تحبير الوريقات بشرح الثلاثيات

وليد الصعيدي

المقدمة

تحبيرُ الوريقات بشرح الثلاثيات (شرح مختصر لثلاثيات البخارى رحمه الله) جمعُ وترتيبُ أبى وداعة وليد بن صبحى الصعيدى المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، قدم نبينا على كل نبىٍّ أرسله، وكتابنا على كل كتابٍ أنزله، وجعل أمتنا الأخيرة الأولة، فله الشكر من معتقِدٍ أنه به وله، لا غنى إلا فى طاعته، ولا عز إلا فى التذلل لعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، جل عن شريكٍ وولد، وعز عن الاحتياج لأحد، وتقدس عن نظيرٍ وانفرد، وعلم ما يكون، وأوجد ما كان، " فبأى آلاء ربكما تكذبان "، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله ... نبى صدقٍ هدت أنوار شرعته ... بعد العمى للهدى من كان عنيتا أحيا به الله قوماً قام سعدهم ... كما أمات به قوماً طواغيتا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71]

فهذه ثلاثيات البخارى، والذى علا فيها بسنده إلى النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -)، فهى كواكب أسانيده العالية (¬1)، وقد حظيت بالاهتمام من أهل العلم فى القديم والحديث حتى أفردوها بالتصنيف، ومن الطريف أن الثلاثيات فى الكتب الستة- خاصة (¬2) - ليس لها انتشار حيث أن أصحابها لم يتمكنوا من لقيا كبار الشيوخ، وقد كان أسنهم الإمام العلم الإمام البخارى، لذلك فإن مصنفه هو الذى احتوى على أكثر عدد من بين الكتب السته ففيه اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً، يليه فى العدد سنن ابن ماجة، فقد وقفت على ثلاثة أحاديث كلها من طريق جبارة ابن المغلس، ولم يصح منهم إلا واحد صححه الشيخ الألبانى، ثم تلا ذلك من كتب السنة سنن الترمذى ففيه حديثُ واحد. ثم ليس ثمت ثلاثيٍّ في بقية الستة. فليس عند مسلم ولا أبى داود ولا النسائى من ذلك شيء كما ذكر أبو العلا ¬

_ (¬1) السند الثلاثى: هو أن يكون بين الراوى وبين المروى عنه الكلام ثلاثة رواه، والمقصود هنا بينه وبين النبىّ، وللبخارى فى صحيحه أسانيد رباعية وخماسيه وسداسية، أما أعلى سند موجود فى الكتب التسعة فهو فى الموطأ؛ ففيه سند ثنائى، يقول الإمام مالك: حدثنى نافع عن ابن عمر عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، أما أطول سند وقع فى كتب السنة، هو السند العشارى، وهذا عند النسائى فى كتاب الصلاة، قال: أخبرنا محمد بن بشار أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا زائدة، عن منصور عن هلال، عن الربيع بن خثيم، عن عمرو بن ميمون، عن ابن أبى ليلى، عن امرأة أبى أيوب، عن أبى أيوب، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن " والحديث فيه ستة من التابعين أولهم منصور، وقد رواه الترمذى عن قتيبة ومحمد بن بشار بسند عُشارى أيضاً. (¬2) ففى غير الكتب الستة ثلاثيات بل ثنائيات كما فى موطأ الإمام مالك، وأما مسند الإمام أحمد فثلاثياته تزيد على ثلاثمائة حديث، وعند الدارمىِّ أكثر من البخارى.

المباركفورى فى تحفة الأحوذى. وقد مَنَّ الله علينا بسماع هذه الأحاديث بالسند المتصل إلى الإمام البخارى ثم بسنده إلى النبى (- صلى الله عليه وسلم -) وذلك عن فضيلة الشيخ وحيد عبد السلام بالى - حفظه الله - بدايةً، ثم عن فضيلة الشيخ صلاح عبد الموجود - حفظه الله - ولما كان المقصدُ من وراء العلم الفهم ثم تطبيق ما تعلمه العبد دون روايته فقط، لذلك لم يكن من المسَلَّم أن نكتفىَ برواية الأحاديث دون فهمٍ منا لما فيها من مسائل قَصَدها الشرعُ، وفى ذلك يقول السيوطى فى التدريب (¬1): " لا ينبغى للطالب أن يقتصر من الحديث على سماعه دون معرفته وفهمه فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل" ا. هـ ومن فعل ذلك كان كمن ينبذ الكتاب وراء ظهره. فأردت أن أقف لنفسى أولاً ولإخوانى بعد ذلك -لمن أراد -مع ما تحتويه هذه الأحاديث من ثمارٍ يانعة، ودررٍ لائحة، فإن الوحى نور، نستضيء به فى دياجير الشبهات والشبه، وأيضاً حتى لا نكون كمن أقام الحجة على نفسه، ثم إذا أقبلنا على الله سبحانه قيل لنا: " فبما كسبت أيديكم ". وإنما قمت بهذا العمل حفاظاً على مسموعاتى، وما تحملته من أمانة، مرةً بالنظر ومرةً بالترتيب، ومرةً باستخراج الفوائد، وحفزنى على هذا العمل سلفنا - رحمة الله عليهم - واهتمامهم بمروياتهم ومسموعاتهم، وكان آخر ما وقفت عليه ما سطره الحافظ ابن حجر فى جزءٍ لطيف له بعنوان: " الأحاديث العشرة الاختيارية العشارية الأسانيد " فقال رحمه الله: " وأما هذه الأحاديث، وإن كان فيها قصور عن مرتبة الصحاح، فقد تحريت فيها جهدي، وانتقيتها من مجموع ما عندي، وبينت علة كل حديث بعقبه، وأوضحت ما فيه للمنتبه " ا. هـ فقلت ليكن لى فيهم أسوة، وإن لم أبلغ قلامة ظُفر أحدهم، وكان هذا هو الداعى الأول، أما الداعى الثانى: ¬

_ (¬1) التدريب، 369

فإننا نتعلم لنعمل، ولا سبيل للعمل إلا بعد الفهم، قال عمرو بن قيس المُلائى كما فى الحلية: " إذا بلغك شيء من الخبر فاعمل به ولو مرة تكن من أهله " ثم نتعلم لنبلغ ولا نكتمه. قال النووى فى التقريب: " فإن كتمانه لؤمٌ يقع فيه جهلة الطلبة فيخاف على كاتمه عدم الانتفاع، فإن من بركة الحديث إفادته ونشره يُمْن " وقال الإمام مالك (¬1): " الناس في العلم اربعة: رجل علم فعمل به: فمثله في كتاب الله قوله تعالى: " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " (فاطر، 28) ورجل علم به ولم يُعَلِّمه: فمثله في كتاب الله: " إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ " (البقرة، 159) ورجل علم علماً وعلم ولم يعمل به: فمثله في كتاب الله: " إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا " (الفرقان، 44) " فوجب التعلم ثم الفهم ثم العمل ثم الدعوة إلى ما عَلِمناه بما تعلمناه، وكل ذلك ليس لنا إليه سبيل إلا بعد أن نقف على ما فى هذه الأحاديث من دروس وعبر. ولا أدعى فى ذلك أنى جئت بجديد، أو وقفت على ما لم يقف عليه أحد، ولا أدعى أنى انتحلت هذا من عندى، ولكنها ثمار اجتنيتها من بساتين القوم وليس لى فيها كبير جهد إلا الترتيب، فلا أنسب من ذلك شيء إلى نفسى، متذكراً كلام ابن المقفع فى الأدب الكبير (¬2): " إن سمعتَ من صاحبك كلاما أو رأيت منه رأيا يعجبك فلا تنتحله تزينا به عند الناس. واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته، وتنسبه إلى صاحبه. واعلم أن انتحالك ذلك مسخطةٌ لصاحبك، وأن فيه مع ذلك عارا وسخفا ". فأنا أربأ بنفسى عن السخافة والعار. ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض،59 (¬2) الأدب الكبير والصغير، 19

وعن العباس ابن محمد الدوري أنه سمع أبا عبيد القاسم بن سلام يقول (¬1): من شُكْر العلم ذكركُ الفائدة منسوبةً إلى من أفادك إياها أو كما قال. وقد جاء هذا الشرح فى ثلاثة أبواب: الباب الأول: مباحث بين يدى البحث كتوطئةً له. الباب الثانى: شرح الثلاثيات حسب مسند كل صحابىّ. الباب الثالث: روايات لها علاقة بالثلاثيات عند البخارى فى صحيحه وفى كتابه الأدب المفرد. ثم الخاتمة، سائلاً الله عز وجل أن يختم لنا بخير. وأختم المقدمة بما قاله ابن قتيبة فى عيون الأخبار، مهوناً عليك أن تسمع من مثلى أو تقرأ لمثلى، فالحكمة ضالة المؤمن نأخذها عمن فوقنا وعمن تحتنا: " لا تستنكف أن تأخذ عن الحديث سناً لحداثته، ولا عن الصغير قدرا لخساسته، ولا عن الأمَة الوكعاء (¬2) لجهلها، فضلا عن غيرها. فإن العلم ضالةُ المؤمن، من حيث أخذه نفعه، ولن يزري بالحق أن تسمعه من المشركين، ولا بالنصيحة أن تستنبط من الكاشحين (¬3)، ولا يضيرالحسناء أطمارها، ولا بنات الأصداف أصدافها، ولا الذهبَ الإبريزَ مخرجُه من كِبا، ومن ترك أخذ الحسن من موضع أضاع الفرصة، والفرص تمر مر السحاب". ويقول النووى أيضاً فى التقريب: " وليحذر كل الحذر من أن يمنعه الحياء والكبر من السعى التام فى التحصيل وأخذ العلم ممن دونه فى نسبٍ أو سنٍ أو غيره ". " واللهَ أسألُ أن يُلقيَ على هذه الوريقات قبولاً من القُلوبِ ويرزُقَها مَيلاً منَ النفوسِ وإنصاتا من الأسماعِ، وتَسييراً في البلادِ وأن يستنطقَ ألسنةَ من طرأتْ عليه من أفاضل المسلمين بالدعوةِ ¬

_ (¬1) ادب الخواص للوزير المغربى (¬2) قال الليث: الوَكَعُ مَيَلانٌ في صَدْر القدَم نحو الخِنْصِر وربما كان في إِبهام اليد وأَكثر ما يكون ذلك للإِماء اللواتي يَكْددْنَ في العمَل .. (اللسان) (¬3) والكاشِح: الذي يطوي على العداوة كَشْحَه، وقيل: الكاشح الذي يتباعد عنك.

الباب الأول

الطّيبةِ لمُنشئها، والتَرحمِ على جامعها والله تعالى مرَجوّ الإجابةْ. لمنْ يسألهُ منْ أهل الإنابةْ." الباب الأول مباحث مهمة بين يدى الكتاب المبحث الأول: الإسناد وقيمته فى الإسلام المبحث الثاني: بعض أخلاق طالب العلم المبحث الثالث: ترجمة البخارى -رحمه الله - المبحث الرابع: الثلاثيات بترتيبها فى صحيح البخارى المبحث الخامس: السند الذي وصلت لنا به الثلاثيات. المبحث السادس: المؤلفات حول الثلاثيات تمهيد وكانت هذه المباحث فى هذا الباب بين يدى الشرح تمهيداً وتوطئةً بين يديه، لتتأهل النفس وتستعد لما يتلى عليها، انطلاقاً من قول ابن الجوزى فى صيد الخاطر: " إنما الصواب توطئة المضجع قبل النوم ". ثم إنه كان ولا بد أن نقدم بين يدى هذا الشرح كلاماً عن قيمة الإسناد فى الإسلام، ومدى اهتمام أهل العلم بذلك، وتوخيهم الصحة والضبط لأن الأمر أمر دين، فكان المبحث الأول: " قيمة الإسناد فى الإسلام ". وأيضا توجيه بعض النصائح التربوية لى ولطلبة العلم، فكان المبحث الثانى: " بعض آداب طالب العلم ". ثم ترجمة لإمامنا وفقيه هذه الأمة ومحدثها الإمام البخارى رحمه الله، فكان مبحث: " ترجمة البخارى". ثم لما كان الشرح لم يرتبط بترتيب البخارى رأيت أن أسرد هذه الأحاديث سردا بترتيبها فى صحيح البخارى وكما قُرِئت على المشايخ، ثم أردفتها بذكر السند الذى وصلت لنا الثلاثيات به. ثم لتتم الفائدة فكان من الواجب ذكر المؤلفات حول هذا الموضوع والتى صنفها أهل العلم، ليقف عليها من يريد الاستزادة ومعظم هذه الشروح وللأسف مازالت مخطوطة ولم تخرج للنور، قيد الله لها من يخرجها. والله من وراء القصد، ونسأله أن يرزقنا الإخلاص فى القول والعمل، وما قل وكفي خير مما أكثر وألهى. المبحث الأول قيمة الإسناد فى الإسلام مدى الاهتمام بمعرفة الرواة:

نقل مسلم فى مقدمة صحيحه (¬1) جملة من كلام أهل العلم بسنده عن قيمة الإسناد والنهى عن الرواية عن الضعفاء، وكذلك ابن عبد البر فى بداية التمهيد (¬2) كثيراً من ذلك عن الصحابة والتابعين حول قيمة هذا الأمر، ومدى الإهتمام به، ومن ذلك: * قال أبو هريرة: " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه " * وعن شعيب بن الحبحاب قال غدوت إلى أنس بن مالك، فقال: يا شعيب ما غدا بك؟ فقلت: يا أبا حمزة غدوت لأتعلم منك، وألتمس ما ينفعني فقال يا شعيب: إن هذا العلم دين فانظر ممن تأخذه. وقال النووي فى التقريب: " الإسناد خصيصة لهذه الأمة، وسنة بالغة مؤكدة " وعن عامر بن سعد أن عقبة بن نافع قال لبنيه، وثبت أيضاً عن صهيب: " يا بَنيَِّ لا تقبلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من ثقة " * وقال ابن عون: لا تأخذوا العلم إلا ممن شهد له بالطلب. * وعن ابن سيرين قال: إنما هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه. * وعن سليمان بن موسى قال: لا يؤخذ العلم من صُحُفِي. * وعن المغيرة عن إبراهيم قال: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. قال المغيرة: " كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى سمته وصلاته ". * وقد روى جماعة عن هُشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: " كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى هديه وسمته وصلاته ثم أخذوا عنه ". * وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: سألت شعبة وابن المبارك والثوري ومالك بن أنس عن الرجل يتهم بالكذب فقالوا: انشره فانه دين. * وعن حماد بن زيد أنه قال: كلمنا شعبة في أن يكف عن أبان ابن أبي عياش لسِنِّهِ وأهل بيته، فقال لي: " يا أبا إسماعيل لا يحل الكف عنه لأن الأمر دين ". ¬

_ (¬1) مقدمة مسلم، 69: 114 (¬2) التمهيد، حـ1 (45، ..... )

* وعن الربيع بن خثيم قال: " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير " عشر مرات، كان له كعتق رقاب أو رقبة، قال الشعبي: فقلت للربيع بن خثيم: من حدثك بهذا الحديث فقال عمرو بن ميمون الأودى فلقيت عمرو بن ميمون فقلت من حدثك بهذا الحديث فقال عبد الرحمن بن أبي ليلى فلقيت ابن أبي ليلى فقلت من حدثك؟ قال أبو أيوب الأنصاري؛ صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فعلى هذا كان الناس على البحث عن الإسناد وما زال الناس يرسلون الأحاديث ولكن النفسَ أسكنُ عند الإسناد وأشدُ طمأنينة. * وعن نصر بن حماد يعني الوراق قال: كنا قعودا على باب شعبة نتذاكر الحديث فقلت: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني قال:

" كنا نتناوب رعية الإبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت ذات يوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - حوله أصحابه فسمعته يقول: من توضأ ثم صلى ركعتين ثم استغفر الله غفر له. قلت: بخ بخ قال فجذبني رجل من خلف، فالتفت، فإذا عمر بن الخطاب فقال ما لك تبخبخ؟! فقلت عجبا بها، قال: لو سمعت التي قبلها كانت أعجب وأعجب، قلت: وما قال؟ قال: قال - صلى الله عليه وسلم - " من شهد أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله قيل له ادخل من أي أبواب الجنة شئت " قال: قال نصر: فخرج علينا شعبةُ فلطمني ثم رجع، فدخل، قال: فتنحيت ناحية أبكي، ثم خرج، فقال: ما له بعدُ يبكي؟! فقال له عبد الله بن إدريس: " إنك أسأت إليه " قال: انظر ما يُحَدِّث به عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنا قلت لأبي إسحاق من حدثك؟ قال: حدثنا عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت لأبي إسحاق: أو سمع عبد الله من عقبة؟! قال فغضب، ومسعر بن كدام حاضر، فقال لي مسعر: أغضبت الشيخ، فقلت: ليصححن هذا الحديث أو لأرمين بحديثه، فقال لي مسعر: " هذا عبد الله بن عطاء بمكة"، قال شعبة: فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، قال شعبة: فلقيت مالك بن أنس فسألته عن سعد فقال: سعد بن إبراهيم بالمدينة لم يحج العام، فرحلت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم بالمدينة فسألته، فقال: الحديث من عندكم؛ حدثني زياد بن مخراق، قال شعبة: فلما ذكر زياد بن مخراق قلت: أي شيء هذا! بينما هو كوفي إذ صار مدنيا إذ صار بصريا، قال شعبة فرحلت إلى البصرة فلقيت زياد بن مخراق فسألته، فقال: ليس الحديث من بانتك (كذا) فقلت حدثني به، قال: لا ترده، قلت: حدثني به، قال: حدثني شهر بن حوشب، قلت ومن لي بهذا الحديث لو صح لي مثل هذا عن رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - كان أحب إليَّ من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين " طلب السند العالى للسند العالى قيمةٌ عظيمةٌ عند العلماء، فقد كانوا يبحثون عنه ويحرصون عليه ويسافرون من أجله. قال النووى فى التقريب: " وطلب العلو فيه سنة، ولهذا استُحبَّت الرحلة " وقال السيوطى فى التدريب (¬1): قال أحمد بن حنبل: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف لأن أصحاب عبد الله كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة فيتعلمون من عمر ويسمعون منه ". وقال محمد بن أسلم الطوسي: " قرب الإسناد قُربُ -أو قربةٌ- إلى الله ". وقال العلائى: " لا ريب في اتفاق أئمة الحديث قديما وحديثا على الرحلة إلى من عنده الإسناد العالي".وقد ذموا النزول فى الإسناد، فقال ابن المدينى: " النزول شؤم ". وقال ابن معين: " الإسناد النازل قرحةٌ فى الوجه ". ولكن السند العالى يجب أن يكون عن الرجال العدول، فإن روى الحديث بعلوٍ عن جاهلٍ أوضعيف فليس بعالٍ، أما أن يروى نفس الحديث بنزول ورجاله ثقات فهو العالى. لذلك قال ابن المبارك: " ليس جودة الحديث قُرْْبَ الإسناد، بل جودة الحديث صحة الرجال" وقال السِّلفي (¬2): " الأصل الأخذ عن العلماء فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة على مذهب المحققين من النقلة، والنازل حينئذ هو العالي في المعنى عند النظر والتحقيق، قال ابن الصلاح ليس هذا من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث وإنما هو علو من حيث المعنى ".ا. هـ وقال بعضهم فى ذلك (¬3): ان النزول اذا ما كان عن ثبت ... اعلى لكم من علو غير ذي ثبت وقد جمعت ثلاثيات البخارى هذه بين قرب الإسناد وجودة الرجال. أمثلة من رحلاتهم. الرحلة كانت المصدر الوحيد فى الحصول على العلم، حتى أن بعض أهل العلم كان لا يعُد الذى لا رحلة له من العلماء. ¬

_ (¬1) تدريب الراوى، 387 (¬2) السابق، 387 (¬3) الجامع لأخلاق الراوى والسامع، حـ1، 124

وسأل عبدُ الله بن أحمد أباه عمن طلب العلم: ترى له أن يلزم رجلاً عنده علم فيكتب عنه أو ترى له أن يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع منهم؟ قال يرحل يكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة، يسأم الناس لسماعه منهم. ومن الرحلات ما يلى: فى عهد الأنبياء: ومن أشهر ذلك فى القرآن رحلة موسى للخضر - عليهما السلام - فقد ذكر لنا القرآن الكريم هذه القصة بطولها، لنعلم أن الكل يحتاج إلى التعلم حتى الأنبياء أنفسهم. فى عهد الصحابة: ومن أشهرها أيضاً وهي العمدة فى هذا الباب، رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس. قال: بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أسمعه، فابتعت بعيراً، فشددت عليه رحلي وسرت شهراً حتى قدمت الشام، فأتيت عبدَ الله بن أنيس فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فأتاه، فقال له: جابر بن عبد الله؟ فأتاني، فقال لي: جابر؟ فقلت: نعم، فرجع فأخبره فقام يطأطئ ثوبه حتى لقيني فاعتنقني واعتنقته، فقلت حديث بلغني عنك سمعتَه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القصاص لم أسمعه، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن اسمعه فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يحشر الله العباد أو قال الناس عراة غرلا بُهما "، قلنا: ما بهما؟ قال ليس معهم شيء، ثم يناديهم ربهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قرب: " أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا أحد من أهل النار عنده مظلمة حتى أقصه منه حتى اللطمة، قلنا: كيف وإنما نأتي الله عراة غرلا بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات. وفى عهود السلف: نقل ابن عبد البر (¬1) بعض كلام أهل العلم فى ذلك فقال: قال سعيد بن المسيب: " إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد ". ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله - 141،142

وعن صالح ابن صالح الهمدانى قال: حدثنا الشعبي بحديث ثم قال لي: أعطيتكه بغير شيء وإن كان الراكب ليركب إلى المدينة فيما دونه. وعن بسر بن عبيد الله الحضرمي قال: " إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه ". وقال الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة ما رأيت سفره ضاع " ا. هـ رحلة يوسف الشيرازى وأبو الوقت (¬1): قال يوسف بن أحمد الشيرازي في " أربعين البلدان " له: لما رحلت إلى شيخنا رحلة الدنيا ومسند العصر أبي الوقت، قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان، فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع إليّ من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي، لأدرك بركة أنفاسك، وأحظى بعلو إسنادك. فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له، وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حق معرفتي، لما سلمت علي، ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاءً طويلاً، وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، واجعل تحت الستر ما ترضى به عنا، يا ولدي، تعلم أني رحلت أيضا لسماع " الصحيح " ماشيا مع والدي من هراة إلى الداوودي ببوشنج ولي دون عشر سنين، فكان والدي يضع على يدي حجرين، ويقول: احملهما. فكنت من خوفه أحفظهما بيدي، وأمشي وهو يتأملني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي حجراً واحدا، فألقي، ويخف عني، فأمشي إلى أن يتبين له تعبي، فيقول لي: هل عييت؟ فأخافه، وأقول: لا. فيقول: لم تقصر في المشي؟ فأسرع بين يديه ساعة، ثم أعجز، فيأخذ الآخر، فيلقيه، فأمشي حتى أعطب، فحينئذ كان يأخذني ويحملني، وكنا نلتقي جماعة الفلاحين وغيرهم، فيقولون: يا شيخ عيس ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج، فيقول: ¬

_ (¬1) سيرأعلام النبلاء، حـ 15، 103

" معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل نمشي، وإذا عجز أركبته على رأسي إجلالاً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجاء ثوابه. فكان ثمرة ذلك من حسن نيته أني انتفعت بسماع هذا الكتاب وغيره، ولم يبق من أقراني أحد سواي حتى صارت الوفود ترحل إلي من الأمصار. ومن الأمثلة ما ذُكر سابقاً عن رحلة شعبة بن الحجاج فى حديث الوضوء، فيا لها من همم، ويا لهم من رجال استخدمهم ربهم لحمل هذه الأمانة فرحمة الله على الجميع. قيمة الإسناد فى الدين (¬1): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " (¬2). وروى الحاكم وغيره عن مطر الوراق فى قوله تعالى: " أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" قال: إسناد الحديث. قال سفيان بن عيينة (¬3): " حدث الزهرى يوماً بحديث، فقلت: هاته بلا إسناد، فقال الزهرى: " أترقى السطح بلا سلم ". * وعن الحسين بن الحسن المروزي قال سمعت ابن المبارك يقول: " لولا الإسناد لقال كل من شاء ما شاء ولكن إذا قيل له عن مَن بقي ". * وعن أحمد بن حنبل يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: الإسناد من الدين ". * قال يحيى وسمعت شعبة يقول: " إنما يعلم صحة الحديث بصحة الإسناد ". * والأوزاعي قال: " ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد ". * وقال ابن عون: كان الحسن يحدثنا بأحاديث لو كان يسندها كان أحب إلينا. وقال السيوطى فى التدريب (¬4): " قال ابن حزمٍ: نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الإتصال ¬

_ (¬1) 1 التمهيد، حـ1، 57 (¬2) رواه البيهقىُّ، وصححه الألبانى كما فى مشكاة المصابيح (رقم 248) (¬3) تدريب الراوى، 378 (¬4) السابق، 377

المبحث الثانى

خص الله به المسلمين دون سائر الملل، وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود، لكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد - صلى الله عليه وسلم - بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه. قال: وأما النصاري فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق فقط وأما النقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود والنصارى، قال: وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبىٍّ أصلاً، ولا إلى تابع له، ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص " ا. هـ حراسة حدود السنة (¬1) * قال عبد الرحمن بن مهدي لابن المبارك أما تخشى على هذا الحديث أن يفسدوه؟ قال: " كلا فأين جهابذته ". * وعن عبدة بن سليمان المروزي قال: قلت لابن المبارك: أما تخشى على العلم أن يجيء المبتدع فيزيد في الحديث ما ليس منه؟ قال: لا أخشى هذا بعيش الجهابذة النقاد. المبحث الثانى بعض أخلاق طالب العلم طالب العلم ليس كغيره من الناس لذلك كان لابد له مع نفسه وقفات، يزكيها ويطهرها لتتأهل لهذا النور الذى ستسعى فيه فى الدنيا والآخرة، ويستضيء به الفئام من الناس، وقد أكثر أهل العلم عن الحديث فى هذا الجانب المهم، ومنهم من أفرد فيه مؤلفات، لذلك فقد أحببت أن أُُذََِّكِّر ببعض ما ذكره أهل العلم من هذه الأخلاقيات، وليس كل الأخلاقيات، وكان ذلك لأنى رأيت أن هذا الشرح سيقع فى يد من يُرجى منهم الخير، ويكونوا أسوةً لمن بعدهم، فأردت أن لا أحرم نفسى من التذكير بهذا الشأن من منطلق قول الله تعالى " وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ " (الذاريات، 55) ونرجوا من الله القبول والثواب والهداية .. *********** وأول ما يحتاج إليه طالب العلم وغيره ونفتقده فى هذه الأيام هو: الأدب: ¬

_ (¬1) التمهيد، حـ1، 60

فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ". وقال الحسن: "إن كان الرجل ليخرج في أدب واحدٍ السنةَ والسنتين". وقال الإمام مالك رحمه الله: كانت أمي تعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه. وقد أشرف الليث بن سعد على بعض أصحاب الحديث فرأى منهم شيئا كرهه فقال: ما هذا؟! أنتم إلى يسير من الأدب، أحوج منكم إلى كثير من العلم! وقال سفيان الثوري: "كانوا لايخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة " وقال ابن المبارك: "طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم". وقال أيضا: "كاد الأدب أن يكون ثلثي العلم". وفى وصية عبد الملك بن مروان لمؤدب أبنائه، كى يؤدبهم عيها قال: " واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب ". وقال الخطيب البغدادى (¬1): " والواجب أن يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدباً وأشد الخَلْق تواضعاً وأعظمهم نزاهة وتديناً وأقلهم طيشاً وغضباً، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآدابه، وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه، وطرائق المحدثين ومآثر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها ويصدفوا عن أرذلها وأدونها ". ثم روى عن أبي عاصم أنه قال: " من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا فيجب أن يكون خير الناس". وقال أبو عبد الله البوشنجى (¬2): من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله. وقال أبو عبيد بن سلام (¬3): " مادققت على محدثٍ بابه قط، لقول الله تعالى: " " وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا " وقال ابو زكريا العنبري (¬4): ¬

_ (¬1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1/ 78 (¬2) تهذيب الكمال، حـ15 (ترجمة البوشنجى) (¬3) تدريب الراوى للخطيب، 366 (¬4) تدريب الراوى للخطيب، حـ1، 80

" علم بلا أدب كنار بلا حطب وأدب بلا علم كروح بلا جسم، وانما شبهت العلم بالنار لما روينا عن سفيان بن عيينة انه قال: ما وجدت للعلم شبها الا النار نقتبس منها ولا ننتقص عنها. " وقال شيخنا الشيخ الحوينى معلقاً على هذه الرواية فى شرحه لكتاب العلم من صحيح البخارى: " وهذا معناه: أن الأدب هو وقود العلم، ومعناه أيضاً: أن العلم لا يصل إلا بأدب. وخلاصة الكلام: العلم لا يصل إلا بحكمة." وقال مرةً: " وهذا يعني أن المرء إذا كان خلواً من الأدب فلا ينتفع في نفسه بعلمه، ولا ينفع غيره." وقال الشيخ سلمان العودة معلقاً على هذا الأثر: " علم بلا أدب كنار بلا حطب" فمعناه والله أعلم: أن العلم يقتبس منه فلا ينقص، مثل النار الذي يوضع عليها الحطب يقتبس الناس منها فلا تنقص، فالعلم الذي ليس معه أدب هو كالنار التي ليس معها حطب، وما هو مصير النار إذا لم يكن معها حطب؟ أن تخبو وتنطفئ، وكذلك طالب العلم إذا لم يتحل بالأدب والخلق الحسن، فسرعان ما يعرض عن العلم ويشتغل بالدنيا. وروى الإمام الدارمي في سننه أن الحسن البصري -رحمه الله- تكلم في مسألة من مسائل الفقه في مجلس من المجالس، فقال له رجل اسمه عمران المنقري: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء! كأنه رأى أن ما قرره الحسن البصري مخالف لما يقرره أهل العلم والفقه فقال له الحسن البصري: " وهل رأيت فقيهاً قط- أي هل سبق أنك رأيت فقيهاً في حياتك- إنما الفقيه: العالم بأمر الله، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المداوم على عبادة ربه تبارك وتعالى "، فهكذا كانوا يفهمون العلم، وكانت حياتهم تطبيقاً لهذا الفهم." ا-هـ وقال أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري أنشدنا أبو حاتم سهل بن محمد (¬1): إن الجواهر درها ونضارها ... هن الفدى لجواهر الآداب فإذا كثرت أو ادخرت ذخيرة تسمو بزينتها على الأصحاب ¬

_ (¬1) أدب الاملاء والاستملاء، للسمعانى، حـ1، 2

فعليك بالأدب المزين أهله كيما تفوز ببهجة وثواب * ومن جملة الآداب ما ذكره عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده قال: " علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس رِعَة (¬1)، وأحسنهم أدبا، وجنبهم السفلة والخدم، فإنهم أسوأ الناس رِعَة وأسوأهم أدبا، ومرهم فليستاكوا عرضا، وليمصوا الماء مصا، ولا يعبوه عبا، ووقرهم في العلانية، وذللهم في السر، واضربهم على الكذب، إذ الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار، وجنبهم شتم أعراض الرجال، فإن الحر لا يجد من عرضه عوضا، وإذا ولوا أمرا فامنعهم من ضرب الأبشار، فإنه عار باق، ووتر مطلوب، واحملهم على صلة الأرحام، واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب ". ثانياً: إجلال المشايخ والأقران والتواضع لهم: عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه " (¬2) ويقول النووى فى التقريب: " وينبغى أن يعظم شيخه ومن يسمع منه، فذلك من إجلال العلم وأسباب الانتفاع، ويعتقد جلالة شيخه ورجحانه ويتحرى رضاه " ومن أشهر ما يروى فى ذلك ما ذكره ابن عباس - رضي الله عنه - عن نفسه قال: " وجدت عامة علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الحي من الأنصار فإن كنت لآتي باب أحدهم فأقيل ببابه ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأذن لي لقرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن كنت أبتغي بذلك طيب نفسه". ¬

_ (¬1) ورُعَ ورُوعاً ووراعة وتَوَرَّعَ والاسم الرِّعةُ، ويقال فلان سَيءُ الرِّعةِ أَي قليل الورَعِ، وقال الأَصمعي: الرِّعةُ الهَدْيُ وحُسْنُ الهيئةِ أَو سُوء الهيئة. (اللسان، حـ8،388) (¬2) رواه الإمام أحمد بسند حسن، وحسنه الألبانىُّ فى صحيح الترغيب

وما قاله أبو عبيد سابقاً هو من اٌلإجلال أيضا، قال: " ما دققت على محدثٍ بابه قط " فيا له من أدب. وقال أبو الحسين ابن العالى (¬1): سمعت منصور بن العباس يقول: صح عندى أن اليوم الذى توفى فيه أبو عبد الله البوشنجى بنيسابور، سُئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن مسألة، وكان شيع جنازته، فقال: لا أفتى حتى نواريه لحده. وذكر الذهبىُّ (¬2): أن أبا عبد الله البوشنجىِّ دخل علي أصحاب داود بن علىِّ يوما، وجلس في أخريات الناس، ثم إنه تكلم مع داود، فأعجب به، وقال: لعلك أبو عبد الله البوشنجي؟ قال: نعم فقام إليه، وأجلسه إلى جنبه، وقال: " قد حضركم من يفيد ولا يستفيد ". وقال أبو زكريا العنبري: شهدت جنازة الحسين القباني، فصلى بنا عليه أبو عبد الله البوشنجي، فلما أرادوا الانصراف، قدمت دابة أبي عبد الله البوشنجىِّ، وأخذ أبو عمرو الخفاف بلجامه، وأخذ إمام الأئمة بركابه، وأبو بكر الجارودي، وإبراهيم بن أبي طالب يسويان عليه ثيابه، فلم يمنع واحدا منهم، ومضى. ا. هـ وسئل عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبي بكر بن خزيمة، فقال: " ويحكم! هو يُسأل عنا، ولا نُسأل عنه! هو إمام يقتدى به ". ثالثاً: الإعتراف بعدم إحاطته بطرق العلم كلها، وعدم انتقاص الآخرين بمثل ذلك: قال ابن عبد البر فى التمهيد (¬3):- مدافعاً عن العلماء الذين وقع لهم بعض الأخطاء فى العلم - ¬

