تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب
محمد إسماعيل المقدم
تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب تأليف: محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم توزيع دار طيبة - مكة المكرمة ت: 5589027
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب
حقوق الطبع محفوظة الطبعة العاشرة 1414 هـ - 1993 م توزيع دار طيبة - مكة المكرمة ت: 5589027 الرياض ت: 4253737
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، سيما عبده المصطفى. وبعد: فقد طُبعت هذه الرسالة من قبل ملحقة بكتاب " أدلة تحريم حلق اللحية " باعتبارها امتداداً لمادته، وقد نصح كثير من الفضلاء بإصدارها منفردة تعميمًا للفائدة، في وقت ارتفعت فيه نعرة تقسيم الدين إلى قشر ولباب، يعقبها المناداة بنبذ ما أسموه قشراً بدعوى الاهتمام باللب، مما يعني تزهيد الناس في التمسك بهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذلك الهدى الذى سَوَّلَتْ لهم شياطينهم، وطوَّعت لهم أنفسهم أن يسموه تطرفًا، والله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، ويقول سبحانه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ويقول عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وحينما نردد بين الحين والحين شعارنا المقدس: "خير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - " فإننا نعنيها، ونستحضر كلما رفعنا عقيرتنا بها أنها تعنى الاعتزاز بهذا الهدى، والاستعلاء به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه. إن التمسك بهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظاهر والباطن ما هو إلا مرآة تعكس ما يعمر قلوب متبعيه - صلى الله عليه وسلم - من حبه وتعزيره وتوقيره، وما يتنادى به بعض المرجفين لا يعدو أن يكون جهلاً بالشرع، أو ضربًا من العبث والتحلل من البعض، أو سوء نية وخبث طوية من البعض الآخر، وقانا الله وسائر المسلمين شرهم.
وهذه الرسالة ترد على الفريقين كل بحسبه، وتبين أن مصطلح " القشر واللب " ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قِبَلِهِ العذاب، ولذا انخدع به بعض الطيبين الذين ابتلعوا الطعم، فاستحسنوه، وصاروا يروِّجون له، دون أن يدركوا أنه قناعٌ نفاقى قبيح، وأنه من لحن قول العالمانيين الذين يتخذونه قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشرائع الإِسلام دون أن يُخْدَش انتماؤهم إليه، نعم تتوقف القضية عند حسنى النية من المسلمين المخلصين عند نبذ ما أسموه قشرًا، لتركيز الاهتمام على ما دَعَوه " لبًّا "، ولكنها عند المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الِإسلام من جذورها، مجرد مدخل إلى نبذ اللب والقشر معًا، تمامًا كما يرفعون شعار الاهتمام " بروح النصوص وعدم الجمود عند منطوقها "، ومع أن هذا كلام طيب إذا تعاطاه العلماء، وطبَّقه الأسوياء، لكنه خطير إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية، والمشوهون عقديًّا؛ إذ يكون مقصودهم حينئذ هو " إزهاق " روح النص، بل اطِّراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه -بعد تحريفه عن مواضعه- لخدمة أهدافهم الخبيثة (1). إنهم يريدون دينًا ممسوخًا كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة، يسمح لأتباعه بكل شىء مقابل أن يسمحوا له بالبقاء حيًّا على هامش الحياة، محبوسًا في الأقفاص الصدرية، لا يترك أى بصمة على واقع الناس ومجتمعاتهم. إنهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (2). {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3). والحمد لله رب العالمين. الِإسكندرية في الجمعة 11 شوال 1413 هـ الوافق 2 أبريل 1993 م
بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (1). قال الِإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الِإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك) (2) اهـ. ثم نقل عن ابن عباس وغيره أنهم قالوا: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} يعني: الِإسلام، {كافة} يعني: جميعًا، وقال مجاهد " أى اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر "، وقال الألوسى رحمه الله: (والمعنى: ادخلوا في الِإسلام بكليتكم، ولا تَدَعُوا شيئًا من ظاهركم وباطنكم إلا والِإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره) (3) اهـ. وقال أيضًا: (وقيل: الخطاب للمسلمين الخُلَّصِ، والمراد من " السِّلْم " شعب الِإسلام، و " كافة " حال منه، والمعنى " ادخلوا " أيها المسملمون المؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في شعب الِإيمان كلها، ولا تُخِلُّوا بشىءٍ من أحكامه) اهـ.
تقسيم الدين إلى قشر ولب بدعة وضلالة
تقسيم الدين إلى قِشْرٍ ولُبٍّ بِدْعةٌ وضلالة نبغ في هذا العصر أقوام تلقوا هدى الِإسلام من واقع حياتهم أولًا، ولم يحيوا في جو علمى يتأثرون به في حكمهم على الأمور، فراحوا يحتجون ببعض النصوص لِإثبات عكس ما وضعت له، ويسمون الأشياء بغير اسمها. ويتضح هذا جليًّا فيمن لا يهتمون ببعض الشرائع الظاهرة التي يسمونها (شكليات) أو (قشورًا) ويدندنون فقط حول التمسك (باللباب). يقول الشيخ محمد إبراهيم شقرة حفظه الله ما ملخصه: [لقد صارت هذه المقولة المغرضة شعارًا له أنصار ودعاة وأقلام وصحف ومناهج وعقول. - وبالرغم من هذا الحشد الذى التف حول هذا الشعار فإننا لم نجد حتى الآن ترجمة واضحة له، أو تحديدًا دقيقًا لمعناه، فإن القائلين بهذه المقولة الحادثة، رغم تأكيدهم عليها، والِإكثار من الحديث عنها، فإنهم لم يضعوا تعريفًا أو حَدًّا لما سموه قشرًا، أو لما يسمى لبابًا، ينتهى إليه الراغب في العمل باللباب وحده دون القشر. وما ذاك إلا لأنها مقولة حادثة مبتدعة، لم يعرفها سلف الأمة ومن تبعهم بإحسان، وإنما هي من نتاج أفكار المهزمين المستعبدين للشرق أو الغرب. * وإذا حاولنا أن نضع حدًّا تقريبياً، فلنقل: " اللباب في المأمورات الشرعية هو ما يدخل تحت الحكم الواجب، والقشر هو ما جاوز دائرة الحكم الواجب، واللباب في النواهي هو ما يدخل تحت الحكم الحرام، والقشر هو ما لم يتناوله الحرام الصريح في النواهي " وعلى ذلك: فالقشور في المأمورات: كل مندوب أو مباح، وفي النواهي: المكروهات، وبناءً عليه يجتمع لدينا من القشور ما يزيد على نصف الدين،
ويبقى من لبابه أقل من النصف، فهل يعقل أن ندع أكثر من نصف الدين قشورًا لنأخذ أقل من نصفه لبابًا؟ ٍوأين سيضعون المسائل المختلف عليها بين الواجب والمندوب كصلاة الوتر مثلًا؟ * أضف إلى ذلك أنه ليس شىء من القشور أو اللباب -على حد تعبيرهم- إلا ويدخل تحت حكم الله وخطابه المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل التخيير أو الطلب تركًا أو فعلًا، وبالتالي لا يصح تسميته قشرًا على سبيل الاصطلاح الذى افترضناه، ولا على سبيل التهوين والغض من شأنه. لقد أنزل الله سبحانه دينه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليبنى به الِإنسان المسلم، فيسعد به في الدنيا والآخرة، ولا يخفي على ذى عقل أن كل أمر ونهي من أوامر هذا الدين ونواهيه تسهم إسهامًا فعَّالًا في بناء هذا الِإنسان، سواءً أكانت من المندوبات أم من المباحات أم من الواجبات، وسواءً أكانت من المكروهات أم من المحرمات؛ لأن جميع هذه الأحكام هي شعب الِإيمان التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: " الِإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الِإيمان " (1)، فأَيُّما شعبة نقصت منها كانت نقصًا من الِإيمان، وأيما شعبة التزمها المسلم كانت زيادة في إيمانه؛ لأن الِإيمان يزيد وينقص بالقول والعمل، وهذا من شعائر أهل السنة، وهو مذهب السواد الأعظم من الأمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الِإسلام عُرْوَةً عُرْوَةً، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها: فأولهن نقضًا الحُكْمُ، وآخِرُهُنَّ
الصلاة" (1). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " (2)، والاستطاعة في إنفاذ الأمر إما أن تكون في الفعل الواحد، كالصلاة مثلًا، فإذا لم يستطع المسلم أن يصليها وهو قائم، وجب عليه أداؤها على الوجه الذي يستطيعه من قعود أو اضطجاع أو غير ذلك. وإما أن تكون الاستطاعة في مجموع الأفعال، فقد لا يستطيع المسلم أن يصوم لمرض، في حين يكون قادرًا على أداء الصلاة على كل حال، فوجبت الصلاة في حقه، وسقط عنه الصيام إن كان مرضه مزمنًا، وإلا صام حين شفائه، وقد لا يقوى المسلم -لعذر من الأعذار- أن يصلي في المسجد، وهو مأمور بأدائها فيه، فلا يقال: ما دام أنه لا يستطيع أن يصليها في المسجد فلا يصليها، بل يقال: يفعل ما يقدر عليه، ويُعذر فيما لا يقدر عليه. أما النهيات، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته أن تجتنبها كلََّها، من غير فرق بين واحدٍ وواحد، فكما أنه نهى عن الزنا، نهى عن النظر المحرم إلى المرأة، وكما أنه نهى عن شرب الكثير من الخمر، نهى عن شرب القليل منها، وكما أنه نهى عن سرقة المال الكثير، فإنه نهى عن سرقة الدرهم والدرهمين، وكما أنه نهى عن الكذب على الأمة كلها، فإنه نهى عن الكذب على الرجل الواحد، فلا يقال هنا: يجتنب ما يستطاع اجتنابه، بل يجب اجتناب كل ما نهى
عنه، ولا يعفي إلا عن الناسي أو المخطيء أو المكره] (1) اهـ. وتقسيم الدين إلى " قشر ولب " تقسيم غير مستساغ، بل هو محدث ودخيل على الفهم الصحيح للكتاب والسنة، ولم يعرفه سلفنا الصالح الذين كل الخير والنجاة في اتباعهم واقتفاء آثارهم {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (2) وهذه القسمة إلى قشر ولب، ظاهر وباطن -يتبعها المناداة بإهمال الظاهر احتجاجًا بصلاح الباطن- تلقى رواجًا عند المستهترين والمخدوعين، حينما يرون القوم يسمون المعاصي بغير اسمها فيقولون -مثلًا- إن إعفاء اللحية من سنن العادة، بل عدَّ بعضهم إعفاء اللحية وقص الشارب من الأمور العادية التي لا صلة لها بتبليغ الرسالة وبيان الشرع، وعد ذلك من قبيل المندوب بل في ثالث مراتبه بعد السنن المؤكدة وغير المؤكدة، بل قال: (ومن أخذ به على أنه جزء من الدين، أو على أنه أمر مطلوب على وجه الجزم فإنه يبتدع في الدين ما ليس منه) (3) اهـ.
