تحرير السلوك في تدبير الملوك

محمد الأعرج

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله الَّذِي فضل مُلُوك الْأمة المحمدية وسلاطين الْملَّة الاحمدية على كثير من عباده تَفْضِيلًا وجعلهم للأنام من حوادث الْأَيَّام فِي أَفَاق بِلَاده ظلا ظليلا وأوضح لَهُم إِلَى اكْتِسَاب الْفَضَائِل وَاجْتنَاب الرذائل 2 / ب بعناية الأزلية سَبِيلا وَأقَام على سعادتهم فِي مناهج معجلتهم من يمن حركاتهم وسكناتهم دَلِيلا وعداهم للنَّظَر فِي مصَالح الرعايا باستعلام وقائع القضايا فَهِيَ تتلى عَلَيْهِم بكرَة وَأَصِيلا نحمده على نعم لم تعزب عَنَّا طوالعها ونشكره على 3 / أَمن لم تنصب لدينا مشارعها حم من استنفد من الْقيام بشكره عدَّة أَيَّامه إِلَّا قَلِيلا وَأشْهد أَن لَا اله إِلَّا الله مَالك الْملك الحكم الْعدْل الْغَنِيّ عَن الشَّرِيك والوزير وَالْكَفِيل والظهير والمعين والمشير القيوم الَّذِي لَو رامت الْعُقُول الْإِحَاطَة بكنة تَدْبيره 3 ب لرجع طرفها حسيرا وخذها كليلا وَأشْهد أَن سيدنَا مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله الَّذِي سبغت بِهِ نعْمَة الْهِدَايَة اكمل سبوغ وَجعل لَهَا سُلْطَانا نَصِيرًا أَقْْضِي إِلَى دَرك غَايَة الظفر وَنِهَايَة الْبلُوغ وأيده بِالْكتاب الْعَزِيز الَّذِي ضمنه من نبأ الْأَوَّلين والآخرين مَا جعله بإعجازه كَفِيلا 4 / أشهادة تفيض على الْأَسْرَار نورها وتستفيض على الأنظار بظهورها وتلقى الشَّيْطَان مِنْهَا قولا ثقيلا وَنُصَلِّي ونسلم على الْمَبْعُوث بِالْآيَاتِ الباهرة وَالْأَحْكَام الزاهرة الَّتِي أبرأت بأنوار حَقّهَا الساطعة من أنصاب الْقُلُوب عليلا سيدنَا مُحَمَّد الْمَبْعُوث 4 / ب بِالصِّفَاتِ الطاهرة والمعجزات

الظَّاهِرَة الَّتِي شنت ببراهينها للقاطعة من اضْطِرَاب النُّفُوس غليلا وعَلى مبايعة ومتابعية الَّذين أعلاهم الله أَعلَى الْمَرَاتِب بأعظم الْوَسَائِل وأولاهم أولى المناقب بأكرم الشَّمَائِل صَلَاة وَسلَامًا لسنة 5 أدوامها المفترض تَحْويل وَرَضي الله عَن وُلَاة أُمُور الْمُوَحِّدين وحماة حوزة الدّين أَئِمَّة الْإِسْلَام الَّذين صدقُوا مَا هادوا الله عَلَيْهِ وَمَا بدلُوا تبديلا رضوانا يُحِلهُمْ بِهِ منَازِل آنسة من حظائر قدسه فِي جنَّات عدن خير مُسْتَقر وَأحسن 5 ب مقيلا أما بعد فقد وضح لِذَوي الدِّرَايَة والعرفان وَثَبت عِنْد أولي الرِّوَايَة بِالدَّلِيلِ والبرهان أَن السلطنة منزلَة عالية مَعْدُودَة من الرتب الْعِظَام المضبوط بهَا مصَالح الْخَواص والعوام وَأَن لعلو فخرها وعلو قدرهَا امتن الله (6 أ) بهَا على كليمة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حِين استضعف نَفسه عَن أَدَاء رِسَالَة ربه وَخَافَ أَن لَا ينْهض مُنْفَردا بثقل أعباء مَا أمره الله بِهِ فَسَأَلَ الْحق جلّ وعَلى أَعَادَهُ بإسعافه فِي ذَلِك بأَخيه هَارُون فَقَالَ وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا فَأرْسلهُ (6 ب معي ردْءًا يصدقني أَنِّي أَخَاف أَن يكذبُون) فَأَجَابَهُ الله إِلَى سُؤَاله وأجناه من شَجَرَة سؤله ثَمَرَة نواله ومنحه سلطنه يقصر عَن تأميل إِدْرَاكهَا الطالبون وَلَا يقدر على منالها بجد واجتهاد الراغبون فَقَالَ تَعَالَى سنشد عضدك بأخيك ونجعل لَكمَا سُلْطَانا (7 أَفلا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون) وَأَن الأحرى بِمن ارْتَضَاهُ الله لَهَا من خليقته وناط أزمة أمورها نقصا وإبراما بقضية أَن يَأْخُذ نَفسه برعاية أحوالها ويرضوها فِي أفعالها وأقوالها وَيعلم يَقِينا أَنه مَتى قدر على سياسته (7 ب) نَفسه كَانَ على سياسة غَيره أقدر وَإِذا أهمل أَمر نَفسه كَانَ بإهمال غَيره أَجْدَر كَمَا قيل (أتطمع أَن يطيعك قلب سعدي ... وتزعم أَن قَلْبك قد عصاكا) وَقد تزين نفس الْإِنْسَان لَهُ حسن الظَّن بهَا فيعتقد أَنه متصف بمحاسن الْأَخْلَاق (8 أ) فَيعرض عَن مراعاتها وينقاد بزمام الرضى عَنْهَا إِلَى متابعتها فِي شهواتها فَيبقى وَهُوَ لَا يعلم فِي أسر هَوَاهُ مرتهنا معدودا مِمَّن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا فيقوى نَفسه عَلَيْهِ حَتَّى تغلب عقله ويلعب بِهِ هَوَاهُ حَتَّى يستنفد فِي شهواته قَوْله وَفعله ويكشفه (8 ب) صوارف غفلاته عَن تَأمل إصْلَاح شَأْنه فتنسيه فروعه وَأَصله فَلَا يشْعر إِلَّا وَقد أشرف بِهِ الصلف على التّلف فأغسد أمره كُله فَمَتَى استظهر على هَذِه الْحَالة من مبدأ أمره وَاعْتبر مواقع تزين النَّفس الْمَارَّة بالسوء ببصيرة فكره وَحصر أَسبَاب التزيين (9 أ) فَقَطعه بشبا صبره وزجر قلبه عَن إتباع هَوَاهُ بموجبات زَجره وقهر نَفسه فانقادت طوع عقله فِي سره وجهره كَانَ خليقا أَن تنْقَلب خلائقه الذاتية حميدة وطرائقه المأتية سعيدة ونظراته فِي تصريف الحركات والسكنات سعيدة (9 ب) فَلَا جرم تكون دولته دائمة ومدته مديدة وَلَا يدْرك هَذَا الِاسْتِظْهَار بِعَين الْيَقِين إِلَّا إِذا أحَاط علما بِأَسْبَاب التزيين فقطعها بِحَدّ عزمه الْمُبين وَدفعهَا بِحَدّ ذِي الْقُوَّة المتين وانه يتَعَيَّن على من رزقه الله نعْمَة السلطنة وحلاه بعقدها وَأَتَاهُ أزمة حل (10 أ) الْأُمُور وعقدها وَجعله نَائِبا فِي حماية بِلَاده ورعاية عباده واليه مَال مرجعها ومردها أَن يصرف عناية اهتمامه المتقنة إِلَى النّظر فِي عشرَة أُمُور وَهِي قَرَار قَوَاعِد الْملك وقطب السلطنة الأول حفظ بَيْضَة الْإِسْلَام (10 ب) وَالْقِيَام بحمايته فِي جَمِيع أقطار بِلَاده ونواحي مَمْلَكَته لِئَلَّا يقوى عَلَيْهِ بشوكة كَافِر وَلَا تصل إِلَيْهِ يَد

فَاجر وَذَلِكَ بِإِقَامَة الْأُمَرَاء والأجناد وإعداد الأهبة والاستعداد وَتَحْصِيل مهمات الْإِمْدَاد لإرهاب الْأَعْدَاء (11 أ) والأضداد وَالثَّانِي تفقد المعاقل والحصون والثغور بِاعْتِبَار أَحْوَال ولاتها وَاخْتِيَار رجال حماتها والمبادرة إِلَى إصْلَاح عمائرها وذخائرها ومهماتها وَالثَّالِث إِقَامَة السياسات لدفع العتاة والمفسدين وردع الطغاة (11 ب) والمعتدين فَإِن بهَا يسترعى الرعايا لتَحْصِيل المعايش والأقوات ويعم نفع البرايا بالأسفار الَّتِي لَا تحصل إِلَّا بأمن الطرقات وَالرَّابِع إِقَامَة حُدُود الله الْمَانِعَة من ارْتِكَاب الْمَحَارِم الوازعة من اقتراف الجرائم الرادعة عَن اكْتِسَاب الْمَظَالِم فقد جعلهَا (12 أ) الله لحفظ النُّفُوس وحراسة الْأَمْوَال وَأمر بإقامتها فَلَا يحل إِسْقَاطهَا بشفاعة وَلَا سُؤال وَالْخَامِس دوَام تمسكة بِحَبل الشَّرِيعَة الغراء والتزامها واعتماده فِي أَمر وَنَهْيه على نَقصهَا وإبرامها وَاعْتِبَار أُمُور القائمين بِأَحْكَام (12 ب) أَحْكَامهَا واعتناؤه بِإِقَامَة صلحاء قضاتها وحكامها فبنصبه فيأصل الْقُضَاة قطع النزاع وصيانة الْأَمْوَال والحقوق عَن الْإِتْلَاف والضياع وَحفظ ذَلِك من أَن تمد إِلَيْهِ أَيدي الاقتطاع من ذَوي الْبَغي وأولي الأطماع (13 أ) وَإِقَامَة الْعُقُود الْمُحْتَاج إِلَيْهَا على مَالهَا من الأوضاع وَالسَّادِس الْقيام بإقطاع الْأُمَرَاء والأجناد وأرزاق الْحُقُوق اللَّازِمَة من الْعباد وترتيبهم على مِقْدَار مَنَازِلهمْ وأحوالهم وتفضيلهم بِمَا يُوجِبهُ تفاضل الِاحْتِيَاج إِلَيْهِم فِي أَعْمَالهم (13 ب) وَالسَّابِع الاهتمام بجهاب الْأَمْوَال لاجتلاب أَنْوَاعهَا ومواطن الغلال الَّتِي بهَا تَقْوِيَة الْبِلَاد بِاعْتِبَار مزارع ضياعها وان لَا تُؤْخَذ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعدْل فَهُوَ أكبر حارس لَهَا من ضياعها

وَالثَّامِن اسْتِخْدَام الكفاة والأمناء والأتقياء وَاسْتِعْمَال (14 أ) النصحاء الصلحاء الأقوياء لتَكون الْأَحْوَال يكفايتهم ملحوظة مضبوطة وبأمانتهم ونصحهم مَحْفُوظَة محوطة وَالتَّاسِع الانتصاب لأمور الْعَامَّة بِأَن يجلس لَهَا وقتا من الْأَوْقَات لكشف الْمَظَالِم ولإقامة فَرِيضَة الْعدْل لإِزَالَة الْمَظَالِم والعاشر (14 ب) التطلع إِلَى مجددات الْأَحْوَال وحوادث الْمُرُور وَاسْتِعْمَال الفكرة فِيمَا يَتَجَدَّد مِنْهَا مَخَافَة طرئان مكررة ومحذور بِأَن يَجْعَل لَهُ عيُونا يعتمدهم بصددها وثقاة يعدهم لرصدها فَإِن حوادث الأقدار وتقلبات الأدوار (15 أ) قد تجْعَل الْمُوَافق مُخَالفا والموالي مجانبا والأمين خائنا والناصح غاشا والساكن متحركا والمقرب مباينا فَإِذا تطلع إِلَى معرفَة مجددات الْأَسْبَاب ظهر لَهُ الْخَطَأ من الصَّوَاب وَعلم المحق من الْمُبْطل المرتاب فبادر إِلَى إصْلَاح الْخلَل وَإِزَالَة الِاضْطِرَاب (15 ب) فَهَذِهِ الْأُمُور الْعشْرَة أصُول شوامخ ينشأ مِنْهَا شعب متفرعة وقواعد ورواسخ يَنْبَنِي عَلَيْهَا أَحْكَام فَإِذا لحظها السُّلْطَان بِعَين يقظتة وَأدْخل أَحْكَام أَحْكَامهَا فِي بَاب مَعْرفَته أَقَامَ بِمَا وَجب عَلَيْهِ من حراسة الْملَّة وسياسة (16 أ) رَعيته هَذَا وأنى لما رَأَيْت بإعانة وُلَاة الْأَمر الْأَئِمَّة على مَا تَحملُوهُ من أعباء مصَالح الْأمة المهمة بتعريفهم مناهج إرشادهم وإسعافهم بمباهج إسعادهم من لَوَازِم طاعتهم الَّتِي لَا بُد لكل مُسلم مِنْهَا وَتَمام نصرتهم (16 ب) الَّتِي لَا غنى لمستمسك بدين الله عَنْهَا

