تحذير الجمهور من مفاسد شهادة الزور

أحمد المحمصاني

تحذير الجمهور مِنْ مَفَاسِدِ شَهَادَةِ الزُّوْرِ

جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَةٌ الطّبْعَةُ الأولى 1421 هـ - 2000 م دَارُ البَشَائِر الإسْلَامِيَّة للطباعة والنشر والتوزيع هاتف: 702857 - فاكس: 704963/ 009611 بيروت - لبنان ص. ب: 5955/ 14 e-mail: [email protected]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المعتني بالرسالة

مقَدّمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله ذي الِإفضال، والصلاة والسلام على رسوله صاحب الخِصَال، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الزمان وطال. أما بعد، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات هذه الأمة، وصفوا بها في محكم التنزيل بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وحضَّ عليها الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "والذي نفسي بيده لتأمُرنَّ بالمعروف ولتَنْهَوُن عن المنكر، أو ليوشكَنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعُونَهُ فلا يُستجابُ لكم" (¬1). وهذه المهمة الشريفة هي مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قام بها رسولنا العظيم ثم مِنْ بعده صحابته الكرام، ثم مَنْ بعدهم من علماء هذه الأمة الذين هم ورثة الأنبياء. ومن هذه البابة تأتي الرسالة التي بين أيدينا لعالم بيروتي أزهري ¬

_ (¬1) رواه الترمذي ح 2169، من حديث حذيفة بن اليمان، وقال: هذا حديث حسن.

جليل، هو الشيخ أحمد بن عمر المحمصاني رحمه الله، والذي أراد بها النصح لأهل عصره في مسألة يتكرر وقوعها في كل العصور، وهي شهادة الزور مع تبيان مفاسدها وخطرها على المجتمع والأمة، كما نبَّه رحمه الله إلى معنًى من معاني شهادة الزور يتمثل بمن يكتب شهادة خطية لمن أراد تقلّد منصب خاص أو عام يشهد له فيها بما ليس فيه، وهذا مما عمَّت به البلوى في هذا الزمن، نسأل المولى السلامة. وقد قمت بالعناية بهذه الرسالة عن الطبعة الأولى المطبوعة في حياة المؤلف بالمطبعة العثمانية ببيروت سنة 1327 هـ، وذلك بتخريج أحاديثها والتعليق على مواطن منها، مميزًا لتعليقات المؤلف بحرف [م] آخرها. ولم تخلُ هذه النسخة من أخطاء طباعية قليلة قمت بتصحيحها ولا سيما في الأحاديث ضبطًا من مصادرها دون الِإشارة إلى ذلك. وختامًا من المولى الكريم نرجو القبول وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله. وكتبه رَمزي سَعد الدين دمشقية بيروت 7 جمادى الأولى 1421 هـ الموافق 7 آب 2000 م

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف هو العلاَّمة الشيخ أحمد بن عمر بن محمَّد بن غنيم المحمصاني البيروتي الأزهري، والده السيد عمر صاحب "المكتبة الحميدية" المشهورة في بيروت التي كانت ملتقى الأدباء والعلماء في بيروت. وفي هذه الروضة العلمية -مكتبة والده- نشأ الشيخ أحمد محبًا للعلم وأهله، مواظبًا على حضور مجالس العلم وخاصة مجالس الشيخ محمَّد عبده خلال مدة إبعاده التي قضاها في بيروت. دخل الجامع الأزهر الشريف طالبًا للعلم سنة 1315 هـ، ولازم مجالس الِإمام الأكبر الشيخ محمَّد عبده، وكان من تلاميذه المحببين إليه النُّجباء الذين نثروا تعاليمه في التجدُّد والتطوُّر، فاستقبلته بيروت حين عاد استقبالاً طيباً، وأنزلته الأسر البيروتية إثر غيابه الطويل على الرحب والسعة، فكان له طلبة من رجال ونساء يذكرونه بالِإجلال والاحترام. تولى أثناء إقامته في الأزهر أمانة مكتبته الشهيرة فأفاد من عمله هذا فائدة جُلَّى، ثم أصبح مدرِّسًا في الأزهر. أخذ عن الشيخ محمَّد محمود الشنقيطي المتوفى 1322 هـ علوم اللغة، واشترك معه في تحقيق عدة كتب، منها كتاب "الإِنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف" لابن السيد البطليوسي الأندلسي،

ومنها كتاب "الفصيح" للِإمام ثعلب، وله فيهما تعليقات وتفاسير تشهد برسوخ قدمه وفضله. كما أخذ الِإجازة من السيد محمَّد بن جعفر الكَتَّاني، والشيخ السيد عبد الحي الكتاني، وقد اجتمع به في مصر (¬1). بعد عودته إلى بيروت عُين مدرسًا في مكتب الحقوق العثماني، حيث تولّى شرح "مجلة الأحكام الشرعية" وإلقاء المحاضرات في علم أصول الفقه، وذلك سنة 1332 هـ -1913 م. وانتخب عضوًا في المجمع العلمي اللبناني سنة 1928 م، وأسندت إليه رئاسة لجنة المخطوطات فيه. كان عضوًا عاملاً لعشرات السنين في جمعية المقاصد الخيرية الِإسلامية في بيروت، ثم رئيسًا للجنة المدارس فيها. يشجع طلبتها بالجوائز التي كان يغدقها على تلامذته المجلين. كان خطيبًا ومدرِّسًا في الجامع العمري الكبير، وجامع الأمير عساف لعدة سنوات، وكان البيروتيون يتهافتون على سماع خطبه ويفيدون منها ويرجعون إليه في كثير من المشاكل التي كانت تواجههم في أمور دينهم ودنياهم. درَّس القرآن الكريم واللغة العربية لرئيس الجامعة الأمريكية الدكتور بيار ضودج، فتوثَّقت بينهما صداقة العلم والمعرفة. من مؤلفاته: - كتاب خلاصة النحو. - رسالة تحذير الجمهور من مفاسد شهادة الزور. ¬

_ (¬1) إتحاف ذوي العناية للشيخ محمَّد العربي العزوزي، ص 73.

- شرح أحكام المجلة الشرعية. - تفسير الفاتحة. - مختصر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي من روايته وحمله، طبع بمصر سنة 1320 هـ (¬1). كما اعتنى بتصحيح وضبط الكلمات اللغوية للكتب التالية: - المعلقات السبع، طبع في مصر سنة 1319 هـ. - الإِنصاف، طبع في مصر سنة 1319 هـ. - اللؤلؤ النظيم في روم التعليم والتعلم، طبع في مصر سنة 1319 هـ. - حجج القرآن، طبع في مصر سنة 1320 هـ. - فصيح ثعلب. وله عدة قصائد شعرية ومحاضرات ألقيت في مناسبات عديدة لم تطبع. توفي سنة 1370 هـ - 1951 م، يوم 30 تموز وقد نيَّف على الثمانين، وكان آخر تلاميذ الشيخ محمَّد عبده (¬2). وكان يضيف إلى اسمه نسبة "الأزهري" كلما وقع (¬3). * * * ¬

_ (¬1) معجم المطبوعات 1702، ومعجم المؤلفين 2/ 35. (¬2) علماؤنا للمحامي كامل الداعوق، ص 204 - 206. (¬3) مجلة الفكر الِإسلامي - العدد 8/ 8 سنة 1399 هـ- 1979 م، ص 31.

