن الأجسام) (¬6) ومجاورتها (¬7)، فمعنى المقربين (ق.11.ب) عنده أي الذين أدناهم سبحانه من ¬

(¬1) هذا العنوان مني. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬3) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬4) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬5) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬6) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬7) إطلاق لفظ الجسم في حق الله تعالى نفيا وإثباتا ليس من طريق أهل السنة، لعدم ورود دليل على النفي أو الإثبات. وأما المعنى ففيه تفصيل. وليس هذا محل بسط ذلك.

كرامته (وأحلهم من الحظوة عنده) (¬1) المحل الذي ليس فوقه (محل لصنف من) (¬2) بني آدم غيرهم لكونهم (أكرم الخلق عنده) (¬3) وأعظمهم قدرا لديه. فإذا تقرر هذا، فنقول ظهر لنا في تعيين المقربين، والعلم عند الله سبحانه، وجهان: الوجه الأول: أن يكون المقربون هم جميع الأصناف المذكورين في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى أخبر في هذه الآية أن هؤلاء الأربعة الأصناف هم الذين أنعم الله (¬4) عليهم، وقد فرض سبحانه على هذه الأمة في كل صلاة من صلواتهم (¬5) أن يسألوا الهداية إلى صراطهم بوجوب قراءة أم القرآن في (الصلاة) (¬6)، وفيها: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، ثم فسره تعالى بإثبات ونفي. فالإثبات قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} [الفاتحة: 7] والذين أنعم سبحانه عليهم هم الذين ذكرهم في الآية الأولى على ما تقدم. ¬

(¬1) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬2) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬3) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬4) من (ب). (¬5) في (ب): من صلاتهم. (¬6) من (ب).

والنفي قوله تعالى (¬1): {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى، جاء ذلك في حديث عدي بن حاتم عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2). وسؤال هذه الأمة الهداية إلى صراط الذين أنعم عليهم، مع كونهم أفضل الأمم يدل على أن المنعم عليهم هم النهاية في الهداية والاستقامة على الطريق المثلى، وإن كانوا في ذلك طبقات بحسب درجاتهم. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) رواه الترمذي (2954) وأحمد (4/ 378) وابن حبان (6246) وابن جرير (1/ 110) وغيرهم عن عدي، لكن في سنده عباد بن حبيش انفرد ابن حبان بتوثيقه. وتابعه الشعبي عن عدي، بشطره الأول فقط، رواه ابن جرير (1/ 110)، وفي سنده شيخ ابن جرير: أحمد بن الوليد الرملي لم أعرفه. وتابعه مري بن قطري عن عدي، رواه ابن جرير (1/ 110) من حديث سماك عنه. وسماك ضعيف إلا في رواية شعبة عنه، ومري هذا مجهول تفرد عنه سماك وانفرد ابن حبان بتوثيقه. ورواه ابن جرير (1/ 110) قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن سعيد الجريري عن عروة عن عبد الله بن شقيق بنحوه. ويعقوب هو الحافظ الدورقي، وابن علية سمع من الجريري قبل تغيره. لكن رواه ابن جرير قبل هذا الحديث من حديث بشر بن المفضل عن الجريري عن عبد الله بن شقيق، فأسقط عروة. وبشر بن المفضل خرج له الشيخان عن الجريري. ورواه ابن جرير من طريقين آخرين عن عبد الله بن شقيق. فالحديث حسن على أقل الأحوال.

فإن قيل: كيف يكون المقربون هم الأربعة الأصناف ومراتبهم مختلفة، إذ بعضها فوق بعض. فالجواب أن نقول: إن مراتب الأنبياء عليهم مختلفة، فالرسل منهم أفضل من غير الرسل، والرسل أنفسهم يتفاضلون. قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]. وكذلك الأنبياء من غير الرسل يتفاضلون أيضا، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] ولم يكن ذلك ( ... ) (¬1) الجميع لفظ واحدة فيدخلون تحته، كما قال تعالى في ( ... ) (¬2) جميع الرسل وسائر الأنبياء في النبيين مع ( ... ) (¬3) النبيون والصديقون والشهداء والصالحون تحت ( ... ) (¬4) فيكون النبيون الصنف الأعلى من المقربين على اختلاف مقاماتهم من (ق.12.أ) ( ... ) (¬5) الصنف الأخير من المقربين ( ... ) (¬6) درجاتهم ويسمى ( ... ) (¬7) لا يرون في الآخرة إلا ( ... ) (¬8) المجرد في الجملة. ومما ( ... ) (¬9) إن الله ¬

(¬1) بياض في (أ) بمقدار كلمتين، وبتر في (ب). (¬2) بياض في (أ) بمقدار نصف سطر، وبتر في (ب). (¬3) بياض في (أ) بمقدار نصف سطر، وبتر في (ب). (¬4) بياض في (أ) بمقدار نصف سطر، وبتر في (ب). (¬5) بياض في (أ) بمقدار 3 كلمات، وبتر في (ب). (¬6) بياض في (أ) بمقدار كلمة، وبتر في (ب). (¬7) بياض في (أ) بمقدار 3 كلمات، وبتر في (ب). (¬8) بياض في (أ) بمقدار كلمة، وبتر في (ب). (¬9) بياض في (أ) بمقدار 3 كلمات، وبتر في (ب).

تعالى قال في عيسى بن مريم - عليه السلام -: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ... وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:45 (46]. فأخبر عنه أنه من المقربين وأخبر عنه أنه من الصالحين، فإذن دخول الصالحين في المقربين لا نكرة فيه علينا. وقد كنا قلنا ذلك أولا من تلقاء أنفسنا ثم وجدنا هذه الآية بحمد الله حجة لنا. ومقام كل صنف من النبيين والصديقين والشهداء كأنه مسلم، إذ لا يشكل أمره. ومقام الصالحين قد يظن من لا تحصيل عنده أنه مقام من ظهر عليه بعض صلاح من المريدين، وليس كذلك، بل الصالح في لسان الشرع إنما يطلق على المتقي الخاشع الذي لا يذنب بالقصد، وإن كانت له ذنوب من صغائر فتكون قليلة متبددة، وتكون معفوا عنها لإذهاب الحسنات لها. ولولا فضيلة لفظ الصالح في الشرع لم تطلق على الأنبياء عليهم السلام، فقد تقدم قوله تعالى في عيسى: {وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 46]. وقال في إبراهيم - عليه السلام -: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27]. وقال في لوط: { ... وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 75]. وقال في يونس: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِين َ} [القلم: 50].

وقال حكاية عن يوسف - عليه السلام -: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. وقال في إسحاق: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]. وقال حكاية عن سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]. وقال (في) (¬1) إبراهيم ولوط: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 71 - 72] (¬2). وقال سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْن} [التحريم: 10]. وقال في جماعة من الأنبياء: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 85]. وقال في موضع آخر: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 85 86]. ¬

(¬1) بياض في (أ)، وأتممته على السياق. (¬2) بياض في (أ) بمقدار كلمة، وذكرت الآية بتمامها لأنه لا يتسق الكلام إلا بذلك.

وأخبر نبينا - عليه السلام - أن (الأنبياء عليهم السلام) (¬1) في السماوات ليلة الإسراء كانوا يقولون له: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح (إلا آدم) (¬2) وإبراهيم عليهما السلام، فإنهما قالا له مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. (وقال النبي) (¬3) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث: «فأقول كما قال العبد الصالح يعني (عيسى بن مريم». و) (¬4) قال الله تعالى فيما حكاه نبينا - عليه السلام -: «أعددت (ق.12.ب) لعبادي (الصالحين) (¬5) ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». (¬6) لكن لفظ الصالح ( ... ) (¬7) من أن يطلق في حق غير ( ... ) (¬8) ¬

(¬1) بياض في (أ)، وأتممته من مصادر تخريج الحديث. (¬2) بياض في (أ)، وأتممته من مصادر تخريج الحديث. (¬3) بياض في (أ)، وأتممته اعتمادا على السياق. (¬4) مابين القوسين بياض في (أ)، وأتممته اعتمادا على السياق. (¬5) بياض في (أ)، وأتممته من مصادر تخريج الحديث. (¬6) رواه البخاري (3072 - 4501 - 4502 - 7059) ومسلم (2824) والترمذي (3197 - 3292) وابن ماجه (4328) وأحمد (2/ 313 - 438 - 466 - 495) وابن حبان (369) والدارمي (2724) وابن أبي شيبة (8/ 70) والطبراني في الأوسط (200) وأبو يعلى (6276) وغيرهم من طرق عن أبي هريرة. وفي الباب عن أنس. (¬7) بياض في (أ) بمقدار 3 كلمات، وبتر في (ب). (¬8) بياض في (أ) بمقدار كلمتين، وبتر في (ب).

الأوصاف الموجبة للنبي - عليه السلام - ( ... ) (¬1) من الأوصاف الموجبة للمؤمن الصلاح في طاعته. وهذا كما يطلق على النبي أنه مصل وصائم وعلى المؤمن أنه مصل وصائم، فكما أن صلاة النبي وصيامه فوق صلاة المؤمن وصيامه، وإن اشتركا في عموم الاتصاف بهما. فكذلك لفظ الصلاح والتقوى إذا أطلق على النبي فهو فوق صلاح المؤمن وتقواه، وإن اشتركا في الاتصاف بذلك. فإن قيل: فلم فسرتم قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} [الفاتحة: 7] بالآية التي في النساء، وتركتم الآية التي في سورة مريم، وهي قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح} [مريم: 58] الآية. وقد بين الله تعالى فيها أن الذين أنعم عليهم هم النبيون، إذ هم الذين ذكر الله في هذه السورة. فالجواب عن ذلك من أوجه: - أحدها: إنا لا نسلم أن هذه الآية في النبيين فقط فإن الله تعالى قال فيها: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح} [مريم: 58]، وقال: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم: 58] فدل ذلك على أن الآية تناولت الأنبياء وغيرهم. ولو لم يكن هنالك إلا مريم عليها السلام، فإن الله تعالى جعلها صديقة حيث قال: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَة} [المائدة: 75] في الموضع الذي أخبر عن ¬

(¬1) بياض في (أ) بمقدار كلمتين، وبتر في (ب).

ابنها عيسى بأنه: {رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل} [المائدة: 75]. - الثاني: إنا لو فرضنا أن الآية إنما تناولت الأنبياء فقط للزم أن تكون خاصة بهم، وهم بعض من أنعم الله عليهم وذكرهم في آية النساء، فإنه تعالى جعلهم فيها صنفا ممن أنعم عليهم، فكانت آية النساء من حيث هي عامة أولى بتفسير قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} [الفاتحة: 7]. فإن هذه الآية يدل مساقها على أنه لم يقصد بها الأنبياء فقط، لأنه تعالى لو قصد بها الأنبياء لاستثنى غيرهم من الناس جملة وهو سبحانه لم يستثن إلا المغضوب عليهم والضالين وهم الذين غير ( ... ) (¬1) أهل الكتابين، فاستثناؤهم يدل على أن من عداهم من أهل الكتابين من ( ... ) (¬2) وعيسى عليهما السلام في حياته أو من كان على دينهما بعد ذلك ممن لم يغير، داخل فيمن أنعم عليهم. ومما يدل على ذلك قول الله تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113 114]. فقد أخبر الله تعالى أن من أهل الكتاب أمة هي بهذه الأوصاف الجميلة، ثم ذكر آخر ذلك أنهم من الصالحين. والصالحون من جملة من أنعم عليهم. ¬

(¬1) بياض في (أ) بمقدار كلمتين، وبتر في (ب). (¬2) بياض في (أ) بمقدار كلمتين، وبتر في (ب).

وإذا كان هذا في أهل الكتاب فكذلك غيرهم ممن آمنوا بالأنبياء (¬1) المتقدمين إذا كانوا من أحد الأصناف المذكورين في آية النساء يلزم أن يكونوا داخلين تحت قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} [الفاتحة: 7]. الثالث: إن قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم: 58] إذا كان راجعا على الأنبياء المذكورين في السورة فليس فيه إلا الإخبار بأن الله تعالى أنعم عليهم فقط. وأما آية النساء فإن الإخبار فيها إنما هو عن حكم من أطاع الله ورسوله فإنه تعالى قال: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. فأخبر تعالى أن من أطاع الله والرسول الذي هو محمد - عليه السلام - فهو مع الذين أنعم عليهم من هؤلاء الأصناف، وذلك هو معنى قوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6] لأن سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم والرغبة إلى الله (تعالى) (¬2) في الثبات عليها هو نفس الطاعة لله تعالى ولرسوله. فإن العبد إذا هدي إلى الصراط المستقيم فقد هدي إلى الطاعة (¬3) التي يستوجب بها أن يكون مع الذين أنعم الله عليهم فظهر بما قلناه أن آية النساء أمس بتفسير ما في سورة الحمد من الآية التي في سورة مريم. ¬

(¬1) من (والضالون) الموجود في أوائل (11.ب) إلى هنا ساقط من النسخة (ب). (¬2) من (ب). (¬3) من ولرسوله إلى هنا سقط من (ب).

الرابع: إنا إذا نظرنا إلى الآية التي في سورة مريم على معنى الاسترواح والاعتبار وجدناها متضمنة لما في سورة النساء، وذلك أن الأنبياء منصوص عليهم في سورة مريم، ثم إن الصديقين مذكورون معهم بسبب ذكر مريم (وهي صديقة) (¬1) وقد وصف بذلك أيضا إبراهيم وإدريس عليها السلام. والشهداء (مضمن) (¬2) ذكرهم في ذكر زكرياء ويحيى عليهما السلام من حيث ماتا شهيدين. وذكر الصالحين مضمن في ذكر (¬3) هؤلاء الأنبياء، وهم زكرياء ويحيى وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وإدريس، إذ جعل سبحانه جميعهم من الصالحين كما تقدم. والأربعة (¬4) الأصناف الذين أنعم الله عليهم مضمن ذكرهم في سورة مريم على معنى الاعتبار، ومصرح بذكرهم في سورة النساء. والمصرح به أولى بتفسير ما في (ق.13.ب) سورة الحمد كما فعلناه. الوجه الثاني في تعيين المقربين أن يكونوا من لا حساب عليه (¬5) من المؤمنين فقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب». ¬

(¬1) مابين القوسين ساقط من (أ)، وأتممته من (ب). (¬2) مابين القوسين ساقط من (أ)، وأتممته من (ب). (¬3) سقط من (ب). (¬4) في (ب): فالأربعة. (¬5) في (ب): عليهم.

فقال له عكاشة: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «اللهم اجعله منهم». (¬1) وفي بعض الطرق عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - في حديث الشفاعة من صحيح مسلم: «ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع. فأرفع رأسي، فأقول: يا رب أمتي أمتي. فيقال: يا محمد ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من باب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب». (¬2) فهذا الوجه في تعيين المقربين وجه حسن أيضا، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات} [فاطر: 32] أنه الذي يدخل الجنة بغير حساب. (¬3) ¬

(¬1) رواه البخاري (5474 - 6176) ومسلم (216) وأحمد (2/ 302 - 351 - 400 - 456 - 502) وابن حبان (16/ 227) والحاكم (5010) والدارمي (2703 - 2719) والبيهقي (10/ 139) عن أبي هريرة. ورواه البخاري (5378 - 5420 - 6175) ومسلم (220) والترمذي (2446) وأحمد (1/ 871) وابن حبان (14/ 6430) عن ابن عباس. ورواه مسلم (218) وأحمد (4/ 436) والطبراني في الكبير (18/ 169 - 241) عن عمران. وفي الباب عن ابن مسعود. (¬2) رواه البخاري (4/ 1747) ومسلم (194) والترمذي (2434) وابن أبي شيبة (7/ 415) عن أبي هريرة. (¬3) تفسير ابن كثير (3/ 556).

في الأمم المتقدمة من يدخل الجنة بغير حساب

والسابق والمقرب واحد بدليل قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 11]. (في الأمم المتقدمة من يدخل الجنة بغير حساب) (¬1) ولسنا نلتزم ولا بد أن تكون هذه الأمة تختص بأن يدخل من يدخل منها الجنة بغير حساب دون سائر الأمم، إذ لا يبعد أن يكون في الأمم المتقدمة من يدخل الجنة أيضا (¬2) بغير حساب، ولو لم يكن ذلك إلا للأنبياء عليهم السلام لأنهم لا محالة أفضل ممن عداهم، ونحن نبرز ما سيكون دليلا على أن في الأمم المتقدمة من يدخل الجنة بغير حساب، والله أعلم. قال الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين} [آل عمران: 146]، فوصفهم سبحانه بأنهم قتلوا مع أنبيائهم وقاتلوا عنهم. لأن اللفظة قرئت بالقراءتين جميعا (¬3)، والمعنى أيضا يعضد ذلك، لأنهم إذا قتلوا معهم فقد قاتلوا عنهم، إذ لا يتصور القتل في الحرب إلا مع القتال. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب) تقديم وتأخير. (¬3) قال أبو علي الفارسي في الحجة (3/ 82): قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: قتل (بضم القاف بغير ألف). وقرأ الباقون: قاتل (بفتح القاف وبألف).

ووصفهم عز وجل (¬1) بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، أي: لم يهن الذين بقوا أحياء ولا استكانوا، لصبرهم على القتال. وأخبر تعالى أنه يحب الصابرين الذين هم بهذا الوصف وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} [الزمر:10]، وذلك محتمل لأن يكون بغير تقدير أو يكون بغير محاسبة. (ق.14.أ) ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين} [آل عمران: 147]. فسألوا من الله أمرين، وهما: المغفرة، والنصرة. فأجيبوا فيهما فترتب على المغفرة حسن ثواب الآخرة، وكانت النصرة هي ثواب الدنيا، المترتب (¬2) على الصبر وعدم الاستكانة والضعف، قال الله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران: 148]. وانظر كيف وصف سبحانه ثواب الآخرة بالحسن فقال: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران: 148]. ولم يقل ذلك في ثواب الدنيا، وذلك لحكمة وهو أن ثواب الآخرة حسن كله، لأنه ملائم للنفوس وموافق لها من حيث جعلت الجنة ثواب الآخرة، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما لا يخطر على قلب بشر في الدنيا. ¬

(¬1) كذا في (أ)، وفي (ب): جل وعز. (¬2) كذا في (أ)، وفي (ب): المرتب.

ثم حُسن ذلك الثواب يرجع بعد حصوله إلى أمرين: أحدهما: دوام السرور به وكونه لاانقطاع له. والثاني: كونه لا نصب فيه ولا حزن ولا شيء يشوش الأنس به والفرح بوجوده. وقد نبه الله تعالى على هذين المعنيين بقوله: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [احجر: 48]، بعدما أخبر عن أهل ذلك بأنهم في جنات وعيون وأنهم آمنون من غير (¬1) غل يكون من بعضهم لبعض. وأما ثواب الدنيا وهو النصر لهم والفتح عليهم في أعدائهم فهو مترتب (¬2) على القتال. والقتال لا بد فيه من قتل النفوس وذهاب الأموال ولو لم يكن في ذلك إلا نفس الصبر على الجلاد في المعركة لكان كافيا، فإن الصبر فيه كلفة ومشقة في الجملة من حيث هو قسر للنفوس وحبس لها عن هواها، وأما في الحرب فهو أصعب لا محالة، وإنما يسهله نور الإيمان الذي يستضيء به القلب حتى يعلم المجاهد يقينا أن الآخرة خير وأبقى، فيقدم في ذلك على بصيرة من الرجاء لما عند الله سبحانه. فلأجل ما يتقدم ثواب الدنيا، وهو النصر من المشقة التي تلحق المؤمنين من القتال والصبر عليه، لم يصفه الله تعالى بالحسن، وذكر الحسن في ثواب الآخرة حيث هو الحسن على الإطلاق. ¬

(¬1) كذا في (أ)، وفي (ب): من كل. (¬2) كذا في (أ)، وفي (ب): مرتب.

وكما كان لهؤلاء المذكورين (في الآية) (¬1) ثوابان، فكذلك يكون لأهل الإيمان المناضلين عن الإسلام إلى يوم القيامة ثوابان أيضا، وهما الظفر في الدنيا والنعيم في الآخرة (ق.14.ب) بزيادة تحليل الغنائم وتطييبها لهم. ويكون بإزاء هذين الثوابين للمؤمنين عذابان للكفار في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} [الرعد: 33 - 34]. فعذاب الدنيا هو ما يكون من القتل لهم والسبي فيهم والانتهاب لأموالهم وشن الغارات عليهم والخوف المحيط بهم. وعذاب الآخرة هو النار. بين ذلك سبحانه في الآية المتصلة بهذه، وهو قوله: {وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّار} [الرعد: 35]. وكذلك قال الله تعالى (¬2) في موضع آخر: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36]. فالحسرة عذاب لهم، ثم الغلبة أعظم عذاب لهم، من حيث يكون القتل لمن مات والخزي لمن عاش منهم، ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]، فأخبر أن مآلهم إلى جهنم في الآخرة. ¬

(¬1) ما بين القوسين كتب في هامش (أ)، وبه طمس قليل واستدركته من (ب). (¬2) كذا في (أ)، وفي (ب): سبحانه.

وهذا المعنى قد ذكره سبحانه أيضا في قوله (تعالى) (¬1): {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَاد} [آل عمران: 12]. ولنرجع إلى الآية التي كنا فيها، فنقول: ثم قال تعالى في آخرها: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. أي: المحسنين الذين هم مثل هؤلاء فإنهم أحسنوا بإيمانهم ونصرهم لأنبيائهم، وإنما يكون ذلك مع (¬2) المراقبة لله تعالى في العبادة، وهي التي فسر - عليه السلام - الإحسان بها، حيث قال: «أن تعبد الله كأنك تراه». (¬3) ومن أحسن فقد أعد الله له الجنة (¬4) والنظر إلى وجهه سبحانه، يبين ذلك قول الله (¬5) تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. فإذن قد خرج من هذا كله أن هؤلاء الذين وصفهم الله (¬6) سبحانه في قوله: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146]. إلى آخر الآيات بهذه ¬

(¬1) من (ب). (¬2) كذا في (أ)، وفي (ب): ولا يكون ذلك إلا مع. (¬3) رواه البخاري (50 - 4499) ومسلم (9 - 10) والنسائي (4991) وابن ماجه (64) وابن حبان (159) وابن خزيمة (2244) وغيرهم عن أبي هريرة. ورواه مسلم (8) وأبو داود (4695) والنسائي (4990) والترمذي (2610) وابن ماجه (63) وأحمد (1/ 27 - 51) والطيالسي (21) وابن حبان (168 - 173) والبيهقي (10/ 203) وغيرهم عن ابن عمر عن عمر. (¬4) كذا في (أ)، وفي (ب): في الجنة، وهو خطأ. (¬5) في (ب): قوله. (¬6) من (ب).

الأوصاف العظيمة يبعد (¬1) أن يحاسبوا في الآخرة، بل الظاهر فيهم أنهم يدخلون الجنة بغير حساب، وكما جاز ذلك في هؤلاء فقد (¬2) يجوز في غيرهم، مثل ما جاء (في) (¬3) (الرجل المذكور) (¬4) في سورة يس، إذ أخبر الله عنه بعد موته بدخول الجنة والمغفرة والكرامة بقوله سبحانه: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 27]. ولم يذكر تعالى في الآية حسابا في حقه. (ق.15.أ). ¬

(¬1) كذا في (أ)، وفي (ب): بعيد. (¬2) في (ب): فكذا. (¬3) ليست في الأصلين والسياق يقتضيها. (¬4) ما بين القوسين سقط من (ب)، وكتب في هامش (أ) وعليه علامة التصحيح.

هل الأنبياء الآن في الجنة؟ وهل السماوات هي الجنة؟

باب (هل الأنبياء الآن في الجنة؟ وهل السماوات هي الجنة؟) (¬1) نرجع إلى ما ذكره الحميدي على وجه الاحتجاج لباقي كلامه الذي حكيناه عنه، فنتكلم عليه ونجيب عنه (¬2) بحول الله. فنقول: تقدم له (¬3) هنالك أن أرواح الأنبياء والشهداء تكون في الجنة بإثر الموت. والشهداء يأتي ذكرهم في فصل بعد هذا. وأما الأنبياء فلا يشك مسلم أنهم الآن عند الله تعالى (¬4) مكرمون، كما هم الملائكة يلتذون بذكره ويسبحون بحمده. لكن احتجاج الحميدي على أن جميع الأنبياء في الجنة بأن النبي - عليه السلام - رأى الأنبياء ليلة الإسراء في السماوات مدخول من وجهين: أحدهما: أن الأنبياء الذين رآهم النبي - عليه السلام - تلك الليلة عدد محصور منهم، فمن (أين) (¬5) له بأن الذين لم يرهم النبي - عليه السلام - من سائر الأنبياء مثل ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) سقط من (ب). (¬3) كذا في (أ)، وفي (ب): لنا، وهو خطأ لأن هذا قول الحميدي. (¬4) ليس في (ب). (¬5) ليست في النسختين والسياق يقتضيها.

نوح وهود وصالح وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وغيرهم إنما هم في السماوات؟ وهو رجل ظاهري، فينبغي أن يقف حيث يجد النص، فيجعل في السماوات من جعله النبي - عليه السلام - فيها، ويقف في من لم يأت عنه - عليه السلام - نص فيه فلا يجعله في السماء ولا في غيرها، إذ لا علم له بذلك. الثاني: إنه جعل السماوات هي الجنات بهذا الحديث، فإنه قال: وبهذا قطعنا على (¬1) أن السماوات هي الجنات ضرورة، لصحة الإجماع على أن أرواحهم في الجنة من الآن، فقطع على أن السماوات هي الجنات، بدليل الحديث وبصحة الإجماع. والحديث إنما هو من أخبار الآحاد، وليس يصح القطع به (¬2). ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) حقق الحافظ ابن حجر في النزهة (72 - فما بعد) أن خبر الواحد منه ما يفيد العلم، وهو المحتف بالقرائن، ومنه ما لا يفيد إلا الظن. والخبر المحتف بالقرائن أنواع: - منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ حد التواتر لجلالة الشيخين وتلقي العلماء كتابيهما بالقبول. - ومنها ما له طرق متباينة سالمة من الضعف. - ومنها المسلسل بالأئمة الحفاظ، حيث لم يكن غريبا. وقال ابن عبد البر في التمهيد (1/ 8): وكلهم (أي أهل الفقه والأثر) يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات ويعادي ويوالي عليها ويجعلها شرعا ودينا في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة. وقرر ابن القيم في الصواعق (2/ 528 - مختصره) وابن أبي العز شارح الطحاوية (355) أن خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول عملا به أو تصديقا له يفيد العلم اليقيني بإجماع السلف، وهو مذهب الجمهور من الأئمة الأربعة وأتباعهم. انتهى.

أعني ما تضمنه الحديث من ذكر الأنبياء وترتيبهم لا نفس الإسراء، الذي نطق القرآن به من غير تفصيل، والإجماع إن فرضنا أن (¬1) يصح له به أن أرواح الأنبياء في الجنة فليس يصح له به أن السماوات هي الجنات، بل من قال: (إن السماوات هي الجنات) فقوله يضاهي قول الأوائل. وظاهر الشرع خلاف ذلك، فقد نص الله تعالى على أن السماوات تبدل يوم القيامة فقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَات} [إبراهيم: 48]. وقال: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُب} [الأنبياء: 104]. وقال: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} [الإنفطار: 1]، وقال: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (} [الانشقاق: 1]. وذكر تعالى أن السماء تكون كالمهل، وتكون بعد الانشقاق وردة كالدهان. وهذا تغير كثير يعتريها يوم القيامة، والجنة لم يأت فيها (¬2) مثل ذلك قط، بل يوم القيامة هو يوم زهرتها ونضرتها ويوم تفتح لمن يدخل فيها ويلتذ بنعيمها. ومن الدليل البين على أن الجنة غير السماء ما جاء في بعض (ق.15.ب) أحاديث الإسراء فإنه ذكر فيه عروج النبي - عليه السلام - مع جبريل صلوات الله عليه إلى السماوات وفرض الصلاة عليه ثم قال في آخر ذلك: «قال: ¬

(¬1) كذا في (أ)، وفي (ب): أنه. (¬2) كذا في (أ)، وفي (ب): بها.

ثم انطلق بي جبريل حتى نأتي سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك». (¬1) هذا نص الحديث وهو مخرج في الصحيحين، ألا ترى أنه قال في آخر هذا الحديث: «ثم أدخلت الجنة». فلو كانت الجنة هي السماء لاكتفى بذكر السماوات عن ذكر الجنة، لاسيما وهو قد ذكر أنه ترقى من سماء، إلى سماء وذكر مراجعة الملك وفتح الباب (¬2) وكلامه مع الأنبياء، ولم يذكر عن سماء منها أنها الجنة، وكذلك لم يذكر أن (تراب) (¬3) السماوات المسك، كما ذكر عن الجنة إذ دخلها آخرا. ¬

(¬1) رواه البخاري (3164) ومسلم (163) عن أنس عن أبي ذر. وهو جزء من حديث الإسراء الطويل, وله طرق, وقد تقدم, وراجع كتابي الأحاديث المنتقدة في الصحيحين (396). (¬2) كذا في (أ)، وفي (ب): الأبواب. (¬3) ما بين القوسين كتب في هامش (أ)، ولا يظهر في النسخة التي وقفت عليها، واستدركته من النسخة (ب).

هل الشهداء الآن في الجنة

فصل (هل الشهداء الآن في الجنة) (¬1) وقوله: (وكذلك الشهداء) معطوف على قوله: (لم يختلف مسلمان في أن الأنبياء عليهم السلام الآن في الجنة). فيكون معناه أن الشهداء لم يختلف مسلمان في أنهم الآن في الجنة، فجعل الإجماع حجة في أن الصنفين في الجنة. وأين الإجماع في ذلك؟، وهذا مجاهد يقول: "إن الشهداء ليسوا الآن في الجنة لكنهم يجدون ريحها". (¬2) ذكره ابن عبد البر عنه في باب ابن شهاب من التمهيد (¬3). وذكره أيضا في كتاب الجنائز من الاستذكار (¬4). نعم ولو نوزع الحميدي في هذا الإجماع الذي قال في حق الأنبياء عليهم السلام، وقيل له: من هم القائلون به (¬5) والناقلون له؟ لكان لذلك وجه، فإن نقل الإجماع في مثل هذا (¬6) عويص، من حيث هو خارج عن مجاري ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) رواه بقي بن مخلد كما ذكر ابن عبد البر في التمهيد (11/ 63). (¬3) التمهيد (11/ 63). (¬4) الاستذكار (3/ 90). (¬5) في (ب): بذلك. (¬6) في (ب): ذلك.

الأحكام، وإن كنا نعلم قطعا من عقيدة أهل الإسلام أن الأنبياء الآن عند الله تعالى في مقام رفيع ومحل شريف، كما قال - عليه السلام - عند وفاته: «اللهم الرفيق الأعلى». (¬1) ففي الممكن أن يكون ذلك في الجنة أو يكون في غيرها، فإن مقدورات الله تعالى (¬2) لا نهاية لها. وظاهر الجنة أنه موضع استقرار آخر الأمر بعد الحساب والعقاب، ولذلك جاء في الحديث أنه - عليه السلام - أول من يقرع باب الجنة يوم القيامة فيقول له خازن الجنة: أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك. وإذا ثبت أن السماء غير الجنة (ق.16.أ) بما قدمناه من ظاهر الشرع فسيلزم الحميدي أن يكون الأنبياء ليسوا الآن في الجنة، بقوله: (ومن المحال أن يكونوا في مكانين مختلفين في وقت واحد)، وهو قد جعل أصله حديث الإسراء، حيث رآهم النبي - عليه السلام - في السماوات. وأما احتجاجه بقول الله (¬3) تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً} [آل عمران: 169]، فليس فيه من الجلاء ما يريده الحميدي. ¬

(¬1) رواه البخاري (3467 - 4172 - 4173 - 4174 - 4184 - 4186 - 4194 - 5988 - 6144) ومسلم (2444) وأحمد (6/ 48 - 74 - 89 - وغيرها) وابن حبان (6591 - 6617 - 7116) والحاكم (6720) وعبد الرزاق (5/ 436) والطبراني في الكبير (23/ 31 - 32) والأوسط (3639 - 6887) والطيالسي (1404) وأبو يعلى (4459 - 4584 - 4585) وغيرهم عن عائشة. (¬2) من (ب). (¬3) في (ب): بقوله.

إذ لم ينص تعالى على أنهم في الجنة، وإنما قال: إنهم {أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169]، فكما يحتمل أن يكونوا أحياء عند ربهم في الجنة يحتمل أن يكونوا في غير الجنة، بدليل قوله: {يُرْزَقُون}، فإنه إنما يصرف إلى رزق معنوي دون الرزق المحسوس الذي هو الطعام والشراب، فإن ذلك يحتاج إلى تركيب جسم، ولا يصح إعادة الروح إلى الجسم على وجه البقاء إلا بعد النشور. وهذا الذي نقوله ينبغي لمن وقف عليه أن يعذرنا فيه، فإن كلامنا إنما هو مع من هو ظاهري، يطلب النصوص بزعمه، ويقف عندها، فنحن نطالبه بذلك ولا نتركه يقحم في النصوص ما ليس منها، وإلا فنحن نسلم أن للشهداء مزية على غيرهم. وقوله: (وكذلك جاء النص في الشهداء من طريق ابن مسعود وغيره) يحتاج إلى تأمل وهو لم يذكر الحديث. وحديث ابن مسعود ذكره مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169] فقال: "أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: إن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل". (¬1) ¬

(¬1) رواه مسلم (1887) والترمذي (3011) وابن ماجه (2801) والدارمي (2321) والبيهقي (9/ 163) وابن أبي شيبة (4/ 573) وعبد الرزاق (5/ 263) والطيالسي (291). ... = = ورواه أبو داود (2520) وأحمد (1/ 265) والحاكم (2/ 97 - 325) والبيهقي (9/ 163) وأبو يعلى (4/ 219) من طريق ابن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وصرح ابن إسحاق عند أحمد, لكن سقط من سنده سعيد بن جبير. والحديث صححه المنذري (2/ 213). وللحديث طريق آخر, فخرجه عبد الرزاق (5/ 264) عن معمر عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وهو حديث موقوف ليس فيه أن المسؤول عن ذلك رسول الله (¬1). وهكذا ذكره أهل التفسير وغيرهم عن ابن مسعود من قوله، ولو فرضنا أنه مرفوع فليس فيه أنهم في الجنة على الدوام، وإنما قال: إن الطير التي أرواح الشهداء في جوفها تسرح في الجنة تارة وتأوي إلى تلك القناديل أخرى. وإن قلنا إنها في الجنة على الدوام إذ العرش فوق الفردوس، كما ورد في (الخبر، ففيه) (¬2) اعتراض آخر، وهو أن الذي يسرح في الجنة ليست هي أرواح الشهداء على ما يقتضيه الحديث، وإنما الطير التي جعلت أرواح الشهداء (¬3) في جوفها هي التي تسرح هنالك، وهي خلاف تلك الأرواح على الظاهر في ذلك، والحديث الذي نذكره بعد وهو: «إنما نسمة المؤمن طائر ¬

(¬1) بل هذا هو المتبادر منه, ولا مسؤول يسأل عن هذه الغيبيات إلا هو, ويبعد أن يسأل ابن مسعود غير النبي ويبهمه في أمر كهذا. ويقوي هذا وروده من طريق ابن عباس كما في التخريج. (¬2) ما بين القوسين به بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬3) زاد في (ب): على ما يقتضيه الحديث، وهو تكرار.

يعلق في ثمر الجنة» (يقتضي أن) (¬1) نسمة المؤمن هي الطائر، ومعرفة ذلك على التحقيق مما يعسر إدراكه. وقد جاء في الكتاب العزيز التسوية بين الشهداء وبين من يموت على فراشه من صنف مخصوص، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَنا} [الحج: 58]، ثم قال: {لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} [الحج: 59]، ولم يذكر في هذه الآية (ق.16.ب) تفرقة في الثواب بين من قتل أو مات. وجاء في الحديث في حق المؤمن نحو مما جاء عن ابن مسعود في الشهيد وهو الحديث الذي ألممنا بذكره آنفا، رواه كعب بن مالك عن النبي - عليه السلام - فقال: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في ثمر الجنة». (¬2) فمن الناس من حمله على كل مؤمن سواء كان شهيدا أم لا (¬3). ومنهم من قال: إن المؤمن هنا هو الشهيد، وجعل هذا الحديث وحديث ابن مسعود واحدا. ¬

(¬1) من (ب)، وفي (أ) بياض. (¬2) رواه النسائي (2073) وابن ماجه (4271) وأحمد (3/ 455 - 456 - 460) ومالك (566) وابن حبان (4657) والطبراني في الكبير (19/ 64 - 65) عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب ابن مالك عن أبيه. (¬3) راجع: التمهيد (11/ 59 - 60)، وشرح النووي على مسلم (13/ 32).

والأول أولى وأظهر لوجهين: أحدهما: إنه ليس في الحديث ذكر الشهيد وإنما فيه ذكر المؤمن، وذلك ينطبق على كل مؤمن يموت على إيمانه. والثاني: إن النبي - عليه السلام - قال في الحديث الصحيح: «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة». (¬1) ألا ترى أنه قال إذا مات أحدكم، فأخرجه مخرج العموم للمؤمن والكافر، ثم جعل المؤمن الذي هو من أهل الجنة يعرض عليه مقعده منها بالغداة والعشي، وذلك تنعيم لروحه بما يصل إليه من نعيم الجنة، وظاهر ذلك أنه يتناول جميع المؤمنين من شهيد وغيره، ويحتمل أن يجعل هذا في من هو غير شهيد، ويكون للشهيد ما تقدم. وكيف ما كان، فغير الشهيد من المؤمنين له قريب مما للشهيد من نعيم الجنة بالممكن منها قبل يوم النشور، كما أن للكافر في عرض مقعده عليه التعذيب بالنار بالقدر الممكن منها قبل يوم النشور (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (1313 - 3068) ومسلم (2866) والنسائي (2070 - 2071) والترمذي (1072) وابن ماجه (4270) وأحمد (2/ 16 - 113 - 123) ومالك (564) وابن أبي شيبة (8/ 134) وابن حبان (3130) والطبراني في الأوسط (2/ 255 - 8/ 134) والطيالسي (1/ 251) وأبو يعلى (10/ 198) من طرق عن نافع عن ابن عمر. (¬2) من: كما أن للكافر إلى هنا سقط من (ب).

ولذلك جاء في الحديث: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». (¬1) ومما يدل على هذا المعنى الذي ذكرناه ما خرجه البخاري من حديث سمرة بن جندب في رؤيا النبي - عليه السلام -، إذ قال: «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي». الحديث بطوله، وفيه: «فصعدا بي الشجرة وأدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها، فصعدا في الشجرة فأدخلاني دارا هي أفضل وأحسن، فيها شيوخ وشباب. قلت: طوفتماني الليلة فأخبراني (¬2) عما رأيت. قالا: نعم». الحديث. وفيه: «والدار الأولى التي دخلت (ق.17.أ) دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار: فدار الشهداء، وأنا جبريل وهذا ميكائيل». الحديث. (¬3) ¬

(¬1) رواه الترمذي (2460) عن أبي سعيد, لكن سنده باطل, فيه عبيد الله بن الوليد الوصافي واه, وشيخه عطية العوفي ضعيف مدلس. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. ورواه الطبراني في الأوسط (8/ 273) عن أبي هريرة. لكن فيه محمد بن أيوب بن سويد متهم كما في اللسان (5/ 99) , ويحيى بن أبي كثير مدلس وقد عنعنه. (¬2) في (ب): فأخرجاني، وهو خطأ. (¬3) رواه البخاري (1320) وأحمد (5/ 14) والطبراني في الكبير (7/ 242 - 243) عن سمرة بن جندب.

ألا ترى كيف شارك سائر المؤمنين للشهداء في الثواب، إذ جُعلت لهم دار حسنة كما جعلت للشهداء دار حسنة (¬1)، وكون هذه أفضل من الأولى مسلم للمزية التي للشهداء على غيرهم. وهاتان الداران إن كانتا للصنفين بإثر الموت فيؤيد ذلك ما تقدم من أن لغير الشهيد (بعد الموت) (¬2) قريبا مما للشهيد، إذ ليس في الحديث دخول الشهداء في دارهم بإثر الموت دون سائر المؤمنين. وإذا لم يكن ذلك فيه فيحمل بظاهره على التسوية بين الشهداء وغيرهم (¬3) في هذا المعنى قبل يوم القيامة، وإن كان هذا المثال في الدارين (¬4) كناية عن منازل الصنفين معا في الجنة بعد دخولهما فيها يوم القيامة، فليس في ذلك أكثر من تفضيل الشهداء، وذلك مقرر في الشرع من غير ما وجه، على أنه قد صح عن النبي - عليه السلام - من حديث سهل بن حنيف أنه قال: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه». (¬5) فأخبر أن في المؤمنين من يبلغون منازل الشهداء بمجرد سؤال الشهادة عن صدق من غير أن يكونوا شهداء حقيقة. ¬

(¬1) في (ب): إذ جعل لهم دارا حسنة كما جعل للشهداء دارا حسنة. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬3) في (ب): وبين غيرهم. (¬4) كذا في (أ)، وفي (ب): في الظاهر. (¬5) رواه مسلم (1909) وأبو داود (1520) والنسائي (3162) والترمذي (1653) وابن ماجه (2797) وابن حبان (3192) والحاكم (2412) والبيهقي (9/ 169) وغيرهم.

فقد ساوى الشهيد إذن في المنزلة بعض من ليس بشهيد. وانظر إلى الحديث المتقدم كيف وصف النبي - عليه السلام - فيه الدار الأولى بأن فيها النساء والصبيان، وأسقطهم من دار الشهداء، من حيث إن الصبيان لا يتصور منهم القتال في سبيل الله حتى يكون فيهم شهداء، وكذلك النساء قل ما يتأتى منهم ذلك لعجزهن وضعفهن. والله أعلم.

فصل ثم يقال بعد هذا للحميدي: ما تقول في سائر الشهداء مثل الغريق والحرق والمبطون والمرأة تموت بجمع وغيرهم ممن نص - عليه السلام - على كونهم شهداء؟ فإن جعلت أرواحهم في الجنة من حين الموت كنت قد خالفت الآية. فإن قوله: {بَل أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169]. إنما نزل في الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، وكذلك حديث ابن مسعود أيضا. وإن جعلت أرواح من لم يقتل في سبيل الله من الشهداء مع سائر أرواح المؤمنين كنت قد فرقت بين (¬1) (ق.18.ب) الشهداء مع كون الاسمية شاملة لجميعهم، إذ قال - عليه السلام -: «وما تعدون الشهادة فيكم، قالوا: القتل في سبيل الله، قال: الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله»، وذكر الحديث (¬2). ¬

(¬1) وقع تقديم وتأخير في الصفحات هنا في النسخة (أ)، وجاء على الصواب في النسخة (ب). وترتيب صفحات (أ) كالتالي: (17 أ) - (18 ب) - (19 أ) - (17 ب) - (18 أ) - (19 ب) - (20 أ). (¬2) رواه أبو داود (3111) والنسائي (1846) وأحمد (5/ 446) ومالك (552) وابن حبان (3189 - 3190) والحاكم (1300) والطبراني في الكبير (2/ 191) عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك عن عتيك بن الحارث أن جابر بن عتيك أخبره به. لكن عتيك بن الحارث انفرد ابن حبان بتوثيقه, وهو معروف بالتساهل. ... = = ورواه ابن حبان (7/ 458 - 459) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. والحديث في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله عز وجل. البخاري (624) ومسلم (1914).

وفي أحاديث أخر زيادة على السبعة حيث قال - عليه السلام - (¬1): «من قتل دون ماله فهو شهيد» (¬2) ونحو ذلك. ¬

(¬1) ليست في (ب). (¬2) رواه البخاري (2348) ومسلم (141) عن عبد الله بن عمرو.

فصل وقول الحميدي: "ومن المحال أن يكونوا في مكانين مختلفين في وقت واحد" قول صحيح في نفسه معلوم ببديهة العقل، لكن احتجاجه بذلك على أن الجنة هي السماوات غير مستقيم، فمن قال له: إن الأنبياء يكونون في الجنة وفي السماوات في زمان واحد، حتى يبني هو على ذلك أن الجنة هي السماء لاستحالة كون الجسم في مكانين في الزمن الواحد. ومن قال له إنهم لا يبرحون من السماوات حيث رآهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يلزم على ذلك أيضا أن السماء هي الجنة. وكأن الحميدي لم يقف في الحديث على أن النبي - عليه السلام - مر ليلة الإسراء بقبر موسى وهو قائم يصلي فيه (¬1)، ثم رآه تلك الليلة بعينها في السماء السادسة بعد عروجه (¬2) إليها. ¬

(¬1) رواه مسلم (172) عن أبي هريرة. ورواه مسلم (2375) مختصرا والنسائي (1631 - فما بعدها) وأحمد (3/ 148 - 248) وابن حبان (50) وابن أبي شيبة (8/ 446) وأبو يعلى (4085) عن أنس. (¬2) في (ب): العروج.

أو ما رأى أيضا في الحديث أن النبي - عليه السلام - ذكر موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام في أحاديث الإسراء، ثم قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فحانت الصلاة فأممتهم»، هكذا في صحيح مسلم (¬1)، وظاهره أن ذلك كان في بيت المقدس. وقد جاء في غير كتاب مسلم نصا في الحديث. (¬2) وإذا صح هذا، فما الذي ينكر الحميدي من قول من يقول مثلا: إن كونهم تلك الليلة في السماوات إنما كان بسبب عروج النبي - عليه السلام - إلى السماوات، فيكون كونهم هنالك ككونهم ببيت المقدس، وككون موسى في قبره يصلي، ثم ينتقلون من ذلك الموضع إلى حيث شاء الله من الجنة أو من غيرها. ويجوز أن يكون ذلك موضعهم في الغالب، ولا نقول إنه موضعهم على الدوام بسبب كونهم ببيت المقدس تلك الليلة، وكما جاز ذلك في تلك الليلة يجوز في غيرها. وعلى الجملة فالدخول في مثل هذه المضايق لا ينبغي لعاقل، فإنها أمور مغيبة عنّا. وإنما نتكلم فيها بحسب ما فهمناه من الشريعة، ولولا أن كلامنا مع الحميدي في هذا (ق.19.أ) الكتاب يقتضي ذلك لما (¬3) فعلناه. ¬

(¬1) صحيح مسلم (1/ 156 - رقم 172). (¬2) رواه الحاكم (8793) والطبراني في الكبير (10/ 69) عن ابن مسعود, وفي سنده ميمون الأعور أبو حمزة ضعيف جدا. وراجع الفتح (6/ 487). (¬3) في (ب): ما.

نقل اللفظ قال الحميدي: "والطبقة الثانية أصحاب الشمال وهم الكفار يقينا بالنص، لقوله تعالى في سورة الواقعة: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُون} [الواقعة: 41 - 51]. فنص تعالى على (¬1) أنهم لا يؤمنون بالبعث وأنهم مكذبون، والمكذب كافر بلا تأويل. وكذلك قال الله عز وجل في آخر السورة إذ ذكر التقسيم: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:92]. وأيضا فإن الله تعالى خاطب الجميع فقال: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ¬

(¬1) من (ب).

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:4 - 14]. وليس الكفار بيقين من السابقين المقربين، ولا هم بلا شك من أصحاب اليمين، وهم أصحاب الميمنة، فلم يبق إلا ما قلنا ضرورة. وقال عز وجل أيضا: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَة} [البلد: 17 - 20]. وهذا نص جلي بما قلنا من أن الكفار هم أصحاب المشأمة، وهم أصحاب الشمال بنص القرآن.

فصل جعل الحميدي الطبقة الثانية هم أصحاب الشمال، والثالثة أصحاب اليمين وهو خلاف (¬1) ما في القرآن، وذلك أن الله تعالى قال: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 7 - 11]. ثم أخذ في تقرير حال المقربين ومآلهم، وذلك هي (¬2) الدرجة العليا، ثم في حال أصحاب اليمين، وهي الدرجة الثانية، ثم في حال أصحاب الشمال. وهكذا ذكر في آخر السورة (ق.17.ب) الثلاثة الأصناف على هذا الترتيب المذكور. وإنما حمل الحميدي على أن جعل أصحاب الشمال ثانية وأصحاب اليمين ثالثة ما نذكره، وهو أن أصحاب الشمال مخلدون في النار، إذ ليس فيهم من يستحق ثوابا لكفرهم، كما أن المقربين في الجنة، إذ ليس فيهم من يستحق عذابا لشرف مقامهم واستقامتهم في عبادة ربهم. ¬

(¬1) في (ب): عكس. (¬2) في (ب): في.

والقسمان وإن كانت فيهما الموازنة فليس في كل (¬1) واحد منهما تفصيل لأنواعهم ولا لأشخاصهم في الجملة، لأن التنعيم بالثواب مستول على أحدهما، والتعذيب بالعقاب مستول على (¬2) الآخر. وأما أصحاب اليمين ففيهم تفصيل، إذ منهم (¬3) من ترجح حسناته على سيئاته، ومن تتساوى سيئاته وحسناته، ومن ترجح سيئاته على حسناته فيقتص (¬4) منه. وهذه الأنواع تحتاج من الكلام إلى تفصيل آخر، وهناك تقع الموازنة التي بنى عليها الحميدي كتابه، وإنما تكون ظاهرة في أهل هذا القسم الذي هو أصحاب اليمين، على ما سيأتي ذكره، فلذلك جعل هذا القسم ثالثا إذ طول الكلام فيه. ولقد كان يقدر أن يُبقي الترتيب على ما هو عليه، وهو كان الأولى به لاتباع القرآن، فيجعل الطبقة الثانية أصحاب اليمين ويذكرهم ذكرا خفيفا، ويعد بتمام القول فيهم بعد فراغه من ذكر الطبقة الثالثة الذين هم أصحاب الشمال، ويذكر أصحاب الشمال ثم يعود إلى ذكر أصحاب اليمين ويمشي القول فيهم إلى آخر الكلام عليهم، وكل ما ذكره في هذه الطبقة الذين هم أصحاب الشمال فهو مستقيم إلى آخره. ¬

(¬1) كذا في (أ)، وفي (ب): لكل. (¬2) زاد في (ب): النوع. (¬3) كذا في (أ)، وفي (ب): فيهم. (¬4) كذا في (أ)، وفي (ب): فيقص.

نقل اللفظ قال: والطبقة الثالثة هم أصحاب اليمين وهم أصحاب الميمنة، وهم جميع المؤمنين محسنهم ومسيئهم، حاشى من ذكرنا من الأنبياء والشهداء لما قدمنا قبل. وأيضا فإنه قد صح عنه - عليه السلام - أنه رأى عن يمين آدم وشماله (ذريته) (¬1)، وأن أهل السعادة عن يمين آدم - عليه السلام -، والإجماع قد صح بما جاء به (¬2) النص من أن من (¬3) سوى الأنبياء والشهداء فليسوا الآن في الجنة، فلم يجز أن يخرج عن هذا الموضع الذي هو (ق.18.أ) عن يمين آدم - عليه السلام - أحد، فيقال: إنه في الجنة من الآن إلا من جاء النص باستثنائه، وهم الأنبياء والشهداء فقط، وسائرهم هناك عن يمين آدم - عليه السلام - حيث رآهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذه قسمة ضرورية. وإذ قد صح أن السابقين المقربين هم الشهداء بعد الأنبياء عليهم السلام وأن أصحاب المشأمة هم الكفار، فلم تبق إلا الطبقة الثالثة فهي لهم بيقين. ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬2) في (ب): فيه. (¬3) في (ب): ما.

فصل قوله: (والطبقة الثالثة هم أصحاب اليمين وهم أصحاب الميمنة وهم جميع المؤمنين محسنهم ومسيئهم حاشى من ذكرنا من الأنبياء والشهداء) مبني على قوله: (إن المقربين هم الأنبياء والشهداء فقط)، وقد تقدم الكلام عليه، لكن يظهر من كلامه أن المقربين ليسوا من أصحاب الميمنة، ونحن نقول: إن القرآن يدل من غير ما آية على أنهم داخلون فيهم حسبما نذكره. وقد نص على ذلك ابن سلام، إذ قال في المقربين: هم السابقون من أصحاب الميمنة، وأصحاب الميمنة هم جميع أهل الجنة، وهم أصحاب اليمين. فأهل الجنة صنفان: السابقون وأصحاب اليمين الذين ليسوا من السابقين، حسبما نقلناه قبل. وهكذا قال أبو جعفر النحاس في معانيه، فإنه ذكر قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]. ثم قال: وهؤلاء من أصحاب اليمين أيضا. وهذا هو الحق، فإن الناس إذا اعتبرت أحوالهم في إيمانهم وكفرهم وطاعتهم ومعصيتهم ثم في مآلهم في الآخرة، إذ ينقسمون في الجملة إلى فريقين: - فريق في الجنة. - وفريق في السعير. فهم طبقتان فقط، وهم: - أصحاب الميمنة. - وأصحاب المشأمة.

فمن كان من أصحاب الميمنة أخذ كتابه بيمينه، ومن كان من أصحاب المشأمة أخذ كتابه بشماله. وليس ثم قسم آخر، فإن أصحاب الأعراف في قسم من يأخذ كتابه بيمينه، إذ صح أنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم بعد التوقيف من أهل الجنة. وكذلك أهل الكبائر إذا لم يعف عنهم في قسم من يأخذ كتابه بيمينه أيضا، إذ لا تخليد في العقاب عليهم ومآلهم إلى الجنة، وإنما يأخذ كتابه بشماله من يخلد في النار، وهو كل من لا يؤمن بالله. والدليل (ق.19.ب) على انحصار ما قلناه في القسمين قول الله تعالى (¬1) في سورة الحاقة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19]، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25]، إلى آخر القصتين، بعد أن قال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13]، وذكر دكَّ الأرض وانشقاق السماء وحمل العرش ثم قال: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة} [الحاقة: 18]. ثم قسم المعروضين على قسمين لا غير. وقوله في سورة الانشقاق: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10] هو من قسم أهل الشمال لأن الكفر يشملهم. ولأبي محمد بن حزم في هذه الآية مذهب سيأتي ذكره، والرد عليه بعدما نفرغ من الكلام مع الحميدي فيما تقدم (¬2) من قوله. ¬

(¬1) في (ب): قوله تعالى. (¬2) في (ب): تقدم له.

ويدل على ما قلناه أيضا أن الناس في القيامة منقسمون إلى من تثقل موازينه، وإلى من تخف موازينه، كما قال تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 و9]. وفي موضع آخر: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُون} [المؤمنون:102 و103]. وقال في سورة أخرى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6 - 11]. فقال في هذه السورة فيمن ثقلت موازينه: إنه في عيشة راضية، كما قال فيمن أوتي كتابه بيمينه: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة ٍ} [الحاقة: 21]، ثم فسر حيث تكون العيشة الراضية فقال: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 22 و23]. وقال في الغاشية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَة ً} [الغاشية: 2 - 4]. ثم قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية: 8 - 10]. وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 38 - 42]. وقال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]، وبعد ذلك: {إِنَّ

الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر} [القمر: 54]. وقال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 85 و86]. وقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]. وقال في يوم القيامة: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]، ثم ذكر أن السعداء في الجنة وأن الأشقياء في النار من غير اعتبار بتقسيم السعداء، وكذلك في الآيات المتقدمة ليس فيها إلا قسمان فقط. وكذلك قال الله تعالى في سورة (لم يكن): {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6 - 7]. ولا بد من أن يكون الأنبياء والصديقون والشهداء وجميع أصناف المؤمنين داخلين في الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لقوله: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7]، وكذلك قد دخلوا في القسم الواحد الذي هو من أخذ كتابه بيمينه، ومن ثقلت موازينه، والذين هم السعداء، والوجوه الناعمة، والوجوه المبيضة. ولا يعترض على هذا بأهل الكبائر الذين يدخلون النار، فإن مآلهم إلى الجنة، وكتاب كل واحد منهم إنما يأخذه بيمينه لا محالة، ولا يعترض

أيضا بالدرجات والمنازل التي هي للسعداء لأجل المفاضلة التي بين أنواعهم وأشخاصهم، فإن الأنبياء عليهم السلام متفاضلون، وقد جعلهم الله تعالى جملة واحدة في قوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] كما قدمناه قبل. (الناس يوم القيامة صنفان لا ثالث لهما) (¬1) فإذا تقرر هذا فنقول: ينقسم أهل التكليف أولا في القيامة إلى قسمين فقط: فالقسم الأول يأخذ كتابه بيمينه، وهم المؤمنون على اختلاف درجاتهم. والقسم الثاني يأخذ كتابه بشماله وهم الكفار على اختلاف طبقاتهم. فالمؤمنون الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ينقسمون حينئذ إلى قسمين: أبرار، ومقربين، فقد يعبر عن القسمين معا بأصحاب اليمين، وأصحاب الميمنة، نظرا إلى القسمة الأولى التي هي بين المؤمنين والكفار. ويعبر عن القسمين معا أيضا بالأبرار (¬2)، فإن المقربين يكونون في مقام الأبرار أولا، ثم يترقون بعد إلى المقام الذي هو أعلى منه. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): بالأبرار أيضا.

والدليل على ذلك قول الله تعالى (¬1): {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13 - 14]. فلا محالة أن المقربين داخلون في جملة الأبرار في هذه الآية، إذ المقصود بها الحصر فيمن هو في النعيم وفيمن هو في الجحيم. فإذا قصد إلى التفسير قيل في صنف المؤمنين إنهم أبرار ومقربون. يدل على ذلك أن الله تعالى قال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7]، (ق.20.ب) وهؤلاء هم الكفار بدليل قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين:. 1 - 11]. ثم قال بعد: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:18 - 21]. فرفع مقام المقربين على مقام الأبرار. ويدل على علو مقام المقربين أنه وصف شراب الأبرار بأنه يمزج من العين التي يشرب منها (¬2) المقربون من غير مزاج، فقال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 27و28]. ¬

(¬1) في (ب): قوله تعالى. (¬2) في (ب): بها.

كما قال في سورة أخرى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 5 - 6]. وعباد الله هاهنا هم المقربون، أضافهم الله تعالى إليه إضافة تشريف وتخصيص. وكذلك قسمهم في سورة الواقعة إلى قسمين: مقربين، وأصحاب اليمين، وكأنه أخرج الصنف الأعلى من أصحاب اليمين فسماهم بالمقربين، وأبقى أصحاب اليمين اسما على من بقي من سائر الصنف بعد إخراج الصنف الأعلى منهم. ويدل على القسمين من الحديث قول النبي - عليه السلام -: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم»، فقالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم فقال: «بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». (¬1) ألا ترى أن أهل الجنة ينظرون إلى من فوقهم كما ينظر إلى الكوكب، والمنظور إليهم هم رجال من المؤمنين دون الأنبياء عليهم السلام على ما يقتضيه الحديث، ومقام الأنبياء أعلى من ذلك لا محالة. ¬

(¬1) رواه البخاري (3083) عن أبي سعيد. ورواه ابن حبان (7392) عن سهل بن سعد.

فأهل الجنة الناظرون فيها هم أصحاب اليمين، والذين فوقهم هم المقربون من كل أمة. يدل على ذلك قوله: «رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» وهذا يؤيد قول من قال في السابقين إنهم من كل أمة. وقد مضى الكلام في ذلك، وذكرنا هنالك في تعيين المقربين وجهين، وإن كان ميلنا إلى الواحد منهما، وذلك هو الذي نختاره، وهو أن يكون المقربون جميع الأصناف الأربعة المذكورين في قوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِين َ} [النساء: 69].

(صنف أصحاب اليمين) (¬1) فإن قيل: فمن هم إذا أصحاب اليمين المذكورون في سورة الواقعة؟ قلنا: يكون أصحاب اليمين (ق.21.أ) من يبقى من سائر أصناف المؤمنين، وهم من دون الصالحين في الرتبة، لأن في المؤمنين صالحين وغيرهم، قال الله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِك َ} [الأعراف: 168]. (ومن دون الصالحين) (¬2) إنما هم مؤمنون بدليل قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 168]. وهذه الآية (¬3) وإن كانت في غير هذه الأمة فإنما ذكرناها تصحيحا لقولنا إن المؤمنين يكون فيهم صالحون ومن دونهم في الرتبة. وإذا كان الأمر كذلك، فنقول: يدخل في أصحاب اليمين من المؤمنين: من يستكثر من الصغائر من غير إصرار عليها، ومن يستكثر منها عن إصرار، ومن فعل كبيرة أو كبائر ثم فجأته (¬4) المنية قبل التوبة، ومن فعل كبيرة ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬3) في (ب): الأربعة، وهو خطأ. (¬4) في الأصلين: فجئته.

أو كبائر ومات مصرا عليها ممن رجحت حسناته على سيئاته وممن رجحت سيئاته على حسناته فعفي عنه أو لم يعف عنه واقتص منه بدخول النار من لحظة إلى آخر من يخرج منها بالشفاعة أو بفضل الله سبحانه، ويدخل فيهم من لا عقاب عليه، مثل أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم. فيكون هؤلاء كلهم يعبر عنهم بأصحاب اليمين، إذ لا يبقى بعد هؤلاء إلا المخلدون في النار كما قال النبي - عليه السلام -: «ولم يبق في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود» (¬1) يعني الكفار الذين أخبر الله تعالى في القرآن أنه لا يغفر لهم أصلا. وأما على التأويل الآخر وهو أن يكون المقربون من لا حساب عليه من المؤمنين، مثل السبعين ألفا فسيكون أصحاب اليمين من يناقش الحساب، وإن كانت مناقشة الحساب عذابا كما جاء في الخبر (¬2). ويبقى النظر فيمن يحاسب حسابا يسيرا، فإن كان هو العرض كما قال - عليه السلام - في تفسير الآية، فسيكون المقربون وغيرهم يشتركون فيه، إذ لا بد لكل أحد من العرض على الله تعالى، وإن كانت المحاسبة على الذنوب مما تقتضيه الآية، فسيكون الذين يحاسبون حسابا يسيرا هم الطبقة العليا من أصحاب اليمين، والله أعلم. ¬

(¬1) رواه البخاري (4206 - 6197 - 6975 - 7002) ومسلم (193) وابن ماجه (4312) وأحمد (116 - 244) وابن حبان (6464) وابن أبي شيبة (7/ 418) والطيالسي (268) وأبو يعلى (2899 - 3064) وغيرهم كثير عن أنس، وهو جزء من حديث الشفاعة الطويل. (¬2) رواه البخاري (103 - 6171 - 6172) ومسلم (2876) وأبو داود (3093) والترمذي (3337) وأحمد (6/ 47 - 91 - 127) وغيرهم عن عائشة.

فَصلٌ وقوله: (وأيضا فإنه قد صح عنه - عليه السلام - أنه رأى عن يمين آدم وشماله ذريته، وإن أهل السعادة عن يمين آدم - عليه السلام -)، إلى آخر كلامه، إنما قصد به أن يثبت أن أصحاب (ق.21.ب) اليمين ليسوا من المقربين ولا من الكفار وأنهم طبقة ثالثة، وهذا صحيح (¬1) لا ينازع فيه، فإن المقربين إذا أخرجوا عن أصحاب اليمين، فمعلوم أن من بقي من أصحاب اليمين ليسوا من المقربين (¬2). وأما كون المقربين في القسمة الأولى داخلين في أصحاب اليمين فذلك ما لا شك (¬3) فيه بدليل ما قدمناه من الآيات. ومما يزيد ذلك بيانا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2] فحصر الخلق في صنفين، وقدم الكفار لأنهم أكثر. يبين كثرتهم وقلة المؤمنين بالإضافة إليهم أن الله تعالى يقول لآدم يوم القيامة: «ابعث بعث النار، فيقول: ¬

(¬1) سقطت من (ب). (¬2) سقطت من (ب). (¬3) في (ب): يشك.

يا رب وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون للنار وواحد للجنة»، كما قاله نبينا - عليه السلام -. (¬1) وإذا ثبت بنص هذه الآية أن الناس كلهم ينقسمون إلى قسمين: مؤمنين وكفار، صح انقسامهم في الآخرة أيضا إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فالسعداء هم المؤمنون، وهم أصحاب اليمين. والأشقياء هم الكفار، وهم أصحاب الشمال. ولما كان المؤمنون ينقسمون في الدنيا إلى من أخذ نفسه بمجرد الطاعات والبعد عن الذنوب، وقليل ما هم، وإلى من خلط منهم عملا صالحا وآخر سيئا، انقسم أصحاب اليمين في الآخرة إلى قسمين، فيكون الصنف الأعلى منهم هم المقربون فيصيرون قسما ثالثا، وتبقى (¬2) بقية أصحاب اليمين على أسميتهم. ولا نحتاج أن نقسم أصحاب الشمال، لأنهم يستوون في أصل العذاب بالنار ويستوون في التخليد فيها، وإنما يختلفون في تخفيف العذاب عن من هو أقل شرا، وتضعيفه أو شدته على من هو أكثر شرا على ما سيأتي في موضعه. ¬

(¬1) رواه البخاري (6164) عن أبي هريرة. ورواه البخاري (3170 - 4464 - 6165) ومسلم (222) وأحمد (3/ 32 - 77) عن أبي سعيد. ورواه مسلم (2940) وأحمد (2/ 166) وابن حبان (7353) عن عبد الله بن عمرو. ورواه الترمذي (3169) وأحمد (4/ 432 - 435) والحاكم (1/ 81) وغيرهم عن عمران وصححه. وفي الباب عن أنس عند ابن حبان وغيره. (¬2) في (ب): ويبقى.

وأما قول الحُميدي: والإجماع قد صح بما جاء به النص من أن من سوى الأنبياء والشهداء فليسوا الآن في الجنة. فمعترض من وجهين: أحدهما: إنه قال: (جاء النص بأن من عدا الأنبياء والشهداء ليسوا في الجنة). ولم يأت قط نص بذلك، وغاية ما ذكر هو أولا أن النص جاء في الشهداء من حديث ابن مسعود، فترقى من ذلك إلى أن يقول: إن النص جاء في أن من عدا الأنبياء والشهداء ليسوا في الجنة. والوجه الثاني: إنه احتج أولا على كون الأنبياء في الجنة بأنه لم يختلف في ذلك اثنان ثم أخذ الآن يقول: إن الإجماع صح بأن من (ق.22.أ) سوى الأنبياء والشهداء ليسوا في الجنة، ولا يلزم من كون الإجماع إذا صح على أن الأنبياء في الجنة أن من عداهم ليسوا في الجنة، ولا من كون النص قد ورد في الشهداء أن من عداهم ليسوا في الجنة، وذلك إقحام منه في النص وفي الإجماع معا. وأما كونه يقول: إن أهل السعادة على يمين آدم - عليه السلام - حيث رآهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1)، ولا يجوز أن يخرج عن ذلك الموضع أحد فيقال: إنه في الجنة من الآن إلا الأنبياء والشهداء، فنحن نسأله (¬2) من ذلك عن أمرين: أحدهما: إن أهل السعادة عن يمين آدم، وآدم في السماء، والسماء عند الحميدي هي الجنة، فسيلزمه (¬3) أن يكون جميع أهل السعادة الآن في الجنة، فلا ¬

(¬1) من (ب). (¬2) في (أ) نسله، وفي (ب): نسئله. (¬3) في (ب): فيلزمه.

يتجه له أن يخص بذلك الأنبياء والشهداء، لاسيما وفي حديث الإسراء عند ذكر الأسورة من قول جبريل - عليه السلام -، فأهل اليمين أهل الجنة (¬1). والثاني: إن أهل الشقاء على يسار آدم (- عليه السلام -، وإذا ثبت أن آدم) (¬2) في السماء، والسماء على مذهبه هي الجنة، فسيلزمه (¬3) أن يكون أهل الشقاء في الجنة، (وفي الحديث المذكور والأسورة التي عن شماله أهل النار) (¬4). ثم كيف يكون أهل الشقاء في السماء؟ والله سبحانه يقول فيهم (¬5): {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} [الأعراف: 40]. ونحن نبقي هذا الإشكال على الحميدي، لا في كون هؤلاء في السماء، ولا في إلزامه أن الصنفين معا في الجنة بكون السماء عنده هي الجنة. ¬

(¬1) من لاسيما إلى هنا سقط من (ب). (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬3) في (ب): فيلزمه. (¬4) ما بين القوسين سقط من (ب) وكتب في هامش (أ) وعليه علامة التصحيح. (¬5) سقط من (ب).

نقل اللفظ. قال الحميدي: ومن البرهان أيضا على ما قلناه أن الله تعالى رتبهم على ثلاث طبقات: السابقون المقربون في جنات النعيم، وأصحاب اليمين، وأصحاب المشأمة، فلو كان أصحاب اليمين في الجنة بدءا من الآن لكانوا طبقتين فقط، وكذلك لو كان الأنبياء والشهداء مع سائر المؤمنين في محلهم حيث هم الآن لكانوا طبقتين أيضا ولكانت الثالثة ساقطة، وهذا باطل. فصح ما قلناه من الفرق بين المقربين وبين أصحاب اليمين، وتناظرت النصوص كلها وتبين أن أصحاب اليمين وإن كانوا قد ذكر الله أنهم: {في سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} [الواقعة:28 - 40] فإنما هذا بنص الآية على ما يصيرون إليه بعد الحساب يوم القيامة بلا شك لما ذكرنا. يؤيد هذا (ق.22.ب) قول الله عز وجل في آخر السورة نفسها: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96]. فنص تعالى على أن هذه حالهم وقسمهم فجعلهم أيضا ثلاث طبقات: أولها: المقربون المعجل لهم الجنة والنعيم. وثانيها: أصحاب اليمين الذين لهم السلام معجلا فقط. وثالثها: المكذبون الضالون، وهذا بين.

فَصلٌ أما قوله: (فلو كان أصحاب اليمين في الجنة بدءا من الآن لكانوا طبقتين فقط، وكذلك لو كان الأنبياء والشهداء مع سائر المؤمنين في محلهم حيث هم الآن لكانوا طبقتين أيضا، ولكانت الثالثة ساقطة) فهو غير لازم، لأن هذه الأقسام المذكورة إنما قسمها الله تعالى بالنظر إلى يوم القيامة لا إلى ما قبله. يبين ذلك أن الله تعالى قال: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: 1] يعني يوم القيامة، ثم قال: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] أي: ليس لوقعتها مثنوية ولا رجوع، أي أنها تقع ولا بد، ثم قال: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة: 3] أي: ترفع أقواما وتخفض آخرين، وذلك {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} [الواقعة:4 - 7]. فهذا نص بأن هذه الحال إنما تكون في يوم القيامة، أعني جميع ما تضمنته هذه الآيات من الخفض والرفع ورج الأرض وبس الجبال وكون الناس أزواجا ثلاثة، ثم ذكر الله تعالى الأزواج الثلاثة وقسم أحوالهم بما يؤول إليه أمرهم، فجعل المقربين في الطبقة العليا من الثواب، وجعل أصحاب اليمين في الدرجة الثانية منه، وجعل أصحاب الشمال في النار معذبين.

فكيف يقول الحميدي: إن الطبقة الثانية كانت تسقط وهي موجودة في الآخرة بنص هذه الآيات، ونعلم ضرورة من دين الأمة وبالإجماع على ما نقوله أن الناس ينقسمون (ق.23.أ) في الآخرة باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام: - قسم لا يدخلون النار أصلا، بل هم في الجنة ابتداء. - وقسم لا يدخلون الجنة أصلا بل هم في النار ابتداء، ويبقون فيها مخلدين أبدا. - وقسم يعذبون بالنار ثم يدخلون الجنة ويبقون فيها أبد الآباد. ولا بد أن يكون هذا القسم الثالث داخلا في أصحاب اليمين، إذ لا يصح دخولهم في أصحاب الشمال أصلا، لأنهم غير مكذبين، وأصحاب الشمال مكذبون وهم الكفار، وإذا كان أولئك غير مكذبين فهم مؤمنون، وإذا كانوا مؤمنين دخلوا بعد القصاص منهم في أصحاب اليمين ضرورة. وإذا صح من كل وجه أن الناس في القيامة ثلاثة أقسام فكيف يقصد الحميدي إلى إبطال أحد القسمين الواردين في المؤمنين، أو يلزم على ذلك أن يكون المقربون في الجنة من الآن، ثم يفرق في ذلك بين المقربين وأصحاب اليمين فيجعل أصحاب اليمين في الجنة يوم القيامة لا قبل ذلك، وسورة الواقعة بما تضمنته في القسمين لم تفرق بينهما في هذا المعنى على ما نذكره. وأعجبُ ما عنده قوله: (وتناظرت النصوص كلها وتبين أن أصحاب اليمين وإن كانوا قد ذكر الله أنهم في سدر مخضود)، وذكر الآيات، فإنما هذا بنص الآية على ما يصيرون إليه بعد الحساب يوم القيامة بلا شك، فإن قوله (وتناظرت النصوص) غير معلوم، إذ لا نص إلا ما في هذه السورة.

وقوله: (فإنما هذا بنص الآية على ما يصيرون إليه بعد الحساب يوم القيامة بلا شك)، غريب جدا، أعني قوله: إن ذلك منصوص في الآية، وليس في الآية نص بما زعم أصلا. ولئن كان الحميدي يأخذ من الآية في الجملة أن أصحاب اليمين إنما يكونون في سدر مخضود وما تضمنته الآية يوم القيامة كما هو الحق، فسيلزمه أن يأخذ من الآيات الواردة في المقربين أنهم إنما يكونون في الجنة يوم القيامة ولا فرق. ومن الدليل على ذلك أن الله تعالى لما أخبر عن المقربين بأنهم في جنات النعيم لم يقتصر على ذلك بل ذكر أنهم على سرر متقابلين، وقال فيهم: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة:17 - 18] إلى آخر الآيات، وفيها ذكر الشراب والفاكهة ولحم الطير وذكر الحور العين. والتنعم بهذا كله (ق.23.ب) لا يكون إلا للأجسام يوم القيامة بعد الاستقرار في الجنة لا للأرواح بمجردها قبل يوم القيامة كما هو لازم للحميدي، وكذلك ما جاء في أصحاب اليمين من السدر والطلح والظل والفاكهة والحور أيضا إنما يكون ذلك بعد النشور والاستقرار في الجنة، لكن النعيم للصنفين متفاضل، فإن الآيات الواردة في أول (¬1) هذه السورة وفي آخرها تدل على أن حالة المقربين هنالك أعلى من حالة أصحاب اليمين. ¬

(¬1) سقطت من (ب).

ويدل على ذلك أيضا ما في (¬1) سورة المطففين مما قدمناه قبل، ولذلك كان المقربون أقل من أصحاب اليمين، قال الله تعالى في المقربين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} [الواقعة 13 و14]، وقال في أصحاب اليمين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} [الواقعة 39 و40]. وإنما كان أصحاب اليمين أكثر لأن الغالب على بني آدم الاتصاف بالذنوب، ولذلك قال النبي - عليه السلام -: «لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم». (¬2) فقد ثبت بما ذكرناه أن حالة المقربين وحالة أصحاب اليمين يلزم أن يكونا على حد سواء (¬3) في إحراز أصل الثواب، لأن الله تعالى أخبر بما يؤول إليه الصنفان وساق ذلك مساقا واحدا ليس فيه اختلاف، فحيث يثبت كون الثواب لأحدهما يلزم أن يكون هنالك الثواب للصنف الآخر. وذلك يدل على أن التفضيل إنما يقع بأحوال هؤلاء وهؤلاء في الآخرة من حيث إن أحدهما أعلى مقاما وأنعم بالأمن الآخر، لا على أن أحد الصنفين تعجل له الجنة إثر الموت، كما زعم الحميدي. ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) رواه مسلم (2749) وأحمد (2/ 304 - 309) وابن حبان (7387) وغيرهم عن أبي هريرة. ورواه مسلم (2748) والترمذي (3539) وابن أبي شيبة (8/ 105) والطبراني في الكبير (4/ 156) عن أبي أيوب. (¬3) في (ب): على أصل واحد.

وإنما غلطه في ذلك أمران: أحدهما: إنه جعل المقربين هم الأنبياء والشهداء فقط، فلما وجد في الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، اعتقد أنهم في الجنة بعد الموت وقبل القيامة، ووجد الأنبياء أعلى مقاما من الشهداء فرأى أنهم كذلك من باب الأحرى والأولى. وقد مر الكلام على هذا المعنى وتبين بما ناقضناه به من الصديقين أنه لا يصح أن يقتصر بالمقربين على الأنبياء والشهداء. والأمر الثاني: ما في آخر هذه السورة، وهو قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة 88 و89]، فلما رأى الحميدي هذه الآية وهي مقترنة بحالة الموت، إذ قبلها: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} ... [الواقعة 83 و84] (ق.24.أ) اعتقد أن كون المقربين في الجنة إنما هو بإثر الموت. ولذلك قال: (أولها المقربون المعجل لهم الجنة والنعيم، وثانيها أصحاب اليمين الذين لهم السلام معجلا فقط). ولم يقل في المكذبين شيئا، ويلزمه أن يكون لهم بإثر الموت نزل من حميم وتصلية جحيم. وإذا كان هذا كله في حين الموت فما الذي يبقى للآخرة، ولو أمعن النظر لرأى أن الآيات المتأخرة في التقسيم إنما عادت على الآيات المتقدمة في التقسيم، وهو من باب رد الأعجاز على الصدور عند أهل

البلاغة، فكما ذكر الله في أول السورة أهل الجنة وأهل النار، وجعل أهل الجنة قسمين كذلك، ذكر آخر السورة أهل الجنة وأهل النار، وجعل أهل الجنة قسمين. وليس في هذا كله ما يدل على أن بعض ذلك يكون قبل يوم القيامة، بل صرح الله تعالى في الصنف الثالث، وهم أهل الشمال بأن الذي أعد لهم إنما يكون يوم القيامة بقوله: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} ... [الواقعة 56] ويؤخذ منه أن الذي أعد للصنفين من أهل الجنة إنما يكون (يوم الدين) (¬1). ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب).

تفسير قوله تعالى: {فروح وريحان}

(تفسير قوله تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}) (¬1) ونحن نذكر ما قاله أهل التفسير في آخر السورة ليكون معلوما عند من يقف على هذا الموضع، فقد ذكر ابن سلام في تفسيره عن الحسن البصري أنه قرأ هذه الآية {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة 89] فقال: ذلك في الآخرة. وذكر النحاس عن الربيع بن خثيم أنه قال في قوله جل وعز: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة 89] قال: هذا عند الموت، والجنة مخبأة (¬2) له إلى أن يبعث. قال (¬3): وقال أبو الجوزاء: إذا قبض روح المؤمن تلقى بضبائر الريحان فجعل روحه فيه. وذكر عن الحسن أنه قال: الرُوح الرحمة، يعني بالرفع. ومن قرأ فروح ففيه قولان: قال مجاهد: الروح الفرح. (¬4) وقال الضحاك: الروح الاستراحة. (¬5) ¬

(¬1) هذا العنوان مني. (¬2) في (أ): مخبؤة، وفي (ب): مخبوة. (¬3) سقطت من (ب). (¬4) رواه هناد بن السري وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر كما في الدر المنثور (8/ 37). وقاله سعيد بن جبير، رواه ابن جرير (11/ 666). (¬5) روى ابن جرير عنه (11/ 666): الروح المغفرة والرحمة, والريحان الاستراحة.

قال (¬1): وقال مجاهد والضحاك: الريحان الرزق. (¬2) وقال الفراء (¬3) في قوله فروح وريحان: من قرأ فرَوح بالفتح فمعناه روح في القبر، (¬4) ومن قرأ (¬5) فرُوح (¬6) بالرفع يقول: حياة لا موت فيها. وقال الزجاج (¬7): فروح معناه فاستراحة وبرد، ومعنى فروح بالرفع حياة دائمة لا موت فيها وريحان ورزق (¬8)، ويجوز أن يكون ريحان هاهنا تحية لأهل الجنة. وفي الهداية لمكي (¬9): قال أبو العالية: لم يفارق أحد من المقربين -وهم السابقون - الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم يُقبض (¬10) (ق.24) وقال الحسن: يقبض الملك نفس المؤمن في ريحانة. (¬11) وذكر مكي في الروح والريحان نحوا مما تقدم (¬12). ورأيت لغيره أن بعضهم قال فروح في الدنيا وريحان راحة في القبر وجنة نعيم في الآخرة. ¬

(¬1) سقطت من (ب). (¬2) رواه ابن جرير (11/ 666) عن مجاهد وسعيد بن جبير. (¬3) معاني القرآن (3/ 37) بنحوه. (¬4) وراجع تفسير ابن جرير (11/ 665 - 666). (¬5) سقطت من (ب). (¬6) في (ب): روح. (¬7) معاني القرآن وإعرابه (5/ 94) بنحوه. (¬8) في (أ): رزق. (¬9) الهداية لمكي بن أبي طالب (170 - نسخة العامة: 218ق). (¬10) رواه ابن جرير (11/ 666). (¬11) ذكر نحوه ابن جرير (11/ 66 - 666). (¬12) الهداية لمكي بن أبي طالب (170 - نسخة العامة: 218ق).

تفسير {فسلام لك من أصحاب اليمين}

(تفسير {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}) (¬1) وأما قوله: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} ... [الواقعة 91]، فنقتصر فيه على ما نقله مكي في الهداية، لأنه محتو على جميع ما في التفاسير المتقدمة الذكر. قال مكي (¬2) في قوله تعالى (¬3) {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة 91]: أي فسلام لك من عذاب الله، أي سلم من ذلك. وقيل المعنى: فيقال سلام لك، إنك من أصحاب اليمين. وقال قتادة: معناه: سلموا من عذاب الله، وسلمت عليهم الملائكة. (¬4) وقيل: المعنى: لك يا محمد منهم سلام أي يسلمون عليك. وقيل: المعنى: فمسلم لك أنك من أصحاب اليمين. وقيل: معناه: فلست ترى فيهم يا محمد إلا ما تحب من السلامة. وهذا القول الأخير قاله الزجاج (¬5) والنحاس، والذي قبله قاله الفراء (¬6). ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) الهداية لمكي بن أبي طالب (171 - نسخة العامة: 218ق). (¬3) من (ب). (¬4) رواه ابن جرير (11/ 667) وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (8/ 38). (¬5) معاني القرآن وإعرابه (5/ 94) بنحوه. (¬6) معاني القرآن (3/ 37).

ورأيت لغيرهم أن بعضهم قال: أخبر الله نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أصحاب اليمين سلِموا من درك الشقاء وسوء القضاء، وأنهم ينالون الكرامة لحفظهم الأمانة. فهذه أقاويل أهل التفسير، وليس فيهم من قال: إن الجنة تعجل للمقربين على ما قاله الحميدي، بل فيهم من نص على أن ذلك إنما يكون في الآخرة وهو قول الحسن البصري والربيع بن خثيم كما قدمناه. فينبغي أن تجعل الآيات على حد واحد في التعريف بمآل تلك الأقسام في القيامة، ويكون ما ورد في الحديث من أحوال الشهيد أو المؤمن في الجملة أو المؤمن والكافر في عرض مقعد كل واحد منهما عليه بالغداة والعشي على ما تقدم زائدا على ما في هذه السورة، من حيث إن السورة إنما (¬1) تعرضت إلى أحوال الثلاثة الأقسام في الآخرة، وتعرض الحديث إلى أحوال هؤلاء المذكورين بعد الموت، فلا ينبغي أن يقحم في أحدهما ما (¬2) استفيد من الآخر، والله أعلم بالصواب. ¬

(¬1) سقطت من (ب). (¬2) في (ب): على ما.

كلام ابن حزم في أصناف من يأخذون كتبهم

باب (كلام ابن حزم في أصناف من يأخذون كتبهم) (¬1) لما وعدنا بأن نذكر ما قاله أبو محمد بن حزم في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه} ... [الانشقاق: 10] إذ اعترض ذكر ذلك عنه فيما تقدم قبلُ تعيَّن الكلام عليه هاهنا (ق.25.أ) فلننقل لفظه أولا، ثم نرد عليه بحسب ما يلهم الله تعالى إليه. وذلك أنه قال في كتاب الفصل (¬2) من تأليفه ما هذا نصه: ذكر الله عز وجل (¬3) أن (¬4) الناس يأخذون كتبهم يوم القيامة على ثلاثة أضرب: باليمين، أو بالشمال، أو من وراء الظهر، قال الله عز وجل (¬5): {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورا اقْرَأْ كَتَابَكَ} [الإسراء: 13 - 14]. الآية. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) لم أعثر على كلام ابن حزم هذا في الفصل. (¬3) في (ب): تعالى. (¬4) في (ب): في أن، وهو خطأ. (¬5) في (ب): تعالى.

ووجدنا الناس يوم القيامة ثلاثة أضرب لا رابع لهم: إما مؤمنين فائزين لا يعذبون، وإما مؤمنين معذبين بكبائرهم الراجحة بحسناتهم، ثم لهم الجنة، وإما كفار مخلدين في النار. ثم وجدنا القرآن قد جاء بأن الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم هم المؤمنون الفائزون الذين لا يعذبون، برهان ذلك قول الله عز وجل (¬1): {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7 - 9]. وقوله تعالى (¬2): {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 19 - 22]. فهذه طبقة. ووجدنا القرآن قد جاء بأن الذين (¬3) يأخذون كتبهم بأشمالهم هم الكفار المخلدون في النار. برهان ذلك: قول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا ?لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ... هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 25 - 34]. فهذه طبقة ثانية. ¬

(¬1) في (ب): تعالى. (¬2) من (ب). (¬3) في (ب): بالذين، وهو خطأ.

فلم (¬1) تبق إلا الحالة الثالثة، وهي أخذ الكتاب وراء الظهر، ولم تبق إلا طبقة ثالثة وهم المؤمنون الذين يخرجون من النار بالشفاعة، فتلك الحال لهذه الطبقة ضرورة بلا شك، لا يمكن غير ذلك البتة. إذ لو قال صادق متيقن صدقه: ليس في الدار إلا زيد وعمرو وخالد، وهذه ثلاثة أثواب لهم، ليس لهم غيرها: خز، ووشي، وصوف، فالخز لزيد، والوشي لعمرو، ثم سكت. لما شك أحد في أن الصوف لخالد، وهذا برهان ضروري لا شك فيه. والنص الوارد أيضا يشهد بصحة هذا، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} ... [الانشقاق: من10 - ,15]. فلم يخبر تعالى عمن يؤتى كتابه وراء ظهره بكفر. ومعنى قوله تعالى (¬2): {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] إنما هو ظن أن لن يحور إلى النار طمعا في المغفرة لمعاصيه، ولم يقل تعالى أن لن يحور إلينا. والحور: الهلاك. فإنما ظن أن لن يهلك وأن لا يرجع إلى النار، وهذه صفة المؤمن العاصي المسوف نفسه بالتوبة. ¬

(¬1) في (ب): ولم. (¬2) سقطت تعالى من (ب).

ولو كان غير ما قلنا لبقي الآخذ للكتب من وراء الظهر فارغا، وهذا لا يجوز، ولبقي المؤمنون المعذبون لا بيان من أين يأخذون كتبهم، وهذا لا يجوز البتة، لأن الله تعالى قال: {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، و {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. هذا آخر كلامه. وقد أخطأ في تأويل هذه الآية خطأ بينا حيث جعلها في أهل الكبائر، ولم يسبقه إلى هذا القول المخترع أحد علمناه (¬1)، وكنا قد رددنا عليه في ذلك قبل، ثم وجدنا بعض ما قلناه مسطورا للمفسرين، فلنذكر أقوالهم قبل الرد عليه على وجه التأنيس لمن يقف على هذا الموضع، لأن الناس عنوا بأقوال من تقدم، وصار قول أهل هذا الزمان ومن تأخر عصره عندهم مزدرا به، وإن كان قولا سديدا في نفسه. ¬

(¬1) في (ب): علمنا.

الخلاف في ابن حزم الظاهري

(الخلاف في ابن حزم الظاهري) (¬1) لاسيما وهذا الرجل قد غلت فيه طائفتان (¬2): ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) جنح جماعة من العلماء إلى عدم الاعتداد بخلاف الظاهرية مطلقا، واعتبروا خلافهم غير خارق للإجماع، كما في الفتح (1/ 398)، (3/ 529)، (4/ 193)، بل نقله النووي في شرح مسلم (3/ 142) عن الأكثرين والمحققين، وكذا القرطبي كما في إرشاد الفحول (148). وانتصر لابن حزم الذهبي والشوكاني وغيرهم. قال الشوكاني في إرشاد الفحول (148): ويجاب عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها، وتدبر آيات الكتاب العزيز، وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة علم أن نصوص الشريعة جمع جم، ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا قياس مقبول. وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذاهب غيرهم من العمل بما لا دليل عليه البتة قليلة جداً. ونحوه في نيل الأوطار (1/ 103) وزيادة. وللذهبي في السير في ترجمة داود الظاهري (13/ 104) كلام نفيس جدا في هذا، لولا طوله لنقلته، وختمه بقول ابن الصلاح: قال: وأرى أن يعتبر قوله، إلا فيما خالف فيه القياس الجلي وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها، فاتفاق من سواه إجماع منعقد كقوله في التغوط في الماء الراكد وتلك المسائل الشنيعة، وقوله: لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها، فخلافه في هذا أو نحوه غير معتد به، لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه. انتهى. قلت: وهذا أعدل الأقوال فيه، والله أعلم.

إحداهما: تعظمه تعظيما مفرطا، بحيث تقلده في جميع أقواله ولا ترى مخالفته في شيء من مذهبه، وإذا أُظهر لها في كلامه الخطأ البين والوهم الصراح لم تقبله، وأحالت بالوهم والخطأ على من يتعاطى الرد عليه أو على أنفسها بالعجز عن الانتصار لذلك القول المردود. والطائفة الثانية: تزري عليه وتحط من قدره حتى تعتقد ألا حسنة عنده، فإذا أظهِر لها ما في قوله من الجودة وبُين لها صحة ما ذهب إليه في أمر ما مما يتكلم عليه أو يتمذهب به لم تقبله أيضا، واعتقدت فيمن يُبين ذلك ويتكلم فيه أنه على مذهبه الذي ينتحله، وقد يكون في هذه (¬1) الطائفة من لا يفهم قوله ولا يدري معناه، لكن يكرهه تقليدا، ويستصوب قول من يرد عليه في الجملة. وكلتا الطائفتين مخطئة فيما توهمته (ق.26.أ) عليه من الإحسان المجرد أو من الإساءة المجردة، بل هو واحد من العلماء، وممن يقصد الحق عند نفسه فيما يراه، ويؤثر العدل فيما يظنه ويتحراه، فتارة يخطئ وتارة يصيب. فإذا أصاب فقوله سابق جدا، وإذا أخطأ فقوله نازل جدا، إلا أن أكثر أقواله إنما تأخذ بالطرفين، وغيره من العلماء قد يكون صوابه قريبا من خطئه، أعني أنه إذا أصاب يكون صوابه قريب المرام ليس فيه ذلك الغموض، وإذا أخطأ لم يكن في ذلك الخطأ شذوذ ولا كبير (¬2) تعسف. ¬

(¬1) كذا في (ب)، وفي (أ): هذا. (¬2) في (ب): كثير.

وهذا الذي قلناه هو الإنصاف في جانب أبي محمد بن حزم رحمه الله والاعتدال الذي ينبغي أن يعتقد فيه، فإنا إنما ذكرنا الواجب في حقه كان له أو عليه (¬1). ¬

(¬1) وقد طال السجال بين ابن حزم ومخالفيه، وبينهم ردود معروفة، وخصوصا بينه وبين علماء المالكية كأبي الوليد الباجي وأبي بكر ابن العربي. وراجع في ذلك: المؤلفات الأندلسية والمغربية في الرد على ابن حزم الظاهري في مجلة الذخائر، العدد: 11 - 12/ 1423/2002. وأخص بالذكر منها كتاب: التنبيه على شذوذ ابن حزم لعيسى بن سهل الأندلسي. وفي الخزانة العامة بالرباط منه ميكروفيلم رقم: (5). وعندي منه نسخة مصورة لبعضه.

تفسير {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره}

(تفسير {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}) (¬1) وإذ (¬2) نبهنا على ذلك فلنرجع إلى ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية. فنقول: قال الفراء (¬3) عندما ذكر قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10]، يقال: إن أيمانهم تغل إلى أعناقهم وتكون شمائلهم وراء ظهورهم. قال: وقوله: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق: 11] يقول: واثبوراه واويلاه، والعرب تقول: فلان يدعو لهفه، إذا قال: والهفاه. وقوله: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14]: أن لن يعود إلينا إلى الآخرة، بلى ليحورن، ثم استأنف فقال: إن ربه كان به بصيرا. وقال أبو إسحاق الزجاج (¬4): فسوف يدعو ثبورا أي يقول: يا ويلاه وياثبوراه، وهذا يقوله من وقع في هلكة، أي من أوتي كتابه وراء ظهره، وذلك دليل على أنه من المعذبين. وقوله: {وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 12] أي يكثر عذابه. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): وإذا. (¬3) معاني القرآن (3/ 139). (¬4) معاني القرآن وإعرابه (5/ 235).

وقوله: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] هذه صفة الكافر، ظن أن لن يبعث، ومعنى يحور في اللغة: أن لن يرجع إلى الله عز وجل، بلى إن ربه كان به بصيرا قبل أن يخلقه عالما بأن مرجعه إلى الله عز وجل. وقال أبو جعفر النحاس عندما ذكر الآية: يروى أن أيمانهم تغل إلى أعناقهم، وحكى عن مجاهد أنه قال: تجعل يده وراء ظهره. قال: وقال مجاهد: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}: أن لن يرجع إلينا. (¬1) قال: وقال قتادة: {أَنْ لَنْ يَحُورَ}: أن لن (¬2) يبعث. (¬3) وقال ابن سلام في قوله: {يَدْعُو ثُبُورًا} ... [الانشقاق: 11] أي بالويل والهلاك في النار. (¬4) قال: {وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 12] هي النار. {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} (¬5) [الانشقاق: 13]: لا يؤمن بالبعث. وذكر (ق.26.ب) عن السدي في قوله: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14]. أي حسب أن لن يرجع إلى ربه، بلى إن ربه كان به بصيرا أنه سيبعثه. ¬

(¬1) رواه ابن جرير (12/ 510) وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (8/ 457). (¬2) من: يرجع إلينا إلى هنا سقط من (ب). (¬3) رواه ابن جرير (12/ 510) وعبد الرزاق وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (8/ 457). (¬4) قال ابن كثير (4/ 489): أي خسارا وهلاكا. (¬5) قال ابن كثير: أي فرحا لا يفكر في العواقب ولا يخاف مما أمامه.

وفي الهداية (¬1) والتحصيل (¬2): إن هذه الآيات نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد وفي أخيه الأسود بن عبد الأسد فأبو سلمة هو الذي يعطى كتابه بيمينه وهو أول من هاجر من مكة إلى المدينة، وأخوه الأسود كان كافرا، وهو الذي يأخذ كتابه وراء ظهره، ثم هي عامة في أمثالهما من المؤمنين والكفار. وهكذا في تفسير ابن عباس أن الآيات نزلت في أبي سلمة والأسود. وعندهم جميعا (¬3) في قوله: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] أن معناه أن لن يرجع إلى الله. ولفظ بعضهم: إنه لا يرجع بعد الموت ولا يبعث. وقوله {بَلَى} أي: إنه يبعث ويرجع إلى ربه، ويجازى على عمله. وقال صاحب الغريبين {أَنْ لَنْ يَحُورَ}: أن لن يرجع إلى الله، والحور الرجوع. وهكذا قال ابن قتيبة (¬4) وابن عزيز (¬5) في غريبي القرآن لهما. (¬6) ¬

(¬1) الهداية لمكي بن أبي طالب (287 - نسخة العامة: 218ق). (¬2) وتفسير القرطبي (19/ 272). (¬3) الهداية لمكي بن أبي طالب (287 - نسخة العامة: 218ق). (¬4) تفسير غريب القرآن (521) دار الكتب العلمية، تحقيق أحمد صقر، 1978. (¬5) غريب القرآن لابن عزيز (179ب) نسخة خزانة تمكروت رقم: 1562 - ضمن مجموع. (¬6) غريب الحديث للخطابي (2/ 194) والنهاية لابن الأثير (1/ 458 - 459).

وكذلك قال (¬1) منذر بن سعيد في أحكام القرآن له، وهو رجل ظاهري مثل ابن حزم، إلا أنه دونه في الشذوذ. وهكذا قال غيرهم من أهل اللغة (¬2) ممن تكلم على الحور وعلى حار ويحور، وكلهم أصفقوا على أن قول الله تعالى: {أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] إنما معناه أن لن يرجع إلى الله (¬3)، فيجيء على قولهم أن الآية إنما نزلت فيمن هو كافر ولابد، كما نقله المفسرون. وهذا هو الحق الذي لا غبار عليه ولا يصح غيره. فلنرجع بعد نقل هذا كله عن أهل التفسير وأهل اللغة إلى تتبع كلام ابن حزم والرد عليه فنقول والله المستعان: أما قوله: (ذكر الله عز وجل أن الناس كلهم يأخذون كتبهم يوم القيامة على ثلاثة أضرب باليمين أو بالشمال أو من وراء الظهر)، ففيه تجوز، لأن الله تعالى لم يخبرنا بذلك، أعني بما قال ابن حزم من التقسيم على النحو الذي ذكره. وإنما أخبرنا سبحانه في سورة بأن هناك من يأخذ كتابه بيمينه، ومن يأخذ كتابه بشماله. وأخبرنا في سورة أخرى بأن هناك من يأخذ كتابه بيمينه ومن يأخذ كتابه وراء ظهره، ولم يقل إنه قسم ثالث، كما قال ابن حزم. ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) لسان العرب (3/ 383 - 384) والقاموس المحيط (1/ 539) والصحاح (2/ 295). (¬3) في (ب): وكلهم أصفقوا على أن الله تعالى إنما أراد بقوله أن لن يحور أن لن يرجع إلى الله.

والفرق بين فهمنا وفهمه للآية أنه جعلهم ثلاثة (ق.27.أ) أقسام ثم طلب أن ينزل كل قسم على طائفة فتصير الأقسام ثلاث طوائف، ونحن لم نفهم من الآيتين أن الله قسم من ذكر فيهما ثلاثة أقسام، وإنما ذكر قسمين في السورة الأولى، ثم ذكر القسمين بعينهما (¬1) في سورة ثانية، غير أنه ذكر القسم الثاني منهما بعبارة أخرى لا تتنافى مع العبارة الأولى، بل تجتمع معها على مورد واحد، لأنا ندل (¬2) على أن من يأخذ كتابه بشماله -وهو الكافر- هو الذي يأخذه من وراء ظهره، وأن المؤمن بربه، وإن كان من أهل الكبائر، إنما يأخذ كتابه بيمينه على ما سيأتي ذكره. وأما احتجاجه في هذا الباب بقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورا} [الإسراء: 13]، ففيه نظر، لأن الكتاب الذي تضمنته هذه الآية هو كتاب العمل الذي عمله المكلف في الدنيا من خير أو شر، وهو الذي قال الله تعالى فيه: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. ومعنى قوله: {نَسْتَنْسِخُ} أي نجعل الملائكة تنسخ أعمالكم وتكتبها فيه، وهم الحفظة الموكلون بالمكلفين في الدنيا، وإنما فعل الله ذلك لتقوم الحجة في الآخرة على كل مكلف بعمله المحصي عليه خيرا كان أو شرا. ¬

(¬1) سقطت من (ب). (¬2) كذا في (أ)، وفي (ب) بتر في وسطها.

ولذلك قال الله تعالى في الآية الأولى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء: 15]، فجاءت الآية فيمن اهتدى وفيمن ضل مجيئا واحدا. وقسم سبحانه في الآية الثانية أهل العمل المستنسخ إلى مؤمنين وكفار، وذكر مآل الفريقين في الآخرة. والكتاب المذكور في الآيتين ليس هو عندنا الكتاب الذي يؤخذ باليمين أو بالشمال حسبما ذكره عز وجل في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25]، كما يظهر من كلام ابن حزم، بل هما كتابان: فالأول منهما: هو كتاب العمل المستنسخ. والثاني: هو الكتاب المفرق بين أهل السعادة من المؤمنين المطيعين والعصاة، وبين أهل الشقاوة من الكفار والمنافقين، وهو الذي يعطى للفريقين أمارة على السعادة المطلقة والشقاوة المطلقة، وذلك بعد الوقوف على كتاب العمل والمحاسبة به للصنفين جميعا. وهذا المعنى لم نر لغيرنا فيه شيئا والذي قلناه في ذلك هو الذي ظهر لنا فيه، والله (ق.27.ب) أعلم بالصواب. وأما قوله: (ووجدنا الناس يوم القيامة ثلاثة أضرب لا رابع لهم، إما مؤمنين فائزين لا يعذبون وإما مؤمنين معذبين بكبائرهم الراجحة بحسناتهم، ثم لهم الجنة، وإما كفارا مخلدين في النار) فهو قول صحيح في نفسه، ومقصوده

به أن يبني عليه ما يظن أنه الصواب فيما ذهب إليه (¬1). وذلك أنه جعل الفائزين هم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7 - 9]، وقوله أيضا فيمن أخذ كتابه بيمينه: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 21 - 22]، وجعل الذين يأخذون كتبهم بأشمالهم هم الكفار لقوله فيمن كانت هذه صفته: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 33]. وهذان القسمان لا نزاع فيما ذكره فيهما لصحته ووجود النصوص الواردة فيه، حسبما ساقه من الآيات المذكورة. وأما جعله الطبقة الثالثة وهم المؤمنون الذين يخرجون من النار بالشفاعة، هم الذين يأخذون كتبهم وراء ظهورهم فهو محل النزاع بيننا وبينه، فإنا لا نسلم له ذلك ولا نقول به، إذ ليس في الآية ما يدل عليه، وإنما نقول إن أهل الكبائر لاحقون بالفائزين في أخذ الكتاب باليمين لعدم تخليدهم في النار على ما نذكره وندل عليه. وأما قوله: (لا يمكن غير ذلك البتة، إذ لو قال صادق متيقن صدقه ليس في الدار إلا زيد وعمرو وخالد، وهذه ثلاثة أثواب لهم (¬2) ليس لهم غيرها: خز، ووشي، وصوف، فالخز لزيد، والوشي لعمرو، ثم سكت، لما ¬

(¬1) من: ومقصوده إلى هنا كتب في هامش (أ)، ولا يظهر جيدا، واستدركته من (ب). (¬2) سقطت من (ب).

شك أحد في أن الصوف لخالد)، فليس بصحيح، لأن هذا المثال لا يتنزل على الطوائف الثلاث بوجه، لأن زيدا وعمروا وخالدا أشخاص بأعيانهم، فمتى سُكت عن أحدهم بعد ذكر الاثنين منهم (¬1) عُلم المسكوت عنه بعينه ضرورة. وأما الأصناف الذين كنا فيهم فهم مذكورون بصفات، فقد يقع اللبس في أحدهم من أجل ذلك. والذي يقرب من مثلهم في ذلك المثال أن لو قال قائل: دخل الدار أهل الخز بخيلهم، وأهل الوشي بإبلهم ثم يقول بعد ذلك: دخل الدار أهل الخز بخيلهم وأهل الصوف بإبلهم، فيظن الظان أنهم ثلاثة أصناف من حيث ذكر القائل أهل الخز وأهل الوشي وأهل الصوف، ويعلم من فهم عن ذلك القائل مقصده أنه لم يعن إلا صنفين فقط: أهل الخز وأهل الوشي الذين هم أهل الصوف. ويستدل (ق.28.أ) على ذلك بأنهم جميعا أرباب الإبل. فكذلك وصف الله تعالى من يأخذ كتابه بشماله بأنه لا يؤمن بالله العظيم، ووصفه من يأخذ كتابه وراء ظهره بأنه ظن أن لن يحور واحد، إذ الكفر شامل للموصوفين بذلك على ما نقرره. ¬

(¬1) سقطت من (ب).

صنف من يأخذ كتابه وراء ظهره

فصل (صنف من يأخذ كتابه وراء ظهره) (¬1) تقدم في كلام ابن حزم ادعاؤه أن الآية تشهد بصحة قوله، إذ غلط في فهمها وتأولها على خلاف ما هي عليه، وذلك أنه قال: والنص الوارد أيضا يشهد بصحة هذا، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا} ... [الانشقاق: 10 - 12]، وذكر الآية إلى آخرها، ثم قال: فلم يخبر تعالى عن من يؤتى كتابه وراء ظهره بكفر، إلى آخر كلامه الذي قدمناه. وهذه الآية ليس فيها ما يشهد بصحة قول ابن حزم، كما زعم، فلنتكلم على ذلك بكلام يكر على جميع قوله فنقول: إن مذهبه الذي ذهب إليه في حمل هذه الآية على المذنبين المعذبين من المؤمنين يبطل من خمسة أوجه: أحدها: إن أهل التفسير نقلوا أن الآية نزلت في كافر معين، وهو الأسود بن عبد الأسد (¬2)، كما تقدم، وإذا صح ذلك اندرأ قول ابن حزم أنها ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) قاله ابن عباس، كما في تفسير القرطبي (19/ 272).

في المذنبين الذين يخرجون من النار بالشفاعة، لأن الآية إذا تعدت إنما تتعدى إلى جنس من نزلت فيه، وهم الكفار لا إلى غيرهم. الثاني: إنه لا يُنجي ابنَ حزم كونُه جعل من يأخذ كتابه وراء ظهره قسما ثالثا، من كون هذا المذكور يلزم أن يأخذ كتابه بيمينه أو بشماله، وإن كان من وراء ظهره فلا يكون قسما ثالثا، وإنما يكون صفة حال لمن يأخذ كتابه، وما قلناه لازم لابن حزم من وجهين: أحدهما: إن الله تعالى لما ذكر عرض الخلائق عليه في سورة الحاقة بقوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} ... [الحاقة: 18] قسمهم حينئذ إلى من يأخذ كتابه بيمينه، ومن يأخذه بشماله لا غير، وهكذا (¬1) فعل في سورة الواقعة، فإنه ذكر أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ولم يذكر أصحاب الظهر، مع أنه تعرض في السورة إلى تقسيم الناس بأجمعهم بقوله: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} ... [الواقعة: 7]، وذكر مآلهم وما أعد لهم من النعيم والجحيم، وذلك يدل على أن أخذ الكتاب من وراء الظهر ليس قسما برأسه أصلا، إذ لو كان كذلك لذكره الله في هاتين السورتين ولابد، بسبب ذكر القيامة فيهما وتعرضه للحصر في من ذكر. وإذا لم يكن قسما برأسه (¬2) فهو إذا راجع إلى أحد القسمين المذكورين في اليمين أو في الشمال. ¬

(¬1) في (ب): هكذا. (¬2) من: أصلا، إلى هنا سقط من (ب).

الوجه الثاني: إن الظهر ليس فيه جارحة لأخذ ولا لعطاء، وإنما اليد هي المحل لذلك. فإن قال ابن حزم لا يبعد أن يكون الظهر (¬1) محلا لذلك في الآخرة. قلنا: لو كان الأمر كذلك لكانت التلاوة: وأما من أوتي كتابه بظهره، كما قال بيمينه وبشماله، وإنما قول الله في الآية: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10]، وذلك يقتضي أن تكون الجارحة التي تباشر أخذ الكتاب خلاف الظهر، وإذا كانت خلاف الظهر فهي اليد لامحالة. وإذا ثبت أنها اليد فيقال لابن حزم: لابد أن تقول إنها اليمين أو الشمال، ولا يسعه في حق صاحب الكبائر أن يقول: إنها الشمال، إذ ذلك إنما يكون لمن هو من المكذبين الضالين، وهو من (¬2) لا يؤمن بالله العظيم، فلم يبق إلا أن تكون هي اليمين، فصح بذلك أن المؤمن الذي هو صاحب كبائر إنما يأخذ كتابه بيمينه ولابد، وسندل على أنه لا يصح أن يأخذه من وراء ظهره، وإنما الذي يأخذه من وراء ظهره هو الكافر يأخذه بشماله كذلك، على ما سيأتي بحول الله. الثالث من الوجوه الخمسة: إن أخذ الكتاب من وراء الظهر لا يخلو أن يكون القصد به الكرامة أو الإهانة، ومحال أن يقصد به الكرامة، إذ ليس ذلك من دأب الكرامة، فلم يبق إلا أن يقصد به الإهانة. وهو الذي تدل عليه الإهانة. ¬

(¬1) سقطت من (ب). (¬2) سقط من (ب).

وإذا كان القصد به الإهانة فسيكون على مذهب (ابن حزم) (¬1) حال صاحب الكبائر من المؤمنين أسوأ من حال الكافر، لأن الكافر عنده يأخذ كتابه بشماله لا من وراء ظهره، ومن يأخذ كتابه بشماله من قبل وجهه أحسن حالا ممن يأخذ كتابه وراء ظهره، لأن أخذ هذا لكتابه (¬2) يكون من قبل قفاه، وإن صرف وجهه إلى خلفه، كما ورد في التفسير، إذ حمل بعضهم قوله تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47] على ذلك (¬3). (ق.29.أ) كان هذا الفعل أشد في الإهانة، فينبغي أن يجعل ذلك في حق الكافر المهان في كل حالة، فقد قال الله تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج: 18] متصلا بقوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18]، ولا يحق العذاب إلا على من هو كافر، كما قال: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} [الزمر: 19]. وهكذا هي الإهانة إنما تطلق في القرآن في حق الكافر كما قال: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:69]، وقال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء: 37]. والشرع كله يأبى أن يكون الكافر أحسن حالا من المؤمن كان كيفما كان، فلا يصح أن يكون المؤمن دون الكافر في حال من الأحوال، بل الكافر ¬

(¬1) سقطت من (ب). (¬2) في (ب): الكتاب. (¬3) هذا قول ابن عباس، واختاره ابن جرير (5/ 121).

غايته أن يتشبه بالمؤمن، وذلك بأن يتظاهر بالإيمان فينفعه ذلك في الدنيا، لأنه يحرز نفسه وماله بنفاقه. وكذلك (¬1) ينفعه أيضا في بعض أحوال الآخرة لاختلاط المؤمنين والمنافقين في أول الحال يوم القيامة، فإنه إذا قيل: «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد تبقى هذه الأمة فيها منافقوها» (¬2)، فلا ينكشف أمرهم إلا عندما يسجد المؤمنون لله يومئذ إذ لا يستطيع المنافقون عليه، لأن كل واحد منهم إذا هم بالسجود (¬3) يرجع ظهره طبقا واحدا، كما ورد في الخبر. فإن قيل: إن هذا الوجه الذي قلتم إنه إهانة وجعلتموه من الوجوه التي منعتم بها أخذ الكتاب من وراء الظهر، يرد عليكم فيه دخول المذنبين النار، فإنه إهانة. قلنا: الفرق بين أخذ الكتاب في الجملة وبين (¬4) دخول المذنبين النار، أن أخذ الكتاب إنما هو أمارة على السعادة المؤبدة أو الشقاوة المؤبدة، ودخول المذنبين النار ليس فيه شقاوة مؤبدة، فلذلك لا نسلم أنه إهانة مطلقة فإن المقصود به تخليصهم وتنقيتهم من الذنوب، ليستعدوا للقاء الله تعالى في جنة الخلد فقال (¬5) رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح: «يخلص المؤمنون من النار ¬

(¬1) في (ب): وكذا. (¬2) رواه البخاري (773 - 6204) ومسلم (182) عن أبي هريرة. (¬3) سقطت من (ب). (¬4) من (ب) وليست في (أ). (¬5) في (ب): قال.

فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في دار الدنيا» (¬1). ألا ترى أن قوله: «حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة»، فإنه يدل على أن الجنة لا يدخلها أحد من المؤمنين (¬2) المذنبين إلا بعد التنقية والتهذيب بالقصاص، وإذا كان الأمر كذلك تبين ما قلناه من أن دخول من يدخل منهم النار ليس بإهانة مجردة. ولذلك يكرمهم الله تعالى بأن لا يحترق فيها (¬3) بعض أجسادهم (¬4). فقد روى أبو هريرة عن النبي - عليه السلام - في حديث الشفاعة قال (¬5): «فيعرفونهم في النار بأثر السجود» (¬6)، يعني الملائكة، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود. ¬

(¬1) رواه البخاري (2308 - 6170) وأحمد (3/ 13 - 57 - 63 - 74) وابن حبان (7434) والحاكم (3349 - 8706) والطبراني في الأوسط (2749) وأبو يعلى (1186) عن أبي سعيد. (¬2) من (ب). (¬3) في (أ): يخترق، وأحيل على الهامش هنا ولا يظهر في الأصل شيء، والمثبت من (ب). (¬4) في (ب): أجسامهم. (¬5) ليست في (ب). (¬6) رواه البخاري (773 - 6204 - 7000) ومسلم (182) وأحمد (2/ 275 - 293 - 533) وابن حبان (16/ 7429) وغيرهم عن أبي هريرة.

وفي حديث أبي سعيد عن النبي - عليه السلام -: «فيقال لهم يعني للمؤمنين (¬1) أخرجوا من عرفتم فتحرم (ق.29.ب) صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه». (¬2) وروى جابر عن النبي - عليه السلام - أنه قال: «إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة» (¬3). فإذا (¬4) كان من يدخل النار من المذنبين تحفظ عليهم فيها دارات وجوههم ومواضع السجود منهم، ومع هذا فيميتهم الله فيها إماتة، كما ورد في الخبر، فإنما ذلك على وجه التكرمة لهم لحرمة الإيمان، وإن كان دخولهم النار في صورة الإهانة. وهذا مثل تأديب الإنسان عبده بالسجن والضرب، فإنه وإن كان إهانة في الظاهر، فهو كرامة في الباطن من حيث يكون قصده بذلك أن يستعد العبد لخدمته ويتشرف بالقرب منه لاسيما إذا كان العبد فدما محتاجا إلى الأدب فذلك إحسان من مولاه إليه، فإذا تأدب بذلك (¬5) وقرب من سيده ¬

(¬1) في (ب): المؤمنين. (¬2) رواه البخاري (7001) ومسلم (183) والنسائي (5010) وابن ماجه (60) وأحمد (3/ 11 - 94) والحاكم (8736) والطيالسي (2179) عن أبي سعيد. (¬3) رواه مسلم (191) وأحمد (3/ 355) عن جابر. (¬4) في (ب): وإذا. (¬5) في (ب): من ذلك.

كانت له الحظوة عنده والمنزلة لديه، ولذلك جاء في حديث الشفاعة: «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة وفيهم من دخل النار قبل ذلك: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (¬1). الرابع من تلك الوجوه: إن الله تعالى لم يخبرنا في القرآن بأن (¬2) أهل الكبائر يدخلون النار ثم يخرجون منها إلى الجنة حتى يجعلهم قسما برأسه فيذكر من أين يأخذون كتبهم، وإنما تولى الله تعالى في القرآن تبيان من يدخل الجنة مخلدا ومن يدخل النار مخلدا، فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ... [النساء: 13 - 14]. وكذلك الآيات التي تقدم ذكرها مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13 - 14]، وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية: من 2 - 3]، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية: 8 - 9]. إلى آخر الآيات. وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] وقوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]. ¬

(¬1) رواه البخاري (6183 - 7080) ومسلم (2829) والترمذي (2555) وأحمد (3/ 88) وأبو عوانة (449) عن أبي سعيد. (¬2) في (ب): ان.

وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى، كقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} ... [الفرقان: 69] (ق.30.أ)، ثم قال: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]. وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَرَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [البينة: من6 - 7] الآية. ومثل قوله: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} [الكهف: 102]، وذكر آيات في وصفهم، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 107 - 108]. ومثل قوله بعد تقدم ذكر المؤمنين والكفار: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الحج: 56 - 57]. ومثل قوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا

أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الكهف: 29 - 30]. الآية. والظالمون المعد لهم النار هم القسم الذي كفر ولم يؤمن، قال الله تعالى في آية أخرى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]. وهكذا إذا استقريت القرآن كله وجدته على هذه الوتيرة. ومن الدليل البين (¬1) على ما قلناه أن الله تعالى لما ذكر في سورة الواقعة جميع الناس في الآخرة وصيرهم ثلاثة أصناف، جعل أهل الجنة صنفين (¬2): - مقربين. - وأصحاب اليمين. ولم يذكر فيهما المعذبين من أهل الكبائر، ولا بد أن يكونوا داخلين في أصحاب اليمين، لأنه لم يبق بعدهم إلا الصنف الثالث الذين هم الكفار المكذبون. وبيقين نعلم أن أهل الكبائر من المؤمنين ليسوا من الكفار المكذبين، فلا بد أن يكونوا من أصحاب اليمين ضرورة، ولم يذكر الله تعالى في السورة ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) في (ب): قسمين.

كما قلنا أن في أصحاب اليمين معذبين، ولا ذكر (¬1) ذلك في الآيات التي تقدمت، لأنه تعالى إنما ذكرهم بالمآل الذي يكون مرجعهم (ق.30.ب) إليه. لأن العذاب بالنار إذا كان لأجل محدود وهو مبلغ القصاص أو (¬2) حلول الشفاعة، فلا بد أن ينصرم ضرورة، وذلك وإن كانت فيه مهلة كبيرة، قليل بالإضافة إلى التخليد في الجنة بعد ذلك أبد الآباد. ومن الدليل البين (¬3) أيضا على ذلك قول الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 1 - 3]. ثم قال بعد آيات: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: من11 - 12]. فإنه سبحانه ذكر أولا قسمين، وهما: الذين كفروا (¬4)، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأخبر أن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق. ¬

(¬1) في (ب): ولاكن. (¬2) في (ب): و. (¬3) سقط من (ب). (¬4) سقطت من (ب).

وذكر أنه مولى الذين آمنوا دون الذين كفروا، ثم أخبر بمآل الفريقين في الآخرة، فأحدهما في الجنة والآخر في النار، ولم يذكر في هذه الآيات أهل الكبائر، ولابد أن يكونوا في أحد القسمين، ومحال أن يكونوا من أهل الكفر، فلم يبق إلا أن يكونوا من أهل الإيمان، لأنهم آمنوا بالله وآمنوا بما نزل على محمد واتبعوا الحق من ربهم في الإيمان وكثير من الطاعات، فلا محالة أن الله تعالى يكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنة وإن عذب بعضهم بالنار، فلا اعتبار بذلك لعدم خلودهم فيها كما تقدم. ومن الدليل البين أيضا على ذلك (¬1) قول الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِب َ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَت ْ مَصِيرًا} [الفتح: 1 - 6]. فأخبر جل وعز في هذه السورة بما يفعل بنبيه - عليه السلام -، وهو أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأنه يتم نعمته عليه ويهديه صراطا مستقيما وينصره نصرا عزيزا. ¬

(¬1) في (ب): على ذلك أيضا.

وأخبر بما يفعل بالمؤمنين والمؤمنات من إدخاله إياهم الجنات على وجه الخلود فيها وتكفير سيآتهم، وأن ذلك هو الفوز العظيم. وأخبر بأنه يعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، وأنه غضب عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم جزاء لأعمالهم. وأخبر أنها ساءت مصيرا، لأجل تخليدهم فيها على وجه الهوان الدائم والعذاب اللازم. فانتظمت هذه الآيات ذكر الخاتمة للجميع، وهو ما يفعل بنبيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما يفعل بالمؤمنين به وبنبيه من الرجال والنساء، وما يفعل بالكافرين به وبنبيه من الرجال والنساء، سواء كان الكفر باطنا أو ظاهرا، فالكفر الباطن هو النفاق، والكفر الظاهر هو الإشراك. وليس للمذنبين من أهل الكبائر ههنا ذكر أصلا، ولابد أن يدخلوا في أحد هذه الأقسام، إذ المقصود بها الحصر في أهل التنعيم بالثواب والتعذيب بالعقاب. ومحال أن يكون أهل الكبائر من المسلمين منافقين أو مشركين، لأنهم مؤمنون بالله تعالى وبنبيه ظاهرا وباطنا، أعني بألسنتهم وبقلوبهم، وإنما معاصيهم في فروع الدين، فلابد أن يدخلوا في المؤمنين والمؤمنات الذين يدخلهم الله الجنة، وإن عذب بعضهم في النار على وجه القصاص، لأن مآلهم إلى الجنة ومستقرهم فيها على ما قدمناه.

فإذ وتقرر ما أردناه من ذلك تقريرا تاما فنقول، والله الموفق للصواب فيما نقوله: إني لا أعلم في القرآن آية تدل على ذكر أهل الكبائر، أعني الذين لا يجتنبونها ولا يتوبون منها بعد ارتكابها إلا قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، على أصح القولين.

تفسير: {فمنهم ظالم لنفسه}

(تفسير: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ}) (¬1) فإن المفسرين اختلفوا في قوله: فمنهم ظالم لنفسه: فقال بعضهم: هو الكافر (¬2). وقال بعضهم: هو صاحب الكبائر الذي لم يتب منها. (¬3) فأما من قال إنه الكافر فاحتج أو احتج من احتج له بكون الله تعالى سماه ظالما لنفسه، وقال: إن هذا اللفظ إنما يطلق على الكفار بدليل قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النحل: 28]. وهذا الاحتجاج ليس بصحيح، لأن هذا اللفظ كما يطلق على الكافر يطلق أيضا (¬4) على المؤمن المذنب، قال الله تعالى حكاية عن آدم وحواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} ... [الأعراف: 23]. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، كما في تفسير ابن كثير (3/ 555). ونحوه عن عكرمة. (¬3) قال مجاهد: هم أصحاب المشأمة. وقال الحسن وقتادة وغيرهما: هو المنافق. وقال قتادة والضحاك: هو المؤمن العاصي. راجع تفسير ابن جرير (10/ 413 - 414) وتفسير ابن كثير (3/ 555)، وتفسير القرطبي (14/ 346). (¬4) ليست في (ب).

وقال فيمن أمسك امرأته ضرارا: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]. وقال في نحو ذلك: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1]. وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]. وقال: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110]. وقال حكاية عن موسى - عليه السلام -: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]. وذلك عندما وكز الرجل الذي قضى عليه. وقال أيضا حكاية عن يونس - عليه السلام -: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، فأطلق يونس الظلم على نفسه لأجل ذنبه. وفي الدعاء الذي علمه النبي - عليه السلام - أبا (¬1) بكر الصديق: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». (¬2) ¬

(¬1) في (ب): لأبي. (¬2) رواه البخاري (799 - 5967 - 6953) والترمذي (3531) والنسائي (1302) وابن ماجه (3835) وابن خزيمة (846) وابن حبان (1976) وغيرهم.

فقد ثبت بما ذكرناه أن الظلم لا يطلق على الكافر فقط، بل يطلق على الكافر وعلى المذنب من المؤمنين، وإنما يدرك الفرق بينهما بما يذكر من أوصافهما وقرائن أحوالهما. واندرأ بذلك قول من قال إنه الكافر بكون الله تعالى أطلق الظلم عليه. ومن قال من المفسرين إنه المنافق لا فرق بينه وبين من قال إنه الكافر، لأن المنافق كافر. وإذا اندرأ ذلك لم يبق إلا قول من قال إن الظالم لنفسه هو صاحب الكبائر الذي مات ولم يتب منها. والدليل على صحة هذا القول ثلاثة أمور: أحدها: إن الله تعالى جعل الظالم لنفسه ممن اصطفاه وأورثه الكتاب بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، ثم قال على وجه التقسيم لهم: فمنهم، ومنهم، ومنهم. فكما تناول الاصطفاء المقتصد والسابق كذلك تناول الظالم لنفسه، ولا فرق، وكيف لا يتناوله ذلك، وهو مؤمن بربه، وقد عمل الصالحات لكونه (¬1) يفعل الطاعات أو بعضها، (ولو كان كافرا لم يتناوله الاصطفاء أصلا) (¬2). الثاني: قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [الرعد: 23] فأعاد الضمير على الثلاثة المذكورين، ولا يصح إعادته على البعض دون البعض، ومن فعل ذلك كان متحكما. ¬

(¬1) في (ب): بكونه. (¬2) ليست في (ب)، وكتبت في هامش (أ)، وعليها علامة التصحيح.