والغيت المصنفات الْمُعْتَبرَة فِي أَحْكَام رياسة أَئِمَّة الْإِسْلَام المرعية والمؤلفات المشتهرة فِي أَحْكَام سياسة الْخَاص والعوام من الرّعية أما بسط مُمل العزمات عَن تصفحة عليلة أَو وجيزة مخل الرغبات (17 أ) فِي تلمحة قَليلَة حدانى غَرَض أختلع فِي سرى وأمل عتلج فِي صحرى على أَن أصرف همتي الفاترة وأبعث قريحتي القاصرة إِلَى تأليف مُخْتَصر فِي قَوَاعِد تَعْرِيف رياسة الإِمَام ومعاقدها وعوائد تصريف سياسة الآنام ومراشدها (17 ب) جَامع لزبد هَذِه الْأَسْبَاب قَاطع بِمَا يشْتَمل عَلَيْهِ من الْفَوَائِد وزوائد الْمَقَاصِد شبه الارتياب وَاقع بإفادة التَّحْقِيق وإجادة التدقيق موقع الْغَرَض من هَذَا الْبَاب فاستخرت الله الَّذِي مَا خَابَ من استخارة وَلَا بُد من آب إِلَيْهِ (18 ب) واستجارة والفت هَذَا الْكتاب البديع واللباب الرفيع من شرائف المعارف المسطورة فِي نفائس كتب هَذَا الْفَنّ الْمَشْهُور وَجَعَلته فِي هَذَا الشان عدَّة لكل حام حَامِل لأعباء الْأُمُور وعمدة لكل كَاف بمصالح الْجُمْهُور (18 ب) وسميته إِذا رسمته بتحرير السلوك فِي تَدْبِير الْمُلُوك ورتبته بعد أَن هذبته على مُقَدّمَة مهمة وواسطة وخاتمة متمة أما الْمُقدمَة فتشمل على مَا يتخلى عَنهُ ولى الْأَمر من غرر النقائص الفاضحة وَمَا يتحلى بِهِ من غرر الخصائص الْوَاضِحَة (19 أ) وَأما الْوَاسِطَة فتشتمل على مَا يعتده ولي الْأَمر عِنْد النّظر فِي الْمَظَالِم من الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة وَمَا يعتمده حِين الحكم من السياسات الدِّينِيَّة وَأما الخاتمة فتشتمل على التِّبْيَان لما يحكمه ولي الْأَمر من الْأَعْمَال عِنْد النّظر فِي الجرائم بواضح الْبَيَان (19 ب) وَأَنا رَاغِب لكل خَاطب وصاله وطلاب نواله أَعْيَان السادات وسادات الْأَعْيَان الحائزين فِي حلبات الْبَيَان قصبات الرِّهَان إِذا جليت

الكلام على المقدمة الحرية بالتقدمة

عَلَيْهِ عرائس جماله ونفائس كَمَاله أَن لَا يفوق لهدف الِاخْتِيَار سهم الِاخْتِيَار (20 أ) وَأَن يحذق إِلَيْهِ بصر الانتقاد فَأَي جواد لَا يكبو وَأي مهند لَا ينبو وَمَعَ هَذَا فان لِسَان التَّقْصِير عَن الْقيام بالعذر قصير وَالْمُصَنّف وَأَن نظم دُرَر الْفَوَائِد فِي منظوم الْفَوَائِد ونثر غرر (20 ب) الفرائد فِي منثور الْفَوَائِد واستعان فِي ترصيف مَا صنف وتنقيح مَا ألف من نقاد الْعبارَة وفرسانها بحسبان البراعة وسحبانها معرض لحاسد أَو طَاعن بقال وَقيل أل أَن يحْتَاج لَهُ عاذر ومقيل وَإِنِّي لأرجو أَن يفخم أمره من النَّاس (21 أ) حر شَأْنه الصفح والستر وَإِلَى ذِي الْغَنِيّ الْمُطلق أمد كف الْفقر الْمُحَقق أَن يَجْعَلنِي فِيهِ من المخلصين وبأذيال كرمه الْعَام أعلق يَد الْفَاقَة والإعدام أَن يَجعله ذخيرة لي يَوْم الدّين وبباب عَفوه الْعَزِيز أَقف وَقْفَة الْمُعْتَرف بِالْعَجزِ (21 ب) وَالتَّقْصِير سَائِلًا ستر عيوبي جمعا وَإِلَيْهِ سُبْحَانَهُ أضرع أَن لَا يَجْعَلنِي من الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا وَمن فيضه الجم أسأله المعونة على خزن الْأَمر وسهله وَفِيمَا خص وَعم أتوكل عَلَيْهِ (22 أ) واعتصم بحبله فَهُوَ الْجواد الْكَرِيم الْبر الرَّحِيم وَهَذَا حِين شروعنا فِي بَيَان الْمَقْصُود من الْكَلَام على مَقَاصِد الْكتاب بِفضل مانح الْجُود فَنَقُول وَبِاللَّهِ الْإِعَانَة على الْإِبَانَة الْكَلَام على الْمُقدمَة الْحُرِّيَّة بالتقدمة أعلم أَن أولى مَا تطلعت إِلَيْهِ أفكار (22 ب) الْمُلُوك الَّتِي هِيَ مُلُوك الأفكار ورغبت فِيهِ نُفُوسهم الشَّرِيفَة الَّتِي خصها الله بمشكاة الْأَنْوَار وأسجل لَهَا حَاكم السَّعَادَة بشرف الهمة وصفاء الفكرة حَتَّى يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار التخلي عَن الرذائل والتحلي بالفضائل (22 أ) وَأَن الرذائل أُمَّهَات إِذْ أبعدتها النَّفس عَنْهَا وأزالتها مِنْهَا استعدت للإنصاف بشرف الْخَلَاء بِلَا خلاف

فأولها: الكبروثانيها: العجبوثالثها: الغرورورابعها: الشُّح وخامسها: الْكَذِب فَأَما الْكبر فَهُوَ جالب (23 ب) لسخط الله المليك القهار قَالَ الله تَعَالَى {كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار} وروينا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يرويهِ عَن اله جلت عَظمته أَن تَعَالَى يَقُول الْكِبْرِيَاء رِدَائي وَالْعَظَمَة ازارى فَمن ناز عني فِي شَيْء مِنْهَا قصمته (24 أ) وقلما اتّصف ملك بِصفة الْكبر إِلَّا اختلت أَحْوَال مَمْلَكَته واضطربت قَوَاعِد دولته وعميت عَلَيْهِ أَبنَاء مَصَالِحه وَقل موَالِيه وَظَهَرت مقَالَته بسهام أعاديه وَأما الْعجب فَهُوَ من المهلكات قَالَ الله تَعَالَى ترهيبا لِعِبَادِهِ المتدبرين (24 ب) {وَيَوْم حنين إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم فَلم تغن عَنْكُم شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ وليتم مُدبرين} وروينا عَن رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ ثَلَاث مهلكات شح مُطَاع وَهوى مُتبع وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ وَمن الحكم الصَّادِر عَن حكماء الْعلمَاء (25 أ) الَّذين شرفهم الله بِنزل قدسه من استهواء الْعجب حَتَّى نظر فِي عطفيه واختال فِي برديه وَلم ير لغيره فضلا عَلَيْهِ فقد اكْتسب التّلف مِمَّا فَوق فِي سِهَام المقت إِلَيْهِ واحتقب مَا يورثه ندامة وحسرة يَوْم يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ

وَأما (25 ب) الْغرُور فَهُوَ مضل بِصَاحِبِهِ إِلَى العطب سائق لَهُ ورطات هَلَاك ذَات شعب وَهُوَ أَن يرى الْمَغْرُور الْأَحْوَال فِي مباديها منتظمة فِي سلك السداد والأمور فِي أوائلها جَارِيَة على وفْق المُرَاد والأوقات سَاكِنة عَن هبوب عوارض الْبَغي (26 أ) وَالْفساد والاختلافات الشاغلة قد نزلت بساحات الْأَعْدَاء والاضداد فيظن أَن هَذِه الْحَالة وَاجِبَة الإطراد دائمة الِاسْتِمْرَار بِلَا انْقِطَاع وَلَا نَفاذ فيغتر بذلك فيهمل التأهب ويغفل عَن الاستعداد فتفاجئه حوادث الْخَال وتباغته نَوَازِل (26 ب) الزلل فتسد عَنهُ أَبْوَاب الصّلاح وتفتح عَلَيْهِ أَبْوَاب الْفساد وَأعظم موارد الْغرُور النِّفَاق المادحين ومدح الْمُنَافِقين وتملق المقربين وتقرب المتملقين الَّذين اتَّخذُوا الْكَذِب والنفاق وَسِيلَة وَجعلُوا الْمَكْر وَالْخداع أحبولة وحيلة (27 أ) فَمَتَى وجدوا لنفاقهم نفَاقًا وسوقا ولكذبهم قبولا وَتَصْدِيقًا نصبوه سلما إِلَى مرامهم وَأَقَامُوا المغتر بهم غَرضا لسهامهم واتخذوه عرضة لاستهزائهم بِهِ واستقسامهم وَقد عد الْعلمَاء وأساطين الْحُكَمَاء هَذَا النَّوْع من الاغترار من أقوى (27 ب) الْأَسْبَاب وحثوا أكَابِر الْمُلُوك على التيقظ لَهُ عِنْد الإسهاب فِيهِ والإطناب ونبهوا على الِاحْتِرَاز مِنْهُ والتجنب عِنْد أَرْبَاب الْأَلْبَاب فَأن أقل مَا فِيهِ رواج الاستسخار والاستهزاء ونفاق الْكَذِب بِلَا ارتياب وَلِهَذَا الْمَعْنى أَمر (28 أ) الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإهانة مباشريه بقوله أحثوا فِي وُجُوه المادحين التُّرَاب وَأما الشُّح فَهُوَ من الْأَسْبَاب الَّتِي أخبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَوْنِهَا مهلكة للورى وَيَكْفِي فِي ذمَّة الْفَلاح مقرون بالسلامة مِنْهُ والتوقي

بِلَا (28 ب) مراء قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْمكنون {وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} وَمن الحكم الْبَالِغَة الشحيح مطرود مقامات الْكِرَام مَعْدُود من سيئات الْأَيَّام مَقْصُود بسهام الْمَلَامَة بَين النام لَا يسود أبدا وَلَا يبلغ مقصدا (29 أ) وَأما الْكَذِب فَيَكْفِي فِي ذمَّة أَنه يجانب الْإِيمَان ويسلب خصيصة الْإِنْسَان فان النُّطْق هُوَ الْفَارِق بَينه وَبَين سَائِر الْحَيَوَان وآلته الْمعبر بهَا عَمَّا فِي الضمائر المتوصل بهَا عِنْد التخاطب إِلَى إِظْهَار مَا فِي السرائر هِيَ اللِّسَان فَإِذا اسْتَعْملهُ صَاحبه (29 ب) فِي الْكَذِب فَغير الْأَشْيَاء عَن حقائقها وأبرز الْبَاطِل فِي صُورَة الْحق وَأخْبر بالأمور على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهَا وكسا الْمحَال لِبَاس الصدْق فقد سقط الوثوق بِهِ من الْقُلُوب عِنْد الْأَخْبَار وَلم يبْق لما يصدر عَنهُ أثر وَلَا اعْتِبَار وَمن الحكم الْبَالِغَة (30 أ) الْكَذِب يسلب صَاحبه صفة الصّلاح ويلبسه جِلْبَاب الافتضاح وَيجْعَل در نَعته لَغوا منثورا وَلَو نظمه الْجَوْهَرِي فِي سمط الصِّحَاح فَهَذِهِ الرذائل الْخَمْسَة يتَعَيَّن على السُّلْطَان أَن يصون نَفسه وَشرف همته وَعز سُلْطَانه وَحسن سمعته (30 ب) عَن شَيْء مِنْهَا لِأَنَّهَا النقائض الوضيعة المحطة لِذَوي الأقدار الرفيعة وَمِنْهَا يتَطَرَّق تَزْيِين الفضائح وتحسين القبائح فَإِنَّهُ قل مَا كَانَت فِيهِ إِلَّا اختلت أَحْوَال مَمْلَكَته بِلَا نزاع واضطربت قَوَاعِد دولته ونفرت عَنهُ قُلُوب (31 أ) الإتباع وعميت عَلَيْهِ