صورة خط المؤلف وتوقيعه على غلاف إحدى مخطوطات الفقه الحنبلي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد وسائر النبيين، وآل كلٍّ وجميع الصالحين. أمَّا بعد، فقد طلب مني بعض ذَوِي الحميَّة الدينيَّة في مدينة بيروت أنْ أكتُبَ رسالةً في بيان مفاسد شهادة الزور وما يترتب عليها من المضارِّ، وأن أذكُرَ ما ورد من الآيات والأحاديث في هذا الشأن. فأجبتُه لذلك عملاً بواجب النصيحة الدينية، ولما رواه الِإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه (¬1) عن سيدنا أبي رُقَيَّة تميمِ بن أوسٍ الداريِّ رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدِّينُ النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". فالرجاء فيمن يطَّلع عليها أنْ يتقبَّلها قَبولاً حسنًا، ويتَّخذها وسيلة لتنبيه العامَّة إلى اجتناب تلك البليَّة الطَّامَّة، ويذكِّر بها مَنْ له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد. وقد سمَّيتُ هذه الرسالة "تحذير الجمهور من مفاسد شهادة الزور"، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1/ 74، ح 55.

ورتبتُها على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. وأسأله تعالى أنْ يجعلها خالصة لوجهه، وأن ينفع بها ويوفِّقنا لما فيه خير الأمة، والعمل لِإحياء السُّنَّة وإماتة البدعة، إنَّه سميع مجيب، وما توفيقي واعتصامي إلاَّ بالله عليه توكَّلْتُ وإليه أُنيب. * * *

مقدمة المؤلف

مقَدّمة اعلم يا أخي هداني الله وإيَّاك إلى طريق الخير والرشاد أنَّ شهادة الزور جريمة عظيمةُ الشر جسيمة الضرر، فكم ضاع بها مِنْ حقٍّ كان ثابتًا، ونشأت عنها مُعضلات ومشكلات تفاقم خَطبُها واشتدَّ كَربُها، وكم هدرت بسببها دماء وغَلَت من أجلها مَرَاجِلَ الشَّحناء والبغضاء، وكثيرًا ما أيقظتْ الفتنة وأعظمت المحنة وفصمتْ عُرى الوحدة، وربما أدَّت إلى تقاطع ذوي الأرحام وتهديد السلام بين الأفراد والأقوام، بل وبدَّلت الأمن خوفًا والوفاق خُلفًا، فكان من وراء ذلك كله شر عظيم وخطر جسيم. عرف هذا الأمم السابقة فشدَّدوا في عقوبة مرتكبها وبالغوا في التنكيل به، وحكموا بأنَّه عدو للأمة بتمامها. وقضى عليه بعض الأمم كالرومانيين بالِإعدام، وغَلَوا في شأن التزوير حتى عَدُّوا من المزورين من أخفى وصيَّة المتوفَّى أو أضاعها، بل كل امرئ فعل شيئًا يدلُّ على غِشٍّ أو خراب ذمة. وكانت عقوبتهم للأحرار بالنفي إلى مكان حصين مع مصادرتهم في أموالهم كلها، وعقوبة الرقيق هي الِإعدام (¬1). ثم ترقَّت ¬

_ (¬1) هذه الجملة مأخوذة بمعناها عن رسالة "التزوير في الأوراق" لأحمد فتحي باشا زغلول العصر [م].

مدارك الأمم بعد ذلك فتعدَّلت العقوبات بحسب آثار الجريمة وعظيم خطرها. جاء الإِسلام -وهو الكافل للسعادة الدنيوية والأخروية والشفاءُ لأمراض الِإنسانية- فعدَّ شهادة الزور من أعظم الكبائر وأشدَّها ضررًا، وحذَّر من مرتكبيها وجعلهم من أكبر المجرمين وأجراً المفسدين، وعَرَّفهم سُوء منقلبهم وعاقبة بغيهم بما فيه عبرة لكل معتبر كما سيُتلى عليك. * * *

الفصل الأول فيما جاء من الآيات والأحاديت المتعلقة بشهادة الزور

الفصل الأول فيما جاء من الآيات والأحاديت المتعلقة بشهادة الزور من المناسب أن نبين معنى الزور في اللغة حتى يكون المطَّلع على بصيرة فيما ينظر فيه، وحتى يُعلمَ أن أصحاب المعجمات اللغوية لم يهملوا تفظيع حال شهادة الزور حتى في كلامهم على المعنى اللغوي. جاء في "لسان العرب" للِإمام محمَّد ابن منظور الِإفريقي ما نصُّه (¬1): والزور: الكذب والباطل، وقيل: شهادة الباطل وقول الكذب. إلى أن قال: وفي الحديث: "المتشبِّع (¬2) بما لم يُعْطَ كلابِسِ ثَوْبَيْ زور" (¬3). ¬

_ (¬1) لسان العرب 4/ 336 - 337. (¬2) هو الذي يدَّعي بما ليس فيه ويُحبُّ أنْ يُحمدَ بما لم يفعل، وهذا الدَّاء قد فشا بين كثير ممن زين لهم الشيطان أعمالهم، وغَرَّتهم الأماني الباطلة، وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ عن هؤلاء بقوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188]. ودواء هؤلاء هو الرجوع إلى الله ومحاسبة النفس، وطرح الغرور والأخذ بالعلم على وجهه الصحيح والتمسك بالعمل الصالح، والنصح والِإخلاص والتقوى في جميع ذلك كله، والله وليُّ المؤمنين. [م]. (¬3) رواه البخاري ح 5219، ومسلم 3/ 1681 ح 2130، من حديث أسماء بنت =

الزُّور: الكذب والباطل والتُّهمة، وقد تكرر ذكر شهادة الزور في الحديث، وهي من الكبائر، فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عَدَلَتْ شهادةُ الزور الشركَ باللهِ وإنَّما عادلته لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ثم ¬