وقسمة الدين إلى قشر ولب تؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، وتورثهم الاستخفاف بالأحكام الظاهرة، وينتج عنها الإخلال بهذه الأمور التي سميت قشورًا، فلا تلتفت قلوبهم إليها، فتخلو من أَضعف الإيمان ألا وهو الِإنكار القلبي الذي هو فرض عين على كل مسلم تجاه المنكرات. والتفريط في مُحَقَّراتِ الأعمال يؤدى إلى التفريط في عظائمها، لأن استمرار هذا التفريط يتحول مع الزمن إلي عادة تنتهي بصاحبها إلى قلة الاكثرات بأمور دينه، والتهاون بها. ونحن إذا تسامحنا معهم في هذه القسمة إلى قشر ولب، فإننا نلفت أنظارهم إلى أن قياس أمور الدين على الثمار من حيث إن لكل منهما قشرًا ولبًّا، وظاهرًا وباطنًا، لا يعني أن القشرة التي أوجدها الله للثمرة إنما خُلِقتْ عبثًا، حاشا وكلا، بل لحكمة عظيمة وهي المحافظة على ما دونها وهو اللب نفسه، وهذا محملنا على أن لا نستهين بالقشر من حيث كونُه حارسًا أمينًا على اللب، وهكذا الشأن في أمور الدين الظاهرة. ومن هذا القبيل: تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فإن العلماء الذين فعلوا ذلك لا يظن بهم أنهم قصدوا بذلك التقسيم إيجاب الاتفاق على الأصول، ثم التسامح مطلقًا في الفروع، كما يظن بعض متفقهة هذا الزمان، فتراهم يميعون كل قضية فرعية بدعوى أن اختلاف الأمة ما دام في الفروع فهو رحمة، وهذا أصل قولهم: " مَنْ قَلَّدَ عالمًا لقى الله سالمًا ".
وهذا بدوره قد أدى ببعضهم إلى اتباع الهوى والترخص دون تحري الدليل، ويلزم من ذلك القول بأن الاتفاق سخط، وهذا ما لا يقوله مسلم، ولو أنهم كانوا يرون أن " الخلاف شر " كما قال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره، بل كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، لَسَعَوْا إلى الاتفاق، ولأمكنهم ذلك في كثير من هذه المسائل المتناقضة التي لا يمكن التوفيق بينها، إلا بِرَدِّ بعضِها الخالفِ للدليل وقبولِ البعضِ الآخر الموافقِ له، وإلا فقد نسبوا إلى الشريعة التناقضَ، والله عز وجل يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1). فإذا كان الاختلاف ليس من الله فكيف يصح جعلُه شريعةً متبعةً، ورحمةً منزلة؟ فالواجب التخلص من الخلاف ما أمكن، أو تضييق دائرته عملًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " سَدِّدُوا وقاربوا " (2)، وهذا ممكن في كثير من المسائل بما نصب الله تعالى عليها من الأدلة التي يُعرف بها الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، ثم بعد تحري الدليل والعجز عن التخلص من الخلاف يعذر بعضهم بعضًا فيما قد يختلفون فيه (3): والذين قسموا الدين إلى قشر ولب ركبوا مطايا الخير للشر، فاستدلوا على بدعتهم ببعض النصوص: * منها: ما رواه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى " (1) الحديث. * ومنها: ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الحلال بَيِّنٌ، وإن الحرامَ بَيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهاتِ فقد استبرأ لدينه وعِرْضِه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتعَ فيه، ألا وإن لكل مَلِكٍ حِمى، ألا وإن حمى الله محارمُه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صَلُحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب " (2). * ومنها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " (3).
قالوا: فهذه النصوص وأمثالها كثير تدل على أن العبرة بصلاح الباطن وصفاء النية وسلامة القلب، ولا التفات بعد ذلك إلى القشور الظاهرة. وجواب ذلك: ما قاله شيخ الِإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله، إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله)، وهذه من حكم الله الباهرة وآياته الظاهرة التي تبطل عمل المفسدين. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لِكُلِّ امريءٍ ما نَوَى " لا يدل بأي وجه من وجوه الدلالات على إهدار العمل الظاهر، وعدم اعتباره، ولكنه يرشدنا إلى أحد شَرْطَيْ العبادةِ الصحيحة، وهما شرط في الظاهر، وشرط في الباطن، فأما شرط الظاهر: فأن يكون العمل موافقًا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - منافيًا للبدع، ودليل هذا الشرط قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) وفي رواية: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، وأما شرط الباطن فهو إخلاص النية لله عز وجل المنافي للرياء ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات". وقد جمعهما الله تبارك وتعالى في قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2). وقال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} (3) قال: " أخلصه وأصوبه "، وقال: "إن العمل إذا كان خالصًا
ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا وصوابًا"، قال: " والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة "، فالحديث دليل على خطر النية وعظم شأنها، ولا يدل بحال على إسقاط شعائر الِإسلام الظاهرة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - " الأعمال بالنيات " تقديره (الأعمال الواقعة بالنيات) أو (الأعمال حاصلة بالنيات) (1) أي الأعمال الاختيارية لا تقع إلا عن قصد من العامل هو سببب وجودها وعملها، ثم يكون قوله: " وإنما لكل امريء ما نوى " إخبارًا عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله بنيته فإن كانت صالحة فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزره). بل في الحديث ما يدل على خطرها أيضًا، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". فهذا مَثَلٌ من الأعمال التي صورتها في الخارج واحدة، ويشترك فيها المؤمنون والمنافقون، ويختلف صلاحُها وفسادُها باختلاف النيات، فهل يستقيم أن يستنبط إنسان من هذا التنفير عن الهجرة من دار الحرب إلى دار
الاسلام اعتماداً على صدق النية، ألا يكون تخاذله عن هذه الهجرة من باب أولى أعظم دليل على فساد قلبه وسوء نيته؟! مصداقًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " (1). وما قيمة هذه النية المزعومة إذا لم ينبثق عنها امتثال الأوامر واجتناب المناهي؟! ونظير ذلك نصوص كثيرة تربط بين كافة الشرائع الظاهرة وبين النية، وتُعَلِّقُ الفلاح على صلاح النية وصلاح العمل - قال مطرف بن عبد الله: " صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية ". * من ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى " (2) فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وحسابهم على الله عز وجل " يعني أن الشهادتين مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهي أعمال ظاهرة؛ تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا إلا بأن يأتي ما يبيح دمه، وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل فإن كان صادقًا أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذبًا فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وفي بعض روايات مسلم: ثم تلا: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 21 - 26]. ومن ذلك: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن خالد بن الوليد رضي الله عنه استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتل رجل، فقال: "لا، لعله أن يكون
يصلي" فقال خالد: وكم من مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم " (1). * ومن ذلك: ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عِقالًا فله ما نوى " (2). ومنه: ما رواه كعب بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه؛ أدخله الله النار" (3). فهذه كلها وأمثالها كثير، نصوصٌ تنبه على خطورة الِإخلاص واشتراطه
في الأعمال الصالحة، وأن القول بإهدار الأعمال الظاهرة قول ساقط يؤدي إلى ضياع الدين واستحلال المحرمات احتجاجًا بالنية الصالحة المزعومة (1)، وكذبوا، لو حسنت نياتهم لحسنت أعمالهم، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب " فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليمًا ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباعُ الهوى، وطلبُ ما يحبه -ولو كرهه الله- فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك. والحاصل أنه يمكن الاستدلال على صلاح القلب أو فساده بمدى ما تظهره جنوده من الانقياد لشرائع الِإسلام، فلا يتصور قلب صالح عامر بالعلم والِإيمان ينضح منه معاندة الشرع، إذ إن الظاهر عنوان الباطن ودليل صلاحه أو فساده - فاللحية مثلًا من الجسد الذي هو مرآة القلب فمن استأصلها بغير عذر محتجًّا بصلاح قلبه كذَّبه ظاهرُه، ومن امتثل أوامر
الشرع بإعفائها؛ كانت قرينة ظاهرة في الدنيا على امتثاله لشرع الله في الظاهر، وحسابه على الله في الآخرة. والله نسأل أن يجعل سرائرنا أصلح من ظواهرنا، وهو وحده ولي التوفيق. وأما استدلالهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " فهو حق يراد به باطل، بل هو حجة عليهم لا لهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: " ولكن ينظر إلى قلوبكم " حتى عطف عليها " وأعمالكم " يعني التي تنبثق من تلك القلوب، والتي لا بد أن تكون صالحة موافقة لمرضاة الله عز وجل مرجوًّا بها وجهُه سبحانه (1). وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (2).