_ (¬1) تهذيب الكمال، حـ15، ترجمة البوشنجى (5025) (¬2) السير، حـ 10، 549 (ترجمة البوشنجى) (¬3) التمهيد، ابن عبد البر، حـ8، 69

" وأخبار الآحاد عند العلماء من علم الخاصة لا ينكر على أحد جهل بعضها والإحاطة بها ممتنعة، وما أعلم أحدا من أئمة الأمصار مع بحثهم وجمعهم إلا وقد فاته شيء من السنن المروية من طريق الآحاد وحسبك بعمر بن الخطاب فقد فاته من هذا الضرب أحاديث فيها سنن ذوات عدد من رواية مالك في الموطأ، ومن رواية غيره أيضا، وليس ذلك بضار له ولا ناقص من منزلته، وكذلك سائر الأئمة لا يقدح في أمانتهم ما فاتهم من إحصاء السنن إذ ذاك يسير في جنب كثير ولو لم يجز للعالم أن يفتي ولا أن يتكلم في العلم حتى يحيط بجميع السنن ما جاز ذلك لأحد أبدا، وإذا علم العالم أعظم السنن وكان ذا فهم ومعرفة بالقرآن واختلاف من قبله من العلماء جاز له القول بالفتوى .. وبالله التوفيق. وقيل للإمام مالك: العالم يخطىء. فقال: الذي دل عليه من الخير أكثر، ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟! ولو لم يأمر بالمعروف إلا من ليس فيه شيء ما أمر أحداً. رابعاً: الدفاع والذب عن العلماء: فى " الميزان ": قال ابن معين: وجدت بخط مروان بن معاوية الفزارى - شيخ الإمام أحمد، وابن معين- " وكيع رافضى "، فقلت له: وكيع خير منك، فسبني. وليكن حاديك فى ذلك دائماً، قول الشاعر: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا ما اجتمعنا في المجالس للفخر خامساً: الاهتمام والتصحيح وعدم اللحن: قال ابن كثير -رحمه الله- " ينبغى لطالب الحديث أن يكون عارفاً بالعربية. وقال الأصمعى: " أخشى عليه إذا لم يعرف العربية أن يدخل فى قوله: " من كذب علىّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" " وعن عياش بن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: " جاء الدَّراورْدِى - يعنى عبد العزيز بن محمد - إلى أبى يعرض عليه الحديث، فجعل يقرأ ويلحن لحناً منكراً فقال له أبى: ويحك يا دراوردى أنت كنت بإقامة لسانك قبل هذا الشأن أحرى ". (¬1) ¬

_ (¬1) مراتب طلب العلم وطرق تحصيله، للشيخ رسلان، 109

وعن حاجب بن سليمان قال: " سمعت وكيعاً يقول أتيت الأعمش أسمع منه الحديث، وكنت ربمالحنتُ، فقال لى: يا أبا سفيان تركت ما هو أولى بك من الحديث فقلت: يا أبا محمد، وأي شيء أولى بى من الحديث؟ فقال النحو. فأملى علىَّ الأعمشُ النحوَ، ثم أملى علىَّ الحديث." (¬1) سادساً: العمل بالعلم وعدم كتمانه: إذا ما لم يفدْك العلمُ خيرا ... فخير منه أن لو قد جهلتا وإن ألقاك فهمُك في مهاو ... فليتك ثم ليتك ما فهمتا أما عن العمل بالعلم فقد قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ " والمعنى كما قال السعدى -رحمه الله- بتصرف- اعملوا بمقتضى علمكم، يعطكم علما وهدى ونورا تمشون به في ظلمات الجهل، ويغفر لكم السيئات. وعن أبى برزة كما فى صحيح الترغيب والترهيب (¬2) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مثل الذى يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضئ على الناس وتحرق نفسها ". وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: " ويلٌ لمن لا يعلم ولا يعمل مرة وويلٌ لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات " وقال بشر الحافي: " يا أصحاب الحديث أدوا زكاة هذا الحديث اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث " وقال عمرو بن قيس الملائي: " إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله " وقال وكيع: " إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به " وقال إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع: " كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به " وقال أحمد بن حنبل: " ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به حتى مر بي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأعطى أبا شيبة ديناراً فاحتجمت وأعطيت الحجام دينارا ". ¬

_ (¬1) مراتب طلب العلم وطرق تحصيله، 109 (¬2) (صحيح لغيره) كتاب العلم، باب الترهيب من أن يعلم ولا يعمل بعلمه ويقول ولا يفعله / 130

وأما عن تبليغه فقد قال ابن المبارك: " من بخل بالعلم ابتلي بثلاث إما أن يموت فيذهب علمه أو ينسى أو يتبع السلطان " وقال سفيان الثوري: " من بخل بالعلم ابتلى بإحدى ثلاث أن ينساه أو يموت ولا ينتفع به أو تذهب كتبه " وقال ابن معين وبن راهويه: " من بخل بالحديث وكتم على الناس سماعهم لم يفلح ". وقال مطرف (¬1): " وكان مالك إذا ودعه أحد من طلبة العلم عنده، يقول لهم: اتقوا الله في هذا العلم ولا تنزلوا به دار مضيعة، وبثوه ولا تكتموه. وقال ابن القاسم: كنا إذا ودعنا مالكاً يقول: اتقوا الله وانشروا هذا العلم وعلموه ولا تكتموه. سابعاً: أخذ العلم عن أهله، والتواضع لهم وإن كنتَ أسن منهم. ومن ذلك ما رواه البخارى فى كتاب الحدود من حديث ابن عباس قال: "كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف .... الحديث " وانظر مَن ابن عباس سناً وأين كان ابن عباس أثناء تضحيات ابن عوف فى أول أمر الإسلام، ولم يمنعه من ذلك الجلوس بين يدى ابن عباس، يقول ابن الجوزى معلقاً على هذا الحديث: " أما إقراء ابن عباس لمثل عبد الرحمن بن عوف ففيه تنبيه على أخذ العلم من أهله وإن صغرت أسنانهم أو قلت أقدارهم. وقد كان حكيم ابن حزام يقرأ على معاذ بن جبل فقيل له: تقرأ على هذا الغلام الخزرجي فقال إنما أهلكَنا التكبر " (¬2) وقد سبق من ذلك ما ذكرته فى المقدمة من كلام النووى فى التقريب: " وليحذر كل الحذر من أن يمنعه الحياء والكبر من السعى التام فى التحصيل وأخذ العلم ممن دونه فى نسبٍ أو سنٍ أو غيره ". ثامناً: الإكثار من مجالسة أهل العلم؛ أهل الآخرة. ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك، 58 (¬2) كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزى، حـ1، 41

قال خالد بن حميد (¬1): سمعت الإمام مالك يقول: " عليك بمجالسة من يزيد في علمك قوله، ويدعوك لحال الآخرة فعلُه، وإياك ومجالسة من يعلك قوله، ويعيبك دينه ويدعوك إلى الدنيا فعله. وقال محذراً من مجالسة أهل البدع: " التقرب من أهل الباطل هلكة ". وقال ابن المقفع فى الأدب الصغير (¬2): " وعلى العاقل أن لا يخادن ولا يُصاحبَ ولا يجاورَ من الناس، ما استطاعَ، إلا ذا فضلٍ في العلم والدينِ والأخلاقِ فيأخذُ عنهُ، أو موافقاً لهُ على إصلاحِ ذلك فيؤيدُ ما عندهُ، وإن لم يكن لهُ عليهِ فضلٌ. فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمى إلا بالموافقين والمؤيدين. وليس لذي الفضلِ قريبٌ ولا حميمٌ أقربُ إليهِ ممن وافقهُ على صالحِ الخصال فزادهُ وثبتهُ. ولذلك زعم بعضُ الأولينَ أن صُحبةَ بليدٍ نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبةِ لبيبٍ نشأ مع الجهال " ا. هـ وليكن جلوسك للفائدة، فلتسمع أكثر مما تتكلم، يقول ابن المقفع: " وليعرف العلماء حين تجالسهم أنك على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ". تاسعاً: إذا تحملت علماً لا تضعه عند غير أهله. ودليل ذلك ما قاله عبد الرحمن ابن عوف لعمر بن الخطاب كما فى حديث أنس السابق لما أراد عمر أن يحذر الناس من أناس تكلموا بما لا يجوز فقال له ابن عوف (¬3): " يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم - أى موسم الحج- يجمع رعاع الناس وغوغاءهم فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها ... " ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك، 58 (¬2) الأدب الكبير والأدب الصغير، 3 (¬3) البخارى (6830) باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت

قال ابن الجوزى معلقاً على الحديث (¬1): وفي هذا تنبيه على ألا يودع العلم عند غير أهله ولا يحدَّث القليل الفهم بما لا يحتمله فهمه ومن هذا المعنى قال الشافعي: أأنثر دراً بين سارحة النعم أأنظم منثورا لراعية الغنمْ لئن سلم الله الكريم بفضله وصادفتُ أهلا للعلوم وللحكمْ بثثت مفيداً واستفدت ودادَهم وإلا فمخزونٌ لدي ومكتتمْ ومن منح الجهالَ علماً أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلمْ. وقال ابن المقفع فى الأدب (¬2): " اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع. فإنه ليس في كل حِين يحسنُ كلُ صواب، وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع. فإن أخطأك ذلك أَدخلتَ المحنة على عقلك وقولك، حتى تأتي به إن أتيت به في غير موضعه وهو لا بهاء ولا طلاوة له ". عاشراً: أن لا تتكلم إلا بما علمت وعقلت وفهمت، لئلا تقع فى الكذب على الله ورسوله. قال - صلى الله عليه وسلم -:" من يقل علىَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ". وفى حديث أنس السابق قال عمر - رضي الله عنه - فى خطبته: " فإني قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب عليَّ ... الحديث " ففى هذين الحديثين تهويل للقول بغير علم، فإنه محرم. وقال الإمام مالك لابن وهب: " اتق الله واقتصر على علمك فإنه لم يقتصر أحدٌ على علمه إلا نفع وانتفع ". وقال سعيد بن جبير: " قد أحسن من انتهى إلى ماسمع " الحادى عشر: قلة الكلام. وكان الإمام مالك يكره كثرة الكلام ويعيبه، قال وقد ذُكر الكلام ومراجعة الناس: " من صنع هذا ذهب بهاؤه "، وقال: " لا يوجد إلا في النساء والضعفاء ". وكان يقال: " نعم الرجل فلان إلا أنه يتكلم كلام شهر في يوم ". ¬

_ (¬1) كشف المشكل، 41 (¬2) الأدب الكبير والأدب الصغير، 20

المبحث الثالث

وكقول ابن المقفع السابق: ": " وليعرف العلماء حين تجالسهم أنك على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ". الثانى عشر: ومن النصائح والآداب أن تتعلم ما الذى تبذله وما الذى تضن به. قال ابن المقفع (¬1): " ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، ولعدوك عدلك وإنصافك، واضنن بدينك وعرضك على كل أحد ". وهذه جملة من الأخلاق ووصايا قيمة من الإمام مالك أسرُدها سرداً، علنا ننتفع بها: قال رحمه الله (¬2): * لا تستحي إذا دعيت لأمر ليس بحق أن تقول قال الله تعالى في كتابه: " وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ" * وطهر ثيابك وأنقها عن معاصي الله. *وعليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتق رذائلها وما سفسف منها، فإن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفافها، وأكثر تلاوة القرآن، واجتهد أن لا تأتي عليك ساعة من ليل أو نهار إلا ولسانك رطب في ذكر الله. *ولا تمكن الناس من نفسك، واذهب حيث شئت. * وقال: ما أسر عبد سريرة خير إلا ألبسه الله رداءها، ولا أسر سريرة سوء إلا ألبسه الله رداءها. * وقال مالك للقعنبي: مهما تلاعبت بشيء فلا تلعبن بدينك. * من علم أن قوله من عمله قل كلامه، والقول من العمل. * لا يصلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه، فإذا كان كذلك أوشك أن يفتح الله في قلبه. * وفي رسالة إلى أبي قرة قال: " إني أرى الصواب في ترك تعلم المسائل التي قد ينتفع ببعضها إذا كان فيه من المضرة ما يخاف على صاحبها الخطأ والفتنة، فكيف بغيرها من المسائل، التي لا منفعة فيها". * وقال ابن المبارك سمعته يقول لا يصلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه، فإذا كان كذلك أوشك أن يفتح الله في قلبه. * وقال لبعض أصحابه لا تكثر الشخوص من بيتك إلا لأمر لا بد منه، ولا تجلس في مجلس لا تستفيد منه علماً. المبحث الثالث ترجمة الإمام البخارى (رحمه الله) ¬

_ (¬1) الأدب الكبير والأدب الصغير، 19 (¬2) ترتيب المدارك وتقريب المسالك، 58

لما كان هذا الكم من العلم المتعلق بصحيح البخارى فى ميزان حسنات البخارىِّ نفسه، كان ولا بد من ذكر ترجمة له بين يدى هذا العلم المنسوب له لنقف على بعض جوانب شخصية هذا الإمام الجبل، الذى ملأ الأرض بعلمه وفضله، فوقفت على ساحل ترجمته لألتقط لؤلؤةً من هنا ولؤلؤةً من هناك، وقد تحيرت فى ماذا آخذ وماذا أدع من هذا الكم من الفضائل والمواقف وكلام أهل العلم عنه، فكلها مختارة ... تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد. ولكن اكتفى بما يكون عنواناً لترجمته الطويلة العظيمة الموجودة فى بطون الكتب، ولكنها نسمات نتنسمها من ذكره العاطر الفياح، علنا نكون بذلك قد اقتربنا من حُبه عن طريق معرفتنا به، فإن الإنسان عدو ما يجهله، والمرء مع من أحب. فلتقف أيها القارىء أمام هذه النتف معظماً ومكْبرا، وها قد حان الأوان أن نطرق على الإمام بابه، فلنقف فى أدبٍ بين يديه ...... اسمه: هو أبو عبد الله البخاري؛ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدٍزْبَه وهي لفظة بخارية، معناها الزَّرّاع. كان جده المغيرة مجوسياً وأسلم، وطلب أبوه إسماعيل العلم، فروى عن حماد بن زيد، والإمام مالك، وصار من كبار المحدثين. وقال الحافظ فى هدى الساري: " مات إسماعيل ومحمد صغير، فنشأ فى حجر أمه "، وكانت أمه من الصالحات، فقد ذكر الذهبي فى ترجمة البخارى ما نصه (¬1): " ذهبت عينا محمد بن إسماعيل في صغره، فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال لها: يا هذه، قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك، أو كثرة دعائك - شك البلخي -، فأصبحنا وقد رد الله عليه بصره " مولده ولد الإمام البخارىُّ -رحمه الله - فى بخارى، من بلدان ما وراء النهر، وقد فتحت هذه الديار فى خلافة بنى أمية، وولد يوم الجمعة، بعد صلاة العصر لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، سنة أربعٍ وتسعين ومئة. بداية طلبه للعلم: ¬

_ (¬1) السير، حـ10، 80

فعن محمد بن أبى حاتم قال (¬1): قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك؟ قال: " ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب. فقلت: كم كان سنك؟ فقال: عشر سنين، أو أقل. ثم خرجت من الكتاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره. فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل. فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، وقال: صدقت. فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال ابن إحدى عشرة سنة. فلما طعنت في ست عشرة سنة، كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها! وتخلفت في طلب الحديث" (¬2) فلما طعنت في ثمان عشرة، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وذلك أيام عبيد الله بن موسى، وصنفت كتاب " التاريخ " إذ ذاك عند قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليالي المقمرة. وقل اسم في التاريخ إلا وله قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب " وكان نبوغه مبكراً: كان أهل المعرفة من البصريين يعدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه، ويجلسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوف، أكثرهم ممن يكتب عنه. وكان شابا لم يخرج وجهه وقال (¬3): دخلت على الحميدي وأنا ابن ثمان عشرة سنة، وبينه وبين آخر اختلاف في حديث، فلما بصر بي الحميدي قال: قد جاء من يفصل بيننا، فعرضا عليَّ، فقضيت للحميدي على من يخالفه وقال أبو بكر الأعين: كتبنا عن البخاري على باب محمد بن يوسف الفريابي، وما في وجهه شعرة فقلنا: ابن كم أنت؟ قال: ابن سبع عشرة سنة. وعن كتابه: قال البخارىُّ: أخرجت هذا الكتاب من زهاء ست مئة ألف حديث. ¬

_ (¬1) تهذيب الكمال، حـ16، 89 (¬2) السير، حـ10، 80 (¬3) السير، 84

وقال: ما وضعت في كتابي " الصحيح " حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين. وقال: " ما أدخلت في هذا الكتاب إلا ما صح، وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب " وقال: صنفت " الصحيح " في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى. وقال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن همام يقول: سمعت عدة من المشايخ، يقولون: حوَّل محمد بن إسماعيل تراجم جامعه بين قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين. وقيل صنفه ببخارى، وقيل بمكة، وقيل بالبصرة، كما قال النووى، وكل ذلك صحيح لطول مدة تصنيفه. والله أعلم. يقول الذهبىُّ: " لو رحل الرجل من مسيرة سنة لسماعه لما فرط. وهو أعلى الكتب الستة سنداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في شئ كثير من الأحاديث، وذلك لأن أبا عبد الله أسنُّ الجماعة، وأقدمهم لقيا للكبار، أخذ عن جماعة يروي الأئمة الخمسة (¬1) عن رجل عنهم. صحيح البخارى لو أنصفوه لما خُطّ إلا بماء الذهب. سبب تصنيفه لكتابه يقول عن نفسه: " كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب " مشايخه: قال: " كتبت عن ألف شيخ وأكثر، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده " قال: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر، لقيتهم كَرَّات، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، وأهل البصرة أربع مرات، وبالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي خراسان. وهذا الكم الهائل ينحصر فى خمس طبقات كما قال الحافظ، وقد نقلها الشيخ أحمد فريد فى كتابه الماتع " من أعلام السلف "، وهى كالآتى: الأولى: من حدثه عن التابعين كأصحاب الثلاثيات التى معنا؛ كالأنصاري والمكي. ¬

_ (¬1) أي: مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة

الثانية: من كان فى عصر هؤلاء، لكن لم يسمع من ثقات التابعين كآدم وأبى مسهر. الثالثة: هى الوسطى بين مشايخه وهم ممن لم يلق التابعين كقتيبة ونُعَيم وبن المدينى وبن معين وبن حنبل، وهذه الطبقه شاركه مسلم فى الأخذ عنهم. الرابعة: رفقاؤه فى الطلب ومن سمع قبله قليلاً كابى حاتم الرازى وصاعقة. الخامسة: قوم فى عداد طلبته فى السن والإسناد سمع منهم للفائدة، وروى عنهم أشياء يسيرة كعبد الله بن حماد الآملى وعبد الله بن أبى العاص. تلامذته: أما تلامذته فقد روى عنه جمعٌ غفير لعلو منزلته وكثرة رحلاته، يقول الفِربْرىُّ، وهو من تلامذته:" إن تسعين ألفاً من التلاميذ، رووا عنه صحيح البخارى. فمن تلامذته الإمام مسلم، والترمذى والنسائى، والدارمىُّ، وكلهم من الفضل بمكان، ومن تلامذته أيضاً محمد بن نصر المروزى، وأبو حاتم الرازى، وابن خزيمة، وحسن المحاملى وابراهيم الحربى والفربرى ... وغيرهم من الضخام كثير. سعة حفظه وعلمه: يقول: " إني أحفظ سبعين ألف حديث وأكثر، ولا أجيئ بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي من ذلك أصل أحفظه حفظا من كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو الطيب حاتم بن منصور: محمد بن إسماعيل آية من آيات الله في بصره ونفاذه من العلم وأشهر مثالٍ فى ذلك، هذه القصة العجيبة كما فى التهذيب والسير (¬1): ¬

_ (¬1) تهذيبالكمال للمزى حـ16، 99، وسير أعلام النبلاء، حـ10، 88

قال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد هذا، وإسناد هذا المتن هذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال: لا أعرفه. وسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه. وكذلك حتى فرغ من عشرته. فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم. ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز، ثم انتدب آخر، ففعل كما فعل الأول، والبخاري يقول: لا أعرفه. ثم الثالث وإلى تمام العشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على: لا أعرفه. فلما علم أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم، فقال: أمَّا حديثك الأول فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا إلى العشرة، فرد كل متن إلى إسناده. وفعل بالآخرين مثل ذلك. فأقر له الناس بالحفظ. فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكبش النطاح. ومن ذلك أيضاً، ما ذكره المزي عن أبى بكر المديني قال (¬1): " كنا يوما بنيسابور عند إسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل حاضر في المجلس، فمر إسحاق بحديث من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان دون صاحب - صلى الله عليه وسلم - عطاء الكَيْخارانيّ، فقال له إسحاق: يا أبا عبد الله إيش كيخاران؟ قال: قرية باليمن؛ كان معاوية بن أبي سفيان بعث هذا الرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فسمع منه عطاء حديثين، فقال له إسحاق: يا أبا عبد الله كأنك قد شهدت القوم! ". مكانته عند المشايخ: قال محمد بن أبى حاتم سمعت محمود بن النضر الشافعى يقول: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها فكلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم. (¬2) ¬

_ (¬1) التهذيب، حـ16، 90 (¬2) السابق، 99

قال عبدان: ما رأيت بعيني شابا أبصر من هذا، وأشار بيده إلى محمد بن إسماعيل. وقال صالح بن مسمار المروزي: سمعت نعيم بن حماد يقول: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة. وقال إبراهيم بن خالد المروزي: قال مسدد: لا تختاروا على محمد بن إسماعيل، يا أهل خراسان. وقال موسى بن قريش: قال عبد الله بن يوسف للبخاري: يا أبا عبد الله، انظر في كتبي، وأخبرني بما فيه من السقط، قال: نعم. * وقال محمد: حدثني محمد بن إسماعيل، قال: كنت إذا دخلت على سليمان بن حرب يقول: بيِّن لنا غلط شعبة. * وحدث عن نفسه قائلا: اجتمع أصحاب الحديث، فسألوني أن أكلم إسماعيل بن أبي أويس ليزيدهم في القراءة، ففعلت، فدعا إسماعيل الجارية، وأمرها أن تخرج صرة دنانير، وقال: يا أبا عبد الله، فرقها عليهم. قلت: إنما أرادوا الحديث. قال: قد أجبتك إلى ما طلبت من الزيادة، غير أني أحب أن يضم هذا إلى ذاك ليظهر أثرك فيهم. (¬1) * قال الحافظ: وسئل قتيبة عن طلاق السكران، فدخل محمد ابن إسماعيل، فقال قتيبة للسائل: هذا أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وعلىّ بن المدينى، قد ساقهم الله إليك، وأشار إلى البخارى. قال يحيى بن جعفر: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم. (¬2) وقال البخارى مرةً (¬3): " لما دخلت البصرة صرت إلى مجلس بُنْدار، فلما وقع بصرُه عليَّ، قال: من أين الفتى؟ قلت: من أهل بخارى، فقال لي: كيف تركت أبا عبد الله؟ فأمسكت، فقالوا له: يرحمك الله هو أبو عبد الله، فقام، وأخذ بيدي، وعانقني، وقال: مرحبا بمن أفتخر به منذ سنين " وقال مسلم بن الحجاج وقد جاء إلى البخاري: " دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله ". ¬

_ (¬1) السير، حـ10، 93 (¬2) السير، حـ10، 92 (¬3) السابق، 95، وتهذيب الكمال حـ16، 96

وقال محمد بن أبى حاتم: حدثني حاتم بن مالك الوراق، قال: سمعت علماء مكة يقولون: محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان. فهذا ثناء المتقدمين أما المتأخرين فلا داعى لذكره حيث يقول الحافظ: " وبعد ما تقدم من ثناء كبار مشايخه عليه، لا يُحتاج إلى حكاية من تأخر" مكانته عند الناس: قال الشيخ عبد السلام المباركفورى: كان الإمام البخارى كلما حل مدينة، أو ترك أرضاً، كان المسلمون يزدحمون حوله، حيث يفوق الوصف والبيان. (¬1) * ولما رجع إلى بخارى عائداً من رحلته الدراسية، نصبت له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله عامة أهل البلد، حتى لم يبق مذكور، ونثر عليه الدراهم والدنانير. وجرى له مثل هذا فى نيسابور، قال الإمام مسلم: لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور، ما رأيت والياً، ولا عالماً فعل به أهل نيسابور، ما فعلوا به؛ استقبلوه من مرحلتين من البلاد، أو ثلاث. (¬2) تدينه: ونقصد بالتدين التدين العام؛ فى عباداته ومعاملاته. عن محمد بن أبى حاتم قال: سمعت سليماً - يعنى ابن مجاهد - يقول: ما رأيت بعينى منذ ستين سنةٍ أفقه، ولا أورع، ولا أزهد فى الدنيا من محمد ابن إسماعيل. * فمن تدينه عبادته: قال مُسبِّح بن سعيد: " كان محمد بن إسماعيل يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التروايح كل ثلاث ليال بختمة " وروى الخطيب البغدادى عن عمر بن حفص الأشقر قال: كنا مع محمد بن إسماعيل بالبصرة، نكتب الحديث، ففقدناه أياماً، فطلبناه فوجدناه فى بيت وهو عريان، وقد نفذ ما عنده، ولم يبق معه شيءٌ فاجتمعنا، وجمعنا له الدراهم، حتى اشترينا له ثوباً، وكسوناه، ثم اندفع معنا فى كتابة الحديث (¬3) * ومن تدينه أنه لم يجلس إلى التحديث إلا بعدما تأهل: يقول عن نفسه: " ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم، وحتى نظرت في عامة كتب الرأي، وحتى ¬

_ (¬1) من أعلام السلف، 405 (¬2) من أعلام السلف، الشيخ أحمد فريد، 394 (¬3) السابق، 405

دخلت البصرة خمس مرات أو نحوها، فما تركت بها حديثا صحيحا إلا كتبته، إلا ما لم يظهر لي ". * ومن تدينه شدة حيائه: قال أبو جعفر: قال لي بعض أصحابي: كنت عند محمد بن سلام، فدخل عليه محمد بن إسماعيل حين قدم من العراق، فأخبره بمحنة الناس، وما صنع ابن حنبل وغيره من الأمور. فلما خرج من عنده قال محمد بن سلام لمن حضره: أترون البكر أشد حياء من هذا؟! * ومن تدينه تمسكه بهدى النبى (- صلى الله عليه وسلم -): كان البخارى يقول: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به. فالرمى مع أنه ليس من اختصاص العلماء، ولكن لما كانت السنة قد وردت به كان الإمام البخارىُّ يركب إلى الميدان للتدرب على الرمى، وكان من شدة مهارته لا يخطئ الهدف. (¬1) ومن ذلك أيضاً أنه كان يبنى رباطاً، وجاء الناس يعينونه، فكان ينقل اللبن بنفسه إقتداءً بالنبىِّ - صلى الله عليه وسلم - فى بناء المسجد وحفر الخندق. * ومن تدينه احتياطه فى جرح الرواة: كان يقول: " أرجو أن ألقى الله، ولا يحاسبنى أنى اغتبت أحداً. يقول الشيخ أحمد فريد (¬2): " ومسلك الاحتياط الذى سلكه الإمام البخارىُّ، يدل على منزلته العليا من التدين والإخلاص والورع، فطريقته فى الجرح أنه يختار كلمات لا يمكن أى شخص أن يؤاخذ بها المجروح، ومن كلماته: تركوه، أنكره الناس، وأشدها عنده أن يقول: منكر الحديث " * ومن تدينه أنه ما كان يؤذى أحداً من جلسائه حتى ولو بما أحل الله: قال: ما أكلت كراثا قط، ولا القنابَرَى قيل: ولم ذاك؟ قال: كرهت أن أوذي من معي من نتنهما. فقيل له: وكذلك البصل النئ؟ قال: نعم. * ومن تدينه هذه الخصائص: ¬

_ (¬1) من أعلام السلف، 400 (¬2) السابق، 404

وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت الحسين بن محمد السمرقندي يقول: كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال مع ما كان فيه من الخصال المحمودة: كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم. (¬1) * ومن تدينه أنه ما كان يأخذ على العلم أجرا: قال سليم بن مجاهد: ما بقي أحد يعلم الناس الحديث حِسبةً غير محمد بن إسماعيل. * ومن تدينه الإحسان إلى المسيء: قال عبد الله بن محمد الصارفي: كنت عند أبي عبد الله في منزله، فجاءته جارية، وأرادت دخول المنزل، فعثرت على محبرة بين يديه، فقال لها: كيف تمشين؟ قالت: إذا لم يكن طريق، كيف أمشي؟ فبسط يديه، وقال لها: اذهبي فقد أعتقتك. قال: فقيل له فيما بعد: يا أبا عبد الله، أغضبتك الجارية؟ قال: إن كانت أغضبتني فإني أرضيت نفسي بما فعلت (¬2). ومن ذلك (¬3): أنه كان كثير من أصحابه يقولون له: إن بعض الناس يقع فيك، فيقول: "إن كيد الشيطان كان ضعيفا" (النساء: 76) ويتلو أيضا: " ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله" (فاطر: 43) فقال له عبد المجيد بن إبراهيم: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك؟ فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اصبروا حتى تلقوني على الحوض " وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من دعا على ظالمه، فقد انتصر " مؤلفاته: 1 - " الجامع الصحيح " 2 - " التاريخ الكبير " 3 - " التاريخ الأوسط " 4 - " التاريخ الصغير " 5 - " خلق أفعال العباد " 6 - كتاب " الضعفاء الصغير " 7 - " الأدب المفرد " 8 - " جزء رفع اليدين " 9 - " جزء القراءة خلف الإمام " 10 - " كتاب الكنى " ... وله كتبٌ أخرى فى عداد المخطوطات والمفقودات. وفاته: ¬

_ (¬1) السير حـ10، 108 (¬2) السير، حـ 10، 111 (¬3) السابق، 115

المبحث الرابع

توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومئتين. وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما. وهناك بيتان نظمهما بعض الشعراء مبيناً فيهما تاريخ ميلاده، ووفاته، ومدة حياته، نقلهما الشيخ أحمد فريد ... قيل (¬1): كان البخارىُّ حافظاً ومحدثاً جمع الصحيح مكمل التحرير ميلاده " صدقٌ" ومدة عمره فيها " حميد" وانقضى فى " نور " (¬2) *************** وهكذا قد انتهينا من التجوال فى بستان فضله، وحياته ومواقفه، والله نسأل له الدرجات العلا، وأن يجمعنا به والصالحين فى دار مقامته، إنه ولىُّ ذلك .. المبحث الرابع الأحاديث بترتيبها فى البخارى وكما سمعناها قال الإمام البخارى -رحمه الله-: 1 - حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. (حديث رقم، 109) 2 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مَا كَادَتْ الشَّاةُ تَجُوزُهَا. (497) 3 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَيُصَلِّي عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ قَالَ فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا. (502) ¬

_ (¬1) من أعلام السلف، 419 (¬2) صدق، تساوى بالأرقام 194، وحميد 62، ونور 256

4 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ إِذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. (561) 5 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ. (1924) 6 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ. (2007)

7 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ فَقَالُوا صَلِّ عَلَيْهَا فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَالُوا لَا قَالَ فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا قَالُوا لَا فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيْهَا قَالَ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قِيلَ نَعَمْ قَالَ فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا قَالُوا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا صَلِّ عَلَيْهَا قَالَ هَلْ تَرَكَ شَيْئًا قَالُوا لَا قَالَ فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَالُوا ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ قَالَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ قَالَ أَبُو قَتَادَةَ صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. (2289) 8 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ قَالُوا لَا فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ قَالُوا نَعَمْ قَالَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ قَالَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ. (2295) (¬1) ¬

_ (¬1) هذا الحديث سمعته من الشخ / صلاح ولم أسمعه عن الشيخ وحيد وكأنه من خطأ الناسخ، فلم يذكر رواية أبى عاصم هذه ضمن الثلاثيات ولكنه كرر رواية المكى، والصحيح ما أثبتناه أنه من رواية أبى عاصم، بتغير قليل فى ألفاظ الحديث.