أنباء الْمصَالح وَظَهَرت مقاتله لسهام عدوه الْكَاشِح ومالت عَنهُ خواطر ناصريه واتسع لألسن الطاعنين مجَال الْمقَال فِيهِ وَسقط وقعه من نفوس رعاياه وَجُنُوده وَزَالَ الوثوق بوعده وَالْخَوْف من وعيده (31 ب) فَوَاجِب على السُّلْطَان إِذا تخلى عَن هَذِه النقائض أَن يتحلى من الخصائص الحسان بِمَا يزْدَاد بِهِ مهابة ووقار ويكسبه عَظمَة وفخار وَيعْلي لَهُ فِي الْعَالم شَأْنًا ومنارا وَيبقى لَهُ على الْأَبَد ذكرا وفخارا وَهَا أَنا أنبه على شَيْء مِنْهَا تَنْبِيها أعْتَمد (32 أ) فِيهِ اقْتِصَار واختصار فَعَلَيهِ أَن لَا يُسَارع إِلَى إتباع الشَّهَوَات وَأَن يتثبت عِنْد اعْتِرَاض الشُّبُهَات وَأَن يجانب سرعَة الحركات وخفة الإشارات ويديم أَطْرَاف طرفه وملازمة صمته إِلَّا عِنْد الْحَاجة فِي أَكثر الْأَوْقَات (32 ب) فَإِن أنفاس الْملك ملحوظة وَأَلْفَاظه منقولة على ممر السَّاعَات وَكَلَام الْإِنْسَان ترجمان عقله وبرهان فَضله وَمن كثر كلمة كبر ندمه ويختار عِنْد الْكَلَام أعذب الْأَلْفَاظ وأحسنها وأعدلها وأجزلها وأبينها ويجهر صَوته (33 أ) فِي كَلَامه ليَكُون أبين لسامعيه وأوقع فِي الْقُلُوب وَيجْعَل وعيده بالتأديب على مِقْدَار الذُّنُوب جمعا بَين مصلحَة الْعقُوبَة والانزجار ومصلحة اجْتِنَاب الْإِثْم بمجاوزة الْحَد والمقدار ويجتهد فِي منع نَفسه من الْغَضَب فَإِنَّهُ أشر قاهر (33 ب) وأضر معاندو مجاهر وَهُوَ إِذا غلب أعظم الْأَشْيَاء فَسَادًا لنظام المرام وأبلغ الْأُمُور تَأْثِيرا فِي انْتِقَاض قَوَاعِد تَدْبِير الإبرام فَإِن قدر الله عَلَيْهِ بِشَيْء مِنْهُ فليحذر جزما من أَن يُبَاشر

فِي تِلْكَ الْحَالة فعلا أَو ينفذ حكما وكما يجب الِاحْتِرَاز (34 أ) من الْغَضَب وَكَذَلِكَ يتَعَيَّن الاحتراس من اللجاج لِأَنَّهُ حَلِيف الطِّبّ وَهُوَ مِمَّا يُثمر الزلل فِي العاجل ويسفر عَن الندامة فِي الْأَجَل ويدفعه الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل وَلَا يسْتَعْمل فِي النَّاس حَالَة وَاحِدَة بل يعتمده (34 ب) فِي كل قَضِيَّة مَا يَلِيق بصاحبها من لين وَشدَّة وإقبال وإعراض وَبشر وانقباض وَوصل وَقطع وَإجَابَة وَمنع وإحسان وإساءة وَزِيَادَة ونقصان وَتجَاوز وانتقام وإقدام وإحجام وعفو وعقاب وَظُهُور واحتجاب فَإِن اسْتِعْمَال (35 أ) كل حَالَة فِي محلهَا مَعَ مستحقها أكمل تدبيرا وَأجْمع لبلوغ الأرب ووضعها فِي غير محلهَا أفْضى إِلَى توقع الضَّرَر ومفتاح لباب الْغَضَب وطباع الْعَامِل غير متوازنة وأخلاقهم على التَّحْقِيق متباينة فَمنهمْ من يصلحه الإقبال عَلَيْهِ (35 ب) وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ وَمِنْهُم من يعدله الْإِعْرَاض عَنهُ والانتقام مِنْهُ وليعلم أَن من أَعم الْأَشْيَاء نفعا وَأَعْظَمهَا فِي الْمصَالح وَقعا كتمان سره وإخفاء أمره وَأَن لَا يطلع أحدا على مَا عزم على فعله قبل إِتْمَامه وَلَا يتحدث بِمَا يُرِيد من الْمُهِمَّات (36 أ) قبل إبرامه فَإِن ذَلِك من أقوى أَسبَاب الظفر بالمطالب وأنكا فِي قُلُوب الْأَعْدَاء وأعون على نجح الْمَقَاصِد والمأرب لَكِن الْأَسْرَار والأمور مَا يَسْتَغْنِي فِيهِ إطلاع نَاصح حَكِيم ومشاورة صديق حميم يرى نصحه لإمامه من طَاعَته لرَبه (36 ب) ويعده عِنْد الله من أعظم أَسبَاب قربه فيستعين بِرَأْيهِ فِي الْمُهِمَّات وَينْتَفع بفكرة عِنْد الملمات وَمَتى حدث أَمر من الْأُمُور الْعَظِيمَة أَو وَقع خطب من الخطوب الجسيمة يكثر الاستشارة فِيهِ فِيمَن يرَاهُ لذَلِك أَهلا وَيسمع رَأْي كل وَاحِد مِنْهُم على انْفِرَاده (37 أ) وَينظر فِيمَا سَمعه فرعا واصلا

وَيعْمل بِمُقْتَضى مَا هُوَ الْأَقْرَب إِلَى نيل الْمَطْلُوب والأصوب فِي دفع المرهوب وَيعْمل الْفِكر فِيمَا يرد عَلَيْهِ وَلَا يهمل الِاحْتِرَاز والحذر فِي عواقب الْأُمُور وَمَا يؤول إِلَيْهِ ويجتهد أَن لَا يفتح بَابا يعييه سَده (37 ب) وَلَا يَرْمِي سَهْما يعجزه رده فقد قيل (وَإِيَّاك وَالْأَمر الَّذِي قد توسعت ... موارده ضَاقَتْ عَلَيْك المصادر) (فَمَا حسن أَن يعْذر الْمَرْء نَفسه ... وَلَيْسَ لَهُ من سَائِر النَّاس عاذر) وَلَا يَجْعَل أوقاته مصروفة إِلَى نوع وَاحِد من مصادره والموارد (38 أ) فَإِن ذَلِك إِن كَانَ جدا واجتهادا فِي تَدْبِير مصَالح مَا هُوَ متوليه ضجرت النُّفُوس مِنْهُ وسئمت الفكرة فِيهِ وَرُبمَا أدّى إِلَى خلل وسَاق إِلَى زلل بل عَلَيْهِ أَن يحصر ساعاته وَيقسم أوقاته فَيصْرف مِنْهَا قسطا إِلَى النّظر فِي مصَالح ولَايَته ورعيته (38 ب) وقسطا إِلَى اختلافه بِنَفسِهِ لراحته وقسطا يَخُصُّهُ بتضرعه إِلَى الله تَعَالَى وقيامه بشكر نعمه وَأَدَاء عِبَادَته وكما أَنه يقسم أوقاته ويخص كلا مِنْهَا بِحَالَة لَا يَلِيق أَن يُوقع فيع غَيرهَا من مهماته كوقت ركُوبه على جاري عَادَته وَوقت نظرة (39 أ) فِي مصَالح ولَايَته وَوقت جُلُوسه لكشف قضايا رَعيته وَوقت دُخُول جُنُوده عَلَيْهِ لأَدَاء وظيفته خدمته وَوقت استحضار من يحضر من الرُّسُل لأَدَاء رسَالَته وَوقت اختلائه بِنَفسِهِ طلبا للراحة فِي خلوته وَوقت (39 ب) سكونه ومنامه وقيلولته وَوقت

استبيانه بِمن يحضرهُ لمحادثته وَوقت قِيَامه بفريضة الله تَعَالَى وطاعته وَلكُل حَالَة من هَذِه الْحَالَات وَوقت من هَذِه الْأَوْقَات أَو أَن جعل علما عَلَيْهَا لَا يتعدها وزمانا مَنْسُوبا إِلَيْهِ (40 أ) لَا يَلِيق بِهِ سواهَا فَكَذَلِك عَلَيْهِ أَن يَسْتَعِين فِي الْأَعْمَال بكفاة الْعمَّال فِي الْمُهِمَّات الثقال باجلاد الرِّجَال فيفوض كل كل عمل إِلَى من قَدمته قدم راسخة فِي مَعْرفَته وأيدته يَد باسطة فِي درايته وتجربته وَلَا يُفَوض (40 ب) عمل عَالم إِلَى جَاهِل وَلَا عمل بنية إِلَى خامل وَلَا عمل متيقظ إِلَى غافل وَلَا عمل ذِي جبلة إِلَى عاطل فَإِن غفل عَن ذَلِك فقد بَاعَ حَقًا بباطل واعتاض عَن قسى بباقل وسلط على دولته لِسَان كل قَائِل وَمن الحكم الباهرة من اسْتَعَانَ فِي عمله بِغَيْر (41 أ) كفؤ أضاعه وَمن فوض أمره إِلَى عَاجز عَنهُ فقد أفسد أوضاعه وليحذر كل الحذر من أَن يُولى أحد الْخلق أمرا دينيا أَو دنيويا بشفاعة أَو رِعَايَة لحُرْمَة أَو لقَضَاء الْحق إِذا لم يكن أَهلا للولاية وَلَا ناهضا تحصل بتقليده الْكِفَايَة (41 ب) فَإِن أحب مكافاة من هَذِه صفته كافأة بِالْمَالِ والصلات وَقطع طعمه عَمَّا لَا يصلح لَهُ من الولايات ليَكُون قَاضِيا لحقه بِمَالِه لَا بمملكته قَائِما بِمَا لَا بُد مِنْهُ من حُقُوق ولَايَته وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ الَّذِي أعتمده كسْرَى أنو شرْوَان لأحكام قَوَاعِد ملكه (42 أ) وتأييده وإتمام مَقَاصِد تَدْبيره وتأكيده حَتَّى أَنه على مَا يُقَال وضع على بناية خَشَبَة من سَاج مَكْتُوب عَلَيْهَا بِالذَّهَب الْأَعْمَال بالكفاة والحقوق على بيُوت الْأَمْوَال

وَمن الحكم الزاهرة أَي ملك جده هزله وحقق قَوْله فعله (42 ب) وقهر رَأْيه هَوَاهُ فِي تَدْبيره وَعبر ظَاهره عَمَّا فِي ضَمِيره وَلم يخدعه رِضَاهُ عَن حَقه وفوض كل عمل إِلَى مُسْتَحقّه وَاسْتعْمل بالكفاءة لَا بشفاعة المتعرضين وَلم يَأْخُذ بالسعاية قبل الْكَشْف وَلَا استهواه تَحض المعترضين فَهُوَ خليق (43 أ) بِاسْتِحْقَاق الملكة وارتداء جِلْبَاب جدير بهَا وَلم يكن أواصره وعناصره من أَرْبَابهَا وَإِلَى هَذَا الْحَال انْتهى بِنَا الْكَلَام على مُقَدّمَة الْكتاب فلنشرع فِي الْكمّ على الْوَاسِطَة بعون الْملك العلام فَنَقُول وَالله للعفو مسؤول أعلم أَن الله (43 ب) جلّ جَلَاله وتقدس كَمَاله شرع الزواجر والعقوبات ردعا للعباد عَن الْفساد وَوضع الروادع والسياسات حفظا لنظام المعاش والمعاد فَوَجَبَ على من قَلّدهُ الْقيام برعاية خلقه وألزمه النّظر فِي مظالم الْعباد الْإِحَاطَة بالسياسة (44 أ) الدِّينِيَّة تحريا للنجاة من عَذَاب يَوْم التناد وَلَا تكون سياسته غاشمة خَارِجَة عَن قَوَاعِد دين الْإِسْلَام وَأَحْكَامه آثمة بَاطِلَة فِي شَرِيعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيكون من الغشمة الْجَاهِلين الَّذين سيجزون بغشهم جحيما وَمن الجهلة الظَّالِمين (44 ب) الَّذين سيصلون بظلمهم سعيرا ويسقون حميما بل من الْمُنْذرين فِي كتاب الله الْمكنون بقوله عز اسْمه {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} فمعرفة مَا لَا يجوز لَهُ وَمَا يجوز تهدية إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وتنجيه من عَذَاب أَلِيم وتعلمه أَن (45 أ) النَّاظر فِي الْمَظَالِم أوسع من الْقُضَاة فِي محَال النّظر مجالا وأعم مِنْهُم فِي الفحص عَن الْمَظَالِم والجرائم أعمالا وَأكْثر مِنْهُم فِي الْكَشْف عَن الْحق أسبابا

وافتتح مِنْهُم على الْأَنَام للنجح أبوابا إِذْ لَهُ النّظر فِيمَا تنظر فِيهِ الْقُضَاة وَمَا لَا تنظر فِيهِ من (45 ب) الحكومات وَله النّظر قبل التظلم إِلَيْهِ فِي الجرائم والظلمات وَله إرهاب الْمَفْهُوم بالظلم والجريمة قبل الثُّبُوت بِالْإِقْرَارِ أَو الْبَيِّنَة القويمة وَله الْحمل على الِاعْتِرَاف بِالْحَقِّ وَالْحَبْس فِي الْمَظَالِم وَله الضَّرْب للاعتراف عِنْد ظُهُور الأمارات فِي الجرائم (46 أ) وَله تَأْدِيب الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا ثَبت الْحق بِالْبَيِّنَةِ بعد الأنكار وَله حمل الْمُجْرمين على التَّوْبَة للإجبار وَلَيْسَ للقضاة هَذِه السياسات وَلَا هم قبل الرّفْع إِلَيْهِم النّظر فِي الْمَظَالِم والخصومات وَإِنَّمَا لَهُم النّظر فِيهَا بعد رَفعهَا إِلَيْهِم وَلَا (46 ب) طَرِيق لكشفها لَهُم سوى عَمَلهم أَو الْإِقْرَار أَو الْبَيِّنَة العادلة لديهم 0 وَبِالْجُمْلَةِ فالناظر فِي الْمَظَالِم يمتاز عَن الْقُضَاة بِوُجُوه كَثِيرَة إِذا تقرر هَذَا فَاعْلَم أشرق الله قَلْبك بأنوار الْيَقِين ونظمك فِي سلك عباده الْمُتَيَقن أَنه يشْتَرط فِي النَّاظر فِي الْمَظَالِم (47 أ) أَن يكون جليل الْقدر نَافِذ الْأَمر عَظِيم الهيبة ظَاهر الْعِفَّة قَلِيل الطمع كثير الْوَرع لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وَلَا تدنس دينه وَلَا عرضه الرِّشْوَة بالقائم إِذْ يحْتَاج إِلَى سطوة الْوُلَاة وَتثبت الْقُضَاة فَيَنْبَغِي أَن يكون جَامِعَة بَين صِفَتي الْفَرِيقَيْنِ (47 ب) وَيكون لجلالة قدره نافذه المر من الْجِهَتَيْنِ وَيكون سهل الْحجاب نزه الْأَصْحَاب وان يستكمل مجْلِس نظره بِخَمْسَة أَصْنَاف لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُم وَلَا يَنْتَظِم أمره إِلَّا بهم