الثالث: إن الله تعالى لما أكمل قصة هؤلاء الذين يدخلون الجنة وذكر قولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] إلى آخر كلامهم، قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] فأخبر عن أهل الكفر بأنهم في النار، فدل ذلك على أن من ذكر قبلهم مؤمنون وأنهم أهل الجنة، وغير هذا من التأويل في الآية تعسف محض. وإنما قيل في الظالم لنفسه أنه الذي لم يتب من الكبائر لأجل أن التقسيم يقتضيه، إذ لو تاب منها لالتحق بالمقتصد، لأن المقتصد إنما يكون من مات على صغائر لم يتب منها فيتولى ذلك الغفران، لاجتنابه الكبائر، أو يكون صاحب كبائر، لكن يموت تائبا منها، ويكون مقتصدا في فعل الخيرات. وأما السابق بالخيرات فهو الفاضل المجتنب للكبائر والصغائر الباذل نفسه في اكتساب الطاعات والمجتهد في فعل القربات ونيل الدرجات. وإذا فرغنا من هذا فنقول: إن هؤلاء الثلاثة الذين ذكر الله في هذه الآية أنهم يدخلون الجنة إنما ذلك ابتداءا في حق بعضهم، وبالمآل في حق بعضهم، لأن المقتصد والسابق بالخيرات يدخلان الجنة من غير عقاب، والظالم لنفسه ينقسم جنسه إلى قسمين: من هو مغفور له، ومن هو مقتص منه. فمن هو مغفور له يدخل الجنة من غير عقاب أيضا، ومن هو مقتص منه يدخل الجنة بعد القصاص، فإذا دخلها آخرا فيعد من أهلها أولا لأجل تخليده فيها، فلذلك حسن أن يرجع الضمير في قوله يدخلونها إلى الجميع. ولنرجع إلى ما كنا فيه، فنقول: إن (ق.32.ب) أهل الكبائر المعذبين في النار بسبب معاصيهم ثم يخرجون منها إلى الجنة إنما بين أمرهم نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

وذكرهم في غير ما حديث من أحاديث الشفاعة، ورويت تلك الأحاديث من غير ما وجه بأسانيد مختلفة وطرق كثيرة، وقد قبل ذلك أهل الإسلام قبولا تاما حتى لا يتطرق إليهم الشك فيه (¬1). ومما يدل على ما قلناه في هذا: الوجه الرابع: ما خرجه مسلم في صحيحه (¬2) عن يزيد الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم -جالسا إلى سارية- عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وإذا هو قد ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22] فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يعني الذي يبعثه الله فيه قال: قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحمود، الذي يخرج الله به من يخرج. قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال: وأخاف ألا أكون أحفظ ذلك، قال: غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: يعني فيخرجون منها (¬3) كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهرا من ¬

(¬1) في (ب): في ذلك. (¬2) صحيح مسلم (1/ 179 - رقم 191). (¬3) من (ب) وليست في (أ).

أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس، فرجعنا قلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد. ألا ترى إلى هذه العصابة من التابعين كيف كانوا يرون رأي الخوارج في تكفير الناس بالذنوب حتى هموا بالخروج عليهم ليقاتلوهم ويقتلوهم، ولذلك احتجوا على جابر بالآيات التي نزلت في أهل النار، إذ اعتقدوا أن كل من يدخل النار لا يخرج منها أبدا، فقادهم ذلك إلى أن العاصي يخلد في (ق.33.أ) النار، لأنهم لم يجدوا في القرآن النص (¬1) على من يدخل الجنة بعد خروجه من النار. وانظر إلى الصاحب كيف لجأ في ذلك إلى ما سمعه من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل لهم: كيف تنكرون هذا وهو (¬2) في القرآن؟. وغاية ما استدل جابر في ذلك بذكر المقام المحمود في الجملة، وتأوله على شفاعة النبي - عليه السلام - في إخراجه من يخرج من النار. وهذه الشفاعة يتضمنها المقام المحمود، لأنه يحتوي على الشفاعة الكبرى والشفاعة الصغرى (¬3)، فالشفاعة الكبرى هي إراحة الناس من هول الوقوف ¬

(¬1) في (ب) تقديم وتأخير. (¬2) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في النسخة التي وقفت عليها. (¬3) الشفاعة عند أهل العلم ستة أنواع، استوعبتها بأدلتها في كتابي العقيدة الميسرة، وهي باختصار: - الشفاعة العظمى. - الشفاعة في استفتاح باب الجنة. - الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه. ... = = - الشفاعة في رفع درجات أقوام في الجنة. - الشفاعة في دخول الجنة بلا حساب. - الشفاعة لأهل الكبائر ليخرجوا من النار.

يوم القيامة (ليتعجل لهم الحساب) (¬1)، وهي التي يتدافعها الأنبياء صلوات الله عليهم حتى تصل إلى نبينا - عليه السلام -، وهي المقام المحمود على الحقيقة. والشفاعة الصغرى هي التي ذكرها جابر: من خروج المؤمنين من النار ودخولهم الجنة. وانظر إلى أولئك التابعين كيف عصمهم الله تعالى وصرفهم عن ذلك الرأي المذموم بما ذكر لهم جابر عن النبي - عليه السلام - من خروج من يخرج من النار ودخولهم الجنة، فلم يخرج منهم على الناس غير رجل واحد. فقد تقرر بما ذكرناه أن النبي - عليه السلام - (هو الذي) (¬2) بين وأوضح أن من أهل الكبائر من يدخل النار ثم يخرجون منها بالشفاعة ولكن لم ينقل عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أين يأخذ هذا الصنف كتابه هل بيمينه أم لا، فلنطلب الدليل على ذلك حتى يثلج صدرنا به. وإذا أبطلنا على ابن حزم قوله في الآية التي كنا بصددها تعين أن أهل الكبائر إنما يأخذون كتبهم بأيمانهم ضرورة، إذ لا يأخذ كتابه بشماله إلا من هو كافر لقوله تعالى إخبارا عن من يأخذه (كذلك) (¬3): {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 33]. ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (أ)، وذكر في الهامش لكنه غير ظاهر في نسختي، وأتبته من (ب). (¬2) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في النسخة التي وقفت عليها. (¬3) من (ب)، ومن إخبارا إلى هنا كتب في هامش (أ)، إلا "كذلك" فمبتورة.

فلنشرع في ما بقي علينا من ذلك فنقول (¬1): الوجه الخامس من الوجوه المتقدمة: تتبع الآية وتفهمها على جهة الإنصاف وعدم الغلو من غير اعتبار بقولة (¬2) قائل، وإذا نحن فعلنا ذلك تبين به أن قول ابن حزم (¬3) لا يصح. فإن سياق الآية يبطل أن تكون في حق المذنبين، لأن النار ليست لهم بمستقر ودخولهم إياها دخول استيفاز في (ق.33.ب) الجملة، وإن جاز أن يكونوا فيها مدة. ولهذا فرق النبي - عليه السلام - بينهم وبين أصحاب النار المستوطنين فيها بقوله: «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال: بخطاياهم فأماتهم الله فيها إماتة». الحديث. (¬4) ألا ترى قوله الذين هم أهلها (كيف ساقه - عليه السلام -) (¬5) على وجه التعريف بأن أهل النار الذين بدأ بذكرهم هم المستوجبون لها المخلدون فيها، ليفرق ¬

(¬1) ليست في (ب). (¬2) في (ب): بقول. (¬3) في (ب): أن ذلك القول. (¬4) رواه مسلم (185) وابن ماجه (4309) وأحمد (3/ 11 - 20 - 25 - 78) وابن حبان (184 - 7379 - 7485) والحاكم (4/ 627) وأبو عوانة (456) وأبو يعلى (2/ 348 - 445 - 518) عن أبي سعيد. (¬5) ما بين القوسين كتب في هامش (أ)، وسقط من (ب).

بذلك بينهم وبين الناس الذين أصابتهم النار بذنوبهم (ثم يخرجون منها ويستقرون في الجنة) (¬1). فإذا تقرر هذا فنقول: إن الآية فيها: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} [الانشقاق: 11]، ومثل هذا اللفظ لم يرد في الشرع أنه يطلق على المؤمن البتة ولو كان صاحب كبائر، وذلك لحرمة الإيمان وحرمة المتصف به، فلا يدعو بالويل والثبور في القيامة إلا الهالك المنسد عليه طريق الرحمة، قال الله تعالى في أهل التكذيب المستوجبين للنار: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 11 - 12]. ثم أخبر سبحانه بأنه يقال لهم: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14]. وكذلك قوله: {وَيَصْلَى سَعِيراً} [الانشقاق: 12] لا يطلق على المؤمن، وإن كان مذنبا، فإن السعير إنما أعد للكفار، قال الله تعالى في الآية المتقدمة: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} [الفرقان: 11]، وقال في الشياطين: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5]، ثم قال: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك: 6]، إلى قوله تعالى (¬2): {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي ¬

(¬1) في (ب) هكذا: وفي آخر هذا الحديث أنهم يدخلون الجنة. (¬2) ليست في (ب).

أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك من 10 - 11]. وقال: {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} [الفتح: 13]. فدلت هذه (¬1) الآيات على أن أصحاب السعير هم الكفار والشياطين. ويدل على ذلك دلالة قوية قوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]، إذ قصد به الحصر فيمن هو في الجنة وفيمن هو (¬2) في النار، كما قال سبحانه: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} ... [الأعراف: 30]. ففريق الهدى هو الفريق الذي في الجنة، وفريق الضلالة هو الفريق الذي في السعير. فلا يصح إذن أن يحمل قوله: {وَيَصْلَى سَعِيراً} [الانشقاق: 12] على المؤمن المذنب بوجه، وإنما هو بمنزلة قوله: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15 - 16]، وقوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 11]، فمن صَلِيَ النار والسعير فهو الأشقى. ولا يسمى الأشقى في لسان الشرع إلا الشقي المطرود عن رحمة الله المستوجب عذابه. والتصلية أيضا مختصة بأهل النار المخلدين فيها. ¬

(¬1) ليست في (ب). (¬2) ليس في (ب).

قال الله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 92]. ويقرأ: {وَيَصْلَى سَعِيراً} [الانشقاق: 12] بالتخفيف والتشديد. فمن قرأه بالتخفيف وضم الياء فهو من أُصلي فهو يُصلى، وهو مبني لما لم يسم فاعله. ومن قرأه بالتخفيف وفتح الياء (¬1)، فهو من قولك: صَلِيَ الرجل النار فهو يصلاها، كما قال: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15]، ومنه قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163]. ومن قرأ: "ويُصلَّى سعيرا" بالتشديد (¬2) فهو للمبالغة، ومعناه أنه يُصلى تصلية بعد تصلية، ومرة على إثر أخرى، كما قال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]، وهذا إنما هو في الكفار، فإن أول الآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} [النساء: 56] وقبلها: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} [النساء: 55]. وإنما جعل (¬3) سبحانه ذلك لمن صد عن الإيمان، فإنه قال: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ} [النساء: 55]، ثم ذكر السعير والنار والعذاب لهؤلاء ¬

(¬1) وهي قراءة عاصم وأبي عمرو وحمزة، كما في الحجة (6/ 390). (¬2) وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي، كما في الحجة (6/ 390). (¬3) ليست في (ب).

الكفار الذين صدوا عن الإيمان، ثم ذكر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأنه يدخلهم الجنة على وجه الخلود. وهذا من الذي كنا فيه قبل، من ذكر الله للمؤمنين الذين يدخلون الجنة وللكفار من غير اعتبار بقسم (¬1) ثالث. ومما يؤيد ما قلناه: الآية التي تقدم ذكرها، وهو قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، وقد مضى هنالك أن الظالم لنفسه وهو المذنب الذي لم يتب من كبائره (داخل في الاصطفاء) (¬2)، وأن الله تعالى جعله ممن يدخل الجنة بما يؤول إليه أمره. فإذا كان في الدنيا من المصطفين وفي الآخرة من أهل الجنة فكيف يدعو ثبورا يوم تبلى السرائر، وقد انكشفت (¬3) له الحال (ق.34.ب) وعلم حينئذ أنه لا يخلد في النار (إن دخلها) (¬4)، وإنما يتصور منه الاستسلام والصبر لقضاء الله تعالى حتى ينجيه مما حصل فيه، لاسيما مع كونه لم يُجعل له من الإحساس في النار ما جعل لأهل الكفر (¬5)، فإن النبي - عليه السلام - أخبر بأن الله تعالى يميت أهل ¬

(¬1) في (ب): بقصد. (¬2) ليس في (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، وعليه علامة التصحيح. (¬3) في (ب): انكشف. (¬4) ليست في (ب). (¬5) في (ب): النار.

الذنوب فيها إماتة، وما ذاك إلا ليهون العذاب عليهم تفضلا من الله تعالى على عباده المذنبين. وهذا أيضا يدل على بطلان قول ابن حزم، فإن الله تعالى إذا عامل المذنبين في النار بهذه المعاملة ليفرق بينهم وبين أهل النار الذين هم أهلها حتى يمتازوا عنهم، فكيف لا يعاملهم في حين الموازنة والحساب بتلك المعاملة فيُكرمهم بأخذ الكتاب باليمين، حتى يفرق بينهم وبين أصحاب الشمال، ولا يهينهم بأخذ الكتاب من وراء الظهر الذي يلزم منه أن تكون (¬1) حالهم أسوأ من حال الكفار على ما قدمناه. ¬

(¬1) في (ب): يكون.

معنى {إنه كان في أهله مسرورا}

(معنى {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً}) (¬1) ونرجع إلى تفهم الآية، فنقول: وفيها: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ... [الانشقاق: 13]، وهذا على وجه الذم له، لأنه لا يكون مسرورا في الدنيا إلا بأن يعتقد أن ليس بعد الموت حساب ولا عقاب، فبذلك يتم سروره. وأما من اعتقد أن الله تعالى (¬2) يحييه بعد الموت ويحاسبه على أعماله، ثم يجازيه عليها بالثواب أو بالعقاب فلا يكون في الدنيا مسرورا إلا في أوقات الغفلة، فمتى تذكر رجع إلى حالة الإشفاق والخوف، وهذا هو سبيل المؤمنين بأجمعهم، ولهذا أخبر الله تعالى عن أهل الجنة بأنهم قالوا فيها: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} ... [الطور: 26]. وقال عز اسمه: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41]. فأخبر أن في الخلق من يطغى ومن يخاف مقام ربه، فمن خاف مقام ربه منعه ذلك من السرور في الدنيا، ومن طغى وآثر الحياة الدنيا فلا محالة أنه يكون مسرورا بحاله. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) ليست في (ب).

ومن هاهنا وقع الذم على ذلك السرور. لأن السرور يلزم فيه أن لا يعتري صاحبه خوف ولا حزن، ولا يكون ذلك في الدنيا إلا لمن ينكر البعث، وأما في الآخرة فيكون فيها السرور المطلق الذي لا يشوبه هم ولا حزن أصلا، ولذلك قال الله تعالى فيمن يأخذ كتابه بيمينه وينقلب إلى أهله مسرورا معناه ينقلب إلى أهله في الجنة مسرورا بعمله وبأهله وبثوابه (ق.35.أ) فكان ذلك السرور محمودا من وجهين: - أحدهما: إنه ترتب على حالة الإشفاق الذي (¬1) كان يلزم صاحبه في الدنيا. - والثاني: فرحه بمعاينة ثوابه ودخوله جنة ربه. كما أن ذلك السرور الثاني مذموم من وجهين: - أحدهما: كون صاحبه لاهيا به عن ربه في الدنيا لعدم إيمانه بالبعث. - والثاني: إن ذلك السرور قاده إلى العذاب بالنار في الآخرة، ولذلك جاء عن النبي - عليه السلام - أن الله تعالى قال: «وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، فإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، وإذا خافني في الدنيا أمنته في الآخرة»، أو كما قال (¬2): ¬

(¬1) في (ب): والذي. (¬2) رواه ابن حبان (640) والبيهقي في الشعب (777) عن أبي هريرة بسند حسن. وله شاهد عن شداد بن أوس عند الطبراني في مسند الشاميين (462).

معنى: {إنه ظن أن لن يحور}

(معنى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ}) (¬1) وأما قول الله تعالى في الآية: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14]، فهو إخبار بكفر هذا الذي يؤتى كتابه وراء ظهره، لأن الظن من باب الشك، والشك ضد اليقين الذي تُعبدنا به في باب الإيمان، فمن شك في الله أو في البعث فهو كافر. وما أغرب قول ابن حزم: (فلم يخبر الله تعالى عن من يؤتي كتابه وراء ظهره بكفر)، وإخباره سبحانه بأنه ظن أن لن يحور هو عين الكفر لا محالة، فإن معناه: إنه حسب أن لن يرجع إلى الله تعالى، أي ليس يحييه وينشره للبعث. ولذلك لم يختلف أحد من المفسرين في أن هذا هو معنى الآية، ويدل على كفره قول الله تعالى: {بَلَى} [الانشقاق: 15]، ردا عليه في ظنه، ومعناه: بلى ليحورن وليبعثن ليذوق وبال أمره، ويتبين له عاقبة خسره، ولذلك قال: {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 15]، أي بصيرا به في حالة كفره وحالة بعثه وحالة عذابه. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني.

رد قول ابن جزم في معنى {لن يحور}

(رد قول ابن جزم في معنى {لَّن يَحُورَ}) (¬1) وقول ابن حزم: ومعنى قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14] إنما هو ظن أن لن يحور إلى النار طمعا في المغفرة لمعاصيه، ولم يقل تعالى أن لن يحور إلينا، والحور الهلاك، فإنما ظن أن لن يهلك وألا يرجع إلى النار، غير محصل من وجوه: أحدها: أنه قال في معنى قوله: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14] إنما هو ظن أن لن يحور إلى النار، فلزمه بهذا التقدير أن يكون معنى يحور يرجع، وهو قد فسر الحور بالهلاك، ولا يستقيم له ذلك في قوله، إنما هو ظن أن لن يحور إلى النار، إذ يكون تقديره: ظن أن لن يهلك إلى النار طمعا في المغفرة، وذلك لا معنى له. الثاني: أنه أوقع الحور آخرا على الهلاك والرجوع معا في قوله: فإنما ظن أن لن يهلك وأن لا يرجع إلى النار، فجمع بين اللفظين (ق.35.ب) في معنى يحور، ولا يصح أن يكون الحور يجمع المعنيين، وإنما هو واقع على معنى واحد، ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني.

وذلك المعنى في اللغة هو: الرجوع، ومنه قوله - عليه السلام -: «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» (¬1). وأما تفسيره الحور بالهلاك فهو غير معروف، وكفى بما قدمناه في ذلك عن أهل التفسير وغيرهم، إذ اتفقوا على أن معنى يحور: يرجع، فإنهم قالوا: معناه إنه ظن أن لن يرجع إلى الله، على ما أصلوه من أن الآية نزلت في الكفار. ثم إطلاق ابن حزم الهلاك على من يكون مآله الجنة من المذنبين خطأ، وإنما الهالك من يقع اليأس من فلاحه، كما قال النبي - عليه السلام -: «ولا يهلك على الله إلا هالك» (¬2). الثالث: كونه يقدر أن المعنى إنما هو ظن أن لن يرجع إلى النار، والمؤمن المذنب كيف يظن أنه لا يرجع إلى النار وهو لم يدخل النار قبل ذلك ولا رءاها، والرجوع إنما معناه: العودة إلى أمر قد وقع الانفصال منه والمفارقة له. ¬

(¬1) رواه مسلم (1343) والترمذي (3439) والنسائي (5498 - 5499 - 5500) وابن ماجه (3888) وأحمد (5/ 82 - 83) والدارمي (2572) وابن خزيمة (2533) والبيهقي (5/ 250) وعبد الرزاق (5/ 154) وابن أبي شيببة (6/ 78 - 534) والطيالسي (1180) عن عبد الله بن سرجس. (¬2) رواه مسلم (131) وأحمد (1/ 279) وأبو نعيم في المستخرج (338) وأبو عوانة (242) والطبراني في الكبير (12/ 161) عن ابن عباس.

ولا يخلو على تأويل ابن حزم أن يكون قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14] إخبارا من الله تعالى عن ظن المذنب في الدنيا، أو عن ظنه عند أخذ الكتاب، فإن كان عند أخذ الكتاب فهو لم يحصل بعد في النار، وإن كان إخبارا عن ظنه في الدنيا فهو أبعد من النار وأبعد. فإذن: لا يصح أن يطلق على المذنب ما أطلقه ابن حزم من كونه يظن أنه لا يرجع إلى النار وهو لم يدخلها بعد: الرابع: قوله: (إنما هو ظن أن لن يحور إلى النار، ولم يقل تعالى: أن لن يحور إلينا)، وهذا منتقض، إذ يعكس عليه ويقال له: ولم يقل تعالى: إنه ظن أن لن يحور إلى النار، ثم يطالب بالدليل على قوله: إنما هو ظن أن لن يحور إلى النار، ولن يجد إلى ذلك سبيلا. وأما الدليل على أن معنى الآية: إنه ظن أن لن يرجع إلى الله فظاهر من الآيات، إذ كل ما قلناه في الوجوه المتقدمة وفي بقية الكلام على المعنى الذي تضمنته حجة على ذلك، من حيث أثبتنا أن الآية إنما هي في الكفار لا غير. ثم يلزم من قول ابن حزم أن معنى الآية: إنه ظن أن لا (¬1) يرجع إلى النار، أن يكون هذا الظن الذي قدره مذموما، وما من المؤمنين أحد إلا وهو يظن أن لا يدخل النار، وإن كان فيهم من يقع في المعاصي اتكالا على عفو الله تعالى وطمعا في رحمته. ¬

(¬1) في (ب): لن.

وليس هذا الظن بمذموم منهم (ق.36.أ) بالكلية، بل ربما كان محمودا، فإن الله تعالى يقول: «أنا عند ظن عبدي بي» (¬1) كما قاله - عليه السلام -، فحسن الظن بالله تعالى مرغوب فيه من الشرع في الجملة، فكيف يرد الله تعالى ذلك الظن على صاحبه بقوله: {بَلَى}. وهذا الذي قلناه إنما هو على تأويل ابن حزم، وأما على تأويلنا في الآية فالظن المذكور فيها مذموم لا محالة، لأنه كفر كما قررناه. ثم يلزم عن قول ابن حزم هذا شيء آخر لا يقول به وهو: إنفاذ الوعيد، وذلك أن بلى حرف إضراب وإيجاب، فالإضراب عما قبلها من الكلام من حيث يكون منفيا إما بهمزة الاستفهام على وجه التقدير، وإما بنفي مجرد. والإيجاب هو للكلام الذي يأتي بعدها (¬2) أبدا، والنفي ثابت في هذه الآية، إذ فيها حرف "لن" المذكور في قوله: {لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14]، والجواب الذي بعد بلى محذوف، وهو موجب، وتقديره على تأويلنا: بلى ليحورن، أي: ليرجعن إلى الله بعد موته على ما قدمناه (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (6970 - 7066) ومسلم (2675) والترمذي (2388 - 3603) وابن ماجه (3822) وأحمد (2/ 251 - 315 - 391 - 413 - 445 - 482 - 516 - 517 - 524 - 534) وابن حبان (811) عن أبي هريرة. (¬2) في (ب): بعد هذا. (¬3) من (وذلك أن بلى) إلى هنا كتبت في (أ) في الهامش، وعليها علامة التصحيح، لكن في بعض كلماتها طمس قليل، استدركته من (ب).

وعلى قول ابن حزم إن معنى الآية: إنه ظن أن لا يرجع إلى النار، يكون التقدير: بلى ليرجعن إلى النار، فيلزم على مذهبه- إذ جعل الآية في العاصي المسوف نفسه بالتوبة- أن ينفذ عليه الوعيد، فإنه إذا ظن أن لا يدخل النار، ويقال له: "بلى" كان معناه: بلى ليدخلن النار ولابد، فيكون ذلك ردا للنصوص في العفو عن المذنبين ابتداءا مثل قوله: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]. وهنا انتهى بنا القول في الرد على أبي محمد بن حزم فيما قال في هذه الآية، ونرجو أنا قد ذكرنا في هذه الوجوه الخمسة ما فيه الشفاء في ذلك، وإن كان بعض تلك الوجوه في الرد عليه أقوى من بعض.

رد قول ابن حزم في من يأخذ كتابه وراء ظهره

فصل (رد قول ابن حزم في من يأخذ كتابه وراء ظهره) (¬1) فإن قيل: بقي قوله: ولو كان غير ما قلنا لبقي الأخذ للكتب من وراء الظهر فارغا وهذا لا يجوز، ولبقي المؤمنون المعذبون لا بيان من أين يأخذون كتبهم، وهذا لا يجوز البتة، لأن الله تعالى قال: {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، و {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 36]. فما عندكم فيه؟ قلنا: أما قوله: " ولو كان غير ما قلنا لبقي الأخذ للكتب من وراء الظهر فارغا" فهو غير لازم، بل له فائدة كبيرة على ما نذكره، وحاشى لكلام الله تعالى أن يكون فارغا، بل الحكمة كلها فيه، علم ذلك من علمه، أو (¬2) جهله من جهله. وقد تقدم أن المقصود بالآية والمعني بها إنما هم الكفار، ثم لا يخلو أن يراد بذلك جميعهم، أو يراد به صنف منهم، فإن أريد به صنف منهم فلا يبعد ذلك من مفهوم الآية، وإن كنت لم أر قائلا به. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): و.

وذلك أن الله تعالى قال في صفة من يأخذ كتابه وراء ظهره: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14]. وقد تقرر أن الظن من باب الشك، فمن ظن أن لا يرجع (ق.36.ب) إلى الله فهو منه شك في المعاد، فيكون أخذ الكتاب من وراء الظهر لهذا الصنف الذين عندهم الشك في الإيمان بالمعاد أو بالله تعالى، ويكون الأخذ للكتاب بالشمال للمكذبين كما قال في سورة الواقعة، وهو معنى قوله في سورة الحاقة: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 33] أي: لمن جزم على التكذيب وعدم الإيمان. ولا يتصور أن يكون الظن في الآية المتقدمة بمعنى: اليقين أصلا، لأنه محال أن يتيقن أحد أنه لا يبعث، لأن ذلك من جائزات العقول، وأيضا فقد رد الله تعالى ذلك الظن بقوله: {بَلَى} [الانشقاق: 15]، ولو (¬1) كان يقينا لم يمكن رده. وإن كان المراد بالآية جميع الكفار على اختلاف طبقاتهم من شاك وجاهل ومكذب ومنافق حتى يكون الأخذ للكتاب من وراء الظهر عاما لكل من يأخذ كتابه بشماله على ما يظهر من جميع أقوال المفسرين، فذلك متجه جدا، وله فائدة كبيرة. ¬

(¬1) في (ب): وإن.

وذلك أن الله تعالى لما ذكر في غير هذه (¬1) السورة من يأخذ كتابه بيمينه ومن يأخذه بشماله من غير مزيد، أمكن أن يعتقد المؤمنون أنه لا فرق بينهم وبين الكفار في ذلك إلا الأخذ باليمين والأخذ بالشمال فقط. فلما أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هناك من يأخذ كتابه من وراء ظهره، وتبين أنه الكافر، أفادنا ذلك شيئا آخر، وهو أن الكافر يأخذ كتابه بشماله من خلفه الذي هو وراء ظهره على وجه الزيادة في الإهانة له، وكأنه تعالى قال: وأما من أوتي كتابه بشماله وراء ظهره (¬2)، فيكون قوله وراء ظهره تبيينا لكيفية أخذ الكتاب بالشمال (¬3). وهذا كما جاء في التفسير أن أهل الشمال تغل أيمانهم إلى أعناقهم وترد (¬4) شمائلهم من وراء ظهورهم. ¬

(¬1) في (أ): هذا. (¬2) هنا طمس في (ب). (¬3) علق البخاري في الصحيح (4/ 1884) عن مجاهد قال: كتابه بشماله: يأخذ كتابه من وراء ظهره. ووصله الفريابي، كما في الفتح (8/ 697). وقال ابن كثير في تفسيره (4/ 489): وأما من أوتي كتابه وراء ظهره، أي بشماله من وراء ظهره، تثنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك. وانظر تفسير القرطبي (10/ 419) والطبري (30/ 117). واستظهر ابن عثيمين في شرح الواسطية (509): أن من الناس من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يأخذه بشماله وتجعل يده من وراء ظهره. (¬4) في (أ) بياض هنا، وأتممته من (ب).

ويكون المؤمن يأخذ كتابه بيمينه من تلقاء وجهه على جهة المكرمة (¬1) له، فيفترق حال المؤمن من حال الكافر في ذلك اليوم المشهود بهذين الوجهين على الصفتين الظاهرتين للعيان، وهما: - الأخذ باليمين من تلقاء الوجه. - والأخذ بالشمال من وراء الظهر. وقد اندرأ بذلك، والحمد لله، ما توهمه ابن حزم من الفراغ في الآية إذا لم تحمل على مذهبه. وقوله: (ولبقي المؤمنون المعذبون لا بيان من أين يأخذون كتبهم، وهذا لا يجوز البتة) لا يلزم أيضا. فإن الله تعالى وإن لم ينص لنا على هذا القسم من أين يأخذون كتبهم، فقد أعطانا قاعدة نتعرف بها ذلك، وهي أن من يأخذ كتابه (ق.37.أ) بشماله هو المكذب الذي لا يؤمن بالله. وتبين بما قررناه أن قوله: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14] إنما المقصود به الكافر، فخرج من ذلك أن الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم هم أهل الإيمان ضرورة، وذلك ينطلق على كل مؤمن مطيعا كان أو عاصيا. وهذا كما بيّن لنا أن من ثقلت موازينه فهو المفلح الذي هو في عيشة راضية، ومن خفت موازينه فهو مخلد في جهنم، ولم يبين لنا المعذبين من المؤمنين هل تخف موازينهم أو تثقل. ¬

(¬1) في هذين الكلمتين بياض قليل في (أ).

وقد دلت قواطع الشرع على أن التخليد في النار لا يكون لمؤمن أصلا، فأفادنا ذلك أنه لم يقصد بقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون: 103] أهل الإيمان، وإن جاز أن تخف موازين بعضهم بكثرة المعاصي لا بأصل الإيمان، فإنا سنذكر بعد أن الإيمان لا يوزن، إذ لا توازيه في الموازنة معصية أصلا (¬1). ¬

(¬1) وهذا فيه نظر، كما سأبين في محله.

تعذيب بعض من يأخذ كتابه بيمينه

(تعذيب بعض من يأخذ كتابه بيمينه) (¬1) فإن قيل: فيلزم على قولكم أن يعذب بعض من يأخذ كتابه بيمينه. قلنا: نعم، قد يكون فيمن يأخذ كتابه بيمينه من يعذب، فإنه إذا ثبت أن الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم هم أهل الإيمان فقد دخل في جملتهم المطيع والعاصي ضرورة، والعاصي قد يكون مغفورا له، فيلحق بالمطيع في كونه لا عقاب عليه، وقد يكون معذبا بقدر معاصيه، وذلك لا ينافي أخذ الكتاب باليمين، إذ لذلك فائدة نذكرها الآن. فإن قيل: فإذا ثبت أن العاصي يأخذ كتابه بيمينه، فمتى يكون أخذه له هل قبل دخول النار أو بعد الخروج منها. قلنا: يظهر من الملاحظة للشرع أنه إنما يأخذ كتابه بيمينه بعد الحساب وقبل جواز الصراط، إذ ذلك هو وقت الموازنة التي تكون بإثر الفراغ منها لأخذ الكتاب باليمين فائدة للمطيع وللعاصي. أما المطيع فيأمن العقاب ويهون عليه جواز الصراط، وأما العاصي فيأمن الخلود في النار، لعلمه بأنه من أهل الإيمان، فيكون وإن دخل النار متأنسا بعدم خلوده فيها. وأما تأخير أخذ الكتاب باليمين للعاصي المعذب في النار حتى يخرج ¬

(¬1) هذا العنوان والذي بعده زيادة مني.

منها فلا فائدة فيه حينئذ لعلمه بأنه يدخل الجنة، إذ ورد في الشرع النص بأن من يخرج من النار من المؤمنين المذنبين فإنهم (¬1) يدخلون الجنة أو يجعلون في ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يدخلون الجنة (¬2). ولم يرد نص من الشرع أن من يخرج من النار منهم يستأنف لهم النظر (ق.37.ب) فيما فرغ منه قبل دخول النار من أخذ كتاب ونحوه. فإن قيل: ولم يرد أيضا نص بأن من يدخل النار من المؤمنين يأخذون كتبهم بأيمانهم حين الموازنة. قلنا: هذا وإن لم يرد نص فيه فيكفي في ذلك أن الناس ينقسمون إلى من يأخذ كتابه بيمينه، وإلى من يأخذه بشماله ضرورة، وأن المعذبين داخلون في أحد القسمين. ومحال أن يكونوا من أهل القسم الثاني، إذ لا يكون منهم إلا من هو كافر، فلم يبق إلا أن يكونوا من أهل القسم الأول كما تقدم. وإذا ثبت أنهم من أهل القسم الأول دخلوا في جملتهم، فأخذوا كتبهم في الوقت الذي يأخذه فيه من لا يعذب من أهل القسم المذكور، إذ ليس عندنا من الشريعة أخذ الكتاب إلا في حين الموازنة، فوجب أن يجعل ذلك لجميع الأقسام المذكورة من كافر ومؤمن مغفور له أو معذب، إذا كان مآله إلى الجنة. ومن الدليل على ذلك أن النبي - عليه السلام - قال: «يأتي أحدكم يوم القيامة بصلاة وصيام فيكون قد ضرب هذا وشتم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، ¬

(¬1) من (ب) وليست في (أ). (¬2) رواه البخاري (773 - 6204 - 7000) ومسلم (182) عن أبي هريرة. ورواه البخاري (6192 - 7001) ومسلم (183 - 184) عن أبي سعيد.

وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيآتهم فطرحت عليه ثم ألقي في النار» (¬1). ألا ترى أن هذه الموازنة إنما تكون في أول الحساب وأنه لا يدخل النار إلا بعد ما يرى أنه ممن لا يخلد فيها، فهذه هي الفائدة في أخذ الكتاب باليمين في أول الأمر لمن يعذب في النار على ما قدمناه، والله أعلم. ¬

(¬1) رواه مسلم (2581) والترمذي (2418) وأحمد (2/ 303 - 334 - 371) وابن حبان (4411 - 7359) والبيهقي (6/ 93) وأبو يعلى (6499) عن أبي هريرة.

رد زعم ابن حزم حول قوله تعالى: {تبيانا لكل شيء} ونحوها

(رد زعم ابن حزم حول قوله تعالى: {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} ونحوها) (¬1) وأما احتجاجه على ما قال بقول الله تعالى (¬2): {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، و {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 36] فليس له في ذلك حجة. أما قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} فليس قول من قال: إن المراد به القرآن، بأولى من قول من قال: إن المراد به اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ما كان وما هو كائن. بل القول بأنه اللوح المحفوظ، وهو المروي عن ابن عباس (¬3)، هو الصواب (¬4)، لما يدل عليه سياق الآية، والآية ليس فيها أصلا ما يستدل به على أن الكتاب المذكور هو القرآن، فصرفه إلى اللوح المحفوظ أشبه بمفهوم الآية، لاسيما وقد عبر عنه بأم الكتاب. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) ليست في (ب). (¬3) رواه ابن جرير (5/ 187). (¬4) وهو اختيار القرطبي (6/ 420) والبغوي (2/ 95) وغيرهم.

قال (ق.38.أ) الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] والضمير في "إنه" للقرآن (¬1) المتقدم الذكر في الآية التي قبلها، وذلك كقوله في آية أخرى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} ... [الواقعة: 77 - 78]. وأما قوله تعالى: {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فمسلم (¬2) كون القرآن هو المقصود به، فإن الله تعالى قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. ومعنى قوله: {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] أي تبيانا لكل شيء تعبدنا به، والمقصود بذلك أن الأصول التي تعبدنا بها من الأحكام مذكورة في القرآن، وليس المراد أن في القرآن تفسير كل شيء حتى لا يحتاج إلى بيان فيه، فإن النبي - عليه السلام - هو المأمور بتفسير ذلك للأمة وتبيينه لها. قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وقد فعل ذلك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه بين لأمته من الشرع ما لم يتول الله تعالى تبيانه في القرآن العزيز، مثل أفعال الصلاة ومقادير الزكاة وأركان الحج، وغير ذلك مما تلقته الأمة منه - عليه السلام - في الشريعة قولا وفعلا. وبهذا بعينه نرد على من يقول: إن الكتاب المذكور في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 36] هو القرآن، إذ لو كان كذلك لكان ¬

(¬1) في (ب): القرآن. (¬2) في (ب): فيسلم.

جميع ما تعبدنا به في الشريعة منصوصا عليه في القرآن ومبينا فيه حتى لا يكون في ذلك تنازع بين العلماء. ومعلوم اختلافهم في تأويل الآيات وفيما يندرج تحتها من الأحكام، لكونهم يتباينون في فهم القرآن ويمتازون في إدراك حقائقه، فيتفطن بعضهم فيه لما لا يتفطن له غيره. وفي الكتاب العزيز إشارة إلى هذا المعنى بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. ولذلك قال علي - رضي الله عنه - في حديث له: «ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة، أو فهم أعطيه رجل مسلم في القرآن». (¬1) فقد تبين بهذا كله أن الآيتين المذكورتين ليس لأبي محمد بن حزم فيهما حجة على العموم، إذ أراد أن يجعلهما بعموم شيء فيهما حجة فيما ذهب إليه، كما أنه ليس له في ذلك حجة على الخصوص، حاشى الآية التي هي محل النزاع، وهي قوله: وأما من أوتي (ق.38.ب) كتابه وراء ظهره، وقد أبطلنا قوله فيها بما ذكرناه من الوجوه المتقدمة وذيلنا ذلك بتتبع باقي (¬2) كلامه والانتقاد له حتى انتهينا إلى هذا الموضع الذي اختتمنا به كلامنا في الرد عليه. ¬

(¬1) رواه البخاري (111 - 2882 - 6507 - 6517) والترمذي (1412) والنسائي (4744) وأحمد (1/ 79) والطحاوي (3/ 192) والطيالسي (91) والبيهقي (8/ 28) (9/ 226) وابن أبي شيبة (6/ 363) والطبراني في الأوسط (2160 - 2550) وعبد الرزاق (10/ 100) وأبو يعلى (451) عن أبي جحيفة عن علي. (¬2) ليست في (ب).

والذي حملنا على ذلك من بين سائر أوهامه نكارة قوله فيها وانفراده بتأويلها على ما ذهب إليه، مع كون الكلام فيها مناسبا لغرض هذا الكتاب، فاحتسبنا الأجر في تبيين ذلك حتى لا يغتر من يقف على قوله في الآية، ويعتقد إصابته فيها، أو أن له سلفا من المفسرين يقولون بقوله. لاسيما وهو قد كرر هذا المعنى في كتبه فإنه ذكر ذلك في صدر كتاب المحلى (¬1)، وصدر كتاب المجلى، وإن كان ما قاله في كتاب الفصل هو أبسط، فلذلك آثرنا نقله في هذا الموضع ليكون الرد عليه بعد ذكر قوله واستيفاء حجته. وما أُرى أبا عبد الله الحميدي إلا قد شعر (¬2) ببطلان قول ابن حزم في هذه الآية، فلذلك لم يذكره في كتابه هذا، وذكر ما لم يتفطن لبطلانه، وهو جميع ما تقدم له: 1. من كون المقربين مقصورين على الأنبياء والشهداء. 2. وأن السماوات هي الجنات. 3. وأن الأنبياء والشهداء تعجل لهم الجنة إثر الموت. فإن هذا كله منصوص لابن حزم في كتبه فاستصوب ذلك الحميدي من مذهبه فنقله وتمذهب به، ولم يستصوب ابنُ حزم كتاب الحميدي هذا الذي نحن فيه، ولا استحسنه لأجل ما تقدم له مما قد نقلناه عنه قبل، لأنه هو الذي قاله للحميدي. ¬

(¬1) المحلى (1/ 17). (¬2) في (ب): شرع، وهو خطأ.

وإنما استحسن كتاب الحميدي لأجل ما يأتي له بعد هذا من الموازنة وذكر أقسام أهلها وتنظير بعضهم ببعض فأعجبه ذلك، حتى روى الكتاب ولم يشعر بفساد أكثر تلك الأقسام. وسيأتي الكلام عليها في مواضعها بما يجب. ومن هاهنا هو ابتداء ذكر (¬1) الموازنة عند الحميدي، وما تقدم له إنما جعله كالتوطئة لها، فلنرجع إلى نقل لفظه والكلام عليه حسبما ابتدأنا كتابنا هذا به، والله الموفق للصواب. ¬

(¬1) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا يظهر إلا حرف الذال.

نقل اللفظ: قال الحميدي: ثم قد صح بالنص والإجماع أن الكفار مخلدون في النار غير خارجين منها أبدا بعد دخولهم فيها يوم القيامة، وصحت أيضا بنص القرآن الموازنة وأنه لا يجزى أحد إلا بما كسب، وصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ذكر من يخرج من النار على مراتب، وأنه يقدم من في قلبه مثقال شعيرة ثم مثقال برة، ثم مثقال كذا، على حسب ما ذكر من المقادير مع قول لا إله إلا الله، فلم يبق إلا أنهم المؤمنون المسيئون بيقين لاشك فيه. ونحن ذاكرون نص الحديث، إذ الغرض تبين ما فيه من المقادير، وليكون أقرب لفهم ما تعلق من هذه المسألة به، لكونه حاضرا معها متصلا بها إن شاء الله فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إنه قد روى الثقتان: سعيد بن أبى عروبة وهشام صاحب الدستوائي كلاهما عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة». (¬1) ¬

(¬1) رواه مسلم (193) وابن ماجه (4312) وابن أبي شيبة (7/ 221 - 418) وأبو يعلى (2889 - 2955 - 2993) عن سعيد عن قتادة عن أنس. ... = = ورواه البخاري (44 - 4206 - 6975) ومسلم (193) والترمذي (2593) وأبو عوانة (1/ 156 - 157) والطيالسي (1966 - 2010) وأبو يعلى (2955 - 2976 - 2977) عن هشام عن قتادة عن أنس. ورواه عن قتادة كذلك شعبة وأبو عوانة وهمام وجميعها في البخاري. وللحديث طرق عديدة عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهم.

هذا نص الحديث رويناه من طريق مسلم بن الحجاج في الصحيح، ورويناه من طريق حماد بن زيد عن معبد بن هلال العنزي (¬1) قال: انطلقنا إلى أنس بن مالك وتشفعنا بثابت فانتهينا إليه، وهو يصلي الضحى فاستأذن لنا ثابت فدخلنا عليه فأجلس (¬2) ثابتا معه على سريره فقال له: يا أبا حمزة إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة فقال: حدثنا محمد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لنا إلى ربك فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم، فإنه خليل الله». وذكر الحديث إلى قوله - عليه السلام -: «فأقول: (رب) أمتي أمتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل، ثم أرجع (¬3) إلى ربي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا فيقال لي (¬4): يا محمد (ق.39.ب) ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، ¬

(¬1) رواه من هذا الوجه البخاري (7072) ومسلم (193) والبيهقي (10/ 42). (¬2) ليست في (ب). (¬3) في (ب): فأرجع. (¬4) في (ب): له.

واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل». ثم قال: «إنهم خرجوا من عند أنس فأتوا الحسن بن أبي الحسن البصري فزادهم في هذا الحديث: إن أنسا حدثهم به عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب إيذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، أو قال ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله، وذكر باقي الخبر» (¬1). وقد جاء من طريق (¬2) ثابتة مجيء التواتر. ¬

(¬1) تصرف الشيخ في النقل، فبين نقله وما في صحيح مسلم فروق. (¬2) كذا في النسختين، ولعل الصواب: طرق.

حديث الشفاعة

فصل (حديث الشفاعة) (¬1) قوله: (قد صح بالنص والإجماع أن الكفار مخلدون في النار) صحيح. وقوله: (وصحت أيضا بنص القرآن الموازنة وأنه لا يجزى أحد إلا بما كسب) سيأتي الكلام على التحقيق فيه (¬2) بحول الله. وقوله: (وصح عن النبي - عليه السلام - (¬3) أنه ذكر من يخرج من النار على مراتب، وذكر هو أنهم المؤمنون المسيئون) مستقيم. وأما الحديث الذي ساقه من طريق معبد بن هلال عن أنس بن مالك فهو وإن ذكر أكثره لم يسقه بتمامه لأنه اختصر منه مالا يمس غرضه. ونحن لنا مقصد فيما ترك منه، فلنذكره بتمامه فنقول: إن مسلم بن الحجاج خرج هذا الحديث في كتاب الإيمان (¬4)، وخرجه البخاري في كتاب التوحيد (¬5) بلفظه ومعناه حاشى ألفاظ يسيرة، فلنسق الحديث بلفظ مسلم إذ هو الذي ذكر الحميدي. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): في ذلك. (¬3) في (ب): صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬4) (1/ 183 - رقم: 193). (¬5) (6/ 2727 - رقم: 7072).

وذلك أن مسلما خرجه بطوله عن حماد بن زيد عن معبد بن هلال العنزي قال: انطلقنا إلى أنس (ق.40.أ) بن مالك وتشفعنا بثابت فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى فاستأذن لنا ثابت فدخلنا عليه وأجلس ثابتا معه على سريره، فقال له: يا أبا حمزة إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة، قال: حدثنا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم (- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) (¬1) فيقولون له: اشفع لذريتك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم (¬2)، فإنه خليل الله. فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى (¬3) , فإنه كليم الله. فيؤتى موسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى (¬4) فإنه روح الله وكلمته. فيؤتى عيسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأوتى فأقول: أنا لها، أنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليها إلا أن (¬5) يلهمنيه الله (عز وجل) (¬6)، ثم ¬

(¬1) ليس في صحيح مسلم. (¬2) في صحيح مسلم: عليه السلام. (¬3) في صحيح مسلم: عليه السلام. (¬4) في صحيح مسلم: عليه السلام. (¬5) في صحيح مسلم: الآن. (¬6) ليس في صحيح مسلم.

أخر له ساجدا، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع. فأقول: رب (¬1) أمتي أمتي. فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل. ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا. فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع. فأقول: رب أمتي أمتي. فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل. ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا. فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع. فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار. فأنطلق فأفعل». هذا حديث أنس الذي أنبأنا به. فخرجنا من عنده، فلما كنا بظهر الجبان (¬2) قلنا: لو ملنا إلى الحسن فسلمنا عليه وهو مستخف في دار أبي خليفة (¬3)، قال: فدخلنا عليه فسلمنا ¬

(¬1) في (ب): يارب. (¬2) هي الصحراء، وتسمى بها المقابر كما في شرح النووي على مسلم (3/ 64). (¬3) أي من الحجاج بن يوسف الثقفي.

عليه، فقلنا: يا أبا سعيد جئنا من عند أخيك أبي حمزة فلم نسمع بمثل (¬1) حديث حدثناه في الشفاعة. قال: هيه. فحدثناه الحديث. فقال: هيه. قلنا: ما زادنا. قال: قد حدثنا به منذ عشرين سنة وهو يومئذ جميع. ولقد ترك شيئا ما أدري أنسي الشيخ أم (¬2) كره أن يحدثكم فتتكلوا. قلنا له: حدثنا، فضحك. وقال: خلق (ق.40.ب) الإنسان من عجل، ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه: «ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع. فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله. قال: ليس ذلك لك، أو قال ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله». قال: فأشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك أراه قال قبل عشرين سنة، وهو يومئذ جميع. ¬

(¬1) في صحيح مسلم: مثل. (¬2) في صحيح مسلم: أو.

فصل حديث أنس هذا سقط منه ذكر نوح - عليه السلام -، وهو ثابت في أحاديث الشفاعة، وإنما سقط من رواية معبد بن هلال عن أنس. وأما رواية قتادة عن أنس ففيها ذكر نوح قال فيه: فيقول -يعني آدم-: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن إيتوا نوحا أول رسول بعثه الله عز وجل، قال: فيأتون نوحا صلى الله عليه فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ايتوا إبراهيم - عليه السلام -، وذكر فيه: ويذكر خطيئته، وكذلك في موسى - عليه السلام -. وفي حديث غير أنس (¬1) أن آدم - عليه السلام - يقول للناس حينئذ: «اذهبوا إلى غيري (¬2)، اذهبوا إلى نوح، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقولون له: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، فيقول لهم: إنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم خليل الله»، وهكذا إبراهيم يدفعهم عن نفسه، ¬

(¬1) رواه البخاري (3162 - 4435) ومسلم (194) والترمذي (2434) وابن حبان (6465) وابن أبي شيبة (7/ 415) وغيرهم عن أبي هريرة. (¬2) في (ب): اذهبوا إلى غيري، مكررة.

ويذكر كذباته الثلاث ويحيلهم على موسى، وكذلك يفعل موسى، ويذكر قتله نفسا لم يؤمر بقتلها، ويحيلهم على عيسى، وكذلك يفعل عيسى ويحيلهم على محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولم يأت في أحاديث الشفاعة على كثرتها أن الناس في القيامة يذهبون إلى غير هؤلاء الرسل الأربعة المسمين في هذا الحديث، وذلك لأنهم أولو العزم من الرسل (¬1) الذين أمر نبينا - عليه السلام - أن يصبر كصبرهم على أحد التأويلين. ولأجل علو درجتهم (ق.41.أ) وكونهم أفضل الرسل ذكرهم الله تعالى في كتابه على التعيين في غير موضع، فقال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ... [الشورى: 13]. وقال تعالى لنبينا - عليه السلام -: {َوإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} ... [الأحزاب: 7]. وأما آدم - عليه السلام - فلم يذكره الله تعالى مع هؤلاء الرسل في هاتين الآيتين وجاء ذكره معهم في أحاديث الشفاعة، والذي يظهر لنا في ذهاب الخلق أولا ¬

(¬1) أي أولو الحزم والجد والصبر وكمال العقل، وهم: محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم. ولم يرسل الله تعالى من رسول إلا وهذه الصفات فيه مجتمعة، غير أن هؤلاء الخمسة أصحاب الشرائع المشهورة كانت هذه الصفات فيهم أكمل، وأعظم من غيرهم، كما في معارج القبول (2/ 68 - 69). وانظر شرح الطحاوية (311).

إليه يومئذ إنما هو لكونه أبا البشر على ما نذكره بعد، ولذلك يقولون له: «أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده» (¬1)، وفي رواية أخرى: «أنت آدم أبو الخلق خلقك الله بيده» (¬2)، وفي طريق آخر: «فيأتون آدم فيقولون له يا أبانا» (¬3). وغرض جميع الخلق كلهم حينئذ إنما هو إراحتهم من هول ذلك الموقف الذي يلجمهم فيه العرق، وتدنو الشمس من رؤوسهم، فطلبُ من يريحهم من ذلك ويعجل لهم الحساب هو معنى الشفاعة، وهي الشفاعة الكبرى التي هي مختصة بنبينا - عليه السلام -، كما قال في حديث أبي بن كعب في القراءة: «وأخرت الثالثة ليوم يرغب فيه إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (¬4). ولم يذكر في حديث أنس المتقدم إلا الشفاعة الأخرى التي هي إخراج المذنبين من هذه الأمة من النار، وليست هي المقصودة في أول الحديث الذي ذكر فيه من قول كل واحد من الأنبياء: لست لها، والدليل على ذلك من وجهين: ¬

(¬1) رواه البخاري (3162 - 4435) ومسلم (194) عن أبي هريرة. (¬2) رواه مسلم (193) عن أنس. (¬3) رواه مسلم (195) عن أبي هريرة وحذيفة. (¬4) رواه مسلم (820).

أحدهما: إن الناس الذين هم جميع الأمم ليس لهم غرض في الشفاعة الثانية، لأنهم بمعزل عنها، وإنما الشفاعة التي تعم الجميع هو زوالهم من هول ذلك المقام فقط، فهي التي يطلبون وعليها يحرصون. ولذلك تضمن الحديث أن مدافعة الأنبياء للشفاعة إنما (¬1) تكون حين يموج بعض الناس في بعض، وليس ذلك إلا في أول الحال قبل الحساب والعقاب. والوجه الثاني: ما ذكر في الحديث من كونه - عليه السلام - إذا وصل الأمر إليه سجد فقيل له: ارفع رأسك وسل تعطه فيقول: أمتي أمتي. فيقال له (ق.41.ب): اذهب فأخرج من النار من في قلبه مثقال كذا. فكيف يخرج من النار من أمته من هو بهذا الوصف، وأمته لم يذكر في الحديث أنهم دخلوا النار بعدُ. وذلك كله يدل على أنه سقط من الحديث ذكر الشفاعة التي يحتاج إليها الخلق كلهم، وهي المشار إليها في حديث حذيفة وأبي هريرة معا عند مسلم، فإن فيه - وهو حديث الشفاعة -: «فيأتون محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقوم ويؤذن له وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا». الحديث. (¬2) ¬

(¬1) ليست في (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش. (¬2) رواه مسلم (195) والحاكم (4/ 631) وأبو يعلى (11/ 79) وغيرهم عن أبي هريرة.

فقوله (¬1): «فيقوم ويؤذن له» إشارة إلى الشفاعة الكبرى. وأحاديث الشفاعة إذا استُقريت كلها يخرج منها هذا المعنى، فإن فيها: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ولا يكون ذلك إلا عند إزالتهم من ذلك الموقف، وكذلك فيها ذكر الصراط وجواز الناس عليه، وفيها أن دعاء الرسل حينئذ: «اللهم سلم سلم» (¬2)، وغير ذلك مما تضمنته أحاديث الشفاعة بجملتها، إذ في بعض الطرق منها ما ليس في بعض، كما أن في حديث أنس هذا ما ليس في غيره أيضا. ¬

(¬1) في (ب): وقوله. (¬2) رواه البخاري (4305) ومسلم (183) عن أبي سعيد.

فصل وقول كل واحد من الأنبياء في حديث أنس: (لست لها) أي الشفاعة الكبرى إنما معناه لست لها لأجل الخطايا التي يذكرونها لأنفسهم حسبما ثبتت في حديث غير أنس، وعلى الحقيقة فهم يهابون ذلك المقام، ويعلمون أن الشفاعة فيه تحتاج إلى إذن: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] فهم أعرف بالله من أن يقدموا عليه بغير إذن، لاسيما في ذلك اليوم الذي يقولون فيه: «إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب مثله بعده» (¬1). ولا يبعد أن يقذف في نفوسهم أن المانع لهم تلك الخطايا التي ألموا بها في الدنيا فيذكرونها حينئذ، والمانع لهم على الحقيقة أن ذلك لم يجعل لهم، وإنما خص به محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولذلك يقول: أنا لها، معناه: أنا المستحق لها من بني آدم المأذون له في أمرها، إذ أعلمه الله تعالى بذلك في الدنيا، وفي الآخرة يتبين صدق قوله عند من لا يؤمن به. (ق.42.أ) فإن شفاعة نبينا محمد - عليه السلام - لابد من وقوعها يوم القيامة على نحو ما جاءت به الأحاديث من التفسير لها. ¬

(¬1) هو طرف من حديث الشفاعة، وقد خرجه باللفظ الذي ساقه المصنف: البخاري (3162 - 4435) ومسلم (194) والترمذي (2434) وأحمد (2/ 435) وابن حبان (6465) وأبو عوانة (437 - 438) وابن أبي شيبة (7/ 415) عن أبي هريرة.

فائدة عرض الشفاعة على الأنبياء

(فائدة عرض الشفاعة على الأنبياء) (¬1) فإن قيل: فإذا كانت الشفاعة الكبرى واقعة من النبي - عليه السلام - في القيامة دون سائر الأنبياء، وهو المختص بها دونهم، فما فائدة عرضها قبله على من عرضت عليه منهم. فالجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: إن الأمم لا علم لهم بأن الشفاعة عند محمد - عليه السلام -، إذ كانوا في الدنيا قبل وجوده وبعثه فلجؤوا من ذات أنفسهم إلى آدم الذي هو أبوهم ظنا منهم أنه ينجيهم من ذلك الهول، لاعتقادهم أن الأب حريص على نجاة ولده على ما عهدوا حالهم عليه في الدنيا، فهم لم يذهبوا إلى سواه حتى يكون هو الذي يدفعهم عن نفسه، ويقول لهم: اذهبوا إلى نوح فيطيعونه في التوجه إلى نوح مع اعتقادهم أنه لا يحيلهم إلا على ما ينجيهم. وهكذا القول في أمر نوح لهم بالتوجه إلى إبراهيم حتى يصل الأمر إلى نبينا محمد - عليه السلام -. وهذه الأمة عندهم العلم في الدنيا بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو صاحب ذلك المقام، ولم يذكر عنهم في الحديث أنهم يتكلمون في هذا المعنى مع آدم وغيره من الأنبياء، ولابد أن يكونوا حينئذ في جملة الناس، ويحتمل حالهم أمرين: ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني.

أحدهما: أن يكونوا قد ذهلوا عن هذا العلم في ذلك اليوم كما تذهل الرسل عندما يقول الله تعالى لهم: {مَاذَا أَجَبْتُمُ} [القصص: 65]، فيقولون: لا علم لنا، على أحد التأويلين (¬1)، وكما تذهل كل مرضعة عما أرضعت. فإذا ذهلوا دخلوا مع الناس في توجههم إلى آدم وغيره من الأنبياء. الثاني: أن لا يذهلوا عن هذا المقام ويعلمون أن محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو صاحبه لكنهم يكونون مغمورين في الخلق لقلتهم بالإضافة إلى كثرة الخلق، «إذ هم منهم كالرقمة في ذراع الحمار، أو كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود» كما جاء في الحديث (¬2). فلا يسعهم إلا الكون في جملتهم حتى يمتازوا عنهم حين يقال: «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فتبقى حينئذ هذه الأمة فيها منافقوها حتى يقع الفصل فيهم» (¬3). ¬

(¬1) هو قول مجاهد والحسن والسدي، كما في تفسير ابن كثير (2/ 114). (¬2) رواه البخاري (6163) ومسلم (221) والترمذي (2547) وابن ماجه (4283) وأحمد (1/ 386 - 437 - 445) والبيهقي (3/ 180) وأبو عوانة (250) والبزار (1850) والطيالسي (324) عن ابن مسعود. ورواه البخاري (4464) ومسلم (222) وأحمد (3/ 32) وأبو عوانة (253) عن أبي سعيد. (¬3) هو طرف من حديث الشفاعة، وقد تقدم.

الوجه الثاني من الجواب: (ق.42.ب) إن عرض الشفاعة على الأنبياء تشريف لنبينا - عليه السلام -، إذ لو قُذف في قلوب البشر يومئذ أن الرسول محمدا - عليه السلام - هو صاحب ذلك المقام ووصلوا إليه فشفع لهم، لم يقع ذلك من نفوسهم الموقع الذي يقع منهم إذا تدافعها الأنبياء وأحال بعضهم بها (¬1) على بعض، حتى ينتهي الحال فيها آخرا إلى محمد - عليه السلام -. والأنبياء صلوات الله عليهم لا يخلو حالهم في إحالة بعضهم على بعض من أن يكون عندهم علم بالشفاعة أو لا يكون: فإن كان عندهم علم بها في الدنيا فيُنزل حالهم على أن يكون لهم ذهول هنالك كما يكون لغيرهم. وإن لم يكن لهم علم بذلك فيكون كل واحد منهم يحيل على من كان بعده من أولي العزم من الرسل معتقدا أن له فضيلة عند الله تعالى من غير خطيئة، إذ يعتقد في نفسه قصوره عنها لأجل الخطيئة التي كانت له في الدنيا وبراءة ساحة الرسول الذي يحيل عليه بها عنده. ويحصل بمجموع ذلك ما ذخره الله تعالى لنبيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشفاعة بعد تدافع الأنبياء لها على معرفة من بني آدم كلهم مؤمنهم وكافرهم، شقيهم وسعيدهم، صغيرهم وكبيرهم، ولله على ذلك الحمد والمنة. ¬

(¬1) في (ب): فيها.

نقل اللفظ قال الحميدي بإثر الحديث المتقدم: ففي هذا بيان المقادير التي جعلها الله تعالى سببا لخروجهم من النار بالشفاعة على حسب مآلهم منها تفضلا من الله عز وجل، إذ جعل ما اكتسبوا من الخير وعملوه مما قد كان الله تعالى هو الموفق له والمعين عليه والمهيئ لآلات الاكتساب له سبيلا إلى الفوز والنجاة، تغمدا منه برحمته لهم، كما شاء لا إله إلا هو. وفيه أن تلك المقادير المذكورة من مثقال برة وذرة إنما هي مما سوى الإيمان الذي هو قول لا إله إلا الله، لكن من سائر الأعمال التي تسمى إيمانا أيضا، لقوله تعالى فيمن قال لا إله إلا الله وليس له غيرها: «ليس ذلك لك». وأبانهم عن أهل تلك المقادير لتوحده عز وجل بإخراجهم من النار. وهذا بين والحمد لله، وهذا أيضا يبين أن الذي توحد الله عز وجل بإخراجهم من النار فيمن (ق.43.أ) قال لا إله إلا الله ولم يعمل خيرا قط إنما هو من قالها مرة واحدة فقط مصدقا ومات على ذلك. لأن قول لا إله إلا الله حسنة، فإذا كررها حصلت له حسنة أخرى، فهو أزيد خيرا ممن لم يقلها إلا مرة واحدة فقط.

ونص الخبر يدل على أن الذين توحد الله تعالى بإخراجهم برحمته لا بالشفاعة إنما هم من ليس في المؤمنين أحد أقل خيرا منهم، (¬1) هذا نص الخبر المذكور وغيره من الآثار الثابتة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2) الواردة في هذا الباب. ¬

(¬1) يشير إلى حديث الشفاعة الطويل, وقد تقدم. وفيه: فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون, ولم يبق إلا أرحم الراحمين, فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما. هذا لفظ مسلم (183) عن أبي سعيد. (¬2) من (ب).

فصل أما قوله: (وفيه أن تلك المقادير المذكورة من مثقال برة وذرة إنما هي مما سوى الإيمان الذي هو قول لا إله إلا الله، لكن من سائر الأعمال التي تسمى إيمانا أيضا) فهو ظاهر من الحديث الأول الذي رواه قتادة عن أنس، إذ فيه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وهكذا قال في البرة والذرة. فجمع بين قول لا إله إلا الله وهو عبارة عن الإيمان وبين ما في القلب من الخير وهو الزائد على الإيمان (¬1)، على أن البخاري ذكر حديث قتادة هذا بهذا النص (¬2)، ثم ذكره من طريق آخر (¬3) وقال فيه: "من الإيمان" مكان قوله: "من الخير"، فيحتمل أيضا أن يكون قوله لا إله إلا الله دليلا على الإيمان، ويكون المعتبر ما في القلب من الخير الذي هو الإيمان. ¬

(¬1) الإيمان ليس مجرد قول لا إله إلا الله، أو مجرد ما في القلب، بل الإيمان اعتقاد القلب وقول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح. هذا إجماع مقطوع به عند أهل السنة. (¬2) (1/رقم: 44) (6/ رقم: 6975). (¬3) (1/ رقم: 44).

وإذا كان هذا فيبقى لنا الإشكال في الحديث الثاني، وهو قوله تعالى: «وعزتي وكبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله» (¬1). إذ لم يعتبر فيه ما في القلب، أعني أنه لم يرد ذلك في نص الحديث، ومحال أن يقصد بها من قالها على معنى النفاق والتكذيب في الباطن لها، فإن المنافق كافر وهو مخلد في النار بإجماع، فلا يصح أن يخرج منها. فلم يبق إلا أن يكون المقصود بها هو المصدق لها بقلبه والمصدق بقلبه ممن يخرج من النار قد جاء الحديث بأنهم ينقسمون إلى من يكون في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان. وهي الطبقة الأولى. والثانية: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان (¬2). والثالثة: من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان. فهذه الموازنات الثلاث (¬3) وردت في هذه الطوائف الثلاث. وفيها دلالات على أن للإيمان (¬4) كمالات، وأن ذلك (ق.43.ب) معتبر بما في القلب لا غير (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (7072) ومسلم (193) والبيهقي (10/ 42) وغيرهم عن أنس. (¬2) ليست في (ب). (¬3) ليست في (ب). (¬4) في (ب): الإيمان. (¬5) كلا، بل زيادة الإيمان ونقصانه غير قاصرة على ما في القلب، بل كل أصول الإيمان يعتريها النقصان والزيادة، فالإيمان يزيد بزيادة أعمال القلوب والجوارح، وينقص بنقصها. ... = = وأنت ترى أن هذا من الظهور بمكان، بل هو أظهر من أن يحتاج إلى بيان. لكن انتشار البدع في الأمة، ووقوف الدولة وراء ذلك، وسكوت العلماء عن البيان يجعل الخفي ظاهرا والظاهر خفيا. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ثم ورد في الطائفة الرابعة أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله فقط ولم يذكر فيها اعتبار ما في القلب. ويحتمل ذلك عندنا أمرين: أحدهما: أن يحمل ما في الثلاثة الأحوال من ذكر الإيمان في القلب على الطاعات التي هي فروع الإيمان (¬1)، وربما كانت الطاعات المختصة بعمل القلب كخشية الله، أو شفقة على مسلم، أو نية في عمل خير، أو هم بحسنة أو ترك سيئة لله، ونحو ذلك، ويكون قول لا إله إلا الله في الحالة الرابعة على هذا التأويل محمولا على الإيمان المجرد الذي ليس فيه إلا التصديق فقط من غير زيادة عليه (¬2). والثاني: أن يحمل الإيمان في تلك الأحوال الثلاث على بابه ويعتبر ما في القلب منه في القوة والضعف، ويكون من قال لا إله إلا الله في الحالة الرابعة معتبرا بمن قالها مرة من عمره عن تصديق، ولم يكن في قلبه تكذيب بها ولا استمر تصديقه لها، بل صحبته في ذلك غفلة حتى مات على هذه الحالة. فتفضل الله على من هذه صفته من الناس بعدم الخلود في النار، التفاتا إلى النطق بتلك الكلمة في الوقت الذي نطق بها فنفعته، إذ لم يكن في باطنه بعد ذلك تكذيب بمعناها. ¬

(¬1) مذهب أهل السنة أن الأعمال من أصول الإيمان. (¬2) قصر الإيمان على مجرد التصديق أو المعرفة قول جهم بن صفوان، وعنه تلقاه المرجئة.

ليس ذلك إليك

ويبقى الإشكال في قول الله تعالى لنبيه - عليه السلام - في حق هذه الطائفة الرابعة عندما سأله الشفاعة فيهم: «ليس ذلك لك» من حيث إن ظواهر الأحاديث تقتضي عموم شفاعته - عليه السلام - لجميع المذنبين من أمته، وهذا القول يعارض تلك الظواهر. *- (معنى قوله تعالى: ليس ذلك إليك) (¬1) ونحن نجيب عن هذا الإشكال بحول الله، فنقول: سؤال النبي - عليه السلام - الشفاعة لمن قال لا إله إلا الله فقط يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك في أمته. والثاني: أن يكون في غير هذه الأمة من الأمم السالفة. فإن قلنا: إنه قصد بذلك أمته فالكلام عليه بحسب التأويلين المتقدمين، فإن أحدهما هو أن يحمل الإيمان في الثلاثة الأحوال على الفروع، وشهادة أن لا إله إلا الله على مجرد الإيمان. فعلى هذا يكون معنى «ليس ذلك إليك» أي: ليس إليك علم ما في القلب، وإنما إليك علم الظواهر (¬2)، ويكون أولئك الأولون (ق.44.أ) عندهم من ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) قال الحافظ في الفتح (11/ 456): قال البيضاوي: وقوله: «ليس ذلك لك»، أي: أنا أفعل ذلك تعظيما لاسمي وإجلالا لتوحيدي، وهو مخصص لعموم حديث أبي هريرة الآتي: «أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله مخلصا». قال: ويحتمل أن يجرى على عمومه ويحمل على حال ومقام آخر. ... = = قال الطيبي: إذا فسرنا ما يختص بالله بالتصديق المجرد عن الثمرة، وما يختص برسوله هو الإيمان مع الثمرة من ازدياد اليقين أو العمل الصالح حصل الجمع. قلت: ويحتمل وجها آخر وهو أن المراد بقوله "ليس ذلك لك" مباشرة الإخراج لا أصل الشفاعة، وتكون هذه الشفاعة الأخيرة وقعت في إخراج المذكورين فأجيب إلى أصل الإخراج ومنع من مباشرته فنسبت إلى شفاعته في حديث "أسعد الناس" لكونه ابتداء بطلب ذلك والعلم عند الله تعالى. انتهى قول ابن حجر. قلت: أقوال العلماء المتأخرين في باب الإيمان تميل إلى أصول المرجئة, والقول بشمول الشفاعة لمن ليس معه إلا مجرد التصديق, ويقصدون به المعرفة المجردة عن أعمال القلوب والجوارح, وهو ما عبر عنه الطيبي بالتصديق المجرد عن الثمرة, قول يرجع إلى أصول جهم بن صفوان. وهو ما عبر عنه عقيل القضاعي بمجرد الإيمان، والإيمان المجرد. ومثل هذا الإيمان لا حقيق له، وقد اشتد نكير السلف لقول جهم هذا. والإيمان عندهم اعتقاد وقول وعمل.

فعل الطاعات - وإن قلت - ما يستدل به النبي - عليه السلام - على التفاوت على ما في القلب، حتى يعلم من عنده مثقال حبة من برة ممن عنده مثقال حبة من خردل من الإيمان، ويكون من ليس عنده من الطاعات شيء سوى مجرد الإيمان في القلب يستأثر الله تعالى بعلمه. والثاني: هو أن تحمل المثاقيل هنالك على الإيمان المجرد، ويكون الله تعالى قد أَطلع نبيه - عليه السلام - على ما في قلوبهم بأمارات يتعرف بها تلك الموازنات، فكل من كان في قلبه شيء من الإيمان يدركه النبي - عليه السلام - فيخرجه من النار. ويكون من قال لا إله إلا الله من غير تكذيب بها ولا استمرار تصديق لها لم يجعل الله سبحانه للنبي - عليه السلام - طريقا في تعرف ذلك، فيصدق قوله تعالى له: «ليس ذلك إليك»، إذ لا أمارة عنده على تمييزهم (¬1) في النار من غيرهم ¬

(¬1) في (أ): نميزهم.

من الكفار، فيكون الله تعالى هو المتولي لأمرهم لشهادتهم بوحدانيته في الوقت الذي نطقوا به، إذ هو المستأثر بذلك في عالم الغيب. وعلى هذين التأويلين يصدق أن تكون هذه الحالة الرابعة في أهل هذه الملة كما تقدم، وهو الذي يظهر من الحسن بقوله عن أنس: ولقد ترك شيئا ما أدري أنسي الشيخ أو كره أن يحدثكم فتتكلوا. وأما الوجه الثاني: وهو أن يكون سؤال الشفاعة في من قال لا إله إلا الله من غير هذه الملة فهو قوي في معناه. وذلك أن الحديث يتضمن أربعة أحوال: ففي الأحوال الثلاث منها إذا خر النبي - عليه السلام - فيها ساجدا يقال له يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فيقول: «رب أمتي أمتي»، فيقال له: انطلق، فيخرج من النار من يخرجه على حسب التدريج المذكور في الحديث، وفيها كلها: «أمتي أمتي». فالمخرجون من النار هم من الأمة بلا إشكال، فزاد الحسن ذكر الحالة الرابعة، بأن قال: «ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع» فيقول (¬1): يا رب إيذن لي فيمن قال لا إله إلا الله. قال: ليس ذلك لك، أو قال: ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي ¬

(¬1) في (ب): فأقول.

وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله. هذا نص (ق.44.ب) الحديث، ولم يقل فيه: إيذن لي فيمن قال لا إله إلا الله من أمتي. فيمكن أن يكون النبي - عليه السلام - لما فرغ من أمته ولم يبق في النار منهم أحد لقوله في وصف من يخرج في الثالثة: من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان، إذ أقل من هذا المقدار يعسر إدراكه، سأل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يشفع فيمن قال لا إله إلا الله على الإطلاق من سائر الأمم، فقيل له ليس ذلك إليك. معناه إنك أخذت حظك من الشفاعة واستوفيت نصيبك بأن أخرجت كل من هو مؤمن من أمتك فغيرهم لم يجعل إليك النظر في أمرهم. ولعل هذا المعنى هو الذي حمل أنس بن مالك آخرا على أن لم يحدث بآخر الحديث الذي هو هذه الحالة الرابعة، وحدثهم بالأحوال الثلاث التي هي في حق هذه الأمة. ويؤيد هذا التأويل قول النبي - عليه السلام - في حديث أنس من رواية قتادة عنه: «يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن»، أي: وجب عليه الخلود، هكذا في صحيح مسلم (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (6197) ومسلم (193) عن قتادة عن أنس, وعندهما أن الزيادة من قول قتادة. ورواه البخاري (7002) ومسلم (193) في مكان آخر وابن حبان (6464) عن قتادة عن أنس مدرجا.

وعند البخاري (¬1) من بعض الطرق: «ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود»، بواو العطف، على أنه من قول النبي - عليه السلام -. فهذا النص يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يبق من أمته في النار أحد أو أن من أخبر عنه القرآن بأنه في النار من أهل الكفر هو الذي خلد فيها. وإذا كان الأمر هكذا فكيف يرجع فيقول: إيذن لي فيمن قال لا إله إلا الله من أمتي، فيكون الجواب أن يقال له: ليس ذلك إليك. فإن قيل: فقد تقدم لكم أن الأنبياء أعرف بالله من أن يقدموا عليه في الشفاعة بغير إذن، فكيف يستقيم لكم ذلك؟ مع قولكم: إن محمدا - عليه السلام - سأل الشفاعة لمن لم يجعل له النظر فيهم من سائر الأمم على هذا التأويل الثاني. فالجواب عن ذلك: أن الأنبياء الذين يسأل الناس منهم الشفاعة يوم القيامة إنما أقيموا مقام القبض فأدركتهم الهيبة (¬2)، ولذلك يقولون: نفسي نفسي نفسي، ويذكرون سبب قبضهم، وذلك قولهم: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب مثله بعده، ونبينا محمد - عليه السلام - أقيم مقام البسط والإدلال في ذلك اليوم، ولهذا يقول: أمتي أمتي، ولا يذكر نفسه. ولا بسط أعظم من أن يقال له: سل تعطه واشفع تشفع، ولما أجيب بهذا القول في كل (¬3) مرة شفع فيها، ترقى من ذلك إلى أن سأل الشفاعة فيمن ليس عنده إلا مجرد الكلمة إشفاقا (ق.45.أ) على هذا الصنف من الخلود في ¬

(¬1) رواه البخاري (4206 - 6975) عن قتادة عن أنس. (¬2) في (ب): الهبة. (¬3) في (ب): بكل.

النار، معتقدا أنه مأذون له في ذلك، إذ أذن له في أصل الشفاعة، فرأى انسحاب الإذن له في جميع ما يشفع فيه إذ لم يُستثن عليه شيء حيث قيل له: سل تعطه واشفع تشفع، فلما شفع آخرا فيمن كان عنده مجرد الكلمة فقط أعلمه الله تعالى بأنه سبحانه هو المتولي لخروج ذلك الصنف خصوصا من غير شفاعة شافع. وهذا الجواب إنما قلناه على أن نفرض صحة السؤال فنفرق به بين مقام النبي - عليه السلام - وبين مقامات غيره من الأنبياء فيما ذكرناه، وإلا فالسؤال مندفع باعتبار آخر، وهو أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل في الحديث شفعني (¬1) فيمن قال لا إله إلا الله، وإنما قال فيه: إيذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، أي إيذن لي أن أشفع فيمن قال لا إله إلا الله تأدبا مع الله تعالى في حق هؤلاء مع كونه - عليه السلام - قد شفع في غيرهم المرة بعد المرة. وإذا طلب - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإذن في شفاعة من كان بهذا الوصف فقد اندرأ السؤال، إذ ليس فيه إقدام على الشفاعة بغير إذن سواء كان هذا الصنف من هذه الأمة أومن غيرها. فإن قيل: فإذا فرضنا أن يكون ما ذكرتموه من التأويل منزلا على الأمم السالفة، فما معنى كون الله تعالى يخرجهم بمجرد قول لا إله إلا الله دون شفاعة أنبيائهم لهم؟ ¬

(¬1) في (ب): شفاعتي.

قلنا: أما الشفاعة للأنبياء فلابد منها كما قال - عليه السلام - في حديث أبي سعيد الخدري عن الله تعالى: «شفعت الملائكة وشفع (¬1) النبيون وشفع المؤمنون» (¬2). إلا أن شفاعتهم لأممهم قد تكون بخلاف شفاعة النبي (¬3) - عليه السلام - لأمته، لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لكل نبي دعوة يدعو بها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة». (¬4) فلو كانت شفاعة الأنبياء لأممهم مثل شفاعة نبينا - عليه السلام - لأمته لم يكن لهذه الخاصية التي يختص بها النبي - عليه السلام - من جعله تلك الدعوة شفاعة لأمته معنى. لأنهم كانوا يزيدون عليه بتعجيل الدعوة المستجابة لهم في الدنيا ويستوون معه في الشفاعة في الآخرة، وذلك مناقض لمفهوم الحديث، إذ نص - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنه نظر لأمته وجعل لهم الدعوة المضمونة استجابتها شفاعة لهم ¬

(¬1) في (ب): وشفعت. (¬2) رواه مسلم (183) وأحمد (3/ 94) والحاكم (8736) وغيرهم. (¬3) في (ب): نبينا. (¬4) رواه البخاري (5945 - 7035) ومسلم (198 - 199) والترمذي (3602) وابن ماجه (4307) وأحمد (2/ 275 - 426) ومالك (492) وابن حبان (6461) والبيهقي (8/ 17) (10/ 190) والدارمي (2702) وأبو عوانة (1/ 86) والطبراني في الأوسط (1727) وغيرهم كثير عن أبي هريرة. وفي الباب عن أنس وجابر وابن عباس وأبي ذر وأبي سعيد وابن عمر.

في الآخرة، والمفهوم من هذا أنه - عليه السلام - اختص بها دون سائر الأنبياء وألهم من ذلك إلى مالم يلهموا إليه. وهذا يدل على أن شفاعته لها مزية على شفاعتهم، وشفاعته - عليه السلام - قد علمناها منه وتلقيناها عنه، وهي قوله: «شفاعتي (ق.45.ب) لأهل الكبائر من أمتي» (¬1)، وقوله: «فهي نائلة إن شاء الله من أمتي من مات لا يشرك بالله شيئا» (¬2). وشفاعة الأنبياء غير معروف (¬3) لنا كيفيتها، ففي الممكن أن تكون فيمن فعل بعض الطاعات دون بعض، أو ارتكب بعض المحظورات دون بعض. أو تكون شفاعتهم في من تلبس بالطاعات في الجملة دون من اقتصر على الشهادة فقط، فيكون أمره إلى الله تعالى، وشفاعة نبينا مطلقة في من فعل الطاعات أو تركها، وعنده أصل الإيمان أو ارتكب أي نوع من المحظورات، ما لم يكن شركا يموت عليه صاحبه. ويحتمل أن يكون الفرق بين شفاعة محمد - عليه السلام - وغيره من النبيين أن شفاعته لأمته مضمونة بكونها دعوته المستجابة لا محالة، وتكون شفاعة سائر ¬

(¬1) رواه أبو داود (4739) والترمذي (2435) وأحمد (3/ 213) وابن حبان (6468) والبيهقي (8/ 17) وغيرهم عن أنس بسند صحيح. وفي الباب عن جابر وابن عباس وابن عمر. (¬2) رواه مسلم (199) والترمذي (3602) وابن ماجه (4307) وأحمد (2/ 426) والبيهقي (10/ 190) عن أبي هريرة. (¬3) في (ب): معروفة.

النبيين غير مضمونة، أعني عمومها لجميع أممهم، إذ استعجلوا في الدنيا دعوتهم المستجابة، فإذا شفعوا في الآخرة فقد يُشفَّعون في بعض الأحوال دون بعض وفي بعض الأشخاص دون بعض، وإن جاز أن تكون ذنوبهم واحدة. وعلى الجملة فلا بد أن يكون لنبينا - عليه السلام - في نوع الشفاعة لأمته زيادة فضيلة على غيره من الأنبياء حتى يصدق قوله: اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة (¬1). وإذا تقرر هذا ولم نعلم كيفية شفاعة الأنبياء لأممهم اندرأ السؤال، وكان الله تعالى هو الذي يخرج من النار بغير شفيع من قال لا إله إلا الله من غير هذه الأمة، لأنه سبحانه إذا منع نبينا - عليه السلام - من خروج هذا الصنف بشفاعته فأحرى أن يمنع من ذلك غيره (¬2) من سائر الأنبياء صلوات الله عليهم. ¬

(¬1) تقدم قريبا عن أبي هريرة عند مسلم (199) وغيره. وخرجه مسلم (200) وغيره عن أنس. وفي الباب عن جابر وابن عباس. (¬2) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي.

لماذا لم يعط النبي الشفاعة في هذا الصنف

فصل (لماذا لم يعط النبي الشفاعة في هذا الصنف) (¬1) قد تبين بما ذكرناه أن التأويلين الذين سقناهما في قوله - عليه السلام -: «إيذن لي فيمن قال لا إله إلا الله» - إذ ذكرنا الاحتمال في حمله على أمته خاصة، أو على سائر الأمم عامة- سائغان في الحديث حسبما قررناه. وأما الحميدي فما جعل ذلك القول منه - عليه السلام - محمولا إلا على هذه الأمة، وعلى ذلك بنى كلامه في كتابه عند تقسيم أهل الموازنة وذكر طبقات أهلها. ونحن لا ننازعه في ذلك، بل نبقي تقسيمه على ما هو عليه ونتكلم فيه بحسب ما فهم الحميدي من كون ذلك إنما ورد في حق هذه الأمة. وقد بقي علينا في الحديث سؤال سواء كان المقصود به هذه الأمة أو غيرها من الأمم، وهو أن نقول: كيف يقال لنبينا - عليه السلام - في المرة الآخرة: سل تعطه واشفع تشفع؟، فيطلق له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السؤال ويخبر بأنه يعطى ما (ق.46.أ) يسأل فيه، ثم إنه لما سأل ما سأل لم يسعف فيه ولم يجب إليه، وقيل له: «ليس ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني.

ذلك إليك». والجواب: أن السؤال من الله تعالى إنما يبيحه فيما تمكن الإجابة فيه والإسعاف في طلبه. ونبينا - عليه السلام - عندما كان يسأل الشفاعة في المرات المتقدمة يجاب إلى ما سأل ويُعطى ما طلب، إذ جعل سؤاله في مظانه. فلما سأل هذه المرة الأخيرة وهو - عليه السلام - معتقد أن ذلك من جنس ما سأل فيه قبل لم يجب إليه، إذ لم يصادف موضعا للسؤال ولا محلا للشفاعة، من حيث إن الله تعالى استأثر بخروج قوم مخصوصين من النار، ومن يستأثر الله بخروجهم لا يجعل لأحد من خلقه سبيلا إليهم. فلما سأل النبي - عليه السلام - فيهم قيل له ليس ذلك لك، وكان في حين سؤاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير عالم بأن المسؤول فيهم يستأثر الله بإخراجهم، حتى أعلمه تعالى بذلك بعد سؤاله، ولو أجيب النبي - عليه السلام - إلى ما أراد وشفع في من طلب لم يبق لله تعالى صنف يخرجهم من غير شفاعة، إذ لا يبقى بعد هذا الصنف الأخير في النار إلا الكفار المخلدون فيها. وقد ذكر النبي - عليه السلام - في حديث أبي سعيد عن الله تعالى أنه قال: «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط». (¬1) ¬

(¬1) خرجه من هذا الوجه مسلم (183) وأحمد (3/ 94) والحاكم (3/ 94) والطيالسي (2179) عن أبي سعيد.

فقوله: «ولم يبق إلا أرحم الراحمين» دليل على أنه لابد له تعالى من أن يخرج قوما من غير شفاعة شافع، واللفظ المتقدم هو لفظ مسلم. وعند البخاري (¬1) في هذا الحديث: «فيقول الجبار جل وعز: بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار فيخرج قوما قد امتُحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة». الحديث. وعندهما (¬2) جميعا فيه: «فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الله أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه». وهذه القبضة من الخلق لابد أن يكون عندهم ما يستحقون به أن يقبضوا فيخرجوا من بين سائر أهل النار، وذلك هو قول لا إله إلا الله. ومعنى قوله فيهم: «لم يعملوا خيرا قط» أي بعد التلفظ بالشهادة، وعلى ذلك يتنزل قوله: أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه. ¬

(¬1) رواه البخاري (7001) عن أبي سعيد. وكذا هو عند البخاري (773 - 6204 - 7000) عن أبي هريرة. (¬2) رواه البخاري (7001) ومسلم (183) وابن حبان (7377) والحاكم (8736) عن أبي سعيد.

فتكون هذه القبضة المذكورة في هذا الحديث، يفسرها قوله تعالى في حديث أنس: «وعزتي وكبريائي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله» (¬1)، إذ لا يصح أن تكون القبضة المذكورة في هذا الحديث من الكفار أصلا، فإن قاعدة الشرع تقتضي أن الكفار مخلدون في النار غير خارجين منها أبدا. ومما يدل على ما قلناه من أن من سأل (ق.46.ب) شيئا لا يقتضي الحال إسعافه فيه أنه لا يسعف فيما طلبه قول الله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45]، فإنه سبحانه أخبر عن نوح بهذا القول ثم رد عليه بقوله: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ... [هود: 46]. وهكذا قول إبراهيم صلى الله عليه فيما حكى الله عنه إذ قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] إلى آخر الآيات، التي تقتضي الدعاء، وهي قد تضمنت قوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86] ولم يجب فيه، إذ كان أبوه ليس محلا للمغفرة، ولذلك تبرأ منه بعد هذا الاستغفار له. وما عدا ذلك مما ذكر في الآية فقد أجيب إبراهيم - عليه السلام - فيه، إذ كان هو في نفسه أهلا للمغفرة والكرامة وعدم الخزي له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم القيامة. ¬

(¬1) تقدم.

ومثل ذلك سؤال موسى الرؤية لله إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي} الآية. [الأعراف: 143]، ثم قال له في آخرها: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144] أي: ليس لك إلا ما أعطيتك، فخذه وكن من الشاكرين عليه. ومن هذا الباب كونه - عليه السلام - استأذن ربه في أن يستغفر لأمه فلم يؤذن له، واستغفر لعمه أبي طالب فلم يغفر له، وأنزل عليه في قصته {ِإ نَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56]. وقد سأل - عليه السلام - لأمته ثلاثا فأعطاه الله اثنتين ومنعه واحدة، على ما هو مذكور في الأحاديث الصحيحة. (¬1) فيكون سؤاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشفاعة فيمن قال لا إله إلا الله وكونه لم يسعف فيه من هذا القبيل الذي قررناه في حقه وفي حق غيره من الأنبياء عليهم (¬2) السلام. ¬

(¬1) رواه مسلم (2890) وأحمد (1/ 175 - 181) وابن خزيمة (1217) وابن حبان (7237) والبزار (1125) وأبو يعلى (734) عن سعد قال قال (ص): سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة, سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها, وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها, وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها. وفي الباب عن أبي هريرة وثوبان ومعاذ وحذيفة وأنس وأبي بصرة وخباب بن الأرت. (¬2) في (ب): عليه، وهو خطأ.

فإن قيل: فقد علم الله سبحانه أن النبي - عليه السلام - يسأل في آخر الشفاعة عما سأل فلا يجاب في سؤاله ولا يسعف في مطلبه، فكيف يقال له قبل سؤاله: سل تعطه واشفع تشفع. فالجواب: أن الله تعالى إنما يمتحن عباده ويكلفهم التكاليف بأمره ونهيه، وبذلك أقام الحجة عليهم من غير أن يكتفي بسابق علمه فيهم. يدل على ذلك أن الله تعالى قال للملائكة ومعهم إبليس: {اسْجُدُوا لآدَمَ} [البقرة: 34] فسجدوا كلهم إلا إبليس فقال تعالى له (¬1): {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، ثم جعله من المطرودين عن رحمته، لكونه لم يمتثل الأمر مع (¬2) أنه تعالى علم أنه لا يسجد عند أمره له بالسجود ولم يعذره بسابق علمه فيه. وهكذا قال لآدم - عليه السلام - إذ نهاه عن أكل الشجرة فلما ارتكب النهي أخرجه من الجنة ولم يعذره بسابق علمه أنه يأكل من (¬3) الشجرة بعد نهيه عنها. وكذلك قال لموسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44]، فأقام الحجة على فرعون بتوجه موسى وهارون إليه وهو تعالى قد علم أنه لا يتذكر ولا يؤمن، ولم ¬

(¬1) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي. (¬2) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي. (¬3) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي.

يعذره سبحانه بذلك العلم السابق منه فيه، وقد ذكر الله تعالى أمما ممن أرسل إليهم رسله فكذبوهم، ثم قال في آخر ذلك: {كلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14]، وفي موضع آخر: {إن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: 14]، فأوجب عليهم العقاب بتكذيبهم، مع أنه علم ذلك منهم قبل بعث الرسل إليهم، فهكذا هو سبيل ما سأل النبي - عليه السلام - ربه في الحديث، لم يعتبر الله سابق علمه فيه، وإنما جرى في المخاطبة لنبيه على حسب سنته المطردة مع أنبيائه وعباده. وقد تبين في الجواب عن السؤال الأول السبب في كونه - عليه السلام - لم يسعف فيما سأل فيه، والله أعلم بحقيقة ذلك.

نقل اللفظ قال الحميدي: ثم إنا وجدنا أصحاب اليمين من جميع المؤمنين، وهم الطبقة الثانية من الطبقات التي ذكرنا أيضا ينقسمون في الموازنة أقساما ثلاثة: إما متساو خيره وشره. وإما من رجحت حسناته على سيئاته، فهذا فائز بنص القرآن. وإما من رجحت سيئاته مع ما معه من الكبائر على حسناته. فهذا يقتص منه بما فضل من معاصيه على حسناته من لفحة إلى آخر من يخرج من النار، على ما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمقدار قلة شره وكثرته، وقال تعالى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وقد صح أن أهل الأعراف من أحد هذه الأقسام، إذ ليس لها رابع، وليسوا بلا شك من الطبقتين اللتين ذكرنا آخرا فوجب أنهم الطبقة التي ذكرنا أولا، فإنه لم يبق غيرهم، وهذه قسمة ضرورية.

فصل جعل الحميدي في كلامه هذا أصحاب اليمين، وهم الطبقة الثانية ينقسمون إلى من يتساوى خيره وشره، وإلى من ترجح حسناته على سيئاته، وإلى من ترجح سيئاته على حسناته، ونحن نقول: إن هذا الانقسام لا يكون لأصحاب اليمين فقط، وإنما يكون للمؤمنين على الإطلاق فيدخل المقربون والأبرار فيه. ولو جعل ذلك لأصحاب اليمين ولم يقل: وهم الطبقة الثانية، لكان صحيحا، وكنا نحمله على المؤمنين بأجمعهم، لأنا قد قدمنا أن أصحاب اليمين هم جميع المؤمنين، فالمقربون والأبرار وكثير من بقية أصحاب اليمين ترجح حسناتهم على سيئاتهم، وإن كانوا في ذلك طبقات بحسب درجاتهم. (ق.47.ب) وكذلك قول الحميدي في من ترجح حسناته إنه فائز بنص القرآن معترض بكونه جعل ذلك في الطبقة الثانية، ولم يرد نص في القرآن بذلك، فإن قوله تعالى: {مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8]، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:6 - 7] يدخل في ذلك جميع المؤمنين على أصنافهم وجميع الأنبياء على اختلاف درجاتهم. هذا إن كانت الموازنة للأنبياء، وقد نص الحميدي بعد هذا على أنه لا

بد لهم من الموازنة، وسيأتي ذكر ذلك عنه (¬1) في موضعه، وظاهر كلامه هنا خلاف ذلك، إذ جعل الموازنة في أصحاب اليمين ولم يذكرها للأنبياء والشهداء، وهم المقربون عنده (¬2). وقوله فيمن رجحت سيئاته: (فهذا يقتص منه بما فضل من معاصيه على حسناته) معترض أيضا. فليس مذهب أهل السنة ذلك، وإنما مذهبهم أن من رجحت سيئاته من المؤمنين فهو في المشيئة، فإن عفا الله عنه فهو أهل للعفو ابتداءا، وإن لم يعف عنه وأنفذ عليه الوعيد فحينئذ يدخل النار على وجه القصاص من لفحة إلى آخر من يخرج من النار، وذلك بحسب كبر المعاصي وصغرها وقلتها وكثرتها، على ما سيأتي بحول الله. وأما قوله: «إن من استوت حسناته وسيئاته هم أهل الأعراف» فهو القول السديد الذي عليه الاعتماد في تعيين أهل الأعراف، وهو قول ابن مسعود وابن عباس (¬3). وسيأتي الكلام على أهل الأعراف بأبسط من هذا، وكذلك يأتي بسط ما تضمنه هذا الفصل بحول الله. ¬

(¬1) ليست في (ب)، وكتبت في هامش (أ) وعليها علامة التصحيح. (¬2) من: وظاهر، إلى هنا سقط من (ب). (¬3) سيأتي تخريجه.

نقل اللفظ قال الحميدي: ثم رجعنا إلى المؤمنين الذين وجب الاقتصاص منهم بالنار بزيادة شرهم على خيرهم فوجدناهم ينقسون فيما لهم من الخير والشر على أقسام أربعة، ثم تتشعب هذه الأربعة الأقسام على اثني عشر قسما: فالأربعة الأول: كثير الخير كثير الشر، كثير الخير قليل الشر، قليل الخير قليل الشر، قليل الخير كثير الشر. إلا أن أهل هذه التقسيمات كلهم قد فاض شرهم وما معهم من الكبائر على خيرهم، وهؤلاء يحتسب لهم بكلية ما مع كل امرئ منهم من الخير وبكلية ما معه من الشر، إذ لكل ذلك حظ من المراعاة والحساب، فإذا اقتص منه فيما فضل له من الشر حتى يفضل له من الخير شيء مالا أقل منه، وهو التصديق بالإسلام والنطق بذلك مرة واحدة، وقع الخروج حينئذ من النار بالشفاعة التي رحم الله تعالى بها عباده المؤمنين المسرفين على أنفسهم. وقد علمنا (ق.48.أ) أن من عمل من كل أعمال الخير فرضها وتطوعها ثم قتل النفس وعمل من كل الكبائر فإنه بالإضافة إلى من لم يعمل شيئا من الخير وشارك في الكبائر مشاركة المذكور قبله سواء سواء أخف عذابا وأقل في النار مكثا، على ما أوجبته النصوص المذكورة. وهكذا (¬1) الحكم في قلة الشر وكثرته مع قلة الخير أو كثرته. ¬

(¬1) في (ب): وهذا.

أصناف العصاة في القيامة

فصل (أصناف العصاة في القيامة) قد تقدم أن القصاص بالنار لأهل المعاصي غير لازم، فقول الحميدي: (ثم رجعنا إلى المؤمنين الذين وجب الاقتصاص منهم بالنار) غير مخلص، فإنه لا يخلو أن يجب ذلك بالعقل أو بالشرع، فالعقل لا مدخل له في ذلك، والشرع لم يرد بأن العصاة من المؤمنين لابد لهم من النار، وإنما ورد بأن الله تعالى يفعل فيهم ما شاء، قال الله تعالى: {ِإنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} ... [النساء: 48]. فنحن نعلم أن المؤمنين والعصاة في القيامة، وأعني بذلك من رجحت سيئاته منهم، ينقسمون إلى قسمين في الجملة: - فقسم يعفو الله عنهم ابتداءا من غير تعذيب. - وقسم يعذبهم الله بالنار. فأما هذا القسم الذين يعذبون بالنار فهم المذكورون في أحاديث الشفاعة المخرجون بها منها. وأما القسم المعفو عنهم ابتداءا فيوجد ذلك في الأحاديث: - فمنها ما أخبر الشارع بالعفو والغفران عن صاحب الذنب في

الدنيا. - ومنها ما جاء عنه - عليه السلام - أن الله يغفر للمذنب يوم القيامة. فأما الأول فمثاله الحديث الذي جاء في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين وأكمل المائة بقتل الراهب، وفيه: «إنه لما مات في الطريق وهو متوجه إلى قرية فيها قوم يعبدون الله ليعبد الله معهم اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا (¬1) بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، وذكر في آخر الحديث أن ملائكة الرحمة قبضته لما كان أقرب إلى تلك القرية بشبر». (¬2) ومثاله أيضا الحديث الذي جاء في الرجل الذي لم يبتئر عند الله خيرا، وفي لفظ آخر: «إنه لم يعمل خيرا قط، فلما مات أوصى بنيه أن يحرقوه بعد موته ويذروا نصف رماده في البر ونصفه في البحر، ففعلوا ما أمرهم به، فقال الله له: لم فعلت ذلك؟، فقال: (ق.48.ب) من خشيتك، فغفر له». (¬3) ¬

(¬1) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في الهامش. (¬2) رواه البخاري (3283) ومسلم (2766) وابن ماجه (2622) وأحمد (3/ 20 - 72) وابن حبان (611 - 615) والبيهقي (8/ 17) وابن أبي شيبة (8/ 109) وأبو يعلى (2/ 508) عن أبي سعيد. (¬3) رواه مسلم (2756) والنسائي (2079) وابن ماجه (2/ 1421) والطبراني في الأوسط (5363) عن أبي هريرة. ورواه البخاري (3291 - 6116 - 7069) ومسلم (2757) وأحمد (3/ 13 - 17 - 77) وابن حبان (650) وأبو يعلى (1001 - 1047 - 5055) والطبراني في الكبير (6/ 249) عن أبي سعيد. ... = = ورواه البخاري (3292 - 6115) والنسائي (2080) وابن حبان (651) والبزار (2852) عن حذيفة.

وحديث البغي التي كانت من بني إسرائيل فملأت خفها وسقت الكلب فغفر الله لها. (¬1) فهذه الأحاديث وإن كانت قد جاءت في الأمم السابقة فنحن لم نسقها إلا لكونها قد أنبأت بغفران الله تعالى لأصحاب الخطايا الذين لو أخذت أعمالَهم الموازنةُ لرجحت سيئاتهم لكبائر ذنوبهم، لاسيما القاتل للمائة، والآمر بإحراق جثته، فإنه لم يغفر لهما إلا بعد الموت بحيث لا يقدران على أن يزيدا في ميزانهما حسنة واحدة. وإذا كان الله تعالى يفعل ذلك مع الأمم المتقدمة فكيف لا يفعله (¬2) مع هذه الأمة، وهي أفضل الأمم، بل جاء عن النبي - عليه السلام - (¬3) في معنى الغفران ما هو محمول على هذه الأمة، ويجوز أن ينسحب ذلك على غيرها من الأمم، وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لله ملائكة سياحين يبتغون مجالس الذكر». الحديث. وفيه أن الله تعالى يسألهم فيقولون: «جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويستغفرونك، قال: فيقول: قد ¬

(¬1) رواه البخاري (3280) ومسلم (2245) وأحمد (2/ 507) والبيهقي (8/ 14) وأبو يعلى (10/ 423) عن أبي هريرة. (¬2) في (ب): يفعل ذلك. (¬3) في (ب): صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

غفرت لهم، فيقولون: يا رب فيهم فلان عبد (¬1) خطاء، إنما مر فجلس معهم فيقول: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم». (¬2) وهذا الحديث لم نسقه (¬3) لأجل أهل الذكر الذي غفر لهم، فإنهم صالحون فضلاء، وإنما سقناه لقوله - عليه السلام - فيه عن الرجل الجالس إليهم: «إنه عبد خطاء، ومع ذلك غفر له». وكذلك أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن من يذنب المرة بعد المرة، وهو في كل مرة يقول رب اغفر لي ذنبي، فيقول الله تعالى: «أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، اعمل ماشئت فقد غفرت لك». (¬4) وأما إخبار الشارع بأن الله تعالى يغفر لصاحب الذنوب يوم القيامة فمثاله حديث أبي موسى الأشعري عن النبي - عليه السلام - قال: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) رواه مسلم (2689) وأحمد (2/ 252 - 358 - 359 - 382) والحاكم (1821) والطيالسي (2434) عن أبي هريرة. ورواه ابن حبان (914) والحاكم (3576) عن ابن مسعود. (¬3) في (ب): يسقه. (¬4) رواه البخاري (7068) ومسلم (2758) وأحمد (2/ 296 - 492 - 405) وابن حبان (622 - 625) والحاكم (7608) والبيهقي (10/ 188) وأبو يعلى (6534) عن أبي هريرة.

والنصارى»، ذكره مسلم (¬1)، وقال في آخره: فيما أحسب (¬2)، وهذا الشك منه أو من غيره من الرواة لا يقدح فيما أردناه من الحديث، لأن الشك إنما هو راجع إلى قوله: ويضعها على اليهود والنصارى. وهذا لو سقط من الحديث لم نبال به، لأن مقصودنا إنما هو التعريف بأن (ق.49.أ) في المسلمين من يأتي بذنوب تغفر لهم يوم القيامة من غير أن يكون هنالك عذاب، إذ لو كان هنالك عذاب لدخلوا النار حتى يخرجوا بالشفاعة، وذلك غير مفهوم الحديث. فإن مسلما إنما أخرج هذا الحديث بإثر الحديث الآخر عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول: هذا فكاكك من النار» (¬3). ومثال هذا القسم أيضا حديث ابن عمر (¬4)، أن رجلا سأله فقال له: كيف سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: «يدنى ¬

(¬1) رواه مسلم (2767) والحاكم (7644) عن أبي موسى. (¬2) عند مسلم: فيما أحسب أنا، قال أبو روح: لاأدري ممن الشك. قال أبو بردة: فحدثت به عمر بن عبد العزيز فقال: أبوك حدثك هذا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قلت: نعم. (¬3) رواه مسلم (2767) عن أبي موسى. (¬4) رواه البخاري (2309 - 4408 - 5722 - 7076) ومسلم (2768) وابن ماجه (183) وأحمد (2/ 74 - 105) وابن حبان (7355 - 7356) وابن أبي شيبة (8/ 109) والطبراني في الأوسط (7/ 101) وأبو يعلى (5751) عن ابن عمر.

المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقرره (¬1) بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف. قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم». وفي رواية: «حتى قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك: قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته». وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم. ومثاله أيضا الحديث الذي يقول الله تعالى فيه لأحد المتخاصمين في القيامة: «ارفع رأسك، فيرى منازل في الجنة فيقول: لمن هذا يا رب؟ فيقول: لمن يملك الثمن، فيقول: ومن يملكه؟ فيقول له: أنت بعفوك عن أخيك، فيقول: يا رب قد عفوت عنه، فيقول الله تعالى: خذ بيد أخيك وادخلا جميعا الجنة»، (¬2) أو كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإذا كان الله تعالى يعفو عن الظالم الذي عليه الحق للمظلوم (¬3) بأن يُرضي المظلوم (¬4) حتى يترك حقه، فما ظنك بالذنوب التي بين المؤمن وبين ربه؟ فإنها أقرب إلى العفو من مظالم العباد. ¬

(¬1) في (ب): يقرره، وقد كتبت في الهامش. (¬2) رواه الحاكم (4/ 620) عن أنس وصححه. لكن في سنده عباد بن شيبة الحبطي ضعيف، وشيخه سعيد بن أنس، قال العقيلي: مجهول بالنقل. وقال البخاري: لا يتابع عليه. راجع اللسان (3/ 30 - 290). (¬3) في (ب): للمظلوم منه. (¬4) في (ب): المظلوم منه.

يقول الله سبحانه على لسان نبيه - عليه السلام - كما تقدم فيمن يذنب ويقول يا رب اغفر لي: «أعَلِم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، اعمل ما شئت فقد غفرت لك»، (أو كما قال) (¬1). وليس كل الظالمين من المؤمنين يفعل الله لهم ما تقدم في حديث المتخاصمين، بل منهم من يُمَكن عز وجل منه المظلوم من القصاص كما قال - عليه السلام -: «من كانت لأخيه عنده مظلمة فليتحلله قبل أن يأتي يوم القيامة، وليس ثم دينار ولا درهم، فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه، ثم طرح في النار». (¬2) (ق.49.ب) ¬

(¬1) من (ب). (¬2) رواه البخاري (2317 - 6169) وأحمد (2/ 506) والبيهقي (3/ 369 - 6/ 65) والبزار (3202) والطيالسي (2327) عن أبي هريرة.

أصناف من رجحت سيئاتهم على حسناتهم

فصل (أصناف من رجحت سيئاتهم على حسناتهم) (¬1) ثم تقسيم الحميدي من يقتص منهم بالنار وهم من رجحت سيئاتهم إلى (¬2) الأربعة الأقسام التي ذكر خطأ عند التأمل، فإن واحدا من تلك الأقسام يصدق على ما قال، وهو من هو قليل الخير كثير الشر، لأن من هذه صفته ترجح سيئاته على حسناته لا محالة. وأما الثلاثة الأقسام الباقية فلا تدخل تحت هذه الترجمة ولا تصدق على ما قال. أما القسم الواحد منها وهو من هو كثير الخير قليل الشر فلا يشكل أمره، لأن من هذه صفته ترجح حسناته على سيئاته ولابد، فلا يصح إدخاله تحت ترجمة من رجحت سيئاتهم. وأما القسمان الباقيان وهما من هو كثير الخير كثير الشر، ومن هو قليل الخير قليل الشر فهما من جملة من استوت حسناتهم وسيئاتهم، لأن كثرة الخير بإزاء كثرة الشر، وقلة الخير بإزاء قلة الشر، وإذا كان الأمر هكذا فلا يصح أن يدخل هذان القسمان أيضا في قسم من رجحت سيئاتهم. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): من.

والعجب من الحميدي رحمه الله كيف يقسم الناس ثلاثة أقسام: قسم من رجحت حسناته، وقسم من رجحت سيئاته، وقسم من استوت حسناته وسيئاته، وهو تقسيم صحيح. ثم يرجع فيقسم القسم الذي هو من رجحت سيئاتهم إلى هذه الثلاثة الأقسام بعينها، فكأنه قال: ثم رجعنا إلى المؤمنين الذين رجحت سيئاتهم فوجدناهم ينقسمون ثلاثة أقسام: قسم من رجحت حسناته، وهو من هو كثير الخير قليل الشر. وقسم من رجحت سيئاته، وهو من هو كثير الشر، قليل الخير. وقسم من استوت حسناته وسيئاته، وهو من هو كثير الخير كثير الشر، أو قليل الخير قليل الشر. وفي هذا من التناقض ما لا خفاء به. فإن قال قائل: فلعل الحميدي إنما جعل في هذا الباب من هو كثير الخير كثير الشر، ومن هو قليل الخير قليل الشر باعتبار أنه غلب جانب الشر، فإنه قد يكون هنالك كبائر تُربي على ما في جانب الخير من أعمال البر، مثل قتل النفوس وغصب الأموال وشرب الخمر والزنا والسرقة وغير ذلك من أنواع الفسوق، فلا يبعد أن يوصف المكلف بكونه كثير الخير كثير الشر، لكن يكون جانب الشر مغلظا لشناعة تلك الكبائر. قلنا: لنا عن هذا جوابان (ق.50.أ)، ولكن بعد أن نقول لقائل هذا: هبك أنا نسلم لك هذا التأويل فما تقول في القسم الذي هو كثير الخير قليل الشر؟ هل يصح أن يدخل في هذا الباب؟

فلا يسعه إذا كان منصفا، إلا أن يعترف بأنه (¬1) لا يدخل في هذا الباب، إذ لا حجة له على دخوله فيه، كما أنه لا عذر للحميدي في ذلك البتة. ثم نرجع إلى ذكر الجوابين فنقول: أحدهما: أن نقول للحميدي، أو لمن احتج عنه: نعكس عليكم ما قلتم، وذلك بأن نقدر نحن أيضا أن جانب الخير يُربي على جانب الشر، بأن تكون في جانب الخير أفعال عظيمة من أعمال البر مثل الصلاة المقبولة التي يناجي المصلي فيها ربه، ومثل الصدقة التي تعظم حتى تكون مثل الجبل، ومثل الصيام الذي هو لله تعالى من بين سائر العبادات، ومثل الحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة، ومثل الجهاد والرباط والعتق وطلب العلم وإحياء نفس مؤمنة أو هدايتها للإسلام وغير ذلك مما جاء الشرع بتعظيم الثواب فيه. فلا يبعد أيضا أن يتصف المكلف بكونه كثير الخير كثير الشر، لكن يكون جانب الخير أرجح عند الحساب وأثقل في الميزان، لاسيما وللحسنة عشر أمثالها، فهي توزن مضاعفة، وللسيئة مثلها، فهي وإن كانت عظيمة لا توزن إلا وحدها من غير تضعيف، ولا محالة أن المضاعف عشر مرات أكثر من شيء لا يضاعف. وإذا كانت أكثر كانت أوزن بشرط أن نقدر كون الطاعات والمعاصي في الصغر والكبر على حد سواء. ¬

(¬1) في (ب): أنه.

وقد تبين بهذا العكس أن ذلك التأويل الذي يغلب (¬1) فيه جانب الشر لا يصح إفراده، إذ ليس أحد التأويلين أولى من الآخر. وإذا لم يصح واحد منهما (على الانفراد وتساقطا معا لتساويهما) (¬2) رجعنا إلى التأويل الذي لا يصح سواه، وهو أن من هو كثير الخير كثير الشر وقليل الخير قليل الشر هما من استوت حسناتهما وسيئاتهما ولابد، وإذا كان الأمر كذلك صح ما قلناه من كون القسمين لا يدخلان في ترجمة من رجحت سيئاتهم على ما قدمناه. الجواب الثاني: إن الحميدي إذا تكلم في التنظير بين هذه الأقسام إنما يجعل كثرة الخير وكثرة الشر على السواء، وقلة الخير وقلة الشر على السواء من غير مفاضلة فيهما أصلا، وذلك جلي في كلامه على ما يأتي بعد هذا، حيث قال: (ق.50.ب) فلنتكلم الآن في كثير الخير كثير الشر مع قليل الشر كثير الخير (¬3) فوجدناهما قد استويا في كثرة الخير، واختلفا في كمية الشر، يعني (¬4) في قلته وكثرته، وكذلك قوله: ثم نظرنا في قليل الخير قليل الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما قد استويا في قلة الخير واختلفا في كمية الشر، نعني في قلته وكثرته. وهكذا قوله في سائر الأقسام إنما هو على هذه الوتيرة، فإن عادته إذا وصف بكثرة الخير أو بقلته شخصين إنما يسوي بين خيريهما في ذلك. ¬

(¬1) في (ب): غلب. (¬2) من (ب). (¬3) انقلب في (ب) إلى: مع قليل الخير كثير الشر. (¬4) في (ب): نعني.

وإذا وصف بكثرة الشر أو بقلته شخصين إنما يسوي بين شريهما، فإذا كان أصله في تلك الأقسام التسوية في كثرة الخير وكثرة الشر أو قلتهما معا حيث ما ذكرهما لزمه لا محالة (أن يكون) (¬1) القسمان اللذان تقدم الكلام عليهما، وهما: - من هو كثير الخير كثير الشر. - وقليل الخير قليل الشر على التساوي، كما قررناه. ويبطل بذلك تأويل من يتأول على الحميدي ما فرضناه. ¬

(¬1) سقط من (ب).

فصل وقوله: (فإذا اقتص منه فيما فضل له من الشر حتى يفضل له من الخير شيء ما لا أقل منه، وهو التصديق بالإسلام والنطق بذلك مرة واحدة وقع الخروج حينئذ بالشفاعة التي رحم الله تعالى بها عباده المؤمنين المسرفين على أنفسهم) معترض على أصله، فإنه جعل هاهنا من صدق بالإسلام ونطق به مرة واحدة يخرج من النار بالشفاعة، وقد تقدم له في فصل قبل هذا أن الله تعالى ينفرد بخروج من هذه صفته دون شفاعة. فإنه قال: (وهذا يبين أن الذي توحد الله تعالى بإخراجهم من النار فيمن قال لا إله إلا الله ولم يعمل خيرا قط إنما هو من قالها مرة واحدة فقط مصدقا ومات على ذلك، إلى قوله: ونص الخبر يدل على أن الذين توحد الله تعالى بإخراجهم برحمته لا بالشفاعة إنما هم من ليس في المؤمنين أحد أقل خيرا منهم). والذي ذكر في هذا الفصل الذي نحن فيه في التصديق بالإسلام والنطق به مرة واحدة، وهو الذي يخرج صاحبه بالشفاعة (¬1)، ليس في المسلمين أقل خيرا منه. وهذا تناقض، إلا أنه يمكن أن يكون الحميدي لاحظ فيمن يتوحد الله ¬

(¬1) في (ب) في الشفاعة.

تعالى بإخراجه كونه لم يعمل خيرا قط إلا الشهادة بمجردها كما (ق.51.أ) في الحديث، ولاحظ فيمن يخرج بالشفاعة كونه كان عنده خير مع الإيمان، وهذا الفرق لا فائدة فيه، فإنه (¬1) إذا قال في الثاني إنه اقتص منه فيما فضل له من الشر حتى لم يبق له إلا التصديق والشهادة، فقد استوى مع الأول في كونه ليس عنده إلا ذلك، وسيأتي الكلام على هذا المعنى (مع الحميدي) (¬2) فيما بعد إن شاء الله. وأما جعله من فعل الطاعات وعمل الكبائر أخف عذابا ممن عمل الكبائر (¬3) دون الطاعات فصحيح، إذا فرضنا أن الله تعالى يقتص منهما جميعا بحسب أعمالهما، ونحن لا نعلم ذلك، فإنا نجوز أن يعفو (الله) (¬4) عنهما جميعا ابتداءا ما لم يكن معهما أو مع أحدهما حقوق الآدميين، ويجوز أن يعفو عن من تلبس بالطاعات دون من لم يتلبس بها، ويجوز أن يعفو عن المرتكب للكبائر الذي لم يتلبس بالطاعات، ويعاقب المتلبس بالطاعات على ما اقترف من الكبائر. فإن القدرة صالحة لهذا كله، وإرادة الله تعالى في عباده مطوية عنا، وعلمه سبحانه هو المحيط بذلك كله. ¬

(¬1) في (ب): بأنه. (¬2) ليس في (ب)، وكتب في هامش (أ) وعليه علامة التصحيح. (¬3) في (أ): كبائر. (¬4) ليست في (أ).

نقل اللفظ قال الحميدي بعد قوله: وهكذا الحكم في قلة الشر وكثرته مع قلة الخير أو كثرته: فلنتكلم الآن بعون الله تعالى وعصمته في كثير الخير كثير الشر مع قليل الشر كثير الخير بالإضافة إليه فوجدناهما قد استويا في كثرة الخير، واختلفا في كمية الشر، نعني في قلته وكثرته. وقد علمنا بتقسيم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خبره الصادق (¬1) من خروج من له مقدار الشعيرة من الخير معا، ثم خروج من له مقدار البرة من الخير معا، ثم كذلك سائر المقادير في القلة، أن الخروج من النار لأهل كل مقدار منها، يكون معا بلا شك في ذلك. وعلمنا بالنص أنهم معاقبون ومقتص منهم فيما كسبوا من الشر فلم يبق إلا أن الكثير الشر مقدم في الدخول في النار على القليل الشر بمقدار ما زاد شره على شر الآخر، ليكون خروجهما معا بعد أن يقتص من كل واحد منهما بمقدار ما فضل له من الشر على ما معه من الخير. وليس في الممكن أن يكون دخولهما في النار معا بلا شك، إذ لا شك في أنه كان يتم الاقتصاص من الأقل شرا قبل تمامه من الأكثر شرا ¬

(¬1) تقدم.

فيخرج من النار قبل خروج من له من الخير كالذي له سواء سواء، وهذا خلاف نص الحديث. اللهم إلا أن يكون (ق.51.ب) وجه آخر وهو أن يزاد في كيفية عذاب من هو أكثر شرا، ويفتر من عذاب من هو أقل شرا، فيكونا قد اتفقا في مدة العذاب واختلفا في شدته وتهوينه، فهذا أيضا ممكن، والله أعلم بأيهما يكون إلا أنه لابد من أحد الوجهين، إذ ما عداهما مخالف لوحي الله تعالى إلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما خالف الوحي فهو باطل بلا شك.

فصل قد قدمنا أن من هو قليل الشر كثير الخير لا مدخل له في هذا الباب إذ هو من باب من رجحت حسناته، وأن من هو كثير الشر كثير الخير (¬1) لا مدخل له أيضا فيه، وإنما هو من باب من تتساوى حسناته وسيئاته، فلا معنى لفرض التنظير بين القسمين، لاكنا نتكلم عليهما بحسب ذلك الفرض فنقول: إن الحميدي مع أنه أدخلهما تحت الباب الذي هو رجحان السيئات لم يتخلص فيما قال في ذلك، فإن أكثر كلامه في هذا الفصل معترض. فمن ذلك قوله: (فلم يبق إلا أن الكثير الشر مقدم في الدخول في النار على القليل الشر ليكون خروجهما معا بعد القصاص)، وهذا غير صحيح. فإن بقاء من هو قليل الشر كثير الخير في النار حتى يخرج مع من هو كثير الخير كثير الشر ظلم في حقه، فإنه أكثر خيرا منه. والذي يبين المفاضلة بين خيريهما وإن كان ظاهرهما التساوي ما نذكره، وهو أن من هو كثير الخير كثير الشر يسقط كثرة خيره بكثرة شره لتساويهما عنده، وأن من هو قليل الشر كثير الخير لا يسقط كثرة خيره جملة، وإنما يسقط منه ما يوازي قلة شره، وتبقى له بعد ذلك فضلة خير ليست عند الآخر، فيمتنع بها من دخول النار، فإن فرضنا دخوله فيها على مذهب الحميدي فسيكون خروجه منها قبل خروج صاحبه لكثرة خيره عليه. ¬

(¬1) في (ب): كثير الخير كثير الشر.

وقد ساق الحميدي الحجة على نفسه من الحديث بقوله: (إن أهل مقدار الشعيرة من الخير يخرجون من النار معا وإن أهل مقدار البرة يخرجون معا بلا شك). وهذا القول صحيح لأن إخراجهم من النار إنما هو بتدريج زمرة بعد زمرة، وبينهما سجود ودعاء واستشفاع، فإذا أذن بخروج زمرة منهم خرجت بجملتها دفعة واحدة. ويجب أن ننبه هاهنا على شيء، وهو أن الحميدي جعل (ق.52.أ) هذا الحديث المتقدم عن أنس أصله في كثرة الخير وقلته حتى بنى على ذلك الأقسام التي ذكرها في تنظير صاحب الخير مع صاحب الشر في كثرتهما وقلتهما. وفي ذلك نظر من حيث إن الموازنة إنما تكون بالخير والشر الزائدين على الإيمان، والحميدي وإن كان قد نص عند ذكره حديث أنس على أن تلك المقادير إنما هي مما سوى الإيمان الذي هو عنده قول لا إله إلا الله، وقال: إنما ذلك من الأعمال التي تسمى أيضا إيمانا كما تقدم له (¬1)، فهو لم يقف عند ذلك، بل جعل الإيمان من الخير الذي يوزن. وقد قدمنا نحن ذكر الاحتمال في حديث أنس. فإن كان المقصود بذكر الإيمان والخير فيه ما زاد على نفس الإيمان من الأعمال فذلك يوزن، وإن كان هو الإيمان الذي محله القلب فلا يصح وزنه أصلا، (¬2) وسندل على ذلك في الموضع الذي نص الحميدي على أنه يوزن ونبين وهمه فيه (¬3) بحول الله. ¬

(¬1) ليست في (ب). (¬2) الإيمان بعضه محله القلب وبعضه أعمال الجوارح, وسنناقش المصنف في هذا في الموضع الذي أشار إليه. (¬3) من (ب).

فصل وقول الحميدي: (وليس في الممكن أن يكون دخولهما في النار معا بلا شك) غير صحيح على ما نقرره. وقوله في آخر ذلك: (وهذا خلاف نص الحديث)، ليس كما قال. فإن الحديث لم يتعرض إلى دخول المذنبين النار هل هو بمقدار معلوم حتى يكون دخول الأكثر شرا قبل الأقل شرا، وإنما تعرض إلى خروج أهل المقادير على تدريج بشفاعة (¬1) بعد شفاعة ولا مزيد. وقوله: (إنه ممكن أن يكون وجه آخر وهو أنه يزاد في عذاب الأكثر شرا على عذاب الأقل شرا) يعني إذا فرض أن يكون دخولهما النار واحدا لا يبعد ذلك. وأما قوله: (إنه لابد من أحد الوجهين يعني زيادة العذاب أو دخول الأكثر شرا قبل صاحبه) فغير صحيح. وقوله: (إذ ما عداهما مخالف لوحي الله إلى رسوله، وما خالف الوحي فهو باطل)، ليس كذلك، فأين الوحي المنزل بأنه لا يكون إلا أحد هذين القسمين، وهذا لا يوجد لا في القرآن ولا في الحديث. ونحن نبين جميع ما رددناه على الحميدي في هذا الفصل بكلام يكر على جميع ما تقدم بحول الله. ¬

(¬1) في (ب): شفاعة.

فنقول: إن لله تعالى أن يعفو عن المذنبين ابتداءا من غير عقوبة أصلا (ق.52.ب)، هذه القاعدة معلومة من الشرع على ما قدمناه. فأن يعفو عن بعض المذنبين بالشفاعة قبل أن يستوفي منهم القصاص أحرى وأولى. وإذا كان الأمر هكذا فلا نشترط أن يكون دخول الأكثر شرا النار قبل دخول الأقل شرا ولابد، بل يجوز أن يكون الأمر في دخولهما النار كذلك إذا أراد الله تعالى تحقيق القصاص على كل واحد منهما بحسب ما معه من الشر. ويجوز أن يكون دخولهما بالعكس ودخولهما معا، فإذا شُفع في أهل المقدار الذين هما منه أخرجا معا، وإن لم يستوف القصاص من أحدهما فيكون ذلك من الله تعالى من باب العفو والتجاوز عنه، هذا ما لا محيص لمن فهم الشرع من الإقرار به. وقول الحميدي إنه يمكن زيادة العذاب على من هو أكثر شرا صحيح، إلا أنه يمكن أن يظن أن العذاب يكون جنسا واحدا، غير أنه يزاد منه في حق الأكثر شرا، ونحن لا نسلم ذلك، فإن عذاب النار في الآخرة أجناس متعددة، فإن مانع الزكاة يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه في عنقه، ويقول له أنا كنزك (¬1)، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في النار، ومن قتل نفسه بحديدة فهو يتوجأ بها في بطنه في النار، ومن تردى من جبل ¬

(¬1) رواه البخاري (1338 - 4289) عن أبي هريرة.

فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم، (¬1) إلى غير هذا من الأنواع التي وردت في الأحاديث. وكل نوع منها عذاب برأسه، وفي الممكن أن يكون بعضها أشد من بعض. وفي حديث سمرة، الحديث الطويل في الرؤيا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن عذاب الزناة فيه، وعذاب الكذابين، وعذاب أكلة الربا، وعذاب من ينام عن الصلاة المكتوبة (¬2) أنواع متباينة كلها. وإذا تقرر هذا فيمكن أن يكون نوع عذاب الأكثر شرا فوق نوع عذاب الأقل شرا، وتكون مدتهما في المقام واحدة، ويمكن أن يكون نوع عذابهما واحدا، ويضاعف للأكثر شرا عذابه، ويمكن أن يكون دخول الأكثر شرا قبل دخول الأقل شرا، ويجوز أن يكون العفو عنهما معا أو عن أحدهما قبل استيفاء القصاص. ونحن لا ننكر على الحميدي أن يقول واحدا من هذه الخيارات، وإنما ننكر عليه القطع على ما يقول من ذلك، وهو قوله: وهذا لابد منه، أو لابد من أحد هذين الوجهين، أو هذا لاشك فيه، ونحو ذلك من الألفاظ. ¬

(¬1) رواه البخاري (5442) ومسلم (109) وأبو داود (3872) والنسائي (1965) والترمذي (2044) وابن ماجه (3460) وأحمد (2/ 254 - 478) وابن حبان (5986) والدارمي (2273) والبيهقي (8/ 23 - 9/ 355) والطبراني في الأوسط (2/ 203) والطيالسي (2416) عن أبي هريرة. (¬2) رواه البخاري (1320 - 6640) وأحمد (5/ 7 - 14) وابن حبان (655) وابن أبي شيبة (7/ 236) والطبراني في الكبير (7/ 238 - فما بعد) وغيرهم عن سمرة.