ولا شك أن هذا الأسلوب في فهم النصوص هو وحده الكفيل بأن يسد الباب في وجه الزنادقة والملاحدة الذين يتحصنون وراء دعوى حسن النية ويرتكبون المخالفات الشرعية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (1)، ويضربون بالأحكام الظاهرة التي هي شعائر الِإسلام وأعظم أركانه كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها عُرْضَ الحائط دون أن ينكر عليهم منكِر، وإلا لزم أيضًا نسبة التناقض إلى الشرع المنزه، حيث تنبنى أحكامه على ما يظهره الناس في دار الدنيا، ثم تهدر هذه الشرائع بحجة حسن نية من أهدروها - وهذا ما لم يفعله المنافقون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا يصلون معه ويحجون معه ويجاهدون معه، وكانوا يتناكحون ويتوارثون مع المسلمين، وكان المسلمون يصلون عليهم، ويدفنونهم معهم أخذًا بما يُظهرونه، ثم نقول: أليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نطق بالنصوص التي تدل على أهمية النية هو الذي نطق بالنصوص التي فيها اعتبار الظاهر {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) - صلى الله عليه وسلم - وصدق الله تعالى إذ قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (3). وإذا كانت النصوص السابقة قد أسست فكرة الارتباط بين الظاهر والباطن فإن هناك جملة من النصوص قد فصَّلت هذه الفكرة، وأثبتت تأثير كل منهما في الآخر: منها ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوى صفوفنا حتى كأنما يُسوِّي بها القِداحَ (4)، حتى رأى أنا قد
عَقَلْنا عنه، ثم خرج يومًا فقام حتى كاد يكبر، فرأى رجلًا باديًا صدرُه من الصف، فقال: " عبادَ الله! لَتُسَوُّنَّ صفوفَكم، أو ليخالِفَنَّ الله بين وجوهكم ") وفي روارة: " قلوبكم " (1) فأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن الاختلاف في الظاهر ولو في تسوية الصف مما يوصل إلى اختلاف القلوب، فدل على أن للظاهر تأثيرًا في الباطن، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن التفرق حتى في جلوس الجماعة، فقد قال جابر بن سمرة رضي الله عنه: (خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآنا حِلَقًا، فقال: " ما لي أراكم عِزِين؟ " (2)). وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: (كان الناس إذا نزلوا منزلًا تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان "، فلم ينزلوا بعد ذلك منزلًا إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال: "لو بُسِطَ عليهم ثوب لَعَمَّهم" (3)).
ومما يقوي اعتبار الظاهر ما تقرر في الشريعة من وجوب مخالفة الكفار وتحريم التشبه بهم، وما تقرر أيضًا من تحريم تشبه الرجال بالنساء والعكس، بل تُوُعِّدَ فاعلُ ذلك باللعن، ولا شك أن المشاركة في الظاهر توجب الاختلاط الظاهر بين المؤمنين والكافرين، وهذا مما حرص السلف على تجنبه، وهو واضح من سلوكهم مع أهل الملل في البلاد التي فتحوها، حتى كانوا يشترطون في عقد الذمة ألا يتزيا المشركون بزي المسلمين. وطريق الهدى أن نصلح الظاهر والباطن: نصلح ظاهرنا باتباع السنة، وباطننا بدوام مراقبة الله تعالى، ولا ندع العمل الصالح حذر الرياء، ولا نعمله رئاء الناس، والله الموفق. ***
قضية "مبدأ"
قضية "مبدأ" لقد لَفَتَنا سلفنا الصالح إلى التمايز الحضاري، والمحافظة على " قشرة " معينة تفترق بها أمتنا عن سائر الأمم، وهذه " القشرة " التي تحمي " الهوية " الإسلامية المتميزة هي ما أسماه علماؤنا رحمهم الله: " الهدى الظاهر "، وأفاضوا في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها، فما يشيع على ألسنة الناس من أن " العبرة بالجوهر لا بالمظهر " (1) ينطوي على مغالطة جسيمة، وخداعٍ كاذب، لأن كلًّا من المظهر والجوهر لا ينفك عن الآخر، والظواهر هي المعبرة عن المضامين، وهي الشعارات التي تحافظ على الشخصية، إنها قضية " مبدأ " وليست مجرد شكل ومظهر، ولنضرب مثالًا على ذلك: حكم التشبه بالكفار في أحوالهم الظاهرة، وتأثير ذلك على قلب المتشبه بهم: - ...
الارتباط بين الظاهر والباطن
الارتباط بينَ الظاهر وَالباطِن لقد تقرر عند العلماء المحققين أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الظاهر والباطن، وأن للأول تأثيرًا في الآخر، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وإن كان ذلك مما قد لا يشعر به الِإنسان في نفسه، ولكن قد يراه في غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وجزاه عن الاسلام وأهله خير الجزاء: ( .. وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجِرَيْنِ، وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اخْتُصَّا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك، كان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، كذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضًا ما لا يألفون غيرهم، حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة، إما على ْالملك وإما على الدين، وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء -وإن تباعدت ديارهم وممالكهم- بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض، وهذا كله بموجب الطباع ومقتضاها، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم -أي الكفار- تنافي الِإيمان، قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (1) الآية. فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يُوَادُّ كافرًا، فمن وادَّ الكفار فليس بمؤمن، فالمشابهة الظاهرة مظنة الودة فتكون محرمة) (2) اهـ. وهذا كله يؤيد أن مخالفة الكفار ليست أمرًا تعبديًّا محضًا، بل هو معقول المعنى واضح الحكمة كما بينه شيخ الِإسلام رحمه الله. وقال شيخ الِإسلام في موضع آخر: (وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما -ولا بد- ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا، وقد بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرع والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور: * منها: أن الشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلًا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم مثلًا يجد من نفسه نوعَ انضمامٍ إليهم، واللابسَ لثياب الجند القاتلة -مثلًا- يجد من نفسه نوعَ تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيًا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع. * ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينةً ومفارقة توجب الانقطاعَ عن موجباتِ الغضب وأسبابِ الضلال، والانعطافَ إلى أهل الهدي والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الوالاة بين جنده المفلحين وأعدائه
الخاسرين، وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالِإسلام الذي هو الِإسلام -لست أعني مجرد التوسم به ظاهرًا أو باطنًا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة- كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا أو ظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد. * ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميز ظاهرًا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين، إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له) (1) اهـ. ...