الصِّنْف الأول الحماة والأعوان والكماة والشجعان لجذب القوى (48 أ) وتقويم الجريء الصِّنْف الثَّانِي الْقُضَاة لاستعلام مَا يثبت عِنْدهم من حُقُوق الْأَنَام ولمعرفة مَا مجْرى فِي مجَالِسهمْ من الوقائع بَين الأخصام والصنف الثَّالِث الْفُقَهَاء ليرْجع إِلَيْهِم فِيمَا أشكل وَيسْأل مِنْهُم عَمَّا أبهم وأعضل والصنف الرَّابِع (48 ب) الْكتاب ليكتبوا مَا جرى بَين الْخُصُوم فِي مجْلِس الْمُخَاصمَة وَمَا توجه لَهُم أَو عَلَيْهِم من الْحُقُوق اللَّازِمَة والصنف الْخَامِس الشُّهُود ليشهدهم على مَا أوجبه من حق وَاجِب أَو أَمْضَاهُ من حكم لازب فَإِذا اسْتكْمل مجْلِس الْمَظَالِم بِمَا ذَكرْنَاهُ من هَذَا (49 أ) الْأَصْنَاف الْخَمْسَة شرع حِينَئِذٍ فِي نظره والمواضع الَّتِي ينظر فِيهَا ويحكمها عشرَة الأول مِنْهَا النّظر فِي تعدِي الْوُلَاة على الرّعية وَأَخذهم بالعنف والعدول عَن سيرة الْعدْل المرعية فَيكون لمسيرهم متصفحا ولأحكام متعرفا ولأمورهم مستطلعا (49 ب) وَعَن أَحْوَالهم مستكشفا ليقويهم أَن أنصفوا ويكفهم أَن عسفوا ويستبدل بهم إِذا هم بِالْعَدْلِ لم يتصفوا

حكى أَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ خطب فِي النَّاس فِي أول خِلَافَته خطْبَة أعرب بهَا عَن قِيَامه فِي الله ومعداته فَقَالَ (50 أ) أَيهَا النَّاس أوصيكم بتقوى الله فَإِنَّهُ لَا يقبل غَيرهَا وَلَا يرحم إِلَّا أَهلهَا وَقد كَانَ قوم من الْوُلَاة منعُوا الْحق حَتَّى اشْترى مِنْهُم شِرَاء وبذلوا الْبَاطِل حَتَّى افتدى مِنْهُم فدَاء وَالله لَوْلَا سنة الْحق أميتت فأحييتها وَسنة من الْبَاطِل أَحييت فأمتها مَا باليت (50 ب) أَن أعيش فواقا وَاحِدًا فالسعيد مِنْكُم من يحوي رشدا أصلحوا أخرتكم يصلح لكم دنياكم أَن إمرء سوء لَيْسَ بَينه وَبَين آدم إِلَّا ميت لمغرق فِي الْمَوْتَى وَعَن قريب بكأس الْمنية يُؤْتى كل أَمر مصبح أَهله وَالْمَوْت أدنى من شِرَاك نَعله الثَّانِي النّظر (51 أ) فِي جور الْعمَّال فِيمَا يحبونه من الْأَمْوَال فَيرجع فِيهِ إِلَى القوانين لعادلة فِي داوين الْأَئِمَّة فَيحمل النَّاس عَلَيْهَا وَيَأْخُذ الْعمَّال بهَا ويقودهم إِلَيْهَا وَينظر فِيمَا استزادوه فَإِن رَفَعُوهُ إِلَى بَيت المَال أَمر برده على أَصْحَابه وَإِن أَخَذُوهُ لأَنْفُسِهِمْ استرجعه مِنْهُم لأربابه (51 ب) حكى عَن الْمهْدي رَحمَه الله أَنه جلس يَوْمًا للنَّظَر فِي مظالم الْعباد فَرفعت إِلَيْهِ إِلَيْهِ قصَص فِي الكسور فَسَأَلَ عَن ذَلِك تحريا للرشاد فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان بن وهب كَانَ عمر بن لخطاب رَضِي الله عَنهُ قسط الْخراج على أهل السوَاد وعَلى مَا فتح من نواحي الْمشرق وَالْمغْرب وريا (52 أ) وعينا بِالِاجْتِهَادِ وَكَانَت الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير مَضْرُوبَة على وزن كسْرَى وَقَيْصَر فِي غَالب الأَرْض وَكَانَ أهل الْبِلَاد يؤدون فِيمَا فِي أَيْديهم من المَال عددا وَلَا ينظرُونَ فِي فضل بعض الأوزان على بعض ثمَّ فسد النَّاس فصاروا يؤدون من الْخراج (52 ب) المَال الدَّرَاهِم الطبرية وَهِي أَرْبَعَة دوانيق ويمسكون الدِّرْهَم الواقي الَّذِي وَزنه مِثْقَال فَلَمَّا ولى زِيَاد الْعرَاق طَالب بأَدَاء الواقي وألزمهم الكسور وجار فِي ذَلِك فِي زمن بني أُميَّة

الْعمَّال إِلَى أَن ولى الْملك بني مَرْوَان فَنظر بَين الوزنين فِي نقص كَلَامهمَا وكماله (53 أ) وَقدر الدِّرْهَم على نصف وَخمْس من المثقال وَترك المثقال على حَاله ثمَّ أَن الْحجَّاج أعَاد الْمُطَالبَة بالكسور حَتَّى أسقطها عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ وأعادها من بعده إِلَى زمن الْمَنْصُور إِلَى أَن حزب السوَاد بذلك الظُّلم فَأَرَادَ الْمَنْصُور عمَارَة الْبِلَاد (53 ب) فأزال الْخراج عَن الْحِنْطَة وَالشعِير وَرقا وصيره ومقاسمه وهما أَكثر السوَاد وَبَقِي الْيَسِير من الْحُبُوب والنحل على رسم الْخراج الْمُعْتَاد وهوذا يلْزمهُم الْآن الْمُؤمن فَتَأمل الْمهْدي رَحمَه الله مقاله سُلَيْمَان وتدبر وَقَالَ معَاذ الله أَن ألزم النَّاس ظلما تقدم الْعَمَل بِهِ (54 أ) أَو تَأَخّر أسقطوه عَن النَّاس فالعدل أقوم فَقَالَ الْحسن بن مخلد أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا ذهب من أَمْوَال السُّلْطَان اثْنَا عشر ألف ألف دِرْهَم فَقَالَ الْمهْدي رَحمَه الله مقَالَة عدل فِي الْمقَال على أَن أقيم حَقًا وأزيل ظلما وَأَن أجحف بَيت المَال (54 ب) الثَّالِث النّظر فِي كتاب الدَّوَاوِين والإحاطة بأحوالهم لأَنهم أُمَنَاء الْمُسلمين على ثُبُوت أَمْوَالهم فِيمَا يستوفونه مِنْهُم ويوفرونه لَهُم من الْحُقُوق فِي الْحَال وَالْمَال فيتصفح مَا وكل إِلَيْهِم تَدْبيره من الْأَعْمَال فَإِن وجدهم نقدوا الْحق فِي دخل (55 أ) أَو خرج إِلَى زِيَادَة أَو نُقْصَان فِي تَفْصِيل أَو أجمال أَعَادَهُ إِلَى قوانينه العادلة وَاسْتعْمل السياسة مَعَهم فِي الْمُقَابلَة على تجاوزه ودعا للعمال حكى أَن الْمَنْصُور رَحمَه الله بلغه جمَاعَة من كتاب ديوانه زوروا فِيهِ وغيروا فَأمر بإحضارهم إِلَيْهِ (55 ب) وَتقدم بتأديبهم فَقَالَ شَاب مِنْهُم وَهُوَ يضْرب بَين يَدَيْهِ (أَطَالَ الله عمرك فِي صَلَاح ... وعزيا أَمِير الْمُؤمنِينَ)

(بعفوك أستجير فَإِن تجازى ... فَإنَّك عصمَة للْعَالمين) (وَنحن الكاتبون وَقد أسانا ... فهبنا (56 أ) للكرام الكاتبينا) فَأمر بتخليتهم وَأطلق الْفَتى وَرَضي عَلَيْهِ وَوَصله بأنعامه وَأحسن غليه لِأَنَّهُ ظَهرت فِيهِ الْإِنَابَة ولاحت لَهُ مِنْهُ النجابة وَهَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة لَا يحْتَاج النَّاظر فِي الْمَظَالِم فِي تصفحها إِلَى متظلم (56 ب) من ظَالِم الرَّابِع النّظر فِي تظلم المسترزقة من بَيت المَال من الأجناد وَالْعُلَمَاء والقضاة وَغَيرهم من نقص أَرْزَاقهم وتأخيرها عَنْهُم أَو أجحاف النظار بهم فَيرجع إِلَى ديوانه فِي فرض الْعَطاء الْعَادِل فيجريهم عَلَيْهِ من غير إهمال (57 أ) وَينظر فِيمَا نقصوه أَو منعُوهُ فَإِن أَخذه وُلَاة أُمُورهم استرجعه لَهُم وَإِن لم يأخذوه قضاهم إِيَّاه من بَيت المَال فِي الْحَال كتب بعض وُلَاة الأجناد إِلَى الْمَأْمُون رَحمَه الله إِن الْجند قد شغبوا ونبهوا وَسَاءَتْ أَخْلَاقهم فَكتب إِلَيْهِ الْمَأْمُون لَو (57 ب) عدلت لم يشغبوا وَلَو قويت لم ينبهوا وعزله عَنْهُم وَزَاد أَرْزَاقهم

الْخَامِس النّظر فِي رد الغصوب وَهِي ضَرْبَان غصوب سلطانية قد تغلب عَلَيْهَا وُلَاة الْجور والعدوان كالأملاك المقبوضة من أَرْبَابهَا لرغبة فِيهَا وتعاد على أَصْحَابهَا فالناظر فِي (58 أ) الْمَظَالِم أَن علم بهَا قبل التظلم إِلَيْهِ أَمر بردهَا وَأَن لم يعلم بهَا فَهُوَ مَوْقُوف على تظلم أَهلهَا وَيجوز أَن يرجع عِنْد تظلمهم إِلَى ديوَان السُّلْطَانِيَّة فَإِن وجد فِيهِ ذكر قبضهَا على ملاكها عمل بِهِ وَأمر بردهَا إِلَيْهِ وَلم يحْتَج فِيهِ إِلَى بَينه تشهد بِهِ وَكَانَ (58 ب) مَا وجد فِي الدِّيوَان كَافِيا يعْتَمد عَلَيْهِ حكى عَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ أَنه ظهر يَوْمًا إِلَى الصَّلَاة بعد الزَّوَال فصادفه رجل ورد من الْيَمين متظلما فَقَالَ (تَدْعُو حيران مَظْلُوما ببابكم ... فقد أَتَاك يُعِيد الدَّار مَظْلُوما) (59 أ) فَقَالَ وَمَا ظلامتك فَقَالَ غصبني الْوَلِيد بن عبد الْملك ضيعتي بيد الْعدوان

فَقَالَ يَا مُزَاحم أَتَانِي بدفتر الصواني فَوجدَ فِيهِ أضفى عبد الله الْوَلِيد بن عبد الْملك ضيغة فلَان قَالَ لكَاتبه أخرجهَا من الدفتر وَأحسن صلته (59 ب) وَكتب بردهَا إِلَيْهِ وَأطلق لَهُ ضعف نَفَقَته وَالضَّرْب الثَّانِي غصوب تغلب عَلَيْهَا ذَوُو الْأَيْدِي القوية وتصرفوا فِيهَا تصرف الْملاك بالجوار وَالْغَلَبَة والقهرية ورد هَذَا مَوْقُوف على تظلم أربابه مِمَّن غصبه بالجور والفجور وَلَا (60 أ) ينتزع من أَيدي غصابة إِلَّا بِأحد أَرْبَعَة أُمُور أما باعتراف الغاضب لَهُ بِإِقْرَارِهِ وَأما بِعلم النَّاظر فِي الْمَظَالِم ومعرفته بأخباره فَيجوز لَهُ أَن يحجم بِعِلْمِهِ واستبصاره وَأما بَيِّنَة تشهد الغاضب بغضبه وَتشهد للمغضوب مِنْهُ بِملكه دون (60 ب) النَّاس وَأما بتظاهر الْأَخْبَار الَّتِي ينتفى عَنْهَا التواطؤ وَلَا يختلج فِيهَا الشكوك والالتباس لِأَنَّهُ لما جَازَ للشُّهُود أَن يشْهدُوا فِي الْأَمْلَاك بتظاهر الْأَخْبَار كَانَ حكم النَّاظر فِي الْمَظَالِم بذلك أَحَق واخرى عِنْد أولي الْأَنْصَار السَّادِس النّظر فِي (61 أ) مشارفة الْأَوْقَاف فَإِن كَانَت عَامَّة يبتدأ بتصفحها ليجربها على سَبِيلهَا ويمضيها على شُرُوط واقفها إِذْ عرفهَا