9 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ قَالُوا عَلَى الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ قَالَ اكْسِرُوهَا وَأَهْرِقُوهَا قَالُوا أَلَا نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ اغْسِلُوا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَانَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ الْحُمُرِ الْأَنْسِيَّةِ بِنَصْبِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ. (2477) 10 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَطَلَبُوا الْأَرْشَ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَقَالَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ زَادَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ. (2703)

11 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ أَلَا تُبَايِعُ قَالَ قُلْتُ قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَأَيْضًا فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ قَالَ عَلَى الْمَوْتِ. (2960) 12 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ خَرَجْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِي غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قُلْتُ وَيْحَكَ مَا بِكَ قَالَ أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ مَنْ أَخَذَهَا قَالَ غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ فَصَرَخْتُ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يَا صَبَاحَاهْ يَا صَبَاحَاهْ ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ وَقَدْ أَخَذُوهَا فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَقُولُ أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ وَإِنِّي أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ فَابْعَثْ فِي إِثْرِهِمْ فَقَالَ يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمِهِمْ. (3041)

13 - حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَيْخًا قَالَ كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ. (3546) 14 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ فَقَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّاسُ أُصِيبَ سَلَمَةُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ. (4206) 15 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَغَزَوْتُ مَعَ ابْنِ حَارِثَةَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْنَا. (4272) 16 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ. (4499)

17 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ لَمَّا أَمْسَوْا يَوْمَ فَتَحُوا خَيْبَرَ أَوْقَدُوا النِّيرَانَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَامَ أَوْقَدْتُمْ هَذِهِ النِّيرَانَ قَالُوا لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ قَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَاكْسِرُوا قُدُورَهَا فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ ذَاكَ (5497) 18 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَبَقِيَ فِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ الْمَاضِي قَالَ كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا (5569)

19 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ "عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ مِنْ هُنَيَّاتِكَ، فَحَدَا بِهِمْ، فَقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ السَّائِقُ؟ قَالُوا: عَامِرٌ فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ؟ فَأُصِيبَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ. فَقَالَ الْقَوْمُ: حَبِطَ عَمَلُهُ، قَتَلَ نَفْسَهُ. فَلَمَّا رَجَعْتُ - وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ - فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَهَا، إِنَّ لَهُ لأَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، وَأَيُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ" (6891) 20 - حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ابْنَةَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ (6894) 21 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ بَايَعْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لِي يَا سَلَمَةُ أَلَا تُبَايِعُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْتُ فِي الْأَوَّلِ قَالَ وَفِي الثَّانِي (7208)

المبحث الخامس

22 - حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَأَطْعَمَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ خُبْزًا وَلَحْمًا وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّ اللَّهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ (7421) المبحث الخامس ذكر السند إسناد ثلاثيات البخارى الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد .. يقول الفقير إلى عفو ربه / وحيد بن عبد السلام بالى. 1 - أخبرنا الشيخان محمد إسرائيل بن محمد إبراهيم الندوى، وعبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي قراءة عليهما بجميع صحيح البخاري وأنا أسمع. قال الشيخ الندوي: 2 - أخبرنى شيخى الشيخ عبد الحكيم الجيْوَري قراءةً من أوله وآخره وإجازة بباقيه .. 3 - قال اخبرنا السيد نذير حسين الدِّهْلَوي: وقال الشيخ عبد الوكيل: 2 - أخبرنى والدى العلامة عبدُ الحق الهاشمى قراءةً عليه لجميعه، 3 - قال أخبرنا أبو سعيد حسين بن عبد الرحيم البَتَالوى قراءةً عليه لجميعه، - قال أخبرنا السيد نذير حسين الدِّهْلَوى: 4 - قال أخبرنا الشاه محمد إسحاق الدهلوي، 5 - قال أخبرنا الشاه عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي، 6 - قال أخبرنى والدى سماعاً إلى كتاب الحج مع إكمال باقيه على خلفائه، 7 - قال أخبرنا أبو طاهر الكُورَّاني، 8 - قال أخبرنا حسن العُجَيمي، - قال أخبرنا عيسى الثَّعالبي الجَعفري، - قال أخبرنا سلطان بن أحمد المَزَّاحي، - قال اخبرنا أحمدُ بن خليل السُّبْكي. (ح) قال العجيمي: 9 - أخبرنا محمد بن العلاء البَابِلى، 10 - قال أخبرنا سالم بن محمد السَّنْهُوري قراءةً لبعضه وإجازةً لسائره، قال هو والسُّبْكى: 11 - أخبرنا النَّجم محمد الغَيْطي، 12 - قال أخبرنا زكريا الأنصاري،

المبحث السادس

13 - قال أخبرنا إبراهيم بن صَدَقة الحنبلي، 14 - قال أخبرنا عبد الوهاب بن رزين الحَمَوي. (ح) وقال زكريا: -أخبرنا أحمد بن على بن حجر العسقلاني سماعاً للكثير منه وإجازة لسائره، - قال أخبرنا إبراهيم بن أحمد التَّنُوخي البعلي، قال وهو وابن رزين الحَمَوي: 15 - أخبرنا أحمد بن أبى طالب الحجار، وزاد الثانى: وست الوزراء وزيرةُ بنت عمر التَّنُوخية؛ 16 - قالا: أخبرنا الحُسَين بن المبارك الزَّبِِيدي، 17 - قال أخبرنا أبو الوَقْت عبدُ الأول بن عيسى السِّجْزِي الهَرَوي، 18 - قال أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الداوُدي البُوشَنْجِي، 19 - قال أخبرنا عبد الله بن أحمدَ بن حَمُّويَة السَّرخسى، 20 - قال أخبرنا محمد بن يوسف بن مطرٍ الفَرََبْري، 21 - قال أخبرنا محمد بن إسماعيل البخاري مرتين. ثم ذكر الأحاديث. المبحث السادس ما كتب حول الثلاثيات بعد أن شرعت فى هذا الجمع واوشكت على الانتهاء منه، تبين لى أن هناك من كتب حول هذا الأمر، فأخذت فى البحث عن ذلك متعجباً كيف غفلت عن طَرْقِ هذا الباب قبل أن أشرع فى هذا الجمع ليكون لى أسهل فى الترتيب والتنسيق والاستفادة من أفكار السابقين من العلماء الكبار، فبدأت أبحث فى فهارس الكتب حتى وقفت على جملةً طيبة من المؤلفات حول الثلاثيات، ولكنى لم أقف على أى مؤلف منها بعد البحث إلا "تعليقات القارى"، فأردت أن أردف مبحثاً أذكر فيه هذه المؤلفات وأصحابها لتعم الفائدة ليطلع عليها من تيسر له الحصول عليها. وتبين من ذلك أن العلماء قد اهتموا فى القديم والحديث بهذه الثلاثيات، حتى أفردها بعضهم بالتعليق والشرح والنظم. وهؤلاء هم على الترتيب الزمنى: 1 - محمد بن إبراهيم الحضرمى، المتوفى سنة (777هـ)، وعنوانه: " الفوائد المرويات بشرح الثلاثيات " له نسخة فى المكتبة الوطنية فى الجزائر برقم (475). أفاده محمد بن ناصر العجمى فى تحقيقه لتعليقات القارى على ثلاثيات البخارى.

2 - البرماوي: محمد بن عبد الدائم بن موسى البرماوي المصري شمس الدين أبو عبد الله الشافعي اصله من عسقلان ولد سنة (763هـ) وتوفي بالقدس سنة (831هـ) إحدى وثلاثين وثمانمائة. وقد نظم ثلاثيات البخاري فى أبيات ثم شرحها، ذكر ذلك صاحب هدية العارفين، الباباني. وقال محمد بن ناصر العجمى فى تحقيقه لتعليقات القارى: " وهى مطبوعة بتحقيق الدكتور مصطفى مخدوم فى دار المعلمة بالرياض سنة (1421 هـ) 3 - محمد بن الحاج محمد بن محمد حسن بن محمد شاه المعروف بابن الحاج الرومي الحنفي. هو فقيه، مفسر، محدث. توفى سنة 939 هـ. من آثاره " شرح ثلاثيات البخاري " قال صاحب كشف الظنون، وقال العجمى فى تحقيقه لتعليقات القارى: " له نسخة فى دار الكتب المصرية (80 - مجموع) ذكره فؤاد سزكين فى " تاريخ التراث العربى " (1/ 338) " ا. هـ 4 - نور الدين علي بن سلطان محمد القاري الهروي صاحب التصانيف، ولد بهراة، ورحل إلى مكة وتديَّرها، وتوفى بها سنة (1014هـ) ولما علم علماء مصر بوفاته صلوا عليه صلاة الغائب بجامع الأزهر، له: " تعليقات القاري على ثلاثيات البخاري". وقد وقفت على هذا الشرح بتحقيق الشيخ / محمد بن ناصر العجمى، الصادر عن وزارة الأوقاف بالكويت. وقد استفت منه ذكر بعض هذه المؤلفات. 5 - شهاب الدين احمد بن احمد ابن محمد الوفائي المصري الشافعي المعروف بالعجمي المتوفي في 18 ذي القعدة سنة (1086هـ)، قال صاحب كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: وهو عالم مشارك في بعض العلوم. وله شرح ثلاثيات البخاري قال العجمى فى تحقيقه لتعليقات القارى: " استمده من " إرشاد السارى " كما نص على ذلك فى مقدمته. وهو مخطوط، منه نسخة فى دار الكتب المصرية برقم (68 - مجاميع). " ا. هـ

6 - " هداية البارى على ثلاثيات البخارى " لعلى حجازى بن محمد البيومى، المتوفى سنة (1183هـ)، له نسخة فى الأزهرية برقم (1476 - مجاميع). أفاده محمد العجمى فى تحقيقه لتعليقات القارى (صـ 14). 7 - " الدرارى الناشرات فى ترجمة ما فى البخارى من ثلاثيات " للشيخ / محمد المجهلى شهرى الجونفورى، المتوفى سنة (1320هـ)، ذكره الدكتور سهيل عبد الغفار حسن فى بحثه " جهود محدثى شبه القارة الهندية ... ) المطبوع فى كتاب " الوقائع " (1/ 304 - ط جام عة الشارقة فى الإمارات العربية). أفاده العجمى فى تحقيقه لتعليق القارى. 8 - الشيخ عبد الباسط بن رستم بن علي بن علي أصغر القنوجي، المتوفي في سنة (1223هـ). كان من علماء الهند، ذكر القنوجي فى كتابه " أبجد العلوم " أن من كتبه: " نظم اللآلي في شرح ثلاثيات البخاري ". 9 - السيد محمد صديق خان الهندى له " غنية القارى بترجمة ثلاثيات البخارى "، ذكره صاحب كشف الظنون " وهو: السيد محمد صديق خان بن السيد حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري أبو الطيب القنوجي الهندي المحدث أمير مملكة بهوبال ولد سنة (1248هـ) وتوفي 29 جمادى الآخرة سنة (1307هـ) سبع وثلاثمائة وألفا. 10 - عبد الحفيظ بن محمد بن محمد الوانجني الجزائري المالكى الخلوتى، وهو أحد أعلام الحديث في مدينة الجزائر العتيقة، فقيه مالكي متصوف من شيوخ الخلوتية. توفى سنة (1266 هـ) له " غنية القارىء بترجمة ثلاثيات البخاري " مخطوط، ذكر ذلك فى " معجم المؤلفين " (5/ 90)، "إيضاح المكنون " (2/ 150) 11 - محمد شمس الحق العظيم آبادى، عالم بالحديث، من أهل (عظيم آباد) في الهند. ولد بها وجمع مكتبة حافلة بالمخطوطات وتوفي في (ديانوان) من أعمال عظيم آباد. قرأ الحديث في دهلي. وصنف كتبا، منها (عون المعبود في شرح سنن أبي داود) وله " فضل البارى فى شرح ثلاثيات البخارى" توفى (1329هـ)

الباب الثانى

12 - محمد عبد الحي ابن الشيخ أبي المكارم عبد الكبير الحسني الإدريسي الكتاني توفى سنة (1382 هـ) مغربي، ولد وتعلم بفاس. وكان منذ نشأته على غير ولاء للاسرة العلوية المالكة في المغرب، ولما فرضت الحماية الفرنسية على المغرب، (1912) انغمس في موالاتها. له " الفيض الجاري على ثلاثيات البخاري " في دار الكتب. (نقل ذلك صاحب فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني) 13 - " معلم القارى شرح ثلاثيات البخارى "، لرضى الدين عبد المجيد خان تونكى. ذكره فؤاد سزكين فى " تاريخ التراث العربى " (1/ 338). أفاده العجمى فى تحقيق تعليقات القارى. 14 - " إنعام المنعم البارى بشرح ثلاثيات البخارى "، لعبد الصبور بن عبد التواب الملتانى، المتوفى سنة (1349هـ)، مطبوع فى مطبعة أنصار السنة بمصر سنة (1358هـ). الباب الثانى تحبير الوريقات مسند سلمة بن الأكوع التراجم الأحاديث مسند أنس بن مالك التراجم الأحاديث مسند عبد الله بن بسر التراجم الأحاديث تمهيد هذه الثلاثيات التى بين أيدينا ليست مرتبطةً بكتابٍ من كتب صحيح البخارى، ولكنها موزعةٌ على بعض كتبه، فكان من الأسهل والأيسر أن نرتب هذه الأحاديث ترتيباً يسهل علينا به أن نلم ما فيه دون تشتت، فرأيت أن توزع الأحاديث على مسانيدِ الصحابة، حيث أنها كلها يرويها ثلاثةٌ فقط من الصحابة، فرأيت أن يتم الشرح للأحاديث وترتيبها حسب مسند كل صحابى مع وضع الأحاديث المرتبطة ببعضها فى الموضوع فى نسقٍ واحد لتكتمل لنا الصورة، وهذا يجعل الاستيعاب والفهم والوصول إلى الحديث فى مظانه أسهل، ولن أرتبط بترتيب البخارى ولا ترتيب الأبواب لأنها وقعت فى أبواب مختلفة كما ذكرت. وهذه المسانيد هى:

مسند {سلمة بن الأكوع}

الأول: مسند سلمة ابن الأكوع، فله القِدْحُ المُعلَّى فى هذه الثلاثيات فروى منها سبعة عشر حديثاً رواها كلها عنه يزيد ابن أبى عبيد، ثم رواها عن يزيد شيخان للبخارى؛ المكي ابن ابراهيم روى أحد عشر حديثاً، ثم البقية لأبى عاصم النبيل؛ الضحاك ابن مخلد. الثاني: مسند أنس بن مالك، وله فى الثلاثيات أربعة أحاديث رواها عنه راويان: الأول حميد الطويل، روى ثلاثةً منها، كلها فى قصة الرُّبَيِّع فرواها مطولةً ومختصرة، ورواها الأنصارى عنه. والراوى الثانى عن أنس هو عيسى بن طَهْمان، وروى عنه حديثاً واحداً، رواه عنه خَلَّادُ بن يحيى الثالث: مسند عبدِ الله بن بسر، وله فى الثلاثيات حديثٌ واحد رواه عنه حَرِيْزُ بن عثمان، وروى عن حريز، عصامُ بن خالد -شيخ البخارىِّ -. وبدأتُ بذكر ترجمةٍ سريعة لكل واحد فى بداية كل مسند، فأبدأ بترجمةٍ للصحابىِّ ثم تليها ترجمةٌ للتابعىِّ الذى روى عنه، ثم يلى ذلك ترجمةً لشيخ البخارى الذى روى عن هذا التابعى، وإن كان له فى هذا التابعى شيخان إما أن أذكر ترجمتيهما متتابعة لإشتراكهما فى حديث واحد كما فى مسند سلمة، وإما أن أذكر الأحاديث تحت ترجمة من رواها كما فى مسند أنس، وقد استمَديتُ هذه التراجم من سير الذهبى والتهذيب، وغيرهما. وقد بدأت التعليق على الحديث بشرحٍ بسيط بين يديه أذكر فيه أين أخرج البخارىُّ الحديث فى كتابه، ثم أذكر توضيحاً بسيطاً للمعنى العام للحديث إذا احتيج إلى ذلك، ثم يتبع ذلك المسائل الموجودة فى الحديث فقهيةً كانت أو غير ذلك، ثم نختم التعليق بذكر الفوائد التى تضمنها الحديث، إذا لم نكتف بالمسائل، والله نسأل الإخلاص فى القول والعمل. مُسنَد {سلمةَ بنِ الأكوَع} التراجم سلمة بن عمرو بن الأكوع (- رضي الله عنه -)

ويقال سلمة بن وهيب بن الأكوع، الأسلمى، أبو مسلم، ويقال أبو إياس، ويقال أبو عامر، المدنى الصحابى الجليل، و" الأكوع " لقب له، ومعناه: المعوج لكوع وهو طرف الزند الذى يلى الإبهام حدث عن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) وأبى بكر وعمر وعثمان وطلحة، وروى له الجماعة وحديثه من أعالى البخارى. شهد بيعة الرضوان تحت الشجرة، وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات: فى أول الناس، وفى أوسطهم، وفى آخرهم، وبايعه يومئذ على الموت، كما عند البخارى فى الروايات التى معنا. وكان يسكن الربذة، وكان ذلك بعد مقتل عثمان، وتزوج فيها وأنجب ثم قبل موته بقليل رجع إلى المدينة فمات بها لأنها دار هجرته، وقد قضى بالربذة نحو الأربعين سنة، كما قال ابن حجر. وقد كف بصره فى آخر عمره. وكان شجاعا راميا محسنا خيراً. ويقال: إنه كان يسبق الفرس شدا على قدميه. وقيل: إنه شهد غزوة مؤتة. كان يرتجز بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسفارِه حاديًا، وبايعه يوم الحديبية، وَكَانَ راميًا يصيد الوحش، وقال له رسول - صلى الله عليه وسلم - فِي مُنْصَرَفِه إلى المدينةِ: " خير رَجَّالَتِنا اليوم سلمة " وكان - رضي الله عنه - من المفتين بالمدينة، قال الذهبى: " قال ابن سعد: عن زياد بن مينا، قال: كان ابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وجابر، ورافع بن خديج، وسلمة بن الأكوع مع أشباه لهم، يفتون بالمدينة، ويحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا " ا. هـ الوفاة: قال يحيى بن بكير، وغير واحد: مات بالمدينة سنة أربع وسبعين، وهو ابن ثمانين سنة. وقال الذهبى: " كان من أبناء التسعين " وروى عنه هذه الأحاديث مولاه يزيد بن أبى عبيد. يزيد بن أبى عبيد اسمه والتعريف به:

هو يزيد بن أبى عبيد، أبو خالد الأسلمى، مولى سلمة بن الأكوع الحجازى من الطبقة الرابعة التى تلى الوسطى من التابعين، ولم يذكر له مولد. شيوخه وتلاميذه: روى عن سلمة، وعمير مولى آبى اللحم، وهشام بن عروة، وروى عنه جماعة منهم بكير بن عبد الله بن الأشج والمكى وأبو عاصم النبيل. وروى له الجماعة. الجرح والتعديل: وثقة العجلى وبن معين وبن حبان وابو داود وبن سعد وابن حجر وقال الذهبي: صدوق، من بقايا التابعين الثِّقات. الوفاة: تُوُفِّيَ بالمدينة سنة سبعٍ وأَربعينَ وَمائَةٍ، كما قال الذهبى. روى عنه الثلاثيات شيخان للبخارى: المكي بن إبراهيم. وأبو عاصم النبيل. الأول: مكى بن إبراهيم له فى الثلاثيات عن يزيد أحد عشر حديثاً اسمه والتعريف به: وهو المكى بن إبراهيم بن بشير بن فرقد التميمي الحنظلى البرجمى، أبو السكن البلخى، والمكي هو علم وليس بنسبة إلى مكة. وهو من صغار أتباع التابعين، وأخذ فى الطلب وهو ابن سبع عشرة سنة، وحج كثيراً، وكان له مالٌ وتجارة. لم يلق البُخاريُّ بخراسان أَحدا أَكبر منه .. مولده: قال عن نفسه: في سنة ست وعشرين ومائة " قال ابن سعد: وقد قارب المائةَ روى له الجماعة. شيوخه وتلامذته: روى عن سبعة عشر تابعياً، منهم: يزيد بن أبى عبيد، وبهز بن حكيم، وابن جريج، وأبى حنيفة، وعن مالك بن أنس، وغيرهم، وليس هو بالمكثر جداً. روى عنه الإمام أحمد والبخارى، ويحى بن معين، وبندار، وغيرهم كثير. وروى له بقية اصحاب الكتب الستة. الجرح والتعديل: وثقه أهل العلم كأحمد والعجلى وقال الدارقطنى: " ثقة، مأمون "، وقال أَبو حاتم: محلُّهُ الصدقُ، وقال النَّسائيّ ُ: ليس به بأس. وذكره ابن حبان فى الثقات، وقال الذهبي: الحافظ، وقال ابن حجر: ثقة ثبت. وقال المكى عن نفسه كما ذكر الذهبى فى السير:

" حججت ستين حجة، وتزوجت بستين امرأة، وجاورت بالبيت عشر سنين، وكتبت عن سبعة عشر نفسا من التابعين، ولو علمت أن الناس يحتاجون إلي، لما كتبت دون التابعين عن أحد ".ا-هـ الوفاة: مَات مكي بن إبراهيم ليلة الأربعاء قبيل الصبح لِلنصف من شعبان سنة: أَربع عشرة ومائتين، قاله أبو حاتم، والبخاريُّ، وقيل خمس عشرة. الثانى: أبو عاصم النبيل اسمه والتعريف به: هو الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم بن الضحاك الشيبانى أبو عاصم النبيل البصرى، من الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، قال عنه الذهبىُّ: الإمام، الحافظ، شيخ المحدثين الأثبات، وكان فيه مزاح، ولم ير فى يده كتاباً قط، وكان يحفظ قدر ألف حديثٍ من جيد حديثه. له فى الثلاثيات عن يزيد ستة أحاديث. مولده: ولد: سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقيل إحدى وعشرين. شيوخه وتلامذته: حدث عن خلقٍ كثير منهم يزيد بن أبى عبيد، وبهز بن حكيم، وشعبة، والأوزاعي، وابن أبي عروبة، وسفيان، ومالك، وغيرهم، ونقل عنه أيضاً جمعٌ غفير ومن أشهرهم الإمام أحمد، وابن معين، وعلى بن المدينى، وأبو بكر بن أبى شيبة، والأصمعىُّ، وهو من أجل شيوخ البخارى وأكبرهم. وروى له الجماعة. الجرح والتعديل: وثقه: يحيى بن معين، والعجلي، وابن سعد، وقال أبو حاتم: صدوق. وقال عمر بن شبة: حدثنا أبو عاصم النبيل، ووالله ما رأيت مثله، وذكره أبو يعلى الخليلي، فقال: متفق عليه زهدا، وعلما، وديانة، وإتقانا. قال البخاري: سمعت أبا عاصم يقول: " منذ عقلت أن الغيبة حرام، ما اغتبت أحدا قط ". سبب تسميته بالنبيل: ذُكر فى ذلك أقوال منها: أن فيلا قدم البصرة، فذهب الناس ينظرون إليه، فقال له ابن جريج: ما لك لا تنظر؟ قال: لا أجد منك عوضا. قال: أنت نبيل. وقيل: لأنه كان كبير الأنف. وقيل: لأنه كان يلبس الخز وجيد الثياب، وكان إذا أقبل، قال ابن جريج: جاء النبيل.

الحديث الأول

وقيل: لأن شعبة حلف ألا يحدث أصحاب الحديث شهرا، فقصده أبو عاصم، فدخل مجلسه، وقال: حدث، وغلامي العطار حرٌ لوجه الله كفارة عن يمينك، فأعجبه ذلك. من أقواله: " من طلب الحديث، فقد طلب أعلى الأمور، فيجب أن يكون خير الناس." الوفاة: قال محمد بن سعد: " مات بالبصرة ليلة الخميس، لأربع عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة اثنتى عشرة ومئتين، فى خلافة عبد الله بن هارون ". وهو ابن تسعين سنة وأربعة أشهر. وقيل ثلاث عشرة، وقيل سنة أربع عشرة ومئتين، قاله البخارىُّ. الحديث الأول 1 - حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. (109، حـ1 صـ255) الشرح: وقد نص الحافظ فى الفتح على أن هذا الحديث هو أول ثلاثى وقع فى البخارى، كما نص على ذلك الكرمانىُّ أيضاً فى شرحه للبخارى. والحديث أخرجه البخارى فى كتاب العلم " باب إثم من كذب على النبى - صلى الله عليه وسلم - " ورواه أحمد ومسلم والحاكم والطبرانى والدارقطنى وأصحاب السنن، وغيرهم عن جمعٍ غفيرٍ من الصحابه منهم العشرة المبشرة، قال ابو بكر الصيرفى كما نقل النووى فى شرح مسلم: " ولا يعرف حديث اجتمع فيه على روايته العشرة إلا هذا " والحديث يتناول عظم الكذب على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - لأن الكذب على النبى - صلى الله عليه وسلم - ليس ككذبٍ على غيره. وقد روى البخارى فى نفس الباب نفس الحديث عن عَلىٍّ والزبير وأنس وأبى هريرة بألفاظ متقاربة، وتخويف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته بالنار على الكذب دليلٌ على أنه كان يعلم أنه سيكذب عليه، كما فى التمهيد لابن عبد البر.

وقد كثر هذا الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - فقد قال حماد بن زيد: " وضعت الزنادقة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنى عشر ألف حديث بثوها في الناس ". وعلم الصحابة هذا الأمر من بعدهم فقد رُوِى وإن كان فى سنده ابن لهيعة، عن عقبة بن نافع قال لبَنِيه: " يا بني لا تقبلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من ثقة " وانتقل الأمر لمن بعدهم، فعن عبد الرحمن بن مهدي كما فى التمهيد لابن عبد البر قال: " سألت شعبة وابن المبارك والثوري ومالك بن أنس عن الرجل يتهم بالكذب فقالوا انشره " وفى الحديث ثلاث عشرة مسألة: الأولى: معنى " فليتبوأ " كجزاء للمُتَقَوِّل عليه - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حجر: " أي فليتخذ لنفسه منزلا، يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكنا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضا، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك أي: بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوء ويلزم عليه كذا، قال: وأولها أولاها، فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ " بني له بيت في النار " قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوء." ولم يذكر النبىُّ هذا الجزاء لمن يتقول عليه فقط، ولكن ذكر التبوء هذا لأكثر من معصية، وقد جَمعتُ فى ذلك رسالة (ذكر الآثار .. التى ذَكَرَتْ من يتبوأ مقعده من النار).

وقال النووى (¬1): " معنى الحديث أن هذا جزاؤه وقد يجازى به وقد يعفو الله الكريم عنه ولا يقطع عليه بدخول النار، وهكذا سبيل كل ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر فكلها يقال فيها هذا جزاؤه وقد يجازى وقد يعفى عنه، ثم إن جوزي وأدخل النار فلا يخلد فيها، بل لابد من خروجه منها بفضل الله تعالى ورحمته، ولا يخلد فى النار أحدٌ مات على التوحيد، وهذه قاعدة متفق عليها عند أهل السنة ". الثانية: هل الوعيد المذكور خاص بنسبة قول ٍ إلى النبى لم يقله دون نسبة الفعل؟ قال ابن حجر فى ذلك: " وذكر القول لأنه الأكثر وحكم الفعل كذلك لاشتراكهما فى علة الامتناع وقد دخل الفعل في عموم حديث الزبير وأنس لتعبيرهما بلفظ الكذب عليه ومثلهما حديث أبي هريرة فلا فرق في ذلك بين أن يقول قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) كذا وفعل كذا إذا لم يكن قاله أو فعل ". الثالثة: قوله " علىَّ " هل يخرج بها الكذب للنبى لا عليه، كوضع أحاديث فى الترغيب والترهيب؟ كل أهل العلم قاطبة يقولون بتحريم الكذب سواء عليه أو له، وقد خالف فى ذلك الكرامية حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتجوا بأنه كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت وهي ما أخرجه البزار من حديث ابن مسعود بلفظ: " من كذب علي ليضل به الناس " وقد ضعفه ابن حجر وقال: وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة، وقال أيضاً: " ولفظة " علىَّ " ليس لها مفهوم مخالف ". الرابعة: هل الكذب المنهى عنه هو الكذب الخاص بأمر الدين أم هو نهىٌ عام؟ قال ابن بطال فى شرحه للبخارى (¬2): ¬

_ (¬1) شرح مسلم - النووى، 66 (¬2) شرح البخارى لابن بطال، حـ 1، 183

" فإن قيل: ذلك عامٌ فى كل كذب فى أمر الدين، وغيره أو فى بعض الأمور؟. قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فقال بعضهم: معناه الخصوص، والمراد: من كذب عليه فى الدين، فنسب إليه تحريم حلال، أو تحليل حرام متعمدًا." وقال النووى (¬1): "والصواب فى ذلك أن قوله على العموم فى كل من تعمد عليه كذبًا فى دين أو دنيا، لأنه (- صلى الله عليه وسلم -) كان ينهى عن معانى الكذب كلها إلا ما رخَّص فيه من كذب الرجل لامرأته، وكذلك فى الحرب، والإصلاح بين الناس. ا-هـ وقال ابن دقيق العيد: " والصوابُ عُمومه فى كل خبَر تُعُمد به الكذب عليه (- صلى الله عليه وسلم -) " وقال ابن حجر: " هو عام فى كل كاذبٍ، مطلقٌ فى كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسبوا الكذب إلىّ " الخامسة: هل الكذب المنهى عنه متوقف على حال اليقظة فقط أم يدخل فيه حال المنام؟ قال ابن حجر فى سبب ذكر حديث أبى هريرة بطوله فى الباب رغم أنه مخالفٌ لعمل البخارى فى ذكر محل الشاهد فقط من الحديث وفيه " من رآنى فى المنام فقد رآنى " قال: وإنما ساقه المؤلف بتمامه ولم يختصره كعادته لينبه على أن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - يستوي فيه اليقظة والمنام. وقد ذكر النبىُّ ذلك صراحةً كما عند البخارى من حديث واثلة بن الأسقع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل) وفى رواية ابن عمر عند البخارىِّ ايضاً قال - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ" قال ابن حجر: " أي يدعي أن عينيه رأتا في المنام شيئا ما رأتاه، ولأحمد وابن حبان والحاكم من وجه آخر عن واثلة " أن يفتري الرجل على عينيه فيقول رأيت ولم ير في المنام شيئا ". ¬

_ (¬1) شرح مسلم - النووى

وقال العينى فى عمدة القارى: " فإن قلت إن كذبه في المنام لا يزيد على كذبه في اليقظة فلم زادت عقوبته؟ قلت: " لأن الرؤيا جزء من النبوة، والنبوة لا تكون إلا وحيا، والكاذب في الرؤيا يدعي أن الله أراه ما لم يره، وأعطاه جزءا من النبوة ولم يعطه، والكاذب على الله أعظم فرية ممن كذب على غيره ". السادسة: هل يؤخذ من الحديث تحريم الرواية بالمعنى؟ اختلف أهل العلم فى الرواية بالمعنى وهذ الحديث مما احتج به القائلين بالمنع، قال ابن حجر: " وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى. وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهي عن الإتيان بلفظ يوجب تغير الحكم مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته. والله أعلم." والراجح جواز المعنى بشروط. قال النووى: " لمن هو كامل المعرفة " ثم قال النووى: " قال العلماء: ويستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده أوكما قال أو نحو هذا كما فعلته الصحابة فمن بعدهم والله أعلم. السابعة: لماذا هذا الوعيد متعلقٌ بالكذب على النبي (- صلى الله عليه وسلم -) دون غيره رغم أن الكذب كله حرام؟ الكذب على النبى - صلى الله عليه وسلم - ليس ككذبٍ على غيره كما فى حديث المغيرة فى الجنائز، حيث أن التقول على النبى (- صلى الله عليه وسلم -) يقتضى الكذب على الله فيدخل فى الدين ما ليس منه أو يخرج منه ما هو فيه، فإن كان الكذب حرامٌ إلا ما استثناه الشرع، فهنا قد ضم ذنباً آخر، ألا وهو: أن الذى يكذب على النبى (- صلى الله عليه وسلم -) جعل نفسه شريكاً لله فى التشريع. وكفى به ذنباً. وقال إمام الحرمين (¬1): " وإنما كان هذا الوعيد لعظم مفسدته - أى الكذب على النبىِّ - فانه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة فان مفسدتهما قاصرة ليست عامة" ¬

_ (¬1) شرح مسلم للنووى، حـ 1، 67

وقال على القارى فى " تعليقاته ": ولا يبعد أن يقال: الكذب عليه كبيرة وعلى غيره صغيرة وقد تكفر الصغائر عند اجتناب الكبائر، فالمراد: أن الكذب عليه يجعل النار مسكناً لفاعله البته، بخلاف الكذب على غيره فإنه تحت المشيئة وقابل للعفو والشفاعة، فيكون مآل الحال إلى أن الأمر للتأكيد فى الوعيد، وللتشديد فى التهديد ". الثامنة: كيف تعامل الصحابة مع هذا النص النبوى؟ قال ابن حجر وهو يعلق على حديث الزبير لما سأله ابنه عامر:" إنى لا أسمعك تحدث عن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) كما يحدث فلانٌ وفلان؟ فأجابه بعظم الأمر كما بينه هذا الحديث، قال: " فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة (¬1) عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على: - أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت .. - أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان. رضي الله عنهم. فبهذا الكلام قد ذهب الصحابة إلى التقليل من التحديث إلا إذا احتيج إلى ذلك، لأن الإكثار مظنة الوقوع فى الخطأ، يقول ابن حجر مدافعاً عن مذهب ابن الزبير: " ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ، والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر؛ لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سببا للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار " ا-هـ ¬

_ (¬1) ومن ذلك أنس وعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، وسعدا، والمقداد بن الأسود، وعبدالرحمنِ بن عوفٍ - رضي الله عنه -

وقال البغوى (¬1) معلقاً على الحديث: " ولذلك كره قوم من الصحابة والتابعين إكثار الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خوفا من الزيادة والنقصان، والغلط فيه، حتى إن من التابعين كان يهاب رفع المرفوع، فيوقفه على الصحابي، ويقول: الكذب عليه أهون من الكذب على رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)، ومنهم من يسند الحديث حتى إذا بلغ به النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال: قال، ولم يقل: رسول الله، ومنهم من يقول: رفعه ومنهم من يقول: رواية، ومنهم من يقول: يبلغ به النبي (- صلى الله عليه وسلم -)، وكل ذلك هيبة للحديث عن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وخوفا من الوعيد."اهـ وفى التمهيد (¬2): عن طاوس قال: " كنت عند ابن عباس وبشير بن كعب العدوى يحدثه فقال ابن عباس: عُدْ لحديث كذا وكذا، فعاد له، ثم إنه حدث، فقال له ابن عباس: " عُدْ لحديث كذا وكذا "، فعاد له ثم إنه حدث، فقال له بشير: " ما لك تسألني عن هذا الحديث من بين حديثي كله؟! أأنكرت حديثي كله وعرفت هذا أو عرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟! فقال له ابن عباس: " إنا كنا نحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه." التاسعة: هل توبة من كذب على النبى - صلى الله عليه وسلم - تؤثر فى الرواية عنه بعد ذلك؟ (¬3) قال النووى نقلاً عن الجوينى: " من كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمدا فى حديث واحد فسق وردت رواياتة كلها وبطل الاحتجاج بجميعها فلو تاب وحسنت توبته فذلك فيه خلاف: ¬

_ (¬1) شرح السنة للبغوى (1/ 255) (¬2) التمهيد، حـ 1، 43 (¬3) شرح مسلم، المقدمة - النووى 67

قال جماعة من أهل العلم منهم؛ أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدى شيخ البخارى، وصاحب الشافعى، وأبو بكر الصيرفى من فقهاء اصحابنا الشافعيين وأصحاب الوجوه منهم ومتقدميهم فى الاصول والفروع: " لا تؤثر توبته فى ذلك ولا تقبل روايته أبدا بل يحتم جرحه دائما ". وأطلق الصيرفى وقال: "كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك ". وقال النووىُّ معلقاً: وهذا الذى ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية والمختار القطع بصحة توبته فى هذا وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة وهى الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها والعزم على أن لايعود إليها فهذا هو الجاري على قواعد الشرع وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرا فأسلم وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة وأجمعوا على قبول شهادته ولا فرق بين الشهادة والرواية فى هذا والله أعلم. العاشرة: هل الكذب يشترط فيه العمد أم يستوى فيه العمد والسهو. قال النووى فى شرح مسلم: مذهب أهل السنة أن الكذب يتناول أخبار العامد والساهى عن الشيء بخلاف ما هو عليه فى الحقيقة، خلافاً للمعتزلة الذين اشترطوا العمد. وفصل ابن مفلح مذهب المعتزلة فقال: " وعند بعض المتكلمين شرط الكذب العمدية وعند بعضهم أيضا يعتبر للصدق الاعتقاد وإلا فهو كاذب ". ولأهل السنة أدلتهم فى ذلك، وهى كثيرة، منها: حديث سلمة؛ الثانى عشر من هذه الثلاثيات وفيه: " أن عامراً أصاب نفسه فى المعركة، فمات فَقَالَ الْقَوْمُ: حَبِطَ عَمَلُهُ، قَتَلَ نَفْسَهُ، فأتى سلمةُ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " إن الناس يزعمون أن عامراً قتل نفسه، فقال: " كذب من قالها " فحكم النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - على قولهم أنه كذب رغم أنهم ما قصدوا كذباً ومن الأدلة أيضاً: حديث سعد بن عبادة عند البخارىَِّ أنه قال يوم فتح مكة: يا أبا سفيان اليوم

يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فأخبر أبو سفيان بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " كذب سعد " ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة. فحكم النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - على قوله بالكذب رغم أنه لم يقصد كذباً. ومن الأدلة أيضاً ما رواه مسلم، عن جابر أن عبدا لحاطب جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكو حاطبا فقال: " يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كذبت لا يدخلها فإنه قد شهد بدرا والحديبية " فحكم النبى - صلى الله عليه وسلم - بالكذب رغم أنه لم يقصد كذباً. فهذه جملة من الأدلة تثبت ما ذهب إليه أهل السنة من تساوى العمد والسهو فى الكذب. وقد ذكر مثل هذا الكلام وهذه الأدلة ابنُ مفلح فى " الآداب الشرعية ". (¬1) الحادية عشر: كيف الهروب من الوقوع فى الكذب. أول أمر يبعد الإنسان به الكذب عن نفسه أن يستثنى فيقول " إن شاء الله "، عملاً بقول الله سبحانه: " وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ..... (24) " الكهف. والعلماء فى الاستثناء المذكور فى الآية طرفان ووسط (¬2): * قال بعضهم: إن المعنى إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فقل إن شاء الله ولو كان بعد سنة. * وقال بعضهم: قالوا لا يصح الاستثناء إلا متصلا. * وجمع ابن جرير بين المذهبين فقال: الصواب له أن يستثنى ولو بعد حِنثه في يمينه، فيقول إن شاء الله ليخرج بذلك مما يلزمه في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال إلا أن يستثني متصلا بكلامه، ومن قال له ثنياه ولو بعد سنة أراد سقوط الحرج الذي يلزمه بترك الاستثناء دون الكفارة. ¬

_ (¬1) الآداب الشرعية لابن مفلح، حـ1، صـ 64، 65 (¬2) السابق حـ1، 63.