_ = أبي بكر رضي الله عنهما، وعند مسلم ح 2129 من رواية عائشة رضي الله عنها. وقصة الحديث: أن امرأةً قالت: يا رسول الله إنَّ لي ضَرَّة فهل على جُناح إن تشبَّعتُ من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبَيْ زور". وقد نقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 9/ 318 أقوال العلماء في تفسير هذا الحديث، فمما نقله: قال الزمخشري في "الفائق": المتشبع أي المتشبه بالشبعان وليس به، واستُعيرَ للتحلي بفضيلة لم يرزقها، وشُبَّه بلابس ثوبي زور أي ذي زور، وهو الذي يتزيا بزي أهل الصلاح رياءً، وأضاف الثوبين إليه لأنهما كالملبوسين، وأراد بالتثنية أن المتحلي بما ليس فيه كمن لبس ثوبي الزور ارتدى بأحدهما واتزر بالآخر، كما قيل: إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا. فالِإشارة بالِإزار والرداء إلى أنه متصف بالزور من رأسه إلى قدمه. وقال الخطابي: الثوب مَثَلٌ، ومعماه أنه صاحب زور وكذب، كما يقال لمن وصف بالبراءة من الأدناس طاهر الثوب والمراد به نفس الرجل. ونقل الخطابي عن نعيم بن حماد قوله: كان يكون في الحي الرجل له هيئة وشارة، فإذا احتيج إلى شهادة زور لبس ثوبيه وأقبل فشهد فقُبل لنُبل هيئته وحُسن ثوبيه، فيقال: أمضاها بثوبيه يعني الشهادة، فأضيف الزور إليهما، فقيل: كلابس ثوبي زور. وأما حكم التثنية في قوله: "ثوبي زور" فللإِشارة إلى أن كذب المتحلي مثنى؛ لأنه كذب على نفسه بما لم يأخذ وعلى غيره بما لم يُعط، وكذلك شاهد الزور يظلم نفسه ويظلم المشهود عليه. اهـ.

قال بعدها: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] " (¬1). وقد جاء لفظ الزُّور في القرآن الكريم في أربعة مواضع، منها موضعان يتعلقان بشهادة الزور: فالأول: قوله تعالى في سورة الحج: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30، 31]. وللمفسِّرين في قول الزور في هذه الآية وجوه، منها: أنَّه قولهم هذا حلال وهذا حرام، ومنها: أنَّه شهادة الزور، رفعوا هذا التفسير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها: أنَّه الكذب والبهتان. والثاني: قوله تعالى في سورة الفرقان: ({وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} [الفرقان: 72]. قال بعض المفسرين: لا يشهدون شهادة الزور، وقال آخرون: لا يشهدون الشرك، وقال آخرون: هو قول الكذب، وقال بعضهم: هو الغناء. وقال ابن جرير الطبري (¬2): إنَّ أولى الأقوال بالصواب أنْ يُقال: والذين لا يشهدون شيئًا من الباطل لا شركًا ولا غناءً ولا كذبًا ولا غيره وكلّ ما لزمه اسم الزّور؛ لأنَّ الله عمَّ في وصفه إيَّاهم أنهم لا يشهدون ¬

_ (¬1) رواه الترمذي ح 2299، والِإمام أحمد 4/ 178 من حديث أيمن بن خُريم. ورواه الترمذي أيضًا ح 2305، وأبو داود ح 3599، وابن ماجه ح 2372، وأحمد 4/ 321 من حديث خُريم بن فاتك الأسدي، بألفاظ متقاربة. (¬2) جامع البيان 19/ 49.

وأما الأحاديث

الزور، فلا ينبغي أن يُخصّ من ذلك شيء إلاَّ بحجَّة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. وأما الأحاديث: فقد روى البخاري ومسلم والِإمام أحمد (¬1) عن سيدنا أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر أو سُئل عن الكبائر فقال: "الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين"، وقال: "ألا أُنبِّئكم بأكبر الكبائر: قول الزور"، أو قال: "شهادة الزور". وعن أبي بَكْرَة نُفَيْع بن الحارث (¬2)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ "، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الِإشراك بالله؟ وعقوق الوالدين"، وكان متكئًا فجلس (¬3) وقال: "ألاَ وقول الزور وشهادة الزور"، فما زال يكررها حتى قلنا: ليتهُ سَكَتَ (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري ح 2653، ومسلم 1/ 92، ومسند أحمد 3/ 131. (¬2) رواه البخاري ح 2654، ومسلم 1/ 91 ح 87، ومسند أحمد 5/ 36. (¬3) هذا يُشْعِر باهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بذلك حتى جلس بعد أنْ كان متكئًا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظيم قُبحه. وسبب الاهتمام بشهادة الزور كونها أسهل وقوعًا على الناس والتهاون بها أكثر، فإنَّ الِإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يَصرِف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام به. وليس ذلك لِعِظَمه بالنسبة إلى ما ذُكر معه من الِإشراك قطعًا، بل لكون مفسدته إلى الغير، بخلاف الِإشراك فإنَّ مفسدته مقصورة عليه غالبًا. اهـ. من نيل الأوطار للِإمام الشوكاني. [م]. (¬4) قال الحافظ ابن حجر في الفتح 5/ 263 في تعليقه على هذه الكلمة: أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه، وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - والمحبة له والشفقة عليه. اهـ.

وروى الِإمام ابن ماجه (¬1) عن سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَن تَزُولَ قَدَما شاهدِ الزور حتى يُوجب الله له النار". وفي هذا الحديث وعيدٌ شديدٌ لشاهدِ الزور حيث أوجب الله له النار قبل أن ينتقل من مكانه، ولعل ذلك مع عدم التوبة، أما لو تاب وأكذب نفسه قبل العمل بشهادته فالله يقبل التوبة عن عباده. وروى الحاكم والديلمي (¬2) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ من زيَّن نفسه للقُضاة بشهادة الزور زيَّنه الله تعالى يوم القيامة بسِرْبال (¬3) من قَطِرَان وأَلْجمه بلجام من نار". وروى الِإمام أحمد في مسنده وابن أبي الدنيا (¬4) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ شهدَ على مسلم شهادةً ليس لها بأهل فليتبوَّأ مقعده من النار". وروى أبو سعيد النقَّاش في "كتاب القضاة" (¬5) عن عبد الله بن جَرَاد: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شهدَ شهادة زور فعليه لعنةُ الله، ومَنْ حَكَمَ بين اثنين فلم يَعدِل بينهما فعليه لعنةُ الله". ¬

_ (¬1) ح 2373، وفي الزوائد: في إسناده محمَّد بن الفرات متفق على ضعفه، وكذبه الِإمام أحمد. (¬2) لم أجده عند الحاكم في المستدرك ولا في مسند الفردوس للديلمي، وعزاه في كنز العمال للحافظ ابن عساكر في التاريخ عن إبراهيم بن هدبة عن أنس، ح 17760. (¬3) السربال: القميص. (¬4) المسند 2/ 509، وقال الهيثمي في المجمع 4/ 200: تابعيَّة لم بسم وبقية رجاله ثقات، وابن أبي الدنيا في كتاب الغيبة والنميمة ح 122. (¬5) هكذا أورده المتقي الهدي في كنز العمال ح 17762، وعزاه للنقاش.

وروى البخاري ومسلم (¬1) عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مشى مع قوم يرى أنه شاهد وليس بشاهد فهو شاهد زور، ومَنْ أعانَ على خصومة بغير علم كان في سَخَط الله حتى ينْزِع، وقتال المؤمن كفر وسبابه فسوق". وعن ابن عمر قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهد الزور وهو يعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) الحديث ليس في البخاري ومسلم، بل أخرجه البيهقي في السنن 6/ 82، وسبب هذا الخطأ نقل المؤلف الحديث عن كنز العمال ح 17763 حيث وقع فيه رمز (ق) أي الصحيحين وهو تصحيف عن (هق) أي البيهقي في السنن. (¬2) كنز العمال ح 17802، وعزاه لأبي سعيد النقاش.