والذي يقطع بالحميدي (ق.53.أ) في هذا الفصل ويرد عليه الرد المتمكن أن يقال له: ومن أين لك أن أهل مقدار الشعيرة إذا أخرجوا معا، وأن أهل مقدار الذرة إذا أخرجوا معا قد استُوفي منهم القصاص حتى تُرتب عليه دخول البعض قبل البعض، ونحن نعلم أنهم إنما خرجوا بالشفاعة. ولو قدرنا ارتفاع الشفاعة في الوقت الذي خرجوا فيه، لكان بقاؤهم في النار وخروجهم منها في الإمكان على حد سواء، وإذا أمكن بقاؤهم في النار فهم إذاً لم يُستوف منهم القصاص. إذ لو استُوفي منهم القصاص لأخرجوا ولابد، بعد أن نقدر انتفاء الشفاعة. فإذا كان عدم استيفاء القصاص منهم ممكنا فلا فرق بين أن يقع ذلك في جميعهم أو يقع في بعضهم ممن هو أكثر شرا. ونحن مع ذلك نقول: إن الشفاعة إنما تتحقق في من لم يُستوف منه القصاص، إذ القول بأنها إنما تكون في من استُوفي منه القصاص إبطال لحقيقتها كما هو لازم للحميدي، وسيأتي ذكر ذلك في موضعه.

نقل اللفظ قال الحميدي: ثم نظرنا في قليل الخير قليل الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما قد استويا في قلة الخير واختلفا في كمية الشر، نعني في قلته وكثرته (¬1) فصح خروجهما من النار معا ولابد، إذ مقدار خيريهما واحد. فإذ (¬2) ذلك كذلك فلا بد من تقديم كثير الشر في دخول النار، إذ مقدار الاقتصاص منه أكثر من مقدار الاقتصاص من الذي هو أقل شرا منه فيقدم عليه بمقدار ما يقتص منه من الزيادة التي تزيد على شر الآخر ضرورة، ثم يدخل الآخر (¬3) ليكون خروجهما (من النار) (¬4) معا. والوجه الآخر كما قدمناه وهو أن يدخلا النار معا فيزاد في عذاب الأكثر شرا، ويفتر عذاب الأقل شرا، فيتفقان (¬5) في المدة ويختلفان في شدة العذاب وتهوينه، والله أعلم. ¬

(¬1) في (ب): في كثرته وقلته. (¬2) في (ب): فإذن. (¬3) في (ب) هنا زيادة: ضرورة، ثم يدخل الآخر. وهو وهم. (¬4) ليس في (ب). (¬5) في (أ): فينقصان.

فصل قد قدمنا أن من هو قليل الخير قليل الشر لا يدخل في هذا الباب، لأنه ممن تتساوى (¬1) حسناته وسيئاته فلا يصح التنظير بينه وبين من هو قليل الخير كثير الشر، لأن هذا يسقط قلة خيره بما يقابله من الشر ويبقى (¬2) له بعد الموازنة من الشر فضلة يستوجب بها العقاب. والأول إذا (¬3) (ق.53.ب) سقط خيره بشره لا يبقى له من الشر ما يستوجب به العقاب، وإن فرضنا دخوله النار على مذهب الحميدي فسيخرج (¬4) قبل صاحبه، لأن خيره وإن كان قليلا (يشبه أن) (¬5) يكون أكثر من خير الآخر، بسبب ما عند هذا من كثرة الشر الذي يسقط خيره به في الموازنة وتفضل (¬6) له فضلة من الشر كما تقدم. ¬

(¬1) في (ب): تساوى. (¬2) في (ب): وتبقى. (¬3) في (أ): إذ. (¬4) في (ب): فإنه يخرج. (¬5) من (ب). (¬6) في (ب): يفضل.

نقل اللفظ قال: ثم نظرنا في كثير الخير كثير الشر مع قليل الشر قليل الخير فوجدناهما قد اختلفا في كمية الشر وكمية الخير، وقد علمنا أن الأكثر خيرا أسرع خروجا من النار، وأن الأكثر شرا أكثر عقوبة. فصح أن الأكثر شرا يقدم بيقين في الدخول في النار قبل الأقل منه شرا، وأنه أيضا وإن تقدم في دخول النار، فإنه المقدم في الخروج منها قبل الآخر، لأنه أكثر منه خيرا. وأن القليل الشر وإن تأخر في دخول النار بعد الذي هو أكثر منه شرا، فإنه أيضا يتأخر في الخروج منها بعده، لأنه أقل منه خيرا. أو وجه آخر: وهو أن يدخلا النار معا، ويزاد في عذاب الأكثر شرا ليُستوفى القصاص منه في قليل المدة فيخرج قبل الذي هو أقل خيرا منه ولابد، ويفتر في عذاب الأقل شرا وتطول مدته، فيكون خروجه منها ولابد مع طبقته وبعد خروج من هو أكثر خيرا منه. هذا ما لا يمكن سواه أصلا.

فصل هذان القسمان اللذان فرض الحميدي التكلم فيهما قد تقدم الكلام عليهما ومضى هنالك أنه لا يصح فيهما إلا أن يكونا ممن استوت حسناتهما وسيئاتهما، وإذا كانا كذلك فيصيران من أصحاب الأعراف الذين لا يدخلون النار، بل هما جملة أصحاب الأعراف بلا مزيد، فلا يصح التنظير بينهما في دخول النار ولا في الخروج منها. ولو قدرنا دخولهما النار وفرضنا ذلك واقعا لم نعلم من يخرج منهما قبل صاحبه لسقوط خيرهما معا، لأن كثرة الخير بإزاء كثرة الشر، وقلة الخير بإزاء قلة الشر، وذلك مبني على التساوي الذي هو أصل الحميدي في هذه الأقسام كما تقدم التنبيه عليه. وإنما قلنا لم نعلم من يخرج منهما قبل صاحبه، لأجل أن الخير المذكور هو عندنا ما زاد على الإيمان من العمل، وأما نفس الإيمان فلا يسقط ولا يوزن على ما أشرنا إليه قبل، وسيأتي تحقيق الكلام عليه. وإذا لم يسقط فهو معتبر لأهل الذنوب الخارجين من النار، فإن من كان إيمانه منهم أتم يخرج قبل من هو دونه في ذلك لحديث أنس في اعتبار المقادير.

نقل اللفظ قال: ثم نظرنا في كثير الخير قليل الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما قد اختلفا في قلة (ق.54.أ) الخير وكثرته، وفي قلة الشر وكثرته، فعلمنا يقينا أن الأكثر شرا يدخل النار قبل الأقل شرا وأنه أيضا يخرج منها بعده لقلة خيره عن خير الآخر. والوجه الآخر وهو أن يدخلا معا في النار فيتم القصاص من القليل الشر قبل تمام القصاص من الأكثر منه شرا فيخرج الأكثر خيرا قبل خروج الأقل خيرا ولابد. فصل قد قدمنا أن من هو كثير الخير قليل الشر لا مدخل له في هذا الباب، فتنظيره مع من هو قليل الخير كثير الشر باطل. ثم لو سامحنا الحميدي في صحة ذلك وأخذناه من باب المفاضلة لكان الأكثر خيرا يخرج من النار قبل الأكثر شرا لأجل ما يبقى له من الخير بعد سقوط ما يسقط منه في مقابلة شره، ولا يلزم أن يكون الأكثر شرا يدخل النار قبل الأكثر خيرا، ولا أن يضاعف عذابه لبقائه بعده في النار بسبب ما يبقى عليه من الشر بعد إسقاط ما يسقط منه في مقابلة خيره.

نقل اللفظ قال: ثم نظرنا في كثير الخير كثير الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما متفقين في كثرة الشر مختلفين في قلة الخير وكثرته، فالأكثر خيرا مقدم في دخول النار على القليل الخير، ليتم القصاص منه قبل تمام القصاص من الآخر، ويخرج من النار لكثرة خيره قبل خروج الأقل خيرا ولابد. والوجه الآخر وهو أن يدخلا النار معا ويزاد في عذاب الأكثر خيرا ويهون على الآخر، ليتم القصاص من الأكثر خيرا قبل تمام القصاص من الآخر، ليخرج قبله ولابد لكثرة خيره عليه. فصل ما قاله الحميدي في هذا الفصل صحيح على مذهبه، ونحن قد قدمنا أن من هو كثير الخير كثير الشر هو ممن استوت حسناته وسيئاته فلا يصح تنظيره مع من هو قليل الخير كثير الشر. ولو فرضنا أن القسمين يعذبان في النار لم نقل إن عذابهما واحد، لأن القليل الخير إذا سقط خيره بما يوازيه من الشر يبقى له من الشر فضلة يستوجب بها العقاب، وليس كذلك من هو كثير (ق.54.ب) الخير كثير الشر، لأنه في الموازنة لا يبقى له من الشر فضلة لكثرة خيره (¬1). ¬

(¬1) في (ب): أكثر من خيره.

نقل اللفظ قال: ثم نظرنا في قليل الخير قليل الشر مع كثير الخير قليل الشر فوجدناهما قد اتفقا في قلة الشر، واختلفا في قلة الخير وكثرته، فالأكثر خيرا يقدم في الدخول في النار وفي الخروج منها. والوجه الآخر وهو دخولهما معا ويزاد ولابد في عذاب الأكثر خيرا ليتم القصاص منه، ويخرج ولابد قبل خروج الذي هو أقل خيرا منه. فصل ما قاله الحميدي في هذا الفصل مبني على أصله، ونحن أيضا على أصلنا في أن من هو كثير الخير قليل الشر لا يدخل النار لكثرة خيره، وأن من هو قليل الخير قليل الشر لا يدخل النار أيضا لتساوي خيره وشره. فإن أخذناه من باب المفاضلة بينهما وفرضنا دخولهما النار على مذهبه فالأكثر خيرا يخرج من النار قبل الأقل خيرا دون الدخول فيها، ولا يصح أن يكون قلة شرهما على التساوي أصلا، لأن الكثير الخير تبقى له فضلة خير بعد إسقاط ما يسقط منه في مقابلة ما عنده من الشر، والذي هو أقل خيرا لا يبقى له من الخير شيء لسقوطه بالشر فيلزم مع تقدير دخوله النار أن يبقى فيها بعد خروج الأكثر خيرا إذا حقق القصاص عليهما، والله أعلم.

إبطال تقسيمات الحميدي

فصل (إبطال تقسيمات الحميدي) (¬1) قد قدمنا أن تقسيمات الحميدي في قوله: (كثير الخير قليل الشر وكثير الخير كثير الشر وقليل الخير قليل الشر) لا معنى لها على ما ذكرناه، ونحن نزيد ذلك بيانا، فنقول: إن تلك الأقسام منتقضة عليه بأجمعها من حيث أدخلها تحت القسم الذي هو من رجحت سيئاته على حسناته، وقسمها إلى اثني عشر قسما، وكل قسم منها لا يدخل تحت تلك (¬2) الترجمة أصلا حاشى قسم واحد، وهو قليل الخير كثير الشر. وحتى إنه لو قال قائل: هبك أنها لا تدخل تحت من رجحت سيئاته فتكلم فيها على ما فرضه الحميدي من تنظير قسم بقسم، لقلنا: إن ذلك لا يصح فيها بوجه، مع أنا قد فعلنا ما أمكن من ذلك عند ذكر تلك الأقسام، ولكن بضرب ما من المسامحة حملنا عليها أن نبين أن أقوال الحميدي في ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) ليس في (ب): تلك.

الجواب عن (¬1) الأقسام التي نظر بينها، إذا فرضنا تلك الأقسام صحيحة، هي معترضة كلها لكونه بناها على إنفاذ الوعيد. والحق عندنا أن فرض الكلام في الأقسام المذكورة لا يصح، لأنا إذا (ق.55.أ) أخرجناها عن قسم من رجحت سيئاته فذلك يبطل التنظير بينها، لأن التنظير إنما يقع فيها على أن نقول إنها في النار، فننظر من هو أكثر شرا فنقدمه على مذهب الحميدي في دخول النار أو في تضعيف العذاب، ومن خرج عن هذا القسم كيف يتصور أن نقول إنه في النار، وهو دائر بين أمرين: - إما أن يكون كثير الخير قليل الشر، فهذا ممن رجحت حسناته. - أو يكون كثير الخير كثير الشر، أو قليل الخير قليل الشر، فهذان ممن استوت حسناتهما وسيئاتهما على ما تقدم. وإذا لم يبق من التقسيم إلا واحد، وهو من هو كثير الشر قليل الخير لم يكن عنده قسم يجعل بإزائه ليقع التنظير بينهما، فقد بطلت إذا تلك الأقسام كلها بما احتوت عليه. ¬

(¬1) في (ب): على.

فصل ثم إن الحميدي أجاب عن تلك الأقسام كلها بجواب واحد، وهو أن الأكثر شرا يدخل النار قبل الأقل شرا ليكون خروجهما معا إذا كانا في الخير متساويين، وإن دخلا معا فيزاد في عذاب الأكثر شرا ولابد، وإن كانا في الخير متفاضلين، فيسبق الأكثر خيرا في الخروج من النار. ويلزم أن يسبق الأكثر شرا في الدخول فيها على هذه القاعدة هو (¬1) مدار كلامه، وهو يضاهي كلام من يقول بإنفاذ الوعيد (¬2). وقد مضى الكلام على هذا المعنى، وقلنا: إن الذي قاله يجوز أن يكون، ويجوز عكسه، ويجوز العفو ابتداءا، ويجوز أن يخرج المذنبون من النار أو بعضهم قبل استيفاء القصاص منهم، وهذا هو معنى الشفاعة، إذ لا يعقل منها إلا إخراج المذنب من الذنب الذي عليه ومن تباعته، ومن عقوبة السلطان له قبل أن يوقعها به. ثم يلزم الحميدي في هذه الأقسام كلها إلزام واحد، وهو أن يقدر الزمن الذي يدخل فيه الأكثر شرا قبل الأقل شرا، ويقدر الشرين حتى يعلم هل يزيد أحدهما على الآخر النصف أو السدس أو الربع فيجعل نسبة ذلك ¬

(¬1) في (ب): هي. (¬2) وهم الخوارج والمعتزلة.

للزمن الذي بين دخول الأكثر شرا ودخول الأقل شرا، والتزام هذا تحكم محض إذ لا دليل عليه. ويلزمه شيء آخر وهو أن الأكثر شرا يقدم في الحساب قبل الأقل شرا لدخوله النار قبله، وهذا ينبغي أن يتأمل، فإنه محل نظر. وذلك أن الشرع قد ورد بأن قوما يدخلون الجنة من غير حساب مثل السبعين ألفا، ومثل قول الله تعالى للنبي - عليه السلام - في حديث الشفاعة (¬1): «أدخل من لا حساب عليه من أمتك (ق.55.ب) من الباب الأيمن من أبواب الجنة». (¬2) وورد أيضا أن فيهم من يحاسب حسابا يسيرا، وفيهم من يناقش في الحساب، فهم درجات، والمفهوم من الشرع تقديم الأعلى فالأعلى من تلك الدرجات، فينبغي أن يدخل الجنة من لا حساب عليه قبل من يحاسب حسابا يسيرا، ويحاسب من يحاسب يسيرا قبل من يناقش الحساب، ويحاسب من يناقش عليه قبل من يبالغ في حسابه، ويستقصى عليه دقيقُ أمره وجليلُه. وإذا كان الأمر هكذا فكل ما ذكره الحميدي في تقديم الأكثر شرا غير صحيح إذن، لأنه يؤدي إلى أنه يحاسب الأكثر شرا قبل الأقل شرا، وما تقدم من مفهوم الشرع يبطل ذلك، فإن الأكثر شرا ينبغي أن يكون حسابه أشد، فيتأخر عن حساب من هو أقل شرا منه، وإذا تأخر عن ذلك فسيكون ¬

(¬1) تقدم. (¬2) تقدم.

دخول الأقل شرا في النار قبل دخول الأكثر شرا على الظاهر في ذلك، كما هو جواز الصراط. فإن الأحاديث تدل على أن الأعلى فالأعلى يجوز أولا فأولا، فإن منهم من يكون كالبرق وكالريح وكمر الطير وكأجاويد (¬1) الخيل وكشد الرجال، ومنهم من لا يستطيع السير إلا زحفا ثم يمر آخرهم يسحب سحبا كما جاء في الحديث (¬2). وهكذا هو الخروج من النار، فإن فيه تقديم الأعلى فالأعلى، كما جاء في أهل المقادير، فينبغي أن يكون دخولهم النار كذلك، والله أعلم. ¬

(¬1) كذا في (ب) والبخاري (6/ 2707) ومسلم (183) , وفي (أ): كأجاود. (¬2) رواه البخاري (6/رقم 7001) ومسلم (183) وابن حبان (7377) وغيرهم عن أبي سعيد.

أصناف الناس في الخير والشر

فصل (أصناف الناس في الخير والشر) (¬1) ينبغي لنا أن نذكر في قلة الخير وكثرته وقلة الشر وكثرته عبارة نقرب بها ما أراده الحميدي من المفاضلة بين من يدخل النار من المذنبين ممن عنده خير وشر. فنقول: أما الموازنة بذكر تقاسيم أهلها فسيأتي ذكرها، والكلام الآن إنما هو في القسم الذي رجحت سيئاته على حسناته فدخل النار، وذلك بحسب ما فرضه الحميدي. وهذا القسم ليس هو طبقة واحدة على الإطلاق، ولكن يستوون في الجملة في أن شرهم أكثر من خيرهم، إذ لو كان منهم من خيره أكثر من شره لخرج عنهم بأن ترجح حسناته، وكأن يكون من القسم الذي لا يدخل النار وهكذا، لأن فيهم من (¬2) يتساوى خيره وشره أيضا، فإنه لا يدخل النار. فإذا تقرر في القسم المذكور أن شرهم أكثر من خيرهم قلنا: ومع استوائهم في هذا فقد يتفاضلون في الخير، إذ عند جميعهم خير في الجملة، فيكون بعض الأشخاص أكثر (ق.56.أ) خيرا من بعض، ويتفاضلون أيضا في ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): وهكذا لو كان فيهم من.

الشر إما في كثرته، وإما في نوعه، فيكون بعض الأشخاص أكثر شرا من بعض. فيجوز لنا أن نقول في هذا القسم: زيد أكثر خيرا من عمرو وأقل شرا من بكر. ولا يجوز أن نقول: زيد كثير الخير قليل الشر، لأنه ينهدم لنا به الأصل، إذ لا يدخل هذا القول تحت قسم من رجحت سيئاته. وليس كذلك باب المفاضلة بين اثنين، لأن زيدا يكون قليل الخير كثير الشر حتى يدخل بذلك تحت القسم الذي هو من رجحت سيئاته، ومع ذلك يفاضل بينه وبين من هو أقل خيرا منه وأكثر شرا منه ممن يدخل أيضا تحت من رجحت سيئاته. فإذا فضلنا بين أشخاص هذا القسم وقدرنا تحقيق القصاص بينهم قلنا: زيد أكثر خيرا من عمرو، وكلاهما شره أغلب عليه، فسيكون خروج زيد من النار قبل خروج عمرو منها، لزيادة خير زيد على خير عمرو، كما ورد في أهل المقادير في الحديث المتقدم، إذ تعرض فيه إلى خروجهم من النار بتدريج، وذلك بحسب ما عندهم من التفاضل في الخير. ونقول: بكر أكثر شرا من بشر، وكلاهما شره أغلب عليه، فسيكون مع تقدير تحقيق القصاص عليهما في النار خروج بشر منها قبل خروج بكر، لكون بشر أقل شرا (¬1) منه، إن كان دخولهما فيها معا. ¬

(¬1) سقط من (ب).

ويجوز أن يكون خروجهما سواء بعد أن نقدر دخول بكر النار قبل دخول بشر، ويجوز أن يضاعف عذاب بكر على عذاب بشر. كل ذلك سائغ مع إرادة تحقيق القصاص كما قدمناه. وأما مع تجويز العفو فيجوز أن يعفو الله عنهما ابتداءا وأن يعفو عن أحدهما كائنا من كان منهما، وأن يستوفي القصاص منهما أو من أحدهما في النار إن دخلاها، وأن لا يُستوفى منهما أو من أحدهما أيضا القصاص في النار كما قررناه قبل.

نقل اللفظ قال أبو عبد الله الحميدي بإثر كلامه على الأقسام المتقدمة: فحصل من كل هذا أنه جائز أن يدخل الأكثر شرا في النار قبل دخول الأقل شرا، إن استوى عذابهما، فإن أدخلا معا فلا بد من مضاعفة العذاب للأكثر شرا ليخرج مع من معه من الخير كالذي معه أو ليخرج قبل الذي هو أقل خيرا منه أو بعد الذي هو أكثر خيرا منه ولا بد، إنما يراعى في الخروج من النار كثرة الخير وقلته فقط، كما جاء النص. ويراعى في الشر القصاص فقط إما بطول المدة وإما (ق.56.ب) بمضاعفة العذاب ولا بد، كما جاء النص أيضا بقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17]. إلا أنا (¬1) تأملنا قول الله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف 37 ـ38ـ39]. فوجدنا فيه دليلا على صحة الوجه الأول فقط، وأن الأكثر معاصي يتقدم في النار على طبقة أقل معاصي منه. ¬

(¬1) في (ب): إلا أنا إذا.

فصل قد تقدم الجواب عن أول كلام الحميدي في دخول الأكثر شرا في النار قبل دخول الأقل شرا فلا معنى لإعادته. وقوله: (إنما يراعى في الخروج من النار كثرة الخير وقلته فقط كما جاء النص) صحيح. وقوله: (ويراعى في الشر القصاص إما بطول المدة وإما بمضاعفة العذاب) يمكن أن يكون كما قال. وقوله: (ولابد) خطأ على ما قدمناه لكون المذنبين في المشيئة لا في النار ولا فيما قبلها. وأما قوله: (كما جاء النص أيضا بقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر:17]) فخطأ، لأنه ليس في هذا النص ذكر القصاص لا بطول المدة ولا بمضاعفة العذاب وإنما فيها أن كل نفس تجزى بما كسبت من غير ظلم في ذلك اليوم، يدخل في ذلك الثواب والعقاب من غير تقدير ولا تعيين زمن فيهما جميعا. فإن قيل: إنما (¬1) أخذ الحميدي قوله ذلك من لفظ (تجزى)، فإن الجزاء بإزاء العقاب، كما أن جزاء القاذف ثمانون سوطا، فلو حد دون ذلك فليس ¬

(¬1) ليس في (ب).

بجزاء. قلنا: هذا الجزاء في الدنيا مقدر من الشرع، والجزاء في الآخرة غير مقدر لنا فكل من أخرج من النار بالشفاعة فمكثه فيها قبل ذلك هو جزاؤه على معاصيه سواء قدر استيفاء القصاص منه في مدة مكثه أو لم يقدر، وذلك يختلف بالأشخاص بحسب إرادة الله تعالى فيهم. وأما قول الحميدي: (إلا أنا تأملنا قول الله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}، إلى قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} ... [الأعراف 37 ـ38ـ39]، فوجدنا فيه دليلا على صحة الوجه الأول فقط، وهو أن الأكثر معاصي يتقدم في النار على طبقة أقل معاصي منه) فهو (ق.57.أ) غريب جدا، لأن هذه الآيات إنما نزلت في الكفار. وكلامه في تلك الأقسام المتقدمة إنما هو فيها مع المؤمنين. والدليل على أن هذه الآيات إنما هي في الكفار أن في أولها: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} ... [الأعراف: 36ـ37]. فهذا نص بأن من تضمنته هذه الآيات كفار، ثم قال تعالى: {قال ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف 37]،

الآيات بجملتها. وهؤلاء الأمم المأمورون بالدخول لا يخلو حالهم من أمرين: أحدهما: أن يكونوا مرتبين في دخولهم النار على حسب ترتيب وجودهم في الدنيا فإن الأمم المكذبة بالرسل المستكبرة عن آيات الله إنما هي في الغالب أمة بعد أمة ويكون على هذا المعنى قول أخراهم لأولاهم: {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا َ} [الأعراف: 38]، أي أضلونا بتكذيبهم لرسلهم فسلكنا سبيلهم واقتدينا بهم فسموا ذلك إضلالا لما كانوا (¬1) أولئك سببه في الجملة. والثاني: أن يكون الداخلون في النار أمة أوأمما كانوا في زمن واحد فدخلوا زمرا زمرا بحسب ترتيبهم في الحساب وفراغهم من الموازنة. ويكون قولهم: {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا َ} [الأعراف: 38] يقوله (¬2) ضعفاؤهم للذين استكبروا منهم، كما قال في آية أخرى: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31]. وإذا كان ذلك منزلا على الكفار على أي تأويل كان فكيف يحتج به الحميدي على تقديم دخول الكثير الشر من المؤمنين النار على القليل الشر منهم، وهما جميعا يخرجان منها ولا يخلدان فيها، والكفار لا يخرجون من النار بل هم مخلدون فيها على الدوام والاستمرار أبد الآباد. ¬

(¬1) كذا في النسختين، وعليها علامة التصحيح في (أ). (¬2) في (ب): بقوله، وهو تصحيف.

فدخول من دخل منهم النار أولا أو من ضوعف عذابه منهم فيها لا يمس غرضنا الذي كنا فيه مع الحميدي. وإذ أبطلنا عليه هذه الحجة فليس له دليل على ما ذكر كما أنه لم يجد دليلا على الوجه الآخر، وهو تضعيف العذاب لمن هو أكثر شرا من المؤمنين على النحو الذي قرره من التنظير بين شخصين في تلك الأقسام المذكورة، فقد استوى الوجهان في كونهما لا دليل عنده فيهما، وزال بذلك حتمه على أنه لابد من أحدهما بقوله: (وهذا لا بد منه) ونحوه، وصح ما قلناه من أن القدرة صالحة لهذين الوجهين (ق.57.ب) ولغيرهما حسبما (¬1) قررناه قبل. ¬

(¬1) كذا في (ب)، في (أ): حسبما ما، وهو خطأ.

أصناف أهل الموازنة

نقل اللفظ (أصناف أهل الموازنة) (¬1) قال أبو عبد الله: ثم نقول: إن أهل الموازين على أربعة أقسام: فقسم رجحت حسناتهم، وهؤلاء صنفان في كمية الرجحان ومائيته: إما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة فقط، وهم طبقة واحدة. وإما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة وزيادة خير، وهؤلاء مختلفون باختلاف الفاضل لهم، وكلا هذين الصنفين في الجنة إثر الموازنة بلا فصل إلا جواز الصراط. والقسم الثاني: من استوت حسناته وسيئاته مع ما معه من الكبائر فلم يفضل لهم خير ولا شر، وهؤلاء أصحاب الأعراف، ولا بد من مجازاتهم كما رتب الباري عز وجل على شيء من سيئاتهم حتى يفضل لهم بعد سقوط ذلك بالجزاء عليه التصديقُ والنطق به مرة واحدة فقط، وهي الوقوف بين الجنة والنار، إذ لا يدخل الجنة أحد إلا بإيمان، كما جاءت (¬2) النصوص، وهؤلاء طبقة واحدة. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): جاء.

والقسم الثالث: من رجحت سيئاته وما معه من الكبائر على حسناته، وفي جملتها التصديق، فهؤلاء معاقبون على الفاضل لهم من الشر على ما قابل حسناتهم وإيمانهم من شرهم، حتى يفضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به. وهؤلاء مختلفون في التقدم في دخول النار وفي الخروج منها، وفي شدة العذاب وخفته اختلافا شديدا على ما بيناه قبل. ومن جملة هؤلاء: هو (¬1) من لم يعمل خيرا قط غير الإسلام اعتقادِه والقول به مرة واحدة فقط، فهؤلاء يعاقبون على كل ما سلف لهم حتى يفضل لهم عقد الإيمان والنطق به مرة واحدة، وهؤلاء أيضا مختلفون في التقدم في دخول النار وفي التأخر في ذلك، وفي شدة العذاب وتهوينه على مقدار ما لكل واحد من المعاصي. إلا أنهم كلهم مستوون في درجاتهم في الجنة مع أصحاب الأعراف، ومع الصنف الذين فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة فقط، سواء في كل ذلك من تقدم دخوله الجنة من كل من ذكرنا ومن تأخر دخوله فيها، كلهم ليس لهم عمل خير فاضل على شر (¬2) (ق.58.أ) أصلا إلا العقد والنطق بذلك مرة واحدة. ¬

(¬1) ليست في (ب). (¬2) في (ب): شره.

قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة» (¬1). قال: ولا جزاء إلا على عمل برحمة الله تعالى، قال الله عز وجل: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]، وقال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24]، وإنما يتفاضلون بالمسابقة إلى الجنة أو بالخلاص من النار، أو بقلة المكث فيها، أو بتهوين العذاب على بعض دون بعض، ثم يتفاضل من فضل له على سيئاته عمل قل أو كثر من الخير على حسب ما عمل من الخير في الجنة بعلو الدرجات وكثرة النعيم. ¬

(¬1) رواه ابن خزيمة (2960) وابن أبي شيبة (4/ 487) والدارمي (1715) والطبراني في الكبير (2/ 36) من طريق نافع بن جبير بن مطعم عن بشر بن سحيم بسند صحيح. ورواه عبد الرزاق (5/ 270) وأبو عوانة (133) بسند صحيح عن أبي هريرة. وقد خرجه مسلم من طريق عبد الرزاق (111) لكن عنده: نفس مسلمة. ورواه الترمذي (3092) وأحمد (1/ 79) والحاكم (4376 - 7354) والبيهقي (9/ 206) والبزار (785) وأبو يعلى (452) والحميدي (48) من طريق أبي إسحاق السبيعي عن زيد بن أثيع (أو يثيع) عن علي. لكن السبيعي اختلط, وقد روى عنه هذا الحديث ابن عيينة وأبو خيثمة وقد رويا عنه بعد الاختلاط. ورواه عنه معمر عند البزار. فليحرر. وزيد المتقدم وثقه ابن حبان والعجلي. وله طريق آخر عند النسائي (2958) والدارمي (1402) عن المحرر بن أبي هريرة عن أبي هريرة. والمحرر هذا انفرد ابن حبان بتوثيقه. وأكثر الروايات التي تقدمت بلفظ (نفس مؤمنة) التي ذكر المصنف. وقد رواه البخاري (6232 - 3967) عن أبي هريرة, ومسلم (1142) عن كعب بن مالك بلفظ: «لا يدخل الجنة إلا مؤمن».

فصل تقسيم الحميدي من رجحت حسناته إلى قسمين: أحدهما صنف فضل لهم التصديق والنطق به (¬1) مرة واحدة، والثاني صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة وزيادة خير، معترَض بإدخال الصنف الأول تحت من رجحت حسناته، إذ لا يصح ذلك لكون الإيمان لا يوزن على ما نذكره. وأما الصنف الثاني الذين فضل لهم زيادة خير فصحيح كونهم الذين رجحت حسناتهم وهم صنف واحد، إذ يجمعهم التخلص من النار والفوز بالجنة بسبب تلك الزيادة من الخير، وإن كانوا في ذلك الخير الزائد متفاضلين، ثم إن الحميدي جعل صفة الصنف الأول الذي أدخله تحت من رجحت حسناته، وهم من لم يفضل له (¬2) إلا التصديق والنطق به مرة واحدة لأهل الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، إذ قال فيهم حتى يفضل لهم (¬3) التصديق والنطق به مرة واحدة. وهذا هو الصنف الأول بعينه فيلزمه أن يكون القسمان قسما واحدا، إذ لم يفضُل لكل واحد منهما عنده شيء، حاشى التصديق والنطق به مرة واحدة. ¬

(¬1) ليست "به" في (ب). (¬2) في (ب): لهم. (¬3) في (ب): له.

وينبغي أن يكون هذا القسم موقوفا على أهل الأعراف فقط، لأنه لم يفضل لهم شيء حاشى الإيمان المجرد، الذي لا يدخل تحت الوزن، وما عدا ذلك فقد تكافأت الحسنات والسيئات عندهم فيه، ولذلك كانوا موقوفين أولا، حتى صاروا إلى الجنة بالإيمان الذي عندهم. وليس توقيفهم على جهة المجازاة على شيء من السيئات كما قال الحميدي، إذ لا مجازاة في الآخرة على جهة العقوبة إلا بالنار، ولم يخبر الشرع (¬1) بأنهم يدخلون النار أصلا، فعلمنا بذلك أنه لا عقوبة عليهم، لأن العقوبة إنما هي بإزاء الذنوب، وذنوب هؤلاء قد سقطت بمقابلة ما عندهم من الحسنات. والذي (ق.58.ب) حمل الحميدي على ما قال كونه يعتقد أن الإيمان يوزن مع الحسنات (¬2) فيكون له (¬3) حكمها، فتارة يرجح (¬4) مع الحسنات بالسيئات، وتارة ترجح السيئات به وبالحسنات، وذلك غاية الخطأ على ما نبينه. ¬

(¬1) في (ب): الشارع. (¬2) هذا الافتراض لا يصح, لأن الحسنات من الإيمان, فإذا قلنا توزن الحسنات فهي من الإيمان وبالتالي فإن الإيمان يوزن. وغر المؤلف ظنه أن الإيمان هو مجرد ما في القلب كما تزعم المرجئة, فغاير بينهما. (¬3) في (ب): لها. (¬4) في (ب): ترجح.

وقد نص الحميدي على ما قلناه (¬1) عنه في كلامه المتقدم، فإنه قال: (القسم الثالث من رجحت سيئاته وما معه من الكبائر على حسناته، وفي جملتها التصديق) فجعل التصديق الذي هو الإيمان (¬2) من جملة الحسنات التي رجحت بها السيئات. وهكذا قوله أيضا فيهم: (فهؤلاء معاقبون على الفاضل لهم من الشر على ما قابل حسناتهم وإيمانهم من شرهم، حتى يفضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة)، فجعل الحسنات والإيمان مما يقابل به الشر في الموازنة. وتناقض في قوله: (حتى يفضل لهم التصديق والنطق به) مع قوله: (رجحت سيئاته على حسناته وفي جملتها التصديق). فإن التصديق إذا كان مغمورا بالسيئات حتى رجحت عليه، فكيف يفضل لصاحبه بعد ذلك؟، فإن الذي تغمره السيئات من الحسنات يسقط بها في الموازنة لا محالة، فإذا أقر بأن التصديق يفضل آخرا، قلنا له: صدقت، وما ذلك إلا لكونه لم يدخل في الموازنة، إذ لو دخل فيها لم يخرج عنها. ¬

(¬1) كذا في النسختين. (¬2) قلت: الإيمان عند أهل السنة اعتقاد وقول وعمل، وليس مجرد التصديق، كما يقوله المرجئة.

هل الإيمان يوزن

(هل الإيمان يوزن) (¬1) ولنستدل على ما نقوله من كون الإيمان لا يصح وزنه. (¬2) والذي يدل على ذلك أمور: أحدها: أن الإيمان لا تقابله معصية، ولا توازيه كبيرة إلا الإشراك والكفر الذي هو ضده (¬3)، فهما (¬4) لا يجتمعان في المحل الواحد في الزمن الواحد (¬5)، فإن ذلك محال. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) بل الإيمان يوزن, لأن الإيمان اعتقادات وأعمال قلوب وأعمال جوارح كما يقول أهل السنة, وكلها يتصور زيادتها ونقصانها, وبالتالي إمكان وزنها، وهذا من الوضوح بمكان، والغلط جاء من توهم أن الإيمان هو مجرد ما في القلب، وأن لاكفر إلا الكفر الاعتقادي، وبالتالي فوجود أحدهما يضاد وجود الآخر. (¬3) في كلام المصنف هذا إجمال وإبهام من رواسب الإرجاء الذي كرسه الأشاعرة بلا شك, بل الإيمان قد يجتمع عند أهل السنة مع المعاصي والذنوب. فقد يجتمع في العبد إيمان وكفر، وإيمان ونفاق، وإيمان وشرك خلافا للمرجئة والجهمية والخوارج والمعتزلة والكرامية، فقد منعوا ذلك. والمراد بالكفر والنفاق والشرك أصغره لا أكبره. قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض». رواه الشيخان. وقوله: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». رواه الشيخان. راجع: القول المفيد (1/ 169) وفتح المجيد (373) والإيمان لابن تيمية (272). (¬4) في (ب): فكما. (¬5) في (ب): في الزمان الواحد في المحل الواحد.

فلابد (¬1) أن يكون المكلف إذا مات على حالة الإيمان أو على حالة الكفر فعلى أي حالة كان لا يوزن أحدهما بالآخر، إذ لا يكون عنده في صحيفته إلا الواحد منهما. والدليل على تضاد الإيمان والكفر أن كل واحد منهما مؤثر في صاحبه، فالإيمان يهدم الكفر ولواحقه عن (¬2) المكلف، ويستوجب به الثواب من غير اعتبار باتصافه بكفر متقدم، قال الله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، معناه إن ينتهوا عن الكفر باتصاف الإيمان يغفر لهم. وقال تعالى عن الشرك وتوابعه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}، ثم قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} ... [الفرقان: 68 - 69]. وقال - عليه السلام - لعمرو بن العاص عند إسلامه واشتراطه أن يغفر له: «أما علمت أن الإسلام يجُب ما قبله». (¬3) والكفر أيضا يحبط به الإيمان، مهما مات المكلف عليه ولا ينفعه أن يكون مؤمنا قبل ذلك. ¬

(¬1) في (ب): فلا أن ... (¬2) في (ب): على. (¬3) رواه مسلم (121) والبيهقي (9/ 98) بلفظ: «يهدم ما كان قبله». ورواه أحمد (4/ 204 - 205) وغيره بلفظ: «يجب ما كان قبله».

قال الله تعالى مخاطبا للمؤمنين: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. وقال سبحانه: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد: 34]. وقال: {ِإنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91]. فإذا ثبت أن الإيمان والكفر يتضادان، ويعتوران على المحل الواحد بحيث لا يثبت أحدهما فيه إلا مع انتفاء الآخر، صح أن أحدهما لا يوزن بالآخر، إذ لا يتصف المكلف إلا بالواحد منهما. وإذا لم يتصور وزن أحدهما بالآخر صح أن كل واحد منهما لا يوزن، فإن المعروف من الموازنة إنما هو أن يجعل شيء في الكفة وزان شيء آخر في الكفة الأخرى، فإذا جعل أحدهما في الكفة فليس عند المكلف ما يجعل مقابله في الجهة الأخرى. لأن الكفر لا يكون معه حسنة، فإن الإيمان إذا حبط بالكفر فأحرى بذلك أن يحبط ما عداه من الحسنات. والإيمان لا يوازنه كل ما دون الشرك من الكبائر فلا يتصور أن يوزن بها، لأنه فوقها، وثوابه أعظم من الآثام التي تترتب على تلك الكبائر،

ونعني بما ذكرناه نفس الإيمان (¬1) ونفس الكفر لا الأعمال الصادرة عنهما من الخير والشر، فإن ذلك سيأتي ذكره. الأمر الثاني: أهل الأعراف، وقد صح أنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم. (¬2) فلو كان الإيمان يوزن (¬3) لم يصح (¬4) وجود هذا القسم، لأن الإيمان عندهم فكانت ترجح به حسناتهم (ق.59.أ) ضرورة، إذ لو وزن الإيمان بما عسى أن يكون من السيئات لرجح بها ولا بد، (¬5) لأن تلك السيئات وإن عظمت لا توازي حسنة الإيمان أصلا. الأمر الثالث: وهو قوي جدا: وجود القسم الذي رجحت سيئاتهم فدخلوا النار حتى يقتص منهم، فإن الإيمان لو كان يوزن لم يوجد في المؤمنين ¬

(¬1) هذا أصل الوهم عند المؤلف، وقد قدمنا أن الإيمان عند أهل السنة اعتقاد، وهو الذي عبر عنه المصنف بنفس الإيمان، وقول وعمل. (¬2) وهو اختيار ابن مسعود وحذيفة وابن عباس والشعبي والضحاك وسعيد بن جبير كما في تفسير القرطبي (7/ 211) وابن جرير وابن كثير (2/ 216) والدر المنثور (3/ 463 - فما بعد). وقد جاء في ذلك حديث مرفوع, لكنه ضعيف، خرجه ابن مردويه وغيره, راجع له تفسير ابن كثير (2/ 217 - 218) والدر المنثور (3/ 464 - 465) والضعيفة (2791). (¬3) في (ب): يوجد، وهو خطأ. (¬4) في (ب): لما صح. (¬5) ما ذكره المصنف هنا فيه نظر كما قدمنا, فالإيمان عند أهل السنة: اعتقاد وقول وعمل, ولهذا يصح وزنه مع السيئات, والمؤمن الذي ترجح حسناته على سيئاته مؤمن, ولا مرجح لوزنه إلا زيادة إيمانه, فصح أن الإيمان يوزن, وأنه قد يرجح بالسيئات وقد ترجح به.

من يدخل النار أصلا لكون الإيمان لا توازيه معصية، كما قدمناه، فكان يرجح لهم في الموازنة جانب الحسنات على السيئات ولا بد. وبالجملة فلو وزن الإيمان مع الحسنات لبطلت هذه الأقسام، ولرجعت قسما واحدا في رجحان الحسنات، فلما أخبر الشرع بوجود هذه الأقسام علمنا أن الإيمان لم يوزن لهم أولا، كما قررناه. الأمر الرابع: إن الإيمان لو كان يوزن لكان من جنس الحسنات التي ترجح بالسيئات وترجح السيئات بها (¬1)، ولو كان الأمر كذلك لم يكن للمذنبين الذين دخلوا النار طريق إلى الخروج منها، لأنهم إنما يعاقبون على ما فضل من سيئاتهم على حسناتهم، وإذا وقعت الموازنة بحيث يسقط الإيمان مع الحسنات وتفضل السيئات المعاقب عليها فبأي شيء يخرجون من النار على هذا التقدير؟. ولما أخبر الشرع بخروج المذنبين من النار على مقدار ما عند كل صنف منهم من الإيمان والخير علمنا بذلك أن الإيمان لم يدخل لهم في الموازنة، (¬2) بل بقي لهم ثابتا حتى يخرجوا به من النار فذلك هو ثوابه، إذ يمنع من الخلود في النار ثم يورث الخلود في الجنة، والله أعلم. ¬

(¬1) عفا الله عن المصنف, وهل الحسنات إلا جزء من الإيمان. (¬2) بل يوزن إيمانهم فتغلب سيئاتهم حسناتهم مع وجود أصل الإيمان في قلوبهم وأعمالهم وجوارحهم, فاستحقوا النار لغلبة سيئاتهم على حسناتهم, ويخرجون منها بعد لوجود الإيمان عندهم, وإن كان ضعيفا بخلاف الكافر فليس معه إيمان أصلا. وبهذا يظهر بطلان قول المصنف.

فإن قيل: فإنه قد جاء في الحديث ما يدل على أن الإيمان يوزن، وهو أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مثل مد البصر فيقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أفلك عذر؟ قال: لا يا رب. فيقول: بلى (¬1) إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم فتُخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول احضُر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟، فيقول: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء» (¬2). قلنا: لنا عن هذا الحديث أجوبة: أحدهما: إنا لا نعلم في هذا الوقت صحته (¬3)، والحديث خرجه الترمذي (ق.59.ب) عن ليث بن سعد وابن لهيعة كلاها عن عامر بن يحيى عن ¬

(¬1) ليست في (ب). (¬2) رواه الترمذي (2639) وابن ماجه (2/ 1437) والحاكم (9 - 1937) وأحمد (2/ 213) وابن حبان (225) عن عبد الله بن عمرو بسند صحيح، وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي والألباني كما في الصحيحة (135). وجود الذهبي سنده في معجم الشيوخ (89). (¬3) بل هو صحيح كما تقدم.

أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - عليه السلام -، وقال فيه: حديث حسن غريب. ولم يقض بصحته، وابن لهيعة ضعيف، وليث بن سعد إمام، وعامر بن يحيى لا نعرف (¬1) كيف حاله (¬2)، وتعذر علينا الآن طلبه والبحث عنه لغيبة الكتب عنا، فإن لم يكن الحديث صحيحا فلا علينا منه. الثاني: إنا إذا فرضنا الحديث صحيحا فليس فيه ما يدل على أن الإيمان يوزن، بل فيه ما يدل على أنه لا يوزن، وذلك أن الذي جُعل في الوزن إنما هي البطاقة التي فيها اللفظ الدال على الإيمان، وهو من الأعمال الظاهرة، وأما نفس الإيمان فمحله القلب وهو من الأعمال الباطنة (¬3). الثالث: إن هذا الشخص لو فرضنا أن الإيمان هو الذي وزن له للزم أن يوزن لجميع المذنبين لعدم الظلم في ذلك اليوم، ولو وزن لهم لرجحت حسناتهم كما في هذا الخبر، ولو رجحت حسناتهم لم يدخل النار أحد منهم (¬4)، وعندنا الإجماع المتيقن حاصل بأن في المؤمنين من يدخل النار لأجل الذنوب، ثم يخرجون منها إلى الجنة. ¬

(¬1) في (ب): يعرف. (¬2) عامر بن يحيى المعافري المصري قال أبو داود والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات وروى له مسلم. انظر التاريخ الكبير (6/ 457) والجرح والتعديل (6/ 329) وتهذيب الكمال وغيرها. (¬3) الإيمان عند أهل السنة محله القلب والجوارح فهو اعتقاد وقول وعمل, وليس محله القلب فقط كما تقوله المرجئة. (¬4) هذا مجرد وهم، فالإيمان مراتب ودرجات يزيد وينقص، كما قرره أهل السنة، وليس شيئا واحدا، كما تقول المرجئة: لا يتجزأ ولا يتبعض. ... = = فإذا وزن كان كل مؤمن بحسبه، فمن رجحت حسناته دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته دخل النار، ويخص الله بعض عباده بالعفو الذي لا يخص به غيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وكم أتعجب من غياب هذه الحقائق الظاهرة عن المصنف. وهو يتوهم أن الإيمان هو التام الكامل، فلو وزن بأي كبيرة لرجح بها خلا الكفر، وهذا أصل المرجئة في قولهم: إيماني كإيمان جبريل.

وفي ذلك أعظم دليل على وهن هذا الخبر إن تُؤُول على ظاهره، ولم يتأول تأويلا يبقى به الأصل محفوظا كما قلناه. وإذا تقرر (¬1) هذا فنقول: إنما أراد الله تعالى أن يعفو عن هذا الشخص المذكور في الحديث ويغفر ذنوبه فأمر أن توزن له كلمة التوحيد التي جعلها سبحانه أن ترجح بكل شيء يجعل معها، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه السلام - قال: «قال موسى - عليه السلام - يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك (¬2). قال: يا موسى قل لا إله إلا الله. قال موسى: يا رب كل عبادك يقول هذا. (قال: قل لا إله إلا الله. قال) (¬3): لا إله إلا أنت، إنما أريد شيئا تخصني به. قال يا موسى: لو أن السماوات السبعَ وعمارَهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله»، خرجه النسائي. (¬4) ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) سقط من (ب). (¬3) سقط من (ب). (¬4) رواه النسائي في عمل اليوم والليلة (834 - 1141) وابن حبان (6218) والحاكم (1/ 710) وأبو يعلى (1393) عن أبي سعيد, وجعله من قول موسى - عليه السلام - , لكن فيه دراجا أبا السمح، وهو ضعيف. = = ورواه ابن حبان في المجروحين (3/ 149) من طريق أبي جرير عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. لكن أبو جرير هو مولى الزهري ضعيف. ورواه ابن أبي شيبة (7/ 73) عن كعب قال قال موسى. وهذا موقوف. ورواه ابن أبي شيبة (6/ 55) عن جابر قال قال رسول الله فذكره من قول نوح - عليه السلام - , وفيه زيادة. لكن في سنده موسى بن عبيد، وأظنه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف. ورواه أحمد (2/ 169) والبخاري في الأدب المفرد (548) عن عبد الله بن عمرو، وجعل القول من قول نوح. ورجاله ثقات, لكن فيه شك. ورواه ابن عدي (4/ 207) والطبراني في الكبير (12/ 254) عن ابن عباس, وجعله من قول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لكن في سنده عبد الله بن صالح كاتب الليث، وعلي بن أبي طلحة صدوق له مناكير، ولم يسمع من ابن عباس. فالحديث كل طرقه ضعيفة, وفي متنه اضطراب فتارة ينسب القول لنبينا وتارة لموسى وتارة لنوح, والله أعلم.

وذكر البزار (¬1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أخبركم بوصية نوح ابنه. قالوا: بلى. قال: أوصى نوح ابنه فقال لابنه: يا بني إني أوصيك باثنتين: أوصيك بقول لا إله إلا الله، فإنها لو وضعت في كفة ووضعت السماوات والأرض (في كفة) (¬2) لرجحت بهن، ولو كانت حلقة لقصمتهن حتى تخلص إلى الله وتقول سبحان الله وبحمده، فإنها عبادة الخلق، ¬

(¬1) (2/ رقم: 2088 - مختصر كشف الأستار لابن حجر)،، وقال الهيثمي: إسناده حسن. قلت: لكن في سنده ابن إسحاق وقد عنعن. (¬2) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي.

وبها تقسم أرزاقهم، وأنهاك عن اثنتين: عن (ق.60.أ) الشرك والكبر فإنهما يحجبان عن الله». فإذا كانت كلمة التوحيد تَرجح بالسماوات والأرض فكيف لا ترجح بذنوب شخص واحد وسيئات. وقد جاء في غير هذه الكلمة من ألفاظ الذكر أيضا ثواب عظيم: قال - عليه السلام - في حديث: «وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض» (¬1). وقال: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» (¬2). فإن قيل: فيبقى السؤال، وذلك أن الشهادتين اللتين هما العلامة على الإيمان بالله ورسوله إذا وزنت للشخص المذكور في الحديث، وكان ثوابه ما ذكر فيه من رجحان جانب الحسنات يلزم أن يستوي المسلمون كلهم في ذلك الوزن وفي الثواب عليه، إذ لا ظلم. ¬

(¬1) رواه مسلم (223) والترمذي (3517) وابن ماجه (280) وأحمد (5/ 342 - 343) وابن حبان (844) والدارمي (658) والبيهقي (1/ 42) والطبراني في الكبير (3/ 284) عن أبي مالك الأشعري. (¬2) رواه البخاري (6043 - 6304 - 7124) ومسلم (2694) والترمذي (3467) وابن ماجه (3806) وأحمد (2/ 232) وابن حبان (831 - 841) وابن أبي شيبة (7/ 66 - 8/ 232) وأبو يعلى (6096) عن أبي هريرة.

قلنا: إنما يلزم الاستواء فيما هو في (¬1) حكم العدل، وأما ما هو في صورة الفضل والجود فلا. والمبذول لكل شخص من المسلمين بحكم الوعد الصادق إنما هو للحسنة عشر أمثالها، فلا بعد في أن يكون لجمهورهم (¬2) على النطق بكلمتي الشهادة أو غيرها من ألفاظ الذكر عشر حسنات، وفي أن يكون لمن لله تعالى به لطف وعناية من الثواب على النطق بكلمتي الشهادة أو غيرها من ألفاظ الذكر أضعاف ذلك وأضعاف أضعافه، حتى يكون من العِظَم بحيث تمتحي به أوزار المكلف وترجح حسناته. والله أعلم. ¬

(¬1) في (ب): من. (¬2) كذا في (ب)، وفي (أ): لجمهوهم، وهو خطأ.

فصل وقول الحميدي في القسم الثالث: (ومن جملة هؤلاء من لم يعمل خيرا قط غير الإسلام اعتقادِه، والقولِ به مرة واحدة فقط، فهؤلاء يعاقبون على كل ما سلف لهم حتى يفضل لهم عقد الإيمان والنطق به مرة واحدة)، قول متناقض. فإن من كان بالوصف الذي ذكر فلا معنى لأن يقال فيه: حتى يفضل له عقد الإيمان والنطق به، لأن هذا ليس عنده أولا خير سوى ذلك الذي يفضل له بزعمه، وقوله فيهم: إنهم مختلفون في التقدم في دخول النار وفي التأخر في ذلك وفي شدة العذاب وتهوينه قول لا دليل عليه، (فإن هؤلاء) (¬1) ليس عندهم خير أصلا حاشى العقيدة والشهادة استووا في ذلك، ففي الممكن أيضا استواؤهم في الشر، بأن تكون سيئاتهم واحدة، وفي الممكن أن يتفاضلوا فيها. وأما جانب الخير فقد جاء أنهم متساوون (¬2) فيه، فلذلك جاء (ق60.ب) أن خروجهم من النار يكونون فيه جملة واحدة في زمن واحد. ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) كذا في (ب)، وفي (أ): مستاوون.

فصل وقوله: (إلا أنهم كلهم مستوون في درجاتهم في الجنة مع أصحاب الأعراف ومع الصنف الذي فضل لهم التصديق والنطق به مرة (¬1) واحدة، سواء في كل ذلك من تقدم دخوله الجنة (¬2) ومن تأخر دخوله فيها)، تحكم ورجم بالظن. وكذلك قوله: (إنما يتفاضلون بالمسابقة إلى الجنة أو بالخلاص من النار أو بقلة المكث فيها أو بتهوين العذاب على بعض دون بعض)، تحكم أيضا، فإنه جعل أحد الصنفين ممن رجحت حسناته، وهم: من فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة، وأهل الأعراف الذين فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة، ومن رجحت سيئاته على حسناته، وفي جملتها التصديق حتى لم يفضل لهم بعد القصاص إلا التصديق والنطق به مرة واحدة، ومن لم يعمل خيرا قط غير اعتقاد الإسلام والقول به مرة واحدة. وهي أقسام أربعة جعلها قسما واحدا في ثواب الجنة حتى لا يفضل بعضهم بعضا، وهذا غير مفهوم الشريعة. ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) في (ب): في الجنة.

فإن مقتضى كلامه أن من رجحت حسناته على سيئاته، ومن استوت حسناته وسيئاته، ومن رجحت سيئاته على حسناته، ومن لم يعمل خيرا قط غير اعتقاد الإسلام، فهم سواء في الجملة، وإن فرضنا القصاص في بعضهم. وكيف يصح هذا القول والله تعالى يقول: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء: 47] ويقول سبحانه: {إنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، ولا ظلم أشد من أن يجعل الحميدي من تلبس بالطاعات مع من لم يتلبس بها سواء، ومن كانت طاعاته أكثر من طاعات غيره سواء أيضا في الثواب. ثم نقول: إن هذا الفرض الذي فرض في هذه الأربعة الأقسام بعيد الوقوع جدا، فإنه فرض أن لا يبقى لجميعهم حاشى التصديق والنطق به مرة واحدة، ولو سامحناه في ذلك لم يتجه أن يكون تصديق من تلبس بالطاعات حتى لم يفضل له شر عليها، مع من تلبس بالطاعات وفضل له شر عليها سواء، وكذلك من تلبس بالطاعات وفضل له شر عليها مع من لم يتلبس بها أصلا وليس عنده إلا كلمة التوحيد، لا يكون تصديقهما سواء. فإن التصديق والإيمان يتأكد بفعل الطاعات ويزداد تثبيتا وعقدا (¬1). إذ ليس من عنده خير وتصديق كمن ليس عنده إلا التصديق (ق.61.أ)، لأن من ليس عنده إلا التصديق فهو مؤمن بحكم الشرع لاستصحاب إيمانه واستمرار تصديقه، وإن غفل عن ذلك (¬2). ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) في (ب): وإن غفل عنه.

وأما من يفعل الطاعات على وجه القربة فلا بد أن يتجدد له الإيمان في كل طاعة منها، لأن الطاعة مشروطة بالنية، ومن ضرورة إحضار النية للطاعة إحضار المتقرب إليه بتلك الطاعة في القلب، وذلك هو معنى تجدد الإيمان. وإذا كان الأمر كذلك فسيكون لا محالة هذا التصديق أتم من الأول وأعلى مقاما، وإن فرضنا أن يكون (¬1) صاحبه مرتكبا (¬2) لكبائر، فإن تصديقه يتعدد بتعدد الطاعات وتعدد الأزمان التي أوقع تلك الطاعات فيها، فلا بد أن يكون لكل تصديق منها أجر يخصه من الثواب. إذ ليس من يتجدد إيمانه مع الساعات كمن لم يتجدد إيمانه، بل بقي على حكم الإيمان وإن كان غافلا عن استصحاب ذلك الإيمان. فقد صح بما قلناه أن من تلبس بالطاعات يكون تصديقه أكثر ممن لم يتلبس بها. ويدل على ذلك أيضا تفاوت المؤمنين في الإيمان، فلولا تفاوتهم لم يجئ في الحديث تقسيم المذنبين المخرجين من النار إلى أربعة أقسام، وهي: 1. من في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان. 2. ومن في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. 3. ومن في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان. 4. ومن قال لا إله إلا الله فقط. ¬

(¬1) سقطت "يكون" من (ب). (¬2) في (ب): مرتكب.

وإذا كانت هذه الموازنات معتبرة بما في القلب ومختلفة المقادير كما تراه، فكيف يجعل الحميدي تصديق الأربعة الأقسام التي ذكر واحدا على التساوي، وقسمان منها لا يدخلان النار، وإذا ثبت بهذا الحديث أن الذين دخلوا النار لا يكون تصديقهم على التساوي فكيف يسوى بينهم وبين من لم يدخل النار، وذلك لا يصح أصلا. وقد أعاد (¬1) الحميدي هذا المعنى في فصل آخر يأتي بعد هذا، فإنه ذكر هنالك الأربعة الأقسام التي قسمها بنحو الكلام الذي تقدم له هنا من كونهم على التساوي في درجات الجنة، ويلزمه في ذلك إبطال الأقسام المذكورة في الحديث. ولا ينجيه منه كونه يجعل المفاضلة بينهم بالمسابقة إلى الجنة أو بقلة المكث في النار، فإن المفهوم من الحديث أن تقديم أهل تلك المقادير في الخروج من النار إنما هو بحسب الفاضل لكل صنف منهم مما في القلب من الإيمان. (فإذا روعي في الخروج من هو أكثر إيمانا في القلب) (¬2) ممن دونه، فلمَ لا يراعى ذلك في الجنة حتى يكون ترتيبهم في المنازل وثوابهم فيها على حسب ترتيبهم في الخروج (ق.61.ب) من النار، بل هذا هو الذي ينبغي أن يعتقد فيما تضمنه الحديث، فإن ذلك هو المفهوم منه. ومن قال إنهم يستوون في درجات الجنة بعد حصولهم فيها على ذلك التدريج كما قال الحميدي فعليه الدليل من الشرع، ولن يجد إلى ذلك سبيلا. ¬

(¬1) في (ب): أعاب، وهو تصحيف. (¬2) سقط من (ب).

ولا ينبغي أن يفهم الواقف على هذا الموضع من قولنا: إن الحميدي يلزمه إبطال الحديث أن الأربعة الأصناف التي جعلها الحميدي في الثواب سواء، هي الأربعة الأقسام المذكورة في الحديث، فإن الصنفين الأولين من الأربعة الأصناف المتقدمة لا يدخلان النار. فإن أحدهما ممن رجحت حسناته عند الحميدي. والثاني: هو من تساوت حسناته وسيئاته، وهم أهل الأعراف. وإذا كان هذان الصنفان لا يدخلان النار فهما خارجان عن الحديث، ويكون الصنفان الباقيان داخلين فيه، وهما: 1 - من رجحت سيئاته على حسناته. 2 - ومن ليس عنده إلا اعتقاد الإسلام والنطق به مرة. وهذا الصنف الأخير هو الذي يخرج برحمة الله تعالى لا بالشفاعة (¬1). فيبقى لنا صنف واحد، وهو من رجحت سيئاته على حسناته، حتى لم يفضل له (¬2) بعد القصاص إلا التصديق والنطق به (¬3). وهذا الصنف (¬4) جعله الحميدي متساويا في التصديق، ولا يصح ذلك. فإن هذا الصنف هو الذي تناوله الحديث، وجعله ثلاثة أقسام. ¬

(¬1) قلت: ورحمة الله شفاعة، ومن الشفاعة رحمة الله، فلا تعارض. (¬2) ليس في (ب). (¬3) قدمت مرارا أن الإيمان عند السلف: اعتقاد وقول وعمل، وأن حصر الإيمان في التصديق القلبي هو قول جهم ومن تبعه. (¬4) في (ب): القسم.

فإنا إذا فرضنا أن الأقسام التي تخرج بالشفاعة لم يبق لها شيء إلا مجرد التصديق، فقد جعلها الشارع أنواعا، وجعل تصديقهم متفاضلا لاختلاف المقادير التي علق خروجهم من النار بها حتى خرجوا متتابعين، ولم يخرجوا دفعة واحدة. فلهذا قلنا: إن القول بما قاله الحميدي إبطال للحديث، إذ كان يلزم على قوله (¬1) أن يخرجوا دفعة واحدة لتساويهم عنده في التصديق. ¬

(¬1) في (ب): عليه.

فصل وأما قول الحميدي: (ولا جزاء إلا على عمل برحمة الله تعالى) واحتجاجه على ذلك بقوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] وقوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24] فإنما قصد بذلك أن يعضد ما قاله من أن تلك الأربعة الأقسام سواء في الثواب، إذ ليس عندهم إلا التصديق والنطق به مرة واحدة على ما أصّله، وإذا لم يكن عندهم إلا ذلك فليس عندهم على رأيه عمل يقتسمونه في الجنة حتى تكون درجاتهم متفاضلة. وليس له في الآيات حجة أصلا، فإن الإيمان عمل من الأعمال، بل هو أكمل الأعمال وأفضلها، فقد سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل؟ فقال: «إيمان بالله» (¬1). فجعله من الأعمال وقدمه عليها في الفضل. وقد احتج البخاري (¬2) بهذا الحديث على أن الإيمان هو العمل، واحتج بقوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]. ¬

(¬1) رواه البخاري (26) - (1447) ومسلم (83) والنسائي (6/ 19) والترمذي (1658) وأحمد (2/ 258 - 264 - 348 - 442 - 521) وابن حبان (4598) وأبو عوانة (175) والبيهقي (9/ 157) وابن أبي شيبة (4/ 569) عن أبي هريرة. وفي الباب عن أبي ذر عند البخاري (2382) وغيره، وعبد الله بن حبشي. (¬2) (1/ 18).

ثم قال: "وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ... [الحجر: 92 93]: أي عن قول لا إله إلا الله (¬1). والاعتبار يعطي صحة ما ذكره (¬2) البخاري، فإن العمل الذي يورث به (¬3) الجنة لا يخلو أن يكون عملا مقرونا بالإيمان (¬4) بالله ورسوله كعمل المؤمنين، أو يكون عملا غير مقرون بالإيمان بالله ورسوله كعمل الرهبان مثلا، وباطل أن يكون العمل الذي يورث به الجنة أي عمل كان من غير اشتراط الإيمان. فلم يبق إلا العمل الذي هو مشروط بالإيمان مع أن الإيمان هو العمل الأول الذي يكون سبب أصل الجزاء في الجنة، إذ لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، كما ورد في الخبر. (ق.62.أ) والإيمان قد شهد الشرع بتفاوت الناس فيه، وهم أهل المقادير المذكورة في الحديث، وهكذا هو تفاوت من لم يدخل النار أيضا من (¬5) المؤمنين، فإنه يكون بحسب طبقاتهم في الإيمان والعمل، كما يظهر من غير ما حديث، ولذلك يختلفون في إجازة الصراط، وفي درجات الجنة. ¬

(¬1) رواه ابن جرير (7/ 548) عن أنس مرفوعا وموقوفا وعن مجاهد وابن عمر موقوفا عليهما بأسانيد فيه لين. (¬2) في (ب): قاله. (¬3) ليس في (ب). (¬4) ليس في (ب). (¬5) ليس في (ب).

نقل اللفظ: قال الحميدي: والقسم الرابع: الكفار ولا بد لهم من الموازنة وقد نص الله تعالى على ذلك في سورة قد أفلح المؤمنين في قوله تعالى (¬1): {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 104 - 103]. فصح بهذه الآية أن الكفار أيضا يوازنون، وأن موازينهم تخف لا يجوز غير هذا، لأن من خالف هذا كان ذلك منه صرفا للآية عن ظاهرها وعن مقتضى لفظها بالدعوى، وتحريفا للكلم عن مواضعه بلا برهان، وهذا لا يجوز. وأما قوله عز وجل: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 105] فليس نفيا للموازنة، لأن كلام الله لا يتعارض، وإنما هو أنه لا تثقل موازينهم، بل تخف، إذ ليس فيها التصديق الذي هو العقد والقول الذي لا يصح عمل صالح إلا به. ¬

(¬1) ليس في (ب).

إلا أنهم يختلفون في مقدار المعاصي وفي (¬1) كيفية العذاب في شدته (¬2) ونقصانه على حسب معاصيهم، وهم مخلدون في النار أبدا، ولا يجازون بما لم يعملوا ولا كانوا سببا لعمله، ففي هذا يتفاضلون في العذاب. وقد بين الله عز وجل بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. والأسفل بلا شك من باب الإضافة، ويقتضي ولا بد أعلى منه في نوعه. وأخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما خُفف عن أبي طالب (¬3) بأنه لم يؤذ قط رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما أعمالهم الصالحة فمُحبَطة بنص القرآن لا يُجازون عليها في الآخرة أصلا قال الله تعالى: {َوقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [الفرقان: 23]. ¬

(¬1) في (ب): في. (¬2) في (ب): سدته. (¬3) سيأتي تخريجه قريبا.

فصل قول الحميدي في موازنة الكفار واستدلاله بالآية وتأويله {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} ... [الكهف: 105] كل ذلك حسن، وقد قاله أبو محمد بن حزم في كتاب الفصل (¬1)، فإما أن يكون أخذه من قول الحميدي في هذا الكتاب لكونه رواه واستحسنه، وإما أن يكون الحميدي أخذه (ق.62.ب) من كتاب الفصل ونقله إلى كتابه. وكذلك قوله: إن الكفار مختلفون في كيفية العذاب في شدته ونقصانه صحيح أيضا، فليس عذاب من سفك الدماء وغصب الأموال وقطع الطريق منهم كمن ترهب ولبس المسوح واعتزل الناس (¬2) وإن شملهم اسم الكفر جميعا. ومن الدليل على أن الكفار يتفاضلون في العذاب ويختلفون فيه بالتخفيف والتضعيف والشدة قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه» (¬3). ¬

(¬1) (4/ 54). (¬2) في (ب): النساء. (¬3) رواه مسلم (211) وأحمد (3/ 13 - 27 - 78) والحاكم (8734) عن أبي سعيد الخدري. ورواه مسلم (212) والحاكم (8735) وابن أبي شيبة (8/ 94) عن ابن عباس. ... = = ورواه البخاري (6193 - 6194) ومسلم (213) والترمذي (2604) والحاكم (8730 - 8731 - 8732 - 8733) وابن أبي شيبة (7/ 50) والبزار (8/ 198) والطيالسي (798) عن النعمان بن بشير. وفي الباب عن أبي هريرة.

وهذا من باب التخفيف، وأما التضعيف فقد نطق به القرآن، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان: 68]. وأما شدة العذاب ففي الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1): «أشد الناس عذابا رجل قتل نبيا أو قتله نبي» (¬2)، ومن قتل نبيا أو قتله نبي لا يكون إلا كافرا ولا بد، لأن القتل في القصاص أو في (¬3) الحدود خارج عن هذا. وقول الحميدي: (وأخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما خفف عن أبي طالب بأنه لم يؤذ قط رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ليس كذلك، إذ ليس تخفيف العذاب (¬4) عن أبي ¬

(¬1) في (أ): عليه السلام. (¬2) رواه أحمد (1/ 407) والبزار (1728) من طريق عبد الصمد ثنا أبان ثنا عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. وعبد الصمد هو بن عبد الوارث بن سعيد، وأبان هو ابن يزيد العطار، وعاصم هو ابن بهدلة، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة. وهذا سند حسن للخلاف المعروف في عاصم. وللحديث طريقان آخران عن ابن مسعود عند الطبراني في الكبير (10/ 211) (10/ 216)، في الأول منها الحارث الأعور متروك، وفي الثاني ليث بن أبي سليم ضعيف، وعنه عباد بن كثير متروك. (¬3) سقطت من (ب). (¬4) في (ب): الإذاية، وهو خطأ.

طالب لعدم الإذاية (فقط) (¬1) لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن أبا طالب لم يقف عند مسالمته وترك الإذاية له، بل قام دونه ومنعه من قريش جهده، ولم يسلمه لهم أصلا كما قال: كذبتم وبيت الله نبزى (¬2) محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل وفي آخر القصيدة يقول: فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصر عنها سَورة المتطاول حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرا (¬3) والكلاكل (¬4) وتكرر هذا المعنى من أبي طالب فقال (¬5): جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما بتفريقهم من بعد ود وألفة ... جماعتنا كيما ينالوا المحارما كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما تروا يوما لدى الشعب قاتما ¬

(¬1) في (أ) هنا كلمة كتبت في الهامش لم يتجه لي توجيهها، وبها بتر في أولها، والكلام متصل في (ب)، فأتممته اعتمادا على السياق. (¬2) في لسان العرب (1/ 403): يُبزى محمد. ومعناه يقهر ويغلب. (¬3) الذرا بالفتح: كل ما استترت به، كما في الصحاح (6/ 296). (¬4) جمع كلكل، وهو الصد، كما في الصحاح (5/ 96). (¬5) السيرة النبوية (2/ 216 - 217).

وقال أيضا (¬1): فلسنا ورب (¬2) البيت نسلم أحمدا ... لعزاء من عض الزمان ولا كرب ولما تبِن منا ومنكم سوالف ... وأيد أترت بالقساسية الشهب بمعترك ضيق ترى كسر القنا ... به والنسور الطخم يعكُفن كالشرب وهذا المعنى عن أبي طالب موجود في الحديث فقد قال العباس للنبي - عليه السلام -: "هل نفعت أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ " قال: «نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» (¬3). وفي رواية عن العباس (¬4): " قلت: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك؟ "، قال: «نعم، وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح» (¬5) وهذا الحديث بهاتين الروايتين في كتاب مسلم. ¬

(¬1) السيرة النبوية (2/ 198). (¬2) في (ب): وحق. (¬3) رواه البخاري (3670 - 5855) ومسلم (209) وأحمد (1/ 206 - 210) وابن أبي شيبة (8/ 98) والبزار (1311) وأبو يعلى (6694 - 6715). (¬4) في (ب): ابن عباس، وهو خطأ. (¬5) رواه مسلم (209) والحاكم (4/ 625).

نقل اللفظ: قال الحميدي: ولا بد من الموازنة لكل أحد من الأنبياء والرسل والمؤمنين التائبين والمصرين والكفار، وليس الغفران للأنبياء عليهم السلام والتائبين من المؤمنين بمانع من الموازنة لهم. لأنهم بلا شك متفاضلون في الأعمال الصالحة وفي الفضائل، والموازنة إنما هي توقيف لهم على ما جعله الله تعالى جزاء لهم على تلك الأعمال الفاضلة، فيعلم كل امرئ منهم ما يستحق في الجنة من الجزاء على أعماله الصالحة، ويعلم أهل النار أيضا مقدار ما يستحقه كل امرئ منهم في النار من الجزاء على أعماله الخبيثة مع كفره فقط.

فصل قوله: (ولابد من الموازنة لكل واحد من الأنبياء والرسل) لم يدل عليه، ولكنه هو الظاهر من الشريعة، إذ لابد، والله أعلم، من أن يكونوا في (¬1) القسم الذي يأخذ كتابه بيمينه وأن يدخلوا في قوله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8]. ويدل على ذلك دلالة قوية قوله في سورة الأعراف: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} ... [الأعراف: 6 - 7]. معناه: فلنقصن على الجميع من الصنفين بعلم وما كنا غائبين عنهم في وقت الرسالة، لا في حين تبليغ المرسلين لها ولا في حين إجابة الذين أرسل إليهم عنها من قبول أو رد. ثم قال: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8]، فظاهر الآية أنها انعطفت على ما قبلها من المرسلين، والذين أرسل إليهم. وهذه الآية أمس في الاستدلال (ق.63.ب) من غيرها بكون الصنفين مذكورين فيها. ¬

(¬1) في (ب): من.

وأما قوله: {فَإِذاَ نُفِخ َ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون: 101] إلى آخر الآية، وقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ... [القارعة: 4 - 7]، فإنما يدخل في ذلك الأنبياء والرسل من جهة العموم المستغرق لجميع الناس الذين هم منهم، والله أعلم. وقوله: (والموازنة إنما هي توقيف لهم على ما جعله الله تعالى جزاء لهم على تلك الأعمال الفاضلة)، كلام حسن إلى آخره، غير أن لفظ التوقيف لا نستحسنه (¬1) في حق الأنبياء عليهم الصلاة (¬2) والسلام، فإن ذلك نوع إخجال لهم، والله سبحانه يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه أو يحاسبه، فكيف بالأنبياء عليهم السلام (¬3). ولعل الحميدي إنما قصد بذلك عرض الأعمال عليهم وعرض الجزاء عليها، وسنذكر هذا المعنى فيما بعد إن شاء الله. ¬

(¬1) في (ب): يستحسنه. (¬2) من (ب). (¬3) من (ب).

أقسام أهل الموازنة

باب (أقسام أهل الموازنة) (¬1) قسم الحميدي أهل الموازنة بحسب ما ظهر له كما نقلناه عنه، ونحن نريد أن نقسمهم تقسيما آخر بحسب ما يظهر لنا، ونحرر في ذلك عبارة ينحصر بها ما نقصده بحول الله. فنقول: أهل الموازنة على الإطلاق ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: 1. من عنده خير محض. 2. ومن عنده شر محض. 3. ومن ليس عنده لا خير محض ولا شر محض. وهذه قسمة منحصرة. ثم من ليس عنده لا خير محض ولا شر محض هو من عنده خير وشر معا. وينقسم هذا القسم إلى من خيره أكثر من شره، وإلى من شره أكثر من خيره، وإلى من لا خيره أكثر من شره، ولا شره أكثر من خيره، وهو من يتساوى خيره وشره. وهذه قسمة منحصرة أيضا. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني.

فجملتها خمسة أقسام لا سادس لها. وهي: 1. من عنده خير محض. 2. ومن عنده شر محض. 3. ومن عنده خير وشر، لكن خيره أغلب عليه. 4. ومن عنده خير وشر، لكن شره أغلب عليه. 5. ومن عنده خير وشر على التساوي، حتى لا يرجح جانب منهما على الآخر.

القسم الأول: وهو من عنده خير محض

(القسم الأول: وهو من عنده خير محض) (¬1) فأما القسم الأول، وهو من عنده خير محض، فذلك مثل الرسل والأنبياء عليهم السلام، إذ ليس عندهم إلا الحسنات المجردة الخالصة من كل شوب يمكن أن يتطرق إليها. فإن قيل: فقد ورد في حديث الشفاعة أن الأنبياء عليهم السلام يذكرون هنالك ذنوبا تصرفهم عن الشفاعة (ق.64.أ)، وقد نطق القرآن بإضافة الذنوب إليهم. قلنا: الجواب عن ذنوب الأنبياء مقرر في كتب الأصول، لكنا نشير إلى طرف منها، فنقول: أما الكبائر فالإجماع على أنها لا تتصور منهم (¬2). ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) اتفق أهل السنة على أن جميع الأنبياء والرسل معصومون في تبليغ الرسالة من الخطأ والزلل والغلط، ومعصومون من الكبائر بعد النبوة. ووقع خلاف في عصمتهم من الصغائر، والجمهور على عدم العصمة، لكنهم لا يقرون عليها. وذهب الشيعة وكثير من المعتزلة وكثير من الرافضة وبعض الأشاعرة إلى القول بعصمتهم مطلقا. ويجوز في حقهم السهو والنسيان، خلافا لمن أبى ذلك، كما في الفتح (3/ 101). منهم الرافضة. وقد انفردوا بذلك، كما في منهاج السنة (2/ 453). ونقل القاضي عياض في الشفا (2/ 135) الإجماع على أن النبي معصوم في الإخبار عن أمور الدنيا وأحوال نفسه.

وأما الصغائر فمختلف فيها: فمن زعم أنها واقعة منهم، احتج بما جاء في الأخبار والتفسير في حقهم، مما لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه، لكونه لا يقوم على ساق، وذلك كقصة داود - عليه السلام - (¬1)، فإن المنقول فيها مع عدم إسناده وتعذر صحته لا يليق بفضلاء المؤمنين، فكيف بالنبي المعصوم. وظاهر القرآن لا يخرج منه ذلك الذي نقل. ولولا خروجنا عما نحن بسبيله لتكلمنا على الآيات الواردة في حقه وفي حق غيره من الأنبياء، وبينا ما تحتمله من التأويل، ودفعنا تلك الأخبار المنقولة بما يجب، ولكنا نقول على ما يقتضيه الوقت: إن الذي ينبغي أن يقال: إن الصغائر لا تتصور من الأنبياء عليهم السلام، أعني على قصد المخالفة لله، وإنما قد يفعلون شيئا باجتهادهم فيما لا يوحى إليهم فيه أمر فلا يوافقون في ذلك ما عند الله تعالى، فيكون الأخذ عليهم من هذه الجهة لعلو مقامهم، كما قال الله تعالى لنبيه - عليه السلام -: {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِين َ} [التوبة: 43]. إذ كان مراد الله تعالى ألا يأذن لهم حتى يعلم الصادق منهم والكاذب. وكما قال لنوح - عليه السلام - عندما نادى ربه في قصة ابنه: {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46]، والسؤال كله والدعاء إلى الله تعالى إنما هو فيما ليس للمكلف به علم. لكن لما كان مقام نوح المقام الذي يكون للرسل نهي عن سؤاله ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 189).

ذلك، فعده نوح على نفسه ذنبا، حتى قيل عنه في بعض الروايات في حديث الشفاعة: ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم (¬1). فإن قيل: إنما أخذ على نوح في هذا لكونه قد أوحي إليه: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] ولكونه قد قيل له: {احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} ... [هود: 40]. قلنا: أما الآية الأولى فيمكن أن يكون نوح - عليه السلام - يحملها حينئذ على قومه الذين هم قبله لا على أهله الأدنَين إليه. وأما الثانية: وهو قوله: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] فيحتمل أن يكون نوح يصرف (¬2) الاستثناء في الآية إلى امرأته، فيعرف أنها هي التي سبق عليها القول، لكونها كافرة به مكذبة له مشلية (¬3) غيرها على إذايته، ويعلم نوح أنه لا يدخل معه في السفينة إلا من هو مؤمن لقوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40]. فقوله: {وَمَنْ آمَنَ} معطوف على {وَأَهْلَكَ}. ¬

(¬1) رواه البخاري (4206) وغيره عن أنس. (¬2) في (ب): صرف. (¬3) الإشلاء: الدعاء، كما في الصحاح (6/ 373)، ومعناه هنا: دعوة غيرها وتحريضهم على إذايته.

وتقدير الكلام: احمل فيها اثنين من كل زوجين وأهلك ومن آمن إلا من سبق عليه القول، أي: من أهلك، كما قال في آية أخرى: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27]. وهذا الوجه (في الآية) (¬1) متجه جدا. ويحتمل على بعد أن يكون نوح يعلم أن الاستثناء راجع إلى أهله أي إلى أهل بيته في الجملة، وليس يعرف من سبق عليه القول منهم بعينه، وهو مرتقب أن يعيَّن له فيما بعد، وهذا على تقدير أن يكون نوح لا يعرف كفر ولده. وعلى ما ذكرناه من التأويل في الوجهين لا يكون على نوح - عليه السلام - في سؤاله ما ليس له به علم دَرَكٌ، إلا بحسب مقامه كما قدمناه. وحتى لو فرضنا أن نوحا يعرف كفر ولده لم يكن في سؤاله أيضا بأس، لأن ولده كان في قيد الحياة، ونوح - عليه السلام - يرجو إيمانه، وكان عنده أن أهله يحملهم معه في السفينة، وهو يظن أن ابنه من جملة أهله، ولذلك قال: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]، يعني وعدك في ركوب أهلي معي. وكأن نوحا - عليه السلام - إذا قدرنا هذا الذي فرضناه صحيحا إنما يريد هداية ابنه للإيمان، إذ استعصى أن يركب معه عندما قال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء} [هود: 43]، فسأل الله تعالى أن ينجيه ويهديه، إذ كان من أهله، ¬

(¬1) ليست في (ب).

وقد وُعد أن ينجى أهله بركوبهم معه، فقال الله تعالى له (¬1): {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، أي: ليس من أهلك إلا من هو عمل صالح، وولدك عمل غير صالح، فغاب عن نوح ذلك، أي: غابت عنه الخاتمة على ولده. ولما تحقق نوح أن ولده قد سبق عليه القول بأنه لا ينجى من جملة أهله، استعاذ (¬2) حينئذ من سؤاله ما ليس له به علم، وسأل المغفرة من ذلك بقوله: {قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} ... [هود: 47] الآية. وهذه الآية وإن كانت متأخرة فهي متقدمة مع ما قبلها في المعنى، إذ موضعها أن تكون بإزاء ندائه لابنه، فإنه لا يصح أن يكون نوح يسأل الله تعالى في ابنه إلا وابنه حي قبل أن يحصل في جملة المغرقين. وقد خرجنا بهذا الكلام عن مقصودنا الذي كنا فيه، ومحصوله أن الأنبياء عليهم السلام ليس عندهم مخالفة لله تعالى من حيث هي مخالفة. ويدل على ذلك ما في الحديث من أن الثلاث الكذبات (¬3) التي كذبها إبراهيم - عليه السلام - إنما كانت في ذات الله تعالى، وهي (ق.65.أ) كلها صدق بالمعنى الذي قصده إبراهيم لكن سماها إبراهيم صلى الله عليه كذبات، لأجل أن السامعين فهموا منها خلاف ما قصده هو، فكان ذلك (¬4) شبه الكذب. ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) في (ب): استعاذه. (¬3) في (ب): كذبات. (¬4) في (ب): فكذلك.

وموسى - عليه السلام - وإن كان يقول في حديث الشفاعة: إني قتلت نفسا لم أومر بقتلتها (¬1) فهو لم يقصد قتلها، وإنما وكز الرجل بيده، وفي الغالب أن مثل هذا لا يكون سببا في موت من فعل به ذلك، فقضى موسى - عليه السلام - (¬2) عليه بتلك الفعلة من غير أن يقصد موته فيها. وهكذا في شرعنا أن من فعل هذا ولم يقصد به القتل فلا قصاص فيه ولا إثم قتل على فاعله. ثم نقول بعد هذا: لنا مسلكان فيما قدمناه من كون الأنبياء (عليهم السلام) (¬3) ليس عندهم إلا الحسنات الخالصة والخير المحض: أحدهما: إن ذلك صادق على محمد - عليه السلام - على الإطلاق، لأن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو في قيد الحياة بعد، وهي درجة لم تجعل إلا للنبي - عليه السلام -. ولهذا يقول عيسى - عليه السلام - في حديث الشفاعة: اذهبوا إلى محمد، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فإذا صح هذا في واحد من الجنس وهو محمد - عليه السلام - فقد صح لنا بذلك التقسيم. ¬

(¬1) كذا في (ب)، وفي (أ): بقتله. (¬2) من (ب). (¬3) من (ب).

والمسلك الثاني: إن الأنبياء صلوات الله عليهم بأجمعهم (¬1) لا يؤاخذون بما كان منهم مما هو في صورة الذنب، لأن الاصطفاء والاجتباء يدل على ذلك، قال الله تعالى في آدم: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]. وقال سبحانه بعد أن ذكر جماعة من الأنبياء عليهم السلام: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ٍ} [الأنعام: 87]. والعصمة من الذنوب بعد النبوة معلومة لهم قطعا، فقد ظهر أنهم في القيامة أولو الخير المحض، ويلتحق بهم بقية المقربين، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، إذ هم أهل الاستقامة في العبادة والسلوك على الصراط المستقيم كما تقدم. وقد يجري مجراهم بأن يكون من أهل الخير المطلق من يموت على الإسلام من الكفار أو عن توبة صادقة من المذنبين ثم تعجل منياتهم قبل التدنس بالذنوب، فإن صحائف من يكون من هذين الصنفين إنما تكون فيها الحسنات المجردة. ¬

(¬1) من (ب).

القسم الثاني: من عنده شر محض

(القسم الثاني: من عنده شر محض) (¬1) وأما القسم الثاني: وهو من عنده شر محض فهم الكفار والمشركون الذين تمردوا على الله تعالى واستكبروا عن طاعته وكذبوا الأنبياء المرسلين إليهم، فليس عندهم في الموازنة إلا الشر المحض، وهو المعاصي التي أعظمها الكفر بالله. وأما (ق.65.ب) الطاعات فليست عندهم، وإن فرضنا أن تكون عندهم حسنة فإنهم لا يثابون عليها أصلا، لعدم رأس الحسنات الذي هو شرط في قبولها، وذلك هو الإيمان بالله. وقد جاء في الحديث أن الكافر يطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها (¬2)، وذلك لأن أعمالهم محبطة، وتخليدهم في النار لا إشكال فيه، قال الله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) رواه مسلم (2808) عن أنس.

وقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 36 - 37] إلى غير ذلك من الآيات. ويجوز أن يجازوا أو يجازى بعضهم على ما يفعلون من خير في الجملة، لكن يكون ذلك الجزاء تخفيفا للعذاب لا غير كما فُعل بأبي طالب، لأجل نصرته لرسول الله وحمايته له، وكما فعل بأبي لهب، إذ روي أنه خفف عنه العذاب ليلة الاثنين الذي أعتق فيه ثويبة التي أرضعت رسول الله. (¬1) ¬

(¬1) روى البخاري (4813) عن عروة قال: وثويبة مولاة لأبي لهب كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشرحيبة قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة. وهذا مرسل، لكن رواه عبد الرزاق (9/ 62) عن معمر عن الزهري عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة أن أبا لهب أعتق جارية لها يقال لها ثويبة، وكانت قد أرضعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأى أبا لهب بعض أهله في النوم، فسأله ما وجد؟ فقال: ما وجدت بعدكم واحة غير أني سقيت في هذه مني، وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه، في عتقي ثويبة. قال ابن حجر في الفتح (9/ 145): وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، لكنه مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [الفرقان: 23]. وأجيب أولا بأن الخبر مرسل، أرسله عروة، ولم يذكر من حدثه به. ... = = وعلى تقدير أن يكون موصولا، فالذي في الخبر رؤيا منام، فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به. وثانيا على تقدير القبول فيحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصوصا من ذلك بدليل قصة أبي طالب، كما تقدم أنه خفف عنه، فنقل من الغمرات إلى الضحضاح.

وأهل هذا القسم مختلفون في العذاب اختلافا كثيرا بحسب شدة المعاصي وكثرتها فيكون عذاب الراهب منهم دون عذاب القاتل للنفوس الغاصب للأموال، لأن الراهب إنما يعذب على كفره فقط لا على إذايته للناس لأنه بمعزل عن ذلك. والقاتل يعذب على قتله وغصبه زائدا على عذاب كفره، قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] فأخبر أنه زاد هؤلاء الكفار عذابا بإفسادهم وصدهم عن سبيل الله على العذاب الأصلي الذي يكون للكافر بمجرد الكفر، ولذلك ساق العذاب الثاني بالألف واللام التي للعهد. والمجازاة هكذا لابد منها، فإن التخليد في النار إذا (¬1) كان شاملا لجميع الكفار على تباين أعمالهم فلا يبقى للفرق بين طبقاتهم إلا تضعيف العذاب أو شدته لمن هو أشد ذنبا وأعظم جرما، وتخفيفه على من هو في الجرائم دون ذلك. ¬

(¬1) في (ب): إنما.

وبهذا السبب جعل الله الدركات في النار متباينة حتى يأخذ (ق.66.أ) كل مخلد فيها قسطه من العدل في الجزاء والمكان، فإن الله بالمرصاد، وهو سبحانه لا يظلم مثقال ذرة. ولابد أن ننبه هاهنا على شيء يجب التنبيه عليه، وهو أن الموازنة إنما يفهم منها إلقاء شيء في الكفة الواحدة بإزاء شيء آخر في الكفة الأخرى حتى يرى (¬1) أي الكفتين ترجح. هذه هي الموازنة في الدنيا، وهكذا ينبغي أن تفهم موازنة الآخرة. فمن كان عنده خير وشر وطاعة ومعصية جعل ذلك في الكفتين، فأي الكفتين رجحت منهما كان صاحب الموازنة من أهل ذلك العمل المرجح. فإذا تقرر هذا فنرجع إلى حال الأنبياء والكفار فنقول: كيف تمكن الموازنة للصنفين، وكل واحد منهما ليس عنده (¬2) إلا أحد الجانبين فقط. أما الأنبياء فالخير المحض، وأما الكفار فالشر المحض، فما الذي يوزن مع الخير؟، وما الذي يوزن مع الشر؟. ويشبه أن يقال: إن الموازنة في حق الأنبياء إنما هي إبراز أعمالهم وكشفها لهم حتى يتبين لجميعهم قدر الثواب الذي أعده الله لهم ويروا منازلهم التي يستحقونها بأعمالهم على حسب تفاضلهم ودرجاتهم. ¬

(¬1) في (ب): يرى أن أي، وهو خطأ. (¬2) في (ب): له.

وهكذا القول فيمن هو لاحق بهم من أهل الخير المطلق، وتكون الموازنة للكفار على نحو ذلك، وهي أن تكشف (¬1) لهم أيضا أعمالهم فيتبين لجميعهم قدر ما أعد لهم (¬2) من العذاب في النار، حتى يظهر لأشخاصهم الفرق ما (¬3) بين دركاتهم، ويعرف كل واحد منهم مقدار نصيبه من ذلك العذاب المقدر بحسب معاصيه، فيتحقق حينئذ العدل في ذلك كله، ويتبين هو أن الله ليس بظلام للعبيد. وإذا خرج (¬4) هذان القسمان عن الموازنة المحققة بقيت الثلاثة الأقسام الباقية للموازنة المتعارفة. ¬

(¬1) في (أ): تكسف. (¬2) في (ب): له. (¬3) ليس في (ب). (¬4) في (ب): أخرج.

القسم الثالث: من عنده خير وشر وغلب خيره على شره

(القسم الثالث: من عنده خير وشر وغلب خيره على شره) (¬1) أما القسم الأول منها: وهو القسم الثالث من التقسيم الأول فهو من عنده خير وشر وغلب خيره على شره، بأن ظهر ذلك في الميزان حال الموازنة، فهؤلاء في الجنة من غير عقوبة ولا توقيف بعد الميزان، إلا أن يكون جواز الصراط فقط. وفي هذا القسم يكون عِلية أصحاب اليمين، فأعلاهم منزلة من تكون صحائفه مشحونة بالأعمال الصالحة والحسنات المقبولة، وليس عندهم من السيئات إلا الصغائر التي لا تتعلق بالمخلوقين، فإن تعلقت بهم فتلك درجة أخرى. وأدناهم منزلة من عنده في صحيفته حسنات وسيئات كبائر وصغائر، إلا أنه رجح جانب الحسنات بحسنة واحدة فضلت له بعد الموازنة، (ق.66.ب) فزحزح عن النار بها وفاز بدخول الجنة من أجلها. وبين هاتين الطائفتين أصناف متعددة بحسب أعمالهم وصدق نياتهم فيمتازون كلهم في درجات الجنان وفي النعيم المعد لكل صنف منهم، وسواء في هذا القسم من رجحت حسناته على سيئاته في الأصل بأعماله الصالحة ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني.

أو رجحت حسناته على سيئاته بأن نقلت حسنات من ظلمه إلى صحيفته فرجحت بذلك، أو أخذ من سيئاته فطرحت على ظالمه فرجح له جانب الحسنات لذهاب تلك السيئات التي لو بقيت رجح جانبها على الحسنات. فإذن لا نراعي في هذا القسم إلا أن يرجح جانب الحسنات بحسنة واحدة فما فوقها كان ذلك كيفما كان، فإذا حصل المقصود بذلك كان صاحبه من أهل الجنة من غير عقوبة أصلا. وقد سمعنا بعض أهل العلم بالكلام في عصرنا يقول: إن من رجحت حسناته على سيئاته وفيها كبيرة أو كبائر فهو في المشيئة، إذ لله أن يعذبه على سيئة واحدة، إن أنفذ عليه الوعيد بها ويكون رجحان حسناته لرفع درجاته في الجنة بعد خروجه من النار، فناظرناه على ما قال، فأبى أن يرجع عن مذهبه فيه. ونحن لا نرى ذلك، بل نقول على ما أصلناه قبل: إن من رجحت حسناته فهو غير معذب، وإذا لم يكن معذبا فهو في الجنة، ولا نقول إن ذلك على معنى الوجوب، فإن الله سبحانه لا يجب عليه شيء، وإنما هو لإخبار الله تعالى -وخبره صدق- بأن من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وإنه من المفلحين. وقول القائل: إذ لله أن يعذب من ثقلت موازينه على سيئة واحدة إن أنفذ عليه الوعيد بها صحيح من جهة العقل، لكن لم يخبر الله تعالى عن من هذه صفته أنه يعذب، بل جعله في عيشة راضية، ولم يشترط في حقه ألا تكون عنده سيئات ولا كبائر، وإنما اشترط أن يثقل له الميزان فقط، فلا

يبعد أن يكون في الجانب الآخر سيئات وكبائر، ومع ذلك يثقل الميزان ويرجح الوزن لكثرة الطاعات. وهذا هو الغالب على البشر فقد قال النبي - عليه السلام -: لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم (¬1). وعلى رأي ذلك القائل يلزم أن يكون قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 6 - 7] منزلا على فضلاء الأمة الذين لا تكون في صحائفهم كبيرة أصلا إما لاجتنابهم لها، وإما لتوبتهم منها، وذلك تضييق لرحمة الله الواسعة. بل نكتفي بوعد الله الصادق ونُبقي الآية على ظاهرها في فلاح من ثقلت موازينه وكونه في عيشة راضية، ولا نبالي ما كان في الميزان بعد أن يرجح جانب الحسنات، (ولا نشترط إلا القبول لها فقط، فإذا رجحت دل ذلك على قبولها، إذ رجحان الحسنات) (¬2) لا يتصور إلا بعد أن تكون هي مقبولة لا محالة: هذا هو المفهوم من قواعد الشرع. ومن الدليل على ذلك أن أهل الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم لا يعذبون، ولاشك أن في سيئاتهم الكبائر، إذ لو لم تكن لرحجت الحسنات، لكون الصغائر لا تأثير لها معها فعلمنا بذلك أن الله تعالى لا يجازي بالنار على الكبائر إلا إذا فضلت في الموازنة على الحسنات فيعذب (ق.67.أ) على الفاضل منها فقط، ولو أنه سبحانه يعذب كل مؤمن على كل ¬

(¬1) تقدم. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب).

سيئة وكبيرة عملها ولم يتب منها لعذب أهل الأعراف على كبائرهم، إذ لم يتوبوا منها، فإنهم لو تابوا منها لسقطت عنهم ولم يحتاجوا إلى توقيف لرجحان حسناتهم حينئذ. فإن قال ذلك القائل: إنما قلنا إن له سبحانه أن يعذب على سيئة واحدة إذا شاء ولم نلتزم (¬1) حتم العذاب على السيئات ولابد، وأهل الأعراف إذا لم يعذبهم فقد شاء ألا يعذبهم. قلنا: هذا لا ينجيك مما ألزمناك، فإن الله تعالى إذا لم يعذب أهل الأعراف على كبائرهم وسوَّى بين جميعهم في ترك العذاب على كثرتهم (¬2) فنعلم أنه سبحانه إنما لم يعذبهم لكونهم لم ترجح لهم سيئة واحدة يؤاخذون بها، وإن ذلك هو عدله الذي سبقت مشيئته به، وقد أخبر عز اسمه عن نفسه بأنه لا يظلم مثقال ذرة. وإذا لم يعذب من تساوت حسناته وسيئاته فأحرى ألا يعذب من رجحت حسناته على سيئاته لما عند هؤلاء من رجحان الحسنات، فهم أعلى من الصنف الذي تساوت حسناتهم وسيئاتهم، لأنهم أكثر طاعات منهم، ومن المحال أن يضيع لهم ذلك عند الله تعالى، حتى يكونوا أسوأ حالا ممن هم أعلى منهم في جانب الطاعات. وقد قال تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} ... [آل عمران: 195]. ¬

(¬1) في (ب): يلتزم. (¬2) في (ب): أكثرهم.

بل نعلم أن الحسنات يضاعفها الله تعالى كما سبق به فضله ونفذت به مشيئته، فقد قال جل جلاله عن نفسه: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 40]. ومن نظر إلى قانون الشرع رأى أن ميله إلى جانب الرحمة أكثر، وأن تغليبه جانب الرجاء في الجملة أظهر، ولذلك لما قال سبحانه: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]، وقال: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3] على جهة التخويف للمذنبين، لم يكتف بذلك حتى قال {ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] ليغلب رجاء المذنب خوفه كي لا يقع في القنوط. فحصل قوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} بين صفات: إحداها: أنه تعالى غافر الذنب. والثانية: أنه قابل التوب. وما ذاك إلا للطفه سبحانه بعباده وحنانه عليهم. والثالثة: أنه ذو الطول، وهي صفة الفضل والإحسان الزائدة على صفة الغفران. وكذلك قال عز اسمه: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} ... [الحديد: 20] فوصفه بالشدة، ثم قال بإثره: {وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} ... [الحديد: 20]، فلم يقنع بذكر المغفرة حتى أردف عليها الرضوان، الذي هو أعلى منها. ولهذا وغيره قال نبينا - عليه السلام -: «إن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده

فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي» (¬1). وإذا وصلنا إلى غرضنا في الرد على ذلك المتكلم فيما قاله، وكنا قد عثرنا بعد فراغنا من ذلك (¬2) على آثار مروية عن الصحابة بمثل ما قلناه. فلنذكر تلك الآثار في هذا الموضع (ليقع الأنس بها عند من يقف عليها ويعلم أن) (¬3) (ق.67.ب) لنا في مذهبنا هذا الذي ذهبنا إليه سلفا من الصحابة، والحمد لله الذي وفقنا لموافقتهم قبل أن نقف على أقوالهم. فمن ذلك ما ذكره وثيمة بن موسى (¬4) في كتابه عن أبي هريرة من حديث طويل قال فيه: إن الله تعالى إذا قضى بين خلقه فمن زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن استوت حسناته وسيئاته حبسه الله على الصراط أربعين سنة ثم أدخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته أدخل النار في باب أهل التوحيد فيعذبون فيه على قدر ذنوبهم، فمنهم من يعذب إلى كعبيه، ¬

(¬1) يأتي تخريجه بعد قليل. (¬2) في (ب): من التكلم معه. (¬3) في (أ) بياض، وفي آخرها: قف عليها أن، وما أثبته من (ب). (¬4) وثيمة بن موسى المصري، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/ 52): كتب إلي أحمد بن إبراهيم عن وثيمة عن سلمة بأحاديث موضوعة. وقال العقيلي في الضعفاء (4/ 332): صاحب أغاليط. وخالفهما مسلمة بن القاسم قال: لا بأس به. لكن مسلمة لا يعتمد، فهو ليس بثقة، كما في السير (16/ 110). وقال المعلمي في التنكيل (1/ 444): وأما مسلمة بن قاسم فقد جعل الله لكل شيء قدرا، حده أن يقبل منه توثيق من لم يجرحه من هو أجل منه ونحو ذلك، فأما أن يعارض بقوله نصوص جمهور الأئمة فهذا لا يقوله عاقل.

ومنهم من يعذب إلى ركبتيه، ومنهم من يعذب إلى وسطه، ومنهم من يعذب إلى صدره، ومنهم من يعذب إلى ترقوته ولا تجاوز النار تراقيهم لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحرق النار وجوه أمتي» (¬1). ومن ذلك ما ذكره مكي بن أبي طالب في الهداية عند ذكر الأعراف، فإنه نقل هنالك عن ابن مسعود (¬2) أنه قال: من كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط. ومن ذلك ما نقله (أبو حامد في آخر كتاب الإحياء (¬3)) (¬4) عن جابر ابن عبد الله أنه قال: من زادت حسناته على سيئاته فذلك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذلك الذي يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة، وإنما شفاعة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن أوبق نفسه وأثقل ظهره. ¬

(¬1) بمعناه حديث جابر مرفوعا: «إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة». رواه مسلم (191) وأحمد (3/ 355). ويشهد له حديث تحريم أكل النار آثار السجود. خرجه البخاري (7000) ومسلم (182) وغيرهما. (¬2) رواه ابن جرير (5/ 499). (¬3) الإحياء (4/ 579). (¬4) في (ب) مكان ما بين القوسين: بعض من تكلم في الرقائق.

فهؤلاء ثلاثة من الصحابة رضوان الله عليهم قد اتفقوا على (أن) (¬1) من رجحت حسناته على سيئاته فهو في الجنة من غير عقوبة ولا مشيئة كما قررناه، وعلى هذا هم العلماء، والله أعلم. وقد نص على ذلك الحميدي في هذا الكتاب الذي نحن بصدده، حيث ذكر الطبقة الخامسة من أهل الجنة حسبما يأتي بعد، إذ قال فيها: هي من أدى الفرائض وقصر في بعضها وتطوع وعمل كبائر وسيئات ومات مصرا، إلا أن خيره رجح في الميزان على معاصيه ولو بتكبيرة أو بحسنة هم بها ولم يعملها، أو شوكة أزالها من الطريق أو غير ذلك من مثقال الذرة فصاعدا. هذا نص كلامه، وقد فرض في هذه الطائفة عمل الكبائر والموت على الإصرار والتقصير في بعض الفرائض، وفرض مع ذلك (ق.68.أ) أن يرجح ميزانها على المعاصي بحسنة واحدة وجعلها من أهل الجنة بسبب تلك الحسنة الراجحة. ونحن نقول بقوله في الطبقة التي فرضها، إن اتفق أن يرجح لها الميزان بحسنة واحدة مع هذه المعاصي الكثيرة، إذ ذلك هو الذي يقتضيه النظر من غير أن تكون هنالك مشيئة أصلا، وإنما تكون المشيئة فيمن ترجح سيئاتهم على حسناتهم، حسبما نذكره في القسم المتصل بهذا إن شاء الله. ¬

(¬1) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي.

القسم الرابع: من عنده خير وشر وغلب شره على خيره

(القسم الرابع: من عنده خير وشر وغلب شره على خيره) (¬1) وأما القسم الرابع: وهو من عنده خير وشر وغلب شره على خيره في حين الموازنة، فهؤلاء في المشيئة لأجل ما رجح لهم من السيئات في الموازنة. لأن الفاضل منها على الحسنات يكون أهلها مطلوبين بها ومحبوسين فيها حتى يتولى ذلك العفو عنهم أو القصاص منهم، وذلك بحسب إرادة الله فيهم. ولا يصح أن يقال إنهم معذبون ولابد بسبب الفاضل لهم من السيئات على ما يقوله أهل البدعة في أهل الكبائر، فإن قاعدة الشرع تعطي أنهم في المشيئة، وهو مذهب أهل السنة (¬2). ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته وهو مستحق للعقاب، داخل في المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء عفا عنه. هذا قول أهل السنة، خلافا للمرجئة والخوارج والمعتزلة وغيرهم. فالمرجئة قالوا: هو مؤمن كامل الإيمان. والخوارج قالوا: هو كافر حلال الدم خالد في النار. والمعتزلة قالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، ليس بكافر ولا مؤمن، لكنه خالد في النار. انظر الفتاوى (4/ 475) (7/ 510) ووسطية أهل السنة (339) وشرح الطحاوية (321 - 322 - 370) والتبصير في الدين لأبي المظفر الإسفراييني (45 - 65) ومقالات الإسلاميين (2/ 167 - 168 - 149) والمواقف لعضد الدين الإيجي (376 - 389) والتمهيد لقواعد التوحيد لمحمود بن زيد اللامشي الماتريدي (121) والملل والنحل (38 - 85) والمحصل للفخر الرازي (239).

قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} ... [النساء: 48]. وإذا صح كونهم في المشيئة فينقسمون حينئذ: إلى من يعفو الله عنهم، وإلى من يقتص منهم، بحسب شرهم كما قلناه. فأما من عفا الله عنه إثر الموازنة فيلتحق بالقسم الذي قبله في دخول الجنة من غير تعذيب ولا عقوبة أصلا. وقد مضت قبل هذا أمثلة في العفو عن المذنبين من غير عقوبة حيث ذكرنا حديث القاتل للمائة، وحديث الذي أمر بإحراق جثته، وغيرهما من الأحاديث التي سقناها هنالك. وأما من يقتص منه فيدخل النار وتكون عقوبته فيها بحسب معاصيه فيختلف أهل هذا القسم في شدة العذاب وكثرته، وفي قلة المكث فيه وطوله بسبب ذلك. وأهل هذا القسم من جملة أصحاب اليمين كما ذكرناه في أول الكتاب بعد ذكر المقربين، وأعلى هذا القسم من فضلت له سيئة واحدة على حسناته التي ليس فيها الإيمان، وأدناهم من ليست له حسنة حاشى الإيمان الذي استحق به ترك (¬1) الخلود في النار. فإن من دخل النار من أهل هذا القسم فلابد لهم بعد القصاص من الخروج منها والحلول في الجنة، لكن يكون بينهم وبين القسم الذي قبلهم بون بعيد يمتازون به في درجات الجنة. ¬

(¬1) في (ب): وترك، وهو خطأ.

وقد نبه النبي - عليه السلام - في حديث أنس على خروج ثلاث طبقات من المذنبين من النار، وهي: الخارجة بالشفاعة، وجعل الطبقة الرابعة فيهم: من لم يعمل خيرا قط حاشى النطق بالكلمة لا غير، وهم الذين يخرجهم الله برحمة منه بعد إخراج (ق.68.ب) طبقات الشفاعة. ويبقى النظر ها هنا في شيء، وهو أن كل من حصل في النار من المذنبين على وجه القصاص هل يخرج بعضهم منها قبل الشفاعة أو لابد لهم جميعا من الشفاعة؟، وذلك أن فيهم من يستحق القصاص بلفحة من النار أو بمقدار مخصوص في الجملة، فقد يكمل القصاص منهم فيما ترتب عليهم من حق الله أو للآدميين قبل حلول الشفاعة. فإن كان الأمر كذلك فترك مثل هؤلاء في النار حتى يخرجوا مع أهل الشفاعة المذكورين في الحديث هو زيادة على ما يستحقونه من العذاب، لاسيما والحديث إنما تعرض إلى إخراج أهل المقادير القليلة من مثقال شعيرة ومثقال برة ومثقال خردلة من إيمان. فمن عنده وزن أوقية مثلا أو وزن قيراط من إيمان لم يتعرض له الحديث، ففي الجائز أن تكون ذنوبهم قليلة، فعندما اقتص منهم أخرجوا أولا فأولا، ثم حلت الشفاعة بعد. وفي الجائز أن يبقى جميعهم حتى يخرجوا بالشفاعة، وتكون عقوبتهم أخف من غيرهم. ففي الحديث أنه يخرج من النار بالشفاعة للمذنبين من تأخذ النار منهم إلى أنصاف ساقيه أو ركبتيه، وما ذلك إلا بحسب الذنوب.

ونحن نعلم في الجملة أن الشفاعة إنما تكون لأهل الكبائر ومن ذنوبه عظيمة، فيحتاجون إلى البقاء في النار لأجلها، فمن كان في الذنوب بدون هذا الوصف فيشبه أن يخرج قبل ذلك، كما أن من لم يكن من أهل الكبائر فقد استغنى عن الشفاعة لكونه لا يدخل النار. قال جابر بن عبد الله في الحديث عندما روى قوله - عليه السلام -: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (¬1) للراوي عنه محمد بن علي بن الحسين: يا محمد فمن لم يكن من أهل الكبائر فماله وللشفاعة (¬2). وإنما قلنا إن الوجهين جائزان لأجل أن ذلك يحتاج إلى توقيف ولم يرد من الشرع فيه جلاء على أن من نظر إلى أحاديث الشفاعة بجملتها ربما كان ميله (¬3) إلى أن من دخل النار لا يخرج إلا بالشفاعة أكثر، والله أعلم بحقيقة ذلك. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2436) وابن ماجه (2/ 1441) وابن حبان (6467) والحاكم (231) والطيالسي (1669) وغيرهم بسند صحيح عن جابر. وفي الباب عن أنس وابن عمر وغيرهما. (¬2) رواه بهذا التمام الترمذي (2436) من طريق الطيالسي، وهذا في مسنده (1669) عن جابر. وفي الباب عن أنس وابن عمر وغيرهما. (¬3) في (ب): مثله، وهو خطأ.

القسم الخامس: من يتساوى خيره وشره

(القسم الخامس: من يتساوى خيره وشره) (¬1) وأما القسم الخامس: وهو من يتساوى خيره وشره حتى لا يرجح جانب منهما على الآخر فهم أهل الأعراف على أصح ما جاء في التفسير، فقد تقدم آنفا عن ابن مسعود أن من استوت حسناته وسيئاته فهو من أصحاب الأعراف (¬2). وذكر ابن سلام في كتابه عن قتادة أن ابن عباس قال في أصحاب الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم تفضل حسناتهم على سيئاتهم ولا سيئاتهم على حسناتهم فحبسوا (¬3) هنالك (¬4). قال (¬5) قتادة: وقد أنبأكم الله بمكانهم من الطمع (ق.69.أ). وذكر عن حذيفة (¬6) أنه قال: أصحاب الأعراف قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 47] فبينما هم ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) رواه ابن جرير (8/ 190 - 191). (¬3) في (ب): فسحسبوا، وهو خطأ. (¬4) رواه ابن جرير (8/ 191) نحوه وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (3/ 463). (¬5) في (ب): علي، وهو خطأ. (¬6) رواه ابن جرير (8/ 190) بنحوه.

هنالك (¬1) إذ اطَّلع عليهم ربهم فقال لهم: قوموا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم. وذكر عن الحسن في قوله: {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} ... [الأعراف: 46] قال: هذا طمع اليقين، كقول إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]. وذكر عنه أن أصحاب الأعراف من أهل الجنة. وإذا تقرر هذا فنقول: إن أهل هذا القسم لابد من توقيفهم مدة من الزمان، ولا يكون توقيفهم على وجه العقوبة لهم، إذ لا عقوبة لهم (¬2) إلا بإزاء ذنب، ولا ذنب عندهم لتساوي ميزانهم في حين الموازنة، وإنما هم قوم لم تفضل لهم حسنة فيدخلوا الجنة دون توقيف، ولا فضلت لهم سيئة يستوجبون بها النار، فيبقى أمرهم كذلك موقوفا حتى يستقر، والله أعلم، أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثم يُصرفون (¬3) هم إلى الجنة لأجل الإيمان الذي عندهم. إذ لولا الإيمان لم يكن لهم طريق إلى الجنة، فإن الجنة لا يدخلها من المكلفين إلا نفس مؤمنة كما جاء في الحديث (¬4). ¬

(¬1) في (ب): كذلك. (¬2) من (ب). (¬3) في (ب): يصرفونهم. (¬4) تقدم.

وهذا القسم هم أيضا من أصحاب اليمين، وإذا كان القسم الذي قبله من جملة أصحاب اليمين، فأحرى أن يكون هذا القسم منهم، وقد ذكرنا ذلك في أول الكتاب. وقولنا حتى يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ثم يصرفون هم إلى الجنة، إنما عنينا بذلك الفراغ من الحساب وجواز الصراط والشرب من الحوض فيستقر حينئذ أهل الجنة الذين فضلت حسناتهم في الجنة، وأهل النار بجملتهم في النار، أعني المذنبين والكفار فيدخل حينئذ أهل الأعراف الجنة قبل حلول الشفاعة لمن في النار من المذنبين، ولم نعن بذلك أن يستقر جميع من يدخل الجنة على الإطلاق في الجنة وجميع من يبقى في النار على وجه التخليد في النار، وحينئذ يستقر أهل الأعراف في الجنة. وإنما قلنا بذلك لوجهين: أحدهما: إن أهل الأعراف لا عقاب عليهم كما قدمناه، والمذنبون الذين دخلوا النار إنما دخلوها على جهة العقوبة والمجازاة لهم على سيئاتهم، ولا محالة أن من لا عقاب عليه أفضل ممن عليه العقاب، فيقتضي العدل الإلاهي والجود الرباني دخول أهل الأعراف (ق.69.ب) الجنة قبل دخول من يدخلها ممن خرج من النار بالشفاعة. والثاني: إن الشرع قد أخبر بخروج المذنبين من النار على التدريج المذكور في الأحاديث، وأخبر أن الله تعالى برحمته يخرج خلقا من النار من غير شفاعة بعد إخراج جميع طبقات الشفاعة، ثم أخبر أن آخر من يدخل الجنة هو آخر من يخرج من النار، وأنه يمشي حبوا إلى باب الجنة على

تدريج، هو مذكور في ذلك الحديث. ولم يجئ في أهل الأعراف إعلام بوقت دخولهم الجنة، لأن الشرع إنما قصد إلى إخراج من في النار بالشفاعة، ثم دخولهم الجنة، ولم يتعرض إلى دخول من لم يدخل النار متى يكون في الجنة، إلا بإخبار جُملي كقوله - عليه السلام -: «يدخل فقراء المهاجرين الجنة قبل أغنيائهم». (¬1) وقوله: «يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب» (¬2). ¬

(¬1) روى مسلم (2979) وأحمد (2/ 169) وابن حبان (677 - 678) عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا. وله شاهد عن جابر عند الترمذي (2355). ورواه الترمذي (2353) وابن ماجه (4122) وأحمد (2/ 296 - 343 - 451) وابن حبان (676) وابن أبي شيبة (8/ 138) وأبو يعلى (6018) بسند حسن عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، وهو: خمسمائة عام. هذا لفظ الترمذي، وقال: وهذا حديث حسن صحيح. وله طريق آخر عند أحمد (2/ 512) قال: ثنا أسود ثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. وأسود هو ابن عامر، وأبو بكر هو ابن عياش متكلم في حديثه عن الأعمش. وله طريق ثالث عند أحمد (2/ 519) وغيره. وللحديث شواهد لا تخلو من ضعف. منها باختصار: عن ابن عمر عند ابن ماجه (4124) وابن أبي شيبة (8/ 137)، وفيه موسى بن عبيدة الربذي ضعيف. وعن أبي سعيد عند الترمذي (2351) وابن ماجه (4123)، وفيه عطية العوفي. وله طريق آخر عند الطبراني في الأوسط (84)، وفيه زيد العمي ضعيف. (¬2) تقدم.

ولم يجئ فيهم التدريج (الذي جاء في من يخرج من النار من المذنبين، فلما رأينا ذلك التدريج) (¬1) في من يخرج من النار، ووجدنا إخبار الشرع بآخر من يدخُل الجنة، علمنا أن أهل الأعراف خارجون عن ذلك. لأنهم لو دخلوا الجنة آخر الأمر لدخلوا بعد الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة، (وذلك لا يصح، لأن النبي الصادق صلوات الله عليه أخبر بآخر من يدخل الجنة) (¬2). فلم يبق إلا أن يكون دخول أهل الأعراف الجنة قبل حلول الشفاعة وخروج من يخرج بها من النار ويدخل الجنة، والله أعلم. ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب).

فصل (حاصل ما تقدم) (¬1) نلخص هاهنا عبارة ينضبط بها مذهبنا الذي استقريناه من الشريعة في الباب المتقدم، فنقول: من لقي الله تعالى من المؤمنين وقد رجحت حسناته فله الجنة سواء في ذلك من لم يكن في ميزانه كبيرة واحدة، ومن كانت له كبائر إلا أن جانب الحسنات أرجح من جانب السيئات في الموازنة، ولكن يمتازون بأعمالهم وعلو مقاماتهم في درجات الجنة. ومن لقي الله منهم وقد استوت حسناته وسيآته فهو موقوف مدة من الزمان ثم له الجنة. وهذان الصنفان لا يدخلان النار أصلا. ومن لقي الله وقد رجحت سيئاته فهو في المشيئة، فإن عفا الله عنه التحق بالصنفين المذكورين في دخول الجنة والتخلص من النار. وإن لم يعف عنه اقتص منه في النار ثم له الجنة، وهذا هو سبيل كل من دخل النار من المؤمنين يقتص من جميعهم، ثم لهم الجنة، حتى لا يبقى في النار مؤمن (ق.70.أ) أصلا، وإنما يبقى فيها كل من هو كافر على وجه الخلود في العذاب أبد الآباد. هذا هو ضبط الباب. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني.

وقد ذكر ابن سلام في تفسيره قال: بلغنا أن المؤمن توزن حسناته وسيئاته فمنهم من تفضل حسناته على سيئاته، وإن لم تفضل إلا حسنة واحدة ضاعفها الله له فيدخله الجنة وهو قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]، ومنهم من تستوي حسناته وسيئاته، وهم أهل الأعراف، ومنهم من تفضل سيئاته على حسناته ثم يجاء بقول لا إله إلا الله فتوضع مع حسناته فترجح بكل شيء، ثم يصير إلى الجنة وليس تخف إلا موازنين المشركين. وفي هذا الذي نقلناه عن ابن سلام ما يمش غرضنا الذي نحن بصدده في الجملة (¬1) إلا أن قوله: (وإن لم تفضل إلا حسنة واحدة ضاعفها الله له فيدخله الجنة) يحتاج إلى توقيف. وقوله (¬2): (ثم يجاء بقول لا إله إلا الله فتوضع مع حسناته فترجح بكل شيء ثم يصير إلى الجنة) ليس هو عاما في كل من تفضل سيئاته على حسناته (¬3) بدليل أن فيهم من يدخل النار، وقد تكلمنا على هذا المعنى وعلى الحديث الوارد في ذلك فيما قبل. وقوله: (وليس تخف إلا موازين المشركين) يعني بذلك الخفوف المطلق الذي ليست معه حسنة، وهو المراد بقوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103] إذ عنى بهم الكفار، وينبغي أن يقتصر بخفوف الموازين عليهم اتباعا للفظ الكتاب، وتكون العبارة عن موازنة أهل الكبائر المعذبين عليها بلفظ الرجحان لا غير. ¬

(¬1) في (ب) (113): وهذا الذي ذكره ابن سلام ( .. ) لمن يقف على كلامنا في هذا الموضع. (¬2) من (وإن لم تفضل) إلى هنا سقط من (ب). (¬3) في (ب): حسناته على سيئاته.

فصل كل ما ذكرناه من الموازنة في الفصل المتقدم، وفي الباب قبله إنما قصدنا به موازنة الحسنات بالسيئات ولم نتعرض فيه إلى الإيمان إذ أخرجناه عن الموازنة وجعلناه فوق الحسنات. لأنا قد قدمنا أن الإيمان لا يوزن إذ لا توازيه معصية إلا الكفر، ولا يصح أن يوزن أحدهما بالآخر لعدم اجتماعهما في المحل الواحد في الزمن الواحد. وأيضا فلو كان الإيمان يوزن للزم أن لا يدخل أحد من المذنبين النار بوجه، إذ لا يتصور أن يكون فيهم من ترجح سيئاته، لأن الإيمان كان يكون في جانب الحسنات فترجح به لا محالة، إذ ليس في الجهة الأخرى من المعاصي ما يقابله أصلا (¬1). وقد تقدم الكلام على أن الإيمان لا يوزن فيما مضى بأتم مما ذكرناه هاهنا. وإذا تقرر خروج الإيمان عن الموازنة بقيت الطاعات (¬2) والمعاصي، (ق.70.ب) فكانت الموازنة بينهما بأن تكون أركان الطاعات بإزاء كبائر ¬

(¬1) قد قدمت ضعف هذا الذي زعمه المصنف هنا. (¬2) تأمل كيف يخرج المؤلف الطاعات من الإيمان، وهو خلاف مذهب أهل السنة، وتقدم في كلامه أن الأعمال عنده فروع الإيمان وثمرته، وهذا هو عين قول مرجئة الفقهاء.

المعاصي، ويكون ما هو أقل مرتبة من أركان الطاعات مقابلا لما دون الكبائر من المعاصي ويكون الإيمان فوق ذلك كله، وهو ثابت للمؤمنين كلهم من غير موازنة، وثوابه أن يتلخص به من النار ويُدخل به الجنة على وجه الخلود فيها. والموازنة إنما تكون بالصحف المكتوبة فيها الحسنات والسيئات، لا بالحسنات والسيئات أنفسها، إذ هي أعراض لا يصح وزنها. (¬1) ونزيد هاهنا في بيان ما أشرنا إليه قبل من أن معنى الموازنة هو إلقاء شيء في الكفة الواحدة بإزاء شيء في الكفة الأخرى، فنقول: إن الموازنة في هذه الدار التي نحن فيها الآن على ضربين: أحدهما: أن يلقى في إحدى الكفتين عدد من دنانير أو دراهم ويجعل مثلها في العدد من الجهة الأخرى فينظر هل يكون العددان متماثلين في الوزن، أو يكونان متفاضلين فيحتاج أحدهما إلى الزيادة فيه وإن كانت يسيرة. ¬

(¬1) الذي تدل عليه النصوص أن كل ذلك يوزن. قال حكمي في معارج القبول (2/ 185): والذي استظهر من النصوص، والله أعلم، أن العامل وعمله وصحيفة عمله كل ذلك يوزن. اهـ. ومال ابن عثيمين في شرح الواسطية (503) إلى أن الموزون هو العمل، ويخص بعض الناس فتوزن صحائف أعماله أو يوزن هو نفسه. اهـ وغاية ما استند له المصنف أنها أعراض لا يصح وزنها، والحسنات المكتوبة في الصحف أعراض كذلك، فعليه نفي وزنها. وأحكام الآخرة غيب لا ندخل فيها بعقولنا وآرائنا، فإذا صح النص وجب المصير إليه.

والثاني: أن يجعل في إحدى الكفتين قطعة واحدة من حديد أو نحاس يعبر عنها بالصنجة، ويجعل في الجهة الأخرى جملة دراهم أودنانير، ولا يزال الذي يتولى الوزن يزيد فيها حتى (¬1) تعتدل الكفتان. فإذا تقرر هذا فينبغي أن تفهم الموازنة في الآخرة كذلك، فعلى موازنة العدد توزن عدة حسنات بعدة سيئات، لكن تكون الحسنات مضاعفة عشر (¬2) مرات، والسيئات غير مضاعفة (¬3)، فإن في الكتاب العزيز: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وفي الحديث عن الله تعالى: «إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له عشرا، وإذا هم بسيئة فلا تكتبوها، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها» (¬4). ولا معنى لكتبها هكذا إلا أن توزن على ما كتبت عليه، فإذا وزنت الحسنات بالسيئات على هذا النوع فينبغي أن تكون من جنس واحد في الكبر والصغر، لكن تكون على هذا الوجه عشر سيئات بإزاء حسنة واحدة لأجل التضعيف الذي يكون للحسنات في الموازنة. ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) في (ب): عشرة، وهو خطأ. (¬3) في (ب): مضاعفات. (¬4) رواه مسلم (128 - 129 - 130) والترمذي (3073) وأحمد (2/ 234 - 242 - 411 - 498) وابن حبان (380 - فما بعد) وغيرهم عن أبي هريرة. ورواه البخاري (6126) ومسلم (131) وأحمد (1/ 227 - 279 - 310 - 360) والدارمي (2684) عن ابن عباس. وفي الباب عن أنس وأبي ذر.