قال ابن الجوزي فائدة الاستثناء خروج الحالف من الكذب إذا لم يفعل ما حلف عليه قال موسى عليه السلام {ستجدني إن شاء الله صابرا} ولم يصبر فسلم منه بالاستثناء. الثانية عشر: هل على الكاذب كفارة. قال ابن مفلح (¬1): " الكذب ليس فيه كفارة، وهو أشد من اليمين، لأن اليمين تكفر والكذب لا يكفر " فالكفارة المذكورة فى المسألة السابقة إنما يكون لمن حلف ثم حنث فى يمينه، أما من غير يمين فهو كذب، وإن استثنى فلا شىء عليه. الثالثة عشر: هل هناك من الكذب ما هو جائز. هناك صورٌ اجاز الشرع فيها الكذب للمصلحة: من ذلك كذب الرجل على امرأته، وفى الحرب ولإصلاح ذات البين. فعن شهر عن أسماء بنت يزيد مرفوعا (¬2) " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال إلا رجل كذب لامرأته ليرضيها أو رجل كذب في خديعة حرب أو رجل كذب بين امرأين مسلمين ليصلح بينهما ". وروى البخارى ومسلم نحوه. ومن الجائز أيضاً: المعاريض، وقد بوب البخارىُّ على ذلك فقال: " وفى المعاريض مندوحةٌ عن الكذب "، وفى تفسير ابن الجوزى فى قوله (¬3): " بل فعله كبيرهم هذا " (الأنبياء، 63) قال: " المعاريض لا تذم إذا احتيج إليها " وذكر أدلةً على هذا منها: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " ما يسرني أن لي بما أعلم من معاريض القول مثل أهلي ومالي " وقال النخعي: " لهم كلام يتكلمون به إذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم" وقال ابن سيرين: " الكلام أوسع من أن يكذب ظريف " ومن الفوائد التى فى الحديث ما ذكره النووى فى مقدمة مسلم (¬4) 1 - تقرير هذه القاعدة لأهل السنة أن الكذب يتناول أخبار العامد والساهى عن الشيء بخلاف ما هو عليه فى الحقيقة، خلافاً للمعتزلة الذين اشترطوا العمد. ¬

_ (¬1) الآداب الشرعية لابن مفلح، حـ1، 63 (¬2) أحمد (6/ 454) الترمذى (1938) (¬3) الآداب الشرعية، حـ1/ 49، 50 (¬4) شرح مسلم، المقدمة - النووى، 67، 68 - بتصرف -

الحديث الثانى

2 - تعظيم تحريم الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - وأنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بهذا الكذب إلا أن يستحله. وقال البغوى (¬1): إعلم أن الكذب على النبي (- صلى الله عليه وسلم -) أعظم أنواع الكذب بعد كذب الكافر على الله، وقد قال النبي (- صلى الله عليه وسلم -): " إن كذبا علي ليس ككذبٍ على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ". 3 - لافرق فى تحريم الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - بين ما كان فى الأحكام وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك فكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح باجماع من يعتد بهم فى الاجماع خلافا للكرامية. 4 - من كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمدا فى حديث واحد فسق وردت رواياتة كلها وبطل الاحتجاج بجميعها. 5 - يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعا أو غلب على ظنه وضعه فمن روى حديثا علم أو ظن وضعه ولم يبين حال روايته ووضعه فهو داخل فى هذا الوعيد مندرج فى جملة الكاذبين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث الثانى 2 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مَا كَادَتْ الشَّاةُ تَجُوزُهَا. (497، طرفه رقم 7334) الشرح: هذا الحديث هو ثانى ثلاثيات البخارى كما نص عليه الحافظ فى الفتح. وقد اخرجه البخارى فى كتاب الصلاة، باب " قدر كم ينبغى أن يكون بين المصلى والسترة ". ¬

_ (¬1) شرح السنة للبغوى (1/ 255)

والحديث ينقل لنا مشروعية اتخاذ السترة والمسافة بين المصلى وسترته، والشاهد من قوله " جدار المسجد عند المنبر" ما قاله ابن حجر فى الفتح عن الكرمانىُّ أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يصلى بجانب المنبر ولم يكن لمسجده محراب فكانت المسافة بين النبى والجدار هى نفس المسافة بين المنبر والجدار، ثم نقل معنىً آخر عن ابن رشيد، وهو أن البخارى أراد بالترجمة ما جاء فى حديث سهل بن سعد من أن النبى صلى على المنبر فتكون المسافة بينه وبين جدار المسجد كسترة هى مسافة المنبر من الجدار وهى " ما كادت الشاة تجوزها " ثم لما كان يسجد فى أصل المنبر كانت درجة المنبر هى السترة له وهى بنفس القدر السابق. وفى الحديث عشر مسائل: الأولى: حكم السترة. السترة مشروعة فقد حافظ عليها النبى (- صلى الله عليه وسلم -) فى كل مواطن صلاته، والعلماء فيها على مذهبين: الأول: أنها على الندب وذلك عند الجمهور، ومن أدلتهم أنه قد روى عنه (- صلى الله عليه وسلم -) أنه صلى إلى غير سترة، فقالوا أن هذا صرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب. الثانى: أنها واجبة، ومن أدلتهم أن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) أمر بها وحافظ عليها طول عمره، وأولوا حديث: " أنه صلى إلى غير جدار " فقال الشوكانىُّ: " ولكنه قد تقرر في الأصول أنَّ فِعْلَه - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض القول الخاص بنا وتلك الأوامر السابقة خاصة بالأمة فلا يصلح هذا الفعل أن يكون قرينة لصرفها " ومن القائلين بالوجوب الشيخ الألبانى -رحمه الله- الثانية: كم تكون المسافة بين المصلى والسترة؟ قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود وكذلك بين الصفوف " وقد أمر النبى (- صلى الله عليه وسلم -) الدنو من السترة كما عند أبى داود.

وقد جاءت الروايات التى تذكر صفة صلاة النبى - صلى الله عليه وسلم -، بأن المسافة كانت قدر ممر الشاة، وأخرى تقول ثلاثة أذرع، فقال ابن بطال اقل المسافة ممر الشاة. وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة وأكثره ثلاثة أذرع، وجمع بعضهم فقال قدر ممر الشاة حال السجود والركوع، والثلاثة أذرع حال القيام كما ذكر ذلك ابن حجر فى الفتح. الثالثة: الحكمة من اتخاذ السترة. قال الشوكانىُّ فى نيل الأوطار: " قال العلماء: والحكمة في السترة كف البصر عما وراءها ومنع من يجتاز بقربه " وقال أيضاً: " والحكمة في الأمر من الدنو أن لا يقطع الشيطان عليه صلاته كما أخرجه أبو داود. والمرادُ بالشيطانِ المارُّ بين يدي المصلي كما في حديث (فإن أبَى فليقاتله فإنما هو شيطان) قال في شرح المصابيح: معناه يدنو من السترة حتى لا يوسوس الشيطان عليه صلاته. الرابعة: مقدار ارتفاع السترة. قال النووي: ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه. وقال ابن حجر: " اعتبر الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك. فقيل ذراع، وقيل ثلثا ذراع وهو أشهر " ا. هـ وقال الشوكانى: " السترة لا تختص بنوع بل بكل شيء ينصبه المصلي تلقاء وجهه يحصل به الامتثال" وقال أيضاً: " السترة تحصل بكل شيء ينصب تجاه المصلي وإن دق " أما الخط فالراجح من كلام أهل العلم كما ذهب الإمام مالك وعامة الفقهاء أنه لا يجزئ، واعتذروا بضعف الحديث. وقالوا: " الغرض من السترة الإعلام وهو لا يحصل بالخط " خلافاً لما ذهب إليه أحمد والشافعى فى رواية عنه. الخامسة: هل السترة خاصة بالفضاء أم بأي مكان؟

قال الشوكانى: الأحاديث تدل على عدم الفرق بين الصحاري والعمران وهو الذي ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذه السترة سواء كان في الفضاء أو في غيره وحديث أنه كان بين مصلاه وبين الجدار ممر شاة ظاهر أن المراد في مصلاه في مسجده لأن الإضافة للعهد، وكذلك حديث صلاته في الكعبة المتقدم فلا وجه لتقييد مشروعية السترة بالفضاء، وكذلك التسوية بين مكة وغيرها من البلدان وبين المسجد الحرام وغيره من المساجد لا فرق فى ذلك على الراجح من كلام أهل العلم. السادسة: وهل تشرع في موضع يأمن المصلى المرور بين يديه؟ قال النووى (¬1): " واختلفوا إذا كان في موضع يأمن المرور بين يديه، وهما قولان في مذهب مالك ومذهبنا أنها مشروعة مطلقا لعموم الأحاديث، ولأنها تصون بصره، وتمنع الشيطان المرور والتعرض لإفساد صلاته كما جاءت الأحاديث." وقال ابن الهمام من الحنفية: " لا بأس بترك السترة إذا أمن المرور " السابعة: حكم المدافعة. قال الشوكانىُّ: " قال النووي: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع، وتعقبه الحافظ بأنه قد صرح بوجوبه أهل الظاهر اهـ. وظاهر الحديث معهم " وقال أيضاً: " وحكى القاضي عياض وابن بطال الإجماع على أنه لا يجوز له المشي من مكانه ليدفعه ولا العمل الكثير في مدافعته لأن ذلك أشد في الصلاة من المرور ". وقال أيضاً: " قال الحافظ: وذهب الجمهور إلى أنه إذا مر ولم يدفعه فلا ينبغي له أن يرده لأن فيه إعادة للمرور. قال: وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وغيره أن له ذلك ". السابعة: أمْرُ النبي (- صلى الله عليه وسلم -) بمدافعة المار بين يدى المصلى هل هو لكل مصلى؟ قال النووي: واتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته بل احتاط وصلى إلى سترة أو في مكان يأمن المرور بين يديه " ¬

_ (¬1) النووى - شرح مسلم

وقال الشوكانى: " لا يجوز الدفع والمقاتلة إلا لمن كان له ستر، ثم قال: " وقد قيد بما إذا كان منفردا أو إماما وأما إذا كان مؤتما فسترة الإمام سترة له ". الثامنة: هل على المصلى شىءٌ إذا أُصيب المدفوع؟ قال الشوكانىًُّ: " قال القاضي عياض: فإن دفعه بما يجوز فهلك فلا قَوَد عليه باتفاق العلماء. وهل تجب دية أم يكون هدرا؟ مذهبان للعلماء: وهما قولان في مذهب مالك ". التاسعة: هل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي من المرور بين يديه أو لدفع الإثم عن المار؟ مذهبان لأهل العلم، ذكرهما الشوكانىُّ فقال: الأول: قال ابن أبى جمرة: الظاهر لدفع الإثم عن المار. الثانى: قال الحافظ: " وقال غيره بل الأول أظهر لأن إقبال المصلي على صلاته أولى من اشتغاله بدفع الإثم عن غيره. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته. وروى أبو نعيم عن عمر: " لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس ". قال: فهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي ولا يختص بالمار وهما وإن كانا موقوفين لفظا فحكمهما حكم الرفع لأن مثلهما لا يقال بالرأي " اهـ من فوائد الحديث: 1 - الإهتمام بكل مفردة من مفردات الدين، وعدم الإحتجاج بأن هذا من الأصول وهذا من الفروع، فقد رأينا مدى اهتمام النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - بالسترة، واهتمام الصحابة من بعده، وإن كان هذا الأمر فى أعيننا هيناً. 2 - الإهتمام بكل ما يساعد فى الخشوع فى الصلاة، وتفريغ الأعضاء من الشواغل، فاتخاذ السترة، من مشروعيته أنه يجعل المصلى لا ينشغل بالمارِّ بين يديه. 3 - إبعاد كل ما يكون سبباً فى إنقاص الأجر فى الطاعات، وخاصةً الصلاة لقول عمر - رضي الله عنه -: " لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس ".

الحديث الثالث

4 - وفيه الدقه والضبط فى نقل العلم، فإن سلمة قال: " مَا كَادَتْ الشَّاةُ تَجُوزُهَا " 5 - فيه دليل على مخالفة هدى النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ارتفاع المنبر. 6 - جواز التعدى على الآخرين فى ما جاء الشرع بجوازه، فهنا التعدى والمقاتلة للمار بين يدى المصلى. 7 - وفيه سترة الإمام سترة للمأمومين. الحديث الثالث 3 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَيُصَلِّي عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ قَالَ فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا. (502) الشرح: نص الحافظ فى الفتح على أن هذا الحديث ثالث ثلاثيات البخارى هذا الحديث أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة فى باب " السترة بمكة وغيرها "، ومسلم فى كتاب الصلاة باب " دنو المصلى من السترة " وفيه: " كان يتحرى موضع مكان المصحف يسبح فيه " والتسبيح هو: صلاة النافلة. والحديث ينقل لنا مشروعية اتخاذ السترة للمصلى كما بينا فى الحديث السابق، وفيه أيضاً مدى متابعة الصحابة للنبى (- صلى الله عليه وسلم -) ومحبتهم له. وهذا الحديث قد ساوى فيه البخاري شيخه أحمد بن حنبل، فإنه أخرجه في مسنده عن مكي بن إبراهيم. *وقوله "الأسطوانة " قال ابن حجر: " والغالب أنها من بناء، بخلاف العمود فإنه من حجر واحد. أما عن الشاهد من الحديث فقال ابن حجر:" قال ابن بطال: لما تقدم أنه (- صلى الله عليه وسلم -) كان يصلي إلى الحربة، كانت الصلاة إلى الأسطوانة أولى لأنها أشد سترة ".

* وقوله: "التي عند المصحف" قال ابن حجر: "هذا دال على أنه كان للمصحف موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ: "يصلي وراء الصندوق " وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه، والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين." ا. هـ وفيه ثلاث مسائل: ولورود هذا الحديث فى باب السترة فى مكة وجب ذكرُ مسألةٍ لم تذكر فى جملة المسائل السابقة فى الحديث السابق، وهى: الأولى: هل تشرع السترة فى مكة أم لها حكم آخر؟ قال ابن حجرفى الفتح (¬1): قال ابن المنير: إنما خص مكة بالذكر دفعا لتوهم من يتوهم أن السترة قِبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قِبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة. انتهى. والذي أظنه أنه أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد الرزاق حيث قال في " باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء " عن كثير بن كثير بن المطلب عن أبيه عن جده قال " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم - أي الناس - سترة " وأخرجه من هذا الوجه أصحاب السنن، فقال ابن حجر: " ورجاله موثقون إلا أنه معلول " ثم قال: " فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا الحديث وأن لا فرق بين مكة وغيرِها في مشروعية السترة "، واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة وفيه " أن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) صلى بهم بالبطحاء -وبين يديه عنزة - ... " وهذا هو المعروف عند الشافعية وأن لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها. واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة، وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة. الثانية: كيف التوفيق بين قوله: " الأسطوانة " التى هى من بناء وبين ما ثبت عند البخارى من حديث ابن عمر أن أعمدة مسجد النبى (- صلى الله عليه وسلم -) كانت من خشب نخل؟ ¬

_ (¬1) الفتح، حـ1، صـ718

قال على القارى (¬1): " الجواب: أن يكون قول الراوى " فيصلى عند الأسطوانة " فى خلافة عثمان (- رضي الله عنه -)، فإنه جدد عمارة المسجد النبوى وبناه مزخرفاً، فالإسطوانة كانت - حينئذ - مبنية بالحجارة والجص فلا محذور، ويؤيده قوله: " التى عند المصحف".ا. هـ. فلم يكن على عهد النبى (- صلى الله عليه وسلم -) هذا المصحف. الثالثة: ما هو المراد بالمصحف؟ قال القارى: " المراد بالمصحف ما جمع فى زمن عثمان وكتب فى محل واحد؛ فإن القرآن قبل ذلك كتب فى صحفٍ متفرقة إلى أن ولى عثمان الخلافة فأمر بجمع الصحف فى محل واحد، وأمر أن تكتب ستة مصاحف وبعث بها، واحداً إلى مكة، وإلى البصرة واحداً، وإلى الكوفة واحداً، وإلى الشام آخر، وآخر إلى البحرين، وأمسك عنده واحداً وهو الذى يوضع فى صندوق موضوع بجنب الأسطوانة المتوسطة فى المسجد النبوىّ، وكان سلمةُ أدرك عثمان بالاتفاق ". الرابعة: كيف التوفيق بين تحريه الصلاةفى موطن واحد، ونهى النبىِّ عن إيطان الرجل موضعاً من المسجد يلازمه. قال النووى فى شرح مسلم (¬2): " وفي هذا أنه لا بأس بإدامة الصلاة في موضع واحد إذا كان فيه فضل، وأما النهي عن ايطان الرجل موضعا من المسجد يلازمه فهو فيما لا فضل فيه ولا حاجة إليه فأما ما فيه فضل فقد ذكرناه، وأما من يحتاج إليه لتدريس علم أو للإفتاء أو سماع الحديث ونحو ذلك فلا كراهة فيه بل هو مستحب، لأنه من تسهيل طرق الخير، وقد نقل القاضي -رضي الله عنه- خلاف السلف في كراهة الايطان لغير حاجة والاتفاق عليه لحاجة نحو ما ذكرناه ". من فوائد الحديث: ¬

_ (¬1) تعليقات القارى على ثلاثيات البخارى، (¬2) شرح مسلم للنووى رقم (509) مجلد 2/ 189

1 - اتخاذ السترة للمصلى، وهذا ظاهرٌ فى الحديث فإن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) كان يصلى عندها والصحابة من بعده كانوا يتحرون ذلك، ومن الأدلة؛ حديث أنس بن مالك فى البخارى فى الحديث الذى يلى حديث سلمة قال "لقد رأيت كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري عند المغرب " 2 - مدى محبة الصحابة للنبى (- صلى الله عليه وسلم -) فإنهم كانوا يقلدونه فيما يقدرون عليه، وهذا التقليد لا يصدر إلا عن محبة كما يقال: " إن المحب لمن يحب مطيع ". وأمثلة ذلك كثيرة منها قول أبى أيوب لما ترك النبى (- صلى الله عليه وسلم -) الأكل من البصل فقال أبو أيوب " لا جرم أن أكره الذي تكره يا رسول الله ". 3 - وجوب إفراد النبى (- صلى الله عليه وسلم -) بالاتباع كما يفرد الله - عز وجل- بالتوحيد والعبادة. 4 - من بركة التعلم أن يستفهم الطالب أستاذه عن كل ما أشكل عليه، فإنما شفاء العىِّ السؤال. وهذا واضح من سؤال يزيد لسلمة - رضي الله عنه -. 5 - وجوب الاتِّباع وإن لم تتضح الحكمة من وراء الفعل. فيزيد -رحمه الله- سأل شيخه عن مسألة فلم يجبه عن علة الفعل إلا مجرد أنه رأى النبى (- صلى الله عليه وسلم -) فعل ذلك. 6 - وفيه تكريم المصحف الشريف فقد كان له صندوقٌ خاصٌ به كما فى رواية مسلم 7 - وفيه التلطف فى السؤال والأدب فيه، والتقديم للسؤال بما يحبه الشيخ، فقد قال يزيد لسلمة: " يا أبا مسلم .. " فقد كناه، والكنية أحب إلى النفس. 8 - وفيه السؤال على ما يستغربه المرء، إن كان فى ذلك منفعة. فقال يزيد لسلمة: " أراك تتحرى الصلاة عند هذه الاسطوانة ". 9 - وفيه أنه لا بأس بإدامة الصلاة فى مكان واحد إذا كان فيه فضل. قاله النووى.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 4 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَغْرِبَ إِذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. (561) حـ2 الشرح: نص الحافظ فى الفتح أن هذا الحديث من ثلاثيات البخارى، وهو فى "ثلاثيات مسند الإمام أحمد " وأورده البخارى فى كتاب مواقيت الصلاة، باب " وقت المغرب "، فقد قال الله تعالى " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً " وموقوتاً أى موقتاً، وقته عليهم، كما قال البخارى. والميقات هو: القدر المحدد للفعل من الزمان أو المكان. والمقصود بـ " توارت بالحجاب " أى الشمس بدلالة لفظ المغرب عليها. وفى الحديث ثلاث مسائل: الأولى: متى يدخل وقت المغرب؟ قال ابن حجر: سقوط قرص الشمس يدخل به وقت المغرب، ولا يخفى أن محله ما إذا كان لا يحول بين رؤيتها غاربة وبين الرائى حائل. ا. هـ قال ابن رجب فى شرحه للبخارى: إن مجرد غيبوبة القرص يدخل به وقت صلاة المغرب، كما يفطر الصائم بذلك، وهذا إجماع من أهل العلم حكاه ابن المنذر وغيره. الثانية: متى يخرج وقت المغرب؟ العلماء على مذهبين فى ذلك، وقد نقل ذلك البدر العينى وابن رجب فى شرحيهما للبخارى، وهو بتصرف كالآتى: الأول: ذهب طائفة إلى أن للمغرب وقتاً واحداً حين تغرب الشمس، ويتوضأ ويصلي ثلاث ركعات، وهو قول ابن المبارك، ومالك في المشهور عنه، والأوزاعي، والشافعي في ظاهر مذهبه. وحجتهم حديث إمامة جبريل، وفيه " أنه صلى فى اليوم الأول والثانى المغرب حين غربت الشمس وقتاً " الثانى: أن وقته ممدود، وهو ما رجحه البخارى، ثم اختلفوا فى نهايته على أقوال: أ- متى غاب الشفق فات وقت المغرب، واختلفوا فى الشفق هل هو الحمرة أم البياض على قولين عند أحمد: * ومذهب الثوري ومالك والشافعي: أنه الحمرة.

* ومذهب أبي حنيفة والمزني ورواية عن مالك: أنه البياض، وقال البدر العينى: ورُوي ذلك عن أبي بكر الصديق وعائشة وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وأبي ابن كعب وعبد الله بن الزبير. وذهب ابن حجر (¬1) إلى أن وقت المغرب ممتد إلى العشاء فقال: وذلك أنه لو كان مضيقا لانفصل عن وقت العشاء، ولو كان منفصلا لم يجمع بينهما كما في الصبح والظهر وقال: وأما الأحاديث التي أوردها في الباب فليس فيها ما يدل على أن الوقت مضيق، لأنه ليس فيها إلا مجرد المبادرة إلى الصلاة في أول وقتها، وكانت تلك عادته - صلى الله عليه وسلم - في جميع الصلوات إلا فيما ثبت فيه خلاف ذلك. ب - وروي عن عطاء وطاوس: لا يفوت حتى يفوت العشاء بطلوع الفجر، وحكي رواية عن مالك، والأحاديث ترده. الثالثة: هل يستحب أن يفصل بين آذان المغرب وإقامتها بجلسة خفيفة؟ قال ابن رجب فى شرحه للبخارى: فيه قولان: أحدهما: يستحب، وهو قول النخعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي يوسف ومحمد. وقال أحمد: الفصل بينهما بقدر ركعتين كما كانوا يصلون الركعتين في عهد النبي (بين الأذان والإقامة للمغرب). والقول الثاني: لا يستحب الفصل بجلوس ولا غيره؛ لأن وقتها مضيق، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: يفصل بينهما بسكتة بقدر ثلاث آيات قائماً؛ لأن مبناها على التعجيل، والقائم أقرب إليه، فإن وصل الإقامة بالأذان كره عنده. وعند الشافعي وأصحابه: يفصل بينهما فصلاً يسيراً بقعدة أو سكوت ونحوهما. من فوائد الحديث: 1 - مدى الاهتمام الكامل من الصحابة على مواقيت الصلاة خاصة وما كان عليه النبى (- صلى الله عليه وسلم -) عامة. 2 - من إقامة الصلاة المحافظة على أدائها فى أوقاتها. 3 - فيه دليلٌ على قول النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -: " نحن أمة لا نكتب ولا نحسب ... " فكان اعتمادهم فى حساب المواقيت إنما هو حركة الشمس، وذلك فى قوله: " حتى توارت بالحجاب ". ¬

_ (¬1) الفتح حـ2،صـ51 (18 - باب وقت المغرب)

الحديث الخامس والسادس

الحديث الخامس والسادس 5 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ. (1924) 6 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ" ... (2007) الشرح: الحديث الأول قال الكرمانىُّ عنه: " واعلم أن هذا الحديث خامس الثلاثيات ". وقد أخرجه البخارى فى كتاب الصوم، باب " إذا نوى بالنهار صوماً ". والحديث الثانى فى كتاب الصوم أيضاً، باب " صيام يوم عاشوراء "، وذكره فى كتاب أخبار الآحاد عن يزيد بسند رباعى، باب " ما كان يبعث النبى (- صلى الله عليه وسلم -) من الأمراء والرسل واحداً بعد واحد " برقم (7263). وقد وقع للدارمى بسندٍ ثلاثى فالدارمي عبد الله بن عبد الرحمن له ثلاثيات منها كما في سننه أو مسنده هذا الحديث، قال: أخبرنا أبو عاصم عن يزيد بن أبى عبيد عن سلمة بن الأكوع: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - بعث يوم عاشوراء رجلا من أسلم "إن اليوم يوم عاشوراء فمن كان أكل أو شرب فليتم بقية يومه ومن لم يكن أكل أو شرب فليصمه "

ويوم عاشوراء: هو اليوم العاشر من المحرم خلافاً للقائلين بأنه اليوم التاسع، وهذا اليوم صامته اليهود لأنه اليوم الذى أنجى الله فيه موسى من الغرق، وكانت العرب تصومه فى الجاهلية، والسبب فى ذلك يحتمل ما ذكره ابن حجر عن عكرمة أنه سُئل عن ذلك فقال: " أذنبت قريش ذنباً في الجاهلية فعظم في صدورهم فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك ". وصامه النبى (- صلى الله عليه وسلم -) فى مكة وصامه فى المدينة تأكيدا فى فضله وموافقةً لأهل الكتاب لأنه كان يحب ذلك حتى يُنهى عنه، ثم انتهى الأمر به أنه سيخالفهم بإضافة التاسع إليه على الراجح من كلام أهل العلم. وهو من الأيام التى يتأكد استحباب صومها فقد قال النبى (- صلى الله عليه وسلم -) كما عند مسلم من حديث أبى قتادة: " أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله ". وفى الحديث ست مسائل: الأولى: هل يلزم فى صيام التطوع تبييت النية؟ فيه مذهبان لأهل العلم: قال ابن بطال (بتصرف) الأول: قول الجمهور وقالوا بجواز صوم النافلة بنية فى النهار. وسلكوا مسلك الجمع بين حديث حفصة وعائشة، فحملوا حديث حفصة على صيام الفرض، وحديث عائشة على صيام التطوع، وقد ثبت إنشاء النية فى النهار عن عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبى أيوب، وأبى الدرداء وحذيفة وأبى طلحة. وذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم واختلفوا على أقصى المدة التى يجوز لمن أراد الصيام أن ينوى فيها على قولين: أ: لا تصح النية إلا قبل الزوال وهو قول أبى حنيفة والمشهور عن الشافعى. ب: أنه يصح فى أى وقت من النهار، وهو قول أحمد وقول للشافعى وهو قول أكثر السلف، واحتجوا بحديث سلمة بن الأكوع هذا وبحديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل على بعض أزواجه فيقول: (هل عنكم من غداء؟ فإذا قالوا: لا، قال: فإنى إذا صائم). الثانى: لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل كالفرض سواء.

وذهب إليه مالك، وابن أبى ذئب، والليث، والمزنى، وابن حزم وتبعه الشوكانىُّ، وهو مذهب ابن عمر، وعائشة وحفصة، وحجتهم حديث حفصة، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) قال النسائى: الصواب فى هذا الحديث أنه موقوف. وردوا على مذهب الأولين فقالوا: " حديث سلمة بن الأكوع فى صوم عاشوراء منسوخ فنسخت شرائطه، فلا يجوز رد غيره إليه، وحديث عائشة اضطرب فى إسناده. الثانية: صيام يوم عاشوراء كان فرضاً أم لا؟ اختلف أهل العلم فى ذلك على قولين: الأول: أنه لم يكن واجبا.