الفصل الثاني في ذكر بعض ما جاء عن أئمة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وما ذكره بعض الفقهاء في كتبهم في حكم شاهد الزور

الفصل الثاني في ذكر بعض ما جاء عن أئمة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وما ذكره بعض الفقهاء في كتبهم في حكم شاهد الزور عن مكحول والوليد بن أبي مالك قالا: كتب عمر إلى عُمَّاله في الشاهد الزور أنْ يُضربَ أربعينَ سَوطًا، وأن يُسخَّم وجهه (¬1)، ويُحلق رأسه، ويُطاف به، ويُطال حبسه (¬2). وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أُتِيَ عمر بشاهد زور فوقفه للناس يومًا إلى الليل يقول: هذا فلان يشهد زورًا فاعرِفوه، فجلده ثم حبسه (¬3). وعن علي بن الحسين قال: كان عليٌّ إذا أخذ شاهد زور بعثه إلى ¬

_ (¬1) وفي رواية يسخَّم وجهه "بالحاء" ومعناهما: أن يسوَّد، مأخوذ من السخام وهو سواد القِدر، وقيل: المراد بالتسحيم: التخجيل والتفضيح [م]. (¬2) رواه عبد الرزاق في المصنف ح 15392، وفيه: مكحول عن الوليد بن أبي مالك، والبيهقي في السنن 15/ 142. (¬3) رواه البيهقي في السنن 10/ 141.

عشيرته، فقال: إنَّ هذا شاهد زور فاعرفوه وعرِّفوه، ثم خَلَّى سبيله (¬1). وقال العلَّامة الشيخ محمَّد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني في كتابه "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة" ما نصُّه (¬2): (فصل) واختلفوا في عقوبة شاهد الزور، فقال أبو حنيفة: لا تعزير عليه بل يُوقف في قومه ويقال لهم: إنه شاهد زور، وقال مالك والشافعي وأحمد: يُعزَّر ويُوقف في قومه ويُعرَّفون أنَّه شاهد زور، وزاد مالك فقال: ويُشهَّر (¬3) في الجوامع والأسواق والمجامع، اهـ. وقال العلاَّمة الشهاب أحمد بن حجر الهيتمي في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر" ما نصُّه (¬4): (الكبيرة السابعة والثامنة والثلاثون بعد الأربعمائة شهادة الزور وقَبولها). أخرج الشيخان عن أبي بَكْرة واسمه نُفَيع بن الحارث رضي الله عنه قال: كنا جُلوسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَلاَ أُنبئكم بأكبر الكبائر" ثلاثًا "الِإشراك باللهِ، وعقوق الوالدين"، وكان متكئًا فجلس فقال: "أَلاَ وقول ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في السنن 10/ 142، وقال عَقِبَه: وهذا منقطع. (¬2) رحمة الأمة 1/ 213، من الطبعة التي بهامش كتاب الميزان للشعراني. (¬3) التشهير بشاهد الزور وتعريف الناس بحاله من العقوبات التي تَفعل في النفوس ما لا يفعله كثير من الجزاءات الأخرى، وحسبُكَ أنَّ شاهد الزور في هذه الحالة يجتنبه الناس ويمقتونه فيكون بينهم كالجمل الأجرب ينفر منه كل من يراه ولا يطمئن إليه أحد، ومتى ارتفعت ثقة الناس منه خسر خسرانًا مبينًا، ونعوذ بالله من خزي الدنيا وعذاب الآخرة [م]. (¬4) الزواجر 2/ 193.

الزور وشهادة الزور"، فما زال يكرِّرها حتى قلنا: ليتهُ سَكَتَ (¬1). وروى البخاري: "الكبائر الِإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس" (¬2). والشيخان: ذَكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر فقال: "الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس"، فقال: "أَلاَ أُنبئكم بأكبر الكبائر: قول الزور" أو قال: "شهادة الزور" (¬3). وأبو داود واللفظ له والترمذي وابن ماجه (¬4): صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح فلما انصرف قام قائمًا فقال: "عَدَلَتْ شهادة الزور الِإشراك بالله" ثلاث مرات ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30، 31]. ورواه الطبراني موقوفًا على ابن مسعود بسند حسن (¬5). وأحمد بسند رُواته ثِقَات: "مَنْ شهد على مسلم شهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار" (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 20. (¬2) البخاري ح 6675 من حديث عبد الله بن عمرو، ومناسبة الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اليمين الغموس"، أي الكاذبة التي تغمس صاحبها في النار والتي هي مفتاح شهادة الزور. (¬3) تقدم تخريجه ص 20. (¬4) تقدم تخريجه ص 19. (¬5) مجمع الزوائد 4/ 200. (¬6) تقدم تخريجه ص 21.

وابن ماجه والحاكم وصحَّحه: "لن تَزولَ قَدَما شاهد الزور حتى يوجب الله له النار" (¬1). والطبراني: "إن الطير لتضرب بمناقيرها على الأرض وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة وما يتكلم به شاهد الزور، ولا يفارق قدماه على الأرض حتى يُقذف به في النار" (¬2). والطبراني بسند فيه منكر: "أَلاَ أخبركم بأكبر الكبائر: الِإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان - صلى الله عليه وسلم - محتبيًا فحلَّ حبوته فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بطرف لسانه فقال: "ألاَ وقول الزور" (¬3). والطبراني بسند رجاله ثقات: "ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر: الِإشراك باللهِ " ثم قرأ: " {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، وعقوق الوالدين" ثم قرأ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، وكان متكئًا فقعد فقال: "ألا وقول الزور" (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 21. (¬2) مجمع الزوائد 4/ 200 من حديث ابن عمر، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لا أعرفه. (¬3) مجمع الزوائد 4/ 200 من حديث أبي الدرداء، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير وفيه عمر بن المساور وهو منكر الحديث. ومعنى "كان محتبيًا فحل حبوته": الاخباء أن يضم الِإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره أو يكون باليدين عوض الثوب. النهاية في غريب الحديث 1/ 335. (¬4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 18/ 140 من حديث عمران بن الحصين. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 103: رجاله ثقات إلاَّ أن الحسن مدلِّس وعنعنه.