وأما على الموازنة الأخرى التي هي الموازنة بالصنجة فيتبين الفرق بينها وبين الموازنة الأولى بما نقوله: وذلك أن من جنس الحسنات حسنة واحدة تربي على حسنات كثيرة في القبول كما قال - عليه السلام -: «سبق درهم مائة ألف» (¬1). وإذا كانت مثل هذه الحسنة تربي على حسنات كثيرة، فكذلك قد تكون حسنة تربي على سيئات كثيرة، بأن تكون أرجح من تلك السيئات في الميزان، ففي الحديث: (ق.71.أ) «إن الصدقة تقع في كف الرحمن فلا يزال يربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل» (¬2). ألا ترى إلى هذه الصدقة كيف تصير قدر الجبل في العظم، وإذا كانت كذلك فكم ينحط لأجلها من عدة سيئات عند الموازنة. ¬

(¬1) رواه النسائي (2528) وابن خزيمة (2443) وابن حبان (3347) والحاكم (1519)، وصححه، والبيهقي (4/ 181) من طريق صفوان بن عيسى ثنا ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة، وهذا سند صحيح. ورواه النسائي (2528) من طريق الليث عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد والقعقاع عن أبي هريرة. (¬2) رواه البخاري (1344 - 6993) ومسلم (1014) والنسائي (2525) والترمذي (661) وابن ماجه (1842) وأحمد (2/ 331 - 381 - 418 - 419 - وغيرها) والدارمي (1627) وابن خزيمة (2425) وابن حبان (270 - 3316) والبيهقي (4/ 176 - 190 - 191) وابن أبي شيبة (3/ 5) والطبراني في الأوسط (1/ 217) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 277) واللالكائي في السنة (3/ 419) وغيرهم عن أبي هريرة.

وهكذا نقول في السيئات أيضا فإن منها ما يستحقره العبد ويكون عظيما عند الله تعالى كما قال: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]. وإذا كان الذنب عظيما عند الله فيوشك أن يرجح على حسنات دونه (¬1) في العظم، فقد جاء في الحديث: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه» (¬2). وفي لفظ آخر: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة يهوي بها في نار جهنم سبعين خريفا» (¬3). ¬

(¬1) في (ب): ذنوبه، وهو خطأ. (¬2) رواه الترمذي (2319) وابن ماجه (2/ 1312) وأحمد (3/ 469) وابن حبان (281 - 287) والحاكم (1/ 106 - 107) والبيهقي (8/ 165) والطبراني في الكبير (1/ 367 - 368) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده عن بلال بنحو اللفظ الذي ساقه المصنف. هكذا رواه سفيان الثوري وأبو معاوية وإسماعيل بن جعفر وعبد العزيز الدراوردي ويزيد بن هارون ومحمد بن بشر العبدي وغيرهم. وخالفهم مالك (1848) فرواه عن محمد بن عمرو عن أبيه عن بلال. وذكر ابن عبد البر في التمهيد (13/ 49) أنه تابعه الليث وابن لهيعة. ورواية الجماعة أولى. وهو الذي رجحه ابن عبد البر. (¬3) رواه الترمذي (2314) وابن ماجه (2/ 1313) وأحمد (2/ 236 - 297) والحاكم (8769) وابن حبان (5706 - وما بعدها) عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة. ... = = ورواه البخاري (6113) وغيره عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: «يهوي بها في جهنم». وروى البخاري (6112) ومسلم (2988) عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها .. يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب». هذا لفظ مسلم.

فانظر إلى هذه الكلمة الخبيثة أين بلغت بصاحبها، فيُتَّقى إذا وزنت بحسنات أن ترجح عليها، فينبغي للمؤمن الحذر أن يتوقى ما يكون في الموازنة فيعمل بحسب ذلك من الإشفاق على نفسه وطلب الخلاص لها فعساه أن يكون من جملة من ترجح حسناته فتلحقه الرحمة بدخول الجنة. ولنرجع إلى ما كنا فيه من نقل كلام الحميدي والتكلم عليه.

نقل اللفظ قال الحميدي: فهم كما أوردنا ست طبقات: أهل النار المخلدون فيها، وهم الكفار وهم المشركون طبقة يتفاضلون في العذاب بمقدار ما عمل كل امرئ منهم من الشر. ثم أهل الجنة خمس طبقات: الأولى من ثقلت موازينه فرجحت حسناته على معاصيه بما قل أو كثر، فهؤلاء يتفاضلون في درجات الجنة والعلو فيها، وفي (¬1) كثرة النعيم بمقدار ما فضل لكل واحد منهم من الأعمال الصالحة. وهؤلاء خمس طبقات على ما نبين بعد هذا، ثم أربع طبقات كلهم في الجنة سواء في الدرجات وفي النعيم، لا فضل لأحد منهم على سائرهم في شيء من ذلك، ولكل امرئ منهم مثل الدنيا وما فيها عشر مرات، كما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) وهم من فضل لهم التصديق بالإسلام والنطق به مرة واحدة على ما معه من المعاصي، ومن لم يفضل له شيء بأن استوت حسناته وسيئاته ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) هو طرف من حديث الشفاعة، وقد تقدم، وهو عند مسلم (188) من حديث أبي سعيد، ورواه البخاري (6202 - 7073) ومسلم (186) عن ابن مسعود.

(ق.71.ب) فوقفوا بين الجنة والنار حتى فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة، وهم أهل الأعراف. وهاتان الطبقتان لا تعذبان بالنار أصلا، ومن فضلت له معصية على كل (¬1) ما معه من الخير، ومن لم يعمل خيرا قط غير التصديق بالإسلام والنطق به مرة واحدة فقط. وهاتان الطبقتان هما المجازاتان بالنار: إحداهما على ما فضل لها من المعاصي على ما كان لها (¬2) من خير، وهي الخارجة من النار بالشفاعة المتقدمة في الخروج على مقدار تفاضلها فيما عملت من الخير الذي قد (¬3) سقط تفضيله بمقابلة معاصيهم له. والثانية: على ما عملت من الشر، وهي الخارجة من النار برحمة الله تعالى لا بالشفاعة، وهي آخر من يخرج من النار. وكل هذه الطباق الأربع لم يفضل لها شيء غير التصديق بدين الإسلام والنطق به مرة واحدة فقط. فتبارك الله الذي كل أحكامه عدل وقسط لا إله إلا هو المتفضل مع ذلك بما لا يبلغه فهم ولا وصف ولا شكر. نسأل الله أن يجيرنا من النار ومن روعات يوم القيامة بمنه، آمين، وأن ييسرنا لأعمال الطاعة المنجية من كل ذلك، آمين. ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) في (ب): لهما، وهو خطأ. (¬3) ليست في (ب).

مناقشة الحميدي في تقسيمه لأهل الموازنة

فصل (مناقشة الحميدي في تقسيمه لأهل الموازنة) (¬1) مضى للحميدي في أحد الفصول المتقدمة أن أهل الموازين أربعة أقسام: قسم من رجحت حسناته، وقسم من رجحت سيئاته، وقسم من استوت حسناته وسيئاته، وقسم الكفار. ثم إنه قسَّم من رجحت حسناته إلى قسمين، ولم يذكر فيمن رجحت سيئاته إلا قسما واحدا، غير أنه قال: (ومن جملة هؤلاء من لم يعمل خيرا غير الإسلام اعتقادِه والقولِ به مرة واحدة)، ولم يجعل هذا قسما برأسه، ولو جعله قسما برأسه لكانت ست طبقات كما قال، ويلزمه ذلك وإلا رجعت له الأقسام خمس طبقات. وإنما ألزمناه ذلك لقوله هاهنا: فهم كما أوردنا. فلو قال: فهم ست طبقات، ولم يقل: "كما أوردنا" لكان كلامه مخلصا، فإنه إنما جعلهم ست طبقات بما يأتي له في هذا الفصل على ما يظهر من كلامه، وذلك أنه جعل هاهنا أهل النار الذين هم الكفار طبقة واحدة، وإن تفاضلوا في العذاب، وجعل أهل الجنة خمس طبقات: الأولى منها هي من ثقلت موازينه فرجحت حسناته على سيئاته ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني.

بما قل أو كثر، وهم متفاضلون في درجات الجنة. والأربع الطبقات من أهل الجنة هم الذين جعلهم سواء في ثواب الجنة بزعمه، فهذه ست طبقات. ثم إنه جعل الطبقة الأولى من أهل الجنة تنقسم إلى خمس طبقات، وهي مذكورة بعد فيتحصل من قوله: إنهم عشر طبقات: طبقة الكفار -مع تفاضلهم في العذاب- واحدة. وتسع طبقات من أهل الجنة: خمس منها يجمعها من رجحت حسناته على سيئاته بما قل أو كثر، ودرجاتهم في الجنة متفاضلة، وأربع منها ثوابهم (¬1) في الجنة عنده واحد، ودرجاتهم فيها متساوية، مع أن اثنتين منها دخلتا النار قبل دخولها الجنة، كما ذكر في هذا الفصل. وأما الخمس الطبقات فسيأتي ذكرها في الفصل الذي يتصل بهذا، وعندما عددها وتكلم عليها لم يذكر فيها أحد الصنفين اللذين ذكرهما في قسم من رجحت حسناته، عندما ذكر (ق.72.أ) أهل الموازين وجعلهم أربعة أقسام، إذ قال: فقسم رجحت حسناتهم على سيئاتهم، وهؤلاء صنفان: إما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة (فقط، وهم طبقة واحدة، وإما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة) (¬2) وزيادة خير، وهم مختلفون باختلاف الفاضل لهم. هذا نص كلامه. ¬

(¬1) في (ب): وأربع منها تواضع عندهم. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب).

فالصنف الأول من هذين الصنفين اللذين جعلهما ممن رجحت حسناتهما لم يذكره في الخمس الطبقات، ويلزم على مذهبه أن يدخل الصنف المذكور في قوله في هذا الفصل الذي نحن فيه: الأول (¬1) من ثقلت موازينه فرجحت حسناته على سيئاته بما قل أو كثر. فإنه قد رجحت حسنات هذا الصنف على قوله بالتصديق والنطق بالشهادة، إذ كان عنده أن التصديق يوزن، والذي ألزمه ذلك كونه لم يتحرز في اللفظ، وإنما مراده أن يجعل الخمس الطبقات هم الذين يتفاضلون في الدرجات بحسب ما فضل لكل واحد منهم من الأعمال الصالحة. فتكون هذه الخمس الطبقات داخلة تحت الصنف الثاني الذي قال فيه: وإما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة وزيادة خير فأراد أن يجعل هذا الصنف الثاني متفاضلين في الدرجات بسبب زيادة الخير الذي عندهم، فقسمهم خمس طبقات، وأسقط الصنف الأول منها فلم يحسن في العبارة، إذ لم يتحرز من دخول الصنف الذي تركه بقوله: فرجحت حسناته على سيئاته بما قل أو كثر. ثم إنه جعل هنالك الصنف المذكور وهو الذي رجحت حسناته بالتصديق والنطق به مرة سواء مع الصنف الذي فضل له التصديق والنطق به مرة وزيادة خير في دخول الجنة، إذ قال: وكلا هذين الصنفين في الجنة إثر الموازنة بلا فصل إلا جواز الصراط، وبعد ذلك جعل الصنف الأول في الفصل المتقدم، وفي هذا الفصل من الأربع الطبقات المتساوية بزعمه في ثواب ¬

(¬1) في (ب): الأولى.

الجنة، فإنه قال هنا: ثم أربع طبقات كلهم في الجنة سواء في الدرجات والنعيم، لا فضل لأحدهم على سائرهم في شيء من ذلك، فذكر منهم: من فضل له التصديق بالإسلام والنطق به مرة، وهم الصنف الأول المذكور في قسم من رجحت حسناته، وجعل منهم أهل الأعراف (بأنهم لم يفضل لهم إلا التصديق والنطق به مرة. وقد تقدم من كلامنا أن هاتين الطائفتين يلزم أن تكونا طائفة واحدة، وهي أهل الأعراف) (¬1) بما لا نحتاج إلى إعادته. وجعل الطائفتين الأخريتين (¬2) هما اللتان جوزيتا بالنار: إحداهما: من فضلت معاصيه على حسناته فخرجت بالشفاعة. والثانية (¬3): من لم يعمل خيرا قط غير التصديق والنطق به مرة، فخرجت برحمة الله تعالى لا بالشفاعة (ق.72.ب). قال: وكل هذه الطباق الأربع لم يفضل لها شيء غير التصديق والنطق به مرة واحدة. فمن هاهنا سوَّى الحميدي بين أهل تلك الطباق، إذ اعتقد أن تصديقهم واحد، وكيف يكون تصديقهم واحدا أو ثوابهم واحدا (¬4)؟ ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬2) في (ب): الأخريين. (¬3) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي. (¬4) في (ب): واحد، وهو خطأ.

و (¬1) طائفتان منهم لن تدخلا النار أصلا، والطائفتان الباقيتان تخرجان من النار بتدريج: إحداهما: تحتوي على ثلاثة أقسام، وهم المشفوع فيهم. والثانية: هي قسم واحد. ولو كان تصديق الطوائف الخارجة من النار بالشفاعة واحدا لكانوا يخرجون منها دفعة واحدة ولا يخرجون متتابعين على حسب مقادير تصديقهم وإيمانهم، كما ثبت في الخبر. ثم الطائفة التي تخرج برحمة الله إنما تخرج آخر الأمر بعد خروج طبقات الشفاعة، فلا (¬2) يصح أن تكون هذه الطوائف الأربع الخارجة من النار سواء في التصديق وفي الثواب. فكيف يصح أن يسوي بينهم وبين الطائفتين اللتين لم تدخلا النار؟، والجميع منهم مختلفون في درجات التصديق، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى قبل بأتم من هذا. ثم إن الحميدي جعل من لم يعمل خيرا غير التصديق بمنزلة من عمل خيرا مع التصديق إذا فضلت له معصية واحدة على ما معه من الخير، ولا شك أن من عمل خيرا مع الإيمان أفضل ممن لم يعمل خيرا إلا الإيمان، ولا معنى لكونه أفضل منه إلا لأنه أقل عذابا إن عذبا معا وأكثر ثوابا إذا جوزيا جميعا، هذا هو الذي يفهم من قواعد الشرع، وما قاله الحميدي مردود عليه. ¬

(¬1) في (ب): أو. (¬2) في (ب): فكيف يصح.

وأما قوله في الطائفة الرابعة هي آخر من يخرج من النار، فإنه إن أراد به أنها آخر طائفة تخرج فصحيح، وإن أراد أنها آخر من يخرج (من النار) (¬1) على الإطلاق فليس كذلك، فإنه قد جاء في الحديث أن آخر من يخرج من النار رجل يخرج حبوا، وهو آخر من يدخل الجنة، وهو الذي يعطى مثل الدنيا عشر مرات (¬2). وقوله عن الأربع الطبقات التي جعلهم متساويين (¬3) في الدرجات والنعيم، ولكل امرئ منهم مثل الدنيا وما فيها عشر مرات، كما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق أبي سعيد الخدري (¬4) قول غير صحيح، فإنه لم يجئ عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬5) من حديث أبي سعيد الخدري أنه يعطى لطائفة من الناس، فكيف لطوائف منهم مثل الدنيا عشر مرات لكل شخص شخص منهم، وإنما ورد في حديثه أن أدنى أهل الجنة منزلة يعطى عشر مرات مما يسأل حتى تنقطع به الأماني. وروى هذا المعنى ابن مسعود والمغيرة عن النبي - عليه السلام -. (ق.73.أ) ¬

(¬1) من (ب). (¬2) سيأتي قريبا. (¬3) في (أ): متساوين. (¬4) رواه مسلم (188) وأحمد (3/ 27) عن أبي سعيد. (¬5) في (أ): عليه السلام.

ففي حديث ابن مسعود: «إن آخر من يدخل الجنة وآخر من يخرج من النار رجل يخرج حبوا، وإنه يعطى عشرة أمثال الدنيا»، وفي حديثه: «وكان يقال ذلك الرجل أدنى أهل الجنة منزلة» (¬1). وفي حديث المغيرة: «إن أدنى أهل الجنة منزلة يعطى مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا عشر مرات، ويقال له: ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك» (¬2). فإذا كان الذي يعطى عشرة أمثال الدنيا رجلا واحدا، وهو أدنى أهل الجنة منزلة، وهو آخر من يخرج من النار وآخر من يدخل الجنة، فكيف يجعل الحميدي هذا القدر من الثواب لأربعة أصناف؟، ولم يجئ في الحديث إلا لشخص واحد. نعم، ورد في حديث جابر (¬3) شيء يجب التعريف به، وذلك أنه قال: «ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بفناء الجنة، ويَجعل أهل ¬

(¬1) رواه البخاري (6202 - 7073) ومسلم (186 - 187) وابن حبان (7475) وابن أبي شيبة (8/ 78) عن ابن مسعود. (¬2) رواه مسلم (189) والترمذي (3198) وابن حبان (6216 - 7426) عن المغيرة. (¬3) رواه مسلم (199).

الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل ويذهب حراقه، ثم يَسأل حتى يجعل (¬1) له الدنيا وعشرة أمثالها معها». وهذا النص لم يذكره الحميدي، ولو ذكره لم يكن له فيه حجة من وجهين: أحدهما: إن حديث جابر هذا موقوف، وهو في صحيح مسلم، وليس في أحاديثه المرفوعة هذا المعنى الذي ذكرناه هاهنا (¬2). والوجه الثاني: إن قوله: «ثم يسأل حتى يجعل (¬3) له الدنيا وعشرة أمثالها معها»، إنما يرجع إلى لفظ "من" في قوله: «حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله». فإن كان المقصود به واحدا فهو مثل ما في حديث أبي سعيد سواء سواء. وإن كان يرجع على المعنى فيعود على الجماعة كما قال: «فينبتوا»، فهو يعود على طائفة واحدة، وهي من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة. والحميدي إنما قال ذلك عن أربع طوائف: اثنتان منها لم تدخلا النار بوجه، وإعطاء عشرة أمثال الدنيا إنما جاء في الحديث لمن خرج من النار سواء كان واحدا أو أكثر، فمن يقول إن من لم يدخل النار يكون ثوابه كثواب من دخل النار فهو متحكم. ¬

(¬1) في (ب): تجعل، وكذا في صحيح مسلم. (¬2) لكنه لا يقال من قبل الرأي، فهو مرفوع حكما. (¬3) في (ب): تجعل.

نقل اللفظ قال الحميدي: والطبقة التي فضلت لها أعمال خير تتفاضل بها درجاتهم في الجنة هم أيضا طبقات خمس: فأولها -بعد النبيين عليهم السلام-: من أدى جميع الفرائض، (ق.73.ب) وتطوع بخير كثير مع ذلك، واجتنب جميع الكبائر، وقلل من جميع السيئات، إذ لا سبيل إلى أن ينجو أحد من السيئات أو من الهم بها، كما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ قال: ولا يحيى بن زكريا. ثم الثانية: من أدى جميع الفرائض، ولم يتطوع بزيادة خير، واجتنب جميع الكبائر، واستكثر مما دون ذلك من السيئات أو استقل. ثم الثالثة: من أدى الفرائض، واجتنب الكبائر، وعمل تطوعا وسيئات. ثم الرابعة: من أدى الفرائض وتطوع أو لم يتطوع، وعمل كبائر وسيئات، ثم تاب من بعد ذلك قبل الموت، أو أقيم عليه (¬1) الحدود فيما عمل من ذلك. ثم الخامسة: من أدى الفرائض وقصر في بعضها، وتطوع، وعمل كبائر وسيئات ومات مصرا، إلا أن خيره رجح في الميزان على معاصيه، ولو بتكبيرة أو بحسنة هم بها ولم يعملها أو شوكة أزالها من الطريق أو غير ذلك من مقدار الذرة فصاعدا. كل هذا مسطور في نصوص القرآن والمسند الثابت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعلوم انقسام الناس بضرورة المشاهدة. ¬

(¬1) في (ب): عليهم.

فصل جعل الحميدي في هذا الكلام الذي حكيناه عنه الطبقة التي رجحت حسناتهم وفضلت لها أعمال تتفاضل بها درجاتهم في الجنة خمس طبقات، وقال: إن أولها بعد النبيين عليهم السلام: من أدى جميع الفرائض وتطوع بخير كثير مع ذلك، واجتنب جميع الكبائر وقلل من جميع السيئات. ولم يذكر في هذه الطبقة الشهداء، وهو في أول هذا الكتاب قد جعلهم مع الأنبياء حيث قال: إن أرواحهم جميعا في الجنة بإثر خروجهم من هذا العالم. والشهداء عندي يحتمل أن يكونوا في هذه الطبقة، أعني بأعمالهم. ويحتمل أن يكونوا بأعمالهم من جملة كل طبقة من الطبقات الأربع الباقية، لكن يكفر الله عنهم بالشهادة جميع الخطايا ما عدا الدين. فإذا كفر الله عنهم خطاياهم التحقوا بأعلى الدرجات، وإن لم يكونوا من أهلها بأعمالهم.

وقد جاء في الحديث أن رجلا قال: «يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، أيكفر الله عني من خطاياي؟ فقال: نعم، (ق.74.أ) ثم ناداه فقال له: إلا الدين، كذلك قال لي جبريل» (¬1). وليس الدين عندنا مقصورا على الدينار والدرهم (¬2)، بل هو واقع على مظالم العباد بجملتها، فهي لا يكفرها إلا الخروج عنها في الدنيا باستحلال (¬3) أهلها منها أو تقع المقاصة بها في الآخرة، إلا أن يرضي الله المظلوم من ظلامته عن من يشاء من عباده، (كما مضى في حديث المتخاصمين قبل) (¬4). وهذه الطبقة المتقدمة هي الطبقة العالية، فإن في صفة أهلها: من أدى جميع الفرائض، ومن أدى جميع الفرائض فقد أطاع بتأدية ما عليه من الواجبات، ثم إنه تطوع بخير كثير. وهذا التطوع يجبر له منه ما قصر فيه من الواجبات بأن يؤديها على صفة الغفلة والسهو والذهول، هذا فيمن يتجه ذلك منه، ومن ترقى عن هذا المقام كان التطوع له زيادة درجات في الجنة، ثم إنه اجتنب جميع الكبائر وقلل من جميع السيئات، والسيئات هاهنا هي الصغائر بدليل ذكر الكبائر قبلها، ¬

(¬1) رواه مسلم (1885) والنسائي (3156 - 3157) والترمذي (1712) وأحمد (5/ 303) ومالك (1003) وابن حبان (4654) والدارمي (2323) وأبو عوانة (7360) والبيهقي (5/ 355) - (9/ 25) وابن أبي شيبة (4/ 574) عن أبي قتادة. وفي الباب عن أنس وأبي هريرة. (¬2) في (ب): الدنانير والدراهم. (¬3) في (ب): واستحلال. (¬4) سقط من (ب).

ومن اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات التي هي الصغائر بالإضافة إليها بنص القرآن. وكذلك الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر كما جاء في الحديث (¬1)، والكبائر مختلف فيها. وإذا كان من هو بهذا الوصف من اجتناب الكبائر وتقليل السيئات حتى لا يكون منه (¬2) إلا صغائر متفرقة من غير إكباب عليها ولا إصرار على فعلها، فقد اندرأت عنه الكبائر لا محالة. وإنما قلنا إنه لا يكون لمن هو في هذه الدرجة إصرار على الصغائر لكون الإصرار عندنا وإن كان على صغائر في محل النظر، فيمكن أن يقال: إن الإصرار لما كان على صغيرة كان (¬3) حكمه حكم ما أصر به عليه، فيكون صغيرة، وهو الأظهر، ويمكن أن يقال إنه كبيرة، فإن الإصرار على معصية الله، وإن كان على صغيرة ليس من أخلاق المؤمنين، إذ فيه تهاون باطلاع الله تعالى على المتصف به، ودليل على قلة حيائه منه سبحانه (¬4)، والحياء من الإيمان، وعدمه من ضعف الإيمان. وقد جرى على ألسنة الزهاد والمتصوفة قولهم: لا صغيرة مع إصرار (¬5). ¬

(¬1) رواه مسلم (233) عن أبي هريرة. (¬2) سقط من (ب). (¬3) في (ب): كما. (¬4) في (ب): من الله. (¬5) ولم أر لهم دليلا يعول عليه، وقد فرق الشرع بين الكبائر والصغائر، فمن جعل بعض الصغائر، ولو مع الإصرار، كبائر فقد خالف نصوص الشريعة، وأحكام الشريعة إنما تتلقى من الكتاب والسنة، لا من الزهاد والمتصوفة.

وقد روي مرفوعا إلى النبي - عليه السلام -، ولم يصح عندنا ذلك (¬1). لكن ينبغي اجتناب الإصرار ولو كان على الصغائر، لأنه قد يؤدي إلى الوقوع في الكبائر، فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وقد وصف الله المحسنين من عباده بقوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]. (ق.74.ب) ومعنى اللمم: ما يلم به الإنسان في بعض الأوقات على وجه الفلتة وعدم التتبع (¬2)، تقول العرب (¬3): ما تأتينا إلا إلماما، أي في الحين بعد الحين من غير ملازمة (¬4)، وإذا لم يلازم الإنسان الذنوب دل ذلك على انتفاء الإصرار عن قلبه، وقد قيل في الآية: هو الرجل الذي يأتي الذنب ثم يتوب منه ولا يعود إليه. ومن تاب من الذنب فقد انتفى عنه الإصرار بالكلية. ¬

(¬1) راجع تخريجه في السلسلة الضعيفة (رقم: 4810). (¬2) قال أبو هريرة وابن عباس وابن مسعود وأبو سعيد والشعبي وغيرهم: كل ما دون الزنا مثل القبلة والغمزة ونحوها، كما في تفسير القرطبي (17/ 106). ونقل الشوكاني في فتح القدير (5/ 113) عن الجمهور أنه صغار الذنوب. وقيل: ما كان دون الزنا كما تقدم. وقيل: هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب. وقيل: هي ذنوب الجاهلية. وقيل: غيرها: انظر الدر المنثور (7/ 655) وتفسير ابن جرير (11/ 528). وهذان القولان الأخيران ضعيفان، فإن الإسلام يهدم ما قبله، وكذلك التوبة تمحو ما قبلها، فلا يبقى حينئذ للاستثناء معنى. (¬3) لسان العرب (12/ 332) والصحاح (5/ 420). (¬4) قال الجوهري في الصحاح (5/ 420): ويقال أيضا: فلان يزورنا لماما، أي في الأحايين.

وقد احتاط السلف في التوقي من المعاصي جملة، حتى قال بعضهم: لا تنظر إلى قدر المعصية وانظر إلى من عصيت. فبهذا الاعتبار يصدق أن يقال: لا صغيرة، إذ المعصي بها وبالكبيرة واحد، وهو الله سبحانه. وصورة المعصية هي المخالفة له من حيث هي مخالفة على الإطلاق فيشترك في ذلك جميع الذنوب جملة واحدة فحق المحتاط لدينه أن يهرب عن أسبابها ويشفق على نفسه منها.

فصل قال: ثم الطبقة الثانية: من أدى جميع الفرائض ولم يتطوع بزيادة خير، واجتنب جميع الكبائر، واستكثر مما دون ذلك من السيئات أو استقل. ثم الثالثة: من أدى الفرائض واجتنب الكبائر وعمل تطوعا وسيئات. وهاتان الطائفتان إن كان ذكر الحميدي لهما على ترتيب فضلهما وهو الظاهر منه، فهو معترض، فإن الطائفة الثالثة أفضل من الثانية، لأنهما استويا في أداء الفرائض واجتناب الكبائر وفعل السيئات وزادت الثالثة بعمل التطوع، والتطوع به يُجبر ما أخل المكلف به من الفرائض، فإذا لم يكن عنده تطوع بقي ما نقصه من الفرائض عليه فكان محبوسا فيه. فمن تطوع فهو (¬1) أتم حالا ممن لم يتطوع، قال تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} ... [البقرة: 184]، وكيف لا يكون خيرا له، والمتطوع لا يخلو فيما تطوع به من أحد (¬2) أمرين: إما أن يجبر له به الفرائض، وإما أن يكون زيادة له في الدرجات. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) في (ب): إحدى.

ثم قل ما يوجد مسلم يعتني بأداء جميع الفرائض ويقتصر عليها دون تطوع، لأن الحامل له على الاعتناء بالفرائض يحمله على التطوع، وإن كان قليلا. وقوله: (واستكثر مما دون ذلك من السيئات أو استقل) إنما قال ذلك لأجل أن اجتناب الكبائر يكفر السيئات التي دونها، وأن فعل الفرائض يكفرها أيضا، فقد اجتمع العملان على تكفير الصغائر، فلا مبالاة بكثرتها وقلتها ما لم يكن إصرار عليها، والإصرار على الصغائر تقدم ذكره.

فصل قال: ثم الرابعة: من أدى الفرائض وتطوع أو لم يتطوع وعمل كبائر وسيئات ثم تاب من بعد ذلك قبل الموت أو أقيم عليه الحدود فيما عمل من ذلك. ثم الخامسة (ق.75.أ) من (¬1) أدى الفرائض، وقصر في بعضها وتطوع وعمل كبائر وسيئات ومات مصرا، إلا أن خيره رجح في الميزان على معاصيه ولو بتكبيرة أو بحسنة هم بها ولم يعملها أو شوكة أزالها من الطريق أو غير ذلك من مقدار الذرة فصاعدا. فقوله في الرابعة: (وتطوع أو لم يتطوع)، قد تقدم الكلام عليه وأن التطوع أفضل، لكن إنما سوى بينه وبين تركه لأجل أن التطوع لا تأثير له في تكفير الكبائر، وهذا على الحقيقة لا اعتبار به، فإنه إذا لم يكن له تأثير في الكبائر فله تأثير في جُبران (¬2) الفرائض، كما تقدم. وأما الذي له تأثير في إسقاط الكبائر على الإطلاق فهي التوبة (¬3) منها والعزم على أن لا يعود صاحب الكبائر إليها. ¬

(¬1) في (ب): ما، وهو خطأ. (¬2) في (ب): جملان، وهو خطأ. (¬3) في (ب): الثوبة، وهو خطأ. وكذا في نظيراتها.

وأما الحدود فقد جاء (¬1) عن النبي - عليه السلام - أنها كفارة لأهلها، وجاء عنه - عليه السلام - من حديث عبادة: «ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له» (¬2). لكنا نقول: إن هذا التكفير إنما يكون لنفس الفعل الذي هو مباشرة الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحو ذلك لا للإصرار الذي في القلب، فإن ذلك لم يتناوله الحد، وإنما تناول الحد البشرة، لأنها هي المباشرة للكبيرة، وما في القلب من محبة لها وإصرار عليها لا يزيله إلا التوبة فقط. والدليل عليه أن النبي - عليه السلام - لما رجم ماعزا وأمر الصحابة بالاستغفار له لم يقل إنه غفر له بالحد الذي هو الرجم، بل قال: «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» (¬3). ¬

(¬1) في (ب): شاع. (¬2) رواه البخاري (18 - 3679 - 4612 - 6402 - 6416 - 6787 - 7030) ومسلم (1709) والنسائي (7/ 141 - 142) والترمذي (1439) وأحمد (5/ 314 - 320) والدارمي (2362) والدارقطني (3/ 215) والحميدي (387) وابن الجارود (803) وابن حبان (4405) وأبو عوانة (6342) والبيهقي (8/ 18 - 328) عن عبادة بن الصامت. (¬3) خرجه مسلم (1695) وأبو داود (4442) والحاكم (8078) وأبو عوانة (6293) والدارمي (2234) وأحمد (5/ 347 - 348) والبيهقي (8/ 221) والطحاوي في شرح المعاني (3/ 143) عن بريدة.

وكذلك قال في الغامدية لما سبها خالد، إذ طار الدم من رجمها على وجهه: مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس غفر له. وأما الخامسة فقد اجتمع لها تأدية بعض الفرائض وترك بعضها مع عمل الكبائر والصغائر لكن عندها تطوع وإصرار، ولا أدري من مات على هذا كيف ترجح حسناته، إلا بلطف الله تعالى لعبده بأن يسمح له ويتجاوز عنه، كما جاء في الحديث في حق صاحب السجلات، الذي يظن أنه يهلك بها فتخرج له بطاقة فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله فتجعل في الكفة فترجح، كما أثبتناه قبل (¬1). وليس يُفعل (¬2) هذا لكل من هو في هذه الطبقة، فلذلك استبعدنا لمن هو بهذا الوصف رجحان حسناته مع تحقيق الموازنة، لأنه مطلوب بثلاثة أشياء: أحدها: بما بقي عليه من الفرائض، فقد يكون في تطوعه وفاء بذلك أو لا يكون. والثاني: (ق.75.ب) بعمل (¬3) الكبائر والصغائر معا، فإن الكبائر لم يتب منها، والمكلف إذا كان مطلوبا بالكبائر كان أيضا مطلوبا بالصغائر، وإنما تغفر له الصغائر باجتناب الكبائر، أو بالتوبة منها. ¬

(¬1) تقدم. (¬2) في (ب): بفعل. (¬3) في (ب): يعمل.

وقد يكون عند هذا في الفرائض التي عملها ما يوازى به (¬1) جانبُ الذنوب بجملتها لكونها مقبولة، وقد لا يكون بأن يرجح جانب الذنوب عليها لعظم قدرها وتهاون العبد في دنياه بها. والثالث: إنه مطلوب بالإصرار الذي في قلبه، والإصرار على معاصي الله تعالى، أعني الكبائر منها، ليس في الذنوب بعد الإشراك أعظم منه. ومعنى الإصرار أن يكون العبد محبا في المعصية فاعلا لها غير مقلع عنها ولا نادم عليها، بل يعتقد في نفسه أن يسارع إليها متى تأتت له ويعود إلى فعلها، فيكون جميع عمره في معصية، وإن كان لاهيا عن الفعل من أجل ميل القلب إليها وكلفه بها. نعوذ بالله سبحانه من الإصرار والتسويف بالتوبة، فإن ذلك هو الذي يقود إلى المعاصي في الدنيا وإلى العقوبة عليها في الآخرة. ¬

(¬1) في (ب): يوازيه.

أصناف المؤمنين

باب (أصناف المؤمنين) (¬1) هذه الطبقات الخمس التي ذكر الحميدي إنما جعلها في من فضل له عمل خير في الجملة، ونحن نريد أن نجعل (¬2) في هذا المعنى قاعدة نعُم بها أصناف المؤمنين من محسن ومسيء ممن يفضُل له خير أو شر، فلنضبط ذلك بعبارة نحصُر بها ما نريده بحول الله. فنقول: قد ثبت في أصول الفقه أن الأحكام خمسة لا سادس لها، وهي: الوجوب والندب والحظر والكراهة والإباحة. فإذا نسبت هذه الأحكام إلى أفعال المكلفين قيل هذا فعل واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح. وتقرر هنالك بالتقريب أن الواجب هو ما في فعله ثواب، وفي تركه عقاب، والمندوب ما في فعله ثواب وليس في تركه عقاب، وأن المحظور ما في تركه ثواب وفي فعله عقاب، والمكروه ما في تركه ثواب وليس في فعله عقاب، وأن المباح ما تساوى تركه وفعله (¬3). ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): تجعل. (¬3) انظر إرشاد الفحول (23 - 24) والإبهاج شرح المنهاج للسبكي (1/ 54) وأصول الفقه لمحمد بن مفلح المقدسي (1/ 186 - فما بعد) وروضة الناظر لابن قدامة المقدسي (1/ 90 - فما بعد).

فلنترك المباح من هذه الأقسام لخلوه من الثواب والعقاب، على أنه قد يلتحق بالنية بما فيه ثواب وعقاب، فإن من نام على قصد الاستعانة به على قيام الليل فهو مأجور، ولذلك قال معاذ لأبي موسى: أما أنا فأنام وأقوم (ق.76.أ) واحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي (¬1). ومن تطيب طيبا غير مشروع بأن لا يكون للجمعة ونحوها، بل للذة النفس وطيب الرائحة المجردة فذلك مباح، فإن اقترن بذلك أن يكون قصد المتطيب أن يشم عليه الطيب النسوان الأجانب وأهل الفساد فهو مأثوم. لكن إنما يكون هذا بحسب النيات، وهو خارج بالحقيقة عن نفس الفعل الذي هو مباح. فلنبق المباح على الحد الذي حده الفقهاء ولنتخطه فيما نريد أن نتكلم عليه من هذه الأقسام. فنقول: ينقسم أهل التكليف بعد الإيمان أربعة أقسام: - القسم الأول: من فعل الواجبات والمندوبات وترك المحظورات والمكروهات. وهذا القسم هو الطبقة العالية، لأنها فعلت ما عليها من الواجبات وتركت ما عليها أن تترك من المحظورات، ثم أضافت إلى ذلك فعل المندوبات التي هي ثواب كلها وترك المكروهات الذي هو ثواب كله. ¬

(¬1) رواه البخاري (4086 - 4088 - 6525) ومسلم (1733) وأبو داود (4354) وابن حبان (5376) وأبو عوانة (5921 - 6560) والبيهقي (8/ 195) وعبد الرزاق (3/ 356 - 4/ 409).

ويلتحق بهذا القسم من فعل الواجبات وترك المحظورات فقط، لأنه عمل ما عليه في الجانبين من أخذ وترك. وهاهنا يدخل قول الأعرابي: «والله لا أزيد (¬1) على هذا ولا أنقص منه» (¬2). وهذا يستوي مع الأول في أن كفة الحسنات ترجح لهما على كفة السيئات، لكن يزيد الأول على الثاني بزيادة الثواب فقط، لفعله المندوبات وتركه المكروهات. - القسم الثاني: عكس الأول وهو من ترك الواجبات والمندوبات وفعل المحظورات والمكروهات، وهذه هي الدرجة السفلى وهي درجة من لم يعمل خيرا قط غير التصديق المجرد، وأهل هذه الدرجة هم الذين يتولى الله إخراجهم من النار دون الشفاعة، ويلتحق بهم من ترك الواجبات وفعل المحظورات، من حيث إن ترك المندوبات وفعل المكروهات لا يتعلق بهما عقاب. ¬

(¬1) في (ب): أزد. (¬2) رواه البخاري (46 - 2532) ومسلم (11) وأبو داود (391) والنسائي (458 - 5028) وأحمد (1/ 162) ومالك (425) وابن الجارود (144) وابن حبان (3262) والبيهقي (1/ 361) والبزار (933) عن طلحة بن عبيد الله. ورواه مسلم (12) وأحمد (3/ 143 - 267) والبيهقي (4/ 325) عن أنس. ورواه مسلم (14) وأحمد (2/ 342) وأبو عوانة (4) عن أبي هريرة.

- القسم الثالث: من فعل الواجبات والمندوبات والمحظورات والمكروهات. وأهل هذا القسم ممن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فمن حيث فعلوا الواجبات والمندوبات فهو فعل محمود وعمل صالح، و (¬1) من حيث فعلوا المحظورات والمكروهات فهو فعل مذموم وعمل سيء فقد يظهر أن هؤلاء إن ماتوا قبل التوبة فهم ممن ترجح حسناتهم، إذا فرضنا استواء تلك الأفعال. لأن كل ما عملوه من الحسنات مضاعف لهم بعشر أمثالها، وما عملوه من السيئات إنما كتبت بمثلها، فوزنها غير مضاعف (ق.76.ب)، وإن كانت تلك الأفعال مختلفة المقادير (¬2)، بحيث يرجح جانب السيئات ويدخلون النار من أجل ذلك فيكونون من أصحاب الشفاعة، ويلتحق بهذا القسم من فعل الواجبات والمحظورات لا غير، لأن المكروهات لا عقاب على فعلها، والمندوبات إذا تركها ينقص أجره عن أجر الأول فقط. - القسم الرابع: من ترك الواجبات والمندوبات والمحظورات والمكروهات، وهؤلاء معاقبون إن لم يعف عنهم على ترك الواجبات فقط، إذ هم ممن ترجح سيئاتهم على حسناتهم فإذا دخلوا النار خرجوا منها بالشفاعة أو برحمة الله تعالى، فإن حالهم يحتمل الوجهين جميعا. ويلتحق بهذا القسم من ترك الواجبات والمحظورات وفعل المندوبات والمكروهات. ¬

(¬1) سقطت من (ب). (¬2) سقطت من (ب).

فإنا نجد في الناس من يترك الزكاة الواجبة عليه ويتصدق بخبزة أو بدرهم، وكذلك نجد من يجتنب المحظورات تظرفا ومروءة لا دينا، ويفعل المكروهات لخفتها في العادة، وهؤلاء يخرجون من النار بالشفاعة. فهذه الأقسام أربعة وهي: - من فعل الأحكام الأربعة بجملتها. - ومن تركها بجملتها. - ومن فعل ما يجب فعله وترك ما يجب تركه. - ومن فعل ما يجب تركه وترك ما يجب فعله. ويندرج تحتها أربعة أقسام أخر، كما أدرجناه.

نقل اللفظ قال الحميدي: فإن قال قائل: فإذ (¬1) الأمر هكذا فما فائدة الشفاعة إذا؟ والجزاء واقع على كل دقيق وجليل من خير وشر لم يتب عنه فاعله. قلنا وبالله تعالى التوفيق: وقوع الجزاء على ما ذكرنا من مراتبه هو فائدة الشفاعة بنص بيان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في الخبر الذي أوردنا قبل، ولولا تفضل الله تعالى بالشفاعة وقبولها لكان له عز وجل أن يخلدنا على سيئة واحدة في النار، ولولا رحمته بأن جعل الجنة جزاء لنا على قليل طاعتنا وعملنا، كما قال تعالى: {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] لكان له عز وجل أن لا يدخلنا الجنة، إذ ليس لأحد عليه تعالى حجة ولا حق، بل له المن على الجميع لا إله إلا هو. وصح بهذا معنى قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه لا ينجي أحدا عمله»، فقيل له: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته»، أو كما (ق.77.أ) قال - عليه السلام - (¬2). ¬

(¬1) في (ب): فإذا. (¬2) رواه البخاري (5349 - 6098) ومسلم (2816) وابن ماجه (4201) وأحمد (2/ 235 - 256 - 264 - 319 - 326 وغيرها) وابن حبان (348 - 660) والبيهقي (3/ 18 - 377) = = والطيالسي (2922) والطبراني في الأوسط (2294 - 8004) وأبو يعلى (1775 - 3985 - 6243 - 6594) وغيرهم عن أبي هريرة. وفي الباب عن عائشة وجابر.

فصل هذا السؤال الذي فرض الحميدي إنما يلزم من يقول بإنفاذ الوعيد، وهو الظاهر من مذهبه بقوله في هذا الكتاب: ولا بد من ذلك، وهذا لا بد منه، وهذا ما لا يجوز غيره، ولا يمكن سواه، ونحو ذلك من الألفاظ التي مضت له فيما تقدم. والسؤال لازم للحميدي، ولم ينفصل عنه، فإن قوله: (وقوع الجزاء على ما ذكرنا من مراتبه هو فائدة الشفاعة) لا (¬1) معنى له، فإن لفظ الجزاء إن كان أراد به العقاب فالشفاعة لا تقتضي وقوع العقاب ولا دوامه إن وقع قبل الشفاعة، وإنما تقتضي التخليص من العقاب، إما من أصله، وإما من الزيادة فيه. وإن كان أراد بالجزاء الخروج من النار على ذلك الترتيب، فالخروج من النار ليس بجزاء، وإنما الجزاء للمذنبين هو المكث في النار. وإذا لم يكن عند الحميدي ما ينفصل به عن هذا السؤال الذي شعر به وفرض الكلام فيه، فقد لزمه إبطال الشفاعة لا محالة، لأن الجزاء للمذنبين إذا ¬

(¬1) في (ب) مكان "لا": على.

كان واقعا على كل دقيق وجليل من خير وشر، وهو معنى استيفاء القصاص منهم فقد بطلت الشفاعة، ولم يبق (¬1) لها فائدة أصلا. ولنضرب لذلك مثالا محسوسا يتبين منه. فنقول: إن السلطان إذا أوقع (¬2) بأهل الجرائم في الدنيا ثم (¬3) أودعهم السجن، فإن شفع فيهم بعض من يقرب من السلطان قبل أن يظهر من السلطان في أمرهم ما يوجب إطلاقهم فشفَّعه فيهم، فقد قبل الشفاعة وكان لها موقع في استنقاذهم من محبسهم، وإن بقي أمرهم كذلك عند السلطان حتى يعتقد أن الأدب قد أخذ مأخذه منهم فيأمر بإطلاقهم أو يكلمه بعض خدمته حينئذ فيهم ثم توجه عن أمره لإطلاقهم فيطلقهم فليس هاهنا شفاعة أصلا، إذ من المحال أن يقال عن من يتوجه لإطلاقهم إنه شافع فيهم، لكونهم قد استُوفي الحق منهم. فيلزم الحميدي أن يكون نبينا - عليه السلام - وله المثل الأعلى بمنزلة من يرسله السلطان لإخراج من بلغ الأدب منه مبلغه، لأنه - عليه السلام - إذا شفَع فلم (¬4) يشفَّع إلا فيمن أُخذ الحق واستُوفي القصاص منه، فإنه لم يشفَّع على الحقيقة في من شفع، لأن من هو بهذا الوصف يلزم إخراجه لا محالة دون شفاعة. (ق.77.ب) ¬

(¬1) في (ب): تبق. (¬2) في (ب): إذا وقع. (¬3) في (ب): ثم إذا. (¬4) في (ب): لم.

فإن بقاءه في النار بعد استيفاء القصاص ظلم في حقه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. وقول الحميدي: (هو فائدة الشفاعة بنص بيان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في الخبر الذي أوردنا قبل) باطل، فمتى ذكر النبي - عليه السلام - في ذلك الخبر لفظ الجزاء، أوقال: إن الشفاعة إنما هي أن يوقع الجزاء على ذلك الترتيب. والرجل ظاهري، فكيف يُقوّل رسول الله ما لم يقل بقوله: بنص بيان رسول الله بذلك في الخبر. ومتى كان ذلك في كلام رسول الله؟، وإنما في كلامه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يخرج المذنبين على حسب ترتيب ما في قلوبهم من الإيمان والخير، بلا مزيد عليه، وليس يلزم من كون من يظن أن ذلك الترتيب إنما هو لأجل تدريجهم في الذنوب، فيكون ذلك جزاء على قدر شرورهم أن ينسب ذلك إلى رسول الله نطق به نصا، وفي ذلك من جزاف من يقوله ما لا خفاء به.

فصل قد تقدم من كلامنا أن السؤال الذي فرضه الحميدي لازم له، وأما (¬1) نحن فلا يلزمنا، لأنا لا نقول: إن الجزاء واقع على كل دقيق وجليل من خير وشر، بل نصرف ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته، كما قال في كتابه العزيز: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] إن شاء سبحانه أن يجازي بعض المذنبين بكل دقيق وجليل فعل، وإن شاء أن يعفو عن بعضهم ابتداءا فعل، وإن شاء أن يعفو بعد دخول العبد النار دون أن يستوفي منه القصاص فعل. وإذا كان الأمر هكذا فقد اندرأ السؤال، وكان فائدة الشفاعة إخراج المذنبين من النار (دفعة واحدة) (¬2) استُوفي منهم القصاص أو لم يُستوف، بل إنما تتحقق الشفاعة فيمن لم يُستوف منه القصاص. فإن قيل: فكان يلزم على هذا أن يخرج جميع المذنبين من النار دفعة واحدة. قلنا: لو جاء ذلك في الحديث لكان له وجه، وإذا لم يرد ذلك وورد خروجهم على ذلك الترتيب فسيكون لأمرين: ¬

(¬1) في (ب): وإنما. (¬2) من (ب).

أحدهما: أن يكون خروجهم بحسب شفاعة النبي - عليه السلام - لأنه يسجد بين يدي الله تعالى ثم يشفع فيحد له حدا بحسب إيمانهم وخيرهم فيخرجهم، ثم يعود فيشفع فيحد له حدا دون أولئك في الإيمان والخير فيخرجهم، ثم يعود فيشفع فيحد له حدا دون الطائفة الثانية فيخرجهم حتى يقول (ق.78.أ): «ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود»، فيكون خروجهم بحسب درجاتهم في الإيمان والخير، وكل واحدة من هذه الشفاعات شفاعة برأسها يعلم بها في القيامة المؤمن والكافر. وفي ذلك تشريف لنبينا - عليه السلام - وإظهار لعلو درجته وارتفاع منزلته المرة بعد المرة. والثاني: أن يتحقق بخروج الأصناف الثلاثة من النار من يستأثر الله تعالى بإخراجه منها آخرا ممن ليس عنده إلا قول لا إله إلا الله فقط، إذ لا يمتاز هذا الصنف إلا بتقدم الأصناف المذكورين، وهم الخارجون بالشفاعة على ذلك التدريج، لكون الناس درجات في الخير والشر، ولأجل تباينهم في الخير وفي الشر جعل الله الدرجات في الجنة والدركات في النار.

فصل وقول الحميدي: (ولولا تفضل (¬1) الله تعالى بالشفاعة وقبولها لكان له عز وجل أن يخلدنا في النار على سيئة واحدة) قول صحيح، لكن لا مدخل له في الجواب عن ذلك السؤال. وكذلك قوله: (ولولا رحمته بأن جعل الجنة جزاء لنا على قليل طاعتنا وعملنا لكان له عز وجل ألا يدخلنا الجنة، إذ ليس لأحد عليه حق) صحيح أيضا. وأصل هذا كله أن رحمة الله تعالى سبقت غضبه، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى كتب كتابا وجعله عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي». (¬2) وجاء في تفسير ذلك «أن آدم - عليه السلام - لما أتم الله خلقه عطس فقال له: قل الحمد لله، فقالها. فقال الله له: يرحمك ربك يا آدم». (¬3) ¬

(¬1) كذا في (أ)، وفي (ب): فضل. (¬2) رواه البخاري (3022 - 6969 - 6986 - 7015 - 7114 - 7115) ومسلم (2751) والترمذي (3543) وابن ماجه (189 - 4295) وأحمد (2/ 242 - 381 - 397 - 433 - 466) وابن أبي شيبة (8/ 105) والحميدي (1126) والطبران ي في الأوسط (2889) وأبو يعلى (6281 - 6432) عن أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬3) رواه ابن حبان (6165) عن أنس بسند صحيح. ... = = ورواه ابن حبان (6167) والحاكم (214) والبيهقي (10/ 147) من طريق الحارث بن أبي ذباب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. والحارث مختلف فيه. وتابعه إسماعيل بن رافع فرواه عن المقبري عن أبي هريرة، رواه أبو يعلى (6580). وفي الباب عن ابن عباس.

وأما الغضب فظهر لإبليس عندما استكبر وعصى ربه تعالى بترك ما أمره به من السجود لآدم فغضب سبحانه عليه ولعنه وجعله من المطرودين عن رحمته المبعدين من كرامته. وقد قال النبي - عليه السلام -: «إن لله مائة رحمة جعل منها واحدة في الدنيا فبها يتواد الناس ويتراحمون فيما بينهم، وخبأ تسعة وتسعين عنده ليوم القيامة». (¬1) أو كما قال. وقد جاء في الأثر (¬2): إن الجنة تدخل برحمة الله وتقتسم الدرجات فيها بالأعمال. ولو لم يكن فيها خلود لأمكن أن يُستوفى للمكلف ثوابُ ما عمل في مثل زمن عمله ثم يخرج من الجنة، ولكن رحم الله عبده المؤمن بسبب نيته، إذ لم يكن عنده فيها إلا الإيمان والطاعة، ولو عمر أضعاف ما عمر وأضعاف ¬

(¬1) رواه البخاري (6104) ومسلم (2752) والترمذي (3541) وابن ماجه (4293) وأحمد (2/ 334 - 434 - 484 - 514 - 526) والدارمي (2683) وابن حبان (6147) وأبو يعلى (6372 - 6445) والطبراني في الأوسط (5/ 74) عن أبي هريرة. وفي الباب عن سلمان عند مسلم وغيره، وعن أبي سعيد. (¬2) في (ب): الحديث الأثر.

أضعافه فأثابه الله بأن جازاه بقدر نيته فخلده في الجنة، إذ لو خلد في الدنيا لم ينتقل عن الإيمان. والكافر (ق.78.ب) بخلاف ذلك، فإن قلبه مشحون بالكفر والمعاصي لله (¬1) تعالى، ولو فرضناه مخلدا في الدنيا لم ينتقل عن ذلك لقوله سبحانه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} ... [الأنعام: 28]، فعاقبه الله تعالى بالخلود في النار جزاء وفاقا. ¬

(¬1) في (ب): بالله.

معنى قول النبي - عليه السلام -: لن ينجي أحد منكم عمله

فصل (معنى قول النبي - عليه السلام -: لن ينجي أحد منكم عمله) وأما قول النبي - عليه السلام -: «لن ينجي أحدا منكم عمله» (¬1) فله عندنا معنيان (¬2): ¬

(¬1) تقدم. (¬2) قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/ 8): وأحسن من هذا أن يقال الباء المقتضية للدخول غير الباء التي نفى معها الدخول. فالمقتضية هي باء السببية الدالة على أن الأعمال سبب للدخول مقتضية له، كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها. والباء التي نفى بها الدخول هي باء المعاوضة والمقابلة، التي في نحو قولهم: اشتريت هذا بهذا. فأخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا تغمد الله سبحانه لعبده برحمته لما أدخله الجنة، فليس عمل العبد وإن تناهى موجبا بمجرده لدخول الجنة ولا عوضا لها. فإن أعماله وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه فهي لا تقاوم نعمة الله التي أنعم بها عليه في دار الدنيا ولا تعادلها، بل لو حاسبه لوقعت أعماله كلها في مقابلة اليسير من نعمه، وتبقى بقية النعم مقتضية لشكرها فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له، ولو رحمه لكانت رحمته خيرا له من عمله، كما في السنن من حديث زيد بن ثابت وحذيفة وغيرهما مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم. قال ابن حجر في الفتح (11/ 296): وقال ابن الجوزي: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة: الأول: أن التوفيق للعمل من رحمة الله ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. الثاني: أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله. الثالث: جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال. = = الرابع: أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد، فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بمقابلة الأعمال.

أحدهما: إنه إعلام لجملة الصحابة رضوان الله عليهم بأن يعتقدوا أن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وأن الإيمان به والعمل الصالح لا يلزم منه الثواب عقلا كما تدعيه المعتزلة، إذ يجب عندها على الله تعالى المجازاة على الطاعة والمعصية بتحسين العقول وتقبيحها. والرد عليها مقرر في كتب الأصول (¬1). ونحن نقول: لولا ورود (¬2) الشرع بأن المؤمن يجازى على إيمانه وطاعته بالثواب في الجنة، وأن الكافر يجازى على كفره وعصيانه بالعقاب في النار لم نعلم ذلك، إذ لا مدخل له في المعقولات أصلا. والثاني: إنه إعلام لجملة الصحابة بأن يكونوا على وصف العبودية لله تعالى بإظهار التبري من الأعمال وعدم الرؤية لها حتى لا يعتقدوا أن تلك الأعمال تنجيهم من أهوال يوم القيامة، فيحصلوا في الإدلال بها والأمن من مكر الله فيتقى عليهم أن تحبط أعمالهم بذلك. فإذا علموا (¬3) أن الله تعالى خالق الأعمال لهم والباعث عليها والموفق لها والمهيئ لأسبابها، ثم المتفضل بالقبول لها والتضعيف لآحادها بعشر (¬4) أمثالها ¬

(¬1) راجع مثلا: الفتاوى (8/ 428) ومنهاج السنة (1/ 448 - 449) كلاهما لابن تيمية. (¬2) في (ب): ورد. (¬3) في (ب): عملوا، وهو خطأ. (¬4) في (ب): بشعر، وهو خطأ.

إلى ما فوق ذلك، شغلوا أنفسهم بمقام الشكر ودوام الذكر وصلة الدعاء، واندرأ عنهم العجب بالعمل والإدلال بالصلاح. وكيف يصح أن يعتقد المسكين منا أن عمله القليل ينجيه وهو وعمله ليس إليه منه شيء، بل ذلك كله بيد الله تعالى. وهذا هو معنى قول القائل لا حول ولا قوة إلا بالله.

معنى قوله - عليه السلام -: إلا أن يتغمدني الله برحمته

(معنى قوله - عليه السلام -: إلا أن يتغمدني الله برحمته) وأما قوله - عليه السلام -: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» فله عندنا أيضا معنيان: أحدهما: إن الأنبياء صلوات الله عليهم ينزلون في تعليم من بعثوا إلى تعليمهم وإرشادهم إلى المقام الذي يليق بهم، فيدخلون أنفسهم معهم في أوصافهم، كما قال النبي - عليه السلام - لمن قال: يحل الله لرسوله ما شاء: «أما والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده» (¬1). وكان بعض شيوخ (ق.79.أ) الصوفية إذا أمر بعض تلامذته بنوع من الرياضة (أخذ يعمل مثل عمله حتى يظن المريد أن الشيخ محتاج إلى تلك ¬

(¬1) رواه مالك (645) وعنه الشافعي (240) والطحاوي (2/ 94) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلا فذكره مرسلا. ورواه عبد الرزاق (4/ 184) عن ابن جريج أخبرني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار. والمرسل أصح، لأن مالكا أوثق من ابن جريج. ويشهد له حديث عمر بن أبي سلمة عند مسلم (1108)، وفيه أن الرجل قال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له.

الرياضة) (¬1)، فيجتهد في العمل بسببه، وإنما يبعث الشيخ على العمل كونه يرى أنه (¬2) إذا لم يدخل نفسه معه في الرياضة لاستغنائه عنها (¬3)، فقد يعتقد المريد في نفسه أنه أيضا (¬4) قد استغنى عنها فيترك العمل، ويكون ذلك سبب حرمانه عن المقام الذي يرقيه الشيخ له (¬5). والمعنى (¬6) الثاني: إن النبي - عليه السلام - يعلم أن الله تعالى قد تغمده برحمته وأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكنه مطلوب بالاستكانة والخضوع وإبقاء رسم العبودية، ولذلك يقول: «وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» (¬7). ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬2) في (ب): أنه يرى. (¬3) إذا كان المقصود بالرياضة الذكر الشرعي فلا يستغني عنه نبي مقرب ولا ملك مرسل، فكيف بمن دونهم، وإذا كان غير ذلك، وهو الظاهر من إطلاقات المتصوفة، فكل الخلق في غنى عنه. (¬4) في (ب): أيضا أنه. (¬5) الذي يرقي العبد من مقام إلى مقام هو الله بعد اجتهاد العبد في الطاعات والإكثار من النوافل واجتناب المحرمات. والرياضة في باب العبادات مصطلح دخيل من ديانات البراهمة والبوذيين. (¬6) في (ب): والوجه. (¬7) رواه الترمذي (3235) وأحمد (5/ 243) من طريق جهضم بن عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال حدثنا خالد بن اللجلاج حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر الحديث.= = وهذا غير محفوظ، هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروى بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن ابن عائش عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا أصح. وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والظاهر من السند المتقدم أن ابن عائش لم يسمع الحديث من النبي - عليه السلام -، لكن رواه الحاكم (1912) وابن أبي عاصم (388) من طريق خالد بن اللجلاج ثنا عبد الرحمان بن عائش الحضرمي قال سمعت رسول الله. وصححه الحاكم. وهذا وهم، وخالد بن اللجلاج انفرد ابن حبان بتوثيقه. وهو من هذا الوجه عند أحمد (4/ 66) لكنه قال: عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمان بن عائش عن بعض أصحاب النبي. وفي سنده مع هذا: زهير بن محمد وهو الخراساني الشامي، وفيه ضعف. وفي الحديث اختلافات أخر. وللحديث طريق آخر عن معاذ عند الطبراني في الكبير (20/ 141) والبزار (2668) وابن خزيمة في التوحيد (220) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل. وضعفه ابن خزيمة بعبد الرحمان بن إسحاق، وبكون ابن أبي ليلى لم يسمع معاذا. وللحديث شاهد عن ثوبان عند الحاكم (1932) وصححه على شرط البخاري. لكن في سنده كاتب الليث. وعن ابن عباس عند الترمذي (3233) وغيره بسند ضعيف. والحديث ذكره الدارقطني في العلل (6/ 57)، وقال: ليس فيها صحيح، وكلها مضطربة.

وهو - عليه السلام - يعلم أنه لا يُفتن. ولهذا كان يكثر من الدعاء حتى قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاته: «اللهم الرفيق الأعلى» (¬1)، وهو يعلم أن ذلك هو مكانه، فإنه - عليه السلام - يقول: «ثم سلوا لي ¬

(¬1) رواه البخاري (4194) ومسلم (2444) عن عائشة.

الوسيلة فإنها درجة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو» (¬1). ولذلك لما (¬2) سئل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كثرة عمله مع كونه مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» (¬3)، إعلاما منه بالتواضع في مقام الخدمة ومواظبة الطاعة، وذلك هو معنى الشكر الذي يليق بالعبودية، وقد سمى الله تعالى في كتابه العمل شكرا، فقال: اعملوا آل داود شكرا. ¬

(¬1) رواه مسلم (383) وأبو داود (523) والنسائي (678) وأحمد (2/ 168) وابن خزيمة (418) وابن حبان (1690 - 1691 - 1692) وأبو عوانة (983) والطحاوي (1/ 143) والبيهقي (1/ 409) والبزار (2453) والطبراني في الأوسط (9335) عن عبد الله بن عمرو. وله شاهد عن أبي هريرة عند الترمذي (3612) وأحمد (2/ 265 - 365) وابن أبي شيبة (7/ 442) وعبد الرزاق (2/ 216) وأبي يعلى (6414)، وضعفه الترمذي بجهالة كعب المدني أبي عامر. وفي الباب عن أبي سعيد وابن عباس. (¬2) سقط من (ب). (¬3) رواه البخاري (1078 - 4556 - 6106) ومسلم (2819) والترمذي (412) وابن ماجه (1419) وأحمد (4/ 251 - 255) وابن خزيمة (2/ 200 - 201) وابن حبان (311) والبيهقي (2/ 497 - 3/ 16 - 7/ 39) والطبراني في الكبير (20/ 419 - 420) والأوسط (2/ 336) والحميدي (759) والطيالسي (693) عن المغيرة. وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وعائشة.

وقد كان النبي صلى الله عليه (¬1) في أول مبعثه بمكة لما خير بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، وأشار إليه جبريل - عليه السلام - بأن تواضع، قال: «بل نبيا عبدا» (¬2). فأعطاه الله تعالى بتواضعه الملك والسيف حتى أورث ذلك أمته. فزاد تواضعه صلوات الله عليه (¬3) بعد فتح مكة عليه وعلمه (¬4) بالمغفرة المطلقة له بالعمل الدائم على جهة الشكر لله تعالى كما تقدم، وبقي على ذلك مدة حياته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

(¬1) في (ب): - عليه السلام -. (¬2) رواه أحمد (2/ 231) وابن حبان (14/ 280) وأبو يعلى (6105) عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة بسند صحيح. وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر. (¬3) في (ب): - عليه السلام -. (¬4) ليس في (ب).

نقل اللفظ قال الحميدي: فإن قيل: فقد يجازَون بما فضل لهم من الشر على ما مع كل امرئ منهم من الخير، ويسقط لكل واحد منهم مما عمل من المعاصي ما قابل ما معه من الخير، فلا شك في أنه قد سقط كل خير عمل من تصديق ومن سائر الأعمال كما سقط ما قابل ذلك الخير من معاصيه فكيف تراعى له المقادير المذكورة من مثقال برة وشعيرة وخردلة وغير ذلك؟. قلنا وبالله تعالى التوفيق: إنه بقي له أنه قد عمل خيرا فتفضل الله عز وجل عليهم (ق.79.ب) بأن جعلهم عملوا خيرا، وبأنهم تفاضلوا فيما عملوا من الخير سببا إلى قبول الشفاعة فيهم، وإلى تقدمهم في إخراجهم من النار على مراتب ما كان لكل واحد منهم من عمل الخير جملة فقط. وأخَّر (¬1) تعالى من لم يعمل خيرا قط غير التصديق بدين الإسلام والنطق به مرة فقط، فلم يجعل له حظا في الشفاعة ولا في التقدم (¬2) في الخروج من النار. ¬

(¬1) في (ب): وأخبر. (¬2) في (ب): التقديم.

وتوحد هو عز وجل بإخراجه من النار بعد كل من يخرج منها. قال أبو عبد الله: كل ما ذكرنا فهو منطو بجملته في الحديث الذي صدرنا به وخارج منه (¬1) نصا، وهذه جوامع الكلم (¬2) التي أوتيها - عليه السلام -، وهي اقتضاء الكلام القليل للمعاني الكثيرة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى جميع أنبيائه وسلم تسليما. ¬

(¬1) في (ب): منها. (¬2) في (ب): الكلمة.

فصل هذا السؤال والاعتراض إنما يلزم الحميدي الذي يقول إن التصديق الذي هو الإيمان يوزن ويسقط بالمعاصي كما يسقط سائر الأعمال. ونحن لا يلزمنا ذلك فإنا نقول: إن الإيمان لا يصح أن يوزن كما قررناه قبل، وإذا لم يوزن كان مراعاة المقادير بحسب قوته وضعفه. والاعتراض صحيح على الحميدي ولم ينفصل عنه، فإن قوله في الجواب: (إنه بقي له أنه قد عمل خيرا) كلام غير صحيح، فأي خير بقي له وهو قد سقط بالشر على زعمه. وإذا سقط فكيف تراعى له المقادير ولا ينجيه من ذلك قوله: (فتفضل الله عليهم بأن جعلهم عملوا خيرا وبأنهم تفاضلوا في ما عملوا من الخير سببا إلى قبول الشفاعة فيهم) لأن الذي تفضل الله عليهم به على مذهبه قد ذهب فلم يبق منه شيء إلا بالتوهم المحض، فلا معنى لتقدير مازال واضمحل. ولو لم يكن على أن الإيمان لا يوزن دليل سوى هذا الاعتراض الذي اعترض به الحميدي على نفسه لكان كافيا، فكيف وقد قدمنا في ذلك بحمد الله ما فيه مقنع وشفاء. وقول الحميدي: (كل ما ذكرنا فهو منطو بجملته في الحديث الذي صدرنا به وخارج منه نصا) ليس كذلك، فمتى كان في ذلك الحديث أن الأنبياء والكفار لا بد لهم من الموازنة، وأن الإيمان يوزن مع الأعمال، وأن

الأكثر شرا (¬1) يقدم في دخول النار على الأقل شرا أو يضاعف عذابه، وأن الطبقات التي جعلها أربعا متساوية في درجات الجنة، وأن لكل امرئ منهم مثل الدنيا وما فيها عشر مرات، إلى غير ذلك مما نبهنا عليه في موضعه. وهذا هو آخر الكتاب الذي صنفه أبو عبد الله الحميدي رحمه الله فيما قصده من الموازنة وتقسيم (ق.80.أ) أهلها، وقد أتينا في كلامنا الذي وصلناه بكلامه فيه من التتميم والانتقاد وإبراز الصواب بما في (¬2) وسعنا مما فهمناه من الشرع، مع أن الكلام في ذلك عسير، لأنه في الجملة مغيب عنا، وإنما تنكشف حقيقته يوم تبلى السرائر، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا في ذلك اليوم من الفائزين، ويحشرنا معا في زمرة عباده الصالحين بمنه. ¬

(¬1) في (ب): شر، وهو خطأ. (¬2) من (ب).

القسمين اللذين استدركناهما عليه

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى (¬1) الله على (¬2) محمد وآله وصحبه (¬3) وسلم تسليما. قال القاضي أبو طالب عقيل بن عطية القضاعي (¬4) وفقه الله: وإذ (¬5) فرغنا من الكلام على كتاب الحميدي رحمه الله (¬6) فلنشرع في ذكر (¬7) القسمين اللذين استدركناهما عليه وذكرناهما في صدر كتابنا هذا، وهما: - حكم المجانين ومن سمينا معهم. - وحكم الجن في موازنتهم. ونحن إن شاء الله نتكلم فيها على (وجه الاختراع للقول ودليله، بحسب نظرنا فيما تلقيناه من الشريعة، ونورد) (¬8) ذلك بمبلغ الوسع على غاية التنقيح والتحقيق حتى يكون الكلام الذي أودعناه فيه مستقلا بنفسه. ¬

(¬1) في (أ): صلى. (¬2) في (ب): على سيدنا. (¬3) من (ب). (¬4) من (ب). (¬5) في (ب): وإذا. (¬6) سقطت من (ب)، وكتبت في هامش (أ) وعليها علامة التصحيح. (¬7) في (ب): ذلك، وهو خطأ. (¬8) ما بين القوسين سقط من (ب).

على أن الخوض في المعاني المتعلقة بذلك لإبراز الحق فيه عويص المأخذ، عسير المدرك، لكونه غير مسلوك، إذ لا نعلم أحدا (¬1) سبقنا إلى الكلام فيما تضمنه القسمان المذكوران على نحو الغرض الذي سلكناه فيهما، حاشى الأطفال، فإن الكلام فيهم موجود للعلماء، حسبما يأتي ذلك في موضعه. وقد رأينا أن نقدم هذا القسم لتتميم الكلام في بني آدم، ثم نعقبه بذكر الجن إن شاء الله، فنقول والله الموفق للصواب: ¬

(¬1) في (ب): أحد، وهو خطأ.

القسم الأول: فيمن لم يلزمه التكليف

القسم الأول: فيمن لم يلزمه التكليف هذا القسم يشتمل على أربعة أبواب: - باب في المجانين. - وباب في أهل الفترة. - وباب في من لم تبلغه الدعوة. - وباب في الصبيان والأطفال.

الباب الأول: في حكم المجانين

الباب الأول: في حكم المجانين المجانين هم الذين عدموا العقلَ والتمييزَ، وهم على ضربين: أحدهما: من به جنون مطبق لا يصحو منه ساعة، فهذا غيرُ مخاطَب، لأنه لا يتأتى (¬1) له فهم الخطاب بحال، ومن لا يتأتى له فهم الخطاب ولا العلمُ بمواقع الكلام لعدم العقل فتكليفه العملَ بالشرائع محال. (ق.80.ب) الضرب الثاني: المجانين الذين يصحون في بعض الأوقات، فهؤلاء مخاطبون (¬2) في حين صحوهم وفهمهم للخطاب، ثم يسقط عنهم في حين جنونهم، لوجود شرط التكليف الذي هو العقل في وقت صحوهم، وعدمه في وقت جنونهم. قال رسول الله صلى الله (عليه وسلم: «رفع القلم عن) (¬3) ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» (¬4). ¬

(¬1) في (ب): يأتي. (¬2) في (ب): المخاطبون. (¬3) ما بين القوسين من (ب)، وفي (أ) كتب في الهامش، وبه بتر. (¬4) رواه أبو داود (4398) والنسائي (3432) وابن ماجه (2041) وأحمد (6/ 100 - 101 - 144) والدارمي (2211) وابن حبان (142) وابن الجارود (148 - 808) والحاكم (2350) والبيهقي (6/ 84 - 206) (8/ 41) - (10/ 317) جميعا من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة. ... = = وسنده حسن للخلاف في حماد بن أبي سليمان. وفي الباب عن علي وأبي قتادة وأبي هريرة وثوبان وابن عباس وغيرهم، راجعها في الإرواء (2/ رقم 297) ونصب الراية (4/ 164).

ونزيد ما قلناه بيانا فنقول: الضرب الذي به الجنون المطبق لا يخلو مَجانينه من أمرين: إما أن يُجن أحدهم قبل البلوغ، وإما أن يجن بعد البلوغ. فأما من جُن قبل البلوغ وبقي كذلك بعد البلوغ إلى أن مات فلا يخلو أن يكون وُلد بين أبوين مؤمنين أو أبوين كافرين. فإن كان ولد بين أبوين مسلمين فحكمه حكمهما في الدنيا والآخرة، غير أنه لا يحاسب لكونه غير مكلف، ولا يعذب لكونه غير مذنب، وإذا لم يعذب فلا يكون في النار أصلا، لأن النار إنما تدخل على وجه العقاب، وهذا لا عقوبة عليه. وإذا لم يدخل النار فهو في الجنة، إذ ليس في الآخرة موضع استقرار حاشى هاتين الدارين، فمن لم يكن في إحداهما لزم أن يكون في الأخرى. وإن كان الذي جُن قبل البلوغ ولد بين أبوين كافرين فحكمه حكم صبيان أهل الشرك، لأنه جن قبل بلوغه وهو صبي، وبقي كذلك بعد البلوغ إلى أن مات، وسيأتي الكلام على حكم صبيان المشركين في الآخرة في الباب الرابع بحول الله. وأما من جُن بعد أن لزمه التكليف بالبلوغ وبقي كذلك إلى أن مات فلا يخلو أن يكون قبل جنونه مؤمنا أو كافرا:

- فإن كان مؤمنا حشر مع المؤمنين، وكان مطلوبا في حين إيمانه ولزوم التكليف له قبل الجنون بما يطلب به سائر المؤمنين من امتثال الأوامر واجتناب النواهي، ويتبع ذلك الطلب في الآخرة بما يطلب به سائر المؤمنين أيضا من الحساب والقصاص والموازنة ثم يكون مآله في (¬1) الجنة. - وإن كان كافرا حشر مع الكفار، وكان مطلوبا في حال كفره ولزوم التكليف له قبل الجنون بما يطلب به سائر الكفار ويتبع ذلك العقوبة والتخليد في النار، لأن الجنون إنما نزل به بعد أن كان بالغا كافرا، فإذا سقط عنه الإثم في حال الجنون بارتفاع القلم عنه بقي عليه الإثم الذي لزمه من الكفر قبل الجنون، فكان مطلوبا به، وكان حكمه حكم الكفار. إذ لا فرق بعد لزوم التكليف له بين أن يخترم بالمنية، أو يطرأ عليه الجنون المطبق الذي لا يفيق منه مدة حياته. وهكذا (ق.81.أ) القول في المجانين الذين يصحون في بعض الأوقات من البالغين، فإنهم إن كانوا في حال صحوهم مؤمنين فهم مؤمنون، وإن كانوا كفارا فهم كفار، ودخولهم الجنة أو النار تابع لحكم الإيمان والكفر. ¬

(¬1) من (ب).

الباب الثاني: في حكم أهل الفترة

الباب الثاني: في حكم أهل الفترة: وأهل (¬1) الفترة هم الناس الذين يكونون بين أزمنة الرسل، كما بين زمن عيسى ومحمد صلى الله عليهما (وسلم) (¬2)، إذ لم يكن بينهما رسول إلى الخلق، قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ} [المائدة: 19]. وقال نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم، الأنبياء أولاد علات، وليس بيني وبين عيسى نبي» (¬3). وإذا ثبت هذا، فكل من كان بينهما من الأمم الذين لم يبعث إليهم عيسى - عليه السلام - لا يلزمهم التكليف، إذ لا خطاب، وإذا لم يخاطبوا بالشريعة ولا لزمهم التكليف فهم غير معاقبين ولا معذبين. ¬

(¬1) في (ب): أهل. (¬2) من (ب). (¬3) رواه البخاري (3258 - 3259) ومسلم (2365) وأبو داود (4675) وأحمد (2/ 319 - 406 - 437 - 463 - 482 - 541) وابن حبان (6194 - 6195 - 6406) وابن أبي شيبة (8/ 660) والحاكم (4153) والطيالسي (2575) عن أبي هريرة.

قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]. فأخبر أن العذاب وإهلاك الخلق لا يكون إلا بعد بعث الرسل وإقامة الحجة على المرسل إليهم بتبليغ (¬1) الرسالة لهم (¬2)، وهو معنى قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ... [القصص: 59]، فمن لم يؤمن بها حينئذ فقد استحق أن يسمى ظالما، وإذا كان ظالما استحق الإهلاك والعذاب. كما أن من لم يبعث إليه رسول في الدنيا لم يلزمه تكليف كما تقدم. وإذا لم يلزمه تكليف لم يستحق العذاب، على أنه قد جاء عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬3) في هذا الباب أحاديث يجب التنبيه عليها. ذكر البزار من حديث الأسود بن سريع عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬4) قال: «يعرض على الله تعالى الأصم الذي لا يسمع شيئا والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة، فيقول الأصم: رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا، ويقول الأحمق: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا، ويقول الذي مات في الفترة: ¬

(¬1) في (ب): بإبلاغ. (¬2) في (ب): إليهم. (¬3) في (أ): - عليه السلام -. (¬4) في (أ): - عليه السلام -.

رب ما أتاني لك من رسول، قال: فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه (¬1)، فيرسل الله تعالى إليهم: ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما» (¬2). ¬

(¬1) في (ب): ليطيعونه. (¬2) رواه أحمد (4/ 24) وابن حبان (7357) والطبراني في الكبير (1/ 287) وابن راهويه في مسنده (41) والبيهقي في الاعتقاد (169) من طريق قتادة عن الأحنف بن قيس عنه. قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح. لكن قتادة مدلس وقد عنعن، لكنه توبع. فرواه أحمد (4/ 24) وابن راهويه في مسنده (41) من طريق معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة. والحسن هو البصري مدلس كذلك. لكنه متابع هو الآخر، تابعه علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة. رواه ابن أبي عاصم في السنة (404) وابن راهويه في مسنده (514). وعلي بن زيد هو ابن جدعان ضعيف. ورواه ابن جرير في تفسيره (8/ 50 - 51) عن معمر عن قتادة وهمام عن أبي هريرة موقوفا. وللحديث شواهد كثيرة. منها: عند أبي يعلى في مسنده (4224) والبيهقي في الاعتقاد (169) عن أنس بن مالك، لكن فيه ليث بن أبي سليم ضعيف. ومنها: عند ابن الجعد في مسنده (2038) وابن جرير في تفسيره (8/ 481) عن أبي سعيد. لكن فيه عطية العوفي ضعيف. ومنها: عن معاذ بن جبل رواه الطبراني في الأوسط (7955) والكبير (20/ 83). وفيه عمرو بن واقد، متروك، وبه أعله الهيثمي في المجمع (7/ 216 - 217). ... = = والحاصل أن الحديث حسن بطرقه على أقل الأحوال، وصححه الألباني في الصحيحة (1434) وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 246): وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة. وهذا الإطلاق فيه نظر لما تقدم. وقد ذهب ابن عبد البر إلى تضعيف أحاديث الامتحان، وتابعه القرطبي في تفسيره (10/ 232)، ورد عليهما ابن كثير في تفسيره، فراجعه (3/ 29).

وذكر نحوه من حديث أبي هريرة وزاد في آخره: ومن لم يدخلها دخل النار. وذكر ابن سنجر (¬1) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود، قال: «يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب (ق.81.ب) ولا رسول ثم تلا: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} [طه: 134] إلى آخر الآية، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا. ويقول المولود: رب لم أدرك العقل. قال: فترفع لهم نار، فيقال ردُوها وادخلوها. قال: فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل قال: فيقول الله عز وجل: إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم». ¬

(¬1) هو محمد بن عبد الله بن سنجر الجرجاني صاحب المسند (المتوفى سنة 258). انظر ترجمته في طبقات الحفاظ (258).

وهذا الحديث ذكره أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (¬1)، وقال: من الناس من يوقفه على أبي سعيد ولا يرفعه، وذكر من طريق فيه لين عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤتى يوم القيامة بأربعة: بالمولود وبالمعتوه وبمن مات في الفترة وبالشيخ الفاني الهرم (¬2) كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعين من جهنم: ابرزي، ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، قال فيقول لهم: ادخلوا هذه. فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أنَّى ندخلها ومنها كنا نفر. قال: وأما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها. فيقول الرب تبارك وتعالى: قد عاينتموني فعصيتموني، وأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار». وذكر أبو عمر نحو ذلك من حديث معاذ بن جبل، ولم يذكر حديث الأسود بن سريع، لكنه قال (¬3): قد روي هذا المعنى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث الأسود بن سريع (¬4) وأبي هريرة وثوبان بأسانيد صالحة من أسانيد الشيوخ، وليس في شيء منها ذكر المولود، وإنما فيها ذكر أربعة كلهم يوم القيامة يدلي بحجته (¬5): رجل أصم أبكم ورجل أحمق ورجل مات في الفترة ورجل هرم. ¬

(¬1) (18/ 128) بنحوه. (¬2) في النسختين: الهم، والمثبت من التمهيد. (¬3) (18/ 130). (¬4) زاد هنا في (ب): لا، وهو خطأ. (¬5) في (ب) زيادة: "أربعة"، وهو تكرار.

ثم قال أبو عمر (¬1): جملة القول في أحاديث هذا الباب أنها من أحاديث الشيوخ، وفيها علل، وليست من أحاديث الأئمة، والقطع في هذا الباب بمثل هذه الأحاديث ضعيف في النظر، مع أنه قد عارضها ما هو أقوى مجيئا منها. ذكر ابن عبد البر هذا في باب أبي الزناد من التمهيد عندما تكلم على الصبيان في قوله - عليه السلام -: «كل مولود يولد على الفطرة». ونحن لم نذكر هذه الأحاديث إلا ليقف عليها الناظر ويعلم أنا لم نغفل ذكرها فيكون كلامنا على حكم من سمي فيها من أهل الفترة وغيرهم بعد إيرادها لئلا يعترض معترض بها، ويعتقد أنا لم نقف عليها. وإذ تقدم ذكرها والتنبيه على ما لم نذكر منها، فنقول: إن قاعدة الشرع (ق82.أ) ترد هذه الأحاديث من وجهين: أحدهما: نص القرآن في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وما كان مثله. فإن الله تعالى أخبر فيه بأن العذاب إنما يقع على من قامت عليه الحجة في الدنيا ببعث الرسل إليهم. والذين ذكروا في الأحاديث المتقدمة فيهم من لم تقم عليه الحجة لعدم الشرع، وفيهم من لا تقوم عليه الحجة أصلا وإن كانت الشريعة قائمة وهو المولود والأحمق. فإن العقل الذي يتأتى به فهمُ الخطاب شرط في التكليف، كما تقرر ¬

(¬1) (18/ 130).

في الأصول، وذلك منتف في المولود والأحمق، نعم وفي الأصم الأبكم، لاسيما إذا اتفق أن يكون مع ذلك أعمى، إذ لا طريق له إلى فهم شيء لا بإشارة ولا بغيرها. الثاني: إن الآخرة ليست دار تكليف، وإنما هي دار جزاء على ما ترتب على التكليف من العمل في الدنيا. وإنما لم تكن الآخرة دار تكليف لكونها محلَ المعاينة وموضعَ الكشف للأمور التي كانت مطلوبة بالإيمان في الدنيا، من حيث كان الإيمان بالغيب مقصودا من الشرع، ولذلك أثنى الله تعالى على المؤمنين به. وإذا كان آخر الزمان وظهر بعض الآيات المؤذنة بقرب الساعة مثل طلوع الشمس من مغربها لا ينفع نفسا إيمانها حينئذ، فكيف ينفع ذلك في نفس الآخرة وقد حق الثواب والعقاب على المؤمن والكافر معاينة، نعم وفي الدنيا نفسها لم ينفع الأمم السالفة إيمانهم عند معاينة العذاب. قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 83]. فأخبر سبحانه أن الأمم الذين لم يؤمنوا برسلهم قبل معاينة العذاب لم ينفعهم الإيمان بما جاؤوهم به عند معاينة العذاب، وأن ذلك هو سنته

المطردة في عباده، ولم يستثن من ذلك أمة إلا قوم يونس، فإنه لما ذكر فرعون وأخبر عنه أنه لم ينفعه إيمانه عند المعاينة بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]. فرد عليه (¬1) قوله وقيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] مضى سبحانه في الكلام إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}. ثم قال: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 96]. فاستثنى قوم يونس ممن لم ينفعه إيمانه، وأخبر أن قوم يونس لما آمنوا أزال عنهم العذاب الذي كان ينزل بهم لولا الإيمان. ويشبه أن يكون إيمان قوم يونس كان عندما شعروا بالعذاب ورأوا مخائله، فبادروا حينئذ إلى الإيمان (¬2) قبل المعاينة التي تكون معها مباشرة العذاب. وإنما قلنا هذا التأويل لتبقى لنا الآيات المتقدمة محفوظة على ظاهرها من عدم الانتفاع بالإيمان عند معاينة البأس والعذاب، إذ أعلمنا تعالى بأن ذلك سنته في عباده. ¬

(¬1) في (ب): عليهم، وهو خطأ. (¬2) في (ب): حينئذ بالإيمان.

وهكذا جاء في شرعنا أيضا، فإن الإيمان والتوبة لا ينتفع المكلف منا بهما عند المعاينة للموت في حين الغرغرة والحشرجة، وذلك كله باب مطرد، لأن معاينة الموت في هذه الشريعة يتنزل منزلة معاينة العذاب للأمم الخالية. فإذا تقرر بما تقدم أن الإيمان لا ينفع في الدنيا عند المعاينة فكيف ينفع ذلك في الآخرة عند المعاينة التامة المحيطة بكل كشف وبيان حتى يستوي في إدراك ما هنالك جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم. وقد أخبر الله تعالى أن الكفار لا يقبل منهم شيء في الآخرة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران: 91]. وكذلك أخبر الله تعالى في المنافقين أنه لا يقبل منهم شيء، إذ ذكر مخاطبتهم للمؤمنين بقوله: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 14]. ولعلم الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان في الآخرة تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا فيها قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27].

وإذا ثبت أن الكفار والمنافقين لا ينفعهم هنالك إيمان، ولا يقبل منهم ما عسى أن يفتدوا به، وأن المذنبين من المؤمنين لا تتأتى لهم هنالك توبة تسقط بها الذنوب عنهم. فكيف تصح تلك الأحاديث الموجبة على من لم يلزمه التكليفُ في الدنيا التكليفَ في الآخرة، حتى يلزمَ قوما عن ذلك التكليف الثوابُ بدخول الجنة لامتثال الأمر، ويلزمَ آخرين العقابُ بدخول النار المخلد فيها أهل الكفر، لتوقفهم عن امتثال الأمر، إذ جميعهم مأمور باقتحام النار التي تُجعل لهم على وجه الامتحان، وذلك هو معنى التكليف، وقد صح أن لا تكليف في الآخرة. وإذا اندرأت تلك الأحاديث بمجموع ما ذكرناه مع كونها ليست بالصحيحة في أسانيدها، فنرجع إلى قاعدة الشرع. فنقول: إن التكليف غير لازم لأهل الفترة، إذ لا خطاب عندهم، لعدم الرسل إليهم، والتكليف قد ثبت أنه لا يلزم إلا من قامت الحجة عليه والإنذار له. وإذا لم يكونوا مكلفين لم يلزمهم عذاب في الآخرة، وإذا لم يكونوا معذبين فلا يدخلون النار يوم القيامة أصلا، لأن دخول النار إنما هو جزاء بالعذاب على الكفر والمعاصي، وأهل الفترة لا كفر عندهم لعدم إقامة الحجة عليهم، وإذا لم يدخلوا النار دخلوا الجنة، لأنهم باقون على أصل الفطرة وداخلون في آية عهد الذر، حيث قال الله لبني آدم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. وأيضا فقد قلنا إنه ليس في القيامة موضع استقرار حاشى هاتين

الدارين، فمن لم يكن في إحداهما لزم أن يكون في الأخرى. هذا قولنا في أهل الفترة على الجملة، وبقي لنا فيهم تفصيل أوجبه علينا ورود أحاديث صحيحة بتعذيب بعض من كان في الفترة كقوله - عليه السلام -: «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار» (¬1). وكقوله: «رأيت صاحب المحجن في النار وهو الذي كان يسرق الحاج بمحجَنه، فإذا فُطن له قال إنما تعلق بمحجني» (¬2). وكقوله - عليه السلام - للسائل: «إن أبي وأباك في النار» (¬3). ومن هذا الباب كون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬4) سأل ربه في زيارة قبر أمه والاستغفار لها فأذن له في زيارتها ولم يأذن له في الاستغفار لها (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (3333) ومسلم (2856) وأحمد (2/ 275 - 366) وابن حبان (7490) والبيهقي (6/ 163 - 10/ 9) وأبو يعلى (6121) عن أبي هريرة. ورواه البخاري (4348) وعبد الرزاق (3/ 99) عن عائشة. (¬2) رواه مسلم (904) عن جابر. ورواه النسائي (1482) وأحمد (2/ 159) وابن خزيمة (1392) وابن حبان (2838 - 5622 وغيرها) عن عبد الله بن عمرو. (¬3) رواه مسلم (203) وأبو داود (4718) وأحمد (3/ 119 - 268) وابن حبان (578) وأبو عوانة (289) والبيهقي (7/ 190) وأبو يعلى (3516) عن أنس. وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص وعمران بن حصين. (¬4) في (أ): - عليه السلام -. (¬5) رواه مسلم (976) وأبو داود (3234) والنسائي (2034) وابن ماجه (1572) وأحمد (2/ 441) وابن حبان (3169) والحاكم (1/ 531) والبيهقي (4/ 70 - 76 - 7/ 190) وابن أبي شيبة (3/ 223) وأبو يعلى (6193) عن أبي هريرة.

ولنا في الجواب عن هذه الأحاديث وما كان مثلها طرق: أحدها: إن المسألة التي نحن بصددها قطعية، إذ دلت قواطع الشرع على أن العذاب لا يكون لمن لم تقم عليه الحجة وأهل الفترة لم تقم عليهم الحجة أصلا. (ق.83.ب) فأخبار الآحاد الواردة بتعذيبهم وإن صحت غير مفيدة في ذلك (¬1). الثاني: أن نقصر العذاب على من ورد (عليه فنقول: كل من كان من أهل الفترة فلاعذاب عليه، إلا من جاء) (¬2) النص في حقه بأنه يعذب (من أهل الفترة) (¬3)، (فنقصر ذلك عليه) (¬4) كعمرو بن لحي، فإنا نقول: إنه من أهل النار لإخبار الشرع عنه بذلك من غير أن نلتزم (¬5) معرفة السبب فيه، ولا نقول ذلك في غيره من أهل الفترة إلا من جاء النص أيضا فيه بعينه فنقف عنده. الثالث: أن نقسم أهل الفترة تقسيما نثبت به (¬6) فيهم قسما تُحمل تلك الأحاديث عليه، على وجه يليق به ويتمكن فيه، فنقول: ¬

(¬1) قد تقدم بيان ما في هذا الإطلاق من النظر. وأخبار الآحاد حجة في العقائد والأحكام عند أهل السنة. (¬2) من (ب)، وسقط من (أ). (¬3) سقط من (ب). (¬4) من (ب)، وسقط من (أ). (¬5) كذا في (ب)، وفي (أ): يلتزم. (¬6) سقط من (ب).

أقسام أهل الفترة

(أقسام أهل الفترة) (¬1) إنهم ينقسمون إلى أربعة أقسام: القسم الأول: قوم أدركوا الحق ببصيرتهم ووحدوا الله تعالى في جاهليتهم، وأقروا بالبعث من غير أن يكونوا متبعين لشريعة من تقدمهم كقُس (¬2) بن ساعدة، فحديثه في ذلك مشهور وخطبته بسوق عكاظ مشهورة (¬3) محفوظة. (¬4) ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) وهو بضم القاف، كما في الإكمال (7/ 93). (¬3) من (ب). (¬4) رواه ابن عدي في الكامل (6/ 145) والطبراني في الكبير (12/ 88) والخطيب في التاريخ (2/ 281) والبيهقي في الدلائل (2/ 104) والبزار في مسنده (2759 - مختصر زوائده) وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 213) من طريق محمد بن الحجاج اللخمي عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس. لكن محمد بن الحجاج كذاب، كذبه الدارقطني وابن معين وغيرهما، ومجالد ضعيف. ورواه أبو نعيم في الدلائل كما في البداية والنهاية (2/ 237) من طريق طريف بن عبيد الله الموصلي عن يحيى الحماني عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود. وطريف والحماني ضعيفان. وقد عد ابن حجر في اللسان (3/ 208) في ترجمة طريف هذا الحديث من مناكيره. وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 213). وقال الأزدي: هذا حديث موضوع لا أصل له. تاريخ بغداد (2/ 281). ... = = ورواه البيهقي في الدلائل (2/ 101) ومن طريقه ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 236 - 237) من طريق سعيد بن هبيرة عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس. وفيه سعيد بن هبيرة قال عنه ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات كأنه يضعها أو توضع له. وللحديث طرق عديدة لاتخلو من ضعف، ذكر بعضها ابن القيم في فوائد حديثية (103)، وزاد عليه طرقا عديدة محققاه، فراجعه لزيادة الفائدة. ومال ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 236) إلى تقوية الحديث لكثرة طرقه. وحسنه السيوطي، كما في تنزيه الشريعة (1/ 242 - 243). وحكم بوضعه الأزدي وابن الجوزي كما تقدم. ولعلهما لم يقفا على جميع طرقه فحكما بوضعه, والحديث دائر بين الضعف والحسن، وأما الحكم بوضعه فبعيد. والله أعلم.

وقد روي أن النبي - عليه السلام - سمعها منه حينئذ، وذلك قبل المبعث (¬1)، وجاء عنه - عليه السلام - من بعض الطرق: «إنه يبعث أمة وحده» (¬2). وصح عن النبي - عليه السلام - أنه قال ذلك في زيد بن عمرو بن نفيل (¬3)، ولم يدخل زيد في اليهودية ولا في النصرانية، وإنما كان موحدا يطلب دين إبراهيم - عليه السلام -. ¬

(¬1) في (ب): البعث. (¬2) رواه ابن بشكوال في غوامض الأسماء المبهمة (2/ 673 - 674)، وفيه من لم أعرفه. ورواه ابن درستويه في أخبار قس، ومن طريقه ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 236) مطولا. وقال ابن كثير عقبه: وهذا الحديث غريب جدا من هذا الوجه، وهو مرسل، إلا أن يكون الحسن سمعه من الجارود. قلت: وفي سنده مبهم. (¬3) رواه الحاكم (4956) والبزار (1331) وأبو يعلى (7212) والطبراني في الكبير (5/ 86 - 88) من طرق عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد عن أبيه. ... = = وسنده حسن، وصححه الحاكم على شرط مسلم. ورواه أبو يعلى (973) قال: ثنا مصعب الزبيري ثنا الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد. ورواه الشاشي (227) من طريق مصعب الزبيري به. قال الهيثمي في المجمع (9/ 417): إسناده حسن. قلت: عبد الرحمن بن أبي الزناد متكلم فيه، لكن قال ابن المديني: حديثه بالمدينة مقارب، وما حدث به بالعراق فهو مضطرب. ونحوه لأبي زرعة والفلاس. قلت: والضحاك بن عثمان مدني، فالسند حسن. ورواه أحمد (1/ 189) والطيالسي (234) والبيهقي في الدلائل (2/ 124) والبزار (1268) والطبراني في الكبير (1/ 151) من طريق المسعودي عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد عن أبيه عن جده. لكن نفيلا وأباه انفرد ابن حبان بتوثيقهما. والمسعودي اختلط، لكن الراوي عنه عند الطبراني: عبد الله بن رجاء، روى عنه قبل الاختلاط. وله شاهد عن جابر عند أبي يعلى (2047) لكن في سنده مجالد، وهو مشهور بالضعف. ومع هذا قال ابن كثير في البداية (2/ 245): إسناده جيد حسن. وقال ابن كثير (2/ 246): وقال الباغندي: عن أبي سعيد الأشج عن أبي معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين: وهذا إسناد جيد، وليس هو في شيء من الكتب. انتهى.

ذكر ابن إسحاق في السير (¬1) أن قريشا اجتمعت يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون به، وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوما، فخلص منهم أربعة نفر نجيا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، قالوا: أجل، وهم ورقة ¬

(¬1) انظر السيرة لابن إسحاق (1/ 140).

ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وعبيد الله بن جحش بن رياب حليف بني أمية بن عبد شمس، وكانت أمه أميمةَ بنتَ عبد المطلب، وزيدُ بن عمرو بن نفيل. فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، يا قوم التمسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفيةَ دينَ إبراهيم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأما ورقة بن نوفل (¬1) فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب. وأما عبيد الله بن جحش (¬2) فأقام على ما هو عليه من الالتباس (ق84.أ) حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة، فلما قدمها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانيا. وأما عثمان بن الحويرث (¬3) فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده. وأما زيد بن عمرو بن نفيل (¬4) فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح ¬

(¬1) انظر ترجمته في الإصابة (6/ 607) وابن قانع (2/ 323). (¬2) انظر الاستيعاب (3/ 877) والطبقات الكبرى (3/ 89). (¬3) انظر السيرة لابن إسحاق (1/ 141) والبداية والنهاية (2/ 248). (¬4) انظر الإصابة (2/ 613).

على الأوثان ونهى عن قتل الموءودة، وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادأ قومه بعيب ما هم عليه. وقال زيد في ذلك (¬1): أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تُقسمت الأمور عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجَلد الصبور فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور ولا غنما (¬2) أدين وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي يسير ولكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الربُ الغفور فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها لا تبور ترى الأبرار دارُهم جنان ... وللكفار حامية سعير وخزي في الحياة وإن يموتوا ... يلاقوا ما تضيق به الصدور وقال أيضا من أبيات أخر (¬3): إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا ... وقولا رصينا لا يني الدهر باقيا إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه ... إله ولا رب يكون مدانيا ألا أيها الإنسان إياك والردى ... فإنك لا تخفي من الله خافيا وإياك لا تجعل مع الله غيره ... فإن سبيل الرشد أصبح باديا ¬

(¬1) انظر السيرة لابن إسحاق (1/ 142) والبداية والنهاية (2/ 246). (¬2) في السيرة: هبلا. (¬3) انظر السيرة لابن إسحاق (1/ 141 - 142) والبداية والنهاية (2/ 246).

حنانيك إن الجن كانت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا رضيت بك اللهم ربا فلن أرى ... أدين إلها غيرك الله ثانيا فرب العباد ألق سيبا ورحمة ... علي وبارك في بني وماليا وقد اختصرنا شعر زيد هذا والذي قبله، وإنما سقناهما لكون كل واحد منهما يدل على توحيده. (ق.84.ب) قال ابن إسحاق (¬1): وكان الخطاب بن نفيل عم زيد وأخاه لأمه فعاتبه على فراق دين قومه، وآذاه حتى أخرجه إلى أعلى مكة، فنزل حراء مقابل الكعبة ووكل به الخطاب شبابا من شباب قريش وسفهاء من سفهائهم، فقال لهم: لا تتركوه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقه. قال: ثم خرج زيد يطلب دين إبراهيم ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كلها حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحَق بها، فإنه مبعوث الآن هذا زمانه، وقد كان شام اليهودية والنصرانية فلم يرض شيئا منهما، فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه. ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 144) بأطول مما نقل المصنف هنا.

قال ابن إسحاق: وحدثت أن ابنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمر بن الخطاب وهو ابن عمه قالا لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنستغفر لزيد بن عمرو؟ قال: «نعم، فإنه يبعث أمة وحده» (¬1). فانظر إلى هؤلاء الأربعة كيف أدركوا بعقولهم في الجاهلية أن قومهم ليسوا على شيء وأن الأوثان لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ففارقوا ملة قومهم حينئذ، ولا يبعد أن يكون في العرب من فعل ذلك ووحد الله تعالى من غير اتباع شريعة، ولم ينقل إلينا حديثه. وإذا صح لنا ذلك في واحد منهم ممن نقل إلينا أمره وهو قس بن ساعدة، فقد صح لنا به وجود هذا القسم الأول، وأما الأربعة المذكورون ما عدا زيد بن عمرو (فهم من أهل القسم الثاني الذي يأتي بعد هذا، وفيه نتكلم عن الثلاثة منهم. وأما زيد بن عمرو) (¬2) فقد زاد على قُس بطلب دين إبراهيم واتباعه على قدر وسعه، واستفراغ جهده، وإن لم تكن هنالك ملة قائمة، ومن أجل هذا جعلنا زيد بن عمرو في هذا القسم. ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 141). ورواه أحمد (1/ 189) والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 124) والطيالسي (234) والبزار (1268) والطبراني في الكبير (1/ 151) من طريق نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي عن أبيه عن جده. ونفيل وهشام انفرد ابن حبان بتوثيقهما. وقد تقدم قريبا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يبعث أمة وحده»، من طرق صالحة. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب).

وحديثه في اتباع دين إبراهيم صحيح، ذكر البخاري (¬1) عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم (ق.85.أ) فقال: إني لَعَلّي أن أدين دينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنى أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟، قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف: قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم. وذكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا ¬

(¬1) صحيح البخاري (3/ص1391، رقم 3614).

تقتلها أنا أكفيك مؤنتها فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها (¬1). وذكر ابن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر نحوا من أول هذا الحديث، ولفظه: قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكن لا أعلمه ثم يسجد على راحته (¬2). قال ابن إسحاق (¬3): وحدثت عن بعض أهل زيد بن عمرو بن نفيل أن زيدا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم مستقبل الكعبة وهو قائم، إذ قال: أنفي لك عان راغم (¬4)، مهما تجشمني فإني جاشم. ¬

(¬1) علقه البخاري (3616) عن الليث كتب إلي هشام عن أبيه عن أسماء. ووصله زغبة في حديثه عن الليث، كما في الفتح (7/ 145). وأخرجه الحاكم (5859) من طريق أبي أسامة عن هشام به. وصححه على شرطهما. وكذا رواه الطبراني في الكبير (24/ 82) من طريق إسماعيل بن أبي أويس ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام به مختصرا. وإسماعيل لا يعتمد. (¬2) قال ابن إسحاق في السيرة (1/ 141): وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء. وهذا سند حسن. (¬3) (1/ 144) والبداية والنهاية (2/ 243 - 244). (¬4) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي.

وذكر البخاري (¬1) عن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح (¬2) قبل أن ينزل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوحي فقدمت إلى (¬3) النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه. وإن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله، إنكارا (ق.85.ب) لذلك وإعظاما له (¬4). فانظر إلى توفيق زيد بن عمرو رحمه الله في كل ما نسب إليه من الأفعال في زمن الفترة كيف وافق في ذلك الشريعة التي جاء بها محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيحق أن يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬5) بالاستغفار له، ويقول: إنه يبعث أمة وحده، من حيث كان مؤمنا على دين إبراهيم وحده من بين قومه قريش. وذكر المسعودي زيد بن عمرو في كتاب (¬6)، وقال: إنه لما سار إلى الشام فبحث (¬7) عن الدين سمته النصارى فمات بالشام، وقد تقدم لابن إسحاق خلاف هذا، وهو أن لخما قتلوه ببلادهم. ¬

(¬1) رواه البخاري (3614 - 5180) وأحمد (2/ 68 - 89 - 127) والبيهقي في السنن (9/ 249) والدلائل (2/ 120 - 122) عن ابن عمر. (¬2) هو واد قبل مكة من جهة المغرب، كما في معجم البلدان (1/ 480). (¬3) في (ب): على. (¬4) سقط "له" من (ب). (¬5) في (أ): - عليه السلام -. (¬6) مروج الذهب (1/ 56). (¬7) في (ب): يبحث.

وقد وجدنا من كان في الجاهلية على نحو مما كان عليه زيد بن عمرو، وهو أبو قيس صرمة بن أبي أنس أخو بني عدي بن النجار، ذكره ابن إسحاق (¬1) وقال: كان رجلا ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض، وهمَّ بالنصرانية ثم أمسك عنها، ودخل بيتا له فاتخذه (¬2) مسجدا، لا يدخله عليه طامث ولا جنب، وقال: أعبد رب إبراهيم. فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة أسلم فحسن إسلامه وهو شيخ كبير، قال: وكان قوالا بالحق معظما لله في جاهليته، يقول في ذلك أشعارا حسانا. وذكر ابن إسحاق (¬3) بعضها. فأبو قيس لو مات في الجاهلية لكان حكمه حكم زيد بن عمرو، وأما وقد عاش حتى أسلم فهو من أهل هذه الملة. ¬

(¬1) (2/ 115). (¬2) في (ب): فاتخذ. (¬3) في (ب): مسعود، وهو خطأ.

القسم الثاني من أهل الفترة

القسم الثاني من أهل الفترة: قوم تدينوا بشريعة قائمة الرسوم مقررة الأحكام من الشرائع المتقدمة كمن تهود أو تنصر في الجاهلية (¬1). فأما من تهود فمثل تبع أبي كرب وقومه من حمير، فقد ذكر ابن إسحاق (¬2) أن أبا كرب لما قدم المدينة في سفرة سافرها فقتل ابنه بها غيلة قاتل أهلها وقصد لإخرابها وقطع نخلها، فمنعه حبران عالمان من أحبار اليهود من بني قريظة، وقالا له: لا تفعل أيها الملك فإنه يحال بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فقال: ولم ذاك؟ قالا له: هي مهاجَر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش تكون دارَه وقرارَه، فانتهى عن ذلك واتبعهما على دينهما. وكان تبع وقومه أصحابَ أوثان يعبدونها، فحمل الحبرين معه إلى اليمن بعد أن اجتاز بمكة فعظم البيت وطاف به ونحر عنده وحلق رأسه، وكان (ق86.أ) ذلك بإشارة الحبرين له به، ثم كساه وأوصى بذلك ولاته من جُرهم وأمرهم بتطهيره وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا مئلاة (¬3)، وهن المحايض، وجعل له بابا ومفتاحا. ¬

(¬1) هذه الفقرة هكذا جاءت في (ب): من دخل منهم في شريعة من تقدم من الأنبياء، إذا كانت تلك الشريعة قائمة الرسوم معلومة الأحكام كمن تهود أو تنصر في الجاهلية. (¬2) السيرة النبوية (1/ 16 - 18)، وهي قصة طويلة، وقد اختصرها المصنف هنا. (¬3) في النسختين: ميلاتا. وفي لسان العرب أن المئلاة خرقة الحائض.

وكان تبع هذا أول من كسا البيت فيما يزعمون، فلما وصل إلى اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن، فلما فعلوا ذلك وأكلت النار الأوثان ومن حملها ولم تضر الحبرين شيئا، أصفقت عند ذلك حمير على دينه، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن، وهذه القصة عن أبي كرب في السير أطول من هذا. وذكر المسعودي (¬1) أن أسعد أبا كرب هذا آمن بالنبي - عليه السلام - قبل مبعثه بسبع مائة عام وقال: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله بارئ النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم وأما من تنصر من أهل الفترة فمثل أهل نجران وغيرهم، قال ابن إسحاق (¬2) عند ذكر ذي نواس: كان بنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم على الإنجيل أهل فضل واستقامة في دينهم لهم رأس يقال له عبد الله بن الثامر، وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها، أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له فيمِيُون وقع بين أظهرهم فحملهم عليه فدانوا به. ¬

(¬1) مروج الذهب (1/ 55). (¬2) السيرة النبوية (1/ 23).

وذكر (¬1) عن وهب بن منبه أن فيميون كان من بقايا أهل دين عيسى ابن مريم - عليه السلام -، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة وكان سائحا ينزل القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده وكان بناءا يعمل الطين، وكان يعظم الآحاد، إذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئا، وخرج إلى فلاة من الأرض فصلى فيها حتى يمسي. وذكر قصة طويلة في حصوله بنجران، وأنه وجدهم على دين العرب يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم وقال لهم فيميون: إنما أنتم في باطل، هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، ولو دعوت عليها إلاهي الذي أعبد لأهلكها، وهو الله وحده (¬2) لا شريك له، وذكر أنه لما دعا عليها أرسل الله عليها ريحا فجعفتها من أصلها فألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه فحملهم على الشريعة من دين عيسى بن مريم (ق.86.ب) - عليه السلام -، ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب. وذكر ابن إسحاق طريقا آخر في قصة أهل نجران، وقال في آخر ذلك (¬3): واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى من الإنجيل وحكمه. ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 23). (¬2) في (ب): لوحده. (¬3) السيرة النبوية (1/ 25).

ثم قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك وبين القتل فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم، حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا. ففي ذي نواس وجنده ذلك أنزل الله تبارك وتعالى على رسوله محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج: 5] إلى آخر الآيات. فهؤلاء الذين ذكر ابن إسحاق من حمير الداخلين في دين اليهود ومن أهل نجران الداخلين في دين النصارى كلهم من العرب، وليسوا من بني إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى وعيسى عليهما السلام. إلا أن قول ابن إسحاق عن ذي نواس أنه خير أهل نجران بين اليهودية أو القتل، فيه نظر، فإن اليهودية شريعة موسى، وهي قائمة لم تكن منسوخة، فلا فرق بينها حينئذ وبين شريعة عيسى. فكيف يصح ذلك القول والله تعالى يقول: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، واليهود ومن كان على دينهم حينئذ (¬1) مؤمنون بالله. وقد جاء في التفسير أن الذي حرق أصحاب الأخدود كان مشركا على اختلاف في ذلك (¬2). ¬

(¬1) كتب في هامش (أ)، وسقط من (ب). (¬2) تفسير ابن كثير (4/ 497).

وفي قصة ذي نواس ذكر مكي في الهداية (¬1) عن الربيع بن أنس (¬2) قال: كان أصحاب الأخدود قوما مؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة وإن جبارا من عبدة الأوثان أرسل إليهم يعرض عليهم الدخول في دينه أو يلقيهم في النار، فاختاروا إلقاءهم في النار على الرجوع عن دينهم فألقوا في النار، فنَجَّى (¬3) الله المؤمنين الذين ألقوا في النار عن (¬4) الحريق بأن قبض أرواحهم قبل أن تمسهم النار. قال: وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم فذلك قوله: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] أي في الدنيا، لأجل النار التي أحرقتهم (¬5). وقد روى صهيب عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬6) حديثا طويلا في قصة أصحاب الأخدود، خرجه مسلم (¬7)، إلا أنه ليس فيه تعيين دين الراهب، ولا دين الغلام الذي دل على الراهب وكان على دينه، ولا دين الملك القاتل لهما والمحرق بالنار لأصحاب الأخدود. ¬

(¬1) الهداية لمكي بن أبي طالب (291 - نسخة العامة: 218ق). (¬2) رواه ابن جرير (12/ 525) وأبهم شيخه قال: حدثت عن عمار ... الخ. (¬3) في (ب): فأنجى. (¬4) في الهداية لمكي بن أبي طالب (291 - نسخة العامة: 218ق): من. (¬5) في الهداية لمكي بن أبي طالب (291 - نسخة العامة: 218ق): أي لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا وهي النار التي خرجت إليهم من الأخدود فأحرقتهم. (¬6) في (أ): - عليه السلام -. (¬7) رواه مسلم (3005) والترمذي (3340) وأحمد (6/ 17) وابن حبان (873) عن صهيب.

وقد يشبه أن يكون لقول ابن إسحاق في أن ذا نواس (ق.87.أ) دعاهم إلى اليهودية وجه، وهو أن يكون ذو نواس على مذهب المجسمة من اليهود الذين يقولون عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، ويكون أهل نجران على مذهب فيمِيُون الذي نقل إليهم دين المسيح من غير تبديل ولا تغيير، فيصدق حينئذ على الفريقين قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [البروج: 8]. ودين النصرانية كان الغالب على من تنبه من أهل الفترة إلى الإيمان بالله، كأهل نجران الذين نزل فيمن وفد منهم (¬1) على النبي صلى الله عليه (¬2) قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52]. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]. ومثل النجاشي وأصحابه الذين كانوا على دين النصرانية قبل الإسلام، وقد قيل إن في وفدهم نزلت الآيات المتقدمة. ومثل ورقة بن نوفل الأسدي أسد قريش، ورئاب الشني من عبد القيس، وبحيرا الراهب، وكان من عبد القيس على ما ذكر المسعودي (¬3)، وهو الذي رأى النبي صلى الله عليه وهو صغير عندما خرج به عمه أبو طالب إلى ¬

(¬1) في (ب): في الوفد الذين وفدوا منهم. (¬2) في (أ): - عليه السلام -. (¬3) مروج الذهب (1/ 60).

الشام فأمره بالرجوع به إلى مكة سريعا وقال له: احذر عليه اليهود، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم (¬1). وإنما احتجنا إلى نسبة هؤلاء إلى قبائلهم (¬2) مع ذكر قصة أبي كرب وقصة أهل نجران لكونهم من العرب، وذكر النجاشي وأصحابه لكونهم من الحبشة، وكلا الصنفين من أهل الفترة إذ ليسوا من بني إسرائيل المتوجه إليهم خطاب موسى وعيسى عليهما السلام. وإذا تقرر هذا فنقول: كل من دخل من أهل الفترة في شريعة من الشرائع من قِبل نفسه فقد لزمته وصار من أهلها، وإن لم يكن مخاطبا بها قبل ذلك، وإذا لزمته فيحشر مع أهل تلك الشريعة ويسعه ما يسعهم من الثواب والعقاب. والدليل على ذلك قصة أصحاب الأخدود من أهل نجران إذ كانوا من العرب، وأخبر الله عنهم بأنهم مؤمنون، وأخبر عن وفدهم أو وفد الحبشة من أصحاب النجاشي بأنهم {إِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ¬

(¬1) رواه الترمذي (3620) والحاكم (4229) والبزار (3096) وابن أبي شيبة (7/ 430 - 8/ 435) والخطيب في التاريخ (10/ 252) وأبو نعيم في الدلائل (1/ 53) والبيهقي في الدلائل (1/ 308 - 309) وغيرهم من طريق عبد الرحمان بن غزوان حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبي موسى به. وفي سنده عبد الرحمان بن غزوان، وهو ثقة له مناكير. وصحح الحديث جماعة من الحفاظ، وتكلم فيه بعضهم، راجع لزيادة الفائدة: دفاع عن الحديث النبوي للألباني (62). (¬2) في (ب): لقبائلهم.

مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] ولا نبالي في أي الوفدين نزلت، إذ كانوا جميعا على دين واحد. ومن الدليل على ذلك أيضا قصة ورقة بن نوفل فإنه استحكم في النصرانية كما قال ابن إسحاق (¬1). وجاء في الحديث من قول عائشة: وكان ورقة امرءا تنصر في الجاهلية (¬2). وجاء في حديث آخر عنها أنه - عليه السلام - رآه بعد موته في النوم وعليه لباس بياض فاستدل بذلك على أنه في خير، إذ قال (ق.87.ب) صلى الله عليه (¬3): «لو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك» (¬4). ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 140). (¬2) رواه البخاري (3 - 3212 - 4670 - 6581) ومسلم (160) وأحمد (6/ 223 - 232) وابن حبان (33) والحاكم (4843) وأبو عوانة (328) والبيهقي (9/ 5) وعبد الرزاق (5/ 323) عن عائشة. (¬3) في (ب): وقال - عليه السلام -. (¬4) رواه الترمذي (2288) والحاكم (8187) من طريق يونس بن بكير حدثني عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة. وصححه الحاكم. وضعفه الترمذي بعثمان بن عبد الرحمن. وهو كما قال إلا أن عثمان المذكور ضعيف جدا، بل متروك وهو عثمان بن عبد الرحمن بن عمر ابن سعد بن أبي وقاص الزهري. وتابعه ابن لهيعة ثنا أبو الأسود عن عروة عن عائشة، خرجه أحمد (6/ 65) عن حسن بن موسى عنه. ... = = ورواه معمر عن الزهري بلاغا، خرجه عبد الرزاق (5/ 324). ولعل هذا هو الصواب فيه.

وورقة على النصرانية مات، فإنه لم يدرك بعث النبي - عليه السلام - فيؤمن به، وإنما مات أول ما رأى النبي - عليه السلام - الملَك وكلمه، وقال لخديجة: «زملوني زملوني، فقال له ورقة إذ ذاك: هذا الناموس الأكبر الذي نزل الله على موسى وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا» (¬1). وفي هذا الحديث: «ثم لم ينشَب ورقة أن توفي وفتر الوحي». وقولنا فيمن لزمته شريعة التزمها: إنه يحشر مع أهل تلك الشريعة ويكون له حكمهم في الثواب والعقاب، إنما عنينا بذلك من مات في الفترة مثل ورقة ومن جرى مجراه. وأما من لحق الإسلام منهم فأسلم ومات على الإسلام فهو من أهل ملة محمد - عليه السلام - مثل النجاشي رحمه الله، كما أن من أسلم منهم ثم ارتد عن الإسلام إلى النصرانية ومات عليها، كعبيد الله بن جحش بن رياب، فهو مخلد في النار، لتركه الدين الحنيفي الناسخ لجميع الأديان ورجوعه إلى دين منسوخ بهذه الملة. فلو مات عبيد الله بن جحش على النصرانية قبل ظهور الشريعة، لكان حكمه حكم ورقة في إيمانه بشريعة غير منسوخة، وموته عليها، قبل ظهور الناسخ لها. ¬

(¬1) هو حديث بدء الوحي وقد تقدم قريبا.

وهكذا (¬1) حكم من قامت عليه الحجة بتقرير هذه الشريعة إذا لم يؤمن بها فهو من أهل النار، كهرقل، إذ أرسل النبي - عليه السلام - إليه كتابه يدعوه إلى الإسلام فظهر منه إنابة إليه على ما اقتضاه الحديث المروي عن أبي سفيان في الصحيحين (¬2)، وليس فيه تصريح بإسلامه، فإن كان لم يؤمن بهذه الشريعة في الباطن فهو من أهل النار وكذلك غيره من الكفار. هذا حكمه بعد ظهور الشريعة إلى يوم القيامة بشرط بلوغ الدعوة له، قال صلى الله عليه (¬3): «والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بما أرسلت به إلا كان من أهل النار». (¬4) وقد ظهر بما قلناه الحكم في ورقة وعبيد الله بن جحش، وتقدم ذكر زيد بن عمرو بن نفيل في القسم الأول، وبقي من الأربعة المذكورين قبل هذا (¬5) عثمان بن الحويرث، وليس عندنا من حديثه إلا ما قال ابن إسحاق (¬6) ¬

(¬1) في (ب): وهذا. (¬2) رواه البخاري (1/ رقم: 7) ومسلم (3/رقم: 1773) عن ابن عباس. (¬3) في (ب): - عليه السلام -. (¬4) رواه مسلم (153) وأحمد (2/ 317 - 350) وأبو عوانة (1/ 97) عن أبي هريرة. ورواه الطيالسي (509) ومن طريقه البزار (3050) ثنا شعبة عن أبي بشر قال سمعت سعيد بن جبير يحدث عن أبي موسى. وسنده صحيح، إن كان سعيد سمع من أبي موسى، فقد شكك البزار في ذلك. وله شاهد عن ابن عباس عند الحاكم (2/ 372) وصححه على شرطهما. (¬5) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي. (¬6) السيرة النبوية (1/ 141).

من أنه قدم على قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده، فإن كان عثمان هذا قد توفي قبل ظهور الإسلام فهو من أهل ذلك الدين في الثواب والعقاب، وإن كان بقي حتى ظهر الإسلام وقامت الحجة على قيصر وأهل دينه وهو معهم على دينهم فهو مثلهم في العناد والتكذيب (ق.88.أ) بالحق، والله أعلم.

القسم الثالث من أهل الفترة

القسم الثالث من أهل الفترة: هذا القسم هو من تعرض منهم إلى تغيير الشرائع ومخالفة الأنبياء في التوحيد أو اتبع غيره على ذلك كعمرو بن لحي (فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي - عليه السلام - قال: «رأيت عمرو بن لحي) (¬1) يجر قُصبَه في النار»، وفيه أنه أول من سيب السوائب. وذكر ابن إسحاق في السير (¬2) قال حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لأكثم بن الجون الخزاعي: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا بك منه»، فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه بي يا رسول الله. قال: «لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان (¬3)، وبحر البحيرة، وسيب السائبة (¬4)، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي» (¬5). ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬2) السيرة النبوية (1/ 53). (¬3) في (ب): الأصنام. (¬4) في (ب): السوائب. (¬5) تقدم.

وهذا الحديث صحيح السند (¬1)، وفيه من لفظ النبي - عليه السلام - أن عمرو بن لحي كافر وأنه أول من غير دين إسماعيل، وقد تبين بذلك علة كونه من أهل النار. وذكر وثيمة بن موسى (¬2) نحو هذا الحديث عن عكرمة مرسلا، وفيه عن النبي صلى الله عليه أن عمرو بن لحي أول من غير الحنيفية دين إبراهيم، وأنه قال لأكثم بن الجون: «أنت مسلم وهو كافر»، وسيأتي نص الحديث فيما بعد بحول الله (¬3). وروي عن عائشة أنها ذكرت حديث خسوف الشمس بطوله وقالت في آخره عن النبي - عليه السلام - أن الجنة والنار عرضت عليه، قال: «فلم أر كاليوم في الخير والشر. قالوا: يا رسول الله من رأيت فيها؟ قال: رأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وهو أول من نقض عهد إبراهيم - عليه السلام - ونصب النصب وسيب السوائب». وهذا الحديث رويناه من طريق أبي العباس العذري، ومن خطه نقلناه، فإنه ذكر بسنده عن عبد الله بن وهب قال حدثنا عبد الجبار عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة، وساق الحديث. ¬

(¬1) بل هو حسن فقط للخلاف المعروف في ابن إسحاق. (¬2) تقدم. (¬3) ويأتي تخريجه هناك.

وقد خرج مسلم حديث عائشة عن النبي - عليه السلام - في كسوف الشمس من طريق آخر، وفيه: «ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها عمرو بن لحي وهو الذي سيب السوائب» (¬1). وتقدم في حديث ابن إسحاق أن النبي - عليه السلام - قال: «رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف». وهكذا نسبه (ق.88.ب) النبي - عليه السلام - فيما خرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3). وزاد البخاري (¬4) عنه - عليه السلام - أنه أبو خزاعة. وخندف هي امرأة من قضاعة وهي أم قمعة ومدركة وطابخة بني إلياس بن مضر، ذكر ذلك ابن إسحاق (¬5) وقال: إن نُساب مضر تزعم (¬6) أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس، وخزاعة تقول: نحن بنو عمرو بن عامر من اليمن. ¬

(¬1) رواه البخاري (1154 - 4348) ومسلم (901) والنسائي (3/ 130 - 131) وابن حبان (7/ 83) والبيهقي (2/ 265 - 3/ 341) عن عائشة. (¬2) (3332). (¬3) (2856). (¬4) صحيح البخاري (3332) عن أبي هريرة. (¬5) (1/ 53). (¬6) في (ب): يزعم، وفي السيرة: فيزعم.

فمن قال بهذا القول الثاني الذي ذكر ابن إسحاق يقول خزاعة هم بنو عمرو بن لحي، ولحي اسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر مزيقياء (¬1). وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإنباه (¬2): اختلفوا في خزاعة بعد إجماعهم على أنهم ولد عمرو بن لحي، وذكر عن ابن الكلبي قال عمرو بن لحي هو أبو خزاعة كلها ومنه تفرقت. قال: وولد عمرو كعبا بطن، ومليحا بطن، وعديا بطن، وعوفا بطن، وسعدا بطن. ونسب ابن الكلبي عمرو بن لحي فقال: هو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر. قال: وإنما قيل لهم خزاعة، لأنهم تخزعوا من بني عمرو بن عامر، أي تخلفوا عنهم وفارقوهم. وذكر أبو عمر عن أبي عبيدة نحوا من هذا، قال: خزاعة هم كعب ومليح وسعد وعوف وعدي بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وذكر عن ابن إسحاق ومصعب الزبيري أن نسب خزاعة في مضر على ما تقدم من كونهم ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر. وذكر (¬3) أن من قال بهذا القول احتج بحديث ابن إسحاق المتقدم عن أبي هريرة. ¬

(¬1) هذا لقب عمرو بن عامر. (¬2) (1/ 81). (¬3) (1/ 82).

قال: وذكر مصعب الزبيري حديث أبي هريرة هذا دون إسناد، ثم قال (¬1): وما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الحق، إن كان قاله. وهذا الذي حكاه عن مصعب هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه في نسب خزاعة، فقد صح عن النبي - عليه السلام - ذلك على ما تقدم. ونرجع إلى ما كنا بسبيله، فنقول: لما ذكر ابن إسحاق حديث أبي هريرة الذي تقدم أولا، أردف عليه ابن هشام ما يؤكد معناه فقال (¬2): حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مئاب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم ولد عملاق، ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ فقالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنما فأسير (¬3) به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة، فنصبه وأمر الناس بعبادته (ق.89.أ) وتعظيمه. وذكر المسعودي نحوا من هذا فإنه قال عند ذكر البيت في كتابه (¬4): ثم نشأ عمرو بن لحي فساد قومه بمكة واستولى على أمر البيت، ثم سار إلى مدينة البلقاء من أعمال دمشق من أرض الشام، فرأى قوما يعبدون الأصنام فسألهم ¬

(¬1) (1/ 83). (¬2) (1/ 53)، ونقله ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 187 - 188). وفي سنده مبهم، كما هو ظاهر. (¬3) في (ب): أسير. (¬4) مروج الذهب (2/ 184) بنحوه.