أما دواوين الْحُكَّام والمنتدبين لحراسة الْأَحْكَام وَأما من دواوين السلطنة على مَا جرى فِيهَا الْمُعَامَلَة المقررة أَو ثَبت لَهَا من ذكر (61 ب) وَتَسْمِيَة مُعْتَبرَة وَأما من كتب فِيهَا قديمَة يَقع فِي النَّفس صِحَّتهَا وَيَقْضِي الْعَمَل باعتبارها عِنْد رؤيتها وَإِن كَانَت خَاصَّة فَيتَوَقَّف نظره فِيهَا على تظلم أَهلهَا عِنْد التَّنَازُع فِيهَا لكَونهَا وَقفا على خصوم متعينين للخصام وَيعْمل عِنْد التشاجر (62 أ) فِيهَا على مَا يثبت بِهِ الْحُقُوق عِنْد الْقُضَاة الْأَعْلَام وَلَا يجوز أَن يرجع فِيهَا إِلَى ديوَان السلطنة كَمَا يفعل فِي الْوَقْف الْعَام وَلَا إِلَى مَا ثَبت من ذكر فِي الْكتب إِذا لم يشْهد بهَا شُهُود معدلون عِنْد الْحُكَّام السَّابِع النّظر فِي تَنْفِيذ مَا توقف من أَحْكَام (62 ب) الْقُضَاة لضعفهم عَن انفاذه عجزهم عَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ لعلو قدره وَعظم خطره وَقُوَّة يَده وتفرده وامتناعه وَيكون النَّاظر فِي الْمَظَالِم أقوى وأنفذ أمرا فَينفذ الحكم بسطوته بل على من توجه إِلَيْهِ بانتزاع حق الْغَيْر من يَده أَو بإلزامه (63 أ) بِالْخرُوجِ مِمَّا فِي ذمَّته الثَّامِن النّظر فِيمَا عجز عَنهُ الناظرون فِي الْحِسْبَة من الْمصَالح الْعَامَّة وَالْمَنَافِع الشاملة والحسابات التَّامَّة كالمجاهرة بمنكر ضعف الْمُحْتَسب عَن دَفعه والتعدي فِي الطَّرِيق من مُتَعَدٍّ عجز مَنعه والتسطي فِي حق من لم

(63 ب) يقدر على ردعه فيأخذهم بِحَق الله تَعَالَى فِي جَمِيعهَا من غير إهمال وَيَأْمُر بحملهم على واجباته التَّاسِع النّظر فِي مُرَاعَاة الْعِبَادَات الظَّاهِرَة كالجمع والأعياد وَالْحج وَالْجهَاد من تَقْصِير فِيهَا أَو إخلال بشروطها الْوَاجِبَة (64 أ) على الْعباد فحقوق الله تَعَالَى أولى أَن تستوفى وفروضه أَحَق أَن تُؤَدّى كَمَا أَرَادَ الْعَاشِر النّظر بَين المتشاجرين وَالْحكم بَين المتنازعين وَلَا يحرج عَن مُوجب الْحق وَمُقْتَضَاهُ وَلَا يسوغ لَهُ أَن يحكم بَينهم بِمَا لَا يحكم بِهِ الْحُكَّام والقضاة لَكِن للنَّاظِر (64 ب) فِي الْمَظَالِم حسب مَا يقْتَرن بِالدَّعْوَى مِمَّا يقويها أَو يضعفها وبحسب تجردها عَن أُمُور سياسة لَيْسَ للْقَاضِي أَن يُبَاشِرهَا ويصرفها والأمور المقوية للدعوى الْمُقْتَضِيَة لإرهاب الْمُدعى عَلَيْهِ سِتَّة أُمُور أَحدهَا أَن يكون مَعَ الْمُدَّعِي كتاب فِيهِ (65 أ) شُهُود عدُول حُضُور يشْهدُونَ بِصِحَّة دَعْوَاهُ فَالَّذِي يخْتَص بِهِ نظر النَّاظر فِي الْمَظَالِم شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن يَبْتَدِئ باستدعاء الشُّهُود للشَّهَادَة ليسأل مِنْهُم عَمَّا عِنْدهم تنَازع الْخُصُوم من الْحق المستبان وَعَادَة الْقُضَاة تَكْلِيف الدعي بإحضار (65 ب) بَينته وَلَا يسمعوا لَهَا إِلَّا بعد مَسْأَلته وَثَانِيهمَا إِنْكَار على الجاحد بِحَسب حَالَة فِي الوجاعة والديانة وَعدمهَا عِنْد الاستنصار وبحسب شَوَاهِد أَحْوَاله عَن أَمَارَات بطلَان الْإِنْكَار وَعدمهَا عِنْد الاستنصار فَإِذا أحضر الشُّهُود (66 أ) فَإِن كَانَ كلا من المتنازعين جليل الْقدر عَظِيم الشَّأْن من أَبنَاء جنسه بَاشر النَّاظر فِي الْمَظَالِم فِي ذَلِك على مَا تقضيه السياسة

بِنَفسِهِ وَإِلَّا يرد النّظر قاضيه بِمحضر مِنْهُ إِن كَانَ متوسطين أَو على بعد مِنْهُ إِن كَانَ خاملين حكى أَن الْمَأْمُون (66 ب) كَانَ يجلس للمظالم يَوْم الْحَد فَنَهَضَ ذَات يَوْم من مجْلِس نظره وَالشَّمْس قد زَالَت فَتَلَقَّتْهُ امْرَأَة فِي ثِيَاب رثَّة وَقَالَت (يَا خير منتصف يهدي لَهُ الرشد ... وَيَا إِمَامًا بِهِ قد أشرق الْبَلَد) (تَشْكُو إِلَيْهِ حِينَئِذٍ الْملك أرملة ... عدا عَلَيْهَا فَمَا تقوى بِهِ أَسد) (فابتز مِنْهَا ضيَاعًا بعد منعتها ... لما تفرق عَنْهَا الْأَهْل وَالْولد) فَأَطْرَقَ الْمَأْمُون مُنْكرا فِي مقالتها ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ مجيبا لَهَا (من دون مَا قلت يمِيل الصَّبْر وَالْجَلد ... وأقرح الْقلب هَذَا الْحزن والكمد) (هَذَا أَو أَن صَلَاة الظّهْر فانصرفي ... واحضري الْخصم فِي الْيَوْم الَّذِي أعد) (الْمجْلس السبت أَن يقْضِي الْجُلُوس لنا ... أنصفكي مِنْهُ أَو فالمجلس الْأَحَد) فَانْصَرَفت وَحَضَرت يَوْم الْأَحَد أول النَّاس فوقفت فِي مجْلِس المتظلمين فَقَالَ لَهَا الْمَأْمُون من خصمك فَقَالَت (68 أ) الْقَائِم على رَأسك الْعَبَّاس بن أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ الْمَأْمُون لقاضيه يحيى بن أكتم أَجْلِسهَا مَعَه وَانْظُر بَينهمَا فأجلست مَعَه والمأمون ينظر إِلَيْهَا فَجعل كَلَامهَا يَعْلُو فزجرها بعض

الْحجاب فَقَالَ الْمَأْمُون دعها فَإِن الْحق أنطقها وَالْبَاطِل أخرسه وَأمر (68 أ) برد ضياعها إِلَيْهَا فَفعل الْمَأْمُون فِي النّظر بَينهمَا مَا تقضيه السياسة حَيْثُ كَانَ بِمحضر مِنْهُ وَلم يُبَاشر بِنَفسِهِ لِأَن الْخصم امْرَأَة يجل الْمَأْمُون عَن محاورتها وَابْنه من جلالة الْقدر بمَكَان لَا يقدر غَيره على إِلْزَامه الْحق وإحراجه عَنهُ فَرد النّظر (69 أ) بِمحضر مِنْهُ إِلَى من كَفاهُ محاورة الْمَرْأَة فِي استيضاح الدَّعْوَى وَالْحجّة وباشر بِنَفسِهِ تَنْفِيذ الحكم وإلزام ابْنه الْحق وسلوك المحجة الثَّانِي مقويات الدَّعْوَى أَن يقْتَرن بهَا كتاب يدل على صِحَّتهَا فِيهِ شُهُود معدولون غائبون عَن المخاضعة (69 أ) فَالَّذِي يخْتَص بالناظر فِي الْمَظَالِم هُنَا أَرْبَعَة أَشْيَاء يعتمدها حِين المحاكمة أَحدهمَا إرهاب الْمُدَّعِي عَلَيْهِ فَرُبمَا تجْعَل بِقُوَّة الهيبة من إِقْرَاره مَا يغنى عَن سَماع الْبَيِّنَة عِنْد إِنْكَاره وَثَانِيهمَا التَّقَدُّم بإحضار الشُّهُود إِذا عرف مكانهم وَلم يدْخل الضَّرَر (70 أ) الشاق عَلَيْهِم عِنْد إحضارهم وثالثهما الْأَمر بملازمة الْمُدَّعِي عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام ويجتهد رَأْيه فِي الزِّيَادَة عَلَيْهَا بِحَسب الْحَال من قُوَّة الأمارة وَدَلَائِل الصِّحَّة والإلزام وَرَابِعهَا أَن ينظر فِي الدَّعْوَى بتصوره الْجَمِيل فَإِن كَانَت مَالا فِي الذِّمَّة كلفه (70 ب) إِقَامَة الْكَفِيل وَإِن كَانَت عينا قَائِمَة كالعقار حجر عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا يرفع حكم يَده عَنْهَا بل يرد استغلالها إِلَى أَمِين يحفظه على مستحقيه مِنْهَا فَإِن تطاولت مُدَّة إِحْضَار الشُّهُود وَوَقع الْيَأْس من إحضارهم اعْتمد النَّاظر

فِي الْمَظَالِم هُنَالك سُؤال الْمُدَّعِي (71 أ) عَلَيْهِ عَن سَبَب دُخُوله فِي يَده وَإِن لم ير أَبُو حُذَيْفَة وَالشَّافِعِيّ ذَلِك إِذْ للنَّاظِر فِي الْمَظَالِم اسْتِعْمَال الْجَائِز وَلَا يلْزمه الِاقْتِصَار على الْوَاجِب كَمَا يلْزم ذَلِك الْقُضَاة فَإِن أجَاب بِمَا يقطع الْمُنَازعَة أَمْضَاهُ وَإِلَّا فضل بَينهمَا بِمُوجب الشَّرْع وَمُقْتَضَاهُ (72 أ) الثَّالِث من مقويات الدَّعْوَى أَن يكون فِي الْكتاب المقترن بهَا شُهُود حُضُور لكِنهمْ غير معدلين فَالَّذِي يخْتَص بِهِ النَّاظر فِي الْمَظَالِم يتَقَدَّم فِيهَا بإحضار الشُّهُود فَإِن كَانُوا من ذَوي الهيئات وَأهل الصيانة (73 أ) فالثقة بِشَهَادَتِهِم أقوى وَإِن كَانُوا بعد الْكَشْف عَن أَحْوَالهم أراذل فَلَا يعول عَلَيْهِم بل يقوى إرهاب الْخصم بهم حِين الدَّعْوَى وَإِن كَانُوا أوساطا فَيجوز لَهُ أَن يستظهر بتحليفهم أَن رَاه قبل الشَّهَادَة أَو بعْدهَا ثمَّ هُوَ فِي سَماع شَهَادَة الصِّنْفَيْنِ (73 ب) الآخرين فِي ثَلَاثَة أُمُور إِمَّا أَن يسْمعهَا بِنَفسِهِ فَيحكم بهَا وَأما أَن يرد إِلَى القَاضِي سماعهَا ليؤديها القَاضِي إِلَيْهِ وَيكون الحكم فِيهَا مَوْقُوفا عَلَيْهِ لِأَن القَاضِي لَا يحكم إِلَّا بِشَهَادَة من يثبت عَدَالَته لَدَيْهِ وَأما أَن ترد سماعهَا إِلَى الشُّهُود المعدلين فَإِن رد إِلَيْهِم نقل شَهَادَة (74 أ) أُولَئِكَ إِلَيْهِ لم يلْزم استكشاف أَحْوَالهم وتطلبها وَإِن رد إِلَيْهِم الشَّهَادَة عِنْده بِمَا يَصح من شَهَادَتهم لَزِمَهُم الْكَشْف عَمَّا يَقْتَضِي قبُول شَهَادَتهم ليشهدوا بهَا بعد الْعلم بِصِحَّتِهَا ليَكُون تَنْفِيذ الحكم بحسبها الرَّابِع من مقويات الدَّعْوَى (74 ب) أَن يكون فِي الْكتاب المقترن بهَا شُهُود معدلون غير أَحيَاء