تنبيه: عَدُّ هذين -يعني شهادة الزور وقبولها- هو ما صرحوا به في الأولى وقياسها في الثانية. وشهادة الزور هي أن يشهد بما لا يتحققه. قال العز ابن عبد السلام: وَعدُّها كبيرة ظاهر إنْ وقع في مال خطير، فإنْ وقع في مال قليل كزبيبة أو تمرة فمشكل، فيجوز أنْ تُجعل من الكبائر فطمًا عن هذه المفاسد كما جُعل شرب قطرة من الخمر من الكبائر وإنْ لم تتحقق المفسدة، ويجوز أنْ يُضبط ذلك المال بنصاب السرقة. قال: وكذلك القول في أكل مال اليتيم. وقد مرّ عن ابن عبد السلام أنه حكى الِإجماع على أنَّ غَصْبَ الحبَّة وسرقتها كبيرة وهذا مؤيِّد للأول، أعني أنَّه لا فرق في كون شهادة الزور كبيرة بين قليل المال وكثيره فطمًا عن هذه المفسدة القبيحة الشنيعة جدًّا، ومِن ثَمَّ جُعلت عدلاً للشرك، ووقع له - صلى الله عليه وسلم - عند ذِكرها من الغضب والتكرير ما لم يقع له عند ذكر ما هو أكبر منها كالقتل والزنا، فدلَّ ذلك على عِظَم أمرها، ومن ثَم جُعلت في بعض الأحاديث السابقة أكبر الكبائر، انتهى باختصار قليل. وذكر الكمال ابن الهُمام في كتابه "فتح القدير على الهداية" (¬1): أنَّ شُريحًا القاضي كان يبعث بشاهد الزور إلى سوقه إن كان سوقيًا وإلى قومه إن كان غير سوقي بعد العصر أجمع ما يكونون ويقول: إن شُريحًا يُقرئكم السلام، ويقول: إنَّا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحَذِّروا الناس منه. اهـ. ¬

_ (¬1) 7/ 477، طبعة مصطفى البابي الحلبي.

وشريح كان قاضيًا زمن سيدنا عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وزاحم الصحابة في الفتوى وإن كان من كبار التابعين، وهو شريح بن الحارث الكِندي أقام في الكوفة قاضيًا خمسًا وسبعين سنة وتوفي سنة سبع وثمانين من الهجرة (¬1)، كما ذكر ابن خَلِّكَان في تاريخه وأطال في ترجمته (¬2). وقال العلاَّمة شمس الدين محمَّد ابن قيِّم الجوزية في كتابه "إعلام الموقعين" ما نصُّه (¬3): لا خلاف بين المسلمين أنَّ شهادة الزور من الكبائر ... ، ثم ذَكَر أحاديث تقدَّمت إلى أن قال: وفي المسند من حديث عبد الله بن مسعود (¬4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بين يدي الساعة تسليم الخاصَّة، وفشوَّ التجارة حتى تُعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق". وقال الحسن بن زياد اللؤلؤي: حدثنا أبو حنيفة قال: كُنَّا عند مُحارب بن دثار فتقدم إليه رجلان فادَّعى أحدهما على الَآخر مالًا فجحده المدَّعى عليه، فسأله البيِّنة فجاء رجل فشهد عليه، فقال المشهود عليه: لا والله الذي لا إلله إلاَّ هو ما شهد عليَّ بحقٍّ، وما علمته إلاَّ رجلًا صالحًا غير هذه الزلَّة، فإنَّه فعل هذا لِحقد كان في قلبه عليَّ. وكان محارب متكئًا فاستوى جالساً ثم قال: يا ذا الرجل سمعتُ ابن ¬

_ (¬1) وهو ابن مائة وعشرين سنة، رحمه الله تعالى. (¬2) وفَيَّات الأعيان 2/ 460 - 463. (¬3) 1/ 124، طبعة دار الكتاب العربي - بيروت. (¬4) المسند 1/ 407، وزاد في آخره: "وظهور القلم".

عمر يقول سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليأتينَّ على الناس يوم تشيب فيه الوِلْدان وتضع الحوامل ما في بطونها وتضرب الطير بأذنابها وتضع ما في بطونها من شدة ذلك اليوم ولا ذنب عليها، وإنَّ شاهد الزور لا تقارَّ قدماه على الأرض حتى يُقذف به في النار" (¬1)، فإنْ كنتَ شَهدتَ بحق فاتَّقِ وأقم على شهادتك، وإنْ كنتَ شهدتَ بباطل فاتقِّ الله وغطِّ رأسكَ واخرج من هذا الباب. وفي رواية: أنَّ الرجل قال له: كنتُ أُشهدتُ على شهادة وقد نسيتها أرجعُ فأتذكرها، فانصرف ولم يشهد عليه بشيء. اهـ، بتصرف. * * * ¬

_ (¬1) جامع مسانيد الِإمام أبي حنيفة 2/ 279، طبعة حيدرأباد - سنة 1332 هـ.

الفصل الثالث في بيان أضرار شهادة الزور في الشاهد نفسه وفي الهيئة الاجتماعية

الفصل الثالث في بيان أضرار شهادة الزور في الشاهد نفسه وفي الهيئة الاجتماعية قد عرفنا مما تقدم ما لشاهد الزور من الوعيد الشديد والعقاب الأكيد في هذه الدنيا وفي الآخرة ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. ونحن الآن نبيِّن في هذا الفصل ما لشهادة الزور من الأضرار في نفس شاهدها وفي الهيئة الاجتماعية التي يعيش ويرتع فيها. وهذه الأضرار أمور معقولة يُدركها كلُّ مَنْ تأمَّلها وأمعَن في حال من يقترف تلك الجريمة الفظيعة. فأولها: أنَّه يتَّصف بالكذب ويوسم بميسم الافتراء، وكفى بهما خزيًا ونكالًا. فإنَّ الِإنسان مفطور على الخير والصدق، فإذا مال إلى عكسهما فلا تسأل عما يعتَوِرُه من الآلام النفسيَّة والمؤذيات، لا سيما إذا حَاق به سُوء عمله فهنالك الخُسران المبين. وثانيها: أنَّه يجد من ضميره موبِّخًا له على فساد عمله، ومؤنِّبًا شديدًا يقرِّعه على ما أجرم واقترف، وربما اعترف بما ارتكبه وقال نفسه

إلى تحمُّل العقوبة حتى يخلص من تقريع ضميره وإلى هذا يشير (كاد المريب أن يقول خذوني). ومن الأسرار العجيبة التي أودعها الله في كل إنسان أنه يجد هذا الوازع في نفسه كلَّما أقدم على أمر فاسد، ينبِّهه إلى خطأه ويعرِّفه سُوء منقلبه. فمن صادفته العناية وكان قلبه أمْيل إلى الصفاء والخير ارتدع عن غَيِّه ورجع إلى رشده وأقلع عن قصده، وإلى هذا الوازع النفسيّ الموجود في كل إنسان قد أشار الشاعر الحكيم: لا ترجع الأنفس عن غَيِّها ... ما لم يكن منها لها زاجرُ ومن الناس من يصغي إلى نداء ضميره فيعدل عن قصد الفساد والِإضرار بالناس بعد أن يهمَّ بذلك، وكثيرًا ما يظهر هذا في شاهدي الزور إذا كانوا ممن لم تسبق لهم جراءة على ذلك، فإنَّ الوازع النفسي ربما يردُّهم إلى الرشد لا سيما إذا غمرت قلوبهم خشية الله سبحانه وتعالى، وتذكَّر الشخص منهم أنَّه يُفتَضح بين الناس وتَحِلُّ به العقوبة، فتراه يتزلزل ويضطرب فيعدل عما صمم عليه من الشهادة الباطلة، ويرجع عما قصد إليه (¬1). وأما من طغى وبغى ورَانَ على قلبه الشر وفسد مزاجه فيضْعُفُ فيه ¬