عنها، فقالوا: هذه أرباب نتخذها نستنصرها فننصر ونستسقي فنسقى، وكل ما نَسأل نُعطى. فطلب منهم صنما فدفعوا إليه هبل فسار به إلى مكة ونصبه على الكعبة ومعه إساف ونائلة فدعا إلى عبادتها وتعظيمها ففعلوا ذلك إلى أن أظهر الله الإسلام. وذكر في موضع آخر (¬1) من كتابه عمر بن لحي وولايته للبيت وقال: إنه غير دين إبراهيم وبدله وبعث العرب على عبادة التماثيل، وذلك أنه حين خرج إلى الشام رأى قوما يعبدون الأصنام فأعطوه منها صنما فنصبه على الكعبة، قال: وقويت خزاعة وعم الناس ظلم عمرو بن لحي، وفي ذلك يقول رجل من جرهم كان على دين الحنيفية: يا عمرو لا تظلم بمكة ... إنها بلد حرام سائل بعاد أين هم ... فكذاك يخترم الأنام وبني العماليق الذين ... لهم بها كان السوام وذكر أن عمرو بن لحي عمر ثلاثمائة سنة وخمسا وأربعين سنة، وأنه إذ مات كان له من الولد وولد الولد ألف. قال المسعودي (¬2): ولما أكثر عمرو بن لحي من نصب الأصنام حول الكعبة وغلب على العرب عبادتها وامَّحت الحنيفية منهم إلا لمعا. ¬

(¬1) مروج الذهب (2/ 44) بنحوه. (¬2) مروج الذهب (2/ 44).

قال شَجنَة بن خلف: يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة ... شتى بمكة حول البيت أنصابا وكان للبيت رب واحد أبدا ... فقد جعلت له في الناس أربابا لتعرفن فإن الله في مهل ... سيصطفي دونكم للبيت حجابا وذكر وثيمة عن عثمان بن الساج عن محمد بن إسحاق ومحمد بن السائب الكلبي قالا: إن البئر التي كانت في جوف الكعبة يجتمع فيها ما كان يُهدى للكعبة، وكان فيها صنم يقال له هُبل من أعظم أصنام قريش، وهُبل هو الذي يقول له أبو سفيان يوم أحد: اعْلُ هُبَل (¬1)، أي اظهر (¬2) دينك، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الله أعلى وأجل»، وكان قدم بهبل عمرو بن لحي من أرض الشام فنصبه على الخشب وأمر الناس بعبادته وتعظيمه. (ق.89.ب) قال: وقال محمد بن إسحاق (¬3): بلغني أن إسافا ونائلة كانا في الكعبة ممسوخين من جرهم، وكانا فجرا في الكعبة فمُسخا حجرين، وهما إساف بن بَغي، ونايلة بنت ديك، وهما صنما قريش اللذان كانوا يعبدونهما، فأخرجهما عمرو بن لحي فنصب أحدهما مقابل الركن الأسود بينه وبين زمزم، ونصب الآخر إلى جانب البيت تجاه المقام لاصقا بالبيت. ¬

(¬1) روى قصة أبي سفيان هذه عن البراء: البخاري (2874) - (3817) وأحمد (4/ 293) وابن حبان (4738) وأبو عوانة (6846) وابن أبي شيبة (8/ 491). (¬2) هكذا في (ب)، وفي (أ): ظهر. (¬3) السيرة النبوية (1/ 56) بمعناه.

قال ابن إسحاق: وبلغني أن الطائف كان إذا طاف بالبيت يبدأ بإساف فيستلمه ويختم به. قال: ونصب الخَلصة بأسفل مكة فكانوا يُلبسونها القلائد ويُهدون إليها الشعير والحنطة ويصبون عليها اللبن ويذبحون لها ويُعلقون عليها بيض النعام، ونصب على الصفا صنما يقال له نُهيد مُجاودُ الريح، ونصب على المروة صنما يقال له مُطعم الطير. قال: وقال ابن إسحاق: ونصب عمرو بن لحي بمنى سبعة أصنام: صنما على الغدير الذي بين مسجد منى والجمرة الأولى على بعض الطريق، ونصب على الجمرة الأولى صنما وعلى الجمرة الوسطى صنما، ونصب على شفير الوادي فوق الجمرة العظمى صنما، وعلى الجمرة العظمى صنما، وقسَّم عليهم حصى الجمرات إحدى وعشرين حصاة، يُرمى كل وثن منها بثلاث حصيات ويقول للوثن حين يرمي: أنت أكبر من فلان، للصنم الذي رَمَى قبله. قال ابن إسحاق: وبلغني أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديرا التي كانت للأزد وغسان، يحجونها ويعظمونها إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات، وفرغوا من منى لم يحلوا إلا عند مناة، وكانوا يهلون بها فمن أهل بمنى لم يطف بين الصفا والمروة لمكان الصنمين اللذين عليهما نهيد مجاود الريح ومطعم الطير، فكان هذا الحي من الأنصار يهلون بمناة، وكانوا إذا أهلوا بحج وعمرة لم يُظِل من أهل منهم سقف بيت حتى يفرغ من حجته أو عمرته.

وكان الرجل إذا أحرم منهم لم يدخل بيته، وإن كانت له فيه حاجة يتسور من ظهر بيته ولا يدخل على الباب، فلما جاء الله بالإسلام وهدم أمر الجاهلية نزل في ذلك القرآن: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] إلى آخر الآية. وإنما احتجنا إلى نقل هذا كله ليعلم اشتهار قصة عمرو بن لحي في تغييره للشرائع وأخذه العرب بعبادة الأوثان عند من عني بأخبار الناس وأيام العرب. (ق.90.أ)

الأصنام التي كان العرب يعبدونها

فصل (الأصنام التي كان العرب يعبدونها) (¬1) كانت العرب قد اتبعت عمرو بن لحي في عبادة الأوثان كما تقدم التنبيه عليه، ثم إنها لم تكتف بما نصبه لها عمرو بمكة حتى اتخذ كل قبيل منهم في مواضع استيطانهم صنما لأنفسهم، يعظمونه ويعبدونه ويقربون له القرابين. عدد ابن إسحاق في السير تلك الأصنام المنتشرة في قبائل العرب، وذلك أنه قال (¬2): وقد كانت لقوم نوح أصنام قد عكفوا عليها قص الله خبرها على نبيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23] فكان الذين اتخذوا تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم، وسموا بأسمائها حين فارقوا دين إسماعيل: هذيل بن مدركة، اتخذوا سواعا، فكان لهم برُهاط. وكلب بن وبرة من قضاعة، اتخذوا ودا بدومة الجندل. وأنعم من طيء وأهل جُرش من مذحج، اتخذوا يغوث بجرش. وخيوان (¬3) بطن من همدان (¬4) اتخذوا يعوق بأرض همدان من اليمن. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) السيرة النبوية (1/ 55 - فما بعد)، والمؤلف اختصر كلامه. (¬3) في (ب): خيران. (¬4) في (أ): همذان.

وذو الكلاع من حمير اتخذوا نسرا بأرض حمير. وكان في دَوس صنم لعمرو بن حُممة الدوسي. وكان لخولان صنم يقال له عم أنس (¬1) بأرضهم. وكان لبني ملكان بن كنانة صنم يقال له سعد صخرة بفلاة من أرضهم طويلة. وكانت قريش قد اتخذت صنما على بئر في جوف الكعبة يقال له هبل، واتخذوا إسافا ونائلة على موضع زمزم ينحرون له (¬2) عندهما. قال (¬3): واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، فكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله، فلما بعث الله رسوله محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتوحيد قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. انتهى كلام ابن إسحاق. ويشبه أن يكون السبب في اتخاذ العرب الأصنام في غير مكة هو ما ذكره وثيمة (¬4) عن عثمان بن الساج (¬5) قال أخبرني يحيى بن أبي أنيسة (¬6) قال: أول ¬

(¬1) في السيرة النبوية: عميانس. (¬2) من (ب). (¬3) السيرة النبوية (1/ 57). (¬4) تقدم. (¬5) ترجمه البخاري في التاريخ (6/ 227) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/ 153) ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا. (¬6) متروك، قاله النسائي والدارقطني وغيرهما.

حديث غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر فيما بلغنا، والله أعلم، أنهم كانوا مع غيرهم من ولد إسماعيل، وكان أوثان العرب إذ ذاك مسندة إلى الكعبة ثلاثمائة وستين وثنا، لكل حي من العرب وثن، فكان يكون في الحي البطون الكثيرة من العرب، فكان لكل بطن منها وثن، فلم يزالوا كذلك حينا من الدهر (ق.90.ب) طويلا حتى انتشروا بعد. فلما نبت ظالم بن سعد بن ربيعة بن مالك بن مرة بن عوف بن سعد ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان في العز من قومه وفي بيتهم الأعظم، قال: إن هذا البيت المحرم لا يسعكم، قد نبت لكم عدد وأن تنتشروا في الأرض أمثل لأموالكم وأكثر لعددكم، فقالوا: ما نستطيع فراق بلدنا ومولدنا وحيث مسقط رؤوس آبائنا، وإن نتغرب من قومنا نهن على من نحن بين أظهرهم. فقال: إنما يمنعكم من ترك هذا البلد الذي كان عليه من سلف من آبائكم ما تكرهون أن تدعوا من حرمته، فإني مستن لكم هدة من دينكم الذي أنتم عليه تسيرون بحرمتها وذمتها حيث وقع الطير وساقكم إليه المحل. فانطلق (¬1) ظالم إلى عزى غطفان فانتقلها، وكانت مسندة إلى الكعبة حتى انتهى بها ذات موضع بين نخلة اليمانية وبين نخلة الشامية. ونقل وثنين آخرين من أوثان غطفان فجعل أحدهما بصدر حنين، وجعل الآخر جنب عطارا، ثم قاس قدرما بين الصفا والمروة وقدر ما بين الكعبة والصفا بذراع معلوم، وقدر ما بين المروة إلى الكعبة، ثم نقل حجرا من ¬

(¬1) في (ب): فانطلق إليه.

الصفا وحجرا من المروة، فجعل حجر المروة على ثلاث أثافي، ثم أسنده إلى حجارة وجعل حجر الصفا إلى رضم من حجارة رضمها. ثم كان ينصب تلك الأوثان يوم النحر فقال: هذا من دينكم الذي كنتم عليه ثم سماها الهدة، ثم قال: أيكم أدركه هذا اليوم فلينصب حجارة ليسعى بينها كما يسعى بين الصفا والمروة، وذلك على خطة معلومة سنها لهم، ثم ليقرب كل لصنمه ما أحب من لبن أو دم، ثم حرم هذه الأوثان كحرمة الكعبة وجعلها حرما من بلده الذي كان به حرما معلوما. ثم يشترط بعد ذلك الدور لكل حي ينزل عليه من ولد إسماعيل، وجعل نصبها (¬1) على اسم أبيه وأسرته من ربيعة بن عامر، وكانت غطفان تنقل إله ربيعة حيث ما سلكوا من الأرض فصار آخر موضع غطفان بني لبنان من وراء مراك. ¬

(¬1) في (ب): نصبا.

فصل تقدم في كلام المسعودي أن عمرو بن لحي أكثر من نصب الأصنام حول الكعبة، ومضى في حديث وثيمة الذي ذكرناه آنفا أن أوثان العرب كانت مسندة إلى الكعبة (ق.91.أ)، وأنها ثلاث مائة وستون وثنا، لكل حي من العرب وثن. وظاهر ذلك أن هذه الأوثان بقيت عند الكعبة حتى جاء الإسلام، إذ لا نعلم قبيلا من قبائل العرب أخذ منها وثنا وحمله إلى بلاده إلا ما في خبر وثيمة مما ذكره عن ظالم بن سعد. فالغالب من الأمر أن العرب تركت تلك الأصنام حول الكعبة وأحدثت أصناما أخر في مواضعها. ومن الدليل على ذلك أن النبي - عليه السلام - دخل يوم الفتح مكة وحول البيت هذا العدد المسمى، خرج البخاري (¬1) عن ابن مسعود أن النبي - عليه السلام - دخل يوم الفتح مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها ¬

(¬1) رواه البخاري (2346 - 4036 - 4443) ومسلم (1781) والترمذي (3138) وأحمد (1/ 377) والحميدي (1/ 46) والبيهقي (6/ 101) وأبو عوانة (6786) والطبراني في الكبير (10/ 191 - 222) وفي الأوسط (1/ 102) عن ابن مسعود. وله شواهد، منها عن ابن عمر عند ابن حبان (6522) والطبراني في الأوسط (8/ 51). وعن جابر عند ابن أبي شيبة (8/ 534)، وفيه عنعنة أبي الزبير.

بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد. وذكر وثيمة عن محمد بن إسحاق قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر عن علي بن عبد الله بن عباس قال: لقد دخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة يوم الفتح وإن بها ثلاث مائة وستين صنما قد شدها إبليس بالرصاص، وكان بيد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضيب فيقوم عليها ويقول: {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]، ثم يشير إليها بقضيب فتتساقط على ظهورها. وذكر ابن هشام في السير (¬1) عن ابن عباس قال: دخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشددة بالرصاص فجعل النبي - عليه السلام - يشير بقضيب بيده إلى الأصنام ويقول: {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]، فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. فقال تميم بن أسد الخزاعي: وفي الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا ¬

(¬1) السيرة النبوية (4/ 36).

وقال فضالة بن عمير بن الملوح، وكان إسلامه حينئذ على ما ذكر ابن إسحاق (¬1): قالت هلم إلى الحديث فقلت ... لا يأبى عليك الله والإسلام لو ما رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام ¬

(¬1) السيرة النبوية (4/ 36).

عبادة العرب للأصنام

فصل (عبادة العرب للأصنام) (¬1) (ق.91.ب) ثم إن العرب لم تقنع بعبادة الأصنام حتى عبدت الحجارة في الجاهلية. جاء في السير (¬2) أن جعفر بن أبي طالب لما كلم النجاشي بحضرة أساقفته، وبمحضر المسلمين الذين كانوا بأرض الحبشة عندما سألهم عن دينهم، قال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء". إلى غير ذلك من تمام القصة. قال ابن إسحاق (¬3): "ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل، أنه كان لا يظعن بمكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) السيرة النبوية (1/ 207). (¬3) السيرة النبوية (1/ 54).

الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، إلى أن رجعوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم. حتى خلفت الخُلوف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من الضلالات، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها، من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة، والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده. يقول الله تعالى لمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. أي: ما يوحدونني (¬1) بمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي. ¬

(¬1) في (ب): يوحدوني.

جعل العرب الجن شركاء لله وأن الملائكة بنات الله

فصل (جعل العرب الجن شركاء لله وأن الملائكة بنات الله) (¬1) ثم إن العرب لم يكتفوا بجعلهم مع الله آلهة أخرى وعبادتهم الأوثان والحجارة حتى جعلوا الجن شركاء لله وصيروا له بنين وبنات كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100]. ثم نزه تعالى نفسه (ق.92.أ) عن ذلك بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]. وذكر في الآية الثانية تعذر الولد مع عدم الصاحبة، فأفادنا ذلك أن الولد لا يكون إلا لمن له صاحبة، والله سبحانه يستحيل عليه أن تكون له صاحبة فيستحيل عليه أن يكون له ولد، ثم إنه سبحانه مضى في تنزيه نفسه إلى آخر الآيات، وكذلك جعلوا بين الله وبين الجن نسبا، كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: 158]. قال مجاهد في تفسير هذه الآية: "قال كفار قريش: الملائكة بنات الله، ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني.

وأمهاتهم بنات سروات الجن". قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]، أي ستحضر للحساب. ذكر ذلك البخاري (¬1). وكان المشركون يعبدون الجن في الجاهلية، صرح بذلك القرآن، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40]. وذكر مسلم (¬2) عن عبد الله بن مسعود في قوله عز وجل {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]، قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون، فنزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]. وفي لفظ آخر: "فبقي الذين كانوا يعبدون على عبادتهم، وقد أسلم النفر من الجن". ¬

(¬1) صحيح البخاري (3/ 1200). (¬2) صحيح مسلم (3030).

عبادة العرب للملائكة

فصل (عبادة العرب للملائكة) (¬1) وهكذا عبدوا الملائكة أيضا، وزعموا أنها بنات الله. جاء في السير لابن إسحاق (¬2) أن ابن الزبعري قال للوليد بن المغيرة وغيره من قريش عندما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]: أما والله لو وجدت محمدا هاهنا لخصمته، فسلوه (¬3): أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى بن مريم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. إلى آخر الآيات. وهكذا قال بعض قريش بحضور جماعتهم للنبي - عليه السلام -: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله، حين قال له بعضهم: "لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله وبالملائكة قبيلا"، في قصة طويلة مذكورة في السير (¬4). ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) السيرة النبوية (2/ 9)، وكلام المصنف هنا مختصر. (¬3) كذا في (أ)، وفي (ب): فسألوه، وفي السيرة: فسلوا محمدا. (¬4) (1/ 179).

وفي ذلك أنزل الله تعالى في سورة الكهف: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 4]. يعني بالكلمة قولهم: "إن الملائكة بنات الله". وفي هذا المعنى نزل أيضا قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} إلى قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26]. وقد نطق الكتاب العزيز بعبادة المشركين للملائكة (¬1)، قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 19]. وقرئ في السبع: {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ}. (¬2) وقوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} مردود على الآية المتقدمة، أي مالهم بجعلهم الملائكة إناثا، وقولهم الملائكة بنات الله من علم، وقد وبخهم الله تعالى على ذلك بقوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}، وأكثر القراء يقرؤونه أشَهدوا خلقهم (بفتح الشين) وهمزة واحدة مفتوحة (¬3). ¬

(¬1) كذا في (ب)، وفي (أ): الملائكة. (¬2) قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: عند الرحمن، وقرأها الباقون بالباء، كما في الحجة (6/ 140). (¬3) انظر الحجة (6/ 141).

وقال تعالى في هذا المعنى لنبيه - عليه السلام -: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ... [الصافات: 149]. فقوله {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: سل المشركين سؤال توبيخ (¬1) عن كونهم جعلوا الملائكة إناثا وقالوا: هي بنات الله، تعالى الله عن ذلك، وكأنه يقول لرسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قل لهم: من أين علمتم أن الملائكة إناثا أشهدتم خلقتهم حتى تعلموا ذلك؟ ثم كذبهم في قولهم ولد الله، وجعله من إفكهم. ثم طالبهم بالحجة على قولهم إن كانوا قد صدقوا على وجه التبكيت لهم إذ لا يجدون على ذلك حجة أصلا، فإن انتفاء الولد عن الله تعالى معلوم عقلا لوجوب تقديسه سبحانه عن سمات الحدوث. ¬

(¬1) في (ب): التوبيخ.

اتخاذ العرب بيوتا للعبادة

فصل (اتخاذ العرب بيوتا للعبادة) (¬1) ثم إن العرب لما أشركوا بالله تعالى وجعلوا معه آلهة أخرى من الأصنام والملائكة والجن رأوا أن يتمموا الإشراك له تعالى في كل شيء، فجعلوا مع بيت الله تعالى وهو الكعبة التي أمر الله تعالى بتعظيمها والحج إليها بيوتا أخر يعبدونها ويعكفون عليها ويطوفون بها. وقد عددها ابن إسحاق في السير (¬2) فقال: "وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجبة، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بالكعبة وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها قد عرفت أنها بيت إبراهيم ومسجده، فكانت لقريش وبني كنانة العزى بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم. وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بني معتب من ثقيف. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) السيرة النبوية (1/ 57 - فما بعد)، وكلام المصنف هنا مختصر.

وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، فبعث إليها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا سفيان بن حرب فهدمها، ويقال علي بن أبي طالب. وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان من بلادهم من العرب بتبالة، فبعث إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جرير بن عبد الله البجلي فهدمه، وكانت فَلْس لطيء ومن يليها بجبلي طيء بين سلمى وأجأ. قال ابن هشام (¬1): "فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث إليها علي بن أبي طالب فهدمها، فوجد فيها سيفين يقال لأحدهما الرّسُوبُ وللآخر المخْذمُ، فأتى بهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوهبهما له فهما سيفا علي". قال ابن إسحاق (¬2): "وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له رئام، وكانوا يعظمونه وينحرون عنده (ق.93.أ) ويكلمون منه، فهدمه الحبران اللذان جاء بهما تبع أبو كرب إلى اليمن حين تهود. وكانت رُضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تميم، ولها يقول المستَوْغِرُ بن ربيعة حين هدمها في الإسلام، وكان المستوغر أطول مضر كلها عمرا، يقال إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة: ولقد شددت على رُضَاء شدة ... فتركتها قفرا بقاع أسْحَما ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 59). (¬2) السيرة النبوية (1/ 59).

وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسِنْداد، وله يقول الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة (¬1): بين الخَوَرْنَق والسدير وبارق ... والبيت ذي الكَعَبات من سِنْداد انتهى ما ذكره ابن إسحاق. وقوله عن العرب: إنها تعرف فضل الكعبة على تلك البيوت المعظمة، لأنها قد عرفت أنها بيت إبراهيم ومسجده غير مفيد في شرف الكعبة عندهم، إذ عملوا في حقها بإحداث تلك البيوت وتعظيمها كما فعلوا في حق الله تعالى، إذ أشركوا معه الأصنام، لا سيما بكونهم لا يحلون بطوافهم بها حتى يأتوا العزى ويطوفوا بها. ذكر وثيمة عن عثمان بن الساج عن محمد بن السائب ومحمد بن إسحاق قالا: بلغنا أن عمرو بن لحي اتخذ العزى بنخلة بيتا كالكعبة يطوفون به كطوافهم بالكعبة، وهم يعرفون فضل الكعبة عليه وكانوا إذا فرغوا من حجهم وطافوا بالكعبة لم يحلوا حتى يأتوا العزى فيطوفوا بها ويحلون عندها، وكانت قريش وكنانة تعظم العزى مع خزاعة وجميع مضر. وذكر وثيمة أيضا عن عثمان قال: حدثني محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن رجلا فيمن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف فيبيع السمن للحاج إذا مروا فيلت سويقهم، وكان ذا غنم وسمن فسميت الصخرة اللات فمات، فلما فقده الناس قال عمرو بن لحي: "إن ربكم كان اللات"، ¬

(¬1) كذا في (أ) والسيرة، وفي (ب): تغلب.

فدخل في جوف الصخرة شيطان يكلمهم (¬1). وكانت العزى وهي سمرات ثلاث، وهي على خمس فراسخ من مكة، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمرو بن ربيعة والحارث بن كعب فقال لهم عمرو بن ربيعة: إن ربكم اللات يتصيف بالطائف لبَرد الطائف، ويشتُو بالعزى التي بتهامة لحر تهامة، وكان في كل واحد منهما شيطانه. قال عثمان: أخبرني محمد بن السائب أن اللات والعزى (ق.93.ب) ومناة كان في كل واحد منهم (¬2) شيطانة تتراءى للسدنة، وهم الحجبة، تُكلمهم، قال: وكانت بنو نصر وجشم وسعد بن بكر وهم عَجُزُ هوازن يعبدون العزى. فانظر إلى أحوال العرب في إشراكهم وكفرهم وما كانوا عليه، وكيف كان أصل ذلك كله عمرو بن لحي، فنصب لهم الأصنام ودعا إلى عبادتها، ثم جعل لهم العزى يطوفون بها ويحلون عندها ولا يحلون عند الكعبة، وهكذا فعل بمناة، إذ نصبها على ساحل البحر، فكانت الأزد وغسان إذا أكملوا حجهم لا يحلون إلا بمناة، كما تقدم قبل هذا لابن إسحاق فيما حكاه عنه وثيمة. وانظر إلى ضلال العرب كيف يقولون في عبادة الأصنام: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فمن أخبرهم بأن ذلك يقربهم إلى الله ولا يبعدهم منه؟، ومن أنبأهم بأنه أولى من عكسه؟، وهل هذا كله إلا رجم بظنونهم وتحكم بآرائهم كما فعلوا في سائر دياناتهم؟. ¬

(¬1) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في الهامش. (¬2) في (ب): منهما.

تفسير ما غيره عمرو بن لحي من الدين

باب (تفسير ما غيره عمرو بن لحي من الدين) (¬1) تقدم في الحديث أول الكلام على هذا القسم أن عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي، وقد ذكرنا نصبه الأوثان واتباع العرب له في ذلك. فلنذكر شرح هذه الألفاظ ونبين اختراعه بها للأحكام واتباع العرب له على ذلك أيضا. فنقول: جاء في كتاب مسلم (¬2) عن ابن شهاب قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، وأما السائبة فهي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء. وجاء عن المفسرين في ذلك ما نذكره، وهو أن العرب في الجاهلية كانوا إذا أنتجوا الناقة خمسة أبطن، نظروا الخامس، فإن كان ذكرا أكله الرجال منهم دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيها الرجال والنساء، وإن ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) صحيح مسلم (4/ 2192 - رقم 2856)، ونحوه عند البيهقي (10/ 9).

كان أنثى بحروا أذنها، أي: شقوه وتركت لا يشرب لها لبن ولا يركب لها ظهر ولا يجزُّ عنها وبر، وسميت بحيرة لشقهم أذنها. بُحرت إذا شُقت شقا واحدا، والناقة بحيرة ومبحورة. فأما السائبة (¬1) فهو ما كان أحدهم (ق.94.أ) يفعله إذا مرض فنذر إن شُفي أن يسيب ناقته، فإن فعل ذلك لم تمنع من ماء ولا كلإ، وقد يسيبون غير الناقة وكانوا إذا سيبوا العبد لم يكن عليه ولاء. وقيل: كانت الناقة إذا تابعت بين اثنتي عشرة أنثى ليس فيها ذكر سُيبت، فلم تركب ولم يجز وبرها ولم يُشرب لبنها، فما نُتجت بعد ذلك من أنثى شُقت أذنها وخليت مع أمها، أي كان حكمها حكم أمها، فهي البحيرة بنت السائبة. والوصيلة (¬2): من الغنم إذا ولدت الشاةُ سبعة أبطُن، فإن كان السابع ذكرا ذبحوه وكان لَحمه للرجال دون النساء، وإن كان أنثى لم يذبحوها، وإن كان ميتة اشترك فيها الرجال والنساء، وإن جاءت بذكر وأنثى قالوا: وصلت أخاها فمنعته الذبح فلم يذبح واحد منهما، قال ابن عباس: ولم يَشرب من لبنها إلا الذكورُ خاصة. ¬

(¬1) انظر تفسير القرطبي (6/ 336) والطبري (7/ 88 - فما بعد) وابن كثير (2/ 108) وفتح الباري (8/ 284 - 285). (¬2) انظر تفسير الطبري (7/ 88 - فما بعد) وابن كثير (2/ 108) وفتح الباري (8/ 284 - 285).

وقيل الوصيلة: الشاة تنتج عشر إناث متتابعات في خمسة أبطُن ليس فيها ذكر، فيقولون: وصَلت، فما ولدت بعد ذلك كان للذكور دون الإناث، إلا أن يموت منها شيء فيشترك في أكله الذكور والإناث. وأما الحامي (¬1): فهو البعير ينتج من ظهره عشرة أبطن ذكورا أو إناثا فيقولون: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يجز ولا ينتفع به لغير الضراب، وأي إبل ضرب فيها لم يمنع منها. وفي بعض ما ذكرناه من شرح هذه الألفاظ اختلاف لا تنبغي مراعاته، إذ قد اتفق في الجملة أن الذي فسرت به الآية هو التفسير فيها أو نحو ذلك، مما لا حاجة بنا إلى التكثير به، لأن الشرع قد نهى عن ذلك كله، إذ كان من أحكام الجاهلية. ¬

(¬1) انظر تفسير الطبري (7/ 88 - فما بعد) وابن كثير (2/ 108) وفتح الباري (8/ 284 - 285).

فصل هذه الأحكام نصبها عمرو بن لحي في الجاهلية واخترعها لنفسه ولغيره، إذ صير نفسه بمنزلة الشارع يحلل ويحرم، فمن الأشياء ما يحله للذكور ويحرمه على الإناث، ومنها ما يحله للذكور والإناث معا، ومنها ما يحرمه على الصنفين جميعا فيترك السائبة لا يستبيح أحد منها شيئا، وذلك كله بهواه، إذ ابتدع فيه (¬1) شريعة من عند نفسه. والمخلوق محجور عليه ذلك، فقد نهى الله سبحانه بني آدم عن اختراع الأحكام فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. إذ (ق.94.ب) فيه توبيخ من الله تعالى لمن يتحكم في الشرائع برأيه ويفتي في أحكامها (¬2) بالتحليل والتحريم من قبل نفسه دون أن يأذن الله له فيه. وقد نبه الله تعالى على ذلك في آية أخرى فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. ¬

(¬1) في (ب): فيها. (¬2) في (ب): ويفتي فيها.

ثم قال تعالى في الآية الأولى: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [يونس: 60]، على وجه التهديد لمن فعل ذلك. فإذن كل من جعل من نفسه شرعا لم يأذن الله فيه (¬1) فهو مطلوب به. ثم إن العرب فعلت مع عمرو بن لحي في الأحكام كما فعلت معه في الإشراك سواء سواء، فإنه لما اخترع الأحكام وطرَّق لها الطريق إليها، تبعته في ذلك فتمذهبت بما حكم لها، وحكمت هي أيضا على طريقته بما رأته لأنفسها. ونحن لا نعلم ما حكم بنفسه من أحكام الجاهلية دون ما (¬2) لم يحكم به إلا بما تلقيناه من الشرع، وهو (ابتداع الأحكام المذكورة) (¬3) في الآية التي مضى شرحها، وما عدا ذلك (من الأحكام التي يأتي ذكرها) (¬4) ففي الجائز أن يكون من حكمه، وفي الجائز أن يكون من حكم غيره. ولسنا (¬5) نستجيز أن نَنسب إليه منها (¬6) إلا ما نسب إليه الشرع فقط، لكنا نعرف في الجملة أن تلك الأحكام إما أن تكون من حكمه، أو تكون من ¬

(¬1) في (ب): به. (¬2) في (ب): من. (¬3) في (ب) بدل ما بين القوسين: ما تضمنه الحديث المتقدم وذكر الله. (¬4) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬5) في (ب): ونحن لا. (¬6) في (ب): من ذلك.

حكم من اقتدى به وسلك سبيله من المشركين، (أو يكون بعضها من حكمه وبعضها من حكم غيره) (¬1). فلنذكر من أحكام الجاهلية ما نص الله تعالى عليه في كتابه العزيز، ونلحق بذلك ما هو مشهور من تلك الأحكام بحول الله. ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب).

جعلوا لله ولآلهتهم شركا في أموالهم

فصل (من أحكام العرب في الجاهلية) (¬1) فمن أحكام العرب في الجاهلية كونهم لما أشركوا بالله غيره من الأوثان في العبادة جعلوا لله ولآلهتهم شركا في أموالهم، وقد ذم الله تعالى فعلهم في أن جعلوا لأوثانهم نصيبا من ذلك في الجملة فقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [النحل: 56]. أي لما لا يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم من الأوثان، ثم توعدهم على ذلك بقوله: {تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56]. فكيف لا يذمهم بما فعلوه من الشرك في ذلك، يقول الله جل وعز (¬2): {وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): عز وجل.

وذكر ابن إسحاق (¬1) أن هذه الآية نزلت في قوم من خولان، فإنه (ق.95.أ) لما عدد أصنام العرب قال: وكان لخولان صنم يقال له عم أنس (¬2) بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينهم وبين الله تعالى (¬3) بزعمهم، فما دخل في سهم عم أنس من حق الله الذي سموه له تركوه له، وما دخل في حق الله من قسم عم أنس ردوه عليه. قال: وهم بطن من خولان، يقال لهم: الأديم، وفيهم أنزل الله تعالى فيما يذكرون: {وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام: 136]، الآية. ولم يسند ابن إسحاق هذا القول عن أحد، ولا سمى من أخذه عنه. ونحن نرى أن الله تعالى حكى عن المشركين ما حكى عنهم في هذه السورة وغيرها بلفظ الجمع كقوله: {وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ} [الأنعام: 100]، {وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ} [الأنعام: 136]، وكقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُون} ... [النحل: 56]، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} [النحل: 57]، {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62]، وكقوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} [الزخرف: 15]، {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: 19]. ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 55). (¬2) في السيرة النبوية (1/ 55): عميانس. (¬3) من (ب).

كل ذلك بلفظ الجمع كما قلنا، ولا يخلو الأمر فيه من وجهين: أحدهما: أن يكون جميع المشركين من العرب يفعلون كلهم ما نسب الله تعالى إليهم من الأفعال، فإن كان كذلك فقد حصل المقصود، إذ الفعل يكون منهم حقيقة. والثاني: أن يكون بعض المشركين يفعل ذلك دون جميعهم، كما ذكر ابن إسحاق في الآية المتقدمة، فإن كان الأمر كذلك فيجوز أن ينسب ذلك الفعل إلى جملتهم بما نذكره. وذلك أن المشركين بأجمعهم كانوا قد استووا في الإشراك، واستووا في اختراع الأحكام، فكل قبيل فعل منهم فعلا لم ينكر عليه غيره من سائر القبائل، بل يسوغون له ذلك، لكون تلك القبائل عندهم أيضا أفعال من جنس ما فعله ذلك القبيل، فلاستحسان جميعهم ما يفعله بعضهم وتصويبهم ذلك وعدم النكير منهم له انسحب عليهم إطلاق اللفظ بالفعل وإن كان لم يفعله جميعهم حقيقة. واللغة تعضد هذا المعنى تقول العرب: قتل الأمير زيدا، إذا أمر بقتله، وإن لم يباشره بنفسه. وجاء في الحديث: قطع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يد المخزومية، ورجم ماعزا والغامدية، وإنما كان - عليه السلام - آمرا بذلك. وفي الكتاب العزيز في قصة البقرة: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]. والذبح لا يتأتي أن يكون من جميع بني إسرائيل الذين قال لهم

موسى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وإنما يقع الذبح من أحدهم ضرورة، ولكن (ق.95.ب) لما كان ذلك عن ملأ منهم نسب الذبح إليهم. وكذلك قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الأعراف: 77]، فقوله: {َ عَتَوْا} هو فعلهم حقيقة، فإنهم استكبروا ولم يؤمنوا بما جاءهم به (¬1) صالح - عليه السلام -. وقوله: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} ليس على حقيقته لأن العاقر لها واحد وهو قدار (¬2)، وإنما نسب العقر إليهم لكونه كان عن تواطؤ منهم قبله أو عن رضى من جميعهم بعده. ولنرجع إلى الآية التي كنا فيها قبل (¬3) فنقول جاء في التفسير عن السدي أنه قال (¬4): كان المشركون يزرعون زرعا يجعلونه لله يتصدقون به ويزرعون آخر يجعلونه لآلهتهم وينفقونه عليها، فإذا أجدب ما كان لآلهتهم أخذوا ما كان لله فأنفقوه على آلهتهم. وإذا أجدب ما كان لله لم يأخذوا مما لآلهتهم شيئا، ويقولون لو شاء الله لزكا الذي له. ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) هو قدار بن سالف، كما في تفسير ابن كثير (2/ 228) (4/ 517). (¬3) من (ب). (¬4) رواه ابن جرير (5/ 351).

وقال ابن زيد (¬1): كل شيء جعلوه لله من ذبح لا يأكلونه حتى يذكروا عليه اسم الآلهة، وما كان من ذبح الآلهة لا يذكرون عليه اسم الله. وقال مجاهد (¬2): كانوا يجعلون لله جزءا ولشركائهم جزءا، فإذا ذهب ما لشركائهم عوضوا منه ما لله، وإذا ذهب ما لله لم يعوضوا منه شيئا، وقالوا: الله مستغن عنه. وهذه الأقوال متقاربة في معنى الآية. والمشركون الذي فعلوا ما نص فيها لم يكفهم الإشراك الذي أشركوا بالله حيث جعلوا له شركاء حتى جعلوا الشرك في الأنصباء التي جعلوها بزعمهم لله وللشركاء، ثم لم يقنعهم ذلك حتى حادوا عن العدل فيما فعلوه، فجعلوا النقص في السهم الذي جعلوه لله بزعمهم، ولم يجعلوه في سهم الشركاء، ولذلك قال تعالى: {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]، لسوء صنيعهم وحكمهم بأهوائهم. وأما قولهم فيما لم يُعوضوه لله: الله مستغن عنه، فهو منتقض مع كونهم يخرجون نصيبا لله أولا، فإن الله مستغن عنه، فهلا أسقطوا ذلك النصيب ابتداءا، فإن (¬3) الله تعالى أغنى الأغنياء عن الشرك. ¬

(¬1) رواه ابن جرير (5/ 351) بنحوه. (¬2) رواه ابن جرير (5/ 350) بنحوه وزاد في الدر المنثور (3/ 363): ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبا الشيخ. (¬3) في (ب): لأن.

وكذلك هو سبحانه مستغن عن الجن والإنس وعن عملهم أيضا، إذ لا يعود عليه من ذلك نفع ولا يندفع به عنه (¬1) ضر، لأنه تعالى منزه عن ذلك، وإنما نحن معشر المكلفين لا نستغني عن توفيق الله لنا ولا عن رحمته لجميعنا، فعملنا إنعام منه، ومجازاتنا عليه إحسان من لدنه، فسبحانه ما أعظم شأنه، وأكثر امتنانه. (ق.96.أ) ¬

(¬1) في (ب): عنه به.

من أحكام العرب في الجاهلية: وأد البنات

فصل (من أحكام العرب في الجاهلية: وأد البنات) (¬1) ومن أحكام العرب في الجاهلية وأد البنات، وهو دفنهن أحياء وقتلهن بذلك. قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137]. والمعنى في الآية (¬2): إن شركاءهم الذين منهم الشياطين زينوا للمشركين قتل البنات خِيفة العَيلة والفقر، أو خيفة السباء، ليهلكوهم وليلبسوا عليهم (¬3) ما كانوا عليه من الدين قبل ذلك (¬4). وقوله: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون} [الأنعام: 137] تهديد وتوعد من الله لهم على ذلك. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) انظر تفسير ابن جرير (5/ 351). (¬3) ليس في (ب). (¬4) قال مجاهد: شركاؤهم: شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة. رواه ابن جرير (5/ 352) وابن كثير (2/ 179). ونحوه للسدي وقتادة وابن زيد.

وقال ابن سلام: كانوا يدفنون بناتهم وهن أحياء خشية الفاقة ويقولون: إن الملائكة بنات الله، والله صاحب بنات، فألحقوا البنات به. وقال الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، أي: ويجعلون لأنفسهم ما يحبونه، وهم البنون، ثم قال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58]، أي: محزون، ولذلك يسود وجهه. وقوله: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 59] معناه: يختفي من القوم من سوء تلك البشرى التي بشر بها في البنت التي ولدت له، ويتراءى مع نفسه فيما يفعل بها هل يتركها حية على ما في ذلك من احتمال الهوان في نفسه أو يدفنها في التراب ويقتلها. ثم قال: {أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 59] أي: ما يحكمون في ذلك فهو حكم سيء، وكيف لا يكون حكما سيئا وهم يخالفون الله تعالى في مراده، فإن الله تعالى خلق الذكر والأنثى لبقاء النسل، فإذا قُتل أحد الصنفين وقُصد استئصاله انقطع النسل، فكان في ذلك فساد العالم. ولهذا قال الله تعالى في فرعون: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] عندما كان يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم. وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62]، أي: يجعلون له (¬1) ¬

(¬1) في (ب): لله.

البنات وهم يكرهونها. {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} [النحل: 62]، قال مجاهد (¬1) وقتادة (¬2): الحسنى هاهنا هم البنون. وقال سبحانه: {َ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} [الزخرف: 15]، أي جعلوا لله جزءا من خلقه، وهو البنات، وجعلوا لأنفسهم البنين، قال الله لهم: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16]، أي اختصكم بالبنين، وأفرد نفسه بالبنات من جملة ما خلق، وهذا كما قال في ءاية أخرى: {َ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً} [الإسراء: 40]، ثم عظم قولهم فقال: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء: 40]. وقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} ... [الزخرف: 17]، هو كقوله في الآية المتقدمة: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى} [النحل: 58]، بالأنثى ضرب المشركون (¬3) للرحمن مثلا. وقوله: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} ... [الزخرف: 18]. معناه: أتخذ من نشأ في الحلي من النساء بنات، وهن لا يبن عن أنفسهن في الخصومة كما يبين الرجال عن أنفسهم، فكيف أصفاكم بالأفضل واصطفى ¬

(¬1) رواه ابن جرير (7/ 602) وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور (5/ 141). (¬2) رواه ابن جرير (7/ 602) وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور (5/ 141). (¬3) في (ب): المشركين.

لنفسه الأدون، وهذا على وجه التوبيخ لهم، أي لو كان يفعل ما ذكرتم لاصطفى الأفضل ولم يخصكم به، بل لم يفعل ذلك لنفسه، لأنه منزه عن الولد كما مضى، ولم يفعله بكم على معنى الاختصاص لكم بالبنين، وإنما كل ما يفعله لكم راجع إلى مشيئته فيمن يرزقه البنين أو البنات، كما قال سبحانه: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49] أي عليم بما يريد من ذلك قدير عليه (¬1). وقال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9]. قال المهدوي في التحصيل: يعني بالموءودة البنت التي تدفن حية، وسميت موءودة لأنها تُثقَّل بالتراب (¬2). وسؤال الموءودة على وجه التوبيخ لقاتلها، فسئلت وهي لا تعقل، كما يقال للطفل الذي لا يعقل إذا ضُرب: لم ضُربت وما ذنبك (¬3). وقيل: إنها تكون يومئذ كاملة في العقل. وقيل: معنى سئلت: سئل عنها، كما قال: إن العهد كان مسؤولا، أي: مسؤولا عنه. وروي عن علي وابن عباس أنهما قرءا: وإذا الموءودة سَألت بأي ذنب قتلت، وهي قراءة حسنة متمكنة المعنى. ¬

(¬1) من أول الصفحة (96 ب) تقريبا من النسخة (أ) إلى هنا طمس، وأتممتها من (ب). (¬2) قال ابن جرير (12/ 464): والموءودة المدفونة حية. (¬3) قال ابن كثير (4/ 477): تسأل الموءودة على أي ذنب قتلت، ليكون ذلك تهديدا لقاتلها فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا.

من أحكام العرب التحليل والتحريم في المطعومات

فصل (من أحكام العرب التحليل والتحريم في المطعومات) (¬1) ومن أحكام العرب التحليل والتحريم في المطعومات، قال الله تعالى فيما حكاه عنهم: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ} [الأنعام: 138]. فقوله: (حجر) أي حرام، ومنه قوله تعالى: {حِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 22] أي: حراما محرما. ومعنى ذلك أنهم حرموا ما أشاروا إليه من تلك الأنعام والحرث على سائر الناس حاشى خدمة الأوثان. وهو معنى قولهم: {لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء} [الأنعام: 138]، فإنهم أحلوا الحرث لخدمة أصنامهم دون من سواهم، وذبحوا لهم ذبائح لا يأكلها غيرهم، هكذا جاء في التفسير (¬2). ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) الذي في الدر المنثور (3/ 364) وابن جرير (5/ 355) وغيرها أن قولهم لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم يعنون الرجال دون النساء.

وقوله تعالى: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام: 138]، يعني البحيرة والسائبة (ق.97.أ) والحامي، وهي التي حرموا ركوبها كما تقدم. وقوله: {وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا} [الأنعام: 138]، قيل في التفسير: هي ما يذبحون لآلهتهم لا يذكرون اسم الله عليه (¬1). وقيل: كانت البحيرة لا تُركب، ولا يُحمل عليها شيء ذكر عليه اسم الله (¬2). وقيل: هو ما يستحلونه من أكل الميتة. ونبه الله على أن هذا كله إنما يفعلونه افتراء على الله، وأنه يجزيهم بافترائهم، وذلك يدل على تعذيبهم على ما نذكره. ثم قال تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء} [الأنعام: 139]. جاء في تفسير هذه الآية: إن الذي تلد تلك الأنعام من ذكر بعد بطون معلومة عندهم يأكله الرجال دون النساء، فإن مات اشتركوا جميعا في أكله. وعلى قول ابن عباس هو اللبن جعلوه حلالا للذكور وحراما للإناث (¬3). ¬

(¬1) قاله القرطبي (7/ 95). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (2/ 180) والقرطبي (7/ 95) وابن جرير والدر المنثور (3/ 364). (¬3) رواه ابن جرير (5/ 357)، وزاد في الدر المنثور (3/ 364): الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبا الشيخ.

وقد روي عنه مثل القول الأول. وقال قتادة (¬1): هو ألبان البحائر حللوه للذكور وحرموه على الإناث. والأزواج هم نساؤهم، وقد قيل: هم هاهنا بناتهم. ثم قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاء عَلَى اللهِ} [الأنعام: 140]، فأخبر سبحانه بخسران من قتل الأولاد وحرم ما رزقه الله. وفرق تعالى ما (¬2) بين هذين الفعلين، فجعل قتل الأولاد سفها ممن فعلوه، أي جهلا منهم بغير علم عندهم، وجعل تحريم الرزق ممن حرموه افتراء على الله، أي فعلوه افتراء منهم على الله بأن ينسبوا (¬3) ذلك التحريم إليه سبحانه، ولم يذكر تعالى عنهم هذا المعنى في قتل الأولاد. وفي الممكن أن يكونوا صنفين: - فيقتل أحدهما الأولاد. - ويحرم الصنف الآخر ما رزقهم الله. ويجوز أن يكون الذين يقتلون أولادهم هم بعينهم يحرمون ما رزقهم الله، لكن يفعلون ذلك باعتبارين مختلفين، فينسبون أحد الحكمين إلى الله دون الثاني. ¬

(¬1) رواه ابن جرير (5/ 357) وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ، كما في الدر المنثور (3/ 364). (¬2) سقط من (ب). (¬3) سقط من (ب).

وخرج البخاري (¬1) من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ} [الأنعام: 140]، إلى قوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]. ثم قال سبحانه بعد هذا: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأنعام: 142]. وهذا خطاب للمؤمنين بأن يأكلوا مما رزقهم الله ولا يتبعوا خطوات الشيطان في التحريم والتحليل بآرائهم، كما فعله أهل الجاهلية (ق.97.ب) في اتباع شياطينهم بمجرد أهوائهم. وقوله: {َومِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: 142] تقديره: وأنشأ حمولة وفرشا، ولذلك انتصب، إذ هو محمول على قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141]. والحمولة: ما حمل عليه من الإبل والبقر. والفرش: ما لم يحمل عليه من الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم (¬2). وقال ابن زيد: الحمولة: ما يركب، والفرش: ما يؤكل ويحلب (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (3/ص1297، رقم 3334). (¬2) رواه ابن جرير (5/ 373) وذكره ابن كثير (2/ 182) عن السدي. (¬3) رواه ابن جرير (5/ 373) بمعناه، وذكره ابن كثير (2/ 182) والقرطبي (7/ 112).

وقوله: الحمولة ما يركب، إشارة إلى ما قال غيره من أن الحمولة كل ما يحمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، وذلك غير مفهوم الآية، فإن المقصود بها إنما هو الإبل والبقر والضأن والمعز. دل على ذلك قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: 143]، إذ جعله بدلا من الحمولة والفرش، ثم فسرها بما ذكرناه، فقال: {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143]، ثم قال: {وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144]. ومعنى {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أي: ثمانية أفراد، وهي ذكر وأنثى من هذه الأنواع الأربعة، فتصير ثمانية، وسميت أزواجا لأن كل فرد منها يحتاج إلى غيره، فالذكر يحتاج إلى أنثى، والأنثى تحتاج إلى ذكر، فكل واحد منهما زوج، أي زوج لصاحبه. قال الهروي: الزوج في اللغة الواحد الذي يكون معه آخر، والاثنان زوجان، يقال: زوجا خف، وزوجا نعل، والزوجان من الضأن ذكر وأنثى، والرجل زوج المرأة، (والمرأة زوج الرجل) (¬1). ثم قال تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام: 144]، وهذا احتجاج على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر في الآيات المتقدمة. ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب).

ومعنى ذلك: ما الذي حُرم (¬1) عليكم في ما زعمتم ءالذكرين من الضأن والمعز، أم الأنثيين من الضأن والمعز؟ والنبي - عليه السلام - هو المأمور أن يبلغ ذلك للمشركين بقوله تعالى له: {قُلْ} [الأنعام: 144]. فإن ادعوا تحريم الذكرين أوجبوا تحريم كل ذكر من ولد الضأن والمعز، وهم لا يفعلون ذلك، بل يستمتعون بلحوم بعض الذكران وظهورها. وإن ادعوا تحريم الأنثيين أوجبوا تحريم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم، وهم لا يفعلون ذلك. وإن ادعوا تحريم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز أوجبوا على أنفسهم تحريم كل ما يولد من ذكر وأنثى، فبطل عليهم ما ادعوا أن الله حرمه عليهم. ولذلك قال: {نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]، وهم لا علم عندهم ولا حجة لهم. والقول في قوله تعالى: {وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144] كالقول فيما قبله من ذكر الضأن والمعز. ثم قال تعالى (¬2): {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144]. ¬

(¬1) في (ب): حرم الله. (¬2) سقط من (ب).

معناه: أجاءكم نبيء بما تقولون أم حضرتم (ق.98.أ) ربكم فسمعتم ذلك منه؟. وهذا على وجه التبكيت لهم والقطع لحجتهم فيما اخترعوه من الأحكام واختلقوه من الكذب. وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]، ثم أخبر في آخر الآية بعقوبة من يفعل ذلك في المآل على ما (¬1) سيأتي ذكره. ¬

(¬1) سقطت (ما) من (أ).

النسي عند العرب

فصل (النسي عند العرب) (¬1) ومن أحكام العرب في التحليل والتحريم ما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، إذ قال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ} [التوبة: 37]. وكانت النَّسَأة، الذين ينسَؤون الشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من أشهر الحرم، ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر، هم (¬2) من بني فُقيم بن عدي، فخد من كنانة على ما ذكر ابن إسحاق. قال (¬3): وكان أول من نسأ الشهور على العرب فأحلت ما أحل وحرمت منها ما حرم القلمّس، وهو حذيفة بن عبد بن فُقيم، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ثم قام بعد عباد: قلع بن عباد، ثم قام بعده أمية ابن قلع، ثم قام بعده عوف بن أمية، ثم قام بعده أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) هذا خبر "كانت" المتقدمة. (¬3) السيرة النبوية (1/ 32) بتصرف.

وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فحرم الأشهر الحرم الأربعة: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم فأحلوه وحرم مكانه صفر فحرموه ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم. فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال: اللهم إني قد (¬1) أحللت لهم أحد الصفرين: الصفر الأول ونسأت الآخر للعام المقبل، فقال في ذلك شاعرهم (¬2)، يفخر بالنسأة على العرب من أبيات له. ألسنا الناسئين على مَعد ... شهورَ الحل نجعلها حراما وقول ابن إسحاق: (قد أحللت لكم أحد الصفرين، ونسأت الآخر) إنما يعني بهما المحرم وصفر، وكانوا يسمونهما الصفرين، فإذا احتاجوا إلى القتال في المحرم أحلوه في ذلك العام، وحرموا صفر، فإذا كان في العام المقبل حرموا المحرم وأحلوا صفر، هكذا جاء عن قتادة (¬3) وغيره من أهل التفسير. وذكر مكي في الهداية هذا المعنى ونسبه إلى أبي عبيد، ثم قال: وقد تأول قوم قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صفر» (¬4) أنه إنما يعني هذا المعنى. (ق.98.ب) ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) هو عمير بن قيس كما في السيرة لابن إسحاق (1/ 33). (¬3) رواه ابن جرير (6/ 370). (¬4) رواه البخاري (5380 - 5387 - 5425) ومسلم (2219 - 2220 - 2222) وأحمد (3/ 382).

قال مكي: ثم كانوا يحتاجون إلى صفر لقتال فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يتمادون على تحريمه، ثم كذلك يؤخرون من شهر إلى شهر حتى استدار المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به بعد دهر طويل. لأنهم كانوا ينتقلون إلى تحريم شهر ويقيمون عليه مدة ثم يحتاجون إلى القتال فيه فأتى الإسلام، وقد رجع الشيء إلى حقه، فذلك قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» (¬1). فقوله: {يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} [التوبة: 37] هو أنهم يحلون صفر ثم يحتاجون إلى تحريمه فيحرمونه ويحللون ما قبله، ثم يحتاجون إلى تحليل صفر فيحلونه ويحرمون ما بعده، هكذا كانوا يصنعون. قال: وقال مجاهد: كانت العرب تحج عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجة، فلما حج النبي - عليه السلام - كان الحج تلك السنة في ذي الحجة، فهو معنى قوله تعالى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. أي: قد استقر في ذي الحجة فلا جدال فيه، انتهى ما ذكره مكي. وقد ظهر بما تقدم أن الذين ينسؤون الشهور كانوا في الجاهلية، وأن النسي كان من أفعالهم فيها. فقول الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] من أدل دليل على أن الذين كانوا يفعلونه كفار. وهذا الفعل منهم زيادة في كفرهم، وذلك ينسحب على أهل الجاهلية من الفاعلين وغيرهم حسبما يأتي ذكره. ¬

(¬1) رواه البخاري (3025 - 4144 - 4385 - 5230 - 7009) ومسلم (1679) عن أبي بكرة.

الاستقسام بالأزلام عند العرب

فصل (الاستقسام بالأزلام عند العرب) (¬1) ومن أحكام العرب في الجاهلية الاستقسام بالأزلام، وقد سماه الله تعالى فسقا، وجعله رجسا من عمل الشيطان. والعجب من قريش كيف صورت إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، وهما بريئان من ذلك، خرج البخاري (¬2) عن ابن عباس - رضي الله عنه - (¬3) أن رسول الله (¬4) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت، وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت وأخرجت صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام، فقال: «قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط»، ثم دخل البيت فكبر في نواحيه. فقريش في ذلك مكابرة إذ فعلت في نسبة الأفعال التي هي رجس من عمل الشيطان إلى من هو مصطفى عند الله تعالى بخلاف علمها، فإنها تعلم أن النبيين المختارين لم يفعلا ذلك قط بإعلام النبي - عليه السلام - لنا بذلك، وما عملت ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) صحيح البخاري (2/ص580، رقم 1524). (¬3) من (ب). (¬4) في (ب): النبي.

قريش في ذلك ما عملت إلا لتحسن فعلها في الاستقسام بالأزلام (ق.99.أ) عند من يقف على صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ويرى بأيديهما الأزلام من العرب وغيرهم. وقد نهى الله عز وجل عن الاستقسام بالأزلام فقال: {وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]، معناه: وحرم عليكم أن تستقسموا بالأزلام، إذ عطفه على المحرمات، وقال في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. والاستقسام (¬1) مشتق من القسم الذي هو مصدر قسم الرجل يقسم: إذا أفرز قسما من قِسم (بكسر القاف) أي نصيبا من نصيب، فكأنهم يطلبون بالاستقسام ما تخرجه لهم القداح (¬2) من الِقسم والحظ الذي يقفون عنده ويرضون به. ومثاله: الاستسقاء، لأنه استدعاء السقي وطلبه. وجاء في التفسير أن (¬3) الأزلام (¬4) هي (¬5) القداح، واحدها زَلم وزُلم (بفتح الزاي وضمها) كانت العرب تستقسم بها عند الأمور إذا همت بها من ¬

(¬1) قال الجوهري في الصحاح (5/ 390): واستقسم: طلب القَسم بالأزلام. وانظر تهذيب اللغة للأزهري (8/ 319). (¬2) سقط من (ب). (¬3) من أول السطر إلى هنا سقط من (ب). (¬4) انظر تهذيب اللغة للأزهري (13/ 149) والصحاح للجوهري (5/ 287). (¬5) كذا في (ب)، وفي (أ): هذا.

سفر أو غير ذلك، وكان مكتوبا على واحد منها: "افعل"، وعلى الآخر: "لا تفعل"، والثالث: غُفل، لا كتاب عليه. فإذا أداروا القداح وخرج الذي عليه: "افعل" مضى لحاجته، وإذا خرج الذي عليه: "لا تفعل" توقف عنها، وإن خرج الغفل أعاد الضرب. وقال ابن إسحاق (¬1): "كان هُبلُ أعظم صنم لقريش بمكة، وكان على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر التي يجمع فيها ما يُهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة، كل قدح منها (¬2) فيه كتاب: قدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله. وقدح فيه: "نعم" للأمر، إذا أرادوه يضرب به في القداح. فإن خرج قدح "نعم" عملوا به. وقدح فيه: "لا" إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه: منكم، وقدح فيه: ملصق، وقدح فيه: من غيركم، وقدح فيه: المياه، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القِدح فحيث ما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما، أو ينكحوا منكحا، أو يدفنوا ميتا، أو شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور فأعطوه ¬

(¬1) السيرة لابن إسحاق (1/ 97 - 98) مع اختلافات يسيرة. (¬2) في (ب): منه.

صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلاهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج عليه "منكم"، (ق.99.ب) كان منهم وسيطا، وإن خرج عليه: "من غيركم" كان حليفا، وإن خرج عليه: "ملصق" كان على منزلته فيهم لا نسب له ولا حلف، وإن خرج فيه شيء مما سوى هذا مما يعملون به من "نعم" عملوا به، وإن خرج: "لا"، أخروه (¬1) عامه ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت له القداح. وذكر (¬2) أن عبد المطلب فعل هكذا ببنيه إذ أراد أن يذبح أحدهم لنذر كان قد نذره، فإنه أمرهم أن يأخذ كل رجل منهم قدحا، ويكتب عليه اسمه، ثم يأتوه جميعا بها، فلما فعلوا ذلك دخل بهم على هبل في جوف الكعبة، وقال لصاحب القداح: اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه فخرج القدح على عبد الله والد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم افتداه بالإبل في حديث طويل. وكان القدح يخرج على عبد الله والإبل تزاد عشرا فعشرا حتى بلغت الإبل مائة، وعبد المطلب في كل ذلك يدعو الله عند هبل، فلما انتهى الأمر إلى مائة من الإبل خرج القدح عليها فنحرت وتركت لا يصد عنها أحد. ¬

(¬1) في (ب): أخرجوه، وهو خطأ. (¬2) السيرة لابن إسحاق (1/ 99)، ونقل المصنف هنا مختصر.

وهكذا ذكر (¬1) عن عبد المطلب أيضا أنه فعل حين حفره لزمزم، إذ وجد فيها ما دفنته هنالك جُرهُم من الأسياف والأدراع والغزالين من الذهب، فإنه ضرب عليها بالقداح عند هبل هو وقريش إذ نازعوه في ذلك، فخرج الغزالان للكعبة والأسياف والأدراع لعبد المطلب دون قريش، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة وضرب في الباب الغزالين من الذهب. فانظر كيف جعل أهل الجاهلية من قريش وغيرهم أحكامهم في الدماء والأموال إلى الاستقسام بالأزلام من غير شريعة متبعة. وفي ذلك من الجزاف في الأحكام ومن الخطر في الأمور ما لا خفاء به (¬2). ¬

(¬1) السيرة لابن إسحاق (1/ 94 - 95)، ونقل المصنف هنا مختصر. (¬2) في (ب): فيه.

اختراع قريش أحكاما في الجاهلية وحمل العرب عليها

فصل (اختراع قريش أحكاما في الجاهلية وحمل العرب عليها) (¬1) اخترعت قريش لأنفسها أحكاما في الجاهلية بحسب تحسين عقولها لها، وحملت العرب على ما شاءت من الأحكام فدانوا بها. ذكر ذلك ابن إسحاق فقال (¬2): وقد كانت قريش لا أدري أقبل الفيل أو بعده ابتدعت أمر الحُمس رأيا رأوه وأداروه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرمة وولاة البيت وقاطنو مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل (ق.100.أ) منزلتنا، ولا تعرف له (¬3) العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون (¬4) الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم. وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويُقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) السيرة لابن إسحاق (1/ 125) مع اختلافات يسيرة. (¬3) ليس في (ب). (¬4) في (ب): تعظموا.

إلا أنهم قالوا نحن أهل الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها، كما نعظمها نحن الحُمس، والحمس أهل الحرم، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك. قال ابن إسحاق (¬1): ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط ولا يسألوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما. ثم رفعوا في ذلك فقالوا لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاؤوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس. فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة، ولم يجد ثياب الحمس (¬2) فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه، ثم لم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا. فكانت العرب تسمي تلك الثياب: اللقى، فحملوا على ذلك العرب فدانوا به ووقفوا على عرفات وأفاضوا منها وطافوا بالبيت عراة، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعا مفرجا عليها ثم تطوف فيه، فقالت امرأة من العرب وهي كذلك تطوف بالبيت: ¬

(¬1) السيرة لابن إسحاق (1/ 126) مع اختلافات يسيرة. (¬2) كذا في السيرة لابن إسحاق وفي النسختين: احمس.

اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله (¬1) ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحل ألقاها فلم ينتفع بها هو ولا غيره. فقال قائل من العرب يذكر شيئا تركه من ثيابه فلم يقربه وهو يحبه: كفى حزنا كربي عليه كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم يقول: لا يُمس. فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله عليه حين أحكم له دينه وشرع له سنن حجه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ... [البقرة: 199]، يعني قريشا، والناس العرب، فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها. وذكر عن جبير بن مطعم قال (¬2): لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم منها توفيقا من الله له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: وأنزل الله عليه فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت حين طافوا به عراة وحرموا ما جاؤوا به من الحل من الطعام: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ ¬

(¬1) رواه الحاكم (2/ 350) عن ابن عباس وصححه على شرطهما. (¬2) السيرة النبوية (1/ 127).

مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31ـ32]. فوضع الله أمر الحُمس وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس بالإسلام حين بعث الله به رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فصل ولأهل الجاهلية أحكام مخترعة في غير ما شيء بحسب اختياراتهم، وقد مضى منها في تحريم المأكل وغير ذلك ما مضى. ومن جملة ذلك ما حللوه لأنفسهم مما حرمه الله في كتابه أو على لسان رسوله: كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب، وهي حجارة كانوا يعبدونها، وكالخمر، والميسر، وأنواع أُخَر، مثل: نكاح الشغار في بابه (¬1)، ومثل ما يكون من الغرر في أبواب البيوع كبيع الملامسة، والمنابذة، والمناجشة، وبيع الحصاة، وكبيع المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة، وغير ذلك، مما لا نطول بذكره (¬2). إذ لم نقصد فيما ذكرناه عنهم النظر في الجزئيات من أحكامهم، وإنما قصدنا إلى ذكر الكليات من أفعالهم التي ذهبوا بها إلى إحداث الشرائع وابتداع الأحكام. وربما كان الشيء عندهم حلالا ثم يحرمونه لعارض يعرض لهم، كما كانوا يفعلونه بالخمر، فإن من كان له عند قوم تِرَة يطلبهم بها حرم الخمر على نفسه حتى يدرك ثأره، وحينئذ تحل له، وذلك موجود في أشعارهم. ¬

(¬1) في (ب): باب. (¬2) ولا أطيل بالتعليق عليه وشرح معانيه، وأمره شهير في كتب الفقه.

قال امرؤ القيس: حلت لي الخمر وكنت امرءا ... عن شربها في شغل شاغل (ق.101.أ) وقال الشنفرى: حلت الخمر وكانت حراما ... وبلاي ما ألمَّت تحل وقد كان عندهم في الجاهلية الوقوف في مشكلات أمورهم عندما يقوله الكاهن أو العراف من الرجال والنساء مما تلقيه الشياطين على ألسنتهم ويقذفونه إليهم، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} [الأنعام: 121]. والحكايات في ذلك مشهورة قد ذكرت في السير وغيرها. وقد قطع الله سبحانه تلك الأحكام وأبطل جميعها بالإسلام، ولله الحمد والمنة.

باب في حكم هذا القسم

باب في حكم (¬1) هذا القسم: قد قررنا في الفصول المتقدمة أفعال أهل الجاهلية في عبادة الأوثان واختراع الأحكام , وأبرزنا فيها تلك الأفعال فعلا فعلا، ونسبنا ما ذكره الأخباريون في ذلك إليهم, وأتينا بما ذكره الله سبحانه من ذلك في كتابه العزيز، ليعلم شدة جرأتهم على الله تعالى في الإشراك به على أنواع من الشرك وضروب من التحكم في دياناتهم. ونحن الآن نتكلم في الحكم اللاحق بهم على ما فعلوه من ذلك في الجاهلية بحسب ما يظهر من الشريعة. فنقول والله الموفق للصواب: وجدنا الشرع قد سماهم بالمشركين, ونسب الشرك إليهم في جاهليتهم , وأطلق لفظ (¬2) الكفر في حقهم. وقبل أن نذكر الآيات المتضمنةَ لذلك من الكتاب العزيز والأحاديثَ الواردةَ عن النبي - عليه السلام - في هذا المعنى فلنجعل قاعدة تكون أصلا في الباب، ليعرف بها وجه استدلالنا على ما نستدل عليه. وذلك أن الحجة إذ كان النبي - عليه السلام - بمكة إنما قامت على قريش الساكنين بها ومن جاورهم فقط , وأما سائر العرب الذين نأوا عنهم فلم ¬

(¬1) في (ب): أحكام. (¬2) ليس في (ب).

تقم الحجة عليهم إلا بالمدينة، إذ كان النبي - عليه السلام - فيها بحال أمن وطمأنينة في الدعوة إلى الله. وإذا تبين هذا بنينا عليه ما نحتاج فيما نحن بسبيله إليه فلنبسط ما ذكرناه , فنقول: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت له بعد المبعث حالتان: حالة بمكة قبل الهجرة، وحالة بالمدينة بعد الهجرة. فأما الحالة الأولى إذ كان بمكة فهي على ما نصفه: كانت بينه وبين قومه قريش مباعدة كثيرة ومنافرة شديدة , لكنه احتمى منهم بعمه أبي طالب, (ق.101.ب) ثم بعمه حمزة وبعمر بن الخطاب عندما أسلما, فلما لم تقدر قريش على أن تصل إليه بمكروه جعلت تكذبه وتنفر الناس عنه. ذكر ابن إسحاق (¬1) أن الوليد بن المغيرة أخذ مع قريش عندما حضر الموسم فيما يقولون لسائر العرب عن النبي - عليه السلام - حتى لا يختلف قولهم فيؤخذ عليهم الكذب في أمره، فذكروا أنهم يقولون إنه كاهن وإنه شاعر وإنه ساحر، فقال لهم: ما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر, يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وزوجه وبين المرء (¬2) وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك, فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا له أمره، وكان هذا الفعل منهم في أوائل المبعث. ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 165) باختصار وتصرف. (¬2) ليس في (ب): وبين المرء.

ثم قال ابن إسحاق (¬1): بعد نقض الصحيفة وذلك بعد المبعث بسنين فكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه، وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذرونه الناس ومن قدم عليه من العرب. وذكر (¬2) قصة الطفيل بن عمرو الدوسي وتحذيرَ رجال من قريش له أمر النبي - عليه السلام - , وقولَهم إن قوله كالسحر يفرق بين المرء وزوجه، وأمرَهم إياه بأن لا يكلمه ولا يسمع منه حتى جعل الكرسف في أذنه, لئلا يسمع قوله, وأبى الله إلا أن يسمعه بعض قراءة النبي - عليه السلام - , وهو يصلي عند الكعبة, فلما سمعها كان ذلك سببا إلى أن اجتمع مع النبي - عليه السلام - في بيته فعرض عليه الإسلام فأسلم. ثم ذكر ابن إسحاق أن النبي - عليه السلام - بعد موت عمه أبي طالب ورجوعه من الطائف ودخوله مكة في جوار المطعم بن عدي, وذلك على مقربة من الهجرة كان يعرض نفسه في المواسم إذا كانت على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به (¬3). ¬

(¬1) السيرة النبوية (2/ 22). (¬2) السيرة النبوية (2/ 22). (¬3) السيرة النبوية (2/ 49).

وذكر (¬1) عن ربيعة بن عباد قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا, وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد , وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله عز وجل ما بعثني به». قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان , عليه حلة عدنية, فإذا فرغ (ق.102.أ) رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللاتَ والعزى من أعناقكم، وحلفاءَكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. قال: فقلت لأبي: ياأبة من هذا الرجل الذي يتبعه يرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب. وذ كر ابن إسحاق (¬2) أن اجتماع النبي - عليه السلام - مع الأوس والخزرج بالليل إذ بايعوه بالعقبة على نصرتهم له وحمايتهم إياه إنما كان سرا من قريش وعن غير علم منهم، ثم إنهم سألوهم عن ذلك بعدما أصبح فأنكروه لهم، فلما تبين لقريش صحة ذلك بعد رحيلهم تبعوهم فأدركوا منهم سعد بن عبادة ¬

(¬1) السيرة النبوية (2/ 50). (¬2) السيرة النبوية (2/ 68) بمعناه.

فصرفوه إلى مكة وضربوه وأهانوه حتى استنقذه بعضهم لمعرفة تقدمت بينه وبينهم. فإذا كانت قريش تعامل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أول مبعثه إلى هجرته هذه المعاملة من التكذيب له وتنفير الناس عنه وتخويف من آمن به فيلزم عن ذلك أن يكون من يحضر الموسم من العرب قد يلتبس عليهم أمر النبي - عليه السلام - فلا تقوم الحجة عليهم كما ينبغي، وإن كان فيهم من قامت عليه الحجة بسماع القرآن منه ومعرفة السامعين له بإعجازه فيتجه ذلك في بعض من حضر الموسم لا في كلهم. لكون الناس متباينين في الذكاء والفطنة، فقد أرسل أبو ذر الغفاري أخاه إلى مكة عندما بلغه مبعث النبي - عليه السلام - وقال له: اعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فتوجه أخوه إلى مكة، ثم رجع فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر فقال له أبو ذر: ما شفيتني مما أردت (¬1). وقد صدق أبو ذر في هذا القول، إذ ليس فيه ما يؤذن بالنبوة، ثم توجه أبو ذر بنفسه حتى لقي النبي - عليه السلام - وسمع قوله فأسلم حينئذ. وذلك يدل على ما كان بينه وبين أخيه في الفهم من المباينة. ثم إن من يحضر الموسم من العرب هم الأقل بالإضافة إلى من بقي منهم في قبائلهم، فإذا انصرفوا إليهم بعد حضور الموسم وأخبروهم بذكر النبي - عليه السلام -، فلا بد أن يخبروهم بحاله مع قريش، وذلك مما يشوش على السامعين أمر النبي - عليه السلام - ويعتقدون أنه لو كان محقا لاتبعه قومه. ¬

(¬1) خرجه البخاري (3648) ومسلم (2474) عن ابن عباس.

ومقصودنا من هذا كله تبيين ما ذكرناه من كون الحجة لم تقم على كافة العرب، إذ كان النبي - عليه السلام - (ق.102.ب) بمكة. فإن قيل: إنما استندتم (¬1) في هذا المعنى إلى ما ذكر ابن إسحاق، وتلك الأخبار إنما هي من أقاصيص السير، فليس ينبغي أن تجعل قاعدة يبنى عليها الأصل الذي ذكرتم. قلنا: نحن نعلم قطعا أن حالة النبي - عليه السلام - كانت بمكة على نحو مما قال ابن إسحاق، وإن لم نعلم ما ذكره من تلك الأخبار على التعيين، فإن القرآن قد نطق بتكذيب قريش له، قال الله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس: 41]، وقال: {و َإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} [فاطر: 4] وقال: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} [النحل: 113]، وقال: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ} [الأنعام: 57]، وقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] (¬2) وقال: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقّ} [الأنعام: 66]. ونطق القرآن بنسبتهم إليه الكهانة والجنون والشعر، قال الله تعالى (¬3): {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 29 - 30]. ¬

(¬1) في (ب): أسندتم. (¬2) في (ب): سقطت هذه الآية والتي قبلها من (ب). (¬3) ليس في (ب).

وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 40 - 41 - 42] (¬1) وقال: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] وقال: {مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46]. وذكر تعالى عنهم أنهم قالوا عن القرآن إنه أساطير الأولين، وقالوا فيه إذا تلي عليهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصافات: 15]. وقال زعيم منهم (¬2): {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} ... [المدّثر: 24ـ25]. وقال تعالى فيما أرادوا أن يفعلوه بالنبي - عليه السلام -: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]، ومعنى ليثبتوك ليسجنوك. ولا يأتمرون بينهم في هذه الثلاثة الأشياء إلا وهم الظاهرون بمكة، والغالبون على أمرها. ولأجل ذلك اتفقوا على معاداة بني هاشم حتى دخلوا هم وبنو المطلب في الشعب وكتبوا بينهم الصحيفة وعلقوها في الكعبة , ولم يلق النبي - عليه السلام - وعشيرته أشد من ذلك لأجل الجهد الذي أصابهم، إذ كانوا لا يبايعونهم، وبسبب ظهور صناديد المشركين بمكة واستيلائهم على من دونهم من قبائلهم كانوا يعذبون من يؤمن منهم بالنبي - عليه السلام - ليفتنوهم عن دينهم. ¬

(¬1) من "كاهن" إلى هنا سقط من (ب). (¬2) هو الوليد بن المغيرة المخزومي، كما في تفسير ابن كثير (4/ 443) وغيره.

وذلك هو السبب في هجرة من هاجر من المؤمنين إلى أرض الحبشة ليعبدوا الله تعالى بها آمنين من غير أن يجدوا من يفتنهم عن دينهم، وكان ذلك بأمر النبي - عليه السلام -، إذ قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنها أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه»، ففعل الله ذلك بهم، وأقدمهم على رسوله بالمدينة آمنين مطمئنين حين فتح الله عليه خيبر. وكذلك أمر النبي - عليه السلام - أصحابه الذين بقوا معه بمكة أن يهاجروا إلى المدينة قبل هجرته. وقد نقل إلينا بالتواتر أنه - عليه السلام - هاجر إلى المدينة (ق.103.أ) هو وأصحابه واتخذوها دار قرار وموضع استيطان، ولو كان بمكة آمن السرب قرير العين لم يخرج منها , كما قال - عليه السلام - لمكة في حديث: «أما والله إني لأعلم أنك أحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت» (¬1). وكان خروجه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع صاحبه أبي بكر من مكة على حال خفية من قريش، ولذلك لجأ إلى الغار فأقاما فيه ثلاثا. ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 305) عن أبي هريرة بسند صحيح. وله شاهد عن ابن عباس، أخرجه الترمذي (3926) وابن حبان (3709) والحاكم (1787) وصححه.

وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز كونهما في الغار حيث قال: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. فأخبر سبحانه بأنهم أخرجوه من مكة، وأخبر بأنه - عليه السلام - كان يشجع صاحبه في الغار وينهاه عن الحزن ويخبره (¬1) بأن الله معهما، يعني بذلك أن الله يأخذ بأعين قريش عنهما عند اتباعهم لهما حتى (¬2) لا يعثروا على موضعهما. يدل على هذا التأويل أن أنس بن مالك روى عن أبي بكر قال: قلت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في الغار: لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه, قال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (¬3). وليس معنى قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40] أنهم أخرجوه حقيقة بأن أزعجوه عن مكة حتى خرج منها جهارا، وإنما معناه أنهم اضطروه إلى الخروج بالتكذيب له والاستهزاء به والتتبع لأمره، وذلك هو معنى قوله - عليه السلام - في الحديث المتقدم: «ولولا أن قومي أخرجوني منك ماخرجت». ¬

(¬1) في (ب): ويخبر. (¬2) في (ب): على، وهو تصحيف. (¬3) رواه البخاري (3453 - 3707 - 4386) ومسلم (2381) والترمذي (3096) وأحمد (1/ 4) وابن حبان (6278 - 6869) وابن أبي شيبة (8/ 459) والبزار (36) وأبو يعلى (66) وغيرهم عن أنس عن أبي بكر.

فقد ثبت بما ذكرناه من هذه الطرق الصحيحة والمقطوع بها صحة معنى (¬1) ما ذكره ابن إسحاق، وبان بذلك ما ذهبنا إليه من أن تلك الحالة تمنع من قيام الحجة بمكة على سائر العرب بأجمعهم. الحالة الثانية: هي حالة النبي - عليه السلام - بالمدينة بعد الهجرة وكانت على ضد حالته بمكة, قد أبدل الله له فيها حالة الخوف بالأمن، وحالة التكذيب بالتصديق، وحالة الخذلان له بالنصرة التامة. إذ قيض الله له أصحابا وأنصارا وأعوانا على الحق، يقفون عند أمره، وينقادون لطاعته، ويستسلمون لحكمه، ويقاتلون عنه من عاداه (¬2)، وينصرونه على كل من ناوأه، وهم المهاجرون الذين آمنوا به من قومه قريش (وغيرهم) (¬3)، والأنصار من (أهل المدينة) (¬4) الذين هم الأوس والخزرج. قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]. فأخبر الله عن المهاجرين أنهم ينصرون الله ورسوله إلا أن الله (ق.103.ب) تعالى لم يسمهم بالأنصار وسماهم بالمهاجرين لهجرتهم عن أوطانهم، وليفرق سبحانه بينهم وبين الأوس والخزرج الذين خصهم باسم ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) في (ب): عاده. (¬3) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬4) ما بين القوسين سقط من (ب).

الأنصار، سئل أنس بن مالك فقيل له: أكنتم تسمون بالأنصار في الجاهلية أو هو اسم سماكم الله به؟ فقال: بل هو اسم سمانا الله به (¬1). وهذا كما قال، فإنه لا يعرف لهم هذا الاسم إلا في الإسلام، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة: 100]، وقال: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]. ويبين ذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [الأنفال: 72]. وقوله: {والَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال: 74]. فإنه سبحانه وصف صنفين من المؤمنين: أحدهما بأنهم هاجروا وجاهدوا وهؤلاء هم المهاجرون. والثاني: بأنهم آووا ونصروا, وهذه هي (¬2) صفة الأنصار الخاصة بهم. ففي هذه الحالة قامت الحجة على سائر العرب كافة، إذ ظهرت معجزته - عليه السلام - عند جميعهم، وانتشرت دعوته وأمن أتباعه، والقرآن يأخذه عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آمن به من سائر القبائل ويبثونه في بلادهم وعند عشائرهم، وسراياه تغزو المشركين منهم، فسرى الإيمان في قبائل العرب ودخل في ¬

(¬1) رواه البخاري (3565) وغيره عن أنس. (¬2) سقط من (ب).

الإسلام كثير منهم حتى اختلط المسلمون منهم بالمشركين بكونهم كانوا ينزلون الصحاري والفلوات، فكانت الأمارة المفرقة بينهم الأذان. فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1) كان إذا غزاهم لا يغير حتى يطلع الفجر، وكان يستمع الأذان, فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار, ثم لما كان بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، كما قال تعالى، فلم يتوف الله رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا وقد أسلم جميع قبائل العرب ولم يبق للشرك فيهم موضع. ومن ارتد منهم بعد وفاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتلهم أبو بكر حتى عاودوا الإسلام طوعا وكرها. واقتصارنا هاهنا على أن الحجة قامت بالمدينة على كافة العرب, إنما هو بالنظر إلى احتياجنا إلى ذلك في الحكم اللاحق بهم على عبادة الأوثان حسبما نذكره، وإلا فقد قامت الحجة حينئذ على جميع من بلغته الدعوة من الملوك وغيرهم، إذ كان النبي - عليه السلام - يعم بدعوته الجميع، فمنهم من يرسل إليه رسولا، أو يكتب إليه كتابا، ومنهم من يباشر دعوته، وذلك بحسب ما يتأتى في تبليغ الدعوة. والكلام على (ق.104.أ) تنويع هذا وبسطه ليس من غرضنا الآن. ¬

(¬1) في (أ): - عليه السلام -.

فصل فإذ وتبين (¬1) ما أردناه من كون العرب لم تقم الحجة (¬2) على جميعهم بمكة وإنما قامت عليهم بالمدينة، فلنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: إن الكتاب العزيز ينقسم إلى مكي ومدني: فالمكي منه ما نزل بمكة قبل الهجرة، وهو الأكثر. والمدني ما نزل منه بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أو نزل على النبي - عليه السلام - وهو في سفر. والله تعالى يطلق على العرب في القرآن بأنهم مشركون وكفار، ونحن نفصل ذلك في المكي والمدني، ونقسم كل واحد منهما إلى قسمين، فنقول: أما المكي فإن الله تعالى إذا أخبر فيه عن العرب بالشرك والكفر فلا يخلو أن يكون المقصود به قريشا أو ينسحب ذلك القول على قريش وغيرهم من سائر العرب. فأما ما يكون المقصود به قريشا أو يكون الظاهر فيه ذلك فإنا لا نحتج به في هذا الباب الذي نحن بصدده، لأن إطلاق الشرك والكفر عليهم هو ¬

(¬1) في (ب): فإذا تقرر. (¬2) من (ب)، وفي (أ) أحيلت على الهامش ولا تظهر في نسختي.

حقيقة لأجل أن (¬1) الحجة قد قامت عليهم بكون النبي - عليه السلام - بين أظهرهم، وهو يصدع بما أمره الله به ويسمعهم القرآن امتثالا لأمر الله تعالى له بذلك، إذ قال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]. والآية مكية، فمن لم يؤمن حينئذ فهو كافر بالنبي - عليه السلام - وبما جاء به من عند الله. ومثال ما نزل بمكة من القرآن فيما ذكرناه قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: 7]، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2]، وقوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6]، وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31]، وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، وقوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت: 47]، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49]، وقوله: {َوالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52]، وقوله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} [الأنبياء: 36]، وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]، ¬

(¬1) في (ب): لأن.

وقوله: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. فهذه الآيات أكثرها يعلم بسياق الكلام فيها أن المقصود بها (ق.104.ب) قريش. ومنها ما يكون الظاهر فيها ذلك. وأما (¬1) ما ينسحب على قريش وغيرهم من العرب فيما نزل من القرآن بمكة فذلك مما نحتج به في مسألتنا، لأن الله تعالى إذا أطلق على جميعهم الإشراك والكفر، وفيهم من قامت عليه الحجة، ومن لم تقم عليه علمنا بذلك أن حكمهم في الإشراك واحد من حيث اجتمعوا في عبادة الأوثان وجعلوا مع الله شركاء. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. فإن هذه الآية نزلت فيما كانت قريش وغيرهم يفعلونه في الجاهلية عند التلبية، إذ كانوا يقولون فيها: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك (¬2). ومما يدل على أن الآية ليس المقصود بها قريش فقط أن قبلها: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، فما جاء بعدها من الآيات انعطف عليها ورجع الضمير فيها كلها إلى عموم الناس. ¬

(¬1) في (ب): ومنها. (¬2) رواه مسلم (1185) عن ابن عباس.

وقد أطلق سبحانه عليهم لفظ الإشراك، ومن ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [الأنعام: 137] فقد أخبر الله تعالى أن قتل الأولاد زين لكثير من المشركين وأطلق عليهم لفظ الإشراك وهم منتشرون في قبائل العرب وإن يكن في قريش منهم شيء فنادر، لأنهم لم يكونوا معروفين بذلك وقد نقل أن الوأد لم يكن فيهم البتة، وأخبر الله تعالى أن الذين (¬1) زين ذلك للمشركين هم شركاؤهم. وجاء في التفسير أنهم الشياطين (¬2)، وقد كانوا يعبدونهم في الجاهلية كما تقدم، وتوعد الله تعالى من نزلت هذه الآية فيهم بقوله في آخرها: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]. وسيأتي الكلام على افتراء المشركين في الجاهلية على الله وما كانوا ينسبونه إليه سبحانه من أحكامهم وأفعالهم، على أنه قد مضى من ذلك ذكر عند سياق الآيات في التحليل والتحريم. ومن ذلك قول الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، فأطلق سبحانه الإشراك على آباء المشركين الذين كانوا في الجاهلية وماتوا قبل الإسلام، ونسب ذلك إلى من ¬

(¬1) في (ب): الذي. (¬2) قاله مجاهد وابن زيد والسدي، كما ذكر ابن جرير (5/ 352 - 353).

قاله من المشركين، فإن كانوا قريشا فقد أقروا على آبائهم (¬1) بالإشراك، وإن كانوا غيرهم من سائر العرب فكذلك. وكيفما كان فقد أُطلق لفظ الإشراك على من لم تقم عليه الحجة. وأما المدني من القرآن فينقسم أيضا باعتبار ما نحن بسبيله إلى قسمين: أحدهما: أن يعنى بالمشركين والكفار من كان حينئذ في قيد (ق.105.أ) الحياة فهذا لا نحتج به، لأن إطلاق الكفر والشرك عليهم إنما هو بعد انتشار الشريعة في قبائلهم وثبوت الحجة عليهم, فكفرهم وإشراكهم حينئذ متيقن من جميعهم، وسواء في ذلك قريش وغيرهم من العرب. ومثال ذلك من القرآن قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30]، وقوله: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 35]. الآية. وقوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة: 40]، وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17]. وهذه الآيات عُني بها قريش. وأما ما يدخل فيه قريش وكافة العرب من الآيات فقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬

(¬1) في (ب): إيمانهم، وهو خطأ.

آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ} [التوبة: 28]. وقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]. وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1]. الثاني: ما ينسحب إطلاق الكفر والشرك (¬1) فيه على العرب قبل قيام الحجة عليهم، ويدخل في ذلك من أدرك الإسلام منهم ومن لم يدركه بأن يموت في الجاهلية، فهذا مما نحتج به في مسألتنا, لأن إطلاق لفظ الكفر على من هذه صفته يُبين أنه كافر في الجاهلية. ومثال ذلك قول الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]. فإن الله تعالى نفى عن نفسه أن يكون قد جعل شيئا من ذلك محرما أو صيره دينا يتدين به، وأخبر أن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في نسبتهم تلك الأحكام إلى الله تعالى (¬2). ولا محالة أن عمرَو بن لحي المخترعَ لذلك كله داخل فيهم، وكذلك من بعده من العرب المتبعين له على ذلك, وقد أطلق الله عليهم اسم الكفر. ¬

(¬1) في (ب): الشرك والكفر. (¬2) من (ب).

وقوله تعالى بإثر الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [المائدة: 104]. معناه: وإذا قيل لمن أدرك الإسلام منهم، وهم بعض من كفر وجعل البحيرة والسائبة دينا، وليس يؤخذ من هذه الآية أن القائلين لما فيها هم الذين عُنوا بالكفر في الآية التي قبلها فقط. وإنما قلنا ذلك لوجهين: أحدهما: كون عمرو بن لحي داخلا فيهم (ق.105.ب) باختراعه لما ذكر في الآية كما (¬1) قدمناه. والثاني: قول هؤلاء المخبر عنهم: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [المائدة: 104] , ومعلوم أنهم كفار، وقد أخبروا أن حسبهم ما وجدوا آباءهم عليه، فصح أنهم وجدوا آباءهم على حال الكفر. وهذا مثل قولهم في الآية المتقدمة: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]. ولذلك قال تعالى في الآية التي نتكلم فيها: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، فنفى عنهم العلم والاهتداء. ومثال ذلك أيضا قول الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37]. ¬

(¬1) في (ب): لما.

والاستدلال بهذه الآية قوي، فإن النسيء المذكور فيها كان من أفعال الجاهلية على ما قدمناه، وقد أخبر سبحانه بأنه زيادة في الكفر وأن الكفار يضلون به في أنفسهم أو يضلون به غيرهم بحسب اختلاف القراءتين في الآية, وأخبر عنهم بأنهم يحلون ما حرم الله، وأنهم لا يراعون في ذلك نفس ما حرم الله من الأشهر، وإنما يراعون الموافقة لعدد الأشهر فقط، وأخبر أن ذلك زين لهم، وأنه من سوء أعمالهم. فجمعت الآية للكفار المذكورين فيها بين زيادة الكفر وضلالهم به واختراع الأحكام ومخالفة الله تعالى في التحليل والتحريم، وهؤلاء الكفار الذين يضلون بالنسيء ليسوا الفاعلين له فقط، أعني الذين كانوا ينسؤون الشهور على العرب في الجاهلية، بل يندرج فيهم المنقادون لهم وهم الذين يدينون به ويعملون عليه في تحليل الأشهر وتحريمها من أول ما فعل إلى أن جاء الله بالإسلام. فإذن قد استوى في ذلك جميع المشركين من العرب.

فصل: وإذ وتقرر ما أصلناه فلنرجع إلى الآيات التي تقدم ذكرها قبل, إذ كنا ذكرناها ليعلم أفعال أهل الجاهلية منها, ونعيد الآن بعضها لنستقرئ حكمهم منها, فنقول: قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: 136] الآية. فأخبر أن الذين فعلوا ذلك لهم (¬1) شركاء، وهي الآلهة التي جعلوها تعبد مع الله أضافها الله تعالى إليهم لكونهم جعلوها شركاء لله بزعمهم، تعالى الله عن ذلك. وقال في حكم الذين فعلوه: {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 59] وقد تقدم ذكر ذلك، ومضى هنالك أنه لا يخلو أن يكون (ق.106.أ) الفاعلون لما في الآية قوما مخصوصين من العرب, كما قال ابن إسحاق (¬2)، أو ينسحب ذلك على كافة العرب. وكيفما ما كان فكل ما ذكر في هذه الآية ليس المقصود به (¬3)، والله أعلم، قريشا، لأنهم لم يكونوا أصحاب حرث ولا بلدهم بلد زرع، ولهذا قال ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) السيرة النبوية (1/ 55). (¬3) في (ب): بها.

إبراهيم - عليه السلام -: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37]. وقال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ} [الأنعام: 138] الآية. وقال في آخرها: {افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138]. فأخبر أن قولهم إنما هو افتراء على الله، وأخبر أنه يجزيهم بافترائهم، وقال: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] أي سيكافئهم على وصفهم الكذب في ذلك. ولا معنى للمجازاة إلا العقوبة. وقد تقدم الكلام على قوله: {َقدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاء عَلَى اللهِ} [الأنعام: 140] , وذكرنا الفرق بين قوله: {سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140] وبين قوله: {افْتِرَاء عَلَى اللهِ} [الأنعام: 140]، ثم قال: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]. فأخبر بضلالهم كما أخبر بضلال (من ضل من) (¬1) أهل الكتاب في قوله: {قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ} [المائدة: 77]. وقال تعالى في آخر الآيات: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144] , أي حضرتم ربكم فسمعتم منه ما ادعيتم عليه من التحليل والتحريم على وجه التبكيت لهم كما تقدم. ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب).

ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]. فأخبر بافترائهم على الله وظلمهم وإضلالهم الناس، وهذه هي أوصاف الكفار. وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 27]. فأخبر أن الذين لا يؤمنون (¬1)، وهم المشركون إذا فعلوا فعلا قالوا إن الله أمرهم به, وهذا من افترائهم على الله في نسبة الأحكام إليه من غير علم عندهم فيه، ولذلك قال الله لنبيه - عليه السلام -: {قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] , على وجه التوبيخ لهم. ثم أخبر تعالى في الآية الثانية بما يأمر به، وهو القسط والعدل في الأمور والتوحيد لله على صفة الإخلاص في الدين. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] , فجعل فعل ذلك إما أن يكون بإذن من الله، وإما أن يكون بافتراء، وقد صح أن لا إذن من الله في الجاهلية, فلم يبق إلا أن يكون افتراء. وقال تعالى بأثر هذا: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ ¬

(¬1) من "وإذا فعلوا فاحشة" إلى هنا سقط من (ب).

الْقِيَامَةِ} [يونس: 60] , على وجه التهديد لمن فعل ذلك، لأن الافتراء على الله يلزمه الكفر، قال الله تعالى: (ق.106.ب) {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ} ... [النحل: 105]. وقال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ... [النحل: 116 - 117]. فأخبر أن الذين يفترون على الله الكذب لا يكون لهم فلاح وهو الرشد والهدى الذي يكون لأهل الإيمان , قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]. وقال: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. وقوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [النحل: 117] أي: لهم متاع قليل في الدنيا، ولهم عذاب أليم في الآخرة. وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56]. فأخبر أنه لا بد لهم من السؤال عن ذلك الافتراء. وقد قال الله تعالى مثل هذا فيمن نص عليهم أنهم كفار حيث قال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13]. وإذا كان السؤال لهم في الآخرة ترتب عليه العقاب.

وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62] أي البنات , {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} [النحل: 62] , قال مجاهد وقتادة: الحسنى هاهنا هي البنون على ما تقدم. ومعناه أن لهم الحال التي هي أحسن، وهم الذكران من الأولاد. وقال بعض المفسرين: الحسنى هي الجنة، وذلك بعيد في هذا الموضع، لأن الذين يجعلون لله البنات لا يصدقون بالبعث ولا يقرون بالجنة، وقد أخبر الله تعالى بعذابهم في قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} [النحل: 62]، أي متقدمون إلى النار ومستعجلون إليها، على قراءة من قرأ بفتح الراء (¬1). ومن هذا المعنى قوله - عليه السلام -: «وأنا فرطكم على الحوض» (¬2). ومن قرأ مفرِطون بكسر الراء فمعناه أنهم سابقون في الإساءة، من قولهم: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه في الشر (¬3). ¬

(¬1) قال أبو علي الفارسي في الحجة للقراء السبعة (5/ 73): قرأ نافع وحده: وأنهم مفرطون، بكسر الراء خفيفة من أفرطت. وقرأ الباقون (مفرطون) بفتح الراء، من أفرطوا فهم مفرطون. (¬2) رواه البخاري (3401 - 6062 - 6205 - 6212 - 6217 - 6642) ومسلم (2289 - فما بعد) عن جندب وسهل بن سعد وأبي سعيد الخدري وعقبة بن عامر وابن مسعود. (¬3) نسب ابن كثير (2/ 574) لمجاهد وسعيد بن جبير وقتادة أن معناه مفرطون منسيون فيها مضيعون، ولقتادة أيضا معجلون إلى النار، من الفرط وهو السابق إلى الورد. قال: ولا منافاة، لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها أي يخلدون. واختار ابن جرير (7/ 604) المعنى الأول وضعف الثاني.

فهذه الآيات قد أطلق الله سبحانه على من ذكر فيها بأنهم مشركون، وأنهم يفعلون الفواحش، ويزعمون أن الله أمرهم بها وأنهم يفترون على الله الكذب في التحليل والتحريم، وذلك كله كفر، وإذا كانوا كفارا فحكم الكفار معلوم وهو المجازاة على ذلك بالنار والتخليد فيها أبد الآباد، وقد صرح الله تعالى لهم بالنار في قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّار} [النحل: 62] , وبالعذاب في قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 117] , وبالمجازاة في قوله: {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138]. والظاهر من هذه الآيات التي ذكرناها في هذا الفصل أنها تنسحب على جميع العرب. وقد تقدم أن الحجة لم تقم عليهم جميعا بمكة، والآيات المذكورة كلها مكية، وإذا انسحبت (ق.107.أ) عليهم فيؤخذ منها أنهم كفار في جاهليتهم، هذا على ما استقريناه من هذه الآيات وغيرها مما قدمنا ذكره، وقد وجدنا من القرآن النص على من كان في الجاهلية بالتكفير، وهو منزل على أهل الأوثان، وقد ذكرناه بعد هذا في فصل اقتضاه الكلام هنالك، وهو آخر الفصول المتكلم عليها في هذا القسم.

فصل: وإذ فرغنا من الكلام على الآيات المتضمنة للمعنى الذي (¬1) قصدناه، فلنتكلم على الأحاديث الواردة في ذلك أيضا فنقول: تقدم أول هذا القسم الذي نحن بصدده حديث النبي - عليه السلام - أنه رأى عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وجاء في الحديث الثاني هنالك إطلاق الكفر عليه بقوله - عليه السلام - لأكثم بن الجون: «إنك مؤمن وهو كافر» (¬2)، وذكر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أول من غير دين إبراهيم وإسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السوائب. فانظر أيها الواقف على هذا الموضع كيف استحق عمرو بن لحي النار بهذه الأفعال، ولم يعذره الله تعالى بكونه كان في الجاهلية، حيث لا شريعة هنالك تلزمه، ومع ذلك فهو أبو خزاعة التي كانت عيبة رسول الله مؤمنهم وكافرهم، وقد أدخلهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معه في كتاب القضية عام الحديبية حين أدخلت قريش معهم بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوقعت بعد ذلك حرب بين خزاعة وبني بكر بن عبد مناة، فأعان مشركو قريش حلفاءهم بني بكر، ونقضوا بذلك العهد، فكان ذلك سبب فتح مكة لنصر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خزاعة. ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) تقدم.

وقد روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال يومئذ لسحابة رآها: «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب» (¬1) , وبنو كعب من خزاعة, وكعب هو ولد عمرو بن لحي لصلبه كما تقدم. فعمرو المذكور لم ينجه شيء من حصوله في النار المعدة للكفار وتعذيبه فيها بحسب كفره. ونحن لا نكتفي في العقاب له بعذابه على الكفر فقط، بل نقول: إنه يعذب عذابا زائدا على ذلك، فإن عليه وزره ووزر من اقتدى به وسلك سبيله في عبادة الأوثان وغير ذلك من أفعاله، فإن قاعدة الشرع تؤذن بذلك, قال الله تعالى في الكفار: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] (ق111.ب). وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» (¬2). ¬

(¬1) رواه ابن إسحاق في السيرة (5/ 49) مرسلا. (¬2) رواه مسلم (1017) والنسائي (5/ 76) وأحمد (4/ 357) والدارمي (518) والحميدي (2/ 352) والطبراني في الكبير (2/ 315 - 328 - 330 - 343) والأوسط (8/ 384) والبيهقي في الشعب (3/ 199) عن جرير مرفوعا.

وليس هذا مقصورا على هذه الأمة بدليل الحديث الصحيح الذي ورد في ابن آدم القاتل لأخيه حيث قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاتقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل» (¬1). وإذا صح هذا المعنى في ابن آدم القاتل بكونه أول من سن القتل, فكذلك يكون في عمرو بن لحي، لكونه أول من سن للعرب عبادة الأوثان ولا فرق, فكما يكون على القاتل الأول كفل من دم كل (نفس يقتلها غيره ظلما من غير أن ينقص ذلك من وزر كل قاتل على القتل الذي يباشره شيئا, فكذلك يكون على عمرو بن لحي كفل) (¬2) من وزر كل من تبعه على الإشراك من غير أن ينقص ذلك من وزر كل مشرك على إشراكه شيئا. وإذا حُكم بأن عمرو بن لحي مشرك كافر, كما أخبر عنه - عليه السلام - , فكل من اقتدى به وسلك سبيله أيضا مشرك كافر, فيجيء على هذا أن جميع من اتبعه على الإشراك من زمانه إلى أن جاء الله بالإسلام كلهم في النار كما كان هو في النار. ¬

(¬1) رواه البخاري (3157 - 6890) ومسلم (1677) والنسائي (7/ 81) والترمذي (5/ 42) وابن ماجه (2/ 873) وأحمد (1/ 383 - 430 - 433) والحميدي (118) وابن حبان (5983) والبيهقي (8/ 15) وابن أبي شيبة (6/ 402) والطبراني في الأوسط (2/ 346) عن ابن مسعود. (¬2) ما بين القوسين في (ب) هكذا: من يقتل تأسيا به من غير أن ينقص ذلك من وزر كل من تبعه على الإشراك من غير أن ينقص ذلك.

وقد ذكر ابن إسحاق (¬1) ما يدل على ذلك فإنه قال في السير: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: حُدثت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار فسألته عن من بيني وبينه من الناس فقال: هلكوا» (¬2). فقوله: "هلكوا" ليس معناه ماتوا، فإن كل أحد يدرك أن الأمم التي بين زمن عمرو بن لحي وبين مجيء الإسلام قد ماتوا، وإنما معناه هلكوا بالنار, أي عذبوا بها كما قال - عليه السلام -: «ولا يهلك على الله إلا هالك» , (¬3) وإنما يعذبون لأنهم كانوا على مثل ما كان هو عليه من الإشراك والكفر. والحديث مرسل. وذكر وثيمة نحو ذلك من طريق ابن جريج عن عكرمة مولى ابن عباس عن النبي - عليه السلام - مرسلا أيضا. ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 53). (¬2) والحديث فيه مبهم، وهو من حدث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وقد صرح المصنف قريبا بأنه مرسل. (¬3) رواه مسلم (131) وأحمد (1/ 279) وأبو نعيم في المستخرج (338) وأبو عوانة (242) والطبراني في الكبير (12/ 161) عن ابن عباس. قال ابن رجب في جامع العلوم (1/ 357): يعني بعد هذا الفضل العظيم من الله والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات والتجاوز عن السيئات لا يهلك على الله إلا من هلك وألقى بيده إلى التهلكة وتجرأ على السيئات ورغب عن الحسنات وأعرض عنها.

ونص الحديث عنده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار على رأسه فروة. قال له: يا رسول الله من في النار؟ قال: من بيني وبينك من الأمم. قال المقداد بن الأسود: يا رسول الله: من عمرو بن لحي قال: أبو هؤلاء الحي من خزاعة، وهو أول من جعل البحيرة والوصيلة والحامي, ونصب الأوثان حول الكعبة وغير الحنيفية دين إبراهيم, وأشبه ولده به هذا الرجل»، لرجل عنده يقال له أكثم بن الجون, قال: يا رسول الله أيضرني شبهه (ق112.أ) قال: «لا, أنت مسلم, وهو كافر» (¬1). وهذا الحديث هو مثل حديث ابن إسحاق المسند الذي ذكرناه (¬2) أولا وفيه ما يشبه مرسله الذي سقناه آنفا, وهو قول الراوي فيه قال له: يا رسول الله من في النار قال: «من بيني وبينك من الأمم». وفي الأصل الذي كتبنا منه هذا من كتاب وثيمة في هذا الموضع اختلال. فإن كان رسول الله هو السائل لعمرو بن لحي فيكون هذا الحديث مثل مرسل ابن إسحاق سواء, ومعنى ذلك أن يكون النبي - عليه السلام - يسأل عمرو بن لحي عن من معه في النار حين رآه فيها. ¬

(¬1) وهذا الحديث بهذا اللفظ زيادة على إرساله فوثيمة هو ابن موسى تقدم أنه ضعيف. وأصل الحديث صحيح كما تقدم. (¬2) في (ب): ابن إسحاق المذكور.

وإن كان عمرو بن لحي هو السائل لرسول الله فيكون المعنى فيه: كان عمرو بن لحي سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1) عن من يستحق العذاب، فكان الجواب أن قال له: "من بيني وبينك من الأمم" على وجه التوبيخ لعمرو, أي هؤلاء الذين اتبعوك على الإشراك في الدنيا هم أتباعك الذين يكونون في النار معك في الآخرة. ومما يدل على تكفير أهل الجاهلية الذين كانوا على هذه الوتيرة ما ذكره ابن إسحاق (¬2) من قول عتبة بن ربيعة للنبي - عليه السلام - إذ قال له: إنك منا حيث قد علمت من السلطة (¬3) في العشيرة والمكان في النسب, وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم, وسفهت به أحلامهم, وعبت به آلهتهم ودينهم, وكفرت من مضى من آبائهم, فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر (¬4) فيها لعلك تقبل منا بعضها فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قل يا أبا الوليد، أسمع» , وذكر القصة, وتلاوة النبي - عليه السلام - "حم السجدة" عليه. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) ذكره ابن إسحاق (1/ 178)، وفي سنده مبهم كما سيذكر المصنف. والحديث رواه ابن أبي شيبة (8/ 440) وعنه عبد بن حميد (1123) وأبو يعلى (3/ 350) ثنا علي بن مسهر عن الأجلح عن الذيال بن حرملة الأسدي عن جابر، لكن ليس فيه اللفظة المستشهد بها: "كفرت من مضى من آبائهم". وهو عند الحاكم (3002) مختصر من طريق جعفر بن عون عن الأجلح به. والأجلح مختلف فيه، والذيال انفرد ابن حبان بتوثيقه. (¬3) كذا في السيرة لابن إسحاق، وفي النسختين: السطة. (¬4) في (ب): ننظر.

فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع من عتبة قوله: وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم, ولم يرد ذلك عليه, فدل إقرار النبي - عليه السلام - عتبةَ على ذلك القول أنه كذلك فعل مع قريش في تكفير آبائهم, وهم قد ماتوا في الجاهلية. والاستدلال بهذا الخبر قوي في معناه لو كان مسندا, وإنما هو من الأحاديث المرسلة, وذلك أن ابن إسحاق قال فيه: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة, وذكر القصة بطولها. لكن عندنا في هذا الباب الذي نحن بسبيله أحاديث صحيحة, وكل ما نذكر منها في هذا الفصل فهو في صحيح مسلم (¬1) , فمنها الأحاديث التي ذكرها في كسوف الشمس، وفي بعضها ذكر عمرو بن لحي كما تقدم قبل (¬2). وأعاد مسلم ذكره وكون النبي - عليه السلام - رآه وهو يجر قصبه في النار في آخر كتابه (¬3)، وعنده في بعض الطرق في الكسوف (¬4): «ورأيت أبا ثمامة عمرو بن ملك يجر قصبه في النار». وينبغي أن يكون هذا غير عمرو بن لحي, فإن عمرو بن لحي هو عمرو بن ربيعة. ¬

(¬1) صحيح مسلم (2/ص 622 رقم 904). (¬2) ليس في (ب). (¬3) (4/ 2191). (¬4) (2/ 622).

وفي الحديث من هذا الطريق (¬1): «ورأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» , وساق مسلم لهذا الحديث (ق.112.ب) طريقا آخر وقال: بهذا الإسناد مثله، إلا أنه قال: «ورأيت في النار امرأة حميرية سوداء طويلة» , ولم يقل من بني إسرائيل، هذا نصه. فعلى هذه الرواية يحتمل أن تكون هذه المرأة من أهل الفترة, وفي بعضها: «وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار كان يسرق الحاج بمحجنه، فإذا (¬2) فطن له قال إنما تعلق بمحجني, وإن غُفل عنه ذهب به». وهذا لا يكون إلا من أهل الفترة, فإن (¬3) الحج إنما كان عند العرب لا عند بني إسرائيل، وتعذيبه بالنار ليس لسرقته فقط, بل ذلك لكفره فإنه لا يكون إلا على ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان, وإنما ذكر سرقته للحاج لوصفه الخاص به حتى يمتاز عن غيره من أهل الشرك. ¬

(¬1) أي حديث مسلم المتقدم قريبا، وقد ورد حديثها مفردا من رواية ابن عمر. رواه البخاري (546 - 2236 - 3295) ومسلم (2242) والبيهقي (5/ 214) (8/ 13). وفي الباب عن أبي هريرة. (¬2) في (ب): فإن. (¬3) في (ب): فإنما.

ومنها ما جاء في قصة أبي طالب بن عبد المطلب إذ قال له النبي - عليه السلام -: «قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» , فقال له عبد الله بن أبي (¬1) أمية وأبو جهل بن هشام: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال (¬2) أبو طالب آخر ما كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب, وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فأخبر - عليه السلام - بعد ذلك عن أبي طالب أنه من أهل النار, وإن كان أخفهم عذابا (¬3). فإن قيل: إنما كان (¬4) أبو طالب من أهل النار لكون الدعوة بلغته, فلم يؤمن بالله ولا برسوله. ¬

(¬1) سقطت من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش. (¬2) في (ب): فقال له. (¬3) روى البخاري (1294 - 3671 - 4398 - 4494 - 6303) ومسلم (24) والنسائي (2035) وأحمد (5/ 433) وابن حبان (982) والطبراني في الكبير (20/ 349) وغيرهم من طريق الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك. فأنزل الله تعالى فيه: ما كان للنبي. الآية. وقد أعله ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/ 470 - 471) بالإرسال. وأجبت عنه في الأحاديث المنتقدة في الصحيحين (رقم93). (¬4) في (ب): يكون.

قلنا: هذا صحيح, ولم نسق الحديث لهذا المعنى, وإنما سقناه لكون أبي طالب وأبي جهل وابن أبي أمية ذكروا ملة عبد المطلب بحضرة النبي - عليه السلام - , واتفقوا على أنها خلاف الدعوة التي دعا إليها النبي - عليه السلام - عمَّه أبا طالب من التوحيد، إذ قال له: قل لا إله إلا الله, فكان موت أبي طالب على ملة عبد المطلب وإخبار النبي - عليه السلام - عنه بأنه من أهل النار من أدل دليل على أن ملة عبد المطلب وقريش إنما هي إشراك. وجاء في الحديث الصحيح (¬1) أن قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] إنما عني بذلك أبو طالب, ونهي النبي - عليه السلام - عن الاستغفار له لكونه مشركا. وإذا أطلق عليه (¬2) بعد موته بأنه مشرك, (ق.113.أ) وهو قد مات على ملة أبيه عبد المطلب دل ذلك على أن أباه كان كذلك. وقد أنكرت قريش دعاء النبي - عليه السلام - إياهم إلى توحيد الله وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] , كما حكى الله عنهم في كتابه. ¬

(¬1) تقدم قريبا. (¬2) في (ب): أخبر عنه.

وأخبر عنهم فيه بأنهم إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا, والذي ألفوا عليه أباءهم هو عبادة الأوثان والإشراك بالله, فصح أنهم مع آبائهم مشركون. ومنها حديث عائشة (¬1) قالت: قلت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه قال: «لاينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» (¬2). وهذا الحديث فيه إخبار النبي - عليه السلام - بأن العمل المحمود إذا فعل في الجاهلية لا يكون عليه ثواب ولا ينفع صاحبه في الآخرة، وذلك إنما يكون لمن هو غير متصف بالإيمان بدليل قوله - عليه السلام - في ابن جدعان: «إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين». معنى ذلك أنه لم يؤمن قط. فإن هذا الذي ذكره - عليه السلام - قد تضمن أصل الإيمان الذي هو التوحيد لله بقوله: «رب»، والاعتراف بأنه سبحانه يغفر الخطايا والتصديق بالآخرة المعبر عنها بيوم الدين الذي هو يوم الجزاء على الخير والشر. هذا مع أن ابن جدعان كانت عنده خلق جميلة تقتضي فعل الخير: من إطعام الطعام ونصر المظلوم، وقد عقد في داره حلف الفضول لسنه وشرفه، ¬

(¬1) حديث عائشة هذا والتعليق عليه ساقط من (ب) , وأثبت في هامش (أ). (¬2) رواه مسلم (214) وأحمد (6/ 93 - 120) والحاكم (2/ 439) وابن حبان (2/ 39 - 40) وأبو يعلى (8/ 132 - 283) عن عائشة.

وشاهده النبي - عليه السلام - قبل المبعث، وروي عنه صلى الله عليه والسلام أنه قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت». ذكره ابن إسحاق (¬1). وإنما قال - عليه السلام - هذا القول في ذلك الحلف لأجل انعقاده على نصر من وجد بمكة مظلوما والقيام معه حتى ترد عليه مظلمته سواء كان من أهلها أو من غيرهم، وإذا لم ينفع ابن جدعان تلك الأعمال الحـ (ـسان في) الآخرة فقد صح أنه ( ... ) (¬2). ومنها حديث أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: «في النار»، فلما قفا دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار» (¬3). فإن هذا الرجل لما سأل النبي - عليه السلام - عن أبيه وكان من أهل الجاهلية أخبره بأنه في النار, ثم لما خاف عليه أن يرتد أو يجد في نفسه ما يبعثه على ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 87) وعنه البيهقي (6/ 367) قال: حدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول قال رسول الله. وهذا مرسل حسن. (¬2) طمس في (أ) بمقدار نصف سطر، وسقط من (ومنها حديث عائشة) إلى هنا من (ب). (¬3) رواه مسلم (203) وأبو داود (4718) وأحمد (3/ 119 - 268) وابن حبان (578) وأبو عوانة (289) والبيهقي (7/ 190) وأبو يعلى (3516) من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس.

مخالفة الشريعة في الجملة دعاه فقال (¬1) له: «إن أبي وأباك في النار» , على وجه التسلية والعزاء له. لأنه إذا كان أبو النبي - عليه السلام - في النار كان كون أبي السائل في النار من باب الأحرى والأولى، وهذا يدل على ما قلناه من أن أبا السائل كان من أهل الجاهلية (¬2). فإن النبي - عليه السلام - جعله مع أبيه عبد الله في قرن، وأبوه عبد الله بن عبد المطلب كان من أهل الجاهلية ولم يكن عنده شيء يوجب النار عليه مما يحدثه من نفسه لصغر سنه، فإنه مات في حال الشبيبة، وهو ابن عشرين أو أزيد في حياة أبيه عبد المطلب، وإنما غايته أن يكون على مذهب أبيه وقومه ¬

(¬1) في (ب): في الجملة قال ... (¬2) قال العلامة أبادي في عون المعبود (12/ 324): وكل ما ورد بإحياء والديه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإيمانهما ونجاتهما أكثره موضوع مكذوب مفترى، وبعضه ضعيف جدا لا يصح بحال، لاتفاق أئمة الحديث على وضعه وضعفه، كالدارقطني والجوزقاني، وابن شاهين، والخطيب، وابن عساكر، وابن ناصر، وابن الجوزي، والسهيلي، والقرطبي، والمحب الطبري، وفتح الدين بن سيد الناس، وإبراهيم الحلبي، وجماعة. وقد بسط الكلام في عدم نجاة الوالدين: العلامة إبراهيم الحلبي في رسالة مستقلة، والعلامة علي القاري في شرح الفقه الأكبر، وفي رسالة مستقلة. ويشهد لصحة هذا المسلك هذا الحديث الصحيح. والشيخ جلال الدين السيوطي قد خالف الحفاظ والعلماء المحققين، وأثبت لهما الإيمان والنجاة، فصنف الرسائل العديدة في ذلك، منها رسالة التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة. قلت- أي أبادي دائما-: العلامة السيوطي متساهل جدا، لا عبرة بكلامه في هذا الباب ما لم يوافقه كلام الأئمة النقاد.

في ديانتهم والتمسك بملتهم، فإذا كان هو ممن يعذب فأحرى بذلك من طال عمره وكثر وزره منهم (¬1) (حتى يعلم أن ذلك الحكم ليس مقصورا على أبيه في الجاهلية) (¬2). ومنها حديث أبي هريرة قال: زار رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي, فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» (¬3). وهذا الحديث فيه أن النبي - عليه السلام - لم يؤذن له في الاستغفار لأمه, وإن أذن له في زيارة قبرها, وإنما لم يؤذن له في الاستغفار، لأن معناه طلب المغفرة, والمغفرة معناها العفو عن الذنوب, ولا يعفى عن المرتكب للذنوب، إلا إذا كان متصفا بالإيمان, لكون الأصل الذي هو شرط في ذلك عنده، فتغفر له الفروع التي هي الذنوب (¬4). (¬5) ¬

(¬1) من: "لأنه إذا كان أبو النبي - عليه السلام - "، إلى هنا من (ب)، وسقط من (أ). (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬3) تقدم. (¬4) هذه الفقرة في (ب) هكذا: والقول في هذا الحديث كالقول في الذي قبله، فإنما ءامنة إنما كانت على ملة قومها قريش، ولم يكن عندها زائد على ذلك، وكون النبي - عليه السلام - أذن له في زيارة قبرها هو من باب قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]، مع تذكر الآخرة برؤية القبور وكونه لم يؤذن له في الاستغفار لها إنما ذلك لكونها غير مؤمنة، والاستغفار هو طلب المغفرة، والمغفرة إنما تتناول أهل الإيمان فقط، فإن معناها العفو عن الذنوب، ولا يعفى عن صاحب الذنوب إلا إذا كان مؤمنا، لكون الأصل عنده، فتغفر له الفروع التي هي الذنوب. (¬5) وقد فات المصنف أحاديث في هذا الباب: ... = = عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة، وأن عمرا سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: «أما أبوك، فلو كان أقر بالتوحيد، فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك». رواه أحمد (2/ 181) بسند حسن. وفي صحيح مسلم (2867) ومسند أحمد (3/ 201) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع أصوات قوم يعذبون في قبورهم، كانوا قد دفنوا في الجاهلية.

ولذلك أمر نبينا - عليه السلام - بالاستغفار للمؤمنين على الإطلاق, فقال الله له: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] , وقال نوح - عليه السلام -، (وهو أول الرسل) (¬1): {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28] , فافتتح دعاءه باستغفار خاص له ولأهل بيته, ثم عطف عليه باستغفار عام لسائر المؤمنين, ولم يستغفر خصوصا وعموما إلا لمن هو مؤمن. (ق.108.ب) وأما الكفار فقد دعا عليهم في آخر هذه الآية وفيما قبلها وهم أحياء فأجاب الله دعاءه فيهم فأغرقهم جميعا. وهذا الدعاء منه - عليه السلام - (على قومه إنما كان للشقاوة التي سبقت في حقهم من الله تعالى، وقضى عليهم بها، ولو كان دعاؤه لهم ولم يكن عليهم لجاز، فإن) (¬2) الدعاء للكافر وهو في قيد الحياة بالتوفيق والخير والمغفرة جائز (¬3)، لأن الله تعالى إذا قبل ذلك الدعاء فيه هداه إلى الإيمان, فقد قال ¬

(¬1) من (ب). (¬2) هذه الفقرة في (ب) كما يلي: إنما هو محمول على كونه على أنه لن يؤمن منهم أحد إلا من ءامن قبل ذلك على ما أوحى الله تعالى إليه و ... (¬3) في (ب): يجوز.

الطفيل بن عمرو للنبي - عليه السلام -: إن دوسا استعصت علي فادع الله عليهم، (وكان قد أسلم على يديه بعضهم) (¬1)، فقال - عليه السلام - (¬2): «اللهم اهد دوسا وات بهم»، فدخلوا حينئذ في الإسلام بجملتهم. وهكذا دعا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول الإسلام لعمر أو أبي جهل بن هشام ( .. ) (¬3): «اللهم أعز الإسلام بأبي جهل أو عمر بن الخطاب» (¬4). فأجاب الله دعاءه في أحبهما إليه، حتى قال ابن مـ (ـسعود) (¬5): ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر (¬6). وجاء في الحديث أن النبي - عليه السلام - ذكر نبيا من الأنبياء أدمى قومه وجهه وهو يمسح الدم عنه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (¬7). (¬8) ¬

(¬1) ما بين القوسين ليس في (ب). (¬2) - عليه السلام - ليس في (ب). (¬3) بتر في (أ). (¬4) رواه الترمذي (3681) وأحمد (2/ 95) وابن حبان (6881) وعبد بن حميد (759) من طريق خارجة بن عبد الله الأنصاري عن نافع عن ابن عمر، وسنده حسن أو قريب منه. وفي الباب عن ابن عباس وابن مسعود. (¬5) بتر في (أ)، وأتممته اعتمادا على السياق ومصادر الحديث. (¬6) رواه البخاري (3481 - 3650) وابن حبان (6880) والحاكم (4490) والبيهقي (6/ 371) وابن أبي شيبة (7/ 479) والبزار (1888) والطبراني في الكبير (9/ 165) عن ابن مسعود. (¬7) من: "وهكذا دعا" إلى هنا سقط من (ب). (¬8) رواه البخاري (3290 - 6530) ومسلم (1792) وابن ماجه (4025) وأحمد (1/ 380) وابن حبان (6576) وغيرهم من طريق الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود.

وأما إذا مات الكافر على كفره فلا يجوز الاستغفار له، فإنه لا يغفر له أصلا، لأنه قد سد على نفسه بالكفر باب الرحمة الموجبة للمغفرة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد: 34]. فأخبر أن المغفرة لا تكون للكفار الذين ماتوا على كفرهم. وقال تعالى في من يسر الكفر: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6]. وقال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فعلق المغفرة للكفار بالانتهاء عن الكفر، ولا يكون الانتهاء عن الكفر إلا بالإيمان ولابد، فرجعت المغفرة إلى أصلها الذي قررناه في أهل الإيمان. وقد يعترض معترض هاهنا بأمرين: أحدهما: من يعذر من أهل الفترة فلا يعذب، وهم الذين ليس عندهم توحيد ولا كفر، حسبما نذكرهم في القسم الرابع، فإنهم إذا لم يعذبوا ودخلوا الجنة فقد غفر لهم. والثاني: إن إبراهيم - عليه السلام - استغفر لأبيه وهو مشرك فقال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86]، فسأل المغفرة لأبيه مع علمه بضلاله. والجواب عن ذلك أن نقول: أما الاعتراض بالوجه الأول فهو غير لازم، لكون الصنف المذكور من أهل الفترة غير مؤاخذين بشيء لا من جهة أن الحجة لم تقم عليهم، ولا من كونهم ليس عندهم ما عند الصنف الآخر من عبادة الأوثان واختراع الأحكام فهم غير مكلفين, وإنما كلامنا في

من تلحقه المغفرة أو لا تلحقه من (ق.109.أ) المكلفين الذين يستوجبون الثواب والعقاب بحسب الإيمان والكفر، أو من ألحقه الشرع بهم. وأما من ليس بمكلف مثل الصنف المعذور أو من لم تبلغه الدعوة فلا تطلق عليهم المغفرة، فإنهم لا يحاسبون لعدم التكليف، وإذا لم يحاسبوا لم تقرر عليهم ذنوب تغفر لهم، وإنما يغفر ما يمكن أن يؤاخذ به من الذنوب، فإذا لم تكن مؤاخذة فلا غفران، وكونهم لا يعذبون هم في ذلك مثل المجانين والصبيان الذين لا يعذبون، إذ لا تكليف، وإن فرضنا دخولهم جميعا الجنة فذلك من الله تعالى تفضل محض وجود صرف من غير أن يطلق على ذلك غفران. وأما الاعتراض الثاني: وهو أن إبراهيم - عليه السلام - استغفر لأبيه وهو مشرك فاعتراض صحيح، ونحن نجيب عنه (¬1) بحول الله فنقول: استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان لوجهين: أحدهما: إنه قد كان تقدم وعده له بذلك في قوله: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47]، فوفى له بالوعد حين استغفاره له. والثاني: إن استغفاره كان في حياة أبيه، وإبراهيم طامع بإيمانه حينئذ. وكنا قد استنبطنا هذين الوجهين مما فهمناه من القرآن قبل هذا، فلما شرعنا في تأليف هذا الكتاب وجدنا ذلك المعنى مسطورا للسلف. ¬

(¬1) ليس في (ب).

فقد (¬1) روي عن ابن عباس أن إبراهيم لم يزل يستغفر ربه لأبيه حتى مات أبوه وإنما استغفر له وهو حي، رجاء أن يسلم ويهديه الله فلما نزلت على النبي صلى الله عليه (¬2): {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86] قال: «دلوني على قبر آمنة وعبد الله فدل عليهما»، فانطلق يستغفر لهما فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] إلى آخر الآية، ذكره وثيمة عنه (¬3). وذكر أيضا من حديث قتادة عن الحسن (¬4) قال لما مات أبو طالب قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬5): «نهيت أن استغفر لأبي وهو مشرك، وأنا أستغفر لعمي»، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة: 113] يعني به أبا طالب. فاشتد على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال الله لنبيه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] حين قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي ¬

(¬1) من (وكنا قد) إلى هنا سقط من (ب). (¬2) في (ب): - عليه السلام -. (¬3) روى نحوه عنه ابن جرير (11/ 45) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في الدر المنثور (4/ 300). (¬4) رواه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن الحسن كما في الدر المنثور (4/ 301 - 302). (¬5) في (ب): وذكر من حديث قتادة عن الحسن مرسلا أن النبي - عليه السلام - قال في حديث.