فَالَّذِي يخْتَص بِنَظَر النَّاظر فِي الْمَظَالِم هَا هُنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا إرهاب الْمُدَّعِي عَلَيْهِ بِمَا يضطره إِلَى الصدْق وَالِاعْتِرَاف بِالْحَقِّ وَثَانِيها سُؤَاله عَن سَبَب دُخُوله يَده لجَوَاز أَن يُجيب بِمَا (75 أ) يَتَّضِح بِهِ الْحق وَيعرف بِهِ المحق وَثَالِثهَا سُؤَاله من جيران الْمُتَنَازع فِيهِ والمتنازعين عَن الْمُتَنَازع فِيهِ ليتوصل بهم إِلَى الْكَشْف عَن الْحَال ووضوح الْحق وَمَعْرِفَة المحق والصدق فَإِن لم يصل إِلَى الْحق بِوَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة ردهَا إِلَى وساطة عَظِيم الْقدر مُطَاع (75 ب) عَالم بالمصالح لَهُ بهما بِمَعْرِِفَة وَبِمَا يتنازعون فِيهِ خبْرَة ليضطرهما بطول الْمدَّة وَكَثْرَة التَّرَدُّد الصَّادِق والتصالح وَالْخَامِس من مقويات الدَّعْوَى أَن يكون مَعَ الْمُدَّعِي خطّ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ بِمَا تضمنته الدَّعْوَى فَنظر الْمَظَالِم فِيهِ يَقْتَضِي سُؤال الْمُدَّعِي عَلَيْهِ (76 أ) عَن الْخط الَّذِي أحضرهُ الْمُدَّعِي عِنْد الشكوى بِأَن يُقَال هَذَا حظك فَإِن اعْترف بِهِ يسْأَل بعد اعترافه عَن صِحَة مَا تضمنه فَإِن اعْترف بِصِحَّتِهِ صَار مقرا والزم حكم إِقْرَاره وَإِن لم يعْتَرف بِصِحَّتِهِ فَمن وَلَاء النّظر فِي الْمَظَالِم من حكم عَلَيْهِ إِذا اعْترف (76 ب) بِأَنَّهُ خطه وان يعْتَرف بِصِحَّتِهِ واعتباره وَجعل ذَلِك من شَوَاهِد الْحُقُوق اعْتِبَارا للْعُرْف وَالَّذِي عَلَيْهِ محققوهم وَمَا يرَاهُ جَمِيع الْفُقَهَاء الْإِعْلَام أَنه لَا يجوز للنَّاظِر مِنْهُم أَن يحكم بِمُجَرَّد الْخط حَتَّى يعْتَرف بِصِحَّة مَا فِيهِ إِذْ نظر الْمَظَالِم لَا يُبِيح مَا حصره الشَّرْع (77 أ) من الْأَحْكَام وللنظر فِي الْمَظَالِم فِي هَذِه الصُّورَة أَن يرجع إِلَى مَا ذكر فِي خطه فَإِن قَالَ كتبته ليقرضني وَمَا أَعْطَانِي الْقدر الَّذِي إستقرضه أَو ليدفع إِلَى ثمن مَا بِعْت لَهُ وَلم يدْفع لي ثمن الَّذِي بِعته فَهَذَا بِمَا يفعل النَّاس أَحْيَانًا وَنظر الْمَظَالِم أَن يسْتَعْمل (77 ب) النَّاظر فِي الْمَظَالِم فِيهِ من زواجر الإرهاب والردع يشْهد بِهِ الْحَال وتقوى بِهِ الأمارة ثمَّ يردهُ إِلَى الوساطة فَإِن أفضت إِلَى الصُّلْح ثمَّ الْمَقْصُود وَإِلَّا بت القَاضِي الحكم بَينهمَا على مُقْتَضى الشَّرْع

وَإِن أنكر الْمُدَّعِي عَلَيْهِ الْخط فَمن ولاه النّظر (78 أ) فِي الْمَظَالِم من يختبر الْخط بخطوطه الَّتِي كتبهَا ويكلفه من كَثْرَة الْكِتَابَة مَا يمنعهُ من التصنع فِيمَا وَيجمع بَين الخطين فان لم يتغايرا وتشابها حكم بِهِ عَلَيْهِ عملا بقول من يَجْعَل الِاعْتِرَاف بالخط مُوجبا للْحكم عَلَيْهِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُم أَن يفعل (78 ب) ذَلِك لَا يكون للْحكم بل لتوجه الإرهاب إِلَيْهِ وَتَكون الشُّبْهَة مَعَ إِنْكَاره لِلْخَطِّ أَضْعَف مِنْهَا مَعَ اعْتِرَاف بِهِ وترتفع إِن كَانَ الْخط متباين الأوضاع ويرهب الْمُدَّعِي عِنْد تبَاين الْخط ثمَّ يرد وَالْمُدَّعِي عَلَيْهِ إِلَى الوساطة فَإِن أفضت (79 أ) إِلَى الصُّلْح ثمَّ الْمَقْصُود ولأبت القَاضِي الحكم بَينهمَا بِمَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْع وَقطع النزاع وَالسَّادِس من مقويات الدَّعْوَى إِظْهَار الْحساب بِمَا تضمنته الدَّعْوَى وَهَذَا يكون فِي الْمُعَامَلَات بِلَا ارتياب فَإِن كَانَ الْحساب الْمُدَّعِي فالشبهة فِيهِ أَضْعَف (79 ب) وَنظر الْمَظَالِم فِيهِ أَن يرْعَى نظم الْحساب وَإِن كَانَ مختلا يحْتَمل فِيهِ الإدخال فَذَلِك لضعف الدَّعْوَى أشبه مِنْهُ بقوتها عِنْد الِاعْتِبَار وَإِن كَانَ نظمه صَحِيحا منسقا فالثقة بِهِ أقوى فَيَقْتَضِي من الإرهاب بِحَسب شواهده ثمَّ يردان إِلَى الوساطة (80 أ) ثمَّ يَلِي الحكم الثَّابِت بِمُقْتَضى الشَّرِيعَة الشَّرِيفَة الْمِقْدَار وَإِن كَانَ الْحساب للْمُدَّعِي عَلَيْهِ كَانَت الدَّعْوَى بِهِ أقوى ثمَّ ذَلِك الْحساب إِن كَانَ مَنْسُوبا إِلَى خطّ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ فالناظر الْمَظَالِم فِيهِ أَن يسْأَل من الْمُدَّعِي عَلَيْهِ أهوَ خطك ليحيط علما بِمَا بيدَيْهِ (80 ب) فَإِن اعْترف بِهِ يَقُول لَهُ أتعلم مَا فِيهِ فَإِن أقرّ بمعرفته يَقُول لَهُ أتعلم مَا فِيهِ فَإِن أقرّ يَقُول لَهُ أتعلم صِحَّته فَإِن أقرّ بِصِحَّتِهِ صَار بِهَذِهِ الثَّلَاثَة مقرا بمضمون الْحساب فَيُؤْخَذ بِمَا فِيهِ وَإِن لم يعْتَرف بِصِحَّتِهِ فَمن حكم بالخط من وُلَاة النّظر فِي الْمَظَالِم يحكم عَلَيْهِ (81 أ) بِمُوجب حسابه وَإِن لم يعْتَرف بِصِحَّتِهِ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُم وَهُوَ قَول الْفُقَهَاء أَنه لَا يحكم عَلَيْهِ بِالْحِسَابِ الَّذِي اعْترف بِصِحَّة مَا فِيهِ لَكِن يقتضى من فضل الإرهاب بِهِ أَكثر مِمَّا اقْتَضَاهُ الْخط الْمُرْسل من زواجر رهبته

ثمَّ يرادن إِلَى الوساطة (81 ب) ثمَّ إِلَى بت الْقُضَاة الْإِعْلَام وَإِن كَانَ ذَلِك الْخط مَنْسُوبا إِلَى كَاتب سُئِلَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ فَإِن اعْترف بِهِ أخذيه وَتوجه الْإِلْزَام وَإِن أنكرهُ أرهب فَإِن اعْترف بِهِ وبصحته مَا فِيهِ صَار شَهَادَة على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ فَيحكم عَلَيْهِ بِشَهَادَة (82 أ) كَاتبه أَن كَانَ عدلا مرضيا وَيَقْضِي بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين مذهبا إِن كَانَ شافعيا وسياسة إِن كَانَ حَنِيفا وَيشْهد بِمَا تقضيه شَوَاهِد الْخَال فَإِن لَهَا فِي الْمَظَالِم تَأْثِيرا عَن اخْتِلَاف الْأَحْكَام وَلكُل حَال مِنْهَا فِي الإرهاب حد لَا يجوز أَن يُجَاوز (82 ب) عَنهُ تمييزا بَين الْأَحْوَال بِمَا يَقْتَضِيهِ شُرُوطهَا فِي حالتي النَّقْص والإبرام وَأما الْأُمُور المضعفة للدعوى الْمُقْتَضِيَة لإرهاب الْمُدعى فَهِيَ أَيْضا سِتَّة أُمُور الأول مِنْهَا: أَن يكون مَعَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ كتاب فِيهِ شُهُود معدلون حُضُور (83 أ) يشْهدُونَ بِمَا يُوجب بطلَان الدَّعْوَى بِأَن يشْهدُوا عَلَيْهِ بأحقيته للْمُدَّعى عَلَيْهِ مَا ادّعى بِهِ أَو يشْهدُونَ على إِقْرَار الْمُدَّعِي بِأَنَّهُ لَا حق لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ أَو على إِقْرَار أَبِيه الَّذِي ذكر انْتِقَال الْملك عَنهُ إِلَيْهِ على أَنه لَا حق لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ أَو يشْهدُوا (83 ب) للْمُدَّعِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَالك جَائِز لما ادَّعَاهُ عَلَيْهِ فَتبْطل بِهَذِهِ الشَّهَادَة دَعْوَاهُ وَيَقْتَضِي نظر الْمَظَالِم تأديبه بِحَسب حَاله فان ذكر أَن الشَّهَادَة عَلَيْهِ بالابتياع كَانَت على سَبِيل الرَّهْن والالجاء فَهَذَا مَا يَفْعَله النَّاس أَحْيَانًا فَينْظر فِي كتاب الابتياع (84 أ) عَن ذكر فِيهِ أَنه غير رهن وَلَا الجاء ضعفت شُبْهَة هَذِه الدَّعْوَى بِلَا إمتراء وَإِن لم يذكر فِيهِ قويت شُبْهَة هَذِه الدَّعْوَى وَكَانَ الإرهاب فِي الْجِهَتَيْنِ يمقتضى شَوَاهِد الْحَالين فَيرجع إِلَى الْكَشْف بالمجاورين والخلطاء فَإِن بَان مَا يُوجب الْعُدُول هن ظَاهر (84 ب) الْكتاب عمل عَلَيْهِ وَإِن لم يبين كَانَ أمضاء الحكم بِمَا يشْهد بِهِ شُهُود الابتياع أَحَق وَأولى عِنْد الْعلمَاء فَإِن سَأَلَ الْمُدعى عَلَيْهِ أحلاف الْمُدعى بِأَن الابتياع الْمُدعى بِهِ كَانَ حَقًا عَلَيْهِ وَلم يكن على سَبِيل الرَّهْن والجاء فقد اخْتلف فِي جَوَاز أحلافه الْأَئِمَّة (85 أ) الْفُقَهَاء فَمنهمْ من أجَاز ذَلِك لاحْتِمَال مَا ادَّعَاهُ وإمكانه وَامْتنع آخَرُونَ من أَصْحَاب الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ عَن أخلاقه لِأَن إِقْرَاره الْمُتَقَدّم يُخَالف دَعْوَاهُ الْمُتَأَخِّرَة وَلَو إِلَى

النّظر فِي الْمَظَالِم أَن يعْمل من الْقَوْلَيْنِ بِمَا تَقْتَضِيه شَوَاهِد الْحَالين وَهَكَذَا (85 ب) لَو كَانَت الدَّعْوَى دنيا فِي الذِّمَّة وَأظْهر الْمُدَّعِي عَلَيْهِ كتاب براة مِنْهُ مُعْتَبرَة فَذكر الْمُدعى أَنه أشهد عَلَيْهِ قبل الْقَبْض وَلم يقبض كَانَ أحلاف الْمُدعى عَلَيْهِ على مَا تقدم ذكره وَالثَّانِي من مضعفات الدَّعْوَى أَن يكون شُهُود الْكتاب الْمُبْطل للدعوى (86 أ) عُدُولًا غائبين فيحنئذ لَا يَخْلُو الْأَمر أما إِن يكون إِنْكَار الْمُدَّعِي عَلَيْهِ متضمنا الِاعْتِرَاف بِسَبَب دُخُول مَا ادّعى عَلَيْهِ فِي يَده المتاملين أَو لم يكن متضمنا الِاعْتِرَاف بذلك السَّبَب فَالْأول مثل أَن يَقُول الْمُدعى عَلَيْهِ لَا حق للْمُدَّعى فِي هَذِه الصبغة (86 ب) الَّتِي ابتعها مِنْهُ وَدفعت ثمنهَا الته وَهَذَا كتاب عهدتي بالأشهاد عَلَيْهِ وَالثَّانِي مثل أَن يَقُول هَذِه الصبغة لي لَا حق فِيهَا للْمُدَّعِي فَفِي الأول يصير الْمُدعى عَلَيْهِ مُدعيًا بِكِتَاب قد غَابَ شُهُوده فَيكون على مَا مضى وَله زِيَادَة يَد وَتصرف وَتَكون (87 أ) الأمارة أقوى وشواهد الْحَال أظهر وَإِن لم تثبت بهَا ملك وللناظر فِي الْمَظَالِم أَن يرهبها بِحَسب مَا تقضيه شَوَاهِد أحوالها وَيُوجه إِلَيْهِمَا وعيده وَيَأْمُر بإحضار الشُّهُود إِن أمكن وَيضْرب لحضورهم أَََجَلًا ويردهما فِيهِ إِلَى الوساطة (87 ب) فَإِن أفضت إِلَى صلح ترَاض تقو الْمَطْلُوب عِنْد الْخُصُومَات ويعدل سَماع الشَّهَادَة إِذا حضرت وَإِن لم يلتزما بَينهمَا صلحا أمعن فِي الْكَشْف بِاسْتِعْمَال ثَلَاث أُمُور يفعل مِنْهَا مَا يختاره وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ احْتِيَاجه بِحَسب الأمارات (88 أ) فإمَّا انتزاع الضَّيْعَة من يَد الْمُدعى عَلَيْهِ وتسليمها إِلَى الْمُدعى إِلَى أَن تقوم الْبَيِّنَة عَلَيْهِ بطريقة وَإِمَّا يُسَلِّمهَا إِلَى أَمِين تكون يَده ويحفظ استغلالها على مستحقيه وَإِمَّا يقرها فِي يَد الْمُدعى عَلَيْهِ ويحجز عَلَيْهِ فِيهَا ويتولها أَمينا يحفظ استغلالها عَن الضّيَاع هَذَا (88 ب) إِذْ كَانَ النَّاظر راجيا ظُهُور الْحق بالكشف أَو حُضُور الشُّهُود للْأَدَاء وَأما إِذا كَانَ آيسا مِنْهُ بت الحكم بَينهمَا وَقطع النزاع فَلَو سَأَلَ الْمُدعى عَلَيْهِ أحلاف الْمُدعى أحلفه لَهُ إِن كَانَ ذَلِك بتا للْحكم بَينهمَا على الْوَجْه الْمُدعى