_ (¬1) قرأت في جريدة من جرائد مصر نقلاً عن جريدة "لسان الحال" التي تصدر ببيروت: أن بعض المتهمين بجريمة القتل في لبنان ادعى أنَّ لديه شاهدًا يُبرِّئه مما اتُّهم به، وكان قد اشترى ذمة ذلك الشاهد كما يقال، فلما حضر الشاهد وطُلب منه اليمين فتقدَّم ليضع يده على القرآن الكريم وما كاد يرفعها حتى خرَّ مغشياً عليه ولم يفق من إغمائه إلاَّ بعد ساعة، ولما أراد أن ينطق بالشهادة عُقِل لسانه، فدهش رجال المحكمة لهذا الحادث. ثم أورد "اللسان" حادثة رواها لمحرره بعضهم قال: إنه حضر شاهدان في أثناء =

هذا الوازع، وربما انطفأت شُعلته من نفسه، فإذا لم تتداركه العناية الِإلهية كان من الخاسرين والعياذ بالله تعالى. وثالثها: أنَّ شاهد الزور يُحسّ بخذلانه بين قومه وذويه ويفقد الثقة منهم، وكفى بذلك خُسرانًا مبينًا. فإنَّ الثقة بين الناس عليها مدار حياتهم، وتبادل المنفعة فيما بينهم، وطالما رأينا أُناسًا لا مال عندهم ولا رياش (¬1) ولكن ما للناس فيهم من الثقة أغناهم عن الغنى وبسط لهم يد الميسرة والنفوذ، فهم أغنياء أعزَّاء وإنْ كانوا في هيئة الفقراء والبؤساء. ورابعها: أنَّه يكون في نفسه مَهينًا محتقرًا وفي أعينُ الناس أشدُّ إهانة واحتقارًا وهذا أمر محسوس ومعروف حتى أن أشد الناس احتقارًا لشاهد الزور من شهد لأجله. وقد أشار إلى هذا المعنى الِإمام الحكيم أبو محمَّد علي ابن حزم الأندلسي في كتابه "الأخلاق والسِّيَر" بقوله (¬2): (أول من يزهد في الغادر من غَدر له الغادر، وأول من يمقت شاهد الزور من شَهد له به). وخامسها: أنَّ شاهد الزور يكون جُرثومة من جراثيم الفساد في ¬

_ = إحدى المحاكمات في عكا ولما طُلب إليهما حَلِف اليمين على الكتاب الكريم -وكانا شاهديْ زور قَبَضا مالًا على ذلك- تقدم أحدهما وكان مُسنًا فلم يكد يرفع يده حتى ارتعش جسمه وتلجلج لسانه وقال: (أقسم بأني تناولت من فلان 30 ريالاً أجرة شهادة زور طلب إليَّ تأديتها وهذه هي الحقيقة)، فدُهشتْ هيأة المحكمة لذلك ثم أخرجته وطلبت رفيقه وكان شابًا فأراد أن يؤدي الشهادة زورًا كما تلقنها فسقط مغشيًا عليه ثم نطق بالحقيقة، اهـ. [م]. (¬1) الرياش: الحسن الفاخر من الأثاث والملبس. (¬2) ص 98، طبعة دار ابن حزم - بيروت.

ذيل [في كتمان شهادة الصدق]

جسم الأمَّة ينخُر عظمها ويمتصُّ دمها، فيضعُفُ شأنُها بوجود أمثاله المحاربين لفطرتهم والدَّاعينَ إلى الشر والفتنة، فتتزعزع أركانها ويتهدَّم بنيانها، ويكون عليه وِزرُ عمله ووزر من عمل مثل عمله، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الِإمام ابن ماجه (¬1) عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ سَنَّ سُنَّة حَسَنةً فعُمِل بها كان له أجرُها ومثلُ أجر من عمل بها لا يَنقُصُ من أجورهم شيئًا، ومَنْ سَنَّ سُنَّة سيئة فعُمل بها كان عليه وِزرُها ووزر من عمل بها من بعده لا يَنقُصُ من أوزارهم شيئًا". وسادسها: إذا فَشَت شهادة الزور بين الناس تسبب عنها ضعف ثقتهم ببعضهم بعضًا، وذهبت عاطفة الاطمئنان من نفوسهم، فتفتر عزائمهم عن الأعمال الخيرية والمشروعات المفيدة للنوع الِإنساني، ويستولي عليهم اليأس والقنوط فلا يلوي أحد على أحد، ولا يتألم لما يصيبه ولا يمدُّ يده لمساعدته، وهنالك البلاءُ العظيم والخطب الجسيم. وإذا فَشَا الكذب والافتراء في أمَّة تفككتْ منها عُرى الوحدة وتقطعت روابط الاتحاد وهيهات أن يُرجى لها نجاح أبدًا. ذيل [في كتمان شهادة الصدق] اتضح لك مما تقدم هول المفاسد التي تترتب على شهادة الزور في نفس شاهدها وفي مجموع الأمة الذي هو أحد أعضائها، ولمَّا كانت هذه ¬

_ (¬1) ح 203، والحديث رواه بنحوه مسلم ح 1017، والنسائي ح 2554، من حديث جرير بن عبد الله أيضًا في حديث طويل.

الخُلَّة الشنعاء أحد طرفي رذيلة الكذب كان طرفها الآخر هو كتمان شهادة الصدق؛ لأنَّه إنْ كانت شهادة الزور ترمي إلى إحياء الباطل فكتمان شهادة الصدق يؤدي إلى إماتة الحق، وأنت ترى أن كليهما في المضرة والِإفساد سواء. من أجل ذلك لم تكن عناية الشريعة المطهَّرة بالتحذير من هذه أقلَّ منها بالتنفير من تلك، وقد ورد النهي عنها في مُحكم التنزيل في مواضع متعددة لمناسبات مختلفة كقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140]. {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]. {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] ... وغير ذلك. وقد جاء في تفسير {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}: أنها نَدْبٌ من الله تعالى للِإنسان إلى السعي في إحياء الحق الذي يُراد جحده والشهادة به لصاحبه، ونَهْيٌ عن كتمان الشهادة سواء عَرَفها صاحب الحق أو لم يعْرِفها، وشدَّد في ذلك بأنْ جعل كاتمها آثمَ القلب. وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر يدل على صحة هذا التأويل وهو قوله: "خير الشهود مَنْ شَهَد قبل أن يُستشهد" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه بنحوه ح 2364، من حديث زيد بن خالد الجهني.