هويتنا في خطر
هُوِيَّتُنا في خطر نحن بشر مأنوسون لسنا أرواحًا لطيفة فحسب، ولا أطيافًا عابرة، ومقتضى ذلك أن لنا مظهرًا ماديًّا محسوسًا، وهذا المظهر كما بينا آنفًا شديد الارتباط بالجوهر، وقد جعلت الشريعة الحنيفية تميز الأمة الإسلامية في مظهرها عما عداها من الأم مقصدًا أساسيًا لها، بل إن كل أهل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبرًا عن خصائص هويتهم؛ وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز، والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم، وتترجم عن أفكارهم، وترمز إلى عقيدتهم: لكم "قشرتكم" .. ولنا "قشرتنا" وهذا أوضح ما يكون في عامة اليهود الذين يتميزون -بصرامة- بطاقيتهم، ولحاهم وأزيائهم الدينية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم؛ أليس هذا كله تميزًا صادرًا عن عقيدة ومعبرًا عن الاعتزاز بها؟! وإذا كانت هذه المظاهر هي صبغة الشيطان التي كسا بها أهل الضلال والكفران، فكيف لا نستمسك بصبغة الرحمن التي حباناها الله عز وجل {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}، لماذا تُقَدَّسُ الحرية الدينية لكل من هَبَّ ودَبَّ وفي نفس الوقت تُشَنُّ الحروب " الاستراتيجية " على المظاهر الِإسلامية كاللحية والحجاب، حتى إنه لتعقد من أجلها برلمانات، وتصدر قرارات، وتثور أزمات، وتُجَيَّش الجيوش، وتُرابِطُ القوات، هذا ونحن أصحاب الدار، و: كلُّ دارٍ أَحَقُّ بالأهل إلا ... في رديء من الذاهب رِجْسِ أحرام على بلابله النَّوْحُ ... حلالٌ للطير من كل جنسِ؟ أفكل هذا من أجل ما أسموه " قشورًا "؟ كلا، بل هم يدركون ما
لهذه المظاهر من دلالة حضارية عميقة، ويدركون أنها رمز يتحدى محاولات التذويب والتمييع، ويصفع مؤامرة استلاب الهوية، كمقدمة للإِذلال والاستعباد. إن من يتخلى عن " القشرة الِإسلامية " سيتغطي -ولا بد- بقشرة دخيلة مغايرة لها، فلا بد لكل " لب " من " قشر " يصونه ويحميه، والسؤال الآن: لماذا يرفضون " قشرة " الإسلام، ويرحبون بقشرة غيره: فيأكلون بالشمال، ويحلقون اللحى، ويُلبسون النساء أزياء من لا خلاق لهن، ويلبسون القبعة، ويُدَخِّنون " البايب " والسيجار؟ ***
دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأي
دعوا السّنة تمضي، لا تَعْرِضوا لهَا بالرأي يحلو لبعض الناس ممن يتقنون صناعة الشبهات وضرب الأمثال أن يتصدوا لكل داع يبين حكم الشرع في قضايا الفروع سواء تكلم بها ابتداء أو جاءت إجابة لسائل يسأل، فيثيرون الاعتراضات العقلية الجدلية معرضين عن الأدلة الشرعية الجَلَدِيَّة، فيقولون مثلًا: المسلمون ينبغي أن تتجه همتهم إلى الأمور الخطيرة التي تهدد كيانهم، ولا ينبغي تضييع الوقت في الدعوة إلى هذه الشكليات، وهل تم تطبيق الِإسلام كله حتى لم يبق إلا إعفاء الناس لحاهم حتى يعود مجد الِإسلام؟ وهل زالت المنكرات الكبرى التي عمت المجتمع حتى لم يبق إلا حلق اللحية منكرًا يجب تغييره؟ وهذه شبهات فارغة ساقطة يكفي سقوطها في ردها، ولولا أنها تلبس على بعض الناس أمور دينهم لما ساغ لأحد الالتفات إليها، أو تجشم الرد عليها. لأن هذا المنطق الكاسد والرأي الفاسد سوف ينسحب بلا قيدٍ على كثير من أحكام الشريعة التي لا توافق الأهواء، بحيث لا يبقى بعد ذلك مجال للدعوة إلى اجتناب المحارم وتعظيم الشعائر، وتصبح الشريعة ألعوبة في يد المنحرفين عن أحكامها، يُعَظِّمُ أحدُهم ما يحتقره الآخر، والعكس بالعكس، بل إن أخطار هذا المنهج العليل وتداعياته قد يمتد زحفها ليطال قضايا العقيدة والتوحيد لتصبح أيضًا من القشور، فماذا يبقى من الإسلام بعد تمييع هذا كله؟ مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حذرنا من التهاون بالمعاصي واحتقارها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد يئس الشيطان بأن يُعْبَدَ بأرضكم، ولكنه رضي أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم
ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا، كتابَ الله وسنةَ نبيه" (1)، وعن أنس رضي الله عنه قال: (إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات) (2) قال أبو عبد ألله: يعني بذلك المهلكات. قال الحافظ رحمه الله: (التعبير بالمحقرات وقع في حديث سهل بن سعد رفعه: " إياكم ومُحَقَّراتِ الذنوب فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعُود، وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها أهلكته " أخرجه أحمد بسند حسن، ونحوه عند أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود، وعند النسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " يا عائشة إياكِ ومحقراتِ الذنوب فإن لها من الله طالبا " وصححه ابن حبان) (3) اهـ. ولنضرب مثالًا لما يحتقره بعض الناس من أحكام الشرع، وقد يسخرون ممن يعيره اهتمامًا ألا وهو عدم جواز إسبال الملابس، ولنتأمل كيف فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع المسبل: (عن الشريد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبع رجلًا من ثقيف حتى
هرول في أثره حتى أخذ ثوبه فقال: " ارفع إزارك "، قال: فكشف الرجل عن ركبتيه، فقال: يا رسول الله إني أحنف، وتصْطكُّ ركبتاي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ خَلْقِ الله عز وجل حَسَنٌ"، قال: ولم يُرَ ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات) (1). عن عمرو بن فلان الأنصارى رضي الله عنه قال: (بينما هو يمشى قد أسبل إزاره، إذ لحقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخذ بناصية نفسه، وهو يقول: " اللهم عبدُك وابنُ عبدِك وابنُ أمَتِكَ " قال عمرو: فقلت: يا رسول الله إني رجل حَمِشُ الساقين، فقال: " يا عمرو إن الله عز وجل قد أَحْسَنَ كلَّ شيٍء خَلَقَهُ يا عمرو "، وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو فقال: " يا عمرو هذا موضع الِإزار "، ثم رفعها، ثم وضعها تحت الثانية، فقال: " يا عمرو هذا موضع الِإزار ") (2). وتأمل هذا الموقف من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهو في سياق مصيبة الموت الذي هو أعظم حادث مما يمر على الجبلة: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل شاب على عمر -يعني بعد ما طُعِن- فجعل الشاب يثني عليه، قال: فرآه عمر يجر إزاره، قال: فقال له: " يا ابن أخي! ارفع إزارك فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك "، قال: فكان
عبد الله يقول: " يا عجبًا لعمر! إن رأى حق الله عليه، فلم يمنعه ما هو فيه أن تكلم به " (1). وفي رواية: (فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردُّوا علَّى الغلام)، فذكره. وروى ابن أبي شيبة أن رجلًا من المجوس جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حلق لحيته، وأطال شاربه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا؟ "، قال: هذا ديننا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لكن في ديننا أن نحفي الشوارب، وأن نعفي اللحية ". وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير قال: أتى رجل من العجم المسجد، وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما حملك على هذا؟ " فقال: " إن ربي أمرني بهذا " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله أمرني أن أوفر لحيتي، وأحفي شاربي "، ولما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابه إلى كسرى يدعوه إلى الِإسلام، وبعث به عبد الله بن حذافة، دفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمزقوا كل ممزق، وبعد أن شق كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب " إلى باذان " عامِلِه على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جَلَدين فيأتيان به، فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه، وكان كاتبًا حاسبًا مع رجل من الفرس، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما دخلا عليه - صلى الله عليه وسلم -، وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النظر إليهما، وقال: (" ويلكما من أمركما بهذا؟ " قالا: أمَرَنا بهذا رَبُّنا) -يعنيان كسرى- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وَقَصِّ شاربي " (2)، وقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ رَبِّي قتل رَبكما الليلةَ "، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجعا حتى
قدما على باذان) الحديث. فقدِّر -يا أخي حفظك الله- أنك بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أمرك بشيء مما يسميه القوم " قشورًا "، أكنت تتجاسر أن تتقدم بين يديه، أو ترفع صوتك معترضًا عليه؟ إنك حتمًا وبمقتضى إيمانك ورضاك بالله ربًّا، وبالِإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولًا ستقول له: " نعم وكرامة، وسمعًا وطاعة يا من أفديه بأبي وأمي "، فكذلك فافعل مع سنته الشريفة بعد وفاته، فهذا واجبك مع سنته إذ لم تدرك صحبته - صلى الله عليه وسلم -. قال العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني -حفظه الله تعالى- في سياق رده على من ادَّعى أن الِإسلام لا يهتم بكل المظاهر الشكلية ومنها اللحية: ( .. ومع أنها دعوى عارية عن الدليل؛ فإنها منقوضة أيضًا بأحاديث كثيرة ... أقول: هذا الزعم باطل قطعًا، لا يشك في ذلك أي منصف متجرد من اتباع الهوى بعد أن يقف على الأحاديث الآتية، وكلها صحيحة: 1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال ". 2 - عن عائشة رضي الله عنها أن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت، فتمعَّط شعرها، فأرادوا أن يَصِلوها، فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " لعن الله الواصلة والمستوصلة ". 3 - عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: " لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيراتِ خلق الله ". 4 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَيَّ ثوبين معصفرين، فقال: " إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها ". أخرج هذه الأحاديث الشيخان في " صحيحيهما "، إلا الأخير منها فتفرد
فائدة
به مسلم .. . وفي الباب أحاديث كثيرة جدًا، وهي مادة كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " لشيخ الِإسلام ابن تيمية، فليراجعه من شاء. فهذه نصوص صريحة تبين أن الِإسلام اهتم بالمظاهر الشكلية اهتمامًا بالغًا إلى درجة أنه لعن المخالف فيها، فكيف يسوغ مع هذا أن يقال: " إن كل المظاهر لا يهتم بها الِإسلام "؟) (1) اهـ. فائدة: بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بقاء الدين ظاهرًا خفاقة رايته مرهون بمخالفة المسلمين كفار أهل الكتاب، وبقاء أمة التوحيد متميزة ربانية، لا شرقية ولا غربية: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يزال الدين ظاهرًا ما عَجَّل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون " (2). ...