وَأما فِي الثَّانِي وَهُوَ أَن لَا يكون إِنْكَار الْمُدعى عَلَيْهِ متضمنا لسَبَب الدُّخُول فِي يَده مثل مَا يَقُول هَذِه الضَّيْعَة لي حق فِيهَا لهَذَا الْمُدعى وَتَكون شَهَادَة الْكتاب على الْمُدعى عَلَيْهِ إِمَّا على إِقْرَاره بِأَن لَا حق لَهُ فِيهَا وَإِمَّا بإنشاء ملك للْمُدَّعى عَلَيْهِ فعلى النَّاظر فِي الْمَظَالِم أَن يقر (89 ب) الضَّيْعَة فِي يَد الْمُدعى عَلَيْهِ وَلَا ينتزعها مِنْهُ ويحويها فإمَّا الحجز عَلَيْهِ فِيهَا وَحفظ استغلالها مُدَّة الْكَشْف الْمُعْتَبر بشواهد أحواليهما فَإلَى اجْتِهَاد النَّاظر فِي الْمَظَالِم فِيمَا يرَاهُ فِيهَا مِنْهُمَا إِلَى أَن يثبت الحكم بَينهمَا الثَّالِث من مضعفات الدَّعْوَى (90 أ) أَن يكون شُهُود الْكتاب الْمُبْطل للدعوى حُضُور غير معدلين فيراعى النَّاظر فِي الْمَظَالِم فيهم مَا قدمْنَاهُ جنبه الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ من أَحْوَالهم الثَّلَاثَة من غير إهمال ويراعى حَال إِنْكَار الْمُدعى عَلَيْهِ هَل يتَضَمَّن الِاعْتِرَاف بِالسَّبَبِ أم لَا فَيعْمل (90 ب) فِي ذَلِك بِمَا قدمْنَاهُ تعويلا على اجْتِهَاد رَأْيه فِي شَوَاهِد الْأَحْوَال الرَّابِع من مضعفات الدَّعْوَى أَن تكون شُهُود الْكتاب الْمُبْطل للدعوى معدلون موتى فَلَيْسَ يتَعَلَّق بِهِ حكم أصلا إِلَّا فِي الإرهاب الْمُجَرّد الَّذِي يَقْتَضِي فصل الْكَشْف ثمَّ يعْمل فِي بت الحكم (91 أ) على مَا تضمنه الْإِنْكَار من الِاعْتِرَاف بِالسَّبَبِ وَعَدَمه ليَكُون الحكم فصلا الْخَامِس من مضعفات الدَّعْوَى أَن يظْهر الْمُدعى عَلَيْهِ مَا يُوجب إكذابه فِي الدَّعْوَى فَيعْمل فِيهِ بِمَا قدمْنَاهُ فِي الخطوط وَيكون الإرهاب بِهِ مُعْتَبرا بِشَاهِد الْحَال (91 ب) وَمَا تقضيه التَّقْوَى السَّادِس من مضعفات الدَّعْوَى أَن يظْهر فِي الدَّعْوَى حِسَاب يَقْتَضِي بُطْلَانهَا فَيعْمل فِيهِ بِمَا قدمْنَاهُ فِي الخطوط مَعَ اعْتِمَاد الضوابط ومراعاتها وَيكون الإرهاب والكشف والمطاولة مُعْتَبرا بشواهد الْحَال ثمَّ يبت الحكم (92 أ) بعد الاياس قطعا للتنازع وَحَال التجرد عَن مضعفات الدَّعْوَى ومقوياتها فَالَّذِي يَقْتَضِي نظر الْمَظَالِم

فِيهَا هُوَ مُرَاعَاة حَال المتنازعين فِي غَلَبَة الظَّن فِي جنبه الْمُدعى عَلَيْهِ أَو من استوائها فِيهِ فغلبة الظَّن فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ فِي إرهابها (92 ب) والكشف عَن حَالهمَا وَلَيْسَ لفصل الحكم بَينهمَا تَأْثِير لغَلَبَة الظَّن فَإِن كَانَ عَلَيْهِ الظَّن فِي جنب الْمُدعى والريبة فِي جنب الْمُدعى عَلَيْهِ عِنْد الحكم بَينهمَا فَذَلِك يكون على ثَلَاثَة أوجه أَحدهمَا أَن تكون الْمُدعى مَعَ خلوه من حجَّة يظهرها ضَعِيف الْحَال مستلان الجنبة (93 أ) وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ ذَا بَأْس وَقدره مشتهرة فَإِذا ادّعى عَلَيْهِ غضب دَار أَو ضَيْعَة غلب فِي الظَّن أَن مثله مَعَ لينه واستضعافه لَا يتجوز فِي دَعْوَاهُ على من كَانَ ذَا بَأْس وَذَا سطوة ومقدرة وَثَانِيها أَن يكون الْمُدَّعِي مَشْهُورا بِالصّدقِ وَالْأَمَانَة (93 ب) وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ مَعْرُوفا بِالْكَذِبِ والخيانة فيغلب على الظَّن صدق الْمُدعى فِي دَعْوَاهُ واعتماد خَوفه فِيمَا خَاصم فِيهِ وتقواه وَثَالِثهَا أَن تتساوى أحوالهما غير أَنه قد عرف للْمُدَّعى يَد مُتَقَدّمَة وَلَيْسَ يعرف لدُخُول يَد الْمُدعى عَلَيْهِ سَبَب (94 أ) حَادث يعْتَمد عَلَيْهِ فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ نظر النَّاظر لفي الْمَظَالِم من هَذِه الْأَحْوَال الثَّلَاثَة شَيْئَانِ إرهاب الْمُدعى عَلَيْهِ لتوجه الرِّيبَة إِلَيْهِ وسؤاله عَن سَبَب الدُّخُول فِي يَده وحدوث ملكه فَإِن ملكا يرى ذَلِك مذهبا فِي الْقَضَاء مَعَ الارتياب فَكَانَ نظر (94 ب) الْمَظَالِم بِهِ أولى وَرُبمَا انف الْمُدعى عَلَيْهِ لنَفسِهِ مَعَ علو مَنْزِلَته عَن مساوات خَصمه فِي المحاكمة فَينزل عَمَّا فِي يَده لخصمهم عفوا وإيثارا لرفعه الجناب حكى أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ مُوسَى الْهَادِي جلس يَوْمًا لمظالم وَعمارَة بن حَمْزَة قَائِما على رَأسه (95 أ) وَكَانَ ذَا منزلَة عالية عِنْد الْهَادِي فَحَضَرَ رجل من المتظلمين فَادّعى إِن عمَارَة غضب ضَيْعَة لَهُ فَأمر الْهَادِي عمَارَة بِالْجُلُوسِ مَعَه للمحاكمة فَقَالَ عمَارَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن كَانَت الضَّيْعَة لَهُ فَلَا أنازعه فِيهَا وَإِن كَانَت لي

فقد وهبتها لَهُ وَلَا (95 ب) أبيع موضعي من مجْلِس أَمِير الْمُؤمنِينَ بمساواتي لَهُ فِي الْمُخَاصمَة وَإِن كَانَت غَلَبَة الظَّن فِي جنبة الْمُدعى عَلَيْهِ فَذَلِك أَيْضا يكون من ثَلَاثَة وُجُوه أَحدهَا أَن يكون الْمُدعى مَشْهُورا بالظلم والخيانة وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ مَعْرُوفا بالإنصاف وَالْأَمَانَة (96 أ) والصدق وَثَانِيها أَن يكون الْمُدَّعِي دينا مبتذلا وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ نزها صينا فيطلب أحلافه قصدا بهَا إيذاية بَين الْخلق وَثَالِثهَا أَن يكون لدُخُول يَد الْمُدعى عَلَيْهِ سَبَب مَعْرُوف وَلَيْسَ تعرف لدعوى الْمُدعى سَبَب فَيكون عَلَيْهِ الظَّن فِي هَذِه الْأَحْوَال الثَّلَاثَة فِي جنبة الْمُدعى عَلَيْهِ والريبة متوجهة إِلَى الْمُدعى وَفِي حَاصله فمذهب مَالك رَحمَه الله فِي مثل هَذِه الْحَالة إِن كَانَت الدَّعْوَى بِعَين قَائِمَة لم يسْمعهَا إِلَّا بعد ذكر السَّبَب الْمُوجب لَهَا وَإِن كَانَت (96 ب) فِي الذِّمَّة لم يسْمعهَا إِلَّا أَن يقسم الْمُدعى لنَفسِهِ بِأَنَّهُ كَانَ بَينه وَبَين الْمُدعى عَلَيْهِ محاكمة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة رحمهمَا الله لَا يريان فِي حكم ذَلِك الْقُضَاة أما فِي نظر الْمَظَالِم الْمَوْضُوع على الْأَصْلَح فِي الْفِعْل الْجَائِز دون الْوَاجِب الْمُتَعَيّن فيسوغ (97 أ) ذَلِك عِنْد ظُهُور الرِّيبَة وَقصد الْعَنَت ويبالغ فِي الْكَشْف بالأسباب المؤدية إِلَى ظُهُور الْحق الْمُبين فَإِن وقف المر على التَّحَالُف فَهُوَ غَايَة الحكم الَّذِي لَا يجوز دفع طَالب عَنهُ فِي نظر الْقُضَاة الْأَعْيَان وَلَا فِي نظر الْمَظَالِم إِذا لم يكف عَنهُ إرهاب (97 ب) وَلَا وعظ فَإِن فريق دعاويه وَأَرَادَ أَن يحلفهُ فِي كل مجْلِس مِنْهَا على بَعْضهَا قصدا لإعانته وبهدلته فَالَّذِي يُوجِبهُ حكم الْقُضَاة أَنه لَا يمْتَنع من تبعيض الدَّعَاوَى وتفريق الْإِيمَان وَالَّذِي ينتجه نظر الْمَظَالِم أَن يُؤمر الْمُدعى بِجمع دعاويه المتعددة (98 أ) عِنْد ظُهُور الإعنات مِنْهُ وأحلاف الْخصم على جَمِيعهَا يَمِينا وَاحِدَة وَأما إِن اعتدلت حَال المتنازعين وتقابلت شُبْهَة المتشاجرين