تذنيب من هو شاهد الزور؟

تذنيب من هو شاهد الزور؟ قد يخيَّل للِإنسان أنَّ شاهد الزور إنما هو الذي يقف أمام المحكمة، ويقول في قضية ما غير الحق سلبًا أو إيجابًا. تُرى هل انحصرت هذه الرذيلة في مثل ذلك الِإنسان المسلوب الوجدان؟ اللَّهم لا، وإذًا لانحصر ضررها ولم يتطاير شررها، ولكن الخطب أعمُّ والمصيبة أجَلُّ لسريان هذه العلة القتَّالة إلى مجموع الأمة من مصدر أخلاقي قلَّ أن يخلو عنه إنسانُ يعد في الناس. لا جَرَم أنَّه يمازجه أحيانًا شيء من إرادة الخير أو تخفيف الشر وهو القليل النادر، وأنتَ ترى أنَّ تلك العاطفة لاتصح هدرًا عن هاتيك المخالفة. أما الغالب الشائع أنْ يتجرَّد عن مثل هذه الِإرادة، فما هو إلاَّ تنافس في باطل أو عناد لمناظر أو جَرٌّ لمغنم أو دفعٌ لمغرم أو غيرها من دنيء الأغراض، يدوسُ مبتغيها الحقَّ والصدق ليدركها، وما أدراكَ ما أدرك! ثم ما أدراكَ ما أدرك! حِطَّة في نفسه وخذلانًا في أُمته وذلك هو الخسران المبين. لعلَّك تبيَّنت من الوصف المتقدَّم أنَّه ينضوي تحت هذا النوع من شهداء الزور أهل الدواوين والوجهاء، بل وذوو الحيثية من السوقة الذين يؤدون الشهادات الخطية بالمعاريض الخاصة أو العامة في حق خَادم غير أمين من خدام الأمة أو عامل غير صالح من عمال الحكومة أو بالعكس. وناهيكَ بالأضرار الجسيمة والمفاسد العميمة التي تترتب على ذلك بحيث يتضاءل في جنبها كل ما يترتب على شهادة الزور في الدعاوى الخاصة من الضرر الخاص مهما كان عظيمًا.

ألا وإنّ ضعف الِإدارة الذي كان يُهوِّن الأمر على صاحبه بما يقيم له من الأعذار الواهية، كمقتضيات المركز وضرورات الأحوال وعدم حصول نتيجة للمخالفة أو تأكد حصول مقصود الطالب شهد له أم لم يشهد وأشباهها، مما يُصمُّ النفس عن سماع صوت الضمير ويميل بالقلب عما يميل إليه من الحقِّ، لم يبقَ له محل الآن وقد أباحتْ الحرية لكل فرد الجهر برأيه في العموميات فضلاً عن الخصوصيات، وله من حراسة الدستور العدل ما يدرأ عنه عدوان الظالمين وظلم المستبدين والله من ورائهم محيط. * * *

الفصل الرابع في التنفير من الكذب والاعتصام بالصدق وذكر بعض الآيات والأحاديث في ذلك

الفصل الرابع في التنفير من الكذب والاعتصام بالصدق وذكر بعض الآيات والأحاديث في ذلك لمَّا كانت شهادة الزور من أنواع الكذب ناسب أنْ نُورد بعض الآيات والأحاديث الواردة في التنفير منه والبعد عنه، وما أوعد الله به الكاذبين، ونُتْبع ذلك بلمعة في فضيلة الصدق وما أعدَّه الله للصادقين. قال الله تعالى في سورة النحل: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)} [النساء: 49، 50]. وقال عزَّ وجلّ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117]. وروى الخطيب البغدادي في المتفق عن عبد الله بن جَرَاد قال: قال

أبو الدرداء: يا رسول الله هل يكذب المؤمن؟ قال: "لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر مَنْ إذا حَدَّث كذب" (¬1). وفي رواية أنَّ أبا الدرداء سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل يكذب المؤمن؟ قال: "لا" ثم أَتْبعها نبي الله صلى الله عليه وسلم حيث قال هذه الكلمة: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬2) [النحل: 105]. وروى ابن ماجه والنسائي عن أوسط بن إسماعيل: قال سمعت أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه يخطب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام أول ثم بكى وقال: "إيَّاكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار" (¬3). وقال ابن مسعود: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال العبدُ يكذبُ ويتحرَّى الكذب حتى يُكتبَ عند الله كَذَّابَا" (¬4). وعن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر رضي الله عنه يقول: إيَّاكم والكذب فإنَّ الكذب مجانبٌ للِإيمان (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 6/ 272، وفيه يعلي بن الأشدق ليس بشيء، انظر: الميزان للذهبي 4/ 457. ولم أقف عليه في المتفق والمفترق المطبوع بدار القادري دمشق سنة 1997 م. (¬2) أخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق ومذمومها ح 131، وفيه نفس العلة السابقة: يعلي بن الأشدق. (¬3) رواه ابن ماجه ح 3849، والِإمام أحمد 1/ 3، والحديث ليس في سنن النسائي الصغرى. (¬4) مسند أحمد 1/ 393، وأصل الحديث في البخاري ح 6094، ومسلم 4/ 2013، ح 2607 وما بعده. (¬5) مسند أحمد 1/ 5.

الاعتصام بالصدق

وعن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إياكم والكذب فإنَّ الكذب يَهدي إلى النار. وقال بعض الحكماء: الكذاب لِصّ؛ لأن اللصّ يسرق مالك، والكذاب يسرق عقلك. وقال الِإمام أبو محمَّد علي ابن حزم الأندلسي في كتاب "الأخلاق والسِّير" ما نصه (¬1): (لا شيء أقبح من الكذب، وما ظَنُّكَ بعيب يكون الكفر نوعًا من أنواعه، فكل كُفر كذب، فالكذب جنس والكفر نوع تحته. والكذب متولد من الجَوْر والجُبْن والجهل؛ لأن الجبن يولِّد مهانة النفس والكذاب مَهِين النفس بعيد عن عزتها المحمودة). الاعتصام بالصدق قال الله تعالى في سورة التوبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. وقال عزَّ وجلّ في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البِرِّ" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا فتح له قُفل قلبه وجعل فيه اليقين ¬

_ (¬1) ص 146، طبعة دار ابن حزم. (¬2) رواه مسلم 4/ ص 2013.

والصدق، وجعل قلبه واعيًا لما سَلَك فيه وجعل قلبه سليمًا ولسانه صادقًا وخليقته مستقيمة، وجعل أذنه سميعة وعينه بصيرة" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تحرَّوا الصدق وإنْ رأيتم أنَّ فيه الهَلَكَة فإنَّ فيه النجاة، واجتنبوا الكذب وإنْ رأيتم فيه النجاة فإنَّ فيه الهَلَكَة" (¬2). وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال للحسن بن علي رضي الله عنهما: "دع ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبك، فإنَّ الصدق طمأنينة، وإنَّ الكذب رِيبة" (¬3). وقال بعض الأدباء: لا سيف كالحق ولا عون كالصدق، ولذلك قيل: مَنْ قلَّ صدقه قلَّ صديقه. وقال الله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119]. وقال عزَّ وجلّ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)} [الأحزاب: 23، 24]: ويَجْمُل بنا أن نذكر نبذة في الصدق أوردها الِإمام شمس الدين ¬

_ (¬1) أورده في كنز العمال ح 30768، وقال: رواه أبو الشيخ من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (¬2) رواه هناد بن السري في الزهد ح 1376 عن مجمع بن يحيى مرسلاً. (¬3) رواه الترمذي ح 2518، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي ح 5711، وأحمد 1/ 200.