حَفِيّاً} [مريم: 47] , {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ} [التوبة: 114] أي مات على (ق.109.ب) الشرك {تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]. يعني بالحليم (¬1): الرشيد، والأواه (¬2): الدَّعَّاء إلى الله , والمنيب (¬3): المستغفر. انتهى ما ذكره وثيمة (¬4). والذي يدل على أن استغفار إبراهيم لأبيه كان في حياته ظاهر ما نزل من القرآن في سورة الشعراء فإن الله تعالى افتتح القصة بمخاطبة إبراهيم لأبيه وقومه فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} إلى قوله: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: من69 77]. ¬

(¬1) قال القرطبي (8/ 276): الحليم: الكثير الحلم، وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى، وقيل الذي لم يعاقب أحدا قط إلا في الله، ولم ينتصر لأحد إلا لله. (¬2) ذكر القرطبي (8/ 275) أنه اختلف فيها على (15) قولا، ونسب ما ذكره المصنف لابن مسعود وعبيد بن عمير. وقيل: الرحيم بعباد الله. وقيل: الموقن. وقيل: المؤمن. (¬3) قال القرطبي (9/ 73): المنيب: الراجع، يقال أناب إذا رجع. (¬4) من "وأنا أستغفر لعمي" إلى هنا سقط من (ب).

ثم وصف لهم رب العالمين بقوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78]، ومضى في ذلك إلى أن رجع إلى الدعاء فقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] إلى قوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86]. فظاهر هذه الآيات وقوع ما فيها متصلا بعضه ببعض، وذلك يقتضي أن الدعاء كان في حياة أبيه آزر، إذ (¬1) الدعاء متصل بمحاورة إبراهيم لأبيه وقومه, ويكون معنى قوله: {إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86]، أي: فيما خلا من عمره، فإذا غفر له انتقل عن الضلال إلى الهدى، إذ لا تتصور المغفرة مع المقام على الشرك إلى الممات. وإذا حملنا استغفار إبراهيم لأبيه على أنه كان في حياته (¬2) اندرأ السؤال. وليس في (¬3) قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] (¬4) ما ينافي ذلك (¬5)، فإن الموعدة هي قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47]، على ما قلناه (¬6). ¬

(¬1) في (ب): إذا. (¬2) ونحوه لابن كثير (2/ 394)، ونسبه لابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم. (¬3) في (ب): ومما يدل على ذلك. (¬4) زاد في (ب): فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. (¬5) ليس في (ب): ما ينافي ذلك. (¬6) كذا في (ب)، وفي (أ): على تقدم.

وقيل أيضا في التفسير: إنه كان قد وعده أن يسلم (¬1)، وليس في القرآن ما يدل على ذلك. ومعنى (¬2) قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]، أي لما تبين لإبراهيم كون أبيه عدو لله بموته على الشرك تبرأ منه حينئذ، على ما مضى عن ابن عباس والحسن (¬3). ومن قال: إنه كان قد وعده أن يسلم قال لما رأى إبراهيم تماديه على الكفر وتبين له أنه لا يسلم تبرأ منه حينئذ. وتبرؤ إبراهيم منه على أي التأويلين كان يؤذن بأنه لم يستغفر له (¬4) إلا في الوقت الذي يجوز الاستغفار له, وذلك (¬5) قبل أن يموت على شركه. ثم لو فرضنا أن دعاء إبراهيم - عليه السلام - إنما كان لأبيه بعد موته فلابد أن نفرض أيضا أن إبراهيم دعا له في الوقت الذي لا يعلم أنه مات على الكفر ولابد، إذ في الممكن أن يموت آزر وإبراهيم - عليه السلام - غائب عنه (ق.110.أ)، فيُجوز - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يموت أبوه على الإيمان فيستغفر له من هذا الوجه، لا سيما على قول من قال إنه قد كان وعده أن يسلم، ويكون تبري إبراهيم - عليه السلام - بعد ذلك منه عندما علم بموته على الكفر، وسواء علم ذلك بوحي أو بغيره. ¬

(¬1) قاله ابن عباس كما في تفسير القرطبي (8/ 274). (¬2) ليس في (ب). (¬3) في (ب): قاله ابن عباس والحسن. (¬4) في (ب): وتبرؤ إبراهيم منه يدل على أنه لم يستغفر. (¬5) سقط من (ب).

وإنما حملنا على هذا التقدير علمنا بأن الشرائع متفقة على أن المشرك لا يغفر له, وأن الإيمان هو الشرط في الغفران، قال الله تعالى إخبارا عن قول المسيح - عليه السلام -: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72]. وإذا حرم الله على المشرك الجنة وأدخله النار فهو غير مغفور له، وذلك قول عام على لسان عيسى - عليه السلام -. وقال تعالى حكاية عن موسى - عليه السلام -: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 27]، ولا معنى للإيمان بيوم الحساب إلا أنه يوم جزاء على الكفر والإيمان بالنار والجنة. وقد ذكر الله تعالى عن الذي آمن من قوم موسى هذا المعنى جليا فقال: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] إلى آخر الآيات، وفيها أن من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها، وأنه شرط في دخول الجنة: العمل الصالح ممن هو مؤمن، ثم قال: {و َيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41]، ثم بين كيف دعوه إلى النار بقوله: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [غافر: 42] إلى آخر ما حكاه الله عنه، فأخبر أن الشرك والكفر بالله مؤد إلى النار. وكذلك قالت سحرة فرعون: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} [طه: 73] فرتبوا المغفرة على الإيمان. وهذا كله يدل على أن موسى - عليه السلام - كان يصرح بذلك عندهم

فتلقاه عنه من آمن به. ولذلك قالت امرأة فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، علما منها بأن من آمن كانت الجنة ثوابه، ثم قالت: {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11]، استبلاغا في التبري من الكفر والهرب من لواحقه. وقد تقدم أن نوحا - عليه السلام - وهو أول الرسل استغفر للمؤمنين والمؤمنات, ولم يستغفر في ذلك الوقت الذي هو آخر أمره إلا لمن هو مؤمن, وذلك موافق لما صدر منه لقومه قبل ذلك بالسنين المتطاولة، إذ قال لهم: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 32] , فرتب المغفرة على تقوى الله وعبادته, وذلك هو معنى الإيمان، وهكذا القول في سائر الأمم. فلم يبعث الأنبياء صلوات الله عليهم إلا لدعاء الخلق إلى الله وتعريفهم بأن من لبى دعوتهم تناولته المغفرة فحصل له الثواب, ومن لم يستجب لهم لم تتناوله فلزمه العقاب. وقد أدرك هذا المعنى المؤمنون من الجن قال الله تعالى حكاية عنهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] إلى آخر الآيتين. وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه بحول الله. والنص عندنا موجود على أن الله تعالى لا يغفر الإشراك به، إذ قال في موضعين من كتابه العزيز: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] , وذلك

منه سبحانه قضية عامة أخبر بها عن نفسه أنه يفعل كذلك بكل مشرك يوم القيامة، الذي هو محل الفصل بين الأنبياء صلوات الله عليهم وبين الأمم الذين بعثوا إليهم. وإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما كنا فيه فنقول (¬1): إن الآية المتقدمة وهي قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] , إنما ذكرها سبحانه لئلا يحتج أحد على أن الاستغفار جائز للمشركين بكون إبراهيم - عليه السلام - استغفر لأبيه وهو مشرك (¬2). روينا من طريق قاسم بن أصبغ عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له: تستغفر لهما وهما مشركان؟ قال: فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ , فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114]. (¬3) ¬

(¬1) من: "ثم لو فرضنا في آخر (109ب) إلى هنا سقط من (ب). (¬2) هذه الفقرة في (ب): هكذا: وهذه الآية ذكرها الله تعالى لئلا يحتج بها أحد على كون إبراهيم استغفر لمشرك إذ قصد بالآية التي تقدمتها المعاينة لمن ذكر فيها. (¬3) رواه الترمذي (3101) والنسائي (2036) وأحمد (1/ 99 - 130) والحاكم (2/ 365) والبزار (3/ 108) وأبو يعلى (1/ 457) والبيهقي في الشعب (7/ 41) من طرق عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي. وصححه الحاكم. وسفيان بن عيينة سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط، بخلاف الثوري، لكن لم يتميز لي أيهما المقصود هنا. ورواه البيهقي من وجه آخر عن أبي أسامة عن زكريا عن أبي إسحاق عن عبد الله بن أبي الخليل (كذا) عن علي. ... = = وزكريا هو ابن أبي زائدة سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط. ورواه ابن جرير (11/ 42) بسند فيه كاتب الليث عن ابن عباس.

وذكر مكي في الهداية عن عمرو بن دينار قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني الله عن ذلك» , فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي - عليه السلام - لعمه فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬1) [التوبة: 114.113]. قال: وقيل: نزلت الآية في أم رسول الله أراد أن يستغفر لها فمنع من ذلك. ¬

(¬1) رواه الحاكم (2/ 366) من طريق أبي حمة اليماني حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر به. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال لنا أبو علي على إثره: لا أعلم أحدا وصل هذا الحديث عن سفيان غير أبي حمة اليماني وهو ثقة، وقد أرسله أصحاب ابن عيينة. قلت: لم أر من وثقه، والحاكم متساهل. ورواه شبل عن عمرو بن دينار مرسلا، خرجه ابن جرير (6/ 488). وراجع تفسير ابن جرير. والحديث وارد من طرق صحيحة، لكن ليس فيه الشاهد الذي قصد المصنف بإيراده، وهو استغفار الصحابة لآبائهم لاستغفار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمه.

روي (¬1) أن النبي - عليه السلام - لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها, حتى نزلت ما كان للنبي. الآية. قال ذلك ابن عباس وغيره (¬2). قال: وروي أن الآية نزلت في أبوي النبي - عليه السلام - , وذلك أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل جبريل - عليه السلام - عن (ق.114.أ) قبر أبويه فأرشده إليهما فذهب إليهما فكان يدعو لهما وعلي - رضي الله عنه - يؤمن, فنهي عن ذلك. انتهى ما ذكره مكي. ¬

(¬1) في (ب): وذلك. (¬2) رواه عبد الرزاق (3/ 572 - 573) عن ابن جريج قال حدثت عن مسروق بن الأجدع عن ابن مسعود. وفي سنده مجهول، وهو من حدث ابن جريج. لكن بجمع الطرق علمنا من حدثه: فرواه الحاكم (3292) وابن حبان (3/ 261) والشاشي (1/ 395) من طريق عبد الله بن وهب أنبأ ابن جريج عن أيوب بن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود به. وصححه الحاكم على شرطهما. وأيوب بن هانئ كوفي قال أبو حاتم: شيخ صالح. وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال ابن معين: ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات. والحديث صححه الحاكم، لكن تعقبه الذهبي بقوله: أيوب ضعفه ابن معين. ورواه ابن جرير (6/ 489) عن ابن عباس وعن عطية مرسلا. ورواه أحمد (5/ 355) عن بريدة، ولم يذكر نزول الآية. وقد جزم ابن حجر في الفتح (8/ 508) بثبوته فقال: وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها، فزلت هذه الآية. وذكر طرقه ثم قال: فهذه طرق يعضد بعضها بعضا.

فهذه الآية قد اختلِف في سبب نزولها كما ترى، أعني قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة: 113] , فمنهم من قال إنها نزلت في كون النبي - عليه السلام - أراد أن يستغفر لأمه, ومنهم من قال لأبويه جميعا, ومنهم من قال لعمه أبي طالب, وهو المذكور في الصحيح, كما تقدم. فأبوا النبي - عليه السلام - لا فرق بينهما وبين جده عبد المطلب (في الحكم) (¬1)، كما أنه لا فرق بين عبد المطلب وأبيه هاشم (¬2) , ولا بين هاشم وأبيه عبد مناف, ولا بين عبد مناف وأبيه قصي, فكلهم آباء للنبي - عليه السلام - , وهم متساوون عند الله في الحكم. وأما أبو طالب فيتنزل من النبي - عليه السلام - منزلة الوالد (¬3) , إذ كان كافلا له من صغره بوصية عبد المطلب به إليه لكونه شقيق أبيه, وهو في الحكم بمنزلة آزر لكون كل واحد منهما قامت عليه الحجة وبلغته الدعوة إلا أنه أحسن حالا وأخف عذابا من آزر, وذلك لوجهين: - أحدهما: أن أبا طالب لم يرد على النبي - عليه السلام - ردا منكرا كما فعل آزر مع إبراهيم - عليه السلام - , وإنما غايته أن قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما دعاه إلى التوحيد ¬

(¬1) من (ب). (¬2) في (ب): لا فرق بينه وبين عبد المطلب وأبيه هاشم. (¬3) في (ب) تقديم وتأخير بنفس المعنى.

بقول لا إله إلا الله: «لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك» (¬1). وأما آزر فإنه لما خاطبه إبراهيم بقوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42]. كان جوابه أن قال: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم: 46]. - والثاني: أن أبا طالب قام بوظيفة عظيمة وهي حماية النبي - عليه السلام - عن أن تناله قريش بمكروه وقيامه دونه وتحريضه بني هاشم وبني المطلب على نصرته, حتى دخل جميعهم معه ومع النبي - عليه السلام - الشعب, إلا ما كان من أبي لهب فقط. ومعنى ذلك موجود لأبي طالب في شعره وموجود في الأحاديث كما تقدم ذكره قبل. وقد ذكر ابن إسحاق (¬2) من حديث هشام بن عروة عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بمكة في قصة: «ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب». ¬

(¬1) رواه مسلم (25) والترمذي (3188) وأحمد (2/ 434 - 441) وأبو عوانة (24) وأبو يعلى (6178) من طريق أبي حازم عن أبي هريرة. (¬2) السيرة النبوية (2/ 46).

وأما آزر فلم تكن منه حماية لإبراهيم وإنما كان مع قومه عليه, ولذلك كان - عليه السلام - يخاطبهم جميعا خطابا واحدا، قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 69]. وقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26]. وقال: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}. فقالوا له: {وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}، ثم قالوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} إلى قوله: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 51 - 86]. ولم يقل تعالى: قال قومه, وإنما قال: {قَالُوا حَرِّقُوهُ} , وظاهر ذلك أنه يعود إلى أبيه وقومه. فلما نجى الله إبراهيم من النار اعتزل الجميع منهم (ق.114.ب) وتركهم على دينهم, كما حكى الله عنه في سورة مريم. ونبينا - عليه السلام - لم يعتزل قريشا، بل كان يغاديهم ويراوحهم في المسجد الحرام ويصدع بما أمره الله تعالى بين أظهرهم, (إذ كان مأمورا بذلك) (¬1)، وكان عمه أبو طالب (¬2) من ورائه يحميه ويحوطه على ما تقدم, ولهذا كان النبي - عليه السلام - حريصا على إسلامه, فلما مات ولم يسلم كان يستغفر له. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) سقط (أبو طالب) من (ب).

يدل على ذلك قوله في الحديث الصحيح (¬1): «أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» , إذ الظاهر من هذا أن الاستغفار منه - عليه السلام - لأبي طالب كان واقعا لأجل القسم, ويحتمل استغفاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له وجهين: أحدهما: أن يكون النبي - عليه السلام - لا علم له حينئذ بأن من هو مشرك لا تناله المغفرة، إذ يجوز الغفران لكل مشرك على الإطلاق أو لبعض المشركين ممن كان له أثر حسن, مثل أبي طالب. وأعني بقولي: "يجوز" الجواز العقلي, إذ ليس في العقل ما يقضي بأن المشرك لا يغفر له، لاسيما والنبي - عليه السلام - قد نزل عليه بمكة قول إبراهيم: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86]. فانضاف هذا الدعاء من إبراهيم إلى كون الغفران جائزا في العقل فاستغفر النبي - عليه السلام - لعمه من أجل ذلك. ويكون هذا هو الحامل له على أن يستأذن في الاستغفار لأمه, وعلى هذا يدل ما مضى من التفسير عن ابن عباس وغيره, إذ قالوا: إن النبي - عليه السلام - انتهى عن ذلك لما نزلت عليه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] الآية, والسورة مدنية. الوجه الثاني: أن يكون - عليه السلام - يعلم حين الاستغفار أن المغفرة لا تنال المشرك, لكن يكون قصده من الاستغفار تخفيف العذاب, ويكون سبب إقدامه عليه كونه لم ينه عنه, مع ما أنزل عليه من استغفار إبراهيم لأبيه (¬2) ¬

(¬1) هو طرف من حديث المسيب بن حزن في قصة وفاة أبي طالب، وقد تقدم. (¬2) من: "مع ما أنزل" إلى هنا سقط من (ب).

وتخفيف العذاب بنفسه فائدة, وقد وجدت هاهنا, فإن النبي - عليه السلام - أخبر بأن أبا طالب أهون أهل النار عذابا, وقال: «لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار». (¬1) والذي حملنا على هذا التأويل مع أن الأول أظهر ما نقله ابن إسحاق, إذ ذكر المحاورة التي كانت بين النبي - عليه السلام - وبين قريش بحضرة أبي طالب حتى قال لهم النبي - عليه السلام -: «كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم وهي لا إله إلا الله» , فنفروا من ذلك (¬2)، ورأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من لين كلام أبي طالب ما أطمعه في إسلامه فجعل يقول: «أي عم فأنت فقلها (ق.115.أ) أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة» (¬3). ¬

(¬1) تقدم. (¬2) رواه الترمذي (5/ 365) وأحمد (1/ 227) والحاكم (2/ 469) وابن حبان (15/ 80) من طريق سفيان عن الأعمش عن يحيى بن عمارة (أو ابن عباد) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ويحيى المذكور انفرد ابن حبان بتوثيقه. ورواه أحمد (1/ 362) وابن أبي شيبة (8/ 442) من طريق الأعمش ثنا عباد بن جعفر عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس. (¬3) رواه ابن إسحاق (2/ 46) قال فحدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس عن بعض أهله عن ابن عباس. وفي سنده مجهول. ورواه الحاكم (2/ 366) من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بلفظ: فقل كلمة تجب لك علي بها الشفاعة يوم القيامة. لكن سفيان بن حسين ضعيف في الزهري. ... = = وقد صح الحديث عند البخاري (3671 - 4398 - 4494 - 6303) وغيره بلفظ: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله.

فقوله - عليه السلام -: «أستحل لك بها الشفاعة» , إن صح ذلك عنه يدل على أنه - عليه السلام - علم حينئذ أن التوحيد هو السبب في نيل الشفاعة وأن المشرك بمعزل عنها, وذلك موافق لما قاله بعد إذ ذكر الدعوة التي اختبأها شفاعة لأمته ثم قال: «فهي نائلة إن شاء الله من أمتي من مات لا يشرك بالله شيئا» (¬1). وإنما لم تكن الشفاعة في الآخرة لمن هو مشرك لأجل أن المغفرة لا تتناوله, وإنما تكون الشفاعة في المحل الذي تتأتى (¬2) له المغفرة, قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا (¬3) دخل النار» (¬4). فلم يجعل - عليه السلام - للمشرك منزلا إلا النار، وقد أخبر الله بعدم المغفرة له فقال: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] (كما تقدم ذكره) (¬5) , ولو تصور أن يغفر لمشرك لكان ذلك لأبي طالب لمكانه من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬6). ¬

(¬1) تقدم. (¬2) في (ب): تأتى. (¬3) ليس في (ب). (¬4) رواه البخاري (1181) عن ابن مسعود، ورواه مسلم (92 - فما بعد) عن ابن مسعود وجابر وأبي ذر. (¬5) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في الهامش، وعليه علامة التصحيح. (¬6) من (ب).

ولكون ذلك لا يتصور إلا مع الإيمان ولم يكن منه إيمان أنزل الله تعالى على نبيه في حق أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] , معناه أن الله تعالى يفعل ما يشاء في خلقه من هدي أو ضلال من غير اعتبار بمن يحب ذلك أو يكرهه. وهذا المعنى قد ذكره - عليه السلام - لقريش وكرره عليهم, فإنه كان يقول عندما نزلت عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا, ثم أخذ يذكر كذلك بطون قريش, إلى أن انتهى إلى فصيلته, فقال: يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا, ثم رجع إلى الأشخاص على التعيين فقال: يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا, يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا, يا فاطمة بنت رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا». (¬1) فهؤلاء هم أقرب القرابة إلى رسول الله، لاسيما فاطمة فهي أحبهم إليه, وقد قال لها كما قال لغيرها: «لا أغني عنك من الله شيئا». ¬

(¬1) رواه البخاري (2602 - 4493) ومسلم (206) والنسائي (3646 - 3647) وابن حبان (6549) والدارمي (2632) والبيهقي (6/ 280) والطحاوي (3/ 285 - 4/ 388) عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.

وقد ذكر ابن إسحاق (¬1) عند موت أبي أمامة أسعد بن زرارة والمسجد يبنى في أول زمن الهجرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بئس الميت أبو أمامة، ليهود ومنافقي العرب يقولون: لو كان نبيا لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله تعالى (¬2) شيئا». وهذا كله (¬3) امتثال (¬4) منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمره الله به إذ يقول له: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً} [الجن: 21] ويقول أيضا (¬5): {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} [يونس: 49]. وقال تعالى فيما يلزمه من تبليغ الرسالة: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48]. وقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [المائدة: 99] , وإذا لم يكن عليه إلا البلاغ فالله تعالى يهدي إلى الإسلام برسالته من يشاء ويصرف ذلك عن من يشاء من قريب له - عليه السلام - (¬6) أو بعيد, لا يسأل سبحانه عما يفعل. وإلى هاهنا انتهى بنا القول في تقرير حال هذا القسم الذي كنا فيه. ¬

(¬1) رواه ابن إسحاق في السيرة النبوية (2/ 113) بسند مرسل. فهو ضعيف. (¬2) من (ب). (¬3) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في الهامش، وعليه علامة التصحيح. (¬4) في (ب): امتثالا. (¬5) سقط في (ب). (¬6) سقط من (ب).

فصل: إن قال قائل: فإذا ظهر من القرآن والحديث أن كل (¬1) هذا القسم الذين فرغتم من الكلام عليه (¬2) معذبون بالنار لكفرهم وإشراكهم دل ذلك على أنهم كانوا مخاطبين بشريعة ومتعبدين بها، ومعلوم أن الشرائع لا تؤخذ إلا عن الأنبياء، فإن يكن النبي الذي خوطبوا بشريعته هو إسماعيل - عليه السلام - وإلا لم يلزمنا تعيينُه. قلنا: هذا يرده (¬3) نصوص القرآن فإنه (¬4) لم يأتهم رسول حتى بعث نبينا (¬5) محمد - عليه السلام -، قال الله تعالى: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:-1 - 3]. وقال سبحانه: {يس وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}. ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) في (ب): فرغتم منه. (¬3) في (ب): ترده. (¬4) في (ب): بأنهم. (¬5) في (ب): رسول إلا نبينا.

وقال عز اسمه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46]. وقال جل جلاله: {وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} [سبأ: 44]. فهذه الآيات كلها مخاطبة من الله تعالى لمحمد - عليه السلام - بأنه لم يرسل إلى العرب قبله من رسول. ولذلك قال قتادة: ما أنزل الله جل ذكره على العرب كتابا قبل القرآن ولا بعث إليهم رسولا قبل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). وصدق قتادة، فإن الله تعالى يقول: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21]، ثم أضرب عن ذلك بقوله: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. فأخبر عنهم بأنهم وجدوا آباءهم على دين وأنهم مهتدون بآثارهم، وذكر أن هذا كان سبيل الأمم مع أنبيائهم. ¬

(¬1) رواه ابن جرير (10/ 383) ثنا بشر ثنا يزيد ثنا سعيد عنه. وبشر هو ابن معاذ العقدي، ويزيد هو ابن زريع، وسعيد هو ابن أبي عروبة ثقة مدلس وقد عنعن. فالسند حسن لولا عنعنة سعيد. علما أن سعيدا هذا اختلط لكن الراوي عنه هو يزيد بن زريع، وقد روى عنه قبل الاختلاط.

وقد تكرر (¬1) هذا المعنى في القرآن قال تعالى (¬2): {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [المائدة: 104]. وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [لقمان: 21] , وفي موضع آخر: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [البقرة: 170]. ولم يخبر الله عنهم في هذه الآيات بأن يقولوا إن عندهم كتابا تمسكوا به أو أن رسولا أرسل إليهم بذلك الدين الذي اتبعوا فيه آباءهم، ولو كان عندهم ذلك (¬3) لذكروه على وجه المدافعة للقرآن ولمن جاء به، وإنما غايتهم أن يقولوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا. وأما إسماعيل - عليه السلام - فقد نطق القرآن بأنه كان رسولا نبيا، وليس فيه أنه أرسل إلى قوم بأعيانهم، كما جاء في غيره من الرسل. وذكر وثيمة في كتابه قال: حدثنا جويبر (¬4) عن الضحاك قال: لم يمت إبراهيم - عليه السلام - حتى بعث الله إسحاق إلى أرض الشام، وكان إبراهيم ¬

(¬1) في (ب): كرر الله. (¬2) في (ب): فقال. (¬3) في (ب) تقديم وتأخير. (¬4) هو جويبر بن سعيد الأزدي أبو القاسم البلخي صاحب الضحاك، وهو ضعيف جدا كما في ترجمته من تهذيب التهذيب (2/ 106)، إلا أن بعض الحفاظ رفعوا من حاله في التفسير. قال يحيى القطان عنه مع غيره: لا يحمل حديثهم، ويكتب التفسير عنهم. وقال أحمد بن سيار المروزي: وحاله حسن في التفسير، وهو لين في الرواية.

بفلسطين, وبعث يعقوب إلى أرض كنعان, وإسماعيل إلى جرهم, ولوطا إلى سدوم. فكان هؤلاء أنبياء على عهد إبراهيم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وذكر المسعودي في كتابه (¬1) أن الله تعالى نبأ إسماعيل وأرسله إلى العماليق وقبائل اليمن فنهاهم عن عبادة الأوثان فآمن طائفة منهم وكفر أكثرهم. ولا بد أن يصح إرسال إسماعيل إلى هؤلاء المذكورين، أو إلى جرهم, كما قال الضحاك، أو إلى الجميع حتى يصدق عليه كونه رسولا، ولا يمكن أن يكون رسولا إلى العرب، إذ كانوا غير موجودين حينئذ (وأيضا فقد أخبر الله أنه لم يرسل إليهم رسولا قبل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) (¬2)، وأعني بذلك العرب الذين يرجعون إلى عدنان من ولد إسماعيل, لكن من كان منهم في الجاهلية متبعا لدين إبراهيم وإسماعيل فهو موحد على ذلك الدين, بدليل زيد بن عمرو, كما أن من غير دينهما فهو معذب بدليل عمرو بن لحي. وأما جرهم فهم من العرب العاربة وفيهم تصاهر إسماعيل - عليه السلام -، وكانوا متمسكين بالحنيفية، وسبيلهم في الهلاك سبيل طسم وجديس والعماليق وغيرهم ممن دثر أمره، وعفا خبره. ومما يؤكد ما ذكرناه في هذا الفصل أن إبراهيم صلى الله عليه دعا الله تعالى في إرسال نبي من أهل مكة إليهم، وذلك قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ¬

(¬1) مروج الذهب (1/ 49). (¬2) من (ب).

العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة: 129] , فاستجاب الله دعاءه وأرسل إليهم رسولا منهم، كما (ق.110.ب) قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. ولا يخلو أن يكون الرسول المذكور في هاتين الآيتين هو إسماعيل - عليه السلام - أو يكون محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ لا يعلم بمكة نبي سواهما. والقول بأن ذلك الرسول هو إسماعيل يبطل من ثلاثة أوجه: أحدها: إن الدعوة التي دعاها إبراهيم - عليه السلام - شاركه فيها إسماعيل فكانت تلك الدعوة مشتركة بينهما، والدليل على ذلك أن الله تعالى حكى عنهما في أول القصة ما قالا في دعائهما, وذلك قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] أي: يقولان ربنا تقبل منا. يدل على ذلك قولهما: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] إلى انقضاء الآية، ثم قالا آخرا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 129] الآية.

وإذا ثبت اشتراكهما معا في هذا الدعاء تبين منه أن إسماعيل لا يصح أن يعني بذلك نفسه. الوجه الثاني: إن قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 129] الآية، إنما تعود الضمائر المذكورة فيها على الأمة المسلمة في المعنى، وهم من ذرية إسماعيل، ولا يبعد أن تعود على أهل الحرم المذكورين في قول إبراهيم أولا: {رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]. وأهل الحرم من ذرية إسماعيل، وكل من هو من ذرية إسماعيل فهو من ذرية إبراهيم, ولهذا قالا جميعا: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] , وإذا كان الرسول الذي سألا الله تعالى فيه من ذرية إسماعيل فقد صح أنه غير إسماعيل ضرورة. الوجه الثالث: إن في ذلك الدعاء: {يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ... [البقرة: 129] , وإسماعيل - عليه السلام - لا يعلم له كتاب، فقد يجوز أن يكتفي في شريعته (ق.111.أ) بصُحف أبيه إبراهيم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ويجوز أن ينزل الله عليه بعض الصحف، لكن تكون داثرة كما دثر خبر من ءامن به. وإذا بطل بما ذكرناه كون إسماعيل هو الرسول الذي تناولته تلك الدعوة تعين أن ذلك الرسول هو نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المبعوث بمكة في صميم أهلها قريش, الذين هم صريح ولد إسماعيل - عليه السلام - , وهو المنزل عليه القرآن المنقول عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتواتر, وقد وجدت فيه الصفات المذكورة في آية الدعوة من تزكيته لأمته وتعليمه إياهم الكتاب والحكمة وتلاوته عليهم الآيات, حسبما ذكره الله في الآيتين المتقدمتين.

ثم قد نص - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنه المقصود بتلك الدعوة بقوله: «أنا دعوة أبي إبراهيم» (¬1). فقد بان بهذا وبما تقدم من الآيات في أول الفصل أن نبينا محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الرسول إلى العرب, ولم يرسل إليهم سواه, وإنما خصصنا العرب بالذكر لأجل أن الأحاديث الواردة بتعذيب من كان في الفترة وردت فيهم كما تقدم ذكرها, وإلا فالنبي محمد - عليه السلام - مبعوث إلى جميع الإنس عربهم وعجمهم. قال الله تعالى بعد أن ذكر أنه مكتوب بصفته في التوراة والإنجيل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 158] , وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28]. وعد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خصائصه كونه مبعوثا إلى الأحمر والأسود, وكذلك هو مبعوث إلى الجن, وسيأتي ذكر ذلك عند الكلام فيهم بحول الله. ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 262) والطيالسي (1140) وابن الجعد (3428) والروياني (2/ 311) والطبراني في الكبير (8/ 175) من طريق فرج بن فضالة ثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة. ولقمان بن عامر وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وهذه العبارة يطلقها أبو حاتم على من لا يحتج به عنده. وله شاهد عن العرباض، خرجه أحمد (4/ 127) وابن حبان (14/ 313) والحاكم (2/ 453) والطبراني في الكبير (18/ 252). وللحديث شواهد أخرى، راجعها في السلسلة الصحيحة (1546).

وفي تعميم دعوته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زيادة على ماتضمنه دعاء إبراهيم عليهما السلام، فإن الله تعالى استجاب لهما على وفق دعائهما بأن أرسل نبيه محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى من سألا عليهما السلام بعثه إليهم. ثم لم يكتف سبحانه بالإجابة فقط حتى عم بدعوة محمد جميع الثقلين تشريفا لمقامه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبذلك يتحقق الامتنان الذي نبه عز اسمه عليه في قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، فإنه لو فرض أن يكون هذا الرسول هو إسماعيل على القول الأول للزم أن ينزل المؤمنون المذكورون في الآية على أمته المؤمنين به - عليه السلام - في وقته، وأن يكون الامتنان المذكور خاصا بهم، وهذا لا يصح, إذ يبطل بذلك ما أعطته الآية من التمدح بالامتنان على المؤمنين بإطلاق. وإذا ثبت بمجموع ما بيناه أن الرسول المذكور في الآية هو نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد صح أن المؤمنين المذكورين فيها هم جميع هذه الأمة المؤمنين به وبما أنزل عليه, وإذا كان الأمر كذلك فالامتنان عام، إذ ينسحب على كل من يؤمن بشريعته - عليه السلام - إلى قيام الساعة (¬1). ¬

(¬1) من: "ومما يؤكد ما ذكرناه" في أواخر (110.أ) إلى هنا سقط من (ب).

فصل وأما من يقدر أنه أرسل إلى أهل الفترة رسول ويقول: إنه لا يلزمنا تعيينه, فذلك هوس منه، فإنه لو بعث إليهم رسول لكان فيهم المؤمن به والكافر, ونحن نعلم بطلان ذلك من وجهين: أحدهما: ما قدمناه من الآيات المعرفة لنا أنه لم يرسل قبل محمد - عليه السلام - رسول إلى العرب. والثاني: أنا لو فرضنا ذلك واقعا (في الفترة) (¬1) لتوفرت الدواعي على نقله ولابد, إذ مثل هذا (¬2) لا يصح التواطؤ على كتمانه، بل كان ينقل نقل استفاضة وتواتر. فقد نقل الإخباريون ما هو دون ذلك وهو ما ذكروه من حديث خالد بن سنان العبسي وأنه كان نبيا في الفترة, وذكروا قول نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه (¬3) ذلك: «نبي أضاعه قومه» (¬4). ¬

(¬1) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في الهامش، وعليه علامة التصحيح. (¬2) في (ب): ذلك. (¬3) في (ب): في. (¬4) ضعيف، رواه الحاكم (4172) من طريق معلى بن مهدي ثنا أبو عوانة عن أبي يونس عن عكرمة عن ابن عباس فذكر خبره، ثم قال: وقال أبو يونس قال سماك بن حرب سأل عنه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ذاك نبي أضاعه قومه .... وصححه الحاكم على شرط البخاري. ... = = وهو مردود عليه، فسماك متكلم فيه، ومعلى بن مهدي قال أبو حاتم: يأتي أحيانا بالمناكير. قال الهيثمي في المجمع (8/ 214): وهذا منها. وتعقب ابن حجر تصحيح الحاكم في الإصابة (2/ 373) فقال: لكن معلى بن مهدي ضعفه أبو حاتم. انتهى. وقال العراقي في ذيل الميزان (222): لا يصح هذا، ويرد عليه الحديث الصحيح: أنا أولى الناس بعيسى بن مريم ليس بيني وبينه نبي. ونحوه للهيثمي في المجمع (8/ 214). ورواه ابن أبي شيبة (7/ 560) ثنا وكيع ثنا سفيان عن سالم عن سعيد بن جبير مرسلا. وخرجه الطبراني في الكبير (11/ 441) وابن عدي في الكامل (6/ 46) من طريق قيس بن الربيع عن سالم الأفطس عن سعيد عن ابن عباس، فوصله. لكن سفيان أحفظ من قيس. فالحديث مرسل. ورواه ابن سعد (1/ 296) عن أبي هريرة بسند فيه الواقدي المتروك. وراجع الضعيفة رقم (281).

ونحن نبعد صحة هذا (¬1) (ق.115.ب) عن النبي - عليه السلام - فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الحديث الصحيح: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم الأنبياء أولاد علات وليس بيني وبينه نبي» (¬2). اللهم إلا أن يعني به (¬3) نفي الرسالة بينه وبين عيسى لا نفي النبوة، فقد يشبه ذلك. ¬

(¬1) في (ب): ذلك. (¬2) رواه البخاري (3258 - 3259) ومسلم (2365) وأبو داود (4675) وأحمد (2/ 319 - 406 - 437 - 463 - 482 - 541) وابن حبان (6194 - 6195 - 6406) وابن أبي شيبة (8/ 660) والحاكم (4153) والطيالسي (2575) عن أبي هريرة. (¬3) في (ب): بذلك.

وهذا القول منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرد أيضا تقدير من يقدر أن هنالك رسولا لا يلزم تعيينه. ثم ليت شعري من يكون ذلك الرسول المقدر، وهو لم يعلم اسمه ولا نسبه ولا شوهد شخصه ولا عرف لمن بعث ولا في أي زمان بعث، ولا وقف على معجزته، وإذا لم يكن لنا طريق إلى تعرف هذا كله تبين أن ذلك التقدير توهم محض إذ لا حقيقة له (¬1). ولولا أنا شهدنا بعض الطلبة قد التزم هذا القول في المذاكرة لما سقناه هاهنا لنزوله وضعف نظر من يقوله (¬2). والذي حمله على ذلك أنه رأى التعارض بيناً بين قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وبين الأحاديث التي جاءت عن النبي - عليه السلام - بتعذيب بعض من كان في الفترة بالنار، فلجأ إلى أن يقول إن هنالك شريعة كلفوها وإن لم يعرف صاحبها بعينه. واقتحام مثل هذا القول أشد على قائله من التوقف عن التكلم على ذلك التعارض إذا لم يعرف وجهه. ونحن نقول: إن هاهنا قاعدتين مقطوعا بهما: ¬

(¬1) من: "ثم ليت شعري"، إلى هنا سقط من (ب) وكتب في هامش (أ)، وعليه علامة التصحيح. (¬2) هذه الفقرة في (ب) هكذا: ولولا أنا سمعنا بعض الطلبة يذكر ذلك لما سقناه في هذا الموضع لنزول هذا القول وضعف نظر من يقوله.

إحداهما: إن الله تعالى أعلمنا أنه لا يعذب أحدا حتى تقوم الحجة عليه بقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]. والقاعدة الثانية: إن الله تعالى أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلى العرب قبل محمد - عليه السلام - بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} [سبأ: 44] وغير ذلك من الآيات التي تقدم ذكرها. فبعد تأصيل هاتين القاعدتين اعترضتنا تلك الأحاديث الصحيحة التي وردت في أشخاص ممن كانوا في زمن الفترة بأنهم من أهل النار، مثل ما جاء في عمرو بن لحي وغيره على ما تقدم (¬1) , وقد أجبنا عن ذلك بثلاثة أوجه ذكرناها قبل, إذ قلنا: أحدها: إن المسألة التي نحن بصددها قطعية، وهذه الأحاديث أخبار آحاد. والثاني: أن نقصر ما ورد من دخول النار على من ورد فيه بعينه فقط، ولا نطلب علة ذلك. والثالث: تقسيمنا أهل الفترة إلى أربعة أقسام, وكان غرضنا من ذلك إبراز هذا القسم الثالث, إذ فيه الجواب المتمكن عن تلك الأحاديث لما تضمنه من تغيير الشرائع، واختراع الدين، ونصب الأحكام بمجرد الأهواء وتحسين ¬

(¬1) في (ب): ذكرناه.

العقول, فحملنا تلك الأحاديث لأجل ذلك على أهل هذا القسم, (دون غيرهم من أهل الفترة) (¬1). وكان ذلك الجواب منا أولا قبل أن نخوض في الكلام على هذا القسم ونتأمل الآيات التي أوردناها في استقراء الحكم عليهم في جاهليتهم كما (ق.116.أ) ينبغي. فلما تأملنا ذلك كله (¬2) وأحطنا علما به تبين لنا أن أهل هذا القسم (¬3) الذين عبدوا الأوثان: كفار (¬4) مؤاخذون بأعمالهم ومعاقبون على أفعالهم, لاسيما وقد وجدنا في الكتاب العزيز آية هي أجلى من الآيات المتقدم ذكرها فيما نحن بسبيله, إذ فيها النص على كفر من كان قبل الإسلام (¬5) , فلنذكر تلك (¬6) الآية التي تتضمن ذلك, ولبدأ بما قبلها ليتبين بذلك ما نقصده من الكلام عليها. فنقول: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87]. ¬

(¬1) ما بين القوسين كتب في هامش (أ) ولا يظهر منه إلا أسافل الحروف، وأتممته من (ب). (¬2) سقط من (ب). (¬3) في (ب): أهل الفترة. (¬4) في (ب): كفارا، وهو خطأ. (¬5) من العزيز إلى هنا في (ب) كما يلي: النص على من كان قبل الإسلام من أصحاب الأوثان بأنهم كفار، وذلك أجلى من الآيات التي تقدم الكلام عليها. (¬6) سقط من (ب).

فقوله: {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة: 87] أي: على منهاج موسى وطريقته، إذ كل من بعث من بعد موسى إلى زمان عيسى إنما كان يأمر بني إسرائيل أن يلزموا التوراة ويعملوا بما فيها. والآيات التي أوتيها عيسى هي: إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير (من الطين) (¬1) وغير ذلك. وروح القدس هو جبريل - عليه السلام -. ثم قال مخاطبا لأهل الكتاب: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] , يعني ما فعله أسلافهم بالأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل، إذ كذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم, وإنما خاطبهم الله تعالى مخاطبة المواجهة, وإن كانوا هم لم يقتلوا, لأنهم مقتدون بآثار آبائهم, فقد كذبوا محمدا - عليه السلام - ولم يؤمنوا به، ثم إنهم جهدوا أنفسهم في قتله فمنعه الله منهم، فرجعوا إلى السحر فسحروه حتى شفاه الله. ثم قال: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] أي: إنا لا نعقل كلامك ولا نفقه قولك، فلو كنت صادقا سمعنا ما تقول. يقال: سيف أغلف إذا كان في غلافه, وقولهم قلوبنا غلف مشتق من هذا (¬2) , وهو كقول قريش: {قُُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5]. ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) غلف بسكون اللام جمع أغلف، أي عليها أغطية قال مجاهد: عليها غشاوة. وقال عكرمة عليها طابع. انظر تفسير القرطبي (2/ 25).

ثم قال الله لهم: {بَلْ لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]. ولعنهم (¬1) هو إبعادهم عن الإيمان, كما طبع على قلوبهم أي ختم عليها. فقد قال فيهم في آية أخرى: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155]. ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 89] يعني بالكتاب: القرآن العزيز, وأنه مصدق لما معهم من التوراة, وهذا الإخبار إنما هو عن (¬2) اليهود الساكنين بالمدينة والمجاورين لها. فقال الله عنهم: {وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] معنى ذلك أن اليهود كانوا من قبل، أي: من قبل الإسلام، يستفتحون على الكفار، أي: يستنصرون عليهم بالنبي المبعوث, إذ كانوا يؤذونهم, والاستفتاح هو الاستنصار, قال الله تعالى: {إن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] أي النصر. وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] أي: جاء اليهود ما عرفوه من بعث النبي - عليه السلام - , إذ كانوا يعرفونه بصفته وزمانه كفروا به حينئذ بغيا منهم, كما ذكره الله تعالى في الآية التالية لهذه. ¬

(¬1) في (ب): واللعن. (¬2) في (ب): من.

وموضع الدليل من الآية التي (قصدنا إيرادها هنا هو قوله تعالى) (¬1): {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] إذ سمى القوم الذين كانت اليهود تستفتح عليهم بالذين كفروا وهم الأوس والخزرج الساكنون بيثرب, وكانوا أصحاب أوثان. ذكر ابن إسحاق في السير (¬2) قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله بنا وهداه لنا لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك وأصحاب أوثان, وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا, وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور, فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم, فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم, فلما بعث الله رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا هم به, ففينا وفيهم أنزل الله تبارك وتعالى هؤلاء الآيات من البقرة: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]. فهذا الذي ذكر ابن إسحاق يدل على ما قلناه من أن الذين كفروا المذكورين في الآية هم الأوس والخزرج، ولم يكن عندهم في الجاهلية نبي ¬

(¬1) في (ب): التي أوردناها وهو الذي سقنا الآية من أجله هو قوله. (¬2) رواه ابن إسحاق (1/ 132) وعنه ابن جرير (1/ 455) والبيهقي في الدلائل (2/ 75) بنحوه، زاد في الدر المنثور (1/ 215): ابن المنذر وأبا نعيم. وفي سند ابن إسحاق: مجهول.

يلزمهم الكفر به إذا (¬1) لم يجيبوه ويؤمنوا به, وقد أطلق الله تعالى عليهم اسم الكفر في جاهليتهم، وما ذاك إلا لعبادتهم الأوثان, وكانت اليهود حينئذ (¬2) مؤمنين بشريعتهم، وإنما لزمهم التكفير بعد بكونهم عاندوا الحق وكفروا بالنبي - عليه السلام - بعد معرفتهم به بين ذلك بقوله: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]. فالعجب كيف انعكست الحال في الإسلام, فصار الكفار من أهل يثرب مؤمنين بالشريعة التي جاء بها محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وصار اليهود المؤمنون بشريعتهم قبل (¬3) كفارا بهذه الشريعة (الناسخة لجميع الملل) (¬4) , ثم ينعطف عليهم التكذيب بشريعتهم ويلزمهم الكفر بها من حيث إنهم يجدون صفة (ق.117.أ) محمد - عليه السلام - في التوراة, وهم مأمورون فيها بالإيمان به - عليه السلام - , فإذا لم يمتثلوا ذلك انسلخوا من شريعتهم زائدا على الانسلاخ من هذه الشريعة. وقد جاء في التفسير (¬5) أن الذين كفروا المذكورين في قوله: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] هم العرب من غير أن يخص منهم أهل يثرب (¬6) , وذلك أن ابن عباس قال: كانت العرب في الجاهلية يمرون على ¬

(¬1) في (ب): إذ. (¬2) في (ب): إذ ذاك. (¬3) في (ب) بدل "قبل": حينئذ. (¬4) في (ب) مكان ما بين القوسين: التي جاء بها محمد - عليه السلام -. (¬5) تفسير ابن جرير (1/ 456 - 457). (¬6) في (ب): يخص بذلك أهل يثرب ولا غيرهم.

اليهود فيؤذونهم واليهود يجدون صفة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1) في التوراة, فيسألون الله أن يعجل بعثه فينصرهم على العرب لما وصل إليهم من أذى العرب، فلما جاءهم محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2) الذي قد عرفوه وسألوا الله في بعثه كفروا به (¬3). وقال قتادة: كانت اليهود تستنصر بمحمد - عليه السلام - على كفار العرب: كانوا يقولون: اللهم إيت بهذا النبي الذي يقتل العرب ويذلهم, فلما رأوا أنه من غيرهم حسدوهم وكفروا به (¬4). فإن كان المراد بقوله: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] سائر العرب على ظاهر قول ابن عباس وقتادة, فلا فرق بينه وبين الأول فيما قلناه, فإن العرب كانوا أصحاب أوثان ولم يأتهم رسول قبل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيلزمهم التكفير من أجل ذلك. فقد أطلق الله على أهل الجاهلية الكفر سواء كانوا بعضهم من أهل يثرب أو غيرهم من سائر العرب. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) من (ب). (¬3) رواه ابن جرير (1/ 455) بسند فيه محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، انفرد ابن حبان بتوثيقه. ورواه البيهقي في الدلائل (2/ 76) من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. لكن عبد الملك هذا كذاب. (¬4) رواه ابن جرير (1/ 456) بنحوه بسند فيه عنعنة سعيد بن أبي عروبة، زاد في الدر المنثور (1/ 216): عبد بن حميد وأبو نعيم.

والاحتجاج بهذه الآية قوي فيما أردناه منها، إذ فيها القَبْلية بقوله: وكانوا من قبل, يعني قبل الإسلام, ولعل ذلك كان من اليهود في حال صغر النبي - عليه السلام - أو قبل ولادته، فتسميتهم أعني أهل الجاهلية بالكفار متمكن في الباب. وقد قلنا إن هذه الآية أجلى من سائر الآيات المتقدمة، إذ من ليس بمنصف قد يتعسف في تأويل تلك الآيات ويزعم أن المشركين الذين عُنوا بها هم الذين قامت عليهم الحجة بالإسلام, وأن تسميتهم بالكفار إنما كان لتوقفهم عن الإسلام من أول المبعث، ويتكلف ما عسى أن يرد به تأويلنا هنالك في بعض ما قلناه. وأما هذه الآية التي ذكرناها آخرا, وهي قوله: {وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] فليس عند المتعسف فيها ما يصنع, إذ لابد أن يكون المستفتِحون خلاف المستفتَح عليهم ضرورة, فالمستفتحون هم أهل الكتاب العارفون بأن نبيا يبعث, وهم المذكورون في قوله: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وسيكون المستفتَح عليهم غيرهم لا محالة, وإذا كانوا غيرهم فلا يخلو أن يكونوا أهل يثرب (ق.117.ب) المجاورين لهم أو من سواهم (¬1) من سائر العرب المارين بهم. وكيف ما كان فقد سموا بالكفار في الجاهلية, وذلك هو مقصدنا الذي أردنا تبيينه. ¬

(¬1) في (ب): من غيرهم.

وإذا تبين أنهم كفار فحكم الكفار معلوم من قواعد الشرع, فينبغي (¬1) أن يكون تكفير أهل الأوثان قاعدة أخرى تضاف إلى القاعدتين المتقدمتين. لكن يبقى النظر في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] , وينبغي أن ينزل (¬2) على من ليس عنده إيمان ولا عبادة أصنام (¬3) فيسلم في الآخرة من العذاب من حيث لم تقم عليه الحجة, وهذه هي صفة أهل القسم الرابع الذي بقي لنا الكلام عليه, فلنشرع فيه بحول الله. ¬

(¬1) في (ب): ينبغي. (¬2) في (ب): ننزله. (¬3) في (ب) هكذا: ليس عنده عبادة أصنام فلا يلزمه تكفير ولا عنده إيمان فيسلم ...

القسم الرابع من أهل الفترة

القسم الرابع من أهل الفترة هذا القسم هو من لم يكن عنده توحيد ولا إشراك ولا دخول في شريعة نبي ولا تعرض لتغييرها ولا اختراع لدين, بل بقي عمره (¬1) على حال غفلة وذهول عن ذلك كله, وقد نُقل أن في أهل الجاهلية من كان على هذه الوتيرة, ويقتضي النظر وجودهم, فإنه إذا وجد فيهم الموحد لله والمشرك به، فكذلك قد (¬2) يوجد منهم من هو عار عن الوصفين جميعا, لكون خواطر الخلق مختلفةً وأذهاِنهم غيرَ متفقة. ومثال ذلك فيما مضى قصة عبيد الله بن جحش بن رئاب, إذ فارق دين قومه مستبصرا في ذلك، كما تقدم عنه وعن ورقة وعثمان بن الحويرث وزيد بن عمرو, ثم بقي هو من بينهم واقفا لم يدخل في شريعة حتى جاء الإسلام فكانت لعبيد الله المذكور أربعة أحوال, فإنه كان على حال الشرك في الجاهلية، ثم زال عن الشرك، لإدراكه أن الأصنام لا تضر ولا تنفع, وبقي متوقفا ملتمسا, إلى أن جاء الله بالإسلام فأسلم, وهاجر إلى أرض الحبشة وهو مؤمن, ثم تنصر هنالك فمات نصرانيا, نعوذ بالله من الخاتمة السوء. ومقصودنا من هذه الأربعة الأحوال الحالة الثانية، وهي التي كان عليها عبيد الله بن جحش، إذ كان متوقفا، فإنه زال عن الشرك ولم يدرك ¬

(¬1) في (ب): بقي كذلك. (¬2) سقط من (ب).

الإيمان, فإذا كانت هذه الحالة موجودة لشخص واحد في وقت ما من أوقاته, فلا يبعد أن يكون على ذلك أشخاص كثيرة مدة أعمارهم حتى يموتوا عليها, وهم الذين نريد بهذا القسم الرابع. وقد ذكر المسعودي (¬1) في كتابه ديانات العرب فقال: كانت العرب في جاهليتها فرقا, منهم الموحد (ق.118.أ) المقر بخالقه المصدق بالبعث والنشور موقنا بأن الله يثيب المطيع ويعاقب العاصي, وقال (¬2): قد ذكرنا قبل من دعا إلى الله ونبه على آياته في الفترة كقس بن ساعدة, ورئاب الشني, وبحيرا الراهب, وكانا من عبد القيس. انتهى قوله. وهذا القسم الذي ذكره هو الذي جعلناه نحن قسمين: أحدهما: من وحد الله تعالى من غير اتباع شريعة. والثاني: من دخل في الشرائع كمن تهود أو تنصر، وقد تقدم ذكرهما. قال (¬3): وكان من العرب من أقر بالخالق وأثبت حدث العالم وأقر بالبعث والإعادة وأنكر الرسل وعكف على عبادة الأصنام, وهم الذين حكى الله عز وجل قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] الآية, وهذا الصنف هم الذين حجوا إلى الأصنام ونحروا لها البدن ونسكوا لها النسائك وأحلوا لها وحرموا. انتهى قوله. ¬

(¬1) مروج الذهب (2/ 98) بنحوه. (¬2) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في فوق السطر، وعليه علامة التصحيح. (¬3) مروج الذهب (2/ 98) بنحوه.

وهذا الصنف هم أهل القسم الثالث الذين عبدوا الأوثان واخترعوا الأحكام على ما قدمنا من أمرهم, غير أن المسعودي قال فيهم: إنهم أقروا بالبعث والإعادة، ولا يبعد أن يكون فيهم من يقر بذلك، فقد قال زهير (¬1) في الجاهلية: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم وأما أن يكون هذا الصنف كلهم يقرون بالبعث والإعادة فلا, بل أكثرهم لا يقرون بذلك ولا يعترفون به، وقد صح في الحديث عن خباب بن الأرت أنه كان له دَيْن على العاصي بن وائل فأتاه ليتقاضاه منه فقال له: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد فقال (¬2) له: لن أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث قال: وإني لمبعوث من بعد الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد، فأنزل الله تعالى فيه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77] الآية (¬3). فهذا العاصي بن وائل كافر بالبعث. وهو الذي يظهر من قريش في أقوالهم, فقد جاء في التفسير أن أبي بن خلف أو أمية بن خلف أتى النبي - عليه السلام - بعظم نخر ففته (¬4) بيده, وقال له: أتزعم ¬

(¬1) هو زهير بن أبي سلمى، ترجمته في طبقات الشعراء لابن قتيبة (61) وغيرها. (¬2) في (ب): قال. (¬3) تقدم. (¬4) في (ب): ففتته.

أن الله يحيى هذا وهو رميم، فقال له - عليه السلام -: «الله يحييه ثم يميتك ثم يبعثك ثم يدخلك النار» , فقتله النبي - عليه السلام - يوم أحد, وفيه نزلت: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. (¬1) وهكذا جاء عن أبي جهل وغيره إنكار (¬2) البعث على ما دلت عليه الأخبار المذكورة في السير. قال المسعودي (¬3): ومنهم من أقر بالخالق والبدء وكذب الرسل والبعث ومال إلى قول أهل الدهر, وهؤلاء الذين حكى الله (ق.118.ب) إلحادهم وخبَّر عن كفرهم بقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ... [الجاثية: 24] , فرد الله عليهم بقوله: {ُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ... [الجاثية: 24]. انتهى قوله. ¬

(¬1) رواه الحاكم (2/ 466) وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/ 581) وابن جرير (10/ 464) وغيرهم من طريق هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ونسبها للعاص بن وائل. وصرح هشيم عند الحاكم وابن جرير، فأمنا تدليسه ولم نأمن تسويته. وصححه الحاكم على شرطهما. وقيل: نزلت في أبي بن خلف، انظر الدر المنثور (7/ 75 - 76) وابن كثير (3/ 581) وابن جرير (10/ 464). (¬2) في (ب): في إنكار. (¬3) مروج الذهب (2/ 98).

وهؤلاء داخلون في القسم الذي قبلهم، على أن المسعودي قد قال فيهم: إنهم مالوا إلى قول أهل الدهر، وأهل الدهر المعروفون بالدهرية لا يقرون بالصانع ولا يقولون بالبعث, وهم المعبر عنهم في لسان الشرع بالزنادقة, وهم أخس أصناف الكفر. قال (¬1): ومنهم من قال باليهودية والنصرانية. وهؤلاء قد دخلوا في القسم الأول من كلامه. قال (¬2): ومنهم المار على عُنْجُهِيته الراكب لهَجْمته. ولم يقل في هذا القسم أكثر من هذا القول, وهؤلاء هم أهل القسم الذين قلنا عنهم إنه (¬3) ليس عندهم توحيد ولا إشراك, فإن قوله: (ومنهم المار على عنجهيته) يعني من هو على طبعه الذي طبع عليه من غير خروج عنه ولا معرفة بغيره. وقوله: (الراكب لهجمته) يعني الذي يركب ما يَهجِم عليه في خاطره، من غير أن يكون عنده توحيد ولا إشراك. يدل على ذلك أن أهل التوحيد وأهل الإشراك ذكرهم قبل. قال: وقد كان صنف من العرب يعبدون الملائكة ويزعمون أنها بنات الله فكانوا يعبدونها لتشفع لهم إلى الله , وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] , وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ ¬

(¬1) مروج الذهب (2/ 98). (¬2) مروج الذهب (2/ 98). (¬3) في (ب): وهم الذين قلنا فيهم إنهم القسم الذين ليس عندهم ...

وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 19 - 22]. انتهى قوله. وقد تقدم لابن الزبَعري وغيره من قريش أنهم كانوا يعبدون الملائكة في أحد الفصول التي ذكرناها فيما مضى من أحكام العرب. وكل ما ذكره المسعودي يرجع إلى الأربعة الأقسام التي ذكرناها, ويرجع من كفر بالله أو (¬1) أشرك به أو جحده أو عبد الملائكة أو أنكر البعث أو كذب الرسل إلى القسم الثالث الذي فرغنا منه. ونحن الآن في القسم الرابع الذي لم يتلبس أهله بتوحيد ولا إشراك, وهم (¬2) الذين يتحقق فيهم أنهم أهل الفترة فعليهم (كما قلنا) (¬3) ينبغي أن ينزل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. والذي يدل على ذلك أن هذه الآية لا يخلو أن يراد بما تضمنته من نفي العذاب عن من لم يرسل إليه رسول جميع أهل الفترة أو بعضهم، ولا يصح أن يراد بذلك جميعهم, فإن فيهم الموحد لله في جاهليته, وفيهم الداخل من تلقاء نفسه في شريعة من الشرائع التي ارتضاها الله لعباده. والقسمان مثابان (ق.119.أ) بدليل قصة أصحاب الأخدود, وبدليل قول النبي - عليه السلام - في زيد: «إنه يبعث أمة وحده» (¬4)، وإذنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابنه سعيد، ¬

(¬1) في (ب): و. (¬2) في (ب): وأهله هم. (¬3) ليس في (ب)، وكتب في هامش (أ)، وعليه علامة التصحيح. (¬4) تقدم.

وابن عمه عمر بن الخطاب في الاستغفار له (¬1). فإذا خرج هذان الصنفان عن أهل الفترة بقي منهم الصنفان اللذان هما: من عبد الأوثان وأشرك بالله, ومن ليس عنده عبادة أوثان ولا توحيد لله (¬2). فأما من عبد الأوثان فقد ألحقهم الله بالكفار, كما تقرر في القسم الثالث, وإذا ألحقوا بالكفار في دينهم وفي العذاب اللاحق بهم صح أن الآية لم تتناولهم, وصح تنزيلها على الصنف الباقي الذي ليس عنده إشراك (¬3) بالله ولا توحيد له, وهم أهل هذا القسم الذي نتكلم الآن فيه (¬4). وما قدمنا أولا من الحجة على أن أهل الفترة غير مكلفين, وأنهم إذا لم يكونوا مكلفين لم يلزمهم العذاب ينبغي أن ينزل على أهل هذا القسم، إذ ذلك يقع عليهم حقيقة، فإنهم غافلون عن التزام الشرائع وعن التغيير لها والانحراف عنها, قال الله تعالى: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131]. فأخبر أنه لا يهلك أهل الغفلة, وذلك بعد أن ذكر إقامة الحجة على الجن والإنس بإرسال الرسل وتقرير الشرائع, وهو قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ¬

(¬1) تقدم. (¬2) في (ب): توحيد ولا إشراك. (¬3) في (ب): وهم من ليس عنده عبادة أوثان ولا إشراك. (¬4) في (ب): نتكلم فيهم.

أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130]. معنى ذلك: وشهدوا على أنفسهم في الآخرة أنهم كانوا كافرين في الدنيا، فإن هذه المخاطبة إنما تكون في الآخرة, وذلك ظاهر في الآية بقوله: {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام: 130]، وبقوله قبل الآية: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} [الأنعام: 22]. ثم أخبر أنهم (¬1) في النار بقوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام: 128] , وإنما استحقوا ذلك بكفرهم الذي شهدوا به على أنفسهم, وهكذا ذكر (¬2) في سورة الأعراف عن قوم كفار حيث قال: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] , ثم قال بإثره: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 38] , وذلك بسبب كفرهم وشهادتهم على أنفسهم به أيضا. ثم قال في آخر الآية المتقدمة: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] , معناه أنه تعالى إنما أرسل الرسل لأنه لا يهلك القرى بظلم أي (¬3) بأن يكون أهلها مظلومين, فقد جعل تعالى إهلاك القرى ¬

(¬1) في (ب): عنهم. (¬2) في (ب): ذكره. (¬3) ليس في (ب).

إذا كان أهلها غافلين عن الشرائع ظلما في حقهم، بكونهم (ق.119.ب) لم يأتهم رسول ولا نذير تقوم به الحجة عليهم، كما جعل من قامت عليه الحجة فلم يؤمن ظالما في قوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] على ما تقدم أولا. وقد أخبر تعالى في آية أخرى بأنه لا يهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون, فسوى بين المصلحين والغافلين في عدم الإهلاك لهم, وسمى إهلاكهم جميعا ظلما, فالمصلح إهلاكه ظلم لإصلاحه وإحسانه. والغافل الذي لم يأته رسول ولا توجه إليه خطاب إهلاكه أيضا ظلم, لعدم إقامة الحجة عليه. وإذا تبين أن العذاب لا يتناول هذين الصنفين فلم يبق إلا أن يكون لأهل الظلم الذين قامت عليهم الحجة, وهم أهل التكذيب والكفر أو لمن ألحقه الشرع بهم من عبدة الأوثان. فأما أهل التكذيب والكفر فقد قال الله تعالى فيهم في الآيتين المتقدمتين: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] , وقال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك: 6] , وقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} [الفرقان: 11] , وقال سبحانه: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:92 - 94]. وأما عبدة الأوثان فقد أطلق الله عليهم الشرك والكفر, وكفى في ذلك قول الله تعالى: {وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] ,

يعني بالذين يستفتحون: اليهود, وبالذين كفروا: أهل الأوثان من العرب على ما قدمناه. وإذا ثبت الكفر على عبدة الأوثان دخلوا في أهل التكذيب, فإن الشرائع كانت مبثوثة في الجاهلية وهم خالفوها وتعرضوا لتغييرها, وفي ذلك التكذيب بها, وكفى في هذا مستندا قول النبي - عليه السلام - في عمرو بن لحي: «إنه أول من غير دين إبراهيم وإسماعيل» (¬1) , وإطلاقه عليه اسم (¬2) الكفر, وفي قوله: «إنه أول من غير دين إبراهيم» دليل على أن غيره أيضا غير دين إبراهيم، وإنما لعمرو بن لحي الأولية في التغيير. وإذا أطلق عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنه كافر لتغييره الحنيفية وعبادته الأوثان, فكل من تبعه على التغيير وعبادة الأوثان فهو أيضا كافر, وقد تقدم شرح هذا وإيضاحه بما ليس في الوسع مزيد عليه. وهذا القسم الذي نحن بصدده من أهل الفترة خارجون عن ذلك كله لعدم الكفر والتكذيب فيهم, إذ ليس عندهم ما يكذبون به ولا ما يصدقون, وإذا خرجوا عن أولئك المستوْجِبين بكفرهم النار التي لا تُدخَل إلا جزاء, دخلوا في أهل الجنة التي تُدخَل بتفضل الله تعالى ¬

(¬1) تقدم. (¬2) في هذه الكلمة بياض في (أ) , لا تظهر منها إلا آخر حرف الميم, وأما في (ب) فكتبت هذه الفقرة وما بعدها في الهامش, وهي غير مقروءة.

والدليل على ذلك ما نذكره، وهو ينعطف (ق.120.أ) على كل من ليس بمكلف (¬1) وهم أصناف أربعة: - أهل هذا القسم. - ومن لم تبلغه الدعوة. - والمجانين. - والصبيان. إذ الحكم فيهم واحد. فنقول في حقهم جميعا إنه لابد من حشرهم كلهم قال الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} [الأنعام: 38] , ثم قال: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] , وقال: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] , وإذا حشرت الدواب والطيور والوحوش فأحرى بذلك بنو آدم. فإذا حشر الأصناف الأربعة المذكورون من بني آدم فلا يخلو حالهم من أمرين: - إما أن يعدموا بعد ذلك. - وإما أن يبقوا موجودين. فإعدامهم لم يأت نص به ويقتضي الجود الرباني بقاءهم, وإنما حملنا على تقدير الإعدام ما جاء في التفسير من أن البهائم والطيور (¬2) وما شاكلها ¬

(¬1) من: فسوى بين المصلحين، الموجود في أوائل (119ب) من النسخة (أ) إلى هنا، كتب في هامش النسخة (ب)، ولا يظهر إلا بعضه. (¬2) في (ب): والطير.

إذا حشرت واقتص من بعضها لبعض, كما قال - عليه السلام -: «يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (¬1)، أعدمت حينئذ (¬2) , وقيل لها: كوني ترابا. وذلك هو (¬3) معنى قول الكافر: يا ليتني كنت ترابا, فإنه إذا عاين البهائم قد رجعت ترابا تمنى (لنفسه مثل) (¬4) ذلك ليستريح من العذاب النازل به. وإذا ثبت أن بني آدم لا يصح إعدامهم فلا يخلو الأصناف الأربعة منهم من أحد أمرين: إما أن يكونوا بعد استقرار أهل الجنة في الجنة، واستقرار أهل النار في النار مع أهل الجنة أو مع أهل النار, إذ لا موضع في الآخرة لاستقرار الخلق سوى الجنة والنار. فإن أهل الأعراف إنما يكون توقيفهم مدة من الزمان ثم يدخلون الجنة, كما أن المؤمنين إذا خلصوا من النار يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار, كما جاء في الحديث: «حتى يقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا, وحينئذ يدخلون الجنة» (¬5). وإذا لم يكن في الآخرة موضع استقرار سوى الجنة والنار، وصح بقاء من تكلمنا عليه من بني آدم صح أنهم لا محالة في أحد الموضعين, وكونهم في ¬

(¬1) رواه مسلم (2582) والترمذي (2420) وأحمد (2/ 235 - 323 - 372 - 411) وابن حبان (7363) والبيهقي (6/ 93) وغيرهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة .. (¬2) نقله القرطبي (19/ 229) عن ابن عباس. (¬3) في (ب) مكان "وذلك هو": وقالوا إن هذا هو. (¬4) كتب في هامش (أ)، وعليه علامة التصحيح، وسقط من (ب). (¬5) تقدم.

النار لا تقتضيه قواعد الشرع, فإن النار لا تدخل إلا جزاء على الكفر والمعاصي, قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى} [غافر: 49]. وقال تعالى عن أهل النار: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك: 8]. فأخبر عن أهل النار بأن التكذيب كان صفتهم في الدنيا, وهكذا قال: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15]. والأصناف الأربعة لا يتصور منهم التكذيب: أما الصنفان منهم, وهم هذا القسم من أهل الفترة, ومن لم (ق.120.ب) تبلغه الدعوة فليس عندهم بما يكذبون أصلا لعدم النذارة فيهم. وأما الصنفان الباقيان وهم: المجانين والأطفال فليس عندهم عقل يفهمون به لا تكذيبا ولا تصديقا, فقد سقط عنهم جميعا الخطاب, وإذا سقط عنهم الخطاب فلا يصح تعذيبهم على ما تقرر قبل. فإذا ثبت أن الأصناف المذكورين لا يعذبون صح أنهم لا يدخلون النار, إذ هي محل العذاب, وإذا لم يدخلوا النار, ولا دار بعدها إلا الجنة صح أنهم يدخلون الجنة. ولا نقول إن ذلك على جهة الثواب, فإن الثواب إنما هو جزاء على الإيمان والطاعة, وهؤلاء غير متصفين بذلك, وإنما دخولهم الجنة على وجه التفضل المحض.

ومع ذلك فلا يصح أن يكونوا مع من تكون الجنة ثوابه على الطاعة في درجة واحدة. وقول النبي - عليه السلام -: «لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة» (¬1) , إنما يعني به أهل التكليف بدليل أنه - عليه السلام - جعل الصبيان في الجنة وليسوا بمؤمنين (¬2) , ويتبين ذلك عند ذكر الصبيان بحول الله. ¬

(¬1) تقدم. (¬2) بل هم مؤمنون بالفطرة.

الباب الثالث: في حكم من لم تبلغه الدعوة

الباب الثالث: في حكم من لم تبلغه الدعوة من (¬1) لم تبلغه الدعوة لا تلزمه الشريعة أصلا، والدليل عليه أمران: أحدهما: قول الله تعالى لنبيه - عليه السلام -: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] , فأخبر سبحانه أن النذارة لا تلزم إلا من (¬2) بلغته الدعوة بالقرآن على لسان المنذر, وهو الرسول - عليه السلام -. والثاني: إن تكليف الشرع لمن لم يبلغه من تكليف ما لا يطاق, قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وليس في وسع أحد علم الغيب بأن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه. ثم كل ما قلناه في أول كلامنا على أهل الفترة قبل تقسيمهم, ثم في القسم الرابع منهم, ودللنا عليه في كونهم لا يلزمهم التكليف ولا العقاب المترتب (¬3) عليه فهو مستتب هاهنا, إذ لا فرق بين من لم تبلغه الدعوة وبين أهل الفترة في المعنى, إلا أن أهل الفترة قد انقرضوا وانقرض زمانهم بمبعث نبينا - عليه السلام -. ¬

(¬1) في (ب): ومن. (¬2) في (ب): لمن. (¬3) في (ب): المرتب.

وأما من لم تبلغه الدعوة فكما يتصور وجودهم في زمان النبي - عليه السلام - كذلك يتصور وجودهم بعده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليوم وإلى قيام الساعة. على أنه يبعد أن يكون في الأمم المجاورة لأهل (¬1) الإسلام من كل ثغر من ثغوره من لم تبلغه الدعوة، وقد انتشر الإسلام وبلغ ملك هذه الأمة في مشارق الأرض ومغاربها ما زُوي لنبينا - عليه السلام - منها (¬2)، اللهم إلا (ق.121.أ) أن يكون وراء هذه الأمم المجاورة لأهل (¬3) الإسلام أمم غيرهم في أطراف المعمور، فيشبه أن يكون فيهم من لم تبلغه دعوة الإسلام ولا وصل إليه بعثة نبينا - عليه السلام -. فمن كان بهذا الوصف وليس عنده إشراك ولا توحيد فقد سقط عنه التكليف في الدنيا والمؤاخذة في الآخرة، وكان مآله الجنة على ما تقدم. كما أن من بلغته الدعوة ولم يؤمن بالشريعة فقد استحق العقوبة بالنار لقيام الحجة عليه، سواء كان كتابيا أو غير كتابي. وإنما قامت على الجميع الحجة بإرسال النبي - عليه السلام - إلى الناس كافة وتبليغه القرآن للأمة حتى حفظوه ونقلوه نقل التواتر إلى من بعدهم عصرا بعد عصر، وهو المعجزة الباقية التي تحدى بها نبينا - عليه السلام - جميع الإنس والجن وصدع بذلك عن الله تعالى فيما أوحى إليه منه فقال: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88]. ¬

(¬1) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في الهامش، وعليه علامة التصحيح. (¬2) رواه مسلم (2889) وأبو داود (4252) والترمذي (2176) وأحمد (5/ 278 - 284) وابن حبان (6714 - 7238) والحاكم (8390) والبيهقي (9/ 181) وابن أبي شيبة (7/ 421). (¬3) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في أعلى السطر، وعليه علامة التصحيح.

وقد قال الله تعالى مخاطبا لأهل الكتاب في معنى تقرير الحجة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]. فأخبر أنه أرسل إليهم رسوله في الدنيا ليبين لهم الشريعة لئلا يقولوا في الآخرة ما جاءنا من بشير ولا نذير. قال الله لهم: {فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]، يعني الآن في الدنيا لتقوم بذلك الحجة عليهم، ولذلك قال النبي - عليه السلام -: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار» (¬1)، فشرط - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك سماع اليهودي والنصراني به - عليه السلام -، وذلك هو معنى بلوغ الدعوة. وقد اقتضبنا الكلام في هذا الباب لبسطنا له في باب الفترة، إذ حكم القسم الرابع وحكم من لم تبلغه الدعوة واحد. ولم يبق لنا بحمد الله مما ينبغي أن يذكر في أحد البابين حاشى يأجوج ومأجوج. ويصلح ذكرهما في الباب الأول من حيث يتصور دخولهم في أهل الفترة، فننظر (¬2) ما حكمهم فيها، ويصلح ذكرهما أيضا في هذا الباب باعتبار ما يقتضيه النظر في بلوغ الدعوة لهم، وإنما نخصهم بالذكر دون غيرهم من ¬

(¬1) تقدم. (¬2) في (ب): فينظر.

الأمم من حيث بنى عليهم السد ذو القرنين ومنعهم بذلك من الاختلاط بالناس. وأما من عداهم مثل أهل الهند وأهل الصين، وقبائل الترك والديلم والأكراد والسودان وسائر من ليس عندهم كتاب من جميع الأمم (ق.121ب) فلا معنى لذكرهم فإنا قد أعطينا قاعدتين يرجع إليهما حال جميعهم قبل الإسلام وبعده. فالقاعدة التي قبل الإسلام هي قضية (¬1) أهل الفترة وانقسامهم إلى مشرك وغير مشرك، فالمشرك لم يعذره الله بسبب إشراكه، وغير المشرك عذره فلم يعذبه، ولا فرق في هذا بين العرب وبين كافة الخلق كلهم، فكما انقسم العرب إلى هذين القسمين، فكذلك ينقسم سائر الخلق إلى القسمين بعينهما لا محالة. والقاعدة الثانية التي بعد مجيء الإسلام هي بلوغ الدعوة، ولا مانع من بلوغ الدعوة لهذه الأمم لاتصالها بثغور المسلمين وكون المسافرين والتجار متقلبين في البلاد ومتجولين في الأقطار، فمن بلغته الدعوة منهم فآمن فهو من أهل هذه الملة، ومن بلغته فكفر فهو من أهل النار، ومن لم تبلغه فقد عذره الشرع، وأخبر أنه لا يعذب ومن لا يعذب يكون مآله إلى الجنة كما قدمناه. وبهذا القانون الذي أصلناه، فرغ الكلام في جميعهم، وبقي الإشكال في يأجوج ومأجوج، فلنفرد لهم فصلا نتكلم عليهم بحول الله فيه. ¬

(¬1) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في الهامش، وعليه علامة التصحيح.

هل يأجوج ومأجوج من أهل الفترة

فصل (هل يأجوج ومأجوج من أهل الفترة) (¬1) يأجوج ومأجوج من الأمم العظيمة في الكثرة وفي شدة البطش، يدل على كثرتهم قول الله تعالى: {وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء: 96]، وقول النبي - عليه السلام - عنهم في الحديث الصحيح عند خروجهم: «إن أولهم يمرون ببُحيرة طبريَّة فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرةً ماء» (¬2). ويدل على شدة بطشهم إخباره - عليه السلام - في هذا الحديث بأن الله تعالى يوحي إلى عيسى - عليه السلام -: إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحَرّز عبادي إلى الطور، يعني المؤمنين الذين يتحصنون فيه مع عيسى - عليه السلام - (¬3) منهم. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) رواه مسلم (2937) والترمذي (2240) وابن ماجه (4075) والحاكم (8508) وغيرهم عن النواس بن سمعان. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬3) ليس في (ب).

وخروج يأجوج ومأجوج على الناس آخر الزمان من أشراط الساعة، وذلك ظاهر في الأحاديث، فقد عد - عليه السلام - عشر آيات من أشراط الساعة، وذكر خروج يأجوج ومأجوج فيها (¬1). وفي الحديث الأول أنهم يخرجون بعد قتل الدجال فيحصرون عيسى - عليه السلام - والمؤمنين معه، ثم يدعو عليهم عيسى فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة، وهذا الحديث طويل وهو في صحيح مسلم (¬2) (ق.122.أ). وقصدنا بذكر يأجوج ومأجوج إنما هو لننظر حكمهم في التكفير، ولا نشك في كونهم كفارا عند خروجهم آخر الزمان لقيام الحجة عليهم بشريعة نبينا محمد - عليه السلام -، إذ هي قائمة وعيسى - عليه السلام - يمشيها ويحكم بها، ويأجوج ومأجوج يقولون في ذلك الوقت عند هروب المؤمنين عنهم وتحصنهم منهم: لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما استدراجا من الله وفتنة لهم (¬3). وفعلهم هذا هو غاية الكفر، ويشبه فعل النمرود فيما يحكى عنه، فلا إشكال إذن في الحكم عليهم بالتكفير بعد خروجهم كما قلناه، وإنما الإشكال ¬

(¬1) رواه مسلم (2901) عن أبي سريحة. (¬2) وقد تقدم قريبا. (¬3) هو طرف من حديث النواس بن سمعان المتقدم.

في حكمهم قبل ذلك من وقت بنيان ذي القرنين السد عليهم، إلى أن جاء الإسلام، ثم بعد مجيء الإسلام إلى وقت خروجهم. فإنه إذا جعلت القاعدة أن لا تكفير إلا بعد قيام الحجة ببعث الرسل، فبأي شيء قامت الحجة على يأجوج ومأجوج، وهم قبل الإسلام لا يعلم أنه جاءهم من الله تعالى نذير ولا رسول، وبعد مجيء الإسلام لا يعلم أنه بلغتهم الدعوة لتعذر وصولها إليهم، على أنه قد روي أن النبي - عليه السلام - دعاهم إلى الإسلام ليلة الإسراء. ذكر وثيمة عن وهب بن منبه أن النبي - عليه السلام - قال من حديث فيه طول: «انطلق بي جبريل ليلة أسري بي فدعوت يأجوج ومأجوج إلى الله تعالى، فأبوا أن يجيبوني (¬1)، فهم في النار مع المشركين من ولد آدم ومن ولد إبليس» (¬2). وهذا من الأخبار التي لا تصح لا من جهة إسنادها، ولا من جهة معناها. ¬

(¬1) في (ب): يجيبوا. (¬2) رواه أبو الحسين بن المنادي في كتاب الملاحم كما في الموضوعات لابن الجوزي (1/ 140). وقال: هذا حديث موضوع لا شك فيه، وفى إسناده جماعة من الضعفاء والمجهولين، وعمر بن صبح ليس بشيء. قال أبو حاتم ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتب حديثه إلا على وجه التعجب. وتعقبه السيوطي في اللآلئ المصنوعة (1/ 51) بما لا طائل من ورائه. وانظر تنزيه الشريعة لابن عراق الكناني (1/ 87 - 88 - 89).

أما الإسناد فظاهر، إذ ذلك من الأقاصيص التي تروى مقطوعة ومرسلة. وقد قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب القصد والأمم (¬1) عند ذكر نسب (¬2) يأجوج ومأجوج، (وكونهم من ولد يافث بن نوح) (¬3)، ما هذا نصه: وسئل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن يأجوج ومأجوج: هل بلغتهم دعوتك، فقال: «إني جزت بهم ليلة أسري بي ودعوتهم فلم يجيبوا»، هكذا ذكره من غير إسناد ولا تسمية صاحب، وهو من الذي قلناه. وأما من جهة المعنى فيدل على بطلانها أن الناس لم يتفقوا على أن النبي - عليه السلام - أسري بجسده ليلة الإسراء، فعلى القول بأنه إنما أسري بروحه يبطل دعاؤه تلك الليلة ليأجوج ومأجوج ضرورة، وعلى القول بأنه أسري بجسده، على ما هو الأصح فيه (¬4)، يبطل ذلك أيضا من وجهين: أحدهما: إن النبي - عليه السلام - إنما أسري به تلك الليلة ليشاهد ملكوت الله تعالى (¬5) في السماء والأرض وليجتمع مع الأنبياء عليهم السلام ببيت المقدس فيصلي بهم، وليلقى من في السماوات من الأنبياء والملائكة صلوات الله عليهم، ¬

(¬1) القصد والأمم في التعريف بأصول أنساب العرب والعجم لابن عبد البر، طبع في القاهرة سنة 1350. (¬2) سقط من (ب). (¬3) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬4) قال ابن حجر في الفتح (8/ 609): وظاهر الأخبار الواردة في الإسراء تأبى الحمل على ذلك، بل أسري بجسده وروحه وعرج بهما حقيقة في اليقظة لا مناما ولا استغراقا. (¬5) ليس في (ب).

وليشاهد الجنة وما أعد الله تعالى (¬1) فيها (ق.122.ب) لأوليائه، وليوحى إليه أصل الدين وعماده، وهو الصلوات الخمس، وليعاين البيت المعمور ومن يدخله من الملائكة، ونحو هذا مما ذكره - عليه السلام - مشروحا (¬2) في الأحاديث. وأشار الله تعالى إلى جملته في القرآن العزيز في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء: 1]، وفي قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 1 - 18]. فلم يكن في الإسراء به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الليلة إلا ما وصف دون أن يشغل بإرسال إلى أمة من الأمم، إذ كان قد تقدم ذلك في أول المبعث بقوله تعالى له (¬3): {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدّثر: 1 - 2]. ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) في (ب) بدلها: وجاء. (¬3) ليس في (ب).

وبقوله تعالى فيما أنزل عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السورة (¬1) المكية: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28]. ومما يدل على ما قلناه من كونه لم يشغل تلك الليلة بغير ما وصفناه أنه لم يسأل عن دعائه لقريش وعما راجعوه به من تصديق له أو تكذيب به، لأن ذلك يتولاه الوحي الذي ينزل به جبريل على النبي صلوات الله عليهما مع مرور الساعات. ولأن سؤاله تلك الليلة عن ذلك مما يقطع على النبي - عليه السلام - ما هو فيه من مشاهدة الجلال ورؤية الآيات الكبرى، ويشوش عليه السرور الحاصل عن تلك العجائب، بل أُفرد عن ذلك كله لتلك المشاهدة حتى كان بالوصف (¬2) الذي وصفه الله في قوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] لثبات نفسه وربط جأشه، إذ لم يدهش، ولا طاش عقله كما فعل موسى حين خر صعقا، إذ لم يطق حمل ما انكشف له عند تجلي الله تعالى للجبل. وهذا يدل على أن مقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬3) فوق مقام موسى - عليه السلام -، ولذلك قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي» (¬4). ¬

(¬1) في (ب): السور. (¬2) في (ب): في الوصف. (¬3) في (أ): - عليه السلام -. (¬4) رواه أحمد (3/ 387) وابن أبي شيبة (6/ 228) والبيهقي في الشعب (1/ 200) من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر. ومجالد ضعيف، وبه ضعفه ابن حجر في الفتح (13/ 334).

ولنقبض عنان القول (¬1) عن هذه الأسرار التي هي أعلى مما نحن فيه، ونرجع إلى ما كنا بسبيله من إبطال ذلك الخبر فنقول: الوجه الثاني: إن دعاء النبي - عليه السلام - يأجوج ومأجوج في تلك (ق.123.أ) الليلة إلى الإسلام وقيام الحجة عليهم بذلك متعذر في العادة، لظلمة الليل وغلبة النوم وافتراقهم في منازلهم. فكيف يتصور أن يجمعوا له في تلك الحال حتى يدعوهم إلى الله ويسمعهم القرآن؟، ومتى ينظرون (¬2) هم في المعجزة حتى يعلموا صدقه وتقوم عليهم الحجة؟، أو كيف يفهمون القرآن في ذلك الوقت الضيق، لو فرضنا سماعهم له، ولسانهم غير لسان العرب؟. ويحتاج النبي المرسل للأمم (¬3) إلى زمان يبين فيه رسالته عن الله ويتمكن فيه من إظهار معجزته، ويحتاج المرسل (¬4) إليهم من الزمان إلى مثل ذلك حتى ينظروا (¬5) في المعجزة التي تحدى بها رسولهم ليصدقوه في الرسالة أو تقوم عليهم الحجة لتمكنهم من النظر. فقد دعا النبي - عليه السلام - أهل مكة إلى الله تعالى في عشر سنين أو أزيد، وهو في كل ذلك يتلو عليهم القرآن ويسمعهم إياه. ¬

(¬1) في (ب): القلم. (¬2) في (ب): ينظروا. (¬3) في (ب): إلى الأمم. (¬4) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬5) في (ب): ينظرون هم.

وقد أخبر الله في القرآن بأقواله - عليه السلام - لهم وبأقوالهم له وأمره تعالى فيه بما يقوله لهم، مثل قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} [سبأ: 46]، {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الأنعام: 90]، {قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، ونحو ذلك. ثم إنه - عليه السلام - أخذ يدعو قبائل العرب إذا حضر الموسم، ويعلمهم أنه رسول الله إلى الناس ويسألهم النصر له حتى يبلغ (¬1) عن الله ما أمره به، وهذا كله يحتاج إلى طول تكون المراودة فيه بينه وبين الناس. ثم توجه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الطائف فدعاهم إلى الله فلم يجيبوه، ثم حاصرهم بعد مدة فلم يجيبوه، ثم هداهم الله للإسلام بعد ذلك. وكذا (¬2) كان دعاؤه إلى الله بعد الهجرة في عشر سنين، كتب فيها إلى الملوك وأرسل إليهم رسله وأقام الحجة على البشر، فلما فتح الله عليه مكة أظهر الله دينه وأعز نصر نبيه حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وامحى رسم الجاهلية بالكلية، واضمحل الباطل وارتفع الإشراك، وأعقب الله ذلك كله بالإيمان والإسلام. وهكذا جرت عادة الله تعالى بين الأنبياء الذين أرسلهم إلى الخلق وبين الأمم الذين بعثهم إليهم في احتياج جميعهم إلى زمان تطول فيه المراودة بينهم والنظر فيما جاءوا به، وذلك مذكور في أقاصيص الأنبياء في القرآن مثل نوح ¬

(¬1) في (ب): بلغ. (¬2) في (ب): وهكذا.

وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى وعيسى عليهم السلام، ومن تأمل قصصهم تبين له ذلك. فقد بان بما ذكرناه بطلان الخبر (ق.123.ب) المروي في دعوة يأجوج ومأجوج إلى الإسلام ليلة الإسراء. ويبقى النظر حتى الآن في أمرهم، ويقتضي ظاهر الشرع تكفيرهم، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما ذكر بعث النار للصحابة فتخوفوا من ذلك: «أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا»، هكذا عند مسلم (¬1)، وفي البخاري (¬2): «منكم رجل ومن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون». والظاهر من هذا أنه ينعطف على يأجوج ومأجوج مذ كانوا إلى يوم القيامة. وقد ذكر الله تعالى يأجوج ومأجوج في سورتين من كتابه العزيز، وليس في ذلك جلاء في التكفير لهم، غير أنه وصفهم بالإفساد في الأرض، فقال سبحانه حكاية عن من خاطب ذا القرنين ممن جاورهم: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف: 94]. ¬

(¬1) رواه البخاري (3170 - 6165) ومسلم (222) عن أبي سعيد. (¬2) رواه البخاري (4464) عن أبي سعيد.

فأخبروا بأنهم مفسدون في الأرض (¬1) وطلبوا من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبين أنفسهم حاجزا يحول بين جميعهم حتى لا يصل ضررهم إليهم بخَرْج يعطونه إياه. فامتنع ذو القرنين من أخذ الخرج، وأخبر أن تمكين الله له في السلطان (¬2) خير من خرجهم بقوله: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 95] وطلب منهم الإعانة على بنيان السد فقط بقوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} إلى آخر القصة. وذو القرنين قيل إنه كان نبيا، والأكثر على أنه كان رجلا صالحا (¬3)، وكيف ما كان فلا يحصر أمة ويمنعها من التصرف في منافعها إلا لأنها (¬4) مستحقة عنده بذلك لإفسادها في الأرض. وقيل: إن إفسادها كان أكلها للناس وافتراسها للدواب والوحوش كما تفترس السباع. والإفساد في الأرض يطلقه الله تعالى على الكفار، قال سبحانه فيمن لم يؤمن بصالح - عليه السلام - من قومه: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} ... [النمل: 48]، وقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ¬

(¬1) من: "فهل نجعل" من الآية، إلى هنا سقط من (ب). (¬2) في (ب): الباطن، وهو تصحيف. (¬3) وقد حكى الخلاف في ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (6/ 383)، فراجعه لزيادة الفائدة. (¬4) في (ب): أنه.

يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]. فقد تساوى يأجوج ومأجوج مع هؤلاء الكفار في الإتصاف بالإفساد. فإن كانت العلة في بناء السد هو الإفساد، فقد يستروح من ذلك إلى التكفير، لأنهم لو كانوا مؤمنين لمنعهم الإيمان عن ذلك النوع من الإفساد، لا سيما وقد جاء في التفسير أن الذين طلبوا من ذي القرنين بنيان السد بينهم وبين يأجوج ومأجوج كانوا أمة صالحة (¬1). (ق.124.أ) وجاء عن النبي - عليه السلام - أنه قال: «فتح الليلة من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه»، وعقد الراوي عشرة (¬2)، وفي لفظ آخر (¬3): " وعقد الراوي تسعين". وإنما عنى - عليه السلام - بذلك نزول الفتن، كما قال في حديث آخر: «ماذا أنزل الليلة من الفتن» (¬4). ¬

(¬1) انظر تفسير القرطبي (11/ 51) والطبري (16/ 19). (¬2) رواه مسلم (2880) والترمذي (2187) وابن ماجه (3953) وابن أبي شيبة (7/ 607) عن زينب بنت جحش. (¬3) رواه البخاري (3169 - 6717) ومسلم (2881) عن أبي هريرة. ورواه البخاري (4987) عن ابن عباس. وللحديث طرق عديدة فلا نطيل. (¬4) رواه البخاري (115) والحاكم (8552) عن أم سلمة.

وهذا من جملة (¬1) الإفساد (¬2)، فإن الفتن التي نزلت بالمسلمين بعد النبي - عليه السلام -. وقوله في الإخبار عنها: «ويل للعرب من شر قد اقترب» (¬3) إذا كانت منسوبة إلى ما فتح من ردم يأجوج ومأجوج دل على أنهم الغاية في الفتنة والضلال، وذلك يظهر منهم عند خروجهم على الناس آخر الزمان كما نطقت به الأخبار، وإذا كانوا الغاية في الفتنة والضلال حتى ينسب إليهم ما نزل من الفتن على المسلمين، ففي ذلك ملاحظة لتكفيرهم، إذ قال النبي - عليه السلام - لهذه الأمة: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (¬4). فشبههم بالكفار لهذا الفعل المذموم. وعلى الجملة فلابد أن يكون يأجوج ومأجوج قبل خروجهم مؤمنين أو كفارا، فأوصاف المؤمنين ليست عندهم ولا ذُكرت عنهم. ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) زاد هنا في (ب): الذي كنى فيه. (¬3) رواه البخاري (3168 - 3403 - 6650 - 6716) ومسلم (2880) والترمذي (2187) وابن ماجه (3953) وأحمد (6/ 428 - 429) وابن حبان (327) والبيهقي (10/ 93) وابن أبي شيبة (8/ 607) والحميدي (1/ 147) والطبراني في الكبير (24/ 51 - 52 - 53 - 55) عن زينب بنت جحش. (¬4) رواه البخاري (4141 - 5814 - 6474 - 6666) ومسلم (66) عن ابن عمر. واتفقا عليه من حديث جرير وأبي بكرة. ورواه البخاري (1652 - 6668) عن ابن عباس.

ولا أعلم في الباب حديثا يستروح فيه إلى ذلك إلا حديثا واحدا على ما فيه من الاحتمال، وهو حديث خرجه الترمذي وذكره أهل التفسير من رواية أبي هريرة (¬1) عن النبي - عليه السلام - في السد، قال: «يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم: ارجعوا فستخرقونه غدا، فيعيده الله كأشد ما كان، حتى إذا بلغ مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله، واستثنى، قال: فيرجعون فيجدونه كهيئته حين تركوه فيخرقونه فيخرجون على الناس» الحديث (¬2). ¬

(¬1) في (ب): وهو ما رواه أبو هريرة. (¬2) رواه الترمذي (3153) وابن ماجه (4080) وأحمد (2/ 510) والحاكم (4/ 534) من طريق قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة. وقال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/ 201): إسناده صحيح رجاله ثقات. وقال ابن كثير في التفسير (3/ 106): وإسناده جيد قوي، ولكن متنه في رفعه نكارة، لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته، ولكن هذا قد روى عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون غدا نفتحه، فيأتون من الغد وقد عاد كما كان فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون كذلك، فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه، ويقولون غدا نفتحه، ويلهمون أن يقولوا إن شاء الله فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه. وهذا متجه، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب، فإنه كان كثيرا ما كان يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه، والله أعلم. ويؤيد ما قلنا من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه. ومن نكارة هذا المرفوع قول الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان عن أمها أم حبيبة عن زينب بنت جحش زوج= = النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال سفيان أربع نسوة قالت: استيقظ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق. قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث. هذا حديث صحيح اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث الزهري، ولكن سقط في رواية البخاري ذكر أم حبيبة وأثبتها مسلم. انتهى. قلت: وما أبداه ابن كثير من النكارة لا يوافق عليه، فليس هناك تعارض بين الآية والحديث، بل في الحديث زيادة لم تذكرها الآية لا تعارضها، فوجب قبولها. أقول هذا لو صح السند، لكن قتادة مدلس وقد عنعنه، كما تقدم.

فقوله عن المُقَدم الذي عليهم إنه استثنى بقوله: "إن شاء الله"، فيه دليل على إيمانه، فيمكن أن يكون ملكا أو من شاء الله من خلقه من غير يأجوج ومأجوج (¬1). ويحتمل أن يكون منهم ويكون سبيله في التوحيد سبيل قُس بن ساعدة في توحيده لله في الجاهلية إذا (¬2) بقوا إلى ذلك الوقت (¬3) لم تبلغهم الدعوة، فإن تكن الدعوة بلغتهم فآمن بعضهم بما جاء به النبي - عليه السلام - صار من (¬4) آمن به من هذه الأمة. ولفظ هذا الحديث سقناه على ما خرجه الترمذي، وذكره مكي في الهداية بلفظ الجمع، قال في أوله: «قالوا: اتركوه إلى غد»، وقال في آخره: ¬

(¬1) قلت: ظاهره أنه منهم، لكن يحتمل أنه هو مؤمن، ولا ينسحب ذلك على أغلبهم، أو يكون استثنى مع كفره، فشاء الله حدوث ما حدث لهذا الاستثناء. (¬2) في (ب): إذ. (¬3) سقط من (ب). (¬4) في (ب): ممن.

«قالوا: ارجعوا تحفرونه غدا إن شاء الله» (ق.124.ب)، فإن صح ذلك فيحتمل أن يكون فيهم موحدون من غير أن تكون (¬1) عندهم شريعة. ويحتمل أن تكون الدعوة بلغتهم إذ ذاك، وأما أن يكون أرسل إليهم رسول بعد الإسلام فباطل، لأن محمدا - عليه السلام - هو خاتم النبيين، وإن قدرنا إرسال رسول إليهم في حين بعث الرسل قبل نبينا محمد - عليه السلام - استدلالا بقوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] فلا يبعد ذلك، على أنه قد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: " يأجوج ومأجوج ذَرْء جهنم لم يكن فيهم نبي قط". وهذا الذي قاله هو الظاهر من الشرع، فإن أوصاف الكفار هي الصفات التي تستقرأ من الشرع فيهم. لكن يبقى الإشكال على هذا في كفرهم بأي شيء كان، ويشبه أن يكونوا على نوع من أنواع الضلال مثل عبادة الأوثان والتماثيل وغيرها، كما كان عليه أهل الهند وأهل الصين وغيرهم من سائر الأمم على مرور الأزمان. ومن كان كذلك فقد لا يكونون معذورين عند الله تعالى بكونهم لم يقفوا في الأمور، بل تحكموا فيها بآرائهم وبحسب تحسين عقولهم على ما تبين في القسم الثالث من أهل الفترة. وقد تقدم في القسم الثاني منهم أن المؤاخذة تكون لمن يدخل نفسه في شريعة لم يكن مخاطبا بها، فلما دخل فيها من قبل نفسه صار من أهلها فوسعه ¬

(¬1) في (ب): يكون.

في ذلك ما وسعهم. فكذلك من أدخل نفسه في دين مخترع من قبله أو كان متبعا في ذلك لغيره، لا يبعد أن يؤاخذ به لتحكمه بهواه في دين لم يأذن به الله. هذه هي المآخذ التي ظهرت لنا في حكم يأجوج ومأجوج قبل الإسلام وبعده إلى وقت خروجهم. ولم نر لغيرنا في هذا شيئا، فإن كل من تعرض إلى ذكرهم من المفسرين والعلماء، إنما ذكروا خروجهم على الناس آخر الزمان واستوعبوا ذكر الأحاديث الواردة فيهم حينئذ، ولم يذكر أحد منهم ما هم عليه قبل خروجهم، ولا ألم بالمعنى الذي قررناه في حقهم، وتكلمنا عليه في أمرهم، وإنما فعلنا نحن ذلك لئلا نغفل ذكرهم، والله أعلم بحقيقة حالهم.

الباب الرابع: في حكم الصبيان والأطفال

الباب الرابع: في حكم الصبيان والأطفال الصبيان غير مكلفين ولا مخاطبين بالشريعة في الجملة، ثم هم قسمان: 1 - قسم يعلم أنه لا يتصور (ق.125.أ) تكليفهم عقلا، وذلك في من هو رضيع منهم أو فوق ذلك لوقوع العلم بأنه لا يعقل شيئا. والتكليف مقتضاه الطاعة بالامتثال، ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال، وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف، وذلك مستحيل في الصبي الذي هذه حاله. ولهذا (¬1) قال الله تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل: 78]. 2 - وقسم كان يمكن في العقل تكليفهم، ولكن امتنع فيهم سمعا، وذلك في من أدرك منهم حد التمييز وفوقه إلى حين البلوغ، فإنه قد يتصور منهم فهم الخطاب، فلا يمتنع تكليفهم من جهة العقل، وإنما الشرع منع من تكليفهم في ذلك السن ونصب له علامة ظاهرة وهي البلوغ. فإن اعُترض بما جاء في الشرع من ضرب الصبيان على الصلاة وهم أبناء عشر سنين (¬2). ¬

(¬1) في (ب): ولذلك. (¬2) رواه أبو داود (495 - 496) وأحمد (2/ 187) والحاكم (708) والبيهقي (2/ 228 - 229) والدارقطني (1/ 230) وابن أبي شيبة (1/ 382) والخطيب في التاريخ (2/ 278) من طريق سوار ابن داود أبي حمزة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وسنده حسن. ووقع عند ابن أبي شيبة: داود بن سوار، وقد قلبه وكيع، ذكره أحمد، كما في ترجمة سوار من تهذيب التهذيب. وله شاهد عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، رواه الترمذي (407) وأحمد (3/ 404) وابن خزيمة (1002) وابن الجارود (147) والدارمي (1403) والحاكم (721) والبيهقي (2/ 14 - 3/ 83 - 84) والدارقطني (1/ 203) وابن أبي شيبة (1/ 381) والطبراني في الكبير (7/ 115). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم على شرط مسلم. وفيه نظر، فعبد الملك المذكور الأقرب أنه ضعيف، ومسلم إنما أخرج له متابعة، كما في ترجمته من تهذيب التهذيب.

فالجواب أنا في مسألة قطعية، وأخبار الآحاد لا يعترض بها في ذلك (¬1). ثم نقول: إن التكليف هاهنا إنما هو للأولياء: فهم المخاطبون بالتأديب (¬2) لهم، والقصد منه تمرينهم على الطاعة، حتى لا يصلوا إلى حد البلوغ إلا وهم قد أَنِسوا بالعبادة، فلا يتركونها (¬3). ¬

(¬1) قدمت أن هذا فيه نظر. (¬2) في (ب): بذلك التأديب. (¬3) في (ب): يتركوها.

ويشبه هذا التأديبُ (¬1) تأديبَ الإنسان دابته، إذ يفعل ذلك بها (¬2) على وجه الرياضة (¬3) لها لينقلها من خلق إلى غيره، حتى تكون ذلولا سهلة الانقياد بعد الجماح. وهكذا هي الزكاة إذا قيل إنها تجب في أموالهم فإن المخاطب بإخراجها هم الأولياء دون الصبيان، وكون الزكاة تؤخذ من أموالهم هو مثل الدية تؤخذ من العاقلة (¬4) ولا فرق، على أن أخذ الزكاة من أموالهم هو من الفروع التي بين العلماء فيها اختلاف، ولا يقدح هذا فيما كنا فيه، فلنطلق القول بأن الصبيان لا يتعلق بهم خطاب ولا توعد بعقاب. لأنا نعلم قطعا من قواعد الشرع أن الطلبات من الله تعالى لا تتوجه عليهم ولا يلزمهم عليها عقاب قبل البلوغ أصلا. والكلام الآن إنما هو في من مات منهم قبل بلوغ الحلم أو المحيض من الذكور والإناث. ¬

(¬1) في (ب): ذلك التأديب. (¬2) في (ب): بها ذلك. (¬3) في (ب): الارتياض. (¬4) قال ابن حجر في الفتح (12/ 246): قوله: باب العاقلة (بكسر القاف) جمع عاقل، وهو دافع الدية، وسميت الدية عقلا تسمية بالمصدر، لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، ولو لم تكن إبلا. وعاقلة الرجل قراباته من قبل الأب وهم عصبته وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول. وتحمل العاقلة الدية ثابت بالسنة، وأجمع أهل العلم على ذلك.

وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا، وسبب ذلك ورود أحاديث فيهم، وكأنها متعارضة فمال (¬1) كل فريق إلى ما وصل إليه منها، فتمذهب به واقتصر عليه، وعند تحقيق النظر يتبين نفي التعارض بينهما (¬2) بحول الله، فلننقل اختلاف العلماء في الأطفال وحجة كل طائفة منهم على مذهبها الذي صارت إليه، والانفصال عن تلك الحجج حتى يخلُص منها ما نرتضيه فيهم بإيراد الدلائل البينة (ق.125.ب) إن شاء الله، فنقول: ذهبت طائفة من العلماء إلى التوقف في جميع الأطفال سواء كان آباؤهم مسلمين أو كفارا، وجعلوهم بجملتهم في المشيئة. وذهبت طائفة، وهم الأكثر، إلى أن أولاد المسلمين في الجنة (¬3)، ثم اختلف هؤلاء في أطفال المشركين على مذاهب (¬4): ¬

(¬1) في (ب): امال، وهو خطأ. (¬2) كذا في (ب)، وفي (أ) بتر في آخرها. (¬3) وقد نقل جماعة فيهم الإجماع كما في شرح مسلم للنووي (16/ 183) وتفسير ابن كثير (3/ 31). والصحيح أنه قول الجمهور. وقد نقل الإجماع كذلك القرطبي في تفسيره (11/ 140) وذكر أن من خالف في ذلك فقوله مهجور ومردود بإجماع الحجة، الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم الغلط. (¬4) انظر أطفال الكفار في الآخرة للعلامة الشوكاني وشعب الإيمان للبيهقي (1/ 98) والفتاوى لابن تيمية (10/ 739) والفتح لابن حجر (3/ 124 - 244 - 245 - 246 - 247) والتمهيد لابن عبد البر (18/ 96 - إلى133) وتهذيب السنن لابن القيم (12/ 320) وطريق الهجرتين له (387 - 401) وتفسير ابن كثير (27 - فما بعد) وتفسير القرطبي (7/ 317) (11/ 140) (17/ 203) = = (19/ 234) والتذكرة له (436) وشرح النووي على صحيح مسلم (12/ 50) (16/ 183) وفيض القدير (1/ 538) والفصل لابن حزم (3/ 60 - فما بعد).

1. فمنهم من قال: إنهم في المشيئة (¬1). 2. ومنهم من قال: إنهم في النار (¬2). 3. ومنهم من قال: يمتحنون في الآخرة (¬3). 4. ومنهم من قال: إنهم في الجنة (¬4). 5. ومنهم من قال: إنهم خدم أهل الجنة. ¬

(¬1) حكاه ابن عبد البر في التمهيد (18/ 111) عن حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم، وهو يشبه ما رسمه مالك في أبواب القدر في موطئه وما أورد في ذلك من الأحاديث، وعلى ذلك أكثر أصحابه. وهو اختار البيهقي في الشعب (1/ 98) وابن تيمية وابن القيم وغيرهما. (¬2) نقله النووي عن الأكثرين. وفي هذه النسبة نظر، كما قال السبكي في فتاواه (2/ 362)، بل لا نعلم إلى الآن من قال به، ونقله ابن حزم في الفصل (4/ 60) عن الأزارقة من الخوارج، وليس لهم دليل يعول عليه. (¬3) رجح هذا القول ابن القيم في تهذيب السنن (12/ 323) وقال: وهذا أعدل الأقوال. وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 30): وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة. وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد، وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. انتهى. قلت: راجع الإبانة (33) والاعتقاد (170) (¬4) قال النووي في شرح مسلم (16/ 183): وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون.

من قال إن الأطفال في المشيئة

فصل (من قال إن الأطفال في المشيئة) (¬1) أما من قال إن الأطفال بجملتهم في المشيئة فاحتجوا بأحاديث منها حديث أنس وابن مسعود وغيرهما بمعنى واحد أن النبي - عليه السلام - قال: «إن الله وكل بالرحم ملكا فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى؟، أشقي أم سعيد؟، فما الرزق وما الأجل؟، فيكتب كذلك، وهو في بطن أمه» (¬2). وموضع الدليل لهم من هذا الحديث أن جميع من يولد من بني آدم إذا كتب السعداء منهم والأشقياء قبل أن يخلقوا وجب التوقف في جميع من لا يعلم على ما مات عليه، وفي كل من لا يلزمه التكليف من صبي وغيره. إذ لا سبيل إلى معرفة من كتب في السعداء أو في الأشقياء، وهذا ليس فيه دليل على الحقيقة، لأن الأطفال إذا ثبت مثلا أنهم في الجنة فليس ذلك معارضا لهذا الحديث، إذ يحمل الأطفال بجملتهم على أنهم لم يكتبوا في بطون ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) رواه مسلم (2644 - 2645) عن حذيفة بن أسيد. ورواه البخاري (312 - 6222) ومسلم (2646) وأحمد (3/ 116 - 148) والبيهقي (7/ 421) والطيالسي (2073) عن أنس. ورواه البخاري (6221) ومسلم (2645) عن ابن مسعود.

أمهاتهم أشقياء، إذ لو كتبوا أشقياء لعاشوا حتى يدركوا التكليف الذي يستوجبون به الشقاوة المفضية بصاحبها إلى النار. إذ النار لا تدخل إلا جزاءا على الكفر والتكذيب، الذي لا يتصور إلا من المكلفين. ولذلك قال تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ... [الليل: 10 - 11]. والأشقى الذي كذب وتولى هو كل من لزمه الخطاب بالإيمان فلم يؤمن، وإذا لم يكتب الصبيان في بطون أمهاتهم أشقياء بما ذكرناه وبما نثبته فيما بعد من كونهم من أهل الجنة فقد انسحب على جميعهم الدخول في جملة السعداء، والله أعلم. ومن تلك الأحاديث التي احتجوا بها حديث عائشة رضي الله عنها (¬1) قالت: دعي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2) إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: «أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» (¬3). وفي لفظ (ق.126.أ) آخر: «وما يدريك يا عائشة». ¬

(¬1) من (ب). (¬2) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش ولا تظهر في نسختي. (¬3) رواه مسلم (2662) وأبو داود (4713) والنسائي (1947) وابن ماجه (82) وأحمد (6/ 208) وابن حبان (138) والحميدي (265) والطيالسي (1574) واللالكائي (4/ 602) والطبراني في الأوسط (4515) عن عائشة.

وهذا الحديث من أقوى ما يتمسكون به في الباب، فإنه ورد في أولاد المسلمين، يدل (¬1) على ذلك أن النبي - عليه السلام - إنما أُعلم بجنازة الصبي ليصلي عليه كما هو منصوص في هذا الحديث. وقد طعن فيه بأن طلحة بن يحيى انفرد به عن عمته عائشة بنت طلحة أم المؤمنين، وطلحة ضعيف (¬2). ¬

(¬1) في (ب): ويدل. (¬2) قلت: أكثر نصوص النقاد على توثيقه: قال أبو داود: ليس به بأس. وقال يعقوب بن شيبة والعجلي: ثقة. وقال أحمد: صالح الحديث وهو أحب إلي من بريد بن أبي بردة، بريد يروي أحاديث مناكير، وطلحة حدث بحديث عصفور من عصافير الجنة. وقال أبو زرعة والنسائي: صالح. وقال ابن معين: ثقة وقدمه على أخيه إسحاق. وقال أبو حاتم: صالح الحديث حسن الحديث صحيح الحديث. وقال ابن عدي: روى عنه الثقات وما برواياته عندي بأس. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان يخطىء. وقال صالح بن أحمد عن أبيه والحاكم عن الدارقطني: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة أيضا: لا بأس به في حديثه لين. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الساجي: صدوق لم يكن بالقوي. وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان: لم يكن بالقوي. وقال البخاري: منكر الحديث. وقول الساجي وابن المديني لا يستلزم تضعيفا، كما هو معلوم. فمرادهما ليس بأقوى ما يكون، بل هو وسط. ... = = وأصرح الصيغ في تضعيفه: قول البخاري، ويمكن الانفصال عنه بأن البخاري يقصد رواية بعض المناكير. انظر: العلل لأحمد (2/ 11) والجرح والتعديل (4/ 477) وتهذيب التهذيب (5/ 25).

وقد قيل إن فضيل بن عمرو رواه عن عائشة بنت طلحة كما رواه طلحة بن يحيى سواء، ذكر ذلك ابن عبد البر (¬1). وهذا كله لا معنى له، فإن مسلم بن الحجاج خرج الحديث في صحيحه من طريق طلحة بن يحيى عن عمته عن عائشة، فالقول بصحته أولى. وقد انفُصل عن الحديث مع المصير إلى صحته بأن هذا القول كان من النبي - عليه السلام - قبل أن يعلمه الله تعالى بأن الصبيان في الجنة، قال ذلك ابن حزم (¬2)، وهو قول متجه. وعندي للحديث تأويل آخر يخرج به الحديث عن أيديهم أيضا، وذلك أن النبي - عليه السلام - إنما رد على عائشة لكونها تجزم على غيب لا تعلمه. وهو - عليه السلام - كثيرا ما يفعل هذا مع أصحابه على وجه الأدب والتعليم لهم كما فعل بأم العلاء، إذ قالت حين مات عثمان بن مظعون: فشهادتي عليك أن الله أكرمك، فإنه - عليه السلام - قال لها: «وما يدريك أن الله أكرمه؟»، ثم ¬

(¬1) التمهيد (18/ 105) ونقله عن المروزي بسنده. قلت: وهذا من أعظم السهو منهما جميعا، أي المصنف وابن عبد البر. فحديث فضيل بن عمرو المذكور في صحيح مسلم (4/ 2050، رقم 2662) قبل حديث طلحة ابن يحيى المتقدم مباشرة. وهو عند ابن حبان (138) كذلك وغيره. (¬2) في الفصل (4/ 64).

قال: «أما هو فقد جاءه اليقين، وأنا أرجو له الخير، والله ما أدري وأنا نبي ما يفعل بي» (¬1). (¬2) فأنكر عليها إطلاقها لفظ الكرامة في حقه، إذ كانت لا تعلم ذلك، مع أنه أخبر بأنه (¬3) يرجو له الخير. وقال عند موت زينب ابنته: «الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون» (¬4). وقد قيل إنه قال ذلك عند موت ابنه إبراهيم (¬5). ¬

(¬1) كذا عند البخاري وغيره، وهو الظاهر من (ب)، وفي (أ) يفعل به. (¬2) رواه البخاري (1186 - 2541 - 3714 - 6601 - 6615) وأحمد (6/ 436) والحاكم (1401 - 3696) والبيهقي (3/ 406 - 4/ 76 - 10/ 288) والطبراني في الكبير (25/ 139 - 140) عن أم العلاء. (¬3) في (ب): أنه. (¬4) رواه أحمد (1/ 237) والحاكم (3/ 210) عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس. وعلي بن زيد هو ابن جدعان ضعيف، واضطرب فيه، ففي هذه الرواية جعل الميت زينب ومرة قال: رقية، خرجه أحمد (1/ 335) والطيالسي (2694) والطبراني في الكبير (9/ 37). ورواه الحميدي (2/ 385) والروياني (2/ 385) من طريق صالح المري عن قتادة عن أنس، وقال: رقية. وصالح المري ضعيف وقتادة مدلس وقد عنعن. (¬5) رواه الطبراني في الكبير (1/ 286). لكن في سنده الحسن البصري وهو مدلس وقد عنعن، وعبد الرحمن بن واقد العطار، قال أبو حاتم: شيخ.

وهكذا فعل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع سعد بن أبي وقاص، إذ قال له: فما لك عن فلان؟، فو الله إني لأراه مؤمنا، فإنه - عليه السلام - قال له: «أو مسلما؟» (¬1)، فأعاد سعد قوله وأعاد - عليه السلام - قوله ثلاثا. وكأنه يقول لسعد: ولِمَ تحكم عليه بالإيمان الذي هو باطن لا تعلمه دون الإسلام الذي هو الاستسلام بظاهره. ومن هذا الباب قوله - عليه السلام -: «إن كان أحدكم مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا، إن كان يرى أنه كذلك، ولا أزكي على الله أحدا» (¬2). هذا كله على معنى الهروب عن القطع على المغيبات، فإن ذلك لا ينبغي إلا لنبي ينزل عليه الوحي. وإذا كان الأمر هكذا فيحمل قوله لعائشة: «أو غير ذلك، أو ما يدريك يا عائشة» على هذا المعنى الذي ذكرناه، كأنه يقول لها إذا خلق الله للجنة أهلا وخلق للنار أهلا، فما يدريك أن الصبيان من هؤلاء أو من هؤلاء (¬3). ولا نشترط (¬4) أن يكون النبي - عليه السلام - غير عالم (ق.126.ب) حينئذ بمآل الصبيان، فإنه كما يمكن أن يكون الأمر كذلك يمكن أيضا أن يكون - عليه السلام - ¬

(¬1) رواه البخاري (27 - 1408) ومسلم (150) وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص. (¬2) رواه البخاري (2519 - 5810 - 5714) ومسلم (3000) وابن ماجه (3744) وأحمد (5/ 41) وابن حبان (5767) والبيهقي (10/ 242) عن أبي بكرة. (¬3) في (ب): أو هؤلاء. (¬4) في (ب): يشترط.

يعلم من أي القسمين هم مع رده على عائشة، كما علم أن الرجل الذي كلمه فيه سعد مؤمن بقوله في آخر الحديث: إني لأعطي الرجل وغيرُه أحب إليه منه، خشية أن يكبه الله في النار، لكن رد على سعد ليتأدب ولا يطلق القول على وجه القطع في شيء لا يصل إلى التحقيق فيه. وأما قوله - عليه السلام -: «والله ما أدري وأنا نبي ما يفعل به» (¬1) فليس معناه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يعلم بمآل عثمان بن مظعون، ولا هل هو من المكرمين في الآخرة أو من المعذبين، فإن هذا من المحال، وإنما معناه أنه - عليه السلام - لا يعلم في حين كلامه مع أم العلاء، وذلك بإثر موت (¬2) عثمان بن مظعون ما يفعل به في ذلك الوقت من تفاصيل ما يلقاه الميت بعد مفارقته لجسده: من تسهيل لحاله أو تضييق عليه، وذلك كعذاب القبر مثلا. فقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن للقبر لضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ»، أو كما قال (¬3). ¬

(¬1) هو طرف من حديث أم العلاء المتقدم قريبا. وقد قدمت أن رواية البخاري وغيره: يفعل بي. وعليه فلا حاجة لما ذكر المصنف. (¬2) سقط من (ب). (¬3) رواه شعبة عن سعد بن إبراهيم عن نافع عن صفية عن عائشة. وهذا سند صحيح. هكذا رواه أصحاب شعبة: منهم ابن الجعد في مسنده (1548). ووهب بن جرير عند إسحاق بن راهويه (2/ 532). وعبد الملك بن الصباح عند ابن حبان (3112). ... = = وهاشم بن القاسم عند البيهقي في الشعب (1/ 358) وشبيب عند الحارث (1/ 377). وخالفهم محمد بن جعفر فرواه عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن نافع عن انسان عن عائشة. خرجه أحمد (6/ 98). فأبهم شيخ نافع، وهذا لا يعارض ما تقدم، فالمبهم هو صفية. وخالف سعد بن إبراهيم فيه يحيى بن سعيد فرواه عن نافع عن عائشة، خرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1412). ويحيى بن سعيد أحفظ من سعد بن إبراهيم، فالحديث حديثه. ونافع نفى أبو حاتم سماعه من عائشة، لكن حديثه عنها في الصحيحين.

ويدل على ذلك قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عثمان بن مظعون: «والله إني لأرجو له الخير»، (أي أرجو له الخير) (¬1) المطلق من غير أن يكون هنالك تضييق (¬2) عليه، وكيف يصح أن يكون - عليه السلام - يشك في الخير اللاحق بعثمان، وهو من المهاجرين الأولين، ثم من أهل بدر وقد أخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهل بدر مغفور لهم. وينظر (¬3) إلى هذا قول الله تعالى لنبيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، وقد ذكر بعض المفسرين (¬4) في ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬2) هكذا في (ب)، وفي (أ): يضييق. (¬3) كذا. (¬4) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزل بعدها ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. وهكذا قال عكرمة والحسن وقتادة: إنها منسوخة بقوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. وقال الضحاك: أي ما أدري بماذا أؤمر وبماذا أنهى بعد هذا. ... = = وقال أبو بكر الهذلي عن الحسن البصري: أما في الآخرة فمعاذ الله وقد علم أنه في الجنة ولكن قال لا أدري ما يفعل بي ولابكم في الدنيا أخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبلي أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة. وهذا هو اختيار ابن جرير (11/ 277) وأنه لا يجوز غيره، واختيار ابن كثير (4/ 155) وغيرهما.

تفسير هذه الآية أن معناها أن النبي - عليه السلام - لم يدر ما يفعل به ولا بالمؤمنين ولا بالمشركين، حتى نزلت عليه سورة الفتح وأُعلم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأخبر فيها بأن المؤمنين يدخلون الجنة والمشركين يعذبون في الآخرة. وهذا من التفسير الذي ينبغي أن يرد على قائله، إذ لا يُحصل ما يقول، وكيف يصح أن يكون النبي - عليه السلام - يدعو إلى الله بمكة وهو لا يدري ما مآله ولا مآل من آمن به ولا من كفر، ثم يبقى النبي - عليه السلام - على تلك الحال من عدم المعرفة بما يفعل به وبهم مدة مقامه بمكة، ثم بعد الهجرة نحوا من سبعة أعوام حتى إلى عام الحديبية التي نزل في أمرها سورة الفتح، وحينئذ يعلم بمآل المشركين والمؤمنين. إن هذا لقول (¬1) مهجور، ولو عقل صاحبه وتأمل سور القرآن لكان له ذلك زاجرا عن هذا القول، فأول ذلك ما في سورة الأحقاف التي (ق.127.أ) نزلت فيها الآية المتقدمة من ذكر الجنة والنار، قال الله تعالى فيها: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13 .. 14]. ¬

(¬1) في (ب): القول.

وقال: {أولئك الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16]. وقال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20]. وقال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف: 34]. وذكر سبحانه في السورة قصة عاد وقول نبيهم لهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21]. فكيف يصح أن يكون الله تعالى يأمر نبيه محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول السورة بأن يقول لقريش عند دعائه إياهم ما أدري ما يكون مآلكم ولا مآلي فيما أدعوكم إليه، وهو سبحانه يخبر عن نبيه هود - عليه السلام - (¬1) في السورة بعينها أنه يخاف عليهم عذاب يوم عظيم إن لم يوحدوا الله تعالى. وحال قريش في الإشراك كحال عاد سواء. وفي هذه السورة بعينها من قول الجن فيما حكى الله عنهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 30] ¬

(¬1) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي.

فأخبروا أن الإيمان يغفر الله (¬1) به الذنوب ويجير صاحبه من العذاب، ومن للجن بمعرفة هذا، لولا أنهم تلقوه من النبي - عليه السلام - في حين الإنذار لهم كما سيأتي ذكر ذلك (¬2) في موضعه، وكلما قلناه إنما هو في السورة نفسها لم يخرج عنها، وإذا التفتنا إلى السور المكية فنجدها تنطق بمآل المؤمنين والمشركين: هذه سورة "لم يكن" أخبر الله فيها بمآل المؤمنين والمشركين والكفار من أهل الكتاب. وهذه سورة القارعة أخبر الله فيها بحال من ثقلت موازينه وهم أهل الإيمان، وبحال من خفت موازينه وهم أهل الكفر. وكذلك أخبر (¬3) في سورة المؤمنين، وفي سورة الأعراف. وجاء في سورة المدثر التي نزل أولها في أول ما نزل من القرآن ذكر سقر وما هي عليه، وذكر الجنة في قوله: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} [المدّثر: 39 - 40]. وفي النازعات: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41]. وفي سورة الانفطار: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13 - 14]. ¬

(¬1) ليس في (ب). (¬2) في (ب): سيأتي ذكره. (¬3) في (ب): وكذلك فعل.

وفي المطففين ذكر الأبرار أيضا والفجار. وفي المرسلات ذكر المتقين وذكر المكذبين ومآل الفريقين. وفي سورة الإنسان: {يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31] مع ما فيها من ذكر الجنة وما أعد لأهلها فيها، ومن الإشارة إلى يوم القيامة في قوله: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان: 10]. وفي سورة مريم ذكر الجنة ومن أعدها الله لهم (¬1) في قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}، إلى قوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 60 - 63]، وذكر النار ومن أعدها الله لهم في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} [مريم: 68] الآيات إلى قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم: 72]. وفي السورة: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77]. وقد تقدم حديث خباب بن الأرت، وقوله للعاصي بن وائل الذي نزلت فيه الآية: لا أكفر بمحمد حتى تموت تم تبعث. فقال له العاصي: وإني ¬

(¬1) كذا في (أ)، وفي (ب): وما أعد الله لهم.

لمبعوث من بعد الموت، فسأقضيك هنالك فإني سأوتى مالا وولدا"، وهذا الحديث مخرج في الصحيح (¬1). (ق.127.ب) وقد ذكر (¬2) فيه خباب البعث بعد الموت، وإذا علم البعث علم مآل المؤمن والكافر لا محالة. وهذا يدل على أن النبي - عليه السلام - كان يلقي ذلك بمكة إلى المؤمنين (¬3)، فإن خبابا ممن آمن في أول الإسلام، وهذه السور كلها مكية. ولو تتبعنا مثل (¬4) هذا من ذكر الجنة والنار في سائر السور المكية، مثل سور غافر وفاطر وسورة الكهف وطه وغيرها لكثُر ذكره، وقطعنا ذلك عما نحن بسبيله. فإن القرآن أكثره نزل بمكة، والمشركون عالمون بأن النبي - عليه السلام - يدعوهم إلى الإيمان بالله ويخبرهم بأن لهم الجنة إن قبلوا منه وآمنوا به وبما جاءهم به من عند الله، وأن لهم النار إن هم (¬5) كفروا وعاندوا، وذلك موجود في آيِ القرآن وفي الأحاديث والسيَّر، وهو من الظهور بحيث لاخفاء به عند من يتأمله. ¬

(¬1) رواه البخاري (4456 - 4457 - 4458) ومسلم (2795) والترمذي (3162) وأحمد (5/ 110 - 111) وابن حبان (4885) والطبراني في الكبير (4/ 69) عن خباب. (¬2) في النسختين: ومن أدرى، لكن شطب عليه في (ب) وأصلح في الهامش كما ذكرت، وعليه علامة التصحيح. (¬3) في (ب): للمؤمنين. (¬4) ليس في (ب). (¬5) ليس في (ب).