درء تعارض التمسك بالهدي الظاهر مع الاهتمام بقضايا الأمة الكبرى
درء تعارض التمسك بالهدي الظاهر مع الاهتمام بقضايا الأمة الكبرى ويقولون: إن المسلمين المستضعفين يذبحون في بلادهم، والكنيسة الشرقية تتحد مع الكنيسة الغربية للفتك بالمسلمين، واليهود يخططون لاستئصالنا وأنتم تتكلمون في هذه الفرعيات وتثيرون الفتنة؟ والجواب: أن ترك الواجب الشرعي مخافة الفتنة الظنية هو في حد ذاته فتنة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} (1). ولا تحدث الفتنة بسبب التناصح بين المؤمنين بالتي هي أحسن، وإنما تحدث من الجدل والعناد مع وضوح الحق، وبيان الحجة. إن ما ذكرتموه من اضطهاد السلمين وضعفهم وتآمر أعدائهم ... إلخ، كل هذا حق ولكنكم أُتيتم من خلطكم بين الأمور، فكلامكم يقبل إذا سلمنا لكم أن التمسك بالفرعيات يتعارض مع مواجهة تآمر الأعداء وجهادهم، والحق أنه لا يلزم التعارض بينهما، إذ إن بيان الحق في الأمور الفرعية لا يتعارض مع جهاد الأعداء إذا كان الهدف هو حقًّا بيان الحق، مع البعد عن الجدل العقيم، وقد واجه الرعيل الأول أخطارًا تهدد كيانهم، ولم يحملهم ذلك على ترك الفرعيات وتقرير الحق فيها وإلزام أنفسهم باللازم منها، ومع ذلك سادوا الأمم، وأسقطوا عروش الكفرة، وأقاموا صرح الِإيمان شامخًا، والذي يَفُتُّ في عَضُدِ السلمين هو من يجادل في الحق بعدما تبين، ويُصِرُّ
على عدم الانقياد له، ويثير الجدالَ بشبهات سقيمة، وليس مَن يدعوهم إلى التمسك بالكتاب والسنة، وإذا كان الكفار مخاطبين بفروع الشريعة على الأرجح (1) فكيف بالمسلمين الذين قال الله تعالى في حقهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (3) دون تفريق بين فروع وأصول، وبين ظاهر وباطن، وبين "قشر" "ولب"، وربنا جل وعلا قد أمر المؤمنين بالقيام بما شرعه من دينه -ولو كان من القضايا العملية التي يسمونها فروعًا- في أشد أوقات الكفاح، وهو وقت الالتحام المسلح مع الأعداء، في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (4) الآية. [وما يتوهمه القوم ما هو إلا نتيجة تخيلهم أن النسبة بين (مواجهة الأعداء والانتصار عليهم) وبين (تعليم المسائل الفرعية والتمسك بها وإن دقت) إنما
هي تباين القابلة، كتباين النقيضين: كالعدم والوجود، والنفي والِإثبات، أو تباين الضدين: كالسواد والبياض، والحركة والسكون، أو تباين المتضائفين: (كالأبوة والبنوة)، والفوق والتحت، أو العدم والملكة: كالبصر والعمى. فإن الوجود والعدم لا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة، كذلك الحركهَ والسكون مثلًا، وكذلك الأبوة والبنوة، فكل ذاتٍ ثبتت لها الأبوة لذات استحالت عليها البنوة لها، بحيث يكون شخص أبًا وابنًا لشخص واحد، كاستحالة اجتماع السواد والبياض في نقطة بسيطة، أو الحركة والسكون في جِرْم، وكذلك البصر والعمى لا يجتمعان، فتخيل هؤلاء أن مواجهة الأعداء والتمسك بالفروع متباينان تباينَ مقابلة بحيث يستحيل اجتماعهما، فكان من نتائج ذلك هذه العارضة المتهافتة، والتحقيق أن النسبة بين الأمرين -بالنظر إلى العقل وحده، وقطع النظر عن النصوص النقلية- إنما هي تباين الخالفة. وضابط المتباينيْنِ تباينَ الخالفة: أن تكون حقيقة كل منهما في حد ذاتها تُبايِنُ حقيقةَ الآخر، ولكنهما يمكن اجتماعُهما عقلًا في ذات أخرى: كالبياض والبرودة، والكلام والقعود، والسواد والحلاوة. فحقيقة البياض في حد ذاتها تباين حقيقة البرودة، ولكن البياض والبرودة يمكن اجتماعهما في ذات واحدة كالثلج، وكذلك الكلام والقعود، فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود، مع إمكان أن يكون الشخص الواحد قاعدًا متكلمًا في وقت واحد، وهكذا فالنسبة بين (جهاد الأعداء ومواجهة تآمرهم) وبين (الدعوة إلى الفروع والتمسك بها وتعليمها للناس) من هذا القبيل، فكما أن الجِرْمَ الأبيضَ يجوز عقلًا أن يكون باردًا كالثلج، والِإنسانَ القاعدَ يجوز عقلًا أن يكون متكلمًا، والتمرة السوداءَ يجوز عقلًا أن يكون مذاقُها حُلْوًا، فكذلك المتمسك بالفروع يجوز عقلًا أن يواجهَ أعداءه، ويجاهدَهم،
إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على أوامر الله المجتنب مناهيه مشتغلًا بجهاد أعدائه بكل ما في طاقته كما لا يخفي، وكما عرفه التاريخ لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان. أما بالنظر إلى أدلة الكتاب والسنة كقوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره} (1)، وقوله عز وجل: {إن تنصروا الله ينصركم} (2) وغير ذلك من النصوص فإن النسبة بين التمسك بالشعائر الإسلامية وبين تنزيل النصر من الله جل وعلا كالنسبة بين الملزوم ولازمه، لأَن التمسك بالدين هو ملزوم النصر، بمعنى أنه يلزم عليه الانتصار كما صرحت الآيات، وهؤلاء المخالفون أظهروا للناس أن الربط بين الملزوم ولازمه كالتنافي الذي بين النقيضين والضدين] (3)، وهؤلاء بدورهم أذعنوا لهم لسذاجتهم وجهلهم، وأنتج ذلك نفرة في قلوبهم، بمجرد سماع من يتكلم في الفروع توهمًا منه أنه يبطل بذلك الجهاد، هذا وإن من البديهي أن فاقد الشيء لا يعطيه، " ولا يستقيم الظل والعود أعوج ". والدولة المسلمة لن تقوم إلّا على أكتاف أولي العزم الذين يلتزمون بكافة أحكام الشرع، ويوافقونها في ظاهرهم وباطنهم لقوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (4). والدولة المسلمة ما هي إلا ثمرة لتمسك جنود الِإسلام بكل شرائع دينهم، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} (5) الآية.
والدعوة الِإسلامية الأمينة على الِإسلام لا تساوم على شيء من أحكامه، ولكنها تحفظها كلَّها أداءً للأمانة، وإعذارًا لنفسها أمام الله تبارك وتعالى. ولا شك أن إنكار المنكرات المتعلقة بالنفس -مع فقدان المانع من تغييرها- من أيسر الأمور، فإذا تساهلنا في هذا مختارين، فكيف ننكر على غيرنا؟ وقد أخبرنا الله عز وجل أن مصدر الخيرية لهذه الأمة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (1)، وأخبر أن من أسباب ضعف المجتمع تركَ التناهي عن المنكرات والأمر بالعروف، فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2)، وتَوَعَّدَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصيبنا ما أصابهم إذا فعلنا مثلَ فعلهم، وقد عاقب الله من ضَيَّع حظًّا من شريعته في قوله تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (3)، ودلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المخرج من فتنة الافتراق بقوله: " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار " (4).