واحتج القائلون بحديث معاوية المتفق عليه أن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) قال: " هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر "، واحتجوا أيضاً بعدم تبييت النية من الليل كما هو معروف فى صيام الفريضة. وهذا هو مذهب الإمام البخارى فيما يتضح من ترتيبه لأحاديث الباب، لذلك علق ابن حجر على الباب قائلاً: " ثم بدأ المصنف بالأخبار الدلة على أنه ليس بواجب "، ومال ابن حجر إلى هذا الرأى، لكنه لا يرد قول القائلين بفرضيته فقال (¬1): " والذى يترجح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضا، وعلى تقدير أنه كان فرضاً فقد نسخ بلا ريب " وقال أيضاً (¬2): " فعلى تقدير صحة قول من يدعى أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه، ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه الآن ليس بفرض والإجماع على أنه مستحب " ا. هـ ثم فى موضع آخر رجح الفرضية فقال (¬3): " ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه ثم تأكد الأمر بذلك ثم زيادة التأكيد بالنداء العام ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم " لما فرض رمضان ترك عاشوراء " مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه. وأما قول بعضهم المتروك تأكد استحبابه والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق ولا سيما استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول " لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر " ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟ " ا. هـ الثانى: أنه كان واجباً ثم نسخ، وقد أطال ابن القيم الكلام فى الدفاع عن هذا الرأى فى "زاد المعاد ". ¬

_ (¬1) الفتح، حـ4،صـ175 (¬2) الفتح، حـ4، صـ298 (¬3) السابق، صـ 300

وجملة القول، أنهم ردوا على حديث معاوية بأن ذلك كان بعد فتح مكة، لأنه أسلم متأخراً فروى ماسمع، ومعنى كلام النبى (- صلى الله عليه وسلم -) فيه أنه لم يكتب عليكم صيامه على الدوام، وأما احتجاجهم بوجوب تبييت النية فى الفريضة، فلم يعلم بصيامه إلا بالنهار فاستحالت العودة إلى الليل لتبيت النية، وقول ابن مسعود واضحٌ فى وجوبه حيث قال: " فلما فرض رمضان تُرِكَ عاشوراء " فإن صيام عاشوراء لم يترك بدليل قول النبى (- صلى الله عليه وسلم -): " لإن عشت إلى قابل لأصومن التاسع .. " فتبين أن المتروك إذن هو وجوبه وبقى الاستحباب، وقد ذكر ابن القيم مذاهب القائلين بفرضيته فى كيفية التوفيق بين الأدلة على أربعة طرق: الأولى: أن التبييت هو تجديد لحكم واجب، فإجزاء صيام يوم عاشوراء بنية من النهار قبل فرض رمضان وقبل فرض التبييت من الليل ثم نسخ وجوب صومه برمضان وتجدد وجوب التبييت. الثانية: هي طريقة أصحاب أبي حنيفة أن وجوب صيام يوم عاشوراء تضمن أمرين: وجوب صوم ذلك اليوم وإجزاء صومه بنية من النهار ثم نسخ تعيين الواجب بواجب آخر فبقي حكم الإجزاء بنية من النهار غير منسوخ. الثالثة: وهي أن الواجب تابع للعلم ووجوب عاشوراء إنما علم من النهار وحينئذ فلم يكن التبييت ممكنا فالنية وجبت وقت تجدد الوجوب والعلم به وإلا كان تكليفا بما لا يطاق وهو ممتنع، قال وهى طريقة شيخ الإسلام، وهى أصح الطرق، ولا يقال: " إنه ترك التبييت الواجب، إذ وجوب التبييت تابعٌ للعلم بوجوب المبيت". الرابعة: كان عاشوراء فرضا وكان يجزىء صيامه بنية من النهار ثم نسخ الحكم بوجوبه فنسخت متعلقاته ومن متعلقاته إجزاء صيامه بنية من النهار لأن متعلقاته تابعة له وإذا زال المتبوع زالت توابعه وتعلقاته. الثالثة: مراتب صوم عاشوراء؟ ذكر العلماء فى ذلك ثلاثَ مراتب، ذكرها ابن القيم أيضاً فى الزاد وابن حجر فى الفتح وهى (¬1): ¬

_ (¬1) زاد المعاد حـ2، صـ72، والفتح حـ4 صـ298

* أن يُصام قبله يوم وبعده يوم، وقدمه ابن القيم وابن حجر على غيره من المراتب، " ولكن الرواية التى جاءت بذلك أخرجها البيهقىُّ بسند ضعيف فلا يذهب إلى هذه المرتبة " * أن يصام التاسع والعاشر، وذهب إلى ذلك الإمام مالك والشافعى وأحمد تبعاً لرواية ابن عباس عند مسلم، لمخالفة اليهود. * أن يصام التاسع فقط، والقائلين به احتجوا بكلام ابن عباس لمن سأله: " أعدد وأصبح يوم التاسع صائماً " ولكنهم لم يقفوا على مقصد ابن عباس فى إجابته على السائل فإنه أرشد السائل إلى صيام التاسع معتمداً على ما هو مقرر عنده من صيام العاشر فيجمع بينهما، قال ابن القيم: " وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وتركها، وهو بعيدٌ من اللغة والشرع" الرابعة: أيهما أفضل يوم عاشوراء أم يوم عرفة؟ يوم عرفة مقدم لما ثبت عند مسلم من حديث أبى قتادة " إن صوم عاشوراء يكفر سنة، وإن صيام يوم عرفة يكفر سنتين " قال ابن حجر (¬1): " وظاهر هذا الحديث أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء، وقد قيل الحكمة فى ذلك أن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام ويوم عرفة منسوب إلى النبى (- صلى الله عليه وسلم -) فلذلك كان أفضل " ا. هـ الخامسة: العلة فى كلام النبى - صلى الله عليه وسلم - أن من أكل فى النهار فليمسك بقية يومه؟ قال النووى فى شرحه لمسلم: " حرمة لليوم كما لو أصبح يوم الشك مفطرا ثم ثبت أنه من رمضان يجب امساك بقية يومه حرمة لليوم وأجاب العلماء فقالوا: أن المراد امساك بقية النهار لا حقيقة الصوم والدليل على هذا أنهم أكلوا ثم أمروا بالاتمام وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط اجزاء النية في النهار في الفرض والنفل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل أو غيره ". ¬

_ (¬1) الفتح حـ4، صـ 302

وهذا قد تقدمه مفسدٌ للصوم وهو الأكل، فلا يصح الصيام، وما دام ذلك كذلك فإن إمساكهم كان لعلةٍ أخرى ألا وهى حرمة اليوم، وليس إجزاءًً، ثم إن قيل إتمامهم هذا كان حرمةٌ للصوم، فأين حق هذا اليوم على الذى لم يصم، وقد كان فرضاً على أصح قولى العلماء؟، قيل: لا يمنع هذا من قضائهم لليوم بعد ذلك، وقد يستأنس بما عند أبى داود - وإن كان بالحديث ضعفٌ كما قال الألبانىُّ - من أن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " فأتموا بقية يومكم واقضوه " (¬1). السادسة: هل يستحب فى يوم عاشوراء الاحتفالات والتوسعة على الأهل وغيرها من هذه الأمور؟ قال شيخ الإسلام فى مجموع الفتاوى (¬2): "لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين؛ لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئا لا عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ولا الصحابة ولا التابعبن لا صحيحا ولا ضعيفا لا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا المسانيد ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة، ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث، ثم قال: ورواية هذا كله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة. ¬

_ (¬1) ضعيف أبى داود، الألبانى - باب فضل صوم عاشوراء. (¬2) مجموعة الفتاوى، حـ13، صـ 159،160

ثم قال: وأما سائر الأمور: مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة أو تجديد لباس وتوسيع نفقة أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم أو فعل عبادة مختصة كصلاة مختصة به أو قصد الذبح أو إدخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب أو الإكتحال والإختضاب أو الاغتسال أو التصافح أو التزاور أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه الراشدون ولا استحبها أحدٌ من أئمة المسلمين لا مالك ولا الثوري ولا الليث بن سعد ولا أبو حنيفة ولا الأوزاعي ولا الشافعي ولا أحمد ابن حنبل ولا إسحاق بن راهويه ولا أمثال هؤلاء من أئمة المسلمين وعلماء المسلمين، وإن كان بعض المتأخرين من أتباع الأئمة قد كانوا يأمرون ببعض ذلك ويروون في ذلك أحاديث وأثارا ويقولون: إن بعض ذلك صحيح فهم مخطئون غالطون بلا ريب عند أهل المعرفة بحقائق الأمور وقد قال حرب الكِرْماني في مسائله: سُئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث: " من وسع على أهله يوم عاشوراء " فلم يره شيئا. ثم قال رحمه الله: " وأما قول ابن عيينة:" جربناه منذ ستين عاماً فوجدناه صحيحاً " -يعنى بذلك من وسع على أهله- فإنه لا حجة فيه فإن الله سبحانه أنعم عليه برزقه، وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه، وهذا كما أن كثيرا من الناس ينذرون نذرا لحاجة يطلبها فيقضي الله حاجته فيظن أن النذر كان السبب. من فوائد الحديث: 1 - يوم عاشوراء من الأيام التى يتأكد استحباب صومها. 2 - وفيه أن كل راعٍ مسئولٌ عن رعيته، فى أمر دينهم ودنياهم. 3 - وفيه السمع والطاعة، فى المعروف، فقد أمر النبى رجلاً من أسلم ينادى فنادى، وأمر الناس بالصيام فصاموا. 4 - وفيه مدى متابعة الصحابة للنبىِّ.

5 - وفيه أن الثواب والعقاب متوقفٌ على العلم، فبداية العلم هو بداية قيام الحجة على الناس، ويؤخذ من ذلك: 6 - القول بالعذر بالجهل. 7 - وفيه الأخذ بأحاديث الآحاد، فإن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - أرسل رجلاً ينادى، وقامت الحجة بذلك، وساقه البخارى فى كتاب الآحاد. 8 - وفيه تعظيم ما عظم الله، ولكن بما شرع الله، ولا يجوز استحسان شيء لم يأت الدليل به، فيوم عاشوراء من الأيام المعظمة عند الله لما وقع فيه من أحداث، فوجب علينا تعظيمه.، ولكن بدون تخصيصه بعبادةٍ معينه، أو طعام معين، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام فى الكلام السابق. 9 - وفيه ما لا يدرك كله لا يترك كله. 10 - وفيه شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يأت دليل بالمخالفة. 11 - وفيه الشكر على نعم الله تعالى، فقد صامه موسى شكراً لله سبحانه. 12 - وفيه وجوب مخالفة اليهود والنصارى، وعدم موافقتهم فى أحوالهم. 13 - وفيه الفائدة من تتبع طرق الحديث، فإنه يوضح بعضها بعضا، كتقيد مطلق، وتخصيص عام، وذلك فى قوله فى الرواية الأولى: " رجلاً .. " على الإبهام، ثم وضح فى الرواية الثانية فقال: " رجلاً من أسلم ". 14 - وفيه تمرين الصبيان على الطاعات وتعويدهم العبادات كما جاء فى رواية مسلم وفيه: " فكنا بعد ذلك نصومه ونصوِّم صبياننا الصغار منهم ".

الحديث السابع والثامن

الحديث السابع والثامن 7 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ فَقَالُوا صَلِّ عَلَيْهَا فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لَا قَالَ فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا لَا فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيْهَا قَالَ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ قَالَ فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا قَالَ هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ (2289) 8 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: لَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ " ... (2295) الشرح: الحديث الأول قال عنه القسطلانىُّ فى شرح البخارى: " وهو سابع ثلاثياته "

وقد أخرجه البخارى فى كتاب الحوالة، " بَاب إِنْ أَحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ "، والحَوالة بفتح الحاء وقد تكسر مشتقة من التحويل أو من الحئول، وهي عند الفقهاء: "نقل دين من ذمة إلى ذمة " والحديث الثانى قال الكرمانىُّ فيه: " وهذا الحديث ثامن ثلاثيات البخارى " وأخرجه البخارى فى كتاب الكفالة، باب " من تكفل عن ميتٍ ديناً فليس له أن يرجع، وبه قال الحسن " وأصل الكفالة فى المال قوله تعالى: " وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ " (يوسف، 72)، أى: كفيل وضامن. أما الكفالة بالنفس فاختُلف فيها كما سنبيه إن شاء الله. والحديث ينقل لنا عظم الدَّين وشدته، وأنه يجب على العبد أن لا يترك عليه دَيْن، فإنه لا يدرى هل حين موته سيجد من يتحمل عنه الدَّيْن أم لا، وقد ذكر بعض أهل العلم ذلك سبباً عن امتناع النبىِّ من الصلاة على من كان هذا حاله. والحديث ينقل لنا أيضاً حال النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -) فى أول الأمر فقد كان يترك الصلاة على من مات وعليه دينٌ، فلما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته». رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث جابر. فتخيل شدة الدين من خلال ترك النبى (- صلى الله عليه وسلم -) الشفاعة له بالصلاة عليه. وفيه ثمان مسائل: الأولى: لماذا ترجم له البخارى بالحوالة مع أنه فى الضمان؟ قال ابن حجر: " قال ابن بطال: إنما ترجم بالحوالة فقال " إن أحال دين الميت " ثم أدخل حديث سلمة وهو في الضمان لأن الحوالة والضمان عند بعض العلماء متقاربان، وإليه ذهب أبو ثور لأنهما ينتظمان في كون كل منهما نقل ذمة رجل إلى ذمة رجل آخر، والضمان في هذا الحديث نقل ما في ذمة الميت إلى ذمة الضامن فصار كالحوالة سواء " الثانية: مدى مشروعية ضمان ما على الميت من دين ولم يترك وفاءً؟

اختلف أهل العلم فيها: قال ابن حجر (¬1): قال ابن بطال: ا- ذهب الجمهور إلى صحة هذه الكفالة ولا رجوع له في مال الميت. وهو الراجح. وبه قال الحسن، وابن أبي ليلى، والشافعي. ب - وعن مالك له أن يرجع إن قال إنما ضمنت لأرجع، فإذا لم يكن للميت مال وعلم الضامن بذلك فلا رجوع له. حـ- وعن أبي حنيفة إن ترك الميت وفاءً جاز الضمان بقدر ما ترك، وإن لم يترك وفاء لم يصح ذلك، وخالفه تلميذه أبو يوسف وقال: " الكفالة جائزة كان له مخاطب أو لم يكن" وقال ابن المنذر: " فخالف أبو حنيفة هذا الحديث "، ورد البغوى (¬2) على مذهب أبى حنيفة فقال: " وبالاتفاق لو ضمن عن حي معسر دينا، ثم مات من عليه الدين كان الضمان بحاله، فلما لم يناف موت المعسر دوام الضمان لا ينافي ابتداءه. وهذا الحديث حجة للجمهور، وقد بالغ الطحاوى الحنفى فى نصرة قول الجمهور. الثالثة: علة امتناع النبى (- صلى الله عليه وسلم -) الصلاة فى أول أمره على من عليه دين؟ قال ابن حجر: " قال العلماء كأن الذى فعله (- صلى الله عليه وسلم -) من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون فى حياتهم والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبى (- صلى الله عليه وسلم -). وحكى القرطبي أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من أدان دينا غير جائز، وأما من استدان لأمر هو جائز فما كان يمتنع "فقال الشوكانىُّ معقباً على قول القرطبى بعد أن ساقه: " وفيه نظر لأن في حديث أبي هريرة ما يدل على التعميم حيث قال في رواية للبخاري: " من توفي وعليه دين " ولو كان الحال مختلفا لبينه - صلى الله عليه وسلم - ". الرابعة: هل كانت صلاته على من عليه دين محرمةٌ عليه أم جائزة؟ قال ابن حجر (¬3): " وجهان، قال النووى: الصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن كما فى حديث مسلم. ¬

_ (¬1) الفتح، حـ4، صـ 574 (¬2) شرح السنة للبغوى، حـ8، 212 (¬3) الفتح، حـ 4، صـ 586

الخامسة: هل المضمون عنه يبرأ بأداء الضامن أم بمجرد ضمانه. ورد عند أحمد (¬1) من حديث جابر جابر، قال " توفى رجل فغسلناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: تصلي عليه فخطى خطوة، ثم قال أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران على فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منه الميت؟ قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ فقال: إنما مات أمس. قال فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الآن بردت عليه جلده " قال الشوكانى معلقا على قوله " الآن بردت عليه ": " فيه دليل على أن خلوص الميت من ورطة الدين وبراءة ذمته على الحقيقة ورفع العذاب عنه إنما يكون بالقضاء عنه لا بمجرد التحمل بلفظ الضمانة، ولهذا سارع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سؤال أبي قتادة في اليوم الثاني عن القضاء " ا. هـ فكان يقول له - صلى الله عليه وسلم -: " ما فعل الديناران " رغم أنه لما تحملهما أبو قتادة قال له النبى - صلى الله عليه وسلم -: " قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منه الميت؟ قال نعم، فصلى عليه ". فلو كان الأمر مجرد التحمل ولا شىء على الميت ما أتعب النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - نفسه ولا أشغل باله ولكن لعلمه أن الميت يتعلق أمره حتى يقضى عنه الدين سأل أبا قتادة عن الدينارين. لذلك بوب عليه صاحب المنتقى فقال: " باب في أن المضمون عنه إنما يبرأ بأداء الضامن لا بمجرد ضمانه " السادسة: هل بعد الفتح كان يتحمل النبى - صلى الله عليه وسلم - دين الميت من مال المصالح أم من حرِّ ماله. فيه وجهان: ¬

_ (¬1) حسنه الأرنؤوط فى المسند (14536)

قال الشوكانىُّ (¬1): " وفي صلاته - صلى الله عليه وسلم - على من عليه دين بعد أن فتح الله عليه إشعار بأنه كان يقضيه من مال المصالح. وقيل بل كان يقضيه من خالص ملكه ". السابعة: فهل كان القضاء واجبا عليه - صلى الله عليه وسلم - أم لا: قال الشوكانىُّ: " فيه وجهان ". الثامنة: هل تجوز الكفالة بالبدن؟ مذهبان لأهل العلم: الأول: الجواز وبه قال جمهور الفقهاء كما نقا ابن بطال. وقال البغوى فى شرح السنة (¬2): " وأجاز أكثر أهل العلم الكفالة بالبدن، وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين: استتبهم وكفلهم، فتابوا، وكفلهم عشائرهم. " وهو قول مالك والليث والثورى والأوزاعى وأبو حنيفة وأحمد واختُلف عن الشافعى، فمرة أجازها ومرة ضعفها. وقال ابن بطال: " ولم يختلف الذين أجازوها فى النفس أن المطلوب إن غاب أو مات لم يقم على الكفيل به حد، ولا لزمه قصاص، فصارت الكفالة بالنفس عندهم غير موجبة لحكم فى البدن، وشذ أبو يوسف ومحمد، فأجازا الكفالة فى الحدود والقصاص، وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعى للقصاص: بينتى حاضرة، كفلته ثلاث أيام. " الثانى: لا تجوز الكفالة بالنفس، وقالت به طائفة من أهل العلم كما نقل ابن بطال. ومن الفوائد: 1 - تصح الضمانة عن الميت ويلزم الضَّمِينُ ما ضَمِنَ به، وسواء كان الميت غنيا أو فقيرا، وإلى ذلك ذهب الجمهور. كما قال الشوكانىُّ. 2 - وفيه وجوب الصلاة على الجنازة، قاله ابن حجر. 3 - صعوبة أمر الدَّيْنِ، وأنه لا ينبغى تحمله. 4 - وجود النسخ فى الشرائع، وهذا يتضح من طرق الحديث الأخرى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان فى نهاية أمره أنه يصلى على من مات وعليه دين لقوله: " فعلى دينه "، قال ابن بطال معلقاً على هذه اللفظة كما نقل الشوكانىُّ عنه: " هذا ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين وقد حكى الحازمي إجماع الأمة على ذلك ". ¬

_ (¬1) نيل الأوطار، حـ5/ 294 (¬2) شرح السنة، حـ 8، 214

5 - يلزم المتولى لأمر المسلمين أن يقضى دين الميت، فإن لم يفعل فالإثم عليه إن كان حق الميت فى بيت المال يفى بقدر ما عليه من الدين وإلا فبقسطه، قاله ابن حجر. 6 - كراهة الرجوع فى كفالة دين الميت. كما بوب عليه البخارى فى الحديث الثانى. 7 - مدى محبة النبى - صلى الله عليه وسلم - لأمته، فكان كلما قابل قتادة سأله عن الدراهم هل أداها أم لا، ولما وسع الله على النبى (- صلى الله عليه وسلم -) كان هو الضامن لأمته فمن مات وعليه دين فقضاؤه كان على النبى (- صلى الله عليه وسلم -). 8 - وفيه دليل على أنه يستحب للإمام أن يحض من تحمل عن ميت على الإسراع بالقضاء، وكذلك يستحب لسائر المسلمين؛ لأنه من المعاونة على الخير. قاله الشوكانىُّ. 9 - أن المضمون عنه إنما يبرأ بأداء الضامن لا بمجرد ضمانه. وليُعلم ذلك حتى لا يتلكأ ضامن فى أداء ما ضمنه كما نراه شائعاً بين المسلمين فى هذه الأيام. 10 - وفيه تحقيق الإيمان بأن يحب المرءُ لأخيه ما يحبه لنفسه، فقد تحمل أبو قتادة مالاً ليس معه، ولكن دفعه الإيمان لذلك. 11 - على الراعى المحافظة على حقوق الناس التى عند الغير والبحث عنها؛ لئلا تستأكل أموال الناس فتذهب، وهذا ما فعله النبى - صلى الله عليه وسلم -، فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل أبا قتادة ليطمئن على الميت كما يطمئن على الحى برد حقه له. نبه على هذا المعنى ابنُ بطال.

الحديث التاسع والعاشر

الحديث التاسع والعاشر 9 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَايَعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ أَلَا تُبَايِعُ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَأَيْضًا، فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ قَالَ عَلَى الْمَوْتِ. (2960) 10 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ بَايَعْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لِي يَا سَلَمَةُ أَلَا تُبَايِعُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْتُ فِي الْأَوَّلِ قَالَ وَفِي الثَّانِي. (7208) الشرح: قال الكرمانىُّ عن الحديث الأول: " هذا هو الحادى عشر من الثلاثيات التى فى الصحيح "، وقد عدلت هنا عن ترتيب الصحيح، تقديماً للترتيب الزمنى للأحداث، فهذه البيعة كانت فى الحديبية أى قبل خيبر بمدة زمنية. والحديث أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير، باب " البيعة فى الحرب ألا يفروا، وقال بعضهم: على الموت ... " وقد أخرجه فى الأحكام أيضاً. وهو الحديث الثانى الذى معنا باب: " من بابع مرتين ". والحديث الثانى هذا هو " الحادى والعشرون من ثلاثيات البخارى بترتيب الصحيح " كما نص عليه القسطلانى فى " إرشاد السارى "

* وفى الترجمة الأولى ذكر شيئين كان الصحابة يبايعون النبى (- صلى الله عليه وسلم -) عليهما، ولا تعارض بين الرأيين؛ عدم الفرار والموت، قال ابن حجر (¬1): " لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت وعلى عدم الفرار، لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولا بد " وقد أنكره نافع فقال: " بل بايعهم على الصبر " كما هو فى الحديث الأول من هذا الباب. فكان كلُّ مسلم يبايع النبى (- صلى الله عليه وسلم -) على أن يقيه بنفسه، ولا يفر عنه حتى يموت دونه ". و (أبو مسلم) هى كنية سلمة. وفيه ثلاث مسائل: الأولى: ما هى البيعة المذكورة، وكيف كانت؟ ¬

_ (¬1) الفتح، كتاب الجهاد والسير، باب (110) حديث رقم (2958)

البيعة المذكورة؛ هى بيعة الرضوان، وقد أخذها الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) منهم فى الحديبية وكان أمرُها أن رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وهو بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر. واستنفر العرب وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح، إلا سلاح المسافر: السيوف في القُرُب. فعلم المشركون بخروج النبى - صلى الله عليه وسلم - فتجهزوا لقتاله، ولكن لم يتم ذلك فقد غير النبى - صلى الله عليه وسلم - الطريق حتى لا يصطدم بهم، ثم بدأت المفاوضات، وقريش يأتيها من يبلغها بغرض النبى - صلى الله عليه وسلم -، وانقسمت قريش فريقين؛ فريقٌ يريد الحرب والآخر لا يرى ذلك، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرسل لهم أحد أصحابه يعرض عليهم أمره ويخبرهم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - ما جاء لقتال، فوقع الاختيار على عثمان، فجاءهم وأبلغهم، ثم أن عثمان تغيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد احتبسته قريش حتى ترى أمرها وتستشير، وطال الاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغته الإشاعة: (لا نبرح حتى نناجز القوم)، ثم دعا أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان). ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له: جَدُّ بن قَيْس.

أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذا بيده، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ .... الآية} [الفتح: 18]، وعرفت قريش ضيق الموقف فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، ثم تم الصلح ببنوده العشرة، ورجع النبى - صلى الله عليه وسلم - عن البيت ولم يعتمر عامه هذا، حتى كان فتح مكة فى العام التالى ففتحها. الثانية: الحكمة من إخفاء الشجرة التى تمت البيعة تحتها. قال ابن حجر (¬1): " والحكمة من إخفائها أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر. كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها، وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله " كانت رحمة من الله " أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى " الثالثة: العلة فى تكرار أخذ البيعة من سلمة. قال ابن المنير: الحكمة في تكراره البيعة لسلمة أنه كان مقداما في الحرب فأكد عليه العقد احتياطا. وقال ابن حجر: أو لأنه كان يقاتل قتال الفارس والراجل فتعددت البيعة بتعدد الصفة. وقال المهلب فيما ذكره ابن بطال: " أراد أن يؤكد بيعة سلمة لعلمه بشجاعته وعنائه في الإسلام وشهرته بالثبات، فلذلك أمره بتكرير المبايعة ليكون له في ذلك فضيلة " واعترض ابن حجر على هذا الكلام بقوله أنه لم يكن ظهر من سلمة ذلك بعدُ، والصحيح أن يقال أن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) تفرس فيه ذلك. ¬

_ (¬1) الموضع السابق

وقال ابن حجر بعد ذلك (¬1): " ويحتمل أن يكون سلمةُ لما بادر إلى المبايعة ثم قعد قريبا، واستمر الناس يبايعون إلى أن خفوا، أراد - صلى الله عليه وسلم - منه أن يبايع لتتوالى المبايعة معه ولا يقع فيها تخلل، لأن العادة في مبدأ كل أمر أن يكثر من يباشره فيتوالى، فإذا تناهى قد يقع بين من يجيء آخراً تخلل، ولا يلزم من ذلك اختصاص سلمة بما ذكر " من فوائد الحديث: 1 - قال ابن حجر: " قال ابن المنير: يستفاد من هذا الحديث أن إعادة لفظ العقد في النكاح وغيره ليس فسخاً للعقد الأول خلافا لمن زعم ذلك من الشافعية. قلت -أى ابن حجر-: الصحيح عندهم أنه لا يكون فسخا كما قال الجمهور. 2 - وفيه منقبةٌ لصحابة النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -) الذين بايعوا تحت الشجرة (فقد رضى الله عنهم) ومنهم سلمة. قال تعالى:" لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ " (الفتح / 18) 3 - وفيه متابعة الشيء العظيم المرة بعد الأخرى، لتظل النفسُ متعلقةً به. 4 - وفيه البيعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، دون غيره. 5 - عدم الإغترار بمعظمٍ فى الدين، لطالما لم يأتى الشرع بالأمر بتعظيمه، وإلا فمن فعل ذلك وقع فى المخالفة، وكما يقال من استحسن فقد شرع، والتشريع حقٌ خالص لله سبحانه. لأجل ذلك أخفيت الشجرة. ¬

_ (¬1) الفتح، كتاب الأحكام، حـ13، صـ 242، باب من بايع مرتين

الحديث الحادى عشر

الحديث الحادى عشر 11 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ خَرَجْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِي غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قُلْتُ: وَيْحَكَ مَا بِكَ؟ قَالَ أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا قَالَ غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ، فَصَرَخْتُ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهْ يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ وَقَدْ أَخَذُوهَا فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَقُولُ: أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ، فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا، فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ وَإِنِّي أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ فَابْعَثْ فِي إِثْرِهِمْ، فَقَالَ يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ: مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمِهِمْ. (3041) الشرح: قال الكرمانىُّ فى "شرح البخارى"، والقسطلانىُّ فى " إرشاد السارى: " هذا هو الحديث الثانى عشر من الثلاثيات " وقد أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير، " باب مَنْ رَأَى الْعَدُوَّ فَنَادَى بأَعلى صوتِه يا صباحاه حَتَّى يُسْمِعَ النَّاسَ " وفى كتاب المغازى، باب " غزوة ذات القَرَد "، والحديث ينقل لنا جانباً كبيراً من غزوة الغابة أو غزوة ذى قَرَد، والتى جزم البخارىُّ فى ترجمة الباب أنها كانت قبل خيبر بثلاث ليال، خلافاً لما قاله أصحاب السير بأنها كانت قبل الحديبية. وذى قَرَد: اسم مكان فيه ماء على مسيرة ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر على طريق الشام.

وفيها أن عبد الرحمن بن عيينة بن حصن الفزارى أغار على لقاح رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فقتل راعيها وساقها كلها، فعلم سلمةُ بذلك فصاح فى الناس، ثم تبعهم يعدو على رجله، وكان صاحب القِدْح المُعَلَّى فى استنقاذ إبل النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -)، وسلمة فى هذا الحديث يقص علينا قصته فى هذه الغزوة، وقد أخرجها مسلم وأحمد بسياق أطول من ذلك، فنقل فيها تفاصيلَ كثيرةً لهذه القصة. وكانت هذه اللقاح عشرين لَِقحة كما قال ابن سعد، فأعادوها وغنموا. ثم توَّج النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) سلمةَ بعد انتهاء هذه الغزوة بثلاثة تيجان: الأول: جعل له سهمين الفارس والراجل. والثاني: أردفه خلفه على العضباء. الثالث: قال عنه النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) " وخير رَجَّالتنا سلمة " وقوله: الِّلقاح: بكسر اللام، وهى ذوات الدَّرِّ من الإبل، وهى قريبة العهد بالولادة، واحدتها لَِقحة بالكسر وبالفتح أيضاً. كما قال النووىُّ وغيره. لابتيها (¬1): وهما حرتان تكتنفانها، قال ابن الأثير: المدينة بين حرتين عظيمتين، قال الأصمعي: هي الأرض التي قد ألبستها حجارة سود، وجمعها لابات ما بين الثلاث إلى العشر، فإذا كثرت فهي اللاَّبُ واللُّوب. ُوالرُّضع: اللئام. فيكون المعنى يوم هلاك اللئام. وقوله:" يا صباحاه " معناه: قد أغير عليكم فى الصباح، أو قد صوبحتم فخذوا حذركم. وقوله "فأسجح " بهمزة قطع أي أحسن أو ارفق. يعنى: قدرت فاعف. وهذه رواية أحمد أسوقها لما فيها من الجمال، وتكتمل لنا الصورة حول هذه الغزوة والجهد الجهيد الذى قام به سلمة (- رضي الله عنه -): ¬

_ (¬1) اللسان - لابن منظور، حـ1، 745

قال الإمام أحمد (¬1): حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة بن عمار قال حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجنا أنا ورباح غلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله كنت أريد أن أُبَدِّيه (¬2) مع الإبل فلما كان بغلس غار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتل راعيها وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل، فقلت يا رباح: اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد أغير على سرحه، قال وقمت على تل فجعلت وجهي من قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات: " يا صباحاه " ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي فجعلت أرميهم وأعقر بهم، وذلك حين يكثر الشجر فإذا رجع إلي فارس جلست له في أصل شجرة ثم رميت فلا يقبل علي فارس إلا عقرت به فجعلت أرميهم وأنا أقول: ... أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلته فيقع سهمي في الرحل حتى انتظمت كتفه فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع ¬

_ (¬1) المسند (16539) (¬2) أُبَدِّيه مع الإبل: أَي أُبْرزُه معها إلى موضع الكَلإ، وكل شيء أَظهرته فقد أَبديته وبَدَّيته (اللسان، لابن منظور)

فإذا كنتُ في الشجر أحرقتهم بالنبل، فإذا تضايقت الثنايا علوت الجبل فرديتهم بالحجارة، فما زال ذاك شأني وشأنهم أتبعهم فأرتجز حتى ما خلق الله شيئاً من ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا خلفته وراء ظهري فاستنقذته من أيديهم ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وأكثر من ثلاثين بردة يستخفون منها، ولا يلقون من ذلك شيئا إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا امتد الضحى أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مددا لهم وهم في ثنيةٍ ضيقةٍ ثم علوت الجبل فأنا فوقهم، فقال عيينة ما هذا الذي أرى؟ قالوا لقينا من هذا البَرْحَ (¬1)، ما فارقنا بسحر حتى الآن، وأخذ كل شيء في أيدينا وجعله وراء ظهره، قال عيينة: لولا أن هذا يرى أن وراءه طلبا لقد ترككم ليقم إليه نفر منكم فقام إليه منهم أربعة فصعدوا في الجبل فلما أسمعتهم الصوت قلت: أتعرفوني قالوا ومن أنت؟ قلت: أنا ابن الأكوع والذي كرم وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يطلبني منكم رجل فيدركني ولا أطلبه فيفوتني، قال رجل منهم إن أظن. قال: فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخللون الشجر وإذا أولهم الأخرم الأسدي وعلى أثره أبو قتادة فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أثر أبي قتادة المقداد الكندي، فولى المشركون مدبرين، وأنزل من الجبل فأعرض للأخرم فآخذ بعنان فرسه فقلت يا أخرم ائذن القوم - يعني احذرهم - فإني لا آمن أن يقطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال يا سلمة: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حقٌ والنارَ حقٌ فلا تحل بيني وبين الشهادة، قال فخليت عنان فرسه فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، ويعطف عليه عبد الرحمن فاختلفا طعنتين فعقر الأخرم بعبد الرحمن ¬

_ (¬1) البَرْح: الشر والعذاب الشديد (انظر اللسان)

وطعنه عبد الرحمن فقتله، فتحول عبد الرحمن عن فرس الأخرم، فلحق أبو قتادة بعبد الرحمن فاختلفا طعنتين فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم، ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا، ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شِعبٍ فيه ماء يقال له؛ ذو قَرَد، فأرادوا أن يشربوا منه فأبصروني أعدو وراءهم فعطفوا عنه واشتدوا في الثنية؛ ثنية ذي بئر، وغربت الشمس فألحق رجلا فأرميه، فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع، قال: فقال: يا ثكل أم أكوع بكرة؟ قلت: نعم أي عدو نفسه. وكان الذي رميته بكرة فأتبعته سهما آخر فعلق به سهمان ويخلفون فرسين، فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على الماء الذي جليتهم عنه ذو قرد فإذا بنبي الله - صلى الله عليه وسلم - في خمس مائة وإذا بلال قد نحر جزورا مما خلفت، فهو يشوي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كبدها وسنامها، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فقلت: يا رسول الله خلني فأنتخب من أصحابك مائة فآخذ على الكفار عشوة فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته، قال: أكنت فاعلاً ذلك يا سلمة؟ قال: نعم والذي أكرمك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رأيت نواجذه في ضوء النار، ثم قال: إنهم يقرون الآن بأرض غطفان، فجاء رجل من غطفان فقال: مَرُّوا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا، قال فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هربا فلما أصبحنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة " فأعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم الراجل والفارس جميعا، ثم أردفني وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة، فلما كان بيننا وبينها قريبا من ضحوة، وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق جعل ينادي هل من مسابق ألا رجل يسابق إلى المدينة، فأعاد ذلك مراراً، وأنا وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مردفي، قلت له: أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا؟، قال: لا إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلأسابق الرجل، قال إن شئت، قلت اذهب إليك فطفر عن راحلته وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة ثم إني ربطت عليها شرفا أوشرفين -يعني استبقيت نفسي- ثم إني عدوت حتى ألحقه فأصك بين كتفيه بيدي قلت: سبقتك والله أو كلمة نحوها، قال فضحك وقال إن أظن حتى قدمنا المدينة " وفيه ثلاث مسائل: الأولى: متى كانت غزوة ذى قَرَد، وكم كان عدد المسلمين فيها؟ * اختُلف فى ذلك، ومن كلام أهل العلم يمكننا أن نقول أن ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: كلام أهل السير أنها كانت قبل الحديبية فنقل القرطبى فى شرح مسلم أنه لا يختلف أهل السير فى أن غزوة ذات قَرَد كانت قبل الحديبية، وقال: " ويكون ما وقع فى حديث سلمة وهمٌ من الرواة "

الثانى: ما رجحه البخارى وصار إليه، وبوب عليه الباب أنها كانت قبل خيبر بثلاث ليالٍ، وإليه ذهب ابن حجر: فقال " مافى الصحيح يقدم على كلام أصحاب السير " الثالث: أن الخروج إلى ذى قرد تكرر: ذكر ابن حجر أن الحاكم قال في " الإكليل " أن الخروج إلى ذي قَرَد تكرر، ففي الأول خرج إليها زيد بن حارثة قبل أُحد، وفي الثانية خرج إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الآخر سنة خمس، والثالثة هذه المختلف فيها ا. هـ وقال ابن حجر بعد ترجيحه مذهب البخارى على مذهب أصحاب السير " أو أن تكون إغارة عيينة بن حصنٍ وقعت مرتين الأولى قبل الحديبية، والثانية بعد الحديبية وقبل خيبر" وقد استشهد بكلام الحاكم وعلق عليه بقوله: " إذا ثبت هذا قوى هذا الجمع الذى ذكرته ". * أما عدد المسلمين، فقد ابتدأت بمتابعة سلمة لفزارة، ثم تبعه جملة من فوارس المسلمين ابتدروا أمر النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -) وأمَّر عليهم سعد بن زيد، ولحقوا بسلمة وقتل أحدهم كما ذكرَتْ روايةُ أحمد، ثم اجتمع بعد ذلك للنبى (- صلى الله عليه وسلم -) خمسمائة رجل لحقوا بالفوارس، ذكر ذلك ابن كثير (¬1). الثانية: معنى قوله " واليوم يوم الرضع ": واليوم يوم الرُّضَّع" بضم الراء وتشديد المعجمة جمع راضع وهو اللئيم، فمعناه "اليوم يوم اللئام " أي اليوم يوم هلاك اللئام، والأصل فيه: " أن شخصا كان شديد البخل، فكان إذا أراد حلب ناقته ارتضع من ثديها لئلا يحلبها فيسمع جيرانه أو من يمر به صوت الحلب فيطلبون منه اللبن "، وقيل: بل صنع ذلك لئلا يتبدد من اللبن شيء إذا حلب في الإناء أو يبقى في الإناء شيء إذا شربه منه، فقالوا في المثل "الأم من راضع" وقيل: بل معنى المثل ارتضع اللؤم من بطن أمه، وقيل: كل من كان يوصف وباللؤم يوصف بالمص والرضاع، ¬

_ (¬1) البداية والنهاية، حـ4، صـ 156

وقيل: المراد من يمص طرف الخلال إذا خل أسنانه، وهو دال على شدة الحرص. وقيل: هو الراعي الذي لا يستصحب محلبا، فإذا جاءه الضيف اعتذر بأن لا محلب منه، وإذا أراد أن يشرب ارتضع ثديها. وقال أبو عمرو الشيباني: هو الذي يرتضع الشاة أو الناقة عند إرادة الحلب من شدة الشره. وقيل: أصله الشاة ترضع لبن شاتين من شدة الجوع. وقيل: معناه اليوم يعرف من ارتضع كريمة فأنجبته ولئيمة فهجنته. وقيل: معناه اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها من غيره. وقال الداودي: معناه هذا يوم شديد عليكم تفارق فيه المرضعة من أرضعته فلا تجد من ترضعه. الثالثة: لماذا لم يوافق النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) سلمة فى تتبع القوم؟ قال بن بطال فى شرحه: " فربما عادت عليه كسرة من حيث لا يظن، فبعد أن كان ظفر، يظهر به " لذلك قال له النبىُّ: " إن القوم يقرون فى قوهم " وقال أيضاً: " قال ذلك (- صلى الله عليه وسلم -) رجاء توبة منهم، ودخول فى الإسلام ". من فوائد الحديث: 1 - فيه منقبةٌ لسلمة بن الأكوع (- رضي الله عنه -) فالحديث نقل لنا شخصية سلمة، ومدى شجاعته، ومدى حبه للنبىِّ وبذله من مهجة نفسة لإستنقاذ إبل النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -) من فزارة الذين هم من غطفان، وذلك من طلوع الفجر وحتى العشاء، كل ذلك ولا يفتر عن مطاردة العدو، حتى قدم النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) والناس معه، ولم يكتف بذلك ولكن قال للنبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -) جهزنى فى مائة رجل أتبع القوم فأقتلهم فضحك النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) وأعجب بشجاعته، وقال له: " مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمِهِمْ " 2 - جواز العدو الشديد في الغزو. 3 - والإنذار بالصياح العالي قال المهلب: فيه وجوب النذير بالعسكر والسرية بالصراخ بكلمة تدل على ذلك

الحديث الثانى عشر

4 - وفيه لقاء الواحد أكثر من المثلين؛ لأن سلمة كان وحده، وألقى بنفسه إلى التهلكة، كما قال بن بطال 5 - وفيه فضل الرماية، لأنه سلمة وحده قاومهم بها وردَّ الغنيمة. 6 - وتعريف الإنسان نفسه إذا كان شجاعا ليرعب خصمه. 7 - واستحباب الثناء على الشجاع ومن فيه فضيلة لا سيما عند الصنع الجميل ليستزيد من ذلك، ومحله حيث يؤمن الافتتان. قاله بن حجر. 8 - وفيه المسابقة على الأقدام ولا خلاف في جوازه بغير عوض، وأما بالعوض فالصحيح لا يصح. والله أعلم. قاله ابن حجر، ففى رواية مسلم وأحمد أنه فى عودتهم من الغزوة تسابق سلمة ورجلٌ من الأنصار، على سمعٍ ومرأى من النبى ولم ينكر (- صلى الله عليه وسلم -). 9 - أن قوله " ياصباحاه " ليست من دعوى الجاهلية المنهي عنها لأنها استغاثة على الكفار. قاله ابن المنير 10 - وفيه تأكيد العفو عند المقدرة إن كان من باب حظ النفس، لقول النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -) لسلمة " مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ " الحديث الثانى عشر 12 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ "عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ مِنْ هُنَيَّاتِكَ، فَحَدَا بِهِمْ، فَقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ السَّائِقُ؟ " قَالُوا: عَامِرٌ فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ؟ فَأُصِيبَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ. فَقَالَ الْقَوْمُ: حَبِطَ عَمَلُهُ، قَتَلَ نَفْسَهُ.