وإذ (¬1) فرغنا من رد ذلك القول فلنرجع إلى تأويل الآية التي كنا بصددها، فنقول: إنما معناها أن الله تعالى قال لنبيه: قل لمن تدعوه إلى الإسلام من قريش وغيرهم: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]، أي: ما كنت أول رسول في الدنيا ولا مخترعا للرسالة من بين الخلق، بل كانت هنالك رسل (¬2) في الأمم، فإن كنت رسولا يأتيني الوحي فأنا على سنن المرسلين في ذلك. ولهذا قال الله له في سورة أخرى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: من 3 .. 5]. وقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] معناه في الدنيا، أي ما أدري ما يفعل بي بعد تبليغي لكم من نصري عليكم معجلا كان أو مؤجلا، أو من بقائي بين أظهركم أو من خروجي عنكم أو غير ذلك مما يقضي الله به، ولا أدري ما يفعل بكم إن استكبرتم وتوليتم وأبيتم الإيمان من أن ينزل عليكم عذاب تعاجلون به في الدنيا، كما نزل بعاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط، فيستأصلكم جميعا أو يتأخر عنكم العذاب حتى يصيب في الدنيا بعضكم دون بعض، أو يكون جميع العذاب مؤخرا عنكم إلى يوم القيامة. وكأنه - عليه السلام - يقول: إنما أبلغ رسالة ربي حسبما أمرت به ولا أطلب ما وراء ذلك، إذ لا علم لي به في الحال. ¬

(¬1) في (ب): وإذا. (¬2) في (ب): أنبياء.

ويدل على هذا المعنى قوله في آخر الآية: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: 9] أي: أتبع الوحي وأفعل بحسب ذلك فإنه مالي إلا الإنذار والتبليغ فقط، والله سبحانه هو الفاعل لما يشاء بعد ذلك. وقد وجدنا لبعض المفسرين (¬1) أيضا (¬2) الإشارة إلى هذا (¬3) التأويل الذي ذكرناه في الآية، ولا يصح عندنا فيها سواه. ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: ومن الأحاديث التي احتج بها من توقف (ق.128.أ) في الأطفال جملة، قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء؟» قيل (¬4): أفرأيت يا رسول الله من يموت وهو صغير قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (¬5). ¬

(¬1) تفسير القرطبي (16/ 186) وابن جرير (11/ 276) ورجحه، وقال ابن كثير (4/ 155): ولا شك أن هذا هو اللائق به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬2) مكانها في (ب) بعد قولنا هذا. (¬3) ليس في (ب). (¬4) في (ب): قال. (¬5) رواه البخاري (1292 - 1319 - 4497 - 6226) ومسلم (2658) وأبو داود (4714) والترمذي (2138) وأحمد (2/ 233 - 253 - 275 - 282 - 315 - 346 - 393 - 410 - 481) ومالك (569) وابن حبان (1/ 336 - 337 - 339 - 342) والبيهقي (6/ 202 - 203) والحميدي (2/ 473) والطبراني في الأوسط (4050) والطيالسي (2359 - 2433) وأبو يعلى (11/ 197 - 282 - 473) عن أبي هريرة.

فأخذوا عموم الأطفال من قوله: «كل مولود يولد على الفطرة»، ومن سؤالهم للنبي - عليه السلام - عن من يموت وهو صغير وليس في ذلك ذكر لأطفال المسلمين، ولا لأطفال الكفار. وأخذوا التوقف من قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين». ونحن نرى أن نؤخر الكلام في هذا الحديث حتى نذكره (¬1) في أولى المواضع به من هذه الفصول التي نتكلم فيها على الأطفال بحول الله. ¬

(¬1) في (ب): نذكر ذلك.

من قال إن الأطفال في الجنة

فصل (من قال إن الأطفال في الجنة) (¬1) وأما من ذهب إلى أن أطفال المسلمين في الجنة فحجتهم ظاهرة من الأحاديث الواردة في هذا الباب، منها حديث أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - قال: «ما من المسلمين من يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله وإياه الجنة بفضل رحمته، يجاء بهم يوم القيامة، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: لا حتى يدخل آباؤنا فيقال لهم: ادخلوا أنتم وآباؤكم بفضل رحمتي» (¬2). وفي لفظ آخر (¬3): «من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنْث كانوا له حجابا من النار». ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) رواه النسائي (1876) وأحمد (2/ 510) والبيهقي (4/ 68) وأبو يعلى (10/ 464) عن عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، وسنده صحيح. (¬3) رواه البخاري (101 - 1192 - 6880) ومسلم (2633 - 2634) وأحمد (3/ 34) وابن حبان (2944) والبيهقي (4/ 67) عن أبي سعيد.

ومنها حديث أبي هريرة أيضا، إذ قال له الراوي: إنه قد مات لي ابنان فما أنت محدثي (¬1) عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحديث يطيب أنفسنا عن موتانا، فقال: سمعته يقول: «صغارُكم دَعَاميصُ الجنة يتلقى (¬2) أحدهم أباه فيأخذ بثوبه كما آخذ أنا بصَنيفة ثوبك هذا، فلا ينتهي حتى يدخله الله وأبويه الجنة» (¬3). ومنها حديث معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلا جاء بابنه إلى النبي - عليه السلام - فقال: «أتحبه؟» فقال له (¬4): أحبك الله (يا رسول الله) (¬5) كما أحبه، فتوفي الصبي ففقده النبي - عليه السلام -، فقال: «أين فلان بن فلان؟» قالوا: يا رسول الله توفي ابنه، ثم دخل الرجل فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬6): «أما ترضى أن لا ¬

(¬1) في (ب): تحدثني. (¬2) في (ب): فيلقى. (¬3) رواه مسلم (2635) والبخاري في الأدب المفرد (145) وأحمد (2/ 488 - 509) والبيهقي (4/ 67) عن أبي هريرة. (¬4) "له" من (ب). (¬5) ليس في (ب). (¬6) من (ب).

تأتي بابا من أبواب الجنة إلا جاء يسعى يفتحه (¬1) لك». فقالوا: يا رسول الله، أله وحده أم لنا كلنا؟ قال: «بل لكم كلكم» (¬2). ومنها حديث أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من الناس من (¬3) مسلم يتوفى له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله (¬4) الجنة بفضل رحمته إياهم» (¬5). وروى البراء بن عازب عن النبي - عليه السلام - أنه قال (ق.128.ب) في ابنه إبراهيم: «إن له مرضعا في الجنة» (¬6). وهذا القول في أطفال المسلمين هو المفهوم من قانون الشرع، حتى إن بعض العلماء أنكر الخلاف في كونهم في الجنة، وذكر بعضهم الخلاف في ¬

(¬1) في (ب): ففتحه. (¬2) رواه النسائي (4/ 22) وأحمد (3/ 436 - 5/ 34) والحاكم (1/ 541) وابن أبي شيبة (3/ 233) والطيالسي (1075) والبزار (3302) من طريق شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه. وسنده صحيح. وصححه الحاكم. (¬3) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي. (¬4) من (ب)، وفي (أ) أحيل على الهامش ولا يظهر في نسختي. (¬5) رواه البخاري (1191 - 1315) والنسائي (1873) وغيرهما عن أنس. (¬6) رواه البخاري (1316 - 3082 - 5842) وأحمد (4/ 289 - 297 - 300 - 302 - 304) وابن حبان (15/ 400) والحاكم (4/ 41) وابن أبي شيبة (3/ 255) وعبد الرزاق (7/ 494) والطيالسي (729 - 742) وأبو يعلى (1696) عن البراء.

كونهم في الجنة أو في المشيئة، وقال: إنما الإجماع في كون أولاد الأنبياء في الجنة خاصة. وأبو عمر بن عبد البر اضطرب في النقل في هذا الباب فقال عند كلامه على تأويل الفطرة (¬1): قد أجمع المسلمون من أهل السنة وغيرهم إلا المجبرة على أن أولاد المؤمنين في الجنة. ثم لما ذكر الأخبار التي احتج بها من قال: إن الأطفال بأجمعهم في المشيئة، قال (¬2): بهذه الآثار وما كان مثلها احتج من ذهب إلى الوقوف عن الشهادة لأطفال المسلمين أو (¬3) المشركين بجنة أو نار، وإليها ذهب جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، وهو يشبه ما رسمه مالك في أبواب القدر من الموطأ، وما أورد في ذلك من الأحاديث، وعلى ذلك أكثر أصحابه، وليس عن مالك فيه شيء منصوص، إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال المشركين خاصة في المشيئة لآثار وردت في ذلك. هذا كله ذكره في باب أبي الزناد من التمهيد. ¬

(¬1) (18/ 90). (¬2) التمهيد (18/ 111 - 112). (¬3) في (ب): و.

وقال في باب ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عند قوله - عليه السلام -: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد» (¬1): قد أجمع العلماء على أن أطفال المسلمين في الجنة، ولا أعلم عن جماعتهم في ذلك خلافا إلا فرقة شذت من المجبرة فجعلتهم في المشيئة، وهو قول شاذ مهجور مردود بإجماع أهل الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم ولا يجوز على مثلهم الغلط في مثل هذا إلى ما روي عن النبي - عليه السلام - من أخبار الآحاد الثقات. وذكر بعض الأحاديث التي سُقناها في هذا الباب. فانظر كيف ذكر الإجماع على أن أطفال المسلمين في الجنة وأنه لا يعلم عن جماعة العلماء في ذلك خلافا، وجعل القول بالمشيئة فيهم قولا شاذا مهجورا، وهو قد نسب القول بالمشيئة في الباب الآخر إلى حماد وحماد وابن المبارك وإسحاق بن راهويه، وكيف يتصور الإجماع وهؤلاء خارجون عنه؟، وإنما يطرأ هذا على أبى عمر من الغفلة. ونحن نقول: إن من ذهب من العلماء إلى أن أطفال المسلمين في المشيئة، لم يمعن النظر في الباب، وإنما تعلق في ذلك (ق.129.أ) بأحاديث محتملة للتأويل ليس فيها جلاء، وكان يلزمه إذا وجد فيها ما يظهر له منه التوقف في أمرهم أن يحمله على أن ذلك كان في أول الإسلام، إذ الذي استقر عليه الشرع فيهم هو ما قلناه من كونهم في الجنة لا في المشيئة، إذ لو كانوا في المشيئة لم يغفر لآبائهم بمصابهم فيهم ولا حجبوا عن النار بسببهم، ولا دخلوا الجنة بشفاعتهم. ¬

(¬1) التمهيد (6/ 348) مع اختلافات يسيرة.

ومن أقوى دليل على ذلك الحديث الثابت عن سمرة بن جندب عن النبي - عليه السلام - في الرؤيا، وفيه: «فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط». الحديث. وفيه: «وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله فكل مولود مات على الفطرة» (¬1). ومعلوم أن أولاد المسلمين ولدوا على الفطرة، وإذا ماتوا في حال الطفولية فقد ماتوا عليها. فصح أنهم الآن مع إبراهيم - عليه السلام - في الجنة، إذ لابد أن يصدق هذا الحديث على أولاد المسلمين، وإنما الشأن في أولاد المشركين، وفي بقية الحديث ما يدل على أن أولاد المشركين مع أولاد المسلمين، وذلك أن فيه: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2): «وأولاد المشركين». وسيأتي ذكر هذا في أولاد المشركين فيما بعد إن شاء الله. ¬

(¬1) هو حديث الرؤيا الطويل، وقد خرجه البخاري (6640) عن سمرة، وقد تقدم. (¬2) من (ب).

من قال إن أولاد المشركين في المشيئة

فصل (من قال إن أولاد المشركين في المشيئة) (¬1) وأما من قال في أولاد المشركين: إنهم في المشيئة فاحتجوا بحديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أولاد المشركين، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (¬2). وبحديثه (¬3) أيضا قال: كنت أقول في أطفال المشركين هم مع آبائهم حتى حدثني رجل عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ربهم أعلم بهم، هو خلقهم وهو أعلم بهم وبما كانوا عاملين». ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) رواه البخاري (1317 - 6224) وأبو داود (4711) والنسائي (1951 - 1952) وأحمد (1/ 215 - 328 - 340 - 358) والطيالسي (537 - 2624) وأبو يعلى (2479) والطبراني في الكبير (12/ 52) واللالكائي (4/ 611) عن ابن عباس. (¬3) رواه أحمد (5/ 410) وعبد الله بن أحمد في السنة (2/ 400) عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس. وسنده حسن.

وبحديث أبي هريرة (¬1) عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن أطفال المشركين عن من يموت منهم صغيرا فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». والأحاديث في هذا الباب صحيحة، وليس في قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» إلا الإخبار بأن الله تعالى أعلم بما كانوا يفعلونه لو بلغوا حد التكليف. وأما ما يرجع إلى مآلهم في الآخرة إذا ماتوا قبل البلوغ فيشبه أن يكون النبي (ق.129.ب) - عليه السلام - قصد الإبهام على الصحابة في حقهم بهذا القول، إذ ساقه مجملا، ويشبه أن يكون توقف في أمرهم، إذ لم يوح إليه بعد فيهم ما يعتمده، فيكون ذلك قبل الأحاديث الواردة فيهم (¬2) آخرا حسبما نذكره، وهذا بعينه نقوله لمن احتج بقوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، على التوقف في أطفال المسلمين. ¬

(¬1) رواه البخاري (1318 - 6225) ومسلم (2659) والنسائي (1949 - 1950) وأحمد (2/ 244 - 268 - 393 - 471 - 518) وابن حبان (131) والحميدي (2/ 473) والطيالسي (2382) وأبو يعلى (6120) والطبراني في الأوسط (4023) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 92 - 93) وأبو يعلى (6120) عن أبي هريرة. (¬2) في (ب): فيهما.

من قال إن أولاد المشركين في النار

فصل (من قال إن أولاد المشركين في النار) (¬1) وأما من قال: إن أطفال المشركين في النار فاحتج بحديث الصعب بن جثامة أنه سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدار (¬2) من المشركين يُبَيَّتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هم منهم» (¬3). وفي لفظ آخر: «هم من آبائهم»، قال الزهري: ثم نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك عن قتل النساء والولدان (¬4). وهذا الحديث لا حجة فيه، فإن المعنى فيه عند أهل العلم أحكام الدنيا، وعليه مخرج الحديث، أي: إنهم إن أصيبوا في التبييت والغارة فلا قود ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في البخاري وغيره: عن أهل الدار. (¬3) رواه البخاري (2850) ومسلم (1745) وأبو داود (3/ 54) وابن ماجه (2/ 947) وأحمد (4/ 37 - 71 - 72) وابن حبان (1/ 345 - 347 - 11/ 107) والطحاوي (3/ 222) وابن أبي شيبة (7/ 657) والبيهقي (9/ 78) وأبو عوانة (4/ 223) والحميدي (2/ 343) عن الصعب بن جثامة. (¬4) رواه البخاري (2850) ومسلم (1745) والطحاوي (3/ 222) والحميدي (2/ 343) من رواية عمرو بن دينار عن الزهري.

ولا دية على من قتلهم، لكونهم أولاد من لا قود ولا دية في قتلهم لكفرهم، قال ذلك: ابن عبد البر (¬1) وغيره، وهو كذلك. ولهذا أردف الزهري الراوي للحديث عليه: نهى النبي - عليه السلام - عن قتل النساء والولدان بعد ذلك. واحتجوا أيضا بحديث سلمة بن يزيد الجعفي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال له: (يا رسول الله) (¬2) إن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحِنْث فهل ذلك نافع أختنا، فقال - عليه السلام -: «الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيغفر لها» (¬3). ¬

(¬1) التمهيد (18/ 121). (¬2) ليس في (ب). (¬3) رواه أحمد (3/ 478) والطبراني في الكبير (7/ 39) والبخاري في التاريخ (4/ 72) وابن عبد البر في التمهيد (18/ 119) من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي. قال ابن كثير في التفسير (3/ 32): وهذا إسناد حسن. قلت: لكن يعكر على هذا ما ذكره الدارقطني من الاضطراب في هذه الرواية كما سنذكره عنه بعد قليل. ورواه أبو داود (4747) وابن حبان (16/ 522) والبزار (5/ 36) والبخاري في التاريخ (4/ 72) من طريق ابن أبي زائدة قال حدثني أبي عن عامر مرسلا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن أبي زائدة قال أبي فحدثني أبو إسحاق أن الشعبي حدثه عن علقمة عن عبد الله. وكذا رواه من هذا الوجه الطبراني في الكبير (10/ 93). قلت: زكريا بن أبي زائدة سمع من السبيعي بعد اختلاطه. فهذا الاضطراب منه، والله أعلم. ... = = ورواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله قوله. خرجه البخاري في التاريخ (4/ 72). ورواه شريك عن أبي إسحاق عن علقمة وأبي الأحوص عن ابن مسعود. خرجه البزار (5/ 42). وشريك ضعيف. ورواه محمد بن أبان عن عاصم عن زر عن عبد الله. خرجه البزار (5/ 220) والطبراني في الكبير (10/ 138) والشاشي (2/ 118). ومحمد بن أبان لم يتميز لي من هو، والمعلق على علل الدارقطني جعله الكوفي الضعيف، والله أعلم. وقد أطال الدارقطني في حكاية الخلاف فيه في العلل (5/ 160) فقال: يرويه زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي مرسلا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال زكريا فحدثني أبو إسحاق أن الشعبي حدثه عن علقمة عن عبد الله. قال ذلك مسروق بن المرزبان عن يحيى بن زكريا عن أبيه. وهكذا رواه أبو إسحاق عن علقمة عن عبد الله. وقال إسحاق الأزرق عن زكريا عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال زياد بن أيوب عن يحيى بن إسماعيل الواسطي عن يحيى بن زكريا عن أبيه عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وخالفه داود بن أبي هند. واختلف عن داود فرواه حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة قال حدثني ابنا مليكة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يذكر ابن مسعود. وخالفه معتمر بن سليمان وابن أبي عدي والخليل بن موسى فرووه عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي وهو أحد ابني مليكة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يذكروا ابن مسعود. ورواه إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن ابني مليكة، ولم يذكر علقمة ولا ابن مسعود. ورواه أبو اليقظان عثمان بن عمير، واختلف عنه فرواه سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد عن علي ابن الحكم عن أبي اليقظان عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبد الله بن مسعود قال جاء ابنا مليكة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ... = = وخالفه الصعق بن حزن فرواه عن أبي اليقظان عثمان بن عمير عن أبي وائل عن عبد الله. وروى هذا الحديث أبو إسحاق السبيعي، وقد اختلف عنه: فرواه شريك عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص وعلقمة عن عبد الله. ورواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله. وروى هذا الحديث أيضا عاصم عن زر عن عبد الله حدث به محمد بن أبان الجعفي عن عاصم. انتهى. وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (18/ 120) بعد أن ساقه من طريق داود بن أبي هند المتقدم: ليس لهذا الحديث إسناد أقوى وأحسن من هذا الإسناد. ورواه جماعة عن الشعبي كما رواه داود. وقد رواه أبو إسحاق عن علقمة كما رواه الشعبي. وهو حديث صحيح من جهة الإسناد، إلا أنه محتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصودة فكانت الإشارة إليها، والله أعلم. وهذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث لمعارضة الآثار له، وعلى هذا يصح معناه والله المستعان. انتهى. والحاصل مما تقدم أن الحديث في أسانيده مقال وأصح طرقه طريق دواد بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة وقد صححها ابن عبد البر، وحسنها ابن كثير. لكن حكى الدارقطني فيها اضطرابا تقدم. زد عليه النكارة الظاهرة في لفظه، وهو تعذيب من لم يعمل ما يوجب العذاب، وهو خلاف العدل الإلاهي وخلاف الأحاديث الصحيحة. وعلى فرض صحة هذه الطريق، فهي لا تقاوم الأحاديث الصحيحة الصريحة في الباب. والنظر في الأسانيد من دون اعتبار نكارة المتن منهج غريب عن حفاظ الحديث المتقدمين. وكم من سند رواه جبال الحفظ، وقال فيه مثل أبي حاتم وأبي زرعة وأحمد: منكر.

وهذا الحديث قد تكلم فيه، وقال ابن عبد البر (¬1): إنه حديث صحيح من جهة الإسناد، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين ¬

(¬1) (18/ 119).

مقصودة، فكانت الإشارة إليها، وهذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث لمعارضة الآثار له. انتهى كلامه. وفيه اعتراض، لأنه يلزم في سائر الأطفال ما يلزم في تلك العين المقصودة، إذ هي لم تبلغ الحلم كما في الحديث، ومن لم يبلغ الحلم فبأي شيء يستحق النار؟ بل ينبغي أن يرد هذا الخبر بكونه معارضا لنص القرآن، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 .. 9] فأخبر سبحانه بأن الموءودة لا ذنب لها، وإذا لم يكن لها ذنب فلا تدخل النار أصلا، إذ لا يدخل النار إلا الكفار والمذنبون. وأيضا فالحديث إذا (ق.130.أ) فرضنا صحته هو من أخبار الآحاد وليس ما نحن فيه من باب العمل. واحتجوا أيضا بحديث عائشة (رضي الله عنها) (¬1) قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ولدان المسلمين أين هم؟، قال: «في الجنة يا عائشة»، قالت: وسألته عن ولدان المشركين أين هم يوم القيامة؟، قال: «في النار». فقلت مجيبة له: يا رسول الله لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام، قال: «ربك أعلم بما كانوا عاملين، والذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار» (¬2). ¬

(¬1) من (ب). (¬2) رواه أحمد (6/ 208) وابن الجعد (436) والطيالسي (1576) من طريق أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن بهية عن عائشة. ... = = قال الحافظ في الفتح (3/ 246): وهو حديث ضعيف جدا، لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية، وهو متروك. وقال ابن القيم في حاشية السنن (12/ 316): واه يعرف به واه، وهو أبو عقيل. ونحوه عن خديجة، خرجه أبو يعلى (12/ 505) والطبراني في الكبير (23/ 16). ونقل ابن القيم (12/ 321) عن ابن تيمية أنه حكم بوضعه. ثم وقفت على كلام ابن تيمية في منهاج السنة (4/ 306).

وهذا الحديث غير صحيح، رواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن بهية عن عائشة. وقال ابن عبد البر فيه (¬1): أبو عقيل هذا لا يُحتج بمثله عند أهل العلم بالنقل (¬2)، وقال: هذا الحديث لو صح لاحتمل من الخصوص ما احتمل غيره. قال: ومما يدل على أنه خصوص لقوم من المشركين قوله: «لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار» (¬3)، وهذا لا يكون إلا فيمن قد مات وصار في النار، وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه من الآثار. وكلامه هذا نحو من كلامه في الحديث الذي قبله. وينبغي أن يقال له: لا فرق في هذا الباب بين أطفال المشركين الذين ماتوا قبل الإسلام وبين من يموت منهم بعد الإسلام إلى قيام الساعة، فما ثبت لهؤلاء من الحكم وجب أن يكون لأولئك سواء سواء (¬4). ¬

(¬1) (18/ 122). (¬2) قلت: وهو إجماع من النقاد، لا يحفظ عن أحدهم توثيقه، إلا في رواية عن ابن معين، كما في تهذيب التهذيب (11/ 237). (¬3) تقدم. (¬4) في (ب): بسواء.

ودليل ذلك من نفس الحديث قول عائشة: "وسألته عن أولاد المشركين"، فعمت بالسؤال، ثم لم تسأل إلا عن حكمهم في القيامة بقولها: "أين هم يوم القيامة؟ " وذلك اليوم هو مجتمع الخلائق أولهم وآخرهم وصغيرهم وكبيرهم فإذا قال: إنهم في النار، انسحب ذلك على جميع الأطفال على الإطلاق في أصناف الشرك. هذا لو كان الخبر صحيحا، فكيف وقد أراحنا الله منه بتضعيف أهل الحديث لإسناده. ثم في متنه أيضا ما يوهنه، وهو أن النبي - عليه السلام - أخبر عائشة أنهم في النار في أول الحديث، وذلك جزم منه - عليه السلام - على حكمهم في الآخرة، ثم قال لها: ربك أعلم بما كانوا عاملين. وهذا اللفظ إنما يأخذ منه التوقف كما أخذه العلماء من مثل هذا اللفظ حسبما تقدم ذكره، والأحاديث التي فيها هذا المعنى، أعني الذي يؤخذ منها التوقف، ليس فيها ذكر النار، وهي الأحاديث الصحيحة، وقد قدمنا سياقتها في الفصل الذي قبل هذا، ثم أخبر - عليه السلام - في آخر الحديث أن الأطفال في النار بقوله: «لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار». وهذا من الأمور التي يستأثر (ق.130.ب) بمعرفتها وإدراكها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يُطلع غيره عليها إذا شاء، ومتى جاء عن النبي - عليه السلام - مثل هذا في حديث صحيح؟ ثم كيف يجتمع التوقف في أمرهم والحكم عليهم

بالنار في حديث واحد، أو (¬1) كيف يقول - عليه السلام -: «ربك أعلم بما كانوا عاملين» (¬2)، مجيبا لعائشة في احتجاجها بوجه صحيح، وهو أنهم لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام. ونحن نعلم من قاعدة الشرع أن الله تعالى لا يؤاخذ الصغار بما عملوا قبل التكليف من زنا وشرب خمر، فكيف يؤاخذهم بما لم يعملوا أصلا لموتهم قبل الإدراك. وقد أخبر الشرع أيضا بأن من همَّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فكيف يكتب ذنب على من لم يهم به ولم يعمله؟. ويكفينا في إبطال هذا إجماع الأمة على أن الله تعالى لا يؤاخذ أحدا بما لم يعمل ولا سن العمل به. وفي هذا كله ما يرد الحديث المتقدم ويبين أنه لا يصح، هو ولا الحديث الذي قبله. ومما احتج به أيضا من ذهب إلى هذا القول قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية الكفار ولا ذريتهم، وإنما ذكر المؤمنين وإلحاق ذرياتهم بهم ولا يخلو هؤلاء الملحقون بآبائهم من وجهين: أحدهما: أن يكونوا بالغين حد التكليف مؤمنين بالله، يدل على ذلك قوله: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ} [الطور: 21]، فشرط في الاتباع الإيمان. ¬

(¬1) في (ب): و. (¬2) تقدم.

فإن كان كذلك فيكون المعنى أن الذرية المؤمنة ملحقة بآبائها في الأجور والدرجات العلى على وجه التكرمة للآباء، وإن كانت الذرية دونهم في الأعمال. والثاني: أن تكون الذرية هم أطفال المؤمنين فيكون المعنى: إن حكمهم قبل بلوغ الحلم حكم آبائهم في انسحاب حكم الإيمان عليهم في الدنيا والآخرة، وكيفما كان ذلك فليس للكفار فيها ذكر، فلا يصح أن يؤخذ لأطفالهم منها حكم. واحتجوا أيضا بقول الله تعالى حكاية عن نوح - عليه السلام -: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} ... [نوح: 26 .. 27]. وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين: أحدهما: إن نوحا عليه (ق.131.أ) السلام إنما قصد به الكفار من قومه فقط، ولذلك قال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح: 26]، أي لا تذرهم أحياء، وذلك يتوجه لكل من كفر بنوح في حياته، فاستجاب الله له فيهم وأغرقهم بالطوفان، ولا يصح أن يقصد نوح الكفار على الإطلاق، ممن يأتي بعد زمانه، فإنهم ليسوا على الأرض، في حين دعوة نوح. وأيضا فإن آزر كان كافرا ووَلَدَ خليلَ الرحمن: إبراهيم - عليه السلام -. وكذلك غيره من آباء (¬1) الأنبياء صلوات الله عليهم. ¬

(¬1) في (ب): وكذلك أكثر آباء.

وقد قال النبي - عليه السلام - في حديث الأسود بن سريع: «أوليس خياركم أولاد المشركين؟» (¬1)، يعني بذلك الصحابة رضي الله عنهم. والوجه الثاني: إن قوله: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26] لم يعن به أن قومه لا يلدون إلا فاجرا كفارا في حين ولادتهم، وإنما معناه: أن الذين يلدون لا يؤمنون إذا بلغوا حد التكليف، بل يكونون كفارا فجارا، وإنما علم نوح ذلك (¬2) بأنه قد كان أوحي إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن فتيقن نوح (¬3) - عليه السلام - من هذا (¬4) بأن قومه لا يؤمن منهم (في المستأنف أحد) (¬5) إلا من قد كان (¬6) آمن قبل، وسواء في ذلك من كان منهم بالغا حينئذ أو صغيرا، أومن لم يولد بعد، فعند ذلك دعا عليهم بتلك الدعوة، على أنه قد جاء في بعض الأخبار أن الذين غرقوا بدعوة نوح كلهم بالغون. ذكر وثيمة بن موسى في كتابه قال: أخبرني عبد الله بن سمعان عن رجال سماهم قالوا في قوم نوح: إن الله تعالى أعقم رجالهم وأعقم نساءهم قبل ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 435 - 4/ 24) والنسائي في الكبرى (5/ 184) وابن حبان (132) والحاكم (2566 - 2567) والبيهقي (9/ 77 - 130) والطبراني في الكبير (1/ 283 - 284 - 285) من طرق عن الحسن عن الأسود بن سريع. وسنده صحيح، وقد صرح الحسن عند الحاكم والنسائي. (¬2) في (ب): هذا. (¬3) من (ب). (¬4) في (ب): ذلك. (¬5) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في الهامش، وعليه علامة التصحيح. (¬6) سقط من (ب)، وفي (أ) كتب في الهامش.

الطوفان، فلم يتوالدوا أربعين عاما منذ دعا نوح عليهم حتى أدرك الصغير فبلغ الحنث، وصارت لله عليه الحجة، ثم أرسل الله السماء بالطوفان وهم جميعا رجال. فإن صح هذا الذي ذكره وثيمة فلم يغرق بدعوة نوح إلا من يستحق ذلك ممن بلغ حد التكليف، وكفر بنوح وبما جاء به من عند الله سبحانه. وذكر أبو محمد بن حزم (¬1) هذه المسألة ونسب هذا المذهب إلى الأزارقة، وحكى عنهم أنهم قالوا: إن كان حكم أطفال المشركين حكم الإيمان فيلزمكم أن تدفنوا الصبي إذا مات منهم مع المسلمين، ولا تتركوه يخرج إلى الكفر، وينبغي أن ترثوا ماله دون أبويه، وأن تورثوه ممن مات من أقاربه المؤمنين. ثم قال (¬2): أما قولهم ينبغي أن تصلوا عليه وأن (¬3) ترثوا ماله فليس بحجة، لأن لله تعالى أن يفرق بين أحكام عباده، وليس تركنا الصلاة (ق.131.ب) عليهم مما يوجب أنهم كفار، فهذا الشهيد لا يصلى عليه، وليس ذلك بموجب أنه ليس من أفضل المؤمنين إيمانا، وكذلك القول في الميراث سواء، فقد حكم الله تعالى في بعض الأقارب من المؤمنين أن لا يرث ولا يورث كالجد للأم وابن البنت، ويرث المولى من فوق وهو أبعد رحما، وابن العم على بعد، وهذا العبد هو من لا يرث أباه ولا ابنه ولا يرثانه، فليس ترك ¬

(¬1) الفصل (4/ 60). (¬2) الفصل (4/ 63) بنحوه. (¬3) من (ب).

موارثة (¬1) الطفل من أولاد المشركين بموجب أنه كافر، وقد يأخذ المرء (¬2) المسلم مال عبده الكافر، والكافر مال عبده إذا أسلم ثم مات قبل أن يباع عليه، وكثير من الأئمة يورث مال المرتد ورثته (¬3) من المسلمين. ومعاذ بن جبل ومعاوية ومسروق رضي الله عنهم يورثون المسلم من الكافر على كل حال (¬4)، فليس الميراث من باب الإيمان في وِرد ولا صدَر، وإنما نقف في كل ذلك (¬5) عندما أوجبه النص والإجماع فقط، وهكذا القول في الدفن ولا مزيد. انتهى كلامه. وفيه الكفاية في الرد عليهم. ومذهبه هو: أن جميع الأطفال في الجنة، كما هو الحق، وسيتبين ذلك بحول الله. ¬

(¬1) في (ب): موارثته. (¬2) ليس في (ب). (¬3) في (ب): وورثته. (¬4) حكاه الصنعاني في سبل السلام (3/ 190) وابن رشد في البداية والنهاية (2/ 264) عن معاذ ومعاوية ومسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم وإسحاق. (¬5) في (ب): في كل حال ذلك.

من قال إنهم يمتحنون

فصل (من قال إنهم يمتحنون) (¬1) وأما من قال: إنهم يمتحنون في الآخرة، فاحتج بحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود، قال: «يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول. ثم تلا قوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} [طه: 134]. الآية. ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلا أعقل به لا خيرا ولا شرا. قال: ويقول المولود: رب لم أدرك العقل والعمل. قال: فترفع لهم نار فيقال لهم: رِدوها وادخلوها. قال: فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل. قال: فيقول الله عز وجل: "إياي عصيتم، فكيف برسلي لو أتتكم"» (¬2). ذكر هذا أبو عمر في الاستذكار (¬3)، وقال: قد روي عن أنس بن مالك عن النبي - عليه السلام - مثل معنى هذا الحديث (¬4). ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) تقدم. (¬3) (3/ 113). (¬4) رواه أبو يعلى (4224) والبيهقي في الاعتقاد (169) عن أنس. وفيه ليث بن أبي سليم ضعيف.

وقد روي أيضا من حديث معاذ بن جبل مثله بمعناه (¬1). وهي كلها أحاديث ليست بالقوية، ولا تقوم بها حجة، وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة دار جزاء، وليست دار (¬2) عمل ولا ابتلاء، وكيف يكلفون دخول (ق.132.أ) النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها. ولا يخلو من مات في الفترة من أن يموت كافرا، أو غير كافر، فإن كان قد مات كافرا جاحدا فإن الله تعالى (¬3) قد حرم الجنة على الكافرين، فكيف يمتحنون، وإن كان معذورا بأنه لم يأته نذير ولا أرسل إليه رسول فكيف يؤمر بتقحم النار وهي أشد العذاب، والطفل ومن لا يعقل أحرى بأن لا يمتحن بذلك. انتهى كلام أبي عمر، وفيه مقنع. وقد تقدم من كلامنا على هذا المعنى حيث ذكرنا حديث أبي سعيد المذكور وغيره من الأحاديث في أول باب من أبواب أهل الفترة ما فيه الجلاء في ذلك. وأبو عمر بن عبد البر قد ذكر الخلاف في الأطفال في التمهيد (¬4) والاستذكار (¬5)، وأورد الأحاديث التي ذكرناها حجة لكل فريق مع الأحاديث ¬

(¬1) رواه الطبراني في الكبير (20/ 83) والأوسط (7955) وابن عبد البر في التمهيد (18/ 129) عن معاذ. وفيه عمرو بن واقد متروك. (¬2) في (ب): بدار. (¬3) ليس في (ب). (¬4) (16/ 146). (¬5) (3/ 107).

التي تعلق بها من قال: إن جميع الأطفال في الجنة، وكأنه لم يجزم على صحة أحد تلك الأقوال، ولا حكم بكونه المعتمد عليه في الباب. ونحن قد فرغنا من جلب تلك الأقوال، وسياقة الحجة لكل قول منها ولم يبق إلا قول من قال: إن الأطفال جميعا في الجنة، فلنفرد لذلك بابا نتكلم عليه فيه بإشباع من القول، واستكثار من الأدلة، حتى يتضح ما نذهب إليه في ذلك، إذ هو الذي يقتضيه النظر وتعضده قواعد الشرع.

جميع أطفال الناس في الجنة

باب (جميع أطفال الناس في الجنة) (¬1) من الدليل على أن جميع أطفال الناس مؤمنهم وكافرهم في الجنة قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. فإنه سبحانه أخبر أنه أخذ من بني آدم في العهد الأول الإقرار على أنفسهم بأن الله تعالى هو ربهم، فصح أن جميع الأطفال داخلون في ذرية بني آدم المقرين بذلك. وإذ دخلوا فيهم وماتوا قبل أن يبلغوا حد التكليف الذي تلزم عنده (¬2) المؤاخذة بالأعمال فهم لم يستحقوا النار، وإذا لم يستحقوا النار فهم في الجنة بالعهد الأول الذي لم ينقضوه، كما أن من بلغ منهم حد التكليف فقد خرج عن جملة الأطفال، وصار إما مستحقا للجنة بوفائه بالعهد الأول، وذلك بأن يكون مؤمنا مستصحبا لإيمانه حتى يموت عليه. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): عنه.

وإما مستحقا للنار بنقضه العهد الأول، وذلك بأن يكون مشركا (¬1) مستصحبا لإشراكه حتى يموت عليه. (ق.132.ب) ولنذكر ما جاء عن أهل التفسير في هذه الآية المتقدمة ليوقف عليه. (¬2) ذكر مكي بن أبي طالب في الهداية قال: قال ابن عباس (¬3): أخذ الله الميثاق من ظهر آدم (¬4) بنعمان، يعني عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية له (¬5) فنشرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأشهد بعضهم على بعض بذلك الإقرار. وقال الضحاك: إن الله مسح صلب آدم واستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق منهم يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق فوفى به نفعه الميثاق الأول، ¬

(¬1) في (ب): مشتركا، وهو تصحيف. (¬2) قد أطنب العلماء في الكلام حول هذه الآية، واختلفت عباراتهم وتعددت تفسيراتهم لها. وأجمع ما رأيته في الكلام حولها: كلام ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (240 - فما بعدها)، ولولا طوله لنقلته. وتحتاج هذه الآية إلى مصنف مفرد لكثرة الخلاف فيها وتعدد النقول عن السلف في ذلك، وتباين آراء العلماء في فهمها والجمع بينها وبين ما يعارضها. ولعلي أوفق لذلك، إن شاء الله. (¬3) رواه ابن جرير (6/ 110) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في الدر المنثور (3/ 509). (¬4) في (ب): بني آدم. (¬5) في (ب): لهم.

ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يوف به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة. روى ذلك عن ابن عباس (¬1). ومنه قول النبي - عليه السلام -: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (¬2). والميثاق الأول هو ما أخذه الله عليهم إذ أخرجهم من ظهر آدم، والميثاق الآخر هو قبول فرائض الله، والإيمان به وبرسوله وبما جاءت به الرسل. وروى ابن عمر عن النبي - عليه السلام - أنه قال: «أخذوا من ظهره كما يُؤخذ بالمُشط من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» (¬3). وقال أبي بن كعب (¬4): جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا ¬

(¬1) رواه ابن جرير (6/ 112) من طريق جويبر عنه. وقد تقدم حال جويبر. (¬2) تقدم. (¬3) رواه اللالكائي (3/ 562). (¬4) رواه ابن جرير (6/ 114) بنحوه مطولا وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/ 135) واللالكائي (3/ 559 - 560) والبيهقي في الأسماء والصفات وغيرهم كما في الدر المنثور (3/ 600) من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي.

غيرك، ثم أخبرهم بما ينزل عليهم من كتاب وما يرسل إليهم من الرسل وأمرهم أن يؤمنوا بذلك، وكانت فيهم الأنبياء مثل السرج وعليهم النور فخُصوا بميثاق أخذ الرسالة والنبوة، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7]. الآية. انتهى ما ذكره مكي. وقال يحيى بن سلام في تفسيره: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب ما (¬1) أكتب؟ قال: ما هو كائن، قال: فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة (¬2)، فأعمال العباد تعرض كل يوم اثنين وخميس (¬3)، فيجدونها على ما في الكتاب (¬4)، ثم مسح تعالى ظهر آدم فأخرج منه كل نسمة هو خالقها فأخرجهم مثل الذر فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا (ق.133.أ) ثم أعادهم في صلب آدم، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على الكتاب الأول. فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك. ¬

(¬1) في (ب): وما. (¬2) رواه ابن أبي عاصم في السنة (108) والبيهقي في سننه (9/ 3) والطبراني في الكبير (12/ 68) وأبو يعلى (2329) وعبد الله بن أحمد في السنة (2/ 393) بسند صحيح وصححه الألباني في الصحيحة (133). (¬3) رواه مالك (1687) عن مسلم بن أبي مريم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قوله. ومن طريق مالك خرجه مسلم (2565) وابن حبان (5667). (¬4) في (ب): الكتب.

ومن كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فيؤمن فيصير سعيدا. ومن مات صغيرا من أولاد المؤمنين قبل أن يجري عليه القلم، فهو مع (¬1) آبائهم في الجنة من ملوك أهل الجنة. ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكون مع آبائهم في النار، لأنهم ماتوا على الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، ولم ينقضوا الميثاق. انتهى كلامه. وذكر حديثا عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أولاد المشركين فقال: «لم تكن لهم (¬2) حسنات فيجزوا بها، فيكونوا من ملوك أهل الجنة، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار فهم خدم لأهل الجنة» (¬3). ¬

(¬1) في (ب): من. (¬2) سقط من (ب). (¬3) رواه الطيالسي (2111): ثنا الربيع عن يزيد قال: قلنا لأنس. ويزيد هو الرقاشي ضعيف. وقد ضعف الحديث ابن حجر في الفتح (3/ 246). وتابعه قتادة عن أنس مختصرا، خرجه الطبراني في الأوسط (3/ 220). لكن الراوي عنه مقاتل بن سليمان متروك. وله شاهد عن سمرة، خرجه الطبراني في الأوسط (2/ 302) والكبير (7/ 244). لكن في سنده عباد بن منصور متكلم فيه وهو مدلس وقد عنعن. وحديث سمرة ضعفه ابن حجر في الفتح (3/ 246). وله شاهد عن أنس، خرجه الطبراني في الأوسط (5/ 294). ... = = وسنده ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف، وعنه مبارك بن فضالة مختلف فيه وهو مدلس وقد عنعن.

فانظر إلى ما نقله مكي في قوله: فمن أدرك منهم الميثاق فوفى به نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يوف به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة، كيف هو موافق لما قلناه. ثم انظر قول ابن سلام فإنه فسر هذا المعنى فجعل من كُتب سعيدا يعمر حتى يؤمن بعد البلوغ، ومن كتب شقيا يعمر حتى يشرك بعد البلوغ، ومن مات صغيرا من أولاد المؤمنين فهو مع أبيه في الجنة، ومن مات صغيرا من أولاد المشركين فلا يكون مع أبيه في النار بسبب الميثاق الأول. ثم ذكر الحديث تصديقا لمذهبه في كون جميع الأطفال في الجنة، وإن اختلفت درجات أولاد المؤمنين وأولاد المشركين فيها. فإن صح الحديث وجب الوقوف عنده. وفي كلام ابن عباس المتقدم: ثم كلمهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأشهد بعضهم على بعض بذلك الإقرار. وهكذا في قول أبي بن كعب: قالوا بلى شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك. فعلى هذا يكون قوله: {بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] من كلام الذرية، أي: شهد بعضنا على بعض. ولا يحسن الوقوف على {بَلَى} على هذا التأويل.

وفي حديث ابن عمر المتقدم فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. فعلى هذا يحسن الوقف على {بَلَى}، إذ يكون قوله شهدنا (ق.133.ب) وما بعده من كلام الملائكة صلوات الله عليهم.

معنى الفطرة

فصل ومن الدليل على ما تقدم قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (¬1). فإنه - عليه السلام - أخبر بأن كل من ولد من بني آدم على الفطرة يولد، وإذا ولدوا على الفطرة ومات أحدهم قبل البلوغ فقد مات عليها، وإذا مات عليها فهو في الجنة لا محالة. *- (معنى الفطرة) (¬2) واختلف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث (¬3): 1. فمنهم من قال: هي ما أخذه الله على ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره فخاطبهم بقوله: ألست بربكم قالوا بلى، فلما أقروا له بالربوبية وقعت الولادة عليها حتى يقع التغيير عنها بالأبوين. ¬

(¬1) تقدم. (¬2) هذا العنوان زيادة مني. (¬3) راجع: التمهيد (18/ 59 - 68 - فما بعد)، والاستذكار (3/ 99)، وتفسير القرطبي (14/ 25)، وحاشية السنن لابن القيم (12/ 316 - فما بعد)، وشفاء العليل (470)، وشرح النووي على مسلم (16/ 207)، والفتح لابن حجر (3/ 248 - 249 - 258) والمحرر الوجيز (13/ 258)، والمفهم لأبي العباس القرطبي (1/ 388) والفتاوى لابن تيمية (4/ 246 - 281 - 303 - 312).

وهذا القول متجه كما مضى عند ذكر الآية. 2. ومنهم من قال (¬1): إن الفطرة هي الإسلام. وهذا القول لا يصح، فإن الإسلام له شروط، والمولود بمعزل عن معرفتها والتزامها، إذ لا يعقل شيئا في الحال حسبما هو مشاهد منه (¬2). ¬

(¬1) منهم أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما. ونقله ابن عبد البر عن عامة السلف (18/ 72). وقال ابن حجر في الفتح (3/ 249): وحكى محمد بن نصر أن آخر قولي أحمد أن المراد بالفطرة الإسلام. انتهى. وممن قال بهذا القول: العلامة ابن القيم، قال في حاشية السنن (12/ 318): ويدل أيضا على أن الفطرة هي فطرة الإسلام، ليست الفطرة العامة التي فطر عليها من الشقاوة والسعادة لقوله: «على هذه الفطرة»، وقوله «على هذه الملة». وسياقه أيضا يدل على أنها هي المرادة، لإخباره بأن الأبوين هما اللذان يغيرانها، ولو كانت الفطرة هي فطرة الشقاوة والسعادة لقوله: «على هذه الفطرة» لكان الأبوان مقدرين لها. ونحوه لابن تيمية في الفتاوى (4/ 245). وقال السيوطي في تنوير الحوالك (1/ 187): أي الإسلام، هذا أشهر الأقوال هنا. وخالف قوله هذا في الديباج (6/ 22): هي ما أخذ عليهم وهم في أصلاب آبائهم فتقع الولادة عليها حتى يحصل التغيير من الأبوين. (¬2) قال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 77): يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة في قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة»: الإسلام، لأن الإسلام والإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل لا يجهل ذلك ذو عقل. لكن قال ابن تيمية في الفتاوى (4/ 247): ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا، ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق الذي هو الإسلام بحيث لو ترك من غير مغير لما كان إلا مسلما.

3. ومنهم من قال: إن الفطرة هي ما قُضي على المولود مما يصير إليه من شقاء وسعادة وكفر وإيمان. (¬1) وهذا القول إنما لاحظ فيه قائله المعنى الذي تؤول إليه حالة المولود عند موته بعد لزوم التكليف له، ويرد ذلك القول أمران: أحدهما: إن لفظ الفطرة لا يصح أن يطلق في اللغة على تلك الحال المترقبة بعد. والثاني: إن الكلام إنما هو في المولود الذي يموت صغيرا قبل التكليف وقبل أن يطلق عليه اسم الكفر والإيمان، إذ ليس كل مولود ينتهي في عمره إلى ما قالوه من تلك الحالة التي عبروا عنها بما يؤول إليه صاحبها من الشقاء أو السعادة. (¬2) 4. ومنهم من قال: إن الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه (¬3). ¬

(¬1) وهذا قول ابن المبارك. (¬2) قال أبو عمر بن عبد البر (18/ 82): ليس في قوله كما بدأكم تعودون ولا في "لن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدره عليه حين أخرج ذرية آدم من ظهر" دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا لما شهدت به العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا. وقال (18/ 83): وليس في قوله في الحديث «خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار» أكثر من مراعاة ما يختم به لهم، لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا أو يعقل كفرا أو إيمانا. (¬3) قال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 68): فكأنه قال كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لاتصل بخلقتها إلى معرفة ذلك. انتهى. ... = = قال ابن عبد البر (18/ 70): هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها، والله أعلم، وذلك أن الفطرة السلامة والاستقامة. ورجحه كذلك ابن عطية في المحرر الوجيز (13/ 258)، والقرطبي في المفهم (1/ 388).

وهذا القول يحتاج إلى تفصيل، فإن حمل على المعرفة بربه في ذلك الوقت فلا يصح على ما قلناه في من قال إن الفطرة هي الإسلام. وإن عنى بذلك الخلقة التي خلق عليها في المعرفة بربه إذا بلغ المبلغ الذي تتأتى (¬1) منه المعرفة لكونه خلق على خلاف خلقة البهائم التي لا تتأتى (¬2) (ق.134.أ) منها المعرفة بالله فصحيح، ونحن نبسط هذا المعنى فنقول: أما قولهم أولا عن الفطرة إنها الخلقة فتعضده اللغة، فإن أصل الفطرة هو (¬3) الخلقة، قال الله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]. وقال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56]. وقال حكاية عن إبراهيم: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27]، وقال: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]. لكن ليس المقصود بقوله: «كل مولد يولد على الفطرة» أنه يولد على الخلقة فقط، فإن كل أحد يدرك أن المولود إنما يولد على خلقة ما من تمام أو خداج، وإنما معناه أنه يولد على خلقة يعلم بها أن له صانعا خلقه مهما ¬

(¬1) في (ب): تأتى. (¬2) في (ب): تأتى. (¬3) في (ب): هي.

بقي إلى حد التكليف سليما على أصل تلك الخلقة ولم تعقه عوائق عن ذلك من تقليد أبويه أومعلمه أو قراباته في التهود والتنصر والتمجس وغيرها. كما أن الفصيل يخلق تام الخلقة ثم يطرأ عليه بعد ذلك الجدع والكيّ وغير ذلك مما ينقله إلى أُسمية أخرى مثل البحيرة وما جرى مجراها. وقد تقدم أن الله تعالى أخذ الميثاق على بني آدم في العهد الأول إذ قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، فأقروا عند ذلك بأن لهم ربا وصانعا خلقهم، ولإقرارهم بذلك فطرهم عليه بعد، فهم على تلك الفطرة حتى يطرأ عليهم من خارج ما يُنسيهم ذلك العهد من تقليد الآباء واتباع عادتهم، كما قال تعالى حكاية عن من كان هذا سبيله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. وكذلك لما قال إبراهيم - عليه السلام - لقومه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72] عدلوا عن جوابه فقالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 73]. فأخبروا أن اتباعهم آباءهم وتقليدهم إياهم قادهم إلى عبادة الأوثان والكفر بالله، فكان هذا تصديقا لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه». (¬1) ¬

(¬1) وفات المصنف أقوال أخر ذكرها ابن عبد البر وابن حجر في الفتح (3/ 248 - 249): منها: سأل أبو عبيد محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة عن معنى هذا الحديث فما أجابه فيه بأكثر من أن قال: كان هذا القول من النبي - عليه السلام - قبل أن يؤمر الناس بالجهاد. ... = = قال أبو عبيد: كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلا لم يرثاه، والواقع في الحكم أنهما يرثانه، فدل على تغير الحكم. وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره. قال ابن حجر: وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا، فلذلك ادعى فيه النسخ، والحق أنه إخبار من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما وقع في نفس الأمر ولم يرد به إثبات أحكام الدنيا. انتهى. ومنها: إن الله قد فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال ألست بربكم؟ قالوا جميعا: بلى. فأما أهل السعادة فقالوا بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم. وأما أهل الشقاء فقالوا بلى كرها لا طوعا. قال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 84): قالوا: وتصديق ذلك قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}، قالوا: وكذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} [الأعراف: 29 - 30]. قال المروزي: وسمعت إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، واحتج بقول أبي هريرة: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. قال إسحاق: يقول لا تبديل لخلقته التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار ... انتهى. قال ابن حجر في الفتح (3/ 250): وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح، فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي، ولم يسنده، وكأنه أخذه من الإسرائيليات، حكاه ابن القيم عن شيخه. وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء وإلى مايصيرون إليه ثم البلوغ. قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة والفاطر المبتديء. قال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 79): قال أبوعبد الله بن نصر المروزي: وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن عبد الله بن المبارك، أنه سئل عن قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على = = الفطرة»، فقال: يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». قال المروزي: ولقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه. قال أبو عمر: ما رسمه مالك في الموطأ، وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم. ثم قال ابن عبد البر (18/ 93): وقال آخرون: الفطرة ما يقلب الله قلوب الخلق إليه مما يريد ويشاء، فقد يكفر العبد ثم يؤمن فيموت مؤمنا، وقد يؤمن ثم يكفر فيموت كافرا، وقد يكفر ثم لا يزال على كفره حتى يموت عليه، وقد يكون مؤمنا حتى يموت على الإيمان، وذلك كله تقدير الله وفطرته لهم. انتهى. ومنها قول بعضهم: إن اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه.

ومن الدليل على ما قلناه في تأويل الفطرة الآية التي استدل بها أبو هريرة إذ قال: "واقرأوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] " (¬1)، فإنه - رضي الله عنه - ساقها حجة له عند السامعين وتصديقا لرواية ما رواه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ كان معنى ما سمعه منه - عليه السلام - في قوله: «كل مولود يولد على الفطرة»، موجودا في الكتاب العزيز لإخبار الله تعالى أنه فطر الناس على (ق.134.ب) الفطرة التي ذكرها. ¬

(¬1) هو طرف من حديث كل مولود يولد على الفطرة، وقد تقدم، وقد خرجه هكذا مسلم (2658) وأحمد (2/ 275) وابن حبان (1/ 339) والبيهقي (6/ 202) عن الزهري عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة. وقد قال ابن حجر في الفتح عن زيادة "واقرأوا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها" (3/ 249): وظاهره أنه من الحديث المرفوع، وليس كذلك بل هو من كلام أبي هريرة أدرج في الخبر، بينه مسلم من طريق الزبيدي عن الزهري، ولفظه: ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم.

ونحن نتكلم على الآية فنقول: قوله تعالى في أولها {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم: 30] إن كان المقصود به النبي - عليه السلام - وحده على ظاهر الآية فيحتمل أن يريد بإقامة الدين فيها إقامة معالمه وتمهيد شرائعه وتأصيل (¬1) أحكامه. وإن كان المقصود به النبي - عليه السلام - وأمته على ما يظهر من قوله: {مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33]، إذ ساقه بلفظ الجمع فيكون المراد بإقامة الدين إخلاص العمل لله في الطاعة والتوجه نحوه في العبادة كما قال إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: 79]. وانتصب {فِطْرَةَ اللَّهِ} ... [الروم: 30] فيما قيل على معنى اتبعوا فطرة الله. وقيل: هو مصدر، عمل فيه ما قبله من الجملة. (¬2) وقيل المعنى فيه: فطر الله الناس فطرة (¬3). ويحتمل في الإعراب أن يكون مفعولا من أجله، ويكون التقدير: فأقم يا محمد وجهك للدين حنيفا من أجل فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي قبولُهم للمعرفة بالله، واستعدادُهم للاتصاف بها عن سرعة، أي احملهم على ¬

(¬1) في (ب): تفاصيل. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (3/ 248): وهو منصوب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول، أو منصوب بفعل مقدر، أي: الزم. (¬3) قاله ابن جرير (10/ 183).

الإيمان بإرشادهم وتنبيههم، لأن المعرفة بالله قد فطرهم عليها، فهي مركوزة في طباعهم، فإذا نُبهوا عليها تنبهوا بالقبول (¬1) الذي جُعل في نفوسهم. وقوله سبحانه: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] الخلق هو الفعل، وهو مصدر خلق، ومعنى الكلام: لا تبديل لخلق الله في الفطرة لأنه فطر الناس عليها كما شاء في أزليته. ويحتمل أن يكون الخلق بمعنى المخلوق، أي: لا تبديل لمخلوق الله المفطور على هذه الصفة. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] أي: المعرفة بالله وإخلاص العمل له هو الدين القيم، كما قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ... [البينة: 5] إلى قوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. وقوله: {وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]. أي: أكثر الناس الذين لا معرفة لهم بالله للطوارئ التي طرأت عليهم لا يعلمون ما هو الدين القيم. وقوله تعالى: {مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33] يعود على أول الكلام، وهو حال من قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: 30]، على أن تكون الأمة داخلة مع النبي - عليه السلام - في هذا الأمر (¬2). ¬

(¬1) في (ب): بالقول، وهو خطأ. (¬2) تفسير القرطبي (14/ 30).

وقيل المعنى: فطرة الله التي فطر الناس عليها منيبين إليه، أي: فطرهم منيبين إليه مخلصين في حال الابتداء. وهذا القول من قائله بناءا على ما قاله أهل التفسير في كتبهم، وما ذهب إليه أيضا أهل العلم مثل الأوزاعي وحماد بن سلمة وغيرهما (¬1)، (ق.135.أ) إذ فسروا جميعا هذه الآية مع قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. فأخذ تعالى عليهم العهد بذلك وهم أمثال الذر , فكل مولود على ذلك العهد يولد كما تقدم، وهذا يدل على أن قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» محمول عندهم على جميع ولد آدم على الاستغراق. وقد ذهبت طائفة إلى أن الحديث لايحمل على العموم في بني آدم كلهم. ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (¬2) والاستذكار (¬3) فإنه لما تكلم على هذا الحديث فيهما قال: اختلف أهل العلم في معنى قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» فقالت طائفة: ليس في قوله: «كل مولود» ما يقتضي العموم , لأن المعنى في ذلك أن كل من ولد على الفطرة وكان له ¬

(¬1) التمهيد (18/ 93)، والفتح (3/ 249). (¬2) (18/ 60). (¬3) (3/ 99).

أبوان على غير الإسلام فإنهما يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، قالوا: وليس المعنى أن جميع المولودين من بني آدم أجمعين يولدون على الفطرة، بل المعنى أن المولود على الفطرة بين الأبوين الكافرين محكوم له بحكمهما في كفرهما، حتى يعبر عنه لسانه ويبلغ مبلغ من يكسب على نفسه، وكذلك من لم يولد على الفطرة وكان أبواه مؤمنين حكم له بحكمهما مادام لم يحتلم، فإذا بلغ ذلك كان له حكم نفسه. قال: واحتج قائلو هذه المقالة بحديث ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي - عليه السلام - قال: «الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا» (¬1). وبحديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ألا إن بني آدم خلقوا طبقات: فمنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت مؤمنا. ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت كافرا. ومنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت كافرا. ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت مؤمنا» (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (2661) وأبو داود (4705) والترمذي (3150) وأحمد (5/ 112) وابن حبان (6221) والطيالسي (538) واللالكائي (4/ 603) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 86) وابن عبد البر في التمهيد (18/ 86). (¬2) رواه الترمذي (2191) وأحمد (3/ 19 - 61) والحاكم (8543) والحميدي (2/ 331) والطيالسي (2156) من طريق علي بن زيد عن أبي نضرة عنه. وعلي بن زيد هو ابن جدعان ضعيف. وتابعه داود بن أبي هند عن أبي نضرة به، رواه الطبراني في الأوسط (3/ 331) والصغير (312). وسنده صحيح. ... = = وشيخ الطبراني بدر بن الهيثم القاضي ثقة له ترجمة في السير (14/ 530)، وباقي رجاله من رجال التهذيب. وتابع ابن جدعان كذلك: عطاء بن ميسرة خرجه الطبراني في الأوسط (3817). وله شاهد عن ابن مسعود عند الطبراني في الكبير (10/ 223) والأوسط (8501).

قالوا: ففي هذين الحديثين ما يدل على أن المعنى في قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» ليس على عمومه، وأن المعنى فيه: إن كل من ولد على الفطرة وأبواه يهوديان أو نصرانيان فإنهما يهودانه أو ينصرانه، أي يحكم له بحكمهما في الميراث وفي دفنه مع أبويه ونحو ذلك مادام صغيرا، ودفعوا رواية من روى: كل بني آدم يولد على الفطرة، قالوا: ولو صح هذا اللفظ لما كان فيه حجة، لأن الخصوص جائز دخوله على هذا اللفط في لسان (ق.135.ب) العرب. ألا ترى إلى قول الله عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، ولم تدمر السماوات والأرض، وقوله: {َفتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة. ومما احتجوا به أيضا ما رواه أبو رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب في الحديث الطويل حديث الرؤيا، وفيه عن النبي - عليه السلام -: «وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة» (¬1). ¬

(¬1) تقدم.

قال: وقال آخرون: المعنى في ذلك: كل مولود من بني آدم فهو يولد على الفطرة أبدا، وأبواه يحكم له بحكمهما، وإن كان قد ولد على الفطرة حتى يكون ممن يعبر عنه لسانه. قالوا: والدليل على أن المعنى كما وصفنا رواية من روى في هذا الحديث: «كل بني آدم يولد على الفطرة»، «وما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة» (¬1). وحق الكلام أن يحمل على عمومه. وذكروا حديث سمرة بن جندب عن النبي - عليه السلام - حديث الرؤيا، وفيه: «والشيخ الذي في أصل الشجرة إبراهيم والولدان حوله أولاد الناس» (¬2). قالوا: فهذه الأحاديث نزل ألفاظها على أن المعنى في الحديث ليس كما تأوله المخالف من أنه يقتضي أن الأبوين لا يهودان ولا ينصران إلا من ولد على الفطرة من أولادهما، بل الجميع من أولاد الناس يولدون على الفطرة. انتهى كلام أبي عمر. ولم يرجح واحدا من هذين المذهبين، غير أنه لما تكلم على معنى الفطرة اعترض له ذكر حديث أبي بن كعب وحديث أبي سعيد المذكورين، فأخذ يذكر اختلاف الرواة في وقف حديث أبي وفي رفعه. وقال عن حديث أبي سعيد: ليس هو من الأحاديث التي لا مطعن فيها، لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان، وقد كان شعبة يتكلم فيه (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (1292 - 1293 - 4497 - 6226) ومسلم (2658) وغيرهما عن أبي هريرة. (¬2) تقدم. (¬3) انظر التاريخ الكبير للبخاري (6/ 275) والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/ 186).

تفصيل الكلام في «كل مولود يولد على الفطرة»

(تفصيل الكلام في «كل مولود يولد على الفطرة») (¬1) ونحن نتكلم على المذهبين جميعا ونبين الصحيح منها بحول الله فنقول: أما من خصص قوله - عليه السلام -: «كل مولود يولد على الفطرة» بأن يكون ذلك في بعض الأطفال دون بعض، فيلزمه أن يكون قوله: «يولد على الفطرة» في موضع الصفة لمولود، ويكون قوله: «فأبواه يهودانه»، في موضع الخبر لقوله: «كل مولود». وأما من عمم فيجعل قوله: «يولد على الفطرة» خبرا لكل، ويكون «فأبواه يهودانه» جملة أخرى من مبتدأ وخبر، معطوفة على الجملة الأولى. وهذا القول أحسن من جهة (ق.136.أ) اللفظ والمعنى, أما اللفظ فليس فيه تكلف في العربية كما في الأول، فإن دخول الفاء في خبر المبتدأ قلق عند النحاة، إلا فيما كان فيه الإبهام والشرط، مثل هذا الحديث فيجوز عندهم. وأما المعنى فليس فيه اعتراض، إذ القول بعموم الحديث موافق لآية عهد الذر، وموافق أيضا للآية المتقدمة في قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ... [الروم: 30]. ¬

(¬1) هذا العنوان مني.

وأما من خصص الحديث فيكون قوله مخالفا للآيتين، ثم يلزمه أن يكون الأطفال ينقسمون قسمين: قسم يولد على الفطرة, وقسم لا يولد على الفطرة، فالقسم الذي يولد على الفطرة قد يكون بين أبوين مسلمين أو بين أبوين كافرين، فيعلمانه الكفر. والقسم الذي لا يولد على الفطرة قد يكون أيضا على وجه الإلزام لهم بين أبوين مسلمين أو بين (¬1) أبوين كافرين. وقد نص على ذلك أبو عمر في كلامه المتقدم حيث قال (¬2): وكذلك من لم يولد على الفطرة وكان أبواه مؤمنين حكم له بحكمهما ما دام لم يحتلم. فإذا كان من ولد على الفطرة ومن لم يولد على الفطرة معا بين أبوين مسلمين تارة وبين أبوين كافرين أخرى، فما نعلم إذا من ولد على الفطرة ممن لم يولد على الفطرة أصلا لا في أولاد المسلمين ولا في أولاد الكفار، إلا من عاش منهم حتى يدرك التكليف، فحينئذ يقع الميز بينهم. وأما من مات في حال الطفولية فما نعلم ما هم عليه سواء كانوا من أولاد المسلمين أو من أولاد المشركين. وهذا يرده مفهوم الشرع، فإن كل شيء نذكره في هذا الباب حجة على كون جميع الأطفال في الجنة، فهو حجة على أن جميعهم وُلدوا على الفطرة لا محالة. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) (18/ 60).

وليس عند المخالفين حجة أقوى من حديث أبي بن كعب وبعده حديث أبي سعيد، فلنتكلم عليهما حتى يتبين أن لا حجة لهم فيهما، فنقول: أما حديث أبي سعيد, فيقال للمحتجين به: أخبرونا عن قوله - عليه السلام - فيه: «ومنهم من يولد كافرا» (¬1) , وهو موضع دليلهم، هل تحملونه على ظاهره أو تتأولونه؟. فإن حملتموه على ظاهره لزمكم أن يكون المولود في حين ولادته كافرا، وهذا ما تُحيله المشاهدة, ويكذبه العيان، ويبطله الشرع، إذ لا يعقل كفر ولا إيمان إلا أن يتصف بأحدهما المكلف بعد لزوم التكليف له. وإذا بطل هذا الوجه لم يبق إلا أن يكون الحديث مؤولا. وإذا كان مؤولا فإنما يتأول على الوجه السائغ في الشرع والعقل (ق.136.ب) وهو أن يكون معنى قوله: «ومنهم من يولد كافرا» أنه لا يتقدمه إيمان قبل الكفر, فإن الحديث إنما مخرجه والمقصود به أن يُعلم أن من الخلق من يكون في أول أمره مؤمنا وفي آخره كافرا، ومنهم من يكون في أول أمره كافرا وفي آخره مؤمنا. فكما أن معنى كون الشخص في أول أمره مؤمنا تقدم الإيمان له قبل الكفر، فكذلك معنى كون الشخص الآخر في أول أمره كافرا تقدم الكفر له قبل الإيمان، ويتأتى ذلك فيه بعد أن يولد على الفطرة بأن يهود وينصر، فلا يأتيه وقت التكليف الذي يوصف فيه بالكفر إلا وهو قد استحكم رأيه فيه. ¬

(¬1) تقدم.

فهذا هو معنى قوله: «ومنهم من يولد كافرا» إذ الإحالة تنفي ما عدا هذا التأويل (¬1). وأما حديث أبي في الغلام الذي قتله الخضر فقد ذكره مسلم (¬2) مرفوعا عن النبي - عليه السلام -، ولنا عنه بعد العلم بصحته أجوبة: أحدها: إنه لم يتفق على أن الغلام الذي قتله الخضر كان دون البلوغ، فقد روي عن عكرمة وقتادة أنه كان رجلا قاطع طريق (¬3). وعلى هذا ينبغي أن ينزل ما روي عن ابن عباس أنه قرأ: وأما الغلام فكان كافرا, وكان أبواه مؤمنين. ولو صح هذا لاندرأ السؤال، إذ (¬4) كان يتحقق فيه الكفر ببلوغه حد التكليف. ذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار (¬5) ما نقلناه عن عكرمة وقتادة، ثم قال: وهذا خلاف ما يعرفه أهل اللغة في لفظ الغلام, لأن الغلام عندهم هو الصبي الصغير يقع عليه عند بعضهم اسم غلام من حين يفهم إلى سبع سنين, وعند بعضهم يسمى غلاما وهو رضيع إلى سبع سنين, ثم يصير يافعا ويفاعا إلى عشر سنين, ثم يصير حزورا إلى خمس عشرة سنة. ¬

(¬1) قلت: ويغني عن هذا التأويل كون الحديث لم يصح، والتأويل فرع التصحيح. (¬2) رواه البخاري (122 - 4448 - 4450) ومسلم (2380) والترمذي (3149) والحميدي (371) وأبو عوانة (5590) عن أبي. (¬3) وحكى القرطبي في تفسيره (11/ 21) عن الجمهور أنه لم يكن بالغا. (¬4) في (ب): إذا. (¬5) الاستذكار (3/ 109) والتمهيد (18/ 108).

وقول أبي عمر هذا ليس كافيا في الرد, فلنرد ما روي من كونه كان رجلا بما هو أقوى منه، ونقرر كون الغلام الذي قتله الخضر كان صغيرا دون البلوغ، والذي يدل على ذلك أمران: أحدهما: ما جاء في الحديث الصحيح (¬1) من أن الخضر وجده يلعب مع الغلمان فاقتلع رأسه بيده أو أضجعه فذبحه بالسكين على حسب اختلاف الروايات, فإن هذا يدل على أنه كان صبيا، إذ العادة أنه لا يلعب مع الصبيان إلا صبي مثلهم (¬2)، ولذلك سهُل على الخضر قتله، ولو كان رجلا لتعذر عليه قتله بتلك السهولة. والثاني: إنكار موسى على الخضر (ق.137.أ) قتله وقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} [الكهف: 74] فأطلق عليها أنها زاكية أو زكية لما كان الغلام عند موسى ممن لا يكتسب الذنوب، لكونه لم يبلغ مبلغ العمل الذي هو زمن (¬3) التكليف. يدل على ذلك أن في الحديث من طريق البخاري (¬4) قال: أقتلت نفسا زاكية لم تعمل بالحنث. قال: ابن عباس قرأها زكية زاكية مسلمة كقولك غلاما زكيا (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (122 - 4448 - 4450) ومسلم (2380) والترمذي (3149) والحميدي (371) وأبو عوانة (5590) عن أبي. (¬2) في (ب): منهم. (¬3) في (ب): من. (¬4) رواه البخاري (4/ص1754، رقم 4449). (¬5) في (ب): زاكيا.

الجواب الثاني: أن نقول: خبر أبي بن كعب في أن الغلام طبع يوم طبع كافرا خبر آحاد, وهو مخالف لظاهر القرآن في تسمية نفسه نفسا زكية. فالرجوع إلى القرآن في ذلك أولى، وليس في قوله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف: 80] ما ينافي ذلك، إذ لم يرهق أبويه طغيانا وكفرا، (لكونه لم يبلغ حد الإرهاق، فإن في الحديث: «ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا» (¬1) (¬2). وفي لفظ آخر عند مسلم (¬3): «وكان أبواه قد عطفا عليه, فلو أنه أدرك أرهقهما طغيانا وكفرا». فأخبر أنه مات قبل أن يدرك زمن التكليف الذي يتأتى منه فيه الإرهاق. ثم نقول: إنه إذا مات قبل التكليف فلا نحكم عليه بالنار, بل يلزم أن يسعه في ذلك ما يسع سائر الأطفال الذين ماتوا قبل أوان التكليف, لأنا نعلم قطعا من الإجماع وقواعد الشرع أن من علم الله تعالى منه أنه يكفر إذا بلغ ثم مات قبل البلوغ أنه لا يؤاخذه بذنب الكفر، ولا بتوابعه من المعاصي، إذ لم يدرك ذلك ولا اكتسبه. ¬

(¬1) رواه مسلم (2661) وأبو داود (4705) وأحمد (5/ 121) عن أبي. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬3) رواه مسلم (2380) عن أبي.

قال الله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90]. وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدّثر: 38]. وقال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. وجعل سبحانه لذلك الاكتساب والمؤاخذة به علامة، وهو التكليف الذي يترتب عليه الجزاء من الثواب والعقاب بحسب الإيمان والكفر. فمن كان مكلفا بالشرائع كان مؤاخذا بما يكتسبه من الخير والشر، ومن سقط عنه التكليف سقطت عنه المؤاخذة. وأما قتل الخضر للغلام مع كونه صغيرا فإنما كان رحمة لأبويه لئلا يرهقهما الغلام طغيانا وكفرا، إذا تحقق بالكفر بعد البلوغ. نعم, ونقول: إن الصبي أدركته بركة أبويه المؤمنين, فإن قتله نظر له, إذ لو بقي حتى يكفر بعد لزوم التكليف له لكان ممن يستحق النار بكفره، ولا يتصور أن يقدم الخضر على قتل الغلام وهو صغير إلا بأمر من الله تعالى (ق.137.ب) وإعلام منه له بالسبب الموجب لقتله. ولذلك قال تعالى حكاية عنه في آخر الآية: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]. يعني وما (¬1) فعلت ما تقدم ذكره في الآيات قبلها عن أمري، وموسى - عليه السلام - كان قد غاب عنه ذلك الأمر، فلذلك أنكر قتله للغلام فيما أنكر عليه، إذ رأى أنه لا تقتل نفس بغير نفس فقال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74]. ¬

(¬1) في (ب): ما.

وعندنا في شريعتنا الإجماع على أن الطفل إذا كان بين أبوين مسلمين فلا يحل قتله، وإن قتله أحد عمدا قتل به، ولذلك أنكر ابن عباس (¬1) على نجدة الحروري إذ خاطبه مستفهما عن قتل الولدان ومحتجا بفعل الخضر في قتل الغلام، وقال له: إن كنت تعلم من الولدان ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم, وأنت لا تعلم ذلك فلا تقتلهم، فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهم. الجواب الثالث: أن نقول بعد أن نفرض أن لا تعارض بين الحديث وبين القرآن: إن ذلك الغلام الذي قتله الخضر داخل (¬2) لا محالة في آية عهد الذر, إذ لابد أن يكون في جملة من قيل لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، لكونه من بني آدم المخاطبين بذلك. وإذا كان داخلا في الآية، فلابد أن يكون ممن ولد على الفطرة ضرورة، إذ لا تبديل لخلق الله، ولايلزم في من ولد على الفطرة أن يبقى عليها إلى أن يموت، بل يضل الله تعالى من يشاء، بأن يكون أبواه يهودانه وينصرانه أو يسبب له سبحانه بعد البلوغ الشبه المضلة المردية له ولأمثاله عن سواء السبيل. وإذا ثبت أنه ولد على الفطرة، رجعنا إلى تأويل قوله في الحديث: طبع يوم طبع كافرا. ¬

(¬1) رواه مسلم (1812) وأحمد (1/ 294 - 308 - 344) والبيهقي (9/ 22 - 53) عن يزيد بن هرمز عن ابن عباس. (¬2) في (ب): داخلا، وهو خطأ.

فقلنا معنى ذلك يرجع إلى كتب الشقاوة، كما جاء في الحديث أن العبد تكتب شقاوته وسعادته في بطن أمه (¬1). والطبع هو الختم, يقال: طبعت الكتاب إذا ختمته (¬2) , فكأنه طبع على الغلام وختم على عمره بما قُضي عليه من عدم الإيمان لو بلغ حد التكليف (¬3) كما قال تعالى في من قضى عليه بأن لا يؤمن: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]. ومعنى كتب الشقاوة له مع كونه لم يدرك حد التكليف أن يكون الله تعالى يأمر الملك الموكل بالرحم أن يكتبه شقيا إن بلغ حد التكليف، والله تعالى يعلم أنه لا يبلغه, كما قال تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} ... [الرعد: 39] , معناه يمحو الله ما يشاء ويثبت في الصحف التي بيد الملائكة، وأما ما عنده سبحانه فمفروغ منه, وذلك بحسب سابق علمه فيه (¬4). (ق.138.أ) ¬

(¬1) رواه البخاري (312 - 3155 - 6222) ومسلم (2646) عن أنس. ورواه مسلم (2644 - 2645) عن حذيفة بن أسيد. (¬2) الصحاح للجوهري (3/ 534) وتهذيب اللغة للأزهري (2/ 110) ولسان العرب لابن منظور (8/ 118 - 119). (¬3) قال النووي في شرح مسلم (16/ 208): وأما غلام الخضر فيجب تأويله قطعا، لأن أبويه كانا مؤمنين فيكون هو مسلما، فيتأول على أن معناه أن الله أعلم أنه لو بلغ لكان كافرا، لا أنه كافر في الحال، ولا يجري عليه في الحال أحكام الكفار والله أعلم. (¬4) اختلف في معنى الآية كما في تفسير القرطبي (9/ 329 فما بعد) وابن كثير (2/ 520 - 521) وابن جرير (7/ 399). وأظهر الأقوال ما قال المصنف.

وعلى هذا يحمل قوله - عليه السلام -: «من سره أن ينسأ له في أجله فليصل رحمه» (¬1). فإن أجله معلوم عند الله تعالى كان ممن وصل رحمه أو ممن لم يصله. لكن يكون ذلك مطويا على (¬2) الملك بأن يقال له اكتب أجله إن كان واصلا لرحمه سبعين سنة مثلا، واكتب أجله إن كان غير واصل لرحمه أربعين سنة، فيكتبه الملك هكذا, وهو لا يعلم أي الأجلين أجله. وليس في قوله في الحديث: «فيكتب أجله» ما ينافي هذا المعنى, فإن أجل الجنين مكتوب في بطن أمه سواء كان أجلا واحدا أو أجلين في حق الملك على وجه الإبهام عليه حتى لا يعلم أيهما بعينه هو الأجل المقضي عليه به. ولعل ذلك يدخل في قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} ... [الأنعام: 2]. وكون الجنين يكتب شقيا في بطن أمه إنما ذلك بما تؤُول إليه عاقبته إذا سبق له من الله تعالى أنه يهود أو ينصر أو يمجس، حتى يكون بأحد هذه الأوصاف بعد البلوغ, وليس في هذا ما ينافي قوله: «كل مولود يولد على ¬

(¬1) رواه البخاري (1961 - 5640) ومسلم (2557) عن أنس. (¬2) في (ب): عن.

الفطرة» فإن الشقي على الفطرة يولد أولا ثم يطرأ عليه من الضلالات المردية المبعدة له من رحمة الله ما تتحقق به شقاوته المكتتبة عليه في أم الكتاب. والدليل على ذلك قوله في نفس الحديث: «فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» (¬1). ألا ترى أنه - عليه السلام - أخبر بأن الشقي يعمل بعمل أهل الجنة أكثر عمره، فهو إذن ولد على الفطرة ونشأ عليها وعمل بمقتضى الملة، مع كونه كتبت شقاوته في بطن أمه بحسب الخاتمة التي ختم عليه (¬2) بالكفر, وعلى هذا يحمل قوله - عليه السلام -: «إن الله خلق النار وخلق لها أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» (¬3). فقد تبين بما ذكرناه أن الحديثين المتكلم عليهما لا حجة فيهما لهذه الطائفة المذكورة. ¬

(¬1) رواه البخاري (3036 - 3154 - 6221 - 7016) ومسلم (2643) وأبو داود (4708) والترمذي (2137) وابن ماجه (76) وأحمد (1/ 382 - 430) والبيهقي (7/ 421 - 10/ 266) والبزار (1766) والطيالسي (298) عن ابن مسعود. وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. (¬2) في (ب): عليها. (¬3) هو جزء من حديث عائشة الذي خرجه مسلم (2662): «طوبى له عصفور من عصافير الجنة» وقد تقدم.

وأما قولهم إن الخصوص جائز دخوله على هذا اللفظ، واحتجاجهم على ذلك بقول الله عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] , ولم تدمر السماوات والأرض، وبقوله تعالى: {َفتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] , ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة, فليس لهم في ذلك حجة. ومعلوم من لسان العرب أن لفظة "كل" موضوعة للعموم والاستغراق (ق.138.ب)، إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك مثل هاتين الآيتين، فإن تدمير السماوات والأرض لم يقصده الله تعالى بقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] , وإنما قصد تدمير كل شيء سخرت له تلك الريح، كما قال فيها: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]. فكل شيء أتت عليه مما سخرت له، وجعل لها أن تمر به وتسفي عليه هو الذي دمرته, وذلك عموم فيما قُصد به الكلام. وأما السماوات والأرض فلم يجعل الله تعالى تدميرها لغيره قبل يوم القيامة، الذي قضى فيه بتبديلها (¬1) فقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]. وهكذا قوله: {َفتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44]، فإن أبواب الرحمة لم تدخل في هذا العموم قط, لأن المقصود بتلك الأبواب إنما هي ¬

(¬1) في (ب): تبديلها.

(¬1) أنواع النعم الدارة عليهم، يبين ذلك قوله تعالى (¬2): {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً} [الأنعام: 44]. فإذا لم يقصد دخول الرحمة في تلك الأبواب المذكورة بقوله: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام: 44]. فلا يمس ذلك إذن الغرض الذي تكلمنا فيه مع من أدخل التخصيص في قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» , إذ ما من مولود يولد من بني آدم إلا وهو صالح لأن يدخل تحت هذا العموم دون أن يقدح في ذلك شيء أو يدل دليل على خلافه. ولنستدل (¬3) على أن لفظة "كل" إذا أطلقت إنما يقصد بها العموم من القرآن والحديث وأشعار العرب: فأما القرآن، فقول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، فإنه قول عام ولا يتصور تخصيصه البتة, لأن المقصود به (¬4) أن كل من على وجه الأرض من بني آدم وغيرهم من الحيوان يموتون بأجمعهم حتى لا يبقى إلا الواحد الحي القيوم. ¬

(¬1) في (ب): هو. (¬2) من (ب). (¬3) في (ب): وسندل. (¬4) في (ب): في.

وهكذا قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت: 57]، لا يمكن تخصيصه أيضا, إذ هو عام في الإنس والجن والملائكة وسائر الحيوان، ومثل ذلك قوله: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 93]. وأما قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدّثر: 38]. وقوله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، فهو عام فيمن قصد به, وهم أهل التكليف. ولا يقدح في ذلك كون المجانين والصبيان لا يدخلون فيه، لأنهم لم يقصدوا بهذا الكلام لدليل دل عليه, وهو أنهم غير مخاطبين بالشريعة ولا مكلفين العمل بها. (ق.139.أ). وأما الحديث فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» (¬1). فأخبر أن جميع الناس يبيعون أنفسهم وقسمهم إلى قسمين في الآخرة: من يعتق نفسه ومن يهلكها، وقد استغرق بذلك جميع المكلفين من بني آدم. ¬

(¬1) رواه مسلم (223) والترمذي (3517) وابن ماجه (1/ 102) وأحمد (3/ 321) (5/ 342 - 343) وابن حبان (844) وأبو عوانة (1/ 190) والدارمي (658) والبيهقي (1/ 42) والطبراني في الكبير (3/ 284) عن أبي مالك الأشعري.

وقوله - عليه السلام -: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (¬1)، هو (¬2) عام أيضا لجميعهم فإنه ذكر الأمير وجعله راعيا لرعيته، وذكر الرجل وجعله راعيا لأهل بيته، وذكر المرأة وجعلها راعية لأهل بيت زوجها، وذكر العبد وجعله راعيا لمال سيده، ثم أعاد آخرا قوله: «فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، على وجه التخويف للأمة لتحاسب أنفسها في الدنيا على هذه الرعاية وتفعل فيها ما يجب عليها. وأما أشعار العرب، فأولاها بالذكر قول لبيد بن ربيعة: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل وكان لبيد قد أنشده قريشا بعد ظهور الإسلام بمكة، وهو إذ ذاك مشرك، فلما قال:" ألا كل شيء ما خلا الله باطل". قال له عثمان بن مظعون: صدقت. فقال: " وكل نعيم لا محالة زائل". قال (¬3) له عثمان: "كذبت (¬4) , نعيم الجنة لا يزول". ¬

(¬1) رواه البخاري (853 - 2278 - 2416 - 2419 - 2600 - 4892 - 4904 - 6719) ومسلم (1829) وأبو داود (2928) والترمذي (1705) وأحمد (2/ 5 - 54 - 111 - 121) وابن الجارود (1094) وابن حبان (4489 - 4490 - 4491) وأبو عوانة (4/ 382 - 383 - 384 - 385) والبيهقي (6/ 287 - 291 - 8/ 160) والطبراني في الكبير (5/ 32) والأوسط (4255 - 6880) وأبو يعلى (10/ 199) عن ابن عمر. (¬2) في (ب): فهو. (¬3) في (ب): فقال. (¬4) ليس في (ب).

فقال لبيد لقريش: متى كان السفهاء تحضر مجالسكم (¬1)، أو نحوا من هذا الكلام ,منكرا على عثمان ما قاله، إذ كان لبيد قد قصد العموم والاستغراق في المصراعين، فرأى أن اعتراض عثمان عليه بنعيم الجنة لا يلزمه، إذ لم يدرك ذلك ولا آمن به، واعتقد أن كل نعيم في الدنيا فإلى الزوال مصيره. وصدق في هذا الاعتقاد. وعثمان أدرك بنور إيمانه أن في الآخرة نعيما لا يزول فرأى أن لبيدا كذب في قوله، إذ قصد به العموم والاستغراق, وذلك منتقض عليه بنعيم الجنة. ويكفينا هذا دليلا على قولنا، فإن لبيدا وعثمان كل واحد منهما حجة في اللغة, وقد اجتمعا على القول بالعموم في هذا اللفظ. فلبيد رأى أن قوله عام غير منتقض، وعثمان رأى أن قوله عام منتقض عليه بما اعترضه. وأما قوله: " ألا كل شيء ما خلا الله باطل "، فاتفقا على صدقه وعمومه، وكذلك هو، فإن نبينا - عليه السلام - قال: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل». وفي القرآن العزيز: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]. (ق.139.ب). ¬

(¬1) رواه الطبراني في الكبير (9/ 36).

وهذه هي عادة العرب، فإنهم إذا (¬1) جاءوا بلفظة كل (¬2) التي تعطي العموم عندهم, فاعترضها ما ينقض ذلك عليهم جاءوا بحرف الاستثناء، فاستثنوا ما شاءوا كما قال الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان وقال الآخر (¬3): وكل مصيبات الزمان وجدتها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب ومثال ذلك من حديث النبي - عليه السلام -، قوله: «كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب». (¬4) ألا ترى أن النبي - عليه السلام - استثنى عجب الذنب مما تأكله الأرض، وبقي ما عداه من أجزاء الإنسان داخلا فيما تأكله الأرض. فقد تبين بما ذكرناه أن لفظة "كل" إنما وضعت للعموم، وظهر بذلك أن قوله - عليه السلام -: «كل مولود يولد على الفطرة»، عام في جميع ولد آدم. ¬

(¬1) في (ب): إذ. (¬2) من (ب). (¬3) في (ب): آخر. (¬4) رواه البخاري (4651) ومسلم (2955) وأبو داود (4743) والنسائي (2077) وابن ماجه (4266) وأحمد (2/ 322 - 428 - 429) ومالك (565) وابن حبان (3138 - 3139) والطبراني في الأوسط (783) وأبو يعلى (6291) عن أبي هريرة.

ويزيد ذلك بيانا رواية من روى: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» (¬1)، إذ ساقه بالنفي والإثبات, وهي رواية صحيحة ذكرها مسلم، وعنده في لفظ آخر: «ما من مولود يولد إلا وهو على الملة» (¬2). وفي آخر (¬3): «على هذه الملة حتى يعبر عنه لسانه» (¬4). وفي آخر: «ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة» (¬5). وفي لفظ آخر: «كل إنسان تلده أمه على الفطرة وأبواه بعد يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» (¬6). وهذه الألفاظ الصحيحة تفسر رواية من روى «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه». وتعرف بأن قوله: «يولد على الفطرة»، في هذه الرواية في موضع الخبر لكل مولود كما قلناه، وتقضي بأن المراد بذلك العموم في جميع ولد آدم على ما قررناه. ¬

(¬1) رواه البخاري (1292 - 1293 - 4497 - 6226) ومسلم (2658) وغيرهما عن أبي هريرة. (¬2) رواه مسلم (2658) وأحمد (2/ 253 - 481) والبيهقي (6/ 203) عن أبي هريرة. (¬3) في (ب): أخرى. (¬4) رواه مسلم (2658) والبيهقي (6/ 203). (¬5) رواه مسلم (2658). (¬6) رواه مسلم (2658) والبيهقي (6/ 203).

وقد بقي لهذه الطائفة مما احتجوا به على ما نقلناه قبل عن أبي عمر، حديث سمرة في الرؤيا الذي فيه من قول النبي - عليه السلام -: «وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم, وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة» (¬1). وليس لهم فيه حجة من وجهين، بل الحجة عليهم بهما: أحدهما: إنه ليس فيه إلا مثل لفظ الحديث الذي ادعوا فيه الخصوص, وهم بذلك في الحديث المتقدم أعذر من جهة أنه (¬2) - عليه السلام - لم يقتصر (ق140.أ) فيه على قوله: «كل مولود يولد على الفطرة»، حتى أضاف إلى ذلك «فأبواه يهودانه أو ينصرانه» بحيث توهموا أنه موضع الخبر فغلطوا بذلك في التأويل. وأما حديث سمرة، فاستقل بقوله: «فكل (¬3) مولود يولد على الفطرة»، من غير مزيد. وهذه الجملة من مبتدأ وخبر هي خبر الولدان المذكورين في قوله: «وأما الولدان»، وهم جميع من يولد على الفطرة. ¬

(¬1) تقدم. (¬2) بياض في (أ)، وأتممته من (ب). (¬3) في (ب): كل.

والوجه الثاني: أن الحديث لم يكمُل هاهنا, بل بقي فيه عند البخاري (¬1) ما نذكره وهو: «فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وأولاد المشركين». فنص بهذا على أنهم من أهل الفطرة بعطفهم عليهم، وصح بذلك أنهم من جملة الولدان الذين هم حول إبراهيم - عليه السلام -. وقد تبين بما قدمناه أن الطائفة التي ذهبت إلى تخصيص قوله - عليه السلام -: «كل مولود يولد على الفطرة» ليس لها حجة فيما احتجت به, وإذا انتقضت عليها (¬2) تلك الحجج لم يبق إلا المصير إلى أن هذا القول منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام في جميع ولد آدم كلهم، والله الموفق للصواب. ¬

(¬1) (6/ 2585). (¬2) في (ب): احتجت، وإذا ابطلت عليها.

تفسير: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}

فصل (تفسير: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ... [الذاريات: 56]) (¬1) ومن الدليل على تعميم بني آدم كلهم في الفطرة قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ... [الذاريات: 56]. فإن هذه الآية في معنى الحديث المتقدم، على ما نختاره، وندل عليه، وإن كان في الآية خلاف بين أهل التفسير، إذ حملها بعضهم على الخصوص فنزلها على من (¬2) سبق في علم الله أنه يعبده، فيكون من أهل الإيمان (¬3). وحملها آخرون على العموم في جميع الجن والإنس (¬4)، ثم اختلفوا في تأويلها بعد القول بتعميمها على ما نذكره: فأما من قال: إن الآية خاصة، فحمله على ذلك أمران: أحدهما: أنه رأى أن الآية لو كانت عامة للزم أن يوجد جميع الصنفين عابدين لله تعالى, ومعلوم أن الكفار لا يعبدون الله لعدم إيمانهم به، فصح عنده أن الآية خاصة بالمؤمنين. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): ما. (¬3) حكاه القرطبي (17/ 55) وقال: والمعنى: وماخلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون. وبه فسر البخاري الآية في صحيحه (4/ 1837). (¬4) قاله ابن عباس وزيد بن أسلم. كما في تفسير ابن جرير (11/ 475) والدر المنثور (7/ 624 - 625).

والجواب أن نقول لقائل هذا القول: إنما التزمته (¬1) من حيث جعلتَ العبادة المذكورة في الآية هي فعل الطاعات على وجه التقرب بها لله سبحانه، (ق.140.ب) ولا شك أن هذا إنما يتولاه المؤمنون بالله, ولو حملنا نحن الآية على العموم، وفسرنا العبادة بما فسرتموها أنتم، للزمنا أن يكون هذا القول خُلفا من الله سبحانه, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لكنا نحمل الآية على العموم على ظاهرها، ونصرف العبادة عن هذا المعنى إلى معنى آخر يعم بني آدم. وسنذكر ذلك بعد فراغنا من ذكر الأقاويل المسطورة في الآية، إن شاء الله. الأمر الثاني: هو الأطفال والمجانين، فإنهم لا يدخلون في الآية، لاسيما على تفسيرهم. فلما رأوا الخصوص تطرق إلى الآية بهؤلاء تعدوا إلى غيرهم فجعلوها مقصورة على المؤمنين فقط. وهذا لا يسوغ بوجه، فإنه (¬2) يلزمهم منه ما لا قبل لهم به، وذلك (¬3) أن جميع الشرائع إنما خوطب بها العقلاء البالغون، فإذا قيل لهم (¬4): {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1]، لزم على قولهم أن يكون هذا الخطاب للمؤمنين دون الكفار بخروج الصبيان والمجانين ¬

(¬1) في (ب): التزمه. (¬2) في (ب): فإنهم. (¬3) في (ب): وهو. (¬4) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي.

عن الدخول فيه (¬1)، إذ يلزم (¬2) من خروجهم عن الآية أن يخرج الكفار عنها أيضا. وهذا بعينه يلزمهم في قوله: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77]، وغير ذلك من الأوامر الواردة في أمور الدين. وإذا صح بالدليل خروج الصبيان والمجانين عن ذلك، ولم يلزم بخروجهم خروج الكفار عن الخطاب بالتزام الشرائع, فكذلك الآية التي كنا فيها إذا خرج عنها الصبيان والمجانين، لم يلزم من ذلك خروج الكفار عنها ولا فرق. ومن أهل التفسير القائلين بالخصوص في الآية من قال بأن (¬3) قوله تعالى قبل الآية المتقدمة: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، مما يدل على الخصوص في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، أي الجن والإنس الذين ينفعهم الذكر لعبادته, وهذا يُبطله سياق الآية، فإن قوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57 - 58] تمدح من الله سبحانه من وجهين: أحدهما: استغناؤه عن الخلق وعدم انتفاعه (¬4) بهم. ¬

(¬1) في (ب): في ذلك. (¬2) في (ب): يلزمهم. (¬3) في (ب): ان. (¬4) في (ب): منفعته.

والثاني: افتقارهم إليه واحتياجهم (¬1) إلى الرزق الذي خلقه لهم وجعله قِواما لأجسامهم. ولذلك ينبغي أن يكون المعنى عاما في جميع ولد آدم، فبه يكون التمدح التام, واقتصاره على بعضهم مما يبطل المعنى المقصود في هذه (ق.141.أ) الآيات. والآية الأولى: مستقلة بنفسها في الذكرى، وكونها تنفع المؤمنين. والآية الثانية غير مرتبطة بها، فلا معنى لذلك القول، وإنما حكيناه ليوقف عليه. وإذا (¬2) تبين بما تقدم أن الآية لا يصح تخصيصها بوجه، لم يبق إلا أن تكون عامة، فلنذكر الأقوال في تعميمها، ومنها ما نسبه المفسرون إلى قائله، ومنها ما لم ينسبوه إلى أحد، كقولهم: وقيل معنى الآية: وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي (¬3). وقولهم: وقيل معناه: ما خلقتهم إلا لأستعبدهم واختبرهم (¬4). وهذان القولان لما كان معناهما عاما من حيث إن الله تعالى أمر الناس كافة بطاعته، ووُجد فيهم أيضا الاستعباد والتسخير والابتلاء، قال ذلك من قاله. ¬

(¬1) في (ب): حاجتهم. (¬2) في (ب): فإذا. (¬3) نسبه القرطبي لعلي والزجاج (17/ 55)، واختاره ابن كثير (4/ 239). (¬4) حكاه القرطبي (17/ 56).

واللغة لا تعضد واحدا من هذين القولين، لأنه لا يوجد في اللغة، عبد بمعنى: أمر بالعبادة، ولا بمعنى: استعبد، هذا إن لو كان الفعل في قوله: {لِيَعْبُدُونِ} منسوبا إلى الله تعالى، وإنما هو منسوب إلى المخلوقين، فكيف يصح أن يقال: عبد الرجل: إذا أمره غيره بالعبادة، أو عبد: إذا استعبده غيره، وإنما يوجد في اللغة (¬1): عبد الرجل الإله: إذا ألزم نفسه العبادة، وكذلك عابد الوثن أيضا. ويقال: عبِد الرجل من الشيء (بكسر الباء): إذا أنف منه (¬2)، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] أي: الآنفين من ذلك المعتقدين بطلانه (¬3). وقال بعض أهل اللغة: لا يقال من الأنفة في اسم الفاعل إلا عبد لا عابد. وهذا هو القياس، وحكى ابن قتيبة في غريب القرآن (¬4) أنه يقال من الأنفة: عبدت من كذا أعبد عبدا، فأنا عبد وعابد. ¬

(¬1) عبد يعبد عبادة وعبودية، وهي الخضوع والتذلل والطاعة، ومنه طريق معبد، وبعير معبد أي سهل ذليل. والتعبد التنسك، تقول نسك ينسك نسكا أي عبد، وزنا ومعنى. انظر الصحاح (2/ 100 - 101) واللسان (3/ 272 - 273). (¬2) لسان العرب (9/ 13). (¬3) قاله البخاري (4/ 1821) وحكاه ابن كثير (4/ 136) عن سفيان الثوري. وراجع تفسير القرطبي (16/ 119) والفتح لابن حجر (8/ 569). (¬4) تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (401).

وقال أبو عبيدة: معنى الآية: فأنا أول الجاحدين (¬1)، من عبد إذا جحد، وحكى: فلان عبدني حقي أي: جحدني. وقد قيل: إن العبادة تبقى في هذه الآية على أصلها، ويكون معنى الآية: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبد الله على أنه واحد لا ولد له (¬2). وهذه الوجوه التي ذكرناها في عبد (¬3) لا يصلح منها في الآية المتقدمة إلا ما هو بمعنى العبادة فقط. ولنرجع إلى ذكر ما بقي من الأقوال فيها فنقول: قيل في التفسير أيضا: إن معناها: وما خلقت الجن والإنس إلا ليقروا لي بالطاعة طوعا أو كرها، والكره: ما يرى فيهم من أثر الصنعة، قاله صاحب التحصيل، وقال روي معنى هذا عن ابن عباس (¬4). وهذا القول إنما لاحظ قائله به قوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] فالذي يسجد طوعا هم المؤمنون، والذي يسجد كرها هم (ق.141.ب) الكفار، ومعنى سجودهم تذللهم لله تعالى. ¬

(¬1) وحكاه البخاري في صحيحه (4/ 1821). (¬2) قاله أبو صخر وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم كما في تفسير ابن كثير (4/ 136). (¬3) في (ب): لفظة عبد. (¬4) رواه ابن جرير (11/ 476) وابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور (7/ 624) واختاره ابن جرير.

فمن سجد لله طوعا وعبده مختارا لإيمانه به وإقراره بوحدانيته فقد أبدى تذلله وخضوعه، ومن عاند وجحد واستكبر عن عبادة الله فشواهد الفطرة مفصحة بتذلله، وذلك بالخلق والتصوير والاضطرار إلى العجز في الأمور والتسخير في الأحوال، والأصل في العبادة إنما هو التذلل لله والخضوع له. ومن هذا هو (¬1) قول العرب: طريق معبد، إذا كان مذللا بكثرة المرور به والسلوك عليه. وهذا القول هو أشبه من الأقاويل المتقدمة. وقد بقي فيها قول آخر، وهو قول مجاهد وغيره. قالوا: معنى قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أي: ليعرفون (¬2)، وهذا قول سديد، غير أنه يحتاج إلى تفصيل، فإنه إن عنى به أن يكون جميع الجن والإنس يعرفون الله تعالى لزمه من الخلف ما يلزم منه إذا حملت العبادة على فعل الطاعات للتقرب على ما تقدم، لأن الكفار لا يعرفون الله ولا يقرون بوحدانيته. وإن عنى بقوله: "إلا ليعرفون" ما نذكره، وهو أن يكون المعنى: إلا ليعرفوا أن لهم ربا وصانعا ما لم تطرأ عليهم طوارئ تصدهم عن طريق المعرفة على ما قدمناه في قوله - عليه السلام -: «كل مولود يولد على الفطرة» فهو صحيح. ¬

(¬1) في (ب): ومن هذا قول. (¬2) قاله ابن جريج كما في تفسير ابن كثير (4/ 238).

وهذا أحسن الوجوه وأولاها بالصواب لوجهين (¬1): أحدهما: تعميم الجن والإنس في ذلك المعنى، لأنا إذا قلنا: إن التقدير: إلا ليعرفوا أن لهم ربا وخالقا ما لم تطرأ عليهم طوارئ، فلا ينافي ذلك دخول المكلفين وغيرهم فيه حتى الصبيان والمجانين، لأن الجنون والاخترام بالمنية في حال الطفولية من تلك الطوارئ المانعة لمن نزلت به من معرفة الله تعالى وعبادته. وكذلك التهود أو التنصر أو التمجس الذي ينشأ عليه من فُعل به ذلك من الصبيان حتى يدركه (¬2) البلوغ وهو عليه من تلك الطوارئ الصادة عن سبيل الله. فمن عري عن تلك (¬3) الموانع الطارئة عليه، وبقي على أصل الفطرة السالمة إلى حين بلوغه أدرك معرفة الله تعالى لا محالة. والوجه الثاني: تفسير العبادة بما لا تنافيه اللغة، بل تقتضيه، فإن إطلاق لفظ العبادة على المعرفة قد ورد في الشرع، والدليل على ذلك: حديث ابن عباس أن النبي - عليه السلام - وجه معاذ بن جبل إلى اليمن وقال: «إنك تقدم (ق.142.أ) على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في ¬

(¬1) لا يظهر لي كبير فرق بين هذا والذي قبله، بل يجمع بين القولين بأن المراد أن يعرفوا الله بالخضوع والتذلل له. (¬2) في (ب): أدركه. (¬3) في (ب): ذلك.

يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم» (¬1). فإنه - عليه السلام - أمر معاذا بأن يدعو أهل اليمن أولا إلى عبادة الله أي: إلى معرفته، ولم يقصد بذلك الأعمال التي تُعُبد الخلق بها، يبين ذلك أمران: أحدهما: إنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بإثر الدعوة إلى عبادة الله، «فإذا عرفوا الله فأخبرهم» (¬2) ففسر العبادة بمعرفة الله، فدل ذلك على أنها هي التي قصد بالذكر، ومن المحال أن تتأتى الأعمال على وجه التقرب ممن لا يعرف المتقرب إليه بها. والثاني: إن الأعمال بعد ذلك ذكرها بقوله: «فأخبرهم بكذا» فلو قصد أولا بذكر العبادة الأعمال لم يكن لذكرها بعد ذلك معنى، فأمره - عليه السلام - بدعوة الناس في أول الحال إلى عبادة الله (¬3) ثم ترتيبه على تحصيلها الإعلام ¬

(¬1) رواه البخاري (1331 - 6937) ومسلم (19) وأبو داود (2/ 104) والترمذي (625) والنسائي (2435) وابن ماجه (1783) وأحمد (1/ 233) والدارمي (1575) وابن حبان (156 - 5081) والبيهقي (4/ 96 - 101 - 7/ 7 - 8) والدارقطني (2/ 135 - 136) وابن خزيمة (4/ 23 - 58) والطبراني في الكبير (11/ 426) والأوسط (3/ 158) عن ابن عباس. وفي أكثر هذه المصادر بلفظ: فإن أطاعوك لذلك. وأما باللفظ الذي ساقه المصنف: فإذا عرفوا الله فعند البخاري (1389) ومسلم (19). (¬2) في (ب) اقتصر على: فأخبرهم. (¬3) سقطت من (ب).

بالفرائض والأعمال يبين أن العبادة في الحديث خلاف الأعمال (¬1)، وإذا كانت خلاف الأعمال فهي المعرفة المعبر عنها في الشرع بالإيمان المترتب عليه العمل بفرائضه والانتهاء عن زواجره. ويدل على ذلك أيضا: أن في حديث ابن عباس من رواية أخرى (¬2): «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله». وفي لفظ آخر (¬3): «فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم». وكل هذه الطرق في الصحيحين ومعناها جميعا واحد. ¬

(¬1) هذان اللفظان من باب قول العلماء: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. وقد يقال: هذا من باب الخاص بعد العام، فلا يبقى حينئذ لكلام المصنف معنى. (¬2) رواه مسلم (19) وغيره. (¬3) رواه البخاري (6937) عن ابن عباس.

فصل ومن الدليل على تعميم بني آدم في الفطرة أيضا قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاكيا عن الله تعالى: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا». الحديث (¬1). خرجه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي عن النبي - عليه السلام -، وقد أخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه أن الله تعالى خلق العباد كلهم حنفاء. وقد قيل في قوله تعالى: {حُنَفَاء لِلَّهِ} [الحج: 31] معناه: مسلمين (¬2). وقد روي في هذا الحديث: «خلقت عبادي كلهم حنفاء (ق.142.ب) مسلمين» (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم (2865) وأحمد (4/ 162) وابن حبان (653 - 654) والبزار (3491) والطيالسي (1079) والطبراني في الكبير (17/ 358 - 360 - 361 - 362) والأوسط (2933) عن عياض ابن حمار. (¬2) قال القرطبي (12/ 55): معناه: مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق. وقال ابن كثير (3/ 219): أي مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصدا إلى الحق. (¬3) رواه الطبراني في الكبير (17/ 363) وابن عبد البر في التمهيد (18/ 73) من طريقين عن محمد ابن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي عن عياض بن حمار المجاشعي. ... = = وابن إسحاق مدلس، وقد عنعن.

ولا يسوغ أن يحمل قوله: «مسلمين» فيه إن صح على ظاهره، وإنما معناه ما قلنا في الفطرة من السلامة والقبول للإيمان ما لم يطرأ ما يزيل ذلك، كما قال في هذا الحديث: «فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» أي: استخفتهم فجالوا معها (¬1). يقال: اجتال الرجل الشيء: ذهب به وساقه، وقد اجتال أموالهم واستجالها (¬2)، قاله صاحب الغريبين. واللفظة مشتقة من قولك: جال الرجل يجول: إذا كان كثير الجولان والاضطراب في الأرض (¬3)، ومن هذا هو قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته: تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قُلبا وإذا أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث الصحيح بأن الله تعالى خلق الناس كلهم حنفاء، فقد صح أن جميعهم على الفطرة خلق، وصح أن من مات منهم في حال الطفولية قبل أن تستهويهم الشياطين فقد مات على الفطرة. ¬

(¬1) قال النووي في شرح مسلم (17/ 197): أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل. هكذا فسره الهروي وآخرون ... (¬2) قاله شمر، كما في لسان العرب (2/ 425). (¬3) الصحاح للجوهري (4/ 462 - 463) ولسان العرب (2/ 424 - 425).

وإذا مات على الفطرة فهو في الجنة إذ لم يبلغ في سنه الزمن الذي هو مظنة استهواء الشياطين وإغوائهم، وذلك هو زمن التكليف بالبلوغ الذي من وصل إليه واتبع حينئذ الشياطين وأولياءهم من الإنس بتقليد أبويه، أو نحو ذلك مما في معناه، فقد زال عن الفطرة واستبدل بها ما صار إليه من الكفر والضلال في الوقت الذي يكون فيه مسؤولا عما اجترم ومطلوبا بما اكتسب.

فصل ومن الدليل على أن أطفال المشركين في الجنة الأخبار التي احتج بها من مال إلى هذا القول، فأقواها استدلالا وأصحها إسنادا حديث سمرة، وهو الحديث الطويل في الرؤيا، قال فيه: «والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم، والصبيان حوله أولاد الناس» خرجه البخاري (¬1) بهذا اللفظ، وهو لفظ عام. وخرجه من طريق آخر قال فيه: «وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم - عليه السلام -، وأما الولدان حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال: فقال (¬2) بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله: وأولاد المشركين» (¬3). وهذا اللفظ فيه الدلالة على ما قلنا من وجهين: (ق.143.أ) أحدهما: إن النبي - عليه السلام - أخبر أن أولاد المشركين من الولدان الذين هم حول إبراهيم - عليه السلام -. ¬

(¬1) تقدم. (¬2) في (ب): فيقال، وهو تصحيف. (¬3) رواه البخاري (6640) وأحمد (5/ 8) وابن حبان (655) وابن أبي شيبة (7/ 237) عن سمرة.

والثاني: إنه أخبر أنهم (¬1) ممن ولد على الفطرة، فإنه لما فسر الولدان الذين (¬2) هم حول إبراهيم قال: «إنهم كل مولود يولد على الفطرة» فدخل أولاد المشركين في ذلك بالعموم، فلما سئل رسول الله (¬3) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أولاد المشركين فقال: «وأولاد المشركين» دخلوا حينئذ في من ولد على الفطرة بالنص، فصح بهذا الحديث أنهم في الجنة وأنهم ولدوا على الفطرة على ما قررناه. ومن تلك الأخبار المذكورة: حديث عوف عن خنساء بنت معاوية امرأة من بني صريم قالت: حدثني عمي قال: قلت: يا رسول الله من في الجنة؟ قال (¬4): «النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيد في الجنة» (¬5). ¬

(¬1) في (ب): عنهم بأنهم. (¬2) في (ب): أن الذين، وهو خطأ. (¬3) من (ب). (¬4) في (ب): فقال. (¬5) رواه أبو داود (2521) وأحمد (5/ 58 - 409) والبيهقي (9/ 163) وابن عبد البر في التمهيد (18/ 116) من طريق عوف الأعرابي عن حسناء بنت معاوية عن عمها. قال ابن حجر في الفتح (3/ 246): إسناده حسن. قلت: لكن حسناء المذكورة لم يوثقها أحد. وللحديث شواهد عن ابن عباس والأسود بن سريع، راجعها في مجمع الزوائد (7/ 219).

وحديث عائشة (رضي الله عنها) (¬1) قالت: سألت خديجة النبي - عليه السلام - عن أولاد المشركين، فقال: «هم مع آبائهم»، ثم سألته بعد ذلك فقال: «الله أعلم بما كانوا به عاملين» ثم سألته بعدما استحكم الإسلام، فنزلت: «ولا تزر وازرة وزر أخرى» فقال: «هم على الفطرة أو قال: في الجنة» (¬2). وحديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم» (¬3). ¬

(¬1) من (ب). (¬2) لم أقف عليه بهذا التمام. (¬3) رواه أبو يعلى (4101 - 4102) وابن الجعد (2906) من طريق عبد العزيز الماجشون عن محمد ابن المنكدر عن يزيد الرقاشي عن أنس. ويزيد الرقاشي ضعيف. وتابع الماجشون عليه: ابن أبي سلمة، رواه ابن عبد البر في التمهيد (18/ 117). وخالفهما عبد الرحمن بن إسحاق. فرواه عن محمد بن المنكدر عن أنس، فأسقط الرقاشي. خرجه أبو يعلى (3636) وعنه ابن عدي في الكامل (5/ 150). لكن في سنده عمرو بن مالك البصري ضعيف. وتابع عبد الرحمن بن إسحاق: عبد الرحمن بن حسان الكناني ثنا محمد بن المنكدر عن أنس، خرجه الضياء (7/ 202) من طريق صفوان بن صالح ثنا الوليد عنه به. وصفوان بن صالح والوليد بن مسلم يدلسان ويسويان، فلعل أحدهما أسقط الرقاشي بين ابن المنكدر وأنس. ... = = فالصحيح في هذا الحديث من هذه الطريق هو من طريق الرقاشي عن أنس. والرقاشي ضعيف كما تقدم. ورواه مرة أخرى عبد الرحمن بن إسحاق فقال عن الزهري عن أنس. خرجه أبو يعلى (3570) والطبراني في الأوسط (5957) وابن عدي (4/ 302 - 6/ 19) من طريق عبد الرحمن بن المتوكل عن فضيل بن سليمان عنه به. لكن عبد الرحمن بن المتوكل هو أبو سعد القارئ البصري لم يوثقه غير ابن حبان (8/ 379). قال الحافظ في الفتح (3/ 246) بعد أن عزاه لأبي يعلى عن أنس: إسناده حسن. فلعله يقصد لغيره. وروى الحديث ابن عباس، لكن قال فيه: الله أعلم بما كانوا عاملين. خرجه الطبراني في الكبير (11/ 330) والأوسط (1997) قال: حدثنا أحمد بن عمرو نا عبد الواحد بن غياث نا أبو عوانة عن هلال بن خباب عن عكرمة عنه، وسنده جيد.

ذكر هذه الأحاديث ابن عبد البر في التمهيد وقال (¬1): إنما قيل للأطفال اللاهين لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقد ولا عزم، من قولهم: لهيت عن الشيء أي: لم أعتمده، كقوله: {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 3]. وذكر عن أنس بن مالك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أولاد المشركين خدم أهل الجنة» (¬2). وعن سلمان موقوفا عليه قال: "أطفال المشركين خدم أهل الجنة" (¬3). ¬

(¬1) (18/ 117). (¬2) تقدم. (¬3) رواه معمر في جامعه (11/ 117) عن قتادة عن الحسن أن سلمان قال. وقتادة والحسن مدلسان وقد عنعنا.

وقد تقدم أن ابن سلام ذكر في تفسيره حديث أنس كذلك، ونحن إنما كان غرضنا أن نثبت أن أولاد المشركين لا يدخلون النار، وإذا لم يدخلوا النار، فهم في الجنة، وإذا ثبت لنا أنهم في الجنة فلا نبالي كيف كانوا فيها، هل يكونون خدم أهلها أم لا، فإن صحت الأخبار بكونهم خدم أهلها فهم كذلك، ولا يبعد أن يكونوا هم الولدان الذين ذكر الله تعالى في القرآن في قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} [الإنسان: 19]. قال بعض أهل التفسير (¬1)، معنى مخلدين أي: لا يموتون ولا يتغيرون (ق.143.ب) عن ذلك السن بل يبقون شبابا على ما كانوا عليه، تقول العرب للرجل إذا كبر وثبت سواد شعره إنه لمخلد. وفي موضع آخر من القرآن: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} [الطور: 24]، ويشبه أن يكون الغلمان والولدان هم جميع الأطفال من أولاد المشركين وغيرهم، والله أعلم. ¬

(¬1) قاله مجاهد، رواه ابن جرير (11/ 629) واختاره.

فصل وإلى هذا الموضع انتهى بنا القول في حكم جميع الأطفال والصبيان في الآخرة، ونرجو أنا قد أتينا في المآخذ التي أخذناها في ذلك، والمسالك التي سلكناها بما فيه الغنية والكفاية، ولعله لا يوجد بجملته في غير هذا الموضع. وينبغي أن نضيف إلى الكلام الذي أودعناه من هذا المعنى في الفصول المتقدمة ما قررناه في القسم الرابع من أهل الفترة، فبه تتحقق المسألة وتكمل الفائدة: وذلك حيث تكلمنا على القسم المذكور، وقلنا: إنه ينعطف على كل من ليس بمكلف، وهم أصناف أربعة: أهل هذا القسم ومن لم تبلغه الدعوة، والمجانين، والصبيان، إذ الحكم فيهم واحد. ثم قلنا: إنه لابد من حشرهم كما يحشر جميع ولد آدم، وإذا حشروا فلا يخلو حالهم من أحد أمرين: - إما أن يكونوا بعد استقرار أهل الجنة في الجنة واستقرار أهل النار في النار مع أهل الجنة. - أو مع أهل النار. إذ لا موضع في الآخرة لاستقرار الخلق سوى الجنة والنار. وكونهم في النار لا تقتضيه قواعد الشرع، فإن النار لا تدخل على وجه الخلود إلا جزاء على الكفر والتكذيب، ولا يصح أن يوجد

التكذيب والكفر في الأصناف الأربعة. فإن القسم الرابع من أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة ليس عندهم بما يكذبون أصلا لعدم النذارة فيهم، والمجانين والصبيان ليس عندهم عقل يفهمون به لا تكذيبا ولا تصديقا، فقد سقط عن جملتهم الخطاب. وإذا سقط عنهم الخطاب فلا يصح تعذيبهم، لأن الحجة لم تقم عليهم، وإذا ثبت أنهم لا يعذبون صح أنهم لا يدخلون النار إذ هي محل العذاب، وإذا لم يدخلوا النار، ولا دار بعدها إلا الجنة صح أنهم يدخلون الجنة لا محالة، وما ذلك إلا بالتفضل المحض والجود الصرف من صاحب الطول والفضل لا إله إلا (ق.144.أ) هو العزيز الحكيم. وبهذا الذي نقلناه هاهنا مما قد بسطناه في باب القسم الرابع من أهل الفترة فرغ الكلام على القسم الأول من القسمين المستدركين. فلنشرع في ذكر القسم الثاني، فنقول، والله الموفق للصواب:

القسم الثاني: في الكلام على الجن

القسم الثاني: في الكلام على الجن. هذا القسم يحتوي على أربعة أبواب: الباب الأول: في وجود الجن وكونهم أمة عاقلة مميزة. الباب الثاني: في تكليف الجن في الأمم الخالية قبل الإسلام. الباب الثالث: في كون الجن متعبدين بشريعة (¬1) نبينا محمد - عليه السلام -. الباب الرابع: في أقسام الجن وحكم موازنتهم. ¬

(¬1) في (ب): بشريعتنا، وهو خطأ.

الباب الأول: في وجود الجن وكونهم من أهل العقل والتمييز

الباب الأول: في وجود الجن وكونهم من أهل العقل والتمييز وجود الجن في العالم ليس ممتنعا في العقل، بل هو من قبيل الجائزات، فإذا وردت النصوص بخلقهم وإيجادهم تخصص وجودهم بدلا من (¬1) عدمهم، فوجب التصديق بهم والوقوف عند ما ورد فيهم، وتلك النصوص مستفادة من القرآن والحديث: قال الله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 14 .. 15]. وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ولوجود الجن في العالم خاطبهم الله تعالى كما خاطب الإنس، فقال في غير موضع من كتابه العزيز: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} [الرحمن: 33]، ثم أخبر تعالى عن الجن بأنهم يوسوسون في صدور الناس، وأمر بالاستعاذة من شرهم، وكذلك أمر بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن، وقال لنبيه - عليه السلام -: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ ¬

(¬1) في (ب): عن.

طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 200 - 201]. وهذا كله يدل على أن الله تعالى جعل للجن بعد إيجادهم قوة يتوصلون بها إلى تزيين المعاصي (ق.144.ب) لبني آدم وقذف البلايا في نفوسهم، كما جعل لهم تأثيرا في المصروع، فقال: {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، فذكر أن الذي يتخبط من الناس إنما يكون بالمماسة له من الشيطان المسلط عليه. وقد أخبر سبحانه (¬1) أن الجن قبيل لإبليس، وأنهم يرون بني آدم دون أن يروهم فقال: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]. وكذلك أخبر تعالى أن لهم ذرية بقوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي} [الكهف: 50]، وهذا يدل على أنهم يتناكحون ويتناسلون. ويدل على ذلك أيضا قول النبي - عليه السلام -: «ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الجن»، فقالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم» (¬2). ¬

(¬1) ليست في (ب). (¬2) رواه مسلم (2814) وأحمد (1/ 385 - 397) وابن خزيمة (658) وابن حبان (6417) والدارمي (2634) والطبراني في الأوسط (2593) عن ابن مسعود. ... = = ورواه مسلم (2815) والنسائي (7/ 72) وأحمد (6/ 115) والحاكم (1/ 352) عن عائشة بمعناه.

فإن بني آدم إذا كانوا يولدون على الدوام، وكل واحد منهم لابد له من قرين من الجن، لزم من ذلك أن الجن أيضا يولدون على الدوام، وفي قوله تعالى في صفة الحور العين: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56] دليل على أن الجن ينكحون كما ينكح بنو آدم.

فصل وأما إخبار النبي - عليه السلام - في الأحاديث بوجود الجن فكثير جدا منها الحديث المتقدم، ومنها قوله: «وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوا عن الزاد» (¬1). (¬2) وقوله: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا» (¬3). وقوله: «إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد» (¬4). وقوله: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد» (¬5). ¬

(¬1) في (ب): فسألوني الزاد. (¬2) رواه البخاري (3647) والبيهقي (1/ 107) والطحاوي (1/ 124) وغيرهم عن أبي هريرة. (¬3) رواه مسلم (2236) ومالك (1828) وابن حبان (5637) عن أبي سعيد. (¬4) رواه البخاري (449 - 3241 - 4530) وأحمد (2/ 298) وأبو عوانة (1731) والبيهقي (2/ 219) عن أبي هريرة. (¬5) رواه البخاري (1091 - 3096) ومسلم (776) وأبو داود (1306) وابن ماجه (1329) وأحمد (2/ 243 - 253) ومالك (426) وابن خزيمة (1132) والبيهقي (2/ 501 - 3/ 15) والحميدي (2/ 426) وأبو يعلى (11/ 166 - 218) عن أبي هريرة.

ومنها ما جاء في حديث أبي هريرة (¬1) إذ وكله (النبي - عليه السلام -) (¬2) بحفظ زكاة الفطر، فأتاه آت فجعل يحثو من الطعام. الحديث، وفيه فقال: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى يصبح». فقال له (¬3) النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان» (¬4). ومنها (¬5): قوله - عليه السلام -: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا» (¬6). وقوله - عليه السلام -: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء (¬7) وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين» (¬8). ¬

(¬1) في (ب): وقوله - عليه السلام - لأبي هريرة. (¬2) ليس في (ب)، وكتب في هامش (أ)، وعليه علامة التصحيح. (¬3) في (ب): فقال النبي. (¬4) رواه البخاري (2187 - 3101 - 4723) عن أبي هريرة. (¬5) سقط من (ب)، وكتب في هامش (أ) وعليه علامة التصحيح. (¬6) رواه البخاري (3102) ومسلم (134) وأبو عوانة عن أبي هريرة. (¬7) كذا في (أ) وفي البخاري (1800)، وفي (ب) والبخاري (3103) ومسلم (1079): الجنة. (¬8) رواه البخاري (1800 - 3103) ومسلم (1079) والنسائي (4/ 127 - 128 - 129) وأحمد (2/ 281 - 401) وابن حبان (3434) وابن خزيمة (1882) والبيهقي (4/ 303) وابن أبي شيبة (2/ 419) وعبد الرزاق (4/ 176) عن أبي هريرة.

وقوله - عليه السلام -: «إذا كان جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ» (¬1)، وفي لفظ آخر: «فإن للجن انتشارا وخطفة». وقوله - عليه السلام -: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط» (¬2). وقوله (ق.145.أ) - عليه السلام -: «التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك الشيطان منه» (¬3). وقوله - عليه السلام -: «الرؤيا الصالحة من الله، والحُلم من الشيطان» (¬4). وقوله - عليه السلام - لعمر بن الخطاب: «والذي نفسي بيديه ما لقيك الشيطان قط سالكا (¬5) فجا إلا سلك فجا غير فجك» (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (3106 - 3128 - 5300) ومسلم (2012) وأبو عوانة (8159 - 8160) عن جابر. (¬2) رواه البخاري (583 - 1174 - 3111) ومسلم (389) وأبو داود (516) والنسائي (670 - 1253) وأحمد (2/ 313 - 460 - 522) ومالك (154) وابن حبان (16 - 1663 - 1754) والدارمي (1186) والبيهقي (1/ 432 - 2/ 331) عن أبي هريرة. (¬3) رواه البخاري (3115 - 5869 - 5872) ومسلم (2994) وأبو داود (5028) والترمذي (370 - 2746 - 2747) وأحمد (2/ 397) وابن خزيمة (920) وابن حبان (598 - 2357 - 2358 - 2359) والحاكم (7683) والبيهقي (2/ 289) عن أبي هريرة. (¬4) رواه البخاري (3118 - 5415 - 6583 - 6594 - 6603) ومسلم (2261) والترمذي (2277) وابن ماجه (3909) وأحمد (5/ 296 - 300 - 304 - 305 - 310) ومالك (1784) وابن حبان (6059) والدارمي (2065) وغيرهم عن أبي قتادة. (¬5) في (ب): سالك. (¬6) رواه البخاري (3120 - 3480 - 5735) ومسلم (4/ 1863) وأحمد (1/ 171 - 182) وابن حبان (6893) وابن أبي شيبة (7/ 482) وأبو يعلى (2/ 132) وغيرهم عن سعد.

وقوله - عليه السلام -: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ، فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه» (¬1). وقوله - عليه السلام -: «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا» (¬2). وقوله - عليه السلام -: «لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» (¬3). وقوله - عليه السلام -: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني، فإن كان بينهما ولد لم يضره الشيطان ولم يسلط عليه» (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (3121) ومسلم (238) والنسائي (90) وأحمد (2/ 352) وابن خزيمة (149) وأبو عوانة (677) والبيهقي (1/ 49) وغيرهم عن أبي هريرة. (¬2) رواه البخاري (3127) وفي الأدب المفرد (1236) ومسلم (2729) وأبو داود (5102) والترمذي (3459) وأحمد (2/ 306 - 321 - 364) وابن حبان (1005) وأبو يعلى (6254) عن أبي هريرة. (¬3) رواه البخاري (584 - 3122 - 7109) والنسائي (2/ 12) وأحمد (3/ 35 - 43) ومالك (153) وابن حبان (1661) والبيهقي (1/ 397 - 427) عن أبي سعيد. (¬4) رواه البخاري (141 - 3098 - 3109 - 4870 - 6025 - 6961) ومسلم (1434) وأبو داود (2161) والترمذي (1092) وابن ماجه (1919) وأحمد (1/ 216 - 220 - 243 - 283 - 286) وأبو عوانة (3/ 82 - 83) والبيهقي (7/ 149) والطيالسي (2705) وابن حبان (983) = = والدارمي (2132) وابن أبي شيبة (3/ 401 - 7/ 118) وعبد الرزاق (6/ 194) والطبراني في الكبير (11/ 422) وفي الأوسط (7534) والحميدي (516) عن ابن عباس.