قياس فاسد
فالمسلمون إذا نزلت بهم مخمصة وشدة فإن من أسباب جلاء الغمة عنهم المزيدَ من التمسك بالسنن والبراءة من البدع، وليس مهادنة أهل البدع، وتثبيط الدعاة إلى السنن. قياس فاسد: ومن أقيستهم العقلية الفاسدة التي يلبسون بها على العوام قولهم: إنما مثل من يتكلم في هذه القشور والفرعيات والأعداء محدقون بنا، كمثل رجل قائم على الشاطىء، وشخص يعالج الأمواج يوشك أن يغرق وقد لبس خاتمًا من ذهب، فيهتف الأول بالثاني منكرًا عليه لُبْسَ خاتَمِ الذهب غيرَ مبالٍ بالخطر المُحْدِقِ به، والذي يكاد أن يُودِىَ بحياته (1). وجواب هذا أن يقال: أنتم تقيسون فرعًا على أصل ليس بينهما أي تماثل، والأصل المقيس عليه حالة ضرورة فلا شك يقدم دفع الضرر الأكبر الذي هو تلف النفس على المنكر الأصغر الذي هو لبس الرجل خاتمًا من ذهب، فكذا إذا دهمنا الأعداء ننفر جميعًا لمواجهتهم دون التفات إلى خلافات فرعية انشغالًا بالمنكر الأكبر. أما الفرع المقيس وهو وضع مجتمعاتنا في هذا الزمان فلا شك أنه في بلادنا -على الأقل- دون حالة الضرورة التي فيها تتلف الأنفس والأديان ويهلك الحرث والنسل، وينفر المسلمون نفيرًا عامًّا بما فيهم الشيوخ والنساء ... وقد يُسْتَنْكَرُ هذا الكلام لأول وهلة، أو يساءُ الظنُّ بقائله، ولكني آتي بالدليل عليه من واقع حياة المعترضين أنفسهم، فأقول: هل واقع حياتكم مثل واقع رجل قد ألقى بنفسه في المخاضة، لا يلوى على شيء
لينقذ غريقًا يصارع الأمواج ويوشك على الغرق؟ وهل هو واقع قوم أتاهم النذير، ونودي فيهم بالنفير العام؟ لماذا إذن تحيون حياة رتيبة هنيئة تتمتعون فيها بالحاجيات بل الكماليات والتحسينيات، تطعمون الفواكه، وتتنعمون في الفرش، وتتنزهون في المتنزهات، وكل هذا لا يُنْكَرُ عليكم، ولا تستنكرونه من غيركم قائلين: " إن الِإسلام مُهَدَّدٌ في وجوده، والمسلمين مضطهدون، وأنتم تأكلون الفواكه، وتتنعمون بالفرش، وتتنزهون في المتنزهات "! فلماذا إذًا تضعون العوائق في طريق السنة، وتضربون لها الأمثال، وترهقون عقولكم في استخراج أمثال هذه الأقيسة العقلية الفاسدة، أفكانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهون عليكم من هذه التفاهات الدنيوية؟! أفلا يردعكم عن هذا التثبيط قولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: " بَلِّغوا عني ولو آية " (1)، ولا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نَضَّرَ الله امرءًا سمع منا حديثًا، فحفظه حتى يبلغه غيره " (2) الحديث، ولا قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: " دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأى "؟! ولا قول سفيان: " استوصوا بأهل السنة خيرًا، فإنهم غرباء ". ولماذا لا تصرفون جهدكم إلى محاربة المعاندين للسنة المجادلين بغير الحق عن البدع؟ لقد ضرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلًا هو أصدق من قياساتكم
الفاسدة حين قال: " مَثَلُ القائم على حدود الله، والمُدْهِنِ فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضُهم أعلاها، وأصاب بعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلِها إذا استقَوْا من الماء مَرُّوا على من فوقَهم، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقالوا: " لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ مَن فوقنا؟ "، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم، نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا " (1). فالسكوت على المنكرات سواء في فروع أو أصول، ظاهر أو باطن سبب من أسباب نزول العقوبات العامة وعموم الفتنة والعذاب. ...
هذه هي القشور!
هذه هي القشور! إن الدين لُبٌّ كله ليس فيه قشور، إنما القشور ما أحدثه الناس من القيم والأعراف والموازين الشكلية الكاذبة التي صارت تتحكم فيهم وتستعبدهم، وصاروا ينقادون لها كأنها شرع منزل، وإن جهد الدعاة ينبغي أن يُوَجَّهَ لِإبطال هذه العادات والتقاليد " القشرية " الجوفاء، وهاك بعضًا منها على سبيل المثال: * فمنها: ظاهرة "التطوس" في المظاهر القشرية الكاذبة، فترى أحدهم يتزين ويتأنق في مظهره، ويفعل في نفسه ما تفعله الماشطة بعروسها، ويغلو في ذلك إلى حد الرعونة؛ نعم صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرَّة من كِبْر "، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة؟ قال: " إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر: بَطَرُ الحق (1)، وغَمْطُ الناس ") (2). ونعم صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من كان له شعر؛ فليُكرمه " (3)، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من كان له مال، فَلْيُرَ عليه أَثَرُه " (4)، وعن جابر رضي الله عنه قال: (أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى رجلًا شَعِثًا قد تفرق
شعره، فقال: " أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره "؟ ورأى رجلًا عليه ثياب وَسِخَة فقال: " أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه؟ " (1). لكن ينبغي أن لا يواظب على دهن شعر رأسه وتسريحه عاكفًا أمام المرآة حتى يكون مظهره شغله الشاغل فقد (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الِإرفاه) (2)، و (نهي - صلى الله عليه وسلم - عن الترجُّل إلا غِبًّا) (3). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كُلْ ما شئت، وألبس ما شئت، ما أخطأتْكَ اثنتان: سَرَفٌ، ومَخِيلة " (4). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياي والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين" (5).
وبين - صلى الله عليه وسلم - أن من علامات الحياء من الله والرغبة في الآخرة الِإعراض عن زينة الدنيا: فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " استحيوا من الله تعالى حق الحياء، مَن استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة، ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حقَّ الحياء " (1) وندبنا إلى التواضع في المظهر، ووعدنا عليه الأجر والكرامة: فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك اللباسَ تواضعًا لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يُخَيِّرَه من أيِّ حلل الِإيمان شاء يلبسها " (2) وعلَّمنا أن قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم، بأعمالهم لا بأسمالهم: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رُبَّ أشعثَ أغبرَ، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه " (3) وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عليه رجل، فقال: " ما تقولون في هذا؟ "، قالوا: " حرىٌّ إن خطب أن يُنكَح، وإن شفع أن يُشَفَّعَ، وإن قال أن يُسْتَمَعَ "، ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما تقولون في هذا؟ "، قالوا: " حرىٌّ إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يُشَفَّعَ وإن قال أن لا يُسْتَمَعَ " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هذا خير من ملء الأرض مثلَ هذا " (4).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان يُهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية من البادية، فيجهزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه " (1)، قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه، وكان دميمًا (2)، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا، وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، وهو لا يبصره، فقال: " أَرْسِلني! مَنْ هذا؟ "، فالتفت فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرفه، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من يشتري العبد؟ "، فقال: " يا رسول الله إذًا والله تجدني كاسدًا " (3)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لكن عند الله لست بكاسد " أو قال: " لكن عند الله أنت غالٍ " (4). وفيه مواساة الفقراء، وعدم الالتفات إلى صور الناس لأن العبرة بالقلوب والأعمال. وهكذا تَعَلَّم منه الأصحابُ رضي الله عنهم، الذين هم أولوا الألباب: فعن عبد الله بن شقيق قال: (كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملًا بمصر، فأتاه رجل من أصحابه، وهو شَعِثُ (5) الرأس مُشْعان (6)، قال: ما لى أراك مُشْعَانًا وأنت أمير؟! قال: كان ينهانا عن الِإرفاه، قلنا: ما الِإرفاه؟ قال: " الترجُّل كل يوم ") (7). وفي طريق أخرى عن يزيد بن هارون عن الجريري عن عبد الله بن بريدة:
(أن رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رَحَل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر، فَقَدِمَ عليه وهو يَمُدُّ ناقةً له، فقال: إني لم آتك زائرًا، وإنما أتيتُك لحديثٍ بَلَغَني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَجَوْتُ أن يكون عندك فيه علمٌ، فرآه شَعِثًا، فقال: " ما لي أراك شَعِثًا وأنت أمير البلد؟ "، قال: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهانا عن كثير من الِإرفاه "، ورآه حافيًا، فقال: " ما لي أراك حافيًا؟ " قال: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نحتفي أحيانًا ") (1). وهذا ربعي بن عامر يرسله سعد رضي الله عنه قبل القادسية رسولًا إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مَجلسه بالنمارق والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: " ضع سلاحك "، فقال: " إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت "، فقال رستم: " ائذنوا له "، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: " ما جاء بكم؟ "، فقال: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جور الأديان إلى عدل الِإسلام) (2)، فسلام الله على تلك النفوس التي أعاد الِإسلام صياغتها، فتخلت عن القشور الكاذبة، وأمعنت في التحلى بمعالي الأمور (3). وعن ابن شهاب قال: "خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام
ومعنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: "يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟! تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك "، فقال عمر: " أَوَّه لو يقل ذا غيُرك أبا عبيدة جعلته نكالًا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -!، إنا كنا أذلَّ قوم فَأعزَّنا الله بالِإسلام، فمهما نطلب العِزَّ بغير ما أعزنا الله به؛ أذلنا الله ". وفي رواية: (يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنوِد وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه، فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام؛ فلن نبتغي العز بغيره) (1). ْودخل أعرابي رَثُّ الهيئة بالي العباءة على أحد الخلفاء، فاقتحمته عينهُ، فعرف الأعرابي ذلك في وجهه، فقال: " يا أمير المؤمنين؟ إن العباءة لا تكلمك، ولكن يكلمك مَن فيها، فأدناه، فإذا به مِدْرَهُ (2) فصاحة في القول وبلاغة، فجعله من خاصته ". وقال الشافعي رحمه الله: عَلَيَّ ثيابٌ لو يُباعُ جميعُها ... بفِلْسٍ لكان الفِلْسُ منهن أكثرا وفيهن نفسٌ لو تُقاسُ بمثلها ... نفوسُ الورى (3) كانت أَعَزَّ وأكبرا وما ضرَّ نَصْلَ السيفِ إِخْلاقُ غِمْدِه (4) ... إذا كان عَضْبًا (5) حيث وجَّهْتَهُ فَرَى (6)
يقول الشاعر المخضرم العباس بن مرداس (*) في هذا المعنى: تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ ... وفي أثوابِهِ أسَدٌ مزيرُ (1) ويُعْجِبُكَ الطَّرِيرُ (2) فتبْتَلِيهِ ... فيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطَّرِيْرُ فَمَا عِظَمُ الرِّجَالِ لَهُمْ بِفَخْرٍ ... ولكِنْ فَخْرُهُمْ كَرَمٌ وخيرُ بُغَاثُ (3) الطَّيْرِ أكْثَرُها فِرَاخًا ... وأُمُّ الصَّقْر مِقْلاتٌ (4) نَزُورُ (5) ْضِعَافُ الطَّيْرِ أطْوَلُها جُسومًا ... ولَمْ تَطُلِ البُزاةُ ولا الصُّقُورُ لَقَدْ عَظُمَ البَعيرُ بغَيْرِ لُبٍّ ... فَلَمْ يَسْتَغْنِ بالعِظَمِ البَعِيْرُ يُصَرِّفُهُ الصَّغِيْرُ بكُلِّ وَجْهٍ ... ويَحْبِسُهُ عَلى الخَسْفِ (6) الجَريرُ (7)
وتَضْرِبُهُ الوَليْدَةُ بِالهَرَاوي (1) ... فَلا غِيَرٌ لَدَيْهِْ ولَا نَكيرُ فإِنْ أكُ في شِرارِكُمُ قَليلًا ... فإِنِّي في خِيارِكُمُ كَثيرُ (2) (كان الِإمام النووي رحمه الله إذا رآه الرائي ظنه شيخًا من فقراء سكان القرى، فلا يأبه له، ولا يخيل إليه أنه شيء يُذكر، فإذا سمعه يُدَرِّس أو يقرر أو يحدِّث فغر فاه، وحملق بعينيه عجبًا من هذه الأحمال أن تنكشف عن جوهر نفيس، وعبقرية نادرة في العلم والزهد والتقوى، ولا عجب فالتراب مكمن الذهب، ولكن الناس في كل زمان ومكان يغرهم حسن الهيئة، وجمال الهندام، فإذا رأَوْا مَن هذه صفته؛ وقَّروه، وعظموه قبل أن يعرفوا ما وراء هذه البزة، وقد يكون فيها نخاع ضامر، وفكر بائر، وقلب حائر. تَرَوْنَ بلوغَ المجدِ أن ثيابَكم ... يلوحُ عليها حسنُها وبَصيصُها وليس العُلَى دَرَّاعة ورداءها ... ولا جبة موشية وقميصها (3)) ... ليس الجمالُ بمئزرٍ ... فاعلم وإن رُدِّيتَ بُرْدا إن الجمال معادنٌ ... ومحاسنٌ أورثن مجدا فما بال القوم قد ابتغوا العزة في رباط العنق، وكيِّ الملابس، وأهدروا أموالهم في مظاهر قشرية جوفاء، وإذا ندبت أحدهم إلى الاعتدال انطلق كالصاروخ يسرد لك ما أسعفه من الحجج والمعاذير، في حين أنه بمجرد رؤيته من يتمسك بالسنة وبهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا في ارتداء القميص (4)،
مفارقات عجيبة
والعمامة، والتزام التسوك أو غير ذلك إذا به يشمئز، ويقول: " هذه شكليات وهذه قشور، لا ينبغي الاشتغال بها " فإذا كانت قشورًا لماذا شغلت نفسك بها؟ وهذا الملتزم بالهدي الظاهر لم يوجبها عليك فضلًا عن أن يحثك عليها، ولو فعل فقد أحسن. مفارقات عجيبة (1) ترى بعضهم إذا لمح من إمام الصلاة المتمسك بالسنة اهتمامه الشديد بتسوية صفوف الصلاة ورَصِّها أسوةً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح، قالوا: هذه شكليات وقشور، بينما تراهم يهتمون أيما اهتمام بتسوية الصفوف وتراصها في الحفلات والاستقبالات، والمدارس والمعسكرات، إلخ، ويقولون: الِإسلام دين النظام والانضباط. وإذا جاء الفقير الدَّيِّنُ الحسن الخُلُق إلى أحدهم يخطب ابنته تمسك بالظاهر، وتشبث بالقشر، وأهمل الجوهر، واعتبر المظهر، وعقَّد الأمور، وغالى في المهر، وإذا تورع عن المغالاة في المهر، وقنع باليسير، طلب أن يظهروا أمام الناس أن مهر ابنته كذا وكذا. * أما القشور في المآتم فحدث ولا حرج عما يقع بسببها من المكروهات والمآثم، إنهم يتباهون بحسن أكفان الموتى، مع أن الحي أولى بالجديد من الميت، وبفخامة البنيان المشيَّد فوق القبور، مع ما في ذلك من المخالفة الصريحة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البناء فوقها. وإذا كان للميت أقارب من مدن أخرى، تتحول دار أهل الميت إلى فندق ومطعم يستقبل أفواجًا من المعزِّين تقيم الأيام والليالي، ويُستنفر أهل الميت لخدمتهم وتأمين حاجياتهم (2)، وحدث ولا حرج عن تكاليف السرداقات
في سبيل التطوس
واستئجار المقرئين والتباهي بالمشاهير منهم، وربما استدانوا لأجل هذه المظهرية، أو كلفوها من أموال اليتامى القاصرين ظلمًا وعدوانًا: ثلاثةٌ تَشْقَى بِهِنَّ الدَّارُ ... العُرْسُ والمأتَم ثُمَّ الزَّارُ في سبيل التطوس وفي سبيل التطوس، والمظهرية الفارغة يضحى بعضهم بالنفس والنفيس، وربما أشغل ذمته بالدَّين، فأركبه الهم والذلَّ في النهار، وأرَّقه في الليل: * إذا فرح بذَّر في نفقات الِإضاءة، وأسرف في الولائم، مجاراةً للتقاليد الآسرة، ومباراةً للأغنياء والوجهاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "المتباريان لا يُجابان، ولا يؤكَلُ طعامُهما " (1). وعنه رضي الله عنه أيضًا: قال - صلى الله عليه وسلم -: " شَرُّ الطعام طعامُ الوليمة، يُمْنَعُها من يأتيها، وُيْدعَى إليها من يأباها، ومن لا يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله " (2). وعن جابر رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الشيطانَ يَحْضُرُ أحدَكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة، فليُمط ما كان بها من أذى، ثم ليأكلْها، ولا يَدَعْها للشيطان " الحديث (3). فكيف بمن يُطعم الشيطان ما لذ وطاب من أصناف المأكولات؟! وكيف بمن ينبذ في القمامة أكوامًا من الطعام تبكيها أفواه محرومة، وبطون خاوية؟ ويلقي في المزبلة بقايا الولائم في حين يغلي قلبه حسرة على ما ركبه من ذل الدَّيْن وهمه في سبيل " القشور " الفارغة؟!
ومن مظاهر استعباد " القشور " كثيرا من المسلمين
ومن مظاهر استعباد " القشور " كثيرًا من المسلمين: زخرفة المساجد، وإنفاق الأموال الطائلة في تزويقها وتشييداها، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا زخرفتم مساجدَكم، وحلَّيتم مصاحفكم، فالدمار عليكم " (1) وعن أنس رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقوم الساعة حتى يتباهي الناس في المساجد " (2)، (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أُمِرْتُ بتشييد المساجد " (3)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى " (4)).