فَلَمَّا رَجَعْتُ - وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ - فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَهَا، إِنَّ لَهُ لأَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، وَأَيُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ" (6891) الشرح: قال الكرمانىُّ فى "شرح البخارى" والقسطلانىُّ فى "إرشاد السارى": " هذا هو التاسع عشر من الثلاثيات ". وقد أخرج البخارى هذا الحديث فى كتاب الديات باب "إذا قتل نفسه خطأ فلا دية له" وذكره فى كتاب المغازي عن القعنبي وفي الأدب عن قتيبة وفي المظالم عن أبي عاصم النبيل وفي الذبائح عن مكي بن إبراهيم وفي الدعوات عن مسدد، وأخرجه مسلم وابن ماجه أيضا. وقال الإسماعيلي معلقاً على قوله: " قتل نفسه خطأ " قال: " ولا إذا قتلها عمدا " يعني أنه لا مفهوم لقوله "خطأ"، والذي يظهر أن البخاري إنما قيده بالخطأ لأنه محل الخلاف، وقد أخرج الحديث أيضاً فى "باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء" وفى " غزوة خيبر". وعامر هو ابن الأكوع فهو أخو سلمة وقيل عمه. ولم يذكر في هذه الطريق صفة قتل عامر نفسه، وقد جاء ذكر ذلك في كتاب الأدب من كتاب البخارى ففيه: "وكان سيف عامر قصيرا فتناول به يهوديا ليضربه فرجع ذبابه فأصاب ركبته " وقد تقدم في الدعوات من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد شيخ مكي بلفظ فيه: "فلما تصاف القوم أصيب عامر بقائمة سيفه فمات " قوله " من هُنَيَّاتك " بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء آخر الحروف جمع هُنَيَّة وقد تبدل الياء هاء فيقال هُنَيْهَة ويجمع على هنيهات وأراد بها الأراجيز. قوله " حدا بهم ": من الحدو وهو سوق الإبل والغناء لها، يقال حدوت الإبل حدوا وحداء، والذى كان يقوله جاء فى غزوة خيبر، قال:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما أبقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا إنا إذا صيح بنا أتينا ...... وبالصياح عولوا علينا وإنما قالوا "حبط عمله" إعمالاً لقوله تعالى: "ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُم " ولكن هذا إنما هو فيمن يتعمد قتل نفسه إذ الخطأ لا ينهى عنه أحد، وقال الداودي: ويحتمل أن يكون هذا قبل قوله تعالى: " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً " وقوله: وجاهد اسم فاعل من جهد ومجاهد اسم فاعل أيضا من جاهد. وفيه مسألتان: الأولى: هل لقاتل نفسه دية؟ على مذهبين عند أهل العلم: الأول: قال بن بطال: " قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق: تجب ديته على عاقلته (¬1)، فإن عاش فهي له عليهم وإن مات فهي لورثته. وقال الظاهرية دية من قتل نفسه على عاقلته. الثانى: وهو قول الجمهور، قالوا لا يجب في ذلك شيء، وقصة عامر هذه حجة لهم إذ لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب في هذه القصة له شيئا، ولو وجب لبينها إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد أجمعوا على أنه لو قطع طرفا من أطرافه عمدا أو خطأ لا يجب فيه شيء. وهو مذهب البخارىُّ كما بوب عليه. الثانية: حكم الحداء وما يلتحق به. ¬

_ (¬1) العاقلة هم العصبة وهم القرابة من قبل الأب الذين يعطون دية قتل الخطإ وهي صفة جماعة عاقلة (اللسان، 11/ 458)

قال ابن حجر: نقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلافٍ فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد. ا-هـ وقال أيضاً: وأخرج الطبري من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء فقال: " لا بأس به ما لم يكن فحشا". وقال ابن بطال: ما كان في الشعر والرجز ذكر الله تعالى وتعظيم له ووحدانيته وإيثار طاعته والاستسلام له فهو حسن مرغب فيه، وهو المراد في الحديث بأنه حكمة، وما كان كذبا وفحشا فهو مذموم. والأدلة فى ذلك كثيرة عن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) والصحابة والتابعين، منها ما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه من حديث جابر بن سمرة قال: "كان أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - يتذاكرون الشعر وحديث الجاهلية عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهاهم. وربما يتبسم"، أما الروايات التى جاءت فى ذم الشعر على الإطلاق قال ابن حجر عنها أنها واهية. من فوائد الحديث: 1 - استحباب الحداء في الأسفار، لتنشيط النفوس والدواب على قطع الطريق واشتغالها بسماعه عن الإحساس بألم السير. 2 - مشروعية المواساة والتعزى، كما فعل النبى (- صلى الله عليه وسلم -) لما رأى سلمة مهموما بما سمع من موت عمه. 3 - الكذب يطلق على ما يخالف الواقع عمداً كان أو خطأ. 4 - وفيه معجزة من معجزات النبى (- صلى الله عليه وسلم -) حيث قال رحمه الله، وفى رواية قال رجلٌ " وجبت يا رسول الله" وقال أبو عمر كانوا قد عرفوا أنه إذا استغفر لأحد عند الوقعة وفي المشاهد يستشهد البتة 5 - لا يؤخذ بالظاهر، وإنما للأمور بواطن فقد قالوا: " حبط عمله " فقال النبى (- صلى الله عليه وسلم -) "كذبوا "

الحديث الثالث عشر

6 - مشروعية الذب عن أعراض المسلمين، فالنبى (- صلى الله عليه وسلم -) لما نيل من عامر، وقف مدافعاً عنه وقال: " كذب من قالها ". الحديث الثالث عشر 13 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ فَقَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّاسُ أُصِيبَ سَلَمَةُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ. (4206) الشرح: قال الكرمانىُّ: " وهذا هو الرابع عشر من الثلاثيات، وكذا نص عليه العينى فى " عمدة القارى" وأخرج البخارىُّ الحديث فى كتاب المغازى، باب " غزوة خيبر " وقد ذكر البخارى فى هذا الباب ثلاثين حديثاً يخص هذه الغزوة المباركة، وكان غزوها في آخر المحرم سنة سبع، فحاصرها (- صلى الله عليه وسلم -) بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها في صفر، وهذا هو الراجح، كما قال ابن حجر. ومن ضمن الأحداث التى وقعت فى هذه الغزوة إصابة سلمة فى ركبته، فتكلم الناس فى ذلك فقدم على النبى (- صلى الله عليه وسلم -) يشكو جرحه فأيده الله بأن أراه معجزةً من معجزات النبى (- صلى الله عليه وسلم -) وعلامةً من علامات نبوته؛ وهى أن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) نفث فى جرحه فبرأ فلم يشكه بعد ذلك. وينقل الحديث لنا هذه الخصوصية لسلمة، وقد حَدَثَ مثلُها لعلىٍّ (- رضي الله عنه -) فى نفس الغزوة، لما قال (- صلى الله عليه وسلم -): لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله .. الحديث " وكان قد اشتكى عينه فتفل النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) فى عينيه ثلاثاً فكانت كأنه لم يشتكى منها. والنفثات: جمع نَفْثَة، وهي فوق النفخ ودون التفل، وقد يكون بغير ريق بخلاف التفل، وقد يكون بريق خفيف بخلاف النفخ. وفيه مسألة:

غزوة خيبر (¬1): كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد ثمانين ميلا من المدينة في جهة الشمال، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة. كانت خيبر محل نظر النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -) بعد أن فرغ من أمر قريش بعد صلح الحديبية، فإن خيبر كانت حجر عثرة أمام تبليغ دين الله، حيث أنها كانت السبب فى تأليب الأحزاب على المسلمين، حتى وصل بهم الأمر لوضع خطةٍ لاغتيال النبى (- صلى الله عليه وسلم -) فتوجه إليها النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) فى المُحرَّم، وأعلن ألا يَخرج معه إلا راغبٌ في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة. وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون: 1 ـ حصن ناعم. 2 ـ حصن الصَّعْب بن معاذ. 3 ـ حصن قلعة الزبير. 4 ـ حصن أُبَيّ. 5 ـ حصن النِّزَار. والحصون الثلاثة الأولي منها كانت تقع في منطقة يقال لها: (النَّطاة) وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمي بالشَّقِّ. أما الشطر الثاني، ويعرف بـ " الكُتَيْبة " - مُصغرة -، ففيه ثلاثة حصون فقط: 1 ـ حصن القَمُوص [وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير]. 2 ـ حصن الوَطِيح. 3 ـ حصن السُّلالم (¬2). وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة، لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها. والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال. وفيها قال النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على ¬

_ (¬1) الرحيق المختوم - المبارك فورى، صـ316: 325 (بتصرف) (¬2) بضم السين وقيل بفتحها حِصْنٌ من حصُون خَيْبَرَ ويقال فيه السُّلالِيمُ أَيضا (اللسان،12/ 289)

يديه، وكان ذلك علىٌّ (- رضي الله عنه -) وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم. عرض علىٌّ عليهم الإسلام فأبوا فقاتلوهم، يقول صاحب الرحيق المختوم: " ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دام أيامًا، لاقي المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصَّعْب، واقتحم المسلمون حصن ناعم "، ثم انتقل القتال إلى حصن الصعب وفرض المسلمون عليه الحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث فتحه الله بدعوة النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -)، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه. ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات، وكان ذلك وقت نهى النبىِّ الصحابة عن أكل الحمر الإنسية، وبعد ذلك تحول اليهود إلى قلعة الزبير فحاصرهم النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) وقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه، وفرض المسلمون عليهم الحصار، وقام أبو دجانة باقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش الإسلامي، وجري قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من القلعة، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول. ثم كان حصن النَّزَار وكان أمنعهم لأنه كان على جبل مرتفع، ولا يستطيع المسلمون اقتحامه، يقول صاحب الرحيق المختوم: " ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخري، بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم ".

ولما أتم رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فتح ناحية النطاة والشق، تحول إلى أهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص: حصن بني أبي الحُقَيْق من بني النضير، وحصن الوَطِيح والسُّلالم، وجاءهم كل فَلِّ كان انهزم من النطاة والشق، وتحصن هؤلاء أشد التحصن. ولما أتي رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إلى هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهود لا يخرجون من حصونهم، حتى همّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) الصلح. ثم كانت المفاوضة بعد ذلك، حيث أرسل ابن أبي الحُقَيْق إلى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -): أنزل فأكلمك؟ قال: (نعم)، فنزل، وصالح على حقن دماء مَنْ في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي الذهب والفضة ـ والكُرَاع والْحَلْقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان، فقال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -): " وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا "، فصالحوه على ذلك، وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح خيبر. وبعد ذلك قُتل ابن أبى الحقيق لمالٍ أخفاه. وفيها: سبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت عروسًا حديثة عهد بالدخول.

ولقد أعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر، ما بدا لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أن يقرهم، وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم، لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد، وكانت مغانمها كثيرة. وفيها دس السُّم للنبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -) بعد اطمئنانه فى خيبر. وقد اختُلف فى جملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ما بين ستة عشر رجلاً إلى واحد وتسعين. أما قتلي اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً. من فوائد الحديث: 1 - فيه تذكير بنعمة الله بفتح خيبر التى كانت تمثل حجر عثرة فى سبيل الدعوة. 2 - وفيه التذكير بعزة الإسلام والمسلمين حيث أذاقوا اليهود أشد العذاب. 3 - وفيه علامة من علامات نبوة النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك فى جرح سلمة، وعين علىِّ ? - رضي الله عنهم - 4 - الحرص التام على التعلم، كما حدث من يزيد لما سأل سلمة عن الأثر الذى رآه فى ساقه. 5 - على المرء إذا وقع فى ضائقة عليه أن يفزع إلى أهل العلم، كما حدث من سلمة مع النبى (- صلى الله عليه وسلم -) 6 - الإفتخار بنعمة الله من باب " وأما بنعمة ربك فحدث " فإن سلمة افتخر بما خصه الله بإظهار علامة من علامات نبوة النبى (- صلى الله عليه وسلم -) على نفسه، فأخبر به يزيد رغم أنه لم يسأله عنه.

الحديث الرابع والخامس عشر

7 - وفيه أن المفتى إذا سئل عن شىءٍ وعلم أن للسائل حاجةً إلى ذكر ما يتصل بمسألته استحب تعليمه إياه، وهذا ما فعله سلمة من ذكر نفث النبىِّ على جرحه ولم يرد فى سؤال يزيد. 8 - وفيه التلطف فى السؤال. حيث أن يزيد سأل سلمة بكنيته، فقال يا أبا مسلم، والكنية أقرب إلى القلب من الاسم. 9 - وفيه أنه يجوز السؤال عن الخصوصيات إذا كان فيها منفعة للعامة، وخاصةً إذا جاءت قرينةٌ توحى بذلك فجرح سلمة من خصوصياته إلا أن صحبة سلمة للنبى (- صلى الله عليه وسلم -) جعل يزيد يقدم أن من وراء جرحه هذا حدثاً ينتفع به، وينفع به من وراءه فسأله عنه. الحديث الرابع والخامس عشر 14 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رضي الله عنه - " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ عَلَامَ تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ؟ قَالُوا عَلَى الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ قَالَ اكْسِرُوهَا وَهرِيِقُوهَا قَالُوا أَلَا نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ اغْسِلُوا " قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَانَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ الْحُمُرِ الْأَنَسِيَّةِ بِنَصْبِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ (2477) 15 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ لَمَّا أَمْسَوْا يَوْمَ فَتَحُوا خَيْبَرَ أَوْقَدُوا النِّيرَانَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَامَ أَوْقَدْتُمْ هَذِهِ النِّيرَانَ قَالُوا لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ قَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَاكْسِرُوا قُدُورَهَا فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ ذَاكَ. (5497) الشرح:

أما الحديث الأول فقد قال القسطلانىُّ فى "إرشاد السارى": " هذا الحديث تاسع ثلاثيات البخارى " وأخرجه البخارىُّ فى كتاب المظالم، باب " هل تكسر الدِّنانُ التى فيها خمر أو تُخرَّقَ الزّقِّاق؟ " والحديث الثانى قال الكرمانىُّ عنه فى "شرح البخارى": " هذا هو سابع عشر الثلاثيات " وقد أخرجه البخارىُّ فى كتاب الذبائح والصيد، باب " آنية المجوس، والميتة " فقد روى شيخا البخارىِّ الحديث عن يزيد عن أبى سلمة، وتعدّدُ الطرق تعطى بعض الفوائد، كحل إشكال، أو إيضاح شيءٍ مبهم، أو زيادة فائدة. والحديث ينقل لنا ما قد أصاب الناس ليلة فتحوا خيبر من جوعٍ شديد، فإنهم قد وجدوا حمراً أهليةً فذبحوها، ووضعوها على القدور، فعلم النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) بذلك فحرمها، وأمرهم بإهراقها وكسر الآنية، ثم خفف الحكم بجواز استخدام هذه الآنية بعد غسلها. قال ابن الجوزى (¬1): " أراد التغليظ عليهم فى طبخهم ما نهى عن أكله فلما رأى إذعانهم اقتصر على غسل الأوانى " وقوله " قال أبو عبد الله " هو المصنف؛ الإمام البخارى، وقوله "الأَنَسِيَّة" -بفتح الهمزة - نسبةً إلى الأنس بالفتح - بسكون النون وفتحها - ضد الوحشة، والمشهور فى الروايات بكسر الهمزة وسكون النون نسبةً إلى الإنس أى بنى آدم لأنها تألفهم وهى ضد الوحشية. وهما روايتان حكاهما القلضى عياض وآخرون، كما نقل ذلك النووىُّ عنهم. والحديث ينقل لنا بعض أحكام الأطعمة والآنية، وتصور لنا مجتمع الصحابة، فى أنصع صوره حيث استجابوا لأمر النبى (- صلى الله عليه وسلم -) رغم جوعهم. وفيه أربع مسائل: الأولى: حكم لحوم الحمر الإنسية. ¬

_ (¬1) الفتح، كتاب المظالم، حـ5، 148

روى البخارى من حديث أبى ثعلبة قال: " حرم رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) لحوم الحمر الأهلية " وعند البخارى من حديث أنس أن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) أمر منادياً فنادى فى الناس: " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس " قال النووى: " قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافا لهم إلا عن ابن عباس (¬1)، وعند المالكية ثلاث روايات ثالثها الكراهة " ا. هـ وقد جاءت روايتان عن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) عند أبى داود والطبرانىُّ بحل الحمر الأهلية إلا أنهما بهما مقال كما ذكر ابن حجر وقال: " لو ثبتا لاحتمل أن يكون قبل التحريم ". وقال القرطبى: " قوله " فإنها رجس " فيستفاد منه تحريم أكلها، وهو دال على تحريمها لعينها لا لمعنى خارج، فالأمر بإكفاء القدور وغسلها لا يكون إلا للمتنجس " والتقيد بقوله (- صلى الله عليه وسلم -) " الأهلية " يؤخذ منه جواز أكل الحمر الوحشية .. قاله ابن حجر. الثانية: حكم الآنية التى استخدمت فى المحرمات. قال ابن حجر: " المعتمد فيه التفصيل: فإن كانت الأوعية بحيث يراق ما فيها وإذا غسلت طهرت وانتفع بها لم يجز إتلافها وإلا جاز" ا. هـ فإذا لم يوجد غيرها فإنها تُغسل ويؤكل فيها لقول النبى (- صلى الله عليه وسلم -) لأبى ثعلبة الخشنىِّ كما عند البخارىِّ: " أما ما ذكرت أنك بأرض قوم أهلِ الكتاب تأكل في آنيتهم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها ..... الحديث " الثالثة: كيف التوفيق بين تحريم لحوم الحمر الإنسية وبين آية الأنعام: ¬

_ (¬1) فقد ثبت عنه أنه احتج بآية الأنعام، وسيُذكر الرد على ذلك فى المسألة الثالثة، ومرةً علل تحريم النبى لها بمخافة قلة الظهر، ومرةً توقف فى النهى عنها.

" قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... الآية " (الأنعام، 145) وما شابهها من آيات، ولم يذكر فيها الحُمُر؟ قال ابن القيم فى الزاد (¬1): " فإنه لم يكن قد حرم حين نزول هذه الآية من المطاعم إلا هذه الأربعة والتحريم كان يتجدد شيئا فشيئا فتحريم الحمر بعد ذلك تحريم مبتدأ لما سكت عنه النص لا أنه رافع لما أباحه القرآن ولا مخصص لعمومه، فضلا عن أن يكون ناسخا والله أعلم " ا. هـ وقال ابن حجر (1): " والجواب عن آية الأنعام أنها مكية وخبر التحريم متأخر جدا فهو مقدم، وأيضا فنص الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها، فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة، وفيها أيضا تحريم ما أهل لغير الله به والمنخنقة إلى آخره وكتحريم السباع والحشرات " ا. هـ الرابعة: العلة فى تحريم الحمر الإنسية. ¬

_ (¬1) زاد المعاد، حـ3، صـ 304

روى عن الصحابة كثيرٌ من العلل، لكن يقدم قول النبى - صلى الله عليه وسلم - عن غيره من الأمة حتى ولو كانوا الصحابة أنفسهم، قال ابن القيم: " وصح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - تعليل التحريم بأنها رجس وهذا مقدم على قول من قال من الصحابة: إنما حرمها لأنها كانت ظهر القوم وحمولتهم فلما قيل له: فني الظهر وأكلت الحمر حرمها، وعلى قول من قال: إنما حرمها لأنها لم تخمَّس، وعلى قول من قال: إنما حرمها لأنها كانت حول القرية وكانت تأكل العذرة، وكل هذا في الصحيح لكن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنها رجس) مقدم على هذا كله، لأنه مِنْ ظن الراوي وقوله بخلاف التعليل بكونها رجسا " ا. هـ الخامسة: ما معنى لجاهد مجاهد؟ (لجاهِدٌ) بكسر الهاء وتنوين الدال (مُجاهدٌ) بضم الميم وتنوين الدال أيضا. ولها معنيان عند أهل العلم، قال النووى (¬1): وفسروا لجاهد بالجاد في علمه وعمله، أي: لجاد في طاعة الله، والمجاهد في سبيل الله، وهو الغازي. وقال القاضي: فيه وجه آخر جمع اللفظين توكيدا، قال ابن الأنباري: العرب إذا بالغت في تعظيم شيء اشتقت له من لفظه لفظا آخر على غير بنائه زيادة في التوكيد، وأعربوه بإعرابه فيقولون: جاد مجد، وليل لائل وشعر شاعر، ونحو ذلك. قال القاضي: ورواه بعض رواة البخاري وبعض رواة مسلم: (لجاهَدَ) بفتح الهاء والدال على أنه فعل ماض (مَجاهدَ) بفتح الميم ونصب الدال بلا تنوين، قال: والأول هو الصواب. والله أعلم. وفى الحديث جملةٌ من الفوائد ذكرها ابن حجر: 1 - الذكاة لا تطهر ما لا يحل أكله. 2 - وأن كل شيء تنجس بملاقاة النجاسة يكفي غسله مرةً واحدةً لإطلاق الأمر بالغسل فإنه يصدق بالامتثال بالمرة، والأصل أن لا زيادة عليها. 3 - وأن الأصل في الأشياء الإباحة لكون الصحابة أقدموا على ذبحها وطبخها كسائر الحيوان من قبل أن يستأمروا مع توفر دواعيهم على السؤال عما يشكل.

الحديث السادس عشر

4 - وأنه ينبغي لأمير الجيش تفقد أحوال رعيته، ومن رآه فعل ما لا يسوغ في الشرع أشاع منعه إما بنفسه كأن يخاطبهم وإما بغيره بأن يأمر مناديا فينادي لئلا يغتر به من رآه فيظنه جائزا. ا. هـ (¬1) 5 - وفيه أيضاً سرعة استجابة الصحابة للنبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -) فى تنفيذ أمره، فقد أكفئوا القدور واللحم يفور فيها. 6 - وفيه تقديم مراد الله سبحانه على مراد النفس، وإن كان فيه نوع تعذيبٍ. 7 - وفيه نجاسة لحوم الحمر الأهلية، كما هو مذهب الجمهور خلافاً للمالكية. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَغَزَوْتُ مَعَ ابْنِ حَارِثَةَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْنَا. (4272) الشرح: قال الكرمانىُّ فى "شرح البخارى": " هذا هو خامس عشر الثلاثيات "، كما ذكره البدر العينى فى "عمدة القارى" والقسطلانى فى إرشاد السارى". وأخرجه البخارى فى كتاب المغازى، باب " بعث النبى - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد إلى الحُرَقات (¬2) من جهينة، وهى بطن من جهينة، والمقصود بابن حارثة الذى فى الحديث هو زيد بن حارثة والد أسامة، جعله أميرا عليهم، والظاهر أن هذا كان في غزوة مؤتة، وقد خرج سلمة مع زيد فى سبع سرايا كما فى رواية أبى مسلم الكجى عن أبى عاصم " وغزوت مع زيد بن حارثة سبع غزوات يؤمره علينا " والحديث ينقل لنا صورةً من صور التحدث بنعم الله على عبده. وفيه مسألتان: الأولى: ما هى السبع غزوات التى غزاها سلمة مع النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -)؟ ¬

_ (¬1) الفتح، كتاب الذبائح والصيد، حـ9، صـ786 ) المرجع السابق، صـ787 (¬2) الحُرَقات: هو شخص، بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف، نسبة إلى الحرقة، واسمه جهيش بن عامر بن ثعلبة بن مودعة بن جهينة، تَسَمَّى الحرقة لأنه حرق قوما بالقتل فبالغ في ذلك، ذكره ابن الكلبى.

والسبع غزوات التى غزاها سلمة مع النبى (- صلى الله عليه وسلم -) ذكر يزيد بن أبى عبيد أربعةً منها وقال: " ونسيت بقيتهم " كما أخرجه البخارى فى الحديث الذى يلى الحديث الذى معنا فى الباب، والأربعة التى ذكرها هى: خيبر والحديبية ويوم حنين ويوم القرد وقال ابن حجر (¬1): " وأما بقية الغزوات التي نسيهن يزيد فهن: غزوة الفتح وغزوة الطائف، فإنهما وإن كانا في سنة غزوة حنين فهما غيرهما، وغزوة تبوك وهي آخر الغزوات النبوية، فهذه سبع غزوات كما ثبت في أكثر الروايات " ا. هـ وقد ذكر فى روايةٍ محفوظة " تسع غزوات بدلاً من سبع " فأجاب ابن حجر على ذلك فقال: " فلعله عد غزوة وادي القرى التي وقعت عقب خيبر، وعد أيضا عمرة القضاء غزوة كما تقدم من صنيع البخاري فكمل بها التسعة"، وقد روى أبو مسلم الكجى عن أبى عاصم هذا الحديث وزاد فيه: " وغزوت مع زيد بن حارثة سبع غزوات يؤمره علينا ". الثانية: الغزوات السبع التى كانت لزيد. ذكر أهل السير السرايا السبع لزيد، وتتبعها ابن حجر وذكرها فقال: " وقد تتبعت ما ذكره أهل المغازي من سرايا زيد بن حارثة فبلغت سبعا كما قاله سلمة، وإن كان بعضهم ذكر ما لم يذكره بعض فأولها: في جمادى الأخيرة سنة خمس قبل نجد في مائة راكب. والثانية: في ربيع الآخر سنة ست إلى بني سليم. والثالثة: في جمادى الأولى منها في مائة وسبعين فتلقى عيرا لقريش وأسروا أبا العاص بن الربيع، والرابعة: في جمادى الآخرة منها إلى بني ثعلبة. والخامسة: إلى حُسْمَى - بضم المهملة وسكون المهملة مقصور - في خمسمائة إلى أناس من بني جذام بطريق الشام كانوا قطعوا الطريق على دحية وهو راجع من عند هرقل. والسادسة: إلى وادي القرى. والسابعة: إلى ناس من بني فزارة. ¬

_ (¬1) الفتح، كتاب المغازى، (4269) حـ7، صـ 640

الحديث السابع عشر

وقد ذُكِرَ فى الحديث إمارة زيد، وقد كان طَعَن فى إمرته أناسٌ، فلما أمَّرَ النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) ابنَه أسامة طعن فيه أناسٌ أيضاً فقال النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -): " إن تطعنوا فى إمارته فقد طعنتم فى إمارة أبيه من قبله، وأيم الله لقد كان خليقاً للإمارة ". من فوائد الحديث: 1 - جواز التحدث بنعمة الله إن أمن العبد على نفسه من فتنة العجب. فقد تحدث سلمة عن غزواته كلها. 2 - وفيه منقبة لزيد بن حارثة حيث أمَّرهُ النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) فى عددٍ كثيرٍ من السرايا. 3 - وفيه عزة الإسلام حيث كانوا لا يخافون فى الله لومة لائم فكانوا ينطلقون فى المعمورة يبلغون دين الله. 4 - وفيه شجاعة الصحابة، وبذلهم الأرواح فى سبيل نشر الدين. 5 - وفيه السمع والطاعة ولو كان عبداً حبشياً، وذلك فى قوله: " اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْنَا " أو" يؤمره علينا "، فقد كان فى الجيش أجل منه، ولكن أمر فوجب السمع والطاعة. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَبَقِيَ فِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ الْمَاضِي قَالَ كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا. (5569) الشرح: قال الكرمانىُّ فى "شرح البخارى ": " هذا هو الثامن عشر من ثلاثيات البخارى "

والحديث أخرجه البخارىُّ فى كتاب الأضاحى، باب " ما يؤكل من لحوم الأضاحى، وما يتزود منها" وقد شرع الله الأضاحى، للحصول على التقوى، حيث أنها عبادة لا يجوز صرفها لغير الله خلافاً لما كان عليه أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحوا للأصنام فقال تعالى: " لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ " (الحج، 37). وفى هذا الحديث ينقل لنا صورة من حال الصحابة، فى عامٍ أصابهم فيه الجهد، فجعل النبى (- صلى الله عليه وسلم -) الحق فى الأضاحى للناس أجمعين، ليس لأصحابها فقط مراعاةً لحوائج الناس، وتحقيقاً للإيمان الذى جعل النبى (- صلى الله عليه وسلم -) شرطه أنه " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، وفِعْلُ النبىِّ هذا ينقل لنا صورةً من صور رحمة النبىِّ بالأمة، ثم جعل النبى (- صلى الله عليه وسلم -) أمر أضحيته بعد هذا العام يرجع للمضحى نفسه، ومن أجل هذا الحديث اختلف أهل العلم فى بعض المسائل الخاصة بالأضحية، وهو ما نبينه فى عرضنا لمسائل الحديث. وفى الحديث خمس مسائل: الأولى: الأضحيةُ وحكمها ووقتها: تعريفها: الأضاحي: جمع أضحية بضم الهمزة ويجوز كسرها ويجوز حذف الهمزة وفتح الضاد كأنها اشتقت من اسم الوقت الذي شرع ذبحها فيه، وبها سمي اليوم يوم الأضحى. وهى مايذكى تقرباً إلى الله تعالى فى أيام النحر بشرائط مخصوصة. (¬1) حكمها: اختلف العلماء فى وجوب الأضحية على الموسر على قولين كما قال النووى (¬2): أ - فقال جمهورهم هي سنة فى حقه إن تركها بلا عذر لم يأثم ولم يلزمه القضاء وممن قال بهذا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبلال وأبو مسعود البدرى وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء ومالك وأحمد وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور والمزني وبن المنذر وداود وغيرهم ¬

_ (¬1) سبل السلام -نقلاً عن صحيح فقه السنة-لأبى مالك حـ2، صـ367 (¬2) شرح النووى لمسلم، كتاب الأضاحى (1960) حـ13 صـ 93

ب - الوجوب واختلف القائلون بذلك على من تجب: * فقال ربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة والليث هي واجبة على الموسر وبه قال بعض المالكية. * وقال النخعى واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى. * وقال محمد بن الحسن واجبة على المقيم بالأمصار. * والمشهور عن أبى حنيفة أنه انما يوجبها على مقيم يملك نصابا والله أعلم " ا. هـ ومن أدلة القائلين بالوجوب الأمر الذى فى الآية " فَصلِّ لِرَبِّكَ وانْحَر" ولكن فيها تأويلات، وبحديث جندب بن سفيان (- رضي الله عنه -) المتفق عليه أن النبىَّ قال: " من ذبح قبل أن يصلى فليُعِد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح " وأُجيب بأن فى بيان شروط الأضحية لا فى وجوبها، وحديث أبى هريرة عند ابن ماجةَ وغيره " أن النبىَّ (- صلى الله عليه وسلم -) قال: من كان له سعةٌ ولم يُضَحِّ فلا يقربنَّ مُصلانا " وأجيب عليه بترجيح وقفه. ومن أدلة القائلين بالاستحباب حديث أم سلمة أن النبىَّ (- صلى الله عليه وسلم -) قال: " إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحى فلا يمس من شعره وبشره شيئاً " فقوله " وأراد أحدكم " صارفٌ من الوجوب إلى الندب. وما ثبت عن الصحابة كما فى مسند عبد الرزاق والبيهقىُّ عن أبى سريحة بسند صحيح قال: " رأيت أبا بكر وعمر، وما يضحيان ". أما وقتها: فبعد صلاة العيد، ولا تجزئ قبله، قال بن المنذر: "وأجمعوا أنها لاتجوز قبل طلوع الفجر يوم النحر واختلفوا فيما بعد ذلك " أما آخر وقتها فعلى مذاهب ذكرها النووى فى شرح مسلم، وأشهرها مذهبين: الأول: مذهب الشافعىِّ فقال: " تجوز فى يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة بعده " وممن قال بهذا علىُّ بن أبى طالب وجبير بن مطعم وبن عباس وعطاء والحسن البصرى وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسدى فقيه أهل الشام ومكحول وداود الظاهرى وغيرهم. الثانى: قال أبو حنيفة ومالك وأحمد تختص بيوم النحر ويومين بعده وروى هذا عن عمر بن الخطاب وعلى وبن عمر وأنس رضى الله عنهم.