وقوله - عليه السلام -: «إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخُبث والخبائث» (¬1). وقوله - عليه السلام - (¬2): «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب (¬3) بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» (¬4). وقوله - عليه السلام - (¬5): «فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم» (¬6). ¬

(¬1) رواه أبو داود (1/ 2) وابن ماجه (1/ 108) وأحمد (4/ 369 - 373) وابن خزيمة (1/ 38) وابن حبان (1408) والحاكم (1/ 297) والبيهقي (1/ 96) والطيالسي (679) والطبراني في الكبير (5/ 204 - 205) عن قتادة عن النضر بن أنس عن زيد بن أرقم. وسنده صحيح، وقد صرح قتادة عند الطيالسي وغيره. ورواه قتادة عن القاسم بن عوف عن زيد به، خرجه ابن حبان (1406) والحاكم (1/ 298) وابن أبي شيبة (1/ 11 - 7/ 148) وغيرهم. (¬2) من (ب). (¬3) كذا في (ب)، وفي (أ): يشرب. (¬4) رواه مسلم (2020) وأبوداود (3776) والترمذي (1800) والبيهقي (7/ 277) وابن الجارود (869) وابن حبان (5226 - 5229 - 5331) وغيرهم عن ابن عمر. (¬5) من (ب). (¬6) رواه أبو داود (35) وابن ماجه (337) وأحمد (2/ 371) وابن حبان (1410) والدارمي (667) والبيهقي (1/ 94) والطحاوي (1/ 121) عن ثور بن يزيد عن حصين الحميري عن أبي سعيد الخير عن أبي هريرة. وسنده ضعيف، حصين الحميري انفرد ابن حبان بتوثيقه. ومع هذا حسنه ابن حجر في الفتح (1/ 206) والنووي في المجموع (2/ 55) وابن الملقن، كما في الضعيفة (3/ 99)، وراجعها لتمام البحث.

وقوله - عليه السلام - (¬1): «فإن الشيطان لا يفتح غلقا» (¬2). وقوله - عليه السلام - (¬3): «إن الشيطان يجري من ابن (¬4) آدم مجرى الدم» (¬5). وأخبر - عليه السلام - أن الشياطين كانوا يسترقون السمع فحجبوا عنه (¬6)، كما نطق به القرآن حكاية عنهم في قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء} [الجن: 8] إلى آخر الآيتين، وفي موضع آخر منه: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212]. وأخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الجن خلقوا من نار كما خلقت الملائكة من نور (¬7)، وقد صرح القرآن بذلك في قوله تعالى: {َوخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 15]، وفي قوله: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27]، وفي قول إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12]. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) رواه البخاري (3128 - 5300) ومسلم (2012) وأبو داود (3731) وابن ماجه (3410) وأحمد (3/ 301 - 306 - 319) وابن حبان (1272 - 1273 - 1274 - 5517) والحاكم (4/ 316) وأبو عوانة (5/ 142 - 143 - 144) والبيهقي (1/ 256) والطبراني في الأوسط (1345) وأبو يعلى (4/ 155 - 178 - 211) وغيرهم عن جابر. (¬3) من (ب). (¬4) في (ب): بني. (¬5) رواه البخاري (3/ 1195 - 5/ 2296) ومسلم (2175) عن صفية. ورواه مسلم (2174) عن أنس. (¬6) رواه البخاري (739 - 4637) ومسلم (449) عن ابن عباس. (¬7) روى مسلم (2996) عن عائشة قالت قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم.

إقرار أهل الجاهلية بوجود الجن

فصل (إقرار أهل الجاهلية بوجود الجن) (¬1) والإجماع أيضا متقرر في وجود الجن في العالم فقد أصفق على ذلك أهل الإسلام قاطبة إلا من لا يعتد بخلافه من المبتدعة، نعم: وقد كان أهل الجاهلية يعترفون بوجود الجن حتى إنهم إذا وصفوا كاهنا قالوا: كان له رَيي من الجن، وكانوا يسمون التابع من الجن رييا، حسبما هو مذكور في السير وغيره. وذلك موجود في حديث عمر بن الخطاب إذ سأل الرجل الذي ظن أنه كان كاهنا في الجاهلية، وقال له: إني أعزم (ق.145.ب) عليك أن تخبرني قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال عمر: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع قالت: ألم تر الجن وإبلاسها. الحديث المذكور في صحيح البخاري (¬2). وذكر أبو جعفر النحاس حديث عمر هذا وسمى الرجل، وقال إنه سواد بن قارب، وذكر أنه قال لعمر: يا أمير المؤمنين بينما (¬3) أنا في ليلتي ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) (3/ 1403 - رقم 3653). (¬3) في (ب): بيننا.

بالسراة وكان لي نجي من الجن إذ أتاني ليلا وأنا كالنائم فركلني برجله ثم قال: قم يا سواد فقد ظهر بتهامة نبي يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم. وذكر أنه أتاه ثلاث ليال يقول له ذلك في كل ليلة منها، وينشده أبياتا. فلما أسلم سواد وبايع النبي - عليه السلام - أنشأ يقول: أتاني نجي بعد هَدء ورقدة ... ولم يك فيما قد عهدت بكاذب ثلاثَ ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب في أبيات ذكر فيها إسلامه وتوجهه إلى النبي - عليه السلام -. وذكر ابن عبد البر هذه الحكاية والأبيات عن سواد بن قارب في كتاب الصحابة (¬1)، وقد روت عائشة عن النبي - عليه السلام - (كما) (¬2) في الصحيح قال: «الملائكة تحدث في العَنان، والعنان الغمام، بالأمر يكون في الأرض فتستمع (¬3) الشياطين الكلمة فتقرها في آذان الكهنة كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة» (¬4). فأخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الشياطين يلقون إلى الكهان ما يسمعونه من الملائكة وإن كانوا يزيدون فيه. ¬

(¬1) الاستيعاب (2/ 674). (¬2) مابين القوسين كتب في هامش (أ)، وبه بتر، وأتممته اعتمادا على السياق وما بقي من رسمه، ولا شيء في (ب). (¬3) في (ب): فنسمع. (¬4) رواه البخاري (3114).

وفي ذلك تصديق لما تقدم في أن للكهان أصحابا من الجن يأخذون عنهم. وذكر النحاس أيضا أن الجن كانوا يقولون الشعر على ألسنة شعراء العرب، وروى في ذلك حكايات فيها تسمية أشخاص من الجن، منها أن لافظ بن لاحظ منهم هو صاحب امرئ القيس، وهادر بن ماهر هو صاحب النابغة، ومسحل بن جندل صاحب الأعشى، وهنيد بن الصلادم صاحب عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم. ثم قال: وفي مصداق ما ذكرنا من قول الجن الأشعار على ألسن العرب قول الأعشى: فما كنت قوالا ولكن حسبتني ... إذا مسحل سدى لي القول أعلق شريكان فيما بيننا من هوادة ... صفيان (¬1) إنسي وجن موفق يقول فلا أعيى بشيء يقوله ... كفاني لا عي ولا هو أخرق (ق.146.أ) وهذا الذي قاله النحاس واستشهد عليه بقول الأعشى لا يبعد أن يكون، فإنه كما يمكن أن يلقي الجن إلى الكهان ما يريدون فكذلك يمكن أن يلقوا إلى الشعراء ما يلقون، إذ يحتمل أن يكون فيهم أيضا شعراء. وقد روت الرواة أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما قُتل رثته الجن فقالت: ¬

(¬1) في النسختين: صنيفان.

أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاه بأسوق جزى الله خيرا من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق وهي أبيات، ثم نحلها الناس بعد للشماخ. وذكر ابن عبد البر في الصحابة عن عائشة أنها قالت: ناحت الجن على عمر قبل أن يقتل بثلاث، وذكرت الأبيات المتقدمة (¬1). ¬

(¬1) الاستيعاب (3/ 1158 - 1159). وجاء ما يشبه هذه القصة في مقتل الحسين - رضي الله عنه -: روى الطبراني (3/ 121 - 122) وابن سعد (1/ 504) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/ 308) والمزي في تهذيبه (6/ 441) وابن عساكر (14/ 240) من طريق حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أم سلمة قالت: سمعت الجن تنوح على الحسين - رضي الله عنه -. قال الهيثمي (9/ 199): ورجاله رجال الصحيح. قلت: سنده صحيح. ورواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/ 308) والطبراني (3/ 122) عن ميمونة به، وسنده صحيح كذلك.

استعاذة أهل الجاهلية بالجن

فصل (استعاذة أهل الجاهلية بالجن) (¬1) ولمعرفة أهل الجاهلية بوجود (¬2) الجن كما قلناه (¬3)، وكونهم يشعرون عندهم بأمور الناس كانوا إذا سافر منهم أحد فنزل بواد يقول: أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر. يعني بذلك كبير (¬4) الوادي من الجن. وقد ذكر الله تعالى فعلهم هذا في كتابه العزيز فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6]. والرهق: السفه والطغيان (¬5)، أي ازداد الإنس بذلك طغيانا ومعصية. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) في (ب): لوجود. (¬3) في (ب): قلنا. (¬4) كذا في (أ)، في (ب): زعيم. (¬5) قال في اللسان (5/ 345): والرهق: السفه وغشيان المحارم. وانظر تهذيب اللغة (5/ 260) والصحاح (4/ 229).

وهذا هو معنى (¬1) استمتاع الإنس بالجن في قوله: {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128]، على ما ذكره المفسرون (¬2). وأما استمتاع الجن بالإنس فقيل هو تشريف الإنس لهم واستعاذتهم بهم واعتقادهم أن الجن يقدرون على ذلك. وقيل: إن الإنس تلذذوا بقبولهم من الجن، وإن الجن تلذذوا بطاعة الإنس لهم (¬3). وقيل: استمتاع الجن بهم تزيينهم لهم وإغواؤهم إياهم. والمعنى في هذه الآية أن الله تعالى يقرر الضالين والمضلين على أفعالهم ويوبخ الجميع على أعين الناس في الآخرة، فإن هذه المخاطبة إنما تكون في الآخرة، بين ذلك تعالى بقوله في أول الآية: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ} [الأنعام: 128]. أي يقال لهم ذلك في القيامة، والمعنى قد استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم. ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) انظر تفسير القرطبي (7/ 84). (¬3) انظر تفسير القرطبي (7/ 84).

جعل أهل الجاهلية الجن شركاء

فصل (جعل أهل الجاهلية الجن شركاء) (¬1) (ق.146.ب) ولمعرفة أهل الجاهلية أيضا بوجود الجن واعتقادهم أنهم يقدرون على نفعهم جعلوهم شركاء لله، قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ} [الأنعام: 100]. قيل في التفسير: أي أطاعوهم وعبدوهم كطاعة الله (¬2). وقيل: معناه أنهم نسبوا إليهم الأفعال التي لا تكون إلا لله. و {الْجِنَّ} في الإعراب مفعول أول لجعلوا، و {شُرَكَاء} هو المفعول الثاني (¬3). ويجوز أن يكون الجن بدلا من شركاء، و {لِلّهِ} في موضع المفعول الثاني، واللام متعلقة بجعل (¬4). وعلى القول الأول تكون متعلقة بشركاء. وقوله: {وَخَلَقَهُمْ} التقدير: وهو خلق الجن، ويجوز أن يكون المعنى: وخلق الجاعلين لهم شركاء. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) روي ذلك عن الحسن وغيره، كما في تفسير القرطبي (7/ 53). (¬3) قاله النحاس كما في تفسير القرطبي (7/ 52). (¬4) تفسير القرطبي (7/ 52).

وقوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] أي افتروا عليه الكذب في قولهم إن الملائكة بنات الله (¬1). وقد تقدم ذكر هذا المعنى في القسم الثالث من أهل الفترة، ومضى هنالك ما ذكره مسلم عن عبد الله بن مسعود في قوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]، قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون فبقوا على عبادتهم لهم (¬2). وهذه العبادة قد يشبه أن تكون عبادة خالصة للجن، فيكون هؤلاء خلاف من جعل الجن شركاء لله. وقد نطق الكتاب العزيز بعبادة من عبد الجن من المشركين، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41]. فأخبر أن الملائكة تبرأت من أن تعبد، وذكرت أن الجن هم الذين كان الكفار يعبدونهم. وقد أشار زيد بن عمرو في شعره المتقدم إلى هذا المعنى في الجن، وذلك قوله: حنانيك إن الجن كانت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا ¬

(¬1) خرقوا، أي اختلقوا وافترقوا، كما في تفسير الطبري (7/ 297). (¬2) رواه مسلم (3030).

فصل وأما كون الجن أمة عاقلة مميزة فيدل على ذلك أن إبليس إمامهم وزعيمهم عبد الله تعالى أولا مع الملائكة، ولا يفعل ذلك إلا من يعقل العبادة، ثم لما كفر واستكبر كانت مخاطبته لله سبحانه (¬1) في امتناع السجود مخاطبة من يعقل السجود، وامتثال الأمر والمخالفة بالمعصية كما نطق به القرآن. وقبيله من الجن وذريته يكونون لا محالة مثله في فهم الخطاب والمعرفة بمواقع الكلام. يدل على ذلك أن الله تعالى سخرهم لسليمان (ق.147.أ) - عليه السلام - فكان له منهم البناءون والغواصون وغيرهم، وأخبر سبحانه بعملهم لسليمان فقال: {َيعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]. ومثل هذه الأفعال لا تصدر إلا من عاقل مميز عارف بما يتناوله. ويدل على ذلك أيضا أن الجن كلفوا العمل بالشرائع التي يلزم عن امتثالها بالوقوف عند أوامرها ونواهيها الجزاء بالثواب والعقاب، ولا يصح أن يتوجه الخطاب بالتكليف إلى غير عاقل أصلا، كما ثبت في الأصول. وسنقرر في الباب الثاني والثالث تكليف الجن بحول الله. ¬

(¬1) في (ب): تعالى.

الباب الثاني: في تكليف الجن في الأمم الخالية قبل الإسلام

الباب الثاني: في تكليف الجن في الأمم الخالية قبل الإسلام. يدل على أن الجن متعبدون بالشرائع ومكلفون العمل بها في الأمم السالفة قبل الإسلام ما نذكره. فمن ذلك قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف: 18]. فأخبر أن في الأمم الخالية قبل هذه الأمة من حق عليه القول، أي: وجب عليه العذاب من الجن والإنس وأنهم خاسرون، ولا يكون ذلك إلا في أهل التكليف المستوجبين العقاب بأعمالهم، ولهذا قال متصلا بالآية: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] أي: لكل (¬1) صنف درجات مما عملوا في الخير والشر فيوفى ذلك لهم ولا يظلمون في الحساب عليه. وإذا امتحنت لهم تلك الأعمال في القيامة دل ذلك لا محالة على أنهم كانوا متعبدين بها في الدنيا، إذ من ليس بمكلف لا يلزمه حساب ولا يلحقه عقاب على ما تقدم. ومن ذلك أيضا قول الله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ¬

(¬1) في (ب): ولكل.

وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25]. ومعنى الآية أنه تعالى قيض للمشركين، أي: سبب لهم قرناء من الشياطين يزينون لهم ما بين أيديهم من اللذات في الدنيا، وما خلفهم من التكذيب بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب (¬1). وقيل: في الآية عكس هذا وهو أن ما بين أيديهم هو التكذيب بأمور الآخرة، وما خلفهم هو رغبتهم في الدنيا وحرصهم عليها (¬2). وقال الحسن: قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [فصلت: 25]: هو حب ما كان عليه آباؤهم من الشرك وتكذيب الرسل، {وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25]: تكذيبهم بالبعث وما بعده. وقوله: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [فصلت: 25]، أي: وجب عليهم من العذاب مثل ما وجب على أمم قبلهم من الجن والإنس بكفرهم وعملهم مثل عملهم (¬3). وقيل: "في" بمعنى مع، فيكون معنى الآية: إنهم داخلون مع الأمم الكافرة قبلهم من الجن والإنس فيما دخلوا فيه (¬4). ¬

(¬1) نقله ابن جرير (11/ 103) عن السدي، واختاره. ورواه ابن المنذر عن ابن جريج كما في الدر المنثور (4/ 1817). (¬2) قاله ابن عباس، كما في تفسير القرطبي (15/ 355). (¬3) انظر تفسير الطبري (24/ 111) والقرطبي (15/ 355). (¬4) انظر القرطبي (15/ 355).

وفي هذا دليل على تكليف الصنفين في المدد الخالية، وبذلك استحق من لم يؤمن منها أن يوصف بالخسران. ومن ذلك أيضا قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام: 128]. وموضع (¬1) الدليل من هذه الآية أن هذا القول يقال للجن في القيامة فيذكر الإنس (¬2) استمتاع بعضهم من بعض في الدنيا، وقد تقدم أن ذلك الاستمتاع كان في الجاهلية، ثم قال الله للصنفين: {النَّارُ مَثْوَاكُم} [الأنعام: 128]، فقضى عليهم بالنار بهذه الأفعال التي فعلوها قبل الإسلام مع الكفر اللازم لهم. ومن ذلك أيضا قول الله (ق.147.ب) تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 38]، وهذه الآية يخاطب بها الكفار في القيامة. يدل على ذلك أن قبلها ذكر الكفار إلى أن قال متصلا بها: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف: 37]. فإن كان الكفار المذكورون هم الكفار بالأنبياء المتقدمين وبشرائعهم فقد أمروا أن يدخلوا النار مع أمم قد تقدمتهم من الجن والإنس. ¬

(¬1) في (ب): موضع. (¬2) في (ب): الإنسان، وهو خطأ.

وإن كان الكفار عُني بهم من كفر بنبينا - عليه السلام - وبشريعته فقد أمروا أن يدخلوا النار مع من تقدمهم من الجن والإنس، والإنس المأمورون بدخول النار أولا لابد أن يكونوا قد كلفوا العمل بالشرائع المتقدمة، ولذلك توجه عليهم العقاب فكذلك أيضا الجن الداخلون معهم النار ولا فرق. وبهذا الذي قررناه يتبين أن الجن مكلفون بالشرائع في الجملة قبل هذه الشريعة.

من هم رسل الجن؟

فصل (من هم رسل الجن؟) (¬1) فإن قيل: فإذا ثبت أنهم كانوا مخاطبين ومتعبدين بالشرائع فمن كانت الرسل إليهم قبل الإسلام؟. قلنا: إذا ثبت أنهم مكلفون عُلم أن التكليف إنما يتصور بعد وصول الخطاب إليهم وإقامة الحجة عليهم، ومن ضرورة وصول الخطاب لهم أن يكون على لسان رسول يبلغه إليهم، ولا يلزمنا تعيين ذلك الرسول، إذ لا نص عندنا فيمن عدا محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد قال بعض الناس: إنه كان للجن رسل منهم أرسلهم الله إليهم، أخذا بظاهر قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 130] قال ذلك الضحاك (¬2)، على ما ذكره أهل التفسير. وقال ابن عباس: هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي كما قال: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29]. ¬

(¬1) هذا العنوان زيادة مني. (¬2) رواه ابن جرير (5/ 345) بسند فيه محمد بن حميد الرازي المتروك.

وقيل: لما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 130] وإن كانت الرسل من الإنس، وغلَّب الإنسَ في الخطاب كما يُغلب المذكر على المؤنث (¬1). وإذا كانت الآية محتملة فليس فيها جلاء لما قاله الضحاك، لكن نعلم أن الحجة قد قامت عليهم بإرسال الرسل (¬2) إليهم في الجملة، ولذلك قال الله عنهم وعن الإنس معهم: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} [الأنعام: 130]، أي: شهدنا على أنفسنا أن الرسل جاءتنا فلن نؤمن بهم. يدل على ذلك قول الله تعالى في آخر الآية: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130]. إذ اعترفوا جميعا على أنفسهم بالكفر ولا يكون ذلك من الجن إلا بعد توجه الخطاب إليهم وإن لم نعلم المتوجه به إليهم بعينه قبل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولنتكلم على ذلك بالاستقراء فنقول قال الله تعالى حكاية عن الجن: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: 30]. ¬

(¬1) وهو قول كثير من المفسرين، انظر تفسير القرطبي (17/ 163) وابن كثير (4/ 170). قال ابن كثير عن الآية المذكورة: فالمراد من مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس، كقوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، أي أحدهما. (¬2) كذا في (ب)، وفي (أ): رسل.

وهذا القول منهم يدل على أنهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزل عليه، ولا يكون عِلم ذلك على وجه التعظيم لموسى ولكتابه الذي صدقه هذا القرآن الذي سمعوه إلا من مؤمن. ولا نقول إن موسى - عليه السلام - رسول إلى الجن، إذ لا علم لنا بذلك من الشرع، فإن كان فيهم من هو مؤمن بموسى وكتابه فلا يبعد أن يكون ذلك بأن يلتزم شريعته، ويدخل نفسه في التعبد بها، وإن لم يكن موسى رسولا إليه. وإذا التزم تلك الشريعة كان من أهلها على ما تقرر في القسم الثاني من أهل الفترة. ونقول أيضا: إن الله تعالى (¬1) أخبر في كتابه العزيز أنه سخر الجن لسليمان بن داود عليهما (¬2) السلام وجعلهم تحت سلطانه وقهره فقال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص: 36 - 38]. وقال: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82]. وقال: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ} [النمل: 17]. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) كذا في (ب)، في (أ): عليه.

فأخبر أن الجن من جند سليمان، ولهذا (¬1) لما قال سليمان: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38]، قال عفريت له (¬2) من الجن: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [النمل: 39]. وقال تعالى في موضع آخر: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ: 12]. فأخبر سبحانه أن من الجن من يعمل بين يدي سليمان بإذن الله، وهذا الإذن لابد أن يتلقوه ممن يلقيه إليهم، يدل على ذلك قوله: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12]. إذ هذا وعيد لمن يزيغ من الجن عن أمر الله أي: يميل عنه، وأمر الله لا يعرفونه هم إلا بأن يتلقوه من سليمان مثلا، فحينئذ يتوجه الوعيد عليهم. وتلقيهم الأمر من سليمان هو معنى الرسالة، فقد يظهر من ذلك، والله أعلم، أن سليمان رسول إليهم ولو في أمر ما من الأمور الخاصة به أو بهم، على أنا لا نعلم هل كان سليمان رسولا إلى بني إسرائيل أم لا، إذ ليس لنا دليل على رسالته إلا أن الله تعالى ذكر أنه أوحى إليه، إذ عدده في من أوحى إليهم في قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى ¬

(¬1) في (ب): ولذلك. (¬2) في (ب): له عفريت.

إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} [النساء: 163]. فيمكن أن يكون ذلك الوحي في حق سليمان وحي رسالة، ويمكن أن يكون وحي نبوة فقط، فإن الآية تضمنت ذكر أيوب، والكلام فيه كالكلام في سليمان، وكذلك تضمنت ذكر الأسباط أيضا. والآيات (ق.148.ب) المتقدمة في ذكر الجن تقتضي أن فيهم المطيع والعاصي، إذ احتوت على أن منهم من يعمل بين يدي سليمان بإذن الله وأنهم يعملون له ما يشاء مما ذكر، ومنهم من هو مقرن في الأصفاد من العتاة. وإذا كان فيهم المطيع والعاصي صح أن فيهم المؤمن والكافر، وإذا كان فيهم المؤمن والكافر فلابد أن هناك شيئا هو مطلوب بالإيمان لا محالة. وبالجملة إذا تقرر من الآيات المتقدمة أولا أن الجن مكلفون بالأوامر والنواهي في المدد الخالية قبل الإسلام لما دل عليه عقابهم في النار لم يلزمنا البحث عن من كانت الرسل إليهم، هل كانوا منهم أو من بني آدم، إذ لا يضرنا ذلك في القاعدة التي هي مقطوع بها، وهي نفي العذاب عمن لم تقم عليه الحجة (¬1) كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. لاسيما وهو سبحانه يقرر الحجة على الجن والإنس في القيامة بقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 130] الآية. ¬

(¬1) في (ب): حجة.

الباب الثالث: في كون الجن متعبدين بشريعة نبينا محمد - عليه السلام -

الباب الثالث: في كون الجن متعبدين بشريعة نبينا محمد - عليه السلام -. تعبد الجن بشريعة نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1) وتكليفهم العمل بها (¬2) معلوم من القرآن والسنة والإجماع. أما القرآن فقول الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، إلى آخر الآيات. فأخبر الله تعالى عنهم أنهم بعدما استمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين، ولا يفعلون ذلك إلا بعد إقامة الحجة عليهم بإنذار النبي - عليه السلام - إياهم وفهمهم للشرع، ولذلك قالوا عن القرآن إنه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. ثم إن في الآيات من الدلالة على أن النبي - عليه السلام - بعث إليهم ما هو أقوى من هذا، وذلك قولهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]. ¬

(¬1) في (أ): - عليه السلام -. (¬2) في (ب): به.

ومأخذ الدليل من هذه الآية في موضعين: أحدهما: قولهم: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] فأخبروا أن هنالك داعيا يدعوهم إلى الإيمان بالله فثبتت إذا عليهم الدعوة إلى الإسلام، والداعي لذلك لا يخلو أن يعنوا به محمدا - عليه السلام -، أو يعنوا به القرآن، فإن عنوا به محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1) وهو الأظهر، فهو المقصود. وإن عنوا به القرآن (ق.149.أ) فلم يتلقوه إلا من محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فرجع حاصل الكلام إلى أن محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2) هو الداعي لهم، وإذا كان داعيا لهم فهو الرسول إليهم كما هو الرسول إلى بني آدم. والثاني: إخبارهم بالمغفرة وذهاب العقاب عنهم في قولهم: {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]. ومر لهم بأن الإيمان يترتب عليه المغفرة والإجارة من العذاب، فإن ذلك لا يدرك عقلا، وإنما مدركه الشرع، وإذا لم يدرك ذلك إلا بالشرع فلا محالة أن النبي - عليه السلام - ألقاه إليهم في وقت الإنذار وتبليغ التكليف إليهم بالتزام الشريعة، وأن ذلك إذا فعلوه ترتب عليه المغفرة لهم والإجارة من العذاب. فلما علموا ذلك منه - عليه السلام -، ءامنوا حينئذ كما أخبر الله تعالى عنهم فقال في سورة أخرى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1 - 2]. ¬

(¬1) في (أ): - عليه السلام -. (¬2) من (ب).

وأخبر عنهم بهذا المعنى فيما بعد من هذه السورة وذلك قولهم: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} [الجن:13]. وأخبر عنهم بأن فيهم من لم يؤمن بقولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُو الِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 14 - 15].

فصل ومن الدليل أيضا على ما قلناه أن دعوى التحدي بالقرآن قد سُوي فيه الجن والإنس، قال الله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88]. فأخبر سبحانه أن الصنفين لا يأتون بمثل القرآن ولو اجتمعوا عليه، وظاهر (¬1) بعضهم بعضا فيه، وإنما جمع تعالى في هذا بين الجن والإنس لكونهم جميعا مأمورين باتباع محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو - عليه السلام - المأمور بتبليغ الرسالة إليهم. ¬

(¬1) في (ب): وظاهرا.

فصل ومن الدليل أيضا على ما قلناه ما تضمنته سورة الرحمن، ونحن نتكلم على ما يمس غرضنا منها فنقول: إن فيها: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 14 - 15]. فأخبر أن الأناسي من بني آدم والجن خلقهم مما ذكر، والألف واللام للجنس المستغرق للصنفين المذكورين. وهذان الصنفان هما المخاطبان بقوله المردد (¬1) في هذه السورة: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 23]. يبين ذلك اتصاله بالآية المتقدمة، ثم اتصاله بقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31]، يعني الإنس والجن، ثم اتصاله (ق.149.ب) بقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} [الرحمن: 33]، الآية، ثم اتصاله بقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]. ومما يؤكد ذلك أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2) قرأ السورة على الجن وبلغها إليهم كما قرأها على صحابته من الإنس (¬3) وبلغها إليهم، ليتساوى الصنفان المخاطبان بهذه السورة في ذلك. ¬

(¬1) في (ب): المكرر. (¬2) في (أ): - عليه السلام -. (¬3) في (ب): الصحابة من بني آدم.

روى جابر بن عبد الله أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال - عليه السلام -: «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 23]، قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد» (¬1). وهذا يدل على ذكاء الجن وفطنتهم، ومعرفتهم بمواقع الخطاب. وقوله في هذه السورة: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31] وعيد للجن والإنس المكلفين العمل بالشريعة. وقال قتادة: معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها ومجيء الآخرة والجزاء فيها، والله تعالى لا يشغله شيء عن شيء (¬2). ¬

(¬1) خرجه الترمذي (3291) من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر. وسنده ضعيف، الوليد بن مسلم مدلس، وقد عنعن، وزهير بن محمد متكلم فيه، وخصوصا في رواية أهل الشام عنه. وهذه منها، فالوليد دمشقي. (¬2) وقال البخاري في الصحيح: سنفرغ لكم: سنحاسبكم، لا يثقله شيء عن شيء. قال الحافظ في شرحه (8/ 623): هو كلام أبي عبيدة أخرجه ابن المنذر من طريقه، وأخرج من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو وعيد من الله لعباده وليس بالله شغل، وهو معروف في كلام العرب يقال: لأتفرغن لك وما به شغل، كأنه يقول لآخذنك على غرة. وانظر تفسير ابن جرير (11/ 593).

والفراغ في اللغة (¬1) على وجهين: يكون بمعنى الفراغ من الشغل، ويكون بمعنى القصد. وهو في هذا الموضع بمعنى القصد، فكأن معنى قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31] أي سنقصد لمجازاتكم بأعمالكم يوم الجزاء. وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن: 33] معناه في قول ابن عباس (¬2): إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات وما في الأرض فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان، أي ببينة من الله تعالى. وعنه أيضا أن المعنى: لا تخرجون عن سلطاني وقدرتي عليكم (¬3). وهذا القول أشبه بمفهوم الآية، ويظهر ذلك بأن نزيد في العبارة عنه فنقول: يكون معنى الآية: إن استطعتم أن تخرجوا عن قهر الله وقدرته عليكم في التسخير فاخرجوا، وذلك لا يقدر عليه، إذ العالم بما فيه مسخر كله لله ¬

(¬1) قال في اللسان (10/ 242): وقوله تعالى: سنفرغ لكم أيها الثقلان، قال ابن الأعرابي: أي سنعمد. واحتج بقول جرير: ولما اتقى القين العراقي باسته ... فرغت إلى العبد المقيد في الحجل. قال: معنى فرغت: أي عمدت. وفي حديث أبي بكر رضى الله عنه: افرغ إلى أضيافك، أي اعمد واقصد. ويجوز أن يكون بمعنى التخلي والفراغ لتتوفر على قراهم والاشتغال بهم. (¬2) رواه ابن جرير (11/ 594). (¬3) رواه ابن جرير (11/ 594) والبيهقي في الأسماء والصفات وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (7/ 701).

تعالى وفي قبضته، ولذلك قال: {لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] أي: ببرهان (يكون لكم) (¬1) وحجة تستظهرون بها، وذلك معدوم عند الثقلين معا. وقال الضحاك: معنى الآية: إن استطعتم أن تهربوا عن الموت فاهربوا فإنه مدرككم (¬2). وهذه الأقوال متجهة على أن تكون الآية خوطب بها الجن والإنس في الدنيا. وفي الآية تأويل آخر وهو أن المخاطبة بها تكون يوم القيامة إذا أحدقت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاط سرادق النار بالآفاق، فهرب (ق.150.أ) الخلائق ولا يجدون منفذا، كما دل على ذلك قوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَاد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 32] وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 22] وقوله: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 16]. فعند هذه الحال إذا ند الخلائق يقال للجن والإنس: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن: 33]، معناه: إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم فافعلوا وانفذوا إلى الجنة، وأنتم لا تقدرون على ذلك، ولا تنفذون إلا بسلطان، يعني إلا بحجة ثابتة وعهد قائم فتنفذون على الصراط إلى الجنة. ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) رواه ابن جرير (11/ 594). وذكره القرطبي (17/ 170).

وقال: إن استطعتم، ولم يقل إن استطعتما لأنه أراد جماعة الجن والإنس كما قال في آية أخرى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} ... [الأنعام: 130] على الجمع. وأما قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 35] على التثنية، فإنه أراد الصنفين: الجن والإنس، وحسن بذلك بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 23] الفاصل بين الآيتين، وفيه التثنية، أعني في قوله: تكذبان، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفي قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] إخبار بأن الصنفين سواء في العذاب، بإرسال لهب النار عليهم ودخانها. قال ابن عباس: الشواظ: اللهب الذي لا دخان فيه، والنحاس: الدخان الذي لا لهب فيه (¬1). وفي هذه السورة: {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39] فإضافة الذنوب إلى الصنفين دليل على أنهما سواء في التكليف. وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] يدل على أنهما أيضا سواء في الثواب، أعني المؤمنين من الجن والإنس، لأن الصنفين دخلوا في هذا العموم بلا إشكال. ¬

(¬1) رواه ابن جرير (11/ 596) وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (7/ 701) بنحوه.

فصل ومن الدليل على ما تقدم أيضا قول الله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 130] فإن دخول النبي محمد (¬1) - عليه السلام - في هؤلاء الرسل المذكورين لا إشكال فيه لكونه مبعوثا إلى الثقلين، وإنما الإشكال في غيره، وقد تقدم الكلام على الآية. ولما كان الجن والإنس هما المخاطبان معا بالشريعة سوَّى الله بينهما في غيبة أشياء عنهما من أحوال الآخرة، وإن جاز أن يدركها البهائم، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث (ق.150.ب) ذكر فيه فضل الجمعة: «وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من (¬2) حين يصبح إلى أن تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس» (¬3). ¬

(¬1) من (ب). (¬2) ليست في (ب). (¬3) رواه مالك (243) عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة وعنه ابن حبان (7/ 7) والحاكم (1/ 413) والشافعي (72) في مسنده وغيرهم.

وفي حديث أنس عن النبي - عليه السلام - في عذاب القبر للكافر، قال: «ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعه من يليه إلا الثقلين»، خرجه البخاري (¬1). وإنما غيب الله عن الجن والإنس ما تقدم ذكره من تلك الأحوال حتى لا يدركوها لأجل أن جميعهم هم المكلفون بالشرائع وهم مطلوبون فيها بالإيمان بالغيب. فستر الله عنهم تلك الأمور ليمتاز المؤمنون منهم بالغيب عن غيرهم ممن لا يؤمن من الصنفين (¬2). ¬

(¬1) خرجه بهذا اللفظ البخاري (1273) عن أنس. (¬2) هذه الفقرة من: وإنما غيب، كتب في الهامش في (أ)، لكنها بتر، وأتممتها من (ب).

فصل وأما السنة فالأحاديث الواردة باجتماع النبي - عليه السلام - مع الجن وقراءته عليهم القرآن وسؤالهم إياه الزاد، مثل حديث ابن مسعود وغيره من الأحاديث المروية في أمرهم. ذكر مسلم (¬1) عن علقمة قال: سألت ابن مسعود هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن»، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم»، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم». ¬

(¬1) (1/ص332 - رقم 450).

وفي رواية (¬1): «وكانوا من جن الجزيرة». وذكر عن (¬2) ابن مسعود أيضا أنه قال: ءاذنته بهم شجرة (¬3)، يعني آذنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجن. وذكر أبو داود عن ابن مسعود قال: قدم وفد الجن على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا محمد انْه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة (¬4) أو حممة، فإن الله جاعل لنا فيها رزقا، قال: فنهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك (¬5). قوله الحممة هي واحد الحمم، وهو الفحم (¬6)، ذكر ذلك أبو عبيد (¬7). وخرج البخاري (¬8) عن أبي هريرة أنه كان يحمل مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: «من هذا؟» فقال: أنا أبو هريرة (ق.151.أ) فقال: «ابغني أحجارا، أستنفض بها ولا تأتني (¬9) بعظم ولا ¬

(¬1) خرجها مسلم (450) والترمذي (3258) وأحمد (1/ 436) والبيهقي (1/ 109) من مرسل الشعبي. (¬2) ليس في (ب). (¬3) رواه مسلم (450). (¬4) في (ب): ورثة، وهو تصحيف. (¬5) رواه أبو داود (1/ 10) والبيهقي (1/ 109) بسند جيد. (¬6) في (ب): قوله الحمم: هو الفحم، واحدتها: حممة. (¬7) غريب الحديث (194) بنحوه. وقال الجوهري (5/ 231): والحمم الرماد والفحم وكل ما احترق من النار، الواحدة حممة. (¬8) رواه البخاري (3/ص1401، رقم 3647) والبيهقي (1/ 107) والطحاوي (1/ 124). (¬9) كذا في (ب) وصحيح البخاري، وفي (أ): تأتي.

بروثة». فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: «هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طُعما». وفي هذه (الأحاديث المتقدمة ما يدل على أن الجن يأكلون كما يأكل بنو آدم. ويدل على ذلك أيضا قوله - عليه السلام -: «فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» (¬1). ومضى الدليل على أنهم ينكحون كما ينكح بنو آدم في موضعه) (¬2). وقد وجدنا حديثا فيه من لفظ النبي - عليه السلام - أنه أرسل إلى الجن والإنس، وهو حديث ذكره وثيمة بن موسى في أخبار يعقوب - عليه السلام - من كتابه من حديث ابن عباس قال: كانت النبوءة في بني يعقوب صلى الله عليه بأرض كنعان وما حولها لم يكونوا جاوزوا أرض كنعان، وما أرسل نبي إلى الخلق كافة قبل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال ابن عباس: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أرسلت إلى الجن والإنس وإلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم دون الأنبياء، وجعلت لي ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ما بين القوسين كتب في هامش (أ)، لكن في أكثره بتر فاستدركته من (ب).

الأرض كلها مسجدا وطهورا»، وذكر باقي الحديث في خصائصه - عليه السلام -، وفيه بعض طول (¬1). وخرج مسلم (¬2) عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرءانا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، قال: فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]. ¬

(¬1) لم أقف عليه بهذا التمام، وشطره الثاني، أي أرسلت إلى الأحمر والأسود، وما بعده خرجه البخاري (328 - 427) ومسلم (521) عن جابر. وخرجه مسلم (523) عن أبي هريرة. (¬2) رواه البخاري (739 - 4637) ومسلم (449) والترمذي (3323) وأحمد (1/ 252) وابن حبان (6526) والبيهقي (2/ 194) والحاكم (3857) والطبراني في الكبير (12/ 52) وأبو يعلى (4/ 255).

فصل فإن قيل: فإن في حديث ابن عباس هذا: ما قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1) على الجن ومارءاهم، وفي ذلك (ق.151.ب) دليل على أنهم استمعوا القرآن فآمنوا به من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون النبي - عليه السلام - يدعوهم إليه. فالجواب من وجهين: أحدهما: إن هذا اللفظ الذي هو "ما قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجن وما رءاهم"، مع أنه خبر واحد ليس بمتفق عليه، فإن البخاري خرج حديث ابن عباس في موضعين من كتابه، وهما كتابا الصلاة (¬2) والتفسير (¬3)، ولم يذكر هذا اللفظ فيه. والوجه الثاني، وهو المعتمد: أن ابن عباس كان في ذلك الوقت إما غير مولود، وإما صغيرا لا يميز (¬4)، إذ كان أمر الجن قديما بمكة، فليس عنده علم ¬

(¬1) من (ب). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 739). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 4637). (¬4) وأحسن من هذا ما أجاب به الحافظ ابن حجر حيث قال (7/ 171): فيجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجن على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن والرجوع إلى قومهم منذرين كما وقع في القرآن، وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بين في الحديثين المذكورين. ... = = ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضا بمكة وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود كما سنذكره. وأما حديث أبي هريرة فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدينة. ويحتمل تعدد القدوم بمكة مرتين، وبالمدينة أيضا.

بذلك، وإنما تكلم على ظاهر القرآن في قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]، وخفي (¬1) عليه - رضي الله عنه - ما تضمن قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] من الدعوة إلى الله والإيمان به ومعرفة الجن بالمغفرة المترتبة عليه حسبما قررناه (¬2). وفي ذلك دليل على أنهم لم يؤمنوا حتى دعوا، فلما دعوا أجابوا داعي الله وءامنوا به، ولا يبعد أن يكون السبب لهم في ذلك ما قاله ابن عباس من كون إبليس يقول لهم: اضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فلما سمعوا القرآن كان ذلك قائدا إلى هدايتهم إلى الإسلام. على أن قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] فيه ما يدل على أنهم مقهورون في استماع القرآن. وحديث ابن مسعود أولى من حديث ابن عباس من وجهين: أحدهما: إن ابن مسعود كان تلك الليلة في أولها مع النبي - عليه السلام -، وأحس هو ومن كان معه من الصحابة بفقده حتى خافوا عليه. ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) في (ب): قرأناه، وهو تصحيف.

والثاني: إخبار النبي - عليه السلام - بلفظه بأن داعي الجن أتاه فذهب معهم وقرأ عليهم القرآن وسألوه الزاد، ثم إنه انطلق مع الصحابة فأراهم آثار الجن وآثار نيرانهم. فكيف يقول ابن عباس: "إنه - عليه السلام - ما رأى الجن ولا قرأ عليهم القرآن"؟. وهذا ابن مسعود يروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1) سماعه ذلك من لفظه. وكذلك أبو هريرة قد روى نحو ذلك، فإنه قال عنه - عليه السلام -: «وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن فسألوني (¬2) الزاد فدعوت الله لهم» (¬3). فهذا إخبار من النبي - عليه السلام - بأنه اجتمع مع الجن وكلموه وكلمهم (ق.152.أ). ¬

(¬1) في (أ): - عليه السلام -. (¬2) في (ب): فسألوه. (¬3) رواه البخاري (3/ 1401) والبيهقي (1/ 107).

فصل فإن قيل: لم يرد في الحديث أن النبي - عليه السلام - اجتمع مع الجن إلا بمكة، وقد نزلت فرائض الدين بعد الهجرة، ولم ينقل أنهم اجتمعوا مع النبي - عليه السلام - بالمدينة، ولا سألوه عن ذلك. قلنا: حديث أبي هريرة المتقدم يحتمل أن يكون بالمدينة، أعني اجتماع النبي - عليه السلام - بالجن وسؤالهم الزاد بسبب تأخر إسلام أبي هريرة. ويحتمل أن يكون النبي - عليه السلام - أخبر أبا هريرة بما كان من سؤال الجن الزاد، إذ كان بمكة، ونحن نعلم وإن لم ينقل إلينا أن الجن بعد الهجرة إلى المدينة عالمون بالفرائض الواجبة لا محالة، أعني بما يتعبدون به منها، إذ في الجائز أن يتعبدوا بجميعها (أو بما شاء الله منها) (¬1). ومن المحال أن يتعبدوا بشيء لا يصل إليهم معرفته، لأن ذلك من تكليف مالا يطاق، والنبي - عليه السلام - قد قال: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا» (¬2). وإذا أسلموا فلا بد من معرفتهم بما يتزيد في الإسلام من فروضه وسننه، فيحتمل أن يسألوا أو يسأل وافدهم النبي - عليه السلام - عن ذلك، وإن لم يبلغ إلينا. ¬

(¬1) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي. (¬2) تقدم.

فإن النبي - عليه السلام - في المدينة آمن، والدين قد فشا، فلا داعية تدعو إلى نقل اجتماعهم مع النبي - عليه السلام -، فإنه إنما نقل ذلك بمكة، لأن النبي - عليه السلام - غاب عن أصحابه تلك الليلة حتى خافوا عليه، فلما أصبح وسألوه عن ذلك أخبرهم بوصول الجن إليه. ولو لم تكن هنالك قرينة من غيبته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسؤالهم إياه عن ذلك، لم نعلم هل كان يخبرهم ابتداء بحديث الجن أم لا؟. وبالمدينة ليس بها قرينة تدعو إلى إخبارهم بوصول الجن، ففي الجائز أن يصلوا إليه ويسألوه عن دينهم فيُعلمهم، ولا يعلم الصحابة بذلك. وفي الجائز أيضا أن يكون الجن أو وافدهم يحضرون مع الصحابة عند النبي - عليه السلام - في مجالسه، فيسمعون ما نزل من القرآن بعد ذلك، ويستفيدون التفقه في الدين بسؤال الصحابة للنبي - عليه السلام -، ويكون النبي - عليه السلام - يعلم ذلك منهم لرؤيته إياهم دون الصحابة، فيكتفي بذلك عن تعليمهم على الانفراد، والله أعلم.

فصل (ق.152.ب) وأما الإجماع على كون الجن متعبدين بهذه الشريعة على الخصوص فمعلوم، إذ لا خلاف بين أئمة المسلمين في أن النبي محمدا - عليه السلام - مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس، وقد نبه على ذلك أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (¬1). وكثيرا ما يذكر العلماء في مصنفاتهم كونه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبعوثا إلى الثقلين، وربما يوجد ذلك لبعضهم في صدور تواليفهم. فلا نحتاج إلى أن نطول بنقله، لأن الناس في الجملة مشتركون في إدراك ما في هذا الفصل والعلم بمضمونه. ¬

(¬1) التمهيد (11/ 117).

الباب الرابع: في أقسام الجن وحكم موازنتهم

الباب الرابع: في أقسام الجن وحكم موازنتهم. قد ثبت بما تقدم أن الجن مخاطبون بالشريعة، وإذا كانوا مخاطبين بالشريعة فلا بد أن ينقسموا إلى قسمين: مؤمنين وكفار، كما انقسم الإنس إلى هذين القسمين. ولما كان المؤمنون من الإنس ينقسمون إلى: مقربين، وأصحاب اليمين، فكذلك المؤمنون من الجن ينقسمون إلى: صالحين، وإلى من دونهم في الصلاح. فبنو آدم إذا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: - مقربين. - وأصحاب اليمين. - وأصحاب الشمال، كما تقدم ذكر ذلك أول الكتاب. وكذلك الجن ينقسمون أيضا إلى ثلاثة أقسام: - صالحين. - ومن دون الصالحين في الرتبة. - وكفار. والدليل على ذلك قول الله تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن: 11].

وقال عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 13 - 14]. فالصالحون هم (¬1) الطبقة العليا، ومن دون الصالحين هم الذين قالوا فيهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} فإن المسلمين أعم من الصالحين. ونظيره في بني آدم: أصحاب اليمين، إذ يحتوي على المقربين وغيرهم. ولم نطلق اللفظ في الجن بأن نقول: إن فيهم (¬2) مقربين وأصحاب اليمين، وإن كانوا فيهم، لأنا اقتصرنا في حقهم على لفظ القرآن، فجعلنا لفظ الصالحين منهم بإزاء المقربين من بني آدم، وجعلنا من دون الصالحين منهم بإزاء أصحاب اليمين. ومن الدليل على أن من (ق.153.أ) دون الصالحين هم من جملة المؤمنين ولم يلحقوا بالصالحين قول الله تعالى في بني إسرائيل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168]، فأخبر أنه فرقهم في الأرض فرقا، ثم أخبر أن منهم صالحين وأن منهم من هو دون ذلك، يعني في الصلاح. ويدل على أن من دون ذلك في هذه الآية إنما هم من المؤمنين قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]. ¬

(¬1) في (ب): هي. (¬2) في (ب): منهم.

فإن اختبارهم بالحسنات والسيئات) (¬1) مما يؤذن بإيمانهم، ولم يتعرض في الآية إلى ذكر الكفار. يبين ذلك أنه تعالى ذكر قسما ثالثا منهم فقال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169]. الآية. وليس في ذلك ما يدل على التكفير لهم، أعني لهذا القسم الثالث، لكن ذمهم سبحانه بإخلادهم إلى أخذ عرض الدنيا وإخبارهم أنه سيغفر لهم، وهم لم يسلكوا الطريق التي توجب لهم المغفرة، ولا تابوا من ذنوبهم. دل على ذلك قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169]. ولم يذم سبحانه الطبقة الثانية من حيث رجا رجوعهم إلى الصلاح المجرد بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. ومقصودنا من هذا كون الله تعالى قال فيهم: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168]، كما قال عن الجن: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11]. فكما كان أولئك مؤمنين فكذلك هؤلاء ولا فرق. وأما الكفار من الجن فهم الذين قال الله فيهم حكاية عن الجن (¬2): {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن: 14]، وقال: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬2) في (ب): عنهم.

[الجن:15]، وهم الشياطين الذين قال الله فيهم: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5]. وقد استقرينا القرآن والحديث فوجدنا لفظ الشيطان والشياطين كأنه إنما يطلق على الكفار من الجن. وذلك موافق لمن قال من أهل اللغة: إن الشيطان مشتق من قولهم: بئر شطون، إذا كانت بعيدة القعر (¬1)، فكأن الكافر من الجن لما يئس من رحمة الله وبعُد عنها سُمي شيطانا لذلك. وهكذا إذا أُطلق على من يطلق عليه من بني آدم بأنه شيطان إنما هو لبعده من الخير. قال الله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]. وقال جرير: أيامَ يدعونني (¬2) الشيطان من غَزَلي ... وكن يهوينني إذ كنتُ شيطانا يعني إذ كان في حال الجهالة باتباع الهوى والبعد عن الخير. وأما لفظ الجن فيطلق على المؤمنين منهم والكفار، قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] وقال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]. وهذا ورد في المؤمنين. ¬

(¬1) قال ابن منظور في اللسان (7/ 120): وبئر شطون: بعيدة القعر في جرابها عود، ورمح شطون: طويل أعوج، وشطن: بعد. (¬2) في (ب): تدعونني.

وقال نبينا - عليه السلام -: «أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن» (¬1)، فأثنى عليهم، وقال: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا» (¬2). وقال سبحانه في الكفار من الجن: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 38]. وقال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. والجنة والجن واحد. وقال النبي - عليه السلام -: «إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع صلاتي فأمكنني الله منه» (¬3). وهذا الحديث يدل على أن بالمدينة كفارا من الجن كما فيها المسلمون منهم. ويدل على ذلك أيضا قول النبي - عليه السلام - لأبي هريرة: «صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان» (¬4). ¬

(¬1) تقدم. (¬2) تقدم. (¬3) تقدم. (¬4) تقدم.

فصل إذا ثبت انقسام الجن إلى الثلاثة الأقسام المتقدمة ثبتت الموازنة لهم، إذ بها يعلم الصالح الذي ترجح حسناته ومن هو دونه في الصلاح ممن ترجح حسناته أيضا، وقد يكون فيهم من تستوي (¬1) حسناته وسيئاته، ومن ترجح سيئاته على حسناته، لأن التكليف يقتضي وجود هذه الأقسام، من حيث إن المكلفين يتعذر أن يكونوا جنسا واحدا لكونهم طبقات في الخير والشر. وكما ثبتت هذه الأقسام للإنس فلتثبت للجن، إذ لا فرق، وهنالك أيضا يتبين الكفار من الجن المخلدون في النار. والدليل على ما قلناه أن الجن من أهل التكليف، وإذا كانوا من أهل التكليف، دخلوا في عموم قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 8]. وهذه الموازنة هي مثل موازنة بني آدم، وقد تقدم ذكرها حيث تكلمنا مع الحميدي في الشطر الأول من الكتاب، فكل ما ذكرناه هنالك فهو مستتب هاهنا، فلا نحتاج أن نطول بذكره وإعادته. وينبغي أن نقول في هذه الأقسام كما قلناه في أقسام بني آدم: أن من رجحت (ق.154.أ) حسناته من مؤمني الجن فهو في الجنة من غير عقوبة، ومن ¬

(¬1) في (ب): يستوي.

استوت حسناته وسيئاته فهو موقوف مع أهل الأعراف ومآله إلى الجنة. ومن رجحت (¬1) سيئاته على حسناته انقسم جنسه إلى من يعفو الله عنه ابتداءا، فلا تكون عليه عقوبة، وإلى من يقتص منه في النار، ثم يخرج منها بعد القصاص إلى الجنة. والدليل على هذا أن النبي - عليه السلام - مبعوث إلى الثقلين، وهما مأموران باتباعه والعمل بشريعته، ولهما على ذلك الجزاء بالثواب والعقاب. وقد صحت النصوص بما قلناه في حق الإنس فلزم أن يكون مثل ذلك في حق الجن، إذ لا فرق بينهما، ونعني بالجن المكلفين منهم، ولا نبعد أن يكون فيهم مجانين لا يلزمهم التكليف، وأطفال يموتون صغارا، فإن كانوا فيهم فحكمهم حكم مجانين الإنس وصبيانهم ولا فرق. وقد قال بعض المفسرين: في الجن يهود ونصارى ومجوس وعبدة أوثان (¬2)، ونحن لا نثبت ذلك ولا ننفيه. فإن صح هذا القول لزمهم من بلوغ الدعوة ما لزم بني آدم وترتب عليهم بعد بلوغها من العقوبة إذا لم يؤمنوا ما ترتب على بني آدم، وقد نص الله تعالى في كتابه العزيز على عقوبتهم بالنار فقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]. ¬

(¬1) في (ب): ترجحت. (¬2) راجع تفسير الطبري (29/ 112) والقرطبي (19/ 15) عند تفسير قوله تعالى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن: 11].

ولا شك أنه إنما يعني بذلك الكفار من الصنفين، يدل على ذلك قوله لإبليس: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]. وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 94 - 95]. ويدل على ذلك أيضا قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف: 179] فإن هذا الكثير الذي ذرأه عز وجل لجهنم من الصنفين جميعا هم أتباع (إبليس، وبهم) (¬1) تمتلئ جهنم. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكاية عن الله تعالى أنه يقول للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك (¬2) من أشاء من عبادي، ويقول للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها» (¬3). وإذا نص تعالى على أن كثيرا من الجن والإنس ذرأه لجهنم، فبقية الصنفين وهم الذين لم يدخلوا في هذا الكثير لم يذرأهم سبحانه لجهنم، فهم لا يكونون من أهلها، ولا يكون ذلك إلا لإيمانهم أو لعدم كفر من عذره الشرع، وإذا لم يكونوا من أهلها ولا دار بعدها إلا الجنة فهم إذا في الجنة، إذ هي محل الثواب والتفضل كما كانت النار محل العقاب والجزاء. ¬

(¬1) من (ب)، وفي (أ) كتبت في الهامش، ولا تظهر في نسختي. (¬2) ليس في (ب). (¬3) رواه البخاري (4569 - 7011) ومسلم (2846) والترمذي (2561) وأحمد (2/ 276 - 450 - 507) وأبو عوانة (464) والحميدي (1137) واللالكائي (3/ 425) عن أبي هريرة.

قال أهل العلم (¬1) في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]: إنه من أدل دليل على أن المؤمنين من الجن يثابون، وهو كذلك من حيث كان الخطاب بالسورة كلها للجن والإنس على ما قدمناه (ق.154.ب). (وإذا علمنا أن) (¬2) الله تعالى نص على الكفار من الجن بالعقاب في النار كما تقدم، فنحن لا نشك بأن الثواب يكون للمؤمنين منهم في الجنة للتلازم الذي يلزم بين المؤمنين والكفار، وبين الثواب والعقاب، وبين الجنة والنار من المقابلة التي تقتضي انتفاء المقابل مع ثبوت مقابله. وأيضا فقد قال الله تعالى حكاية عن من آمن من الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]. وإذا غفر سبحانه لهم وأجارهم من العذاب الأليم كانوا عنده في محل الكرامة، ولا يكون ذلك في القيامة إلا في الجنة. وقد سمعت من يقول: إن بعض الناس ذكر أن الجن إذا دخلوا الجنة يكونون في فحوص الجنة، ثم وقفت بعد ذلك على هذا المعنى منسوبا إلى سهل بن عبد الله التستري، وذلك أن قال: مؤمنو الجن في صحاري الجنة وأطرافها كما هم في الدنيا في صحاريها وأطرافها (¬3). وهذا يحتاج إلى توقيف. ¬

(¬1) ممن قاله: ابن كثير في تفسيره (4/ 276). (¬2) من (ب)، وفي (أ) بتر. (¬3) من: "ثم وقفت" إلى هنا سقط من (ب).

ثم نقول: إن من كان في الجنة في أي موضع منها فهو في النعيم المقيم، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي يعطى عشرة أمثال الدنيا: «إنه أدنى أهل الجنة منزلة» (¬1). وهكذا من كان في النار في أي موضع منها فهو في العذاب الأليم، وإن خف عقابه، كما أخبر - عليه السلام - عن أهون أهل النار عذابا، وهو من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه، حيث قال: «فما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا» (¬2). وفي لفظ آخر: «إنه يجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه» (¬3). وإذا كان أهون أهل النار عذابا يعتقد أنه أشدهم عذابا من حيث لا يحس إلا بما نزل به، فما ظنك بمن هو وقود النار من الناس أو من الجن الذي هم حطب جهنم؟، أعني: القاسطين الذين قال الله فيهم: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15]. والقاسطون هم الجائرون عن الحق الناكبون عن الهدى، وهؤلاء هم الكفار من الجن الذين هم (¬4) بإزاء أصحاب الشمال من الإنس، وهم الشياطين الذين قصدهم تكفير الإنس وإضلال الخلق زائدا إلى كفرهم وإشراكهم. ¬

(¬1) تقدم. (¬2) تقدم. (¬3) هو حديث شفاعته في عمه أبي طالب، وقد تقدم. (¬4) ليس في (ب).

قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. فأخبر أن الشياطين يوسوسون أولياءهم من الإنس ويزينون لهم ما يجادلون به المؤمنين، وأخبر أن من أطاع أولياء الشياطين فهو مشرك، لأن استمدادهم في الإغواء والإضلال إنما هو من الشياطين الذين يضلونهم ويلقون إليهم من الكفر ما يلقونه، والشياطين هم النهاية في الإشراك والإضلال، لأنهم جند إمامهم إبليس لعنه الله وأعوانه الذين يمشون كفره. فإنه أخزاه الله اتخذ (ق.155.أ) عرشا على البحر يحاكي به عرش الله تعالى، واتخذ الشياطين خدمة وأعوانا (لتمشية) (¬1) مقاصده الذميمة، يحاكي (¬2) بهم الملائكة المكرمين. وإذا كانوا مدد إبليس وأتباعه في الكفر والإغواء في الدنيا فسيكونون مدده وأتباعه في نار جهنم معذبين فيها معه على صفة الخلود أسفل سافلين، نعوذ بالله من شرورهم، ونسأله سبحانه أن يحول بيننا وبينهم في عقائدنا وأعمالنا ويجعلنا من جملة العباد المستثنين على إبليس في الإغواء والإضلال بمنه لا رب غيره. ¬

(¬1) من (ب)، وفي (أ) بتر. (¬2) في (ب): يحكي.

باب نختم به الكتاب. اعلم أن أكثر الحديث الذي ذكرناه في هذا الكتاب في أثناء الكلام أو على وجه الاستشهاد مخرج في الصحيحين أو في أحدهما، وليس فيه من الحديث الضعيف أو المتكلم فيه إلا اليسير (¬1)، وتعذر علينا التكلم على إسناده لوجهين: أحدهما: إن الكتاب مبني على طلب المعاني واستخراجها من أماكنها، وليس موضوعا للتكلم على إسناد الحديث، ولو وضع لذلك لسلكنا فيه المسلك الذي وضعناه في كتابنا الموسوم بكتاب: "إيجار المسالك في معرفة الحديث من موطأ مالك". إذ تكلمنا فيه على إسناد الحديث وإرساله وعرفنا بصحيحه من ضعيفه، وذلك بالنظر في رواته ورجاله، لأن تأليف الموطأ يقتضي ذلك من حيث بنى مالك رحمه الله على حديثه الأحكام. والوجه الثاني: إن التكلم على إسناد الحديث في هذا الكتاب قاطع بالغرض الذي يُساق الحديث من أجله، (لأن سياق الكلام يقتضي ذكر الحديث) (¬2) والاستشهاد به، فيكون ما قبله وما بعده في (¬3) حكم الاتصال، ¬

(¬1) وهو كما قال رحمه الله. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬3) من (ب)، وفي (أ) بياض.

ولذلك كثيرا ما نسوق الحديث مبتورا بذكر الفائدة المحتاج إليها من غير أن نستوفيه (¬1) أو نسمي (¬2) راويه (¬3) من الصحابة أو مخرجه من المصنفين. وإنما فعلنا ذلك توقيا من قطع الكلام، واعتمادا على شهرة الحديث، واتكالا على أن من يقف عليه من أهل الصناعة لا يخفى عليه موضعه، وقد نسبنا الحديث إلى من رواه ومن خرجه في المواضع التي اقتضاها النظر، وبهذا التنبيه الذي ذكرناه الآن في الحديث فرغ الكلام بحمد الله على هذا الكتاب، وهو قد احتوى على شطرين: أحدهما: الكلام مع الحميدي رحمه الله فيما تضمنه كتابه. والثاني: الكلام على القسمين الذين (ق.155.ب) (استدركناهما) (¬4) عليه. وقد وفينا في الشطرين بما شرطناه، ووصلنا في تحقيق كل واحد منهما إلى ما أردناه (¬5) من غير استعانة بكلام مؤلف أو تهذيب مصنف، أعني فيما يرجع إلى استنباط المعاني والتفقه فيما استشهدنا به من كتاب الله وسنة رسوله بما (¬6) يقتضيه النظر، وهو معنى الكتاب. ¬

(¬1) من (ب)، وفي (أ) بياض في وسط الكلمة. (¬2) في (ب): نسوي. (¬3) في (أ): روايه، وهو خطأ. (¬4) من (ب)، وفي (أ) بتر. (¬5) في (ب): أوردناه. (¬6) في (ب): فيما.

وإنما قلنا هذا تحرزا (¬1) مما جلبنا فيه على وجه النقل عن (¬2) أهل التفسير وأصحاب السير والأخبار فيما احتجنا إليه أو على وجه إيراد الخلاف في حكم الأطفال. ولا غرو أن من حاول استخراج علم لم يجد من العلماء من ينبه عليه، ولا ألفى من أهل الإدراك من يُطرق له الطريق إليه فإنه يستوحش وإن أصاب، ويتهم نظره وإن أحسن، ويستقصر قوله وإن أجاد. وأنا أعترف بأني إنما قلت في الكتاب ما قلت وأودعت فيه ما أودعت مستنهضا للخاطر، مستجمعا للقريحة، مستعينا بإمداد الله وتوفيقه، معتمدا عليه سبحانه في إبراز الحق وإدراك المطلب، وإني لأرجو أن كتابنا هذا إذا رآه المنصف (¬3) المتثبت يعلم قدر الاعتناء به في الملاحظة لقواعد الشرع والتحري (¬4) للصواب والبعد عن الانتقاد. وينبغي أن يُعلم أن قولنا لم نجد من العلماء من ينبه عليه إنما عنينا به ما نذكره، وهو أن الشطر الثاني الذي لم يلم به الحميدي اخترعنا الكلام عليه جملة إلا ما تخلله من النقل المجرد عن الاسترواح إلى تلك المعاني المخترعة. ¬

(¬1) في (ب): تجوزا. (¬2) في (ب): على. (¬3) في (ب): المصنف. (¬4) في (ب): والمتجري، وهو خطأ.

وإن الشطر الأول الذي تكلمنا فيه مع الحميدي لم نجد من كلام غيره من العلماء ما نستعين به في الرد عليه، وإبراز الصواب من قوله، فكل ما تكلمنا عليه هنالك (¬1)، فإنما هو من تلقاء أنفسنا بعون الله لنا. ونحن مع ذلك نجوز الوهم والغلط علينا، إذ القصور هو الغالب على البشر. ولنعرف هاهنا بشيء يقتضي الحال التعريف به، وهو أنا لما تكلمنا على كلام الحميدي في الشطر الأول مضت فيه نكت ومعان يجب الوقوف عليها، مثل كلامنا على حديث أنس في الشفاعة وعلى ما يحتمله من التأويل. ومثل ردنا على الحميدي في الأقسام التي قصد إلى تنظير بعضها ببعض فيمن يسبق منها إلى دخول النار وإلى الخروج منها. ومثل كلامنا معه في كونه يجعل الإيمان يوزن، واستدلالنا نحن على أنه لا يوزن. ومثل ردنا عليه في الأربع الطبقات التي جعلها متساوية في درجات الجنة، واثنتان (ق.156.أ) منهما (¬2) دخلتا النار، واثنتان لم تدخلاها أصلا. وغير هذا مما هو مذكور هنالك (في أثناء فصول) (¬3) الكتاب. ¬

(¬1) من (ب). (¬2) في (ب): منها. (¬3) من (ب)، وفي (أ) بتر.

فليتأمل جميع ذلك الناظر فيه وليعلم أن التبويب على ما أشرنا إليه من تلك المعاني منعنا منه كون كلامنا مرتبا على كلام الحميدي، وكلامه غير مبوب فجعلنا كلامنا (¬1) غير مبوب، إذ لم تعطنا الحال غير ذلك. فإن كلامنا هو كالشرح لكلامه، فإذا وجدناه قد ألم فيه بمعنى بسطناه، أو رددنا عليه بكلام نخرج فيه إلى معنى بديع أو فائدة مستحسنة. وربما ترجمنا في بعض المواضع بلفظة "باب" إشعارا بأن الكلام مستأنف عن (¬2) كلام الحميدي، كما فعلنا في تقسيم أهل الموازنة إلى خمسة أقسام والتكلم على كل قسم منها وعلى نفس الموازنة، ومثل تقسيمنا أهل التكليف باعتبار آخر إلى أربعة أقسام، وكلامنا على كل قسم منها، ومثل كلامنا مع أبي محمد بن حزم على قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10]. وبالجملة فلم يسعنا أن نخرج الشطر الأول عما بنيناه عليه من كلام الحميدي، فنجعله تأليفا برأسه بحيث نبوبه على وفق اختيارنا كما فعلناه في الشطر الأخير من الكتاب، وهو المحتوي على القسمين المستدركين، إذ رتبناهما وبوبناهما على حسب ما رأيناه فيهما لكوننا لم نتقيد فيه بكلام أحد. فإن قيل: فإذا كان كتابكم هذا قد احتوى على الشطرين المذكورين وهما في القدر متكافئان، والشطر الثاني منهما لم يشترك معكم في الكلام عليه أحد كما ذكرتم، والشطر الأول -وإن شرككم فيه الحميدي- فأنتم لم ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) في (ب): على.

تسلموا من أقواله إلا القليل، وأكثر ما تضمنه كلامكم، فلم بنيتم كتابكم على كتابه؟ وهلا جعلتموه كتابا مستقلا بنفسه، وذكرتم فيه أقوالكم التي ارتضيتموها مجردة عن ذكر أقوال الحميدي وعن الانتقاد عليه؟ فالجواب: أن الذي فعلناه في ارتباط هذا الكتاب أولا بكتاب الحميدي إنما حملنا عليه ثلاثة أوجه: أحدها: إن الوقوف على كتاب الحميدي كان السبب في التصفح للمعاني المودعة فيه، فإنه رحمه الله ألم في الكلام عليها بأشياء تفطن لها من الحديث، فهو وإن لم يتخلص فيها لم يسبق إليها. فلما وقفنا على كتابه وأدركنا عليه الانتقاد فيه لأول وهلة ثم أخذنا في تأليف تلك المعاني ونظمها، رأينا أن من الإنصاف ألا نطرح كلامه فسقناه منسوبا إليه من (ق.156.ب) (غير أن نحذف منه) (¬1) شيئا، ثم أتبعناه كلامنا بعد. ولا يضر كوننا نخالفه في بعض ما يقوله، إذ (الفضل له في التقدم إلى) (¬2) تلك المآخذ اللطيفة. الثاني: إن ظهور الحق في الشيء (المتكلم عليه إذا) (¬3) كان الكلام فيه بين اثنين أكثر من ظهوره إذا تكلم المنفرد (¬4) فيه وحـ (ـده من حيث) (¬5) إن ¬

(¬1) من (ب) وفي (أ) بتر. (¬2) من (ب) وفي (أ) بتر. (¬3) من (ب) وفي (أ) بتر. (¬4) في (ب): المفرد. (¬5) من (ب) وفي (أ) بتر.

النظر يجذبه (¬1) من الجهتين (¬2) ويستولي عليه من الجانبين، فإن كلام الاثنين ينزل منزلة كلام المتخاصمين. والمتخاصمان لا بد أن يدلي كل واحد منهما بحجة فيما يخاصم فيه، ولعل أحدهما أن يكون ألحن بحجته من صاحبه، فإذا وقف المحقق على كلام الحميدي أولا ثم وقف على كلامنا ثانيا، وتأمل الجميع على جهة الإنصاف تبين الصواب وعلم من هو منا أسعد بفهم الشريعة. الثالث: إن البحث عن المعاني المستنبطة في هذا الكتاب لا سيما في الشطر الأول منه والدخول فيها ابتداءا من المضايق التي ينبغي التنكيب عنها، إذ كان ذلك من أحكام الآخرة، فإذا وجد من العلماء من تكلم في ذلك كان أسوة لغيره وقام العذر لمن يريد أن يتكلم فيه. والحميدي رحمه الله وجدناه قد سبق إلى الكلام في تلك المعاني فرأينا أن اتباعه على ذلك بأن نبني (¬3) كتابنا على كتابه وكلامنا على كلامه أولى بنا وأعذر لنا. وقد ألم أبو محمد بن حزم رحمه رحمه الله في كتاب الفصل (¬4) من تأليفه بأشياء مما ذكرها الحميدي، لكن الحميدي زاد عليها بالتتبع لها، وإضافة ما يشاكلها إليها، حتى استحقها على ابن حزم وصيرها تأليفا قائما بنفسه من ¬

(¬1) في (ب): يجتد به. (¬2) في (ب): جهتين. (¬3) في (ب): أن تبنى، وهو تصحيف. (¬4) تقدم.

غير أن يُدخل فيه ما ليس منه، ولو سلم من الانتقاد، لكان مع صغر حجمه كتابا نبيلا. ولغيبة مواضع الانتقاد فيه على أبي محمد بن حزم وموافقته له فيما وافقه فيه استحسن كتابه ورواه عنه على ما قدمناه في صدر الكتاب. والله سبحانه ينفعنا أجمعين بما علمنا، ويجعل لوجهه خالصا ما به استعملنا، ويصيرنا جميعا من حزبه المفلحين، ويدخلنا معا في زمرة عباده المخلصين، وصلى الله على محمد خاتم النبيئين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين.

يوجد في آخر النسخة ما يلي: بلغت المقابلة بأصل مؤلفه فصح، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد رسوله الكريم وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم تسليما. وكان الفراغ منها في الحادي عشر من جمادى الآخرة من عام ثلاث وستمائة. وكتب في هامش النسخة: بلغت المقابلة فصح (بحمد) (¬1) الله وحسن عونه في (. .) (¬2) الأخر سنة ثلاث وستما (ئة) (¬3). بلغت المقابلة ثانيا بأصل مؤلفه نفعه الله به وجعله له خالصا لو (جـ) ـهـ (ـه) فصح بحمد الله تعالى وحسن عـ (ـونه). بلغت المقابلة ثالثة مع مؤ (لفه) (¬4) أعزه الله فصح بحمد الله وكا (ن) (¬5) الفراغ منها (. .) (¬6) ثلاث. ¬

(¬1) بتر في (ا) وأتممته اعتمادا على السياق. (¬2) بياض. (¬3) بتر في (ا) وأتممته اعتمادا على السياق. (¬4) بتر في (ا) وأتممته اعتمادا على السياق. (¬5) بتر في (ا) وأتممته اعتمادا على السياق. (¬6) بياض.

مراتب الجزاء يوم القيامة

مراتب الجزاء يوم القيامة لأبي عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي (المتوفى سنة 488) تحقيق: مصطفى باحو

ترجمة أبي عبد الله الحميدي

ترجمة أبي عبد الله الحميدي هو أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد الأزدي الحميدي الأندلسي الميورقي. شيوخه: أخذ بالأندلس عن أبي عمر بن عبد البر النمري وأبي العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري وغيرهما. ثم رحل إلى بلاد المشرق سنة: 448. ومن شيوخه بمصر: أبو عبد الله القضاعي، وأبو إسحاق الحبال، وحج فلقي بمكة كريمة المروزية وغيرها. ومن شيوخه ببغداد: أبو بكر الخطيب بن ثابت البغدادي، والأمير أبو نصر بن ماكولا. ثم استوطن بغداد إلى أن توفي بها سنة 488هـ. من تلاميذه: أبو نصر بن أبي مسلم النهاوندي، وأبو بكر محمد بن طرخان البغدادي، وأبو علي حسين بن محمد الصدفي، وأبو الحسن عباد بن سرحان المعافري، وغيرهم. وصفه أبو علي الصدفي بالإتقان والدين. وقال الضبي في البغية (106): فقيه عالم محدث عارف حافظ إمام متقدم في الحفظ والإتقان ... وكان رحمه الله نسيج وحده حفظا ومعرفة بالحديث ورجاله.

وقال الذهبي في السير (19/ 120): الإمام القدوة الأثري المتقن الحافظ شيخ المحدثين أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد بن يصل الأزدي الحميدي الأندلسي الميورقي الفقيه الظاهري صاحب ابن حزم وتلميذه. انظر ترجمته في الصلة لابن بشكوال (438)، وبغية الملتمس (106) وسير أعلام النبلاء (19/ 120)، وتذكرة الحفاظ (4/ 1218)، والبداية والنهاية (12/ 163) والشذرات (5/ 390) وطبقات الحفاظ (446) وغيرها.

تمهيد

تمهيد النسخ المعتمدة: اعتمدت في إخراج هذا الكتاب على كتاب تحرير المقال الآتي ذكره، وقد قال عقيل القضاعي في مقدمته: وقد رأينا أن نفصل بين كلامنا وكلامه (¬1)، بحيث يمتاز أحدهما من الآخر، وذلك بأن ننقل كلامه بلفظه، فإذا كمل أردفنا عليه فصلا أو فصولا متتابعة من كلامنا لتحسين ما قاله أو لانتقاده وتبيين وهمه، أو لتتميم معناه إن أخل به، أو لتقسيم حاصر لما يقصد به، أو لإيراد ما يليق بذلك الموضع مما لم يلم هو به، أو ألم به على وجه آخر. فإذا كمل ذلك رجعنا إلى نقل لفظه أيضا، ثم عدنا إلى تلك الفصول كذلك، حتى يفرغ مقصودنا بحول الله في هذا الكتاب، ولم نترك من كلام الحميدي في كتابه المذكور شيئا، بل سقناه على ما هو عليه، بحيث لو شاء ناقل أن ينقل كتابه من المواضع التي ذكرناه فيها، فيها حتى يُختزل برأسه عن مجموع هذا الكتاب أمكنه ذلك. وقال في خاتمة كتابه عن الحميدي: فلما وقفنا على كتابه وأدركنا عليه الانتقاد فيه لأول وهلة، ثم أخذنا في تأليف تلك المعاني ونظمها، رأينا أن من الإنصاف ألا نطرح كلامه فسقناه منسوبا إليه من غير أن نحذف منه شيئا، ثم أتبعناه كلامنا بعد. انتهى. وهذا نص واضح جلي في تضمن كتاب تحرير المقال لجميع مضمن ¬

(¬1) أي الحميدي.

كتاب الحميدي، فاعتمدت في تحقيق كتاب الحميدي على شرحه تحرير المقال. وبالتالي فالنسخ المعتمدة في تحرير المقال هي نفسها المعتمدة في كتاب الحميدي. وقد نسب هذا الكتاب لمؤلفه الحافظ ابن حجر، حيث قال في الفتح (11/ 398): وفي حديث أبي أمامة في نحو حديث أبي سعيد: إن الله يقول لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم، وفيه دلالة على موازنة الأعمال يوم القيامة، وقد صنف فيه الحميدي صاحب الجمع كتابا لطيفا، وتعقب أبو طالب عقيل بن عطية أكثره في كتاب سماه: "تحرير المقال في موازنة الأعمال".

[نص الكتاب]

[نص الكتاب] قال أبو عبد الله الحميدي: الحمد لله على ما وهب من فضله وخص من جميل صنعه وطوله، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليما، أما بعد. قَسَم الله لك من الخير أكملَه قسما، وأوفره نصيبا، وزادك من آلائه، وأوتر عليك من نعمائه، فإنك أشرت إلي فيما جرى في مجلس شيخنا أبي محمد (¬1)، يعني ابن حزم، أدام الله توفيقه من مسألة الموازنة، وتقسيم طباق أهلها، ورغبت أن أقيدها لك بدقتها، وأثبتها بحقائقها وكثرة أقسامها لنبوء أكثر الأفهام عنها دون تقييد ولا إثبات. وأنا إن شاء الله تعالى واقف عند ما أشرت به وآخذ فيما رغبت فيه، مستوعبا لكل ما توجبه القسمة وتقتضيه الرتبة، مما تنتَّج لي وظهر إلي بعدُ، حسبما أفهمنيه الله تعالى، وأقدرنيه عليه، وإن كان أصله ما نبه عليه شيخنا أبو محمد أعزه الله في ذلك المجلس (¬2). فلا غرو، فالكلمة الواحدة تقتضي معاني كثيرة، والجنس المفرد يعم أنواعا عظيمة، والأصل الواحد ينتج فروعا جمة، وستقف في كل ذلك على البرهان فيه على نحو ما التزمناه عقدا وقولا، ولله تعالى الحمد بدءا وعودا، وبه عز وجل نستعين، لا إله إلا هو. ¬

(¬1) كذا في النسخة (أ)، وفي النسخة (ب): أبي عبد الله محمد. وهو خطأ. (¬2) كذا في النسخة (أ)، وفي (ب): حسبما أفهمنيه شيخنا أبو محمد أعزه الله في ذلك المجلس، وأحيل بعد أفهمنيه على هامش لا يظهر في نسختي، فلعله باقي الكلام الذي سقط.

وهذا حين نأخذ في سبيل ذلك ونبين حقيقة مذهبنا فيه، وظهور برهاننا له (¬1) إن شاء الله، فنقول وبالله التوفيق: قد صح النص على ما نبين بعد هذا أن جميع ولد آدم - عليه السلام - عند الله تعالى على ثلاث طبقات: الأولى هم المقربون، وهم النبيون عليهم السلام والشهداء فقط. وهؤلاء ناهضة (¬2) أرواحهم إلى الجنة إثر خروجها من أجسامهم عن هذا العالم الذي نحن فيه، وبرهان ذلك أنه لم يختلف مسلمان في أن الأنبياء عليهم السلام الآن في الجنة، وكذلك الشهداء. وقد صح هذا بالنص وأخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬3) أنه رأى الأنبياء عليهم السلام في ليلة الإسراء به (¬4): «آدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى عليهما السلام في الثانية، ويوسف - عليه السلام - في الثالثة، وإدريس - عليه السلام - في الرابعة، وهارون - عليه السلام - في الخامسة، وموسى وإبراهيم عليهما السلام في السادسة والسابعة». ¬

(¬1) سقط من (ب). (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) يشير إلى حديث الإسراء، وقد رواه البخاري (7079) عن شريك بن عبد الله أنه قال سمعت أنس بن مالك. وقد تقدم. (¬4) كذا في (ب)، وفي (أ): أبيه.

وبهذا قطعنا على أن السماوات هي الجنات ضرورة لصحة الإجماع على أن أرواحهم في الجنة من الآن، ومن المحال أن يكونوا في مكانين مختلفين في وقت واحد. وكذلك جاء النص أيضا في الشهداء من طريق ابن مسعود وغيره، قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169]. وإذا صح أن الشهداء في الجنة فمن المحال أن يكون أحد في أفضل مرتبة وأعلى محلة من الأنبياء عليهم السلام، فصح أنهم متقدمون في هذه المنزلة ومستأهلون لها، لا يجوز غير ذلك. والطبقة الثانية: أصحاب الشمال وهم الكفار يقينا بالنص، لقوله تعالى في سورة الواقعة: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُون} [الواقعة: 41 - 51]. فنص تعالى على (¬1) أنهم لا يؤمنون بالبعث وأنهم مكذبون، والمكذب كافر بلا تأويل. ¬

(¬1) من (ب).

وكذلك قال الله عز وجل في آخر السورة إذ ذكر التقسيم: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:92]. وأيضا فإن الله تعالى خاطب الجميع فقال: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:4 - 14]. وليس الكفار بيقين من السابقين المقربين، ولا هم بلا شك من أصحاب اليمين، وهم أصحاب الميمنة، فلم يبق إلا ما قلنا ضرورة. وقال عز وجل أيضا: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَة} [البلد: 17 - 20]. وهذا نص جلي بما قلنا من أن الكفار هم أصحاب المشأمة، وهم أصحاب الشمال بنص القرآن. والطبقة الثالثة: هم أصحاب اليمين وهم أصحاب الميمنة، وهم جميع المؤمنين محسنهم ومسيئهم، حاشى من ذكرنا من الأنبياء والشهداء لما قدمنا قبل.

وأيضا فإنه قد صح عنه - عليه السلام - أنه رأى عن يمين آدم وشماله (ذريته) (¬1)، وأن أهل السعادة عن يمين آدم - عليه السلام -. والإجماع قد صح بما جاء به (¬2) النص من أن من (¬3) سوى الأنبياء والشهداء فليسوا الآن في الجنة، فلم يجز أن يخرج عن هذا الموضع الذي هو عن يمين آدم - عليه السلام - أحد، فيقال: إنه في الجنة من الآن إلا من جاء النص باستثنائه، وهم الأنبياء والشهداء فقط، وسائرهم هناك عن يمين آدم - عليه السلام - حيث رآهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذه قسمة ضرورية. وإذ قد صح أن السابقين المقربين هم الشهداء بعد الأنبياء عليهم السلام، وأن أصحاب المشأمة هم الكفار، فلم تبق إلا الطبقة الثالثة فهي لهم بيقين. ومن البرهان أيضا على ما قلناه أن الله تعالى رتبهم على ثلاث طبقات: السابقون المقربون في جنات النعيم، وأصحاب اليمين، وأصحاب المشأمة. فلو كان أصحاب اليمين في الجنة بدءا من الآن لكانوا طبقتين فقط، وكذلك لو كان الأنبياء والشهداء مع سائر المؤمنين في محلهم حيث هم الآن لكانوا طبقتين أيضا، ولكانت الثالثة ساقطة، وهذا باطل. ¬

(¬1) ما بين القوسين سقط من (ب). (¬2) في (ب): فيه. (¬3) في (ب): ما.

فصح ما قلناه من الفرق بين المقربين وبين أصحاب اليمين، وتناظرت النصوص كلها، وتبين أن أصحاب اليمين وإن كانوا قد ذكر الله أنهم: {ِ في سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} [الواقعة:28 - 40] فإنما هذا بنص الآية على ما يصيرون إليه بعد الحساب يوم القيامة بلا شك لما ذكرنا. يؤيد هذا قول الله عز وجل في آخر السورة نفسها: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 83 - 96]. فنص تعالى على أن هذه حالهم وقسمهم فجعلهم أيضا ثلاث طبقات: أولها: المقربون المعجل لهم الجنة والنعيم. وثانيها: أصحاب اليمين الذين لهم السلام معجلا فقط. وثالثها: المكذبون الضالون، وهذا بين. ثم قد صح بالنص والإجماع أن الكفار مخلدون في النار غير خارجين منها أبدا بعد دخولهم فيها يوم القيامة، وصحت أيضا بنص القرآن

الموازنة، وأنه لا يجزى أحد إلا بما كسب، وصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ذكر من يخرج من النار على مراتب، وأنه يقدم من في قلبه مثقال شعيرة، ثم مثقال برة، ثم مثقال كذا، على حسب ما ذكر من المقادير مع قول لا إله إلا الله، فلم يبق إلا أنهم المؤمنون المسيئون بيقين لاشك فيه. ونحن ذاكرون نص الحديث، إذ الغرض تبين ما فيه من المقادير، وليكون أقرب لفهم ما تعلق من هذه المسألة به، لكونه حاضرا معها متصلا بها، إن شاء الله فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إنه قد روى الثقتان: سعيد بن أبى عروبة وهشام صاحب الدستوائي كلاهما عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة». (¬1) هذا نص الحديث رويناه من طريق مسلم بن الحجاج في الصحيح، ورويناه من طريق حماد بن زيد عن معبد بن هلال العنزي (¬2) قال: انطلقنا إلى أنس بن مالك وتشفعنا بثابت فانتهينا إليه، وهو يصلي الضحى فاستأذن لنا ¬

(¬1) رواه مسلم (193) وابن ماجه (4312) وابن أبي شيبة (7/ 221) وأبو يعلى (2889 - 2955 - 2993) عن سعيد عن قتادة عن أنس. وقد تقدم. (¬2) رواه من هذا الوجه البخاري (7072) ومسلم (193) والبيهقي (10/ 42).

ثابت فدخلنا عليه فأجلس (¬1) ثابتا معه على سريره فقال له: يا أبا حمزة إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة فقال: حدثنا محمد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لنا إلى ربك فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم، فإنه خليل الله». وذكر الحديث إلى قوله - عليه السلام -: فأقول: «(رب) أمتي أمتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل، ثم أرجع (¬2) إلى ربي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا فيقال لي (¬3): يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل». ¬

(¬1) ليست في (ب). (¬2) في (ب): فأرجع. (¬3) في (ب): له.

ثم قال: إنهم خرجوا من عند أنس فأتوا الحسن بن أبي الحسن البصري فزادهم في هذا الحديث: إن أنسا حدثهم به عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: «ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب إيذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، أو قال ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله»، وذكر باقي الخبر (¬1). وقد جاء من طريق (¬2) ثابتة مجيء التواتر. ففي هذا بيان المقادير التي جعلها الله تعالى سببا لخروجهم من النار بالشفاعة على حسب مآلهم منها تفضلا من الله عز وجل، إذ جعل ما اكتسبوا من الخير وعملوه مما قد كان الله تعالى هو الموفق له، والمعين عليه، والمهيئ لآلات الاكتساب له، سبيلا إلى الفوز والنجاة، تغمدا منه برحمته لهم، كما شاء لا إله إلا هو. وفيه أن تلك المقادير المذكورة من مثقال برة وذرة إنما هي مما سوى الإيمان، الذي هو قول لا إله إلا الله، لكن من سائر الأعمال التي تسمى إيمانا أيضا، لقوله تعالى فيمن قال لا إله إلا الله، وليس له غيرها: «ليس ذلك لك». ¬

(¬1) تصرف الشيخ في النقل، فبين نقله وما في صحيح مسلم فروق. (¬2) كذا في النسختين، ولعل الصواب: طرق.

وأبانهم عن أهل تلك المقادير لتوحده عز وجل بإخراجهم من النار. وهذا بين والحمد لله. وهذا أيضا يبين أن الذي توحد الله عز وجل بإخراجهم من النار فيمن قال لا إله إلا الله، ولم يعمل خيرا قط، إنما هو من قالها مرة واحدة فقط مصدقا ومات على ذلك، لأن قول لا إله إلا الله حسنة، فإذا كررها حصلت له حسنة أخرى، فهو أزيد خيرا ممن لم يقلها إلا مرة واحدة فقط. ونص الخبر يدل على أن الذين توحد الله تعالى بإخراجهم برحمته لا بالشفاعة إنما هم من ليس في المؤمنين أحد أقل خيرا منهم، (¬1) هذا نص الخبر المذكور وغيره من الآثار الثابتة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2) الواردة في هذا الباب. ثم إنا وجدنا أصحاب اليمين من جميع المؤمنين، وهم الطبقة الثانية من الطبقات التي ذكرنا أيضا ينقسمون في الموازنة أقساما ثلاثة: - إما متساو خيره وشره. - وإما من رجحت حسناته على سيئاته، فهذا فائز بنص القرآن. - وإما من رجحت سيئاته مع ما معه من الكبائر على حسناته. ¬

(¬1) يشير إلى حديث الشفاعة الطويل, وقد تقدم. وفيه: فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون, ولم يبق إلا أرحم الراحمين, فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما. هذا لفظ مسلم (183) عن أبي سعيد. (¬2) من (ب).

فهذا يقتص منه بما فضل من معاصيه على حسناته من لفحة إلى آخر من يخرج من النار، على ما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمقدار قلة شره وكثرته، وقال تعالى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ... [هود: 114]. وقد صح أن أهل الأعراف من أحد هذه الأقسام، إذ ليس لها رابع، وليسوا بلا شك من الطبقتين اللتين ذكرنا آخرا فوجب أنهم الطبقة التي ذكرنا أولا، فإنه لم يبق غيرهم، وهذه قسمة ضرورية. ثم رجعنا إلى المؤمنين الذين وجب الاقتصاص منهم بالنار بزيادة شرهم على خيرهم فوجدناهم ينقسون فيما لهم من الخير والشر على أقسام أربعة، ثم تتشعب هذه الأربعة الأقسام على اثني عشر قسما: فالأربعة الأول: كثير الخير كثير الشر، كثير الخير قليل الشر، قليل الخير قليل الشر، قليل الخير كثير الشر. إلا أن أهل هذه التقسيمات كلهم قد فاض شرهم وما معهم من الكبائر على خيرهم، وهؤلاء يحتسب لهم بكلية ما مع كل امرئ منهم من الخير وبكلية ما معه من الشر، إذ لكل ذلك حظ من المراعاة والحساب، فإذا اقتص منه فيما فضل له من الشر حتى يفضل له من الخير شيء مالا أقل منه، وهو التصديق بالإسلام والنطق بذلك مرة واحدة، وقع الخروج حينئذ من النار بالشفاعة التي رحم الله تعالى بها عباده المؤمنين المسرفين على أنفسهم. وقد علمنا أن من عمل من كل أعمال الخير فرضها وتطوعها ثم قتل النفس وعمل من كل الكبائر، فإنه بالإضافة إلى من لم يعمل شيئا من الخير وشارك في الكبائر مشاركة المذكور قبله سواء سواء، أخف عذابا، وأقل في

النار مكثا، على ما أوجبته النصوص المذكورة. وهكذا (¬1) الحكم في قلة الشر وكثرته مع قلة الخير أو كثرته. فلنتكلم الآن بعون الله تعالى وعصمته في كثير الخير كثير الشر مع قليل الشر كثير الخير بالإضافة إليه فوجدناهما قد استويا في كثرة الخير، واختلفا في كمية الشر، نعني في قلته وكثرته. وقد علمنا بتقسيم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خبره الصادق (¬2) من خروج من له مقدار الشعيرة من الخير معا، ثم خروج من له مقدار البرة من الخير معا، ثم كذلك سائر المقادير في القلة، أن الخروج من النار لأهل كل مقدار منها، يكون معا بلا شك في ذلك. وعلمنا بالنص أنهم معاقبون ومقتص منهم فيما كسبوا من الشر فلم يبق إلا أن الكثير الشر مقدم في الدخول في النار على القليل الشر بمقدار ما زاد شره على شر الآخر، ليكون خروجهما معا بعد أن يقتص من كل واحد منهما بمقدار ما فضل له من الشر على ما معه من الخير. وليس في الممكن أن يكون دخولهما في النار معا بلا شك، إذ لا شك في أنه كان يتم الاقتصاص من الأقل شرا قبل تمامه من الأكثر شرا فيخرج من النار قبل خروج من له من الخير كالذي له سواء سواء، وهذا خلاف نص الحديث. ¬

(¬1) في (ب): وهذا. (¬2) تقدم.

اللهم إلا أن يكون وجه آخر وهو أن يزاد في كيفية عذاب من هو أكثر شرا، ويفتر من عذاب من هو أقل شرا، فيكونا قد اتفقا في مدة العذاب واختلفا في شدته وتهوينه، فهذا أيضا ممكن، والله أعلم بأيهما يكون إلا أنه لابد من أحد الوجهين، إذ ما عداهما مخالف لوحي الله تعالى إلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما خالف الوحي فهو باطل بلا شك. ثم نظرنا في قليل الخير قليل الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما قد استويا في قلة الخير واختلفا في كمية الشر، نعني في قلته وكثرته (¬1) فصح خروجهما من النار معا ولابد، إذ مقدار خيريهما واحد. فإذ (¬2) ذلك كذلك فلا بد من تقديم كثير الشر في دخول النار، إذ مقدار الاقتصاص منه أكثر من مقدار الاقتصاص من الذي هو أقل شرا منه فيقدم عليه بمقدار ما يقتص منه من الزيادة التي تزيد على شر الآخر ضرورة، ثم يدخل الآخر (¬3) ليكون خروجهما (من النار) (¬4) معا. والوجه الآخر كما قدمناه وهو أن يدخلا النار معا فيزاد في عذاب الأكثر شرا، ويفتر عذاب الأقل شرا، فيتفقان (¬5) في المدة ويختلفان في شدة العذاب وتهوينه، والله أعلم. ¬

(¬1) في (ب): في كثرته وقلته. (¬2) في (ب): إذن. (¬3) في (ب) هنا زيادة: ضرورة، ثم يدخل الآخر. وهو وهم. (¬4) سقط من (ب). (¬5) في (أ): فينقصان.

ثم نظرنا في كثير الخير كثير الشر مع قليل الشر قليل الخير، فوجدناهما قد اختلفا في كمية الشر وكمية الخير، وقد علمنا أن الأكثر خيرا أسرع خروجا من النار، وأن الأكثر شرا أكثر عقوبة، فصح أن الأكثر شرا يقدم بيقين في الدخول في النار قبل الأقل منه شرا، وأنه أيضا وإن تقدم في دخول النار، فإنه المقدم في الخروج منها قبل الآخر، لأنه أكثر منه خيرا. وأن القليل الشر وإن تأخر في دخول النار بعد الذي هو أكثر منه شرا، فإنه أيضا يتأخر في الخروج منها بعده، لأنه أقل منه خيرا. أو وجه آخر، وهو: أن يدخلا النار معا ويزاد في عذاب الأكثر شرا ليُستوفى القصاص منه في قليل المدة فيخرج قبل الذي هو أقل خيرا منه ولابد، ويفتر في عذاب الأقل شرا، وتطول مدته، فيكون خروجه منها ولابد مع طبقته، وبعد خروج من هو أكثر خيرا منه، هذا ما لا يمكن سواه أصلا. ثم نظرنا في كثير الخير قليل الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما قد اختلفا في قلة الخير وكثرته، وفي قلة الشر وكثرته، فعلمنا يقينا أن الأكثر شرا يدخل النار قبل الأقل شرا، وأنه أيضا يخرج منها بعده لقلة خيره عن خير الآخر. والوجه الآخر، وهو: أن يدخلا معا في النار فيتم القصاص من القليل الشر قبل تمام القصاص من الأكثر منه شرا، فيخرج الأكثر خيرا قبل خروج الأقل خيرا ولابد. ثم نظرنا في كثير الخير كثير الشر مع قليل الخير كثير الشر فوجدناهما متفقين في كثرة الشر مختلفين في قلة الخير وكثرته، فالأكثر

خيرا مقدم في دخول النار على القليل الخير، ليتم القصاص منه قبل تمام القصاص من الآخر، ويخرج من النار لكثرة خيره قبل خروج الأقل خيرا ولابد. والوجه الآخر، وهو: أن يدخلا النار معا ويزاد في عذاب الأكثر خيرا ويهون على الآخر، ليتم القصاص من الأكثر خيرا قبل تمام القصاص من الآخر، ليخرج قبله ولابد لكثرة خيره عليه. ثم نظرنا في قليل الخير قليل الشر مع كثير الخير قليل الشر فوجدناهما قد اتفقا في قلة الشر، واختلفا في قلة الخير وكثرته، فالأكثر خيرا يقدم في الدخول في النار وفي الخروج منها. والوجه الآخر، وهو: دخولهما معا ويزاد ولابد في عذاب الأكثر خيرا ليتم القصاص منه، ويخرج ولابد قبل خروج الذي هو أقل خيرا منه. فحصل من كل هذا أنه جائز أن يدخل الأكثر شرا في النار قبل دخول الأقل شرا، إن استوى عذابهما، فإن أدخلا معا فلا بد من مضاعفة العذاب للأكثر شرا، ليخرج مع من معه من الخير كالذي معه، أو ليخرج قبل الذي هو أقل خيرا منه أو بعد الذي هو أكثر خيرا منه ولا بد، إنما يراعى في الخروج من النار كثرة الخير وقلته فقط، كما جاء النص. ويراعى في الشر القصاص فقط إما بطول المدة وإما بمضاعفة العذاب ولا بد، كما جاء النص أيضا بقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17].

إلا أنا (¬1) تأملنا قول الله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف 37 ـ38ـ39]. فوجدنا فيه دليلا على صحة الوجه الأول فقط، وأن الأكثر معاصي يتقدم في النار على طبقة أقل معاصي منه. ثم نقول: إن أهل الموازين على أربعة أقسام: فقسم رجحت حسناتهم، وهؤلاء صنفان في كمية الرجحان ومائيته: 1 - إما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة فقط، وهم طبقة واحدة. 2 - وإما صنف فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة وزيادة خير، وهؤلاء مختلفون باختلاف الفاضل لهم. وكلا هذين الصنفين في الجنة إثر الموازنة بلا فصل إلا جواز الصراط. والقسم الثاني: من استوت حسناته وسيئاته مع ما معه من الكبائر فلم يفضل لهم خير ولا شر، وهؤلاء أصحاب الأعراف. ولا بد من مجازاتهم كما رتب الباري عز وجل على شيء من سيئاتهم حتى يفضل لهم بعد سقوط ذلك بالجزاء عليه التصديقُ والنطق به مرة ¬

(¬1) في (ب): إلا أنا إذا.

واحدة فقط، وهي الوقوف بين الجنة والنار، إذ لا يدخل الجنة أحد إلا بإيمان، كما جاءت (¬1) النصوص، وهؤلاء طبقة واحدة. والقسم الثالث: من رجحت سيئاته وما معه من الكبائر على حسناته، وفي جملتها التصديق، فهؤلاء معاقبون على الفاضل لهم من الشر على ما قابل حسناتهم وإيمانهم من شرهم، حتى يفضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به. وهؤلاء مختلفون في التقدم في دخول النار وفي الخروج منها، وفي شدة العذاب وخفته اختلافا شديدا على ما بيناه قبل. ومن جملة هؤلاء: هو (¬2) من لم يعمل خيرا قط غير الإسلام اعتقادِه والقول به مرة واحدة فقط. فهؤلاء يعاقبون على كل ما سلف لهم حتى يفضل لهم عقد الإيمان والنطق به مرة واحدة. وهؤلاء أيضا مختلفون في التقدم في دخول النار وفي التأخر في ذلك، وفي شدة العذاب وتهوينه على مقدار ما لكل واحد من المعاصي. إلا أنهم كلهم مستوون في درجاتهم في الجنة مع أصحاب الأعراف، ومع الصنف الذين فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة فقط، سواء في كل ذلك من تقدم دخوله الجنة من كل من ذكرنا ومن تأخر دخوله فيها، ¬

(¬1) في (ب): جاء. (¬2) ليست في (ب).

كلهم ليس لهم عمل خير فاضل على شر (¬1) أصلا إلا العقد والنطق بذلك مرة واحدة. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة». (¬2) ولا جزاء إلا على عمل برحمة الله تعالى، قال الله عز وجل: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]، وقال تعالى: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24]، وإنما يتفاضلون بالمسابقة إلى الجنة أو بالخلاص من النار، أو بقلة المكث فيها، أو بتهوين العذاب على بعض دون بعض، ثم يتفاضل من فضل له على سيئاته عمل قل أو كثر من الخير على حسب ما عمل من الخير في الجنة بعلو الدرجات وكثرة النعيم. والقسم الرابع: الكفار ولا بد لهم من الموازنة وقد نص الله تعالى على ذلك في سورة قد أفلح المؤمنين في قوله تعالى (¬3): {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 104 - 103]. فصح بهذه الآية أن الكفار أيضا يوازنون، وأن موازينهم تخف لا يجوز غير هذا، لأن من خالف هذا كان ذلك منه صرفا للآية عن ظاهرها وعن ¬

(¬1) في (ب): شره. (¬2) تقدم. (¬3) ليس في (ب).

مقتضى لفظها بالدعوى، وتحريفا للكلم عن مواضعه بلا برهان، وهذا لا يجوز. وأما قوله عز وجل: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 105] فليس نفيا للموازنة، لأن كلام الله لا يتعارض، وإنما هو أنه لا تثقل موازينهم بل تخف، إذ ليس فيها التصديق الذي هو العقد والقول الذي لا يصح عمل صالح إلا به، إلا أنهم يختلفون في مقدار المعاصي، وفي (¬1) كيفية العذاب في شدته (¬2) ونقصانه على حسب معاصيهم، وهم مخلدون في النار أبدا، ولا يجازون بما لم يعملوا ولا كانوا سببا لعمله، ففي هذا يتفاضلون في العذاب. وقد بين الله عز وجل بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. والأسفل بلا شك من باب الإضافة، ويقتضي ولا بد أعلى منه في نوعه. وأخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما خُفف عن أبي طالب (¬3) بأنه لم يؤذ قط رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما أعمالهم الصالحة فمُحبَطة بنص القرآن لا يُجازون عليها في الآخرة أصلا قال الله تعالى: {َوقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} ... [الفرقان: 23]. ¬

(¬1) في (ب): في. (¬2) في (ب): سدته. (¬3) سيأتي تخريجه.

ولا بد من الموازنة لكل أحد من الأنبياء والرسل والمؤمنين التائبين والمصرين والكفار، وليس الغفران للأنبياء عليهم السلام والتائبين من المؤمنين بمانع من الموازنة لهم لأنهم بلا شك متفاضلون في الأعمال الصالحة وفي الفضائل. والموازنة إنما هي توقيف لهم على ما جعله الله تعالى جزاء لهم على تلك الأعمال الفاضلة، فيعلم كل امرئ منهم ما يستحق في الجنة من الجزاء على أعماله الصالحة، ويعلم أهل النار أيضا مقدار ما يستحقه كل امرئ منهم في النار من الجزاء على أعماله الخبيثة مع كفره فقط. فهم كما أوردنا ست طبقات: أهل النار المخلدون فيها، وهم الكفار وهم المشركون طبقة يتفاضلون في العذاب بمقدار ما عمل كل امرئ منهم من الشر. ثم أهل الجنة خمس طبقات: الأولى: من ثقلت موازينه فرجحت حسناته على معاصيه بما قل أو كثر، فهؤلاء يتفاضلون في درجات الجنة والعلو فيها، وفي (¬1) كثرة النعيم بمقدار ما فضل لكل واحد منهم من الأعمال الصالحة. وهؤلاء خمس طبقات على ما نبين بعد هذا. ثم أربع طبقات كلهم في الجنة سواء في الدرجات وفي النعيم، لا فضل لأحد منهم على سائرهم في شيء من ذلك، ولكل امرئ منهم مثل الدنيا وما ¬

(¬1) سقط من (ب).

فيها عشر مرات، كما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬1) وهم من فضل لهم التصديق بالإسلام والنطق به مرة واحدة على ما معه من المعاصي، ومن لم يفضل له شيء بأن استوت حسناته وسيئاته فوقفوا بين الجنة والنار حتى فضل لهم التصديق والنطق به مرة واحدة، وهم أهل الأعراف. وهاتان الطبقتان لا تعذبان بالنار أصلا، ومن فضلت له معصية على كل (¬2) ما معه من الخير، ومن لم يعمل خيرا قط غير التصديق بالإسلام والنطق به مرة واحدة فقط. وهاتان الطبقتان هما المجازاتان بالنار: إحداهما على ما فضل لها من المعاصي على ما كان لها (¬3) من خير. وهي الخارجة من النار بالشفاعة المتقدمة في الخروج على مقدار تفاضلها فيما عملت من الخير الذي قد (¬4) سقط تفضيله بمقابلة معاصيهم له. والثانية: على ما عملت من الشر، وهي الخارجة من النار برحمة الله تعالى لا بالشفاعة، وهي آخر من يخرج من النار. وكل هذه الطباق الأربع لم يفضل لها شيء غير التصديق بدين الإسلام والنطق به مرة واحدة فقط. ¬

(¬1) هو طرف من حديث الشفاعة، وقد تقدم، وهو عند مسلم (188) من حديث أبي سعيد، ورواه البخاري (6202 - 7073) ومسلم (186) عن ابن مسعود. (¬2) ليس في (ب). (¬3) في (ب): لهما، وهو خطأ. (¬4) سقط من (ب).

فتبارك الله الذي كل أحكامه عدل وقسط لا إله إلا هو المتفضل مع ذلك بما لا يبلغه فهم ولا وصف ولا شكر. نسأل الله أن يجيرنا من النار ومن روعات يوم القيامة بمنه، آمين، وأن ييسرنا لأعمال الطاعة المنجية من كل ذلك، آمين. والطبقة التي فضلت لها أعمال خير تتفاضل بها درجاتهم في الجنة هم أيضا طبقات خمس: فأولها بعد النبيين عليهم السلام: من أدى جميع الفرائض، وتطوع بخير كثير مع ذلك، واجتنب جميع الكبائر، وقلل من جميع السيئات. إذ لا سبيل إلى أن ينجو أحد من السيئات أو من الهم بها، كما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ قال: «ولا يحيى بن زكريا». ثم الثانية: من أدى جميع الفرائض، ولم يتطوع بزيادة خير، واجتنب جميع الكبائر، واستكثر مما دون ذلك من السيئات أو استقل. ثم الثالثة: من أدى الفرائض، واجتنب الكبائر، وعمل تطوعا وسيئات. ثم الرابعة: من أدى الفرائض وتطوع أو لم يتطوع، وعمل كبائر وسيئات، ثم تاب من بعد ذلك قبل الموت، أو أقيم عليه (¬1) الحدود فيما عمل من ذلك. ¬

(¬1) في (ب): عليهم.

ثم الخامسة: من أدى الفرائض وقصر في بعضها، وتطوع، وعمل كبائر وسيئات ومات مصرا، إلا أن خيره رجح في الميزان على معاصيه، ولو بتكبيرة أو بحسنة هم بها ولم يعملها أو شوكة أزالها من الطريق، أو غير ذلك من مقدار الذرة فصاعدا. كل هذا مسطور في نصوص القرآن والمسند الثابت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعلوم انقسام الناس بضرورة المشاهدة. فإن قال قائل: فإذ (¬1) الأمر هكذا، فما فائدة الشفاعة إذا؟ والجزاء واقع على كل دقيق وجليل من خير وشر لم يتب عنه فاعله. قلنا وبالله تعالى التوفيق: وقوع الجزاء على ما ذكرنا من مراتبه هو فائدة الشفاعة بنص بيان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في الخبر الذي أوردنا قبل. ولولا تفضل الله تعالى بالشفاعة وقبولها لكان له عز وجل أن يخلدنا على سيئة واحدة في النار، ولولا رحمته بأن جعل الجنة جزاء لنا على قليل طاعتنا وعملنا، كما قال تعالى: {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] لكان له عز وجل أن لا يدخلنا الجنة. إذ ليس لأحد عليه تعالى حجة ولا حق، بل له المن على الجميع لا إله إلا هو. ¬

(¬1) في (ب): فإذا.

وصح بهذا معنى قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه لا ينجي أحدا عمله، فقيل له: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (¬1). أو كما قال - عليه السلام -. فإن قيل: فقد يجازَون بما فضل لهم من الشر على ما مع كل امرئ منهم من الخير، ويسقط لكل واحد منهم مما عمل من المعاصي ما قابل ما معه من الخير، فلا شك في أنه قد سقط كل خير عمل من تصديق ومن سائر الأعمال، كما سقط ما قابل ذلك الخير من معاصيه، فكيف تراعى له المقادير المذكورة من مثقال برة وشعيرة وخردلة وغير ذلك؟. قلنا وبالله تعالى التوفيق: إنه بقي له أنه قد عمل خيرا فتفضل الله عز وجل عليهم بأن جعلهم عملوا خيرا، وبأنهم تفاضلوا فيما عملوا من الخير سببا إلى قبول الشفاعة فيهم، وإلى تقدمهم في إخراجهم من النار على مراتب ما كان لكل واحد منهم من عمل الخير جملة فقط، وأخَّر (¬2) تعالى من لم يعمل خيرا قط غير التصديق بدين الإسلام والنطق به مرة فقط، فلم يجعل له حظا في ¬

(¬1) رواه البخاري (5349 - 6098) ومسلم (2816) وابن ماجه (4201) وأحمد (2/ 235 - 256 - 264 - 319 - 326 وغيرها) وابن حبان (348 - 660) والبيهقي (3/ 18 - 377) والطيالسي (2922) والطبراني في الأوسط (2294 - 8004) وأبو يعلى (1775 - 3985 - 6243 - 6594) وغيرهم عن أبي هريرة. وفي الباب عن عائشة وجابر. (¬2) في (ب): وأخبر.

الشفاعة ولا في التقدم (¬1) في الخروج من النار، وتوحد هو عز وجل بإخراجه من النار بعد كل من يخرج منها. كل ما ذكرنا فهو منطو بجملته في الحديث الذي صدرنا به وخارج منه (¬2) نصا، وهذه جوامع الكلم (¬3) التي أوتيها - عليه السلام -، وهي اقتضاء الكلام القليل للمعاني الكثيرة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى جميع أنبيائه وسلم تسليما. ¬

(¬1) في (ب): التقديم. (¬2) في (ب): منها. (¬3) في (ب): الكلمة.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع - أصُول الْفِقْه لمُحَمد بن مُفْلِح الْمَقْدِسِي. دَار العبيكان. الرياض. - الإبهاج شرح الْمِنْهَاج للسبكي. دَار الْكتب العلمية. بيروت. - إحْيَاء عُلُوم الدّين لأبي حَامِد الْغَزالِيّ. الدَّار المصرية اللبنانية. - إرشاد الفحول إِلَى تَحْقِيق علم الْأُصُول لمُحَمد بن عَليّ الشَّوْكَانِيّ. المكتبة التجارية مَكَّة المكرمة. مُحَمَّد سعيد البدري. الطبعة الأولى 1993. - إرشاد النقاد للأمير الصَّنْعَانِيّ. مَجْمُوع الرسائل المنيرية. الْقَاهِرَة. - إرواء الغليل بتخريج أَحَادِيث منار السَّبِيل لمُحَمد نَاصِر الدّين الألباني. الْمكتب الإسلامي. الطبعة الثَّانِيَة: 1405/ 1985. - الْإِحَاطَة فِي أَخْبَار غرناطة للسان الدّين بن الْخَطِيب السَّلمَانِي. مكتبة الخانجي بِالْقَاهِرَةِ. مُحَمَّد عبد الله عنان. الطبعة الأولى. - الْأَدَب الْمُفْرد، للْإِمَام البُخَارِيّ. دَار البشائر الإسلامية. بيروت. مُحَمَّد فؤاد عبد الْبَاقِي. الطبعة الثَّالِثَة. وَدَار الْكتب العلمية، مُحَمَّد عبد الْقَادِر عطا. - الْأَحَادِيث المنتقدة. مصطفى باحو. دَار الضياء. مصر. - الْإِعْلَام بِمن حل بمراكش وأغمات من الْأَعْلَام لعباس بن إِبْرَاهِيم السملالي. المطبعة الملكية بالرباط. تَحْقِيق عبد الْوَهَّاب بنمنصور. - الْإِكْمَال فِي رفع الارتياب عَن المؤتلف والمختلف فِي الْأَسْمَاء والكنى

والأنساب لأبى نصر بن ماكولا. مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني في 6 أجزاء، والسابع بتحقيق نايف العباس، نشر محمد أمين دمج ببيروت، المطبعة الهاشمية بدمشق. - الإلزامات والتتبع للحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني. دار الكتب العلمية. بيروت. تحقيق مقبل بن هادي الوادعي. الطبعة الثانية. - البداية والنهاية للحافظ عماد الدين بن كثير الدمشقي. دار الحديث. القاهرة. أحمد عبد الفتاح فتيح. 1414/ 1993. - بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس لأحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي. دار الكتب العلمية. ببيروت. روحية عبد الرحمن السويفي. - بيان الوهم والإيهام لأبي الحسن بن القطان الفاسي. دار طيبة. السعودية. الحسين أيت اسعيد. الطبعة الأولى. - تاريخ بغداد للحافظ الخطيب البغدادي. دار الكتب العلمية. - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي. دار الكتاب العربي ببيروت. عمر عبد السلام تدمري. - تذكرة الحفاظ لأبي عبد الله الذهبي. دار الكتب العلمية. بيروت. - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض ابن موسى اليحصبي السبتي. طبع وزارة الأوقاف المغربية. - الترغيب والترهيب للمنذري. المكتبة القيمة. مصر. - التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار القضاعي. دار الفكر. بيروت. عبد السلام الهراس.

- تفسير ابن كثير الدمشقي. دار المعرفة. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1388/ 1969. - تفسير الطبري. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الثانية 1418/ 1997. - تفسير القرطبي. طبعة مصورة عارية عن ذكر المطبعة ولا تاريخ الطبع. - التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر العسقلاني. تحقيق عبد الله هاشم اليماني. المدينة المنورة. - التمهيد للحافظ أبي عمرو بن عبد البر. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب. جماعة من المحققين. الطبعة الأولى. - التنبيه على شذوذ ابن حزم لعيسى بن سهل. الخزانة العامة بالرباط. ميكروفيلم (5). - التنكيل لعبد الرحمان بن يحيى المعلمي. مكتبة المعارف. ناصر الدين الألباني. الطبعة الأولى. - تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني. دار الفكر. بيروت. الطبعة الأولى. - تهذيب السنن لشمس الدين ابن القيم. دار الكتب العلمية. بيروت. - تهذيب الكمال لأبي الحجاج المزي. مؤسسة الرسالة. بيروت. بشار عواد معروف. الطبعة الأولى 1400. - تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري. بيروت. - الثقات للعجلي أحمد بن عبد الله. دار الكتب العلمية. بيروت. - الثقات لأبي حاتم بن حبان. دارالفكر. بيروت.

- جامع العلوم والحكم، للحافظ ابن رجب الحنبلي. مؤسسة الرسالة. شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس. الطبعة الثانية. - الجامع لمعمر بن راشد. مع مصنف عبد الرزاق. - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس لأبي عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح ابن عبد الله الحميدي مكتبة الخانجي بالقاهرة بدون تاريخ. - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم. طبع دائرة المعارف العثمانية بالهند. - حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة, لجلال الدين عبد الرحمن بن محمد السيوطي. دار الكتب العلمية ببيروت. خليل المنصور. 1418/ 1997. - حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني. دار الكتاب العربي. بيروت. الطبعة الرابعة. - الحجة للقراء السبعة لأبي علي الحسن بن عبد الغافر الفارسي. دار المأمون للتراث. دمشق. جماعة من المحققين. - دلائل النبوة للبيهقي. دار الكتب العلمية. بيروت. - دلائل النبوة لأبي نعيم. دار طيبة. الرياض. 1409. - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون. مكتبة الثقافة الدينية. القاهرة. علي عمر. الطبعة الأولى. 1423 - 2003. - ذيل ميزان الاعتدال لأبي الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي. مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة. تحقيق عبد القيوم عبد رب النبي.

- روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة المقدسي. مكتبة المعارف. الرياض. - سنن أبي داود السجستاني. المكتبة العصرية. بيروت. محمد محيي الدين عبد الحميد. الطبعة الأولى. - سنن أبي عبد الرحمان النسائي. مكتبة المطبوعات الإسلامية. حلب. عبد الفتاح أبو غدة. الطبعة الثالثة. - سنن أبي عيسى الترمذي. دار الحديث. القاهرة. أحمد شاكر وآخرون. الطبعة الأولى. - سنن ابن ماجه القزويني. دار الكتب العلمية. بيروت. محمد فؤاد عبد الباقي. الطبعة الأولى. - سنن أبي محمد الدارمي. دار القلم. دمشق. مصطفى ديب البغا. الطبعة الأولى 1412/ 1991. - سنن الدارقطني. عالم الكتب. الطبعة الأولى. - سير أعلام النبلاء للحافظ أبي عبد الله الذهبي. مؤسسة الرسالة. شعيب الأرناؤوط ومحمد العرقسوسي. الطبعة التاسعة. - السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام المعافري. دار التقوى. القاهرة. الطبعة الأولى: 1420/ 1999. - السنن الكبرى لأبي بكر البيهقي. دار الفكر. بيروت. - السلسلة الصحيحة. ناصر الدين الألباني. المعارف. الرياض. - السلسلة الضعيفة. ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي. بيروت. الطبعة الأولى.

- السنة لابن أبي عاصم. المكتب الإسلامي. بيروت. محمد ناصر الدين الألباني. - السنة لعبد الله بن أحمد. دار ابن القيم. الدمام. محمد سعيد القحطاني. - السنن الأبين لابن رشيد. مكتبة الغرباء الأثرية. صالح المصراتي 1416. - شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي ت (1089). دار الكتب العملية. بيروت. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة لأبي القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي. دار طيبة. الرياض. أحمد سعد حمدان, الطبعة الثانية: 1405/ 1985. - شرح صحيح مسلم للإمام النووي. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى. - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي. المكتب الإسلامي. بيروت. - شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي. عالم الكتب بيروت. صبحي السامرائي. الطبعة الثانية 1985 - شرح معاني الآثار لأبي جعفر الطحاوي. عالم الكتب. جماعة من المحققين. - شعب الإيمان لأبي بكر البيهقي. دار الكتب العلمية. محمد سعد زغلول. الطبعة الأولى. - شفاء العليل لابن القيم. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى. 1408/ 1987. - الشعر والشعراء لأبي محمد ابن قتيبة الدينوري. دار الكتب العلمية. بيروت. مفيد قميحة ومحمد أمين الضناوي. الطبعة الأولى. 1421/ 2000.

- صحيح الإمام أبي عبد الله البخاري. دار ابن كثير. بيروت. مصطفى ديب البغا. الطبعة الخامسة. - صحيح الجامع للألباني. المكتب الإسلامي. بيروت. - صحيح أبي بكر بن خزيمة. المكتب الإسلامي. بيروت. محمد مصطفى الأعظمي. الطبعة الأولى. - صحيح أبي حاتم بن حبان البستي، بترتيب ابن بلبان الفارسي. مؤسسة الرسالة. شعيب الأرناؤوط. - صحيح مسلم بن الحجاج. دار إحياء التراث العربي. محمد فؤاد عبد الباقي. - صلة الصلة لابن الزبير أحمد أبي جعفر. وزارة الأوقاف المغربية. الرباط. - الصلة في تاريخ علماء الأندلس لأبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الخزرجي الأنصاري القرطبي الأندلسي. المكتبة العصرية. بيروت. صلاح الدين الهواري. - الصحاح لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري. دار الكتب العلمية. بيروت. إميل بديع يعقوب ومحمد نبيل طريفي. الطبعة الأولى 1420/ 1999 - الضعفاء الكبير للحافظ أبي جعفر العقيلي. دار الكتب العلمية. عبد المعطي قلعجي. الطبعة الأولى. وطبعة دار الصميعي. تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. - طبقات الحفاظ للسيوطي. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى 1403. - طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري السلمي.

دار الكتب العلمية ببيروت. مصطفى عبد القادر عطا. الطبعة الثانية. 1424/ 2003. - الطبقات الكبرى لابن سعد. دار صادر. بيروت. - عمل اليوم والليلة. مؤسسة الرسالة. بيروت. - علل الحديث لابن أبي حاتم الرازي. دار المعرفة. الطبعة الأولى. - العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل، رواية ابنه عبد الله. المكتبة الإسلامية. تركيا. - العلل لأبي الحسن الدارقطني. دار طيبة. محفوظ الرحمان زين الله السلفي. الطبعة الأولى. - العلل الكبير للترمذي، ترتيب القاضي أبي طالب. عالم الكتب. جماعة من المحققين. الطبعة الأولى. - غريب القرآن لابن قتيبة. دار الكتب العلمية. بيروت. أحمد صقر. 1978. - فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني. دار المعرفة. بيروت. عبد العزيز ابن باز ومن معه. - الفصل في الملل والنحل لأبي محمد ابن حزم. دار الكتب العلمية. بيروت. أحمد شمس الدين. الطبعة الثانية: 1420/ 1999. - فضائل الصحابة لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. مؤسسة الرسالة ببيروت. وصي الله بن محمد عباس. - فوائد حديثية لشمس الدين بن القيم الجوزية. دار ابن الجوزي. السعودية. مشهور حسن سلمان وإياد بن عبد اللطيف القيسي. الطبعة الأولى

1416/ 1995. - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة. دار الكتب العلمية. بيروت 1413 - الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي. دار الكتاب العربي. بيروت. أحمد هاشم. الطبعة الثانية 1986 - الكامل في معرفة الرجال للحافظ ابن عدي الجرجاني. دار الفكر. بيروت. - لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني. دار الفكر. بيروت. الطبعة الأولى. - لسان العرب لابن منظور. دارإحياء التراث العربي. بيروت. - اللآلئ المصنوعة لجلال الدين السيوطي. دار المعرفة. بيروت. - مجلة الذخائر. العدد: 11 - 12: 1423/ 2002. - مختصر كشف الأستار للحافظ ابن حجر العسقلاني. مؤسسة الكتب الثقافية. بيروت. صبري بن عبد الخالق. الطبعة الأولى: 1412/ 1992. - مروج الذهب لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي. المكتبة العصرية. بيروت. كمال حسن مرعي. الطبعة الأولى: 1425/ 2005. - مسند الإمام أحمد بن حنبل. المكتب الإسلامي. بيروت. الطبعة الثانية. - مسند أبي بكر الحميدي. دار الكتب العلمية. حبيب الرحمان الأعظمي. - مسند أبي يعلى الموصلي. دار المأمون للتراث. دمشق. حسين سليم أسد. الطبعة الأولى. - مسند أبي داود الطيالسي. حيدر أباد الدكن. الهند. الطبعة الأولى.

- مسند عبد بن حميد. مكتبة السنة. القاهرة. صبحي السامرائي وصديقه. الطبعة الأولى. - مسند الشهاب، لأبي عبد الله القضاعي. مؤسسة الرسالة. حمدي السلفي. الطبعة الثانية. - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية. - معارج القبول لحافظ حكمي. دار العدالة. الطبعة الثالثة: 1404/ 1983. - معاني القرآن للفراء. دار الكتب العلمية. بيروت. إبراهيم شمس الدين. الطبعة الأولى. 1423/ 2002. - المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي. وزارة الأوقاف. الرباط. - موطأ الإمام مالك بن أنس. مؤسسة الكتب الثقافية. بيروت الطبعة الأولى 1425/ 2004. - ميزان الاعتدال في نقد الرجال للحافظ شمس الدين الذهبي. دار الفكر. بيروت. علي محمد البجاوي. - المجروحين لابن حبان. دار الصميعي. حمدي السلفي. - الموضوعات لأبي الفرج بن الجوزي الحنبلي. دار الفكر. بيروت. عبد الرحمان محمد عثمان. الطبعة الثالثة 1983/ 1403. - المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم. دار الكتب العلمية. مصطفى عبد القادر عطا. الطبعة الأولى. - المحلى لأبي محمد ابن حزم. دار الآفاق الجديدة. جماعة من المحققين.

- المعجم الكبير لأبي القاسم الطبراني. حمدي عبد المجيد السلفي. الطبعة الثانية. - المعجم الأوسط لأبي القاسم الطبراني. دار الحرمين. مصر. طارق بن عوض الله، وصاحبه. الطبعة الأولى. - المصنف لأبي بكر ابن أبي شيبة. دار الفكر. سعيد محمد اللحام. الطبعة الأولى 1409/ 1989. - المصنف لعبد الرزاق الصنعاني. المكتب الإسلامي. بيروت. حبيب الرحمان الأعظمي. الطبعة الأولى. - نصب الراية لجمال الدين الزيلعي. دار الحديث. القاهرة. زاهد الكوثري. الطبعة الأولى. - نخبة الفكر مع شرحها نزهة النظر، كلاهما للحافظ ابن حجر العسقلاني. دار ابن الجوزي. علي حسن الحلبي. الطبعة الأولى. - نيل الأوطار لمحمد بن علي الشوكاني. دار الكتب العلمية. بيروت. - الهداية لمكي بن أبي طالب. نسخة العامة: 218ق.

§1/1