وأَمَر عمر رضي الله عنه ببناء المسجد، وقال: " أكِنَّ (1) الناسَ من المطر، وإيَّاك أن تُحَمِّرَ أو تُصَفِّرَ فتفتنَ الناس " (2). وقال أنس رضي الله عنه: " يأتي على الناس زمان يتباهَوْن بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا " (3). وعن الحسن قال: (لما بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، أعانه عليه أصحابه، وهو يتناول اللَّبِن، حتى اغبرَّ صدرُه، فقال: " ابنوه عريشًا كعريش موسى " (4)، فقيل للحسن: " وما عريش موسى؟ " قال: " إذا رفع يده بَلَغَ العريش " يعني السقف. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (أن الأنصار جمعوا مالًا، فَأَتَوْا به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: " يا رسول الله ابْنِ هذا المسجدَ، وزَيِّنْهُ، إلى متى تصلى تحت هذا الجريد؟ "، فقال: " ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى ") (5). إن انصراف القوم إلى الاهتمام بهذه " القشور " يعكس أنهم يعتاضون عن جمال العقيدة بجمال الجدران والزخارف، وعن نور الِإيمان بأضواء الثريات، فيتلهي المصلون بتأملهم في سجوف المنافذ، وإبداع المنابر، ونقوش الجدران والسقف والمحاريب عن الخشوع الذي هو روح العبادة.
وكان من شؤم هذه الزخارف فتح الباب للسياح الأجانب كي ينتهكوا حرمة المساجد بالكاميرات، وفي أوضاع مخلة لمشاهدة القشور التي يسمونها الفنون المعمارية، والزخارف العربية! ومن الاهمام المذموم بالقشور: تحلية المصاحف بالزخارف، وتذهيبها، وحفظها في عُلَب فخمة من القطيفة أو الجلود أو العاج، لتزيَّن بها أركان الحجرات والمكاتب والسيارات، أو التفنن في كتابة آيات قرآنية كريمة بألوان الخطوط، وتعليقها في لوحات بقصد الزينة، أو حفرها في قطع ذهبية تعلقها النساء بقصد التزين، أو جمع المصحف كله في لوحة واحدة بخط بالغ الدقة لا يقرأ ولو بعدسة مكبرة لتزين بها المجالس، لا ليُقرأ ويتعبد بتلاوته، لا ليعالجوا به أحوالهم المعوجة، وأمراضهم المتمكنة، وإخلالهم بحقوق الله عليهم. ألا ما أشبه حال القوم بحال (رجل اشتد به المرض، فأخرج الوصية لابنه الأكبر، يوصيه بها: أن يعتني بأمه، ويترفق بإخوته الصغار، ويتقي الله تعالى فيما تركه من مال. مات الأب، واغرورقت عينا ولده بالدموع، ورثي لحاله الحاضرون، ثم أقبل على الوصية، فقبَّلها، وتمسَّحَ بها، وتبرَّك، ودفع بها إلى خطَّاط لم يُرَ له مثيل، فخطَّط كل حرف بلون، وتكلف له مالًا جزيلًا مقابل ذلك، كي تخرج بصورة جذابة براقة تبهر الناظرين، ثم دفعها إلى خبير في الِإضاءة كي يسلط الأضواء على الحروف كي تسحر العيون، وتخلب الألباب، ثم وضعها في صدر المجلس، يقبِّلها صباح مساء، ويذرف الدموع أمامها على فقد أبيه. يسمع الابن أنين أمه العجوز خافتًا، فلا يلبِّي، ولا يلتفت، ويُوسِعُ إخوته الصغار ضربًا، ويُشْبِعُهم إهانةً، أما الأموال التي اؤتمن عليها؛ فقد بسط عليها يده كل البسط ليهدرها في كل حرام ومشبوه. وولد آخر أقبل على الوصية دون تقبيل، ولا تمسُّح، ولا تبرك، لم
يزخرفها، ولم يزينها، وإنما أقبل على بر أمه، وخدمها حق الخدمة، يفرح لفرحها ويرعاها، ويبكي لبكائها ويواسيها، يعتني بإخوته، ويرحمهم، ويتابع أحوالهم، ويقضي حاجاتهم، ويتلطف بهم في جميع شئونهم. أما المال الموروث فقد اعتدل في إنفاقه، وثمَّره، ونمَّاه، وزكَّاه، وبذل منه في وجوه البر والخير. فأيهما أبر بأبيه، وأقوم بأمره، وأرعى لعهده؟ أذلك الذي يتمسح بالوصية، ويتبرك بها، ويقبلها؟ مع أنه يهمل تنفيذها أم ذاك الذي أمضى ما فيها، وعمل بمقتضاها؟ وماذا تُغني الزينة والزخرفة والتقبيل؛ إذا لم يكن للتنفيذ موضع؟) (1). لقد أنزل الله عز وجل كتابه العزيز وأمر بتدبره وتفهمه فقال سبحانه وتعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (2) وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) وقال جل وعلا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (4). وتوعَّد سبحانه من أعرض عن كتابه العزيز فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) الَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنْسَى} (1)، وقال جل وعلا: {وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} (2)، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (3)، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (4). ...
معالي الأمور .. لا قشور
معالي الأمور .. لا قشور ثبت عن الحسين بن عليٍّ رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله يحب مَعالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفسافها " (1). أما معالي الأمور فهي الأخلاق الشرعية، والخصال الدينية، لا الأمور الدنيوية فإن العُلُوَّ فيها نزول (2). وأما السَّفاسِف فواحدها السَّفْساف: الأمر الحقير، والرديء من كل شيء، وهو ضد المعالي والمكارم، وأصلُه: ما يطير من غُبار الدقيق إذا نُخِل، والتراب إذا أُثير. والسَّفساف من الشِّعْر: رَدِيئُه، وأَسَفَّ: تتبع مَدَاقَّ الأمور، وطلب الأمور الدنيئة (3). واعلم -رحمك الله- أن ما نطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدين {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وأن كل ما تعرض له بأمر أو نهي فهو من معالي الأمور، وأن من وصف شيئًا من ذلك بوصف يوهم الِإزراء أو التنقص فقد أعظم على الله عز وجل الفرية، وَعرَّض نفسه لغضب الله وعقوبته وانتقامه، نعم هناك في قضايا الدين أصول وفروع، كليات وجزئيات، أهم ومهم، لكن هذه القضايا كلَّها على اختلاف مراتبها وأولويتها من المعالي ليست من السفاسف في شيء، فَمِن ثَمَّ اشتد نكير العلماء على من أطلق
مثل هذه العبارات الفَجَّة، وأَفْتَوْا بزجره وتأديبه: فقد سئل سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: هل يجوز أن يقول المكلف: " إن الشرع قِشرٌ، علم الحقيقة لُبُّه "، أم لا يجوز؟ فأجاب رحمه الله تعالى: (لا يجوز التعبير على الشريعة بأنها قشر من كثرة ما فيها من المنافع والخير، وكيف يكون الأمر بالطاعة والِإيمان قشرًا، وأن العلم اللقب بعلم الحقيقة جزء ومن أجزاء علم الشريعة؟! ولا يُطْلِق مثلَ هذه الألقاب إلا ْغَبيٌّ شَقيٌّ قليلُ الأدب! ولو قيل لأحدهم: " إن كلام شيخك قشور "، لأنكر ذلك غاية الِإنكار، وَيُطْلِقُ لفظَ القشور على الشريعة؟!، وليست الشريعة إلا كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فَيُعَزَّرُ هذا الجاهل تعزيرًا يليق بمثل هذا الذنب) (1) اهـ. وقال الِإمام العلامة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى: ( .. وقولهم: " من أهل القشور " إن أراد به ما الفقهاء عليه من العلم ومعرفة الأحكام؛ فليس من القشور، بل من اللُّبِّ، ومن قال عليه: " إنه من القشور "؛ "استحقَّ الأدب، والشريعة كلُّها لُباب) (2) اهـ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الخاتمة
الخاتمة وهكذا أخي المسلم ينبغي أن نذب عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو لباب كُلُّه لا قشور ولا نخالة فيه، ونقول: إنما القشور فيما خالف هديه، وإنما النخالة في المبتدعين الذين عظَّموا ما حقَّره، واستصغروا ما كبَّره، وأهدروا ما اعتبره، واعتبروا ما أهدره، ووضعوا ما رفعه، ورفعوا ما وضعه، وليكن لنا أسوةٌ في الأصحاب رضي الله عنهم أولي الألباب، الذين لم يعرفوا هذه البدعة المحدثة، ولم ينقسموا إلى أهل جوهر ولباب، وأهل قشور ونخالة، كما زعم أصحاب الجهالة: دخل عائذ بن عمرٍو -وكان من صالحي أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) - على الخبيث الجريء عبيد الله بن زياد، فقال: (إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "شَرُّ الرِّعاء الحُطَمَةُ" (1) فإياك أن تكون منهم، فقال: اجلس إنما أنت من نُخَالَةِ (2) أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال: وهل كانت لهم -أو فيهم- نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم) (3). وهذا آخر ما تيسر جمعه في هذا الباب، ونسأل الله تعالى العصمة من الزلل، والسدادَ في القول والعمل، وصلي الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. ...