واختلفوا فى جواز التضحية فى ليالى هذه الأيام، وذلك على مذهبين، الراجح قول الجمهور بالجواز، وهو رأى الشافعىُّ وأبى حنيفة، وأحمد وإسحاق وأبى ثور. الثانية: حكم ادخار لحوم الأضاحى بعد ثلاث. على مذهبين عند أهل العلم ذكرها ابن بطال فى شرحه للبخارى: الأول: ذهب قوم إلى أن يحرموا لحوم الأضاحى بعد ثلاث، واحتجوا بحديث أبى عبيد عن على بن أبى طالب: (أن النبى نهى أن يؤكل من لحم الأضاحى بعد ثلاث) وبحديث ابن عمر: (أنه عليه السلام أباح لهم الأكل منها ثلاثًا) وإليه ذهب ابن عمر. الثانى: رأى الجمهور فإنهم لم يروا بأكلها وادخارها بأسًا، واستدلوا بحديث سلمة هذا، واختلُفَ فى أحاديث الإباحة هل هى ناسخة للنهى أم لا: فقال الجمهور: أحاديث الإباحة ناسخة للنهى فى ذلك، وهذا قول الطحاوى، وقال المهلب: "والذى يصح عندى أنه ليس فيها ناسخ ولا منسوخ وإنما كان لعلة فلما زالت العلةُ زال الحكم " وقول عائشة (رضى الله عنها): (وليست بعزيمة ولكنه أراد أن يطعم منه) يبين أنه ليس بمنسوخ، وقال آخرون كان النهي للكراهة لا للتحريم والكراهة باقية إلى اليوم-أفاده البدر العينى. الثالثة: كيفية تقسيم الأضحية. قيل: يستحب له أن يتصدق بثلثها، ويأكل ثلثها، وُيطعم الجيران ثلثها؛ لأن ذلك كان يفعله بعض السلف، لقوله: " فكلوا وتصدقوا وأطعموا " وذهب إلى ذلك الشافعىُّ، وقد ورد فى هذا آثارٌ ضعيفة، حتى قال الثورىُّ: " إن تصدق بلقمة أجزأه ". فله أن يقسمها كيفما شاء، ولو تصدق بها كلها جاز، لما عند البخارىِّ ومسلم من حديث علىِّ (¬1) " أن النبىَّ أمره أن يقوم على بُدْنه كلها لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطى فى جزارتها شيئا " الرابعة: هل قول النبى (- صلى الله عليه وسلم -) "فكلوا " يوجب على المضحى الأكل منها؟ ¬

_ (¬1) البخارى (1717) ومسلم (1317)

مسند {أنس بن مالك}

قال ابن بطال: قال الطبرىُّ: لا خلاف بين سلف الأمة وخلفها أن المضحى غير حرج بتركه الأكل من أضحيته ولا آثم، فدل إجماعهم على ذلك أن الأمر بالأكل منها بمعنى الإذن والإطلاق، لا بمعنى الإيجاب، فيستحب له الأكل منها كما فعل النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -). وسئل مجاهد وعطاء عن الذى لا يأكل من أضحيته قالا: إن شاء لم يأكل منها، قال الله تعالى: (وإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) أرأيت إن لم يصطد؟. وقال إبراهيم: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم، فرخص للمسلمين، فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل ". وقال النووى كما نقل ابن حجر:" مذهب الجمهور أنه لا يجب الأكل من الأضحية وإنما الأمر فيه للإذن، وذهب بعض السلف إلى الأخذ بظاهر الأمر، وحكاه الماوردىُّ عن أبى الطيب بن سلمة من الشافعية. الخامسة: هل قول النبىِّ " وَأَطْعِمُوا " يوجب الصدقة من الأضحية؟ قال النووى كما نقل ابن حجر: أما الصدقة منها فالصحيح أنه يجب التصدق من الأضحية بما يقع عليه الاسم، والأكمل أن يتصدق بمعظمها. من فوائد الحديث: 1 - للإمام والعالم أن يراعى مصالح الناس فيما ليس فيه مخالفةٌ للشرع، فله أن يأمر بمثل ما أمر به النبىُّ، ويحض عليه إذا نزل بالناس حاجة. 2 - وفيه المواساة. 3 - وفيه كراهية أن يبيت المرء شبعان وجاره جائع. 4 - وفيه جواز ادخار الأقوات، وليس فيه منافاةٌ مع التوكل، فقد كان (- صلى الله عليه وسلم -) يدخر لأهله قوت سنة مُسْنَدُ {أنَسِ بنِ مَالِك} التراجم أنس بن مالك أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاري ابن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. الإمام، المفتي، المقرئ، المحدث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاري، الخزرجي، النجاري، المدني، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرابته من النساء، وتلميذه، وتبعه، وآخر أصحابه موتا.

روى عن: النبي - صلى الله عليه وسلم - علما جما، وعن: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم، وعنه كثير: كالحسن، وابن سيرين، والشعبي، وأبو قلابة، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، وثابت البناني، وحميد الطويل، وعيسى بن طهمان، وقد سرد صاحب (التهذيب) نحو مائتي نفس من الرواة عن أنس. وكان أنس يقول: " قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وأنا ابن عشر، ومات وأنا ابن عشرين" وقال: كناني النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا حمزة ببقلة اجتنيتها. وقال: جاءت بي أم سليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أزرتني بنصف خمارها، وردتني ببعضه، فقالت: يا رسول الله هذا أنيس ابني، أتيتك به يخدمك، فادع الله له، فقال: (اللهم أكثر ماله وولده). فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي يتعادون على نحو من مائة اليوم. قال الذهبى: لم يعدُّه أصحاب المغازي في البدريين؛ لكونه حضرها صبيا ما قاتل، بل بقي في رحال الجيش، وقال: وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة. قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ابن أم سليم -يعني: أنسا -. وقال أنس بن سيرين: كان أنس بن مالك أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر. ومن كراماته: فعن ثابت البناني، قال: جاء قيَّمُ أرض أنس، فقال: عطشت أرضوك. فتردى أنس، ثم خرج إلى البرية، ثم صلى، ودعا، فثارت سحابة، وغشيت أرضه، ومطرت، حتى ملأت صهريجه، وذلك في الصيف، فأرسل بعض أهله، فقال: انظر أين بلغت؟ فإذا هي لم تعد أرضه إلا يسيرا. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخصه ببعض العلم. قال المثنى بن سعيد: سمعت أنسا يقول: ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي. ثم يبكي. وعن جميلة مولاة أنس، قالت: كان ثابت إذا جاء إلى أنس قال: يا جميلة، ناولينى طيبا أمس به يدى، فإن ابن أبى ثابت، لا يرضى حتى يقبل يدى ويقول: يد مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وكان قد تعرض اليه الحَجَّاج وقال له كلاما شديدا، فكتب أنسُ إلى عبد الملك بن مروان، فكتب للحجاج بالذهاب إلى أنس والاعتذار إليه فجاءه وقال له: يا أبا حمزة غضبت؟ قال: نعم، تعرضني بحوكة البصرة؟ قال: إنما مثلي ومثلك كقول الذي قال: إياك أعني واسمعي يا جارة، أردت أن لا يكون لأحد عليَّ منطق. الوفاة: ثبت مولد أنس قبل عام الهجرة بعشر سنين. وأما موته: فاختلفوا فيه، فقيل: أنه مات سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وقال عدة - وهو الأصح -: مات سنة ثلاث وتسعين. (مسنده): ألفان ومائتان وستة وثمانون. اتفق له: البخاري، ومسلم على مائة وثمانين حديثا. وانفرد البخاري: بثمانين حديثا، ومسلم: بتسعين، فيكون له فى الصحيحين 350 حديثا. وروى عن أنس فى الثلاثيات راويان: حميد الطويل، وعيسى بن طهمان .. الأول: حميد الطويل اسمه والتعريف به: هو حميد بن أبي حميد الطويل البصري، الإمام، الحافظ، أبو عبيدة البصري، مولى طلحة الطَلَحَات، ويقال: مولى سلمة واختلف فى اسم أبيه، وهو خال حماد بن سلمة. وهو كثير التدليس عن أنس حتى قيل ان معظم حديثه عنه بواسطة ثابت وقتادة ووصفه بالتدليس النسائي وغيره، وقد وقع تصريحه عن أنس بالسماع وبالتحديث في أحاديث كثيرة في البخاري وغيره، قال الذهبى: "لحميد عن أنس في كتب الإسلام شيء كثير، وأظن له في الكتب الستة عنه مائة حديث ". مولده: في سنة ثمان وستين، عام موت ابن عباس. الشيوخ والتلاميذ: روى عن أنس بن مالك، والحسن، وعكرمة، وثابتا البناني، وابن أبي مليكة، ويوسف بن ماهك، وطائفة. وكان صاحب حديث، ومعرفة، وصدق. حدث عنه عاصم بن بهدلة، وشعبة، وزياد بن سعد، وابن جريج، والسفيانان، والحمادان، ومالك، والأنصارى - الذى معنا فى هذه الروايات - وغيرهم كثير .. سبب تسميته بالطويل:

قال الأصمعي: رأيت حميداً ولم يكن بطويل، ولكن كان طويل اليدين، وكان قصيرا، لم يكن بذاك الطويل، ولكن كان له جار يقال له: حميد القصير. فقيل: حميد الطويل؛ ليعرف من الآخر. الجرح والتعديل: وثقه ابن معين والعجلى وأبو حاتم الرازي، وابن خراش. قال يحيى القطان: مات حميد وهو قائم يصلي. الوفاة: مات حميد سنة اثنتين، أو ثلاث وأربعين ومئة. وقد روى عن حميد، محمد الأنصارى: محمد بنُ عبدِ الله الأنصَارِي اسمه والتعريف به: هو محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصارى، أبو عبد الله البصرى القاضى (قضى بالبصرة وببغداد) مولده: وكان مولده فى السنة التى ولد فيها عبد الله بن المبارك وهى سنة ثمانى عشرة ومئة. وهو من صغار أتباع التابعين. الجرح والتعديل: قال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائى: ليس به بأس. وذكره ابن حبان فى كتاب " الثقات "، وقال ابن حجر: ثقة، روى له: الجماعة. ومن أحواله: قال الأنصارى عن نفسه: ما أتيت سلطانا قط إلا وأنا كاره. وذكر عمر بن شبة فى " أخبار البصرة " أنه ذكر للقضاء أيام المهدى سنة ست وستين ومئة فقال عثمان بن الربيع الثقفى للفضل بن الربيع: إنه فقيه، وعفيف، ولكنه يأتمّ بقول أبى حنيفة، ولنا فى مصرنا أحكام تخالفه فلا يصلحنا إلا من أجاز أحكامنا. فتركوا ولايته إذ ذاك. قال يحيى بن معين، قال: كان محمد بن عبد الله الأنصارى يليق به القضاء، فقيل له: يا أبا زكريا فالحديث؟ فقال: للحرب أقوامٌ لها خلقوا وللدواوين كتَّابٌ وحُسَّابُ الوفاة: لم يزل الأنصارى بالبصرة يحدث إلى أن مات بها فى رجب سنة خمس عشرة ومئتين.

الأحاديث الثلاث (الثامن عشر والتاسع عشر والعشرون)

الأحاديث الثلاث (الثامن عشر والتاسع عشر والعشرون) 18 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَطَلَبُوا الْأَرْشَ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَقَالَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ " زَادَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ. (2703) 19 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ. (4499) 20 - حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ابْنَةَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ. (6894) الشرح: الحديث الأول قال فيه الكرمانىُّ فى "شرح البخارى": " وهذا عاشر ثلاثيات البخارى " وقد أخرجه البخارى فى كتاب الصلح فى الباب الثامن من الكتاب، باب" الصلح فى الدية " ولم يذكر غيره، وفى الجهاد والسير " رضوا بالأرش وتركوا القصاص " والحديث الثاني قال الكرمانىُّ عنه: " هذا هو الحديث السادس عشر من الثلاثيات "

وأخرجه البخارى فى كتاب التفسير، سورة البقرة، باب " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر- إلى قوله تعالى:" عذاب أليم " ثم رواه بسند آخر فى نفس الباب فى الحديث الذى يليه. أما الحديث الثالث فقد قال الكرمانىُّ فى "شرح البخارى": " وهذا هو الحديث الموفى للعشرين من الثلاثيات " وقد أخرجه البخارى فى كتاب الديات بَاب {السِّنَّ بِالسِّنِّ} والرُّبَيِّع: هى أخت أنس بن النضر وعمة أنس بن مالك. والأَرْشُ: دِيَةُ الجِراحة (كما قال الفراهيدى) وقال صاحب اللسان: وسُمِّي أَرْشاً لأَنه من أَسباب النزاع يقال أَرَّشْتُ بين القوم إِذا أَوقعت بينهم. ورواية الفزارى هذه رواها البخارى فى كتاب التفسير (سورة المائدة) باب "والجروح قصاص" برقم (4611) والفزارى اسمه مروان بن معاوية، روى عنه البخارى بواسطة وقد وثقه أحمد وبن معين -وهو من شيوخهما-، والعجلى وغيرهم ومعدود من المدلسين. وفى رواية " فعجب النبى - صلى الله عليه وسلم - وقال ... الحديث " قال ابن حجر: ووجه تعجبه أن أنس بن النضر أقسم على نفي فعل غيره مع إصرار ذلك الغير على إيقاع ذلك الفعل فكان قضية ذلك في العادة أن يحنث في يمينه، فألهم الله الغير العفو فبر قسم أنس. وفيه سبع مسائل: الأولى: ضبط قوله - صلى الله عليه وسلم - " كتاب الله القصاص " قال ابن حجر: "واختلف في ضبط قوله - صلى الله عليه وسلم - " كتاب الله القصاص " فالمشهور أنهما مرفوعان على أنهما مبتدأ وخبر، وقيل منصوبان على أنه مما وضع فيه المصدر موضع الفعل أي كتب الله القصاص أو على الإغراء، والقصاص بدل منه فينصب، أو ينصب بفعل محذوف، ويجوز رفعه بأن يكون خبر مبتدأ محذوف." الثانية: المعنى المراد من قوله " كتاب الله القصاص"

قال ابن حجر: " واختلف في المعنى فقيل: المراد حكم كتاب الله القصاص فهو على تقدير حذف مضاف، وقيل المراد بالكتاب الحُكْم أي حكم الله القصاص، وقيل أشار إلى قوله (والجروح قصاص، فعاقبوا) وقيل إلى قوله (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وقيل إلى قوله (والسن بالسن) في قوله: (وكتبنا عليهم فيها) بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يرفعه. الثالثة: كيفية توجيه إنكار أنس لأمر النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لأنه خلافٌ لما عَلِمْناهُ من الصحابة من سرعة الاستجابة؟ قال ابن حجر: " وقد استشكل إنكار أنس بن النضر كسر سن الرُّبَيِّع مع سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالقصاص ثم قال " أتكسر سن الربيع "؟ ثم أقسم أنها لا تكسر " ثم ذكر لذلك ثلاث أجوبة (¬1): ا- قيل أشار بذلك إلى التأكيد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلب الشفاعة إليهم أن يعفوا عنها. ب- وقيل كان حَلِفُه قبل أن يعلم أن القصاص حتمٌ، فظن أنه على التخيير بينه وبين الدية أو العفو حـ- وقيل لم يرد الإنكار المحض والرد، بل قاله توقعاً ورجاءً من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش، وبهذا جزم الطيبي فقال: لم يقله رداً للحكم، بل نفى وقوعه لما كان له عند الله من اللطف به في أموره والثقة بفضله أن لا يخيبه فيما حلف به ولا يخيب ظنه فيما أراده بأن يلهمهم العفو، وقد وقع الأمر على ما أراد. الرابعة: حكم القصاص فى السن؟ ¬

_ (¬1) الفتح، حـ 12،كتاب الديات باب " السن بالسن " صـ269

قال تعالى " والسن بالسن " بناءً على أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد فى شرعنا ما يرفعه. قال ابن حجر: " قال ابن بطال: أجمعوا على قلع السن بالسن فى العمد واختلفوا فى سائر عظام الجسد، فقال مالك فيها القَوَد (¬1)، وقال الشافعى والليث والحنفية: لا قصاص فى العظم غير السن "ا. هـ الخامسة: كم قيمة الأرش فى السن؟ قال القرطبى: " قال ابن المنذر ثبت عن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أنه أقاد من سن، وجاء الحديث عن الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال:"فى السن خمسٌ من الإبل " (¬2) ا. هـ السادسة: هل الدية فى الأسنان كلها سواء؟ وفيه قولان لأهل العلم، نقلها القرطبى عن ابن المنذر (¬3): الأول: لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعيات، لدخولها كلها في ظاهر الحديث، وبه يقول الأكثر من أهل العلم. منهم عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحق، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية." الثانى - عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض، وذلك خمسون دينارا، قيمة كل فريضة عشرة دنانير. وفي الأضراس ببعير بعير.، وكان عطاء يفرق أيضاً. والراجح قول الجمهور لما ثبت عن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) عند أبى داود من حديث ابن عباس وصححه الألبانى قال (- صلى الله عليه وسلم -): " الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء ". السابعة: هل هناك فرقٌ بين أسنان الصغير وأسنان الكبير؟ قال القرطبى فى التفسير (¬4): بالنسبة للصغير: ¬

_ (¬1) القَوَدُ القِصاصُ وأَقَدْتُ القاتِلَ بالقتيل أَي قَتَلْتُه به يقال أَقاده السلطان من أَخيه (¬2) أخرجه أبو داود وبن ماجه فى الديات، وصححه الشيخ الألبانى (¬3) تفسير للقرآن للقرطبى، حـ3، صـ550 (سورة المائدة /آيه 45) (بتصرف) (¬4) تفسير للقرآن للقرطبى، حـ3، صـ551 (سورة المائدة /آيه 45)

اختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر (¬1)، فكان مالك والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شئ على القالع، إلا أن مالكا والشافعي قالا: إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها. وقالت طائفة: فيها حكومة (¬2)، وروي ذلك عن الشعبي، وبه قال النعمان. وقال ابن المنذر: يستأنى بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاما، على ظاهر الحديث، وإن نبتت رد الأرش. وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون: يستأنى بها سنة، روي ذلك عن علي وزيد وعمر بن عبد العزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي. ولم يجعل الشافعى لهذا مدة معلومة. أما الكبير: قال: إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت، فقال مالك لا يرد ما أخذ. وقال الكوفيون: يرد إذا نبتت. وللشافعي قولان: يرد ولا يرد، لأن هذا نبات لم تجربه عادة، ولا يثبت الحكم بالنادر. وتمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد، أصله سن الصغير. من فوائد الحديث: 1 - وفيه جواز الحلف فيما يظن وقوعه. فقد قال أنس " والله لا تكسر ثنى الربيع " 2 - الثناء على من وقع له ذلك عند أمن الفتنة بذلك عليه. فقد أثنى الرسول على أنس بقوله: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ". 2 - واستحباب العفو عن القصاص. 4 - والشفاعة في العفو. 5 - وأن الخيرة في القصاص أو الدية للمستحق على المستحق عليه. 6 - وإثبات القصاص بين النساء في الجراحات وفي الأسنان. 7 - وفيه الصلح على الدية، وجريان القصاص في كسر السن. ¬

_ (¬1) أثغر الغلام: سقطت أسنانه الرواضع. (¬2) الحكومة في الجراح عند أهل العلم كلهم: أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برئت، فما نقصته الجناية فله مثله من الدية، كأن تكون قيمته وهو عبدٌ صحيحٌ عشرة، وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة، فيكون فيه عشر ديته.

8 - وفيه أن ما وقع هو إكرامٌ من الله لأنس ليبر يمينه، وأنه من جملة عباد الله الذين يجيب دعاءهم. 9 - وفيه عدل الإسلام والمساواه بين أتباعه فى الأحكام، ولا فضل لأحد على أحدٍ إلا بالتقوى. الراوى الثانى عن أنس عيسى بن طهمان اسمه والتعريف به: هو عيسى بن طهمان بن رامة الجشمى، أبو بكر البصرى (نزيل الكوفة) من صغار التابعين الشيوخ والتلاميذ: ومن شيوخه انس بن مالك وثابت، ومن تلامذته خلاد بن يحيى، وعبد الله بن المبارك، والفضل بن دكين، ووكيع بن الجراح، وغيرهم. الجرح والتعديل: وثقه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، والنسائي، والدارقطنىُّ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، يشبه حديثه حديث أهل الصدق، ما بحديثه بأس. وقال أبو داود: لا بأس به، أحاديثه مستقيمة. وقال مرة أخرى: ثقة وقال ابن حبان وحده لا يجوز الاحتجاج به. الوفاة: قال الذهبى: مات قبل الستين ومئة. وروى من الثلاثيات عن عيسى خلاد بن يحيى: خلاد بن يحيى اسمه والتعريف به: هو خلاد بن يحيى بن صفوان السلمى، أبو محمد الكوفى (نزيل مكة) قال الذهبى: الإمام، المحدث، الصدوق، أبو محمد السلمي، الكوفي، وهو من صغار أتباع التابعين. الشيوخ والتلاميذ: روى عن سفيان الثورى وعيسى بن طهمان، وفطر بن خليفة، ومسعر بن كدام، وغيرهم، وحدث عنه: والبخاري، اسماعيل بن يزيد الرازى عم أبى زرعة، وأبو زرعة، وغيرهم كثير. الجرح والتعديل: قال ووثقه أحمد ابن حنبل والدارقطنى والعجلى، وقال أبو داود: ليس به بأس، وقال ابن حجر صدوق، رمى بالإرجاء، وقال الذهبي: ثقة يهم ولكن كان يرى شيئا من الإرجاء، وذكره ابن حبان فى الثقات. وقال الحاكم: قلت للدراقطنى: فخلاد بن يحيى؟ قال: ثقة، إنما أخطأ فى حديث واحد ; حديث: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا "، رفعه، ووقفه الناس. وروى له أبو داود والترمذى. الوفاة: وقال البخاري: سكن مكة، ومات بها، قريبا من سنة ثلاث عشرة ومائتين.

الحديث الواحد والعشرون

وقال حنبل بن اسحاق: مات سنة سبع عشرة. ولخلاد عن عيسى عن أنس فى الثلاثيات حديث واحد وهو: الحديث الواحد والعشرون 21 - حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَأَطْعَمَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ خُبْزًا وَلَحْمًا وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّ اللَّهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ " (7421) الشرح: أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد باب " وكان عرشه على الماء " " وهو رب العرش العظيم " والشاهد من سياقته فى هذا الباب قول زينب: " إن الله انكحني فى السماء " وقد ذكر البخارى أطرافاً من قصة زواج النبى - صلى الله عليه وسلم - بزينب فى مواضع أخرى منها كتاب التفسر (سورة الأحزاب)، وفى علامات النبوة. وزينب (رضى الله عنها) هى بنت جحشٍ من بنى أسد بن خزيمة وهى ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، ومن خواصها أن الله سبحانه كان وليها الذى زوجها لرسوله، وكانت تفتخر بذلك على نسائه، وهى الزوجة السابعة للنبى - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بعد أم سلمة (رضى الله عنها)، وتوفيت فى أول خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وقولها " إن الله أنكحني " دليله قول الله تعالى " وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا .... الآية " (الأحزاب / 37) وفى الحديث خمس مسائل: الأولى: ما بوب عليه البخارى وهى مسألة الاستواء. وفى معنى الاستواء قال ابن بطال: " اختلف الناس في الاستواء المذكور هنا:

* فقالت المعتزلة: معناه الاستيلاء بالقهر والغلبة. ورد عليهم بقوله: " فأما قول المعتزلة فإنه فاسد لأنه لم يزل قاهرا غالبا مستوليا، وقوله: "ثم استوى " يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، ولازم تأويلهم أنه كان مغالبا فيه فاستولى عليه بقهر من غالبه، وهذا منتف عن الله سبحانه " * وقالت المجسمة: معناه الاستقرار. ورد عليهم بن بطال بقوله: " وأما قول المجسمة ففاسد أيضا، لأن الاستقرار من صفات الأجسام ويلزم منه الحلول والتناهي، وهو محال في حق الله تعالى، ولائق بالمخلوقات لقوله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} وقوله: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} " * وقال بعض أهل السنة: معناه ارتفع، وبعضهم معناه علا، وبعضهم معناه الملك والقدرة. قال وأما تفسير استوى: علا فهو صحيح وهو المذهب الحق، وقول أهل السنة لأن الله سبحانه وصف نفسه بالعلي. وقال: {سبحانه وتعالى عما يشركون} وهي صفة من صفات الذات. وأما من فسره: ارتفع ففيه نظر لأنه لم يصف به نفسه. وقيل معنى الاستواء التمام والفراغ من فعل الشيء، ومنه قوله تعالى:" ولما بلغ أشده واستوى" فعلى هذا فمعنى استوى على العرش أتم الخلق، وخص لفظ العرش لكونه أعظم الأشياء. وقيل إن " على " في قوله على العرش بمعنى: إلى، فالمراد على هذا انتهى إلى العرش أي فيما يتعلق بالعرش لأنه خلق الخلق شيئا بعد شيء، ثم من هذه نخرج بمسألةٍ أخرى: * هل الاستواء صفة ذات أو صفة فعل؟ قال ابن بطال: " واختلف أهل السنة فمن قال معناه علا قال هي صفة ذات، ومن قال غير ذلك قال هي صفة فعل، وإن الله فعل فعلا سماه استوى على عرشه، لا أن ذلك قائم بذاته لاستحالة قيام الحوادث به " ا. هـ وقال ابن خزيمة: من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته، فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئا.

وعلق الذهبىُّ على كلام ابن خزيمة قائلاً (¬1): " من أقر بذلك تصديقا لكتاب الله، ولأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمن به مفوضا معناه إلى الله ورسوله، ولم يخض في التأويل ولا عمق، فهو المسلم المتبع، ومن أنكر ذلك، فلم يدر بثبوت ذلك في الكتاب والسنة، فهو مقصر والله يعفو عنه، إذ لم يوجب الله على كل مسلم حفظ ما ورد في ذلك، ومن أنكر ذلك بعد العلم، وقَفا غير سبيل السلف الصالح، وتمعقل على النص، فأمره إلى الله، نعوذ بالله من الضلال والهوى، وكلام ابن خزيمة هذا - وإن كان حقا - فهو فج، لا تحتمله نفوس كثير من متأخري العلماء. " ا. هـ الثانية: زواج النبى - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش والوليمة عليها. فقد تزوج النبى (- صلى الله عليه وسلم -) بزينب بعدما قضت عدة طلاقها من زيد بن حارثة، فقد أخبر اللهُ عز وجل النبىَّ (- صلى الله عليه وسلم -) أن زينب ستكون من أزواجه فكتم ذلك النبى - صلى الله عليه وسلم - وقال لزيد لما اشتدت زينبُ عليه " أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ"، وكان يخشى أن الناس يتكلمون أنه تزوج بحليلة ابنه من التبنى، فنزل القرآن ليبطل كل معتقدات الجاهلية فى مسألة التبنى، وجعل تطبيق هذا عملياً على شخص النبى (- صلى الله عليه وسلم -) القائد حتى يسهل الأمر على أتباعه بعد ذلك، فنزل القرآن بتزويج النبى بها، وهذا ما كان النبىُّ يخفيه، يقول ابن حجر: " والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعى ابنا " ا. هـ، فلذلك كانت تفتخر على أزواجه. ¬

_ (¬1) السير، حـ 11، صـ 231 (ترجمة ابن خزيمة)

وفى هذا الزواج المبارك أَوْلَمَ النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) عليها وأطعمهم لحماً وخبزاً، وقد وقع عند مسلم وعلقه البخارى عن أنس أيضاً قال: " تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل بأهله، فصنعت له أم سليم حيسا، فذهبت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع لي فلانا وفلانا، وذهبتُ فدعوتهم زهاء ثلاثمائة رجل " وللتوفيق بين الروايتين قال ابن حجر: "ويجمع بينه وبين رواية حميد بأنه - صلى الله عليه وسلم - أولم عليه باللحم والخبز، وأرسلت إليه أم سليم الحَيْس " مسائل تتعلق بالوليمة: تعريفها: الوليمة: اسم للطعام فى العرس خاصة. حكمها: فيها رأيان لأهل العلم: الأول: الوليمة سنةٌ مستحبةٌ مؤكدة للمتزوج أن يولم بما تيسر دون إسراف للنهى الوارد فى ذلك، وقد أولمَ النبىُّ (- صلى الله عليه وسلم -) على نسائه كما فى هذا الحديث، وهذا مذهب الجمهور. الثانى: الوجوب وذهب إلى ذلك الشافعىُّ ومالك - فى قول- والظاهرية، وهو رأى الشيخ الألبانى، ومن أدلتهم: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنه لا بد للعرس (وفي رواية للعروس) من وليمة " (¬1) إجابة الدعوة للوليمة: ذهب جمهور العلماء، -وبه قال الشيخ الألبانى كما فى آداب الزفاف- إلى أن إجابة دعوة العُرْس واجبة إلا لعذر، ودليل ذلك رواية ابن عمر عند البخارى: قال (- صلى الله عليه وسلم -): " إذا دُعِىَ أحدكم إلى الوليمة فليأتها ". وكذلك حديث أبى هريرة عند البخارى ومسلم موقوفاً " ومن ترك الدعوة فقد عصى أبى القاسم ". * ومن الأعذار المخالفات الشرعية التى تقع، وما شابهها. ودليل ذلك ما رواه ابن ماجة بسند صححه الشيخ الألبانى فى آداب الزفاف عن علي قال: " صنعت طعاما فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع ..... الحديث " ¬

_ (¬1) قال الألبانى فى آداب الزفاف: رواه أحمد والطبراني والطحاوي. وإسناده كما قال الحافظ في الفتح: " لا بأس به "

وقال الإمام الأوزاعي: " لا ندخل وليمة فيها طبل ولا معزاف " (¬1) ولمناسبة الكلام على زواج النبى - صلى الله عليه وسلم - بزينب والحديث من قصة الأحزاب فهنا سؤالٌ يطرح نفسه وهى المسألة الثالثة: الثالثة: هل حرمت النساء على النبى - صلى الله عليه وسلم - تحريماً أبدياً لقوله تعالى " لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ "؟ هذا الأمر على أقوال ذكرها ابن كثير فى تفسيره: الأول: أن الأية منسوخة، قاله: ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، وابن جرير، وغيرهم قال ابن كثير رحمه الله: " هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضًا عنهن، على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما فى قوله " إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... الآية ". فلما اخترن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان جزاؤهن أن الله قَصَره عليهن، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن، أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن، ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حجر عليه فيهن. ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تَزَوّج لتكون المنة للرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهن. ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد (¬2) عن السيدة عائشة -- قالت:" ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل الله له النساء" ¬

_ (¬1) قال الألبانى فى آداب الزفاف: " رواه أبو الحسن الحربي في " الفوائد المنتقاة " بسند صحيح عنه " (¬2) رواه أحمد (24183) والترمذى (3216) والنسائىُّ (3204) وقال الترمذى هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألبانىُّ

وعن أم سلمة أنها قالت: لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء، إلا ذات محرم، وذلك قول الله، عز وجل: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}. الثانى: وقال آخرون: بل معنى الآية: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي: من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك. هذا مرويّ عن أبي بن كعب، ومجاهد، وعِكْرِمة، والضحاك -في رواية -وأبي رَزِين -في رواية عنه -وأبي صالح، والحسن، وقتادة -في رواية -والسدي، وغيرهم. قال ابن كثير -رحمه الله-: " واختار ابن جرير، رحمه الله، أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعا. وهذا الذي قاله جيد، ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف؛ فإن كثيرا منهم روي عنه هذا وهذا، ولا منافاة، والله أعلم ". الرابعة: نزول آية الحجاب. وقد رواها البخارى عن أنس فى أكثر من موضع بعضها أسهب من بعض حتى قال أنس عن نفسه: " أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب ... الحديث " حيث قد طال مُكْثُ بعضِ الصحابة فى بيت النبى - صلى الله عليه وسلم - ليلة عرسه ممن حضر الوليمة، فلما خرجوا قال أنس: " فذهبت أدخل فأُلْقِىَ الحجاب بينى وبينه وأنزل الله الآية .. " فقد أرخى الستر بينه وبين خادمه ولم يكن له بذلك عهد، وقد أكملت رواية الترمذى الأمر فقد قال أنس فيها: " فلما أرخى الستر دونى ذكرت ذلك لأبى طلحة فقال: إن كان كما تقول لينزلن فيه قرآن، فنزلت آية الحجاب ". وحجاب أمهات المسلمين كلم عمرُ بنُ الخطاب النبىَّ (- صلى الله عليه وسلم -) فيه كثيراً قائلاً: " احجب نساءك " حتى نزل القرآن موافقاً لرأيه.