وَلم يتَرَجَّح أَحدهَا بأمارة وَلَا ظن فَيَنْبَغِي أَن يساوى بَينهمَا فِي العظة وَهَذَا مِمَّا يتَعَلَّق عَلَيْهِ الْقُضَاة وولاة (98 ب) أُمُور النّظر فِي الْمَظَالِم ثمَّ يخْتَص وُلَاة أُمُور النّظر فِي الْمَظَالِم بعد العظة بالإرهاب لَهما مَعًا لتساويهما بالكشف مَا يعرف بِهِ المحق مِنْهُمَا عَمَّا عَلَيْهِ الْمُبْطل الآثم فَإِن لم يظْهر بالكف عَن أصل الدَّعْوَى وانتقال الْملك فن ظهر بالكشف مَا يفضل بِهِ تنازعهما (99 أ) ردهما إِلَى وساطة وُجُوه الْخَيْر وأكابر العشائر فَإِن فضلوا مَا بَينهمَا ثمَّ الْمَقْصُود وَإِلَّا كَانَ فصل الْقُضَاة بَينهمَا هُوَ خَاتِمَة أَمرهمَا بِحَسب مَا يرَاهُ الْمُبَاشر لبت الحكم والاستنابة فِيهِ للأكابر انْتهى الْكَلَام على الوساطة فلنشرع (99 ب) فِي الْكَلَام على الخاتمة الَّتِي هِيَ لإتمام الْكَلَام رابطة فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَالْهِدَايَة أعلم أَن الجرائم مَحْظُورَات شَرْعِيَّة زجر الله تَعَالَى عَنْهَا بِحَدّ أَو تَعْزِير وَأَن للنَّاظِر فِي الْمَظَالِم فِيهَا من الْأَعْمَال مَا لَيْسَ لمفاحيل الْقُضَاة الْمَشَاهِير لَيْسَ (100 أ) لَهُم أَن يحسبوا المتهوم بِسَرِقَة أَو زنا للكشف والاستبراء اختبارا وَلَا أَن يأخذوه بِأَسْبَاب الْإِقْرَار أَخْبَارًا وَلَا أَن يسمعوا الدَّعْوَى على الْمُتَّهم بِالسَّرقَةِ مِمَّن لَيْسَ خصما مُسْتَحقّا لِلْمَالِ الْمَسْرُوق قطعا وَلَا على الْمُتَّهم بِالزِّنَا إِلَّا أَن يذكر الْمُدعى الْمَرْأَة الَّتِي زنا (100 ب) بهَا ويصفها بِمَا يكون - زنا - مُوجبا للحد شرعا فَإِن أقرّ المتهوم بعد شَرَائِط سَماع الدَّعْوَى أَخَذُوهُ بِمُوجب إِقْرَاره وَإِن أنكر وَكَانَت بَيِّنَة سمعوها عَلَيْهِ بعد إِنْكَاره وَإِن لم تكن بَيِّنَة أحلفوه فِي حُقُوق الْعباد كالسرقة وَالْقَذْف وَنَحْوهمَا لَا فِي حُقُوق (101 أ) الله تَعَالَى كَالزِّنَا وَالْخمر وحد الْمُحَاربَة وغن كَانَ للنَّاظِر فِي الْمَظَالِم الَّذِي يرفع إِلَيْهِ هَذَا المتهوم أَمِيرا أَو من أَوْلَاد الْأَحْدَاث والمعاون كَانَ لَهُ مَعَ هَذَا المتهوم من أَسبَاب الْكَشْف والاستبراء مَا لَيْسَ للقضاة والحكام وَذَلِكَ من تِسْعَة أوجه يخْتَلف بهَا حكم الناظرين (101 ب) الأول أَنه لَا يجوز للنَّاظِر فِي الْمَظَالِم أَن يسمع الْمَظْلُوم من أعوان الأمارة من غير تَحْقِيق الدَّعْوَى المقررة وَيرجع إِلَى قَوْلهم فِي الْأَخْبَار عَن حَال الْمَظْلُوم

هُوَ من أهل الريب أَو مَعْرُوف بِمثل مَا قذف بِهِ لِذَوي الْخَواص أَو الْعُمُوم فَإِن يردهُ من ذَلِك خفت التُّهْمَة وضعفت فَيجْعَل إِطْلَاقه وَلم يغلظ عَلَيْهِ وغن وصفوه بأمثاله وعرفوه بأشباهه عظمت التُّهْمَة فيستعمل (102 أ) فِيهَا من حَال الْكَشْف مَا سَنذكرُهُ آنِفا ونشير إِلَيْهِ الثَّانِي إِن لَهُ أَن يُرَاعى شَوَاهِد الْحَال وأوصاف الْمُتَّهم فِي قسوة التُّهْمَة وضعفها فَإِن كَانَت التُّهْمَة بزنا وَكَانَ الْمُتَّهم للنِّسَاء ذَا فكاهة وخلابة قويت التُّهْمَة وَإِن كَانَ (102 ب) بضده ضعفت وَتعذر تَعْرِيفهَا وَإِن كَانَت التُّهْمَة بِسَرِقَة وَكَانَ المتهوم لَهُ شطارة أَو فِي بدنه آثَار ضرب أَو كَانَ مَعَه حِين أَخذ مِنْهُ قويت التُّهْمَة وَإِن كَانَ بضده ضعفت وخفيت الأمارة الثَّالِث أَن لَهُ حبس المتهوم قبل ثُبُوت (103 أ) التُّهْمَة بِالْبَيِّنَةِ أَو الْإِقْرَار للكشف واستبراء وَاخْتلف فِي مُدَّة حَبسه فَذهب الْبَعْض إِلَى أَنَّهَا مقدرَة بِشَهْر وَاحِد لَا يتجاوزه وَبَعْضهمْ إِلَى أَنَّهَا لَيست مقدرَة بل موكول إِلَى النَّاظر فِي الْمَظَالِم وَهَذَا أشبه عِنْد النّظر الرَّابِع أَن لَهُ إِذا قويت التُّهْمَة (103 ب) أَن يضْرب المتهوم ضرب تَقْرِير لَا ضرب حد ليحمله على الصدْق فِيمَا قذف بِهِ فَإِن أقرّ تَحت الضَّرْب حكم عَلَيْهِ بعول وَإِن ضرب ليصدق عَن حَالَة فَأقر تَحت الضَّرْب ترك ضَرْبَة واستعيد إِقْرَاره فَإذْ (104 أ) أَعَادَهُ كَانَ مأخوذا بِالْإِقْرَارِ الثَّانِي دون الأول الْخَامِس أَن لَهُ فِيمَن تكَرر مِنْهُ الجرائم وَلَا ينزجر عَنْهَا بالحدود أَن يستديم حَسبه وجزره إِذا إستضر النَّاس بجرائمه حَتَّى يَمُوت بعد أَن يقوم بقوته وَكسوته من بَيت المَال (104 ب) ليدفع ضَرَره عَن النَّاس وشره السَّادِس إِن لَهُ أحلاف المتهوم فِي حُقُوق الله تَعَالَى وَحُقُوق الْعباد

ويغلظ عَلَيْهِ الْيَمين ويضيق عَلَيْهِ بِالطَّلَاق وَالْعتاق واستبراء حَالَة وكشفا عَن أمره السَّابِع أَن لَهُ أَن يَأْخُذ أهل الجرائم بِالتَّوْبَةِ إجبارا وَيظْهر (105 أ) من الْوَعيد عَلَيْهِم مَا يقودهم إِلَيْهَا طَوْعًا واختيارا وَلَا يضيق عَلَيْهِم بالوعيد بِالْقَتْلِ فِيمَا لَا يجب فِيهِ الْقَتْل لِأَنَّهُ وَعِيد إرهاب يخرج عَن حد الْكَذِب إِلَى حد التَّعْزِير وَالْأَدب وَلَا يجوز أَن يُحَقّق وعيده بِالْقَتْلِ فَيقْتل فِيمَا لَا يحب (105 أ) فيل الْقَتْل تحريا للرهب الثَّامِن إِن لَهُ أَن يسمع شَهَادَة أهل المهن ويعتمدهم وَمن لَا يجوز أَن يسمح قَوْلهم الْقُضَاة وَإِن كثر عَددهمْ التَّاسِع أَن لَهُ النّظر فِي المواثبات وغن لم توجب عزما وَلَا حدا فَإِن لم يكن بِأحد المتواثبين أثر فقد ذهب (106 أ) بَعضهم إِلَى أَنه يبْدَأ بِسَمَاع قَول من سبق بِالدَّعْوَى وَإِن كَانَ بِأَحَدِهِمَا أثر بَدَأَ بِسَمَاع قَوْله وَلَا يُرَاعِي السَّبق بالشكوى وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء أَنه يسمع قَول اسبقهما بِالدَّعْوَى وَيكون الْمُبْتَدِي بالمواثبة جرما وأغلظها تأديبا وأوقر (106 ب) وَيجوز أَن يُخَالف بَينهمَا فِي التَّأْدِيب من وَجْهَيْن أَحدهمَا بِحَسب اخْتِلَافهمَا فِي الافتراء والتعدي وَالضَّرَر وَثَانِيهمَا يحْسب اخْتِلَافهمَا فِي الهيبة والصيانة وعلو الْقدر وَإِذا رأى من الصّلاح فِي ردع السلفة ان يشهرهم وينادي عَلَيْهِم بجرائمهم سَاغَ لَهُ ذَلِك الْأَمر (107 أ) فَهَذِهِ تِسْعَة اوجه يَقع بهَا الْفرق فيس الجرائم بَين نظر النَّاظر فِي الْمَظَالِم وَنظر الْقُضَاة الْأَعْلَام فِي حَال الِاسْتِبْرَاء قبل ثُبُوت الْحَد لاخْتِصَاص المراء بالسياسة واختصاص الْقُضَاة بِالْأَحْكَامِ فَأَما بعد ثُبُوت جرائمهم بِالْإِقْرَارِ أَو الْبَيِّنَة (107 ب) فيستوي غفي إِقَامَة الْحُدُود والزواجر حَال الْأُمَرَاء والقضاة

والزواجر نَوْعَانِ حد وتعزير وَالْحُدُود ضَرْبَان أَحدهَا مَا كَانَ من حُقُوق الله تَعَالَى وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا مَا وَجب فِي ترك مَفْرُوض وَثَانِيهمَا مَا وَجب فِي ارْتِكَاب مَحْظُور وَثَانِيهمَا مَا كَانَ من مَا كَانَ ن حُقُوق الْعباد (108 أ) بِالرّدَّةِ إِن لم يتب وَإِن تَركهَا استثقالا لفعلها معترفا بِوُجُوبِهَا فَذهب أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ أَنه يقتل لكنه يحبس ثمَّ يضْرب فِي وَقت كل صَلَاة حَتَّى يقوم بهَا وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل وَطَائِفَة من الْفُقَهَاء من أَصْحَاب الحَدِيث يقتل حدا لَا كفرا (108 ب) وَذَلِكَ بعد اسْتِتَابَة فَإِن تَابَ وَأجَاب إِلَى فعلهَا ترك وَأمر بهَا فَإِن قَالَ أصليها فِي منزلي وكل إِلَى أَمَانَته وَلم يجْبر على فعلهَا بمشهد من النَّاس وَإِن امْتنع من التَّوْبَة قتل بِتَرْكِهَا فِي الْحَال على أحد قولي الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ من غير توانى أَو بعد ثَلَاثَة (109 أ) أَيَّام القَوْل الثَّانِي وَاخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي وجوب قَتله بترك قَضَاء الصَّلَوَات الْفَوَائِت إِذا امْتنع عَن قَضَائهَا فَذهب بَعضهم إِلَى قَتله بهَا كَمَا يقتل بالامتناع عَن أَدَاء الوقتيات حِين أَدَائِهَا وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يقتل بهَا (109 ب) لاستقرارها فِي الذِّمَّة بالقوات وَيُصلي عَلَيْهِ بعد قَتله ويدفن فِي مَقَابِر الْمُسلمين لِأَنَّهُ مِنْهُم وَيكون مَاله لوَرثَته وَأما تَارِك الصّيام فَلَا يقتل بِإِجْمَاع الْفُقَهَاء الَّذين قَوْلهم نقُول وَيحبس عَن الطَّعَام وَالشرَاب مُدَّة صِيَام شهر رَمَضَان ويؤدب (110 أ) وَيُعَزر أَن كتمها بِغَيْر شُبْهَة يرجع إِلَيْهَا فَإِن تعذر أَخذهَا مِنْهُ لامتناعه حورب عَلَيْهَا وَأما الْحَج فَلَا يتَصَوَّر تَأْخِيره عَن الْوَقْت إِلَّا بِالْمَوْتِ عِنْد من يَقُول بِوُجُوبِهِ على التَّرَاخِي كالشافعي رَحمَه الله عَلَيْهِ وَعند الْقَائِلين بِوُجُوبِهِ على النُّور كَأبي حنيفَة (110 ب) وَمَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ

وَأحمد فِي أظهر روايتيه وَإِن كَانَ يتَصَوَّر تَأْخِيره عَن وقته لَا يقتل بِهِ وَلَا يُعَزّر على إهماله لِأَن فعله بعد الْوَقْت الأول أَدَاء لاقضاء فَإِن مَاتَ قبل أَدَائِهِ حج عَنهُ فِي مَاله وَإِمَّا الْمُمْتَنع من حُقُوق الْعباد من دُيُون (111 أ) أَو غَيرهَا فتؤخذ مِنْهُ إجبارا إِذا أمكن بعذرته وَيحبس بهَا إِذا تعذر إِلَّا أَن يكون مُعسرا فَينْظر إِلَى ميسرته فَهَذَا حكم مَا وَجب بترك المفروضات على أهل الْإِيمَان وَإِمَّا مَا وَجب بارتكاب الْمَحْظُورَات فضربان أَحدهمَا مَا كَانَ من حُقُوق الله (111 ب) تَعَالَى وَهِي أَرْبَعَة حد الزِّنَا وَشرب الْخمر وَالسَّرِقَة وَقطع الطَّرِيق وَالضَّرْب الثَّانِي مَا كَانَ من حُقُوق الْعباد وَهُوَ شَيْئَانِ حد الْقَذْف والود فِي الْجِنَايَات وتفصيل الْحُدُود والتعازير وكميتها وكيفيتها على التَّحْقِيق مَذْكُورَة فِي كتب الْفِقْه فَليرْجع إِلَيْهَا ويعولها ولي (112 أ) الْأَمر عَن مطالعتها عَلَيْهَا هَذَا آخر مَا سمح بِوَضْعِهِ الخاطر الفاتر فِي بطُون هَذِه الدفاتر وتجلجلت بِهِ أَلْسِنَة الأقلام فِي أَفْوَاه المحابر من تَحْرِير السلوك فِي تَدْبِير الْمُلُوك كتبه أَبُو الْفضل مُحَمَّد الْأَعْرَج غفر الله لَهُ ولوالديه ولكافة الْمُسلمين أَجْمَعِينَ (112 ب) وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل تمّ الْكتاب بعون الْملك الْوَاهِب

§1/1