محمَّد ابن قَيِّم الجوزية في كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد - صلى الله عليه وسلم -" (¬1)، وهي: إنَّ الله عظَّم مقدار الصدق وعلَّق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرَّهما به، فما أنجى الله مَنْ أنجاه إلاَّ بالصدق، ولا أهلكَ من أهلكَه إلاَّ بالكذب. وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. وقد قسَّم سبحانه الخلق إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق، والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب، وهو تقسيم حاصر مطَّرد منعكس، فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق، والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب. وأخبر سبحانه وتعالى أنَّه لا ينفعُ العبادَ يوم القيامة إلاَّ صدقهم، وجعل عَلَم المنافقين الذي تميزوا به هو الكذبَ في أقوالهم وأفعالهم. فجميع ما نَعَاه عليهم أصلُه الكذب في القول والفعل، فالصدق بريد الِإيمان ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه، (بل هو لُبُّه وروحه. والكذب بريد الكفر والنفاق ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه) (¬2) ولُبُّه. فمضادة الكذب للِإيمان كمضادة الشرك للتوحيد، فلا يجتمع الكذب والِإيمان إلاَّ ويطرد أحدهما صاحبه ويستقرُّ موضعه. والله سبحانه أنجى الثلاثة بصدقهم (¬3) وأهلك غيرهم من المتخلِّفين بكذبهم، ¬

_ (¬1) 3/ 590. (¬2) ما بين الهلالين سقط من الأصل، وأثبتُّه من "زاد المعاد" ليتم المعنى. (¬3) وهو المذكورون في الآية الكريمة: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ =

فما أنعم الله على عبد بعد الإِسلام بنعمة أفضلَ من الصدق الذي هو غذاء الإِسلام وحياته، ولا ابتلاه ببليَّة أعظمَ من الكذب الذي هو مرض الإِسلام وفساده. انتهى ببعض تصرف. * * * ¬

_ = وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ...} [التوبة: 117، 118]. [م].

خاتمة

خَاتمَة ينبغي للمسلم أن يكون هَمُّه وقصده دائمًا في جميع شؤونه إطاعته لله ورضوانه، والبعد عما يدنِّسه من المعاصي والمُوبقات، وأن يعمل لاتِّباع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويجتنب الابتداع، فالخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع. وليلزم التقوى فإنَّها العماد والسبب الأقوى، وهي وصية الله إلينا وإلى الأُمم من قبلنا، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]. واعلم يا أخي أنَّ جُمَاع الخير كله في تقوى الله عزَّ وجل واعتزال شرور الناس، ومن حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وقد قيل إنَّ العاقل لا ينبغي أن يُرى إلاَّ ساعيًا في تحصيل حسنة لمعاده أو دِرهم لمعاشه، فكيف به مع ذلك إذا كان مؤمنًا عالمًا بما أعدَّ الله له من ثواب وعقاب على الطاعة والمعصية. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّه أنْ يكون أعزَّ الناس فليتقِّ الله، ومن سَرَّه أنْ يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثقَ منه بما في يده، ومَنْ سَرَّه أنْ يكون أقوى الناس فليتوكَّل على الله" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه بهذا اللفظ الحاكم في المستدرك 4/ 270، وأبو نُعيم في الحلية =

وقال سيِّدنا عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه: مَنْ سَرَّه الغِنى بلا مال والعزّ بلا سلطان والكثرة بلا عشيرة فليخرج من ذُلِّ معصية الله إلى عِزِّ طاعته فإنه واجدٌ ذلك كله. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرني ربي بتسع: الِإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضاء، والقصد في الفقر والغنى، وأنْ أعفو عمن ظلمني، وأصل مَن قطعني، وأعطيَ مَنْ حرمني، وأن يكون نُطقي ذِكْرًا وصمتي فكرًا، ونظري عِبرة" (¬1). ومن كلام إمامنا الشافعي رضي الله عنه: مَنْ لم تعزَّه التقوى فلا عزَّ له. ورحم الله القائل: لكل شيء إذا ضيَّعتَه عِوضُ ... وليس لله إنْ ضَيَّعتَ مِن عوضِ والقائل: إذا أبقتِ الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليسَ بضائر ولا خير في حياة لا تُصرف في طاعة الله والعمل لما يرضيه. وواجب على أهل العلم أن يصدعوا بالحق، ويقودوا الناس إلى طريق الرشاد، ويقفوا في سبيل المنكرات والمفسدات، ويُحذِّروا الناس ¬

_ = 3/ 218 - 219، من حديث ابن عباس، وفي إسناده هشام بن زياد، قال الحافظ في تلخيص المستدرك: هشام متروك. والحديث ضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الِإحياء 4/ 244. (¬1) لم أقف عليه.

مما يضرهم ويهلكهم. ومن شِيَم العالِم أنْ يكون عارفًا بزمانه، مُقبلاً على شأنه وكلُّ من لا يشعر من نفسه في أي عمل كان أنَّه مرتبطٌ بأمةٍ يسعَدُ بسعادتها ويشقى بشقائها فهو إما مُفرِّط أو غَاشٌّ أو مقصر. وقد قال سيدنا عليّ كرَّم الله وجهه ورضي عنه: مَنْ قَصَّر في العمل ابتُلي بالهم (أي: الحسرة على فوات الثمرة)، ولا حاجة لله فيمن ليس لله في ماله ونفسه نصيب. وقال رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يُحسنه. وفقنا الله جميعًا لما فيه خير الأمة والعمل لما يصلحها ويرقيها، آمين، اللهم آمين. ووافق الفراغ من هذه الرسالة ضحى يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة عام ألف وثلاثمائة وسبعة وعشرين من الهجرة النبوية، والحمد لله بنعمته تتم الصالحات، وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليمًا كثيرًا (¬1). ¬

_ (¬1) تمت المقابلة على الأصل المطبوع في حياة المؤلف بقراءتي ومتابعة الأخ الشيخ أبي سالم مساعد العبد القادر، وذلك في الصحن المبارك تجاه الكعبة المشرفة بين صلاتي العصر والمغرب في يوم 21 من شهر المغفرة رمضان لسنة 1420 هـ. - وتمت المقابلة مرة ثانية بقراءة زوجتي أم محمَّد في منزلنا الصيفي ضحى يوم الاثنين 9 جمادى الآخرة سنة 1421 هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وكتبه رَمزي سَعد الدين دمشقية

§1/1