وآية الحجاب هي: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ .... الآية " (الأحزاب / 53) الخامسة: بعض أحكام الحجاب الشرعى. تعريفه (¬1): الحجاب: مصدر يدور معناه لغة على: السَّتر والحيلولة والمنع. وحجاب المرأة شرعاً: هو ستر المرأة جميع بدنها وزينتها، بما يمنع الأجانب عنها من رؤية شيء من بدنها أو زينتها التي تتزين بها، ويكون استتارها باللباس وبالبيوت. أما ستر البدن: فيشمل جَميعه، ومنه الوجه والكفان. وأما ستر زينتها: فهو ستر ما تتزين به المرأة، خارجاً عن أصل خلقتها، وهذا معنى الزينة في قول الله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} [النور: 31]، ويسمى: الزينة المكتسبة، والمستثنى في قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} هو الزينة المكتسبة الظاهرة والحجاب حجابان؛ حجاب البروز ويكون باللباس الشرعى الذى سنذكر أوصافه. وحجاب البيوت، ويكون بملازمة البيت لقوله تعالى: " وقرن فى بيوتكن " شروط الحجاب (¬2): 1 - استيعاب جميع البدن إلا ما استثني. ... 2 - أن لا يكون زينة في نفسه. ... 3 - أن يكون صفيقا لا يشف. ... 4 - أن يكون فضفاضا غير ضيق. 5 - أن لا يكون مبخرا مطيبا. ... 6 - أن لا يشبه لباس الرجل. 7 - أن لا يشبه لباس الكافرات. ... 8 - أن لا يكون لباس شهرة. فضائل الحجاب: ¬

_ (¬1) حراسة الفضيلة، بكر ابو زيد، (21) (¬2) جلباب المرأة المسلمة - الألباني، 37

قال الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- (¬1): ومن وراء افتراضه حكم وأسرار عظيمة، وفضائل محمودة، وغايات ومصالح كبيرة، منها: 1 - حفظ العِرض. ... 2 - طهارة القلوب، لقوله تعالى: {ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن}. 3 - مكارم الأخلاق من العفة والاحتشام والحياء والغيرة، والحجب لمساويها. 4 - علامة على العفيفات لقوله تعالى: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} 5 - قطع الأطماع والخواطر الشيطانية. ... 6 - حفظ الحياء. 7 - الحجاب يمنع نفوذ التبرج والسفور والاختلاط إلى مجتمعات أهل الإسلام. 8 - الحجاب حصانة ضد الزنا والإباحية. 9 - المرأة عورة، والحجاب ساتر لها، وهذا من التقوى ... 10 - حفظ الغيرة. السادسة: تفاخر زينب على أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم -. وكانت تفخر على نساء النبى (- صلى الله عليه وسلم -) بقولها: " أنتن أنكحكن آباؤكن " فهل كل نسائه زوجها أبوها؟ قال ابن حجر: وهذا الإطلاق محمول على البعض، وإلا فالمحقق أن التي زوجها أبوها منهن عائشة وحفصة فقط، وفي سودة وزينب بنت خزيمة وجويرية احتمال، وأما أم سلمة وأم حبيبة وصفية وميمونة فلم يزوج واحدة منهن أبوها. من فوائد الحديث: 1 - وجوب الحجاب على نساء المؤمنين. 2 - العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد قال أنس: " نزلت فى زينب " ولكن الحكم عام لكل مسلمة بنص كتاب الله قال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ " 3 - ترك الكنية لا يتنافى مع الأدب، فقد قال أنس: " نزلت فى زينب " ولم يقل: " أم المؤمنين " والصحابة هم آدب القوم. 4 - وجوب الوليمة فى الأعراس. 5 - لا يشترط اللحم فى الوليمة ولكن بما تيسر، لما عند مسلم فى هذه الرواية: " فصنعت له أم سليم حيسا " - أى فى الوليمة -، وكما فى حديث أنس عند البخارى فى زواج النبىِّ بصفيه، ¬

_ (¬1) حراسة الفضيلة، بكر ابو زيد، (53:51)

وفيه: " فدعوت المسلمين إلى وليمته وما كان فيها من خبز ولا لحم ... .. الحديث " 6 - جواز الافتخار بما أنعم الله به، إذا أمن العبد على نفسه الفتنة. 7 - مشروعية التحدث بنعم الله، ووجوب الشكر عليها. 8 - وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن هم بأمر سواءٌ كان هذا الأمر خيراً أم شر، كما تبين ذلك من بعض طرق الحديث فعند مسلم قالت زينب لزيد لما جاءها فى زواج النبى منها: " ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربى ". 9 - مكانة النبى (- صلى الله عليه وسلم -) عند الصحابة ومدى رفعة أخلاق هذا الجيل الفريد، ففى رواية مسلم أن النبىَّ أرسل زيدٌ يذكرها عليه، فلما انطلق زيدٌ إليها قال: " فلما رأيتها عظِمَت فى صدرى حتى ما أستطيع أنظر إليها أن رسول الله ذكرها، فوليتها ظهرى ونكصت على عقبى فقلت: " يا زينب أرسل رسول الله يذكرك ....... ". 10 - وفيه أنه لا بأس أن يبعث الرجل لخطبة المرأة له من كان زوجها إذا علم أنه لا يكره ذلك. قاله النووى. 11 - وفيه أن الوليمة على الزواج مما لا يدخل فى العدل بين الأزواج، فقد أولم (- صلى الله عليه وسلم -) على زينب بما لا يولم به على غيرها، كما قال أنس. 12 - وفيه علامة من علامات نبوته (- صلى الله عليه وسلم -)، حيث أنه لما أهدى له الحيس من أم سليم وضع يده عليه ودعا، حتى طعم الجميع، حتى قال أنس: " فما أدرى حين وضعت -أى الطعام- كان اكثر أم حين رفعت ". 13 - جواز الوكالة فى الدعوة إلى الوليمة. 14 - لا يشترط ان يكون مال الوليمة من مال الزوج بل يجوز إهداؤه إليه. 15 - وفيه أنه من الأدب مراعاة مشاعر الناس، ومراعاة حالة المضيف حتى لا تثقل عليه، فيتأذى بذلك ويمنعه الحياء من الإفصاح بمراده. 16 - وفيه تكفل الله عز وجل عن حماية جناب النبى (- صلى الله عليه وسلم -) من كل ما قد يسبب له أذى فقال للأمة: " إن ذلكم كان يؤذى النبى ".

مسند {عبد الله بن بسر}

17 - وفيه حفاظ الله عز وجل لهذه الأمة فى كل أحوالها، فقد قال تعالى: " والذين يؤذون رسول الله لهم عذابٌ أليم " فلما غفل هؤلاء النفر الذين أطالوا البقاء عند النبى أن هذا مما يؤذيه رفع الله الحرج عن الأمة فعلمهم حتى لا ينالهم العذاب الأليم. مُسْنَد {عبد الله بن بُسْر} التراجم عبد الله بن بسر هو الصحابي، المعمر، بركة الشام، أبو بسر ويقال أبو صفوان المازني، نزيل حمص. له ولأبويه صحبة، وصحبتة يسيرة زارهم النبى - صلى الله عليه وسلم - وأكل عندهم، ودعا لهم، وهو آخر من مات بالشام من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى له الجماعة وله: أحاديث قليلة بلغت خمسين حديثا، وكان ممن صلى إلى القبلتين. وقد غزا جزيرة قبرس مع معاوية في دولة عثمان. صفته: وقال حريز بن عثمان: رأيت عبد الله بن بسر وثيابه مشمرة، ورداؤه فوق القميص، وشعره مفروق يغطي أذنيه، وشاربه مقصوص مع الشفة، كنا نقف عليه، ونتعجب. وقال صفوان بن عمرو: رأيت في جبهة عبد الله بن بسر أثر السجود. قالت أم هاشم الطائية: رأيت عبد الله بن بسر يتوضأ، فخرجت نفسه - رضي الله عنه -. الوفاة: قال الواقدي: مات سنة ثمان وثمانين، وهو آخر من مات من الصحابة بالشام. قال: وله أربع وتسعون سنة. وقيل سنة ست وتسعين. * وقد روى أحمد فى ذلك بسند حسن عن عصام بن خالد قال: حدثنا الحسن بن أيوب الحضرمي قال: أراني عبد الله بن بسر شامة في قرنه، فوضعت أصبعي عليها، فقال: وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبعه عليها، ثم قال: " لتبلغن قرنا ". وله فى الثلاثيات حديثٌ واحد والراوى عنه: " حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ " حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ اسمه والتعريف به: حريز بن عثمان أبو عثمان الرحبي المشرقى الحمصى، محدث ثقة ثبت، من أهل حمص. لم يكن في الشام أعلم منه بالحديث في عصره. رحل إلى بغداد في زمن المهدي العباسي، وزار مصر، وحج.

وكانوا يتهمونه بانتقاص عليّ والنيل منه. والرحبي نسبة إلى (رحبة) بطن من حمير، حدث بالشام وبالعراق، وحديثه نحو المائتين، ويرمى بالنصب. وقد روى البخارىُّ عنه لما تقرر فى الأصول من أن المحدثين يون الرواية عن اهل البدعة من الخوارج والرافضة إذا كانوا من أهل الضبط والديانة، ولا تكون الرواية فيما تؤيد بدعته. مولده: قال يزيد بن عبد ربه: ومولده سنة ثمانين. الجرح والتعديل: قال الذهبى معقباً على ما رمى به: " هذا الشيخ كان أورع من ذلك، وقد قال معاذ بن معاذ: لا أعلم أني رأيت شاميا أفضل من حريز." وقد قال أبو حاتم: لا يصح عندي ما يقال في رأيه، ولا أعلم بالشام أحدا أثبت منه. وقال أحمد بن حنبل: حريز: ثقة، ثقة، ثقة، لم يكن يرى القدر. ومن حِكَمِه: " لا تعادِ أحداً حتى تعلم ما بينه وبين الله، فإن يكن محسناً، فإن الله لا يُسْلمه لعدواتك، وإن يكن مسيئا، فأوشك بعمله أن يكفيكه ". الوفاة: توفي حريز بن عثمان: سنة ثلاث وستين ومائة، وله نيف وتسعون سنة. وليس له فى الثلاثيات إلا حديثٌ واحد يرويه عنه: عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ اسمه والتعريف به: عِصَام بن خَالِد أَبُو إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ الْحِمصِي، من صغار أتباع التابعين، وهو من شيوخ الإمام أحمد الشيوخ والتلاميذ: روى عن أبيه وحريز وأرطاة ابن المنذر وإسماعيل بن عياش وصفوان بن عمرو بن هرم السكسكي وغيرهم، وروى عنه الإمام احمد، والبخاري، والحسن بن على بن عياش الحمصي، ومحمد بن مسلم الرازي وغيرهم. الجرح والتعديل: قال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان فى كتاب " الثقات ". وقال ابن حجر: صدوق. الوفاة: قال البخارى: مات ما بين سنة إحدى عشرة إلى سنة خمس عشرة ومئتين.

الحديث الثانى والعشرون

الحديث الثانى والعشرون 22 - حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أَرَأَيْتَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ شَيْخًا؟ قَالَ كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ. (3546) الشرح: قال القسطلانى فى "إرشاد السارى": " هذا الحديث هو الثالث عشر من ثلاثياته وهو من أفراده " وكذا نص على ذلك الكرمانىُّ فى شرحه. وأخرجه البخارى فى كتاب المناقب، باب " صفة النبى (- صلى الله عليه وسلم -).وليس لعصام هذا فى البخارى سوى هذا الحديث، ومن النكت أن أبا زرعة الدمشقي وهو دون البخارى في الطبقة وقد يعد من أقرانه أن هذا الحديث وقع له ثلاثياً كما في تاريخه: قال: حدثني علي بن عياش قال حدثنا حريز بن عثمان قال: قلت لعبد الله بن بسر أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكان شيخاً؟ قال كان في عنفقته شعرات بيض. والحديث ينقل لنا بعض صفات النبى (- صلى الله عليه وسلم -) الخِلْقِيّة، فإنه لم يشب شعره. وعلة تخصيص عبد الله بن بسر بصفة الصحبة فقال: " صاحب رسول الله " لأن هناك أيضاً " عبد الله بن بسر السكسكى الحبرانى " من صغار التابعين وهو من تلاميذ بن بسر الصحابى فحتى لا يتوهم ان الحديث مرسل خصصه - والله أعلم - وفيه أربع مسائل: الأولى: قوله " أرأيت " لها احتمالان: قال ابن حجر: الأول: بمعنى أخبرني و " النبي " بالرفع على أنه اسم كان، والتقدير: أخبرني أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شيخا؟ واعترض البدر العينى على كون " النبى" اسم كان وقال: فيه ما فيه، والنبىُّ مرفوعٌ على الابتداء وكان شيخاً خبرها ا-هـ

الثاني: يحتمل أن يكون " أرأيت " استفهاما منه هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ويكون " النبيّ " بالنصب على المفعولية. وكان شيخا استفهام ثان حذفت منه أداة الاستفهام. وقد جاءت بعض الروايات أن حريز سأله السؤالين، كما فى رواية أبى زرعة السابقة. الثانية: العنفقة: هى ما بين الذقن والشفة السفلى سواء كان عليها شعر أم لا. وتطلق على الشعر أيضا. الثالثة: هل شاب النبى (- صلى الله عليه وسلم -) أو صبغ؟ أجاب عبد الله بن بسر على حريز بن عثمان فى روايةٍ أخرى على هذا السؤال فقال له: " يا ابن أخى لم يبلغ النبى (- صلى الله عليه وسلم -) ذلك " وروايات أنس كلها تدل على أن النبى (- صلى الله عليه وسلم -) مابلغ به المشيب إلا قليل من الشعرات فى لحيته ما تجاوزت العشرين، كما روى البخارى عن أنس قال: " فتوفاه الله وليس فى رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاء ". وقال الكرماني "شعرات": جمع قلة فلا يكون زائدا على عشرة، فيأخذ من كلام الكرمانى أن العشر كانوا فى عنقته، وما زاد على ذلك فكان فى لحيته كما قال أنس: " إنما كان شيءٌ فى صدغيه " أما ما ورد أنه قد رؤي شعرٌ أحمر للنبى (- صلى الله عليه وسلم -)، فإنما كانت هذه الحمرة من أثر الطيب، ودليل ذلك - كما ذكر ابن حجر - ما ثبت عن عمر بن عبد العزيز قال:" قلت لأنس: هل خضب النبى (- صلى الله عليه وسلم -) فقد رأيت شعراً من شعره قد لون؟ فقال: إنما هذا الذى لُوِّن من الطيب الذى كان يطيب به شعر رسول الله فهو الذى غير لونه " الرابعة: ما الحكمة فى تقليل البياض بالنسبة له رغم أن للشيب فى الإسلام مكانة، قال عنها: " من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة "؟

الباب الثالث

قال القارى فى شرحه للثلاثيات: " لما كان النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - حبب إليه من الدنيا النساء، والنساء لا يحببن الشيب كما ثبت عن عائشة قالت: " ما شانه الله بالبياض " فقد صانه الله عما شانه لديهن، لئلا يكون مكروهاً عليهن ". قلت وكما قال القائل: وقائلةٍ: تخضب فالغواني نوافر عن معاينة النذير والنذير فى البيت هو الشيب كما ثبت عن ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع والطبرى فى قوله تعالى: " وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ " ومن فوائد الحديث: 1 - مدى اهتمام الصحابة بشأن النبى - صلى الله عليه وسلم - كله، حتى عدوا عدد الشيب فى رأسه. 2 - صيانة الله لنبيه عما يشينه. الباب الثالث المبحث الأول: روايات فى البخارى بصورة الثلاثيات المبحث الثانى: روايات فى البخارى فى حكم الثلاثيات المبحث الثالث: ثلاثيات فى الأدب المفرد للبخارى المبحث الأول روايات بصورة الثلاثيات هناك كثير من الأحاديث فى البخارى تأخذ صورة الثلاثيات، فسندها عبارة عن ثلاثة من الرواة، إلا أنها ليست روايات ثلاثية، وذلك إما لأنها من المعلقات ففيها راوٍ أو أكثر محذوف من أول السند، وإما للإرسال، أو غير ذلك من الأسباب التى تخرجه عن حيز الثلاثيات، ومن ذلك. الحديث الأول قال البخارىُّ: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ مَهْدِيَّ بْنَ مَيْمُونٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا مُنَصِّلُ الْأَسِنَّةِ فَلَا نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلَّا نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ

وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غُلَامًا أَرْعَى الْإِبِلَ عَلَى أَهْلِي فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. (4117) التعليق: الحديث أخرجه البخارى فى كتاب المغازى، باب " وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال ". وفى نفى أن هذه الرواية من الثلاثيات يقول البدر العينى: أبو رجاء العطاردي أسلم زمن النبي ولم يره، وهذا لا يحسب من الثلاثيات لأنه لم يرو حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل حكى عن حاله فقط بخروجه، أي بظهوره على قومه من قريش بفتح مكة، وليس المراد منه مبدأ ظهوره بالنبوة ولا خروجه من مكة إلى المدينة. الحديث الثانى قال ابو عبد الله: وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْأَنْصَارَ لِيُقْطِعَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ فَاكْتُبْ لِإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي. التعليق: اخرجه البخارى فى كتاب المساقاة والشرب، باب: كتابة القطائع. وهذه الرواية من المعلقات فإن البخارى لم يدرك الليث ولا يصح عده من الثلاثيات لأن البخاري أخذه عن واحد عن الليث إما عبد الله بن يوسف أو ابن بكير أو قتيبة أو غيرهم ممن حدث البخاري عنهم عن الليث 0

المبحث الثانى

الحديث الثالث قال ابو عبد الله: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَوْلَ الْبَيْتِ حَائِطٌ كَانُوا يُصَلُّونَ حَوْلَ الْبَيْتِ حَتَّى كَانَ عُمَرُ فَبَنَى حَوْلَهُ حَائِطًا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ جَدْرُهُ قَصِيرٌ فَبَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. التعليق: اخرج البخارى الحديث فى كتاب فضائل الصحابة، باب بنيان الكعبه وهذا الحديث من مرسل التابعين فلا يصح عده من الثلاثيات لأن مقصودهم بها ما كان بين المصنف والنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أنفس. المبحث الثانى وهناك في الصحيح ما كان حكمه حكم الثلاثيات ولا يعد منها، وصورة ذلك أن يكون شيخُ شيخِ البخارى تابعياً ولكن لا يروى عن صحابىٍّ بل عن تابعىٍّ آخر، أو يكون بين البخارى والصحابىِّ اثنان، ولكن هذا الصحابىَّ يروى عن صحابىٍّ آخر، كما قال ابن حجر (¬1): " أعلى ما يقع للبخاري ما بينه وبين الصحابي فيه اثنان، فإن كان الصحابي يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم فحينئذ توجد فيه صورة الثلاثي، وإن كان يرويه عن صحابي آخر فلا، لكن الحكم من حيث العلو واحد لصدق أن بينه وبين الصحابي اثنين. وهكذا تقول بالنسبة إلى التابعي إذا لم يقع بينه وبينه إلا واحد، فإن رواه التابعي عن صحابي فعلى ما تقدم، وإن رواه عن تابعي آخر فله حكم العلو لا صورة الثلاثي ". ومن ذلك: الحديث الأول قال البخارى: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. التعليق: أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة، باب " باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به " ¬

_ (¬1) الفتح، حديث رقم (341)

قال الحافظ في الفتح: " هذا الإسناد له حكم الثلاثيات وإن لم تكن له صورتها "، ثم قال: " فإن هشام بن عروة من التابعين، لكنه حدث هنا عن تابعي آخر وهو أبوه، فلو رواه عن صحابي ورواه ذلك الصحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان ثلاثيا. والحاصل أن هذا من العلو النسبي لا المطلق والله أعلم. وعمر الصحابىّ هذا هو ربيب النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن بطال: فائدة الالتحاف المذكور أن لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع، ولئلا يسقط الثوب عند الركوع والسجود. الحديث الثانى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ قُلْتُ فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ أَعْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ تُعِينُ ضَايِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ قَالَ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ تَدَعُ النَّاسَ مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ. التعليق: والحديث أخرجه البخارى فى كتاب العتق، باب " أى الرقاب أفضل " ويقال فيه كالذى قيل قبله، قال ابن حجر معلقاً على هذه الرواية: " هذا من أعلى حديث وقع في البخاري، وهو في حكم الثلاثيات، لأن هشام بن عروة شيخ شيخه من التابعين وإن كان هنا روى عن تابعي آخر وهو أبوه، وقد رواه الحارث بن أسامة عن عبيد الله بن موسى فقال: "أخبرنا هشام بن عروة" أخرجه أبو نعيم في "المستخرج"." 0

الحديث الثالث قال البخاري: وَقَالَ عَلِيٌّ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ بِذَلِكَ. التعليق: أخرجه البخارى فى كتاب العلم " باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا " فأبو الطفيل صحابي ولكن هنا لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل عن صحابي آخر، قال ابن حجر: " وهذا الإسناد من عوالي البخاري لأنه يلتحق بالثلاثيات، من حيث إن الراوي الثالث منه صحابي، وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي آخر الصحابة موتا. وفي الحديث دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة. وقال ابن حجر: " فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب". الحديث الرابع - حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي وائل "عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء" (6864) التعليق: الحديث أخرجه فى كتاب الديات باب: قول الله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم} قال ابن حجر: " هذا السند يلتحق بالثلاثيات وهي أعلى ما عند البخاري من حيث العدد، وهذا في حكمه من جهة أن الأعمش تابعي وإن كان روى هذا عن تابعي آخر فإن ذلك التابعي أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم تحصل له صحبة. "

الحديث الخامس حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ اَبِيهِ اَنَّ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ: مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي السِّقْطِ؟ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: اَنَا سَمِعْتُهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ اَوْ اَمَةٍ قَالَ ائْتِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ عَلَى هَذَا فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ اَنَا اَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ هَذَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ اَبِيهِ اَنَّهُ سَمِعَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ اَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فِي اِمْلَاصِ الْمَرْاَةِ مِثْلَهُ. التعليق: اخرجه البخارى فى كتاب الديات باب " جنين المرأة " فهشام قد سمع من عمه عبد الله بن الزبير وهو صحابي، قال ابن حجر: " وهذا في حكم الثلاثيات لأن هشاما تابعي كما سبق تقريره في رواية عبيد الله بن موسى أيضا عن الأعمش في أول الديات. الحديث السادس حدثنا أبو عاصم وأبو نعيم قالا حدثنا عزرة بن ثابت قال أخبرنى ثمامة بن عبد الله قال كان أنس يتنفس فى الإناء مرتين أو ثلاثا وزعم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس ثلاثا. التعليق: اخرجه البخارى فى كتاب الاشربة " باب الشرب بنفسين أو ثلاثة ". قال ابن حجر: هذا الإسناد له حكم الثلاثيات وإن كان شيخ تابعيه فيه تابعيا آخر. الحديث السابع حدثنا أبو نعيم حدثنا عزرة بن ثابت الأنصارى قال حدثنى ثمامة بن عبد الله عن أنس - رضي الله عنه - أنه كان لا يرد الطيب، وزعم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرد الطيب. التعليق: أخرجه البخارى فى كتاب اللباس باب " من لم يرد الطيب " فعزرة تابعي سمع من عبد الله بن أبي أوفى وغيره من الصحابة.

الحديث الثامن حَدَّثَنَا اَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَكَّةَ فِي خُطْبَتِهِ يَقُولُ يَا اَيُّهَا النَّاسُ اِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لَوْ اَنَّ ابْنَ ادَمَ اُعْطِيَ وَادِيًا مَلْئًا مِنْ ذَهَبٍ اَحَبَّ اِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ اُعْطِيَ ثَانِيًا اَحَبَّ اِلَيْهِ ثَالِثًا وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ ادَمَ اِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ " التعليق: أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق، " باب ما يتقى من فتنة المال " لأن عبد الرحمن بن الغسيل لقي بعض الصحابة. الحديث التاسع حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ اِبْرَاهِيمَ عَنْ الْجُعَيْدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاِمْرَةِ اَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَنَقُومُ اِلَيْهِ بِاَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَاَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ اخِرُ اِمْرَةِ عُمَرَ فَجَلَدَ اَرْبَعِينَ حَتَّى اِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ التعليق: أخرجه البخارى فى كتاب الحدود " باب الضرب بالجريد والنعال "

قال ابن حجر: " فإن الجعيد سمع من السائب بل روى هذا الحديث بعينه عن السائب مباشرة كما عند النسائي هذا السند للبخاري في غاية العلو لان بينه وبين التابعي فيه واحدا فكان في حكم الثلاثيات، وان كان التابعي رواه عن تابعي اخر، وقد اخرجه النسائي من رواية حاتم بن اسماعيل عن الجعيد سمعت السائب، فعلى هذا فادخال يزيد ابن خصيفة بينهما اما من المزيد في متصل الاسانيد واما ان يكون الجعيد سمعه من السائب، وثبته فيه يزيد، ثم ظهر لي السبب في ذلك وهو ان رواية الجعيد المذكورة عن السائب مختصرة فكانه سمع الحديث تاما من يزيد عن السائب فحدث بما سمعه من السائب عنه من غير ذكر يزيد، وحدث ايضا بالتام فذكر الواسطة، ويزيد ابن خصيفة المذكور هو ابن عبد الله بن خصيفة نسب لجده وقيل هو يزيد بن عبد الله بن يزيد بن خصيفة فيكون نسب الى جد ابيه، وخصيفة هو ابن يزيد بن ثمامة اخو السائب بن يزيد صحابي هذا الحديث فتكون رواية يزيد بن خصيفة لهذا الحديث عن عم ابيه او عم جد ". الحديث العاشر حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ اِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ اُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَاْتِيَهُمْ اَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ". التعليق: أخرجه البخارى فى كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب " قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق). وهم أهل العلم " فإسماعيل بن أبي خالد سمع من بعض الصحابة كعبد الله بن أبي أوفى وغيره.

وعبيد الله بن موسى، هو العبسي بالموحدة ثم المهملة الكوفي من كبار شيوخ البخاري، وهو من اتباع التابعين وشيخه في هذا الحديث " اسماعيل " هو ابن ابي خالد تابعي مشهور، وشيخ اسماعيل " قيس " هو ابن ابي حازم من كبار التابعين، وهو مخضرم ادرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره ولهذا الاسناد حكم الثلاثيات وان كان رباعيا وليس مثله: حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبى وائل عن عبد الله قال قال النبى - صلى الله عليه وسلم - «أول ما يقضى بين الناس فى الدماء لأن الأعمش وإن كان من التابعين إلا أنه لم يسمع من أحد من الصحابة، ذكر الذهبي الأعمشَ في الطبقة الرابعة من صغار التابعين لأنه لقي أنسا ولم يصح سماعه من أحد من الصحابة كما قال أبو عيسى الترمذي، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال رأى انسا بمكة وواسط وروى عنه شبيها بخمسين حديثا ولم يسمع منه إلا احرفا معدودة وكان مدلسا اخرجناه في التابعين لان له حفظا ويقينا وان لم يصح له سماع المسند من انس أ. هـ وكذا غيرهم عدوه من صغار التابعين، فذكر في التابعين من أجل اللقي لا السماع لكن يبقى العلو النسبي لكن قد عده الحافظ في حكم الثلاثيات لأن الأعمش تابعي وأبو وائل مخضرم لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون ما ذكر من حديث العطاردي من هذا القبيل. والله أعلم الحديث الحادي عشر 9053 - حدثنا (علي بن عياش) حدثنا (حريز) قال حدثني (عبد الواحد بن عبد الله النصري) قال سمعت (واثلة بن الأسقع) يقول قال رسول الله إن من أعظم الفري أن يدعي الرجل إلى غير أبيه أو يري عينه ما لم تر أو يقول على رسول الله ما لم يقل ". التعليق: اخرجه البخارى فى كتاب المناقب باب " نسبة اليمن إلى إسماعيل " قال البدر العينى: " ومن لطائف هذا الإسناد أنه من عوالي البخاري وأن فيه رواية القرين عن القرين من التابعين وأنه من أفراد البخاري ".

المبحث الثالث

وحريز من صغار التابعين سمع من عبد الواحد بن عبد الله التابعى، وقد عد هذا الحديث من عوالى البخارى لأن حريز ثبت له السماع من عبد الله بن بسر الصحابى الجليل كما هو فى الحديث الذى ذكرناه فى مسند بن بسر فالراوى عنه فيه هو " حريز ". المبحث الثالث ثلاثيات فى الأدب المفرد للبخارى وقد وقع للبخارى فى الأدب المفرد نحو ما جاء فى الصحيح من الثلاثيات فبينه وبين النبى فيها ثلاثة رواة إلا أن منها ماهو صحيح وما هو حسن وما هو ضعيف: الحديث الأول حدثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا سليمان أبو إدام قال سمعت عبد الله بن أبى أوفى يقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم " التعليق الحديث ضعفه الألبانىُّ فى ((الضعيفة)) برقم (1456) فقال: وهذا إسناد واه جدا، سليمان هذا وهو ابن زيد المحاربي قال ابن معين:" ليس بثقة، كذاب، ليس يسوى حديثه فلسا ". وقال النسائي:" متروك الحديث ". وقال أبو حاتم:" ليس بقوي ". وقال الهيثمي في " المجمع " (8/ 151):" رواه الطبراني، وفيه أبو إدام المحاربي وهو كذاب ". الحديث الثانى حدثنا أبو نعيم قال حدثنا يحيى بن أبي الهيثم العطار قال حدثني يوسف بن عبد الله بن سلام قال: " سماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوسف وأقعدنى على حجره ومسح على رأسي " التعليق قال الألبانى: " صحيح الإسناد " كما فى صحيح الأدب المفرد. الحديث الثالث حدثنا أبو نعيم قال حدثنا حنش بن الحارث عن أبيه قال: كان الرجل منا تنتج فرسه فينحرها فيقول أنا أعيش حتى أركب هذا فجاءنا كتاب عمر أن اصلحوا ما رزقكم الله فإن في الأمر تنفسا التعليق صححه الألبانى كمافى صحيح الأدب المفرد، وأيضا فى الصحيحة مع الحديث رقم (9) الحديث الرابع

خاتمة

حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سلمة قال سمعت أنسا يقول: أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه الحاجة أو بعض الحاجة فقال أدلك على خير من ذلك تهللين الله ثلاثا وثلاثين .... التعليق ضعفه الألبانى فى ضعيف الأدب المفرد وقال: " ضعيف الإسناد، فيه سلمة - وهو: ابن وَرْدان - ضعيف. والحديث ليس في شئ من الكتب الستة. الحديث الخامس حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سلمة بن وردان قال سمعت أنسا ومالك بن أوس بن الحدثان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يتبرز فلم يجد أحدا يتبعه فخرج عمر فاتبعه بفخارة ..... التعليق حسنه الألبانى كما فى ((الصحيحة)) برقم (829) وقال وسلمة بن وردان ضعيف بغير تهمة، فيصلح للاستشهاد به. ا. هـ لذلك: فإن الحديث ضعيف بسلمة إلا أن الألبانى قد حسنه للشواهد. والله أعلم فسلمة قال فيه الامام أحمد بن حنبل: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال عباس الدورى، عن يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال عبد الرحمن بن أبى حاتم: سمعت أبى ـ وسئل عن سلمة بن وردان ـ فقال: ليس بقوى، تدبرت حديثه فوجدت عامتها منكرة لا يوافق حديثه عن أنس حديث الثقات إلا فى حديث واحد، وقال فى موضع هو حديث أنس عن معاذ " من مات لا يشرك بالله شيئا " فإن هذا قد شاركه فيه غيره. خاتمةٌ هذا وقد تم بحمد الله هذا الجمع والترتيب لأحكام ثلاثيات البخارى، وقد وقعت هذه الثلاثيات، كما قلنا فى مسانيد ثلاثة من الصحابة، وقد وقعت فى سبعة عشر كتاباً من كتب الصحيح ولإتمام الفائدة نذكر هذه الكتب: كتاب العلم، وفيه حديثٌ واحد وكتاب الصلاة، وفيه حديثان وكتاب مواقيت الصلاة، وفيه حديثٌ واحد. وكتاب الصوم وفيه حديثان. وكتاب الحوالة وفيه حديثٌ واحد. وكتاب الكفالة، وفيه حديثٌ واحد. وكتاب المظالم وفيه حديثٌ واحد. وكتاب الذبائح والصيد وفيه حديث واحد. وكتاب الجهاد والسير وفيه حديثان. وكتاب الأحكام، وفيه حديثٌ واحد. وكتاب المغازى وفيه حديثٌان.

وكتاب الأضاحى وفيه حديثٌ واحد. وكتاب الديات وفيه حديثان. وكل ما مضى فى مسند سلمة إلا حديث فى كتاب الديات فوقع فى مسند أنس. وكتاب الصلح وفيه حديثٌ واحد. وكتاب التفسير (سورة البقرة) وفيه حديثٌ واحد. وكتاب التوحيد، وهذه الثلاثة فى مسند أنس. وكتاب المناقب وفيه الحديث الأخير فى مسند عبد الله بن بسر، باب صفة النبىِّ (- صلى الله عليه وسلم -). والله أسأل أن يجعل عملنا كله صالحا، ولوجهه خالصا، إنه ولى ذلك ومولاه. وأخيراً أقول ما قاله الحريرى فى خاتمة مقاماته: " وهذه آخِرُ الكلمات التي أنشأتُها بالاغتِرارِ. وأمليتُها بلسان الاضطرار. وقدْ أُلجِئْتُ إلى أن أرصدتُها للاستعراض. وناديتُ عليها في سوق الاعتراض. ولو غشيني نورُ التوفيق. ونظرت لنفسي نظر الشفيق. لسترتُ عَواري الذي لم يزل مستوراً. ولكن كان ذلك في الكتاب مسطوراً. وأنا أستغفر الله تعالى مما أودعته من خطإٍ ولغو. وأسترشده إلى ما يعصم من السهو. ويحظي بالعفو إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة. وولي الخيرات في الدنيا والآخرة." وصلى الله على نبينا محمدٍ وسلم تسليماً كبيراً والحمدُ لله ربِّ العالمين ........ كتبه أبو وداعة وليد صبحى الصعيدى ليلة الخميس الخامس والعشرين من شعبان الموافق 6/ 8/ 2010

§1/1